Professional Documents
Culture Documents
مكتبة
Telegram Network
»المكتبة النصية«2020
)الديوان اإلسبرطي(
ِّ
الديوان اإلسبرطي
رواية
E-mail: mim_edition@hotmail.fr
All rights reserved: No part of this book may be reproduced, stored in a retrieval
system or transmitted, in any form or by any means, without prior permission in
writing of the publisher.
أو نقله باي، ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات: جميع الحقوق محفوظة
دون إذن خطي مسبق من الناشر،شكل من األشكال.
ِّ
الديوان اإلسبرطي
ردمك978-9931-585-60-2 :
السواء
الشرق والغرب على ّ
للتذوق
ّ يقدمان إليك أشياء طاهرة
ّ
ِ
المأدبة الحافلة :واجلس في
عابرا
ً وما ينبغي لك ،وال
القسم األول
******
تضج في رأسي ،صديقي ُّ سنوات بعد سقوط الجزائر ،وما زالت هذه الكلمات ٍ عاما انقضت على موت نابليون ،وثالث ً اثنا عشر
خطاب .أجوب شوارع مرسيليا ،الناس تناسوا ضجيج السنوات الماضية ،وزيارة ولي العهد .آه ٍ القديم لم يشأ أن يُغيِّرها في كل
تبدد في ال ّ َذاكرة الضعيفة للناس .في ُ
الملك ال ّ آسف لم يعد وليًا للعهد بعد أن انقلبوا عليه وصار هو اآلخر منفيًا ،أو ِظل ًا ضئيل ًا
عاما ،وال بين لويس التاسع عشر أو نابليون!! من يا ترى بقي يحتفظ بأحالم المجنون الذي ً فرق بين عشرين دقيقة أو عشرين
أن صديقي كافيار كان أكثرهم اشتعال ًا بسير ِة
تو ج ملك ًا على العالم؟! بالرغم من أن اسمه بقي ينوس في ذاكرة الناس ،إال ّ أراد أن يُ ّ
تجار مرسيليا في جدوى بقاء الفرنسيين في هذه القائد المجنون ،أحب أن أسميه شاول اللَّعين ،يضحك حين يسمعها .يتّفق مع ّ
السالفة ،بل ألشياء
المدينة اإلسبرطية التي ترتفع خلف البحر ،فالتجار في مرسيليا يريدونها بالتأكيد ليس فقط من أجل أمجادهم َّ
.أخرى ،المال كما يقول شاول إله جديد وما أكثر اآللهة! آلهة في البحر وأخرى في البَّر
وجوها
ً ساخرا من أوهاميُ ،خيّل لي أنه خلفي ،وفجأة ألتفت ،أرى ً الحجب،ُ ديبون ..ديبون ..يتناهى لي صوته يناديني من خلف
ال أعرفها تُخبّئ أجسادها داخل معاطف صوفية ،تجوب الشوارع في عجالةٍ ،يمتد بصري إلى نهاية الطريق حيث ال ُزرقة والميناء،
لكن كافيار اختار مصيره منذ افترقنا قبل
ّ يتراءى لي صديقي القديم هناك واقفًا يدخن غليونه .هل يمكن أن يكون كافيار قد عاد؟؟
سنتين في إفريقية ،قالها لي وهو ينفث دخانه في وجهي :عد يا عزيزي ديبون إلى مرسيليا وإلى جريدتك ،مثلك ال يصلح للعيش
تصور أن ما تفعله أو تفكر فيهّ هنا ،نوبة ُز حار واحدة كافية إلنهاء حياتك ،أنا أكثر الناس دراية بهذه األرض وهؤالء البرابرة ،ال يُمكنك
.ما هي إال أوها ٌم صنعتها مخيلتك .وهكذا عدت
أفيق على نسمة ريح باردة تتسلَّل إلى جسدي بينما وقفت منتصبًا أراقب الميناء .لم يكن صديقي هناك ،ال ُزرقة توغل في ذاكرتي،
شارع جانبي ،ثم شمال ًا ألج آخر،
ٍ أحث الخطى وأنعطف يمينًا إلىُّ يحد إبره لتَنخسني ،فأعود بوجهي إلى دربي األول،
ّ والبرد
مسرعا كأنني ُمطاردٌ ،أتجاوز مبنى المسرح إلى
ً أخطوها روب الد
أعد أعمدته الستّة وأفر منه إلى بقية ُّ
ُّ ويقابلني مبنى المسرح الكبير،
أتهجى حروفها :جريدة «لوّ شارع أوسع يقودني ُمنعطفه الثاني إلى شارع فنتور ،وما إن أعبَر مدخله حتى تقابلني الفتة الجريدة،
ٍ
سيمافور دو مارساي» .وقبل أن ُأخفض عيني امتدت يدٌ من خلف الباب وسحبتني إلى الداخل ،ثم عبرت بي الرواق إلى مكتب
:المدير ،الذي ظل ينقل وجهه بيني وبين الرجل الخمسيني الجالس قبالتي ،ثم خاطبني
!يبدو أن أصدقاءك القدامى حين فرغت جيوبهم من ال ّ َذهب مألوها بالعظام -
أصدقاءك من الضباط يا ديبون ،ألم تكن ُمراسل ًا للحملة التي أرادت أن تُحيل إسبرطة إلى أثينا ،ثم فوجئنا بمدينة رومانية في -
إفريقية؟
دوما على حق ،ولكنك تؤثر االنتصار لروحك التي عبّأتها سنوات األسر
ً لو أنك كنت هنا يا صديقي كافيار ،لعرفت أنني كنت
:والعبودية بمشاعر مظلمةٍ ،أنار الرب روحك يا صديقي .كنت ُأصل ّي لك في قلبي حين أردف المدير
الس يد الذي قابلني ،ثم حمل معطفه وغادر المكتب ،وتركني أحاول تقديم نفسي للطبيب
مشيرا إلى ّ َ
ً .رمى المدير الكلمات في وجهي
.أنا هنا من أجل هذا ،ما عليك إال مرافقتي إلى الميناء -
برر بيع عظام أمةٍ أخرى وبدعوى مثل التي تُشاع؟ -
أوجدت لها المبررات ،ولكن أي شيء ي ُ ّ
ُ !كل ّها
إن المال إل ٌه جديد ،يُغريك كي تحفر القبور وتأكل عظام إخوتك بدعاوى كثيرةٍ ،وإني لموقن أننا سنجدها بالباخرة ،ليس ألن لي -
بصدق ،وعن كثب
ٍ .نبوءات صادقةٍ بل ألني عرفتهم
ٍ
البحارة يجوبون
َّ اهتزت العربة عند المنعطف األخير ،وحاولت أن أعتدل في مكاني ،رفعت رأسي ألطل من النافذة ،رأيت بعض
المكان ،تتغيّر مالمحهم كلما حدقوا إلى امتداد ال ُزرقة الداكنة للبحر .هل قاسموا بعض الساسة في باريس آراءهم؟ لطالما كان
غامضا لكنه ينتابك حين تشتاقً أن هناك يقينًا ما وإن كان
غير الساسة ،البحر يجعلك تؤمن ّ
ُ البحارة
َّ لكن
ّ ثيرا للمشاكل،
الجنوب ُم ً
أما السياسة فهي شيء آخر حيث الل ّايقين هو اليقين الوحيد الذي عليك اعتناقه .انتبهت إلى توقّف العربة وإلى نداء إلى اليابسةّ ،
خط األفق ،قلت يتراء له غير ِّ
َ :الحوذي يطلب منا النزول ،فتحت الباب ونزلت ليتبعني الطبيب ،جابت عيناه الفضاء من حوله فلم
انقضت ساعة أو ربما أكثر ،خ ّفت حركة البحارة ،وبعض التّ ُجار بعد أن حملوا أشياءهم رحلوا ،وبقي آخرون مثلنا يحتلون المقاعد،
حتى تراءت باخرة في األفق ،ولم أجزم إن كانت فعل ًا بون جوزيفين أم ال ،شككت أنها هي حين انتبهت إلى وقوفهم في الزاوية
.األخرى ،ثيابهم وقبعاتهم فضحتهم من أول وهلةٍ تقابلت فيها الوجوه .وها هو التّ َرقب واالندفاع يؤكد بقية شك ّي
وقف الطبيب عند عتبة الرصيف ينتظرها ،كان ُم درك ًا أول ما رآها أنها هي ،عيناه كانتا تقوالن هذا منذ البداية ،في حين انشغلت
السخيفة؟ أتعتقد أنك سوفيسم يها صديقي كافيار :ديبون يا ديبون لماذا تشغل نفسك بهذه األفكار ّ َ
ّ عنه بتحليالتي البائسة مثلما كان
تنتصر لهؤالء البرابرة؟
أحولها ُسك ّ َ ًرا ،أليس األمر سواء؟! ومهما يكن اإلله الذي تؤمن به
ِّ بين أن أع ِل ّق صليبًا من العظام أو أن ولِ َم ال يا كافيار؟ ما الفرق
القديم كان الناس يؤمنون بآلهة متعددة تتصارع فيما بينها ،واليوم صاروا يؤمنون بإلهٍ واح ٍد يُتاجرون بأجساد فإن ّه لن يرضى بهذا .في
يحتد فيها النقاش بيننا حول مآخذك على المدينة ُّ مر ٍة
كل ّ هذا ما كنت تريد قوله يا صديقي كافيار في ّ بعضهم من أجله! أليس
قد ٌر عذابك ولكنك لن تتطهر منها م
ُ ّ إني نعم عنها؟؟ يتكلم جديرا أن
ً تقل إنّك ُأستعبدت بها وليس مثلك التي أسميتها إسبرطة ،ألم
.بتعذيب اآلخرين ،العذاب ي ُولد المعرفة ال الكراهية ،والحكمة ال الحقد ،واإليمان ال الكفر
تكهن أن تكون الباخرة التي ينتظرها تحمل َّ خطوات متفاجًئا ،أتراه
ٍ وش ّ َدت المرساة تراجع الطبيب إلى الخلف حين أرخيت القلوع ُ
خم ن أنها سفينة تتبع األسطول التجاري؟ كنت أرى مدى خيبته وهو يكتشف المفارقة َّ َه ّ ن أ أم المدافع؟ من به عددا ال يستهان
ً
لحظات ثم عاد يراقبٍ العجيبة ،محاول ًا المقارنة بين عدد التّ ُجار الذين كانوا يتوافدون أمامه وعدد الجنود الذين يستقلون الباخرة.
تجار مرسيليا الصغار كانوا ينتظرون الغاللبعض ا من المسافرين في نزولهم ،الخواء الذي كان بيني وبينه لم يلبث أن امتأل بالناسّ ، ً
التي أتت بها بون جوزيفين ،وآخرون أرسلوا وكالءهم وقعدوا خلف مكاتبهم في الجهة األخرى من المدينة .حملت نفسي ووقفت إلى
جانبه بينها اقترب منه أحد البحارة ،لم ألتقط الكلمات األولى من الحوار غير أني رأيت يد الطبيب الممدودة بالوثيقة ،تفحصها
البحار
ّ لو ًحا لنا من األعلى أن نتبعه ،صعدنا حتى بلغنا سطح الباخرة ،وتجاوزنا مسرعا ،غاب دقائق وعاد ُم ّ ً البحار ثم صعد الدرجات
ّ
ووجه الخطاب إلى الطبيب َّ فجأة توقف ثم :بخطوات
ٍ
وحدق
ّ كان النقيب يقف في نهاية الغرفة ،وجهه أمام النافذة ،يفصلنا عنه مكتب صغير فوقه خرائط وبوصلة وكتاب ضخم ،التفت إلينا
مصد ٍق ما ُد ّون
ّ غير
ُ :في الطبيب مليًّا ،وعاد يُق ِل ّب الوثيقة كأنه
الوكيل المدني يرسل لنا طبيبًا ليُفتّشنا ،أليس هذا ما جئت من أجله؟ -
ليس بهذه الصورة سيدي النقيب ،إنما هو تَحقّ ٌُق من شيء ال يصلح له إال الطبيب .وقد أراد الوكيل المدني تدارك الفضيحة إن -
.كانت اإلشاعة حقيقيّة
مستفهما
ً :أجبته
.ال يعنيك غير ما تبحث عنه ،هذا شرطي إن أردتما رؤيتها -
:رد الطبيب
السل ّم في عجلة ،باحث ًا عن هواء نقي ،العفونة تتّسع ،والعالم يزداد ضيقًا من لم يكن بمقدوري االحتمال .سحبت نفسي وتسلقت ُّ
عائدا إلى تلك
ً حولي ،كل شي ٍء في عيني حال إلى جماجم صغيرة تنادي باسمي ،ما الذي تريده مني اآلن؟ هل أقطع المتوسط
سميها
يحب كافيار إسبرطة ،أم مثلما يُ ّّ أسميها مثل ًا
ّ فاعل بها؟ وكيف أقبل عليها؟ ٌ المدينة التي فررت منها في يوم ما؟ وما تراني
منتظرا ظهوره ثانية ،وال يسمع
ً المزرق
ِ ّ الفضاء تجاه ًا ق محد
ّ وأبقى يغيب، حتى الصارخ السل ّاوي وابن ميّار المحروسة .يتضاءل الصوت
ّ
ودعناه ببرودة وسارت بنا العربة ُمبتعدينّ َقيب، ّ ن ال ُمرة ق باب بلغنا حتى ترافقنا . لي عدا أصوات األقدام المقتربة ،مناداة الطبيب
.عن الميناء
لكن البرد يأبى الرحيل عن مرسيليا .عبرت بنا العربة شوارع عديدة متباينة الطول ،وطوال الطريق ّ كنا في الشهر األخير من الشتاء
صور انبعثت من الذاكرة ،لنساء ي ُطللن من شرفات بيوتهن يهتفن للجنود العابرين ،طولون تحولت إلى ثكنةٍ كبيرة ،يُقبل ٌ شغلتني
عليها الجنود من كل صوب ،امتألت البيوت والفنادق والساحات ،واختنق الميناء بأعدادهم ،الكل كان يريد المشاركة في حملة
الجزائر ،حتى القَ ّس رأيته ُمتشبّث ًا بالقائد العام ،تتالحق أنفاسه بالكلماتُ :حلمي يا سيدي القائد االنضمام إلى زمرة هؤالء المباركين
يوز ُع البركات على الجنود -يصلني ،ولم يحمل الجنود إال
ّ الذين يُعلون شأن المسيح .من مكاني داخل العربة كان همسه -وهو
القليل من بركاته ،التي لم تُ نج بعضهم من الزحار والوباء ،وآخرون سئموا إفريقية بسرعة وتجمعوا أمام خيامهم يريدون العودة ،لكنهم
ُ.أجبروا على البقاء
كلما استعدت آخر األيام التي جمعتني بكافيار تزداد رغبتي في العودة إلى الجزائر ،وحين أحاول التخلص من مشهد العظام أفاجأ
يتحولون إلى هياكل عظميةٍ في عيني وينادون
ّ بنفسي أمامهم ،األطفال الذين يتراءون لي من نافذة العربة ،إنهم أبناء هؤالء التجار،
خالص أخير يا كافيار ،أن أعبر المتوسط إلى مدينة المحروسة أو
ٌ باسمي ،كيف يمكن التخلص من هذا الحصار؟ لم يبق لي إال
.مثلما تُحب تسميتها إسبرطة
لوح لي حين كانت العربة تنعطف ُمغادرة شارع فنتور ،لم نتّفق إن كنا سنلتقي ثانية أم ال ،لكني
ودعت الطبيب عند عتبة البابّ ،ّ
مجددا ،وجلست في مكتبي أتتبع رحلتي إلى الميناء ،لم تُطاوعني يداي أن أكتب شيًئا إال في اليوم الثاني،
ً حدست أنني ساراه
فما إن وقفت عند باب مبنى الجريدة حتى كان الحوذي نفسه ينادي باسمي ويُسل ّمني تقرير الطبيب ،في مكتبي قرأته ،لم يكن
دائما يكون مثل سوط ،ليس بمقدورك تجنّبه
ً احتجاجا تجاه ما حدث .الوعي بالحقيقة أحيانًا أو ربما
ً .تقريرا طبيًا بقدر ما كان
ً
وحملت نفسي وفررت ُ المحرر،
ّ سرا ،وأكثر اقتضابًا ،بصعوبة فرغت منها وسلمت المقال إلى
ع ً
الجمل األخيرة من المقال كانت أشد ُ
ُ
خارج مبنى الجريدة ،صارت األماكن الضيقة تُعيد مشاهد المقابر وحقول العظام ،وفي منتصف شارع فنتور تحسست رسالة الطبيب،
خواطر عديدة ،ونداء يطلب مني نسخ الرسالة وإرسالها إلى صديقي القديم كافيار ،ونداءٌ آخر
ُ كانت في جيبي ،لحظتها طافت بي
يسخر هازًئا من الفكرة ،كأنه يقول ما الفائدة مما تفعله ،أتعتقد أنّك بمقالك أو بهذه الرسالة يُمكنك إيقاف صراخ األطفال في
حارسا في مقابر المحمديين ،أو في حقول المسيحيين!! ولِ َم ال؟! سأرجع إلى المحروسة ً داخلك؟ لن يصمتوا حتى وإن أصبحت
مسرعا
ً بصوت مسموع التفت له بعض السابلة ،فخطوت ٍ حارسا ليس فقط على المقابر ،بل على حياة الجميع ،قلت هذا ً وسأصبح
.فارا من شارع فنتور ً
ضجيج ا سينبعث بعد قراءة المقال ،تناولت الجريدة من أول األكشاك ورأيت العنوان بحجمه الكبير ً أن هناك
خمنت ّّ في اليوم الثاني
مسرعا تجاه
ً ثمة واحدة ،وكل من يفرغ منه يسير ّ تبق لم حتى ُسخ ّ ن ال على يتهافتون حولي من الناس كان األولى، في الصفحة
أياما حتى تُنزل حمولتها .تتبعت المقال
ً الميناء ،كانوا يُدركون أن قوانين الحظر الصحي مازالت سارية وأنه على كل سفينة البقاء
السائر تجاه الميناء حتى بلغته ِّ
المد ّ َ .بسرعة ،ثم رميت نفسي في
.مازال هناك الكثير منهم يا ديبون ،إنهم هناك ينتظرونك في إفريقية -
:أجبته
التفت ووجدت الطبيب هناك ،ترافقنا إلى مقهى البحرية واحتللنا أول طاولة بها،
ُّ أثناء مغادرتي الرصيف سمعت نداء على اسمي،
:أحسست أن الطبيب كان يريد محادثتي عن أشياء كثيرة لكنه صمت وهو يراقب الناس ،ثم همس حتى بالكاد سمعنه
!!لن ينتهي األمر عند هذا الحد يا سيد ديبون .ولن تتوقف تجارة العظام كن ُمتيقنًا من هذا -
.عدا ما سيفعله الوكيل المدني ،الباقي ال معنى له ،غرامة بفرنكات وربما قد تعود الصناديق إلى الجزائر -
- بل قل ما الذي ستفعله أنت ،الوكيل سيزور الجزائر محاول ًا منع هذه التجارة ،وال يمكنه فعل شيء ،أنت أدرى مني بالطريقة
أما الضباط فقد صاروا يرون إفريقية أمالك ًا
التي تسير بها األمور في إفريقية ،نحن لسنا وحدنا ،وكل يوم يزيد تعداد األوروبيينّ ،
.خاصة
.لو كنت تعرف كافيار صديقي القديم لقلت أكثر من هذا -
نعم ،أمثاله كثيرون ،قرأت بعض تقاريرهم ،ولكن أال تفكر في مواصلة ما بدأته؟ -
الطبيب جملته األخيرة ثم غادر المقهى ،وخل ّفني أراقب جدرانها الرطبة تارة وأخرى أتوه في زرقة المتوسط ،بدت قائمة تميلرمي َّ
حدا لمزاجيتك ،قالها لك
ًّ إلى السواد ،موجات ُمتعثّرة تختبئ مسرع ًة قبل إنهاء دورتها ،هكذا أنت يا ديبون ،ال تستطيع أن تضع
ساخر ا :أصبحت يا ديبون تتصرف مثل هؤالء الشرقيين ،وتنفعل مثلهم ،مخالطتك لهم أصابتكً الدوق روفيغو
كلوزيل ثم أعادها لك ُّ
بالعدوى ،واآلن أراك تماثلهم في كثير من الطباع .ما الذي يجبرك على االنحياز إلى هؤالء البرابرة ،وقد ساهمت في مجد أمتك،
مجدا آخر تضيفه لإلنسانية من أجل حقوق ً ودو نت مسيرة فاتح إفريقية حتى أضحيت من نجوم الصالونات الباريسية؟! أتريد
َّ
وعد إلى باريس
ُ هذا عنك دع ا؟جديد
ً ا مسيح
ً .البائسين ،أم أنك تعتقد نفسك
أو باريس؟ في باريس لن يرغب مجددا إلى بلد الزحار والغبار ،أال تُغنيك مرسيليا
ً أيعقل هذا الذي تفكر فيه يا ديبون ،هل ستعود
أياما فقط
ً أتذكر متى كان ذلك؟! فيك أحدٌ اآلن! لم ينسوا ذلك الحوار الذي أجريته مع الباشا المخلوع أثناء زيارته إلى باريس،
مكتوب من
ٌ يقول «إن كل شيء بعد فرارك من الجزائر ،يومها قال أو لعلك قلت على لسانه كلمات لم تُعجب الكثير ،يكفي أن
السخرية من قدرية هؤالء الشرقيين
ُّ .الله» حتى يثير
انتبهت على حركة النادل قربي ،فرحلت عن المقهى ،متسائل ًا عن جدوى بقائي في مرسيليا ولعامين لم يحدث شيء ،مدين ٌة
تستيقظ وتنام على تجارتها ،ما الذي يدعوني إلى البقاء هنا وآالف من األفكار تحثّني على العودة إلى المحروسة .سأعود يا كافيار،
المر ة .سأصرخ بها أريد وإذا شئت بعدها اقذف بي من أعلى أسوار المحروسة ،لن أتوقف ولن ّ تأكد أنني لن أستسلم لك هذه
وانتصرت
َ منتصرا في قلبك ،بينما ما زلت أراه مجنونًا كاد يقود العالم إلى الهالك،
ً واحتفظت به
َ أسايركُ .هزم نابليون في واترلو
العل َم الثالثي األلوان،
وكنت ميال ًا للبحرية ،بينما افتخر في كتاباتي بالمشاة ،واحتضنت َ
َ زلت وفيًا لعائلة البوربون، ُ للملك الجديد وما
سخرت منها ،فافترقنا منذ التقينا ،وكانت المدينة شاهدة على
َ لكنك اإلنجليزية باألمة أنا وفتنت
ُ األبيض، َم ل للع
َ حبي ولم يُغادرني
.حكايات أخرى بيننا ،فكيف نتفق! ثم كان انتصارك في فراري ،وها أنذا عائدٌ إلى الجزائر
لم أنتبه إال أمام نهج دارسي حيث ُأقيم ،وقفت عند باب بيتي ،فتحته وعبرت إلى غرفة نومي ورميت نفسي على السرير ،وحين
.أفقت كان الن ُّور يتسلل خافتًا من النافذة يعلن عن بداية يوم جديد
متأخرا ،ودخلته أكثر ثقة ،ألم ُتسحب جميع النسخ؟ ألم يجعل مقالي الناس تتجمهر عند الميناء؟ بهذه ً وصلت إلى مبنى الجريدة
كرر كلمات الطبيب ،كأنّ قبالته، وجلست مكتبه، إلى فعدت المدير إشارة إلى التفت
ُ ّ ولوجه وقبل مكتبي، الروح عبرت الرواق إلى
هناك تحالفً ا بينهما ،كل يوم تزداد ثقتي في ضرورة العودة إلى الجزائر ،ثم حسمت أمري وقررت الرحيل .كانت كلمات المدير
أيضا إلى رحلة الوكيل المدني ،بينما كان هناك شيء في داخلي يرفض ُمرافقته ،يسحبني إلى طولون ،يريد تكرار المسيرة ً تشير
المغايرة ،أو ربما المعاكسة ،وقد أسميها رحلة التّ َطهير ،كان المدير يبحث عن إثارة يكون الوكيل بطلها وأنا كاتبها ،ولكني أبصرت
:أشياء غير التي يُريدها ،وقبل إنهاء كالمه قلت
.سأغادر في الغد ومن طولون ،وال يعنيني ما سيقوم به الوكيل المدني -
للسخرية ،إننا لم نترك شيًئا لم نسخر منه :الموت والحياة ،والله والشيطان ،الروح والجسد ....واآلن -
هذا العالم أصبح مدعاة ُّ
ما الذي بقي لنا لنف ِك ّر فيه بجديّة؟؟
كل يحتفظ بوجهة نظره ،ولن يتخلى عنها ولو مألوا له المدى صمت المدير ُمنهيًا ال ِن ّقاش ،بعض الحوارات ال تحتاج إلى اإلطالةٌ ّ ،
وانسحبت إلى مكتبيُ الطبيب، عنوان أخذت أن بعد عته وود
ّ أيضا .وقفت
ً براهين وأدلة ،االقتناع ال يول ّده العقل فقط بل القلب
.وحملت بعض الكتب وغادرت الجريدة آمل ًا أل ّا أرجع
تعود طولون إلى الذاكرة كمهرجان من الهتاف ،ووجوهٌ مألوفة وأخرى غريبة تجوب الشوارع .جنود في صفوف النهائية ،خطواتها رتيبة
جزءا من الحرب المقدسة ،التي تبعث المجد ألمة ُخدش شرفها وُأهين ،الكل يريد القضاء ً تهدف إلى الميناء ،الكل يود أن يكون
على ربوة القراصنة التي تستعبد المسيحيين ،الكل يحلم بالقضاء على أسطورة األتراك المتوحشين في المتوسط ،ولكن كيف هي
طولون اليوم؟ أتراني سأسمع صدى الهتاف ،وأتبع آثار الجنود؟ أم أن الناس التفتوا إلى همومهم اليومية وتناسوا كل أحالمهم
الماضية؟ بالتأكيد هذا ما حدث .ألم تنته المدينة التي أرعبت الجميع وانتقلت من األتراك إلى الرومان؟ هذا ما حدث ،وما سأف ِك ّر
.فيه حين اعبر المتوسط إليها ألراها بوجهها المختلف ،بعد انتهاء عامين من غيابي وثالث سنوات على احتاللها
في فجر اليوم التالي التزمت كرسي ًا في المحطة تحوطني حقائبي في انتظار الحوذي .لحظات من الغياب ثم أقبل ،حمل عني
أما حين سارت العربة فقد سمعت بعض
الحقائب ووضعها في مؤخرة العربة ،ومضى إلى مقدمتها يدندن بأغنية ٍقديمة لم أتبيّنهاّ ،
المشوش ،وتلجأ
ّ الرحيل والحب ،أو الحرب ،ال أدري ...تختلط المعاني في ذهني مت أني فهمتها ،أغنية عن ّ َ
توه ُ
ّ كلماتها ،أو ربما
عيناي إلى مشاهدة شوارع مرسيليا وقد تكون للمرة األخيرة ،ثم غابت المدينة عن ناظري ،وفي انتظار بلوغ طولون غبت في غُالل ّة
.النوم
مثل آخر الرسائل لن تُغادر هذه الجزائر ،فبالنسبة لديبون لم تعد هناك جدوى من إراقة الحبر بعدما ُأريقت الدماء ،يتمسك بإصراره
يجدف في هذا البحر ،وإنا ّ تاج من العظام ،ولم يدر أن العالم كله ٍ قاس ،وأبحث عن مج ٍد فوق الجثث ،أو أسمو إلى على أنني ٍ
منوطا برجل ثم
ً وندعي أن بحر الخطيئة هو ما يجر الناس على قتال بعضهم .مجد هذه األمة كان ّ نحن من نتغاضى عما نراه،
مقدارا ال يستهان به من
ً لكن مالمحه حملت ّ خانوه .لم يكن مجنونًا بل أكثر الناس حكمة حتى ونحن في واترلو ،تقطعت أحشاؤه
المور واألتراك ،وكأنك ُمتجاهل ما
ُ أولئك عن دافع التبجيل لجنوده ،ولوال هؤالء اإلنجليز الذين تعت ُّز بهم لما حدث ما حدث ،ثم أراك تُ
كافر أو ممسوس ،وأنا الذي ذُقت من الهزائم ما ٌ وعوض أن تفك ّر في مصلحتك ،تحمل الصليب في وجهي وكأنني فعلوه بنا؟! ِ
لكن ما الذي أفعله أمامّ قائدا على كتيبتي،ً عبدا وقد كنتً يكفيني ،واترلو ق ََصمت ظهري ،ثم أسرني األتراك ُمتق ّززين منّي ،صيّروني
شر العالم ال بد
ّ جحيما لهم ،ولعل ّي كنت فاضل ًا بما يكفي ،فمن يذق ً أوهامك! لم يعد العالم اآلن يحتمل أصحاب الفضيلة ،سيكون
لكن شيًئا ما يمنعه ،شيء غامض في ّ له من التحلي بجزء منه .اإلنسان فيه من الشر ما يُغريه بإشعال الحرائق في العالم،
المرافعة أمامك يا ديبون ،إنها
مضطرا إلى تقديم هذه ُ ً لكن روحي لم تكن قد امتألت به بعد انسحابي من واترلو ،ولست ّ خبيئته.
أحيانًا وفي لحظات الضعف ينبغي على اإلنسان استحضار خسائره كي يُعيد بعث صموده .كنا هناك في السهل باآلالف وتراءوا لنا
في الجهة األخرى منه كأنهم ضعفنا! لم نفك ّر في التراجع بل كنا سعداء ونحن نستقبل التحايا من قائدنا ،ظل يطوف بين الصفوف،
مبكر ا النتظرت انبعاثه من جديد ،بعض الرجال مثل الفينيق ،ليس موتهم إال مرحلة من مراحل ً ويهتف الجنود بحياته ،ولو لم يمت
فرح ا عندما سمعت بفراره من منفاه في ألبا ،قلت في نفسي :الوداع لهؤالء الملوك ،وفعل ًا لم يمض إال ً حياتهم ،أذكر أنني قفزت
المخزي مقارنته بمن خاننا في واترلو ،ذلك شهر على فراره حتى استعاد جيشه .ال يمكن أن يفعل هذا إال نابليون يا ديبون ،ومن ُ
فر قبل بلوغه مكان المعركة ،فاي بقصة خيانته لنا حين ّ ّ القائد الذي تتبعت فتحه للمدينة اإلسبرطية ،كان أفضل لو بدأت يومياتك
!مجد سيجنيه هنا أمام هؤالء البرابرة الذين ال يُحسنون المعارك
يومها زاد المطر من وحولة السهل ،وقد سبقونا واختاروا المكان األفضل ،وحين اشتد المطر اعتقدنا أننا لن نُحارب ،كان األلم يزداد
أكثر في بطن نابليون لكنه لم يظهره ،القليل فقط من اكتشف حركاته االنفعالية ،حينها كان يلج إلى مكتبه ،يظل يتحرك دون توقف،
أما حين تقترب نوبات الغثيان ،فيغادرنا تسح المطر ،فيزداد اضطرابه ،يحاول إخفاءه في لقائه بناّ ، ُّ طل من النافذة يرى الغيوم يُ ّ
سرع ا ليرمي ما في معدته ،ثم يعود بمالمح قاسية تسأل عن معنويات الجنود .عندما بزغت الشمس ،كان ال يزال في غُرفته ً ُم
قرب إليه ،ثم جاء األمر بالهجوم .بدأت الم
ُ ّ الضابط إلى القيادة مَ ّ ل وس إلينا خرج أخذها، التي المهدئات ومن هر الس
َّ من اً متعب
صحيح أن العديد منهم قد
ٌ المدفعية تقصف الصفوف األماميّة للتحالف ،كانت ك ُرات المدافع ترتفع في السماء وتصل إلى صفوفهم،
قضى هناك حتى ُخي ّل إلينا أننا كسبنا الجولة األولى ،ومع هذا لم نرهم يستعملون مدافعهم ،إذ كانت التلة ترتفع دونهم ،ومدافعنا
يحرك قائدهم ساكنًا ،كان يُبصر المعركة
ّ يفر وا ولم يبادلونا اإلطالق ،استغربت كيف يموت كل هؤالء بينما لم ّ تقصفهم ولكنهم لم
بمنظاره كأنه ينتظر شيًئا ما ،وكل مخاوفنا كانت في وصول المدد من حلفائه البروسيين .كنّا أفضل ما استطاع نابليون تحصيله،
.جنوده المخضرمون الذين يعت ّز بهم ولم يُهزموا منذ سنوات
وهكذا تقدمنا ألننا رأينا انسحاب الجنود اإلنجليز من خلف الربوة ،وبعد لحظات كنّا نوشك أن نبلغها ،ولم نعلم أنهم كانوا خلفها
صوبون بنادقهم تجاهنا ،واشتعلت النار آخذ ًة
بتلك المسافة الضئيلة ،آالف من اإلنجليز والبروسيين الذين انضموا إليهم في غفلةٍ منا ي ُ ّ
والحلفاء خلفهم،
ُ فارين،
ّ يجرون جنودنا وجدت كبيراُ ،أ ِص بت في ساقي فسقطت على األرض الوحلة ،وحين رفعت رأسي ً عددا
ً منا
أما حين استفقت فلم يكن هناك سوى عد ٍد قليل من جنودنا يحاولون مواراة عبروا فوقي بأقدامهم ،كان عددها كفيل ًا بافقادي الوعيّ ،
.الموتى في حفرة كبيرة ،زحفت حتى بلغت أحدهم ،حملني على حصان وعاد بي إلى باريس ،حيث تراجع نابليون وبقية الجيش
المفضل قدّ بعد أيام االختباء سمعت بأن نابليون قد سل ّم نفسه لإلنجليز الذين نفوه إلى أقصى جزيرة في األطلسي ،وأن ضابطه
شبح يطاردك ،ولم تعد تطيق رؤية السيف ،وال إصدار األوامر، ٍ أعدمه الملك! سألت نفسي ما الذي تبقى لك؟ وقد أضحت واترلو مثل
ولمن؟؟ للجنود الذين ماتوا أم ألولئك الذين خذلونا وتراجعوا؟ قررت آنذاك التخلي عن البدلة العسكرية ،وفررت من البر إلى البحر،
تنقض إال ِ أحتمي بطفولتي األولى كصياد رنكة في المتوسط ،وبالرغم من أني تخليت عن كل شيء إال أنني لم أعش في سالم ،ولم
وباسم مختلف وفي بالد أجهلها ،وبين أناسي ق ِ ُّدر لي قضاء جزء كبير من حياتي ُمحاول ًا
ٍ شخصا آخر
ً ثالثة أشهر حتى وجدتني
.التخلص منهم
المور خبث ًا ،يُصغون في انتباه الم ور على األتراك ،غير أنني أجدهم سواء ،ألن مقدار الطمع الذي يحمله األتراك ،يحمله ُ يفضل ديبون ُ
ألوامرك ويبتسمون في رضى ،وحينها يعودون إلى أشغالهم تجدهم وكأنهم لم يسمعوا منك شيًئا ،هذه الصفة العجيبة من ال ِن ّفاق ال يتّ َسم
المور
أما هؤالء ُ طم اعون وجشعون ،يحبون المال والسلطان أكثر من أي شيء حتى من أوالدهمّ ، ّ بها األتراك ،ربما لنقاء جنسهم ،األتراك
فمزيج غريب من حضارات متعددة ،وعليك الحذر فقد تقفز إليك صفة ال تدري عن أي أمة ورثوها ،ربها بهذه الطريقة توصلوا إلى
تزوجن بسادتهن وولدن لهم أبناء ُمحتقرين من آبائهم ،ومترفّعين عن أخوالهم .في البداية َّ مسايرة األتراك في جشعهم ،وحتّى نساءهم
للسخرية ،لكنهم لم أكن أعرفهم بهذا المقدار ،بدوا في حوانيتهم ُمسالمين وقدريين ،وحتّى األتراك كانوا يُقاسمونهم هذه القدرية المثيرة ُّ
وبأس ا منهم إذا ما تعلق األمر بالبحر ،فكل ما يأتي به مشاع ،سواء أكان سفينة للتجارة أو قاربًا للصيد ،يكفي أن ً أشد وحشية
!يتراءى لهم في األفق ،حتى يتعالى صراخهم :كريستياني كريستياني
يوم ما كتابة رسالة إلى ديبون ورضيت عنها! كنت أدون خواطر عابرة ،لكنني لم أرسلها كلها ،ال أريد أن ٍ ال أذكر أنني أنهيت في
يعتقد ذلك الغر أنني ضعيف حينما أعود للذاكرة ،متسائل ًا كيف تولد وجهات النظر ،أو كيف أصبحت وإياه على طرفي نقيض ،وبهذه
أن بعض الطريقة امتأل درج مكتبي حتى فك ّرت في حرقها ،ما فائدة رسالة ال تصل إلى صاحبها؟ تساءلت بالرغم من يقيني ّ
حس بأننيالرسائل نكتبها ألننا نريد االحتفاظ بها ،كشاهد على اعتراف أو على خطيئة نقترفها ،ولكن إن كان بالفعل اعترافًا فلِم ال ُأ ُّ
المور وبما خبرته عن األتراك ،حتى أني ضججت حينها ُسمح لهم بالرحيل دون تغيرت؟ بل كل يوم يزيد إيماني بنظرتي لهؤالء ُ
.أدنى مساءلة ولكن ما ينتظر من خائن واترلو غير ذلك؟ أفضل الحوادث بعد هزيمة إسبرطة كان نفيه هو اآلخر منها
الم ور لم يكفهم األمان الذي أعطيناه لهم ،واآلن صاروا يكتبون العرائض يُريدون األمالك التي ُأ
طل من نافذة مكتبي فأراهم .هؤالء ُ
خلفها األتراك ،كم كانت مخزية تلك الوثيقة التي وقعها القائد بورمون مع الباشا ،ما الذي جعله يمنحهم كل تلك المزايا؟ المساجد
والزوايا ،مزايا لم تكن لتُمنح لمسيحي آمن في عرض المتوسط .من أجل ال ّ َذهب ضيّع علينا بورمون راحة في حكم هذه المدينة،
ومن أجل أولئك البوربون ضيع األحمق نفسه ،ولم يجد حتى سفينة تحمله إلى منفاه ،كم كانت البدايات في هذه المدينة شا ّقَ ًة
المور هنا ،وأرغمهم على عمل السالسل في أرجل كل ُ يجر سالسل ثقيل ًة في رجليه .كم أصبو لوضع ّ َُّ ومتعب ًة على عب ٍد كُنْتُه، ُ
السفن ،وينزلون ما بها من سلع حتى ُّ سينظفون وجوههم، الشمس وتحرق ببياضه، أنوفهم تمتلئ حتى الرخام الس خرة في محاجر ُّ
غرف مظلمة مليئة بالبول والجرذان ،ليشعروا بألم ومبيتهم في ُتنحني ظهورهم ،ولن أعطيهم سوى رغيف واحد من الخبز األسودَ ،
والعبودية ُ .األسر
الم ور سحر ،ال يمكنهم العيش دونها ،يحشرون أنوفهم في كل شيء ،ويعرفون عن بعضهم أدق التفاصيل ،تجد من يبوح
للتميمة عند ُ
الدوق روفيغو
.بها في أول مقهى يقابله ،لذا لم يكن من الحكمة أن يعلم الجميع ما الذي أصاب ُّ
صباحا سيد كافيار ،ال أراسلك بوصفك نائبًا لقائد الهندسة المدنية ،بل بما أعرفه من تاريخك المثير في مدينة الجزائر« ،
ً عمت
تتكرم وتزورني هذا المساء في بيتي .تحياتي الخالصة
ّ أن ةّ شخصي بصفة منك »..أطلب
بت أستعيدها بعد هذه الدعوة المفاجئة .هل يريد أن يسألني عن الدوق ،وحوادث أكثر ُّساعات كثيرة كانت تفصلني عن موعد ُّ
وزير ا في حكومة نابليون؟ أم عن أسري وحكاية عبوديتي ! ال أذكر أني رويت تفاصيلها إال لرجل واحد ،كان
ً واترلو ،وقد كان الرجل
الدوق التسل ّي بحكايتي ،بعدما أضجرته الحياة هنا! ولكن أتراني ما زلت
يو ُد ُّ
سنوات في بيته .أو ربها ّ
ٍ للسويد حيث أقمت
قُنصل ًا ُّ
أيضا لديبون كيف اكتشفت القسوة
ً أذكر تلك التفاصيل؟ ومن أين سأبدأ له؟؟ من سات ،تلك المدينة الجنوبيّة! سأفعل هذا ،سأروي
.في إسبرطة ،بل كيف صرت كافيار القاسي
وبعد الهزيمة تسلل إلى الجنوب ،كنت أخشى في كل دقيقة أن ُأكشف ،بالرغم من أن وجهي لم يكن مألوفًا للكثيرين ،واستفق
بعيدا عن واترلو لكنّها بقيت في ً شهور ثالثة قد شفيت فيها من ساقي .صحيح أنني فررت ٍ على نفسي في مدينة سات بعد
سهل موحل ،وأسمع أصوات المدافع والصياح. ٍ إلى حولي من رقة ز
ُ ال تتحول . الرنكة عن ًا ث باح داخلي حتى وأنا أجوب المتوسط
المرة
ّ تلك تكن لم .الصيادين صياح إثر واستفيق .الفارون جنودنا أنها أحسب حتى ًا ل قلي فترتفع ريح الخريف كانت تدفع الموجات
الوحيدة التي أغيب فيها عن نفسي ،األصدقاء كانوا يأسفون لي ،وكم انتبهت إلى صوت البحار العجوز ظان ّ ًا أني ال أسمعه :على
بشاب مثله ،النساء يخففن من وطأة الوحدة والحزن .ابتسمت بسخريةٍ ،من ٍ صديقكم أن يبحث عن امرأة ،النساء في سات يحلمن
الدوام ،ومن يعرف رجل ًا مثل َّ على معي كانوا لكنهم واترلو في ماتوا أصدقاء لدي منَّ ظ ِن ّه أني وحيد ،وأنا الذي كنت مكتفيًا بما
وحيدا بعدها
ً البقاء يضيره لن .نابليون،
بخوف مثل ًا يتكلمون عن ريح المايسترال ،يقتلعون البحارة من مراكبهم مثل ًا تجتث تلك الريح
ٍ كانوا في سات يتكلمون عن األتراك
األشجار بيسر .يمرون فجأة ثم يختفون بالطريقة نفسها ،وتظل األمكنة التي عبروها محظور ًة على الصيادين .يُخبرون بعضهم ما إن
وحلِ َم بفتح هذه المدينة ،وخاب أمله في كثيرا حتى في السنوات األولى لنابليونَ ،
ً يصلوا إلى ميناء سات .كانت لفظة الجزائر تتردد
أشهرا يُ ِع ُّد التقارير
ً الشرقيين بعد عودته من مصر ،لكنه ظل يتوق لمعرفة كل شيء عنها ،ثم أرسل أفضل جنوده كجاسوس ،مكث
تعب ،ولكنهم لم يحركوا ساكنًا ٍ .وفي عودته قَبض عليه اإلنجليز ،كعادتهم يحبون السطو على جهود غيرهم دونما
قبل أن تنقضي السنة بشهرين ،كان ذلك آخر أسبوع لي في سات ،غادرت بيتي في صباحه الثاني تجاه الميناء ،وقفزت تجاه
المركب ،كان النوتي حينها يراقب األفق ،تراءت لنا غيوم داكنة تُنذر بعاصفة تجاه سيرنا ،فتوقفنا عن شحن ما نحتاجه ،واضطر أحد
منتظر ا في الرصيف حتى نتبين األمر ،وبعد برهة وصلت أول نسمة باردة وتبعتها ريح قوية ،قال النوتي :إنها
ً المسافرين معنا للبقاء
مصرين على اإلبحار ،وأمام معارضة أغلبية من احتل الميناء تأجل رحيلنا
ّ ستستمر .لكنّها بعد هنيهة توقفت ،كان بعض الصيادين
.إلى صباح اليوم الثالث
عد ا ،حملنا ما نحتاجه من متاع وخمرة ،واضطررنا أن ننتظر المسافر الذي كان يقصد ميناء طراغونةفي صباح الغد كان كل شيء ُم ً
قرابة الساعة ،صعد إلى المركب واالستياء ظاهر على النوتي وبقية الصيادين ،ثم رفعت السفينة المرساة مع طلوع الشمس ،ونشرت
استقبلت
ُ رويدا مبتعد ًة عن الميناء ،بينما كان صاحب السفينة يُشيّعنا من على الرصيف .وهكذا
ً رويدا
ً قلوعها تجاه البحر ،وتحركت
التفت تجاه الغرب حيث ستنعطف بنا السفينة مع حلول المساء ُ .الن َّسمة األولى من البحر ،ثم
خطرا مما تظن ،أشعر أنهم يحومون حولنا وفي أية لحظة يقفزون نحونا -
ً .الشرق أكثر
صيادا ،فإنهم لن يتركوك ،حتى سفينة البابا لن تسلم منهم إن صادفوها -
ً .ولو كنت
الضباب ،كانت أصوات أقدام البحارة تتناهي،َّ عائدا إلى أسفل السفينة ،وبقيت أتأمل انجالء
ً قال المسافر هذه الكلمات ثم مضى
بتأن.
ٍ توز عين عند حواف السفينة .وبعد هبوب نسمة خفيفة ،فتحوا األشرعة وتركوها تنبسط التفت إليهم وتجلت لي ببطء أخيلتهم ُ ّ
م ُّ
يوما آخر في االتجاه نفسه ،وفي المساء غيرناه معتقدين أنناً سرنا . بالضبط نحن أين ندري أن دون مكانها من السفينة وتحركت
على صواب .وفي صباح اليوم التالي استفقنا على صراخ أحد البحارة ،خرج الجميع بمن فيهم المسافر ،وتراءت لنا من بعيد قافلة
مر ت دون أن تنتبه لهتاف البحارة ،وظلت تحت أعيننا حتى غيبها األفق ،ثم عاد كل واحد إلى عمله .وفي السفن اإلنجليزيةّ ،
من ُّ
نحدق في خط األفق وال شيء غير زرقة البحر الساكن ،وفجأة تراءت لنا ،وكأنها كانت ّ منتصف النهار ،كنت أقف يجاورني المسافر،
!مخبأ ًة في عمق البحر ،ظهر ساريها ثم كانت أمامنا ،ألجمتنا المفاجأة عن فعل شيء غير الصياح :إنهم األتراك إنهم األتراك
في صراخي كنت أراهم يتقافزون من على سطح سفينتهم ،الجنود كانوا يحملون سيوفًا معقوفة ،وصدورهم عارية ،وفي لمح البصر كانوا
أمامنا ،وقفز بعضهم إلى أسفل السفينة يطاردون بحارتنا ،ولم أنتبه إلى المسافر الذي كان قربي باألعلى ،رأيت أحد األتراك يوجه
أما
ضرب ًة إلى وجهه أسقطه بها ،وشرعوا يجمعوننا أسفل السفينة ثم أوثقوني والصيادين وتركوا بعض البحارة فقط من أجل القيادةّ ،
المسافر فقد وضعوه غير بعيد عنا ،وتناهت إلى أصواتهم وهم يُحاورونه باإليطالية وكان يجيب عن كل أسئلتهم ،اقترب منا لحظتها
جندي وتحسس جيوبنا ،أخذ مني ساعتي ،وسلبوا البقية كل ما لديهم ،ثم ظهر جنود آخرون يحملون ألبسة ملونة ،كانوا سعداء بها
كل يأخذ حظه دون وكأنهم يرونها للمرة األولى ،اقتربوا منا وراحوا يعرضونها أمامنا وحين لم نبد أي تعاطف معهم شرعوا يركلونناٌ ّ ،
مراعاة أي مكان في أجسادنا ،وعلى نداء ضابط توقفوا عن ضربنا ،وقادوا المسافر نحونا ،ثم طلبوا منه أن يُترجم لهم ،مثل ًا قرروا
تفحصني وأشار إلى المسافر أن ّ حملي وإياه إلى سفينتهم ،وقفت أمام ربانها ،كان يرتدي عمام ًة أكبر ،ويتربع على أريكة أمام قمرته،
علي ،عن األمكنة التي أبحرنا منها ،وعن وجهتنا؟! وكلما أجيبه يه ُّز رأسه في سرور ثم يكمل، َّ يترجم لي ،وبدأت أسئلته تتهاطل
صدقني حين أجبت أنني ال أعرف شيًئا ُ ّ ي ولم هناك، المدافع بعدد أخبره أن طلب بها، تحصينات سألني بعدها عن سات وهل من
المرة الوحيدة التي أرجو ّ تلك كانت ربها . قهقهوا لكنهم سبيلنا يخلوا أن ورجوتهم أمامه، جثوت حتى عنها ،وأومأ للجندي لضربي
ت أراقب قهقهتهم بعيدا عن ساحة المعاركَ ،ص َم ُّ ً أحدا جاثيًا على ركبتي .لم أدر مقدار الضعف الذي أصابني ،ربما ألنني كنت ً فيها
أحدا بعدها
ً .وقررت أنني لن أرجو
يُ ِص ُّر ديبون على الدفاع عن هؤالء ،مثلما يلجأ إلى مسيحه الشخصي ليحاججني .أيها البائس :حتى البابا نفسه لم يعد يؤمن
بالمسيح الذي تؤمن به ،من أجل سلطة المال تحولت األديان إلى أقنعة .هؤالء األتراك المحمديون كانوا يأخذون أموالنا ثم
الرب الذي صار الجميع يؤمن به ،في أوروبا أو إفريقية ّ .يستعبدوننا ،هذا إن لم نُقتل ،ثم يقولون إن الله يأمرهم بذلك ،هذا هو
وسجن البقية في القبو .سارت سفينة األتراك في المقدمة ،وكنا في ُحملنا بعدها إلى سفينتنا ،وتقاسمت والمسافر غرف ًة واحدةُ ،
أعقابها ،وق ِ ُّدر لنا التوجه إلى الجنوب .في لحظة ما اهت ّ َز باب الغرفة بركلة التركي ثم فُتح ،وتاله آخر ،وشرعا يفتشاننا مرة ثانية،
أيضا ،ثم ُصفق الباب خلفهما ،بعد أن أشبعانا
ً وحين لم يجدا شيًئا نزعا عنا لباسنا ولم نبق إال في سراويلنا القصيرة ،أخذوا األحذية
السباب بل ببر ٍد يتسلَّل إلى عظامي منّ بوطأة ركالت وركالت لم أفهمها ،قال المسافر إنها كانت سبابًا للمسيحيين .لم أشعر
الدوام ،حتى في سات ،حمل البحر لي أنفاسهم األلواح التي افترشناها ،وحين أظلمت تكل ّم المسافر :كنت أنتظر ظهورهم على َّ
صمت المسافر حين سمع وقع َ لدي أننا سنالقي مصير يونان ،دون أن نخطئ خطيئته. َّ أما مع هبوب العاصفة فتيّقن الحارة ولهاثهمّ ،
ودفع إلينا بصحني البرغل .أقدام تقترب ،ثم فُتح الباب ُ
يجر وننا إلى الربان ،وقفنا أمامه ،على يميننا أسير آخر لم أعرف هويته إال حينها ّ في الصباح التالي استفقنا على ركالتهم ،وهم
جرنا إلى الغرفة حيث ّ وأعادوا جثونا حتى ربنا فض
ُ المسافر، أنكر مثلما بها درايتي ُس ئلت إن كنت أتكلم األلمانية ،ومن توي أنكرت
يوم ا قضينا .ما أذكره أننا في اليوم األخير كنا على سطح السفينة ،وشاهدنا في األفق مدينة الجزائر ،تراءت لي في ً ال أدري كم
الس طوح يرتفع بعضها فوق بعض ،وتتوزع القباب والمنائر والقصور داخلها ،وكلما بياضها الرخامي ،وشكلها المثلثي المنحدر .صفوف من ُّ
وضوح ا وأرى حركة الميناء من هناك ،دهمني شعور بالخوف من المجهول ،والحظت وجه المسافر أكثر طمأنين ًة مني، ً اقتربنا تزداد
جر ب األسر من قبل ،ولم أجرؤ على سؤاله واألتراك حولنا ،يدخنون غاليينهم الطويلة ويشربون القهوة سعداء َّ حتى شككت أنه
بعودتهم .ليتك قاسمت معي يا ديبون سطح السفينة ،ألرى وجهك حينها ،وأثر الحبال في يديك ،وأصغر جندي تركي يمكنه ركلك
.حتى تسقط على فمك
ودائما آمنت بنفسي رغم كل ما حدث، ً إن مصائر الناس يا ديبون ليست مقرونة بإيمانهم بأشياء غير محسوسةٍ ،بل بأنفسهم فقط،
السويدي، وتيقنت من عودتي وثأري ،لذا حين َح ّ َر رنا اإلنجليز بعد عام ،رفضت العودة إلى سات ،واخترت المكوث في بيت القُنصل ُّ
تشجعت يوم رست السفينة بالميناء ،ونحن نُحمل في قوارب إلى ُ رجل أوربي حر ،من أجل هذا ٍ عزمت على قراءة المدينة بعين
يحب األتراك مظاهر البذخ ،كان يلبس معطفًا ُمطر ًزا ّ كم تدرك منظره من وثيرة، أريكة على يتكئ الباشا، رئيس البحرية ،كانوا يلقبونه
الضباط ،وأمامه نرجيلة حجما وأجمل من تلك التي يرتديها ُّ ً أكبر ة
ً وعمام ا قصير
ً ًا ل وسروا نفسه، المعدن من بال ّ َذهب ،حتى أزراره
كلماتٍ ويتفح ص وجوهنا في ابتسام ،كان منظره أحسن من البقية ،رغم مالمحه القاسية ،التفت ورمى ّ بهدوء، يسحب الدخان منها
فس ّ َرُ باقتضاب، عنها رد إيطالية بجمل
ٍ الباشا ّمه ل وك دقائق، أمامه ر تسم
ّ للباشا، مه قد
ّ ُ ي المسافر فدفع أسرنا، الذي ُمقتضبة إلى الضابط
منه ووضع يده على لحيته وردد كلمات لم أفهمها إال في السجن ،إذ حدثني بعض العبيد القدامى أن األتراك حينما يُريدون القسم
.فإنهم يُقسمون بلحاهم ،ثم أردف :وتأكد أنهم لن يحنثوا بها
ودعت المسافر ذلك اليوم ،ولم أعرف منه سوى اسمه األول ،كانوا يُنادونه ألونزو .وبقي هو في مبنى البحرية ،ورحلنا نحن مقيّدين
ّ
ركب إلى ِ ّ
السجن ٍ .في
عراة ُح فاة والسالسل في أيدينا ،وكان الصبيان يرموننا بالحجارة ،ويتنادون من حولنا :كريستياني
سرنا في شوارع الجزائر الضيقة ُ
وددت لو يقترب السجن فيكون ُ كريستياني ،ويزداد صراخهم حين يرمقون أهاليهم مسرورين بهم .وقفت ُمتفاجًئا مما يحدث أمامي،
بعد أول منعطف أللوذ به ،وفعل ًا لم نقطع إال مسافة قصيرة حتى وقفنا عند بابه ،واصطففنا في سلسلة ليسهل عدنا ،ثم عبرنا الباب
يتكرم
ّ الدوق أن
يود ُّ
ُّ شخص آخر ولد ،هو الذي التقاه ديبون فيما بعد .وهو الذيٌ إلى عالم مختلف ،لم يعد فيه كافيار مثلما خرج،
الدوق روفيغو؟
عليه بزيار ٍة شخصيّة ،في تلك اللحظة تساءلت :ما الذي يريده ُّ
ودوما آمنت أن الرجال ذوي التاريخ البوليسي ال يوثق بهم ،يشك ّون في كل
ً لم أكن ألجزم ،فأمثال ذلك الرجل مليئون بالمفاجآت،
وزيرا على الشرطة في باريس
ً يوم ما
ٍ الدوق وقد كان في
.شيء ،في أبنائهم وزوجاتهم ،حتى في أنفسهم ،فكيف يفك ّر ُّ
عد العربة ،خلفت المبنى،
يبق الكثير على موعد الزيارة ،حملت نفسي وغادرت المكتب ،وأوعزت للجندي أن ي ُ ّ
انتبهت إلى أنه لم َ
وانعطفت تجاه حي القناصل ،ثم أشرفت على حديقة بيته ،تراءى لي الخادم ينتظر قدومي ،ورافقني إلى الداخل ،ثم انصرف بعد
.نداء سيده
نشاطا وحركي ًة قبل هذا اليوم ،أمعقول أن سنة تجعل اإلنسان بهذه الضعف؟ بدا
ً الدوق إلى الجزائر ،كان أكثر
في أول يوم وصل ُّ
مد يده المختلجة إلى الكأس
ّ الكؤوس، ويضع الطاولة يرتب الخادم كان بينما دقائق اً ت صام َ
وظل
ّ يقابلني جلس عما حوله،
ّ غائبًا
:وحملها ،ثم رشف منها وقال
أيام لم أغادر بيتي ،بسبب هذه العلة - ٍ بعض المناصب يا سيد كافيار توفّر لك مزايا كثيرة عدا راحتك الجسدية ،لعلك ترى ،فمنذ
شعب طريقة فيٍ لكل أنه أعتقد كنت قدمت التي أصابتني ،وحملت اليأس إلى نفسي من حكم هؤالء األفارقة .باألمس حينما
المور واألعراب فقد أعيوني ،وبقدر ما قتلت منهم زادوا
أما هؤالء ُ
تحاربهم ،وآخرون يُشترون بالمال أو المناصبّ ،
الحكم ،هناك من ُ
تتمدد
َّ صالبة ،وبعد أن أفنيت تلك القبيلة التي قتلت حلفاءنا ال أدري ما الذي حدث لي؟! أشجار شو ٍك نبتت في داخلي ،وكل يوم
.في جسدي
بت أراها تطوف حولي في هذا -وأردت أن أشرب نخبها معك ،أفضل من شربه مع األشباح التي ُّ ُ هذه ليلتي األخيرة في الجزائر،
يتجمعون حولي بمالمحهم
ّ حادا ،أستيقظ إثره ،فأراهم
ً عواء
ً البيت الخاوي ،كل ليلة تغادر المقبرة شرق المدينة ،تلج البيت وتعوي
أن هذا يحدث لي؟ويفر النوم إلى غاية رحيلهم .أتصدق ّ
ُّ !العربيّة القاسية ،من بينهم أطفال يبكون وينادون أمهاتهم ،أفزع لرؤيتهم،
نعم قد يحدث أكثر من هذا في الجزائر ،في السنوات الماضية كانت الحمى تنتشر في الناس فيبدون مثل مجانين يَهذون في -
دواء
ً الحمى
َّ .الشوارع .ال تقلق يا سيدي في باريس أوجدوا لمثل هذه
وحيدا،
ً عا ،وعبرت البوابة ِّ
مود ً الدوق تلك الكلمات ثم صمت حينما دخل الخادم وذكَّره بموعد الدواء والنوم ،فوقفت إذ ذاك
قال ُّ
.لتحملني العربة إلى بيتي خارج المدينة
يدق بابي ويومئ لي أن ألتحق به ،أتسل ّ َ ُق الدروب المؤدية إليه ،ألج القصبة وأعبر أز ّقَتها الضيقة،
ُّ رغم رحيله ما زلت أنتظر خادمه
والش ّو اش على جانبي الباب ،يسبقني الخادم إلى باحته ثم التحق به ،أتأمل النافورة ومياهها التي ُّ ثم أنعطف غربًا فيقابلني القصر
الديوان ،يُفتح وأسمع صوت الخادم يناديني نضبت اليوم ،وحتّى شجرة الليمون لم تثمر بعد رحيله .من مكاني يقابلني باب ِ ّ
.باسمي :سيدي ابن ميّار الباشا ينتظرك
لم يكن المشهد ليغيب عن ذهني ،أصواتهم تتعالى وقهقهتهم وهم يدخنون غاليينهم ويحتسون القهوةُ ،معيدين سير المعارك القديمة،
عرسا لنا ولهم ،وبعد رحيلهم أضحت مدينة تختلط فيها الدماء بالغبار ،تُرى ِلم حدث هذا؟ ولِ َم رحلوا ،وأين
ً يومها كانت المحروسة
وزيرا لم أرسل إليه شكايتي ،حتى ً سلطان البر والبحر؟؟ وال يجيب على العرائض التي أرسلها كل يوم؟ لم أترك نداء لم أناده ،وال
نهر بيننا وبينهم ،ال
ٍ أعدائي كنت أشكوهم ألنفسهم لعل الضمائر تحيا ،غير أنهم ال يعقلون .أو أن سيل الدماء الذي أريق صار مثل
الحراش
ّ .يستطيع أحد تجاوزه ،كان عميقًا يحمل كل الجثث التي سقطت في سيدي فرج ،أو ربما في سطاوالي أو
والضياع وحتّى األصدقاء، ِّ فقيرا بعدما سلبوا منك كل شيء ،التجارة
ً وحيدا يا ابن ميّار ال مال وال سلطان ،تكاد تكون
ً قد أصبحت
كان آخرهم المفتي الحنفي ،دبروا له المكيدة في بيته ثم نفوه إلى اإلسكندرية .كان أجدى لك لو رافقته ،لكنك تظل تعتقد أنك
حون عليك بمواصلة بعرائضك ستعيد المجد لهذه المدينة بعد رحيل بني عثمان ،ثم تثاقلوا عن سماع شكواك وشكوى أهلك ،الذين يُلِ ُّ
مطرودا منه،
ً سعدوا وهم يرونك ِ عضوا في مجلس البلدية ،ثم
ً الكتابة وهم من اتهمك في البداية بالعمالة للفرنسيين ،حين كنت
للسخرية من رئيس المجلس ومن األعضاء اليهود؟ ولكنك لم تكن ولِ َم؟! ألم يكن ذلك من أجلهم؟ ألم تعترض حتى صرت مدعاة ُّ
روج لهم حين كانت رسائل الباشا تصلك ُمقن َّعة مليئة بالوعود ،ثم لم يحدث هتم .آمنت بأن العثمانيين سيعودون ،وما لبثت تُ ِ ّ
لتَ ّ
ومرت السنة ثم السنة ،ورحل بورمون منفيًا ،وتاله كلوزيل معزول ًا ،ثم بيرتزن ،وها أنت اآلن تتسلَّل إلى رصيف الميناء ،لترى
َّ شيء،
الدوق روفيغو وآخر المالمح التي يحملها عند رحيله هو اآلخر معزول ًا من الجزائر .وجه ُّ
قدر رجل ًا قتل نصف أهلي وشرد الباقين .أردت فقط رؤيته وهو يصعد بد أن يحدث هذا منذ اليوم األول لوصوله ،لم أكن ُأل ِ ّ كان ال ّ
الفرقاطة التي ستحمله إلى مرسيليا أو طولون ،وقفت أراقبه من زاوية في رصيف الميناء ،ولمحت ضابط الهندسة كافيار يُلوح
السل ّاوي لنودع ديبون ،قدم مع الحملة لكنه رحل في األيام األولى
شبيها بآخر قبل سنتين حينما رافقني ّ ً للفرقاطة الراحلة ،بدا اليوم
ستثن وأنت من بني جلدته. َ جميعا ،ولم تُ
ً اضطهدنا الذي الرجل بذلك حل الذي ما ترى كي هنا، ديبون للد وق روفيغو .ليتك يا ُّ
أعجب من قدرة هؤالء على تغيير وجوههم ،في األيام األولى ُ تغيب، حتى للفرقاطة يلوح مازال بصري، مدى في اآلن هو كافيار
لوصوله طلب اكتراء ضيعتي ،وأرغمت على موافقته ،وحين طالبته باألجر بعد شهرين ضج في وجهي وطردني ،وال يلقاني إال بعد
موعد ،وإن أذن لي ،يسمح لي عمالي بالمرور ،وهم يدركون أنها ضيعتي ،ولكنهم مثلي مجبرون على الخضوع له .رفض كافيار حتى
أسر لي البستاني في األيام األولى أنه كان يحفر الحديقة
َّ أن أطوف في بستانها ،أتفقد حوض الزهر الصغير الذي لم يعد هناك.
.طوال النهار ،بعدما ُأشيع أننا خبأنا كنوزنا بها ،ولم يحصلوا شيًئا إال خراب الحدائق الجميلة
أولئك المالطيون في البداية كانوا يتسلَّلون مثل خفافيش في الليل ،يعبرون وهاهم حينها بدأت األموال تنضب التفتوا إلى مقابرنا،
نهارا ،يُف ِتّشون عما تبقى من عظام أطفالنا
ً ثم تجرؤوا وصاروا يغزون مقابرنا الباب الغربي للمدينة ،وينزلون المنحدرات إلى مقابرنا،
الدوق ،قلت إنّه لم يحدث هذا في زمن الباشا ،كنا العرائض أشكوهم إلى ُّ كتبت مئات ُ وشيوخنا ،ويحملونها في أكياس إلى الميناء،
بالوالء لألتراك .أحينما يطلب المرء صون جسده وهو في حفرة يصبح عميل ًا متهم ا إياي
ً وجهي أحياء وأمواتًا ،فصاح في
ً !!مصانين
ُ
كل الضباط الذين التقيتهم اتهموني بالسعي لعودة العثمانيين ،ولم أكن ُألنكر وال ألوافقهم ،أحاول فقط جرهم إلى المقارنة فيخيب
ردد ديبون أملهم ،ويُنهون الحوار بالتهمة نفسها ،وكافيار كان أسرعهم إلى ذلك .حين يمأل الحقد القلوب فلن تتجل ّى لها الحقيقةّ ،
السل ّاوي نُجابه الفرنسيين وحدنا داخل المدينة ،يُعيدني الحنين إلىهذه الكلمات قبل رحيله ،يئس من محاوالته القليلة وتركني مع ّ
غل ًا
بعيدا متو ّ
ً يفر لكنه خلفه، فيركضون منهم، يسخر اليولداش، بالجنود السل ّاوي يقذف ُس بابه غير عابئ زمن بني عثمان ،يومها كان ّ
مرددا أنهم متسلطون ،أنانيون ،وال يقاتلون إال من أجل
ً يوما ،كان يسخر من ُحمرتهم،
ً عثمان بني يحب
ّ في شوارع المحروسة ،لم
تجارا فقط ،وال
ً المال ،وليست لهم مزية سوى نسائهم الجميالت .أضحك من كالمه ،ويسرني اختالفه عن الشباب اآلخرين ،كانوا
السل ّاوي ينتقد كل شيء حوله ،يتكلم العثمانية مثل بني عثمان ،ويصر على حفظ الكلمات لكن ّ
ّ يهمهم الكثير من أمور السياسة،
البذيئة فيها ،وحين أحتج ي ُجيبني :يا سيدي أنت على العين والرأس ،ولكن أية مصلحة ستجمعني معهم حتى أنمق لهم الكالم ،ما
أنا بتاجر وال بكاتب عندهم ،يكفيني ما أجنيه في المقهى .ولم أخمن أنه سيتهور ويقذف نفسه في أتون آغا العرب ،ولوال وساطتي
.لكان قد هلك
يمضي كافيار بعربته عبر شارع باب الجزيرة ،وأخطو في الشارع نفسه خطوات ،عن يميني ينحني باب الزاوية المهترئ ،لم تتناه
إلي أصواتهم تصدح بال ِ ّذ كر ،في الماضي كان الطلبة يرددون اآليات ويتغنون باألذكار ،يرتفع صوت المدرس بينهم يحثهم على المزيد، َّ
التفت إلى الجامع الكبير ،انتظرث رؤيتهم هناك
ُ وقفت أصيخ السمع ،ولم يتناه لي أي شيء ،لعل الشيخوخة أثقلت سمعي.
مجتمعين يقرأون البخاري ،أو يتدارسون مختصر خليل أو رسالة القيرواني .بيد أنه كان خاويًا منهم ومن الناس ،صار مثل أي
مؤسسة فرنسية ،ي ُفتح ويغلق في أوقات الصالة المعلومة ،فررت من هناك وسرت حتى أشرفت على حي المقاهي ،ربما هو الوحيد
ضاج ا بالناس ،مزيج من الجزائريين واألوروبيين من غريبي األطوار ،يلبسون لباسنا ،وبعضهم يرتدي العمائم العثمانية ويحملًّ الذي بقي
الغاليين ،يحتلون مداخل المقاهي على مقاعدهم ،تجاوزتهم بعجلة وقطعت مسافة قصيرة حتى قابلني الجامع الجديد ،يُناظر البحر
رخيما إلى فضاء المحروسة ،فترىً فزع ا من العمال الذين كانوا يقتربون كل يوم ،لم يعد األمر مثلما في السابق ،كان النداء يتعالى ً
طيور بيضاء ،يتسربون من األحياء إليك ،حي النحاسين والصبَّاغين والغ ّزَالين ،كل الدكاكين تُترك مفتوحة على
ٍ الناس مثل أسراب
وجلُّها اختفى
عدها ُُّ ساحات األسواق ،سوق الزيت ،سوق السمن أو سوق الذهب أو حتى سوق الصوف والقمح ،هل يمكن لي اليوم
جاره إلى الجبال؟ ومن حالفه الحظ ارتحل إلى المشرق ،القليلون سيُصلُّون أمام محرابك خائفين من يوم يستيقظون فيه فال أو فر تُ ّ
النحاسين وما تبقى من سوق الخشب ،حتى قابلني َّ يجدونك .وتجاوزت المسجد على مضض متخذًا شارع باب الجزيرة ،عبرت حارة
شارع المحروسة الكبير ،الذي يصل بابه الغربي بالشرقي ،باب الوادي وباب ع ّزون ،خطر لي أن أنعطف تجاه الغرب ،لكني تذكرت
أحياء اليهود ،لم أعد أثق بهؤالء الناس ،كانوا يقاسموننا الخبز والملح ثم فجأة بعد دخول الفرنسيين بدأوا يهتفون لهمِ .
الملل
عاما أو أكثر بقليل ،كانت كفيلة بأن يمسك هؤالء اليهود كل ً دائم ا ما تحاول إيجاد مكان لنفسها ولو بالخديعة ،خمسون
ً الصغيرة
شيء ،حتى الباشا نفسه كان يشتكي منهم على الدوام .يقول لي :سامح الله حسن باشا ومصطفى باشا هما من سمحا لهذه
يفران إليها ويُصبحان من تلك األمة
َّ .السوسة أن تنخرنا ،وأورثاني معها مشكلة ديون اليهوديَّين مع فرنسا ،وهاهما
ُّ
فر أهله منه ،واللو وقف الباشا اليوم معي في شارع المحروسة الكبير لكان حزنه أكبر وهو يرى الجنود يعبرونه جيئ ًة وذهابًا ،حتى َّ
يفرون مسرعينّ يقتربون إال حينما يُضطرون لذلك .يسحبهم الحنين إلى بيوتهم القديمة وإلى دكاكينهم التي احتلَّها األوروبيون ،ولكنهم
مروا بك وحكموا المحروسة؟ التفت أبحث عن أخطر في أعقابهم فيرتفع قصر الجنينة أمامي .كم من الباشوات ُّ ُ منها تجاه الغرب.
داع اليوم
ٍ جامع السيدة ،فال أرى إال الفراغ ،هدموه وسووا أرضه كي تغدو ساحة مثل التي رأيتها في باريس ولندن .ليس له
ظل كافيار يكرر .لم يكن في استطاعتي االستمرار ،المحروسة اليوم ليست محروسة األمس، فبروتستنت المحمديين قد رحلوا مثل ًا ّ
أحث الخطى أبحث عن نهاية الطريق ،مثل ًا أخشى في الوقت نفسه بلوغه .أخاف أن أطل على المقابر فأرى أولئك المالطيين ُّ
.ينبشون المقابر ويسحبون أكياس العظام
وأسر
َّ في اليوم الموالي أفقت على صوته يناديني باسمي ،وقد هجرته حينًاعندما يأست من حالي ،أتاني الصوت هادًئا في الحلم،
لدي من ثياب ،ونزلت عبر منحدر القصبة حيث بيتي ،وأسرعت المشي ألبثّه َّ لي أنني ال بُ ّد زائره فحملت نفسي ولبست أجمل ما
دائم ا لوال الحواجز التي باتت تعترض طريقي ،إما أسى وإما الجنود الفرنسيون ،يحتجون بأي ً ما في نفسي ،وقد تعودت البوح له
شيء ليمنعوا زواره عنه ،عبرت الشارع ثم انعطفت شرقًا ،وتجلَّى لي المسجد الصغير بمئذنته الواطئة ،ثم دخلته ،على يميني
وارتقيت الدرجات ،على جانبيها كان الفقراء يفترشون األرض نائمين ،فتحت باب ُ اقتربت
ُ الشجرة وعلى يساري باب المقبرة الصغيرة،
فراق دام أكثر من شهرين ،ثم دنوت من ضريح سيدي ٍ على إليه أعتذر كأني بالدعاء ا تمتم
الريح ،وتركت حذائي هناك ودخلت ُم ً
عبد الرحمن الثعالبي وهمست :هم ال ي ُريدون إبقاء أحد في مدينتك .رحل أكثر من ثلثي المدينة والذين بقوا أغلبهم من الفقراء،
طيرا
ً لكن
ّ وظل سيّدي صامتًا لم يجبني مثلها في السابق.
ّ وكل من رحلوا ُأخذَت ديارهم وُأسكنَت ،وال نستطيع أن نفعل شيًئا.
صغيرا حلق في سماء القبة ،صفّ َر ورفرف ثم طاف فوق الضريح وغادر عبر خصاص الباب ،فتبعته ،رأيته يحط على شجرة قرب ً
المسجد ،فاقتربت منها ،ثم رفرف راحل ًا .وظللت أتبع طريقه ،وانعطف مع كل طريق ينعطف معها حتى بلغت مكانًا يُشرف على
لون أزرق ،ثم لم أعد أراه ٍ .البحر ،رأيته حينها يحلق فوقه ،وقد حال لونه األبيض إلى
تكهنت هذا حين رأيت الطائر ّ تساءلت لحظتها عن معنى اإلشارة ،هل يريد شيخي سفري من المحروسة؟! وربما العودة كذلك،
أو لت المعنى من رحلته ،كان سيدي يريد مني السفر إليهم هناك في باريس ،وأطلب يعود ،يح ِل ّق فوق رأسي ثم يمضي تجاه الضريحَ ّ ،
أدون العرائض وأرسلها دون فائدة.
ثالث وأنا ِ ّ
ٍ لقاء الملك ،فللملوك طبائع مختلفة عن القادة ،ولكن ماذا سأقول له؟ فمنذ سنوات
ضابطا
ً زوار زوار .كان ِ
الم َ ولكن ما الضير في محاولة أخرى؟ حملت نفسي وسرت في شوارع المحروسة حتى وجدتني في وجه ِ
الم َ
محتقرا من الجميع ،حتى من الخزناجي الذي يجني له دراهم البوجو،ً وظل
ّ حصل الضرائب منهن. مسؤول ًا عن المبغى ،ي َ ُع ُّد نساءه ويُ ِ ّ
وأقل حياء من ذي قبل َّ .واآلن بعد أن أصبح الفرنسيون هم المالك الجدد ،أضحى أسوأ
زو ار ،ومررت بين جنوده المحتفين ببدالتهم الجديدة ،وقبل أن أنعطف سمعت صوته يخاطبني :تجاوزت ِ
الم َ
دوت الكلمات في رأسي ،وشككت أنه وضع رقيبًا على بيتي .استدرك الكثير بعد دخول الفرنسيين ،وكأنه ليس ذلك األحمق الذي
يصدق أن ُدوجة لم تعد تعنيني ال أنا وال
ّ كان يطارد البغايا بين الشوارع من أجل المال ،لم ألتفت إليه حين انعطفت ،وددت أن
السل ّاوي عدوه القديم ،ولكن عينيه ظلتا تتعقباني حتى وأنا ألج درب القصبة ،ألصل إلى بابها ومن ثم أعبره ،وأدق باب بيتي
ّ
ومفتاحه في جيبي .فُتح الباب وكانت ُدوجة تقف خلفه ُمندهش ًة من تقطع أنفاسي .توسطت باحة الدار وارتميت على أول مقعد
:صادفني ،فاقتربت مني زوجتي وقالت
زوار، ِ
والم َ راكضا بين الشوارع ،وخلفه جنود اليولداش
ً السل ّاوي
ولم تواصل الكالم بل عادت إلى المطبخ .وغفوت أنا هنيهة رأيت فيها ّ
وأصخت من هناك
ُ ني، ز
ّ ته وجة د
ُ يد على أفقت ثم فرنسي، زي
يولداشا بل في ّ
ً مرة أخرى خلفه ،ولكن الجنود لم يكونوا
ثم رأيتهم ّ
!للنداء الضئيل للمؤ ِ ّذن ،يدعو الناس للصالة فهل يا ترى من مجيب؟
تراجعت
ُ األيام التي تَل َت زيارتي للضريح لم تنبئ بجديد ،سوى وصول حاكم جديد للمحروسة .فك ّرت في حمل العرائض إليه ،ثم
ته أحالم التوسع إلى عنابة ووهران حين حدست أنه لن يختلف عن غيره ،كان بورمون يصغي إلينا ،وكلوزيل يطردنا ،وبيرتزن َأ َ
له ُ
أم ا روفيغو فكان مضطهدنا ،فما الذي سيفعله بنا فوارول؟ الشائعات قالت إنّه نصف قائد فقط ،وال يمكنه توقيع القرارات والتيطريّ ،
أما المحروسة فلها نصف قائد، ّ . عليها شرفان ُ ي قائدان لها صار ووهران عنابة إقليمي وإن الحربية، وزير يستشير حين الخطيرة إال
أيض ا ،هل سيتركهم ينهبون المدينة؟ ولكن ما الذي بقي للناس؟ بيوتهم وبعض حوانيتهم ،واألرض ُو ّزعت على األوروبيين ً ومغلون
القادمين منذ عام .رحم الله أيام السيد بيشون ،زعمنا أننا ُظلمنا بها وكانت أفضل من اليوم .كان بيشون متصرفًا مدنيًا للمدينة
توزعت خيامهم على ّ الدوق روفيغو وعلى أولئك الكولون الذين حين فصلوا بين العسكر والمدنيين .ومنذ وصوله أعلن حربًا على ُّ
وزَع عليهم أراضينا وضياعنا ،بعدما
الدوق قراره ثم ّ وجلُّهم كانوا كذلك .رفض ُّ رصيف الميناء .أراد طرد كل من ليس له رأس مالُ ،
ُ.أخذت أبهى مساجدنا ونصف أوقافنا ،صارت لمعيشة الجيش الذي يحاصرنا ،بعد أن حاصره الثوار خارج المحروسة
تفاصيل الشائعات التي انتشرت في الجزائر لم تكن هينة ،بل إن الشخص الذي روجها عليم بها يجري في مكاتب الحكومة ،ولم
السبل .ولكن أي شيء يُبطنه من هذا؟ هل يبحث عن مكاسب جديدة في المحروسة؟ ألم يكن يكن سوى رجل واحد له هذه ُّ
من الذين غرروا بأعيانها في بداية االحتالل ،ثم اختفى ،أتراه عاد فعل ًا إلى المدينة؟ اعتاد في البداية إيهامنا أنه مرغم على كل
أسر لي :زمنَّ شيء ،واليوم ما هي األكاذيب التي يحملها كي يأخذ ما تبقى من رياالتنا؟ كنت أذكر يوم ترافقنا إلى القائد بورمون،
بني عثمان قد ول َّى ،ينبغي علينا نحن المغاربة حكم المدينة ،إنها مدينتنا وعليهم العودة إلى األناضول .فاوضنا على االستسالم،
وأصررت أل ّا تحوي المعاهدة على بند طرد أحد من المدينة ،بل سيعيش الجميع فيها بسالم ،المغاربة وبنو عثمان وحتّى اليهود.
ِ
تمض إال أيا ٌم قليلة حتى كان جنود ولكن ما حملته األيام فيما بعد علمني أن العسكر هم آخر من يلتزم بالمواثيق .وفعال لم
الع ّزاب فقط ،ثم فجأة رأينا المتزوجين يساقون إلى الميناء يلتفتون إلى
رحلون ُاليولداش يُسحبون من بيوتهم ،في البدء قالوا إنهم سي ُ ِ ّ
.زوجاتهم المغاربيات اللواتي خلفوهن في الجزائر ،واألطفال بينهم احتاروا أي جهة سيختارون
قبل سنوات بعيدة عرفت ميمونًا ،رأيته في سوق المليارين يجمع القمح ،ثم قيل لي إنّه سافر إلى مرسيليا حيث أصل تجارته ،ثم
وبت أراه أحيانًا مع اليهوديَّي ْن تاجري القمح ،وفي السنوات األخيرة حين توقفت أعمال الجهاد ،وغلت المعيشة ُّ عاد بعد سنتين،
شحيح ا -إذ أتى الجراد على الكثير منه -كان دائم الحركة بين الميناء وسهول متيجة ،ابتاع كل ما امتدت إليه ً وأضحى القمح
أيام ا وعاد بعدها .التجار الذين وصلوا إلى المحروسة قادمين من وهران قالوا إن سفينة فرنسية حملت ً المدينة من يداه ،ثم اختفى
المرة األولى ،كانوا
ّ تكن ولم األسود، القمح من اً ن معجو ا خبر
ً ويأكلون ا، جوع
ً يتضورون الناس كان بينما الميناء، من القمح قناطير
يتساءلون عن أوامر الباشا التي تتعلق بمنع بيع القمح خارج البالد .وهل هم في وهران معنيون بها ،كان ال بُ ّد لي من لقائه،
:وعثرت عليه في سوق الميّارين ،وحين تقابل الوجهان قلت
جوعا؟؟ -
ً يتضور الناس
ّ كيف يُمكنك بيع القمح للفرنسيين بينما
!!ومن قال هذا يا سيد ابن ميّار؟ أنا بعته لليهوديَّيْن -
.ولكنك تدري أن الباشا منع بيع القمح لغير الجزائريين حتى تزول هذه الجائحة -
ٍ
أراض ال يملكه أهلك - .إذا كان الباشا يحرص على الناس فليفتح مخازنه ،هو والخزناجي وآغا العرب ،فيا يملكه هؤالء من
الناس في المحروسة أنواع ،وأغلبهم كانوا يحترمون بني عثمان ويتجنبونهم .يكفيهم أن مساجدهم مشرع ٌة أبوابها ،وفقراءهم مكفيون،
بعضا فهذا ال يعنيهم في
ً قرون ثالثة ،فإن قاتل الباشوات بعضهم
ٍ وعلماءهم ُمحترمون ،وأنّهم يعيشون بأمان ،وأن الجهاد ُمعلن منذ
.شيء مادام األمر لن يختلف عن سابق العهد .ولكن آخرين في المحروسة كانت لهم وجهة نظر مختلفة
السل ّاوي وميمون في كرههم لبني عثمان ،كانا يريدان أن يحكم المغاربة بالدهم ،ولكنهما افترقا في وجهة النظر بعد دخوليلتقي ّ
السل ّاوي من الذين
ّ كان بينما .وأهلها بالبالد معرفة الناس أكثر كان إذ الجديد فتحهم في كمساعد نفسه ميمون عرض الفرنسيين.
الحراش
ّ في اوأخير
ً سطاوالي ثم فرج سيدي في .قاتلوا
كانت العرائض ماتزال متناثرة أمامي ،أفكر في ضرورة إرسالها إلى الحاكم الجديد ،وهكذا حملت أوراقي كلها وانحدرت عبر الدرب
تعجل ًا الوصول إليه ،وبعد جهد كنت أمام باب المبنى ،لحظات وقفتها هناك ثم ُأذن لي
األول الذي صادفني ،أسرع الخطى ُم ّ
.بالدخول
كل حاكم كان يأتي إلى المحروسة يعرفنا بأسمائنا وتاريخنا ،وعالقاتنا بالضباط الذين تعاملنا معهم .إذ ال تحتاج لقول الكثير حتى
تجده يستبقك بأشياء لم تخطر لك ببال .تجاوزت الباب إلى الدرجات وصعدتها ،ثم ُأذن لي بالدخول إلى المكتب ،جلس الحاكم
منتظرا أن ُأعلمه عن أسباب الزيارة ،فبسطت األوراق فوق مكتبه ،وقلت
ً :صامتًا
سيدي ،منذ ثالث سنوات سلَّمنا المدينة على شرط االحتفاظ بأموالنا وضياعنا ومساجدنا وأوقافنا ،وقد ُأخذت منا .ثم ها هم -
يسرقون عظامنا من المقابر وال أحد يردعهم .وهذه العرائض بها كل التفاصيل ،سأتركها بين أيديكم آمل ًا أن يحرككم شرف هذه األمة
واألخوة .فانظروا لنا بعين عطفكم ،واستجيبوا لما جاء بالعرائض
ّ .التي قامت بالثورة من أجل الحريّة والمساواة
عليما بتاريخنا ،ولكن ما تريده ليس من صالحياتي ،وزير الحربية اآلن هو من -
ً يسعدني يا سيد ابن ميّار أن تتكلم لغتنا ،وتكون
.يحكم الجزائر
تجارتي جعلتني أزور مدنًا كثيرة من بينها باريس ،وتعلمت لغتكم وتاريخكم بالقدر الذي ُأذ ِك ّرك فيه أن بالدي كانت أول دولة -
ين طويل المدى
كد ٍ
زودكم بالقمح َ
.تعترف بالثورة الفرنسية ،وحينما قاطعتكم أوروبا كنا نحن ن ُ ِ ّ
مهما هذا الكالم يا سيد ابن ميّار ،كما ال يمكنني خدمتك في قضيتك ،أتمنّى أن تحمل عرائضك وترحل -
ً .لم يعد
في الشارع رأيته ،كان يقابلني في الجهة األخرى من الطريق ،ثم وقف أمامي وأدركت حينها أن ديبون قد عاد في األسبوع الذي
ودعني فيها .مالمحه أعلنت أنه لن يرجع ،ثم فعلها ،ولكن بأية صورة؟؟ أهي التي فر من سأغادر فيه ،تعانقنا مثل آخر مرة ّ َ
مستعمرا؟ كان متعجل ًا يهدف إلى زيارة الحاكم الجديد ،وقبل أن ِّ
أودعه ً ة
ٍ مر أول المحروسة تتلوث ،أم التي دخل بها
ّ أجل أال
.أخبرني عن الفندق الذي يقيم فيه ،وسلَّمني جريد ًة ثم غاب داخل المبنى
حيّ ًزا ال يُستهان به منه ،قرأت كل ما جاء في مقال ديبون « لو سيمافور دو مارساي» هكذا قرأت العنوان الكبير ،أخذت عظامنا ِ
لدوجة
مستلق على فراشي في بيتي ،وترجمت ما حواه ُ ٍ والمرة الثالثة وأنا
ّ تسم ٌر في الشارع ،ثم أعدته في المقهى العربي.وأنا ُم ّ
دائما
ً كان الموت جلل، ألمر إال قبل من يفعلها ولم قديمة، أشياء نفسي في أثار غيابه لكن .ّاوي ل الس
ّ يطالعه أن وتشوقت وزوجتي،
ثوان ثم تكلمت
ٍ :يرافق غيابه .طلبت من زوجي إعداد متاعي ،لكنّها وقفت ُمتص ِل ّبة،
تمل بعد من محاوالتك ،إنهم لن يُرجعوا لنا شيًئا ،ولن يُغيّروا من معاملتنا -
ّ !ألم
أتحسسه خشية أن يضيع ،وأنا أنزلَّ تركت الشوارع خلفي ،ولم تبق لي إال مسافة قصيرة ألطأ رصيف الميناء ،التصريح في جيبي
السفن الراسية هناك ،تراءى لي الريّاس وهم يُلوحون ألهاليهم يَعدونهم بغنائم الجهاد ،وفي مقدمة الميناء
الدرجات إلى الميناء ،وأراقب ُّ
مبكر ا واحترام مواثيق السالم ،ثم تختفي الرؤى وأنا أقف أمام السفينة الراحلة وأصعد درجاتها،
ً يقف وكيل الحرج يحثهم على العودة
السل ّاوي إذ
وصوت يُنادي باسمي بينهم ،ربما كان الواقف باألسفل ّ
ُ في آخرها التفت ،تجمهر بعض الناس في الرصيف ،ويد تلوح لي
.لم يغب إال حين غاب الرصيف وتوسطت السفينة البحر
ٌ
شكل آخر للموت ،أراه كل يوم في عيون الناس ،وأولئك الذين كانوا يرتادون مقهى الشاوش ،الدخان الحياة في المحروسة هي
يص اعد من غاليينهم ،صوتي يتناهى إليهم من مكاني ،وخياالت العرائس التي تهت ُّز في يدي ،تنعكس على حائط المقهى ،يضحك ّ
الري ّاس الهتزازها وحواراتها ،ويغضب اليولداش مما أفوه به ،ولكنهم ال يجرؤون على االقتراب مني بل يترصدونني خارجها ،وما إن
مرة ،ويوصيني بالصمت خشية غيابه في يوم ما .ال كل ّ
أتجاوز الشارع الكبير حتى يتراكضوا خلفي .ويظل ابن ميّار ينقذني في ّ
.أبالي بنصائحه ،وعندما تُؤخذ عرائسي تخيط لي ُدوجة أخرى .وهكذا دواليك
في السنوات األخيرة سيطر اليولداش على المحروسة ،وصار الريّاس محتقنين من حياة البر ،إذ أكثر الباشا من المواثيق ،وأضحوا
يع ُّج بهم ،بعد أن كان من عل َمها لدولة حليفة ،وأصبحت المقاهي مكانًا ُُمكبَّلين كلما رأوا سفينة تلوح لهم في األفق يتراءى لهم َ
يوما مصدر إزعاجً اس ّ الري يكن فلم لي، جانبه اً ن مأمو المقهى هذا جعل النادر وجودهم هناك .ال تلبث المشاحنات تقوم بينهم ،مما
للناس بقدر ما كان اليولداش .ولم تكن كراهيتي لهم مثل كراهيتي للذين ال يغادرون أوجاقهم إال لضرائب جديدة تؤخذ منا أو
.لمؤامر ٍة لقتل باشاهم
أثناء عبور السهل فكرت في ابن ميّار ،وفي المحروسة ،وفي ُدوجة التي تعد عرائس جديدة ،بعد التي خلفتها في المقهى ،حين
هاجمني الجنود الفرنسيون ،كانوا يتهمونني مثلما اتهمني األتراك ،أنني أدعو الناس للثورة عليهم ،غير أن أهل المحروسة خانعون
الموسرون
يفر ُ
ّ ومنذ سنوات كانوا يطأطئون رؤوسهم ويتجنبون األتراك في الشوارع .المدينة تجعل الناس أكثر جبنًا وتقبل ًا للغزاة ،ألم
أحد ا منهم في سيدي فرج ،وفي انحدارنا إلى سطاوالي سمعنا أن بعضهم غادر ً ما إن رأوا طالئع الجيش تعبر األبواب؟! لم أر
وتقطعت عرائسي َّ صوتي، بح
َ ّ حتى سنوات، منذ بهم الهتاف اعتدت
ُ . منهم القليل المدينة ليل ًا .وبعد استسالم المدينة لم ن َ َر إال
قبحا ،وأكثر بذاءة
ً أشد
َ ّ فبدت هاُ ت عَ ق
ّ .ور
صغيرا ،ال يحتمل التُجار رؤيتك .تخرج الكلمات من فمك بذيئة فتفرقً حمة الركض طوال عمرك ،ومذ كنتَّ قد ًرا عليك يا
كان ُم ّ
دوم ا عن سر تفرقهم مع أن البذاءة حقيقة ال يمكن نكرانها .حين أصبحت شابًا عزفت عنهم ً الناس من حولك ،وكنت تتساءل
مثلما تجنبوك ،ولكنهم مع ذلك كانوا ُمعجبين بالشجاعة التي تواجه بها األتراك وال يبدون لك ذلك ،حتى صديقك ابن ميّار الذي
حمة ،ليست كل الحقائق تُقال ،بعض الكذب يجعل الحياة يسيرة ّ صغيرا يا
ً .عرفك أكثر من الجميع ،ظل يردد :ما زلت
قت
بقاءهم وتُ ُ
َ وكرهتُهم ،ورجا
ِ أحبَّهم
ولم يكن كالمه ليقنعني ،فطالما كان متعلقًا باألتراك ،وصديقًا مقربًا من الباشا الكبير ،لهذا اختلفناَ ،
إلى رحيلهم ،كل سنة كنت أراهم يفدون بالمئات من أناضولية ،ال يحملون شيًئا معهم سوى كونهم أتراك ًا ،يبنون لهم أوجاقًا جديدة.
أما في سنوات الوباء فلم تُرفع الضرائب، جنودا يسيرونهم إلى أريافنا ،من أجل ضرائب تعود إلى خزينتهمّ ، ً أيام فقط حتى يصبحوا
وحدا .ال أدري لماذا ال يذكر ابن ميّار كل
ً ولم تُفتح مخازنهم ألحد منا ،بل ظلت معاشاتهم تزداد .يحذر الباشا أن ينتقص منها رياال
شاهدا عليها
ً !األشياء وقد كان
منذ وعيت رأيتهم يمألون المحروسة .كانوا مختلفين عنا ،يُنبهني التجار أنهم مسلمون مثلنا ولم يبد لي أن األمر متعلق بالدين بل
بعرقهم .بسهولة تكتشف طبع هؤالء األتراك ،كبرياؤهم ال حدود لها ،ميالون إلى إهانة الناس ،كانت بيوتهم أجمل من بيوتنا ،ومزارعهم
عددا
ً .أوسع من مزارعنا ،ومفتيهم له الكلمة األخيرة عند الباشا الكبير .بالرغم من أننا أكثر
نت أني سأراهم ،لكنني لم أعثر إال على قبورهم ،جلست عند أولها ،وشرع وخم ُ
ّ الحراش،
ّ تجاوزت السهل بمسافة ،حتى بلغت وادي
مر وما زلت أسمع صراخهم في رأسي ،األطفال يتراءون لي يقفزون بين القبور ،والشيوخ يفترشون األرض أنقل بصري بين البقية ،عا ٌم ّ َ
أن هذا ما حدث قبل عام ،تسلَّلت خفية عن الجنود الفرنسيين أقصد الثوار، َّ
شعورهن ويندبن .أذكر ّ يراقبونهم ،والنساء يكشفن عن
صباحا ،وصوبًا إلى خيمة شيخها ثم كانوا هناك .حين كان الناس ً القبيلة إلى وصلت اش، الحر
ّ وادي مشارف حين قيل لي إنهم على
كن يجلبن الماء فرمين الدالء الهين عنهم ،ولم تمض إال لحظات ثم صوبوا نيرانهم تجاهنا ،تساقط األطفال من حولي ،وبعض النسوة ّ َ
فر تجاه الغابة
أما الشيوخ فلم يبرحوا أمكنتهم ،بعض الشباب ّ وهربن ،وال أدري كم واحدة نجت لكنني رأيت الكثيرات يسقطنّ ،
ومر الجنود الفرنسيون
ّ بدمائهم، مضرجين سقطوا ثم ًا ل قلي صمدوا وآخرون من الذين حملوا البنادق انتبهوا متأخرين ،وحاولوا صدهم،
بأقدامهم قربي ولم ينتبهوا لي في مخبئي .وعندما انتشرت الظلمة سمعت وقع أقدام قربي ،عاد بعض الذين فروا إلى الغابة ،لم أر
تفاصيل وجوههم لكنني سمعت أنينهم وبكاءهم ،حملت معهم الجثامين ،ولم نفرغ من دفنهم إال بعد بزوغ شمس يوم جديد ،غابت
.فيه قبيل ٌة إال قليل ًا عن الوجود
جررت رجلي راحل ًا عن القبور ،ورجعت على طريقي أقصد المحروسة ،ولكن رغبة انعطفت بي إلى بابها الجنوبي .الباب الجديد،
صغيرا ،تبدو لي أسوارها عالي ًة كأنها تُناطح
ً وحين وقفت في مواجهته سنح لي خاطر أن أطوف المحروسة مثلما كنت أفعل
العلو ،مثلما لم أعد أشعر أنّه يحمينا كما أوهمونا في السابق ،ليست األسوار من يحمي السور بذلك ُ
السحاب ،واليوم ال يتراءى لي ُّ
حرصا على بناء الحصون واألسوار .سرت ً المدن بل محبّة أهلها هي التي تحميها ،واألتراك لم يكونوا من أهلها لذا كانوا أكثر
ودوما اعتقدت أنه بُنيً مسرعا وتراءى لي حصن اإلمبراطور من هناك، ً السور ،ورأيت القصبة من الجهة الجنوبيّة ،ثم تجاوزتها
بمحاذاة ُّ
.لقصف المدينة ال للدفاع عنها ،فما إن سقط في أيدي الفرنسيين حتى استسلمت المدينة لهم
هل تنصفك اليوم عرائسك مثلما أنصفتك من األتراك؟ تغدو وجوههم وردية ،وهم يسمعون حواراتها الساخرة ،وحينما تجعل مؤخراتهم
وعمائمهم كبيرة الحجم ،أو عندما تجعل النساء تمتطي ظهورهم وتضع اللُّجم في افواههم ثم تهذر بصوت نسائي ببذاءات بلغتهم
األناضولية ،يوشكون على الهجوم عليك ،لكنهم يترددون ،ثم يرتفع ضحكهم على مشاهدها .واآلن ماذا سيفعل الفرنسيون حينما يرونها؟
ينفضون من حولك ،ربما عليك يا حمةُّ ُحا على االنتقاد ولن يلتفت أحدٌ إلى بذاءاتك ،أو ربما يصفقون لك ثم
يقولون إنهم أكثر تفتّ ً
تغيير طريقتك ،يجب أن تهتف في أهالي المحروسة أن ينضموا إلى الثوار ،ما الذي يُبقيهم في المحروسة خانعين ،ينطلق الصوت
ينفضوا من حولك قبل أن يُدركك الجنودُّ المرات في مقاهي الشارع الكبير ،ألم
ّ من داخلي ،ولكنك صرخت في وجوههم آالف
.الفرنسيون! نعم هذا ما حدث ،فإما أن تصمت أو أن ترحل إلى الثوار الذين تلهج بذكرهم
مرة تُر ِ ّقع عرائسك ،لم تتغير منذ سنوات األتراك ،ظل ّت وفي ًة لك ،ولكنّها بقيت تنوس
كل ّ
لم يكن ليؤمن بك أحد سوى ُدوجة ،في ّ
بين قلبك وعقلك ،األول ي ُريدها مثلما هي ،تعلن حركتها عن محبتها لك .والثاني لم ينس أيامها األولى في المبغى قبل أن تخرجها
مرة أخرى مع الفرنسيينزوار بالرغم من أن األتراك قد رحلوا ولكنّه وجد نفسه ّالم َ جديدا ،ولم ينسك ِ
ً عدوا
ً .منه .وخلقت
حل بنو عثمان بالمحروسة ،قتلوا أميرها الذي استنجد بهم ،وجلسوا على كرسيه ،واضطهدوا أهله .ثم دخلت ُدوجة ّ قبل سنين بعيدة
مشاعا للرجال
ً الخاصة من بني عثمان ،وأضحت ُدوجة
ّ فراش إلى ثم فراشه، إلى سحبها حتى ار زو
َ ِ
الم رآها إن وما إلى المحروسة،
عريَك يا ُدوجة؟ من منهم
كلهم .واآلن أقطع شوارع المحروسة جيئ ًة وذهابًا ،أرى وجوه الرجال ومالمحهم ،من منهم يا تُرى رأى ُ
المكورين؟ من منهم بات ليلة طويلة يُضاجعك؟ من منهم
ّ اكتشفت يده تفاصيل جسدك؟ من منهم قبّل شفتيك ،أو ضغط على نهديك
.وكم هم؟! يزداد ضجيج األسئلة في رأسي ،وال مجيب عنها سوى أسئلة أخرى أشد قسوة منها
لكن
ّ عند باب السوق الجديدة ،في المنعطف الذي يسبق باب ع ّزون ،رأيت ُدوجة للمرة األولى ،كانت عند عتبة الخامسة عشرة،
الحي إلى بيته كخادمةّ السهول ،فاصطحبها شيخ جسمها يُبديها على أعتاب العشرين ،رأيتها في ثيابها الرثَّة ،بدت مالمحها من أهل ُّ
ومرت أربعةّ بيته، إلى ٍ
نحاس تاجر اصطحبها صرتها تتجول في السوق حافي ًة ،ثمّ لزوجته ،ولم تمض إال ثالثة أشهر ثم رأيناها حامل ًة
بيت حتى تغادره .وكل الذين استضافوها قالوا أشياء ٍ بالصرة نفسها إلى باحة السوق ،وبهذه الطريقة ال تمكث في ُّ أشهر وعادت
مسا قد أصابها ،غير أن عودتها غريبة .تستيقظ في الليل ،تجوب فناء الدار ،وتتمتم ثم يرتفع صوتها بالغناء .اعتقدوا في البداية أن ّ ً
رحلها خوفًا على نفسه وعلى شهرا ،ولكنّه ال يني يُ ِ ّ
ً يوما أو
ً إلى حالها في صباح اليوم التالي زادت حيرتهم .قد يصبر المستضيف
عياله ،هذا ما تناقله التُجار ،بينما ظلت الحقيقة لدى ُد وجة ،وهي صامتة ال تتكلم .ولم أجرؤ أن أسألها عن حكاية قد مضت عليها
سنوات ،ولم يكن قلبي قد حمل أشياء غامضة نحوها ،بدأت يوم رأيتها تُغني في فرقة الل ّة مريم ،كانت تلبس فستانًا أبيض يميل
بخمار مشنشل تتدل ّى خيوطه الوردية على جبهتها ،لم أميزها حينما وقعت عيناي على وجهها ،بدا أكثر ٍ إلى الصفرة ،تغطي شعرها
وبياضا من ذي قبل ،أتكون هذه هي نفسها الفتاة التي تعودت رؤيتها تجوب السوق؟ ً وضاءة
أقدام
ٍ إلي أصوات وقع َّ بدوجة ،وأذناي مي ّزتا صوتها بين جميع األصوات ،لحظات من االستماع حتى تناهت كانت عيناي معلقتين ُ
مروا دون أن مقتربة ،اختبأت في أول منعطف ،وتحت الضوء الضئيل تراءت لي مجموعة اليولداش ثملين يسيرون تجاه أوجاقهمُّ ،
ينتبهوا إلى النافذة ،لكنني حينها عدت إليها وجدتها مقفلة .منذ ذلك اليوم أشياء كثيرة تغيّرت في نفسي ،مثلما انفجرت مرارةٌ
باب تقف عنده ،وتطل على ٌ مرة أخرى تجوب شارع البغايا ،وغدا لها أخرى في داخلي ،ألن ُدوجة التي اكتشفتها هناك رأيتها ّ
دائما هكذا ،حين يضطهدناً الرجال فنحن حقيقيين، ًا لرجا فيه يصبحون العابرين من رجال المحروسة الذين كانوا يبحثون عن مكان
الحكام نبحث عن أقرب امرأة لنثبت ألنفسنا أننا أقوياء ،مع أن البغاء الحقيقي هو ما يمارسه هؤالء الحكام علينا ،كل يوم كانوا
يمر بالتركي ينتحي مكانًا أقصى الطريق ،يخشى ّ يضاجعوننا بالضرائب واإلتاوات وكنا نرضخ لهم ،حتى في الطرقات كان العربي حينما
تالمس األكتاف ببعضها ،وإن حدث فسيكون مصيره مئة فلقة .لو أعاد صديقي ابن ميّار سيرة ُدوجة فقط ألدرك بسهولة أنها ال
أيض ا ما حدث في األيام التي سبقت دخول الجيش ،وتهاون إبراهيم آغا ،ثم ً تختلف إال بالقدر اليسير عن هذه المدينة ،والستوعب
خادما
ً فر وتركنا نواجه مصيرنا حين انهزمنا في سطاوالي .وحتّى باي وهران سلَّم المدينة من تلقاء نفسه ،وارتأى أن يكون ّ
هموا بتحريرهاليحرر المحروسة ،ووحدهم شيوخ القبائل من ّ ِّ جديدا للجزائر بدل أن يزحف
ً للفرنسيين ،وفي قسنطينة أعلن نفسه باشا
.ولكن قوتهم خانتهم
لم أفهم لماذا يكره ابن مي ّار أولئك الناس ،يعتقد أنهم كانوا حجر عثرة في طريق األتراك .يثورون على الباشا وضرائبه ،يُكلمني عن
الرعية التي تحترم حكامها ،ولكن ّه ال يكلمني عن الحكام ومحبتهم لرعيتهم .وقد كنا شاهدين على أولئك البحارة الجزائريين الذين
قُتلوا في البحر على أيدي األمريكان وتناقلت األفواه ما قاله وكيل الحرج :إنهم مغاربة يستحقون ما حدث لهم .ثم بعد أيام سمعنا
وأيضا أوالدهم
ً أنهم تذكروهم عندما أرادوا المساومة بهم على سفينة أخذت منهم .ال يلتفت األتراك إلينا إال ألننا مجلبة للمال لهم،
سنوات دونهم،
ٍ والصدف وحدها تدخل أولئك الكراغلة إلى القصر الذي ظل مغلقًا ُ من نسائنا كانوا يحتقرونهم مما يجعلهم يحتقروننا،
جماعات
ٍ الم لك من آبائهم ،ولكنهم فشلوا .وأضحت حكايتهم أسطورة ترويها عجائز المحروسة ،يومها ساروا في منذ أن قرروا انتزاع ُ
بحصن على طرف المدينة، ٍ بليل المدينة ،حاصروا أوجاق اليولداش والقصبة ،ولكنهم لم يلبثوا أن تراجعوا ،وطاردهم اليولداش فاحتموا
لكن بني ميزاب أمازيغ الصحراء كانوا أكثر دهاء من الجميع .أرادوا اغتنام حظوة ألنفسهم عند الباشا، ّ ظنّوا أنهم في مأمن فيه،
جماعات نحو الحصنُ ،متقنّعين في ألبسة نسائية ،يتباكون ويطلبون اللجوء من قهر ٍ والتخلص من احتقار أولئك الكراغلة .ساروا في
وجوها غير التي كانت ترجوهم قبل قليل .وهجموا ً صدقوهم ،وفُتحت األبواب ليروا
ّ األتراك ،وما إن رأوهم من نوافذ الحصن حتى
عليهم بأسلحتهم وتبعهم اليولداش إلى هناك ،ومات من مات ،وآخرون نفوهم إلى أزمير واإلسكندرية ،ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحد
احتكارا أبديًا لبني ميزاب ،ولم ي ُزل إال حينما رحل بنو عثمان ً حماما أو مخبزة ،إذ أصدر الباشا
ً .يجرؤ أن يفتح
لكن الدهشة ّ أراه ن في نصف عريهن ،لم تكن الرغبة قد تولدت في الطفل حينها، ُ في طفولتي كنت أحب التسلل إلى بيوتهن،
سريع ا تجاه الشباب ،كن ال يحتشمن من طفل يعبر الرواق ،أو يتلصص على الرجال وهم في أحضانهن .من ك ُّوات ً ركضت بي
والسلطة ،كل تلك األشياء لن تحمل أي معنى حينما يلتحم ُ والمال والعمل التجارة . للنساء الرجال يرضخ كيف رأيت ال ُغ رف
خجل .اعتدت أن أرى التفاصيل ٍ بحركات صبيانية في
ٍ الجسدان .في أحضان النساء يتحول الرجال إلى أطفال ،يُعبرون عن رغباتهم
سنوات ،هل كان رجال المحروسة يشعرونٍ دائما يحاصرني بعدً الدقيقة ،والكلمات المحترقة التي تغادر أفواههم ،كان سؤال الطفل
الحي ،بعض
ّ طريق عبر االنعطاف على يجرؤون رجالها كل يكن بالظلم من األتراك حتى صار المبغى هو المالذ لهم؟ ولكن لم
جزءا منه ثم ينجبون أبناء ال يختلفون عنهم
ً زوجاتهم تقاسمهم فربما أما البقية
.الرجال فقط كانوا ال يحتملون ذلك الظلمّ ،
مفتوحا أقرأ منه كل العابرين الذين
ً واآلن لم أعد أطل من ك ُّوات الغرف ،واستبدلته بإبصار آخر في النفوس ،لتغدو عيون ُدوجة كتابًا
جديدا على شوارع المحروسة ،أتهجى الحروف الحادة للغة ،لم تحمل ً اسما أوروبيًا
ً مروا بجسدها .مثلما كنت أقرأ كل يوم
وبت أسمع رطانتها حتى بين أطفال المحروسة وهم يقلدون الجنود ُ انحناءات حروف العربيّة ،ولكنّها في كل يوم تتكاثر من حولنا،
سنوات قليلة على دخول أولئك الجنود
ٌ .بسخرية .ولم تمض إال
أياما ثم يعودون
ً عددا من الشباب ،يختفون ً تم ُّر على االحتالل ،ولم يتغيّر شيء ،بل إنهم كانوا في كل يوم يسحبون
سنوات ُ
ٍ ثالث
في زي عسكري يشابه زي جنودهم ،ويحملون بنادق أقصر من تلك التي حملها األتراك ،يقطعون الشوارع الكبيرة للمحروسة في
واقف في مكاني. ٌ حصله غيرهم ،بينما أنا ّ صفوف طويلة ،ويهتفون لحياة هذه األمة .الجوع قاد آخرين تجاه ثكناتهم يطلبون ما
وسرت عبر دروبها حتى عييت .بحثت عما تبقى ُ الزمن يعيد في رأسي كوابيس قديمة ،أردت مغادرة المحروسة ،فحملت ُص ّرتي
أما حين تلتقيّ القديمة، أعمالهم إلى عادوا وآخرون الجبال فروا إلى
من أصدقاء هزيمة سيدي فرج وسطاوالي ،ولكن العديد منهم قد ّ َ
أخرنا بنو عثمان عن المسير إلى شبه فادحا ،ولم نكن وحدنا نحمل ذلك الوزرّ ، ً الوجوه فيطأطئون وكأن ما حدث يومها كان خطًأ
لكن الجنود الفرنسيين كانوا يدركون أي شيء هم ّ الجزيرة ،قالوا لنا :انتظروا حتى يتوغلوا في السهل ،إنهم يجهلون هذه األرض.
ُم قبلون عليه ،وما إن وضعوا أقدامهم على اليابسة حتى تكاثروا عليهم فتراجعوا ،وظلوا على حالهم تلك إلى أن أغلقوا على أنفسهم
.أبواب المدينة
حلما طويل ًا انتظرت االستفاقة منه ،فأرى الناس من حولي مثلماً ّفت بابًا من أبواب المحروسة ورائي ،شعرت أنني أعيشكلما خل ُ
في السابق ،الصيادون يتصايحون عند الميناء ،ي ُصلحون شباكهم أو يتخاصمون على أسعار السمك ،التجار يسيرون في خطواتهم التي ال
تكاد تُ سمع ،في عجلة يفتحون دكاكينهم ،البخار المتصاعد من الحمامات ،وعيون الرجال تترقب خروج النسوة من بابه ،رائحة الخبز
المنبعثة من بداية درب الخبّازين ،واألطفال يركضون على أحجاره كل بحمل في يده قطعة ،مزيج من األصوات واللهجات في سوق
ِّ
تقدم الكتان .حتى حانات المحروسة كانت لها نكهتها المختلفة ،أفضلها كان حانة بوجي ،أضحت اليوم بار ريفو ،وبعد أن كانت
نبيذًا هو أفضل ما في المدينة صار الجنود اليوم يشربون أي شيء ليتحملوا قسوة المناخ .والمبغى لم يعد مثل سابق عهده ،كان
هناك نوع من األلفة فيه ،تراها تقف عند الباب تنتظرك ،كأن معرفة قديمة بينكما واآلن يتم األمر بسرعةٍ ،وربما ال يسعفها الوقت
.ليتطل ّعا إلى وجهي بعضها
لكن الرغبة
ّ أدر كم ساعة مشيتها ،خانتني رجالي منتصف الطريق ،وتوقفت بأمكنة عديدة
لم أعتقد أن المسافة بذلك الطول ،مثل ًا لم ِ
ظلت مشتعلة ،إلى أن تراءت لي القلعة أعلى التل ،طوري شيكا كانت بداية الهزيمة ،تجاوزتها في عجلةٍ وأسرعت تجاه البحر،
.فوحده البحر يهب النسيان
تر جدوى من رحيله ،ولم تجادله ،اليأس الذي تسلل إلى قلب الل ّة سعدية صعد إلى مالمح وجهها ،رأيت كيف غيرها .كانت لم َ
تُعد له ُص ّ َر ة الطعام بيدين مختلجتين .عيناها تقوالن له ال ترحل ،فال فائدة مما تفعله .وظلت على حالها بينما يتضاعف إصراره
على الرحيل ،عرائض عديدة كان يُرتّبها أمامه ،ويعيد نسخها في أوراق أخرى ،وضعها كلها في جراب جلدي صغير ،وخبأها في
.غرفته في انتظار الساعات القليلة الباقية له على موعد الرحيل
:لم تتكلم الل ّة سعدية ونحن متحلقون حول الطعام ،لكنّها همست وهي ترفع اللقمة إلى فيها
أيام لم أره ،وال أدري أي شيء حدث له .في األيام األخيرة ما عاد يُقاسمني أسراره ،وصرت ال أتنبأ بما سيفعله -
ٍ .منذ
ما إن نطق بتلك الكلمات حتى اهت ّز قلبي ،فاستأذنتها ،ثم وقفت وسرت في عجل إلى غرفتي ،وارتميت أحضن العرائس فوق
دوم ا يظهر في أوقات ال يمكن التنبؤ بها ،يخلصني من مآزق ظلت تتكرر في حياتي ،أفيق على صوته ً السل ّاوي
الفراش .كان ّ
شهورا عديدة تحت ناظريه لم يقترب ،بل ً الخشن ،ويده التي تخترق كل األيدي التي تريد أن تنال شيًئا من جسدي ،وإن ظللت
المشفق ،وأحيانًا أراه عاشقًا ،ثم تتغير تفاصيل وجهه تغدو قاسية حينما يرى بعيدا .أحيانًا أخال أنه لم يرني إال بعين ُ ً ظل جسده
زو ار عن كثب يصيح في النسوة أن يلزمن أبوابهن وال يكثرن الكالم ،ي َ ُعدن إلى أمكنتهن في خضوع كوكبة اليولداش ،أو يلمح ِ
الم َ
زوار منه ،هكذا المار ة ،هل من رجل ينحرف تجاه إحداهن ،كل واحدة ال تعرف نصيبها من يومها ،إال وتعلم ما يأخذه ِ
الم َ َّ يرقبن
خصوصا اللواتي تقدم
ً ّاوي، ل الس
ّ يعرف الجميع كان .اليهودية زهرة بيت في مكثت وحده وبفضله هناك، من رحيلي بعد بهم فك ّرت
شوقت ّ المختلفة الحكايات بينهن، إقامتي في ذلك كل لي حكين ا، صغير
ً كان ذ م
ُ وانحناءاته، جسده طوط خ
ُ حصين ُ ي السن، بهن
السل ّاوي
الصغيرات منهن الكتشاف جسده ،ثم خبّأن أحالمهن حين أدركن أنه توقف عن زيارتهن منذ زمن .الكلمات التي فاه بها ّ
زوار ،واعتياده المرور بهن ،أعجبن بطريقته وكيف يجد العالقة بين ِ
والم َ زادت من احترامهن له .إذ لم يستقم عنده عداؤه لألتراك
معاني الكلمات ،وكيف ي ُرتبها ،احترمن رغبته ،والصغيرات استطالت رغباتهن أن تنال كل واحدة هذا الرجل الذي شاهدنه كيف
زوار بضربة واحدة ،ثم تجاوزه كأن شيًئا لم يحدث ،وعجز عن تقبيل أجملهن حين اعترضت طريقه ،كان الجميع يراقب أسقط ِ
الم َ
قادما اعترضت طريقه، ً لمحته وحين مروره، تنتظر ووقفت لديها ما أجمل ارتدت قبلها، ُ ي ستجعله أنها تحدتهن هناك، من المشهد
خا برأسه ،عيناه تستكشفان اقتربت منه ولفت ساعديها حول عنقه ،ثم حركت رأسها تدنو منه ،لم يجفل ولم يُسايرها بل ظل شام ً
مسرع ا يكمل طريقه .من مكانها لم تجرؤ على االلتفات ،كانت ما تزال ً بلين ،وخطا
ٍ الوجوه التي أحاطته هناك ،أبعدها عن طريقه
وع دن بها إلى غرفتها ،باتت ليلتها في غم ،وفي الصباح وقفت مثل األخريات عند باب البيت ،تستقبل مطأطئة حين اقتربن منهاُ ،
.الرجال وتُشيّعهم حين يرحلون في صفاء
السل ّاوي ،رجل ًا يرفض كل نساء المبغى ،ولكنّه أول من يدافع عنه ،بدا لي موقفه غريبًا ،ثم زادت دهشتي وأنا
عرفت ّ
ُ في تلك األيام
يوما مختلفًا حتى بعد سنوات ظللت أذكره ،إذ أخذت العالقة بيننا
ً كان ا،أرض
ً ويلقيه ار زو
َ ِ
الم تجاه بقبضته ح يلو
ّ البقية رأته أراه مثلما
.منحى مختلفًا ،في بيت اليهودية زارني في أيام ُمتقطعة ،يسألني في عجالة ،ثم ينفرد باليهودية وال يلبث أن يُغادر في عجلة
وتقشر جزء منها ،يخفق قلبي كلما أعدت ّ عرائسه القبيحة مازالت في حضني ،أتأمل جدران الغرفة الضيقة ،مال بياضها إلى الصفرة
السل ّاوي خلفني وحيدة في ّ لكن
ّ . الرفرفة عن دوما :قلبك يا ُدوجة مثل عصفور الدوري ،ال يتوقف ً ردد أبي على مسامعي سيرتهّ ،
وأعد أعمدته ،عناكب مسرعة على شباكها ،رأيت الخطوط الشفافة لها عبر الضوء المنبعث ّ السطح وجهي قابلُ ي ِقة، ّ الضي هذه الغرفة
وقفت ومازالت العروس في يدي .حاولت جاهدة اإلطالل من الكوة ،وبصعوبة رأيت السقيفة الضيقة خاوية من ُ من كوة في الجدار،
الحي ،ثم تراءى لي خيال الطائر المرفرف من هناك .تحاملت على نفسي واستجلبت الرؤية ،وخيبني ّ الناس ،ال ضجيج اليوم في
لكن الصوت الحاد عاد بي إلى الكوة ،وحدق اللقلق األبيض بي من مكانه ّ الظل المنبعث من الحائط المقابل ،تراجعت إلى مكاني،
يحدق يمينًا
ّ بقوة ُمحلّقًا إلى األعلى ثم يعود، ّ على الحائط الواطى لعين الماء ،وقف في نهاية السقيفة يسحب الماء بمنقاره ،ويرفرف
المرة األخيرة قفز من على ّ في الخاوية، السقيفة وشمال ًا ويميل بعنقه الطويل إلى الماء ،يغمس فيه منقاره ،ثم يرفعه ليراقب
السل ّاوي في أشياء
ّ شبهُ ي أنه شعرت لم أدري ال . الحائط ،وحام في علو منخفض حتى وازى الكوة ،رأيت بياضه الناصع عن كثب
السل ّاوي لم يمت ،والطائر
ّ ولكن . أهله بيت عند فجر لون ،يصفُر كل
ردد أمي :روح اإلنسان حينما يموت تحل في طائر ُم ّ كثيرة .تُ ّ
منعكسا على الجدار ،ثم اختفى ً ظله سوى أرى أعد ولم هناك من الطائر فر
ّ . حادة لقلقة بل ًا، ل جمي ليس وصوته ا،ً ن لو م
ُ ّ يكن .لم
كنت عند الكوة عندما دق باب غرفتي ،ثم دخلت الل ّة سعدية في لباس الخروج ،طلبت مني مرافقتها إلى ضريح عبد الرحمن
السفن،
علي أنه ال بد من الخروج معها ،أشهر عديدة لم أزره .انقبض قلبي مذ رأيت من مرتفعه صف ُّ َّ ألحت
َّ الثعالبي رغب ٌة
شعرت أن األيام القادمة لن تكون سعيدة .وقفت يومها أمام الضريح ،سمعت لقلقة الطائر من مكاني ،فتطلعت إلى المئذنة ولمحت
تجسدت في الطائرّ جزء ا من بياضه ،أهل المحروسة يعتقدون أنه طائر صالح يجاور ضريح حارس المدينة ،بينما اعتقدت أن روح أبي ً
بقوة ،ثم لمحته
ّ رفرفوحيدا في عشه الكبير يُ
ً األبيض ،وحرص على حمايتي مثلما يحمي فراخه ،ولكن ذلك لم يدم ،إذ كان الطائر
.يحوم حول المئذنة دون توقف ،عدت بوجهي إلى باب الضريح وصعدت درجاته ،ثم دخلت
ليال طويلة قضيتها أتضرع إلى الله كي ٍ زوار. السل ّاوي وربما منذ قابلت ِ
الم َ عرفت ّ
ُ ألزمت بها نفسي مذ
ُ ال أدري كم هي النُذر التي
صرون أنه الُ ّ ي إذ معه، يتواطؤون كانوا المحروسة وأهالي خفية، عيون للمزوار عيدني، ي
ّ ُه ن ولك مرات عدة وفررت يخرجني من المبغى،
مكان للبغي إال في المبغى ،وأال توبة لها .كان الليل يطول فانزوي في طرف الغرفة ،أرفع يدي وأدعو :يا الله أخرجني من هنا.
غامضا كان يهتف لي ،أن ّ َي على خطأ ،وأن بابًا ً جديدا يطلب النوم معي ،ثم توقفت عن الدعاء ،ولكن شيًئا ً وجها
ً وفي الصباح أجد
ليحررني ،ولم تمض إال أيام قليلة حتى تحقّقت ِّ غياب ،أبسط كفّي وأناديه
ٍ من بين أبواب كثيرة سيشرع في وجهي .فل ُذت إليه بعد
.رغبتي
كان آخر يوم لي في المبغى ال يختلف عن أول يوم فيه ،تعطرت ووقفت عند الباب ،أنظر تجاه العابرين ،بعض الشباب لم تظهر
لحيتهم بعد ،عال الزغب األصفر شفاههم ،ينظرون تجاهنا لكنهم في األخير ال يختارون سوى من تقدمت بهن السن ،كأنهم يبحثون
العري ،وآخرون ير ُعن أمهاتهم ،ال يختلفون عن الكبار إال في خيباتهم وهم يكتشفون اللذة للمرة األولى ،كان الكثير منهم يفر ما إن َ
ترتخي أعضاؤهم ما إن تتالمس األجساد ببعضها .المومسات القديمات فقط من يخبرن كيف يُعالجن خيبات الشباب ،يُو ِل ّدن الثقة
جدد ا يبعثون الحياة في أجسادهن المترهلة .وننتظر نحن مقدم الكهول ،أو أولئك الذين ً فيهم من جديد .وهكذا يكسبن زبائن
لكن أجسادهم الالهثة فوقنا ّ يتحد ون كل يوم أنفسهم ،بأن العمر ال يحدث أي تغيير في أجسادهم ،أسخياء حين يتعلق األمر بالمال، ّ
تخمد شعلة الشهوة الضئيلة فيهم ،فينظرون ُ أما حين
ويتفصد العرق البارد من أجسادهمّ .
ّ وتتقطع أنفاسهم
ّ ال تُسعفهم بالقدر الكافي،
بكرم ،ثم يغادرون المكان مسرعين ٍ .تجاهنا كأنهم يعتذرون ،ويدفعون
في ذلك الصباح وقفت ُأطالع العابرين ،وتراءى أحدهم يقترب بخطوات تجاهي ،قلت في نفسي هذا الوجه ليس غريبًا ،وعرفته حين
فارا باتجاه السقائف التي تقطع الطريق إلى اقترب ،كان في منتصف األربعينيات ،شاحب الوجه ،اعتادت البنات طرده ،فيُسرع ً
المر ة أراه يسير تجاهي ،أتراه يعتقد أني سأقبل ما ترفضه األخريات؟ أيريد إتياني ّ المبغى ،ثم يعود وترفض النساء استقباله ،وهذه
من الخلف مثلما كان يشتهي منهن؟ أتراه يستوعب الخوف الذي داهمني حينما طلب مني التُركي ذلك .اضطرني إلى الفرار ليل ًا
يحدق نحوي ،ثم دنا وأمرني بالدخول فرفضت ،وطلبت منه الرحيل ،ولكنّه ّ من بيته .فكرت في كل تلك األشياء بينما كان ال يزال
وه ّ َمت بعض النساء باالقتراب بصوت مسموع ،وواصلت رفضي فنهرني بينما كان الكل يراقبنا من هناكَ ، ٍ تسمر عند الباب وكرر طلبه َّ
لكن أصوات النساء ّ زوار حامل ًا سوطه ،نظر تجاهي وأشار بسوطه أن أدخل ،ارتخت رجالي ،وهممت باالمتثال لطلبه، الم َلوال وصول ِ
وهمَ أن يهوي به، ّ وبقيت ُمتشبثة بالباب ،وحركت رأسي بالرفض ،فرفع سوطه عاليًا ُ إلي تحثني أال أدخل ،فتماسكت َّ تناهت
السل ّاوي تحكم قبضتها على ذراع ّ يد ا،ً غريب شيًئا رأيت
ُ فتحتها حين ثم عيني وأغمضت الضرب، ألم أنتظر بالباب أكثر فتمسكت
راكضا ،وقام
ً رفعت رأسي حتى رأيت الرجل ُ زوار على األرض ،حدث كل هذا بسرعة ،فما إن زوار ،ثم بحركة سريعة هوى ِ
الم َ ِ
الم َ
السل ّاوي ،حال غضبه إلى ّ حول تجمهرن والنساء أعوانه، عن ًا ث باح الخطو ويسرع الغبار، نفسه عن ينفض األرض على من ار زو
َ ِ
الم
عد ل لباسه ،ثم فجأة تطلع إلى وجوه الذين من حوله وكأنه يستأذنهم في شيء ما ،وقبض على ذراعي ،وقادني إلى نهاية َّ خجل،
.الحي حيث كانت تقيم زهرة اليهودية ّ
عندما المست الل ّة سعدية كتفي كنت غائبة عما حولي ،والعروس في يدي ،ثم انتبهت وأومأت بالموافقة ،وارتديت أنا األخرى لباس
الخروج ،وعبرنا الرواق إلى الباب ،ثم كنا عند باب القصبة ُمنحدرين عبر الطريق الحجري .شوارع المحروسة لم تعد مثلما في
جديدا ،عدا حي المبغى ،لم يتغير فيه شيء ،بل ً السابق ،القليل منها احتفظ بنظافته ،فالغبار الخانق يمألها .كل يوم يهدمون بيتًا
حد ثتني زهرة اليهودية في آخر زيارة لها ،قالت بأنها كل يوم ترى الجنود الفرنسيين يقبلون عليه ،مثل ًا تُقبل ّ ضجة.
ّ أضحى أكثر
بنات من أهل المحروسة يتسللن إلى هناك ،ألمٌ ٍ صغارا ولم يجدن ما يأكلنه .مثلما شاهدت ً عليه بنات من خارج المحروسة ،ك ُّن
تمدد اآلن ،وقد ُأحتل ّتّ الحي ،اعتادت رؤية نفسها أقصاه في منأى عن أحداثه ،وإذ به ّ مض كان يعتريها وهي تروي ما يحدث في ُم ّ ٌ
زوار يطوفه في ُحلته الفرنسية ،قالت الل ّة زهرة تلكَ ِ
الم ترى يوم كل . طه يتوس
ّ بيتها فأضحى المدينة، من فروا الذين الناس بيوت
بنات َق ِدمن حديثًاٍ .الكلمات ثم غادرت ُمسرعة خشية أن تعود وتجد بيتها قد ُأحتل من جنود أو من
انحدر والل ّة سعدية عبر شارع آخر ،والجنود يراقبون العابرين من النساء والرجال .مشينا وحيدتين في الشارع المنحدر إلى المدينة،
ثم انعطفنا وتراءت لنا الشجرة التي تجاور مبنى الضريح ،اقتربنا حتى بلغناها وصعدنا الدرجات ثم فجأة عنّت لي رغبة االلتفات.
حين أدرت رأسي امتد البحر إلى نهاية البصر ،تكرر المشهد أمامي وقد مضت عليه سنوات ،أول ما اكتشفت الصف المرسوم فوق
زوار ،لم أهتم لحديثها وشققت زرقة البحر ،يومها كنت أقيم في بيت زهرة اليهودية ،وحينما قررت زيارة الضريح ح ّ َذرتني من ِ
الم َ
السفن الفرنسية التي شكلت صفّ ًا ،تظهر في البحر وتغيب حتى ألفناها، الدروب إلى أن بلغته ،ومن أعلى الدرجات تراءت لي ُّ
فيتصدى لها الصف .في طفولتي حدثني أبي عن قوة بني َّ مرة تحاول الخروج إلى البحر،كل ّ
واشتبكت مع سفننا التي كانت في ّ
السفن الفرنسية بدد كل كالم أبي .طفا صف ُّ ّ لكن
ّ سيستردون األندلس التي سلبها منا اإلسبان،
ّ عثمان ،وسفنهم التي ال تُه َزم ،وأنّهم
السفن من ميناء المدينة ورمته بالقنابل
.الصف بعد عامين ،وما لبث أن اختفى في الشمال ،ولكنّه عاد بعد أشهر ،اقتربت ُّ
كنت ما أزال أطل من هناك على تلك األيام ،حين سمعت صوت أزيز الباب وهو يُفتح ،ثم ولجنا الغرفة وقابلت بوجهي الضريح،
بينما انزوت الل ّة سعدية عند طرفه ،تُتمتم له وكأنه يسمعها ،ترجت بقاء زوجها إلى قربها ،دموعها أشعلت بي رغبة البكاء ،رأسي
فرفعت وجهي إليها ،كانت الدموع معلقة
ُ ُمسند إلى الضريح ،وساحت دموعي ،دنت مني الل ّة سعدية ،ثم وضعت يدها على رأسي،
بخديها ،مسحتها وامتدت يدها إلى وجهي ،ثم اتكأنا على جدار الغرفة ،وحدقنا طويل ًا في الضريح .في كل يوم تزداد نُذُري في
طعم الدراويش بيدي ،وأرجع حافي ًة كذلك إلى انتظار السل ّاوي ،أقول في نفسي لو حمل ما أحمله له سأسير حافية إلى الضريح ،وُأ
ُ ّ
أيضا كانت تفك ّر في نذرها وكيف ستكون
ً وربما .البيت .في اللحظة نفسها كانت الل ّة سعدية ُمستغرقة في دعائها،
تبشر بالخير ،صحيح أن عيونالسل ّاوي ،فاأليام التي تلت رحيلي عن المبغى لم ِ ّ
أحيانًا يداهمني شعور أنني لم أكن إال لعنة على ّ
أما الصغيرات فلمالمسنّات أحببنني وأشفقن عليّ ،
مزيجا بين السعادة والحسدُ ،
ً النساء اللواتي كن يراقبننا ذلك اليوم ،حملت
زوار ،لم يلبث أن عاد ،ولكني حينها لم أكن هناك ،روت لي الل ّة زهرة بعد السل ّاوي القابضة على ذراعي ،حتى ِ
الم َ تعجبهن كف ّ
جميعا ،ليس
ً بالسل ّاوي ،اعتقدت أنه يمكنه أن يصرعهم ّ زوار وأعوانه يحيطون عودتها لتجلب لي ما تبقى من أشيائي ،أنها رأت ِ
الم َ
واقفات عند أبواب بيوتهن يشاهدنهم ٌ المرة ُه ِزم ،تحل ّقوا حوله من كل جانب ،والنساء ّ ألنّه قوي ،بل ألنّه شجاع ،ولكنّه هذه
أرضا ،ولكن القبضة الخاطفة الثانية منً السل ّاوي وتفاداها ،وأرسل بدوره قبضته فأسقطته حرك الجندي األول قبضته تجاه ّ ّ مفزوعات.
وحمل بالعربة إلىُ أوثقوه ثم . نفسه على ملتف
ٌ وهو بالركالت عليه وانهالوا سقط، حتى منها َح ّ ن تر أصابته، يمينه على الجندي الذي
السل ّاوي ،ولم أخمن أن تضرعاتي ّ به قام ما جدوى عن تساءلت . عنه زهرة ّة لال ثتني حد
ّ عندما بكائي حبس أستطع ولم األوجاق.
عدت إلى سيرتي األولى ،في الغرفة الوحيدة التي تقاسمتها والل ّة زهرة ،أركن إلى السجن ،وهكذا ُ ستدخل في المقابل إنسانًا إلى ِّ
.زاويتها وأبكي ُمتضرعة إلى الله ليفك أسره
السل ّاوي ،ولم أتوقف عن الدعاء ،وفي منتصف األسبوع الثاني سمعنا د ّقًا على الباب ،كان اليوم ال يزال فيأسبوعا لم أر فيه ًّ
بدايته ،جزمت أنه هو ،وقفزت من مكاني دون وعي مني ،وضحكت الل ّة زهرة وهي تراني على حالتي تلك ،إذ في برهة قصيرة
كنت أقف عند الباب وأفتحه ،ثم رأيته واقفًا هناك ،أردت احتضانه ،مثل ًا فعلت تلك الشابة أمام الجميع ،ولم أجرؤ ،فليس هينًا أن
لرجل ،ثم يبعدك بلين ،ال يريد أن يحرجك أمام الناس ،ولكنّه في األخير سيكسر قلبك ،الرجال يعتقدون أل ّا قلب ٍ تفتحي ذراعيك
للمرأة التي تهب جسدها ،ينظرون إليها مثلما ينظرون إلى شيء يلتهمونه ،حتى المتدينون منهم ال تختلف رؤيتهم ،شيوخ المساجد
الحي وطرد النساء إلى
ّ يترحمون على الباشا السابق إذ َج ُرؤ على غلق
ّ لحون في مطالبهم من الباشا أن يغلق المبغى، كانوا ي ُ ُّ
الريف ،وأعادهن إليه الباشا الجديد ،لم يتحمل سطوة اليولداش ،إشاعات انتشرت في المحروسة ،أنهم أضحوا يدهمون بعضهم ليل ًا،
.وربما اعترضوا بعض نساء المدينة
السل ّاوي في وجهي وصافحني بيده ،كانت خشنة وكبيرة بما يكفي لتختبئ يدي الصغيرة داخلها ،أحسست بالدفء ،ثم سحبها ابتسم ّ
السل ّاوي يدها ورأسها ،ثم جلسنا
ّ لَ ّ قب بتسمة،مُ راقبناُ ت الغرفة باب عند زهرة ّة ل ال وقفت البيت، باحة إلى المؤدي الرواق نعبر ونحن
.م تقابلين هناك ،تأملته ،أثر الكدمات مازال على وجهه ،حتى يده األخرى كان يحاول إخفاءها ،ال يزال أثر الحبل بها ُ
السجن قبل أن يشرعوا بتعذيبه، وحرك رأسه نفيًا ،ثم أجابها بأن ابن ميّار دفع مال ًا وأخرجه من ِ ّ ّ ع ّذبوك هناك؟ سألت الل ّة زهرة
حدثتني الل ّة زهرة عن
ّ رحيله بعد فيها، نقذهُ ي التي األولى ةالمر
ّ ليست أنها عني وغاب . ارّ مي ابن يومها سمعت للمرة األولى باسم
السل ّاوي ،ولِ َم ارتبطت حياته بالركض
ّ به هجس ما وعيت سنوات بعد ولكنني البداية في غامضة بدت السل ّاوي،
أشياء كثيرة عن ّ
السل ّاوي يشغلني ،بينما تشتغل الل ّة سعدية بزوجها ،تدنو منه في ّ يظل . الفرنسيون دخل حين أو عثمان، بني سواء في زمن
ً الدائم،
لكن مالمحه الجادة حالت بينها وبين محاوالتها .حين عادت من الضريح تحولت ُجل رغباتها ّ محاولة أخيرة لعله يَع ِدل عن رحيله،
سالما .تتبعت الل ّة سعدية رحيل ابن ميّار من ثقب الباب ،وراقبته أنا من الكوة ،وقف ومأل صدره بالهواء ثم تطلع إلى ً إلى عودته
جدران السقيفة ،تعبَّأت عيناه منها ،وخطا تجاه عين الماء ،بلغها وانحنى عليها ،ومد كفيه تحتها ثم طفق يتوضأ ،ثم اعتدل واقفًا
.ومضى يُتم طريقه ،إلى أن انعطف ولم أعد أراه
التفت ومددت يدي إلى العرائس ،وكلما نويت صناعة أخرى أبهى،
ُ انتبهت إلى نفسي متشبّثة بحافة الكوة ،أراقب السقيفة الخاوية،
أتذك ّر أنه لن يأخذها ،لم يعد يؤمن بأن هناك مكانًا لألشياء الجميلة في المحروسة ،وال أدري ما الذي يبقيني هنا؟ بعض النساء
اللواتي لقيتهن ،رددن أنهن سيرحلن إلى قسنطينة ،بنو عثمان مازالوا هناك يحكمونها ،وحتّى اليوم لم يتغير شيء ،رحلن ولم يعدن،
لهن ،تُرى ِل َم ال يرحل ابن مي ّار إلى هناك وهو الذي صادق باشا المدينة وزاره أكثر من مرة ،كرسول أو كصديق؟
ّ وجهلت ما حدث
أليس أجدى له اإلقامة هناك؟
السل ّاوي ،ثم عادت يدي حر كت العروس في يدي ،أنثى قبيحة ،صدرها كبير كمؤخرتها ،كانت من بقايا عرائس قديمة تخلى عنها ّ ّ
بأخرى من صندوق على يميني ،لرجل يحمل عمامة ضخمة ،وجهه أميَل إلى الحمرة ،تتقدمه كرش ،يتمنطق بحزام عريض يُعلق
للسل ّاوي أحال ٌم بزوال ُّ
وأطل منها على أيام كانت فيها ّ على طرفه سيفًا خشبيًا ،ثم طفقت أسحب من الصندوق العروس تلو األخرى،
األتراك ،ثم اندثرت ولم تبق منها إال الوجوه القبيحة للعرائس ،إلى أن تفاجأت بوجه جديد ،كان لرجل أوروبي .افتقدتها قبل أيام
السل ّاوي مناداته ديبون،
حينها سألني عنها ،وبحثت في كل مكان وما عثرت عليها ،انتبهت إلى اختالفها عن بقية الوجوه ،اعتاد ّ
استمد
َّ وأسر لي أنه
َّ عروسا جديدة ،ثم شرع يصف شكلها ولباسها، ً أذكر ذلك الصباح عندما َق ِدم في عجالة وطلب مني أن أخيط له
عاما بعدها ثم عاد إلى ً شكلها واسمها وحتّى طريقة كالمها من صديق له ،والبن ميّار ،كان شابًا فرنسيًا وصل مع الحملة ،وبقي
مرسيليا .بدا اسمه مألوفًا إذ سمعت ابن ميّار يحدث زوجته عن لقاءاته به ،ولكنّه لم يكن ليُطيل الكالم ،إن هي إال جمل قليلة
فضلون عشيقاتهم أو نساء المبغى ،وبعد أن تتهدل ثم يُغير الموضوع .الرجال في المحروسة ال يُجبُون مقاسمة مشاغلهم زوجاتهم ،ي ُ ّ
الحي ،يبدو األمر
ّ مغادرتهم بعد يحملونها ثم بها يبوحون األجساد بعد انقباضها من حدة اللذة يقولون كل شيء ،تتخذ شكل اعترافات
السل ّاوي ،لم ينظر إليهن مثل ًا رآهن رجال المحروسة أو األتراك .أحيانًا أتساءل :أألنه يا
دوما عدا ّ
ً يحب الرجال ممارستها
ّ كلعبة
ُدوجة أخرجك من المبغى تقولين عنه هذا؟ أم ألنّه لم يلتفت إلى جسدك حينما أراده الجميع؟
السل ّاوي للصمت كلما اجتمعنا ،ثم يرحل إلى أمكنة أخرى ال ِقبَل لي بالمسير إليها ،سنوات وأنا أبحث عن فرصة ألقول كليركن ّ
قبورا،
ً شيء ،أحكي له حكايتي منذ ولدت ،إلى اليوم الذي التقينا فيه .عليه إدراك أن المسافة بين القرية والمحروسة كانت كلها
يوما أن األوجاع التي كنت أحملها ستعينني علىً دثّرت أمي ،وأتبعتُها أخي ،ثم غاب أبي ،ألجد نفسي وحيدة أمام قبره .لم أتوقع
المرة ،سأتشبث به
ّ تحمل المبغى ،ثم أتحول إلى امرأة ال تعرف سوى االنتظار ،ربما الذي لن يأتي ،ولكنّه إن أتي فلن أفلته هذه
إلي
َّ أن يصغي
.وأروي له سيرتي كلها ،وليس عليه إال ّ
القسم الثاني
حل على طولون ،بعد أن كانت مدينة تتكئ على البحر في سكينةٍ ،أضحت اليوم مهرجانًا ّ أفريل شهر الضجيج والفوضى ،عي ٌد ُمغاير
كلمات تحملها األفواه ثم
ٍ ُمختل ًَط ا .يركض الناس إلى الجهات كلها ،ال يكادون يستقرون في بيوتهم ،حتى يغادروها .قيل أو قال،
تقذفها لتُحل ّق في الفضاء الرحب من جانب المدينة اآلخر .النساء واألطفال يتأبطون ُصرر الطعام والثياب ،يهرعون بها إلى الساحات
العامة ،يبسطونها حيث تكوم الجنود .ضاقت بهم منافذ المدينة ،ترى صفوفهم الالنهائية ،مثل النمل يزحف كل هؤالء على المدينة
ردد الجنود أغانيهم
أقضت مضاجعنا طويل ًا .يُ ّ ّ يود العبور إلى الضفّة األخرى حيث ترتفع الربوة التيُّ ُّ
الكل يهدفون إلى الميناء ،اليوم
االحتفالية بصوت واحد تهتز له األبنية ،ويعيدها خلفهم الناس متشوقين إلى سرد حكاية نصرهم .قصص البطوالت فاكهة الفقراء في
يبق الكثير ،تكل ّم العجوز الذي قاسمني المقعد في إحدى الساحات ،كانت عيناه تنفران الشتاء ،حينما يجتمعون حول المواقد .لم َ
لكن صوته ال يسعفه ،المجد للملك المجد للمسيح .ال يمكنهم مجابهة هذا ّ تجاه الجموع ،وفمه يلهج بذكر الملك ،ثم يهم بالصياح
النهر المتدفق .وما هي إال أيام قليلة حتى تعود إفريقية إلى سابق عهدها .لم ُأجِ ب العجوز الذي كان إلى جانبي .من دون أن
وزعن عليهم الطعام والضحكات غل بين جموع الجنود ،والنساء اللواتي كن ي ُ ِ ّ.أودعه ،وتركت بصره يتو ّ ّ
السفن مثل النحل .لم أتبين سفن جديدة قد احتلته .بحارون عديدون يجوبون أسطح ُّ ٌ سرت مساف ًة حتى انتهيت إلى الميناء،
التفت
ُّ .النتصاراتنا ا خالد
ً ا منبع
ً ما يوم
ٍ في يكن لم أسطولنا أن العارف وأنا السابق، من وجوههم ،وجزمت أنها كانت أكثر صرام ًة
أحب هذه
ُّ كنت . ِكبر
ٍ ب وتشهق
ُ الرصيف إلى جؤجؤها يتقدم هناك، كانت لوناجور اخترتها، إلى الجهة األخرى فأبصرت السفينة التي
دونت بعض ما يجول ّ لو وددت . هناك من غليونه ن دخ
ّ ُ ي قبطانها رأيت حتى منها أكثر اقتربت السفينة ،ومؤمنًا أنها ستعود منتصرة.
يوم ما ل ُقمة سهلة .ربما كان القبطان يُشاركني ٍ برأسه ،هل تُراه يتفاءل بهذه الحملة؟؟ أم أنه يخشى األتراك؟ فلم يكونوا في
األفكار ،وربما ُس حب الدخان التي ينفثها بعصبية ،تعلن لمن كان حوله مدى خوفه مما ينتظرهم عند السواحل اإلفريقية .سرت حتى
فرد التحية ببرودة دون أن يلتفت، َّ ثوان فقط حتى كنت قربه ،حيّيته، ٍ جاورت ُسلَّم السفينة ،أظهرت التصريح وصعدت إلى سطحها،
مد يديه يحيِّيني بحرارة استغربتها ،ولم ينتظر طويل ًا ليضيف َّ وجهي ل ّ ث تم :وحين
بالتأكيد أنت ديبون ،الصحفي الذي اختارته «لو سيمافور دو مرساي» لتغطية الحملة؟؟ -
!ولكن هناك مالمح مشتركة في كل القادة الذين يؤدون إلى النصر -
وبورمون؟ -
نعم ،كان من الذين خانوا ،واآلن يعود ليح ِقّق حلم نابليون باحتالل إفريقية .أليست هذه يا ديبون أجمل نكتة سمعتها؟ -
الكثير من ضبَّاط البحرية كانوا يُؤاخذون القائد الجديد على خيانته القديمة .حدست بأن عار واترلو سيالحق هذا الرجل بعد خمسة
السوء ،بل
عاما من الهزيمة ،لن يُمنح صكوك الغفران حتى حين تُتوج الحملة بالنصر ،ومع ذلك لم َأر أنه بهذا المقدار من ُّ ً عشر
آمنت أن ذلك الكورسيكي الذي اتفقوا على أنه أعظم قادة أوربا ،لم يكن إال مجنونًا يركض خلف أحالم ال حدود لها .لذا حملت
تشاؤما من الجميع ،إذ لم يكن األمر متعلقًا بواترلو فحسب،
ً في نفسي أشياء أكثر نبل ًا لبورمون .واآلن أراهم هنا في البحرية أكثر
بالملك ،كانت البحرية أكثر تعاطفًا مع المعارضين ،في الحانات يجهرون بحنقهم على آل البوربون ،ويعودون إلى سفنهم في َ بل حتى
انتظار أوامر اإلقالع وقد مضى على وجودهم أكثر من أسبوع ،ولم يحدث شيء ،عدا وصول أميرال البحرية في سفينته ،وجلس هو
بحنق القائد المغضوب عليه
ٍ .اآلخر يحتسي النبيذ ينتظر
بمزيد من التبغ حشا القبطان غليونه ،ثم طالعني وهو يبتسم بسخرية ،وتكلم :الوعي الذي يملكه ذلك القائد ال يؤهله لفهم كيف
السفن التي تعبُر
دائما كان األمر مختلفًا هناك ،هؤالء البرابرة ال يمكنهم أن يعيشوا إال بالنهب والسطو على ُّ
ً يخطط أو يقاتل األتراك.
البحر ،ال يبصرون إال فيما ندر الرايات التي تحملها ،حياتهم ُمعل ّقة على صواري ُسفنهم وليست في جيوش تزحف عبر األراضي
ثم يُمكنك احتالل ما شئت .اعلم يا سيد ديبون أنه ال حرب األوروبية ،إن أردت احتالل مدينة الجزائر ،عليك إحراق أسطولها ومن ّ
سنوات كانت سفنهم ،وشجاعة ريَّاسهم
ٍ .حقيقيّة على األرض اإلفريقية .هم ال يفقهون من نظامها الكثير ،وكل ما يعولون عليه طوال
أفريل 27
ترى ما الذي يعرفه الطولونيون عن هذه الحرب ،أو حتى عن الجزائر؟ أم أنهم اكتفوا بما حمله العدد األخير من جريدة
اتخذت فيه مكانًا بين جمهور الناس ،كانوا يُشكلون
ُ «لومونيتور» عن أسباب الحملة؟ أسئلة بقيت ُمعلَّقة في ذهني في الوقت الذي
صفوفَا طويلة احتل َّت الشارع الرئيس للمدينة يهتفون بصوت واحد ،منتظرين القائد .باألمس كان الكثير يجهله واليوم أضحى بطل ًا حتى
الس فن .من بعيد تراءت لي الخيول وهي تعبر البوابة هتف لها الجنود والناس دفعة واحدة ،ثم سمعت دبيب العربات قبل إقالع ُّ
عنَت بعضهم واجهت َ
ُ السائرة في موازاتنا ،ومثل الجميع لم أكن قد رايت بورمون ،تغلغل بين الناس المتدافعين إلى صدارة الصفوف،
أحدق تجاه كوكبة الخيول التي تقدمت الموكب ،ثم تلتها خيول أخرى لضباط انتبهت ّ ودفعت آخرين حتى كنت في مقابلة الطريق،
ع ِل ّقت على ثيابهم .بدالي أن بعضهم كانوا من الذين جربوا الحروب طويل ًا ،اهتزت الصلبان الذهبية على إلى الشارات التي ُ
يتوس ط أبناءه ،أبصرته عن كثب ،رجل في نهاية الخمسينيات ،يرنو إلى الهاتفين بحياته وحياة الملك ّ هناك صدورهم .ثم رأيته
والمسيح ،يحييهم بيده ،فترفع األيدي ُملوح ًة لموكبه ،وظل على تلك الحال حتى تجاوزهم بحصانه مسافة طويلة ،انسحب من الجمع،
وأسرع الخطى تجاه الساحة التي كان يقصدها الموكب ،ثم أشرت إلى إحدى العربات ،لتخترق بي الشوارع الجانبية الخالية ،ولكننا
رئيسا حتى ي ُوصد بكتل األجساد المتراصة ،فنغير وجهتنا .تجاوزنا نصف شوارع المدينة إلى أن وجدنا منفذًا، ً ما إن نقابل طريقًا
توسط موكب القائد ّ .بالناس ة الضاج
ّ الساحة مواجهة في كنت حتى آخر إلى درب من كلها، المنعطفات وتجاوزت قفزت من العربة
قس كنيسة طولون ،عانقه القس بحميمية ،اغتنمت فرصة ُمعانقة القس للضباط، ّ مواجهة في أحصنتهم عن الجميع وترجل
ّ المكان،
وتسربت بين األجساد ،سمعت شتائم بعضهم ،وخدعت آخرين أني من الشرطة ،وبُجه ٍد اقتربت أكثر من الموكب ،وقف القس حينها
إلى جوار القائد ،ينظر إليه ويحدثه مثل صديق .سمعت بعض الكلمات التي تفوه بها :أنا حزين يا سيدي القائد ،فلو لم أجاوز سن
الشباب ألبحرت معكم ،أصلي لكل خطوة تخطونها ،وأمنحكم مباركة الرب لمشروعكم في نشر كلمته وإعالئها في إفريقية .رأيت
انحناء القائد وابتسامته ،كأنما كان يعطيه األعذار ،إذ تكفي صالته للجيش الذي سينشر السالم في المتوسط بعد غيابه قرونًا ،حينها
.واجه القس الجمهور وهتف :المجد للرب ،فتعالت الهتافات تجيبه ،بل ربما هتفت المدينة كلها المجد للرب المجد للرب
أفريل 28
الجميع كان يعرف البروفانس ،قبل أشهر فقط رست في ميناء الجزائرَ .خبَر مل ّاحوها مزاج األتراك ،وكيف ينظرون إلينا كمسيحيين.
وددت لو أسرع إلى هناك ،ليس من أجل االجتماع ،بل من أجل ما حدث قبل أشهر ،حين عادت السفينة وقد ُح ِّطم جزء منها،
.بعد فرارها من قذائفهم .لم يشفع لهم السالم الذي عقده باشاهم مع رسولنا
أشار القبطان أن أتبعه ،نزلنا من لوناجور وسرنا على الرصيف حتى انتهى بنا إلى البروفانس .كان هناك بعض الصحفيين الفضوليين
سرعين .ثم كنا في أعقابها حتى بلغنا سطحها ،ربما كانت من طولون ،لم يُسمح لهم بالعود عدا اثنين منهم ،قفزا أمامنا وصعدا ُم َ
تلك أعظم سفينة ركبتها في حياتي .ولكن ّها لم ترهبني مثل لوناجور .ال يمكن لإلنسان تجاوز انبهاره األول باألشياء بسهولة ،تظل
شرطا لرحيلي إلى الجزائر كمراسل حربي .نزلت عبر ً عالقة بذاكرته ،ثم تتحول إلى جزء من شخصيته .لهذا وضعت لوناجور
الساللم ،وقابلني باب الرواق المؤدي إلى غرفة االجتماع ،سبقني القبطان إليها .وحين هممت بمغادرة الرواق سمعت نداءه ،ثم أشار
بحارة البروفانس .نزلت إلى الطابق السفلي ،حيث تحل ّق بعض بيده إلى األسفل وقال :ابحث عن بحار يدعى برنار ،إنّه أقدم ّ
التفت رأيت طاولة في أقصى الغرفة،
ُ البحارة حول طاولة ،اقتربت أكثر منهم وسألت عن البحار ،فأشار أحدهم إلى اليمين .وحين
يجلس إليها بحار واحد .دنوت منه واستأذنته مقاسمته الطاولة فسمح لي ،ولم يبادرني بالكالم ،اكتفي باحتساء نبيذه في هدوء،
:فطلبت أنا اآلخر كأس نبيذ ،رشفت منه القليل وخاطبته
بعنف ،بالرغم من أني كنت أرنو إلى الطاولة األخرى .بدا لي أنه ال يختلف عن اآلخرين في سأمه من االنتظار ،وربما كان
ٍ قالها
:أكثرهم حنقًا ،لذا تشجعت وقلت
جميعكم متشابهون ،أنت وزمرة المثقفين ،والملك ووزراؤه ،حينمايريدون حماية مناصبهم يرسلوننا لنحارب .قبل أشهر كنا نحمل -
.لباشا الجزائر الهدايا ليرضى عنهم ،واليوم يسوقوننا إلى هناك لنُقتل بيد األتراك القراصنة
البح ار ،كان سيصرخ في وجهي ،وربما يتهمني بأنني من كالب الوزير بوليناك ،مثلما كان يقول الكثيرون حينها ّ لم يكن مجديًا مجادلة
ضد السلطة
ّ البحار ،لطالما وقفوا
ّ احتدت الصراعات بين الصحافة والحكومة .أصحاب الجرائد الليبيرالية في باريس كانوا يوافقون
المطلقة للملك ،ولم يروا في الحملة إال أنها بحث عن المال ،ليُطيح الملك بمعارضيه ،وألن هذه األمة كانت تؤمن باالنتصارات باسم
مسيحا في نظر الناس
ً نصر آخر يُح ّقَق كي يصبح الملك هو اآلخر
ٍ .المسيح فلم يكن يلزمهم سوى
وعدت حيث خل ّفت القبطان ،وحينما تجاوزت الباب األخير من الرواق ،رأيته صحبة بعض ُضباط البحرية .لم يكن غادرت الغرفةُ ،
الوزير هناك ،لكنني أبصرت أميرال البحرية السيد دوبيري ،ومن أول وهلة يراه اإلنسان يكتشف المزاجية التي يتحلى بها .وكأنه في
قائدا على الحملة .ولم أدر إن كانت هناك مآخذ أخرى غيرً حالة نزق دائمة ،ال يعجبه شيء ،يتذمر من تعيين األميرال بورمون
.العار الذي عاد به من واترلو
بعد عودتنا إلى لوناجور ،بسط أمامي القبطان بعض الخرائط التي تتعلق بمسيرنا ،من طولون إلى ماهون ،ثم إلى السواحل اإلفريقية،
وإن استدعى األمر ربما سنعرج على بالما ،تفحصت الخرائط ودونت منها بعض المالحظات ،وعدت إلى غرفتي التي خصصها لي
المرة األولى التي أراه فيها ،بدا لي في نهاية
ّ وحيدا بها ،وفوجئت بشخص آخر يُقاسمنيها ،كانت
ً القبطان .ظننت أنني كنت
.األربعينيات ،نظرته هادئة ،وميزت لكنته الجنوبيّة من تحيته
ماي 3
مكتظا
ً لم تحمل األيام األخيرة من أبريل أي جديد ،أبواب طولون ما زالت تكتظ بجنو ِد يَفدون كل حين ،والميناء أضحى هو اآلخر
السفن كانت في أقصى الشرق، سنوات .بعض ُّ ٍ بالس فن .كان لدى البحارة ما يشغلون به أنفسهم ،إذ التقوا بأصدقاء لم يروهم منذُّ
عشر أمضينا المواثيق مع اإلنجليز،
ٍ سنوات
ٍ وأخرى قادمة من الهند ،وأخرى تحمل العبيد خلسة من إفريقية بالرغم من أننا قبل
لدودا لنا ،لكني أبصرت بجالء كيف سعوا إلى ً عدوا
ً بمنع هذه التجارة .لطالما كنت ُمؤمنًا بمجد هذه األمة ،بينما كان الجميع يراها
إنهاء العار الذي بقي لصيقًا بنا نحن الفرنسيين ،أن يستعبد اإلنسان إنسانًا آخر ألنّه يختلف عنه في لون البشرة ،أو ألن أسباب
المتحض ر على االحتفاظ بهذا العار .لكني اليوم متفائل ،وأنا أرى الملك أكثر ميل ًا من سابقيه ّ أصر العالم
َّ الحضارة لم تجتمع لديه،
إلى مبادئ الرب ،يريد إعادة المجد لهذه األمة التي أفقدها نابليون الكثير من سمعتها .ولم يكن هذا المشروع إال بداية إلنهاء
العبودية التي جعلها األتراك في أعناق أبناء المسيح ،نعم المسيح الذي يُدافع الملك عنه ،ألنّه من سالل ّة القديس لويس التاسع.
واليوم تصل إلينا األخبار عن زيارة ولي العهد لطولون .حدثني القبطان يوم االجتماع عن زيارة األمير لليون ،حيث استقبله الناس
دوت مرات عديدة في سماء المدينة ،لكنه لم يلبث طويل ًا بها ،إذ غادرها إلى بالهتاف والجنود بأصوات البنادق ،حتى المدافع ّ
مرسيليا ،وهناك كان االحتفاء به أكثر ،تجمع الناس مثلما اعتادوا في شارعها الرئيسي ،يهتفون بحياته وبحياة الملك .كان ذلك في
أن هذه األمة لن تعرف اليوم األول من ماي ،ونحن اآلن في يومه الثاني ،والناس تتجمع في الشارع الرئيسي لطولون ،أكاد أجزم ّ
خ ِل ّص ،ليت من في البحرية ينزلون إلى شوارع للم َ
ُ مجدا مثل الذي يحدث اآلن .األمة كلها تُجمع على ملكها ،وترى فيه تجل ّيًاً
.طولون أو مرسيليا أو حتى ليون ليَروا بأعينهم ،كيف يهتف الناس والجنود آلل البوربون
دوي المدافع ،ارتديت ثيابي ،وفتشت عن شريكي بالغرفة فلم أجده ،نزلت من متأخرا على أصوات ّ
ً في اليوم الثالث استيقظت
مسرع ا ،حتى حللت بالشارع الرئيسي ،تجمهر الطولونيون أكثر من األيام السابقةُ ،زيِّنت األبنية باألعالم ،حتى األطفال كانوا
ً لوناجور
سعيد ا وأنا أقترب أكثر وأرى ولي العهد ،أبعدني تدافع الناس عن مكان وقوفه ،فبقيت أراقب ً يحملون في أيديهم العلم األبيض ،كنت
الحي اإلداري للمدينة
ّ غل أكثر تجاه .موكبه يتو ّ
لن تحتمل طولون تلك الضجة وهؤالء القادة كلهم :ولي العهد ،قائد الحملة وزير البحرية ،أميرال البحرية ،وأولئك النبالء الذين كانوا
والسفن يكاد الميناء يلفظها ،لم يكن األمر هينًا ،والناس تقطع
ُّ يرافقون األمير .الجنود يتوزعون مثل النمل في المدينة وساحاتها،
الشوارع جيئ ًة وذهابًا منبهر ًة بها تراه حولها .أحيان ًا أسأل بعض العابرين عن األتراك ،وعن أسباب الحملة عليهم ،يُرددون مثلما يردد
األمة باستعباد المسيحيين فيّ السياسيون :قد ُأهين شرف الفرنسيين حينما ُضرب القنصل بمروحة الباشا ،ولن تسمح غيرة هذه
المحم ديين .لم يكن هناك الكثير من الحجج التي يحملها الناس في عقولهم ،لكنهم متشبثون بها .هل كانوا مثل ًا يعرفون ّ أراضي
سيرة القنصل؟ هل قرأوا التاريخ الذي جمعنا بهذه المدينة؟ الكثير من األسئلة المشابهة طرحتها جرائد الليبيراليين والمعارضين لهذه
.الحملة ،وال أعتقد أنها تؤثّر مادام الناس يحملون في نفوسهم التبجيل للملك ولقائد الحملة
وعودا وهبات تنتظرهم بعد النصر .تطلعوا ً أيام ا ينتقل من ساحة إلى أخرى ،يزور الجنود ،يحمل لهم رسائل الملك، ً مكث ولي العهد
مكثت
ُ إليه غير مصدقين أنه يقاسمهم الساحات القذرة .كانوا أكثر سعادة بتواضعه من الوعود التي يحملها .في آخر أيام زيارته
غير بعيد منه ،حيث اجتمع بقائد الحملة ووزير البحرية ،من بين مئات الصحفيين كنت إلى جانبهم ،أسير بين الطاوالت التي
عد ت في القصر ،بالحفلة التي نظمها على شرفه نبالء طولون ،قبل رحيل الحملة بأيام ،كانت الكؤوس تصطك ببعضها والتهاني ُأ ّ
تواضعا،
ً أكثرهم بدا جانبه، إلى كان بورمون واألميرال البحرية، وزير جوار إلى وقف منه، ودنوت كأسي حملت األفواه، بين تنتقل
سمعت ولي العهد يخاطب األميرال « :كم أنت محظوظ بقيادة هذا الجيش!» رأيت عالمات الخجل التي حاول األميرال مواراتها،
لمت أنكم ستعودون قبلنا إلى باريس ،وعندما تلتقون بوالدي الملك ،أبلغوه عني أنني ع ُ في حين أقبل األمير بوجهه تجاه الوزيرَ « :
».قضيت أفضل أيام حياتي رفقة الجيش ،وأكثر ما يؤسفني أنه ليس في مقدوري قيادة هذه الحملة
انسحبت حين تراءى لي القبطان من هناك ،وتفاجات بالرجل الذي يقاسمني الغرفة إلى جواره .انضممت إلى المجموعة ،كان هناك
ضابطان لم أعرفها .بدا لي أنها من البروفانس ،جلس الجميع ينفث الدخان ويحتسي النبيذ ،انتبهت إليه وقد ظل طوال الجلسة
ضاجين .أعلن أحد الضباط
ّ :صامتًا بينما كان اآلخرون
:وأردف القبطان
.جل ّها قد ُح ّمل بالبضائع واألغذية -
ُ
زادت الجملة األخيرة من حنق الضابط ،ولكنّه لم ينبس بكلمة ،ربما َخ َّمن مثلي أن عالقة خفية تربط الرجل الذي يقابله بالذين
اجتمعوا خلفه ،أو ربما بدوائر الملك في باريس ،الثقة التي كانت تصاحب ُجمله المختصرة والكثيفة ،لم تكن إال دليل ًا على ذلك.
لحظات أخرى من الصمت .ثم عاد الجميع إلى ضجيجهم ،ينفثون دخانهم في سماء الغرفة ،أرفع رأسي نحو السطح ،تشدني
عدت أستكشف الوجوه ،لم رسومات األطفال بأجنحتهم الصغيرة ،يُحل ّقون في مساء الجنّة ،يطوفون بالعذراء ،المجد لك أيتها العذراءُ .
أر األمير هناك ،وكذلك الوزير واألميرال .كان الجميع من حولي يستعدون للرحيل ،حملت نفسي وسرت بمجاورة القبطان ،ثم كانت
.العربة تعيدنا إلى لوناجور
أفقت على ضجيج يمُأل المكان ،هرولت عبر الرواق ،وعندما بلغت الباب رأيت مئات الجنود يصطفون على سطح السفينة ،يحملون
أكياسهم وبنادقهم .آالف من الجنود تدفّقوا من منافذ الميناء كلها ،األبواب ال تكاد تتسع لمرورهم .يسير كل صف في طريق إلى
عدت إلى مكان الجنود ،وقد شكلوا سفينته المختارة ،في نهاية الرصيف رأيت الخيّالة يسوقون خيولهم إلى سفن أقصى الميناءُ .
إلي آخر جملة وجهها كافيارَّ عادت مجموعات ،وكل مجموعة تحلقت حول رئيسها .اقتربت من إحداها وأصغيت لها ،وفي التو
مرتين في ّ باالستحمام عليكم :يتلوها صارما وهو
ً للضابط ،كانت تعليمات للجنود الذين سينزلون إلى الجزيرة اإلفريقية .بدا الصوت
الفجة .ال تأكلوا اللحوم الممل ّحة إال بعد غسلها .ال
ّ اليوم ،لن تسبحوا إال مدة قصيرة .تفادوا شرب الماء بكثرةٍ ،تفادوا أكل الفواكه
.تشربوا من مياه البرك .وأدركت يومها أن كافيار كانت له كلمة عند الذين قرروا إيفاد الحملة
ثالثة أيام أخرى ،لم يهدأ الميناء ،كل يوم يوقظنا ضجيج يتعالى من رصيفه ،وأصوات جنود يُقبلون وآخرون يقودون الخيل ،يُصعدونها
الس فن ،ثم تنشر أشرعتها وترحل عن الميناء ،وتتلوها أخرى للجنود ،قال لي القبطان الذي وقف قربي
:على متن ُّ
.دون اآلن يا ديبون في دفترك أننا قد بدأنا الحملة على الجزائر -
ِّ
السفن وأردف
:ثم أشار إلى ُّ
:فتساءلت حينها
ولوناجور؟ -
وبورمون؟ -
خطابه غمرني بالسعادة ،في كل جملة يتوطد ما بيني وبين هذا القائد ،يحمل في روحه الدعوات التي أتى بها الناصري ،ال يريد إال
عائدا إلى لوناجور ،دخلت الغرفة ووجدته يستلقي
ً مزيدا من سفك الدماء .وسحبت نفسيً تحرير اإلنسان الذي اضطهد ،وال يريد
بعيدا عنه ،وقلت
ً :بكسل على فراشه ،فانتحيت مكائا ليس
ٍ
.دعك من هذه األوهام يا سيد ديبون ،أنت تجهل أشياء كثيرة لتدافع عنه -
يقطع هذا الرجل كل الدروب المؤدية إليه ،ألوذ بالصمت ،ويعود هو إلى كتابه .ال أدري كم مرة حدث هذا ،وكم مرة يصمت منهيًا
أيضا عقالء
ً .الحوار بيننا ،ولكني لن أستسلم ،فالبحر مثلما يصنع المجانين يجعلهم
ترتج السفينة حينما يضربها الموج ،أقول في نفسي لو تتمسك بهذا العنف فال بد ُّ بقوةٍ ،يقذفها الشمال تجاهنا،
ّ تهب
ُّ ريح المايسترال
حدة الريح في اليوم الثانيّ تراجعت ثم .الثالث األسبوع به ابتدأ سيًئا ا يوم
ً كان . البحر إلى لوناجور تحمله مما الكثير أنها ستلقي
والتفت من حين إلىُّ نسيما عليل ًا في اليوم الرابع منه ،وقفت أتطلع إلى الحركة البطيئة على الميناء، ً أضحت أن إلى والثالث،
آخر تجاه البروفانس ،ال جلبة على سطحها ،شعرت أن أيام مكوثنا في طولون باتت معدودة ،وحتّى بالسفينة التي نحتلها ،كان كل
معدا ،ولم يبق إال سماع طلقات المدافع معلن ًة وداعنا
ً .شيء
في اليوم األخير من األسبوع الثالث وردتني أخبار أننا سنُقلع مع الفجر ،لم أنم تلك الليلة ،أشياء كثيرة دارت في خلدي ،إلى أن
وخ ّ َم نت أنه لم يكن في لوناجور بل في البروفانس ،قال وجهه إنهم اتفقوا على أشياء تُغاير ما خططنا
تأخراَ ،
وصل شريكي بالغرفة ُم ً
تمدد على فراشه وخاطبنيّ ثم . :له
.ربما عليك يا ديبون أن تنام ،لن نرحل إال بعد أربعة أيام -
سريع ا ،ولم أنتبه إال على ندائهم .صعدت إلى سطح السفينة ،واستنشقت نسيم الفجر ً ارتميت على فراشي ،وتمنيت مرور األيام
السفن التي كانت حوله األوامر برفع الزوارق. ُّ جميع ت ق
ّ فتل . اإلبحار إشارة األميرال أعطى الندي ،امتد بصري تجاه البروفانس حيث
ورأيت الحركة من حولي ،كان المالحون يرفعون األشرعة ،وآزرهم الجنود في إقالع السفينة .تحركت البروفانس ثم كنا في إثرها.
قدر لي سماعهامسافة سرناها شاهدت أهل طولون يتطلعون إلينا من حصونها ،وآخرون يُلوحون لنا من السهول ،ترتفع أصواتهم ولم يُ ّ َ
.ذلك اليوم
كافيار
لم يكن ُمجديًا أن ُأسأل عن اسمي القديم ،أو عن مهنتي .تذوب األلقاب يا ديبون حينها تقبض السالسل على رجليك ،ويُصبح
وادعاء الجهل هو سبيل آخر للنجاة في هذه في صالحي التفوه بكلمة عما أعلمه أو أتقنه ،الصمت ِ ّ هراء .لذا لم يكن
ً تاريخك
تُثقل يدي ،يسحبها السجين الذي يسبقني فأوشك أن أسقطُ ،أصغي إلى الصوت الحاد ،ثم يدنو الظل المدينة المتوحشة ،كانت القيود
كور البلغم في فمه ويقذفه على وجهي. األلم ،وال أجرؤ على االلتفات .ثم يواجهني الحارس التركي ،ي ُ ّ مني ،وفجأة أصرخ من حرارة
متوعدا إياي بتأجيل
ً نحوه، ويعدو يده ترتخي ٍ
حارس آخر، حنقه ،وهم أن يهوي بالسوط علي ،لوال نداء تحد فيزداد
ٍّ أحدق بوجهه في
.العقاب
يرتفع الباب الخشبي عمالقًا ،ونصطف تحته مثل قصب الذرة ،سار الصف الطويل مسافة إلى األمام ،تدافعنا تحت ضربات السياط،
واألصوات التي تتعالى من حولنا .تجاوزنا البوابة حتى بلغنا باحة السجن ،وتغلغلت رائحة العفن الحادة إلى أنفي ،واشتعل حلقي
علي مد يدي ألحكها .وكلما هممت بذلك أسحب السجين الذي خلفي ،وهكذا َّ لزاما
ً جرائها ،ثم امتدت إلى عيني وصار َّ بحرقة من
دواليك يسحب هو الذي خلفه .صرخ الحراس علينا ،ولم أفهم ُمرادهم لو لم يتحرك بعضنا ُمشك ّلين جماعات في قلب الباحة.
تطل ّعت إلى جدران السجن العالية ،انتبهت لنفسي أفك ّر كأسير حرب ،بينما لم أكن سوى عب ٍد مغلول في مدينة معبأة بالمتوحشين.
وات
َج ٍالحراس من حولنا ،وآخرين يحتلون الطابق األعلى للسجنُ ،أخفض بصري إلى محيط الباحة ،فأرى ف َ ّ لت ببصري فرأيت جِ ُ
باتساع الغرف في نهايتها ،وآثار الرماد على أطرافها ،وبقايا خشب مرميّة عند الجدار .لم أعرف مصدر الروائح الحادة التي كانت
التفت ورأيت بقايا الحيوانات ملقاة هناك ،وقبل التفاتي سمعت نداء الحارس التركي مرة ثانية ،لم أدر أنه يعنيني َ تصلني إال حينها
أرضا .ثمً بقوة ولوال السلسلة التي كانت بيدي لسقطت
ّ إال حينها انشق الصف عني ،ووقف أمامي وأخذني من صدري ،ثم دفعني
جندي بدا مختلفًا عن البقية ،كانت ُحلته أفضل من ُحل ّة الجميع، ٌ وقف يراقب تجمعنا من الخلف .بقينا متسمرين هناك حتى أقبل
دفترا أمامه ،وشرع ينادينا بأسمائنا ،وكل من يسمع اسمه ً وفتح المصطبة، أشبه بما كان يلبسه وكيل الحرج ،وضعوا له كرسيًا أعلى
يعلن عن نفسه بالصياح .فيهرع الحارس تجاهه ينزع عنه األغالل ،ويتقدم حتى يكون في مقابلة الضابط ،يسأله عن عمله قبل
تفرس في َّ أسره ،ثم يقاد إلى نهاية الباحة دون أغالل .لحظات من المناداة سمعت اسمي حتى لم أتبينه ،وخطوت تجاه الضابط.
حل المساء ،وخبت أصوات َّ صيادا أومأ للحارس فقادني إلى نهاية الباحة ،وعلى هذه الطريقةً وجهي ،وحين أخبرته أنني لم أكن إال
الحراس فجأة حين فُتحت األبواب ،ورأينا صفًا طويل ًا للعبيد ،كانوا قد عادوا حينها من الميناء حيث ورش العمل .وآخرون من مقالع
غبار أبيض ٌ المور ،وجوههم يمالها
الحجارة .اعتقدت أننا الوحيدون هنا ،نحن المسيحيين األوروبيين ،بيد أنني تفاجات برجال من ُ
تكه نت أنهم من مقالع الرخام ،كانت السالسل تكبل أيديهم ولم تفك عنها إال حين أغلقت األبواب خلفهم .وانتبهت إلى ّ دقيق،
المور .حال بيننا وبينهم صف من الحراس ،لم ينسحب إال حينما أقبل ُ أولئك دون والزنوج المسيحيين أرجل في الحديدية القيود
احتد ألمي حين ُأحكم علي ،كتمت الصوت في َّ قيدا حديديًا في رجله. ً ثالثة حدادين بمطارقهم وكالليبهم ،وثبتوا لكل واحد منا
.صدري ،وسرت مثل اعرج حين قادونا إلى العنابر
ِ
اللعيْنة أنه إل ٌه ردد في ظالم العنابرفي الظلمة لم يكن حولي سوى الشيطان يطل من شقوق الجدران ،أرى لمعة عينيه وشررهما ،يُ ّ
أن يؤمن بإلهٍ ال تتغلغل ّ إال له فليس جديد لهذا العالم .وما كان لي إال تصديقه ،حينما يريد اإلنسان اإليمان في جحيم هذا العالم
مسرته في سفك الدماء من أجل مجده ،ال في إعطاء خدك الثاني عندما يُصفع األول .ليس هناك ما يجعلني َّ الشفقة إلى قلبه ،إل ٌه
أتفق مع هؤالء األتراك المحمديين ،ولهم إلههم الذي يدعوهم الضطهادنا ،أليس غريبًا أن أول ما حفظته من لغتهم هي سبابهم إياي
بمسيحيتي وكفري « كريستياني قذر ،أو كافر» تلك هي الكلمات التي كانت تتردد في باحة السجن .كنت أتحسس القيد في ظلمة
العنبر ،الذي لم أستطع تحديد مساحته ،وتوقعت كم كان ضيقًا ،مزيج من الروائح الكريهة لألجساد ورائحة البول تعبئ الغرفة ،التي
تزداد ضيقًا حينها تضغط األجساد أكثر على صدري ،ال أدري كم من عب ٍد جثم فوقي ،أو كم رفسني أحدهم بقدمه بينها صرخت في
ضغطت أكثر على القيد ،كأنه بات يتقلص على رجلي .أحاول التقلب في مكاني ،ولكن ال مساحة ُ داخلي كلما حركت رجلي ،أو
للحركة .يتسلل البرد من كل مكان ،عيناي تجوسان الظالم فال تعثران على منفذ به ،تمنيّت بزوغ شمس يوم جديد ،على األقل
اسما
ً أرى الضوء فأستأنس به ،ولكني سأستيقظ على إنسان مختلف عما عهدته ،ستوغل واترلو في الذاكرة البعيدة ،وسيصبح نابليون
.معلّقًا في شجرة تيبّست ولكنّها ترفض السقوط ُ
سرعا ،وال جواب غير أنفاس حارة تنبعث من أفوا ِه جائعة ،ال أراها ولكن نتانتها تُصيبني بالغثيان،
ً أنادي على الضوء أن يُقبل ُم
أقذف ما في بطني وال أدري أي وجه استقرت فوقه ،إال حينما يرتفع السباب .ثم أقذف دفعة أخرى من معدتي أكثر دفًئا ومرارة،
كادت روحي تُ غادر جسدي على إثرها .أنكمش منها وأنتظر المزيد ،وتأبى إكمال مسيرتها إلى حلقي ،تغيب حتى أقول إني شفيت
وتعود لتتصاعد من جديد ،ثم فجأة أحسست بالبرودة تتسلل إلى جسدي ،بدأت بقدمي ثم امتدت إلى ساقي ،وانتشرت إلى بقية
وضوءا ينبعث من ك ُوة العنبر .أفقت وصورة سات تنوس بذاكرتي .ووقفت ألطل على ً حادا،
ً خا
الجسد ،ثم لم أعد أدرك شيًئا إال صرا ً
كومين فوق بعضنا، مزيدا من الوجوه الشاحبة ،وغرفة ضيقة عجِ بت كيف اتسعت لنا ،إال إن كنا ُم ّ
ً الصيادين من المركب ،ولم أر إال
وحتّى الروائح كانت ال تُطاق ،يتعالى الزعيق ي ُنادي على السجناء أو العبيد ،أن يستيقظوا ويهرعوا إلى نهاية الرواق حيث الكنيسة
.الكاثوليكية
غنى عنها ،لم أهزم بعد ،ماً ال تستغرب يا ديبون أن أعيد عليك كل هذه الحكايات ،لست ُمجبَ ًرا على بسط مرافعات أنا في
قد ًر ا من الجميع ،سواء في باريس أو في الجزائر .واآلن تصلني رسائل الحاكم العام للجزائر فوارول ،ألتقيه ونشرب األنخاب زلت ُم ّ
من أجل أعمال التوسعة الجديدة ،ونستمع إلى أخبار القائد الذي صار العرب اليوم يجتمعون حوله .لكني موقن أنهم لن يُطيلوا
التحلق حوله .إنهم لن يجدوا عند األمير أي شيء مما يحلمون به ،ال يريدون النعيم المؤجل وأنهار الخمر التي يعدهم بها.
عاشرت هؤالء العرب وصرت أفهم كيف يُفك ّرون ،خاصة إذا تعل ّق األمر بمصالحهم .كانت ُ والحوريات التي تنتظرهم في جنّتهم.
عليم ا بما يجول في أذهانهم .الخبث هو سمة العرب ،والخداع هو أقصر ً أصبح بأن كفيلة السنوات التي قضيتها في بيت القُنصل
شارع ما ،يبكون أنهم ال يملكون المال ،ثم
ٍ توسعة تتقرر حينما مكتبي في علي
َ ّ قبلونُ ي غاياتهم، الوسائل التي يستعملونها لبلوغ
حين يتعلق األمر ببيوتهم التي ستهدم ،فإن األموال سوف تظهر ،يُريدون إبعاد التوسعة عن بيوتهم ،وال يأبهون عندما تشمل بيوت
جزء ا من بيوتهم ،فالمخطط الذي أحلم به لهذه المدينة يتجاوز أحالمهم وتفاهاتهم
ً جيرانهم .أتحايل عليهم كي آخذ أموالهم ،وبها أهدم
الصغيرة .لذا ليس عليك التعاطف معهم يا ديبون ،عقلك ال يدرك ما أعرفه عنهم .ورحلتي الطويلة في اكتشافها مدينة تسطو على
والسياط تُلهب جسديِّ .المدن التي تجاورها ،وتستعبد المسيحيين ،ليعينوها على بناء أساطيل جديدة ،كنت أكتشفها كل يوم،
من الرواق رأيتهم يسرعون في اتجاه الباحة ،خطوت في إثرهم ،ثم انعطفت مثلها انعطفوا ،وتراءى لي باب واطئ ،سرت حتى
انتهيت إلى غرفة واسعة ،وأكثر نظافة من بقية الغرف ،كانوا مصطفين يحدقون في العجوز الذي وقف يتلو الصلوات ،هممت
باالنضمام إليهم وسنح لي خاطر بالعودة إلى العنبر ،فسحبت نفسي إلى مدخل الرواق ،وانتبهت إلى رواق آخر يُحاذيه ،فكرت بالعبور
تشج عت حين أبصرت الباحة من مكاني ،حركة كثيفة للسجناء يصطفون في طوابير لينالوا خبز ّ إليه ،وخشيت ضربات السياط ،ثم
الصباح .عدت أتأمل الرواق الثاني ،عرضه لم يتجاوز األربعة أمتار ،وقدرت طوله بعشرة أمتار ،قطعتها باحثًا عن غُرف مثل التي
شخصا ،غرفة عرضها ً نحتلها ،كانت كل األبواب ُم شرعة ،عاينت إحداها ولم تختلف عن التي نتكوم بها .أيعقل أن يحتل ثالثون
مثل طولها ثالثة أمتار! كنا محشورين بعضنا فوق بعض مثل السمك في الصناديق الخشبية ،اندهشت من نفسي وكيف أمكنني
التفت إليها ،ورأيت ثالثة شباب وقفوا يراقبونني منذ عبوري
ُّ كلمات إنجليزية
ٍ المبيت بها الليلة الماضية .وقبل أن أخطو سمعت
:إلى الرواق ،ثم اقترب أحدهم مني
جانبي صديقاه .حين بلغنا باب الغرفة قدم وليام نفسه على أنه أمريكي ُأسر قبل سنةٍ فيّ طلب مني الشاب مرافقته ،وسار إلى
سعيدا بهم ،وعانقتهم كأني لم
ً مضيق جبل طارق ،ثم سحب باب الغرفة ألكتشف وجوه الصيادين الذين غادروا معي سات .قفزت
يمد يده بقميص وسروال
ُّ سنوات ،كانوا في ثياب نظيفة غير التي افترقنا عليها .وقبل أن ُأتم حديثي معهم وجدت وليام
ٍ أرهم منذ
:نظيفين ،ثم خاطبني
وإلى حينها فقط اكتشفت أن العبيد يمكنهم الحصول على المال من عملهم .قبضت يدي ما أعارني وليام ،وقبل مغادرته العنبر
:أضاف
أم ا اآلن فعلينا الرحيل إلى العمل .وأنتم فال أعتقد أنكم ستغادرون هذا اليوم إلى الورش -
.يُمكنك من اليوم مقاسمتنا الغرفةّ ،
يمد يده
ُّ يحدق فيه مليًا ،ثم
ّ كنا إلى جانبهم في صفوف الخبز ،وانتظرنا سماع أسمائنا ،كل من يسمع اسمه يقترب من الكاتب،
إلى كيس خبز الجاودار يسحب منه واحدة ،ويعود إلى مكانه ،ثم غادروا هم إلى أعمالهم بعد أن وضعت السالسل في أرجلهم،
.وعدنا نحن إلى عنابرنا
ابتدأ يوم آخر بزعيق الكاهن ينادي على الكاثوليك ،يدعوهم للصالة إلله المآسي .ولم ألتحق برفاقي الصيادين إلى هناك ،قررت أال
الض عف ليس إال هراء ،المؤمنون الحقيقيون هم من يؤمنون في لحظات القوةألج الكنيسة التي يرتادونها .اإليمان بالله في لحظات ُ
.والنصر .إنني أحتمي بالله حينما يعتقد الناس أنني لست في حاجةٍ إليه
في ذلك الصباح سرت إلى الباحة ،متأمل ًا االنحناءات وقد بدت مثل غرف نهاية السور ،كانت تتوزع بها القدور ،ورماد النار التي
ردد األمريكيون أن القنصل السويدي اعتاد زيارتهم ،يُرسل مع موظفه اللباس وبعض األكل، أشعلناها باألمس من أجل حساء البرغل .ي ُ ّ
أما حين يتعلق األمر بالمال ،فإنّه يأتي بنفسه ،يُسل ّمنا نحن والسويديين بعض الرياالت لشراء األحذية ،ويدفع لصاحب الحانة التي ّ
سدون الباب يُقل ّبون التصريح الذي يحمله مساعد كانت في نهاية الرواق مال ًا يجعلنا نتلذذ بالنبيذ كل مساء ،ولكن أولئك الحراس ي َ ُّ
القنصل ،ثم يرفضون إدخاله إال بعد رشوة يقدمها ،لم يكن الحراس من محبي الخمر ،يُحرم دينهم عليهم التلذذ به ،وإن فعلوا
ولحملت السيف
َ محمديًا،
ّ سيُحرمون من أنهار الخمر بالجنة التي ُوعدوا بها .لعلك يا ديبون لو سمعت هذه األساطير ألصبحت
وركبت البحر غازي ًا مثلما يفعل هؤالء األتراك .أتدري لو كان الحراس يحبون الخمر ،لما نعمنا بتلك الرشفات التي ُحرمنا منها منذ
سؤال انتابني يومها :أين قنصلنا نحن الفرنسيين؟ ولماذا ال يزورنا مثلما يفعل القنصل السويدي ،على األقل من أجل ٌ أيام.
المواساة ،ما المجد الذي تملكه هذه األمة حتى تتجاوزنا نحن الفرنسيين؟ ثم أتذكر أنهم لم ينشغلوا بغيرنا في واترلو ،وما كانوا
ليركضوا إال خلف مصالح جديدة مع الملك المتوج .قلت هذا في نفسي وأنا أقترب من الصف الذي تشكل بانتظار خبز الصباح،
والمناداة التي بدأها الحراس ،ثم وضعوا السالسل في أرجلنا ،وفُتحت األبواب على إسبرطة اإلفريقية .الخروج من السجن الصغير
اتساع ا ،كان األطفال في انتظارنا ،ينظرون تجاهنا بعيون كبيرة ،يقتفون أثرنا كلما انعطفنا مع سقيفة وولجنا أخرى ،ولما ً إلى آخر أكثر
فر وا على إثره .العرب يخشون األتراك بصورة عجيبة ،إذ يضطهدونهم مثلما يفعلون مع العبيد حادا ُّ
ً لحقوا بنا أطلق الحارس زعيقًا
الذين يأسرونهم ،كان صف السجناء العرب في موازاتنا ،أسمع وليام من خلفي :هم لم يدفعوا ضرائبهم فقط ،العرب هنا ال يختلفون
عن العبيد إال في كونهم مسلمين مثل األتراك ،لذا هم ُمستعدون لخيانتهم .صمت وليام حين اقترب الحارس أكثر منا يبحث عن
اتساعا ،وأضاف وليام أنه شارع البحر ،لم أكن في حاجة لسماعه .إذ ً مصدر الصوت ،ثم ابتعد لما انعطفنا إلى شارع أكبر وأكثر
وزع المهام علينا ،بينما ساروا بصف األسرى العرب غربًا ،حيث مقلع ارتفعت أمامنا بوابة الميناء ،ووقفنا هناك ننتظر وكيل الحرج لي ُ ّ
الرخامَ .ألِ َف وليام إعالمنا بكل األشياء التي ستحدث ،بالرغم من أني تكهنت ببعضها .فُتحت البوابة حينها ،ورأينا ُضبَّاط البحرية
يسيرون تجاه ُس فنهم ،عماماتهم الضخمة كانت مثيرة للسخرية ،حتى تلك التي حملها وكيل الحرج وهو يقف أمامنا ،نظر إلينا نحن
الذين ُأسرنا حديث ًا ،وأشار إلى األمريكيين أن يمضوا إلى ورشة األشرعة .بعدما فكت قيودنا أمرنا بالمسير إلى حيث ترسو ُّ
السفن،
ضابطا أدركه،
ً فهم بضربنا ولكن
َّ وقف الحارس ي ُراقبنا ،ثم صاح بنا ولم نفهم أوامره ،وكرر نداءه علينا بينها وقفنا جاهلين سبب ثورته،
اقترب منه متسائل ًا ،وكل َّمني بفرنسية ركيكة ،لكنني فهمت معناها ،أراد منا إنزال الحمولة ،ثم رحل الضابط بعد صعودنا إلى المركب،
نعبئ ِق فاف الملح ،وننزل بها من هناك إلى رصيف الميناء ،ثم نخطو حتى نبلغ صناديق أعدت لها ،لم تكن ال ِقفاف ثقيلة ولكن
أدعي الضعف ،مثلما يفعل ير سقوطي حتى يتلقفني سوطه ،كانوا يعتقدون أنني َّ األرض الزلقة أسقطتني مرات عديدة ،والحارس ما إن َ
صعودا إلى
ً سوطه من وهربت ة ف
ّ الق حملت . األشرعة يطوون أو الحبال، يفكون الكثير ،يبحثون عن فرص في ورش أخرى ،حيث
المركب ،وعدت بينما جلس على صندوق ،كان الصيادون اآلخرون يسيرون في إثري ،تعثر أحدهم ،وانهمر الملح من قفته إلى ظهري
واشتعلت النار به ،حبست الصراخ في داخلي وأنا أصعد المركب ،وهناك انكمشت على نفسي ،وتكثف الصوت حتى حال إلى دموع
.حارقة طفرت من عيني ،وبثقل عدت إلى القمة ،ثم أعدت المسير حتى انتهى النهار
استقبلنا العام الجديد ،على مرأى األعالم اإلنجليزية ،سرنا ذلك الصباح في تؤدة ،وقد مر على مكوثنا بالسجن أكثر من شهر ،جربت
جزء ا من يومياتي ،صرت أتقن التصرف مع الحراس حين يرفعون أسواطهم في وجهي ،أرشوهم بقطع البوجو، ً الخوف حتى أضحى
ساعات تكفي جسدي الذي ضمر ،سرت عبر الرواق إلى الباحة، ِ استيقظنا ذلك اليوم قبل ساع صوت الكاهن ،صار نومي قليل ًا ،أربع
مد يده
حمديةَّ ،
الم ّ
فرأيت أحد الحراس األتراك في نهايتها ،غسل يديه ووجهه ورجليه ،ثم وضع أمامه فراشه ،وبدا كأنه يمارس صالته ُ
بكلمات ،وعاد يهمهم بصوت غير مفهوم ،وانحنى بعدها وعاد إلى وقوفه ،ثم شرع يالمس بوجهه األرض ،مرات ٍ إلى السماء ،ثم صاح
المحمدية
ّ مر ة يزاوج بين الهمهمة والصياح ،ثم قام ورفع الفراش ،وعاد إلى مجموعته ،بدا لي لوهلة أن الصالةكل ّ
متوالية ،وفي ّ
ينوب فيها واحد عن الجماعة ،إذ لم يكن الحراس ليصلوا معه ،وحتّى طريقة صالتهم كانت فيها رتابة وحركات متكررة كأنها تدريب
خصوص ا إذا ما تكررت في اليوم الواحد .لحظات حتى بلغني نداء الكاهن ،ينادي عبيده الكاثوليك المخلصين إلى ً على شيء ما،
الصالة الصباحية ،انكفات إلى الرواق أراقب الصفوف ،صاح الحراس على من تجمع في باحة السجن ،مشيت تجاههم ،ووقفنا مثلما
أحث عيني لتُراقب أولئك العرب ،كانوا مفاتيح على عوالم ُمبهمة ،وعالقات غير مبررة بينهم وبين ُّ اعتدنا في الصف الطويل،
.األتراك
في إسبرطة تتغير ُم عاملة العبيد كلما رست سفينة تطالب بهم ،بالتأكيد لم يكن األمر لألحسن ،بل كانت ضربات السياط تتضاعف
السفن المسيحية التي
أمرا من وكيل الحرج ،لم يشأ أن نرى ُّ ً مرة أخرى إلى البوابة ،كان ذلك
على أجسادهم ،أذكر أنهم عادوا بنا ّ
جاءت تُ حررنا ،قادنا الحراس في الطريق ،والشياط تلهبنا كي نسرع ،تعثرنا وسقط بعضنا لتتلقفه الركالت ،ولكن األشياء التي أثارت
استغرابي ،لماذا هؤالء اإلنجليز هم السباقون إلى االدعاء؟ ألم يكن أولى لسفننا نحن الفرنسيين أن ترسو في ميناء الجزائر تطالب
بتحريرنا؟ ما الذي اعتقده أولئك اإلنجليز حين تواطأوا علي في أوروبا وأورثوني هزائم واترلو؟! ثم أفاجأ بهم هنا تحريري من عبودية
!األتراك
منحدرا ينتهي بجبل ،وتراءى لنا الغبار من هناك ،أبيض منتشرا في مساحة ً بلغنا باب المدينة من الجهة الغربية ،تجاوزناه ،ونزلنا
قطعا كبيرة ذُهلت كيف احتملوا ثقلها، ً شاسعة ،وجدنا العرب هناك ،البعض يحمل معاول في يده ،ويضرب الصخور ،وآخرون يحملون
ويسيرون بها مسافة غير قصيرة ،ويص ّفونها هناكُ ،و ِ ّزعنا على المجموعات ،رأيت الذين كانوا معي يعجزون عن حملها فتُلهب السياط
ظهورهم ،ويحيط بهم الحراس يرغمونهم على ذلك ولكن ّها أثقل من أن تحتملها أجسادهم ،وحين عدت بوجهي رفع العربيان الصخرة
كتفي ،انحنيت من ثقلها ،ثم شعرت بعظامي تتداخل مع بعضها ،ولم يسمحا لي بأن أتحرر منها ،وبصعوبة َخ َطوت ّ واستقرا بها بين
َّ
كثيرا،
ً تبتعد لم هاّ ن لك الصخرة رمي أردت المواصلة، أستطع لم ثم تلك، حالتي على رأوني حين العربيان تراجع ، خطوات
ٍ ثالث
أم ا حين أفقت وجدت األمريكي قربي ،وكما قيل لي بعدها إن الصخرة قد وسقطت أمامي ،ولم أنتبه أنني سقطت إلى جانبهاّ ،
وه َرسته
.وقَعت على أصبعي َ َ
أتعرف يا ديبون كم هو حقير هذا العالم الذي تظل تدافع عنه ،معارك كثيرة ُخضتها مع نابليون ،كسبنا ُجلَّها وخسرنا بعضها ،ولم أفقد
ذراعا في الحرب تيقن أنني لن أحزن ً برر ،لو فقدت عينًا أوجزءا منه دونما ُم ّ
ً جزءا من جسدي .واآلن صخرة في إفريقية تبتر ً
ستلق في المستشفى اليسوعي الذي يشرف عليه اإلسبان؟ فخورا ،ولكن قل لي أي مجد هذا الذي جنيته وأنا ُم ٍ
ً حينها بل سأكون
لف قدمي ،وبقي صديقي األمريكي إلى جانبي ،يعيد لي يقف إلى جانبي وليام ،ويقابلني الطبيب اإلسباني ،الذي غادر بعد أن أعاد ّ َ
.تفاصيل الحادث مثلما ُروي له
ضطرا
قد تلومني يا ديبون إنني لم أذكر هذه الحكاية من قبل ،فلم َأر جدواها .مقدار الحجج يكون مؤاتيًا لمقدار أسئلتك ،ولست ُم ً
أن أكشف لك عن كل تشوه في جسدي حتى تقتنع ،أردت فقط أن نتفق ،ثم اضطررت إلى رواية جزء من سيرتي حتى تقتنع،
.ولكنك ظللت أسير أوهامك
كان اإلنجليز سيكسبون مزية واحدة إن هم حررونا من ربوة القراصنة .ولكن صديقي األمريكي قال إنهم رحلوا .ولم يعد هناك أي
مرة أخرى .زارنا القنصل السويدي ،حمل
شيء يلوح في األفق .بعد أن مر على مكوني أيام بالمستشفى ،تم اقتيادي إلى السجن ّ
وخص ني دونهم بزجاجة من النبيذ اشتممت رائحتها من بعيد ،رغم العفونة التي تتمدد في
َّ وحذاء جديدين ،وللبقية كذلك.
ً لباسا
ً إلي
َّ
إلي ،ثم وضعتها بيني وبين الذين قاسموني الغرفة .احتميت بالكأس التي شربتها ،وما زودنا به صاحب
َّ السجن ،احتضنتها حين مدها
.الحانة احتفال ًا بعودتي جعل ليلتي مختلفة ،كأنما ُس ّربت من أيام االنتصارات ،قبل أن نكتشف شيًئا اسمه هزيمة واترلو
عدت إلى السجن بعد أسبوع من الغياب ،أتأمل جدرانه كل يوم ،ما إن ُأفق حتى ينتابني الدوار ويُغمى علي .يحاول الحراس
تحريكي بأرجلهم ،ثم تمتد أيديهم فتسحب جسدي ،وُأفيق دون قدرة على الحراك ،وفي اليوم األخير حضر الضابط إلى العنبر ،وأمرهم
بوضعي مع العاجزين عن األعمال الشاقة .ومضى شهر قضيته بين المعتوهين والشيوخ ،وأولئك الذين حملوا تشوهات في أجسادهم.
الس فن بعد تفكيكها ،هناك رثيت المركب الذي قدمنا به ،وأنا أتهجى الحروف المتبقية سحاب ُة النهار ن َ ُّ
فك بها الحبال ،ونرتّب ألواح ُّ
عبيدا حملوا األلواح إلى المواقد ،سيُحرق المركب
ً الحراس نادي ترتيبها، من انتهيت وحين مفككة، كانت اللوح، من اسمه على
الذي جال المتوسط سنوات ،يحمل الرنكة إلى سات ،وقد كان ملجًأ لي بعد الهزيمة .بخيبة عدت إلى الحبال أحلها وأحدق تجاه
يوما ما .ثم سخرت من نفسي ،لطالما كان قُنصلهم في المدينة لكنه لم يفكر في زيارتنا .السويديون ً البحر ،ربما قد يأتي الفرنسيون
كانوا أشرف منا ،وقنصلهم أكثر شجاعة من قنصلنا ،لم نفتقده ،عامل الحانة يُذك ّرنا كل ليلة بصنيعه ،كؤوس النبيذ تُعيد الحياة إلينا
وشك أن نفقدها نهاية كل يوم .حينها ن ُ ِ
كانت لحظات الوعي تُفيقني بين الحين واآلخر ،مثل رؤيا ُم رعبة ،وأتساءل كأنني أكتشف الحقيقة للمرة األولى .كافيار ما الذي
حدق إلى وجوه البائسين حولي ،ثم أتأمل الثياب الرثَّة التي على جلدي ،يداي لم تعودا مثل السابق ،رجالي أضحتا تفعله هنا؟ ُأ ِ ّ
مقوستين ،صدري عظامه ناتئة ،وجهي الذي أنكرته حينما رأيته على صفحة الماء ،وصوتي كأنه قادم من بئر عميقة ،ما الذي تفعله
في هذا العالم يا كافيار؟ هل أنا في كابوس مرعب ،قد أفيق منه في لحظة ما؟ لم أكن ألصدق نفسي وُأكذب الوجوه التي كانت
المقبل نحوي ،ولكنّه كان حينها إلى
حد ُق بي ،محاولة أن تفهم سبب وقوفي عند الصخور ،مثلما كانوا يريدون تحذيري من الحارس ُ تُ ِ ّ
أرضا ،ثم عدت إلى مكاني أفك الحبل الذي ال يريد أن ينتهي ً .جانبي ،وبركلة منه سقطت
كبيرا ،ولم تبق هناك أمكنة نستظل تحتها .وابتدأ اليوم بصباح ً جهدا
ً سير خطوات قليلة يتطلب ُ في تلك األيام كنا نَهبًا لشمس أوت،
مختلف ،أكثر لطفً ا ،وسرنا مثلما اعتدنا تحت نظرات الحراس .عبرنا الشوارع حتى كنا عند بوابة الميناء ،ولجناها بعد أوامر وكيل
الحرج ،وقد سمعنا في اليوم الذي سبقه دوي المدافع ،تكهنا وصول وار جدد ،ولكن األمريكيين كانوا واثقين أنه اللورد إكسموث.
كانت أشغال الميناء تسير على عادتها ،وكأنه لم يكن هناك أسطول على مشارف المدينة ،وقبل منتصف النهار بقليل تراءت لنا
بارجة عظيمة تنفصل عن األسطول وتتقدم تجاه الميناء ،ترفع علم المفاوضة ولكنّها لم تبلغ الرصيف .بل أرسلت تجاهه مركبًا،
السفن ،إذنعلما آخر يرفرف على بقية ُّ ً وبقيت مكانها ساعة ثم التحق بها بقية األسطول وكأنه يستعد للهجوم .من هناك رأيت
أيض ا قرروا االنضمام لهذه الحملة ،قالها لي صديقي األمريكي وشككت أن يتجرؤوا على فعلها .لبثوا حتى جاوزوا الزوال ً الهولنديون
بساعتين ،وإذ ذلك تقدمت البارجة وتبعتها سفينتان ،وتركت بينها وبين األسطول مسافة ،وكلما تقدمت كانوا في إثرها .ومن الجهة
عمت الفوضى الميناء ،ولم ننتبه إال على ضربات َّ السفن األولى ،وفي هذه اللحظة الثانية رأينا بارجة أخرى تدنو أكثر في موازاة ُّ
الحراس يخرجوننا منه ،كانوا يهرعون في كل مكان .ثم أقبل على باب الميناء جنود آخرون ،خلَّفوا فناجينهم وغاليينهم وأسرعوا
نحو المدافع .وحين كنا أمام بوابة الميناء سمعنا دوي ًا من المدافع التي تحصن المدينة .قدرت أنها الثالثة عندما انفجر الدرب
تمر إال نصف ساعة حتى توقفت مدفعية الميناء ،ورأيت بعض جنودها يركضون َّ السفن اإلنجليزية ،ولم أمامنا ،وانهمرت القذائف من ُّ
ومرات أخرى نلج سقائف لم نعبرها من قبل ،غير أنها تُعيدنا إلى ّ السجن طريق لنا تبدو اً ن أحيا في إثرنا ،بينما ركضنا دون وجهة،
درب السجن ،القذائف تُتساقط من ورائنا وأمامنا ،وبدا أننا لن ننجو من هؤالء اإلنجليز ،القذائف نفسها التي ُرمينا بها في واترلو
وأبادت أفضل جنودنا .انفجرت قذيفة غير بعيدة عني ،أصابت الجدار فانهد فوق حارسنا ،سود ولم ألتفت إليه ،يستحق الموت
هكذا .بلغنا البوابة المشرعة ،ولم ندر أي فائدة قد نجنيها من بقائنا هناك ،سهل ًا أسواره فوقنا ،ومع هذا ولجناه ،وتناهت إلينا أصوات
القذائف تساقط على المدينة .كنا ن َ ِق ف ثم نقعد ونحاول رؤيتها من باحة السجن ،لكننا نخشى أن تسقط فوقنا ،ومرت الساعة األولى
حادا تبعه انفجار ،حنينا رؤوسنا وتمددنا على األرض ،وحين زال الغبار ً والثانية ومازالت المدافع ترمي من الجهتين .ثم سمعنا صوتًا
تتحول إلى شظايا .قام بعض السجناء ّ البوابة ورأينا انفجار، تاله آخر صوت
ٌ رأينا حائط السجن الشمالي قد انهار نصفه ،ثم تعالى
غرفنا ،دامت همهمة الصالة والظالم يهوي على المدينة فنرى وشك ّلوا مجموعة تقدمهم الكاهن وشرعوا يُصلُّون كي تبتعد القذائف عن ُ
أما بعد ساعتين صار يُسمع بين نت أنها التاسعة ،حين تضاءل الدويّ ، ضوء القذائف في السماء ،ثم تحدث دويًا تهت ّز له األرض َ .خ ّ َم ُ
ّلت وصديقي األمريكي إلى بقايا السور وتسل ّقناه ،ومن هناك رأيت جبل ًا من النار فترات متباعدة ،ثم توقف في منتصف الليل .تسل ُ
.يرتفع في الميناء ،وتيقنت من حينها أن أسطول اإلسبرطيين قد احترق كله
السفن،
مع الفجر وصل مزي ٌد من الحراس ،وضعوا القيود في أيدينا فقط ،وساروا بنا إلى الميناء ،مازالت النار ُمشتعلة في بعض ُّ
رماد ا ،وحين رفعت رأسي تجاه أعالي المدينة رأيت الدخان يصعد منها ،جزء كبير من المدينة قد تحطم .اختبأ ً وأضحت البقية كلها
أن الفرنسيين هم من فعل ذلك ،وهم الناس في بيوتهم ،ولم يعد هناك سوى الجنود يجرون مثل مجانين بين الشوارع .تمنيت لو ّ
أعوام ا طويلة .كان وليام يقف إلى جانبي عندما قال :سيفاوضون اآلن .وأمر ً من حمل هذا الشرف الذي سيتباهى به اإلنجليز
األتراك جنودهم بجلب األسرى إلى الميناء .ساعة مكثناها هناك ،قبل رحيلنا أعطوا كلًّا منا ب ّزتين ،وقطعة من الجبن ،حملناها وسرنا
تحت عيون الحراس شرقًا ،ومضينا على تلك الحال ساعتين حتى أشرفنا على الخليج ،وعبرت إليه قافلة األسرى في طي ُمسرعة.
كان الكل ينتظر تلك اللحظة التي يضع فيها قدميه على سطح السفينة اإلنجليزية أو الهولندية .وانتظرنا إلى أن تراءت في األفق
:السفينتان ،اقتربنا أكثر من الخليج وأرسلت قواربها ،وشرعت في تحميل األسرى إليها ،ووقف القنصل إلى جانبي ثم قال
.قد ُألغي استرقاق المسيحيين يا سيد كافيار .وها أنتم اليوم أحرار -
تعه د الباشا بتعويض اإلنجليز عن كل خساراتهم ،ويعتذر عما بدر منه بصفة رسمية
ّ .وقد
بسخريةٍ ،وأجبته
:ابتَسمت ُ
.أي ذكاء هذا الذي يتقد في أذهان هؤالء اإلنجليز .هذه الفرصة ال يمكن تعويضهاَ ،ف َق َد األتراك أسطولهم -
.فعل ًا ،إذا لم يفعلوا ذلك سيعود األتراك إلى سيرتهم القديمة ،فليست لديهم خيارات أخرى -
ِت في العراء - .ولكن ما العمل اآلن؟؟ أُأه َزم مرة ثانية وأحمل هذا ّ َ
الدين لإلنجليز .ال لن أعود يا سيدي القنصل ولو ب ُّ
مضطر ا إلى ذلك يا كافيار ،وإذا أردت فإنك رعية سويدي ،منذ التقيتك لم أصدق أنك كنت مجرد صياد رنكة -
ً .لست
ال يمكن يا ديبون أن ي ُقال كل شيء دفعة واحدة وبتفاصيل أدق ،ألنك لم تخبر إسبرطة كفاية ،أو لعل الكتب أفسدتك .الكتب
أفكارا ال وجود لها عن الحياة ،تَخلق منهم كائنات ال تُحسن إال الكالم ،وأخشى أن تكون من بينهم ،تقرأ
ً أحيانًا تزرع في الناس
الم ور ثم تأتي لتلقي المحاضرات ،أو تتصفح اإلنجيل ثم تهذي أمامي بما فهمته .هذه المدينة التي يسمونها
عن الشرق وعن ُ
.الجزائر ،لم تكن إال إسبرطة
ابن ميّار
إلي ُجملة الضابط ،بينما كنت عند حافة السفينة أراقب البحر ،لم ألتفت لكنه دنا أكثر مني ،وقال
َّ :تناهت
للدوق روفيغو أو لرجل يتبعه .قلت في نفسي :ولكنّه قد رحل .ثم عدت وهمست :لم التفت إليه فجأة ،إذ لم يكن الخطاب إال ُّ ُّ
الضابط ،بدا لي مألوفًا ،لحظات من االستغراق أستعيده بها، َ واحدا .بل كان فكرة يشترك فيها الكثير .تأملت وجه ً الدوق رجل ًا
يكن ُّ
مر ت ،أعادني وجهه إلى األيام األولى من لقائي بورمون ،كان ال يفارقه في أيامه األولى ،وتذكرت عينيه رغم السنوات الثالث التي ّ
وسك ّان المدينة ،وافق
ُ الباشا مطالب أمامه وبسطنا الحملة، قائد إلى الخزناجي مع سرنا يوم وميمون، اللتين كانتا تترصدانني ،أنا
حدق بي مستغربًا سهومي ،ثم ُ ّ ي يزال ال كان .المدينة في عثمان بني من أحد إبقاء يرد لم توقيعه، يؤجل عليها ،وكان الصابط
:أردف
!أستغرب يا ابن ميّار أنك ما زلت هنا ،بعد رحيل كل الذين تواليهم عن المدينة ،أتصدق فعل ًا أنهم عائدون؟ -
وندم ا على قتله اآلغا ،ولم يسعفني الزمان وال المكان ،كنت أعدت له سيرة المقتول ،وكيف
ً صمت الباشا يومها ،كان أكثر حزنًا
.غرروا به حتى ِسيق إلى نفيه بمدينة البليدة ،ثم ُخنق ليل ًا بها
يظل أهل المحروسة يرددون في يأس :لو كان اآلغا يحيى هنا ،لما حدث ما حدث .أتذكر كلماتهم اآلن ،وأنا ُأخ ِل ّف المحروسة
السفن
ورائي ،وأعيد كالمهم اآلن ،وكأنني كنت مشارك ًا في نكبته ،نعم هذا ما حدث .كانت األخبار تأتينا :قد سيروا مئات ُّ
فتح عظيم .واآلغا إبراهيم يرتشف ٍ ولي العهد يطوف بصفوفهم ،يخطب فيهم أنهم مقبلون على
ُّ تعج بجنودهم...ّ تجاهنا ...طولون
قهوته في بيته ،ويحشو غليونه بالتبغ كلما خبا .وظل يردد :إنهم يا ابن ميّار لن يجرؤوا على النزول إلى األرض ،وإن نزلوا
سننتهي منهم في يومين أو ثالثة .وقبلها زار المحروسة رسول الباب العالي ،ومن ثم رسول الباشا محمد علي ،محاولين اإلصالح،
رافض ا عودة القنصل الذي أهانه في مجلسه .كنت هناك يومها ،اكتظ المجلس بالذين يهنئون الباشا بالعيد ،قناصلة
ً ولكن الباشا ظل
توزَعوا في البهو ،ينتظرون أدوارهم ،ثم أقبل القنصل الفرنسي دوفال ،تقدم بخطوات وهنأ الباشا ،فرد التهنئة ثم سأله
ّ :عديدون
لماذا تأخر ملككم في إيفاء الديون ،ولماذا ال يجيب عن رسائلي العديدة؟ -
لكن الحراس
ّ بسل سيفه
ِّ ولم ينتبه الباشا إلى نفسه إال وهو يقف ،ومن ثم يضرب القنصل بالمروحة التي كانت بيده ،ف ََه ّمَ القُنصل
قرر الباشا قتله ،ولكنّه اكتفى بطرده من مجلسه ،خرج القُنصل غاضبًا ،ولبث في إقامته ،ولم يمض إال شهر واحد حتى قبضوا عليهَ ّ .
سفن فرنسية ،رست في ميناء المحروسة ،والتحق بها القُنصل في اليوم الموالي ،ومن هناك وصلت الرسالة إلى الباشا ٍ :رأينا أربع
عليكم بتجديد عهد األمان لقنصلنا ،وأرسلوا أعيان المدينة ليعتذروا لل ُقنصل المرابط بالسفينة ،وإذا لم يتحقق هذا فليست لكم منا إال«
».العداوة
».لم يجبره أحد على مغادرة المدينة ،وإن شاء فليعد إليها ،أو يفعل ما بدا له«
السفن الميناء آخذة القنصل معها
.ولم يمض إال وقت قصير بعد تسلمهم الرسالة ،حتى غادرت ُّ
شخصا يُغيِّر لونه حسب ما تقتضيهً الكل كان يعرف ال ُقنصل ،حتى من الفرنسيين ،يُجمعون على وقاحته وسوء طبعه ،ورآه الباشا
الخاص ة .ومنذ أضحى حسين باشا على الجزائر انشغل بقضية ديون الفرنسيين .في البدء كانت بين اليهوديَّيْن والفرنسيين، ّ مصالحه
جزء ا من الديون كان لخزينة المدينة لجأ اليهوديان إليه ليستخلصها لهما ،ثم فوجئ بأنه ليس وحده الذي يطالبهما ،بل إن ً وألن
تجار ا كثيرين من مرسيليا وباريس كانوا يطالبون هم كذلك بديونهم .ثم فجأة تأتيه أخبار اقتصاص الحكومة الفرنسية أموال تُجارها من ً
يظن أنه بدفاعه عنهما يدافع عن حق ُّ أموال اليهوديَّيْن ،ثم سلمتهم باقي المال ،وأشيع أن القُنصل هو من توسط لهم .كان الباشا
أن يراسل
فرا إلى باريس ،وأضحيا مواطنين فرنسيين .ولم يبق للباشا حينها إال ّ أما حين استفاق فقد كان اليهوديان قد ّ َ
المحروسةّ .
ساخطا على ال ُقنصل حتى أقبل العيد ،وحدث ما حدث ً .الملك ،الذي لم يجبه ،وبقي على حاله
:في اليوم الذي تال رحيل السفينة ،أقبل على ديوان الباشا أهل المدينة من الفرنسيين ،فخطب فيهم
».إذا أردتم الرحيل فلن يمنعكم أحد ،وإن بقيتم فلن يمسك ُم سوء ،والمحروسة كلها لكم«
واحدا وبضعة أيام ،إذ قدمت سفينة وعادت بهم إلى فرنسا
ً شهرا
ً .ولكنهم لم يلبثوا في المحروسة إال
المور،
استيقظت وصعدت إلى سطح السفينة ،كان البحر ساكن ًا ،وعيون المسافرين تحدق تجاه الرجل الغريب ،الذي يعتمل لباس ُ
ويتجول مثلهم على سطح السفينة كأنه ال يراهم .وصدقوا لو ظنّوا أني ال أراهم ،كانت الصور تترادف فتعيد وجه أبي ،عند باب ّ
ديوان السلطان المعظم في إسطنبول ،أصغيت إلى حواره بالعثمانية مع شاوش الباب ،فهمت بعض كلماته .ثم تجاوز أبي الباب،
يتسن لي رؤيةَّ مرة أخرى ،ولم ُأ
لكن الباب غلق ساع ًة من ال ّزمن ،ثم فُتح ّ ّ ومن خصاصه رأيته هناك ،رغبت لو تكتمل الرؤية،
قدر لهما مثلي لقاء جالل ّة
الرواق نفسه ،يُرافقنا تاجران من المحروسة ،ولكنّها اجتمعا إلى الوزير ،ولم ي ُ ّ َ وعدنا عبر ّ السلطانُ .
ّ
مكتظ بوجو ٍه
ٌ الص ور ثم تتراءى ،أبي إلى جانب الباشا في مجلسه ،دفتره أمامه ،يقرأ منه أسماء غريبة ،والمجلس السلطان .تغيب ّ ّ
تباع ا ،ثم يرطنون بكلمات ال أفهمها ،ويقدمون هداياهم إليه ثم يرحلون .واليوم ً ليست من المحروسة ،يقتربون من الباشا ،يقبلون يده
ردد زوجتي :إنهم لن يعيدوا شيًئا، المور؟ تُ ّ
أرى هذه الوجوه في المحروسة ،تستعيد من أهلها كل ما قدمته للباشا ،فما ذنب هؤالء ُ
قدرك؟ صحيح يا الل ّة سعدية ما تقولين ،ربما قسنطينة آمن ٌة والمحروسة لم تعد تسعنا وإياهمِ ،ل َم ال نرحل إلى قسنطينة ،يُجِ لُّك بَايُها وي ُ ّ
هم حينها إلى أين ،أريد البقاء في المحروسة فقط .لم اليوم ،ولكن إلى حين فقط ،مشكلتي كلها في هذا المكان ،وإن غادرته فال ُ ُّ
ي
السل ّاوي ليختلف عني ،لكنه أرادها مختلفة ،أتعجب منه حينها يكرر كلمات القناصلة :يا ابن ميّار عليهم التوقف عن اعتراض يكن ّ
مر ت ثالثة قرون ،ولم ترجع األندلس مثلما وعدونا .لماذا ال ينشغلون بنا نحن أهل المحروسة ،أال تلتفت حولك، ّ . المسيحيين سفن
الخوف هو ما يُرغم الن ّاس على الهتاف لهم ،ال تنجح أمة حياتها في سلب حياة اآلخرين .جل سكان المحروسة يعيشون عالة
كبيرا للمسيحيين ،وحتّى ألهلها، ً الضرائب ،فبارت تجارتهم .بنو عثمان حولوا هذه المدينة سجنًا على مال األوقاف ،والتُجار أرهقتهم ّ َ
واليوم ال أرى مصانع غير التي تصنع المدافع والبارود ،وال مستشفى غير الذي بناه اإلسبان ألسرى المسيحيين .وال يوجد في
المحروسة طبيب .أستغرب كيف ال تنتبه وأنت الذي لم تترك مدينة أوروبية إال زرتها ،وإسطنبول قد اعتدت التردد عليها كل حين،
!لم ال تريد أن تفيق يا صديقي؟
السل ّاوي بجرأته ،وطريقة تأويله للحوادث .ال ألومه ،وقد كان ال يزال في بدايته ،كل ما في قلبه يتحول إلى حركات بيديه،
يُرعبني ّ
الص غير ،أن للتاريخ سطوة في إعادة الحوادث .لم يكن إال عجلة تدور، السياط ،ولم يدر بعقله ّ
وبذاءات على لسانه ،تلسع أكثر من ّ
والسل ّاوي يخاطبني خارجه وكأنه
ّ الس ير فيها ،وتبجيل من يديرها مؤمنين بكل ما يفعله بنا .لطالما كان تاريخنا هكذا،
وليس لنا إال ّ
عى حركتها الستمع إليه الجميع ،ولكانت أحالمه مفهومة لهم
.يرى العجلة وال يعنيه أنه داخلها .لو َو َ
السلطان تحمل أخطاء عبيده .حمل الباشا ِوزر وكيلتكه ن الحاضرون ذلك اليوم بما سيحدث للمحروسة ،مثلما أدركوا أنه على ّ َّ
الحرج ،ورئيس المدفعية .وجزم الجميع أنه قد رماها ما إن حملته الفرقاطة جان دارك منفيًا ،وأخطؤوا في حق الباشا ،فقد ظلت
حلم ا يراوده حتى بعد نفيه إلى نابولي .التقيته بعدها بسنة ،وتتابعت رسائله يتمنى فيها العودة إلى المحروسة ،مثلما
ً المحروسة
.ظلَّت خيبته من أناس كثيرين من حوله .بالتأكيد كان إبراهيم آغا من بينهمَ
جنودا ،ولكن الوقت لم يسعهم ،فلم تمض إال أيام ً قبل شهر من نزول الفرنسيين ،كان الباشا قد أرسل إلى العماالت الثّالث يطلب
الضابط المشرف على قلعة طوري شيكا ،وجثا أمام ِ ّ
الديوان ،وقال :قد بدأوا اإلنزال ّ .قليلة حتى اقتحم المجلس
انتشر الخبر بين أهالي المحروسة .وبدا أنهم يرتقبونه ،اجتمعوا قبل أيام ،وقسموا أنفسهم إلى كتائب صغيرة .رأيتهم يجتمعون عند
ألودعه ،ولكنّه اختفى بين النّاس ،وما إن خطوت مساف ًة حتى
َّ السل ّاوي بينهم ،أردت الل ّحاق بهالباب الغربي للمدينة ،وبدا لي ّ
السور ويخطب في النّاس المتجمهرين ،ويحصهم على تنظيم أنفسهم ،ويأمر المقربين ّ اً عتليمُ رأيته التفت فقد
ُ أما حين
سمعت صراخهّ ،
الصفوف تنزل المنحدر،
الشباب يستجيبون ألوامره ،ثم قفز إلى األسفل بينهم ،وسارت ّ الصفوف ،واختيار من يتقدمها ،كان ّ منه بتعديل ّ
الم قبل نحوي ،ثم عبر الموكب أمامي ،كانت البغايا يسرن في عجلة ،يحملن معهن هممت بالرحيل ،لكنني فوجئت بجمع النّساء ُ ُ
مشدوها أراقبهن وهن يعبرن الباب ،ومن ثم وهن
ً صرر ا وقطع القماش ،مررن قربي ،وال أثر للزينة والروائح التي اعتدنها .وقفت ً
السل ّاوي .قد
الر جال ،وقلت في نفسي :البغايا اليوم يحرصن على شرف المحروسة؟ لك أن تفخر اآلن يا صديقي ّ ينحدرن في أثر ّ
جزء ا من أحالمك .ربما سيرحل األتراك ،ولكن عليك أن تتساءل ،وأنت ترى قافلة البغايا في أثرك :إن رحل ً حقق الفرنسيون
األتراك فمن سيحل محلهم؟
.باي التيطري لم يرسل إال ألف جندي ،ولم يصل البقية بعد -
لم أدر أي شيء أصابني ،كانت أفواههم تردد الكلمات وكأنهم مقتنعون بأن الفرنسيين لن يتقدموا .أو كأنهم لم يروا أهالي المحروسة
وحتّى بغاياها ينحدرون تجاه الغرب ،كان الباشا مرتخيًا على كرسيه ،صامتًا يراقب الوجوه في خيبة .تفرق الجمع من حولنا ،وبقيت
الديوان ،تغوران في محجريها ثم ترحالن في الفضاء من حوله،تسم ًرا أمام الباشا ،أتطلع إليه .كانت عيناه تسوحان في غرفة ِ ّ
ُم ّ
الرسول بيني وبينهم
ّ ستكون غد، يوم من المعسكر في تكون أن ارّ مي بن يا أريدك : شفتاه تحركت ثم تجاهي، .واستقرتا
الرخاء -
أيضا ،يبررون ميولهم إلى الل ّذة وعيشة ّ
ً للمور فالسفة
ُ .لم أعلم أن
الصور نفسها تتجدد ،بعد األسبوع األول وصل باي قسنطينة إلى المعسكر،الضابط إلى الغرفة ،وشرعت أقلب األوراقّ ،
فررت من وجه ّ
لكن الفرسان كانوا يتقدمون إلى سيدي فرج ،بعد أن احتل الفرنسيون قلعتها ،وأقام قائدها بها مكتبه.
ّ لم يُغيّر مكانه في سطاوالي،
ومع انتهائهم من تحصيناتهم ،كان الفرسان يتقدمون فيناوشونهم ،ثم يفرون ،حتى الل ّيلة التي سبقت الهزيمة .أذكر آخر عشاء جمعني
باآلغا إبراهيم وباي قسنطينة ،يتفق الجميع حول الباي أحمد الذي جرب الحروب طويل ًا ،لذا يحدقون تجاهه كلها تكلمنا عن المعركة
ومقنعة للجميع ،قال البايومقتضبةُ ،
خطته ،ولكن كلماته كانت موجزة ُ
ّ :المقبلة .انتظروا استرساله في
قديما
ً كثيرا ،ولكن ّها لم ترق إلبراهيم آغا الذي أجابه من توه ،وكان بينهما عداء
ً :راقتني كلمات الباي
الطريقة إال أحمق أو مجنون .افترق الجميع على أثر كلمات اآلغا، ذهل الحاضرون ،لم يميزوا جِ َّده من مزاحه .ال يرى األمور بتلك ّ
اقتربت من
ُ وغادرتهم إلى خيام المعسكر ،كان الجنود في حالة يُرثى لها ،بدا طعامهم سيًئا ،والبنادق التي حملوها كانت قديمة،
:أحدهم ،كان يقف إلى جوار خيمة صغيرة وسألته
.ال لم يصلنا أي شيء ،حتى رواتبنا أجلت إلى ما بعد المعركة -
الشحيح -
الطعام ّ
الع ّزَل بنادق ،والذين معهم بنادق سلموهم عشرة خراطيش فقط ،عدا ّ
.إنهم ال يريدون تسليم ُ
.ال يهمني الباشا ،وهؤالء مثلي لم يغادروا المحروسة من أجل أحد من األتراك -
لم أنتظر حتى أستشير اآلغا ،بل امتطيت فرسي وأسرعت تجاه المدينة ،وكلما تقدمت بي أكثر أرى بقايا المناشير من حولي،
الس كان تسليم المدينة ،كي يحافظوا على أموالهم وأنفسهم ،وما إن بلغت أسوارها حتى رأيت
فأتوقف وأطالعها مليًّا ،يعرضون على ّ
إلي دوي المدافع فأدركت أنهم قد بدأوا حربهم على المدينة من البحر ،وسيشرعون في زحفهم من البر، َّ الدخان من هناك ،وتناهى
ّ
الشرقي للمدينة .حتى وأنا أمام الباشا
تجرها الخيول ،تسير تجاه الباب ّ
ُّ وفي مسيري بين شوارع المحروسة ،رأيت عربات أخرى
الديوان ،تشجعت وقلت :عجزت عن الكالم .وقفت أمامه ،لكنه كان غائبًا عني ،وعن الحاضرين من الذين كانوا في ِ ّ
إلي الحضور وكأنهم يلومونني على كلماتي في حضرة الباشا ،بيد أنه الوحيد الذي لم ينظر تجاهي ،بل وقف ،وجاست عيناه
َّ التفت
.المجلس ،ثم غادرنا إلى جناحه
.ـ لقد ُه زمنا في سطاوالي وأخذوا المعسكر ،وتشتت الجنود عبر الجبال ،وآخرون تراجعوا إلى المدينة
:سألته
الديوان ،ورك ََضت فرسي حتى نظرت إلى الباشا ،وفي عينيه قرأت طلبه أن أسير إلى اآلغا إبراهيم ليعود فيجمع شتاتهم .غادرت ِ ّ
بيت
ٍ أشرفت على المعسكر ،ورأيتهم هناك من أعلى التل ،وحدست أن األغا قد سار شرقًا ،وعبرت تالل ًا أخرى حتى عثرت على ُ
ريفي لتاجر من المحروسة ،وحين وصلت إليه رأيت بعض الجنود يقفون عند بابه ،ولما دخلت البيت وجدت اآلغا منزويًا في إحدى
مرة أخرى .وبعد ساعة كان اآلغا أحض إبراهيم على العودة ليجمع الجيش ّ َُّ يائسا وخائفًا من مواجهة الباشا .ووجدتني
ً غرفه ،كان
عما تب ّق َى من الجيش المتناثر عبر ال ِتّالل
َّ يبحثون جنوده رفقة نزل المحروسة، باب بلوغ قبل افترقنا ثم جانبي، إلى .يسير
كنت مثل ال َغريق بين األوراق والعرائض التي بُسطت أمامي ،حين ُد ّ َق باب غرفتي ،وتناهى إلى صوت البحار يعلمني بوصولنا إلى
السفينة ،مستقبل ًا بصدري نسيم البحر ،إنها مرسيليا ،ولكن دون
لملمت أوراقي ثم خبأتها في المحفظة ،ونزلت من ّ
ُ ميناء مرسيليا.
ديبون .لو كان هنا ،لكانت للعرائض التي سأسلمها للملك أو وزير الحربية حياة أخرى على يديه ،ولكن البحر اآلن يحجبه مثل ًا
الرصيف ،وطلبت أن يقلني إلى الفندق .يحجب المحروسة عني ،ناديت على أول عربةٍ رأيتها على ّ
السل ّاوي
حمة ّ
ّ
بقوة ،كلما ضرب ممتدا أمامي ،وطوري شيكا خلفي ،ال أدري أي شيء يمكنني اآلن عمله ،رجالي مقيَّدتان .وقلبي يهتّز ّ ً كان البحر
خمنا من البداية أنها ستكون َّ أياما ترسو هناك،
ً ت َ ّ ل وظ سفنهم، ورست تجاوزوها، بل وا، يرتد
ُ ّ لم الجنود ولكن ثانية، ليرتد
َ ّ خر الصالموج ّ
الطعام والذخيرة ،أمعقول
الس فن تفغر أفواهها تجاهنا .بينما كان الباشا وآغاه يمنعان عنا ّ عشرة أو عشرين ،ثم ذُهلنا ،كانت مئات ُّ
الشاطئ ،وترسل جيش ا مثل ذلك ببطن فارغ ،وعشر طلقات في جيبه .في سيدي فرج ،كانت البوارج تقترب من ّ ً أن يواجه الجندي
جنود ا ،عيونهم كلها تنظر تجاه طوري شيكا اليتيمة إال من مدافع قليلة ،تضرب بين الحين واآلخر ً يحمل قارب كل مئات القوارب،
ردد ابن ميّار :وكيل الحرج تآمر مع المدفعي لضرب ّ خطأ، يكن لم . البروفانس رمت عندما أصابت هاّ ن ولك مرماها، صيب وال تُ
ِّ
أصدق ما ودعوا الباشا في الميناء ،وقد أكون مخطًئا ،ولكنني على األقل لم الساذجون الذين ّ َ ّ ربما الكالم؟ هذا ق يصد
ّ من السفينة.ّ
دائما األتراك ،حتى في سطاوالي ،كنا أكثر من ً هم هكذا . حوله من الذين بكل يستهزئ كان بذلك، لهم أوعز من الباشا حدث،
يدخنون غاليينهم ،ال يسير اليولداش إلى حرب إال حينما يرافقهم ِّ جوعا ،كانوا ً نتضور
َّ جنود اإلنكشارية ،بل ضعف عددهم ،وبينما كنا
البُ ُّن والتَّبغ .رأيت الجمال بحمولتها تنحدر بتؤدة نحو المعسكر ،خيَّموا قبلنا ،وهاجمنا قبلهم في سيدي فرج ،كنا في ثالثمئة فارس
السهل الذي احتلوه ،تفصلنا مسافة ال يستهان بها ،كل والعربان وقليل من اليولداش ،سرنا حتى بلغنا ّ ُ كثير من أهالي المحروسة ٌ فقط،
الصف األمامي يركض تجاههم ،بدوا لنا ّ ينطلق ثم البارود، ها يلقم
ُ ويلة، الط
ّ الماسورة ذات بندقيته ويمسك حصانه، لجام على يشد فارس
انطلقت أول األمر ،الل ّجام في
ُ السهل ،كنت ألعن األتراك حينها امتدت عبر ّ ّ والحمرة
ُ كثيرين ،كأنها األرض ن ُ ِق َشت بألوان ب ّزَاتهم ،ال ّزُرقة
الصفوف في مرماي ،ثم أعدل جلستي ساحبًا البندقية ،حينما تكون ّ ّ يتفصد عرقًا، ّ يدي ،والبندقية على كتفي ،يُركض الحصان حتى
الد وي دفعة واحدة من بقية الفرسان ،وفي عودتنا سمعنا أصوات طلق بنادقهم، أنعطف يمينًا ،ويداي تصوبان البندقية تجاههم .وانطلق ّ
أشرت إلى الفرسان المقبلين تجاهنا أال يخشوا شيًئا ،وتراجعت إلى المجموعة ،ثم طفقت أعيد تعبئة بندقيتي أنتظر دوري مع
مزيدا من الجنود ،والمؤونة والمدافع .تسللت في المساء بعد ً ومر جزء من النّهار ،كانت أعدادهم تتزايد ،ونلمح سفينة تُنزل ّ البقية،
عدون
السهل .وبدأت فرقة أخرى الحفر ،كانوا يُ ّ
أوبتنا إلى معسكرهم ،رأيتهم من أعلى التل ،يسحبون المدافع حتى بلغوا قلب ّ
الخنادق ،ولم يتوقفوا طوال الل ّيل ،تراءت لي األضواء في األسفل كأنها نجوم زرعت باألرض ،انسحبت إلى معسكرنا ،رأيت بعض
الشخير من بعض خيامنا، حراس عليها ،كان اليولداش نائمين ،وتصاعد َّّ النّيران مازالت مشتعلة ،وتجولت بين الخيام ،لم يكن هناك
الدفاع عن المحروسة؟ تركتهم يبقرون األرض بمعاولهم ،وتعالى ّ على قادرون الصراخ ،هل يعتقد ال ِن ّيام أنهم بالفعل
انتابتني رغبة في ّ
شخير جنودنا ،رأيت إحدى الخيام ،من علوها ظننت أنها لضابط ،هممت بإيقاظه .خطوت تجاهها وما إن وقفت عندها حتى امتدت
ألنها اليد نفسها التي تعودت إنقاذي من مآزق كثيرة ،ها
ّ تشدني وتسحبني إلى الخلف ،شعور غريب انتابني ،ال أدري لما ربما ّ يد
ورأيت بعض مالمحه ،وقف ابن ميّار يقابلني ،طلب مني االنسحاب قبل استفاقتهم ،وانتقلنا إلى ُ التفت،
ُ مرة أخرى،ّ تمتد اليوم هي
:خيمتي ،دخلناها بهدوء ،كان الجنود نائمين ،ولم أستطع كتمان مرارتي
ِّ
تحدد مصير مدينة ماُ ،حك ّامها فقط من يفعل ذلك - .ال يمكن للنبوءات أن
.أنت تُبالغ كعادتك ،أال ترى خيام اليولداش من حولك؟ وسيأتي آخرون من وهران والتيطري -
.ربما تقصد الذين يدخنون غاليينهم ويحتسون القهوة كل مساء في خيامهم -
طيشا -
ً الر جال كلما تقدم بهم العمر يزدادون حكمة ،وأنت تزداد
حمةّ .
ّ .تظل تسخر يا
إلي ابن ميّار باستغراب ،ثم وقف فجأة وعدل ثيابه ،الخيبة التي كنت أحملها انتقلت إليه .تال َّ كانت يداي لحظتها تختلجان ،نظر
أثيرا لديه وهو يغادر الخيمة ،تبعته إلى مربط فرسه ،وامتطاها ثم غيَّبته ظلمة سطاوالي .بقيت بين الخيام ،كأني أتنبأ قدومهم،
ً دعاء
ً
دما يُسفك ،أنقل بصري بينه وبين الخيام،
وأسمع ُخطواتهم وهم يحيطون بالمعسكر ،وتشتعل النّيران تضيء لي ِب ّزَاتهم ،أرى في لونها ً
الدم الحار،
بعيدا ،تتشمم تدفق ّ
ً إلي غير عواء الذئاب ،كم تشبه تلك الكائنات اليولداش ،استشعرت أن الموت ليس َّ وال يتناهى
.وتلهث باحثة عنه عبر الجبال حتى تبلغ سطاوالي
الضباط يجرون
ُّ العربان من حولي ،وعوى اليولداش بلكناتهم على الجنود ،كانالظلمة والن ُّور ،تناهت إلينا األصوات ،تصايح ُ
ما بين ُّ
بعصي ،وآخرون أطلقوا الن ّار في الهواء ،أسرعت تجاه فرسي وفعل مثلي البقية من شباب المحروسة ،امتطوا خيولهم ويضربون الخيام ِ
الضباط ،بيد أننا سبقناهم بالمسير،
صفوف فوضوية ،واجتمعت بقية الفرق خلفنا ،يتقدمها ُّ
ٍ حاملين بنادقهم ،وما لبثنا أن كنا في
الر بوة التي عسكرنا بها .تساءلت هل تركوا من يحرس المعسكر؟ لم أتوقع أن ينسوا وخلَّفناهم يعدلون صفوفهم ،ثم رأيتهم ينزلون ّ
.أشياء بتلك األهميّة ،كان إبراهيم أسوأ القادة الذين مروا على المحروسة ،ولكن بعض األخطاء أصغر من أن نرتكبها
الرصاصأسنانهم ،ينتظرون بداية القتال ،أبصارهم متوجهة صوبنا ،أرادونا أن نكون نحن من نستقبل ّ كان بعض اليولداش قربي ،تَصطك
العربان ،كبَّروا وضربت أرجل خيولهم األرض حتى تصاعد الغبار،من ضرب حصانه ،قفز قبلي بعض ُ أدعي أنني كنت أول قبلهم .لن ّ َ
الطلقات من صفهم الممتد ،ورغم مدى رمي بنادقهم ّ أرى واحدة، وي البنادق دفعة
الرمي ،وينبعث َد ُّ
ّ فقفزت في أعقابهم .أبلغ مسافة
الش حن .لحظة فقط ثم نسرع بالعودة إلى جنودنا ،يقتربون ببطء تجاهنا ،نتجاوز صفوفهم ،ثم نعود َّ القصير ،لكنّها كانت أسرع في
تباعا ،يكبو الحصان
ً الص ّ َف الممتد ،لم أعرف كم تقدمنا ثم تراجعنا ،ولكنني كنت أراهم يتساقطون ّ مرة أخرى ،لنواجه
فنخترقهم ّ
لكن
ّ الرصاص،مبتعداَ ،س ِلم من ّ ً مرتين ،شاهدت أحدهم ينهض من مكانه ،ثم يجري التفت مرة أو ّ ُ بعيدا.
ً بالواحد منهم ويرميه
يحدق تجاه اليولداش الذين ما زالوا يتقدمون، ّ الرصاصة في الجسد ،يترنح وهو اآلخرين لم يسعفهم حظهم ،خطوات قليلة ثم تستقر ّ
أبد ا .ثم يغمض عينيه ،وأنا ما زلت لم أغمض عيني بعد ،كانت أرجل الفرس تضرب األرض ،الل ّجام يستقر بين وكأنهم لن يصلوا ً
عائدا إلى مكاني ،قفزت الفرس ً وانعطفت الماسورة، صاصة الر
ّ مغادرة صراخي رافق ثم تجاههم، أصوبها يدي في فكي ،والبندقية
أبصرت خياالت تطوف ُ . ا بعيد
ً رمتني األرض، على تهوي أن وقبل االنحدار، في وبدأت تحتي ة بقو
ّ ت ارتج
َ ّ ثم األمام، خطوات إلى
جزءا من جسدي ،لم أستطع الن ُّهوض حينها ،ولكنهم ً ترفس أرجلهم كانت ثم مني، يقتربون اليولداش فرأيت رأسي ورفعت حولي،
التفت
ُّ قاعدا ،ثم
ً مر وا حاولت القيام ،يداي تحركتا .ثنيتهما في محاولة جديدة إلبعاد صدري عن األرض ،رفعته قليل ًا واعتدلت حين ُّ
الرصاص، ّ من الجيوب تفرغ حينها لها، نظير ال بطريقةٍ يقاتلون ربان الع
ُ . تالحما قد الجيشان كان واألجساد، األلوان مزيج لي وترامى
السريعة وهي تهوي على أجساد الجنود الفرنسيين ،بينما بَ ِقي اليولداش على يسلُّون سيوفهم ،كانوا أبرع في استعمالها ،أرى حركتها ّ
مجموعات ليحموا ظهورهم .لمٍ جانبهم ،لم يكونوا بالشجاعة نفسها ،ال يجرؤ الجندي منهم أن يتوغل بين الفرنسيين ،يتحلقون في
أستطع البقاء هناك ،تحاملت على نفسي ووقفت ،ثم سرت بتعثّر حتى بلغت مكانًا يُشرف على المعركة ،كانت البندقية على كتفي،
الربوة،
الرصاص لم يسعفني .تحركت من خلف ّ الطلقات ،اختبأت خلف تل صغير ،وصوبت نحو ال ِب ّزَات الحمراء ،ولكن ّ متأبطا كيس ًّ
ومددت يدي ألمسكه ،ولكن رجرجة جسدي جعلتني ُ السيف تجاهي، ّ رمي أحدهم أن إلي
َ ّ ِل
ّ ي وخ
ُ ينادونني، كأنهم كانوا أللتحق بهم،
عائدا إلى يد صاحبه ،وحين عدت بوجهي كانت األرض تقترب ً السيف معلقًا في الهواء، أصرخ دون وعي مني ،رفعت رأسي فترامي ّ
غبار كثيف بيننا ،شعرت بنار ٌ السوداء بالحمراء ،ثم تُصبح رماديّة ،ويتصاعد الرؤية كانوا يتماوجون ،تمتزج األلوان ّ مني ،وفي غبش ّ
خليطا بين عواء ذئاب وصريخ اليولداش ،ثم انتشر البياض في الفضاء ً تشتعل قربي ،اشتممت رائحة الحطب المحروق ،وكأنني أسمع
.كله
السهول،
أدركت من ثيابهم أنهم من أعراب ُّ
ُ استفقت على حرارة تشتعل في كتفي ،وسواد خيمة ظللتني ،ووجوه كانت تحيطني،
صحت،
ُ حركت رأسي وتكلمت ،وربما حتى َّ الشيخ الذي كان أقربهم لي ،كنت أشعر بجفاف في حلقي ،وبدا لي أني سمعت تمتمة ّ َ
الصوف المبللة على فمي ،وطفق يضعها في إناء عند ركبتيه ثم الشيخ ،فلم يلبث أن وضع قطعة ّ ولكنهم لم ينتبهوا لي عدا ذلك ّ
يحركها على شفتي جيئ ًة وذهابًا ،ويعصر في حلقي ،كأنها كان ينفخ في روحي فتنبعث الحياة في جسدي ،وذهب الغبش عن عيني
الصوف
الص ورة .كانوا من بين الذين شاركوا معنا في سطاوالي ،هممت بشكرهم ،وقبل أن يتحرك لساني وجدت قطعة ّ واتضحت ّ
المبلَّلة على فمي ،ولكن األلم ازداد اشتعال ًا في كتفي ،وقلبي ازداد اهتزا ًزا كلما تذكرت أننا ُهزمنا .تساءلت أين هم اآلن ،أتراهم
وج ُّل الجيش كان معنا؟ يصدهمُ ،
ُّ بلغوا أبوابها ،أم أنهم ُص ُّدوا؟ ولكن من الذي
أسوأ المواقف التي يعيشها المرء ،لحظة عجزه عن الكالم ،ويمتلئ القلب باألوجاع .كان أولى بهم لو تركوني للذئاب ،أو ينثروا
تفرقوا
َّ الشيخ يريد إبقائي ساكنًا ،حتى يطيب الجرح.
السل ّاوي .ولكن ّ
السهول والجبال ،وستنبت حينها آالف من أشجار ّ عظامي في ُّ
نارا ،رأيت الل ّهيب يستعر ،وظهرت مالمح وجهه النّحيف ،عظامً شعل ُ ي الخيمة باب إلى يخ الش
ّ وانتقل الم، الظ
ّ حل حين من حولي
يحدق تجاهي،ِّ الشيخ
مرت ،كان ّ ّ التي نين الس
ّ آالف رغم نفسها، بالنظرة ر ّ ِ
الس قَ ّ ل تع ! غامضة بأشياء وشت هاّ ن ولك بالجلد، التصقت
الضعف،ّ أرى بريق عينيه ،كثيرة هي األشياء التي استوعبتها ،ولكنّها صعبة على التفسير ،نخبئها في دواخلنا ،تستعيدها في لحظات
مستعص ،يُداري نفسه كلما أردت الوصول
ٍ نهر ال يمكن أن يدركه أحد،ٌ أشياء تنبع من المعين نفسه الذي كانت ُدوجة تسقيني منه،
.إليه
الشيخ مني حامل ًا صحن الحساء ،ومد يده خلف ظهري وأقعدني ،بدأ يطعمني حتى شبعت ،ثم أعادني إلى مكاني ،كانت النّار
دنا ّ
أيضا تستعر في نفسي ،أردت شكره ولكن ّه ظل يومئ لي أال أتكلم .أشياء من العمق كانت تدفعني للسؤال ،للقيام من مكاني
ً
الشيخ جلس إلى جانبي ،ثم قال لكن ّ
ّ :واللحاق بهم ،وهممت بذلك،
.عليك أن تهدأ ..ال يُمكنك مغادرة فراشك اآلن ،لم يبرأ جرحك بعد -
الرعاية -
.على هذه الحالة ،أنت الذي تحتاج إلى ّ
مذ متى وأنا هنا؟ -
وهم ا؟ أتضيع المحروسة بهذا اليسر ،لم أكن ألصدق كلماته ،كانت عصية حتى على التفكير فيها،
ً هل ما قاله العجوز حقيقة أم تراه
عدت إليه أسأله ُ قربي، يزال ال والشيخ أهذي :كنت
الشيخ إلى جانبي ،يا الل ّه إني ال أحتمل مقدار هذا يا الل ّه ...صرخت حتى اعتقدت أنهم سمعوني هناك في المحروسة ،وفزع ّ
الصغير ،يركض بين دروبها ّ ّاوي ل الس
ّ مشاهد إلى تعود الهدير الموجع ،قلبي ال يمكنه التفكير في محروسة أخرى غير التي عرفتها.
جنودا ال يختلفون عنهم ،لماذا يا الل ّه يحدث هذا تحت ً فارا من اليولداش .واآلن سيرحلون ولكنهم سيُخل ّفون الحجرية ،وأنا أركض ّ ً
الشيوخ سمائك؟ ألم تكن المحروسة تحتفي بك في شوارعها وأعيادها وجوامعها التي تكتظ بها المدينة؟ كيف لم تستجب ألولئك ّ
الذين كانوا يرفعون أيديهم إليك لتحفظ المحروسة من كل معتدٍ؟ لماذا يا الل ّه لم تجبر خواطر األطفال الذين اصطحبهم آباؤهم إلى
بمع ّزَة أوليائك المحببين إليك وإلى قلوبهم ،أن َ المساجد لتشفع لهم طهارة قلوبهم وتستجيب لهم؟ والدراويش الذين دعوك عند األضرحة
وكنّ جميعا؟ حتى البغايا شمرن عن سواعدهن ،وتركن زينتهن وعطورهن ً تمألها باألمان والطمأنينة ،لماذا يا الل ّه كسرت خواطرهم
بمع ّزَة
َ يحلفن سمعتهن منهن وبعض ٌ طاهرة، اً دروب ويخترن بن ُ ت في بيوتهن، إلى سالمات
ٍ تعيدهن
ّ في إثرنا ،هن كذلك كن يدعونك أن
جديرات بعطفك؟ يداي كانت ٍ يكنّ ألم َبي، ّ ن ال عليها مشى التي األرض لن قب
ُ ّ وي الحجاز، في بيتك الرحمن أنه سيزرن سيدي عبد ّ
بعيدا إلى ً الفرار إلى أتوق كنت انحناء، في وقمت عني، ا بعيد
ً العجوز ودفعت انتفضت ولكني جسدي، من يرشح ترتجفان ،والعرق
الرغبة نفسها دفعتني، ّ بالمغادرة، هممت . بالبارود وليحترق بالرصاص جسدي فليمتلئ الجيش، أقتحم أو أسوارها، عند التالل ،ألقف
والدموعُّ الدم،
حادا من الجرح الذي تقيَّح .وبخفة شرع العجوز يجفف َّ ً أرضا ،اشتعل األلم ً ولم أتجاوز الخطوة األولى حتى خررت
إلي وبكى هو اآلخر .ثم اجتمع حولنا أبناؤه ،ساحت دموعهم ،وابتلت َّ التي انهمرت ،كنت أنشج إلى جانبه ،ولم يحتمل فانضم
واحتد
َّ بقوة .ازداد ارتجاف يدي، ّ الحمى التي دهمتني َّ الدموع يمأل الخيمة بالملوحة ،أو هكذا ُخيّل لي في خدودهم ،ثم كان نهر ّ
حمة ،ال تقترب من ال ِقدر ،لكنني اشتهيت ّ يا ة حم
ّ علي وتنادي ار،ّ ن ال على در ِ
ق ال تضع البيت، باحة في وجيب قلبي ،رأيت أمي
أياما ثم أشفى منها ،لم تكن أول ً وتتورم القدر، في غطستها التي يدي على ولول ُ ت ثم امي تختفي . المغلي وضع يدي في الماء
دائما بالنسبة لي محرقة ،تمأل جسدي بالقُروح .ولم تكد أمي تعتاد تصرفاتي حتى ً كانت الحقائق إن بل نفسي، مرة أفعلها وأؤذي
الطاعون سحب ث ُلثي المحروسة ،ووقف األتراك يطالعون األيتام ،وال يفعلون لهم شيًئا ّ . ا مبكر
ً .غادرت
دوجة
ُ
السويدي ،يغيب حتى أقول إنّه لن يعود ،ثم أرى خياله مر على موت أمي سنتان ،وال يزال أبي يعمل في بيت ال ُقنصل ّ كان قد َّ
مرة أجده أكثر تلهفًا
ّ كل
ّ وفي منصور، عن يسألني علي
َّ مّ ِ ل سُ ي أن قبل البيت، باب يبلغ حتى الحقل يعبر ا وئيد
ً يتقدم من بعيد،
الصغير .قبل انتهاء جملته
ّ ا منصور
ً سيشفي دواء وأعطاه أيام، قبل المحروسة زار اً طبيب أن يخبرني األدوية، صرة معه يحمل عليه.
حاد ا ،نلج إليه مسرعين ،ونجلس عند رأسه ،يلتفت إلى أبي بنظرة زائغة كأنه ال يراه :هذا أنت يا أبي، ً الداخليرتفع ُسعاله من ّ
!اعتقدت أنك لن تعود
الصورة ،يجلس صامتًا ،تتلمس كفه جبهة منصور ،ثم تتحسس صدره إن كانت حتى عندما كانت أمي ُتحتضر لم أكن أرى أبي بتلك ّ
البقع قد رحلت عنه ،ولكنّها في كل يوم تُعلن عن نفسها في مكان جديد ،تبدأ صغيرة ،ثم تمتلئ بالقيح ،وتنفجر فجأةُ ،مخل ّفة
الدواء الجديد ،رغم أنه كان تخرم جلده .لم يستطع أبي مواصلة رؤية جسده ،كان يأمل أن يشفيه ّ ّ بثورها عبر كامل جسده ،حتى
الدواء ،يدهن جسده به ،ثم ال يحدث شيء ،يُعيد النّصائح القديمة، محمل ًا بكيس ّ
َّ شهرا ،ثم يعود
ً يغيب مكررا طوال العام،
ً مشهدا
ً
منصورا يواصل انحداره ،يزداد جسده
ً ماء نقيًّا .ثم يغيب إلى عمله ،ويرجع ليجدً جيدا ،ويشرب ً الطبيب :يجب أن يأكل ّ يقول
ووزَع المرهم عليه ،وسقاه من محلول آخر، ّ عرى جسده،أعاد أبي المشاهد الماضيةَ ّ ،
َ المرة،
ّ ويحتد سعاله أكثر ،حتى هذه
ُّ ضمورا،
ً
الش فاء أم الموت .كانت يده تمتد إليه بقطع الحلوى التي أحضرها معه ،يعرف أن وأعلمه أنه لم يبق الكثير .لم أفهم قصد أبيّ ،
الصغير يُكورها ويلقمها فمه ،لكنه ال يستطيع بلعها، الطحينية ،فيحملها له من المحروسة ،يسحبها من كيسه ّ منصورا يُحب الحلوى ّ
ً
يأخذ منها لقم ًة صغيرة ،ويديرها في فمه ويبلع القليل منها ،وتندلق األخرى على جانبي فمه ممزوج ًة بلعابه ،يُر ِدفها بنوبات سعال.
إلي بُحزنُ :دوجة ،كيف كنت تفعلين هذا طوال الوقت؟ أتذكر تلك َّ مرة ،يلتفت
كل ّوتظل تتكرر محاوالت أبي ،يفشل في ّ
الطحينية ،اقتربت
ّ الحلوى مع ليختلف األمر يكن ولم العصيدة، من صغير صحن أجل المحاوالت اليائسة التي ُأعيدها كل يوم ،من
سعيدا وهو يستقبل الحلوى
ً كان منصور حتى .ا يسر
ً أكثر األمر بدا أسقيه، شرعت ثم من منصور ،وأذبت الحلوى في ماء بالصحن،
.المذابة برغبة أكثر وتعب أقل
متحرقين لبقائه .ولكن أبي أضحى ّ مسموحا بها ألبي أن يمكث عندنا ،ثم يحمل نفسه ويرحل ،يتركنا مثلما وجدنا، ً يومان فقط كان
كثيرا.
ً الرغبة في زيارة أحد ،انقطعت كل صالته بمن حوله ،كان متعلقًا بأمي ومنفردا ،غادرته ّ
ً وحيدا
ً شخصا مختلفًا بعد رحيل أمي،
ً
الصمت ،لطالما انتبهت إليه في وحدته يتمتم ويغني، يبك طويل ًا ،بل ركن إلى ِّ تفاجأت أن حزنه لم يكن مثل أحزان بقية النّاس ،لم
أحد ا يراقبه ،يمسح دموعه ،ويعود إلينا بمالمح يحاول إخفاءها .في حياة أمي لم ً غناء بقدر ما كان أنينًا ،وحين ينتبه أن
ً لم يكن
يكن أبي ليبدي شيًئا من تعلقه بها ،لم يغازلها أمامنا ،بعض الهدايا التي كان يحملها في يده ،يهديها إياها مثل ًا يهديني المنديل ،أو
تبدل حالها ،وألزمها المرض الفراش، َّ معتادا ،في األيام األخيرة لها
ً سريعا حتى أضحي شيًئاً يمر األمر
ّ الطحينية،
منصورا الحلوى ّ
ً بهدي
مجددا ،وأنه سيمكث هناك في بيت القُنصل ولن يرجع إلينا ً أما حين ماتت ،فحسبنا أننا لن نراه .وصار غائبًا عما حولهّ .
منذ وعيت وجدت أبي يعمل في بيت ال ُقنصل ،كانوا في القرية يقولون إنّه أفضل رجالها معرفة باألشجار ،وهذا ما جعله محل تقدير
ِّ
يردده أبي قبل سنوات منه ،وبالرغم من تتالي الوكالء على ذلك البيت الغريب ،ظلوا يحتفظون بأبي طويل ًا بعدها .هذا ما كان
حينما نجتمع حول الموقد ،أمي وأنا ،ومنصور في حجره ،كان يحمل لنا بعض الفواكه المجففة في جيبه ،نسعد بها ونفرح حين نراه
يقترب من البيت ،وحين تخطو رجله أول خطوة إلى الحقل يركض نحوه منصور ،يقفز ما إن يقترب منه ،يحمله حتى يبلغ به
الباب .ولكن أبي اليوم عاجز وهو يطالعه ،لم يستطع إطعامه الحلوى التي يحبّها ،ولم يتجرأ على حمله إلى مقدمة الباب .يتحول
عجزه إلى تمتمة ،ثم يتصاعد أنينًا متصل ًا ،أبي الذي كان يخجل باألمس منا أصبح اليوم يبكي أمامنا .ثم يرحل في اليوم التالي
!ويرجع أكثر تعبًا
ع رفتي ،أرنو إلى جدرانها وكأنها أري بيتي في القرية ،حيث كان منصور إلى جانبي ،أهمس به :منصور منصور أتراك ما أزال حبيسة ُ
الصغار ُمعلقة برغباتّ قلوب بشاشة، أكثر حالت وجهه، مالمح تغيرت المذابة، الحلوى مصَ ّ أن بعد نومه في غط
َ تسمعني؟ كان قد ّ
قادما ،يتبع حركات يده وهي تدخل ً فرح ا من أقفاصها .أذكر كيف كان منصور يقفز كلما رأى أبي ً بطونهم .وما إن ينالوها حتى تقفز
أيضا بما
ً لكن مقدار الفرح كان متباينًا ،وأمي تبدو سعيدة ّ الصغير لتعود محملة برغباته البسيطة ،وأنا لم أكن ألختلف عنه، إلى كيسه ّ
حمله أبي ،وبعد سنوات اكتشفت أن الهدية الل ّيلية هي التي كانت تُسعدها ،ليلتان في كل شهر يلتقي جسداهما ،وتتناهى إلينا
وشوشتها منتصف الل ّيل .أغفو وأستيقظ عليها ،وفي صباح اليوم الموالي ،أرى وجه أمي أكثر صفاء ،ولم أفهم كيف يقلب حضور أبي
الظلمة،غامضا فيه ،ال يمكن القبض عليه إال في ّ
ً أن هناك شيًئاالرجال ،وأدركت ّ
الطريقة ،إال حينها اكتشفت جسد ّ مزاج أمي بتلك ّ
الشيء الغامض ،يخفق في البداية ،ثم ينتهي إلى الدفء إليها ،ويتحرك ذلك ّ ّ يتسلل واحد، غطاء ويدثرهما بينهما، المسافة حين تختفي
.صفاء
السير،
ويحث الحصان على ّ ُّ يتوسطه يضغط على المحراث، َّ الطحين ،وأبي يغط في نومه ،يحلم بحقل من حلوى ّ ُّ منصور ال يزال
مستمتعا بها ،إلى أن
ً فمه بحدود لسانه ويطوف يضحك بل يبكي، ال حينية، الط
ّ الحلوى بدقيق فمه ويمتلئ يسقط هيركض إليه ولكن ّ
ُ
الضاغطة على أساسه ،ويُصعده إليها، ّ رجله يسحب مسايرته، إلى أبي يضطر المحراث، خشبة ارتقاء على كعادته يصر
ُ يبلغ أبي،
الشجرة أقصى الحقل ،ويعود إلى األرض يحرثها، ويصرخ في الحصان ،ويظل على حاله تلك حتى ينال منه التعب ،يحمله أبي إلى ّ
مغروسا في األرض حتى تيبَّست من حوله .في ً وأضطر أبي إلى ترك المحراث ّ ثم صارت ال تهب شيًئا ،بارت ثم نفق الحصان،
شاهدا على يأسه من الغيث الذي ال يأتي. ً يحدق به طويل ًا ،ثم يقترب ويُعاينه .كنت أفهم أبي ،أراده ّ زياراته األولى ،يلتفت إليه،
تعد التشققات التي انتابت األرض ،ثم تكاثرت ولم تعد هنالك فائدة ُّ السماء ،وأضحت مطأطئة بعد أن ك ّف َت الوجوه عن اإلبصار تجاه ّ
الدجاج من مكان آلخر ،وأكون في إثره ،ال نأبه بنداء عدها ،حينها كانت أمي حية ،وكان منصور يضحك من عافيته ،يُطارد ّ من ِ ّ
.أمي
حمة ،وال كما اعتقدها ابن ميّار ،كلما مضى منها يو ٌم ّ اختلفت تلك األيام عن األيام األولى لدخولي المحروسة ،لم أرها مثلما رآها
الحي الذي ظننت أنه أفضلهم لم يكن ليختلف عنهم ،بدا من الوهلة األولى ّ مزيدا من الكراهية ألهلها ،حتى شيخ ً يولِ ّد في نفسي
الطيبة ،أومأ لي بالسير معه ،وتبعته ّ كل تحمالن عيناه وق، الس
ُّ ساحة في مني اقترب ا، د ج
َ ًّ باألحرى أو ا، ً ثاني اً أب فيها التي رأيته
الحي ،أدخلني إليه،
ّ نهاية في اً ت بي بلغنا حتى جانبه إلى كنت لديه، يجتمعون حينها أو بهم، مر
َّ كلما رونه ق
ّ ِ يو جار ُ ت ال رأيت ألني
بأعمال
ٍ زوجته تنهكني لم األولى، األيام كانت حو ّ ن ال هذا وعلى . إليه آوي آخر ا ً ت بي وجدت أنني اعتقدت وأوالده، زوجته إلى مني وقد
َّ
الشيخ في فناء البيت يمر بي ّّ َابهم، ّ تُ ك إلى األطفال أوقظ ثم البيت، أعمال أبدأ فجر، كلَ ّ أستيقظ كنت نفسي تلقاء من كثيرة،
الشهر الثّاني
الشهر األول على ما يرام ،ولكن ّ ومر ّ
ّ غادرا،
يتحين للصالة ،أراه وهو يتوضأ ،يتأملني من مكانه ثم أسمع وقع خطواته ُم ً
الشيخ كان يُطيل النّظر إلى جسدي ،أنتبه إليه في انشغالي ،يتابع حركتي ،الحظت زوجته اهتمامه كان مختلفًا ،إذ ال حظت أن ّ
تحو ل إلى اقتراب ثم احتكاك ،إلى اقتراب ثم احتكاك ،يتحين الفرص حتى نكون وحيدين، َّ تحرش عينيه بي ُّ ال ّزائد بي منذ البداية،
يدنو مني يسألني إن كانت إقامتي بينهم تروقني ،وأحيانًا كان يلج غرفتي فجأة ،أكون في نصف ثيابي فال يحتشم ،تتفحص عيناه
وتتحول
َّ الرجاء ،فيغادر على مضض ،تلمحه زوجته من طرف الباحة، مسم ًرا وسط الغرفة ،وأطيل ّ َّ جسدي ،أرجوه المغادرة لكنه يظل
حم لني ما ال طاقة لي به من أعباء البيت ،تصرخ في وجهي كلما يتقابل وجهانا ،لم أكن ألدافع عن نفسي، فظة ،تُ ِ ّ معاملتها ،صارت ّ
الرجل ،بالتأكيد كانت ّ حضن في إال المرأة مزاج
ُ يكتمل ال الكثير، مني َ ّ ل ع أبي غياب في أمي ك َ ّ ل يتم كان الذي كنت أفهمها .النّزق
الصمت حين يعلو صوتها ،وكلما ُأنهكت من ذلك أنسحب ،كانت سوءا وهي ترى ميوالت زوجها تجاهي .وأركن إلى ّ ً ستصبح أكثر
تدري في داخلها أنه ال دخل لي ،ولكن ّها مع ذلك وقفت له في الباحة في ذلك اليوم ،سمعت صراخها :ال أريدها ،تلك المجنونة
مفهوما بينهما ،وانتهيا
ً صدقها ،وال يجرؤ على عصيان أمرها ،كل شيء كان تظل تصرخ في البيت حتى يسمعها الجيران .ما كان ليُ ِ ّ
المرة ،كانت أفواه التُّجار تُعيد ما
ّ السوق ،ولكن هذه
إلى طردي من البيت ،ومثلما دخلته متأبطة صرتي ،رحلت عنه ،وافترشت أرض ُّ
استوعبت
ُ الحي ،مثلما كانت عيونهم تراقب جسدي ،كل تاجر يطلب أن أفترش المكان قرب حانوته ،بعد أشهر فقط،
ّ روجه شيخ
َّ
.كيف ينظر رجال المحروسة إلى النّساء ،مع أن ُجلَّهم كانت لديه أكثر من امرأة في بيته
الظالم ،قد سافر ابن ميّار ،فاهت ّ َز قلب زوجته ،بعد طالت غيبة الل ّة سعدية عن غرفتي ،ومن خالل الكوة انتبهت إلى حلول ّ
السل ّاوي ،وقفت أتلمس طريقي أبحث ّ أنتظر وأنا شعرت سنوات العشرة أصبح أكثر من زوج .النّساء أشد تعلّقًا بالرجال .ربما هكذا
فارا من الجنود الفرنسيين، السل ّاوي ّ ً
ّ ظهر . الجدار على الس راج ،وبصعوبة وجدته ثم أشعلته ،ورأيت ما تبقى من خياالته النّافرة
عن ّ
الضوء
مبتعدا عنهم بمسافة ،حركت رأسي إلى التماع ُّ ً الطلقات تتتالى هي األخرى في إثره ،ثم رأيت خياله يقفز انتبهت إلى أصوات ّ
الحي ،الذي لم يعجبه بقائي في ّ على اآلنية ،كانت مثلما التي في بيت تاجر النّحاس حيث أقمت بعد رحيلي عن بيت شيخ
السيد ،قد وعدني أن ّ هذا رافقي للعراء، علي مكانًا آخر ،يومها اقترب مني وقال :يا ابنتي ال يُمكنك البقاء هناَّ السوق ،فاقترح
ُّ
مد التاجر بالصرة
ّ ثم . معك اً طيب .يكون
الحي ،ولجنا سقيفة طويلة ،وكلما خطونا بها زادت ضيقًا ،حتى انتهت إلى باب وحيد ،عبرناه إلى سقيفةٍ أخرى
ّ وهكذا عبرنا شوارع
الد ار ،حيث وقفت زوجته تنتظرنا ،وما إن رأيتها حتى دهمني شعور غريب ،كأني أعرف هذه المرأة ،أوشكت أن أقفز تنتهي بباحة ّ
تسمرت وبقيت صامتة أحدق في وجهها المألوف
َّ .تجاهها فأحضنها ،ولكنني
كانت تشبه أمي حتى في الحركات البسيطة واإليماءات ،مثلما حملت بعض مزاجيتها ،وإن لم تصاحبها بالحنان الذي كانت أمي
لكن أمي رحلت ذلك اليوم وخلَّفتني وحيدة ،حتى وأنا في ّ تغدقه علي بعد كل خصام ،تحضنني وال تفارقني إال بعد أن أرضى،
يوم ما ،ولم تحتمله أمي فألزمها
ٍ حل فيَّ وهن يسمعن حكاية الوباء الذيّ دائما أعيد حكايتها لنسائه ،كن يبكين.
ً المبغى كنت
الصغير ،وفي
الدواء الذي جلبه أبي من المدينة كان شافيًا لها ،حين نامت وهي تبتسم لي ولمنصور ّ قدرنا أن ّ
أياماَّ ،
ً المرض الفراش
صرخت ،كان منصور إلى
ُ تند عنه ،امتدت يدي إليها ته ّزُها ولكن ال مجيب.
ُّ باردا ،وال حركة
ً الصباح أفقت ،وتفقدتها ،كان جسدها
ّ
.جانبي ،ومن خلفه وقف أبي صامتًا
سيدتك ُمتعبة ،ال يمكن اآلن التنبؤ بها ستفعله ،قال اإلمام إن الجنّي الذي يسكنها يأمرها بفعل أشياء خطيرة ،وربما ستقتل -
.أحدهم إذا أمرها بذلك
ال أظن يا سيدي أن زوجتك ستُقدم على قتلي ،أنا على األقل؟ -
أيضا؟ -
ً علي المغادرة أنا
َّ إذن
.هذا ما سيحدث يا ُدوجة لألسف -
الشوارع التي كنت أجوبها كل يوم .في ذلك المساء رأيتها آخر مرة ،في حتى في بقائها كنت سأقبل الحياة معها ،كان أهون من ّ
إلي وكأنها لم ترني ،كانت تنقل خطواتها تتأبط يد زوجها ،سرت في إثرهما حتى بلغنا َّ أسوأ حاالتها ،متعبة وعيناها زائغتان ،التفتت
الرجل .وما إن أتمت جملتها حتى سحبها زوجها ّ هذا سيؤذيك وجة، د
ُ يا هنا تبقي ال : الباب الخارجي ،قالت حين بقينا وحيدتين
الشارع .وفي اليوم الموالي ،حملت صرتي خارج البيت ،ومن ثقب الباب رأيتها تعتلي ظهر البغل ،ومن ثم غابا عبر منعطف ّ
الشوق أنه باع البيت لتركي ،ورحل إلى فأس ،وآخرون قالوا بل إلىورحلت عن البيت ،ولم أر تاجر النّحاس بعدها ،وأشيع في ّ
الدكان بأمره ،رأيتهم هناك
الحي بعد شهر ،وطلبوا فتح ّ
ّ تونس ،وظل دكانه مغلقًا .اجتمع أولئك الذين ترك مصالحهم ُمعلَّقة إلى شيخ
.متحل ّقين حول الباب ،ثم وهم يكسرون قفله ،ويأخذون أشياءهم
علي
َّ طرق ُمستمر على الباب ،ثم رأيت خيال الل ّة سعدية ونداءها
ٍ :انتبه إلى
ونمد ارجلنا،
ُّ الدار ،نجلس
لم آلف الخوض معها في أحاديث انتظاري للسالوي ،بالتأكيد لم تكن مثل الل ّة زهرة ،كنا نفترش باحة ّ
دوما أن أجمل األغاني التي تُحيي أعراس المحروسة هي التي أل ّفها اليهود ،وكنت ً صر
ونغني األغنيات القديمة التي تحفظها ،تُ ّ
السل ّاوي ،ويجلس قبالتنا ،وتتعلق عيناي به
الريفيون ،ونظل نردد األغاني إلى أن يأتي ّ أعارضها على الدوام أن أجملها ما يأتي به ّ
الصحن ثم ترتفع إلى فمه ،وتحملق السمن ،أطالع حركات يده تحمل قطعة الخبز ،نغمسها في ّ ونحن نغمس الخبز في ال ّزيت ،أو ّ
يودعنا بعجل ّ ثم يديه، ويمسح فجأة يقف ّاوي ل الس
ّ ولكن ،استمر
ُ ّ بل أراعيها، وال عيني، وأنزل .الل ّة زهرة بي ،وهي أن أحتشم
تقدمت تجاه الل ّة سعدية والقنديل في يدي ،كنت أتوق أن أحدثها عن كل شيء ،عن اشتياقي لمنصور ،وحنيني ألبي .في األيام
أشد صفرة ،يُالصقّ األخيرة له ،كان شبه رجل فقط بعد رحيل منصور ،بالرغم من يقينه بعدم نجاته ،بعد تغيّر لون جلده ،أضحى
العظم ،وفقد القدرة على الكالم ،ثم لم يعد يرانا ،نحرك أيدينا فوق وجهه فال ترف عيناه ،ثالثة أيام ثم استحالت إلى البياض ،وأبي
كان يرى كل تلك التحوالت ،عاج ًزا ال يحرك ساكنًا ،كل يوم نصحو ونتحسس جسده ،يصدر صوتًا أقرب إلى الحشرجة ،والسائل
باردا لم يرتعش من أثر الل ّمسة ً الصباح األخير ،تحسست جسده ،كان الغريب ينزف من أنفه ،ثم أضحى يتدفق من أذنيه ،وفي ّ
أحدا من أهل القرية ونحن نحفر ً األولى .أدركت أن منصور قد رحل إلى العالم اآلخر ،وبكى أبي ،انهمرت دموعه أمامي ،لم يخبر
قبرا على يمين قبر أمي ،حفرة صغيرة أسلمه أبي إلى داخلها ،هممت بمنعهُ ،خيّل لي أن منصور ال يزال حيًّا ،وسيختنق بها، ً له
منصورا التُراب أسفل الحفرة ،ثم أزاح الكفن عن وجهه النّحيف ،انتظرت أن يفتح ً لكن أبي كان ال يعي العالم من حولهَ .و ّسد ّ
الطحينية .بكيت حين غاب وجهه بعد وحيداُ ،خذيني من هنا ،سأقاسمك الحلوى ّ ً عليُ :دوجة يا ُدوجة ،ال تتركيني َّ عينيه ،وينادي
الضوء ،ثم عدنا إلى البيت ،لم ننم أن َس َقف القبر ،وبكينا طويل ًا ونحن نكوم التراب فوق جسده الهزيل ،وجلسنا هناك حتى غاب ّ َ
ليلتها ،بل تقابلنا في الغرفة والظالم يمأل الفراغ من حولنا ،وفي اليوم الثّاني طلب مني َحز َم أغراضي ،قد قرر اصطحابي إلى
البيت حيث يعمل ،لم أشأ مرافقته ،كما أنني لم أرغب في مفارقته ،كنت أريد البقاء في البيت ،حيث قبر أمي ومنصور ،بينما كان
لكن
ّ محرمة على عينيه ،يُنبّهني أال أعيد سيرتهما، ّ يفر منهما ،ولم أنتبه إلى ذلك ،حتى ونحن في مزرعة القُنصل ،بدا بيتنا جهة
السماء ،أم أن دود األرض قد أكل جسدك؟ مستحيل عال في البستان :منصور أتراك هناك في ّ ٍ حنيني إليهما يجعلني أنادي بصوت
السابق ،لم يبتسم منذ رحلت .كنت أنادي الد ود لحم األطفال ،سيشفق عليهم ،وأين أنت يا أمي؟ لم يعد أبي مثلما في ّ أن يأكل ّ
أما حين أرفع رأسي فأرى بيت ال ُقنصل ّ أخرى، إلى الماء ويوصل األشجار، ببعض يعتني أبي، مكان إلى وأعود . مجيب عليها وال
الرجلّ وجه لي ويتراءى فجأة فتح ُ ت هناك، من ألراها أكثر االقتراب أحب كنت زرقاء، فكانت نوافذه ا أم
ّ جدرانه، بيضاء البستان، نهاية
مرات من أسفل البيت ،ثم رأيته متجول ًا بين األشجار ،لم ينتبه وأنا أدنو ألراقبه ،ولكنّه لمحني فجأة وهو ينعطف ٍ الغريب ،لمحته
المرة األولى التي يراني هناك ،ثم تعالى نداؤه على أبي ،ورأيت ّ وحدق تجاهي طويل ًا ،كانت تلك َّ السور نهاية البستان ،توقف عند ّ
أيضا من هناك انحناء أبي ،بدا وكأنه يعتذر له ،ولم يطل ً السيد نحوي ،رأيت ّ يشير بينما تجاهي، قان يحد
ّ كانا ثم تجاهه، يهرول أبي
السيد طريقه ،بينما ركض أبي تجاهي وامتزجت كلماته بلهاثه :وقوفهما إذ واصل ّ
فالسيد مستاء مني اآلن -
َّ .ال تقتربي من البيت يا ُدوجة،
.في غيابه ،يخلف وكيله السيّد كافيار ،وال يستريح العمال إال بعودة القُنصل -
كان وجه أبي شاحبًا وهو يعيد كلمات السي ّد كافيار .لم نطل المكوث هناك ،إذ انتقلنا إلى وسط البستان ،في ذلك اليوم رأيته كيف
كثير ا عن أهالي المحروسة وهم يقفون في حضرة األتراك ،عدا رجل واحد،
ً يشقى ،وهو يقف مذلول ًا أمام السيّد ،ربما لم يكن ليختلف
السل ّاوي كان يجرؤ
الشتائم في وجوههمّ ،
كان مختلفًا عن الجميع ،حتى عن ابن ميّار ،لم ينحن لهم ،ولم يسايرهم ،بل كان يقذف ّ
السل ّاوي اآلن؟
ّ هو أين ولكن ذلك، يفعل أن
القسم الثّالث
ديبون
بتأن مليء بالتحدي والشموخ .كان البحر ُمتململ ًا ،وقفت على سطح ٍ يشق الموجُّ المجد لك يا لوناجور ،والمجد لهذا الجؤجؤ الذي
ورا
التفت إلى طولون ،لم تتراء لي إال الغيوم .أعود بوجهي إلى الجنوب ،فال أرى إال ُص ً ُ السفينة ،أتمل ّى ال ّزُرقة الممتدة من حولي. ّ
السفن، يردد القبطان :ما هي إال ثالثة أيام ونرسو بماهون .ثم ألتفت يمينًا ،من هناك تترامى قافلة ُّ ّ رسمها من حولي عن الجزائر.
أن هناك قافلة إلى اليسار ،تبدو أكثر نأيًا ،تتباين لكن سيرها يبقى في موازاتنا ،جعلت كذلك إلسعافنا عند الحاجة .أتذكر ّ ّ تنأى عنا،
الصيادون
ّ انحنى بينما الحملة، لدعم سفنهم من جزء إرسال على وطولون مرسيليا تجار أصر
َّ ؤن، م
ُ من تحمله بما ومراكبها ُسفنها
السفن تجاه إفريقية،
والرب كان في ركابهم ،ثم تحركت ُّ ّ قليلة، أيام قبل اتفق العالم كل . قواربهم ب الر
ّ مباركة طلبوا ، سّ ق
َ ال أمام
الرب.ّ كلمة لنشر األرض بقاع في تفرقوا الذين الحواريين أولئك مثل ا حتم
ً سنكون . اس ّ ن ال ر ّ ستغي التي الجديدة التعاليم تحمل
الظلمة ،يفر ماض سحيق ،تعود أورشليم مدينة محاطة بأسوار عالية ،وأبواب تفتح على ّ ٍ صورا من ً كنت مأخوذًا بال ّزُرقة التي تُبدي لي
السفينة .تدنو األصواتمنها رجال ،ويقفز جنود رومان في إثرهم .أصغي إلى دبيب أقدامهم على أرصفة أورشليم ،أو لعله سطح ّ
:أكثر ،ثم أنتبه إلى كافيار .أتساءل ما الذي يجعله يقترب هذه المسافة ،وقد كان يُطيلها؟! وقف إلى جانبي ثم تكل ّم
أن بعض األحالم ال يمكن لإلنسان الجهر بها ،بالرغم من أنها في أذهان الجميع .لم
إلي ساخرين ،أدركت ّ
َّ كان الجنود يشيرون
وحيدا ،سأخرج من الباب
ً الس اخرة ،فانسحبت إلى الغرفة واستلقيت هناك بقية اليوم .قررت أني سأكمل أحالميأحتمل وجوههم ّ
في إثر الحوارين ثم أجلس إلى جانبهم في حقل ال ّزيتون ،وسأقاسمهم الخبز والخمر ،وربما يصحبونني إلى فيافي بعيدة ،وهناك
.يمكنني قول ما أريد ،ألنّه بالتأكيد لن يختلف عن الوصايا التي يحملونها
وحيدا ،إذ دق الباب ،ثم فُتح ورأيت كافيار بوجهٍ باش ،جلس إلى جانبي ،وقال
ً :لم ي َ ُطل مكوثي
:أزال الكلفة بسرعة ،ثم سحب من جرابه غليونًا ،وحشاه بالتبغ ،أشعله ونفخ في سطح الغرفة الواطئ ،وأردف
لكن احتجت إلى سنوات - ّ يتفوهوا بكلمة .كنت مثلك
ّ غنى عن نبش تاريخ بعض النّاس ،هم يقولون كل شيء دون أن
ً نحن في
أما أحالمي فال يفصلنا عن تحقيقها إال أيام قليلة
.عديدة كي أتخلص من بعض أوهاميّ ،
مرة يتكلم كافيارُ ،أفاجأ بامتالئه .بدا مثل أولئك الجواسيس الذين أرسلهم نابليون إلى باريس ومرسيليا ،أو ربما مثل أولئك
كل ّفي ّ
عليما بكل خباياهم ،القُ َّواد منهم ،وحتّى العرب البسطاء وعالقاتهم باألتراك،
ً كان بها أسطوله يرسو أن وقبل مصر، إلى أرسلهم الذين
كيف يفكرون ،وكيف يحلمون َ .خ ّ َمنت أن كافيار كان بينهم ،ولكن سنّه بدت لي صغيرة إذا ما قُورنت بال ّزَمن الذي سار به نابليون
الشرق
.تجاه ّ َ
تناقضا؟ -
ً وما الذي يرغم رجل ًا مثلك ،يمقت قائد الحملة ،أن يسير في ركابها ،أليس هذا
.ال يوجد شيء اسمه التناقض حين يتعلق األمر بالمصالح ،ما يشغلني اآلن هدفنا المشترك -
مجرى -
ً حدد لهم ،ليصبحوا ُمجبَرين على اتخاذ
مفيدا .مصائر بعض النّاس تُ ّ
ً المرة الوحيدة التي أسمعك تقول فيها شيًئا
ّ هذه هي
.واحد
لكن ما يجعلني مختلفًا عن الجميع ،أن النّهر اآلن قد اقترب من البحر ،أيام قليلة ثم تُبصر انهماره في -
ّ ربما كنت محقًا،
.سيدي فرج
قال كافيار كلماته األخيرة ،وهو ينفض غليونه ،ثم أعاده إلى جرابه ،حمل نفسه وغادر الغرفة .انتظرت حتى صفق الباب ،وخطا
السلم تجاه غرفة القبطان ،ودون أن ينتبه تعقبته .سار
الشمال فتبعته ،رأيته يصعد ُّ
مسافة منه ،خرجت في إثره ،انعطف إلى ّ
الر واق ،وحين بلغ مكتب القبطان امتدت يده إلى بابه ،فتحه وغاب داخل الغرفة ،أوقعني كافيار في الحيرة ،لم يدق
خطوات في ّ
.الباب! أو ينتظر حتى يؤذن له مثلما يفعل البقية .لم أجرؤ على الل ّحاق به إلى هناك ،وتراجعت إلى غرفتي
يومان آخران في قلب البحر ،ال ّز رقة من الجوانب كلها ،تمر بنا سفن إنجليزية وأخرى إسبانية ،نراها تدنو من بعيد ،ثم تنحرف عن
السفينة التي تراءت لي في صباح اليوم الثّاني بدت مختلفة ،وأنا أراها بمنظار القبطان .العلم طريقها ،وتمر بين القوافل .ولكن ّ
مبتسما ،كأنه كان موقنًا بقدومها ،تكل ّم وهو
ً األخضر والهالل األصفر الذي يحضن نجمة باللون نفسه ،تفاجأ القبطان ،وأقبل كافيار نحونا
:يقف إلى جانبي
.أن ّ َى له أن يفعل ذلك .النّهر قد غادر المنابع ،ولن يتوقف حتى يبلغ البحر ،كن ُمتي ّقنًا من هذا -
السفينة التي تدنو ،حتى كانت إلى جانب البروفانس. السطح ،ثم عاد في هيئة أخرى يقف إلى جانبي ،يراقب ّ تعجل كافيار مغادرة ّ
ّ
بحاران نحونا ،وحين بلغ لوناجور صعد جدف قارب به َّ َّ الرجال منها إلى سفينة األميرال ،غابوا زمنًا هناك ،ثم ومن ثم انتقال بعض ّ
السطح ،ثم توقف كأنه نسي شيًئا أحدهما إلينا ،وطلب من كافيار االلتحاق بالبروفانس .سار كافيار إلى جانب البحار حتى بلغا نهاية ّ
ما ،ونادي علي أللتحق به .لم أصدق أني سأنتقل إلى البروفانس ،قفزت تجاهه ،وترافقنا حتى كنا بسفينة األميرال ،خطونا سويًا على
الدخول دون استئذان ،بل دق المرة على ّ ّ الرواق ،لم يتجرأ كافيار هذه المعبأ بالجنود .حين وقفنا عند باب غرفة في نهاية ّ سطحها ُ
الباب ،ثواني ثم فُتح ،دخلنا غرفة واسعة صفت بها الكراسي ،رأيت من مكاني عند الباب أربعة ُضبَّاط يجلسون متقابلين عند نهاية
المرة األولى التي أرىّ العثماني على رؤوسهم عمائم ،وضع أوسطهم أكبرها ،كانت الطاولة في حين جلس ثالثة رجال آخرون باللباس ُ ّ
خمنت أنه من الحرير ،وشريط ّ تفحصه .الثّياب بدت جميلة ،قميص أسود طويل، َّ عثمانيًا ،لذا لم أكن ألفوت فرصة
قائدا ُ
ً فيها
الشريط ،وعلى بحزام حمل الل ّون نفسه مع ّ ٍ مزخرف شغل مكان األزرار ،يلمع كأن خيوطه من ذهب ،أو ربما هي كذلك ،يتمنطق
ردد الجميع مختلفًا .شككت أن هؤالء ّ مثلما جانب الحزام ،لمعت أحجار فيروزية على مقبض الخنجر ،كان شكل القائد ،أو الباشا
بقلق إلى الباشا ،كنت حينها بجانب ٍ الذين اتهموا األتراك بالغوا في ذلك ،فلم يعكس وجهه إال الوقار .بينما كان األميرال ينظر
وجها
كافيار ،ثم دنوت أكثر عندما طلب منا األميرال الجلوس على يمين الباشا ،ليقابلنا على يساره .صمت الباشا هنيهة ،ثم تكل ّم ُم ً
المعني بالحوار ،فعاد الباشا بوجهه إلينا ،وتكلم بلغته الثّانية :قبل أيام ّ لكن هذا األخير أشار إلى كافيار ،وكأنه
ّ كلماته إلى األميرال.
السلطان المعظم ،إزاحة باشا الجزائر ،والوصول إلى ترضية مع مل ِكك ُم مهمة كلفنا بها ُّ
ّ غادرنا إسطنبول في طريقنا إلى الجزائر ،في
الخالف ِ .إليقاف الحملة ،فنحن منذ البداية لم نكن موافقين على هذا
الرضا .ثم انتقلت ببصري إلى الباشا ،في صمت كافيار ثواني ،ثم عاد يُترجم الكلمات للقائد دوبيري ،عبّرت مالمحه عن عدم ّ
حديثه لم يحرك يديه ،بل ظل يضع كفه اليمنى على اليسرى ،وتُغادر الكلمات شفتيه بكل هدوء ،بالتأكيد تُقت إلى نجاح الحملة،
الرب أن تُسفك في سبيل إعالء الخالف ،كرهت إراقة دماء لم يشأ ّ ِ شعورا ما خالجني ،وددت لو أنهم يصلون إلى إنهاء هذا
ً لكن
ّ
الطائل إذن من هذهالدول األوروبية ،فما ّ
كلمته .حين يتوقف األتراك عن القرصنة واستعباد المسيحيين .وعن فرض ضرائب على ّ
الحملة؟ ولماذا ال تكون مثل حملة الل ّورد إكسموث؟ يُحرق أسطولهم حتى آخر سفينة ،ويُحرر ما تبقى من العبيد هناك ،ثم ينتهي
مضطرا إلى تحوير الترجمة،
ً تبرمه من الباشا ،لذا لم يكن كل شيء ،وبدا لي أن كافيار كانت له وجهة نظر أخرى ،يُقاسم األميرال ُّ
رد من حينه ّ ترجمته، سماعه بعد صمته األميرال طلُ ي لم :مثلما
يُؤسفني يا باشا إخبارك أنه غير مسموح لك الذهاب إلى الجزائر اآلن .ستُرافقك إحدى ُسفننا وتعود بك إلى طولون ،ولن تبرحها -
.إال حين نأذن لك
السفينتين، ُأ
بعد أن أنهى األميرال المقابلة ذن لنا بالرحيل .عاد بنا القارب إلى لوناجور ،وجدنا القبطان في مكانه يراقب رحيل ّ
البحارة يُعلن أن ماهون تتراءى من بعيد
َّ أحد صياح تعالى حين الجنوب، إلى والتفتنا األفق، خط .وظللنا نراقبها حتى غابتا عند
الراضية عن مسيرتهم، الساكن والسماء ّ ودعنا ماهون ،وامتدت ال ّزُرقة من حولنا ،كان الجنود يتطلعون إلى األفق فال يرون إال البحر ّ ّ
أخمن في األيام ّ طح الس
ّ جانب على أغان عسكرية إذا ما انتابهم فُتور ،وأخرى حميمية إذا ما اشتاقوا لحبيباتهم .أبقى ٍ يُغنّون
لكن
ّ المقبلة وما تحمله ،استحضرت الباشا الذي أجبروه على االنعطاف إلى طولون ،وتمنيت لو امتدت الجلسة أكثر ،فأعرف دخيلته،
الدائمين ،أو وتبرمه ّّ لعبوسه األميرال دوبيري كانت له وجهة نظر أخرى .شعرت بحنق على األميرال ،وال أدري لماذا أنفر منه ،ربما ُ
كثير ا ،إذ اختاروا منذ البدء الجهة األخرى ،حانقين على البوربون ،يتهمونهم أنهم أرخوا الحبال لرجال ً ربما ألن البحرية لم تستهوني
أحكاما ال
ً المغلف بسحابة الغموض ،وال يفتح األبواب إال حين يُريد ،ليطلق الدين .ربما كان كافيار يقاسمهم عداءهم للبوربون ،تاريخه ُ ّ
متكبرا .يظل كالمي ً يضن بها ،فيتراءى للذين من حوله ُّ تخلو من تجربة ومعرفة عميقة باألمكنة وأمزجة النّاس ،تحتاج إلى تفسيرات
الر جل ،الذي جمعتني به سفينة لوناجور قبل أيام ،وربما سأتذكره بعد سنوات وأقول إنني لم أفهمه كفاية، مجرد تأويالت لذهنية هذا ّ
السحابات المتراكمة ،ولم ّ أراقب طح، الس
َّ حافة عند مكاني في ا متسمر
ً كنت . أظهرها التي األشياء من وما أخفاه عني كان أكثر
السرعة ،تكثفت الغيوم نهاية األفق ،ثم كانت تُسرع تجاهنا .لحظات ورأيت البرق يلمع على جوانب السماء بهذه ُّ أتكهن بتقلب ّ َ
خمنت أنها المايسترال ،وجعلني مداها البعيد أميل َّ الريح القوية،
ّ أثر من الموجات واهتزت عد، الر
ّ صوت إلي
َ ّ تناهى البروفانس ،ثم
فررت من هناك إلى غرفتي .وجدته كعادته ُمستلقيًا ُ الشواطئ اإلفريقية. إلى رأي الجميع أنها بقية عاصفة تعبر جزر الباليار إلى ّ
دون بالغالف غير كلمة يوميات بخط كبير ،واسمه ُمدرج أسفلها، على فراشه والكتاب في يده ،دنوت أكثر ألقرأ عنوان الكتاب ،ولم ي ُ ّ
لو ق ُّد ر لي قراءة جزء منها ،لكنت أزلت بعض األشياء الغامضة حوله .لم أطل التفكير بل استرخيت على فراشي ،ووجهي إلى
يتجول على سطح البروفانس ،كم تُقت إلى االقتراب أكثر ّ السطح .أغمضت عيني محاول ًا إبعاده عن تفكيري ،رأيت القائد بورمون ّ
أخبارا نادرة عن قائد الحملة ،وفاتح إفريقية .وليس مجديًا ً منه ،كنت سأكتب أشياء لم يسبقني إليها أحد ،وستنشر لو سيمافور
سمى المكان الذي سنرسو به ،في البداية مقاسمته المكان في حضور دوبيري هناك ،سأنتظر حتى ننزل إلى سيدي فرج .هكذا كان يُ ّ
الشواطئ اإلفريقية .وربما قد تتراءى لكم عرج على بالما ،بعد رحيلنا عن ماهون ،قيل لنا أسبوع فقط وسترون ّ خططوا أن ن ُ ّلم يُ ِّ
مدينة الجزائر من هناك .وقد مر يومان ولم نُبصر شيًئا ،وها هي العاصفة تُهاجمنا في اليوم الثّالث ،تأففت منها وفتحت عيني بعد
:استغراق دام دقائق ،وسمعته يقول
أسبوعا -
ً .سننعطف إلى بالما ،ونمكث هناك
.ال تنتظر الكثير ديبون ،بالما ليست ماهون ،ربما لن تُغادر الميناء ،ينتظرنا عمل كثير هناك -
.أسبوع قد ال يكفي الجنود حتى يحملوا مؤونة لهم ولجيادهم ،وقد يكون بعضها نفق -
كانت بيننا وبين قافلة الجياد مسافة كبيرة .ولكنّه ظل يتكلم بيقين من أحصى كل شيء ،حتى عدد الجياد والعجول التي ستنفق
:قبل بلوغنا بالما .عدت إليه بوجهي ،وقلت
باشرا ،قررت أال أطرح األسئلة التي تفتح بابًا على التأويل ،وكنت أنتظر إجابته حتى أرميه بسؤال آخر عن طبيعة
ً كان سؤالي ُم
:عمله ،كان يصغي بانتباه ووجهه غارق بين دفتي الكتاب ،ثم رفع رأسه وقال
.لو جربت العبودية في الجزائر ،وحررك منها أعداؤك لما سألتني -
!وما الفائدة من تحرير العبيد األفارقة إن كنت ال تستطيع منع استعباد المزيد من المسيحيين؟ -
- الرب .صحيح أننا األمجاد التي ابتدأها اإلنجليز ليس عليهم احتكارها وحدهم ،نحن ُمطالبون أن يكون لنا قسم من إعالء كلمة ّ
الرق ،وأننا من َسمح لذلك المجنون أن يشعل الحرائق في آخر من أمضى معاهدة إدانة القرصنة ،وآخر من التزم بعهود إلغاء ّ
أيضا نحن من سيحمل هذا الن ُّور إلى ِ ّ
الضفة األخرى ً .أوروبا .ولكن
الرق ،والمال الذي دفعته هذه - صديقي ،فالحروب التي شنها النّواب اإلنجليز في مجلس لورداتهم من أجل إلغاء ّ أنت واهمٌ يا
عمالنا
ّ أكثر بينهم، من كنا وقد لمنافسيهم
لدول كي تسير حذوها ،لم يكن مجانيًا ،هم أرادوا وقف مصادر التجارة ُ
ٍ بها األمة التي تعتد
أما ادعاؤك أننا هنا من أجل الن ُّور فهذا وهم آخر .المال هو إله كل هؤالء النّاس الذين تراهم من حولك ،قباطنة ّ من العبيد.
الصيادون الذين جثوا أمام القَ ّس في طولون ،ك ُلهم يسعون إلى ُحظوظهم من أموال تلك المدينة .حتى الملك وأيضا ّ
ً وجنودا،
ً وبحارة
الرب ،بل صناديق الذهب التي يُخبِّئها باشا الجزائر .وخائن واترلو ،ما يُغريهم ليس أمجاد ّ
هل يمكن أن يكتمل الحوار مع كافيار ،وهو الذي لم يمتلئ باإلنجليز مثلي ،لطالما كنت شغوفًا بتبع المسالك التي خاضوها لمحو
الرق ،ولم يتوقفوا حتى صادقوا
بدءا من طائفة الكواكر ،وصراع النّواب في مجلس الل ّوردات من أجل تثبيت قوانين تحريم ّ ً هذا العار.
عام ا .آمنت أن اتفاقية ريو دي جانيرو كانت أفضل ما فعلوه ،إذ انضمت إليهم البرتغال والسويدً وعشرين اثنين منذ عليه
مرة أخرىسنوات ،وافقنا على مضض ،ثم أضاء لنا النّور الحقيقي ّ
ٍ والدانمارك ،ونحن يا كافيار ،متى استيقظنا؟ كان ذلك بعد عشر
أيضا كانوا يقبضون علىً حينًا عاد اإلكريلوس .أنا متيقن أنك لن تُوافقني ،وستقول :إن الملك أباح لهم أشياء كثيرة ،وإن النبالء
الس لطة ،وشارل العاشر كان أسوأ الملوك ،ولكن أسوأ الملوك لديك هو الذي يحقق لك اآلن حلمك ،عليك تبجيله ولو في قلبك ،ال ّ
.أن تحتقره ،وتحمل في قلبك التعاطف لمجنون كاد يؤدي بنا إلى الهاوية
وحيدا -
ً الريبة ،والذي يرتاب في الذين من حوله ،سيبقى
.إنّه يميل إلى العزلة ،وشيء من ّ
يتبن شيًئا من ِتلقا ِء نفسه -
ّ مدفوعا إليها .لم
ً .ال أختلف معك ،ولكنّه كان
الخاصة -
ّ كردة فعل مباشرة على حوادث في حياته
.أسوأ األفكار التي يعتنقها اإلنسان ،تلك التي تكون َ
وعبودية ،علينا احترام تاريخه -
الرجل عاش حياة ُمتقل ّبة ،بين هزائم ُ
الدرجة ،هذا ّ
.ليس لهذه ّ
دائما -
ً ووضوحا ،هذا ما آمنت به
ً وتواضعا،
ً تجارب في الحياة هم أكثرهم حكم ًة
َ .ولكن أكثر النّاس
هذا يكون حينما يتعل ّق األمر بالناس العاديين ،ولكن الذين حاربوا مع نابليون مختلفون ،إنهم نماذج صادقة منه ،بالفعل استطاع -
الرجل العظيم غرس أحالمه في الذين قاتلوا معه
.ذلك ّ
أيضا يسيرون على ُخطاه -
ً الرب .وهاهم أتباعه .لم أره إال مجنونًا حاول أن ي َ ّ َ
حل مكان ّ
شأن كبير بعد احتالل الجزائر -
ٌ الرجل سيكون له ِ
.آم ْن بما شئت في قلبك ،ولكنني أنصحك أن تُوثّق عالقتك بكافيار ،ذلك ّ
كل يوم يزيد يَقيني بأن بعض القباطنة ال يختلفون عن القراصنة األتراك إال في صفات قليلة ،بالنسبة إليهم العالقات اإلنسانية هي
شو َشت كلمات كافيار عقلي، ّ والسلطة ،صرت أؤمن أن بعضهم لم يشارك في الحملة إال من أجل الذهب، ُ منابع ُمتجددة للمال
وجعلتني أعيد حساباتي ونظرتي لألمور ،حتى قبطان لوناجور ،بدا في اليوم األول ُمختلفًا .ولكن األيام التالية أظهرت ُجوعه ،كان ال
وضجوا ولم ننتبه لهم .ومن هناك رأيت البروفانس ترفع ّ السفينة
الرصيف الحاوي ،الجنود عبؤوا سطح ّيزال ينفث دخانه ،بينما أبصرت ّ
الريح ،فتحركت متجاوزة الميناء ثم كنا نتعقبها ،إلى أن أحاطتنا ال ّزُرقة من كل
ّ هدهدة معها وتواطأت مرساتها ،ثم تبسط األشرعة،
.جانب
شو ًشا كل يوم ،ولم يبق إال يوم آخر وتَتَراءى لنا مدينة القراصنة .عليك يا وضوحا في ُطولون ،إال أنها تزداد تَ ُّ ً الرؤية أشد كانت ّ
جراء ما
ّ ب الر
ّ ُّ عنه تخلى ربما . كافيار مثل رتاب م
ُ كلمات زعزعة من أصلب تحمله، بما العميق إيمانك أمرك، م ِ
حس ديبون أن َ
ت
ختزل العالم كُل ّه في رأسه ،الكتاب نفسه
تمطى في سريره ،كأنه ي َ َِ ّ ي كافيار يزال ال . عني تغيب أخرى ألشياء أو نابليون، اقتَ َرفَه مع
رطي .ثم أرفع صوتي به ،يُخرج رأسه من بين دفتي الكتاب، رد ُده تمتم ًةِّ :
الديوان اإلسبَ ُّ العنوانُ ،أ ِّ
تأكدا من ُ أمد نظري ُم ً ُّ بين يديه،
حدق تجاهي وكأن ّ َه ال يراني .هممت بسؤاله عن محتوى الكتاب ،ثم تراجعت ،وقبل أن يَدفن رأسه بين إلي ،ي ُ ِ ّ
َّ ويضعه جانبًا ويلتفت
:دفّتي الكتاب ،قال
.عليك أن ترتاح يا ديبون ،سنرى ربوة القراصنة في مساء الغد ،وسينزل الجنود بسيدي فرج -
رددون في ثيرا للمشاكل مثلما كانوا يُ ّ دوما كان الجنوب ُم ً ً شرئبَ ٌة نحو الجنوب،تو ِ ّفزين ،أعناقهم ُم َأصحو على صباح ندي ،أرى الجنود ُم َ
ساهرا يُقل ّب كتابه ،أو ربما يُقل ّب كتبًا أخرى وخرائط في رأسه .ظننت أنه ال يزال هناك ،ثم ً باريس .كافيار لم ينم ليلته ،قضاها
وحيدا ،ينتظر أن ً دخن بعصبية ،ونزلنا إلى أسفلها حينها انتصف النّهار ،وتركناه باألعلى ،آثر البقاء السفينة ،ي ُ ّ
لمحته عند نهاية سطح ّ
السماء اإلفريقية ،كان الشمس عن خطها العمودي إلى ّ عدت إليه ،حين مالت ّ الربوة له ،وظل يحشو غليونه بالتبغ ،حتى ُ تتراءى ّ
لحظات حتى تراءت لنا ،وصاح الجنود صيحة ٌ إال هي وإن جانبه، إلى وقفت بعصبية، يمسحها ق، ر
ََالع بحبات د يتفص
َّ كافيار جبين
جميعا .هل كان ما رأيت جبل ًا من رخام أم مدينة؟ لم أتبيّنها إال ونحن ندنو أكثر منها ،فأرى ُسورها في شكله ً فن الس
ُّ من واحدة
فوف من أيضا تراءت لي ُص ٌ ً قباب كثيرةٌ .من هناكٌ تعلوها بانتظام مصفوفة واألبنية سمائها، في تشهق نارات وم
َ حيطها، ُ ي الغريب
عيني غيرّ شهقت َمناراتها هي األخرى من هناك ،ف ََركت ِ ُصورا
توزعت حدائق مصفوفة ،تُحيط ق ً ّ المستوية ،وخارج األسوار الشوارع ُ ّ
المخيفة لها؟! أهذا هو الجحيم الذي أخاف أوروبا قُرونًا الصورة ُ حدثونا عنها ورسموا ّ ّ صد ٍق ما أراه ،أفعل ًا هذه هي المدينة التي ُم ّ
الشكل، أصدق أنني كنت أراها بذلك ّ ِّ بمدينة جميلة .لم ُأ
بركان ،أو ثكنةٍ رماديّة الجدران .وإذا بي فاجأ َ ٍ ثالثة؟! تخيلتها مثل فوهة
الخرافية عن الجحيم في مدينة ُ والص َور لم تُطابق ما ِقيل عنها ،هل هو وهمٌ آخر قد ِعشته؟ قد أوهموا الجميع بتلك ال ِقصص ُّ
أتوهم فقط ،لحظتها َو َصل َتني كلمات كافيار ،كأنه يدري ما في داخلي :ال تتعجل في َّ القراصنة .ربما كان األمر كذلك ،وأنا الذي ِ
أحكامك يا صديقي بالتأكيد هذه المدينة جميلة بما يكفي كي تضطرب لرؤيتها أول مرة ،ولكن ليست كل األشياء الجميلة هي فعل ًا
الشرور كلها .كذلك .ما عليك االهتمام به اآلن ،هو كيف يُمكننا إغالق ُصندوق باندورا الذي انفتح منذ ثالثة قرون على ُّ
لم ُأجبه .سحبتني اُألسطورة اليونانية إلى عوالم بعيدة .ال يمكن المجازفة أكثر مع كافيار ،بالرغم من أن اُأللفة قد زادت بَيننا،
غامضا
ً بعيدا عن ال ُّرؤية ،وخل َّ َف ْ
ت شيًئا ً السفن تنعطف إلى الغرب ،ثم نََأت ولكنني قررت إشاحة وجهي عن المدينة البيضاء ،وقوافل ُّ
مد يده ُمستقيمة تُشير إلى ّ ثم . عظيم ابتهاج
ٌ ه وحر
ُ َ وعال مكانه، في كافيار في نفسي .مسافة أخرى وبدا لنا خليج سيدي فرجَ ،قفَز
إلي
َّ :هناك ،والتفت
.نعم ها هو سيدي فرج يا ديبون ،آن للنّهر أن ينهمر على إفريقية -
وقلت في دخيلتي
كافيار
ُمختارات من ِ ّ
الديوان اإلسبرطي
اللوحة األولى
ع ِفنة تُطلقها
ريح ٌَ كل مساء أرى المدينة من شرفة بيت القُ نصل ،ال أدري كم مرة شاهدتها من هناك .مئة ،ألف ،أو ربما أكثر،
جديدا ،أستعيد ُصورها بعد قصف الل ّورد إكسموث، ً مرة في داخلي كلما رأيتهم يبنون َمركبًا كل ّالضاجين ،وكراهية تشتعل ّ أصوات أهلها ّ
المور يُدركون كم يستجلب هذا الخراب بهج ًة إلى نفسي ،حتى ُدخان حرائق ُسفنهم ،كان كأنه نسم ٌة صباحية تجوب ليت أولئك ُ
الحديقة التي انبسطت أمامي ،بأشجارها العارية بسبب الجراد ،بينما هؤالء األتراك يَبنون كل يوم سفين ًة جديدة ،وأخرى تصلهم من
المور كذلك .وجوههم فادح ا ،عندما تركوا المدينة ورحلوا دون تدميرها وقتل بقية اليولداش ،وربما ُ ً إسطنبول .كم كان خطأ اإلنجليز
السياط ظهورنا ،ولكن من ذا الذي يُعيد حملة اللورد؟ وال يقدم من أوروبا إال من يحمل قشرت ّ البائسة تستحق أن ُتسحل مثلما ّ
سم ى .غريب أمر أولئك األتراك ،يأتون من أزمير أول األمر مجرد جنود ،وفي وقت الضرائب للباشا علي ُخوجة هكذا ي ُ ّ الهدايا أو ّ
الم لك ،الباشا علي يقتل الباشا عمر ،وهذا األخير تآمر على قتل سابقه ،وعلى هذا ُ أجل من يتقاتلون باشوات، يصيرون وجيز
أما حينما ي َ ُّ
حل ّ الحظ، منها يستجلبون يزورونها األضرحة، حولهم يبنون . طبيعية ميتة يموت من سون قد
ُ ّ ي ور الم
ُ أضحى حتى درجون.
يَ ُ
عنق الباشا .تتسرب اإلشاعات من شقوق أسوار الوباء ،أو الجراد ،أو حتى الحروب التي يُهزمون فيها ،فإنهم يُع ِل ّقونها ُخفية في ُ
بعمر باشا، جديدا بعد خنق الباشا القديم ،وربما هذا ما فعلوه ُ ً الجنينة ،يُعلنون باشا ُ الثّكنات ،فيتلقفها اليولداش .يتحلقون حول قصر
الدينية ،ويَتَفاخرون أنه َط َرد المور بميوالته ّ وحل بعده الباشا علي .يُعجب ُ َّ أياما قليلة بعد قصف المدينة ثم ُخ ِنق، ً إذ لم يلبث إال
المور،ُ هؤالء من بالمدينة ا ً قّ ل تع أكثر كانوا ربما الجنوب، نحو روب الد
ّ يشققن رفة، الش
ّ من ا أيض
ً رأيتهن وقد يف، الر
ِّ إلى المومسات ُ
سمحون لها بمغادرة بيتها، ُ ُ ي ال ور، الم
ُ أحياء في خاصة ضعيفة، ا دوم
ً المرأة تظل . معه تعاطفت الذي الوحيد المشهد ذلك وربما كان
الرجال ،حينما عبرت درب البحر في اتجاه حي المقاهي .يختار بعضهن برفقة ّ ّ تلف نفسها في كومة القماش .رأيت إال حينها ُّ
وجبناء مع ُحك ّامهم من األتراك المور أقوياء مع نسائهمُ ، ُ هؤالء كم . يون الع
ُ من عليهن
ّ يخشون كأنهم الخاوية، قائف الس
!الرجال ّ ّ
اللوحة الثّانية
المور سريعة أكثر من .األيام الفارطة ،وكأن شيًئا ما سيحدث .كان المساء في أوله، مساءٌ ُمختلف يحل على ربوة القراصنة ،حركة ُ
الجنينةَ .حدست أن الباشا هو من طلب ُ الرسمي لألتراك ،انتصب في مقابلة قصر السيدة ،الجامع ّ ومجرى َسيرهم تجاه جامع ّ َ
الرياس واليولداش من هناك ،ومنذ بداية حي المقاهي .اعتدت كل يوم مراقبة ّ ّ اجتماعهم ،وفك ّرت بالنزول مع شارع البحر حتى أبلغ
مكوثي بِبَيت ال ُقنصل قررت أن أستغرق الوقت ك ُله في معرفة كيف يُف ِك ّرون ،حين يَن َف ِصلون عن َأ َ
وجا ِق ُهم ،أو عندما يُغادرون ُسفنهم.
والم ور ،سيجعلني أكتب بوعي عنهم ،أتقرب من بعضهم ،وأرشي آخرين ،يتكلمون وال أفهم ُ كنت أؤمن أن إدراك ذهنيات أولئك األتراك
ومرات ال أستوعب كلماتهم التي يُغمغمون بها. ّ بهما، فهمي ن تحس
ّ رغم أيأس اً ن أحيا . دتينإال القليل ،العربيّة والتركية كانتا ُمعقّ
ألفاظا فرنسية ،والكثير من اإلسبانية.ً لغات أوروبية أخرى ،أجد بها ٍ مزيج من التُّركية والعربيّة ،وحتّى ٌ وتتنوع الل ّهجات بتنوع الوجوه،
دخ ن معهم غاليينهم ،ما زالوا يحبونني مادامت أدفع عنهم ثمن ما يشربون .يهتفون حين يُروني ُمقبل ًا: أنضم إليهم في المقهىُ ،أ ِ ّ
ُّ
قصدا ،حتى يتوافق مع كلمة كافر .يَتركون لي مكانًا حيث يتكئون ،نستمتع ً كافار كافار .أتفطن كيف يُميل بعضهم لسانه باسمي
الشرقيون يميلون إلى االسترخاء والتلذذ بالحياة ،حتى غناؤهم كان رتيبًا بم ّص الغاليين ،ومشاهدة المغنين وهم يتلوون باأللحان .هؤالء ّ َ
المغنية كانت ستبكي وهي تُعيد مواويلها ،ارتخى الذين من حولي ُمنتشين بها حد اإلغفاء ،والغرفة
وممل ًا ،ويبدو لي أحيانًا أن ُ
المور ال يزالون يَشقُّون
مر ًة أخرى في شوارع المدينةُ ،
هواء نقيًا ،وأنغمس ّ
ً افر خارج المقهى .تسحب رئتي
الدخانُّ ،
الواطئة يَمألها ُّ
السيدة .سرت في َمجراهم ،ثم وقفت في مقابلته ،لم يكن يُسمح لي بدخول المسجد ،استغربت فراغه من الطرقات ،وجهتهم مسجد ّ ّ
لماما
ً الصالة في هذا الجامع إال
المور ّ
.الجنود ،ولم يألف ُ
أما األتراك فبروتستانت ،وقد ال تتبدى هذه المور كاثوليك المسلمينّ ، اعتاد القُنصل محادثتي عنهم .يردد :يُمكنك يا كافيار اعتبار ُ
وخاصة إذا ما تعلق األمر بالقضايا المالية. ّ الفروق بجالء ،مثلما نراها عند المسيحيين .وقضاتهم فقط من يفقه الفوارق بينها بدقة،
تخص األتراك أو التي تخصهم .وهذا الذي ُّ فرقون بين المذاهب ،إال حينما يُشيرون إلى المساجد التي لكن النّاس العاديين ،ال يكادون ي ُ ّ
ّ
يدخله .ولوال
ُ الم ور يحتملون ظلم األتراك ،قانعين بتجارة بسيطة .منعوهم من تصدير الحبوب ،حين احتكروا ُسوق الميّارين وما جعل ُ
الدين عائقًا في الحياة العادلة للناس ،يأمرهم بالصبر على ظلم دائما يُصبح ّ
ً تصرفاتهم .أحيانًا أو ُّ المشتركة لما َصبَروا علىالديانة ُ
هذه ّ
الدينية كانت في ّ لطة والس
ُ المهمة، المناصب في الحق لديهم ليس أنه كما .ورة ّ ث ال عليهم فليس بالسياط ضربوهم ولو حتى ّام، الحك
ُ
المور
ُ هؤالء بعدد قورنوا ما إذا قليلون أنهم رغم ام،َ ّ ك الح
ُ مذهب .يد
الصالة قبل األخيرة .والناس ما زالوا يتوافدون على المسجد ،ثم رأيت باب القصر يُفتح ،وبعض يرتفع صوت المؤذن ،يعلن عن ّ
المور في أمكنتهم ،رأيت ذهولهم وهم يُراقبون كوكبة اليولداش المحيطة بالتركي الذي خرج من بمحاذاته ،تسمر ُاليولداش يسيرون ُ
الجنينة .ثم سمعت كالم أحدهم :إنّه الباشا ،إنّه الباشا .كان النّاس ينحنون وبعضهم يقترب محاولين تقبيل يده ،ويدفعهم اليولداش
ُ
الطرق إلى حي القناصل وشققته حتى كنت به جميعا في المسجد .واخترت أقرب ّ ً .بعيدا عنه ،إلى أن غابوا
ً
:يقول القُنصل
:ثم أردف
.لك أن تتخيّل يا صديقي أنه في العشر سنوات األخيرة قُتل ستة ُحكام للمدينة -
الشوارع إلى حياتها األولى ،جلست أستمع بملل إلى حكايات الريّاس التي ال أفهم أسرعت في اليوم التالي أراقب المدينة .عادت ّ
المغنّية تتأوه كأنها
إلي صوت َُّ المحورة ،حتى تغيب معالم الكلمات ،ويتناهى
إال اليسير منها .مزيج من الل ّهجات األوروبية ،واأللفاظ ُ
في الفراش تحت وطأة جندي غليظ ،والدخان يغمر المكان ،ال أستوعب كيف يمكن لهؤالء النّاس االستمرار في حياة مثل هذه،
حمدي .ولم تكن إال الم ّ
الدين ُأفر منهم بعد سماع دعواتهم أن أعتنق ّ
المور واألتراكُّ ،
كسول وممل ّة .ال ّزمن ليس له أي معنى عند ُ
ٍ
.لبقية رياالت البوجو التي بحوزتي
الجنينة ،وتفاجأت بسلسلة طويلة من األضواء ،تتحرك نحو الجنوب ،اقتربت منها أكثر، ُ الشارع المقابل لقصر
حين أظلمت تسللت إلى ّ
بدءا من القصر حتى ً محملة بالصناديق ،وتتبعتها
ّ الرجال وهم يُغادرون القصر ،ثم رأيت بغال ًا
سمعت وقع الحوافر على األرض ،وهمهمة ّ
الصحراويون المكل ّفون بحراسة األبواب ،بالرغم من أنهم كانوا أكثر طيبةعائدا ،خشيت أن يعترضني ّ ً شققت طريقي
ُ بلغت القصبة.
المور
ُ هؤالء .من
المور معه ،وجعلهم - أن هذا الباشا أكثر األتراك حيل ًة .قد انتقل إلى القصبة أعلى حصن يشرف على المدينة ،بعد تآمر ُ يبدو ّ
الطرق .وقد
ّ ى ّ ت بش إرضاءه حاولونُ ي اآلن وهم ثكناتهم، باتجاه مدافعه نصب القصبة أسوار فوق ومن .اليولداش جنود وبين حاج ًز ا بينه
ضحون ببعضهم حتى يَصفَح عن البقية .يُ ُّ
المور يُحنون
وفي المساء كان كل شيء قد انتهى ،وأضحى القناصلة يزورون الباشا في القصبة ،يحملون الهدايا والضرائب ،بينها ظل ُ
الطريق
.رؤوسهم كلما صادفوا اليولداش في ّ
اللوحة الثّالثة
الربوةُ .ميوالتهم إلى المال تجعلهم يخدموننا مقابل فوائد دائمة. الصعب احتالل هذه ّ ما دام أولئك اليهود بها أعتقد أنه ليس من ّ
العربان الذين يقدمون من خارج المدينة .يجنحون إلى الثّورة لكن الخطر الحقيقي ،في ُ ّ الصفة، المور فيهم تلك ّ وربما بعض التُّجار ُ
المكبّلين.
الرجال ُ
محملين بها وببعض ّ ّ الضرائب فإنهم يعودون أما حين يخرج اليولداش إلى جمع ّ كلما أعلن الباشا ضرائب جديدةّ .
دوما أنهم ُمنفصلون عن حكم الباشا .كانوا يُسمونهم القبائل ،حدثني عنهم ً أما أهالي الجبال ،فبدا لي السوداءّ ،
يلتفون في برانسهم ّ
المور،
ُ وجوه من ا بياض
ً أشد وجوههم يتون، ز
ّ ال وأكياس يت، ز
ّ ال ُللق يحملون هناك، أراهم عنهم، ًا ث باح األسواق القُنصل .فأنزل إلى
قاماتهم ُم عتدلة ،ولكنهم أقوياء .تبدو سواعدهم مفتولة ،والكثير منهم يتميزون بشعر أشقر ،تراءوا لي أقرب إلى الفالحين في شمال
كثيرا ،القليلون فقط يعملون بها زمنًا ،ثم يعودون إلى الجبال .المدينة ً يستقر القبائل في المدينة ُّ المور .ال
أوروبا منهم إلى أولئك ُ
الربوة في ال ّزمن القريب
ّ هذه غزو في شرعنا إذا األعراب، من ا خطر
ً أقل يكونوا ولم زق، للر
ّ ِ مصدر مجرد .بالنسبة لهم
الرابعة
اللوحة ّ
ساخطا عليه ،إذ تركناً السويدي ألنني لم أزر زميله الفرنسي ،ولم يكن مجديًا في األيام األولى أن أفعل .كنت يُعاتبني القُنصل ُّ
السجن دون تكليف نفسه بزيارتنا .لم ألتق القُنصل دوفال من قبل ،ولكن الجميع من حولي يتفقون أنه أسوأ من ُأرسل إلى داخل ّ
قوا ٍد عنده ،يتمل ّ ُقه ،وينحني
صفات كثيرة .يظل يسترضي الباشا الجديد ُحسينًا ،يشتغل مثل ّ
ٍ الجزائر ،رجل يشترك مع اليهود في
الدينية .ويُشك ّل صداقات مشبوهة مع أولئك اليهود التجار النّافذين في قصر الباشا .لمالمحمديين ّ
ّ فيُقبِّل يده كلما زاره في أعياد
إلي رشدي ،وجدت أنه أكثر القناصلة َّ همه شيء إال ما يُضيف فرنك ًا إلى جيبه .لذا لم أرغب في زيارته ،ولكن حين عاد يكن ّ
موعدا ،ولم
ً فعالية في هذه المدينة .في باريس كانوا يدركون أنه رغم كل مساوئه فإنّه يظل أصلح رجل إلسبرطة .وهكذا طلبت
وسرت بمرافقة الخادم إلى مكتبه حيث جلست أنتظره .دقائق ثم َول َج الغرفة وحيّاني ُ تمر إال أيام قليلة حتى كنت عند باب بيته، َّ
بحرارة ،كان في نهاية الخمسينيات من عمره ،نحيف الجسد دقيق المالمح ،جلس يهذر بأشياء كثيرة .تحدث عن نابليون ،وعن
والم ور .فأيقنت أنني أمام رجل يخبر كل صغيرة وكبيرة في هذه المدينة .ويفهم األتراك أكثر ُ واترلو ،وعن عالقة اليولداش بالباشا
بصمت إليه ،حين رفع راسه تجاهي ،وتكلم ٍ :من أنفسهم ،ما يُحبُّون وما يكرهون ،كنت أصغي
َّ
نتخل عنكم يا سيد كافيار ،بل كُن َّا على اتصال مع اإلنجليز ،ورتّبنا معهم كل شيء - .لم
ٌّ
محق سيدي القُنصل ،قد قالها لي األمريكيون ،لكني نسيت - .فعل ًا ،أنت
السؤال -
.آمل أن تُعفيني من هذا ّ
يا سيد كافيار ،إنني في غنى عن جوابك ،فهؤالء الذين تختبئون داخل قصورهم في باريس ،لم يرسلوني إلى هذا المكان الخطر -
الرجل الذي يجلس أمامك اآلن .أنا أدرك أن ما يشغلك اآلن ،قد شغل قائدك
عبث ًا ،بل ألن هناك مهام ال يمكن أن ينجزها إال هذا ّ
لدرجة أنه أرسل أحد جواسيسه يستكشف المدينةُ سنوات، .قبل
أال تعلم أن نابليون قد أرسل جاسوسه بوتان قبل سنوات ،استكشف المدينة ،وكتب عنها تقارير عديدة ،ورسم خرائط ،حينها كان -
.نابليون بحلم باكتساح هذه المدينة
وبوتان؟ -
سار دوفال خطوات إلى خزانة أقصى الغرفة ،فتح أحد أبوابها ،وقلب أشياء بداخلها ،ثم عاد بوجه مبتسم ،وبَ َسط أمامي ُحزمة األوراق،
:مربوط ًة بخيوط رفيعة ،ثم تكل ّم بافتخار
.لن تجد هذه األوراق إال في خزانتين ،هذه التي أمامك ،واألخرى في مكتب وزير الحربية -
.كل ُّ
الشروط مقبولة -
للضباط الذين يأتون فيما بعد تتبع المسارات كي -ُّ سجل بوتان مالحظاته قبل سنوات ،وأنت ستُضيف لها هوامش بحيث يمكن
َّ
.يسهل عليهم النُزول بسيدي فرج ،مثلما اقترح بوتان
اللوحة الخامسة
الخيول
ُ مسرعا ،لم أكن أدري أنً السهل ،تَمُأله مقابر المحمديين ،أراه من على صهوة الحصان ،أضربه بكفي فينطلق ينحدر أمامي ّ
بجدية في هذا النّوع من الخيول ،إنها أفضل حتى من الخيول ِّ الرشاقة .اآلن أضحي على الفرنسيين أن يُف ِك ّروا العربيّة بكل هذه ّ
الطويلة .اختبرتُها وأنا أطوف بالمدينة حتىّ المسافات من تتعب وال منسجمة، وأجسامها واسعة، وعيونها صغيرة، رأس ها
ُ األوروبية،
خطرا من جنود اليولداش،
ً أشد
ُ ّ األعراب هؤالء .يسبقونني ا ودائم
ً المدينة، خارج يقطنون ممن األعراب، من الكثير مع وتسابقت
ُ ألفتُها،
فضلون القتال في جماعات ،أو في ُصفوف طويلة ،ولكنهم بالتأكيد لم يكونوا بالشجاعة نفسها، كثيرا عن ُمشاتنا ،ي ُ ّ ً الذين ال يختلفون
الطبيعة البدوية التي تميل إلى ال ِتّرحال ،تجعلهم أكثر توقًا إلى ُ
المغامرة ،ليس لديهم أشياء يُفقدونها ،سوى من يراهم يُدرك أن تلك ّ
الشعر ،دقائق وتطوى لتُحمل على ظهور الجمال ،تلك الكائنات الغريبة ،رأيتها ترعي ولم أجرؤ خياما من ّ َ ً قطعانهم ،حتى بيوتهم كانت
قبحا وأنا أراها عن كَثَب .أتذكر أنّي لم ألبث إال قليل ًا هناك ،وعدت إلى صهوة ً أكثر لي بدت حارسها، فقة على االقتراب منها إال ُر
خصال عديدة
ٍ مر ة أخرى .كل يوم ألمحها في مكانها ،وإلى جانبها العجوز الذي بدا وكأنه يُماثلها في ّ منها .الحصان ،ولم أقترب
الرجلالمر ات التي أعدت فيها قراءة تقارير بوتان .لم تبد لي أنها تحتاج إلى هوامش كثيرة ،فعل ًا كان ذلك ّ ّ ال أدري كم من
فتحا آخر في هذه التقارير ً استثناء .وربما كل النّابليونيين كانوا كذلك ،وأنا منهم ،لكنني لم ُأحدث االستثناء بعد .يجب أن أحدث ً
السهول والمرتفعات بين المدينة السنوات التي قضيتها أجوب ّ المرات خالل ّ
ّ التي تبعثرت أمامي ،والخرائط التي نسختها مئات
أثرا في رسوماته ،عدا الربوة ثم رسمها بدقة ،ولم يترك للصدفة ً الدوام ،جاس ّ واضحا على ّ ً وسيدي فرج ،وسطاوالي .ولكن بوتان كان
طل من أعالها. قد ًرا له التكهن كم عدد المدافع التي ستُ ُّالصغيرة المقابلة للبحر .طوري شيكا ،لم يكن ُم َّ تلك التي تتعلق بالقلعة ّ
مر ة أعدت حساب المسافات بين البحر وبين القلعة ،وبقية األمكنة التي اختارها بُوتان طريقًا للجنود ،أفاجأ أنها دقيقة ،وك ُلما كل ّ في ّ
يوم ثان وأرجع إلى المكان نفسه .أعيد قياس المسافات ،والبحث ٍ وأستيقظ في فجر
ُ َأظل َم الفضاء من حولي ك ُنت أعود إلى المدينة،
بعض ا منها ولو أنها كانت جانبية ،ولكن األعراب كانوا يحلون بها في أوقات غير معلومة ،كان ال ً عن دروب أخرى ،وبالفعل وجدت
ودونت تفاصيل مثيرة عن ِح ِل ّها وترحالها ،وأحصيت عدد الذين يحسنون القتال، َّ بد لي من تسجيل تلك المواقيت ،تتبَّعتُها قبيل ًة قبيلة
وعدد الخيول التي يملكونها ،والبنادق التي يحملونها ،وتوغلت في عالقاتهم بالباشا ،وجنود اليولداش .لم أنتبه إلى األوراق التي تزداد
الر عاة عن األشجار وأنواعها ،وأسأل آخرين إن كانت تنفع في شيء ،وعن تأثير الحمى من حولي ،إذ تتبعت تفاصيل كثيرة ،أسال ّ
المور حامل ًا
والمياه الموبوءة ،وعن األعشاب التي يستعملونها كأدوية .ومن األشياء الغريبة التي صادفتها في هذه المدينة ،ما إن يراك ُ
بجلونك كأنك الباشا ،ويطلبون أن تصف لهم دواء لِ ِعل َلهم .وبالرغم من أنها كانت كثيرة،
لحزمة األعشاب حتى يعتقدوا أنك طبيب .ي ُ ِ ّ
صرون على دوا ٍء واحد يمكنه معالجتها كلها ُ ُّ ي .ولكنهم
يتأمل ُني القُنصل طويل ًا ،ثم يهمس لي :اهتم بصحتك يا كافيار .لم أهتم بكالمه ،كانت كتاباتي وخرائطي هي حياتي الجديدة في َّ
تقاطعت مع ُخطط بوتان ،وأخرى كانت بعيدةَ إسبرطة .ثم حال ذلك إلى هوس ،آالف من االحتماالت جربتها من أجل احتاللها،
أيضا أنه ال بد
ً رت
وقد ُ
َّ بعيدا عن المدينة،
ً أي تحصين ،وليسخال من ِ ٍّ يلح على الن ُّزول من سيدي فرج حيث المكان ُّ عنها ،ظل
من مفاجأة أسطولهم في الميناء .لو أعادوا حملة الل ّورد إكسموث ،فإنهم سيحتلُّون المدينة بكل سهولة .ومادامت ُسفنهم هناك في
نتبه إلى نفسك يا كافيار ،ليس من المعقول أن تستمر في لقاء رددِ :إ ْ
لصد هجماتنا .وظل القُنصل ي ُ ّ
ّ دائما ُمستعدون
ً الميناء ،فإنهم
أمراض تنتشر بينهم ،انتقلت إليهم من حيواناتهم .ستنتقل العدوى إليك .لقد أصبحت أكثر نحاف ًة ٌ وسك ّان الجبال ،هناك األعراب ُ
.وضمورا .انظر إلى وجهك في المرآة
ً
عبوديته .تذك ّرت أول يوم في ضيافة القُنصل ،وقفت
أقف في مواجهة المرآة فأنكر نفسي ،ثم اتذكره ،إنّه كافيار الذي خرج للتو من ُ
ُ
الداخل
.أمام المرآة ،كان الوجه نفسه ،ثم شرعت من دهشتي أنزع عن جسمي الثّياب ،كانت األضالع بارزة ،وبطني انحنى إلى ّ
دخن بشراهة ،وأسهر ساعات متأخر ًة من السنة األخيرة صرت مثل مجنون ال يتوقّف عن الجري بالخالء ،ال آكل إال القليلُ ،أ ِ ّ في ّ
وصدقَت نُبوءة القُنصل .أفقت في فجر يوم على ُح َّمى شديد ٍة. َ ومر شهر آخر ّ . جديدة معارف تحصيل علي
َ ّ امحكوم
ً بات الل ّيل.
السوط
ومرات أراه في لباس األتراك يحمل ُّ ّ نابليون، مع أقاسمها اكنة، الد
ّ نزانة ز
ّ ال أسوار أمامي، ترقص خياالت إلى تحول هَ ّ ل ُ ك العالم
لوح لي في أس َرنا القراصنة ،وقف يُ ِ ّ نهب إلى أشغالنا .ثم رأيت المسافر الذي قاسمني غرفة المركب عندما َ ّ في يده ،بأمرنا أن
تهدم مع آخرين .أفتح عيني فأرى الم ِ ّ
ور َدمه الجدار ُ الشارع ،وحين خطوت إليه انفجرت إلى جانبه قذيفة من سفينة الل ّوردَ ، نهاية ّ
أع ما قاله ،إذ ِ ولم شفتاه تحركت ثم عيني، فتحت عندما ابتسم جبهتي، على من المبلولة القماش قطعة ر غي
ُ ّ ي جانبي، إلى القُنصل
الجثث ،وكأنّيُ بين ا وحيد
ً وقفت شالل، مثل ينهمر والمطر واترلو، سهل أتوسط كنت الحلم في غيبوبتي، إلى أخرى ة مر
ّ عدت
ِ
أللتحق به لوح من بعيد لي .بنابليون يُ ِ ّ
لم أعرف كم من األيام قضيتها طريح الفراش ،يظل القُنصل إلى جانبي ،ال يغادر إال ليرجع ثاني ًةُ .خيّل لي أن دوفال وقف إلى
تشده إلى المدينة
ّ سريعا،
ً أقدر مدى صدقها .لم يُطل ُمكوثه ورحل ّ السرير وتحسس جبيني ،رأيت نظرة األسف في عينيه ،ولم جانب ّ
علي تدوينها .أهذي بطوري شيكا ،واألعراب الذين يحملون بنادق طويلة، َّ بات جديدة معالم هناك أن
ّ شعرت بينما . كثيرة مصالح
لكن آماله تبددت ،يُرسل خادمه للطبيب،ّ الحمى .كان القُنصل يأمل في شفائي
َّ ترحل ثم . امتطاءه اعتدت الذي حصاني وباسم
الصباح استفقت .فتحت عيني، ويحضر حامل ًا القوارير معه .ويستعر جسدي حتى أوشك على الهالك بين يديه ،ولكني في ذلك ّ
وأبصرت سطح الغرفةَ ،س ِعدت بالضوء المنبعث من النّافذة .ومددت يدي كي أالمسه ،كان أكثر دفًئا ،شعرت أنني أستطيع الوقوف،
سارتا بي
َ مرة أخرى وخطوت إلى النّافذة ،ولم تُخيبني رجالي. فأرخيت رجلي إلى األرض ،وتفاجأت أنهما تحمالني ،ثم تشجعت ّ
ربيعا ُمختلفًا في إسبرطة
ً أزهرت ،وكان
ْ ِ
شجرات الل ّوز التي .ببطء حتى ك ُنت عندها ،وأطللت على
ابن ميّار
يشق المقابر.ُّ الدرب الذينكسرا عبر َّ ً السل ّاوي يركض في شوارع المحروسة .إبراهيم آغا ينحدر ُم الص َور من حولي ،أرى ّ تتكاث َف ُّ
الم ِل ّوحة في محطة باريس. ُ ويده باشا سين حُ ثم . انتظارها في وجةدُ . به يحيطون اليولداش كان بينما ترجية الم
ُ ونظرته يحيي آغا
أعد نفسي بينهم ،وما
َّ التكهن لحظتها ،لكني انتبهت أنني لم ُّ تُرى من أخطأ بين هؤالء كلهم ،ومن كانت خسائره أكثر؟ لم أستطع
لكن فُندق مرسيليا
ّ الشكل إال في المحروسة، حدقت قليل ًا في سطح الغرفة .لم تعتد الفنادق أن تكون بهذا ّ ّ كنت أقلَّهم خسارة.
مر يومان على وصولي .لم تتجاوز رجالي فيها عتبة الباب ،قررت أن أستنشق َّ وقد . صدري على الخناق يشد
ُّ ذلك المساء كان
فضل الوحدة على شوارع ُ ّ ي األطوار، غريب ا خ ً شي له بدوت الفندق، عامل بي حملق الغرفة، وغادرت نفسي حملت غاير ا،
هواء ُم ً
ً
الصور،
ّ تنبعث حولي من جيج الض
ّ تنامى كلما عنها، اً غائب وارع الش
ّ شققت ا، بتعد
ً مُ وغادرت للتحية، إال به أحدق ولم . ضاجة بالناس
ّ
المفتي قد مات مذ سامعه قرار بعيدا ،والرحيل لم يكن إال موتًا ُمؤجل ًا .نعم لطالما اعتقدت أن صديقي ُ ً وجوه قد غابت ورحلت
نكسرا ،لم
ً نفيه إلى اإلسكندرية ،وجدتُه يبكي ذلك المساء ،كان باب غرفته ُمغلقًا .دققته لوهلة دون مجيب ،ثم فُتح ووقف أمامي ُم
الصناديق المليئة بها ،قالوا لي إنهم ينقلونها إلى مسجد آخر .ولكنني يهدون المساجد ،حتى الكتب رأيتهم يأخذون ّ ُّ يتحمل رؤيتهم وهم
لم أرها فيما بعد ،كتب القرآن ،وكتب الفقه الحنفي وبعض كتب الفقه المالكي .شاهدت بقايا الكتب تناثر في باحة أول مسجد
اقتحم .جمعها كلها ،ال تكاد تشبه الورقة أختها ،وضعتها بين دفتين جلديتين ،بالرغم من أنها لم تكن لتُشكل كتابًا لتباينها ،وجلست
بعض
ٍ بعضه إلى
ُ كتاب ال ينتمي
ٍ .أتأملها ،تنبأت ذلك اليوم أن المحروسة ستتحول إلى
يسحبُهم من المساجد التي تحولت إلى ثكنات ،ولكنّه لم يستطع ردعهم ،كان الجنود َ قربًا من القائد العام بورمون .رجوتُه أن كنت ُم ّ َ
سوءا بيد أن كلوزيل كان ً أقلهم بورمون كان ربما طريقهم، في يقف من كل يدوسون اس، ّ ن ال وبيوت المقدسة األماكن بين يفرقون ال
ساحات ،وفتح طرقًا جديدة ،عجزنا ٍ حولها إلى
ّ . بعضها أزالت منها، العديد إلى فامتدت بها، كافيار يد أطلق .يفعل ما ا د
ً ّ جي يعي
السالح والوقوف في وجوههم ،والدفاع عن بيوت الل ّه .حملت العيون عن فعل أي شيء .كان المفتي يطلب من النّاس حمل ِ ّ
األخبار إلى القائد كلوزيل ،ظن الجميع أنه سيُح ِ ّذره فقط ولكنّه نفاه ،أخبرني ابنه بأنهم زاروه في بيته ،وعلمت أنها مؤامرة من
ادعى أنه في مقدوره استقدام آالف الجنود إلى المحروسة ك ُلوزيل .أوهموه أنهم راحلون ،وليس لديهم من يتركونه لحراسة المدينةَ ّ ،
ِ
تمض إال أيا ٌم قليلة حتى قائدا بُروتستانتيًا جل ّابًا للمشاكل .كنت أواسيه ونحن نتقاسم غُرفته ،ولم ً لحراستها .لم يكن في نظرهم إال
السفينة إلى اإلسكندرية
ّ ملتهوح
َ الميناء، رصيف من له ح ألو
ّ ِ .وقفت
الشارع يستطيل ،وأتساءل ما الذي يُبقيني في مرسيليا ،وأعجز عن إيجاد ما يُبرر مكوثي هنا .لم تبق إال أسطر قليلة من يظل ّ
العريضة التي بدأت اختصارها ،حاولت جعلها أكثر دقة .هؤالء الفرنسيون يحبون تدوين كل شيء .بينا نكتفي نحن بالرؤية فقط.
وجوها جديدة ،تستطلع األراضي وتحسب المسافات بينها ،وآخرون يسألون النّاس عن ً قبل رحيلي عن المحروسة ،كل يوم أرى فيه
المستنقعات بسراويلهم القصيرة ،يستخرجون األوحال ،ويترك ُونها تتيبّس، األعشاب ،والحيوانات ،يكتبون كل شيء في دفاترهم ،يلجون ُ
أشهرا ،ثم ألمحهم في حي المقاهي ،يجتمعون حول ً يبحثون عن أشياء ال أدري طبيعتها ،يرحلون في قوافل محروسةٍ ويغيبون
أياما قليلة بعدها
ً . ا خ
ً تاري لها نعلم لم أخرى وأمم ومان الر
دفاترهم المليئة بالرسومات الجميلة ،بشر وأشجار وحيوانات وأبنية تركها ّ
يجتمعون بالرصيف ،وقد حملوا ما استطاعوا من حيوانات برية وحشرات ،وحتّى نباتات ،ثم يرحلون .لم نكن نحن قبلهم لنفكر بهذه
الطريقة ،كانوا أكثر ميل ًا منّا إلى االكتشاف ،حتى الل ّغة التي يتخاطب بها النّاس في األسواق ،كتبوا كل ُمفرداتها في دفاترهم ،وحفظوا ّ
واحدا منها ،وراقني وأنا أتصفّحه ،لكنني ً ُجمل ًا كثيرة ،وصار منهم من يتكلم بها ،ثم طبعوا منها ك ُتبًّا ،ووزعوها على ُضبّاطهم ،اقتنيت
.كنت حزينًا أن بني عثمان لم يتصرفوا مثل هؤالء األوروبيين
عبرت المسافة كلها دون أن أعي تفاصيل كثيرة بها ،مقاهي وشوارع جانبية ،وحدائق صغيرة أمام
ُ عائداُ ،مستغربًا كيف
ً انعطفت
المرة ،اكتفيت بالمرور إلى غرفتي ،دخلتها ،ووجدت
ّ هذه العامل أحي
ّ ِ ولم الفندق، عتبة عند وقفت أن إلى كلها ها ُ ت تجاوز البيوت،
.عرائضي هناك ماتزال تنتظرني
فرارا،
ً خفضت بصري
ُ عتم ٌة ال نُجوم بها ،وال قمر ،تميل إلى ُحمر ٍة دامية في نهاية األفق، كان ليل مرسيليا أسوأ ما رأيت ،سماء ُم ّ
أسلم من ْ ولم األخرى، تلو والحادثة طر، الس
ّ تلو طر الس
ّ عني، الغريبة الحروف أتتبع وطفقت وأقفلت النّافذة ثم عدت إلى العريضة،
أسطرا أخرى بقيت عالقة ،كان ال ً وأضيف ارتعاشها أتحمل األخير، طر الش
ّ نهاية يدي ترتجف السطور تجاهي،
عودتها ،تقفز من بين ُّ
أوراق قليلة
ٍ .بد من تلخيصها في
رد د كلوزيل وروفيغو هذه الكلمات ،واآلن أشعر أنني سأسمعها من هؤالء يقولون إن وقتنا ضيق ،القليل من الكالم يفي بمطالبكمّ .
المنسجمة ،والكبيرة لت الحروف في انحناءاتها ُ المستشارين .وقد بدأت األسطر تتضاءل حتى بلغت آخرها .تركتُها تَجِ ُّف برهة ثم ّ
تأم ُ ُ
تفحصتها
ّ ِّ
والصيغ ،ثم علي االعتناء باأللفاظ
َّ يرددون أن الفرنسيين نرجسيون حين يتعلق األمر بلغتهم ،لذا وجب ّ السطور،
عند بدايات ُّ
.ودونت التَّاريخ ،وأمضيتها
ّ
بتلك الحروف الل ّاتينية بدا اسمي غريبًا ،أيعقل أن تُصبح كل أسماء أهل المحروسة بهذه الغرابة بعد سنوات؟ كيف سيستقبل
أحدا
ً سنوات في إقامته بمرسيليا .ربما لم تكن كتابة االسم لتعني
ٍ ادها منذ
السل ّاوي اسمه ،أو ُدوجة ،أو حتى ميمون؟ ميمون قد اعتَ َ
ّ
مختلف في باريس
ٍ .سواي ،لذا قفزت فوق هواجسي وأنا أرتب أشيائي ،في انتظار غ ٍد
في رحيلي عن الفندق أوعزت للحوذي أن يسرع ،وأغمضت عيني بينما سارت العربة ،ولم أفتحها إال ونحن خارج المدينة .لم
نحدرا بين بقايا
ً ألتفت ألرى بقايا األبنية تختفي خلف أول ربوة عبرناها ،كانت المحروسة تستيقظ في كل حين ،فأرى اآلغا إبراهيم ُم
الفار .يومها عبرت الباب الغربي للمدينة ،وحدقت بقوسه طويل ًا ،كنت أحدس أنه عما قريب ستتغير ّ جنوده ،يسير باحث ًا عن جيشه
انحناءاته ،وتتحول إلى أشكال أخرى ،أو ربما تُوضع تماثيل على طرفي الباب .أولئك األوربيون مولعون بالصور والتماثيل البشريّة،
الطرقات ،وعلى أطراف القبور ،شاهدتهم في ساحات والمشهورون بينهم ينحتون لهم تماثيل يضعونها في أماكن ُمختارة ،في تقاطع ُّ
وتجاورت البوابة ،ثم غابت وأنا أرى حركة النّاس يسحبون الجرحى ،يحملونهم على عربات ُ مرسيليا ،وأكثر في ساحات باريس.
الضجيجّ . ببعض بعضهن
ّ ثنّ يتشب محنيات، رن سِ َ ي وأخريات موتى، هن
ّ بعض
ُ األرض، على يستلقين خشبية ،وآخرون على األكتاف ،وبغايا
عددا منهم
ً وجدت اليولداش، من الخالية كنات ُ ّ ث ال إلى عهمّ وتتب فرسي عن لت ترج
َ ّ . األطفال بكاء يتعالى من أفواه النّاس ،وأصوات
يفترشون األرض ،وآخرين يعكفون على غسل جراحهم ولفها بقُماش ،حتى النّساء ك ُن يشتغلن بنشاط معهم .دنوت من شاب يُداوي
الملقاة هناك دون السل ّاوي ،فأشار إلى اإلسطبل ،وما إن فتحت بابه الخشبي حتى راعني المشهد .الجثث ُ جريحا ،وسألته عن ّ
ً
الشاب أساله ،إن كان عدت إلى ّ أيضاُ .
ً ع ُّدها ،وأنا أقلب الوجوه ،أبحث عنه بينهم .ولم يكن هناك عناية ،لم يكن في مقدوري َ
لهن قد
كن معناُ ،ج ّ قطب حاجبيه ،ثم تكل ّم :قد مات الكثير يا سيدي ،وحتّى النساء الل ّواتي ّ الموتى كثيرين من أهل المدينةّ .
قُتل .ال أدري ما الذي انتابني ،حاولت إخفاء دموعي لكنّها طفرت َ .جررت رجلي أرحل عن الثّكنة ،ومررت على أخرى ،لمحت
الطرقات ،ويصرخ أطفالهم، تهدر عرباتهم على أحجار ّ ُ فتيانًا يحملون الجرحى ،تجاوزتهم ولكن حركة النّاس الفارين كانت تمنعني.
الشرقي للمدينة ،يصيحون في يحركون رؤوسهم في االتجاهات كلها ،يُريدون األقرب منها إلى الباب ّ ِّ عيونهم ُمنطفئة.
والرجال كانت ُ
الشارع لتبلغ األبواب .راقبتُها زمنًا ثم الن ّساء واألطفال ،وتمتد أيديهم إلى دوابهم فتضربها بعصبية .ويسيرون في قافلة تتمدد إلى نهاية ّ
الديوان ،وطلبت اإلذن فُأذن انعطفت إلى القصبة ،وخطوت في عجل لعل ّي ألحق الباشا ،ولم ألبث إال قليل ًا حتى كنت عند غرفة ِ ّ
لي ،وعندما دخلت تفاجأت بالباشا على ك ُرسي ّه كأنه جزء منه ،ينظر إلى سماء الغرفة .وكأنه ال يعي ما يحدث حوله ،كان يُكل ّمني
أما حين صمت ،فقد قلت :القائد إبراهيم يَجِ ُّد في البحث عن جيشه الفار إلى عن اآلغا إبراهيم ،وكأنه في استطاعته ردعهمّ .
الجبال .وفي داخلي جزمت أنه لن يعود معه أحد ،لن يثقوا به مرة ثانية .تراجعت قليل ًا ،وتركت بيني وبين األعضاء مساف ًة أقل.
عول عليه الباشا بعد الهزيمة كي يجمع الجنود .لكنني َخ ّ َمنت أنه لو كان القائد يحيى حيًّا لما
الحنَفيَ ّ ،
َ المفتي
وقف إلى جانبي ُ
طرق الباشا بصره إلى األرض ،ثم سمعت استطاع عمل شيء في يوم مثل هذا .كان األوان قد فات على إعادة تنظيم الجيشَ .أ
َ
جهزنا ِحصن اإلمبراطور بذخيرة تكفي المدافع كي َّ بعض كلماته :تأكدوا أننا لن نسل ّم المدينة لهم حتى آخر قطرة من دمنا .قد
لكن الخوف أسكتهمَ .حملق ّ ردعهم .وحين أنهى الباشا جملته ،رأيت استياء من كان حوله .كانوا أكثر ميل ًا إلى تسليم المدينة،تَ َ
.الباشا ملي ًا في الخزناجي ،ثم خاطبه :لم يبق اآلن إال حصن اإلمبراطور .إن هم أخذوه ،فليس في قدرتنا إيقاف زحفهم
الظهور قويًا أمامنا .بينما رآه اآلخرون يهوي بالمحروسة .تمنّيت لو انفردت به ،وقلت له كل شيء .لم تعد صر على ّ كان الباشا ي ُ ُّ
أياما قليلة،
ً إال مود الص
ّ يمكننا ال . تحصى أن من أكثر كانت مدافعهم، ى ّ ت وح جيشهم، الني ه
َ بوة الر
ّ أعلى من ا، نفع
ً المقاومة تجدي
الديوان .خطر لي أنه أراد االنفراد بي ،وبقيت هناك في مقابلته ،ولكنّه أشار إلى أن ألتحق يموت فيها آخرونَ .أ َم َرنا الباشا بمغادرة ِّ
بهم .وخل ّفناه على كرسيه تَ ُسوح عيناه بالغرفة .حتى في اليوم الثّاني بدا لي غائبًا عنا ،كان يتصنّع النّشاط ،والحرص على
أيضا كان مختلفًا ،ازدادت القذائف كثافة من البحر .وعال صياح النّاس ،ثم انتبهنا إلى أن القذائف تأتي من ً المقاومة .ذلك اليوم
السهول .صعدنا ُمسرعين إلى شرفات القصر ،فذهل الجنوب .وحينما تيقنّا أنهم وصلوا إلى الحصن الذي يفصل المدينة بأمتار عن ُّ
الربوة التي تليه .يرد عليها من كان في الحصن بقذائف قليلة، الجميع من الجنود المحاصرين للحصن ،وهم يرمونه بالقذائف من ّ
تهد ًما .انتبهت إلى الباشا يُوعز للخزناجي بأن يجد من جزءا من الحصن ُم ّ ً وظلوا هكذا طوال الل ّيل .وفي شروق اليوم التالي رأينا
سرع من احتالل المدينة .اجتمع األعيان بساحة القصر ،ثم ُأذن لهم َّ لكنه بفائدة، ينسف الحصن .ظن أن تفجير الحصن قد يأتي
َضب. َ غ لحظة في إليهم يلتفت لم هّ ن ولك . القصف استمر إن بالمدينة سيحل الذي بالدخول ،وشرعوا يرجون الباشا إيقاف الخراب
أحدا منً دوي انفجار الحصن ،حين تناثرت فوق سماء المدينة أحجاره ،ولم تُصب ّ يسمع
ُ في اليوم التالي كان أكثر لينًا ،وهو
الفرنسيين بأذى .انزاح الغبار عن مدافعهم التي احتلت مكانًا فيما تبقى من الحصن .اجتمع النّاس في المسجد ،وقف الباشا بينهم،
رفع رأسه وبدا أكثر ثباتًا ونادى باسمي وباسم الخزناجي ،ولم أسمع االسم التالي ،لكنني أبصرتُه حين انشق جمع األعيان عنه،
جميعا أمام الباشا .هممت أن أقول ً :واقترب ميمون مني ومن الخزناجي ،ثم كنا
الرجل وأشباهه ،هو من أعان اليهود وأعطى الفرنسيين سببًا الحتالل المدينة -
.هذا ّ
غ ل في عمقي ،وقفت أمام الباشا ،على يميني الخزناجي وعلى يساري ميمون ،وسمعنا الصوت خانني ،وبَ َدل أن يغادر شفتي تو ّ لكن ّ
حاضرا لقال :شروط االستسالم حفظها العثمانيون منذ اغتصبوا المدينة
ً ّاوي ل الس
ّ كان لو ربما . استسالمنا بشروط فضي ُ ي وهو كلماته
قبل ثالثة قرون .بالتأكيد لم أكن ألوافقه ،يظل الباشا حسين رجل ًا مختلفًا ،رغم أخطائه التي ارتكبها ،ولكنّه كان يُقاسمنا ُحب هذه
.المدينة
ُّ
ويظل بقايا المعاهدة ،بينها ُتسلَّم القصبة ،ويختار الباشا مكانًا يرحل إليه بأهله وأمواله، كان حفظ أنفسنا وأموالنا ومساجدنا ،أحد شروط ُ
الراية البيضاء ،وشققنا ّ حامل يتقدمنا ورمون، ُ ب القائد معسكر إلى ركب
ٍ في رنا ِ
س . دائما
ً الجنود اليولداش في المدينة مثلما كانوا
بكلمات عن حكم المغاربة لبالدهم ،ويستطرد ٍ سر
الدروب حتى تراءت لنا خيمتُه .قطع ميمون مسافة ال يستهان بها إلى جانبي ،ي ُ ُّ ّ
الطريق .وطوال انحدارنا كنت أراهما يتناجيان .ونحن نعبر في ذم األتراك .وحين رأى انشغالي عنه ،تقدمني ورافق الخزناجي بقية ّ
حدق نحونا من نهاية وشاب آخر كان يُ ّ ٌّ وضبّاطه. باب الخيمة لم يتوقفا عن الهمس ،ثم صمتا وهما في حضرة الجنرال بورمون ُ
الضابط إلى جانبه أكثر عصبية .قرأ ّ ميل إلى الهدوء ،حركاته رتيبة ،ووقف تش مالمح القائد بقسوة ظاهرة ،كان َأ َ الخيمة .لم ِ
حرفَّ إذ ال، أم ا مقصود
ً ارتكبه الذي الخطأ أكان أدر ولم الفرنسية، إلى ميمون وترجمها االستسالم، شروط مسامعهم الخزناجي على
بند بقاء األتراك في المحروسةُ ،مضيفًا إليه الن َّفي ،ولم يكن جاهل ًا باللغة الفرنسية .انتظرت حتى انتهى من آخرها ،وصححت البند
استبد بالقائد العام .طوى الوثيقة بين يديه، َّ فه ،لكنني لم أستطع أن أصح الك ََدر الذي عال وجهه .وال االستغراب الذي حر ُ
َّ الذي
الضابط الذي حدق بنا بريبة منذ ّ عما جاء فيها ،ثم أومأ إلى ّ اً راضي كان القائد أن بدا . أمامه بسطها الذي الكاتب إلى مهاَ ّ ل وس
تمض إال دقائق حتى نُودي ِ دخولناِ .سرنا معه إلى خيمة أخرى ننتظر قراره .كنت ُمتيقّنًا أنه سيوافق على ما جاء فيها ،وفعل ًا لم
ور َحلنا ،ولكنني حينها انتبهت إلى المعاهدة رسميًا .حملنا أنفسنا َ علينا ،وطلب القائد بأن يجتمع بالباشا في اليوم الثّاني ليوقّعا ُ
وأيضا ميمون لم يكن هناك ،وتوقفنا ننتظرهما ،ساعة غاباها ثم ظهرا وقد عال ً الركب الذي كنت فيه لم أجد الخزناجي إلى جانبي، ّ
الط ريق صامتين ،حتى كنا في القصبة .في اليوم التالي لم أرافق الباشا ،بل انتظرت عودته عند باب العبوس وجهيهما ،وظلَّا طوال ّ ُ
نكسرا لم تُفارق نظرة التسليم وجهه ،أدرك أن كل شيء قد انتهى بعد استسالم ً الديوان ،ورأيته يقترب حزينًا ُم قصره مع بقية أعضاء ِ ّ
.المحروسة ،ومضى إلى بيته ،ولم أره بعدها ،إال حينما كنت أودعه عند الميناء منفيًّا إلى نابولي
كانت حركة العربة رتيبة ،انزويت داخلها أعيد األحداث كأني أراها أمامي ،إلى أن أبصرت األبنية من النّافذة ،كانت العربة قد
توقفت ،ثم فتح الحوذي الباب ،وقال بصوت مبحوح :قد وصلنا إلى فاالنس .حين نزلت قابلني فندق صغير ،حملت حقيبتي
.وتعتبّت الباب ،ثم شغلت إحدى غرفه ،وسار الحوذي بعربته بعد اتفاقنا على الل ّقاء في صباح اليوم التالي
الحوذي
ُ إلي ضربات سنابك الحصانين ،ثم رأيت َّ الصباح جلست في بهو الفندق حتى تناهت عجزت عن النّوم ،وفي ّ ُ في تلك الل ّيلة
مرة أخرى ،ذرعت شوارعها في ّ المحروسة لي بدت جديد، من الخواطر وعادتني ليون، إلى ريق الط
ّ ُ
نشقّ وكنا أمامي، نشطاً يقف
الشرفات والنوافذ .تعالت أصوات األبواق،أما النّسوة فقد أطللن من ّ منتصف النّهار ،وقف ما تبقى من رجال عند أبواب البيوتّ ،
الدفوف ،يضربونها
التفت إلى اليمين فرأيت صفوفًا ال نهاية لها ،يتقدمها حاملو ُّ
ُّ كنت حينها في شارع البحر ،حين رأيتهم يقتربون.
فترتج األرض تحت أقدامنا ،ويمتد غناؤهم ،فكرت بالبقاء هناك ،وحتى خاطر على اإلسراع نحو القصبة ،كنت أريد لقاء الباشا ،ولكن ُّ
الشوارع كانت ُم عبأة بالجنود .تركوا نظامهم الذي عبروا به األبواب ،واقتحموا البيوت الجميلة أول األمر ،ثم صارت البيوت ك ُلها ّ
الم َوشاة بالجواهر،
السيوف الجميلة والبنادق ُ مشاع ا لهم .وقفت عند باب القصبة ،كان الجنود في كل مكان ،كل جندي سعيد بالديةّ ، ً
ولباس نساء األتراك ،وحتّى أعمدة األسرة النّحاسية كانوا يحملونها ،والساعات التي كان الباشا يحبّها ويحتفظ بها في ركن قصي من
السقائف وكانت رجالي تخطوان فوق سجل ّات عبرت ّ
ُ الشرقية ،وامتدت أيديهم إلى األواني الخزفية ،لم يتركوا شيًئا. بيته ،واألفرشة ّ
السقيفة األخيرة
ّ نهاية وفي ألرجلهم، اً هبَ ن األخرى هي كانت والمساجد، األوقاف ّات ل سج حتى بها، اً ن دو م
ُ رأيتها ة
ٍ كثير المدينة ،أسماء
الس جالت ،وكان آخرون يتدافعون قربي ،وتتناثر من أيديهم األشياء التي يحملونها، جنودا يستريحون ،يُشعلون غاليينهم بأوراق ِّ ً أبصرت
أرضا ،ثم أحمل نفسي وأخطو تجاه القصر ،اجتمع عند بابه ً ببعض يختصمون على ما أخذوه ،ويدفعونني بأكتافهم فأسقط ٍ عضهمويصرخ بَ ُ
مرة
الجنود الفرنسيون ،يحرسون الخزينة بعد أن ن ُ ِه ب جناح الباشا ،بعد أن رحل عنه بأهله في يوم توقيع المعاهدة .وانحدرت ّ
الش وارع مكتظة بهم ،مثل مجانين يتسابقون ويصرخون ،تمتد أيديهم إلى كل األشياء التي يرونها ثمينة ،ولم أخرى إلى أسفلها ،كانت ّ
الص وف ،هدوا أبوابها ،وحملوا األكياس إلى أماكن مختلفة .كنت أسمع صراخ األطفال في أمكنةٍ عديدة ،وانعطفت إلى تسلم مخازن ّ
الريّاس ،ثم سار الجنود إلى الرصيف الخالي من ِ ّ ون ُ ّ ل يحت والجنود، البحارة غادرها ُ وي رصيفه، على ترسو الفرنسية فن بالس
ُّ الميناء ،فإذا
الراية الحمراء ،والسيف «ذو الفقار الذهبي»، ّ أعالها من نزعوا القصبة، إلى صيف، الر
ّ عن بوجهي أشحت واحتلوه، البحرية مبنى
.ورفرف مكانه العلم األبيض
وأترجل عنها ،من هناك امتد حقل الل ّيمون األخضر تذكرت شجرة ّ أتململ في مكاني داخل العربة .وأنادي الحوذي أن يتوقف،
الل ّيمون في قصر الباشا ،وقد أصبح القصر ملك ًا لبورمون .وللجنة التي َق ِد َمت إلحصاء ذهب الخزينة ،استدعوا الخزناجي وأخذوا منه
الدخول .أردت لقاء القائد بورمون ألطلب منه الرحيل .لقيتُه عند باب القصر ،بينما منعني الجنود من ّ المفاتيح ،ثم طلبوا منه ّ
الضابط فيّ حت حتى بَل َغهم صوتي ،ووقف عليِ ،ص ْ
َّ الشروط التي كانت بيننا .ولكنهم أحكموا قبضتهم إيقاف ُجنوده ،قد تجاوزوا كل ّ
مرة أخرى ،يتجاوز الحراس ،ومن ثم يقف إلى جانبي ،وابتعدنا الشاب ّيدا امتدت إليه أعادت إليه هدوءه .ثم رأيت ّ لكن ً
ّ وجهي،
ِ
تبريرات لم تُقنعني .اعتقد صغيرا ،كلَّمني عن الحملة وأهدافها ،وقدم لها
ً خطوات عن الجميع .ثم سألني عن حاجتي .كان شابًا
الط ريقة فقط ،يمكن للمدينة أن تستوعب الحضارة األوروبية .سحبته ذلك اليوم من يده ،وعبرت به سقائف القصبة ،كان أنه بهذه ّ
الجنود يغادرون البيوت األخيرة التي نهبوها ،وبدا لنا بعض جنود البحرية أكثر َحنَقًا ،إذ وصلوا متأخرين ولم يَجِ دوا ما يُؤخذ هناك.
حركات الجنود وما يحملونه في أيديهم ،رأيت الخيبة تعلو وجهه ،وغادر رأى ّأول تصادم بين البحرية والمشاة .كانت عيناه تتبعان تَ ُّ
السفن إلى مرسيلياعائدا إلى القصر ،حيث كانت الل ّجنة تعد رياالت البوجو ،كي تُحمل عبر ُّ ً .بعدها
السل ّاويُ ،متعبًا من جراحه ،ولكن ودع الباشا .وقف إلى جانبي ّ كان ذلك أول تعارف لي مع ديبون لم أره بعدها إال ونحن ن ُ ِ ّ
المتحلقين حول الباشا ،يُقبّلون يده ،حتى ُدوجة كانت هناك ،مع الل ّة زهرة اليهودية ،ولم أفهم ُسخريته لم تُفارقه ،أذكر كيف أشار إلى ُ
ما حملته العجوز للباشا .هؤالء اليهود غريبون ،ترى بعضهم يتشبثون بالمدينة حتى تعتقد أنهم يحبونها أكثر منا نحن أهلها .وآخرون
السل ّاوي يقترب ،لم تُ ِ ّ
صدق الرصيف ما إن رأيت ّ رأيتهم يسيرون أمام صفوف الجنود ويهتفون بحياة الفرنسيين .وأشحت البصر عن ّ
تألما :عليك أن توفر عناقك للباشا .لم ُأعل ّق على كلماته ،وأنا أراقب الجمع عيناي أنه مازال حيًّا ،اقتربت منه واحتضنته فصرخ ُم ً
الرصيف ،يُراقب النّاس ّ نهاية عند اً ن مكا انتحي ديبون، عيناي التقطت ثم الفرنسيين، التف حوله ،رأيت بعض الفُضوليين
ّ الذي
الصورة ويشيعونه أثناء رحيله؟! ولم ألبث أن التقيته حب النّاس ملك القراصنة بتلك ّ المحيطين بالباشا .كنت أتفهم أسئلته ،كيف ي ُ ُُّ
ود ُع الباشا ،في آخر بعدها ،وترافقنا إلى بورمون ،ومن ثم إلى كلوزيل ،وروفيغو ،وحملنا الخيبة نفسها ،ونحن في باريس عندما وقفنا ن ُ ِ ّ
اختارها مأوى شتويًا له
َ .زيارة له لتلك المدينة .كان ذاهبًا إلى نيس ،حيث
الصحافة لم تترك للناس شيًئا إال وأخبرتهم لكن ّّ احتل الباشا شقّة في حي متواضع في باريس ،كان يُخفيها عن المجتمع الفرنسي.
به :الباشا المخلوع عاد إلى باريس يستجدي ملكه ،عاد يبحث عن مجد القرصنة .قد لبّى عزيمة الوزير وطلب الل ّحم باألرز .أتفه
كل واحدة منهن تطمح أن تبدو في عينيه ُسلطانة حفالتهنُّ ،
ّ عزمنه إلىالمستهتراتَ ،أياما ،ونساء باريس ُ ً األشياء نشرتها الجرائد
أما التُّجار فكانوا يطلبون المواعيد معه ،الكل يُساوم على اسم الباشا في إعالناته .يبحثون الدعوات تصله ويم ِ ّزقُهاّ ، شرقية ،كانت ّ
علي األسئلة ،وأترجمها له،
َّ مليُ ي يميني، على ديبون وكان المسرح، في كنا يوم لي أسر
َّ بهذا يني، ّ ت س رجل خيبة عن الثّروة في
الشاب لكتابة كل شيء ،ولم يكن وقت الباشا ليسمح لنا ،كان يتردد على أمكنة ّ صديقي تاق . بها له سر
ُّ ُأ التي األجوبة دون
ويُ ِ ّ
أما بقية األيام
ّ استكشافها، في األولى أيامه اغتنم لذا . ا كثير
ً عنها ع ِ
سم أن بعد باريس، معرفة أراد ... األوبرا ودار المسارح عديدة:
الرواق ويلتقيه .ومن األشياء التي لم أفهمها يومها ،كيف ّ يعبر البروفانس قبطان رأيت . آخر إلى حين
ٍ من يزورونه القادة كان فقد
المتسبّبين في احتالل المحروسة .اختليت بخادمه وسألته ،وزاد استغرابي حين ُأخبرت أن يتردد على بيت الباشا أحد اليهوديَّيْن ُ
الداخل ،ولكنني لم أفاتحالباشا وأهله يقطنون بيتًا يملكه أحد اليهوديين في ليفورنة بعد رحيلهم عن نابولي .كنت أحترق من ّ
الباشا ،لن تُ عيد المالمة المحروسة إلينا ،ولم أشأ إفساد بهجته باكتشافاته اليومية .وسعيت فقط لزيادة لقاءات ديبون به ،فربما وراء
.إلحاحه أشياء أهم من حوار عابر يُجريه مع باشا مهزوم
شاعرا أنها آخر مرة أراه فيها ،أردت معانقته طويل ًا ،ولكن العربة كانت قد
ً ولوحت له من بعيد،
ودعنا الباشا في صباح يوم آخرّ ،
ّ
.غابت حينها ،وتكاثف النّاس في شوارع باريس ،مثلما أراهم اآلن في شوارع ِليون ،يعبرونها بالحركة نفسها
السل ّاوي
حمة ّ
ّ
الربوة تمتطيها القلعة القديمة
الصخور ،ثم تعود ببطء ،ترتفع خلفي ّ المعتمة شفاه ّ السواد ،تُقبِّل موجاته ُ يمتد البحر أزرق يميل إلى ّ ُّ
الطريق ،ومثل أعمى قطعت مسافة ال بأس كت دون وجهة ،ضيّعت بداية ّ تحر ُ
ّ . هارّ ن ال انتهاء عن ة
ً علن م
ُ لمة الظ
ّ وتنتشر َا، ك ي ش ِ طوري
بها ،آمل ًا أال أكون في اتجاه غير الذي أريده .تعثرت في أمكنة مختلفة ،مسافة غير قصيرة سرتُها ثم توقفت وافترشت األرض .كان
السواد يلُّف الفضاء ،والحواس
المبهم في الخالء ،جالت عيناي الجهات ك ُ ِل ّهاّ ، يتفصد من جسدي ،وتتالحق أنفاسي .من مكاني ُ ّ العرق
إلي خياالتهم
َّ ترامت ثم جال، الر
ّ قر ِع
ََ ب ة
ً ممزوج البارود رائحة واشتممت يصرخون، جنود أصوات مسمعي إلى تناهت ّزة،ف متو ّها كُل
يقفرون فَوقي ،وآخرون يُداهمونني ،ولكن ال أثر لهم ،دام ذلك ُ ثم ه،ُ ت احتلل الذي المكان يبلغوا أن إلى بجيادهم يركضون ريق، الط
ّ أقصى
الطريق ،ولم أستطع ،فحدت عنه ،وبدا لي أنني انتحيت مكانًا تحت شجرة، كل شيء ،هممت بالقيام ألواصل ّ لحظات ،ثم غاب ُ ِ
.استندت إلى جذعها ،وأطلقت العنان ألحالمي
الرسن بي أصغر أبنائه ،أسوار المحروسة الشيخ يُحاذر أن أس ُقط من على ظهره ،ويسحب ّ كان البغل يسير بي ببطء ،على يميني ّ
سند يد َ ُ ت خاط، الم
ُ بها ويمتزج الخشن، ي ُم
ّ ك ب أمسحها ا، دموع
ً عيناي سح
ُ َ ّ ت و قلبي، خفقان تبدت لنا ُمتعبة ،كلما اقتربنا منها يزداد
ّ
الش يخ ظهري ،ثم يطلب مني االعتدال في جلستي ،فذلك أضمن لراحتي .وهل بقيت راحة لنا يا سيدي؟ كل يوم أكتشف أننا نحن ّ
الدوام ،نُضطر إلى المداهنة ،وإلى أهل المحروسة أكثر النّاس خوفًا وخشي ًة من الحكام .إننا نُحب المحافظة على ما كسبناه على ّ
جالسا على صندوق ً السياسة .ولم تكن إال ُذلًّا ،يظل اليولداش أشجع منا ،فلم يكن الباشا بالنسبة لهم إال رجل ًا خداع أنفسنا بأنها ّ
الدين ُحج ًة ِ
ومتخاذلون ،يجعلون ّ الدوام ُ
األموال ،يُزيحونه ليسحبوها من تحته ،وال يجرؤ أن يرفض .أهل المحروسة مهزومون على ّ
ويهزم أعداءنا. ِ يتصبّرون بها ،ويُطأطئون رؤوسهم إيمانًا ،ثم يهمسون :إنّه مكتوب من الل ّه ،سندعو يوم الجمعة ليرفع الل ّه عنا ال َغبن،
المصل ّون ،أين ك ُنتُم يوم ك ُنا في سيدي فرج وسطاوالي .النّاس يحتَ ُمون من ُضعفهم ،ومن الصراخ عند أبواب المساجد :أيها ُ أردت ُّ
عقوق أوال ِدهم ،ومن كل األشياء التي تُنهكهم يحتمون بالله، ُ ومن وجاتهم، ز
َ يانة ِ
خ ومن األتراك، لم ظ
ُ ومن جارتهم، ِ
ت بوار ومن ِخذالنهم،
وال يريدون تغييرها بأنفسهم ،يعتقدون أن الل ّه منعهم المطر ،وأصابهم بالوباء والقحط ،ألنّهم ال يُصلُّون كفاية ،وال يزك ّون من أموالهم،
يوما في الثّورة على جور األتراك ،ولم يُحبّوا بعضهم كفاية ً ويشرب بعضهم الخمر ِخفي ًة .وربما يُسرف التُجار منهم ،ولكنهم لم يف ِك ّروا
فيجتمعوا .األعراب والقبائل أفضل منهم .كانوا أميل إلى الثّورة ،نعم لطالما آمنت أن المدينة تجعل اإلنسان أكثر ُذل ًا وأميل إلى
!العبودية
ُ
متمسك ًا بشدة
ّ أومأت له أنه ال داعي لها ،كنت ُ ضغطا على ظهري. ً الشيخ تزداد
الطريق الواصل بين المقابر ،ويد ّ نشق ّ ُ ك ُنا حينها
بالبغل ،حتى بلغنا بوابة المدينة .كان الجنود الفرنسيون يجتمعون عند بابها ،يتضاحكون وهم يُبصروننا ُمقبلين نحوهم ،وأوقفونا حين
الشيخ عن والشاب البوابة ،بينها اعتذر ّ َّ تجاوزت
ُ الشيخ والشاب ،ثم طلبوا مني النّزول ،فتّ َشوني أنا اآلخر، هممنا بعبور البوابة .فتشوا ّ
ِكره ،اتهموه أنه
الشاب قال إن والده لم يدخلها منذ سنوات بعيدة ،بعدما قتل األتراك ب َ الدخول ،وغابت عني أسباب تراجعه ،ولكن ّ ّ
الط ريق وقتل خمسة من جنودهم ،لم يحاكموه ،ولم يقف أمام القاضي الحنفي وال المالكي ،بل أحاطوا بالخيمة وسحبوه من بين ق ََطع ّ
السوق ،كي يراه األعراب الذين يرتادونه كل أياما في ُمقابلة ُّ ً الشرقي وعلَّقوه على باب المدينة ّ إخوته ،وقطعوا رأسه أمام النّاسَ ،
بقو ة ،وحملق بي كأنه يسألني عن الوجهة ،وكنت أتامل أبواب المدينة وشوارعها .القليل من ّ الرسن الشاب ّ يد ّ شدت ُ ّ أسبوع.
الشوارع الكبيرة .أومأت للشاب لينعطف عبر شارع البحر .الجنود الطرقات الحجرية .سار بي البغل في ّ ّ عبرون ُ ي كانوا النّاس فقط
رددون النّكات البذيئة .همز البغل الرجال عند أبواب البيوت ،ينظرون خلس ًة إلى الجنود ،وهم يُ ِ ّ ّ بعض يقف مكان، كل في يتوزعون
ّ
رأيت
ُ كي يُسرع أكثر ،أردت مطالعة الثّكنات التي يحتلها اليولداش ،وأرى وجوههم ،ولكنني لم أعثر عليهم ،وراقبت الثّكنة حتى
الطعام ربما ن َ َفد ،أو أنهم ليس لديهم ما يحشون به غاليينهم .رفعت رأسي ُأبصر طل منه أحدهم ،حدست أن ّ الباب يُفتَح ،وي ُ ُّ
بعض ها سقطت جدرانه ،وآخر كانت أبوابه مخلوعة ،طلبت منه أن ينعطف إلى شارع القصبة الكبير ،ثم كنا هناك ،طالعت ُ البيوت،
المرة لو تشبثنا بها ،أم أنّ هذه األمان منح ُ ن س هل تساءلت ثم األمان، سلسلة عن بحثت الكلسيين، العارضين من واقتربت مدخلها،
ُسلطان الفرنسيين ال يُعطي األمان بالسالسل؟ تجاوزت القوس ُمدرك ًا أن هؤالء الفرنسيون ال عهود لهم ،هم أكثر َج َش ًعا من األتراك.
أوان خزفية ،وقطع من النّحاس والقماش والخشب. ٍ الشوارع أجسا ٌم محطمة، عددا ،على أرض ّ ً غلنا أكثر بدا الجنود أكثر حين تو ّ
أشحت بوجهي عنها ،وخفق قلبي بشدة حينما رأيت العلم األبيض أعلى القصرُ .جزنا سقائف أخرى ،كانت األبواب مخلوعة ،كلما
جلست عند عتبة باب مخلوع، ُ الشاب التوقف وإعانتي على النّزول، انعطفنا يزيد حزني ،حتى لم أستطع احتماله .طلبت من ّ
بكيت أمامه ،وفاضت ُ نفسي، منع أستطع ولم . الجدار في ة
َ المحفور أيضا قد ُخلع ،وأنا أواجه بقاياه ً رغبت لو أعيده ،كان قلبي
الصور واألسماء والشوارع والحكايات .عجز عن الكالم ،وهو ّ اختلطت يبكي، اآلخر هو شرع اب، الش
دموعي .إلى جانبي َجلس ّ
يسندني ألمتطي البغل .لم أتكل ّم ولم أهمس ،كنت أومئ فقط ،وأشير له حتى بلغنا بيت الل ّة زهرة ،توقفنا هناك حتى فُتح الباب
لوح ليالشاب ،ثم ّ وودعت ّّ أيضا ُدوجة هناك .سرت إلى جانبهما، ً رهقةَ ،صرخت حين رأتني .نزلت وعانقته ،رأيت الم َ عن العجوز ُ
الرواق ،واخترت الغرفة القريبة مني، ّ في عنهما انفصلت . المحروسة إلى أعد لم مثلما وعدت . منعطف أول عند يختفي وهو
الظالم
.دخلتها وأغلقت الباب على نفسي ،واستلقيت على الفراش .وأغمضت عيني ،ولم يكن هناك إال مزيد من ّ
وعدلت ثيابي بعد أن نفضتُها، ّ مرة أخرى ،وهالني منظر القُبور من حولي ،لم تكن هناك شجرة ،وال طريق .وقفت فتحت عيني ّ
الط ريق ،وما إن لمحت عالماتها حتى خطوت إليها ،وسلكتها تجاه المحروسة .يخفق قلبي كلما تذكرت الذين ّ عن وأبصرت باحث ًا
حولتكّ قد المحروسة؟ وفقراء وجة، ود
ُ ار،ّ مي ابن . ونكّ حبُ ي الذين عن االبتعاد على صر
ّ ُ ت لماذا لنفسي، عتابي يحتد بها، خلفتهم
تفهما أو
سريعا ،ثم يختفي في ال ُغور ،وأظل أردد بعض كلماته ،إما أن تظل ُم ً ً الصوت
شخص مختلف .ينطلق ّ ٍ السنوات الثّالث إلى
ّ
تفهما حتى في رحيلي؟ وكيف يحدث ذلك يا صديقي ابن ميّار؟! ما أزال ُني ترحل .ولكن لماذا هذا الفصل بينها ،ولماذا ال أكون ُم ً
زوار ال يستحق الحياة في المحروسة ُمخلفًا بوعدي ،وقد أقسمت أنني لن أرحل عن هذه المدينة حتى أنتهي منه ،إن رجل ًا مثل ِ
الم َ
زوار .وأتأكد من صحة األخبار التي تصلنا ،تقول إن بعد رحيلي ،قد أمهلته أكثر مما يجب ،سأصبح متفقها حينها أنتهي من ِ
الم َ
الشاب ،وبايعه النّاس على قيادتهم ،واآلن يحارب الفرنسيين حتى أضحت ُمدن كثيرة تحت ِلوائه.الكلمة قد اجتمعت على األمير ّ
الرجل الذي ظللت الرغبة في االلتحاق به ،وقلت في نفسي :هذا هو ّ عثمان .تولدت ّ أيضا إنّه أكثر النّاس كراهية لبني ُ
ً ويقولون
عثمان يحكمون المدينة؟! يزحف بجيشه عليها ،ويُعيدها إلى أهلها
ُ بنو كان حين يظهر لم لماذا ولكن المحروسة في يظهر أن تصبو
بعد غياب قرون؟
حتدا من األتراك ،وأكثر تشوقًا إلى االلتحاق باألمير ،سأقف أمامه ،وأهتف بحياته ،وأعاتبه
الدرب المؤدي إلى المدينةُ ،م ّ ً
ما أزال أسلك ّ
حمة ،كنا ننتظرك منذ أيام ،بل منذ
ّ يا الوصول أبطأت الذي أنت : ويقول مني يدنو وربما سيبتسم، بل لحظتها، يغضب طويل ًا .لن
.احتالل المحروسة
أما حينلم تجرؤ ُدوجة أن تقترب مني يوم عودتي ُمنهك ًا إلى بيت الل ّة زهرة ،العجوز وحدها تسللت وفتحت الباب في غفوتيّ .
الرغبة الوحيدة التي أحسستها ،هي البكاء. استفقت فقد وجدتها عند رأسي ،كانت نظراتها ُمعاتبة ،لم أستطع أن أعتدل وأكل ّمهاّ . ُ
غادرت لتعود بالزاد ،لم آكل إال في صباح اليوم الثّاني .كانت ي ٌد تتحسس وجهي،َ ظللت ساعة أو أكثر على تلك الحال .ثم ُ
مرت أصابعي على شعرها، فتحسسته ،ومن ثم ّ
ّ ِّ
خدها حمة .أفقت فرأيت ُدوجة ،امتدت يدي إلى ّ حمة ،يا
ّ وصوت يوشوش لي:
الط ويلة ،ولم أستفق منها إال في مساء ذلك اليوم .أطللت على باحة البيت ،ورأيتها هناك، ّ إغفاءتي إلى أعود وظلَّت تحدق بي ،وأنا
الطول ،ثم انتبهت إلى نظرات العتاب التي حملتها عينا الل ّة زهرة ،كأنها تلومني ّ بذلك أضحى أنه فاجأني شعرها، سرح
َجل ََست تُ ّ
غضضت بصري عنها ،وجلست إلى جانبها ،لكنّها كانت تنقل بصرها بيني وبين ُدوجة ثم خاطبتني ُ لدوجة. :على استراق النّظر ُ
َأعجب أنك تتكل ّمين عن هذه األشياء ،ولم نعد اآلن نملك أنفسنا؟ -
.فعل ًا مثلما يقول ابن ميّار ،أنت تحب رؤية األشياء مثلما تُريد ،ال ِمثلما يراها النّاس -
:ربما كانت الل ّة زهرة على حق ،ولم َأرغب في مجادلتها ،ولكني سألتها
الرجال ال ينبغي أن يَرحلوا بسهولة .ثم دعوت في قلبي كي يعود إلى عمة ،مثل أولئك ِ ّ
ّ قلت في نفسي :ال ،ال يُمكن هذا يا
:المحروسة حتى أغرز ِخنجري في صدره ،وكانت العجوز إلى جانبي تَرى تَمتَمتي ،وال تفقه شيًئا منها ،ثم تكل ّمت
.أنت ال تعي أننا أضحينا اآلن تحت رحمتهم ،والمغلوب عليه مسايرة الغالب حتى ي ُ ِ ّ
حصل منه على ما يستطيع -
ِّ
!!صدقني إنكم لن تحصلوا على شيء -
قد َأ ّ َسس بُورمون َمجلِ ًسا ليحكم المدينة ،أتعتقد أنه أولى لنا أن نتركهم يُسي ّ ُِرونه بأنفسهم ،أم نحن من نقوم بذلك ،ألسنا َ
أعل َم -
ِ
.بِشؤون أهلنا
الرؤوس ُمنك ّسة إلى األرض ،أراقبها أياما لم َأر فيها ابن ميّار ،ولم أجرؤ على زيارة بيته ،كانت شوارع المحروسة تُعيد ِ ّ
السيرة نفسهاّ ، ً
ِ
أحمل ُها اطت لي عرائس جديدة، خ
َ َ قد وجة د
وأتجول بالشوارع دون وجهة ،كانت ُ
ّ كل صباح في َحن َ ٍق ،أنطلق من بيت الل ّة زهرة،
يتجمع بعض النّاس على عادتهم ،ولكنهم ال يَجرؤون على االستمرار في ّ قصي.ّ وَألتَجِ ُئ إلى حي المقاهي ،وأنزوي في مكان
خشون الجنود الذين يزدادون كل يوم ك َثاف ًة .حتى األوروبيون ،كنا نرى كل يوم خيم ًة تُنصب في الميناء للقادمين منهم، المشاهدة .ي َ َُ
يتصرفُون
َّ أوهموهم أنهم سيثرون في إفريقية ،بعضهم يبقى ،وآخرون ي َ ِف ُّرون من قسوة المناخ .ألتقيهم كل يوم في المقهى ،في البدء
وع ّمال يتحو لون فجأة إلى رجال جشعين ،ال يهمهم سوى أراضي يملكونهاُ ، ّ بطيبةٍ حتى يتمكنوا من حفظ تفاصيل عن المدينة .ثم
أما الجنود فقد تمك ّن الملل منهم في األيام األولى ،ولم تمض إال أسابيع حتى تجمع الكثير منهم حول مكاتب ينفذون أوامرهمّ .
الرجوع إلى أوروبا بعد أن أخلف القائد وعده بمضاعفة األجور .ثم كانوا يَرون صناديق ّ أرادوا البحرية، مبنى عند الضباط ،وآخرون
ّ
حصلوا منها على شيء .في نهاية األسبوع انتبهت إلى حركة غريبة وأنا أقطع طريق السفن إلى الملك ولم ي ُ ِّ ُّ على حملال ّذهب تُ ّ
إلي قائل ًا َّ :البحر ُرفقة ابن ميّار ،التفت
خمنتُه ،نَجحت الثّورة في باريس وُأزيح الملك ،ولن يبقى بورمون إال ُسويعات بعدها -
ّ .قد حدث ما
كثير ا ،سواء أكان العلم الفرنسي بألوان ثالثة ،أم كان أبيض ،وكذلك ال يختلف في نظري بورمون عن غيره ،كُل ّهم جاؤوا ً يهمنيّ لم
السفن الواصلة .ثم وقفت عند باب المقهى ،بعض عدت إلى حي المقاهي وخلَّفت ابن ميّار يُتابع ُّ ُ إلى المحروسة للغرض نفسه.
أيضا في ذلك ،يحتلون مكانًا فيً عثمان ،وعماماتهم ،وآخرون أطلقوا لحاهم ،يريدون تقليدهم الشقراء في ثياب بني ُ الوجوه األوروبية ّ
مصون غاليينهم بالطريقة نفسها ،يبحثون في كل ذلك عن الل ّذة التي يجدها األتراك المقهى ،يَ ِتكئون على شا ِكلتهم ،يحتسون القهوة وي َ ُّ
الدقيقة .لم أرهم إال حمقى ،فلم تكن تلك التصرفات لتُعبِّر عن شيء ،كان عليهم استيعاب المور حين يقلدون تصرفاتهم بتفاصيلها ّ أو ُ
ألنها تتعلق بالموانع الكثيرة في حياتنا نحن المسلمين ،قدّ بيننا تختلف فاللذة ّذة، ل ال يستقبل وهو المغربي أو التركي فكرُ ي كيف
نتل َّذذ بأشياء يمارسونها كعاد ٍة يومية ،كأن يشرب المسلم الخمر خفي ًة عن النّاس ،أو أن ينام مع امرأة غير زوجته ،الل ّحظات
حرمة والمسروقة تُعتبر لِذ ًة عند أهل المحروسة .وال يمكن أن تعني تلك التصرفات شيًئا ألوروبي .الم ّ َ
ُ
الدار،
إلي صوته من باحة ّ
َّ في صباح يوم آخر ،أفقت على صوتها ،كانت الل ّة زهرة تحاول إيقاظي لم أشأ مغادرة فراشي ،ثم تناهى
مسرعا ،وخرجت للباحة ،خشيت حدوث ً لم يعتد ابن ميّار زيارة هذه األمكنة ،إذ كانت ِرجاله قد ألفتا شوارع ودروبًا أخرى .انتفضت
الحي ،التفت
ّ طرف عند كنا حتى الباب الرواق ،ثم عبرنا
كثيرا ،طلب مني مرافقته ،سرنا َسويًا مسافة ّ
ً شيء ما ،غير أنه لم يتكلم
التفت وقابلني العلم الثّالثي األلوان أعالها .لم ُأب ِد أي استغراب منه وقلت
ُّ :إلى أعلى القصبة ،وأشار بيده وقال :أنظر هناك.
الس هولة التي تراها ،مادام الملك الجديد يختلف عن سابقه فربما ستكون الحملة من األشياء التي يختلفون -
األمر ليس بهذه ّ
.عليها
انحدرنا ولم أعرف الوجهة التي كان ابن مي ّار يأخذني إليها ،لكنني عرفتها بعد مسافة ،وقد أضحى الميناء على مقربةٍ منا .بعض
تفحصنا الجنديان ،ثم سمحا لنا بالعبور ،اقتربنا
ّ لحظات حتى عبرنا بوابة البحر،
ٍ الجنود من المشاة ،على غير العادة اجتمعوا هناك،
أكثر ،توقفت واستمر ابن ميّار في طريقه حتى بلغ مكان الجنود المجتمعينَ ،حيَّاهم ثم صافح بُورمون ،وبدا لي من هناك ،أشبه
السفينة فقد
أما حين هم بصعود ّ بالباشا يوم رحيله عن المحروسة ،يُطأطئ رأسه ،ويحاول رسم البسمة على فمه ،ويعجز عن ذلكّ .
شوش له ،حتى ابن ميّار لم يبُح الصغير الذي تأبطه ،ثم رأيته يعود أدراجه وبهمس البن ميّار ،لم أسمع بما َو َ
الصندوق ّ
انتبهت إلى ّ
.بشيء
يأمل في أن عرائضه ستُعيد ُ تمر على احتالل المحروسة ،ومازال صديقي ابن ميّار يعتقد أنهم سيرجعون مرة ثانية. ُّ سنوات
ٍ ثالث
درب
ٌ منها يختفي يوم كل ّاويين، لالس
ّ حارة أتجاوز بيته، إلى فضي الم
ُ ارع الش
ّ أتسلق . منه أخذت التي ياعه ِ
وض واألوقاف، المساجد
أدق على بابه فتطالعني ُدوجة من الك ُّوة ،كأنها كانت قديماُّ ، ً جديدٌ ،يتراءى لي قوس القصبة خاليًا من أي شيء ،أتجاوزه فألمح بيته
تنتظرني ،أرى عينيها تَتَوثّبان ،تُريدان القفز من الك ُّوة حتى تلتصقا بي ،تختفي وأسمع صوت ركضها في رواق البيت ،ثم يُشرع الباب
بقوة،
ّ علي وتَض َغطان
َّ عليها ،وأعجز أن أتقدم ،بينما تقفز تجاهي ،ويُصبح صدري إلى صدرها ،ووجهانا إلى بعضها ،ويداها خلفي تشدان
واحدا ،لم نَنفصل إال حين تناهى إلينا صوت يُنادي عليها من الباحة ،سحبت ً الرواق جِ ً
سما يدي وهما تسحبانها ،وولجنا ّ ّ لم أنتبه إلى
جميعا إلى باحة ً عبرنا . اً جندي أكون أن خشيت وتنهدت، اقتربت ثم المتسائلة، سعدية ّة ل ال وجه إلى ّعت ل وتط فتيها، شَ َشفتي عن
احتل الباحة أال جدوى من ّ حدثتني الل ّة سعدية عن رحيل زوجها .يومها اتّفق الجميع ممن ّ حين ًا، ل طوي هناك أمكث ولم البيت،
الملتصقتين بي ،ووجه الل ّة سعدية ُ وجةدُ عيني ع ّ ِ
أود وأنا نت، م
ّ خ
َ هكذا . فيه يجرحه ال الذي بالقدر ر ّ عب ُ
وكل ار،ّ مي ابن حاوالت ُم
دعاء ،أن يعود زوجها ،ويعود الغائبون كلهم إلى أع ّزائهم ً ردد
.الحزين ،وقبل خروجي من البيت سمعتُها تُ ّ
دوجة
ُ
غاير
مختلف ،وطعمٌ ُم ٌ
ٌ لون
ٌ ...للمحروسة اآلن
يت لو امتدت تلك الل ّحظة ،كان خفقان قلبي يَتَعالى حين امتزج جسدانا ،عبرنا قوس وضمني إلى صدره .تمن ّ ُ َّ إلي
َّ السل ّاوي
عاد ّ
السل ّاوي ُمختلفًا ذلك اليوم ،أحسست بقدومه .حينما تراءى لي من ّ كان . األرض على هوينا واق الر
ّ جدار ولوال تالصقين، مالباب ُ
ركضاُ ،خيّل لي أنه يفتح لي ذراعيه خلف الباب ،وحين شرعته داهمتني رغبة في القفز نحوه ،وقفزت إليه ً الباحة قطعت
ُ هناك،
سريعا وطوقني بساعديه ،ثم امتدت شفتاه إلى شفتي ،كأنني أول مرة ُأقبّل رجل ًا،ً استيقظ هّ ن ولك ه،ُ ت احتض حين تفاجأ وعي، دون
.ولكن الل ّحظة لم تستمر ،إذ سمعنا نداء ،وانفصلنا ،ثم كانت الل ّة سعدية إلى جانبنا
السابقة ،تحاصرني الحكايات القديمة .في البدء كانت لو استطعت إرغامه على البقاء لفعلت ،خشيت البقاء وحيدة مثل األيام ّ
أبصر وجه منصور ،كان سيُحبّه ،وربما يبكي رحيله مثلما بكيت ،ليته َ السل ّاوي
أياما قليلة ،ثم المحروسة ،ليت ّ ً القرية ،ثم بيت ال ُقنصل
وزع محبته على أشجار القُنصل .كان سيعطف عليه ،وربما يرد الل ّطمة التي وجهها له كافيار ذلك اليوم .حينها صحب أبي وهو ي ُ ِ ّ
حموما ،ولم يَنم طوال الل ّيل ،ظللت ُأغيّر قطعة القماش المبلولة ً م
َ هارّ ن ال بداية عند استيقظ . أمامه ًا ل مذلو أبي وقفة لم أستطع احتمال
علي وعلى الحائط ،ثم سار في انحناء حتى َّ من على َجبهته ،ويهذي حين تشتد الحمى على جسده ،لكنه قام من مكانه ،استند
يحب الل ّه والصالة والقرآن ،رغم أنه لم يحفظ منه الكثير ،عدا ّ الصالة .كان أبي الداخل ،وشرع في ّ بلغ الباب ،توضأ ثم عاد إلى ّ
دوما يُحبّبني في الل ّه وفعل الخير ،ولكن كافيار لم يشفق عليه ذلك اليوم، ً الس َور التي يُصلي بها .لكنه لم يُرغمني عليها ،بل كان ُّ
لونة تحوم في البُستان ،أخفض فراشات ُم ّ َ
ٍ بينما كان يحاول بمعوله إعادة مجرى الماء إلى األشجار بالدور ،وكنت ألهو بينها ،أراقب
وأرفع المعول عنه .أرى ُ والمعول إلى جانبه ،أركض تجاهه ِ رأسي وأتوغل داخله ،ثم أنحني وأرى أبي عند أطرافه ،يجلس ُمنهك ًا
أدر ما الذي أغضبه، عينيه تومئان لي أن أضعه جانبًا ،ثم يَتراءى لنا كافيار ،يسير في اتجاهنا ،وكلما اقترب تتضح لي مالمحه .لم ِ
نفعل ،صاح بكلمات لم َأ ِعها ،ووقف أبي ُمنحنيًا كأنما قد اقترف ذنبًا .ثم سمعته حتى حينما وقف إلى جوار أبي ،بدا وكأنه ُم ٌ
يتمتم بكلمات لم أتبينها ،بدا مثل من يعتذر ،لم أكن أنتظر أن يزداد حنق كافيار ،بينما بقي أبي ُمطأطًئا رأسه .ثم امتدت يد ُ
همَ كافيار إلى وجهه ،لطمه حتى سقَط ،صرخت وأنا أراه على حالته تلك .كانت تلك المرة األولى التي يُضرب فيهاَ ،أ
سندته حين ّ ُ ّ َ
خطفت الحمى جسده ،كان ينادي على أمي حين انتصف قرور .تَ ّ َ الم ُبالوقوف ،وسرت إلى جانبه حتى بلغنا الكوخ ،كان يرتجف مثل َ
يحدق بي ثم ينقلب إلى ّ حين، الط
ّ حلوى جيبه من سيخرج كأنه الل ّيل ،وتمتزج الدموع بالعرق ،ثم يُنادي على منصور ،ويحرك يديه
حرك يديه
السطح ويصيح ،ثم يُ ِّ ّ أخشاب إلى يشير ناديهم، ُ ي صوته على مرة أخرى الجهة األخرى ،وأراقبه حتى يأخذني النّوم .أستيقظ ّ
أسبوع حبيس الكوخ ،تزداد ٍ الضرباتُ .أسرع تجاهه ،وأتشبث به حتى يغادره َهل َعه ،ويعود إلى النّوم .ظل أبي طوال وكأنه يَتفَادى ّ
سوءا ،زارنا بعض الفالحين فقط ،واآلخرون َخ ُشوا أن يُعاقبهم كافيار ً .حالته
وتحسستهّ في نهاية األسبوع تعلَّقت عينا أبي بالسقف ،مفتوحتين وال تريان شيًئا ،امتدت يداي إليه وحركت جسده ،كان ُمتخشبًا،
وس َرت الهمهمة عند باردا ،وظللت أحركه وأناديه لكنه ال ي َ ُر ُّد ،صرخت حتى انتشر ُصراخي بين أشجار الل ّوز المزهرةَ ، ً مرة أخرى كان ّ
صدقين أن أبي قد مات .لكنهم لم يحركوا ساكنًا عدا اثنين منهم ،طلبا ُ ّم غير جسده سوا وتحس
ّ الفالحين بعض دخل باب البيت.
وغسال أبي حينما طلع النّهار ثم كفَّناه ،وحملناه إلى الغابة ،راقبتهما وهما يحفران القبر .ثم َصلَّيا عليه .اعتادت ّ الرحيل، من البقية ّ
مسمع منا ،تقف في مقابلة الحقل ،وتبسط كفيها أمامنا ،وتظل تذكر اسمه وتطلب من الل ّه أن ٍ أمي مناجاة الل ّه في غيابه على
الرجالن ذلك وكنت في إثرهما ،دعوت الل ّه الدعاء .وف ََعل ّ
سالما وكنت ومنصور إلى جانبها ،نرفع أيدينا ،ونُقبِّلها عند انتهاء ّ ً يعيده
الرجلين ،وهما يرفعان جسده الملفوف في القماش األبيض ،اهت ّز قرب أبي منه ،ويُدخله الجنّة ،أنزلت يدي ،واقتربت أكثر من ّ كي يُ ِ ّ
ورشا القبر ببعض َّ الدفن،
الرجالن من ّ علي مشاهدة كل الذين أحبهم يُدفنون .انتهى ّ َّ قدرا
قلبي حين وضعاه داخل الحفرة ،كان ُم ً
ألتفت عند كل مسافة أقطعها ،فأرى أبي ُّ بخطى بطيئة،
ً دت ع
ُ َمت، ل ظَأ حتى أبي مع وحيدة الماء ،ثم َر َحال ،وبقيت ذلك اليوم
.يُشيّعني من هناك ويبتسم
ِت ليلتي في الكوخ ،زارتني نسوة الفالحين ليُعزينّني ،وطلبت مني كل واحدة منهن المكوثمرة أخرى ،ب ُّ ال أذكر أنني زرت القبر ّ
عندها ،وأرجأت الموافقة إلى نهار الغد .لو بقيت هناك كنت سأقتل كافيار .امتأل قلبي بكراهيته ،كان ال بد لي من ترك المزرعة.
الطريق تجاه المحروسة ،ولم يطلع النّهار حتى اختفت المزرعة ،إذ غيَّبتها أول ربوة
جمعت ُص ّرة الثّياب ،وشققت ّ
ُ الظلمة،
في قلب ّ
.تجاوزتها
الطحينكانت المحروسة حكاي ًة تُروى لي ،وبيوتًا كثيرة بيضاء ،وحوانيت تبيع القماش الجميل والمناديل التي تُفض ِل ّها أمي ،وحلوى ّ
حب
حدثني أبي طويل ًا عنها ،قال إن الباشا رجل طيب يُ ُّ َّ التي يحبّها منصور ،منذ طفولتي رقصت المدينة في مخيلتي بعد أن
حصليحث منصور أن يكبر كي يرسله إلى الجامع الكبير ليُ ّ ُّ الدوام،
رعاياه ،وإن النّاس هناك يُحبِّون الخير ،ويرتادون المساجد على ّ
دوما ُمقدمون بين النّاس وعند الباشاً العلم فأهل المالكية، ه ِ
ت ساد .علم
الطويلة بينها وبين المحروسة .حينما تظلم أتكئ على شجرة ،وأسحب من صرتي بعض ال ِتّين
أعدت الحكاية وأنا أقطع المسافة ّ
.المجفف ،ألتهمه وأنام فال أرى إال البيوت البيضاء ،والوجوه المبتسمة
الركض
آخر يوم قبل دخولي المحروسة كان ُمختلفًا ،استيقظت ف َِزع ًة من حلم مخيف ،تراءت ذئاب تحطني من كل جهة ،حاولت ّ
ي ،ورأيتها تسقط من
دو ٌ
إلي ّ
َّ ولكنّها أحاطت بي ،ثم شرع كل واح ٍد ينهش من جسدي .كان بعض لحمي في أفواهها ،ثم تناهى
الممتد
الر بوة رجال غرباء .استيقظت مرعوبة يرشح العرق من جسدي ،وانتبهت إلى األلم ُ حولي الواحد تلو اآلخر ،وظهر من خلف ّ
السير ،حتى رأيت أسوارها البيضاء .لم أصدق أنني قد ّ واصلت ثم لحظات استرحت . المشي من قدمي ،كانتا قد تورمتا من مسافة
حدثني أبي عن اختالف لباس أهل المحروسة .بينما انشغلت عنه َّ الراحلين يضحكون من منظري. وصلت .كان الفالحون وبعض ّ
السقائف والدروب الحجرية،
ّ أجوب وظللت حافية، شوارعها في مشيت
ُ . المدينة بوابة عبرت إن ما بأحالم أخرى ،ابتدأت تنحدر
الطحين! وعبرتّ وحلوى الحريري، والقماش بالطيب، حوانيتها تمتلئ التي المحروسة هذه إذن . حلم غير ُم ِ ّ
صدق ًة نفسي ،كأنني في
.شوارع أخرى حتى كنت في باحة واسعة ،بها أناس كثيرون وعلى أطرافها حوانيت ،هذا هو سوق المحروسة الذي حدثني عنه أبي
الركض طوال عمره من الذين يتربصون به ،وحتّى سريعا ،كأنما ق ِ ُّدر له ّ
ً السل ّاوي أن يعرف كل تلك التفاصيل ،ولكنّه يفر
كان على ّ
موجودا ،ال هو وال الل ّقلق
ً يكن لم ة ُو ك ال من عه شيمن الذين يُحبُونه .لم يَطل مقامه معناَ ،ص َفق الباب خلفه وغاب ،وحين ركضت ُأ
ّ ّ ُ ُ ّ
السل ّاوي بقي ساعة أخرى ،أروي له حكايتي كلها ،سيسمعها ويبكي مثلما بكى في ُحضن الذي َد َرج على زيارة عين الماء .ليت ّ
.الل ّة زهرة ،ويقرر حينها أيرحل أم يبقى معي
الحي يرقبني كل صباح .أحسست أن شيًئا ما انتابه ،ربما ّ السوق ،وكان شيخ منذ مغادرتي بيت تاجر الن ُّحاس .عدت أفترش أرض ّ
مفتاحا ،ثم ً علي أحد التُّجار القريبين منه ،وما إن اقترب منه همس له وسلَّمه ّ ندم أو أشياء أخرى! وقف عند باب حانوته ،ونادى
السير معه .وانتقلنا إلى حانوت تاجر الن ُّحاس المغلق ،فتح التاجر بابه ،وقال :من اآلن كان التاجر يقف إلى جانبي ،ويطلب مني ّ
ِت
بيت آوي إليه .وطفقت أنظف الغرفة حتى أضحت صالح ًة للنوم ،وب ُّ ٌ صدق أنه قد أصبح لي اآلن يُمكنك أن تتخذيه بيتًا .ولم ُأ ّ
أوان نُحاسية لم يسأل ٍ من تبقى وما الجيرية، الغرفة جدران عيناي ت مسح
َ . اني ّ ث ال اليوم منتصف الل ّيلة األولى ،ولم أستيقظ إال في
أنظفّ بعمل، سعفوننيُ ي اً ن أحيا جار ُ ت ال كان . جوعي به سكت ُأ عما أبحث
ُ وق الس إلى رب الد
ّ وعبرت أصحابها عنها ،غادرت الغرفة،
ّ
السلع ،وأحيانًا يأخذني أحدهم إلى بيته ساعات فقط ،إذ لم ترض زوجاتهم بمكوثي هناك ،بعدما ُأشيع ع ِن ّي الجنون. حوانيتهم ،وأر ِتّب ّ
الرجال يشتهون ّ جميع أن يعني المحروسة في جميلة المرأة تكون أن خلسة، بي عيونهم تتربص كيف أكتشف كنت الش باب فقدأما ّ ّ
غضون الرغبات ،حتى وإن لم يرتكبوا الحماقات التي تتعلق بالنساء .لكنهم يَ ُّ مضاجعتها .والقليل فقط من التُّجار َسلِموا من تلك ّ
يحب فيه ّ نظف مساحة أمام حانوت شيخ ،لم يهتم بالنظافة بقدر ما كان الدرب ،وُأ ّ أبصارهم حين يرتكبها أوالدهم .وهكذا كنت أتجاوز ّ َ
الريف ،تلك التي نهزج بها في األعراس، ّ بأغاني ا ولع
ُ ً م يخ الش
ّ كان الغناء، مني علي يَهبُني تُ ّف َاحة ،ويطلب
ّ سماع غنائي ،يُنادي
ونرقص لها ،يتعالى صوتي في الباحة ،فيُغادر التُّجار حوانيتهم ،ي ُراقبونني ،ويستمعون في شغف ،أتذكر كلمات أمي :صوتك جميل يا
السعيدة ،ويحزن بالغُنة الحزينة، أيضا يستمتع بالغُنة ّ ً الحي
ّ ُدوجة ،قد ورثته عن جدتك ُمغنّية القرية .في ذلك اليوم كان شيخ
الحي ،بدت كأنها سيدة تركية ّ شيخ جانب إلى الواقفة المرأة صمت وأنا أبصر ُّ تتقلب مالمح وجهه كلما تقل ّب الل ّحن في ُحنجرتي.
الشيخ ينظر يشير تجاهي. ولمحت ّ ُ إليهن طلباتهن .أشارت المرأة نحوي، ّ وصيفاتهن من يحملن ّ جبن األسواق ،كانت ولم آلفهن ي َ ُ
حبتها، الحي بتقبيل يدها ،وانحنيت كي أفعل لكنّها َس َ ّ سرت حتى وقفت إلى جانبه ،أتطل ّ َ ُع إلى المرأة األربعينية قربه ،أمرني شيخ ُ
أي
الشيخ لم ينتظر طويل ًا ،إذ طلب مني الغناء لها ،واحترت ُّ الحي ،ولكن ّ ّ وحدقت في مالمح وجهي ،وتتقاطع عيناها مع عيني شيخ َّ
السيدة تبحث في دوما اغتنام لحظات الفرح من الحياة ،وربما كانت هذه ّ ً األغاني أغنّيها ،اخترت واحد ًة سعيدة ،النّاس يُحبُّون
:صوتي عن أشياء افتقدتها في حياتها ،كانت تراقبني وتتراقص تفاصيل وجهها ،وتحرك شفتاها تحفظ األغنية ،وحين أنهيتها قالت
السيدة دون أغراضيَ ،خطونا في شوارع المحروسة التي لم الحي وسرت في أعقاب ّ ّ وافقت دون تفكير ،سلَّمت المفتاح إلى شيخ
السيدة ،وبعض الوصيفات حين يُمررن بها ،يُحيينها باسمها ،وكلما عبرنا طريقًاّ طالعون أخطها من قبل ،ورأيت كيف كان النّاس ُ
ي ُ
السقيفة تلو األخرى حتى ّ نعبر ونظل طريقها، وتواصل .جديدة أعراس من هل يسألنها سمعنا إحداهن تهتف :الل ّة مريم الل ّة مريم.
يُقابلنا بيت جميل ،وأحدث نفسي أن المرأة التي سمعت عنها طويل ًا ،وكان التجار يهتفون باسمها ويُقارنون صوتي بصوتها ،هي اآلن
عتبة الباب، تجاوزت َ
ُ أردد َخلفها المواويل في األعراس .في الل ّحظة التي
عما قريبّ ، ّ تسير أمامي .وربما سأصير في فرقتها
أنهن في فرقتها .قامت واحدة ّ خمنت
ّ عطور ا مختلفة ،ثم حين عبرت باب غرفة فسيحة رأيت بنات عديدات هناك، ً اشتممت
تتفح ُصني ،أومأت لها الل ّة مريم ،فغادرت بي إلى غرفة أخرى ،وهكذا أصبحت بعد أيام قليلة مغنية في فرقة الل ّة ّ وجعلت منهن
.مريم
الصباح بزينتنا ،وما إن ننتهي منها حتى تَتوسطنا الل ّة مريم، أول األعراس كآخرها ،تبدأ بالصخب ثم تنتهي إلى تعب .ننشغل في ّ
قطب حاجبيها وتُصر على إعادة ردد أن نَحفظ األغاني والمواويل التي نُعيدها خلفها ،ثم تختبرنا ،وحين تَ ِه ُّم بالعودة إلى غرفتها تُ ّ
وت ُ ّ
نصائحها .تتأفف البنات منها ،ومن تكرارها عليهن ،وكل ما تريده الل ّة مريم أال يتدخلن في األشياء التي ال تعنيهن ،وال يُكثرن
جيدا ما تقول ،ولم أهت ِد إلى الحقيقة آنذاك ،غير أنني أدركتها وأنا ً التحديق في وجوه الذين من حولهن ،كانت المرأة األربعينية تعني
الرجل كل شيء ّ يقول ري الع
ُ وفي نهكين، م
ُ جال الر
ّ يزورهن المبغى، .أقاسم الحكايات مع نساء
الجسد، َ في طفولتي كنت أحسب أن شوق أمي ألبي ،مثل شوقي إليه ،ثم اكتشفت أن انتظار المرأة للرجل ال يُمكن أن يَخلو من
الشوقان بعدما عرفت الشوق الخالي من الجسد ،واجتمع ّ الرجال على جسدي ،صرت َأ ُّ
حن إلى ّ ع َرق ّ
أما حين جربت نُضوح َ
ّ
.السل ّاوي
ّ
كثيرة هي األعراس التي أحييناها ،نسير رفقة الل ّة مريم إلى البيت المقصود ،يُرافقنا صاحب العرس .يظل اليولداش في ُسكرهم
رحبة بنا ،وتنضم طل زوجته ُم ّأنهن من المبغى ،وننفصل عن الحارس عند عتبة البيت ،وتُ ُّ ّ كن وحيدات ،يظنون يعترضون النّساء إن ّ
طل نافذتها على سقيفة خلفيّة ،تتقدمنا الل ّة الرواق ،وتصدح ال ّزغاريد في البيت .نحتل القاعة الفسيحة التي تُ ُّ إليها بقية النّسوة في ّ
ردد بعدها المقاطع المختارة ،تستمر الل ّة مريم في أغانيها، مريم بكامل زينتها ،وتبدأ في مواويلها ،وتُرا ِفقُها البنتان بالدف والعود ،وتُ ّ
وخيّل لي وأنا واحدا ،تُلوح به في اهتزازهاُ ،
ً مناديلهن ،كل ي ٍد تمسك
ّ الرقص ،فيقمن يَحملن حرض نسوة البيت وبناتنا على ّ التي تُ ّ
إلي بعض النّسوة، َّ شبحا ،يُرا ِقب العرس من خصاص النّافذة ،ولكنني لم أتبيَّن وجهه ،انتبهت ً أردد خلف الل ّة مريم ،أنني رأيت
الر اقصات فقامت واحدة منهن ،وأحكمت غلقها ،ورقصت كل نساء البيت ،وال أدري ِل َم بدت وخشين أن يكون أح ٌد ما يتلصص على ّ
لكن عينيها حملتا
ّ لي العروس أصغر من أن تكون زوجة؟ صحيح أن الل ّباس األبيض ،والخمار المشنشل والزينة تُبديها أكبر من سنها،
نهكت ،ثم ُأخذت إلى غرفة أخرى ،ورحلنا نحن عن البيت ُرفقة الحارس ،وما إن بلغنا خوفًا من ليلتها األولى ،ظلت ترقص حتى ُأ ِ
المؤ ّذنين تُعلن عن صالة الفجر
ُ أصوات كانت حتى مريم، ّة لال .بيت
ساعات
ٍ أيض ا ما يدور في بيوت األتراك ،تزورهن وتمكث عندهن ً أيضا اعتدنا زيارة الوصيفات ،كانت المرأة تعرف ً في بيت الل ّة مريم
ليلهن ،بل كانت المرأة األربعينية تعرف كل التفاصيل عن ّ طويلة ،ولم يكن األمر بالتأكيد يتعلق بالغناء في أعراسهن ،أو في سمر
عثمان ،لم تمكث الوصيفة يوما تحدث إحدى الوصيفات على ِحدة ،ولم أتبين الكلمات إذ كانت بعضها بلغة بني ُ ً مغامراتهن ،سمعتُها
ّ
تعد إال في نهاية النّهار على غير طبيعتها ،علت وجهها عالمات الفزع ،مثلما إال دقائق قليلة ثم رحلت الل ّة مريم تُرافقها ،ولم ُ
شاب من المغاربة ،وأن الل ّة مريم أعانتها على ٍ حملت األيام التي تلتها شائعة تقول :إن ابنة أحد القادة األتراك قد حملت من
جة الح
ُ ّ يجد لم بينما وق، الس
ّ باحة في ملقاة تهّ ث الل ّقاء به ِخفية ،وبعد اكتشاف القائد األمر ،قتل ابنته وتربّص بالشاب وقتله ،وجدوا ُ
ج
لماما.
ً إال ُرفتها
غ تغادر وال ًا، ق زَ ن تزداد كانت م
ٌ مر يو
الشائعة .كلما ّ َ التي يفتك بها بالمغنية .تَنهرنا الل ّة مريم حين تضبطنا نعيد ّ
الرحيل في الغد ،حدث ذلك ّ منا طلبت تحية ودون الغرفة، علينا اقتحمت حتى األعراس صارت تُقل ّل منها ،ثم قررت التوقف فجأة،
وأسرت لنا أنها ستعود إلى الغناء في األعراس ،ولم يكن قرارها غريبًا عنا .كنا قد ألِفنا ّ صباحا ،ثم عدلت عن قرارها في المساء، ً
وخفَت عرسا في بيت من بيوت المحروسة .ثم توالت األعراسَ ، ً تمر إال أيام قليلة حتى أحيينا َّ الشهرين الماضيين ،ولم
تقلباتها في ّ
نزق الل ّة مريم ،ولكن خوفًا بقي داخلها ،اكتشفته يوم ُو ّجهت لها دعوة ذلك التّركي ،ارتبكت عندما رأت الوصيفة تجتاز قوس الباب،
عداء وهي تراها ترحل الص َ
حدثها ،أومأت لها بحركة رأسها ُتوافقها ،وتنفست ُ .بينما كانت صامتة وهي تُ ّ
السنة،
قامهن يتجاوز ّ
ّ جميعهن صبايا ،ولم يكن ُم
ّ كن
في األيام األولى من دخولي هذا البيت ،انتبهت إلى أن الفتيات الموجودات بهّ ،
يذكر الجميع أن الل ّة مريم اشتغلت بالغناء منذ أكثر من عشر سنوات ،البنات ال يحكين كل شيء ،يخفن من غضب الل ّة مريم،
مصيرهن
ّ تحول
ّ بكثيرات عملن في فرقتها ،ثم
ٍ وربما من طردهن من البيت ،لم أدرك الحقيقة إال فيما بعد ،حين التقيت في المبغى
.فجأة إليه
السيد التركي على مرافقة المغنيات إلى بيته ،استطالت المسافة وظلت عينا زوار أن يكون معنا ،مثلما حرص ّ في ذلك اليوم أصر ِ
الم َ
المرة
ّ تلك كانت منه، وسخرت منا، أجرأ كانت هاّ ن ولك رافقتنا، التي الوصيفة وجسد أجسادنا يتأمل ريق، الط
ّ طوال زوار تتفحصاننا ِ
الم َ
األولى التي أرى فيها ُسخرية وصيفة من سي ّد في المحروسة ،وبالرغم من ذلك لم يصرف بصره ،بل التصقت أكثر بثيابنا ،وفي
الطريق،
المر ة لم يسكت ،بل اقترب منها وهددها بسوطه ،فابتلعت لسانها بقية ّ ّ منعطف آخر سخرت منه الوصيفة ثانية ،ولكنّه هذه
.ولم تتكلم ونحن نبلغ البيت ونعبر بابه ،ثم شرعت تسبّه حين ُأغلِق الباب خلفنا
زوار إلى آالف من الحيوات كي تقتله لو كنت معي يا ّسل ّاوي ،وتتبعت تفاصيل ما حدث فإنك ستَقتُله أكثر من مرة ،يحتاج ِ
الم َ
تظل تركض وتستمتعُّ ار آخر .كنت أجتهد أن تدرك فقط أنني أريد حياتك ،بينما فيها ،ولن يتغيّر شيء ،ما إن يموت حتى يظهر ِم َ
زو ٌ
.بركضك ،والذين في إثرك يُريدون موتك
الرابع
القسم ّ
ديبون
السهل أسفلها خاليًا من تبدت لي القلعة من سطح لوناجور ،صغيرة ينحدر ّ َّ الدماء عند نزولنا ،حين
كانت كل أمنياتي أال تُسفك ّ
قدمنا ،حركة ُمفاجئة على سطحها، السفينة التي تَتَ ّ
البشر .ثم يتراءون لي ،خيَّالة يركضون بسرعة جنونية وهم يَترقبوننا ،مثلما أرى ّ
تمض إال لحظات قليلة حتى برزت لوناجور وسبقت البروفانس .واآلن ُأبصر المدى من ُم ِ ّ
قدمة ٍ تقدمهم .لم
لوح لنا أن ن َ ّ َ
وبحار ي ُ ّ
ّ
تقدمنا أكثر نحو الخليج، َّ يحضهم على تجهيز مدافعهم بعد شحنها .ثم ّ ارته، بح
ّ بين سريعة بحركة القبطان أمامي ينتقل القافلة،
الربوة التي برزوا منها، نحن .رأيت الغبار يتطاير من اليابسة ،يتفرق على إثره الخيّالة ،عائدين إلى ّ وارتفعت القذائف في شكل ُم ٍ
الصغيرة ثم يقول :إنهم لم يتوقعوا أن نباغتهم من هذه الجِ هة ،حتى وكُل ّما تطاير الغبار يُقَهقه إلى جانبي كافيار ،ويشير إلى القلعة ّ
لتصدنا
ّ زودوها بمدافع ِكفايةوري شيكا لم ي ُ ِّ .ط ِ
ُ
السفينة .بينما كانت لوناجور تتقدم وتخمد معها ضربات ي ضئيل لمدافع لم تبلغ قذائفها ّ دو ٌ
إلي ّ
َّ فعل ًا كان كافيار ُمحقًا ،إذ تناهى
وأكياسهم،
َ بنادقهم ون ِ
عد
ُ ّ ي فوف، الص
ّ لونّ ِ
ك شُ ي كانوا فن، الس
ُّ سطح على الحركة ازدادت . شيًئا رسل ُ ت القلعة طوري شيكا ،ثم لم تعد
السفن ،تنزل إلى المياه ،وتقترب ستعدون لنزول القوارب ،وقد بقي بيننا وبين الخليج مساف ٌة ضئيلةٌ ،كانت القوارب تتناثر من على ُّ ّ يَ
جدف بنا البحاران ،وما إن وصلنا حتى تنهد إلى جانبي ،ثم بسط يديه َّ قفزت إلى أحدها يُرافقني كافيار، ُ حتى تُالمس اليابسة.
أخيرا جاء اليوم الذي رجوتُه طويل ًا
ً .وصاح:
التفت حولي إلى منظر القوارب الكثيرة .هذا هو النّهر الذي تكل ّم عنه كافيار طويل ًا .اآلن فقط سينهمر على الخليج ،ولن تمضي إال ُّ
طو قها .اقتربت قوارب مختلفة من الخليج ،ونزل الجنرال بورمون من أحدها ،وإلى أيام قليلة حتى ينهمر على مدينة الجزائر فيُ ّ
جانبه ُم ساعدوه ،وقفوا يقابلون المكان من هناك .ساعة أخرى ظلت القوارب تحمل المدافع ،وتقترب بها ،يجتمع حولها الجنود
ضطر النتظارهاِ .سرنا مسافة قصيرة
دائما عن البقيّة ،ون ُ َ
ً لكن ُسفن المؤونة والخيول لم تصل في ذلك اليوم ،كانت تتأخر ّ إلنزالها،
حدق
َّ صد ٍق أنه عاد.
السهل وكأنه غير ُم ّّ ل يتأم
ّ كافيار وقف . بوصولنا لم ِ
ع على يكونوا لم أنهم ستوعب
ٍ م
ُ غير وكنت هل، الس
داخل ّ
المنتصر ،وقال
الصامتة ثم نظر تجاهي نظرة ُ :في القلعة ّ
.لم يبق الكثير يا ديبون كي ترى المجد الذي ضيّعه أصدقاؤك اإلنجليز .ولم يُسعف نابليون الوقت كي يُح ّققه -
.أفضل انتصار حقّقه اإلنجليز بعد تحريرهم العبيد هو قضاؤهم على ذلك المجنون -
عدلون أمكنتهم يعودون إلى ُمربعاتهم ،وإلى ُصفوفهم الصفوف ،كان الجنود يهتفون ويُ ِ ّ الضجة من بداية ُّ في اليوم الثّاني لنُزولنا ،تعالت ّ
الش رقية ،لم يكونوا كثيرين ،يقتربون مسافة رمي بنادقهم بسرعة جنونية، الربوة ّ
الممتدة ،وينتظرون اقتراب الخيالة القادمين من خلف ّ
الرمي كان لديهم أبعد ،ولكن ويصوبون تجاهنا ،صحيح أن مجال ّ ِّ مسك األيدي البنادق، سبق البقية وتُسرع تجاهنا ،ثم تُ ِ كوكب ٌة منهم تَ ُ
قطعا،
ً بحصانه يتطاير الفارس تجعل واحدة قذيفة بالغرض، تفي مدافعنا كانت بينما . بهم ا أثر
ً يحدث ال جنودنا يبلغ الرصاص حين ّ
رد ًدا :ما الذي أتى بك إلى هنا يا ديبون ،وقلبك ال يحتمل رؤية الموت؟! فأعود ُ َم قربي الواقف كافيار ويضحك ببصري، أشيح
الرسامين الذين قدموا مع الحملة ،يقتربون من الخي َّالة الذين يستمرون في تكرار المشاهد ،ولكنني عجبت أكثر لهؤالء ّ َ بِبصري إلى
لوحات.
ٍ حول في المساء إلى ٌ
أشكال ّأولي ٌة تَتَ ّ اهتماما بهؤالء الخيّالة،
ً الرمي ،ترى وجوههم تنتقل بين الجنود الفرنسيين ،وأكثر مكان َّ
أن هناك من يُغامر من أجل لوحة يُخلِ ّد بها مشاهد للقتل المتباينة على وجوههم ،واستغربت ّ .اجتهدوا في نقل التفاصيل ُ
فر بقي ّة الخيالة ،بعد موت الكثير منهم ،وتقدم الجيش مسافة إلى األمام ،ولم ننتبه إلى من بقي في وقت قصير حتى ّ ٌ لم يمض إال
انفجرت باألرض وقتلت بعض ُجنودنا ،وواحدة سقطت قُرب المكان الذي اجتمع به ْ أخرى، قذائف منها تراءت إذ بوة، الر
ّ أعلى القلعة
مبال بشيء ،وحين انجلت سحابة الغُبار برز القائد هناك ،ولم ي ُ َصب بمكروه، ٍ القائد بُورمون بضباطه فأسرع تجاهها وبقي كافيار غير
ربما كان ذلك اليوم مختلفًا بالنسبة لي ،إذ استطعت أن أكون إلى جانبه في جزء من مسيرته ،كانت المدافع آنذاك قد وجهت إلى
ترد ،فزحفت كتيبة إليها ،ثم رأينا الجنود يُثبِّتون العلم األبيض أعالها ،ولم يجدوا أي جندي ّ القلعة ،وضربت نحوها طلقات ولكنّها لم
وري ِشيكا مرك ًزا لقيادة الحملة .وصعدت جعل ُط ِ
َ الربوة ،ألتزمت جانب القائد حين قرر الضباط في إثرهم ،وتسلقوا ّ تركي بها .سار ُّ
توجهت شرقًا كي تحاصر المدينة من البحر ّ التي فن الس
ُّ إال لي يبد لم طح الس
ّ ولكن هناك، من المدينة ألرى .أدراجها
توعلنا مسافة داخل َ عدل ُون صفوفهم ،حينها كنا قد نظفون بنادقهم ،وآخرون ي ُ ِ ّ ألربعة أيام لم يتغير شيء ،الجنود يحفرون الخنادق ،وي ُ ِ ّ
الموصل
ُ رب الد
ّ تعديل آخرون ل وواص
َ للمدافع، مناسبة أمكنة الجنود اختار هاجمنا منه الخيّالة العرب.َ السهل ،وبلغنا المكان الذي
ّ
الضباط ويتّ َبعون تعليماته التي تتعلق بالطرقات حرفيًا ،كان يتقدم بين ذلك المكان وبين طوري شيكا ،تكفّ َل كافيار بتوجيههم ،يحترمه ُّ
الروابي ،ثم يعود ،كأنه يُؤكد للجميع مدى درايته باألرض مسافة حتى يكاد يغيب عن أعيننا ،وأحيانًا يختفي عنا ساعة أو أكثر خلف ّ
بسط الخرائط أمامه ،وال يرضى أن يُقاسمنا أحد الخيمة ،ويزيد عجبي من كثرة الخرائط التي والطرقات وتفاصيلها ،يَرك ُن إلى خيمته ،ي َ ُ
وخ ّصص الهوامش لألعشاب والحيوانات التي تكثر به، دون بها تضاريسهَ ، كانت تحويها الخيمة ،كل مكان ُخ ِّصص له ك ُّراسة صغيرة ّ َ
الطرقات ،أسماؤهم ُمدونة في دفاتره ،وحتّى عدد أوالدهم وخيولهم وبنادقهم .أتساءل :من كان والقبائل التي تعيش على أطراف ّ
أرض يُف ِتّش َخباياها؟! أم جغرافيًا يمسح َسطحها ،أم باحث ًا في اإلثنيات يُ ِّ
قدم كافيار؟ أكان صياد رنكة أستعبد في الجزائر؟! أم عالم ٍ
مما
الرجال الذين رعاهم نابليون أخطر ّ حرب ي ُ ِع ُّد ُخطط الغزو؟! ربما كان كافيار أكثر مما وصفتّ . ٍ شجرة أجداد العرب؟! أم َر ُجل
سكرون هنا
ُ عِ ُ سي أنهم بد ال : يتكلم ثم الخريطة، على أصبعه كافيار يضع . كالمه إلى ألتفت لم أنني تصورت ،قالها لي القبطان غير
بعيدا عن ُمعسكرهم ،ثم غادرنا الخيمة، ً حب أصبعه إلى مكان ليس وس َ
في سطاوالي ،وينبغي مواجهتهم في هذا المكان قبلهاَ .
.وافترقنا عند بابها .سار هو في اتجاه الجنود واخترت طريق ُطوري ِشيكا
أهل ًا بصديقنا ديبون ،هل تسير أمور التدوين بشكل حسن؟ -
ف في كل شيء -
بتطر ٍ
ُّ يتصرف
ّ عبدا لها ،وأصبح
ً عظيما ،ولكن أحالمه تجاوزته حتى صار
ً قائدا
ً .نابليون كان
ودعتُه
وبد َدت التشويش الذي أحدثه كافيار فيهّ ،
َّ كانت الجملة األخيرة التي همس بها القائد خاتمة لكل األفكار التي طافَت برأسي،
شيطان ،يعرف كيف يحدث التشويش في رأسي ٍ .ذلك اليوم والتحقت بكافيار قلبي ُمعبأ بال ِثّقة ،ولكن كافيار ،كان مثل
أيضا؟ -
ً هل استطعت أن تُج ِن ّد من بينهم جواسيس
والمور -
ُ ذكاء من األتراك
ً .هؤالء الذين رأيتهم ال يُعتبرون أنفسهم جواسيس ،إنهم يَشتَرون حياتهم ،وأموالهم وحيواناتهم ،هم أكثر
العثمانيين؟ -
جرب حتى مفاوضة ُ
ولكننا لم ن ُ ِ ّ
ثالث ونحن نُحاول معهم ،ولكن باشاهم يرفض االعتذار -
ٍ سنوات
ٍ .منذ
شوشة في أذهان العديد ،ال تست ِق ُّر عند مفهوم واحد ،كل شخص يفكر بها بطريقته ،حتى أولئك الحملة فكرة ُم ّ َ لم يُخطئ بورمون ،تبدو
أيضا أكثر من خمسة وثالثين ألف فكرة عن ً السهل ،أكثر من خمسة وثالثين ألفًا ،صارت تعني لي ّ في انتشروا الجنود الذي
قلت بصري إلى خيمة كافيار ،كانت عائدا إلى خيمتي ،راقبت من خصاصها حركة الجنود والضباط ،ثم ن َ ُ ً الحملة .غادرت خيمة كافيار
هممت بالسير إليه ،ثم عدلت عن رأيي ،جالت بخاطري أفكار عديدة ،تُشك ّك في معنى قُدومي ُ يتبدى خياله يتحرك داخلها، َّ ُمضاءة،
دون بها تفاصيل عن رحلته ،كان بقصاصات ُأ ّ
ٍ ع َدني أن ي َ ُم َّدني
دوما معي ،مثل ًا َو َ ً واضحا
ً إلى هذه الحملة ،بالرغم من أن القائد كان
تحم ًسا أكثر من إخوته اآلخرين ،يطلب أن المشتركة للحملة ،وتفاؤلي بنتائجها ،يَعتبرني مثل ابنه األوسط أميدي ،كان ُم ّ غتبطا برؤيتنا ُ
ُم ً
دوما أن يصنع كل واح ٍد
ً أحب
َّ شيء، في ل ليتدخ
ّ بورمون يكن ولم به، القائد قُ ّ ل لتع رونه، ؤخ
ّ ُ ي اً ن أحيا ولكنهم الجيش، مقدمة في يكون
من أبنائه َمجده ،دون الل ّجوء إليه ،وربما كان يراني مثل أحد أبنائه ،وظل يُعاملني بحميميةٍ مثلهم ،ولكنني أضطرب كلما تذكرت
الجدران وأنا غير
ُ الصالبة داخلي ،وكنت أرفض بناء جدار من ّ ٍ الدم الذي ساح في األيام الماضية .كان ال بد لي من بناء مقدار ّ
والسالح مع الكلمة ،والمحبّة مع الكراهية ِّ الدم،
الرب إفريقية .يتناقض الن ُّور مع لون ّ ّ ورُ ن َ م
ّ ع
ُ َ ي ِ ل تسيل واحدة دم ِ
ة بقطر قتنع .م
ُ
جزءا
ً الرمي
صوب بوضوح ،بعد أن انزاح تراءى الجيشان ،واستمر ّ حل ضباب كثيف فلم تستطع المدفعية أن ُت ّ َّ في صباح اليوم التالي،
شككت بانتصارنا وأنا
ُ . األعراب أولئك بها قاتل التي راسة الش
ّ وهالتني ؤية، الر
ّ مجال من اقتربت الجيشان، اشتبك الصباح ،ثم
من ّ
خطة الهجوم ،طلب ّ ل وعد
َ ّ المراقبة، مكان من لحظتها القائد ل ز
َ َ ن و ابقة، الس
ّ تشكيالتهم إلى وعودتهم جنودنا، بعض انسحاب أرى
أحدا منهم، ً يفرون حتى لم نعد نرى يمض إال جزءٌ من النّهار حتى تبعثر جيشهم ،وكانوا ِ ّ ِ التركيز أكثر على ميسرة جيش العرب ،ولم
الدماء األرض ،وامتزجت بالتراب ،ثم أوحلت ،ألول مرة أرى لونت ِ ّ مت في إثر الجيش ،وسرت في الحقل الخالي من األحياءَ ّ ، تقد ُّ
محمدية ،أمام الموت يستوي الجميع ،امتزجت أشالؤهم ّ أدر إن كانت دماء مسيحية أو الدماءُ ،طفت بقدمي فوقه ولم ِ وحل ًا من ِ ّ
الع ِفنة .أشحت بوجهي إلى جهة الرائحة َ واحدا ،تفوح منها ّ ً دما
الدماء حتى صارت ً أرجل وأي ٍد منهم ومنّا ،وتخثرت ِ ّ ٌ وتكومت
ّ بأشالئنا،
السهل
ّ على ف َ ّ ر
َُ ت لم ّه ل ال وروح . حولي من المنثورة ِ
د األجسا منظر من أفزع جهة إلى التفت
ُ ّ وكلما ا، متكرر
ً المشهد فرأيت
ُ ثانية
الح ّرية ،أو البَربرية يا كافيار؟ أراه ُمقبل ًا ُ ف عر
ّ ِ ُ ن أن اآلن يمكننا كيف األمة؟ لهذه به أتينا الذي ُور ّ ن ال هو هذا هل غادرته، بل األحمر،
سعيدا بالحقل ،يُدير عينيه وينقلها بين األجساد ،كأنه ي َ ُع ّد كم خسرنا وكم ربحنا ،وحق المسيح قد ً تجاهي ،يحمل الخرائط في يده
أيضا بين يديه .يبحث كافيار عن موطئ لقدميه بين الجثث فال يكاد يَجده ً كانوا سواء في موتهم ،والعدل الحقيقي أن يكونوا كذلك
حكته
ُ مد بصره ويُطلق ِض يقف إلى جانبي ،ي ُ ُّ :بسهولة ،ثم ُ
فخورا بنا ،ونحن نُعيد َمجده في أرض إفريقية بعد -
ً يُمكننا اآلن إضافة معركة سطاوالي إلى هيليوبوليس واألهرام ،وسيكون نابليون
.خسارته في مصر
الصفوف ،ولكنّه َر َضخ واحترم تشكيلة الكتائب ،ولمفالتفت تجاهها ،أرى أميدي بينهم ،يريد أن يكون في طالئع ّ ُ ترتفع أصوات الجنود
دوما كافيار .منذ
ً سكرنا به ،مثلما يُتوقع
ع َالشرق ،اخترنا مكانًا أقرب َ
عومل مثل الجميع ،كنا قد تجاوزنا سطاوالي تجاه ّ يحتج إذ ُ
الدم ،وتستسلم المدينة دون ُمقاومة،ّ من مزيد يسيل ال كي نفسي في ّيت ل ص المآل، هذا إلى بنا سينتهي األمر أن لّ أتخي مسيري لم
الضمير ماّ تأنيب وسيالزمني الحملة، ركاب في سرت أنني نفسي أسامح لن حينها سطاوالي، في حدث ما يتكرر أن خشيت
عاما على المسير مع الحملة؟ أتُراه ً َحييت .أراقب أميدي وهو ي ُمازح الجنود ،ما الذي يجبر هذا الفتى صاحب الخمسة وعشرين
شو ًشا،
مثل والده بُ ورمون ،يحلم بعالم مختلف ام أنه يبحث عن مجده ،أو ربما هو نموذج عن كافيار؟ كم صار العالم من حولي ُم ّ
الدمار لها
.وأضحى التنفس شاقًا في إفريقية ،ما أسوأ أن يكون اكتشافك األول لألمكنة وأنت تحمل ّ
تأخرا على غير عادتي ،وخرجت أتف ّقد الجنود فلم أجدهم ،ولم َأر في المعسكر سوى رأسه ،وقفت بين الخيام أبحث عن أفقت ُم ًُ
قدرت أن المعركة ستكون بعد أيام ثالثة ،بيد أنني ّ هل، الس
ّ إلى تحرك الجميع ضباطه، وبقية ورمون ُ ب حتى هناك، يكن كافيار ،لم
سريعا ،وراقبت المعركة من األعلى ،كانتً المعسكر
غادرت ُ
ُ الربوة،
فوجئت برحيلهم ،وها هي المعركة تبدأ في الجهة األخرى من ّ ُ
في نهايتها ،فعل ًا حدث ما اضطربت من أجله ،لقد انه َزمنا يا كافيار ،لم تصدق نُبوءاتك ،سوف يلتحقون بنا ويعيدون ما حدث في
الدماء حتى نعجز عن وقفها .انحدرت إلى خيمتي ،ولم أغادرها إال على سطاوالي ،لم أخش الهزيمة بقدر ما خشيت أن تسيل ّ
دبيب األقدام وفوضى عودة الجنود .كانت الهزيمة تتراءى على وجوههم ،ال يمكن أن تستهين بعدوك في أرضه ،وقد استهانوا بهم،
الرصاصة حادت بقليل أن ّ تأملهم في عودتهم إلى خيامهم ُمنك ّسين رؤوسهم ،وتحلَّق آخرون ،اقتربت منهم ،فرأيت جسد أميدي ،رغم ّ
صد ٍق ما يراه أمامه ،مال
عن قلبه إال أنها أنهت حياته .مات أميدي ألنّه أصر أن يكون في طليعة المقاتلين .كان بورمون غير ُم ّ
َّ
وظل إلى جانبه طوال الل ّيل أومأ إليهم بحمله إلى خيمته،
السواد ،وعجز عن الكالمَ ، .وجهه إلى ّ
هب الجميع كأنهمَّ إصرارا على المواصلة ،نادى الجنود كي يستعدوا لل ّزَحف،
ً مالمحه أكثر
ُ في اليوم الثّاني غادر القائد خيمته ،بدت
ٌ
رجل واحد، بأوامر من كافيار ،سار الجيش كأنه
ٍ أعدتها الفرقة التي تقدمتهم،
َّ الدروب التي
يجرون المدافع عبر ّ
ُّ كانوا ينتظرون إشارته،
يفرون ما إن تَتَصدى لهم جنودنا .كانوا يعطلون سيرنا،ِّ مرة يظهر األعراب من هناك على خيولهم ،يهاجموننا من بعيد ،ثم كل ّوفي ّ
بالسرعة نفسها .لم ي ُواجهونا مثل جيش .أربعة أيام من المسير والتوقف ،ثم كنا نشاهد حصن ُ يختفون ثم أشباح، مثل ظهرون يَ
الربوة .قال كافيار لحظتها :إنّه آخر الحواجز ّ أعلى من .اإلمبراطور
البعض يُريد ضمان حياته وحياة أهله ،ثم يرحلون وهم يحملون ُ عسكرنا ليلتها هناك ،رأيت مجموع ًة من األعراب يبحثون عن القائد،
ردد عليهم :لم نأت ُهنا لنقتل النّاس ،بل أتينا لنُخ ِل ّصهم ظل ي ُ ّوثائق األمان التي يُعطيها لهم بُورمون ،رغم استياء بعض ُضبّاطه ،لكنه ّ َ
معنى ال يت ّفق عليه اثنان من المشاركين بها ،وطوال اليوم الذي عسكرنا به ،كان ً من األتراك ولكنهم ال ي َ ُعون كلماته ،تظل الحملة
الربوات المحيطة بالحصن ،وفي لحظة ّ أعلى المدافع منها ب صو
ّ ِ ُ ت التي األمكنة بون ِ
عدون التحصينات ويحفرون الخنادق ،ويُر ّ
ت الجنود يُ ّ
عدا ،ينتظرون فقط إعالن القائد بداية القصف .كان كل شيء ُم ّ ً
الممتدة مثل
وأسوارها ُ
ُ غريب انتابني ،أن ترى مدينة ألول مرة وتَمتَلِئ بها ،عندما تتراءى من أعلى ّ
الربوة مآذنها البيضاء، ٌ شعور
ٌ
توزعة أعالها ،هل يمكن أن تَستَوعب مدينة مثل هذه فكرة عن البَربرية؟ هل يُعقل أن كل ما قاله كافيار الم ِ ّ
طوق حولها ،والقباب ُ
الدم
شو ًشا أكثر مما ينبغي ،كل ما أرجوه استسالم المدينة دون أن يُراق ّ
.كان حقيق ًة؟ يبدو األمر ُم ّ
من فارا
الربوةً ّ ،
انحدرت عبر ّ
ُ دوت في سماء المدينة أول طلقة ،حتى أمر بورمون الجنود بالقصف ،فأشعلوا فتيل المدافع .وما إن ّ
رجل سور يسقط ،أوٍ الح طام .بالتأكيد لو رآني كافيار سيسخر مني ويقول :ما الذي أجبرك على المجيء هنا ثم تفر من ُرؤية ُ منظر
دماء
ً جدف به ،قد أضحى كله .يُقتل؟! ولن أجادله! ما يُضيرني هو النّهر الذي تُ ِ ّ
أيضا لجنودنا
ً الربوة
فجره األتراك .يتراءى من ّ
الربوة من جديد ،أطالع بقايا حصن اإلمبراطور ،بعد أن ّ َ أفيق على نفسي ،أعتلي ّ
عائدا إلى المعسكر
ً وانحدرت نفسي حملت . القصبة جهة من المدينة أسوار تجاه مدافعهم صوبون ُ .ي
راقبت رحيلهم ،ثم انتبهت إلى عودة المترجم والخزناجي ،طلبا مقابلة القائد ،لم يَ ُطل ُمكوثهما في خيمته ،إذ رفض القائد عرضهما
.بأن ي ُ ِ ّ
قدما له رأس الباشا وخزائن المدينةُ ،مقابل العرش
شتهى ألوروبا كلها .حتى نابليون ً لما ُمالرؤية ،أن تسير في الكتيبة التي تعبر بواب ًة من بوابات مدينة ظلت ُح ً ال يمكن إعادة تلك ّ
الرخامية ،أو معقل القراصنة، الشرق ،من َّى نفسه طويل ًا بدخولها .المدينة البيضاء ،أو ّ إلها ،وقاده طموحه إلى أقصى ّ الذي نصب نفسه ً
السكون،ُّ مظاهر غير هناك تكن لم بينها رأسي في تضطرم كانت الكلمات كل . ستعبدتهم وم
ُ األوروبيين ضطهدة م
الدم ،أو ُ أو ربوة ّ
الصخب الذي يحدثه الجنود في دخولهم ،وأبواقهم ّ راقبن ُ ت ورالم
ُ نساء منها طل ت
ُ مفتوحة نصف نوافذهم سالمون، م
ٌ ُ أناس بها مدينة هادئ ٌة
ومرات يُرفعونها يُراقبوننا كأنهم غير ُمبالين ّ ا، ً ن حي ؤوسهم ر
ُ ّسون ك نُ ي يوتهم،ُ ب أبواب عند فيجلسون ور الم
ُ رجال بعض ا أم
ّ . وأغانيهم
عاما .يراقب بصري األمكنة ً بدخولنا .تُرى ما الذي يدور في ذهن كافيار في دخوله الثّاني؟ إنها الل ّحظة التي انتظرها أربعة عشر
من حولي ،شوارع ضيقة ،سقائف أشد ضيقًا ،ووجوه ُمتشابهة ال تكاد تُفرق بينها .يستمر الجيش في المسير حتى يبلغ قلب المدينة.
يشرعون في العزف والرقص محتفلين بنصرهم. ُ نجتمع مع الفرق التي دخلت المدينة من كل أبوابها ،يُشك ّل الجنود حلق ًة ُمتّسعة،
كبيرا ،وربما أكبر حتى من حجم المدينة .لمحت بعضهم ً أما بقية الجنود فيتفرقُون في أزقة المدينة يكتشفونها ،كان حجم األساطير ّ
للم قاتلين األعراب ،ثم صعدوا تجاه القصبة ،أو هكذا سمعت أحدهم يهتف بالجنود أن ُ يركض ،لم يكن هناك أثر للجنود األتراك ،وال أثر
عل ََمنا األبيض،
بالعل َم العثماني األخضر َ
َ الكنوز باألعلى ُمشي ًرا إليها .وخطوت أتبعهم ،وحين بلغتها رفعت راسي فرأيت الجندي يستبدل
يسيرا .ولكنهم ظلُّوا يركضون ويقتحمون ً الركض؟! يكفيكم هذا المجد ،إنّه ليس عل ّق في أعلى المدينة فلم ّ مجد األمة الفرنسية اآلن ُ
تعج بها .أين ّ السقائف
أبواب القصور ،ويحملون ما استطاعوا من ُمقتنيات ثمينة .وآخرون نثروا أوراقًا وجدوها بالقصور حتى صارت ّ
وأومأ لي أن ألتحق به ،وبلغنا قصر الباشا .لم يكن هناك، َ لحظات ورأيت موكبه، ٍ أنت اآلن يا بورمون كي تُوقف هذه الفوضى؟
حتى الغرف التي كان بها حريمه ُأخذت مقتنياتها .وجعل بورمون قصر الباشا مكانًا للحكم .باألسفل كانت البحرية قد انتهت من
احتالل مباني الميناء ،واستقر األميرال دوبيري بها ،حانقًا على كل شيء ،وانتقل حنقه إلى جنوده الذين عادوا خائبين من القصبة
المشاة محتويات قصورها ،وتركوا لهم سقائف مليئة باألوراق .بعدما أفرغ ُ
الراكضين ،واألطفال بصرخون في أحضان أمهاتهم ،والرجال الشيوخ يفترشون األرض ،ينظرون إلى جنودنا ّ أشق شوارع المدينة ،أرى ّ ُّ
نكسوا رؤوسهم .أين فرحة المسيح ونوره الذي آمنت به ،يوم َرحيلي عن مرسيليا مثل حاج يهدف إلى أورشليم؟ أو مثل حواري
الرجل يمكنُه إجابتي عن بقية الشوارع باحثًا عن ابن ميّار ،وال أجده ،ربما ذلك ّ يُغادر المدينة يُخبئ الوصايا تحت ثيابه .أذرع ّ
الرصيف ،ثم ّ يذرع بكافيار يّ ن وكأ الميناء، قبالة وقفت . وأهلها للمدينة غامض تاريخ
ٍ األسئلة التي كانت ُمعلَّقة بيني وبين كافيار ،عن
دونته هنا.الرجوع إلى مرسيليا ،لتُعيد َصياغَة ما َّ ّ اآلن عليك الحملة، انتهت قد ديبون وقف وأبصر تجاهي ،وبلغتني كلماته :يا
الصالبة تحتمل الحروب إنها ال تعنيك في شيء ،لست من ّ ُ المعا ،ودعك من أمر ً نجما
ً السيمافور ،وتصبح
سيحتفون بك في ّ
عد إلى بيتك ،استمتع بشبابك ،ودع كل شي ٍء للقيصر القوية منهاُ .ّ العهود بين األمم إال لتخرقها.حقيقتها .إذ لم تُكتب ُ
وأكرر خلفه :في إفريقية لم تُخ ِل ّفوا شيًئا لله ،كل شي ٍء قد آل إلى القيصر
ِّ الصوت
.يغيب ّ
كافيار
.مختارات من ِ ّ
الديوان اإلسبرطي ُ
ُد ِّونت ما بين 1816و1830
السادسة
اللوحة ّ
الريفي
الموصل إلى البيت ِ ّ الطريق ُكابوس محموم قطعت ّ ٍ السابقة إال القليل ،مثل أفيق على غُرفةٍ ُمختلفةٍ ،وال أذكر من بقايا أيامي ّ
الرحيل عن ّ دأو
ّ لم . تشفى حتى ثالثة ا أيام
ً تتجاوز لن ك ّ ن أ أعدك : حدثني السويدي ،أستفيق فأراه إلى جانبي ،يبتسم ثم ُ
ي للقُنصل ُّ
الحمى .يعتذر القُنصل ثم يرحل ،أغادر سريري، ّ داهمتني ذلك على أوشكت وحين أكتشفها، لم أمكنة هناك أن
ّ شعرت المدينة،
المرات طالعته بها خالل سنوات ،ولكنني لم أنتبه إلى أزهار الل ّوز ،يتصاعد ّ وأنظر من نافذة البيت إلى البستان ،ال أدري كم من
الطفل كافيار أن يُغرقها في المتوسط الطفولة ،كم شبكة كان على ّ عبقها ،فتعود بي إلى أيام ّ شذاها إلى األفق ،أمأل صدري من َ
الدفاتر من
السنوات وال يتغيّر شيء ،تتراكم ّ تمر ّ ُّ علي رسمها؟! َّ مزهوا بالرنكة إلى بيته؟! واآلن كم من خريطة وجب ً حتى يعود
الماضية ،وإلى أين يمكنُها المسير بكافيار وأحالمه َ نوات الس
ّ في للتفكير مساحةٍ من لي بد
َ ّ ال كان . تجاوزنيَ وي َمان
ز ّ ال يركض .حولي،
الصور في رأسي ،اختار للخرائط مكانًا ،وللدفاتر مكانًا آخر ،وأقارن بينهما ،فتهب المايسترال أتطلَّع إلى البُستان ،أحاول عبث ًا ترتيب ُّ
السرير ،وأستلقي عليهُ ،أ ِ ّ
حدق ّ تجاه خطوات
ٍ وأسير نفسي أحمل . عافيتي أستعيد حتى االستغراق وتُبعثر كل شيء .لم يكن ُمجديًا
السقف طويل ًا ،أبحث عن قوارب جديد ٍة ُس تقلع من سات ،أتوق إلى مرافقة أحدها .لوال الخوف من رؤية القراصنة األتراك .من في ّ
الصياح ،كم تُزعجني أحدا ،ثم أرى فتا ًة تركض بين األشجار ،وال تتوقف عن ّ ً أبصر
ُ أطل من النّافذة فال ُّ الصوت،
مكاني يَصل ُني ّ
المور وهم يركضون الصارخة بهذه الل ّغات ،تُغا ِد ُر أفواه اليولداش برائحتها الن َ ِتنة وهم يحملون أسواطهم ،أو يصرخ بها أطفال ُ األصوات ّ
بجنون بين األشجار في ٍ الصوت ال يزال يَتعالىَ ،هممت بنهرها ،وخذلني صوتي .ثم رأيتها تركض ّ كان . كريستياني ريستياني خلفناِ :ك
اتجاه البيتَ ،ووقفت تحت النّوافذ ،راقبتها َملِيًا ثم أسرعت عائد ًة حين سمعت نداء أحدهم ،قدرت أنها ابنة بُستاني القُنصل .لم
مبررا من قُنصل أن ً ع ّماله ،كان يُعاملهم مثل أصدقاء يُقاسمهم األكل أحيانًا ،ولم يكن تصرفه مع ُ ّ كثيرا في طريقة ً أكن ألتّفق معه
المور واألعراب أال تثق بهم ،تترك بينك يوما ما ،وربما يقتلونه .يُعلِ ّمك ُ ً يتواضع فيساوي نفسه مع هؤالء الفالحين .سيثورون عليه
الطريقة فقط استطاع األتراك إحكام قبضتهم على الجزائر الرهبة ،كيال يتجرؤوا حتى على رفع رؤوسهم في حضورك ،بهذه ّ وبينهم مسافة ّ
أيضا يُمكننا إخضاع المدينة لنا بعد احتاللها ً ريقة الط
ّ وبهذه ثالثة، اً ن .قرو
السابعة
اللوحة ّ
َشت بين
عدت إلى غرفتيَ ،فتّ ُاأليام األخيرة إلزهار الل ّوز ،والقُنصل غائب منذ يومين في المدينة ،وحين أظلمت تجاوز يومه الثّالثُ .
.أشيائي ،فلم أجد دفاتري وال خرائطي ،تركها ال ُق نصل كلها بمنزله في الجزائر ،ولم يشأ أن يكون مقامي هنا إال بغية ِشفائي
أن هناك أشياء كثيرة قد حدثت في غيابي ،ولكن مالمح الدرج ،شعرت ّ
ونزلت ّ
ُ على أصوات عجالت العربة استيقظت ُمتوثّبًا،
الطريق ،ولم أستطع االنتظار حين
ّ من ا تعب
ُ ً م كان البهو، في كنا حتى البيت باب القُنصل لم تَ ِش بشيءِ .سرت إلى جانبه وعبرنا
الس فن التي رست في ميناء المدينة ،وكم مرة زار فيها دوفال قصر الباشا ،وهل ما زال أتقصى منه تفاصيل كل شيءُّ ،
ّ شرعت
أعيان اليهود يزورونه في بيته ،وكل التفاصيل األخرى ،عن آغا العرب ،وعن وكيل الحرج ،وعن خزناجي الباشا ،وحتّى عن ُش ّواشه،
الطريق الموصلة إلى سيدي فرج .واألعراب الذين عند أطراف المدينة ،هل نقلوا خيامهم أم أنها ما زالت هناك عند ّ
مترددا ولكنّه خاطبني
ً حدق بمالمح مختلفة ،بدا
َّ :صمت القُنصل أمام أسئلتي ،ثم
ِ .ل َماذَا تفعل هذا بي ،قُل كل شيء ُدفع ًة واحدة -
رجل مثل نابليون في جزيرة نائية في األطلسي؟ ٌ هل يُعقل أن يموت لم استوعب لحظتها كلمات القُنصل ،صرخت غير مصدق.
وباردا في صندوق خشبي .لم أنتبه إلى ً أعجز عن تخيّل جسده صامتًا بعيدا عن أوروبا؟
ً هل ق ِ ُّدر لعظيم ِمثله أن يُدفن هناك
مريضا؟ ُربما وضعوا له ُس ّ ًما في الخمرة؟ ال بد أنها
ً قتلوه أم أنه مات أسئلتي التي تعالت في وجه ال ُقنصل :كيف مات ،هل
حوله جميع جنوده ،لم يكونوا مخلصين! بعض الفرنسيين كانوا أقرب إلى فر قوا من
مكيدة ُمدبرة من هؤالء اإلنجليز ،ظلوا وراءه حتى ّ
.اإلنجليز منهم إلى عظيم مثله
ألوذ بالصمت بعد اضطرابي ،ولكن الحزن لم يُغادرني ،بينما كان القُنصل ُمتعبًا من أعباء عمله ،كل يوم تتجدد مطالب الباشا وهؤالء
لدرجة ال تتنبأ فيها بحجم مطالبهم ،تهبهم ألفًا فيضاعفون األرقام ،مهووسون بال ِن ّساء وال َّذهب ،لم يكن ُّ
السويديون طماعون ُ
ّ األتراك،
متفهما كفاية لحالتي ،وأخبرني قبل صعوده إلى غرفته أنه عائد ً المتجددة .كررت اعتذاراتي للقُنصل الذي بدا الضرائب ُ
ّ ليحتملوا تلك
.إلى المدينة بعد استراحة ساعة أخرى
وتساءلت :هل كانت الحمى التي اشتعل بها جسدي إشارة تُعلن عن
ُ أشهر،
ٍ عرفت من القُنصل أن نابليون قد فارق الحياة ُمنذ
.موته؟ ربما قد تكون كذلك ،فال يرحل الكبار دون إعالنهم عن ذلك
السنوات وال يتحقق ما تريده، مر ّ كافيار؟ تَ ُّ الدرجات إلى غرفتي ،كأني أدخلها للمرة األولى .ما الذي يُبقيك هنا يا
بصعوبةٍ ارتقيت ّ
عمرا من
ً أن نابليون كان مجرد قائ ٍد عاش الرجل الذي كان يشعل أحالمك كلما خمدت .ولكنك يا كافيار لو ظللت ُمؤمنًا قد مات ّ
عظيما
ً قائدا
ً أن تُؤمن بها ،مثل ًا آمنت به االنتصارات ثم ُهزم ،فقد تكون مخطًئا .نابليون أكبر مما تعتقد ،إنّه فكرةٌ ال تفنى يجب
السنوات الماضية .طوال ّ
ابحث عن مزيد من الهواء ،أمأل به صدري ،ولكن نسمة الهواء الباردة ال تُسعفني في شيءُ ،أشيّع بعيني العربة ُ أقف عند النّافذة
بت لو قمت بها قبل رحيلي عن واترلو ،أشياء ال ندمت أنني لم أودعه ،ولكنني ندمت أكثر على أشياء كثيرة َر ِغ ُ ُ الراحلة بالقُنصل،
ّ
يمكن أن تُفهم حتى ولو بُحت بها لفرنسي آخر .ال يمكن يا كافيار أن تظل ُمعلّقًا ،قد مضى الوقت ،انتهت المعارك في أراضي
إلي صراخها من النّافذة ،ثم أراها تركض بين أشجار الل ّوز .نقلت بصري َّ الشمال ،ويجب أن تشتعل في إفريقية .في لحظة ما يمتد ّ
الرغبة التي تملكتني ساعتها ،نزلت وعبرت المسافة ّ أفهم لم حنقي، اشتد تمددا عند طرفه،
ً إلى نهاية البستان ،فرأيت البستاني ُم
أن
َكرر تمتمته .شعرت ّ بكلمات لم َأ ِعها ،وأعدت طلبي ف ّ َ
ٍ حتى بلغت مكانه ،وقف ُمطرقًا أمامي ،أمرته بالعودة إلى عمله ،فهمهم
بكلمات ِريفية لم أعهدها ،نهرته ولكنّه لم يُغيّر جملته الغريبة ،ولم أنتبه إلى يدي التي ل َطمته ،كنت أريد
ٍ هذا الفالح كان يتحداني
السؤال ،بقدر ما
إبعاده عن ناظري ،ولكنّه سقط ،هل تصن َّع ُسقوطه ،أم أنه كان بالفعل ُمتعبًا من العمل؟ لم تعني اإلجابة عن ّ
.أزعجتني نظرة الفتاة الوقحة ،وصراخها الحاد
اللوحة الثّامنة
ختلف كهذا ،على النّظر إلى ماضيك كأنه بقايا أحالم ُمشتتّة في الذاكرة ،ووجوه صارت ٍ تُرغمك االستفاقة في إسبرطة في يوم ُم
وأيضا ل ُغات َصارت تجري على الل ّسان مثلما يتكل َُمها أهل ُها .اآلن ال يجرؤ أحد على مخاطبتي ً ظللت سنوات أحفظها، ُ مألوفة بعد أن
الصحراويين،المور واألتراك واألعراب والقبائل وحتّى ّ
تفحص الوجوه ألقرأ ما ُتبطنه الن ُّفوسُ ، ّ يدعي أنني لن أفهمها ،لن أضطر إلى بلغةٍ ّ
الدفاتر،
وحزم ّ أبصر جوانب الغرفة ركام من األوراق ُ ُ الممتدة من حول إسبرطة مثل راحتي. أعرفهم مثل أصابع يدي ،واألرض ُ
نظم َسيرهم ،وأحدد لهم والجدران ُمكتظة بالخرائط .أقف في قلب الغُرفة ،وأبسط يدي ،شعور بال ّزُهو ،كأنني في طالئع الجيشُ ،أ ِ ّ
وانتهاء إلى حصن اإلمبراطورُ .أطأطئ رأسي وُأبصر الفراغ مكان األصبع ،وأتمتم :ستُقطع ً بدءا من سيدي فرج ً الدروب التي سيسلكونها ّ
آالف من األجساد ٌ الروح .ستُجلد ّ عن يغب لم هّ ن ولك الجلد، عن األسواط أثر غاب ثيابي، وأنزع . أجلك من آالف من األصابع
الرخامي ،قدرت أنهم مازالوا هناك، وأطل من نافذة البيت ،فأرى الجبل ّ ُّ لتخبر العذاب الذي انتاب جسدك .أعيد ارتداء ثيابي،
الرخامية ،وتتلون
ّ خور الص
ّ تلك عنكم يحملوا حتى سير ي من
َ ٌ َ ز إال يبق الصخور حتى تتشابك عظامهم .ال تحزنوا يا رفاق ،لم يحملون ّ
وجوههم برمادها األبيضُ .أشيح بوجهي عن منظر الجبل نحو المدينةَ ،ظل ّت زمنًا على حالها عدا ما حدث قبل َسنوات قليلة.
يصر اإلنجليز
ّ ستمرون في حماقاتهم ،غادر القُنصل حين اختلف مع الباشا بعدما أمره بتسليم ُخ ّدامه من القبائل الثّائرين. ّ اإلنجليز ُم
الشرقيون استعارة أخالقهم أن تتصرف مثلهم .قد اعتاد ّ المبالغ فيها وهم بإفريقية .هنا ال يُنفع إال ّ ُ األوروبية باألخالق ّي ل التح على
الطبيعة التي حولهم .فلِ َم نُضطر إلى حمل أفالطونيتنا إلى هؤالءِ؟ كان عليه أن يفعل مثلما فعل دوفال ،طلب من القبائل ّ من
فروا في الل ّيلة الماضية .كان القائد التركي يُريد فقط أن يُوافقه أحد على أنهم خارجون عن الثّائرين مغادرة بيته ،وأخبر القائد أنهم ُّ
السنواتالقانون ،حتى لو لم يقبضوا عليهم ،يكفيهم إيمان النّاس بأنهم الحكام .لم يستطع القُنصل اإلنجليزي معرفة ذهنياتهم رغم ّ
.التي قَضاها في إسبرطة
خمن من أيها أعبرِ ، ُأ
الشرقي أم من الباب الغربي ،أو ربما الجنوبي؟ إذاأمن الباب ّ وأعد أبوابها من مكاني ،و ِ ّ
ُّ أنظر إلى المدينة
قررنا ال ّز حف بالمشاة فال بد لي من عبور قوس بابها الجنوبي ،لو يستطيع كافيار أن يكون أكثر من واحد كي يعبر كل أبوابها دفع ًة
سأحررهم من كل ِّ الص ور في قلب المدينة ،يكفيني أن أعبر من أفضل أبوابها ،وأترك البقية للجنود ،في ذلك اليوم واحدة .ثم تجتمع ّ
الشمال .سيفعلون ما يريدون ،عليهم فقط اعتناق فكرة أن األرض ّ بأرض روبهم ح
ُ في بها يلتزمون التي واألخالقية القُيود العسكرية
لك لهم ،وال يُنازعهم فيها أحد حتى ولو كان أميرال ًا على الجيش .التي تطأها أقدامهم ،هي ِم ٌ
.هذا ما أفكر به منذ شهر ،ولكن كيف يمكنني إقناعهم بمشروع الغزو -
ججا كثير ًة .شعرت حين قابلته أنه يُبيّت أشياء أخطر من التي أفكر بها .نادى على الطريق إلى ال ُقنصل دوفال ،اختلقت ُح ً
في ّ
لصار أفضل من اعتلى المسارح ّ المسرح، في ًا ل ممث وكان له ر ُد
ّ ِ ق لو أنه اً ن أحيا أجزم . القهوة فنجان يحمل عاد الذي خادمه
تحرى وجهي كأنه يقرأ فيَّ تقمص األدوار بطريقة عجيبة وكأنه ُولد في تلك األمكنة ،جلسنا ُمتقابلين نستمتع بالقهوة ،ثم األوروبية .ي َ ّ
الرغبات التي حملتني إليه ،وبادرني
ّ :عيني
َ ّ
لونت العالقة بين الباشا والملك -
.هذه األيام هي أسوأ األيام التي ّ
مرة أخرى؟ -
الديون ّ
أهو موضوع ُّ
مال ليس من حقه ،واليهوديان قد وقّعا على وثيقة استالمهما ك ُّل ديونهما ،وكتما األمر عنه -
ٍ صر كعادته على طلب
.نعم ،الباشا يُ ُّ
كهؤال ِء ُ
المور - حذرا ،ليسوا َ
ً .نعم ،اليهود أكثر النّاس
!ولماذا؟ -
الربوة في القريب يا -الرغبة في تنفيذ المشروع الذي استغرق سنوات من البحث ،يجب أن نغزو هذه ّ
في باريس يوجد من لديه ّ
.سيدي كفاهم تأجيل ًا
الديون- .
مرة أخرى عن ُّ ُأ
كثيرا ،زيارتي القادمة للباشا ستحمل الكثير معها ،سأقصد قصره كي هنئه بالعيد .سيسألني ّ
ً لن تنتظر
.وسأنهي معه الموضوع في حينه
أع إن كانت تلك أوامر صادرة من باريس ،أم أنه اجتهادٌ شخصي.
صرا على إنهاء الموضوع مع الباشا ،ولكنني لم ِ
بدالي دوفال ُم ّ ً
ِ
إجابات مقنعة ،ولكنني وأنا أعبّر حديقة البيت انصرفت عن بحثي ،وقد كانت النّتيجة واحد ًة .القطيعة بين الطريق بحثت عن
في ّ
.الباشا والملك ،وإعالن الحرب
اللوحة التاسعة
تهور دوفال ،ولكن ما حدث هذا ّ مستفسرا ،فيجيب :اعتدنا على
ً يُقبل القُنصل تجاهي ومالمح وجهه ُمتغيرة ،أستقبله في البهو
المساء كان ُمبال ًغ ا فيه ،لقد أهان الباشا .واستغربت كيف أنه لم يقتله ،ضربه بالمروحة فقط .كان ال ُقنصل يُعيد ما حدث في
استعجلها ال ُقنصل بإهانته للباشا
َ السرور إلى داخلي ،الفرصة التي انتظرناها طويل ًا ِّ
.الديوان بينما تدفّق ّ
وحيدا بهذه الل ّيلة المغايرة .وجدته يقف عند باب بيته ،كأنه كان ً فكرت أنه سيحتفل ُ في طريقي إلى بيت القُنصل دوفال،
توس طنا البهو ،نتقاسم األنخاب ،ونقرع الكاسين بعضها ببعض ،كم كانت لذة الخمر ّ ثم الحديقة، ينتظرني .ابتسم حين رآني عند
ممتعا مثلما كان المشهد الذي أعاد تمثيله أمامي باألصوات واللغات كلها ،لم يخب ظني ً مختلفة ،مع َسرد دوفال للحكاية ،يظل رجل ًا
ممثل أنجبته هذه األمة العريقة في المسرح .ولكنّه غيّر الوجهة من مسرح وهمي ،إلى مسرح الحياة ،وما ٍ فيه ،دوفال كان أفضل
وأخطره! خطأ واحد يؤدي إلى فقدانك رأسك .حدثني دوفال أنه لم يكن خائفًا وهو يُهين الباشا ،بل كان ُمتيقنًا من عدم َ أعظمه
َ
قادرا على الل ّعب فوق
ً كان ن، ي
َّ ْ اليهودي مال في ممدودة ا يد
ً لدوفال أن يومها ا أيض
ً لي وبدا . اًّ حي ببقائه اً ق معل المال مادام قتله،
خوف من النّار التي باألسفل
ٌ .الحبال كلها دون أن يسقط ،أو أن ينتابه
الشمال ،يعرف دوفال كيف يعيش الحياة في الجزائر ،وكيف يستحضر باريس في ليلتها شربنا الكثير من الخمرة المعتّقة القادمة من ّ
حا أشدو بأغنيات قديمة غنيناها يوم سرنا تجاه واترلو .أحدث حركاتي جلبةبيته ،الكتب والتماثيل والخمور .عدت إلى بيتي ُمترن ّ ً
وأستمر في غنائي
ُّ .في البيت استيقظ لها الخدم ،ولكنهم عادوا ما إن رأوني أوصد الغرفة على نفسي،
اللوحة العاشرة
ألي قادم من البحر ،ما إن أقف عند سيدي فرج حتى أشتم ّ مرت ثالثة أسابيع على حفلتي مع القُنصل ولم يحدث شيء ،أتوثّب ّ
الرحلة في اليوم الثّاني ،أقطعها علىّ أعيد ثم أعالمها، بني ّ خيُ تالسفن بموازاة الخليج ،أمأل بصري ُمستجليًا ،و
وتمر ُّ
ُّ رائحة ُخمورهم.
قدمي .اآلن لم أعد في حاجة إلى خرائط من أجل البحث أو تتبع مسارات جديدة ،كأنما ُحفرت المسافة في ذاكرتي ،وبمجرد أن
والمور واألتراك ،صارت هي األخرى ُمرتبة في ذهني ،أحيانًا ُ أغمض عيني تتراءى كلها ،حتى األرقام والتفاصيل التي دونتها عن العرب
تدهمني رغبة القفز في البحر والتجذيف حتى أبلغ سات ،ثم أعدل عن ذلك ،بعض الجنون ال يتخل ّص منه صاحبه حتى بعد سنوات
ومنعزل ًا عن العالم
الرابع ،دون أي سفينة فرنسية في األفق ،وحتّى دوفال كان غائبًا ُ مرت األيام األولى من األسبوع ّطويلة .وهكذا ّ
.من حوله بعد الحفلة التي جمعتنا
استفقت على صوت القُنصل ،وقد دخل غرفتي أثناء نومي ،كل ّمني عن سفينةٍ فرنسية رست بميناء الجزائر .والتَحق دوفال بها،
معا إلى الميناء ،لكنهم لم يسمحوا لنا بدخوله ،كانت حركة الريّاس
بينما نزل منها رسول الملك إلى الباشا .ارتديت ثيابي ،ونزلنا ً
ُم ضطربة ،حتى جنود اليولداش اجتمعوا أسفل المدينة على غير عادتهم ،لم نُطل المكوث عند باب الميناء ،حين رأينا وجوههم
عبَر باب الميناء ،بدا قلقًا في
الرسول من بعيد في عربتهَ ،
كفهرة ،خشينا ارتكابهم حماقات جديدة ،وحين َهممنا بالرحيل رأينا ّ
ّ الم
ُ
الرصيف ،وانسحبنا عائدين إلى البيت ،استبد بي القلق ذلك المساء ،كان القُنصل حينهاّ عن فينة الس
ّ رحلت ثم المتعجل، سيره
:يجلس قبالتي وحين لم يرقه طول سكوتي قال
.أتساءل فقط هل سيعود دوفال أم أنه سيبقى في باريس ،وقد كان بيني وبينه اتفاق -
المقيمين -
الصباح ،سيرحل الكثير من الفرنسيين ُ
بدءا من هذا ّ
ً لزما اآلن بالبقاء هنا ،عليك الل ّحاق به ،كل شيء صار جليًا
لست ُم ً
َ
.هنا ،هذا إن لم يطردهم الباشا
جديدا -
ً .ربما أنت على حق ،سننتظر صباح يوم آخر ،فربما يحمل
المقيمين من الفرنسيين ،اإلفرنج مثلما كان يسميهمكانت تخميناتي في محلها ،إذ لم تطلع شمس يوم جديدٍ ،حتى نُودي في كل ُ
الم ور واألتراك .اجتمعنا أسفل المدينة ،وسرنا إلى باب القصبة .اليولداش يحوطوننا من كل جانب ،كان ذلك اليوم الوحيد الذيُ
اقتربت فيه من قصر الباشا ،وسمحوا لبعضنا بالدخول .أمرنا اليولداش بالصمت فصمتنا ،ثم قالوا لنا لكم الحرية في البقاء أو
ُ
.الرحيل ،معيدين سرد ما جرى بين القُنصل والباشا ّ
فضلوا مصالحهم على مجد ُأمتهم ،إذ اتهموا القُنصل دوفال
مستاء من بعض الفرنسيين الذين ّ
ً في انحداري عبر سقائف القصبة كنت
.في حضور مم ِثّلين عن الباشا
.بعد أيام كنت ُأعد حقيبتي ألعود إلى باريس ،وقد قررت أال أدخل سات إال حين نغزو هذه المدينة
سنوات
ٍ في العربة كان القُنصل حزين ًا ،أراد بقائي إلى جانبه ،ولم يشأ الوقوف حجر عثرة في طريقي وهو الذي فتح باب بيته لي
عم قت معارفه إدراكي لهذه المدينة اإلسبرطية .عبرت بنا العربة شوارع المدينة بعجلة ،ولم ننتبه إال ونحن عند الميناء، ّ عديدة،
غاصا حولنا بالفرنسيين العائدين إلى مدنهم ،بعد أن جاءت سفينة لتُقلَّهمُ ،طلب منا ّ
الصعود ًّ ترجلنا عنها وتعانقنا طويل ًا .كان الميناء
ّ
الصاعدين
فتباطأت ألكون آخر ّ
ُ .على متنها،
ابن ميّار
حاججا ،ولكنّه كان حانقًا عليه أكثر منّي ،طردنا من مكتبه، ً يومها وقفت أمام كلوزيل ،رجوته أن يَع ِدل عن قراره ،وقف ديبون له ُم
نشق شوارع المحروسة حتى بلغنا المسجد ،ووجدناه هناك ينتظر المعاول .كنت أرى كل زاويةٍ منه صليت بها ،وكل جدار ُّ وظللنا
تردد البخاري في ّ يحضهم على مواصلة الجهاد ،والعلماء يتوسطون ِحل َق العلم ،واألصوات ّ اتّكأت عليه ،رأيت الباشا يخطب في النّاس
الرخام المنقوشة بأسماء الل ّه وكتب ال يَعون منها شيًئا ،وألواح ّ ٌ ليالي المحروسة الخائفة من الحصار .نهبوا كل ما فيهُ ،سرق منبره،
تهد ُجدرانه ،وظلت على تلك الحال حتى ُّ وطفقت ماء، الس
ّ في الحسنى ،واألفرشة التي كانت أجمل ما فيه .ثم ارتفعت المعاول
أي
ّ من خاويةٍ ساحةٍ في ة
ً وحيد تقف الحال، تلك على تركوها آخرين أمر بها ،ولعامين سوته باألرض ،وبقيت مئذنته شاهد ًة ،كل يوم ُّ
جانب ،سمعت رجاءها لهم أن يُعيدوا إليها الجدران ،ولكنهم ربطوا أعالها بالحبال، ٍ شيء ،وفي يوم اجتَمعوا حولها ،أحاطوها من كل
ضجوا محتجين ،وهتف آخرون اهدموا أسفلها فتنهار دفع ًة واحد ًة ،ثم اتفقوا على إحراقها ّ .وشرعوا يَسحبونها ولكن الحبال تقّطعت،
َ
يحومون في
ُ أسا ِفل النّاس،
الشوارع أن تتخل ّص منهم ،يلفظ الل ّيل َ ُأصغي إلى ضحكات النّساء والرجال من النّافذة ،ال يمكن لهذه ّ
الطريقة يعيش
ثان ناسين كل شيء ،بهذه ّ جماعات ،يشربون ويغنون ،ثم تنشب المعارك بينهم ،وربما يلتقون في أعمالهم في يوم ٍ
السل ّاوي الحياة في أمكنةٍ مثل تلك،ّ يستطيع سنوات قليلة فقط حتى تُصبح المحروسة مثلها. ٍ النّاس في المدن الكبيرة ،وربما بعد
اء ،ولم يكن يستوعب ذلك وهو خط ً ّ يجرب أن يكون إنسانًاّ حب أنالدين بقدر ما كان يميل إلى ُمتع الحياة ،يُ ُّ
لم يكن ميّال ًا إلى ّ
حبهن أكثر من حبّه ألهل المحروسة
ّ .مستغرق في ُمتعه ،يرتاد الحانات ،ويُسامر البغايا ،ي ُ ُ
ألشق شوارع تتدفّق بالحياة ،وتمتزج حركة األجساد بحركة العربات ،أنادي على إحداها وأصعد ّ وأحمل حقيبتي، ُ يوم جديدٍ،
ٍ استيقظ في
ُ
الضاجة بالناس ،أستغرب ركضهم المتواصل دون الشوارع ّ وتشق بي العربة ّ ُّ على َمتنها ،ثم أطلب أن يُقل ّني إلى قُنصلية إسطنبول.
توقف .يختلف ال ّزمن في أوروبا ،يسير بوتير ٍة سريعة ،بينما ال يتغيّر في إفريقية ،ربما لطبيعة البشر ،فهذه األمم قد وجدت ضال ّتها ٍ
تظل المسارح مفتوحة ،يتدفق إليها ّ في مصانعها ،وتجارتها .صار كل شي ٍء قابل ًا للمتاجرة فيه ،ومع هذا لم يتخل ّوا عن منابع ل َهوهم،
نمر بدار األوبرا ،نرى بناءها الجميل ،تُرى ماذا سيُعرض هذا المساء ،وهل يكفيني الوقت كي أحصل على ُّ النّاس ،وحتّى عندما
الصباح في بُستان بيته ،يدخن غليونه ّ يستقبل عادته، على ج در
َ ُ ي هل نصل، ق
ُ ال ا ّر
ً كمتذ افذة ّ ن ال عن امبتعد
ً ببصري تذكرة؟ ُأشيح
كل الخواطر ،ويبتعد ترتج العربة بي ،فتشتّت َّ ّ الباريسيين؟ هؤالء مثل تاجر إلى ل تحو
ّ أنه أم المتسارعة، من ز
ّ ال حركة الطويل ،ويتأمل ّ
الشتوي .كان ذلك منذ سنتين قد خلتا ،وال أذكر عدد مودعا الباشا في رحيله إلى مقامه ّ ً لوحُ ّ ي جانبي، إلى أراه ثم وجه القُنصل،
ليتدخَل ويُعيد المحروسة إلى سلطانه ،ربما مئة أو أكثر أرسلتها من أمكنة مختلفة، ّ عظم الم ّ َ
السلطان ُ العرائض التي أرسلتها ُمستعطفًا ّ
أناس كثيرين ،التُجار ،والجنود ،والسياسيين ،وحتّى أولئك الذين لم يكونوا من المحروسة ،إنجليز كانت المصالح تجمعهم مع ٍ وعبر
مده بالسالحالمستعطفة ،يرجوهم َّ وأيضا حاكم قسنطينة لم يتوقف عن إرسال عرائضه ُ ً السلطان ،أصدقاء من تونس أو طرابلس، ّ
تستمر طويل ًا .إذن ما الذي يحدث في إسطنبول وجهلناه؟ َّ والجنود .كل سنة يُحاصره الفرنسيون ،ويعودون خائبين ،ولكن ُمقاومته لن
ثغرا من ثُغور الجهاد؟ لم أستوعب كيف يحدث هذا، ً ويراها السلطان يحتفي بها، ؤخرهم عن استعادة المحروسة وقد كان ّ ما الذي يُ ّ
الشوارع ،ومن ثم إلى انعطاف العربة ،سارت مسافة ثم توقّفت، ثالث سنوات ولم يتغير شيء! أنتبه إلى تضاؤل عدد النّاس في ّ
وكن َّا حينها قد بلغنا بيت القُ نصل ،رافقني خادمه إلى البهو حيث وجدته في انتظاري .جلسنا متقابلين بينما كان يحشو غليونه،
َّ
حل السلوكيات العثمانية تُرافق القُنصل.
الش رقي األسمر الذي وضع الفنجان األول ،ثم غاب ليعود بالثاني ،تظل ّ حدقت بالخادم ّ ّ
:بباريس منذ سنوات إال أنه لم يُغيّر شيًئا منها ،أشعل غليونه ،وخاطبني
الشيخوخة؟ -
ما الذي حدث لك يا ابن ميّار ،سنتان تُسرعان بك إلى ّ
لم تعد لنا طاقة على التحمل ،الفرنسيون يضطهدوننا من جهة ،والسلطان ال يبالي بنا ،فكيف ال نهرم يا سيدي؟ -
مختلف -
ٌ وضع
ٌ .ولكن للجزائر
السلطان في إسطنبول .وهذا كفيل بأن نتعامل معها على - الدولية دون مشاورة ّقالوا لنا« :اعتاد باشا الجزائر توقيع المعاهدات ّ
!».أنها دولة قائمة بذاتها وليس لكم أي ُسلطان عليها ،فلِ َم تُطالبون بإعادتها لكم؟
متشائم ا بل عليك أال تتوقف عن إرسال عرائضك إلى الملك ،فالملوك ليسوا مثل قادة الجيوش -
ً .ال تكن
.نعم ،ما مجيئي لباريس إال لتسليم العريضة لوزير الحربية أو الملك -
الصعب لقاء الملك ،ولكنني سأحاول ترتيب موع ٍد لي مع وزير الحربية -
.من ّ
- هذا األمر ال يعنيك وحدك ،بل يعني الجميع في إسطنبول ،ربما ال تتصور الخيبة التي استقبلوا بها احتالل الجزائر ،كانت حلم
فرط بأجمل األشياء التي نملكها ،كان يمكنه االعتذار ،ولكنّهالصغيرة تجعلنا ن ُ ّ
الجميع ،ولكن الباشا فرط بها بسهولة ،بعض الحماقات ّ
حزين ،حينما أتيقّن أنٌ أضل الكثيرين في إسطنبول أننا مازلنا أقوياء مثل األيام الماضية ،سأصارحك يا صديقي أنا ّ صدق الوهم الذي
ّ
الصناعية
ّ بقوتها متعلق
ٌ اآلن مجدها أن أوروبا َت كأدر حين األفول، إلى رق الش
ّ يسير وال، ز
ّ ال في بدأ قد القديم العالم .مصير
الشرق جهة .تظل تُخل ّفني العربة في قلب باريس ،تخطو رجالي أبحث عن أشياء ال أراها ،ثم انتبه إلى نفسي أنني اتخذت من ّ
أي قناع اتخذه ّ . السل ّاوي ليوافقني ،وحتّى ميمون
حتما على من تعلق بالمحروسة ،مثلي ومثل الكثيرين .لم يكن ّ
ً مصيرا
ً تلك الجهة
بعد عودته إلى المحروسة؟ تذكرت هيئته ونحن عائدون بالموافقة على شروط االستسالم ،كان خائبًا من رفض بُورمون ،وتراءت لي
السل ّاوي حين
ب ّ عيّن على رأس المجلس البلدي للمدينة ،إضافة إلى بعض أعيان المحروسة ،ويهوديَّين ،وفرنسيين .غ َِض َ مالمحه حين ُ
:رآني معهم .وخاطبني
مجلس ُأنشئ ألخذ مالنا ،وفوق كل هذا على رأسه ميمون -
ٌ !ما الذي تفعله بينهم،
.قبلت بالمنصب ألحافظ على ما تبقّى من مساجدنا ،ومن أجل تعويض النّاس الذين ُسلبت منهم بيوتهم وبساتينهم -
السل ّاوي ُمحقًا يومها ،ولم يغظني أن يأخذ الفرنسي ِضياعي .بقدر ما آلمني أن ي َ َضع أحد أهالي المحروسة نفسه في
ربما كان ّ
خدمتهم ،حرص ميمون على اختيار أفضل البيوت لمقام ُضبّاطهم ،وأجمل المساجد كي يحولوها إلى مخازن وثكنات .وكلما التقيته في
:المجلس ،كنت أواجهه
نحرص يا ميمون على أهالي المحروسة بقدر ما نحرص على أنفسنا ،ومن لديه مصلحة في هذا المجلس فليعلم أنه ليس غرفة -
.تجارية ألحد
يبتسم ببرودة ،ال يخجل من كوني أعرف الحقيقة ،ومقدار األموال التي يأخذها من األعيان ليُرجع لهم ضياعهم .مثل ًا أنا ُمتيقّن أنه
مزيدا من المال
ً .لن يعيد شيًئا ،يُوهمهم حتى يأخذ
ال يمكن ألح ٍد أن يطلبه إلى القضاء ،حتى وإن أنصفه القاضي المالكي فإن الحكم لن يُن ّفذ .يعلم ميمون كل تلك األشياء وهو يراكم
الضباط أوحى لهم بقدرته على تغيير
ّ الوعود لهم مثلما يراكم أموالهم ،ويُرسلها عبر شركائه إلى مرسيليا ،ولعل قرب ميمون من
حصلوا شيًئا من خالله .لكنهم ال يعون
وأردد على مسامعهم كلما جاءوني شاكين ،ليس عليكم دفُع مالكم إليه ،فلن تُ ّ
ّ أحوالهم.
وصرت في نظرهم عميل ًا للفرنسيين .وانتهت حكاية المجلس بطردي منه ُ بالسوء عني.
ُّ .كالمي إال بالقدر الذي يتكلمون
صحيحا فلن نسكت عن األمر ،وستُشكَّل لجنة تُعاين المدينة في أجل أقصاه شهران أو ثالثة -
ً .إن كان ما كتب في العريضة
.كل ما ك ُتب هناك له دالئله في الواقع ،ليس على الل ّجنة إال المجيء إلى الجزائر -
بثقل إلى الباب ثم شيّعنا بعينيه ،ويده تقبض على العريضة .عبرت ٍ ثم ودعناه ،ورافقنا
قال ذلك ثم قام ،فقمنا في إثره ،شكرناه ّ
وحدقت
ّ الدرب بين األشجار ،شقت بنا شوارع باريس حتى كنا بال ُقنصلية ،وهناك تذكرت ال ِكتاب ،سحبته من المحفظة، بنا العربة ّ
:بال ُقنصل مليًا ،ثم وضعت كومة األوراق بين يديه ،قل ّبها ثم قال
كن مطمئنًا يا ابن ميّار ،لي أصدقاء منهم ،وهناك من يتعاطف مع أفكارنا ،سيُطبع الكتاب ،وربما ستراه في المحروسة قبل وصول -
.الل ّجنة
سعرا مضاعفًا،
ً ودعت ال ُقنصل وعدت إلى الفندق .في اليوم الثّاني كنت ألوح لعربة تقلني إلى ليون ،توقفت واحدة وطلب الحوذي
وافقت دون مناقشة ،وتأملت سماء باريس للمرة األخيرة ،كنت متفائل ًا أن تَنجلي الغمامة في داخلي ،فربما أرى المستقبل بوضوح،
الصفاء يعود إلى نفسي مع توغلنا أكثر في الحقول ،مخل ّفين باريس وزمنها المتسارع ،وفي القلب ولكنّها ظل ّت على قتامتها ،ثم بدأ ّ
.رغب ٌة أل ّا أعود إليها
السل ّاوي
حمة ّ
ّ
الطفل .يظل يركض مع حمة ّ ّ السقائف الملتوية يتيه بها
أقف عند عتبة بيتي ،فيفاجئني الخواء الموصل إلى حارة الميّارين ،كانت ّ
دورات عديدة حتى يبلغها ،منت ّقل ًا بين أسواقها ،يثيره ضجيج الباعة ،واللهجات المتباينة .واآلن ٍ انحناءاتها ،ويدور في المكان نفسه
يبق
َ لم المغلقة، حوانيته أبواب تواجهني .وق الس
ُّ أبلغ حتى أس، الر
ّ مطأطئ ا، وحيد
ً رب الد
ّ أقطع أرى حارة الميّارين من عتبة بيتي،
محتجين ،يُريدون االستحواذ على ّ أبوابها عند يجتمعون إيطاليا، من ى ّ ت وح ومالطا إسبانيا من األوروبيون، منها إال القليل ،بعضه احتل ّه
يلتف بعضهم في لباس أهل ُّ كل شيء .أتجاوزهم وأعبر شارع المحروسة الكبير ،ألنعطف إلى حي المقاهي .ال يُفاجئونني هناك،
.المحروسة واألتراك
أجدها ،يزداد غيظي كلها عبرت دربًا أتوهم أني ُ الشاب فال
شهر وأنا أطوف المدينة ،أبحث عن العيون التي زرعها األمير ّ ٍ أكثر من
السقائف ،ثم يخيب ظني فيه ،وهكذا دواليك ،في كل يوم أجدني أتتبّع النّاس في دروب مختلفة، ّ عبر أثره ى ف
ّ أتق منها، اواحد
ً رأيت
وأستجلب لنفسي سباب الكثيرين .ولم أتوقف عن بحثي ،ثم هممت بحمل ُص ّرتي والرحيل نحو الغرب .ولكن لم تنطفي الحرائق
بعد في داخلي ،كلما أبصرت وجهه ،أو رأيت أحد جنوده ،يُطوفون به المحروسة .وكلما عبرت إلى المبغى تُقابلني وجوه فتيات
زوار واحدة لليلته ،كان األمر قاسيًا كلما أبصرته خفية من سقيفة رأيتهن يَصطففن هناك ،يختار بينهن ِ
الم َ ّ قدمن حديثًا ،يهتز قلبي كلما
حصنعلي أن أنتهي منه بسرعة ،ولكنّه يظل يُ ّّ قطعا جسده .ولكنّه يحتمي بجنوده .كان ما ،ترتعش اليدان تبحثان عن ِخنجر لتُ ّ
نفسه .العديد من الخطط رسمتها في ُمخيّل َتي كي أقتنصه بين جنوده ،وكانت كلها غير مقنعة .كيف لي إذن أن ُأشبع جسده
تتوزع مثل األوراق التي نُثرت في سقائف
ّ قطعا كثيرةِ ،م َزقًا
ً بالطعنات؟ لن تكون طعن ًة وحيد ًة ،تحتاج يداي أن تنال من جسده
الخطط ال تستقيم
ُ ساح في سطاوالي ،في الحراش ،ومن أجساد كل الفَتيات الل ّواتي اغتصبهن .ولكن َ المدينة ،يسيل دمه مثل الذي
مدني بواحدةٍ؟ هل يستطيع ابن ميّار ذلك؟ كان سيرفض ،ويقول :في ذهني .من تراه يَ ُّ
بفم مآلن
ٍ :وسأرد حينها
فاسدا من بقايا بني عثمان فقط ،بل سأقتل أسوأ شيء استمر بين زمنين :زمن بني -
ً مختلف ،إنني لن أقتل رجل ًا
ٌ ال إن األمر
.عثمان وزمن الفرنسيين
حينها سيصمت ابن ميّار ،ألنّه لن يجد الكلمات التي يُقنعني بها ،سيرى يدي المرتجفتين ،ولن يستغرقه الكثير ،ليكتشف حجم
.الرغبة بداخلي
ّ
إلي الحراس. َّ ُّ
وأحث المسير كأنها ينتظرني أحد هناك ،ثم تراءت لي البوابة ،سرت تجاهها ،لم ينتبه انسحب تجاه الباب الغربي،
انحدرت حتى وقفت عند جدرانها الواطئة،
ُ الط ريق الترابي ،جالت عيناي في فضاء المقابر ،لم يكن هناك أناس كثيرون،
انحدرت عبر ّ
ورأيت ديبون هناك يقف عند الباب ،ي ُوشك أن يتشابك مع شاب مالطي .خطوت حتى كنت إلى جانبها ،وقبل أن أحييه سبقتني
نعه نبش القبور ،ولكنهموم ِ
المحقّق من مرسيلياَ ،
الشاب .ال يزالون على عادتهم وقد ظننت أنهم توقّفوا بعد وصول ُ
قبضتي إلى وجه ّ
راكضا تجاه البوابة ،كنت أدري أنه لن يجرؤ أن
ً الشاب المالطي
فر ّ جابهتهم دون سالحَ ّ .
لم يتوقّفوا ،ولم يستطع حراس المقابر ُم َ
أيضا.
ً الح ّر اس .كان المالطيون ال يختلفون عن اليهود في المحروسة ،إذ احتقرهم الفرنسيون مثلما احتقرونا نحن
ُ يشكوني إلى
فالتفت إليه وسألته
ُّ :انتبهت إلى ديبون يُحيّيني
!إنّه الهدف نفسه الذي جعلني أركب البحر إلى الجزائر ،وليتني ما وصلت -
شارعا يتجل ّى لي ُمختلفًا ،وحتّى النّاس استسلموا لهوانهمُ ،مطأطئين رؤوسهم- ،
ً لم أكد ُأميّز المحروسة التي تركتُها ،وكل يوم أعبُر
ِ
.وراضخين بطريقة ُمخزية .كيف ال يحتجون على سرقة عظامهم
الرحيل؟ إنك تفكر مثل طفل يريد أن يمحو بك ِفّه شكل ًا رسمه - قد أتفق معك يا صديقي ،ولكن قل لي هل سيدفعهم اتفاقنا إلى ّ
أما الجالء فهو أمر بعيد المنال
جميعا .علينا اليوم تغيير ما نستطيعهّ ،
ً .على التراب بأصبعه .األمر يتجاوزنا
.أنت محق يا ديبون ،حين يتعلق األمر بالمحروسة فإنني أرغب مثل طفل -
يضحك ديبون ،مثلما ضحك ابن ميّار .أفك ّر بطريقة مغايرة ،وأنفعل من أشياء ال ينفعلون منها ،وأبكي حين يضحكون ،وأضحك حين
.يبكون
الظالم .ثم رأيت القمر يطل من بين األسطح، أفترق عن ديبون ،ما إن نعبر قوس الباب ،انعطفت عبر أول سقيفة مع حلول ّ
جدار أشعل بي رغبات قديمة ،يوم كنت أشرب في ليالي المحروسة المقمرة ،فوق سطح البيت ،وأراقبه ٍ راقبته مليًا متكًئا على
الصوت مني أكثر غيّرتّ اقترب وحين خلفي، خطوات
ٍ وقع أسمع منها اقتربت وكلما الحانة، إلى رجالي تحركت حتى يأفل.
الط ريق ،وأسرعت في مشيي ،ثم كانت تتعقبني .حتى عبرت أمام باب الحانة ولم أدخلها ،بل هرولت إلى أن وصلت إلى نهاية ّ
السور نصف المهدم ،وحام قريبًا مني.
سريعا ،بينا عبر الخيال الثّاني ّ
ً فمر بي خيال أحدهم
َّ بيت نصف ُمهدم،
ٍ الشارع ،واختبأت في ّ
وما إن اقترب أكثر حتى داهمته من الخلف ،وأحكمت الخناق على عنقه ،فتوسل يطلب األمان ،بدا لي صوته مألوفًا ،فككت يدي
:عن عنقه ،ولم أنتبه إلى الخيال الثّاني يلتحق بنا ،ثم وقفا في مقابلتي ،قلت
زءا من وجهه ،استعدت حينها مالمحه ،كان من الذين حاربوا معنا في سيديالشخص الثّاني مني ،وأضاء القمر ُج ً
عندئذ اقترب ّ
يبق شخص يجرؤ على حمل بندقية داخل المحروسة. شبح ،فما الذي يريده مني اآلن ،ولم َ
ٍ فرج .وها هو اآلن يتراءى لي مثل
الشاب إلى الخلف واقترب األول مني ،ثم همس لي
:تراجع ّ
حمة ،لعلك تذكر اليوم الذي تتبعتني حتى باب ع ّزون ،وتذكر َشتيمتي لك ،واآلن نحن وحدنا ،ما الذي كنت تريده مني -
ّ اسمع يا
يومها؟
مسترجعا وجهه ،نعم قد كان هو ،تُرى هل هؤالء هم الذين كنت أبحث عنهم؟ أم أنهم جواسيس زرعهم كافيار ،أو القائد
ً صمت
ُّ
الجديد فوارول في المدينة؟ ولكن ما الجدوى من ذلك ،وقد أضحى عدد الجنود أكثر من سكان المحروسة .رفعت رأسي تجاه األول
:ثم قلت
.نعم كنت أبحث عن عيون األمير ،أرغب في االلتحاق به -
:أجابني أحدهما
الطائر الذي رحل حين مرتين ،ثم انتحيت جانبًا ،لم أسمع صوتًا سوى لقلقة ّ الصباح توجهت إلى بيت ابن ميّار ،ودققت الباب ّ في ّ
الرواق ،ولكن ُدوجة لم تحضني ،لم ّ إلى فاجتزته وجة، د
ُ وجه على الباب وأشرع قيفة، الس
ّ دخولي على يحتج كأنه بحدة رفرف رآني،
أيضا
ً الرواق سويًا ،بل سبقتني إلى باحة البيت ،وقفت الل ّة سعدية هناك ،كانت عيناها ّ نعبر لم . ا عابس
ً وجهها كان بل تجاهي، تقفز
الرحيل ،سرت وكانت في إثري ،ثم بلغنا الباب ُمخل ّفين ّ إلى دفعني شيًئا ولكن وجة، د
ُ غير الذي ما ألعرف البقاء وددت . تعبتين ُم
والدعاء ،بهذا همست ُدوجة قبل أيام ،واآلن بم ستُجيب ُّ الل ّة سعدية تعود إلى غرفتها ،منذ رحل ابن ميّار صارت َأميَل إلى الوحدة
الصدران،الرغبة بدت ُمنطفئة منذ تقابل الوجهان ،اقتربت منها حتى تالمس ّ ُأ
الرواق؟ هل يمكنني أن قبّلها؟ ولكن ّ ونحن وحيدان في ّ
باردا وأنا أحوطه بيدي ،وظلت جامدة وأنا اطبع قبلة على شفتيها الباردتين ،لم ً العنق كان بل وجهي، الحارة ولم تلفح أنفاسها
كبيرا ،وباضطراب قلت ً اً ذنب اقترفت كأنما الحائط، أسندني حتى تراجعت
ُ ،شفتي
ّ لتلتهما :تتحركا
بعيدا؟ أم أنه الخوف من فقدان ُدوجة؟ عجزت عن اإلجابة ،كنت مثل ً السل ّاوي التي جعلتني أصفق الباب وأرحل أهي كرامة ّ
الشابين ،لم أنظر
ّ أحد رأيت أنني وشعرت
ُ لي، حدث عما تسائلين م
ُ يراقبونني، اسّ ن ال كان والمهدمة، الباقية الحارات مجنون أعبُر
ٍ
واحدا،
ً ا وجه
ً أضحت الوجوه حتى ا، واحد
ً ًا ل شك تبدو األشكال كل أن له ل خي
ُ ّ وي يركض جل الر
ّ اً غريب يبدو شيء كل كان تجاهه،
أقف عند بوابة الميناء
مسرعا ،لم أنتبه إال وأنا ُ
ً .وانطلقت في شارع البحر
السقائف حتى ترامت بنهايتها ساحة حي عدت على طريقي بالسرعة نفسها ،وتجاوزت حي المقاهي ،ثم انعطفت شرقًا ،ولجت َّ
بينهن،
ّ زوار لهن الجنود ،وانتصب ِ
الم َ ّ شدتني وجوهٌ لصبايا قدمن حديث ًا ،أجسادهن نحيفة ،ووجوههن بريئة ،يبتسم ّ المبغى ،وتوقفت كلما
الرغبة في قتله ،ولم ّ داخلي استيقظت هيئتها، على بادية يفية الر
ّ ومالمحها غبرة م
ُ المحروسة، دخلت ما ل أو
ّ وجة بدت إحداهن مثل ُد
يتفحص جسدها بيديه ،ما كان يفعله في ّ وشرع أمامه، ووقفت حافية، فتقدمت ار زو
َ ِ
الم عليها نادى ركضي، من ألهث أنتبه أنني كنت
ردها ،وقفت أراقب الفتاة ،تراءت ليّ أستطع ولم هناك، بي عصفت ريح أي الجميع، أمام يفعله اليوم صار خفية، عثمان زمن بني
وحيدا،
ً الصباح
كأنها ُدوجة ،فانحنيت في مكاني ،وتراخي جسدي ُمنزلقًا على الحائط حتى افترشت األرض ،كنت عاج ًزا ،وبكيت ذلك ّ
زوار لن يرى نهار يوم آخر ،نعم كان ال بد من إنهاء هذه الحكاية .لكنني قررت أن ِ
الم َ
زوار مثلما أراها اآلن ،وأنا العاكف على َس ِن ّه منذ بجنون ،أحرك الخنجر في يدي ،فأرى لمعته ،آه لو يراها ِ
الم َ ٍ يضيء قمر المحروسة
حد تك غير كافية لتقطيع بطنه ،وقد صار مثل بطن ثور .ثم أعيده إلى غمده ّ : أهذي ثم ّبه ل أق .ساعات،
حذرا.ً الض وء من بعيد ،وأظل أقترب إلى أن أجاور باب الحانة ،أقف عند أحد جانبيه العجِ ل ،حتى يتراءى ّ أستمر في خطوي َ
وأطل برأسي أبحث بين الوجوه لعل ّه بينهم ،لكنه ُّ الرديئة صارت ُمشتهاة في هذه المدينة. ّ الخمرة حتى أنفي، فتدغدغ رائحة الخمر
السيدة، ّ مسجد إلى يتسابقون كانوا الذين المحروسة تجار بعض أخرى جهة ومن . بشراهة يشربون جنود نهايتها لم يكن هناك ،في
يود التجار كلهم أن يصبحوا ُّ كثيرا عن الخمر، ً يختلف لم المحروسة في ين ّ ِ
الد . ثمان ع
ُ بني من القادة بعض جانب كي يكونوا إلى
يفرون من حياتهم بإهراق مزي ٍد من الخمر. ّ أراهم وأنا ذلك نت خم
َ ّ طموحاتهم، لتحقيق ا ً ن مكا لهم ر ف
ّ ِ وُ ي المسجد وكان . ندامى لملوكها
الظلمة، الضوءِ ،وأعدته إلى ّ ّ جربين .سحبت رأسي من فَسحة الم ّ دوما يبالغون بها ،ويعتبرون أنفسهم أفضل من ُ ً حدث ُون في الل ّذة الم َ
ُ
الساحة الخاوية من البشر ،عدا وواصلت طريقي تجاه حارة المبغى ،وظللت أنتقل من سقيفة إلى أخرى ثم وجدتني أقف وسط ّ
يحتلون الغرف .كان قمر المحروسة قد بدأ يشحب من َ جنودا كثيرين كانوا ً أضواء ضئيلة تتسلل من ثقوب األبوابُ .خيِّل لي أن
زوار ،إذ لم يعتد المبيت هناك ،جزء من الل ّيل يكفيه كي ينتهي منها ،ثم يغادر انتظاره لي ،وأبت األبواب لفظ أحدهم بمن فيهم ِ
الم َ
السقائف وانتظرت هناك ،فُتح ّ إحدى إلى فتسللت الباب، أزيز صوت إلى انتبه ما الفراش ،وربما يعود في ليلةٍ أخرى .في لحظة
أقدام ،غاب عني مصدرها ،ثم رأيت شبحين يتسل ّالن حتى ٍ بقوةٍ ،وظللت على تلك الحال حتى سمعت أصوات ّ الباب ،ثم أغلق
الظلمة دون أن يتفطنا لي ،ثم نقلت بصري إلى مصدر السقائف ،راقبتهما من ُّ فرا إلى إحدى ّ يتنصتان عليها ،ثم ّ ّ وقفا عند األبواب
ٌ
طويل الصوت في داخلي ،عواءٌ الساحة ،صرخ ّ حرك رجليه في ّ ّ تمطى ثم ّ زوار عند عتبته، الم َالصوت ،حيث ُشرع الباب ،ووقف ِ ّ
الصراخ داخلي ،ثم يلمع الخنجر في عيني ما إن لذئاب مجروحة ،تختلج يداي تبحثان عن الخنجر ،يشتد اهتزاز قلبي ،ويتعالى ُّ ٍ
لكن األصوات ترتفع وتُغالبني ،فأعوي مثل ذئب وأقفز من َمكمني ،وأركض تجاهه ،خطوات واسعة ال تكاد تالمس ّ أسحبه ،أكلم نفسي
الساحة كلها ،ولمع النّصل في عينيه ،رأيت خوفه القديم والجديد ،كل ّ أضاء حتى لحظتها القمر اتسع عليه، أثب قدماي بها األرض،
الطعنة ّ جهدي، بكل بها هويت ثم الخنجر، على تقبض يدي كانت بالدماء، ة
ً ممزوج ألناسٍ صور واحدة، دفعة أمامه مرتالوجوه ّ َ
جزءا من لحمه ،ثم رفعته بالسرعة نفسها، ً تكسر ضلعيه حين انغرز بينهما وسحبته ،ليقطع ّ الصدر ،سريع ًة اخترقته ،سمعت األولى في ّ
الدم من حارا من فمه ،وانهمر ّ ً الدم مرة أخرى في عينيه المفزوعتين ،وقد صارت حمراء ،وغرزته في بطنه ثم أحنيته ،فتَد ّفَق ّ وبرق ّ
الدم حتى ظننت أن ّ مساحة َسعت ّ ت وا فوقي، ليخر إليه دتها سد
ّ التي عنات الط
َّ عدد كان كم أدر
ِ لم الخنجر، سحبت إن ما بطنه
خارجا ،فأحكموا ً والزعيق الحركة إلى انتبهوا جنوده من بعض كلها، المداخل أحاطوا أنهم أنتبه لم لكني بلونه، ستغدو الحارة باحة
السعادة إلى قلبي كأنما قد رحل الفرنسيون ،سعادة ّ تدفقت احة، السّ بقلب وقفت بينما تجاهي سددوها البنادق، أيديهم تحمل المنافذ،
رصاص ،لم تكن نحوي بل تجاه ٍ تسم ًرا حتى انطلقت أصوات ثوان قليلة من عمره .ظللت ُم ّ ٍ ال يمكن للمرء أن يشعر بها إال في
الممرات ،ضرب أحدهم كتفي بقبضته ّ مسدسيها إلى الجنود الذين كانوا يسدون َّ ويصوبان
ّ الشبحين يركضان نحوي، السقائف ،رأيت ّ َ َّ
السقوط، تحرك بجه ٍد ،فركله أولنا حتى عاود ُّ َّ السقيفة تخبط الجندي من أثر الن َّار ،ثم فانتبهت ،وركضت إلى جانبهما ،عند مدخل ّ
خا يسدونها ،فانعطفت صار ً ّ السقيفة رأيت الجنود الشبحين ،وقبل بلوغ ّ واعتقدت أنهم غابوا بينما كانوا يركضون خلفنا .قفزت متجاو ًزا ّ َ
الطريق التي ِملنا معها إال ونحن نسمع ّ نهاية إلى نصل ولم طريقه، بالشبحين أن يكونا في إثري ،انعطف أولهما ،واستمر الثّاني في
شد بيده اليسرى على كتفه اليمنى ،أضاء لي نور َّ مكمن إلى أن بلغنا، ٍ الطلقات ،ثم تراءى لنا يركض في انحناء خلفنا ،وانتظرناه في ّ
الحي ،وهل كان ّ إلى مجيئهما سبب عن بسؤالهما هممت المهدم، المنزل القمر وجهيهما ،تذكرتهما ،كانا هما الل ّذين التقيتهما في
زو ار؟ ولكن األصوات ظهرت ثانية ،ورأيتهم عند المدخل يركضون نحونا .فانطلقنا بيننا وبين ثالثنا مسافة ،تلتوي الم َ أيضا ثأر مع ِ ً لهما
الس قائف إلى أخرى ،والتفتنا فجأة كان الجنود ال يزالون في أثرنا ،دون أن نجد رفيقنا المصاب ،شككت أنهم أمسكوا به ،ولكنهم بنا ّ
السقيفة على طريق البحر ،بعد أن تجاوزنا باح ًة صغيرة ،وأشرت على رفيقي أن نفترق ،اختار هو كانوا يصيحون بنا ،ثم انفرجت ّ
قدرت أنهم لن يعودوا على دربًا ي ُفضى إلى أسفل المدينة ،سلكت بدوري آخر غير بعيد عن الذي كان الجنود يتدفقون منهَ ّ ،
الطلقة تصيب صوبوا نحوي ،ثم كانت ّ َّ الطريق ،وما إن رأوا شبحي من بعيد حتى أعقابهم ،ولكنهم تركوا اثنين منهم يحرسان مفترقات ّ
الدم من مسافة بعيدة ،وكلما تتشمم ّ ّ ذئاب مثل كانوا وهم كض، الر
ّ على يحثني عال ،ولكن شيًئا غريبًا كان ٍ رجلي ،صرخت بصوت
انعطفت مع درب سل َكوه ،حتى أحسست أنه ال طائل من ركضي المستمر .انتهيت حينها إلى مكان البيت المهدم ،تسل ّقت ما تبقى
من سوره ،ونويت أن أقبع هناك ،وخشيت أنهم سيقفزون من خلفه ،فبقيت أعلى الجدار ،ثم سرت فوقه إلى سقف البيت ،وإلى
الطريق جيئة وذهابًا ،ثم عادوا يحدقون أعلى الجدران ،ويذرعون ّ ّ بيت ثان ،ثم إلى ثالث ،حتى نهاية األبنية ،وتراءوا لي من هناك
ألما بعد عودة البرودة إلى ً الجرح واشتعل أنفاسي، أسترد ساعة ومكثت بثقل،
ٍ السور
خائبين من بحثهم ،فعدت على طريقي ،نزلت ّ
بعيدا ،ولم يبق لي إال بيت ابن ميّار ،وبصعوبة تسلقت الجدار الواطئ، ً كان لكنه جسدي ،فك ّرت في التوجه إلى بيت الل ّة زهرة،
أردت النّداء عاليًا في ليل المحروسة المختلف ،ولكني خشيت أن ُ وسرت تحت شرفات البيوت مثل أعرج ،كانت روحي مزهوة،
السلسلة كانت معلقة ،وأن عهد األمان قد صار لصراخي ،وظللت أسحب رجلي حتى بلغت بوابة القصبةُ ،خيِّل لي أن ّ يستيقظ النّاس ّ
.ابن ميّار هو الذي يهبه لكل المنادين على اسمه
يرد ،وواصلت أطرقه حتى سمعت صوت ُدوجة ،وحين ميّزت صوتي شرعت الباب ،ثم كنت في
أحدا لم ُ
ً بقوةٍ ،ولكن
ّ طرقت الباب
.حضنها
ُ
دوجة
ُ
تهب إليه الل ّة سعدية كأنها تسمع صوته ُمناديًا ،وهي التي تعلم أن المفتاح لم يُفارقه كلما
ُّ أيام من االنتظار ،وال طرق على الباب،
الصوت المنادي لم يكن إال صوت امرأ ٍة من نسا ِء الجيران ،لم تفتح الباب ،بل عادت وانزوت في غرفتها، لكن ّ
ّ رحل عن البيت.
.وأسرعت أنا إلى الباب أستقبل الجارة
ترش العطر على جسدي ُّ تحولت ِغلظتها إلى ابتسام ثم إلى كلمات ،اقتربت منّي وهي ّ كانت المرأة ما تزال تُحملق بوجهي،
السلطاني الذهبية .ثم شرعت ُّ بدنانير حجرك ويمأل ا، كثير
ً به اآلغا عد سيس
َ جميل، هذا مع العاري ،وقالت :إنك نحيفة ولكن جسدك
رق
وط ٍ
ُ كثيرة، بكلمات تهذر كانت راش، ِ
ف ال في ونحن المال سلبه يمكنني كيف لي تشرح للنساء، تتكلم ببذاءة عن محبة اآلغا
جلست مبهوتة أسمع تلك األشياء ألول مرة ،عاجزة عن استيعابها كلها .كانت المرأة تعرف ُ ساء، ّ ن ال الرجال فعلها مع
يحب ّ ّ مختلفة
مع ا .ثم صمتت وطلبت مني الوقوف ،فقمت واستدرت ببطء حسب إرادتها ،ثم فَتحت الرجال والنساء ً ّ أجساد في هوة الش
ّ مكامن
كبيرا ،وأظهرت فُستانًا في ُزرقة داكنة ،أكمامه طويلة ،ويمتد إلى أسفل القدمين ،ارتديته ُمرغمة ،وشهقت المرأة وهي ً صندوقًا خشبيًا
رنسا حريريًا أسود ،بقلنسوة واسعة ،وارتديته هو اآلخر ،وجلسنا ننتظر قدوم الصندوق ثانية ،سحبت بُ ً مدت يدها إلى ّ علي ،ثم ّ ّ تراه
زوار ،ولم يعد إال حين فَرغنا من عشائنا ِ
.الم َ
الطريق نحو بيت األغا ،كنا وحيدين لكني لم أجرؤ على الهرب ،سلك بي دربًا طويل ًا ،لم يكل ّمني
زوار ،نقطع ّ سرت إلى جانب ِ
الم َ
السقيفة قائل ًا
ّ إلى انعطافنا مع صوته وعال بدايته، في :بشيء
حصلي ما تستطيعين من دنانير - عليك بطاعة اآلغا في كل ما يطلبه وسيُصبح لك بيت يأويك ،ول ُقمة تأكلينها ،أغريه كفاية حتى تُ ّ
.السلطاني ،وسأعود آلخذك في الل ّيلة القادمة
ُّ
أومأت برأسي ُأوافقه ،فصاح يريد سماع الموافقة ،وافقت بصوت خفيض ،لنصعد المسلك المؤدي إلى القصبة ،وقبل بلوغ بوابتها انعطف
الطريق
زوار عبر ّ إلي بالدخول ،وانحدر ِ
الم َ َّ اتساع ا ،وفي نهايته توقفنا ،إذ انتصبت خادمة عند الباب ،أشارت ً بي إلى درب بدا أكثر
الدرجات حتى أشرفنا على بهو فسيح ،في نهايته بابان عبرنا أحدهما، ّ صعدنا بالقناديل، ضاءة م
ُ واسعة، باحة في نفسه ،رافق الوصيفة
بكالت عثمانية رحلت على ِ خطوات سرناها حتى توقفت الوصيفة وطلبت أن أنتظرها ،غابت ُهنيهة ثم خرج كهل تكل ّم مع الوصيفة
سعيد ا مثل طفل ،أمسكني من يدي وعبر بي إلى غرفة رحبة ،معبأة باألثاثُ ،مضاء ًة بقناديل ً يتفحصنيّ إثرها وبقينا وحيدين ،كان
كثيرة ،ومفروشة بزرابي ُملونة ،وترافقنا إلى سرير نُحاسي ُمسقّف ،يحوطه قماش شفّاف ،افترش األغا األرض دونه ،ثم كنت إلى جانبه،
وقبضت يده على القنينة إلى يمينه ،وناولني الكأس ولكنني أبيت ،لم أكن قد جربت الخمر من قبل .من نافذة بيت الل ّة مريم
رأيت اليولداش يتعاركون أثناء سكرهم ،منذ ذلك اليوم تولدت في نفسي َمخاوف ،أججتها تحذيرات الل ّة مريم منها .كان الكهل إلى
الر شفة تلو األخرى ،وأنا أتطلع إليه في خوف ،وحين رآني على حالتي تلك ،ابتسم لي ،وهو يسحب جانبيُ ،ممسك ًا الكأس ويرشف َّ
الدنانير والتماعها ،أراد مني مشاركته كأسه وأغراني بمزيد من ّ كثرة من دهشت أمامي، وينثرها الوسادة، ُص ّر ة المال من تحت
الدنانير ،ومن خوفي ظللت ُم حتمية برفضي ،ولم يستمر في عرضه إذ انبسط وجهه مع رشفات أخرى ،وبدأ يحادثني ولم أستوعب ّ
من كلماته شيًئا ،أضطر أن يكلمني بلغة أهل المحروسة ،أفهمه بمشقة ،وأجيبه بما يريد ،أعجبه اسمي ووجهي ،وهو يمد يده وينزع
أغان عثمانية كثيرة، ِ عنقي ،كان قد انتشي ،طلب مني الغناء ،ولم أكن أحفظ عني القلنسوة ،يمرر يده على شعري ،ثم يُحركها إلى ُ
أتحرر من ثيابي ،وشرعت ّ السرير ،فصعدت إليه ،ثم أردف أن غنيت له واحدة على مضض ،مال برأسه معها ،ثم فجأة أشار إلى ّ ُ
تتجدد فيه،
ّ الشهوةأنزعها حتى كنت نصف عارية أنتظره ،التحق بي ،وأخذني هناك مرات عديدة مثل ثور ،استغربت كيف كانت ّ
الس رير ،يجلس يرتشف من كأسه ،أو يتناول من الفواكه المصفوفة بعناية في سلتها ،وأسمع قضمه يظل يه ّزُني ثم يرتخي ،وينزل عن ّ
أحدق بعينيه،ّ نام، قد أنه إخال حتى جانبي، إلى ليرتخي نفسها، بالشدة لي ه ز
ّ ه صراخي رغم السرير ،ويواصل لها ،ثم يصعد على ّ
حدة ،التصق بي من الخلف أراد إتياني من هناك ،رفضت ّ أكثر بدا بها صعد التي األخيرة ة المر
ّ في ه ّ ن ولك مفتوحتين، فأجدهما نصف
السرعة ،ولكنني بعد ّ بتلك مزاجه ر كد
َ ّ الذي ما أع
ِ لم ا، ثائر
ً ووقف مكانه في انتفض ثم غضبه وازداد أكثر، بي ث ّ تشب بشدة ،لكنه
الرغبة ،رددت عجائز المبغى أن الفضل يعود للباشا حسين ،إذ َسمح بعودتهن سنوات استوعبت كيف ينظر بعض األتراك إلى تلك ّ
وممارستهن البغاء ،بعدما ُط ردن في زمن الباشا علي خوجة ،ولم يكن رجوعهن إال حين انتشرت شائعات في ّ إلى بُيوتهن،
المحروسة ،أن اليولداش صاروا يَدهمون بعضهم بعد غياب النّساء عنهم ،ربما كان اآلغا جنديًا من بين أولئك الجنود ،وقد ألِف تلك
ترنحا محاول ًا إبعاد بدي عنه ،وارتخى في آخر محاولة له إلى جانبي ينتظر استعادة العادة ،وأصبحت ل ّذته ال تكتمل إال بها .وقف ُم ً
السرير ،ونزل ليَمنعني من ارتداء ثيابي ،ولكن قوة غريبة تمل ّكتني ،ودفعته حتى أنفاسه ،تشجعت وحملت نفسي ،ونزلت من على ّ
الرواق ،لم تكن الوصيفة هناك ،حتى وأنا في قلب الباحة ّ وعبرت كلها، لطاني الس
أرضا ،غادرت الغُرفة بعد أن حملت دنانير ُّ ً سقط
زوار ِ
والم َ الطريق الذي عبرت منه رحلت عن البيت ،انحدرت عبر ّ ُ .لم أرها ،ثم
جمعا من اليولداش انزويت في مكان خبيء حتى يعبروا ،ولوال أنهم ً السقائف المتشابهة ،كلما رأيت علي ّّ الدروب ،اختلطت تهت بين ّ ُ
اعتقدت أنه المؤدي إلى حي المبغى ،ثم اكتشفت ُ آخر، درب عبر نزلت جسدي، من تفوح التي العطر رائحة موا لتشم
ّ كانوا ُسكارى
وهمهمةإلي أصوات أقدامَ ، َّ الرجوع دون وعي مني إلى بيت األغا ،وتناهت أنني عدت إلى المكان الذي نزلت منه ،وخشيت ّ
لمحا خيالي ،صرخت خوفًا منها ،وركضا حين ميّزا صوت امرأة ،مسافة َ تتصاعد غير بعيدة مني ،ثم لمحت خيال الجنديين ،مثل ًا
ساعدي ،لم تستمر
ّ شارعا ،تجل ّى لي مقدار سعادتهما وهما يقبضان على ً وجراني عبر درب ضيق يقطع ّ ركضتها حتى أمسكا بي،
خمنت أنهم مزيد من اليولداش كانوا يحرسون المدينة َّ الطريق،
أشباحا أخرى تعترض ّ ً سعادتهما ،فلم نكد نخطو مسافة حتى رأيت
زوار، الضخم ،ونادى عليهما ،تفاجأت بأنه ِ
الم َ ّ الظلمة .عندما بلغناهم اقترب بجسده ليل ًا ،أو ربما يبحثون عن نساء مثلي وحيدات في ُّ
علي ل َطمني
ّ ار زو
َ ِ
الم عينا وقعت وحين جهة، كل من الجنود بنا أحاط حين لطلبه رفضا في البداية أن يُس ِل ّماني إليه ،ولكنّهما َر َ
ضخا
:حتى سقطت ،وعال صوته
ِ
أوصك أال تغادري بيت اآلغا حتى أعود الصطحابك - .ألم
منكن ،ولكنك لن تحلمي بدينار واحد منه ،مثلك ال يستحق فراش القادة ،لم تخلقي إال -
ّ إذن كنت ستستأثرين به وحدك ،آه
.ليركبك األعراب وجنود اليولداش
السقيفة ،ثم ترتفع لقلقته حادة ،كأنه يبكي رحيل أحدهم ،يهت ُّز قلبي لصوته ،غادرت الغرفة، الظالم في ّالطائر حين ينتشر ّ يصمت ّ
الصوت ،سمعت حينها وعال شهيقي ،ثم نأى ّ رجلي ارتختا ،فافترشت األرض َ
ّ لكن
ّ ا،ً ن حزي يجعله عما أسأله به، ّحاق ل ال على أوشكت
الطائر،
مرة أخرى ،تمنيت أال يرحل ،لن أحتمل رحيل اثنين في أسبوع واحد ،ثم غاب ّ ّ يعود لن أنه أحسست ، ة
ً قوي ة
ً رفرف
الرواق إلى الباحة ،وتتبعت شبح المرأة القادمة ،كانت الل ّة سعدية تسير ببطء ،ثم همست حين دنت فتحاملت على نفسي ،وعبرت ّ
:مني
كدره -
.الطائر كان يَبكي يا الل ّة ،ولم أدر أي شيء يُ ّ
ّ
.يا الل ّه لطفك ،إنّه فأل ُسوء -
الش وارع ،واليولداش في إثره ،يقفز في الهواء قفزة طويلة ،ثم يختفي عن أعينهم، غزال ،يركض بين ّ ٍ أراه في الحلم قد تحول إلى
الحلم ،ثم أراني عند ُ الشرقية ،يتالشى صوبون بنادقهم كلها إليه ،ولكنّه يَسبقهم ،يختفي عبر بوابة المدينة ّ الطريق ،يُ ِ ّ
ليظهر في نهاية ّ
طل منها على مقابر المدينة ،مزي ٌد من الوجوه األوروبية ،ينزلون ُمنحدراتها ،يحملون األكياس ،أنحدر في إثرهم ،فأرى البوابة الغربيةُ ،أ ُّ
يتجم ُعون داخلها ،يَقبرون رجل ًا ،أخطو تجاههم وكأنهم ال يَرونني ،أدنو منهم ،فيطالعني الن َّعش ثم يكشفون عن وجهه، َ أهالي المحروسة
أخيرا قد ارتاح مما كان يُثقله طوال سنوات ثالث، ً ذلك، فعل لماذا أدركت أنا إال ابتسامته، سرَ ّ يفهموا لم لهم، يبتسم كان ابن ميّار
ّفت الجميععيني وهم يسقفون القبر ،أشحت البصر حين كوموا فوقه التراب ،خل ُ ّ أغمضت ّحد، ل ال ده ّ ِ
توس الخشنة ّاوي ل الس
تمتد يد ّ ُّ ثم
فارا تجاهي ،يالحقه الجنود الفرنسيون ،ارتجفت في السل ّاوي يعبُر قوسها ً
وغادرت المقبرة .قبل أن أصل إلى البوابة ،تراءى لي ّ
صوبوا بنادقهم نحوه،
ّ وخل َت ،تو ّقَفوا قربي،
الطريق َ
مكاني لكثرتهم ،ثم مر بي مثل برق ،ولكنهم لم ينتظروا طويل ًا بعد أن استوت لهم ّ
لكن
ّ اكض، الر
ّ ّاوي ل الس
ّ وبين بنادقهم بين بالوقوف وأطلقوا النّار ُدفع ًة واحدة ،بدا لي أنهم لن يُخطئوه ،رجوتُهم أن يتوقفوا ،وهممت
فزعة ،وحين رفعت رأسي نحوه ،كان يترنّح في آخر الخطوات ،ثم وي في الفضاء ،وسقطت على األرض ِ الد ُّرجلي خانَتَاني ،ثم تعالى ّ
أرضا ،وهبّ وا إليه حين كان يزحف على األرض ،كلما اقتربوا منه يزداد ارتعاش قلبي ،وعندما أحاطوا به فقدت الوعي ً .سقطَ
يفر،
ّ تتحرك عيناي تمسحان الفضاء المظلم للغرفة ،وتُتم ِتم شفتاي باسمه ،ولم أعتد أن أراه يموت في أحالمي ،بل
ّ استيقظت حزينة،
المرة الفرار .احتدت األسئلة :نعم يا ُدوجة أنت التي انتظرته سنوات وحين عاد وقفت في وجهه وآذيته، ّ لكنه لم يستطع هذه
فرط بها بسهولة؟ صر على الجري خلف رغباتنا حتى ننالها ثم ن ُ ِ ّ
لماذا ن ُ ُّ
لكن التَمتَمة تبلّغُني حيث ّ تشتد بي الهواجس إلى غرفة الل ّة سعدية ،أدنو من بابها ،أتحري إن كانت قد نامت، ُّ أحمل نفسي حين
بحق محبتكِّ جزءا من وجهها المبلل بالدموع .يا الل ّه ً أقف ،وأتجاوز الباب إليها ،ما زالت على حالها ،تبسط يديها ،والقنديل يُظهر
وبحق كل
ِّ مريضا يُغالب اآلالم ،واأليام التي قضيتُها ساهر ًة إلى جانبه، ً لألطفال ،وقد كان منصور منهم ،بحق كل األيام التي قضاها
اجعل كل الغائبين يهتدون إلى بيوتهم، َ بحق كل هؤالء، ّ وبحق كل األيام المظلمة التي ِعشتُها منذ دخلت المحروسة. ّ األمهات،
وقفت عند رأسها ،ثم جلس خلفها أتطلع إلى ُ أن إلى سعدية ّة ل ال من وأقترب بالدعاء أتمتم كنت ! وأحبابهم ائهم ز
ّ أع إلى يرجعون
سمعت طرقًا علىُ أنتبه، لم لحظات في . أخرى إشارة كأنها عاء، الد
ّ في ألححت كلما ضوؤه ويزداد اً ن حي يشحب القنديل، ضوء
السفيفة ثم فتحت ّ اجتزت مكاني، من قمت وهكذا !كهذه؟ قصيرة فترة في اإلشارة أتتحقق تساءلت ذلك، لي بدا كأنه أو الباب،
السقيفة ،كانت رجله ّ مسافة أسندته حين جريح أنه أدركت أنفاسه، تتقطع انحناء، في وقف بينها مفزوعة صرخت فرأيته، الباب
وبثقل وصلنا إلى الباحة ،وهناك وقفت الل ّة سعدية وأضاءت وجهه بالقنديل ثم قالت ٍ :مصابة،
ُ
الطائر ،أصابك المالعين -
.لطفك يا الل ّه ،ما خاب ظنّي في ّ
السل ّاوي ثم أجابها
:وضحك ّ
زوار - عمة ،بل أنا الذي أصبتُهم ،اآلن فقط يمكن للمحروسة أن ترتاح ،لقد قتلت ِ
الم َ ّ .ال يا
.هم يعرفون أنك صديق البن ميّار ،وسيأتون إلى هنا -
كيسا
ً وخطت إلى غرفتها ،ثم رجعت حامل ًة معها
طلبت أن نسير في أعقابهاَ ،
ْ رأيت وجه الل ّة سعدية عن كثب ،بدا أكثر جديّة،
واضعا رجله في حجري ،وحين شرعت الل ّة سعدية تتفحص الجرح ،كانت أسنانه َت ُّ
صطك ببعضها، ً حمة
ّ صغيرا وبعض القماش ،تمدد
ً
:وظل عرقه ينضح ،ثم رفعت رأسها إليه ّ
أردفت
ْ :وفي زمن قليل كان كل شيء قد انتهى ،لفّت ساقه بقطع القماش ،وقبل أن تنتهي منها
حمة -
ّ .عليك اآلن االختباء في القبو طويل ًا يا
ظل حبيس البيت. بتل ثيابي منها ،وحتّى دمه تتّسع بُقعه في فستاني ،وسيَ ُّ
السل ّاويَ ،ساقه ترتاح في حجري ،ويسيح عرقه فتَ ُّ
عاد ّ
.اآلن فقط سيصغي إلى الحكاية كلها
القسم الخامس
المن َ ِ
اخ َس« عل َي ْ َك أن تَ ْرف َُس َ اول ! لِ َماذَا تَ ْض َط ِه ُد ِنيَ ،ص ْع ٌ
ب َ اول ! َش ُ
»!!ش ُ
َ
مجرد
َّ ضمره لي البحر من أحالم ،ربما كانت عدت إذن إلى المحروسة ،ولم تختلف أيامي األولى بها عن أيامي األخيرة ،رغم ما َأ
َ
بحوارات طويلة ،وصراخ في وجه كافيار :إن
ٍ أوهام ،أنه يمكنني تغيير الكثير ،أطالع المقال ،وأعيد ما جاء فيه ،وتحدثني نفسي
الرب .ولكن حين وطئت رجالي رصيف الميناء اكتشفت أنه قد آن إلها لهذا العالم ،بل نحن من نُغيّره على طريقة ّ الشيطان ليس ً
ّ
المور وقصدتها،
لي االستفاقة من الوهم .فالمحروسة التي خل ّفتُها ليست نفسها اليوم .أسرعت إلى الفُندق كي أرتاح .أحببت فنادق ُ
ولكنني لم أعثر عليهم هناك ،ولم أقابلهم ،بل إن اإليطاليين قد أصبحوا أصحاب الفندق الجدد ،كل ّموني بفرنسية ال تخلو من لكنة،
أمل في أشياء
ٍ ير ا قديمة ،وددت التخلص منها قبل أن أستقبل المدينة بوجه جديد ،ال يخلو من وحيدا في الغرفة أعيد ِس ً
ً وبقيت
.كثيرة ،متفائل ًا بمن تبقى من أناسها فلربما بينهم من يستطيع الوقوف في وجه كافيار
قائدا حقيقيًا ولكنّه رحل .أين أنت يا بورمون؟ ! تُرى أي منفي ً أتوغل في شارع البحر غير عابئ بالوجوه من حولي ،وحده كان
متذكرا سيرته ،أتسل ّق دروب القصبة حتى أبلغ مكتبه ،أعبّر ً أحدق من نافذة الغرفة.ّ يسعك اآلن؟ ساعات استعدت بها بُورمون وأنا
حرك ساكنًا .أدلف إليه، وحيد ا على عادته ،يبصر الباحة من نافذة الغرفة ،يتأمل حياته التي رآها تنهار أمامه دون أن يُ ّ ً إليه ،فأجده
يوما قاسيًا،
ً كان .المعركة في ابنه جثمان مع عها ود
ّ المالمح، من خال
ٍ بوجهٍ ويلتفت منه، أكثر أقترب حين إال لي، ينتبه لكنه ال
لكنه تحامل على نفسه ،وواصل قيادة الجيش .ربما كنت الوحيد الذي قاسمه أيامه األخيرة ،مثلما كان القادة يجتمعون به من حين
مضض ،لم تمض إال أيام قليلة بعد احتالل الجزائر حتى زحفت ٍ يصرون على مسير الجيوش إلى بقية المدن .وافقهم على ّ إلى آخر،
وقفت عند مدخل ُ الجيوش على المدن الثّالث ،وعلى رأس أح ِدها ابنه الثّاني ،ولكنّها عادت مهزومة حاملة معها جثمانه .يومها
الضباط في البهو واختاروني كي أبلغه بموت ابنه ،لكني رفضت بشدة. المدينة أراقب العائدين وآثر هو البقاء في مكتبه .اجتمع ّ
وحيدا ،لم أدر بأي الكلمات سأعزيه ،هل يستوعب مجد هذه األمة أن يفقد ً مضى أحدهم إليه وأخبره ،ثم غادروا القصر وخل ّفوني
شهر واحد! هل ستُنسيه األوسمة مصرعهما؟! غادرت مكتبه ولم أعد إال في يوم ثان ،أجلس في مقابلته، ٍ عظيم مثله ابنين في
ويحتج على تجاوزاتُّ بكلمات ال تعني شيًئا لكلينا .مثل ًا لم تكن مجدية زيارات ابن ميّار وشكواه .يقف ٍ أحدق به طويل ًا ،ونهذرّ
الجنود ،والقائد كأنه ال يراه .ثم اشتعلت الثّورة في باريس ،أزاحت الملك وعائلته ،وأضحى اإلكريلوس ضعيفًا ،بدأت تضيع األحالم
.الحقيقة للحملة
كيف؟ -
علي -
ّ الطريقة زادوا من حنق الجنود
.رفضوا منح الجنود عالواتهم التي وعدناهم بها ،ثم أرادوا شراء صمتي بلقب الماريشال ،بهذه ّ
الراية الجديدة تعبر البحر ،فهل سترضخ لهم؟ -
وما العمل اآلن يا سيدي؟ ّ
مجبرا يا ديبون -
ً .لست
ُّ
وسأظل - دائما كنت وفيًا للبُوربون،
ً .لهم أن يفعلوا ذلك ،لن أغيّر قناعاتي،
أنزل إلى أسفل المدينة فأرى الفوضى التي أحدثها الخبر بين المشاة ،ضجوا قبل أيام واجتمعوا مع القائد يطلبون رواتبهم المضاعفة،
العل َم ،ولو بعد أيام ،لكنهم لم يغفروا له تأخيره ،اعتقدوا
لكن القائد بورمون تالفى انقسام الجيش ،وسمح بتعليق َ
ّ اآلن هم مرتبكون.
.دائم ا أنه خائن واترلو ،وهكذا بعد أيام قليلة كنا نقرأ مرسوم نفيه
ً
الط ريق ،كأنهم ولدوا في هذه المدينة ،غير مبالين بقائدهم ،وهو يغادر مكتبه ،لطالما من نافذة الفندق رأيت كوكب ًة من الجنود تعبر ّ
سرت إلى جانب بورمون وهو ُ . الحملة هذه في ير الس
ّ على أغراهم ما المال بل تجل ّت الحقيقة لي .ال يهتم الجنود بمجد ُأمتهم،
الرصيف إلى الفرقاطة التي اكتراها بماله ،حامل ًا خيبتين من البحرية ،األولى يوم اعترضوا تابوت آميدي في ميناء مرسيليا ،كان يعبر ّ
توهموا أن القائد يُخبئ به
ّ عل َم الجزائر ليُسل ّمه للملك .أحاطت به شرطة الميناء وفتشوا التابوت، إلى جانبه ابنه الثّاني حامل ًا َ
ال ّ َذهب .أي مج ٍد هذا الذي تفخر به هذه األمة ،وهي تُف ِتّش التوابيت ،وال تُبالي بفتح عظيم؟! والثانية رفض األميرال دوبيري أن
الصغير وقد حوى رماد الصندوق ّ وحيدا ،يتأبط ّ
ً قائدا عليه .وقف يومها بورمون ً قل سفينة من األسطول بورمون ،وكان قبل يومين فقط تُ ّ َ
وحيدا مع ابن ميّار
ً وبقيت الفرقاطة، األفق ب ّ غي بعدما وانصرفوا له أيديهم لوحت عه، ود
ّ من فقط القليل . الفرقاطة إلى وصعد .ابنه،
َّ
لعل الركض مع ابن ميّار ،نحلم أن نُغيّر المدينة ،ونطرق األبواب كلها رحل بورمون يومها وتركني في الجزائر ،لم يبق لي سوى ّ
يائسا بينما واصل ابن ميّار ركضه ،ثم
ً ورحلت
ُ الجنود، أيدي على ضرب السباب والشتم ،هذا إن لم ن ُ واحدا يفتح لنا .ولم نلق سوى ًّ
السنون ،إذ ما زال يجِ ُّد في استعادةّ تبدلهم ال جال الر
ّ بعض أن
ّ حينها أدركت القائد، مكتب إلى الموصل رب الد
ّ في فجأة التقيته
والعينان تتوقان إلى
ِ بسنوات كثيرةٍ ،حفرت أخاديد في وجهه ،ذهبت ببعض مرحه ،عانقني ٍ المساجد .اقتربت منه فبدا لي أكبر
أمكنةٍ أخرى ،كان ُمستعجل ًا فسلَّمته نُسخة من الجريدة ،قبل مغادرته أخبرني عن سفره إلى باريس من أجل عرائض جديدة .لو
موري بريد الخالص لنفسه في باريس، ٌ وحتما سيقول :أعجب لكما من أحمقين، ً كان كافيار ثالثنا ذلك اليوم لسخر طويل ًا منا.
!وفرنسي يحلم بتغيير أرض البرابرة
.قد قدم الوكيل المدني من مرسيليا ليُح ّقق في األمر ،قضى يومين هنا ثم عاد إلى طولون مخلّفًا توصياته إلى الجنود -
بقوة ،وصاح
ّ :ما إن بلغت المكتب حتى ُأذن لي ،كأنه كان ينتظرني ،حين عتّبت الغرفة حضنني
.لماذا ترى األمر على أنه شخصي ،فنحن اآلن فرنسيان في إفريقية -
:لحظتها رميت الجريدة في وجهه ،فأمسكها دون احتجاج ،وقَرأ العنوان ثم رماها جانبًا ،وقال
.ما دخلي أنا ،وظيفتي هي إعادة بناء المدينة وليس التفتيش عن العظام -
أفكار كبيرة بحجم التي يحملها في رأسه ٌ الرجل ،كافيار قبل سنتين هو نفسه بعد سنتين ،تلزمنا
السنوات من تفكير هذا ّ
لم تُغيّر ّ
.ومستعدٌ أن يُستعبد من أجلها ،ويُجل َد حتى يتشقّ َق ظهره ،كي يتغيّر
فقت الباب ورحلت ،قررت أنني لن أرجع إليه ،بيد أنني عدت ،في ُصحبة ابن ميّار ،وما إن يراه حتى يضج بنا ،ويصرخ يومها َص ُ
ظن أنها ستعيد أشياءّ آمرا جنوده أال يسمحوا لي بعبور البوابة ،كان ابن ميّار حينها قد عاد من رحلةٍ
ً طر َدنا في آخرها
في وجهيناَ ،
حدثني عنه ونحن ننحدر إلى المقابر ،وفي طريقنا إلى مكتب كافيار لم يتوقف عن َسرد ّ كثيرة ،كنت أكثر تفاؤل ًا بكتابه الذي
الدرجات ،طوال مسيرنا كنت أصل ّي لعل الن َّاصري يُلهمني فأرمي كل شيء دفعة ّ نصعد ونحن تفاصيل حملها الكتاب ،ثم صمت
عال صوتي بها :كافيار كافيار أنت لم تكن إال شيطانًا في هذا العالم.واحدة في وجه كافيار ،وأما حين التقى الوجهان فقد َ
الدرجات
سعيدا ،إذ لم أره بذلك الغضب من قبل ،نزلنا ّ
ً استشاط كافيار غضبًا ،وطردنا ُمناديًا على جنوده ،فرحلت وابن ميّار ،كنت
َ
التفت إلى
ُ ُمسرعين حتى بلغنا البوابة الخارجية ،ولكن الوجوه التي كانت من حولي ساءتني ،النّاس ال يريدون التخلي عن طباعهم،
:ابن ميّار ،وأهمس له
!أيهتمون بالموتى أم باألحياء ،وكل يوم تنحدر الن ُّعوش نحو المقبرة -
.أنت على حق .المعركة الحقيقية هي في المحافظة على من تبقى من األحياء -
الدخان في وجه هذا العالم الذي ال ينتصر فيه إال الحقراء. أفر من شارع البحر إلى حي المقاهي ،كنت في حاجة إلى نفث ّ ُّ
الرب هيّنًا .همست بالكلمات بعد أن رشفت ّ حمله الذي الشعوب ال بد له من أفكار كبيرة ،ولم يكن النّور
لطالما آمنت أن تغيير ّ
وحيدا ،فوجدته يجلس إلى جانبي ،رجل ًاً ردد معي ،حسبت أنني كنت الصوت الذي ّ الدخان ،ثم انتبهت إلى ّ
من فنجان القهوة ،نفثت ّ
أسمر ،مالمح وجهه كانت أميل إلى األوروبين ،ويرتدي زيهم ،تأملت وجهه طويل ًا ،لم تبد لي لهجته مثل لهجة المترجمين ،أو الذين
تعلموا الل ّغة حديث ًا ،بل كانت فرنسية دقيقة ،وكأنه تربى في شوارع مرسيليا الخلفيّة ،ولم يُطاطئ رأسه أو يُخفض عينيه ،بل ظلت
حدقان بي في رغبةٍ لمواصلة الكالم .عيناه ُمستقرتين ،تُ ّ
الرجل األسمر تترقبان سؤالي عن هويّته ،وقبل أن أبادره اقترب عامل المقهى منه ،حاوره بكلمات عربية ،استغربت وأنا
كانت عينا ّ
فعجل ذلك من سؤالي ّ المترجمين، جميع التقيت :الذي
كيف؟ -
.كنت توماس المسيحي ،ثم أصبحت إسماعيل المسلم دون المروق عن مسيحيتي -
الهم يا سيد ديبون أن أكون إسماعيل أو توماس ،أو حتى مسيحيًا أو مسلم ،المهم أن أكون معك إنسانًا .هل يروقك هذا؟ -
واآلن ما الذي أعادك إلى هذه المدينة بعد سفرك إلى مرسيليا؟ -
سنوات -
ٍ .إننا نعرف كل شيء عن هذه المدينة ومنذ
تأبّطت الجريدة ورحلت إلى الفندق ،قل ّبت صفحاتها ،كل صفحة كانت تزيد من إعجابي بنداءات القديس سيمونَ ،ح َوت المبادئ
للمخل ّص في هذه المدينة ،قرأت المبادئ وكررتها ،توقّفت عند بعض ُ تجل
ٍ األولى للمذهب الجديد ،كم فتنني ُأسلوبه ومعانيه ،إنّه فعل ًا
ُجملها طويل ًا ،كان أثرها قويًا على نفسي ،نعم المجد لك يا سان سيمون ،إذا كانت فعل ًا هذه الكلمات صادرة من روحك ،فسأكون
الجمل المليئة بالمعاني اإلنسانية «اهتزت العروش ،وتم ّزقت اُأل َسر ،واختفىُ خلصا ،أسهر مع المبادئ بقية الل ّيل ،فتطالعني سيمونيًا ُم ً
والعبودية» كانت الكلمات تحفر في داخلي، ُ للرق
ِّ وأدب جديدٌ وسياس ٌة جديدةٌ ...وليختف بيننا آخر أثر ٌ د
ٌ جدي دين . والملوك الحب
ُّ
المبجل سان سيمون؟ أقف وأشرع النّافذة كأنني أبحث عن توماس في َّ تجدد حكايات فتنتني باإلنجليز .أين كنت غائبًا أيها ّ وكأنها
السيمونيين
الشارع فال أجده ،وأمسك الجريدة أقل ّب صفحاتها وكأنني أكتشفها للمرة األولى ،اآلن فقط يمكن ألهالي المحروسة انتظار ّ ّ
والربح يتقاسمه الجميع ِ السالم والمساواة مع الفرنسيين وكل األوروبيين ،يكون العمل جماعيًا، يعمه ّ
ّ لمجتمع جدي ٍد
ٍ ليشيدوا معالم
السيمونيون هم ُمستقبل الجزائر .بعدل ،ليت ابن ميّار معي اآلن ،فيقرأ كيف يسعى هؤالء إلى تقديس اإلنسانّ ،
أعدد المبادئ
ّ شهر من البحث حتى حفظتها عن ظهر قلب، ٌ يمر إال
ّ أذرع شوارع الجزائر باحثًا عن توماس ،الجريدة في يدي ،لم
مبكرا ،أجلس عند باب المقهى لعله ً الظالم ،ثم أغادره
كلها وأنا أعبّر شارع البحر ،فال أكاد أعثر عليه ،وآوي إلى الفندق مع حلول ّ
يمر من هناك ولكن ال أثر .أسأل عامل المقهى ،فيرد أنه كان هنا ،وأمده بورقة بها عنوان الفندق ،وحين أسأل عامله اإليطالي ّ
السير بها ،وفنادق أستعلم إن كان ي َ ِح ّل بها ،وتبوء رحلتي بالفشل ،ألتقي ابن ميّار فأجده
يُجيبني بالنفي ،وهكذا أعبّر شوارع لم أعتد ّ
هده عمال كافيار بغرض التوسعةُ .أس ُّر له
بيت جديد ّ ٍ :حزينًا من
.ال تحتَر يا ابن ميّار إنهم قادمون ،وسيتغيّر كل شيء ،ويُعاد ما أخذ منكم ،وسيرحل كافيار -
مرة أخرى
مصدق كالمي ،أرافقه إلى حي المقاهي ،أجلس في مقابلته ،وأهمس له ّ
ٍ :ينظر تجاهي مستغربًا ،غير
عابساُ ،أذك ّره باأليام القديمة التي طردنا فيها الجنود ،فيبستم ثم ينبسط في الحديث ،وال يلبث أن يسحب من محفظته ً لكنه يظل
شعور غامض ،هل ستأتلف الل ّغتان
ٌ الصغيرة نسخة من كتابه .ويسلمني إياها موقعة باللغتين ،تأملت الحروف العربيّة طويل ًا ،ودهمني ّ
الس يمونيين؟ ثم عدت بوجهي أنادي العامل ليسعفنا بفنجان القهوة كي نحتفل ،ولكن ابن في الجزائر؟ وهل ستحتمل العربيّة مبادئ ّ
حدثني طويل ًا عن رسالة رافقت الكتب ،أشارت إلى قدوم لجنةٍ تفصل في بقاء الفرنسيين في ّ أخبارا أخرى.
ً أيضا
ً ميّار كان يحمل
الرسالة .بدا لي عبثيًا ،لن يتخل ّوا عن المدينة .ماّ مضمون في ًا ل طوي ارّ مي ابن مناقشة أشأ لم منها، خروجهم في الجزائر ،أو
.سيحدث هو مجرد مراوغة منهم إلسكات بعض النّواب المشاغبين في البرلمان .يضغطون على الملك ،من أجل مصالح مالية
كان قد نال مني التّ عب واإلنهاك من طول بحثي ،فوضعت رأسي على الوسادة وغبت في األحالم ،رأيت سان سيمون واقفًا إلى
الرؤية ،وفالحي المحروسة يُغنّون طويل ًا ،لكنني لم أفهم كلمات األغاني ،واكتفيت بأن رأيتهم سعداء
.جانبي ،وحقل ًا يمتد إلى نهاية ّ
العياء ،كل يوم أحتل كرسيًا بالمقهى ،وأروح إلى الفندق مع حلول الل ّيل .لم ِّ
بالشوارع وال يُصيبني َ شهر آخر من االنتظار .أطوف
ٌ
اهتماما،
ً تعد الجريدة في قبضتي ،بل صرت أتمتم بالمبادئ ذهابًا وإيابًا ،يُبصرني بعض األوروبيين ،فيبتسمون من حالتي ،ال أعيرهم
وجوها لم
ً الشهر ،لمحتمرات عديدة ،ولكن في اليوم األخير من ّ ٍ وَأ ِع ُد نفسي بقادم أفضل .عبرت أمام مكتب الحاكم فوارول
أعتدها هناك ،أدركت من حينها أن الل ّجنة التي كلمني عنها ابن ميّار قد حل ّت بالمدينة ،وأنها عائدةٌ للتو من رحلتها ،في انتظار
دوما ،وواصل إرسالها حتى التفَتُوا إليه؟! ها
ً الضباط ،ثم من ابن ميّارَ .أ َوليست عرائضه هي التي أعلنت عن حضوره ّ سماع تقارير
سنوات ثالث
ٍ والضبّاط الذين أشرفوا على المحروسة في أكثر منُ المور،
ُ أعيان بعض ستستقبل ّجنة ل ال .هي
الح راس دون أن ينتبهوا لي ،ثم جاورت باب مكتبه ،حيث وقف الجندي يحرسه ،طلبت اإلذن أللتقيه،
ُ تقدمت من البوابة ،تجاوزت
ّ
:ثم ُأذن لي ،وقفت في مواجهته وقلت
أال تعتقد يا سيدي الحاكم أنني معني بمقابلة الل ّجنة؟ -
.الل ّجنة اإلفريقية حملت معها أسئلة محددة ،ألشخاص معينين ،أنت لست بينهم -
- بل قل ماذا فعل ،صحت به وواجهته أمام الجميع باألشياء التي قام بها ،وذكرت أسماء المساجد التي هدمها ،والبيوت التي
أخذها من الجميعَ ،و َضيعتي التي سلبها مني ،وسحبت الكتاب كي أسل ّمه إلى أحد أعضاء الل ّجنة فخطفه من يدي ،وأحرقه أمام
عيني ولم يردعه أحد ،حتى ميمون سل ّمهم عريضته ،احتفوا بها ،أتعرف معنى هذا؟ّ
.نعم أعي هذا -
أيام قليلة ،وجدتني أغادر المدينة باحث ًا عن توماس .أنزل عبر المنحدر ،وأعبر باب ٍ أوصلته إلى بيته منهك ًا ،ورحلت الل ّجنة بعد
الشرطة،
السل ّاوي ،لو أدركوا مخبأه لكانوا أول من يَشي به إلى ّ المقبرة ،أتأملها طويل ًا ،فال يقترب منها المالطيون ،ربما يخشون قَبضة ّ
السل ّاوي هو من فعلها .أدخل المحروسة وال جديد تحمله سوى سحابة من الغبار والرمل زوار أدركت أن ّ سمعت بمقتل ِ
الم َ ُ منذ
الدروب ثم تسلقت الطريق ّ شققت هكذا ا، أيام
ً غبت وقد ار،ّ مي ابن ّقاء ل ل ًا قمتشو كنت تسقط، جديدة أبنية تثيره سمائها في المتطاير
الرواق ثم كنت أجلس إلى عبرت ّ
ُ المؤدي إلى القصبة ،ولم أقف عند بابه طويل ًا إذ فُتح وأطلَّت الفتاة بوجهها الجميل متسائلة،
شخصا آخر ،قلتً السابقة ،كأني ُأكل ّم
المرة ّ
ّ :جانبه ،وفزعت إذ رايته على حالته تلك ،كان أسوأ من
عيني من وجهه ،ولم يبق له إال ّ قرأت قرار النّفي أكثر من مرة ،وغضبت أكثر من إمضاء كافيار المرافق إلمضاء فوارول .مألت
عائدا إلى الفندق .يومان لم أعرف فيها النّوم ،شعرت بمقدار من ً يومان عن رحيله ،ثم وضعت الورقة إلى جانبه ،وانصرفت
السفن إلى المحروسة ،كم كان قاسيًا اكتشاف الحقائق بعد فوات األوان .في آخر يوم انحدرت الكراهية لنفسي ،ولكل الذين حملتهم ُّ
لوحت له إلىّ ًا، ل طوي عانقته َمحني، ل حين بائسة ابتسامة عن شفتاه ت افتر
ّ جانبه، إلى وزوجته إلى الميناء ،رأيته واقفًا في انحناء،
طل من النّافذة ،قفزت إلى البوابة أدر أي جنون ركبني بعدها ،ركضت صوب مكتب كافيار ،لمحته ي ُ ُّ السفينة عنّي .ولم ِ أن غابت ّ
:ولكن الجنديين وقفَا دونها ،وصرخت من هناك
.الل ّعنة عليك يا كافيار ،الل ّعنة على نابليون الذي أفسد الجميع بجنونه -
:فأجبته
الشيطان -
.الل ّعنة عليك أيها َّ
ثيابي نفضت
ُ قمت،
ُ المعنّف له،
وهم بركلي لوال نداء كافيار ُ
ّ أرضا،
ً قفز نحوي أحد الحارسين ،وضربني بعقب البندقية حتى سقطت
أزرق بعيدا عن هناك ،ثم سرنا مسافة حتى بلغنا البحر،ً سحبتني وشدت على ساعدي،
ّ امتدت
ّ يدا
وهممت بأن أشتمه ،ولكن ً
توماس :ممتدا ،وهمس لي
ً
الطفل الذي بداخله ،كم الشاب ال يعلم من الحقيقة إال القليل ،ال يرغب في التخل ّص من ّ رحل ديبون بعد أن مألني بالخيبة ،ذلك ّ
السهلّ من ليس بجيل، ّ ت ال من بهالة ا حاط
ُ ًم يرونني كانوا وقد جنودي، أمام وشتمني قوله، أزعجني أن يضربه الجندي ،لكنه بالغ في
صدق فعل ًا أنني أشبه لكن من اليسير فقدانهم يا ديبون ،ما كان عليك أن تجهر بذلك الكالم .أتُ ّ ّ أن تصنع لك ُمريدين يحيطون بك،
المقدس ،لو تأملت قليل ًا فقط في الكتاب الذي نشترك في االقتباس منه ،لوجدته مليًئا باالحتقار َّ الرجل الذي سحبته من الكتاب ذلك ّ
الشرقيين أنهم ِخرافه ّ
الضالة التي لنا نحن اُألمميين فما بالك بهؤالء األفارقة! النّاصري الذي جلبته كشاه ٍد بيننا ،ظل يردد على هؤالء ّ
وهما دعا إليه بولص ،ثم أصبحنا نحن األمميين من نَجِ ُّد في إعالء كلمته .تاريخنا ّ
الديني ً ُأرسل من أجلها .ولم يكن األمميون إال
لكن أصدقاءك من البُوربون ومن اإلكريلوس ،سرقوا الحلم من القائد ّ التباس كبيرة ،وجب علينا التخل ّص منه ،وفعلنا ذلك، ٍ كله لحظة
بالدين ،ومنِّ بالرب .ليس عليك قول كل شيء للنّاس ،عليك فقط تغليف فكرتك أو ُحلمك ّ ا مرتبط
ً جعلوه ثم خانوه، أن بعد العظيم،
.ثم دعها ،ستصبح مثل كرة الثّلج ،يزداد حجمها كلما انحدرت
حدق نحوي .غابت نظرة اإلعجاب القديمة بي ،عندما لم ُأستَف َّز منذ وطئت رجالي المدينة مثل ذلك اليوم ،رأيته مثل مجنون يُ ِ ّ
الطويل مع ابن ميّار
ّ ركضه بعد مرسيليا، إلى رحل عندما المور وأفسدوه .قبل سنتين اعتقدت أنه ُشفي
.خالط أولئك ُ
أفكارا توقعه كل يوم الطفل الذي حمل ُأ
ً طردته ذلك اليوم ،لم أستطع أن أكون أقسى من ذلك .صبح ضعيفًا حينما يتعلق األمر بهّ ،
وحيدا فأنصحه باالبتعاد عنه ،وااللتفات إلى مستقبله ،وكأنه ال يسمعني ،يغيب
ً وسوس له ابن ميّار بالكلمات ،يزورني مأزق جديد ،يَ ِ
ٍ في
أحتد من
ُّ معا ،أدرك أنها سيصبحان مثل ُمغني الجوقة ،يُعيدان الكلمات نفسها، جن حينما أراهما ً إلي ،وُأ َُّّ أياما ثم يصطحب ابن ميّار ً
ضابط ،وأضطر إلى ترديد ما قلته سابقًا :نحن لم ندخل المحروسة ألنكم استنجدتم بنا ،مثلما فعلتم ٌ رؤيتها ،يهذران بأشياء ال يتقبلها
احتل المدينة ،ليس عليكما االحتجاج على شيء .فيردد ابن ميّار بنود المعاهدة مثل ببغاء ،ويعيد خلفه ّ مع األتراك ،جيشنا قد
المور ،يظل ذلك العجوز يجادلني كلما ذكرت ُ عن نيابة الحديث لهما ًا ل خو
ُ ّ م يكن لم إذ غضبي، ويزيد كلماته، مؤكدا على
ً ديبون
.شيًئا ،ويواجهني بمقارناته بزمن بني عثمان ،فيزيد حنقي عليه ،وأضطر إلى إنهاء المقابلة
مزيدا من عداوتي،
ً فضل الثّاني جهة ال تستجلب له إال
السويدي وديبونّ ،
أحس بضعفي إال أمام َرجلين ،القُنصل ّ
ّ بعد نابليون لم
أظل أشتاق إليه .يتراءى لي آخر يوم كأنهُّ استثناء في حياتي ،وبالرغم من المسافة التي تفصلني عنه اآلن،
ً واختار األول أن يكون
الرصيف
ملو ًحا لي من ّ
ّ .باألمس القريب ،حين وقف
آالف من األفكار ضاق بها رأسي وأنا أعبّر المتوسط إلى طولون ،أفك ّر كيف ستكون العودة ،ومن أي األبواب سنعبر إلى إسبرطة؟
ومرت
ّ الديوان ،كان قد سبقنا إلى باريس، الطريقة التي سيُنهي بها هذا ِ ّ لعل دوفال اختار ّ ّ حلمٌ طويل ،وديوان من القصص لم ينته.
ودعوا المدينة باكين، الرحالة الفضوليين ،وغرباء األطوار الذين َّ
ّ وبعض الفرنسيين، التجار وجوه أيام لم تحمل الجديد معها ،أستيقظ على
سنوات طويلة بها ،كل يوم ٍ كلما قَابلتني وجوههم زاد استغرابي ،كيف يمكن أن يتعل ّق أوروبي بمدينة مثل إسبرطة ،وقد قضيت
وخاصة األلمان ،يجلس ّ تُشعل في نفسي الحرائق .لم أستوعب كيف تتغيّر ضمائر أولئك األوروبيين ،وكيف يتنكَّرون لجنسهم العريق،
الشاسعة ،والرمال الذهبية ،وعن العرب وكرمهم ،كيف الصحراء ّحدثني عن المدينة ،عن ّ طبيب ،ي ُ ّ
ٍ إلى جانبي أحدهم ،يبدو لي مثل
بيسر أن المدينة التي فتن بها ،ال ٍ المقدس ،وال يعنيني كالمه إذ جزمت أن طبيبًا مثله سيكتشف ّ كانوا أقرب إلى شخوص الكتاب
هتما بعلوم أخرى .هم ال يُحسنون سوى األكل والشرب ،ومضاجعة نسائهم من م
ُ ً أو طبيعة، عالم حتى تكاد تعثر بها على طبيب ،أو
الطبيب من كالمي ،أو ربما يستغرب ّ يمتعض القهوة، واحتساء الغاليين بمص
ّ ِ متعتهم وتكتمل حولهم، بعثرونهمأجل مزي ٍد من األطفال ي ُ
السخرية منه ،تُعلِ ّ ُمك الحياة في إسبرطة الحذر من الكلمات التي تَفوه بها ،ال تلبث أن تصبح مثل وجهة نظري .وال أجرؤ على ّ
أيضا
ً دائما مخادعين ومراوغين يُبطنون عكس ما يُظهرون ،مثل ًا كان ً أن العرب كانوا تلونًا في آرائك بما يناسب حاجتك ،رغم ّ المور ُم ّ
ُ
علماء يبحثون على أشياء تُعينهم في أبحاثهم ،وربما كان هناك نوع آخر من النّاس يقبلون على المدينة دون ضجة وال أحالم كبيرةُ ،
المور ،أو البدو ببني
الدينية ،لم أدر ما الفائدة في تشابه هؤالء ُ الرجل الذي إلى جانبي من بينهم ،لوال أنه فاجأني بأساطيره ّ ّ
واستقر
ّ الطبيب األلماني حين بلغنا طولون، ودعت ّ عموما اختاروا دينًا آخر ،زاد من احتقارهم لهمّ .
ً إسرائيل ،وقد كانوا مجرد أبناء
بها ،وواصلت طريقي إلى باريس .كلها تجاوزنا مدينة أتذكر سات ،لكنني قررت أنني لن أزورها إال بعد انتهائي من الحكاية
عدت من أحل بها بعد غياب سنوات ،كان آخرها يوم ُ ُّ اإلسبرطية ،وظللت على هذه الحال حتى تراءت لي باريس ،ارتبكت وأنا
الساق؟! وسحبتها ونحن نعبر ّ في ا غائر
ً زال ما أتراه سه، تتحس
ّ واترلو ،انتابني اإلحساس نفسه ،حتى أن يدي امتدت إلى جرحي
اتساعا ،بالرغم من رحيل قائدها العظيم
ً .بابها ،كل يوم تزداد هذه المدينة
مرة كي تدنو
كل ّ
السرير ،يشتعل رأسي بخطط كثيرة أغيرها ّ
توقّف الحوذي عند فندق متواضع ،حجزت به غرفة ثم استلقيت على ّ
.ساعة الحرب
رحل ديبون وشعرت أني لن أراه ثانية ،ظلت كلمات كثيرة عالقة بلساني رغبت لو قلتها له ،كان أفضل له أن يبقى إلى جانبي،
معا في إفريقية ،سيشهد على تاريخ جديد ،مليء باالنتصارات،جسدها ً ينتظره مستقبل مختلف ،سيكتب الكثير عن األحالم التي سن ُ ِ ّ
كنجم يستعيد لمعانه ،وقد أفل بعد حواره المتعاطف مع الباشا حسين ،لكنه اختار الجهة ٍ وسيتناقلون اسمه في صالونات باريس،
الشيخ ،وقد اعتاد الوقوف في طريقنا
الدرب غاضبًا ،ألنني نَفيت ابن ميّار ،ولم يكن ُمجديًا بقاء ذلك ّالثّانية .رأيته ينعطف نهاية ّ
المور معنى المدينة ،يظلون يحلمون بقرية ضيّقة ال تتسع شوارعها لعربة يجرها كلما هممنا بفتح طريق جديد .ال يعي هؤالء ُ
الصعب إقناعهم أن العالم قد صار مختلفًا ،والعمارة قد تجاوزت
حصانان ،يحبّون سقائفهم وحوارهم التي تبدو مثل جحور .كان من ّ
ثمة يقف عقبة في طريقك فليس عليك إال إزاحته ّ ومن كلماتك، .الط ريقة التي يبنون بها بيوتهم .حين ال يصغي اإلنسان إلى
ّ
ولم تلبث أن وصلتني رسالة من ضابط بالبحرية ،يشرح ما حدث في باريس بعد زيارة ابن ميّار وتقديم عريضته يتهمني وكلوزيل
والدوق روفيغو بأشياء كثيرة ،استغل بعض الن ّواب المعارضين للحملة العريضة ،وقدموا شكاياتهم في البرلمان .تمنيت لو أرسل لي ُّ
ٍ
بامتعاض ،ولكنني ذهلت أكثر وأنا أطالع الكتاب الذي الرسالة
نسخة منها ألدحض كل ما جاء فيها ،ولكنّه آثر تحذيري فقط ،قرأت ّ
متتبعا أثر أقدامه على دروب المدينة،
ً ضابطا إال وذكر اسمه،
ً أتكهن أن ابن ميّار يجرؤ على سرد تلك التفاصيل ،لم يترك ّ رافقها ،ولم
الدقيقة ،مع كل صفحةٍ
ّ بتفاصيلها معه خضتها التي الحوارات جميع به نقل ا، نفرد
ُ ً م ًا ل فص لي ص خص
ّ هّ ن فإ ذكري، على أتي أما حين ّ
الرسالة التي وصلتني بعد
ّ أن واعتقدت فقط، المناسبة الفرصة انتظرت ا، مع
ً وإياه تحتملني لن المدينة بأن ويقيني ثورتي، تزداد أقلبها
عجلت من رحيله ،فككت حروفها المضطربة ّ :أيام ستربك موقفي ،غير أنها
الضبّاط -
ُ مقد ٌر ما تبذله في الجزائر ،لذا عليك الحذر ،أيام قليلة وستصل الل ّجنة اإلفريقية ،وسيكون بها عدد من
ّ صديقي كافيار ،أنا
الدعاوى التي رفعها أعيان المدينة إلى الحكومة ُمتظلمين منكم
ّ في ليحققوا .والمسؤولين
الدرج ،ثم ارتخيت على األريكة ،تطل ّعت إلى سقف المكتب، مرتين دون توقيعه ،وخبأته في ّ انتهيت من كتابة قرار النّفي ،ونسخته ّ
الشوارع على قدمي أو في العربة،
أشق ّ ُّ أجد باحث ًا عن ال ُقنصل، ُّ مرة أخرى في الفندق ،قد مضى أكثر من أسبوع ،كل يوم وكأنني ّ
الشهر ،رأيته يدلف إلى أحد المطاعم
ّ انقضى حين إال نصل ق
ُ ال ألتق لم وثالث، ثان أسبوع ومر
ّ طويل، غياب بعد باريس شوارع أشاهد
الصفوف حتى وقفت عند رأسه .وتفاجا لما ّ شققت
ُ تاجر، أنه هيأته من بدا أحدهم، مع طاولة قاسمُ ي كان ثم الفخمة، الباريسية
الطاولة ،مكثت برهة ثم اعتذرت بعد آن جادا في الل ّحاق به بباريس ،لكنه دعاني إلى مقاسمتها ّ ً خمن أنني كنت رآني ،ربما لم يُ ّ
الطاولة نفسها في المطعم ،ومن ثم حملتنا العربة إلى أن أشرفنا على ّ ُ
نحتل
ّ وكنا يومان إال يمضِ لم ا، موعد
ً وبينه رتَّبت بيني
مكتب وزير الحربية ،لم نلتقه ،بل استقبلنا ضابط مسؤول عن اإلعداد للحملة ،وتشاركنا ثالثتنا غُرفة فسيحة ،بعد ساعة اعتذر دوفال
السنوات كلها في إسبرطة ،وحمل تلك رجل عاش تلك ّ ٍ يصدق أنه أمام ّ الضابط أكثر من خمس ساعات ،ولم يكن ّ ورحل ،لبثت مع
ومهندسا ال يمكن االستغناء عنه في الحملة
ً مهما
ً شخصا
ً .المعارف ،وهكذا أصبح كافيار
الضبّاط حجم الكراهية التي أحملها لوزيرهم الذي خاننا في واترلو ،وظللت بينهم مثل نهر ،يعرفون منه
ُ لم يكن معقول ًا أن يعرف
.أجوب ًة على حيرتهم وأسئلتهم
الظهور بها ،ومع أناس ليس ُمحببًا وقوفه معهم ،وأجيبه أنه
حدثني فوارول عن ديبون بانزعاج ،يقول إنّه يظهر في أماكن ليس عليه ّ
يُ ّ
ال خطر منه ،ثم يردف أنه زاره في المكتب حين وصلت الل ّجنة اإلفريقية .لم أتوقع أنه سيسمح لنفسه بالتدخل في عملها ،وعدت
سريعا
ً أن هذا األمر سينتهي.فوارول ّ
بعد رحيل الل ّجنة بأيام أمضى فوارول قرار نفي ابن ميّار ،لم أكن ألدعه خاليًا من إمضائي ،كنت أريد أن أقول :يا ابن ميّار إنني
علي .عليك اآلن فقط حمل أشيائك والرحيل عن هنا ،هي ال تستوعبنا نحن ّ اآلن حاكمٌ على الجزائر ،فليس عليك االحتجاج
السابق
َّ في كان مثلما ليعود ديبون على تأثيرك يزول أن يجب ًا ل مث .االثنين،
سنوات طويلة قضيتهاٍ المرات التي رأيته ينزل من عربته ،أو يقصد مكتبه ،لكنني لم ُأرد لقاءه في ع ِ ّز مجده، ّ ال أدري كم هي
قائدا للحملة ،لم تكن لتنجح لوال جنود ً حط م كل أحالمنا في واترلو من أجل منصب الوزير ،ثم ها هو يُعين ّ أشتمه في داخلي
شخصا مثلي لبعث المجد القديم .اجتمعنا ً بدء ا من بوتان ،وانتهاء بي ،وبأولئك الذين يختبئون داخل الجيش ،ينتظرون فقط ً نابليون.
في سيدي فرج ،وخططنا سوي ًا لمسيرنا ،وتعمدت التقليل من لقائي به ،خشيت أن أغفر له ماضيه ،ثم نصبح صديقين ،تمنيت موته
المور يتصرف مثل هؤالء الحمقى من اإلنجليز ،يمضي وثيقة يهب ُ ّ حين انفجرت القذيفة إلى جانبه ،ثم كنت أكثر استياء وأنا أراه
الضبّاط بنودها،واألتراك المدينة بعدما قطعنا البحر من أجل احتاللها .واضطرنا إلى تجاوز المعاهدة .فكرت بكل هذا وأنا أسمع من ُ
الدينية ،وصون ظن الجميع أنه جامل األتراك وأهالي المدينة بأن سمح لهم بممارسة ُطقوسهم ّ ّ واكتشفت كم كان بورمون أكثرنا ُخبث ًا،
المور واألتراك بمساجدهم ،فضمن أن يدخل المدينة دون أموالهم مقابل خزينة الباشا ،ألنّه كان يعرف إلى أي درجةٍ يتعلَّق بعض ُ
يمدوا أيديهم إلى كنوزهم ،وما إن تجاوزت الجيوش األبواب حتى نهب ّ زمن ال يكفيهم أن
ٍ جميعا ،وحتّى فيً مقاومة ،ومن أبوابها
تعد ما بها من عمالت ُّ محاطا بجنوده ،حتى بلغ قصر الباشا ،وأنشأ لجنة ً جنده القصبة .ولكنّه كان مطمئنًا فالخزينة بخير ،سار
الص ناديق ،ورحل بعضها إلى الملك ،وأخرى احتفظ بها .زاد ذلك من الفجوة بينه وبين األميرال دوبيري ،إذ تكومت ّ ّ ذهبية وفضية ،ثم
كانت الحرب مشتركة ،ثم لم يستفد من الذهب إال قائد واحد ،ومن ثم تصن َّع المعارضة من أجل أن يُفلت من المساءلة ،وتأخر يوم
بالعلم من مبنى َ فظن الجميع أنه يعلن عصيانه ،لكننا تفاجأنا َّ ُأسقط صديقه الملك في رفع العلم الثّالثي األلوان أعلى القصبة،
عزل بعدها ،وفي ذلك اليوم شقّت عربته شارع البحر تجاه الميناء ،سار دون ُحراسه يقصد القائد البحرية ،وكان الوقت قد تأخر ،إذ ُ
دوبيري ،وكنت حينها أقاسمه المكتب ،سمعنا وقع قدميه على األرض ،ومن ثم دقه على الباب ،نادي األميرال عليه أن يدخل ،ولم
يتفاجأ إذ رآني هناك ،كان يدرك أنني أكثر ميل ًا للبحرية ،شاركتهم ميوالتهم المعارضة للبوربون .طلب بُورمون من األميرال سفينة من
ود لو يصرخ في وجهه :أتريد منا األسطول تصحبه إلى منفاه ،رفض طلبه بهدوء ،ثم عاد إلى خرائطه كأنه يصرفه بطريقة لبقة ،وربما ّ َ
نر من صناديق الذهب التي سرقتها ولو قطعة واحدة ،أتريد االلتحاق بملكك المنفي في إنجلترا على نفقتنا ،ال أن نُقل ّك بالمجان ،لم َ
.يا سيد بورمون ،اذهب واستأجر سفينة تُ ِقلُّك
وأطللت من الن ّافذة فرأيته أسفل البناء ،سار خطوات والتفت فجأة ،ولم أنتبه إلى نفسي
ُ لم ينبس بورمون بكلمة ،رحل عن المكتب،
:وأنا أصيح به
ُّ
.تستحق كل هذا يا خائن واترلو ،أمثالك ال يصلح لهم سوى النّفي عند هؤالء اإلنجليز -
.طأطأ رأسه ومضى إلى العربة ،وفي يوم آخر سمعنا أنه اكترى سفينة نمساوية أقل ّته إلى إنجلترا حيث ينتظره ملكه المعزول
عرفت أن ديبون وابن ميّار قد ودعاه ذلك اليوم ،استوعبت كيف يفك ّر أو يخدع ديبون ،ولكن ما الذي يجعل رجل ًا مثل ابن ميّار ُ
حاكما؟ لماذا لم يتكلم وهو عضو في مجلس البلدية؟ لو أعمل ً أيضا حينها كان
ً يودعه ،ألم يأخذ الجيش أكبر عدد من المساجد
مهمة ،وربح المال في كل مرحلة ،نحن بالنسبة ألمثال ابن ّ تلونون ،إنهم يحبون لعب أدوارالمور ُم ّ
ديبون عقله ألدرك أن أمثال هؤالء ُ
الرجل بعقالنية ،ويعيش ّ ذلك يفكر ا،ً ن ميمو ا دوم
ً لت فض
ّ لذا تجديدها، إلى يسعى مصالح كلها والقضية ميّار ال نختلف عن بني عثمان،
ال ّزمن األوروبي ،يفصح عن َمصالحه في حضوري ،يفاوض على مزيد منها ،ال يتخلص من عقليّة التاجر حتى وهو يناقش أمور
دائما كانت هناك طريقة تُسيّر العالقة بيننا ،لم يُزايد على شيء وأخفاه ،ومنذ أحكم قبضته على األوقاف ً السياسة .أعارضه وأفاوضه،
ّ
وهربها
ّ تلونهم معه ،وزاد إعجابي به حين اختار مصلحته .حمل أموالهم المور ،أعياه ّ
استطاع إرضاء الجميع ،عدا أولئك الحمقى من ُ
مرة أخرى يشكون ميمونًا ويقترحون ابن ميّار ،فرفضت إلى مرسيليا ،وبعد أن جاؤوا يشكون ابن ميّار ويقترحون ميمونًا ،عادوا ّ
عدت واصطحبت ابن ميّار ،وكأنني لم أحذرك ُ ولكنك . .استقبالهم
المرات ،يقولون
ّ الضباط ،نظل نعيد الكالم نفسه ،والخطة قد شرحتها مئات
ّ في باريس كانت العربة كل يوم تسير بي إلى مكاتب
مرت شهور ،حتى كدت أيأس من هذه الحملة ،بينما كان الن ُّواب الل ّيبيراليون كل ولي العهد سيزوركم ،ثم ال نرى شيًئا ،هكذا ّ
ّ إن
ضد الملك ،لم يبق على االنتخابات إال أشهر قليلة ،ولكنّه لم يؤذن له بعد ،صرت أتساءل كل لحظة ،هل تُراهم ّ يوم يشعلون حربًا
يعدون أنفسهم لمواجهتنا ،وتظل األخبار تصلني من حين إلى آخر ،أنهم يسعون ّ سيحاربون ،أم أنهم سيؤجلون الحملة؟ وبنو عثمان
الص لح ،فأحدث نفسي هل يعقل أن يتصالحوا وتذهب كل أعوام شقائي هباء؟ جاهدين إلى ُّ
هل فكرت وأنا في باريس أنني سأرحل إلى طولون ألقابل ديبون؟ ال لن أزعم هذا ،كنت ممتلًئا بتفاصيل الحملة ،حتى فوجئت
بشاب في طولون بمالمح طفل ،ذكرني باألحالم التي حملتها في سات قبل االلتحاق بنابليون ،كان صحفيًا يعمل في «لو سيمافور
دو مارساي» ،يتكل ّم عن أحالمه ،ويريد تغيير العالم من حوله ،ويؤمن بعمق بالنّاصري ،والن ُّور الذي سيشع في إفريقية ،تشاركنا الغرفة
شعور أنني سأحظى برفقةٍ جيدة ،لكنني لم أتنبأ أنه مع بلوغنا خليج سيدي فرج ٌ في لوناجور ،أحببت توقه للمعرفة ،وخالجني
سيصبح أقرب النّاس لي ،بعض األشياء ال يمكن تفسيرها ،على هذا النّحو كان تعلُّقي بديبون ،أو باألحرى كافيار الذي فقد اآلن
شخصا مختلفًا ،ال يكاد يُميّز مالمح روحه كلما
ً الكثير من صفائه ،عندما حمل َت روحه العذاب ،وخيبات أعادت تشكيله ،فأضحى
.أبصرها في مرآة لم تكن إال وجه ديبون
السوط في وجهي ،وأراد جلدي ،ولم إليُ ،خيِّل لي أن أحد األتراك رفع ّ َّ إلي وحدق تجاهي بنظرة وقحة ،ثم امتدت يده مشيرة َّ التفت
الضبّاط الذين
ُ مد يده تجاهي ،يظن أنه يحتمي بأولئك صرا على ِّوظل ُم ّ ًَّ أنتبه إلى نفسي إال وأنا أقف في مقابلته ،لكنه لم يخشني،
دونها في عرائضه جزءا من الكلمات التي ّ ً خا بهم ،وأعاد
ال يحسنون إال الجلوس على الكراسي وإصدار األوامر .ثم عال صوته صار ً
ونزعت الكتاب من يده على مرأى من الجميع ،وانتحيت مكانًا في طرف الغرفة، ُ وكتابه ،اقتربت منه ودفعته حتى كاد يسقط،
الضبّاط ساكنًا ،كنت واثقًا أنه لن يجرؤ أحد منهم فيعترضني ،وظلت نظرتهم الل ّامبالية تجاه ابن ُ ح ِ ّرك أحد من
وأشعلت به النّار ،ولم ي ُ َ
الصوت خانه ،حمل نفسه وغادر المكتب مطأطًئا رأسه ،التحقت به ميّار ،انهار فجأة فابتسمت بسخرية ،وحاول مواصلة مرافعته ،ولكن ّ
الدرجات لكنه لم يلتفت .وتأملته أثناء نزوله ّ َ
الض فتين لتبقى بها .وأنا مؤمن أنه ليس لك إال مكانان :العودة إلى مرسيليا ،أو أن تكون
ّ ها قد انتهت الحكاية يا ديبون ،اختر أي
فالرجال الحقيقيون هم من يصنعون أقدارهم
ِّ .إلى جانبي ،حينها ستختار بنفسك قدرك،
واستبدت بي رغبة أن أبصر إسبرطة ّ الم ور يحدقون بي ،فأشحت عنهم بصري ،لم يبق الكثير حتى يغيبوا عن ناظري، كان بعض ُ
فاتحا تتحرك موجاته ً أزرق امتد البحر، نحو دربي رت ّ غي ولكنني . اً غازي إليها دخولي بعد أضحت قد مدينة أي ألرى عن كثب،
قد ر لي مطالعة رصيف سات من مكاني ،فانعطفت تجاه الميناء ،لعلي أعثر على سفينة ُ ّ ي ولم بداخلي، نكة الر
ّ ادّ صي على كأنها تُنادي
مزهوا بانتصاراتي ك ُلها،
ً سأكون البحر، يجوبون األتراك رؤية دون نكة الر
ّ عن ًا ث باح المتوسط ر ّ أعب أن القديم، حلمي إلى نيهناك تُقل ُّ
المور
مزيدا من ُ ً .ولن ألبث حينها وأعود حامل ًا كل اآلمال أال أرى بالمدينة
...مرة أخرى
ّ
السفينة اإلنجليزية إليها ،أذكر يومها،
عيني ،بينها تبقى ُصورتها القديمة ،يوم عادت بنا ّ
ّ ُأبصرها فال أكاد ُأميِّزها ،تتحول كل يوم في
لكن أبي ضحك طويل ًا ،وهو يرى اجتماع البحارة حولي ال ّ . وصحت تجاهها أشرت األفق، أنني رأيتها مثل سحابة بيضاء تجوب
السفينة .أشار إليها بدوره ،ثم همس لي :إنها المحروسة .تخيلتها ّ حافة قدماي المست حتى يفقهون كلماتي .اقترب منّي وحملني
أشد قتامة وأنا أطالعها في عودتي من مرسيليا َّ .سحابة بيضاء تطوي األفق ،ثم توقّفت وأضحى لونها
أنحدر بتؤدة عبر شارع القصبة ،ويهاجمني مزيدٌ من الغبار المتصاعد .انعطف ُمخ ِل ّفًا سور المدينة ورائي ،باحث ًا عن ديبون ،يُ ُّ
صر على
الشوارع ،أو
تعد هناك جدوى من حراستها بعد تخلي النّاس عنها ،وعادوا يجوبون ّ المسير كل يوم إلى المقابر غرب المدينة ،ولم ُ
يوزع عند بابه شيء ،والعصافير التي اعتادت التحليق الرحمن ،ثم ال يلبثون أن يتفرقوا .لم يعد ّيتجمعون عند ضريح سيدي عبد ّ
ّ
الصغير ،هاجرت دون عودة ،عدا الل ّقلق األبيض ،أتأمله كلما عبرت إلى ساحة المسجد ،يُراقبني ُمتململ ًا في فوق مئذنة المسجد ّ
أنعطف
ُ السماء .وقد اعتاد توزيع فأله الحسن على البيوت ،كُلَّما حل ّق فوقها استبشر له النّاس. حدق طويل ًا في ّ ع ِ ّشه ،يرفع رأسه ي ُ ّ
ُ
الرجل
تتجدد معها األسئلة في داخلي ،هل فعل ًا سيحمل ّ ّ مر شهران على عودتي،فراغات جديدةَ ّ .
ٌ عبر سقائف أخرى فتُواجهني
الساحة
الساحات كلها ،إلى أن تقابلني ّ يدا بيد؟ هل يمكنها جلب لجنة للتحقيق؟ أتجاوز ّ قرب من الملك عريضتي ويُسل ّمها له ً الم ّ
ُ
الشوارع ،وكلما
ّ استكشاف اعتدنا . ديبون إال األيام تلك على أحد ليعينني يكن لم عنها، بوجهي أشيح .يدة الس
ّ جامع مكان في
ويرد بحنق .لم يثن
ُّ ينهد نعود بخطى سريعة إلى مكتب كافيار ،يرانا من نافذته فتتغير مالمحه ،يستقبلنا على مضض، ُّ اكتشفنا بناء
أحدث نفسي وأتمتم ،ثم رفعتِّ كافيار من عزيمتي ،لكنني أفقد المقاومة حين يسعى بعض أبناء المحروسة للكيد لي .كنت ال أزال
السماء ،ثم ينظر نحوي ويسألني الدخان تجاه ّ:رأسي وتَراءى لي ديبون يجلس عند باب المقهى ،ينفث ّ
هم لن يعيدوا لنا شيًئا ،لماذا ال نرحل؟ ال النّاس صاروا يسمعونك ،وال الفرنسيون ُمقتنعون بآرائك .قسنطينة لم يدخلها الفرنسيون -
بعد ،لماذا ال نقصدها؟
الضباط
ُّ وصدنا من
َّ أيضا قالها بعد يأسه من ركضنا
ً تردد هذا الكالم ،ديبون
ّ :لم تكن الل ّة سعدية وحدها
- ٌ
راحل ،لم أعد أستطيع احتمال المزيد من اإلهانات .أريد الكتابة عن أشياء أخرى ،ونسيان هذه المدينة إن يا ابن ميّار أنا
أن لكّ أخبرتني طرابلس، أو تونس إلى أو قسنطينة، إلى فر الس
ّ بجر
ِّ ارحل، أو وزوجك، وصحتك بنفسك اعتن . استطعت ذلك
.أصدقاء كثيرين هناك
:أجبته يومها
.أستطيع أن أكون آمنًا هنا ،ولكنني عاجز عن رؤية نفسي خارج أسوار المحروسة -
السل ّاوي وإمساكه بها ،ترى السلسلة ،اقتربت ومددت يدي أبحث عنها ،وتذكرت ركض ّ حين واجهتني بوابة القصبة ،انتبهت إلى مكان ّ
إلي آخرَّ السلطان .واآلن من سينادي باسمه كي ينقذه؟! وتعود ّ عهد يطلب ثم يريد، ستنفعه اآلن؟ باألمس كان يقول ما ُ هل
يوما ،وما اعتقدت فيه اإلمارة ،كيف يفقه هؤالء البدو تقاليدها .أيمكن ً باألمير أؤمن لم . بالمدينة لألمير اً ن عيو هناك أن
ّ يزعم كلماته،
عثمان أم داخله؟ كان أميرا؟! أين كان يعيش هؤالء النّاس ،خارج سلطان بني ُ ً أن تجتمع حفن ٌة من النّاس ويعلنوا رجل ًا من بينهم
للسل ّاوي جذور
أولى لهم نصر باي وهران ،لكنهم تخلوا عنه ،فالبدو بطبيعتهم يحبّون الحرية ،مثلما كانوا يكرهون األتراك .ربما كان ّ
مع هؤالء البدو ،إذ لم يفك ّر إال مثلما فك ّروا .يجنح إلى التمرد ،وينغمس في الحياة كأنها لن تمتد إال عند حد ل ّذاته .أتجاوز بوابة
وأضع بيني وبين نفسي ُ القصبة ،أنعطف ليُقابلني باب بيتي .ابحث بين ثيابي عن المفتاح ،ثم اسحبه ،أعيده ما إن يُالمس الباب،
رهانًا ،إن كانت الل ّة سعدية تتذكر طريقة دقي على الباب؟! مددت يدي إليه ،وضربته مثلما اعتدت منذ سنوات ،انتظرت مليًا،
المرة تيقنت أنه
ّ شعرت بحركة خلفه ،ثم شرع في وجهي .لم تعتد الل ّة سعدية فتح الباب منذ حل ّت ُدوجة بالبيت ،ولكنّها هذه
خاصة إذا ما كانت متعلقة بالمحروسة! ما إن حللت َّ الرهانات هكذا،
الرهان .ليت كل ّ ليس من ورائه سواي ،كسبت الل ّة سعدية ّ
بالرواق حتى كانت تُعانقني وتُقبِّل يَدي وتشهق بالبكاء ،غير ُمصدقّةٍ أنني عدت ثانية .ثم تراءت لي ُدوجةَ ،وقَفت تنظر إلينا،
جميعا إلى
ً اقتربت وقبّلت رأسي ،وعادت الل ّة سعدية إلى ل َثم يدي ،تتفحص وجهي لتتأكد من أنني فعل ًا قد رجعت ،ثم ترافقنا
الرحلة ،وسألتهما عن جديد المحروسة
حكيت لهما تفاصيل ّ
ُ .غُرفتنا.
التفت إليها
ُ قديما،
ً لكن وجهها لم يب ِد أي تفاصيل للفرح أو الخوف .كان الخبر بات
ّ زوار. السل ّاوي قد قتل ِ
الم َ خاطبتني ُدوجةّ :
:متفاجًئا .في حين أضافت الل ّة سعدية
السؤال -
.لم يكلمونا بل رافقهم مترجمٌ ناب عنهم في ّ
الصعداء ،وقفت ثم نزلت إليه ،وجدته مستلقيًا على فراشه ،عانقته طويل ًا ،ورأيت نظرته المشتاقة ،وذهوله ما إن رآني،
تنفست حينذاك ُّ
الصمت ،ثم بادرني
ّ من دقائق ًا، ق
ّ ح عدت أنني ق صد
ُ ّ ي :لم
آالف البنادق ،لكنه ي ُ ِص ُّر على التصرف مثل البطل الذي يمكنه مواجهة الجميع،
ُ تترصده
ّ السل ّاوي في عناده ،حتى وهو جريح،
يستمر ّ
.واالنتصار عليهم
ودعت سيدي ووقفت عند الباب وجهي إلى السابق ،كأنه ينادي على اسميَّ ، حادة مثلما في ّ َّ الطائر ،لم تكن أفقت على لقلقة ّ َُ
فالتفت متفاجًئا ،لم يكن أبيض مثلما اعتدته ،بل ُّ الطائر أعالها ،وفجأة سمعت صوته خلفي، المئذنة ،لعلها تحمل اإلشارة ،لم َأر ّ
تكررة ،كنت مستغربًا ما الذي انتابه ،تتبعته ،بدا دورات ُم ٍّ الدقيقتين ،يركض داخل الباحة في استحال لونه إلى رمادي ،خطا برجليه ّ
عشه تأملني من هناك ّ بلغ حتى ّق ل وح بصعوبة جناحيه ك حر
ّ ثم التحديق من لحظات . جسده لي أنه كان مصابًا ،وال دم ينزف من
َبضت عيناي على لحظة ارتطامه باألرض ،وُأذناي على صوته ،فزعت من المشهد أمامي ،أسرعت مادا رأسه ،ثم رأيته يهوي .ق ْ ً
وتأملت عينيه طويل ًا ،صغيرتين
ُ الرمادي ،لكنه كان لصيقًا به، ّ ّون ل ال عنه أنفض أن حاولت ا، ً ن ساخ تجاهه ،وحملته وهو ال يزال
وخف اهتزازه في يدي ،حملته وعبرت به باب المقبرة ّ إلي ،تغمضان ثم تفتحان ،ثم أغمضهما ولم يفتحها، َّ وحمراوين ،تتطلعان
للض ريح ،ودفنته بها ،ثم جلست أقابل المكان المستوي من األرض ،دقائق من االستغراق حتى عال صوت لقلقةٍ َّ الصغيرة المجاورةّ
الطائر اكتشاف شريكه .طفق يحفر األرض الط ائر فوق المقبرة ،راقبته من خصاص بابها ،لم أعرف كيف استطاع ّ أخرى ،ثم حل ّق ّ
حر ك جناحيه ورحل ،رأيته يغيب في األفق دون أن يلتفت .هل هذه آخر إشارة من سيدي عبد ّ يسحبه منها ،وهو يزعق طويل ًا ،ثم
الطائر
ّ هذا مع رحيلي سيتجدد ربما األزرق، ائر الط
ّ مع رحيلي ضح ّ تا مثلما حمن؟ .الر
ّ
شخصا آخر .انحدرت إلى أن ً أحمل نفسي إلى بيتي ال أغادره إال بعد أيام أخرى ،أجول المدينة بوجهٍ مختلف ،كأنما أصبحت
بأسف ،فأنكس ٍ بلغت باب الميناء ،قطعت مسافة غير قصيرة حتى عثرت على صاحب البريد .اعتاد أن يخيب أملي ،يه ُّز رأسه
سخ منمدني بالعلبة ،ثم مضى راحل ًا .فضضت الغالف عنها ،وإذا ِبن ُ ٍ المرة ما إن التقى وجهانا ،حتى ّ ّ رأسي وأعود ،ولكن هذه
الرسالة بين طيّاته ،بلهفة فتحتها وقرأت ما جاء فيها ،كان ال ُقنصل يعلمني أنه لم ّ إلى انتبهت ثم تفحصته الكتاب ،سحبت أحدها،
باش ،تتساءل الل ّة سعدية عن تغير حالي، ّ بوجه البيت ألج العلبة، ًا ل حام بيتي نحو أخطو . اإلفريقية ّجنة ل ال يبق الكثير حتى تصل
الشوارع بحثًا عن ديبون ،ربما ما يزال يبحث عن ُّ
وأشق ّ فأبسط أمامها الكتاب ،تَرى حروفًا ال تعيها .أحمل نسخة من الكتاب
حدثني عامل المقهى ،ينادونه أحيانًا بإسماعيل ،وتارة أخرى توماس .ألتقي ديبون َّ الشخص الغريب الذي دخل المحروسة ،مثلما ّ
ستتخطفانه ،حتى وأنا أتلو عليه ما جاء ّ صدفة عند باب المقهى ،أسلمه الكتاب ،يطالعه ببرودة ،ويعيده لي بسرعة ،تنبأت أن يديه
كثيرا ،ليفاجئني بجملة غامضة ً الرسالة ،لم يهتم
:في ّ
.إننا ُمقبلون على فتح جديد يا ابن ميّار -
كثيرا على
ً يتردد
ّ أظل أتساءل عن عالقة كلمات ديبون بالرجل الذي يبحث عنه .تغيّر ديبون بعد أن طردنا كافيار من مكتبه ،صار
المقهى ،اعتقدت أنه قال كل شيء حين صرخ في وجه كافيار ،وأنه ربما سيعود إلى مرسيليا .لكنه بقي هنا ،في ذلك اليوم أصغى
تحمس له .وحين ّ إلي طويل ًا ونحن نرحل عن المقبرة .حدثته عن عدم جدوى حراسة العظام ،وعن تفاصيل كثيرة في كتابي، َّ
مسدسه في رأسه ،لكنه لم يفعل ،بلّ وقفنا أمام كافيار صاح بكلمات بدت من اإلنجيل .استشاط كافيار غضبًاُ ،خيّل لي أنه سيفرغ
مرة أخرى
.طردنا من مكتبه .وال أذكر أنه ُسمح لنا بعبور البوابة ّ
سر لي ُدوجة أنها في غيابي أصبحت يهمها شيء ،وقد أضحيت إلى جانبها ،تُ ُّ ُّ أعود إلى وجه الل ّة سعدية البشوش ،اآلن فقط لم يعد
للسل ّاوي ،وهو الذي لم يُغادرها
ّ اشتياقه يحمل يزال ال وجة د
ُ وجه أرى مثلما وحيدين، شخصا آخر .عشنا وحيدين ،وأملت أن نرحل ً
السل ّاوي بعد أيام.
ّ مفاتحة أضمرت . زوجين صبحاُ وي بيتي، في حكايتهما تنتهي لو تمنيت أيام ا طويلة ،تعتذر كلما سمعت نداءه،
ً
إلي يذرع الغُرفة ،وما إن يراني أسأله َّ :أنتظر المساء ألنزل إلى القبر ،وحين أعبّر بابه الواطئ يتراءى
.لن أعترض على رحيلك إلى الغرب ،ولكن هل بإمكانك مغادرة البيت دون أن ينتبهوا إليك؟ أنت بذلك تعرض الجميع للخطر -
كو ة كانت في نهاية الغرفة ،نسيت أمرها منذ زمن ،لم أعتقد أنها تتّسع لعبور أحد ،أطلت على سقيفةٍ ُس ّدت من أشار إلى ّ
السل ّاوي ذلك اليوم. ّ فاجأني . األولى للمرة أكتشفها كأنني منها وأطلت بها، ت ّ المثب ّوح ل ال عنها أزحت إليها، بخطاي جانبيها ،أسرعت
يحرسها الجنود ليل ًا،
ُ وهل المحروسة، عن أسئلة في معه ا نخرط
ً م
ُ نفسي وجدت ثم خوفي، التعجب أنساني وابتسمت، التفت إليه
ُّ
:ومتى يتوقفون عن ذلك ،وهل يداهمون بيوتًا حين ينام أهلها؟ كان يجيبني عنها كلها .وقبل رحيلي عن القبو سألته
الرحيل -
..إنهم لن يعفوا عني ،وليس لي إال ّ
ودوجة؟ -
ُ
بالكلمات األخيرة ،بدا أكثر حكم ًة من ذي قبل ،وغشيني بعض االرتياح ،لكنني لم ِ السل ّاوي لي مختلفة ،وهو ينطق تراءت مالمح ّ
الدرج .سهرت
َّ على المثقلة خطواتي واصلت غد، بعد ٌ
راحل هّ ن إ وقال أسفلها الدرجات وقف أستمتع به ولو برهة قصيرة ،وأنا أصعد ّ
السل ّاوي ،يجلس إلى
تحول إلى ّ ّ الطائر يسألني عن مصير شريكه ،ثم حادة عند رأسي ،كأن ّ َّ تلك الل ّيلة ،انتابتني هواجس وعلت لقلق ًة
وأستيقظ على
ُ . المحروسة إلى أعود فلن عينيك، في وجة د
ُ ضع مآزقي، من لي ا صّ
ُ ًِ ل خ م كنت دوما
ً جانبي ويُوصيني :يا ابن ميّار
.صوت الل ّة سعدية وهي تُحركني ،كنت أتكلم أثناء نومي وأصرخ بكلمات ،قالت إنها كانت ال ترحل ال ترحل
.ها قد وصلت الل ّجنة التي ظللتم تطلبونها ،ال تطمع بالكثير -
.نعم يا ابن ميّار لقد وصلت الل ّجنة .وستستمع إليكم -
:أردفت
ثم ذكر آخرين من أهل المدينة لم يعنني وجودهم بقدر ما أذهلني أن يكون ميمون بينهم .نعم كل ما يُريدونه اآلن هو سماع أحد
منا يعارضنا ،لكنهم لن يستطيعوا دحض حججي ،سأضع العريضة أمامهم ،وُأتبعها بالكتاب ،سأفعل مثلما فعل ديبون بكافيار .رحلت
الشوارع إلى جانبي ،شعرت أنه يؤخر لقائي بهم ،وكلما
ألعود بعد أيام ،أخطو في شوارع المحروسة حامل ًا محفظتي ،ذرع ديبون ّ
وقفنا أمام شارعين يختار أطولها ،لكننا بلغنا مبنى الحاكم بعد عبورنا شوارع المحروسة كلها ،ووقفنا نقابل الحراس ،تركت ديبون
الط ريق ،وتجاوزت البوابة والدرج ،ثم كنت بينهم ،جلسوا مسترخين على مكاتبهم ،ال أدري لماذا أحسست أن صمت ديبون عند نهاية ّ
.كان وراءه حقائق كثيرة خشي إخباري بها! أن يقول إن هؤالء الذين جاءوا سيدونون كل مظالمكم ،ثم يرمون بها في البحر
الضباط بأسمائهم،
كان كافيار يجلس إلى جانبهم ،لكنني لم أنحن أمامه ،لم أبد له ضعفًا ،وكلما رموا سؤال ًا في وجهي ،كنت أذكر ُّ
السؤال ،عدت هدمها ،يقف غاضبًا يطلب اإلجابة بقدر ّ
مسجدا سلبه منا ،أو حارة ّ
ً ذكرت له
ُ رددت اسمه أكثر من البقية ،وكلما
ضابط آخر يسألني عن أشياء ال عالقة لها بمساجد المحروسة وأوقافها ،أجيبه وأستطرد من الحكاية نفسها ،كانت الل ّجنةٍ بوجهي إلى
وشرعت أتلو منه ،وأشير إليه .قفز كافيار تجاهي على مرأىُ أمامي ،وال بد من قول كل شيء دفعة واحدة ،سحبت الكتاب
بقوة حتى كدت أسقط .انتحى مكانًا في نهاية الغرفة ،وأشعل النّار فيه ،ثم نظر تجاهي ّ الجميع ،خطف من يدي الكتاب ،ودفعني
بحق ٍد ،قلت في نفسي بالتأكيد سيكتبون كل شيء ،لكنهم لم يلتفتوا إلى ما فعله بي ،وال بالكتاب .جلسوا غير مبالين ،تساءلت ما
دورا بينهم.ً أدوا أدوار المسرحية وخدعت إذ رضيت لنفسي أيضا وشتمهم ،خانني صوتي المخنوقّ ،
ً الصراخ بهم
الذي سأفعله؟! وددت ّ
الدرجات ،شعرت أنه كان يراقبني من مدخل الغرفة ،لم ألتفت ،وحين وقفت أمام حملت نفسي وخطوت خارج الغرفة ،ونزلت ّ
كابوسا لم أستطع الفكاك
ً ديبون ،كنت مخنوقًا بالكلمات .ال أذكر أي شيء مما فهت به ونحن نسير بثقل تجاه البيت ،كأنني أعيش
منه .عندما فَتح الباب كدت أسقط ،لوال يدا ُدوجة الل ّتان أمسكتا بي ،ونادت على الل ّة سعدية ،أسندتاني حتى استرخيت على
الرحمنوحيدا ،بكيت مثلما أبكتني إشارة سيدي عبد ًّ .فراشي ،وطلبت البقاء
الصور في عيني ،أحيانًا تتجل ّى صورة أبي في فراغ الغُرفة فأنادي عليه .تلج الل ّة سعدية الحمى ،اختلطت َُّّ في الل ّيل انتابتني
الرحيل إال في فجر يوم جديد ،لم أستفق منها إال في نهاية األسبوع. ّ الحمى وتأبي جبهتي، على المبلول القماش الغرفة ،وتضع
السماء من هناك ،ورئتي سحب ّ تأمل نفسي اشتاقت بينما حملي، على تقويان ال رجالي كانت الباحة، بلغت حتى سندتني ُد وجة
السير منحنيًا ،حتى أبلغ الباحة وحدي ،يعجز صوتي عن مجاوزة حلقي ،إال بعد المزيد من الهواء .أيام أخرى وصرت أستطيع ّ
تحدق بي ،لكنّها لم تدر أنني استفقت في يوم آخر، ّ الرمان ،وربما كانت السعال الحاد ،أبقى هناك أتطلع إلى شجرة ُّ سالسل من ّ
الحمى
ّ ليالي في تكهنت بالورقة، المبسوطة الجندي يد على وفتحته بلغته، حتى انحناءة في سرت الباب، على عنيفة على ضربات
الضغينة تجعله يوقع باسمه أسفلهاّ أن أّ أتنب لم لكنني حوته، ما ويلة .الط
ّ
ألنها
ّ الرحيل ليس
دائما كانت حريص ًة على ّ
ً تعلقت عينا الل ّة سعدية بي ما إن عرفت محتوى الوثيقة ،حملت نظرتها آمال ًا كثيرة،
الشارع،
يوم على ُجثّتي مرميّة في ّ
ٍ ألنها لم تستطع احتمال المزيد من االنتظار .تخشى أن تستفيق في ّ تريد مفارقة المحروسة ،بل
لكن ُدوجة بقيت معلقة بيننا ،سألتها حين لم يبق الكثير عن رحيلنا ّ نظل وحيدين بعيدين عن فوضى العالم،
ّ :مثلما تتوق أن
.هل ترافقيننا يا ُدوجة في منفانا؟ إسطنبول مدين ٌة جميلة ،ستهبك حياة مختلفة -
تمتد
ُّ تأمالتي ،ثم أرى ُد وجة تحمل المنديل بيدها ،وتبسط األكل أمامي ،أمسك عنها ما تحمله ،وقبل أن ترحل يقطع طرق الباب ّ
الطعام،
كثيرا إذ طلبت منها مشاركتي ًّ فتشدها .تلتفت وال أكاد أميّز تفاصيل وجهها ،لكنني أسمع حركة أنفاسها ،لم أنتظر
ُّ يدي إليها
إلي ،لكانت جلست إلى جانبي ،تغمس الخبز في ال ّزيت ،وتُلقمني القطعة بيدها. َّ أش ُّدها
لم تمانع ُدوجة ،بل اعتقدت أنني لو لم ُ
هممت بسحبه
ُ وعضت على أصبعي ،وكلما ّ مددت يدي بقطعة الخبز وغمستُها بالصحن ،ثم رفَعتُها إلى شفتيها ،ابتَ َس َمت والتَقَ َمتها، ُ
رت على إثرها أصبعي ،ثم جاء دورها ،حملت حر ُّ ندت عنها ضحكة ومددت يدي اليسرى ودغدغتهاّ ، ُ ضحكت عاليًا،
ُ تأبى تركه،
حلم دافئ ،أحزن كلما
ٍ مر المشهد مثل
أصابعها قطعة الخبز ،وقبل أن تصل إلى فمي أمسكتُها ،قبّلتها طويل ًا ،ثم التقمت ما بهاّ ،
جميعا ،منّي ومنها ومن ابن ميّار وحتّى من ذلك البائس ديبون ،وربما أكبر من كافيار ً قد ٌر لنا كان أكبر منا
تذكرت رحيلي ،ما هو ُم ّ
:أو المحروسة .يتغيّر وجه ُدوجة كلما تحرك نور القنديل عليه ،ترددت قبل أن تتكلم ثم تشجعت
الطعام والقبالت ،ولكن ذلك اليوم بدا مختلفًا من صباحه ،أبصرت السماء ،وكم قاسمت فيها ُدوجة ّ ال أدري كم من يوم أظلمت فيه ّ
أطل منها ،أو أن صوتًا ناداني من الخواء ،فوقفت وازحت الل ّوح عنها ،ولم َأر شيًئا ،غير لقلق أبيض َّ أحدا ما
ً نث أن
وخم ُ
ّ الكوة،
مرة أخرى ّ ورفرفا الجدار، اعتليا ثم برهة قيفة الس
ّ أقصى في ّا ل وظ رفيقان، أنها لي بدوا ، ثان
ٍ طائر
ٌ هناك ّق ل ح ثم نحوي، ق يحد
ّ
وغادرا .انتابتني رغبة في العبور إلى هناك ،أكتشف ما يوجد خلف الجدار ،ولكن أشياء أخرى منعتني ،مثل ًا شككت أنها لن تتسع
الضير لو جربت ذلك ،سحبت صندوقًا ،ووضعت الكرسي أعاله ،ثم صعدت ،عبر رأسي منها ،أبصرت من لعبوري ،قلت في نفسي ما ّ
مادًا يدي حتى المستا الجدار،
ّ السفلي عند بطني ،وانحدر جسمي هناك األرض أقرب منها في القبور ،فعبرت حتى كان حد الكوة ُّ
المصابة
الرجل ُ
بينما ارتفعت قدماي عن الكرسي ،أضحيت مثل معل ّق ،وظللت اهت ُّز حتى بلغت راحتاي األرض .حين سحبت ّ
وأملتُ َها بمحاذاة الجدار حتى كنت مستلقيًا تصاعد األلم ،كأنما تم ّزق الل ّحم عنها .لم أتوقف بل أرحتها على الحائط وأخرجت الثّانيةَ ،
السور ،بحثت عما يُعينني على ّ نهاية الس قيفة .جال بصري بها ،وانتبهت إلى جهات لم تكن لتظهر لي ،وقفت وانتقلت إلى في ّ
الصعود ،ولم أعثر على شيء ،لكنني لمحت في الحائط المقابل ثقبًا يحاذي ال ّزاوية بين الجدارين ،خطوت إليه ،وغرست رجلي بها، ّ
تطل على سقيفة جانبية استكشفت نهايتها ثم ُّ الرؤية من هناك ،وإذا بها ثم دفعت جسمي حتى بَل َغت يدي حافته ،استطعت ّ
الدماء طفرت من الجرح، المتفصد من جسدي ،وحتّى ّ ّ تراجعت إلى الك ُّوة ،وبصعوبةٍ عبرت منها .في القبو انتبهت إلى العرق
.واضطررت إلى اختالف كذبة على الل ّة سعدية حين أقبلت تتف ّقد الجرح ،ولم يمنعها ُحزنها من توبيخي تلك الل ّيلة
أسبوعا ،األيام التي تلت ُمروقي إلى الجهة الثّانية .كلما وقع بصري عليها ،أتمتم قد مر يوم ،إلى أن حل اليوم ً عددتُها وكانت
الدرج ،فعرفت أن القادم لم يكن أي واحدة منهما،إلي حرك ٌة على ّ
َّ األخير منه ،وما إن نطقت شفتاي بالكلمات حتى تناهت
ِّ
أصدق أن العجوز قد عاد .دنا مني أكثر ،ثم أياما ،ثم فُتح الباب ،ورأيت ابن ميّار أمامي ،وكأنني في حلم ،لم ً اعتادت ُأذناي دبيبها
زوار .لم أستطرد في حواراتي معه ،في جدوى قتله أو َ ِ
الم قتلي عن ٍ
راض غير جاتي ن
ً َب ا سعيد بدا ًا، ل طوي وتعانقنا جلس إلى جانبي،
بقائه حيًّا ،قد انتهى الخيط الذي يصله بالحياة .دقائق جلسها ابن ميّار معي ثم غادر ،ليتشبّث ببحثه عن الغُبار المتطاير في سماء
كدليل يقوده إلى بناء آخر يُهدم
ٍ .المحروسة،
أشاه ُدهما دقائق ثم أنسحب.ِ الطائرين ،ولم أعبر إليهما، ّ المرات عن الك ّ َُوة ،وأعجبت في نهاراتها بعناق
ّ السماء عشرات
أظلمت ّ
أدس وجهي في شعرها ،وأسمع دق قلبها ُّ الطائر شريكه،
ّ سري ،حتى تلج ُدوجة القبو ،فأعانقها مثلما يُعانقّ في كلها حكاياتي وأجتر
تجسر يداي أن تمتدا إليه ،كلما تعانقنا يتعالى في داخلي ُ المتعالي كلما همست لها ،ولكن شيًئا كان يحول بيني وبين جسدها .لم
يريدني أن أراها إال مثلما رآها الجميع ،ولم أكن ألوافقه، الصوت الال ِن ّداء القديم ،يوم هجرت ُمعاشرة ال ِن ّساء في المبغى ،كان ّ
حضني دقائق ثم ترحل ألبقى في انتظارها ،ولكنّها ال تاني .بالتأكيد ليس األمر هينًا ،بيد أنني تخلصت منه .تظل ُدوجة في
قمت من
ُ الجرح ،وصار في إمكاني المشي مساف ًة ال بأس بها.ُ أعود بوجهي إلى الك ُّوة ،أفك ّر طويل ًا لماذا ال أعبرها وقد طاب
خطوات
ٍ معا ،ثم مرقت عبرها بيسر ،حتى كنت خارج القبو ،سرت الصندوق والكرسي ً مكاني ،ووضعت القنديل في موازاتها ،واعتليت ّ
حتى بلغت ال ّز اوية بين الجدارين ،وغرست رجلي في التجويف ،ودفعت نفسي حتى كنت أعاله ،ثم نزلت إلى الجهة األخرى،
تقت
ُ الش ارع إلى بوابة القصبة الخالية من الحراس ،وانحدرت وكأنه ال سكان بها، خطوت مسافة إلى جانب الحائط ،ثم قطعت ّ
والسل ّاويين ،وال أثر ألح ٍد ،ثم شدتني الهمهمة القادمة من الحانة ،اقتربت
ّ ارين ّ المي السل ّاويين .ساعة سرتها ،عبرت حارةلزيارة حارة ّ
المرة الماضية ،حتى بلغت البيت ّ قطعته الذي ريق الط
ّ إلى بوجهي فررت بالمخمورين، تعج
ّ كالمعتاد تكن لم برأسي، منها وأطللت
وتجولت به ولم أعثر
ّ الصمت كان يشغل الفضاء ،فتسلقت الجدار، لكن ّ ّ المهدم ،دنوت من جداره ،لعل همهم ًة تصلني من داخله،
أسبوعا بعدها لم يتغيّر شيء ،كلً الدروب صوب الك ُّوة ،بؤت بالفشل في أول رحلةٍ لي خارج بيت ابن ميّار. على أحد .شققت ّ
نادرا
ً .يوم أمرق منها ما إن ينتصف الل ّيل ،أتجول في مدينةٍ خاوية من أي شيء ،وال أكاد ألتقي الجنود إال
وحدقت تجاهي بنظرة لمّ مر األسبوع دون جديد ،سوى قرار واحد ،استكشاف حي المبغى في هذه الل ّيلة .قاسمتني ُدوجة األكل َّ
مرتين مؤكدة شكوكها حولي ،ثم غادرت ،وظللت ساعتين أو أمرا عنها ،حتى وهي تُغادر التفتت ّ ً أفهمها ،ربما شعرت أنني أخفي
السكون
الصوت ،وعم ُّ
الدرج ،فاستلقيت على فراشي بعدما كنت أدور في الغرفة ثم نأى َّ أكثر بعد رحيلها ،سمعت دبيب أقدام على ّ
شبح،
ٍ الكوة ،وأزحت عنها الل ّوح الخشبي ،ثم مررت منها ،وشرعت أطوف بالشوارع مثل ّ وضعت القنديل في مكانه يقابل
ُ المكان،
السقائف التي تُفضي إلى شارع المحروسة الكبير ،حتى أبلغ نهايته شرقًا ،وأنعطف عبر سقيفةٍ تنتهي إلى ساحة ّ عبر ا وحيد
ً أنحدر
الساحة ،خشيت أن الحراس ّ في ل غ
ّ التو على أجرؤ ولم البيوت، ات ُو
ّ ك من شحيحة أضواء غير شيًئا، أرى أكاد فال المبغى، حي
شبحا كأنه انبثق من الجدار ،أو انشقت األرض ً السقيفة رأيت
يقفون عندها ،مكثت لحظات هناك ،ثم عدت أدراجي ،وقبل بلوغ نهاية ّ
:عنه ،بقيت واقفًا في مكاني ،أصغي إلى حركة أنفاسه ،وبدا لي أنه كان يركض خلفي ،اقترب بخطوة مني وقال
حمة؟ -
ّ هذا أنت يا
الدليل خارج
تطوعين الذين كانوا ينتظرون َّ الم ِ ّ
الطريق ،وعن ُ وتحدثنا طويل ًا عن ّ
ّ افترقنا على أن نلتقي في ليلةٍ أخرى ،والتقينا،
نظفون بنادقهم كل يوم ،ويُخبّئونها في األكياس عند المساء ،ثم المدينة ،وعن قبائل األعراب الموجودة على أطراف التّ َل ،كانوا يُ ّ
الشاب وأنسحب إلى الك ُّوة بوجه ُمختلف ،وما إن ودع ّاستبد بهم المللُ .أ ّ
ّ يستخرجونها في صباح يوم جديدٍ ،ويُعيدون تنظيفها ،وقد
يدوي صوتها
ّ ثم وجهي، ضيء ُ ت و القنديل تحمل مكاني، بدوجة تفترش:أعبرها حتى أفاجأ ُ
وش َرعت في البكاء ،أكثر من ساعةٍ لم أستطع أن أهدئ من روعها ،ثم صمتت فجأة ،وحملت تغيّرت مالمحها ،ثم تشبّثت بيَ ،
إلي األكل ،ثم
َّ ويحمل القبو، باب عني يفتح من سعدية ّة لال كانت بل تأت، لم ها ّ ن ولك الموالي نفسها ورحلت ،انتظرتها في اليوم
امتعاضا .تمنيت أال تخلف ُدوجة موعدها هذه الل ّيلة ،ولكن القادم كان مختلفًا ،وقف ابن ميّار يتأملني ،ثم تكل ّم ً ترحل بوجه يحمل
الر حيل ،أراد مني البقاء في القبو حتى يتوقف البحث عني ،ويطلب العفو لي من القائد العام ،كنت متيقنًا أنهم لن يفعلوا عن ّ
مشيرا إلىً يدي ومددت . بيتك قبو في المحروسة إلى ريق الط
ّ وجدت قد أنا ار،ّ مي بن يا : له االعتراف من ا بد
ً أجد ولم ذلك.
وتحسس اللَّوح ثم سحبه مستغربًا ،وعاد يجلس إلى جانبي ،ولم يلبث أن أظهر لي كتابه ،أمسكته َّ الكوة ،لم يكن ُمصدقًا ،اقترب منها
الصفحات ،وكلما قرأ فهما ،أعدته إليه وطلبت منه قراءة بعض ّ ً وتهجيت العنوان ،لم أكن ألعي الكثير منها كتابة ،بينها وعيتها ّ بيدي،
جزءا من الحكاية ،كأنني أرى الن ّاس يصرخون من حولي ،يبكون ضياع المحروسة .وسألته االنتقال إلى ما حدث في ً أكتشف واحدة
إلي وقالَّ التفت رج، الد
ّ صعوده وقبل الكتاب ارّ مي ابن حمل . ذكري على يأت لم هّ ن ولك الكثير، ن دو
ّ قد ووجدته فرج، :سيدي
.بعد أيام قليلة ستأتي لجنة من باريس لتحقق في أوضاع الجزائر ،وإذا اقتنعت بعدم جدوى بقاء الجيش بها سيرحلون -
أيضا؟ -
ً وهل سيستمعون إلى األعيان
.نعم ،فيما مجيئها إال تلبية لعرائضي -
.بالتأكيد ستأتي الل ّجنة ،وسيستمعون إليه طويل ًا ،وربما سيُجاملونه واألعيان ،ولكنهم لن يرحلوا عن المدينة
قمت وأزحت عن الكوة لوحها فأضاءت القبو ،وبدا لي وجهها لما ُ غياب تطل ُدوجة ،أتأملها طويل ًا كأنني أكتشفها للمرة األولى، ٍ بعد
الصباح ،تذكرت صورتها أول ما سمعتها تُغني في العرس ،كان ّ تحية عدا بكلمة تهمس لم المكان، وتقاسمنا مني، أكثر اقتربت
حدثت نفسي :هل ّ غطي شعرها بخمار ُمشنشل تتدلى خيوطه الوردية على جبهتها، الصفرة ،تُ ّ
الل ّباس نفسه الفستان األبيض المائل إلى ُّ
يمكن أن تُعاد تلك األيام يا ُدوجة؟ كنت ما أزال أحدق في وجهها غائبًا عنها ،ثم انتبهت لنفسي ،وعدت إليها برغبة في سماع
الرجاء ،وقلت :أتمنى يا ُدوجة سماع أغنية .وانتظرت أن تبدأ الغناء ،ولكنّها صمتت، صوتها ،فمددت يدي إلى يدها على سبيل ّ
اعتقدت أنها تبحث عن أغنية مما حفظته من الل ّة مريم .ولم يصدق تخميني إذ غنت ُدوجة أغنية مليئة بالمواجع ،بدأ صوتها
الطحين ،ولم يستطع بلعها ،أصغى إلى نداء القبر وسار إليه، خفيضا مثل األنين ،ثم تَ َعالى ،تكلمت عن منصور الذي عشق حلوى ّ ً
الحمى جسده ،وحين َّ أياما قليلة من العذاب واحتواها القبر ،وعن وال ٍد دهمت
ً أيضا والدة لم تستطع احتمال المرض، ً َرثت األغنية
قبرا لها.
ً فرت إلى المحروسة ،ولكنّها لم تكن إال ودوجة التي ّ قبر وحيد قرب الغابةُ ، باردا ومتخشبًا ،ثم دفن في ًٍ رحلت أضحي
ذراعي واحتضنتها
ّ وفتحت
ُ ومسحت دموعها، رددت ُد وجة كلمة المحروسة مقرونة بالقبر ،كفاتحة لألغنية وكخاتمة لها ،ثم صمتت َ ّ
.بقوة .لحظات من العناق ثم افترقنا ،وقفت بهدوء ورحلت ّ
الدرج إلى جانبه حتى الدبيب ،ثم عبر ابن ميّار قوس الباب ،وصعدت ّ إلي ّ َ
َّ حل المساء ،ترامي سواده القاتم من الكوة ،وتناهىَّ
ودوجة والل ّة سعدية ،كأننا
ُ ارّ مي وابن أنا واحدة، جفنة من المساء ذلك في الجميع أكل ا، مع
ً وتقاسمناها البيت باحة على أشرفنا
نكتم في أنفسنا أنه ال بد يجيء يو ٌم وتجمعنا الجفنة نفسها ،أو ربما كان ذلك فأل ًا حسنًا اختارته الل ّة سعدية لل ّيلتي األخيرة معهم،
هكذا وبعد لحظات فقط ،غادرتنا ُدوجة إلى غُرفتها ،وبقيت أسامر ابن ميّار أكثر من ساعتين ،لم نتكلم عن رحيلي بقدر ما أعدنا
السجن ،يخلصني من بينهم ُأ
عثمان ،وكيف كان يُنقذني من أيديهم كلما أحكموا وثاقي ،وأحيانًا يظهر قبل أن قاد إلى ّ حكايات بني ُ
.بطرق متعددة
السقائف كلها حتى كنت عند شوارع المحروسة غامض ٌة مثل أهلها ،ولكنّها ليست ُمتخاذلة مثلهم .خطوت بها في عجلةٍ ،وخضت ّ
الطارق ،ثم أشرعت الباب لما ميّزت صوتي، باب الل ّة زهرة ،طرقت الباب ولم يُجبني أحد ،وانتظرت إلى أن نادت تسال عن ّ
الرواق وقبّلت يدها ورأسها ،وكانت هي األخرى تقبّل يدي ورأسي ،لم تعتقد أنني حي .ترجتني الل ّة زهرة أال ارحل عبرت إلى ّ
ودعتها وغادرت البيت ،ووقفت تحمل القنديل ّ بيننا، كان ما لها حكيت حين بامتعاض صمتت ثم معي، وجة د
ُ آخذ وحيدا وأن
ً
ستاء من
ً م
ُ هناك ليل الد
ّ وجدت سوره، وعبرت م، المهد
ّ البيت بلغت حتى قصيرة غير مسافة وسرت
ُ انعطف الباب، عند تُشيّعني
منعطف
ٍ يتجمعون عنده ،انزوينا في
ّ الطريق إلى باب المدينة ،ولم نعبره ،إذ كان الجنود
تأخري ،لبثنا برهة ثم شرعت أرجلنا تنهب ّ ّ
السور ينأى عنا أو ربما نحن الذين نأينا عنه ،وقرر الطريق نرقب تفرقهم ،ثم كنا نجتا ُزه دون أن ألمح انحناء قوسه .كان ُّ
ّ نهاية
تأمل المحروسة تحت ضوء النّهار ،ألبكيها طويل ًا ،ثم أرمي عليها سالمي األخير السير ليل ًا ،ولم أوافقه ،رغبت ّ
.رفيقي مواصلة ّ
دق على الباب حتى انتفضت من على جانبي ،ثم قامت ُمخل ّفة ِمسبحتها ،خطوت في أعقاب الل ّة سعدية، ما إن تناهى إليها ٌ
الرواق ،ووقفت أنتظرها بالباحة .من هناك سمعت شهقتها ،ثم بُكاءها ،عرفت أنها قد شرعت ّ هي برت
ْ وع
َ تركت بيني وبينها مسافة،
ُ
أحدق فيه ،ثمِّ وبقيت
ُ وتتحسسه غير ُم ِ ّ
صدقة أنه قد عاد. ّ الباب على وجه ابن ميّار ،انتابتني رغبة في البكاء وأنا أراها تُقبِّل يده،
عمره .كانت الل ّة سعدية تتشبّث به في سيرنا إلى الرحلة أضافت سنوات أخرى إلى ُ اقتربت أكثر وقبَّلت رأسه ،بدا لي كأن ّ
ُ
عيدا سرد رحلته ،منذ
مادا رجليه على األرضُ ،م ً
ً وتنهد طويل ًا ،ثم جلس بيني وبينها
ّ غُرفتهما ،وحين دخلناها تأمل ابن ميّار ُجدرانها
السفينة من رصيف الميناء إلى غاية وصوله إلى باريس
ّ .حملته
تشدانني إلى البقاء ،كان وجه ابن ميّار يحمل أسئل ًة كثيرة .وهكذا كنا نحدثه :قد ّ أهم بتركهما وحيدين ،ولكن عينيه المتسائلتين ُّ
وداوت جِ راحه ،ثم أخفته في القبو ،لحظتها َح َمل ابن ميّار َ سعدية ّة لال وأسعفته ا، جريح
ً زوار .طرق الباب السل ّاوي وقتل ِ
الم َ فعلها ّ
نفسه ،ونزل إلى القبو ،كان صدري يضيق بحكايات أردت أن أعيدها عليه ،فأقول :إن الجنود كانوا كثيرين ،غزوا كل الغُرف يبحثون
ألفته من أهل
ُ السل ّاوي ،سألنَا المترجم الذي رافق الجنود ،إن كنا َخبّأناه في مكان ما ،تكل ّم بلهجةٍ عربيةٍ ُمختلفةٍ عما عن ّ
وتفر ق الجنود بين الغرف .ثم افترق عنهم ،بالتأكيد لم يكن لرجل عربي أن يجهل ّ الباحة جاب فهومة، م
َ كانت أنها المحروسة ،مع
تخطر على بال الجنود .ثم توقّف قليل ًا ُ كيف تُبنى البيوت في المحروسة ،على األقل كان أفضل من الفرنسيين ،سار إلى أمكنة لم
تفطن له ،حين انحنى ينظر إلى أسفلها ،ثم ّ لكن المترجم
ّ عند الباب المؤدي إلى درج القبو ،وقد أخفته الل ّة سعدية بخزانةٍ قديمةٍ ،
مشيرا إلى الجنود أنه ال َجدوى من البحث ،وحينئذ رحلوا ً عاد وتأمل وجهينا وقد ارتسمت عليهما عالمات الخوف .غادر المكان
السل ّاوي أن هؤالء المترجمين يُطاردون حلم الثّراء في المحروسة ،ولكن ذلك ردد ّبأدب ثم رحل .لطالما ّ ٍ وتخل ّف عنهم بخطوات ،حيّانَا
.المترجم لم يبد لي مثلهم
في بكل جديّة ،ووعدني أنه سيعود ،ثم رجاني ألول حدق ّ َّ يفر من وجهي ،بل إنّه َّ السل ّاوي لم يصمت طويل ًا مثلما اعتاد ،ولم
ولكن ّ
وفي ولم ألبث إال هنيه ًة ثم غادرت القبو،
َ إال قبل من عدني َ ي فلم يومها قته صد
َ ّ . اصطحابي أجل من وسيرجع أنتظره، أن مرة
متناقضا :سعيدةٌ بوعده وحزينة النتظاره
ً شعورا
ً نفسي في .أحمل
الشوارع،
الركض بين ّاأليام التي تلت عودة ابن ميّار لم تختلف ،يَقضي سحابة النّهار خارج البيت ،ويعود في المساء ُمتعبًا من ّ
بح ة فال يقدر على الكالم إال بعد أن يرتاح ساعة أخرى ،أو يمأل جوفه بالزيت ،ال أدري كم مرة رأيته على حتى صوته تنتابه ّ
علي يطلب الماء ،يغتسل ويفترش الباحة دقائق ثم َّ ناديُ ي حتى البيت يدخل إن ما . لتشابهها ها أعد
ُ ّ لم كثيرة أياما
ً حالته تلك،
أنضم إليهما ،ثم يأويان إلى غُرفتهما
ُّ الطعام وأحيانًا
ّ يتقاسمان برهة هناك ويمكثان سعدية، ّة لال به .تلتحق
مختلف،
ٍ مرة أخرى واستغربت رجوعه المبكر .وفتحت الباب على رجل في ذلك اليوم خرج ابن ميّار كعادته ،ولكن الباب ُد ّق ّ
السقيفة منحنيًا ،وسندته خشية سقوطه ،وسرنا حتى بلغنا غُرفته ،فزعت الل ّة سوادا ،قطع ّ ً كان منهك ًا تغيّرت مالمح وجهه ،اشتدت
الطائرالضريح .وعن موت ّ ّ سعدية لرؤيته واقترب مسرعة تسنده معي ،وبعد استعادته أنفاسه كلمنا عن أشياء غريبة حدثت عند
سوءا ماً بقوة ،وسقط من يدي إناء الماء ،واستعاذت الل ّة سعدية ،ودون وعي مني نزلت درج القبو ،شعرت أن ّ األبيض ،فخفق قلبي
بد من تكدير مزاجه، ّ هناك يكن ولم وسألني، المخطوف وجهي ى تقر
َّ مكانه، في اً مستلقي ووجدته الباب عبرت ثم بحمة،
ّ قد حل
عما حدث لي ،خطوت مسرعة حتى دخلت غرفتهما ،كانت الل ّة ّ تتساءل سعدية ّة لال نداء خلفي ركض وقد أعقابي، على فعدت
تصب الماء على يديه ،وهو يمسح بكفّيه المبلولتين وجهه ،لم تُخفي مالمحه خشيته مما حملته اإلشارة ،وأعرف تأويلها لكنني ُّ سعدية
الرمان ،ورك ّز بصره على الجدران مثل من ّ شجرة د ق
ّ وتف الباحة، في مشى بل الموالي، اليوم في البيت غادر ُ ي لم أنه إلى انتبهت
فجرا ،أسمع حركة داخل ً مرت األيام التالية كل يوم يستيقظ يكتش ُفها للمرة األولى ،ثم رجع إلى غُرفته وخلد إلى النّوم .هكذا ّ
ينتظر طلوع النّهار ،ثم يأوي ُ يطوفها، أن بعد الباحة يفترش الة الص
كررا في كل فجر ،بعد ّ مشهدا ُم ً
ً غُرفته حين يُقيم صالته ،ثم أصب
السنين، ّ مئات منذ حدثت غريبة حكايات فأسمع اً ن أحيا إليهما أنضم
ُّ بالساعات، يتحدثان المكان، سعدية إلى غرفته ،وتُقاسمه الل ّة
ولغات كثيرةٍ، ٍ ألسنةٍ
ّ على أسماؤهم ترددت بأسره، العالم في الخوف وزرعوا البحر، ألهبوا اس ّ ري عن وا،ّ ن ج
عن باشوات قُتلوا وآخرين ُ
قصص عن والده ،وعن المحروسة في طفولته ٍ .ثم يستطرد ابن ميّار في
فجرا ،توضأ وصل ّى في الباحة ،وبقي هناك إلى طلوع النّهار ،ثم غادر البيت ،ولم يلتفت إلى ندائي
ً .وفي اليوم التالي استيقظ
الرواق حتى بلغت الباب وأشرعته على وجهه. لم تطل غيبته يومها ،إذ ُضرب الباب ضربًا ُمتواصل ًا قفزت له من مكاني ،وقطعت ّ
الص باح أرى الوجوه التي تحمل حزن العالم ،وفي المساء ألمح االرتياح عليها ،وربمايتغيّر مزاج هذا البيت في كل ساعة ،في ّ
السعادة المفرطة ،هكذا طالعت ابن ميّار الحامل للعلبة ،وهو يخطو إلى الباحة ،ومن ثم يفترش األرض ،في حين جلست الل ّة سعدية ّ
إلى جانبه ُمستغربة تغيّره ،ثم سلمها بكتاب .كنت أدرك أنها لن تعي منه شيًئا ،وانشغل بقراءة ورقة بين يديه ،يغدو أكثر سعادة
كلما أعاد قراءتها أقبل علينا وقال :نعم لقد حصل ما كنا نرجوه ،لم تبق إال أيام قليلة حتى تأتي الل ّجنة إلى المحروسة لتُح ِقّق
جميعا .وربما تُعيد لنا ما ُسلب منا .وقف وحمل أحد الكتب ،وغادر البيت ،غاب الجزء المتبقي من النّهار ثم رجع ً معهم
غرفته ،وبعد أكثر من ساعة رأيته يجوب الباحةالرواق إلى ُ بالمساء ،وكأن شيًئا لم يحدث ،اكتسح الجمود وجهه ،حيّاني ثم عبر ّ
السل ّاوي ،فطنت إلى أن ابن ميّار لم يعد يجتمع إليه
ّ وبين ذهابًا وإيابًا ،ثم عبر إلى القبو ،أحسست أن أشياء كثيرة عالقة بينه
مرتين
عزلته لم ينزل القبو إال مرة أو ّ
.كثيرا ،حتى في أيام ُ
ً
والعناق ،ثم عدت في إحدى الل ّيالي ،واكتشفت أنه لم يكن هناك ،انتظرته ِ في األيام األخيرة اعتدت زيارته أول الل ّيل فُأقاسمه األكل
أسبوعا تالها كان يمرق من الك ُّوة بعد رحيلي
ً يعد ،فرجعت إلى غرفتي ،وآليت أال أحدثه في األمر. على ضوء القنديل ،لكنه لم ُ
الصباح ،افترشت مكان نومه ،وظللت أحدق بالك ُوة إلى أن سمعت حركة عنه ،لكنني قررت في الل ّيلة األخيرة انتظاره ،حتى يطلع ّ
راحل في نهاية األسبوع، ٌ وأسر لي أنه
َّ هدوءا ،اقترب مني ً رجليه ،ثم رأيت شبحه ،وقف إلى جانبي ،فصرخت به ،بيد أنه كان أكثر
السل ّاوي ليشعر بي ،لن يدرك أنه من أدر أي شيء انتابني ،داهمتني رغبة في البكاء فبكيت إلى جانبه .بالتأكيد لم يكن ّ ولم ِ
ع مرها فما بالك بأيامي األخيرة معه ،ثم يقف ويقولها ببساطة ،سأرحل يا ُ من قليلة لحظات ولو ًا، ل رج
ُ تألف أن المرأة على اليسير
إلي ُدوجة التي اعتادت َّ تعود حتى تلت التي ّيالي ل ال طوال الوحدة إلى اشتقت جانبه، إلى البقاء ا ً ق ِ
رهمُ كان األسبوع، نهاية دوجة
الطريقة غادرته ،لم أزره في الل ّيلة التي تَلتها ،أومأت لالل ّة سعدية أن تنزل إلى القبو ،وها هي ليلة أخرى ،ينوب النّسيان ،وبهذا ّ
تود الل ّة سعدية أن تبوح بها ،تلوذ بالصالة
ّ يحتمل رحيله ،واإلشارة التي لم َأ ِع َها بعد ،ولمِ ابن ميّار عني ،أراه من مكاني ،لن
السل ّاوي أو ابن ميّار
الطائر إال نهاية أحدهم ،ربما كان ّ
.والدعاء ،في موت ّ
:غاب بالقبو دقائق ثم رأيته يبرز من مدخله ،ارتسمت على وجه عالمات االمتعاض ،دنوت منه فبادرني
أبدا -
التوسط له عند الحاكم ليعفو عنه ،أجزم أنه لن يُشفى من جنونه ً
ّ عرضت عليه
ُ الرحيل رغم أني
.إنّه عنيدٌ يا ُدوجة يُريد ّ
أع
الشفاء منه .لم ِ السل ّاوي ال يمكنه ّ
الجنون الذي انتاب ّ
ُ حين لم يبق إال يومان على رحيله ،فك ّرت طويل ًا في كلمات ابن ميّار،
تحتد وال مجيب عنهاُ ،أعلِ ّقها على شجرة ُّ
الرمان .كلما ُّ السل ّاوي جمع كل تلك األشياء في نفسه وال يضيق بها ،أسئلة كيف يستطيع ّ
.عبرت إليه في القبو ،ثم أعود إليها فُأع ِل ّقها في عنقي
وجسدها يشتعل إلى ُ المنتظرة ألبي ،تنتابها رغبات محموم ٌة ومختلطةٌ ،قلبُها يخفق باالنتظار طل على أيامي الماضية فأرى وجه أمي ُ ُأ ُّ
الدرب الذي حلم به أبي .كل هؤالء أراهم اآلن ماثلين أمامي ،وأرغب العناق ،ووجه أبي المهان من كافيار ،وأخي الذي لم يكمل ّ
حلما فأنجزه؟ ولكنهم يصمتون ثم تحمل وجوههم ً واحدا ،هل منكم من ُح ِقّقت رغباته؟ وهل منكم من تمنّى ً واحدا
ً أن أسألهم
أيضا ُمرغمين ،وتُعودني األيام األولى لدخولي المحروسة، ً الحزن ،وأفهم أنهم كلهم كانوا مجبرين على الحياة التي عاشوها ثم غادروها
جبر على شي ٍء آخر ،حتى ولو أيضا لن أختلف عنهم ،كنت مجبر ًة على كل شيء ،واآلن ال أريد أن ُأ ً وتمتلُئ نفسي باليقين أنني
َ ُ
الدربين سأختار؟ ّ أي :أمري حسم علي
َّ وجب تسعني، ال المحروسة أن أحسّ لني ّ قب وكلما أحبه، كنت بالتأكيد السل ّاوي نفسه، كان ّ
أحدا لم يُسعفني عدا الل ّة زهرة، ً ولكن ائر، الط
ّ إشارة عن تختلف إشارة عن تبحثان لمة الظ
ّ في تحدقان عيناي يقظة، ليلتها وبت
ُّ
السل ّاوي
ّ سيرة تعيد وهي لي تْ همس
َ لها، ابن مثل ّاوي ل الس
ّ َهمت ف مثلما طويلة، ا أيام
ً عرفتني وقد يؤنبني، صوتها كأن إلي
َ ّ لُخ ّ
ي
شوق إليه ،ودون وعي ٍ أمامي ،لع ِل ّي أرى الحكاية بوضوح ،ولكني غفوت على وجهه وعلى شفتيه تقتربان من وجهي ،وصحوت على
وخمارا مشنشل ًا بخيوط ً الصفرة،
لدي من ثياب ،فستانًا أبيض مائل ًا إلى ّ َّ مني امتدت يدي إلى الخزانة وفتحتها ،ثم اخترت أجمل ما
ده ًشا ،أو ربما ألنّه يراني ألول مرة بتلك حدق بي ِ وردية ،وخطوت حتى كنت بالقبو ،تقت إلى تأمل وجهه طويل ًا ،وصمت وهو يُ ِ ّ
بحثت عن ُ وشد على يدي كأنه يرجوني شيًئا ،طلب مني الغناء له، َّ مد يدهالثّياب ،اقتربت وجلست إلى جانبه ،وظللنا صامتين ،ثم ّ َ
أغنية يمكنها أن تسعده ،ولكن لساني تحرك بأخرى ،أغنية رددتها طويل ًا بيني وبين نفسي كلما اشتقت إلى أبي وأخي والى وجه
صرة على أن المقبلة .بدأت بُغنّة أكثر ُحزنًا ثم تصاعد صوتي بكل األوجاع ،افلتت دون وعي منيُ ،م ّ الضاحك والمستبشر باأليام ُ أمي ّ
شفتي ،وبقينا ُمتعانقين ،لكني لم أستطع إطالة تلك ّ على لنيّ وقب ًا، ل طوي إليه ني وضم
ّ مني، دنا انتهائها ومع . كلها ّاوي ل الس
ّ عرفها يَ
.الل ّحظة ،كان قلبي قد امتأل منه ،سحبت نفسي من بين ذراعيه ،وغادرت
الطعام ،نأكل دون أن الصباح األخير ،غير أنني التقيته مساء ،صعد إلى الباحة يُرافقه ابن ميّار ،واجتمعنا حول جفنة ّ ولم أزره في ّ
وفررت منهم إلى غرفتي ،أكثر من ساعتين مكثتُها هناك، ُ قمت بيننا، المستديم مت الص
ّ أحتمل لم ًا ث ثال أو لقمتين ننظر إلى بعضنا،
وحيدا في الباحة ،فقمت ً سمعت همهمته وابن ميّار ،ثم التحقت بهما الل ّة سعدية ،إلى أن غابت األصوات ،شعرت أنه ينتظرني
الرحيل ،نزل إلى القبو ،التحقت به هناك ،تأملت وجهه مليًا ،وقبّلته طويل ًا مثلما كانت يداه إليه ،ووجدته هناك ،يُطالعني كأنه ال يريد ّ
تلتفان حولي ،ذك ّرني بأول ُح َّمى جمعت َجسدينا ،واللحظات األولى من اكتشافي له ،وتأك ّد لي حينها كم كانت الل ّة زهرة ُمحقَّ ًة في
ودعني ثم عبر الكرة دون أن يلتفت ،واقتربت منها تفتش عيناي عن خياله ،وال أثر، للسل ّاوي أن يتخل ّى عنيّ . لومها ،ال يمكن ّ
أبك ،بل غمر اليقين داخلي أنه ال بد عائ ٌد ِ .وتشبّثت طويل ًا بها ،ولكنني لم
مكثت
ُ جميعا َمعنيون بها،
ً انتظارا ،حتى الل ّة سعدية لم تُسعفني بتفسير اإلشارة التي اعتقدت أننا ً السل ّاوي ،وخلفني أعيش إذن رحل ّ
طل خياله ثانية ،فال تَهبني إال عسى أن ي ُ َّ
السل ّاوي أراقب الخواء من ك ُّوة القبوَ ،ّ إلى اشتقت
ُ وكلما غرفتي، في ة
ً وحيد أياما أخرى
ً
مزيدا من العتمة ،أفترش مكانه أبحث عن دفئه الغائب ،إلى أن يطلع النّهار ،فأصعد األدراج عائدة إلى الباحة ،وأجد ابن ميّار ً
يخطو بها كمن ضيّع شيًئا ،يبصر تجاه األرض ،وتعبر الل ّة سعدية إليه ،يقتعدان مكانًا هناك ،ويعودان إلى الحكايات القديمة ،ويمضي
السل ّاوي ،أتساءل خوفًا وأحيانًا شوقًا ،أتراه بلغ غايته
خبرا عن ّ ً ركضت لم تحمل معهاْ يوما آخر ،ال يختلف عن أيام كثيرة ً العجوزان
أفر من أجوبة تزيد خوفي ،أنتظر نهاية النّهار ُمبعدة عن ُّ . بالخالء ورموه قتلوه ربما عليه؟ َبضوا
ق أنهم أم أجلها، من رحل التي
السل ّاوي على يد الجنود الفرنسيين ّ موت هاجس .نفسي
الشجرة
حرك جناحيه ،قمت فجأة ُمسرعة تجاهه ،ثم وقفت عند ّ ّ الرمان ،تلمع ألوانه كل ّما
طائرا يعتلي شجرة ّ
ً رأيت
ُ من مكاني
الصامتة ،وتغلغلت يدها ثانية إلى شعري تعبث به ،استعدت
ّ سعدية ّة لال جانب إلى أجلس عدت هناك يكن لم ائر الط
لكن ّّ وحركتها،
ّ
الطائر الذي لم يُرفرف إال في أحالمي
ّ وحكايات أمي، .وجه
مكان إلى آخر حتى أبلغ ٍ غ رفتها ،وأعود إلى رحلتي التي أطوف بها أجزاء البيت ،وأتأمل الجدران ،أنتقل من تلزم الل ّة سعدية ُ
القبوُ ،منعتني رغبات كثيرةٌ من ترتيب فراشه ،أحببت أن يظل على حاله تلك إلى حين عودته ،حتى الك ُّوة لم أغلقها ،عليها
الدرجات
معلق في قبالتها كي يُضيء له المكان ،وكل األثاث من حوله عليه أن يعيش انتظاره مثلي .ثم أصعد ّ ٌ انتظاره ،والقنديل
ضربات قوية على الباب ،أضطرب منها ،أسرع إليه ،فأرى الل ّة سعدية تخطو خارج ٍ حتى أبلغ مدخل القبو ،وقبل أن أتجاوزه أسمع
غُرفتها إلى الباحة ،أسبقُها إليه ،وكلما خطوت تجاه الباب تتضاعف خشيتي من َضرباته المتسارعة ،وأفاجأ حين أفتحه بجسده يميل
الرواق إلى
ضرب ،أسندته بقية ّ ٍ آثار
ُ تمعنت في وجهه لم يكن به جروح أو ّ الشاب الفرنسي يسند ابن ميّار العاجز،
ُّ على كتفي ،كان
الباحة ،وشهقت الل ّة سعدية ،ثم أقبلت وأسندته معي ،وسرنا به حتى كنا بالغرفة ،استلقي على فراشه ،وطلب منا بصوت مخنوق
.تركه وحده ،وانزويت والل ّة سعدية في غرفة قريبةٍ صامتتين حتى نادى عليها
لم أتبيّن تفاصيل ما حدث ،مثلما لم أستطع عد األيام التي قضاها طريح الفراش ،ال يستقيم إال حين تُقعده .بدا األمر أنه َوعكة
يحدق تجاهي طويل ًا ّ صباحا
ً الدعاء على الذين تسببوا في مرضه ،وكلما أطللت عليه عابرة ،ولكن الل ّة سعدية ظلت تدعو وتُلِ ُّح في ّ
الحمى،
َّ وحيدا .أسمع حركاتها ليل ًا ،تحمل المناديل وصحن الماء ،قد اشتدت به ً كأنه ال يراني ،وتُومئ لي الل ّة سعدية أن أدعه
وجها شاحبًا ،وصوتًا مخنوقًا بالكاد ينطق حروف اسمي وتحية ً أمر به ،يُظهر النّهار ُّ الصباحقدرا ضئيل ًا .في ّ ً وأضحت ال تنام إال
السل ّاوي ،ثم في صباح مختلف كنت أسنده والل ّة سعدية حتى يجلس ّ أخبار وعن ي ّ ن ع يسأل بوضوح، سمعته الصباح ،لكنني بعد أيام ّ
حدقان بعضهما في بعض وال وحيدا ،وأخرى إلى جانبه الل ّة سعدية ،ي ُ ّ ً الرمان طوال النّهار .أحيانًا يكون في الباحة يُقابل شجرة ُّ
السل ّاوي ،ينتابني قلق من تحقق اإلشارة ،وقد بدأت عالماتها تتراءى لي في الحاالت التي يتكل ّمان ،وأبقى ُمعل ّقة بينهما أنتظر عودة ّ
تستقر عيناه على ُّ انحناء، في والباحة ُرفته
غ بين القصيرة المسافة عبور يستطيع ار ّ مي ابن انتابت ابن ميّار .ثالثة أيام أخرى ،كان
لكن نظرته منعتني ،ثم تحامل على نفسه ّ وقفت وهممت بفتحه،ُ . الته تأم
ّ عليه قطع اليوم لكن ضرب الباب ذلك ّ الرمان،
شجرة ُّ
يدق الباب ،مشى في بطء حتى كان عنده ،ثم رأيته بعد عودته شاحب ُّ موعدا كان بينه وبين من ً أن هناك
وبصعوبة قام ،قّدرت ّ
الرحمن ،وانتصر كافيار يا الل ّة سعدية ،وق ِ ُّدر علينا الوجه ،حامل ًا ورقة بيده ،بسطها أمامنا ثم قال :قد تحققت إشارة سيّدي عبد ّ
تأملت وجه الل ّة سعدية لحظتها ،وامتألت الرحيل عن المحروسة ُمجبرين .الن َّفي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنهم إبعادي بهاّ . ّ
مزيدا من ً تر في بقائه بالمدينة إال الرحيل عن المحروسة ،بالتأكيد كنت أدرك تعلقها بزوجها ،ولم َ غريب ،كأنها كانت تريد ّ ٍ بشعور
ٍ
يحدق بي، ّ الرحيل إلى مكان آخر ،حيث ال فرنسيين يضطهدونه ،وال أعيان قد يَ ُشون به ،وفطنت إلى أنه ت عليه ّ اقترح ْ
َ القهر ،لطالما
وود لو يعرف مصيري أو ربما أمل أال يختلف عنه ،يُجاهد العجوز حتى في رحيله على اصطحاب َّ قد فُرض عليه مصيره وزوجته،
الرجاء أشياء تذ ِك ّره بالمحروسة .طلب مني أن أكون إلى جانبهما في منفاهما بإسطنبول .لكني لم أستطع يومها موافقته ،ربما كان ّ
بالسل ّاوي ،وال معنى ّ معلق
ٌ لكن مصيري ّ دائما بالخروج منها ،لم أحبها مثلما أحبُّوها. ً الوحيد الذي ال يمكنني تلبيته ،وأنا التي حلمت
أبق في المحروسة .لم يضف ابن ميّار كلمات أخرى ،صمت ينتظر األيام المتبقية على رحيله ،يمأل عينيه لسنوات االنتظار إذا لم َ
.من جدران بيته ،ورئتيه من هواء المحروسة
الرواق بعجلة ،تفاجأ بابن ميّار في الباحة ،ثم جلس إلى الشاب الفرنسي ،عبر ّ ُد ّ َق الباب ّ
مرة أخرى ،وما إن أشرعته حتى وجدته ّ
الشاب وهو يُطالع الوثيقة ،عال وجهه ِمقدار كبير من االستياء ،ولكنّه لم
وتحدثا دقائق ،رأيت من مكاني كيف تغيرت مالمح ّ
ّ جانبه،
ودعه ورحل .يُطل المكوث معهّ ،
علي ابن ميّار ،وعلى الل ّة سعدية ،أراد معرفة وجهتي بعد رحيلهم ،كان يدري أال بيت ألجأ إليه إال بيت الل ّة
َّ بعد رحيله نادى
الرحيل ّ قبل ا يوم
ً هناك إلى سيأخذني أنه على اتفقنا وهكذا .زهرة،
بأحزان قديمةٍ ومتجددةٍ ،مثل وجه المحروسة ،يُو ِل ّد فراغ شوارعها وحاراتها
ٍ وجه الل ّة سعدية المليء بالتجاعيد ،كل فراغ بينها يشي
الحزن في قُلوب الذين أحبّوها ،رغم أنني لم أكن من بينهم ،تقف الل ّة سعدية يوم رحيلي إلى جانبي ،وتُقبّلني على جبهتي ،تبكي
وضمتني
ّ عنقي
صغيرا ،وعل ّقتها في ًُ ذهب تحمل ُمصحفًا
ٍ ال تريد فراقي ،لو كان األمر بيدي لرحلت معهما ،سحبت من صندوقها قالدة
إلى صدرها فبكيت ،ثم همست لي :يا الل ّه كم هو جميل على عنقك! لم يكتب لي الل ّه أن تكون لي ذُريّة من بطني ،ولكنّه
!وهب لي ُدوجة
أما
الشاحبة حتى بلغنا بيت الل ّة زهرةّ ، حملت ُص ّرة الثّياب والتحقت بابن ميّار ،ثم كنا نقطع شوارع المحروسة ،أتأمل مالمحها ّ
آمنت يومها أن الل ّه الذي أخذ مني أمي قد أحاطني ُ أخيرا إليها،
ً صدقة أنني عدت
حين فتحت الباب فقد عانقتني طويل ًا غير ُم ّ
يضمني آخر .غادر ابن ميّار ،رأيت خطواته المثقلة على شوارع المحروسة المليئة ّ حضن حتى
ٌ بأمهات كثيرات ،ما إن يفارقني
وجها
ً لمحبيها إال
الرحيل عن المحروسة بالنسبة ُ الرحيل .ولم يكن ّ قدر لي رؤية وجهيهما ساعة ّ بالغبار ،وبكيت ليلة رحيلهما ،إذ لم ي ُ َّ
أخيرا إلدراك بهجة الحياة
ً .آخر للموت ،بينما لم يكن بالنسبة لي إال دربًا
عن الكاتب
عبد الوهاب عيساوي روائي جزائري من مواليد 1985بالجلفة ،الجزائر .تخرج من جامعة زيّان عاشور ،والية الجلفة ،مهندس دولة
إلكتروميكانيك ويعمل كمهندس صيانة .فازت روايته األولى "سينما جاكوب" بالجائزة األولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية عام
،2012وفي العام ، 2015حصل على جائزة آسيا جبار للرواية التي تعتبر أكبر جائزة للرواية في الجزائر ،عن رواية "سييرا دي
مويرتي" ،أبطالها من الشيوعيين اإلسبان الذين خسروا الحرب األهلية وسيقوا إلى معتقالت في شمال إفريقيا .في العام ،2016
شارك في " ندوة" الجائزة العالمية للرواية العربية ( ورشة إبداع للكتاب الشباب الموهوبين) .فازت روايته "الدوائر واألبواب" بجائزة
سعاد الصباح للرواية .2017فاز بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة 2017عن عمله "سفر أعمال المنسيين" .فازت روايته
".الديوان اإلسبرطي" بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها للعام 2020
عن الكتاب
ِّ
الديوان اإلسبرطي
تتميز رواية الديوان اإلسبرطي بجودة أسلوبية عالية وتعددية صوتية تتيح للقارئ أن يتمعن في تاريخ احتالل الجزائر روائيا ً ومن "
خالله تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة ،كل ذلك برؤى متقاطعة ومصالح متباينة تجسدها الشخصيات الروائية ،إن الرواية دعوة
القارئ إلى فهم مالبسات االحتالل وكيف تتشكل المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته .هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي
".العميق ال تسكن الماضي بل تجعل القارئ يطل على الراهن القائم ويسائله
الفهرس
ديبون
كافيار
ابن ميّار
السل ّاوي
حمة ّ
ّ
ُدوجة
القسم الثاني
ديبون
كافيار
ابن ميّار
السل ّاوي
حمة ّ
ّ
ُدوجة
القسم الثّالث
ديبون
كافيار
ابن ميّار
السل ّاوي
حمة ّ
ّ
ُدوجة
الرابع
القسم ّ
ديبون
كافيار
ابن ميّار
السل ّاوي
حمة ّ
ّ
ُدوجة
القسم الخامس
ديبون
كافيار
ابن ميّار
السل ّاوي
حمة ّ
ّ
ُدوجة
عن الكاتب
عن الكتاب
الفهرس