You are on page 1of 112

‫الديوان اإلسبرطي ‪Title :‬‬

‫عبد الوهاب عيساوي ‪Author:‬‬


‫>‪Description: <div‬‬
‫خمس شخصيات تتشابك في فضاء زمني ما بين ‪ 1815‬إلى ‪ ،1833‬في مدينة المحروسة‪ ،‬الجزائر‪ .‬أولها >"‪<p dir="rtl‬‬
‫الصحفي ديبون الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر كمراسل صحفي‪ ،‬وكافيار الذي كان جنديا في جيش نابليون ليجد نفسه‬
‫أسيرا في الجزائر‪ ،‬ثم مخططا للحملة‪ .‬ثالث شخصيات جزائرية تتباين مواقفها من الوجود العثماني في الجزائر‪ ،‬وكما تختلف في‬
‫لحمة‬
‫ّ‬ ‫طريقة التعامل مع الفرنسيين‪ ،‬يميل ابن ميار إلى السياسة كوسيلة لبناء العالقات مع بني عثمان‪ ،‬وحتى الفرنسيين‪ ،‬بينما‬
‫السل ّاوي وجهة نظر أخرى‪ ،‬الثورة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير‪ .‬أما الشخصية الخامسة فهي دوجة‪ ،‬المعلقة بين كل هؤالء‪ ،‬تنظر إلى‬
‫تحوالت المحروسة ولكنها ال تستطيع إال أن تكون جزءا منها‪ ،‬مرغمة ألنه من يعيش في المحروسة ليس عليه إال أن يسير وفق‬
‫>‪.</p></div‬شروطها أو عليه الرحيل‬

‫مكتبة‬
‫‪Telegram Network‬‬
‫»المكتبة النصية«‪2020‬‬

‫‪:‬قام بتحويل رواية‬

‫)الديوان اإلسبرطي(‬

‫» لـ « عبد الوهاب عيساوي‬

‫‪:‬إلى صيغة نصية‬

‫)فريق الكتب النادرة(‬

‫‪ ‬يزن – المملكة المتحدة‬

‫]‪[image "Image" file=images/image.png‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪[image "A picture containing object, clock, plate, food‬‬

‫]‪Description automatically generated" file=images/image2.png‬‬

‫‪ ‬‬

‫الحائزة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) ‪2020‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ِّ‬
‫الديوان اإلسبرطي‬

‫‪ ‬‬

‫رواية‬
 

‫عبد الوهاب عيساوي‬

[image "A picture containing knife

Description automatically generated" file=images/0.jpeg]

‫حقوق الطبع محفوظة‬

[image "A picture containing knife

Description automatically generated" file=images/0.jpeg]

‫ الجزائر‬،‫دار ميم للنشر‬

E-mail: mim_edition@hotmail.fr

All rights reserved: No part of this book may be reproduced, stored in a retrieval
system or transmitted, in any form or by any means, without prior permission in
writing of the publisher.

‫ أو نقله باي‬،‫ ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات‬: ‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫ دون إذن خطي مسبق من الناشر‬،‫شكل من األشكال‬.

 
‫‪ ‬‬

‫ِّ‬
‫الديوان اإلسبرطي‬

‫اسم الكاتب‪ :‬عبد الوهاب عيساوي ‪ /‬كاتب من الجزائر‬

‫سنة اإلصدار‪ :‬الطبعة األولى سنة ‪2018‬‬

‫دار ميم للنشر‪ ،‬الجزائر‬

‫‪ ‬‬

‫ردمك‪978-9931-585-60-2 :‬‬

‫االبداع القانوني‪ :‬السداسي الثاني‪2018 ،‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫السواء‬
‫الشرق والغرب على ّ‬
‫للتذوق‬
‫ّ‬ ‫يقدمان إليك أشياء طاهرة‬
‫ّ‬

‫‪،‬فدع األهواء‪ ،‬ودع القشرة‬

‫ِ‬
‫المأدبة الحافلة‬ ‫‪:‬واجلس في‬

‫عابرا‬
‫ً‬ ‫وما ينبغي لك‪ ،‬وال‬

‫‪.‬أن تنأى بجانبك عن هذا الطعام‬

‫‪ ‬‬

‫الشرقي‬ ‫جوته ‪ّ ِ -‬‬


‫الديوان ّ‬

‫ترجمة عبد الرحمن بدوي‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫إلى روح الصديق الشاعر والناقد حميد ناصر خوجة‬

‫‪.‬أهدي هذه الرواية ذكرى أحاديث لم تنته‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫القسم األول‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ديبونمرسيليا مارس ‪1833‬‬

‫‪ ‬‬

‫أوهام‪ ،‬أنت الذي ال تزال تعتقد أن‬


‫ٍ‬ ‫لمشفق عليك مما يحمله رأسك من‬‫ٌ‬ ‫المبجل ديبون‪ ،‬وإني‬
‫َّ‬ ‫إله هذا العالم يا صديقي‬
‫الشيطان ُ‬
‫إن َّ‬
‫للمخ ِل ّص‪ ..‬أفق يا ديبون‪ ،‬أ ِفق أو ُ‬
‫عد إلى مرسيليا‬ ‫ُ‬ ‫تجل‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫القادة‬ ‫كل‬ ‫وأن‬
‫ّ‬ ‫المجدلية‪،‬‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ساء‬‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫ال‬ ‫‪.‬كل‬

‫‪.‬صديقك اللَّدود كافيار‬

‫‪ ‬‬

‫******‬

‫‪ ‬‬

‫تضج في رأسي‪ ،‬صديقي‬ ‫ُّ‬ ‫سنوات بعد سقوط الجزائر‪ ،‬وما زالت هذه الكلمات‬ ‫ٍ‬ ‫عاما انقضت على موت نابليون‪ ،‬وثالث‬ ‫ً‬ ‫اثنا عشر‬
‫خطاب‪ .‬أجوب شوارع مرسيليا‪ ،‬الناس تناسوا ضجيج السنوات الماضية‪ ،‬وزيارة ولي العهد‪ .‬آه‬ ‫ٍ‬ ‫القديم لم يشأ أن يُغيِّرها في كل‬
‫تبدد في ال ّ َذاكرة الضعيفة للناس‪ .‬في ُ‬
‫الملك ال‬ ‫ّ‬ ‫آسف لم يعد وليًا للعهد بعد أن انقلبوا عليه وصار هو اآلخر منفيًا‪ ،‬أو ِظل ًا ضئيل ًا‬
‫عاما‪ ،‬وال بين لويس التاسع عشر أو نابليون!! من يا ترى بقي يحتفظ بأحالم المجنون الذي‬ ‫ً‬ ‫فرق بين عشرين دقيقة أو عشرين‬
‫أن صديقي كافيار كان أكثرهم اشتعال ًا بسير ِة‬
‫تو ج ملك ًا على العالم؟! بالرغم من أن اسمه بقي ينوس في ذاكرة الناس‪ ،‬إال ّ‬ ‫أراد أن يُ ّ‬
‫تجار مرسيليا في جدوى بقاء الفرنسيين في هذه‬ ‫القائد المجنون‪ ،‬أحب أن أسميه شاول اللَّعين‪ ،‬يضحك حين يسمعها‪ .‬يتّفق مع ّ‬
‫السالفة‪ ،‬بل ألشياء‬
‫المدينة اإلسبرطية التي ترتفع خلف البحر‪ ،‬فالتجار في مرسيليا يريدونها بالتأكيد ليس فقط من أجل أمجادهم َّ‬
‫‪.‬أخرى‪ ،‬المال كما يقول شاول إله جديد وما أكثر اآللهة! آلهة في البحر وأخرى في البَّر‬

‫وجوها‬
‫ً‬ ‫ساخرا من أوهامي‪ُ ،‬خيّل لي أنه خلفي‪ ،‬وفجأة ألتفت‪ ،‬أرى‬ ‫ً‬ ‫الحجب‪،‬‬‫ُ‬ ‫ديبون‪ ..‬ديبون‪ ..‬يتناهى لي صوته يناديني من خلف‬
‫ال أعرفها تُخبّئ أجسادها داخل معاطف صوفية‪ ،‬تجوب الشوارع في عجالةٍ ‪ ،‬يمتد بصري إلى نهاية الطريق حيث ال ُزرقة والميناء‪،‬‬
‫لكن كافيار اختار مصيره منذ افترقنا قبل‬
‫ّ‬ ‫يتراءى لي صديقي القديم هناك واقفًا يدخن غليونه‪ .‬هل يمكن أن يكون كافيار قد عاد؟؟‬
‫سنتين في إفريقية‪ ،‬قالها لي وهو ينفث دخانه في وجهي‪ :‬عد يا عزيزي ديبون إلى مرسيليا وإلى جريدتك‪ ،‬مثلك ال يصلح للعيش‬
‫تصور أن ما تفعله أو تفكر فيه‬‫ّ‬ ‫هنا‪ ،‬نوبة ُز حار واحدة كافية إلنهاء حياتك‪ ،‬أنا أكثر الناس دراية بهذه األرض وهؤالء البرابرة‪ ،‬ال يُمكنك‬
‫‪.‬ما هي إال أوها ٌم صنعتها مخيلتك‪ .‬وهكذا عدت‬

‫يوم ما حقيقة‪ ،‬وأن يأسي جعلني أخدع بيُسر رغم‬


‫ٍ‬ ‫أن هذه األوهام كانت في‬ ‫ربما كان صديقي على حق‪ ،‬غير أنني اآلن مدرك ّ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬كانا ُمتشبّثين بي مثل ًا تشبّثت المجدلية بيسوع‪ِ ،‬‬
‫وع َوض أن أطمئنهما فررت‪ ،‬قادني يأسي إلى‬ ‫رجاء ابن ميّار‪ ،‬وحتّى صديقه ّ‬
‫عما كنت أؤمن به‬‫ّ‬ ‫تخليت‬ ‫مثلما‬ ‫عنهما‬ ‫‪.‬التخلي‬

‫أفيق على نسمة ريح باردة تتسلَّل إلى جسدي بينما وقفت منتصبًا أراقب الميناء‪ .‬لم يكن صديقي هناك‪ ،‬ال ُزرقة توغل في ذاكرتي‪،‬‬
‫شارع جانبي‪ ،‬ثم شمال ًا ألج آخر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أحث الخطى وأنعطف يمينًا إلى‬‫ُّ‬ ‫يحد إبره لتَنخسني‪ ،‬فأعود بوجهي إلى دربي األول‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والبرد‬
‫مسرعا كأنني ُمطاردٌ‪ ،‬أتجاوز مبنى المسرح إلى‬
‫ً‬ ‫أخطوها‬ ‫روب‬ ‫الد‬
‫أعد أعمدته الستّة وأفر منه إلى بقية ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ويقابلني مبنى المسرح الكبير‪،‬‬
‫أتهجى حروفها‪ :‬جريدة «لو‬‫ّ‬ ‫شارع أوسع يقودني ُمنعطفه الثاني إلى شارع فنتور‪ ،‬وما إن أعبَر مدخله حتى تقابلني الفتة الجريدة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫سيمافور دو مارساي»‪ .‬وقبل أن ُأخفض عيني امتدت يدٌ من خلف الباب وسحبتني إلى الداخل‪ ،‬ثم عبرت بي الرواق إلى مكتب‬
‫‪:‬المدير‪ ،‬الذي ظل ينقل وجهه بيني وبين الرجل الخمسيني الجالس قبالتي‪ ،‬ثم خاطبني‬

‫!يبدو أن أصدقاءك القدامى حين فرغت جيوبهم من ال ّ َذهب مألوها بالعظام ‪-‬‬

‫من تقصد؟؟ ‪-‬‬

‫أصدقاءك من الضباط يا ديبون‪ ،‬ألم تكن ُمراسل ًا للحملة التي أرادت أن تُحيل إسبرطة إلى أثينا‪ ،‬ثم فوجئنا بمدينة رومانية في ‪-‬‬
‫إفريقية؟‬

‫دوما على حق‪ ،‬ولكنك تؤثر االنتصار لروحك التي عبّأتها سنوات األسر‬
‫ً‬ ‫لو أنك كنت هنا يا صديقي كافيار‪ ،‬لعرفت أنني كنت‬
‫‪:‬والعبودية بمشاعر مظلمةٍ ‪ ،‬أنار الرب روحك يا صديقي‪ .‬كنت ُأصل ّي لك في قلبي حين أردف المدير‬

‫أتعرف باخرة باسم بون جوزفين؟ ‪-‬‬

‫‪.‬لعلي سمعت بها ‪-‬‬

‫الطبيب إلى هناك ‪-‬‬


‫‪.‬لم يبق الكثير عن موعد ُر ُس ِ ّوها بالميناء قادمة من الجزائر‪ ،‬وسترافق ّ َ‬

‫الس يد الذي قابلني‪ ،‬ثم حمل معطفه وغادر المكتب‪ ،‬وتركني أحاول تقديم نفسي للطبيب‬
‫مشيرا إلى ّ َ‬
‫ً‬ ‫‪.‬رمى المدير الكلمات في وجهي‬

‫‪:‬تأملني الطبيب مليَّا ثم قال‬


‫ّ‬
‫عظاما بشريّ ًة؟ ‪-‬‬
‫ً‬ ‫يُقال إن الباخرة تحمل‬

‫أهي لجنود أوصوا بذلك؟ ‪-‬‬

‫السكر‪ .‬يُقال إنها تستعمل لتبييضه ‪-‬‬


‫‪.‬ال‪ .‬بل لمصانع ُّ‬

‫‪:‬ذُهلت وأنا أسمع كلماته‬

‫!أتعي ما تقوله سيدي الطبيب؟ ‪-‬‬

‫‪.‬أنا هنا من أجل هذا‪ ،‬ما عليك إال مرافقتي إلى الميناء ‪-‬‬

‫ثالث كان خطًأ أحاول‬


‫ٍ‬ ‫سنوات‬
‫ٍ‬ ‫مندفعا‪ ،‬كأنني ُأثبت لنفسي أو ربما لصديقي القديم أن ما حدث قبل‬
‫ً‬ ‫حين غادرنا المكتب كنت‬
‫التَّطهر منه بأي طريقةٍ ‪ ،‬وإن اضطرني األمر للعودة إلى الجزائر‪ .‬عند باب الجريدة تراءت لنا العربات من منعطف الشارع‪ ،‬ركبنا‬
‫‪.‬على متن إحداها متجهين إلى الميناء في انتظار بون جوزيفين‬

‫أياما‪ ،‬ثم أمطرت مسحوقًا أبيض تقزز منه الناس‪،‬‬


‫ً‬ ‫في الدرب الحجري استعدت كلمات الطبيب‪ ،‬سحابة اإلشاعات ظللت مرسيليا‬
‫صدق فعل ًا‬
‫لعظام بشريّةٍ ؟ لم أكن ألدري سوى ما أراه من تغيُّ ٍر على مالمح الطبيب‪ .‬فكرت لو اسأله هل يُ ّ‬
‫ٍ‬ ‫ولكن هل صدقوا أنّه‬
‫‪:‬هذه اإلشاعة؟! شعرت باضطرابه كلما تَ َق ّدمنا من الميناء‪ ،‬كدت ُأ ِ‬
‫وعز للحوذي أن يتوقف دقائق غير أنه بادرني بالكالم‬
‫المعاينة‪ ،‬أنا خائف من وزر هذا العار ‪-‬‬
‫‪.‬أريد إقناع نفسي بأل ّا أثق في هذه اإلشاعات ولكن الضمير يُحتّم علي ُ‬
‫‪.‬أنت تعلم أنه ليس عارنا الوحيد‪ ،‬وكل األمم لها ما يسوؤها من المثالب ‪-‬‬

‫برر بيع عظام أمةٍ أخرى وبدعوى مثل التي تُشاع؟ ‪-‬‬
‫أوجدت لها المبررات‪ ،‬ولكن أي شيء ي ُ ّ‬
‫ُ‬ ‫!كل ّها‬

‫إن المال إل ٌه جديد‪ ،‬يُغريك كي تحفر القبور وتأكل عظام إخوتك بدعاوى كثيرةٍ‪ ،‬وإني لموقن أننا سنجدها بالباخرة‪ ،‬ليس ألن لي ‪-‬‬
‫بصدق‪ ،‬وعن كثب‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬نبوءات صادقةٍ بل ألني عرفتهم‬
‫ٍ‬

‫البحارة يجوبون‬
‫َّ‬ ‫اهتزت العربة عند المنعطف األخير‪ ،‬وحاولت أن أعتدل في مكاني‪ ،‬رفعت رأسي ألطل من النافذة‪ ،‬رأيت بعض‬
‫المكان‪ ،‬تتغيّر مالمحهم كلما حدقوا إلى امتداد ال ُزرقة الداكنة للبحر‪ .‬هل قاسموا بعض الساسة في باريس آراءهم؟ لطالما كان‬
‫غامضا لكنه ينتابك حين تشتاق‬‫ً‬ ‫أن هناك يقينًا ما وإن كان‬
‫غير الساسة‪ ،‬البحر يجعلك تؤمن ّ‬
‫ُ‬ ‫البحارة‬
‫َّ‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫ثيرا للمشاكل‪،‬‬
‫الجنوب ُم ً‬
‫أما السياسة فهي شيء آخر حيث الل ّايقين هو اليقين الوحيد الذي عليك اعتناقه‪ .‬انتبهت إلى توقّف العربة وإلى نداء‬ ‫إلى اليابسة‪ّ ،‬‬
‫خط األفق‪ ،‬قلت‬ ‫يتراء له غير ِّ‬
‫َ‬ ‫‪:‬الحوذي يطلب منا النزول‪ ،‬فتحت الباب ونزلت ليتبعني الطبيب‪ ،‬جابت عيناه الفضاء من حوله فلم‬

‫إذن لم تصل بعد بون جوزيفين؟ ‪-‬‬

‫إلي واتّخذ وجهه سم ًة أكثر جديّة‬


‫َّ‬ ‫‪:‬التفت‬

‫‪.‬علينا إذن االنتظار ‪-‬‬

‫انقضت ساعة أو ربما أكثر‪ ،‬خ ّفت حركة البحارة‪ ،‬وبعض التّ ُجار بعد أن حملوا أشياءهم رحلوا‪ ،‬وبقي آخرون مثلنا يحتلون المقاعد‪،‬‬
‫حتى تراءت باخرة في األفق‪ ،‬ولم أجزم إن كانت فعل ًا بون جوزيفين أم ال‪ ،‬شككت أنها هي حين انتبهت إلى وقوفهم في الزاوية‬
‫‪.‬األخرى‪ ،‬ثيابهم وقبعاتهم فضحتهم من أول وهلةٍ تقابلت فيها الوجوه‪ .‬وها هو التّ َرقب واالندفاع يؤكد بقية شك ّي‬

‫وقف الطبيب عند عتبة الرصيف ينتظرها‪ ،‬كان ُم درك ًا أول ما رآها أنها هي‪ ،‬عيناه كانتا تقوالن هذا منذ البداية‪ ،‬في حين انشغلت‬
‫السخيفة؟ أتعتقد أنك سوف‬‫يسم يها صديقي كافيار‪ :‬ديبون يا ديبون لماذا تشغل نفسك بهذه األفكار ّ َ‬
‫ّ‬ ‫عنه بتحليالتي البائسة مثلما كان‬
‫تنتصر لهؤالء البرابرة؟‬

‫لعجوز ويهديني إياها‪:‬‬


‫ٍ‬ ‫لطفل صغير‪ ،‬أو ربما‬
‫ٍ‬ ‫عظاما قد تكون‬
‫ً‬ ‫لو كان كافيار هنا لما انتظر طويل ًا مع الطبيب‪ ،‬والستخرج من جيبه‬
‫‪.‬خذها إنها تصلح أن تنحت منها صليبًا تعل ّقه في عنقك‬

‫أحولها ُسك ّ َ ًرا‪ ،‬أليس األمر سواء؟! ومهما يكن اإلله الذي تؤمن به‬
‫ِّ‬ ‫بين أن أع ِل ّق صليبًا من العظام أو أن‬ ‫ولِ َم ال يا كافيار؟ ما الفرق‬
‫القديم كان الناس يؤمنون بآلهة متعددة تتصارع فيما بينها‪ ،‬واليوم صاروا يؤمنون بإلهٍ واح ٍد يُتاجرون بأجساد‬ ‫فإن ّه لن يرضى بهذا‪ .‬في‬
‫يحتد فيها النقاش بيننا حول مآخذك على المدينة‬ ‫ُّ‬ ‫مر ٍة‬
‫كل ّ‬ ‫هذا ما كنت تريد قوله يا صديقي كافيار في ّ‬ ‫بعضهم من أجله! أليس‬
‫قد ٌر عذابك ولكنك لن تتطهر منها‬ ‫م‬
‫ُ ّ‬ ‫إني‬ ‫نعم‬ ‫عنها؟؟‬ ‫يتكلم‬ ‫جديرا أن‬
‫ً‬ ‫تقل إنّك ُأستعبدت بها وليس مثلك‬ ‫التي أسميتها إسبرطة‪ ،‬ألم‬
‫‪.‬بتعذيب اآلخرين‪ ،‬العذاب ي ُولد المعرفة ال الكراهية‪ ،‬والحكمة ال الحقد‪ ،‬واإليمان ال الكفر‬

‫تكهن أن تكون الباخرة التي ينتظرها تحمل‬ ‫َّ‬ ‫خطوات متفاجًئا‪ ،‬أتراه‬
‫ٍ‬ ‫وش ّ َدت المرساة تراجع الطبيب إلى الخلف‬ ‫حين أرخيت القلوع ُ‬
‫خم ن أنها سفينة تتبع األسطول التجاري؟ كنت أرى مدى خيبته وهو يكتشف المفارقة‬ ‫َّ‬ ‫َه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫أم‬ ‫المدافع؟‬ ‫من‬ ‫به‬ ‫عددا ال يستهان‬
‫ً‬
‫لحظات ثم عاد يراقب‬‫ٍ‬ ‫العجيبة‪ ،‬محاول ًا المقارنة بين عدد التّ ُجار الذين كانوا يتوافدون أمامه وعدد الجنود الذين يستقلون الباخرة‪.‬‬
‫تجار مرسيليا الصغار كانوا ينتظرون الغالل‬‫بعض ا من المسافرين في نزولهم‪ ،‬الخواء الذي كان بيني وبينه لم يلبث أن امتأل بالناس‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫التي أتت بها بون جوزيفين‪ ،‬وآخرون أرسلوا وكالءهم وقعدوا خلف مكاتبهم في الجهة األخرى من المدينة‪ .‬حملت نفسي ووقفت إلى‬
‫جانبه بينها اقترب منه أحد البحارة‪ ،‬لم ألتقط الكلمات األولى من الحوار غير أني رأيت يد الطبيب الممدودة بالوثيقة‪ ،‬تفحصها‬
‫البحار‬
‫ّ‬ ‫لو ًحا لنا من األعلى أن نتبعه‪ ،‬صعدنا حتى بلغنا سطح الباخرة‪ ،‬وتجاوزنا‬ ‫مسرعا‪ ،‬غاب دقائق وعاد ُم ّ‬ ‫ً‬ ‫البحار ثم صعد الدرجات‬
‫ّ‬
‫ووجه الخطاب إلى الطبيب‬ ‫َّ‬ ‫فجأة‬ ‫توقف‬ ‫ثم‬ ‫‪:‬بخطوات‬
‫ٍ‬

‫‪.‬هنا غرفة النقيب ‪-‬‬

‫وحدق‬
‫ّ‬ ‫كان النقيب يقف في نهاية الغرفة‪ ،‬وجهه أمام النافذة‪ ،‬يفصلنا عنه مكتب صغير فوقه خرائط وبوصلة وكتاب ضخم‪ ،‬التفت إلينا‬
‫مصد ٍق ما ُد ّون‬
‫ّ‬ ‫غير‬
‫ُ‬ ‫‪:‬في الطبيب مليًّا‪ ،‬وعاد يُق ِل ّب الوثيقة كأنه‬

‫الوكيل المدني يرسل لنا طبيبًا ليُفتّشنا‪ ،‬أليس هذا ما جئت من أجله؟ ‪-‬‬

‫ليس بهذه الصورة سيدي النقيب‪ ،‬إنما هو تَحقّ ٌُق من شيء ال يصلح له إال الطبيب‪ .‬وقد أراد الوكيل المدني تدارك الفضيحة إن ‪-‬‬
‫‪.‬كانت اإلشاعة حقيقيّة‬

‫‪:‬صمت النقيب لحظة ثم قال‬


‫قدمتما من أجل صناديق العظام؟ ‪-‬‬

‫مستفهما‬
‫ً‬ ‫‪:‬أجبته‬

‫!أفي الباخرة غيرها؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ال يعنيك غير ما تبحث عنه‪ ،‬هذا شرطي إن أردتما رؤيتها ‪-‬‬

‫‪:‬رد الطبيب‬

‫‪.‬ليس لنا غير ما نبحث عنه سيدي ‪-‬‬

‫البحار ُمرافقتنا إلى أسفل‬


‫ّ‬ ‫البحار الغرفة‪ ،‬لحظتها طوى الوثيقة وخبأها في جيبه وطلب من‬ ‫ّ‬ ‫ارتفع صوت النقيب ُمناديًا‪ ،‬وفجأة دخل‬
‫المفضي إلى أسفل‬ ‫البحار الذي نبّهه كي يُعيده إلى مكانه‪ ،‬وخطا هو اآلخر إلى الباب ُ‬ ‫ّ‬ ‫الباخرة‪ ،‬خطا الطبيب إلى األمام ُمتجاو ًزا‬
‫شير ا أن نتلوه‪ .‬تبعه الطبيب حينئذ‪ ،‬ثم كنت أنا في أعقابهما‪ ،‬وما إن المست رجالي األرض حتى‬ ‫الباخرة‪ .‬رفعه ونزل عبر سل ٍّم ُم ً‬
‫السل ّم وتقدم الطبيب إلى أول الصناديق‪ ،‬حاول فتحها وعجز‬ ‫ُ‬ ‫عند‬ ‫ار‬ ‫البح‬
‫ّ‬ ‫انتصب‬ ‫خلفنا‬ ‫ظاهرة‪،‬‬ ‫عناية‬ ‫تراءت لي الصناديق مصفوفة دون‬
‫لكن عيني كانتا‬‫ّ‬ ‫عن ذلك‪ ،‬إذ كانت أقفالها الكبيرة تتأرجح على جانبها‪ ،‬ولم يدر أي شيء يفعله وهو يقلب بصره بيني وبين البحار‪،‬‬
‫قدم إلى‬
‫تُفتشان المكان بحث ًا عن أي شيء للمساعدة‪ .‬لم يمهلني البحار إال دقيقة غاب فيها خلف السلم ثم عاد بمطرقة‪ ،‬وتَ ّ‬
‫فحطمه‪ ،‬ثم راح ينتقل من قفل إلى آخر وكأنها لعبة استهوته! البحر أحيانًا يجعل مرتاديه أقرب إلى‬ ‫ّ‬ ‫الصندوق وهوى على قُفله‬
‫بودي لو كان معنا‪ ،‬هل تراه سيتفاجأ بالذي‬ ‫ّ‬ ‫دائما في أوقات غريبة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فعل الحماقات مثلما كان يقول كافيار‪ ،‬هذا المجنون أتذكره‬
‫ويكرر جملته األثيرة‪ :‬ديبون أيها الطيب‪ ،‬إنك تذكرني بأطفال‬ ‫ّ‬ ‫الصناديق؟ بم أجيبه لو لم تكن بها إال عظام حيوانات؟؟ سيقهقه‬ ‫تحويه َّ‬
‫ضرجين بدمائهم وما زلت تفكر بهذه السذاجة‬ ‫ُ ّ‬‫م‬ ‫حولك‬ ‫من‬ ‫يتناثرون‬ ‫وهم‬ ‫الجنود‬ ‫ترى‬ ‫كنت‬ ‫أنك‬ ‫أستغرب‬ ‫الكنائس‪،‬‬ ‫في‬ ‫موع‬ ‫ُ‬
‫‪.‬الش‬
‫ّ‬

‫أي شيء في صاحبه‬


‫عنادا منه‪ ،‬ومع هذا افترقنا ولم يُغيّر كالنا ّ‬
‫ً‬ ‫أشد‬
‫ُّ‬ ‫دوما أني‬
‫ً‬ ‫‪.‬دائما كان كافيار أفصح مني‪ ،‬ولكنّه يعترف‬
‫ً‬
‫إلي‪ ،‬فدنوت أكثر ثم انحنيت على‬ ‫َّ‬ ‫رفع الطبيب الغطاء بهدوء وأزال كومة القش أعالها‪ ،‬تأملها مليًّا ثم أغلق الصندوق والتفت‬
‫يده تستكشف أولها‪ ،‬وما كان في حاجة أن يقلبها‬ ‫ُ‬ ‫مد‬
‫الصندوق وأعدت فتحه‪ ،‬كانت عينا الطبيب تحدقان في كومة العظام أمامه‪ ،‬ثم ّ َ‬
‫الصناديق كلها‪ ،‬عيناه كانتا‬‫َّ‬ ‫على‬ ‫أتى‬ ‫حتى‬ ‫اآلخر‬ ‫خرج العظم تلو‬
‫كثيرا‪ ،‬بدت من ّأول وهلة أنّها فك إنسان‪ ،‬وضعها جانبًا وشرع ي ُ ِ‬
‫ً‬
‫تقوالن كل شيء‪ .‬افترش األرض وأشار إلى أقرب العظام إليه‪ :‬هذه ساق طفل لم يتجاوز العاشرة‪ ،‬واألخرى تبدو لشاب‪ ،‬وهذه‪...‬‬
‫أتراها يا سيد ديبون؟ إنها لشيخ أعرفها من انحناءاتها‪ ،‬ثم أعادها إلى الصندوق‪ ،‬لينتقل إلى آخر‪ ،‬ومد يده فعادت بجمجمة صغيرة‪،‬‬
‫السواد‪ ،‬قل ّبها الطبيب بخيبة في يده‪،‬‬ ‫ال إلى ّ َ‬ ‫وح َ‬
‫لحما على جوانبها‪ ،‬تعفّن َ‬ ‫ً‬ ‫وفي تلك اللحظة اضطربت‪ ،‬كانت الجمجمة ماتزال تحمل‬
‫يتعالى بيني وبين‬
‫َ‬ ‫البحار‪ ،‬كان صراخه‬ ‫ّ‬ ‫طل علينا من باب المخزن‪ ،‬يبكي وينادينا بأسمائنا‪ ،‬بالتأكيد لم يكن ليهتم به‬ ‫وتراءى الطفل ي ُ ّ‬
‫تسجله يا سيد ديبون من انتصارات قائدك العظيم؟ ألم يكن أجدى لك‬ ‫ّ‬ ‫يلوح لنا من قبره‪ :‬هل هذا ما أردت أن‬ ‫الطبيب‪ ،‬أو لعله ّ‬
‫الكتابة عن سيرة عظامي ال عن عظمة سيدك؟! كنتم تقولون سنكون مثل الناصري مخ ِل ّصين‪ ،‬فافتحوا أبواب قلوبكم‪ ،‬وفوجئنا بآالف‬
‫‪.‬من شاول يهرعون تجاه مقابرنا بمعاولهم‪ ،‬لك أن تفخر اآلن أصبحت مقابرنا حقول ًا‪ ،‬وعظامنا غالل ًا لكم‬

‫السل ّم في عجلة‪ ،‬باحث ًا عن هواء نقي‪ ،‬العفونة تتّسع‪ ،‬والعالم يزداد ضيقًا من‬ ‫لم يكن بمقدوري االحتمال‪ .‬سحبت نفسي وتسلقت ُّ‬
‫عائدا إلى تلك‬
‫ً‬ ‫حولي‪ ،‬كل شي ٍء في عيني حال إلى جماجم صغيرة تنادي باسمي‪ ،‬ما الذي تريده مني اآلن؟ هل أقطع المتوسط‬
‫سميها‬
‫يحب كافيار إسبرطة‪ ،‬أم مثلما يُ ّ‬‫ّ‬ ‫أسميها مثل ًا‬
‫ّ‬ ‫فاعل بها؟ وكيف أقبل عليها؟‬ ‫ٌ‬ ‫المدينة التي فررت منها في يوم ما؟ وما تراني‬
‫منتظرا ظهوره ثانية‪ ،‬وال يسمع‬
‫ً‬ ‫المزرق‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫الفضاء‬ ‫تجاه‬ ‫ًا‬ ‫ق‬ ‫محد‬
‫ّ‬ ‫وأبقى‬ ‫يغيب‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫الصارخ‬ ‫السل ّاوي وابن ميّار المحروسة‪ .‬يتضاءل الصوت‬
‫ّ‬
‫ودعناه ببرودة وسارت بنا العربة ُمبتعدين‬‫ّ‬ ‫َقيب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ُمرة‬ ‫ق‬ ‫باب‬ ‫بلغنا‬ ‫حتى‬ ‫ترافقنا‬ ‫‪.‬‬ ‫لي‬ ‫عدا أصوات األقدام المقتربة‪ ،‬مناداة الطبيب‬
‫‪.‬عن الميناء‬

‫لكن البرد يأبى الرحيل عن مرسيليا‪ .‬عبرت بنا العربة شوارع عديدة متباينة الطول‪ ،‬وطوال الطريق‬ ‫ّ‬ ‫كنا في الشهر األخير من الشتاء‬
‫صور انبعثت من الذاكرة‪ ،‬لنساء ي ُطللن من شرفات بيوتهن يهتفن للجنود العابرين‪ ،‬طولون تحولت إلى ثكنةٍ كبيرة‪ ،‬يُقبل‬ ‫ٌ‬ ‫شغلتني‬
‫عليها الجنود من كل صوب‪ ،‬امتألت البيوت والفنادق والساحات‪ ،‬واختنق الميناء بأعدادهم‪ ،‬الكل كان يريد المشاركة في حملة‬
‫الجزائر‪ ،‬حتى القَ ّس رأيته ُمتشبّث ًا بالقائد العام‪ ،‬تتالحق أنفاسه بالكلمات‪ُ :‬حلمي يا سيدي القائد االنضمام إلى زمرة هؤالء المباركين‬
‫يوز ُع البركات على الجنود‪ -‬يصلني‪ ،‬ولم يحمل الجنود إال‬
‫ّ‬ ‫الذين يُعلون شأن المسيح‪ .‬من مكاني داخل العربة كان همسه ‪-‬وهو‬
‫القليل من بركاته‪ ،‬التي لم تُ نج بعضهم من الزحار والوباء‪ ،‬وآخرون سئموا إفريقية بسرعة وتجمعوا أمام خيامهم يريدون العودة‪ ،‬لكنهم‬
‫‪ُ.‬أجبروا على البقاء‬

‫كلما استعدت آخر األيام التي جمعتني بكافيار تزداد رغبتي في العودة إلى الجزائر‪ ،‬وحين أحاول التخلص من مشهد العظام أفاجأ‬
‫يتحولون إلى هياكل عظميةٍ في عيني وينادون‬
‫ّ‬ ‫بنفسي أمامهم‪ ،‬األطفال الذين يتراءون لي من نافذة العربة‪ ،‬إنهم أبناء هؤالء التجار‪،‬‬
‫خالص أخير يا كافيار‪ ،‬أن أعبر المتوسط إلى مدينة المحروسة أو‬
‫ٌ‬ ‫باسمي‪ ،‬كيف يمكن التخلص من هذا الحصار؟ لم يبق لي إال‬
‫‪.‬مثلما تُحب تسميتها إسبرطة‬

‫لوح لي حين كانت العربة تنعطف ُمغادرة شارع فنتور‪ ،‬لم نتّفق إن كنا سنلتقي ثانية أم ال‪ ،‬لكني‬
‫ودعت الطبيب عند عتبة الباب‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫مجددا‪ ،‬وجلست في مكتبي أتتبع رحلتي إلى الميناء‪ ،‬لم تُطاوعني يداي أن أكتب شيًئا إال في اليوم الثاني‪،‬‬
‫ً‬ ‫حدست أنني ساراه‬
‫فما إن وقفت عند باب مبنى الجريدة حتى كان الحوذي نفسه ينادي باسمي ويُسل ّمني تقرير الطبيب‪ ،‬في مكتبي قرأته‪ ،‬لم يكن‬
‫دائما يكون مثل سوط‪ ،‬ليس بمقدورك تجنّبه‬
‫ً‬ ‫احتجاجا تجاه ما حدث‪ .‬الوعي بالحقيقة أحيانًا أو ربما‬
‫ً‬ ‫‪.‬تقريرا طبيًا بقدر ما كان‬
‫ً‬
‫وحملت نفسي وفررت‬ ‫ُ‬ ‫المحرر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سرا‪ ،‬وأكثر اقتضابًا‪ ،‬بصعوبة فرغت منها وسلمت المقال إلى‬
‫ع ً‬
‫الجمل األخيرة من المقال كانت أشد ُ‬
‫ُ‬
‫خارج مبنى الجريدة‪ ،‬صارت األماكن الضيقة تُعيد مشاهد المقابر وحقول العظام‪ ،‬وفي منتصف شارع فنتور تحسست رسالة الطبيب‪،‬‬
‫خواطر عديدة‪ ،‬ونداء يطلب مني نسخ الرسالة وإرسالها إلى صديقي القديم كافيار‪ ،‬ونداءٌ آخر‬
‫ُ‬ ‫كانت في جيبي‪ ،‬لحظتها طافت بي‬
‫يسخر هازًئا من الفكرة‪ ،‬كأنه يقول ما الفائدة مما تفعله‪ ،‬أتعتقد أنّك بمقالك أو بهذه الرسالة يُمكنك إيقاف صراخ األطفال في‬
‫حارسا في مقابر المحمديين‪ ،‬أو في حقول المسيحيين!! ولِ َم ال؟! سأرجع إلى المحروسة‬ ‫ً‬ ‫داخلك؟ لن يصمتوا حتى وإن أصبحت‬
‫مسرعا‬
‫ً‬ ‫بصوت مسموع التفت له بعض السابلة‪ ،‬فخطوت‬ ‫ٍ‬ ‫حارسا ليس فقط على المقابر‪ ،‬بل على حياة الجميع‪ ،‬قلت هذا‬ ‫ً‬ ‫وسأصبح‬
‫‪.‬فارا من شارع فنتور‬ ‫ً‬
‫ضجيج ا سينبعث بعد قراءة المقال‪ ،‬تناولت الجريدة من أول األكشاك ورأيت العنوان بحجمه الكبير‬ ‫ً‬ ‫أن هناك‬
‫خمنت ّ‬‫ّ‬ ‫في اليوم الثاني‬
‫مسرعا تجاه‬
‫ً‬ ‫ثمة واحدة‪ ،‬وكل من يفرغ منه يسير‬ ‫ّ‬ ‫تبق‬ ‫لم‬ ‫حتى‬ ‫ُسخ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫على‬ ‫يتهافتون‬ ‫حولي‬ ‫من‬ ‫الناس‬ ‫كان‬ ‫األولى‪،‬‬ ‫في الصفحة‬
‫أياما حتى تُنزل حمولتها‪ .‬تتبعت المقال‬
‫ً‬ ‫الميناء‪ ،‬كانوا يُدركون أن قوانين الحظر الصحي مازالت سارية وأنه على كل سفينة البقاء‬
‫السائر تجاه الميناء حتى بلغته‬ ‫ِّ‬
‫المد ّ َ‬ ‫‪.‬بسرعة‪ ،‬ثم رميت نفسي في‬

‫حتما بأنهم كانوا أكثر من هؤالء‪ ،‬بالرغم من أن األهواء‬


‫ً‬ ‫لو ق ِ ُّدر للذاكرة إعادة ما حدث في ميناء طولون قبل ثالث سنوات ستشي‬
‫كانت مختلفة‪ ،‬باألمس الكل ينتفض من أجل ُسمعة هذه األمة العظيمة حين ُأهين قُنصلها‪ ،‬واليوم هل تراهم ينتفضون من أجل‬
‫بياضا؟! المجد لكم أيها المص ِن ّعون‪ ،‬المجد لك يا صديقي كافيار‪،‬‬
‫ً‬ ‫السكر‬
‫الشيء نفسه‪ ،‬صناديق من عظام األطفال والشيوخ تُسحق لتزيد ُّ‬
‫بعض الهزائم تبدو انتصارات في القلوب التي أظلمت بالخطيئة‪ ،‬وبعض االنتصارات تجلب الخيبة لحاملها‪ .‬من يريد اآلن إعادة سيرة‬
‫‪:‬الكورسيكي المجنون ويحتل العالم؟؟ ينفلت الصوت من داخلي‬

‫‪.‬مازال هناك الكثير منهم يا ديبون‪ ،‬إنهم هناك ينتظرونك في إفريقية ‪-‬‬

‫‪:‬أجبته‬

‫بدءا من طولون وانتهاء بالجزائر ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬تيقّ ن أنني لن أعترض على كالمك‪ ،‬أريدك فقط أن تتأكد أني سأعيد هذه الرحلة‬

‫تغلغلت بين الصفوف حتى كنت‬


‫ُ‬ ‫اكتظ الرصيف بالناس‪ ،‬وتعالت أصواتهم من هناك‪ ،‬ثم تبددت وهم يلتفتون إلى العربات التي وصلت‪،‬‬
‫عند أولها‪ ،‬ومددت بصري أراقب الن َّازلين‪ ،‬فُتح باب أولها ونزل الوكيل المدني يرافقه الطبيب‪ ،‬وانتظرا حتى انضم إليهما محافظ‬
‫ضجوا ثم‬
‫ّ‬ ‫الشرطة وشيخ البلدية وصعدوا إلى الباخرة‪ ،‬ساعة من الغياب ثم رأيناهم في نزولهم‪ ،‬قرأ الناس كل شيء على وجوههم‪،‬‬
‫عددا من الشرطة على متن بون جوزيفين‬
‫ً‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وعادوا يراقبون العربات وهي تغادر الصيف‪ُ ،‬مخ ِل ّف ًة وراءها‬
‫ضجوا ّ‬
‫ّ‬ ‫‪.‬صمتوا ثم‬

‫التفت ووجدت الطبيب هناك‪ ،‬ترافقنا إلى مقهى البحرية واحتللنا أول طاولة بها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫أثناء مغادرتي الرصيف سمعت نداء على اسمي‪،‬‬
‫‪:‬أحسست أن الطبيب كان يريد محادثتي عن أشياء كثيرة لكنه صمت وهو يراقب الناس‪ ،‬ثم همس حتى بالكاد سمعنه‬

‫!!لن ينتهي األمر عند هذا الحد يا سيد ديبون‪ .‬ولن تتوقف تجارة العظام كن ُمتيقنًا من هذا ‪-‬‬

‫ولم هذا اليقين؟ ‪-‬‬

‫وتفرقهم الحقيقة ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫‪.‬انظر إلى الرصيف‪ ،‬قد أضحى خاويًا من البشر‪ ،‬هؤالء يجمعهم الفضول‬

‫والذين رافقتهم في عرباتهم؟ ‪-‬‬

‫‪.‬عدا ما سيفعله الوكيل المدني‪ ،‬الباقي ال معنى له‪ ،‬غرامة بفرنكات وربما قد تعود الصناديق إلى الجزائر ‪-‬‬

‫وما الذي سيفعله الوكيل؟ ‪-‬‬

‫‪-‬‬ ‫بل قل ما الذي ستفعله أنت‪ ،‬الوكيل سيزور الجزائر محاول ًا منع هذه التجارة‪ ،‬وال يمكنه فعل شيء‪ ،‬أنت أدرى مني بالطريقة‬
‫أما الضباط فقد صاروا يرون إفريقية أمالك ًا‬
‫التي تسير بها األمور في إفريقية‪ ،‬نحن لسنا وحدنا‪ ،‬وكل يوم يزيد تعداد األوروبيين‪ّ ،‬‬
‫‪.‬خاصة‬

‫‪.‬لو كنت تعرف كافيار صديقي القديم لقلت أكثر من هذا ‪-‬‬

‫نعم‪ ،‬أمثاله كثيرون‪ ،‬قرأت بعض تقاريرهم‪ ،‬ولكن أال تفكر في مواصلة ما بدأته؟ ‪-‬‬

‫!أيّها؟ األشياء التي بدأتها وتخاذلت عنها كثيرة؟ ‪-‬‬

‫‪.‬أتكلم عن حقول العظام التي في الجزائر ‪-‬‬


‫علي العودة إلى هناك؟؟ ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫أتقترح‬

‫‪.‬سيغادر الوكيل المدني بعد يومين‪ ،‬ف ِك ّر في األمر ‪-‬‬

‫الطبيب جملته األخيرة ثم غادر المقهى‪ ،‬وخل ّفني أراقب جدرانها الرطبة تارة وأخرى أتوه في زرقة المتوسط‪ ،‬بدت قائمة تميل‬‫رمي َّ‬
‫حدا لمزاجيتك‪ ،‬قالها لك‬
‫ًّ‬ ‫إلى السواد‪ ،‬موجات ُمتعثّرة تختبئ مسرع ًة قبل إنهاء دورتها‪ ،‬هكذا أنت يا ديبون‪ ،‬ال تستطيع أن تضع‬
‫ساخر ا‪ :‬أصبحت يا ديبون تتصرف مثل هؤالء الشرقيين‪ ،‬وتنفعل مثلهم‪ ،‬مخالطتك لهم أصابتك‬‫ً‬ ‫الدوق روفيغو‬
‫كلوزيل ثم أعادها لك ُّ‬
‫بالعدوى‪ ،‬واآلن أراك تماثلهم في كثير من الطباع‪ .‬ما الذي يجبرك على االنحياز إلى هؤالء البرابرة‪ ،‬وقد ساهمت في مجد أمتك‪،‬‬
‫مجدا آخر تضيفه لإلنسانية من أجل حقوق‬ ‫ً‬ ‫ودو نت مسيرة فاتح إفريقية حتى أضحيت من نجوم الصالونات الباريسية؟! أتريد‬
‫َّ‬
‫وعد إلى باريس‬
‫ُ‬ ‫هذا‬ ‫عنك‬ ‫دع‬ ‫ا؟‬‫جديد‬
‫ً‬ ‫ا‬ ‫مسيح‬
‫ً‬ ‫‪.‬البائسين‪ ،‬أم أنك تعتقد نفسك‬

‫أو باريس؟ في باريس لن يرغب‬ ‫مجددا إلى بلد الزحار والغبار‪ ،‬أال تُغنيك مرسيليا‬
‫ً‬ ‫أيعقل هذا الذي تفكر فيه يا ديبون‪ ،‬هل ستعود‬
‫أياما فقط‬
‫ً‬ ‫أتذكر متى كان ذلك؟!‬ ‫فيك أحدٌ اآلن! لم ينسوا ذلك الحوار الذي أجريته مع الباشا المخلوع أثناء زيارته إلى باريس‪،‬‬
‫مكتوب من‬
‫ٌ‬ ‫يقول «إن كل شيء‬ ‫بعد فرارك من الجزائر‪ ،‬يومها قال أو لعلك قلت على لسانه كلمات لم تُعجب الكثير‪ ،‬يكفي أن‬
‫السخرية من قدرية هؤالء الشرقيين‬
‫ُّ‬ ‫‪.‬الله» حتى يثير‬

‫انتبهت على حركة النادل قربي‪ ،‬فرحلت عن المقهى‪ ،‬متسائل ًا عن جدوى بقائي في مرسيليا ولعامين لم يحدث شيء‪ ،‬مدين ٌة‬
‫تستيقظ وتنام على تجارتها‪ ،‬ما الذي يدعوني إلى البقاء هنا وآالف من األفكار تحثّني على العودة إلى المحروسة‪ .‬سأعود يا كافيار‪،‬‬
‫المر ة‪ .‬سأصرخ بها أريد وإذا شئت بعدها اقذف بي من أعلى أسوار المحروسة‪ ،‬لن أتوقف ولن‬ ‫ّ‬ ‫تأكد أنني لن أستسلم لك هذه‬
‫وانتصرت‬
‫َ‬ ‫منتصرا في قلبك‪ ،‬بينما ما زلت أراه مجنونًا كاد يقود العالم إلى الهالك‪،‬‬
‫ً‬ ‫واحتفظت به‬
‫َ‬ ‫أسايرك‪ُ .‬هزم نابليون في واترلو‬
‫العل َم الثالثي األلوان‪،‬‬
‫وكنت ميال ًا للبحرية‪ ،‬بينما افتخر في كتاباتي بالمشاة‪ ،‬واحتضنت َ‬
‫َ‬ ‫زلت وفيًا لعائلة البوربون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫للملك الجديد وما‬
‫سخرت منها‪ ،‬فافترقنا منذ التقينا‪ ،‬وكانت المدينة شاهدة على‬
‫َ‬ ‫لكنك‬ ‫اإلنجليزية‬ ‫باألمة‬ ‫أنا‬ ‫وفتنت‬
‫ُ‬ ‫األبيض‪،‬‬ ‫َم‬ ‫ل‬ ‫للع‬
‫َ‬ ‫حبي‬ ‫ولم يُغادرني‬
‫‪.‬حكايات أخرى بيننا‪ ،‬فكيف نتفق! ثم كان انتصارك في فراري‪ ،‬وها أنذا عائدٌ إلى الجزائر‬

‫لم أنتبه إال أمام نهج دارسي حيث ُأقيم‪ ،‬وقفت عند باب بيتي‪ ،‬فتحته وعبرت إلى غرفة نومي ورميت نفسي على السرير‪ ،‬وحين‬
‫‪.‬أفقت كان الن ُّور يتسلل خافتًا من النافذة يعلن عن بداية يوم جديد‬

‫متأخرا‪ ،‬ودخلته أكثر ثقة‪ ،‬ألم ُتسحب جميع النسخ؟ ألم يجعل مقالي الناس تتجمهر عند الميناء؟ بهذه‬ ‫ً‬ ‫وصلت إلى مبنى الجريدة‬
‫كرر كلمات الطبيب‪ ،‬كأن‬‫ّ‬ ‫قبالته‪،‬‬ ‫وجلست‬ ‫مكتبه‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫فعدت‬ ‫المدير‬ ‫إشارة‬ ‫إلى‬ ‫التفت‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ولوجه‬ ‫وقبل‬ ‫مكتبي‪،‬‬ ‫الروح عبرت الرواق إلى‬
‫هناك تحالفً ا بينهما‪ ،‬كل يوم تزداد ثقتي في ضرورة العودة إلى الجزائر‪ ،‬ثم حسمت أمري وقررت الرحيل‪ .‬كانت كلمات المدير‬
‫أيضا إلى رحلة الوكيل المدني‪ ،‬بينما كان هناك شيء في داخلي يرفض ُمرافقته‪ ،‬يسحبني إلى طولون‪ ،‬يريد تكرار المسيرة‬ ‫ً‬ ‫تشير‬
‫المغايرة‪ ،‬أو ربما المعاكسة‪ ،‬وقد أسميها رحلة التّ َطهير‪ ،‬كان المدير يبحث عن إثارة يكون الوكيل بطلها وأنا كاتبها‪ ،‬ولكني أبصرت‬
‫‪:‬أشياء غير التي يُريدها‪ ،‬وقبل إنهاء كالمه قلت‬

‫‪.‬سأغادر في الغد ومن طولون‪ ،‬وال يعنيني ما سيقوم به الوكيل المدني ‪-‬‬

‫كيف ال يعنيك‪ ،‬وما فائدة رحيلك إذن؟؟ ‪-‬‬

‫‪.‬اشتقت إلى أصدقائي اإلسبرطين سيدي المدير ‪-‬‬

‫‪.‬نعم‪ ،‬لك أن تسخر ‪-‬‬

‫للسخرية‪ ،‬إننا لم نترك شيًئا لم نسخر منه‪ :‬الموت والحياة‪ ،‬والله والشيطان‪ ،‬الروح والجسد‪ ....‬واآلن ‪-‬‬
‫هذا العالم أصبح مدعاة ُّ‬
‫ما الذي بقي لنا لنف ِك ّر فيه بجديّة؟؟‬

‫كل يحتفظ بوجهة نظره‪ ،‬ولن يتخلى عنها ولو مألوا له المدى‬ ‫صمت المدير ُمنهيًا ال ِن ّقاش‪ ،‬بعض الحوارات ال تحتاج إلى اإلطالة‪ٌ ّ ،‬‬
‫وانسحبت إلى مكتبي‬‫ُ‬ ‫الطبيب‪،‬‬ ‫عنوان‬ ‫أخذت‬ ‫أن‬ ‫بعد‬ ‫عته‬ ‫وود‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪ .‬وقفت‬
‫ً‬ ‫براهين وأدلة‪ ،‬االقتناع ال يول ّده العقل فقط بل القلب‬
‫‪.‬وحملت بعض الكتب وغادرت الجريدة آمل ًا أل ّا أرجع‬

‫تعود طولون إلى الذاكرة كمهرجان من الهتاف‪ ،‬ووجوهٌ مألوفة وأخرى غريبة تجوب الشوارع‪ .‬جنود في صفوف النهائية‪ ،‬خطواتها رتيبة‬
‫جزءا من الحرب المقدسة‪ ،‬التي تبعث المجد ألمة ُخدش شرفها وُأهين‪ ،‬الكل يريد القضاء‬ ‫ً‬ ‫تهدف إلى الميناء‪ ،‬الكل يود أن يكون‬
‫على ربوة القراصنة التي تستعبد المسيحيين‪ ،‬الكل يحلم بالقضاء على أسطورة األتراك المتوحشين في المتوسط‪ ،‬ولكن كيف هي‬
‫طولون اليوم؟ أتراني سأسمع صدى الهتاف‪ ،‬وأتبع آثار الجنود؟ أم أن الناس التفتوا إلى همومهم اليومية وتناسوا كل أحالمهم‬
‫الماضية؟ بالتأكيد هذا ما حدث‪ .‬ألم تنته المدينة التي أرعبت الجميع وانتقلت من األتراك إلى الرومان؟ هذا ما حدث‪ ،‬وما سأف ِك ّر‬
‫‪.‬فيه حين اعبر المتوسط إليها ألراها بوجهها المختلف‪ ،‬بعد انتهاء عامين من غيابي وثالث سنوات على احتاللها‬

‫في فجر اليوم التالي التزمت كرسي ًا في المحطة تحوطني حقائبي في انتظار الحوذي‪ .‬لحظات من الغياب ثم أقبل‪ ،‬حمل عني‬
‫أما حين سارت العربة فقد سمعت بعض‬
‫الحقائب ووضعها في مؤخرة العربة‪ ،‬ومضى إلى مقدمتها يدندن بأغنية ٍقديمة لم أتبيّنها‪ّ ،‬‬
‫المشوش‪ ،‬وتلجأ‬
‫ّ‬ ‫الرحيل والحب‪ ،‬أو الحرب‪ ،‬ال أدري‪ ...‬تختلط المعاني في ذهني‬ ‫مت أني فهمتها‪ ،‬أغنية عن ّ َ‬
‫توه ُ‬
‫ّ‬ ‫كلماتها‪ ،‬أو ربما‬
‫عيناي إلى مشاهدة شوارع مرسيليا وقد تكون للمرة األخيرة‪ ،‬ثم غابت المدينة عن ناظري‪ ،‬وفي انتظار بلوغ طولون غبت في غُالل ّة‬
‫‪.‬النوم‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫كافيارالجزائر مارس ‪1833‬‬

‫‪ ‬‬

‫أيها المبّجل ديبون‬

‫الدماء من أجل مجده‪ ،‬لذا ليس عليك لومي‬‫مسرته في سفك ِ ّ‬


‫ّ‬ ‫مد خدي اآلخر‪ ،‬إنّه إله‬‫الرب الذي صرت أومن به ال يرضى لي ّ‬ ‫َّ‬ ‫إن‬
‫ظل قائد واح ٍد تجل ّت لي فيه صورة‬
‫ِّ‬ ‫بعالم أفضل في‬
‫ٍ‬ ‫أومن‬ ‫كنت‬ ‫طريقته‪،‬‬ ‫على‬ ‫األسفار‬ ‫يقرأ‬ ‫ُ‬
‫فالكل‬
‫ّ‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫الكتاب‬ ‫من‬ ‫قي‬ ‫ت‬
‫َ َ‬‫س‬‫ن‬ ‫ونحن‬
‫‪.‬المسيح‪ ،‬غير أن الهزائم التي ُمنيت بها جعلتني أفكر في مصيري الذي قادني إليه حلمي‪ ،‬ثم وجدت الطريق بعد تيهي‬

‫مثل آخر الرسائل لن تُغادر هذه الجزائر‪ ،‬فبالنسبة لديبون لم تعد هناك جدوى من إراقة الحبر بعدما ُأريقت الدماء‪ ،‬يتمسك بإصراره‬
‫يجدف في هذا البحر‪ ،‬وإنا‬ ‫ّ‬ ‫تاج من العظام‪ ،‬ولم يدر أن العالم كله‬ ‫ٍ‬ ‫قاس‪ ،‬وأبحث عن مج ٍد فوق الجثث‪ ،‬أو أسمو إلى‬ ‫على أنني ٍ‬
‫منوطا برجل ثم‬
‫ً‬ ‫وندعي أن بحر الخطيئة هو ما يجر الناس على قتال بعضهم‪ .‬مجد هذه األمة كان‬ ‫ّ‬ ‫نحن من نتغاضى عما نراه‪،‬‬
‫مقدارا ال يستهان به من‬
‫ً‬ ‫لكن مالمحه حملت‬ ‫ّ‬ ‫خانوه‪ .‬لم يكن مجنونًا بل أكثر الناس حكمة حتى ونحن في واترلو‪ ،‬تقطعت أحشاؤه‬
‫المور واألتراك‪ ،‬وكأنك ُمتجاهل ما‬
‫ُ‬ ‫أولئك‬ ‫عن‬ ‫دافع‬ ‫التبجيل لجنوده‪ ،‬ولوال هؤالء اإلنجليز الذين تعت ُّز بهم لما حدث ما حدث‪ ،‬ثم أراك تُ‬
‫كافر أو ممسوس‪ ،‬وأنا الذي ذُقت من الهزائم ما‬ ‫ٌ‬ ‫وعوض أن تفك ّر في مصلحتك‪ ،‬تحمل الصليب في وجهي وكأنني‬ ‫فعلوه بنا؟! ِ‬
‫لكن ما الذي أفعله أمام‬‫ّ‬ ‫قائدا على كتيبتي‪،‬‬‫ً‬ ‫عبدا وقد كنت‬‫ً‬ ‫يكفيني‪ ،‬واترلو ق ََصمت ظهري‪ ،‬ثم أسرني األتراك ُمتق ّززين منّي‪ ،‬صيّروني‬
‫شر العالم ال بد‬
‫ّ‬ ‫جحيما لهم‪ ،‬ولعل ّي كنت فاضل ًا بما يكفي‪ ،‬فمن يذق‬ ‫ً‬ ‫أوهامك! لم يعد العالم اآلن يحتمل أصحاب الفضيلة‪ ،‬سيكون‬
‫لكن شيًئا ما يمنعه‪ ،‬شيء غامض في‬ ‫ّ‬ ‫له من التحلي بجزء منه‪ .‬اإلنسان فيه من الشر ما يُغريه بإشعال الحرائق في العالم‪،‬‬
‫المرافعة أمامك يا ديبون‪ ،‬إنها‬
‫مضطرا إلى تقديم هذه ُ‬ ‫ً‬ ‫لكن روحي لم تكن قد امتألت به بعد انسحابي من واترلو‪ ،‬ولست‬ ‫ّ‬ ‫خبيئته‪.‬‬
‫أحيانًا وفي لحظات الضعف ينبغي على اإلنسان استحضار خسائره كي يُعيد بعث صموده‪ .‬كنا هناك في السهل باآلالف وتراءوا لنا‬
‫في الجهة األخرى منه كأنهم ضعفنا! لم نفك ّر في التراجع بل كنا سعداء ونحن نستقبل التحايا من قائدنا‪ ،‬ظل يطوف بين الصفوف‪،‬‬
‫مبكر ا النتظرت انبعاثه من جديد‪ ،‬بعض الرجال مثل الفينيق‪ ،‬ليس موتهم إال مرحلة من مراحل‬ ‫ً‬ ‫ويهتف الجنود بحياته‪ ،‬ولو لم يمت‬
‫فرح ا عندما سمعت بفراره من منفاه في ألبا‪ ،‬قلت في نفسي‪ :‬الوداع لهؤالء الملوك‪ ،‬وفعل ًا لم يمض إال‬ ‫ً‬ ‫حياتهم‪ ،‬أذكر أنني قفزت‬
‫المخزي مقارنته بمن خاننا في واترلو‪ ،‬ذلك‬ ‫شهر على فراره حتى استعاد جيشه ‪ .‬ال يمكن أن يفعل هذا إال نابليون يا ديبون‪ ،‬ومن ُ‬
‫فر قبل بلوغه مكان المعركة‪ ،‬فاي‬ ‫بقصة خيانته لنا حين ّ‬ ‫ّ‬ ‫القائد الذي تتبعت فتحه للمدينة اإلسبرطية‪ ،‬كان أفضل لو بدأت يومياتك‬
‫!مجد سيجنيه هنا أمام هؤالء البرابرة الذين ال يُحسنون المعارك‬

‫يومها زاد المطر من وحولة السهل‪ ،‬وقد سبقونا واختاروا المكان األفضل‪ ،‬وحين اشتد المطر اعتقدنا أننا لن نُحارب‪ ،‬كان األلم يزداد‬
‫أكثر في بطن نابليون لكنه لم يظهره‪ ،‬القليل فقط من اكتشف حركاته االنفعالية‪ ،‬حينها كان يلج إلى مكتبه‪ ،‬يظل يتحرك دون توقف‪،‬‬
‫أما حين تقترب نوبات الغثيان‪ ،‬فيغادرنا‬ ‫تسح المطر‪ ،‬فيزداد اضطرابه‪ ،‬يحاول إخفاءه في لقائه بنا‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫طل من النافذة يرى الغيوم‬ ‫يُ ّ‬
‫سرع ا ليرمي ما في معدته‪ ،‬ثم يعود بمالمح قاسية تسأل عن معنويات الجنود‪ .‬عندما بزغت الشمس‪ ،‬كان ال يزال في غُرفته‬ ‫ً‬ ‫ُم‬
‫قرب إليه‪ ،‬ثم جاء األمر بالهجوم‪ .‬بدأت‬ ‫الم‬
‫ُ ّ‬ ‫الضابط‬ ‫إلى‬ ‫القيادة‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وس‬ ‫إلينا‬ ‫خرج‬ ‫أخذها‪،‬‬ ‫التي‬ ‫المهدئات‬ ‫ومن‬ ‫هر‬ ‫الس‬
‫َّ‬ ‫من‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫متعب‬
‫صحيح أن العديد منهم قد‬
‫ٌ‬ ‫المدفعية تقصف الصفوف األماميّة للتحالف‪ ،‬كانت ك ُرات المدافع ترتفع في السماء وتصل إلى صفوفهم‪،‬‬
‫قضى هناك حتى ُخي ّل إلينا أننا كسبنا الجولة األولى‪ ،‬ومع هذا لم نرهم يستعملون مدافعهم‪ ،‬إذ كانت التلة ترتفع دونهم‪ ،‬ومدافعنا‬
‫يحرك قائدهم ساكنًا‪ ،‬كان يُبصر المعركة‬
‫ّ‬ ‫يفر وا ولم يبادلونا اإلطالق‪ ،‬استغربت كيف يموت كل هؤالء بينما لم‬ ‫ّ‬ ‫تقصفهم ولكنهم لم‬
‫بمنظاره كأنه ينتظر شيًئا ما‪ ،‬وكل مخاوفنا كانت في وصول المدد من حلفائه البروسيين‪ .‬كنّا أفضل ما استطاع نابليون تحصيله‪،‬‬
‫‪.‬جنوده المخضرمون الذين يعت ّز بهم ولم يُهزموا منذ سنوات‬

‫وهكذا تقدمنا ألننا رأينا انسحاب الجنود اإلنجليز من خلف الربوة‪ ،‬وبعد لحظات كنّا نوشك أن نبلغها‪ ،‬ولم نعلم أنهم كانوا خلفها‬
‫صوبون بنادقهم تجاهنا‪ ،‬واشتعلت النار آخذ ًة‬
‫بتلك المسافة الضئيلة‪ ،‬آالف من اإلنجليز والبروسيين الذين انضموا إليهم في غفلةٍ منا ي ُ ّ‬
‫والحلفاء خلفهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فارين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يجرون‬ ‫جنودنا‬ ‫وجدت‬ ‫كبيرا‪ُ ،‬أ ِص بت في ساقي فسقطت على األرض الوحلة‪ ،‬وحين رفعت رأسي‬ ‫ً‬ ‫عددا‬
‫ً‬ ‫منا‬
‫أما حين استفقت فلم يكن هناك سوى عد ٍد قليل من جنودنا يحاولون مواراة‬ ‫عبروا فوقي بأقدامهم‪ ،‬كان عددها كفيل ًا بافقادي الوعي‪ّ ،‬‬
‫‪.‬الموتى في حفرة كبيرة‪ ،‬زحفت حتى بلغت أحدهم‪ ،‬حملني على حصان وعاد بي إلى باريس‪ ،‬حيث تراجع نابليون وبقية الجيش‬
‫المفضل قد‬‫ّ‬ ‫بعد أيام االختباء سمعت بأن نابليون قد سل ّم نفسه لإلنجليز الذين نفوه إلى أقصى جزيرة في األطلسي‪ ،‬وأن ضابطه‬
‫شبح يطاردك‪ ،‬ولم تعد تطيق رؤية السيف‪ ،‬وال إصدار األوامر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أعدمه الملك! سألت نفسي ما الذي تبقى لك؟ وقد أضحت واترلو مثل‬
‫ولمن؟؟ للجنود الذين ماتوا أم ألولئك الذين خذلونا وتراجعوا؟ قررت آنذاك التخلي عن البدلة العسكرية‪ ،‬وفررت من البر إلى البحر‪،‬‬
‫تنقض إال‬ ‫ِ‬ ‫أحتمي بطفولتي األولى كصياد رنكة في المتوسط‪ ،‬وبالرغم من أني تخليت عن كل شيء إال أنني لم أعش في سالم‪ ،‬ولم‬
‫وباسم مختلف وفي بالد أجهلها‪ ،‬وبين أناسي ق ِ ُّدر لي قضاء جزء كبير من حياتي ُمحاول ًا‬
‫ٍ‬ ‫شخصا آخر‬
‫ً‬ ‫ثالثة أشهر حتى وجدتني‬
‫‪.‬التخلص منهم‬

‫المور خبث ًا‪ ،‬يُصغون في انتباه‬ ‫الم ور على األتراك‪ ،‬غير أنني أجدهم سواء‪ ،‬ألن مقدار الطمع الذي يحمله األتراك‪ ،‬يحمله ُ‬ ‫يفضل ديبون ُ‬
‫ألوامرك ويبتسمون في رضى‪ ،‬وحينها يعودون إلى أشغالهم تجدهم وكأنهم لم يسمعوا منك شيًئا‪ ،‬هذه الصفة العجيبة من ال ِن ّفاق ال يتّ َسم‬
‫المور‬
‫أما هؤالء ُ‬ ‫طم اعون وجشعون‪ ،‬يحبون المال والسلطان أكثر من أي شيء حتى من أوالدهم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بها األتراك‪ ،‬ربما لنقاء جنسهم‪ ،‬األتراك‬
‫فمزيج غريب من حضارات متعددة‪ ،‬وعليك الحذر فقد تقفز إليك صفة ال تدري عن أي أمة ورثوها‪ ،‬ربها بهذه الطريقة توصلوا إلى‬
‫تزوجن بسادتهن وولدن لهم أبناء ُمحتقرين من آبائهم‪ ،‬ومترفّعين عن أخوالهم‪ .‬في البداية‬ ‫َّ‬ ‫مسايرة األتراك في جشعهم‪ ،‬وحتّى نساءهم‬
‫للسخرية‪ ،‬لكنهم‬ ‫لم أكن أعرفهم بهذا المقدار‪ ،‬بدوا في حوانيتهم ُمسالمين وقدريين‪ ،‬وحتّى األتراك كانوا يُقاسمونهم هذه القدرية المثيرة ُّ‬
‫وبأس ا منهم إذا ما تعلق األمر بالبحر‪ ،‬فكل ما يأتي به مشاع‪ ،‬سواء أكان سفينة للتجارة أو قاربًا للصيد‪ ،‬يكفي أن‬ ‫ً‬ ‫أشد وحشية‬
‫!يتراءى لهم في األفق‪ ،‬حتى يتعالى صراخهم‪ :‬كريستياني كريستياني‬

‫يوم ما كتابة رسالة إلى ديبون ورضيت عنها! كنت أدون خواطر عابرة‪ ،‬لكنني لم أرسلها كلها‪ ،‬ال أريد أن‬ ‫ٍ‬ ‫ال أذكر أنني أنهيت في‬
‫يعتقد ذلك الغر أنني ضعيف حينما أعود للذاكرة‪ ،‬متسائل ًا كيف تولد وجهات النظر‪ ،‬أو كيف أصبحت وإياه على طرفي نقيض‪ ،‬وبهذه‬
‫أن بعض‬ ‫الطريقة امتأل درج مكتبي حتى فك ّرت في حرقها‪ ،‬ما فائدة رسالة ال تصل إلى صاحبها؟ تساءلت بالرغم من يقيني ّ‬
‫حس بأنني‬‫الرسائل نكتبها ألننا نريد االحتفاظ بها‪ ،‬كشاهد على اعتراف أو على خطيئة نقترفها‪ ،‬ولكن إن كان بالفعل اعترافًا فلِم ال ُأ ُّ‬
‫المور وبما خبرته عن األتراك‪ ،‬حتى أني ضججت حينها ُسمح لهم بالرحيل دون‬ ‫تغيرت؟ بل كل يوم يزيد إيماني بنظرتي لهؤالء ُ‬
‫‪.‬أدنى مساءلة ولكن ما ينتظر من خائن واترلو غير ذلك؟ أفضل الحوادث بعد هزيمة إسبرطة كان نفيه هو اآلخر منها‬

‫الم ور لم يكفهم األمان الذي أعطيناه لهم‪ ،‬واآلن صاروا يكتبون العرائض يُريدون األمالك التي‬ ‫ُأ‬
‫طل من نافذة مكتبي فأراهم‪ .‬هؤالء ُ‬
‫خلفها األتراك‪ ،‬كم كانت مخزية تلك الوثيقة التي وقعها القائد بورمون مع الباشا‪ ،‬ما الذي جعله يمنحهم كل تلك المزايا؟ المساجد‬
‫والزوايا‪ ،‬مزايا لم تكن لتُمنح لمسيحي آمن في عرض المتوسط‪ .‬من أجل ال ّ َذهب ضيّع علينا بورمون راحة في حكم هذه المدينة‪،‬‬
‫ومن أجل أولئك البوربون ضيع األحمق نفسه‪ ،‬ولم يجد حتى سفينة تحمله إلى منفاه‪ ،‬كم كانت البدايات في هذه المدينة شا ّقَ ًة‬
‫المور هنا‪ ،‬وأرغمهم على عمل‬ ‫السالسل في أرجل كل ُ‬ ‫يجر سالسل ثقيل ًة في رجليه‪ .‬كم أصبو لوضع ّ َ‬‫ُّ‬ ‫ومتعب ًة على عب ٍد كُنْتُه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫السفن‪ ،‬وينزلون ما بها من سلع حتى‬ ‫ُّ‬ ‫سينظفون‬ ‫وجوههم‪،‬‬ ‫الشمس‬ ‫وتحرق‬ ‫ببياضه‪،‬‬ ‫أنوفهم‬ ‫تمتلئ‬ ‫حتى‬ ‫الرخام‬ ‫الس خرة في محاجر‬ ‫ُّ‬
‫غرف مظلمة مليئة بالبول والجرذان‪ ،‬ليشعروا بألم‬ ‫ومبيتهم في ُ‬‫تنحني ظهورهم‪ ،‬ولن أعطيهم سوى رغيف واحد من الخبز األسود‪َ ،‬‬
‫والعبودية‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬األسر‬

‫أدى التحية ثم سلَّمني رسالة من ُ‬


‫الدوق‬ ‫التفت وأذنت للجندي بالدخول‪َ ّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫من مكاني عند نافذة مكتبي انتبهت إلى طرق على الباب‪،‬‬
‫ِ‬
‫نوبات‬ ‫أحدا من الضباط‪ ،‬أشاع خادمه أن‬ ‫ً‬ ‫يرق‬ ‫لم‬ ‫ره‬‫ُّ‬ ‫تغي‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫الجزائر‪،‬‬ ‫حكموا‬ ‫لدي من بين كل الذين‬ ‫َّ‬ ‫المفضل‬
‫َّ‬ ‫الدوق‬ ‫روفيغو‪ .‬كان ُّ‬
‫بكلمات غير واضحةٍ ‪ ،‬أخبر طبيبه ولم يصدقه‪ ،‬ولكن‬
‫ٍ‬ ‫يحدق في الجدران‪ ،‬ويتمتم‬ ‫ّ‬ ‫ا‬ ‫مستيقظ‬
‫ً‬ ‫الليل‬ ‫طوال‬ ‫يبقى‬ ‫ثم‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ع‬
‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫تُصيبه فيقفز‬
‫المور‪ ،‬وحينها ستُالك الحكاية في حي المقاهي‪ ،‬ولن يكون بمقدورك تكميم‬ ‫ُ‬ ‫بين‬ ‫تشيع‬ ‫لئال‬ ‫الحقيقة‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫جزء‬
‫ً‬ ‫أخفوا‬ ‫المقربين‬ ‫الضباط‬
‫‪.‬هذه األفواه‪ ،‬فليس أسهل من انتشار الفضائح في هذه المدينة‬

‫الم ور سحر‪ ،‬ال يمكنهم العيش دونها‪ ،‬يحشرون أنوفهم في كل شيء‪ ،‬ويعرفون عن بعضهم أدق التفاصيل‪ ،‬تجد من يبوح‬
‫للتميمة عند ُ‬
‫الدوق روفيغو‬
‫‪.‬بها في أول مقهى يقابله‪ ،‬لذا لم يكن من الحكمة أن يعلم الجميع ما الذي أصاب ُّ‬

‫الدوق هو من سل ّمها له‪ ،‬وبعجلةٍ فتحتها‪ ،‬ثم بنظر ٍة واحد ٍة‬


‫لكن الجندي الذي كان قبالتي أخبرني أن خادم ُّ‬
‫ّ‬ ‫حسبت أن الرسالة إدارية‬
‫‪:‬قرأت ما فيها‬

‫صباحا سيد كافيار‪ ،‬ال أراسلك بوصفك نائبًا لقائد الهندسة المدنية‪ ،‬بل بما أعرفه من تاريخك المثير في مدينة الجزائر‪« ،‬‬
‫ً‬ ‫عمت‬
‫تتكرم وتزورني هذا المساء في بيتي‪ .‬تحياتي الخالصة‬
‫ّ‬ ‫أن‬ ‫ة‬‫ّ‬ ‫شخصي‬ ‫بصفة‬ ‫منك‬ ‫‪»..‬أطلب‬

‫‪.‬الدوق روفيغو حاكم الجزائر السابق‬


‫ُّ‬

‫الخاصة وبين أهدافهم السياسية أو‬


‫ّ‬ ‫من سيرة نابليون تتعلم أشياء كثيرة‪ ،‬أهمها أن الملوك والقادة ال يمكنهم بناء حاجز بين حياتهم‬
‫الد وق روفيغو يحاول إقناعي بخطابه أن األمر ال يتعلق بمنصبي‪ ،‬بل بتاريخي‪ ،‬وهل هناك فرق بينهما؟! ثم يضيف‬ ‫العسكرية‪ ،‬حتى ُّ‬
‫السابق للجزائر‪ ،‬تُرى ما الذي يحدث لهذا الرجل الذي اعتقدت أنه األنسب لحكم إسبرطة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الحاكم‬ ‫نفسه‬ ‫يصف‬ ‫إذ‬ ‫غموضا‬
‫ً‬ ‫جمل ًة أكثر‬
‫دائما متقلبة‪ ،‬ال يلتفت حكامها تجاه الجنوب إال حينما‬
‫ً‬ ‫كانت‬ ‫فباريس‬ ‫جديدة؟‬ ‫ا‬ ‫أخبار‬
‫ً‬ ‫هناك‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫أم‬ ‫الكثيرة‪،‬‬ ‫علله‬ ‫من‬ ‫تهاوى‬ ‫أتراه‬
‫السفن من ذهب أمس وقمح اليوم‬ ‫‪.‬يتعلق األمر بما تحمله ُّ‬

‫بت أستعيدها بعد هذه الدعوة المفاجئة‪ .‬هل يريد أن يسألني عن‬ ‫الدوق‪ ،‬وحوادث أكثر ُّ‬‫ساعات كثيرة كانت تفصلني عن موعد ُّ‬
‫وزير ا في حكومة نابليون؟ أم عن أسري وحكاية عبوديتي ! ال أذكر أني رويت تفاصيلها إال لرجل واحد‪ ،‬كان‬
‫ً‬ ‫واترلو‪ ،‬وقد كان الرجل‬
‫الدوق التسل ّي بحكايتي‪ ،‬بعدما أضجرته الحياة هنا! ولكن أتراني ما زلت‬
‫يو ُد ُّ‬
‫سنوات في بيته‪ .‬أو ربها ّ‬
‫ٍ‬ ‫للسويد حيث أقمت‬
‫قُنصل ًا ُّ‬
‫أيضا لديبون كيف اكتشفت القسوة‬
‫ً‬ ‫أذكر تلك التفاصيل؟ ومن أين سأبدأ له؟؟ من سات‪ ،‬تلك المدينة الجنوبيّة! سأفعل هذا‪ ،‬سأروي‬
‫‪.‬في إسبرطة‪ ،‬بل كيف صرت كافيار القاسي‬

‫وبعد الهزيمة تسلل إلى الجنوب‪ ،‬كنت أخشى في كل دقيقة أن ُأكشف‪ ،‬بالرغم من أن وجهي لم يكن مألوفًا للكثيرين‪ ،‬واستفق‬
‫بعيدا عن واترلو لكنّها بقيت في‬ ‫ً‬ ‫شهور ثالثة قد شفيت فيها من ساقي‪ .‬صحيح أنني فررت‬ ‫ٍ‬ ‫على نفسي في مدينة سات بعد‬
‫سهل موحل‪ ،‬وأسمع أصوات المدافع والصياح‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫إلى‬ ‫حولي‬ ‫من‬ ‫رقة‬ ‫ز‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫تتحول‬ ‫‪.‬‬ ‫الرنكة‬ ‫عن‬ ‫ًا‬ ‫ث‬ ‫باح‬ ‫داخلي حتى وأنا أجوب المتوسط‬
‫المرة‬
‫ّ‬ ‫تلك‬ ‫تكن‬ ‫لم‬ ‫‪.‬‬‫الصيادين‬ ‫صياح‬ ‫إثر‬ ‫واستفيق‬ ‫‪.‬‬‫الفارون‬ ‫جنودنا‬ ‫أنها‬ ‫أحسب‬ ‫حتى‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫قلي‬ ‫فترتفع‬ ‫ريح الخريف كانت تدفع الموجات‬
‫الوحيدة التي أغيب فيها عن نفسي‪ ،‬األصدقاء كانوا يأسفون لي‪ ،‬وكم انتبهت إلى صوت البحار العجوز ظان ّ ًا أني ال أسمعه‪ :‬على‬
‫بشاب مثله‪ ،‬النساء يخففن من وطأة الوحدة والحزن‪ .‬ابتسمت بسخريةٍ ‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫صديقكم أن يبحث عن امرأة‪ ،‬النساء في سات يحلمن‬
‫الدوام‪ ،‬ومن يعرف رجل ًا مثل‬ ‫َّ‬ ‫على‬ ‫معي‬ ‫كانوا‬ ‫لكنهم‬ ‫واترلو‬ ‫في‬ ‫ماتوا‬ ‫أصدقاء‬ ‫لدي من‬‫َّ‬ ‫ظ ِن ّه أني وحيد‪ ،‬وأنا الذي كنت مكتفيًا بما‬
‫وحيدا بعدها‬
‫ً‬ ‫البقاء‬ ‫يضيره‬ ‫لن‬ ‫‪.‬نابليون‪،‬‬

‫بخوف مثل ًا يتكلمون عن ريح المايسترال‪ ،‬يقتلعون البحارة من مراكبهم مثل ًا تجتث تلك الريح‬
‫ٍ‬ ‫كانوا في سات يتكلمون عن األتراك‬
‫األشجار بيسر‪ .‬يمرون فجأة ثم يختفون بالطريقة نفسها‪ ،‬وتظل األمكنة التي عبروها محظور ًة على الصيادين‪ .‬يُخبرون بعضهم ما إن‬
‫وحلِ َم بفتح هذه المدينة‪ ،‬وخاب أمله في‬ ‫كثيرا حتى في السنوات األولى لنابليون‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫يصلوا إلى ميناء سات‪ .‬كانت لفظة الجزائر تتردد‬
‫أشهرا يُ ِع ُّد التقارير‬
‫ً‬ ‫الشرقيين بعد عودته من مصر‪ ،‬لكنه ظل يتوق لمعرفة كل شيء عنها‪ ،‬ثم أرسل أفضل جنوده كجاسوس‪ ،‬مكث‬
‫تعب‪ ،‬ولكنهم لم يحركوا ساكنًا‬ ‫ٍ‬ ‫‪.‬وفي عودته قَبض عليه اإلنجليز‪ ،‬كعادتهم يحبون السطو على جهود غيرهم دونما‬

‫قبل أن تنقضي السنة بشهرين‪ ،‬كان ذلك آخر أسبوع لي في سات‪ ،‬غادرت بيتي في صباحه الثاني تجاه الميناء‪ ،‬وقفزت تجاه‬
‫المركب‪ ،‬كان النوتي حينها يراقب األفق‪ ،‬تراءت لنا غيوم داكنة تُنذر بعاصفة تجاه سيرنا‪ ،‬فتوقفنا عن شحن ما نحتاجه‪ ،‬واضطر أحد‬
‫منتظر ا في الرصيف حتى نتبين األمر‪ ،‬وبعد برهة وصلت أول نسمة باردة وتبعتها ريح قوية‪ ،‬قال النوتي‪ :‬إنها‬
‫ً‬ ‫المسافرين معنا للبقاء‬
‫مصرين على اإلبحار‪ ،‬وأمام معارضة أغلبية من احتل الميناء تأجل رحيلنا‬
‫ّ‬ ‫ستستمر‪ .‬لكنّها بعد هنيهة توقفت‪ ،‬كان بعض الصيادين‬
‫‪.‬إلى صباح اليوم الثالث‬

‫عد ا‪ ،‬حملنا ما نحتاجه من متاع وخمرة‪ ،‬واضطررنا أن ننتظر المسافر الذي كان يقصد ميناء طراغونة‬‫في صباح الغد كان كل شيء ُم ً‬
‫قرابة الساعة‪ ،‬صعد إلى المركب واالستياء ظاهر على النوتي وبقية الصيادين‪ ،‬ثم رفعت السفينة المرساة مع طلوع الشمس‪ ،‬ونشرت‬
‫استقبلت‬
‫ُ‬ ‫رويدا مبتعد ًة عن الميناء‪ ،‬بينما كان صاحب السفينة يُشيّعنا من على الرصيف‪ .‬وهكذا‬
‫ً‬ ‫رويدا‬
‫ً‬ ‫قلوعها تجاه البحر‪ ،‬وتحركت‬
‫التفت تجاه الغرب حيث ستنعطف بنا السفينة مع حلول المساء‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬الن َّسمة األولى من البحر‪ ،‬ثم‬

‫خطرا‪ ،‬فالعداء القديم الذي يكنّه اإلسبان لألتراك المحمديين‬


‫ً‬ ‫ثراء بالسمك‪ ،‬وربما أقل‬
‫ً‬ ‫ألف الصيادون تلك الجهة‪ ،‬كانوا يدركون أنها أكثر‬
‫دائما‪ ،‬ولكننا لم نتكهن أن المساء كان يحمل لنا‬‫ً‬ ‫والصيادون‬ ‫البحارة‬ ‫فيه‬ ‫فكر‬ ‫ما‬ ‫هذا‬ ‫كان كفيل ًا بمنعهم من االقتراب من هناك‪،‬‬
‫وشد البحارة الحبال كيال تتقطع األشرعة‪ ،‬ولكن سرعة‬ ‫َّ‬ ‫مفاجأة‪ ،‬فكلما توغلنا ميل ًا ازدادت سرعة الرياح‪ ،‬وجعلت تدفعنا تجاه الشرق‪،‬‬
‫الريح تضاعفت وصاحبها المطر‪ ،‬كانت األمواج تضرب السفينة حتى تكاد تنقلب ثم تعود فجأة إلى حالها األولى فنُرخي الحبال‪ ،‬ثم‬
‫طفا الماء على السطح‪ ،‬يميل كلما مالت بنا‪ ،‬تتبعه بعض البراميل‪ .‬وحين عجز البحارة عن التحكم في السفينة أرخوا قلوعها‬
‫‪.‬خشية أن تسحبهم أكثر إلى الشرق‪ ،‬وسل ّموا أمرها إلى الموج‬

‫أثرت فيها اإليطالية‪ ،‬ثم‬


‫استفقنا على ضباب كثيف يحوط المكان‪ ،‬وقفت حينها على سطح السفينة ووقف قربي‪ ،‬حياني بفرنسية ّ‬
‫‪:‬أردف‬

‫‪.‬الريح دفعتنا تجاه الشرق أكثر مما ينبغي ‪-‬‬

‫‪.‬نعم هذا ما يبدو ‪-‬‬

‫خطرا مما تظن‪ ،‬أشعر أنهم يحومون حولنا وفي أية لحظة يقفزون نحونا ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬الشرق أكثر‬

‫!تقصد القراصنة األتراك؟ ‪-‬‬

‫!ومن غيرهم؟ ‪-‬‬

‫مجرد صيادين ‪-‬‬


‫َّ‬ ‫‪.‬ولكننا‬

‫صيادا‪ ،‬فإنهم لن يتركوك‪ ،‬حتى سفينة البابا لن تسلم منهم إن صادفوها ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬ولو كنت‬

‫الضباب‪ ،‬كانت أصوات أقدام البحارة تتناهي‪،‬‬‫َّ‬ ‫عائدا إلى أسفل السفينة‪ ،‬وبقيت أتأمل انجالء‬
‫ً‬ ‫قال المسافر هذه الكلمات ثم مضى‬
‫بتأن‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫توز عين عند حواف السفينة‪ .‬وبعد هبوب نسمة خفيفة‪ ،‬فتحوا األشرعة وتركوها تنبسط‬ ‫التفت إليهم وتجلت لي ببطء أخيلتهم ُ ّ‬
‫م‬ ‫ُّ‬
‫يوما آخر في االتجاه نفسه‪ ،‬وفي المساء غيرناه معتقدين أننا‬‫ً‬ ‫سرنا‬ ‫‪.‬‬ ‫بالضبط‬ ‫نحن‬ ‫أين‬ ‫ندري‬ ‫أن‬ ‫دون‬ ‫مكانها‬ ‫من‬ ‫السفينة‬ ‫وتحركت‬
‫على صواب‪ .‬وفي صباح اليوم التالي استفقنا على صراخ أحد البحارة‪ ،‬خرج الجميع بمن فيهم المسافر‪ ،‬وتراءت لنا من بعيد قافلة‬
‫مر ت دون أن تنتبه لهتاف البحارة‪ ،‬وظلت تحت أعيننا حتى غيبها األفق‪ ،‬ثم عاد كل واحد إلى عمله‪ .‬وفي‬ ‫السفن اإلنجليزية‪ّ ،‬‬
‫من ُّ‬
‫نحدق في خط األفق وال شيء غير زرقة البحر الساكن‪ ،‬وفجأة تراءت لنا‪ ،‬وكأنها كانت‬ ‫ّ‬ ‫منتصف النهار‪ ،‬كنت أقف يجاورني المسافر‪،‬‬
‫!مخبأ ًة في عمق البحر‪ ،‬ظهر ساريها ثم كانت أمامنا‪ ،‬ألجمتنا المفاجأة عن فعل شيء غير الصياح‪ :‬إنهم األتراك إنهم األتراك‬

‫في صراخي كنت أراهم يتقافزون من على سطح سفينتهم‪ ،‬الجنود كانوا يحملون سيوفًا معقوفة‪ ،‬وصدورهم عارية‪ ،‬وفي لمح البصر كانوا‬
‫أمامنا‪ ،‬وقفز بعضهم إلى أسفل السفينة يطاردون بحارتنا‪ ،‬ولم أنتبه إلى المسافر الذي كان قربي باألعلى‪ ،‬رأيت أحد األتراك يوجه‬
‫أما‬
‫ضرب ًة إلى وجهه أسقطه بها‪ ،‬وشرعوا يجمعوننا أسفل السفينة ثم أوثقوني والصيادين وتركوا بعض البحارة فقط من أجل القيادة‪ّ ،‬‬
‫المسافر فقد وضعوه غير بعيد عنا‪ ،‬وتناهت إلى أصواتهم وهم يُحاورونه باإليطالية وكان يجيب عن كل أسئلتهم‪ ،‬اقترب منا لحظتها‬
‫جندي وتحسس جيوبنا‪ ،‬أخذ مني ساعتي‪ ،‬وسلبوا البقية كل ما لديهم‪ ،‬ثم ظهر جنود آخرون يحملون ألبسة ملونة‪ ،‬كانوا سعداء بها‬
‫كل يأخذ حظه دون‬ ‫وكأنهم يرونها للمرة األولى‪ ،‬اقتربوا منا وراحوا يعرضونها أمامنا وحين لم نبد أي تعاطف معهم شرعوا يركلوننا‪ٌ ّ ،‬‬
‫مراعاة أي مكان في أجسادنا‪ ،‬وعلى نداء ضابط توقفوا عن ضربنا‪ ،‬وقادوا المسافر نحونا‪ ،‬ثم طلبوا منه أن يُترجم لهم‪ ،‬مثل ًا قرروا‬
‫تفحصني وأشار إلى المسافر أن‬ ‫ّ‬ ‫حملي وإياه إلى سفينتهم‪ ،‬وقفت أمام ربانها‪ ،‬كان يرتدي عمام ًة أكبر‪ ،‬ويتربع على أريكة أمام قمرته‪،‬‬
‫علي‪ ،‬عن األمكنة التي أبحرنا منها‪ ،‬وعن وجهتنا؟! وكلما أجيبه يه ُّز رأسه في سرور ثم يكمل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يترجم لي‪ ،‬وبدأت أسئلته تتهاطل‬
‫صدقني حين أجبت أنني ال أعرف شيًئا‬ ‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫ولم‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫المدافع‬ ‫بعدد‬ ‫أخبره‬ ‫أن‬ ‫طلب‬ ‫بها‪،‬‬ ‫تحصينات‬ ‫سألني بعدها عن سات وهل من‬
‫المرة الوحيدة التي أرجو‬ ‫ّ‬ ‫تلك‬ ‫كانت‬ ‫ربها‬ ‫‪.‬‬ ‫قهقهوا‬ ‫لكنهم‬ ‫سبيلنا‬ ‫يخلوا‬ ‫أن‬ ‫ورجوتهم‬ ‫أمامه‪،‬‬ ‫جثوت‬ ‫حتى‬ ‫عنها‪ ،‬وأومأ للجندي لضربي‬
‫ت أراقب قهقهتهم‬ ‫بعيدا عن ساحة المعارك‪َ ،‬ص َم ُّ‬ ‫ً‬ ‫أحدا جاثيًا على ركبتي‪ .‬لم أدر مقدار الضعف الذي أصابني‪ ،‬ربما ألنني كنت‬ ‫ً‬ ‫فيها‬
‫أحدا بعدها‬
‫ً‬ ‫‪.‬وقررت أنني لن أرجو‬

‫يُ ِص ُّر ديبون على الدفاع عن هؤالء‪ ،‬مثلما يلجأ إلى مسيحه الشخصي ليحاججني‪ .‬أيها البائس‪ :‬حتى البابا نفسه لم يعد يؤمن‬
‫بالمسيح الذي تؤمن به‪ ،‬من أجل سلطة المال تحولت األديان إلى أقنعة‪ .‬هؤالء األتراك المحمديون كانوا يأخذون أموالنا ثم‬
‫الرب الذي صار الجميع يؤمن به‪ ،‬في أوروبا أو إفريقية‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬يستعبدوننا‪ ،‬هذا إن لم نُقتل‪ ،‬ثم يقولون إن الله يأمرهم بذلك‪ ،‬هذا هو‬

‫وسجن البقية في القبو‪ .‬سارت سفينة األتراك في المقدمة‪ ،‬وكنا في‬ ‫ُحملنا بعدها إلى سفينتنا‪ ،‬وتقاسمت والمسافر غرف ًة واحدة‪ُ ،‬‬
‫أعقابها‪ ،‬وق ِ ُّدر لنا التوجه إلى الجنوب‪ .‬في لحظة ما اهت ّ َز باب الغرفة بركلة التركي ثم فُتح‪ ،‬وتاله آخر‪ ،‬وشرعا يفتشاننا مرة ثانية‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬ثم ُصفق الباب خلفهما‪ ،‬بعد أن أشبعانا‬
‫ً‬ ‫وحين لم يجدا شيًئا نزعا عنا لباسنا ولم نبق إال في سراويلنا القصيرة‪ ،‬أخذوا األحذية‬
‫السباب بل ببر ٍد يتسلَّل إلى عظامي من‬‫ّ‬ ‫بوطأة‬ ‫ركالت وركالت لم أفهمها‪ ،‬قال المسافر إنها كانت سبابًا للمسيحيين‪ .‬لم أشعر‬
‫الدوام‪ ،‬حتى في سات‪ ،‬حمل البحر لي أنفاسهم‬ ‫األلواح التي افترشناها‪ ،‬وحين أظلمت تكل ّم المسافر‪ :‬كنت أنتظر ظهورهم على َّ‬
‫صمت المسافر حين سمع وقع‬ ‫َ‬ ‫لدي أننا سنالقي مصير يونان‪ ،‬دون أن نخطئ خطيئته‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫أما مع هبوب العاصفة فتيّقن‬ ‫الحارة ولهاثهم‪ّ ،‬‬
‫ودفع إلينا بصحني البرغل‬ ‫‪.‬أقدام تقترب‪ ،‬ثم فُتح الباب ُ‬

‫يجر وننا إلى الربان‪ ،‬وقفنا أمامه‪ ،‬على يميننا أسير آخر لم أعرف هويته إال حينها‬ ‫ّ‬ ‫في الصباح التالي استفقنا على ركالتهم‪ ،‬وهم‬
‫جرنا إلى الغرفة حيث‬ ‫ّ‬ ‫وأعادوا‬ ‫جثونا‬ ‫حتى‬ ‫ربنا‬ ‫فض‬
‫ُ‬ ‫المسافر‪،‬‬ ‫أنكر‬ ‫مثلما‬ ‫بها‬ ‫درايتي‬ ‫ُس ئلت إن كنت أتكلم األلمانية‪ ،‬ومن توي أنكرت‬
‫يوم ا قضينا‪ .‬ما أذكره أننا في اليوم األخير كنا على سطح السفينة‪ ،‬وشاهدنا في األفق مدينة الجزائر‪ ،‬تراءت لي في‬ ‫ً‬ ‫ال أدري كم‬
‫الس طوح يرتفع بعضها فوق بعض‪ ،‬وتتوزع القباب والمنائر والقصور داخلها‪ ،‬وكلما‬ ‫بياضها الرخامي‪ ،‬وشكلها المثلثي المنحدر‪ .‬صفوف من ُّ‬
‫وضوح ا وأرى حركة الميناء من هناك‪ ،‬دهمني شعور بالخوف من المجهول‪ ،‬والحظت وجه المسافر أكثر طمأنين ًة مني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اقتربنا تزداد‬
‫جر ب األسر من قبل‪ ،‬ولم أجرؤ على سؤاله واألتراك حولنا‪ ،‬يدخنون غاليينهم الطويلة ويشربون القهوة سعداء‬ ‫َّ‬ ‫حتى شككت أنه‬
‫بعودتهم‪ .‬ليتك قاسمت معي يا ديبون سطح السفينة‪ ،‬ألرى وجهك حينها‪ ،‬وأثر الحبال في يديك‪ ،‬وأصغر جندي تركي يمكنه ركلك‬
‫‪.‬حتى تسقط على فمك‬

‫ودائما آمنت بنفسي رغم كل ما حدث‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إن مصائر الناس يا ديبون ليست مقرونة بإيمانهم بأشياء غير محسوسةٍ ‪ ،‬بل بأنفسهم فقط‪،‬‬
‫السويدي‪،‬‬ ‫وتيقنت من عودتي وثأري‪ ،‬لذا حين َح ّ َر رنا اإلنجليز بعد عام‪ ،‬رفضت العودة إلى سات‪ ،‬واخترت المكوث في بيت القُنصل ُّ‬
‫تشجعت يوم رست السفينة بالميناء‪ ،‬ونحن نُحمل في قوارب إلى‬ ‫ُ‬ ‫رجل أوربي حر‪ ،‬من أجل هذا‬ ‫ٍ‬ ‫عزمت على قراءة المدينة بعين‬
‫يحب األتراك مظاهر البذخ‪ ،‬كان يلبس معطفًا ُمطر ًزا‬ ‫ّ‬ ‫كم‬ ‫تدرك‬ ‫منظره‬ ‫من‬ ‫وثيرة‪،‬‬ ‫أريكة‬ ‫على‬ ‫يتكئ‬ ‫الباشا‪،‬‬ ‫رئيس البحرية‪ ،‬كانوا يلقبونه‬
‫الضباط‪ ،‬وأمامه نرجيلة‬ ‫حجما وأجمل من تلك التي يرتديها ُّ‬ ‫ً‬ ‫أكبر‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫وعمام‬ ‫ا‬ ‫قصير‬
‫ً‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫وسروا‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫المعدن‬ ‫من‬ ‫بال ّ َذهب‪ ،‬حتى أزراره‬
‫كلمات‬‫ٍ‬ ‫ويتفح ص وجوهنا في ابتسام‪ ،‬كان منظره أحسن من البقية‪ ،‬رغم مالمحه القاسية‪ ،‬التفت ورمى‬ ‫ّ‬ ‫بهدوء‪،‬‬ ‫يسحب الدخان منها‬
‫فس ّ َر‬‫ُ‬ ‫باقتضاب‪،‬‬ ‫عنها‬ ‫رد‬ ‫إيطالية‬ ‫بجمل‬
‫ٍ‬ ‫الباشا‬ ‫ّمه‬ ‫ل‬ ‫وك‬ ‫دقائق‪،‬‬ ‫أمامه‬ ‫ر‬ ‫تسم‬
‫ّ‬ ‫للباشا‪،‬‬ ‫مه‬ ‫قد‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫المسافر‬ ‫فدفع‬ ‫أسرنا‪،‬‬ ‫الذي‬ ‫ُمقتضبة إلى الضابط‬
‫منه ووضع يده على لحيته وردد كلمات لم أفهمها إال في السجن‪ ،‬إذ حدثني بعض العبيد القدامى أن األتراك حينما يُريدون القسم‬
‫‪.‬فإنهم يُقسمون بلحاهم‪ ،‬ثم أردف‪ :‬وتأكد أنهم لن يحنثوا بها‬

‫ودعت المسافر ذلك اليوم‪ ،‬ولم أعرف منه سوى اسمه األول‪ ،‬كانوا يُنادونه ألونزو‪ .‬وبقي هو في مبنى البحرية‪ ،‬ورحلنا نحن مقيّدين‬
‫ّ‬
‫ركب إلى ِ ّ‬
‫السجن‬ ‫ٍ‬ ‫‪.‬في‬

‫عراة ُح فاة والسالسل في أيدينا‪ ،‬وكان الصبيان يرموننا بالحجارة‪ ،‬ويتنادون من حولنا‪ :‬كريستياني‬
‫سرنا في شوارع الجزائر الضيقة ُ‬
‫وددت لو يقترب السجن فيكون‬ ‫ُ‬ ‫كريستياني‪ ،‬ويزداد صراخهم حين يرمقون أهاليهم مسرورين بهم‪ .‬وقفت ُمتفاجًئا مما يحدث أمامي‪،‬‬
‫بعد أول منعطف أللوذ به‪ ،‬وفعل ًا لم نقطع إال مسافة قصيرة حتى وقفنا عند بابه‪ ،‬واصطففنا في سلسلة ليسهل عدنا‪ ،‬ثم عبرنا الباب‬
‫يتكرم‬
‫ّ‬ ‫الدوق أن‬
‫يود ُّ‬
‫ُّ‬ ‫شخص آخر ولد‪ ،‬هو الذي التقاه ديبون فيما بعد‪ .‬وهو الذي‬‫ٌ‬ ‫إلى عالم مختلف‪ ،‬لم يعد فيه كافيار مثلما خرج‪،‬‬
‫الدوق روفيغو؟‬
‫عليه بزيار ٍة شخصيّة‪ ،‬في تلك اللحظة تساءلت‪ :‬ما الذي يريده ُّ‬

‫ودوما آمنت أن الرجال ذوي التاريخ البوليسي ال يوثق بهم‪ ،‬يشك ّون في كل‬
‫ً‬ ‫لم أكن ألجزم‪ ،‬فأمثال ذلك الرجل مليئون بالمفاجآت‪،‬‬
‫وزيرا على الشرطة في باريس‬
‫ً‬ ‫يوم ما‬
‫ٍ‬ ‫الدوق وقد كان في‬
‫‪.‬شيء‪ ،‬في أبنائهم وزوجاتهم‪ ،‬حتى في أنفسهم‪ ،‬فكيف يفك ّر ُّ‬
‫عد العربة‪ ،‬خلفت المبنى‪،‬‬
‫يبق الكثير على موعد الزيارة‪ ،‬حملت نفسي وغادرت المكتب‪ ،‬وأوعزت للجندي أن ي ُ ّ‬
‫انتبهت إلى أنه لم َ‬
‫وانعطفت تجاه حي القناصل‪ ،‬ثم أشرفت على حديقة بيته‪ ،‬تراءى لي الخادم ينتظر قدومي‪ ،‬ورافقني إلى الداخل‪ ،‬ثم انصرف بعد‬
‫‪.‬نداء سيده‬

‫نشاطا وحركي ًة قبل هذا اليوم‪ ،‬أمعقول أن سنة تجعل اإلنسان بهذه الضعف؟ بدا‬
‫ً‬ ‫الدوق إلى الجزائر‪ ،‬كان أكثر‬
‫في أول يوم وصل ُّ‬
‫مد يده المختلجة إلى الكأس‬
‫ّ‬ ‫الكؤوس‪،‬‬ ‫ويضع‬ ‫الطاولة‬ ‫يرتب‬ ‫الخادم‬ ‫كان‬ ‫بينما‬ ‫دقائق‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ت‬ ‫صام‬ ‫َ‬
‫وظل‬
‫ّ‬ ‫يقابلني‬ ‫جلس‬ ‫عما حوله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫غائبًا‬
‫‪:‬وحملها‪ ،‬ثم رشف منها وقال‬

‫أيام لم أغادر بيتي‪ ،‬بسبب هذه العلة ‪-‬‬ ‫ٍ‬ ‫بعض المناصب يا سيد كافيار توفّر لك مزايا كثيرة عدا راحتك الجسدية‪ ،‬لعلك ترى‪ ،‬فمنذ‬
‫شعب طريقة في‬‫ٍ‬ ‫لكل‬ ‫أنه‬ ‫أعتقد‬ ‫كنت‬ ‫قدمت‬ ‫التي أصابتني‪ ،‬وحملت اليأس إلى نفسي من حكم هؤالء األفارقة‪ .‬باألمس حينما‬
‫المور واألعراب فقد أعيوني‪ ،‬وبقدر ما قتلت منهم زادوا‬
‫أما هؤالء ُ‬
‫تحاربهم‪ ،‬وآخرون يُشترون بالمال أو المناصب‪ّ ،‬‬
‫الحكم‪ ،‬هناك من ُ‬
‫تتمدد‬
‫َّ‬ ‫صالبة‪ ،‬وبعد أن أفنيت تلك القبيلة التي قتلت حلفاءنا ال أدري ما الذي حدث لي؟! أشجار شو ٍك نبتت في داخلي‪ ،‬وكل يوم‬
‫‪.‬في جسدي‬

‫حررين من ‪-‬‬ ‫المور أن يشكروا القدر الذي ساقنا إليهم ُم ّ‬


‫إن هي إال وعكة عابرة‪ ،‬وستزول بايام أخرى من الراحة‪ ،‬وعلى هؤالء ُ‬
‫‪.‬تسلُّط األتراك‬

‫والرسائل التي تصلني من باريس تقول ‪-‬‬


‫َّ‬ ‫ملل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫المور لهم وجهة نظر أخرى‪ ،‬مكتبي مليء بعرائضهم التي يكتبها ابن ميّار دون‬
‫بعض ُ‬
‫‪.‬إن الدعاوى نفسها كانت في مكتب الوزير‬

‫‪-‬‬ ‫المور في األصل‬


‫لقد خبرت ابن ميّار أكثر من الجميع‪ ،‬كيف تنتظر تعاونه وقد تربَّى في حضن األتراك‪ ،‬وكانت له تجارة معهم‪ُ ،‬‬
‫نصبه في‬
‫تجار‪ ،‬والتاجر ال ينظر إلى السياسة إال بها تقدمه له من ربح‪ ،‬كذلك ابن ميّار‪ ،‬نال حظوة عند فاتح الجزائر بورمون‪ ،‬وقد َّ‬
‫شن حملة على كل ما نقوم به من أعمال‬ ‫ّ‬ ‫حل كلوزيل‪ ،‬ومن ذلك اليوم يا سيدي‬ ‫َّ‬ ‫مجلس البلدية الذي أنشأ‪ ،‬ثم ُطرد منه حينما‬
‫ونضطر إما لالنسحاب‪ ،‬أو ألخذه‬
‫ُّ‬ ‫يجمع الناس ويوهمهم أننا نأخذ المساجد ألننا ُمزمعون على القضاء على دينهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫التوسعة في المدينة‪،‬‬
‫‪.‬بالقوة‪ ،‬وقد سمعت أنه يراسلك كي أعيد ضيعته التي امتلكتها‪ ،‬أقترح إصدار أمر بنفيه ليلتحق بأسياده في إسطنبول‬

‫بت أراها تطوف حولي في هذا ‪-‬‬‫وأردت أن أشرب نخبها معك‪ ،‬أفضل من شربه مع األشباح التي ُّ‬ ‫ُ‬ ‫هذه ليلتي األخيرة في الجزائر‪،‬‬
‫يتجمعون حولي بمالمحهم‬
‫ّ‬ ‫حادا‪ ،‬أستيقظ إثره‪ ،‬فأراهم‬
‫ً‬ ‫عواء‬
‫ً‬ ‫البيت الخاوي‪ ،‬كل ليلة تغادر المقبرة شرق المدينة‪ ،‬تلج البيت وتعوي‬
‫أن هذا يحدث لي؟‬‫ويفر النوم إلى غاية رحيلهم‪ .‬أتصدق ّ‬
‫ُّ‬ ‫!العربيّة القاسية‪ ،‬من بينهم أطفال يبكون وينادون أمهاتهم‪ ،‬أفزع لرؤيتهم‪،‬‬

‫نعم قد يحدث أكثر من هذا في الجزائر‪ ،‬في السنوات الماضية كانت الحمى تنتشر في الناس فيبدون مثل مجانين يَهذون في ‪-‬‬
‫دواء‬
‫ً‬ ‫الحمى‬
‫َّ‬ ‫‪.‬الشوارع ‪ .‬ال تقلق يا سيدي في باريس أوجدوا لمثل هذه‬

‫الحمى الحقيقية والقاتلة هي بقائي هنا‪ ،‬في هذه البالد ‪-‬‬


‫َّ‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫‪.‬آمل ذلك‪،‬‬

‫وحيدا‪،‬‬
‫ً‬ ‫عا‪ ،‬وعبرت البوابة‬ ‫ِّ‬
‫مود ً‬ ‫الدوق تلك الكلمات ثم صمت حينما دخل الخادم وذكَّره بموعد الدواء والنوم‪ ،‬فوقفت إذ ذاك‬
‫قال ُّ‬
‫‪.‬لتحملني العربة إلى بيتي خارج المدينة‬

‫الحمى يا كافيار التي أصابت‬


‫َّ‬ ‫كانت أصوات الن ُّباح ترتفع حول البيت تقطع صمت الليل‪ ،‬أصغي لها ثم ابتسم في سخرية‪ ،‬أهي‬
‫حمى‪ ،‬ولكن ليس على المرء قول الحقيقة للحكام‪ ،‬هم يحبون الكذب‬ ‫َّ‬ ‫أن هناك خلل ًا ما انتابه؟ كنت مدرك ًا أنها لم تكن‬
‫الدوق‪ ،‬أم ّ‬
‫ُّ‬
‫خصوص ا إن كانوا مرضى‪ ،‬أوهمهم أنهم أقوياء‪ ،‬دعهم يقابلون الوجه القبيح للموت‪ ،‬ووحدهم سيكتشفون الحقيقة‬
‫ً‬ ‫‪.‬عليهم‬

‫الدوق روفيغو للمرة األخيرة‪،‬‬


‫عندما وقفت أمام رصيف الميناء لم أنتبه له‪ ،‬ثم الح لي وجه الحارس من بعيد‪ ،‬خطوت تجاههم وحيت ُّ‬
‫كان أفضل من الليلة السابقة‪ ،‬ربما لم تزره األشباح تلك الليلة‪ ،‬أو أنها قد زارته ال لتصرخ في وجهه بل لتودعه‪ ،‬صعد إلى الفرقاطة‬
‫التفت إلى سفينةٍ كانت قد‬
‫ُ‬ ‫عج رصيف الميناء بقادمين من مرسيليا وطولون‪،‬‬‫ّ‬ ‫يلوح لي‪ .‬ذلك اليوم‬ ‫بثقل‪ ،‬وغاب داخلها دون أن ّ‬ ‫ٍ‬
‫الشاب هو ديبون؟‬‫أخمن أني سأراه في الجزائر‪ ،‬اللَّعنة إنّه يشبهه! هل كان ذلك َّ‬‫ّ‬ ‫لتوها‪ ،‬تفاجأت بوجهٍ كنت أعرفه‪ ،‬ولكن لم‬ ‫رست ّ‬
‫عدت إلى مراقبة‬ ‫كبيرا‪ ،‬اقتربت أكثر‪ ،‬ولكنني حين بلغت السفينة لم يكن هناك أحد‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫الشبه كان‬ ‫لكن مقدار ّ َ‬‫ّ‬ ‫شككت في البداية‪،‬‬
‫فلوحت له‪ ،‬وبدا لي أن ذلك الوجه الذي رأيته قبل قليل لم يكن إال‬ ‫َّ‬ ‫أعالها‬ ‫من‬ ‫روفيغو‬ ‫وق‬ ‫الد‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وظهر‬ ‫الميناء‬ ‫الفرقاطة وهي تغادر‬
‫الدوق‬
‫‪.‬شبحا من أشباح ُّ‬
‫ً‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫ابن ميّارالمحروسة مارس ‪1833‬‬

‫‪ ‬‬

‫يدق بابي ويومئ لي أن ألتحق به‪ ،‬أتسل ّ َ ُق الدروب المؤدية إليه‪ ،‬ألج القصبة وأعبر أز ّقَتها الضيقة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫رغم رحيله ما زلت أنتظر خادمه‬
‫والش ّو اش على جانبي الباب‪ ،‬يسبقني الخادم إلى باحته ثم التحق به‪ ،‬أتأمل النافورة ومياهها التي‬ ‫ُّ‬ ‫ثم أنعطف غربًا فيقابلني القصر‬
‫الديوان‪ ،‬يُفتح وأسمع صوت الخادم يناديني‬ ‫نضبت اليوم‪ ،‬وحتّى شجرة الليمون لم تثمر بعد رحيله‪ .‬من مكاني يقابلني باب ِ ّ‬
‫‪.‬باسمي‪ :‬سيدي ابن ميّار الباشا ينتظرك‬

‫لم يكن المشهد ليغيب عن ذهني‪ ،‬أصواتهم تتعالى وقهقهتهم وهم يدخنون غاليينهم ويحتسون القهوة‪ُ ،‬معيدين سير المعارك القديمة‪،‬‬
‫عرسا لنا ولهم‪ ،‬وبعد رحيلهم أضحت مدينة تختلط فيها الدماء بالغبار‪ ،‬تُرى ِلم حدث هذا؟ ولِ َم رحلوا‪ ،‬وأين‬
‫ً‬ ‫يومها كانت المحروسة‬
‫وزيرا لم أرسل إليه شكايتي‪ ،‬حتى‬ ‫ً‬ ‫سلطان البر والبحر؟؟ وال يجيب على العرائض التي أرسلها كل يوم؟ لم أترك نداء لم أناده‪ ،‬وال‬
‫نهر بيننا وبينهم‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬ ‫أعدائي كنت أشكوهم ألنفسهم لعل الضمائر تحيا‪ ،‬غير أنهم ال يعقلون‪ .‬أو أن سيل الدماء الذي أريق صار مثل‬
‫الحراش‬
‫ّ‬ ‫‪.‬يستطيع أحد تجاوزه‪ ،‬كان عميقًا يحمل كل الجثث التي سقطت في سيدي فرج‪ ،‬أو ربما في سطاوالي أو‬

‫والضياع وحتّى األصدقاء‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فقيرا بعدما سلبوا منك كل شيء‪ ،‬التجارة‬
‫ً‬ ‫وحيدا يا ابن ميّار ال مال وال سلطان‪ ،‬تكاد تكون‬
‫ً‬ ‫قد أصبحت‬
‫كان آخرهم المفتي الحنفي‪ ،‬دبروا له المكيدة في بيته ثم نفوه إلى اإلسكندرية‪ .‬كان أجدى لك لو رافقته‪ ،‬لكنك تظل تعتقد أنك‬
‫حون عليك بمواصلة‬ ‫بعرائضك ستعيد المجد لهذه المدينة بعد رحيل بني عثمان‪ ،‬ثم تثاقلوا عن سماع شكواك وشكوى أهلك‪ ،‬الذين يُلِ ُّ‬
‫مطرودا منه‪،‬‬
‫ً‬ ‫سعدوا وهم يرونك‬ ‫ِ‬ ‫عضوا في مجلس البلدية‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫الكتابة وهم من اتهمك في البداية بالعمالة للفرنسيين‪ ،‬حين كنت‬
‫للسخرية من رئيس المجلس ومن األعضاء اليهود؟ ولكنك لم تكن‬ ‫ولِ َم؟! ألم يكن ذلك من أجلهم؟ ألم تعترض حتى صرت مدعاة ُّ‬
‫روج لهم حين كانت رسائل الباشا تصلك ُمقن َّعة مليئة بالوعود‪ ،‬ثم لم يحدث‬ ‫هتم‪ .‬آمنت بأن العثمانيين سيعودون‪ ،‬وما لبثت تُ ِ ّ‬
‫لتَ ّ‬
‫ومرت السنة ثم السنة‪ ،‬ورحل بورمون منفيًا‪ ،‬وتاله كلوزيل معزول ًا‪ ،‬ثم بيرتزن‪ ،‬وها أنت اآلن تتسلَّل إلى رصيف الميناء‪ ،‬لترى‬
‫َّ‬ ‫شيء‪،‬‬
‫الدوق روفيغو وآخر المالمح التي يحملها عند رحيله هو اآلخر معزول ًا من الجزائر‬ ‫‪.‬وجه ُّ‬

‫قدر رجل ًا قتل نصف أهلي وشرد الباقين‪ .‬أردت فقط رؤيته وهو يصعد‬ ‫بد أن يحدث هذا منذ اليوم األول لوصوله‪ ،‬لم أكن ُأل ِ ّ‬ ‫كان ال ّ‬
‫الفرقاطة التي ستحمله إلى مرسيليا أو طولون‪ ،‬وقفت أراقبه من زاوية في رصيف الميناء‪ ،‬ولمحت ضابط الهندسة كافيار يُلوح‬
‫السل ّاوي لنودع ديبون‪ ،‬قدم مع الحملة لكنه رحل في األيام األولى‬
‫شبيها بآخر قبل سنتين حينما رافقني ّ‬ ‫ً‬ ‫للفرقاطة الراحلة‪ ،‬بدا اليوم‬
‫ستثن وأنت من بني جلدته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫جميعا‪ ،‬ولم تُ‬
‫ً‬ ‫اضطهدنا‬ ‫الذي‬ ‫الرجل‬ ‫بذلك‬ ‫حل‬ ‫الذي‬ ‫ما‬ ‫ترى‬ ‫كي‬ ‫هنا‪،‬‬ ‫ديبون‬ ‫للد وق روفيغو‪ .‬ليتك يا‬ ‫ُّ‬
‫أعجب من قدرة هؤالء على تغيير وجوههم‪ ،‬في األيام األولى‬ ‫ُ‬ ‫تغيب‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫للفرقاطة‬ ‫يلوح‬ ‫مازال‬ ‫بصري‪،‬‬ ‫مدى‬ ‫في‬ ‫اآلن‬ ‫هو‬ ‫كافيار‬
‫لوصوله طلب اكتراء ضيعتي‪ ،‬وأرغمت على موافقته‪ ،‬وحين طالبته باألجر بعد شهرين ضج في وجهي وطردني‪ ،‬وال يلقاني إال بعد‬
‫موعد‪ ،‬وإن أذن لي‪ ،‬يسمح لي عمالي بالمرور‪ ،‬وهم يدركون أنها ضيعتي‪ ،‬ولكنهم مثلي مجبرون على الخضوع له‪ .‬رفض كافيار حتى‬
‫أسر لي البستاني في األيام األولى أنه كان يحفر الحديقة‬
‫َّ‬ ‫أن أطوف في بستانها‪ ،‬أتفقد حوض الزهر الصغير الذي لم يعد هناك‪.‬‬
‫‪.‬طوال النهار‪ ،‬بعدما ُأشيع أننا خبأنا كنوزنا بها‪ ،‬ولم يحصلوا شيًئا إال خراب الحدائق الجميلة‬

‫المرة األولى قبل سنوات‬ ‫ّ‬ ‫عاما منذ رأيته‬


‫ً‬ ‫مر الضابط غير بعيد مني في عربته‪ ،‬تجل ّت لي مالمحه عن كثب‪ ،‬بدا وكأنه كبر عشرين‬‫ّ‬
‫دوما ومنذ وصوله إلى مبنى‬ ‫ً‬ ‫ثالث‪ ،‬بعض الناس تهرم من مرور السنين وبعضهم من حجم الشرور التي يحملونها‪ ،‬هكذا كان كافيار‬
‫مسجدا من أجل أعمال التوسعة‪ ،‬وكيف لنا‬ ‫ً‬ ‫مرة يطلب‬‫كل ّ‬
‫الهندسة المدنية حتى وضع بين عينيه شوارع المدينة ومساجدها‪ ،‬في ّ‬
‫من مسجد أو زاوية وهي موقوفة منذ عشرات السنين‪ .‬هؤالء الفرنسيون أتوا إلينا بذهنيات مشوشة عن الملكية في الشرق‪ ،‬ال‬
‫يفهمون أن نظام األوقاف كان يُسي ّر حياتنا منذ آالف السنين‪ ،‬يضمن الحياة لطالب العلم وللفقراء وعابري السبيل‪ ،‬وحتّى أولئك الذين‬
‫يحملهم الحنين إلى زيارة النبي الكريم‪ ،‬وال تسعفهم جيوبهم‪ ،‬كان الوقف هو من يتحمل النفقة‪ ،‬والعثمانيون كانوا يبجلونه ويهبون‬
‫جزءا من أموالهم وقفً ا يستفيد منه فقراء الجزائريين وعلماؤهم‪ ،‬وبعد رحيل بني عثمان داهموا مساجد األحناف‪ ،‬قالوا بأن مرتاديها‬
‫ً‬
‫رحلوا ولم تعد تلزمكم في شيء فأنتم مالكية‪ ،‬وعجبت من الضابط‪ ،‬إذ اعتقد أن الفروق بيننا كالتي بين الكاثوليكية والبروتستنتية‪،‬‬
‫‪.‬هممت أن أشرح له‪ ،‬فدفعني وأمر الجنود احتالل المسجد‪ ،‬ثم صار ثكن ًة‬

‫أولئك المالطيون في البداية كانوا يتسلَّلون مثل خفافيش في الليل‪ ،‬يعبرون‬ ‫وهاهم حينها بدأت األموال تنضب التفتوا إلى مقابرنا‪،‬‬
‫نهارا‪ ،‬يُف ِتّشون عما تبقى من عظام أطفالنا‬
‫ً‬ ‫ثم تجرؤوا وصاروا يغزون مقابرنا‬ ‫الباب الغربي للمدينة‪ ،‬وينزلون المنحدرات إلى مقابرنا‪،‬‬
‫الدوق‪ ،‬قلت إنّه لم يحدث هذا في زمن الباشا‪ ،‬كنا‬ ‫العرائض أشكوهم إلى ُّ‬ ‫كتبت مئات‬ ‫ُ‬ ‫وشيوخنا‪ ،‬ويحملونها في أكياس إلى الميناء‪،‬‬
‫بالوالء لألتراك‪ .‬أحينما يطلب المرء صون جسده وهو في حفرة يصبح عميل ًا‬ ‫متهم ا إياي‬
‫ً‬ ‫وجهي‬ ‫أحياء وأمواتًا‪ ،‬فصاح في‬
‫ً‬ ‫!!مصانين‬
‫ُ‬
‫كل الضباط الذين التقيتهم اتهموني بالسعي لعودة العثمانيين‪ ،‬ولم أكن ُألنكر وال ألوافقهم‪ ،‬أحاول فقط جرهم إلى المقارنة فيخيب‬
‫ردد ديبون‬ ‫أملهم‪ ،‬ويُنهون الحوار بالتهمة نفسها‪ ،‬وكافيار كان أسرعهم إلى ذلك‪ .‬حين يمأل الحقد القلوب فلن تتجل ّى لها الحقيقة‪ّ ،‬‬
‫السل ّاوي نُجابه الفرنسيين وحدنا داخل المدينة‪ ،‬يُعيدني الحنين إلى‬‫هذه الكلمات قبل رحيله‪ ،‬يئس من محاوالته القليلة وتركني مع ّ‬
‫غل ًا‬
‫بعيدا متو ّ‬
‫ً‬ ‫يفر‬ ‫لكنه‬ ‫خلفه‪،‬‬ ‫فيركضون‬ ‫منهم‪،‬‬ ‫يسخر‬ ‫اليولداش‪،‬‬ ‫بالجنود‬ ‫السل ّاوي يقذف ُس بابه غير عابئ‬ ‫زمن بني عثمان‪ ،‬يومها كان ّ‬
‫مرددا أنهم متسلطون‪ ،‬أنانيون‪ ،‬وال يقاتلون إال من أجل‬
‫ً‬ ‫يوما‪ ،‬كان يسخر من ُحمرتهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫عثمان‬ ‫بني‬ ‫يحب‬
‫ّ‬ ‫في شوارع المحروسة‪ ،‬لم‬
‫تجارا فقط‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫المال‪ ،‬وليست لهم مزية سوى نسائهم الجميالت‪ .‬أضحك من كالمه‪ ،‬ويسرني اختالفه عن الشباب اآلخرين‪ ،‬كانوا‬
‫السل ّاوي ينتقد كل شيء حوله‪ ،‬يتكلم العثمانية مثل بني عثمان‪ ،‬ويصر على حفظ الكلمات‬ ‫لكن ّ‬
‫ّ‬ ‫يهمهم الكثير من أمور السياسة‪،‬‬
‫البذيئة فيها‪ ،‬وحين أحتج ي ُجيبني‪ :‬يا سيدي أنت على العين والرأس‪ ،‬ولكن أية مصلحة ستجمعني معهم حتى أنمق لهم الكالم‪ ،‬ما‬
‫أنا بتاجر وال بكاتب عندهم‪ ،‬يكفيني ما أجنيه في المقهى‪ .‬ولم أخمن أنه سيتهور ويقذف نفسه في أتون آغا العرب‪ ،‬ولوال وساطتي‬
‫‪.‬لكان قد هلك‬

‫يمضي كافيار بعربته عبر شارع باب الجزيرة‪ ،‬وأخطو في الشارع نفسه خطوات‪ ،‬عن يميني ينحني باب الزاوية المهترئ‪ ،‬لم تتناه‬
‫إلي أصواتهم تصدح بال ِ ّذ كر‪ ،‬في الماضي كان الطلبة يرددون اآليات ويتغنون باألذكار‪ ،‬يرتفع صوت المدرس بينهم يحثهم على المزيد‪،‬‬ ‫َّ‬
‫التفت إلى الجامع الكبير‪ ،‬انتظرث رؤيتهم هناك‬
‫ُ‬ ‫وقفت أصيخ السمع‪ ،‬ولم يتناه لي أي شيء‪ ،‬لعل الشيخوخة أثقلت سمعي‪.‬‬
‫مجتمعين يقرأون البخاري‪ ،‬أو يتدارسون مختصر خليل أو رسالة القيرواني‪ .‬بيد أنه كان خاويًا منهم ومن الناس‪ ،‬صار مثل أي‬
‫مؤسسة فرنسية‪ ،‬ي ُفتح ويغلق في أوقات الصالة المعلومة‪ ،‬فررت من هناك وسرت حتى أشرفت على حي المقاهي‪ ،‬ربما هو الوحيد‬
‫ضاج ا بالناس‪ ،‬مزيج من الجزائريين واألوروبيين من غريبي األطوار‪ ،‬يلبسون لباسنا‪ ،‬وبعضهم يرتدي العمائم العثمانية ويحمل‬‫ًّ‬ ‫الذي بقي‬
‫الغاليين‪ ،‬يحتلون مداخل المقاهي على مقاعدهم‪ ،‬تجاوزتهم بعجلة وقطعت مسافة قصيرة حتى قابلني الجامع الجديد‪ ،‬يُناظر البحر‬
‫رخيما إلى فضاء المحروسة‪ ،‬فترى‬‫ً‬ ‫فزع ا من العمال الذين كانوا يقتربون كل يوم‪ ،‬لم يعد األمر مثلما في السابق‪ ،‬كان النداء يتعالى‬ ‫ً‬
‫طيور بيضاء‪ ،‬يتسربون من األحياء إليك‪ ،‬حي النحاسين والصبَّاغين والغ ّزَالين‪ ،‬كل الدكاكين تُترك مفتوحة على‬
‫ٍ‬ ‫الناس مثل أسراب‬
‫وجلُّها اختفى‬
‫عدها ُ‬‫ُّ‬ ‫ساحات األسواق‪ ،‬سوق الزيت‪ ،‬سوق السمن أو سوق الذهب أو حتى سوق الصوف والقمح‪ ،‬هل يمكن لي اليوم‬
‫جاره إلى الجبال؟ ومن حالفه الحظ ارتحل إلى المشرق‪ ،‬القليلون سيُصلُّون أمام محرابك خائفين من يوم يستيقظون فيه فال‬ ‫أو فر تُ ّ‬
‫النحاسين وما تبقى من سوق الخشب‪ ،‬حتى قابلني‬ ‫َّ‬ ‫يجدونك‪ .‬وتجاوزت المسجد على مضض متخذًا شارع باب الجزيرة‪ ،‬عبرت حارة‬
‫شارع المحروسة الكبير‪ ،‬الذي يصل بابه الغربي بالشرقي‪ ،‬باب الوادي وباب ع ّزون‪ ،‬خطر لي أن أنعطف تجاه الغرب‪ ،‬لكني تذكرت‬
‫أحياء اليهود‪ ،‬لم أعد أثق بهؤالء الناس‪ ،‬كانوا يقاسموننا الخبز والملح ثم فجأة بعد دخول الفرنسيين بدأوا يهتفون لهم‪ِ .‬‬
‫الملل‬
‫عاما أو أكثر بقليل‪ ،‬كانت كفيلة بأن يمسك هؤالء اليهود كل‬ ‫ً‬ ‫دائم ا ما تحاول إيجاد مكان لنفسها ولو بالخديعة‪ ،‬خمسون‬
‫ً‬ ‫الصغيرة‬
‫شيء‪ ،‬حتى الباشا نفسه كان يشتكي منهم على الدوام‪ .‬يقول لي‪ :‬سامح الله حسن باشا ومصطفى باشا هما من سمحا لهذه‬
‫يفران إليها ويُصبحان من تلك األمة‬
‫َّ‬ ‫‪.‬السوسة أن تنخرنا‪ ،‬وأورثاني معها مشكلة ديون اليهوديَّين مع فرنسا‪ ،‬وهاهما‬
‫ُّ‬

‫فر أهله منه‪ ،‬وال‬‫لو وقف الباشا اليوم معي في شارع المحروسة الكبير لكان حزنه أكبر وهو يرى الجنود يعبرونه جيئ ًة وذهابًا‪ ،‬حتى َّ‬
‫يفرون مسرعين‬‫ّ‬ ‫يقتربون إال حينما يُضطرون لذلك‪ .‬يسحبهم الحنين إلى بيوتهم القديمة وإلى دكاكينهم التي احتلَّها األوروبيون‪ ،‬ولكنهم‬
‫مروا بك وحكموا المحروسة؟ التفت أبحث عن‬ ‫أخطر في أعقابهم فيرتفع قصر الجنينة أمامي‪ .‬كم من الباشوات ُّ‬ ‫ُ‬ ‫منها تجاه الغرب‪.‬‬
‫داع اليوم‬
‫ٍ‬ ‫جامع السيدة‪ ،‬فال أرى إال الفراغ‪ ،‬هدموه وسووا أرضه كي تغدو ساحة مثل التي رأيتها في باريس ولندن‪ .‬ليس له‬
‫ظل كافيار يكرر‪ .‬لم يكن في استطاعتي االستمرار‪ ،‬المحروسة اليوم ليست محروسة األمس‪،‬‬ ‫فبروتستنت المحمديين قد رحلوا مثل ًا ّ‬
‫أحث الخطى أبحث عن نهاية الطريق‪ ،‬مثل ًا أخشى في الوقت نفسه بلوغه‪ .‬أخاف أن أطل على المقابر فأرى أولئك المالطيين‬ ‫ُّ‬
‫‪.‬ينبشون المقابر ويسحبون أكياس العظام‬

‫وأسر‬
‫َّ‬ ‫في اليوم الموالي أفقت على صوته يناديني باسمي‪ ،‬وقد هجرته حينًاعندما يأست من حالي‪ ،‬أتاني الصوت هادًئا في الحلم‪،‬‬
‫لدي من ثياب‪ ،‬ونزلت عبر منحدر القصبة حيث بيتي‪ ،‬وأسرعت المشي ألبثّه‬ ‫َّ‬ ‫لي أنني ال بُ ّد زائره فحملت نفسي ولبست أجمل ما‬
‫دائم ا لوال الحواجز التي باتت تعترض طريقي‪ ،‬إما أسى وإما الجنود الفرنسيون‪ ،‬يحتجون بأي‬ ‫ً‬ ‫ما في نفسي‪ ،‬وقد تعودت البوح له‬
‫شيء ليمنعوا زواره عنه‪ ،‬عبرت الشارع ثم انعطفت شرقًا‪ ،‬وتجلَّى لي المسجد الصغير بمئذنته الواطئة‪ ،‬ثم دخلته‪ ،‬على يميني‬
‫وارتقيت الدرجات‪ ،‬على جانبيها كان الفقراء يفترشون األرض نائمين‪ ،‬فتحت باب‬ ‫ُ‬ ‫اقتربت‬
‫ُ‬ ‫الشجرة وعلى يساري باب المقبرة الصغيرة‪،‬‬
‫فراق دام أكثر من شهرين‪ ،‬ثم دنوت من ضريح سيدي‬ ‫ٍ‬ ‫على‬ ‫إليه‬ ‫أعتذر‬ ‫كأني‬ ‫بالدعاء‬ ‫ا‬ ‫تمتم‬
‫الريح‪ ،‬وتركت حذائي هناك ودخلت ُم ً‬
‫عبد الرحمن الثعالبي وهمست‪ :‬هم ال ي ُريدون إبقاء أحد في مدينتك‪ .‬رحل أكثر من ثلثي المدينة والذين بقوا أغلبهم من الفقراء‪،‬‬
‫طيرا‬
‫ً‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫وظل سيّدي صامتًا لم يجبني مثلها في السابق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وكل من رحلوا ُأخذَت ديارهم وُأسكنَت‪ ،‬وال نستطيع أن نفعل شيًئا‪.‬‬
‫صغيرا حلق في سماء القبة‪ ،‬صفّ َر ورفرف ثم طاف فوق الضريح وغادر عبر خصاص الباب‪ ،‬فتبعته‪ ،‬رأيته يحط على شجرة قرب‬ ‫ً‬
‫المسجد‪ ،‬فاقتربت منها‪ ،‬ثم رفرف راحل ًا‪ .‬وظللت أتبع طريقه‪ ،‬وانعطف مع كل طريق ينعطف معها حتى بلغت مكانًا يُشرف على‬
‫لون أزرق‪ ،‬ثم لم أعد أراه‬ ‫ٍ‬ ‫‪.‬البحر‪ ،‬رأيته حينها يحلق فوقه‪ ،‬وقد حال لونه األبيض إلى‬

‫تكهنت هذا حين رأيت الطائر‬ ‫ّ‬ ‫تساءلت لحظتها عن معنى اإلشارة‪ ،‬هل يريد شيخي سفري من المحروسة؟! وربما العودة كذلك‪،‬‬
‫أو لت المعنى من رحلته‪ ،‬كان سيدي يريد مني السفر إليهم هناك في باريس‪ ،‬وأطلب‬ ‫يعود‪ ،‬يح ِل ّق فوق رأسي ثم يمضي تجاه الضريح‪َ ّ ،‬‬
‫أدون العرائض وأرسلها دون فائدة‪.‬‬
‫ثالث وأنا ِ ّ‬
‫ٍ‬ ‫لقاء الملك‪ ،‬فللملوك طبائع مختلفة عن القادة‪ ،‬ولكن ماذا سأقول له؟ فمنذ سنوات‬
‫ضابطا‬
‫ً‬ ‫زوار‬ ‫زوار‪ .‬كان ِ‬
‫الم َ‬ ‫ولكن ما الضير في محاولة أخرى؟ حملت نفسي وسرت في شوارع المحروسة حتى وجدتني في وجه ِ‬
‫الم َ‬
‫محتقرا من الجميع‪ ،‬حتى من الخزناجي الذي يجني له دراهم البوجو‪،‬‬‫ً‬ ‫وظل‬
‫ّ‬ ‫حصل الضرائب منهن‪.‬‬ ‫مسؤول ًا عن المبغى‪ ،‬ي َ ُع ُّد نساءه ويُ ِ ّ‬
‫وأقل حياء من ذي قبل‬ ‫َّ‬ ‫‪.‬واآلن بعد أن أصبح الفرنسيون هم المالك الجدد‪ ،‬أضحى أسوأ‬

‫زو ار‪ ،‬ومررت بين جنوده المحتفين ببدالتهم الجديدة‪ ،‬وقبل أن أنعطف سمعت صوته يخاطبني‬ ‫‪:‬تجاوزت ِ‬
‫الم َ‬

‫!!لو اكتشفت أن ُدوجة تختبئ في بيتك‪ ،‬فلن يشفع لك أحد ‪-‬‬

‫دوت الكلمات في رأسي‪ ،‬وشككت أنه وضع رقيبًا على بيتي‪ .‬استدرك الكثير بعد دخول الفرنسيين‪ ،‬وكأنه ليس ذلك األحمق الذي‬
‫يصدق أن ُدوجة لم تعد تعنيني ال أنا وال‬
‫ّ‬ ‫كان يطارد البغايا بين الشوارع من أجل المال‪ ،‬لم ألتفت إليه حين انعطفت‪ ،‬وددت أن‬
‫السل ّاوي عدوه القديم‪ ،‬ولكن عينيه ظلتا تتعقباني حتى وأنا ألج درب القصبة‪ ،‬ألصل إلى بابها ومن ثم أعبره‪ ،‬وأدق باب بيتي‬
‫ّ‬
‫ومفتاحه في جيبي‪ .‬فُتح الباب وكانت ُدوجة تقف خلفه ُمندهش ًة من تقطع أنفاسي‪ .‬توسطت باحة الدار وارتميت على أول مقعد‬
‫‪:‬صادفني‪ ،‬فاقتربت مني زوجتي وقالت‬

‫السل ّاوي لك‪ ،‬ما الذي حدث؟ ‪-‬‬


‫وحيدا‪ ،‬ألفنا مرافقة ّ‬
‫ً‬ ‫لم تعتد المغادرة‬
‫وحيدا ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬كنت في مكان يستدعي أن أكون‬

‫زوار‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والم َ‬ ‫راكضا بين الشوارع‪ ،‬وخلفه جنود اليولداش‬
‫ً‬ ‫السل ّاوي‬
‫ولم تواصل الكالم بل عادت إلى المطبخ‪ .‬وغفوت أنا هنيهة رأيت فيها ّ‬
‫وأصخت من هناك‬
‫ُ‬ ‫ني‪،‬‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ته‬ ‫وجة‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫يد‬ ‫على‬ ‫أفقت‬ ‫ثم‬ ‫فرنسي‪،‬‬ ‫زي‬
‫يولداشا بل في ّ‬
‫ً‬ ‫مرة أخرى خلفه‪ ،‬ولكن الجنود لم يكونوا‬
‫ثم رأيتهم ّ‬
‫!للنداء الضئيل للمؤ ِ ّذن‪ ،‬يدعو الناس للصالة فهل يا ترى من مجيب؟‬

‫تراجعت‬
‫ُ‬ ‫األيام التي تَل َت زيارتي للضريح لم تنبئ بجديد‪ ،‬سوى وصول حاكم جديد للمحروسة‪ .‬فك ّرت في حمل العرائض إليه‪ ،‬ثم‬
‫ته أحالم التوسع إلى عنابة ووهران‬ ‫حين حدست أنه لن يختلف عن غيره‪ ،‬كان بورمون يصغي إلينا‪ ،‬وكلوزيل يطردنا‪ ،‬وبيرتزن َأ َ‬
‫له ُ‬
‫أم ا روفيغو فكان مضطهدنا‪ ،‬فما الذي سيفعله بنا فوارول؟ الشائعات قالت إنّه نصف قائد فقط‪ ،‬وال يمكنه توقيع القرارات‬ ‫والتيطري‪ّ ،‬‬
‫أما المحروسة فلها نصف قائد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫عليها‬ ‫شرفان‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫قائدان‬ ‫لها‬ ‫صار‬ ‫ووهران‬ ‫عنابة‬ ‫إقليمي‬ ‫وإن‬ ‫الحربية‪،‬‬ ‫وزير‬ ‫يستشير‬ ‫حين‬ ‫الخطيرة إال‬
‫أيض ا‪ ،‬هل سيتركهم ينهبون المدينة؟ ولكن ما الذي بقي للناس؟ بيوتهم وبعض حوانيتهم‪ ،‬واألرض ُو ّزعت على األوروبيين‬ ‫ً‬ ‫ومغلون‬
‫القادمين منذ عام‪ .‬رحم الله أيام السيد بيشون‪ ،‬زعمنا أننا ُظلمنا بها وكانت أفضل من اليوم‪ .‬كان بيشون متصرفًا مدنيًا للمدينة‬
‫توزعت خيامهم على‬ ‫ّ‬ ‫الدوق روفيغو وعلى أولئك الكولون الذين‬ ‫حين فصلوا بين العسكر والمدنيين‪ .‬ومنذ وصوله أعلن حربًا على ُّ‬
‫وزَع عليهم أراضينا وضياعنا‪ ،‬بعدما‬
‫الدوق قراره ثم ّ‬ ‫وجلُّهم كانوا كذلك‪ .‬رفض ُّ‬ ‫رصيف الميناء‪ .‬أراد طرد كل من ليس له رأس مال‪ُ ،‬‬
‫‪ُ.‬أخذت أبهى مساجدنا ونصف أوقافنا‪ ،‬صارت لمعيشة الجيش الذي يحاصرنا‪ ،‬بعد أن حاصره الثوار خارج المحروسة‬

‫تفاصيل الشائعات التي انتشرت في الجزائر لم تكن هينة‪ ،‬بل إن الشخص الذي روجها عليم بها يجري في مكاتب الحكومة‪ ،‬ولم‬
‫السبل‪ .‬ولكن أي شيء يُبطنه من هذا؟ هل يبحث عن مكاسب جديدة في المحروسة؟ ألم يكن‬ ‫يكن سوى رجل واحد له هذه ُّ‬
‫من الذين غرروا بأعيانها في بداية االحتالل‪ ،‬ثم اختفى‪ ،‬أتراه عاد فعل ًا إلى المدينة؟ اعتاد في البداية إيهامنا أنه مرغم على كل‬
‫أسر لي‪ :‬زمن‬‫َّ‬ ‫شيء‪ ،‬واليوم ما هي األكاذيب التي يحملها كي يأخذ ما تبقى من رياالتنا؟ كنت أذكر يوم ترافقنا إلى القائد بورمون‪،‬‬
‫بني عثمان قد ول َّى‪ ،‬ينبغي علينا نحن المغاربة حكم المدينة‪ ،‬إنها مدينتنا وعليهم العودة إلى األناضول‪ .‬فاوضنا على االستسالم‪،‬‬
‫وأصررت أل ّا تحوي المعاهدة على بند طرد أحد من المدينة‪ ،‬بل سيعيش الجميع فيها بسالم‪ ،‬المغاربة وبنو عثمان وحتّى اليهود‪.‬‬
‫ِ‬
‫تمض إال أيا ٌم قليلة حتى كان جنود‬ ‫ولكن ما حملته األيام فيما بعد علمني أن العسكر هم آخر من يلتزم بالمواثيق‪ .‬وفعال لم‬
‫الع ّزاب فقط‪ ،‬ثم فجأة رأينا المتزوجين يساقون إلى الميناء يلتفتون إلى‬
‫رحلون ُ‬‫اليولداش يُسحبون من بيوتهم‪ ،‬في البدء قالوا إنهم سي ُ ِ ّ‬
‫‪.‬زوجاتهم المغاربيات اللواتي خلفوهن في الجزائر‪ ،‬واألطفال بينهم احتاروا أي جهة سيختارون‬

‫قبل سنوات بعيدة عرفت ميمونًا‪ ،‬رأيته في سوق المليارين يجمع القمح‪ ،‬ثم قيل لي إنّه سافر إلى مرسيليا حيث أصل تجارته‪ ،‬ثم‬
‫وبت أراه أحيانًا مع اليهوديَّي ْن تاجري القمح‪ ،‬وفي السنوات األخيرة حين توقفت أعمال الجهاد‪ ،‬وغلت المعيشة‬ ‫ُّ‬ ‫عاد بعد سنتين‪،‬‬
‫شحيح ا ‪-‬إذ أتى الجراد على الكثير منه‪ -‬كان دائم الحركة بين الميناء وسهول متيجة‪ ،‬ابتاع كل ما امتدت إليه‬ ‫ً‬ ‫وأضحى القمح‬
‫أيام ا وعاد بعدها‪ .‬التجار الذين وصلوا إلى المحروسة قادمين من وهران قالوا إن سفينة فرنسية حملت‬ ‫ً‬ ‫المدينة‬ ‫من‬ ‫يداه‪ ،‬ثم اختفى‬
‫المرة األولى‪ ،‬كانوا‬
‫ّ‬ ‫تكن‬ ‫ولم‬ ‫األسود‪،‬‬ ‫القمح‬ ‫من‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫معجو‬ ‫ا‬ ‫خبر‬
‫ً‬ ‫ويأكلون‬ ‫ا‪،‬‬ ‫جوع‬
‫ً‬ ‫يتضورون‬ ‫الناس‬ ‫كان‬ ‫بينما‬ ‫الميناء‪،‬‬ ‫من‬ ‫القمح‬ ‫قناطير‬
‫يتساءلون عن أوامر الباشا التي تتعلق بمنع بيع القمح خارج البالد‪ .‬وهل هم في وهران معنيون بها‪ ،‬كان ال بُ ّد لي من لقائه‪،‬‬
‫‪:‬وعثرت عليه في سوق الميّارين‪ ،‬وحين تقابل الوجهان قلت‬

‫جوعا؟؟ ‪-‬‬
‫ً‬ ‫يتضور الناس‬
‫ّ‬ ‫كيف يُمكنك بيع القمح للفرنسيين بينما‬

‫!!ومن قال هذا يا سيد ابن ميّار؟ أنا بعته لليهوديَّيْن ‪-‬‬

‫وكنت تدري أنهما سيبيعانه هناك؟ ‪-‬‬

‫!وما دخلي أنا في الذي يبيعانه له؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ولكنك تدري أن الباشا منع بيع القمح لغير الجزائريين حتى تزول هذه الجائحة ‪-‬‬

‫ٍ‬
‫أراض ال يملكه أهلك ‪-‬‬ ‫‪.‬إذا كان الباشا يحرص على الناس فليفتح مخازنه‪ ،‬هو والخزناجي وآغا العرب‪ ،‬فيا يملكه هؤالء من‬

‫أراض كثيرة‪ ،‬القليل منها َس ِلم من الجراد‪ ،‬وصار‬


‫ٍ‬ ‫لدي‬
‫َّ‬ ‫كريما معنا‪ ،‬حتى أنا كانت‬
‫ً‬ ‫دائما‬
‫ً‬ ‫وعجزت عن اإلجابة‪ .‬مع أن الباشا كان‬
‫وعدت خائبًا إلى ضيعتي التي يستمتع اليوم بها كافيار‬
‫ُ‬ ‫‪.‬بالكاد يكفيني وأهلي‪ ،‬تركت ميمونًا هناك‬

‫الناس في المحروسة أنواع‪ ،‬وأغلبهم كانوا يحترمون بني عثمان ويتجنبونهم‪ .‬يكفيهم أن مساجدهم مشرع ٌة أبوابها‪ ،‬وفقراءهم مكفيون‪،‬‬
‫بعضا فهذا ال يعنيهم في‬
‫ً‬ ‫قرون ثالثة‪ ،‬فإن قاتل الباشوات بعضهم‬
‫ٍ‬ ‫وعلماءهم ُمحترمون‪ ،‬وأنّهم يعيشون بأمان‪ ،‬وأن الجهاد ُمعلن منذ‬
‫‪.‬شيء مادام األمر لن يختلف عن سابق العهد‪ .‬ولكن آخرين في المحروسة كانت لهم وجهة نظر مختلفة‬

‫السل ّاوي وميمون في كرههم لبني عثمان‪ ،‬كانا يريدان أن يحكم المغاربة بالدهم‪ ،‬ولكنهما افترقا في وجهة النظر بعد دخول‬‫يلتقي ّ‬
‫السل ّاوي من الذين‬
‫ّ‬ ‫كان‬ ‫بينما‬ ‫‪.‬‬‫وأهلها‬ ‫بالبالد‬ ‫معرفة‬ ‫الناس‬ ‫أكثر‬ ‫كان‬ ‫إذ‬ ‫الجديد‬ ‫فتحهم‬ ‫في‬ ‫كمساعد‬ ‫نفسه‬ ‫ميمون‬ ‫عرض‬ ‫الفرنسيين‪.‬‬
‫الحراش‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫ا‬‫وأخير‬
‫ً‬ ‫سطاوالي‬ ‫ثم‬ ‫فرج‬ ‫سيدي‬ ‫في‬ ‫‪.‬قاتلوا‬

‫نصبه على األوقاف بما يقدمه له‬


‫رئيسا علينا في مجلس البلدية‪ ،‬ثم حين حل كلوزيل َّ‬
‫ً‬ ‫نصبه‬
‫أوهم ميمون بورمون بأشياء كثيرة حتى َّ‬
‫من ريعها‪ .‬ومع رحيل كلوزيل فقد افتضح أمره‪ ،‬وصارت مئات القضايا تتابعه في المحاكم‪ ،‬ثم فجأة لم نره‪ ،‬وانتشرت شائعات كثيرة‬
‫!تقول إنّه فر إلى مرسيليا‪ ،‬فهل عاد ثانية إلى المحروسة؟‬

‫كانت العرائض ماتزال متناثرة أمامي‪ ،‬أفكر في ضرورة إرسالها إلى الحاكم الجديد‪ ،‬وهكذا حملت أوراقي كلها وانحدرت عبر الدرب‬
‫تعجل ًا الوصول إليه‪ ،‬وبعد جهد كنت أمام باب المبنى‪ ،‬لحظات وقفتها هناك ثم ُأذن لي‬
‫األول الذي صادفني‪ ،‬أسرع الخطى ُم ّ‬
‫‪.‬بالدخول‬

‫كل حاكم كان يأتي إلى المحروسة يعرفنا بأسمائنا وتاريخنا‪ ،‬وعالقاتنا بالضباط الذين تعاملنا معهم‪ .‬إذ ال تحتاج لقول الكثير حتى‬
‫تجده يستبقك بأشياء لم تخطر لك ببال‪ .‬تجاوزت الباب إلى الدرجات وصعدتها‪ ،‬ثم ُأذن لي بالدخول إلى المكتب‪ ،‬جلس الحاكم‬
‫منتظرا أن ُأعلمه عن أسباب الزيارة‪ ،‬فبسطت األوراق فوق مكتبه‪ ،‬وقلت‬
‫ً‬ ‫‪:‬صامتًا‬

‫سيدي‪ ،‬منذ ثالث سنوات سلَّمنا المدينة على شرط االحتفاظ بأموالنا وضياعنا ومساجدنا وأوقافنا‪ ،‬وقد ُأخذت منا‪ .‬ثم ها هم ‪-‬‬
‫يسرقون عظامنا من المقابر وال أحد يردعهم‪ .‬وهذه العرائض بها كل التفاصيل‪ ،‬سأتركها بين أيديكم آمل ًا أن يحرككم شرف هذه األمة‬
‫واألخوة‪ .‬فانظروا لنا بعين عطفكم‪ ،‬واستجيبوا لما جاء بالعرائض‬
‫ّ‬ ‫‪.‬التي قامت بالثورة من أجل الحريّة والمساواة‬

‫عليما بتاريخنا‪ ،‬ولكن ما تريده ليس من صالحياتي‪ ،‬وزير الحربية اآلن هو من ‪-‬‬
‫ً‬ ‫يسعدني يا سيد ابن ميّار أن تتكلم لغتنا‪ ،‬وتكون‬
‫‪.‬يحكم الجزائر‬

‫تجارتي جعلتني أزور مدنًا كثيرة من بينها باريس‪ ،‬وتعلمت لغتكم وتاريخكم بالقدر الذي ُأذ ِك ّرك فيه أن بالدي كانت أول دولة ‪-‬‬
‫ين طويل المدى‬
‫كد ٍ‬
‫زودكم بالقمح َ‬
‫‪.‬تعترف بالثورة الفرنسية‪ ،‬وحينما قاطعتكم أوروبا كنا نحن ن ُ ِ ّ‬

‫مهما هذا الكالم يا سيد ابن ميّار‪ ،‬كما ال يمكنني خدمتك في قضيتك‪ ،‬أتمنّى أن تحمل عرائضك وترحل ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬لم يعد‬

‫تصريحا للسفر‪ ،‬فال أريد أن يضايقني أحد في الميناء ‪-‬‬


‫ً‬ ‫طلب أخير‪ ،‬منحي‬
‫ٌ‬ ‫‪.‬لم يبق لي إال‬

‫‪.‬لك ذلك ‪-‬‬

‫السل ّاوي ُمحقًا في وجهة نظره‪ ،‬هؤالء القادة الذين‬


‫لممت أوراقي وغادرت مكتبه‪ ،‬كنت أشعر أنه ال سبيل إلعادة شيء‪ ،‬يظل ّ‬
‫سأجرب حظي إذن وأسافر إلى باريس حامل ًا معي‬ ‫ّ‬ ‫يحكمون المحروسة ال رجاء منهم‪ ،‬وإشارة شيخي لم تكن لتحمل الخيبة معها‪،‬‬
‫ألخص فيها كل شيء‪ ،‬والباقي أعيد صياغته في شكل كتاب‪ .‬أحيانًا يبدو أهم من العريضة‬ ‫ِّ‬ ‫العرائض كلها‪ ،‬أو سأكتفي بعريضة واحدة‬
‫التي ربما لن يقرأها أحد‪ .‬سي ُطبع الكتاب هناك في باريس‪ ،‬وسيقرؤه الجميع‪ .‬سأكتب عن كل شيء حدث مذ دخل بورمون إلى‬
‫دون الكلمات األخيرة التي قالها لي فوارول‪ ،‬ستكون شاهد ًة على وجهة نظره‬ ‫وأيضا سُأ ِّ‬
‫ً‬ ‫‪.‬رحيل روفيغو‪،‬‬

‫في الشارع رأيته‪ ،‬كان يقابلني في الجهة األخرى من الطريق‪ ،‬ثم وقف أمامي وأدركت حينها أن ديبون قد عاد في األسبوع الذي‬
‫ودعني فيها‪ .‬مالمحه أعلنت أنه لن يرجع‪ ،‬ثم فعلها‪ ،‬ولكن بأية صورة؟؟ أهي التي فر من‬ ‫سأغادر فيه‪ ،‬تعانقنا مثل آخر مرة ّ َ‬
‫مستعمرا؟ كان متعجل ًا يهدف إلى زيارة الحاكم الجديد‪ ،‬وقبل أن ِّ‬
‫أودعه‬ ‫ً‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫مر‬ ‫أول‬ ‫المحروسة‬ ‫تتلوث‪ ،‬أم التي دخل بها‬
‫ّ‬ ‫أجل أال‬
‫‪.‬أخبرني عن الفندق الذي يقيم فيه‪ ،‬وسلَّمني جريد ًة ثم غاب داخل المبنى‬

‫حيّ ًزا ال يُستهان به منه‪ ،‬قرأت كل ما جاء في مقال ديبون «‬ ‫لو سيمافور دو مارساي» هكذا قرأت العنوان الكبير‪ ،‬أخذت عظامنا ِ‬
‫لدوجة‬
‫مستلق على فراشي في بيتي‪ ،‬وترجمت ما حواه ُ‬ ‫ٍ‬ ‫والمرة الثالثة وأنا‬
‫ّ‬ ‫تسم ٌر في الشارع‪ ،‬ثم أعدته في المقهى العربي‪.‬‬‫وأنا ُم ّ‬
‫دائما‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫الموت‬ ‫جلل‪،‬‬ ‫ألمر‬ ‫إال‬ ‫قبل‬ ‫من‬ ‫يفعلها‬ ‫ولم‬ ‫قديمة‪،‬‬ ‫أشياء‬ ‫نفسي‬ ‫في‬ ‫أثار‬ ‫غيابه‬ ‫لكن‬ ‫‪.‬‬‫ّاوي‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫يطالعه‬ ‫أن‬ ‫وتشوقت‬ ‫وزوجتي‪،‬‬
‫ثوان ثم تكلمت‬
‫ٍ‬ ‫‪:‬يرافق غيابه‪ .‬طلبت من زوجي إعداد متاعي‪ ،‬لكنّها وقفت ُمتص ِل ّبة‪،‬‬

‫تمل بعد من محاوالتك‪ ،‬إنهم لن يُرجعوا لنا شيًئا‪ ،‬ولن يُغيّروا من معاملتنا ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫!ألم‬

‫‪.‬هذه الرحلة مختلفة‪ ،‬سيستمعون فيها لشكواي ‪-‬‬

‫‪.‬ال أظن هذا ‪-‬‬

‫ثم صمتت زوجتي الل ّة سعدية‪ ،‬ومضت ِ‬


‫تع ُّد لي متاعي‪ ،‬في حين ظلت ُدوجة تراقبني‪ ،‬واألسئلة ُمعل ّقة في مالمحها‪ ،‬ولم أشأ تركها‬
‫أن‬
‫السل ّاوي‪ ،‬كما أني أجهل مكانه‪ .‬وابتسمت حينها ُدوجة ثم مضت في اتجاه زوجتي‪ ،‬وشعرت ّ‬ ‫على حالها‪ ،‬قلت‪ :‬لن يرافقني ّ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬وربما كانت الوحيدة التي تحتفظ بسره‬‫‪.‬هناك أشياء ُمضمرة بينها وبين ّ‬
‫ادخرته لمثل هذه األيام‪ ،‬وسرت عبر شوارع‬ ‫ٌ‬
‫ومال ّ‬ ‫أفقت على الصوت نفسه لشيخي‪ ،‬يناديني أن أمضي في طريقي‪ ،‬فحملت متاعي‬
‫شاعرا بأن غيابي سيكون طويل ًا‬
‫ً‬ ‫‪.‬المحروسة‪،‬‬

‫أتحسسه خشية أن يضيع‪ ،‬وأنا أنزل‬‫َّ‬ ‫تركت الشوارع خلفي‪ ،‬ولم تبق لي إال مسافة قصيرة ألطأ رصيف الميناء‪ ،‬التصريح في جيبي‬
‫السفن الراسية هناك‪ ،‬تراءى لي الريّاس وهم يُلوحون ألهاليهم يَعدونهم بغنائم الجهاد‪ ،‬وفي مقدمة الميناء‬
‫الدرجات إلى الميناء‪ ،‬وأراقب ُّ‬
‫مبكر ا واحترام مواثيق السالم‪ ،‬ثم تختفي الرؤى وأنا أقف أمام السفينة الراحلة وأصعد درجاتها‪،‬‬
‫ً‬ ‫يقف وكيل الحرج يحثهم على العودة‬
‫السل ّاوي إذ‬
‫وصوت يُنادي باسمي بينهم‪ ،‬ربما كان الواقف باألسفل ّ‬
‫ُ‬ ‫في آخرها التفت‪ ،‬تجمهر بعض الناس في الرصيف‪ ،‬ويد تلوح لي‬
‫‪.‬لم يغب إال حين غاب الرصيف وتوسطت السفينة البحر‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫السل ّاويالمحروسة مارس ‪1833‬‬


‫حمة ّ‬
‫ّ‬
‫‪ ‬‬

‫رجلي‪ ،‬قفزت إلى األمام‬


‫ّ‬ ‫كانوا يتصايحون خلفي بلكنتهم‪ :‬اقبضوا عليه‪ .‬حثثت الخطى ثم وجدتني أوسع بينها‪ ،‬لحظات وحملت الريح‬
‫والتفت فجأة وتراءوا في سراويلهم القصيرة‪ ،‬ومعاطفهم الحمراء‪ ،‬همست‪ :‬اللعنة عليكم‪ .‬كان جنود اليولداش ُمسرعين‬ ‫ُ‬ ‫ثم انعطفت‪،‬‬
‫خلفي‪ ،‬ولكني لم أكن ألتوقف‪ ،‬فال يعرف اإلنكشارية الرحمة حينما يتعلق األمر بنا نحن المغاربة‪ .‬انعطفت غربًا وواصلت القفز حتى‬
‫قابلتني السقيفة المفضية إلى القصبة‪ ،‬كان بابها يبتعد كلما توغلت تجاهه‪ .‬واقترب الجنود حتى أوشكت أن أكون بين أيديهم‪ ،‬ومن‬
‫حسن حظي أنهم لم ي ُصوبوا بنادقهم نحوي‪ .‬تحاملت على نفسي حتى بلغت مدخل السقيفة‪ ،‬وانحنى قوس الباب فوق رأسي ورأيت‬
‫إطاريه الكلسيين‪ ،‬وسلسلة األمان معلقة عليها‪ ،‬وامتدت يدي وأمسكت طرف السلسلة‪ ،‬ثم صرخت حتى سمعني كل ساكني القصبة‪:‬‬
‫السلطان‪ ،‬كانت ألسنتهم تتدل ّى من التعب‪ ،‬ووجوههم ُمتوردة يمألها‬
‫شرع الله يا سلطان»‪ .‬واندهش الجنود حين رأوني ُمتشبث ًا بعهد ُّ‬ ‫َ‬ ‫«‬
‫وخضت‬
‫ُ‬ ‫بمال يشتري ضبّاطهم‪ ،‬وعادوا ذلك اليوم خائبين‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫المرة األولى التي ُأفلت منهم‪ ،‬إما بعه ٍد يتجاوز َأ َ‬
‫وجاقهم‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫فليست‬ ‫الغيظ‬
‫‪.‬سقائف مجهولة لهم كيال ألتقيهم ثانية‬

‫ٌ‬
‫شكل آخر للموت‪ ،‬أراه كل يوم في عيون الناس‪ ،‬وأولئك الذين كانوا يرتادون مقهى الشاوش‪ ،‬الدخان‬ ‫الحياة في المحروسة هي‬
‫يص اعد من غاليينهم‪ ،‬صوتي يتناهى إليهم من مكاني‪ ،‬وخياالت العرائس التي تهت ُّز في يدي‪ ،‬تنعكس على حائط المقهى‪ ،‬يضحك‬ ‫ّ‬
‫الري ّاس الهتزازها وحواراتها‪ ،‬ويغضب اليولداش مما أفوه به‪ ،‬ولكنهم ال يجرؤون على االقتراب مني بل يترصدونني خارجها‪ ،‬وما إن‬
‫مرة‪ ،‬ويوصيني بالصمت خشية غيابه في يوم ما ‪ .‬ال‬ ‫كل ّ‬
‫أتجاوز الشارع الكبير حتى يتراكضوا خلفي‪ .‬ويظل ابن ميّار ينقذني في ّ‬
‫‪.‬أبالي بنصائحه‪ ،‬وعندما تُؤخذ عرائسي تخيط لي ُدوجة أخرى‪ .‬وهكذا دواليك‬

‫في السنوات األخيرة سيطر اليولداش على المحروسة‪ ،‬وصار الريّاس محتقنين من حياة البر‪ ،‬إذ أكثر الباشا من المواثيق‪ ،‬وأضحوا‬
‫يع ُّج بهم‪ ،‬بعد أن كان من‬ ‫عل َمها لدولة حليفة‪ ،‬وأصبحت المقاهي مكانًا ُ‬‫ُمكبَّلين كلما رأوا سفينة تلوح لهم في األفق يتراءى لهم َ‬
‫يوما مصدر إزعاج‬‫ً‬ ‫اس‬ ‫ّ‬ ‫الري‬ ‫يكن‬ ‫فلم‬ ‫لي‪،‬‬ ‫جانبه‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫مأمو‬ ‫المقهى‬ ‫هذا‬ ‫جعل‬ ‫النادر وجودهم هناك ‪ .‬ال تلبث المشاحنات تقوم بينهم‪ ،‬مما‬
‫للناس بقدر ما كان اليولداش‪ .‬ولم تكن كراهيتي لهم مثل كراهيتي للذين ال يغادرون أوجاقهم إال لضرائب جديدة تؤخذ منا أو‬
‫‪.‬لمؤامر ٍة لقتل باشاهم‬

‫إلي في ريبة‪ ،‬ولم يجرؤا على‬


‫َّ‬ ‫فارا تجاه الشرق‪ .‬كان الجنديان الفرنسيان ينظران‬ ‫استعدت كل تلك الحكايات وأنا أعبر باب عزون ً‬
‫تعج بالثوار‪ ،‬ومازال شيخ القبائل المتحالفة يترصدهم خارج أسوار المدينة‬
‫ّ‬ ‫األودية‬ ‫‪.‬اتباعي خوفًا إذ مازالت‬

‫أثناء عبور السهل فكرت في ابن ميّار‪ ،‬وفي المحروسة‪ ،‬وفي ُدوجة التي تعد عرائس جديدة‪ ،‬بعد التي خلفتها في المقهى‪ ،‬حين‬
‫هاجمني الجنود الفرنسيون‪ ،‬كانوا يتهمونني مثلما اتهمني األتراك‪ ،‬أنني أدعو الناس للثورة عليهم‪ ،‬غير أن أهل المحروسة خانعون‬
‫الموسرون‬
‫يفر ُ‬
‫ّ‬ ‫ومنذ سنوات كانوا يطأطئون رؤوسهم ويتجنبون األتراك في الشوارع‪ .‬المدينة تجعل الناس أكثر جبنًا وتقبل ًا للغزاة‪ ،‬ألم‬
‫أحد ا منهم في سيدي فرج‪ ،‬وفي انحدارنا إلى سطاوالي سمعنا أن بعضهم غادر‬ ‫ً‬ ‫ما إن رأوا طالئع الجيش تعبر األبواب؟! لم أر‬
‫وتقطعت عرائسي‬ ‫َّ‬ ‫صوتي‪،‬‬ ‫بح‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫حتى‬ ‫سنوات‪،‬‬ ‫منذ‬ ‫بهم‬ ‫الهتاف‬ ‫اعتدت‬
‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫منهم‬ ‫القليل‬ ‫المدينة ليل ًا‪ .‬وبعد استسالم المدينة لم ن َ َر إال‬
‫قبحا‪ ،‬وأكثر بذاءة‬
‫ً‬ ‫أشد‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫فبدت‬ ‫ها‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫‪.‬ور‬

‫صغيرا‪ ،‬ال يحتمل التُجار رؤيتك‪ .‬تخرج الكلمات من فمك بذيئة فتفرق‬‫ً‬ ‫حمة الركض طوال عمرك‪ ،‬ومذ كنت‬‫َّ‬ ‫قد ًرا عليك يا‬
‫كان ُم ّ‬
‫دوم ا عن سر تفرقهم مع أن البذاءة حقيقة ال يمكن نكرانها‪ .‬حين أصبحت شابًا عزفت عنهم‬ ‫ً‬ ‫الناس من حولك‪ ،‬وكنت تتساءل‬
‫مثلما تجنبوك‪ ،‬ولكنهم مع ذلك كانوا ُمعجبين بالشجاعة التي تواجه بها األتراك وال يبدون لك ذلك‪ ،‬حتى صديقك ابن ميّار الذي‬
‫حمة‪ ،‬ليست كل الحقائق تُقال‪ ،‬بعض الكذب يجعل الحياة يسيرة‬ ‫ّ‬ ‫صغيرا يا‬
‫ً‬ ‫‪.‬عرفك أكثر من الجميع‪ ،‬ظل يردد‪ :‬ما زلت‬

‫قت‬
‫بقاءهم وتُ ُ‬
‫َ‬ ‫وكرهتُهم‪ ،‬ورجا‬
‫ِ‬ ‫أحبَّهم‬
‫ولم يكن كالمه ليقنعني‪ ،‬فطالما كان متعلقًا باألتراك‪ ،‬وصديقًا مقربًا من الباشا الكبير‪ ،‬لهذا اختلفنا‪َ ،‬‬
‫إلى رحيلهم‪ ،‬كل سنة كنت أراهم يفدون بالمئات من أناضولية‪ ،‬ال يحملون شيًئا معهم سوى كونهم أتراك ًا‪ ،‬يبنون لهم أوجاقًا جديدة‪.‬‬
‫أما في سنوات الوباء فلم تُرفع الضرائب‪،‬‬ ‫جنودا يسيرونهم إلى أريافنا‪ ،‬من أجل ضرائب تعود إلى خزينتهم‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫أيام فقط حتى يصبحوا‬
‫وحدا ‪ .‬ال أدري لماذا ال يذكر ابن ميّار كل‬
‫ً‬ ‫ولم تُفتح مخازنهم ألحد منا‪ ،‬بل ظلت معاشاتهم تزداد‪ .‬يحذر الباشا أن ينتقص منها رياال‬
‫شاهدا عليها‬
‫ً‬ ‫!األشياء وقد كان‬

‫منذ وعيت رأيتهم يمألون المحروسة‪ .‬كانوا مختلفين عنا‪ ،‬يُنبهني التجار أنهم مسلمون مثلنا ولم يبد لي أن األمر متعلق بالدين بل‬
‫بعرقهم‪ .‬بسهولة تكتشف طبع هؤالء األتراك‪ ،‬كبرياؤهم ال حدود لها‪ ،‬ميالون إلى إهانة الناس‪ ،‬كانت بيوتهم أجمل من بيوتنا‪ ،‬ومزارعهم‬
‫عددا‬
‫ً‬ ‫‪.‬أوسع من مزارعنا‪ ،‬ومفتيهم له الكلمة األخيرة عند الباشا الكبير‪ .‬بالرغم من أننا أكثر‬

‫نت أني سأراهم‪ ،‬لكنني لم أعثر إال على قبورهم‪ ،‬جلست عند أولها‪ ،‬وشرع‬ ‫وخم ُ‬
‫ّ‬ ‫الحراش‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تجاوزت السهل بمسافة‪ ،‬حتى بلغت وادي‬
‫مر وما زلت أسمع صراخهم في رأسي‪ ،‬األطفال يتراءون لي يقفزون بين القبور‪ ،‬والشيوخ يفترشون األرض‬ ‫أنقل بصري بين البقية‪ ،‬عا ٌم ّ َ‬
‫أن هذا ما حدث قبل عام‪ ،‬تسلَّلت خفية عن الجنود الفرنسيين أقصد الثوار‪،‬‬ ‫َّ‬
‫شعورهن ويندبن‪ .‬أذكر ّ‬ ‫يراقبونهم‪ ،‬والنساء يكشفن عن‬
‫صباحا‪ ،‬وصوبًا إلى خيمة شيخها ثم كانوا هناك‪ .‬حين كان الناس‬ ‫ً‬ ‫القبيلة‬ ‫إلى‬ ‫وصلت‬ ‫اش‪،‬‬ ‫الحر‬
‫ّ‬ ‫وادي‬ ‫مشارف‬ ‫حين قيل لي إنهم على‬
‫كن يجلبن الماء فرمين الدالء‬ ‫الهين عنهم‪ ،‬ولم تمض إال لحظات ثم صوبوا نيرانهم تجاهنا‪ ،‬تساقط األطفال من حولي‪ ،‬وبعض النسوة ّ َ‬
‫فر تجاه الغابة‬
‫أما الشيوخ فلم يبرحوا أمكنتهم‪ ،‬بعض الشباب ّ‬ ‫وهربن‪ ،‬وال أدري كم واحدة نجت لكنني رأيت الكثيرات يسقطن‪ّ ،‬‬
‫ومر الجنود الفرنسيون‬
‫ّ‬ ‫بدمائهم‪،‬‬ ‫مضرجين‬ ‫سقطوا‬ ‫ثم‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫قلي‬ ‫صمدوا‬ ‫وآخرون من الذين حملوا البنادق انتبهوا متأخرين‪ ،‬وحاولوا صدهم‪،‬‬
‫بأقدامهم قربي ولم ينتبهوا لي في مخبئي‪ .‬وعندما انتشرت الظلمة سمعت وقع أقدام قربي‪ ،‬عاد بعض الذين فروا إلى الغابة‪ ،‬لم أر‬
‫تفاصيل وجوههم لكنني سمعت أنينهم وبكاءهم‪ ،‬حملت معهم الجثامين‪ ،‬ولم نفرغ من دفنهم إال بعد بزوغ شمس يوم جديد‪ ،‬غابت‬
‫‪.‬فيه قبيل ٌة إال قليل ًا عن الوجود‬

‫جررت رجلي راحل ًا عن القبور‪ ،‬ورجعت على طريقي أقصد المحروسة‪ ،‬ولكن رغبة انعطفت بي إلى بابها الجنوبي‪ .‬الباب الجديد‪،‬‬
‫صغيرا‪ ،‬تبدو لي أسوارها عالي ًة كأنها تُناطح‬
‫ً‬ ‫وحين وقفت في مواجهته سنح لي خاطر أن أطوف المحروسة مثلما كنت أفعل‬
‫العلو‪ ،‬مثلما لم أعد أشعر أنّه يحمينا كما أوهمونا في السابق‪ ،‬ليست األسوار من يحمي‬ ‫السور بذلك ُ‬
‫السحاب‪ ،‬واليوم ال يتراءى لي ُّ‬
‫حرصا على بناء الحصون واألسوار‪ .‬سرت‬ ‫ً‬ ‫المدن بل محبّة أهلها هي التي تحميها‪ ،‬واألتراك لم يكونوا من أهلها لذا كانوا أكثر‬
‫ودوما اعتقدت أنه بُني‬‫ً‬ ‫مسرعا وتراءى لي حصن اإلمبراطور من هناك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫السور‪ ،‬ورأيت القصبة من الجهة الجنوبيّة‪ ،‬ثم تجاوزتها‬
‫بمحاذاة ُّ‬
‫‪.‬لقصف المدينة ال للدفاع عنها‪ ،‬فما إن سقط في أيدي الفرنسيين حتى استسلمت المدينة لهم‬

‫إلي أصواتهم من المقابر‬


‫َّ‬ ‫حم ة‪ ،‬شئت أم أبيت‪ ،‬المحروسة التي كنت تدافع عنها باألمس لم تصبح محروسة اليوم‪ ،‬تناهت‬ ‫ّ‬ ‫حمة يا‬
‫ّ‬
‫فارا منها لكنّها اقتفت أثري‪ ،‬حتى وأنا أعبُر باب المدينة الغربي‪ ،‬وأتجاوز الشارع الممتد إلى الميناء‪ ،‬غابت‬
‫أسفل القصبة‪ ،‬ركضت ّ ً‬
‫لكن الحقيقة لم تغب‪ ،‬تقرؤها عند كل منعطف للمحروسة‪ ،‬شارع شارل الخامس‪ ،‬شارع دوكين‪ ،‬شارع دوربا‪ ،‬شارع‬ ‫ّ‬ ‫أصوات الموتى‬
‫‪.‬كليبر‪ ،‬باب فرنسا‪ ،‬لم تعد األسماء نفسها‪ ،‬وبعض الحواري اختفت أشكالها القديمة‪ ،‬ونبتت أخرى وبأسماء مختلفة‬

‫هل تنصفك اليوم عرائسك مثلما أنصفتك من األتراك؟ تغدو وجوههم وردية‪ ،‬وهم يسمعون حواراتها الساخرة‪ ،‬وحينما تجعل مؤخراتهم‬
‫وعمائمهم كبيرة الحجم‪ ،‬أو عندما تجعل النساء تمتطي ظهورهم وتضع اللُّجم في افواههم ثم تهذر بصوت نسائي ببذاءات بلغتهم‬
‫األناضولية‪ ،‬يوشكون على الهجوم عليك‪ ،‬لكنهم يترددون‪ ،‬ثم يرتفع ضحكهم على مشاهدها‪ .‬واآلن ماذا سيفعل الفرنسيون حينما يرونها؟‬
‫ينفضون من حولك‪ ،‬ربما عليك يا حمة‬‫ُّ‬ ‫ُحا على االنتقاد ولن يلتفت أحدٌ إلى بذاءاتك‪ ،‬أو ربما يصفقون لك ثم‬
‫يقولون إنهم أكثر تفتّ ً‬
‫تغيير طريقتك‪ ،‬يجب أن تهتف في أهالي المحروسة أن ينضموا إلى الثوار‪ ،‬ما الذي يُبقيهم في المحروسة خانعين‪ ،‬ينطلق الصوت‬
‫ينفضوا من حولك قبل أن يُدركك الجنود‬‫ُّ‬ ‫المرات في مقاهي الشارع الكبير‪ ،‬ألم‬
‫ّ‬ ‫من داخلي‪ ،‬ولكنك صرخت في وجوههم آالف‬
‫‪.‬الفرنسيون! نعم هذا ما حدث‪ ،‬فإما أن تصمت أو أن ترحل إلى الثوار الذين تلهج بذكرهم‬

‫مرة تُر ِ ّقع عرائسك‪ ،‬لم تتغير منذ سنوات األتراك‪ ،‬ظل ّت وفي ًة لك‪ ،‬ولكنّها بقيت تنوس‬
‫كل ّ‬
‫لم يكن ليؤمن بك أحد سوى ُدوجة‪ ،‬في ّ‬
‫بين قلبك وعقلك‪ ،‬األول ي ُريدها مثلما هي‪ ،‬تعلن حركتها عن محبتها لك‪ .‬والثاني لم ينس أيامها األولى في المبغى قبل أن تخرجها‬
‫مرة أخرى مع الفرنسيين‬‫زوار بالرغم من أن األتراك قد رحلوا ولكنّه وجد نفسه ّ‬‫الم َ‬ ‫جديدا‪ ،‬ولم ينسك ِ‬
‫ً‬ ‫عدوا‬
‫ً‬ ‫‪.‬منه‪ .‬وخلقت‬

‫حل بنو عثمان بالمحروسة‪ ،‬قتلوا أميرها الذي استنجد بهم‪ ،‬وجلسوا على كرسيه‪ ،‬واضطهدوا أهله‪ .‬ثم دخلت ُدوجة‬ ‫ّ‬ ‫قبل سنين بعيدة‬
‫مشاعا للرجال‬
‫ً‬ ‫الخاصة من بني عثمان‪ ،‬وأضحت ُدوجة‬
‫ّ‬ ‫فراش‬ ‫إلى‬ ‫ثم‬ ‫فراشه‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫سحبها‬ ‫حتى‬ ‫ار‬ ‫زو‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫رآها‬ ‫إن‬ ‫وما‬ ‫إلى المحروسة‪،‬‬
‫عريَك يا ُدوجة؟ من منهم‬
‫كلهم‪ .‬واآلن أقطع شوارع المحروسة جيئ ًة وذهابًا‪ ،‬أرى وجوه الرجال ومالمحهم‪ ،‬من منهم يا تُرى رأى ُ‬
‫المكورين؟ من منهم بات ليلة طويلة يُضاجعك؟ من منهم‬
‫ّ‬ ‫اكتشفت يده تفاصيل جسدك؟ من منهم قبّل شفتيك‪ ،‬أو ضغط على نهديك‬
‫‪.‬وكم هم؟! يزداد ضجيج األسئلة في رأسي‪ ،‬وال مجيب عنها سوى أسئلة أخرى أشد قسوة منها‬

‫لكن‬
‫ّ‬ ‫عند باب السوق الجديدة‪ ،‬في المنعطف الذي يسبق باب ع ّزون‪ ،‬رأيت ُدوجة للمرة األولى‪ ،‬كانت عند عتبة الخامسة عشرة‪،‬‬
‫الحي إلى بيته كخادمة‬‫ّ‬ ‫السهول‪ ،‬فاصطحبها شيخ‬ ‫جسمها يُبديها على أعتاب العشرين‪ ،‬رأيتها في ثيابها الرثَّة‪ ،‬بدت مالمحها من أهل ُّ‬
‫ومرت أربعة‬‫ّ‬ ‫بيته‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫ٍ‬
‫نحاس‬ ‫تاجر‬ ‫اصطحبها‬ ‫صرتها تتجول في السوق حافي ًة‪ ،‬ثم‬‫ّ‬ ‫لزوجته‪ ،‬ولم تمض إال ثالثة أشهر ثم رأيناها حامل ًة‬
‫بيت حتى تغادره‪ .‬وكل الذين استضافوها قالوا أشياء‬ ‫ٍ‬ ‫بالصرة نفسها إلى باحة السوق‪ ،‬وبهذه الطريقة ال تمكث في‬ ‫ُّ‬ ‫أشهر وعادت‬
‫مسا قد أصابها‪ ،‬غير أن عودتها‬ ‫غريبة‪ .‬تستيقظ في الليل‪ ،‬تجوب فناء الدار‪ ،‬وتتمتم ثم يرتفع صوتها بالغناء‪ .‬اعتقدوا في البداية أن ّ ً‬
‫رحلها خوفًا على نفسه وعلى‬ ‫شهرا‪ ،‬ولكنّه ال يني يُ ِ ّ‬
‫ً‬ ‫يوما أو‬
‫ً‬ ‫إلى حالها في صباح اليوم التالي زادت حيرتهم‪ .‬قد يصبر المستضيف‬
‫عياله‪ ،‬هذا ما تناقله التُجار‪ ،‬بينما ظلت الحقيقة لدى ُد وجة‪ ،‬وهي صامتة ال تتكلم‪ .‬ولم أجرؤ أن أسألها عن حكاية قد مضت عليها‬
‫سنوات‪ ،‬ولم يكن قلبي قد حمل أشياء غامضة نحوها‪ ،‬بدأت يوم رأيتها تُغني في فرقة الل ّة مريم‪ ،‬كانت تلبس فستانًا أبيض يميل‬
‫بخمار مشنشل تتدل ّى خيوطه الوردية على جبهتها‪ ،‬لم أميزها حينما وقعت عيناي على وجهها‪ ،‬بدا أكثر‬ ‫ٍ‬ ‫إلى الصفرة‪ ،‬تغطي شعرها‬
‫وبياضا من ذي قبل‪ ،‬أتكون هذه هي نفسها الفتاة التي تعودت رؤيتها تجوب السوق؟‬ ‫ً‬ ‫وضاءة‬

‫بكلمات مزهوة بالفرح‪ ،‬وقفزت‬


‫ٍ‬ ‫ولم أزل أراقب العرس من خصاص النافذة‪ ،‬حتى تناهى لي صوتها رتيبًا‪ ،‬حزينًا‪ ،‬وما فتئ أن تعالى‬
‫بعض النسوة يرقصن‪ ،‬يحملن في أيديهن المناديل ي ُلوحن بها‪ ،‬على وقع الدفوف وعلى الصوت المهيمن على بقية األصوات‪ ،‬صوت‬
‫ردد أنهم‬
‫أن بعض بني عثمان يستعينون بها لتُحيي حفالتهم‪ ،‬تُ ّ‬
‫الل ّة مريم‪ ،‬التي كانت كل أعراس المدينة تزدهي بحضورها‪ ،‬حتى ّ‬
‫يُجزلون لها العطاء‪ ،‬ومن يعرف الل ّة مريم ال يمكنه إال فعل ذلك‪ ،‬فال تمكث المغنيات عندها زمنًا ثم يختفين زمنًا ليظهرن في حي‬
‫‪.‬المبغى‬

‫أقدام‬
‫ٍ‬ ‫إلي أصوات وقع‬ ‫َّ‬ ‫بدوجة‪ ،‬وأذناي مي ّزتا صوتها بين جميع األصوات‪ ،‬لحظات من االستماع حتى تناهت‬ ‫كانت عيناي معلقتين ُ‬
‫مروا دون أن‬ ‫مقتربة‪ ،‬اختبأت في أول منعطف‪ ،‬وتحت الضوء الضئيل تراءت لي مجموعة اليولداش ثملين يسيرون تجاه أوجاقهم‪ُّ ،‬‬
‫ينتبهوا إلى النافذة‪ ،‬لكنني حينها عدت إليها وجدتها مقفلة‪ .‬منذ ذلك اليوم أشياء كثيرة تغيّرت في نفسي‪ ،‬مثلما انفجرت مرارةٌ‬
‫باب تقف عنده‪ ،‬وتطل على‬ ‫ٌ‬ ‫مرة أخرى تجوب شارع البغايا‪ ،‬وغدا لها‬ ‫أخرى في داخلي‪ ،‬ألن ُدوجة التي اكتشفتها هناك رأيتها ّ‬
‫دائما هكذا‪ ،‬حين يضطهدنا‬‫ً‬ ‫الرجال‬ ‫فنحن‬ ‫حقيقيين‪،‬‬ ‫ًا‬ ‫ل‬‫رجا‬ ‫فيه‬ ‫يصبحون‬ ‫العابرين من رجال المحروسة الذين كانوا يبحثون عن مكان‬
‫الحكام نبحث عن أقرب امرأة لنثبت ألنفسنا أننا أقوياء‪ ،‬مع أن البغاء الحقيقي هو ما يمارسه هؤالء الحكام علينا‪ ،‬كل يوم كانوا‬
‫يمر بالتركي ينتحي مكانًا أقصى الطريق‪ ،‬يخشى‬ ‫ّ‬ ‫يضاجعوننا بالضرائب واإلتاوات وكنا نرضخ لهم‪ ،‬حتى في الطرقات كان العربي حينما‬
‫تالمس األكتاف ببعضها‪ ،‬وإن حدث فسيكون مصيره مئة فلقة‪ .‬لو أعاد صديقي ابن ميّار سيرة ُدوجة فقط ألدرك بسهولة أنها ال‬
‫أيض ا ما حدث في األيام التي سبقت دخول الجيش‪ ،‬وتهاون إبراهيم آغا‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫تختلف إال بالقدر اليسير عن هذه المدينة‪ ،‬والستوعب‬
‫خادما‬
‫ً‬ ‫فر وتركنا نواجه مصيرنا حين انهزمنا في سطاوالي‪ .‬وحتّى باي وهران سلَّم المدينة من تلقاء نفسه‪ ،‬وارتأى أن يكون‬ ‫ّ‬
‫هموا بتحريرها‬‫ليحرر المحروسة‪ ،‬ووحدهم شيوخ القبائل من ّ‬ ‫ِّ‬ ‫جديدا للجزائر بدل أن يزحف‬
‫ً‬ ‫للفرنسيين‪ ،‬وفي قسنطينة أعلن نفسه باشا‬
‫‪.‬ولكن قوتهم خانتهم‬

‫لم أفهم لماذا يكره ابن مي ّار أولئك الناس‪ ،‬يعتقد أنهم كانوا حجر عثرة في طريق األتراك‪ .‬يثورون على الباشا وضرائبه‪ ،‬يُكلمني عن‬
‫الرعية التي تحترم حكامها‪ ،‬ولكن ّه ال يكلمني عن الحكام ومحبتهم لرعيتهم‪ .‬وقد كنا شاهدين على أولئك البحارة الجزائريين الذين‬
‫قُتلوا في البحر على أيدي األمريكان وتناقلت األفواه ما قاله وكيل الحرج‪ :‬إنهم مغاربة يستحقون ما حدث لهم‪ .‬ثم بعد أيام سمعنا‬
‫وأيضا أوالدهم‬
‫ً‬ ‫أنهم تذكروهم عندما أرادوا المساومة بهم على سفينة أخذت منهم ‪ .‬ال يلتفت األتراك إلينا إال ألننا مجلبة للمال لهم‪،‬‬
‫سنوات دونهم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫والصدف وحدها تدخل أولئك الكراغلة إلى القصر الذي ظل مغلقًا‬ ‫ُ‬ ‫من نسائنا كانوا يحتقرونهم مما يجعلهم يحتقروننا‪،‬‬
‫جماعات‬
‫ٍ‬ ‫الم لك من آبائهم‪ ،‬ولكنهم فشلوا‪ .‬وأضحت حكايتهم أسطورة ترويها عجائز المحروسة‪ ،‬يومها ساروا في‬ ‫منذ أن قرروا انتزاع ُ‬
‫بحصن على طرف المدينة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بليل المدينة‪ ،‬حاصروا أوجاق اليولداش والقصبة‪ ،‬ولكنهم لم يلبثوا أن تراجعوا‪ ،‬وطاردهم اليولداش فاحتموا‬
‫لكن بني ميزاب أمازيغ الصحراء كانوا أكثر دهاء من الجميع‪ .‬أرادوا اغتنام حظوة ألنفسهم عند الباشا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ظنّوا أنهم في مأمن فيه‪،‬‬
‫جماعات نحو الحصن‪ُ ،‬متقنّعين في ألبسة نسائية‪ ،‬يتباكون ويطلبون اللجوء من قهر‬ ‫ٍ‬ ‫والتخلص من احتقار أولئك الكراغلة‪ .‬ساروا في‬
‫وجوها غير التي كانت ترجوهم قبل قليل‪ .‬وهجموا‬ ‫ً‬ ‫صدقوهم‪ ،‬وفُتحت األبواب ليروا‬
‫ّ‬ ‫األتراك‪ ،‬وما إن رأوهم من نوافذ الحصن حتى‬
‫عليهم بأسلحتهم وتبعهم اليولداش إلى هناك‪ ،‬ومات من مات‪ ،‬وآخرون نفوهم إلى أزمير واإلسكندرية‪ ،‬ومنذ ذلك اليوم لم يعد أحد‬
‫احتكارا أبديًا لبني ميزاب‪ ،‬ولم ي ُزل إال حينما رحل بنو عثمان‬ ‫ً‬ ‫حماما أو مخبزة‪ ،‬إذ أصدر الباشا‬
‫ً‬ ‫‪.‬يجرؤ أن يفتح‬

‫أما بنو ميزاب فقد ظلوا انطوائيين منغلقين‬


‫لكن وجوه األحفاد تعيد الحكاية كلما التقت بوجوه األتراك‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫حدث هذا قبل مئتي سنة‪،‬‬
‫على أنفسهم‪ ،‬األرقام وحدها التي تحدد عالقاتهم بغيرهم‪ .‬يقول ابن ميّار‪ :‬إن مذهبهم الفقهي المتشدد‪ ،‬هو ما يُبديهم بتلك الصورة‪.‬‬
‫تصر أقلية مختلفة في مدينة مثل المحروسة على‬ ‫ُ‬ ‫وال أدري إن كان الدين يبرر لهم رفضهم تزويج بناتهم من أبناء المحروسة‪ .‬حينها‬
‫!النأي عن الجميع خوفًا على نفسها‪ .‬ما الجدوى من بقائها هناك بشروط ال تحتملها المدينة؟‬

‫يجرهن من شعورهن‪ ،‬ويُعيد‬


‫ّ‬ ‫زلت أراه في الحلم واليقظة‪ ،‬يجوب الشوارع‪ ،‬ويقفز من مكان إلى آخر يطارد البغايا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫زوار‪ .‬ما‬ ‫وجه ِ‬
‫الم َ‬
‫من تهرب إلى غرفتها‪ ،‬لم أره في تلك األيام القصيرة قبل دخول الجيش إلى المحروسة‪ ،‬بينما كانت البغايا ُه ّن من يضمدن جراحنا‬
‫بعد هزيمتنا‪ ،‬وال أدري كم واحد ًة قضت في تلك األيام‪ .‬كنت أرى بعضهن يتساقطن من حولي‪ ،‬وحملت أخريات بنادق الرجال الذين‬
‫سقطوا في سطاوالي‪ .‬على رجال المحروسة اليوم استيعاب أن أولئك النسوة الالتي يعلقون هذا اإلثم في رقابهن قد أنقذن نساءهم‬
‫مشاعا‪ ،‬بل أن تبيع روحك للذي بغى عليك‬ ‫ً‬ ‫مروا بحيهن‪ ،‬فليس البغاء أن يكون جسدك‬
‫من البغي‪ .‬وعليهم إحناء رؤوسهم كلما ّ‬
‫‪.‬وعلى أهلك‬

‫الحي للمرة الثانية‪ ،‬جمع النساء في الساحة‪ ،‬وألقى‬


‫ّ‬ ‫وبالرغم من اختفائه في الشهر األول من احتالل المدينة‪ ،‬إال أننا رأيناه يطوف‬
‫وجوها لنساء من أمكنة عديدة‪،‬‬
‫ً‬ ‫الحي‪ ،‬وبدأت المدينة تستقطب‬
‫ّ‬ ‫عليهن خطابًا يعلمهن فيه بقانونه الجديد‪ ،‬ولم يلبث أن غزا الجنود‬
‫أميرا عليه‬
‫ً‬ ‫زوار‬ ‫كبيرا أصبح ِ‬
‫الم َ‬ ‫ً‬ ‫مبغى‬
‫ً‬ ‫معهن لهجاتهن المختلفة‪ ،‬وأضحت المحروسة‬ ‫َّ‬ ‫‪.‬حملن‬

‫لكن الدهشة‬ ‫ّ‬ ‫أراه ن في نصف عريهن‪ ،‬لم تكن الرغبة قد تولدت في الطفل حينها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫في طفولتي كنت أحب التسلل إلى بيوتهن‪،‬‬
‫سريع ا تجاه الشباب‪ ،‬كن ال يحتشمن من طفل يعبر الرواق‪ ،‬أو يتلصص على الرجال وهم في أحضانهن‪ .‬من ك ُّوات‬ ‫ً‬ ‫ركضت بي‬
‫والسلطة‪ ،‬كل تلك األشياء لن تحمل أي معنى حينما يلتحم‬ ‫ُ‬ ‫والمال‬ ‫والعمل‬ ‫التجارة‬ ‫‪.‬‬ ‫للنساء‬ ‫الرجال‬ ‫يرضخ‬ ‫كيف‬ ‫رأيت‬ ‫ال ُغ رف‬
‫خجل‪ .‬اعتدت أن أرى التفاصيل‬ ‫ٍ‬ ‫بحركات صبيانية في‬
‫ٍ‬ ‫الجسدان‪ .‬في أحضان النساء يتحول الرجال إلى أطفال‪ ،‬يُعبرون عن رغباتهم‬
‫سنوات‪ ،‬هل كان رجال المحروسة يشعرون‬‫ٍ‬ ‫دائما يحاصرني بعد‬‫ً‬ ‫الدقيقة‪ ،‬والكلمات المحترقة التي تغادر أفواههم‪ ،‬كان سؤال الطفل‬
‫الحي‪ ،‬بعض‬
‫ّ‬ ‫طريق‬ ‫عبر‬ ‫االنعطاف‬ ‫على‬ ‫يجرؤون‬ ‫رجالها‬ ‫كل‬ ‫يكن‬ ‫بالظلم من األتراك حتى صار المبغى هو المالذ لهم؟ ولكن لم‬
‫جزءا منه ثم ينجبون أبناء ال يختلفون عنهم‬
‫ً‬ ‫زوجاتهم‬ ‫تقاسمهم‬ ‫فربما‬ ‫أما البقية‬
‫‪.‬الرجال فقط كانوا ال يحتملون ذلك الظلم‪ّ ،‬‬
‫مفتوحا أقرأ منه كل العابرين الذين‬
‫ً‬ ‫واآلن لم أعد أطل من ك ُّوات الغرف‪ ،‬واستبدلته بإبصار آخر في النفوس‪ ،‬لتغدو عيون ُدوجة كتابًا‬
‫جديدا على شوارع المحروسة‪ ،‬أتهجى الحروف الحادة للغة‪ ،‬لم تحمل‬ ‫ً‬ ‫اسما أوروبيًا‬
‫ً‬ ‫مروا بجسدها‪ .‬مثلما كنت أقرأ كل يوم‬
‫وبت أسمع رطانتها حتى بين أطفال المحروسة وهم يقلدون الجنود‬ ‫ُ‬ ‫انحناءات حروف العربيّة‪ ،‬ولكنّها في كل يوم تتكاثر من حولنا‪،‬‬
‫سنوات قليلة على دخول أولئك الجنود‬
‫ٌ‬ ‫‪.‬بسخرية‪ .‬ولم تمض إال‬
‫أياما ثم يعودون‬
‫ً‬ ‫عددا من الشباب‪ ،‬يختفون‬ ‫ً‬ ‫تم ُّر على االحتالل‪ ،‬ولم يتغيّر شيء‪ ،‬بل إنهم كانوا في كل يوم يسحبون‬
‫سنوات ُ‬
‫ٍ‬ ‫ثالث‬
‫في زي عسكري يشابه زي جنودهم‪ ،‬ويحملون بنادق أقصر من تلك التي حملها األتراك‪ ،‬يقطعون الشوارع الكبيرة للمحروسة في‬
‫واقف في مكاني‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫حصله غيرهم‪ ،‬بينما أنا‬ ‫ّ‬ ‫صفوف طويلة‪ ،‬ويهتفون لحياة هذه األمة‪ .‬الجوع قاد آخرين تجاه ثكناتهم يطلبون ما‬
‫وسرت عبر دروبها حتى عييت‪ .‬بحثت عما تبقى‬ ‫ُ‬ ‫الزمن يعيد في رأسي كوابيس قديمة‪ ،‬أردت مغادرة المحروسة‪ ،‬فحملت ُص ّرتي‬
‫أما حين تلتقي‬‫ّ‬ ‫القديمة‪،‬‬ ‫أعمالهم‬ ‫إلى‬ ‫عادوا‬ ‫وآخرون‬ ‫الجبال‬ ‫فروا إلى‬
‫من أصدقاء هزيمة سيدي فرج وسطاوالي‪ ،‬ولكن العديد منهم قد ّ َ‬
‫أخرنا بنو عثمان عن المسير إلى شبه‬ ‫فادحا‪ ،‬ولم نكن وحدنا نحمل ذلك الوزر‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫الوجوه فيطأطئون وكأن ما حدث يومها كان خطًأ‬
‫لكن الجنود الفرنسيين كانوا يدركون أي شيء هم‬ ‫ّ‬ ‫الجزيرة‪ ،‬قالوا لنا‪ :‬انتظروا حتى يتوغلوا في السهل‪ ،‬إنهم يجهلون هذه األرض‪.‬‬
‫ُم قبلون عليه‪ ،‬وما إن وضعوا أقدامهم على اليابسة حتى تكاثروا عليهم فتراجعوا‪ ،‬وظلوا على حالهم تلك إلى أن أغلقوا على أنفسهم‬
‫‪.‬أبواب المدينة‬

‫حلما طويل ًا انتظرت االستفاقة منه‪ ،‬فأرى الناس من حولي مثلما‬‫ً‬ ‫ّفت بابًا من أبواب المحروسة ورائي‪ ،‬شعرت أنني أعيش‬‫كلما خل ُ‬
‫في السابق‪ ،‬الصيادون يتصايحون عند الميناء‪ ،‬ي ُصلحون شباكهم أو يتخاصمون على أسعار السمك‪ ،‬التجار يسيرون في خطواتهم التي ال‬
‫تكاد تُ سمع‪ ،‬في عجلة يفتحون دكاكينهم‪ ،‬البخار المتصاعد من الحمامات‪ ،‬وعيون الرجال تترقب خروج النسوة من بابه‪ ،‬رائحة الخبز‬
‫المنبعثة من بداية درب الخبّازين‪ ،‬واألطفال يركضون على أحجاره كل بحمل في يده قطعة‪ ،‬مزيج من األصوات واللهجات في سوق‬
‫ِّ‬
‫تقدم‬ ‫الكتان‪ .‬حتى حانات المحروسة كانت لها نكهتها المختلفة‪ ،‬أفضلها كان حانة بوجي‪ ،‬أضحت اليوم بار ريفو‪ ،‬وبعد أن كانت‬
‫نبيذًا هو أفضل ما في المدينة صار الجنود اليوم يشربون أي شيء ليتحملوا قسوة المناخ‪ .‬والمبغى لم يعد مثل سابق عهده‪ ،‬كان‬
‫هناك نوع من األلفة فيه‪ ،‬تراها تقف عند الباب تنتظرك‪ ،‬كأن معرفة قديمة بينكما واآلن يتم األمر بسرعةٍ ‪ ،‬وربما ال يسعفها الوقت‬
‫‪.‬ليتطل ّعا إلى وجهي بعضها‬

‫كبيرا منها‪ ،‬وفتحوا طريقًا‬


‫ً‬ ‫جزءا‬
‫ً‬ ‫السل ّاويين‪ ،‬هدموا‬
‫رافعا رأسي تجاه أسطح البيوت‪ ،‬تذكرت حارة ّ‬ ‫ً‬ ‫لحظة اكتشفت أنني ما أزال أقف‬
‫حرك ساكنًا‪ ،‬لم أدر ما الذي حدث عندما خفضت‬ ‫المارة األوروبيون كل صباح‪ ،‬يستكشفون وجهي كأني غريب‪ ،‬وأنا ال ُأ‬
‫َّ‬ ‫واسعا يفاجئني‬
‫ً‬
‫ّ‬
‫حمة أن تركض طوال حياتك‪َ ،‬خطت رجالي أول الخطوات ثم ازدادت‬ ‫ّ‬ ‫يا‬ ‫مصيرك‬ ‫يتعالى‪،‬‬ ‫ونداء‬ ‫الركض‪،‬‬ ‫في‬ ‫برغبة‬ ‫شعرت‬ ‫رأسي‪،‬‬
‫اتساعا‪ ،‬وركضت حتى كنت أعبّ ر باب المدينة الغربي‪ .‬كأنما لم يرني الجنود‪ ،‬ثم تعالى الصراخ من ورائي‪ ،‬وأوشكوا على الركض‬ ‫ً‬
‫خلفي ولم يجرؤوا‪ ،‬قطعت مسافة غير قصيرة تحملني أشياء غريبة إلى وجهة هجست بها‪ ،‬اعتاد الغرب أن يكون جهة غامض ًة لي‬
‫قبل سنوات‪ ،‬ثم تحول إلى مكان للهزيمة‪ .‬واليوم لماذا تريد العودة إلى مكان الهزيمة؟ لماذا تريد الوقوف ثاني ًة في سيدي فرج‪،‬‬
‫أيضا؟‬
‫ً‬ ‫هل ستعيد حكايتك أنت‬

‫لكن الرغبة‬
‫ّ‬ ‫أدر كم ساعة مشيتها‪ ،‬خانتني رجالي منتصف الطريق‪ ،‬وتوقفت بأمكنة عديدة‬
‫لم أعتقد أن المسافة بذلك الطول‪ ،‬مثل ًا لم ِ‬
‫ظلت مشتعلة‪ ،‬إلى أن تراءت لي القلعة أعلى التل‪ ،‬طوري شيكا كانت بداية الهزيمة‪ ،‬تجاوزتها في عجلةٍ وأسرعت تجاه البحر‪،‬‬
‫‪.‬فوحده البحر يهب النسيان‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ُدوجةالمحروسة مارس ‪1833‬‬

‫‪ ‬‬

‫فرارا إلى هنا‪،‬‬


‫ً‬ ‫الكل كانت له محروسته‪ ،‬عداي أنا‪ ،‬خل ّفت حراسي كلهم‪ ،‬عند آخر حفنة رمل دثّرت بها أبي‪ .‬ثم شققت طريقي‬
‫السل ّاوي كل يوم‪ .‬يرتج‬
‫صدق ًة بما كانوا يقولون عن المحروسة‪ .‬قبل سنوات عبرت شوارعها حافية القدمين‪ ،‬واليوم وحيدة‪ ،‬أنتظر ّ‬ ‫ُم ّ‬
‫لماما‪ ،‬وعرائسه تنتظره إلى جانبي في الغرفة‪ ،‬أهملها مثلما أهملني‪ .‬ابن ميّار ظل يردد‬
‫ً‬ ‫إال‬ ‫يأتي‬ ‫ال‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫الباب‪،‬‬ ‫َ‬
‫دق‬‫ّ‬ ‫كلما‬ ‫قلبي‬
‫كلما اجتمعنا على ِق َطع الخبز األسمر والزيت‪ ،‬يقول‪ :‬لم يعد ّ‬
‫السل ّاوي مثلما كان في الماضي‪ ،‬صار يتطلع إلى الشوارع غائبًا عنها‪،‬‬
‫‪.‬إني أخاف عليه أن يلتحق بالثوار‬

‫السل ّاوي‪ .‬في زياراته القليلة إلى البيت‪ ،‬يتكلمان عن‬


‫وأركن إلى الصمت حينها‪ .‬يظل ابن ميّار يرى األشياء بطريقة مختلفة عن ّ‬
‫ع مر المحروسة‪ ،‬كل واحد يرويها بطريقته‪ ،‬ثم يتشبث بها‪ ،‬يجتمعان حول الطعام ثم يغادران‪ ،‬ويعود ابن ميّار‬
‫حكايات قديمة من ُ‬
‫السل ّاوي ال يعود في اليوم نفسه‪ .‬وأظل أنتظر من ال يأتي‬
‫ّ‬ ‫‪.‬ولكن‬

‫تر جدوى من رحيله‪ ،‬ولم تجادله‪ ،‬اليأس الذي تسلل إلى قلب الل ّة سعدية صعد إلى مالمح وجهها‪ ،‬رأيت كيف غيرها‪ .‬كانت‬ ‫لم َ‬
‫تُعد له ُص ّ َر ة الطعام بيدين مختلجتين‪ .‬عيناها تقوالن له ال ترحل‪ ،‬فال فائدة مما تفعله‪ .‬وظلت على حالها بينما يتضاعف إصراره‬
‫على الرحيل‪ ،‬عرائض عديدة كان يُرتّبها أمامه‪ ،‬ويعيد نسخها في أوراق أخرى‪ ،‬وضعها كلها في جراب جلدي صغير‪ ،‬وخبأها في‬
‫‪.‬غرفته في انتظار الساعات القليلة الباقية له على موعد الرحيل‬

‫‪:‬لم تتكلم الل ّة سعدية ونحن متحلقون حول الطعام‪ ،‬لكنّها همست وهي ترفع اللقمة إلى فيها‬

‫السل ّاوي في رحلتك؟ ‪-‬‬


‫هل سيرافقك ّ‬
‫‪:‬بدا وكأنه لم يسمعها‪ ،‬ثم رفع رأسه فجأة تجاهها‬

‫أيام لم أره‪ ،‬وال أدري أي شيء حدث له‪ .‬في األيام األخيرة ما عاد يُقاسمني أسراره‪ ،‬وصرت ال أتنبأ بما سيفعله ‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬منذ‬

‫ما إن نطق بتلك الكلمات حتى اهت ّز قلبي‪ ،‬فاستأذنتها‪ ،‬ثم وقفت وسرت في عجل إلى غرفتي‪ ،‬وارتميت أحضن العرائس فوق‬
‫دوم ا يظهر في أوقات ال يمكن التنبؤ بها‪ ،‬يخلصني من مآزق ظلت تتكرر في حياتي‪ ،‬أفيق على صوته‬ ‫ً‬ ‫السل ّاوي‬
‫الفراش‪ .‬كان ّ‬
‫شهورا عديدة تحت ناظريه لم يقترب‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫الخشن‪ ،‬ويده التي تخترق كل األيدي التي تريد أن تنال شيًئا من جسدي‪ ،‬وإن ظللت‬
‫المشفق‪ ،‬وأحيانًا أراه عاشقًا‪ ،‬ثم تتغير تفاصيل وجهه تغدو قاسية حينما يرى‬ ‫بعيدا‪ .‬أحيانًا أخال أنه لم يرني إال بعين ُ‬ ‫ً‬ ‫ظل جسده‬
‫زو ار عن كثب يصيح في النسوة أن يلزمن أبوابهن وال يكثرن الكالم‪ ،‬ي َ ُعدن إلى أمكنتهن في خضوع‬ ‫كوكبة اليولداش‪ ،‬أو يلمح ِ‬
‫الم َ‬
‫زوار منه‪ ،‬هكذا‬ ‫المار ة‪ ،‬هل من رجل ينحرف تجاه إحداهن‪ ،‬كل واحدة ال تعرف نصيبها من يومها‪ ،‬إال وتعلم ما يأخذه ِ‬
‫الم َ‬ ‫َّ‬ ‫يرقبن‬
‫خصوصا اللواتي تقدم‬
‫ً‬ ‫ّاوي‪،‬‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫يعرف‬ ‫الجميع‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬‫اليهودية‬ ‫زهرة‬ ‫بيت‬ ‫في‬ ‫مكثت‬ ‫وحده‬ ‫وبفضله‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫من‬ ‫رحيلي‬ ‫بعد‬ ‫بهم‬ ‫فك ّرت‬
‫شوقت‬ ‫ّ‬ ‫المختلفة‬ ‫الحكايات‬ ‫بينهن‪،‬‬ ‫إقامتي‬ ‫في‬ ‫ذلك‬ ‫كل‬ ‫لي‬ ‫حكين‬ ‫ا‪،‬‬ ‫صغير‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫ذ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫وانحناءاته‪،‬‬ ‫جسده‬ ‫طوط‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫حصين‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫السن‪،‬‬ ‫بهن‬
‫السل ّاوي‬
‫الصغيرات منهن الكتشاف جسده‪ ،‬ثم خبّأن أحالمهن حين أدركن أنه توقف عن زيارتهن منذ زمن‪ .‬الكلمات التي فاه بها ّ‬
‫زوار‪ ،‬واعتياده المرور بهن‪ ،‬أعجبن بطريقته وكيف يجد العالقة بين‬ ‫ِ‬
‫والم َ‬ ‫زادت من احترامهن له‪ .‬إذ لم يستقم عنده عداؤه لألتراك‬
‫معاني الكلمات‪ ،‬وكيف ي ُرتبها‪ ،‬احترمن رغبته‪ ،‬والصغيرات استطالت رغباتهن أن تنال كل واحدة هذا الرجل الذي شاهدنه كيف‬
‫زوار بضربة واحدة‪ ،‬ثم تجاوزه كأن شيًئا لم يحدث‪ ،‬وعجز عن تقبيل أجملهن حين اعترضت طريقه‪ ،‬كان الجميع يراقب‬ ‫أسقط ِ‬
‫الم َ‬
‫قادما اعترضت طريقه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لمحته‬ ‫وحين‬ ‫مروره‪،‬‬ ‫تنتظر‬ ‫ووقفت‬ ‫لديها‬ ‫ما‬ ‫أجمل‬ ‫ارتدت‬ ‫قبلها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ستجعله‬ ‫أنها‬ ‫تحدتهن‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫من‬ ‫المشهد‬
‫خا برأسه‪ ،‬عيناه تستكشفان‬ ‫اقتربت منه ولفت ساعديها حول عنقه‪ ،‬ثم حركت رأسها تدنو منه‪ ،‬لم يجفل ولم يُسايرها بل ظل شام ً‬
‫مسرع ا يكمل طريقه‪ .‬من مكانها لم تجرؤ على االلتفات‪ ،‬كانت ما تزال‬ ‫ً‬ ‫بلين‪ ،‬وخطا‬
‫ٍ‬ ‫الوجوه التي أحاطته هناك‪ ،‬أبعدها عن طريقه‬
‫وع دن بها إلى غرفتها‪ ،‬باتت ليلتها في غم‪ ،‬وفي الصباح وقفت مثل األخريات عند باب البيت‪ ،‬تستقبل‬ ‫مطأطئة حين اقتربن منها‪ُ ،‬‬
‫‪.‬الرجال وتُشيّعهم حين يرحلون في صفاء‬

‫السل ّاوي‪ ،‬رجل ًا يرفض كل نساء المبغى‪ ،‬ولكنّه أول من يدافع عنه‪ ،‬بدا لي موقفه غريبًا‪ ،‬ثم زادت دهشتي وأنا‬
‫عرفت ّ‬
‫ُ‬ ‫في تلك األيام‬
‫يوما مختلفًا حتى بعد سنوات ظللت أذكره‪ ،‬إذ أخذت العالقة بيننا‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫ا‪،‬‬‫أرض‬
‫ً‬ ‫ويلقيه‬ ‫ار‬ ‫زو‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫تجاه‬ ‫بقبضته‬ ‫ح‬ ‫يلو‬
‫ّ‬ ‫البقية‬ ‫رأته‬ ‫أراه مثلما‬
‫‪.‬منحى مختلفًا‪ ،‬في بيت اليهودية زارني في أيام ُمتقطعة‪ ،‬يسألني في عجالة‪ ،‬ثم ينفرد باليهودية وال يلبث أن يُغادر في عجلة‬

‫وتقشر جزء منها‪ ،‬يخفق قلبي كلما أعدت‬ ‫ّ‬ ‫عرائسه القبيحة مازالت في حضني‪ ،‬أتأمل جدران الغرفة الضيقة‪ ،‬مال بياضها إلى الصفرة‬
‫السل ّاوي خلفني وحيدة في‬ ‫ّ‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫الرفرفة‬ ‫عن‬ ‫دوما‪ :‬قلبك يا ُدوجة مثل عصفور الدوري‪ ،‬ال يتوقف‬ ‫ً‬ ‫ردد أبي على مسامعي‬ ‫سيرته‪ّ ،‬‬
‫وأعد أعمدته‪ ،‬عناكب مسرعة على شباكها‪ ،‬رأيت الخطوط الشفافة لها عبر الضوء المنبعث‬ ‫ّ‬ ‫السطح‬ ‫وجهي‬ ‫قابل‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ِقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الضي‬ ‫هذه الغرفة‬
‫وقفت ومازالت العروس في يدي‪ .‬حاولت جاهدة اإلطالل من الكوة‪ ،‬وبصعوبة رأيت السقيفة الضيقة خاوية من‬ ‫ُ‬ ‫من كوة في الجدار‪،‬‬
‫الحي ‪ ،‬ثم تراءى لي خيال الطائر المرفرف من هناك‪ .‬تحاملت على نفسي واستجلبت الرؤية‪ ،‬وخيبني‬ ‫ّ‬ ‫الناس‪ ،‬ال ضجيج اليوم في‬
‫لكن الصوت الحاد عاد بي إلى الكوة‪ ،‬وحدق اللقلق األبيض بي من مكانه‬ ‫ّ‬ ‫الظل المنبعث من الحائط المقابل‪ ،‬تراجعت إلى مكاني‪،‬‬
‫يحدق يمينًا‬
‫ّ‬ ‫بقوة ُمحلّقًا إلى األعلى ثم يعود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫على الحائط الواطى لعين الماء‪ ،‬وقف في نهاية السقيفة يسحب الماء بمنقاره‪ ،‬ويرفرف‬
‫المرة األخيرة قفز من على‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫الخاوية‪،‬‬ ‫السقيفة‬ ‫وشمال ًا ويميل بعنقه الطويل إلى الماء‪ ،‬يغمس فيه منقاره‪ ،‬ثم يرفعه ليراقب‬
‫السل ّاوي في أشياء‬
‫ّ‬ ‫شبه‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫أنه‬ ‫شعرت‬ ‫لم‬ ‫أدري‬ ‫ال‬ ‫‪.‬‬ ‫الحائط‪ ،‬وحام في علو منخفض حتى وازى الكوة‪ ،‬رأيت بياضه الناصع عن كثب‬
‫السل ّاوي لم يمت‪ ،‬والطائر‬
‫ّ‬ ‫ولكن‬ ‫‪.‬‬ ‫أهله‬ ‫بيت‬ ‫عند‬ ‫فجر‬ ‫لون‪ ،‬يصفُر كل‬
‫ردد أمي‪ :‬روح اإلنسان حينما يموت تحل في طائر ُم ّ‬ ‫كثيرة ‪ .‬تُ ّ‬
‫منعكسا على الجدار‪ ،‬ثم اختفى‬ ‫ً‬ ‫ظله‬ ‫سوى‬ ‫أرى‬ ‫أعد‬ ‫ولم‬ ‫هناك‬ ‫من‬ ‫الطائر‬ ‫فر‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫حادة‬ ‫لقلقة‬ ‫بل‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫جمي‬ ‫ليس‬ ‫وصوته‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫م‬
‫ُ ّ‬ ‫يكن‬ ‫‪.‬لم‬

‫كنت عند الكوة عندما دق باب غرفتي‪ ،‬ثم دخلت الل ّة سعدية في لباس الخروج‪ ،‬طلبت مني مرافقتها إلى ضريح عبد الرحمن‬
‫السفن‪،‬‬
‫علي أنه ال بد من الخروج معها‪ ،‬أشهر عديدة لم أزره‪ .‬انقبض قلبي مذ رأيت من مرتفعه صف ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ألحت‬
‫َّ‬ ‫الثعالبي رغب ٌة‬
‫شعرت أن األيام القادمة لن تكون سعيدة‪ .‬وقفت يومها أمام الضريح‪ ،‬سمعت لقلقة الطائر من مكاني‪ ،‬فتطلعت إلى المئذنة ولمحت‬
‫تجسدت في الطائر‬‫ّ‬ ‫جزء ا من بياضه‪ ،‬أهل المحروسة يعتقدون أنه طائر صالح يجاور ضريح حارس المدينة‪ ،‬بينما اعتقدت أن روح أبي‬ ‫ً‬
‫بقوة‪ ،‬ثم لمحته‬
‫ّ‬ ‫رفرف‬‫وحيدا في عشه الكبير يُ‬
‫ً‬ ‫األبيض‪ ،‬وحرص على حمايتي مثلما يحمي فراخه‪ ،‬ولكن ذلك لم يدم‪ ،‬إذ كان الطائر‬
‫‪.‬يحوم حول المئذنة دون توقف‪ ،‬عدت بوجهي إلى باب الضريح وصعدت درجاته‪ ،‬ثم دخلت‬

‫ليال طويلة قضيتها أتضرع إلى الله كي‬ ‫ٍ‬ ‫زوار‪.‬‬ ‫السل ّاوي وربما منذ قابلت ِ‬
‫الم َ‬ ‫عرفت ّ‬
‫ُ‬ ‫ألزمت بها نفسي مذ‬
‫ُ‬ ‫ال أدري كم هي النُذر التي‬
‫صرون أنه ال‬‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫إذ‬ ‫معه‪،‬‬ ‫يتواطؤون‬ ‫كانوا‬ ‫المحروسة‬ ‫وأهالي‬ ‫خفية‪،‬‬ ‫عيون‬ ‫للمزوار‬ ‫عيدني‪،‬‬ ‫ي‬
‫ّ ُ‬‫ه‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫مرات‬ ‫عدة‬ ‫وفررت‬ ‫يخرجني من المبغى‪،‬‬
‫مكان للبغي إال في المبغى‪ ،‬وأال توبة لها‪ .‬كان الليل يطول فانزوي في طرف الغرفة‪ ،‬أرفع يدي وأدعو‪ :‬يا الله أخرجني من هنا‪.‬‬
‫غامضا كان يهتف لي‪ ،‬أن ّ َي على خطأ‪ ،‬وأن بابًا‬ ‫ً‬ ‫جديدا يطلب النوم معي‪ ،‬ثم توقفت عن الدعاء‪ ،‬ولكن شيًئا‬ ‫ً‬ ‫وجها‬
‫ً‬ ‫وفي الصباح أجد‬
‫ليحررني‪ ،‬ولم تمض إال أيام قليلة حتى تحقّقت‬ ‫ِّ‬ ‫غياب‪ ،‬أبسط كفّي وأناديه‬
‫ٍ‬ ‫من بين أبواب كثيرة سيشرع في وجهي‪ .‬فل ُذت إليه بعد‬
‫‪.‬رغبتي‬
‫كان آخر يوم لي في المبغى ال يختلف عن أول يوم فيه‪ ،‬تعطرت ووقفت عند الباب‪ ،‬أنظر تجاه العابرين‪ ،‬بعض الشباب لم تظهر‬
‫لحيتهم بعد‪ ،‬عال الزغب األصفر شفاههم‪ ،‬ينظرون تجاهنا لكنهم في األخير ال يختارون سوى من تقدمت بهن السن‪ ،‬كأنهم يبحثون‬
‫العري‪ ،‬وآخرون‬ ‫ير ُ‬‫عن أمهاتهم‪ ،‬ال يختلفون عن الكبار إال في خيباتهم وهم يكتشفون اللذة للمرة األولى‪ ،‬كان الكثير منهم يفر ما إن َ‬
‫ترتخي أعضاؤهم ما إن تتالمس األجساد ببعضها‪ .‬المومسات القديمات فقط من يخبرن كيف يُعالجن خيبات الشباب‪ ،‬يُو ِل ّدن الثقة‬
‫جدد ا يبعثون الحياة في أجسادهن المترهلة‪ .‬وننتظر نحن مقدم الكهول‪ ،‬أو أولئك الذين‬ ‫ً‬ ‫فيهم من جديد‪ .‬وهكذا يكسبن زبائن‬
‫لكن أجسادهم الالهثة فوقنا‬ ‫ّ‬ ‫يتحد ون كل يوم أنفسهم‪ ،‬بأن العمر ال يحدث أي تغيير في أجسادهم‪ ،‬أسخياء حين يتعلق األمر بالمال‪،‬‬ ‫ّ‬
‫تخمد شعلة الشهوة الضئيلة فيهم‪ ،‬فينظرون‬ ‫ُ‬ ‫أما حين‬
‫ويتفصد العرق البارد من أجسادهم‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫وتتقطع أنفاسهم‬
‫ّ‬ ‫ال تُسعفهم بالقدر الكافي‪،‬‬
‫بكرم‪ ،‬ثم يغادرون المكان مسرعين‬ ‫ٍ‬ ‫‪.‬تجاهنا كأنهم يعتذرون‪ ،‬ويدفعون‬

‫في ذلك الصباح وقفت ُأطالع العابرين‪ ،‬وتراءى أحدهم يقترب بخطوات تجاهي‪ ،‬قلت في نفسي هذا الوجه ليس غريبًا‪ ،‬وعرفته حين‬
‫فارا باتجاه السقائف التي تقطع الطريق إلى‬ ‫اقترب‪ ،‬كان في منتصف األربعينيات‪ ،‬شاحب الوجه‪ ،‬اعتادت البنات طرده‪ ،‬فيُسرع ً‬
‫المر ة أراه يسير تجاهي‪ ،‬أتراه يعتقد أني سأقبل ما ترفضه األخريات؟ أيريد إتياني‬ ‫ّ‬ ‫المبغى‪ ،‬ثم يعود وترفض النساء استقباله‪ ،‬وهذه‬
‫من الخلف مثلما كان يشتهي منهن؟ أتراه يستوعب الخوف الذي داهمني حينما طلب مني التُركي ذلك‪ .‬اضطرني إلى الفرار ليل ًا‬
‫يحدق نحوي‪ ،‬ثم دنا وأمرني بالدخول فرفضت‪ ،‬وطلبت منه الرحيل‪ ،‬ولكنّه‬ ‫ّ‬ ‫من بيته‪ .‬فكرت في كل تلك األشياء بينما كان ال يزال‬
‫وه ّ َمت بعض النساء باالقتراب‬ ‫بصوت مسموع‪ ،‬وواصلت رفضي فنهرني بينما كان الكل يراقبنا من هناك‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تسمر عند الباب وكرر طلبه‬ ‫َّ‬
‫لكن أصوات النساء‬ ‫ّ‬ ‫زوار حامل ًا سوطه‪ ،‬نظر تجاهي وأشار بسوطه أن أدخل‪ ،‬ارتخت رجالي‪ ،‬وهممت باالمتثال لطلبه‪،‬‬ ‫الم َ‬‫لوال وصول ِ‬
‫وهمَ أن يهوي به‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبقيت ُمتشبثة بالباب‪ ،‬وحركت رأسي بالرفض‪ ،‬فرفع سوطه عاليًا‬ ‫ُ‬ ‫إلي تحثني أال أدخل‪ ،‬فتماسكت‬ ‫َّ‬ ‫تناهت‬
‫السل ّاوي تحكم قبضتها على ذراع‬ ‫ّ‬ ‫يد‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫غريب‬ ‫شيًئا‬ ‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫فتحتها‬ ‫حين‬ ‫ثم‬ ‫عيني‬ ‫وأغمضت‬ ‫الضرب‪،‬‬ ‫ألم‬ ‫أنتظر‬ ‫بالباب‬ ‫أكثر‬ ‫فتمسكت‬
‫راكضا‪ ،‬وقام‬
‫ً‬ ‫رفعت رأسي حتى رأيت الرجل‬ ‫ُ‬ ‫زوار على األرض‪ ،‬حدث كل هذا بسرعة‪ ،‬فما إن‬ ‫زوار‪ ،‬ثم بحركة سريعة هوى ِ‬
‫الم َ‬ ‫ِ‬
‫الم َ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬حال غضبه إلى‬ ‫ّ‬ ‫حول‬ ‫تجمهرن‬ ‫والنساء‬ ‫أعوانه‪،‬‬ ‫عن‬ ‫ًا‬ ‫ث‬ ‫باح‬ ‫الخطو‬ ‫ويسرع‬ ‫الغبار‪،‬‬ ‫نفسه‬ ‫عن‬ ‫ينفض‬ ‫األرض‬ ‫على‬ ‫من‬ ‫ار‬ ‫زو‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬
‫عد ل لباسه‪ ،‬ثم فجأة تطلع إلى وجوه الذين من حوله وكأنه يستأذنهم في شيء ما‪ ،‬وقبض على ذراعي‪ ،‬وقادني إلى نهاية‬ ‫َّ‬ ‫خجل‪،‬‬
‫‪.‬الحي حيث كانت تقيم زهرة اليهودية‬ ‫ّ‬
‫عندما المست الل ّة سعدية كتفي كنت غائبة عما حولي‪ ،‬والعروس في يدي‪ ،‬ثم انتبهت وأومأت بالموافقة‪ ،‬وارتديت أنا األخرى لباس‬
‫الخروج‪ ،‬وعبرنا الرواق إلى الباب‪ ،‬ثم كنا عند باب القصبة ُمنحدرين عبر الطريق الحجري‪ .‬شوارع المحروسة لم تعد مثلما في‬
‫جديدا‪ ،‬عدا حي المبغى‪ ،‬لم يتغير فيه شيء‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫السابق‪ ،‬القليل منها احتفظ بنظافته‪ ،‬فالغبار الخانق يمألها‪ .‬كل يوم يهدمون بيتًا‬
‫حد ثتني زهرة اليهودية في آخر زيارة لها‪ ،‬قالت بأنها كل يوم ترى الجنود الفرنسيين يقبلون عليه‪ ،‬مثل ًا تُقبل‬ ‫ّ‬ ‫ضجة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أضحى أكثر‬
‫بنات من أهل المحروسة يتسللن إلى هناك‪ ،‬ألمٌ‬ ‫ٍ‬ ‫صغارا ولم يجدن ما يأكلنه‪ .‬مثلما شاهدت‬ ‫ً‬ ‫عليه بنات من خارج المحروسة‪ ،‬ك ُّن‬
‫تمدد اآلن‪ ،‬وقد ُأحتل ّت‬‫ّ‬ ‫الحي‪ ،‬اعتادت رؤية نفسها أقصاه في منأى عن أحداثه‪ ،‬وإذ به‬ ‫ّ‬ ‫مض كان يعتريها وهي تروي ما يحدث في‬ ‫ُم ّ ٌ‬
‫زوار يطوفه في ُحلته الفرنسية‪ ،‬قالت الل ّة زهرة تلك‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫ترى‬ ‫يوم‬ ‫كل‬ ‫‪.‬‬ ‫طه‬ ‫يتوس‬
‫ّ‬ ‫بيتها‬ ‫فأضحى‬ ‫المدينة‪،‬‬ ‫من‬ ‫فروا‬ ‫الذين‬ ‫الناس‬ ‫بيوت‬
‫بنات َق ِدمن حديثًا‬‫ٍ‬ ‫‪.‬الكلمات ثم غادرت ُمسرعة خشية أن تعود وتجد بيتها قد ُأحتل من جنود أو من‬

‫انحدر والل ّة سعدية عبر شارع آخر‪ ،‬والجنود يراقبون العابرين من النساء والرجال‪ .‬مشينا وحيدتين في الشارع المنحدر إلى المدينة‪،‬‬
‫ثم انعطفنا وتراءت لنا الشجرة التي تجاور مبنى الضريح‪ ،‬اقتربنا حتى بلغناها وصعدنا الدرجات ثم فجأة عنّت لي رغبة االلتفات‪.‬‬
‫حين أدرت رأسي امتد البحر إلى نهاية البصر‪ ،‬تكرر المشهد أمامي وقد مضت عليه سنوات‪ ،‬أول ما اكتشفت الصف المرسوم فوق‬
‫زوار‪ ،‬لم أهتم لحديثها وشققت‬ ‫زرقة البحر‪ ،‬يومها كنت أقيم في بيت زهرة اليهودية‪ ،‬وحينما قررت زيارة الضريح ح ّ َذرتني من ِ‬
‫الم َ‬
‫السفن الفرنسية التي شكلت صفّ ًا‪ ،‬تظهر في البحر وتغيب حتى ألفناها‪،‬‬ ‫الدروب إلى أن بلغته‪ ،‬ومن أعلى الدرجات تراءت لي ُّ‬
‫فيتصدى لها الصف‪ .‬في طفولتي حدثني أبي عن قوة بني‬ ‫َّ‬ ‫مرة تحاول الخروج إلى البحر‪،‬‬‫كل ّ‬
‫واشتبكت مع سفننا التي كانت في ّ‬
‫السفن الفرنسية بدد كل كالم أبي‪ .‬طفا‬ ‫صف ُّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫سيستردون األندلس التي سلبها منا اإلسبان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عثمان‪ ،‬وسفنهم التي ال تُه َزم‪ ،‬وأنّهم‬
‫السفن من ميناء المدينة ورمته بالقنابل‬
‫‪.‬الصف بعد عامين‪ ،‬وما لبث أن اختفى في الشمال‪ ،‬ولكنّه عاد بعد أشهر‪ ،‬اقتربت ُّ‬

‫كنت ما أزال أطل من هناك على تلك األيام‪ ،‬حين سمعت صوت أزيز الباب وهو يُفتح‪ ،‬ثم ولجنا الغرفة وقابلت بوجهي الضريح‪،‬‬
‫بينما انزوت الل ّة سعدية عند طرفه‪ ،‬تُتمتم له وكأنه يسمعها‪ ،‬ترجت بقاء زوجها إلى قربها‪ ،‬دموعها أشعلت بي رغبة البكاء‪ ،‬رأسي‬
‫فرفعت وجهي إليها‪ ،‬كانت الدموع معلقة‬
‫ُ‬ ‫ُمسند إلى الضريح‪ ،‬وساحت دموعي‪ ،‬دنت مني الل ّة سعدية‪ ،‬ثم وضعت يدها على رأسي‪،‬‬
‫بخديها‪ ،‬مسحتها وامتدت يدها إلى وجهي‪ ،‬ثم اتكأنا على جدار الغرفة‪ ،‬وحدقنا طويل ًا في الضريح‪ .‬في كل يوم تزداد نُذُري في‬
‫طعم الدراويش بيدي‪ ،‬وأرجع حافي ًة كذلك إلى‬ ‫انتظار السل ّاوي‪ ،‬أقول في نفسي لو حمل ما أحمله له سأسير حافية إلى الضريح‪ ،‬وُأ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫أيضا كانت تفك ّر في نذرها وكيف ستكون‬
‫ً‬ ‫وربما‬ ‫‪.‬البيت‪ .‬في اللحظة نفسها كانت الل ّة سعدية ُمستغرقة في دعائها‪،‬‬

‫فعدلنا ثيابنا وغادرنا الغرفة‪ .‬مع خروجنا‬


‫ّ‬ ‫زوار آخرون يدخلون الغرفة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫كنا ما نزال نحدق في الريح حين سمعنا أزيز الباب‪ ،‬بدا لنا‬
‫حط فوقها وتتبعنا بعينيه‪ ،‬فمضينا في طريقنا‪ ،‬وكلما قطعنا مسافة كنت أنتبه‬ ‫ّ‬ ‫من سقيفة الضريح لمحت اللقلق يحوم حول المئذنة‪ ،‬ثم‬
‫لكن اللقلقة تنتقل إلينا من حين إلى‬‫ّ‬ ‫إلى ظله المنعكس على األرض‪ ،‬وأسمع لقلقته الحادة‪ .‬ولما تجاوزنا باب القصبة غاب الظل‪،‬‬
‫حدق تجاهنا ثم غمس منقاره في الحوض‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫آخر‪ ،‬وقبل ولوجنا السقيفة المؤدية إلى البيت رأيته هناك ُمنتصبًا فوق جدار العين الواطئ‪،‬‬
‫الرواق‪ ،‬ودخلت غرفتي وقفزت أحاول رؤيته من الك ُوة‪ ،‬نظر‬ ‫مص منه قليل الماء‪ ،‬ثم راقبنا حتى ونحن ندخل الدار‪ ،‬وبسرعة عبرت ِ ّ‬‫ّ‬
‫صوت بداخلي يقول‪:‬‬‫ٌ‬ ‫وهتف‬ ‫تأملته‪،‬‬ ‫كثب‬ ‫وعن‬ ‫ُوة‪،‬‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫بموازاة‬ ‫لو ُمنخفض‪ ،‬حتى عبر‬ ‫بع ٍ‬
‫حرك جناحيه بسرعة وحام ُ‬
‫ّ‬ ‫تجاه البيت‪ ،‬ثم‬
‫‪.‬إنّه لم يكن هنا إال لحراستي‬

‫تبشر بالخير‪ ،‬صحيح أن عيون‬‫السل ّاوي‪ ،‬فاأليام التي تلت رحيلي عن المبغى لم ِ ّ‬
‫أحيانًا يداهمني شعور أنني لم أكن إال لعنة على ّ‬
‫أما الصغيرات فلم‬‫المسنّات أحببنني وأشفقن علي‪ّ ،‬‬
‫مزيجا بين السعادة والحسد‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫النساء اللواتي كن يراقبننا ذلك اليوم‪ ،‬حملت‬
‫زوار‪ ،‬لم يلبث أن عاد‪ ،‬ولكني حينها لم أكن هناك‪ ،‬روت لي الل ّة زهرة بعد‬ ‫السل ّاوي القابضة على ذراعي‪ ،‬حتى ِ‬
‫الم َ‬ ‫تعجبهن كف ّ‬
‫جميعا‪ ،‬ليس‬
‫ً‬ ‫بالسل ّاوي‪ ،‬اعتقدت أنه يمكنه أن يصرعهم‬ ‫ّ‬ ‫زوار وأعوانه يحيطون‬ ‫عودتها لتجلب لي ما تبقى من أشيائي‪ ،‬أنها رأت ِ‬
‫الم َ‬
‫واقفات عند أبواب بيوتهن يشاهدنهم‬ ‫ٌ‬ ‫المرة ُه ِزم‪ ،‬تحل ّقوا حوله من كل جانب‪ ،‬والنساء‬ ‫ّ‬ ‫ألنّه قوي‪ ،‬بل ألنّه شجاع‪ ،‬ولكنّه هذه‬
‫أرضا‪ ،‬ولكن القبضة الخاطفة الثانية من‬‫ً‬ ‫السل ّاوي وتفاداها‪ ،‬وأرسل بدوره قبضته فأسقطته‬ ‫حرك الجندي األول قبضته تجاه ّ‬ ‫ّ‬ ‫مفزوعات‪.‬‬
‫وحمل بالعربة إلى‬‫ُ‬ ‫أوثقوه‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬‬ ‫نفسه‬ ‫على‬ ‫ملتف‬
‫ٌ‬ ‫وهو‬ ‫بالركالت‬ ‫عليه‬ ‫وانهالوا‬ ‫سقط‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫منها‬ ‫َح‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫تر‬ ‫أصابته‪،‬‬ ‫يمينه‬ ‫على‬ ‫الجندي الذي‬
‫السل ّاوي‪ ،‬ولم أخمن أن تضرعاتي‬ ‫ّ‬ ‫به‬ ‫قام‬ ‫ما‬ ‫جدوى‬ ‫عن‬ ‫تساءلت‬ ‫‪.‬‬ ‫عنه‬ ‫زهرة‬ ‫ّة‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ثتني‬ ‫حد‬
‫ّ‬ ‫عندما‬ ‫بكائي‬ ‫حبس‬ ‫أستطع‬ ‫ولم‬ ‫األوجاق‪.‬‬
‫عدت إلى سيرتي األولى‪ ،‬في الغرفة الوحيدة التي تقاسمتها والل ّة زهرة‪ ،‬أركن إلى‬ ‫السجن‪ ،‬وهكذا ُ‬ ‫ستدخل في المقابل إنسانًا إلى ِّ‬
‫‪.‬زاويتها وأبكي ُمتضرعة إلى الله ليفك أسره‬

‫السل ّاوي‪ ،‬ولم أتوقف عن الدعاء‪ ،‬وفي منتصف األسبوع الثاني سمعنا د ّقًا على الباب‪ ،‬كان اليوم ال يزال في‬‫أسبوعا لم أر فيه ّ‬‫ً‬
‫بدايته‪ ،‬جزمت أنه هو‪ ،‬وقفزت من مكاني دون وعي مني‪ ،‬وضحكت الل ّة زهرة وهي تراني على حالتي تلك‪ ،‬إذ في برهة قصيرة‬
‫كنت أقف عند الباب وأفتحه‪ ،‬ثم رأيته واقفًا هناك‪ ،‬أردت احتضانه‪ ،‬مثل ًا فعلت تلك الشابة أمام الجميع‪ ،‬ولم أجرؤ‪ ،‬فليس هينًا أن‬
‫لرجل‪ ،‬ثم يبعدك بلين‪ ،‬ال يريد أن يحرجك أمام الناس‪ ،‬ولكنّه في األخير سيكسر قلبك‪ ،‬الرجال يعتقدون أل ّا قلب‬ ‫ٍ‬ ‫تفتحي ذراعيك‬
‫للمرأة التي تهب جسدها‪ ،‬ينظرون إليها مثلما ينظرون إلى شيء يلتهمونه‪ ،‬حتى المتدينون منهم ال تختلف رؤيتهم‪ ،‬شيوخ المساجد‬
‫الحي وطرد النساء إلى‬
‫ّ‬ ‫يترحمون على الباشا السابق إذ َج ُرؤ على غلق‬
‫ّ‬ ‫لحون في مطالبهم من الباشا أن يغلق المبغى‪،‬‬ ‫كانوا ي ُ ُّ‬
‫الريف‪ ،‬وأعادهن إليه الباشا الجديد‪ ،‬لم يتحمل سطوة اليولداش‪ ،‬إشاعات انتشرت في المحروسة‪ ،‬أنهم أضحوا يدهمون بعضهم ليل ًا‪،‬‬
‫‪.‬وربما اعترضوا بعض نساء المدينة‬

‫السل ّاوي في وجهي وصافحني بيده‪ ،‬كانت خشنة وكبيرة بما يكفي لتختبئ يدي الصغيرة داخلها‪ ،‬أحسست بالدفء‪ ،‬ثم سحبها‬ ‫ابتسم ّ‬
‫السل ّاوي يدها ورأسها‪ ،‬ثم جلسنا‬
‫ّ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫قب‬ ‫بتسمة‪،‬‬‫م‬‫ُ‬ ‫راقبنا‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫الغرفة‬ ‫باب‬ ‫عند‬ ‫زهرة‬ ‫ّة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫وقفت‬ ‫البيت‪،‬‬ ‫باحة‬ ‫إلى‬ ‫المؤدي‬ ‫الرواق‬ ‫نعبر‬ ‫ونحن‬
‫‪.‬م تقابلين هناك‪ ،‬تأملته‪ ،‬أثر الكدمات مازال على وجهه‪ ،‬حتى يده األخرى كان يحاول إخفاءها‪ ،‬ال يزال أثر الحبل بها‬ ‫ُ‬
‫السجن قبل أن يشرعوا بتعذيبه‪،‬‬ ‫وحرك رأسه نفيًا‪ ،‬ثم أجابها بأن ابن ميّار دفع مال ًا وأخرجه من ِ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ع ّذبوك هناك؟ سألت الل ّة زهرة‬
‫حدثتني الل ّة زهرة عن‬
‫ّ‬ ‫رحيله‬ ‫بعد‬ ‫فيها‪،‬‬ ‫نقذه‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫التي‬ ‫األولى‬ ‫ة‬‫المر‬
‫ّ‬ ‫ليست‬ ‫أنها‬ ‫عني‬ ‫وغاب‬ ‫‪.‬‬ ‫ار‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫يومها سمعت للمرة األولى باسم‬
‫السل ّاوي‪ ،‬ولِ َم ارتبطت حياته بالركض‬
‫ّ‬ ‫به‬ ‫هجس‬ ‫ما‬ ‫وعيت‬ ‫سنوات‬ ‫بعد‬ ‫ولكنني‬ ‫البداية‬ ‫في‬ ‫غامضة‬ ‫بدت‬ ‫السل ّاوي‪،‬‬
‫أشياء كثيرة عن ّ‬
‫السل ّاوي يشغلني‪ ،‬بينما تشتغل الل ّة سعدية بزوجها‪ ،‬تدنو منه في‬ ‫ّ‬ ‫يظل‬ ‫‪.‬‬ ‫الفرنسيون‬ ‫دخل‬ ‫حين‬ ‫أو‬ ‫عثمان‪،‬‬ ‫بني‬ ‫سواء في زمن‬
‫ً‬ ‫الدائم‪،‬‬
‫لكن مالمحه الجادة حالت بينها وبين محاوالتها‪ .‬حين عادت من الضريح تحولت ُجل رغباتها‬ ‫ّ‬ ‫محاولة أخيرة لعله يَع ِدل عن رحيله‪،‬‬
‫سالما‪ .‬تتبعت الل ّة سعدية رحيل ابن ميّار من ثقب الباب‪ ،‬وراقبته أنا من الكوة‪ ،‬وقف ومأل صدره بالهواء ثم تطلع إلى‬ ‫ً‬ ‫إلى عودته‬
‫جدران السقيفة‪ ،‬تعبَّأت عيناه منها‪ ،‬وخطا تجاه عين الماء‪ ،‬بلغها وانحنى عليها‪ ،‬ومد كفيه تحتها ثم طفق يتوضأ‪ ،‬ثم اعتدل واقفًا‬
‫‪.‬ومضى يُتم طريقه‪ ،‬إلى أن انعطف ولم أعد أراه‬

‫خاطرا راودني أنه ال يرى طائل ًا من رحيله‪.‬‬


‫ً‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫السل ّاوي قاسمه الطريق‪،‬‬
‫أن ّ‬
‫إلي‪ ،‬لو ّ‬ ‫َّ‬ ‫األماني التي كانت تحملها الل ّة سعدية انتقلت‬
‫حمة؟؟ أتُراك التحقت بالثوار مثلما ظل يردد ابن ميّار؟‬ ‫ّ‬ ‫يا‬ ‫غيبتك‬ ‫دروب‬ ‫أي‬ ‫ولكن‬ ‫‪.‬‬ ‫أو ربما سيقول‪ :‬إنهم هناك لن يصغوا إليك‬
‫الضاجة‬
‫َّ‬ ‫وعابرا شوارع المحروسة‬
‫ً‬ ‫شيءٌ ما بداخلي يجزم أنك فعل ًا ستفعلها‪ ،‬منذ ذلك اليوم الذي غبت فيه‪ ،‬حامل ًا ُص ّرة طعامك‪،‬‬
‫أما حين‬‫هممت بالركض خلفك‪ ،‬وأكون إلى جانبك في سيدي فرج‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫بالناس‪ ،‬بعض شبابها كانوا إثرك يتصايحون بالموت للفرنسيين‪،‬‬
‫لكن الل ّة زهرة منعتني‪ ،‬تشبَّثت بي‪ ،‬وجررتها مسافة‪ ،‬وأنا أرى نساء‬ ‫ّ‬ ‫تجاهك‪،‬‬ ‫أبصرتك تركض في نهاية المنعطف‪ ،‬فقد رغبت بالقفز‬
‫وقماشا يسرن خلف الرجال‪ ،‬رجوت الل ّة زهرة أن تُفلتني‪ ،‬فأحك َمت قبضها على‬ ‫ً‬ ‫المبغى كل واحدة تحمل في يدها ُصرة طعامها‬
‫‪.‬جسدي‪ ،‬ثم افلتتني عندما غابت أصواتهن‬

‫التفت ومددت يدي إلى العرائس‪ ،‬وكلما نويت صناعة أخرى أبهى‪،‬‬
‫ُ‬ ‫انتبهت إلى نفسي متشبّثة بحافة الكوة‪ ،‬أراقب السقيفة الخاوية‪،‬‬
‫أتذك ّر أنه لن يأخذها‪ ،‬لم يعد يؤمن بأن هناك مكانًا لألشياء الجميلة في المحروسة‪ ،‬وال أدري ما الذي يبقيني هنا؟ بعض النساء‬
‫اللواتي لقيتهن‪ ،‬رددن أنهن سيرحلن إلى قسنطينة‪ ،‬بنو عثمان مازالوا هناك يحكمونها‪ ،‬وحتّى اليوم لم يتغير شيء‪ ،‬رحلن ولم يعدن‪،‬‬
‫لهن‪ ،‬تُرى ِل َم ال يرحل ابن مي ّار إلى هناك وهو الذي صادق باشا المدينة وزاره أكثر من مرة‪ ،‬كرسول أو كصديق؟‬
‫ّ‬ ‫وجهلت ما حدث‬
‫أليس أجدى له اإلقامة هناك؟‬

‫السل ّاوي‪ ،‬ثم عادت يدي‬ ‫حر كت العروس في يدي‪ ،‬أنثى قبيحة‪ ،‬صدرها كبير كمؤخرتها‪ ،‬كانت من بقايا عرائس قديمة تخلى عنها ّ‬ ‫ّ‬
‫بأخرى من صندوق على يميني‪ ،‬لرجل يحمل عمامة ضخمة‪ ،‬وجهه أميَل إلى الحمرة‪ ،‬تتقدمه كرش‪ ،‬يتمنطق بحزام عريض يُعلق‬
‫للسل ّاوي أحال ٌم بزوال‬ ‫ُّ‬
‫وأطل منها على أيام كانت فيها ّ‬ ‫على طرفه سيفًا خشبيًا‪ ،‬ثم طفقت أسحب من الصندوق العروس تلو األخرى‪،‬‬
‫األتراك‪ ،‬ثم اندثرت ولم تبق منها إال الوجوه القبيحة للعرائس‪ ،‬إلى أن تفاجأت بوجه جديد‪ ،‬كان لرجل أوروبي‪ .‬افتقدتها قبل أيام‬
‫السل ّاوي مناداته ديبون‪،‬‬
‫حينها سألني عنها‪ ،‬وبحثت في كل مكان وما عثرت عليها‪ ،‬انتبهت إلى اختالفها عن بقية الوجوه‪ ،‬اعتاد ّ‬
‫استمد‬
‫َّ‬ ‫وأسر لي أنه‬
‫َّ‬ ‫عروسا جديدة‪ ،‬ثم شرع يصف شكلها ولباسها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أذكر ذلك الصباح عندما َق ِدم في عجالة وطلب مني أن أخيط له‬
‫عاما بعدها ثم عاد إلى‬ ‫ً‬ ‫شكلها واسمها وحتّى طريقة كالمها من صديق له‪ ،‬والبن ميّار‪ ،‬كان شابًا فرنسيًا وصل مع الحملة‪ ،‬وبقي‬
‫مرسيليا‪ .‬بدا اسمه مألوفًا إذ سمعت ابن ميّار يحدث زوجته عن لقاءاته به‪ ،‬ولكنّه لم يكن ليُطيل الكالم‪ ،‬إن هي إال جمل قليلة‬
‫فضلون عشيقاتهم أو نساء المبغى‪ ،‬وبعد أن تتهدل‬ ‫ثم يُغير الموضوع‪ .‬الرجال في المحروسة ال يُجبُون مقاسمة مشاغلهم زوجاتهم‪ ،‬ي ُ ّ‬
‫الحي‪ ،‬يبدو األمر‬
‫ّ‬ ‫مغادرتهم‬ ‫بعد‬ ‫يحملونها‬ ‫ثم‬ ‫بها‬ ‫يبوحون‬ ‫األجساد بعد انقباضها من حدة اللذة يقولون كل شيء‪ ،‬تتخذ شكل اعترافات‬
‫السل ّاوي‪ ،‬لم ينظر إليهن مثل ًا رآهن رجال المحروسة أو األتراك‪ .‬أحيانًا أتساءل‪ :‬أألنه يا‬
‫دوما عدا ّ‬
‫ً‬ ‫يحب الرجال ممارستها‬
‫ّ‬ ‫كلعبة‬
‫ُدوجة أخرجك من المبغى تقولين عنه هذا؟ أم ألنّه لم يلتفت إلى جسدك حينما أراده الجميع؟‬

‫السل ّاوي للصمت كلما اجتمعنا‪ ،‬ثم يرحل إلى أمكنة أخرى ال ِقبَل لي بالمسير إليها‪ ،‬سنوات وأنا أبحث عن فرصة ألقول كل‬‫يركن ّ‬
‫قبورا‪،‬‬
‫ً‬ ‫شيء‪ ،‬أحكي له حكايتي منذ ولدت‪ ،‬إلى اليوم الذي التقينا فيه‪ .‬عليه إدراك أن المسافة بين القرية والمحروسة كانت كلها‬
‫يوما أن األوجاع التي كنت أحملها ستعينني على‬‫ً‬ ‫دثّرت أمي‪ ،‬وأتبعتُها أخي‪ ،‬ثم غاب أبي‪ ،‬ألجد نفسي وحيدة أمام قبره‪ .‬لم أتوقع‬
‫المرة‪ ،‬سأتشبث به‬
‫ّ‬ ‫تحمل المبغى‪ ،‬ثم أتحول إلى امرأة ال تعرف سوى االنتظار‪ ،‬ربما الذي لن يأتي‪ ،‬ولكنّه إن أتي فلن أفلته هذه‬
‫إلي‬
‫َّ‬ ‫أن يصغي‬
‫‪.‬وأروي له سيرتي كلها‪ ،‬وليس عليه إال ّ‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫القسم الثاني‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪.‬ديبونيوميات مراسل لحملة ‪ :1830‬نُشرت في «لو سيمافور دو مرساي» بتصرف‬

‫‪ ‬‬

‫حل على طولون‪ ،‬بعد أن كانت مدينة تتكئ على البحر في سكينةٍ ‪ ،‬أضحت اليوم مهرجانًا‬ ‫ّ‬ ‫أفريل شهر الضجيج والفوضى‪ ،‬عي ٌد ُمغاير‬
‫كلمات تحملها األفواه ثم‬
‫ٍ‬ ‫ُمختل ًَط ا‪ .‬يركض الناس إلى الجهات كلها‪ ،‬ال يكادون يستقرون في بيوتهم‪ ،‬حتى يغادروها‪ .‬قيل أو قال‪،‬‬
‫تقذفها لتُحل ّق في الفضاء الرحب من جانب المدينة اآلخر‪ .‬النساء واألطفال يتأبطون ُصرر الطعام والثياب‪ ،‬يهرعون بها إلى الساحات‬
‫العامة‪ ،‬يبسطونها حيث تكوم الجنود‪ .‬ضاقت بهم منافذ المدينة‪ ،‬ترى صفوفهم الالنهائية‪ ،‬مثل النمل يزحف كل هؤالء على المدينة‬
‫ردد الجنود أغانيهم‬
‫أقضت مضاجعنا طويل ًا ‪ .‬يُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫يود العبور إلى الضفّة األخرى حيث ترتفع الربوة التي‬‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫الكل‬ ‫يهدفون إلى الميناء‪ ،‬اليوم‬
‫االحتفالية بصوت واحد تهتز له األبنية‪ ،‬ويعيدها خلفهم الناس متشوقين إلى سرد حكاية نصرهم‪ .‬قصص البطوالت فاكهة الفقراء في‬
‫يبق الكثير‪ ،‬تكل ّم العجوز الذي قاسمني المقعد في إحدى الساحات‪ ،‬كانت عيناه تنفران‬ ‫الشتاء‪ ،‬حينما يجتمعون حول المواقد‪ .‬لم َ‬
‫لكن صوته ال يسعفه‪ ،‬المجد للملك المجد للمسيح ‪ .‬ال يمكنهم مجابهة هذا‬ ‫ّ‬ ‫تجاه الجموع‪ ،‬وفمه يلهج بذكر الملك‪ ،‬ثم يهم بالصياح‬
‫النهر المتدفق‪ .‬وما هي إال أيام قليلة حتى تعود إفريقية إلى سابق عهدها‪ .‬لم ُأجِ ب العجوز الذي كان إلى جانبي‪ .‬من دون أن‬
‫وزعن عليهم الطعام والضحكات‬ ‫غل بين جموع الجنود‪ ،‬والنساء اللواتي كن ي ُ ِ ّ‬‫‪.‬أودعه‪ ،‬وتركت بصره يتو ّ‬ ‫ّ‬

‫السفن مثل النحل‪ .‬لم أتبين‬ ‫سفن جديدة قد احتلته‪ .‬بحارون عديدون يجوبون أسطح ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫سرت مساف ًة حتى انتهيت إلى الميناء‪،‬‬
‫التفت‬
‫ُّ‬ ‫‪.‬‬‫النتصاراتنا‬ ‫ا‬ ‫خالد‬
‫ً‬ ‫ا‬ ‫منبع‬
‫ً‬ ‫ما‬ ‫يوم‬
‫ٍ‬ ‫في‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫أسطولنا‬ ‫أن‬ ‫العارف‬ ‫وأنا‬ ‫السابق‪،‬‬ ‫من‬ ‫وجوههم‪ ،‬وجزمت أنها كانت أكثر صرام ًة‬
‫أحب هذه‬
‫ُّ‬ ‫كنت‬ ‫‪.‬‬ ‫ِكبر‬
‫ٍ‬ ‫ب‬ ‫وتشهق‬
‫ُ‬ ‫الرصيف‬ ‫إلى‬ ‫جؤجؤها‬ ‫يتقدم‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫كانت‬ ‫لوناجور‬ ‫اخترتها‪،‬‬ ‫إلى الجهة األخرى فأبصرت السفينة التي‬
‫دونت بعض ما يجول‬ ‫ّ‬ ‫لو‬ ‫وددت‬ ‫‪.‬‬ ‫هناك‬ ‫من‬ ‫غليونه‬ ‫ن‬ ‫دخ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫قبطانها‬ ‫رأيت‬ ‫حتى‬ ‫منها‬ ‫أكثر‬ ‫اقتربت‬ ‫السفينة‪ ،‬ومؤمنًا أنها ستعود منتصرة‪.‬‬
‫يوم ما ل ُقمة سهلة‪ .‬ربما كان القبطان يُشاركني‬ ‫ٍ‬ ‫برأسه‪ ،‬هل تُراه يتفاءل بهذه الحملة؟؟ أم أنه يخشى األتراك؟ فلم يكونوا في‬
‫األفكار‪ ،‬وربما ُس حب الدخان التي ينفثها بعصبية‪ ،‬تعلن لمن كان حوله مدى خوفه مما ينتظرهم عند السواحل اإلفريقية‪ .‬سرت حتى‬
‫فرد التحية ببرودة دون أن يلتفت‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ثوان فقط حتى كنت قربه‪ ،‬حيّيته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫جاورت ُسلَّم السفينة‪ ،‬أظهرت التصريح وصعدت إلى سطحها‪،‬‬
‫مد يديه يحيِّيني بحرارة استغربتها‪ ،‬ولم ينتظر طويل ًا ليضيف‬ ‫َّ‬ ‫وجهي‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫تم‬ ‫‪:‬وحين‬

‫بالتأكيد أنت ديبون‪ ،‬الصحفي الذي اختارته «لو سيمافور دو مرساي» لتغطية الحملة؟؟ ‪-‬‬

‫!أجل أنا هو ‪-‬‬

‫‪.‬اعتبرني صديقًا هنا‪ ،‬وتأكد أنه لن ينقصك شيء ‪-‬‬


‫كلمات قليلة وانفعاالت أكثر‪ ،‬بدا أن مقدار الحميمية التي يُفضي بها هذا الرجل فيه افتعال‪ ،‬كنت أعرف أشياء كثيرة عن الجريدة‬
‫ميناء تجاريًا تحدث به أشياء غامضة تتعلق‬
‫ً‬ ‫السبل التي تؤدي إليه‪ ،‬ولم تكن مرسيليا إال‬ ‫اهتمت بالمال وكل ُّ‬‫َّ‬ ‫وصاحبها‪ ،‬فمنذ بدايتها‬
‫يبد لنا نحن الصحفيين إال‬
‫ُ‬ ‫ولم‬ ‫‪.‬‬ ‫ممنوعة‬ ‫تجارات‬ ‫في‬ ‫األسطول‬ ‫تورط‬ ‫عن‬ ‫وشائعات‬ ‫فن‪،‬‬ ‫الس‬ ‫ُّ‬ ‫مخازن‬ ‫إلى‬ ‫تشير‬ ‫كانت‬ ‫اتهامات‬
‫ٌ‬ ‫بالتجارة‪،‬‬
‫علِقت بلساني كلمات الشكر التي أردت قولها‪ ،‬ليس‬ ‫َ‬ ‫‪.‬‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫أسهل‬ ‫ليس‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫فإ‬ ‫ما‬ ‫رأي‬
‫ٍ‬ ‫صناعة‬ ‫والمال‬ ‫لطة‬ ‫الس‬
‫ُ‬ ‫تريد‬ ‫فحينما‬ ‫القليل‪،‬‬
‫باسمي فقط‪ ،‬بل باسم صاحب الجريدة‪ ،‬فلم يعد األمر متعلقًا بي وحدي‪ .‬تشجعت وهمست أشكره‪ ،‬وتذكرت الشرخ الموجود بين‬
‫كلمات سمعتها من ُضباط كانوا يُعيدون سيرة األميرال الجديد الذي اختاره الملك ليقود الحملة‪ ،‬فك ّرت قبل سؤاله‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫البحرية والمشاة‪.‬‬
‫‪:‬ثم قلت‬

‫أأصاب الملك باختياره بورمون لقيادة الحملة؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ال يمكننا إطالق األحكام إال بعد انتهاء الحملة ‪-‬‬

‫!ولكن هناك مالمح مشتركة في كل القادة الذين يؤدون إلى النصر ‪-‬‬

‫محق‪ ،‬كان نابليون أفضلهم ولكنّه ُهزم في واترلو؟ ‪-‬‬


‫ٌ‬ ‫!أنت‬

‫وبورمون؟ ‪-‬‬

‫نعم‪ ،‬كان من الذين خانوا‪ ،‬واآلن يعود ليح ِقّق حلم نابليون باحتالل إفريقية‪ .‬أليست هذه يا ديبون أجمل نكتة سمعتها؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ولكنّها لألسف ليست مضحكة ‪-‬‬

‫الكثير من ضبَّاط البحرية كانوا يُؤاخذون القائد الجديد على خيانته القديمة‪ .‬حدست بأن عار واترلو سيالحق هذا الرجل بعد خمسة‬
‫السوء‪ ،‬بل‬
‫عاما من الهزيمة‪ ،‬لن يُمنح صكوك الغفران حتى حين تُتوج الحملة بالنصر‪ ،‬ومع ذلك لم َأر أنه بهذا المقدار من ُّ‬ ‫ً‬ ‫عشر‬
‫آمنت أن ذلك الكورسيكي الذي اتفقوا على أنه أعظم قادة أوربا‪ ،‬لم يكن إال مجنونًا يركض خلف أحالم ال حدود لها‪ .‬لذا حملت‬
‫تشاؤما من الجميع‪ ،‬إذ لم يكن األمر متعلقًا بواترلو فحسب‪،‬‬
‫ً‬ ‫في نفسي أشياء أكثر نبل ًا لبورمون‪ .‬واآلن أراهم هنا في البحرية أكثر‬
‫بالملك‪ ،‬كانت البحرية أكثر تعاطفًا مع المعارضين‪ ،‬في الحانات يجهرون بحنقهم على آل البوربون‪ ،‬ويعودون إلى سفنهم في‬ ‫َ‬ ‫بل حتى‬
‫انتظار أوامر اإلقالع وقد مضى على وجودهم أكثر من أسبوع‪ ،‬ولم يحدث شيء‪ ،‬عدا وصول أميرال البحرية في سفينته‪ ،‬وجلس هو‬
‫بحنق القائد المغضوب عليه‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬اآلخر يحتسي النبيذ ينتظر‬

‫بمزيد من التبغ حشا القبطان غليونه‪ ،‬ثم طالعني وهو يبتسم بسخرية‪ ،‬وتكلم‪ :‬الوعي الذي يملكه ذلك القائد ال يؤهله لفهم كيف‬
‫السفن التي تعبُر‬
‫دائما كان األمر مختلفًا هناك‪ ،‬هؤالء البرابرة ال يمكنهم أن يعيشوا إال بالنهب والسطو على ُّ‬
‫ً‬ ‫يخطط أو يقاتل األتراك‪.‬‬
‫البحر‪ ،‬ال يبصرون إال فيما ندر الرايات التي تحملها‪ ،‬حياتهم ُمعل ّقة على صواري ُسفنهم وليست في جيوش تزحف عبر األراضي‬
‫ثم يُمكنك احتالل ما شئت‪ .‬اعلم يا سيد ديبون أنه ال حرب‬ ‫األوروبية‪ ،‬إن أردت احتالل مدينة الجزائر‪ ،‬عليك إحراق أسطولها ومن ّ‬
‫سنوات كانت سفنهم‪ ،‬وشجاعة ريَّاسهم‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬حقيقيّة على األرض اإلفريقية‪ .‬هم ال يفقهون من نظامها الكثير‪ ،‬وكل ما يعولون عليه طوال‬

‫‪ ‬‬

‫أفريل ‪27‬‬

‫ترى ما الذي يعرفه الطولونيون عن هذه الحرب‪ ،‬أو حتى عن الجزائر؟ أم أنهم اكتفوا بما حمله العدد األخير من جريدة‬
‫اتخذت فيه مكانًا بين جمهور الناس‪ ،‬كانوا يُشكلون‬
‫ُ‬ ‫«لومونيتور» عن أسباب الحملة؟ أسئلة بقيت ُمعلَّقة في ذهني في الوقت الذي‬
‫صفوفَا طويلة احتل َّت الشارع الرئيس للمدينة يهتفون بصوت واحد‪ ،‬منتظرين القائد‪ .‬باألمس كان الكثير يجهله واليوم أضحى بطل ًا حتى‬
‫الس فن‪ .‬من بعيد تراءت لي الخيول وهي تعبر البوابة هتف لها الجنود والناس دفعة واحدة‪ ،‬ثم سمعت دبيب العربات‬ ‫قبل إقالع ُّ‬
‫عنَت بعضهم‬ ‫واجهت َ‬
‫ُ‬ ‫السائرة في موازاتنا‪ ،‬ومثل الجميع لم أكن قد رايت بورمون‪ ،‬تغلغل بين الناس المتدافعين إلى صدارة الصفوف‪،‬‬
‫أحدق تجاه كوكبة الخيول التي تقدمت الموكب‪ ،‬ثم تلتها خيول أخرى لضباط انتبهت‬ ‫ّ‬ ‫ودفعت آخرين حتى كنت في مقابلة الطريق‪،‬‬
‫ع ِل ّقت على ثيابهم‪ .‬بدالي أن بعضهم كانوا من الذين جربوا الحروب طويل ًا‪ ،‬اهتزت الصلبان الذهبية على‬ ‫إلى الشارات التي ُ‬
‫يتوس ط أبناءه‪ ،‬أبصرته عن كثب‪ ،‬رجل في نهاية الخمسينيات‪ ،‬يرنو إلى الهاتفين بحياته وحياة الملك‬ ‫ّ‬ ‫هناك‬ ‫صدورهم‪ .‬ثم رأيته‬
‫والمسيح‪ ،‬يحييهم بيده‪ ،‬فترفع األيدي ُملوح ًة لموكبه‪ ،‬وظل على تلك الحال حتى تجاوزهم بحصانه مسافة طويلة‪ ،‬انسحب من الجمع‪،‬‬
‫وأسرع الخطى تجاه الساحة التي كان يقصدها الموكب‪ ،‬ثم أشرت إلى إحدى العربات‪ ،‬لتخترق بي الشوارع الجانبية الخالية‪ ،‬ولكننا‬
‫رئيسا حتى ي ُوصد بكتل األجساد المتراصة‪ ،‬فنغير وجهتنا‪ .‬تجاوزنا نصف شوارع المدينة إلى أن وجدنا منفذًا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ما إن نقابل طريقًا‬
‫توسط موكب القائد‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬‫بالناس‬ ‫ة‬ ‫الضاج‬
‫ّ‬ ‫الساحة‬ ‫مواجهة‬ ‫في‬ ‫كنت‬ ‫حتى‬ ‫آخر‬ ‫إلى‬ ‫درب‬ ‫من‬ ‫كلها‪،‬‬ ‫المنعطفات‬ ‫وتجاوزت‬ ‫قفزت من العربة‬
‫قس كنيسة طولون‪ ،‬عانقه القس بحميمية‪ ،‬اغتنمت فرصة ُمعانقة القس للضباط‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مواجهة‬ ‫في‬ ‫أحصنتهم‬ ‫عن‬ ‫الجميع‬ ‫وترجل‬
‫ّ‬ ‫المكان‪،‬‬
‫وتسربت بين األجساد‪ ،‬سمعت شتائم بعضهم‪ ،‬وخدعت آخرين أني من الشرطة‪ ،‬وبُجه ٍد اقتربت أكثر من الموكب‪ ،‬وقف القس حينها‬
‫إلى جوار القائد‪ ،‬ينظر إليه ويحدثه مثل صديق‪ .‬سمعت بعض الكلمات التي تفوه بها‪ :‬أنا حزين يا سيدي القائد‪ ،‬فلو لم أجاوز سن‬
‫الشباب ألبحرت معكم‪ ،‬أصلي لكل خطوة تخطونها‪ ،‬وأمنحكم مباركة الرب لمشروعكم في نشر كلمته وإعالئها في إفريقية‪ .‬رأيت‬
‫انحناء القائد وابتسامته‪ ،‬كأنما كان يعطيه األعذار‪ ،‬إذ تكفي صالته للجيش الذي سينشر السالم في المتوسط بعد غيابه قرونًا‪ ،‬حينها‬
‫‪.‬واجه القس الجمهور وهتف‪ :‬المجد للرب‪ ،‬فتعالت الهتافات تجيبه‪ ،‬بل ربما هتفت المدينة كلها المجد للرب المجد للرب‬
‫‪ ‬‬

‫أفريل ‪28‬‬

‫يحدق تجاه البحر‪ ،‬وينفث الدخان بهدوء‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ّعت إليها من لوناجور‪ ،‬وقف القبطان إلى جانبي‬
‫صباحا‪ .‬تطل ُ‬
‫ً‬ ‫دهدت األمواج‬
‫ريح خفيفة َه َ‬
‫ٌ‬
‫‪:‬قابلتني سفينة البروفانس‪ ،‬وحين أطلت التحديق تجاهها خاطبني‬

‫!!يجدر بنا االلتحاق بهم هناك ‪-‬‬

‫ولِ َم؟ ‪-‬‬

‫‪.‬سيجتمع وزير البحرية بضبّاط الحملة ‪-‬‬

‫الجميع كان يعرف البروفانس‪ ،‬قبل أشهر فقط رست في ميناء الجزائر‪َ .‬خبَر مل ّاحوها مزاج األتراك‪ ،‬وكيف ينظرون إلينا كمسيحيين‪.‬‬
‫وددت لو أسرع إلى هناك‪ ،‬ليس من أجل االجتماع‪ ،‬بل من أجل ما حدث قبل أشهر‪ ،‬حين عادت السفينة وقد ُح ِّطم جزء منها‪،‬‬
‫‪.‬بعد فرارها من قذائفهم‪ .‬لم يشفع لهم السالم الذي عقده باشاهم مع رسولنا‬

‫أشار القبطان أن أتبعه‪ ،‬نزلنا من لوناجور وسرنا على الرصيف حتى انتهى بنا إلى البروفانس‪ .‬كان هناك بعض الصحفيين الفضوليين‬
‫سرعين‪ .‬ثم كنا في أعقابها حتى بلغنا سطحها‪ ،‬ربما كانت‬ ‫من طولون‪ ،‬لم يُسمح لهم بالعود عدا اثنين منهم‪ ،‬قفزا أمامنا وصعدا ُم َ‬
‫تلك أعظم سفينة ركبتها في حياتي‪ .‬ولكن ّها لم ترهبني مثل لوناجور ‪ .‬ال يمكن لإلنسان تجاوز انبهاره األول باألشياء بسهولة‪ ،‬تظل‬
‫شرطا لرحيلي إلى الجزائر كمراسل حربي‪ .‬نزلت عبر‬ ‫ً‬ ‫عالقة بذاكرته‪ ،‬ثم تتحول إلى جزء من شخصيته‪ .‬لهذا وضعت لوناجور‬
‫الساللم‪ ،‬وقابلني باب الرواق المؤدي إلى غرفة االجتماع‪ ،‬سبقني القبطان إليها‪ .‬وحين هممت بمغادرة الرواق سمعت نداءه‪ ،‬ثم أشار‬
‫بحارة البروفانس‪ .‬نزلت إلى الطابق السفلي‪ ،‬حيث تحل ّق بعض‬ ‫بيده إلى األسفل وقال‪ :‬ابحث عن بحار يدعى برنار‪ ،‬إنّه أقدم ّ‬
‫التفت رأيت طاولة في أقصى الغرفة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫البحارة حول طاولة‪ ،‬اقتربت أكثر منهم وسألت عن البحار‪ ،‬فأشار أحدهم إلى اليمين‪ .‬وحين‬
‫يجلس إليها بحار واحد‪ .‬دنوت منه واستأذنته مقاسمته الطاولة فسمح لي‪ ،‬ولم يبادرني بالكالم‪ ،‬اكتفي باحتساء نبيذه في هدوء‪،‬‬
‫‪:‬فطلبت أنا اآلخر كأس نبيذ‪ ،‬رشفت منه القليل وخاطبته‬

‫أنت السيد برنار؟ ‪-‬‬

‫ويبدو لي أنك أحد الفضوليين؟ ‪-‬‬

‫أطلت الصمت فاجاني بسؤاله‬


‫ُ‬ ‫‪:‬فاجاتني ردة فعله‪ ،‬فأشحت وجهي دون أن أنبس بكلمة‪ ،‬وحين‬

‫تحدق بي طويل ًا؟ ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫ستظل‬ ‫هل‬

‫بعنف ‪ ،‬بالرغم من أني كنت أرنو إلى الطاولة األخرى‪ .‬بدا لي أنه ال يختلف عن اآلخرين في سأمه من االنتظار‪ ،‬وربما كان‬
‫ٍ‬ ‫قالها‬
‫‪:‬أكثرهم حنقًا‪ ،‬لذا تشجعت وقلت‬

‫أهذا الحنق بسبب تأخير الرحيل أم خوفًا من األتراك؟؟ ‪-‬‬

‫‪:‬وأجاب بالحنق نفسه‬

‫‪.‬اللعنة على حاملي األوراق واألقالم ‪-‬‬

‫‪:‬بصق على األرض‪ ،‬ثم عاد ينظر تجاهي‬

‫جميعكم متشابهون‪ ،‬أنت وزمرة المثقفين‪ ،‬والملك ووزراؤه‪ ،‬حينمايريدون حماية مناصبهم يرسلوننا لنحارب‪ .‬قبل أشهر كنا نحمل ‪-‬‬
‫‪.‬لباشا الجزائر الهدايا ليرضى عنهم‪ ،‬واليوم يسوقوننا إلى هناك لنُقتل بيد األتراك القراصنة‬

‫البح ار‪ ،‬كان سيصرخ في وجهي‪ ،‬وربما يتهمني بأنني من كالب الوزير بوليناك‪ ،‬مثلما كان يقول الكثيرون حينها‬ ‫ّ‬ ‫لم يكن مجديًا مجادلة‬
‫ضد السلطة‬
‫ّ‬ ‫البحار‪ ،‬لطالما وقفوا‬
‫ّ‬ ‫احتدت الصراعات بين الصحافة والحكومة‪ .‬أصحاب الجرائد الليبيرالية في باريس كانوا يوافقون‬
‫المطلقة للملك‪ ،‬ولم يروا في الحملة إال أنها بحث عن المال‪ ،‬ليُطيح الملك بمعارضيه‪ ،‬وألن هذه األمة كانت تؤمن باالنتصارات باسم‬
‫مسيحا في نظر الناس‬
‫ً‬ ‫نصر آخر يُح ّقَق كي يصبح الملك هو اآلخر‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬المسيح فلم يكن يلزمهم سوى‬

‫وعدت حيث خل ّفت القبطان‪ ،‬وحينما تجاوزت الباب األخير من الرواق‪ ،‬رأيته صحبة بعض ُضباط البحرية‪ .‬لم يكن‬ ‫غادرت الغرفة‪ُ ،‬‬
‫الوزير هناك‪ ،‬لكنني أبصرت أميرال البحرية السيد دوبيري‪ ،‬ومن أول وهلة يراه اإلنسان يكتشف المزاجية التي يتحلى بها‪ .‬وكأنه في‬
‫قائدا على الحملة‪ .‬ولم أدر إن كانت هناك مآخذ أخرى غير‬‫ً‬ ‫حالة نزق دائمة‪ ،‬ال يعجبه شيء‪ ،‬يتذمر من تعيين األميرال بورمون‬
‫‪.‬العار الذي عاد به من واترلو‬
‫بعد عودتنا إلى لوناجور‪ ،‬بسط أمامي القبطان بعض الخرائط التي تتعلق بمسيرنا‪ ،‬من طولون إلى ماهون‪ ،‬ثم إلى السواحل اإلفريقية‪،‬‬
‫وإن استدعى األمر ربما سنعرج على بالما‪ ،‬تفحصت الخرائط ودونت منها بعض المالحظات‪ ،‬وعدت إلى غرفتي التي خصصها لي‬
‫المرة األولى التي أراه فيها‪ ،‬بدا لي في نهاية‬
‫ّ‬ ‫وحيدا بها‪ ،‬وفوجئت بشخص آخر يُقاسمنيها‪ ،‬كانت‬
‫ً‬ ‫القبطان‪ .‬ظننت أنني كنت‬
‫‪.‬األربعينيات‪ ،‬نظرته هادئة‪ ،‬وميزت لكنته الجنوبيّة من تحيته‬

‫‪ ‬‬

‫ماي ‪3‬‬

‫مكتظا‬
‫ً‬ ‫لم تحمل األيام األخيرة من أبريل أي جديد‪ ،‬أبواب طولون ما زالت تكتظ بجنو ِد يَفدون كل حين‪ ،‬والميناء أضحى هو اآلخر‬
‫السفن كانت في أقصى الشرق‪،‬‬ ‫سنوات‪ .‬بعض ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫بالس فن‪ .‬كان لدى البحارة ما يشغلون به أنفسهم‪ ،‬إذ التقوا بأصدقاء لم يروهم منذ‬‫ُّ‬
‫عشر أمضينا المواثيق مع اإلنجليز‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫سنوات‬
‫ٍ‬ ‫وأخرى قادمة من الهند‪ ،‬وأخرى تحمل العبيد خلسة من إفريقية بالرغم من أننا قبل‬
‫لدودا لنا‪ ،‬لكني أبصرت بجالء كيف سعوا إلى‬ ‫ً‬ ‫عدوا‬
‫ً‬ ‫بمنع هذه التجارة‪ .‬لطالما كنت ُمؤمنًا بمجد هذه األمة‪ ،‬بينما كان الجميع يراها‬
‫إنهاء العار الذي بقي لصيقًا بنا نحن الفرنسيين‪ ،‬أن يستعبد اإلنسان إنسانًا آخر ألنّه يختلف عنه في لون البشرة‪ ،‬أو ألن أسباب‬
‫المتحض ر على االحتفاظ بهذا العار‪ .‬لكني اليوم متفائل‪ ،‬وأنا أرى الملك أكثر ميل ًا من سابقيه‬ ‫ّ‬ ‫أصر العالم‬
‫َّ‬ ‫الحضارة لم تجتمع لديه‪،‬‬
‫إلى مبادئ الرب‪ ،‬يريد إعادة المجد لهذه األمة التي أفقدها نابليون الكثير من سمعتها‪ .‬ولم يكن هذا المشروع إال بداية إلنهاء‬
‫العبودية التي جعلها األتراك في أعناق أبناء المسيح‪ ،‬نعم المسيح الذي يُدافع الملك عنه‪ ،‬ألنّه من سالل ّة القديس لويس التاسع‪.‬‬
‫واليوم تصل إلينا األخبار عن زيارة ولي العهد لطولون‪ .‬حدثني القبطان يوم االجتماع عن زيارة األمير لليون‪ ،‬حيث استقبله الناس‬
‫دوت مرات عديدة في سماء المدينة‪ ،‬لكنه لم يلبث طويل ًا بها‪ ،‬إذ غادرها إلى‬ ‫بالهتاف والجنود بأصوات البنادق‪ ،‬حتى المدافع ّ‬
‫مرسيليا‪ ،‬وهناك كان االحتفاء به أكثر‪ ،‬تجمع الناس مثلما اعتادوا في شارعها الرئيسي‪ ،‬يهتفون بحياته وبحياة الملك‪ .‬كان ذلك في‬
‫أن هذه األمة لن تعرف‬ ‫اليوم األول من ماي‪ ،‬ونحن اآلن في يومه الثاني‪ ،‬والناس تتجمع في الشارع الرئيسي لطولون‪ ،‬أكاد أجزم ّ‬
‫خ ِل ّص‪ ،‬ليت من في البحرية ينزلون إلى شوارع‬ ‫للم َ‬
‫ُ‬ ‫مجدا مثل الذي يحدث اآلن‪ .‬األمة كلها تُجمع على ملكها‪ ،‬وترى فيه تجل ّيًا‬‫ً‬
‫‪.‬طولون أو مرسيليا أو حتى ليون ليَروا بأعينهم‪ ،‬كيف يهتف الناس والجنود آلل البوربون‬

‫دوي المدافع‪ ،‬ارتديت ثيابي‪ ،‬وفتشت عن شريكي بالغرفة فلم أجده‪ ،‬نزلت من‬ ‫متأخرا على أصوات ّ‬
‫ً‬ ‫في اليوم الثالث استيقظت‬
‫مسرع ا‪ ،‬حتى حللت بالشارع الرئيسي‪ ،‬تجمهر الطولونيون أكثر من األيام السابقة‪ُ ،‬زيِّنت األبنية باألعالم‪ ،‬حتى األطفال كانوا‬
‫ً‬ ‫لوناجور‬
‫سعيد ا وأنا أقترب أكثر وأرى ولي العهد‪ ،‬أبعدني تدافع الناس عن مكان وقوفه‪ ،‬فبقيت أراقب‬ ‫ً‬ ‫يحملون في أيديهم العلم األبيض‪ ،‬كنت‬
‫الحي اإلداري للمدينة‬
‫ّ‬ ‫غل أكثر تجاه‬ ‫‪.‬موكبه يتو ّ‬

‫‪ ‬‬

‫بقية األسبوع األول من ماي‬

‫لن تحتمل طولون تلك الضجة وهؤالء القادة كلهم‪ :‬ولي العهد‪ ،‬قائد الحملة وزير البحرية‪ ،‬أميرال البحرية‪ ،‬وأولئك النبالء الذين كانوا‬
‫والسفن يكاد الميناء يلفظها‪ ،‬لم يكن األمر هينًا‪ ،‬والناس تقطع‬
‫ُّ‬ ‫يرافقون األمير‪ .‬الجنود يتوزعون مثل النمل في المدينة وساحاتها‪،‬‬
‫الشوارع جيئ ًة وذهابًا منبهر ًة بها تراه حولها‪ .‬أحيان ًا أسأل بعض العابرين عن األتراك‪ ،‬وعن أسباب الحملة عليهم‪ ،‬يُرددون مثلما يردد‬
‫األمة باستعباد المسيحيين في‬‫ّ‬ ‫السياسيون‪ :‬قد ُأهين شرف الفرنسيين حينما ُضرب القنصل بمروحة الباشا‪ ،‬ولن تسمح غيرة هذه‬
‫المحم ديين‪ .‬لم يكن هناك الكثير من الحجج التي يحملها الناس في عقولهم‪ ،‬لكنهم متشبثون بها‪ .‬هل كانوا مثل ًا يعرفون‬ ‫ّ‬ ‫أراضي‬
‫سيرة القنصل؟ هل قرأوا التاريخ الذي جمعنا بهذه المدينة؟ الكثير من األسئلة المشابهة طرحتها جرائد الليبيراليين والمعارضين لهذه‬
‫‪.‬الحملة‪ ،‬وال أعتقد أنها تؤثّر مادام الناس يحملون في نفوسهم التبجيل للملك ولقائد الحملة‬

‫وعودا وهبات تنتظرهم بعد النصر‪ .‬تطلعوا‬ ‫ً‬ ‫أيام ا ينتقل من ساحة إلى أخرى‪ ،‬يزور الجنود‪ ،‬يحمل لهم رسائل الملك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مكث ولي العهد‬
‫مكثت‬
‫ُ‬ ‫إليه غير مصدقين أنه يقاسمهم الساحات القذرة‪ .‬كانوا أكثر سعادة بتواضعه من الوعود التي يحملها‪ .‬في آخر أيام زيارته‬
‫غير بعيد منه‪ ،‬حيث اجتمع بقائد الحملة ووزير البحرية‪ ،‬من بين مئات الصحفيين كنت إلى جانبهم‪ ،‬أسير بين الطاوالت التي‬
‫عد ت في القصر‪ ،‬بالحفلة التي نظمها على شرفه نبالء طولون‪ ،‬قبل رحيل الحملة بأيام‪ ،‬كانت الكؤوس تصطك ببعضها والتهاني‬ ‫ُأ ّ‬
‫تواضعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أكثرهم‬ ‫بدا‬ ‫جانبه‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫كان‬ ‫بورمون‬ ‫واألميرال‬ ‫البحرية‪،‬‬ ‫وزير‬ ‫جوار‬ ‫إلى‬ ‫وقف‬ ‫منه‪،‬‬ ‫ودنوت‬ ‫كأسي‬ ‫حملت‬ ‫األفواه‪،‬‬ ‫بين‬ ‫تنتقل‬
‫سمعت ولي العهد يخاطب األميرال‪ « :‬كم أنت محظوظ بقيادة هذا الجيش!» رأيت عالمات الخجل التي حاول األميرال مواراتها‪،‬‬
‫لمت أنكم ستعودون قبلنا إلى باريس‪ ،‬وعندما تلتقون بوالدي الملك‪ ،‬أبلغوه عني أنني‬ ‫ع ُ‬ ‫في حين أقبل األمير بوجهه تجاه الوزير‪َ « :‬‬
‫‪».‬قضيت أفضل أيام حياتي رفقة الجيش‪ ،‬وأكثر ما يؤسفني أنه ليس في مقدوري قيادة هذه الحملة‬

‫انسحبت حين تراءى لي القبطان من هناك‪ ،‬وتفاجات بالرجل الذي يقاسمني الغرفة إلى جواره‪ .‬انضممت إلى المجموعة‪ ،‬كان هناك‬
‫ضابطان لم أعرفها‪ .‬بدا لي أنها من البروفانس‪ ،‬جلس الجميع ينفث الدخان ويحتسي النبيذ‪ ،‬انتبهت إليه وقد ظل طوال الجلسة‬
‫ضاجين‪ .‬أعلن أحد الضباط‬
‫ّ‬ ‫‪:‬صامتًا بينما كان اآلخرون‬

‫السفن الخمسمائة‪ ،‬ستحمل الجنود وتسير إلى السواحل اإلفريقية ‪-‬‬


‫‪.‬تجاوز عدد ُّ‬

‫‪:‬وأردف القبطان‬
‫‪.‬جل ّها قد ُح ّمل بالبضائع واألغذية ‪-‬‬
‫ُ‬

‫‪:‬وابتسم الضابط الثاني‬

‫‪.‬وال تنس النبيذ‪ ،‬فلن تجده في إفريقية بهذه الجودة ‪-‬‬

‫‪:‬في هذه اللحظة سمعت تعليق كافيار الساخر‬

‫‪.‬كما ال تنس الزحار والوباء ‪-‬‬

‫‪:‬صمت الضابط قليل ًا ثم أضاف‬

‫دائما بها تعلمه عن ‪-‬‬


‫ً‬ ‫نحن لم ننس شيًئا يا سيد كافيار‪ ،‬الجيش لديه ما فيه الكفاية من األطباء واألدوية‪ ،‬ولكن لماذا تتبجح‬
‫ُّ‬
‫تظل تكرر نصائحك؟‬ ‫!الجزائر‪ ،‬أألنك مكثت طويل ًا بها‬

‫‪.‬أنا ُأذ ِك ّرك فقط ‪-‬‬

‫‪.‬وأنا في غنى عن ذلك ‪-‬‬

‫مرغما على سماعه ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬ولكنك بعد أيام ستكون‬

‫زادت الجملة األخيرة من حنق الضابط‪ ،‬ولكنّه لم ينبس بكلمة‪ ،‬ربما َخ َّمن مثلي أن عالقة خفية تربط الرجل الذي يقابله بالذين‬
‫اجتمعوا خلفه‪ ،‬أو ربما بدوائر الملك في باريس‪ ،‬الثقة التي كانت تصاحب ُجمله المختصرة والكثيفة‪ ،‬لم تكن إال دليل ًا على ذلك‪.‬‬
‫لحظات أخرى من الصمت‪ .‬ثم عاد الجميع إلى ضجيجهم‪ ،‬ينفثون دخانهم في سماء الغرفة‪ ،‬أرفع رأسي نحو السطح‪ ،‬تشدني‬
‫عدت أستكشف الوجوه‪ ،‬لم‬ ‫رسومات األطفال بأجنحتهم الصغيرة‪ ،‬يُحل ّقون في مساء الجنّة‪ ،‬يطوفون بالعذراء‪ ،‬المجد لك أيتها العذراء‪ُ .‬‬
‫أر األمير هناك‪ ،‬وكذلك الوزير واألميرال‪ .‬كان الجميع من حولي يستعدون للرحيل‪ ،‬حملت نفسي وسرت بمجاورة القبطان‪ ،‬ثم كانت‬
‫‪.‬العربة تعيدنا إلى لوناجور‬

‫‪ ‬‬

‫األسبوع الثاني من ماي‬

‫أفقت على ضجيج يمُأل المكان‪ ،‬هرولت عبر الرواق‪ ،‬وعندما بلغت الباب رأيت مئات الجنود يصطفون على سطح السفينة‪ ،‬يحملون‬
‫أكياسهم وبنادقهم‪ .‬آالف من الجنود تدفّقوا من منافذ الميناء كلها‪ ،‬األبواب ال تكاد تتسع لمرورهم‪ .‬يسير كل صف في طريق إلى‬
‫عدت إلى مكان الجنود‪ ،‬وقد شكلوا‬ ‫سفينته المختارة‪ ،‬في نهاية الرصيف رأيت الخيّالة يسوقون خيولهم إلى سفن أقصى الميناء‪ُ .‬‬
‫إلي آخر جملة وجهها كافيار‬‫َّ‬ ‫عادت‬ ‫مجموعات‪ ،‬وكل مجموعة تحلقت حول رئيسها‪ .‬اقتربت من إحداها وأصغيت لها‪ ،‬وفي التو‬
‫مرتين في‬ ‫ّ‬ ‫باالستحمام‬ ‫عليكم‬ ‫‪:‬‬‫يتلوها‬ ‫صارما وهو‬
‫ً‬ ‫للضابط‪ ،‬كانت تعليمات للجنود الذين سينزلون إلى الجزيرة اإلفريقية‪ .‬بدا الصوت‬
‫الفجة ‪ .‬ال تأكلوا اللحوم الممل ّحة إال بعد غسلها ‪ .‬ال‬
‫ّ‬ ‫اليوم‪ ،‬لن تسبحوا إال مدة قصيرة‪ .‬تفادوا شرب الماء بكثرةٍ‪ ،‬تفادوا أكل الفواكه‬
‫‪.‬تشربوا من مياه البرك‪ .‬وأدركت يومها أن كافيار كانت له كلمة عند الذين قرروا إيفاد الحملة‬

‫ثالثة أيام أخرى‪ ،‬لم يهدأ الميناء‪ ،‬كل يوم يوقظنا ضجيج يتعالى من رصيفه‪ ،‬وأصوات جنود يُقبلون وآخرون يقودون الخيل‪ ،‬يُصعدونها‬
‫الس فن‪ ،‬ثم تنشر أشرعتها وترحل عن الميناء‪ ،‬وتتلوها أخرى للجنود‪ ،‬قال لي القبطان الذي وقف قربي‬
‫‪:‬على متن ُّ‬

‫‪.‬دون اآلن يا ديبون في دفترك أننا قد بدأنا الحملة على الجزائر ‪-‬‬
‫ِّ‬

‫السفن وأردف‬
‫‪:‬ثم أشار إلى ُّ‬

‫‪.‬من اليوم ستغادر سفن األسطول ِت ً‬


‫باعا ونجتمع هناك في جزيرة ماهون‪ ،‬لنواصل طريقنا ‪-‬‬

‫‪:‬فتساءلت حينها‬

‫ولوناجور؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ستكون في أثر ال بروفانس ‪-‬‬

‫وبورمون؟ ‪-‬‬

‫‪.‬سيكون هناك رفقة األميرال دوبيري ‪-‬‬


‫إلى السكون الذي عم الميناء‪ ،‬حتى شريكي في الغرفة لم يغادرها مثلما اعتاد‪ ،‬كان يتمدد على سريره‪،‬‬ ‫انتبهت في اليوم الرابع‬
‫لعجلتي‪ ،‬غادرت الغرفة إلى سطح لوناجور‪ ،‬وتراءى لي الجنود متسمرين يحدقون تجاه البروفانس‪ .‬نزلت‬ ‫يطالع كتابًا لم أقرأ عنوانه‬
‫سنوات طويلة‬
‫ٍ‬ ‫وحين اقتربت كان بورمون يستعد لخطابه‪ ،‬وعلق بذهني بعضه‪ :‬إن الرجل العربي قد عاش‬ ‫متجه ا إليها‪،‬‬
‫ً‬ ‫إلى الرصيف‬
‫وسيجد فينا نحن المحررين‪ ،‬وسيَلتمس تحالفنا وبهذا لن تدوم الحرب إال زمنًا قليل ًا‪ ،‬ولن تُسفك إال دماء‬ ‫ضطهدا من زمر ٍة غاشمة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُم‬
‫‪.‬أقل‬

‫خطابه غمرني بالسعادة‪ ،‬في كل جملة يتوطد ما بيني وبين هذا القائد‪ ،‬يحمل في روحه الدعوات التي أتى بها الناصري‪ ،‬ال يريد إال‬
‫عائدا إلى لوناجور‪ ،‬دخلت الغرفة ووجدته يستلقي‬
‫ً‬ ‫مزيدا من سفك الدماء‪ .‬وسحبت نفسي‬‫ً‬ ‫تحرير اإلنسان الذي اضطهد‪ ،‬وال يريد‬
‫بعيدا عنه‪ ،‬وقلت‬
‫ً‬ ‫‪:‬بكسل على فراشه‪ ،‬فانتحيت مكائا ليس‬
‫ٍ‬

‫أال يستحق القائد أن يُسمع خطابه؟ ‪-‬‬

‫‪:‬رفع عينيه من على الكتاب‪ ،‬وابتسم بسخريةٍ كعادته‬

‫أتتكلم عن خائن واترلو؟ ‪-‬‬

‫!بل أتكلم عن قائد الحملة ‪-‬‬

‫‪.‬دعك من هذه األوهام يا سيد ديبون‪ ،‬أنت تجهل أشياء كثيرة لتدافع عنه ‪-‬‬

‫يقطع هذا الرجل كل الدروب المؤدية إليه‪ ،‬ألوذ بالصمت‪ ،‬ويعود هو إلى كتابه ‪ .‬ال أدري كم مرة حدث هذا‪ ،‬وكم مرة يصمت منهيًا‬
‫أيضا عقالء‬
‫ً‬ ‫‪.‬الحوار بيننا‪ ،‬ولكني لن أستسلم‪ ،‬فالبحر مثلما يصنع المجانين يجعلهم‬

‫‪ ‬‬

‫األسبوع الثالث‪/‬الرابع من ماي‬

‫ترتج السفينة حينما يضربها الموج‪ ،‬أقول في نفسي لو تتمسك بهذا العنف فال بد‬ ‫ُّ‬ ‫بقوةٍ‪ ،‬يقذفها الشمال تجاهنا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تهب‬
‫ُّ‬ ‫ريح المايسترال‬
‫حدة الريح في اليوم الثاني‬‫ّ‬ ‫تراجعت‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬‬‫الثالث‬ ‫األسبوع‬ ‫به‬ ‫ابتدأ‬ ‫سيًئا‬ ‫ا‬ ‫يوم‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫البحر‬ ‫إلى‬ ‫لوناجور‬ ‫تحمله‬ ‫مما‬ ‫الكثير‬ ‫أنها ستلقي‬
‫والتفت من حين إلى‬‫ُّ‬ ‫نسيما عليل ًا في اليوم الرابع منه‪ ،‬وقفت أتطلع إلى الحركة البطيئة على الميناء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أضحت‬ ‫أن‬ ‫إلى‬ ‫والثالث‪،‬‬
‫آخر تجاه البروفانس‪ ،‬ال جلبة على سطحها‪ ،‬شعرت أن أيام مكوثنا في طولون باتت معدودة‪ ،‬وحتّى بالسفينة التي نحتلها‪ ،‬كان كل‬
‫معدا‪ ،‬ولم يبق إال سماع طلقات المدافع معلن ًة وداعنا‬
‫ً‬ ‫‪.‬شيء‬

‫في اليوم األخير من األسبوع الثالث وردتني أخبار أننا سنُقلع مع الفجر‪ ،‬لم أنم تلك الليلة‪ ،‬أشياء كثيرة دارت في خلدي‪ ،‬إلى أن‬
‫وخ ّ َم نت أنه لم يكن في لوناجور بل في البروفانس‪ ،‬قال وجهه إنهم اتفقوا على أشياء تُغاير ما خططنا‬
‫تأخرا‪َ ،‬‬
‫وصل شريكي بالغرفة ُم ً‬
‫تمدد على فراشه وخاطبني‬‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬‬ ‫‪:‬له‬

‫‪.‬ربما عليك يا ديبون أن تنام‪ ،‬لن نرحل إال بعد أربعة أيام ‪-‬‬

‫سريع ا‪ ،‬ولم أنتبه إال على ندائهم‪ .‬صعدت إلى سطح السفينة‪ ،‬واستنشقت نسيم الفجر‬ ‫ً‬ ‫ارتميت على فراشي‪ ،‬وتمنيت مرور األيام‬
‫السفن التي كانت حوله األوامر برفع الزوارق‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫جميع‬ ‫ت‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫فتل‬ ‫‪.‬‬ ‫اإلبحار‬ ‫إشارة‬ ‫األميرال‬ ‫أعطى‬ ‫الندي‪ ،‬امتد بصري تجاه البروفانس حيث‬
‫ورأيت الحركة من حولي‪ ،‬كان المالحون يرفعون األشرعة‪ ،‬وآزرهم الجنود في إقالع السفينة‪ .‬تحركت البروفانس ثم كنا في إثرها‪.‬‬
‫قدر لي سماعها‬‫مسافة سرناها شاهدت أهل طولون يتطلعون إلينا من حصونها‪ ،‬وآخرون يُلوحون لنا من السهول‪ ،‬ترتفع أصواتهم ولم يُ ّ َ‬
‫‪.‬ذلك اليوم‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬كافيار‬

‫لم يكن ُمجديًا أن ُأسأل عن اسمي القديم‪ ،‬أو عن مهنتي‪ .‬تذوب األلقاب يا ديبون حينها تقبض السالسل على رجليك‪ ،‬ويُصبح‬
‫وادعاء الجهل هو سبيل آخر للنجاة في هذه‬ ‫في صالحي التفوه بكلمة عما أعلمه أو أتقنه‪ ،‬الصمت ِ ّ‬ ‫هراء‪ .‬لذا لم يكن‬
‫ً‬ ‫تاريخك‬
‫تُثقل يدي‪ ،‬يسحبها السجين الذي يسبقني فأوشك أن أسقط‪ُ ،‬أصغي إلى الصوت الحاد‪ ،‬ثم يدنو الظل‬ ‫المدينة المتوحشة‪ ،‬كانت القيود‬
‫كور البلغم في فمه ويقذفه على وجهي‪.‬‬ ‫األلم‪ ،‬وال أجرؤ على االلتفات‪ .‬ثم يواجهني الحارس التركي‪ ،‬ي ُ ّ‬ ‫مني‪ ،‬وفجأة أصرخ من حرارة‬
‫متوعدا إياي بتأجيل‬
‫ً‬ ‫نحوه‪،‬‬ ‫ويعدو‬ ‫يده‬ ‫ترتخي‬ ‫ٍ‬
‫حارس آخر‪،‬‬ ‫حنقه‪ ،‬وهم أن يهوي بالسوط علي‪ ،‬لوال نداء‬ ‫تحد فيزداد‬
‫ٍّ‬ ‫أحدق بوجهه في‬
‫‪.‬العقاب‬

‫يرتفع الباب الخشبي عمالقًا‪ ،‬ونصطف تحته مثل قصب الذرة‪ ،‬سار الصف الطويل مسافة إلى األمام‪ ،‬تدافعنا تحت ضربات السياط‪،‬‬
‫واألصوات التي تتعالى من حولنا‪ .‬تجاوزنا البوابة حتى بلغنا باحة السجن‪ ،‬وتغلغلت رائحة العفن الحادة إلى أنفي‪ ،‬واشتعل حلقي‬
‫علي مد يدي ألحكها‪ .‬وكلما هممت بذلك أسحب السجين الذي خلفي‪ ،‬وهكذا‬ ‫َّ‬ ‫لزاما‬
‫ً‬ ‫جرائها‪ ،‬ثم امتدت إلى عيني وصار‬ ‫َّ‬ ‫بحرقة من‬
‫دواليك يسحب هو الذي خلفه‪ .‬صرخ الحراس علينا‪ ،‬ولم أفهم ُمرادهم لو لم يتحرك بعضنا ُمشك ّلين جماعات في قلب الباحة‪.‬‬
‫تطل ّعت إلى جدران السجن العالية‪ ،‬انتبهت لنفسي أفك ّر كأسير حرب‪ ،‬بينما لم أكن سوى عب ٍد مغلول في مدينة معبأة بالمتوحشين‪.‬‬
‫وات‬
‫َج ٍ‬‫الحراس من حولنا‪ ،‬وآخرين يحتلون الطابق األعلى للسجن‪ُ ،‬أخفض بصري إلى محيط الباحة‪ ،‬فأرى ف َ‬ ‫ّ‬ ‫لت ببصري فرأيت‬ ‫جِ ُ‬
‫باتساع الغرف في نهايتها‪ ،‬وآثار الرماد على أطرافها‪ ،‬وبقايا خشب مرميّة عند الجدار‪ .‬لم أعرف مصدر الروائح الحادة التي كانت‬
‫التفت ورأيت بقايا الحيوانات ملقاة هناك‪ ،‬وقبل التفاتي سمعت نداء الحارس التركي مرة ثانية‪ ،‬لم أدر أنه يعنيني‬ ‫َ‬ ‫تصلني إال حينها‬
‫أرضا‪ .‬ثم‬‫ً‬ ‫بقوة ولوال السلسلة التي كانت بيدي لسقطت‬
‫ّ‬ ‫إال حينها انشق الصف عني‪ ،‬ووقف أمامي وأخذني من صدري‪ ،‬ثم دفعني‬
‫جندي بدا مختلفًا عن البقية‪ ،‬كانت ُحلته أفضل من ُحل ّة الجميع‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وقف يراقب تجمعنا من الخلف‪ .‬بقينا متسمرين هناك حتى أقبل‬
‫دفترا أمامه‪ ،‬وشرع ينادينا بأسمائنا‪ ،‬وكل من يسمع اسمه‬ ‫ً‬ ‫وفتح‬ ‫المصطبة‪،‬‬ ‫أشبه بما كان يلبسه وكيل الحرج‪ ،‬وضعوا له كرسيًا أعلى‬
‫يعلن عن نفسه بالصياح‪ .‬فيهرع الحارس تجاهه ينزع عنه األغالل‪ ،‬ويتقدم حتى يكون في مقابلة الضابط‪ ،‬يسأله عن عمله قبل‬
‫تفرس في‬ ‫َّ‬ ‫أسره‪ ،‬ثم يقاد إلى نهاية الباحة دون أغالل‪ .‬لحظات من المناداة سمعت اسمي حتى لم أتبينه‪ ،‬وخطوت تجاه الضابط‪.‬‬
‫حل المساء‪ ،‬وخبت أصوات‬ ‫َّ‬ ‫صيادا أومأ للحارس فقادني إلى نهاية الباحة‪ ،‬وعلى هذه الطريقة‬‫ً‬ ‫وجهي‪ ،‬وحين أخبرته أنني لم أكن إال‬
‫الحراس فجأة حين فُتحت األبواب‪ ،‬ورأينا صفًا طويل ًا للعبيد‪ ،‬كانوا قد عادوا حينها من الميناء حيث ورش العمل‪ .‬وآخرون من مقالع‬
‫غبار أبيض‬ ‫ٌ‬ ‫المور‪ ،‬وجوههم يمالها‬
‫الحجارة‪ .‬اعتقدت أننا الوحيدون هنا‪ ،‬نحن المسيحيين األوروبيين‪ ،‬بيد أنني تفاجات برجال من ُ‬
‫تكه نت أنهم من مقالع الرخام‪ ،‬كانت السالسل تكبل أيديهم ولم تفك عنها إال حين أغلقت األبواب خلفهم‪ .‬وانتبهت إلى‬ ‫ّ‬ ‫دقيق‪،‬‬
‫المور‪ .‬حال بيننا وبينهم صف من الحراس‪ ،‬لم ينسحب إال حينما أقبل‬ ‫ُ‬ ‫أولئك‬ ‫دون‬ ‫والزنوج‬ ‫المسيحيين‬ ‫أرجل‬ ‫في‬ ‫الحديدية‬ ‫القيود‬
‫احتد ألمي حين ُأحكم علي‪ ،‬كتمت الصوت في‬ ‫َّ‬ ‫قيدا حديديًا في رجله‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثة حدادين بمطارقهم وكالليبهم‪ ،‬وثبتوا لكل واحد منا‬
‫‪.‬صدري‪ ،‬وسرت مثل اعرج حين قادونا إلى العنابر‬

‫ِ‬
‫اللعيْنة أنه إل ٌه‬ ‫ردد في ظالم العنابر‬‫في الظلمة لم يكن حولي سوى الشيطان يطل من شقوق الجدران‪ ،‬أرى لمعة عينيه وشررهما‪ ،‬يُ ّ‬
‫أن يؤمن بإلهٍ ال تتغلغل‬ ‫ّ‬ ‫إال‬ ‫له‬ ‫فليس‬ ‫جديد لهذا العالم‪ .‬وما كان لي إال تصديقه‪ ،‬حينما يريد اإلنسان اإليمان في جحيم هذا العالم‬
‫مسرته في سفك الدماء من أجل مجده‪ ،‬ال في إعطاء خدك الثاني عندما يُصفع األول‪ .‬ليس هناك ما يجعلني‬ ‫َّ‬ ‫الشفقة إلى قلبه‪ ،‬إل ٌه‬
‫أتفق مع هؤالء األتراك المحمديين‪ ،‬ولهم إلههم الذي يدعوهم الضطهادنا‪ ،‬أليس غريبًا أن أول ما حفظته من لغتهم هي سبابهم إياي‬
‫بمسيحيتي وكفري « كريستياني قذر‪ ،‬أو كافر» تلك هي الكلمات التي كانت تتردد في باحة السجن‪ .‬كنت أتحسس القيد في ظلمة‬
‫العنبر‪ ،‬الذي لم أستطع تحديد مساحته‪ ،‬وتوقعت كم كان ضيقًا‪ ،‬مزيج من الروائح الكريهة لألجساد ورائحة البول تعبئ الغرفة‪ ،‬التي‬
‫تزداد ضيقًا حينها تضغط األجساد أكثر على صدري‪ ،‬ال أدري كم من عب ٍد جثم فوقي‪ ،‬أو كم رفسني أحدهم بقدمه بينها صرخت في‬
‫ضغطت أكثر على القيد‪ ،‬كأنه بات يتقلص على رجلي‪ .‬أحاول التقلب في مكاني‪ ،‬ولكن ال مساحة‬ ‫ُ‬ ‫داخلي كلما حركت رجلي‪ ،‬أو‬
‫للحركة‪ .‬يتسلل البرد من كل مكان‪ ،‬عيناي تجوسان الظالم فال تعثران على منفذ به‪ ،‬تمنيّت بزوغ شمس يوم جديد‪ ،‬على األقل‬
‫اسما‬
‫ً‬ ‫أرى الضوء فأستأنس به‪ ،‬ولكني سأستيقظ على إنسان مختلف عما عهدته‪ ،‬ستوغل واترلو في الذاكرة البعيدة‪ ،‬وسيصبح نابليون‬
‫‪.‬معلّقًا في شجرة تيبّست ولكنّها ترفض السقوط‬ ‫ُ‬
‫سرعا‪ ،‬وال جواب غير أنفاس حارة تنبعث من أفوا ِه جائعة‪ ،‬ال أراها ولكن نتانتها تُصيبني بالغثيان‪،‬‬
‫ً‬ ‫أنادي على الضوء أن يُقبل ُم‬
‫أقذف ما في بطني وال أدري أي وجه استقرت فوقه‪ ،‬إال حينما يرتفع السباب‪ .‬ثم أقذف دفعة أخرى من معدتي أكثر دفًئا ومرارة‪،‬‬
‫كادت روحي تُ غادر جسدي على إثرها‪ .‬أنكمش منها وأنتظر المزيد‪ ،‬وتأبى إكمال مسيرتها إلى حلقي‪ ،‬تغيب حتى أقول إني شفيت‬
‫وتعود لتتصاعد من جديد‪ ،‬ثم فجأة أحسست بالبرودة تتسلل إلى جسدي‪ ،‬بدأت بقدمي ثم امتدت إلى ساقي‪ ،‬وانتشرت إلى بقية‬
‫وضوءا ينبعث من ك ُوة العنبر‪ .‬أفقت وصورة سات تنوس بذاكرتي‪ .‬ووقفت ألطل على‬ ‫ً‬ ‫حادا‪،‬‬
‫ً‬ ‫خا‬
‫الجسد‪ ،‬ثم لم أعد أدرك شيًئا إال صرا ً‬
‫كومين فوق بعضنا‪،‬‬ ‫مزيدا من الوجوه الشاحبة‪ ،‬وغرفة ضيقة عجِ بت كيف اتسعت لنا‪ ،‬إال إن كنا ُم ّ‬
‫ً‬ ‫الصيادين من المركب‪ ،‬ولم أر إال‬
‫وحتّى الروائح كانت ال تُطاق‪ ،‬يتعالى الزعيق ي ُنادي على السجناء أو العبيد‪ ،‬أن يستيقظوا ويهرعوا إلى نهاية الرواق حيث الكنيسة‬
‫‪.‬الكاثوليكية‬

‫غنى عنها‪ ،‬لم أهزم بعد‪ ،‬ما‬‫ً‬ ‫ال تستغرب يا ديبون أن أعيد عليك كل هذه الحكايات‪ ،‬لست ُمجبَ ًرا على بسط مرافعات أنا في‬
‫قد ًر ا من الجميع‪ ،‬سواء في باريس أو في الجزائر‪ .‬واآلن تصلني رسائل الحاكم العام للجزائر فوارول‪ ،‬ألتقيه ونشرب األنخاب‬ ‫زلت ُم ّ‬
‫من أجل أعمال التوسعة الجديدة‪ ،‬ونستمع إلى أخبار القائد الذي صار العرب اليوم يجتمعون حوله‪ .‬لكني موقن أنهم لن يُطيلوا‬
‫التحلق حوله‪ .‬إنهم لن يجدوا عند األمير أي شيء مما يحلمون به‪ ،‬ال يريدون النعيم المؤجل وأنهار الخمر التي يعدهم بها‪.‬‬
‫عاشرت هؤالء العرب وصرت أفهم كيف يُفك ّرون‪ ،‬خاصة إذا تعل ّق األمر بمصالحهم‪ .‬كانت‬ ‫ُ‬ ‫والحوريات التي تنتظرهم في جنّتهم‪.‬‬
‫عليم ا بما يجول في أذهانهم‪ .‬الخبث هو سمة العرب‪ ،‬والخداع هو أقصر‬ ‫ً‬ ‫أصبح‬ ‫بأن‬ ‫كفيلة‬ ‫السنوات التي قضيتها في بيت القُنصل‬
‫شارع ما‪ ،‬يبكون أنهم ال يملكون المال‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬ ‫توسعة‬ ‫تتقرر‬ ‫حينما‬ ‫مكتبي‬ ‫في‬ ‫علي‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫قبلون‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫غاياتهم‪،‬‬ ‫الوسائل التي يستعملونها لبلوغ‬
‫حين يتعلق األمر ببيوتهم التي ستهدم‪ ،‬فإن األموال سوف تظهر‪ ،‬يُريدون إبعاد التوسعة عن بيوتهم‪ ،‬وال يأبهون عندما تشمل بيوت‬
‫جزء ا من بيوتهم‪ ،‬فالمخطط الذي أحلم به لهذه المدينة يتجاوز أحالمهم وتفاهاتهم‬
‫ً‬ ‫جيرانهم‪ .‬أتحايل عليهم كي آخذ أموالهم‪ ،‬وبها أهدم‬
‫الصغيرة‪ .‬لذا ليس عليك التعاطف معهم يا ديبون‪ ،‬عقلك ال يدرك ما أعرفه عنهم‪ .‬ورحلتي الطويلة في اكتشافها مدينة تسطو على‬
‫والسياط تُلهب جسدي‬‫ِّ‬ ‫‪.‬المدن التي تجاورها‪ ،‬وتستعبد المسيحيين‪ ،‬ليعينوها على بناء أساطيل جديدة‪ ،‬كنت أكتشفها كل يوم‪،‬‬
‫من الرواق رأيتهم يسرعون في اتجاه الباحة‪ ،‬خطوت في إثرهم‪ ،‬ثم انعطفت مثلها انعطفوا‪ ،‬وتراءى لي باب واطئ‪ ،‬سرت حتى‬
‫انتهيت إلى غرفة واسعة‪ ،‬وأكثر نظافة من بقية الغرف‪ ،‬كانوا مصطفين يحدقون في العجوز الذي وقف يتلو الصلوات‪ ،‬هممت‬
‫باالنضمام إليهم وسنح لي خاطر بالعودة إلى العنبر‪ ،‬فسحبت نفسي إلى مدخل الرواق‪ ،‬وانتبهت إلى رواق آخر يُحاذيه‪ ،‬فكرت بالعبور‬
‫تشج عت حين أبصرت الباحة من مكاني‪ ،‬حركة كثيفة للسجناء يصطفون في طوابير لينالوا خبز‬ ‫ّ‬ ‫إليه‪ ،‬وخشيت ضربات السياط‪ ،‬ثم‬
‫الصباح‪ .‬عدت أتأمل الرواق الثاني‪ ،‬عرضه لم يتجاوز األربعة أمتار‪ ،‬وقدرت طوله بعشرة أمتار‪ ،‬قطعتها باحثًا عن غُرف مثل التي‬
‫شخصا‪ ،‬غرفة عرضها‬ ‫ً‬ ‫نحتلها‪ ،‬كانت كل األبواب ُم شرعة‪ ،‬عاينت إحداها ولم تختلف عن التي نتكوم بها‪ .‬أيعقل أن يحتل ثالثون‬
‫مثل طولها ثالثة أمتار! كنا محشورين بعضنا فوق بعض مثل السمك في الصناديق الخشبية‪ ،‬اندهشت من نفسي وكيف أمكنني‬
‫التفت إليها‪ ،‬ورأيت ثالثة شباب وقفوا يراقبونني منذ عبوري‬
‫ُّ‬ ‫كلمات إنجليزية‬
‫ٍ‬ ‫المبيت بها الليلة الماضية‪ .‬وقبل أن أخطو سمعت‬
‫‪:‬إلى الرواق‪ ،‬ثم اقترب أحدهم مني‬

‫ألست من الفرنسيين الذين اقتيدوا باألمس إلى هنا؟ ‪-‬‬

‫‪.‬أجل‪ ،‬أنا أحدهم ‪-‬‬

‫‪.‬الباقون يقاسموننا الغرفة‪ ،‬بحثنا عنك باألمس ولكنك لم تظهر ‪-‬‬

‫أجلوا دخولنا إلى الخنادق ‪-‬‬


‫‪.‬ألنّهم ّ‬

‫جانبي صديقاه‪ .‬حين بلغنا باب الغرفة قدم وليام نفسه على أنه أمريكي ُأسر قبل سنةٍ في‬‫ّ‬ ‫طلب مني الشاب مرافقته‪ ،‬وسار إلى‬
‫سعيدا بهم‪ ،‬وعانقتهم كأني لم‬
‫ً‬ ‫مضيق جبل طارق‪ ،‬ثم سحب باب الغرفة ألكتشف وجوه الصيادين الذين غادروا معي سات‪ .‬قفزت‬
‫يمد يده بقميص وسروال‬
‫ُّ‬ ‫سنوات‪ ،‬كانوا في ثياب نظيفة غير التي افترقنا عليها‪ .‬وقبل أن ُأتم حديثي معهم وجدت وليام‬
‫ٍ‬ ‫أرهم منذ‬
‫‪:‬نظيفين‪ ،‬ثم خاطبني‬

‫‪.‬أعيرك إياهما حتى تقبض ّأول أجر لك ‪-‬‬

‫وإلى حينها فقط اكتشفت أن العبيد يمكنهم الحصول على المال من عملهم‪ .‬قبضت يدي ما أعارني وليام‪ ،‬وقبل مغادرته العنبر‬
‫‪:‬أضاف‬

‫أم ا اآلن فعلينا الرحيل إلى العمل‪ .‬وأنتم فال أعتقد أنكم ستغادرون هذا اليوم إلى الورش ‪-‬‬
‫‪.‬يُمكنك من اليوم مقاسمتنا الغرفة‪ّ ،‬‬
‫يمد يده‬
‫ُّ‬ ‫يحدق فيه مليًا‪ ،‬ثم‬
‫ّ‬ ‫كنا إلى جانبهم في صفوف الخبز‪ ،‬وانتظرنا سماع أسمائنا‪ ،‬كل من يسمع اسمه يقترب من الكاتب‪،‬‬
‫إلى كيس خبز الجاودار يسحب منه واحدة‪ ،‬ويعود إلى مكانه‪ ،‬ثم غادروا هم إلى أعمالهم بعد أن وضعت السالسل في أرجلهم‪،‬‬
‫‪.‬وعدنا نحن إلى عنابرنا‬

‫ابتدأ يوم آخر بزعيق الكاهن ينادي على الكاثوليك‪ ،‬يدعوهم للصالة إلله المآسي‪ .‬ولم ألتحق برفاقي الصيادين إلى هناك‪ ،‬قررت أال‬
‫الض عف ليس إال هراء‪ ،‬المؤمنون الحقيقيون هم من يؤمنون في لحظات القوة‬‫ألج الكنيسة التي يرتادونها‪ .‬اإليمان بالله في لحظات ُ‬
‫‪.‬والنصر‪ .‬إنني أحتمي بالله حينما يعتقد الناس أنني لست في حاجةٍ إليه‬

‫في ذلك الصباح سرت إلى الباحة‪ ،‬متأمل ًا االنحناءات وقد بدت مثل غرف نهاية السور‪ ،‬كانت تتوزع بها القدور‪ ،‬ورماد النار التي‬
‫ردد األمريكيون أن القنصل السويدي اعتاد زيارتهم‪ ،‬يُرسل مع موظفه اللباس وبعض األكل‪،‬‬ ‫أشعلناها باألمس من أجل حساء البرغل‪ .‬ي ُ ّ‬
‫أما حين يتعلق األمر بالمال‪ ،‬فإنّه يأتي بنفسه‪ ،‬يُسل ّمنا نحن والسويديين بعض الرياالت لشراء األحذية‪ ،‬ويدفع لصاحب الحانة التي‬ ‫ّ‬
‫سدون الباب يُقل ّبون التصريح الذي يحمله مساعد‬ ‫كانت في نهاية الرواق مال ًا يجعلنا نتلذذ بالنبيذ كل مساء‪ ،‬ولكن أولئك الحراس ي َ ُّ‬
‫القنصل‪ ،‬ثم يرفضون إدخاله إال بعد رشوة يقدمها‪ ،‬لم يكن الحراس من محبي الخمر‪ ،‬يُحرم دينهم عليهم التلذذ به‪ ،‬وإن فعلوا‬
‫ولحملت السيف‬
‫َ‬ ‫محمديًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سيُحرمون من أنهار الخمر بالجنة التي ُوعدوا بها‪ .‬لعلك يا ديبون لو سمعت هذه األساطير ألصبحت‬
‫وركبت البحر غازي ًا مثلما يفعل هؤالء األتراك‪ .‬أتدري لو كان الحراس يحبون الخمر‪ ،‬لما نعمنا بتلك الرشفات التي ُحرمنا منها منذ‬
‫سؤال انتابني يومها‪ :‬أين قنصلنا نحن الفرنسيين؟ ولماذا ال يزورنا مثلما يفعل القنصل السويدي‪ ،‬على األقل من أجل‬ ‫ٌ‬ ‫أيام‪.‬‬
‫المواساة‪ ،‬ما المجد الذي تملكه هذه األمة حتى تتجاوزنا نحن الفرنسيين؟ ثم أتذكر أنهم لم ينشغلوا بغيرنا في واترلو‪ ،‬وما كانوا‬
‫ليركضوا إال خلف مصالح جديدة مع الملك المتوج‪ .‬قلت هذا في نفسي وأنا أقترب من الصف الذي تشكل بانتظار خبز الصباح‪،‬‬
‫والمناداة التي بدأها الحراس‪ ،‬ثم وضعوا السالسل في أرجلنا‪ ،‬وفُتحت األبواب على إسبرطة اإلفريقية‪ .‬الخروج من السجن الصغير‬
‫اتساع ا‪ ،‬كان األطفال في انتظارنا‪ ،‬ينظرون تجاهنا بعيون كبيرة‪ ،‬يقتفون أثرنا كلما انعطفنا مع سقيفة وولجنا أخرى‪ ،‬ولما‬ ‫ً‬ ‫إلى آخر أكثر‬
‫فر وا على إثره‪ .‬العرب يخشون األتراك بصورة عجيبة‪ ،‬إذ يضطهدونهم مثلما يفعلون مع العبيد‬ ‫حادا ُّ‬
‫ً‬ ‫لحقوا بنا أطلق الحارس زعيقًا‬
‫الذين يأسرونهم‪ ،‬كان صف السجناء العرب في موازاتنا‪ ،‬أسمع وليام من خلفي‪ :‬هم لم يدفعوا ضرائبهم فقط‪ ،‬العرب هنا ال يختلفون‬
‫عن العبيد إال في كونهم مسلمين مثل األتراك‪ ،‬لذا هم ُمستعدون لخيانتهم‪ .‬صمت وليام حين اقترب الحارس أكثر منا يبحث عن‬
‫اتساعا‪ ،‬وأضاف وليام أنه شارع البحر‪ ،‬لم أكن في حاجة لسماعه‪ .‬إذ‬ ‫ً‬ ‫مصدر الصوت‪ ،‬ثم ابتعد لما انعطفنا إلى شارع أكبر وأكثر‬
‫وزع المهام علينا‪ ،‬بينما ساروا بصف األسرى العرب غربًا‪ ،‬حيث مقلع‬ ‫ارتفعت أمامنا بوابة الميناء‪ ،‬ووقفنا هناك ننتظر وكيل الحرج لي ُ ّ‬
‫الرخام‪َ .‬ألِ َف وليام إعالمنا بكل األشياء التي ستحدث‪ ،‬بالرغم من أني تكهنت ببعضها‪ .‬فُتحت البوابة حينها‪ ،‬ورأينا ُضبَّاط البحرية‬
‫يسيرون تجاه ُس فنهم‪ ،‬عماماتهم الضخمة كانت مثيرة للسخرية‪ ،‬حتى تلك التي حملها وكيل الحرج وهو يقف أمامنا‪ ،‬نظر إلينا نحن‬
‫الذين ُأسرنا حديث ًا‪ ،‬وأشار إلى األمريكيين أن يمضوا إلى ورشة األشرعة‪ .‬بعدما فكت قيودنا أمرنا بالمسير إلى حيث ترسو ُّ‬
‫السفن‪،‬‬
‫ضابطا أدركه‪،‬‬
‫ً‬ ‫فهم بضربنا ولكن‬
‫َّ‬ ‫وقف الحارس ي ُراقبنا‪ ،‬ثم صاح بنا ولم نفهم أوامره‪ ،‬وكرر نداءه علينا بينها وقفنا جاهلين سبب ثورته‪،‬‬
‫اقترب منه متسائل ًا‪ ،‬وكل َّمني بفرنسية ركيكة‪ ،‬لكنني فهمت معناها‪ ،‬أراد منا إنزال الحمولة‪ ،‬ثم رحل الضابط بعد صعودنا إلى المركب‪،‬‬
‫نعبئ ِق فاف الملح‪ ،‬وننزل بها من هناك إلى رصيف الميناء‪ ،‬ثم نخطو حتى نبلغ صناديق أعدت لها‪ ،‬لم تكن ال ِقفاف ثقيلة ولكن‬
‫أدعي الضعف‪ ،‬مثلما يفعل‬ ‫ير سقوطي حتى يتلقفني سوطه‪ ،‬كانوا يعتقدون أنني َّ‬ ‫األرض الزلقة أسقطتني مرات عديدة‪ ،‬والحارس ما إن َ‬
‫صعودا إلى‬
‫ً‬ ‫سوطه‬ ‫من‬ ‫وهربت‬ ‫ة‬ ‫ف‬
‫ّ‬ ‫الق‬ ‫حملت‬ ‫‪.‬‬ ‫األشرعة‬ ‫يطوون‬ ‫أو‬ ‫الحبال‪،‬‬ ‫يفكون‬ ‫الكثير‪ ،‬يبحثون عن فرص في ورش أخرى‪ ،‬حيث‬
‫المركب‪ ،‬وعدت بينما جلس على صندوق‪ ،‬كان الصيادون اآلخرون يسيرون في إثري‪ ،‬تعثر أحدهم‪ ،‬وانهمر الملح من قفته إلى ظهري‬
‫واشتعلت النار به‪ ،‬حبست الصراخ في داخلي وأنا أصعد المركب‪ ،‬وهناك انكمشت على نفسي‪ ،‬وتكثف الصوت حتى حال إلى دموع‬
‫‪.‬حارقة طفرت من عيني‪ ،‬وبثقل عدت إلى القمة‪ ،‬ثم أعدت المسير حتى انتهى النهار‬

‫استقبلنا العام الجديد‪ ،‬على مرأى األعالم اإلنجليزية‪ ،‬سرنا ذلك الصباح في تؤدة‪ ،‬وقد مر على مكوثنا بالسجن أكثر من شهر‪ ،‬جربت‬
‫جزء ا من يومياتي‪ ،‬صرت أتقن التصرف مع الحراس حين يرفعون أسواطهم في وجهي‪ ،‬أرشوهم بقطع البوجو‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الخوف حتى أضحى‬
‫ساعات تكفي جسدي الذي ضمر‪ ،‬سرت عبر الرواق إلى الباحة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫استيقظنا ذلك اليوم قبل ساع صوت الكاهن‪ ،‬صار نومي قليل ًا‪ ،‬أربع‬
‫مد يده‬
‫حمدية‪َّ ،‬‬
‫الم ّ‬
‫فرأيت أحد الحراس األتراك في نهايتها‪ ،‬غسل يديه ووجهه ورجليه‪ ،‬ثم وضع أمامه فراشه‪ ،‬وبدا كأنه يمارس صالته ُ‬
‫بكلمات ‪ ،‬وعاد يهمهم بصوت غير مفهوم‪ ،‬وانحنى بعدها وعاد إلى وقوفه‪ ،‬ثم شرع يالمس بوجهه األرض‪ ،‬مرات‬ ‫ٍ‬ ‫إلى السماء‪ ،‬ثم صاح‬
‫المحمدية‬
‫ّ‬ ‫مر ة يزاوج بين الهمهمة والصياح‪ ،‬ثم قام ورفع الفراش‪ ،‬وعاد إلى مجموعته‪ ،‬بدا لي لوهلة أن الصالة‬‫كل ّ‬
‫متوالية‪ ،‬وفي ّ‬
‫ينوب فيها واحد عن الجماعة‪ ،‬إذ لم يكن الحراس ليصلوا معه‪ ،‬وحتّى طريقة صالتهم كانت فيها رتابة وحركات متكررة كأنها تدريب‬
‫خصوص ا إذا ما تكررت في اليوم الواحد‪ .‬لحظات حتى بلغني نداء الكاهن‪ ،‬ينادي عبيده الكاثوليك المخلصين إلى‬ ‫ً‬ ‫على شيء ما‪،‬‬
‫الصالة الصباحية‪ ،‬انكفات إلى الرواق أراقب الصفوف‪ ،‬صاح الحراس على من تجمع في باحة السجن‪ ،‬مشيت تجاههم‪ ،‬ووقفنا مثلما‬
‫أحث عيني لتُراقب أولئك العرب‪ ،‬كانوا مفاتيح على عوالم ُمبهمة‪ ،‬وعالقات غير مبررة بينهم وبين‬ ‫ُّ‬ ‫اعتدنا في الصف الطويل‪،‬‬
‫‪.‬األتراك‬

‫وعل َم المفاوضة يجاور أعالمهم‪ ،‬اعتقدت أن‬


‫في ذلك اليوم وما إن فُتحت بوابة البحر أمامنا حتى رأينا ُسفن اإلنجليز ترسو هناك‪َ ،‬‬
‫تشاؤما مني‪ ،‬همس لي وليام قبل انعطافه إلى ورشة األشرعة‪ :‬هذه ليست زيارته‬ ‫ً‬ ‫الخالص قد اقترب‪ ،‬ولكن األمريكيين كانوا أكثر‬
‫‪.‬األولى‪ ،‬اللورد إكسموث قد جاء من قبل إلى هنا من أجل تحرير العبيد‪ ،‬ولكنهم رفضوا رسو سفينته في الميناء‬

‫في إسبرطة تتغير ُم عاملة العبيد كلما رست سفينة تطالب بهم‪ ،‬بالتأكيد لم يكن األمر لألحسن‪ ،‬بل كانت ضربات السياط تتضاعف‬
‫السفن المسيحية التي‬
‫أمرا من وكيل الحرج‪ ،‬لم يشأ أن نرى ُّ‬ ‫ً‬ ‫مرة أخرى إلى البوابة‪ ،‬كان ذلك‬
‫على أجسادهم‪ ،‬أذكر أنهم عادوا بنا ّ‬
‫جاءت تُ حررنا‪ ،‬قادنا الحراس في الطريق‪ ،‬والشياط تلهبنا كي نسرع‪ ،‬تعثرنا وسقط بعضنا لتتلقفه الركالت‪ ،‬ولكن األشياء التي أثارت‬
‫استغرابي‪ ،‬لماذا هؤالء اإلنجليز هم السباقون إلى االدعاء؟ ألم يكن أولى لسفننا نحن الفرنسيين أن ترسو في ميناء الجزائر تطالب‬
‫بتحريرنا؟ ما الذي اعتقده أولئك اإلنجليز حين تواطأوا علي في أوروبا وأورثوني هزائم واترلو؟! ثم أفاجأ بهم هنا تحريري من عبودية‬
‫!األتراك‬

‫منحدرا ينتهي بجبل‪ ،‬وتراءى لنا الغبار من هناك‪ ،‬أبيض منتشرا في مساحة‬ ‫ً‬ ‫بلغنا باب المدينة من الجهة الغربية‪ ،‬تجاوزناه‪ ،‬ونزلنا‬
‫قطعا كبيرة ذُهلت كيف احتملوا ثقلها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شاسعة‪ ،‬وجدنا العرب هناك‪ ،‬البعض يحمل معاول في يده‪ ،‬ويضرب الصخور‪ ،‬وآخرون يحملون‬
‫ويسيرون بها مسافة غير قصيرة‪ ،‬ويص ّفونها هناك‪ُ ،‬و ِ ّزعنا على المجموعات‪ ،‬رأيت الذين كانوا معي يعجزون عن حملها فتُلهب السياط‬
‫ظهورهم‪ ،‬ويحيط بهم الحراس يرغمونهم على ذلك ولكن ّها أثقل من أن تحتملها أجسادهم‪ ،‬وحين عدت بوجهي رفع العربيان الصخرة‬
‫كتفي ‪ ،‬انحنيت من ثقلها‪ ،‬ثم شعرت بعظامي تتداخل مع بعضها‪ ،‬ولم يسمحا لي بأن أتحرر منها‪ ،‬وبصعوبة َخ َطوت‬ ‫ّ‬ ‫واستقرا بها بين‬
‫َّ‬
‫كثيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫تبتعد‬ ‫لم‬ ‫ها‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫لك‬ ‫الصخرة‬ ‫رمي‬ ‫أردت‬ ‫المواصلة‪،‬‬ ‫أستطع‬ ‫لم‬ ‫ثم‬ ‫تلك‪،‬‬ ‫حالتي‬ ‫على‬ ‫رأوني‬ ‫حين‬ ‫العربيان‬ ‫تراجع‬ ‫‪،‬‬ ‫خطوات‬
‫ٍ‬ ‫ثالث‬
‫أم ا حين أفقت وجدت األمريكي قربي‪ ،‬وكما قيل لي بعدها إن الصخرة قد‬ ‫وسقطت أمامي‪ ،‬ولم أنتبه أنني سقطت إلى جانبها‪ّ ،‬‬
‫وه َرسته‬
‫‪.‬وقَعت على أصبعي َ‬ ‫َ‬

‫أتعرف يا ديبون كم هو حقير هذا العالم الذي تظل تدافع عنه‪ ،‬معارك كثيرة ُخضتها مع نابليون‪ ،‬كسبنا ُجلَّها وخسرنا بعضها‪ ،‬ولم أفقد‬
‫ذراعا في الحرب تيقن أنني لن أحزن‬ ‫ً‬ ‫برر‪ ،‬لو فقدت عينًا أو‬‫جزءا منه دونما ُم ّ‬
‫ً‬ ‫جزءا من جسدي‪ .‬واآلن صخرة في إفريقية تبتر‬ ‫ً‬
‫ستلق في المستشفى اليسوعي الذي يشرف عليه اإلسبان؟‬ ‫فخورا‪ ،‬ولكن قل لي أي مجد هذا الذي جنيته وأنا ُم ٍ‬
‫ً‬ ‫حينها بل سأكون‬
‫لف قدمي‪ ،‬وبقي صديقي األمريكي إلى جانبي‪ ،‬يعيد لي‬ ‫يقف إلى جانبي وليام‪ ،‬ويقابلني الطبيب اإلسباني‪ ،‬الذي غادر بعد أن أعاد ّ َ‬
‫‪.‬تفاصيل الحادث مثلما ُروي له‬

‫ضطرا‬
‫قد تلومني يا ديبون إنني لم أذكر هذه الحكاية من قبل‪ ،‬فلم َأر جدواها‪ .‬مقدار الحجج يكون مؤاتيًا لمقدار أسئلتك‪ ،‬ولست ُم ً‬
‫أن أكشف لك عن كل تشوه في جسدي حتى تقتنع‪ ،‬أردت فقط أن نتفق‪ ،‬ثم اضطررت إلى رواية جزء من سيرتي حتى تقتنع‪،‬‬
‫‪.‬ولكنك ظللت أسير أوهامك‬

‫كان اإلنجليز سيكسبون مزية واحدة إن هم حررونا من ربوة القراصنة‪ .‬ولكن صديقي األمريكي قال إنهم رحلوا‪ .‬ولم يعد هناك أي‬
‫مرة أخرى‪ .‬زارنا القنصل السويدي‪ ،‬حمل‬
‫شيء يلوح في األفق‪ .‬بعد أن مر على مكوني أيام بالمستشفى‪ ،‬تم اقتيادي إلى السجن ّ‬
‫وخص ني دونهم بزجاجة من النبيذ اشتممت رائحتها من بعيد‪ ،‬رغم العفونة التي تتمدد في‬
‫َّ‬ ‫وحذاء جديدين‪ ،‬وللبقية كذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫لباسا‬
‫ً‬ ‫إلي‬
‫َّ‬
‫إلي ‪ ،‬ثم وضعتها بيني وبين الذين قاسموني الغرفة‪ .‬احتميت بالكأس التي شربتها‪ ،‬وما زودنا به صاحب‬
‫َّ‬ ‫السجن‪ ،‬احتضنتها حين مدها‬
‫‪.‬الحانة احتفال ًا بعودتي جعل ليلتي مختلفة‪ ،‬كأنما ُس ّربت من أيام االنتصارات‪ ،‬قبل أن نكتشف شيًئا اسمه هزيمة واترلو‬

‫عدت إلى السجن بعد أسبوع من الغياب‪ ،‬أتأمل جدرانه كل يوم‪ ،‬ما إن ُأفق حتى ينتابني الدوار ويُغمى علي‪ .‬يحاول الحراس‬
‫تحريكي بأرجلهم‪ ،‬ثم تمتد أيديهم فتسحب جسدي‪ ،‬وُأفيق دون قدرة على الحراك‪ ،‬وفي اليوم األخير حضر الضابط إلى العنبر‪ ،‬وأمرهم‬
‫بوضعي مع العاجزين عن األعمال الشاقة‪ .‬ومضى شهر قضيته بين المعتوهين والشيوخ‪ ،‬وأولئك الذين حملوا تشوهات في أجسادهم‪.‬‬
‫الس فن بعد تفكيكها‪ ،‬هناك رثيت المركب الذي قدمنا به‪ ،‬وأنا أتهجى الحروف المتبقية‬ ‫سحاب ُة النهار ن َ ُّ‬
‫فك بها الحبال‪ ،‬ونرتّب ألواح ُّ‬
‫عبيدا حملوا األلواح إلى المواقد‪ ،‬سيُحرق المركب‬
‫ً‬ ‫الحراس‬ ‫نادي‬ ‫ترتيبها‪،‬‬ ‫من‬ ‫انتهيت‬ ‫وحين‬ ‫مفككة‪،‬‬ ‫كانت‬ ‫اللوح‪،‬‬ ‫من اسمه على‬
‫الذي جال المتوسط سنوات‪ ،‬يحمل الرنكة إلى سات‪ ،‬وقد كان ملجًأ لي بعد الهزيمة‪ .‬بخيبة عدت إلى الحبال أحلها وأحدق تجاه‬
‫يوما ما‪ .‬ثم سخرت من نفسي‪ ،‬لطالما كان قُنصلهم في المدينة لكنه لم يفكر في زيارتنا‪ .‬السويديون‬ ‫ً‬ ‫البحر‪ ،‬ربما قد يأتي الفرنسيون‬
‫كانوا أشرف منا‪ ،‬وقنصلهم أكثر شجاعة من قنصلنا‪ ،‬لم نفتقده‪ ،‬عامل الحانة يُذك ّرنا كل ليلة بصنيعه‪ ،‬كؤوس النبيذ تُعيد الحياة إلينا‬
‫وشك أن نفقدها نهاية كل يوم‬ ‫‪.‬حينها ن ُ ِ‬

‫كانت لحظات الوعي تُفيقني بين الحين واآلخر‪ ،‬مثل رؤيا ُم رعبة‪ ،‬وأتساءل كأنني أكتشف الحقيقة للمرة األولى‪ .‬كافيار ما الذي‬
‫حدق إلى وجوه البائسين حولي‪ ،‬ثم أتأمل الثياب الرثَّة التي على جلدي‪ ،‬يداي لم تعودا مثل السابق‪ ،‬رجالي أضحتا‬ ‫تفعله هنا؟ ُأ ِ ّ‬
‫مقوستين‪ ،‬صدري عظامه ناتئة‪ ،‬وجهي الذي أنكرته حينما رأيته على صفحة الماء‪ ،‬وصوتي كأنه قادم من بئر عميقة‪ ،‬ما الذي تفعله‬
‫في هذا العالم يا كافيار؟ هل أنا في كابوس مرعب‪ ،‬قد أفيق منه في لحظة ما؟ لم أكن ألصدق نفسي وُأكذب الوجوه التي كانت‬
‫المقبل نحوي‪ ،‬ولكنّه كان حينها إلى‬
‫حد ُق بي‪ ،‬محاولة أن تفهم سبب وقوفي عند الصخور‪ ،‬مثلما كانوا يريدون تحذيري من الحارس ُ‬ ‫تُ ِ ّ‬
‫أرضا‪ ،‬ثم عدت إلى مكاني أفك الحبل الذي ال يريد أن ينتهي‬ ‫ً‬ ‫‪.‬جانبي‪ ،‬وبركلة منه سقطت‬

‫وأسر لي‪ :‬إنهم عائدون ال‬


‫َّ‬ ‫حتما‪ ،‬وقف وليام إلى جانبي‬‫ً‬ ‫لم أفهم سبب تغير موقف األمريكيين إذ جزموا أن سفينة اللورد ستعود‬
‫حرم االسترقاق‪ ،‬والفرنسيون‬ ‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫قانون‬ ‫لترسيم‬ ‫األوروبيين‬ ‫يرشون‬ ‫محالة يا كافيار‪ ،‬نَقَ ل عن القنصل السويدي حوادث غابت عني‪ ،‬اإلنجليز‬
‫يُماطلون‪ ،‬يبحثون عن سنوات أخرى‪ .‬بهذا تكل ّم وليام ثم أردف ‪ :‬ال يتعلق األمر بالرق فقط‪ ،‬بل بالقرصنة كذلك‪ .‬كانت كلماته‬
‫صمت وهم يكيلون المدائح للورد إكسموث‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫تبعث في نفسي الشجاعة‪ ،‬ثم تخبو‪ ،‬اإلنجليز هم اإلنجليز‪ ،‬هم سبب الهزيمة كلها‪.‬‬
‫ودرجت على ذلك كلما أعادوا سيرته‪ ،‬وفعل ًا لم يخيب اإلنجليز ظنهم‪ ،‬فلم يمض زمن طويل حتى فوجئنا باألسطول على مشارف‬
‫‪.‬المدينة‬

‫كبيرا‪ ،‬ولم تبق هناك أمكنة نستظل تحتها‪ .‬وابتدأ اليوم بصباح‬ ‫ً‬ ‫جهدا‬
‫ً‬ ‫سير خطوات قليلة يتطلب‬ ‫ُ‬ ‫في تلك األيام كنا نَهبًا لشمس أوت‪،‬‬
‫مختلف‪ ،‬أكثر لطفً ا‪ ،‬وسرنا مثلما اعتدنا تحت نظرات الحراس‪ .‬عبرنا الشوارع حتى كنا عند بوابة الميناء‪ ،‬ولجناها بعد أوامر وكيل‬
‫الحرج‪ ،‬وقد سمعنا في اليوم الذي سبقه دوي المدافع‪ ،‬تكهنا وصول وار جدد‪ ،‬ولكن األمريكيين كانوا واثقين أنه اللورد إكسموث‪.‬‬
‫كانت أشغال الميناء تسير على عادتها‪ ،‬وكأنه لم يكن هناك أسطول على مشارف المدينة‪ ،‬وقبل منتصف النهار بقليل تراءت لنا‬
‫بارجة عظيمة تنفصل عن األسطول وتتقدم تجاه الميناء‪ ،‬ترفع علم المفاوضة ولكنّها لم تبلغ الرصيف‪ .‬بل أرسلت تجاهه مركبًا‪،‬‬
‫السفن‪ ،‬إذن‬‫علما آخر يرفرف على بقية ُّ‬ ‫ً‬ ‫وبقيت مكانها ساعة ثم التحق بها بقية األسطول وكأنه يستعد للهجوم‪ .‬من هناك رأيت‬
‫أيض ا قرروا االنضمام لهذه الحملة‪ ،‬قالها لي صديقي األمريكي وشككت أن يتجرؤوا على فعلها‪ .‬لبثوا حتى جاوزوا الزوال‬ ‫ً‬ ‫الهولنديون‬
‫بساعتين‪ ،‬وإذ ذلك تقدمت البارجة وتبعتها سفينتان‪ ،‬وتركت بينها وبين األسطول مسافة‪ ،‬وكلما تقدمت كانوا في إثرها‪ .‬ومن الجهة‬
‫عمت الفوضى الميناء‪ ،‬ولم ننتبه إال على ضربات‬ ‫َّ‬ ‫السفن األولى‪ ،‬وفي هذه اللحظة‬ ‫الثانية رأينا بارجة أخرى تدنو أكثر في موازاة ُّ‬
‫الحراس يخرجوننا منه‪ ،‬كانوا يهرعون في كل مكان‪ .‬ثم أقبل على باب الميناء جنود آخرون‪ ،‬خلَّفوا فناجينهم وغاليينهم وأسرعوا‬
‫نحو المدافع‪ .‬وحين كنا أمام بوابة الميناء سمعنا دوي ًا من المدافع التي تحصن المدينة‪ .‬قدرت أنها الثالثة عندما انفجر الدرب‬
‫تمر إال نصف ساعة حتى توقفت مدفعية الميناء‪ ،‬ورأيت بعض جنودها يركضون‬ ‫َّ‬ ‫السفن اإلنجليزية‪ ،‬ولم‬ ‫أمامنا‪ ،‬وانهمرت القذائف من ُّ‬
‫ومرات أخرى نلج سقائف لم نعبرها من قبل‪ ،‬غير أنها تُعيدنا إلى‬ ‫ّ‬ ‫السجن‬ ‫طريق‬ ‫لنا‬ ‫تبدو‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫أحيا‬ ‫في إثرنا‪ ،‬بينما ركضنا دون وجهة‪،‬‬
‫درب السجن‪ ،‬القذائف تُتساقط من ورائنا وأمامنا‪ ،‬وبدا أننا لن ننجو من هؤالء اإلنجليز‪ ،‬القذائف نفسها التي ُرمينا بها في واترلو‬
‫وأبادت أفضل جنودنا‪ .‬انفجرت قذيفة غير بعيدة عني‪ ،‬أصابت الجدار فانهد فوق حارسنا‪ ،‬سود ولم ألتفت إليه‪ ،‬يستحق الموت‬
‫هكذا‪ .‬بلغنا البوابة المشرعة‪ ،‬ولم ندر أي فائدة قد نجنيها من بقائنا هناك‪ ،‬سهل ًا أسواره فوقنا‪ ،‬ومع هذا ولجناه‪ ،‬وتناهت إلينا أصوات‬
‫القذائف تساقط على المدينة‪ .‬كنا ن َ ِق ف ثم نقعد ونحاول رؤيتها من باحة السجن‪ ،‬لكننا نخشى أن تسقط فوقنا‪ ،‬ومرت الساعة األولى‬
‫حادا تبعه انفجار‪ ،‬حنينا رؤوسنا وتمددنا على األرض‪ ،‬وحين زال الغبار‬ ‫ً‬ ‫والثانية ومازالت المدافع ترمي من الجهتين‪ .‬ثم سمعنا صوتًا‬
‫تتحول إلى شظايا‪ .‬قام بعض السجناء‬ ‫ّ‬ ‫البوابة‬ ‫ورأينا‬ ‫انفجار‪،‬‬ ‫تاله‬ ‫آخر‬ ‫صوت‬
‫ٌ‬ ‫رأينا حائط السجن الشمالي قد انهار نصفه‪ ،‬ثم تعالى‬
‫غرفنا‪ ،‬دامت همهمة الصالة والظالم يهوي على المدينة فنرى‬ ‫وشك ّلوا مجموعة تقدمهم الكاهن وشرعوا يُصلُّون كي تبتعد القذائف عن ُ‬
‫أما بعد ساعتين صار يُسمع بين‬ ‫نت أنها التاسعة‪ ،‬حين تضاءل الدوي‪ّ ،‬‬ ‫ضوء القذائف في السماء‪ ،‬ثم تحدث دويًا تهت ّز له األرض ‪َ .‬خ ّ َم ُ‬
‫ّلت وصديقي األمريكي إلى بقايا السور وتسل ّقناه‪ ،‬ومن هناك رأيت جبل ًا من النار‬ ‫فترات متباعدة‪ ،‬ثم توقف في منتصف الليل‪ .‬تسل ُ‬
‫‪.‬يرتفع في الميناء‪ ،‬وتيقنت من حينها أن أسطول اإلسبرطيين قد احترق كله‬

‫السفن‪،‬‬
‫مع الفجر وصل مزي ٌد من الحراس‪ ،‬وضعوا القيود في أيدينا فقط‪ ،‬وساروا بنا إلى الميناء‪ ،‬مازالت النار ُمشتعلة في بعض ُّ‬
‫رماد ا‪ ،‬وحين رفعت رأسي تجاه أعالي المدينة رأيت الدخان يصعد منها‪ ،‬جزء كبير من المدينة قد تحطم‪ .‬اختبأ‬ ‫ً‬ ‫وأضحت البقية كلها‬
‫أن الفرنسيين هم من فعل ذلك‪ ،‬وهم‬ ‫الناس في بيوتهم‪ ،‬ولم يعد هناك سوى الجنود يجرون مثل مجانين بين الشوارع‪ .‬تمنيت لو ّ‬
‫أعوام ا طويلة‪ .‬كان وليام يقف إلى جانبي عندما قال‪ :‬سيفاوضون اآلن‪ .‬وأمر‬ ‫ً‬ ‫من حمل هذا الشرف الذي سيتباهى به اإلنجليز‬
‫األتراك جنودهم بجلب األسرى إلى الميناء‪ .‬ساعة مكثناها هناك‪ ،‬قبل رحيلنا أعطوا كلًّا منا ب ّزتين‪ ،‬وقطعة من الجبن‪ ،‬حملناها وسرنا‬
‫تحت عيون الحراس شرقًا‪ ،‬ومضينا على تلك الحال ساعتين حتى أشرفنا على الخليج‪ ،‬وعبرت إليه قافلة األسرى في طي ُمسرعة‪.‬‬
‫كان الكل ينتظر تلك اللحظة التي يضع فيها قدميه على سطح السفينة اإلنجليزية أو الهولندية‪ .‬وانتظرنا إلى أن تراءت في األفق‬
‫‪:‬السفينتان‪ ،‬اقتربنا أكثر من الخليج وأرسلت قواربها‪ ،‬وشرعت في تحميل األسرى إليها‪ ،‬ووقف القنصل إلى جانبي ثم قال‬

‫‪.‬قد ُألغي استرقاق المسيحيين يا سيد كافيار‪ .‬وها أنتم اليوم أحرار ‪-‬‬

‫تعه د الباشا بتعويض اإلنجليز عن كل خساراتهم‪ ،‬ويعتذر عما بدر منه بصفة رسمية‬
‫ّ‬ ‫‪.‬وقد‬
‫بسخريةٍ‪ ،‬وأجبته‬
‫‪:‬ابتَسمت ُ‬
‫‪.‬أي ذكاء هذا الذي يتقد في أذهان هؤالء اإلنجليز‪ .‬هذه الفرصة ال يمكن تعويضها‪َ ،‬ف َق َد األتراك أسطولهم ‪-‬‬

‫وما الذي تريدهم أن يفعلوه؟ ‪-‬‬

‫‪.‬إذا لم تحتل المدينة لن يتوقفوا عن القرصنة ‪-‬‬

‫‪.‬فعل ًا‪ ،‬إذا لم يفعلوا ذلك سيعود األتراك إلى سيرتهم القديمة‪ ،‬فليست لديهم خيارات أخرى ‪-‬‬

‫ِت في العراء ‪-‬‬ ‫‪.‬ولكن ما العمل اآلن؟؟ أُأه َزم مرة ثانية وأحمل هذا ّ َ‬
‫الدين لإلنجليز ‪ .‬ال لن أعود يا سيدي القنصل ولو ب ُّ‬

‫مضطر ا إلى ذلك يا كافيار‪ ،‬وإذا أردت فإنك رعية سويدي‪ ،‬منذ التقيتك لم أصدق أنك كنت مجرد صياد رنكة ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬لست‬

‫ال يمكن يا ديبون أن ي ُقال كل شيء دفعة واحدة وبتفاصيل أدق‪ ،‬ألنك لم تخبر إسبرطة كفاية‪ ،‬أو لعل الكتب أفسدتك‪ .‬الكتب‬
‫أفكارا ال وجود لها عن الحياة‪ ،‬تَخلق منهم كائنات ال تُحسن إال الكالم‪ ،‬وأخشى أن تكون من بينهم‪ ،‬تقرأ‬
‫ً‬ ‫أحيانًا تزرع في الناس‬
‫الم ور ثم تأتي لتلقي المحاضرات‪ ،‬أو تتصفح اإلنجيل ثم تهذي أمامي بما فهمته‪ .‬هذه المدينة التي يسمونها‬
‫عن الشرق وعن ُ‬
‫‪.‬الجزائر‪ ،‬لم تكن إال إسبرطة‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬ابن ميّار‬

‫‪...‬اآلن فقط أصبح البحر آمنًا‬

‫إلي ُجملة الضابط‪ ،‬بينما كنت عند حافة السفينة أراقب البحر‪ ،‬لم ألتفت لكنه دنا أكثر مني‪ ،‬وقال‬
‫َّ‬ ‫‪:‬تناهت‬

‫لرجل مثلك بالسفر إلى أوروبا؟؟ ‪-‬‬


‫ٍ‬ ‫ما الذي يجعلهم يسمحون‬

‫للدوق روفيغو أو لرجل يتبعه‪ .‬قلت في نفسي‪ :‬ولكنّه قد رحل‪ .‬ثم عدت وهمست‪ :‬لم‬ ‫التفت إليه فجأة‪ ،‬إذ لم يكن الخطاب إال ُّ‬ ‫ُّ‬
‫الضابط‪ ،‬بدا لي مألوفًا‪ ،‬لحظات من االستغراق أستعيده بها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫واحدا‪ .‬بل كان فكرة يشترك فيها الكثير‪ .‬تأملت وجه‬ ‫ً‬ ‫الدوق رجل ًا‬
‫يكن ُّ‬
‫مر ت‪ ،‬أعادني وجهه إلى األيام األولى من لقائي بورمون‪ ،‬كان ال يفارقه في أيامه األولى‪ ،‬وتذكرت عينيه‬ ‫رغم السنوات الثالث التي ّ‬
‫وسك ّان المدينة‪ ،‬وافق‬
‫ُ‬ ‫الباشا‬ ‫مطالب‬ ‫أمامه‬ ‫وبسطنا‬ ‫الحملة‪،‬‬ ‫قائد‬ ‫إلى‬ ‫الخزناجي‬ ‫مع‬ ‫سرنا‬ ‫يوم‬ ‫وميمون‪،‬‬ ‫اللتين كانتا تترصدانني‪ ،‬أنا‬
‫حدق بي مستغربًا سهومي‪ ،‬ثم‬ ‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫يزال‬ ‫ال‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬‫المدينة‬ ‫في‬ ‫عثمان‬ ‫بني‬ ‫من‬ ‫أحد‬ ‫إبقاء‬ ‫يرد‬ ‫لم‬ ‫توقيعه‪،‬‬ ‫يؤجل‬ ‫عليها‪ ،‬وكان الصابط‬
‫‪:‬أردف‬

‫!أستغرب يا ابن ميّار أنك ما زلت هنا‪ ،‬بعد رحيل كل الذين تواليهم عن المدينة‪ ،‬أتصدق فعل ًا أنهم عائدون؟ ‪-‬‬

‫كبيرا على‬‫ً‬ ‫السلطان َّ‬


‫ظل‬ ‫عظ م لن ينسى المحروسة‪ ،‬حتى وإن شد الباشوات في أحالم االنفصال‪ .‬ولكن ُّ‬ ‫الم ّ َ‬
‫السلطان ُ‬
‫دائما بأن ُّ‬
‫ً‬ ‫آمنت‬
‫الدوام‪ ،‬يُرسل لهم قفطان الباشوية‪ ،‬وفرمان الحكم‪ ،‬عند تول ّي أي باشا جديد‪ .‬كنت موقنًا على الدوام بأن المساعي التي تكل ّفها‬
‫مرة‪ ،‬بل حدقت به‪ ،‬ثم‬ ‫كل ّ‬ ‫سفير السلطان في باريس ال بد تأتي بشار‪ .‬لذا لم أبد انكساراتي للضابط مثلما كان يلمها الذوق روفيغو ّ‬
‫‪:‬قلت‬

‫‪.‬لن تكون المحروسة إال لنا نحن أهلها ‪-‬‬

‫‪.‬ولكنّها دونكم يا سيد ابن ميّار ‪-‬‬

‫‪.‬يبدو لك ذلك ‪-‬‬

‫‪.‬أحالم يقظة‪ ،‬ستصحو منها في باريس ‪-‬‬


‫خياالت قديمة‪ ،‬يداي كانتا تالمسان حافة‬
‫ٌ‬ ‫ردد الضابط كلماته ومال إلى قُمرته‪ ،‬وعدت بوجهي إلى البحر‪ ،‬كلما تطل ّعت إليه تعودني‬ ‫َّ‬
‫رجلي على الحافة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السفينة‪ ،‬أحاول التمدد أكثر ألرى البحر‪ ،‬ولكن الطفل الذي ك ُنته ال يكاد يبلغها‪ ،‬ثم تمتد يدان تحمالنني‪ ،‬وتضعان‬
‫وأهتف مناديًا على المحروسة حين يغيب بياضها‪ ،‬يُنزلني أبي من هناك‪ ،‬وأسمع رطانته مع قبطان السفينة اإلنجليزية‪ ،‬فال أعي منها‬
‫المعظم‬
‫َّ‬ ‫صرون على حمل هدايانا بسفينتهم إلى السلطان‬ ‫حرفًا‪ ،‬يكرر أبي على مسامعي‪ :‬هؤالء اإلنجليز هم أصدقاء الباشا‪ ،‬لذا ي ُ ّ‬
‫بإسطنبول‪ .‬ثم يستطرد في حكاياته عن بني عثمان‪ ،‬وعن ملو ٍك مألوا األرض عدل ًا‪ ،‬والطفل الذي ك ُنته تتعبأ ذاكرته بهم‪ ،‬ثم أضحى‬
‫السل ّاوي لبني عثمان‪ ،‬إذ لم تُقطع‬
‫الوجدان كله يميل إلى تلك المدينة شرق المتوسط‪ ،‬ولم أكن ألستوعب مقدار الكراهية التي حملها ّ‬
‫ُطعت على ميمون‪ ،‬ولم يكن من بين أهله من ُأودع السجن‪ ،‬أو طارده اليولداش‪ .‬رغبته الجامحة تريده أن‬ ‫مصالحه معهم‪ ،‬مثلما ق َ‬
‫أفكار ا هو الوحيد الذي آمن بها‪ ،‬وأراد إيهام الناس بها‪ ،‬ولكنهم ظلوا أكثر تعقلًّا منه‪ .‬بالرغم من‬‫ً‬ ‫يُغيِّر كل األشياء التي حوله‪ ،‬يعتنق‬
‫السل ّاوي إال أنه كان أقرب الناس إلى نفسي‪ ،‬مثلما كنت أكثر من والد بالنسبة إليه‬ ‫‪.‬كل المساوئ التي حملها ّ‬
‫سعيدا بالذين من حوله‪ ،‬لوال أن‬
‫ً‬ ‫تتجدد كل حين‪ ،‬يوم جلس الباشا‬
‫َّ‬ ‫وصور‬
‫ٌ‬ ‫غابت المحروسة منذ يومين‪ ،‬وال أرى غير امتداد الزرقة‪،‬‬
‫األيام جعلت من حاالت سوء التقدير مآل ًا لموت الكثيرين‪ .‬وبعد هذه السنوات‪ ،‬يتجل ّى لي اآلن كيف كان موت اآلغا يحيى بداي ًة‬
‫وهمَ بقتل أفضل آغوات المحروسة‪ ،‬ظل رأيي‬ ‫ّ‬ ‫النحدار المحروسة‪ .‬اعتاد الباشا استشارتي‪ ،‬لكنه لم يلتفت لكالمي في ذلك اليوم‪،‬‬
‫وفر اآلغا إبراهيم من ُمعسكره‪ .‬أتذكر أنني قلت له حينها‪ :‬لو كان اآلغا يحيى هنا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫معلقًا إلى اليوم الذي دخل فيه الفرنسيون‪.‬‬
‫بناه‬
‫ُ‬ ‫‪.‬لما حدث كل هذا‪ .‬نحن ال نواجههم إال بما‬

‫وندم ا على قتله اآلغا‪ ،‬ولم يسعفني الزمان وال المكان‪ ،‬كنت أعدت له سيرة المقتول‪ ،‬وكيف‬
‫ً‬ ‫صمت الباشا يومها‪ ،‬كان أكثر حزنًا‬
‫‪.‬غرروا به حتى ِسيق إلى نفيه بمدينة البليدة‪ ،‬ثم ُخنق ليل ًا بها‬

‫العربان التي تتمرد على الباشا‪ .‬عند‬


‫صادقت يحيى منذ توليه منصب آغا على الجيش‪ ،‬كنت ألتقيه كلما عاد من رحالته لتأديب ُ‬
‫أطراف المدينة ينصب خيامه ‪ .‬ال بد للجيش المنتصر وقائده أن يقابلوا الباشا في ُحلل زاهية‪ ،‬هكذا كان يردد يحيى الذي لم يخرج‬
‫أن‬
‫الكل في المحروسة كان يوقره ويحترمه‪ ،‬ورغم محبة الناس له‪ ،‬إال ّ‬ ‫ُّ‬ ‫انتصارا‪ ،‬ولم يُكلَّف بمهمة إال ّ َ‬
‫وأداها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في حرب إال وحقق فيها‬
‫منتصرا‪ ،‬وحينها‬
‫ً‬ ‫وعاد‬ ‫حربه‪،‬‬ ‫على‬ ‫الباي‬ ‫عين‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫قسنطينة‬ ‫إلى‬ ‫بجيشه‬ ‫غادر‬ ‫منذ‬ ‫عليه‬ ‫صدره‬ ‫وغرون‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ظلوا‬ ‫الباشا‪،‬‬ ‫الوشاة سعوا بينه وبين‬
‫اختلى به الباشا أنكر أنه تلقى أية هدايا من باي قسنطينة‪ ،‬فقابله الباشا بالباي حين زار المحروسة‪ ،‬واستمر اآلغا في إنكاره‪،‬‬
‫وتجهم حين نُشرت أمامه الرسائل التي تبادلها مع الباي‪ ،‬وقد ُد ُّونت عليها تفاصيل كل شيء‪ .‬كان الباشا غاضبًا حانقًا على كذب‬ ‫َّ‬
‫آغاه وصديقه‪ ،‬فأمر بعزله ونفيه إلى البليدة‪ .‬ثم عيَّن صهره إبراهيم آغا على الجيش‪ ،‬وشرعت أتوسط له‪ ،‬وأستحلف الباشا بكل ما‬
‫هو عزيز عليه‪ ،‬ولكن ّه رمقني بنظرة لم أعهدها فيه‪ ،‬فانسحبت أنتظر ساعة صفائه ألعيد شفاعتي لآلغا‪ .‬ولم تحن الساعة إال بعد‬
‫‪.‬أن انتشرت شائعات بموته‬

‫السفن المحاصرة تزداد كل يوم‬ ‫مهزوما‪ ،‬وأنا أرى ُّ‬


‫ً‬ ‫قصدت الباشا أتأكد من صحة الخبر‪ ،‬فوجدته يأخذ قيلولته‪ ،‬وهكذا عدت إلى ضيعتي‬
‫دائما‬
‫ً‬ ‫سورا إلى التي شيدها يحيي آغا‪ .‬صحيح أن يحيى كذب على الباشا‪ ،‬ولكنّه كان‬ ‫ً‬ ‫سفينة‪ ،‬بينما إبراهيم آغا لم يُضف حجر ًة أو‬
‫‪.‬قائدا محنك ًا في عيون أهالي المحروسة‬
‫ً‬

‫يظل أهل المحروسة يرددون في يأس‪ :‬لو كان اآلغا يحيى هنا‪ ،‬لما حدث ما حدث‪ .‬أتذكر كلماتهم اآلن‪ ،‬وأنا ُأخ ِل ّف المحروسة‬
‫السفن‬
‫ورائي‪ ،‬وأعيد كالمهم اآلن‪ ،‬وكأنني كنت مشارك ًا في نكبته‪ ،‬نعم هذا ما حدث‪ .‬كانت األخبار تأتينا‪ :‬قد سيروا مئات ُّ‬
‫فتح عظيم‪ .‬واآلغا إبراهيم يرتشف‬ ‫ٍ‬ ‫ولي العهد يطوف بصفوفهم‪ ،‬يخطب فيهم أنهم مقبلون على‬
‫ُّ‬ ‫تعج بجنودهم‪...‬‬‫ّ‬ ‫تجاهنا‪ ...‬طولون‬
‫قهوته في بيته‪ ،‬ويحشو غليونه بالتبغ كلما خبا‪ .‬وظل يردد‪ :‬إنهم يا ابن ميّار لن يجرؤوا على النزول إلى األرض‪ ،‬وإن نزلوا‬
‫سننتهي منهم في يومين أو ثالثة‪ .‬وقبلها زار المحروسة رسول الباب العالي‪ ،‬ومن ثم رسول الباشا محمد علي‪ ،‬محاولين اإلصالح‪،‬‬
‫رافض ا عودة القنصل الذي أهانه في مجلسه‪ .‬كنت هناك يومها‪ ،‬اكتظ المجلس بالذين يهنئون الباشا بالعيد‪ ،‬قناصلة‬
‫ً‬ ‫ولكن الباشا ظل‬
‫توزَعوا في البهو‪ ،‬ينتظرون أدوارهم‪ ،‬ثم أقبل القنصل الفرنسي دوفال‪ ،‬تقدم بخطوات وهنأ الباشا‪ ،‬فرد التهنئة ثم سأله‬
‫ّ‬ ‫‪:‬عديدون‬

‫لماذا تأخر ملككم في إيفاء الديون‪ ،‬ولماذا ال يجيب عن رسائلي العديدة؟ ‪-‬‬

‫‪:‬تفوه القنصل بها أدهش الجميع‬

‫شخص مثلكم ‪-‬‬


‫ٍ‬ ‫‪.‬الملك في باريس ال يلتفت إلى‬

‫لكن الحراس‬
‫ّ‬ ‫بسل سيفه‬
‫ِّ‬ ‫ولم ينتبه الباشا إلى نفسه إال وهو يقف‪ ،‬ومن ثم يضرب القنصل بالمروحة التي كانت بيده‪ ،‬ف ََه ّمَ القُنصل‬
‫قرر الباشا قتله‪ ،‬ولكنّه اكتفى بطرده من مجلسه‪ ،‬خرج القُنصل غاضبًا‪ ،‬ولبث في إقامته‪ ،‬ولم يمض إال شهر واحد حتى‬ ‫قبضوا عليه‪َ ّ .‬‬
‫سفن فرنسية‪ ،‬رست في ميناء المحروسة‪ ،‬والتحق بها القُنصل في اليوم الموالي‪ ،‬ومن هناك وصلت الرسالة إلى الباشا‬ ‫ٍ‬ ‫‪:‬رأينا أربع‬

‫عليكم بتجديد عهد األمان لقنصلنا‪ ،‬وأرسلوا أعيان المدينة ليعتذروا لل ُقنصل المرابط بالسفينة‪ ،‬وإذا لم يتحقق هذا فليست لكم منا إال«‬
‫‪».‬العداوة‬

‫‪:‬وعندما قرأ الباشا الرسالة ضج بها‪ ،‬وأملى على كاتبه‬

‫‪».‬لم يجبره أحد على مغادرة المدينة‪ ،‬وإن شاء فليعد إليها‪ ،‬أو يفعل ما بدا له«‬
‫السفن الميناء آخذة القنصل معها‬
‫‪.‬ولم يمض إال وقت قصير بعد تسلمهم الرسالة‪ ،‬حتى غادرت ُّ‬

‫شخصا يُغيِّر لونه حسب ما تقتضيه‬‫ً‬ ‫الكل كان يعرف ال ُقنصل‪ ،‬حتى من الفرنسيين‪ ،‬يُجمعون على وقاحته وسوء طبعه‪ ،‬ورآه الباشا‬
‫الخاص ة‪ .‬ومنذ أضحى حسين باشا على الجزائر انشغل بقضية ديون الفرنسيين‪ .‬في البدء كانت بين اليهوديَّيْن والفرنسيين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مصالحه‬
‫جزء ا من الديون كان لخزينة المدينة لجأ اليهوديان إليه ليستخلصها لهما‪ ،‬ثم فوجئ بأنه ليس وحده الذي يطالبهما‪ ،‬بل إن‬ ‫ً‬ ‫وألن‬
‫تجار ا كثيرين من مرسيليا وباريس كانوا يطالبون هم كذلك بديونهم‪ .‬ثم فجأة تأتيه أخبار اقتصاص الحكومة الفرنسية أموال تُجارها من‬ ‫ً‬
‫يظن أنه بدفاعه عنهما يدافع عن حق‬ ‫ُّ‬ ‫أموال اليهوديَّيْن‪ ،‬ثم سلمتهم باقي المال‪ ،‬وأشيع أن القُنصل هو من توسط لهم‪ .‬كان الباشا‬
‫أن يراسل‬
‫فرا إلى باريس‪ ،‬وأضحيا مواطنين فرنسيين‪ .‬ولم يبق للباشا حينها إال ّ‬ ‫أما حين استفاق فقد كان اليهوديان قد ّ َ‬
‫المحروسة‪ّ .‬‬
‫ساخطا على ال ُقنصل حتى أقبل العيد‪ ،‬وحدث ما حدث‬ ‫ً‬ ‫‪.‬الملك‪ ،‬الذي لم يجبه‪ ،‬وبقي على حاله‬

‫‪:‬في اليوم الذي تال رحيل السفينة‪ ،‬أقبل على ديوان الباشا أهل المدينة من الفرنسيين‪ ،‬فخطب فيهم‬

‫‪».‬إذا أردتم الرحيل فلن يمنعكم أحد‪ ،‬وإن بقيتم فلن يمسك ُم سوء‪ ،‬والمحروسة كلها لكم«‬

‫سعيدا وهو يسمع ردهم‬


‫ً‬ ‫‪:‬وكان‬

‫‪.‬إننا ال نريد ال ّ َذهاب‪ ،‬الخطأ خطأ قُنصلنا‪ ،‬وليس خطأكم ‪-‬‬

‫واحدا وبضعة أيام‪ ،‬إذ قدمت سفينة وعادت بهم إلى فرنسا‬
‫ً‬ ‫شهرا‬
‫ً‬ ‫‪.‬ولكنهم لم يلبثوا في المحروسة إال‬

‫التفت عن يميني فلم أر‬ ‫ُ‬ ‫السفينة‪،‬‬


‫ريح خفيفة هبّت‪ ،‬بينما كان الظالم يتمدد عبر زرقة البحر‪ ،‬يداي ال تزاالن تقبضان على حافة ّ َ‬ ‫ٌ‬
‫أحدا‪ ،‬الجميع عادوا إلى غرفهم‪ ،‬فخطوت تجاه غرفتي‪ ،‬آمل ًا أن تغادرني الخواطر‪ ،‬لكنّها ظلت تتكاثف‪ ،‬حتى وأنا متمدد على فراشي‪،‬‬ ‫ً‬
‫وأحلم بغ ٍد مختلف‪ ،‬ال أسمع فيه رطانتهم‪ ،‬سحبت محفظتي حينها‪ ،‬وطفقت أبعثر العرائض حولي‪ ،‬شكايات أهالي المحروسة تتحول‬
‫وتجار أخذت ضياعهم ومتاجرهم‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫وأطفال يُريدون آباءهم‪.‬‬ ‫أمامي إلى حقيقة‪ ،‬نساءٌ يُردن استعادة رجالهم من األتراك الذين ُرحلوا‪.‬‬
‫أوقاف آلت إلى غير وجهتها‪ .‬فملت برأسي على الوسادة‪ ،‬وتجاوزت الباب الذي يفصل الحقيقة عن‬ ‫ٍ‬ ‫وشيوخ المساجد يبكون حال‬
‫مدمة القارئين كانت تتعالى‪ ،‬يرددون سورة الفتح‪ ،‬وآخرون‬ ‫وحيدا‪ ،‬رأيتهم وكأنني خل ّفتهم قبل دقائق‪ ،‬أصوات َد َ‬ ‫ً‬ ‫الحلم‪ ،‬وهناك لم أكن‬
‫السفن‬‫مر حينها على رحيل القُنصل أربعة أشهر‪ ،‬في بداية الخريف‪ ،‬رأينا ُّ‬ ‫بأمر من الباشا‪ .‬كان قد ّ َ‬ ‫ٍ‬ ‫باتوا ليلتهم يقرؤون البخاري‬
‫تصطف عبر امتداد البحر‪ ،‬أشرنا إليه من شرفات قصر الباشا‪ ،‬والمساء يحل على المدينة‪ ،‬سهرنا ليلتها في ِ ّ‬
‫الديوان‪ ،‬نَتَتَبَّع شرح‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ضجيج الناس كان‬ ‫فك الحصار‪ ،‬يه ّزُون رؤوسهم مقتنعين‪ .‬وفي فجر اليوم التالي احتللنا الشرفة ّ‬ ‫لخ ّطته في ّ ِ‬
‫وكيل الحرج ُ‬
‫يصلنا من أسفل المدينة‪ ،‬الكل كان يتر ّقَب خروج الريَّاس ومن معهم لمالقاة المحاصرين‪ .‬لحظات ثم كنا نرى اشتباكهم‪ ،‬وصاح الناس‬
‫تبدد الفن الفرنسية‪ ،‬وعودة أسطول المحروسة‪ ،‬نادى‬ ‫ّ‬ ‫ليفك حصارهم‪ .‬ومن الشرفات طالعنا‬ ‫َّ‬ ‫من أعلى منازلهم يطلبون الغوث من الله‬
‫صف‬‫َّ‬ ‫قصيرا‪ ،‬ورأينا‬
‫ً‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ت‬ ‫وق‬ ‫إال‬ ‫تدم‬ ‫لم‬ ‫الفرحة‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫نصرهم‬ ‫على‬ ‫ارة‬ ‫البح‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يهنئون‬ ‫الميناء‬ ‫إلى‬ ‫الناس بصوت واحد‪ ،‬هل ّلوا وكبّروا‪ ،‬ثم نزلوا‬
‫مر ة أخرى‪ ،‬عددناها من أعلى الشرفات‪ ،‬كانت اثنتا عشرة سفينة‪ ،‬وجهت مدافعها إلى الميناء‪ .‬لكن بعض سفننا انطلقت‬ ‫السفن ّ‬‫ُّ‬
‫ليل ًا‪ ،‬عبر مسالك خفية‪ ،‬خاض ريَّاسها البحر بحث ًا عن سفن التّجارة الفرنسية‪ ،‬يضايقونها كلما التقوها‪ ،‬ويرسون ليل ًا مثلما يغادرون‪،‬‬
‫الص لح‪ ،‬وبعثوا برسولهم‪ ،‬ولكن الباشا رفض شروطه‪ ،‬كانوا يريدون إرسال‬ ‫وحين تكررت المضايقات‪ ،‬لجأت السفن المحاصرة إلى ُّ‬
‫مصرا على توقيع الصلح دون شروط‪ ،‬وهكذا داوم الرسول على مرسى‬ ‫ًّ‬ ‫مبعوثين من أعيان المدينة إلى الملك الفرنسي‪ ،‬وظل الباشا‬
‫عاما آخر‪ ،‬يحمل الشروط نفسها‪ ،‬وظل الباشا متمسك ًا برأيه‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫وإياب‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ذهاب‬ ‫‪.‬المحروسة‬

‫المور‪،‬‬
‫استيقظت وصعدت إلى سطح السفينة‪ ،‬كان البحر ساكن ًا‪ ،‬وعيون المسافرين تحدق تجاه الرجل الغريب‪ ،‬الذي يعتمل لباس ُ‬
‫ويتجول مثلهم على سطح السفينة كأنه ال يراهم‪ .‬وصدقوا لو ظنّوا أني ال أراهم‪ ،‬كانت الصور تترادف فتعيد وجه أبي‪ ،‬عند باب‬ ‫ّ‬
‫ديوان السلطان المعظم في إسطنبول‪ ،‬أصغيت إلى حواره بالعثمانية مع شاوش الباب‪ ،‬فهمت بعض كلماته‪ .‬ثم تجاوز أبي الباب‪،‬‬
‫يتسن لي رؤية‬‫َّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬ولم‬ ‫ُأ‬
‫لكن الباب غلق ساع ًة من ال ّزمن‪ ،‬ثم فُتح ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومن خصاصه رأيته هناك‪ ،‬رغبت لو تكتمل الرؤية‪،‬‬
‫قدر لهما مثلي لقاء جالل ّة‬
‫الرواق نفسه‪ ،‬يُرافقنا تاجران من المحروسة‪ ،‬ولكنّها اجتمعا إلى الوزير‪ ،‬ولم ي ُ ّ َ‬ ‫وعدنا عبر ّ‬ ‫السلطان‪ُ .‬‬
‫ّ‬
‫مكتظ بوجو ٍه‬
‫ٌ‬ ‫الص ور ثم تتراءى‪ ،‬أبي إلى جانب الباشا في مجلسه‪ ،‬دفتره أمامه‪ ،‬يقرأ منه أسماء غريبة‪ ،‬والمجلس‬ ‫السلطان‪ .‬تغيب ّ‬ ‫ّ‬
‫تباع ا‪ ،‬ثم يرطنون بكلمات ال أفهمها‪ ،‬ويقدمون هداياهم إليه ثم يرحلون‪ .‬واليوم‬ ‫ً‬ ‫ليست من المحروسة‪ ،‬يقتربون من الباشا‪ ،‬يقبلون يده‬
‫ردد زوجتي‪ :‬إنهم لن يعيدوا شيًئا‪،‬‬ ‫المور؟ تُ ّ‬
‫أرى هذه الوجوه في المحروسة‪ ،‬تستعيد من أهلها كل ما قدمته للباشا‪ ،‬فما ذنب هؤالء ُ‬
‫قدرك؟ صحيح يا الل ّة سعدية ما تقولين‪ ،‬ربما قسنطينة آمن ٌة‬ ‫والمحروسة لم تعد تسعنا وإياهم‪ِ ،‬ل َم ال نرحل إلى قسنطينة‪ ،‬يُجِ لُّك بَايُها وي ُ ّ‬
‫هم حينها إلى أين‪ ،‬أريد البقاء في المحروسة فقط‪ .‬لم‬ ‫اليوم‪ ،‬ولكن إلى حين فقط‪ ،‬مشكلتي كلها في هذا المكان‪ ،‬وإن غادرته فال ُ ُّ‬
‫ي‬
‫السل ّاوي ليختلف عني‪ ،‬لكنه أرادها مختلفة‪ ،‬أتعجب منه حينها يكرر كلمات القناصلة‪ :‬يا ابن ميّار عليهم التوقف عن اعتراض‬ ‫يكن ّ‬
‫مر ت ثالثة قرون‪ ،‬ولم ترجع األندلس مثلما وعدونا‪ .‬لماذا ال ينشغلون بنا نحن أهل المحروسة‪ ،‬أال تلتفت حولك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫المسيحيين‬ ‫سفن‬
‫الخوف هو ما يُرغم الن ّاس على الهتاف لهم‪ ،‬ال تنجح أمة حياتها في سلب حياة اآلخرين‪ .‬جل سكان المحروسة يعيشون عالة‬
‫كبيرا للمسيحيين‪ ،‬وحتّى ألهلها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الضرائب‪ ،‬فبارت تجارتهم‪ .‬بنو عثمان حولوا هذه المدينة سجنًا‬ ‫على مال األوقاف‪ ،‬والتُجار أرهقتهم ّ َ‬
‫واليوم ال أرى مصانع غير التي تصنع المدافع والبارود‪ ،‬وال مستشفى غير الذي بناه اإلسبان ألسرى المسيحيين‪ .‬وال يوجد في‬
‫المحروسة طبيب‪ .‬أستغرب كيف ال تنتبه وأنت الذي لم تترك مدينة أوروبية إال زرتها‪ ،‬وإسطنبول قد اعتدت التردد عليها كل حين‪،‬‬
‫!لم ال تريد أن تفيق يا صديقي؟‬

‫السل ّاوي بجرأته‪ ،‬وطريقة تأويله للحوادث ‪ .‬ال ألومه‪ ،‬وقد كان ال يزال في بدايته‪ ،‬كل ما في قلبه يتحول إلى حركات بيديه‪،‬‬
‫يُرعبني ّ‬
‫الص غير‪ ،‬أن للتاريخ سطوة في إعادة الحوادث‪ .‬لم يكن إال عجلة تدور‪،‬‬ ‫السياط‪ ،‬ولم يدر بعقله ّ‬
‫وبذاءات على لسانه‪ ،‬تلسع أكثر من ّ‬
‫والسل ّاوي يخاطبني خارجه وكأنه‬
‫ّ‬ ‫الس ير فيها‪ ،‬وتبجيل من يديرها مؤمنين بكل ما يفعله بنا‪ .‬لطالما كان تاريخنا هكذا‪،‬‬
‫وليس لنا إال ّ‬
‫عى حركتها الستمع إليه الجميع‪ ،‬ولكانت أحالمه مفهومة لهم‬
‫‪.‬يرى العجلة وال يعنيه أنه داخلها‪ .‬لو َو َ‬

‫سحرا‪ ،‬ولن يكون انبعاث المحروسة إال من هناك‪،‬‬


‫ً‬ ‫دوما أن لتلك الجهة‬
‫ً‬ ‫السفينة تعلقت عيناي بالشرق‪ ،‬آمنت‬‫حين دنوت من حافة ّ‬
‫السل ّاوي بغير الجنوب جهة تستحق أن‬
‫ّ‬ ‫يؤمن‬ ‫ولم‬ ‫مال‪،‬‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫التطلع‬ ‫عليه‬ ‫ا‬ ‫واحد‬
‫ً‬ ‫ا‬ ‫وجه‬
‫ً‬ ‫للمحروسة‬ ‫أن‬ ‫آمن‬ ‫وخالفني ميمون إذ‬
‫‪.‬يلتفت إليها‬

‫مشهدا ولن يتكرر‪ ،‬رست بميناء‬


‫ً‬ ‫من تلك الجهة‪ ،‬تراءت لي في األفق سفينة بدت بحجم البروفانس‪ ،‬بالتأكيد ليست هي‪ ،‬كان‬
‫السفينة‬
‫ّ‬ ‫قطعت‬ ‫‪.‬‬‫يوان‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫الد‬ ‫فغادر‬ ‫إجابته‪،‬‬ ‫الر سول آلخر مرة بالمطالب نفسها‪ .‬امتنع الباشا عن‬
‫المحروسة تحمل علم المفاوضة‪ ،‬ونزل ّ‬
‫الدوي من مدافع‬‫مسافة في البحر‪ ،‬ولم تسر في اتجاه مستقيم إذ انحرفت وأبحرت بالموازاة مع أسوار المدينة‪ .‬لم أتخيّل أن ّ‬
‫الرؤية‪ ،‬دوي آخر‬
‫الشرفة استجالء ّ‬ ‫السفينة ستكون وخيمة‪ ،‬حاولت من مكاني عند ّ‬ ‫المحروسة‪ ،‬ارتعبت إذ قدرت أن عواقب ضرب ّ‬
‫الس فينة‪ .‬لحظات وتوقف اإلطالق‪ ،‬ثم رأيتها وكأنها تتمايل‪ ،‬دعوت أن تواصل مسيرتها بسالم‪،‬‬ ‫تعالى‪ ،‬ثم رأيت بعضها يضرب جوانب ّ‬
‫الشاوش‬ ‫الديوان‪ ،‬ووجدت الباشا يحوم حول نافورة الماء يستَ ِشيط غضبًا‪ ،‬وينادي على ّ‬‫مسرعا إلى ِّ‬
‫ً‬ ‫وفعل ًا نجت من الغرق‪ .‬نزلت‬
‫ليستعلم له‪ .‬نزل إلى البحرية ولبث زمن ًا ثم عاد يرافقه رئيس المدفعية ووكيل الحرج‪ .‬كان الباشا يصرخ بطريقة غريبة‪ ،‬لم أره‬
‫الديوان ليرسله إلى الملك الفرنسي‬ ‫قرارا بعزلهما‪ ،‬ثم نادى على أحد أعضاء ِ ّ‬
‫ً‬ ‫‪.‬بهذا الغضب من قبل‪ .‬وأصدر‬

‫السلطان تحمل أخطاء عبيده‪ .‬حمل الباشا ِوزر وكيل‬‫تكه ن الحاضرون ذلك اليوم بما سيحدث للمحروسة‪ ،‬مثلما أدركوا أنه على ّ‬ ‫َّ‬
‫الحرج‪ ،‬ورئيس المدفعية‪ .‬وجزم الجميع أنه قد رماها ما إن حملته الفرقاطة جان دارك منفيًا‪ ،‬وأخطؤوا في حق الباشا‪ ،‬فقد ظلت‬
‫حلم ا يراوده حتى بعد نفيه إلى نابولي‪ .‬التقيته بعدها بسنة‪ ،‬وتتابعت رسائله يتمنى فيها العودة إلى المحروسة‪ ،‬مثلما‬
‫ً‬ ‫المحروسة‬
‫‪.‬ظلَّت خيبته من أناس كثيرين من حوله‪ .‬بالتأكيد كان إبراهيم آغا من بينهم‬‫َ‬

‫جنودا‪ ،‬ولكن الوقت لم يسعهم‪ ،‬فلم تمض إال أيام‬ ‫ً‬ ‫قبل شهر من نزول الفرنسيين‪ ،‬كان الباشا قد أرسل إلى العماالت الثّالث يطلب‬
‫الضابط المشرف على قلعة طوري شيكا‪ ،‬وجثا أمام ِ ّ‬
‫الديوان‪ ،‬وقال‪ :‬قد بدأوا اإلنزال‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬قليلة حتى اقتحم المجلس‬

‫انتشر الخبر بين أهالي المحروسة‪ .‬وبدا أنهم يرتقبونه‪ ،‬اجتمعوا قبل أيام‪ ،‬وقسموا أنفسهم إلى كتائب صغيرة‪ .‬رأيتهم يجتمعون عند‬
‫ألودعه‪ ،‬ولكنّه اختفى بين النّاس‪ ،‬وما إن خطوت مساف ًة حتى‬
‫َّ‬ ‫السل ّاوي بينهم‪ ،‬أردت الل ّحاق به‬‫الباب الغربي للمدينة‪ ،‬وبدا لي ّ‬
‫السور ويخطب في النّاس المتجمهرين‪ ،‬ويحصهم على تنظيم أنفسهم‪ ،‬ويأمر المقربين‬ ‫ّ‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫عتلي‬‫م‬‫ُ‬ ‫رأيته‬ ‫التفت فقد‬
‫ُ‬ ‫أما حين‬
‫سمعت صراخه‪ّ ،‬‬
‫الصفوف تنزل المنحدر‪،‬‬
‫الشباب يستجيبون ألوامره‪ ،‬ثم قفز إلى األسفل بينهم‪ ،‬وسارت ّ‬ ‫الصفوف‪ ،‬واختيار من يتقدمها‪ ،‬كان ّ‬ ‫منه بتعديل ّ‬
‫الم قبل نحوي‪ ،‬ثم عبر الموكب أمامي‪ ،‬كانت البغايا يسرن في عجلة‪ ،‬يحملن معهن‬ ‫هممت بالرحيل‪ ،‬لكنني فوجئت بجمع النّساء ُ‬ ‫ُ‬
‫مشدوها أراقبهن وهن يعبرن الباب‪ ،‬ومن ثم وهن‬
‫ً‬ ‫صرر ا وقطع القماش‪ ،‬مررن قربي‪ ،‬وال أثر للزينة والروائح التي اعتدنها‪ .‬وقفت‬ ‫ً‬
‫السل ّاوي‪ .‬قد‬
‫الر جال‪ ،‬وقلت في نفسي‪ :‬البغايا اليوم يحرصن على شرف المحروسة؟ لك أن تفخر اآلن يا صديقي ّ‬ ‫ينحدرن في أثر ّ‬
‫جزء ا من أحالمك‪ .‬ربما سيرحل األتراك‪ ،‬ولكن عليك أن تتساءل‪ ،‬وأنت ترى قافلة البغايا في أثرك‪ :‬إن رحل‬ ‫ً‬ ‫حقق الفرنسيون‬
‫األتراك فمن سيحل محلهم؟‬

‫يجرها حصان‪ ،‬تطل ّعت إلى‬


‫ُ‬ ‫التفت ورأيت عربة‬
‫ُ‬ ‫حملت نفسي وخطوت تجاه القصر‪ ،‬ومع كل خطوة أقطعها تصلني األصوات‪ ،‬ثم‬
‫التاجر‪ ،‬تعبًا وجهه بمالمح غامضة‪ ،‬مزيج من القسوة والفزع‪ ،‬وهو يسحب رسن الحصان بعصبية‪ ،‬وقفت زوجته وأطفاله في الجهة‬
‫األخرى من العربة‪ ،‬ثم مر الجميع أمامي كأنهم ال يرونني‪ .‬حين سارت العربة مسافة‪ ،‬التفت التاجر‪ ،‬وجالت عيناه بالمكان ثم‬
‫بكمه ثم واصل دربه‪ .‬كان األطفال يتشبثون بعضهم ببعض كأنهم سيتوهون في‬ ‫ُ‬ ‫الدموع وانحدرت‪ ،‬مسحها‬ ‫مسحتا جدران بيته‪ ،‬غلبته ّ‬
‫بقوة‪ ،‬أسرعت تجاه‬‫ّ‬ ‫تسحبني‬ ‫كانت‬ ‫أخرى‬ ‫أشياء‬ ‫ولكن‬ ‫‪.‬‬ ‫حيل‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫أمنعهم‬ ‫بالعربة‬ ‫اآلخر‬ ‫أنا‬ ‫ث‬ ‫ّ‬ ‫التشب‬ ‫شوارع المحروسة‪ ،‬أردت‬
‫كلمات وددت قولها للباشا‪ ،‬كنت كأنني أهذي‪ :‬سيدي إنهم قد يئسوا ورحل بعضهم‪ ،‬يجب على اآلغا دفعهم عن‬ ‫ٍ‬ ‫القصر‪ ،‬ولساني يعيد‬
‫الديوان مجتمعين‪ ،‬ولكن اآلغا إبراهيم لم يكن بينهم‪ .‬ولم أتمالك‬ ‫الساحة وكان أعضاء ِ ّ‬ ‫المدينة‪ .‬وعبرت باب القصر‪ ،‬ثم تجاوزت ّ‬
‫جميعا‬
‫ً‬ ‫الطريق‪ ،‬سمعت ردودهم‬
‫‪:‬نفسي إذ هذيت بالكلمات التي كررتها في ّ‬
‫‪.‬اآلغا قد سار إلى معسكره في سطاوالي‪ ،‬ولم يصحبه إال قليل من الجنود‪ ،‬وثالثمائة فارس ‪-‬‬

‫السقوط‪ ،‬ثم استعدت نفسي وعال صوتي‬


‫‪:‬أوشكت على ّ‬
‫ولكن أين البقية‪ ،‬ألم يصل الجنود من العماالت الثّالث‪ ،‬ألم يُرسل باي وهران أو قسنطينة أو حتى أقربهم باي التيطري الجنود‪- ،‬‬
‫ألم يقل إنّه سيرسل عشرين ألف جندي؟‬

‫‪:‬رد أحد أعضاء ِ ّ‬


‫الديوان‬

‫‪.‬باي التيطري لم يرسل إال ألف جندي‪ ،‬ولم يصل البقية بعد ‪-‬‬

‫لم أدر أي شيء أصابني‪ ،‬كانت أفواههم تردد الكلمات وكأنهم مقتنعون بأن الفرنسيين لن يتقدموا‪ .‬أو كأنهم لم يروا أهالي المحروسة‬
‫وحتّى بغاياها ينحدرون تجاه الغرب‪ ،‬كان الباشا مرتخيًا على كرسيه‪ ،‬صامتًا يراقب الوجوه في خيبة‪ .‬تفرق الجمع من حولنا‪ ،‬وبقيت‬
‫الديوان‪ ،‬تغوران في محجريها ثم ترحالن في الفضاء من حوله‪،‬‬‫تسم ًرا أمام الباشا‪ ،‬أتطلع إليه‪ .‬كانت عيناه تسوحان في غرفة ِ ّ‬
‫ُم ّ‬
‫الرسول بيني وبينهم‬
‫ّ‬ ‫ستكون‬ ‫غد‪،‬‬ ‫يوم‬ ‫من‬ ‫المعسكر‬ ‫في‬ ‫تكون‬ ‫أن‬ ‫ار‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫بن‬ ‫يا‬ ‫أريدك‬ ‫‪:‬‬ ‫شفتاه‬ ‫تحركت‬ ‫ثم‬ ‫تجاهي‪،‬‬ ‫‪.‬واستقرتا‬

‫الضابط مقبال نحوي‪ ،‬ثم‬


‫الشرق‪ ،‬والسفينة تهت ُّز تحت ضربات الموج‪ ،‬ألتفت فأرى َّ‬
‫تغيب كلمات الباشا ثم تتصاعد حين أبصر تجاه ّ‬
‫‪:‬يقف إلى جانبي‪ ،‬فأستعجله بالسؤال‬

‫‪.‬يوم وحي ٌد يفصلنا عن مرسيليا ‪-‬‬

‫الساعات‪ ،‬تعيشون في فوضى‪ ،‬أستغرب كيف تحتملونها ‪-‬‬


‫المور بالوقت‪ ،‬تفتقد جدرانكم إلى ّ‬
‫!وما الفرق؟ متى اهتم ُ‬
‫تحدد ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫الساعات لنا‪ ،‬إنها لن‬
‫الساعات التي تعنينا‪ ،‬واليوم بعد أن أخذت منا‪ ،‬ما الذي ستضيفه ّ‬
‫في المحروسة المساجد تُعلن عن ّ‬
‫‪.‬لنا شيًئا‬

‫الرخاء ‪-‬‬
‫أيضا‪ ،‬يبررون ميولهم إلى الل ّذة وعيشة ّ‬
‫ً‬ ‫للمور فالسفة‬
‫ُ‬ ‫‪.‬لم أعلم أن‬

‫الصور نفسها تتجدد‪ ،‬بعد األسبوع األول وصل باي قسنطينة إلى المعسكر‪،‬‬‫الضابط إلى الغرفة‪ ،‬وشرعت أقلب األوراق‪ّ ،‬‬
‫فررت من وجه ّ‬
‫لكن الفرسان كانوا يتقدمون إلى سيدي فرج‪ ،‬بعد أن احتل الفرنسيون قلعتها‪ ،‬وأقام قائدها بها مكتبه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لم يُغيّر مكانه في سطاوالي‪،‬‬
‫ومع انتهائهم من تحصيناتهم‪ ،‬كان الفرسان يتقدمون فيناوشونهم‪ ،‬ثم يفرون‪ ،‬حتى الل ّيلة التي سبقت الهزيمة‪ .‬أذكر آخر عشاء جمعني‬
‫باآلغا إبراهيم وباي قسنطينة‪ ،‬يتفق الجميع حول الباي أحمد الذي جرب الحروب طويل ًا‪ ،‬لذا يحدقون تجاهه كلها تكلمنا عن المعركة‬
‫ومقنعة للجميع‪ ،‬قال الباي‬‫ومقتضبة‪ُ ،‬‬
‫خطته‪ ،‬ولكن كلماته كانت موجزة ُ‬
‫ّ‬ ‫‪:‬المقبلة‪ .‬انتظروا استرساله في‬

‫أما ما يتبقى ‪-‬‬


‫يسير جزء من الجيش غرب قلعة طوري شيكا‪ ،‬ويهاجم جيش الفرنسيين من هناك كيال يسير شرقًا تجاه المدينة‪ّ ،‬‬
‫قائدا يتولى كل شؤونها‬
‫ً‬ ‫قسم إلى فرق‪ ،‬ويُعين على كل فرقة‬‫‪.‬من الجيش في سطاوالي في ُ ّ َ‬

‫قديما‬
‫ً‬ ‫كثيرا‪ ،‬ولكن ّها لم ترق إلبراهيم آغا الذي أجابه من توه‪ ،‬وكان بينهما عداء‬
‫ً‬ ‫‪:‬راقتني كلمات الباي‬

‫!ما الذي تفقهونه أنتم عن طريقة حروب األوروبيين؟ ‪-‬‬

‫‪:‬ثم همس وكأنه يحاول أال يسمعه اآلخرون‬

‫الطريقة نهجم عليهم دون ‪-‬‬


‫أوعزت إلى بعض شيوخ القبائل أن يستدرجوا قادة الجيش الفرنسي كي ينزلوا أماكن معلومة لنا‪ .‬وبهذه ّ‬
‫‪.‬أن يحتاطوا لنا‬

‫الطريقة إال أحمق أو مجنون‪ .‬افترق الجميع على أثر كلمات اآلغا‪،‬‬ ‫ذهل الحاضرون‪ ،‬لم يميزوا جِ َّده من مزاحه ‪ .‬ال يرى األمور بتلك ّ‬
‫اقتربت من‬
‫ُ‬ ‫وغادرتهم إلى خيام المعسكر‪ ،‬كان الجنود في حالة يُرثى لها‪ ،‬بدا طعامهم سيًئا‪ ،‬والبنادق التي حملوها كانت قديمة‪،‬‬
‫‪:‬أحدهم‪ ،‬كان يقف إلى جوار خيمة صغيرة وسألته‬

‫أوصل َتكم هدية الباشا؟ ‪-‬‬


‫َ‬

‫‪.‬ال لم يصلنا أي شيء‪ ،‬حتى رواتبنا أجلت إلى ما بعد المعركة ‪-‬‬

‫ّمت مالهم بيدي إلى اآلغا‪ ،‬ووقفت عند أول حلقة‪،‬‬


‫مسرعا تجاه خيام أخرى‪ ،‬كانت لمتطوعين سل ُ‬
‫ً‬ ‫عجبت من كلماته‪ ،‬وخطوت‬
‫السؤال‬
‫ّ‬ ‫أكرر‬ ‫‪:‬ووجدتني‬

‫أوصلتكم هدية الباشا؟ ‪-‬‬

‫مستاء‪ ،‬سحبته من بينهم‪ ،‬وسألته‬


‫ً‬ ‫السل ّاوي رأيته هناك يقف بين شباب المحروسة‪ ،‬كان‬
‫‪:‬أعاد الجنود الجواب نفسه‪ ،‬حتى ّ‬
‫ما الذي يحدث هنا؟ ‪-‬‬

‫الشحيح ‪-‬‬
‫الطعام ّ‬
‫الع ّزَل بنادق‪ ،‬والذين معهم بنادق سلموهم عشرة خراطيش فقط‪ ،‬عدا ّ‬
‫‪.‬إنهم ال يريدون تسليم ُ‬

‫‪.‬ولكن الباشا قد فتح المخازن للجميع ‪-‬‬

‫‪.‬ال يهمني الباشا‪ ،‬وهؤالء مثلي لم يغادروا المحروسة من أجل أحد من األتراك ‪-‬‬

‫لم أنتظر حتى أستشير اآلغا‪ ،‬بل امتطيت فرسي وأسرعت تجاه المدينة‪ ،‬وكلما تقدمت بي أكثر أرى بقايا المناشير من حولي‪،‬‬
‫الس كان تسليم المدينة‪ ،‬كي يحافظوا على أموالهم وأنفسهم‪ ،‬وما إن بلغت أسوارها حتى رأيت‬
‫فأتوقف وأطالعها مليًّا‪ ،‬يعرضون على ّ‬
‫إلي دوي المدافع فأدركت أنهم قد بدأوا حربهم على المدينة من البحر‪ ،‬وسيشرعون في زحفهم من البر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الدخان من هناك‪ ،‬وتناهى‬
‫ّ‬
‫الشرقي للمدينة‪ .‬حتى وأنا أمام الباشا‬
‫تجرها الخيول‪ ،‬تسير تجاه الباب ّ‬
‫ُّ‬ ‫وفي مسيري بين شوارع المحروسة‪ ،‬رأيت عربات أخرى‬
‫الديوان‪ ،‬تشجعت وقلت‬ ‫‪:‬عجزت عن الكالم‪ .‬وقفت أمامه‪ ،‬لكنه كان غائبًا عني‪ ،‬وعن الحاضرين من الذين كانوا في ِ ّ‬

‫‪.‬اآلغا يحر ُم الجنود من المال والسالح‪ ،‬والطعام ‪-‬‬


‫‪:‬ثم تشجعت وقلت‬

‫‪.‬تَوليته كانت خطأ ‪-‬‬

‫إلي الحضور وكأنهم يلومونني على كلماتي في حضرة الباشا‪ ،‬بيد أنه الوحيد الذي لم ينظر تجاهي‪ ،‬بل وقف‪ ،‬وجاست عيناه‬
‫َّ‬ ‫التفت‬
‫‪.‬المجلس‪ ،‬ثم غادرنا إلى جناحه‬

‫‪:‬في المساء اجتمعنا‪ ،‬وفوجئنا بالجندي المضرج بدمائه يقتحم ِ ّ‬


‫الديوان‪ ،‬جثا وقال‬

‫‪.‬ـ لقد ُه زمنا في سطاوالي وأخذوا المعسكر‪ ،‬وتشتت الجنود عبر الجبال‪ ،‬وآخرون تراجعوا إلى المدينة‬

‫‪:‬سألته‬

‫والقائد إبراهيم آغا؟ ‪-‬‬

‫‪.‬فر من هناك ونجهل مكانه اآلن ‪-‬‬


‫َّ‬

‫الديوان‪ ،‬ورك ََضت فرسي حتى‬ ‫نظرت إلى الباشا‪ ،‬وفي عينيه قرأت طلبه أن أسير إلى اآلغا إبراهيم ليعود فيجمع شتاتهم‪ .‬غادرت ِ ّ‬
‫بيت‬
‫ٍ‬ ‫أشرفت على المعسكر‪ ،‬ورأيتهم هناك من أعلى التل‪ ،‬وحدست أن األغا قد سار شرقًا‪ ،‬وعبرت تالل ًا أخرى حتى عثرت على‬ ‫ُ‬
‫ريفي لتاجر من المحروسة‪ ،‬وحين وصلت إليه رأيت بعض الجنود يقفون عند بابه‪ ،‬ولما دخلت البيت وجدت اآلغا منزويًا في إحدى‬
‫مرة أخرى‪ .‬وبعد ساعة كان اآلغا‬ ‫أحض إبراهيم على العودة ليجمع الجيش ّ َ‬‫ُّ‬ ‫يائسا وخائفًا من مواجهة الباشا‪ .‬ووجدتني‬
‫ً‬ ‫غرفه‪ ،‬كان‬
‫عما تب ّق َى من الجيش المتناثر عبر ال ِتّالل‬
‫َّ‬ ‫يبحثون‬ ‫جنوده‬ ‫رفقة‬ ‫نزل‬ ‫المحروسة‪،‬‬ ‫باب‬ ‫بلوغ‬ ‫قبل‬ ‫افترقنا‬ ‫ثم‬ ‫جانبي‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫‪.‬يسير‬

‫كنت مثل ال َغريق بين األوراق والعرائض التي بُسطت أمامي‪ ،‬حين ُد ّ َق باب غرفتي‪ ،‬وتناهى إلى صوت البحار يعلمني بوصولنا إلى‬
‫السفينة‪ ،‬مستقبل ًا بصدري نسيم البحر‪ ،‬إنها مرسيليا‪ ،‬ولكن دون‬
‫لملمت أوراقي ثم خبأتها في المحفظة‪ ،‬ونزلت من ّ‬
‫ُ‬ ‫ميناء مرسيليا‪.‬‬
‫ديبون‪ .‬لو كان هنا‪ ،‬لكانت للعرائض التي سأسلمها للملك أو وزير الحربية حياة أخرى على يديه‪ ،‬ولكن البحر اآلن يحجبه مثل ًا‬
‫الرصيف‪ ،‬وطلبت أن يقلني إلى الفندق‬ ‫‪.‬يحجب المحروسة عني‪ ،‬ناديت على أول عربةٍ رأيتها على ّ‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫السل ّاوي‬
‫‪ ‬حمة ّ‬
‫ّ‬
‫بقوة‪ ،‬كلما ضرب‬ ‫ممتدا أمامي‪ ،‬وطوري شيكا خلفي‪ ،‬ال أدري أي شيء يمكنني اآلن عمله‪ ،‬رجالي مقيَّدتان‪ .‬وقلبي يهتّز ّ‬ ‫ً‬ ‫كان البحر‬
‫خمنا من البداية أنها ستكون‬ ‫َّ‬ ‫أياما ترسو هناك‪،‬‬
‫ً‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وظ‬ ‫سفنهم‪،‬‬ ‫ورست‬ ‫تجاوزوها‪،‬‬ ‫بل‬ ‫وا‪،‬‬ ‫يرتد‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫لم‬ ‫الجنود‬ ‫ولكن‬ ‫ثانية‪،‬‬ ‫ليرتد‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫خر‬ ‫الص‬‫الموج ّ‬
‫الطعام والذخيرة‪ ،‬أمعقول‬
‫الس فن تفغر أفواهها تجاهنا‪ .‬بينما كان الباشا وآغاه يمنعان عنا ّ‬ ‫عشرة أو عشرين‪ ،‬ثم ذُهلنا‪ ،‬كانت مئات ُّ‬
‫الشاطئ‪ ،‬وترسل‬ ‫جيش ا مثل ذلك ببطن فارغ‪ ،‬وعشر طلقات في جيبه‪ .‬في سيدي فرج‪ ،‬كانت البوارج تقترب من ّ‬ ‫ً‬ ‫أن يواجه الجندي‬
‫جنود ا‪ ،‬عيونهم كلها تنظر تجاه طوري شيكا اليتيمة إال من مدافع قليلة‪ ،‬تضرب بين الحين واآلخر‬ ‫ً‬ ‫يحمل‬ ‫قارب‬ ‫كل‬ ‫مئات القوارب‪،‬‬
‫ردد ابن ميّار‪ :‬وكيل الحرج تآمر مع المدفعي لضرب‬ ‫ّ‬ ‫خطأ‪،‬‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫‪.‬‬ ‫البروفانس‬ ‫رمت‬ ‫عندما‬ ‫أصابت‬ ‫ها‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫مرماها‪،‬‬ ‫صيب‬ ‫وال تُ‬
‫ِّ‬
‫أصدق ما‬ ‫ودعوا الباشا في الميناء‪ ،‬وقد أكون مخطًئا‪ ،‬ولكنني على األقل لم‬ ‫الساذجون الذين ّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ربما‬ ‫الكالم؟‬ ‫هذا‬ ‫ق‬ ‫يصد‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫السفينة‪.‬‬‫ّ‬
‫دائما األتراك‪ ،‬حتى في سطاوالي‪ ،‬كنا أكثر من‬ ‫ً‬ ‫هم‬ ‫هكذا‬ ‫‪.‬‬ ‫حوله‬ ‫من‬ ‫الذين‬ ‫بكل‬ ‫يستهزئ‬ ‫كان‬ ‫بذلك‪،‬‬ ‫لهم‬ ‫أوعز‬ ‫من‬ ‫الباشا‬ ‫حدث‪،‬‬
‫يدخنون غاليينهم‪ ،‬ال يسير اليولداش إلى حرب إال حينما يرافقهم‬ ‫ِّ‬ ‫جوعا‪ ،‬كانوا‬ ‫ً‬ ‫نتضور‬
‫َّ‬ ‫جنود اإلنكشارية‪ ،‬بل ضعف عددهم‪ ،‬وبينما كنا‬
‫البُ ُّن والتَّبغ‪ .‬رأيت الجمال بحمولتها تنحدر بتؤدة نحو المعسكر‪ ،‬خيَّموا قبلنا‪ ،‬وهاجمنا قبلهم في سيدي فرج‪ ،‬كنا في ثالثمئة فارس‬
‫السهل الذي احتلوه‪ ،‬تفصلنا مسافة ال يستهان بها‪ ،‬كل‬ ‫والعربان وقليل من اليولداش‪ ،‬سرنا حتى بلغنا ّ‬ ‫ُ‬ ‫كثير من أهالي المحروسة‬ ‫ٌ‬ ‫فقط‪،‬‬
‫الصف األمامي يركض تجاههم‪ ،‬بدوا لنا‬ ‫ّ‬ ‫ينطلق‬ ‫ثم‬ ‫البارود‪،‬‬ ‫ها‬ ‫يلقم‬
‫ُ‬ ‫ويلة‪،‬‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫الماسورة‬ ‫ذات‬ ‫بندقيته‬ ‫ويمسك‬ ‫حصانه‪،‬‬ ‫لجام‬ ‫على‬ ‫يشد‬ ‫فارس‬
‫انطلقت أول األمر‪ ،‬الل ّجام في‬
‫ُ‬ ‫السهل‪ ،‬كنت ألعن األتراك حينها‬ ‫امتدت عبر ّ‬ ‫ّ‬ ‫والحمرة‬
‫ُ‬ ‫كثيرين‪ ،‬كأنها األرض ن ُ ِق َشت بألوان ب ّزَاتهم‪ ،‬ال ّزُرقة‬
‫الصفوف في مرماي‪ ،‬ثم‬ ‫أعدل جلستي ساحبًا البندقية‪ ،‬حينما تكون ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتفصد عرقًا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يدي‪ ،‬والبندقية على كتفي‪ ،‬يُركض الحصان حتى‬
‫الد وي دفعة واحدة من بقية الفرسان‪ ،‬وفي عودتنا سمعنا أصوات طلق بنادقهم‪،‬‬ ‫أنعطف يمينًا‪ ،‬ويداي تصوبان البندقية تجاههم‪ .‬وانطلق ّ‬
‫أشرت إلى الفرسان المقبلين تجاهنا أال يخشوا شيًئا‪ ،‬وتراجعت إلى المجموعة‪ ،‬ثم طفقت أعيد تعبئة بندقيتي أنتظر دوري مع‬
‫مزيدا من الجنود‪ ،‬والمؤونة والمدافع‪ .‬تسللت في المساء بعد‬ ‫ً‬ ‫ومر جزء من النّهار‪ ،‬كانت أعدادهم تتزايد‪ ،‬ونلمح سفينة تُنزل‬ ‫ّ‬ ‫البقية‪،‬‬
‫عدون‬
‫السهل‪ .‬وبدأت فرقة أخرى الحفر‪ ،‬كانوا يُ ّ‬
‫أوبتنا إلى معسكرهم‪ ،‬رأيتهم من أعلى التل‪ ،‬يسحبون المدافع حتى بلغوا قلب ّ‬
‫الخنادق‪ ،‬ولم يتوقفوا طوال الل ّيل‪ ،‬تراءت لي األضواء في األسفل كأنها نجوم زرعت باألرض‪ ،‬انسحبت إلى معسكرنا‪ ،‬رأيت بعض‬
‫الشخير من بعض خيامنا‪،‬‬ ‫حراس عليها‪ ،‬كان اليولداش نائمين‪ ،‬وتصاعد ّ‬‫َّ‬ ‫النّيران مازالت مشتعلة‪ ،‬وتجولت بين الخيام‪ ،‬لم يكن هناك‬
‫الدفاع عن المحروسة؟ تركتهم يبقرون األرض بمعاولهم‪ ،‬وتعالى‬ ‫ّ‬ ‫على‬ ‫قادرون‬ ‫الصراخ‪ ،‬هل يعتقد ال ِن ّيام أنهم بالفعل‬
‫انتابتني رغبة في ّ‬
‫شخير جنودنا‪ ،‬رأيت إحدى الخيام‪ ،‬من علوها ظننت أنها لضابط‪ ،‬هممت بإيقاظه‪ .‬خطوت تجاهها وما إن وقفت عندها حتى امتدت‬
‫ألنها اليد نفسها التي تعودت إنقاذي من مآزق كثيرة‪ ،‬ها‬
‫ّ‬ ‫تشدني وتسحبني إلى الخلف‪ ،‬شعور غريب انتابني‪ ،‬ال أدري لما ربما‬ ‫ّ‬ ‫يد‬
‫ورأيت بعض مالمحه‪ ،‬وقف ابن ميّار يقابلني‪ ،‬طلب مني االنسحاب قبل استفاقتهم‪ ،‬وانتقلنا إلى‬ ‫ُ‬ ‫التفت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مرة أخرى‪،‬‬‫ّ‬ ‫تمتد‬ ‫اليوم‬ ‫هي‬
‫‪:‬خيمتي‪ ،‬دخلناها بهدوء‪ ،‬كان الجنود نائمين‪ ،‬ولم أستطع كتمان مرارتي‬

‫سنوات ثالث قد تحققت ‪-‬‬


‫ٍ‬ ‫‪.‬أترى يا صديقي‪ ،‬نبوءة ال َق ّس التي شاعت في المحروسة منذ‬

‫ِّ‬
‫تحدد مصير مدينة ما‪ُ ،‬حك ّامها فقط من يفعل ذلك ‪-‬‬ ‫‪.‬ال يمكن للنبوءات أن‬

‫‪.‬بل أهلها‪ ،‬أو من تبقى منهم ‪-‬‬

‫‪.‬أنت تُبالغ كعادتك‪ ،‬أال ترى خيام اليولداش من حولك؟ وسيأتي آخرون من وهران والتيطري ‪-‬‬

‫‪.‬ربما تقصد الذين يدخنون غاليينهم ويحتسون القهوة كل مساء في خيامهم ‪-‬‬

‫الدفاع عن المحروسة ‪-‬‬


‫‪.‬ليسوا كلهم كذلك‪ ،‬إنهم لم يخرجوا من أوجاقهم إال من أجل ّ‬

‫‪.‬بل لم يغادروا أزمير إال من أجلنا ‪-‬‬

‫طيشا ‪-‬‬
‫ً‬ ‫الر جال كلما تقدم بهم العمر يزدادون حكمة‪ ،‬وأنت تزداد‬
‫حمة‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫‪.‬تظل تسخر يا‬

‫إلي ابن ميّار باستغراب‪ ،‬ثم وقف فجأة وعدل ثيابه‪ ،‬الخيبة التي كنت أحملها انتقلت إليه‪ .‬تال‬ ‫َّ‬ ‫كانت يداي لحظتها تختلجان‪ ،‬نظر‬
‫أثيرا لديه وهو يغادر الخيمة‪ ،‬تبعته إلى مربط فرسه‪ ،‬وامتطاها ثم غيَّبته ظلمة سطاوالي‪ .‬بقيت بين الخيام‪ ،‬كأني أتنبأ قدومهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫دعاء‬
‫ً‬
‫دما يُسفك‪ ،‬أنقل بصري بينه وبين الخيام‪،‬‬
‫وأسمع ُخطواتهم وهم يحيطون بالمعسكر‪ ،‬وتشتعل النّيران تضيء لي ِب ّزَاتهم‪ ،‬أرى في لونها ً‬
‫الدم الحار‪،‬‬
‫بعيدا‪ ،‬تتشمم تدفق ّ‬
‫ً‬ ‫إلي غير عواء الذئاب‪ ،‬كم تشبه تلك الكائنات اليولداش‪ ،‬استشعرت أن الموت ليس‬ ‫َّ‬ ‫وال يتناهى‬
‫‪.‬وتلهث باحثة عنه عبر الجبال حتى تبلغ سطاوالي‬

‫نارا أخرى‪ .‬كانت النّسوة الل ّائي رافقننا ما يزلن‬


‫المتكرر‪ ،‬وتحركت نحو نهاية الخيام‪ ،‬حيث رأيت ً‬ ‫ِّ‬ ‫استفقت على عواء ال ِ ّذئاب‬
‫ُ‬
‫انتظارا عند أبواب البيوت‪ ،‬ولن‬
‫ً‬ ‫إلي بعض ضحكاتهن‪ .‬هل يفكرن في مصيرهن؟ لم يكن‬ ‫َّ‬ ‫متيقظات‪ ،‬يتسامرن في خيامهن‪ ،‬امتدت‬
‫بيوتهن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عليهن العودة إلى‬
‫ّ‬ ‫الشمال ال يحمل معه إال بندقيته‪ ،‬وجرابه المعبأ بالموت‪ .‬كان‬ ‫تعطرهن‪ ،‬اآلتي من ّ‬ ‫ّ‬ ‫زينتهن وال‬
‫ّ‬ ‫تنفعهن‬
‫ّ‬
‫وحيدا أعترض سبيلهن‪ ،‬طلبت إليهن العودة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فعدت‬ ‫أعقابنا‪،‬‬ ‫في‬ ‫رأيتهن‬ ‫اليوم‪،‬‬ ‫ذلك‬ ‫انحدارنا‬ ‫في‬ ‫بنا‪،‬‬ ‫االلتحاق‬ ‫على‬ ‫أصررن‬ ‫هن‬‫ولكن ّ‬
‫ولكنهن رفضن وأصررن‪ ،‬وتهاوى رفضي عندما تكلمت إحداهن‪ :‬لستم أحرص منا‪ .‬لحظتها رأيت بعضهن يدفن تجاه شباب المحروسة‬
‫خلفي‪ ،‬واستغربت كيف ألولئك النّساء الل ّواتي يبعن أجسادهن كل يوم‪ ،‬أن يحملن هذا المقدار من الوفاء‪ .‬كل يوم تظهر متناقضات‬
‫ويفر الموسرون عند أول طلقةٍ للمدافع‪ ،‬وينحدر الفقراء في‬ ‫ُّ‬ ‫الشريفات في بيوتهن‪ ،‬وتخرج البغايا للموت‪،‬‬ ‫جديدة في المحروسة‪ ،‬تقبع ّ‬
‫‪.‬إثري‬

‫الضباط يجرون‬
‫ُّ‬ ‫العربان من حولي‪ ،‬وعوى اليولداش بلكناتهم على الجنود‪ ،‬كان‬‫الظلمة والن ُّور‪ ،‬تناهت إلينا األصوات‪ ،‬تصايح ُ‬
‫ما بين ُّ‬
‫بعصي‪ ،‬وآخرون أطلقوا الن ّار في الهواء‪ ،‬أسرعت تجاه فرسي وفعل مثلي البقية من شباب المحروسة‪ ،‬امتطوا خيولهم‬ ‫ويضربون الخيام ِ‬
‫الضباط‪ ،‬بيد أننا سبقناهم بالمسير‪،‬‬
‫صفوف فوضوية‪ ،‬واجتمعت بقية الفرق خلفنا‪ ،‬يتقدمها ُّ‬
‫ٍ‬ ‫حاملين بنادقهم‪ ،‬وما لبثنا أن كنا في‬
‫الر بوة التي عسكرنا بها‪ .‬تساءلت هل تركوا من يحرس المعسكر؟ لم أتوقع أن ينسوا‬ ‫وخلَّفناهم يعدلون صفوفهم‪ ،‬ثم رأيتهم ينزلون ّ‬
‫‪.‬أشياء بتلك األهميّة‪ ،‬كان إبراهيم أسوأ القادة الذين مروا على المحروسة‪ ،‬ولكن بعض األخطاء أصغر من أن نرتكبها‬

‫طرق ضيِّقة‪ ،‬أمامهم المدفعية ثم تقدمهم خط‬


‫ٌ‬ ‫ِسرنا مسافة غير قصيرةٍ‪ ،‬حتى كان الن ُّور يُتيح لنا رؤيتهم‪ ،‬شك ّلوا مربعات تفصل بينها‬
‫طويل‪ ،‬يمتد إلى الجهتين حتى ال نكاد نراه‪ ،‬توقفنا في مكاننا‪ ،‬وانتظرنا التحاق البقية بنا‪ ،‬ثم الحت طالئعهم‪ ،‬ولكنهم ما إن أبصروا‬
‫قدرت من‬ ‫الجنود الفرنسين حتى ذهلوا‪ ،‬كانت أفواههم فاغرة يحدقون تجاه الخط الل ّامتناهي‪ .‬وقف اآلغا إبراهيم غير بعيد مني‪َّ ،‬‬
‫بعيدا عن‬
‫ً‬ ‫مالمحه أنه لم يكن أقل خوفًا من البقية‪ .‬يداه ترتجفان وهو يمسك لجام حصانه‪ ،‬ربما كان يريد أن يضربه كي يفر به‬
‫يترجى الباشا منحهم ما يريدون‪ ،‬فليس غريبًا على تركي التخلي عن كل المبادئ التي‬ ‫َّ‬ ‫ود لو يعود إلى المحروسة‪،‬‬‫السهل‪ ،‬أو ربما ّ َ‬
‫ّ‬
‫المدرك أن كونه تركي ًا يكفي الستعادة ثرواته من سكان المحروسة‪ ،‬لطالما سمعت قادة اليولداش‬ ‫يؤمن بها‪ ،‬من أجل الحياة‪ ،‬وهو ُ‬
‫‪.‬يرددون‪ :‬قد استطالت أجنحة هؤالء العرب‪ ،‬بعد فراغنا من الفرنسيين سنقصها‬

‫الرصاص‬‫أسنانهم‪ ،‬ينتظرون بداية القتال‪ ،‬أبصارهم متوجهة صوبنا‪ ،‬أرادونا أن نكون نحن من نستقبل ّ‬ ‫كان بعض اليولداش قربي‪ ،‬تَصطك‬
‫العربان‪ ،‬كبَّروا وضربت أرجل خيولهم األرض حتى تصاعد الغبار‪،‬‬‫من ضرب حصانه‪ ،‬قفز قبلي بعض ُ‬ ‫أدعي أنني كنت أول‬ ‫قبلهم‪ .‬لن ّ َ‬
‫الطلقات من صفهم الممتد‪ ،‬ورغم مدى رمي بنادقهم‬ ‫ّ‬ ‫أرى‬ ‫واحدة‪،‬‬ ‫وي البنادق دفعة‬
‫الرمي‪ ،‬وينبعث َد ُّ‬
‫ّ‬ ‫فقفزت في أعقابهم‪ .‬أبلغ مسافة‬
‫الش حن‪ .‬لحظة فقط ثم نسرع بالعودة إلى جنودنا‪ ،‬يقتربون ببطء تجاهنا‪ ،‬نتجاوز صفوفهم‪ ،‬ثم نعود‬ ‫َّ‬ ‫القصير‪ ،‬لكنّها كانت أسرع في‬
‫تباعا‪ ،‬يكبو الحصان‬
‫ً‬ ‫الص ّ َف الممتد‪ ،‬لم أعرف كم تقدمنا ثم تراجعنا‪ ،‬ولكنني كنت أراهم يتساقطون‬ ‫ّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬لنواجه‬
‫فنخترقهم ّ‬
‫لكن‬
‫ّ‬ ‫الرصاص‪،‬‬‫مبتعدا‪َ ،‬س ِلم من ّ‬ ‫ً‬ ‫مرتين‪ ،‬شاهدت أحدهم ينهض من مكانه‪ ،‬ثم يجري‬ ‫التفت مرة أو ّ‬ ‫ُ‬ ‫بعيدا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بالواحد منهم ويرميه‬
‫يحدق تجاه اليولداش الذين ما زالوا يتقدمون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الرصاصة في الجسد‪ ،‬يترنح وهو‬ ‫اآلخرين لم يسعفهم حظهم‪ ،‬خطوات قليلة ثم تستقر ّ‬
‫أبد ا‪ .‬ثم يغمض عينيه‪ ،‬وأنا ما زلت لم أغمض عيني بعد‪ ،‬كانت أرجل الفرس تضرب األرض‪ ،‬الل ّجام يستقر بين‬ ‫وكأنهم لن يصلوا ً‬
‫عائدا إلى مكاني‪ ،‬قفزت الفرس‬ ‫ً‬ ‫وانعطفت‬ ‫الماسورة‪،‬‬ ‫صاصة‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫مغادرة‬ ‫صراخي‬ ‫رافق‬ ‫ثم‬ ‫تجاههم‪،‬‬ ‫أصوبها‬ ‫يدي‬ ‫في‬ ‫فكي‪ ،‬والبندقية‬
‫أبصرت خياالت تطوف‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫بعيد‬
‫ً‬ ‫رمتني‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫على‬ ‫تهوي‬ ‫أن‬ ‫وقبل‬ ‫االنحدار‪،‬‬ ‫في‬ ‫وبدأت‬ ‫تحتي‬ ‫ة‬ ‫بقو‬
‫ّ‬ ‫ت‬ ‫ارتج‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫األمام‪،‬‬ ‫خطوات إلى‬
‫جزءا من جسدي‪ ،‬لم أستطع الن ُّهوض حينها‪ ،‬ولكنهم‬ ‫ً‬ ‫ترفس‬ ‫أرجلهم‬ ‫كانت‬ ‫ثم‬ ‫مني‪،‬‬ ‫يقتربون‬ ‫اليولداش‬ ‫فرأيت‬ ‫رأسي‬ ‫ورفعت‬ ‫حولي‪،‬‬
‫التفت‬
‫ُّ‬ ‫قاعدا‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫مر وا حاولت القيام‪ ،‬يداي تحركتا‪ .‬ثنيتهما في محاولة جديدة إلبعاد صدري عن األرض‪ ،‬رفعته قليل ًا واعتدلت‬ ‫حين ُّ‬
‫الرصاص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من‬ ‫الجيوب‬ ‫تفرغ‬ ‫حينها‬ ‫لها‪،‬‬ ‫نظير‬ ‫ال‬ ‫بطريقةٍ‬ ‫يقاتلون‬ ‫ربان‬ ‫الع‬
‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫تالحما‬ ‫قد‬ ‫الجيشان‬ ‫كان‬ ‫واألجساد‪،‬‬ ‫األلوان‬ ‫مزيج‬ ‫لي‬ ‫وترامى‬
‫السريعة وهي تهوي على أجساد الجنود الفرنسيين‪ ،‬بينما بَ ِقي اليولداش على‬ ‫يسلُّون سيوفهم‪ ،‬كانوا أبرع في استعمالها‪ ،‬أرى حركتها ّ‬
‫مجموعات ليحموا ظهورهم‪ .‬لم‬‫ٍ‬ ‫جانبهم‪ ،‬لم يكونوا بالشجاعة نفسها‪ ،‬ال يجرؤ الجندي منهم أن يتوغل بين الفرنسيين‪ ،‬يتحلقون في‬
‫أستطع البقاء هناك‪ ،‬تحاملت على نفسي ووقفت‪ ،‬ثم سرت بتعثّر حتى بلغت مكانًا يُشرف على المعركة‪ ،‬كانت البندقية على كتفي‪،‬‬
‫الربوة‪،‬‬
‫الرصاص لم يسعفني‪ .‬تحركت من خلف ّ‬ ‫الطلقات‪ ،‬اختبأت خلف تل صغير‪ ،‬وصوبت نحو ال ِب ّزَات الحمراء‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫متأبطا كيس ّ‬‫ً‬
‫ومددت يدي ألمسكه‪ ،‬ولكن رجرجة جسدي جعلتني‬ ‫ُ‬ ‫السيف تجاهي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رمي‬ ‫أحدهم‬ ‫أن‬ ‫إلي‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِل‬
‫ّ‬ ‫ي‬ ‫وخ‬
‫ُ‬ ‫ينادونني‪،‬‬ ‫كأنهم‬ ‫كانوا‬ ‫أللتحق بهم‪،‬‬
‫عائدا إلى يد صاحبه‪ ،‬وحين عدت بوجهي كانت األرض تقترب‬ ‫ً‬ ‫السيف معلقًا في الهواء‪،‬‬ ‫أصرخ دون وعي مني‪ ،‬رفعت رأسي فترامي ّ‬
‫غبار كثيف بيننا‪ ،‬شعرت بنار‬ ‫ٌ‬ ‫السوداء بالحمراء‪ ،‬ثم تُصبح رماديّة‪ ،‬ويتصاعد‬ ‫الرؤية كانوا يتماوجون‪ ،‬تمتزج األلوان ّ‬ ‫مني‪ ،‬وفي غبش ّ‬
‫خليطا بين عواء ذئاب وصريخ اليولداش‪ ،‬ثم انتشر البياض في الفضاء‬ ‫ً‬ ‫تشتعل قربي‪ ،‬اشتممت رائحة الحطب المحروق‪ ،‬وكأنني أسمع‬
‫‪.‬كله‬

‫السهول‪،‬‬
‫أدركت من ثيابهم أنهم من أعراب ُّ‬
‫ُ‬ ‫استفقت على حرارة تشتعل في كتفي‪ ،‬وسواد خيمة ظللتني‪ ،‬ووجوه كانت تحيطني‪،‬‬
‫صحت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حركت رأسي وتكلمت‪ ،‬وربما حتى‬ ‫َّ‬ ‫الشيخ الذي كان أقربهم لي‪ ،‬كنت أشعر بجفاف في حلقي‪ ،‬وبدا لي أني‬ ‫سمعت تمتمة ّ َ‬
‫الصوف المبللة على فمي‪ ،‬وطفق يضعها في إناء عند ركبتيه ثم‬ ‫الشيخ‪ ،‬فلم يلبث أن وضع قطعة ّ‬ ‫ولكنهم لم ينتبهوا لي عدا ذلك ّ‬
‫يحركها على شفتي جيئ ًة وذهابًا‪ ،‬ويعصر في حلقي‪ ،‬كأنها كان ينفخ في روحي فتنبعث الحياة في جسدي‪ ،‬وذهب الغبش عن عيني‬
‫الصوف‬
‫الص ورة‪ .‬كانوا من بين الذين شاركوا معنا في سطاوالي‪ ،‬هممت بشكرهم‪ ،‬وقبل أن يتحرك لساني وجدت قطعة ّ‬ ‫واتضحت ّ‬
‫المبلَّلة على فمي‪ ،‬ولكن األلم ازداد اشتعال ًا في كتفي‪ ،‬وقلبي ازداد اهتزا ًزا كلما تذكرت أننا ُهزمنا‪ .‬تساءلت أين هم اآلن‪ ،‬أتراهم‬
‫وج ُّل الجيش كان معنا؟‬ ‫يصدهم‪ُ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫بلغوا أبوابها‪ ،‬أم أنهم ُص ُّدوا؟ ولكن من الذي‬

‫أسوأ المواقف التي يعيشها المرء‪ ،‬لحظة عجزه عن الكالم‪ ،‬ويمتلئ القلب باألوجاع‪ .‬كان أولى بهم لو تركوني للذئاب‪ ،‬أو ينثروا‬
‫تفرقوا‬
‫َّ‬ ‫الشيخ يريد إبقائي ساكنًا‪ ،‬حتى يطيب الجرح‪.‬‬
‫السل ّاوي‪ .‬ولكن ّ‬
‫السهول والجبال‪ ،‬وستنبت حينها آالف من أشجار ّ‬ ‫عظامي في ُّ‬
‫نارا‪ ،‬رأيت الل ّهيب يستعر‪ ،‬وظهرت مالمح وجهه النّحيف‪ ،‬عظام‬‫ً‬ ‫شعل‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫الخيمة‬ ‫باب‬ ‫إلى‬ ‫يخ‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫وانتقل‬ ‫الم‪،‬‬ ‫الظ‬
‫ّ‬ ‫حل‬ ‫حين‬ ‫من حولي‬
‫يحدق تجاهي‪،‬‬‫ِّ‬ ‫الشيخ‬
‫مرت‪ ،‬كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي‬ ‫نين‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫آالف‬ ‫رغم‬ ‫نفسها‪،‬‬ ‫بالنظرة‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫الس‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫تع‬ ‫!‬ ‫غامضة‬ ‫بأشياء‬ ‫وشت‬ ‫ها‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫بالجلد‪،‬‬ ‫التصقت‬
‫الضعف‪،‬‬‫ّ‬ ‫أرى بريق عينيه‪ ،‬كثيرة هي األشياء التي استوعبتها‪ ،‬ولكنّها صعبة على التفسير‪ ،‬نخبئها في دواخلنا‪ ،‬تستعيدها في لحظات‬
‫مستعص‪ ،‬يُداري نفسه كلما أردت الوصول‬
‫ٍ‬ ‫نهر ال يمكن أن يدركه أحد‪،‬‬‫ٌ‬ ‫أشياء تنبع من المعين نفسه الذي كانت ُدوجة تسقيني منه‪،‬‬
‫‪.‬إليه‬

‫الشيخ مني حامل ًا صحن الحساء‪ ،‬ومد يده خلف ظهري وأقعدني‪ ،‬بدأ يطعمني حتى شبعت‪ ،‬ثم أعادني إلى مكاني‪ ،‬كانت النّار‬
‫دنا ّ‬
‫أيضا تستعر في نفسي‪ ،‬أردت شكره ولكن ّه ظل يومئ لي أال أتكلم‪ .‬أشياء من العمق كانت تدفعني للسؤال‪ ،‬للقيام من مكاني‬
‫ً‬
‫الشيخ جلس إلى جانبي‪ ،‬ثم قال‬ ‫لكن ّ‬
‫ّ‬ ‫‪:‬واللحاق بهم‪ ،‬وهممت بذلك‪،‬‬

‫‪.‬عليك أن تهدأ ‪ ..‬ال يُمكنك مغادرة فراشك اآلن‪ ،‬لم يبرأ جرحك بعد ‪-‬‬

‫‪.‬ولكنهم يحتاجونني هناك ‪-‬‬

‫الرعاية ‪-‬‬
‫‪.‬على هذه الحالة‪ ،‬أنت الذي تحتاج إلى ّ‬
‫مذ متى وأنا هنا؟ ‪-‬‬

‫الرابع يوشك على االنقضاء ‪-‬‬


‫نائما‪ ،‬وها هو اليوم ّ‬
‫ً‬ ‫‪.‬يوم ملقى في البرية‪ ،‬ويومان قضيتها‬

‫والمحروسة؟ هل من أخبار عنها؟ ‪-‬‬

‫‪.‬لألسف‪ .‬سلَّمها األتراك للفرنسيين ‪-‬‬

‫وهم ا؟ أتضيع المحروسة بهذا اليسر‪ ،‬لم أكن ألصدق كلماته‪ ،‬كانت عصية حتى على التفكير فيها‪،‬‬
‫ً‬ ‫هل ما قاله العجوز حقيقة أم تراه‬
‫عدت إليه أسأله‬ ‫ُ‬ ‫قربي‪،‬‬ ‫يزال‬ ‫ال‬ ‫والشيخ‬ ‫أهذي‬ ‫‪:‬كنت‬

‫بالله عليك قل لي الحقيقة‪ ،‬هل فعل ًا سلَّمها األتراك للفرنسيين؟ ‪-‬‬

‫‪:‬أشاح العجوز بوجهه عني‪ ،‬قائل ًا‬


‫‪.‬باألمس حدث هذا‪ ،‬دخلها الجيش مع منتصف الن َّهار ‪-‬‬

‫الشيخ إلى جانبي‪ ،‬يا الل ّه إني ال أحتمل مقدار هذا‬ ‫يا الل ّه‪ ...‬صرخت حتى اعتقدت أنهم سمعوني هناك في المحروسة‪ ،‬وفزع ّ‬
‫الصغير‪ ،‬يركض بين دروبها‬ ‫ّ‬ ‫ّاوي‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫مشاهد‬ ‫إلى‬ ‫تعود‬ ‫الهدير الموجع‪ ،‬قلبي ال يمكنه التفكير في محروسة أخرى غير التي عرفتها‪.‬‬
‫جنودا ال يختلفون عنهم‪ ،‬لماذا يا الل ّه يحدث هذا تحت‬ ‫ً‬ ‫فارا من اليولداش‪ .‬واآلن سيرحلون ولكنهم سيُخل ّفون‬ ‫الحجرية‪ ،‬وأنا أركض ّ ً‬
‫الشيوخ‬ ‫سمائك؟ ألم تكن المحروسة تحتفي بك في شوارعها وأعيادها وجوامعها التي تكتظ بها المدينة؟ كيف لم تستجب ألولئك ّ‬
‫الذين كانوا يرفعون أيديهم إليك لتحفظ المحروسة من كل معتدٍ؟ لماذا يا الل ّه لم تجبر خواطر األطفال الذين اصطحبهم آباؤهم إلى‬
‫بمع ّزَة أوليائك المحببين إليك وإلى قلوبهم‪ ،‬أن‬ ‫َ‬ ‫المساجد لتشفع لهم طهارة قلوبهم وتستجيب لهم؟ والدراويش الذين دعوك عند األضرحة‬
‫وكن‬‫ّ‬ ‫جميعا؟ حتى البغايا شمرن عن سواعدهن‪ ،‬وتركن زينتهن وعطورهن‬ ‫ً‬ ‫تمألها باألمان والطمأنينة‪ ،‬لماذا يا الل ّه كسرت خواطرهم‬
‫بمع ّزَة‬
‫َ‬ ‫يحلفن‬ ‫سمعتهن‬ ‫منهن‬ ‫وبعض‬ ‫ٌ‬ ‫طاهرة‪،‬‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫دروب‬ ‫ويخترن‬ ‫بن‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫في‬ ‫بيوتهن‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫سالمات‬
‫ٍ‬ ‫تعيدهن‬
‫ّ‬ ‫في إثرنا‪ ،‬هن كذلك كن يدعونك أن‬
‫جديرات بعطفك؟ يداي كانت‬ ‫ٍ‬ ‫يكن‬‫ّ‬ ‫ألم‬ ‫َبي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫عليها‬ ‫مشى‬ ‫التي‬ ‫األرض‬ ‫لن‬ ‫قب‬
‫ُ ّ‬ ‫وي‬ ‫الحجاز‪،‬‬ ‫في‬ ‫بيتك‬ ‫الرحمن أنه سيزرن‬ ‫سيدي عبد ّ‬
‫بعيدا إلى‬ ‫ً‬ ‫الفرار‬ ‫إلى‬ ‫أتوق‬ ‫كنت‬ ‫انحناء‪،‬‬ ‫في‬ ‫وقمت‬ ‫عني‪،‬‬ ‫ا‬ ‫بعيد‬
‫ً‬ ‫العجوز‬ ‫ودفعت‬ ‫انتفضت‬ ‫ولكني‬ ‫جسدي‪،‬‬ ‫من‬ ‫يرشح‬ ‫ترتجفان‪ ،‬والعرق‬
‫الرغبة نفسها دفعتني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالمغادرة‪،‬‬ ‫هممت‬ ‫‪.‬‬ ‫بالبارود‬ ‫وليحترق‬ ‫بالرصاص‬ ‫جسدي‬ ‫فليمتلئ‬ ‫الجيش‪،‬‬ ‫أقتحم‬ ‫أو‬ ‫أسوارها‪،‬‬ ‫عند‬ ‫التالل‪ ،‬ألقف‬
‫والدموع‬‫ُّ‬ ‫الدم‪،‬‬
‫حادا من الجرح الذي تقيَّح‪ .‬وبخفة شرع العجوز يجفف َّ‬ ‫ً‬ ‫أرضا‪ ،‬اشتعل األلم‬ ‫ً‬ ‫ولم أتجاوز الخطوة األولى حتى خررت‬
‫إلي وبكى هو اآلخر‪ .‬ثم اجتمع حولنا أبناؤه‪ ،‬ساحت دموعهم‪ ،‬وابتلت‬ ‫َّ‬ ‫التي انهمرت‪ ،‬كنت أنشج إلى جانبه‪ ،‬ولم يحتمل فانضم‬
‫واحتد‬
‫َّ‬ ‫بقوة‪ .‬ازداد ارتجاف يدي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحمى التي دهمتني‬ ‫َّ‬ ‫الدموع يمأل الخيمة بالملوحة‪ ،‬أو هكذا ُخيّل لي في‬ ‫خدودهم‪ ،‬ثم كان نهر ّ‬
‫حمة‪ ،‬ال تقترب من ال ِقدر‪ ،‬لكنني اشتهيت‬ ‫ّ‬ ‫يا‬ ‫ة‬ ‫حم‬
‫ّ‬ ‫علي‬ ‫وتنادي‬ ‫ار‪،‬‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫على‬ ‫در‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫ال‬ ‫تضع‬ ‫البيت‪،‬‬ ‫باحة‬ ‫في‬ ‫وجيب قلبي‪ ،‬رأيت أمي‬
‫أياما ثم أشفى منها‪ ،‬لم تكن أول‬ ‫ً‬ ‫وتتورم‬ ‫القدر‪،‬‬ ‫في‬ ‫غطستها‬ ‫التي‬ ‫يدي‬ ‫على‬ ‫ولول‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ثم‬ ‫امي‬ ‫تختفي‬ ‫‪.‬‬ ‫المغلي‬ ‫وضع يدي في الماء‬
‫دائما بالنسبة لي محرقة‪ ،‬تمأل جسدي بالقُروح‪ .‬ولم تكد أمي تعتاد تصرفاتي حتى‬ ‫ً‬ ‫كانت‬ ‫الحقائق‬ ‫إن‬ ‫بل‬ ‫نفسي‪،‬‬ ‫مرة أفعلها وأؤذي‬
‫الطاعون سحب ث ُلثي المحروسة‪ ،‬ووقف األتراك يطالعون األيتام‪ ،‬وال يفعلون لهم شيًئا‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫مبكر‬
‫ً‬ ‫‪.‬غادرت‬

‫حلما مليًئا بالمرارة‪ ،‬تتموج في معدتي‪ ،‬أريد تقيؤ‬


‫ً‬ ‫ودائما كانت المحروسة أكبر من ساكنيها‪ .‬يبدو األمر‬
‫ً‬ ‫بعض المدن أفضل من أهلها‪،‬‬
‫تكه ن العجوز برغبتي فأقعدني‪ ،‬وانهمر من بطني سائل ثقيل وأسود‪ ،‬فاح بروائح كريهة‪ .‬كنت أحاول‬ ‫َّ‬ ‫كل ما فيها دفعة واحدة‪،‬‬
‫الشفاء منها‪ ،‬كل اآلمال‬
‫استرداد أنفاسي من االهتزازات المتكررة لجسدي‪ ،‬وكان العجوز يهمس‪ :‬إنك تتعافى‪ .‬ومن قال إني أريد ّ‬
‫كانت ُم علقة بها‪ ،‬وهي اآلن غائبة‪ .‬كانت الحرارة تتضاءل من جسدي‪ ،‬ويداي توقفتا عن االرتجاف‪ ،‬التفت إلى العجوز وقلت‪ :‬كنت‬
‫الشكر أم ال؟ ليتك تركتني في الخالء‪ .‬ابتسم العجوز بخيبة وهو يطالعني‪،‬‬ ‫سأشكرك ألنك أنقذتني‪ ،‬واآلن ال أدري أيستوجب ما فعلته ّ‬
‫لم تزعجني شفقته علي‪ .‬اآلن يستطيعون التفوه بالكلمات التي يريدونها‪ ،‬أصبحت كائنًا غير الذي غادرت به بيتي‪ .‬الموت أسهل‬
‫غابات كثيفة ال يمكن‬
‫ٍ‬ ‫قت إلى مساحةٍ ال تنتهي من األحالم‪ ،‬والضياع في‬ ‫الدروب نحو النّسيان‪ .‬لم تكن هناك رغبة إال في النّوم‪ ،‬تُ ُ‬ ‫ّ‬
‫ألحد أن يراني بها‪ .‬وضعت لحظتها رأسي على الوسادة وغبت عن الذين من حولي‪ ،‬وعن التالل‪ ،‬وحتّى عن العالم‪ ،‬ولكني لم أر‬
‫الظالم الفضاء كله‪ ،‬ثم استيقظت على حرقةٍ شديدة‪ ،‬أول الكلمات التي قلتها كانت المحروسة‪ .‬ألفيت العجوز‬ ‫أية أحالم‪ .‬اكتسح ّ‬
‫التفت إلى العجوز بعينين ترجوانه‪ :‬أريد مطالعة أسوارها‪ ،‬لو‬
‫ُ‬ ‫حدق بي في صمت‪ ،‬نقلت عيني بين الوجوه المراقبة لحركاتي‪ ،‬ثم‬ ‫يُ ِ ّ‬
‫مت فادفنوني في أعلى التّلة‪ ،‬واجعلوها آخر األمنيات‬
‫ُّ‬ ‫‪.‬تحملونني إلى التلة فأراها من هناك‪ ،‬وإن‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬دوجة‬
‫ُ‬

‫السويدي‪ ،‬يغيب حتى أقول إنّه لن يعود‪ ،‬ثم أرى خياله‬ ‫مر على موت أمي سنتان‪ ،‬وال يزال أبي يعمل في بيت ال ُقنصل ّ‬ ‫كان قد َّ‬
‫مرة أجده أكثر تلهفًا‬
‫ّ‬ ‫كل‬
‫ّ‬ ‫وفي‬ ‫منصور‪،‬‬ ‫عن‬ ‫يسألني‬ ‫علي‬
‫َّ‬ ‫م‬‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫قبل‬ ‫البيت‪،‬‬ ‫باب‬ ‫يبلغ‬ ‫حتى‬ ‫الحقل‬ ‫يعبر‬ ‫ا‬ ‫وئيد‬
‫ً‬ ‫يتقدم‬ ‫من بعيد‪،‬‬
‫الصغير‪ .‬قبل انتهاء جملته‬
‫ّ‬ ‫ا‬ ‫منصور‬
‫ً‬ ‫سيشفي‬ ‫دواء‬ ‫وأعطاه‬ ‫أيام‪،‬‬ ‫قبل‬ ‫المحروسة‬ ‫زار‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫طبيب‬ ‫أن‬ ‫يخبرني‬ ‫األدوية‪،‬‬ ‫صرة‬ ‫معه‬ ‫يحمل‬ ‫عليه‪.‬‬
‫حاد ا‪ ،‬نلج إليه مسرعين‪ ،‬ونجلس عند رأسه‪ ،‬يلتفت إلى أبي بنظرة زائغة كأنه ال يراه‪ :‬هذا أنت يا أبي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الداخل‬‫يرتفع ُسعاله من ّ‬
‫!اعتقدت أنك لن تعود‬

‫الصورة‪ ،‬يجلس صامتًا‪ ،‬تتلمس كفه جبهة منصور‪ ،‬ثم تتحسس صدره إن كانت‬ ‫حتى عندما كانت أمي ُتحتضر لم أكن أرى أبي بتلك ّ‬
‫البقع قد رحلت عنه‪ ،‬ولكنّها في كل يوم تُعلن عن نفسها في مكان جديد‪ ،‬تبدأ صغيرة‪ ،‬ثم تمتلئ بالقيح‪ ،‬وتنفجر فجأة‪ُ ،‬مخل ّفة‬
‫الدواء الجديد‪ ،‬رغم أنه كان‬ ‫تخرم جلده‪ .‬لم يستطع أبي مواصلة رؤية جسده‪ ،‬كان يأمل أن يشفيه ّ‬ ‫ّ‬ ‫بثورها عبر كامل جسده‪ ،‬حتى‬
‫الدواء‪ ،‬يدهن جسده به‪ ،‬ثم ال يحدث شيء‪ ،‬يُعيد النّصائح القديمة‪،‬‬ ‫محمل ًا بكيس ّ‬
‫َّ‬ ‫شهرا‪ ،‬ثم يعود‬
‫ً‬ ‫يغيب‬ ‫مكررا طوال العام‪،‬‬
‫ً‬ ‫مشهدا‬
‫ً‬
‫منصورا يواصل انحداره‪ ،‬يزداد جسده‬
‫ً‬ ‫ماء نقيًّا‪ .‬ثم يغيب إلى عمله‪ ،‬ويرجع ليجد‬‫ً‬ ‫جيدا‪ ،‬ويشرب‬ ‫ً‬ ‫الطبيب‪ :‬يجب أن يأكل‬ ‫ّ‬ ‫يقول‬
‫ووزَع المرهم عليه‪ ،‬وسقاه من محلول آخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عرى جسده‪،‬‬‫أعاد أبي المشاهد الماضية‪َ ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫المرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ويحتد سعاله أكثر‪ ،‬حتى هذه‬
‫ُّ‬ ‫ضمورا‪،‬‬
‫ً‬
‫الش فاء أم الموت‪ .‬كانت يده تمتد إليه بقطع الحلوى التي أحضرها معه‪ ،‬يعرف أن‬ ‫وأعلمه أنه لم يبق الكثير‪ .‬لم أفهم قصد أبي‪ّ ،‬‬
‫الصغير يُكورها ويلقمها فمه‪ ،‬لكنه ال يستطيع بلعها‪،‬‬ ‫الطحينية‪ ،‬فيحملها له من المحروسة‪ ،‬يسحبها من كيسه ّ‬ ‫منصورا يُحب الحلوى ّ‬
‫ً‬
‫يأخذ منها لقم ًة صغيرة‪ ،‬ويديرها في فمه ويبلع القليل منها‪ ،‬وتندلق األخرى على جانبي فمه ممزوج ًة بلعابه‪ ،‬يُر ِدفها بنوبات سعال‪.‬‬
‫إلي بُحزن‪ُ :‬دوجة‪ ،‬كيف كنت تفعلين هذا طوال الوقت؟ أتذكر تلك‬ ‫َّ‬ ‫مرة‪ ،‬يلتفت‬
‫كل ّ‬‫وتظل تتكرر محاوالت أبي‪ ،‬يفشل في ّ‬
‫الطحينية‪ ،‬اقتربت‬
‫ّ‬ ‫الحلوى‬ ‫مع‬ ‫ليختلف‬ ‫األمر‬ ‫يكن‬ ‫ولم‬ ‫العصيدة‪،‬‬ ‫من‬ ‫صغير‬ ‫صحن‬ ‫أجل‬ ‫المحاوالت اليائسة التي ُأعيدها كل يوم‪ ،‬من‬
‫سعيدا وهو يستقبل الحلوى‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫منصور‬ ‫حتى‬ ‫‪.‬‬‫ا‬ ‫يسر‬
‫ً‬ ‫أكثر‬ ‫األمر‬ ‫بدا‬ ‫أسقيه‪،‬‬ ‫شرعت‬ ‫ثم‬ ‫من منصور‪ ،‬وأذبت الحلوى في ماء بالصحن‪،‬‬
‫‪.‬المذابة برغبة أكثر وتعب أقل‬

‫متحرقين لبقائه‪ .‬ولكن أبي أضحى‬ ‫ّ‬ ‫مسموحا بها ألبي أن يمكث عندنا‪ ،‬ثم يحمل نفسه ويرحل‪ ،‬يتركنا مثلما وجدنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يومان فقط كان‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الرغبة في زيارة أحد‪ ،‬انقطعت كل صالته بمن حوله‪ ،‬كان متعلقًا بأمي‬ ‫ومنفردا‪ ،‬غادرته ّ‬
‫ً‬ ‫وحيدا‬
‫ً‬ ‫شخصا مختلفًا بعد رحيل أمي‪،‬‬
‫ً‬
‫الصمت‪ ،‬لطالما انتبهت إليه في وحدته يتمتم ويغني‪،‬‬ ‫يبك طويل ًا‪ ،‬بل ركن إلى ّ‬‫ِ‬ ‫تفاجأت أن حزنه لم يكن مثل أحزان بقية النّاس‪ ،‬لم‬
‫أحد ا يراقبه‪ ،‬يمسح دموعه‪ ،‬ويعود إلينا بمالمح يحاول إخفاءها‪ .‬في حياة أمي لم‬ ‫ً‬ ‫غناء بقدر ما كان أنينًا‪ ،‬وحين ينتبه أن‬
‫ً‬ ‫لم يكن‬
‫يكن أبي ليبدي شيًئا من تعلقه بها‪ ،‬لم يغازلها أمامنا‪ ،‬بعض الهدايا التي كان يحملها في يده‪ ،‬يهديها إياها مثل ًا يهديني المنديل‪ ،‬أو‬
‫تبدل حالها‪ ،‬وألزمها المرض الفراش‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫معتادا‪ ،‬في األيام األخيرة لها‬
‫ً‬ ‫سريعا حتى أضحي شيًئا‬‫ً‬ ‫يمر األمر‬
‫ّ‬ ‫الطحينية‪،‬‬
‫منصورا الحلوى ّ‬
‫ً‬ ‫بهدي‬
‫مجددا‪ ،‬وأنه سيمكث هناك في بيت القُنصل ولن يرجع إلينا‬ ‫ً‬ ‫أما حين ماتت‪ ،‬فحسبنا أننا لن نراه‬ ‫‪.‬وصار غائبًا عما حوله‪ّ .‬‬
‫منذ وعيت وجدت أبي يعمل في بيت ال ُقنصل‪ ،‬كانوا في القرية يقولون إنّه أفضل رجالها معرفة باألشجار‪ ،‬وهذا ما جعله محل تقدير‬
‫ِّ‬
‫يردده أبي قبل سنوات‬ ‫منه‪ ،‬وبالرغم من تتالي الوكالء على ذلك البيت الغريب‪ ،‬ظلوا يحتفظون بأبي طويل ًا بعدها‪ .‬هذا ما كان‬
‫حينما نجتمع حول الموقد‪ ،‬أمي وأنا‪ ،‬ومنصور في حجره‪ ،‬كان يحمل لنا بعض الفواكه المجففة في جيبه‪ ،‬نسعد بها ونفرح حين نراه‬
‫يقترب من البيت‪ ،‬وحين تخطو رجله أول خطوة إلى الحقل يركض نحوه منصور‪ ،‬يقفز ما إن يقترب منه‪ ،‬يحمله حتى يبلغ به‬
‫الباب‪ .‬ولكن أبي اليوم عاجز وهو يطالعه‪ ،‬لم يستطع إطعامه الحلوى التي يحبّها‪ ،‬ولم يتجرأ على حمله إلى مقدمة الباب‪ .‬يتحول‬
‫عجزه إلى تمتمة‪ ،‬ثم يتصاعد أنينًا متصل ًا‪ ،‬أبي الذي كان يخجل باألمس منا أصبح اليوم يبكي أمامنا‪ .‬ثم يرحل في اليوم التالي‬
‫!ويرجع أكثر تعبًا‬

‫ع رفتي‪ ،‬أرنو إلى جدرانها وكأنها أري بيتي في القرية‪ ،‬حيث كان منصور إلى جانبي‪ ،‬أهمس به‪ :‬منصور منصور أتراك‬ ‫ما أزال حبيسة ُ‬
‫الصغار ُمعلقة برغبات‬‫ّ‬ ‫قلوب‬ ‫بشاشة‪،‬‬ ‫أكثر‬ ‫حالت‬ ‫وجهه‪،‬‬ ‫مالمح‬ ‫تغيرت‬ ‫المذابة‪،‬‬ ‫الحلوى‬ ‫مص‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫بعد‬ ‫نومه‬ ‫في‬ ‫غط‬
‫َ‬ ‫تسمعني؟ كان قد ّ‬
‫قادما‪ ،‬يتبع حركات يده وهي تدخل‬ ‫ً‬ ‫فرح ا من أقفاصها‪ .‬أذكر كيف كان منصور يقفز كلما رأى أبي‬ ‫ً‬ ‫بطونهم‪ .‬وما إن ينالوها حتى تقفز‬
‫أيضا بما‬
‫ً‬ ‫لكن مقدار الفرح كان متباينًا‪ ،‬وأمي تبدو سعيدة‬ ‫ّ‬ ‫الصغير لتعود محملة برغباته البسيطة‪ ،‬وأنا لم أكن ألختلف عنه‪،‬‬ ‫إلى كيسه ّ‬
‫حمله أبي‪ ،‬وبعد سنوات اكتشفت أن الهدية الل ّيلية هي التي كانت تُسعدها‪ ،‬ليلتان في كل شهر يلتقي جسداهما‪ ،‬وتتناهى إلينا‬
‫وشوشتها منتصف الل ّيل‪ .‬أغفو وأستيقظ عليها‪ ،‬وفي صباح اليوم الموالي‪ ،‬أرى وجه أمي أكثر صفاء‪ ،‬ولم أفهم كيف يقلب حضور أبي‬
‫الظلمة‪،‬‬‫غامضا فيه‪ ،‬ال يمكن القبض عليه إال في ّ‬
‫ً‬ ‫أن هناك شيًئا‬‫الرجال‪ ،‬وأدركت ّ‬
‫الطريقة‪ ،‬إال حينها اكتشفت جسد ّ‬ ‫مزاج أمي بتلك ّ‬
‫الشيء الغامض‪ ،‬يخفق في البداية‪ ،‬ثم ينتهي إلى‬ ‫الدفء إليها‪ ،‬ويتحرك ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتسلل‬ ‫واحد‪،‬‬ ‫غطاء‬ ‫ويدثرهما‬ ‫بينهما‪،‬‬ ‫المسافة‬ ‫حين تختفي‬
‫‪.‬صفاء‬

‫السير‪،‬‬
‫ويحث الحصان على ّ‬ ‫ُّ‬ ‫يتوسطه يضغط على المحراث‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الطحين‪ ،‬وأبي‬ ‫يغط في نومه‪ ،‬يحلم بحقل من حلوى ّ‬ ‫ُّ‬ ‫منصور ال يزال‬
‫مستمتعا بها‪ ،‬إلى أن‬
‫ً‬ ‫فمه‬ ‫بحدود‬ ‫لسانه‬ ‫ويطوف‬ ‫يضحك‬ ‫بل‬ ‫يبكي‪،‬‬ ‫ال‬ ‫حينية‪،‬‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫الحلوى‬ ‫بدقيق‬ ‫فمه‬ ‫ويمتلئ‬ ‫يسقط‬ ‫ه‬‫يركض إليه ولكن ّ‬
‫ُ‬
‫الضاغطة على أساسه‪ ،‬ويُصعده إليها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رجله‬ ‫يسحب‬ ‫مسايرته‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫أبي‬ ‫يضطر‬ ‫المحراث‪،‬‬ ‫خشبة‬ ‫ارتقاء‬ ‫على‬ ‫كعادته‬ ‫يصر‬
‫ُ‬ ‫يبلغ أبي‪،‬‬
‫الشجرة أقصى الحقل‪ ،‬ويعود إلى األرض يحرثها‪،‬‬ ‫ويصرخ في الحصان‪ ،‬ويظل على حاله تلك حتى ينال منه التعب‪ ،‬يحمله أبي إلى ّ‬
‫مغروسا في األرض حتى تيبَّست من حوله‪ .‬في‬ ‫ً‬ ‫وأضطر أبي إلى ترك المحراث‬ ‫ّ‬ ‫ثم صارت ال تهب شيًئا‪ ،‬بارت ثم نفق الحصان‪،‬‬
‫شاهدا على يأسه من الغيث الذي ال يأتي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يحدق به طويل ًا‪ ،‬ثم يقترب ويُعاينه‪ .‬كنت أفهم أبي‪ ،‬أراده‬ ‫ّ‬ ‫زياراته األولى‪ ،‬يلتفت إليه‪،‬‬
‫تعد التشققات التي انتابت األرض‪ ،‬ثم تكاثرت ولم تعد هنالك فائدة‬ ‫ُّ‬ ‫السماء‪ ،‬وأضحت مطأطئة‬ ‫بعد أن ك ّف َت الوجوه عن اإلبصار تجاه ّ‬
‫الدجاج من مكان آلخر‪ ،‬وأكون في إثره‪ ،‬ال نأبه بنداء‬ ‫عدها‪ ،‬حينها كانت أمي حية‪ ،‬وكان منصور يضحك من عافيته‪ ،‬يُطارد ّ‬ ‫من ِ ّ‬
‫‪.‬أمي‬

‫حمة‪ ،‬وال كما اعتقدها ابن ميّار‪ ،‬كلما مضى منها يو ٌم‬ ‫ّ‬ ‫اختلفت تلك األيام عن األيام األولى لدخولي المحروسة‪ ،‬لم أرها مثلما رآها‬
‫الحي الذي ظننت أنه أفضلهم لم يكن ليختلف عنهم‪ ،‬بدا من الوهلة األولى‬ ‫ّ‬ ‫مزيدا من الكراهية ألهلها‪ ،‬حتى شيخ‬ ‫ً‬ ‫يولِ ّد في نفسي‬
‫الطيبة‪ ،‬أومأ لي بالسير معه‪ ،‬وتبعته‬ ‫ّ‬ ‫كل‬ ‫تحمالن‬ ‫عيناه‬ ‫وق‪،‬‬ ‫الس‬
‫ُّ‬ ‫ساحة‬ ‫في‬ ‫مني‬ ‫اقترب‬ ‫ا‪،‬‬ ‫د‬ ‫ج‬
‫َ ًّ‬ ‫باألحرى‬ ‫أو‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ثاني‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫أب‬ ‫فيها‬ ‫التي رأيته‬
‫الحي‪ ،‬أدخلني إليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نهاية‬ ‫في‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ت‬ ‫بي‬ ‫بلغنا‬ ‫حتى‬ ‫جانبه‬ ‫إلى‬ ‫كنت‬ ‫لديه‪،‬‬ ‫يجتمعون‬ ‫حينها‬ ‫أو‬ ‫بهم‪،‬‬ ‫مر‬
‫َّ‬ ‫كلما‬ ‫رونه‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫يو‬ ‫جار‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫رأيت‬ ‫ألني‬
‫بأعمال‬
‫ٍ‬ ‫زوجته‬ ‫تنهكني‬ ‫لم‬ ‫األولى‪،‬‬ ‫األيام‬ ‫كانت‬ ‫حو‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫هذا‬ ‫وعلى‬ ‫‪.‬‬ ‫إليه‬ ‫آوي‬ ‫آخر‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ت‬ ‫بي‬ ‫وجدت‬ ‫أنني‬ ‫اعتقدت‬ ‫وأوالده‪،‬‬ ‫زوجته‬ ‫إلى‬ ‫مني‬ ‫وقد‬
‫َّ‬
‫الشيخ في فناء البيت‬ ‫يمر بي ّ‬‫ّ‬ ‫َابهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫إلى‬ ‫األطفال‬ ‫أوقظ‬ ‫ثم‬ ‫البيت‪،‬‬ ‫أعمال‬ ‫أبدأ‬ ‫فجر‪،‬‬ ‫كل‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أستيقظ‬ ‫كنت‬ ‫نفسي‬ ‫تلقاء‬ ‫من‬ ‫كثيرة‪،‬‬
‫الشهر الثّاني‬
‫الشهر األول على ما يرام‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫ومر ّ‬
‫ّ‬ ‫غادرا‪،‬‬
‫يتحين للصالة‪ ،‬أراه وهو يتوضأ‪ ،‬يتأملني من مكانه ثم أسمع وقع خطواته ُم ً‬
‫الشيخ كان يُطيل النّظر إلى جسدي‪ ،‬أنتبه إليه في انشغالي‪ ،‬يتابع حركتي‪ ،‬الحظت زوجته اهتمامه‬ ‫كان مختلفًا‪ ،‬إذ ال حظت أن ّ‬
‫تحو ل إلى اقتراب ثم احتكاك‪ ،‬إلى اقتراب ثم احتكاك‪ ،‬يتحين الفرص حتى نكون وحيدين‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫تحرش عينيه بي‬ ‫ُّ‬ ‫ال ّزائد بي منذ البداية‪،‬‬
‫يدنو مني يسألني إن كانت إقامتي بينهم تروقني‪ ،‬وأحيانًا كان يلج غرفتي فجأة‪ ،‬أكون في نصف ثيابي فال يحتشم‪ ،‬تتفحص عيناه‬
‫وتتحول‬
‫َّ‬ ‫الرجاء‪ ،‬فيغادر على مضض‪ ،‬تلمحه زوجته من طرف الباحة‪،‬‬ ‫مسم ًرا وسط الغرفة‪ ،‬وأطيل ّ‬ ‫َّ‬ ‫جسدي‪ ،‬أرجوه المغادرة لكنه يظل‬
‫حم لني ما ال طاقة لي به من أعباء البيت‪ ،‬تصرخ في وجهي كلما يتقابل وجهانا‪ ،‬لم أكن ألدافع عن نفسي‪،‬‬ ‫فظة‪ ،‬تُ ِ ّ‬ ‫معاملتها‪ ،‬صارت ّ‬
‫الرجل‪ ،‬بالتأكيد كانت‬ ‫ّ‬ ‫حضن‬ ‫في‬ ‫إال‬ ‫المرأة‬ ‫مزاج‬
‫ُ‬ ‫يكتمل‬ ‫ال‬ ‫الكثير‪،‬‬ ‫مني‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫أبي‬ ‫غياب‬ ‫في‬ ‫أمي‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫يتم‬ ‫كان‬ ‫الذي‬ ‫كنت أفهمها‪ .‬النّزق‬
‫الصمت حين يعلو صوتها‪ ،‬وكلما ُأنهكت من ذلك أنسحب‪ ،‬كانت‬ ‫سوءا وهي ترى ميوالت زوجها تجاهي‪ .‬وأركن إلى ّ‬ ‫ً‬ ‫ستصبح أكثر‬
‫تدري في داخلها أنه ال دخل لي‪ ،‬ولكن ّها مع ذلك وقفت له في الباحة في ذلك اليوم‪ ،‬سمعت صراخها ‪ :‬ال أريدها‪ ،‬تلك المجنونة‬
‫مفهوما بينهما‪ ،‬وانتهيا‬
‫ً‬ ‫صدقها‪ ،‬وال يجرؤ على عصيان أمرها‪ ،‬كل شيء كان‬ ‫تظل تصرخ في البيت حتى يسمعها الجيران‪ .‬ما كان ليُ ِ ّ‬
‫المرة‪ ،‬كانت أفواه التُّجار تُعيد ما‬
‫ّ‬ ‫السوق‪ ،‬ولكن هذه‬
‫إلى طردي من البيت‪ ،‬ومثلما دخلته متأبطة صرتي‪ ،‬رحلت عنه‪ ،‬وافترشت أرض ُّ‬
‫استوعبت‬
‫ُ‬ ‫الحي ‪ ،‬مثلما كانت عيونهم تراقب جسدي‪ ،‬كل تاجر يطلب أن أفترش المكان قرب حانوته‪ ،‬بعد أشهر فقط‪،‬‬
‫ّ‬ ‫روجه شيخ‬
‫َّ‬
‫‪.‬كيف ينظر رجال المحروسة إلى النّساء‪ ،‬مع أن ُجلَّهم كانت لديه أكثر من امرأة في بيته‬

‫الظالم‪ ،‬قد سافر ابن ميّار‪ ،‬فاهت ّ َز قلب زوجته‪ ،‬بعد‬ ‫طالت غيبة الل ّة سعدية عن غرفتي‪ ،‬ومن خالل الكوة انتبهت إلى حلول ّ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬وقفت أتلمس طريقي أبحث‬ ‫ّ‬ ‫أنتظر‬ ‫وأنا‬ ‫شعرت‬ ‫سنوات العشرة أصبح أكثر من زوج‪ .‬النّساء أشد تعلّقًا بالرجال‪ .‬ربما هكذا‬
‫فارا من الجنود الفرنسيين‪،‬‬ ‫السل ّاوي ّ ً‬
‫ّ‬ ‫ظهر‬ ‫‪.‬‬ ‫الجدار‬ ‫على‬ ‫الس راج‪ ،‬وبصعوبة وجدته ثم أشعلته‪ ،‬ورأيت ما تبقى من خياالته النّافرة‬
‫عن ّ‬
‫الضوء‬
‫مبتعدا عنهم بمسافة‪ ،‬حركت رأسي إلى التماع ُّ‬ ‫ً‬ ‫الطلقات تتتالى هي األخرى في إثره‪ ،‬ثم رأيت خياله يقفز‬ ‫انتبهت إلى أصوات ّ‬
‫الحي‪ ،‬الذي لم يعجبه بقائي في‬ ‫ّ‬ ‫على اآلنية‪ ،‬كانت مثلما التي في بيت تاجر النّحاس حيث أقمت بعد رحيلي عن بيت شيخ‬
‫السيد‪ ،‬قد وعدني أن‬ ‫ّ‬ ‫هذا‬ ‫رافقي‬ ‫للعراء‪،‬‬ ‫علي مكانًا آخر‪ ،‬يومها اقترب مني وقال‪ :‬يا ابنتي ال يُمكنك البقاء هنا‬‫َّ‬ ‫السوق‪ ،‬فاقترح‬
‫ُّ‬
‫مد التاجر بالصرة‬
‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬‬ ‫معك‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫طيب‬ ‫‪.‬يكون‬

‫الحي‪ ،‬ولجنا سقيفة طويلة‪ ،‬وكلما خطونا بها زادت ضيقًا‪ ،‬حتى انتهت إلى باب وحيد‪ ،‬عبرناه إلى سقيفةٍ أخرى‬
‫ّ‬ ‫وهكذا عبرنا شوارع‬
‫الد ار‪ ،‬حيث وقفت زوجته تنتظرنا‪ ،‬وما إن رأيتها حتى دهمني شعور غريب‪ ،‬كأني أعرف هذه المرأة‪ ،‬أوشكت أن أقفز‬ ‫تنتهي بباحة ّ‬
‫تسمرت وبقيت صامتة أحدق في وجهها المألوف‬
‫َّ‬ ‫‪.‬تجاهها فأحضنها‪ ،‬ولكنني‬

‫كانت تشبه أمي حتى في الحركات البسيطة واإليماءات‪ ،‬مثلما حملت بعض مزاجيتها‪ ،‬وإن لم تصاحبها بالحنان الذي كانت أمي‬
‫لكن أمي رحلت ذلك اليوم وخلَّفتني وحيدة‪ ،‬حتى وأنا في‬ ‫ّ‬ ‫تغدقه علي بعد كل خصام‪ ،‬تحضنني وال تفارقني إال بعد أن أرضى‪،‬‬
‫يوم ما‪ ،‬ولم تحتمله أمي فألزمها‬
‫ٍ‬ ‫حل في‬‫َّ‬ ‫وهن يسمعن حكاية الوباء الذي‬‫ّ‬ ‫دائما أعيد حكايتها لنسائه‪ ،‬كن يبكين‪.‬‬
‫ً‬ ‫المبغى كنت‬
‫الصغير‪ ،‬وفي‬
‫الدواء الذي جلبه أبي من المدينة كان شافيًا لها‪ ،‬حين نامت وهي تبتسم لي ولمنصور ّ‬ ‫قدرنا أن ّ‬
‫أياما‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫المرض الفراش‬
‫صرخت‪ ،‬كان منصور إلى‬
‫ُ‬ ‫تند عنه‪ ،‬امتدت يدي إليها ته ّزُها ولكن ال مجيب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫باردا‪ ،‬وال حركة‬
‫ً‬ ‫الصباح أفقت‪ ،‬وتفقدتها‪ ،‬كان جسدها‬
‫ّ‬
‫‪.‬جانبي‪ ،‬ومن خلفه وقف أبي صامتًا‬

‫الصرة التي تأبطها زوجها‪ ،‬فتحتها في حذر‪ ،‬ثم‬


‫دنت زوجة التاجر أكثر مني‪ ،‬وتشممت جسدي‪ ،‬ثم أمسكت أنفها‪ ،‬وامتدت يدها إلى ُّ‬
‫أحتج على تصرفها‪ ،‬حتى وهي تسحبني من يدي إلى غرفة‬ ‫َّ‬ ‫كومتها في إناء نحاسي وأشعلت النّار بها‪ ،‬تسمرت في مكاني‪ ،‬ولم‬ ‫َّ‬
‫الرائحة الكريهة التي أحملها‪ .‬دقائق‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫وأتخلص‬ ‫نفسي‪،‬‬ ‫أنظف‬ ‫أن‬ ‫طلبت‬ ‫داخله‪،‬‬ ‫كنت‬ ‫ثم‬ ‫صغير‪،‬‬ ‫حمام‬ ‫مثل‬ ‫لي‬ ‫بدت‬ ‫الباحة‪،‬‬ ‫أقصى‬
‫وشرع باب الحمام عن ُدوجة مختلفة عن تلك التي دخلته‬‫َ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬حامل ًة ثيابًا نظيفة‪،‬‬
‫‪.‬قضيتها هناك‪ ،‬لتعود ّ‬
‫شهورا‪ ،‬أعيش‬
‫ً‬ ‫ضاجا باألطفال‪ ،‬ليس مثل بيت التاجر‪ ،‬رغم أنه كان طيبًا بما فيه الكفاية لتمتد إقامتي معهم‬ ‫ًّ‬ ‫الحي كان‬
‫ّ‬ ‫بيت شيخ‬
‫ودية مع زوجته‪ ،‬كانت مهووسة بالنظافة‪ ،‬تظل تذرع البيت‪ ،‬تفتش‬ ‫الحي لم تكن له عالقات ِّ‬
‫ّ‬ ‫ونساء‬ ‫بيته‪،‬‬ ‫يرتادون‬ ‫زوار‬ ‫ال‬ ‫رتيبة‪،‬‬ ‫حياة‬
‫عن أماكن لم يصلها الماء‪ ،‬تصيح باسمي فأسرع إليها‪ ،‬والدلو في يدي‪ ،‬ويتكرر النّداء أكثر من مرة في اليوم‪ ،‬وحتّى حينما ينتصف‬
‫الل ّيل‪ ،‬تظل تتمتم وتخطو في باحة البيت‪ ،‬ي ُفيقني نداؤها‪ ،‬أبحث عنها والقنديل في يدي‪ ،‬أجدها في غرفة جانبية‪ ،‬تشير إلى مكان‬
‫منه‪ ،‬وتصرخ‪ :‬الجرذان الجرذان‪ ،‬وحين تضاء ال ّزاوية ال أجد بها شيًئا‪ ،‬في األيام األولى بدا األمر مألوفًا‪ .‬ولكن مع تكرر المشاهد‬
‫علي من الباحة‪ ،‬أضحت تلج‬ ‫َّ‬ ‫وهما‪ .‬وبعد أن كانت تنادي‬ ‫ً‬ ‫الل ّيلية صرت موقنة أنها لم تكن على ما يرام‪ ،‬بل إن ما تراه كان‬
‫غرفتي‪ ،‬وتصيح عند رأسي‪ ،‬أنها ترى ثعابين بغرفتها‪ ،‬أسير بمجاورتها‪ ،‬وتُضيء الغرفة‪ ،‬وال يبدو لنا أي شيء‪ ،‬يُقبل زوجها من غرفة‬
‫أخرى‪ ،‬وإلى ذلك اليوم فقط اكتشفت أنه لم يكن يقاسمها الفراش‪ ،‬وفي صباح اليوم التالي نعود إلى سيرتنا‪ ،‬نغلق جميع ثقوب‬
‫تحدثني نفسي أنها‬
‫ّ‬ ‫جدران البيت وأرضياته‪ ،‬ويصل الماء والصابون أماكن قالت إنها لم تُنظف بعد‪ .‬وفي المساء أعود إلى غرفتي‪،‬‬
‫مرت أشهر‪ ،‬تتجدد مخاوفها‬ ‫دائما في ظني‪ ،‬إذ تعود إلى غرفتي ويتعالى صراخها‪ ،‬وهكذا دواليك ّ‬ ‫ً‬ ‫المرة األخيرة لهذا الكابوس‪ ،‬وأخطئ‬ ‫ّ‬
‫برر‬
‫من أشيا ٍء ال تراها إال هي‪ ،‬وأضطر إلى مسايرتها‪ ،‬كان زوجها أحيانًا يعتذر عما يبدر من زوجته‪ ،‬وأكتشف أنه ال يقول كل شيء‪ ،‬يُ ّ‬
‫مرة‪ ،‬تُبصر أشياء في‬
‫كل ّ‬‫إلي في ّ‬‫َّ‬ ‫نهارا‪ ،‬وامتد النّداء‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫تمض إال أيا ٌم قليلة‪ ،‬حتى صار ما يُرى ليل ًا يُرى‬ ‫بمرض قديم‪ ،‬ولم‬ ‫ٍ‬ ‫تصرفاتها‬
‫حضوري ال أبصرها‪ ،‬وتختبئ خلفي كأنها كانت تُفزعها‪ .‬وفي صباح يوم آخر لم تغادر غرفتها‪ ،‬أردت إيقاظها‪ ،‬فاكتشفت أن الباب كان‬
‫الرواق‪ ،‬طلب مني التاجر التزام غرفتي‪ ،‬ومن خصاص بابها‬ ‫مغلقًا‪ ،‬وغادرت إلى باحة البيت حينما سمعت وقع أقدام قادمة من ّ‬
‫صوت يتلو القرآن من غرفتها‪ ،‬ساعة أمضياها هناك‪ ،‬ثم سمعت وقع‬ ‫ٌ‬ ‫إلي‬
‫َّ‬ ‫خا يرافقه‪ ،‬قدرت أنه إمام المسجد‪ ،‬حين تهادى‬ ‫رأيت شي ً‬
‫‪:‬األقدام المغادرة للبيت‪ ،‬عدت على رؤوس أصابعي إلى الباحة‪ ،‬وانتبهت إلى التاجر يعود إلى هناك‪ ،‬حدق بي‪ ،‬ثم قال‬

‫سيدتك ُمتعبة‪ ،‬ال يمكن اآلن التنبؤ بها ستفعله‪ ،‬قال اإلمام إن الجنّي الذي يسكنها يأمرها بفعل أشياء خطيرة‪ ،‬وربما ستقتل ‪-‬‬
‫‪.‬أحدهم إذا أمرها بذلك‬

‫‪:‬حدقت به مليًا‪ ،‬ثم تكلمت‬


‫ّ‬

‫ال أظن يا سيدي أن زوجتك ستُقدم على قتلي‪ ،‬أنا على األقل؟ ‪-‬‬

‫!ولكني ال أضمن هذا يا ُدوجة ‪-‬‬

‫إذن ما الذي ستفعله؟ ‪-‬‬

‫‪.‬سأعيدها إلى بيت أهلها‪ ،‬هذا المساء ‪-‬‬

‫أيضا؟ ‪-‬‬
‫ً‬ ‫علي المغادرة أنا‬
‫َّ‬ ‫إذن‬
‫‪.‬هذا ما سيحدث يا ُدوجة لألسف ‪-‬‬

‫الشوارع التي كنت أجوبها كل يوم‪ .‬في ذلك المساء رأيتها آخر مرة‪ ،‬في‬ ‫حتى في بقائها كنت سأقبل الحياة معها‪ ،‬كان أهون من ّ‬
‫إلي وكأنها لم ترني‪ ،‬كانت تنقل خطواتها تتأبط يد زوجها‪ ،‬سرت في إثرهما حتى بلغنا‬ ‫َّ‬ ‫أسوأ حاالتها‪ ،‬متعبة وعيناها زائغتان‪ ،‬التفتت‬
‫الرجل‪ .‬وما إن أتمت جملتها حتى سحبها زوجها‬ ‫ّ‬ ‫هذا‬ ‫سيؤذيك‬ ‫وجة‪،‬‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫يا‬ ‫هنا‬ ‫تبقي‬ ‫ال‬ ‫‪:‬‬ ‫الباب الخارجي‪ ،‬قالت حين بقينا وحيدتين‬
‫الشارع‪ .‬وفي اليوم الموالي‪ ،‬حملت صرتي‬ ‫خارج البيت‪ ،‬ومن ثقب الباب رأيتها تعتلي ظهر البغل‪ ،‬ومن ثم غابا عبر منعطف ّ‬
‫الشوق أنه باع البيت لتركي‪ ،‬ورحل إلى فأس‪ ،‬وآخرون قالوا بل إلى‬‫ورحلت عن البيت‪ ،‬ولم أر تاجر النّحاس بعدها‪ ،‬وأشيع في ّ‬
‫الدكان بأمره‪ ،‬رأيتهم هناك‬
‫الحي بعد شهر‪ ،‬وطلبوا فتح ّ‬
‫ّ‬ ‫تونس‪ ،‬وظل دكانه مغلقًا‪ .‬اجتمع أولئك الذين ترك مصالحهم ُمعلَّقة إلى شيخ‬
‫‪.‬متحل ّقين حول الباب‪ ،‬ثم وهم يكسرون قفله‪ ،‬ويأخذون أشياءهم‬

‫علي‬
‫َّ‬ ‫طرق ُمستمر على الباب‪ ،‬ثم رأيت خيال الل ّة سعدية ونداءها‬
‫ٍ‬ ‫‪:‬انتبه إلى‬

‫ُدوجة ما الذي يُبقيك وحيدة هنا كل هذه المدة؟ ‪-‬‬

‫السل ّاوي ‪-‬‬


‫‪.‬طالت غيبة ّ‬
‫السابقة ‪-‬‬
‫المرات ّ‬
‫ّ‬ ‫‪.‬نعم‪ ،‬قد طالت أكثر من‬

‫ونمد ارجلنا‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الدار‪ ،‬نجلس‬
‫لم آلف الخوض معها في أحاديث انتظاري للسالوي‪ ،‬بالتأكيد لم تكن مثل الل ّة زهرة‪ ،‬كنا نفترش باحة ّ‬
‫دوما أن أجمل األغاني التي تُحيي أعراس المحروسة هي التي أل ّفها اليهود‪ ،‬وكنت‬ ‫ً‬ ‫صر‬
‫ونغني األغنيات القديمة التي تحفظها‪ ،‬تُ ّ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬ويجلس قبالتنا‪ ،‬وتتعلق عيناي به‬
‫الريفيون‪ ،‬ونظل نردد األغاني إلى أن يأتي ّ‬ ‫أعارضها على الدوام أن أجملها ما يأتي به ّ‬
‫الصحن ثم ترتفع إلى فمه‪ ،‬وتحملق‬ ‫السمن‪ ،‬أطالع حركات يده تحمل قطعة الخبز‪ ،‬نغمسها في ّ‬ ‫ونحن نغمس الخبز في ال ّزيت‪ ،‬أو ّ‬
‫يودعنا بعجل‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫يديه‪،‬‬ ‫ويمسح‬ ‫فجأة‬ ‫يقف‬ ‫ّاوي‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫ولكن‬ ‫‪،‬‬‫استمر‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫بل‬ ‫أراعيها‪،‬‬ ‫وال‬ ‫عيني‪،‬‬ ‫وأنزل‬ ‫‪.‬الل ّة زهرة بي‪ ،‬وهي أن أحتشم‬

‫تقدمت تجاه الل ّة سعدية والقنديل في يدي‪ ،‬كنت أتوق أن أحدثها عن كل شيء‪ ،‬عن اشتياقي لمنصور‪ ،‬وحنيني ألبي‪ .‬في األيام‬
‫أشد صفرة‪ ،‬يُالصق‬‫ّ‬ ‫األخيرة له‪ ،‬كان شبه رجل فقط بعد رحيل منصور‪ ،‬بالرغم من يقينه بعدم نجاته‪ ،‬بعد تغيّر لون جلده‪ ،‬أضحى‬
‫العظم‪ ،‬وفقد القدرة على الكالم‪ ،‬ثم لم يعد يرانا‪ ،‬نحرك أيدينا فوق وجهه فال ترف عيناه‪ ،‬ثالثة أيام ثم استحالت إلى البياض‪ ،‬وأبي‬
‫كان يرى كل تلك التحوالت‪ ،‬عاج ًزا ال يحرك ساكنًا‪ ،‬كل يوم نصحو ونتحسس جسده‪ ،‬يصدر صوتًا أقرب إلى الحشرجة‪ ،‬والسائل‬
‫باردا لم يرتعش من أثر الل ّمسة‬ ‫ً‬ ‫الصباح األخير‪ ،‬تحسست جسده‪ ،‬كان‬ ‫الغريب ينزف من أنفه‪ ،‬ثم أضحى يتدفق من أذنيه‪ ،‬وفي ّ‬
‫أحدا من أهل القرية ونحن نحفر‬ ‫ً‬ ‫األولى‪ .‬أدركت أن منصور قد رحل إلى العالم اآلخر‪ ،‬وبكى أبي‪ ،‬انهمرت دموعه أمامي‪ ،‬لم يخبر‬
‫قبرا على يمين قبر أمي‪ ،‬حفرة صغيرة أسلمه أبي إلى داخلها‪ ،‬هممت بمنعه‪ُ ،‬خيّل لي أن منصور ال يزال حيًّا‪ ،‬وسيختنق بها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫له‬
‫منصورا التُراب أسفل الحفرة‪ ،‬ثم أزاح الكفن عن وجهه النّحيف‪ ،‬انتظرت أن يفتح‬ ‫ً‬ ‫لكن أبي كان ال يعي العالم من حوله‪َ .‬و ّسد‬ ‫ّ‬
‫الطحينية‪ .‬بكيت حين غاب وجهه بعد‬ ‫وحيدا‪ُ ،‬خذيني من هنا‪ ،‬سأقاسمك الحلوى ّ‬ ‫ً‬ ‫علي‪ُ :‬دوجة يا ُدوجة‪ ،‬ال تتركيني‬ ‫َّ‬ ‫عينيه‪ ،‬وينادي‬
‫الضوء‪ ،‬ثم عدنا إلى البيت‪ ،‬لم ننم‬ ‫أن َس َقف القبر‪ ،‬وبكينا طويل ًا ونحن نكوم التراب فوق جسده الهزيل‪ ،‬وجلسنا هناك حتى غاب ّ َ‬
‫ليلتها‪ ،‬بل تقابلنا في الغرفة والظالم يمأل الفراغ من حولنا‪ ،‬وفي اليوم الثّاني طلب مني َحز َم أغراضي‪ ،‬قد قرر اصطحابي إلى‬
‫البيت حيث يعمل‪ ،‬لم أشأ مرافقته‪ ،‬كما أنني لم أرغب في مفارقته‪ ،‬كنت أريد البقاء في البيت‪ ،‬حيث قبر أمي ومنصور‪ ،‬بينما كان‬
‫لكن‬
‫ّ‬ ‫محرمة على عينيه‪ ،‬يُنبّهني أال أعيد سيرتهما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يفر منهما‪ ،‬ولم أنتبه إلى ذلك‪ ،‬حتى ونحن في مزرعة القُنصل‪ ،‬بدا بيتنا جهة‬
‫السماء‪ ،‬أم أن دود األرض قد أكل جسدك؟ مستحيل‬ ‫عال في البستان‪ :‬منصور أتراك هناك في ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حنيني إليهما يجعلني أنادي بصوت‬
‫السابق‪ ،‬لم يبتسم منذ رحلت‪ .‬كنت أنادي‬ ‫الد ود لحم األطفال‪ ،‬سيشفق عليهم‪ ،‬وأين أنت يا أمي؟ لم يعد أبي مثلما في ّ‬ ‫أن يأكل ّ‬
‫أما حين أرفع رأسي فأرى بيت ال ُقنصل‬ ‫ّ‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫الماء‬ ‫ويوصل‬ ‫األشجار‪،‬‬ ‫ببعض‬ ‫يعتني‬ ‫أبي‪،‬‬ ‫مكان‬ ‫إلى‬ ‫وأعود‬ ‫‪.‬‬ ‫مجيب‬ ‫عليها وال‬
‫الرجل‬‫ّ‬ ‫وجه‬ ‫لي‬ ‫ويتراءى‬ ‫فجأة‬ ‫فتح‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫من‬ ‫ألراها‬ ‫أكثر‬ ‫االقتراب‬ ‫أحب‬ ‫كنت‬ ‫زرقاء‪،‬‬ ‫فكانت‬ ‫نوافذه‬ ‫ا‬ ‫أم‬
‫ّ‬ ‫جدرانه‪،‬‬ ‫بيضاء‬ ‫البستان‪،‬‬ ‫نهاية‬
‫مرات من أسفل البيت‪ ،‬ثم رأيته متجول ًا بين األشجار‪ ،‬لم ينتبه وأنا أدنو ألراقبه‪ ،‬ولكنّه لمحني فجأة وهو ينعطف‬ ‫ٍ‬ ‫الغريب‪ ،‬لمحته‬
‫المرة األولى التي يراني هناك‪ ،‬ثم تعالى نداؤه على أبي‪ ،‬ورأيت‬ ‫ّ‬ ‫وحدق تجاهي طويل ًا‪ ،‬كانت تلك‬ ‫َّ‬ ‫السور نهاية البستان‪ ،‬توقف‬ ‫عند ّ‬
‫أيضا من هناك انحناء أبي‪ ،‬بدا وكأنه يعتذر له‪ ،‬ولم يطل‬ ‫ً‬ ‫السيد نحوي‪ ،‬رأيت‬ ‫ّ‬ ‫يشير‬ ‫بينما‬ ‫تجاهي‪،‬‬ ‫قان‬ ‫يحد‬
‫ّ‬ ‫كانا‬ ‫ثم‬ ‫تجاهه‪،‬‬ ‫يهرول‬ ‫أبي‬
‫السيد طريقه‪ ،‬بينما ركض أبي تجاهي وامتزجت كلماته بلهاثه‬ ‫‪:‬وقوفهما إذ واصل ّ‬
‫فالسيد مستاء مني اآلن ‪-‬‬
‫َّ‬ ‫‪.‬ال تقتربي من البيت يا ُدوجة‪،‬‬

‫أهذا هو القُنصل يا أبي؟ ‪-‬‬

‫يتصرف أكثر من سيّد للبيت ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫‪.‬ال‪ .‬إنّه مجرد ضيف‪ ،‬ولكنّه‬

‫وماذا عن سيّد البيت؟ ‪-‬‬

‫‪.‬في غيابه‪ ،‬يخلف وكيله السيّد كافيار‪ ،‬وال يستريح العمال إال بعودة القُنصل ‪-‬‬

‫كان وجه أبي شاحبًا وهو يعيد كلمات السي ّد كافيار‪ .‬لم نطل المكوث هناك‪ ،‬إذ انتقلنا إلى وسط البستان‪ ،‬في ذلك اليوم رأيته كيف‬
‫كثير ا عن أهالي المحروسة وهم يقفون في حضرة األتراك‪ ،‬عدا رجل واحد‪،‬‬
‫ً‬ ‫يشقى‪ ،‬وهو يقف مذلول ًا أمام السيّد‪ ،‬ربما لم يكن ليختلف‬
‫السل ّاوي كان يجرؤ‬
‫الشتائم في وجوههم‪ّ ،‬‬
‫كان مختلفًا عن الجميع‪ ،‬حتى عن ابن ميّار‪ ،‬لم ينحن لهم‪ ،‬ولم يسايرهم‪ ،‬بل كان يقذف ّ‬
‫السل ّاوي اآلن؟‬
‫ّ‬ ‫هو‬ ‫أين‬ ‫ولكن‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫يفعل‬ ‫أن‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫القسم الثّالث‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬ديبون‬

‫‪.‬يوميات مراسل لحملة ‪ :1830‬نشرت في «لو سيمافور دو مرساي» بتصرف‬

‫‪ ‬‬

‫األسبوع األخير من ماي‬

‫بتأن مليء بالتحدي والشموخ‪ .‬كان البحر ُمتململ ًا‪ ،‬وقفت على سطح‬ ‫ٍ‬ ‫يشق الموج‬‫ُّ‬ ‫المجد لك يا لوناجور‪ ،‬والمجد لهذا الجؤجؤ الذي‬
‫ورا‬
‫التفت إلى طولون‪ ،‬لم تتراء لي إال الغيوم‪ .‬أعود بوجهي إلى الجنوب‪ ،‬فال أرى إال ُص ً‬ ‫ُ‬ ‫السفينة‪ ،‬أتمل ّى ال ّزُرقة الممتدة من حولي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫السفن‪،‬‬ ‫يردد القبطان‪ :‬ما هي إال ثالثة أيام ونرسو بماهون‪ .‬ثم ألتفت يمينًا‪ ،‬من هناك تترامى قافلة ُّ‬ ‫ّ‬ ‫رسمها من حولي عن الجزائر‪.‬‬
‫أن هناك قافلة إلى اليسار‪ ،‬تبدو أكثر نأيًا‪ ،‬تتباين‬ ‫لكن سيرها يبقى في موازاتنا‪ ،‬جعلت كذلك إلسعافنا عند الحاجة‪ .‬أتذكر ّ‬ ‫ّ‬ ‫تنأى عنا‪،‬‬
‫الصيادون‬
‫ّ‬ ‫انحنى‬ ‫بينما‬ ‫الحملة‪،‬‬ ‫لدعم‬ ‫سفنهم‬ ‫من‬ ‫جزء‬ ‫إرسال‬ ‫على‬ ‫وطولون‬ ‫مرسيليا‬ ‫تجار‬ ‫أصر‬
‫َّ‬ ‫ؤن‪،‬‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫من‬ ‫تحمله‬ ‫بما‬ ‫ومراكبها‬ ‫ُسفنها‬
‫السفن تجاه إفريقية‪،‬‬
‫والرب كان في ركابهم‪ ،‬ثم تحركت ُّ‬ ‫ّ‬ ‫قليلة‪،‬‬ ‫أيام‬ ‫قبل‬ ‫اتفق‬ ‫العالم‬ ‫كل‬ ‫‪.‬‬ ‫قواربهم‬ ‫ب‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫مباركة‬ ‫طلبوا‬ ‫‪،‬‬ ‫س‬‫ّ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ال‬ ‫أمام‬
‫الرب‪.‬‬‫ّ‬ ‫كلمة‬ ‫لنشر‬ ‫األرض‬ ‫بقاع‬ ‫في‬ ‫تفرقوا‬ ‫الذين‬ ‫الحواريين‬ ‫أولئك‬ ‫مثل‬ ‫ا‬ ‫حتم‬
‫ً‬ ‫سنكون‬ ‫‪.‬‬ ‫اس‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ستغي‬ ‫التي‬ ‫الجديدة‬ ‫التعاليم‬ ‫تحمل‬
‫الظلمة‪ ،‬يفر‬ ‫ماض سحيق‪ ،‬تعود أورشليم مدينة محاطة بأسوار عالية‪ ،‬وأبواب تفتح على ّ‬ ‫ٍ‬ ‫صورا من‬ ‫ً‬ ‫كنت مأخوذًا بال ّزُرقة التي تُبدي لي‬
‫السفينة‪ .‬تدنو األصوات‬‫منها رجال‪ ،‬ويقفز جنود رومان في إثرهم‪ .‬أصغي إلى دبيب أقدامهم على أرصفة أورشليم‪ ،‬أو لعله سطح ّ‬
‫‪:‬أكثر‪ ،‬ثم أنتبه إلى كافيار‪ .‬أتساءل ما الذي يجعله يقترب هذه المسافة‪ ،‬وقد كان يُطيلها؟! وقف إلى جانبي ثم تكل ّم‬

‫تر شيًئا بعد يا سيد ديبون حتى تُ َّ‬


‫جن؟ ‪-‬‬ ‫لم َ‬
‫ما الذي تقصده يا سيد كافيار؟ ‪-‬‬

‫‪.‬منذ لحظات وأنت تكل ّم نفسك ‪-‬‬

‫وهل يزعجك هذا؟ ‪-‬‬

‫‪.‬انظر إلى الذين من حولك ‪-‬‬

‫أن بعض األحالم ال يمكن لإلنسان الجهر بها‪ ،‬بالرغم من أنها في أذهان الجميع‪ .‬لم‬
‫إلي ساخرين‪ ،‬أدركت ّ‬
‫َّ‬ ‫كان الجنود يشيرون‬
‫وحيدا‪ ،‬سأخرج من الباب‬
‫ً‬ ‫الس اخرة‪ ،‬فانسحبت إلى الغرفة واستلقيت هناك بقية اليوم‪ .‬قررت أني سأكمل أحالمي‬‫أحتمل وجوههم ّ‬
‫في إثر الحوارين ثم أجلس إلى جانبهم في حقل ال ّزيتون‪ ،‬وسأقاسمهم الخبز والخمر‪ ،‬وربما يصحبونني إلى فيافي بعيدة‪ ،‬وهناك‬
‫‪.‬يمكنني قول ما أريد‪ ،‬ألنّه بالتأكيد لن يختلف عن الوصايا التي يحملونها‬

‫وحيدا‪ ،‬إذ دق الباب‪ ،‬ثم فُتح ورأيت كافيار بوجهٍ باش‪ ،‬جلس إلى جانبي‪ ،‬وقال‬
‫ً‬ ‫‪:‬لم ي َ ُطل مكوثي‬

‫صغيرا يا ديبون ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬ما زلت‬

‫‪:‬أزال الكلفة بسرعة‪ ،‬ثم سحب من جرابه غليونًا‪ ،‬وحشاه بالتبغ‪ ،‬أشعله ونفخ في سطح الغرفة الواطئ‪ ،‬وأردف‬

‫الطريقة ال يُمكنك احتمال يوم واحد في إفريقية؟ ‪-‬‬


‫!بهذه ّ‬
‫وحيدا هناك ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬لن أكون‬

‫‪.‬ولكنك منذ اآلن وحيد‪ ،‬تعيش مع خياالتك وأوهامك ‪-‬‬

‫وما أدراك بي يا كافيار؟ ‪-‬‬

‫لكن مالمحه ظلت على حالها‪ ،‬حتى وهو يضيف‬


‫ّ‬ ‫متعمدا إسقاط الكلفة بيننا‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪:‬قلت ذلك‬

‫لكن احتجت إلى سنوات ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫يتفوهوا بكلمة‪ .‬كنت مثلك‬
‫ّ‬ ‫غنى عن نبش تاريخ بعض النّاس‪ ،‬هم يقولون كل شيء دون أن‬
‫ً‬ ‫نحن في‬
‫أما أحالمي فال يفصلنا عن تحقيقها إال أيام قليلة‬
‫‪.‬عديدة كي أتخلص من بعض أوهامي‪ّ ،‬‬
‫مرة يتكلم كافيار‪ُ ،‬أفاجأ بامتالئه‪ .‬بدا مثل أولئك الجواسيس الذين أرسلهم نابليون إلى باريس ومرسيليا‪ ،‬أو ربما مثل أولئك‬
‫كل ّ‬‫في ّ‬
‫عليما بكل خباياهم‪ ،‬القُ َّواد منهم‪ ،‬وحتّى العرب البسطاء وعالقاتهم باألتراك‪،‬‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫بها‬ ‫أسطوله‬ ‫يرسو‬ ‫أن‬ ‫وقبل‬ ‫مصر‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫أرسلهم‬ ‫الذين‬
‫كيف يفكرون‪ ،‬وكيف يحلمون ‪َ .‬خ ّ َمنت أن كافيار كان بينهم‪ ،‬ولكن سنّه بدت لي صغيرة إذا ما قُورنت بال ّزَمن الذي سار به نابليون‬
‫الشرق‬
‫‪.‬تجاه ّ َ‬

‫الدخان بهدوء‪ ،‬ولم أنتظر حتى يبادرني بالسؤال إذ قلت‬


‫‪:‬ظللت أن بينها كان كافيار يحشو غليونه بمزيد من التّ َبغ‪ ،‬وينفث ّ‬

‫تناقضا؟ ‪-‬‬
‫ً‬ ‫وما الذي يرغم رجل ًا مثلك‪ ،‬يمقت قائد الحملة‪ ،‬أن يسير في ركابها‪ ،‬أليس هذا‬

‫‪.‬ال يوجد شيء اسمه التناقض حين يتعلق األمر بالمصالح‪ ،‬ما يشغلني اآلن هدفنا المشترك ‪-‬‬

‫الدرجة تعني الحملة لك الكثير؟ ‪-‬‬


‫ألهذه ّ‬

‫مجرى ‪-‬‬
‫ً‬ ‫حدد لهم‪ ،‬ليصبحوا ُمجبَرين على اتخاذ‬
‫مفيدا‪ .‬مصائر بعض النّاس تُ ّ‬
‫ً‬ ‫المرة الوحيدة التي أسمعك تقول فيها شيًئا‬
‫ّ‬ ‫هذه هي‬
‫‪.‬واحد‬

‫ولكن ما كنت ُتعبر عنه‪ ،‬ينطبق على جميع النّاس؟؟ ‪-‬‬

‫لكن ما يجعلني مختلفًا عن الجميع‪ ،‬أن النّهر اآلن قد اقترب من البحر‪ ،‬أيام قليلة ثم تُبصر انهماره في ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ربما كنت محقًا‪،‬‬
‫‪.‬سيدي فرج‬

‫قال كافيار كلماته األخيرة‪ ،‬وهو ينفض غليونه‪ ،‬ثم أعاده إلى جرابه‪ ،‬حمل نفسه وغادر الغرفة‪ .‬انتظرت حتى صفق الباب‪ ،‬وخطا‬
‫السلم تجاه غرفة القبطان‪ ،‬ودون أن ينتبه تعقبته‪ .‬سار‬
‫الشمال فتبعته‪ ،‬رأيته يصعد ُّ‬
‫مسافة منه‪ ،‬خرجت في إثره‪ ،‬انعطف إلى ّ‬
‫الر واق‪ ،‬وحين بلغ مكتب القبطان امتدت يده إلى بابه‪ ،‬فتحه وغاب داخل الغرفة‪ ،‬أوقعني كافيار في الحيرة‪ ،‬لم يدق‬
‫خطوات في ّ‬
‫‪.‬الباب! أو ينتظر حتى يؤذن له مثلما يفعل البقية‪ .‬لم أجرؤ على الل ّحاق به إلى هناك‪ ،‬وتراجعت إلى غرفتي‬

‫يومان آخران في قلب البحر‪ ،‬ال ّز رقة من الجوانب كلها‪ ،‬تمر بنا سفن إنجليزية وأخرى إسبانية‪ ،‬نراها تدنو من بعيد‪ ،‬ثم تنحرف عن‬
‫السفينة التي تراءت لي في صباح اليوم الثّاني بدت مختلفة‪ ،‬وأنا أراها بمنظار القبطان‪ .‬العلم‬ ‫طريقها‪ ،‬وتمر بين القوافل‪ .‬ولكن ّ‬
‫مبتسما‪ ،‬كأنه كان موقنًا بقدومها‪ ،‬تكل ّم وهو‬
‫ً‬ ‫األخضر والهالل األصفر الذي يحضن نجمة باللون نفسه‪ ،‬تفاجأ القبطان‪ ،‬وأقبل كافيار نحونا‬
‫‪:‬يقف إلى جانبي‬

‫السلطان العثماني‪ ،‬جاء لوقف الحملة ‪-‬‬


‫‪.‬ال بد أنه رسول من ُّ‬

‫أفي مقدوره فعل ًا إيقافها؟ ‪-‬‬

‫‪.‬أن ّ َى له أن يفعل ذلك‪ .‬النّهر قد غادر المنابع‪ ،‬ولن يتوقف حتى يبلغ البحر‪ ،‬كن ُمتي ّقنًا من هذا ‪-‬‬
‫السفينة التي تدنو‪ ،‬حتى كانت إلى جانب البروفانس‪.‬‬ ‫السطح‪ ،‬ثم عاد في هيئة أخرى يقف إلى جانبي‪ ،‬يراقب ّ‬ ‫تعجل كافيار مغادرة ّ‬
‫ّ‬
‫بحاران نحونا‪ ،‬وحين بلغ لوناجور صعد‬ ‫جدف قارب به َّ‬ ‫َّ‬ ‫الرجال منها إلى سفينة األميرال‪ ،‬غابوا زمنًا هناك‪ ،‬ثم‬ ‫ومن ثم انتقال بعض ّ‬
‫السطح‪ ،‬ثم توقف كأنه نسي شيًئا‬ ‫أحدهما إلينا‪ ،‬وطلب من كافيار االلتحاق بالبروفانس‪ .‬سار كافيار إلى جانب البحار حتى بلغا نهاية ّ‬
‫ما‪ ،‬ونادي علي أللتحق به‪ .‬لم أصدق أني سأنتقل إلى البروفانس‪ ،‬قفزت تجاهه‪ ،‬وترافقنا حتى كنا بسفينة األميرال‪ ،‬خطونا سويًا على‬
‫الدخول دون استئذان‪ ،‬بل دق‬ ‫المرة على ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرواق‪ ،‬لم يتجرأ كافيار هذه‬ ‫المعبأ بالجنود‪ .‬حين وقفنا عند باب غرفة في نهاية ّ‬ ‫سطحها ُ‬
‫الباب‪ ،‬ثواني ثم فُتح‪ ،‬دخلنا غرفة واسعة صفت بها الكراسي‪ ،‬رأيت من مكاني عند الباب أربعة ُضبَّاط يجلسون متقابلين عند نهاية‬
‫المرة األولى التي أرى‬‫ّ‬ ‫العثماني على رؤوسهم عمائم‪ ،‬وضع أوسطهم أكبرها‪ ،‬كانت‬ ‫الطاولة في حين جلس ثالثة رجال آخرون باللباس ُ‬ ‫ّ‬
‫خمنت أنه من الحرير‪ ،‬وشريط‬ ‫ّ‬ ‫تفحصه‪ .‬الثّياب بدت جميلة‪ ،‬قميص أسود طويل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫عثمانيًا‪ ،‬لذا لم أكن ألفوت فرصة‬
‫قائدا ُ‬
‫ً‬ ‫فيها‬
‫الشريط‪ ،‬وعلى‬ ‫بحزام حمل الل ّون نفسه مع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مزخرف شغل مكان األزرار‪ ،‬يلمع كأن خيوطه من ذهب‪ ،‬أو ربما هي كذلك‪ ،‬يتمنطق‬
‫ردد الجميع مختلفًا‪ .‬شككت أن هؤالء‬ ‫ّ‬ ‫مثلما‬ ‫جانب الحزام‪ ،‬لمعت أحجار فيروزية على مقبض الخنجر‪ ،‬كان شكل القائد‪ ،‬أو الباشا‬
‫بقلق إلى الباشا‪ ،‬كنت حينها بجانب‬ ‫ٍ‬ ‫الذين اتهموا األتراك بالغوا في ذلك‪ ،‬فلم يعكس وجهه إال الوقار‪ .‬بينما كان األميرال ينظر‬
‫وجها‬
‫كافيار‪ ،‬ثم دنوت أكثر عندما طلب منا األميرال الجلوس على يمين الباشا‪ ،‬ليقابلنا على يساره‪ .‬صمت الباشا هنيهة‪ ،‬ثم تكل ّم ُم ً‬
‫المعني بالحوار‪ ،‬فعاد الباشا بوجهه إلينا‪ ،‬وتكلم بلغته الثّانية‪ :‬قبل أيام‬ ‫ّ‬ ‫لكن هذا األخير أشار إلى كافيار‪ ،‬وكأنه‬
‫ّ‬ ‫كلماته إلى األميرال‪.‬‬
‫السلطان المعظم‪ ،‬إزاحة باشا الجزائر‪ ،‬والوصول إلى ترضية مع مل ِكك ُم‬ ‫مهمة كلفنا بها ُّ‬
‫ّ‬ ‫غادرنا إسطنبول في طريقنا إلى الجزائر‪ ،‬في‬
‫الخالف‬ ‫ِ‬ ‫‪.‬إليقاف الحملة‪ ،‬فنحن منذ البداية لم نكن موافقين على هذا‬

‫الرضا‪ .‬ثم انتقلت ببصري إلى الباشا‪ ،‬في‬ ‫صمت كافيار ثواني‪ ،‬ثم عاد يُترجم الكلمات للقائد دوبيري‪ ،‬عبّرت مالمحه عن عدم ّ‬
‫حديثه لم يحرك يديه‪ ،‬بل ظل يضع كفه اليمنى على اليسرى‪ ،‬وتُغادر الكلمات شفتيه بكل هدوء‪ ،‬بالتأكيد تُقت إلى نجاح الحملة‪،‬‬
‫الرب أن تُسفك في سبيل إعالء‬ ‫الخالف‪ ،‬كرهت إراقة دماء لم يشأ ّ‬ ‫ِ‬ ‫شعورا ما خالجني‪ ،‬وددت لو أنهم يصلون إلى إنهاء هذا‬
‫ً‬ ‫لكن‬
‫ّ‬
‫الطائل إذن من هذه‬‫الدول األوروبية‪ ،‬فما ّ‬
‫كلمته‪ .‬حين يتوقف األتراك عن القرصنة واستعباد المسيحيين‪ .‬وعن فرض ضرائب على ّ‬
‫الحملة؟ ولماذا ال تكون مثل حملة الل ّورد إكسموث؟ يُحرق أسطولهم حتى آخر سفينة‪ ،‬ويُحرر ما تبقى من العبيد هناك‪ ،‬ثم ينتهي‬
‫مضطرا إلى تحوير الترجمة‪،‬‬
‫ً‬ ‫تبرمه من الباشا‪ ،‬لذا لم يكن‬ ‫كل شيء‪ ،‬وبدا لي أن كافيار كانت له وجهة نظر أخرى‪ ،‬يُقاسم األميرال ُّ‬
‫رد من حينه‬ ‫ّ‬ ‫ترجمته‪،‬‬ ‫سماعه‬ ‫بعد‬ ‫صمته‬ ‫األميرال‬ ‫طل‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫لم‬ ‫‪:‬مثلما‬

‫هذا يعني أنك اآلن ستقصد الجزائر بسفينتك؟ ‪-‬‬

‫مترجما عن الباشا ‪-‬‬


‫ً‬ ‫رد كافيار‬
‫‪.‬نعم هذا ما سيحدث‪ّ .‬‬

‫يُؤسفني يا باشا إخبارك أنه غير مسموح لك الذهاب إلى الجزائر اآلن‪ .‬ستُرافقك إحدى ُسفننا وتعود بك إلى طولون‪ ،‬ولن تبرحها ‪-‬‬
‫‪.‬إال حين نأذن لك‬

‫السفينتين‪،‬‬ ‫ُأ‬
‫بعد أن أنهى األميرال المقابلة ذن لنا بالرحيل‪ .‬عاد بنا القارب إلى لوناجور‪ ،‬وجدنا القبطان في مكانه يراقب رحيل ّ‬
‫البحارة يُعلن أن ماهون تتراءى من بعيد‬
‫َّ‬ ‫أحد‬ ‫صياح‬ ‫تعالى‬ ‫حين‬ ‫الجنوب‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫والتفتنا‬ ‫األفق‪،‬‬ ‫خط‬ ‫‪.‬وظللنا نراقبها حتى غابتا عند‬

‫انشراحا وهم يغادرون سفنهم إلى‬


‫ً‬ ‫الص فاء في الوجوه المنقبضة من دوار البحر‪ ،‬الذي لم يألفه بعضهم بعد‪ .‬اآلن يبدون أكثر‬ ‫يسترخي ّ‬
‫أياما قليلة‪ ،‬ولكن اليابسة تعني الكثير‬ ‫ً‬ ‫إال‬ ‫تستغرق‬ ‫لم‬ ‫حلة‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫بالرغم‬ ‫للجنود‪،‬‬ ‫عيد‬ ‫مثل‬ ‫اليوم‬ ‫ذلك‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫ماهون‬ ‫رصيف ميناء‬
‫ضجوا دفعة واحدة‪ ،‬واصطفوا بالرصيف بعد أن سبقناهم‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫لمن اعتاد الحروب طويل ًا بها‪ .‬فما إن المست أقدامهم األرض حتى‬
‫الركب المرافق لألميرال غير بعي ٍد منا‪ .‬وتراءى لنا قباطنة آخرون قادمين‬ ‫وقفت وكافيار قرب القبطان بينما كان ّ‬ ‫ُ‬ ‫أقصاه راقبناهم‪،‬‬
‫الصباح‪َ .‬حيّونا بحرارة مبالغ بها‪ .‬العداء القديم الذي يحمله‬ ‫تجاهنا‪ .‬ثم سار الجمع كله نحو صف النّبالء اإلسبان المنتظرين منذ ّ‬
‫حم ديين‪ ،‬يتجدد كل حين‪ ،‬صافحونا الواحد تلو اآلخر‪ .‬وعن قرب رأيت كافيار يهمس ألحد النبالء بكلمات لم أتبيّنها‪،‬‬ ‫للم ّ‬ ‫ُ‬ ‫اإلسبان‬
‫حدث‬‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫اإلسبانية‬ ‫الكلمات‬ ‫بعض‬ ‫إلي‬
‫َّ‬ ‫تتهادى‬ ‫ثم‬ ‫إسطنبول‪،‬‬ ‫وليد‬ ‫كأنه‬ ‫العثماني‬ ‫الباشا‬ ‫مع‬ ‫يتكلم‬ ‫اسمعه‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ق‬ ‫غل‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ًا‬ ‫ق‬ ‫صندو‬ ‫جل‬ ‫الر‬
‫يظل هذا ّ‬
‫خف وجهه‬ ‫مستاء‪ ،‬لم يُ ِ‬
‫ً‬ ‫دوبيري‬ ‫األميرال‬ ‫ووقف‬ ‫بورمون‪،‬‬ ‫بالقائد‬ ‫أكثر‬ ‫بالء‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ّق‬ ‫ل‬ ‫تح‬ ‫جانبينا‬ ‫وعلى‬ ‫مسيرنا‬ ‫في‬ ‫فكرت‬ ‫بهذا‬ ‫بها النّبيل‪،‬‬
‫مالمحه المتبرمة‪ ،‬حتى ونحن في أبهى قصور ماهون‪ ،‬لم يتغير مزاجه‪ ،‬نساء سمراوات كن يختلن بين طاوالت القاعة الفسيحة‪ ،‬في‬
‫إلي األلحان‪ ،‬والعازفون منشغلون بآالتهم على‬ ‫َّ‬ ‫تسربت‬
‫ّ‬ ‫فساتين بيضاء ووردية‪ ،‬بينما كان كافيار ينزوي مع النّبيل نفسه‪ .‬من طاولتي‬
‫تجرب حظها في رقصة معه‪ ،‬ولم تخل قلوب القباطنة‬ ‫ّ‬ ‫وانشغلت بالجميالت‪ ،‬كل واحدة تختار من يُروقُها من القباطنة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يمين القاعة‪،‬‬
‫بحارا‪ ،‬غير أني صبوت إلى إحداهن‪ ،‬انزوت بعيدة عن الجموع في فستانها‬ ‫ً‬ ‫أكن‬ ‫ولم‬ ‫ساء‪،‬‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫على‬ ‫إال‬ ‫بر‬ ‫الص‬
‫ّ‬ ‫علم‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫البحر‬ ‫‪.‬‬ ‫من رغبات‬
‫خمنت أنها ابنة أحد النّبالء‪ ،‬أو ربما كلهن كن كذلك‪ .‬اقتربت منها ومددت إليها يدي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المساء‪،‬‬ ‫في‬ ‫البحر‬ ‫بلون‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ق‬ ‫غام‬ ‫كان‬ ‫األزرق‪،‬‬
‫مد ت هي األخرى يدها‪ ،‬وسرنا مسافة قليلة ثم سحبتها فكان جسدانا يتالصقان‪ ،‬صمتت ونحن نطوف حتى نكاد‬ ‫ّ‬ ‫إذ‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫طوي‬ ‫أنتظر‬ ‫ولم‬
‫نبلغ العازفين‪ ،‬ثم تكلمت حين انضم الجميع إلينا‪ ،‬لمحت من هناك كافيار‪ ،‬توقف عن اإلصغاء للنبيل‪ ،‬وعاد يراقبني‪ ،‬تُرى كيف يُفكر‬
‫كن كثيرات‪ ،‬إذ اضطر‬ ‫يتقرب من امرأة من بين الواقفات هناك؟ ّ‬ ‫ّ‬ ‫حين يتعلق األمر بالنساء؟ ال يُعقل أن يتجاهلهن كذلك‪ ،‬لماذا ال‬
‫الدورات‪ ،‬وأنهكت هي كذلك‪ ،‬ولكنني ظللت ُمتشبثًا بها‪ ،‬حتى توقف‬ ‫بعض القباطنة للرقص مع اثنتين أو ثالث‪ ،‬عداي أنا‪ ،‬أنهكت من ّ‬
‫العازفون للراحة‪ ،‬أفلتّها عند كرسي فتراخت عليه‪ ،‬ورفضت بلطف كل األيدي الممدودة‪ .‬لم يُكلمني كافيار تلك الل ّيلة‪ ،‬ولكنّه في‬
‫اهتماما بما قالته‪ ،‬ربما كانت المرأة‬
‫ً‬ ‫األيام التي تلتها سألني عن صاحبة الفستان األزرق‪ ،‬وعن األشياء التي تحدثنا بها‪ ،‬وكان أكثر‬
‫نقطة ضعفه الوحيدة‪ ،‬خمنت ذلك منذ انتبهت فيها لحملقته بي‪ .‬اكتفيت باإلجابة عن أسئلته بصدق‪ ،‬وبعد ذلك أخذت العالقة بيننا‬
‫معا‬
‫‪.‬منحى آخر‪ ،‬في باقي األيام التي قضيناها ً‬ ‫ً‬
‫‪ ‬‬
‫األسبوع األول من جوان‬

‫الراضية عن مسيرتهم‪،‬‬ ‫الساكن والسماء ّ‬ ‫ودعنا ماهون‪ ،‬وامتدت ال ّزُرقة من حولنا‪ ،‬كان الجنود يتطلعون إلى األفق فال يرون إال البحر ّ‬ ‫ّ‬
‫أخمن في األيام‬ ‫ّ‬ ‫طح‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫جانب‬ ‫على‬ ‫أغان عسكرية إذا ما انتابهم فُتور‪ ،‬وأخرى حميمية إذا ما اشتاقوا لحبيباتهم‪ .‬أبقى‬ ‫ٍ‬ ‫يُغنّون‬
‫لكن‬
‫ّ‬ ‫المقبلة وما تحمله‪ ،‬استحضرت الباشا الذي أجبروه على االنعطاف إلى طولون‪ ،‬وتمنيت لو امتدت الجلسة أكثر‪ ،‬فأعرف دخيلته‪،‬‬
‫الدائمين‪ ،‬أو‬ ‫وتبرمه ّ‬‫ّ‬ ‫لعبوسه‬ ‫األميرال دوبيري كانت له وجهة نظر أخرى‪ .‬شعرت بحنق على األميرال‪ ،‬وال أدري لماذا أنفر منه‪ ،‬ربما ُ‬
‫كثير ا‪ ،‬إذ اختاروا منذ البدء الجهة األخرى‪ ،‬حانقين على البوربون‪ ،‬يتهمونهم أنهم أرخوا الحبال لرجال‬ ‫ً‬ ‫ربما ألن البحرية لم تستهوني‬
‫أحكاما ال‬
‫ً‬ ‫المغلف بسحابة الغموض‪ ،‬وال يفتح األبواب إال حين يُريد‪ ،‬ليطلق‬ ‫الدين‪ .‬ربما كان كافيار يقاسمهم عداءهم للبوربون‪ ،‬تاريخه ُ‬ ‫ّ‬
‫متكبرا‪ .‬يظل كالمي‬ ‫ً‬ ‫يضن بها‪ ،‬فيتراءى للذين من حوله‬ ‫ُّ‬ ‫تخلو من تجربة ومعرفة عميقة باألمكنة وأمزجة النّاس‪ ،‬تحتاج إلى تفسيرات‬
‫الر جل‪ ،‬الذي جمعتني به سفينة لوناجور قبل أيام‪ ،‬وربما سأتذكره بعد سنوات وأقول إنني لم أفهمه كفاية‪،‬‬ ‫مجرد تأويالت لذهنية هذا ّ‬
‫السحابات المتراكمة‪ ،‬ولم‬ ‫ّ‬ ‫أراقب‬ ‫طح‪،‬‬ ‫الس‬
‫َّ‬ ‫حافة‬ ‫عند‬ ‫مكاني‬ ‫في‬ ‫ا‬ ‫متسمر‬
‫ً‬ ‫كنت‬ ‫‪.‬‬ ‫أظهرها‬ ‫التي‬ ‫األشياء‬ ‫من‬ ‫وما أخفاه عني كان أكثر‬
‫السرعة‪ ،‬تكثفت الغيوم نهاية األفق‪ ،‬ثم كانت تُسرع تجاهنا‪ .‬لحظات ورأيت البرق يلمع على جوانب‬ ‫السماء بهذه ُّ‬ ‫أتكهن بتقلب ّ َ‬
‫خمنت أنها المايسترال‪ ،‬وجعلني مداها البعيد أميل‬ ‫َّ‬ ‫الريح القوية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أثر‬ ‫من‬ ‫الموجات‬ ‫واهتزت‬ ‫عد‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫صوت‬ ‫إلي‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تناهى‬ ‫البروفانس‪ ،‬ثم‬
‫فررت من هناك إلى غرفتي‪ .‬وجدته كعادته ُمستلقيًا‬ ‫ُ‬ ‫الشواطئ اإلفريقية‪.‬‬ ‫إلى رأي الجميع أنها بقية عاصفة تعبر جزر الباليار إلى ّ‬
‫دون بالغالف غير كلمة يوميات بخط كبير‪ ،‬واسمه ُمدرج أسفلها‪،‬‬ ‫على فراشه والكتاب في يده‪ ،‬دنوت أكثر ألقرأ عنوان الكتاب‪ ،‬ولم ي ُ ّ‬
‫لو ق ُّد ر لي قراءة جزء منها‪ ،‬لكنت أزلت بعض األشياء الغامضة حوله‪ .‬لم أطل التفكير بل استرخيت على فراشي‪ ،‬ووجهي إلى‬
‫يتجول على سطح البروفانس‪ ،‬كم تُقت إلى االقتراب أكثر‬ ‫ّ‬ ‫السطح‪ .‬أغمضت عيني محاول ًا إبعاده عن تفكيري‪ ،‬رأيت القائد بورمون‬ ‫ّ‬
‫أخبارا نادرة عن قائد الحملة‪ ،‬وفاتح إفريقية‪ .‬وليس مجديًا‬ ‫ً‬ ‫منه‪ ،‬كنت سأكتب أشياء لم يسبقني إليها أحد‪ ،‬وستنشر لو سيمافور‬
‫سمى المكان الذي سنرسو به‪ ،‬في البداية‬ ‫مقاسمته المكان في حضور دوبيري هناك‪ ،‬سأنتظر حتى ننزل إلى سيدي فرج‪ .‬هكذا كان يُ ّ‬
‫الشواطئ اإلفريقية‪ .‬وربما قد تتراءى لكم‬ ‫عرج على بالما‪ ،‬بعد رحيلنا عن ماهون‪ ،‬قيل لنا أسبوع فقط وسترون ّ‬ ‫خططوا أن ن ُ ّ‬‫لم يُ ِّ‬
‫مدينة الجزائر من هناك‪ .‬وقد مر يومان ولم نُبصر شيًئا‪ ،‬وها هي العاصفة تُهاجمنا في اليوم الثّالث‪ ،‬تأففت منها وفتحت عيني بعد‬
‫‪:‬استغراق دام دقائق‪ ،‬وسمعته يقول‬

‫أسبوعا ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬سننعطف إلى بالما‪ ،‬ونمكث هناك‬

‫ولم هذا التأخير؟ ‪-‬‬

‫السفن‪ .‬بالما هي البداية الحقيقية للحملة ‪-‬‬


‫‪.‬هناك سنتزود بالمؤونة‪ ،‬ولتلتحق بنا بقية ُّ‬

‫وماذا عن العواصف؟ ‪-‬‬

‫السواحل اإلفريقية ‪-‬‬


‫‪.‬في هذا الفصل تشتد أكثر في ّ‬
‫قال كافيار هذه الكلمات‪ ،‬ومنذ ليلة ماهون مال حديثه معي إلى الوضوح‪ .‬يومان آخران إذن حتى نبلغ بالما‪ ،‬ثم نمكث هناك‬
‫أسبوعا‪ ،‬إن ّه أفضل خبر سيسمعه الجنود‪ ،‬ولكن هل ستكون حفالت أخرى هناك؟ أم أننا سنبقى محجوزين في الميناء ننتظر‬
‫ً‬
‫رخيصا؟ لم يشأ كافيار تركي ألحالمي‪ ،‬وهمس من على جانبي‪ ،‬كأنه كان ينتظر هذه‬
‫ً‬ ‫القادمين‪ ،‬ونشرب في حاناته القديمة نبيذًا‬
‫‪:‬الفرصة‬

‫‪.‬ال تنتظر الكثير ديبون‪ ،‬بالما ليست ماهون‪ ،‬ربما لن تُغادر الميناء‪ ،‬ينتظرنا عمل كثير هناك ‪-‬‬

‫‪.‬أدرى هذا ولكنّه أسبوع ‪-‬‬

‫‪.‬أسبوع قد ال يكفي الجنود حتى يحملوا مؤونة لهم ولجيادهم‪ ،‬وقد يكون بعضها نفق ‪-‬‬

‫كانت بيننا وبين قافلة الجياد مسافة كبيرة‪ .‬ولكنّه ظل يتكلم بيقين من أحصى كل شيء‪ ،‬حتى عدد الجياد والعجول التي ستنفق‬
‫‪:‬قبل بلوغنا بالما‪ .‬عدت إليه بوجهي‪ ،‬وقلت‬

‫لماذا تُ ِص ُّر على هذه الحملة‪ ،‬أهناك ٌ‬


‫ثار شخصي لك مع األتراك؟؟ ‪-‬‬

‫باشرا‪ ،‬قررت أال أطرح األسئلة التي تفتح بابًا على التأويل‪ ،‬وكنت أنتظر إجابته حتى أرميه بسؤال آخر عن طبيعة‬
‫ً‬ ‫كان سؤالي ُم‬
‫‪:‬عمله‪ ،‬كان يصغي بانتباه ووجهه غارق بين دفتي الكتاب‪ ،‬ثم رفع رأسه وقال‬

‫‪.‬لو جربت العبودية في الجزائر‪ ،‬وحررك منها أعداؤك لما سألتني ‪-‬‬

‫ماذا تقصد بالضبط؟ ‪-‬‬

‫عبدا‪ .‬وتحررت من العبودية بسبب حملة ذلك الل ّورد ‪-‬‬


‫ً‬ ‫هزمنا اإلنجليز في واترلو‪ ،‬وداهمني األتراك في عرض البحر ثم ساقوني‬
‫‪.‬اإلنجليزي الغبي‬
‫دائما كانوا أسبق في ذلك‪ .‬وملكنا لويس الثّالث عشر هو الذي شرع ‪-‬‬
‫ً‬ ‫ال يُمكنك انتقاد اإلنجليز حينما يتعلق األمر بتحرير العبيد‪،‬‬
‫المهل حتى ال تمضي اتفاقًا‬
‫الباب قبل قرنين على هذا العار‪ .‬وأمتنا العظيمة تظل ترفض االعتراف بمجهودات اإلنجليز‪ .‬تُطيل في ُ‬
‫‪.‬يُلزمها بشيء‬

‫!وما الفائدة من تحرير العبيد األفارقة إن كنت ال تستطيع منع استعباد المزيد من المسيحيين؟ ‪-‬‬

‫السواحل اإلفريقية بالخمر ‪-‬‬


‫السود والبيض إال عندنا نحن الفرنسيين‪ ،‬يوم كنا نقايضهم من ّ‬
‫الرب الذي أؤمن به ال يُفرق بين ّ‬
‫ّ‬
‫والمضطهدة التي تُسمى الكويكرز كانت أكثرنا شجاعة وحررت العبيد الذين لديها‬
‫ُ‬ ‫الصغيرة‬
‫الرديئة‪ .‬تلك الفرقة ّ‬
‫‪.‬واألسلحة ّ‬
‫عائدا بعد إحراقه أسطول األتراك‪،‬‬
‫ً‬ ‫لهؤالء البروتستانتيين اإلنجليز‪ ،‬الذين ال يستشرفون المستقبل‪ .‬حتى الل ّورد إكسموث كان غبيًّا‪َ ،‬ق َفل‬
‫‪.‬مكتفيًا بتحرير العبيد‪ ،‬وهل يكفي هذا عقابًا لمدينة مثل الجزائر‬

‫‪-‬‬ ‫الرب‪ .‬صحيح أننا‬ ‫األمجاد التي ابتدأها اإلنجليز ليس عليهم احتكارها وحدهم‪ ،‬نحن ُمطالبون أن يكون لنا قسم من إعالء كلمة ّ‬
‫الرق‪ ،‬وأننا من َسمح لذلك المجنون أن يشعل الحرائق في‬ ‫آخر من أمضى معاهدة إدانة القرصنة‪ ،‬وآخر من التزم بعهود إلغاء ّ‬
‫أيضا نحن من سيحمل هذا الن ُّور إلى ِ ّ‬
‫الضفة األخرى‬ ‫ً‬ ‫‪.‬أوروبا‪ .‬ولكن‬

‫الرق‪ ،‬والمال الذي دفعته هذه ‪-‬‬ ‫صديقي‪ ،‬فالحروب التي شنها النّواب اإلنجليز في مجلس لورداتهم من أجل إلغاء ّ‬ ‫أنت واهمٌ يا‬
‫عمالنا‬
‫ّ‬ ‫أكثر‬ ‫بينهم‪،‬‬ ‫من‬ ‫كنا‬ ‫وقد‬ ‫لمنافسيهم‬
‫لدول كي تسير حذوها‪ ،‬لم يكن مجانيًا‪ ،‬هم أرادوا وقف مصادر التجارة ُ‬
‫ٍ‬ ‫بها‬ ‫األمة التي تعتد‬
‫أما ادعاؤك أننا هنا من أجل الن ُّور فهذا وهم آخر‪ .‬المال هو إله كل هؤالء النّاس الذين تراهم من حولك‪ ،‬قباطنة‬ ‫ّ‬ ‫من العبيد‪.‬‬
‫الصيادون الذين جثوا أمام القَ ّس في طولون‪ ،‬ك ُلهم يسعون إلى ُحظوظهم من أموال تلك المدينة‪ .‬حتى الملك‬ ‫وأيضا ّ‬
‫ً‬ ‫وجنودا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وبحارة‬
‫الرب‪ ،‬بل صناديق الذهب التي يُخبِّئها باشا الجزائر‬ ‫‪.‬وخائن واترلو‪ ،‬ما يُغريهم ليس أمجاد ّ‬
‫هل يمكن أن يكتمل الحوار مع كافيار‪ ،‬وهو الذي لم يمتلئ باإلنجليز مثلي‪ ،‬لطالما كنت شغوفًا بتبع المسالك التي خاضوها لمحو‬
‫الرق‪ ،‬ولم يتوقفوا حتى صادقوا‬
‫بدءا من طائفة الكواكر‪ ،‬وصراع النّواب في مجلس الل ّوردات من أجل تثبيت قوانين تحريم ّ‬ ‫ً‬ ‫هذا العار‪.‬‬
‫عام ا‪ .‬آمنت أن اتفاقية ريو دي جانيرو كانت أفضل ما فعلوه‪ ،‬إذ انضمت إليهم البرتغال والسويد‬‫ً‬ ‫وعشرين‬ ‫اثنين‬ ‫منذ‬ ‫عليه‬
‫مرة أخرى‬‫سنوات‪ ،‬وافقنا على مضض‪ ،‬ثم أضاء لنا النّور الحقيقي ّ‬
‫ٍ‬ ‫والدانمارك‪ ،‬ونحن يا كافيار‪ ،‬متى استيقظنا؟ كان ذلك بعد عشر‬
‫أيضا كانوا يقبضون على‬‫ً‬ ‫حينًا عاد اإلكريلوس‪ .‬أنا متيقن أنك لن تُوافقني‪ ،‬وستقول‪ :‬إن الملك أباح لهم أشياء كثيرة‪ ،‬وإن النبالء‬
‫الس لطة‪ ،‬وشارل العاشر كان أسوأ الملوك‪ ،‬ولكن أسوأ الملوك لديك هو الذي يحقق لك اآلن حلمك‪ ،‬عليك تبجيله ولو في قلبك‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬
‫‪.‬أن تحتقره‪ ،‬وتحمل في قلبك التعاطف لمجنون كاد يؤدي بنا إلى الهاوية‬

‫السماء أكثر صفاء‪ .‬تُحيّرني عواصف الباليار‪،‬‬


‫السفينة‪ ،‬كان كل شيء على ما يرام‪ ،‬هدأت العاصفة‪ ،‬وأضحت َّ‬
‫غادرت الغرفة إلى سطح ّ‬
‫تُعلِن عن نفسها دون ُم قدمات‪ .‬ثم فجأة تنسحب بالسرعة نفسها‪ ،‬وأجزم أنها لم تكن مثل العواصف التي تشتعل برأس كافيار‪ ،‬لكنه‬
‫‪.‬ال يُظهر منها إال ُدخانًا‪ ،‬وتَخبو عيناه كأنه ال يعنيه من كالمي شيًئا‬

‫البحار باألعلى يُعلن عن‬


‫ّ‬ ‫كنت ما أزال أبصر تجاه الجنوب وال أرى غير ال ّزرقة‪ ،‬حتى تراءت في الجزيرة من هناك‪ ،‬وسبقها صياح‬
‫ور َست هناك‪ ،‬وك ُنا في‬
‫َ‬ ‫البروفانس‬ ‫بلوغنا بالما بسالم‪ ،‬كانت األصوات تَ ِصلنا من أمكنة عديدة في ُّ‬
‫السفن التي تحل ّقت حولنا‪ ،‬سبقتنا‬
‫الظلمة ولم نر من بالما غير أضواء ضئيلة‬ ‫ّ‬ ‫مت‬ ‫ّ‬ ‫خي‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬أعقابها‪،‬‬

‫‪ ‬‬

‫األسبوع الثّاني من جوان‬

‫السفينة‪ ،‬كأن الكل تواطأ‬ ‫كررا احتفظت به من سطح ّ‬ ‫منظرا ُم ً‬


‫ً‬ ‫عيني منها إال‬
‫ّ‬ ‫تر‬
‫يوما تلو اآلخر‪ ،‬ولم َ‬ ‫ً‬ ‫في بالما انقضى األسبوع أمامي‬
‫العل َف لخيولهم‪ ،‬التي صدقت فيها نُبوءة‬
‫الصناديق الثّقيلة‪ ،‬وأكياس َ‬‫حملون ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫قضوه‬ ‫وقد‬ ‫للجنود‪،‬‬ ‫ا‬ ‫وسعيد‬
‫ً‬ ‫أسبوعا ُمخيّبًا لي‪،‬‬
‫ً‬ ‫على جعله‬
‫استيقظت في آخر األسبوع رأيته يَتُمطى غير‬
‫ُ‬ ‫السفن التي رست بعدنا بيومين‪.‬‬ ‫كافيار‪ .‬حين كانوا يرمون عشرة منها من إحدى ُّ‬
‫رطي‪.‬‬
‫اإلسبَ ُّ‬
‫ْ‬ ‫السطح‪ ،‬متناسيًا ما قرأته‪ ،‬وظهر العنوان فجأة يحاصرني‪ّ ِ :‬‬
‫الديوان‬ ‫بعيد مني‪ ،‬يُطالع كتابًا مختلفًا‪ ،‬أقرأ عنوانه‪ ،‬واصعد إلى ّ‬
‫ما الذي يحويه ذلك الكتاب؟ هل هو سيرة لمدينة إسبرطة؟ وربما ثقافة صديقي تتسع حتى تشمل التاريخ القديم؟! وما غرض رجل‬
‫يطلع على تاريخ اليونان؟ هل يُقارنهم باإلنجليز؟ بدت لي المقارنة بعيدة‪ ،‬ثم تراءى لي األمر‬ ‫زءا من حياته في إفريقية أن ّ‬ ‫ق ََضى ُج ً‬
‫السالح‪ ،‬واألتراك فقط من يمتلك كل‬ ‫أمة ال تقوم إال على قوة ِّ‬‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫إفريقية‬ ‫في‬ ‫بالعثمانيين‬ ‫أشبه‬ ‫كانوا‬ ‫اإلسبرطيون‬ ‫كذلك‪،‬‬ ‫هو‬ ‫جلي ًا‪ ،‬نعم‬
‫الدوريين‪ ،‬بينما كان العرب مثل األيُّونيين‪،‬‬‫أما العرب فلم يكونوا إال عمال ًا في مزارعهم‪ .‬ربما كان األتراك أنفسهم أقرب إلى ُّ‬ ‫شيء‪ّ .‬‬
‫المقارنة تكاد تكون حقيقيّة في‬
‫ولكن الحقيقة التي اتفق الجميع حولها‪ ،‬أن تلك المدينة البائدة لم تكن إال ثكنة كبيرة‪ .‬كانت هذه ُ‬
‫ذهني‪ ،‬وربما في ذهن كافيار‪ .‬هممت بالرجوع إليه ألسأله إن كنت على حق‪ ،‬وعدلت عن رأيي وأنا أبصر القبطان ُمقبل ًا نحوي‪ ،‬ثم‬
‫‪:‬كان إلى جانبي وقال‬

‫دائما بمفردك‪ ،‬أال يروقك شريكك في الغرفة؟ ‪-‬‬


‫ً‬ ‫أراك‬

‫وحيدا ‪-‬‬
‫ً‬ ‫الريبة‪ ،‬والذي يرتاب في الذين من حوله‪ ،‬سيبقى‬
‫‪.‬إنّه يميل إلى العزلة‪ ،‬وشيء من ّ‬
‫يتبن شيًئا من ِتلقا ِء نفسه ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫مدفوعا إليها‪ .‬لم‬
‫ً‬ ‫‪.‬ال أختلف معك‪ ،‬ولكنّه كان‬
‫الخاصة ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫كردة فعل مباشرة على حوادث في حياته‬
‫‪.‬أسوأ األفكار التي يعتنقها اإلنسان‪ ،‬تلك التي تكون َ‬
‫وعبودية‪ ،‬علينا احترام تاريخه ‪-‬‬
‫الرجل عاش حياة ُمتقل ّبة‪ ،‬بين هزائم ُ‬
‫الدرجة‪ ،‬هذا ّ‬
‫‪.‬ليس لهذه ّ‬

‫دائما ‪-‬‬
‫ً‬ ‫ووضوحا‪ ،‬هذا ما آمنت به‬
‫ً‬ ‫وتواضعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫تجارب في الحياة هم أكثرهم حكم ًة‬
‫َ‬ ‫‪.‬ولكن أكثر النّاس‬

‫هذا يكون حينما يتعل ّق األمر بالناس العاديين‪ ،‬ولكن الذين حاربوا مع نابليون مختلفون‪ ،‬إنهم نماذج صادقة منه‪ ،‬بالفعل استطاع ‪-‬‬
‫الرجل العظيم غرس أحالمه في الذين قاتلوا معه‬
‫‪.‬ذلك ّ‬
‫أيضا يسيرون على ُخطاه ‪-‬‬
‫ً‬ ‫الرب‪ .‬وهاهم أتباعه‬ ‫‪.‬لم أره إال مجنونًا حاول أن ي َ ّ َ‬
‫حل مكان ّ‬
‫شأن كبير بعد احتالل الجزائر ‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫الرجل سيكون له‬ ‫ِ‬
‫‪.‬آم ْن بما شئت في قلبك‪ ،‬ولكنني أنصحك أن تُوثّق عالقتك بكافيار‪ ،‬ذلك ّ‬
‫كل يوم يزيد يَقيني بأن بعض القباطنة ال يختلفون عن القراصنة األتراك إال في صفات قليلة‪ ،‬بالنسبة إليهم العالقات اإلنسانية هي‬
‫شو َشت كلمات كافيار عقلي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والسلطة‪ ،‬صرت أؤمن أن بعضهم لم يشارك في الحملة إال من أجل الذهب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫منابع ُمتجددة للمال‬
‫وجعلتني أعيد حساباتي ونظرتي لألمور‪ ،‬حتى قبطان لوناجور‪ ،‬بدا في اليوم األول ُمختلفًا‪ .‬ولكن األيام التالية أظهرت ُجوعه‪ ،‬كان ال‬
‫وضجوا ولم ننتبه لهم‪ .‬ومن هناك رأيت البروفانس ترفع‬ ‫ّ‬ ‫السفينة‬
‫الرصيف الحاوي‪ ،‬الجنود عبؤوا سطح ّ‬‫يزال ينفث دخانه‪ ،‬بينما أبصرت ّ‬
‫الريح‪ ،‬فتحركت متجاوزة الميناء ثم كنا نتعقبها‪ ،‬إلى أن أحاطتنا ال ّزُرقة من كل‬
‫ّ‬ ‫هدهدة‬ ‫معها‬ ‫وتواطأت‬ ‫مرساتها‪ ،‬ثم تبسط األشرعة‪،‬‬
‫‪.‬جانب‬

‫شو ًشا كل يوم‪ ،‬ولم يبق إال يوم آخر وتَتَراءى لنا مدينة القراصنة‪ .‬عليك يا‬ ‫وضوحا في ُطولون‪ ،‬إال أنها تزداد تَ ُّ‬ ‫ً‬ ‫الرؤية أشد‬ ‫كانت ّ‬
‫جراء ما‬
‫ّ‬ ‫ب‬ ‫الر‬
‫ّ ُّ‬ ‫عنه‬ ‫تخلى‬ ‫ربما‬ ‫‪.‬‬ ‫كافيار‬ ‫مثل‬ ‫رتاب‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫كلمات‬ ‫زعزعة‬ ‫من‬ ‫أصلب‬ ‫تحمله‪،‬‬ ‫بما‬ ‫العميق‬ ‫إيمانك‬ ‫أمرك‪،‬‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫حس‬ ‫ديبون أن َ‬
‫ت‬
‫ختزل العالم كُل ّه في رأسه‪ ،‬الكتاب نفسه‬
‫تمطى في سريره‪ ،‬كأنه ي َ ِ‬‫َ ّ‬ ‫ي‬ ‫كافيار‬ ‫يزال‬ ‫ال‬ ‫‪.‬‬ ‫عني‬ ‫تغيب‬ ‫أخرى‬ ‫ألشياء‬ ‫أو‬ ‫نابليون‪،‬‬ ‫اقتَ َرفَه مع‬
‫رطي‪ .‬ثم أرفع صوتي به‪ ،‬يُخرج رأسه من بين دفتي الكتاب‪،‬‬ ‫رد ُده تمتم ًة‪ِّ :‬‬
‫الديوان اإلسبَ ُّ‬ ‫العنوان‪ُ ،‬أ ِّ‬
‫تأكدا من ُ‬ ‫أمد نظري ُم ً‬ ‫ُّ‬ ‫بين يديه‪،‬‬
‫حدق تجاهي وكأن ّ َه ال يراني‪ .‬هممت بسؤاله عن محتوى الكتاب‪ ،‬ثم تراجعت‪ ،‬وقبل أن يَدفن رأسه بين‬ ‫إلي‪ ،‬ي ُ ِ ّ‬
‫َّ‬ ‫ويضعه جانبًا ويلتفت‬
‫‪:‬دفّتي الكتاب‪ ،‬قال‬

‫‪.‬عليك أن ترتاح يا ديبون‪ ،‬سنرى ربوة القراصنة في مساء الغد‪ ،‬وسينزل الجنود بسيدي فرج ‪-‬‬

‫رددون في‬ ‫ثيرا للمشاكل مثلما كانوا يُ ّ‬ ‫دوما كان الجنوب ُم ً‬ ‫ً‬ ‫شرئبَ ٌة نحو الجنوب‪،‬‬‫تو ِ ّفزين‪ ،‬أعناقهم ُم َ‬‫أصحو على صباح ندي‪ ،‬أرى الجنود ُم َ‬
‫ساهرا يُقل ّب كتابه‪ ،‬أو ربما يُقل ّب كتبًا أخرى وخرائط في رأسه‪ .‬ظننت أنه ال يزال هناك‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫باريس‪ .‬كافيار لم ينم ليلته‪ ،‬قضاها‬
‫وحيدا‪ ،‬ينتظر أن‬ ‫ً‬ ‫دخن بعصبية‪ ،‬ونزلنا إلى أسفلها حينها انتصف النّهار‪ ،‬وتركناه باألعلى‪ ،‬آثر البقاء‬ ‫السفينة‪ ،‬ي ُ ّ‬
‫لمحته عند نهاية سطح ّ‬
‫السماء اإلفريقية‪ ،‬كان‬ ‫الشمس عن خطها العمودي إلى ّ‬ ‫عدت إليه‪ ،‬حين مالت ّ‬ ‫الربوة له‪ ،‬وظل يحشو غليونه بالتبغ‪ ،‬حتى ُ‬ ‫تتراءى ّ‬
‫لحظات حتى تراءت لنا‪ ،‬وصاح الجنود صيحة‬ ‫ٌ‬ ‫إال‬ ‫هي‬ ‫وإن‬ ‫جانبه‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫وقفت‬ ‫بعصبية‪،‬‬ ‫يمسحها‬ ‫ق‪،‬‬ ‫ر‬
‫ََ‬‫الع‬ ‫بحبات‬ ‫د‬ ‫يتفص‬
‫َّ‬ ‫كافيار‬ ‫جبين‬
‫جميعا‪ .‬هل كان ما رأيت جبل ًا من رخام أم مدينة؟ لم أتبيّنها إال ونحن ندنو أكثر منها‪ ،‬فأرى ُسورها في شكله‬ ‫ً‬ ‫فن‬ ‫الس‬
‫ُّ‬ ‫من‬ ‫واحدة‬
‫فوف من‬ ‫أيضا تراءت لي ُص ٌ‬ ‫ً‬ ‫قباب كثيرةٌ‪ .‬من هناك‬‫ٌ‬ ‫تعلوها‬ ‫بانتظام‬ ‫مصفوفة‬ ‫واألبنية‬ ‫سمائها‪،‬‬ ‫في‬ ‫تشهق‬ ‫نارات‬ ‫وم‬
‫َ‬ ‫حيطها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫الغريب‬
‫عيني غير‬‫ّ‬ ‫شهقت َمناراتها هي األخرى من هناك‪ ،‬ف ََركت‬ ‫ِ‬ ‫ُصورا‬
‫توزعت حدائق مصفوفة‪ ،‬تُحيط ق ً‬ ‫ّ‬ ‫المستوية‪ ،‬وخارج األسوار‬ ‫الشوارع ُ‬ ‫ّ‬
‫المخيفة لها؟! أهذا هو الجحيم الذي أخاف أوروبا قُرونًا‬ ‫الصورة ُ‬ ‫حدثونا عنها ورسموا ّ‬ ‫ّ‬ ‫صد ٍق ما أراه‪ ،‬أفعل ًا هذه هي المدينة التي‬ ‫ُم ّ‬
‫الشكل‪،‬‬ ‫أصدق أنني كنت أراها بذلك ّ‬ ‫ِّ‬ ‫بمدينة جميلة‪ .‬لم‬ ‫ُأ‬
‫بركان‪ ،‬أو ثكنةٍ رماديّة الجدران‪ .‬وإذا بي فاجأ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ثالثة؟! تخيلتها مثل فوهة‬
‫الخرافية عن الجحيم في مدينة‬ ‫ُ‬ ‫والص َور لم تُطابق ما ِقيل عنها‪ ،‬هل هو وهمٌ آخر قد ِعشته؟ قد أوهموا الجميع بتلك ال ِقصص‬ ‫ُّ‬
‫أتوهم فقط‪ ،‬لحظتها َو َصل َتني كلمات كافيار‪ ،‬كأنه يدري ما في داخلي ‪ :‬ال تتعجل في‬ ‫َّ‬ ‫القراصنة‪ .‬ربما كان األمر كذلك‪ ،‬وأنا الذي‬ ‫ِ‬
‫أحكامك يا صديقي بالتأكيد هذه المدينة جميلة بما يكفي كي تضطرب لرؤيتها أول مرة‪ ،‬ولكن ليست كل األشياء الجميلة هي فعل ًا‬
‫الشرور كلها‬ ‫‪.‬كذلك‪ .‬ما عليك االهتمام به اآلن‪ ،‬هو كيف يُمكننا إغالق ُصندوق باندورا الذي انفتح منذ ثالثة قرون على ُّ‬

‫لم ُأجبه‪ .‬سحبتني اُألسطورة اليونانية إلى عوالم بعيدة ‪ .‬ال يمكن المجازفة أكثر مع كافيار‪ ،‬بالرغم من أن اُأللفة قد زادت بَيننا‪،‬‬
‫غامضا‬
‫ً‬ ‫بعيدا عن ال ُّرؤية‪ ،‬وخل َّ َف ْ‬
‫ت شيًئا‬ ‫ً‬ ‫السفن تنعطف إلى الغرب‪ ،‬ثم نََأت‬ ‫ولكنني قررت إشاحة وجهي عن المدينة البيضاء‪ ،‬وقوافل ُّ‬
‫مد يده ُمستقيمة تُشير إلى‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬‬ ‫عظيم‬ ‫ابتهاج‬
‫ٌ‬ ‫ه‬ ‫وح‬‫ر‬
‫ُ َ‬ ‫وعال‬ ‫مكانه‪،‬‬ ‫في‬ ‫كافيار‬ ‫في نفسي‪ .‬مسافة أخرى وبدا لنا خليج سيدي فرج‪َ ،‬قفَز‬
‫إلي‬
‫َّ‬ ‫‪:‬هناك‪ ،‬والتفت‬

‫‪.‬نعم ها هو سيدي فرج يا ديبون‪ ،‬آن للنّهر أن ينهمر على إفريقية ‪-‬‬

‫وقلت في دخيلتي‬

‫‪.‬نعم يا صديقي آن للنهر أن يَ ِ‬


‫نهمر على الجزائر ‪-‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬كافيار‬

‫ُمختارات من ِ ّ‬
‫الديوان اإلسبرطي‬

‫ُد ِّونت ما بين ‪ 1816‬و‪1830‬‬

‫‪ ‬‬

‫اللوحة األولى‬

‫الشوارع كأن شيًئا لم‬


‫المور ال يهدؤون‪ ،‬يجوبون ّ‬ ‫هدمة‪ ،‬من هول المدافع‪ُ .‬‬ ‫تأملتها ذلك المساء‪ ،‬مدينة نصف ُم ّ‬ ‫من حي القناصل‪ّ ،‬‬
‫يحدث‪ .‬أرى اليولداش مثل حمقى‪ ،‬أوداجهم منفوخة‪ ،‬وبطونهم تتقدمهم‪ ،‬وأقترب منهم دون إثارة أي اهتمام‪ ،‬اآلن يا كافيار‪ ،‬قد بدأت‬
‫تحملت العبودية‪ .‬ولكن أنسيت يا كافيار اصبعك التي خلفتها في محجر‬ ‫ّ‬ ‫مهزوما‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫رحلتك التي قُدرت لك‪ ،‬منذ عودتك من واترلو‬
‫عصارة دم ممزوجة بالرماد األبيض‪ .‬نعم لطالما تحسست طعم ُملوحة‬ ‫الصخرة حتى حالت إلى ُ‬ ‫الرخام؟ لم يبق منها شيء‪َ ،‬ه َرستها ّ‬ ‫ّ‬
‫الد م في فمي‪ ،‬ورأيت في كوابيسي أني التهم جميع أصابعي بشراهة‪ ،‬بعدما خفت أن تهرسها صخور أخرى‪ .‬أتساءل‪ :‬كم عدد‬ ‫ّ‬
‫ستم ُّد بيني وبين سات طريقًا‪ .‬وكم طول الحبال التي َفكَكْتُها في الميناء؟ كانت‬ ‫ُ‬ ‫السفينة؟ كانت‬‫األكياس التي أنزلتها من على ّ‬
‫قد ًرا علينا انتظار نابليون آخر‪ .‬فهل‬
‫ُ ّ‬‫م‬ ‫صار‬ ‫‪.‬‬ ‫الجديد‬ ‫الملك‬ ‫بعد‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫أعود‬ ‫لن‬ ‫ولكنني‬ ‫‪.‬‬ ‫واترلو‬ ‫الم وصل بيني وبين‬ ‫تكفي للدرب ُ‬
‫عوضون‪ ،‬مثل أنصاف اآللهة في المالحم‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫جال‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫بعض‬ ‫خيفة‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫الفرضية‬ ‫بهذه‬ ‫يوم‬ ‫في‬ ‫أؤمن‬ ‫لم‬ ‫!‬ ‫مثله؟‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫رج‬ ‫أوروبا‬ ‫ستلد‬
‫‪.‬اإلغريقية‪ ،‬ال يموتون‪ ،‬إال بقدر ما يغرسون آالفًا من األشجار في الذين من حولهم‬

‫ع ِفنة تُطلقها‬
‫ريح َ‬‫ٌ‬ ‫كل مساء أرى المدينة من شرفة بيت القُ نصل‪ ،‬ال أدري كم مرة شاهدتها من هناك‪ .‬مئة‪ ،‬ألف‪ ،‬أو ربما أكثر‪،‬‬
‫جديدا‪ ،‬أستعيد ُصورها بعد قصف الل ّورد إكسموث‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرة في داخلي كلما رأيتهم يبنون َمركبًا‬ ‫كل ّ‬‫الضاجين‪ ،‬وكراهية تشتعل ّ‬ ‫أصوات أهلها ّ‬
‫المور يُدركون كم يستجلب هذا الخراب بهج ًة إلى نفسي‪ ،‬حتى ُدخان حرائق ُسفنهم‪ ،‬كان كأنه نسم ٌة صباحية تجوب‬ ‫ليت أولئك ُ‬
‫الحديقة التي انبسطت أمامي‪ ،‬بأشجارها العارية بسبب الجراد‪ ،‬بينما هؤالء األتراك يَبنون كل يوم سفين ًة جديدة‪ ،‬وأخرى تصلهم من‬
‫المور كذلك‪ .‬وجوههم‬ ‫فادح ا‪ ،‬عندما تركوا المدينة ورحلوا دون تدميرها وقتل بقية اليولداش‪ ،‬وربما ُ‬ ‫ً‬ ‫إسطنبول‪ .‬كم كان خطأ اإلنجليز‬
‫السياط ظهورنا‪ ،‬ولكن من ذا الذي يُعيد حملة اللورد؟ وال يقدم من أوروبا إال من يحمل‬ ‫قشرت ّ‬ ‫البائسة تستحق أن ُتسحل مثلما ّ‬
‫سم ى‪ .‬غريب أمر أولئك األتراك‪ ،‬يأتون من أزمير أول األمر مجرد جنود‪ ،‬وفي وقت‬ ‫الضرائب للباشا علي ُخوجة هكذا ي ُ ّ‬ ‫الهدايا أو ّ‬
‫الم لك‪ ،‬الباشا علي يقتل الباشا عمر‪ ،‬وهذا األخير تآمر على قتل سابقه‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫ُ‬ ‫أجل‬ ‫من‬ ‫يتقاتلون‬ ‫باشوات‪،‬‬ ‫يصيرون‬ ‫وجيز‬
‫أما حينما ي َ ُّ‬
‫حل‬ ‫ّ‬ ‫الحظ‪،‬‬ ‫منها‬ ‫يستجلبون‬ ‫يزورونها‬ ‫األضرحة‪،‬‬ ‫حولهم‬ ‫يبنون‬ ‫‪.‬‬ ‫طبيعية‬ ‫ميتة‬ ‫يموت‬ ‫من‬ ‫سون‬ ‫قد‬
‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫ور‬ ‫الم‬
‫ُ‬ ‫أضحى‬ ‫حتى‬ ‫درجون‪.‬‬
‫يَ ُ‬
‫عنق الباشا‪ .‬تتسرب اإلشاعات من شقوق أسوار‬ ‫الوباء‪ ،‬أو الجراد‪ ،‬أو حتى الحروب التي يُهزمون فيها‪ ،‬فإنهم يُع ِل ّقونها ُخفية في ُ‬
‫بعمر باشا‪،‬‬ ‫جديدا بعد خنق الباشا القديم‪ ،‬وربما هذا ما فعلوه ُ‬ ‫ً‬ ‫الجنينة‪ ،‬يُعلنون باشا‬ ‫ُ‬ ‫الثّكنات‪ ،‬فيتلقفها اليولداش‪ .‬يتحلقون حول قصر‬
‫الدينية‪ ،‬ويَتَفاخرون أنه َط َرد‬ ‫المور بميوالته ّ‬ ‫وحل بعده الباشا علي‪ .‬يُعجب ُ‬ ‫َّ‬ ‫أياما قليلة بعد قصف المدينة ثم ُخ ِنق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إذ لم يلبث إال‬
‫المور‪،‬‬‫ُ‬ ‫هؤالء‬ ‫من‬ ‫بالمدينة‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ق‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫تع‬ ‫أكثر‬ ‫كانوا‬ ‫ربما‬ ‫الجنوب‪،‬‬ ‫نحو‬ ‫روب‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫يشققن‬ ‫رفة‪،‬‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫أيض‬
‫ً‬ ‫رأيتهن‬ ‫وقد‬ ‫يف‪،‬‬ ‫الر‬
‫ِّ‬ ‫إلى‬ ‫المومسات‬ ‫ُ‬
‫سمحون لها بمغادرة بيتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ور‪،‬‬ ‫الم‬
‫ُ‬ ‫أحياء‬ ‫في‬ ‫خاصة‬ ‫ضعيفة‪،‬‬ ‫ا‬ ‫دوم‬
‫ً‬ ‫المرأة‬ ‫تظل‬ ‫‪.‬‬ ‫معه‬ ‫تعاطفت‬ ‫الذي‬ ‫الوحيد‬ ‫المشهد‬ ‫ذلك‬ ‫وربما كان‬
‫الرجال‪ ،‬حينما عبرت درب البحر في اتجاه حي المقاهي‪ .‬يختار‬ ‫بعضهن برفقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫تلف نفسها في كومة القماش‪ .‬رأيت‬ ‫إال حينها ُّ‬
‫وجبناء مع ُحك ّامهم من األتراك‬ ‫المور أقوياء مع نسائهم‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫هؤالء‬ ‫كم‬ ‫‪.‬‬ ‫يون‬ ‫الع‬
‫ُ‬ ‫من‬ ‫عليهن‬
‫ّ‬ ‫يخشون‬ ‫كأنهم‬ ‫الخاوية‪،‬‬ ‫قائف‬ ‫الس‬
‫!الرجال ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ ‬‬

‫اللوحة الثّانية‬

‫المور سريعة أكثر من‪ .‬األيام الفارطة‪ ،‬وكأن شيًئا ما سيحدث‪ .‬كان المساء في أوله‪،‬‬ ‫مساءٌ ُمختلف يحل على ربوة القراصنة‪ ،‬حركة ُ‬
‫الجنينة‪َ .‬حدست أن الباشا هو من طلب‬ ‫ُ‬ ‫الرسمي لألتراك‪ ،‬انتصب في مقابلة قصر‬ ‫السيدة‪ ،‬الجامع ّ‬ ‫ومجرى َسيرهم تجاه جامع ّ‬ ‫َ‬
‫الرياس واليولداش من هناك‪ ،‬ومنذ بداية‬ ‫حي المقاهي‪ .‬اعتدت كل يوم مراقبة ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعهم‪ ،‬وفك ّرت بالنزول مع شارع البحر حتى أبلغ‬
‫مكوثي بِبَيت ال ُقنصل قررت أن أستغرق الوقت ك ُله في معرفة كيف يُف ِك ّرون‪ ،‬حين يَن َف ِصلون عن َأ َ‬
‫وجا ِق ُهم‪ ،‬أو عندما يُغادرون ُسفنهم‪.‬‬
‫والم ور‪ ،‬سيجعلني أكتب بوعي عنهم‪ ،‬أتقرب من بعضهم‪ ،‬وأرشي آخرين‪ ،‬يتكلمون وال أفهم‬ ‫ُ‬ ‫كنت أؤمن أن إدراك ذهنيات أولئك األتراك‬
‫ومرات ال أستوعب كلماتهم التي يُغمغمون بها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بهما‪،‬‬ ‫فهمي‬ ‫ن‬ ‫تحس‬
‫ّ‬ ‫رغم‬ ‫أيأس‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫أحيا‬ ‫‪.‬‬ ‫دتين‬‫إال القليل‪ ،‬العربيّة والتركية كانتا ُمعقّ‬
‫ألفاظا فرنسية‪ ،‬والكثير من اإلسبانية‪.‬‬‫ً‬ ‫لغات أوروبية أخرى‪ ،‬أجد بها‬ ‫ٍ‬ ‫مزيج من التُّركية والعربيّة‪ ،‬وحتّى‬ ‫ٌ‬ ‫وتتنوع الل ّهجات بتنوع الوجوه‪،‬‬
‫دخ ن معهم غاليينهم‪ ،‬ما زالوا يحبونني مادامت أدفع عنهم ثمن ما يشربون‪ .‬يهتفون حين يُروني ُمقبل ًا‪:‬‬ ‫أنضم إليهم في المقهى‪ُ ،‬أ ِ ّ‬
‫ُّ‬
‫قصدا‪ ،‬حتى يتوافق مع كلمة كافر‪ .‬يَتركون لي مكانًا حيث يتكئون‪ ،‬نستمتع‬ ‫ً‬ ‫كافار كافار‪ .‬أتفطن كيف يُميل بعضهم لسانه باسمي‬
‫الشرقيون يميلون إلى االسترخاء والتلذذ بالحياة‪ ،‬حتى غناؤهم كان رتيبًا‬ ‫بم ّص الغاليين‪ ،‬ومشاهدة المغنين وهم يتلوون باأللحان‪ .‬هؤالء ّ‬ ‫َ‬
‫المغنية كانت ستبكي وهي تُعيد مواويلها‪ ،‬ارتخى الذين من حولي ُمنتشين بها حد اإلغفاء‪ ،‬والغرفة‬
‫وممل ًا‪ ،‬ويبدو لي أحيانًا أن ُ‬
‫المور ال يزالون يَشقُّون‬
‫مر ًة أخرى في شوارع المدينة‪ُ ،‬‬
‫هواء نقيًا‪ ،‬وأنغمس ّ‬
‫ً‬ ‫افر خارج المقهى‪ .‬تسحب رئتي‬
‫الدخان‪ُّ ،‬‬
‫الواطئة يَمألها ُّ‬
‫السيدة‪ .‬سرت في َمجراهم‪ ،‬ثم وقفت في مقابلته‪ ،‬لم يكن يُسمح لي بدخول المسجد‪ ،‬استغربت فراغه من‬ ‫الطرقات‪ ،‬وجهتهم مسجد ّ‬ ‫ّ‬
‫لماما‬
‫ً‬ ‫الصالة في هذا الجامع إال‬
‫المور ّ‬
‫‪.‬الجنود‪ ،‬ولم يألف ُ‬
‫أما األتراك فبروتستانت‪ ،‬وقد ال تتبدى هذه‬ ‫المور كاثوليك المسلمين‪ّ ،‬‬ ‫اعتاد القُنصل محادثتي عنهم‪ .‬يردد‪ :‬يُمكنك يا كافيار اعتبار ُ‬
‫وخاصة إذا ما تعلق األمر بالقضايا المالية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الفروق بجالء‪ ،‬مثلما نراها عند المسيحيين‪ .‬وقضاتهم فقط من يفقه الفوارق بينها بدقة‪،‬‬
‫تخص األتراك أو التي تخصهم‪ .‬وهذا الذي‬ ‫ُّ‬ ‫فرقون بين المذاهب‪ ،‬إال حينما يُشيرون إلى المساجد التي‬ ‫لكن النّاس العاديين‪ ،‬ال يكادون ي ُ ّ‬
‫ّ‬
‫يدخله‪ .‬ولوال‬
‫ُ‬ ‫الم ور يحتملون ظلم األتراك‪ ،‬قانعين بتجارة بسيطة‪ .‬منعوهم من تصدير الحبوب‪ ،‬حين احتكروا ُسوق الميّارين وما‬ ‫جعل ُ‬
‫الدين عائقًا في الحياة العادلة للناس‪ ،‬يأمرهم بالصبر على ظلم‬ ‫دائما يُصبح ّ‬
‫ً‬ ‫تصرفاتهم‪ .‬أحيانًا أو‬ ‫ُّ‬ ‫المشتركة لما َصبَروا على‬‫الديانة ُ‬
‫هذه ّ‬
‫الدينية كانت في‬ ‫ّ‬ ‫لطة‬ ‫والس‬
‫ُ‬ ‫المهمة‪،‬‬ ‫المناصب‬ ‫في‬ ‫الحق‬ ‫لديهم‬ ‫ليس‬ ‫أنه‬ ‫كما‬ ‫‪.‬‬‫ورة‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫عليهم‬ ‫فليس‬ ‫بالسياط‬ ‫ضربوهم‬ ‫ولو‬ ‫حتى‬ ‫ّام‪،‬‬ ‫الحك‬
‫ُ‬
‫المور‬
‫ُ‬ ‫هؤالء‬ ‫بعدد‬ ‫قورنوا‬ ‫ما‬ ‫إذا‬ ‫قليلون‬ ‫أنهم‬ ‫رغم‬ ‫ام‪،‬‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫الح‬
‫ُ‬ ‫مذهب‬ ‫‪.‬يد‬

‫الصالة قبل األخيرة‪ .‬والناس ما زالوا يتوافدون على المسجد‪ ،‬ثم رأيت باب القصر يُفتح‪ ،‬وبعض‬ ‫يرتفع صوت المؤذن‪ ،‬يعلن عن ّ‬
‫المور في أمكنتهم‪ ،‬رأيت ذهولهم وهم يُراقبون كوكبة اليولداش المحيطة بالتركي الذي خرج من‬ ‫بمحاذاته‪ ،‬تسمر ُ‬‫اليولداش يسيرون ُ‬
‫الجنينة‪ .‬ثم سمعت كالم أحدهم‪ :‬إنّه الباشا‪ ،‬إنّه الباشا‪ .‬كان النّاس ينحنون وبعضهم يقترب محاولين تقبيل يده‪ ،‬ويدفعهم اليولداش‬
‫ُ‬
‫الطرق إلى حي القناصل وشققته حتى كنت به‬ ‫جميعا في المسجد‪ .‬واخترت أقرب ّ‬ ‫ً‬ ‫‪.‬بعيدا عنه‪ ،‬إلى أن غابوا‬
‫ً‬

‫‪:‬يقول القُنصل‬

‫المور من حوله‪ ،‬يحتمي بهم ‪-‬‬


‫تدل على مؤامرة جديدة‪ .‬ربما تحسس الباشا محاولة لقتله‪ .‬لذا سيجمع ُ‬
‫ّ‬ ‫‪.‬األشياء التي رأيتها‬

‫‪:‬ثم أردف‬

‫‪.‬لك أن تتخيّل يا صديقي أنه في العشر سنوات األخيرة قُتل ستة ُحكام للمدينة ‪-‬‬

‫الشوارع إلى حياتها األولى‪ ،‬جلست أستمع بملل إلى حكايات الريّاس التي ال أفهم‬ ‫أسرعت في اليوم التالي أراقب المدينة‪ .‬عادت ّ‬
‫المغنّية تتأوه كأنها‬
‫إلي صوت ُ‬‫َّ‬ ‫المحورة‪ ،‬حتى تغيب معالم الكلمات‪ ،‬ويتناهى‬
‫إال اليسير منها‪ .‬مزيج من الل ّهجات األوروبية‪ ،‬واأللفاظ ُ‬
‫في الفراش تحت وطأة جندي غليظ‪ ،‬والدخان يغمر المكان‪ ،‬ال أستوعب كيف يمكن لهؤالء النّاس االستمرار في حياة مثل هذه‪،‬‬
‫حمدي‪ .‬ولم تكن إال‬ ‫الم ّ‬
‫الدين ُ‬‫أفر منهم بعد سماع دعواتهم أن أعتنق ّ‬
‫المور واألتراك‪ُّ ،‬‬
‫كسول وممل ّة‪ .‬ال ّزمن ليس له أي معنى عند ُ‬
‫ٍ‬
‫‪.‬لبقية رياالت البوجو التي بحوزتي‬

‫الجنينة‪ ،‬وتفاجأت بسلسلة طويلة من األضواء‪ ،‬تتحرك نحو الجنوب‪ ،‬اقتربت منها أكثر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الشارع المقابل لقصر‬
‫حين أظلمت تسللت إلى ّ‬
‫بدءا من القصر حتى‬ ‫ً‬ ‫محملة بالصناديق‪ ،‬وتتبعتها‬
‫ّ‬ ‫الرجال وهم يُغادرون القصر‪ ،‬ثم رأيت بغال ًا‬
‫سمعت وقع الحوافر على األرض‪ ،‬وهمهمة ّ‬
‫الصحراويون المكل ّفون بحراسة األبواب‪ ،‬بالرغم من أنهم كانوا أكثر طيبة‬‫عائدا‪ ،‬خشيت أن يعترضني ّ‬ ‫ً‬ ‫شققت طريقي‬
‫ُ‬ ‫بلغت القصبة‪.‬‬
‫المور‬
‫ُ‬ ‫هؤالء‬ ‫‪.‬من‬

‫‪:‬حين التقيت القُنصل في اليوم الموالي‪ ،‬ابتسم قائل ًا‬

‫المور معه‪ ،‬وجعلهم ‪-‬‬ ‫أن هذا الباشا أكثر األتراك حيل ًة‪ .‬قد انتقل إلى القصبة أعلى حصن يشرف على المدينة‪ ،‬بعد تآمر ُ‬ ‫يبدو ّ‬
‫الطرق‪ .‬وقد‬
‫ّ‬ ‫ى‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫بش‬ ‫إرضاءه‬ ‫حاولون‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫اآلن‬ ‫وهم‬ ‫ثكناتهم‪،‬‬ ‫باتجاه‬ ‫مدافعه‬ ‫نصب‬ ‫القصبة‬ ‫أسوار‬ ‫فوق‬ ‫ومن‬ ‫‪.‬‬‫اليولداش‬ ‫جنود‬ ‫وبين‬ ‫حاج ًز ا بينه‬
‫ضحون ببعضهم حتى يَصفَح عن البقية‬ ‫‪.‬يُ ُّ‬

‫المور يُحنون‬
‫وفي المساء كان كل شيء قد انتهى‪ ،‬وأضحى القناصلة يزورون الباشا في القصبة‪ ،‬يحملون الهدايا والضرائب‪ ،‬بينها ظل ُ‬
‫الطريق‬
‫‪.‬رؤوسهم كلما صادفوا اليولداش في ّ‬
‫‪ ‬‬

‫اللوحة الثّالثة‬

‫والخنوع للسلطة القاسية‬


‫ُ‬ ‫الدينية‪،‬‬
‫المور‪ ،‬وكيف جعلتهم التربية ّ‬ ‫الربوة‪ ،‬يُمكنه استيعاب كيف تتشكل ذهنيات أولئك ُ‬ ‫من عرف هذه ّ‬
‫وعمق ِ ّ‬
‫الدين من‬ ‫َّ‬ ‫غباء من أولئك األتراك‪.‬‬‫ً‬ ‫وأيضا المناخ وشمسه الحارة‪ ،‬وكيف تُؤثر على أمزجتهم‪ ،‬تجعلهم أكثر‬ ‫ً‬ ‫الصورة‪.‬‬
‫على تلك ُّ‬
‫المور الكالب على‬ ‫ُ‬ ‫فضل‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫بذلك‬ ‫نصل‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫لي‬ ‫أسر‬
‫َّ‬ ‫‪.‬‬ ‫المسيحيين‬ ‫على‬ ‫يوف‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫وحمل‬ ‫للحكام‪،‬‬ ‫للرضوخ‬ ‫يدعوهم‬ ‫كان‬ ‫تلك الهوة‪.‬‬
‫دائما يُعك ّرون الحياة في مدينتهم‪ .‬يجتهدون حتى تصبح لهم حظوةٌ عند أي باشا‬ ‫ً‬ ‫اليهود‬ ‫أن‬ ‫على‬ ‫جمعون‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫كانوا‬ ‫مثلما‬ ‫‪.‬‬ ‫المسيحيين‬
‫بالضباع التي تأتي نهاية المعركة لتلت ِقط الجيف‬ ‫ِّ‬ ‫‪.‬جديد‪ .‬هم يتجنبون القتال ويحبون رؤية غيرهم يتقاتلون يُشبِّهونهم‬

‫المور بينهم وبين اليهود‪ ،‬ال تسمح‬


‫تغيب عن أهلها‪ ،‬المسافة التي يترك ُها ُ‬
‫ُ‬ ‫ذارعا شوارع إسبرطة‪ .‬عرفت أشياء كثيرة‬ ‫ً‬ ‫سنوات قضيتها‬
‫كاف‪ .‬في إسبرطة يخضع اليهود فيما بينهم إلى قوانينهم ال إلى قوانين المدينة‪ .‬إذ يتولى إدارتهم رجل‬‫ٍ‬ ‫لهم بفهم دواخلهم بشكل‬
‫الضرائب كانت ُمضاعفة‪ .‬أتساءل عن الحالة الغريبة التي عليها‬ ‫الطائفة‪ ،‬يُعيّنه الباشا ويُسمح لهم بممارسة التجارة‪ ،‬ولكن ّ‬
‫من أبناء ّ‬
‫ضد‬
‫ّ‬ ‫قرب الباشا بعضهم‪ ،‬يجعلهم يشرفون على َص ِّك النّقود‪ ،‬وتبديل العمالت‪ .‬ولكن ال يُ ّ‬
‫حرك ساكنًا‬ ‫اليهود في هذه المدينة‪ ،‬من جهة يُ ِ ّ‬
‫الخيول‪ ،‬ليس لهم الحق في‬ ‫ُ‬ ‫السالح‪ ،‬أو اقتناء‬‫المور‪ ،‬ممنوعون من حمل ِّ‬ ‫تحمل صفعات ُ‬ ‫ُّ‬ ‫كثرة الموانع من حولهم‪ُ ،‬مجبرون على‬
‫الداكنة‪ ،‬وكلما تأملت ُسلوكهم‬
‫الطرقات أحيانًا‪ ،‬بألبستهم ال ّزرقاء ّ‬
‫باب واح ٍد‪ .‬ألقاهم في ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ملون‪ ،‬ال يخرجون من المدينة إال من‬ ‫ّ‬ ‫لباس‬
‫وأيضا تجاه‬
‫ً‬ ‫اليهود‪،‬‬ ‫تجاه‬ ‫عليهم‬ ‫األتراك‬ ‫لطة‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫يصرفون‬ ‫الذين‬ ‫ور‪،‬‬ ‫الم‬
‫ُ‬ ‫يحمله‬ ‫مما‬ ‫أكثر‬ ‫كان‬ ‫نوع‪،‬‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫من‬ ‫اليهود‬ ‫هؤالء‬ ‫يحمل‬ ‫ما‬ ‫أن‬ ‫أدرك‬
‫‪.‬نسائهم‬

‫الربوة‪ُ .‬ميوالتهم إلى المال تجعلهم يخدموننا مقابل فوائد دائمة‪.‬‬ ‫الصعب احتالل هذه ّ‬ ‫ما دام أولئك اليهود بها أعتقد أنه ليس من ّ‬
‫العربان الذين يقدمون من خارج المدينة‪ .‬يجنحون إلى الثّورة‬ ‫لكن الخطر الحقيقي‪ ،‬في ُ‬ ‫ّ‬ ‫الصفة‪،‬‬ ‫المور فيهم تلك ّ‬ ‫وربما بعض التُّجار ُ‬
‫المكبّلين‪.‬‬
‫الرجال ُ‬
‫محملين بها وببعض ّ‬ ‫ّ‬ ‫الضرائب فإنهم يعودون‬ ‫أما حين يخرج اليولداش إلى جمع ّ‬ ‫كلما أعلن الباشا ضرائب جديدة‪ّ .‬‬
‫دوما أنهم ُمنفصلون عن حكم الباشا‪ .‬كانوا يُسمونهم القبائل‪ ،‬حدثني عنهم‬ ‫ً‬ ‫أما أهالي الجبال‪ ،‬فبدا لي‬ ‫السوداء‪ّ ،‬‬
‫يلتفون في برانسهم ّ‬
‫المور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وجوه‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫بياض‬
‫ً‬ ‫أشد‬ ‫وجوههم‬ ‫يتون‪،‬‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫وأكياس‬ ‫يت‪،‬‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ُلل‬‫ق‬ ‫يحملون‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫أراهم‬ ‫عنهم‪،‬‬ ‫ًا‬ ‫ث‬ ‫باح‬ ‫األسواق‬ ‫القُنصل‪ .‬فأنزل إلى‬
‫قاماتهم ُم عتدلة‪ ،‬ولكنهم أقوياء‪ .‬تبدو سواعدهم مفتولة‪ ،‬والكثير منهم يتميزون بشعر أشقر‪ ،‬تراءوا لي أقرب إلى الفالحين في شمال‬
‫كثيرا‪ ،‬القليلون فقط يعملون بها زمنًا‪ ،‬ثم يعودون إلى الجبال‪ .‬المدينة‬ ‫ً‬ ‫يستقر القبائل في المدينة‬ ‫ُّ‬ ‫المور ‪ .‬ال‬
‫أوروبا منهم إلى أولئك ُ‬
‫الربوة في ال ّزمن القريب‬
‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫غزو‬ ‫في‬ ‫شرعنا‬ ‫إذا‬ ‫األعراب‪،‬‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫خطر‬
‫ً‬ ‫أقل‬ ‫يكونوا‬ ‫ولم‬ ‫زق‪،‬‬ ‫للر‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫مصدر‬ ‫مجرد‬ ‫‪.‬بالنسبة لهم‬

‫‪ ‬‬

‫الرابعة‬
‫اللوحة ّ‬
‫ساخطا عليه‪ ،‬إذ تركنا‬‫ً‬ ‫السويدي ألنني لم أزر زميله الفرنسي‪ ،‬ولم يكن مجديًا في األيام األولى أن أفعل‪ .‬كنت‬ ‫يُعاتبني القُنصل ُّ‬
‫السجن دون تكليف نفسه بزيارتنا‪ .‬لم ألتق القُنصل دوفال من قبل‪ ،‬ولكن الجميع من حولي يتفقون أنه أسوأ من ُأرسل إلى‬ ‫داخل ّ‬
‫قوا ٍد عنده‪ ،‬يتمل ّ ُقه‪ ،‬وينحني‬
‫صفات كثيرة‪ .‬يظل يسترضي الباشا الجديد ُحسينًا‪ ،‬يشتغل مثل ّ‬
‫ٍ‬ ‫الجزائر‪ ،‬رجل يشترك مع اليهود في‬
‫الدينية‪ .‬ويُشك ّل صداقات مشبوهة مع أولئك اليهود التجار النّافذين في قصر الباشا‪ .‬لم‬‫المحمديين ّ‬
‫ّ‬ ‫فيُقبِّل يده كلما زاره في أعياد‬
‫إلي رشدي‪ ،‬وجدت أنه أكثر القناصلة‬ ‫َّ‬ ‫همه شيء إال ما يُضيف فرنك ًا إلى جيبه‪ .‬لذا لم أرغب في زيارته‪ ،‬ولكن حين عاد‬ ‫يكن ّ‬
‫موعدا‪ ،‬ولم‬
‫ً‬ ‫فعالية في هذه المدينة‪ .‬في باريس كانوا يدركون أنه رغم كل مساوئه فإنّه يظل أصلح رجل إلسبرطة‪ .‬وهكذا طلبت‬
‫وسرت بمرافقة الخادم إلى مكتبه حيث جلست أنتظره‪ .‬دقائق ثم َول َج الغرفة وحيّاني‬ ‫ُ‬ ‫تمر إال أيام قليلة حتى كنت عند باب بيته‪،‬‬ ‫َّ‬
‫بحرارة‪ ،‬كان في نهاية الخمسينيات من عمره‪ ،‬نحيف الجسد دقيق المالمح‪ ،‬جلس يهذر بأشياء كثيرة‪ .‬تحدث عن نابليون‪ ،‬وعن‬
‫والم ور‪ .‬فأيقنت أنني أمام رجل يخبر كل صغيرة وكبيرة في هذه المدينة‪ .‬ويفهم األتراك أكثر‬ ‫ُ‬ ‫واترلو‪ ،‬وعن عالقة اليولداش بالباشا‬
‫بصمت إليه‪ ،‬حين رفع راسه تجاهي‪ ،‬وتكلم‬ ‫ٍ‬ ‫‪:‬من أنفسهم‪ ،‬ما يُحبُّون وما يكرهون‪ ،‬كنت أصغي‬

‫المور واألتراك؟ ‪-‬‬ ‫الشمال‪ ،‬أن ي ُ ِ ّ‬


‫فضل الحياة في هذه المدينة اإلفريقية‪ ،‬وبين هؤالء ُ‬ ‫أستغرب من شخص حارب مع نابليون في ّ‬

‫عبيدا تحت رحمتهم ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬لم يكن األمر هينًا‪ ،‬خاصة حينما تخليتم عنا‪ ،‬وتركتمونا‬

‫َّ‬
‫نتخل عنكم يا سيد كافيار‪ ،‬بل كُن َّا على اتصال مع اإلنجليز‪ ،‬ورتّبنا معهم كل شيء ‪-‬‬ ‫‪.‬لم‬

‫‪:‬تمنيت لو صرخت في وجهه‪ ،‬ولكنني تعقلت وأجبته‬

‫ٌّ‬
‫محق سيدي القُنصل‪ ،‬قد قالها لي األمريكيون‪ ،‬لكني نسيت ‪-‬‬ ‫‪.‬فعل ًا‪ ،‬أنت‬

‫السويديين‪ ،‬فإنّه مرحب بك هنا ‪-‬‬


‫ترقك اإلقامة عند ُّ‬
‫‪.‬إذا لم ُ‬
‫المكوث هناك‪ ،‬ولكني أقصدك في شيء آخر ‪-‬‬
‫‪.‬قد ألفت ُ‬
‫‪.‬لك أن تطلب ‪-‬‬

‫بحريّة خارج المدينة ‪-‬‬


‫تصريحا للتجول ُ‬
‫ً‬ ‫‪.‬أريد‬

‫وما الذي ستفعله هناك بين البدو وأهل الجبال؟ ‪-‬‬

‫السؤال ‪-‬‬
‫‪.‬آمل أن تُعفيني من هذا ّ‬
‫يا سيد كافيار‪ ،‬إنني في غنى عن جوابك‪ ،‬فهؤالء الذين تختبئون داخل قصورهم في باريس‪ ،‬لم يرسلوني إلى هذا المكان الخطر ‪-‬‬
‫الرجل الذي يجلس أمامك اآلن‪ .‬أنا أدرك أن ما يشغلك اآلن‪ ،‬قد شغل قائدك‬
‫عبث ًا‪ ،‬بل ألن هناك مهام ال يمكن أن ينجزها إال هذا ّ‬
‫لدرجة أنه أرسل أحد جواسيسه يستكشف المدينة‬‫ُ‬ ‫سنوات‪،‬‬ ‫‪.‬قبل‬

‫أتقصد نابليون؟ ‪-‬‬

‫أال تعلم أن نابليون قد أرسل جاسوسه بوتان قبل سنوات‪ ،‬استكشف المدينة‪ ،‬وكتب عنها تقارير عديدة‪ ،‬ورسم خرائط‪ ،‬حينها كان ‪-‬‬
‫‪.‬نابليون بحلم باكتساح هذه المدينة‬

‫وبوتان؟ ‪-‬‬

‫وسل َبُوه كل ما لديه من أوراق وخرائط ‪-‬‬


‫‪.‬في طريق عودته قَبَض عليه اإلنجليز‪َ ،‬‬
‫دائما يَ ِقفون حجر عثرة في طريقنا ‪-‬‬
‫ً‬ ‫مرة أخرى! إنهم‬
‫‪.‬اإلنجليز ّ‬
‫يا سيد كافيار‪ ،‬أرجو أال تجعل األمر شخصي ًا بينك وبين اإلنجليز‪ ،‬منذ القديم ونحن في سباق معهم‪ .‬ولم أستغرب حينما سمعت ‪-‬‬
‫‪.‬من بُوتان تلك الكلمات‬

‫!التقيته إذن؟ ‪-‬‬


‫ُ‬

‫سار دوفال خطوات إلى خزانة أقصى الغرفة‪ ،‬فتح أحد أبوابها‪ ،‬وقلب أشياء بداخلها‪ ،‬ثم عاد بوجه مبتسم‪ ،‬وبَ َسط أمامي ُحزمة األوراق‪،‬‬
‫‪:‬مربوط ًة بخيوط رفيعة‪ ،‬ثم تكل ّم بافتخار‬

‫‪.‬لن تجد هذه األوراق إال في خزانتين‪ ،‬هذه التي أمامك‪ ،‬واألخرى في مكتب وزير الحربية ‪-‬‬

‫!أهي تقارير بوتان وخرائطه؟ ‪-‬‬

‫المرة‪ ،‬هي بين يديك اآلن‪ ،‬ولكن بشرط؟ ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫قد أصبت هذه‬

‫‪.‬كل ُّ‬
‫الشروط مقبولة ‪-‬‬

‫للضباط الذين يأتون فيما بعد تتبع المسارات كي ‪-‬‬‫ُّ‬ ‫سجل بوتان مالحظاته قبل سنوات‪ ،‬وأنت ستُضيف لها هوامش بحيث يمكن‬
‫َّ‬
‫‪.‬يسهل عليهم النُزول بسيدي فرج‪ ،‬مثلما اقترح بوتان‬

‫‪.‬لك مني ذلك سيدي ال ُقنصل ‪-‬‬

‫‪.‬وسيكون التصريح بين يديك في صباح يوم الغد ‪-‬‬

‫أحضن ُحزمة األوراق‪،‬‬


‫ُ‬ ‫غادرت بيت القُ نصل بوجه غير الذي عبرت به بوابة بيته‪ ،‬وندمت أنني لم أزره في أيامي األولى‪ .‬كنت‬
‫الطويلة في إسبرطة‪ .‬حدثت نفسي حينها‪ :‬اآلن يا‬‫عزاء لكل كوابيسي ّ‬
‫ً‬ ‫الضياع‪ .‬كانت بالفعل هذه األوراق‬
‫كأنما أخشى عليها من ّ‬
‫السياط‪ .‬ستُعيد رسم الخرائط‪ ،‬بل إنك ستُشارك في تَغييرها‪ ،‬عليك اآلن أن تصغي‬‫الصفعات وضربات ّ‬ ‫كافيار بدأت رحلتك في ِ ّ‬
‫رد ّ‬
‫‪.‬لكل األصوات والهمسات‪ ،‬واإليماءات‪ ،‬عليك اإليمان فقط‪ ،‬أن كل شيء من حولك اآلن سيُعينك على غَزو هذه المدينة‬

‫‪ ‬‬

‫اللوحة الخامسة‬

‫الخيول‬
‫ُ‬ ‫مسرعا‪ ،‬لم أكن أدري أن‬‫ً‬ ‫السهل‪ ،‬تَمُأله مقابر المحمديين‪ ،‬أراه من على صهوة الحصان‪ ،‬أضربه بكفي فينطلق‬ ‫ينحدر أمامي ّ‬
‫بجدية في هذا النّوع من الخيول‪ ،‬إنها أفضل حتى من الخيول‬ ‫ِّ‬ ‫الرشاقة‪ .‬اآلن أضحي على الفرنسيين أن يُف ِك ّروا‬ ‫العربيّة بكل هذه ّ‬
‫الطويلة‪ .‬اختبرتُها وأنا أطوف بالمدينة حتى‬‫ّ‬ ‫المسافات‬ ‫من‬ ‫تتعب‬ ‫وال‬ ‫منسجمة‪،‬‬ ‫وأجسامها‬ ‫واسعة‪،‬‬ ‫وعيونها‬ ‫صغيرة‪،‬‬ ‫رأس ها‬
‫ُ‬ ‫األوروبية‪،‬‬
‫خطرا من جنود اليولداش‪،‬‬
‫ً‬ ‫أشد‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫األعراب‬ ‫هؤالء‬ ‫‪.‬‬‫يسبقونني‬ ‫ا‬ ‫ودائم‬
‫ً‬ ‫المدينة‪،‬‬ ‫خارج‬ ‫يقطنون‬ ‫ممن‬ ‫األعراب‪،‬‬ ‫من‬ ‫الكثير‬ ‫مع‬ ‫وتسابقت‬
‫ُ‬ ‫ألفتُها‪،‬‬
‫فضلون القتال في جماعات‪ ،‬أو في ُصفوف طويلة‪ ،‬ولكنهم بالتأكيد لم يكونوا بالشجاعة نفسها‪،‬‬ ‫كثيرا عن ُمشاتنا‪ ،‬ي ُ ّ‬ ‫ً‬ ‫الذين ال يختلفون‬
‫الطبيعة البدوية التي تميل إلى ال ِتّرحال‪ ،‬تجعلهم أكثر توقًا إلى ُ‬
‫المغامرة‪ ،‬ليس لديهم أشياء يُفقدونها‪ ،‬سوى‬ ‫من يراهم يُدرك أن تلك ّ‬
‫الشعر‪ ،‬دقائق وتطوى لتُحمل على ظهور الجمال‪ ،‬تلك الكائنات الغريبة‪ ،‬رأيتها ترعي ولم أجرؤ‬ ‫خياما من ّ َ‬ ‫ً‬ ‫قطعانهم‪ ،‬حتى بيوتهم كانت‬
‫قبحا وأنا أراها عن كَثَب‪ .‬أتذكر أنّي لم ألبث إال قليل ًا هناك‪ ،‬وعدت إلى صهوة‬ ‫ً‬ ‫أكثر‬ ‫لي‬ ‫بدت‬ ‫حارسها‪،‬‬ ‫فقة‬ ‫على االقتراب منها إال ُر‬
‫خصال عديدة‬
‫ٍ‬ ‫مر ة أخرى‪ .‬كل يوم ألمحها في مكانها‪ ،‬وإلى جانبها العجوز الذي بدا وكأنه يُماثلها في‬ ‫ّ‬ ‫منها‬ ‫‪.‬الحصان‪ ،‬ولم أقترب‬

‫الرجل‬‫المر ات التي أعدت فيها قراءة تقارير بوتان‪ .‬لم تبد لي أنها تحتاج إلى هوامش كثيرة‪ ،‬فعل ًا كان ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال أدري كم من‬
‫فتحا آخر في هذه التقارير‬ ‫ً‬ ‫استثناء‪ .‬وربما كل النّابليونيين كانوا كذلك‪ ،‬وأنا منهم‪ ،‬لكنني لم ُأحدث االستثناء بعد‪ .‬يجب أن أحدث‬ ‫ً‬
‫السهول والمرتفعات بين المدينة‬ ‫السنوات التي قضيتها أجوب ّ‬ ‫المرات خالل ّ‬
‫ّ‬ ‫التي تبعثرت أمامي‪ ،‬والخرائط التي نسختها مئات‬
‫أثرا في رسوماته‪ ،‬عدا‬ ‫الربوة ثم رسمها بدقة‪ ،‬ولم يترك للصدفة ً‬ ‫الدوام‪ ،‬جاس ّ‬ ‫واضحا على ّ‬ ‫ً‬ ‫وسيدي فرج‪ ،‬وسطاوالي‪ .‬ولكن بوتان كان‬
‫طل من أعالها‪.‬‬ ‫قد ًرا له التكهن كم عدد المدافع التي ستُ ُّ‬‫الصغيرة المقابلة للبحر‪ .‬طوري شيكا‪ ،‬لم يكن ُم َّ‬ ‫تلك التي تتعلق بالقلعة ّ‬
‫مر ة أعدت حساب المسافات بين البحر وبين القلعة‪ ،‬وبقية األمكنة التي اختارها بُوتان طريقًا للجنود‪ ،‬أفاجأ أنها دقيقة‪ ،‬وك ُلما‬ ‫كل ّ‬ ‫في ّ‬
‫يوم ثان وأرجع إلى المكان نفسه‪ .‬أعيد قياس المسافات‪ ،‬والبحث‬ ‫ٍ‬ ‫وأستيقظ في فجر‬
‫ُ‬ ‫َأظل َم الفضاء من حولي ك ُنت أعود إلى المدينة‪،‬‬
‫بعض ا منها ولو أنها كانت جانبية‪ ،‬ولكن األعراب كانوا يحلون بها في أوقات غير معلومة‪ ،‬كان ال‬ ‫ً‬ ‫عن دروب أخرى‪ ،‬وبالفعل وجدت‬
‫ودونت تفاصيل مثيرة عن ِح ِل ّها وترحالها‪ ،‬وأحصيت عدد الذين يحسنون القتال‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بد لي من تسجيل تلك المواقيت‪ ،‬تتبَّعتُها قبيل ًة قبيلة‬
‫وعدد الخيول التي يملكونها‪ ،‬والبنادق التي يحملونها‪ ،‬وتوغلت في عالقاتهم بالباشا‪ ،‬وجنود اليولداش‪ .‬لم أنتبه إلى األوراق التي تزداد‬
‫الر عاة عن األشجار وأنواعها‪ ،‬وأسأل آخرين إن كانت تنفع في شيء‪ ،‬وعن تأثير الحمى‬ ‫من حولي‪ ،‬إذ تتبعت تفاصيل كثيرة‪ ،‬أسال ّ‬
‫المور حامل ًا‬
‫والمياه الموبوءة‪ ،‬وعن األعشاب التي يستعملونها كأدوية‪ .‬ومن األشياء الغريبة التي صادفتها في هذه المدينة‪ ،‬ما إن يراك ُ‬
‫بجلونك كأنك الباشا‪ ،‬ويطلبون أن تصف لهم دواء لِ ِعل َلهم‪ .‬وبالرغم من أنها كانت كثيرة‪،‬‬
‫لحزمة األعشاب حتى يعتقدوا أنك طبيب‪ .‬ي ُ ِ ّ‬
‫صرون على دوا ٍء واحد يمكنه معالجتها كلها‬ ‫ُ ُّ‬ ‫ي‬ ‫‪.‬ولكنهم‬

‫يتأمل ُني القُنصل طويل ًا‪ ،‬ثم يهمس لي‪ :‬اهتم بصحتك يا كافيار‪ .‬لم أهتم بكالمه‪ ،‬كانت كتاباتي وخرائطي هي حياتي الجديدة في‬ ‫َّ‬
‫تقاطعت مع ُخطط بوتان‪ ،‬وأخرى كانت بعيدة‬‫َ‬ ‫إسبرطة‪ .‬ثم حال ذلك إلى هوس‪ ،‬آالف من االحتماالت جربتها من أجل احتاللها‪،‬‬
‫أيضا أنه ال بد‬
‫ً‬ ‫رت‬
‫وقد ُ‬
‫َّ‬ ‫بعيدا عن المدينة‪،‬‬
‫ً‬ ‫أي تحصين‪ ،‬وليس‬‫خال من ِ ّ‬‫ٍ‬ ‫يلح على الن ُّزول من سيدي فرج حيث المكان‬ ‫ُّ‬ ‫عنها‪ ،‬ظل‬
‫من مفاجأة أسطولهم في الميناء‪ .‬لو أعادوا حملة الل ّورد إكسموث‪ ،‬فإنهم سيحتلُّون المدينة بكل سهولة‪ .‬ومادامت ُسفنهم هناك في‬
‫نتبه إلى نفسك يا كافيار‪ ،‬ليس من المعقول أن تستمر في لقاء‬ ‫ردد‪ِ :‬إ ْ‬
‫لصد هجماتنا‪ .‬وظل القُنصل ي ُ ّ‬
‫ّ‬ ‫دائما ُمستعدون‬
‫ً‬ ‫الميناء‪ ،‬فإنهم‬
‫أمراض تنتشر بينهم‪ ،‬انتقلت إليهم من حيواناتهم‪ .‬ستنتقل العدوى إليك‪ .‬لقد أصبحت أكثر نحاف ًة‬ ‫ٌ‬ ‫وسك ّان الجبال‪ ،‬هناك‬ ‫األعراب ُ‬
‫‪.‬وضمورا‪ .‬انظر إلى وجهك في المرآة‬
‫ً‬
‫عبوديته‪ .‬تذك ّرت أول يوم في ضيافة القُنصل‪ ،‬وقفت‬
‫أقف في مواجهة المرآة فأنكر نفسي‪ ،‬ثم اتذكره‪ ،‬إنّه كافيار الذي خرج للتو من ُ‬
‫ُ‬
‫الداخل‬
‫‪.‬أمام المرآة‪ ،‬كان الوجه نفسه‪ ،‬ثم شرعت من دهشتي أنزع عن جسمي الثّياب‪ ،‬كانت األضالع بارزة‪ ،‬وبطني انحنى إلى ّ‬

‫دخن بشراهة‪ ،‬وأسهر ساعات متأخر ًة من‬ ‫السنة األخيرة صرت مثل مجنون ال يتوقّف عن الجري بالخالء‪ ،‬ال آكل إال القليل‪ُ ،‬أ ِ ّ‬ ‫في ّ‬
‫وصدقَت نُبوءة القُنصل‪ .‬أفقت في فجر يوم على ُح َّمى شديد ٍة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ومر شهر آخر‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫جديدة‬ ‫معارف‬ ‫تحصيل‬ ‫علي‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ا‬‫محكوم‬
‫ً‬ ‫بات‬ ‫الل ّيل‪.‬‬
‫السوط‬
‫ومرات أراه في لباس األتراك يحمل ُّ‬ ‫ّ‬ ‫نابليون‪،‬‬ ‫مع‬ ‫أقاسمها‬ ‫اكنة‪،‬‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫نزانة‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫أسوار‬ ‫أمامي‪،‬‬ ‫ترقص‬ ‫خياالت‬ ‫إلى‬ ‫تحول‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫العالم‬
‫لوح لي في‬ ‫أس َرنا القراصنة‪ ،‬وقف يُ ِ ّ‬ ‫نهب إلى أشغالنا‪ .‬ثم رأيت المسافر الذي قاسمني غرفة المركب عندما َ‬ ‫ّ‬ ‫في يده‪ ،‬بأمرنا أن‬
‫تهدم مع آخرين‪ .‬أفتح عيني فأرى‬ ‫الم ِ ّ‬
‫ور َدمه الجدار ُ‬ ‫الشارع‪ ،‬وحين خطوت إليه انفجرت إلى جانبه قذيفة من سفينة الل ّورد‪َ ،‬‬ ‫نهاية ّ‬
‫أع ما قاله‪ ،‬إذ‬ ‫ِ‬ ‫ولم‬ ‫شفتاه‬ ‫تحركت‬ ‫ثم‬ ‫عيني‪،‬‬ ‫فتحت‬ ‫عندما‬ ‫ابتسم‬ ‫جبهتي‪،‬‬ ‫على‬ ‫من‬ ‫المبلولة‬ ‫القماش‬ ‫قطعة‬ ‫ر‬ ‫غي‬
‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫جانبي‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫القُنصل‬
‫الجثث‪ ،‬وكأنّي‬‫ُ‬ ‫بين‬ ‫ا‬ ‫وحيد‬
‫ً‬ ‫وقفت‬ ‫شالل‪،‬‬ ‫مثل‬ ‫ينهمر‬ ‫والمطر‬ ‫واترلو‪،‬‬ ‫سهل‬ ‫أتوسط‬ ‫كنت‬ ‫الحلم‬ ‫في‬ ‫غيبوبتي‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫أخرى‬ ‫ة‬ ‫مر‬
‫ّ‬ ‫عدت‬
‫ِ‬
‫أللتحق به‬ ‫لوح من بعيد لي‬ ‫‪.‬بنابليون يُ ِ ّ‬
‫لم أعرف كم من األيام قضيتها طريح الفراش‪ ،‬يظل القُنصل إلى جانبي‪ ،‬ال يغادر إال ليرجع ثاني ًة‪ُ .‬خيّل لي أن دوفال وقف إلى‬
‫تشده إلى المدينة‬
‫ّ‬ ‫سريعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أقدر مدى صدقها‪ .‬لم يُطل ُمكوثه ورحل‬ ‫ّ‬ ‫السرير وتحسس جبيني‪ ،‬رأيت نظرة األسف في عينيه‪ ،‬ولم‬ ‫جانب ّ‬
‫علي تدوينها‪ .‬أهذي بطوري شيكا‪ ،‬واألعراب الذين يحملون بنادق طويلة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بات‬ ‫جديدة‬ ‫معالم‬ ‫هناك‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫شعرت‬ ‫بينما‬ ‫‪.‬‬ ‫كثيرة‬ ‫مصالح‬
‫لكن آماله تبددت‪ ،‬يُرسل خادمه للطبيب‪،‬‬‫ّ‬ ‫الحمى‪ .‬كان القُنصل يأمل في شفائي‬
‫َّ‬ ‫ترحل‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬‬ ‫امتطاءه‬ ‫اعتدت‬ ‫الذي‬ ‫حصاني‬ ‫وباسم‬
‫الصباح استفقت‪ .‬فتحت عيني‪،‬‬ ‫ويحضر حامل ًا القوارير معه‪ .‬ويستعر جسدي حتى أوشك على الهالك بين يديه‪ ،‬ولكني في ذلك ّ‬
‫وأبصرت سطح الغرفة‪َ ،‬س ِعدت بالضوء المنبعث من النّافذة‪ .‬ومددت يدي كي أالمسه‪ ،‬كان أكثر دفًئا‪ ،‬شعرت أنني أستطيع الوقوف‪،‬‬
‫سارتا بي‬
‫َ‬ ‫مرة أخرى وخطوت إلى النّافذة‪ ،‬ولم تُخيبني رجالي‪.‬‬ ‫فأرخيت رجلي إلى األرض‪ ،‬وتفاجأت أنهما تحمالني‪ ،‬ثم تشجعت ّ‬
‫ربيعا ُمختلفًا في إسبرطة‬
‫ً‬ ‫أزهرت‪ ،‬وكان‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫شجرات الل ّوز التي‬ ‫‪.‬ببطء حتى ك ُنت عندها‪ ،‬وأطللت على‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬ابن ميّار‬

‫يشق المقابر‪.‬‬‫ُّ‬ ‫الدرب الذي‬‫نكسرا عبر َّ‬ ‫ً‬ ‫السل ّاوي يركض في شوارع المحروسة‪ .‬إبراهيم آغا ينحدر ُم‬ ‫الص َور من حولي‪ ،‬أرى ّ‬ ‫تتكاث َف ُّ‬
‫الم ِل ّوحة في محطة باريس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ويده‬ ‫باشا‬ ‫سين‬ ‫ح‬‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬‬ ‫انتظارها‬ ‫في‬ ‫وجة‬‫د‬‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫به‬ ‫يحيطون‬ ‫اليولداش‬ ‫كان‬ ‫بينما‬ ‫ترجية‬ ‫الم‬
‫ُ‬ ‫ونظرته‬ ‫يحيي آغا‬
‫أعد نفسي بينهم‪ ،‬وما‬
‫َّ‬ ‫التكهن لحظتها‪ ،‬لكني انتبهت أنني لم‬ ‫ُّ‬ ‫تُرى من أخطأ بين هؤالء كلهم‪ ،‬ومن كانت خسائره أكثر؟ لم أستطع‬
‫لكن فُندق مرسيليا‬
‫ّ‬ ‫الشكل إال في المحروسة‪،‬‬ ‫حدقت قليل ًا في سطح الغرفة‪ .‬لم تعتد الفنادق أن تكون بهذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫كنت أقلَّهم خسارة‪.‬‬
‫مر يومان على وصولي‪ .‬لم تتجاوز رجالي فيها عتبة الباب‪ ،‬قررت أن أستنشق‬ ‫َّ‬ ‫وقد‬ ‫‪.‬‬ ‫صدري‬ ‫على‬ ‫الخناق‬ ‫يشد‬
‫ُّ‬ ‫ذلك المساء كان‬
‫فضل الوحدة على شوارع‬ ‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫األطوار‪،‬‬ ‫غريب‬ ‫ا‬ ‫خ‬ ‫ً‬ ‫شي‬ ‫له‬ ‫بدوت‬ ‫الفندق‪،‬‬ ‫عامل‬ ‫بي‬ ‫حملق‬ ‫الغرفة‪،‬‬ ‫وغادرت‬ ‫نفسي‬ ‫حملت‬ ‫غاير ا‪،‬‬
‫هواء ُم ً‬
‫ً‬
‫الصور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تنبعث‬ ‫حولي‬ ‫من‬ ‫جيج‬ ‫الض‬
‫ّ‬ ‫تنامى‬ ‫كلما‬ ‫عنها‪،‬‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫غائب‬ ‫وارع‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫شققت‬ ‫ا‪،‬‬ ‫بتعد‬
‫ً‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫وغادرت‬ ‫للتحية‪،‬‬ ‫إال‬ ‫به‬ ‫أحدق‬ ‫ولم‬ ‫‪.‬‬ ‫ضاجة بالناس‬
‫ّ‬
‫المفتي قد مات مذ سامعه قرار‬ ‫بعيدا‪ ،‬والرحيل لم يكن إال موتًا ُمؤجل ًا‪ .‬نعم لطالما اعتقدت أن صديقي ُ‬ ‫ً‬ ‫وجوه قد غابت ورحلت‬
‫نكسرا‪ ،‬لم‬
‫ً‬ ‫نفيه إلى اإلسكندرية‪ ،‬وجدتُه يبكي ذلك المساء‪ ،‬كان باب غرفته ُمغلقًا‪ .‬دققته لوهلة دون مجيب‪ ،‬ثم فُتح ووقف أمامي ُم‬
‫الصناديق المليئة بها‪ ،‬قالوا لي إنهم ينقلونها إلى مسجد آخر‪ .‬ولكنني‬ ‫يهدون المساجد‪ ،‬حتى الكتب رأيتهم يأخذون ّ‬ ‫ُّ‬ ‫يتحمل رؤيتهم وهم‬
‫لم أرها فيما بعد‪ ،‬كتب القرآن‪ ،‬وكتب الفقه الحنفي وبعض كتب الفقه المالكي‪ .‬شاهدت بقايا الكتب تناثر في باحة أول مسجد‬
‫اقتحم‪ .‬جمعها كلها‪ ،‬ال تكاد تشبه الورقة أختها‪ ،‬وضعتها بين دفتين جلديتين‪ ،‬بالرغم من أنها لم تكن لتُشكل كتابًا لتباينها‪ ،‬وجلست‬
‫بعض‬
‫ٍ‬ ‫بعضه إلى‬
‫ُ‬ ‫كتاب ال ينتمي‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬أتأملها‪ ،‬تنبأت ذلك اليوم أن المحروسة ستتحول إلى‬

‫يسحبُهم من المساجد التي تحولت إلى ثكنات‪ ،‬ولكنّه لم يستطع ردعهم‪ ،‬كان الجنود‬ ‫َ‬ ‫قربًا من القائد العام بورمون‪ .‬رجوتُه أن‬ ‫كنت ُم ّ َ‬
‫سوءا بيد أن كلوزيل كان‬ ‫ً‬ ‫أقلهم‬ ‫بورمون‬ ‫كان‬ ‫ربما‬ ‫طريقهم‪،‬‬ ‫في‬ ‫يقف‬ ‫من‬ ‫كل‬ ‫يدوسون‬ ‫اس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫وبيوت‬ ‫المقدسة‬ ‫األماكن‬ ‫بين‬ ‫يفرقون‬ ‫ال‬
‫ساحات‪ ،‬وفتح طرقًا جديدة‪ ،‬عجزنا‬ ‫ٍ‬ ‫حولها إلى‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫بعضها‬ ‫أزالت‬ ‫منها‪،‬‬ ‫العديد‬ ‫إلى‬ ‫فامتدت‬ ‫بها‪،‬‬ ‫كافيار‬ ‫يد‬ ‫أطلق‬ ‫‪.‬‬‫يفعل‬ ‫ما‬ ‫ا‬ ‫د‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫جي‬ ‫يعي‬
‫السالح والوقوف في وجوههم‪ ،‬والدفاع عن بيوت الل ّه‪ .‬حملت العيون‬ ‫عن فعل أي شيء‪ .‬كان المفتي يطلب من النّاس حمل ِ ّ‬
‫األخبار إلى القائد كلوزيل‪ ،‬ظن الجميع أنه سيُح ِ ّذره فقط ولكنّه نفاه‪ ،‬أخبرني ابنه بأنهم زاروه في بيته‪ ،‬وعلمت أنها مؤامرة من‬
‫ادعى أنه في مقدوره استقدام آالف الجنود إلى المحروسة‬ ‫ك ُلوزيل‪ .‬أوهموه أنهم راحلون‪ ،‬وليس لديهم من يتركونه لحراسة المدينة‪َ ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫تمض إال أيا ٌم قليلة حتى‬ ‫قائدا بُروتستانتيًا جل ّابًا للمشاكل‪ .‬كنت أواسيه ونحن نتقاسم غُرفته‪ ،‬ولم‬ ‫ً‬ ‫لحراستها‪ .‬لم يكن في نظرهم إال‬
‫السفينة إلى اإلسكندرية‬
‫ّ‬ ‫ملته‬‫وح‬
‫َ‬ ‫الميناء‪،‬‬ ‫رصيف‬ ‫من‬ ‫له‬ ‫ح‬ ‫ألو‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫‪.‬وقفت‬

‫الشارع يستطيل‪ ،‬وأتساءل ما الذي يُبقيني في مرسيليا‪ ،‬وأعجز عن إيجاد ما يُبرر مكوثي هنا‪ .‬لم تبق إال أسطر قليلة من‬ ‫يظل ّ‬
‫العريضة التي بدأت اختصارها‪ ،‬حاولت جعلها أكثر دقة‪ .‬هؤالء الفرنسيون يحبون تدوين كل شيء‪ .‬بينا نكتفي نحن بالرؤية فقط‪.‬‬
‫وجوها جديدة‪ ،‬تستطلع األراضي وتحسب المسافات بينها‪ ،‬وآخرون يسألون النّاس عن‬ ‫ً‬ ‫قبل رحيلي عن المحروسة‪ ،‬كل يوم أرى فيه‬
‫المستنقعات بسراويلهم القصيرة‪ ،‬يستخرجون األوحال‪ ،‬ويترك ُونها تتيبّس‪،‬‬ ‫األعشاب‪ ،‬والحيوانات‪ ،‬يكتبون كل شيء في دفاترهم‪ ،‬يلجون ُ‬
‫أشهرا‪ ،‬ثم ألمحهم في حي المقاهي‪ ،‬يجتمعون حول‬ ‫ً‬ ‫يبحثون عن أشياء ال أدري طبيعتها‪ ،‬يرحلون في قوافل محروسةٍ ويغيبون‬
‫أياما قليلة بعدها‬
‫ً‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫خ‬
‫ً‬ ‫تاري‬ ‫لها‬ ‫نعلم‬ ‫لم‬ ‫أخرى‬ ‫وأمم‬ ‫ومان‬ ‫الر‬
‫دفاترهم المليئة بالرسومات الجميلة‪ ،‬بشر وأشجار وحيوانات وأبنية تركها ّ‬
‫يجتمعون بالرصيف‪ ،‬وقد حملوا ما استطاعوا من حيوانات برية وحشرات‪ ،‬وحتّى نباتات‪ ،‬ثم يرحلون‪ .‬لم نكن نحن قبلهم لنفكر بهذه‬
‫الطريقة‪ ،‬كانوا أكثر ميل ًا منّا إلى االكتشاف‪ ،‬حتى الل ّغة التي يتخاطب بها النّاس في األسواق‪ ،‬كتبوا كل ُمفرداتها في دفاترهم‪ ،‬وحفظوا‬ ‫ّ‬
‫واحدا منها‪ ،‬وراقني وأنا أتصفّحه‪ ،‬لكنني‬ ‫ً‬ ‫ُجمل ًا كثيرة‪ ،‬وصار منهم من يتكلم بها‪ ،‬ثم طبعوا منها ك ُتبًّا‪ ،‬ووزعوها على ُضبّاطهم‪ ،‬اقتنيت‬
‫‪.‬كنت حزينًا أن بني عثمان لم يتصرفوا مثل هؤالء األوروبيين‬

‫عبرت المسافة كلها دون أن أعي تفاصيل كثيرة بها‪ ،‬مقاهي وشوارع جانبية‪ ،‬وحدائق صغيرة أمام‬
‫ُ‬ ‫عائدا‪ُ ،‬مستغربًا كيف‬
‫ً‬ ‫انعطفت‬
‫المرة‪ ،‬اكتفيت بالمرور إلى غرفتي‪ ،‬دخلتها‪ ،‬ووجدت‬
‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫العامل‬ ‫أحي‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ولم‬ ‫الفندق‪،‬‬ ‫عتبة‬ ‫عند‬ ‫وقفت‬ ‫أن‬ ‫إلى‬ ‫كلها‬ ‫ها‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫تجاوز‬ ‫البيوت‪،‬‬
‫‪.‬عرائضي هناك ماتزال تنتظرني‬

‫فرارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫خفضت بصري‬
‫ُ‬ ‫عتم ٌة ال نُجوم بها‪ ،‬وال قمر‪ ،‬تميل إلى ُحمر ٍة دامية في نهاية األفق‪،‬‬ ‫كان ليل مرسيليا أسوأ ما رأيت‪ ،‬سماء ُم ّ‬
‫أسلم من‬ ‫ْ‬ ‫ولم‬ ‫األخرى‪،‬‬ ‫تلو‬ ‫والحادثة‬ ‫طر‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫تلو‬ ‫طر‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫عني‪،‬‬ ‫الغريبة‬ ‫الحروف‬ ‫أتتبع‬ ‫وطفقت‬ ‫وأقفلت النّافذة ثم عدت إلى العريضة‪،‬‬
‫أسطرا أخرى بقيت عالقة‪ ،‬كان ال‬ ‫ً‬ ‫وأضيف‬ ‫ارتعاشها‬ ‫أتحمل‬ ‫األخير‪،‬‬ ‫طر‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫نهاية‬ ‫يدي‬ ‫ترتجف‬ ‫السطور تجاهي‪،‬‬
‫عودتها‪ ،‬تقفز من بين ُّ‬
‫أوراق قليلة‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬بد من تلخيصها في‬

‫رد د كلوزيل وروفيغو هذه الكلمات‪ ،‬واآلن أشعر أنني سأسمعها من هؤالء‬ ‫يقولون إن وقتنا ضيق‪ ،‬القليل من الكالم يفي بمطالبكم‪ّ .‬‬
‫المنسجمة‪ ،‬والكبيرة‬ ‫لت الحروف في انحناءاتها ُ‬ ‫المستشارين‪ .‬وقد بدأت األسطر تتضاءل حتى بلغت آخرها‪ .‬تركتُها تَجِ ُّف برهة ثم ّ‬
‫تأم ُ‬ ‫ُ‬
‫تفحصتها‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫والصيغ‪ ،‬ثم‬ ‫علي االعتناء باأللفاظ‬
‫َّ‬ ‫يرددون أن الفرنسيين نرجسيون حين يتعلق األمر بلغتهم‪ ،‬لذا وجب‬ ‫ّ‬ ‫السطور‪،‬‬
‫عند بدايات ُّ‬
‫‪.‬ودونت التَّاريخ‪ ،‬وأمضيتها‬
‫ّ‬

‫بتلك الحروف الل ّاتينية بدا اسمي غريبًا‪ ،‬أيعقل أن تُصبح كل أسماء أهل المحروسة بهذه الغرابة بعد سنوات؟ كيف سيستقبل‬
‫أحدا‬
‫ً‬ ‫سنوات في إقامته بمرسيليا‪ .‬ربما لم تكن كتابة االسم لتعني‬
‫ٍ‬ ‫ادها منذ‬
‫السل ّاوي اسمه‪ ،‬أو ُدوجة‪ ،‬أو حتى ميمون؟ ميمون قد اعتَ َ‬
‫ّ‬
‫مختلف في باريس‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬سواي‪ ،‬لذا قفزت فوق هواجسي وأنا أرتب أشيائي‪ ،‬في انتظار غ ٍد‬

‫في رحيلي عن الفندق أوعزت للحوذي أن يسرع‪ ،‬وأغمضت عيني بينما سارت العربة‪ ،‬ولم أفتحها إال ونحن خارج المدينة‪ .‬لم‬
‫نحدرا بين بقايا‬
‫ً‬ ‫ألتفت ألرى بقايا األبنية تختفي خلف أول ربوة عبرناها‪ ،‬كانت المحروسة تستيقظ في كل حين‪ ،‬فأرى اآلغا إبراهيم ُم‬
‫الفار‪ .‬يومها عبرت الباب الغربي للمدينة‪ ،‬وحدقت بقوسه طويل ًا‪ ،‬كنت أحدس أنه عما قريب ستتغير‬ ‫ّ‬ ‫جنوده‪ ،‬يسير باحث ًا عن جيشه‬
‫انحناءاته‪ ،‬وتتحول إلى أشكال أخرى‪ ،‬أو ربما تُوضع تماثيل على طرفي الباب‪ .‬أولئك األوربيون مولعون بالصور والتماثيل البشريّة‪،‬‬
‫الطرقات‪ ،‬وعلى أطراف القبور‪ ،‬شاهدتهم في ساحات‬ ‫والمشهورون بينهم ينحتون لهم تماثيل يضعونها في أماكن ُمختارة‪ ،‬في تقاطع ُّ‬
‫وتجاورت البوابة‪ ،‬ثم غابت وأنا أرى حركة النّاس يسحبون الجرحى‪ ،‬يحملونهم على عربات‬ ‫ُ‬ ‫مرسيليا‪ ،‬وأكثر في ساحات باريس‪.‬‬
‫الضجيج‬‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫ببعض‬ ‫بعضهن‬
‫ّ‬ ‫ثن‬‫ّ‬ ‫يتشب‬ ‫محنيات‪،‬‬ ‫رن‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫وأخريات‬ ‫موتى‪،‬‬ ‫هن‬
‫ّ‬ ‫بعض‬
‫ُ‬ ‫األرض‪،‬‬ ‫على‬ ‫يستلقين‬ ‫خشبية‪ ،‬وآخرون على األكتاف‪ ،‬وبغايا‬
‫عددا منهم‬
‫ً‬ ‫وجدت‬ ‫اليولداش‪،‬‬ ‫من‬ ‫الخالية‬ ‫كنات‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫إلى‬ ‫عهم‬‫ّ‬ ‫وتتب‬ ‫فرسي‬ ‫عن‬ ‫لت‬ ‫ترج‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫األطفال‬ ‫بكاء‬ ‫يتعالى من أفواه النّاس‪ ،‬وأصوات‬
‫يفترشون األرض‪ ،‬وآخرين يعكفون على غسل جراحهم ولفها بقُماش‪ ،‬حتى النّساء ك ُن يشتغلن بنشاط معهم‪ .‬دنوت من شاب يُداوي‬
‫الملقاة هناك دون‬ ‫السل ّاوي‪ ،‬فأشار إلى اإلسطبل‪ ،‬وما إن فتحت بابه الخشبي حتى راعني المشهد‪ .‬الجثث ُ‬ ‫جريحا‪ ،‬وسألته عن ّ‬
‫ً‬
‫الشاب أساله‪ ،‬إن كان‬ ‫عدت إلى ّ‬ ‫أيضا‪ُ .‬‬
‫ً‬ ‫ع ُّدها‪ ،‬وأنا أقلب الوجوه‪ ،‬أبحث عنه بينهم‪ .‬ولم يكن هناك‬ ‫عناية‪ ،‬لم يكن في مقدوري َ‬
‫لهن قد‬
‫كن معنا‪ُ ،‬ج ّ‬ ‫قطب حاجبيه‪ ،‬ثم تكل ّم‪ :‬قد مات الكثير يا سيدي‪ ،‬وحتّى النساء الل ّواتي ّ‬ ‫الموتى كثيرين من أهل المدينة‪ّ .‬‬
‫قُتل ‪ .‬ال أدري ما الذي انتابني‪ ،‬حاولت إخفاء دموعي لكنّها طفرت ‪َ .‬جررت رجلي أرحل عن الثّكنة‪ ،‬ومررت على أخرى‪ ،‬لمحت‬
‫الطرقات‪ ،‬ويصرخ أطفالهم‪،‬‬ ‫تهدر عرباتهم على أحجار ّ‬ ‫ُ‬ ‫فتيانًا يحملون الجرحى‪ ،‬تجاوزتهم ولكن حركة النّاس الفارين كانت تمنعني‪.‬‬
‫الشرقي للمدينة‪ ،‬يصيحون في‬ ‫يحركون رؤوسهم في االتجاهات كلها‪ ،‬يُريدون األقرب منها إلى الباب ّ‬ ‫ِّ‬ ‫عيونهم ُمنطفئة‪.‬‬
‫والرجال كانت ُ‬
‫الشارع لتبلغ األبواب‪ .‬راقبتُها زمنًا ثم‬ ‫الن ّساء واألطفال‪ ،‬وتمتد أيديهم إلى دوابهم فتضربها بعصبية‪ .‬ويسيرون في قافلة تتمدد إلى نهاية ّ‬
‫الديوان‪ ،‬وطلبت اإلذن فُأذن‬ ‫انعطفت إلى القصبة‪ ،‬وخطوت في عجل لعل ّي ألحق الباشا‪ ،‬ولم ألبث إال قليل ًا حتى كنت عند غرفة ِ ّ‬
‫لي‪ ،‬وعندما دخلت تفاجأت بالباشا على ك ُرسي ّه كأنه جزء منه‪ ،‬ينظر إلى سماء الغرفة‪ .‬وكأنه ال يعي ما يحدث حوله‪ ،‬كان يُكل ّمني‬
‫أما حين صمت‪ ،‬فقد قلت‪ :‬القائد إبراهيم يَجِ ُّد في البحث عن جيشه الفار إلى‬ ‫عن اآلغا إبراهيم‪ ،‬وكأنه في استطاعته ردعهم‪ّ .‬‬
‫الجبال‪ .‬وفي داخلي جزمت أنه لن يعود معه أحد‪ ،‬لن يثقوا به مرة ثانية‪ .‬تراجعت قليل ًا‪ ،‬وتركت بيني وبين األعضاء مساف ًة أقل‪.‬‬
‫عول عليه الباشا بعد الهزيمة كي يجمع الجنود‪ .‬لكنني َخ ّ َمنت أنه لو كان القائد يحيى حيًّا لما‬
‫الحنَفي‪َ ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫المفتي‬
‫وقف إلى جانبي ُ‬
‫طرق الباشا بصره إلى األرض‪ ،‬ثم سمعت‬ ‫استطاع عمل شيء في يوم مثل هذا‪ .‬كان األوان قد فات على إعادة تنظيم الجيش‪َ .‬أ‬
‫َ‬
‫جهزنا ِحصن اإلمبراطور بذخيرة تكفي المدافع كي‬ ‫َّ‬ ‫بعض كلماته‪ :‬تأكدوا أننا لن نسل ّم المدينة لهم حتى آخر قطرة من دمنا‪ .‬قد‬
‫لكن الخوف أسكتهم‪َ .‬حملق‬ ‫ّ‬ ‫ردعهم‪ .‬وحين أنهى الباشا جملته‪ ،‬رأيت استياء من كان حوله‪ .‬كانوا أكثر ميل ًا إلى تسليم المدينة‪،‬‬‫تَ َ‬
‫‪.‬الباشا ملي ًا في الخزناجي‪ ،‬ثم خاطبه‪ :‬لم يبق اآلن إال حصن اإلمبراطور‪ .‬إن هم أخذوه‪ ،‬فليس في قدرتنا إيقاف زحفهم‬

‫الظهور قويًا أمامنا‪ .‬بينما رآه اآلخرون يهوي بالمحروسة‪ .‬تمنّيت لو انفردت به‪ ،‬وقلت له كل شيء‪ .‬لم تعد‬ ‫صر على ّ‬ ‫كان الباشا ي ُ ُّ‬
‫أياما قليلة‪،‬‬
‫ً‬ ‫إال‬ ‫مود‬ ‫الص‬
‫ّ‬ ‫يمكننا‬ ‫ال‬ ‫‪.‬‬ ‫تحصى‬ ‫أن‬ ‫من‬ ‫أكثر‬ ‫كانت‬ ‫مدافعهم‪،‬‬ ‫ى‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وح‬ ‫جيشهم‪،‬‬ ‫الني‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫بوة‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫أعلى‬ ‫من‬ ‫ا‪،‬‬ ‫نفع‬
‫ً‬ ‫المقاومة تجدي‬
‫الديوان‪ .‬خطر لي أنه أراد االنفراد بي‪ ،‬وبقيت هناك في مقابلته‪ ،‬ولكنّه أشار إلى أن ألتحق‬ ‫يموت فيها آخرون‪َ .‬أ َم َرنا الباشا بمغادرة ِّ‬
‫بهم‪ .‬وخل ّفناه على كرسيه تَ ُسوح عيناه بالغرفة‪ .‬حتى في اليوم الثّاني بدا لي غائبًا عنا‪ ،‬كان يتصنّع النّشاط‪ ،‬والحرص على‬
‫أيضا كان مختلفًا‪ ،‬ازدادت القذائف كثافة من البحر‪ .‬وعال صياح النّاس‪ ،‬ثم انتبهنا إلى أن القذائف تأتي من‬ ‫ً‬ ‫المقاومة‪ .‬ذلك اليوم‬
‫السهول‪ .‬صعدنا ُمسرعين إلى شرفات القصر‪ ،‬فذهل‬ ‫الجنوب‪ .‬وحينما تيقنّا أنهم وصلوا إلى الحصن الذي يفصل المدينة بأمتار عن ُّ‬
‫الربوة التي تليه‪ .‬يرد عليها من كان في الحصن بقذائف قليلة‪،‬‬ ‫الجميع من الجنود المحاصرين للحصن‪ ،‬وهم يرمونه بالقذائف من ّ‬
‫تهد ًما‪ .‬انتبهت إلى الباشا يُوعز للخزناجي بأن يجد من‬ ‫جزءا من الحصن ُم ّ‬ ‫ً‬ ‫وظلوا هكذا طوال الل ّيل‪ .‬وفي شروق اليوم التالي رأينا‬
‫سرع من احتالل المدينة‪ .‬اجتمع األعيان بساحة القصر‪ ،‬ثم ُأذن لهم‬ ‫َّ‬ ‫لكنه‬ ‫بفائدة‪،‬‬ ‫ينسف الحصن‪ .‬ظن أن تفجير الحصن قد يأتي‬
‫َضب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫لحظة‬ ‫في‬ ‫إليهم‬ ‫يلتفت‬ ‫لم‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫‪.‬‬ ‫القصف‬ ‫استمر‬ ‫إن‬ ‫بالمدينة‬ ‫سيحل‬ ‫الذي‬ ‫بالدخول‪ ،‬وشرعوا يرجون الباشا إيقاف الخراب‬
‫أحدا من‬‫ً‬ ‫دوي انفجار الحصن‪ ،‬حين تناثرت فوق سماء المدينة أحجاره‪ ،‬ولم تُصب‬ ‫ّ‬ ‫يسمع‬
‫ُ‬ ‫في اليوم التالي كان أكثر لينًا‪ ،‬وهو‬
‫الفرنسيين بأذى‪ .‬انزاح الغبار عن مدافعهم التي احتلت مكانًا فيما تبقى من الحصن‪ .‬اجتمع النّاس في المسجد‪ ،‬وقف الباشا بينهم‪،‬‬
‫رفع رأسه وبدا أكثر ثباتًا ونادى باسمي وباسم الخزناجي‪ ،‬ولم أسمع االسم التالي‪ ،‬لكنني أبصرتُه حين انشق جمع األعيان عنه‪،‬‬
‫جميعا أمام الباشا‪ .‬هممت أن أقول‬ ‫ً‬ ‫‪:‬واقترب ميمون مني ومن الخزناجي‪ ،‬ثم كنا‬

‫الرجل ليكون معنا‪ ،‬وهو المتسبب فيها يحدث اآلن؟ ‪-‬‬


‫لماذا تختار هذا ّ‬
‫‪:‬ثم يتعالى صوتي فيسمعني الجميع‬

‫الرجل وأشباهه‪ ،‬هو من أعان اليهود وأعطى الفرنسيين سببًا الحتالل المدينة ‪-‬‬
‫‪.‬هذا ّ‬
‫غ ل في عمقي‪ ،‬وقفت أمام الباشا‪ ،‬على يميني الخزناجي وعلى يساري ميمون‪ ،‬وسمعنا‬ ‫الصوت خانني‪ ،‬وبَ َدل أن يغادر شفتي تو ّ‬ ‫لكن ّ‬
‫حاضرا لقال‪ :‬شروط االستسالم حفظها العثمانيون منذ اغتصبوا المدينة‬
‫ً‬ ‫ّاوي‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫كان‬ ‫لو‬ ‫ربما‬ ‫‪.‬‬ ‫استسالمنا‬ ‫بشروط‬ ‫فضي‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫وهو‬ ‫كلماته‬
‫قبل ثالثة قرون‪ .‬بالتأكيد لم أكن ألوافقه‪ ،‬يظل الباشا حسين رجل ًا مختلفًا‪ ،‬رغم أخطائه التي ارتكبها‪ ،‬ولكنّه كان يُقاسمنا ُحب هذه‬
‫‪.‬المدينة‬

‫ُّ‬
‫ويظل بقايا‬ ‫المعاهدة‪ ،‬بينها ُتسلَّم القصبة‪ ،‬ويختار الباشا مكانًا يرحل إليه بأهله وأمواله‪،‬‬ ‫كان حفظ أنفسنا وأموالنا ومساجدنا‪ ،‬أحد شروط ُ‬
‫الراية البيضاء‪ ،‬وشققنا‬ ‫ّ‬ ‫حامل‬ ‫يتقدمنا‬ ‫ورمون‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫القائد‬ ‫معسكر‬ ‫إلى‬ ‫ركب‬
‫ٍ‬ ‫في‬ ‫رنا‬ ‫ِ‬
‫س‬ ‫‪.‬‬ ‫دائما‬
‫ً‬ ‫الجنود اليولداش في المدينة مثلما كانوا‬
‫بكلمات عن حكم المغاربة لبالدهم‪ ،‬ويستطرد‬ ‫ٍ‬ ‫سر‬
‫الدروب حتى تراءت لنا خيمتُه‪ .‬قطع ميمون مسافة ال يستهان بها إلى جانبي‪ ،‬ي ُ ُّ‬ ‫ّ‬
‫الطريق‪ .‬وطوال انحدارنا كنت أراهما يتناجيان‪ .‬ونحن نعبر‬ ‫في ذم األتراك‪ .‬وحين رأى انشغالي عنه‪ ،‬تقدمني ورافق الخزناجي بقية ّ‬
‫حدق نحونا من نهاية‬ ‫وشاب آخر كان يُ ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫وضبّاطه‪.‬‬ ‫باب الخيمة لم يتوقفا عن الهمس‪ ،‬ثم صمتا وهما في حضرة الجنرال بورمون ُ‬
‫الضابط إلى جانبه أكثر عصبية‪ .‬قرأ‬ ‫ّ‬ ‫ميل إلى الهدوء‪ ،‬حركاته رتيبة‪ ،‬ووقف‬ ‫تش مالمح القائد بقسوة ظاهرة‪ ،‬كان َأ َ‬ ‫الخيمة‪ .‬لم ِ‬
‫حرف‬‫َّ‬ ‫إذ‬ ‫ال‪،‬‬ ‫أم‬ ‫ا‬ ‫مقصود‬
‫ً‬ ‫ارتكبه‬ ‫الذي‬ ‫الخطأ‬ ‫أكان‬ ‫أدر‬ ‫ولم‬ ‫الفرنسية‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫ميمون‬ ‫وترجمها‬ ‫االستسالم‪،‬‬ ‫شروط‬ ‫مسامعهم‬ ‫الخزناجي على‬
‫بند بقاء األتراك في المحروسة‪ُ ،‬مضيفًا إليه الن َّفي‪ ،‬ولم يكن جاهل ًا باللغة الفرنسية‪ .‬انتظرت حتى انتهى من آخرها‪ ،‬وصححت البند‬
‫استبد بالقائد العام‪ .‬طوى الوثيقة بين يديه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فه‪ ،‬لكنني لم أستطع أن أصح الك ََدر الذي عال وجهه‪ .‬وال االستغراب الذي‬ ‫حر ُ‬
‫َّ‬ ‫الذي‬
‫الضابط الذي حدق بنا بريبة منذ‬ ‫ّ‬ ‫عما جاء فيها‪ ،‬ثم أومأ إلى‬ ‫ّ‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫راضي‬ ‫كان‬ ‫القائد‬ ‫أن‬ ‫بدا‬ ‫‪.‬‬ ‫أمامه‬ ‫بسطها‬ ‫الذي‬ ‫الكاتب‬ ‫إلى‬ ‫مها‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وس‬
‫تمض إال دقائق حتى نُودي‬ ‫ِ‬ ‫دخولنا‪ِ .‬سرنا معه إلى خيمة أخرى ننتظر قراره‪ .‬كنت ُمتيقّنًا أنه سيوافق على ما جاء فيها‪ ،‬وفعل ًا لم‬
‫ور َحلنا‪ ،‬ولكنني حينها انتبهت إلى‬ ‫المعاهدة رسميًا‪ .‬حملنا أنفسنا َ‬ ‫علينا‪ ،‬وطلب القائد بأن يجتمع بالباشا في اليوم الثّاني ليوقّعا ُ‬
‫وأيضا ميمون لم يكن هناك‪ ،‬وتوقفنا ننتظرهما‪ ،‬ساعة غاباها ثم ظهرا وقد عال‬ ‫ً‬ ‫الركب الذي كنت فيه لم أجد الخزناجي إلى جانبي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الط ريق صامتين‪ ،‬حتى كنا في القصبة‪ .‬في اليوم التالي لم أرافق الباشا‪ ،‬بل انتظرت عودته عند باب‬ ‫العبوس وجهيهما‪ ،‬وظلَّا طوال ّ‬ ‫ُ‬
‫نكسرا لم تُفارق نظرة التسليم وجهه‪ ،‬أدرك أن كل شيء قد انتهى بعد استسالم‬ ‫ً‬ ‫الديوان‪ ،‬ورأيته يقترب حزينًا ُم‬ ‫قصره مع بقية أعضاء ِ ّ‬
‫‪.‬المحروسة‪ ،‬ومضى إلى بيته‪ ،‬ولم أره بعدها‪ ،‬إال حينما كنت أودعه عند الميناء منفيًّا إلى نابولي‬

‫كانت حركة العربة رتيبة‪ ،‬انزويت داخلها أعيد األحداث كأني أراها أمامي‪ ،‬إلى أن أبصرت األبنية من النّافذة‪ ،‬كانت العربة قد‬
‫توقفت‪ ،‬ثم فتح الحوذي الباب‪ ،‬وقال بصوت مبحوح‪ :‬قد وصلنا إلى فاالنس‪ .‬حين نزلت قابلني فندق صغير‪ ،‬حملت حقيبتي‬
‫‪.‬وتعتبّت الباب‪ ،‬ثم شغلت إحدى غرفه‪ ،‬وسار الحوذي بعربته بعد اتفاقنا على الل ّقاء في صباح اليوم التالي‬

‫الحوذي‬
‫ُ‬ ‫إلي ضربات سنابك الحصانين‪ ،‬ثم رأيت‬ ‫َّ‬ ‫الصباح جلست في بهو الفندق حتى تناهت‬ ‫عجزت عن النّوم‪ ،‬وفي ّ‬ ‫ُ‬ ‫في تلك الل ّيلة‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ذرعت شوارعها في‬ ‫ّ‬ ‫المحروسة‬ ‫لي‬ ‫بدت‬ ‫جديد‪،‬‬ ‫من‬ ‫الخواطر‬ ‫وعادتني‬ ‫ليون‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫ريق‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫نشق‬‫ّ‬ ‫وكنا‬ ‫أمامي‪،‬‬ ‫نشطا‬‫ً‬ ‫يقف‬
‫الشرفات والنوافذ‪ .‬تعالت أصوات األبواق‪،‬‬‫أما النّسوة فقد أطللن من ّ‬ ‫منتصف النّهار‪ ،‬وقف ما تبقى من رجال عند أبواب البيوت‪ّ ،‬‬
‫الدفوف‪ ،‬يضربونها‬
‫التفت إلى اليمين فرأيت صفوفًا ال نهاية لها‪ ،‬يتقدمها حاملو ُّ‬
‫ُّ‬ ‫كنت حينها في شارع البحر‪ ،‬حين رأيتهم يقتربون‪.‬‬
‫فترتج األرض تحت أقدامنا‪ ،‬ويمتد غناؤهم‪ ،‬فكرت بالبقاء هناك‪ ،‬وحتى خاطر على اإلسراع نحو القصبة‪ ،‬كنت أريد لقاء الباشا‪ ،‬ولكن‬ ‫ُّ‬
‫الشوارع كانت ُم عبأة بالجنود‪ .‬تركوا نظامهم الذي عبروا به األبواب‪ ،‬واقتحموا البيوت الجميلة أول األمر‪ ،‬ثم صارت البيوت ك ُلها‬ ‫ّ‬
‫الم َوشاة بالجواهر‪،‬‬
‫السيوف الجميلة والبنادق ُ‬ ‫مشاع ا لهم‪ .‬وقفت عند باب القصبة‪ ،‬كان الجنود في كل مكان‪ ،‬كل جندي سعيد بالدية‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ولباس نساء األتراك‪ ،‬وحتّى أعمدة األسرة النّحاسية كانوا يحملونها‪ ،‬والساعات التي كان الباشا يحبّها ويحتفظ بها في ركن قصي من‬
‫السقائف وكانت رجالي تخطوان فوق سجل ّات‬ ‫عبرت ّ‬
‫ُ‬ ‫الشرقية‪ ،‬وامتدت أيديهم إلى األواني الخزفية‪ ،‬لم يتركوا شيًئا‪.‬‬ ‫بيته‪ ،‬واألفرشة ّ‬
‫السقيفة األخيرة‬
‫ّ‬ ‫نهاية‬ ‫وفي‬ ‫ألرجلهم‪،‬‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫هب‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫األخرى‬ ‫هي‬ ‫كانت‬ ‫والمساجد‪،‬‬ ‫األوقاف‬ ‫ّات‬ ‫ل‬ ‫سج‬ ‫حتى‬ ‫بها‪،‬‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫رأيتها‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫كثير‬ ‫المدينة‪ ،‬أسماء‬
‫الس جالت‪ ،‬وكان آخرون يتدافعون قربي‪ ،‬وتتناثر من أيديهم األشياء التي يحملونها‪،‬‬ ‫جنودا يستريحون‪ ،‬يُشعلون غاليينهم بأوراق ِّ‬ ‫ً‬ ‫أبصرت‬
‫أرضا‪ ،‬ثم أحمل نفسي وأخطو تجاه القصر‪ ،‬اجتمع عند بابه‬ ‫ً‬ ‫ببعض يختصمون على ما أخذوه‪ ،‬ويدفعونني بأكتافهم فأسقط‬ ‫ٍ‬ ‫عضهم‬‫ويصرخ بَ ُ‬
‫مرة‬
‫الجنود الفرنسيون‪ ،‬يحرسون الخزينة بعد أن ن ُ ِه ب جناح الباشا‪ ،‬بعد أن رحل عنه بأهله في يوم توقيع المعاهدة‪ .‬وانحدرت ّ‬
‫الش وارع مكتظة بهم‪ ،‬مثل مجانين يتسابقون ويصرخون‪ ،‬تمتد أيديهم إلى كل األشياء التي يرونها ثمينة‪ ،‬ولم‬ ‫أخرى إلى أسفلها‪ ،‬كانت ّ‬
‫الص وف‪ ،‬هدوا أبوابها‪ ،‬وحملوا األكياس إلى أماكن مختلفة‪ .‬كنت أسمع صراخ األطفال في أمكنةٍ عديدة‪ ،‬وانعطفت إلى‬ ‫تسلم مخازن ّ‬
‫الريّاس‪ ،‬ثم سار الجنود إلى‬ ‫الرصيف الخالي من ِ‬ ‫ّ‬ ‫ون‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫يحت‬ ‫والجنود‪،‬‬ ‫البحارة‬ ‫غادرها‬ ‫ُ‬ ‫وي‬ ‫رصيفه‪،‬‬ ‫على‬ ‫ترسو‬ ‫الفرنسية‬ ‫فن‬ ‫بالس‬
‫ُّ‬ ‫الميناء‪ ،‬فإذا‬
‫الراية الحمراء‪ ،‬والسيف «ذو الفقار الذهبي»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أعالها‬ ‫من‬ ‫نزعوا‬ ‫القصبة‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫صيف‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫عن‬ ‫بوجهي‬ ‫أشحت‬ ‫واحتلوه‪،‬‬ ‫البحرية‬ ‫مبنى‬
‫‪.‬ورفرف مكانه العلم األبيض‬

‫وأترجل عنها‪ ،‬من هناك امتد حقل الل ّيمون األخضر تذكرت شجرة‬ ‫ّ‬ ‫أتململ في مكاني داخل العربة‪ .‬وأنادي الحوذي أن يتوقف‪،‬‬
‫الل ّيمون في قصر الباشا‪ ،‬وقد أصبح القصر ملك ًا لبورمون‪ .‬وللجنة التي َق ِد َمت إلحصاء ذهب الخزينة‪ ،‬استدعوا الخزناجي وأخذوا منه‬
‫الدخول‪ .‬أردت لقاء القائد بورمون ألطلب منه‬ ‫الرحيل‪ .‬لقيتُه عند باب القصر‪ ،‬بينما منعني الجنود من ّ‬ ‫المفاتيح‪ ،‬ثم طلبوا منه ّ‬
‫الضابط في‬‫ّ‬ ‫حت حتى بَل َغهم صوتي‪ ،‬ووقف‬ ‫علي‪ِ ،‬ص ْ‬
‫َّ‬ ‫الشروط التي كانت بيننا‪ .‬ولكنهم أحكموا قبضتهم‬ ‫إيقاف ُجنوده‪ ،‬قد تجاوزوا كل ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬يتجاوز الحراس‪ ،‬ومن ثم يقف إلى جانبي‪ ،‬وابتعدنا‬ ‫الشاب ّ‬‫يدا امتدت إليه أعادت إليه هدوءه‪ .‬ثم رأيت ّ‬ ‫لكن ً‬
‫ّ‬ ‫وجهي‪،‬‬
‫ِ‬
‫تبريرات لم تُقنعني‪ .‬اعتقد‬ ‫صغيرا‪ ،‬كلَّمني عن الحملة وأهدافها‪ ،‬وقدم لها‬
‫ً‬ ‫خطوات عن الجميع‪ .‬ثم سألني عن حاجتي‪ .‬كان شابًا‬
‫الط ريقة فقط‪ ،‬يمكن للمدينة أن تستوعب الحضارة األوروبية‪ .‬سحبته ذلك اليوم من يده‪ ،‬وعبرت به سقائف القصبة‪ ،‬كان‬ ‫أنه بهذه ّ‬
‫الجنود يغادرون البيوت األخيرة التي نهبوها‪ ،‬وبدا لنا بعض جنود البحرية أكثر َحنَقًا‪ ،‬إذ وصلوا متأخرين ولم يَجِ دوا ما يُؤخذ هناك‪.‬‬
‫حركات الجنود وما يحملونه في أيديهم‪ ،‬رأيت الخيبة تعلو وجهه‪ ،‬وغادر‬ ‫رأى ّأول تصادم بين البحرية والمشاة‪ .‬كانت عيناه تتبعان تَ ُّ‬
‫السفن إلى مرسيليا‬‫عائدا إلى القصر‪ ،‬حيث كانت الل ّجنة تعد رياالت البوجو‪ ،‬كي تُحمل عبر ُّ‬ ‫ً‬ ‫‪.‬بعدها‬

‫السل ّاوي‪ُ ،‬متعبًا من جراحه‪ ،‬ولكن‬ ‫ودع الباشا‪ .‬وقف إلى جانبي ّ‬ ‫كان ذلك أول تعارف لي مع ديبون لم أره بعدها إال ونحن ن ُ ِ ّ‬
‫المتحلقين حول الباشا‪ ،‬يُقبّلون يده‪ ،‬حتى ُدوجة كانت هناك‪ ،‬مع الل ّة زهرة اليهودية‪ ،‬ولم أفهم‬ ‫ُسخريته لم تُفارقه‪ ،‬أذكر كيف أشار إلى ُ‬
‫ما حملته العجوز للباشا‪ .‬هؤالء اليهود غريبون‪ ،‬ترى بعضهم يتشبثون بالمدينة حتى تعتقد أنهم يحبونها أكثر منا نحن أهلها‪ .‬وآخرون‬
‫السل ّاوي يقترب‪ ،‬لم تُ ِ ّ‬
‫صدق‬ ‫الرصيف ما إن رأيت ّ‬ ‫رأيتهم يسيرون أمام صفوف الجنود ويهتفون بحياة الفرنسيين‪ .‬وأشحت البصر عن ّ‬
‫تألما‪ :‬عليك أن توفر عناقك للباشا‪ .‬لم ُأعل ّق على كلماته‪ ،‬وأنا أراقب الجمع‬ ‫عيناي أنه مازال حيًّا‪ ،‬اقتربت منه واحتضنته فصرخ ُم ً‬
‫الرصيف‪ ،‬يُراقب النّاس‬ ‫ّ‬ ‫نهاية‬ ‫عند‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫مكا‬ ‫انتحي‬ ‫ديبون‪،‬‬ ‫عيناي‬ ‫التقطت‬ ‫ثم‬ ‫الفرنسيين‪،‬‬ ‫التف حوله‪ ،‬رأيت بعض الفُضوليين‬
‫ّ‬ ‫الذي‬
‫الصورة ويشيعونه أثناء رحيله؟! ولم ألبث أن التقيته‬ ‫حب النّاس ملك القراصنة بتلك ّ‬ ‫المحيطين بالباشا‪ .‬كنت أتفهم أسئلته‪ ،‬كيف ي ُ ُّ‬‫ُ‬
‫ود ُع الباشا‪ ،‬في آخر‬ ‫بعدها‪ ،‬وترافقنا إلى بورمون‪ ،‬ومن ثم إلى كلوزيل‪ ،‬وروفيغو‪ ،‬وحملنا الخيبة نفسها‪ ،‬ونحن في باريس عندما وقفنا ن ُ ِ ّ‬
‫اختارها مأوى شتويًا له‬
‫َ‬ ‫‪.‬زيارة له لتلك المدينة‪ .‬كان ذاهبًا إلى نيس‪ ،‬حيث‬

‫الصحافة لم تترك للناس شيًئا إال وأخبرتهم‬ ‫لكن ّ‬‫ّ‬ ‫احتل الباشا شقّة في حي متواضع في باريس‪ ،‬كان يُخفيها عن المجتمع الفرنسي‪.‬‬
‫به‪ :‬الباشا المخلوع عاد إلى باريس يستجدي ملكه‪ ،‬عاد يبحث عن مجد القرصنة‪ .‬قد لبّى عزيمة الوزير وطلب الل ّحم باألرز‪ .‬أتفه‬
‫كل واحدة منهن تطمح أن تبدو في عينيه ُسلطانة‬ ‫حفالتهن‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عزمنه إلى‬‫المستهترات‪َ ،‬‬‫أياما‪ ،‬ونساء باريس ُ‬ ‫ً‬ ‫األشياء نشرتها الجرائد‬
‫أما التُّجار فكانوا يطلبون المواعيد معه‪ ،‬الكل يُساوم على اسم الباشا في إعالناته‪ .‬يبحثون‬ ‫الدعوات تصله ويم ِ ّزقُها‪ّ ،‬‬ ‫شرقية‪ ،‬كانت ّ‬
‫علي األسئلة‪ ،‬وأترجمها له‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ملي‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫يميني‪،‬‬ ‫على‬ ‫ديبون‬ ‫وكان‬ ‫المسرح‪،‬‬ ‫في‬ ‫كنا‬ ‫يوم‬ ‫لي‬ ‫أسر‬
‫َّ‬ ‫بهذا‬ ‫يني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫رجل‬ ‫خيبة‬ ‫عن الثّروة في‬
‫الشاب لكتابة كل شيء‪ ،‬ولم يكن وقت الباشا ليسمح لنا‪ ،‬كان يتردد على أمكنة‬ ‫ّ‬ ‫صديقي‬ ‫تاق‬ ‫‪.‬‬ ‫بها‬ ‫له‬ ‫سر‬
‫ُّ‬ ‫ُأ‬ ‫التي‬ ‫األجوبة‬ ‫دون‬
‫ويُ ِ ّ‬
‫أما بقية األيام‬
‫ّ‬ ‫استكشافها‪،‬‬ ‫في‬ ‫األولى‬ ‫أيامه‬ ‫اغتنم‬ ‫لذا‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫كثير‬
‫ً‬ ‫عنها‬ ‫ع‬ ‫ِ‬
‫سم‬ ‫أن‬ ‫بعد‬ ‫باريس‪،‬‬ ‫معرفة‬ ‫أراد‬ ‫‪...‬‬ ‫األوبرا‬ ‫ودار‬ ‫المسارح‬ ‫عديدة‪:‬‬
‫الرواق ويلتقيه‪ .‬ومن األشياء التي لم أفهمها يومها‪ ،‬كيف‬ ‫ّ‬ ‫يعبر‬ ‫البروفانس‬ ‫قبطان‬ ‫رأيت‬ ‫‪.‬‬ ‫آخر‬ ‫إلى‬ ‫حين‬
‫ٍ‬ ‫من‬ ‫يزورونه‬ ‫القادة‬ ‫كان‬ ‫فقد‬
‫المتسبّبين في احتالل المحروسة‪ .‬اختليت بخادمه وسألته‪ ،‬وزاد استغرابي حين ُأخبرت أن‬ ‫يتردد على بيت الباشا أحد اليهوديَّيْن ُ‬
‫الداخل‪ ،‬ولكنني لم أفاتح‬‫الباشا وأهله يقطنون بيتًا يملكه أحد اليهوديين في ليفورنة بعد رحيلهم عن نابولي‪ .‬كنت أحترق من ّ‬
‫الباشا‪ ،‬لن تُ عيد المالمة المحروسة إلينا‪ ،‬ولم أشأ إفساد بهجته باكتشافاته اليومية‪ .‬وسعيت فقط لزيادة لقاءات ديبون به‪ ،‬فربما وراء‬
‫‪.‬إلحاحه أشياء أهم من حوار عابر يُجريه مع باشا مهزوم‬

‫شاعرا أنها آخر مرة أراه فيها‪ ،‬أردت معانقته طويل ًا‪ ،‬ولكن العربة كانت قد‬
‫ً‬ ‫ولوحت له من بعيد‪،‬‬
‫ودعنا الباشا في صباح يوم آخر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫‪.‬غابت حينها‪ ،‬وتكاثف النّاس في شوارع باريس‪ ،‬مثلما أراهم اآلن في شوارع ِليون‪ ،‬يعبرونها بالحركة نفسها‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫السل ّاوي‬
‫‪ ‬حمة ّ‬
‫ّ‬
‫الربوة تمتطيها القلعة القديمة‬
‫الصخور‪ ،‬ثم تعود ببطء‪ ،‬ترتفع خلفي ّ‬ ‫المعتمة شفاه ّ‬ ‫السواد‪ ،‬تُقبِّل موجاته ُ‬ ‫يمتد البحر أزرق يميل إلى ّ‬ ‫ُّ‬
‫الطريق‪ ،‬ومثل أعمى قطعت مسافة ال بأس‬ ‫كت دون وجهة‪ ،‬ضيّعت بداية ّ‬ ‫تحر ُ‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫هار‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫انتهاء‬ ‫عن‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫علن‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫لمة‬ ‫الظ‬
‫ّ‬ ‫وتنتشر‬ ‫َا‪،‬‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫ِ‬ ‫طوري‬
‫بها‪ ،‬آمل ًا أال أكون في اتجاه غير الذي أريده‪ .‬تعثرت في أمكنة مختلفة‪ ،‬مسافة غير قصيرة سرتُها ثم توقفت وافترشت األرض‪ .‬كان‬
‫السواد يلُّف الفضاء‪ ،‬والحواس‬
‫المبهم في الخالء‪ ،‬جالت عيناي الجهات ك ُ ِل ّها‪ّ ،‬‬ ‫يتفصد من جسدي‪ ،‬وتتالحق أنفاسي‪ .‬من مكاني ُ‬ ‫ّ‬ ‫العرق‬
‫إلي خياالتهم‬
‫َّ‬ ‫ترامت‬ ‫ثم‬ ‫جال‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫ق‬‫ر‬ ‫ِع‬
‫ََ‬ ‫ب‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ممزوج‬ ‫البارود‬ ‫رائحة‬ ‫واشتممت‬ ‫يصرخون‪،‬‬ ‫جنود‬ ‫أصوات‬ ‫مسمعي‬ ‫إلى‬ ‫تناهت‬ ‫ّزة‪،‬‬‫ف‬ ‫متو‬ ‫ّها‬ ‫كُل‬
‫يقفرون فَوقي‪ ،‬وآخرون يُداهمونني‪ ،‬ولكن ال أثر لهم‪ ،‬دام ذلك‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫ه‪،‬‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫احتلل‬ ‫الذي‬ ‫المكان‬ ‫يبلغوا‬ ‫أن‬ ‫إلى‬ ‫بجيادهم‬ ‫يركضون‬ ‫ريق‪،‬‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫أقصى‬
‫الطريق‪ ،‬ولم أستطع‪ ،‬فحدت عنه‪ ،‬وبدا لي أنني انتحيت مكانًا تحت شجرة‪،‬‬ ‫كل شيء‪ ،‬هممت بالقيام ألواصل ّ‬ ‫لحظات‪ ،‬ثم غاب ُ‬ ‫ِ‬
‫‪.‬استندت إلى جذعها‪ ،‬وأطلقت العنان ألحالمي‬

‫الرسن بي أصغر أبنائه‪ ،‬أسوار المحروسة‬ ‫الشيخ يُحاذر أن أس ُقط من على ظهره‪ ،‬ويسحب ّ‬ ‫كان البغل يسير بي ببطء‪ ،‬على يميني ّ‬
‫سند يد‬ ‫َ ُ‬ ‫ت‬ ‫خاط‪،‬‬ ‫الم‬
‫ُ‬ ‫بها‬ ‫ويمتزج‬ ‫الخشن‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ُم‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫أمسحها‬ ‫ا‪،‬‬ ‫دموع‬
‫ً‬ ‫عيناي‬ ‫سح‬
‫ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫قلبي‪،‬‬ ‫خفقان‬ ‫تبدت لنا ُمتعبة‪ ،‬كلما اقتربنا منها يزداد‬
‫ّ‬
‫الش يخ ظهري‪ ،‬ثم يطلب مني االعتدال في جلستي‪ ،‬فذلك أضمن لراحتي‪ .‬وهل بقيت راحة لنا يا سيدي؟ كل يوم أكتشف أننا نحن‬ ‫ّ‬
‫الدوام‪ ،‬نُضطر إلى المداهنة‪ ،‬وإلى‬ ‫أهل المحروسة أكثر النّاس خوفًا وخشي ًة من الحكام‪ .‬إننا نُحب المحافظة على ما كسبناه على ّ‬
‫جالسا على صندوق‬ ‫ً‬ ‫السياسة‪ .‬ولم تكن إال ُذلًّا‪ ،‬يظل اليولداش أشجع منا‪ ،‬فلم يكن الباشا بالنسبة لهم إال رجل ًا‬ ‫خداع أنفسنا بأنها ّ‬
‫الدين ُحج ًة‬ ‫ِ‬
‫ومتخاذلون‪ ،‬يجعلون ّ‬ ‫الدوام ُ‬
‫األموال‪ ،‬يُزيحونه ليسحبوها من تحته‪ ،‬وال يجرؤ أن يرفض‪ .‬أهل المحروسة مهزومون على ّ‬
‫ويهزم أعداءنا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يتصبّرون بها‪ ،‬ويُطأطئون رؤوسهم إيمانًا‪ ،‬ثم يهمسون‪ :‬إنّه مكتوب من الل ّه‪ ،‬سندعو يوم الجمعة ليرفع الل ّه عنا ال َغبن‪،‬‬
‫المصل ّون‪ ،‬أين ك ُنتُم يوم ك ُنا في سيدي فرج وسطاوالي‪ .‬النّاس يحتَ ُمون من ُضعفهم‪ ،‬ومن‬ ‫الصراخ عند أبواب المساجد‪ :‬أيها ُ‬ ‫أردت ّ‬‫ُ‬
‫عقوق أوال ِدهم‪ ،‬ومن كل األشياء التي تُنهكهم يحتمون بالله‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومن‬ ‫وجاتهم‪،‬‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫يانة‬ ‫ِ‬
‫خ‬ ‫ومن‬ ‫األتراك‪،‬‬ ‫لم‬ ‫ظ‬
‫ُ‬ ‫ومن‬ ‫جارتهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫بوار‬ ‫ومن‬ ‫ِخذالنهم‪،‬‬
‫وال يريدون تغييرها بأنفسهم‪ ،‬يعتقدون أن الل ّه منعهم المطر‪ ،‬وأصابهم بالوباء والقحط‪ ،‬ألنّهم ال يُصلُّون كفاية‪ ،‬وال يزك ّون من أموالهم‪،‬‬
‫يوما في الثّورة على جور األتراك‪ ،‬ولم يُحبّوا بعضهم كفاية‬ ‫ً‬ ‫ويشرب بعضهم الخمر ِخفي ًة‪ .‬وربما يُسرف التُجار منهم‪ ،‬ولكنهم لم يف ِك ّروا‬
‫فيجتمعوا‪ .‬األعراب والقبائل أفضل منهم‪ .‬كانوا أميل إلى الثّورة‪ ،‬نعم لطالما آمنت أن المدينة تجعل اإلنسان أكثر ُذل ًا وأميل إلى‬
‫!العبودية‬
‫ُ‬

‫متمسك ًا بشدة‬
‫ّ‬ ‫أومأت له أنه ال داعي لها‪ ،‬كنت‬ ‫ُ‬ ‫ضغطا على ظهري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الشيخ تزداد‬
‫الطريق الواصل بين المقابر‪ ،‬ويد ّ‬ ‫نشق ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك ُنا حينها‬
‫بالبغل‪ ،‬حتى بلغنا بوابة المدينة‪ .‬كان الجنود الفرنسيون يجتمعون عند بابها‪ ،‬يتضاحكون وهم يُبصروننا ُمقبلين نحوهم‪ ،‬وأوقفونا حين‬
‫الشيخ عن‬ ‫والشاب البوابة‪ ،‬بينها اعتذر ّ‬ ‫َّ‬ ‫تجاوزت‬
‫ُ‬ ‫الشيخ والشاب‪ ،‬ثم طلبوا مني النّزول‪ ،‬فتّ َشوني أنا اآلخر‪،‬‬ ‫هممنا بعبور البوابة‪ .‬فتشوا ّ‬
‫ِكره‪ ،‬اتهموه أنه‬
‫الشاب قال إن والده لم يدخلها منذ سنوات بعيدة‪ ،‬بعدما قتل األتراك ب َ‬ ‫الدخول‪ ،‬وغابت عني أسباب تراجعه‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫ّ‬
‫الط ريق وقتل خمسة من جنودهم‪ ،‬لم يحاكموه‪ ،‬ولم يقف أمام القاضي الحنفي وال المالكي‪ ،‬بل أحاطوا بالخيمة وسحبوه من بين‬ ‫ق ََطع ّ‬
‫السوق‪ ،‬كي يراه األعراب الذين يرتادونه كل‬ ‫أياما في ُمقابلة ُّ‬ ‫ً‬ ‫الشرقي‬ ‫وعلَّقوه على باب المدينة ّ‬ ‫إخوته‪ ،‬وقطعوا رأسه أمام النّاس‪َ ،‬‬
‫بقو ة‪ ،‬وحملق بي كأنه يسألني عن الوجهة‪ ،‬وكنت أتامل أبواب المدينة وشوارعها‪ .‬القليل من‬ ‫ّ‬ ‫الرسن‬ ‫الشاب ّ‬ ‫يد ّ‬ ‫شدت ُ‬ ‫ّ‬ ‫أسبوع‪.‬‬
‫الشوارع الكبيرة‪ .‬أومأت للشاب لينعطف عبر شارع البحر‪ .‬الجنود‬ ‫الطرقات الحجرية‪ .‬سار بي البغل في ّ‬ ‫ّ‬ ‫عبرون‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫كانوا‬ ‫النّاس فقط‬
‫رددون النّكات البذيئة‪ .‬همز البغل‬ ‫الرجال عند أبواب البيوت‪ ،‬ينظرون خلس ًة إلى الجنود‪ ،‬وهم يُ ِ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بعض‬ ‫يقف‬ ‫مكان‪،‬‬ ‫كل‬ ‫في‬ ‫يتوزعون‬
‫ّ‬
‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫كي يُسرع أكثر‪ ،‬أردت مطالعة الثّكنات التي يحتلها اليولداش‪ ،‬وأرى وجوههم‪ ،‬ولكنني لم أعثر عليهم‪ ،‬وراقبت الثّكنة حتى‬
‫الطعام ربما ن َ َفد‪ ،‬أو أنهم ليس لديهم ما يحشون به غاليينهم‪ .‬رفعت رأسي ُأبصر‬ ‫طل منه أحدهم‪ ،‬حدست أن ّ‬ ‫الباب يُفتَح‪ ،‬وي ُ ُّ‬
‫بعض ها سقطت جدرانه‪ ،‬وآخر كانت أبوابه مخلوعة‪ ،‬طلبت منه أن ينعطف إلى شارع القصبة الكبير‪ ،‬ثم كنا هناك‪ ،‬طالعت‬ ‫ُ‬ ‫البيوت‪،‬‬
‫المرة لو تشبثنا بها‪ ،‬أم أن‬‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫األمان‬ ‫منح‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫هل‬ ‫تساءلت‬ ‫ثم‬ ‫األمان‪،‬‬ ‫سلسلة‬ ‫عن‬ ‫بحثت‬ ‫الكلسيين‪،‬‬ ‫العارضين‬ ‫من‬ ‫واقتربت‬ ‫مدخلها‪،‬‬
‫ُسلطان الفرنسيين ال يُعطي األمان بالسالسل؟ تجاوزت القوس ُمدرك ًا أن هؤالء الفرنسيون ال عهود لهم‪ ،‬هم أكثر َج َش ًعا من األتراك‪.‬‬
‫أوان خزفية‪ ،‬وقطع من النّحاس والقماش والخشب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الشوارع أجسا ٌم محطمة‪،‬‬ ‫عددا‪ ،‬على أرض ّ‬ ‫ً‬ ‫غلنا أكثر بدا الجنود أكثر‬ ‫حين تو ّ‬
‫أشحت بوجهي عنها‪ ،‬وخفق قلبي بشدة حينما رأيت العلم األبيض أعلى القصر‪ُ .‬جزنا سقائف أخرى‪ ،‬كانت األبواب مخلوعة‪ ،‬كلما‬
‫جلست عند عتبة باب مخلوع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الشاب التوقف وإعانتي على النّزول‪،‬‬ ‫انعطفنا يزيد حزني‪ ،‬حتى لم أستطع احتماله‪ .‬طلبت من ّ‬
‫بكيت أمامه‪ ،‬وفاضت‬ ‫ُ‬ ‫نفسي‪،‬‬ ‫منع‬ ‫أستطع‬ ‫ولم‬ ‫‪.‬‬ ‫الجدار‬ ‫في‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫المحفور‬ ‫أيضا قد ُخلع‪ ،‬وأنا أواجه بقاياه‬ ‫ً‬ ‫رغبت لو أعيده‪ ،‬كان قلبي‬
‫الصور واألسماء والشوارع والحكايات‪ .‬عجز عن الكالم‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫اختلطت‬ ‫يبكي‪،‬‬ ‫اآلخر‬ ‫هو‬ ‫شرع‬ ‫اب‪،‬‬ ‫الش‬
‫دموعي‪ .‬إلى جانبي َجلس ّ‬
‫يسندني ألمتطي البغل‪ .‬لم أتكل ّم ولم أهمس‪ ،‬كنت أومئ فقط‪ ،‬وأشير له حتى بلغنا بيت الل ّة زهرة‪ ،‬توقفنا هناك حتى فُتح الباب‬
‫لوح لي‬‫الشاب‪ ،‬ثم ّ‬ ‫وودعت ّ‬‫ّ‬ ‫أيضا ُدوجة هناك‪ .‬سرت إلى جانبهما‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رهقة‪َ ،‬صرخت حين رأتني‪ .‬نزلت وعانقته‪ ،‬رأيت‬ ‫الم َ‬ ‫عن العجوز ُ‬
‫الرواق‪ ،‬واخترت الغرفة القريبة مني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫عنهما‬ ‫انفصلت‬ ‫‪.‬‬ ‫المحروسة‬ ‫إلى‬ ‫أعد‬ ‫لم‬ ‫مثلما‬ ‫وعدت‬ ‫‪.‬‬ ‫منعطف‬ ‫أول‬ ‫عند‬ ‫يختفي‬ ‫وهو‬
‫الظالم‬
‫‪.‬دخلتها وأغلقت الباب على نفسي‪ ،‬واستلقيت على الفراش‪ .‬وأغمضت عيني‪ ،‬ولم يكن هناك إال مزيد من ّ‬

‫وعدلت ثيابي بعد أن نفضتُها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وهالني منظر القُبور من حولي‪ ،‬لم تكن هناك شجرة‪ ،‬وال طريق‪ .‬وقفت‬ ‫فتحت عيني ّ‬
‫الط ريق‪ ،‬وما إن لمحت عالماتها حتى خطوت إليها‪ ،‬وسلكتها تجاه المحروسة‪ .‬يخفق قلبي كلما تذكرت الذين‬ ‫ّ‬ ‫عن‬ ‫وأبصرت باحث ًا‬
‫حولتك‬‫ّ‬ ‫قد‬ ‫المحروسة؟‬ ‫وفقراء‬ ‫وجة‪،‬‬ ‫ود‬
‫ُ‬ ‫ار‪،‬‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫‪.‬‬ ‫ونك‬‫ّ‬ ‫حب‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫الذين‬ ‫عن‬ ‫االبتعاد‬ ‫على‬ ‫صر‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫لماذا‬ ‫لنفسي‪،‬‬ ‫عتابي‬ ‫يحتد‬ ‫بها‪،‬‬ ‫خلفتهم‬
‫تفهما أو‬
‫سريعا‪ ،‬ثم يختفي في ال ُغور‪ ،‬وأظل أردد بعض كلماته‪ ،‬إما أن تظل ُم ً‬ ‫ً‬ ‫الصوت‬
‫شخص مختلف‪ .‬ينطلق ّ‬ ‫ٍ‬ ‫السنوات الثّالث إلى‬
‫ّ‬
‫تفهما حتى في رحيلي؟ وكيف يحدث ذلك يا صديقي ابن ميّار؟! ما أزال ُني‬ ‫ترحل‪ .‬ولكن لماذا هذا الفصل بينها‪ ،‬ولماذا ال أكون ُم ً‬
‫زوار ال يستحق الحياة في المحروسة‬ ‫ُمخلفًا بوعدي‪ ،‬وقد أقسمت أنني لن أرحل عن هذه المدينة حتى أنتهي منه‪ ،‬إن رجل ًا مثل ِ‬
‫الم َ‬
‫زوار‪ .‬وأتأكد من صحة األخبار التي تصلنا‪ ،‬تقول إن‬ ‫بعد رحيلي‪ ،‬قد أمهلته أكثر مما يجب‪ ،‬سأصبح متفقها حينها أنتهي من ِ‬
‫الم َ‬
‫الشاب‪ ،‬وبايعه النّاس على قيادتهم‪ ،‬واآلن يحارب الفرنسيين حتى أضحت ُمدن كثيرة تحت ِلوائه‪.‬‬‫الكلمة قد اجتمعت على األمير ّ‬
‫الرجل الذي ظللت‬ ‫الرغبة في االلتحاق به‪ ،‬وقلت في نفسي‪ :‬هذا هو ّ‬ ‫عثمان‪ .‬تولدت ّ‬ ‫أيضا إنّه أكثر النّاس كراهية لبني ُ‬
‫ً‬ ‫ويقولون‬
‫عثمان يحكمون المدينة؟! يزحف بجيشه عليها‪ ،‬ويُعيدها إلى أهلها‬
‫ُ‬ ‫بنو‬ ‫كان‬ ‫حين‬ ‫يظهر‬ ‫لم‬ ‫لماذا‬ ‫ولكن‬ ‫المحروسة‬ ‫في‬ ‫يظهر‬ ‫أن‬ ‫تصبو‬
‫بعد غياب قرون؟‬

‫الملك من النّاس‪ .‬أو ربما‬


‫أن هذا األمير اغتصب ُ‬‫يوما‪ ،‬يعتقد ّ‬
‫ً‬ ‫لم يكن ابن ميّار على وفاق مع األعراب الذين يثورون‪ ،‬ولم يحترمهم‬
‫‪.‬ما هو إال قاطع طريق آخر تحول بالصدفة إلى أمير‬

‫حتدا من األتراك‪ ،‬وأكثر تشوقًا إلى االلتحاق باألمير‪ ،‬سأقف أمامه‪ ،‬وأهتف بحياته‪ ،‬وأعاتبه‬
‫الدرب المؤدي إلى المدينة‪ُ ،‬م ّ ً‬
‫ما أزال أسلك ّ‬
‫حمة‪ ،‬كنا ننتظرك منذ أيام‪ ،‬بل منذ‬
‫ّ‬ ‫يا‬ ‫الوصول‬ ‫أبطأت‬ ‫الذي‬ ‫أنت‬ ‫‪:‬‬ ‫ويقول‬ ‫مني‬ ‫يدنو‬ ‫وربما‬ ‫سيبتسم‪،‬‬ ‫بل‬ ‫لحظتها‪،‬‬ ‫يغضب‬ ‫طويل ًا‪ .‬لن‬
‫‪.‬احتالل المحروسة‬

‫أما حين‬‫لم تجرؤ ُدوجة أن تقترب مني يوم عودتي ُمنهك ًا إلى بيت الل ّة زهرة‪ ،‬العجوز وحدها تسللت وفتحت الباب في غفوتي‪ّ .‬‬
‫الرغبة الوحيدة التي أحسستها‪ ،‬هي البكاء‪.‬‬ ‫استفقت فقد وجدتها عند رأسي‪ ،‬كانت نظراتها ُمعاتبة‪ ،‬لم أستطع أن أعتدل وأكل ّمها‪ّ .‬‬ ‫ُ‬
‫غادرت لتعود بالزاد‪ ،‬لم آكل إال في صباح اليوم الثّاني‪ .‬كانت ي ٌد تتحسس وجهي‪،‬‬‫َ‬ ‫ظللت ساعة أو أكثر على تلك الحال‪ .‬ثم‬ ‫ُ‬
‫مرت أصابعي على شعرها‪،‬‬ ‫فتحسسته‪ ،‬ومن ثم ّ‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫خدها‬ ‫حمة‪ .‬أفقت فرأيت ُدوجة‪ ،‬امتدت يدي إلى‬ ‫ّ‬ ‫حمة‪ ،‬يا‬
‫ّ‬ ‫وصوت يوشوش لي‪:‬‬
‫الط ويلة‪ ،‬ولم أستفق منها إال في مساء ذلك اليوم‪ .‬أطللت على باحة البيت‪ ،‬ورأيتها هناك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إغفاءتي‬ ‫إلى‬ ‫أعود‬ ‫وظلَّت تحدق بي‪ ،‬وأنا‬
‫الطول‪ ،‬ثم انتبهت إلى نظرات العتاب التي حملتها عينا الل ّة زهرة‪ ،‬كأنها تلومني‬ ‫ّ‬ ‫بذلك‬ ‫أضحى‬ ‫أنه‬ ‫فاجأني‬ ‫شعرها‪،‬‬ ‫سرح‬
‫َجل ََست تُ ّ‬
‫غضضت بصري عنها‪ ،‬وجلست إلى جانبها‪ ،‬لكنّها كانت تنقل بصرها بيني وبين ُدوجة ثم خاطبتني‬ ‫ُ‬ ‫لدوجة‪.‬‬ ‫‪:‬على استراق النّظر ُ‬

‫حمة‪ ،‬ألم يحن الوقت بعد؟ ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫الدوام يا‬
‫تنتظرك على ّ‬
‫ُ‬ ‫إنها‬

‫َأعجب أنك تتكل ّمين عن هذه األشياء‪ ،‬ولم نعد اآلن نملك أنفسنا؟ ‪-‬‬

‫وتتزوجون‪ ،‬وتَمألون المحروسة باألطفال ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫مثلما تشاءون‪ ،‬تُحبّون‬
‫َ‬ ‫‪.‬تلك األشياء أكبر منكم‪ .‬عليكم أن تعيشوا حياتكم‬

‫‪.‬ال أريد إعادة سيرة المغاربة مع األتراك ‪-‬‬

‫!عن أي سيرة تتكلم؟ ‪-‬‬

‫عبيدا آخرين‪ ،‬واآلن سيُولد أطفال عبيدٌ لألوروبيين ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬باألمس كان المغاربة مثل عبي ٍد عند األتراك‪ ،‬ولم ينجبوا إال‬

‫‪.‬فعل ًا مثلما يقول ابن ميّار‪ ،‬أنت تحب رؤية األشياء مثلما تُريد‪ ،‬ال ِمثلما يراها النّاس ‪-‬‬

‫‪:‬ربما كانت الل ّة زهرة على حق‪ ،‬ولم َأرغب في مجادلتها‪ ،‬ولكني سألتها‬

‫زوار؟ ‪-‬‬ ‫ما الذي حدث ِ‬


‫للم َ‬

‫جد ًدا؟ ‪-‬‬


‫السفن التي ق ََص َفت المدينة‪ ،‬أتمنّى أال نراه ُم ّ‬
‫لم نره منذ ظهور ُّ‬

‫الرجال ال ينبغي أن يَرحلوا بسهولة‪ .‬ثم دعوت في قلبي كي يعود إلى‬ ‫عمة‪ ،‬مثل أولئك ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫قلت في نفسي‪ :‬ال‪ ،‬ال يُمكن هذا يا‬
‫‪:‬المحروسة حتى أغرز ِخنجري في صدره‪ ،‬وكانت العجوز إلى جانبي تَرى تَمتَمتي‪ ،‬وال تفقه شيًئا منها‪ ،‬ثم تكل ّمت‬

‫غدا هو وأهله؟ ‪-‬‬


‫ً‬ ‫هل تدري أن الباشا سيرحل‬

‫‪.‬فليذهب إلى الجحيم ‪-‬‬

‫ولِ َم‪ ،‬كان رجل ًا طيبًا؟ ‪-‬‬

‫عمة‪ ،‬ألم تريه كيف يُ ِ‬


‫عامل اليهود؟ ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫وكيف يا‬

‫يستحق أكثر من ذلك ‪-‬‬


‫ُ‬ ‫‪.‬بعضهم كان‬
‫ُ‬

‫يستحق أكثر من ذلك ‪-‬‬


‫ُ‬ ‫أيضا‬
‫ً‬ ‫‪.‬والباشا‬

‫مختلف في ُحسين باشا ‪-‬‬


‫ٌ‬ ‫رأي‬
‫ٌ‬ ‫‪.‬لو عشت زمن الباشوات الذين َسبقوه لكان لك‬

‫الحك ّام‪ ،‬سأ ِقف عند الميناء ولن ُأشيِّعه ‪-‬‬


‫ُ‬ ‫ذوق واحد في تقديس‬
‫ٌ‬ ‫‪.‬كأنك ُتعيدين كالم ابن ميّار‪ِ .‬ل َعجائز المحروسة‬
‫حاكما عليها ‪-‬‬
‫ً‬ ‫فسأودعه‪ ،‬وُأصل ّي ليرجع إلى المحروسة‬
‫ّ‬ ‫‪.‬أما أنا‬
‫ّ‬
‫رأيت ال ُفقراء يجتمعون حوله‪ ،‬يُقبلون يده الواحد تلو اآلخر‪ .‬وظلت حاشيته تُراقب المشهد من مسافة غير بعيدة‪ .‬وقفت‬ ‫ُ‬ ‫في الميناء‬
‫تعدل مكانها‪ ،‬كأنه‬ ‫ّ‬ ‫الكبيرة‬ ‫مامة‬ ‫ِ‬
‫الع‬ ‫إلى‬ ‫ُو‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ثم‬ ‫ه‪،‬‬ ‫س‬ ‫تتحس‬
‫ّ ُ‬ ‫الحزام‬ ‫مكان‬ ‫إلى‬ ‫ه‬ ‫د‬
‫َُ‬ ‫ي‬ ‫ترتفع‬ ‫‪.‬‬ ‫وجهه‬ ‫تعابير‬ ‫بعض‬ ‫منه‬ ‫أرى‬ ‫مكاني‬ ‫في‬
‫المرة الوحيدة‬
‫ّ‬ ‫تلك‬ ‫فكانت‬ ‫حاشيته‬ ‫ا‬ ‫أم‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫تعالين‬ ‫م‬
‫ً ُ‬ ‫ا‬ ‫دائم‬ ‫اس‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫يراهم‬ ‫أن‬ ‫ريدون‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ا‪،‬‬‫أبد‬
‫ً‬ ‫ام‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫الح‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫يتغي‬ ‫ال‬ ‫‪.‬‬ ‫بينهم‬ ‫مظهره‬ ‫على‬ ‫يخشى‬
‫الرجال في جهة والنساء في الجهة األخرى‪ ،‬من هناك انتبهت إلى إبراهيم آغا‬ ‫التي رأيتُهم فيها‪ .‬النّساء يتلفعن بثيابهن الحريرية‪ّ ،‬‬
‫نجره‪ ،‬مثل موعو ٍد بالقتل غيلة‪ .‬لم يبد على وجهه أنه ناد ٌم على فراره من‬ ‫يقف على مسافةٍ بينهم‪ ،‬يتلمس في كل لحظة ِخ َ‬
‫التح َقت بها ُدوجة في‬ ‫َ‬ ‫ثم‬ ‫أيديهن‪،‬‬ ‫ل‬ ‫قب‬
‫ُ ّ‬ ‫ت‬ ‫الباشا‬ ‫حريم‬ ‫من‬ ‫ت‬ ‫ب‬
‫ََ‬‫اقتر‬ ‫زهرة‪،‬‬ ‫ّة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫نقلت بصري بين الجميع حتى َوقَعت على‬ ‫ُ‬ ‫المعركة‪،‬‬
‫الرصيف‪ .‬جال بصري‬ ‫ّ‬ ‫على‬ ‫المجتمعات‬ ‫ُسوة‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫بين‬ ‫مكانيهما‬ ‫إلى‬ ‫تعودان‬ ‫كانتا‬ ‫ثم‬ ‫‪.‬‬ ‫العجوز‬ ‫برفقة‬ ‫بها‬ ‫قدم‬ ‫الذي‬ ‫ما‬ ‫أدري‬ ‫تردد‪ ،‬وال‬
‫بقوة حتى‬‫ّ‬ ‫تحضنانني‬ ‫يداه‬ ‫امتدت‬ ‫‪.‬‬‫ا‬ ‫قترب‬
‫ُ ً‬ ‫م‬ ‫ف‬ ‫ت‬
‫ََ‬ ‫وه‬ ‫علي‬
‫َّ‬ ‫بصره‬ ‫وقع‬ ‫ثم‬ ‫لي‪،‬‬ ‫نتبهٍ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫غير‬ ‫يخ‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫وقف‬ ‫أراه‪،‬‬ ‫بي‬ ‫وإذا‬ ‫بي‪،‬‬ ‫حيط‬ ‫الم‬
‫بالمكان ُ‬
‫صدق أنني ما زلت حيًّا‪ .‬ثم التفت ينظر إلى الباشا والجمع من حوله‪َ ،‬و ّ َد لو أنزل معه‪،‬‬ ‫ُ ّ‬ ‫م‬ ‫غير‬ ‫وكان‬ ‫صني‪،‬‬ ‫تفح‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫ألمي‬ ‫من‬ ‫صرخت‬
‫الرصيف‪ ،‬رأيته ينحني ويُقبّل يد الباشا‪ ،‬ومن ثم‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫ونزل‬ ‫‪.‬‬ ‫بتضايقه‬ ‫شعرت‬ ‫حتى‬ ‫منه‬ ‫سخرت‬ ‫لكنني‬ ‫‪.‬‬ ‫عه‬ ‫ود‬
‫ّ‬ ‫أيضا يَده وُأ‬ ‫ً‬ ‫أنا‬ ‫فُأقبِّل‬
‫ولوحت له بعض‬ ‫ود ٍع للباشا‪ .‬إذ لم يمض إال وقت قصير حتى حملته الفرقاطة‪َ ّ ،‬‬ ‫ويُعانقه عناقًا طويل ًا‪ ،‬ربما كان ابن ميّار آخر ُم ِ ّ‬
‫تتراء لي ُدوجة من هناك‪ ،‬ثم لمحتها تتسلل من بينهن‪ ،‬تُمسك يد العجوز‬ ‫َ‬ ‫العجائز‪ .‬وقفت الل ّة زهرة بينهن‪ ،‬وابن ميّار يتقدمهن‪ ،‬ولم‬
‫أبصرت ابن ميّار يحدث شابًا‬ ‫ُ‬ ‫الدرج بعد تفرق النّاس عائدين إلى بيوتهم‪ ،‬اختلطوا مع الجنود الذين حاصروا المكان‪،‬‬ ‫وتسحبها إلى ّ‬
‫الشوارع حتى بلغنا‬ ‫ّ‬ ‫عبرنا‬ ‫‪.‬‬ ‫تنتظرانني‬ ‫وقفتا‬ ‫ّتين‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫زهرة‬ ‫ّة‬ ‫ل‬ ‫وال‬ ‫وجة‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫إلى‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫نعط‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫األمر‬ ‫عن‬ ‫وعدلت‬
‫ُ‬ ‫منها‪،‬‬ ‫باالقتراب‬ ‫أوروبيًا‪ ،‬هممت‬
‫زو ار بينهم‪ ،‬غاب حتى شككت أنه لن يعود‪ ،‬ثم ظهر بعد أيام قليلة‪ ،‬ولكن عودته َح َملت‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫أر‬ ‫لم‬ ‫الجنود‪،‬‬ ‫به‬ ‫َر‬ ‫ك‬ ‫س‬ ‫ع‬
‫حي المبغى‪َ ،‬‬
‫الدين والفضيلة‪،‬‬‫جددونها بما يُوافق األزمنة التي يعيشونها‪ .‬زمن األتراك كان له قناع ِ ّ‬ ‫للقوادين أقنع ٌة ي ُ ِ ّ‬ ‫َّ‬ ‫فدائما‬
‫ً‬ ‫‪.‬‬ ‫األحقاد‬ ‫من‬ ‫معها الكثير‬
‫‪.‬أما زمن الفرنسيين فله قناع المصلحة والنظام‬ ‫ّ‬
‫زوار بثياب‬‫الم َ‬ ‫َّ‬
‫أطل علينا ِ‬ ‫موعدا مع كلوزيل‪ .‬فما إن استقر الحاكم في مكتبه‪ ،‬حتى‬ ‫ً‬ ‫زوار‪ ،‬وكأنه ضرب‬ ‫بعد رحيل بورمون ظهر ِ‬
‫الم َ‬
‫آسفًا على رحيل بُورمون‪ .‬إذ توطدت بينهما‬ ‫تُماثل ما ارتداه الجنود الفرنسيون‪ .‬فُوجئت مثلما تفاجأ ابن ميّار وهو الذي كان ِ‬
‫سيتحول في عيونهم إلى‬ ‫َّ‬ ‫عجِ ز‬
‫قدرونه ما استطاع قضاء مصالحهم‪ ،‬وإن هو َ‬ ‫العالقة‪ ،‬وكادت تنقطع بينه وبين أعيان المحروسة‪ .‬كانوا ي ُ ِ ّ‬
‫خائن‪ .‬كنت أردد على مسامعه‪ :‬لن ينفعكم القائد في شيء‪ ،‬فهؤالء الفرنسيون لم يأتوا إال من أجل أموالنا وضياعنا‪ .‬يه ُّز ابن ميّار‬
‫مرة أخرى كان يرد‬ ‫ودعني في عجلة ويسير في ركابه‪ .‬وحين أواجهه ّ‬ ‫‪:‬رأسه يُوافقني‪ ،‬ثم ي ُ ِ ّ‬

‫‪.‬أنت ال تعي أننا أضحينا اآلن تحت رحمتهم‪ ،‬والمغلوب عليه مسايرة الغالب حتى ي ُ ِ ّ‬
‫حصل منه على ما يستطيع ‪-‬‬

‫ِّ‬
‫!!صدقني إنكم لن تحصلوا على شيء ‪-‬‬

‫قد َأ ّ َسس بُورمون َمجلِ ًسا ليحكم المدينة‪ ،‬أتعتقد أنه أولى لنا أن نتركهم يُسي ّ ُِرونه بأنفسهم‪ ،‬أم نحن من نقوم بذلك‪ ،‬ألسنا َ‬
‫أعل َم ‪-‬‬
‫ِ‬
‫‪.‬بِشؤون أهلنا‬

‫أي فرنسي آخر ‪-‬‬


‫‪.‬ولكنكم ال تفعلون شيًئا في المجلس إال بعد موافقة ميمون‪ ،‬وهو ال يَختلف عن ّ‬
‫التح َمت بها أمالك األوقاف‬ ‫َ‬ ‫حصل شيًئا‪ ،‬ولم تلبث أن‬ ‫يتوهم ابن ميّار أنه باختياره تلك الجهة سيُعيد المساجد للمحروسة‪ .‬ولكنه لم ي ُ ِ ّ‬ ‫ّ‬
‫وظل حبيس داره‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وع َوض أن ينجح في فعل شيء‪ُ ،‬ط ِرد من المجلس‪،‬‬ ‫ضج ابن ميّار‪ِ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫بعد حلول ك ُلوزيل‪ ،‬سل ّ َ َمها إلى ميمون‪ ،‬يومها‬
‫واع بها‪ ،‬حتى‬ ‫ٍ‬ ‫وغادرت بيته‪ُ ،‬جبت شوارع المدينة غير‬ ‫ُ‬ ‫وحيدا‪ ،‬وقفت في هدو ٍء‬ ‫ً‬ ‫ُزرته بعدها بأيام‪ ،‬وأومأت لي الل ّة سعدية ألدعه‬
‫أن بعض نسائه قد قُتلن في المعركة‪ ،‬لكنني تفاجأت‬ ‫الدرب الموصل إلى حي المبغى‪ ،‬اعتقدت في األيام الماضية ّ‬ ‫وقفت عند بداية ّ‬
‫السقائف‪ ،‬في لباسه‬ ‫َّ‬ ‫إحدى‬ ‫من‬ ‫ار‬ ‫زو‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫وبرز‬ ‫نتظمة‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫فوف‬
‫ٍ‬ ‫ص‬‫ُ‬ ‫في‬ ‫الجنود‪،‬‬ ‫مثل‬ ‫يتجمعن‬ ‫رأيتهن‬
‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫الحي‬
‫ّ‬ ‫باحة‬ ‫تذرع‬ ‫بوجوه جديدة‬
‫ت َرغبتي‬ ‫ازداد‬
‫َ ْ‬ ‫‪.‬‬ ‫بينهم‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫جندي‬ ‫اآلخر‬ ‫هو‬ ‫أصبح‬ ‫إذن‬ ‫الجديدة‪،‬‬ ‫قوانينه‬ ‫بعض‬ ‫إلي‬
‫َّ‬ ‫اهت‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫‪،‬‬ ‫فيهن‬
‫ّ‬ ‫يخطب‬ ‫بدأ‬ ‫ثم‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫مكا‬ ‫اعتلى‬ ‫الفرنسي‪،‬‬
‫ضاعف عددهم‪ .‬حتى األسلحة التي كانوا يَحملونها‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫قليلون‬ ‫نود‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫يتبعه‬ ‫كان‬ ‫أن‬ ‫وبعد‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫تحصي‬ ‫أكثر‬ ‫صار‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫من‬ ‫بالرغم‬ ‫‪.‬‬ ‫في قَتلِه‬
‫‪.‬أفضل من التي َحملتها أكتاف اليُولداش‬

‫الرؤوس ُمنك ّسة إلى األرض‪ ،‬أراقبها‬ ‫أياما لم َأر فيها ابن ميّار‪ ،‬ولم أجرؤ على زيارة بيته‪ ،‬كانت شوارع المحروسة تُعيد ِ ّ‬
‫السيرة نفسها‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫أحمل ُها‬ ‫اطت لي عرائس جديدة‪،‬‬ ‫خ‬
‫َ َ‬ ‫قد‬ ‫وجة‬ ‫د‬
‫وأتجول بالشوارع دون وجهة‪ ،‬كانت ُ‬
‫ّ‬ ‫كل صباح في َحن َ ٍق‪ ،‬أنطلق من بيت الل ّة زهرة‪،‬‬
‫يتجمع بعض النّاس على عادتهم‪ ،‬ولكنهم ال يَجرؤون على االستمرار في‬ ‫ّ‬ ‫قصي‪.‬‬‫ّ‬ ‫وَألتَجِ ُئ إلى حي المقاهي‪ ،‬وأنزوي في مكان‬
‫خشون الجنود الذين يزدادون كل يوم ك َثاف ًة‪ .‬حتى األوروبيون‪ ،‬كنا نرى كل يوم خيم ًة تُنصب في الميناء للقادمين منهم‪،‬‬ ‫المشاهدة‪ .‬ي َ َ‬‫ُ‬
‫يتصرفُون‬
‫َّ‬ ‫أوهموهم أنهم سيثرون في إفريقية‪ ،‬بعضهم يبقى‪ ،‬وآخرون ي َ ِف ُّرون من قسوة المناخ‪ .‬ألتقيهم كل يوم في المقهى‪ ،‬في البدء‬
‫وع ّمال‬ ‫يتحو لون فجأة إلى رجال جشعين‪ ،‬ال يهمهم سوى أراضي يملكونها‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بطيبةٍ حتى يتمكنوا من حفظ تفاصيل عن المدينة‪ .‬ثم‬
‫أما الجنود فقد تمك ّن الملل منهم في األيام األولى‪ ،‬ولم تمض إال أسابيع حتى تجمع الكثير منهم حول مكاتب‬ ‫ينفذون أوامرهم‪ّ .‬‬
‫الرجوع إلى أوروبا بعد أن أخلف القائد وعده بمضاعفة األجور‪ .‬ثم كانوا يَرون صناديق‬ ‫ّ‬ ‫أرادوا‬ ‫البحرية‪،‬‬ ‫مبنى‬ ‫عند‬ ‫الضباط‪ ،‬وآخرون‬
‫ّ‬
‫حصلوا منها على شيء‪ .‬في نهاية األسبوع انتبهت إلى حركة غريبة وأنا أقطع طريق‬ ‫السفن إلى الملك ولم ي ُ ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫على‬ ‫حمل‬‫ال ّذهب تُ ّ‬
‫إلي قائل ًا‬ ‫َّ‬ ‫‪:‬البحر ُرفقة ابن ميّار‪ ،‬التفت‬

‫‪.‬باتت أيام بُورمون معدودة ‪-‬‬

‫وما الجديد إن كانوا سيبقون؟ ‪-‬‬


‫الرحيل ‪-‬‬
‫بت في مسألة البقاء أو ّ‬
‫‪.‬ومن قال هذا؟ الملك لم ي َ ّ‬

‫الضباط بأشياء كثيرة‪ ،‬ويأخذون منهم أموالهم‬‫ّ‬ ‫وهمهم‬


‫السياسة‪ .‬ولم يكونوا إال َحفن ًة من المساكين‪ ،‬ي ُ ُ‬ ‫يعتقد أعيان المحروسة أنهم يفقهون ّ‬
‫صرون على منح ثقتهم للمترجمين القادمين من المشرق‪،‬‬ ‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫مثلما‬ ‫داعهم‪،‬‬ ‫خ‬‫ِ‬ ‫في‬ ‫باط‬ ‫الض‬
‫ّ‬ ‫ستمر‬
‫ُّ‬ ‫في مقابلها‪ .‬ويُستَ ِم ُرون في أوهامهم‪َ ،‬‬
‫وي‬
‫الجنود‪ .‬هكذا خطر لي حين قابلنا‬ ‫ُ‬ ‫تأثيرا أولئك‬
‫ً‬ ‫أكثر‬ ‫وكانوا‬ ‫هب‪،‬‬ ‫ذ‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫روة‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫عن‬ ‫ًا‬ ‫ث‬ ‫بح‬ ‫الحملة‬ ‫مصريين وشاميين‪ ،‬جاؤوا في ركاب‬
‫الرصيف‪ ،‬وتطلعنا‬
‫ّ‬ ‫جانب‬ ‫إلى‬ ‫كنا‬ ‫حتى‬ ‫ني‬ ‫ب‬
‫َ َ‬‫ح‬
‫َ‬ ‫س‬ ‫ار‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫هويتها‪،‬‬ ‫ز‬‫ّ‬ ‫أمي‬ ‫لم‬ ‫المرسى‪،‬‬ ‫من‬ ‫تقترب‬ ‫السفن القادمة‬
‫البحر‪ ،‬ورأيت بعض ُّ‬
‫إلي وقال‬‫َّ‬ ‫سوها‪ ،‬ثم التفت‬
‫الرصيف يتابع ُر َّ‬
‫ّ‬ ‫أسفل‬ ‫إلى‬ ‫ق‬ ‫حد‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫كان‬ ‫جبني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ولم‬ ‫عنها‬ ‫أسأله‬ ‫همست‬ ‫أعالمها‪،‬‬ ‫‪:‬إلى‬

‫خمنتُه‪ ،‬نَجحت الثّورة في باريس وُأزيح الملك‪ ،‬ولن يبقى بورمون إال ُسويعات بعدها ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫‪.‬قد حدث ما‬

‫كثير ا‪ ،‬سواء أكان العلم الفرنسي بألوان ثالثة‪ ،‬أم كان أبيض‪ ،‬وكذلك ال يختلف في نظري بورمون عن غيره‪ ،‬كُل ّهم جاؤوا‬ ‫ً‬ ‫يهمني‬‫ّ‬ ‫لم‬
‫السفن الواصلة‪ .‬ثم وقفت عند باب المقهى‪ ،‬بعض‬ ‫عدت إلى حي المقاهي وخلَّفت ابن ميّار يُتابع ُّ‬ ‫ُ‬ ‫إلى المحروسة للغرض نفسه‪.‬‬
‫أيضا في ذلك‪ ،‬يحتلون مكانًا في‬‫ً‬ ‫عثمان‪ ،‬وعماماتهم‪ ،‬وآخرون أطلقوا لحاهم‪ ،‬يريدون تقليدهم‬ ‫الشقراء في ثياب بني ُ‬ ‫الوجوه األوروبية ّ‬
‫مصون غاليينهم بالطريقة نفسها‪ ،‬يبحثون في كل ذلك عن الل ّذة التي يجدها األتراك‬ ‫المقهى‪ ،‬يَ ِتكئون على شا ِكلتهم‪ ،‬يحتسون القهوة وي َ ُّ‬
‫الدقيقة‪ .‬لم أرهم إال حمقى‪ ،‬فلم تكن تلك التصرفات لتُعبِّر عن شيء‪ ،‬كان عليهم استيعاب‬ ‫المور حين يقلدون تصرفاتهم بتفاصيلها ّ‬ ‫أو ُ‬
‫ألنها تتعلق بالموانع الكثيرة في حياتنا نحن المسلمين‪ ،‬قد‬‫ّ‬ ‫بيننا‬ ‫تختلف‬ ‫فاللذة‬ ‫ّذة‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫يستقبل‬ ‫وهو‬ ‫المغربي‬ ‫أو‬ ‫التركي‬ ‫فكر‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫كيف‬
‫نتل َّذذ بأشياء يمارسونها كعاد ٍة يومية‪ ،‬كأن يشرب المسلم الخمر خفي ًة عن النّاس‪ ،‬أو أن ينام مع امرأة غير زوجته‪ ،‬الل ّحظات‬
‫حرمة والمسروقة تُعتبر لِذ ًة عند أهل المحروسة‪ .‬وال يمكن أن تعني تلك التصرفات شيًئا ألوروبي‬ ‫‪.‬الم ّ َ‬
‫ُ‬
‫الدار‪،‬‬
‫إلي صوته من باحة ّ‬
‫َّ‬ ‫في صباح يوم آخر‪ ،‬أفقت على صوتها‪ ،‬كانت الل ّة زهرة تحاول إيقاظي لم أشأ مغادرة فراشي‪ ،‬ثم تناهى‬
‫مسرعا‪ ،‬وخرجت للباحة‪ ،‬خشيت حدوث‬ ‫ً‬ ‫لم يعتد ابن ميّار زيارة هذه األمكنة‪ ،‬إذ كانت ِرجاله قد ألفتا شوارع ودروبًا أخرى‪ .‬انتفضت‬
‫الحي‪ ،‬التفت‬
‫ّ‬ ‫طرف‬ ‫عند‬ ‫كنا‬ ‫حتى‬ ‫الباب‬ ‫الرواق‪ ،‬ثم عبرنا‬
‫كثيرا‪ ،‬طلب مني مرافقته‪ ،‬سرنا َسويًا مسافة ّ‬
‫ً‬ ‫شيء ما‪ ،‬غير أنه لم يتكلم‬
‫التفت وقابلني العلم الثّالثي األلوان أعالها‪ .‬لم ُأب ِد أي استغراب منه وقلت‬
‫ُّ‬ ‫‪:‬إلى أعلى القصبة‪ ،‬وأشار بيده وقال‪ :‬أنظر هناك‪.‬‬

‫عل ًَما أبيض وأضيف له ل َونان ‪-‬‬


‫‪.‬وما الفرق يا صديقي؟! كان َ‬

‫الس هولة التي تراها‪ ،‬مادام الملك الجديد يختلف عن سابقه فربما ستكون الحملة من األشياء التي يختلفون ‪-‬‬
‫األمر ليس بهذه ّ‬
‫‪.‬عليها‬

‫‪.‬ال أعتقد هذا‪ ،‬إنهم لن يختلفوا من أجلنا ‪-‬‬

‫‪.‬ولكنني أكثر تفاؤل ًا ‪-‬‬

‫انحدرنا ولم أعرف الوجهة التي كان ابن مي ّار يأخذني إليها‪ ،‬لكنني عرفتها بعد مسافة‪ ،‬وقد أضحى الميناء على مقربةٍ منا‪ .‬بعض‬
‫تفحصنا الجنديان‪ ،‬ثم سمحا لنا بالعبور‪ ،‬اقتربنا‬
‫ّ‬ ‫لحظات حتى عبرنا بوابة البحر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الجنود من المشاة‪ ،‬على غير العادة اجتمعوا هناك‪،‬‬
‫أكثر‪ ،‬توقفت واستمر ابن ميّار في طريقه حتى بلغ مكان الجنود المجتمعين‪َ ،‬حيَّاهم ثم صافح بُورمون‪ ،‬وبدا لي من هناك‪ ،‬أشبه‬
‫السفينة فقد‬
‫أما حين هم بصعود ّ‬ ‫بالباشا يوم رحيله عن المحروسة‪ ،‬يُطأطئ رأسه‪ ،‬ويحاول رسم البسمة على فمه‪ ،‬ويعجز عن ذلك‪ّ .‬‬
‫شوش له‪ ،‬حتى ابن ميّار لم يبُح‬ ‫الصغير الذي تأبطه‪ ،‬ثم رأيته يعود أدراجه وبهمس البن ميّار‪ ،‬لم أسمع بما َو َ‬
‫الصندوق ّ‬
‫انتبهت إلى ّ‬
‫‪.‬بشيء‬

‫يأمل في أن عرائضه ستُعيد‬ ‫ُ‬ ‫تمر على احتالل المحروسة‪ ،‬ومازال صديقي ابن ميّار يعتقد أنهم سيرجعون مرة ثانية‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫سنوات‬
‫ٍ‬ ‫ثالث‬
‫درب‬
‫ٌ‬ ‫منها‬ ‫يختفي‬ ‫يوم‬ ‫كل‬ ‫ّاويين‪،‬‬ ‫ل‬‫الس‬
‫ّ‬ ‫حارة‬ ‫أتجاوز‬ ‫بيته‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫فضي‬ ‫الم‬
‫ُ‬ ‫ارع‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫أتسلق‬ ‫‪.‬‬ ‫منه‬ ‫أخذت‬ ‫التي‬ ‫ياعه‬ ‫ِ‬
‫وض‬ ‫واألوقاف‪،‬‬ ‫المساجد‬
‫أدق على بابه فتطالعني ُدوجة من الك ُّوة‪ ،‬كأنها كانت‬ ‫قديما‪ُّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫جديدٌ‪ ،‬يتراءى لي قوس القصبة خاليًا من أي شيء‪ ،‬أتجاوزه فألمح بيته‬
‫تنتظرني‪ ،‬أرى عينيها تَتَوثّبان‪ ،‬تُريدان القفز من الك ُّوة حتى تلتصقا بي‪ ،‬تختفي وأسمع صوت ركضها في رواق البيت‪ ،‬ثم يُشرع الباب‬
‫بقوة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫علي وتَض َغطان‬
‫َّ‬ ‫عليها‪ ،‬وأعجز أن أتقدم‪ ،‬بينما تقفز تجاهي‪ ،‬ويُصبح صدري إلى صدرها‪ ،‬ووجهانا إلى بعضها‪ ،‬ويداها خلفي تشدان‬
‫واحدا‪ ،‬لم نَنفصل إال حين تناهى إلينا صوت يُنادي عليها من الباحة‪ ،‬سحبت‬ ‫ً‬ ‫الرواق جِ ً‬
‫سما‬ ‫يدي وهما تسحبانها‪ ،‬وولجنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫لم أنتبه إلى‬
‫جميعا إلى باحة‬ ‫ً‬ ‫عبرنا‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫جندي‬ ‫أكون‬ ‫أن‬ ‫خشيت‬ ‫وتنهدت‪،‬‬ ‫اقتربت‬ ‫ثم‬ ‫المتسائلة‪،‬‬ ‫سعدية‬ ‫ّة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫وجه‬ ‫إلى‬ ‫ّعت‬ ‫ل‬ ‫وتط‬ ‫فتيها‪،‬‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫َشفتي عن‬
‫احتل الباحة أال جدوى من‬ ‫ّ‬ ‫حدثتني الل ّة سعدية عن رحيل زوجها‪ .‬يومها اتّفق الجميع ممن‬ ‫ّ‬ ‫حين‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫طوي‬ ‫هناك‬ ‫أمكث‬ ‫ولم‬ ‫البيت‪،‬‬
‫الملتصقتين بي‪ ،‬ووجه الل ّة سعدية‬ ‫ُ‬ ‫وجة‬‫د‬‫ُ‬ ‫عيني‬ ‫ع‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫أود‬ ‫وأنا‬ ‫نت‪،‬‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫هكذا‬ ‫‪.‬‬ ‫فيه‬ ‫يجرحه‬ ‫ال‬ ‫الذي‬ ‫بالقدر‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫عب‬ ‫ُ‬
‫وكل‬ ‫ار‪،‬‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫حاوالت‬ ‫ُم‬
‫دعاء‪ ،‬أن يعود زوجها‪ ،‬ويعود الغائبون كلهم إلى أع ّزائهم‬ ‫ً‬ ‫ردد‬
‫‪.‬الحزين‪ ،‬وقبل خروجي من البيت سمعتُها تُ ّ‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬دوجة‬
‫ُ‬

‫غاير‬
‫مختلف‪ ،‬وطعمٌ ُم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫لون‬
‫ٌ‬ ‫‪...‬للمحروسة اآلن‬

‫يت لو امتدت تلك الل ّحظة‪ ،‬كان خفقان قلبي يَتَعالى حين امتزج جسدانا‪ ،‬عبرنا قوس‬ ‫وضمني إلى صدره‪ .‬تمن ّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫إلي‬
‫َّ‬ ‫السل ّاوي‬
‫عاد ّ‬
‫السل ّاوي ُمختلفًا ذلك اليوم‪ ،‬أحسست بقدومه‪ .‬حينما تراءى لي من‬ ‫ّ‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫األرض‬ ‫على‬ ‫هوينا‬ ‫واق‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫جدار‬ ‫ولوال‬ ‫تالصقين‪،‬‬ ‫م‬‫الباب ُ‬
‫ركضا‪ُ ،‬خيّل لي أنه يفتح لي ذراعيه خلف الباب‪ ،‬وحين شرعته داهمتني رغبة في القفز نحوه‪ ،‬وقفزت إليه‬ ‫ً‬ ‫الباحة‬ ‫قطعت‬
‫ُ‬ ‫هناك‪،‬‬
‫سريعا وطوقني بساعديه‪ ،‬ثم امتدت شفتاه إلى شفتي‪ ،‬كأنني أول مرة ُأقبّل رجل ًا‪،‬‬‫ً‬ ‫استيقظ‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫ه‪،‬‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫احتض‬ ‫حين‬ ‫تفاجأ‬ ‫وعي‪،‬‬ ‫دون‬
‫‪.‬ولكن الل ّحظة لم تستمر‪ ،‬إذ سمعنا نداء‪ ،‬وانفصلنا‪ ،‬ثم كانت الل ّة سعدية إلى جانبنا‬

‫السابقة‪ ،‬تحاصرني الحكايات القديمة‪ .‬في البدء كانت‬ ‫لو استطعت إرغامه على البقاء لفعلت‪ ،‬خشيت البقاء وحيدة مثل األيام ّ‬
‫أبصر وجه منصور‪ ،‬كان سيُحبّه‪ ،‬وربما يبكي رحيله مثلما بكيت‪ ،‬ليته‬ ‫َ‬ ‫السل ّاوي‬
‫أياما قليلة‪ ،‬ثم المحروسة‪ ،‬ليت ّ‬ ‫ً‬ ‫القرية‪ ،‬ثم بيت ال ُقنصل‬
‫وزع محبته على أشجار القُنصل‪ .‬كان سيعطف عليه‪ ،‬وربما يرد الل ّطمة التي وجهها له كافيار ذلك اليوم‪ .‬حينها‬ ‫صحب أبي وهو ي ُ ِ ّ‬
‫حموما‪ ،‬ولم يَنم طوال الل ّيل‪ ،‬ظللت ُأغيّر قطعة القماش المبلولة‬ ‫ً‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫هار‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫بداية‬ ‫عند‬ ‫استيقظ‬ ‫‪.‬‬ ‫أمامه‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫مذلو‬ ‫أبي‬ ‫وقفة‬ ‫لم أستطع احتمال‬
‫علي وعلى الحائط‪ ،‬ثم سار في انحناء حتى‬ ‫َّ‬ ‫من على َجبهته‪ ،‬ويهذي حين تشتد الحمى على جسده‪ ،‬لكنه قام من مكانه‪ ،‬استند‬
‫يحب الل ّه والصالة والقرآن‪ ،‬رغم أنه لم يحفظ منه الكثير‪ ،‬عدا‬ ‫ّ‬ ‫الصالة‪ .‬كان أبي‬ ‫الداخل‪ ،‬وشرع في ّ‬ ‫بلغ الباب‪ ،‬توضأ ثم عاد إلى ّ‬
‫دوما يُحبّبني في الل ّه وفعل الخير‪ ،‬ولكن كافيار لم يشفق عليه ذلك اليوم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الس َور التي يُصلي بها‪ .‬لكنه لم يُرغمني عليها‪ ،‬بل كان‬ ‫ُّ‬
‫لونة تحوم في البُستان‪ ،‬أخفض‬ ‫فراشات ُم ّ َ‬
‫ٍ‬ ‫بينما كان يحاول بمعوله إعادة مجرى الماء إلى األشجار بالدور‪ ،‬وكنت ألهو بينها‪ ،‬أراقب‬
‫وأرفع المعول عنه‪ .‬أرى‬ ‫ُ‬ ‫والمعول إلى جانبه‪ ،‬أركض تجاهه‬ ‫ِ‬ ‫رأسي وأتوغل داخله‪ ،‬ثم أنحني وأرى أبي عند أطرافه‪ ،‬يجلس ُمنهك ًا‬
‫أدر ما الذي أغضبه‪،‬‬ ‫عينيه تومئان لي أن أضعه جانبًا‪ ،‬ثم يَتراءى لنا كافيار‪ ،‬يسير في اتجاهنا‪ ،‬وكلما اقترب تتضح لي مالمحه‪ .‬لم ِ‬
‫نفعل‪ ،‬صاح بكلمات لم َأ ِعها‪ ،‬ووقف أبي ُمنحنيًا كأنما قد اقترف ذنبًا‪ .‬ثم سمعته‬ ‫حتى حينما وقف إلى جوار أبي‪ ،‬بدا وكأنه ُم ٌ‬
‫يتمتم بكلمات لم أتبينها‪ ،‬بدا مثل من يعتذر‪ ،‬لم أكن أنتظر أن يزداد حنق كافيار‪ ،‬بينما بقي أبي ُمطأطًئا رأسه‪ .‬ثم امتدت يد‬ ‫ُ‬
‫همَ‬ ‫كافيار إلى وجهه‪ ،‬لطمه حتى سقَط‪ ،‬صرخت وأنا أراه على حالته تلك‪ .‬كانت تلك المرة األولى التي يُضرب فيها‪َ ،‬أ‬
‫سندته حين ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫خطفت الحمى جسده‪ ،‬كان ينادي على أمي حين انتصف‬ ‫قرور‪ .‬تَ ّ َ‬ ‫الم ُ‬‫بالوقوف‪ ،‬وسرت إلى جانبه حتى بلغنا الكوخ‪ ،‬كان يرتجف مثل َ‬
‫يحدق بي ثم ينقلب إلى‬ ‫ّ‬ ‫حين‪،‬‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫حلوى‬ ‫جيبه‬ ‫من‬ ‫سيخرج‬ ‫كأنه‬ ‫الل ّيل‪ ،‬وتمتزج الدموع بالعرق‪ ،‬ثم يُنادي على منصور‪ ،‬ويحرك يديه‬
‫حرك يديه‬
‫السطح ويصيح‪ ،‬ثم يُ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫أخشاب‬ ‫إلى‬ ‫يشير‬ ‫ناديهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫صوته‬ ‫على‬ ‫مرة أخرى‬ ‫الجهة األخرى‪ ،‬وأراقبه حتى يأخذني النّوم‪ .‬أستيقظ ّ‬
‫أسبوع حبيس الكوخ‪ ،‬تزداد‬ ‫ٍ‬ ‫الضربات‪ُ .‬أسرع تجاهه‪ ،‬وأتشبث به حتى يغادره َهل َعه‪ ،‬ويعود إلى النّوم‪ .‬ظل أبي طوال‬ ‫وكأنه يَتفَادى ّ‬
‫سوءا‪ ،‬زارنا بعض الفالحين فقط‪ ،‬واآلخرون َخ ُشوا أن يُعاقبهم كافيار‬ ‫ً‬ ‫‪.‬حالته‬

‫وتحسسته‬‫ّ‬ ‫في نهاية األسبوع تعلَّقت عينا أبي بالسقف‪ ،‬مفتوحتين وال تريان شيًئا‪ ،‬امتدت يداي إليه وحركت جسده‪ ،‬كان ُمتخشبًا‪،‬‬
‫وس َرت الهمهمة عند‬ ‫باردا‪ ،‬وظللت أحركه وأناديه لكنه ال ي َ ُر ُّد‪ ،‬صرخت حتى انتشر ُصراخي بين أشجار الل ّوز المزهرة‪َ ،‬‬ ‫ً‬ ‫مرة أخرى كان‬ ‫ّ‬
‫صدقين أن أبي قد مات‪ .‬لكنهم لم يحركوا ساكنًا عدا اثنين منهم‪ ،‬طلبا‬ ‫ُ ّ‬‫م‬ ‫غير‬ ‫جسده‬ ‫سوا‬ ‫وتحس‬
‫ّ‬ ‫الفالحين‬ ‫بعض‬ ‫دخل‬ ‫باب البيت‪.‬‬
‫وغسال أبي حينما طلع النّهار ثم كفَّناه‪ ،‬وحملناه إلى الغابة‪ ،‬راقبتهما وهما يحفران القبر‪ .‬ثم َصلَّيا عليه‪ .‬اعتادت‬ ‫ّ‬ ‫الرحيل‪،‬‬ ‫من البقية ّ‬
‫مسمع منا‪ ،‬تقف في مقابلة الحقل‪ ،‬وتبسط كفيها أمامنا‪ ،‬وتظل تذكر اسمه وتطلب من الل ّه أن‬ ‫ٍ‬ ‫أمي مناجاة الل ّه في غيابه على‬
‫الرجالن ذلك وكنت في إثرهما‪ ،‬دعوت الل ّه‬ ‫الدعاء‪ .‬وف ََعل ّ‬
‫سالما وكنت ومنصور إلى جانبها‪ ،‬نرفع أيدينا‪ ،‬ونُقبِّلها عند انتهاء ّ‬ ‫ً‬ ‫يعيده‬
‫الرجلين‪ ،‬وهما يرفعان جسده الملفوف في القماش األبيض‪ ،‬اهت ّز‬ ‫قرب أبي منه‪ ،‬ويُدخله الجنّة‪ ،‬أنزلت يدي‪ ،‬واقتربت أكثر من ّ‬ ‫كي يُ ِ ّ‬
‫ورشا القبر ببعض‬ ‫َّ‬ ‫الدفن‪،‬‬
‫الرجالن من ّ‬ ‫علي مشاهدة كل الذين أحبهم يُدفنون‪ .‬انتهى ّ‬ ‫َّ‬ ‫قدرا‬
‫قلبي حين وضعاه داخل الحفرة‪ ،‬كان ُم ً‬
‫ألتفت عند كل مسافة أقطعها‪ ،‬فأرى أبي‬ ‫ُّ‬ ‫بخطى بطيئة‪،‬‬
‫ً‬ ‫دت‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫َمت‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ظ‬‫َأ‬ ‫حتى‬ ‫أبي‬ ‫مع‬ ‫وحيدة‬ ‫الماء‪ ،‬ثم َر َحال‪ ،‬وبقيت ذلك اليوم‬
‫‪.‬يُشيّعني من هناك ويبتسم‬

‫ِت ليلتي في الكوخ‪ ،‬زارتني نسوة الفالحين ليُعزينّني‪ ،‬وطلبت مني كل واحدة منهن المكوث‬‫مرة أخرى‪ ،‬ب ُّ‬ ‫ال أذكر أنني زرت القبر ّ‬
‫عندها‪ ،‬وأرجأت الموافقة إلى نهار الغد‪ .‬لو بقيت هناك كنت سأقتل كافيار‪ .‬امتأل قلبي بكراهيته‪ ،‬كان ال بد لي من ترك المزرعة‪.‬‬
‫الطريق تجاه المحروسة‪ ،‬ولم يطلع النّهار حتى اختفت المزرعة‪ ،‬إذ غيَّبتها أول ربوة‬
‫جمعت ُص ّرة الثّياب‪ ،‬وشققت ّ‬
‫ُ‬ ‫الظلمة‪،‬‬
‫في قلب ّ‬
‫‪.‬تجاوزتها‬

‫الطحين‬‫كانت المحروسة حكاي ًة تُروى لي‪ ،‬وبيوتًا كثيرة بيضاء‪ ،‬وحوانيت تبيع القماش الجميل والمناديل التي تُفض ِل ّها أمي‪ ،‬وحلوى ّ‬
‫حب‬
‫حدثني أبي طويل ًا عنها‪ ،‬قال إن الباشا رجل طيب يُ ُّ‬ ‫َّ‬ ‫التي يحبّها منصور‪ ،‬منذ طفولتي رقصت المدينة في مخيلتي بعد أن‬
‫حصل‬‫يحث منصور أن يكبر كي يرسله إلى الجامع الكبير ليُ ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الدوام‪،‬‬
‫رعاياه‪ ،‬وإن النّاس هناك يُحبِّون الخير‪ ،‬ويرتادون المساجد على ّ‬
‫دوما ُمقدمون بين النّاس وعند الباشا‬‫ً‬ ‫العلم‬ ‫فأهل‬ ‫المالكية‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ساد‬ ‫‪.‬علم‬

‫الطويلة بينها وبين المحروسة‪ .‬حينما تظلم أتكئ على شجرة‪ ،‬وأسحب من صرتي بعض ال ِتّين‬
‫أعدت الحكاية وأنا أقطع المسافة ّ‬
‫‪.‬المجفف‪ ،‬ألتهمه وأنام فال أرى إال البيوت البيضاء‪ ،‬والوجوه المبتسمة‬

‫الركض‬
‫آخر يوم قبل دخولي المحروسة كان ُمختلفًا‪ ،‬استيقظت ف َِزع ًة من حلم مخيف‪ ،‬تراءت ذئاب تحطني من كل جهة‪ ،‬حاولت ّ‬
‫ي‪ ،‬ورأيتها تسقط من‬
‫دو ٌ‬
‫إلي ّ‬
‫َّ‬ ‫ولكنّها أحاطت بي‪ ،‬ثم شرع كل واح ٍد ينهش من جسدي‪ .‬كان بعض لحمي في أفواهها‪ ،‬ثم تناهى‬
‫الممتد‬
‫الر بوة رجال غرباء‪ .‬استيقظت مرعوبة يرشح العرق من جسدي‪ ،‬وانتبهت إلى األلم ُ‬ ‫حولي الواحد تلو اآلخر‪ ،‬وظهر من خلف ّ‬
‫السير‪ ،‬حتى رأيت أسوارها البيضاء‪ .‬لم أصدق أنني قد‬ ‫ّ‬ ‫واصلت‬ ‫ثم‬ ‫لحظات‬ ‫استرحت‬ ‫‪.‬‬ ‫المشي‬ ‫من قدمي‪ ،‬كانتا قد تورمتا من مسافة‬
‫حدثني أبي عن اختالف لباس أهل المحروسة‪ .‬بينما انشغلت عنه‬ ‫َّ‬ ‫الراحلين يضحكون من منظري‪.‬‬ ‫وصلت‪ .‬كان الفالحون وبعض ّ‬
‫السقائف والدروب الحجرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أجوب‬ ‫وظللت‬ ‫حافية‪،‬‬ ‫شوارعها‬ ‫في‬ ‫مشيت‬
‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫المدينة‬ ‫بوابة‬ ‫عبرت‬ ‫إن‬ ‫ما‬ ‫بأحالم أخرى‪ ،‬ابتدأت تنحدر‬
‫الطحين! وعبرت‬‫ّ‬ ‫وحلوى‬ ‫الحريري‪،‬‬ ‫والقماش‬ ‫بالطيب‪،‬‬ ‫حوانيتها‬ ‫تمتلئ‬ ‫التي‬ ‫المحروسة‬ ‫هذه‬ ‫إذن‬ ‫‪.‬‬ ‫حلم‬ ‫غير ُم ِ ّ‬
‫صدق ًة نفسي‪ ،‬كأنني في‬
‫‪.‬شوارع أخرى حتى كنت في باحة واسعة‪ ،‬بها أناس كثيرون وعلى أطرافها حوانيت‪ ،‬هذا هو سوق المحروسة الذي حدثني عنه أبي‬

‫الركض طوال عمره من الذين يتربصون به‪ ،‬وحتّى‬ ‫سريعا‪ ،‬كأنما ق ِ ُّدر له ّ‬
‫ً‬ ‫السل ّاوي أن يعرف كل تلك التفاصيل‪ ،‬ولكنّه يفر‬
‫كان على ّ‬
‫موجودا‪ ،‬ال هو وال الل ّقلق‬
‫ً‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫ة‬ ‫ُو‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫عه‬ ‫شي‬‫من الذين يُحبُونه‪ .‬لم يَطل مقامه معنا‪َ ،‬ص َفق الباب خلفه وغاب‪ ،‬وحين ركضت ُأ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫السل ّاوي بقي ساعة أخرى‪ ،‬أروي له حكايتي كلها‪ ،‬سيسمعها ويبكي مثلما بكى في ُحضن‬ ‫الذي َد َرج على زيارة عين الماء‪ .‬ليت ّ‬
‫‪.‬الل ّة زهرة‪ ،‬ويقرر حينها أيرحل أم يبقى معي‬

‫الحي يرقبني كل صباح‪ .‬أحسست أن شيًئا ما انتابه‪ ،‬ربما‬ ‫ّ‬ ‫السوق‪ ،‬وكان شيخ‬ ‫منذ مغادرتي بيت تاجر الن ُّحاس‪ .‬عدت أفترش أرض ّ‬
‫مفتاحا‪ ،‬ثم‬ ‫ً‬ ‫علي أحد التُّجار القريبين منه‪ ،‬وما إن اقترب منه همس له وسلَّمه‬ ‫ّ‬ ‫ندم أو أشياء أخرى! وقف عند باب حانوته‪ ،‬ونادى‬
‫السير معه‪ .‬وانتقلنا إلى حانوت تاجر الن ُّحاس المغلق‪ ،‬فتح التاجر بابه‪ ،‬وقال‪ :‬من اآلن‬ ‫كان التاجر يقف إلى جانبي‪ ،‬ويطلب مني ّ‬
‫ِت‬
‫بيت آوي إليه‪ .‬وطفقت أنظف الغرفة حتى أضحت صالح ًة للنوم‪ ،‬وب ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫صدق أنه قد أصبح لي اآلن‬ ‫يُمكنك أن تتخذيه بيتًا‪ .‬ولم ُأ ّ‬
‫أوان نُحاسية لم يسأل‬ ‫ٍ‬ ‫من‬ ‫تبقى‬ ‫وما‬ ‫الجيرية‪،‬‬ ‫الغرفة‬ ‫جدران‬ ‫عيناي‬ ‫ت‬ ‫مسح‬
‫َ‬ ‫‪.‬‬ ‫اني‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫اليوم‬ ‫منتصف‬ ‫الل ّيلة األولى‪ ،‬ولم أستيقظ إال في‬
‫أنظف‬‫ّ‬ ‫بعمل‪،‬‬ ‫سعفونني‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫أحيا‬ ‫جار‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫جوعي‬ ‫به‬ ‫سكت‬ ‫ُأ‬ ‫عما‬ ‫أبحث‬
‫ُ‬ ‫وق‬ ‫الس‬ ‫إلى‬ ‫رب‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫وعبرت‬ ‫أصحابها عنها‪ ،‬غادرت الغرفة‪،‬‬
‫ّ‬
‫السلع‪ ،‬وأحيانًا يأخذني أحدهم إلى بيته ساعات فقط‪ ،‬إذ لم ترض زوجاتهم بمكوثي هناك‪ ،‬بعدما ُأشيع ع ِن ّي الجنون‪.‬‬ ‫حوانيتهم‪ ،‬وأر ِتّب ّ‬
‫الرجال يشتهون‬ ‫ّ‬ ‫جميع‬ ‫أن‬ ‫يعني‬ ‫المحروسة‬ ‫في‬ ‫جميلة‬ ‫المرأة‬ ‫تكون‬ ‫أن‬ ‫خلسة‪،‬‬ ‫بي‬ ‫عيونهم‬ ‫تتربص‬ ‫كيف‬ ‫أكتشف‬ ‫كنت‬ ‫الش باب فقد‬‫أما ّ‬ ‫ّ‬
‫غضون‬ ‫الرغبات‪ ،‬حتى وإن لم يرتكبوا الحماقات التي تتعلق بالنساء‪ .‬لكنهم يَ ُّ‬ ‫مضاجعتها‪ .‬والقليل فقط من التُّجار َسلِموا من تلك ّ‬
‫يحب فيه‬ ‫ّ‬ ‫نظف مساحة أمام حانوت شيخ‪ ،‬لم يهتم بالنظافة بقدر ما كان‬ ‫الدرب‪ ،‬وُأ ّ‬ ‫أبصارهم حين يرتكبها أوالدهم‪ .‬وهكذا كنت أتجاوز ّ َ‬
‫الريف‪ ،‬تلك التي نهزج بها في األعراس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بأغاني‬ ‫ا‬ ‫ولع‬
‫ُ ً‬ ‫م‬ ‫يخ‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫كان‬ ‫الغناء‪،‬‬ ‫مني‬ ‫علي يَهبُني تُ ّف َاحة‪ ،‬ويطلب‬
‫ّ‬ ‫سماع غنائي‪ ،‬يُنادي‬
‫ونرقص لها‪ ،‬يتعالى صوتي في الباحة‪ ،‬فيُغادر التُّجار حوانيتهم‪ ،‬ي ُراقبونني‪ ،‬ويستمعون في شغف‪ ،‬أتذكر كلمات أمي‪ :‬صوتك جميل يا‬
‫السعيدة‪ ،‬ويحزن بالغُنة الحزينة‪،‬‬ ‫أيضا يستمتع بالغُنة ّ‬ ‫ً‬ ‫الحي‬
‫ّ‬ ‫ُدوجة‪ ،‬قد ورثته عن جدتك ُمغنّية القرية‪ .‬في ذلك اليوم كان شيخ‬
‫الحي‪ ،‬بدت كأنها سيدة تركية‬ ‫ّ‬ ‫شيخ‬ ‫جانب‬ ‫إلى‬ ‫الواقفة‬ ‫المرأة‬ ‫صمت وأنا أبصر‬ ‫ُّ‬ ‫تتقلب مالمح وجهه كلما تقل ّب الل ّحن في ُحنجرتي‪.‬‬
‫الشيخ ينظر يشير تجاهي‪.‬‬ ‫ولمحت ّ‬ ‫ُ‬ ‫إليهن طلباتهن‪ .‬أشارت المرأة نحوي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وصيفاتهن من يحملن‬ ‫ّ‬ ‫جبن األسواق‪ ،‬كانت‬ ‫ولم آلفهن ي َ ُ‬
‫حبتها‪،‬‬ ‫الحي بتقبيل يدها‪ ،‬وانحنيت كي أفعل لكنّها َس َ‬ ‫ّ‬ ‫سرت حتى وقفت إلى جانبه‪ ،‬أتطل ّ َ ُع إلى المرأة األربعينية قربه‪ ،‬أمرني شيخ‬ ‫ُ‬
‫أي‬
‫الشيخ لم ينتظر طويل ًا‪ ،‬إذ طلب مني الغناء لها‪ ،‬واحترت ُّ‬ ‫الحي‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫ّ‬ ‫وحدقت في مالمح وجهي‪ ،‬وتتقاطع عيناها مع عيني شيخ‬ ‫َّ‬
‫السيدة تبحث في‬ ‫دوما اغتنام لحظات الفرح من الحياة‪ ،‬وربما كانت هذه ّ‬ ‫ً‬ ‫األغاني أغنّيها‪ ،‬اخترت واحد ًة سعيدة‪ ،‬النّاس يُحبُّون‬
‫‪:‬صوتي عن أشياء افتقدتها في حياتها‪ ،‬كانت تراقبني وتتراقص تفاصيل وجهها‪ ،‬وتحرك شفتاها تحفظ األغنية‪ ،‬وحين أنهيتها قالت‬

‫أترافقيني إلى بيتي؟ ‪-‬‬

‫السيدة دون أغراضي‪َ ،‬خطونا في شوارع المحروسة التي لم‬ ‫الحي وسرت في أعقاب ّ‬ ‫ّ‬ ‫وافقت دون تفكير‪ ،‬سلَّمت المفتاح إلى شيخ‬
‫السيدة‪ ،‬وبعض الوصيفات حين يُمررن بها‪ ،‬يُحيينها باسمها‪ ،‬وكلما عبرنا طريقًا‬‫ّ‬ ‫طالعون‬ ‫أخطها من قبل‪ ،‬ورأيت كيف كان النّاس ُ‬
‫ي‬ ‫ُ‬
‫السقيفة تلو األخرى حتى‬ ‫ّ‬ ‫نعبر‬ ‫ونظل‬ ‫طريقها‪،‬‬ ‫وتواصل‬ ‫‪.‬‬‫جديدة‬ ‫أعراس‬ ‫من‬ ‫هل‬ ‫يسألنها‬ ‫سمعنا إحداهن تهتف‪ :‬الل ّة مريم الل ّة مريم‪.‬‬
‫يُقابلنا بيت جميل‪ ،‬وأحدث نفسي أن المرأة التي سمعت عنها طويل ًا‪ ،‬وكان التجار يهتفون باسمها ويُقارنون صوتي بصوتها‪ ،‬هي اآلن‬
‫عتبة الباب‪،‬‬ ‫تجاوزت َ‬
‫ُ‬ ‫أردد َخلفها المواويل في األعراس‪ .‬في الل ّحظة التي‬
‫عما قريب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫تسير أمامي‪ .‬وربما سأصير في فرقتها‬
‫أنهن في فرقتها‪ .‬قامت واحدة‬ ‫ّ‬ ‫خمنت‬
‫ّ‬ ‫عطور ا مختلفة‪ ،‬ثم حين عبرت باب غرفة فسيحة رأيت بنات عديدات هناك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اشتممت‬
‫تتفح ُصني‪ ،‬أومأت لها الل ّة مريم‪ ،‬فغادرت بي إلى غرفة أخرى‪ ،‬وهكذا أصبحت بعد أيام قليلة مغنية في فرقة الل ّة‬ ‫ّ‬ ‫وجعلت‬ ‫منهن‬
‫‪.‬مريم‬

‫الصباح بزينتنا‪ ،‬وما إن ننتهي منها حتى تَتوسطنا الل ّة مريم‪،‬‬ ‫أول األعراس كآخرها‪ ،‬تبدأ بالصخب ثم تنتهي إلى تعب‪ .‬ننشغل في ّ‬
‫قطب حاجبيها وتُصر على إعادة‬ ‫ردد أن نَحفظ األغاني والمواويل التي نُعيدها خلفها‪ ،‬ثم تختبرنا‪ ،‬وحين تَ ِه ُّم بالعودة إلى غرفتها تُ ّ‬
‫وت ُ ّ‬
‫نصائحها‪ .‬تتأفف البنات منها‪ ،‬ومن تكرارها عليهن‪ ،‬وكل ما تريده الل ّة مريم أال يتدخلن في األشياء التي ال تعنيهن‪ ،‬وال يُكثرن‬
‫جيدا ما تقول‪ ،‬ولم أهت ِد إلى الحقيقة آنذاك‪ ،‬غير أنني أدركتها وأنا‬ ‫ً‬ ‫التحديق في وجوه الذين من حولهن‪ ،‬كانت المرأة األربعينية تعني‬
‫الرجل كل شيء‬ ‫ّ‬ ‫يقول‬ ‫ري‬ ‫الع‬
‫ُ‬ ‫وفي‬ ‫نهكين‪،‬‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫جال‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫يزورهن‬ ‫المبغى‪،‬‬ ‫‪.‬أقاسم الحكايات مع نساء‬

‫الجسد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫في طفولتي كنت أحسب أن شوق أمي ألبي‪ ،‬مثل شوقي إليه‪ ،‬ثم اكتشفت أن انتظار المرأة للرجل ال يُمكن أن يَخلو من‬
‫الشوقان بعدما عرفت‬ ‫الشوق الخالي من الجسد‪ ،‬واجتمع ّ‬ ‫الرجال على جسدي‪ ،‬صرت َأ ُّ‬
‫حن إلى ّ‬ ‫ع َرق ّ‬
‫أما حين جربت نُضوح َ‬
‫ّ‬
‫‪.‬السل ّاوي‬
‫ّ‬
‫كثيرة هي األعراس التي أحييناها‪ ،‬نسير رفقة الل ّة مريم إلى البيت المقصود‪ ،‬يُرافقنا صاحب العرس‪ .‬يظل اليولداش في ُسكرهم‬
‫رحبة بنا‪ ،‬وتنضم‬ ‫طل زوجته ُم ّ‬‫أنهن من المبغى‪ ،‬وننفصل عن الحارس عند عتبة البيت‪ ،‬وتُ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫كن وحيدات‪ ،‬يظنون‬ ‫يعترضون النّساء إن ّ‬
‫طل نافذتها على سقيفة خلفيّة‪ ،‬تتقدمنا الل ّة‬ ‫الرواق‪ ،‬وتصدح ال ّزغاريد في البيت‪ .‬نحتل القاعة الفسيحة التي تُ ُّ‬ ‫إليها بقية النّسوة في ّ‬
‫ردد بعدها المقاطع المختارة‪ ،‬تستمر الل ّة مريم في أغانيها‪،‬‬ ‫مريم بكامل زينتها‪ ،‬وتبدأ في مواويلها‪ ،‬وتُرا ِفقُها البنتان بالدف والعود‪ ،‬وتُ ّ‬
‫وخيّل لي وأنا‬ ‫واحدا‪ ،‬تُلوح به في اهتزازها‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫مناديلهن‪ ،‬كل ي ٍد تمسك‬
‫ّ‬ ‫الرقص‪ ،‬فيقمن يَحملن‬ ‫حرض نسوة البيت وبناتنا على ّ‬ ‫التي تُ ّ‬
‫إلي بعض النّسوة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫شبحا‪ ،‬يُرا ِقب العرس من خصاص النّافذة‪ ،‬ولكنني لم أتبيَّن وجهه‪ ،‬انتبهت‬ ‫ً‬ ‫أردد خلف الل ّة مريم‪ ،‬أنني رأيت‬
‫الر اقصات فقامت واحدة منهن‪ ،‬وأحكمت غلقها‪ ،‬ورقصت كل نساء البيت‪ ،‬وال أدري ِل َم بدت‬ ‫وخشين أن يكون أح ٌد ما يتلصص على ّ‬
‫لكن عينيها حملتا‬
‫ّ‬ ‫لي العروس أصغر من أن تكون زوجة؟ صحيح أن الل ّباس األبيض‪ ،‬والخمار المشنشل والزينة تُبديها أكبر من سنها‪،‬‬
‫نهكت‪ ،‬ثم ُأخذت إلى غرفة أخرى‪ ،‬ورحلنا نحن عن البيت ُرفقة الحارس‪ ،‬وما إن بلغنا‬ ‫خوفًا من ليلتها األولى‪ ،‬ظلت ترقص حتى ُأ ِ‬
‫المؤ ّذنين تُعلن عن صالة الفجر‬
‫ُ‬ ‫أصوات‬ ‫كانت‬ ‫حتى‬ ‫مريم‪،‬‬ ‫ّة‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫‪.‬بيت‬

‫ساعات‬
‫ٍ‬ ‫أيض ا ما يدور في بيوت األتراك‪ ،‬تزورهن وتمكث عندهن‬ ‫ً‬ ‫أيضا اعتدنا زيارة الوصيفات‪ ،‬كانت المرأة تعرف‬ ‫ً‬ ‫في بيت الل ّة مريم‬
‫ليلهن‪ ،‬بل كانت المرأة األربعينية تعرف كل التفاصيل عن‬ ‫ّ‬ ‫طويلة‪ ،‬ولم يكن األمر بالتأكيد يتعلق بالغناء في أعراسهن‪ ،‬أو في سمر‬
‫عثمان‪ ،‬لم تمكث الوصيفة‬ ‫يوما تحدث إحدى الوصيفات على ِحدة‪ ،‬ولم أتبين الكلمات إذ كانت بعضها بلغة بني ُ‬ ‫ً‬ ‫مغامراتهن‪ ،‬سمعتُها‬
‫ّ‬
‫تعد إال في نهاية النّهار على غير طبيعتها‪ ،‬علت وجهها عالمات الفزع‪ ،‬مثلما‬ ‫إال دقائق قليلة ثم رحلت الل ّة مريم تُرافقها‪ ،‬ولم ُ‬
‫شاب من المغاربة‪ ،‬وأن الل ّة مريم أعانتها على‬ ‫ٍ‬ ‫حملت األيام التي تلتها شائعة تقول‪ :‬إن ابنة أحد القادة األتراك قد حملت من‬
‫جة‬ ‫الح‬
‫ُ ّ‬ ‫يجد‬ ‫لم‬ ‫بينما‬ ‫وق‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫باحة‬ ‫في‬ ‫ملقاة‬ ‫ته‬‫ّ‬ ‫ث‬ ‫الل ّقاء به ِخفية‪ ،‬وبعد اكتشاف القائد األمر‪ ،‬قتل ابنته وتربّص بالشاب وقتله‪ ،‬وجدوا ُ‬
‫ج‬
‫لماما‪.‬‬
‫ً‬ ‫إال‬ ‫ُرفتها‬
‫غ‬ ‫تغادر‬ ‫وال‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ق‬ ‫ز‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫تزداد‬ ‫كانت‬ ‫م‬
‫ٌ‬ ‫مر يو‬
‫الشائعة‪ .‬كلما ّ َ‬ ‫التي يفتك بها بالمغنية‪ .‬تَنهرنا الل ّة مريم حين تضبطنا نعيد ّ‬
‫الرحيل في الغد‪ ،‬حدث ذلك‬ ‫ّ‬ ‫منا‬ ‫طلبت‬ ‫تحية‬ ‫ودون‬ ‫الغرفة‪،‬‬ ‫علينا‬ ‫اقتحمت‬ ‫حتى األعراس صارت تُقل ّل منها‪ ،‬ثم قررت التوقف فجأة‪،‬‬
‫وأسرت لنا أنها ستعود إلى الغناء في األعراس‪ ،‬ولم يكن قرارها غريبًا عنا‪ .‬كنا قد ألِفنا‬ ‫ّ‬ ‫صباحا‪ ،‬ثم عدلت عن قرارها في المساء‪،‬‬ ‫ً‬
‫وخفَت‬ ‫عرسا في بيت من بيوت المحروسة‪ .‬ثم توالت األعراس‪َ ،‬‬ ‫ً‬ ‫تمر إال أيام قليلة حتى أحيينا‬ ‫َّ‬ ‫الشهرين الماضيين‪ ،‬ولم‬
‫تقلباتها في ّ‬
‫نزق الل ّة مريم‪ ،‬ولكن خوفًا بقي داخلها‪ ،‬اكتشفته يوم ُو ّجهت لها دعوة ذلك التّركي‪ ،‬ارتبكت عندما رأت الوصيفة تجتاز قوس الباب‪،‬‬
‫عداء وهي تراها ترحل‬ ‫الص َ‬
‫حدثها‪ ،‬أومأت لها بحركة رأسها ُتوافقها‪ ،‬وتنفست ُ‬ ‫‪.‬بينما كانت صامتة وهي تُ ّ‬

‫السنة‪،‬‬
‫قامهن يتجاوز ّ‬
‫ّ‬ ‫جميعهن صبايا‪ ،‬ولم يكن ُم‬
‫ّ‬ ‫كن‬
‫في األيام األولى من دخولي هذا البيت‪ ،‬انتبهت إلى أن الفتيات الموجودات به‪ّ ،‬‬
‫يذكر الجميع أن الل ّة مريم اشتغلت بالغناء منذ أكثر من عشر سنوات‪ ،‬البنات ال يحكين كل شيء‪ ،‬يخفن من غضب الل ّة مريم‪،‬‬
‫مصيرهن‬
‫ّ‬ ‫تحول‬
‫ّ‬ ‫بكثيرات عملن في فرقتها‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬ ‫وربما من طردهن من البيت‪ ،‬لم أدرك الحقيقة إال فيما بعد‪ ،‬حين التقيت في المبغى‬
‫‪.‬فجأة إليه‬

‫عرسا بل ليلة سمر‪ ،‬ولم نكد نَنتهي من زينتنا حتى وجدتُها‬


‫ً‬ ‫استعدادا لها‪ ،‬لم يكن‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫وحل صباح الحفلة‪ ،‬اجتمعنا نتزيّن‬ ‫مر األسبوع‬
‫ّ‬
‫وتحول طلبها إلى‬
‫ّ‬ ‫ت‪،‬‬‫أصر‬
‫ّ‬ ‫ها‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫لك‬ ‫مكانها‪،‬‬ ‫أشغل‬ ‫أن‬ ‫خشيت‬ ‫عنها‪،‬‬ ‫أنوب‬ ‫أن‬ ‫مريم‬ ‫ّة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ت‬ ‫ود‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫غرفتها‪،‬‬ ‫في‬ ‫بها‬ ‫التحق‬ ‫أن‬ ‫علي‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫تُنادي‬
‫أومأت بالموافقة ثم غادرت الغرفة‪ ،‬تركتها وحيدة تقفل الباب على نفسها‬
‫ُ‬ ‫‪.‬رجاء‪،‬‬

‫السيد التركي على مرافقة المغنيات إلى بيته‪ ،‬استطالت المسافة وظلت عينا‬ ‫زوار أن يكون معنا‪ ،‬مثلما حرص ّ‬ ‫في ذلك اليوم أصر ِ‬
‫الم َ‬
‫المرة‬
‫ّ‬ ‫تلك‬ ‫كانت‬ ‫منه‪،‬‬ ‫وسخرت‬ ‫منا‪،‬‬ ‫أجرأ‬ ‫كانت‬ ‫ها‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫رافقتنا‪،‬‬ ‫التي‬ ‫الوصيفة‬ ‫وجسد‬ ‫أجسادنا‬ ‫يتأمل‬ ‫ريق‪،‬‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫طوال‬ ‫زوار تتفحصاننا‬ ‫ِ‬
‫الم َ‬
‫األولى التي أرى فيها ُسخرية وصيفة من سي ّد في المحروسة‪ ،‬وبالرغم من ذلك لم يصرف بصره‪ ،‬بل التصقت أكثر بثيابنا‪ ،‬وفي‬
‫الطريق‪،‬‬
‫المر ة لم يسكت‪ ،‬بل اقترب منها وهددها بسوطه‪ ،‬فابتلعت لسانها بقية ّ‬ ‫ّ‬ ‫منعطف آخر سخرت منه الوصيفة ثانية‪ ،‬ولكنّه هذه‬
‫‪.‬ولم تتكلم ونحن نبلغ البيت ونعبر بابه‪ ،‬ثم شرعت تسبّه حين ُأغلِق الباب خلفنا‬

‫السيدات التركيات‪ ،‬ومن ثم طلبن‬ ‫لمحت استحسان ّ‬ ‫ُ‬ ‫بينهن‪،‬‬


‫ّ‬ ‫تخدمهن وصيفات‪ ،‬وصدح صوتي‬ ‫ّ‬ ‫اتّسع المجلس واحتلته نسوة قليالت‪،‬‬
‫السيدة‪ ،‬وانفض المجلس‪ ،‬حملنا أنفسنا وآالتنا‪ ،‬وبعض‬ ‫ّ‬ ‫فقامت‬ ‫التعب‪،‬‬ ‫منهن‬ ‫ونال‬ ‫ّيل‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫انتصف‬ ‫حتى‬ ‫أنهيت واحدة‪،‬‬‫ُ‬ ‫أغاني جديدة كلما‬
‫زوار وبعض جنوده في انتظارنا‪ ،‬ولم تكن ال الوصيفة هناك‪ ،‬وال صاحب‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫ووجدنا‬ ‫قدمنا‪،‬‬ ‫مثلما‬ ‫أخرى‬ ‫ة‬ ‫مر‬
‫ّ‬ ‫واق‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫وعبرنا‬ ‫رياالت البوجو‪،‬‬
‫الدرب الذي نسير به ليس‬ ‫ّ‬ ‫إن‬ ‫البنات‬ ‫إحدى‬ ‫وقالت‬ ‫آلفها‪،‬‬ ‫لم‬ ‫ضاءة‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫شبه‬ ‫شوارع‬ ‫وعبرنا‬ ‫جانب‪،‬‬ ‫كل‬ ‫من‬ ‫بنا‬ ‫يحيطون‬ ‫البيت‪ ،‬كانوا‬
‫كن‬
‫زوار فيها أن تصمت‪ ،‬شعرت أن شيًئا ما سيحدث لي وللبنات الل ّواتي ّ‬ ‫بالسؤال صاح ِ‬
‫الم َ‬ ‫ُّ‬ ‫همت‬
‫ّ‬ ‫وحين‬ ‫مجيئنا‪،‬‬ ‫في‬ ‫الذي سلكناه‬
‫وشد كل جندي ُمغنيّة وساقها‬‫َّ‬ ‫زوار لن يُعيدنا إلى بيتنا‪،‬‬
‫الم َ‬‫معي‪ ،‬ومضينا عبر سقيفة أخرى ثم اتسعت باحة خالية‪ ،‬حينها أدركت أن ِ‬
‫زوار‬ ‫منهن‪ ،‬وسحبوهن إلى الغرف‪ ،‬صرخت حين قبضت يد ِ‬
‫الم َ‬ ‫ّ‬ ‫والصراخ‪ ،‬ولكن الجنود كانوا أقوى‬ ‫ُّ‬ ‫إلى غرفة‪ ،‬انتفضن وحاولن الهرب‬
‫بقوة وسحبني‪ ،‬وعبر بي باب الغرفة‪ ،‬لم تنفع ُمقاومتي له‪ ،‬خدشت بعض جسده‪ ،‬ولكنّه كان يُقطع عني‬ ‫ّ‬ ‫على يدي‪ ،‬ولكنّه لطمني‬
‫غل بين ساقي‪ ،‬فانتفضت‪ ،‬وظل يصعد وينزل فوق جسدي‪ ،‬ويُصدر‬ ‫الثّياب‪ ،‬ويرميها جانبًا‪ ،‬ويكتم صوتي المخنوق‪ ،‬وحين ُأنهكت فقد تَو ّ‬
‫الظالم‪ ،‬ولم أنتبه إال في صباح يوم‬‫تعبًا‪ ،‬لم أعد ُأبصر من حولي سوى ّ‬ ‫حادا‪ ،‬لم يسمع ساعتها توسالتي‪ ،‬بل واصل حتى َخ ّ َر ِ‬ ‫ً‬ ‫زعيقًا‬
‫‪.‬ثان‬

‫ساقي‪ ،‬أبصرت المشهد‬ ‫ّ‬ ‫جاف على‬


‫ٍ‬ ‫دم‬
‫المتورم‪ ،‬وآثار أصابعه عليه‪ ،‬وبقايا ٍ‬
‫ِّ‬ ‫ست جسدي‬ ‫تحس ُ‬
‫ّ‬ ‫ومستلقية على فراش قديم‪،‬‬ ‫كنت عارية ُ‬
‫التفت من حولي فتراءت لي ِمزق ثيابي‪ ،‬لم أغادر مكاني حتى نهاية اليوم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫والسير‪،‬‬ ‫الوقوف‬ ‫أستطع‬ ‫لم‬ ‫بالبكاء‪،‬‬ ‫واختنقت‬ ‫مفزوعة‪،‬‬
‫أحدا لم يجبني‪ ،‬فعدت إلى مكاني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫البنات‪،‬‬ ‫بأسماء‬ ‫صرخت‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫قف‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫كان‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫الباب‪،‬‬ ‫تجاه‬ ‫خطوت‬ ‫نفسي‪،‬‬ ‫على‬ ‫تحاملت‬
‫الطعام واقترب‬
‫الضخم‪ ،‬ينظر تجاهي ويضحك‪ ،‬كان يحمل ُص ّرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وواصلت بكائي حتى أظلمت‪ ،‬سمعت اهتزاز الباب‪ ،‬ثم أنتَ َصب بجسده‬
‫كل ليلة‪،‬‬
‫يأخدني ّ‬
‫ُ‬ ‫زوار‬ ‫ِ‬
‫والم َ‬ ‫ومر أسبوع‬
‫ّ‬ ‫ليقاسمني األكل فرفضت‪ ،‬انتحى مكانًا وأكل‪ ،‬ثم قفز تجاهي‪ ،‬وأعاد امتطائي بالطريقة نفسها‪،‬‬
‫ساخرا مني‪ :‬ستأكلين حين تجوعين‪ ،‬ال تتحمل القطط جوعها‪ .‬وفعل ًا كان على حق‪ ،‬لم أستطع احتمال الجوع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الطعام‬
‫ويترك ّ‬
‫‪.‬فانقض ْضت على بقية طعامه‬ ‫َ‬

‫زوار إلى آالف من الحيوات كي تقتله‬ ‫لو كنت معي يا ّسل ّاوي‪ ،‬وتتبعت تفاصيل ما حدث فإنك ستَقتُله أكثر من مرة‪ ،‬يحتاج ِ‬
‫الم َ‬
‫تظل تركض وتستمتع‬‫ُّ‬ ‫ار آخر‪ .‬كنت أجتهد أن تدرك فقط أنني أريد حياتك‪ ،‬بينما‬ ‫فيها‪ ،‬ولن يتغيّر شيء‪ ،‬ما إن يموت حتى يظهر ِم َ‬
‫زو ٌ‬
‫‪.‬بركضك‪ ،‬والذين في إثرك يُريدون موتك‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫الرابع‬
‫القسم ّ‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬ديبون‬

‫‪.‬يوميات مراسل لحملة ‪ :1830‬نشرت في «لو سيمافور دو مرساي» بتصرف‬

‫‪ ‬‬

‫األسبوع الثّاني من جوان‬

‫السهل أسفلها خاليًا من‬ ‫تبدت لي القلعة من سطح لوناجور‪ ،‬صغيرة ينحدر ّ‬ ‫َّ‬ ‫الدماء عند نزولنا‪ ،‬حين‬
‫كانت كل أمنياتي أال تُسفك ّ‬
‫قدمنا‪ ،‬حركة ُمفاجئة على سطحها‪،‬‬ ‫السفينة التي تَتَ ّ‬
‫البشر‪ .‬ثم يتراءون لي‪ ،‬خيَّالة يركضون بسرعة جنونية وهم يَترقبوننا‪ ،‬مثلما أرى ّ‬
‫تمض إال لحظات قليلة حتى برزت لوناجور وسبقت البروفانس‪ .‬واآلن ُأبصر المدى من ُم ِ ّ‬
‫قدمة‬ ‫ٍ‬ ‫تقدمهم‪ .‬لم‬
‫لوح لنا أن ن َ ّ َ‬
‫وبحار ي ُ ّ‬
‫ّ‬
‫تقدمنا أكثر نحو الخليج‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يحضهم على تجهيز مدافعهم بعد شحنها‪ .‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫ارته‪،‬‬ ‫بح‬
‫ّ‬ ‫بين‬ ‫سريعة‬ ‫بحركة‬ ‫القبطان‬ ‫أمامي‬ ‫ينتقل‬ ‫القافلة‪،‬‬
‫الربوة التي برزوا منها‪،‬‬ ‫نحن‪ .‬رأيت الغبار يتطاير من اليابسة‪ ،‬يتفرق على إثره الخيّالة‪ ،‬عائدين إلى ّ‬ ‫وارتفعت القذائف في شكل ُم ٍ‬
‫الصغيرة ثم يقول‪ :‬إنهم لم يتوقعوا أن نباغتهم من هذه الجِ هة‪ ،‬حتى‬ ‫وكُل ّما تطاير الغبار يُقَهقه إلى جانبي كافيار‪ ،‬ويشير إلى القلعة ّ‬
‫لتصدنا‬
‫ّ‬ ‫زودوها بمدافع ِكفاية‬‫وري شيكا لم ي ُ ِّ‬ ‫‪.‬ط ِ‬
‫ُ‬
‫السفينة‪ .‬بينما كانت لوناجور تتقدم وتخمد معها ضربات‬ ‫ي ضئيل لمدافع لم تبلغ قذائفها ّ‬ ‫دو ٌ‬
‫إلي ّ‬
‫َّ‬ ‫فعل ًا كان كافيار ُمحقًا‪ ،‬إذ تناهى‬
‫وأكياسهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫بنادقهم‬ ‫ون‬ ‫ِ‬
‫عد‬
‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫فوف‪،‬‬ ‫الص‬
‫ّ‬ ‫لون‬‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ش‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫كانوا‬ ‫فن‪،‬‬ ‫الس‬
‫ُّ‬ ‫سطح‬ ‫على‬ ‫الحركة‬ ‫ازدادت‬ ‫‪.‬‬ ‫شيًئا‬ ‫رسل‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫القلعة‬ ‫طوري شيكا‪ ،‬ثم لم تعد‬
‫السفن‪ ،‬تنزل إلى المياه‪ ،‬وتقترب‬ ‫ستعدون لنزول القوارب‪ ،‬وقد بقي بيننا وبين الخليج مساف ٌة ضئيلةٌ‪ ،‬كانت القوارب تتناثر من على ُّ‬ ‫ّ‬ ‫يَ‬
‫جدف بنا البحاران‪ ،‬وما إن وصلنا حتى تنهد إلى جانبي‪ ،‬ثم بسط يديه‬ ‫َّ‬ ‫قفزت إلى أحدها يُرافقني كافيار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حتى تُالمس اليابسة‪.‬‬
‫أخيرا جاء اليوم الذي رجوتُه طويل ًا‬
‫ً‬ ‫‪.‬وصاح‪:‬‬

‫التفت حولي إلى منظر القوارب الكثيرة‪ .‬هذا هو النّهر الذي تكل ّم عنه كافيار طويل ًا‪ .‬اآلن فقط سينهمر على الخليج‪ ،‬ولن تمضي إال‬ ‫ُّ‬
‫طو قها‪ .‬اقتربت قوارب مختلفة من الخليج‪ ،‬ونزل الجنرال بورمون من أحدها‪ ،‬وإلى‬ ‫أيام قليلة حتى ينهمر على مدينة الجزائر فيُ ّ‬
‫جانبه ُم ساعدوه‪ ،‬وقفوا يقابلون المكان من هناك‪ .‬ساعة أخرى ظلت القوارب تحمل المدافع‪ ،‬وتقترب بها‪ ،‬يجتمع حولها الجنود‬
‫ضطر النتظارها‪ِ .‬سرنا مسافة قصيرة‬
‫دائما عن البقيّة‪ ،‬ون ُ َ‬
‫ً‬ ‫لكن ُسفن المؤونة والخيول لم تصل في ذلك اليوم‪ ،‬كانت تتأخر‬ ‫ّ‬ ‫إلنزالها‪،‬‬
‫حدق‬
‫َّ‬ ‫صد ٍق أنه عاد‪.‬‬
‫السهل وكأنه غير ُم ّ‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫يتأم‬
‫ّ‬ ‫كافيار‬ ‫وقف‬ ‫‪.‬‬ ‫بوصولنا‬ ‫لم‬ ‫ِ‬
‫ع‬ ‫على‬ ‫يكونوا‬ ‫لم‬ ‫أنهم‬ ‫ستوعب‬
‫ٍ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫غير‬ ‫وكنت‬ ‫هل‪،‬‬ ‫الس‬
‫داخل ّ‬
‫المنتصر‪ ،‬وقال‬
‫الصامتة ثم نظر تجاهي نظرة ُ‬ ‫‪:‬في القلعة ّ‬

‫‪.‬لم يبق الكثير يا ديبون كي ترى المجد الذي ضيّعه أصدقاؤك اإلنجليز‪ .‬ولم يُسعف نابليون الوقت كي يُح ّققه ‪-‬‬

‫‪.‬أفضل انتصار حقّقه اإلنجليز بعد تحريرهم العبيد هو قضاؤهم على ذلك المجنون ‪-‬‬

‫أيضا عن هؤالء البَرابِرة ‪-‬‬


‫ً‬ ‫تتحول بعد أيام إلى ُمدافع‬
‫ّ‬ ‫‪.‬أخشى أن‬
‫قدرون ‪-‬‬ ‫محتاجا إلى أناس يُ ّ‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫يظل العالم‬ ‫إذا كان الجميع ينظر إلى الحملة مثلما تنظر إليها‪ ،‬فعليك أن تَتَوقّع أكثر من ذلك منّي‪.‬‬
‫ِ‬
‫الرب عليهم‪ .‬ويتمنون نشر كَلمته في العالم‬‫‪ِ .‬ن َعم ّ‬
‫السير شرقًا إلى الفاتيكان ‪-‬‬
‫‪.‬ال وجود لألوهام التي تحمل ُها في رأسك بهذا المكان‪ ،‬كان أجدى لك ّ‬
‫حق‪ ،‬كنت أحمل العديد من األوهام في رأسي‪ ،‬ولكنّها لم تَتَناقض مع الحقيقة في شيء‪ .‬أحيانًا تُصبح الحقيقة‬ ‫ربما كان كافيار على ٍ‬
‫يوم ا في أورشليم بكلمته‪ ،‬فحاصره اليهود واتهموه بأنه يتوهم‪ ،‬وبعد أن كان ُمرسل ًا لخراف بني‬
‫ً‬ ‫المسيح‬ ‫صرخ‬ ‫وهما‪ ،‬والوهم حقيقة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪.‬إسرائيل‪ ،‬أضحت كل األمم تعتنق أفكاره ‪ .‬ال تبدأ الحقائق الكبيرة إال باتهامات على أنها أوهام‬

‫قدموا التحية للقائد‬


‫ربعات وصفوفًا متعددة‪ ،‬ويحشون بنادقهم‪ ،‬ثم ّ‬
‫ٍ‬ ‫ساعات أخرى كان الجنود يحل ّون بخليج سيدي فرج‪ ،‬يُش ِك ّلون ُم‬
‫ٌ‬
‫ووضعوها أمامهم‪ ،‬ونادى عليهم ُضبَّاطهم بالشروع‬
‫ُ‬ ‫المدافع‬ ‫سحبوا‬ ‫بُ ورمون‪ .‬وبدأوا في التقدم إلى القلعة‪ ،‬وتعسكروا على مسافة منها‪،‬‬
‫‪.‬في حفر الخنادق‪ ،‬بعد نصبهم الخيام غرب الخليج‬

‫عدلون أمكنتهم يعودون إلى ُمربعاتهم‪ ،‬وإلى ُصفوفهم‬ ‫الصفوف‪ ،‬كان الجنود يهتفون ويُ ِ ّ‬ ‫الضجة من بداية ُّ‬ ‫في اليوم الثّاني لنُزولنا‪ ،‬تعالت ّ‬
‫الش رقية‪ ،‬لم يكونوا كثيرين‪ ،‬يقتربون مسافة رمي بنادقهم بسرعة جنونية‪،‬‬ ‫الربوة ّ‬
‫الممتدة‪ ،‬وينتظرون اقتراب الخيالة القادمين من خلف ّ‬
‫الرمي كان لديهم أبعد‪ ،‬ولكن‬ ‫ويصوبون تجاهنا‪ ،‬صحيح أن مجال ّ‬ ‫ِّ‬ ‫مسك األيدي البنادق‪،‬‬ ‫سبق البقية وتُسرع تجاهنا‪ ،‬ثم تُ ِ‬ ‫كوكب ٌة منهم تَ ُ‬
‫قطعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫بحصانه‬ ‫يتطاير‬ ‫الفارس‬ ‫تجعل‬ ‫واحدة‬ ‫قذيفة‬ ‫بالغرض‪،‬‬ ‫تفي‬ ‫مدافعنا‬ ‫كانت‬ ‫بينما‬ ‫‪.‬‬ ‫بهم‬ ‫ا‬ ‫أثر‬
‫ً‬ ‫يحدث‬ ‫ال‬ ‫جنودنا‬ ‫يبلغ‬ ‫الرصاص حين‬ ‫ّ‬
‫رد ًدا‪ :‬ما الذي أتى بك إلى هنا يا ديبون‪ ،‬وقلبك ال يحتمل رؤية الموت؟! فأعود‬ ‫ُ َ‬‫م‬ ‫قربي‬ ‫الواقف‬ ‫كافيار‬ ‫ويضحك‬ ‫ببصري‪،‬‬ ‫أشيح‬
‫الرسامين الذين قدموا مع الحملة‪ ،‬يقتربون من‬ ‫الخي َّالة الذين يستمرون في تكرار المشاهد‪ ،‬ولكنني عجبت أكثر لهؤالء ّ‬ ‫َ‬ ‫بِبصري إلى‬
‫لوحات‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫حول في المساء إلى‬ ‫ٌ‬
‫أشكال ّأولي ٌة تَتَ ّ‬ ‫اهتماما بهؤالء الخيّالة‪،‬‬
‫ً‬ ‫الرمي‪ ،‬ترى وجوههم تنتقل بين الجنود الفرنسيين‪ ،‬وأكثر‬ ‫مكان َّ‬
‫أن هناك من يُغامر من أجل لوحة يُخلِ ّد بها مشاهد للقتل‬ ‫المتباينة على وجوههم‪ ،‬واستغربت ّ‬ ‫‪.‬اجتهدوا في نقل التفاصيل ُ‬
‫فر بقي ّة الخيالة‪ ،‬بعد موت الكثير منهم‪ ،‬وتقدم الجيش مسافة إلى األمام‪ ،‬ولم ننتبه إلى من بقي في‬ ‫وقت قصير حتى ّ‬ ‫ٌ‬ ‫لم يمض إال‬
‫انفجرت باألرض وقتلت بعض ُجنودنا‪ ،‬وواحدة سقطت قُرب المكان الذي اجتمع به‬ ‫ْ‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫قذائف‬ ‫منها‬ ‫تراءت‬ ‫إذ‬ ‫بوة‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫أعلى‬ ‫القلعة‬
‫مبال بشيء‪ ،‬وحين انجلت سحابة الغُبار برز القائد هناك‪ ،‬ولم ي ُ َصب بمكروه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫القائد بُورمون بضباطه فأسرع تجاهها وبقي كافيار غير‬
‫ربما كان ذلك اليوم مختلفًا بالنسبة لي‪ ،‬إذ استطعت أن أكون إلى جانبه في جزء من مسيرته‪ ،‬كانت المدافع آنذاك قد وجهت إلى‬
‫ترد‪ ،‬فزحفت كتيبة إليها‪ ،‬ثم رأينا الجنود يُثبِّتون العلم األبيض أعالها‪ ،‬ولم يجدوا أي جندي‬ ‫ّ‬ ‫القلعة‪ ،‬وضربت نحوها طلقات ولكنّها لم‬
‫وري ِشيكا مرك ًزا لقيادة الحملة‪ .‬وصعدت‬ ‫جعل ُط ِ‬
‫َ‬ ‫الربوة‪ ،‬ألتزمت جانب القائد حين قرر‬ ‫الضباط في إثرهم‪ ،‬وتسلقوا ّ‬ ‫تركي بها‪ .‬سار ُّ‬
‫توجهت شرقًا كي تحاصر المدينة من البحر‬ ‫ّ‬ ‫التي‬ ‫فن‬ ‫الس‬
‫ُّ‬ ‫إال‬ ‫لي‬ ‫يبد‬ ‫لم‬ ‫طح‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫ولكن‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫من‬ ‫المدينة‬ ‫ألرى‬ ‫‪.‬أدراجها‬

‫‪ ‬‬

‫األسبوع الثّالث من جوان‬

‫توعلنا مسافة داخل‬ ‫َ‬ ‫عدل ُون صفوفهم‪ ،‬حينها كنا قد‬ ‫نظفون بنادقهم‪ ،‬وآخرون ي ُ ِ ّ‬ ‫ألربعة أيام لم يتغير شيء‪ ،‬الجنود يحفرون الخنادق‪ ،‬وي ُ ِ ّ‬
‫الموصل‬
‫ُ‬ ‫رب‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫تعديل‬ ‫آخرون‬ ‫ل‬ ‫وواص‬
‫َ‬ ‫للمدافع‪،‬‬ ‫مناسبة‬ ‫أمكنة‬ ‫الجنود‬ ‫اختار‬ ‫هاجمنا منه الخيّالة العرب‪.‬‬‫َ‬ ‫السهل‪ ،‬وبلغنا المكان الذي‬
‫ّ‬
‫الضباط ويتّ َبعون تعليماته التي تتعلق بالطرقات حرفيًا‪ ،‬كان يتقدم‬ ‫بين ذلك المكان وبين طوري شيكا‪ ،‬تكفّ َل كافيار بتوجيههم‪ ،‬يحترمه ُّ‬
‫الروابي‪ ،‬ثم يعود‪ ،‬كأنه يُؤكد للجميع مدى درايته باألرض‬ ‫مسافة حتى يكاد يغيب عن أعيننا‪ ،‬وأحيانًا يختفي عنا ساعة أو أكثر خلف ّ‬
‫بسط الخرائط أمامه‪ ،‬وال يرضى أن يُقاسمنا أحد الخيمة‪ ،‬ويزيد عجبي من كثرة الخرائط التي‬ ‫والطرقات وتفاصيلها‪ ،‬يَرك ُن إلى خيمته‪ ،‬ي َ ُ‬
‫وخ ّصص الهوامش لألعشاب والحيوانات التي تكثر به‪،‬‬ ‫دون بها تضاريسه‪َ ،‬‬ ‫كانت تحويها الخيمة‪ ،‬كل مكان ُخ ِّصص له ك ُّراسة صغيرة ّ َ‬
‫الطرقات‪ ،‬أسماؤهم ُمدونة في دفاتره‪ ،‬وحتّى عدد أوالدهم وخيولهم وبنادقهم‪ .‬أتساءل‪ :‬من كان‬ ‫والقبائل التي تعيش على أطراف ّ‬
‫أرض يُف ِتّش َخباياها؟! أم جغرافيًا يمسح َسطحها‪ ،‬أم باحث ًا في اإلثنيات يُ ِّ‬
‫قدم‬ ‫كافيار؟ أكان صياد رنكة أستعبد في الجزائر؟! أم عالم ٍ‬
‫مما‬
‫الرجال الذين رعاهم نابليون أخطر ّ‬ ‫حرب ي ُ ِع ُّد ُخطط الغزو؟! ربما كان كافيار أكثر مما وصفت‪ّ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫شجرة أجداد العرب؟! أم َر ُجل‬
‫سكرون هنا‬
‫ُ‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫سي‬ ‫أنهم‬ ‫بد‬ ‫ال‬ ‫‪:‬‬ ‫يتكلم‬ ‫ثم‬ ‫الخريطة‪،‬‬ ‫على‬ ‫أصبعه‬ ‫كافيار‬ ‫يضع‬ ‫‪.‬‬ ‫كالمه‬ ‫إلى‬ ‫ألتفت‬ ‫لم‬ ‫أنني‬ ‫تصورت‪ ،‬قالها لي القبطان غير‬
‫بعيدا عن ُمعسكرهم‪ ،‬ثم غادرنا الخيمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حب أصبعه إلى مكان ليس‬ ‫وس َ‬
‫في سطاوالي‪ ،‬وينبغي مواجهتهم في هذا المكان قبلها‪َ .‬‬
‫‪.‬وافترقنا عند بابها‪ .‬سار هو في اتجاه الجنود واخترت طريق ُطوري ِشيكا‬

‫الدخول فُأذن لي‪ ،‬كان بورمون ُمنهمك ًا مع الخريطة المبسوطة‬


‫الربوة ثم كنت عند باب القلعة‪ ،‬تجاوزت الباب‪ ،‬وطلبت إذن ّ‬
‫تسل ّقت ّ‬
‫‪:‬أمامه‪ ،‬لفّ َها ووضعها جانبًا وكلمني‬

‫أهل ًا بصديقنا ديبون‪ ،‬هل تسير أمور التدوين بشكل حسن؟ ‪-‬‬

‫هي على ما يُرام‪ ،‬هناك أشياء أخرى تشغلني؟ ‪-‬‬

‫أتتعلق بالحملة؟ ‪-‬‬

‫بحرب ُأخرى في أوروبا؟ ‪-‬‬


‫ٍ‬ ‫ال‪ ،‬بل‬

‫‪:‬صمت القائد مليًّا ثم قال‬


‫هذه الحكايات ال يُرددها إال بعض ضبّاط البحرية‪ ،‬يتكلمون عن واترلو وال عالقة لهم بها‪ ،‬كان عليهم أن يَ ِ‬
‫نشغل ُوا بخيباتهم في ‪-‬‬
‫‪.‬البحر‬

‫‪.‬نعم‪ ،‬هذا ما سمعته ونحن نعبر المتوسط ‪-‬‬

‫ف في كل شيء ‪-‬‬
‫بتطر ٍ‬
‫ُّ‬ ‫يتصرف‬
‫ّ‬ ‫عبدا لها‪ ،‬وأصبح‬
‫ً‬ ‫عظيما‪ ،‬ولكن أحالمه تجاوزته حتى صار‬
‫ً‬ ‫قائدا‬
‫ً‬ ‫‪.‬نابليون كان‬

‫البحارة‪ ،‬في الغاية من مسيرنا إلى إفريقية ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫دوما‪ ،‬وأنا أجادل‬
‫ً‬ ‫‪.‬فعل ًا يا سيدي هذا ما آمنت به‬

‫أجر أوالدي إلى الحرب‪ .‬ي َ َرون ‪-‬‬


‫ُّ‬ ‫طمِئنّوا لي حتى وأنا‬ ‫رفضون تنصيبي على رأس الحملة‪ ،‬ولم ي َ َ‬ ‫ُّ‬
‫ستظل تُتعب نفسك بمجادلتهم‪ .‬هم ي َ ُ‬
‫العثمانيين‬
‫ُ‬ ‫ضطهدهم‬ ‫م‬ ‫ضد‬
‫ّ ُ‬ ‫العرب‬ ‫لهؤالء‬ ‫ُور‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ية‬ ‫ر‬ ‫الح‬
‫ُ ّ‬ ‫نحمل‬ ‫نحن‬ ‫‪.‬‬ ‫عصرين‬ ‫بين‬ ‫تحول‬ ‫نقطة‬ ‫وأراها‬ ‫للمال‪،‬‬ ‫ا‬ ‫مصدر‬
‫ً‬ ‫‪.‬الحملة‬

‫ودعتُه‬
‫وبد َدت التشويش الذي أحدثه كافيار فيه‪ّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫كانت الجملة األخيرة التي همس بها القائد خاتمة لكل األفكار التي طافَت برأسي‪،‬‬
‫شيطان‪ ،‬يعرف كيف يحدث التشويش في رأسي‬ ‫ٍ‬ ‫‪.‬ذلك اليوم والتحقت بكافيار قلبي ُمعبأ بال ِثّقة‪ ،‬ولكن كافيار‪ ،‬كان مثل‬

‫وزع أوامره وتفاصيل‬


‫ار الثّاني بينهم ي ُ ّ‬
‫وس َ‬
‫كأنه كان اتفاقًا ُمبيتًا بين متناقضين‪ ،‬بُورمون وكافيار‪ ،‬نادى األول الجنود كي يبدؤوا ال ّزحف‪َ .‬‬
‫عن مسيرهم‪ .‬ولم أرهما يلتقيان إال في المساء‪ ،‬حين ك ُنا نُشرف على ُمعسكر سطاوالي‪ .‬أغلب الجيش كان قد انتقل إلى المكان‬
‫ومعسكر األتراك مسافة‪،‬‬ ‫الذي اختاره كافيار‪ ،‬ثم جاءت أوامر بُورمون ُمؤكدة على ضرورة المسير إلى هناك‪ ،‬حيث تركنا بين ُمعسكرنا ُ‬
‫السابقة‪ ،‬الخط الممتد الذي يصل‬ ‫تتقدمهم‪ ،‬ومن ثم يُعودون إلى تشكيالتهم ّ‬‫َّ‬ ‫لم تتوقف حركة الجنود‪ ،‬وهم يسحبون المدافع حتى‬
‫والمربعات التي ُش ِك ّلت خلفهم‪ .‬كان بعض األعراب يَحلُّون بالمعسكر‪ ،‬يَسحبهم كافيار إلى خيمته زمنًا ثم يُغادرون‪ .‬عندما‬ ‫ُ‬ ‫الربوتين‪،‬‬
‫ّ‬
‫‪:‬أظلمت قاسمتُه الخيمة‪ ،‬وسألته‬

‫أيضا؟ ‪-‬‬
‫ً‬ ‫هل استطعت أن تُج ِن ّد من بينهم جواسيس‬

‫والمور ‪-‬‬
‫ُ‬ ‫ذكاء من األتراك‬
‫ً‬ ‫‪.‬هؤالء الذين رأيتهم ال يُعتبرون أنفسهم جواسيس‪ ،‬إنهم يَشتَرون حياتهم‪ ،‬وأموالهم وحيواناتهم‪ ،‬هم أكثر‬

‫العثمانيين؟ ‪-‬‬
‫جرب حتى مفاوضة ُ‬
‫ولكننا لم ن ُ ِ ّ‬
‫ثالث ونحن نُحاول معهم‪ ،‬ولكن باشاهم يرفض االعتذار ‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫سنوات‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬منذ‬

‫الشروط كانت ُمخزية في ح ِقّه؟ ‪-‬‬ ‫ُّ‬


‫تظن أن ُّ‬ ‫أال‬

‫بد لنا من احتاللها منذ زمن ‪-‬‬


‫كثيرا‪ ،‬هذه المدينة كان ال ّ‬
‫ً‬ ‫‪.‬استحق أكثر من ذلك‪ ،‬ولكننا صبرنا‬

‫شوشة في أذهان العديد‪ ،‬ال تست ِق ُّر عند مفهوم واحد‪ ،‬كل شخص يفكر بها بطريقته‪ ،‬حتى أولئك‬ ‫الحملة فكرة ُم ّ‬ ‫َ‬ ‫لم يُخطئ بورمون‪ ،‬تبدو‬
‫أيضا أكثر من خمسة وثالثين ألف فكرة عن‬ ‫ً‬ ‫السهل‪ ،‬أكثر من خمسة وثالثين ألفًا‪ ،‬صارت تعني لي‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫انتشروا‬ ‫الجنود الذي‬
‫قلت بصري إلى خيمة كافيار‪ ،‬كانت‬ ‫عائدا إلى خيمتي‪ ،‬راقبت من خصاصها حركة الجنود والضباط‪ ،‬ثم ن َ ُ‬ ‫ً‬ ‫الحملة‪ .‬غادرت خيمة كافيار‬
‫هممت بالسير إليه‪ ،‬ثم عدلت عن رأيي‪ ،‬جالت بخاطري أفكار عديدة‪ ،‬تُشك ّك في معنى قُدومي‬ ‫ُ‬ ‫يتبدى خياله يتحرك داخلها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُمضاءة‪،‬‬
‫دون بها تفاصيل عن رحلته‪ ،‬كان‬ ‫بقصاصات ُأ ّ‬
‫ٍ‬ ‫ع َدني أن ي َ ُم َّدني‬
‫دوما معي‪ ،‬مثل ًا َو َ‬ ‫ً‬ ‫واضحا‬
‫ً‬ ‫إلى هذه الحملة‪ ،‬بالرغم من أن القائد كان‬
‫تحم ًسا أكثر من إخوته اآلخرين‪ ،‬يطلب أن‬ ‫المشتركة للحملة‪ ،‬وتفاؤلي بنتائجها‪ ،‬يَعتبرني مثل ابنه األوسط أميدي‪ ،‬كان ُم ّ‬ ‫غتبطا برؤيتنا ُ‬
‫ُم ً‬
‫دوما أن يصنع كل واح ٍد‬
‫ً‬ ‫أحب‬
‫َّ‬ ‫شيء‪،‬‬ ‫في‬ ‫ل‬ ‫ليتدخ‬
‫ّ‬ ‫بورمون‬ ‫يكن‬ ‫ولم‬ ‫به‪،‬‬ ‫القائد‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫لتع‬ ‫رونه‪،‬‬ ‫ؤخ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫أحيا‬ ‫ولكنهم‬ ‫الجيش‪،‬‬ ‫مقدمة‬ ‫في‬ ‫يكون‬
‫من أبنائه َمجده‪ ،‬دون الل ّجوء إليه‪ ،‬وربما كان يراني مثل أحد أبنائه‪ ،‬وظل يُعاملني بحميميةٍ مثلهم‪ ،‬ولكنني أضطرب كلما تذكرت‬
‫الجدران وأنا غير‬
‫ُ‬ ‫الصالبة داخلي‪ ،‬وكنت أرفض بناء‬ ‫جدار من ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الدم الذي ساح في األيام الماضية‪ .‬كان ال بد لي من بناء‬ ‫مقدار ّ‬
‫والسالح مع الكلمة‪ ،‬والمحبّة مع الكراهية‬ ‫ِّ‬ ‫الدم‪،‬‬
‫الرب إفريقية‪ .‬يتناقض الن ُّور مع لون ّ‬ ‫ّ‬ ‫ور‬‫ُ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫تسيل‬ ‫واحدة‬ ‫دم‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫بقطر‬ ‫قتنع‬ ‫‪.‬م‬
‫ُ‬
‫جزءا‬
‫ً‬ ‫الرمي‬
‫صوب بوضوح‪ ،‬بعد أن انزاح تراءى الجيشان‪ ،‬واستمر ّ‬ ‫حل ضباب كثيف فلم تستطع المدفعية أن ُت ّ‬ ‫َّ‬ ‫في صباح اليوم التالي‪،‬‬
‫شككت بانتصارنا وأنا‬
‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫األعراب‬ ‫أولئك‬ ‫بها‬ ‫قاتل‬ ‫التي‬ ‫راسة‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫وهالتني‬ ‫ؤية‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫مجال‬ ‫من‬ ‫اقتربت‬ ‫الجيشان‪،‬‬ ‫اشتبك‬ ‫الصباح‪ ،‬ثم‬
‫من ّ‬
‫خطة الهجوم‪ ،‬طلب‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وعد‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫المراقبة‪،‬‬ ‫مكان‬ ‫من‬ ‫لحظتها‬ ‫القائد‬ ‫ل‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ابقة‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫تشكيالتهم‬ ‫إلى‬ ‫وعودتهم‬ ‫جنودنا‪،‬‬ ‫بعض‬ ‫انسحاب‬ ‫أرى‬
‫أحدا منهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يفرون حتى لم نعد نرى‬ ‫يمض إال جزءٌ من النّهار حتى تبعثر جيشهم‪ ،‬وكانوا ِ ّ‬ ‫ِ‬ ‫التركيز أكثر على ميسرة جيش العرب‪ ،‬ولم‬
‫الدماء األرض‪ ،‬وامتزجت بالتراب‪ ،‬ثم أوحلت‪ ،‬ألول مرة أرى‬ ‫لونت ِ ّ‬ ‫مت في إثر الجيش‪ ،‬وسرت في الحقل الخالي من األحياء‪َ ّ ،‬‬ ‫تقد ُ‬‫ّ‬
‫محمدية‪ ،‬أمام الموت يستوي الجميع‪ ،‬امتزجت أشالؤهم‬ ‫ّ‬ ‫أدر إن كانت دماء مسيحية أو‬ ‫الدماء‪ُ ،‬طفت بقدمي فوقه ولم ِ‬ ‫وحل ًا من ِ ّ‬
‫الع ِفنة‪ .‬أشحت بوجهي إلى جهة‬ ‫الرائحة َ‬ ‫واحدا‪ ،‬تفوح منها ّ‬ ‫ً‬ ‫دما‬
‫الدماء حتى صارت ً‬ ‫أرجل وأي ٍد منهم ومنّا‪ ،‬وتخثرت ِ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وتكومت‬
‫ّ‬ ‫بأشالئنا‪،‬‬
‫السهل‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ر‬
‫َُ‬ ‫ت‬ ‫لم‬ ‫ّه‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫وروح‬ ‫‪.‬‬ ‫حولي‬ ‫من‬ ‫المنثورة‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫األجسا‬ ‫منظر‬ ‫من‬ ‫أفزع‬ ‫جهة‬ ‫إلى‬ ‫التفت‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وكلما‬ ‫ا‪،‬‬ ‫متكرر‬
‫ً‬ ‫المشهد‬ ‫فرأيت‬
‫ُ‬ ‫ثانية‬
‫الح ّرية‪ ،‬أو البَربرية يا كافيار؟ أراه ُمقبل ًا‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫عر‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫أن‬ ‫اآلن‬ ‫يمكننا‬ ‫كيف‬ ‫األمة؟‬ ‫لهذه‬ ‫به‬ ‫أتينا‬ ‫الذي‬ ‫ُور‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫هو‬ ‫هذا‬ ‫هل‬ ‫غادرته‪،‬‬ ‫بل‬ ‫األحمر‪،‬‬
‫سعيدا بالحقل‪ ،‬يُدير عينيه وينقلها بين األجساد‪ ،‬كأنه ي َ ُع ّد كم خسرنا وكم ربحنا‪ ،‬وحق المسيح قد‬ ‫ً‬ ‫تجاهي‪ ،‬يحمل الخرائط في يده‬
‫أيضا بين يديه‪ .‬يبحث كافيار عن موطئ لقدميه بين الجثث فال يكاد يَجده‬ ‫ً‬ ‫كانوا سواء في موتهم‪ ،‬والعدل الحقيقي أن يكونوا كذلك‬
‫حكته‬
‫ُ‬ ‫مد بصره ويُطلق ِض‬ ‫يقف إلى جانبي‪ ،‬ي ُ ُّ‬ ‫‪:‬بسهولة‪ ،‬ثم ُ‬
‫فخورا بنا‪ ،‬ونحن نُعيد َمجده في أرض إفريقية بعد ‪-‬‬
‫ً‬ ‫يُمكننا اآلن إضافة معركة سطاوالي إلى هيليوبوليس واألهرام‪ ،‬وسيكون نابليون‬
‫‪.‬خسارته في مصر‬

‫الدم‪ .‬قد غادر الل ّه إفريقية وخل ّفها لنابليون ‪-‬‬


‫‪.‬لكم أن تفخروا بِنهر ّ‬

‫الربوة َخلفَه‪ ،‬وإذا بي‬ ‫السهل األحمر‪ ،‬تسلقت ّ‬


‫شيطان يزعق إلى جانبي‪ ،‬فررت منه ومن ّ‬‫ٍ‬ ‫كنت أكثر خيب ًة وأنا أسمع كلماته‪ ،‬مثل‬
‫ومتسعة!‬ ‫ُ‬ ‫وثيرة‬ ‫كانت‬ ‫كم‬ ‫الخيام‪،‬‬ ‫بين‬ ‫كنت‬ ‫ثم‬ ‫إثرهم‪،‬‬ ‫في‬ ‫انحدرت‬ ‫نحوها‪،‬‬ ‫يركضون‬ ‫الجنود‬ ‫أرى خيامهم ما تزال هناك‪ ،‬بدا بعض‬
‫اقتربت من أكبرها‪ ،‬صاح أحد الجنود أنها تخص قائدهم‪ .‬عجبت كيف حمل أولئك القُ ّواد كل تلك األشياء معهم‪ ،‬ثم لماذا يُخلِ ّفونها‬
‫أيضا؟‬
‫ً‬ ‫تركوه وراءهم‪ ،‬فهل يا ترى سيُخ ِل ّفون المدينة‬
‫في فرارهم‪ ،‬أسلحتهم ومدافعهم وحيواناتهم وكل شيء َ‬
‫‪ ‬‬

‫األسبوع األخير من جوان‬

‫الصفوف‪ ،‬ولكنّه َر َضخ واحترم تشكيلة الكتائب‪ ،‬ولم‬‫فالتفت تجاهها‪ ،‬أرى أميدي بينهم‪ ،‬يريد أن يكون في طالئع ّ‬ ‫ُ‬ ‫ترتفع أصوات الجنود‬
‫دوما كافيار‪ .‬منذ‬
‫ً‬ ‫سكرنا به‪ ،‬مثلما يُتوقع‬
‫ع َ‬‫الشرق‪ ،‬اخترنا مكانًا أقرب َ‬
‫عومل مثل الجميع‪ ،‬كنا قد تجاوزنا سطاوالي تجاه ّ‬ ‫يحتج إذ ُ‬
‫الدم‪ ،‬وتستسلم المدينة دون ُمقاومة‪،‬‬‫ّ‬ ‫من‬ ‫مزيد‬ ‫يسيل‬ ‫ال‬ ‫كي‬ ‫نفسي‬ ‫في‬ ‫ّيت‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫المآل‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫إلى‬ ‫بنا‬ ‫سينتهي‬ ‫األمر‬ ‫أن‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫أتخي‬ ‫مسيري لم‬
‫الضمير ما‬‫ّ‬ ‫تأنيب‬ ‫وسيالزمني‬ ‫الحملة‪،‬‬ ‫ركاب‬ ‫في‬ ‫سرت‬ ‫أنني‬ ‫نفسي‬ ‫أسامح‬ ‫لن‬ ‫حينها‬ ‫سطاوالي‪،‬‬ ‫في‬ ‫حدث‬ ‫ما‬ ‫يتكرر‬ ‫أن‬ ‫خشيت‬
‫عاما على المسير مع الحملة؟ أتُراه‬ ‫ً‬ ‫َحييت‪ .‬أراقب أميدي وهو ي ُمازح الجنود‪ ،‬ما الذي يجبر هذا الفتى صاحب الخمسة وعشرين‬
‫شو ًشا‪،‬‬
‫مثل والده بُ ورمون‪ ،‬يحلم بعالم مختلف ام أنه يبحث عن مجده‪ ،‬أو ربما هو نموذج عن كافيار؟ كم صار العالم من حولي ُم ّ‬
‫الدمار لها‬
‫‪.‬وأضحى التنفس شاقًا في إفريقية‪ ،‬ما أسوأ أن يكون اكتشافك األول لألمكنة وأنت تحمل ّ‬

‫تأخرا على غير عادتي‪ ،‬وخرجت أتف ّقد الجنود فلم أجدهم‪ ،‬ولم َأر في المعسكر سوى رأسه‪ ،‬وقفت بين الخيام أبحث عن‬ ‫أفقت ُم ً‬‫ُ‬
‫قدرت أن المعركة ستكون بعد أيام ثالثة‪ ،‬بيد أنني‬ ‫ّ‬ ‫هل‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫تحرك‬ ‫الجميع‬ ‫ضباطه‪،‬‬ ‫وبقية‬ ‫ورمون‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫حتى‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫يكن‬ ‫كافيار‪ ،‬لم‬
‫سريعا‪ ،‬وراقبت المعركة من األعلى‪ ،‬كانت‬‫ً‬ ‫المعسكر‬
‫غادرت ُ‬
‫ُ‬ ‫الربوة‪،‬‬
‫فوجئت برحيلهم‪ ،‬وها هي المعركة تبدأ في الجهة األخرى من ّ‬ ‫ُ‬
‫في نهايتها‪ ،‬فعل ًا حدث ما اضطربت من أجله‪ ،‬لقد انه َزمنا يا كافيار‪ ،‬لم تصدق نُبوءاتك‪ ،‬سوف يلتحقون بنا ويعيدون ما حدث في‬
‫الدماء حتى نعجز عن وقفها‪ .‬انحدرت إلى خيمتي‪ ،‬ولم أغادرها إال على‬ ‫سطاوالي‪ ،‬لم أخش الهزيمة بقدر ما خشيت أن تسيل ّ‬
‫دبيب األقدام وفوضى عودة الجنود‪ .‬كانت الهزيمة تتراءى على وجوههم‪ ،‬ال يمكن أن تستهين بعدوك في أرضه‪ ،‬وقد استهانوا بهم‪،‬‬
‫الرصاصة حادت بقليل‬ ‫أن ّ‬ ‫تأملهم في عودتهم إلى خيامهم ُمنك ّسين رؤوسهم‪ ،‬وتحلَّق آخرون‪ ،‬اقتربت منهم‪ ،‬فرأيت جسد أميدي‪ ،‬رغم ّ‬
‫صد ٍق ما يراه أمامه‪ ،‬مال‬
‫عن قلبه إال أنها أنهت حياته‪ .‬مات أميدي ألنّه أصر أن يكون في طليعة المقاتلين‪ .‬كان بورمون غير ُم ّ‬
‫َّ‬
‫وظل إلى جانبه طوال الل ّيل‬ ‫أومأ إليهم بحمله إلى خيمته‪،‬‬
‫السواد‪ ،‬وعجز عن الكالم‪َ ،‬‬ ‫‪.‬وجهه إلى ّ‬
‫هب الجميع كأنهم‬‫َّ‬ ‫إصرارا على المواصلة‪ ،‬نادى الجنود كي يستعدوا لل ّزَحف‪،‬‬
‫ً‬ ‫مالمحه أكثر‬
‫ُ‬ ‫في اليوم الثّاني غادر القائد خيمته‪ ،‬بدت‬
‫ٌ‬
‫رجل واحد‪،‬‬ ‫بأوامر من كافيار‪ ،‬سار الجيش كأنه‬
‫ٍ‬ ‫أعدتها الفرقة التي تقدمتهم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الدروب التي‬
‫يجرون المدافع عبر ّ‬
‫ُّ‬ ‫كانوا ينتظرون إشارته‪،‬‬
‫يفرون ما إن تَتَصدى لهم جنودنا‪ .‬كانوا يعطلون سيرنا‪،‬‬‫ِّ‬ ‫مرة يظهر األعراب من هناك على خيولهم‪ ،‬يهاجموننا من بعيد‪ ،‬ثم‬ ‫كل ّ‬‫وفي ّ‬
‫بالسرعة نفسها‪ .‬لم ي ُواجهونا مثل جيش‪ .‬أربعة أيام من المسير والتوقف‪ ،‬ثم كنا نشاهد حصن‬ ‫ُ‬ ‫يختفون‬ ‫ثم‬ ‫أشباح‪،‬‬ ‫مثل‬ ‫ظهرون‬ ‫يَ‬
‫الربوة‪ .‬قال كافيار لحظتها‪ :‬إنّه آخر الحواجز‬ ‫ّ‬ ‫أعلى‬ ‫من‬ ‫‪.‬اإلمبراطور‬

‫البعض يُريد ضمان حياته وحياة أهله‪ ،‬ثم يرحلون وهم يحملون‬ ‫ُ‬ ‫عسكرنا ليلتها هناك‪ ،‬رأيت مجموع ًة من األعراب يبحثون عن القائد‪،‬‬
‫ردد عليهم‪ :‬لم نأت ُهنا لنقتل النّاس‪ ،‬بل أتينا لنُخ ِل ّصهم‬ ‫ظل ي ُ ّ‬‫وثائق األمان التي يُعطيها لهم بُورمون‪ ،‬رغم استياء بعض ُضبّاطه‪ ،‬لكنه ّ َ‬
‫معنى ال يت ّفق عليه اثنان من المشاركين بها‪ ،‬وطوال اليوم الذي عسكرنا به‪ ،‬كان‬ ‫ً‬ ‫من األتراك ولكنهم ال ي َ ُعون كلماته‪ ،‬تظل الحملة‬
‫الربوات المحيطة بالحصن‪ ،‬وفي لحظة‬ ‫ّ‬ ‫أعلى‬ ‫المدافع‬ ‫منها‬ ‫ب‬ ‫صو‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫التي‬ ‫األمكنة‬ ‫بون‬ ‫ِ‬
‫عدون التحصينات ويحفرون الخنادق‪ ،‬ويُر ّ‬
‫ت‬ ‫الجنود يُ ّ‬
‫عدا‪ ،‬ينتظرون فقط إعالن القائد بداية القصف‬ ‫‪.‬كان كل شيء ُم ّ ً‬

‫الممتدة مثل‬
‫وأسوارها ُ‬
‫ُ‬ ‫غريب انتابني‪ ،‬أن ترى مدينة ألول مرة وتَمتَلِئ بها‪ ،‬عندما تتراءى من أعلى ّ‬
‫الربوة مآذنها البيضاء‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫شعور‬
‫ٌ‬
‫توزعة أعالها‪ ،‬هل يمكن أن تَستَوعب مدينة مثل هذه فكرة عن البَربرية؟ هل يُعقل أن كل ما قاله كافيار‬ ‫الم ِ ّ‬
‫طوق حولها‪ ،‬والقباب ُ‬
‫الدم‬
‫شو ًشا أكثر مما ينبغي‪ ،‬كل ما أرجوه استسالم المدينة دون أن يُراق ّ‬
‫‪.‬كان حقيق ًة؟ يبدو األمر ُم ّ‬
‫من‬ ‫فارا‬
‫الربوة‪ً ّ ،‬‬
‫انحدرت عبر ّ‬
‫ُ‬ ‫دوت في سماء المدينة أول طلقة‪ ،‬حتى‬ ‫أمر بورمون الجنود بالقصف‪ ،‬فأشعلوا فتيل المدافع‪ .‬وما إن ّ‬
‫رجل‬ ‫سور يسقط‪ ،‬أو‬‫ٍ‬ ‫الح طام‪ .‬بالتأكيد لو رآني كافيار سيسخر مني ويقول‪ :‬ما الذي أجبرك على المجيء هنا ثم تفر من ُرؤية‬ ‫ُ‬ ‫منظر‬
‫دماء‬
‫ً‬ ‫جدف به‪ ،‬قد أضحى كله‬ ‫‪.‬يُقتل؟! ولن أجادله! ما يُضيرني هو النّهر الذي تُ ِ ّ‬

‫أيضا لجنودنا‬
‫ً‬ ‫الربوة‬
‫فجره األتراك‪ .‬يتراءى من ّ‬
‫الربوة من جديد‪ ،‬أطالع بقايا حصن اإلمبراطور‪ ،‬بعد أن ّ َ‬ ‫أفيق على نفسي‪ ،‬أعتلي ّ‬
‫عائدا إلى المعسكر‬
‫ً‬ ‫وانحدرت‬ ‫نفسي‬ ‫حملت‬ ‫‪.‬‬ ‫القصبة‬ ‫جهة‬ ‫من‬ ‫المدينة‬ ‫أسوار‬ ‫تجاه‬ ‫مدافعهم‬ ‫صوبون‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬ي‬

‫‪ ‬‬

‫األسبوع األول من جويلية‬


‫المور الثّالثة الذين حمل ُوا شروط استسالم المدينة‪.‬‬ ‫الضبّاط مع قائد الجيش‪ ،‬انزويت في نهايتها‪ ،‬أراقب وجوه ُ‬ ‫ّ‬ ‫خيم ٌة فسيح ٌة تقاسمها‬
‫لرجل أن يحتلَّه بعد الباشا‪ .‬ثم ميمون‬ ‫قدم التركي نفسه على أنه الخزناجي‪ ،‬أهم منصب يمكن ّ‬ ‫تحريت وجوههم‪َ ّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫من مكاني‬
‫قدرت أنه عاش طويل ًا في فرنسا‪ ،‬كان يلبس مثلما‬ ‫المترجم‪ ،‬بدا لي ُمريبًا‪ ،‬يتكلم بسرعة وبفرنسية بليغة ال تعتريها لكنة عربية‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫الموري‪ .‬عيناه الل ّتان‬ ‫المور ‪ .‬ال يُمكن أن تخطى وجه ُ‬ ‫كمستشار للباشا وكان من أعيان ُ‬ ‫قدم ابن ميّار نفسه ُ‬ ‫نلبس نحن األوروبيين‪َ ّ .‬‬
‫كانتا تتحركان بهدوء وهو يُراقب الذين من حوله‪ ،‬بدا وكأنه ال يُوافق على أشياء كثير ٍة تحدث أمامه‪ ،‬أو ربما لم يكن ليثق في‬
‫الضباط بالعربية بنود‬ ‫الرجلين الل ّذين رافقها‪ ،‬األول لكونه تُركيًّا‪ ،‬والثاني لتشبُّهه بنا‪ .‬وقف يُصغي للخزناجي وهو يقرأ على مسامع ّ‬ ‫ّ‬
‫حرك المترجمون العرب الذين قاسمونا الخيمة ُرؤوسهم دالل ّة على الفهم‪ ،‬ولكنهم لم يقتربوا من أجل الترجمة‪ ،‬بل جلسوا‬ ‫المعاهدة‪ّ .‬‬
‫رجل‬‫ُ‬ ‫ُمصغين مثلما كان ابن ميّار يُصغي بانتبا ٍه أكثر لترجمة ميمون للبنود‪ ،‬ولم يكن بها شيء يمكن أن يُرفضه بُورمون‪ .‬لن يُ َم ِ ّرغ‬
‫تقدم من القائد وتكلَّم‪ .‬قلت في نفسي‪ :‬إن رجل ًا‬ ‫َّ‬ ‫ولكن ابن ميّار‬
‫ّ‬ ‫مثله مجد أمته في حرمان النّاس حياتهم وأموالهم ومساجدهم‪.‬‬
‫ترجما‪ ،‬ولكنّه خاطب القائد بفرنسية لم تخل من لكنة‪ ،‬ولكنّها َسلِ َمت من األخطاء‪ ،‬وصحح ترجمة‬ ‫ً‬ ‫أن يطلب ُم‬ ‫المور ال يُمكنه إال ّ‬ ‫من ُ‬
‫الشرخ‬‫ّ‬ ‫أن‬ ‫قدرت‬ ‫‪.‬‬ ‫رحيلهم‬ ‫على‬ ‫فنص‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ترجمته‪،‬‬ ‫في‬ ‫بنفيه‬ ‫ميمون‬ ‫قام‬ ‫بينما‬ ‫المحروسة‪،‬‬ ‫في‬ ‫األتراك‬ ‫بقاء‬ ‫على‬ ‫نص‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫المعاهدة‬ ‫في‬ ‫بن ٍد‬
‫الرجال الثّالثة كان كفيل ًا‪ ،‬ليجعل كُل ًا منهم يفكر بالمدينة بالطريقة التي نختلف بها نحن في ُرؤيتنا للحملة‪ ،‬خمنت أن‬ ‫ّ‬ ‫هؤالء‬ ‫بين‬
‫أسبوعا آخر‪ ،‬وسيرحل في حاشية الباشا‪ ،‬وتنبأت أن ميمونًا ال تنقصه الحيلة‪ ،‬لو أغلق عليه باب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الخزناجي لن يبقى في المدينة‬
‫المور‪ ،‬ماذا يريد حين يطلب بقاء األتراك في المدينة؟ إما أنه رجل ُمخلص‪،‬‬ ‫الرجل من ُ‬ ‫سيطرقها‪ ،‬ولكن هذا ّ‬ ‫ُ‬ ‫فلديه آالف من األبواب‬
‫عثمان أي مصلحةٍ حينها‪ ،‬ولم يبق إال احتمال‬ ‫أو ربما مصالحه ُم رتبطة بوجودهم في المدينة‪ .‬ولكننا لو حكمنا المدينة لن تبقى لبني ُ‬
‫ومؤمنًا بوجودهم في المدينة ليس مثلما أشيع أنهم يضطهدونهم‬ ‫خلصا لهم‪ُ ،‬‬
‫الرجل كان بالفعل ُم ً‬ ‫‪.‬أن هذا ّ‬ ‫ّ‬

‫راقبت رحيلهم‪ ،‬ثم انتبهت إلى عودة المترجم والخزناجي‪ ،‬طلبا مقابلة القائد‪ ،‬لم يَ ُطل ُمكوثهما في خيمته‪ ،‬إذ رفض القائد عرضهما‬
‫‪.‬بأن ي ُ ِ ّ‬
‫قدما له رأس الباشا وخزائن المدينة‪ُ ،‬مقابل العرش‬

‫شتهى ألوروبا كلها‪ .‬حتى نابليون‬ ‫ً‬ ‫لما ُم‬‫الرؤية‪ ،‬أن تسير في الكتيبة التي تعبر بواب ًة من بوابات مدينة ظلت ُح ً‬ ‫ال يمكن إعادة تلك ّ‬
‫الرخامية‪ ،‬أو معقل القراصنة‪،‬‬ ‫الشرق‪ ،‬من َّى نفسه طويل ًا بدخولها‪ .‬المدينة البيضاء‪ ،‬أو ّ‬ ‫إلها‪ ،‬وقاده طموحه إلى أقصى ّ‬ ‫الذي نصب نفسه ً‬
‫السكون‪،‬‬‫ُّ‬ ‫مظاهر‬ ‫غير‬ ‫هناك‬ ‫تكن‬ ‫لم‬ ‫بينها‬ ‫رأسي‬ ‫في‬ ‫تضطرم‬ ‫كانت‬ ‫الكلمات‬ ‫كل‬ ‫‪.‬‬ ‫ستعبدتهم‬ ‫وم‬
‫ُ‬ ‫األوروبيين‬ ‫ضطهدة‬ ‫م‬
‫الدم‪ ،‬أو ُ‬ ‫أو ربوة ّ‬
‫الصخب الذي يحدثه الجنود في دخولهم‪ ،‬وأبواقهم‬ ‫ّ‬ ‫راقبن‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ور‬‫الم‬
‫ُ‬ ‫نساء‬ ‫منها‬ ‫طل‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫مفتوحة‬ ‫نصف‬ ‫نوافذهم‬ ‫سالمون‪،‬‬ ‫م‬
‫ٌ ُ‬ ‫أناس‬ ‫بها‬ ‫مدينة هادئ ٌة‬
‫ومرات يُرفعونها يُراقبوننا كأنهم غير ُمبالين‬ ‫ّ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫حي‬ ‫ؤوسهم‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫ّسون‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫يوتهم‪،‬‬‫ُ‬ ‫ب‬ ‫أبواب‬ ‫عند‬ ‫فيجلسون‬ ‫ور‬ ‫الم‬
‫ُ‬ ‫رجال‬ ‫بعض‬ ‫ا‬ ‫أم‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫وأغانيهم‬
‫عاما‪ .‬يراقب بصري األمكنة‬ ‫ً‬ ‫بدخولنا ‪ .‬تُرى ما الذي يدور في ذهن كافيار في دخوله الثّاني؟ إنها الل ّحظة التي انتظرها أربعة عشر‬
‫من حولي‪ ،‬شوارع ضيقة‪ ،‬سقائف أشد ضيقًا‪ ،‬ووجوه ُمتشابهة ال تكاد تُفرق بينها‪ .‬يستمر الجيش في المسير حتى يبلغ قلب المدينة‪.‬‬
‫يشرعون في العزف والرقص محتفلين بنصرهم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نجتمع مع الفرق التي دخلت المدينة من كل أبوابها‪ ،‬يُشك ّل الجنود حلق ًة ُمتّسعة‪،‬‬
‫كبيرا‪ ،‬وربما أكبر حتى من حجم المدينة‪ .‬لمحت بعضهم‬ ‫ً‬ ‫أما بقية الجنود فيتفرقُون في أزقة المدينة يكتشفونها‪ ،‬كان حجم األساطير‬ ‫ّ‬
‫للم قاتلين األعراب‪ ،‬ثم صعدوا تجاه القصبة‪ ،‬أو هكذا سمعت أحدهم يهتف بالجنود أن‬ ‫ُ‬ ‫يركض‪ ،‬لم يكن هناك أثر للجنود األتراك‪ ،‬وال أثر‬
‫عل ََمنا األبيض‪،‬‬
‫بالعل َم العثماني األخضر َ‬
‫َ‬ ‫الكنوز باألعلى ُمشي ًرا إليها‪ .‬وخطوت أتبعهم‪ ،‬وحين بلغتها رفعت راسي فرأيت الجندي يستبدل‬
‫يسيرا‪ .‬ولكنهم ظلُّوا يركضون ويقتحمون‬ ‫ً‬ ‫الركض؟! يكفيكم هذا المجد‪ ،‬إنّه ليس‬ ‫عل ّق في أعلى المدينة فلم ّ‬ ‫مجد األمة الفرنسية اآلن ُ‬
‫تعج بها‪ .‬أين‬ ‫ّ‬ ‫السقائف‬
‫أبواب القصور‪ ،‬ويحملون ما استطاعوا من ُمقتنيات ثمينة‪ .‬وآخرون نثروا أوراقًا وجدوها بالقصور حتى صارت ّ‬
‫وأومأ لي أن ألتحق به‪ ،‬وبلغنا قصر الباشا‪ .‬لم يكن هناك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لحظات ورأيت موكبه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أنت اآلن يا بورمون كي تُوقف هذه الفوضى؟‬
‫حتى الغرف التي كان بها حريمه ُأخذت مقتنياتها‪ .‬وجعل بورمون قصر الباشا مكانًا للحكم‪ .‬باألسفل كانت البحرية قد انتهت من‬
‫احتالل مباني الميناء‪ ،‬واستقر األميرال دوبيري بها‪ ،‬حانقًا على كل شيء‪ ،‬وانتقل حنقه إلى جنوده الذين عادوا خائبين من القصبة‬
‫المشاة محتويات قصورها‪ ،‬وتركوا لهم سقائف مليئة باألوراق‬ ‫‪.‬بعدما أفرغ ُ‬
‫الراكضين‪ ،‬واألطفال بصرخون في أحضان أمهاتهم‪ ،‬والرجال‬ ‫الشيوخ يفترشون األرض‪ ،‬ينظرون إلى جنودنا ّ‬ ‫أشق شوارع المدينة‪ ،‬أرى ّ‬ ‫ُّ‬
‫نكسوا رؤوسهم‪ .‬أين فرحة المسيح ونوره الذي آمنت به‪ ،‬يوم َرحيلي عن مرسيليا مثل حاج يهدف إلى أورشليم؟ أو مثل حواري‬
‫الرجل يمكنُه إجابتي عن بقية‬ ‫الشوارع باحثًا عن ابن ميّار‪ ،‬وال أجده‪ ،‬ربما ذلك ّ‬ ‫يُغادر المدينة يُخبئ الوصايا تحت ثيابه‪ .‬أذرع ّ‬
‫الرصيف‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫يذرع‬ ‫بكافيار‬ ‫ي‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫وكأ‬ ‫الميناء‪،‬‬ ‫قبالة‬ ‫وقفت‬ ‫‪.‬‬ ‫وأهلها‬ ‫للمدينة‬ ‫غامض‬ ‫تاريخ‬
‫ٍ‬ ‫األسئلة التي كانت ُمعلَّقة بيني وبين كافيار‪ ،‬عن‬
‫دونته هنا‪.‬‬‫الرجوع إلى مرسيليا‪ ،‬لتُعيد َصياغَة ما َّ‬ ‫ّ‬ ‫اآلن‬ ‫عليك‬ ‫الحملة‪،‬‬ ‫انتهت‬ ‫قد‬ ‫ديبون‬ ‫وقف وأبصر تجاهي‪ ،‬وبلغتني كلماته‪ :‬يا‬
‫الصالبة تحتمل‬ ‫الحروب إنها ال تعنيك في شيء‪ ،‬لست من ّ‬ ‫ُ‬ ‫المعا‪ ،‬ودعك من أمر‬ ‫ً‬ ‫نجما‬
‫ً‬ ‫السيمافور‪ ،‬وتصبح‬
‫سيحتفون بك في ّ‬
‫عد إلى بيتك‪ ،‬استمتع بشبابك‪ ،‬ودع كل شي ٍء للقيصر‬ ‫القوية منها‪ُ .‬‬‫ّ‬ ‫العهود بين األمم إال لتخرقها‬‫‪.‬حقيقتها‪ .‬إذ لم تُكتب ُ‬

‫وأكرر خلفه‪ :‬في إفريقية لم تُخ ِل ّفوا شيًئا لله‪ ،‬كل شي ٍء قد آل إلى القيصر‬
‫ِّ‬ ‫الصوت‬
‫‪.‬يغيب ّ‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬كافيار‬

‫‪.‬مختارات من ِ ّ‬
‫الديوان اإلسبرطي‬ ‫ُ‬
‫ُد ِّونت ما بين ‪ 1816‬و‪1830‬‬

‫‪ ‬‬

‫السادسة‬
‫اللوحة ّ‬
‫الريفي‬
‫الموصل إلى البيت ِ ّ‬ ‫الطريق ُ‬‫كابوس محموم قطعت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫السابقة إال القليل‪ ،‬مثل‬ ‫أفيق على غُرفةٍ ُمختلفةٍ ‪ ،‬وال أذكر من بقايا أيامي ّ‬
‫الرحيل عن‬ ‫ّ‬ ‫د‬‫أو‬
‫ّ‬ ‫لم‬ ‫‪.‬‬ ‫تشفى‬ ‫حتى‬ ‫ثالثة‬ ‫ا‬ ‫أيام‬
‫ً‬ ‫تتجاوز‬ ‫لن‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫أعدك‬ ‫‪:‬‬ ‫حدثني‬ ‫السويدي‪ ،‬أستفيق فأراه إلى جانبي‪ ،‬يبتسم ثم ُ‬
‫ي‬ ‫للقُنصل ُّ‬
‫الحمى‪ .‬يعتذر القُنصل ثم يرحل‪ ،‬أغادر سريري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫داهمتني‬ ‫ذلك‬ ‫على‬ ‫أوشكت‬ ‫وحين‬ ‫أكتشفها‪،‬‬ ‫لم‬ ‫أمكنة‬ ‫هناك‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫شعرت‬ ‫المدينة‪،‬‬
‫المرات طالعته بها خالل سنوات‪ ،‬ولكنني لم أنتبه إلى أزهار الل ّوز‪ ،‬يتصاعد‬ ‫ّ‬ ‫وأنظر من نافذة البيت إلى البستان‪ ،‬ال أدري كم من‬
‫الطفل كافيار أن يُغرقها في المتوسط‬ ‫الطفولة‪ ،‬كم شبكة كان على ّ‬ ‫عبقها‪ ،‬فتعود بي إلى أيام ّ‬ ‫شذاها إلى األفق‪ ،‬أمأل صدري من َ‬
‫الدفاتر من‬
‫السنوات وال يتغيّر شيء‪ ،‬تتراكم ّ‬ ‫تمر ّ‬ ‫ُّ‬ ‫علي رسمها؟!‬ ‫َّ‬ ‫مزهوا بالرنكة إلى بيته؟! واآلن كم من خريطة وجب‬ ‫ً‬ ‫حتى يعود‬
‫الماضية‪ ،‬وإلى أين يمكنُها المسير بكافيار وأحالمه‬ ‫َ‬ ‫نوات‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫للتفكير‬ ‫مساحةٍ‬ ‫من‬ ‫لي‬ ‫بد‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫تجاوزني‬‫َ‬ ‫وي‬ ‫َمان‬
‫ز‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫يركض‬ ‫‪.‬حولي‪،‬‬

‫الصور في رأسي‪ ،‬اختار للخرائط مكانًا‪ ،‬وللدفاتر مكانًا آخر‪ ،‬وأقارن بينهما‪ ،‬فتهب المايسترال‬ ‫أتطلَّع إلى البُستان‪ ،‬أحاول عبث ًا ترتيب ُّ‬
‫السرير‪ ،‬وأستلقي عليه‪ُ ،‬أ ِ ّ‬
‫حدق‬ ‫ّ‬ ‫تجاه‬ ‫خطوات‬
‫ٍ‬ ‫وأسير‬ ‫نفسي‬ ‫أحمل‬ ‫‪.‬‬ ‫عافيتي‬ ‫أستعيد‬ ‫حتى‬ ‫االستغراق‬ ‫وتُبعثر كل شيء‪ .‬لم يكن ُمجديًا‬
‫السقف طويل ًا‪ ،‬أبحث عن قوارب جديد ٍة ُس تقلع من سات‪ ،‬أتوق إلى مرافقة أحدها‪ .‬لوال الخوف من رؤية القراصنة األتراك‪ .‬من‬ ‫في ّ‬
‫الصياح‪ ،‬كم تُزعجني‬ ‫أحدا‪ ،‬ثم أرى فتا ًة تركض بين األشجار‪ ،‬وال تتوقف عن ّ‬ ‫ً‬ ‫أبصر‬
‫ُ‬ ‫أطل من النّافذة فال‬ ‫ُّ‬ ‫الصوت‪،‬‬
‫مكاني يَصل ُني ّ‬
‫المور وهم يركضون‬ ‫الصارخة بهذه الل ّغات‪ ،‬تُغا ِد ُر أفواه اليولداش برائحتها الن َ ِتنة وهم يحملون أسواطهم‪ ،‬أو يصرخ بها أطفال ُ‬ ‫األصوات ّ‬
‫بجنون بين األشجار في‬ ‫ٍ‬ ‫الصوت ال يزال يَتعالى‪َ ،‬هممت بنهرها‪ ،‬وخذلني صوتي‪ .‬ثم رأيتها تركض‬ ‫ّ‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬ ‫كريستياني‬ ‫ريستياني‬ ‫خلفنا‪ِ :‬ك‬
‫اتجاه البيت‪َ ،‬ووقفت تحت النّوافذ‪ ،‬راقبتها َملِيًا ثم أسرعت عائد ًة حين سمعت نداء أحدهم‪ ،‬قدرت أنها ابنة بُستاني القُنصل‪ .‬لم‬
‫مبررا من قُنصل أن‬ ‫ً‬ ‫ع ّماله‪ ،‬كان يُعاملهم مثل أصدقاء يُقاسمهم األكل أحيانًا‪ ،‬ولم يكن‬ ‫تصرفه مع ُ‬ ‫ّ‬ ‫كثيرا في طريقة‬ ‫ً‬ ‫أكن ألتّفق معه‬
‫المور واألعراب أال تثق بهم‪ ،‬تترك بينك‬ ‫يوما ما‪ ،‬وربما يقتلونه‪ .‬يُعلِ ّمك ُ‬ ‫ً‬ ‫يتواضع فيساوي نفسه مع هؤالء الفالحين‪ .‬سيثورون عليه‬
‫الطريقة فقط استطاع األتراك إحكام قبضتهم على الجزائر‬ ‫الرهبة‪ ،‬كيال يتجرؤوا حتى على رفع رؤوسهم في حضورك‪ ،‬بهذه ّ‬ ‫وبينهم مسافة ّ‬
‫أيضا يُمكننا إخضاع المدينة لنا بعد احتاللها‬ ‫ً‬ ‫ريقة‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫وبهذه‬ ‫ثالثة‪،‬‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫‪.‬قرو‬

‫نشاطا‪ ،‬حتى رجالي كانتا‬ ‫ً‬ ‫الرابع أكثر‬


‫لم يُخطئ القُنصل حين قال‪ :‬إنها أيا ٌم ثالثة فقط‪ .‬وأستعيد صحتي‪ ،‬استيقظت في اليوم ّ‬
‫حريصا على‬
‫ً‬ ‫السير مسافة طويلة‪ ،‬خطوت إلى الخزانة‪ ،‬وما إن فتحتُها حتى وجدت كل ثيابي وأحذيتي‪ ،‬كان القُنصل‬ ‫تحثَّاني على ّ‬
‫المرة األولى‪ ،‬ولكنني أعيد اكتشافها كلما‬‫ّ‬ ‫مقاسمتي الحياة التي يعيشها مثل صديق وجعلني سي ّ ًدا مثله على َخ َد ِمه‪ ،‬بالتأكيد لم تكن‬
‫الريف‪ .‬اسحب من الخزانة أقرب الثّياب إلى يدي‪ ،‬وأغادر البيت‪ ،‬كانت األشجار ما تزال تحتفظ بزهورها القرنفلية‪.‬‬ ‫قدمت إلى ِ ّ‬
‫ولكن خفت َشذاها‪ .‬يخشاني الفالحون أكثر من ال ُقنصل‪ ،‬كنت أعرف ما يحملونه تجاهي من كراهية‪ ،‬ولم تعنني‪ ،‬لم تُضف محبة‬
‫المور‪ .‬ميَّالون إلى‬
‫هؤالء لبعضهم شيًئا فما بالك بي‪ ،‬وأنا الغريب عنهم ‪ .‬ال تختلف ذهنيات أولئك الفالحين إال بالقدر اليسير عن ُ‬
‫الشعوب اإلفريقية والعربيّة ال يُمكنها تحقيق مصالحها إال بالفرد‬
‫دائما أن ّ‬ ‫ً‬ ‫والسوط فوق ظهورهم‪ ،‬اعتقدت‬ ‫ُّ‬ ‫االسترخاء‪ ،‬ال يعملون إال‬
‫دائما أن يكون هناك سيّد ينوب عنهم‪ ،‬يُسيِّر لهم حياتهم‪ ،‬وهم ليس عليهم فعل شيء‬ ‫ً‬ ‫األوروبي ‪ .‬ال يستطيعون تنظيم حياتهم‪ ،‬يجب‬
‫كثيرا عن حياة حيواناتهم‬
‫ً‬ ‫أميل إلى الكسل‪ ،‬قانعين بحياة ال تختلف‬ ‫الجد في العمل‪ ،‬ولكنهم بالرغم من كل هذا تجدهم َ‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬سوى‬

‫‪ ‬‬

‫السابعة‬
‫اللوحة ّ‬
‫َشت بين‬
‫عدت إلى غرفتي‪َ ،‬فتّ ُ‬‫األيام األخيرة إلزهار الل ّوز‪ ،‬والقُنصل غائب منذ يومين في المدينة‪ ،‬وحين أظلمت تجاوز يومه الثّالث‪ُ .‬‬
‫‪.‬أشيائي‪ ،‬فلم أجد دفاتري وال خرائطي‪ ،‬تركها ال ُق نصل كلها بمنزله في الجزائر‪ ،‬ولم يشأ أن يكون مقامي هنا إال بغية ِشفائي‬

‫أن هناك أشياء كثيرة قد حدثت في غيابي‪ ،‬ولكن مالمح‬ ‫الدرج‪ ،‬شعرت ّ‬
‫ونزلت ّ‬
‫ُ‬ ‫على أصوات عجالت العربة استيقظت ُمتوثّبًا‪،‬‬
‫الطريق‪ ،‬ولم أستطع االنتظار حين‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫تعب‬
‫ُ ً‬ ‫م‬ ‫كان‬ ‫البهو‪،‬‬ ‫في‬ ‫كنا‬ ‫حتى‬ ‫البيت‬ ‫باب‬ ‫القُنصل لم تَ ِش بشيء‪ِ .‬سرت إلى جانبه وعبرنا‬
‫الس فن التي رست في ميناء المدينة‪ ،‬وكم مرة زار فيها دوفال قصر الباشا‪ ،‬وهل ما زال‬ ‫أتقصى منه تفاصيل كل شيء‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫شرعت‬
‫أعيان اليهود يزورونه في بيته‪ ،‬وكل التفاصيل األخرى‪ ،‬عن آغا العرب‪ ،‬وعن وكيل الحرج‪ ،‬وعن خزناجي الباشا‪ ،‬وحتّى عن ُش ّواشه‪،‬‬
‫الطريق الموصلة إلى سيدي فرج‬ ‫‪.‬واألعراب الذين عند أطراف المدينة‪ ،‬هل نقلوا خيامهم أم أنها ما زالت هناك عند ّ‬
‫مترددا ولكنّه خاطبني‬
‫ً‬ ‫حدق بمالمح مختلفة‪ ،‬بدا‬
‫َّ‬ ‫‪:‬صمت القُنصل أمام أسئلتي‪ ،‬ثم‬

‫مريضا ولكنّه لم يُخبر الجميع ‪-‬‬


‫ً‬ ‫دائما‬
‫ً‬ ‫!!أنت تعرف أنه كان‬

‫عمن تَتكل ّم؟ ‪-‬‬


‫‪.‬أخبرتني أنه كان يتألم حين كنتم في واترلو‪ ،‬ولكنّه لم يُظهر ألمه خشي ًة على معنويات ُجنوده ‪-‬‬

‫‪ِ .‬ل َماذَا تفعل هذا بي‪ ،‬قُل كل شيء ُدفع ًة واحدة ‪-‬‬

‫‪.‬أنا آسف‪ ،‬قد مات نابليون في منفاه ‪-‬‬

‫رجل مثل نابليون في جزيرة نائية في األطلسي؟‬ ‫ٌ‬ ‫هل يُعقل أن يموت‬ ‫لم استوعب لحظتها كلمات القُنصل‪ ،‬صرخت غير مصدق‪.‬‬
‫وباردا في صندوق خشبي‪ .‬لم أنتبه إلى‬ ‫ً‬ ‫أعجز عن تخيّل جسده صامتًا‬ ‫بعيدا عن أوروبا؟‬
‫ً‬ ‫هل ق ِ ُّدر لعظيم ِمثله أن يُدفن هناك‬
‫مريضا؟ ُربما وضعوا له ُس ّ ًما في الخمرة؟ ال بد أنها‬
‫ً‬ ‫قتلوه أم أنه مات‬ ‫أسئلتي التي تعالت في وجه ال ُقنصل‪ :‬كيف مات‪ ،‬هل‬
‫حوله جميع جنوده‪ ،‬لم يكونوا مخلصين! بعض الفرنسيين كانوا أقرب إلى‬ ‫فر قوا من‬
‫مكيدة ُمدبرة من هؤالء اإلنجليز‪ ،‬ظلوا وراءه حتى ّ‬
‫‪.‬اإلنجليز منهم إلى عظيم مثله‬

‫ألوذ بالصمت بعد اضطرابي‪ ،‬ولكن الحزن لم يُغادرني‪ ،‬بينما كان القُنصل ُمتعبًا من أعباء عمله‪ ،‬كل يوم تتجدد مطالب الباشا وهؤالء‬
‫لدرجة ال تتنبأ فيها بحجم مطالبهم‪ ،‬تهبهم ألفًا فيضاعفون األرقام‪ ،‬مهووسون بال ِن ّساء وال َّذهب‪ ،‬لم يكن ُّ‬
‫السويديون‬ ‫طماعون ُ‬
‫ّ‬ ‫األتراك‪،‬‬
‫متفهما كفاية لحالتي‪ ،‬وأخبرني قبل صعوده إلى غرفته أنه عائد‬ ‫ً‬ ‫المتجددة‪ .‬كررت اعتذاراتي للقُنصل الذي بدا‬ ‫الضرائب ُ‬
‫ّ‬ ‫ليحتملوا تلك‬
‫‪.‬إلى المدينة بعد استراحة ساعة أخرى‬

‫وتساءلت‪ :‬هل كانت الحمى التي اشتعل بها جسدي إشارة تُعلن عن‬
‫ُ‬ ‫أشهر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫عرفت من القُنصل أن نابليون قد فارق الحياة ُمنذ‬
‫‪.‬موته؟ ربما قد تكون كذلك‪ ،‬فال يرحل الكبار دون إعالنهم عن ذلك‬

‫السنوات وال يتحقق ما تريده‪،‬‬ ‫مر ّ‬ ‫كافيار؟ تَ ُّ‬ ‫الدرجات إلى غرفتي‪ ،‬كأني أدخلها للمرة األولى‪ .‬ما الذي يُبقيك هنا يا‬
‫بصعوبةٍ ارتقيت ّ‬
‫عمرا من‬
‫ً‬ ‫أن نابليون كان مجرد قائ ٍد عاش‬ ‫الرجل الذي كان يشعل أحالمك كلما خمدت‪ .‬ولكنك يا كافيار لو ظللت ُمؤمنًا‬ ‫قد مات ّ‬
‫عظيما‬
‫ً‬ ‫قائدا‬
‫ً‬ ‫أن تُؤمن بها‪ ،‬مثل ًا آمنت به‬ ‫االنتصارات ثم ُهزم‪ ،‬فقد تكون مخطًئا‪ .‬نابليون أكبر مما تعتقد‪ ،‬إنّه فكرةٌ ال تفنى يجب‬
‫السنوات الماضية‬ ‫‪.‬طوال ّ‬
‫ابحث عن مزيد من الهواء‪ ،‬أمأل به صدري‪ ،‬ولكن نسمة الهواء الباردة ال تُسعفني في شيء‪ُ ،‬أشيّع بعيني العربة‬ ‫ُ‬ ‫أقف عند النّافذة‬
‫بت لو قمت بها قبل رحيلي عن واترلو‪ ،‬أشياء ال‬ ‫ندمت أنني لم أودعه‪ ،‬ولكنني ندمت أكثر على أشياء كثيرة َر ِغ ُ‬ ‫ُ‬ ‫الراحلة بالقُنصل‪،‬‬
‫ّ‬
‫يمكن أن تُفهم حتى ولو بُحت بها لفرنسي آخر ‪ .‬ال يمكن يا كافيار أن تظل ُمعلّقًا‪ ،‬قد مضى الوقت‪ ،‬انتهت المعارك في أراضي‬
‫إلي صراخها من النّافذة‪ ،‬ثم أراها تركض بين أشجار الل ّوز‪ .‬نقلت بصري‬ ‫َّ‬ ‫الشمال‪ ،‬ويجب أن تشتعل في إفريقية‪ .‬في لحظة ما يمتد‬ ‫ّ‬
‫الرغبة التي تملكتني ساعتها‪ ،‬نزلت وعبرت المسافة‬ ‫ّ‬ ‫أفهم‬ ‫لم‬ ‫حنقي‪،‬‬ ‫اشتد‬ ‫تمددا عند طرفه‪،‬‬
‫ً‬ ‫إلى نهاية البستان‪ ،‬فرأيت البستاني ُم‬
‫أن‬
‫َكرر تمتمته‪ .‬شعرت ّ‬ ‫بكلمات لم َأ ِعها‪ ،‬وأعدت طلبي ف ّ َ‬
‫ٍ‬ ‫حتى بلغت مكانه‪ ،‬وقف ُمطرقًا أمامي‪ ،‬أمرته بالعودة إلى عمله‪ ،‬فهمهم‬
‫بكلمات ِريفية لم أعهدها‪ ،‬نهرته ولكنّه لم يُغيّر جملته الغريبة‪ ،‬ولم أنتبه إلى يدي التي ل َطمته‪ ،‬كنت أريد‬
‫ٍ‬ ‫هذا الفالح كان يتحداني‬
‫السؤال‪ ،‬بقدر ما‬
‫إبعاده عن ناظري‪ ،‬ولكنّه سقط‪ ،‬هل تصن َّع ُسقوطه‪ ،‬أم أنه كان بالفعل ُمتعبًا من العمل؟ لم تعني اإلجابة عن ّ‬
‫‪.‬أزعجتني نظرة الفتاة الوقحة‪ ،‬وصراخها الحاد‬

‫توعدك بالموت‪.‬‬ ‫العروق الحمراء في بياضها‪ ،‬كأنها تَ ّ‬‫تشعب ُ‬ ‫حتد ِنهايات ُ‬


‫العيون‪ ،‬وتَ ّ‬ ‫المور قاسية‪ ،‬تُو ِل ّد الخوف في داخلك‪ ،‬تَ ّ‬
‫نظرة نساء ُ‬
‫تمض إال أيام قليلة حتى بُ ِل ّغت بأن‬‫ِ‬ ‫عازما على طردهما من المزرعة‪ ،‬ولم‬
‫ً‬ ‫البيت‬ ‫إلى‬ ‫وعدت‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫سوي‬ ‫رحال‬ ‫ثم‬ ‫أباها‬ ‫وأسندت‬ ‫انحنت‬
‫الظالم‬
‫عمق ّ‬ ‫فرت في ُ‬ ‫الحمى‪ ،‬وأن ابنته ّ َ‬
‫َّ‬ ‫‪.‬الفالح قد مات تحت وطأة‬

‫‪ ‬‬

‫اللوحة الثّامنة‬

‫ختلف كهذا‪ ،‬على النّظر إلى ماضيك كأنه بقايا أحالم ُمشتتّة في الذاكرة‪ ،‬ووجوه صارت‬ ‫ٍ‬ ‫تُرغمك االستفاقة في إسبرطة في يوم ُم‬
‫وأيضا ل ُغات َصارت تجري على الل ّسان مثلما يتكل َُمها أهل ُها‪ .‬اآلن ال يجرؤ أحد على مخاطبتي‬ ‫ً‬ ‫ظللت سنوات أحفظها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مألوفة بعد أن‬
‫الصحراويين‪،‬‬‫المور واألتراك واألعراب والقبائل وحتّى ّ‬
‫تفحص الوجوه ألقرأ ما ُتبطنه الن ُّفوس‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫يدعي أنني لن أفهمها‪ ،‬لن أضطر إلى‬ ‫بلغةٍ ّ‬
‫الدفاتر‪،‬‬
‫وحزم ّ‬ ‫أبصر جوانب الغرفة ركام من األوراق ُ‬ ‫ُ‬ ‫الممتدة من حول إسبرطة مثل راحتي‪.‬‬ ‫أعرفهم مثل أصابع يدي‪ ،‬واألرض ُ‬
‫نظم َسيرهم‪ ،‬وأحدد لهم‬ ‫والجدران ُمكتظة بالخرائط‪ .‬أقف في قلب الغُرفة‪ ،‬وأبسط يدي‪ ،‬شعور بال ّزُهو‪ ،‬كأنني في طالئع الجيش‪ُ ،‬أ ِ ّ‬
‫وانتهاء إلى حصن اإلمبراطور‪ُ .‬أطأطئ رأسي وُأبصر الفراغ مكان األصبع‪ ،‬وأتمتم‪ :‬ستُقطع‬ ‫ً‬ ‫بدءا من سيدي فرج‬ ‫ً‬ ‫الدروب التي سيسلكونها‬ ‫ّ‬
‫آالف من األجساد‬ ‫ٌ‬ ‫الروح‪ .‬ستُجلد‬ ‫ّ‬ ‫عن‬ ‫يغب‬ ‫لم‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫الجلد‪،‬‬ ‫عن‬ ‫األسواط‬ ‫أثر‬ ‫غاب‬ ‫ثيابي‪،‬‬ ‫وأنزع‬ ‫‪.‬‬ ‫أجلك‬ ‫من‬ ‫آالف من األصابع‬
‫الرخامي‪ ،‬قدرت أنهم مازالوا هناك‪،‬‬ ‫وأطل من نافذة البيت‪ ،‬فأرى الجبل ّ‬ ‫ُّ‬ ‫لتخبر العذاب الذي انتاب جسدك‪ .‬أعيد ارتداء ثيابي‪،‬‬
‫الرخامية‪ ،‬وتتلون‬
‫ّ‬ ‫خور‬ ‫الص‬
‫ّ‬ ‫تلك‬ ‫عنكم‬ ‫يحملوا‬ ‫حتى‬ ‫سير‬ ‫ي‬ ‫من‬
‫َ ٌ َ‬ ‫ز‬ ‫إال‬ ‫يبق‬ ‫الصخور حتى تتشابك عظامهم ‪ .‬ال تحزنوا يا رفاق‪ ،‬لم‬ ‫يحملون ّ‬
‫وجوههم برمادها األبيض‪ُ .‬أشيح بوجهي عن منظر الجبل نحو المدينة‪َ ،‬ظل ّت زمنًا على حالها عدا ما حدث قبل َسنوات قليلة‪.‬‬
‫يصر اإلنجليز‬
‫ّ‬ ‫ستمرون في حماقاتهم‪ ،‬غادر القُنصل حين اختلف مع الباشا بعدما أمره بتسليم ُخ ّدامه من القبائل الثّائرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلنجليز ُم‬
‫الشرقيون استعارة أخالقهم‬ ‫أن تتصرف مثلهم‪ .‬قد اعتاد ّ‬ ‫المبالغ فيها وهم بإفريقية‪ .‬هنا ال يُنفع إال ّ‬ ‫ُ‬ ‫األوروبية‬ ‫باألخالق‬ ‫ّي‬ ‫ل‬ ‫التح‬ ‫على‬
‫الطبيعة التي حولهم‪ .‬فلِ َم نُضطر إلى حمل أفالطونيتنا إلى هؤالءِ؟ كان عليه أن يفعل مثلما فعل دوفال‪ ،‬طلب من القبائل‬ ‫ّ‬ ‫من‬
‫فروا في الل ّيلة الماضية‪ .‬كان القائد التركي يُريد فقط أن يُوافقه أحد على أنهم خارجون عن‬ ‫الثّائرين مغادرة بيته‪ ،‬وأخبر القائد أنهم ُّ‬
‫السنوات‬‫القانون‪ ،‬حتى لو لم يقبضوا عليهم‪ ،‬يكفيهم إيمان النّاس بأنهم الحكام‪ .‬لم يستطع القُنصل اإلنجليزي معرفة ذهنياتهم رغم ّ‬
‫‪.‬التي قَضاها في إسبرطة‬
‫خمن من أيها أعبر‪ِ ،‬‬ ‫ُأ‬
‫الشرقي أم من الباب الغربي‪ ،‬أو ربما الجنوبي؟ إذا‬‫أمن الباب ّ‬ ‫وأعد أبوابها من مكاني‪ ،‬و ِ ّ‬
‫ُّ‬ ‫أنظر إلى المدينة‬
‫قررنا ال ّز حف بالمشاة فال بد لي من عبور قوس بابها الجنوبي‪ ،‬لو يستطيع كافيار أن يكون أكثر من واحد كي يعبر كل أبوابها دفع ًة‬
‫سأحررهم من كل‬ ‫ِّ‬ ‫الص ور في قلب المدينة‪ ،‬يكفيني أن أعبر من أفضل أبوابها‪ ،‬وأترك البقية للجنود‪ ،‬في ذلك اليوم‬ ‫واحدة‪ .‬ثم تجتمع ّ‬
‫الشمال‪ .‬سيفعلون ما يريدون‪ ،‬عليهم فقط اعتناق فكرة أن األرض‬ ‫ّ‬ ‫بأرض‬ ‫روبهم‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫في‬ ‫بها‬ ‫يلتزمون‬ ‫التي‬ ‫واألخالقية‬ ‫القُيود العسكرية‬
‫لك لهم‪ ،‬وال يُنازعهم فيها أحد حتى ولو كان أميرال ًا على الجيش‬ ‫‪.‬التي تطأها أقدامهم‪ ،‬هي ِم ٌ‬

‫حدق بها مليًا ثم يُكل ّمني‬


‫المدينة‪ ،‬ون ُ ّ‬
‫رق على الباب‪ ،‬ثم يُفتح فأرى القُنصل‪ ،‬يقترب منّي‪ ،‬نُطل على َ‬
‫‪:‬يتعالى َط ٌ‬

‫السنوات باحثًا وأال يتحول حلمك إلى واقع؟ ‪-‬‬


‫أخشى أن تستغرق ّ‬
‫أفضل من تحقيقه ‪-‬‬
‫َ‬ ‫‪.‬إنني أستمتع اآلن يا صديقي باللحظات األخيرة‪ ،‬أحيانًا تكون ل ّذة البحث‬

‫موعدا لرحيلك إلى باريس؟ ‪-‬‬


‫ً‬ ‫يَعني أنك ستقابل دوفال وتُرتّب معه‬

‫‪.‬هذا ما أفكر به منذ شهر‪ ،‬ولكن كيف يمكنني إقناعهم بمشروع الغزو ‪-‬‬

‫‪.‬يَل َز ُمك اآلن إقناع دوفال فقط ‪-‬‬

‫أحدا يُقنعه‪ ،‬بل من يضمن له فائدة من المشروع كله ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬ال يحتاج دوفال‬

‫ججا كثير ًة‪ .‬شعرت حين قابلته أنه يُبيّت أشياء أخطر من التي أفكر بها‪ .‬نادى على‬ ‫الطريق إلى ال ُقنصل دوفال‪ ،‬اختلقت ُح ً‬
‫في ّ‬
‫لصار أفضل من اعتلى المسارح‬ ‫ّ‬ ‫المسرح‪،‬‬ ‫في‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫ممث‬ ‫وكان‬ ‫له‬ ‫ر‬ ‫ُد‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫لو‬ ‫أنه‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫أحيا‬ ‫أجزم‬ ‫‪.‬‬ ‫القهوة‬ ‫فنجان‬ ‫يحمل‬ ‫عاد‬ ‫الذي‬ ‫خادمه‬
‫تحرى وجهي كأنه يقرأ في‬‫َّ‬ ‫تقمص األدوار بطريقة عجيبة وكأنه ُولد في تلك األمكنة‪ ،‬جلسنا ُمتقابلين نستمتع بالقهوة‪ ،‬ثم‬ ‫األوروبية‪ .‬ي َ ّ‬
‫الرغبات التي حملتني إليه‪ ،‬وبادرني‬
‫ّ‬ ‫‪:‬عيني‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫لونت العالقة بين الباشا والملك ‪-‬‬
‫‪.‬هذه األيام هي أسوأ األيام التي ّ‬
‫مرة أخرى؟ ‪-‬‬
‫الديون ّ‬
‫أهو موضوع ُّ‬

‫مال ليس من حقه‪ ،‬واليهوديان قد وقّعا على وثيقة استالمهما ك ُّل ديونهما‪ ،‬وكتما األمر عنه ‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫صر كعادته على طلب‬
‫‪.‬نعم‪ ،‬الباشا يُ ُّ‬

‫وما الذي سيفعله عندما يكتشف األمر؟ ‪-‬‬

‫فرا إلى أوروبا؟ ‪-‬‬


‫سيقطع رأسيهما‪ .‬وأنّى له ذلك وقد ّ َ‬

‫كهؤال ِء ُ‬
‫المور ‪-‬‬ ‫حذرا‪ ،‬ليسوا َ‬
‫ً‬ ‫‪.‬نعم‪ ،‬اليهود أكثر النّاس‬

‫قرر بعد العودة إلى باريس؟ ‪-‬‬


‫وأنت ألم تُ ِ ّ‬
‫‪.‬هذا ما دفعني ألزورك اليوم ‪-‬‬

‫‪.‬لن أعدم وسيلة في خدمتك ‪-‬‬

‫أريد لقاء وزير نافذ لدى الملك؟ ‪-‬‬

‫!ولماذا؟ ‪-‬‬

‫الربوة في القريب يا ‪-‬‬‫الرغبة في تنفيذ المشروع الذي استغرق سنوات من البحث‪ ،‬يجب أن نغزو هذه ّ‬
‫في باريس يوجد من لديه ّ‬
‫‪.‬سيدي كفاهم تأجيل ًا‬

‫أيضا‪ ،‬قد اعتادوا االعتراض على كل شيء ‪-‬‬


‫ً‬ ‫وربما لإلنجليز‬
‫مقنع‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫سبب‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬هم يبحثون عن‬

‫‪.‬أنا أكثر النّاس معايش ًة لهذا األمر ‪-‬‬

‫الديون‪- .‬‬
‫مرة أخرى عن ُّ‬ ‫ُأ‬
‫كثيرا‪ ،‬زيارتي القادمة للباشا ستحمل الكثير معها‪ ،‬سأقصد قصره كي هنئه بالعيد‪ .‬سيسألني ّ‬
‫ً‬ ‫لن تنتظر‬
‫‪.‬وسأنهي معه الموضوع في حينه‬

‫أع إن كانت تلك أوامر صادرة من باريس‪ ،‬أم أنه اجتهادٌ شخصي‪.‬‬
‫صرا على إنهاء الموضوع مع الباشا‪ ،‬ولكنني لم ِ‬
‫بدالي دوفال ُم ّ ً‬
‫ِ‬
‫إجابات مقنعة‪ ،‬ولكنني وأنا أعبّر حديقة البيت انصرفت عن بحثي‪ ،‬وقد كانت النّتيجة واحد ًة‪ .‬القطيعة بين‬ ‫الطريق بحثت عن‬
‫في ّ‬
‫‪.‬الباشا والملك‪ ،‬وإعالن الحرب‬

‫‪ ‬‬

‫اللوحة التاسعة‬

‫تهور دوفال‪ ،‬ولكن ما حدث هذا‬ ‫ّ‬ ‫مستفسرا‪ ،‬فيجيب‪ :‬اعتدنا على‬
‫ً‬ ‫يُقبل القُنصل تجاهي ومالمح وجهه ُمتغيرة‪ ،‬أستقبله في البهو‬
‫المساء كان ُمبال ًغ ا فيه‪ ،‬لقد أهان الباشا‪ .‬واستغربت كيف أنه لم يقتله‪ ،‬ضربه بالمروحة فقط‪ .‬كان ال ُقنصل يُعيد ما حدث في‬
‫استعجلها ال ُقنصل بإهانته للباشا‬
‫َ‬ ‫السرور إلى داخلي‪ ،‬الفرصة التي انتظرناها طويل ًا‬ ‫ِّ‬
‫‪.‬الديوان بينما تدفّق ّ‬
‫وحيدا بهذه الل ّيلة المغايرة‪ .‬وجدته يقف عند باب بيته‪ ،‬كأنه كان‬ ‫ً‬ ‫فكرت أنه سيحتفل‬ ‫ُ‬ ‫في طريقي إلى بيت القُنصل دوفال‪،‬‬
‫توس طنا البهو‪ ،‬نتقاسم األنخاب‪ ،‬ونقرع الكاسين بعضها ببعض‪ ،‬كم كانت لذة الخمر‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫الحديقة‪،‬‬ ‫ينتظرني‪ .‬ابتسم حين رآني عند‬
‫ممتعا مثلما كان المشهد الذي أعاد تمثيله أمامي باألصوات واللغات كلها‪ ،‬لم يخب ظني‬ ‫ً‬ ‫مختلفة‪ ،‬مع َسرد دوفال للحكاية‪ ،‬يظل رجل ًا‬
‫ممثل أنجبته هذه األمة العريقة في المسرح‪ .‬ولكنّه غيّر الوجهة من مسرح وهمي‪ ،‬إلى مسرح الحياة‪ ،‬وما‬ ‫ٍ‬ ‫فيه‪ ،‬دوفال كان أفضل‬
‫وأخطره! خطأ واحد يؤدي إلى فقدانك رأسك‪ .‬حدثني دوفال أنه لم يكن خائفًا وهو يُهين الباشا‪ ،‬بل كان ُمتيقنًا من عدم‬ ‫َ‬ ‫أعظمه‬
‫َ‬
‫قادرا على الل ّعب فوق‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫ن‪،‬‬ ‫ي‬
‫َّ ْ‬ ‫اليهودي‬ ‫مال‬ ‫في‬ ‫ممدودة‬ ‫ا‬ ‫يد‬
‫ً‬ ‫لدوفال‬ ‫أن‬ ‫يومها‬ ‫ا‬ ‫أيض‬
‫ً‬ ‫لي‬ ‫وبدا‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬‫ًّ‬ ‫حي‬ ‫ببقائه‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ق‬ ‫معل‬ ‫المال‬ ‫مادام‬ ‫قتله‪،‬‬
‫خوف من النّار التي باألسفل‬
‫ٌ‬ ‫‪.‬الحبال كلها دون أن يسقط‪ ،‬أو أن ينتابه‬

‫الشمال‪ ،‬يعرف دوفال كيف يعيش الحياة في الجزائر‪ ،‬وكيف يستحضر باريس في‬ ‫ليلتها شربنا الكثير من الخمرة المعتّقة القادمة من ّ‬
‫حا أشدو بأغنيات قديمة غنيناها يوم سرنا تجاه واترلو‪ .‬أحدث حركاتي جلبة‬‫بيته‪ ،‬الكتب والتماثيل والخمور‪ .‬عدت إلى بيتي ُمترن ّ ً‬
‫وأستمر في غنائي‬
‫ُّ‬ ‫‪.‬في البيت استيقظ لها الخدم‪ ،‬ولكنهم عادوا ما إن رأوني أوصد الغرفة على نفسي‪،‬‬

‫الدرج‪ ،‬وطلبت من الخادم إحضار كأس‬


‫أفقت في اليوم التالي على صداع يشتد في رأسي‪ ،‬وعرق يتقصد من جسدي‪ ،‬وقف ونزلت ّ‬
‫شهر من الخمر‬
‫ٍ‬ ‫كنت ُمختلفًا فعل ًا‪ ،‬إذ شربت بها ما لم أعتد شربه في‬
‫ُ‬ ‫السابقة‪،‬‬
‫‪.‬من عصير الل ّيمون‪ ،‬وعادتني أحداث الل ّيلة ّ‬
‫‪ ‬‬

‫اللوحة العاشرة‬

‫ألي قادم من البحر‪ ،‬ما إن أقف عند سيدي فرج حتى أشتم‬ ‫ّ‬ ‫مرت ثالثة أسابيع على حفلتي مع القُنصل ولم يحدث شيء‪ ،‬أتوثّب‬ ‫ّ‬
‫الرحلة في اليوم الثّاني‪ ،‬أقطعها على‬‫ّ‬ ‫أعيد‬ ‫ثم‬ ‫أعالمها‪،‬‬ ‫بني‬ ‫ّ‬ ‫خي‬‫ُ‬ ‫ت‬‫السفن بموازاة الخليج‪ ،‬أمأل بصري ُمستجليًا‪ ،‬و‬
‫وتمر ُّ‬
‫ُّ‬ ‫رائحة ُخمورهم‪.‬‬
‫قدمي‪ .‬اآلن لم أعد في حاجة إلى خرائط من أجل البحث أو تتبع مسارات جديدة‪ ،‬كأنما ُحفرت المسافة في ذاكرتي‪ ،‬وبمجرد أن‬
‫والمور واألتراك‪ ،‬صارت هي األخرى ُمرتبة في ذهني‪ ،‬أحيانًا‬ ‫ُ‬ ‫أغمض عيني تتراءى كلها‪ ،‬حتى األرقام والتفاصيل التي دونتها عن العرب‬
‫تدهمني رغبة القفز في البحر والتجذيف حتى أبلغ سات‪ ،‬ثم أعدل عن ذلك‪ ،‬بعض الجنون ال يتخل ّص منه صاحبه حتى بعد سنوات‬
‫ومنعزل ًا عن العالم‬
‫الرابع‪ ،‬دون أي سفينة فرنسية في األفق‪ ،‬وحتّى دوفال كان غائبًا ُ‬ ‫مرت األيام األولى من األسبوع ّ‬‫طويلة‪ .‬وهكذا ّ‬
‫‪.‬من حوله بعد الحفلة التي جمعتنا‬

‫استفقت على صوت القُنصل‪ ،‬وقد دخل غرفتي أثناء نومي‪ ،‬كل ّمني عن سفينةٍ فرنسية رست بميناء الجزائر‪ .‬والتَحق دوفال بها‪،‬‬
‫معا إلى الميناء‪ ،‬لكنهم لم يسمحوا لنا بدخوله‪ ،‬كانت حركة الريّاس‬
‫بينما نزل منها رسول الملك إلى الباشا‪ .‬ارتديت ثيابي‪ ،‬ونزلنا ً‬
‫ُم ضطربة‪ ،‬حتى جنود اليولداش اجتمعوا أسفل المدينة على غير عادتهم‪ ،‬لم نُطل المكوث عند باب الميناء‪ ،‬حين رأينا وجوههم‬
‫عبَر باب الميناء‪ ،‬بدا قلقًا في‬
‫الرسول من بعيد في عربته‪َ ،‬‬
‫كفهرة‪ ،‬خشينا ارتكابهم حماقات جديدة‪ ،‬وحين َهممنا بالرحيل رأينا ّ‬
‫ّ‬ ‫الم‬
‫ُ‬
‫الرصيف‪ ،‬وانسحبنا عائدين إلى البيت‪ ،‬استبد بي القلق ذلك المساء‪ ،‬كان القُنصل حينها‬‫ّ‬ ‫عن‬ ‫فينة‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫رحلت‬ ‫ثم‬ ‫المتعجل‪،‬‬ ‫سيره‬
‫‪:‬يجلس قبالتي وحين لم يرقه طول سكوتي قال‬

‫فيم حيرتك ورسول الملك قد عاد خائبًا؟ ‪-‬‬

‫‪.‬أتساءل فقط هل سيعود دوفال أم أنه سيبقى في باريس‪ ،‬وقد كان بيني وبينه اتفاق ‪-‬‬

‫المقيمين ‪-‬‬
‫الصباح‪ ،‬سيرحل الكثير من الفرنسيين ُ‬
‫بدءا من هذا ّ‬
‫ً‬ ‫لزما اآلن بالبقاء هنا‪ ،‬عليك الل ّحاق به‪ ،‬كل شيء صار جليًا‬
‫لست ُم ً‬
‫َ‬
‫‪.‬هنا‪ ،‬هذا إن لم يطردهم الباشا‬

‫جديدا ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬ربما أنت على حق‪ ،‬سننتظر صباح يوم آخر‪ ،‬فربما يحمل‬

‫المقيمين من الفرنسيين‪ ،‬اإلفرنج مثلما كان يسميهم‬‫كانت تخميناتي في محلها‪ ،‬إذ لم تطلع شمس يوم جديدٍ‪ ،‬حتى نُودي في كل ُ‬
‫الم ور واألتراك‪ .‬اجتمعنا أسفل المدينة‪ ،‬وسرنا إلى باب القصبة‪ .‬اليولداش يحوطوننا من كل جانب‪ ،‬كان ذلك اليوم الوحيد الذي‬‫ُ‬
‫اقتربت فيه من قصر الباشا‪ ،‬وسمحوا لبعضنا بالدخول‪ .‬أمرنا اليولداش بالصمت فصمتنا‪ ،‬ثم قالوا لنا لكم الحرية في البقاء أو‬
‫ُ‬
‫‪.‬الرحيل‪ ،‬معيدين سرد ما جرى بين القُنصل والباشا‬ ‫ّ‬
‫فضلوا مصالحهم على مجد ُأمتهم‪ ،‬إذ اتهموا القُنصل دوفال‬
‫مستاء من بعض الفرنسيين الذين ّ‬
‫ً‬ ‫في انحداري عبر سقائف القصبة كنت‬
‫‪.‬في حضور مم ِثّلين عن الباشا‬

‫‪.‬بعد أيام كنت ُأعد حقيبتي ألعود إلى باريس‪ ،‬وقد قررت أال أدخل سات إال حين نغزو هذه المدينة‬

‫سنوات‬
‫ٍ‬ ‫في العربة كان القُنصل حزين ًا‪ ،‬أراد بقائي إلى جانبه‪ ،‬ولم يشأ الوقوف حجر عثرة في طريقي وهو الذي فتح باب بيته لي‬
‫عم قت معارفه إدراكي لهذه المدينة اإلسبرطية‪ .‬عبرت بنا العربة شوارع المدينة بعجلة‪ ،‬ولم ننتبه إال ونحن عند الميناء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عديدة‪،‬‬
‫غاصا حولنا بالفرنسيين العائدين إلى مدنهم‪ ،‬بعد أن جاءت سفينة لتُقلَّهم‪ُ ،‬طلب منا ّ‬
‫الصعود‬ ‫ًّ‬ ‫ترجلنا عنها وتعانقنا طويل ًا‪ .‬كان الميناء‬
‫ّ‬
‫الصاعدين‬
‫فتباطأت ألكون آخر ّ‬
‫ُ‬ ‫‪.‬على متنها‪،‬‬

‫المقيّد باألغالل‪ ،‬ليعود إليها من أجل وضع األغالل في أرجل‬


‫ع آخر من العودة إليها‪ ،‬يدخلها كافيار ُ‬ ‫الرحيل عن إسبرطة‪ ،‬هو نو ٌ‬
‫إبصارا تجاه‬
‫ً‬ ‫إال‬ ‫تكون‬ ‫لن‬ ‫حلة‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫أيام‬ ‫أن‬ ‫أدركت‬ ‫إسبرطة‪،‬‬ ‫على‬ ‫لي‬ ‫إطاللةٍ‬ ‫آخر‬ ‫وفي‬ ‫فينة‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫أصعد‬ ‫وأنا‬ ‫رددت الجملة‬
‫والمور‪ّ .‬‬
‫ُ‬ ‫األتراك‬
‫‪.‬الشمال‬
‫ّ‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬ابن ميّار‬

‫مرة أخرى‪ ،‬مدينة مفتوحة على احتماالت كثيرة‬


‫‪.‬باريس ّ‬
‫والممتدة‪ ،‬وكأن الحوذي توقّع وجهتي‪ ،‬رغم أنني لم أعلمه بها‪ ،‬إلى أن توقّف عند الفندق الذي‬ ‫ّ‬ ‫تشق بنا العربة شوارعها الواسعة‬ ‫ُّ‬
‫الدرجات‬ ‫ّ‬ ‫صعدت‬ ‫‪.‬‬‫ا‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫ملحو‬ ‫اسمي‬ ‫نطق‬ ‫رني‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬‫تذ‬ ‫وحين‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ملي‬ ‫الفندق‬ ‫عامل‬ ‫بي‬ ‫ق‬ ‫وحد‬
‫ّ‬ ‫وأنزلها‪،‬‬ ‫الحقيبة‬ ‫عني‬ ‫حمل‬ ‫‪.‬‬ ‫به‬ ‫اإلقامة‬ ‫اعتدت‬
‫قمت وتوضأت‪ ،‬ثم صل ّيت ودعوت الل ّه طويل ًا أن‬ ‫ُ‬ ‫الطويلة‪.‬‬ ‫الرحلة ّ‬ ‫أردت استعادة نَفَسي من ّ‬ ‫ُ‬ ‫إلى الغرفة‪ ،‬واستلقيت على الفراش‪،‬‬
‫عدت إلى الفراش‬ ‫وظللت متشبّث ًا بتفاؤلي‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫تنجح رحلتي‪ ،‬التي لم يُوافقني الجميع عليها‪ .‬ظلوا يعتقدون أنهم لن يُعيدوا لنا شيًئا‪،‬‬
‫عل َت الباب والنافذة‪ ،‬كانت األشكال مختلفة عن تلك التي خلَّفتها على أبواب‬ ‫حدقت في ال ّزخرفة الجميلة التي َ‬ ‫ّ‬ ‫واستلقيت‪،‬‬
‫خرفتنا‪ ،‬كأننا نستغفره على تلك األخطاء التي نُبيح ألنفسنا اقترافها‪ ،‬فنَحتفي‬ ‫َ َ‬ ‫ز‬ ‫في‬ ‫حتى‬ ‫معنا‬ ‫ا‬ ‫دوم‬
‫ً‬ ‫حاضر‬
‫ٌ‬ ‫ّه‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫‪.‬‬ ‫ونوافذها‬ ‫المحروسة‬
‫وأطل من نافذة الغرفة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بخطوط مختلفة نُعلقها في بيوتنا ومساجدنا‪ .‬أقف‬ ‫ٍ‬ ‫الدوام‪ ،‬ونجعل اسم النّبي الكريم أيقون ًة‬ ‫ّ‬ ‫على‬ ‫باسمه‬
‫أصروا على المساجد‪ .‬أشيح بصري عن النّافذة‪ ،‬ولكن‬ ‫ُّ‬ ‫بيوت أخرى ولكنهم‬ ‫ٍ‬ ‫الشاهقة‪ .‬كان في مقدورهم طلب‬ ‫فتتراءى لي كنائسهم ّ‬
‫كل‬ ‫علي أن أتشفّع لهم‪ ،‬وفي ّ‬ ‫ّ‬ ‫قدم عند القائد‪ ،‬لذا ظلُّوا يُ ِل ّحون‬ ‫جانب‪ .‬كان أعيان المحروسة يدركون أنني ُم ّ َ‬ ‫ٍ‬ ‫الصور تُحاصرني من كل‬ ‫ّ‬
‫عضو في المجلس‬ ‫مرة يُعيدني خائبًا‪ ،‬أقف أمام باب القصر‪ ،‬يعترضني الجنود وال يسمحون لي بمقابلته‪ ،‬وأظل أكرر عليهم أنني ُ‬ ‫ّ‬
‫الدرجات حتى أكون أمامه‪ .‬أعيد طلباتهم‬ ‫البلدي لمدينة المحروسة‪ ،‬وال يهتمون لكالمي‪ ،‬إال حينها يتدخل ديبون‪ ،‬ألج القصر وأصعد ّ‬
‫حدق تجاهي وكأنه‬ ‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫وهران‪،‬‬ ‫في‬ ‫اني‬ ‫ّ‬ ‫ث‬ ‫ال‬ ‫ولده‬ ‫بصياغة مختلفة‪ ،‬ولم يكن القائد بُورمون ذلك الذي لقيته قبل شهرين‪ ،‬إذ تغيَّر بعد موت‬
‫همي على ما فقدت من‬ ‫َّ‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫أمالكهم‪،‬‬ ‫ضياع‬ ‫ال يراني‪ ،‬فأرحل عنه‪ ،‬حامل ًا خيبتي إلى األعيان‪ ،‬يُحملقون بي كأنني المتسبب في‬
‫حل بورمون ومن بعده ك ُلوزيل‪ ،‬ومضت سنوات ثالث لم‬ ‫َّ‬ ‫ضياع‪ ،‬بقدر ما كنت حزينًا على المساجد واألوقاف التي ُأخذت عندما‬ ‫ٍ‬
‫الرحبي‪ ،‬وعلي خوجة‪ ،‬وسيدي عمار‬ ‫الرابطة‪ ،‬والصبّاغين‪ ،‬وجامع القبائل‪ ،‬وجامع ّ‬ ‫نستطع استرجاع أي منها‪ ،‬جامع الباديسان‪ ،‬جامع ّ‬
‫السيدة‪ ،‬قرونًا ثالثة وحكامنا يُصل ّون به‪ ،‬تُؤخذ البيعة لهم‬ ‫التّنسي‪ ،‬وجامع عبدي باشا‪ ،‬ال يمكنني إحصاؤها كلها‪ .‬كان أجملها مسجد ّ‬
‫هناك‪ ،‬وقد بُني حتى قبل مجيء األتراك ‪ .‬ال يمكننا تخيل المحروسة دونه‪ ،‬ثم يأتي كافيار وببساطة يُقرر تعويضه بساحة مثل التي‬
‫نر في المدنية األوروبية أي فائد ٍة‬ ‫كخالص‪ ،‬ولم َ‬ ‫ٍ‬ ‫الدوام لم نعتقد نحن المسلمين إال في ديننا‬ ‫‪.‬في باريس‪ ،‬على ّ‬

‫حاججا‪ ،‬ولكنّه كان حانقًا عليه أكثر منّي‪ ،‬طردنا من مكتبه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يومها وقفت أمام كلوزيل‪ ،‬رجوته أن يَع ِدل عن قراره‪ ،‬وقف ديبون له ُم‬
‫نشق شوارع المحروسة حتى بلغنا المسجد‪ ،‬ووجدناه هناك ينتظر المعاول‪ .‬كنت أرى كل زاويةٍ منه صليت بها‪ ،‬وكل جدار‬ ‫ُّ‬ ‫وظللنا‬
‫تردد البخاري في‬ ‫ّ‬ ‫يحضهم على مواصلة الجهاد‪ ،‬والعلماء يتوسطون ِحل َق العلم‪ ،‬واألصوات‬ ‫ّ‬ ‫اتّكأت عليه‪ ،‬رأيت الباشا يخطب في النّاس‬
‫الرخام المنقوشة بأسماء الل ّه‬ ‫وكتب ال يَعون منها شيًئا‪ ،‬وألواح ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ليالي المحروسة الخائفة من الحصار‪ .‬نهبوا كل ما فيه‪ُ ،‬سرق منبره‪،‬‬
‫تهد ُجدرانه‪ ،‬وظلت على تلك الحال حتى‬ ‫ُّ‬ ‫وطفقت‬ ‫ماء‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫الحسنى‪ ،‬واألفرشة التي كانت أجمل ما فيه‪ .‬ثم ارتفعت المعاول‬
‫أي‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫خاويةٍ‬ ‫ساحةٍ‬ ‫في‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫وحيد‬ ‫تقف‬ ‫الحال‪،‬‬ ‫تلك‬ ‫على‬ ‫تركوها‬ ‫آخرين‬ ‫أمر بها‪ ،‬ولعامين‬ ‫سوته باألرض‪ ،‬وبقيت مئذنته شاهد ًة‪ ،‬كل يوم ُ‬‫ّ‬
‫جانب‪ ،‬سمعت رجاءها لهم أن يُعيدوا إليها الجدران‪ ،‬ولكنهم ربطوا أعالها بالحبال‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫شيء‪ ،‬وفي يوم اجتَمعوا حولها‪ ،‬أحاطوها من كل‬
‫ضجوا محتجين‪ ،‬وهتف آخرون اهدموا أسفلها فتنهار دفع ًة واحد ًة‪ ،‬ثم اتفقوا على إحراقها‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬وشرعوا يَسحبونها ولكن الحبال تقّطعت‪،‬‬
‫َ‬

‫الشرق بالنسبة لنا ُمجرد جهةٍ‪،‬‬


‫الشرق‪ ،‬ولم يكن ّ‬
‫وهوت بها تجاه ّ‬ ‫نارا حولها كي تتفتّت جدرانها‪َ ،‬‬
‫أحاطوها بال ّزفت والحطب‪ ،‬وأشعلوا ً‬
‫السيدة‬
‫يوم نتّجه بأجسادنا المنحنية إلى تلك الجهة‪ ،‬وال يختلف ُحكامنا عن َّا في تقديسها‪ .‬وسقطت يومها مئذنة جامع ّ‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬بل إننا كل‬
‫السيدة أنهم‬
‫ضجة النّاس ما إن سمعوا قرار تحويله إلى كنيسة‪ ،‬عل ّمتهم مئذنة جامع ّ‬ ‫ّ‬ ‫عل َت‬
‫ولم يختلف األمر مع جامع كتشاوة‪َ .‬‬
‫الدوق روفيغو حينها قد فَصل في األمر‪ ،‬ثم أحاط به‬ ‫سيزولون إن لم ينتفضوا‪ .‬اجتمعوا أسفل المدينة وقصدوا المسجد للصالة‪ .‬كان ُّ‬
‫أن اقتحموه ‪ .‬تُرى كيف سيكون شعور أي‬ ‫المصل ّون به يرفضون مغادرته‪ ،‬وما كان من الجنود إال ّ‬ ‫الجنود من كل جانب‪ ،‬واعتصم ُ‬
‫الصالة‪ ،‬يدهمها‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫مستغرق‬
‫ٌ‬ ‫بداخلها‬ ‫وهو‬ ‫العذراء‪،‬‬ ‫مريم‬ ‫كنيسة‬ ‫حتى‬ ‫أو‬ ‫المقدس‬ ‫القلب‬ ‫أو‬ ‫شابيل‪،‬‬ ‫حط مت أبواب سانت‬‫ّ‬ ‫مسيحي لو‬
‫يصوبون بنادقهم تجاه النّاس؟ هذا ما قام به جنود روفيغو‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫ويحرقونها‬ ‫المقدسة‪،‬‬ ‫الكتب‬ ‫من‬ ‫فيها‬ ‫ما‬ ‫كل‬ ‫ويخرجون‬ ‫اليولداش‪،‬‬ ‫جنود‬
‫حطموا أبواب المسجد‪ ،‬وأخرجوا الن ّاس من داخله بالقوة‪ ،‬كانوا يتدافعون وهم يغادرونه‪ ،‬حتى اجتمعوا بالباحة‪ ،‬ثم أطلقوا عليهم‬ ‫ّ‬ ‫يومها‪،‬‬
‫أما بقية الجنود فقد كوموا ك ُتب القرآن ثم أحرقوها ‪ .‬ال أذكر أن‬ ‫ضرجين بدمائهم‪ّ ،‬‬‫جميعا ُم ّ‬
‫ً‬ ‫الرصاص‪ ،‬ركضوا في كل جهةٍ ‪ ،‬ثم سقطوا‬ ‫ّ‬
‫أحدا من أهالي المحروسة لم يفقد قريبًا‪ ،‬وبعد أيام كنا نُصغي ُمرغمين ألجراس الكنيسة الجديدة التي حلت محل مسجدنا‪ ،‬وقد‬ ‫ً‬
‫الطريق إليه‪ ،‬وصرنا ال ننتبه حتى ن ُفاجأ بأنفسنا أمام الكنيسة‪ ،‬وفي اعتقادنا أن المسجد ال يزال هناك‬ ‫‪.‬اعتادت أرجلنا ّ‬
‫تسربت نسمة باردة‪ ،‬تغلغلت إلى عظامي‪ ،‬فأغلقت النّافذة‪ ،‬خطر لي أن أسير بالشوارع ليل ًا‪ ،‬وعدلت عن رأيي عندما تذكرت لصوص‬ ‫ّ‬
‫كررتها على كافيار‪،‬‬ ‫الرئيسية منها‪ .‬من األشياء الغريبة التي أتذك ّرها كل يوم‪ ،‬وقد ّ‬
‫الشوارع الخلفيّة وحتّى ّ‬
‫عجت بهم ّ‬ ‫ّ‬ ‫باريس‪،‬‬
‫ونهارا‪ .‬عليكم‬
‫ً‬ ‫المحروسة التي كنتم ترونها موطنًا للبَرابرة لم يكن بها لصوص‪ ،‬وال قُطاع طرق‪ ،‬كانت ُشرطتها تسهر على حراستها ليل ًا‬
‫صدقني ديبون ويسخر كافيار مني‪ :‬قل هذا لمن لم‬ ‫عثمان يحرسونها‪ .‬يُ ّ‬‫آمن مدينة في العالم يوم كان بنو ُ‬ ‫االعتراف أنها كانت َ‬
‫‪.‬يعش في المدينة يا ابن ميّار‪ ،‬إنك لن تخدعني بكالمك‬

‫يحومون في‬
‫ُ‬ ‫أسا ِفل النّاس‪،‬‬
‫الشوارع أن تتخل ّص منهم‪ ،‬يلفظ الل ّيل َ‬ ‫ُأصغي إلى ضحكات النّساء والرجال من النّافذة‪ ،‬ال يمكن لهذه ّ‬
‫الطريقة يعيش‬
‫ثان ناسين كل شيء‪ ،‬بهذه ّ‬ ‫جماعات‪ ،‬يشربون ويغنون‪ ،‬ثم تنشب المعارك بينهم‪ ،‬وربما يلتقون في أعمالهم في يوم ٍ‬
‫السل ّاوي الحياة في أمكنةٍ مثل تلك‪،‬‬‫ّ‬ ‫يستطيع‬ ‫سنوات قليلة فقط حتى تُصبح المحروسة مثلها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫النّاس في المدن الكبيرة‪ ،‬وربما بعد‬
‫اء‪ ،‬ولم يكن يستوعب ذلك وهو‬ ‫خط ً‬ ‫ّ‬ ‫يجرب أن يكون إنسانًا‬‫ّ‬ ‫حب أن‬‫الدين بقدر ما كان يميل إلى ُمتع الحياة‪ ،‬يُ ُّ‬
‫لم يكن ميّال ًا إلى ّ‬
‫حبهن أكثر من حبّه ألهل المحروسة‬
‫ّ‬ ‫‪.‬مستغرق في ُمتعه‪ ،‬يرتاد الحانات‪ ،‬ويُسامر البغايا‪ ،‬ي ُ‬ ‫ُ‬
‫ألشق شوارع تتدفّق بالحياة‪ ،‬وتمتزج حركة األجساد بحركة العربات‪ ،‬أنادي على إحداها وأصعد‬ ‫ّ‬ ‫وأحمل حقيبتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يوم جديدٍ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫استيقظ في‬
‫ُ‬
‫الضاجة بالناس‪ ،‬أستغرب ركضهم المتواصل دون‬ ‫الشوارع ّ‬ ‫وتشق بي العربة ّ‬ ‫ُّ‬ ‫على َمتنها‪ ،‬ثم أطلب أن يُقل ّني إلى قُنصلية إسطنبول‪.‬‬
‫توقف‪ .‬يختلف ال ّزمن في أوروبا‪ ،‬يسير بوتير ٍة سريعة‪ ،‬بينما ال يتغيّر في إفريقية‪ ،‬ربما لطبيعة البشر‪ ،‬فهذه األمم قد وجدت ضال ّتها‬ ‫ٍ‬
‫تظل المسارح مفتوحة‪ ،‬يتدفق إليها‬ ‫ّ‬ ‫في مصانعها‪ ،‬وتجارتها‪ .‬صار كل شي ٍء قابل ًا للمتاجرة فيه‪ ،‬ومع هذا لم يتخل ّوا عن منابع ل َهوهم‪،‬‬
‫نمر بدار األوبرا‪ ،‬نرى بناءها الجميل‪ ،‬تُرى ماذا سيُعرض هذا المساء‪ ،‬وهل يكفيني الوقت كي أحصل على‬ ‫ُّ‬ ‫النّاس‪ ،‬وحتّى عندما‬
‫الصباح في بُستان بيته‪ ،‬يدخن غليونه‬ ‫ّ‬ ‫يستقبل‬ ‫عادته‪،‬‬ ‫على‬ ‫ج‬ ‫در‬
‫َ ُ‬ ‫ي‬ ‫هل‬ ‫نصل‪،‬‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ّر‬
‫ً‬ ‫ك‬‫متذ‬ ‫افذة‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫عن‬ ‫ا‬‫مبتعد‬
‫ً‬ ‫ببصري‬ ‫تذكرة؟ ُأشيح‬
‫كل الخواطر‪ ،‬ويبتعد‬ ‫ترتج العربة بي‪ ،‬فتشتّت َّ‬ ‫ّ‬ ‫الباريسيين؟‬ ‫هؤالء‬ ‫مثل‬ ‫تاجر‬ ‫إلى‬ ‫ل‬ ‫تحو‬
‫ّ‬ ‫أنه‬ ‫أم‬ ‫المتسارعة‪،‬‬ ‫من‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫حركة‬ ‫الطويل‪ ،‬ويتأمل‬ ‫ّ‬
‫الشتوي‪ .‬كان ذلك منذ سنتين قد خلتا‪ ،‬وال أذكر عدد‬ ‫مودعا الباشا في رحيله إلى مقامه ّ‬ ‫ً‬ ‫لوح‬‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫جانبي‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫أراه‬ ‫ثم‬ ‫وجه القُنصل‪،‬‬
‫ليتدخَل ويُعيد المحروسة إلى سلطانه‪ ،‬ربما مئة أو أكثر أرسلتها من أمكنة مختلفة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عظم‬ ‫الم ّ َ‬
‫السلطان ُ‬ ‫العرائض التي أرسلتها ُمستعطفًا ّ‬
‫أناس كثيرين‪ ،‬التُجار‪ ،‬والجنود‪ ،‬والسياسيين‪ ،‬وحتّى أولئك الذين لم يكونوا من المحروسة‪ ،‬إنجليز كانت المصالح تجمعهم مع‬ ‫ٍ‬ ‫وعبر‬
‫مده بالسالح‬‫المستعطفة‪ ،‬يرجوهم َّ‬ ‫وأيضا حاكم قسنطينة لم يتوقف عن إرسال عرائضه ُ‬ ‫ً‬ ‫السلطان‪ ،‬أصدقاء من تونس أو طرابلس‪،‬‬ ‫ّ‬
‫تستمر طويل ًا‪ .‬إذن ما الذي يحدث في إسطنبول وجهلناه؟‬ ‫َّ‬ ‫والجنود‪ .‬كل سنة يُحاصره الفرنسيون‪ ،‬ويعودون خائبين‪ ،‬ولكن ُمقاومته لن‬
‫ثغرا من ثُغور الجهاد؟ لم أستوعب كيف يحدث هذا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ويراها‬ ‫السلطان يحتفي بها‪،‬‬ ‫ؤخرهم عن استعادة المحروسة وقد كان ّ‬ ‫ما الذي يُ ّ‬
‫الشوارع‪ ،‬ومن ثم إلى انعطاف العربة‪ ،‬سارت مسافة ثم توقّفت‪،‬‬ ‫ثالث سنوات ولم يتغير شيء! أنتبه إلى تضاؤل عدد النّاس في ّ‬
‫وكن َّا حينها قد بلغنا بيت القُ نصل‪ ،‬رافقني خادمه إلى البهو حيث وجدته في انتظاري‪ .‬جلسنا متقابلين بينما كان يحشو غليونه‪،‬‬
‫َّ‬
‫حل‬ ‫السلوكيات العثمانية تُرافق القُنصل‪.‬‬
‫الش رقي األسمر الذي وضع الفنجان األول‪ ،‬ثم غاب ليعود بالثاني‪ ،‬تظل ّ‬ ‫حدقت بالخادم ّ‬ ‫ّ‬
‫‪:‬بباريس منذ سنوات إال أنه لم يُغيّر شيًئا منها‪ ،‬أشعل غليونه‪ ،‬وخاطبني‬

‫الشيخوخة؟ ‪-‬‬
‫ما الذي حدث لك يا ابن ميّار‪ ،‬سنتان تُسرعان بك إلى ّ‬

‫لم تعد لنا طاقة على التحمل‪ ،‬الفرنسيون يضطهدوننا من جهة‪ ،‬والسلطان ال يبالي بنا‪ ،‬فكيف ال نهرم يا سيدي؟ ‪-‬‬

‫المرة األخيرة فقد ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫أما في‬
‫السلطان قد بذل كل ما في وسعه‪ ،‬أرسل ُرسله للصلح قبل بداية الحرب‪ ،‬ولكن الباشا تعنّت برأيه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الر سول وأعادوه إلى طولون ولم يطلقوا سراحه إال بعد اجتياحهم المدينة‬
‫‪.‬احتجز الفرنسيون ّ‬
‫أيضا‪ ،‬فلِم لم يتوعدهم؟ ‪-‬‬
‫ً‬ ‫عظم لم يكن هينًا سلطانه‪ ،‬وال جيشه‬
‫الم ّ‬
‫السلطان ُ‬
‫ولكن ّ‬
‫يوم ‪-‬‬‫ٍ‬ ‫الدولة التي كانت قوية لم تعد اآلن مثل سابق عهدها‪ ،‬كل‬
‫مختلف‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قد تغيّر العالم القديم ونحن اآلن على مشارف عه ٍد‬
‫أرضا‪ ،‬الحرب مع روسيا ُم شتعلة‪ ،‬ومحمد علي باشا بعد أن ساوم الفرنسيين لينوب عنهم في احتالل الجزائر‪ ،‬صار يبحث عن‬ ‫ً‬ ‫تفقد‬
‫السلطان إلى الجزائر‬
‫ّ‬ ‫يلتفت‬ ‫فكيف‬ ‫االنفصال‪،‬‬ ‫تريد‬ ‫الحروب‬ ‫تشعل‬ ‫فتأ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫أخرى‬ ‫وأمكنة‬ ‫ولة‪،‬‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫من‬ ‫آخر‬ ‫جزء‬ ‫في‬ ‫خصي‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫مجده‬
‫وحدها؟‬

‫مختلف ‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫وضع‬
‫ٌ‬ ‫‪.‬ولكن للجزائر‬

‫ضد الحملة على الجزائر‪ ،‬لكنهم سئموا من مماطلة ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫منذ سنوات ثالث وأنا أتحاور مع الفرنسيين بالتعاون مع اإلنجليز وقد كانوا‬
‫الفرنسيين‪ .‬أتدري ب َِما كانوا يجيبوننا؟‬
‫ب َِم؟ ‪-‬‬

‫السلطان في إسطنبول‪ .‬وهذا كفيل بأن نتعامل معها على ‪-‬‬ ‫الدولية دون مشاورة ّ‬‫قالوا لنا‪« :‬اعتاد باشا الجزائر توقيع المعاهدات ّ‬
‫‪!».‬أنها دولة قائمة بذاتها وليس لكم أي ُسلطان عليها‪ ،‬فلِ َم تُطالبون بإعادتها لكم؟‬

‫أيضا إلى ‪-‬‬


‫ً‬ ‫الشرق‪ ،‬أو مع نظام الخالفة إذ لم تخضع فقط للسياسة‪ ،‬بل‬
‫الدول في ّ‬
‫ال يمكن أن يستوعب األوروبيون كيف تقوم ّ‬
‫‪.‬كونها أمة ُمسلمة واحدة‬

‫دساتير ُهم من ‪-‬‬


‫َ‬ ‫هم ال تعنيهم هذه األشياء يا ابن ميّار‪ ،‬قد تخلصوا منها منذ زمن‪ ،‬ال يحكم الل ّه عالقاتهم‪ ،‬بل يحتكمون إلى‬
‫أيض ا من خاللها‪ ،‬فإما أن نكون األقوى لنفرض وجهة نظرنا‪ ،‬أو نرضخ لهم‬
‫ً‬ ‫‪.‬ش ّرعها حسب حاجاتهم‪ ،‬وينظرون إلى العالم من حولهم‬ ‫َ‬

‫السلطان شيًئا؟ ‪-‬‬


‫واآلن ما الذي يجدر بنا فعله‪ ،‬هل ننتظر من ّ‬
‫الروس‪ ،‬وبعدها يمكننا أن نتباحث طويل ًا في ‪-‬‬
‫اآلن ال نستطيع فعل شيء إال بعد الفراغ من مشاكلنا مع محمد علي‪ ،‬ومن ثم مع ّ‬
‫‪.‬الطريقة التي نعيد بها المحروسة‬
‫ّ‬
‫بعيدا يا سيدي‪ ،‬وحينها لن يبقى لنا شيء نُعيده ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬يبدو األمر‬

‫متشائم ا بل عليك أال تتوقف عن إرسال عرائضك إلى الملك‪ ،‬فالملوك ليسوا مثل قادة الجيوش ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬ال تكن‬

‫‪.‬نعم‪ ،‬ما مجيئي لباريس إال لتسليم العريضة لوزير الحربية أو الملك ‪-‬‬

‫الصعب لقاء الملك‪ ،‬ولكنني سأحاول ترتيب موع ٍد لي مع وزير الحربية ‪-‬‬
‫‪.‬من ّ‬

‫‪.‬وسأكون ممتنًا لك يا سيدي ‪-‬‬

‫‪-‬‬ ‫هذا األمر ال يعنيك وحدك‪ ،‬بل يعني الجميع في إسطنبول‪ ،‬ربما ال تتصور الخيبة التي استقبلوا بها احتالل الجزائر‪ ،‬كانت حلم‬
‫فرط بأجمل األشياء التي نملكها‪ ،‬كان يمكنه االعتذار‪ ،‬ولكنّه‬‫الصغيرة تجعلنا ن ُ ّ‬
‫الجميع‪ ،‬ولكن الباشا فرط بها بسهولة‪ ،‬بعض الحماقات ّ‬
‫حزين‪ ،‬حينما أتيقّن أن‬‫ٌ‬ ‫أضل الكثيرين في إسطنبول أننا مازلنا أقوياء مثل األيام الماضية‪ ،‬سأصارحك يا صديقي أنا‬ ‫ّ‬ ‫صدق الوهم الذي‬
‫ّ‬
‫الصناعية‬
‫ّ‬ ‫بقوتها‬ ‫متعلق‬
‫ٌ‬ ‫اآلن‬ ‫مجدها‬ ‫أن‬ ‫أوروبا‬ ‫َت‬ ‫ك‬‫أدر‬ ‫حين‬ ‫األفول‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫رق‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫يسير‬ ‫وال‪،‬‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫بدأ‬ ‫قد‬ ‫القديم‬ ‫العالم‬ ‫‪.‬مصير‬

‫السلطان ُسليمان‪ ،‬واآلن‬


‫الد وام‪ ،‬اآلن لم تعد إسطنبول مثل سابق عهدها‪ ،‬بعد أن ضاع المجد الذي خل ّفه ّ‬
‫كان القُنصل ُمحقًا على ّ‬
‫وميوالتهم ونزوعاتهم‪ .‬ودعت ال ُقنصل وغادرت حديقته الجميلة‪ ،‬ولم أنتظر بلوغ المنعطف‪،‬‬
‫الدولة لشساعتها‪ ،‬وتن ُ ّوع أعراق النّاس‪ُ ،‬‬
‫تتفكك ّ‬
‫‪.‬إذ أشرت ألول عربة‪ ،‬وركبتها‬

‫الشرق جهة‪ .‬تظل‬ ‫تُخل ّفني العربة في قلب باريس‪ ،‬تخطو رجالي أبحث عن أشياء ال أراها‪ ،‬ثم انتبه إلى نفسي أنني اتخذت من ّ‬
‫أي قناع اتخذه‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫السل ّاوي ليوافقني‪ ،‬وحتّى ميمون‬
‫حتما على من تعلق بالمحروسة‪ ،‬مثلي ومثل الكثيرين‪ .‬لم يكن ّ‬
‫ً‬ ‫مصيرا‬
‫ً‬ ‫تلك الجهة‬
‫بعد عودته إلى المحروسة؟ تذكرت هيئته ونحن عائدون بالموافقة على شروط االستسالم‪ ،‬كان خائبًا من رفض بُورمون‪ ،‬وتراءت لي‬
‫السل ّاوي حين‬
‫ب ّ‬ ‫عيّن على رأس المجلس البلدي للمدينة‪ ،‬إضافة إلى بعض أعيان المحروسة‪ ،‬ويهوديَّين‪ ،‬وفرنسيين‪ .‬غ َِض َ‬ ‫مالمحه حين ُ‬
‫‪:‬رآني معهم‪ .‬وخاطبني‬

‫مجلس ُأنشئ ألخذ مالنا‪ ،‬وفوق كل هذا على رأسه ميمون ‪-‬‬
‫ٌ‬ ‫!ما الذي تفعله بينهم‪،‬‬

‫‪.‬قبلت بالمنصب ألحافظ على ما تبقّى من مساجدنا‪ ،‬ومن أجل تعويض النّاس الذين ُسلبت منهم بيوتهم وبساتينهم ‪-‬‬

‫تحصلوا شيًئا منهم ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫!هيهات يا صديقي أن‬

‫السل ّاوي ُمحقًا يومها‪ ،‬ولم يغظني أن يأخذ الفرنسي ِضياعي‪ .‬بقدر ما آلمني أن ي َ َضع أحد أهالي المحروسة نفسه في‬
‫ربما كان ّ‬
‫خدمتهم‪ ،‬حرص ميمون على اختيار أفضل البيوت لمقام ُضبّاطهم‪ ،‬وأجمل المساجد كي يحولوها إلى مخازن وثكنات‪ .‬وكلما التقيته في‬
‫‪:‬المجلس‪ ،‬كنت أواجهه‬

‫نحرص يا ميمون على أهالي المحروسة بقدر ما نحرص على أنفسنا‪ ،‬ومن لديه مصلحة في هذا المجلس فليعلم أنه ليس غرفة ‪-‬‬
‫‪.‬تجارية ألحد‬

‫يبتسم ببرودة‪ ،‬ال يخجل من كوني أعرف الحقيقة‪ ،‬ومقدار األموال التي يأخذها من األعيان ليُرجع لهم ضياعهم‪ .‬مثل ًا أنا ُمتيقّن أنه‬
‫مزيدا من المال‬
‫ً‬ ‫‪.‬لن يعيد شيًئا‪ ،‬يُوهمهم حتى يأخذ‬

‫ال يمكن ألح ٍد أن يطلبه إلى القضاء‪ ،‬حتى وإن أنصفه القاضي المالكي فإن الحكم لن يُن ّفذ‪ .‬يعلم ميمون كل تلك األشياء وهو يراكم‬
‫الضباط أوحى لهم بقدرته على تغيير‬
‫ّ‬ ‫الوعود لهم مثلما يراكم أموالهم‪ ،‬ويُرسلها عبر شركائه إلى مرسيليا‪ ،‬ولعل قرب ميمون من‬
‫حصلوا شيًئا من خالله‪ .‬لكنهم ال يعون‬
‫وأردد على مسامعهم كلما جاءوني شاكين‪ ،‬ليس عليكم دفُع مالكم إليه‪ ،‬فلن تُ ّ‬
‫ّ‬ ‫أحوالهم‪.‬‬
‫وصرت في نظرهم عميل ًا للفرنسيين‪ .‬وانتهت حكاية المجلس بطردي منه‬ ‫ُ‬ ‫بالسوء عني‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫‪.‬كالمي إال بالقدر الذي يتكلمون‬

‫مفكرا في األيام القادمة‪ ،‬وهل‬


‫ً‬ ‫واستلقيت في غرفتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أظل أنتقل من شارع إلى آخر‪ ،‬ويُقابلني فجأة باب الفندق‪ ،‬خطوت تجاهه‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫علي‬
‫ّ‬ ‫كان‬ ‫أخرى‬ ‫تفاصيل‬ ‫أكتشف‬ ‫قراءتها‪،‬‬ ‫أعدت‬ ‫وكلما‬ ‫أمامي‪،‬‬ ‫أبسطها‬ ‫العريضة‪،‬‬ ‫د‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫أتف‬ ‫‪.‬‬ ‫الوزير‬ ‫مع‬ ‫د‬
‫ٍ‬ ‫موع‬ ‫تحديد‬ ‫في‬ ‫نصل‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫سيجتهد‬
‫ومر األسبوع‬
‫ّ‬ ‫الصفحة تلو األخرى‪،‬‬
‫تدوينها‪ ،‬أسحب األوراق من المحفظة وأبسطها‪ ،‬أبدأ في الكتابة‪ ،‬وال أنتبه إلى نفسي إال وقد حبَّرت ّ‬
‫تخطفتني ُح َّمى الكتابة في الفندق كل صباح أستيقظ فال أرى إال األوراق أمامي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫األول ولم يصلني شيء من القُنصل‪ ،‬لم أحزن إذ‬
‫أرد على كلوزيل وعلى كافيار‪ ،‬فأقول‪ :‬على الباريسيين‬ ‫أبدا في استرجاع حكايات أهالي المحروسة‪ ،‬وبعض تاريخهم‪ .‬تمنيت لو ّ‬ ‫ً‬
‫رجل ولد في المحروسة وعاش بها‪ ،‬ثم ُحرم‬ ‫ٍ‬ ‫المتنورين معرفة أن ما يسمعونه من ُضبّاطهم لم يكن حقيقة‪ ،‬عليهم اإلصغاء بانتباه إلى‬
‫حمى الكتابة تنتابني فال تُغادرني إال قليل ًا‪ .‬واألوراق تتراكم كل يوم‪ ،‬حتّى أنستني موعد القُنصل في األسبوع‬ ‫َّ‬ ‫ُج ّل حقوقه‪ .‬كانت‬
‫أسبوعا آخر‪ ،‬وكأنه يُمهلني حتى انتهي من تصحيحه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الشهر‪ .‬كنت قد شارفت على إنهاء الكتاب‪ ،‬وتأخر رسول القُنصل‬ ‫األخير من ّ‬
‫أفقت في صباح مختلف على عامل الفندق يُعلمني بوصوله‪ ،‬في عجلة ارتديت ثيابي‪ ،‬وحملت محفظتي‪ ،‬شقّت بنا العربة شوارع‬
‫‪:‬أعرفها وأخرى أجهلها حتى كنا أمام حديقة القُنصلية‪ ،‬ووجدت القُنصل في انتظاري‪ .‬ابتسم كعادته وقال‬

‫للسالم مع محمد علي وسيلتفت اآلن إلى الجزائر ‪-‬‬


‫السلطان ُمعاهدة ّ َ‬
‫‪.‬قد أمضى ّ‬
‫خبر يبتدئ به المرء يومه ‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬آه‪ ،‬هذا أجمل‬

‫‪.‬نعم‪ ،‬وسنذهب سويًا إلى الموعد ‪-‬‬

‫لوزير الحربية؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ال بل لمسؤول في القصر‪ ،‬وسيس ِل ّم عريضتك للملك ً‬


‫يدا بيد ‪-‬‬

‫لخبر آخر مفرح يا سيدي القُنصل ‪-‬‬


‫ٌ‬ ‫‪.‬إنّه‬

‫تحوطه األشجار على جانبيه‬


‫ُ‬ ‫ممتدة‪ ،‬انعطفنا عبر درب في اتجاه مغاير‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حملتنا العربة إلى باريس‪ ،‬وقد تراءت لنا الحقول من حولها‬
‫ثم توقفت العربة ونزل القُ نصل وكنت في أعقابه‪ ،‬وحين استقامت أجسادنا على األرض تراءى لي القصر يشهق عاليًا‪ ،‬عند بابه عجوز‬
‫وبخطى ثقيلة سرنا إلى بهو القصر‪ ،‬ثم إلى مكتبه‪ ،‬على جانبي جدرانه اصطفت‬ ‫ً‬ ‫الدرجات وحيّيناه‪،‬‬
‫بالكاد يستطيع الوقوف‪ .‬صعدنا ّ‬
‫‪.‬مئات الكتب‪ ،‬أثارتني كثرتها‪ ،‬وألوانها المتباينة‪ ،‬يعرف أولئك الفرنسيون كيف يحتفون بثقافتهم‬

‫السالسل المتواصلة والمرتّبة‬


‫سبقني القُنصل إلى الجلوس بينها ألهتني الك ُتب‪ ،‬قرأت بعض العناوين ربما أكثر شيء كان يجذبني ّ َ‬
‫مفرطين في كتُبنا وتاريخنا وكل شيء يتعلق بثقافتنا‪ .‬أومأ لي ال ُقنصل‪ ،‬فالتحقت بهما‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أبجديًا أو باألرقام‪ ،‬قدرت أننا بالفعل كنا‬
‫المقربين عند الملك‪ ،‬ورحب بنا العجوز‬
‫ّ‬ ‫ياسة‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫رجال‬ ‫من‬ ‫أنه‬ ‫على‬ ‫نصل‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫لي‬ ‫مه‬‫قد‬
‫ّ‬ ‫قبالتنا‪،‬‬ ‫وجلست إلى جانبه‪ ،‬وكان العجوز في‬
‫تعب با ٍد ‪ ،‬ثم أومأ لي أن أبسط طلبي‪ ،‬ولم أدر من أين سأبدأ‪ .‬فسحبت العريضة من محفظتي‪ ،‬وسلمتها له‪ ،‬وقلت‪ :‬إنك يا‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫سيدي لن تجد مرآة تعكس الحقيقة مثلما تعكسها هذه العريضة بين يديك‪ .‬كل رجائي أن تُسل ّمها إلى الملك‪ ،‬وسأكون ممتنًا لك‪.‬‬
‫صمت وهو يُقل ّب الوثيقة‪ ،‬طالعها من خلف نظارته ثم قال‬ ‫ُّ‬ ‫‪:‬ثم‬

‫أنت من كتبها؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نعم يا سيدي ‪-‬‬

‫المور يُحسنون الفرنسية‪ ،‬ولو بهذا القَدر ‪-‬‬


‫!لم يخبرني أحد أن ُ‬
‫الش يخ األوراق‪ ،‬كان يحرك رأسه بين الحين واآلخر ‪ .‬ال يتسامح أولئك مع األخطاء الل ّغويّة بينما يدوس العسكريون المواثيق‬
‫تصفح ّ‬
‫الشيخ دقائق حتى انتهى منها‪ ،‬ثم خاطبني‬ ‫ّ‬ ‫استغرق‬ ‫‪.‬‬ ‫‪:‬بأحذيتهم‬

‫صحيحا فلن نسكت عن األمر‪ ،‬وستُشكَّل لجنة تُعاين المدينة في أجل أقصاه شهران أو ثالثة ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬إن كان ما كتب في العريضة‬

‫‪.‬كل ما ك ُتب هناك له دالئله في الواقع‪ ،‬ليس على الل ّجنة إال المجيء إلى الجزائر ‪-‬‬

‫‪.‬وهذا ما سنَسعى إليه ‪-‬‬

‫بثقل إلى الباب ثم شيّعنا بعينيه‪ ،‬ويده تقبض على العريضة‪ .‬عبرت‬ ‫ٍ‬ ‫ثم ودعناه‪ ،‬ورافقنا‬
‫قال ذلك ثم قام‪ ،‬فقمنا في إثره‪ ،‬شكرناه ّ‬
‫وحدقت‬
‫ّ‬ ‫الدرب بين األشجار‪ ،‬شقت بنا شوارع باريس حتى كنا بال ُقنصلية‪ ،‬وهناك تذكرت ال ِكتاب‪ ،‬سحبته من المحفظة‪،‬‬ ‫بنا العربة ّ‬
‫‪:‬بال ُقنصل مليًا‪ ،‬ثم وضعت كومة األوراق بين يديه‪ ،‬قل ّبها ثم قال‬

‫ناشر لها؟ ‪-‬‬


‫ٍ‬ ‫أتريدني أن أبحث عن‬
‫‪.‬نعم ستكون خدمة أخيرة لي ‪-‬‬

‫كن مطمئنًا يا ابن ميّار‪ ،‬لي أصدقاء منهم‪ ،‬وهناك من يتعاطف مع أفكارنا‪ ،‬سيُطبع الكتاب‪ ،‬وربما ستراه في المحروسة قبل وصول ‪-‬‬
‫‪.‬الل ّجنة‬

‫‪.‬آمل ذلك يا سيدي القُنصل ‪-‬‬

‫سعرا مضاعفًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ودعت ال ُقنصل وعدت إلى الفندق‪ .‬في اليوم الثّاني كنت ألوح لعربة تقلني إلى ليون‪ ،‬توقفت واحدة وطلب الحوذي‬
‫وافقت دون مناقشة‪ ،‬وتأملت سماء باريس للمرة األخيرة‪ ،‬كنت متفائل ًا أن تَنجلي الغمامة في داخلي‪ ،‬فربما أرى المستقبل بوضوح‪،‬‬
‫الصفاء يعود إلى نفسي مع توغلنا أكثر في الحقول‪ ،‬مخل ّفين باريس وزمنها المتسارع‪ ،‬وفي القلب‬ ‫ولكنّها ظل ّت على قتامتها‪ ،‬ثم بدأ ّ‬
‫‪.‬رغب ٌة أل ّا أعود إليها‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫السل ّاوي‬
‫‪ ‬حمة ّ‬
‫ّ‬
‫الطفل‪ .‬يظل يركض مع‬ ‫حمة ّ‬ ‫ّ‬ ‫السقائف الملتوية يتيه بها‬
‫أقف عند عتبة بيتي‪ ،‬فيفاجئني الخواء الموصل إلى حارة الميّارين‪ ،‬كانت ّ‬
‫دورات عديدة حتى يبلغها‪ ،‬منت ّقل ًا بين أسواقها‪ ،‬يثيره ضجيج الباعة‪ ،‬واللهجات المتباينة‪ .‬واآلن‬ ‫ٍ‬ ‫انحناءاتها‪ ،‬ويدور في المكان نفسه‬
‫يبق‬
‫َ‬ ‫لم‬ ‫المغلقة‪،‬‬ ‫حوانيته‬ ‫أبواب‬ ‫تواجهني‬ ‫‪.‬‬‫وق‬ ‫الس‬
‫ُّ‬ ‫أبلغ‬ ‫حتى‬ ‫أس‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫مطأطئ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫وحيد‬
‫ً‬ ‫رب‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫أقطع‬ ‫أرى حارة الميّارين من عتبة بيتي‪،‬‬
‫محتجين‪ ،‬يُريدون االستحواذ على‬ ‫ّ‬ ‫أبوابها‬ ‫عند‬ ‫يجتمعون‬ ‫إيطاليا‪،‬‬ ‫من‬ ‫ى‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وح‬ ‫ومالطا‬ ‫إسبانيا‬ ‫من‬ ‫األوروبيون‪،‬‬ ‫منها إال القليل‪ ،‬بعضه احتل ّه‬
‫يلتف بعضهم في لباس أهل‬ ‫ُّ‬ ‫كل شيء‪ .‬أتجاوزهم وأعبر شارع المحروسة الكبير‪ ،‬ألنعطف إلى حي المقاهي ‪ .‬ال يُفاجئونني هناك‪،‬‬
‫‪.‬المحروسة واألتراك‬

‫أجدها‪ ،‬يزداد غيظي كلها عبرت دربًا أتوهم أني‬ ‫ُ‬ ‫الشاب فال‬
‫شهر وأنا أطوف المدينة‪ ،‬أبحث عن العيون التي زرعها األمير ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أكثر من‬
‫السقائف‪ ،‬ثم يخيب ظني فيه‪ ،‬وهكذا دواليك‪ ،‬في كل يوم أجدني أتتبّع النّاس في دروب مختلفة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عبر‬ ‫أثره‬ ‫ى‬ ‫ف‬
‫ّ‬ ‫أتق‬ ‫منها‪،‬‬ ‫ا‬‫واحد‬
‫ً‬ ‫رأيت‬
‫وأستجلب لنفسي سباب الكثيرين‪ .‬ولم أتوقف عن بحثي‪ ،‬ثم هممت بحمل ُص ّرتي والرحيل نحو الغرب‪ .‬ولكن لم تنطفي الحرائق‬
‫بعد في داخلي‪ ،‬كلما أبصرت وجهه‪ ،‬أو رأيت أحد جنوده‪ ،‬يُطوفون به المحروسة‪ .‬وكلما عبرت إلى المبغى تُقابلني وجوه فتيات‬
‫زوار واحدة لليلته‪ ،‬كان األمر قاسيًا كلما أبصرته خفية من سقيفة‬ ‫رأيتهن يَصطففن هناك‪ ،‬يختار بينهن ِ‬
‫الم َ‬ ‫ّ‬ ‫قدمن حديثًا‪ ،‬يهتز قلبي كلما‬
‫حصن‬‫علي أن أنتهي منه بسرعة‪ ،‬ولكنّه يظل يُ ّ‬‫ّ‬ ‫قطعا جسده‪ .‬ولكنّه يحتمي بجنوده‪ .‬كان‬ ‫ما‪ ،‬ترتعش اليدان تبحثان عن ِخنجر لتُ ّ‬
‫نفسه‪ .‬العديد من الخطط رسمتها في ُمخيّل َتي كي أقتنصه بين جنوده‪ ،‬وكانت كلها غير مقنعة‪ .‬كيف لي إذن أن ُأشبع جسده‬
‫تتوزع مثل األوراق التي نُثرت في سقائف‬
‫ّ‬ ‫قطعا كثيرة‪ِ ،‬م َزقًا‬
‫ً‬ ‫بالطعنات؟ لن تكون طعن ًة وحيد ًة‪ ،‬تحتاج يداي أن تنال من جسده‬
‫الخطط ال تستقيم‬
‫ُ‬ ‫ساح في سطاوالي‪ ،‬في الحراش‪ ،‬ومن أجساد كل الفَتيات الل ّواتي اغتصبهن‪ .‬ولكن‬ ‫َ‬ ‫المدينة‪ ،‬يسيل دمه مثل الذي‬
‫مدني بواحدةٍ؟ هل يستطيع ابن ميّار ذلك؟ كان سيرفض‪ ،‬ويقول‬ ‫‪:‬في ذهني‪ .‬من تراه يَ ُّ‬

‫شخصا آخر ليشغل وظيفته ‪-‬‬


‫ً‬ ‫زوار‪ ،‬سيجد الفرنسيون‬ ‫‪.‬لن ينهي القتل ِ‬
‫الم َ‬

‫بفم مآلن‬
‫ٍ‬ ‫‪:‬وسأرد حينها‬

‫فاسدا من بقايا بني عثمان فقط‪ ،‬بل سأقتل أسوأ شيء استمر بين زمنين‪ :‬زمن بني ‪-‬‬
‫ً‬ ‫مختلف‪ ،‬إنني لن أقتل رجل ًا‬
‫ٌ‬ ‫ال إن األمر‬
‫‪.‬عثمان وزمن الفرنسيين‬

‫حينها سيصمت ابن ميّار‪ ،‬ألنّه لن يجد الكلمات التي يُقنعني بها‪ ،‬سيرى يدي المرتجفتين‪ ،‬ولن يستغرقه الكثير‪ ،‬ليكتشف حجم‬
‫‪.‬الرغبة بداخلي‬
‫ّ‬
‫إلي الحراس‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫وأحث المسير كأنها ينتظرني أحد هناك‪ ،‬ثم تراءت لي البوابة‪ ،‬سرت تجاهها‪ ،‬لم ينتبه‬ ‫انسحب تجاه الباب الغربي‪،‬‬
‫انحدرت حتى وقفت عند جدرانها الواطئة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الط ريق الترابي‪ ،‬جالت عيناي في فضاء المقابر‪ ،‬لم يكن هناك أناس كثيرون‪،‬‬
‫انحدرت عبر ّ‬
‫ورأيت ديبون هناك يقف عند الباب‪ ،‬ي ُوشك أن يتشابك مع شاب مالطي‪ .‬خطوت حتى كنت إلى جانبها‪ ،‬وقبل أن أحييه سبقتني‬
‫نعه نبش القبور‪ ،‬ولكنهم‬‫وم ِ‬
‫المحقّق من مرسيليا‪َ ،‬‬
‫الشاب ‪ .‬ال يزالون على عادتهم وقد ظننت أنهم توقّفوا بعد وصول ُ‬
‫قبضتي إلى وجه ّ‬
‫راكضا تجاه البوابة‪ ،‬كنت أدري أنه لن يجرؤ أن‬
‫ً‬ ‫الشاب المالطي‬
‫فر ّ‬ ‫جابهتهم دون سالح‪َ ّ .‬‬
‫لم يتوقّفوا‪ ،‬ولم يستطع حراس المقابر ُم َ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الح ّر اس‪ .‬كان المالطيون ال يختلفون عن اليهود في المحروسة‪ ،‬إذ احتقرهم الفرنسيون مثلما احتقرونا نحن‬
‫ُ‬ ‫يشكوني إلى‬
‫فالتفت إليه وسألته‬
‫ُّ‬ ‫‪:‬انتبهت إلى ديبون يُحيّيني‬

‫السر في عودتك؟ ‪-‬‬


‫منذ متى وأنت هنا‪ ،‬وما ّ‬
‫أما لماذا فتلك قصة طويلة ‪-‬‬
‫‪.‬منذ شهرين تقريبًا وصلت من طولون‪ّ ،‬‬
‫وما الذي تفعله في مقابرنا؟ ‪-‬‬

‫!إنّه الهدف نفسه الذي جعلني أركب البحر إلى الجزائر‪ ،‬وليتني ما وصلت ‪-‬‬

‫!نعم تغيرت أشياء كثيرة ‪-‬‬

‫شارعا يتجل ّى لي ُمختلفًا‪ ،‬وحتّى النّاس استسلموا لهوانهم‪ُ ،‬مطأطئين رؤوسهم‪- ،‬‬
‫ً‬ ‫لم أكد ُأميّز المحروسة التي تركتُها‪ ،‬وكل يوم أعبُر‬
‫ِ‬
‫‪.‬وراضخين بطريقة ُمخزية‪ .‬كيف ال يحتجون على سرقة عظامهم‬

‫‪.‬لم يبقوا لنا شيًئا من المدينة التي نعرفها ‪-‬‬

‫متشائما مثلك‪ ،‬يمكننا أن نُغيّر أشياء كثيرة ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬لست‬

‫!أتعتقد فعل ًا يا ديبون أننا نتكلم عن المدينة نفسها؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ولِ َم ال؟ قد نتفق في أشياء كثيرة ‪-‬‬

‫‪.‬ال أريد اآلن إال جالء جنودكم عن المحروسة يا ديبون ‪-‬‬

‫الرحيل؟ إنك تفكر مثل طفل يريد أن يمحو بك ِفّه شكل ًا رسمه ‪-‬‬ ‫قد أتفق معك يا صديقي‪ ،‬ولكن قل لي هل سيدفعهم اتفاقنا إلى ّ‬
‫أما الجالء فهو أمر بعيد المنال‬
‫جميعا‪ .‬علينا اليوم تغيير ما نستطيعه‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬على التراب بأصبعه‪ .‬األمر يتجاوزنا‬

‫‪.‬أنت محق يا ديبون‪ ،‬حين يتعلق األمر بالمحروسة فإنني أرغب مثل طفل ‪-‬‬

‫يضحك ديبون‪ ،‬مثلما ضحك ابن ميّار‪ .‬أفك ّر بطريقة مغايرة‪ ،‬وأنفعل من أشياء ال ينفعلون منها‪ ،‬وأبكي حين يضحكون‪ ،‬وأضحك حين‬
‫‪.‬يبكون‬

‫الظالم‪ .‬ثم رأيت القمر يطل من بين األسطح‪،‬‬ ‫أفترق عن ديبون‪ ،‬ما إن نعبر قوس الباب‪ ،‬انعطفت عبر أول سقيفة مع حلول ّ‬
‫جدار أشعل بي رغبات قديمة‪ ،‬يوم كنت أشرب في ليالي المحروسة المقمرة‪ ،‬فوق سطح البيت‪ ،‬وأراقبه‬ ‫ٍ‬ ‫راقبته مليًا متكًئا على‬
‫الصوت مني أكثر غيّرت‬‫ّ‬ ‫اقترب‬ ‫وحين‬ ‫خلفي‪،‬‬ ‫خطوات‬
‫ٍ‬ ‫وقع‬ ‫أسمع‬ ‫منها‬ ‫اقتربت‬ ‫وكلما‬ ‫الحانة‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫رجالي‬ ‫تحركت‬ ‫حتى يأفل‪.‬‬
‫الط ريق‪ ،‬وأسرعت في مشيي‪ ،‬ثم كانت تتعقبني‪ .‬حتى عبرت أمام باب الحانة ولم أدخلها‪ ،‬بل هرولت إلى أن وصلت إلى نهاية‬ ‫ّ‬
‫السور نصف المهدم‪ ،‬وحام قريبًا مني‪.‬‬
‫سريعا‪ ،‬بينا عبر الخيال الثّاني ّ‬
‫ً‬ ‫فمر بي خيال أحدهم‬
‫َّ‬ ‫بيت نصف ُمهدم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الشارع‪ ،‬واختبأت في‬ ‫ّ‬
‫وما إن اقترب أكثر حتى داهمته من الخلف‪ ،‬وأحكمت الخناق على عنقه‪ ،‬فتوسل يطلب األمان‪ ،‬بدا لي صوته مألوفًا‪ ،‬فككت يدي‬
‫‪:‬عن عنقه‪ ،‬ولم أنتبه إلى الخيال الثّاني يلتحق بنا‪ ،‬ثم وقفا في مقابلتي‪ ،‬قلت‬

‫لماذا تسيران في إثري؟ ‪-‬‬

‫الطريق‪ ،‬وتهذي بكلمات ال تعنيك في شيء ‪-‬‬


‫‪.‬بل ما الذي تريده أنت؟ كل يوم نراك تعترض النّاس في ّ‬
‫وما شأنكما فيما أفعله؟ ‪-‬‬

‫زءا من وجهه‪ ،‬استعدت حينها مالمحه‪ ،‬كان من الذين حاربوا معنا في سيدي‬‫الشخص الثّاني مني‪ ،‬وأضاء القمر ُج ً‬
‫عندئذ اقترب ّ‬
‫يبق شخص يجرؤ على حمل بندقية داخل المحروسة‪.‬‬ ‫شبح‪ ،‬فما الذي يريده مني اآلن‪ ،‬ولم َ‬
‫ٍ‬ ‫فرج‪ .‬وها هو اآلن يتراءى لي مثل‬
‫الشاب إلى الخلف واقترب األول مني‪ ،‬ثم همس لي‬
‫‪:‬تراجع ّ‬

‫حمة‪ ،‬لعلك تذكر اليوم الذي تتبعتني حتى باب ع ّزون‪ ،‬وتذكر َشتيمتي لك‪ ،‬واآلن نحن وحدنا‪ ،‬ما الذي كنت تريده مني ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫اسمع يا‬
‫يومها؟‬

‫مسترجعا وجهه‪ ،‬نعم قد كان هو‪ ،‬تُرى هل هؤالء هم الذين كنت أبحث عنهم؟ أم أنهم جواسيس زرعهم كافيار‪ ،‬أو القائد‬
‫ً‬ ‫صمت‬
‫ُّ‬
‫الجديد فوارول في المدينة؟ ولكن ما الجدوى من ذلك‪ ،‬وقد أضحى عدد الجنود أكثر من سكان المحروسة‪ .‬رفعت رأسي تجاه األول‬
‫‪:‬ثم قلت‬
‫‪.‬نعم كنت أبحث عن عيون األمير‪ ،‬أرغب في االلتحاق به ‪-‬‬

‫الطريق على النّاس؟ ‪-‬‬


‫وهل يتم األمر بقطعك ّ‬
‫‪.‬لم يكن لي سبيل غير ذلك ‪-‬‬

‫ولماذا تريد االلتحاق به؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ال يسأل عن هذا من قاتل في سيدي فرج وسطاوالي ‪-‬‬

‫‪:‬صمتنا دقائق‪ ،‬ثم أردفت‬

‫واآلن‪ ،‬هل يمكن أن أعرف سبب هذه األسئلة؟ ‪-‬‬

‫‪:‬أجابني أحدهما‬

‫نبت في األمر سنجدك بالتأكيد ‪-‬‬


‫ُّ‬ ‫مرة أخرى فال تعترض سبيلنا‪ ،‬وحين‬
‫حمة‪ ،‬وإن رأيتنا ّ‬
‫ّ‬ ‫‪.‬سنرحل اآلن يا‬

‫شاهدا على ليلة غريبة من ليالي المحروسة‪ .‬قفزت من فوق الجدار‪،‬‬


‫ً‬ ‫الظلمة‪ ،‬كان القمر‬
‫بيسر قفزا فوق الجدار المهدم‪ ،‬واختفيا في ّ‬
‫ٍ‬
‫أصوات في داخلي كانت تقول إنهما من كنت أبحث عنهما‪ ،‬هما‬
‫ٌ‬ ‫ومضيت إلى بيتي‪ ،‬استغربت ليلتها كيف صدقتهما بسهولة‪،‬‬
‫‪.‬سيُوصالنني إلى المكان الذي أريده‬

‫الطائر الذي رحل حين‬ ‫مرتين‪ ،‬ثم انتحيت جانبًا‪ ،‬لم أسمع صوتًا سوى لقلقة ّ‬ ‫الصباح توجهت إلى بيت ابن ميّار‪ ،‬ودققت الباب ّ‬ ‫في ّ‬
‫الرواق‪ ،‬ولكن ُدوجة لم تحضني‪ ،‬لم‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫فاجتزته‬ ‫وجة‪،‬‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫وجه‬ ‫على‬ ‫الباب‬ ‫وأشرع‬ ‫قيفة‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫دخولي‬ ‫على‬ ‫يحتج‬ ‫كأنه‬ ‫بحدة‬ ‫رفرف‬ ‫رآني‪،‬‬
‫أيضا‬
‫ً‬ ‫الرواق سويًا‪ ،‬بل سبقتني إلى باحة البيت‪ ،‬وقفت الل ّة سعدية هناك‪ ،‬كانت عيناها‬ ‫ّ‬ ‫نعبر‬ ‫لم‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬ ‫عابس‬
‫ً‬ ‫وجهها‬ ‫كان‬ ‫بل‬ ‫تجاهي‪،‬‬ ‫تقفز‬
‫الرحيل‪ ،‬سرت وكانت في إثري‪ ،‬ثم بلغنا الباب ُمخل ّفين‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫دفعني‬ ‫شيًئا‬ ‫ولكن‬ ‫وجة‪،‬‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫غير‬ ‫الذي‬ ‫ما‬ ‫ألعرف‬ ‫البقاء‬ ‫وددت‬ ‫‪.‬‬ ‫تعبتين‬ ‫ُم‬
‫والدعاء‪ ،‬بهذا همست ُدوجة قبل أيام‪ ،‬واآلن بم ستُجيب‬ ‫ُّ‬ ‫الل ّة سعدية تعود إلى غرفتها‪ ،‬منذ رحل ابن ميّار صارت َأميَل إلى الوحدة‬
‫الصدران‪،‬‬‫الرغبة بدت ُمنطفئة منذ تقابل الوجهان‪ ،‬اقتربت منها حتى تالمس ّ‬ ‫ُأ‬
‫الرواق؟ هل يمكنني أن قبّلها؟ ولكن ّ‬ ‫ونحن وحيدان في ّ‬
‫باردا وأنا أحوطه بيدي‪ ،‬وظلت جامدة وأنا اطبع قبلة على شفتيها الباردتين‪ ،‬لم‬ ‫ً‬ ‫العنق‬ ‫كان‬ ‫بل‬ ‫وجهي‪،‬‬ ‫الحارة‬ ‫ولم تلفح أنفاسها‬
‫كبيرا‪ ،‬وباضطراب قلت‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ذنب‬ ‫اقترفت‬ ‫كأنما‬ ‫الحائط‪،‬‬ ‫أسندني‬ ‫حتى‬ ‫تراجعت‬
‫ُ‬ ‫‪،‬‬‫شفتي‬
‫ّ‬ ‫لتلتهما‬ ‫‪:‬تتحركا‬

‫ُدوجة أهذه أنت؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نعم أنا ‪-‬‬

‫ما الذي حدث لك؟ ‪-‬‬

‫حمة‪ ،‬لم تعد لي رغب ٌة بك ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫‪.‬ال أدري يا‬

‫بعيدا؟ أم أنه الخوف من فقدان ُدوجة؟ عجزت عن اإلجابة‪ ،‬كنت مثل‬ ‫ً‬ ‫السل ّاوي التي جعلتني أصفق الباب وأرحل‬ ‫أهي كرامة ّ‬
‫الشابين‪ ،‬لم أنظر‬
‫ّ‬ ‫أحد‬ ‫رأيت‬ ‫أنني‬ ‫وشعرت‬
‫ُ‬ ‫لي‪،‬‬ ‫حدث‬ ‫عما‬ ‫تسائلين‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫يراقبونني‪،‬‬ ‫اس‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫كان‬ ‫والمهدمة‪،‬‬ ‫الباقية‬ ‫الحارات‬ ‫مجنون أعبُر‬
‫ٍ‬
‫واحدا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ا‬ ‫وجه‬
‫ً‬ ‫أضحت‬ ‫الوجوه‬ ‫حتى‬ ‫ا‪،‬‬ ‫واحد‬
‫ً‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫شك‬ ‫تبدو‬ ‫األشكال‬ ‫كل‬ ‫أن‬ ‫له‬ ‫ل‬ ‫خي‬
‫ُ ّ‬ ‫وي‬ ‫يركض‬ ‫جل‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫غريب‬ ‫يبدو‬ ‫شيء‬ ‫كل‬ ‫كان‬ ‫تجاهه‪،‬‬
‫أقف عند بوابة الميناء‬
‫مسرعا‪ ،‬لم أنتبه إال وأنا ُ‬
‫ً‬ ‫‪.‬وانطلقت في شارع البحر‬

‫السقائف حتى ترامت بنهايتها ساحة حي‬ ‫عدت على طريقي بالسرعة نفسها‪ ،‬وتجاوزت حي المقاهي‪ ،‬ثم انعطفت شرقًا‪ ،‬ولجت َّ‬
‫بينهن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫زوار‬ ‫لهن الجنود‪ ،‬وانتصب ِ‬
‫الم َ‬ ‫ّ‬ ‫شدتني وجوهٌ لصبايا قدمن حديث ًا‪ ،‬أجسادهن نحيفة‪ ،‬ووجوههن بريئة‪ ،‬يبتسم‬ ‫ّ‬ ‫المبغى‪ ،‬وتوقفت كلما‬
‫الرغبة في قتله‪ ،‬ولم‬ ‫ّ‬ ‫داخلي‬ ‫استيقظت‬ ‫هيئتها‪،‬‬ ‫على‬ ‫بادية‬ ‫يفية‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫ومالمحها‬ ‫غبرة‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫المحروسة‪،‬‬ ‫دخلت‬ ‫ما‬ ‫ل‬ ‫أو‬
‫ّ‬ ‫وجة‬ ‫بدت إحداهن مثل ُد‬
‫يتفحص جسدها بيديه‪ ،‬ما كان يفعله في‬ ‫ّ‬ ‫وشرع‬ ‫أمامه‪،‬‬ ‫ووقفت‬ ‫حافية‪،‬‬ ‫فتقدمت‬ ‫ار‬ ‫زو‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫عليها‬ ‫نادى‬ ‫ركضي‪،‬‬ ‫من‬ ‫ألهث‬ ‫أنتبه أنني كنت‬
‫ردها‪ ،‬وقفت أراقب الفتاة‪ ،‬تراءت لي‬‫ّ‬ ‫أستطع‬ ‫ولم‬ ‫هناك‪،‬‬ ‫بي‬ ‫عصفت‬ ‫ريح‬ ‫أي‬ ‫الجميع‪،‬‬ ‫أمام‬ ‫يفعله‬ ‫اليوم‬ ‫صار‬ ‫خفية‪،‬‬ ‫عثمان‬ ‫زمن بني‬
‫وحيدا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الصباح‬
‫كأنها ُدوجة‪ ،‬فانحنيت في مكاني‪ ،‬وتراخي جسدي ُمنزلقًا على الحائط حتى افترشت األرض‪ ،‬كنت عاج ًزا‪ ،‬وبكيت ذلك ّ‬
‫زوار لن يرى نهار يوم آخر‪ ،‬نعم كان ال بد من إنهاء هذه الحكاية‬ ‫‪.‬لكنني قررت أن ِ‬
‫الم َ‬

‫زوار مثلما أراها اآلن‪ ،‬وأنا العاكف على َس ِن ّه منذ‬ ‫بجنون‪ ،‬أحرك الخنجر في يدي‪ ،‬فأرى لمعته‪ ،‬آه لو يراها ِ‬
‫الم َ‬ ‫ٍ‬ ‫يضيء قمر المحروسة‬
‫حد تك غير كافية لتقطيع بطنه‪ ،‬وقد صار مثل بطن ثور‪ .‬ثم أعيده إلى غمده‬ ‫ّ‬ ‫‪:‬‬ ‫أهذي‬ ‫ثم‬ ‫ّبه‬ ‫ل‬ ‫أق‬ ‫‪.‬ساعات‪،‬‬

‫أثر‬ ‫الشوارع‪ ،‬فأرى‬


‫الحي‪ ،‬ويخيل لي أنه يضيء لي ّ‬ ‫ّ‬ ‫أصعد درجات البيت‪ ،‬وأرفع وجهي إلى القمر المضيء‪ ،‬يقترب من أسقف بيوت‬ ‫ُ‬
‫بل‬ ‫الضوء‪ ،‬لم تختلج يداي‬
‫ّ‬ ‫ويزيد في اقترابه‪ ،‬حتى يغمرني‬
‫ُ‬ ‫الحطام على جوانب الحارة‪ ،‬والفراغ الممتد بينها وبين حارة الميّارين‪،‬‬‫ُ‬
‫سطح‬ ‫الغمد‪ ،‬وال أفطن إلى نفسي أرقص‪ ،‬وأقفز من مكان إلى آخر على‬ ‫تتحركان بسرعة‪ ،‬واحدةٌ تحمل الخنجر واألخرى تقبض على ِ‬
‫من‬ ‫استعدادا لالنتقام؟ حتى رجالي لم ترتخيا‪ ،‬بل إنها تحركتا وكأنها تطيران بي‬
‫ً‬ ‫فرحا أم‬
‫ً‬ ‫الرغبة نفسها‪ ،‬أكانت‬
‫البيت‪ ،‬تملكتني ّ‬
‫الدرج‪،‬‬
‫همست بالكلمات وأنا أقفز تجاه ّ‬ ‫ُ‬ ‫السطح إلى طرفه اآلخر‪ ،‬وكانت َشفتاي تَفتران عن ابتسامات ممزوجة بكلمات بذيئةٍ ‪.‬‬ ‫جانب ّ‬
‫الموصل إلى سوق‬ ‫الدرب ُ‬
‫السل ّاويين‪ ،‬في ّ‬ ‫ّ‬ ‫حارة‬ ‫أتجاوز‬ ‫وأنا‬ ‫منه‬ ‫يخل‬ ‫لم‬ ‫باليقين‪،‬‬ ‫مليء‬ ‫وقلبي‬ ‫بيتي‬ ‫غادرت‬ ‫رجات‪،‬‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫بقية‬ ‫ثم نزلت‬
‫الشارع الكبير‪ ،‬ثم انعطفت إلى شارع الباب‬ ‫الميّارين‪ ،‬كمن يسير على رؤوس أصابعه انتقلت من سقيفة إلى أخرى‪ ،‬إلى أن بلغت ّ‬
‫الدرب إلى نهايته‪،‬‬‫وحيدا أو بين جنوده‪ ،‬قطعت ّ‬ ‫ً‬ ‫الشرقي‪ ،‬جزمت أني سأراه هناك‪ ،‬ولم يظهر‪ ،‬صار األمران سيّان عندي إن لمحته‬ ‫ّ‬
‫مهمتهم‪ ،‬فعدت‬ ‫ه‬ ‫إلي‬
‫َّ َ َ‬ ‫وتناهت‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫جانب‬ ‫انتحيت‬ ‫لذا‬ ‫يتكومون أمامها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ولكنني لم أبلغ الباب‪ ،‬خشيت أن يظهر لي فجأة الجنود وهم‬
‫وعي مني عند باب ابن ميّار‪ ،‬ال‬‫ٍ‬ ‫أدراجي‪ ،‬سالك ًا سقيفة أخرى ُمنتهاها باب القصبة‪ ،‬وعبرتها حتى كنت عند البوابة ثم وقفت دون‬
‫لكن يدي لم تجرؤ على ذلك‪ ،‬وبقيت قابضة على الخنجر‬ ‫ّ‬ ‫أدري أي رغبة قادتني إلى هناك‪ .‬وقفت طويل ًا عند الباب‪ ،‬هممت بطرقه‪،‬‬
‫رجلي أحثهما على اإلسراع‪ ،‬لعلي أعثر عليه في المكانين المحبّبين إليه‪ ،‬الحانة أو المبغى‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬تحت الحزام‪ ،‬ثم حركت‬

‫حذرا‪.‬‬‫ً‬ ‫الض وء من بعيد‪ ،‬وأظل أقترب إلى أن أجاور باب الحانة‪ ،‬أقف عند أحد جانبيه‬ ‫العجِ ل‪ ،‬حتى يتراءى ّ‬ ‫أستمر في خطوي َ‬
‫وأطل برأسي أبحث بين الوجوه لعل ّه بينهم‪ ،‬لكنه‬ ‫ُّ‬ ‫الرديئة صارت ُمشتهاة في هذه المدينة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الخمرة‬ ‫حتى‬ ‫أنفي‪،‬‬ ‫فتدغدغ رائحة الخمر‬
‫السيدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مسجد‬ ‫إلى‬ ‫يتسابقون‬ ‫كانوا‬ ‫الذين‬ ‫المحروسة‬ ‫تجار‬ ‫بعض‬ ‫أخرى‬ ‫جهة‬ ‫ومن‬ ‫‪.‬‬ ‫بشراهة‬ ‫يشربون‬ ‫جنود‬ ‫نهايتها‬ ‫لم يكن هناك‪ ،‬في‬
‫يود التجار كلهم أن يصبحوا‬ ‫ُّ‬ ‫كثيرا عن الخمر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يختلف‬ ‫لم‬ ‫المحروسة‬ ‫في‬ ‫ين‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫الد‬ ‫‪.‬‬ ‫ثمان‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫بني‬ ‫من‬ ‫القادة‬ ‫بعض‬ ‫جانب‬ ‫كي يكونوا إلى‬
‫يفرون من حياتهم بإهراق مزي ٍد من الخمر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أراهم‬ ‫وأنا‬ ‫ذلك‬ ‫نت‬ ‫خم‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫طموحاتهم‪،‬‬ ‫لتحقيق‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫مكا‬ ‫لهم‬ ‫ر‬ ‫ف‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫المسجد‬ ‫وكان‬ ‫‪.‬‬ ‫ندامى لملوكها‬
‫الظلمة‪،‬‬ ‫الضوءِ‪ ،‬وأعدته إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫جربين‪ .‬سحبت رأسي من فَسحة‬ ‫الم ّ‬ ‫دوما يبالغون بها‪ ،‬ويعتبرون أنفسهم أفضل من ُ‬ ‫ً‬ ‫حدث ُون في الل ّذة‬ ‫الم َ‬
‫ُ‬
‫الساحة الخاوية من البشر‪ ،‬عدا‬ ‫وواصلت طريقي تجاه حارة المبغى‪ ،‬وظللت أنتقل من سقيفة إلى أخرى ثم وجدتني أقف وسط ّ‬
‫يحتلون الغرف‪ .‬كان قمر المحروسة قد بدأ يشحب من‬ ‫َ‬ ‫جنودا كثيرين كانوا‬ ‫ً‬ ‫أضواء ضئيلة تتسلل من ثقوب األبواب‪ُ .‬خيِّل لي أن‬
‫زوار‪ ،‬إذ لم يعتد المبيت هناك‪ ،‬جزء من الل ّيل يكفيه كي ينتهي منها‪ ،‬ثم يغادر‬ ‫انتظاره لي‪ ،‬وأبت األبواب لفظ أحدهم بمن فيهم ِ‬
‫الم َ‬
‫السقائف وانتظرت هناك‪ ،‬فُتح‬ ‫ّ‬ ‫إحدى‬ ‫إلى‬ ‫فتسللت‬ ‫الباب‪،‬‬ ‫أزيز‬ ‫صوت‬ ‫إلى‬ ‫انتبه‬ ‫ما‬ ‫الفراش‪ ،‬وربما يعود في ليلةٍ أخرى‪ .‬في لحظة‬
‫أقدام‪ ،‬غاب عني مصدرها‪ ،‬ثم رأيت شبحين يتسل ّالن حتى‬ ‫ٍ‬ ‫بقوةٍ‪ ،‬وظللت على تلك الحال حتى سمعت أصوات‬ ‫ّ‬ ‫الباب‪ ،‬ثم أغلق‬
‫الظلمة دون أن يتفطنا لي‪ ،‬ثم نقلت بصري إلى مصدر‬ ‫السقائف‪ ،‬راقبتهما من ُّ‬ ‫فرا إلى إحدى ّ‬ ‫يتنصتان عليها‪ ،‬ثم ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقفا عند األبواب‬
‫ٌ‬
‫طويل‬ ‫الصوت في داخلي‪ ،‬عواءٌ‬ ‫الساحة‪ ،‬صرخ ّ‬ ‫حرك رجليه في ّ‬ ‫ّ‬ ‫تمطى ثم‬ ‫ّ‬ ‫زوار عند عتبته‪،‬‬ ‫الم َ‬‫الصوت‪ ،‬حيث ُشرع الباب‪ ،‬ووقف ِ‬ ‫ّ‬
‫الصراخ داخلي‪ ،‬ثم يلمع الخنجر في عيني ما إن‬ ‫لذئاب مجروحة‪ ،‬تختلج يداي تبحثان عن الخنجر‪ ،‬يشتد اهتزاز قلبي‪ ،‬ويتعالى ُّ‬ ‫ٍ‬
‫لكن األصوات ترتفع وتُغالبني‪ ،‬فأعوي مثل ذئب وأقفز من َمكمني‪ ،‬وأركض تجاهه‪ ،‬خطوات واسعة ال تكاد تالمس‬ ‫ّ‬ ‫أسحبه‪ ،‬أكلم نفسي‬
‫الساحة كلها‪ ،‬ولمع النّصل في عينيه‪ ،‬رأيت خوفه القديم والجديد‪ ،‬كل‬ ‫ّ‬ ‫أضاء‬ ‫حتى‬ ‫لحظتها‬ ‫القمر‬ ‫اتسع‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫أثب‬ ‫قدماي بها األرض‪،‬‬
‫الطعنة‬ ‫ّ‬ ‫جهدي‪،‬‬ ‫بكل‬ ‫بها‬ ‫هويت‬ ‫ثم‬ ‫الخنجر‪،‬‬ ‫على‬ ‫تقبض‬ ‫يدي‬ ‫كانت‬ ‫بالدماء‪،‬‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ممزوج‬ ‫ألناس‬‫ٍ‬ ‫صور‬ ‫واحدة‪،‬‬ ‫دفعة‬ ‫أمامه‬ ‫مرت‬‫الوجوه ّ َ‬
‫جزءا من لحمه‪ ،‬ثم رفعته بالسرعة نفسها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تكسر ضلعيه حين انغرز بينهما وسحبته‪ ،‬ليقطع‬ ‫ّ‬ ‫الصدر‪ ،‬سريع ًة اخترقته‪ ،‬سمعت‬ ‫األولى في ّ‬
‫الدم من‬ ‫حارا من فمه‪ ،‬وانهمر ّ‬ ‫ً‬ ‫الدم‬ ‫مرة أخرى في عينيه المفزوعتين‪ ،‬وقد صارت حمراء‪ ،‬وغرزته في بطنه ثم أحنيته‪ ،‬فتَد ّفَق ّ‬ ‫وبرق ّ‬
‫الدم حتى ظننت أن‬ ‫ّ‬ ‫مساحة‬ ‫َسعت‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫فوقي‪،‬‬ ‫ليخر‬ ‫إليه‬ ‫دتها‬ ‫سد‬
‫ّ‬ ‫التي‬ ‫عنات‬ ‫الط‬
‫َّ‬ ‫عدد‬ ‫كان‬ ‫كم‬ ‫أدر‬
‫ِ‬ ‫لم‬ ‫الخنجر‪،‬‬ ‫سحبت‬ ‫إن‬ ‫ما‬ ‫بطنه‬
‫خارجا‪ ،‬فأحكموا‬ ‫ً‬ ‫والزعيق‬ ‫الحركة‬ ‫إلى‬ ‫انتبهوا‬ ‫جنوده‬ ‫من‬ ‫بعض‬ ‫كلها‪،‬‬ ‫المداخل‬ ‫أحاطوا‬ ‫أنهم‬ ‫أنتبه‬ ‫لم‬ ‫لكني‬ ‫بلونه‪،‬‬ ‫ستغدو‬ ‫الحارة‬ ‫باحة‬
‫السعادة إلى قلبي كأنما قد رحل الفرنسيون‪ ،‬سعادة‬ ‫ّ‬ ‫تدفقت‬ ‫احة‪،‬‬ ‫الس‬‫ّ‬ ‫بقلب‬ ‫وقفت‬ ‫بينما‬ ‫تجاهي‬ ‫سددوها‬ ‫البنادق‪،‬‬ ‫أيديهم‬ ‫تحمل‬ ‫المنافذ‪،‬‬
‫رصاص‪ ،‬لم تكن نحوي بل تجاه‬ ‫ٍ‬ ‫تسم ًرا حتى انطلقت أصوات‬ ‫ثوان قليلة من عمره‪ .‬ظللت ُم ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ال يمكن للمرء أن يشعر بها إال في‬
‫الممرات‪ ،‬ضرب أحدهم كتفي بقبضته‬ ‫ّ‬ ‫مسدسيها إلى الجنود الذين كانوا يسدون‬ ‫َّ‬ ‫ويصوبان‬
‫ّ‬ ‫الشبحين يركضان نحوي‪،‬‬ ‫السقائف‪ ،‬رأيت ّ َ‬ ‫َّ‬
‫السقوط‪،‬‬ ‫تحرك بجه ٍد‪ ،‬فركله أولنا حتى عاود ُّ‬ ‫َّ‬ ‫السقيفة تخبط الجندي من أثر الن َّار‪ ،‬ثم‬ ‫فانتبهت‪ ،‬وركضت إلى جانبهما‪ ،‬عند مدخل ّ‬
‫خا‬ ‫يسدونها‪ ،‬فانعطفت صار ً‬ ‫ّ‬ ‫السقيفة رأيت الجنود‬ ‫الشبحين‪ ،‬وقبل بلوغ ّ‬ ‫واعتقدت أنهم غابوا بينما كانوا يركضون خلفنا‪ .‬قفزت متجاو ًزا ّ َ‬
‫الطريق التي ِملنا معها إال ونحن نسمع‬ ‫ّ‬ ‫نهاية‬ ‫إلى‬ ‫نصل‬ ‫ولم‬ ‫طريقه‪،‬‬ ‫بالشبحين أن يكونا في إثري‪ ،‬انعطف أولهما‪ ،‬واستمر الثّاني في‬
‫شد بيده اليسرى على كتفه اليمنى‪ ،‬أضاء لي نور‬ ‫َّ‬ ‫مكمن إلى أن بلغنا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الطلقات‪ ،‬ثم تراءى لنا يركض في انحناء خلفنا‪ ،‬وانتظرناه في‬ ‫ّ‬
‫الحي‪ ،‬وهل كان‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫مجيئهما‬ ‫سبب‬ ‫عن‬ ‫بسؤالهما‬ ‫هممت‬ ‫المهدم‪،‬‬ ‫المنزل‬ ‫القمر وجهيهما‪ ،‬تذكرتهما‪ ،‬كانا هما الل ّذين التقيتهما في‬
‫زو ار؟ ولكن األصوات ظهرت ثانية‪ ،‬ورأيتهم عند المدخل يركضون نحونا‪ .‬فانطلقنا بيننا وبين ثالثنا مسافة‪ ،‬تلتوي‬ ‫الم َ‬ ‫أيضا ثأر مع ِ‬ ‫ً‬ ‫لهما‬
‫الس قائف إلى أخرى‪ ،‬والتفتنا فجأة كان الجنود ال يزالون في أثرنا‪ ،‬دون أن نجد رفيقنا المصاب‪ ،‬شككت أنهم أمسكوا به‪ ،‬ولكنهم‬ ‫بنا ّ‬
‫السقيفة على طريق البحر‪ ،‬بعد أن تجاوزنا باح ًة صغيرة‪ ،‬وأشرت على رفيقي أن نفترق‪ ،‬اختار هو‬ ‫كانوا يصيحون بنا‪ ،‬ثم انفرجت ّ‬
‫قدرت أنهم لن يعودوا على‬ ‫دربًا ي ُفضى إلى أسفل المدينة‪ ،‬سلكت بدوري آخر غير بعيد عن الذي كان الجنود يتدفقون منه‪َ ّ ،‬‬
‫الطلقة تصيب‬ ‫صوبوا نحوي‪ ،‬ثم كانت ّ‬ ‫َّ‬ ‫الطريق‪ ،‬وما إن رأوا شبحي من بعيد حتى‬ ‫أعقابهم‪ ،‬ولكنهم تركوا اثنين منهم يحرسان مفترقات ّ‬
‫الدم من مسافة بعيدة‪ ،‬وكلما‬ ‫تتشمم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذئاب‬ ‫مثل‬ ‫كانوا‬ ‫وهم‬ ‫كض‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫يحثني‬ ‫عال‪ ،‬ولكن شيًئا غريبًا كان‬ ‫ٍ‬ ‫رجلي‪ ،‬صرخت بصوت‬
‫انعطفت مع درب سل َكوه‪ ،‬حتى أحسست أنه ال طائل من ركضي المستمر‪ .‬انتهيت حينها إلى مكان البيت المهدم‪ ،‬تسل ّقت ما تبقى‬
‫من سوره‪ ،‬ونويت أن أقبع هناك‪ ،‬وخشيت أنهم سيقفزون من خلفه‪ ،‬فبقيت أعلى الجدار‪ ،‬ثم سرت فوقه إلى سقف البيت‪ ،‬وإلى‬
‫الطريق جيئة وذهابًا‪ ،‬ثم عادوا‬ ‫يحدقون أعلى الجدران‪ ،‬ويذرعون ّ‬ ‫ّ‬ ‫بيت ثان‪ ،‬ثم إلى ثالث‪ ،‬حتى نهاية األبنية‪ ،‬وتراءوا لي من هناك‬
‫ألما بعد عودة البرودة إلى‬ ‫ً‬ ‫الجرح‬ ‫واشتعل‬ ‫أنفاسي‪،‬‬ ‫أسترد‬ ‫ساعة‬ ‫ومكثت‬ ‫بثقل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫السور‬
‫خائبين من بحثهم‪ ،‬فعدت على طريقي‪ ،‬نزلت ّ‬
‫بعيدا‪ ،‬ولم يبق لي إال بيت ابن ميّار‪ ،‬وبصعوبة تسلقت الجدار الواطئ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان‬ ‫لكنه‬ ‫جسدي‪ ،‬فك ّرت في التوجه إلى بيت الل ّة زهرة‪،‬‬
‫أردت النّداء عاليًا في ليل المحروسة المختلف‪ ،‬ولكني خشيت أن‬ ‫ُ‬ ‫وسرت تحت شرفات البيوت مثل أعرج‪ ،‬كانت روحي مزهوة‪،‬‬
‫السلسلة كانت معلقة‪ ،‬وأن عهد األمان قد صار‬ ‫لصراخي‪ ،‬وظللت أسحب رجلي حتى بلغت بوابة القصبة‪ُ ،‬خيِّل لي أن ّ‬ ‫يستيقظ النّاس ّ‬
‫‪.‬ابن ميّار هو الذي يهبه لكل المنادين على اسمه‬

‫يرد‪ ،‬وواصلت أطرقه حتى سمعت صوت ُدوجة‪ ،‬وحين ميّزت صوتي شرعت الباب‪ ،‬ثم كنت في‬
‫أحدا لم ُ‬
‫ً‬ ‫بقوةٍ‪ ،‬ولكن‬
‫ّ‬ ‫طرقت الباب‬
‫‪.‬حضنها‬
‫ُ‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬دوجة‬
‫ُ‬

‫الشهر تغيرت الل ّة سعدية‪ ،‬أضحت ّأميل إلى ُ‬


‫العزلة‪ ،‬وال تكاد‬ ‫في األيام األولى من رحيله لم يظهر عليها الكثير‪ ،‬ولكن حين انقضى ّ‬
‫الرواق‪ ،‬تقف عند الباب كأنها تسمع د ّقًا عليه‪ ،‬وتنتظر هناك دقائق دون طائل‪ ،‬تدخل‬ ‫عرفتها‪ ،‬تقطع الباحة إلى ّ‬
‫تشعر بها حينها تُغادر ُ‬
‫غرفة جانبية تحدق من ك ُّوتها لعل المنعطف ي ُظهره لها‪ ،‬ثم تعود إلى غرفتها خائبة ‪ .‬ال أكاد أذكر كم تكرر المشهد أمامي‪ ،‬كأنها ال‬
‫شبح إلى جانبها‪ ،‬ترجع إلى غرفتها وتظل بها بقية اليوم‪ ،‬هكذا‬ ‫ٌ‬ ‫تمر كأنني‬
‫ُّ‬ ‫تراني‪ ،‬بينما أفترش الباحة‪ ،‬أو أقف عند باب غرفتي‪،‬‬
‫ازدادت حيرتها‪ ،‬وظهرت المسبحة تلزم يدها‪ ،‬بعد أن كانت تُرافقها‬ ‫َ‬ ‫الشهر الثّاني‬
‫الشهر على الل ّة سعدية‪ ،‬ولكن حين انتصف ّ‬ ‫مر ّ‬ ‫َّ‬
‫الشفاه باألدعية‪ .‬كلما دخلت عليها الغرفة‪ ،‬أرى ك َ ّفَيها المبسوطتين إلى‬
‫الصالة فقط‪ ،‬اآلن أرى أصابعها تداعب بحباتها‪ ،‬وتُتمتم ّ‬ ‫أوقات ّ‬
‫طير ثم تزيحه‪ ،‬وتعود إلى‬ ‫ٍ‬ ‫الصحن إلى جانبها‪ ،‬تَنقر منه مثل‬
‫السماء‪ ،‬وأسمع بعض ُدعائها كي يعود زوجها‪ .‬أقترب منها‪ ،‬وأضع ّ‬ ‫ّ‬
‫‪.‬دعائها‪ .‬وددت لو َس ِمعت كالمي‪ ،‬وأنا أحاول الترويح عنها‪ ،‬وهي كأنها ال تُصغي لي‬ ‫ُ‬

‫تهب إليه الل ّة سعدية كأنها تسمع صوته ُمناديًا‪ ،‬وهي التي تعلم أن المفتاح لم يُفارقه كلما‬
‫ُّ‬ ‫أيام من االنتظار‪ ،‬وال طرق على الباب‪،‬‬
‫الصوت المنادي لم يكن إال صوت امرأ ٍة من نسا ِء الجيران‪ ،‬لم تفتح الباب‪ ،‬بل عادت وانزوت في غرفتها‪،‬‬ ‫لكن ّ‬
‫ّ‬ ‫رحل عن البيت‪.‬‬
‫‪.‬وأسرعت أنا إلى الباب أستقبل الجارة‬

‫بالسل ّاوي يقف في ُمقابلتي‪ ،‬ال أدري ما الذي حدث ذلك‬


‫ّ‬ ‫فأهب إليه‪ ،‬وتبقى هي حبيسة غرفتها‪ ،‬أفتحه‪ ،‬وإذا‬
‫ُ‬ ‫مرة أخرى‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫ويدق الباب ّ‬
‫أصوات تدعوني أن أبقى على حالتي تلك‪ ،‬وانتصرت وهي‬ ‫ٌ‬ ‫اليوم‪ ،‬وقفت أمامه بكل برودة‪ ،‬كان هناك شيء يُغالبني على احتضانه‪،‬‬
‫الصراخ‬
‫عيني لم أعرف ما انتابها‪ ،‬لكنني قدرت أنها حملتا غضبًا عليه‪ .‬ووددت ّ‬ ‫ّ‬ ‫باردا‪ ،‬وتُغيِّب مخاوفي كلها‪ ،‬حتى‬
‫ً‬ ‫تجعل جسمي‬
‫به‪ :‬أنت تجهل مقدار ما تحمله روحي من حرائق تُهملها كل يوم بغيابك‪ ،‬وال مباالتك‪ ،‬أتريد تقبيلي حينما تريد‪ ،‬وترحل عنّي مثلما‬
‫الطويل تُعل ّم المرأة أن تَستغني عنك‪ ،‬وأجدني قد ألفت غيابك‪ ،‬لم تعد لي رغب ٌة بك يا سل ّاوي‬
‫‪.‬تشاء؟ بالغياب ّ‬
‫ٌ‬
‫ضئيل بالندم بدأ يتضاعف‪ ،‬ما كان لك‬ ‫شعور‬
‫ٌ‬ ‫الظالم‪ ،‬ال أدري ما الذي تَملَّكني؟‬ ‫السل ّاوي صافقًا الباب خلفه‪ ،‬وتركني وحيدة في ّ‬ ‫رحل ّ‬
‫السل ّاوي ُمختلفًا عن الجميع‪ ،‬لكنك لم تستحضري كلمات الل ّة زهرة‪ .‬لماذا‬ ‫ّ‬ ‫يظل‬ ‫ريقة‪،‬‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫بتلك‬ ‫عليه‬ ‫قاسية‬ ‫تكوني‬ ‫أن‬ ‫وجة‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫يا‬
‫دائما‪ .‬لو‬
‫ً‬ ‫أتذكرها وهو ال يدري بعذابي في انتظاره ‪ .‬ال يشعر لماذا تُالحقني كلماتها‪ ،‬وقد سئمت من المالحقات التي ظلَّلت حياتي‬
‫كن‬
‫ألنهن ّ‬
‫ّ‬ ‫يسيرا‪ .‬إذ اعتقدتم أن النّساء هناك يضحكن‬
‫ً‬ ‫السل ّاوي ليلة في المبغى ألدركتما أن األمر لم يكن‬ ‫شاركتني أنت أو ّ‬
‫رجل واح ٍد‪ ،‬وحولها أطفال عديدون ‪ .‬ال توجد امرأة ترضى‬ ‫ٍ‬ ‫الصورة‪ ،‬كل امرأة تلجأ إلى حماية‬ ‫دوما بهذه ّ‬‫ً‬ ‫سعيدات ‪ .‬ال لم يكن األمر‬
‫السل ّاوي فقط شعور امرأة تقف عند باب غُرفة‬
‫ّ‬ ‫يدرك‬ ‫لو‬ ‫‪.‬‬ ‫يوم‬ ‫كل‬ ‫يتجددون‬ ‫تعرفهم‪،‬‬ ‫ال‬ ‫وآخرون‬ ‫تعرفهم‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫رجال‬ ‫أن يُقاسم جسدها‬
‫المارين‪ ،‬ال تعرف أي رجل من بينهم سيختارها لتنام معه‬ ‫ِّ‬ ‫الرجال‬
‫ّ‬ ‫تطالع‬ ‫‪.‬بالمبغى‬

‫مرة أحاول جاهد ًة أن ُأزيحه‪،‬‬ ‫كل ّ‬ ‫يتكرر‪ ،‬في ّ‬


‫ّ‬ ‫علي أال أندم عما قلته‪ ،‬وبّخت نفسي بينما كنت وحيدة في غرفتي‪ ،‬والمشهد‬ ‫ّ‬ ‫كان‬
‫السل ّاوي يمد يده إلى عنقي‪ ،‬يُفاجا من برودته‪ ،‬ومن ثم ينحني بشفتيه ليُقبِّلني‪ ،‬يبهت أكثر من جمودي‪ ،‬ويرحل دون‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫يعود‬ ‫ه‬ ‫ولكن ّ‬
‫أمد‬
‫ُّ‬ ‫المرة الماضية‪ ،‬سأطلب منه الجلوس في الباحة‪ ،‬وأجلس قُبالته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حتجا‪ ،‬لو عاد بالتأكيد فلن أحضنه‪ ،‬لن ُأقبّله طويل ًا مثل‬ ‫وداعي ُم ً‬
‫زوار كان يُعادل كل أوجاعك‪ .‬أسبوع حولني إلى بغي‪،‬‬ ‫رجلي أمامه‪ ،‬وأقول‪ :‬يجب أن تعرف أن ذلك األسبوع الذي قضيته مع ِ‬
‫الم َ‬ ‫ّ‬
‫بقوة في اليوم األخير من ذلك األسبوع‪ ،‬وقفت إلى جانبه امرأة‪َ ،‬طل َب منها‬ ‫وليتك قاسمتني الغرفة يومها‪َ ،‬سترى كيف ُضرب الباب ّ‬
‫تاجر يحرص على بيع سلعته في‬ ‫ٍ‬ ‫جدية‪ ،‬مثل‬‫ِّ‬ ‫نظفني‪ ،‬وتُلبسني أفضل ما لديها من ثياب‪ ،‬وغادر البيت دون االلتفات‪ ،‬كان أكثر‬ ‫أن تُ ِ ّ‬
‫معتادات على‬
‫ٌ‬ ‫بنات كثيرات يبتسمن لي‪ ،‬بدا لي أنهن‬ ‫ٌ‬ ‫الطويل كانت‬ ‫ّ‬ ‫واق‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫وفي‬ ‫وسحبتني‪،‬‬ ‫يدي‬ ‫على‬ ‫المرأة‬ ‫ت‬ ‫شد‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪،‬‬ ‫ضئيل‬
‫ٍ‬ ‫وقت‬
‫الرواق‪ ،‬ولجناها بانحناء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نهاية‬ ‫في‬ ‫غرفة‬ ‫إلى‬ ‫المرأة‬ ‫بي‬ ‫ت‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫وم‬
‫َ‬ ‫بينهن‪،‬‬ ‫ريي‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫في‬ ‫به‬ ‫شعرت‬ ‫الذي‬ ‫بالخجل‬ ‫يشعرن‬ ‫لم‬ ‫المكان‪،‬‬
‫ساقي‪ ،‬وكأنني ال أملك إال‬‫ّ‬ ‫وسطها‪ ،‬على يميني َد ّن الماء الممزوج بالصابون‪ ،‬وبقطعة قماش غمستها داخله ف ََركت ما بين‬ ‫وأجلستني َ‬
‫رصت المرأة أن يكون أكثر نظافة من بقيّة الجسد‪ ،‬أهرقَت الماء الفاتر فوق جسدي‪ ،‬ثم َطف َقت تنتقل من مكان إلى‬ ‫ذلك المكان‪َ َ ،‬‬
‫ح‬
‫الدلك‪ ،‬ثم أحاطتني بقطعة القماش‪ ،‬التففت بها واحتللنا غرفة‬ ‫ّ‬ ‫كثرة‬ ‫من‬ ‫ع‬ ‫يتقط‬
‫ّ‬ ‫جسدي‬ ‫كاد‬ ‫حتى‬ ‫الفاتر‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫الحار‪،‬‬ ‫الماء‬ ‫تصب‬‫ُّ‬ ‫آخر‪،‬‬
‫أحد على سجني في غرفة وحيدة‬ ‫َ‬ ‫جرؤ‬ ‫ولما‬ ‫مآلي‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫كان‬ ‫لما‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حي‬ ‫َ‬
‫ظل‬‫ّ‬ ‫لو‬ ‫أبي‪،‬‬ ‫تذكرت‬ ‫‪.‬‬ ‫صامتة‬ ‫وأنا‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫طوي‬ ‫بي‬ ‫حدقت‬ ‫أوسع‪،‬‬
‫الشوارع واإلسطبالت‬ ‫وينظفون ّ‬‫ّ‬ ‫ولما قاسيت أكثر مما قاساه العبيد الذين كانوا يجولون في المدينة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫‪.‬عارية‪،‬‬

‫ترش العطر على جسدي‬ ‫ُّ‬ ‫تحولت ِغلظتها إلى ابتسام ثم إلى كلمات‪ ،‬اقتربت منّي وهي‬ ‫ّ‬ ‫كانت المرأة ما تزال تُحملق بوجهي‪،‬‬
‫السلطاني الذهبية‪ .‬ثم شرعت‬ ‫ُّ‬ ‫بدنانير‬ ‫حجرك‬ ‫ويمأل‬ ‫ا‪،‬‬ ‫كثير‬
‫ً‬ ‫به‬ ‫اآلغا‬ ‫عد‬ ‫سيس‬
‫َ‬ ‫جميل‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫مع‬ ‫العاري‪ ،‬وقالت‪ :‬إنك نحيفة ولكن جسدك‬
‫رق‬
‫وط ٍ‬
‫ُ‬ ‫كثيرة‪،‬‬ ‫بكلمات‬ ‫تهذر‬ ‫كانت‬ ‫راش‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ونحن‬ ‫المال‬ ‫سلبه‬ ‫يمكنني‬ ‫كيف‬ ‫لي‬ ‫تشرح‬ ‫للنساء‪،‬‬ ‫تتكلم ببذاءة عن محبة اآلغا‬
‫جلست مبهوتة أسمع تلك األشياء ألول مرة‪ ،‬عاجزة عن استيعابها كلها‪ .‬كانت المرأة تعرف‬ ‫ُ‬ ‫ساء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫الرجال فعلها مع‬
‫يحب ّ‬ ‫ّ‬ ‫مختلفة‬
‫مع ا‪ .‬ثم صمتت وطلبت مني الوقوف‪ ،‬فقمت واستدرت ببطء حسب إرادتها‪ ،‬ثم فَتحت‬ ‫الرجال والنساء ً‬ ‫ّ‬ ‫أجساد‬ ‫في‬ ‫هوة‬ ‫الش‬
‫ّ‬ ‫مكامن‬
‫كبيرا‪ ،‬وأظهرت فُستانًا في ُزرقة داكنة‪ ،‬أكمامه طويلة‪ ،‬ويمتد إلى أسفل القدمين‪ ،‬ارتديته ُمرغمة‪ ،‬وشهقت المرأة وهي‬ ‫ً‬ ‫صندوقًا خشبيًا‬
‫رنسا حريريًا أسود‪ ،‬بقلنسوة واسعة‪ ،‬وارتديته هو اآلخر‪ ،‬وجلسنا ننتظر قدوم‬ ‫الصندوق ثانية‪ ،‬سحبت بُ ً‬ ‫مدت يدها إلى ّ‬ ‫علي‪ ،‬ثم ّ‬ ‫ّ‬ ‫تراه‬
‫زوار‪ ،‬ولم يعد إال حين فَرغنا من عشائنا‬ ‫ِ‬
‫‪.‬الم َ‬
‫الطريق نحو بيت األغا‪ ،‬كنا وحيدين لكني لم أجرؤ على الهرب‪ ،‬سلك بي دربًا طويل ًا‪ ،‬لم يكل ّمني‬
‫زوار‪ ،‬نقطع ّ‬ ‫سرت إلى جانب ِ‬
‫الم َ‬
‫السقيفة قائل ًا‬
‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫انعطافنا‬ ‫مع‬ ‫صوته‬ ‫وعال‬ ‫بدايته‪،‬‬ ‫في‬ ‫‪:‬بشيء‬

‫حصلي ما تستطيعين من دنانير ‪-‬‬ ‫عليك بطاعة اآلغا في كل ما يطلبه وسيُصبح لك بيت يأويك‪ ،‬ول ُقمة تأكلينها‪ ،‬أغريه كفاية حتى تُ ّ‬
‫‪.‬السلطاني‪ ،‬وسأعود آلخذك في الل ّيلة القادمة‬
‫ُّ‬

‫أومأت برأسي ُأوافقه‪ ،‬فصاح يريد سماع الموافقة‪ ،‬وافقت بصوت خفيض‪ ،‬لنصعد المسلك المؤدي إلى القصبة‪ ،‬وقبل بلوغ بوابتها انعطف‬
‫الطريق‬
‫زوار عبر ّ‬ ‫إلي بالدخول‪ ،‬وانحدر ِ‬
‫الم َ‬ ‫َّ‬ ‫اتساع ا‪ ،‬وفي نهايته توقفنا‪ ،‬إذ انتصبت خادمة عند الباب‪ ،‬أشارت‬ ‫ً‬ ‫بي إلى درب بدا أكثر‬
‫الدرجات حتى أشرفنا على بهو فسيح‪ ،‬في نهايته بابان عبرنا أحدهما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صعدنا‬ ‫بالقناديل‪،‬‬ ‫ضاءة‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫واسعة‪،‬‬ ‫باحة‬ ‫في‬ ‫نفسه‪ ،‬رافق الوصيفة‬
‫بكالت عثمانية رحلت على‬ ‫ِ‬ ‫خطوات سرناها حتى توقفت الوصيفة وطلبت أن أنتظرها‪ ،‬غابت ُهنيهة ثم خرج كهل تكل ّم مع الوصيفة‬
‫سعيد ا مثل طفل‪ ،‬أمسكني من يدي وعبر بي إلى غرفة رحبة‪ ،‬معبأة باألثاث‪ُ ،‬مضاء ًة بقناديل‬ ‫ً‬ ‫يتفحصني‬‫ّ‬ ‫إثرها وبقينا وحيدين‪ ،‬كان‬
‫كثيرة‪ ،‬ومفروشة بزرابي ُملونة‪ ،‬وترافقنا إلى سرير نُحاسي ُمسقّف‪ ،‬يحوطه قماش شفّاف‪ ،‬افترش األغا األرض دونه‪ ،‬ثم كنت إلى جانبه‪،‬‬
‫وقبضت يده على القنينة إلى يمينه‪ ،‬وناولني الكأس ولكنني أبيت‪ ،‬لم أكن قد جربت الخمر من قبل‪ .‬من نافذة بيت الل ّة مريم‬
‫رأيت اليولداش يتعاركون أثناء سكرهم‪ ،‬منذ ذلك اليوم تولدت في نفسي َمخاوف‪ ،‬أججتها تحذيرات الل ّة مريم منها‪ .‬كان الكهل إلى‬
‫الر شفة تلو األخرى‪ ،‬وأنا أتطلع إليه في خوف‪ ،‬وحين رآني على حالتي تلك‪ ،‬ابتسم لي‪ ،‬وهو يسحب‬ ‫جانبي‪ُ ،‬ممسك ًا الكأس ويرشف َّ‬
‫الدنانير والتماعها‪ ،‬أراد مني مشاركته كأسه وأغراني بمزيد من‬ ‫ّ‬ ‫كثرة‬ ‫من‬ ‫دهشت‬ ‫أمامي‪،‬‬ ‫وينثرها‬ ‫الوسادة‪،‬‬ ‫ُص ّر ة المال من تحت‬
‫الدنانير‪ ،‬ومن خوفي ظللت ُم حتمية برفضي‪ ،‬ولم يستمر في عرضه إذ انبسط وجهه مع رشفات أخرى‪ ،‬وبدأ يحادثني ولم أستوعب‬ ‫ّ‬
‫من كلماته شيًئا‪ ،‬أضطر أن يكلمني بلغة أهل المحروسة‪ ،‬أفهمه بمشقة‪ ،‬وأجيبه بما يريد‪ ،‬أعجبه اسمي ووجهي‪ ،‬وهو يمد يده وينزع‬
‫أغان عثمانية كثيرة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عنقي‪ ،‬كان قد انتشي‪ ،‬طلب مني الغناء‪ ،‬ولم أكن أحفظ‬ ‫عني القلنسوة‪ ،‬يمرر يده على شعري‪ ،‬ثم يُحركها إلى ُ‬
‫أتحرر من ثيابي‪ ،‬وشرعت‬ ‫ّ‬ ‫السرير‪ ،‬فصعدت إليه‪ ،‬ثم أردف أن‬ ‫غنيت له واحدة على مضض‪ ،‬مال برأسه معها‪ ،‬ثم فجأة أشار إلى ّ‬ ‫ُ‬
‫تتجدد فيه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الشهوة‬‫أنزعها حتى كنت نصف عارية أنتظره‪ ،‬التحق بي‪ ،‬وأخذني هناك مرات عديدة مثل ثور‪ ،‬استغربت كيف كانت ّ‬
‫الس رير‪ ،‬يجلس يرتشف من كأسه‪ ،‬أو يتناول من الفواكه المصفوفة بعناية في سلتها‪ ،‬وأسمع قضمه‬ ‫يظل يه ّزُني ثم يرتخي‪ ،‬وينزل عن ّ‬
‫أحدق بعينيه‪،‬‬‫ّ‬ ‫نام‪،‬‬ ‫قد‬ ‫أنه‬ ‫إخال‬ ‫حتى‬ ‫جانبي‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫ليرتخي‬ ‫نفسها‪،‬‬ ‫بالشدة‬ ‫لي‬ ‫ه‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ه‬ ‫صراخي‬ ‫رغم‬ ‫السرير‪ ،‬ويواصل‬ ‫لها‪ ،‬ثم يصعد على ّ‬
‫حدة‪ ،‬التصق بي من الخلف أراد إتياني من هناك‪ ،‬رفضت‬ ‫ّ‬ ‫أكثر‬ ‫بدا‬ ‫بها‬ ‫صعد‬ ‫التي‬ ‫األخيرة‬ ‫ة‬ ‫المر‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫مفتوحتين‪،‬‬ ‫فأجدهما نصف‬
‫السرعة‪ ،‬ولكنني بعد‬ ‫ّ‬ ‫بتلك‬ ‫مزاجه‬ ‫ر‬ ‫كد‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الذي‬ ‫ما‬ ‫أع‬
‫ِ‬ ‫لم‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ثائر‬
‫ً‬ ‫ووقف‬ ‫مكانه‬ ‫في‬ ‫انتفض‬ ‫ثم‬ ‫غضبه‬ ‫وازداد‬ ‫أكثر‪،‬‬ ‫بي‬ ‫ث‬ ‫ّ‬ ‫تشب‬ ‫بشدة‪ ،‬لكنه‬
‫الرغبة‪ ،‬رددت عجائز المبغى أن الفضل يعود للباشا حسين‪ ،‬إذ َسمح بعودتهن‬ ‫سنوات استوعبت كيف ينظر بعض األتراك إلى تلك ّ‬
‫وممارستهن البغاء‪ ،‬بعدما ُط ردن في زمن الباشا علي خوجة‪ ،‬ولم يكن رجوعهن إال حين انتشرت شائعات في‬ ‫ّ‬ ‫إلى بُيوتهن‪،‬‬
‫المحروسة‪ ،‬أن اليولداش صاروا يَدهمون بعضهم بعد غياب النّساء عنهم‪ ،‬ربما كان اآلغا جنديًا من بين أولئك الجنود‪ ،‬وقد ألِف تلك‬
‫ترنحا محاول ًا إبعاد بدي عنه‪ ،‬وارتخى في آخر محاولة له إلى جانبي ينتظر استعادة‬ ‫العادة‪ ،‬وأصبحت ل ّذته ال تكتمل إال بها‪ .‬وقف ُم ً‬
‫السرير‪ ،‬ونزل ليَمنعني من ارتداء ثيابي‪ ،‬ولكن قوة غريبة تمل ّكتني‪ ،‬ودفعته حتى‬ ‫أنفاسه‪ ،‬تشجعت وحملت نفسي‪ ،‬ونزلت من على ّ‬
‫الرواق‪ ،‬لم تكن الوصيفة هناك‪ ،‬حتى وأنا في قلب الباحة‬ ‫ّ‬ ‫وعبرت‬ ‫كلها‪،‬‬ ‫لطاني‬ ‫الس‬
‫أرضا‪ ،‬غادرت الغُرفة بعد أن حملت دنانير ُّ‬ ‫ً‬ ‫سقط‬
‫زوار‬ ‫ِ‬
‫والم َ‬ ‫الطريق الذي عبرت منه‬ ‫رحلت عن البيت‪ ،‬انحدرت عبر ّ‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬لم أرها‪ ،‬ثم‬

‫جمعا من اليولداش انزويت في مكان خبيء حتى يعبروا‪ ،‬ولوال أنهم‬ ‫ً‬ ‫السقائف المتشابهة‪ ،‬كلما رأيت‬ ‫علي ّ‬‫ّ‬ ‫الدروب‪ ،‬اختلطت‬ ‫تهت بين ّ‬ ‫ُ‬
‫اعتقدت أنه المؤدي إلى حي المبغى‪ ،‬ثم اكتشفت‬ ‫ُ‬ ‫آخر‪،‬‬ ‫درب‬ ‫عبر‬ ‫نزلت‬ ‫جسدي‪،‬‬ ‫من‬ ‫تفوح‬ ‫التي‬ ‫العطر‬ ‫رائحة‬ ‫موا‬ ‫لتشم‬
‫ّ‬ ‫كانوا ُسكارى‬
‫وهمهمة‬‫إلي أصوات أقدام‪َ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫الرجوع دون وعي مني إلى بيت األغا‪ ،‬وتناهت‬ ‫أنني عدت إلى المكان الذي نزلت منه‪ ،‬وخشيت ّ‬
‫لمحا خيالي‪ ،‬صرخت خوفًا منها‪ ،‬وركضا حين ميّزا صوت امرأة‪ ،‬مسافة‬ ‫َ‬ ‫تتصاعد غير بعيدة مني‪ ،‬ثم لمحت خيال الجنديين‪ ،‬مثل ًا‬
‫ساعدي‪ ،‬لم تستمر‬
‫ّ‬ ‫شارعا‪ ،‬تجل ّى لي مقدار سعادتهما وهما يقبضان على‬ ‫ً‬ ‫وجراني عبر درب ضيق يقطع‬ ‫ّ‬ ‫ركضتها حتى أمسكا بي‪،‬‬
‫خمنت أنهم مزيد من اليولداش كانوا يحرسون المدينة‬ ‫َّ‬ ‫الطريق‪،‬‬
‫أشباحا أخرى تعترض ّ‬ ‫ً‬ ‫سعادتهما‪ ،‬فلم نكد نخطو مسافة حتى رأيت‬
‫زوار‪،‬‬ ‫الضخم‪ ،‬ونادى عليهما‪ ،‬تفاجأت بأنه ِ‬
‫الم َ‬ ‫ّ‬ ‫الظلمة‪ .‬عندما بلغناهم اقترب بجسده‬ ‫ليل ًا‪ ،‬أو ربما يبحثون عن نساء مثلي وحيدات في ُّ‬
‫علي ل َطمني‬
‫ّ‬ ‫ار‬ ‫زو‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫عينا‬ ‫وقعت‬ ‫وحين‬ ‫جهة‪،‬‬ ‫كل‬ ‫من‬ ‫الجنود‬ ‫بنا‬ ‫أحاط‬ ‫حين‬ ‫لطلبه‬ ‫رفضا في البداية أن يُس ِل ّماني إليه‪ ،‬ولكنّهما َر َ‬
‫ضخا‬
‫‪:‬حتى سقطت‪ ،‬وعال صوته‬

‫ِ‬
‫أوصك أال تغادري بيت اآلغا حتى أعود الصطحابك ‪-‬‬ ‫‪.‬ألم‬

‫زوار إلى المبغى‪،‬‬ ‫السلطاني‪ .‬عاد بي ِ‬


‫الم َ‬ ‫ليهتم من أي جهة سيأخذني ذلك اآلغا بقدر ما كان يريد دنانير ُّ‬
‫ّ‬ ‫زوار‬ ‫لم أجبه‪ ،‬ما كان ِ‬
‫الم َ‬
‫الدنانير‪ ،‬أحدث وقعها في نفسه حركة مفاجئة‪َ ،‬وث َب تجاهها‪ ،‬فتحها بسرعة ولمع ال َّذهب‬
‫ّ‬ ‫صرة‬ ‫مني‬ ‫سقطت‬ ‫الغرفة‬ ‫وحين عبرنا باب‬
‫وجرني مسافة‪ ،‬قائل ًا‬
‫ّ‬ ‫شعري‪،‬‬ ‫من‬ ‫وأمسكني‬ ‫تجاهي‪،‬‬ ‫خطا‬ ‫ثم‬ ‫بغضب‬ ‫إلي‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫نظر‬ ‫عينيه‪،‬‬ ‫‪:‬في‬

‫منكن ‪ ،‬ولكنك لن تحلمي بدينار واحد منه‪ ،‬مثلك ال يستحق فراش القادة‪ ،‬لم تخلقي إال ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫إذن كنت ستستأثرين به وحدك‪ ،‬آه‬
‫‪.‬ليركبك األعراب وجنود اليولداش‬

‫أحدا‪ ،‬تغيب مالمحهم‪ ،‬ربما لكثرتهم‪ ،‬أو‬


‫ً‬ ‫قالها ثم صفق الباب في وجهي ورحل‪ ،‬لتَبتدئ رحل ٌة أخرى ومع وجوه ال أكاد أذكر منها‬
‫سريعا في زحام المحروسة‬
‫ً‬ ‫نسى‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫عابرة‪،‬‬ ‫شهوات‬
‫ٌ‬ ‫‪.‬ألنّهم لم يعنوا شيًئا لي‪،‬‬

‫المساء حينها قد حل‪ ،‬اتسع ظله على‬ ‫ُّ‬


‫وأطل منها‪ ،‬كان‬ ‫الطائر‪ ،‬يَسحبني إلى الك ُّوة‪،‬‬
‫من غرفتي في بيت ابن ميّار تصلني لقلقة ّ‬
‫الطويلتين عند جدار‬
‫أراه‪ ،‬وقف بساقيه ّ‬ ‫وأمد البصر حتى‬‫ُّ‬ ‫الطائر الل ّقلقة مساء‪ ،‬احترت ألمره وأنا أسرع إلى الك ُّوة‪،‬‬
‫الجدران‪ ،‬ولم يعتد ّ‬
‫من الماء يفيض على عنقه‪ .‬تساءلت‪:‬‬ ‫بعضا‬
‫ً‬ ‫السماء‪ ،‬وترك‬
‫يحدق في ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدقيق وسحب الماء‪ ،‬ثم رفع رأسه‬‫الحوض‪ ،‬وغ ّ ََطس منقاره ّ‬
‫األول بغياب الثّاني؟ أحسست أن حكايات ُمختلفة كان‬ ‫ّ‬ ‫دائما حضور‬
‫ً‬ ‫ع َدم عودته؟ ألم يرتبط‬
‫الطائر في غير موعده إشارة على َ‬ ‫أمقدم ّ‬‫َ‬
‫حرك جناحيه بسرعة‪ ،‬كأنها ينفض عنه قطرات الماء العالقة بها‪ ،‬ربما‬ ‫ِّ‬
‫أحدق أكثر به‪ ،‬يُ ِ ّ‬ ‫الطائر يحملها‪ ،‬ولكن الل ّقلقة لم تكن لتُسعفه‪،‬‬
‫ّ‬
‫علي إال استيعابه‪ ،‬إذا استمررت أفكر‬‫ّ‬ ‫الطائر كل شيء بوضوح‪ ،‬ما كان‬ ‫كانت َستمنع تحليقه بحرية إن تغلغلت إلى داخله‪ ،‬قال ّ‬
‫السل ّاوي‬
‫ّ‬ ‫عاد‬ ‫ولو‬ ‫بسالم‬
‫ٍ‬ ‫الحياة‬ ‫مكنني‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫فال‬ ‫ريقة‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫‪.‬بهذه‬

‫السقيفة‪ ،‬ثم ترتفع لقلقته حادة‪ ،‬كأنه يبكي رحيل أحدهم‪ ،‬يهت ُّز قلبي لصوته‪ ،‬غادرت الغرفة‪،‬‬ ‫الظالم في ّ‬‫الطائر حين ينتشر ّ‬ ‫يصمت ّ‬
‫الصوت‪ ،‬سمعت حينها‬ ‫وعال شهيقي‪ ،‬ثم نأى ّ‬ ‫رجلي ارتختا‪ ،‬فافترشت األرض َ‬
‫ّ‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫حزي‬ ‫يجعله‬ ‫عما‬ ‫أسأله‬ ‫به‪،‬‬ ‫ّحاق‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫على‬ ‫أوشكت‬
‫الطائر‪،‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬تمنيت أال يرحل‪ ،‬لن أحتمل رحيل اثنين في أسبوع واحد‪ ،‬ثم غاب ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعود‬ ‫لن‬ ‫أنه‬ ‫أحسست‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫قوي‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫رفرف‬
‫الرواق إلى الباحة‪ ،‬وتتبعت شبح المرأة القادمة‪ ،‬كانت الل ّة سعدية تسير ببطء‪ ،‬ثم همست حين دنت‬ ‫فتحاملت على نفسي‪ ،‬وعبرت ّ‬
‫‪:‬مني‬

‫اسمع شهيقك يا ُدوجة ما الذي حدث لك؟ ‪-‬‬

‫كدره ‪-‬‬
‫‪.‬الطائر كان يَبكي يا الل ّة‪ ،‬ولم أدر أي شيء يُ ّ‬
‫ّ‬
‫‪.‬يا الل ّه لطفك‪ ،‬إنّه فأل ُسوء ‪-‬‬

‫زءا من الل ّيل‪ ،‬وتتمتم في‬ ‫ُأ‬


‫خلفتني الل ّة سعدية وحيد ًة في باحة البيت‪ ،‬تابعها تقبض على سبحتها‪ ،‬عائدة إلى سجادتها‪ ،‬لتصلي ُج ً‬
‫الطائر‪ ،‬لكنه لم يعد أثناء يقظتي‬
‫الظالم من الكوة‪ ،‬وأنتظر عودة ّ‬
‫‪.‬بقيّته بالدعاء‪ .‬ألجأ إلى غرفتي أراقب ّ‬

‫الش وارع‪ ،‬واليولداش في إثره‪ ،‬يقفز في الهواء قفزة طويلة‪ ،‬ثم يختفي عن أعينهم‪،‬‬ ‫غزال‪ ،‬يركض بين ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أراه في الحلم قد تحول إلى‬
‫الحلم‪ ،‬ثم أراني عند‬ ‫ُ‬ ‫الشرقية‪ ،‬يتالشى‬ ‫صوبون بنادقهم كلها إليه‪ ،‬ولكنّه يَسبقهم‪ ،‬يختفي عبر بوابة المدينة ّ‬ ‫الطريق‪ ،‬يُ ِ ّ‬
‫ليظهر في نهاية ّ‬
‫طل منها على مقابر المدينة‪ ،‬مزي ٌد من الوجوه األوروبية‪ ،‬ينزلون ُمنحدراتها‪ ،‬يحملون األكياس‪ ،‬أنحدر في إثرهم‪ ،‬فأرى‬ ‫البوابة الغربية‪ُ ،‬أ ُّ‬
‫يتجم ُعون داخلها‪ ،‬يَقبرون رجل ًا‪ ،‬أخطو تجاههم وكأنهم ال يَرونني‪ ،‬أدنو منهم‪ ،‬فيطالعني الن َّعش ثم يكشفون عن وجهه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أهالي المحروسة‬
‫أخيرا قد ارتاح مما كان يُثقله طوال سنوات ثالث‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫فعل‬ ‫لماذا‬ ‫أدركت‬ ‫أنا‬ ‫إال‬ ‫ابتسامته‪،‬‬ ‫سر‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يفهموا‬ ‫لم‬ ‫لهم‪،‬‬ ‫يبتسم‬ ‫كان ابن ميّار‬
‫ّفت الجميع‬‫عيني وهم يسقفون القبر‪ ،‬أشحت البصر حين كوموا فوقه التراب‪ ،‬خل ُ‬ ‫ّ‬ ‫أغمضت‬ ‫ّحد‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ده‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫توس‬ ‫الخشنة‬ ‫ّاوي‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫تمتد يد ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ثم‬
‫فارا تجاهي‪ ،‬يالحقه الجنود الفرنسيون‪ ،‬ارتجفت في‬ ‫السل ّاوي يعبُر قوسها ً‬
‫وغادرت المقبرة‪ .‬قبل أن أصل إلى البوابة‪ ،‬تراءى لي ّ‬
‫صوبوا بنادقهم نحوه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وخل َت‪ ،‬تو ّقَفوا قربي‪،‬‬
‫الطريق َ‬
‫مكاني لكثرتهم‪ ،‬ثم مر بي مثل برق‪ ،‬ولكنهم لم ينتظروا طويل ًا بعد أن استوت لهم ّ‬
‫لكن‬
‫ّ‬ ‫اكض‪،‬‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫ّاوي‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫وبين‬ ‫بنادقهم‬ ‫بين‬ ‫بالوقوف‬ ‫وأطلقوا النّار ُدفع ًة واحدة‪ ،‬بدا لي أنهم لن يُخطئوه‪ ،‬رجوتُهم أن يتوقفوا‪ ،‬وهممت‬
‫فزعة‪ ،‬وحين رفعت رأسي نحوه‪ ،‬كان يترنّح في آخر الخطوات‪ ،‬ثم‬ ‫وي في الفضاء‪ ،‬وسقطت على األرض ِ‬ ‫الد ُّ‬‫رجلي خانَتَاني‪ ،‬ثم تعالى ّ‬
‫أرضا‪ ،‬وهبّ وا إليه حين كان يزحف على األرض‪ ،‬كلما اقتربوا منه يزداد ارتعاش قلبي‪ ،‬وعندما أحاطوا به فقدت الوعي‬ ‫ً‬ ‫‪.‬سقط‬‫َ‬
‫يفر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تتحرك عيناي تمسحان الفضاء المظلم للغرفة‪ ،‬وتُتم ِتم شفتاي باسمه‪ ،‬ولم أعتد أن أراه يموت في أحالمي‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫استيقظت حزينة‪،‬‬
‫المرة الفرار‪ .‬احتدت األسئلة‪ :‬نعم يا ُدوجة أنت التي انتظرته سنوات وحين عاد وقفت في وجهه وآذيته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لكنه لم يستطع هذه‬
‫فرط بها بسهولة؟‬ ‫صر على الجري خلف رغباتنا حتى ننالها ثم ن ُ ِ ّ‬
‫لماذا ن ُ ُّ‬

‫لكن التَمتَمة تبلّغُني حيث‬ ‫ّ‬ ‫تشتد بي الهواجس إلى غرفة الل ّة سعدية‪ ،‬أدنو من بابها‪ ،‬أتحري إن كانت قد نامت‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أحمل نفسي حين‬
‫بحق محبتك‬‫ِّ‬ ‫جزءا من وجهها المبلل بالدموع‪ .‬يا الل ّه‬ ‫ً‬ ‫أقف‪ ،‬وأتجاوز الباب إليها‪ ،‬ما زالت على حالها‪ ،‬تبسط يديها‪ ،‬والقنديل يُظهر‬
‫وبحق كل‬
‫ِّ‬ ‫مريضا يُغالب اآلالم‪ ،‬واأليام التي قضيتُها ساهر ًة إلى جانبه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لألطفال‪ ،‬وقد كان منصور منهم‪ ،‬بحق كل األيام التي قضاها‬
‫اجعل كل الغائبين يهتدون إلى بيوتهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بحق كل هؤالء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبحق كل األيام المظلمة التي ِعشتُها منذ دخلت المحروسة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫األمهات‪،‬‬
‫وقفت عند رأسها‪ ،‬ثم جلس خلفها أتطلع إلى‬ ‫ُ‬ ‫أن‬ ‫إلى‬ ‫سعدية‬ ‫ّة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫وأقترب‬ ‫بالدعاء‬ ‫أتمتم‬ ‫كنت‬ ‫!‬ ‫وأحبابهم‬ ‫ائهم‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫أع‬ ‫إلى‬ ‫يرجعون‬
‫سمعت طرقًا على‬‫ُ‬ ‫أنتبه‪،‬‬ ‫لم‬ ‫لحظات‬ ‫في‬ ‫‪.‬‬ ‫أخرى‬ ‫إشارة‬ ‫كأنها‬ ‫عاء‪،‬‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫ألححت‬ ‫كلما‬ ‫ضوؤه‬ ‫ويزداد‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫حي‬ ‫يشحب‬ ‫القنديل‪،‬‬ ‫ضوء‬
‫السفيفة ثم فتحت‬ ‫ّ‬ ‫اجتزت‬ ‫مكاني‪،‬‬ ‫من‬ ‫قمت‬ ‫وهكذا‬ ‫!‬‫كهذه؟‬ ‫قصيرة‬ ‫فترة‬ ‫في‬ ‫اإلشارة‬ ‫أتتحقق‬ ‫تساءلت‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫لي‬ ‫بدا‬ ‫كأنه‬ ‫أو‬ ‫الباب‪،‬‬
‫السقيفة‪ ،‬كانت رجله‬ ‫ّ‬ ‫مسافة‬ ‫أسندته‬ ‫حين‬ ‫جريح‬ ‫أنه‬ ‫أدركت‬ ‫أنفاسه‪،‬‬ ‫تتقطع‬ ‫انحناء‪،‬‬ ‫في‬ ‫وقف‬ ‫بينها‬ ‫مفزوعة‬ ‫صرخت‬ ‫فرأيته‪،‬‬ ‫الباب‬
‫وبثقل وصلنا إلى الباحة‪ ،‬وهناك وقفت الل ّة سعدية وأضاءت وجهه بالقنديل ثم قالت‬ ‫ٍ‬ ‫‪:‬مصابة‪،‬‬
‫ُ‬
‫الطائر‪ ،‬أصابك المالعين ‪-‬‬
‫‪.‬لطفك يا الل ّه‪ ،‬ما خاب ظنّي في ّ‬
‫السل ّاوي ثم أجابها‬
‫‪:‬وضحك ّ‬
‫زوار ‪-‬‬ ‫عمة‪ ،‬بل أنا الذي أصبتُهم‪ ،‬اآلن فقط يمكن للمحروسة أن ترتاح‪ ،‬لقد قتلت ِ‬
‫الم َ‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬ال يا‬

‫‪:‬وضربت الل ّة سعدية صدرها بكفها‬

‫!أيها البائس‪ ،‬قد جلبت لنفسك الهالك ‪-‬‬

‫مهما بالنسبة للفرنسين‪ ،‬فزعت‬


‫ً‬ ‫السل ّاوي في أيامه المقبلة؟ كان المقتول رجل ًا‬
‫زوار إذن وانتهت هذه الحكاية‪ ،‬ولكن ماذا ينتظر ّ‬ ‫قُتل ِ‬
‫الم َ‬
‫حين تخيّلت أنهم سيركضون خلفه ويكسروا األبواب‪ ،‬ولن يُوقفهم أحدٌ‪ .‬كانت الل ّة سعدية ما تزال تحدق في وجهه َمبهوت ًة‪ ،‬ثم‬
‫الجرح وتفحصته‪ ،‬لم يبد لها عميقًا‪ ،‬ثم قامت ُمتسائلة‬‫ُ‬ ‫‪:‬انحنَت إلى‬
‫هل ُهم في إثرك؟ ‪-‬‬

‫‪.‬ال أظن ‪-‬‬

‫‪.‬هم يعرفون أنك صديق البن ميّار‪ ،‬وسيأتون إلى هنا ‪-‬‬

‫كيسا‬
‫ً‬ ‫وخطت إلى غرفتها‪ ،‬ثم رجعت حامل ًة معها‬
‫طلبت أن نسير في أعقابها‪َ ،‬‬
‫ْ‬ ‫رأيت وجه الل ّة سعدية عن كثب‪ ،‬بدا أكثر جديّة‪،‬‬
‫واضعا رجله في حجري‪ ،‬وحين شرعت الل ّة سعدية تتفحص الجرح‪ ،‬كانت أسنانه َت ُّ‬
‫صطك ببعضها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حمة‬
‫ّ‬ ‫صغيرا وبعض القماش‪ ،‬تمدد‬
‫ً‬
‫‪:‬وظل عرقه ينضح‪ ،‬ثم رفعت رأسها إليه‬ ‫ّ‬

‫الرصاصة برجلك‪ ،‬كانت ستُقطع حينها ‪-‬‬


‫حظك أنها كانت جانبية‪ ،‬ولم تستقر ّ‬
‫ّ‬ ‫‪.‬من ُحسن‬

‫أردفت‬
‫ْ‬ ‫‪:‬وفي زمن قليل كان كل شيء قد انتهى‪ ،‬لفّت ساقه بقطع القماش‪ ،‬وقبل أن تنتهي منها‬

‫حمة ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫‪.‬عليك اآلن االختباء في القبو طويل ًا يا‬

‫ظل حبيس البيت‪.‬‬ ‫بتل ثيابي منها‪ ،‬وحتّى دمه تتّسع بُقعه في فستاني‪ ،‬وسيَ ُّ‬
‫السل ّاوي‪َ ،‬ساقه ترتاح في حجري‪ ،‬ويسيح عرقه فتَ ُّ‬
‫عاد ّ‬
‫‪.‬اآلن فقط سيصغي إلى الحكاية كلها‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫القسم الخامس‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ديبونالجزائر مارس‪/‬سبتمبر ‪1833‬‬

‫‪ ‬‬

‫المن َ ِ‬
‫اخ َس«‬ ‫عل َي ْ َك أن تَ ْرف َُس َ‬ ‫اول ! لِ َماذَا تَ ْض َط ِه ُد ِني‪َ ،‬ص ْع ٌ‬
‫ب َ‬ ‫اول ! َش ُ‬
‫»!!ش ُ‬
‫َ‬

‫يوما‪ ،‬فلم يكن إال محب ًة‪ .‬ولكن لِ َم ال ينصرني اآلن‪،‬‬


‫ً‬ ‫هل كان المسيح قاسيًا يوم تجل ّى لشاول من أعلى الجبل؟ ال‪ ،‬لم أعتقد ذلك‬
‫ِ‬
‫الخيبات؟ آه لو يسطع نورك فوق بناء مكتبه‪ ،‬وتنادي‬ ‫مزيدا من‬
‫ً‬ ‫وقد مضى على وصولي إلى المحروسة أربعة أشهر‪ ،‬وال شيء إال‬
‫كافيار فينتفض مرعوبًا‪ ،‬وحين يقوم فلن يبصر بعينيه المفتوحتين‪ .‬آمن شاول حين أظهرت له معجزتك فهل سيؤمن كافيار إن‬
‫صرخت في وجهه بالترنيمة؟‬‫ُ‬

‫مجرد‬
‫َّ‬ ‫ضمره لي البحر من أحالم‪ ،‬ربما كانت‬ ‫عدت إذن إلى المحروسة‪ ،‬ولم تختلف أيامي األولى بها عن أيامي األخيرة‪ ،‬رغم ما َأ‬
‫َ‬
‫بحوارات طويلة‪ ،‬وصراخ في وجه كافيار‪ :‬إن‬
‫ٍ‬ ‫أوهام‪ ،‬أنه يمكنني تغيير الكثير‪ ،‬أطالع المقال‪ ،‬وأعيد ما جاء فيه‪ ،‬وتحدثني نفسي‬
‫الرب‪ .‬ولكن حين وطئت رجالي رصيف الميناء اكتشفت أنه قد آن‬ ‫إلها لهذا العالم‪ ،‬بل نحن من نُغيّره على طريقة ّ‬ ‫الشيطان ليس ً‬
‫ّ‬
‫المور وقصدتها‪،‬‬
‫لي االستفاقة من الوهم‪ .‬فالمحروسة التي خل ّفتُها ليست نفسها اليوم‪ .‬أسرعت إلى الفُندق كي أرتاح‪ .‬أحببت فنادق ُ‬
‫ولكنني لم أعثر عليهم هناك‪ ،‬ولم أقابلهم‪ ،‬بل إن اإليطاليين قد أصبحوا أصحاب الفندق الجدد‪ ،‬كل ّموني بفرنسية ال تخلو من لكنة‪،‬‬
‫أمل في أشياء‬
‫ٍ‬ ‫ير ا قديمة‪ ،‬وددت التخلص منها قبل أن أستقبل المدينة بوجه جديد‪ ،‬ال يخلو من‬ ‫وحيدا في الغرفة أعيد ِس ً‬
‫ً‬ ‫وبقيت‬
‫‪.‬كثيرة‪ ،‬متفائل ًا بمن تبقى من أناسها فلربما بينهم من يستطيع الوقوف في وجه كافيار‬

‫قائدا حقيقيًا ولكنّه رحل‪ .‬أين أنت يا بورمون؟ ! تُرى أي منفي‬ ‫ً‬ ‫أتوغل في شارع البحر غير عابئ بالوجوه من حولي‪ ،‬وحده كان‬
‫متذكرا سيرته‪ ،‬أتسل ّق دروب القصبة حتى أبلغ مكتبه‪ ،‬أعبّر‬ ‫ً‬ ‫أحدق من نافذة الغرفة‪.‬‬‫ّ‬ ‫يسعك اآلن؟ ساعات استعدت بها بُورمون وأنا‬
‫حرك ساكنًا‪ .‬أدلف إليه‪،‬‬ ‫وحيد ا على عادته‪ ،‬يبصر الباحة من نافذة الغرفة‪ ،‬يتأمل حياته التي رآها تنهار أمامه دون أن يُ ّ‬ ‫ً‬ ‫إليه‪ ،‬فأجده‬
‫يوما قاسيًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫كان‬ ‫‪.‬‬‫المعركة‬ ‫في‬ ‫ابنه‬ ‫جثمان‬ ‫مع‬ ‫عها‬ ‫ود‬
‫ّ‬ ‫المالمح‪،‬‬ ‫من‬ ‫خال‬
‫ٍ‬ ‫بوجهٍ‬ ‫ويلتفت‬ ‫منه‪،‬‬ ‫أكثر‬ ‫أقترب‬ ‫حين‬ ‫إال‬ ‫لي‪،‬‬ ‫ينتبه‬ ‫لكنه ال‬
‫لكنه تحامل على نفسه‪ ،‬وواصل قيادة الجيش‪ .‬ربما كنت الوحيد الذي قاسمه أيامه األخيرة‪ ،‬مثلما كان القادة يجتمعون به من حين‬
‫مضض‪ ،‬لم تمض إال أيام قليلة بعد احتالل الجزائر حتى زحفت‬ ‫ٍ‬ ‫يصرون على مسير الجيوش إلى بقية المدن‪ .‬وافقهم على‬ ‫ّ‬ ‫إلى آخر‪،‬‬
‫وقفت عند مدخل‬ ‫ُ‬ ‫الجيوش على المدن الثّالث‪ ،‬وعلى رأس أح ِدها ابنه الثّاني‪ ،‬ولكنّها عادت مهزومة حاملة معها جثمانه‪ .‬يومها‬
‫الضباط في البهو واختاروني كي أبلغه بموت ابنه‪ ،‬لكني رفضت بشدة‪.‬‬ ‫المدينة أراقب العائدين وآثر هو البقاء في مكتبه‪ .‬اجتمع ّ‬
‫وحيدا‪ ،‬لم أدر بأي الكلمات سأعزيه‪ ،‬هل يستوعب مجد هذه األمة أن يفقد‬ ‫ً‬ ‫مضى أحدهم إليه وأخبره‪ ،‬ثم غادروا القصر وخل ّفوني‬
‫شهر واحد! هل ستُنسيه األوسمة مصرعهما؟! غادرت مكتبه ولم أعد إال في يوم ثان‪ ،‬أجلس في مقابلته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عظيم مثله ابنين في‬
‫ويحتج على تجاوزات‬‫ُّ‬ ‫بكلمات ال تعني شيًئا لكلينا‪ .‬مثل ًا لم تكن مجدية زيارات ابن ميّار وشكواه‪ .‬يقف‬ ‫ٍ‬ ‫أحدق به طويل ًا‪ ،‬ونهذر‬‫ّ‬
‫الجنود‪ ،‬والقائد كأنه ال يراه‪ .‬ثم اشتعلت الثّورة في باريس‪ ،‬أزاحت الملك وعائلته‪ ،‬وأضحى اإلكريلوس ضعيفًا‪ ،‬بدأت تضيع األحالم‬
‫‪.‬الحقيقة للحملة‬

‫حدق تجاهي بورمون‪ ،‬وقال‬


‫ّ‬ ‫‪:‬يومها‬

‫أن هذا سيحدث ‪-‬‬


‫‪.‬تكهنت ّ‬

‫كيف؟ ‪-‬‬

‫علي ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫الطريقة زادوا من حنق الجنود‬
‫‪.‬رفضوا منح الجنود عالواتهم التي وعدناهم بها‪ ،‬ثم أرادوا شراء صمتي بلقب الماريشال‪ ،‬بهذه ّ‬
‫الراية الجديدة تعبر البحر‪ ،‬فهل سترضخ لهم؟ ‪-‬‬
‫وما العمل اآلن يا سيدي؟ ّ‬
‫مجبرا يا ديبون ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬لست‬

‫‪.‬ولكنهم سيَعزلونك إن لم تفعل ‪-‬‬

‫ُّ‬
‫وسأظل ‪-‬‬ ‫دائما كنت وفيًا للبُوربون‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬لهم أن يفعلوا ذلك‪ ،‬لن أغيّر قناعاتي‪،‬‬

‫أنزل إلى أسفل المدينة فأرى الفوضى التي أحدثها الخبر بين المشاة‪ ،‬ضجوا قبل أيام واجتمعوا مع القائد يطلبون رواتبهم المضاعفة‪،‬‬
‫العل َم‪ ،‬ولو بعد أيام‪ ،‬لكنهم لم يغفروا له تأخيره‪ ،‬اعتقدوا‬
‫لكن القائد بورمون تالفى انقسام الجيش‪ ،‬وسمح بتعليق َ‬
‫ّ‬ ‫اآلن هم مرتبكون‪.‬‬
‫‪.‬دائم ا أنه خائن واترلو‪ ،‬وهكذا بعد أيام قليلة كنا نقرأ مرسوم نفيه‬
‫ً‬
‫الط ريق‪ ،‬كأنهم ولدوا في هذه المدينة‪ ،‬غير مبالين بقائدهم‪ ،‬وهو يغادر مكتبه‪ ،‬لطالما‬ ‫من نافذة الفندق رأيت كوكب ًة من الجنود تعبر ّ‬
‫سرت إلى جانب بورمون وهو‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫الحملة‬ ‫هذه‬ ‫في‬ ‫ير‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫أغراهم‬ ‫ما‬ ‫المال‬ ‫بل‬ ‫تجل ّت الحقيقة لي ‪ .‬ال يهتم الجنود بمجد ُأمتهم‪،‬‬
‫الرصيف إلى الفرقاطة التي اكتراها بماله‪ ،‬حامل ًا خيبتين من البحرية‪ ،‬األولى يوم اعترضوا تابوت آميدي في ميناء مرسيليا‪ ،‬كان‬ ‫يعبر ّ‬
‫توهموا أن القائد يُخبئ به‬
‫ّ‬ ‫عل َم الجزائر ليُسل ّمه للملك‪ .‬أحاطت به شرطة الميناء وفتشوا التابوت‪،‬‬ ‫إلى جانبه ابنه الثّاني حامل ًا َ‬
‫ال ّ َذهب‪ .‬أي مج ٍد هذا الذي تفخر به هذه األمة‪ ،‬وهي تُف ِتّش التوابيت‪ ،‬وال تُبالي بفتح عظيم؟! والثانية رفض األميرال دوبيري أن‬
‫الصغير وقد حوى رماد‬ ‫الصندوق ّ‬ ‫وحيدا‪ ،‬يتأبط ّ‬
‫ً‬ ‫قائدا عليه‪ .‬وقف يومها بورمون‬ ‫ً‬ ‫قل سفينة من األسطول بورمون‪ ،‬وكان قبل يومين فقط‬ ‫تُ ّ َ‬
‫وحيدا مع ابن ميّار‬
‫ً‬ ‫وبقيت‬ ‫الفرقاطة‪،‬‬ ‫األفق‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫غي‬ ‫بعدما‬ ‫وانصرفوا‬ ‫له‬ ‫أيديهم‬ ‫لوحت‬ ‫عه‪،‬‬ ‫ود‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫فقط‬ ‫القليل‬ ‫‪.‬‬ ‫الفرقاطة‬ ‫إلى‬ ‫وصعد‬ ‫‪.‬ابنه‪،‬‬

‫َّ‬
‫لعل‬ ‫الركض مع ابن ميّار‪ ،‬نحلم أن نُغيّر المدينة‪ ،‬ونطرق األبواب كلها‬ ‫رحل بورمون يومها وتركني في الجزائر‪ ،‬لم يبق لي سوى ّ‬
‫يائسا بينما واصل ابن ميّار ركضه‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫ورحلت‬
‫ُ‬ ‫الجنود‪،‬‬ ‫أيدي‬ ‫على‬ ‫ضرب‬ ‫السباب والشتم‪ ،‬هذا إن لم ن ُ‬ ‫واحدا يفتح لنا‪ .‬ولم نلق سوى ّ‬‫ً‬
‫السنون‪ ،‬إذ ما زال يجِ ُّد في استعادة‬‫ّ‬ ‫تبدلهم‬ ‫ال‬ ‫جال‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫بعض‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫حينها‬ ‫أدركت‬ ‫القائد‪،‬‬ ‫مكتب‬ ‫إلى‬ ‫الموصل‬ ‫رب‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫فجأة‬ ‫التقيته‬
‫والعينان تتوقان إلى‬
‫ِ‬ ‫بسنوات كثيرةٍ‪ ،‬حفرت أخاديد في وجهه‪ ،‬ذهبت ببعض مرحه‪ ،‬عانقني‬ ‫ٍ‬ ‫المساجد‪ .‬اقتربت منه فبدا لي أكبر‬
‫أمكنةٍ أخرى‪ ،‬كان ُمستعجل ًا فسلَّمته نُسخة من الجريدة‪ ،‬قبل مغادرته أخبرني عن سفره إلى باريس من أجل عرائض جديدة‪ .‬لو‬
‫موري بريد الخالص لنفسه في باريس‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وحتما سيقول‪ :‬أعجب لكما من أحمقين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان كافيار ثالثنا ذلك اليوم لسخر طويل ًا منا‪.‬‬
‫!وفرنسي يحلم بتغيير أرض البرابرة‬

‫خمنت ثم تجاوزت البوابة‪ ،‬وقابلني وجه‬


‫ّ‬ ‫الدروب التي نسلكها‪ ،‬إن كانت الوجهة واحدة‪ ،‬هكذا‬
‫تهم ّ‬
‫ُّ‬ ‫نعم يا كافيار‪ ،‬ربما تكون محقًا‪ ،‬ال‬
‫‪.‬القائد فوارول‬
‫‪:‬كلمات قليلة تبادلتها معه وهو يقرأ الجريدة‪ ،‬بالتأكيد كان سيستاء منها‪ ،‬ولكنّه لم يُظهر شيًئا‪ ،‬قال‬

‫‪.‬قد قدم الوكيل المدني من مرسيليا ليُح ّقق في األمر‪ ،‬قضى يومين هنا ثم عاد إلى طولون مخلّفًا توصياته إلى الجنود ‪-‬‬

‫الطريق بخطى عجلة‪ ،‬أتوق فقط للصراخ في وجهه‪ :‬ليس هناك‬


‫الشهر األول زرت مكتب كافيار‪ ،‬أقبض على الجريدة‪ ،‬وأقطع ّ‬
‫في ّ‬
‫!!شيطان في هذا العالم إال أنت‬
‫ٌ‬

‫بقوة‪ ،‬وصاح‬
‫ّ‬ ‫‪:‬ما إن بلغت المكتب حتى ُأذن لي‪ ،‬كأنه كان ينتظرني‪ ،‬حين عتّبت الغرفة حضنني‬

‫‪.‬آه يا ديبون الغالي كم اشتقت لك ‪-‬‬

‫ودائما كنا على طرفي نَقيض؟ ‪-‬‬


‫ً‬ ‫شوق‬
‫ٍ‬ ‫أي‬

‫‪.‬لماذا ترى األمر على أنه شخصي‪ ،‬فنحن اآلن فرنسيان في إفريقية ‪-‬‬

‫‪:‬لحظتها رميت الجريدة في وجهه‪ ،‬فأمسكها دون احتجاج‪ ،‬وقَرأ العنوان ثم رماها جانبًا‪ ،‬وقال‬

‫‪.‬مشكلتك مع المالطيين وليست معي ‪-‬‬


‫ُ‬
‫‪.‬لو لم تسمح لهم‪ ،‬لما نَبشوا القبور ‪-‬‬

‫‪.‬ما دخلي أنا‪ ،‬وظيفتي هي إعادة بناء المدينة وليس التفتيش عن العظام ‪-‬‬

‫أفكار كبيرة بحجم التي يحملها في رأسه‬ ‫ٌ‬ ‫الرجل‪ ،‬كافيار قبل سنتين هو نفسه بعد سنتين‪ ،‬تلزمنا‬
‫السنوات من تفكير هذا ّ‬
‫لم تُغيّر ّ‬
‫‪.‬ومستعدٌ أن يُستعبد من أجلها‪ ،‬ويُجل َد حتى يتشقّ َق ظهره‪ ،‬كي يتغيّر‬

‫فقت الباب ورحلت‪ ،‬قررت أنني لن أرجع إليه‪ ،‬بيد أنني عدت‪ ،‬في ُصحبة ابن ميّار‪ ،‬وما إن يراه حتى يضج بنا‪ ،‬ويصرخ‬ ‫يومها َص ُ‬
‫ظن أنها ستعيد أشياء‬‫ّ‬ ‫آمرا جنوده أال يسمحوا لي بعبور البوابة‪ ،‬كان ابن ميّار حينها قد عاد من رحلةٍ‬
‫ً‬ ‫طر َدنا في آخرها‬
‫في وجهينا‪َ ،‬‬
‫حدثني عنه ونحن ننحدر إلى المقابر‪ ،‬وفي طريقنا إلى مكتب كافيار لم يتوقف عن َسرد‬ ‫ّ‬ ‫كثيرة‪ ،‬كنت أكثر تفاؤل ًا بكتابه الذي‬
‫الدرجات‪ ،‬طوال مسيرنا كنت أصل ّي لعل الن َّاصري يُلهمني فأرمي كل شيء دفعة‬ ‫ّ‬ ‫نصعد‬ ‫ونحن‬ ‫تفاصيل حملها الكتاب‪ ،‬ثم صمت‬
‫عال صوتي بها‪ :‬كافيار كافيار أنت لم تكن إال شيطانًا في هذا العالم‬‫‪.‬واحدة في وجه كافيار‪ ،‬وأما حين التقى الوجهان فقد َ‬

‫الدرجات‬
‫سعيدا‪ ،‬إذ لم أره بذلك الغضب من قبل‪ ،‬نزلنا ّ‬
‫ً‬ ‫استشاط كافيار غضبًا‪ ،‬وطردنا ُمناديًا على جنوده‪ ،‬فرحلت وابن ميّار‪ ،‬كنت‬
‫َ‬
‫التفت إلى‬
‫ُ‬ ‫ُمسرعين حتى بلغنا البوابة الخارجية‪ ،‬ولكن الوجوه التي كانت من حولي ساءتني‪ ،‬النّاس ال يريدون التخلي عن طباعهم‪،‬‬
‫‪:‬ابن ميّار‪ ،‬وأهمس له‬

‫لماذا ال يستجيبون لكلماتنا؟ ‪-‬‬

‫مرة أخرى في األوروبيين‪ .‬وهم كل يوم يجددون خيانتهم للمعاهدة ‪-‬‬


‫‪.‬ال يمكن للناس الوثوق ّ‬
‫ولكن لماذا ال يحمون مقابرهم التي ينبُشها المالطيون؟ ‪-‬‬

‫!أيهتمون بالموتى أم باألحياء‪ ،‬وكل يوم تنحدر الن ُّعوش نحو المقبرة ‪-‬‬

‫‪.‬أنت على حق‪ .‬المعركة الحقيقية هي في المحافظة على من تبقى من األحياء ‪-‬‬

‫الدخان في وجه هذا العالم الذي ال ينتصر فيه إال الحقراء‪.‬‬ ‫أفر من شارع البحر إلى حي المقاهي‪ ،‬كنت في حاجة إلى نفث ّ‬ ‫ُّ‬
‫الرب هيّنًا‪ .‬همست بالكلمات بعد أن رشفت‬ ‫ّ‬ ‫حمله‬ ‫الذي‬ ‫الشعوب ال بد له من أفكار كبيرة‪ ،‬ولم يكن النّور‬
‫لطالما آمنت أن تغيير ّ‬
‫وحيدا‪ ،‬فوجدته يجلس إلى جانبي‪ ،‬رجل ًا‬‫ً‬ ‫ردد معي‪ ،‬حسبت أنني كنت‬ ‫الصوت الذي ّ‬ ‫الدخان‪ ،‬ثم انتبهت إلى ّ‬
‫من فنجان القهوة‪ ،‬نفثت ّ‬
‫أسمر‪ ،‬مالمح وجهه كانت أميل إلى األوروبين‪ ،‬ويرتدي زيهم‪ ،‬تأملت وجهه طويل ًا‪ ،‬لم تبد لي لهجته مثل لهجة المترجمين‪ ،‬أو الذين‬
‫تعلموا الل ّغة حديث ًا‪ ،‬بل كانت فرنسية دقيقة‪ ،‬وكأنه تربى في شوارع مرسيليا الخلفيّة‪ ،‬ولم يُطاطئ رأسه أو يُخفض عينيه‪ ،‬بل ظلت‬
‫حدقان بي في رغبةٍ لمواصلة الكالم‬ ‫‪.‬عيناه ُمستقرتين‪ ،‬تُ ّ‬

‫‪:‬خاطبته قائل ًا‬

‫هل هناك شيء يا سيدي‪ ،‬هل تقابلنا سابقًا؟ ‪-‬‬

‫ال‪ ،‬لم يحدث هذا‪ ،‬هل يمكن أن نتعرف؟ ‪-‬‬


‫‪».‬ديبون مراسل صحفي في «لو سيمافور دو مارساي ‪-‬‬

‫الشهير مع باشا الجزائر ‪-‬‬


‫!ديبون‪ ،‬أنت صاحب الحوار ّ‬

‫أياما‪ ،‬وأتحيّن الفرص ألكون إلى جانبه‪ ،‬أسأله عن نهاية المحروسة‪،‬‬


‫ً‬ ‫بالصدفة فقط‪ ،‬يعود لقائي بالباشا في باريس‪ ،‬حيث ظللت أتبعه‬
‫‪:‬وعن بداياتها األولى‪ ،‬عن زوجاته وعن طفولته‪ ،‬عرفت أنه لم يُعاقر الخمر إال في شبابه‪ ،‬يهمس لي‬

‫مضرتها فتركتها ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫!للشباب ُجموحه يا بني ولكن الل ّه أرشدني إلى‬

‫أيضا عن بقية األتراك‪ ،‬إذ كان ُمقبل ًا على الحياة‬


‫ً‬ ‫كان يُشاع عن األتراك محبتهم للنساء وقد تزوج الباشا امرأة واحدة‪ ،‬مثلما اختلف‬
‫يتجو ل في شوارع باريس ومسارحها‪ ،‬التقيته في مسرح «بروت سان مارتان» بعد مشاهدته مسرحيّة عن نابليون‪ ،‬ولم أفوت‬ ‫ّ‬ ‫األوروبية‪،‬‬
‫شاعا في‬
‫عما كان ُم ً‬ ‫ّ‬ ‫المسرحية‬ ‫حملته‬ ‫ما‬ ‫تختلف‬ ‫لم‬ ‫نظره‪،‬‬ ‫وجهة‬ ‫ار‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫لي‬ ‫وترجم‬ ‫بها‪،‬‬ ‫رأيه‬ ‫عن‬ ‫رحيله‬ ‫قبل‬ ‫سألته‬ ‫الفرصة‪،‬‬
‫قائدا حربيًا رغم ما حمله‬
‫ً‬ ‫الش رق عن نابليون‪ ،‬لكنني استغربت أمنيته في لقاء نابليون‪ ،‬وقلت في نفسي ربما كان ُمعجبًا بكونه‬ ‫ّ‬
‫مرة أخرى بعد عرض مسرحيّة مأساوية لفيكتور هيغو بعنوان «ماريون دو لورم» ولم ترقه‪ ،‬إذ‬ ‫ّ‬ ‫الباشا‬ ‫التقيت‬ ‫‪.‬‬ ‫جنون‬ ‫من‬ ‫رأسه‬
‫اختلفت العادات والتقاليد وحتّى الل ّباس بين األمتين‪ ،‬ومنعت نفسي من سؤاله إن كان يعلم رأي صاحب المسرحية في الحملة التي‬
‫مسرحا أو دار األوبرا‪ ،‬تظل ملتصقة‬
‫ً‬ ‫سارت إلى الجزائر‪ .‬لم يستطع الباشا االختفاء عن العيون التي كانت تتعل ّق به كلما دخل‬
‫الصحف كل شيء‪ ،‬ما إن أتصفح إحداها‬ ‫المذهب الذي تقلَّده‪ ،‬تنشر ّ‬
‫َّ‬ ‫بلباسه وعمامته الكبيرة‪ ،‬وإلى الخاتم الذي ارتداه‪ ،‬وإلى الخنجر‬
‫حتى أرى جداول لسير الباشا في العاصمة‪ ،‬والدروب التي َسل َكها واألشياء التي اشتراها‪ ،‬وحتّى األكل الذي يُحبّه‪ ،‬ما أعجب هؤالء‬
‫حتفى بي في منابر عديدةٍ‪ ،‬وبعد نشر الحوار فقدت جميع صداقاتي‪ ،‬أو باألحرى‬ ‫ً‬ ‫وم‬
‫الباريسيين! كان ُمرحبًا بي في جرائد كبيرة‪ُ ،‬‬
‫الصفات‬
‫‪.‬أشباه األصدقاء الذين راسلوني ُمعجبين بتتبُّعي للحملة‪ ،‬ومع عودتي إلى مرسيليا وجدت رسائل أخرى تَنعتني بأبشع ّ‬

‫الرجل األسمر تترقبان سؤالي عن هويّته‪ ،‬وقبل أن أبادره اقترب عامل المقهى منه‪ ،‬حاوره بكلمات عربية‪ ،‬استغربت وأنا‬
‫كانت عينا ّ‬
‫فعجل ذلك من سؤالي‬ ‫ّ‬ ‫المترجمين‪،‬‬ ‫جميع‬ ‫التقيت‬ ‫‪:‬الذي‬

‫لم تُفصح لي عن هويتك بعد يا سيدي؟ ‪-‬‬

‫أتحب أن تعرفني بإسماعيل أم بتوماس؟ ‪-‬‬

‫وهل هناك فرق؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نعم كانت هناك فروق ولكنّها اآلن غير موجودة ‪-‬‬

‫كيف؟ ‪-‬‬

‫‪.‬كنت توماس المسيحي‪ ،‬ثم أصبحت إسماعيل المسلم دون المروق عن مسيحيتي ‪-‬‬

‫ولكن لماذا هذا الجهد كله؟ ‪-‬‬

‫الشرق والغرب ‪-‬‬


‫هوتي ّ‬
‫‪.‬أملي في هذه الحياة كلها إيصال الجسر بين ّ‬
‫غامضا يا سيد توماس أو إسماعيل ‪-‬‬
‫ً‬ ‫‪.‬أرى كالمك‬

‫الهم يا سيد ديبون أن أكون إسماعيل أو توماس‪ ،‬أو حتى مسيحيًا أو مسلم‪ ،‬المهم أن أكون معك إنسانًا‪ .‬هل يروقك هذا؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نعم يا سيد توماس‪ ،‬يروقني األمر ‪-‬‬

‫واآلن ما الذي أعادك إلى هذه المدينة بعد سفرك إلى مرسيليا؟ ‪-‬‬

‫وكيف تعرف هذا؟ ‪-‬‬

‫سنوات ‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬إننا نعرف كل شيء عن هذه المدينة ومنذ‬

‫ولكن من أنتم؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نحن الذين سنعيد لإلنسان قدسيته ‪-‬‬

‫مر عليها أكثر من‬


‫مد ني بالجريدة التي كانت بيده‪ ،‬وحين طالعت العنوان تذكرتها‪ ،‬كانت جريدة «الغلوب»‪ ،‬تصفّحتها‪ ،‬قد ّ‬
‫قبل قيامه ّ‬
‫السيمونيين القادمين إلى الجزائر‪ ،‬يبحثون عن مرفٍأ لهم من أجل تحقيق أحالم زعيمهم سان سيمون‪.‬‬
‫عام‪ ،‬وق ُّدر لي يومها لقاء أول ّ‬
‫الدول‪ ،‬واآلن أرى أن الجزائر في‬
‫دائما كنت معجبًا به‪ ،‬ولكن في وجود الملك لم َأر جدوى من نشاطهم في باريس‪ ،‬وربما في بقية ُّ‬ ‫ً‬
‫‪.‬حاجة إليهم‬

‫تأبّطت الجريدة ورحلت إلى الفندق‪ ،‬قل ّبت صفحاتها‪ ،‬كل صفحة كانت تزيد من إعجابي بنداءات القديس سيمون‪َ ،‬ح َوت المبادئ‬
‫للمخل ّص في هذه المدينة‪ ،‬قرأت المبادئ وكررتها‪ ،‬توقّفت عند بعض‬ ‫ُ‬ ‫تجل‬
‫ٍ‬ ‫األولى للمذهب الجديد‪ ،‬كم فتنني ُأسلوبه ومعانيه‪ ،‬إنّه فعل ًا‬
‫ُجملها طويل ًا‪ ،‬كان أثرها قويًا على نفسي‪ ،‬نعم المجد لك يا سان سيمون‪ ،‬إذا كانت فعل ًا هذه الكلمات صادرة من روحك‪ ،‬فسأكون‬
‫الجمل المليئة بالمعاني اإلنسانية «اهتزت العروش‪ ،‬وتم ّزقت اُأل َسر‪ ،‬واختفى‬‫ُ‬ ‫خلصا‪ ،‬أسهر مع المبادئ بقية الل ّيل‪ ،‬فتطالعني‬ ‫سيمونيًا ُم ً‬
‫والعبودية» كانت الكلمات تحفر في داخلي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫للرق‬
‫ِّ‬ ‫وأدب جديدٌ وسياس ٌة جديدةٌ‪ ...‬وليختف بيننا آخر أثر‬ ‫ٌ‬ ‫د‬
‫ٌ‬ ‫جدي‬ ‫دين‬ ‫‪.‬‬ ‫والملوك‬ ‫الحب‬
‫ُّ‬
‫المبجل سان سيمون؟ أقف وأشرع النّافذة كأنني أبحث عن توماس في‬ ‫َّ‬ ‫تجدد حكايات فتنتني باإلنجليز‪ .‬أين كنت غائبًا أيها‬ ‫ّ‬ ‫وكأنها‬
‫السيمونيين‬
‫الشارع فال أجده‪ ،‬وأمسك الجريدة أقل ّب صفحاتها وكأنني أكتشفها للمرة األولى‪ ،‬اآلن فقط يمكن ألهالي المحروسة انتظار ّ‬ ‫ّ‬
‫والربح يتقاسمه الجميع‬ ‫ِ‬ ‫السالم والمساواة مع الفرنسيين وكل األوروبيين‪ ،‬يكون العمل جماعيًا‪،‬‬ ‫يعمه ّ‬
‫ّ‬ ‫لمجتمع جدي ٍد‬
‫ٍ‬ ‫ليشيدوا معالم‬
‫السيمونيون هم ُمستقبل الجزائر‬ ‫‪.‬بعدل‪ ،‬ليت ابن ميّار معي اآلن‪ ،‬فيقرأ كيف يسعى هؤالء إلى تقديس اإلنسان‪ّ ،‬‬
‫أعدد المبادئ‬
‫ّ‬ ‫شهر من البحث حتى حفظتها عن ظهر قلب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫يمر إال‬
‫ّ‬ ‫أذرع شوارع الجزائر باحثًا عن توماس‪ ،‬الجريدة في يدي‪ ،‬لم‬
‫مبكرا‪ ،‬أجلس عند باب المقهى لعله‬ ‫ً‬ ‫الظالم‪ ،‬ثم أغادره‬
‫كلها وأنا أعبّر شارع البحر‪ ،‬فال أكاد أعثر عليه‪ ،‬وآوي إلى الفندق مع حلول ّ‬
‫يمر من هناك ولكن ال أثر‪ .‬أسأل عامل المقهى‪ ،‬فيرد أنه كان هنا‪ ،‬وأمده بورقة بها عنوان الفندق‪ ،‬وحين أسأل عامله اإليطالي‬ ‫ّ‬
‫السير بها‪ ،‬وفنادق أستعلم إن كان ي َ ِح ّل بها‪ ،‬وتبوء رحلتي بالفشل‪ ،‬ألتقي ابن ميّار فأجده‬
‫يُجيبني بالنفي‪ ،‬وهكذا أعبّر شوارع لم أعتد ّ‬
‫هده عمال كافيار بغرض التوسعة‪ُ .‬أس ُّر له‬
‫بيت جديد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫‪:‬حزينًا من‬

‫‪.‬ال تحتَر يا ابن ميّار إنهم قادمون‪ ،‬وسيتغيّر كل شيء‪ ،‬ويُعاد ما أخذ منكم‪ ،‬وسيرحل كافيار ‪-‬‬

‫مرة أخرى‬
‫مصدق كالمي‪ ،‬أرافقه إلى حي المقاهي‪ ،‬أجلس في مقابلته‪ ،‬وأهمس له ّ‬
‫ٍ‬ ‫‪:‬ينظر تجاهي مستغربًا‪ ،‬غير‬

‫قريب إلى األفضل ‪-‬‬


‫ٍ‬ ‫‪.‬ستتغير األمور في وقت‬

‫عابسا‪ُ ،‬أذك ّره باأليام القديمة التي طردنا فيها الجنود‪ ،‬فيبستم ثم ينبسط في الحديث‪ ،‬وال يلبث أن يسحب من محفظته‬ ‫ً‬ ‫لكنه يظل‬
‫شعور غامض‪ ،‬هل ستأتلف الل ّغتان‬
‫ٌ‬ ‫الصغيرة نسخة من كتابه‪ .‬ويسلمني إياها موقعة باللغتين‪ ،‬تأملت الحروف العربيّة طويل ًا‪ ،‬ودهمني‬ ‫ّ‬
‫الس يمونيين؟ ثم عدت بوجهي أنادي العامل ليسعفنا بفنجان القهوة كي نحتفل‪ ،‬ولكن ابن‬ ‫في الجزائر؟ وهل ستحتمل العربيّة مبادئ ّ‬
‫حدثني طويل ًا عن رسالة رافقت الكتب‪ ،‬أشارت إلى قدوم لجنةٍ تفصل في بقاء الفرنسيين في‬ ‫ّ‬ ‫أخبارا أخرى‪.‬‬
‫ً‬ ‫أيضا‬
‫ً‬ ‫ميّار كان يحمل‬
‫الرسالة‪ .‬بدا لي عبثيًا‪ ،‬لن يتخل ّوا عن المدينة‪ .‬ما‬‫ّ‬ ‫مضمون‬ ‫في‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫طوي‬ ‫ار‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫مناقشة‬ ‫أشأ‬ ‫لم‬ ‫منها‪،‬‬ ‫خروجهم‬ ‫في‬ ‫الجزائر‪ ،‬أو‬
‫‪.‬سيحدث هو مجرد مراوغة منهم إلسكات بعض النّواب المشاغبين في البرلمان‪ .‬يضغطون على الملك‪ ،‬من أجل مصالح مالية‬

‫تكمل ما جاء فيه‪،‬‬


‫ّ‬ ‫عندما وصلت إلى الفندق تصفّحت الكتاب‪ ،‬قرأت تفاصيل حكايتي مع ابن ميّار‪ ،‬وكانت إلى جانبه الجريدة‪ ،‬كأنها‬
‫عالما مثاليًا متحققًا في الجزائر‬
‫ً‬ ‫‪.‬أقرأ ما كتبه ابن ميّار فأحزن‪ ،‬أطالع ما كتبه سان سيمون‪ ،‬فأرى‬

‫كان قد نال مني التّ عب واإلنهاك من طول بحثي‪ ،‬فوضعت رأسي على الوسادة وغبت في األحالم‪ ،‬رأيت سان سيمون واقفًا إلى‬
‫الرؤية‪ ،‬وفالحي المحروسة يُغنّون طويل ًا‪ ،‬لكنني لم أفهم كلمات األغاني‪ ،‬واكتفيت بأن رأيتهم سعداء‬
‫‪.‬جانبي‪ ،‬وحقل ًا يمتد إلى نهاية ّ‬
‫العياء‪ ،‬كل يوم أحتل كرسيًا بالمقهى‪ ،‬وأروح إلى الفندق مع حلول الل ّيل‪ .‬لم‬ ‫ِّ‬
‫بالشوارع وال يُصيبني َ‬ ‫شهر آخر من االنتظار‪ .‬أطوف‬
‫ٌ‬
‫اهتماما‪،‬‬
‫ً‬ ‫تعد الجريدة في قبضتي‪ ،‬بل صرت أتمتم بالمبادئ ذهابًا وإيابًا‪ ،‬يُبصرني بعض األوروبيين‪ ،‬فيبتسمون من حالتي‪ ،‬ال أعيرهم‬
‫وجوها لم‬
‫ً‬ ‫الشهر‪ ،‬لمحت‬‫مرات عديدة‪ ،‬ولكن في اليوم األخير من ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وَأ ِع ُد نفسي بقادم أفضل‪ .‬عبرت أمام مكتب الحاكم فوارول‬
‫أعتدها هناك‪ ،‬أدركت من حينها أن الل ّجنة التي كلمني عنها ابن ميّار قد حل ّت بالمدينة‪ ،‬وأنها عائدةٌ للتو من رحلتها‪ ،‬في انتظار‬
‫دوما‪ ،‬وواصل إرسالها حتى التفَتُوا إليه؟! ها‬
‫ً‬ ‫الضباط‪ ،‬ثم من ابن ميّار‪َ .‬أ َوليست عرائضه هي التي أعلنت عن حضوره‬ ‫ّ‬ ‫سماع تقارير‬
‫سنوات ثالث‬
‫ٍ‬ ‫والضبّاط الذين أشرفوا على المحروسة في أكثر من‬‫ُ‬ ‫المور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أعيان‬ ‫بعض‬ ‫ستستقبل‬ ‫ّجنة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫‪.‬هي‬

‫الح راس دون أن ينتبهوا لي‪ ،‬ثم جاورت باب مكتبه‪ ،‬حيث وقف الجندي يحرسه‪ ،‬طلبت اإلذن أللتقيه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تقدمت من البوابة‪ ،‬تجاوزت‬
‫ّ‬
‫‪:‬ثم ُأذن لي‪ ،‬وقفت في مواجهته وقلت‬

‫أال تعتقد يا سيدي الحاكم أنني معني بمقابلة الل ّجنة؟ ‪-‬‬

‫دون يا سيد ديبون في القائمة ‪-‬‬


‫‪.‬ولكن اسمك غير ُم ّ‬

‫عن أي قائمة تتكلم؟ ‪-‬‬

‫‪.‬الل ّجنة اإلفريقية حملت معها أسئلة محددة‪ ،‬ألشخاص معينين‪ ،‬أنت لست بينهم ‪-‬‬

‫يتصدر القائمة عن أهالي المدينة‪ ،‬يليه ابن ميّار‪،‬‬


‫ّ‬ ‫وعجبت وأنا أقرأ اسم ميمون بينهم‪ ،‬كان‬
‫ُ‬ ‫ومدني بقائمة المعنيين بمقابلة الل ّجنة‪،‬‬
‫ّ‬
‫إذن لن ُأك ِل ّف نفسي‪ ،‬وأهذي بأشياء لم يأتوا من أجلها‪ ،‬أعدت القائمة إلى الحاكم‪ ،‬وغادرت مكتبه غير آسف على عدم مقابلتي‬
‫‪.‬الل ّجنة‬
‫في موع ٍد آخر قابلته‪ ،‬كان ابن ميّار يحمل في نفسه آمال ًا كثيرة من الل ّجنة‪ ،‬كتمت خيبتي‪ ،‬وسرنا عبر شوارع المحروسة‪ ،‬رغبت لو‬
‫يعبر البوابة‪ ،‬ثم غاب عن عيني‪ ،‬انتظرته‬
‫ُ‬ ‫الطريق بنا فال نكاد نصل إلى مكتب الحاكم‪ ،‬ولكننا بلغناه‪ ،‬ووقفت أطالعه وهو‬
‫استطال ّ‬
‫جر رجليه‪ ،‬دنوت منه أستجلي األمر‪ ،‬وبصعوبة‬
‫ّ‬ ‫ساعة من ال ّزمن ثم لفظته البوابة‪ ،‬وكأنه شخص آخر غير الذي دخل‪ ،‬ال يقوى على‬
‫‪:‬همس لي‬

‫قد كان هناك يا ديبون وأفسد كل شيء علينا؟ ‪-‬‬

‫من تقصد؟ ‪-‬‬

‫‪.‬وهل هناك غيره‪ ،‬إنّه كافيار ‪-‬‬

‫وماذا قال؟ ‪-‬‬

‫‪-‬‬ ‫بل قل ماذا فعل‪ ،‬صحت به وواجهته أمام الجميع باألشياء التي قام بها‪ ،‬وذكرت أسماء المساجد التي هدمها‪ ،‬والبيوت التي‬
‫أخذها من الجميع‪َ ،‬و َضيعتي التي سلبها مني‪ ،‬وسحبت الكتاب كي أسل ّمه إلى أحد أعضاء الل ّجنة فخطفه من يدي‪ ،‬وأحرقه أمام‬
‫عيني ولم يردعه أحد‪ ،‬حتى ميمون سل ّمهم عريضته‪ ،‬احتفوا بها‪ ،‬أتعرف معنى هذا؟‬‫ّ‬
‫‪.‬نعم أعي هذا ‪-‬‬

‫أيام قليلة‪ ،‬وجدتني أغادر المدينة باحث ًا عن توماس‪ .‬أنزل عبر المنحدر‪ ،‬وأعبر باب‬ ‫ٍ‬ ‫أوصلته إلى بيته منهك ًا‪ ،‬ورحلت الل ّجنة بعد‬
‫الشرطة‪،‬‬
‫السل ّاوي‪ ،‬لو أدركوا مخبأه لكانوا أول من يَشي به إلى ّ‬ ‫المقبرة‪ ،‬أتأملها طويل ًا‪ ،‬فال يقترب منها المالطيون‪ ،‬ربما يخشون قَبضة ّ‬
‫السل ّاوي هو من فعلها‪ .‬أدخل المحروسة وال جديد تحمله سوى سحابة من الغبار والرمل‬ ‫زوار أدركت أن ّ‬ ‫سمعت بمقتل ِ‬
‫الم َ‬ ‫ُ‬ ‫منذ‬
‫الدروب ثم تسلقت الطريق‬ ‫ّ‬ ‫شققت‬ ‫هكذا‬ ‫ا‪،‬‬ ‫أيام‬
‫ً‬ ‫غبت‬ ‫وقد‬ ‫ار‪،‬‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫ّقاء‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ًا‬ ‫ق‬‫متشو‬ ‫كنت‬ ‫تسقط‪،‬‬ ‫جديدة‬ ‫أبنية‬ ‫تثيره‬ ‫سمائها‬ ‫في‬ ‫المتطاير‬
‫الرواق ثم كنت أجلس إلى‬ ‫عبرت ّ‬
‫ُ‬ ‫المؤدي إلى القصبة‪ ،‬ولم أقف عند بابه طويل ًا إذ فُتح وأطلَّت الفتاة بوجهها الجميل متسائلة‪،‬‬
‫شخصا آخر‪ ،‬قلت‬‫ً‬ ‫السابقة‪ ،‬كأني ُأكل ّم‬
‫المرة ّ‬
‫ّ‬ ‫‪:‬جانبه‪ ،‬وفزعت إذ رايته على حالته تلك‪ ،‬كان أسوأ من‬

‫ما الذي حل بك؟ ‪-‬‬

‫وما الذي لم يحل بي يا ديبون؟ ‪-‬‬

‫الجملة تلو األخرى‪،‬‬


‫ُ‬ ‫قالها بصوت مخنوق‪ ،‬وسحب الورقة من جيبه‪ ،‬سلمني إياها‪ .‬حين بسطتها أمامي انتابني شعور قاس‪ ،‬وأنا أقرأ‬
‫‪.‬ألرى التوقيع أسفلها‬

‫عيني من وجهه‪ ،‬ولم يبق له إال‬ ‫ّ‬ ‫قرأت قرار النّفي أكثر من مرة‪ ،‬وغضبت أكثر من إمضاء كافيار المرافق إلمضاء فوارول‪ .‬مألت‬
‫عائدا إلى الفندق‪ .‬يومان لم أعرف فيها النّوم‪ ،‬شعرت بمقدار من‬ ‫ً‬ ‫يومان عن رحيله‪ ،‬ثم وضعت الورقة إلى جانبه‪ ،‬وانصرفت‬
‫السفن إلى المحروسة‪ ،‬كم كان قاسيًا اكتشاف الحقائق بعد فوات األوان‪ .‬في آخر يوم انحدرت‬ ‫الكراهية لنفسي‪ ،‬ولكل الذين حملتهم ُّ‬
‫لوحت له إلى‬‫ّ‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫طوي‬ ‫عانقته‬ ‫َمحني‪،‬‬ ‫ل‬ ‫حين‬ ‫بائسة‬ ‫ابتسامة‬ ‫عن‬ ‫شفتاه‬ ‫ت‬ ‫افتر‬
‫ّ‬ ‫جانبه‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫وزوجته‬ ‫إلى الميناء‪ ،‬رأيته واقفًا في انحناء‪،‬‬
‫طل من النّافذة‪ ،‬قفزت إلى البوابة‬ ‫أدر أي جنون ركبني بعدها‪ ،‬ركضت صوب مكتب كافيار‪ ،‬لمحته ي ُ ُّ‬ ‫السفينة عنّي‪ .‬ولم ِ‬ ‫أن غابت ّ‬
‫‪:‬ولكن الجنديين وقفَا دونها‪ ،‬وصرخت من هناك‬

‫‪.‬الل ّعنة عليك يا كافيار‪ ،‬الل ّعنة على نابليون الذي أفسد الجميع بجنونه ‪-‬‬

‫تأملني كافيار ثم قال‬


‫‪:‬من النّافذة ّ‬
‫عد يا ديبون إلى مارسليا‪ ،‬وعش حياتك‪ ،‬ودعك من أوهامك! إفريقية ليست أوروبا‪ ،‬حين تتجاوز البحر فكل شيء مباح‪ ،‬ال شيء ‪-‬‬
‫‪.‬هنا لله‪ ،‬وكل شيء للقيصر‬

‫‪:‬فأجبته‬

‫الشيطان ‪-‬‬
‫‪.‬الل ّعنة عليك أيها َّ‬

‫ثيابي‬ ‫نفضت‬
‫ُ‬ ‫قمت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫المعنّف له‪،‬‬
‫وهم بركلي لوال نداء كافيار ُ‬
‫ّ‬ ‫أرضا‪،‬‬
‫ً‬ ‫قفز نحوي أحد الحارسين‪ ،‬وضربني بعقب البندقية حتى سقطت‬
‫أزرق‬ ‫بعيدا عن هناك‪ ،‬ثم سرنا مسافة حتى بلغنا البحر‪،‬‬‫ً‬ ‫سحبتني‬ ‫وشدت على ساعدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫امتدت‬
‫ّ‬ ‫يدا‬
‫وهممت بأن أشتمه‪ ،‬ولكن ً‬
‫توماس‬ ‫‪:‬ممتدا‪ ،‬وهمس لي‬
‫ً‬

‫الصبر واألناة زمنًا طويل ًا من أجل تحقيق أهدافنا‪- ،‬‬


‫ال تنظر إلى األمور بذاتية يا ديبون‪ ،‬إني أراك تُحيي مجد اإلنسان‪ ،‬وهذا يحتاج ّ‬
‫ألم تقرأ هذا في مبادئه؟‬

‫تأملت ال ّزرقة أمامي وقلت‬


‫‪:‬أومأت له برأسي موافقًا‪ ،‬ثم ّ‬
‫أفكار كبيرة نؤمن بها‪ ،‬ونُقبل على الموت في سبيلها بسعادة ‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫محق‪ ،‬كي نُغيّر العالم نحتاج إلى‬
‫ٌ‬ ‫‪.‬نعم إنك‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫كافيارالجزائر مارس‪/‬سبتمبر ‪1833‬‬

‫‪ ‬‬

‫رددت الجملة‬ ‫والمور‪ّ .‬‬


‫ُ‬ ‫الر حيل عن إسبرطة‪ ،‬هو رجوع آخر إليها‪ ،‬دخلها كافيار المغلول‪ ،‬ليعود إليها كي يضع القيود في ارجل األتراك‬‫ّ‬
‫الربوة ثم‬
‫ّ‬ ‫غرق‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫للنهر‬ ‫السفينة راحل ًا عنها‪ ،‬ثم ِصحت بها ما إن قابلني خليج سيدي فرج خاليًا من الجنود‪ .‬آن‬‫وأنا أصعد ّ‬
‫المور‬
‫أيضا‪ ،‬ولماذا ال يكونون آخرين غير ُهؤالء ُ‬‫ً‬ ‫الشمال‪ ،‬والناس‬
‫ينحسر عنها لتتراءى لنا مدينة ُمختلفة‪ ،‬أشبه بالتي خل ّفناها هناك في ّ‬
‫‪.‬واألتراك‬

‫الطفل الذي بداخله‪ ،‬كم‬ ‫الشاب ال يعلم من الحقيقة إال القليل‪ ،‬ال يرغب في التخل ّص من ّ‬ ‫رحل ديبون بعد أن مألني بالخيبة‪ ،‬ذلك ّ‬
‫السهل‬‫ّ‬ ‫من‬ ‫ليس‬ ‫بجيل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫من‬ ‫بهالة‬ ‫ا‬ ‫حاط‬
‫ُ ً‬‫م‬ ‫يرونني‬ ‫كانوا‬ ‫وقد‬ ‫جنودي‪،‬‬ ‫أمام‬ ‫وشتمني‬ ‫قوله‪،‬‬ ‫أزعجني أن يضربه الجندي‪ ،‬لكنه بالغ في‬
‫صدق فعل ًا أنني أشبه‬ ‫لكن من اليسير فقدانهم يا ديبون‪ ،‬ما كان عليك أن تجهر بذلك الكالم‪ .‬أتُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن تصنع لك ُمريدين يحيطون بك‪،‬‬
‫المقدس‪ ،‬لو تأملت قليل ًا فقط في الكتاب الذي نشترك في االقتباس منه‪ ،‬لوجدته مليًئا باالحتقار‬ ‫َّ‬ ‫الرجل الذي سحبته من الكتاب‬ ‫ذلك ّ‬
‫الشرقيين أنهم ِخرافه ّ‬
‫الضالة التي‬ ‫لنا نحن اُألمميين فما بالك بهؤالء األفارقة! النّاصري الذي جلبته كشاه ٍد بيننا‪ ،‬ظل يردد على هؤالء ّ‬
‫وهما دعا إليه بولص‪ ،‬ثم أصبحنا نحن األمميين من نَجِ ُّد في إعالء كلمته‪ .‬تاريخنا ّ‬
‫الديني‬ ‫ً‬ ‫ُأرسل من أجلها‪ .‬ولم يكن األمميون إال‬
‫لكن أصدقاءك من البُوربون ومن اإلكريلوس‪ ،‬سرقوا الحلم من القائد‬ ‫ّ‬ ‫التباس كبيرة‪ ،‬وجب علينا التخل ّص منه‪ ،‬وفعلنا ذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كله لحظة‬
‫بالدين‪ ،‬ومن‬‫ِّ‬ ‫بالرب‪ .‬ليس عليك قول كل شيء للنّاس‪ ،‬عليك فقط تغليف فكرتك أو ُحلمك‬ ‫ّ‬ ‫ا‬ ‫مرتبط‬
‫ً‬ ‫جعلوه‬ ‫ثم‬ ‫خانوه‪،‬‬ ‫أن‬ ‫بعد‬ ‫العظيم‪،‬‬
‫‪.‬ثم دعها‪ ،‬ستصبح مثل كرة الثّلج‪ ،‬يزداد حجمها كلما انحدرت‬

‫حدق نحوي‪ .‬غابت نظرة اإلعجاب القديمة بي‪ ،‬عندما‬ ‫لم ُأستَف َّز منذ وطئت رجالي المدينة مثل ذلك اليوم‪ ،‬رأيته مثل مجنون يُ ِ ّ‬
‫الطويل مع ابن ميّار‬
‫ّ‬ ‫ركضه‬ ‫بعد‬ ‫مرسيليا‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫رحل‬ ‫عندما‬ ‫المور وأفسدوه‪ .‬قبل سنتين اعتقدت أنه ُشفي‬
‫‪.‬خالط أولئك ُ‬
‫أفكارا توقعه كل يوم‬ ‫الطفل الذي حمل‬ ‫ُأ‬
‫ً‬ ‫طردته ذلك اليوم‪ ،‬لم أستطع أن أكون أقسى من ذلك‪ .‬صبح ضعيفًا حينما يتعلق األمر به‪ّ ،‬‬
‫وحيدا فأنصحه باالبتعاد عنه‪ ،‬وااللتفات إلى مستقبله‪ ،‬وكأنه ال يسمعني‪ ،‬يغيب‬
‫ً‬ ‫وسوس له ابن ميّار بالكلمات‪ ،‬يزورني‬ ‫مأزق جديد‪ ،‬يَ ِ‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫أحتد من‬
‫ُّ‬ ‫معا‪ ،‬أدرك أنها سيصبحان مثل ُمغني الجوقة‪ ،‬يُعيدان الكلمات نفسها‪،‬‬ ‫جن حينما أراهما ً‬ ‫إلي‪ ،‬وُأ ُّ‬‫َّ‬ ‫أياما ثم يصطحب ابن ميّار‬ ‫ً‬
‫ضابط‪ ،‬وأضطر إلى ترديد ما قلته سابقًا‪ :‬نحن لم ندخل المحروسة ألنكم استنجدتم بنا‪ ،‬مثلما فعلتم‬ ‫ٌ‬ ‫رؤيتها‪ ،‬يهذران بأشياء ال يتقبلها‬
‫احتل المدينة‪ ،‬ليس عليكما االحتجاج على شيء‪ .‬فيردد ابن ميّار بنود المعاهدة مثل ببغاء‪ ،‬ويعيد خلفه‬ ‫ّ‬ ‫مع األتراك‪ ،‬جيشنا قد‬
‫المور‪ ،‬يظل ذلك العجوز يجادلني كلما ذكرت‬ ‫ُ‬ ‫عن‬ ‫نيابة‬ ‫الحديث‬ ‫لهما‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫خو‬
‫ُ ّ‬ ‫م‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫إذ‬ ‫غضبي‪،‬‬ ‫ويزيد‬ ‫كلماته‪،‬‬ ‫مؤكدا على‬
‫ً‬ ‫ديبون‬
‫‪.‬شيًئا‪ ،‬ويواجهني بمقارناته بزمن بني عثمان‪ ،‬فيزيد حنقي عليه‪ ،‬وأضطر إلى إنهاء المقابلة‬

‫مزيدا من عداوتي‪،‬‬
‫ً‬ ‫فضل الثّاني جهة ال تستجلب له إال‬
‫السويدي وديبون‪ّ ،‬‬
‫أحس بضعفي إال أمام َرجلين‪ ،‬القُنصل ّ‬
‫ّ‬ ‫بعد نابليون لم‬
‫أظل أشتاق إليه‪ .‬يتراءى لي آخر يوم كأنه‬‫ُّ‬ ‫استثناء في حياتي‪ ،‬وبالرغم من المسافة التي تفصلني عنه اآلن‪،‬‬
‫ً‬ ‫واختار األول أن يكون‬
‫الرصيف‬
‫ملو ًحا لي من ّ‬
‫ّ‬ ‫‪.‬باألمس القريب‪ ،‬حين وقف‬

‫آالف من األفكار ضاق بها رأسي وأنا أعبّر المتوسط إلى طولون‪ ،‬أفك ّر كيف ستكون العودة‪ ،‬ومن أي األبواب سنعبر إلى إسبرطة؟‬
‫ومرت‬
‫ّ‬ ‫الديوان‪ ،‬كان قد سبقنا إلى باريس‪،‬‬ ‫الطريقة التي سيُنهي بها هذا ِ ّ‬ ‫لعل دوفال اختار ّ‬ ‫ّ‬ ‫حلمٌ طويل‪ ،‬وديوان من القصص لم ينته‪.‬‬
‫ودعوا المدينة باكين‪،‬‬ ‫الرحالة الفضوليين‪ ،‬وغرباء األطوار الذين َّ‬
‫ّ‬ ‫وبعض‬ ‫الفرنسيين‪،‬‬ ‫التجار‬ ‫وجوه‬ ‫أيام لم تحمل الجديد معها‪ ،‬أستيقظ على‬
‫سنوات طويلة بها‪ ،‬كل يوم‬ ‫ٍ‬ ‫كلما قَابلتني وجوههم زاد استغرابي‪ ،‬كيف يمكن أن يتعل ّق أوروبي بمدينة مثل إسبرطة‪ ،‬وقد قضيت‬
‫وخاصة األلمان‪ ،‬يجلس‬ ‫ّ‬ ‫تُشعل في نفسي الحرائق‪ .‬لم أستوعب كيف تتغيّر ضمائر أولئك األوروبيين‪ ،‬وكيف يتنكَّرون لجنسهم العريق‪،‬‬
‫الشاسعة‪ ،‬والرمال الذهبية‪ ،‬وعن العرب وكرمهم‪ ،‬كيف‬ ‫الصحراء ّ‬‫حدثني عن المدينة‪ ،‬عن ّ‬ ‫طبيب‪ ،‬ي ُ ّ‬
‫ٍ‬ ‫إلى جانبي أحدهم‪ ،‬يبدو لي مثل‬
‫بيسر أن المدينة التي فتن بها‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬ ‫المقدس‪ ،‬وال يعنيني كالمه إذ جزمت أن طبيبًا مثله سيكتشف‬ ‫ّ‬ ‫كانوا أقرب إلى شخوص الكتاب‬
‫هتما بعلوم أخرى‪ .‬هم ال يُحسنون سوى األكل والشرب‪ ،‬ومضاجعة نسائهم من‬ ‫م‬
‫ُ ً‬ ‫أو‬ ‫طبيعة‪،‬‬ ‫عالم‬ ‫حتى‬ ‫تكاد تعثر بها على طبيب‪ ،‬أو‬
‫الطبيب من كالمي‪ ،‬أو ربما يستغرب‬ ‫ّ‬ ‫يمتعض‬ ‫القهوة‪،‬‬ ‫واحتساء‬ ‫الغاليين‬ ‫بمص‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫متعتهم‬ ‫وتكتمل‬ ‫حولهم‪،‬‬ ‫بعثرونهم‬‫أجل مزي ٍد من األطفال ي ُ‬
‫السخرية منه‪ ،‬تُعلِ ّ ُمك الحياة في إسبرطة الحذر من الكلمات التي تَفوه بها‪ ،‬ال تلبث أن تصبح مثل‬ ‫وجهة نظري‪ .‬وال أجرؤ على ّ‬
‫أيضا‬
‫ً‬ ‫دائما مخادعين ومراوغين يُبطنون عكس ما يُظهرون‪ ،‬مثل ًا كان‬ ‫ً‬ ‫أن العرب كانوا‬ ‫تلونًا في آرائك بما يناسب حاجتك‪ ،‬رغم ّ‬ ‫المور ُم ّ‬
‫ُ‬
‫علماء يبحثون على أشياء تُعينهم في أبحاثهم‪ ،‬وربما كان‬ ‫هناك نوع آخر من النّاس يقبلون على المدينة دون ضجة وال أحالم كبيرة‪ُ ،‬‬
‫المور‪ ،‬أو البدو ببني‬
‫الدينية‪ ،‬لم أدر ما الفائدة في تشابه هؤالء ُ‬ ‫الرجل الذي إلى جانبي من بينهم‪ ،‬لوال أنه فاجأني بأساطيره ّ‬ ‫ّ‬
‫واستقر‬
‫ّ‬ ‫الطبيب األلماني حين بلغنا طولون‪،‬‬ ‫ودعت ّ‬ ‫عموما اختاروا دينًا آخر‪ ،‬زاد من احتقارهم لهم‪ّ .‬‬
‫ً‬ ‫إسرائيل‪ ،‬وقد كانوا مجرد أبناء‬
‫بها‪ ،‬وواصلت طريقي إلى باريس‪ .‬كلها تجاوزنا مدينة أتذكر سات‪ ،‬لكنني قررت أنني لن أزورها إال بعد انتهائي من الحكاية‬
‫عدت من‬ ‫أحل بها بعد غياب سنوات‪ ،‬كان آخرها يوم ُ‬ ‫ُّ‬ ‫اإلسبرطية‪ ،‬وظللت على هذه الحال حتى تراءت لي باريس‪ ،‬ارتبكت وأنا‬
‫الساق؟! وسحبتها ونحن نعبر‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫ا‬ ‫غائر‬
‫ً‬ ‫زال‬ ‫ما‬ ‫أتراه‬ ‫سه‪،‬‬ ‫تتحس‬
‫ّ‬ ‫واترلو‪ ،‬انتابني اإلحساس نفسه‪ ،‬حتى أن يدي امتدت إلى جرحي‬
‫اتساعا‪ ،‬بالرغم من رحيل قائدها العظيم‬
‫ً‬ ‫‪.‬بابها‪ ،‬كل يوم تزداد هذه المدينة‬

‫مرة كي تدنو‬
‫كل ّ‬
‫السرير‪ ،‬يشتعل رأسي بخطط كثيرة أغيرها ّ‬
‫توقّف الحوذي عند فندق متواضع‪ ،‬حجزت به غرفة ثم استلقيت على ّ‬
‫‪.‬ساعة الحرب‬

‫شخصا غريبًا سحبه‪ .‬لم يترك لي ديبون‬ ‫ً‬ ‫لكن‬


‫ّ‬ ‫هم أن يواصل شتمي‪،‬‬ ‫حين أطللت من النّافذة‪ ،‬نفض ديبون ثيابه‪ ،‬وتطلع نحوي بحقدٍ‪ّ ،‬‬
‫سنوات ثالث نفي ابن ميّار‪ ،‬ولكن أشياء كثيرة حالت بيننا‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫خيارا‪ ،‬أجبرني على وضع الحواجز بيننا‪ .‬كنت قد أضمرت أكثر من‬ ‫ً‬
‫الشوارع ويجتمع بأعيان المدينة‪ ،‬يوقّعون له العرائض‬
‫انتظرت رحيله من تلقاء نفسه‪ ،‬أو ربما موته‪ ،‬لكنه كان متعلقًا بالحياة‪ ،‬يذرع ّ‬
‫المور التي تصلهم‪ ،‬ولم‬
‫الر سائل من باريس تتساءل عن مخطط المدينة الذي شرعت به‪ ،‬وعن شكاوى ُ‬ ‫والشكايات‪ ،‬كل يوم تصلني ّ‬
‫نتجشمه من عناء في إفريقية‬‫ّ‬ ‫‪.‬يكن أح ٌد من ُمرتادي القصور يدرك ما‬

‫رحل ديبون وشعرت أني لن أراه ثانية‪ ،‬ظلت كلمات كثيرة عالقة بلساني رغبت لو قلتها له‪ ،‬كان أفضل له أن يبقى إلى جانبي‪،‬‬
‫معا في إفريقية‪ ،‬سيشهد على تاريخ جديد‪ ،‬مليء باالنتصارات‪،‬‬‫جسدها ً‬ ‫ينتظره مستقبل مختلف‪ ،‬سيكتب الكثير عن األحالم التي سن ُ ِ ّ‬
‫كنجم يستعيد لمعانه‪ ،‬وقد أفل بعد حواره المتعاطف مع الباشا حسين‪ ،‬لكنه اختار الجهة‬ ‫ٍ‬ ‫وسيتناقلون اسمه في صالونات باريس‪،‬‬
‫الشيخ‪ ،‬وقد اعتاد الوقوف في طريقنا‬
‫الدرب غاضبًا‪ ،‬ألنني نَفيت ابن ميّار‪ ،‬ولم يكن ُمجديًا بقاء ذلك ّ‬‫الثّانية‪ .‬رأيته ينعطف نهاية ّ‬
‫المور معنى المدينة‪ ،‬يظلون يحلمون بقرية ضيّقة ال تتسع شوارعها لعربة يجرها‬ ‫كلما هممنا بفتح طريق جديد ‪ .‬ال يعي هؤالء ُ‬
‫الصعب إقناعهم أن العالم قد صار مختلفًا‪ ،‬والعمارة قد تجاوزت‬
‫حصانان‪ ،‬يحبّون سقائفهم وحوارهم التي تبدو مثل جحور‪ .‬كان من ّ‬
‫ثمة يقف عقبة في طريقك فليس عليك إال إزاحته‬ ‫ّ‬ ‫ومن‬ ‫كلماتك‪،‬‬ ‫‪.‬الط ريقة التي يبنون بها بيوتهم‪ .‬حين ال يصغي اإلنسان إلى‬
‫ّ‬
‫ولم تلبث أن وصلتني رسالة من ضابط بالبحرية‪ ،‬يشرح ما حدث في باريس بعد زيارة ابن ميّار وتقديم عريضته يتهمني وكلوزيل‬
‫والدوق روفيغو بأشياء كثيرة‪ ،‬استغل بعض الن ّواب المعارضين للحملة العريضة‪ ،‬وقدموا شكاياتهم في البرلمان‪ .‬تمنيت لو أرسل لي‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫بامتعاض‪ ،‬ولكنني ذهلت أكثر وأنا أطالع الكتاب الذي‬ ‫الرسالة‬
‫نسخة منها ألدحض كل ما جاء فيها‪ ،‬ولكنّه آثر تحذيري فقط‪ ،‬قرأت ّ‬
‫متتبعا أثر أقدامه على دروب المدينة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ضابطا إال وذكر اسمه‪،‬‬
‫ً‬ ‫أتكهن أن ابن ميّار يجرؤ على سرد تلك التفاصيل‪ ،‬لم يترك‬ ‫ّ‬ ‫رافقها‪ ،‬ولم‬
‫الدقيقة‪ ،‬مع كل صفحةٍ‬
‫ّ‬ ‫بتفاصيلها‬ ‫معه‬ ‫خضتها‬ ‫التي‬ ‫الحوارات‬ ‫جميع‬ ‫به‬ ‫نقل‬ ‫ا‪،‬‬ ‫نفرد‬
‫ُ ً‬ ‫م‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫فص‬ ‫لي‬ ‫ص‬ ‫خص‬
‫ّ‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫فإ‬ ‫ذكري‪،‬‬ ‫على‬ ‫أتي‬ ‫أما حين‬ ‫ّ‬
‫الرسالة التي وصلتني بعد‬
‫ّ‬ ‫أن‬ ‫واعتقدت‬ ‫فقط‪،‬‬ ‫المناسبة‬ ‫الفرصة‬ ‫انتظرت‬ ‫ا‪،‬‬ ‫مع‬
‫ً‬ ‫وإياه‬ ‫تحتملني‬ ‫لن‬ ‫المدينة‬ ‫بأن‬ ‫ويقيني‬ ‫ثورتي‪،‬‬ ‫تزداد‬ ‫أقلبها‬
‫عجلت من رحيله‪ ،‬فككت حروفها المضطربة‬ ‫ّ‬ ‫‪:‬أيام ستربك موقفي‪ ،‬غير أنها‬

‫الضبّاط ‪-‬‬
‫ُ‬ ‫مقد ٌر ما تبذله في الجزائر‪ ،‬لذا عليك الحذر‪ ،‬أيام قليلة وستصل الل ّجنة اإلفريقية‪ ،‬وسيكون بها عدد من‬
‫ّ‬ ‫صديقي كافيار‪ ،‬أنا‬
‫الدعاوى التي رفعها أعيان المدينة إلى الحكومة ُمتظلمين منكم‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫ليحققوا‬ ‫‪.‬والمسؤولين‬

‫تحريت األسماء الموجودة بها‪ ،‬بدا لي االسم األول مألوفًا‪،‬‬


‫ّ‬ ‫انتبهت إلى ورقة ثانية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الظرف لكنني‬
‫بدسها في ّ‬
‫ّ‬ ‫الرسالة‪ ،‬وهممت‬
‫طويت ّ‬
‫الضبّاط إال ما حملته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ثم تتابعت األسماء‪ ،‬التقيت ببعض أصحابها فيما سبق‪ ،‬شعرت أن شيًئا كان يتواطأ معي‪ ،‬إذ لم يحمل أغلب‬
‫الدرج‪ ،‬ثم سحبت ورقة وكتبت قرار نفي ابن ميّار‪ .‬لم يكن فوارول ليرفض هذا القرار‪ ،‬كان أكثر ميل ًا ألفكاري‪،‬‬
‫الرسالة في ّ‬
‫خبأت ّ‬
‫الضباط‬
‫ّ‬ ‫‪.‬ومنذ حل بالمدينة قاسمني العديد من مهامه مثلما فعل مع الكثير من‬

‫هكذا استقام كل شيء‪ ،‬وشعرت أن ِ ّ‬


‫الديوان اإلسبرطي لم تبق له إال أيام قليلة حتى يُطوى نهائيًا مع رحيل ابن ميّار‪ ،‬وربما يومها‬
‫‪:‬فقط سيعود ديبون بعد أن يكتشف حجم األخطاء التي قد ارتكبها‪ ،‬وسيقول لي‬

‫توهمته يوم ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫دائما كنت محقًا‪ ،‬حربي معك لم يكن لها معنى‪ ،‬واألشياء التي بيننا لم تكن شخصيّة بالقدر الذي‬
‫ً‬ ‫نعم يا كافيار‪،‬‬
‫‪.‬ث ُرت عليك وشتمتك‪ ،‬نحن نحمل الفكرة نفسها‪ ،‬ولكن بوجهيها‪ ،‬المجد لهذه األمة التي ستشمل إفريقية كلها عما قريب‬

‫الرب في األمكنة التي يريدها‪ ،‬وإذا أراد سأعطيه مفاتيح الكنيسة‪،‬‬


‫لن أحاكم ديبون على ما يضمره من أفكار‪ .‬له أن ينشر كلمة ّ‬
‫‪.‬ولكنني ال أريده فقط اعتراض طريقي‬

‫الدرج‪ ،‬ثم ارتخيت على األريكة‪ ،‬تطل ّعت إلى سقف المكتب‪،‬‬ ‫مرتين دون توقيعه‪ ،‬وخبأته في ّ‬ ‫انتهيت من كتابة قرار النّفي‪ ،‬ونسخته ّ‬
‫الشوارع على قدمي أو في العربة‪،‬‬
‫أشق ّ‬ ‫ُّ‬ ‫أجد باحث ًا عن ال ُقنصل‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫مرة أخرى في الفندق‪ ،‬قد مضى أكثر من أسبوع‪ ،‬كل يوم‬ ‫وكأنني ّ‬
‫الشهر‪ ،‬رأيته يدلف إلى أحد المطاعم‬
‫ّ‬ ‫انقضى‬ ‫حين‬ ‫إال‬ ‫نصل‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ألتق‬ ‫لم‬ ‫وثالث‪،‬‬ ‫ثان‬ ‫أسبوع‬ ‫ومر‬
‫ّ‬ ‫طويل‪،‬‬ ‫غياب‬ ‫بعد‬ ‫باريس‬ ‫شوارع‬ ‫أشاهد‬
‫الصفوف حتى وقفت عند رأسه‪ .‬وتفاجا لما‬ ‫ّ‬ ‫شققت‬
‫ُ‬ ‫تاجر‪،‬‬ ‫أنه‬ ‫هيأته‬ ‫من‬ ‫بدا‬ ‫أحدهم‪،‬‬ ‫مع‬ ‫طاولة‬ ‫قاسم‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫كان‬ ‫ثم‬ ‫الفخمة‪،‬‬ ‫الباريسية‬
‫الطاولة‪ ،‬مكثت برهة ثم اعتذرت بعد آن‬ ‫جادا في الل ّحاق به بباريس‪ ،‬لكنه دعاني إلى مقاسمتها ّ‬ ‫ً‬ ‫خمن أنني كنت‬ ‫رآني‪ ،‬ربما لم يُ ّ‬
‫الطاولة نفسها في المطعم‪ ،‬ومن ثم حملتنا العربة إلى أن أشرفنا على‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫نحتل‬
‫ّ‬ ‫وكنا‬ ‫يومان‬ ‫إال‬ ‫يمض‬‫ِ‬ ‫لم‬ ‫ا‪،‬‬ ‫موعد‬
‫ً‬ ‫وبينه‬ ‫رتَّبت بيني‬
‫مكتب وزير الحربية‪ ،‬لم نلتقه‪ ،‬بل استقبلنا ضابط مسؤول عن اإلعداد للحملة‪ ،‬وتشاركنا ثالثتنا غُرفة فسيحة‪ ،‬بعد ساعة اعتذر دوفال‬
‫السنوات كلها في إسبرطة‪ ،‬وحمل تلك‬ ‫رجل عاش تلك ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يصدق أنه أمام‬ ‫ّ‬ ‫الضابط أكثر من خمس ساعات‪ ،‬ولم يكن‬ ‫ّ‬ ‫ورحل‪ ،‬لبثت مع‬
‫ومهندسا ال يمكن االستغناء عنه في الحملة‬
‫ً‬ ‫مهما‬
‫ً‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫‪.‬المعارف‪ ،‬وهكذا أصبح كافيار‬
‫الضبّاط حجم الكراهية التي أحملها لوزيرهم الذي خاننا في واترلو‪ ،‬وظللت بينهم مثل نهر‪ ،‬يعرفون منه‬
‫ُ‬ ‫لم يكن معقول ًا أن يعرف‬
‫‪.‬أجوب ًة على حيرتهم وأسئلتهم‬

‫الظهور بها‪ ،‬ومع أناس ليس ُمحببًا وقوفه معهم‪ ،‬وأجيبه أنه‬
‫حدثني فوارول عن ديبون بانزعاج‪ ،‬يقول إنّه يظهر في أماكن ليس عليه ّ‬
‫يُ ّ‬
‫ال خطر منه‪ ،‬ثم يردف أنه زاره في المكتب حين وصلت الل ّجنة اإلفريقية‪ .‬لم أتوقع أنه سيسمح لنفسه بالتدخل في عملها‪ ،‬وعدت‬
‫سريعا‬
‫ً‬ ‫أن هذا األمر سينتهي‬‫‪.‬فوارول ّ‬

‫بعد رحيل الل ّجنة بأيام أمضى فوارول قرار نفي ابن ميّار‪ ،‬لم أكن ألدعه خاليًا من إمضائي‪ ،‬كنت أريد أن أقول‪ :‬يا ابن ميّار إنني‬
‫علي‪ .‬عليك اآلن فقط حمل أشيائك والرحيل عن هنا‪ ،‬هي ال تستوعبنا نحن‬ ‫ّ‬ ‫اآلن حاكمٌ على الجزائر‪ ،‬فليس عليك االحتجاج‬
‫السابق‬
‫َّ‬ ‫في‬ ‫كان‬ ‫مثلما‬ ‫ليعود‬ ‫ديبون‬ ‫على‬ ‫تأثيرك‬ ‫يزول‬ ‫أن‬ ‫يجب‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫مث‬ ‫‪.‬االثنين‪،‬‬

‫سنوات طويلة قضيتها‬‫ٍ‬ ‫المرات التي رأيته ينزل من عربته‪ ،‬أو يقصد مكتبه‪ ،‬لكنني لم ُأرد لقاءه في ع ِ ّز مجده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال أدري كم هي‬
‫قائدا للحملة‪ ،‬لم تكن لتنجح لوال جنود‬ ‫ً‬ ‫حط م كل أحالمنا في واترلو من أجل منصب الوزير‪ ،‬ثم ها هو يُعين‬ ‫ّ‬ ‫أشتمه في داخلي‬
‫شخصا مثلي لبعث المجد القديم‪ .‬اجتمعنا‬ ‫ً‬ ‫بدء ا من بوتان‪ ،‬وانتهاء بي‪ ،‬وبأولئك الذين يختبئون داخل الجيش‪ ،‬ينتظرون فقط‬ ‫ً‬ ‫نابليون‪.‬‬
‫في سيدي فرج‪ ،‬وخططنا سوي ًا لمسيرنا‪ ،‬وتعمدت التقليل من لقائي به‪ ،‬خشيت أن أغفر له ماضيه‪ ،‬ثم نصبح صديقين‪ ،‬تمنيت موته‬
‫المور‬ ‫يتصرف مثل هؤالء الحمقى من اإلنجليز‪ ،‬يمضي وثيقة يهب ُ‬ ‫ّ‬ ‫حين انفجرت القذيفة إلى جانبه‪ ،‬ثم كنت أكثر استياء وأنا أراه‬
‫الضبّاط بنودها‪،‬‬‫واألتراك المدينة بعدما قطعنا البحر من أجل احتاللها‪ .‬واضطرنا إلى تجاوز المعاهدة‪ .‬فكرت بكل هذا وأنا أسمع من ُ‬
‫الدينية‪ ،‬وصون‬ ‫ظن الجميع أنه جامل األتراك وأهالي المدينة بأن سمح لهم بممارسة ُطقوسهم ّ‬ ‫ّ‬ ‫واكتشفت كم كان بورمون أكثرنا ُخبث ًا‪،‬‬
‫المور واألتراك بمساجدهم‪ ،‬فضمن أن يدخل المدينة دون‬ ‫أموالهم مقابل خزينة الباشا‪ ،‬ألنّه كان يعرف إلى أي درجةٍ يتعلَّق بعض ُ‬
‫يمدوا أيديهم إلى كنوزهم‪ ،‬وما إن تجاوزت الجيوش األبواب حتى نهب‬ ‫ّ‬ ‫زمن ال يكفيهم أن‬
‫ٍ‬ ‫جميعا‪ ،‬وحتّى في‬‫ً‬ ‫مقاومة‪ ،‬ومن أبوابها‬
‫تعد ما بها من عمالت‬ ‫ُّ‬ ‫محاطا بجنوده‪ ،‬حتى بلغ قصر الباشا‪ ،‬وأنشأ لجنة‬ ‫ً‬ ‫جنده القصبة‪ .‬ولكنّه كان مطمئنًا فالخزينة بخير‪ ،‬سار‬
‫الص ناديق‪ ،‬ورحل بعضها إلى الملك‪ ،‬وأخرى احتفظ بها‪ .‬زاد ذلك من الفجوة بينه وبين األميرال دوبيري‪ ،‬إذ‬ ‫تكومت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذهبية وفضية‪ ،‬ثم‬
‫كانت الحرب مشتركة‪ ،‬ثم لم يستفد من الذهب إال قائد واحد‪ ،‬ومن ثم تصن َّع المعارضة من أجل أن يُفلت من المساءلة‪ ،‬وتأخر يوم‬
‫بالعلم من مبنى‬ ‫َ‬ ‫فظن الجميع أنه يعلن عصيانه‪ ،‬لكننا تفاجأنا‬ ‫َّ‬ ‫ُأسقط صديقه الملك في رفع العلم الثّالثي األلوان أعلى القصبة‪،‬‬
‫عزل بعدها‪ ،‬وفي ذلك اليوم شقّت عربته شارع البحر تجاه الميناء‪ ،‬سار دون ُحراسه يقصد القائد‬ ‫البحرية‪ ،‬وكان الوقت قد تأخر‪ ،‬إذ ُ‬
‫دوبيري‪ ،‬وكنت حينها أقاسمه المكتب‪ ،‬سمعنا وقع قدميه على األرض‪ ،‬ومن ثم دقه على الباب‪ ،‬نادي األميرال عليه أن يدخل‪ ،‬ولم‬
‫يتفاجأ إذ رآني هناك‪ ،‬كان يدرك أنني أكثر ميل ًا للبحرية‪ ،‬شاركتهم ميوالتهم المعارضة للبوربون‪ .‬طلب بُورمون من األميرال سفينة من‬
‫ود لو يصرخ في وجهه‪ :‬أتريد منا‬ ‫األسطول تصحبه إلى منفاه‪ ،‬رفض طلبه بهدوء‪ ،‬ثم عاد إلى خرائطه كأنه يصرفه بطريقة لبقة‪ ،‬وربما ّ َ‬
‫نر من صناديق الذهب التي سرقتها ولو قطعة واحدة‪ ،‬أتريد االلتحاق بملكك المنفي في إنجلترا على نفقتنا‪ ،‬ال‬ ‫أن نُقل ّك بالمجان‪ ،‬لم َ‬
‫‪.‬يا سيد بورمون‪ ،‬اذهب واستأجر سفينة تُ ِقلُّك‬

‫وأطللت من الن ّافذة فرأيته أسفل البناء‪ ،‬سار خطوات والتفت فجأة‪ ،‬ولم أنتبه إلى نفسي‬
‫ُ‬ ‫لم ينبس بورمون بكلمة‪ ،‬رحل عن المكتب‪،‬‬
‫‪:‬وأنا أصيح به‬

‫ُّ‬
‫‪.‬تستحق كل هذا يا خائن واترلو‪ ،‬أمثالك ال يصلح لهم سوى النّفي عند هؤالء اإلنجليز ‪-‬‬

‫‪.‬طأطأ رأسه ومضى إلى العربة‪ ،‬وفي يوم آخر سمعنا أنه اكترى سفينة نمساوية أقل ّته إلى إنجلترا حيث ينتظره ملكه المعزول‬

‫عرفت أن ديبون وابن ميّار قد ودعاه ذلك اليوم‪ ،‬استوعبت كيف يفك ّر أو يخدع ديبون‪ ،‬ولكن ما الذي يجعل رجل ًا مثل ابن ميّار‬ ‫ُ‬
‫حاكما؟ لماذا لم يتكلم وهو عضو في مجلس البلدية؟ لو أعمل‬ ‫ً‬ ‫أيضا حينها كان‬
‫ً‬ ‫يودعه‪ ،‬ألم يأخذ الجيش أكبر عدد من المساجد‬
‫مهمة‪ ،‬وربح المال في كل مرحلة‪ ،‬نحن بالنسبة ألمثال ابن‬ ‫ّ‬ ‫تلونون‪ ،‬إنهم يحبون لعب أدوار‬‫المور ُم ّ‬
‫ديبون عقله ألدرك أن أمثال هؤالء ُ‬
‫الرجل بعقالنية‪ ،‬ويعيش‬ ‫ّ‬ ‫ذلك‬ ‫يفكر‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫ميمو‬ ‫ا‬ ‫دوم‬
‫ً‬ ‫لت‬ ‫فض‬
‫ّ‬ ‫لذا‬ ‫تجديدها‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫يسعى‬ ‫مصالح‬ ‫كلها‬ ‫والقضية‬ ‫ميّار ال نختلف عن بني عثمان‪،‬‬
‫ال ّزمن األوروبي‪ ،‬يفصح عن َمصالحه في حضوري‪ ،‬يفاوض على مزيد منها‪ ،‬ال يتخلص من عقليّة التاجر حتى وهو يناقش أمور‬
‫دائما كانت هناك طريقة تُسيّر العالقة بيننا‪ ،‬لم يُزايد على شيء وأخفاه‪ ،‬ومنذ أحكم قبضته على األوقاف‬ ‫ً‬ ‫السياسة‪ .‬أعارضه وأفاوضه‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهربها‬
‫ّ‬ ‫تلونهم معه‪ ،‬وزاد إعجابي به حين اختار مصلحته‪ .‬حمل أموالهم‬ ‫المور‪ ،‬أعياه ّ‬
‫استطاع إرضاء الجميع‪ ،‬عدا أولئك الحمقى من ُ‬
‫مرة أخرى يشكون ميمونًا ويقترحون ابن ميّار‪ ،‬فرفضت‬ ‫إلى مرسيليا‪ ،‬وبعد أن جاؤوا يشكون ابن ميّار ويقترحون ميمونًا‪ ،‬عادوا ّ‬
‫عدت واصطحبت ابن ميّار‪ ،‬وكأنني لم أحذرك‬ ‫ُ‬ ‫ولكنك‬ ‫‪.‬‬ ‫‪.‬استقبالهم‬

‫المرات‪ ،‬يقولون‬
‫ّ‬ ‫الضباط‪ ،‬نظل نعيد الكالم نفسه‪ ،‬والخطة قد شرحتها مئات‬
‫ّ‬ ‫في باريس كانت العربة كل يوم تسير بي إلى مكاتب‬
‫مرت شهور‪ ،‬حتى كدت أيأس من هذه الحملة‪ ،‬بينما كان الن ُّواب الل ّيبيراليون كل‬ ‫ولي العهد سيزوركم‪ ،‬ثم ال نرى شيًئا‪ ،‬هكذا ّ‬
‫ّ‬ ‫إن‬
‫ضد الملك‪ ،‬لم يبق على االنتخابات إال أشهر قليلة‪ ،‬ولكنّه لم يؤذن له بعد‪ ،‬صرت أتساءل كل لحظة‪ ،‬هل تُراهم‬ ‫ّ‬ ‫يوم يشعلون حربًا‬
‫يعدون أنفسهم لمواجهتنا‪ ،‬وتظل األخبار تصلني من حين إلى آخر‪ ،‬أنهم يسعون‬ ‫ّ‬ ‫سيحاربون‪ ،‬أم أنهم سيؤجلون الحملة؟ وبنو عثمان‬
‫الص لح‪ ،‬فأحدث نفسي هل يعقل أن يتصالحوا وتذهب كل أعوام شقائي هباء؟‬ ‫جاهدين إلى ُّ‬

‫مهما‪ ،‬وأنا أعبُر‬


‫ً‬ ‫زائرا‬
‫ً‬ ‫أن هناك‬
‫الضباط‪ ،‬انتبهت حين بلغتها إلى حركةٍ غريبةٍ‪ ،‬شككت ّ‬ ‫ّ‬ ‫في يوم آخر سارت بي العربة إلى مكاتب‬
‫وقعا من‬
‫تفحصت ما جاء فيها‪ ،‬وإذا بي أقرأ تكليفي ُم ً‬
‫ّ‬ ‫الضباط فالتحقت به‪ ،‬ولم أنتظر طويل ًا ليسلمني الوثيقة‪،‬‬
‫إلي أحد ّ‬
‫َّ‬ ‫الرواق أشار‬
‫ّ‬
‫قائدا على الحملة‪ ،‬اختلطت علي المشاعر‪ ،‬بعض ال ّزهو ولكنّه لم يخل من خيبة‪ ،‬وأنا أرى ُحلم‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬
‫ً‬ ‫وزير الحربية‪ ،‬وقد أضحى‬
‫الضابط‬
‫ّ‬ ‫دسست الوثيقة في محفظتي‪ ،‬وغادرت المبنى صوب الفندق‪ ،‬وأنا أردد كلمات‬ ‫ُ‬ ‫نابليون يُح ّققه أحد الذين تسببوا في خسارته‪،‬‬
‫سري‪ ،‬نلتقي يا كافيار في طولون‬
‫ّ‬ ‫‪.‬في‬

‫هل فكرت وأنا في باريس أنني سأرحل إلى طولون ألقابل ديبون؟ ال لن أزعم هذا‪ ،‬كنت ممتلًئا بتفاصيل الحملة‪ ،‬حتى فوجئت‬
‫بشاب في طولون بمالمح طفل‪ ،‬ذكرني باألحالم التي حملتها في سات قبل االلتحاق بنابليون‪ ،‬كان صحفيًا يعمل في «لو سيمافور‬
‫دو مارساي»‪ ،‬يتكل ّم عن أحالمه‪ ،‬ويريد تغيير العالم من حوله‪ ،‬ويؤمن بعمق بالنّاصري‪ ،‬والن ُّور الذي سيشع في إفريقية‪ ،‬تشاركنا الغرفة‬
‫شعور أنني سأحظى برفقةٍ جيدة‪ ،‬لكنني لم أتنبأ أنه مع بلوغنا خليج سيدي فرج‬ ‫ٌ‬ ‫في لوناجور‪ ،‬أحببت توقه للمعرفة‪ ،‬وخالجني‬
‫سيصبح أقرب النّاس لي‪ ،‬بعض األشياء ال يمكن تفسيرها‪ ،‬على هذا النّحو كان تعلُّقي بديبون‪ ،‬أو باألحرى كافيار الذي فقد اآلن‬
‫شخصا مختلفًا‪ ،‬ال يكاد يُميّز مالمح روحه كلما‬
‫ً‬ ‫الكثير من صفائه‪ ،‬عندما حمل َت روحه العذاب‪ ،‬وخيبات أعادت تشكيله‪ ،‬فأضحى‬
‫‪.‬أبصرها في مرآة لم تكن إال وجه ديبون‬

‫المرة الوحيدة التي أعبّر‬


‫ّ‬ ‫وحيدا‪ ،‬ربما كانت‬‫ً‬ ‫الدرج‪ ،‬وغادرت المبنى‬
‫في اليوم الذي غاب ديبون عن ناظري‪ ،‬حملت نفسي ونزلت ّ َ‬
‫علي‬
‫َّ‬ ‫مقدارا من الحكايات وجب‬‫ً‬ ‫هناك‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫شعرت‬ ‫أماكنهم‪،‬‬ ‫في‬ ‫بالبقاء‬ ‫بها شوارع المدينة وحدي‪ ،‬وتبعني الجنود لكنني أمرتهم‬
‫الشوارع‪ ،‬ولكن الوجوه التي تُشابه وجه ابن ميّار كانت تكدر صفوي‬ ‫الطريقة‪ .‬قطعت ّ‬‫يحتد علي ديبون بتلك ّ‬
‫َّ‬ ‫إعادتها‪ ،‬لم أعتد أن‬
‫بكبر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫كلما طالعتُ ها‪ ،‬قرأت تفاصيل مالمحها‪ ،‬كأنهم يشيرون علي مثلما أشار ذلك اليوم‪ ،‬وأنا بين ضباط الل ّجنة اإلفريقية‪ ،‬كان يقف‬
‫‪.‬معتقدا أن الجميع قادمون لتأكيد اتهاماته‬
‫ً‬

‫السوط في وجهي‪ ،‬وأراد جلدي‪ ،‬ولم‬ ‫إلي‪ُ ،‬خيِّل لي أن أحد األتراك رفع ّ‬ ‫َّ‬ ‫إلي وحدق تجاهي بنظرة وقحة‪ ،‬ثم امتدت يده مشيرة‬ ‫َّ‬ ‫التفت‬
‫الضبّاط الذين‬
‫ُ‬ ‫مد يده تجاهي‪ ،‬يظن أنه يحتمي بأولئك‬ ‫صرا على ِّ‬‫وظل ُم ّ ً‬‫َّ‬ ‫أنتبه إلى نفسي إال وأنا أقف في مقابلته‪ ،‬لكنه لم يخشني‪،‬‬
‫دونها في عرائضه‬ ‫جزءا من الكلمات التي ّ‬ ‫ً‬ ‫خا بهم‪ ،‬وأعاد‬
‫ال يحسنون إال الجلوس على الكراسي وإصدار األوامر‪ .‬ثم عال صوته صار ً‬
‫ونزعت الكتاب من يده على مرأى من الجميع‪ ،‬وانتحيت مكانًا في طرف الغرفة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكتابه‪ ،‬اقتربت منه ودفعته حتى كاد يسقط‪،‬‬
‫الضبّاط ساكنًا‪ ،‬كنت واثقًا أنه لن يجرؤ أحد منهم فيعترضني‪ ،‬وظلت نظرتهم الل ّامبالية تجاه ابن‬ ‫ُ‬ ‫ح ِ ّرك أحد من‬
‫وأشعلت به النّار‪ ،‬ولم ي ُ َ‬
‫الصوت خانه‪ ،‬حمل نفسه وغادر المكتب مطأطًئا رأسه‪ ،‬التحقت به‬ ‫ميّار‪ ،‬انهار فجأة فابتسمت بسخرية‪ ،‬وحاول مواصلة مرافعته‪ ،‬ولكن ّ‬
‫الدرجات لكنه لم يلتفت‬ ‫‪.‬وتأملته أثناء نزوله ّ َ‬

‫الض فتين لتبقى بها‪ .‬وأنا مؤمن أنه ليس لك إال مكانان‪ :‬العودة إلى مرسيليا‪ ،‬أو أن تكون‬
‫ّ‬ ‫ها قد انتهت الحكاية يا ديبون‪ ،‬اختر أي‬
‫فالرجال الحقيقيون هم من يصنعون أقدارهم‬
‫ِّ‬ ‫‪.‬إلى جانبي‪ ،‬حينها ستختار بنفسك قدرك‪،‬‬

‫واستبدت بي رغبة أن أبصر إسبرطة‬ ‫ّ‬ ‫الم ور يحدقون بي‪ ،‬فأشحت عنهم بصري‪ ،‬لم يبق الكثير حتى يغيبوا عن ناظري‪،‬‬ ‫كان بعض ُ‬
‫فاتحا تتحرك موجاته‬ ‫ً‬ ‫أزرق‬ ‫امتد‬ ‫البحر‪،‬‬ ‫نحو‬ ‫دربي‬ ‫رت‬ ‫ّ‬ ‫غي‬ ‫ولكنني‬ ‫‪.‬‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫غازي‬ ‫إليها‬ ‫دخولي‬ ‫بعد‬ ‫أضحت‬ ‫قد‬ ‫مدينة‬ ‫أي‬ ‫ألرى‬ ‫عن كثب‪،‬‬
‫قد ر لي مطالعة رصيف سات من مكاني‪ ،‬فانعطفت تجاه الميناء‪ ،‬لعلي أعثر على سفينة‬ ‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫ولم‬ ‫بداخلي‪،‬‬ ‫نكة‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫اد‬‫ّ‬ ‫صي‬ ‫على‬ ‫كأنها تُنادي‬
‫مزهوا بانتصاراتي ك ُلها‪،‬‬
‫ً‬ ‫سأكون‬ ‫البحر‪،‬‬ ‫يجوبون‬ ‫األتراك‬ ‫رؤية‬ ‫دون‬ ‫نكة‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫عن‬ ‫ًا‬ ‫ث‬ ‫باح‬ ‫المتوسط‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫أعب‬ ‫أن‬ ‫القديم‪،‬‬ ‫حلمي‬ ‫إلى‬ ‫ني‬‫هناك تُقل ُّ‬
‫المور‬
‫مزيدا من ُ‬ ‫ً‬ ‫‪.‬ولن ألبث حينها وأعود حامل ًا كل اآلمال أال أرى بالمدينة‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ابن ميّارالمحروسة مارس‪/‬سبتمبر ‪1833‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪...‬مرة أخرى‬
‫ّ‬
‫السفينة اإلنجليزية إليها‪ ،‬أذكر يومها‪،‬‬
‫عيني‪ ،‬بينها تبقى ُصورتها القديمة‪ ،‬يوم عادت بنا ّ‬
‫ّ‬ ‫ُأبصرها فال أكاد ُأميِّزها‪ ،‬تتحول كل يوم في‬
‫لكن أبي ضحك طويل ًا‪ ،‬وهو يرى اجتماع البحارة حولي ال‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫وصحت‬ ‫تجاهها‬ ‫أشرت‬ ‫األفق‪،‬‬ ‫أنني رأيتها مثل سحابة بيضاء تجوب‬
‫السفينة‪ .‬أشار إليها بدوره‪ ،‬ثم همس لي‪ :‬إنها المحروسة‪ .‬تخيلتها‬ ‫ّ‬ ‫حافة‬ ‫قدماي‬ ‫المست‬ ‫حتى‬ ‫يفقهون كلماتي‪ .‬اقترب منّي وحملني‬
‫أشد قتامة وأنا أطالعها في عودتي من مرسيليا‬ ‫َّ‬ ‫‪.‬سحابة بيضاء تطوي األفق‪ ،‬ثم توقّفت وأضحى لونها‬

‫أنحدر بتؤدة عبر شارع القصبة‪ ،‬ويهاجمني مزيدٌ من الغبار المتصاعد‪ .‬انعطف ُمخ ِل ّفًا سور المدينة ورائي‪ ،‬باحث ًا عن ديبون‪ ،‬يُ ُّ‬
‫صر على‬
‫الشوارع‪ ،‬أو‬
‫تعد هناك جدوى من حراستها بعد تخلي النّاس عنها‪ ،‬وعادوا يجوبون ّ‬ ‫المسير كل يوم إلى المقابر غرب المدينة‪ ،‬ولم ُ‬
‫يوزع عند بابه شيء‪ ،‬والعصافير التي اعتادت التحليق‬ ‫الرحمن‪ ،‬ثم ال يلبثون أن يتفرقوا‪ .‬لم يعد ّ‬‫يتجمعون عند ضريح سيدي عبد ّ‬
‫ّ‬
‫الصغير‪ ،‬هاجرت دون عودة‪ ،‬عدا الل ّقلق األبيض‪ ،‬أتأمله كلما عبرت إلى ساحة المسجد‪ ،‬يُراقبني ُمتململ ًا في‬ ‫فوق مئذنة المسجد ّ‬
‫أنعطف‬
‫ُ‬ ‫السماء‪ .‬وقد اعتاد توزيع فأله الحسن على البيوت‪ ،‬كُلَّما حل ّق فوقها استبشر له النّاس‪.‬‬ ‫حدق طويل ًا في ّ‬ ‫ع ِ ّشه‪ ،‬يرفع رأسه ي ُ ّ‬
‫ُ‬
‫الرجل‬
‫تتجدد معها األسئلة في داخلي‪ ،‬هل فعل ًا سيحمل ّ‬ ‫ّ‬ ‫مر شهران على عودتي‪،‬‬‫فراغات جديدة‪َ ّ .‬‬
‫ٌ‬ ‫عبر سقائف أخرى فتُواجهني‬
‫الساحة‬
‫الساحات كلها‪ ،‬إلى أن تقابلني ّ‬ ‫يدا بيد؟ هل يمكنها جلب لجنة للتحقيق؟ أتجاوز ّ‬ ‫قرب من الملك عريضتي ويُسل ّمها له ً‬ ‫الم ّ‬
‫ُ‬
‫الشوارع‪ ،‬وكلما‬
‫ّ‬ ‫استكشاف‬ ‫اعتدنا‬ ‫‪.‬‬ ‫ديبون‬ ‫إال‬ ‫األيام‬ ‫تلك‬ ‫على‬ ‫أحد‬ ‫ليعينني‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫عنها‪،‬‬ ‫بوجهي‬ ‫أشيح‬ ‫‪.‬‬‫يدة‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫جامع‬ ‫مكان‬ ‫في‬
‫ويرد بحنق‪ .‬لم يثن‬
‫ُّ‬ ‫ينهد نعود بخطى سريعة إلى مكتب كافيار‪ ،‬يرانا من نافذته فتتغير مالمحه‪ ،‬يستقبلنا على مضض‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫اكتشفنا بناء‬
‫أحدث نفسي وأتمتم‪ ،‬ثم رفعت‬‫ِّ‬ ‫كافيار من عزيمتي‪ ،‬لكنني أفقد المقاومة حين يسعى بعض أبناء المحروسة للكيد لي‪ .‬كنت ال أزال‬
‫السماء‪ ،‬ثم ينظر نحوي ويسألني‬ ‫الدخان تجاه ّ‬‫‪:‬رأسي وتَراءى لي ديبون يجلس عند باب المقهى‪ ،‬ينفث ّ‬

‫لحد اآلن؟ ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫ألم يصل كتابك‬

‫الشهر القادم سيحمل الكثير ‪-‬‬


‫‪.‬ال لم يصل بعد‪ ،‬ولكن ّ‬

‫وكيف تنبّأت بهذا؟ ‪-‬‬

‫‪.‬هو مجرد إحساس فقط ‪-‬‬

‫الرحمن؟ أو تصديق أني أسمع‬ ‫ُأ‬


‫لم قحم ديبون في األصوات التي كانت تنتابني في األحالم‪ .‬وكيف له استيعاب كرامات سيدي عبد ّ‬
‫السماء‪ .‬تأملت‬
‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫خانه‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫ينفث‬ ‫يزال‬ ‫ال‬ ‫ديبون‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫ألتفت‬
‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫أتبعه‬ ‫أن‬ ‫لي‬ ‫ومئ‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫طائر‬ ‫إلى‬ ‫يقظتي‬ ‫في‬ ‫ويتحول‬ ‫الحلم‪،‬‬ ‫في‬ ‫صوته‬
‫وجهه‪ ،‬أحسست بالصوت يتعالى‪ ،‬استأذنته ورحلت‪ .‬ناداني ديبون‪ ،‬لم أستطع االلتفات‪ ،‬كان صوت سيدي يدفعني للمسير إليه‪ ،‬ويتعالى‬
‫الطائر حادة‪،‬‬
‫إلي لقلقة ّ‬‫َّ‬ ‫َت‬
‫الدرب المؤدي إليه‪ .‬حين وقفت عند الباب‪ ،‬انتقل ْ‬ ‫السقائف‪ ،‬ثم تسلقت ّ َ‬ ‫الضريح‪ ،‬تجاوزت ّ َ‬
‫كال خطوت تجاه ّ‬
‫بعيدا‪ ،‬زاد يقيني أن سيدي عاتب‬ ‫ً‬ ‫بقوة وحلَّق‬
‫حرك جناحيه ّ‬‫َّ‬ ‫الطائر لكنه‬
‫جاوزت قوس الباب إلى ساحة المسجد‪ ،‬ورفعت رأسي ألرى ّ‬
‫الضريح‪ .‬فتحته بهدوء‪ ،‬دخلت إلى الغرفة ُمسل ًّما عليه‪ ،‬وما إن اتكأت على الجدار حتى شعرت‬ ‫علي فدنوت من باب غرفة ُّ‬‫َّ‬
‫‪.‬بالنعاس‪ ،‬ثم غفوت‬

‫ودوجة‪ ،‬ولحارات المحروسة وأسواقها‪.‬‬ ‫وللسل ّاوي ُ‬


‫ّ‬ ‫السفينة‪ ،‬أحمل شوقًا لالل ّة سعدية‬
‫الرصيف‪ّ ،‬أول ما نزلت من ّ‬ ‫كنت واقفًا على ّ‬
‫المنحنية‪،‬‬
‫نظل نميل إلى األشكال ُ‬ ‫ُّ‬ ‫الشوارع‪ ،‬أبنية جديدة ظهرت مكان دورنا‪ ،‬ال تشبهها في شيء‪،‬‬ ‫سرت برتابة بين ّ‬‫ُ‬ ‫الرصيف‪،‬‬‫تجاوزت ّ‬
‫الحروب والموتى‪ ،‬وما حال‬ ‫ُ‬ ‫ومثلثات‪ ،‬ال يمكن أن يُصبح الهالل صليبًا‪ .‬قرون من‬
‫ٍ‬ ‫مربعات‬
‫ٍ‬ ‫كاألقواس والدوائر‪ ،‬بينها ترتفع أبنيتهم مثل‬
‫صليب إلى هالل‪ .‬بالنار ال تستطيع تغيير إيمان النّاس‪ ،‬قد يتشبهون بك زمنًا طويل ًا‪ ،‬ولكن قلوبهم‬
‫ٌ‬ ‫هالل إلى صليب‪ ،‬مثلما لم يتحول‬ ‫ٌ‬
‫‪.‬ستبقى معلقة بالشرق‬

‫أيضا لدى كافيار‪ ،‬كل الذين‬


‫ً‬ ‫السور إلى يميني‪ .‬ثم أشحت بوجهي عنه‪ ،‬خشيت أن يُغرض بي هو‬ ‫كنت أتسل ّق شارع القصبة‪ ،‬أتأمل ُّ‬
‫من حولي تحولوا إلى ُمغرضين‪ ،‬صار ِمقدار ثقتي في الجميع ضئيال‪ .‬همست لي الل ّة سعدية مرات عديدة‪ ،‬ولكنني لم أصغ إليها‪،‬‬
‫بالسفر‬
‫َّ‬ ‫‪:‬ورد ْدت حين هممت‬
‫َّ‬

‫هم لن يعيدوا لنا شيًئا‪ ،‬لماذا ال نرحل؟ ال النّاس صاروا يسمعونك‪ ،‬وال الفرنسيون ُمقتنعون بآرائك‪ .‬قسنطينة لم يدخلها الفرنسيون ‪-‬‬
‫بعد‪ ،‬لماذا ال نقصدها؟‬

‫الضباط‬
‫ُّ‬ ‫وصدنا من‬
‫َّ‬ ‫أيضا قالها بعد يأسه من ركضنا‬
‫ً‬ ‫تردد هذا الكالم‪ ،‬ديبون‬
‫ّ‬ ‫‪:‬لم تكن الل ّة سعدية وحدها‬

‫‪-‬‬ ‫ٌ‬
‫راحل ‪ ،‬لم أعد أستطيع احتمال المزيد من اإلهانات‪ .‬أريد الكتابة عن أشياء أخرى‪ ،‬ونسيان هذه المدينة إن‬ ‫يا ابن ميّار أنا‬
‫أن لك‬‫ّ‬ ‫أخبرتني‬ ‫طرابلس‪،‬‬ ‫أو‬ ‫تونس‬ ‫إلى‬ ‫أو‬ ‫قسنطينة‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫فر‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫ب‬‫جر‬
‫ِّ‬ ‫ارحل‪،‬‬ ‫أو‬ ‫وزوجك‪،‬‬ ‫وصحتك‬ ‫بنفسك‬ ‫اعتن‬ ‫‪.‬‬ ‫استطعت ذلك‬
‫‪.‬أصدقاء كثيرين هناك‬

‫‪:‬أجبته يومها‬

‫‪.‬أستطيع أن أكون آمنًا هنا‪ ،‬ولكنني عاجز عن رؤية نفسي خارج أسوار المحروسة ‪-‬‬

‫السل ّاوي وإمساكه بها‪ ،‬ترى‬ ‫السلسلة‪ ،‬اقتربت ومددت يدي أبحث عنها‪ ،‬وتذكرت ركض ّ‬ ‫حين واجهتني بوابة القصبة‪ ،‬انتبهت إلى مكان ّ‬
‫إلي آخر‬‫َّ‬ ‫السلطان‪ .‬واآلن من سينادي باسمه كي ينقذه؟! وتعود‬ ‫ّ‬ ‫عهد‬ ‫يطلب‬ ‫ثم‬ ‫يريد‪،‬‬ ‫ستنفعه اآلن؟ باألمس كان يقول ما‬ ‫ُ‬ ‫هل‬
‫يوما‪ ،‬وما اعتقدت فيه اإلمارة‪ ،‬كيف يفقه هؤالء البدو تقاليدها‪ .‬أيمكن‬ ‫ً‬ ‫باألمير‬ ‫أؤمن‬ ‫لم‬ ‫‪.‬‬ ‫بالمدينة‬ ‫لألمير‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫عيو‬ ‫هناك‬ ‫أن‬
‫ّ‬ ‫يزعم‬ ‫كلماته‪،‬‬
‫عثمان أم داخله؟ كان‬ ‫أميرا؟! أين كان يعيش هؤالء النّاس‪ ،‬خارج سلطان بني ُ‬ ‫ً‬ ‫أن تجتمع حفن ٌة من النّاس ويعلنوا رجل ًا من بينهم‬
‫للسل ّاوي جذور‬
‫أولى لهم نصر باي وهران‪ ،‬لكنهم تخلوا عنه‪ ،‬فالبدو بطبيعتهم يحبّون الحرية‪ ،‬مثلما كانوا يكرهون األتراك‪ .‬ربما كان ّ‬
‫مع هؤالء البدو‪ ،‬إذ لم يفك ّر إال مثلما فك ّروا‪ .‬يجنح إلى التمرد‪ ،‬وينغمس في الحياة كأنها لن تمتد إال عند حد ل ّذاته‪ .‬أتجاوز بوابة‬
‫وأضع بيني وبين نفسي‬ ‫ُ‬ ‫القصبة‪ ،‬أنعطف ليُقابلني باب بيتي‪ .‬ابحث بين ثيابي عن المفتاح‪ ،‬ثم اسحبه‪ ،‬أعيده ما إن يُالمس الباب‪،‬‬
‫رهانًا‪ ،‬إن كانت الل ّة سعدية تتذكر طريقة دقي على الباب؟! مددت يدي إليه‪ ،‬وضربته مثلما اعتدت منذ سنوات‪ ،‬انتظرت مليًا‪،‬‬
‫المرة تيقنت أنه‬
‫ّ‬ ‫شعرت بحركة خلفه‪ ،‬ثم شرع في وجهي‪ .‬لم تعتد الل ّة سعدية فتح الباب منذ حل ّت ُدوجة بالبيت‪ ،‬ولكنّها هذه‬
‫خاصة إذا ما كانت متعلقة بالمحروسة! ما إن حللت‬ ‫َّ‬ ‫الرهانات هكذا‪،‬‬
‫الرهان‪ .‬ليت كل ّ‬ ‫ليس من ورائه سواي‪ ،‬كسبت الل ّة سعدية ّ‬
‫بالرواق حتى كانت تُعانقني وتُقبِّل يَدي وتشهق بالبكاء‪ ،‬غير ُمصدقّةٍ أنني عدت ثانية‪ .‬ثم تراءت لي ُدوجة‪َ ،‬وقَفت تنظر إلينا‪،‬‬
‫جميعا إلى‬
‫ً‬ ‫اقتربت وقبّلت رأسي‪ ،‬وعادت الل ّة سعدية إلى ل َثم يدي‪ ،‬تتفحص وجهي لتتأكد من أنني فعل ًا قد رجعت‪ ،‬ثم ترافقنا‬
‫الرحلة‪ ،‬وسألتهما عن جديد المحروسة‬
‫حكيت لهما تفاصيل ّ‬
‫ُ‬ ‫‪.‬غُرفتنا‪.‬‬

‫التفت إليها‬
‫ُ‬ ‫قديما‪،‬‬
‫ً‬ ‫لكن وجهها لم يب ِد أي تفاصيل للفرح أو الخوف‪ .‬كان الخبر بات‬
‫ّ‬ ‫زوار‪.‬‬ ‫السل ّاوي قد قتل ِ‬
‫الم َ‬ ‫خاطبتني ُدوجة‪ّ :‬‬
‫‪:‬متفاجًئا‪ .‬في حين أضافت الل ّة سعدية‬

‫جريحا‪ ،‬ضمدت جرحه‪ ،‬واآلن هو مختبي في القبو ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬نعم قد فعل‪ .‬قبل أيام طرق بابنا مع نهاية الل ّيل‬

‫والجنود‪ ،‬ألم يتبعوه؟ ألم يفتشوا البيت؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نعم قد فتّشوه في اليوم الموالي‪ ،‬ولكنهم لم يكتشفوا مكان القبو ‪-‬‬

‫وهل آذوا إحداكما؟ ‪-‬‬

‫السؤال ‪-‬‬
‫‪.‬لم يكلمونا بل رافقهم مترجمٌ ناب عنهم في ّ‬
‫الصعداء‪ ،‬وقفت ثم نزلت إليه‪ ،‬وجدته مستلقيًا على فراشه‪ ،‬عانقته طويل ًا‪ ،‬ورأيت نظرته المشتاقة‪ ،‬وذهوله ما إن رآني‪،‬‬
‫تنفست حينذاك ُّ‬
‫الصمت‪ ،‬ثم بادرني‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫دقائق‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫عدت‬ ‫أنني‬ ‫ق‬ ‫صد‬
‫ُ ّ‬ ‫ي‬ ‫‪:‬لم‬

‫الرحيل بعد أن أشفى ‪-‬‬


‫‪.‬أخيرا قد استرحنا منه‪ ،‬ولم يبق إال ّ‬
‫ً‬
‫اآلن أنت ال تختلف عن الذين يقتلون الجنود في الل ّيل ‪-‬‬

‫‪.‬ولماذا يبقون عليهم أحياء‪ ،‬يجب أن يعودوا إلى بالدهم ‪-‬‬

‫مزيدا من القتل ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬لكن القتل ال يستجلب إال‬
‫ّ‬

‫مزيدا من العرائض األخرى ‪-‬‬


‫ً‬ ‫‪.‬وال تستجلب العرائض إال‬

‫آالف البنادق‪ ،‬لكنه ي ُ ِص ُّر على التصرف مثل البطل الذي يمكنه مواجهة الجميع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تترصده‬
‫ّ‬ ‫السل ّاوي في عناده‪ ،‬حتى وهو جريح‪،‬‬
‫يستمر ّ‬
‫‪.‬واالنتصار عليهم‬

‫ودعت سيدي ووقفت عند الباب وجهي إلى‬ ‫السابق‪ ،‬كأنه ينادي على اسمي‪َّ ،‬‬ ‫حادة مثلما في ّ‬ ‫َّ‬ ‫الطائر‪ ،‬لم تكن‬ ‫أفقت على لقلقة ّ َ‬‫ُ‬
‫فالتفت متفاجًئا‪ ،‬لم يكن أبيض مثلما اعتدته‪ ،‬بل‬ ‫ُّ‬ ‫الطائر أعالها‪ ،‬وفجأة سمعت صوته خلفي‪،‬‬ ‫المئذنة‪ ،‬لعلها تحمل اإلشارة‪ ،‬لم َأر ّ‬
‫تكررة‪ ،‬كنت مستغربًا ما الذي انتابه‪ ،‬تتبعته‪ ،‬بدا‬ ‫دورات ُم ّ‬‫ٍ‬ ‫الدقيقتين‪ ،‬يركض داخل الباحة في‬ ‫استحال لونه إلى رمادي‪ ،‬خطا برجليه ّ‬
‫عشه تأملني من هناك‬ ‫ّ‬ ‫بلغ‬ ‫حتى‬ ‫ّق‬ ‫ل‬ ‫وح‬ ‫بصعوبة‬ ‫جناحيه‬ ‫ك‬ ‫حر‬
‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫التحديق‬ ‫من‬ ‫لحظات‬ ‫‪.‬‬ ‫جسده‬ ‫لي أنه كان مصابًا‪ ،‬وال دم ينزف من‬
‫َبضت عيناي على لحظة ارتطامه باألرض‪ ،‬وُأذناي على صوته‪ ،‬فزعت من المشهد أمامي‪ ،‬أسرعت‬ ‫مادا رأسه‪ ،‬ثم رأيته يهوي‪ .‬ق ْ‬ ‫ً‬
‫وتأملت عينيه طويل ًا‪ ،‬صغيرتين‬
‫ُ‬ ‫الرمادي‪ ،‬لكنه كان لصيقًا به‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّون‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫عنه‬ ‫أنفض‬ ‫أن‬ ‫حاولت‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫ساخ‬ ‫تجاهه‪ ،‬وحملته وهو ال يزال‬
‫وخف اهتزازه في يدي‪ ،‬حملته وعبرت به باب المقبرة‬ ‫ّ‬ ‫إلي‪ ،‬تغمضان ثم تفتحان‪ ،‬ثم أغمضهما ولم يفتحها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وحمراوين‪ ،‬تتطلعان‬
‫للض ريح‪ ،‬ودفنته بها‪ ،‬ثم جلست أقابل المكان المستوي من األرض‪ ،‬دقائق من االستغراق حتى عال صوت لقلقةٍ‬ ‫َّ‬ ‫الصغيرة المجاورة‬‫ّ‬
‫الطائر اكتشاف شريكه‪ .‬طفق يحفر األرض‬ ‫الط ائر فوق المقبرة‪ ،‬راقبته من خصاص بابها‪ ،‬لم أعرف كيف استطاع ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬ثم حل ّق ّ‬
‫حر ك جناحيه ورحل‪ ،‬رأيته يغيب في األفق دون أن يلتفت‪ .‬هل هذه آخر إشارة من سيدي عبد‬ ‫ّ‬ ‫يسحبه منها‪ ،‬وهو يزعق طويل ًا‪ ،‬ثم‬
‫الطائر‬
‫ّ‬ ‫هذا‬ ‫مع‬ ‫رحيلي‬ ‫سيتجدد‬ ‫ربما‬ ‫األزرق‪،‬‬ ‫ائر‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫مع‬ ‫رحيلي‬ ‫ضح‬ ‫ّ‬ ‫ت‬‫ا‬ ‫مثلما‬ ‫حمن؟‬ ‫‪.‬الر‬
‫ّ‬
‫شخصا آخر‪ .‬انحدرت إلى أن‬ ‫ً‬ ‫أحمل نفسي إلى بيتي ال أغادره إال بعد أيام أخرى‪ ،‬أجول المدينة بوجهٍ مختلف‪ ،‬كأنما أصبحت‬
‫بأسف‪ ،‬فأنكس‬ ‫ٍ‬ ‫بلغت باب الميناء‪ ،‬قطعت مسافة غير قصيرة حتى عثرت على صاحب البريد‪ .‬اعتاد أن يخيب أملي‪ ،‬يه ُّز رأسه‬
‫سخ من‬‫مدني بالعلبة‪ ،‬ثم مضى راحل ًا‪ .‬فضضت الغالف عنها‪ ،‬وإذا ِبن ُ ٍ‬ ‫المرة ما إن التقى وجهانا‪ ،‬حتى ّ‬ ‫ّ‬ ‫رأسي وأعود‪ ،‬ولكن هذه‬
‫الرسالة بين طيّاته‪ ،‬بلهفة فتحتها وقرأت ما جاء فيها‪ ،‬كان ال ُقنصل يعلمني أنه لم‬ ‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫انتبهت‬ ‫ثم‬ ‫تفحصته‬ ‫الكتاب‪ ،‬سحبت أحدها‪،‬‬
‫باش‪ ،‬تتساءل الل ّة سعدية عن تغير حالي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بوجه‬ ‫البيت‬ ‫ألج‬ ‫العلبة‪،‬‬ ‫ًا‬ ‫ل‬ ‫حام‬ ‫بيتي‬ ‫نحو‬ ‫أخطو‬ ‫‪.‬‬ ‫اإلفريقية‬ ‫ّجنة‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫يبق الكثير حتى تصل‬
‫الشوارع بحثًا عن ديبون‪ ،‬ربما ما يزال يبحث عن‬ ‫ُّ‬
‫وأشق ّ‬ ‫فأبسط أمامها الكتاب‪ ،‬تَرى حروفًا ال تعيها‪ .‬أحمل نسخة من الكتاب‬
‫حدثني عامل المقهى‪ ،‬ينادونه أحيانًا بإسماعيل‪ ،‬وتارة أخرى توماس‪ .‬ألتقي ديبون‬ ‫َّ‬ ‫الشخص الغريب الذي دخل المحروسة‪ ،‬مثلما‬ ‫ّ‬
‫ستتخطفانه‪ ،‬حتى وأنا أتلو عليه ما جاء‬ ‫ّ‬ ‫صدفة عند باب المقهى‪ ،‬أسلمه الكتاب‪ ،‬يطالعه ببرودة‪ ،‬ويعيده لي بسرعة‪ ،‬تنبأت أن يديه‬
‫كثيرا‪ ،‬ليفاجئني بجملة غامضة‬ ‫ً‬ ‫الرسالة‪ ،‬لم يهتم‬
‫‪:‬في ّ‬
‫‪.‬إننا ُمقبلون على فتح جديد يا ابن ميّار ‪-‬‬

‫كثيرا على‬
‫ً‬ ‫يتردد‬
‫ّ‬ ‫أظل أتساءل عن عالقة كلمات ديبون بالرجل الذي يبحث عنه‪ .‬تغيّر ديبون بعد أن طردنا كافيار من مكتبه‪ ،‬صار‬
‫المقهى‪ ،‬اعتقدت أنه قال كل شيء حين صرخ في وجه كافيار‪ ،‬وأنه ربما سيعود إلى مرسيليا‪ .‬لكنه بقي هنا‪ ،‬في ذلك اليوم أصغى‬
‫تحمس له‪ .‬وحين‬ ‫ّ‬ ‫إلي طويل ًا ونحن نرحل عن المقبرة‪ .‬حدثته عن عدم جدوى حراسة العظام‪ ،‬وعن تفاصيل كثيرة في كتابي‪،‬‬ ‫َّ‬
‫مسدسه في رأسه‪ ،‬لكنه لم يفعل‪ ،‬بل‬‫ّ‬ ‫وقفنا أمام كافيار صاح بكلمات بدت من اإلنجيل‪ .‬استشاط كافيار غضبًا‪ُ ،‬خيّل لي أنه سيفرغ‬
‫مرة أخرى‬
‫‪.‬طردنا من مكتبه‪ .‬وال أذكر أنه ُسمح لنا بعبور البوابة ّ‬
‫سر لي ُدوجة أنها في غيابي أصبحت‬ ‫يهمها شيء‪ ،‬وقد أضحيت إلى جانبها‪ ،‬تُ ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫أعود إلى وجه الل ّة سعدية البشوش‪ ،‬اآلن فقط لم يعد‬
‫للسل ّاوي‪ ،‬وهو الذي لم يُغادرها‬
‫ّ‬ ‫اشتياقه‬ ‫يحمل‬ ‫يزال‬ ‫ال‬ ‫وجة‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫وجه‬ ‫أرى‬ ‫مثلما‬ ‫وحيدين‪،‬‬ ‫شخصا آخر‪ .‬عشنا وحيدين‪ ،‬وأملت أن نرحل‬ ‫ً‬
‫السل ّاوي بعد أيام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مفاتحة‬ ‫أضمرت‬ ‫‪.‬‬ ‫زوجين‬ ‫صبحا‬‫ُ‬ ‫وي‬ ‫بيتي‪،‬‬ ‫في‬ ‫حكايتهما‬ ‫تنتهي‬ ‫لو‬ ‫تمنيت‬ ‫أيام ا طويلة‪ ،‬تعتذر كلما سمعت نداءه‪،‬‬
‫ً‬
‫إلي يذرع الغُرفة‪ ،‬وما إن يراني أسأله‬ ‫َّ‬ ‫‪:‬أنتظر المساء ألنزل إلى القبر‪ ،‬وحين أعبّر بابه الواطئ يتراءى‬

‫‪.‬لن أعترض على رحيلك إلى الغرب‪ ،‬ولكن هل بإمكانك مغادرة البيت دون أن ينتبهوا إليك؟ أنت بذلك تعرض الجميع للخطر ‪-‬‬

‫السل ّاوي‪ ،‬ثم قال‬


‫‪:‬ابتسم ّ‬
‫وعدت قبل الفجر دون أن يتفطن لي أحد ‪-‬‬
‫ُ‬ ‫‪.‬وما أدراك! قد غادرت البيت في منتصف الل ّيل‬

‫ولكن كيف؟ ‪-‬‬

‫كو ة كانت في نهاية الغرفة‪ ،‬نسيت أمرها منذ زمن‪ ،‬لم أعتقد أنها تتّسع لعبور أحد‪ ،‬أطلت على سقيفةٍ ُس ّدت من‬ ‫أشار إلى ّ‬
‫السل ّاوي ذلك اليوم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فاجأني‬ ‫‪.‬‬ ‫األولى‬ ‫للمرة‬ ‫أكتشفها‬ ‫كأنني‬ ‫منها‬ ‫وأطلت‬ ‫بها‪،‬‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫المثب‬ ‫ّوح‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫عنها‬ ‫أزحت‬ ‫إليها‪،‬‬ ‫بخطاي‬ ‫جانبيها‪ ،‬أسرعت‬
‫يحرسها الجنود ليل ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وهل‬ ‫المحروسة‪،‬‬ ‫عن‬ ‫أسئلة‬ ‫في‬ ‫معه‬ ‫ا‬ ‫نخرط‬
‫ً‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫نفسي‬ ‫وجدت‬ ‫ثم‬ ‫خوفي‪،‬‬ ‫التعجب‬ ‫أنساني‬ ‫وابتسمت‪،‬‬ ‫التفت إليه‬
‫ُّ‬
‫‪:‬ومتى يتوقفون عن ذلك‪ ،‬وهل يداهمون بيوتًا حين ينام أهلها؟ كان يجيبني عنها كلها‪ .‬وقبل رحيلي عن القبو سألته‬

‫عفوا من القائد العام؟ ‪-‬‬


‫ً‬ ‫لماذا ال تبقى حتى ينسوا أمرك‪ ،‬وأتدبر لك‬

‫الرحيل ‪-‬‬
‫‪..‬إنهم لن يعفوا عني‪ ،‬وليس لي إال ّ‬
‫ودوجة؟ ‪-‬‬
‫ُ‬

‫يستتب األمر لي هناك سأعود وآخذها ‪-‬‬


‫ُّ‬ ‫‪.‬لقد عثرت على من يوصلني إلى األمير‪ ،‬وحين‬

‫حدثتها باألمر؟ ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫وهل‬

‫‪.‬نعم قد اتّفقنا عليه منذ أيام فقط ‪-‬‬

‫بالكلمات األخيرة‪ ،‬بدا أكثر حكم ًة من ذي قبل‪ ،‬وغشيني بعض االرتياح‪ ،‬لكنني لم‬ ‫ِ‬ ‫السل ّاوي لي مختلفة‪ ،‬وهو ينطق‬ ‫تراءت مالمح ّ‬
‫الدرج‪ .‬سهرت‬
‫َّ‬ ‫على‬ ‫المثقلة‬ ‫خطواتي‬ ‫واصلت‬ ‫غد‪،‬‬ ‫بعد‬ ‫ٌ‬
‫راحل‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫وقال‬ ‫أسفلها‬ ‫الدرجات وقف‬ ‫أستمتع به ولو برهة قصيرة‪ ،‬وأنا أصعد ّ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬يجلس إلى‬
‫تحول إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطائر يسألني عن مصير شريكه‪ ،‬ثم‬ ‫حادة عند رأسي‪ ،‬كأن ّ‬ ‫َّ‬ ‫تلك الل ّيلة‪ ،‬انتابتني هواجس وعلت لقلق ًة‬
‫وأستيقظ على‬
‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫المحروسة‬ ‫إلى‬ ‫أعود‬ ‫فلن‬ ‫عينيك‪،‬‬ ‫في‬ ‫وجة‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫ضع‬ ‫مآزقي‪،‬‬ ‫من‬ ‫لي‬ ‫ا‬ ‫ص‬‫ّ‬
‫ُ ً‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫م‬ ‫كنت‬ ‫دوما‬
‫ً‬ ‫جانبي ويُوصيني‪ :‬يا ابن ميّار‬
‫‪.‬صوت الل ّة سعدية وهي تُحركني‪ ،‬كنت أتكلم أثناء نومي وأصرخ بكلمات‪ ،‬قالت إنها كانت ال ترحل ال ترحل‬

‫مجددا‪ ،‬إذ عادتني‬


‫ً‬ ‫الدقيقة كأنني لن أراه‬ ‫السل ّاوي طويل ًا‪ ،‬ووهبته بعض المال‪ ،‬ركزت عيني على تفاصيله َّ‬‫في ليلة أخرى عانقت ّ‬
‫الدموع من‬
‫دموعا حاولت إخفاءها‪ ،‬مثلما طفرت ّ‬ ‫ً‬ ‫ذرفت‬
‫ُ‬ ‫الرحمن‪ ،‬أنني لن أبقى طويل ًا بعد رحيله‪،‬‬
‫خواطر من إشارة سيدي عبد ّ‬
‫تودعه‪ .‬وحين انتصف الل ّيل رحل‬ ‫ّ‬ ‫عيني الل ّة سعدية‪ ،‬وبقيت ُدوجة حبيسة غُرفتها‪ ،‬انسحبت إلى غرفتي مصطحبًا الل ّة سعدية‪ ،‬وتركتها‬
‫أياما التسلل منها‬
‫ً‬ ‫اعتاد‬ ‫التي‬ ‫ة‬ ‫ُو‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫‪.‬السل ّاوي‪ ،‬من‬
‫ّ‬
‫وحيدا بعد أن اعتدت غياب ديبون‪ ،‬أعبّر شارع البحر‪ ،‬ثم أنعطف حتى أبلغ مكتب الحاكم العام‪،‬‬
‫ً‬ ‫يوم آخر أجوب فيه المحروسة‬
‫أرى حركة الحراس الكثيفة‪ ،‬وتوقّف عربتين على غير العادة‪ ،‬تفحصت الوجوه‪ ،‬بدت كأنها وصلت إلى المحروسة حديثًا‪ ،‬تجاوزت‬
‫شزرا وهو يجيبني‬
‫ً‬ ‫‪:‬الحراس حتى عثرت على ضابط فسألته‪ ،‬نظر تجاهي‬

‫‪.‬ها قد وصلت الل ّجنة التي ظللتم تطلبونها‪ ،‬ال تطمع بالكثير ‪-‬‬

‫سريعا‪ ،‬ثم وقفت في مقابلته‪ ،‬وسألته‬


‫ً‬ ‫الح ّ َراس وعبرت صوب مكتب الحاكم فوارول‪ ،‬طلبت اإلذن بالدخول‪ ،‬فُوجئت به يأتي‬
‫ُ‬ ‫استغفلت‬
‫متطلعا إلى األوراق‬
‫ً‬ ‫هدوءا مريبًا وهو يرمي الكلمات‬
‫ً‬ ‫عن الل ّجنة‪ .‬لم يطردني مثلما فعل كافيار‪ ،‬أو يصح في وجهي‪ ،‬بل حمل وجهه‬
‫‪:‬المنثورة أمامه‬

‫‪.‬نعم يا ابن ميّار لقد وصلت الل ّجنة‪ .‬وستستمع إليكم ‪-‬‬

‫‪:‬أردفت‬

‫هل ميمون من بين الذين ستستمع إليهم؟ ‪-‬‬


‫‪:‬طأطأ فوارول رأسه ُمتحريًا الوثيقة التي أمامه‪ ،‬ثم قال‬

‫‪.‬نعم إنّه على رأس القائمة ‪-‬‬

‫ثم ذكر آخرين من أهل المدينة لم يعنني وجودهم بقدر ما أذهلني أن يكون ميمون بينهم‪ .‬نعم كل ما يُريدونه اآلن هو سماع أحد‬
‫منا يعارضنا‪ ،‬لكنهم لن يستطيعوا دحض حججي‪ ،‬سأضع العريضة أمامهم‪ ،‬وُأتبعها بالكتاب‪ ،‬سأفعل مثلما فعل ديبون بكافيار‪ .‬رحلت‬
‫الشوارع إلى جانبي‪ ،‬شعرت أنه يؤخر لقائي بهم‪ ،‬وكلما‬
‫ألعود بعد أيام‪ ،‬أخطو في شوارع المحروسة حامل ًا محفظتي‪ ،‬ذرع ديبون ّ‬
‫وقفنا أمام شارعين يختار أطولها‪ ،‬لكننا بلغنا مبنى الحاكم بعد عبورنا شوارع المحروسة كلها‪ ،‬ووقفنا نقابل الحراس‪ ،‬تركت ديبون‬
‫الط ريق‪ ،‬وتجاوزت البوابة والدرج‪ ،‬ثم كنت بينهم‪ ،‬جلسوا مسترخين على مكاتبهم‪ ،‬ال أدري لماذا أحسست أن صمت ديبون‬ ‫عند نهاية ّ‬
‫‪.‬كان وراءه حقائق كثيرة خشي إخباري بها! أن يقول إن هؤالء الذين جاءوا سيدونون كل مظالمكم‪ ،‬ثم يرمون بها في البحر‬

‫الضباط بأسمائهم‪،‬‬
‫كان كافيار يجلس إلى جانبهم‪ ،‬لكنني لم أنحن أمامه‪ ،‬لم أبد له ضعفًا‪ ،‬وكلما رموا سؤال ًا في وجهي‪ ،‬كنت أذكر ُّ‬
‫السؤال‪ ،‬عدت‬ ‫هدمها‪ ،‬يقف غاضبًا يطلب اإلجابة بقدر ّ‬
‫مسجدا سلبه منا‪ ،‬أو حارة ّ‬
‫ً‬ ‫ذكرت له‬
‫ُ‬ ‫رددت اسمه أكثر من البقية‪ ،‬وكلما‬
‫ضابط آخر يسألني عن أشياء ال عالقة لها بمساجد المحروسة وأوقافها‪ ،‬أجيبه وأستطرد من الحكاية نفسها‪ ،‬كانت الل ّجنة‬‫ٍ‬ ‫بوجهي إلى‬
‫وشرعت أتلو منه‪ ،‬وأشير إليه‪ .‬قفز كافيار تجاهي على مرأى‬‫ُ‬ ‫أمامي‪ ،‬وال بد من قول كل شيء دفعة واحدة‪ ،‬سحبت الكتاب‬
‫بقوة حتى كدت أسقط‪ .‬انتحى مكانًا في نهاية الغرفة‪ ،‬وأشعل النّار فيه‪ ،‬ثم نظر تجاهي‬ ‫ّ‬ ‫الجميع‪ ،‬خطف من يدي الكتاب‪ ،‬ودفعني‬
‫بحق ٍد ‪ ،‬قلت في نفسي بالتأكيد سيكتبون كل شيء‪ ،‬لكنهم لم يلتفتوا إلى ما فعله بي‪ ،‬وال بالكتاب‪ .‬جلسوا غير مبالين‪ ،‬تساءلت ما‬
‫دورا بينهم‪.‬‬‫ً‬ ‫أدوا أدوار المسرحية وخدعت إذ رضيت لنفسي‬ ‫أيضا وشتمهم‪ ،‬خانني صوتي المخنوق‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫الصراخ بهم‬
‫الذي سأفعله؟! وددت ّ‬
‫الدرجات‪ ،‬شعرت أنه كان يراقبني من مدخل الغرفة‪ ،‬لم ألتفت‪ ،‬وحين وقفت أمام‬ ‫حملت نفسي وخطوت خارج الغرفة‪ ،‬ونزلت ّ‬
‫كابوسا لم أستطع الفكاك‬
‫ً‬ ‫ديبون‪ ،‬كنت مخنوقًا بالكلمات ‪ .‬ال أذكر أي شيء مما فهت به ونحن نسير بثقل تجاه البيت‪ ،‬كأنني أعيش‬
‫منه‪ .‬عندما فَتح الباب كدت أسقط‪ ،‬لوال يدا ُدوجة الل ّتان أمسكتا بي‪ ،‬ونادت على الل ّة سعدية‪ ،‬أسندتاني حتى استرخيت على‬
‫الرحمن‬‫وحيدا‪ ،‬بكيت مثلما أبكتني إشارة سيدي عبد ّ‬‫ً‬ ‫‪.‬فراشي‪ ،‬وطلبت البقاء‬

‫الصور في عيني‪ ،‬أحيانًا تتجل ّى صورة أبي في فراغ الغُرفة فأنادي عليه‪ .‬تلج الل ّة سعدية‬ ‫الحمى‪ ،‬اختلطت ُّ‬‫َّ‬ ‫في الل ّيل انتابتني‬
‫الرحيل إال في فجر يوم جديد‪ ،‬لم أستفق منها إال في نهاية األسبوع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحمى‬ ‫وتأبي‬ ‫جبهتي‪،‬‬ ‫على‬ ‫المبلول‬ ‫القماش‬ ‫الغرفة‪ ،‬وتضع‬
‫السماء من هناك‪ ،‬ورئتي سحب‬ ‫ّ‬ ‫تأمل‬ ‫نفسي‬ ‫اشتاقت‬ ‫بينما‬ ‫حملي‪،‬‬ ‫على‬ ‫تقويان‬ ‫ال‬ ‫رجالي‬ ‫كانت‬ ‫الباحة‪،‬‬ ‫بلغت‬ ‫حتى‬ ‫سندتني ُد وجة‬
‫السير منحنيًا‪ ،‬حتى أبلغ الباحة وحدي‪ ،‬يعجز صوتي عن مجاوزة حلقي‪ ،‬إال بعد‬ ‫المزيد من الهواء‪ .‬أيام أخرى وصرت أستطيع ّ‬
‫تحدق بي‪ ،‬لكنّها لم تدر أنني استفقت في يوم آخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الرمان‪ ،‬وربما كانت‬ ‫السعال الحاد‪ ،‬أبقى هناك أتطلع إلى شجرة ُّ‬ ‫سالسل من ّ‬
‫الحمى‬
‫ّ‬ ‫ليالي‬ ‫في‬ ‫تكهنت‬ ‫بالورقة‪،‬‬ ‫المبسوطة‬ ‫الجندي‬ ‫يد‬ ‫على‬ ‫وفتحته‬ ‫بلغته‪،‬‬ ‫حتى‬ ‫انحناءة‬ ‫في‬ ‫سرت‬ ‫الباب‪،‬‬ ‫على‬ ‫عنيفة‬ ‫على ضربات‬
‫الضغينة تجعله يوقع باسمه أسفلها‬‫ّ‬ ‫أن‬ ‫أ‬‫ّ‬ ‫أتنب‬ ‫لم‬ ‫لكنني‬ ‫حوته‪،‬‬ ‫ما‬ ‫ويلة‬ ‫‪.‬الط‬
‫ّ‬
‫ألنها‬
‫ّ‬ ‫الرحيل ليس‬
‫دائما كانت حريص ًة على ّ‬
‫ً‬ ‫تعلقت عينا الل ّة سعدية بي ما إن عرفت محتوى الوثيقة‪ ،‬حملت نظرتها آمال ًا كثيرة‪،‬‬
‫الشارع‪،‬‬
‫يوم على ُجثّتي مرميّة في ّ‬
‫ٍ‬ ‫ألنها لم تستطع احتمال المزيد من االنتظار‪ .‬تخشى أن تستفيق في‬ ‫ّ‬ ‫تريد مفارقة المحروسة‪ ،‬بل‬
‫لكن ُدوجة بقيت معلقة بيننا‪ ،‬سألتها حين لم يبق الكثير عن رحيلنا‬ ‫ّ‬ ‫نظل وحيدين بعيدين عن فوضى العالم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪:‬مثلما تتوق أن‬

‫‪.‬هل ترافقيننا يا ُدوجة في منفانا؟ إسطنبول مدين ٌة جميلة‪ ،‬ستهبك حياة مختلفة ‪-‬‬

‫الرحيل ولكني اآلن ال أستطيع ذلك ‪-‬‬


‫‪.‬كم تمنيت ّ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬لم أستطع الوقوف في دربها هي األخرى‪ .‬في يوم آخر جلس‬ ‫لم أشأ اإللحاح على ُدوجة‪ ،‬إذ كانت متيقنة من عودة ّ‬
‫ديبون إلى جانبي وتأمل الوثيقة بأسف‪ ،‬عجز عن فعل شيء‪ ،‬كان متعبًا وهو يفكر في األسوار التي ارتفعت بيننا‪ ،‬ولكنني رأيت‬
‫قرر أال يغادر المحروسة بعد رحيلي‪ ،‬وسيواصل عرائضي‪ ،‬أو ربها صراخه في وجه كافيار‬
‫‪.‬نظرة غامضة في عينيه‪ ،‬لعل ّه ّ‬
‫قبل يوم عن رحيلي‪ ،‬سرت إلى جانب ُدوجة أوصلها إلى بيت الل ّة زهرة‪ ،‬شعرت أن شيًئا ما دار بينها وبين الل ّة سعدية‪ ،‬إذ سهرتا‬
‫السقائف المليئة بالغبار ثم وقفنا عند باب الل ّة زهرة‪ ،‬تعانقتا طويل ًا حين تقابلت الوجوه‪ ،‬رأيت حزنها وهي‬
‫جزءا من الل ّيل‪ .‬تجاوزنا ّ‬
‫ً‬
‫الراحلين‬
‫قدرها أن تبقى ونكون نحن ّ‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬تودعني للمرة األخيرة‪،‬‬
‫ّ‬

‫السفينة تتلوني زوجتي‪ ،‬ورحلت بنا تاركين المحروسة لهم‬


‫الرصيف عانقني ديبون طويل ًا‪ ،‬ثم صعدت ّ‬
‫‪.‬في ّ‬
‫ُأ‬
‫تتراءى لي المحروسة من هناك مدينة بيضاء‪ ،‬مثل غيمةٍ لم تفقد لمعتها‪ِ ،‬ص ُّر على االحتفاظ بها على صورتها تلك‪ّ ،‬‬
‫ألوح لها كليًا‬
‫يلوح لي وحده‪ ،‬ودون‬‫الرصيف ِ ّ‬
‫البحارة اإلنجليز‪ ،‬بل وقف ديبون على ّ‬‫ّ‬ ‫أقترب منها أو ربما ابتعد عنها‪ ،‬بالتأكيد لم يكن هناك أبي‪ ،‬أو‬
‫‪.‬أهلي غابت المحروسة عن عيني لكنّها ال يمكن أن ترحل عن القلب‪ ،‬غيم ًة بيضاء ينادي عليها طفل كان اسمه ابن ميّار‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫السل ّاويالمحروسة مارس‪/‬سبتمبر ‪1833‬‬


‫حمة ّ‬
‫ّ‬
‫‪ ‬‬

‫إلي‪ ،‬وهي تُسندني مسافة‬‫َّ‬ ‫أدركت عندها أن ُدوجة قد عادت‬


‫ُ‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وققت وشهقت في وجهي‪.‬‬ ‫وأشرع الباب على وجهها ّ‬
‫زوار يا الل ّة‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫قتلت‬ ‫قد‬ ‫نعم‪،‬‬ ‫‪:‬‬‫أردد‬ ‫سمعتني‬ ‫حين‬ ‫بكفها‬ ‫صدرها‬ ‫ضربت‬ ‫ثم‬ ‫انحنائي‪،‬‬ ‫مستغربة‬ ‫بالباحة‬ ‫الرواق‪ ،‬بينما وقفت الل ّة سعدية‬
‫ّ‬
‫سعدية‪ ،‬وم ّزق خنجري أحشاءه‪ ،‬هو أهون من القتل رمي ًا بالرصاص‪ .‬اقتربت وسندتني حتى بلغنا الغرفة‪ ،‬ومددت ساقي في حجر‬
‫بص ّرتها‪ ،‬حرصت على لف رجلي بقطعة‬ ‫تفحصته‪ ،‬وهمست تطمئنني‪ ،‬ثم غابت ورجعت ُ‬ ‫ّ‬ ‫حركت الل ّة سعدية ساقي بعد أن‬ ‫ُدوجة‪ّ .‬‬
‫أصرت أن أختبئ في القبو‪ ،‬وهكذا كنت مستلقي ًا به‪ ،‬أراقب خياالت األثاث القديم من حولي‪ ،‬يعكسها ضوء القنديل‬ ‫ّ‬ ‫مثلما‬ ‫‪.‬القماش‪،‬‬

‫وخمنت أنهم ال بد‬


‫ّ‬ ‫الس قف من وقع األقدام‪ ،‬أيقنت أن الجنود قد دهموا البيت يبحثون عني‪،‬‬ ‫أفقت على جلبةٍ بالبيت‪ ،‬اهت ّز ّ‬
‫صمت ُمنشغل ًا بالفراغ المظلم من حولي‪ ،‬وخيوط الن ُّور التي تسللت من الك ُوة‬
‫ُّ‬ ‫أيضا حي المقاهي‪ ،‬ثم‬‫ً‬ ‫سيدهمون بيت الل ّة زهرة‪ ،‬وربما‬
‫في مقابلتي‪ .‬يزداد وقع األقدام باألعلى‪ ،‬ويشتعل داخلي خوفًا على الل ّة سعدية وعلى ُدوجة‪ ،‬ثم تساءلت‪ :‬هل سيؤذونهما إن اكتشفوا‬
‫فعل ًا أنني أختبئ هنا؟ ولكن الل ّة سعدية كانت ُمتيقّنة أال دراية ألح ٍد بالقبو من أهالي المحروسة‪ ،‬فما بالك بجنود قادمين من أوروبا‪.‬‬
‫!أردفت‪ :‬قد اعتادوا اصطحاب دليل معهم؟‬

‫دق على الباب‪ ،‬ثم فُتح وعبرت ُدوجة مبتسمة‬


‫محله ٌ‬
‫ُ‬ ‫بعيدا‪ ،‬ثم لم أعد أسمعه‪ ،‬وحل‬
‫ً‬ ‫الضجيج‬
‫ّ‬ ‫‪:‬في تلك الل ّحظة نأى‬

‫‪.‬أخيرا لقد رحلوا ‪-‬‬


‫ً‬
‫هل كانوا كثيرين؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نعم‪ ،‬وقلبوا البيت ‪-‬‬

‫بتعثر حتى بلغتها‪ ،‬أزحت الل ّوح‬


‫ٍ‬ ‫قمت وسرت‬ ‫ُ‬ ‫وحيدا‪ ،‬أعيد رسم مالمح وجهها‪ ،‬وتسل ّل من الك ُوة ضوءٌ ضئيل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫رحلت ُدوجة وخل ّفتني‬
‫الضيقة‪ ،‬لم أذكر أنني عبرتها من‬‫ّ‬ ‫بالسقيفة‬
‫ّ‬ ‫وتفاجأت‬ ‫منها‬ ‫أطللت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫بو‪،‬‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫جدران‬ ‫عيناي‬ ‫جاست‬ ‫الغرفة‪،‬‬ ‫يضيء‬ ‫عنها‪ ،‬وانتشر النّور‬
‫سمعت‬
‫ُ‬ ‫أسرارا كثيرة مخفية بها‪،‬‬
‫ً‬ ‫أن هناك‬ ‫تظل األبنية غريبة بالنسبة لألوروبيين‪ ،‬وحتّى ّ‬ ‫ّ‬ ‫قبل‪ ،‬كان ذلك الجزء مخفي عن المحروسة‪.‬‬
‫آبارا وأقبية قد ُردمت على أناس داخلها‪ ،‬وأخرى قد ُملئت ذهبًا‪ ،‬ثم ردمها أهلها خوفًا على حياتهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أن هناك‬ ‫من عجائز المحروسة ّ‬
‫السجن مصيره إن‬ ‫ججا‪ ،‬ويفتّشون بيوتهم‪ ،‬ولن يحتّج من يدري أن ّ‬ ‫الطرق‪ ،‬يختلقون لهم ُح ً‬ ‫كثيرا عن قُطاع ّ‬ ‫ً‬ ‫فلم يختلف الباشوات‬
‫أن هناك ك ُنو ًزا في باحات البيوت‪ ،‬أو في بساتينها‪ ،‬وكلما مررت‬ ‫ّ‬ ‫عتقدين‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫أيض‬
‫ً‬ ‫الفرنسيين‬ ‫إلى‬ ‫انتقلت‬ ‫قد‬ ‫فعل! ربما هذه الحمى‬
‫حدقت طويل ًا إلى الحائط الذي قابلني من‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫ود‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫مزيد‬
‫ً‬ ‫إال‬ ‫يجدون‬ ‫ال‬ ‫ولكنهم‬ ‫بأرضه‪،‬‬ ‫تتوزع‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الحفر‬ ‫من‬ ‫مئات‬ ‫على بستان وجدت‬
‫بعيدا من الجهتين‪ ،‬بيد أنها كانت‬ ‫ً‬ ‫تمتد‬
‫ُّ‬ ‫قديما‪ ،‬ارتقيته بصعوبة وأطللت‪ ،‬وإذا بي أراها‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫كرسي‬ ‫فسحبت‬ ‫نهايته‪،‬‬ ‫أبصر‬ ‫الكوة‪ ،‬وددت لو‬‫ّ‬
‫المغلق من الجهات‬ ‫الشكل ُ‬‫أيض ا من الجهتين‪ ،‬وزاد استغرابي إذ لم تطل عليه أية نافذة أخرى‪ ،‬لم أفهم الغرض من هذا ّ‬ ‫ً‬ ‫مغلق ًة‬
‫كلها‪ ،‬ولم يكن أحد يستطيع العبور إليه إال من بيت ابن ميّار‪ ،‬أو يصعد الجدار الخارجي إليه‪ ،‬ولكن كيف يُميّزه من بقية الجدران‬
‫فكرا في مصير ابن ميّار‬ ‫‪.‬األخرى‪ .‬نزلت من على الكرسي ثم أعدته إلى مكانه‪ ،‬واستلقيت على الفراش ُم ً‬
‫الصديقين الل ّذين كانا‬ ‫زوار‪ ،‬ثم تذكرت ّ‬ ‫عيدا مشهد قفزي تجاه ِ‬
‫الم َ‬ ‫وتفحصت الجرح‪ُ ،‬م ً‬ ‫ّ‬ ‫الضوء عن الك ُوة‪ ،‬أشعلت القنديل‬ ‫ّ‬ ‫حين غاب‬
‫فرا من الجنود‪ ،‬إذ كانا يحفظان شوارع المحروسة‬ ‫مرة أتيقّن أنهما قد َّ‬ ‫ّ‬ ‫كل‬ ‫ّ‬ ‫وفي‬ ‫لقياه؟‬ ‫قد‬ ‫مصير‬ ‫أي‬ ‫‪:‬‬ ‫األسئلة‬ ‫وتجددت‬ ‫معي‪،‬‬
‫شدني إلى‬ ‫بعيدا عن وجهتي‪ .‬في الماضي كانت هناك سالسل تَ ُّ‬ ‫ً‬ ‫يمر يضيع‬ ‫ُّ‬ ‫سريعا‪ .‬كل يوم‬ ‫ً‬ ‫وسقائفها‪ .‬تمنيت أن يبرأ الجرح‬
‫ألتفت إلى الك ُوة فال‬
‫ُ‬ ‫محترما‪.‬‬
‫ً‬ ‫أمرا‬
‫ً‬ ‫الرحيل‬
‫زوار‪ ،‬وصار ّ‬ ‫الرحيل إلى األمير‪ ،‬تسحبني بشدة‪ ،‬واآلن قد قتلت ِ‬
‫الم َ‬ ‫المحروسة‪ ،‬كلما قررت ّ‬
‫الظلمة‪ ،‬حتى تكون‬ ‫ّ‬ ‫وتمازجها‬ ‫عنه‬ ‫ابتعدت‬ ‫كلما‬ ‫ضآلة‬ ‫تزداد‬ ‫الضئيل تلك الهالة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أراها‪ ،‬أكتفي بالحملقة في القنديل‪ ،‬وكيف يُحدث نوره‬
‫خالص ا نهاية الجدار‪ ،‬بدا لي أنني أقاسم القنديل أشياء كثيرة‪ ،‬تلك التي تتعلق بعالقتي بأهالي المحروسة‪ ،‬أردت أن تتّسع‬ ‫ً‬ ‫سوادا‬
‫ً‬
‫ضد بني عثمان‪ ،‬ثم فروا مني حين‬ ‫ّ‬ ‫ضهم‬ ‫أحر‬
‫ّ‬ ‫وأنا‬ ‫لي‬ ‫يصغوا‬ ‫لم‬ ‫ولكنهم‬ ‫بها‪،‬‬ ‫يعيشون‬ ‫كانوا‬ ‫التي‬ ‫العتمة‬ ‫حساب‬ ‫على‬ ‫وء‬ ‫الض‬
‫ّ‬ ‫مساحة‬
‫السقائف‪ ،‬أو يتحل ّقون حول‬ ‫سنوات بعيدة راقبت وجوه األوروبيين وهم يجوبون ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حل الفرنسيون‪ .‬اختلفت أحالمي عن أحالمهم‪ .‬قبل‬ ‫ّ‬
‫تجمع النّاس أكثر‪ .‬وحدي استوعبت كيف يختلفون عنا‪ ،‬تحمل أيديهم أدوات لم نرها‬ ‫ّ‬ ‫كلها‬ ‫يزداد‬ ‫ُضولهم‬‫ف‬ ‫أرى‬ ‫األسواق‪،‬‬ ‫في‬ ‫حرة‬ ‫الس‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫من قبل‪ ،‬يتكلمون لغات عديدة أفهم بعضها‪ ،‬ويغيب عني بعضها اآلخر‪ ،‬أتبعهم إلى الفندق‪ ،‬أجلس غير بعي ٍد عنهم‪ ،‬وأصغي إلى‬
‫أمراضا يَخال النّاس في المحروسة أنها بالءٌ من عند الل ّه‪ ،‬ما إن تظهر أعراضها حتى يأسوا‬ ‫ً‬ ‫صوت أحدهم يحدثهم عن أدويةٍ تشفي‬
‫السفن‬
‫ُّ‬ ‫ليعترضوا‬ ‫قواربهم‬ ‫إلى‬ ‫اس‬ ‫ّ‬ ‫الري‬ ‫يسرع‬ ‫االكتشافات‪،‬‬ ‫من‬ ‫مزيد‬ ‫عن‬ ‫علماؤهم‬ ‫يبحث‬ ‫وحين‬ ‫‪.‬‬ ‫بالدعاء‬
‫ُّ‬ ‫من عالجها ويرفعوا أيديهم‬
‫طبيب بها؟! بهذه‬ ‫ٍ‬ ‫األوروبية‪ .‬أكانت المحروسة في حاجة لمزيد من ال ّ َذهب أو العبيد؟ ما فائدة ال ّ َذهب المكنوز وال تكاد تعثر على‬
‫‪.‬الكلمات ك ُنت أصرخ في النّاس‪ ،‬فيبتسمون بسخريةٍ يرثون لحالي‬

‫تمتد‬
‫ُّ‬ ‫تأمالتي‪ ،‬ثم أرى ُد وجة تحمل المنديل بيدها‪ ،‬وتبسط األكل أمامي‪ ،‬أمسك عنها ما تحمله‪ ،‬وقبل أن ترحل‬ ‫يقطع طرق الباب ّ‬
‫الطعام‪،‬‬
‫كثيرا إذ طلبت منها مشاركتي ّ‬‫ً‬ ‫فتشدها‪ .‬تلتفت وال أكاد أميّز تفاصيل وجهها‪ ،‬لكنني أسمع حركة أنفاسها‪ ،‬لم أنتظر‬
‫ُّ‬ ‫يدي إليها‬
‫إلي‪ ،‬لكانت جلست إلى جانبي‪ ،‬تغمس الخبز في ال ّزيت‪ ،‬وتُلقمني القطعة بيدها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫أش ُّدها‬
‫لم تمانع ُدوجة‪ ،‬بل اعتقدت أنني لو لم ُ‬
‫هممت بسحبه‬
‫ُ‬ ‫وعضت على أصبعي‪ ،‬وكلما‬ ‫ّ‬ ‫مددت يدي بقطعة الخبز وغمستُها بالصحن‪ ،‬ثم رفَعتُها إلى شفتيها‪ ،‬ابتَ َس َمت والتَقَ َمتها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫رت على إثرها أصبعي‪ ،‬ثم جاء دورها‪ ،‬حملت‬ ‫حر ُ‬‫ّ‬ ‫ندت عنها ضحكة‬ ‫ومددت يدي اليسرى ودغدغتها‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ضحكت عاليًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تأبى تركه‪،‬‬
‫حلم دافئ‪ ،‬أحزن كلما‬
‫ٍ‬ ‫مر المشهد مثل‬
‫أصابعها قطعة الخبز‪ ،‬وقبل أن تصل إلى فمي أمسكتُها‪ ،‬قبّلتها طويل ًا‪ ،‬ثم التقمت ما بها‪ّ ،‬‬
‫جميعا‪ ،‬منّي ومنها ومن ابن ميّار وحتّى من ذلك البائس ديبون‪ ،‬وربما أكبر من كافيار‬ ‫ً‬ ‫قد ٌر لنا كان أكبر منا‬
‫تذكرت رحيلي‪ ،‬ما هو ُم ّ‬
‫‪:‬أو المحروسة‪ .‬يتغيّر وجه ُدوجة كلما تحرك نور القنديل عليه‪ ،‬ترددت قبل أن تتكلم ثم تشجعت‬

‫‪.‬ال أريدك أن ترحل ثانية ‪-‬‬

‫‪.‬ولكنني سأرجع إليك ‪-‬‬

‫أحس أنك لن تعود ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫‪.‬ولماذا‬

‫تستتب األمور هناك سأعود الصطحابك‪ ،‬تيقّني من ذلك ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫‪.‬سأرحل إلى الغرب حيث مدينة األمير‪ ،‬وحين‬

‫الظلمة في المكان كله‬


‫‪.‬حملت ُدوجة نفسها ورحلت‪ ،‬بينها لذت إلى استغراقي‪ ،‬إلى أن خبَا نور القنديل‪ ،‬وانتشرت ُّ‬

‫الطعام والقبالت‪ ،‬ولكن ذلك اليوم بدا مختلفًا من صباحه‪ ،‬أبصرت‬ ‫السماء‪ ،‬وكم قاسمت فيها ُدوجة ّ‬ ‫ال أدري كم من يوم أظلمت فيه ّ‬
‫أطل منها‪ ،‬أو أن صوتًا ناداني من الخواء‪ ،‬فوقفت وازحت الل ّوح عنها‪ ،‬ولم َأر شيًئا‪ ،‬غير لقلق أبيض‬ ‫َّ‬ ‫أحدا ما‬
‫ً‬ ‫نث أن‬
‫وخم ُ‬
‫ّ‬ ‫الكوة‪،‬‬
‫مرة أخرى‬ ‫ّ‬ ‫ورفرفا‬ ‫الجدار‪،‬‬ ‫اعتليا‬ ‫ثم‬ ‫برهة‬ ‫قيفة‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫أقصى‬ ‫في‬ ‫ّا‬ ‫ل‬ ‫وظ‬ ‫رفيقان‪،‬‬ ‫أنها‬ ‫لي‬ ‫بدوا‬ ‫‪،‬‬ ‫ثان‬
‫ٍ‬ ‫طائر‬
‫ٌ‬ ‫هناك‬ ‫ّق‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ثم‬ ‫نحوي‪،‬‬ ‫ق‬ ‫يحد‬
‫ّ‬
‫وغادرا‪ .‬انتابتني رغبة في العبور إلى هناك‪ ،‬أكتشف ما يوجد خلف الجدار‪ ،‬ولكن أشياء أخرى منعتني‪ ،‬مثل ًا شككت أنها لن تتسع‬
‫الضير لو جربت ذلك‪ ،‬سحبت صندوقًا‪ ،‬ووضعت الكرسي أعاله‪ ،‬ثم صعدت‪ ،‬عبر رأسي منها‪ ،‬أبصرت من‬ ‫لعبوري‪ ،‬قلت في نفسي ما ّ‬
‫مادًا يدي حتى المستا الجدار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السفلي عند بطني‪ ،‬وانحدر جسمي‬ ‫هناك األرض أقرب منها في القبور‪ ،‬فعبرت حتى كان حد الكوة ُّ‬
‫المصابة‬
‫الرجل ُ‬
‫بينما ارتفعت قدماي عن الكرسي‪ ،‬أضحيت مثل معل ّق‪ ،‬وظللت اهت ُّز حتى بلغت راحتاي األرض‪ .‬حين سحبت ّ‬
‫وأملتُ َها بمحاذاة الجدار حتى كنت مستلقيًا‬ ‫تصاعد األلم‪ ،‬كأنما تم ّزق الل ّحم عنها‪ .‬لم أتوقف بل أرحتها على الحائط وأخرجت الثّانية‪َ ،‬‬
‫السور‪ ،‬بحثت عما يُعينني على‬ ‫ّ‬ ‫نهاية‬ ‫الس قيفة‪ .‬جال بصري بها‪ ،‬وانتبهت إلى جهات لم تكن لتظهر لي‪ ،‬وقفت وانتقلت إلى‬ ‫في ّ‬
‫الصعود‪ ،‬ولم أعثر على شيء‪ ،‬لكنني لمحت في الحائط المقابل ثقبًا يحاذي ال ّزاوية بين الجدارين‪ ،‬خطوت إليه‪ ،‬وغرست رجلي بها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫تطل على سقيفة جانبية استكشفت نهايتها ثم‬ ‫ُّ‬ ‫الرؤية من هناك‪ ،‬وإذا بها‬ ‫ثم دفعت جسمي حتى بَل َغت يدي حافته‪ ،‬استطعت ّ‬
‫الدماء طفرت من الجرح‪،‬‬ ‫المتفصد من جسدي‪ ،‬وحتّى ّ‬ ‫ّ‬ ‫تراجعت إلى الك ُّوة‪ ،‬وبصعوبةٍ عبرت منها‪ .‬في القبو انتبهت إلى العرق‬
‫‪.‬واضطررت إلى اختالف كذبة على الل ّة سعدية حين أقبلت تتف ّقد الجرح‪ ،‬ولم يمنعها ُحزنها من توبيخي تلك الل ّيلة‬

‫أسبوعا‪ ،‬األيام التي تلت ُمروقي إلى الجهة الثّانية‪ .‬كلما وقع بصري عليها‪ ،‬أتمتم قد مر يوم‪ ،‬إلى أن حل اليوم‬ ‫ً‬ ‫عددتُها وكانت‬
‫الدرج‪ ،‬فعرفت أن القادم لم يكن أي واحدة منهما‪،‬‬‫إلي حرك ٌة على ّ‬
‫َّ‬ ‫األخير منه‪ ،‬وما إن نطقت شفتاي بالكلمات حتى تناهت‬
‫ِّ‬
‫أصدق أن العجوز قد عاد‪ .‬دنا مني أكثر‪ ،‬ثم‬ ‫أياما‪ ،‬ثم فُتح الباب‪ ،‬ورأيت ابن ميّار أمامي‪ ،‬وكأنني في حلم‪ ،‬لم‬ ‫ً‬ ‫اعتادت ُأذناي دبيبها‬
‫زوار‪ .‬لم أستطرد في حواراتي معه‪ ،‬في جدوى قتله أو‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الم‬ ‫قتلي‬ ‫عن‬ ‫ٍ‬
‫راض‬ ‫غير‬ ‫جاتي‬ ‫ن‬
‫ً َ‬‫ب‬ ‫ا‬ ‫سعيد‬ ‫بدا‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫طوي‬ ‫وتعانقنا‬ ‫جلس إلى جانبي‪،‬‬
‫بقائه حيًّا‪ ،‬قد انتهى الخيط الذي يصله بالحياة‪ .‬دقائق جلسها ابن ميّار معي ثم غادر‪ ،‬ليتشبّث ببحثه عن الغُبار المتطاير في سماء‬
‫كدليل يقوده إلى بناء آخر يُهدم‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬المحروسة‪،‬‬

‫الصغير‪ ،‬وما تحمله من طعام‪ ،‬أتأملها مليًّا‪ ،‬وأحيانًا‬


‫لماما‪ ،‬كل صباح توقظني خطوات ُدوجة‪ ،‬أستقبل وجهها ّ‬ ‫ً‬ ‫لم أعد أرى ابن ميّار إال‬
‫الطعام ثم ترحل‪ .‬وأواصل مراقبة الك ُّوة‪ُ ،‬أحملق طويل ًا بها‪ ،‬وأنتبه لنفسي في أحالم يقظة تعبر بي منها‪ .‬أجوب شوارع‬ ‫نتقاسم ّ‬
‫أثرا‬
‫مرة‪ .‬ثم أقف وأزيح عنها الل ّوح الخشبي فال أرى ً‬ ‫كل ّ‬ ‫وأحض النّاس أن يستيقظوا‪ ،‬ويخيبونني مثل ّ‬
‫ُّ‬ ‫المدينة مثل سابق عهدي‪،‬‬
‫للطائر‪ ،‬وال أي شيء آخر‪ .‬تُطل الل ّة سعدية تتف ّقد الجرح‪ ،‬تُدقّق في مالمحي طويل ًا‪ ،‬كأنها تُعاتبني‪ ،‬نظرةٌ لم أعتدها إال في وجه الل ّة‬
‫الشوارع‪،‬‬
‫علي الخروج إلى ّ‬ ‫َّ‬ ‫زهرة‪ ،‬حين تحدثني عن ُدوجة‪ ،‬أخفض بصري‪ ،‬وأنقله بين األثاث المركون عند الجدار‪ .‬كان ينبغي‬
‫علي انتظار شهر آخر حتى يطيب‬ ‫َّ‬ ‫موعدا‪ .‬كان‬
‫ً‬ ‫مرة أخرى؟ لم يتركا لي عنوانًا وال‬
‫واستنشاق هواء مغاير‪ .‬ولكن هل سأجدهما ّ‬
‫‪.‬الجرح‬

‫أشاه ُدهما دقائق ثم أنسحب‪.‬‬‫ِ‬ ‫الطائرين‪ ،‬ولم أعبر إليهما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المرات عن الك ّ َُوة‪ ،‬وأعجبت في نهاراتها بعناق‬
‫ّ‬ ‫السماء عشرات‬
‫أظلمت ّ‬
‫أدس وجهي في شعرها‪ ،‬وأسمع دق قلبها‬ ‫ُّ‬ ‫الطائر شريكه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سري‪ ،‬حتى تلج ُدوجة القبو‪ ،‬فأعانقها مثلما يُعانق‬‫ّ‬ ‫في‬ ‫كلها‬ ‫حكاياتي‬ ‫وأجتر‬
‫تجسر يداي أن تمتدا إليه‪ ،‬كلما تعانقنا يتعالى في داخلي‬ ‫ُ‬ ‫المتعالي كلما همست لها‪ ،‬ولكن شيًئا كان يحول بيني وبين جسدها‪ .‬لم‬
‫يريدني أن أراها إال مثلما رآها الجميع‪ ،‬ولم أكن ألوافقه‪،‬‬ ‫الصوت ال‬‫ال ِن ّداء القديم‪ ،‬يوم هجرت ُمعاشرة ال ِن ّساء في المبغى‪ ،‬كان ّ‬
‫حضني دقائق ثم ترحل ألبقى في انتظارها‪ ،‬ولكنّها ال تاني‬ ‫‪.‬بالتأكيد ليس األمر هينًا‪ ،‬بيد أنني تخلصت منه‪ .‬تظل ُدوجة في‬

‫قمت من‬
‫ُ‬ ‫الجرح‪ ،‬وصار في إمكاني المشي مساف ًة ال بأس بها‪.‬‬‫ُ‬ ‫أعود بوجهي إلى الك ُّوة‪ ،‬أفك ّر طويل ًا لماذا ال أعبرها وقد طاب‬
‫خطوات‬
‫ٍ‬ ‫معا‪ ،‬ثم مرقت عبرها بيسر‪ ،‬حتى كنت خارج القبو‪ ،‬سرت‬ ‫الصندوق والكرسي ً‬ ‫مكاني‪ ،‬ووضعت القنديل في موازاتها‪ ،‬واعتليت ّ‬
‫حتى بلغت ال ّز اوية بين الجدارين‪ ،‬وغرست رجلي في التجويف‪ ،‬ودفعت نفسي حتى كنت أعاله‪ ،‬ثم نزلت إلى الجهة األخرى‪،‬‬
‫تقت‬
‫ُ‬ ‫الش ارع إلى بوابة القصبة الخالية من الحراس‪ ،‬وانحدرت وكأنه ال سكان بها‪،‬‬ ‫خطوت مسافة إلى جانب الحائط‪ ،‬ثم قطعت ّ‬
‫والسل ّاويين‪ ،‬وال أثر ألح ٍد‪ ،‬ثم شدتني الهمهمة القادمة من الحانة‪ ،‬اقتربت‬
‫ّ‬ ‫ارين‬ ‫ّ‬ ‫المي‬ ‫السل ّاويين‪ .‬ساعة سرتها‪ ،‬عبرت حارة‬‫لزيارة حارة ّ‬
‫المرة الماضية‪ ،‬حتى بلغت البيت‬ ‫ّ‬ ‫قطعته‬ ‫الذي‬ ‫ريق‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫بوجهي‬ ‫فررت‬ ‫بالمخمورين‪،‬‬ ‫تعج‬
‫ّ‬ ‫كالمعتاد‬ ‫تكن‬ ‫لم‬ ‫برأسي‪،‬‬ ‫منها وأطللت‬
‫وتجولت به ولم أعثر‬
‫ّ‬ ‫الصمت كان يشغل الفضاء‪ ،‬فتسلقت الجدار‪،‬‬ ‫لكن ّ‬ ‫ّ‬ ‫المهدم‪ ،‬دنوت من جداره‪ ،‬لعل همهم ًة تصلني من داخله‪،‬‬
‫أسبوعا بعدها لم يتغيّر شيء‪ ،‬كل‬‫ً‬ ‫الدروب صوب الك ُّوة‪ ،‬بؤت بالفشل في أول رحلةٍ لي خارج بيت ابن ميّار‪.‬‬ ‫على أحد‪ .‬شققت ّ‬
‫نادرا‬
‫ً‬ ‫‪.‬يوم أمرق منها ما إن ينتصف الل ّيل‪ ،‬أتجول في مدينةٍ خاوية من أي شيء‪ ،‬وال أكاد ألتقي الجنود إال‬

‫وحدقت تجاهي بنظرة لم‬‫ّ‬ ‫مر األسبوع دون جديد‪ ،‬سوى قرار واحد‪ ،‬استكشاف حي المبغى في هذه الل ّيلة‪ .‬قاسمتني ُدوجة األكل‬ ‫َّ‬
‫مرتين مؤكدة شكوكها حولي‪ ،‬ثم غادرت‪ ،‬وظللت ساعتين أو‬ ‫أمرا عنها‪ ،‬حتى وهي تُغادر التفتت ّ‬ ‫ً‬ ‫أفهمها‪ ،‬ربما شعرت أنني أخفي‬
‫السكون‬
‫الصوت‪ ،‬وعم ُّ‬
‫الدرج‪ ،‬فاستلقيت على فراشي بعدما كنت أدور في الغرفة ثم نأى َّ‬ ‫أكثر بعد رحيلها‪ ،‬سمعت دبيب أقدام على ّ‬
‫شبح‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الكوة‪ ،‬وأزحت عنها الل ّوح الخشبي‪ ،‬ثم مررت منها‪ ،‬وشرعت أطوف بالشوارع مثل‬ ‫ّ‬ ‫وضعت القنديل في مكانه يقابل‬
‫ُ‬ ‫المكان‪،‬‬
‫السقائف التي تُفضي إلى شارع المحروسة الكبير‪ ،‬حتى أبلغ نهايته شرقًا‪ ،‬وأنعطف عبر سقيفةٍ تنتهي إلى ساحة‬ ‫ّ‬ ‫عبر‬ ‫ا‬ ‫وحيد‬
‫ً‬ ‫أنحدر‬
‫الساحة‪ ،‬خشيت أن الحراس‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫ل‬ ‫غ‬
‫ّ‬ ‫التو‬ ‫على‬ ‫أجرؤ‬ ‫ولم‬ ‫البيوت‪،‬‬ ‫ات‬ ‫ُو‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫من‬ ‫شحيحة‬ ‫أضواء‬ ‫غير‬ ‫شيًئا‪،‬‬ ‫أرى‬ ‫أكاد‬ ‫فال‬ ‫المبغى‪،‬‬ ‫حي‬
‫شبحا كأنه انبثق من الجدار‪ ،‬أو انشقت األرض‬ ‫ً‬ ‫السقيفة رأيت‬
‫يقفون عندها‪ ،‬مكثت لحظات هناك‪ ،‬ثم عدت أدراجي‪ ،‬وقبل بلوغ نهاية ّ‬
‫‪:‬عنه‪ ،‬بقيت واقفًا في مكاني‪ ،‬أصغي إلى حركة أنفاسه‪ ،‬وبدا لي أنه كان يركض خلفي‪ ،‬اقترب بخطوة مني وقال‬

‫حمة؟ ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫هذا أنت يا‬

‫وحيدا‪ ،‬اقترب حتى كان إلى‬


‫ً‬ ‫أيضا كانا يبحثان عني طوال األيام الماضية‪ ،‬لكنه كان‬
‫ً‬ ‫أخيرا عثرت عليهما‪ ،‬البد أنهما‬
‫ً‬ ‫أدركت أنني‬
‫‪:‬جانبي‪ ،‬وتعانقنا ن ُهنئ نفسينا بالنجاة‪ ،‬وصمت عند سؤالي عن شريكه‪ ،‬ولما خشيت أن يطول صمته أسعفني بالجواب‬

‫وقررت أنا أن أبحث عنك وأصطحبك مثلما وعدتك ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫‪.‬قد سبقنا إلى جيش األمير‪ ،‬لم يعد يأمن على نفسه بالمدينة‪،‬‬

‫لماذا ال نرحل اآلن؟ ‪-‬‬

‫حمة‪ ،‬سنرحل نهاية األسبوع‪ ،‬عليك االستعداد ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫‪.‬لم يبق الكثير يا‬

‫‪.‬أنا مستع ٌد منذ سنوات ‪-‬‬

‫الدليل خارج‬
‫تطوعين الذين كانوا ينتظرون َّ‬ ‫الم ِ ّ‬
‫الطريق‪ ،‬وعن ُ‬ ‫وتحدثنا طويل ًا عن ّ‬
‫ّ‬ ‫افترقنا على أن نلتقي في ليلةٍ أخرى‪ ،‬والتقينا‪،‬‬
‫نظفون بنادقهم كل يوم‪ ،‬ويُخبّئونها في األكياس عند المساء‪ ،‬ثم‬ ‫المدينة‪ ،‬وعن قبائل األعراب الموجودة على أطراف التّ َل‪ ،‬كانوا يُ ّ‬
‫الشاب وأنسحب إلى الك ُّوة بوجه ُمختلف‪ ،‬وما إن‬ ‫ودع ّ‬‫استبد بهم الملل‪ُ .‬أ ّ‬
‫ّ‬ ‫يستخرجونها في صباح يوم جديدٍ‪ ،‬ويُعيدون تنظيفها‪ ،‬وقد‬
‫يدوي صوتها‬
‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫وجهي‪،‬‬ ‫ضيء‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫القنديل‬ ‫تحمل‬ ‫مكاني‪،‬‬ ‫بدوجة تفترش‬‫‪:‬أعبرها حتى أفاجأ ُ‬

‫أمجنون أنت! ما الذي يدور برأسك؟ ‪-‬‬

‫السجين في القبو؟ ‪-‬‬


‫كيف أغادر المدينة وأنا ّ‬
‫خارجا؟ ‪-‬‬
‫ً‬ ‫أتلتقي أحدهم‬

‫‪.‬نعم‪ ،‬إنّه الذي سيقودني إلى جيش األمير ‪-‬‬

‫!أتأمن هؤالء؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نعم قد جربتهم ‪-‬‬

‫وهل بقي الكثير؟ ‪-‬‬

‫‪.‬نهاية األسبوع يا ُدوجة ‪-‬‬

‫وش َرعت في البكاء‪ ،‬أكثر من ساعةٍ لم أستطع أن أهدئ من روعها‪ ،‬ثم صمتت فجأة‪ ،‬وحملت‬ ‫تغيّرت مالمحها‪ ،‬ثم تشبّثت بي‪َ ،‬‬
‫إلي األكل‪ ،‬ثم‬
‫َّ‬ ‫ويحمل‬ ‫القبو‪،‬‬ ‫باب‬ ‫عني‬ ‫يفتح‬ ‫من‬ ‫سعدية‬ ‫ّة‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫كانت‬ ‫بل‬ ‫تأت‪،‬‬ ‫لم‬ ‫ها‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫الموالي‬ ‫نفسها ورحلت‪ ،‬انتظرتها في اليوم‬
‫امتعاضا‪ .‬تمنيت أال تخلف ُدوجة موعدها هذه الل ّيلة‪ ،‬ولكن القادم كان مختلفًا‪ ،‬وقف ابن ميّار يتأملني‪ ،‬ثم تكل ّم‬ ‫ً‬ ‫ترحل بوجه يحمل‬
‫الر حيل‪ ،‬أراد مني البقاء في القبو حتى يتوقف البحث عني‪ ،‬ويطلب العفو لي من القائد العام‪ ،‬كنت متيقنًا أنهم لن يفعلوا‬ ‫عن ّ‬
‫مشيرا إلى‬‫ً‬ ‫يدي‬ ‫ومددت‬ ‫‪.‬‬ ‫بيتك‬ ‫قبو‬ ‫في‬ ‫المحروسة‬ ‫إلى‬ ‫ريق‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫وجدت‬ ‫قد‬ ‫أنا‬ ‫ار‪،‬‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫بن‬ ‫يا‬ ‫‪:‬‬ ‫له‬ ‫االعتراف‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫بد‬
‫ً‬ ‫أجد‬ ‫ولم‬ ‫ذلك‪.‬‬
‫وتحسس اللَّوح ثم سحبه مستغربًا‪ ،‬وعاد يجلس إلى جانبي‪ ،‬ولم يلبث أن أظهر لي كتابه‪ ،‬أمسكته‬ ‫َّ‬ ‫الكوة‪ ،‬لم يكن ُمصدقًا‪ ،‬اقترب منها‬
‫الصفحات‪ ،‬وكلما قرأ‬ ‫فهما‪ ،‬أعدته إليه وطلبت منه قراءة بعض ّ‬ ‫ً‬ ‫وتهجيت العنوان‪ ،‬لم أكن ألعي الكثير منها كتابة‪ ،‬بينها وعيتها‬ ‫ّ‬ ‫بيدي‪،‬‬
‫جزءا من الحكاية‪ ،‬كأنني أرى الن ّاس يصرخون من حولي‪ ،‬يبكون ضياع المحروسة‪ .‬وسألته االنتقال إلى ما حدث في‬ ‫ً‬ ‫أكتشف‬ ‫واحدة‬
‫إلي وقال‬‫َّ‬ ‫التفت‬ ‫رج‪،‬‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫صعوده‬ ‫وقبل‬ ‫الكتاب‬ ‫ار‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫حمل‬ ‫‪.‬‬ ‫ذكري‬ ‫على‬ ‫يأت‬ ‫لم‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ولك‬ ‫الكثير‪،‬‬ ‫ن‬ ‫دو‬
‫ّ‬ ‫قد‬ ‫ووجدته‬ ‫فرج‪،‬‬ ‫‪:‬سيدي‬

‫‪.‬بعد أيام قليلة ستأتي لجنة من باريس لتحقق في أوضاع الجزائر‪ ،‬وإذا اقتنعت بعدم جدوى بقاء الجيش بها سيرحلون ‪-‬‬

‫أيضا؟ ‪-‬‬
‫ً‬ ‫وهل سيستمعون إلى األعيان‬
‫‪.‬نعم‪ ،‬فيما مجيئها إال تلبية لعرائضي ‪-‬‬

‫‪.‬بالتأكيد ستأتي الل ّجنة‪ ،‬وسيستمعون إليه طويل ًا‪ ،‬وربما سيُجاملونه واألعيان‪ ،‬ولكنهم لن يرحلوا عن المدينة‬

‫قمت وأزحت عن الكوة لوحها فأضاءت القبو‪ ،‬وبدا لي وجهها لما‬ ‫ُ‬ ‫غياب تطل ُدوجة‪ ،‬أتأملها طويل ًا كأنني أكتشفها للمرة األولى‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بعد‬
‫الصباح‪ ،‬تذكرت صورتها أول ما سمعتها تُغني في العرس‪ ،‬كان‬ ‫ّ‬ ‫تحية‬ ‫عدا‬ ‫بكلمة‬ ‫تهمس‬ ‫لم‬ ‫المكان‪،‬‬ ‫وتقاسمنا‬ ‫مني‪،‬‬ ‫أكثر‬ ‫اقتربت‬
‫حدثت نفسي‪ :‬هل‬ ‫ّ‬ ‫غطي شعرها بخمار ُمشنشل تتدلى خيوطه الوردية على جبهتها‪،‬‬ ‫الصفرة‪ ،‬تُ ّ‬
‫الل ّباس نفسه الفستان األبيض المائل إلى ُّ‬
‫يمكن أن تُعاد تلك األيام يا ُدوجة؟ كنت ما أزال أحدق في وجهها غائبًا عنها‪ ،‬ثم انتبهت لنفسي‪ ،‬وعدت إليها برغبة في سماع‬
‫الرجاء‪ ،‬وقلت‪ :‬أتمنى يا ُدوجة سماع أغنية‪ .‬وانتظرت أن تبدأ الغناء‪ ،‬ولكنّها صمتت‪،‬‬ ‫صوتها‪ ،‬فمددت يدي إلى يدها على سبيل ّ‬
‫اعتقدت أنها تبحث عن أغنية مما حفظته من الل ّة مريم‪ .‬ولم يصدق تخميني إذ غنت ُدوجة أغنية مليئة بالمواجع‪ ،‬بدأ صوتها‬
‫الطحين‪ ،‬ولم يستطع بلعها‪ ،‬أصغى إلى نداء القبر وسار إليه‪،‬‬ ‫خفيضا مثل األنين‪ ،‬ثم تَ َعالى‪ ،‬تكلمت عن منصور الذي عشق حلوى ّ‬ ‫ً‬
‫الحمى جسده‪ ،‬وحين‬ ‫َّ‬ ‫أياما قليلة من العذاب واحتواها القبر‪ ،‬وعن وال ٍد دهمت‬
‫ً‬ ‫أيضا والدة لم تستطع احتمال المرض‪،‬‬ ‫ً‬ ‫َرثت األغنية‬
‫قبرا لها‪.‬‬
‫ً‬ ‫فرت إلى المحروسة‪ ،‬ولكنّها لم تكن إال‬ ‫ودوجة التي ّ‬ ‫قبر وحيد قرب الغابة‪ُ ،‬‬ ‫باردا ومتخشبًا‪ ،‬ثم دفن في ٍ‬‫ً‬ ‫رحلت أضحي‬
‫ذراعي واحتضنتها‬
‫ّ‬ ‫وفتحت‬
‫ُ‬ ‫ومسحت دموعها‪،‬‬ ‫رددت ُد وجة كلمة المحروسة مقرونة بالقبر‪ ،‬كفاتحة لألغنية وكخاتمة لها‪ ،‬ثم صمتت َ‬ ‫ّ‬
‫‪.‬بقوة‪ .‬لحظات من العناق ثم افترقنا‪ ،‬وقفت بهدوء ورحلت‬ ‫ّ‬
‫الدرج إلى جانبه حتى‬ ‫الدبيب‪ ،‬ثم عبر ابن ميّار قوس الباب‪ ،‬وصعدت ّ‬ ‫إلي ّ َ‬
‫َّ‬ ‫حل المساء‪ ،‬ترامي سواده القاتم من الكوة‪ ،‬وتناهى‬‫َّ‬
‫ودوجة والل ّة سعدية‪ ،‬كأننا‬
‫ُ‬ ‫ار‬‫ّ‬ ‫مي‬ ‫وابن‬ ‫أنا‬ ‫واحدة‪،‬‬ ‫جفنة‬ ‫من‬ ‫المساء‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫الجميع‬ ‫أكل‬ ‫ا‪،‬‬ ‫مع‬
‫ً‬ ‫وتقاسمناها‬ ‫البيت‬ ‫باحة‬ ‫على‬ ‫أشرفنا‬
‫نكتم في أنفسنا أنه ال بد يجيء يو ٌم وتجمعنا الجفنة نفسها‪ ،‬أو ربما كان ذلك فأل ًا حسنًا اختارته الل ّة سعدية لل ّيلتي األخيرة معهم‪،‬‬
‫هكذا وبعد لحظات فقط‪ ،‬غادرتنا ُدوجة إلى غُرفتها‪ ،‬وبقيت أسامر ابن ميّار أكثر من ساعتين‪ ،‬لم نتكلم عن رحيلي بقدر ما أعدنا‬
‫السجن‪ ،‬يخلصني من بينهم‬ ‫ُأ‬
‫عثمان‪ ،‬وكيف كان يُنقذني من أيديهم كلما أحكموا وثاقي‪ ،‬وأحيانًا يظهر قبل أن قاد إلى ّ‬ ‫حكايات بني ُ‬
‫‪.‬بطرق متعددة‬

‫ويدس في يدي‬ ‫ُّ‬ ‫الرحيل‪ ،‬يعانقني طويل ًا‪،‬‬


‫تنه ًدا أقف على إثره ويقوم في أعقابي‪ .‬نعم لقد أزفت ساعة ّ َ‬ ‫ُّ‬ ‫يصمت ابن ميّار ثم يُطلق‬
‫الدموع من عيني الل ّة سعدية‪ ،‬أقترب منها ألقبل يدها ورأسها‪ ،‬تذكرت الل ّة زهرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تطفر‬ ‫مثلما‬ ‫دموعه‪،‬‬ ‫من‬ ‫النّقود‪ ،‬وفي ثيابي بقايا‬
‫وعزمت على التعريج عليها‪ ،‬وانتظرت بروز ُدوجة من غرفتها ولكنّها لم تظهر إال بعد توجه ابن ميّار والل ّة سعدية إلى غرفتها‪،‬‬
‫قابلتني في فستانها األبيض وخمارها المشنشل‪ ،‬نزلت إلى القبر وكانت تلتحق بي‪ ،‬قبّلتها ليلتها طويل ًا‪ ،‬وضممتها وأوجعني افتراق‬
‫الرحيل؟ أليس أفضل لو ظللت إلى جانبها؟ األمير ليس في حاجة إليك‬ ‫الصوت في رأسي‪ ،‬ما الذي يرغمك على ّ‬ ‫جسدينا‪ ،‬ثم تعالى ّ‬
‫مزيدا من الهتاف بداخلي‪ ،‬فأغمضت عيني ومرقت من الك ُّوة‬ ‫ً‬ ‫أحتمل‬ ‫ولم‬ ‫دونك‪،‬‬ ‫وحيدة‬ ‫وجة‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫ستظل‬ ‫بينها‬ ‫حوله‪،‬‬ ‫فالرجال كثيرون من‬
‫‪.‬دون التفات‬

‫السقائف كلها حتى كنت عند‬ ‫شوارع المحروسة غامض ٌة مثل أهلها‪ ،‬ولكنّها ليست ُمتخاذلة مثلهم‪ .‬خطوت بها في عجلةٍ ‪ ،‬وخضت ّ‬
‫الطارق‪ ،‬ثم أشرعت الباب لما ميّزت صوتي‪،‬‬ ‫باب الل ّة زهرة‪ ،‬طرقت الباب ولم يُجبني أحد‪ ،‬وانتظرت إلى أن نادت تسال عن ّ‬
‫الرواق وقبّلت يدها ورأسها‪ ،‬وكانت هي األخرى تقبّل يدي ورأسي‪ ،‬لم تعتقد أنني حي‪ .‬ترجتني الل ّة زهرة أال ارحل‬ ‫عبرت إلى ّ‬
‫ودعتها وغادرت البيت‪ ،‬ووقفت تحمل القنديل‬ ‫ّ‬ ‫بيننا‪،‬‬ ‫كان‬ ‫ما‬ ‫لها‬ ‫حكيت‬ ‫حين‬ ‫بامتعاض‬ ‫صمتت‬ ‫ثم‬ ‫معي‪،‬‬ ‫وجة‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫آخذ‬ ‫وحيدا وأن‬
‫ً‬
‫ستاء من‬
‫ً‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫هناك‬ ‫ليل‬ ‫الد‬
‫ّ‬ ‫وجدت‬ ‫سوره‪،‬‬ ‫وعبرت‬ ‫م‪،‬‬ ‫المهد‬
‫ّ‬ ‫البيت‬ ‫بلغت‬ ‫حتى‬ ‫قصيرة‬ ‫غير‬ ‫مسافة‬ ‫وسرت‬
‫ُ‬ ‫انعطف‬ ‫الباب‪،‬‬ ‫عند‬ ‫تُشيّعني‬
‫منعطف‬
‫ٍ‬ ‫يتجمعون عنده‪ ،‬انزوينا في‬
‫ّ‬ ‫الطريق إلى باب المدينة‪ ،‬ولم نعبره‪ ،‬إذ كان الجنود‬
‫تأخري‪ ،‬لبثنا برهة ثم شرعت أرجلنا تنهب ّ‬ ‫ّ‬
‫السور ينأى عنا أو ربما نحن الذين نأينا عنه‪ ،‬وقرر‬ ‫الطريق نرقب تفرقهم‪ ،‬ثم كنا نجتا ُزه دون أن ألمح انحناء قوسه‪ .‬كان ُّ‬
‫ّ‬ ‫نهاية‬
‫تأمل المحروسة تحت ضوء النّهار‪ ،‬ألبكيها طويل ًا‪ ،‬ثم أرمي عليها سالمي األخير‬ ‫السير ليل ًا‪ ،‬ولم أوافقه‪ ،‬رغبت ّ‬
‫‪.‬رفيقي مواصلة ّ‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫ُدوجةالمحروسة مارس‪/‬سبتمبر ‪1833‬‬

‫‪ ‬‬

‫دق على الباب حتى انتفضت من على جانبي‪ ،‬ثم قامت ُمخل ّفة ِمسبحتها‪ ،‬خطوت في أعقاب الل ّة سعدية‪،‬‬ ‫ما إن تناهى إليها ٌ‬
‫الرواق‪ ،‬ووقفت أنتظرها بالباحة‪ .‬من هناك سمعت شهقتها‪ ،‬ثم بُكاءها‪ ،‬عرفت أنها قد شرعت‬ ‫ّ‬ ‫هي‬ ‫برت‬
‫ْ‬ ‫وع‬
‫َ‬ ‫تركت بيني وبينها مسافة‪،‬‬
‫ُ‬
‫أحدق فيه‪ ،‬ثم‬‫ِّ‬ ‫وبقيت‬
‫ُ‬ ‫وتتحسسه غير ُم ِ ّ‬
‫صدقة أنه قد عاد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الباب على وجه ابن ميّار‪ ،‬انتابتني رغبة في البكاء وأنا أراها تُقبِّل يده‪،‬‬
‫عمره‪ .‬كانت الل ّة سعدية تتشبّث به في سيرنا إلى‬ ‫الرحلة أضافت سنوات أخرى إلى ُ‬ ‫اقتربت أكثر وقبَّلت رأسه‪ ،‬بدا لي كأن ّ‬
‫ُ‬
‫عيدا سرد رحلته‪ ،‬منذ‬
‫مادا رجليه على األرض‪ُ ،‬م ً‬
‫ً‬ ‫وتنهد طويل ًا‪ ،‬ثم جلس بيني وبينها‬
‫ّ‬ ‫غُرفتهما‪ ،‬وحين دخلناها تأمل ابن ميّار ُجدرانها‬
‫السفينة من رصيف الميناء إلى غاية وصوله إلى باريس‬
‫ّ‬ ‫‪.‬حملته‬

‫تشدانني إلى البقاء‪ ،‬كان وجه ابن ميّار يحمل أسئل ًة كثيرة‪ .‬وهكذا كنا نحدثه‪ :‬قد‬ ‫ّ‬ ‫أهم بتركهما وحيدين‪ ،‬ولكن عينيه المتسائلتين‬ ‫ُّ‬
‫وداوت جِ راحه‪ ،‬ثم أخفته في القبو‪ ،‬لحظتها َح َمل ابن ميّار‬ ‫َ‬ ‫سعدية‬ ‫ّة‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫وأسعفته‬ ‫ا‪،‬‬ ‫جريح‬
‫ً‬ ‫زوار‪ .‬طرق الباب‬ ‫السل ّاوي وقتل ِ‬
‫الم َ‬ ‫فعلها ّ‬
‫نفسه‪ ،‬ونزل إلى القبو‪ ،‬كان صدري يضيق بحكايات أردت أن أعيدها عليه‪ ،‬فأقول‪ :‬إن الجنود كانوا كثيرين‪ ،‬غزوا كل الغُرف يبحثون‬
‫ألفته من أهل‬
‫ُ‬ ‫السل ّاوي‪ ،‬سألنَا المترجم الذي رافق الجنود‪ ،‬إن كنا َخبّأناه في مكان ما‪ ،‬تكل ّم بلهجةٍ عربيةٍ ُمختلفةٍ عما‬ ‫عن ّ‬
‫وتفر ق الجنود بين الغرف‪ .‬ثم افترق عنهم‪ ،‬بالتأكيد لم يكن لرجل عربي أن يجهل‬ ‫ّ‬ ‫الباحة‬ ‫جاب‬ ‫فهومة‪،‬‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫كانت‬ ‫أنها‬ ‫المحروسة‪ ،‬مع‬
‫تخطر على بال الجنود‪ .‬ثم توقّف قليل ًا‬ ‫ُ‬ ‫كيف تُبنى البيوت في المحروسة‪ ،‬على األقل كان أفضل من الفرنسيين‪ ،‬سار إلى أمكنة لم‬
‫تفطن له‪ ،‬حين انحنى ينظر إلى أسفلها‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫لكن المترجم‬
‫ّ‬ ‫عند الباب المؤدي إلى درج القبو‪ ،‬وقد أخفته الل ّة سعدية بخزانةٍ قديمةٍ ‪،‬‬
‫مشيرا إلى الجنود أنه ال َجدوى من البحث‪ ،‬وحينئذ رحلوا‬ ‫ً‬ ‫عاد وتأمل وجهينا وقد ارتسمت عليهما عالمات الخوف‪ .‬غادر المكان‬
‫السل ّاوي أن هؤالء المترجمين يُطاردون حلم الثّراء في المحروسة‪ ،‬ولكن ذلك‬ ‫ردد ّ‬‫بأدب ثم رحل‪ .‬لطالما ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وتخل ّف عنهم بخطوات‪ ،‬حيّانَا‬
‫‪.‬المترجم لم يبد لي مثلهم‬

‫السؤال بقي عالقًا‪:‬‬


‫الدرجات‪ ،‬ثم وقفت أمامه‪ ،‬وبالرغم من أن الل ّيلة الماضية كانت مختلفة‪ ،‬ولكن ّ‬
‫ازحت الخزانة ونزلت ّ‬
‫ُ‬ ‫بعد رحيلهم‬
‫زوار‪ ،‬وانتهت بذلك حكاية كان يتعلل بها على فراره مني؟‬ ‫الرحيل وقد قتل ِ‬
‫الم َ‬ ‫السل ّاوي على ّ‬
‫لماذا يُصر ّ‬
‫وأهم بالعودة أدراجي‪ ،‬وال‬ ‫ُّ‬ ‫الصحن إلى جانبه‬ ‫أفك ّر في كل هذه األشياء ثم أرحل عنه‪ ،‬ألعود إليه ما إن تظلم‪ .‬أجده بانتظاري‪ ،‬أضع ّ‬
‫الخبز نغمسها بالزيت ثم نحملها‬ ‫ُ‬ ‫يتوس ُطنا القنديل‪ ،‬امتدت يدانا إلى ِقطع‬ ‫ّ‬ ‫الطعام‪ .‬جلست في ُمقابلته‬ ‫تطاوعني نفسي تريد مقاسمته ّ‬
‫عضضت عليها‪ ،‬ورفضت إفالتها‪ ،‬كان‬ ‫ونمضغها ُمبتسمين‪ ،‬وارتفعت يده إلى فمي بقطعة الخبز‪ ،‬وما إن المست أصابعه فَمي‪ ،‬حتى َ‬
‫السل ّاوي األخرى إلى جسدي تدغدغني‪ ،‬وفي‬ ‫سعيدا بتلك الل ّحظات‪ ،‬راغبًا أال تنقطع‪ ،‬وأسرعت يد ّ‬ ‫ً‬ ‫يصرخ ضاحك ًا‪ ،‬ويخفق قلبي أكثر‪،‬‬
‫الصحن‬ ‫عدنا إلى ّ‬ ‫الضحك يُغالبني عليها‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أشعلت يده كل الحرائق في جسدي‪ ،‬ولكن‬ ‫ْ‬ ‫أفلت أصبعه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الضحك الممزوجة باالشتهاء‬
‫نوبة ّ‬
‫وعنقي‪ ،‬ويعبث بشعري‪ ،‬ولم أدر أي‬ ‫ُ‬ ‫شفتي‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫قبلني‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫وشرع‬ ‫إليه‪،‬‬ ‫ة‬ ‫بقو‬
‫ّ‬ ‫فجذبني‬ ‫َمه‪،‬‬
‫ف‬ ‫إلى‬ ‫الخبز‬ ‫بقطعة‬ ‫يدي‬ ‫امتدت‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫مرة‬
‫ّ‬
‫الرغبة‬
‫ّ‬ ‫ا‪،‬‬‫ً‬ ‫ف‬ ‫ختل‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫كان‬ ‫اليوم‬ ‫ذلك‬ ‫معي‬ ‫حدث‬ ‫ما‬ ‫ولكن‬ ‫منها‪،‬‬ ‫يوم‬ ‫كل‬ ‫ن‬ ‫ف‬
‫ّ‬ ‫أتع‬ ‫أنني‬ ‫أحسست‬ ‫حتى‬ ‫جال‬ ‫الر‬
‫ّ‬ ‫أجساد‬ ‫بت‬ ‫جر‬
‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫كبني‬‫ر‬‫َ‬ ‫جنون‬
‫واحدا‪ ،‬ولكنّه َأفل َتني‪ .‬التفت إليه وهمست‬ ‫ً‬ ‫جسدا‬
‫ً‬ ‫‪:‬في أن أكون وإياه‬

‫!ال أريدك أن ترحل‪ ،‬وليست هناك جدوى من رحيلك؟ ‪-‬‬

‫في بكل جديّة‪ ،‬ووعدني أنه سيعود‪ ،‬ثم رجاني ألول‬ ‫حدق ّ َ‬‫ّ‬ ‫يفر من وجهي‪ ،‬بل إنّه‬ ‫َّ‬ ‫السل ّاوي لم يصمت طويل ًا مثلما اعتاد‪ ،‬ولم‬
‫ولكن ّ‬
‫وفي ولم ألبث إال هنيه ًة ثم غادرت القبو‪،‬‬
‫َ‬ ‫إال‬ ‫قبل‬ ‫من‬ ‫عدني‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫فلم‬ ‫يومها‬ ‫قته‬ ‫صد‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬‬ ‫اصطحابي‬ ‫أجل‬ ‫من‬ ‫وسيرجع‬ ‫أنتظره‪،‬‬ ‫أن‬ ‫مرة‬
‫متناقضا‪ :‬سعيدةٌ بوعده وحزينة النتظاره‬
‫ً‬ ‫شعورا‬
‫ً‬ ‫نفسي‬ ‫في‬ ‫‪.‬أحمل‬

‫الشوارع‪،‬‬
‫الركض بين ّ‬‫األيام التي تلت عودة ابن ميّار لم تختلف‪ ،‬يَقضي سحابة النّهار خارج البيت‪ ،‬ويعود في المساء ُمتعبًا من ّ‬
‫بح ة فال يقدر على الكالم إال بعد أن يرتاح ساعة أخرى‪ ،‬أو يمأل جوفه بالزيت‪ ،‬ال أدري كم مرة رأيته على‬ ‫حتى صوته تنتابه ّ‬
‫علي يطلب الماء‪ ،‬يغتسل ويفترش الباحة دقائق ثم‬ ‫َّ‬ ‫نادي‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫حتى‬ ‫البيت‬ ‫يدخل‬ ‫إن‬ ‫ما‬ ‫‪.‬‬ ‫لتشابهها‬ ‫ها‬ ‫أعد‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫لم‬ ‫كثيرة‬ ‫أياما‬
‫ً‬ ‫حالته تلك‪،‬‬
‫أنضم إليهما‪ ،‬ثم يأويان إلى غُرفتهما‬
‫ُّ‬ ‫الطعام وأحيانًا‬
‫ّ‬ ‫يتقاسمان‬ ‫برهة‬ ‫هناك‬ ‫ويمكثان‬ ‫سعدية‪،‬‬ ‫ّة‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫به‬ ‫‪.‬تلتحق‬

‫مختلف‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مرة أخرى واستغربت رجوعه المبكر‪ .‬وفتحت الباب على رجل‬ ‫في ذلك اليوم خرج ابن ميّار كعادته‪ ،‬ولكن الباب ُد ّق ّ‬
‫السقيفة منحنيًا‪ ،‬وسندته خشية سقوطه‪ ،‬وسرنا حتى بلغنا غُرفته‪ ،‬فزعت الل ّة‬ ‫سوادا‪ ،‬قطع ّ‬ ‫ً‬ ‫كان منهك ًا تغيّرت مالمح وجهه‪ ،‬اشتدت‬
‫الطائر‬‫الضريح‪ .‬وعن موت ّ‬ ‫ّ‬ ‫سعدية لرؤيته واقترب مسرعة تسنده معي‪ ،‬وبعد استعادته أنفاسه كلمنا عن أشياء غريبة حدثت عند‬
‫سوءا ما‬‫ً‬ ‫بقوة‪ ،‬وسقط من يدي إناء الماء‪ ،‬واستعاذت الل ّة سعدية‪ ،‬ودون وعي مني نزلت درج القبو‪ ،‬شعرت أن‬ ‫ّ‬ ‫األبيض‪ ،‬فخفق قلبي‬
‫بد من تكدير مزاجه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هناك‬ ‫يكن‬ ‫ولم‬ ‫وسألني‪،‬‬ ‫المخطوف‬ ‫وجهي‬ ‫ى‬ ‫تقر‬
‫َّ‬ ‫مكانه‪،‬‬ ‫في‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫مستلقي‬ ‫ووجدته‬ ‫الباب‬ ‫عبرت‬ ‫ثم‬ ‫بحمة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قد حل‬
‫عما حدث لي‪ ،‬خطوت مسرعة حتى دخلت غرفتهما‪ ،‬كانت الل ّة‬ ‫ّ‬ ‫تتساءل‬ ‫سعدية‬ ‫ّة‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫نداء‬ ‫خلفي‬ ‫ركض‬ ‫وقد‬ ‫أعقابي‪،‬‬ ‫على‬ ‫فعدت‬
‫تصب الماء على يديه‪ ،‬وهو يمسح بكفّيه المبلولتين وجهه‪ ،‬لم تُخفي مالمحه خشيته مما حملته اإلشارة‪ ،‬وأعرف تأويلها لكنني‬ ‫ُّ‬ ‫سعدية‬
‫الرمان‪ ،‬ورك ّز بصره على الجدران مثل من‬ ‫ّ‬ ‫شجرة‬ ‫د‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫وتف‬ ‫الباحة‪،‬‬ ‫في‬ ‫مشى‬ ‫بل‬ ‫الموالي‪،‬‬ ‫اليوم‬ ‫في‬ ‫البيت‬ ‫غادر‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫لم‬ ‫أنه‬ ‫إلى‬ ‫انتبهت‬
‫فجرا‪ ،‬أسمع حركة داخل‬ ‫ً‬ ‫مرت األيام التالية كل يوم يستيقظ‬ ‫يكتش ُفها للمرة األولى‪ ،‬ثم رجع إلى غُرفته وخلد إلى النّوم‪ .‬هكذا ّ‬
‫ينتظر طلوع النّهار‪ ،‬ثم يأوي‬ ‫ُ‬ ‫يطوفها‪،‬‬ ‫أن‬ ‫بعد‬ ‫الباحة‬ ‫يفترش‬ ‫الة‬ ‫الص‬
‫كررا في كل فجر‪ ،‬بعد ّ‬ ‫مشهدا ُم ً‬
‫ً‬ ‫غُرفته حين يُقيم صالته‪ ،‬ثم أصب‬
‫السنين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مئات‬ ‫منذ‬ ‫حدثت‬ ‫غريبة‬ ‫حكايات‬ ‫فأسمع‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ن‬ ‫أحيا‬ ‫إليهما‬ ‫أنضم‬
‫ُّ‬ ‫بالساعات‪،‬‬ ‫يتحدثان‬ ‫المكان‪،‬‬ ‫سعدية‬ ‫إلى غرفته‪ ،‬وتُقاسمه الل ّة‬
‫ولغات كثيرةٍ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ألسنةٍ‬
‫ّ‬ ‫على‬ ‫أسماؤهم‬ ‫ترددت‬ ‫بأسره‪،‬‬ ‫العالم‬ ‫في‬ ‫الخوف‬ ‫وزرعوا‬ ‫البحر‪،‬‬ ‫ألهبوا‬ ‫اس‬ ‫ّ‬ ‫ري‬ ‫عن‬ ‫وا‪،‬‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ج‬
‫عن باشوات قُتلوا وآخرين ُ‬
‫قصص عن والده‪ ،‬وعن المحروسة في طفولته‬ ‫ٍ‬ ‫‪.‬ثم يستطرد ابن ميّار في‬

‫فجرا‪ ،‬توضأ وصل ّى في الباحة‪ ،‬وبقي هناك إلى طلوع النّهار‪ ،‬ثم غادر البيت‪ ،‬ولم يلتفت إلى ندائي‬
‫ً‬ ‫‪.‬وفي اليوم التالي استيقظ‬

‫الرواق حتى بلغت الباب وأشرعته على وجهه‪.‬‬ ‫لم تطل غيبته يومها‪ ،‬إذ ُضرب الباب ضربًا ُمتواصل ًا قفزت له من مكاني‪ ،‬وقطعت ّ‬
‫الص باح أرى الوجوه التي تحمل حزن العالم‪ ،‬وفي المساء ألمح االرتياح عليها‪ ،‬وربما‬‫يتغيّر مزاج هذا البيت في كل ساعة‪ ،‬في ّ‬
‫السعادة المفرطة‪ ،‬هكذا طالعت ابن ميّار الحامل للعلبة‪ ،‬وهو يخطو إلى الباحة‪ ،‬ومن ثم يفترش األرض‪ ،‬في حين جلست الل ّة سعدية‬ ‫ّ‬
‫إلى جانبه ُمستغربة تغيّره‪ ،‬ثم سلمها بكتاب‪ .‬كنت أدرك أنها لن تعي منه شيًئا‪ ،‬وانشغل بقراءة ورقة بين يديه‪ ،‬يغدو أكثر سعادة‬
‫كلما أعاد قراءتها أقبل علينا وقال‪ :‬نعم لقد حصل ما كنا نرجوه‪ ،‬لم تبق إال أيام قليلة حتى تأتي الل ّجنة إلى المحروسة لتُح ِقّق‬
‫جميعا‪ .‬وربما تُعيد لنا ما ُسلب منا‪ .‬وقف وحمل أحد الكتب‪ ،‬وغادر البيت‪ ،‬غاب الجزء المتبقي من النّهار ثم رجع‬ ‫ً‬ ‫معهم‬
‫غرفته‪ ،‬وبعد أكثر من ساعة رأيته يجوب الباحة‬‫الرواق إلى ُ‬ ‫بالمساء‪ ،‬وكأن شيًئا لم يحدث‪ ،‬اكتسح الجمود وجهه‪ ،‬حيّاني ثم عبر ّ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬فطنت إلى أن ابن ميّار لم يعد يجتمع إليه‬
‫ّ‬ ‫وبين‬ ‫ذهابًا وإيابًا‪ ،‬ثم عبر إلى القبو‪ ،‬أحسست أن أشياء كثيرة عالقة بينه‬
‫مرتين‬
‫عزلته لم ينزل القبو إال مرة أو ّ‬
‫‪.‬كثيرا‪ ،‬حتى في أيام ُ‬
‫ً‬
‫والعناق‪ ،‬ثم عدت في إحدى الل ّيالي‪ ،‬واكتشفت أنه لم يكن هناك‪ ،‬انتظرته‬ ‫ِ‬ ‫في األيام األخيرة اعتدت زيارته أول الل ّيل فُأقاسمه األكل‬
‫أسبوعا تالها كان يمرق من الك ُّوة بعد رحيلي‬
‫ً‬ ‫يعد‪ ،‬فرجعت إلى غرفتي‪ ،‬وآليت أال أحدثه في األمر‪.‬‬ ‫على ضوء القنديل‪ ،‬لكنه لم ُ‬
‫الصباح‪ ،‬افترشت مكان نومه‪ ،‬وظللت أحدق بالك ُوة إلى أن سمعت حركة‬ ‫عنه‪ ،‬لكنني قررت في الل ّيلة األخيرة انتظاره‪ ،‬حتى يطلع ّ‬
‫راحل في نهاية األسبوع‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأسر لي أنه‬
‫َّ‬ ‫هدوءا‪ ،‬اقترب مني‬ ‫ً‬ ‫رجليه‪ ،‬ثم رأيت شبحه‪ ،‬وقف إلى جانبي‪ ،‬فصرخت به‪ ،‬بيد أنه كان أكثر‬
‫السل ّاوي ليشعر بي‪ ،‬لن يدرك أنه من‬ ‫أدر أي شيء انتابني‪ ،‬داهمتني رغبة في البكاء فبكيت إلى جانبه‪ .‬بالتأكيد لم يكن ّ‬ ‫ولم ِ‬
‫ع مرها فما بالك بأيامي األخيرة معه‪ ،‬ثم يقف ويقولها ببساطة‪ ،‬سأرحل يا‬ ‫ُ‬ ‫من‬ ‫قليلة‬ ‫لحظات‬ ‫ولو‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫رج‬
‫ُ‬ ‫تألف‬ ‫أن‬ ‫المرأة‬ ‫على‬ ‫اليسير‬
‫إلي ُدوجة التي اعتادت‬ ‫َّ‬ ‫تعود‬ ‫حتى‬ ‫تلت‬ ‫التي‬ ‫ّيالي‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫طوال‬ ‫الوحدة‬ ‫إلى‬ ‫اشتقت‬ ‫جانبه‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫البقاء‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ق‬ ‫ِ‬
‫ره‬‫م‬‫ُ‬ ‫كان‬ ‫األسبوع‪،‬‬ ‫نهاية‬ ‫دوجة‬
‫الطريقة غادرته‪ ،‬لم أزره في الل ّيلة التي تَلتها‪ ،‬أومأت لالل ّة سعدية أن تنزل إلى القبو‪ ،‬وها هي ليلة أخرى‪ ،‬ينوب‬ ‫النّسيان‪ ،‬وبهذا ّ‬
‫تود الل ّة سعدية أن تبوح بها‪ ،‬تلوذ بالصالة‬
‫ّ‬ ‫يحتمل رحيله‪ ،‬واإلشارة التي لم َأ ِع َها بعد‪ ،‬ولم‬‫ِ‬ ‫ابن ميّار عني‪ ،‬أراه من مكاني‪ ،‬لن‬
‫السل ّاوي أو ابن ميّار‬
‫الطائر إال نهاية أحدهم‪ ،‬ربما كان ّ‬
‫‪.‬والدعاء‪ ،‬في موت ّ‬
‫‪:‬غاب بالقبو دقائق ثم رأيته يبرز من مدخله‪ ،‬ارتسمت على وجه عالمات االمتعاض‪ ،‬دنوت منه فبادرني‬

‫أبدا ‪-‬‬
‫التوسط له عند الحاكم ليعفو عنه‪ ،‬أجزم أنه لن يُشفى من جنونه ً‬
‫ّ‬ ‫عرضت عليه‬
‫ُ‬ ‫الرحيل رغم أني‬
‫‪.‬إنّه عنيدٌ يا ُدوجة يُريد ّ‬
‫أع‬
‫الشفاء منه‪ .‬لم ِ‬ ‫السل ّاوي ال يمكنه ّ‬
‫الجنون الذي انتاب ّ‬
‫ُ‬ ‫حين لم يبق إال يومان على رحيله‪ ،‬فك ّرت طويل ًا في كلمات ابن ميّار‪،‬‬
‫تحتد وال مجيب عنها‪ُ ،‬أعلِ ّقها على شجرة ُّ‬
‫الرمان‪ .‬كلما‬ ‫ُّ‬ ‫السل ّاوي جمع كل تلك األشياء في نفسه وال يضيق بها‪ ،‬أسئلة‬ ‫كيف يستطيع ّ‬
‫‪.‬عبرت إليه في القبو‪ ،‬ثم أعود إليها فُأع ِل ّقها في عنقي‬

‫وجسدها يشتعل إلى‬ ‫ُ‬ ‫المنتظرة ألبي‪ ،‬تنتابها رغبات محموم ٌة ومختلطةٌ‪ ،‬قلبُها يخفق باالنتظار‬ ‫طل على أيامي الماضية فأرى وجه أمي ُ‬ ‫ُأ ُّ‬
‫الدرب الذي حلم به أبي‪ .‬كل هؤالء أراهم اآلن ماثلين أمامي‪ ،‬وأرغب‬ ‫العناق‪ ،‬ووجه أبي المهان من كافيار‪ ،‬وأخي الذي لم يكمل ّ‬
‫حلما فأنجزه؟ ولكنهم يصمتون ثم تحمل وجوههم‬ ‫ً‬ ‫واحدا‪ ،‬هل منكم من ُح ِقّقت رغباته؟ وهل منكم من تمنّى‬ ‫ً‬ ‫واحدا‬
‫ً‬ ‫أن أسألهم‬
‫أيضا ُمرغمين‪ ،‬وتُعودني األيام األولى لدخولي المحروسة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحزن‪ ،‬وأفهم أنهم كلهم كانوا مجبرين على الحياة التي عاشوها ثم غادروها‬
‫جبر على شي ٍء آخر‪ ،‬حتى ولو‬ ‫أيضا لن أختلف عنهم‪ ،‬كنت مجبر ًة على كل شيء‪ ،‬واآلن ال أريد أن ُأ‬ ‫ً‬ ‫وتمتلُئ نفسي باليقين أنني‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الدربين سأختار؟‬ ‫ّ‬ ‫أي‬ ‫‪:‬‬‫أمري‬ ‫حسم‬ ‫علي‬
‫َّ‬ ‫وجب‬ ‫تسعني‪،‬‬ ‫ال‬ ‫المحروسة‬ ‫أن‬ ‫أحس‬‫ّ‬ ‫لني‬ ‫ّ‬ ‫قب‬ ‫وكلما‬ ‫أحبه‪،‬‬ ‫كنت‬ ‫بالتأكيد‬ ‫السل ّاوي نفسه‪،‬‬ ‫كان ّ‬
‫أحدا لم يُسعفني عدا الل ّة زهرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ولكن‬ ‫ائر‪،‬‬ ‫الط‬
‫ّ‬ ‫إشارة‬ ‫عن‬ ‫تختلف‬ ‫إشارة‬ ‫عن‬ ‫تبحثان‬ ‫لمة‬ ‫الظ‬
‫ّ‬ ‫في‬ ‫تحدقان‬ ‫عيناي‬ ‫يقظة‪،‬‬ ‫ليلتها‬ ‫وبت‬
‫ُّ‬
‫السل ّاوي‬
‫ّ‬ ‫سيرة‬ ‫تعيد‬ ‫وهي‬ ‫لي‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫همس‬
‫َ‬ ‫لها‪،‬‬ ‫ابن‬ ‫مثل‬ ‫ّاوي‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫َهمت‬ ‫ف‬ ‫مثلما‬ ‫طويلة‪،‬‬ ‫ا‬ ‫أيام‬
‫ً‬ ‫عرفتني‬ ‫وقد‬ ‫يؤنبني‪،‬‬ ‫صوتها‬ ‫كأن‬ ‫إلي‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ُخ ّ‬
‫ي‬
‫شوق إليه‪ ،‬ودون وعي‬ ‫ٍ‬ ‫أمامي‪ ،‬لع ِل ّي أرى الحكاية بوضوح‪ ،‬ولكني غفوت على وجهه وعلى شفتيه تقتربان من وجهي‪ ،‬وصحوت على‬
‫وخمارا مشنشل ًا بخيوط‬ ‫ً‬ ‫الصفرة‪،‬‬
‫لدي من ثياب‪ ،‬فستانًا أبيض مائل ًا إلى ّ‬ ‫َّ‬ ‫مني امتدت يدي إلى الخزانة وفتحتها‪ ،‬ثم اخترت أجمل ما‬
‫ده ًشا‪ ،‬أو ربما ألنّه يراني ألول مرة بتلك‬ ‫حدق بي ِ‬ ‫وردية‪ ،‬وخطوت حتى كنت بالقبو‪ ،‬تقت إلى تأمل وجهه طويل ًا‪ ،‬وصمت وهو يُ ِ ّ‬
‫بحثت عن‬ ‫ُ‬ ‫وشد على يدي كأنه يرجوني شيًئا‪ ،‬طلب مني الغناء له‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫مد يده‬‫الثّياب‪ ،‬اقتربت وجلست إلى جانبه‪ ،‬وظللنا صامتين‪ ،‬ثم ّ َ‬
‫أغنية يمكنها أن تسعده‪ ،‬ولكن لساني تحرك بأخرى‪ ،‬أغنية رددتها طويل ًا بيني وبين نفسي كلما اشتقت إلى أبي وأخي والى وجه‬
‫صرة على أن‬ ‫المقبلة‪ .‬بدأت بُغنّة أكثر ُحزنًا ثم تصاعد صوتي بكل األوجاع‪ ،‬افلتت دون وعي مني‪ُ ،‬م ّ‬ ‫الضاحك والمستبشر باأليام ُ‬ ‫أمي ّ‬
‫شفتي‪ ،‬وبقينا ُمتعانقين‪ ،‬لكني لم أستطع إطالة تلك‬ ‫ّ‬ ‫على‬ ‫لني‬‫ّ‬ ‫وقب‬ ‫ًا‪،‬‬ ‫ل‬ ‫طوي‬ ‫إليه‬ ‫ني‬ ‫وضم‬
‫ّ‬ ‫مني‪،‬‬ ‫دنا‬ ‫انتهائها‬ ‫ومع‬ ‫‪.‬‬ ‫كلها‬ ‫ّاوي‬ ‫ل‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫عرفها‬ ‫يَ‬
‫‪.‬الل ّحظة‪ ،‬كان قلبي قد امتأل منه‪ ،‬سحبت نفسي من بين ذراعيه‪ ،‬وغادرت‬

‫الطعام‪ ،‬نأكل دون أن‬ ‫الصباح األخير‪ ،‬غير أنني التقيته مساء‪ ،‬صعد إلى الباحة يُرافقه ابن ميّار‪ ،‬واجتمعنا حول جفنة ّ‬ ‫ولم أزره في ّ‬
‫وفررت منهم إلى غرفتي‪ ،‬أكثر من ساعتين مكثتُها هناك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قمت‬ ‫بيننا‪،‬‬ ‫المستديم‬ ‫مت‬ ‫الص‬
‫ّ‬ ‫أحتمل‬ ‫لم‬ ‫ًا‬ ‫ث‬ ‫ثال‬ ‫أو‬ ‫لقمتين‬ ‫ننظر إلى بعضنا‪،‬‬
‫وحيدا في الباحة‪ ،‬فقمت‬ ‫ً‬ ‫سمعت همهمته وابن ميّار‪ ،‬ثم التحقت بهما الل ّة سعدية‪ ،‬إلى أن غابت األصوات‪ ،‬شعرت أنه ينتظرني‬
‫الرحيل‪ ،‬نزل إلى القبو‪ ،‬التحقت به هناك‪ ،‬تأملت وجهه مليًا‪ ،‬وقبّلته طويل ًا مثلما كانت يداه‬ ‫إليه‪ ،‬ووجدته هناك‪ ،‬يُطالعني كأنه ال يريد ّ‬
‫تلتفان حولي‪ ،‬ذك ّرني بأول ُح َّمى جمعت َجسدينا‪ ،‬واللحظات األولى من اكتشافي له‪ ،‬وتأك ّد لي حينها كم كانت الل ّة زهرة ُمحقَّ ًة في‬
‫ودعني ثم عبر الكرة دون أن يلتفت‪ ،‬واقتربت منها تفتش عيناي عن خياله‪ ،‬وال أثر‪،‬‬ ‫للسل ّاوي أن يتخل ّى عني‪ّ .‬‬ ‫لومها‪ ،‬ال يمكن ّ‬
‫أبك‪ ،‬بل غمر اليقين داخلي أنه ال بد عائ ٌد‬ ‫ِ‬ ‫‪.‬وتشبّثت طويل ًا بها‪ ،‬ولكنني لم‬

‫مكثت‬
‫ُ‬ ‫جميعا َمعنيون بها‪،‬‬
‫ً‬ ‫انتظارا‪ ،‬حتى الل ّة سعدية لم تُسعفني بتفسير اإلشارة التي اعتقدت أننا‬ ‫ً‬ ‫السل ّاوي‪ ،‬وخلفني أعيش‬ ‫إذن رحل ّ‬
‫طل خياله ثانية‪ ،‬فال تَهبني إال‬ ‫عسى أن ي ُ َّ‬
‫السل ّاوي أراقب الخواء من ك ُّوة القبو‪َ ،‬‬‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫اشتقت‬
‫ُ‬ ‫وكلما‬ ‫غرفتي‪،‬‬ ‫في‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫وحيد‬ ‫أياما أخرى‬
‫ً‬
‫مزيدا من العتمة‪ ،‬أفترش مكانه أبحث عن دفئه الغائب‪ ،‬إلى أن يطلع النّهار‪ ،‬فأصعد األدراج عائدة إلى الباحة‪ ،‬وأجد ابن ميّار‬ ‫ً‬
‫يخطو بها كمن ضيّع شيًئا‪ ،‬يبصر تجاه األرض‪ ،‬وتعبر الل ّة سعدية إليه‪ ،‬يقتعدان مكانًا هناك‪ ،‬ويعودان إلى الحكايات القديمة‪ ،‬ويمضي‬
‫السل ّاوي‪ ،‬أتساءل خوفًا وأحيانًا شوقًا‪ ،‬أتراه بلغ غايته‬
‫خبرا عن ّ‬ ‫ً‬ ‫ركضت لم تحمل معها‬‫ْ‬ ‫يوما آخر‪ ،‬ال يختلف عن أيام كثيرة‬ ‫ً‬ ‫العجوزان‬
‫أفر من أجوبة تزيد خوفي‪ ،‬أنتظر نهاية النّهار ُمبعدة عن‬ ‫ُّ‬ ‫‪.‬‬ ‫بالخالء‬ ‫ورموه‬ ‫قتلوه‬ ‫ربما‬ ‫عليه؟‬ ‫َبضوا‬
‫ق‬ ‫أنهم‬ ‫أم‬ ‫أجلها‪،‬‬ ‫من‬ ‫رحل‬ ‫التي‬
‫السل ّاوي على يد الجنود الفرنسيين‬ ‫ّ‬ ‫موت‬ ‫هاجس‬ ‫‪.‬نفسي‬

‫جديدا‪ ،‬إذ كان ابن ميّار‬


‫ً‬ ‫أن هناك‬
‫يوم آخر يستفيق ابن ميّار فيه ُمبك ًرا‪ ،‬وأستيقظ على حركة من غرفته ثم يتصاعد دعاؤه‪ ،‬قدرت ّ‬
‫الدعاء‪ ،‬تعالى صوته حتى بلغتني الحروف جلية وواضحة‪ ،‬ولم تمض إال هنيهة حتى كان يُقاسم الل ّة سعدية مكانًا بالباحة‪.‬‬ ‫يلحف في ّ‬
‫بخطوات‬‫المقرر كي تسمع الل ّجنة شهادته‪ .‬قَضى بيننا ساعة أخرى‪ ،‬ثم حمل محفظته وسار ُ‬ ‫ّ‬ ‫وأسر لنا أنه اليوم‬
‫َّ‬ ‫ثم انضممت إليهما‪،‬‬
‫مغادرا البيت‪ ،‬بينما كانت الل ّة سعدية‬
‫ً‬ ‫الرواق التفت‪ ،‬ونظر تجاهنا بوجه يحمل مخاوف كثيرة‪ .‬ثم عبره‬ ‫واسعة‪ ،‬ومع بلوغه مدخل ّ‬
‫الدعاء له أنا األخرى‪ .‬لم يستحق ابن ميّار وال الل ّة سعدية كل ما يحدث‬ ‫أدر أي شيء أفعله عدا ّ‬ ‫ترفع يديها وتتمتم بالدعاء‪ ،‬لم ِ‬
‫تحب فرك‬‫ُّ‬ ‫الطفولة‪ ،‬حين كانت أمي‬
‫وتوس دت فخذها‪ ،‬وامتدت يدها إلى شعري‪ ،‬غاصت أصابعها به مثل أيام ُّ‬ ‫ّ‬ ‫لهما‪ .‬اقتربت منها‬
‫لونة‬ ‫م‬
‫ُ َّ‬ ‫عصافير‬ ‫إلى‬ ‫ل‬ ‫تتحو‬
‫ّ‬ ‫التي‬ ‫األطفال‬ ‫أرواح‬ ‫وعن‬ ‫‪.‬‬‫اختفوا‬ ‫ثم‬ ‫الجبال‬ ‫إلى‬ ‫رحلوا‬ ‫الذين‬ ‫الحطابين‬ ‫عن‬ ‫لي‬ ‫تحكي‬ ‫شعري‪ ،‬وهي‬
‫تُحل ّق كل صباح أمام بيوتهم‪ .‬تُطمئن أمهاتهم أنهم هناك ينتظرونهن في الجنّة‪ ،‬تمنيت لو َر َوت لي الل ّة سعدية حكاية مثلها‪ ،‬ولكن‬
‫بسر اإلشارة‪ ،‬التي ّأولها ابن ميّار رحيل ًا عن المحروسة‪ ،‬لم‬
‫ِّ‬ ‫تمدد بالباحة‪ ،‬وحين ضاقت به الل ّة سعدية تكلمت‪ ،‬وباحت لي‬‫ّ‬ ‫الصمت‬
‫ّ‬
‫لكن كل شيء من حوله كان يقول ذلك‬ ‫ّ‬ ‫‪.‬يرغب في فهمها على ذلك النّحو‪،‬‬

‫الشجرة‬
‫حرك جناحيه‪ ،‬قمت فجأة ُمسرعة تجاهه‪ ،‬ثم وقفت عند ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرمان‪ ،‬تلمع ألوانه كل ّما‬
‫طائرا يعتلي شجرة ّ‬
‫ً‬ ‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫من مكاني‬
‫الصامتة‪ ،‬وتغلغلت يدها ثانية إلى شعري تعبث به‪ ،‬استعدت‬
‫ّ‬ ‫سعدية‬ ‫ّة‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫جانب‬ ‫إلى‬ ‫أجلس‬ ‫عدت‬ ‫هناك‬ ‫يكن‬ ‫لم‬ ‫ائر‬ ‫الط‬
‫لكن ّ‬‫ّ‬ ‫وحركتها‪،‬‬
‫ّ‬
‫الطائر الذي لم يُرفرف إال في أحالمي‬
‫ّ‬ ‫وحكايات‬ ‫أمي‪،‬‬ ‫‪.‬وجه‬

‫مكان إلى آخر حتى أبلغ‬ ‫ٍ‬ ‫غ رفتها‪ ،‬وأعود إلى رحلتي التي أطوف بها أجزاء البيت‪ ،‬وأتأمل الجدران‪ ،‬أنتقل من‬ ‫تلزم الل ّة سعدية ُ‬
‫القبو‪ُ ،‬منعتني رغبات كثيرةٌ من ترتيب فراشه‪ ،‬أحببت أن يظل على حاله تلك إلى حين عودته‪ ،‬حتى الك ُّوة لم أغلقها‪ ،‬عليها‬
‫الدرجات‬
‫معلق في قبالتها كي يُضيء له المكان‪ ،‬وكل األثاث من حوله عليه أن يعيش انتظاره مثلي‪ .‬ثم أصعد ّ‬ ‫ٌ‬ ‫انتظاره‪ ،‬والقنديل‬
‫ضربات قوية على الباب‪ ،‬أضطرب منها‪ ،‬أسرع إليه‪ ،‬فأرى الل ّة سعدية تخطو خارج‬ ‫ٍ‬ ‫حتى أبلغ مدخل القبو‪ ،‬وقبل أن أتجاوزه أسمع‬
‫غُرفتها إلى الباحة‪ ،‬أسبقُها إليه‪ ،‬وكلما خطوت تجاه الباب تتضاعف خشيتي من َضرباته المتسارعة‪ ،‬وأفاجأ حين أفتحه بجسده يميل‬
‫الرواق إلى‬
‫ضرب‪ ،‬أسندته بقية ّ‬ ‫ٍ‬ ‫آثار‬
‫ُ‬ ‫تمعنت في وجهه لم يكن به جروح أو‬ ‫ّ‬ ‫الشاب الفرنسي يسند ابن ميّار العاجز‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫على كتفي‪ ،‬كان‬
‫الباحة‪ ،‬وشهقت الل ّة سعدية‪ ،‬ثم أقبلت وأسندته معي‪ ،‬وسرنا به حتى كنا بالغرفة‪ ،‬استلقي على فراشه‪ ،‬وطلب منا بصوت مخنوق‬
‫‪.‬تركه وحده‪ ،‬وانزويت والل ّة سعدية في غرفة قريبةٍ صامتتين حتى نادى عليها‬

‫لم أتبيّن تفاصيل ما حدث‪ ،‬مثلما لم أستطع عد األيام التي قضاها طريح الفراش‪ ،‬ال يستقيم إال حين تُقعده‪ .‬بدا األمر أنه َوعكة‬
‫يحدق تجاهي طويل ًا‬ ‫ّ‬ ‫صباحا‬
‫ً‬ ‫الدعاء على الذين تسببوا في مرضه‪ ،‬وكلما أطللت عليه‬ ‫عابرة‪ ،‬ولكن الل ّة سعدية ظلت تدعو وتُلِ ُّح في ّ‬
‫الحمى‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وحيدا‪ .‬أسمع حركاتها ليل ًا‪ ،‬تحمل المناديل وصحن الماء‪ ،‬قد اشتدت به‬ ‫ً‬ ‫كأنه ال يراني‪ ،‬وتُومئ لي الل ّة سعدية أن أدعه‬
‫وجها شاحبًا‪ ،‬وصوتًا مخنوقًا بالكاد ينطق حروف اسمي وتحية‬ ‫ً‬ ‫أمر به‪ ،‬يُظهر النّهار‬ ‫ُّ‬ ‫الصباح‬‫قدرا ضئيل ًا‪ .‬في ّ‬ ‫ً‬ ‫وأضحت ال تنام إال‬
‫السل ّاوي‪ ،‬ثم في صباح مختلف كنت أسنده والل ّة سعدية حتى يجلس‬ ‫ّ‬ ‫أخبار‬ ‫وعن‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫يسأل‬ ‫بوضوح‪،‬‬ ‫سمعته‬ ‫الصباح‪ ،‬لكنني بعد أيام‬ ‫ّ‬
‫حدقان بعضهما في بعض وال‬ ‫وحيدا‪ ،‬وأخرى إلى جانبه الل ّة سعدية‪ ،‬ي ُ ّ‬ ‫ً‬ ‫الرمان طوال النّهار‪ .‬أحيانًا يكون‬ ‫في الباحة يُقابل شجرة ُّ‬
‫السل ّاوي‪ ،‬ينتابني قلق من تحقق اإلشارة‪ ،‬وقد بدأت عالماتها تتراءى لي في الحاالت التي‬ ‫يتكل ّمان‪ ،‬وأبقى ُمعل ّقة بينهما أنتظر عودة ّ‬
‫تستقر عيناه على‬ ‫ُّ‬ ‫انحناء‪،‬‬ ‫في‬ ‫والباحة‬ ‫ُرفته‬
‫غ‬ ‫بين‬ ‫القصيرة‬ ‫المسافة‬ ‫عبور‬ ‫يستطيع‬ ‫ار‬ ‫ّ‬ ‫مي‬ ‫ابن‬ ‫انتابت ابن ميّار‪ .‬ثالثة أيام أخرى‪ ،‬كان‬
‫لكن نظرته منعتني‪ ،‬ثم تحامل على نفسه‬ ‫ّ‬ ‫وقفت وهممت بفتحه‪،‬‬‫ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫الته‬ ‫تأم‬
‫ّ‬ ‫عليه‬ ‫قطع‬ ‫اليوم‬ ‫لكن ضرب الباب ذلك‬ ‫ّ‬ ‫الرمان‪،‬‬
‫شجرة ُّ‬
‫يدق الباب‪ ،‬مشى في بطء حتى كان عنده‪ ،‬ثم رأيته بعد عودته شاحب‬ ‫ُّ‬ ‫موعدا كان بينه وبين من‬ ‫ً‬ ‫أن هناك‬
‫وبصعوبة قام‪ ،‬قّدرت ّ‬
‫الرحمن‪ ،‬وانتصر كافيار يا الل ّة سعدية‪ ،‬وق ِ ُّدر علينا‬ ‫الوجه‪ ،‬حامل ًا ورقة بيده‪ ،‬بسطها أمامنا ثم قال‪ :‬قد تحققت إشارة سيّدي عبد ّ‬
‫تأملت وجه الل ّة سعدية لحظتها‪ ،‬وامتألت‬ ‫الرحيل عن المحروسة ُمجبرين‪ .‬الن َّفي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنهم إبعادي بها‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫مزيدا من‬ ‫ً‬ ‫تر في بقائه بالمدينة إال‬ ‫الرحيل عن المحروسة‪ ،‬بالتأكيد كنت أدرك تعلقها بزوجها‪ ،‬ولم َ‬ ‫غريب‪ ،‬كأنها كانت تريد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بشعور‬
‫ٍ‬
‫يحدق بي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الرحيل إلى مكان آخر‪ ،‬حيث ال فرنسيين يضطهدونه‪ ،‬وال أعيان قد يَ ُشون به‪ ،‬وفطنت إلى أنه‬ ‫ت عليه ّ‬ ‫اقترح ْ‬
‫َ‬ ‫القهر‪ ،‬لطالما‬
‫وود لو يعرف مصيري أو ربما أمل أال يختلف عنه‪ ،‬يُجاهد العجوز حتى في رحيله على اصطحاب‬ ‫َّ‬ ‫قد فُرض عليه مصيره وزوجته‪،‬‬
‫الرجاء‬ ‫أشياء تذ ِك ّره بالمحروسة‪ .‬طلب مني أن أكون إلى جانبهما في منفاهما بإسطنبول‪ .‬لكني لم أستطع يومها موافقته‪ ،‬ربما كان ّ‬
‫بالسل ّاوي‪ ،‬وال معنى‬ ‫ّ‬ ‫معلق‬
‫ٌ‬ ‫لكن مصيري‬ ‫ّ‬ ‫دائما بالخروج منها‪ ،‬لم أحبها مثلما أحبُّوها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الوحيد الذي ال يمكنني تلبيته‪ ،‬وأنا التي حلمت‬
‫أبق في المحروسة‪ .‬لم يضف ابن ميّار كلمات أخرى‪ ،‬صمت ينتظر األيام المتبقية على رحيله‪ ،‬يمأل عينيه‬ ‫لسنوات االنتظار إذا لم َ‬
‫‪.‬من جدران بيته‪ ،‬ورئتيه من هواء المحروسة‬

‫الرواق بعجلة‪ ،‬تفاجأ بابن ميّار في الباحة‪ ،‬ثم جلس إلى‬ ‫الشاب الفرنسي‪ ،‬عبر ّ‬ ‫ُد ّ َق الباب ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وما إن أشرعته حتى وجدته ّ‬
‫الشاب وهو يُطالع الوثيقة‪ ،‬عال وجهه ِمقدار كبير من االستياء‪ ،‬ولكنّه لم‬
‫وتحدثا دقائق‪ ،‬رأيت من مكاني كيف تغيرت مالمح ّ‬
‫ّ‬ ‫جانبه‪،‬‬
‫ودعه ورحل‬ ‫‪.‬يُطل المكوث معه‪ّ ،‬‬

‫علي ابن ميّار‪ ،‬وعلى الل ّة سعدية‪ ،‬أراد معرفة وجهتي بعد رحيلهم‪ ،‬كان يدري أال بيت ألجأ إليه إال بيت الل ّة‬
‫َّ‬ ‫بعد رحيله نادى‬
‫الرحيل‬ ‫ّ‬ ‫قبل‬ ‫ا‬ ‫يوم‬
‫ً‬ ‫هناك‬ ‫إلى‬ ‫سيأخذني‬ ‫أنه‬ ‫على‬ ‫اتفقنا‬ ‫وهكذا‬ ‫‪.‬زهرة‪،‬‬

‫بأحزان قديمةٍ ومتجددةٍ‪ ،‬مثل وجه المحروسة‪ ،‬يُو ِل ّد فراغ شوارعها وحاراتها‬
‫ٍ‬ ‫وجه الل ّة سعدية المليء بالتجاعيد‪ ،‬كل فراغ بينها يشي‬
‫الحزن في قُلوب الذين أحبّوها‪ ،‬رغم أنني لم أكن من بينهم‪ ،‬تقف الل ّة سعدية يوم رحيلي إلى جانبي‪ ،‬وتُقبّلني على جبهتي‪ ،‬تبكي‬
‫وضمتني‬
‫ّ‬ ‫عنقي‬
‫صغيرا‪ ،‬وعل ّقتها في ُ‬‫ً‬ ‫ذهب تحمل ُمصحفًا‬
‫ٍ‬ ‫ال تريد فراقي‪ ،‬لو كان األمر بيدي لرحلت معهما‪ ،‬سحبت من صندوقها قالدة‬
‫إلى صدرها فبكيت‪ ،‬ثم همست لي‪ :‬يا الل ّه كم هو جميل على عنقك! لم يكتب لي الل ّه أن تكون لي ذُريّة من بطني‪ ،‬ولكنّه‬
‫!وهب لي ُدوجة‬

‫أما‬
‫الشاحبة حتى بلغنا بيت الل ّة زهرة‪ّ ،‬‬ ‫حملت ُص ّرة الثّياب والتحقت بابن ميّار‪ ،‬ثم كنا نقطع شوارع المحروسة‪ ،‬أتأمل مالمحها ّ‬
‫آمنت يومها أن الل ّه الذي أخذ مني أمي قد أحاطني‬ ‫ُ‬ ‫أخيرا إليها‪،‬‬
‫ً‬ ‫صدقة أنني عدت‬
‫حين فتحت الباب فقد عانقتني طويل ًا غير ُم ّ‬
‫يضمني آخر‪ .‬غادر ابن ميّار‪ ،‬رأيت خطواته المثقلة على شوارع المحروسة المليئة‬ ‫ّ‬ ‫حضن حتى‬
‫ٌ‬ ‫بأمهات كثيرات‪ ،‬ما إن يفارقني‬
‫وجها‬
‫ً‬ ‫لمحبيها إال‬
‫الرحيل عن المحروسة بالنسبة ُ‬ ‫الرحيل‪ .‬ولم يكن ّ‬ ‫قدر لي رؤية وجهيهما ساعة ّ‬ ‫بالغبار‪ ،‬وبكيت ليلة رحيلهما‪ ،‬إذ لم ي ُ َّ‬
‫أخيرا إلدراك بهجة الحياة‬
‫ً‬ ‫‪.‬آخر للموت‪ ،‬بينما لم يكن بالنسبة لي إال دربًا‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫الجلفة ‪ 5‬مارس ‪2017‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬عن الكاتب‬

‫‪ ‬‬

‫عبد الوهاب عيساوي روائي جزائري من مواليد ‪ 1985‬بالجلفة‪ ،‬الجزائر‪ .‬تخرج من جامعة زيّان عاشور‪ ،‬والية الجلفة‪ ،‬مهندس دولة‬
‫إلكتروميكانيك ويعمل كمهندس صيانة‪ .‬فازت روايته األولى "سينما جاكوب" بالجائزة األولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية عام‬
‫‪ ،2012‬وفي العام ‪ ، 2015‬حصل على جائزة آسيا جبار للرواية التي تعتبر أكبر جائزة للرواية في الجزائر‪ ،‬عن رواية "سييرا دي‬
‫مويرتي" ‪ ،‬أبطالها من الشيوعيين اإلسبان الذين خسروا الحرب األهلية وسيقوا إلى معتقالت في شمال إفريقيا‪ .‬في العام ‪،2016‬‬
‫شارك في " ندوة" الجائزة العالمية للرواية العربية ( ورشة إبداع للكتاب الشباب الموهوبين)‪ .‬فازت روايته "الدوائر واألبواب" بجائزة‬
‫سعاد الصباح للرواية ‪ .2017‬فاز بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة ‪ 2017‬عن عمله "سفر أعمال المنسيين"‪ .‬فازت روايته‬
‫‪".‬الديوان اإلسبرطي" بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في دورتها للعام ‪2020‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬عن الكتاب‬

‫‪ ‬‬

‫ِّ‬
‫الديوان اإلسبرطي‬

‫الكاتب‪ :‬عبد الوهاب العيساوي‬

‫‪ ‬‬

‫تتميز رواية الديوان اإلسبرطي بجودة أسلوبية عالية وتعددية صوتية تتيح للقارئ أن يتمعن في تاريخ احتالل الجزائر روائيا ً ومن "‬
‫خالله تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة‪ ،‬كل ذلك برؤى متقاطعة ومصالح متباينة تجسدها الشخصيات الروائية‪ ،‬إن الرواية دعوة‬
‫القارئ إلى فهم مالبسات االحتالل وكيف تتشكل المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته‪ .‬هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي‬
‫‪".‬العميق ال تسكن الماضي بل تجعل القارئ يطل على الراهن القائم ويسائله‬

‫محسن الموسوي‪ ،‬رئيس لجنة التحكيم للجائزة العالمية للرواية العربية‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬الفهرس‬

‫‪ ‬‬

‫‪ Telegram Network 2020‬مكتبة‬


‫القسم األول‬

‫ديبون‬

‫كافيار‬

‫ابن ميّار‬

‫السل ّاوي‬
‫حمة ّ‬
‫ّ‬
‫ُدوجة‬

‫القسم الثاني‬

‫ديبون‬

‫كافيار‬

‫ابن ميّار‬

‫السل ّاوي‬
‫حمة ّ‬
‫ّ‬
‫ُدوجة‬

‫القسم الثّالث‬

‫ديبون‬

‫كافيار‬

‫ابن ميّار‬

‫السل ّاوي‬
‫حمة ّ‬
‫ّ‬
‫ُدوجة‬

‫الرابع‬
‫القسم ّ‬
‫ديبون‬

‫كافيار‬

‫ابن ميّار‬

‫السل ّاوي‬
‫حمة ّ‬
‫ّ‬
‫ُدوجة‬

‫القسم الخامس‬

‫ديبون‬

‫كافيار‬

‫ابن ميّار‬

‫السل ّاوي‬
‫حمة ّ‬
‫ّ‬
‫ُدوجة‬

‫عن الكاتب‬

‫عن الكتاب‬

‫الفهرس‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

You might also like