You are on page 1of 208

‫حم َّم ْد َرفـِيـق َطــ ّيبـي‬

‫ا َملوت يف َز َمن َه�ش‬


‫روايـ ـ ـ ــة‬
‫النا�شر‪ :‬في�سريا للن�شر‪.‬‬
‫ال�سنة‪.2015 :‬‬
‫الربيد الإلكرتوين ‪vescera.toufik01@gmail.com :‬‬
‫عنوان الكتاب‪ :‬املوت يف زمن ه�ش‪.‬‬
‫الكاتب‪ :‬حممد رفيق طيبي‪.‬‬
‫الإيداع القانوين‪.2015-917 :‬‬
‫ردمك‪. 978-9947-975-72-5 :‬‬
‫الت�صميم والغالف‪ :‬حممد بن قينـة‪.‬‬
‫الإهداء‬

‫�أمي و�أبي‪..‬‬
‫الأهل َو ُك ُّل َق ِريب‪..‬‬
‫الر َجال املخل�صون والن�ساء املخل�صات‬ ‫ِ‬
‫امل�ؤمنون بحقيقة الأدب وماخلق له‬
‫ُ�ش َر َفاء ال َو َطن الذينَ َر َح ُلوا‪.‬‬
‫�أ�صحاب الأيادي الكرمية التي ال حتتكر ماتعرفه‬
‫منال �أوال و�أخريا‪.‬‬
‫ميما وزمنها الآخر‪ ،‬زمن الإ�ستحالة‪..‬‬
‫ك ُّل الأح ّبة �أينما ُوجدوا‪.،‬‬
‫‪ -‬رفيق‬
‫ِي�س ال َن ْوم‪َ ،‬ف ِب َف ْ�ض ِل َها ن َُ�ص ِّد ُق ِب ُو ُجود ا َ‬
‫جل ِحي ْم‪..‬‬ ‫ُمباركة َك َواب ُ‬
‫ي�س»‬ ‫«خو ْرخِ ي ْلو ْ‬
‫ِي�س ُبو ْرخِ ْ‬ ‫ُ‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫(‪)1‬‬

‫َاعذرين �أ ّيها ال َقارِئ ال َك ِرمي فال ّرغبة فيِ �إ ْز َع ِاج َك مَ ْل َت ُكنْ َه َدفيِ‬
‫ِب َق ْد ِر ماكنتُ �أرغب يف �إمتاعك و�أنا �أ�شد على يدك و�أجرفك معي‬
‫نحو وادي ال�سرد ال�سحيق‪ ،‬لك ّنك الآن وقد �إقتنيت هذا الن�ص �أو‬
‫بكل �صدق ب�أين قد ورطتك معي‬ ‫وقع بني يديك م�صادف ًة �أ ّق ُر لك ٍّ‬
‫ولي�ست لك � ّأي مهربة من هاته الأغوار العميقة التي �سنخو�ضها معا‬
‫ف�إذا وجدت ما يزعجك فت�ضامن معي لأين قد انزعجت قبلك و�إن‬
‫فلعلي �إبت�سمت �أكرث مما ينبغي‬ ‫وجدت ماي�سرك فابت�سم يف مكاين ّ‬
‫بل و�ضحكت كثريا رغم �أين �سمعت ب�أن ال�ضحك مييت القلب لكن‬
‫هذا القلب يحيا به وال �أدري حلد الآن مال�سر يف حياته عو�ض موته‪.‬‬
‫قال ذات ت�صريح ب�أنّ القراءة �ستوف ُر لك‬ ‫الفرن�سي «مونتني» َ‬
‫ال�صديق الذي لن يخونك �أبدا‪ ،‬لكنه �أغفل يف احلديث عن هذا‬
‫ال�صديق و�صفه فبع�ض الأ�صدقاء الأوفياء بقدر �إخال�صهم مزعجون‬
‫و�إين �أت�صور �أن ماقلته عن �أولئك الأ�صدقاء �سينطبق متاما على هذا‬
‫ا�ص ُل ال ِق َرا َءة � ْأح َب َب َت �أم انزعجت ولي�س‬ ‫الن�ص‪ ،‬لأنك يا عزيزي َ�س ُت َو ِ‬
‫يل ما �أعدك به �سوى �أين لن �أُغرقك يف حكايا اخليال العجيبة‪ ،‬ولن‬
‫�أمنق كثريا بل �س�أكتفي بتوفري مكان �آمن لك تطل منه على نوافذ‬

‫‪7‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫تلك النوافذ غ ُري‬‫الواقع واحلقيقة‪ ،‬لكن �أن ٍّبهك وللأ�سف ال�شديد �أ ُّن َ‬
‫قابلة للغلق و�ست�شاهد الكثري وما�أو�صيك به هو �أ ّال تلومني و�أن ترتك‬
‫�أمرك هلل و�أن حتاول التعمق والرتكيز لع ّلك ت�ستفيد‪.‬‬
‫أخربك �أي�ضا ب�سر�أراه كبريا‪ ،‬قد كنتُ �شاعرا وملا بد�أ عودي‬ ‫�س� َ‬
‫ي�شت ُّد �سمعتهم يقولون ب�أنَّ ال�شعراء يتب ُعهم الغاوون وب�أ ّنهم يف ك ّل‬
‫واد يهيمون وب�أنهم �أي�ضا يقولون مااليفعلون ففزعت ورحت �أبحث‬
‫يف التفا�سري القدمية واحلديثة فوجدت ب�أن الأمر على قدر من‬
‫اخلطورة ثم راجعتُ ال�شعر وال�شعراء فبدا يل ب�أن �أ�سطره غري قادرة‬
‫فعجلت بالبحث عن البديل وها‬ ‫على توريطكم فيما �أنا متورط فيه ّ‬
‫�أنا اليوم �أ�سرد عليكم مثلما �سرد عليكم كتّاب �آخرون‪ ،‬لكن الفرق‬
‫بيني وبينهم �أين ق ّللت املزاح وق ّل�صت حجم الكذب الكبري الذي‬
‫تعودمتوه يف الروايات ب�شتى �أنواعها وجئتكم من الواقع �إىل الواقع‪.‬‬
‫حلد ماكتبت لك عزيزي ل�ست ب�شارح ملاق ّدمت فقط وجدت �أنّ‬
‫الإعتذار �ضرورة ولأن قارئي هو عقيدتي و�إمياين بالأدب وماخلق‬
‫له فار�ضا�ؤه غايتي وهديف الأول والأخري‪� ،‬أعرتف �أنيّ �أر�ضي �شهوة‬
‫الكتابة املختزنة بداخلي لكن قارئها هو �س ّيدها مهما تعددت‬
‫التف�سريات والإجتاهات فالأدب هو �سجل احلياة ومر�آتها كما �صدق‬
‫�أحمد �أمني وهذا ال�سجل الذي ن�شرتك فيه يحق لنا �أن جند �أنف�سنا‬
‫فيه كافة‪.‬‬
‫منذ �أيام و�أنا �أعاين من كابو�س كبري تك ّررت زياراته الليلية مما‬
‫علي النوم وجعلني �أطار ُد ال ُكتب ب�صنوفها دون جدوى‪ ،‬ذلك‬ ‫كدّر ّ‬
‫اجلاثوم مل يكن عاديا فمايدور فيه ت�شابه مع الواقع ح ّد التماهي‪،‬‬

‫‪8‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫كدت اجل�أ �إىل كتب تف�سري الأحالم �إ َّال �أنّ درايتي ب�أنّ هاته اخلطوة‬
‫اخلطرية �ستخل ب�شرف الأدب والثقافة جعلتني �أمتنع عن فعل ذلك‬
‫وقررت �أن �أكتبه لكم لع ّلكم تف�سرونه �أو ت�ستمتعون به �أو تنزعجوا منه‪،‬‬
‫اليهم فقد �سبق و�أعلنت ب�أنكم قد تورطتم و�أجدد �أ�سفي على ذلك‪.‬‬
‫�إذن �إتفقنا‪ ،‬وما �أجمل ال�شفافية وما �أبغ�ض التعتيم‪ ،‬هيا يا‬
‫�صديقي ويا �صديقتي �إىل �أقرب هدوء ممكن‪� ،‬سنلتقي كلنا على‬
‫كابو�س وما�أخط َر ال َّلقاء‪...‬‬

‫‪9‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ون يِف َه َذا ال َع مَ ْ‬


‫ال‬ ‫�أَ ُّيها ال َب�شَ ُر الأ ْت ِق َيا ُء ال َتا ِئ ًه َ‬
‫ل َه َذا ال ِتي ُه ِم ْن �أَ ْجل َم ْع�شُ وقٍ َو ِ‬
‫اح ْد‬ ‫مِ َ‬
‫ُون َع ْن ُه يِف َه َذا ال َع مَ ْ‬
‫ال‬ ‫َمات َْب َحث َ‬
‫�إ ْب َحثُوا يِف َدخَ ا ِئ ُ‬
‫لك ِم َف َما�أ ْن ُت ْم ِ�س َوى َذ ِل َك مَالَ ْع�شُ ْ‬
‫وق‬

‫جَل ْل الِدينْ ا ُلرومِ ى‬


‫اَ‬

‫‪10‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫(‪)2‬‬

‫فتح عينيه‪ ،‬رفع رمو�شه �إىل �أق�صى الأفق الذي يعلو �سريره‪.‬‬ ‫حني َ‬
‫عرف �أنّ الوقت ت� ّأخر و�أنَّ موعد الإ�ستيقاظ الذي �إعتاد عليه قد‬
‫فاته‪ ،‬و�أنّ �أوجاع الذاكرة التي داهمته يف ليلة البارحة قد �أ ّثرت عليه‪.‬‬
‫وقف على حافة ال�سرير يتثاءب وهو ي�شعر ب�أمل ي�سري يف ج�سده‪،‬‬
‫و�صداع خفيف ي�شت ُّد بني الفينة والأخرى‪� ،‬أو�شك �أن يعود �إىل الفرا�ش‬
‫لوال �صوت �أمه الذي ملأ الرواق وهي تدعوه للنهو�ض وتناول فطوره‪.‬‬
‫غيرّ مالب�سه بعد حمام دافئ �أزال القليل من الإجهاد والت�شنج‬
‫الذي �أ�صاب حيويته‪ ،‬ثم جل�س ي�ستمع �إىل حديث �أمه املعب�أ برتاكم‬
‫النكد وال�شكوى من احلياة‪.‬‬
‫تذ ّكر �أنَّ عليه زيارة اجلامعة فا�ستف�ساره عن موعد الت�سجيالت‬
‫�صار �ضرورة فمنذ �إنقطع عن عاملها و�أ�صدقائها من �أول ال�صيف‪،‬‬
‫فالهو يعلم عن �أخبارها وال هناك من يعلمه ب�أنبائها فكان منقطعا‬
‫متام االنقطاع‪.‬‬
‫بحث عن النظارات ال�سوداء بني �أ�شيائه‪.‬لن يخرج اليوم دونهما‪،‬‬
‫فهما و�صفة الكرب التي مت ِّكنه من �إختيار من يراه ومن يتظاهر بعدم‬

‫‪11‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ر�ؤيته‪ ،‬كما �أنّ �أناقته لن تكتمل �إ ّال بالتن�سيق بني ربطة العنق ال�سوداء‬
‫والأ�سود املعتم لتلك النظارات الفاخرة‪.‬‬
‫كان اجلو جميال م�شم�سا ي�شره القلب وينف�س عن اخلاطر‪ ،‬ف�صفاء‬
‫ال�سماء يزيل ال�سحب الكئيبة التي تل ّبد �سماء النف�س احل�سا�سة التي‬
‫تعاين توهج الذاكرة فيها‪.‬‬
‫و�صل �إىل اجلامعة‪ ،‬بعدما �إ�ستقل �سيارة �أجرة كي يتفادى امل�شي‬
‫�أو ركوب احلافالت املهرتئة‪ ،‬فذكرى نزوله من احلافلة برائحة‬
‫دخان املحرك الفواحة ال تزال عالقة بذهنه‪ ،‬فبعد �أن تعطر ب�أجمل‬
‫العطور و�أغالها وجد نف�سه بحاجة �إىل تغيري لبا�سه يف يوم كان‬
‫متّجها �إىل موعد مهم‪.‬‬
‫حينما دخل �أبواب رئا�سة اجلامعة �شعر ب�صخب البريوقراطية‬
‫يتعاىل و�أ�ش ّده يف تلك املكاتب ال�صغرية التي ُت�شغل كل امل�صابني‬
‫بداء البطئ والإ�ستهتار‪ .‬تق ّدم �إىل �أحد املكاتب املك ّلفة بت�سيري �ش�ؤون‬
‫الطلبة‪ ،‬وقف متعجبا وهو ي�شاهد بعينني حائرتني عددا من البنات‬
‫وظفن يف مكاتب ال ت�سع �إ َّال موظفا واحدا على الأكرث‪.‬ت�ساءل �إن‬
‫كانت البطالة املقنعة((( التي ُعرفت بها اال�شرتاكية قد ولىّ زمانها‪،‬‬
‫�أم هوميالد جديد لقواعد �أخرى �أجنبتها ال�سيا�سة العرجاء؟ حتى‬
‫�إنّ احل�ضور الن�سائي �صار يلفت االنتباه‪ ،‬فلم يعد ح�ضورا عاديا بل‬
‫طغى على الرجال حلد ال�شبهة‪ .‬فقد حتول �إىل ظاهرة �إجتماعية‬
‫حتتاج �إىل الدرا�سة‪ ،‬من �أجل معرفة اال�سباب واخللفيات‪.‬‬
‫‪ -1‬م�صطلح يعرب عن جمموعة من العمال الذين يح�صلون علي �أجور دون مقابل �أو‬
‫جهد من الذي تتطلبه الوظيفة وهي ن�سبة اذا مت �سحبها ال يرتتب عن خروجها �أي‬
‫أوجها‪.‬‬
‫نق�ص يف اجمايل انتاج ال�شركة �أو امل�ؤ�س�سة وهذا ماعرفت به اال�شرتاكية يف � ّ‬

‫‪12‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ُاعلم �أنّ الدرا�سة لن تنطلق قبل عيد الأ�ضحى‪ ،‬املنا�سبات هنا‬


‫حمافل للراحة وترك امل�شاغل بال ح�ساب‪.‬يف طريق عودته �إ�ستوقفه‬
‫�صديق له ودعاه على فنجان قهوة يحت�سيانه يف مقهى جديد ي ّدعي‬
‫اخلدمات و�أجودها‪.‬جل�سا على طاولة معزولة يف زاوية‬ ‫تقدمي �أف�ضل َ‬
‫املقهى‪ ،‬ك�أنمّ ا تعمدا الت�ضييق على نف�سيهما‪ .‬وكعادة ال�شباب مل‬
‫يخلوا حديثهما من احلديث عن الن�ساء والتفل�سف فيهنَّ �إىل �أن قطع‬
‫�شريط االخبار ذلك احلديث امل�ستهرت‪.‬‬
‫كانت العد�سات تنق ُل �صو َر تلك احل�شود الهائلة التي انت�شرت‬
‫يف �أرجاء خمتلف ال�ساحات الكبرية والتي حتمل �شعارات خمتلفة‬
‫دونت على الفتات بكل الأحجام‪.‬النداءات ب�سيطة فالكل يكرر‪ :‬اهلل‪،‬‬
‫�سورية‪ ،‬حر ّية وب�س((( �شرارة �إنطلقت من درعا ب�سبب �إعتقال الأمن‬
‫ملجموعة �أطفال كتبوا �شعارات تنادي باحلرية على جدار مدر�ستهم‪،‬‬
‫مالذي يجري يف العامل العربي‪ ،‬ومن يقف وراءه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مل يفهم �أحد‬
‫ولأنهما مل يتعودا اخلو�ض يف ال�سيا�سة فقد عاد �إىل وجه �صديقه‬
‫تاركا ال�شا�شة خلفه وهو يقول‪:‬‬
‫‪� -‬أال تالحظ �أنّ هناك �أمر غريب يحيط الواقع ال�سيا�سي وال�شعبي‬
‫للعامل العربي؟‬
‫‪ -‬ال �شيء ميكن قوله �سوى �أنَّ �إ�سرائيل اهلل يلعنها راها جنحت‪...‬‬
‫‪ -‬جنحت؟؟ ب�صح يف وا�ش؟‬
‫(((‬
‫‪ -‬امل�شاكل يف �سوريا هم �إ�سرائيلي مهو�ش �أقل من حرب ‪1967‬‬
‫ولوكان يطيح ب�شار راه ي�صرا ما ي�صرا‪.‬‬
‫‪� -1‬شعار املواطننني ال�سوريني يف بداية االحتجاجات �سنة ‪.2011‬‬
‫‪ -2‬حزيران احلرب التي ن�شبت بني العرب وا�سرائيل بني ‪ 5‬و‪ 10‬يونيو ‪.1967‬‬

‫‪13‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬يااهلل منذ متى اكت�سبت هاته اخلربة يف ال�سيا�سة نظن رجعت‬


‫حملل �سيا�سي‪ ،‬هيا نو�ضوا خلينا منهم‪.‬‬
‫تناف�سا عمن يدفع الثمن وخرجا بعد �أن �سد ّد التكاليف وافرتقا يف‬
‫�أحد الأماكن القريبة من منزله‪ .‬عاد ي�صارع التعب وامللل فهو ال ي�شعر‬
‫ب� ّأي �شيء يجلب له ال�سعادة �أو يغيرِّ من مزَ اجه الذي يعاين الروتني‪.‬‬
‫مت ّدد على �سريره‪ ،‬ح َّل الظالم بطول �ساعاته و�أرقها‪ ،‬تناول وجبة‬
‫الع�شاء‪� ،‬أطلق العنان ملو�سيقى ال�شعبي((( تداعب ح�سه ومتنحه راحة‬
‫ما فقد كان مولعا بهدوئها وكلماتها وكذلك حكمتها اجلميلة املتمثلة‬
‫يف ب�ساطتها وح�ضورها الواقعي‪.‬‬
‫نام على �إيقاع وحدته و�إح�سا�س بالفراغ يف غرفة مل تزين �إ َّال‬
‫ب�صور حزينة‪ ،‬و�أخرى تعود �إىل حقبة اال�ستعمار‪ ،‬ورِثها �أبوه عن‬
‫جده‪ ،‬ويحاول بدوره توريثها له‪.‬يعتقد �أنّ بتعليقه لها يف غرفته‬
‫يعلقها على جدار قلبه‪ ،‬لكن �شبان اليوم مع ّلقة قلوبهم بكل ماهو‬
‫جديد وفاره‪ ،‬ومولعون ب�أ�شياء الغرب مع علمهم �أنَّ الغربيني مل‬
‫يولعوا �إ َّال بجرهم �إىل ماال يحمد عقباه‪.‬‬
‫�إ�ستيقظ �صباحا على �أ�صوات التلفاز املدوية‪.‬الوالد الذي يجل�س‬
‫كل �صباح �أمام �شا�شة هذا الأخري مل يعد له من القدرة على ال�سمع‬
‫ما يتيح له عدم رفع ال�صوت �إىل درجة يوقظ فيها اجلميع‪� ،‬إقرتب‬
‫من والده وا�ضعا على ر�أ�سه قبلة وكالما لطيفا للتحية‪.‬طلب منه �أن‬
‫‪ -1‬طابع مو�سيقي جزائري ظهر يف مطلع القرن الع�شرين وهو م�ستوحى من املو�سيقي‬
‫الأندل�سية مع ت�أثريات خمتلفة ا�شتهر بالعا�صمة ولديه عدة مدار�س خمتلفة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫تفجعه‪ .‬طفق َيطلق كلمات الذعة‪:‬‬ ‫يجل�س لريى مايحدث وي�شاركه ُّ‬
‫يخ�سروا‪...‬‬
‫�شوف يا وليدي �أوالد الكالب يعمروا فيهم هاهم بداو ّ‬
‫هي ال�سيا�سة واعرة‪...‬‬
‫‪ -‬وا�ش دير يا بابا هاذي ّ‬
‫ال�شعارات تغريت وا�ستبدلت الالفتات ب�أخرى بعد مواجهة‬
‫املتظاهرين بالر�صا�ص احلي ف�أ�صبح النداء «ال�شعب يريد ا�سقاط‬
‫النظام»((( مرت الأيام والأو�ضاع تزداد �سوءا يوما بعد يوم و�أ�صابع‬
‫ته�شم العرب‬‫االتهام ت�شري �إىل �إ�سرائيل‪ ،‬فهي امل�ستفيدة الأوىل من ُّ‬
‫ودمارهم والذي مل يتحقق لها بالقوة وال�سالح حتققه بزرع الفنت‬
‫وبذر ال�شقاق‪.‬‬
‫ح َّل موعد الدخول اجلامعي الذي يتطلب تغيريا كبريا على‬
‫م�ستوى توقيت الطلبة وهيئاتهم‪ ،‬وعاداتهم التي �إكت�سبوها من �أيام‬
‫ال�ضجر ال�صيفية‪� .‬شهر رم�ضان نال من الكثريين حيث �إ�ستنفذ كل‬
‫طاقاتهم وح ّلت النحافة على �أج�سادهم املرهقة فلم يتحم�س �أحد‬
‫�إىل الدرا�سة فال ّراحة تع ّود وك�سل ي�صعب التخل�ص منها خ�صو�صا‬
‫حينما متتد‪.‬‬
‫�إجته �إىل املحالت التي �إعتاد �إقتناء الألب�سة منها فهو �صديق‬
‫الأناقة الذي ال يجد �ضريا يف �أن يق�ضي �أياما ي�شبع غروره بتبديل‬
‫اخليارات والألوان والأ�شكال‪ ،‬مكانته عند والديه �أتاحت له ثراء‬
‫جل رغباته دون حرية �أو تفكرييف الأموال‬ ‫وبذخا م ّكنه من حتقيق ِّ‬
‫‪� -1‬شعار رفعه املتظاهرون العرب يف الثورات التي �إنطلقت �ضد �أنظمة احلكم‬
‫القمعية يف الوطن العربي والحقا �أ�صبح ال�شعار الرئي�سي املرفوع يف معظم‬
‫الثورات واالحتجاجات العربية‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫التي ت�ضيع يف كثري من الأحيان يف �أ�شياء ال ت�ستحقها‪ .‬بعد مدة عقد‬


‫�صفقة جديدة مع الأناقة حيث اقتنى لبا�سا كال�سيكيا مرفوقا بربطة‬
‫عنق‪ ،‬و�أ�ضاف الحقا ع َّدة بذالت كخيارات للتبديل‪.‬‬
‫�ساعة اجلد د ّقت‪ .‬اجلد يف �إ�ستعرا�ض الع�ضالت والتفاخر‪ .‬هكذا‬
‫هي اجلامعة يف بدايات كل مو�سم حيث الهرج واملرج كبري وحالة من‬
‫الت�أهب الع�شقي والعاطفي يطارد �أذهان ال�شبان مبختلف توجهاتهم‪.‬‬
‫بكربيائه مل ي�س َع �إىل امر�أة يوما‪ ،‬ومل يبذرترفعه يف �إ�ستجداء �أ ّية‬
‫رابطة �أو عالقة بل �أ�سرف يف التعايل والنظر �إىل الن�ساء على �أ ّنهن‬
‫ال�شئ‪ ،‬و�أن كل �إرتباط �أو حب هو خلق لكذبة ت�ض ّيع الوقت والنف�س‪.‬‬
‫ي�ؤمن ب�شدة �أنّ الرجل احلقيقي ُخلق ليكون �سيدا‪ ،‬و�أ ُّن ال �سيادة‬
‫بالتالحم مع ٍامر�أة بل ال�سيد هو ذلك الأ�سد الذي يجوب �أرجاء‬
‫احلياة بوحدته الطاغية‪ ،‬و�أنَّ احلب داء ُو ِجد ليدمر الكربياء‪،‬‬
‫ويعطل احلاملني واملوهوبني عن حتقيق �أمانيهم‪ .‬كل يوم مير عليه‬
‫يزداد تع�صبا‪ ،‬كيف ال وهو يرى الن�ساء بكل �صنوفهن يحطن‬
‫به‪ ،‬يرتب�صن بو�سامته‪ ،‬ولأنه اختار الوحدة دوما فقد كان �سيد‬
‫�إعجابهن‪ .‬من فرط تولعهن به خ�شي الكثريمن �أ�صدقائه �أن ي�صاب‬
‫بجنون العظمة‪ ،‬كانوا ي�ستهرتون وميزحون معه بو�صفه تارة بروميو‬
‫و�أخرى بـ‪ :‬ليوناردوا دي كابريو‪ .‬يف خ�ضم عدائه للحب كان ودودا‬
‫مع دينه‪ .‬حمافظا على ال�صالة‪ .‬ال يقت�صد يف �شعائر الدين كما‬
‫ال يغايل‪ ،‬فالتزم الو�سط املرغوب واجتنب كل ت�شدد يف�ضي �إىل‬
‫التق�صري ثم التخلي والرتك‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إعتداله الذي طال دينه وتعبده ومناحي حياته مل ي�ستقر على‬


‫نف�س الطريقة واملذهب يف �أمور الن�ساء فهو ال يزال متع�صبا‪،‬‬
‫مت�شددا‪ ،‬م�ضادا لغرائزه‪ ،‬منتهجا لطريق اجلفاء �ضد كل من ت�صله‬
‫�أو حت�صل على عناوين التوا�صل معه بعد عناء طويل‪ � .‬اّإل �أنَّ حقيقة‬
‫الفطرة والغريزة دوما دافعت الكربياء‪ ،‬فكان ي�شعر يف �أحيان كثرية‬
‫بتعنته ووقوفه �ضد �شهواته‪ ،‬لكنها حقيقة يخفيها عن نف�سه ويحاول‬
‫د�سها يف حقل التجاهل وتركها خلف تاريخ الكربياء والتع�صب‬
‫الرجايل املميت للإح�سا�س والعاطفة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫(‪)03‬‬

‫حل ِقي َق َة َو َد َف ْن َت َها حَ ْت َت الأَ ْر ْ‬


‫�ض َف َ�س ْو َف َت ْن ُمو َو َت ْن َب ْت‬ ‫� ْإن �أَخْ َر ْ�س َت ا َ‬

‫�إميل زوال‪.‬‬

‫حني �إ�ستيقظت الروح وتال�شى �سبات الكربياء‪ .‬تبعرثت تلك‬


‫الأحا�سي�س ال�شعواء‪ ،‬و�أ�صبح القلب طائرا بجناحي ال�شوق‪ ،‬ي�س�أل اهلل‬
‫ع�شا ي�ستلقي فيه ويحتمي به من �ضباب الوحدة‪� .‬إبتلت الأحا�سي�س‬
‫مباء العاطفة املقد�س فانت�شر العط�ش ب�أرجاء حوا�سه وتفتت الرغبة‬
‫على �سطح جوارحه فتمل�ست و�أ�صبحت م�ضيافة للحب تنتظر �أن‬
‫حتتفي به ذات �صباح �أو م�ساء‪ ،‬ورمبا ذات ليل‪ ،‬فاحلب يكن العداء‬
‫للوقت ومل يلتزم ب�أخالقيات الزيارة يوما‪ ،‬دوما كان وال يزال مباغتا‬
‫كالربق وخاطفا ب�شكل ال ي�صح فيه �أي ت�شبيه‪.‬‬
‫ال ت�س�أل اهلل �أن يغيرِّ قدرك �أويلطف فيه‪ ،‬فذلك الإح�سا�س ال‬
‫يعرتف باللني وال يتم�سك مببد�أ الرحمة‪� ،‬إنه منف�صم ال�شخ�صية‪،‬‬
‫هادئ لطيف‪.‬متوح�ش عنيف �إن ثارت زوابعه يف �أفق القلب‪ ،‬ال داعي‬
‫للإن�صهار فيه فكتلته ال جتيد املزاح و�إن مازحتك فاحذر مزاح‬
‫البحر فانَّ خلفه هاوية‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إ�ستيقظ نع�سا غري مرتب‪ ،‬كابو�س ال�صباح طارده حينما الم�ست‬


‫خديه �أ�شعة ال�شم�س املت�سللة من النافذة التي تركها مفتوحة‪� ،‬شبه‬
‫م�ستفيق يلعن ال�ساعة ويحاججها يف و�صول الثامنة‪ ،‬فهو الذي �إعتاد‬
‫ال�سهر وال�سمر �إىل �ساعات مت�أخرة مل يتقبل برناجمه اجلديد‬
‫الذي فر�ض عليه حتمل دقة ال�ساعة وفل�سفة الوقت امل�ضادة للك�سل‬
‫والتخاذل فال يزال قول الإمام ال�شافعي يحا�صره فهو يدرك ماينتجه‬
‫ت�ضييعه «الوقت كال�سيف �إن مل تقطعه قطعك»‪.‬‬
‫م�سح وجهه من النوم بعدما ت�أ ّكد له �أنه �سيغادر ال حمالة‪ ،‬رمى‬
‫غطاءه خلفه بعادة كل الرجال يف عدم ترتيب �أغرا�ض النوم‪�.‬سار‬
‫نحو احلمام يلقي التحية على �أمه التي بد�أت للتو تنظيفها املعتاد‪،‬‬
‫وعلى �أبيه الذي �أ�صبح مبدعا يف تق�صي �أخبار الد�سائ�س والثورات‬
‫التي حتاك �ضد العرب‪.‬‬
‫ال مير عليه ال�صباح دون ممازحة �شقيقاته الثالث‪ ،‬والتطلع �إىل‬
‫معرفة �أ�سرارهن ب�أ�سلوب تهريجي مليء باملحبة وال�صداقة‪ .‬بعدما‬
‫�أنهى ترتيب �صباحه بتفا�صيله املختلفة‪ ،‬حمل تلك املحفظة ال�سوداء‬
‫الفاخرة التي تنا�سقت مع �أناقته وخرج مودعا �أهله‪ .‬برناجمه هاته‬
‫ال�سنة مكتظ ملئ بالت�ضييق على حرية الت�سكع وممار�سة التوا�صل‬
‫االجتماعي((( بتعدد طرقه و�إختالفها والتي تتيح للجماهري الكذب‬
‫ب�أ�شكاله املختلفة والت�صنع مبختلف الطرق بداية من اال�سم املزيف‬
‫‪ -1‬متثل يف مواقع عاملية ذات �شهرة كالفاي�سبوك والتويرت وان�ستغرام وهي التي‬
‫مكنت لالفراد ممار�سة الأن�شطة واالهتمامات وتبادلها علي �صعيد وا�سع وهي يف‬
‫جمموعها خدمات توفرها وتربجمها م�ؤ�س�سات كربى‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫والغريب يف كثري من الأحيان و�صوال �إىل م�شاريع وهمية ت�ضمحل يف‬


‫كب�سة زر مفادها «احذف»‪.‬‬
‫و�صل �إىل اجلامعة وهو مقتنع بت� ّأخره وفوات موعد الدر�س الأول‬
‫ووجد يف ذلك �سببا لتجنب �إحراج حمتمل من �أ�ستاذه الذي يثق‬
‫يف جنونه وع�شوائية ردوده فقرر اجللو�س بحديقة اجلامعة التي‬
‫ُك ّيفت ب�شكل ي�ضمن راحة نف�سية وج�سمية ملا بها من �أ�شجار وهدوء‬
‫مينحانها من البهاء وال�سكينة ماال يتوفر يف �أماكن �أخرى‪.‬‬
‫جل�س بهدوئه املعتاد كمن به م�س من االلهام �أو �شبهة �شاعر يطيل‬
‫الت�أمل ع ّله يقب�ض على ح�س يرتجمه ق�صيدة‪� .‬أحاطته فتيات يعلني‬
‫�أ�صوات املو�سيقى من مكربات هواتفهن‪ ،‬معلنني �إن�شقاقهن عن التقليد‪،‬‬
‫يف القدمي كانت الن�ساء ي�ستحني من �أ�صواتهن‪ ،‬وهاهن بنات الع�صرنة‬
‫املزيفة يفت�شن عن كل �سفه لريتكبنه با�سم احلرية والتح�ضرالذي يجر‬
‫�إىل جتاوز حدود املعقول و�إنتهاك �أ�صول احلياة املتعارف عليها �إجتماعيا‪.‬‬
‫بينما هو �سابح يف �أمواج فكره الذي �إ�ستغرب مايحيط به‪ ،‬قطع‬
‫تفكريه لون عابر‪� ،‬إمتزج بني الأ�سود والأحمر مع �إختالط خفيف‬
‫بالأخ�ضر الك�ستنائي‪.‬الأ�شجار حتول دون تدقيقه يف الألوان العابرة‬
‫فوقف لي�شاهد تلك احل�سناء‪ .‬متباطئة اخلطوات ال يعرت�ض عينيها‬
‫�شيء �سوى طريقها الذي تقطعه بكل فخر وثقة‪ ،‬فجمالها اال�ستثنائي‬
‫هي لهم‪.‬‬
‫منحها حق �إنتظار �إنتباه الغري لها ال �إنتباهها َّ‬
‫أح�س �أنَّ �إيقاع �ضربات قلبه مل يعد م�ستقرا كما يف ال�سابق‬
‫ده�ش و� ّ‬
‫واعرتف لنف�سه �أنّ ح�سنها قد �أخ َّل با�ستقرار كيانه املغلف بالكربياء‪،‬‬
‫لكن ال عمل له �سوى �إنتظار عودتها من البناية التي وجلت �إليها‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫غيرّ مكانه متك�أ على جدار قريب من مدخل تلك االدارة املهرتئة‪.‬‬
‫بقي ي�سرتجع كل مام ّر عليه من �أحاديث حول الن�ساء ع ّله ي�ستخرج‬
‫خربة �أو عربة‪ ،‬فهو الذي مل ي�سبق له �أن غامر بكربيائه يحتاج كثريا‬
‫�إىل الن�صائح العامة التي كان يوجهها �أ�صدقائه �إىل بع�ضهم البع�ض‬
‫على م�سمع منه‪ ،‬فبع�ض الرجال يتبادلون خطط االيقاع بالن�ساء‬
‫ويتلقونها ك�أفراد يف جي�ش يو ّدون الإطاحة بعدو ما‪.‬‬
‫يف تيهه وجتاذب الأفكار التي تراكمت‪ ،‬هاهي قادمة حتمل دفات ًرا‬
‫وحمفظة‪� ،‬أر�سل نظراته تفت�ش عن �أ�سرار ج�سدها املتنا�سق وم�شيتها‬
‫املرتبة‪ ،‬وماان و�صلت �أمامه حتى �صدمه عطرها العبق‪ ،‬نزع نظاراته‬
‫وقابل عينيها الدعجاوين بنظرات م�سرت�سلة مل تعرف االنقطاع‪.‬‬
‫�أح�ست بارتباك ما وحاولت �أن ُت�صلح من م�شيتها التي �ضاعت‪.‬‬
‫لكن ال جدوى‪�.‬إبتعدت عن تغزل عينيه بابت�سامة مت�أخرة �أبدتها‬
‫الغمازات على حواف خد ّيها وهي ت�سرييف هدوء‪.‬‬
‫ماكانت ل��ه اجل���ر�أة �أو ال��ق��درة على ال ّلحاق بها‪ ،‬فطاملا كان‬
‫ي�ستهجن هاته الت�صرفات ويرى فيها تقليال من الرجولة والأنفة‪.‬‬
‫حلظات وتوارت عن �أنظاره‪.‬جل�س يفكر فيم كان يجب �أن يقوم به‪،‬‬
‫بعد حديث ذات��ي ق�صري‪ ،‬قرر جت��اوز �أمرها والتوجه �إىل قاعات‬
‫التدري�س من �أج��ل ح�ضور ح�صة �أ�ستاذ �آخ��ر على قدر كبري من‬
‫التدين والتع�صب‪.‬‬
‫جل�س يف �أحد ال�صفوف الو�سطى‪ ،‬مل ينتبه �إ ّال وعدد ال ب�أ�س به‬
‫من اجلميالت يحطن به‪ .‬م�صادفة‪ ،‬ورمبا تعمدا‪ .‬بد�أ ذلك الأ�ستاذ‬
‫حمدود ال�شعبية يطلق �سهامه مهاجما �أخالق الطلبة و�سلوكياتهم‬

‫‪21‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫تارة والنظام الإداري والت�سيري تارة �أخرى‪ ،‬ثم �إنطلق يف �شرح‬


‫املحا�ضرة التي كان عنوانها «�أركان قيام جرمية الزنا»‪.‬‬
‫�إ�سرت�سل يف ال�شرح كمن �أعجب باملو�ضوع‪ ،‬رمبا هي رغبة ما �أو‬
‫حم�ض �إعجاب‪ .‬اجلميع يلتزم ال�صمت و�أحيانا ُي�سمع بع�ض الهم�س‬
‫من بنات يجل�سنَ يف �آخر املدرج‪� ،‬أعجبهن احلديث عن هاته‬
‫املمار�سات يف �إطار در�س �أكادميي‪ ،‬فهن اللواتي مل يتعودن على‬
‫�إقتحام هاته املوا�ضيع من جانب علمي‪ ،‬قانوين وجدن ل ّذة يف ذلك‪.‬‬
‫رفعت �إحدى البنات يدها طالبة الإذن يف طرح �س�ؤال‪� ،‬أ�شار عليها‬
‫الأ�ستاذ ب�أن تتكلم‪ .‬نطقت ب�صوت دافئ يحمل الكثري من خبث‬
‫ال�س�ؤال‪ :‬ملاذا ال نرفع العقاب عن الزنا مادام يدخل يف �إطار احلريات‬
‫ال�شخ�صية؟ نظر �إليها الأ�ستاذ بتعجب ال يخلوا من ال�سخط‪ ،‬وكمن‬
‫ي�ضيف �إىل النار الوقود �أ�ضافت‪� :‬أو ملاذا ال نرفع �صفة التجرمي عنه‬
‫�ألي�س يف امل�سا�س بهذا احلق م�سا�س باحل�ضارة؟»‪.‬‬
‫وما �أن تف ّوهت باحل�ضارة حتى خلت القاعة من الهدوء وح ّلت‬
‫مكانه فو�ضى مل تنقطع �إ ّال ويد الأ�ستاذ تهوي على مكتبه بكل مافيها‬
‫من ثقل وقوة وهو ينادي بال�صمت‪.‬‬
‫نظر �إىل �صاحبة ال�س�ؤال بتقزز وقال لها بنربة الغ�ضب �أنّ �س�ؤاال عاهرا‬
‫كهذا تقليل منا ومن حدود اهلل‪ ،‬ماهي �إ ّال ثوان معدودة حتى جمعت‬
‫ف�ضة وخرجت من املدرج وهي ت�صفع الباب خلفها‪.‬‬ ‫�أدواتها بطريقة ّ‬
‫ظن اجلميع �أنَّ الأمر انتهى و�أن �س�ؤالها كلفها ردا قا�سيا وخروجا‬
‫�إ�ضطراريا ب�سبب ماقاله الأ�ستاذ لكن عك�س ذلك فقد توجت غ�ضبها‬

‫‪22‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫وخروجها الغري م�أذون بالتوجه �إىل عمادة الكلية والإحتجاج لدى‬


‫العميد و�إبالغ والدها الذي و�صل بعد زمن ق�صري‪.‬‬
‫�إختلطت الأمور و�أ�صبح الأ�ستاذ يف و�ضع جتاوز احلرج �ش ّدة‪،‬‬
‫خ�صو�صا و�أنها مل تنقل كالمه كماقاله بل �أ�ضافت عليه �شيئا من‬
‫ال�سوء واجلهالة‪ .‬مل يكن الأ�ستاذ لينجوا من هذا ال�سخط لوال‬
‫�صداقته مع عميد الكلية والذي جنح بدوره يف ف�ض النزاع بينهم‪.‬‬
‫م ّر ذلك اليوم مبا حمله من �أحداث‪ ،‬التزال �صورة تلك احل�سناء‬
‫عالقة بذهنه‪ .‬يف اجلامعة ال بد �أن ال تنتظر �صدفة �أخرى‪ ،‬فعدد‬
‫الطلبة الذي يقارب ع�شرة �آالف قد ال مي ِّكنك من لقاء �شخ�ص‬
‫�أعجبت به‪.‬‬
‫�إذن الفر�صة �ضاعت فهو ال ميلك �أدنى معلومة قد تو�صله �إليها‪،‬‬
‫ولي�س له �إ ّال �سلطان اخليال يو�صله اليها متى �شاء‪ ،‬ليغازل �صورتها‬
‫الوحيدة التي � ِأ�سرت قلبه يف حلظة عبور‪.‬‬
‫املر�أة احل�سناء دوما لها ح�ضورها الطاغي ومتلك من بهاء‬
‫التواجد يف الأمكنة ماي�ؤرخ لوجودها حيث اجلمال هبة اهلل التي ال‬
‫ت�ستقر �إ ّال يف امر�أة تنا�سقت �أنوثتها الفاخرة‪ ،‬ووحده الرجل احلذق‬
‫له تلك القدرة على تذوق ذلك اجلمال الفاره الذي قد يحتاج يف‬
‫كثري من الأحيان �إىل طقو�س خا�صة به للحفاظ عليه‪.‬‬
‫نام يائ�سا يع ُّد حبات ال�سقف املزيف ويلوم نف�سه لتنازله الطفيف‬
‫عن كربيائه‪ ،‬فهو الذي مل تتعرث �ساعة نومه منذ زمن مل يتق ّبل �أن‬
‫ي�شغل باله خيال امر�أة حلد ال�سهاد‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫وحده النوم يقب�ض على �أرواحنا لزمن طاملا نتمنى طوله كي نعي�ش‬
‫يف غري واقعنا امللئ بال�ضجر‪ ،‬ما�أ�صعب اخليبات يف احلياة‪ ،‬وما �أ�ش ُّد‬
‫فظاعتها وق�ساوتها حني تواجهنا يف �أول خطوة نحو حلم ما‪ ،‬فان‬
‫تتعرث يف منت�صف طريقك فذلك �أخف من التعرث يف �أول خطوة نحو‬
‫تغيريواقع ما يثري ال�شعور املزمن بتقل�ص ع�ضالت وعظام ال�صدر‪.‬‬
‫�إىل فجر �آخر كانت الأمور تخ�ضع �إىل �سيادة الروتني فال جديد‬
‫يف عامل ال ميتلك خا�صية التغيري والنا�س مولعون بتكرار الزمن‬
‫وتقليده‪.‬يعي�شون دون طموح‪ ،‬رمبا هو ال�ضعف امل�ستقر يف النفو�س‬
‫ورمبا عجز عن النظر �إيل الأعلى‪ ،‬فالكل يرى يف هاته احلياة املادية‬
‫�سلما ق�صيا �صعب املنال‪ ،‬فالكثريون تعر�ضوا �إىل �إجتياح اجلمود‬
‫لأنف�سهم‪ ،‬فماعادوا قادرين على جماراة الأحالم‪ ،‬فهي التي تنتظر‬
‫فجرها على نور الأمل‪ ،‬فان مل جتد ذلك الذي تنتظر‪ ،‬تتال�شي كمدا‬
‫وحزنا على �أمل حقق �أمل التال�شي واال�ضمحالل‪.‬‬
‫ذات �صباح كان اجلو ممطرا ودافئا ال يخلو من ال�شعور بالهدوء‬
‫حيث يفتح �أمام الأرواح احلاملة كل �سماوات التغزل بحاجات‬
‫الطبيعة البديعة‪.‬حينما وقف بذلك املعطف الراقي الذي ز َّين �سواده‬
‫حميطه‪ ،‬كان حقا �سيد الو�سامة فرجل وحيد يغازل املطر لن يكون‬
‫�أقل �إغراء عن �أي رجل يف هذا الكون مهما �إعتلت موا�صفاته‪.‬‬
‫بني الرذاذ املنت�شر على حواف �أوراق الأ�شجار ميار�س طقو�س‬
‫الكربياء بالنظر ايل ال�سماء بعينني �شبه مغم�ضتني‪ ،‬قطع �سكونه خليله‬
‫الذي عرث عليه م�صادفة بابت�سامة م�شرقة وهو يلقي التحية ويقول‪:‬‬

‫‪24‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬هل تعتقد �أ َّنك نزار قباين مثال‪� ،‬أو �أحد م�شاهري بوليود الذين‬
‫ميار�سون هواية الوقوف حتت املطر؟‬
‫‪� -‬أت�سخر من وقويف حتت الأمطار؟ �إنها تغ�سل ف�ؤادي كما تغ�سل‬
‫بزخاتها الأ�شجار‪ ،‬ثم هي جميلة‪..‬‬
‫‪ -‬يقهقه‪� ...‬أتعتقد �أنَّ ق�صائدك املاجنة تلك جعلتك �شاعرا‪ ،‬كفاك‬
‫جنونا‪ .‬و�أخذ يردد ب�صوت �ساخر‪:‬‬
‫�أ�صرخ حتت املطر الأ�سود يف عينيك(((‪..‬‬
‫كاملجنون‪..‬‬
‫�أرحل من مرافئ ال�شعر الذي كان‪...‬‬
‫اىل مرافئ ال�شعر الذي يكون‪...‬‬
‫‪� -‬آ�آه لو علم نزار قباين �أنَّ معتوها مثلك �سوف يحفظ كلمتني من‬
‫�شعره رمبا �إ�ستقال من ال�شعر‪ ،‬هيا يا عبد القدو�س �ساخل�صك‬
‫من عاملي الراقي ولت�أخذين �إىل عامل مقهاك الذي يحوي ترف‬
‫الك�سل واجلهل‪.‬‬
‫‪ -‬كم كالمك فظ وفو�ضوي‪ ،‬ملاذا تتعمد اال�ساءة ملقد�ساتي؟‬
‫‪ -‬ي�ضحك‪ ...‬اذن املقهى مقد�س بالن�سبة لك‪ ،‬واحدة بواحدة‬
‫والبادئ �أظلم‪ .‬ثم �سحبه من يده وغادرا‪.‬‬

‫‪ -1‬من ق�صيدة نزار قباين املن�شورة حتت عنوان‪ :‬التالميذ يعت�صمون يف بيت‬
‫اخلليل بن �أحمد الفراهيدي‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫جل�سا و�سط املقهى‪ ،‬طاولة ملوثة بالبقايا والف�ضالت‪ ،‬مل ينتبه النادل‬
‫�إ َّال بعد �إ�ستفزاز تلك البقايا لهما‪ ،‬فجاء مهروال ومعتذرا عن غفلته‪،‬‬
‫طلبا ك�أ�سني من ال�شاي فهو الأن�سب لربودة اجلو التي ملأت املكان‪.‬‬
‫بد�أ حوارهما بفتح علبة الذاكرة والتفتي�ش عن الأحداث اجلميلة‬
‫التي عاي�شاها منذ زمن بعيد فم�شاهد الطفولة نق�ش على جدار‬
‫الذاكرة اليعرف الزوال‪ ،‬ذكره عبد القدو�س بيوم �أ�سود قاما فيه‬
‫ب�سرقة دجاجة جارتهما العجوز وبيعها بع�شرة دنانري‪ ،‬والعقاب‬
‫الذي نااله يوم قب�ضت عليهما‪ ،‬بعد �أن ن�سيا فعلتهما‪ ،‬حيث �أ�شبعتهما‬
‫لطما على اخلد وامل�ؤخرة فكان حدثا ي�ستحق التذكر‪ ،‬وهاهما اليوم‬
‫يرتحمان على روحها التي تندرج �ضمن طفولتهما اجلميلة‪.‬قاطع‬
‫عبد القدو�س وهو ي�س�أله‪:‬‬
‫‪� -‬أين فتاتك التي حتلم بها‪� ،‬أم ال تزال وحيدا تتح�سر عند كل ح�سناء؟‬
‫‪� -‬آه يا �صديقي لو �أخربتك بفعلة الن�ساء‪..‬‬
‫‪ -‬م�ؤخرا �أ�صبحت غام�ضا‪ ،‬ك�أنَّ الزمن �أن�ساك احلميمية التي بيننا‪،‬‬
‫مال ّذي حدث معك؟ يبدو�أ �أ ّنك �أ�سرفت يف الأحالم‪.‬‬
‫‪ -‬يا�صديقي مبا �أ ّنك حتب املطالعة رمبا م ّر عليك قول عبد الرحمان‬
‫علي «ال تظن الهدوء الذي تراه يف الوجود يدل‬ ‫منيف((( الذي يدل َّ‬
‫على الر�ضا‪ ،‬لكل ان�سان �شيء يف داخله يهزه ويعذبه» وحقا كما‬
‫علي الأمل جودا وعطاء‪ ،‬فبعد‬ ‫قلت قد �أ�سرفت يف احللم‪ ،‬ف�أ�سرف َّ‬
‫ا�ستقالتي من احلب منذ �أيامي الأوىل التي دخلت فيها �إليه‪ .‬عدت‬
‫‪ -1‬من �أكرب الروائيني العرب ‪.2004-1933‬‬

‫‪26‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫متنا�سيا خيبتي و�أملي ال�سابق اللذان طارداين ل�سنوات ع ّدة‪�.‬أثناء‬


‫�سريي نحو حب جديد كنت �أخ�شى �أن �ألتفت خلفي كي ال �أرى ذلك‬
‫املا�ضي الذي �أرهقني حمله‪ .‬هرولت نحو امر�أة خاوي اليدين‪� ،‬آمال‬
‫يف القب�ض على نف�سي بني يديها‪ ،‬طاحما يف العثور على �أنفا�سي‬
‫العا�شقة التي �ضيعتها يوم �أعلنت الع�صيان على الكربياء وتوجهت‬
‫�إىل احلب حايف القدمني فوخزتني بل �أدمتني دبابي�س اخليانة‪.‬‬
‫كانت طيبة حد االدمان ومازحة �إىل حد تلتهم فيه حزنك و�أملك‪.‬‬
‫ماهي �إال �أ ّيام قليلة حتى وجدت منفى يف �أحداقها �إلتج�أت �إليه فارا‬
‫يل حتت �أهازيج احلب‬ ‫من ذاتي �إىل ذاتي الأخرى التي �أهدتها �إ َّ‬
‫و�أنغامه‪ .‬ن�سيت لغة ال�شجن واعتنقت لغة الع�صافري وكم اعتقدت‬
‫علي بني الركام ف�أنار حياتي حنانا‬ ‫�أنها ذلك النربا�س الذي عرث َّ‬
‫ورحمة‪ ،‬كم ت�سامرنا وكم ت�شاجرنا حيث ليالينا كانت �أقرب �إىل‬
‫احللم من كل �شيء و�أ�صبحت �أرى واقعي �صغريا �أمام عظمة احلب‬
‫واالنوثة فكنت ذلك العا�شق املت�شبع بثقافة االخال�ص وذلك املحب‬
‫الذي ر�سم للحب عقيدة بذاته ي�ستقر عليها‪.‬‬
‫قاطعه بتعجب وهو يقول‪ :‬من �صوتك تنبعث �أمواج حزن ما‪ ،‬ال‬
‫تقل يل ب�أن حبا بهذا احلجم وبهاته املقايي�س انتهى؟‬
‫‪ -‬نعم نفذ احلب لكن جراحه مل ت�ضمد وال زال قلبي �ضريرا �إجتاه‬
‫الن�ساء فال �أملح فيهن �إ ّال �سوادا قامتا و�شبحا يتداخل مع �أرواحهن �إ�سمه‬
‫اخليانة‪� .‬أ�صلح من جل�سته وتناول ر�شفة من ال�شاي وا�سرت�سل يف الكالم‪:‬‬
‫‪ -‬ق�ضينا �أ�شهرا من احلب‪.‬توهمت كما �أوهمتني ب�أحا�سي�س �شعواء‬
‫كلها ت�صب يف جداول الإخال�ص والوفاء العاطفي الذي حتلم به كل‬

‫‪27‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫طوائف املحبني‪� ،‬إىل �أن جاء ذلك امل�ساء الأ�سود الذي رماين فيه‬
‫القدر �إىل �سراديب مظلمة‪ ،‬مل �أعرف بعد كيف �أنت�شل نف�سي من‬
‫املكيدة التي حيكت ب�سذاجتي‪ .‬كل هاته الآهات تف�شت يف �أرجائي‬
‫حني رنَّ هاتفي بذلك الإت�صال امل�ش�ؤوم‪� ،‬أتدري من كان‪� ..‬إنه تو�أم‬
‫اخليانة وع�شيقها الآخر الذي مل �أحت�س�س وجوده يوما‪ ،‬كانت بارعة‬
‫حلد االحرتاف وجنحت يف خداعي طوال فرتة تخديري مبع�سول‬
‫كالمها وها قد �إ�ستفقت من احللم و�سقطت �إمرباطورية اخلداع يف‬
‫كمني احلقيقة جتاذبنا �أطراف احلديث �أنا وذلك الرجل الغريب‬
‫الذي يعاين ما �أعانيه فكالنا �شريكان يف علة اخليانة‪ ،‬عرفت �أن كل‬
‫كل حادثة كانت عندها‬ ‫ماقيل يف احلب كان �شراكة بيني وبينه و�أنَّ َّ‬
‫علي‪.‬‬
‫بخربتني وجتربتني و�أن تعط�شي لها ماكان حكرا ّ‬
‫هي اخلديعة مبعناها القذر‪ ،‬فما �أ�سو�أ �أن تغدر من �أحبك ح ّد‬
‫اجلنون وكم هو مروع �أن تتلقى طعنة اخلذالن و�أنت غافل عن نف�سك‬
‫من�شغل بذلك احلب الذي يعلن وفاتك يف كل كلمة دون �أن ت�شعر‪.‬‬
‫‪ -‬هون عليك يا �صديقي وتذكر قول رالف امير�سون((( «مقابل كل‬
‫�شيء خ�سرته قد ك�سبت �شيئا �آخر» قد خ�سرتها هي وك�سبت نف�سك‪،‬‬
‫فال حتزن على خائنة كانت �ستوا�صل تلويث حياتك‪.‬ذلك النوع‬
‫البائ�س من الن�ساء يجد متعة يف �إ�ستغفال رجل و�إعالن اال�ستحواذ‬
‫عليه ثم التنويه بقهره و�إركاع قلبه الذي فقد مقاومته و�أ�صبح �ضحية‬
‫للحب والتعود‪ ،‬يوم ك�شف �أمرها و�أعلنت لنف�سك �إنتهاء �صالحيتها‪،‬‬
‫قد �أعلنت �أي�ضا دون وعي منك �أ ّنك قد �إنت�صرت ووجدت طريقا‬
‫‪ -1‬فيل�سوف و�شاعر �أمريكي ‪.1882-1803‬‬

‫‪28‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫لتعود �إىل ذاتك وحتتكر ملكية نف�سك لعقلك‪ .‬القلب عدو �إن �سار‬
‫�إىل غريك دون توجيه‪� ،‬ست�شعر حقا �أنَّ حياتك �أ�صبحت �أف�ضل و�أنك‬
‫�صت من عبودية احلب الذي ج َّر عليك الأمل واخليانة‪.‬لتن�سى‬ ‫قد تخ ّل َ‬
‫�أكرث‪.‬لتكون �أقدر على ممار�سة حريتك وحياتك اجلديدة‪.‬‬
‫مل ينتبها ملرور الوقت فام�ضيا �ساعتني على مو�ضوع ال ًتعرف له‬
‫نهاية‪ ،‬خ�صو�صا و�أنَّ عبد القدو�س �أغلق قلبه املحرتق ب�سر الغدر و�أمله‬
‫ومل يفتحه �إ ّال اليوم حينما وجد �أني�سه ورفيق طفولته الذي طاملا �أخذ‬
‫م�شاريع احلب اخلائبة على حممل اجلد و�أعطى �أ�صحابها اجلرعات‬
‫الكافية من م�سحوق الن�سيان الثمني عن طريق �أ�شعاره وكتاباته‬
‫املغرية‪ ،‬فقد رفع ال�ضماد عن جرحه ع ّله يخفف من �أمله �أو ليجد‬
‫له حلوال تكفل له الن�سيان فهو بثقافته العالية ي�ؤمن ب�أنّ على الكاتب‬
‫�أن يكون الف�أ�س التي تك�سر البحر املتجمد يف الأفراد وذلك على حد‬
‫قول فرانز كافكا(((‪ .‬غادرا ذلك املقهى ب�صمت‪� .‬شبح احلزن خ ّيم‬
‫عليهما دون �أن ي�شعرا به فدوما احلديث عن الأمل واحلزن يعطي‬
‫�شعورا �سلبيا يغطي على م�س ّرات النف�س وميت�ص طاقتها‪.‬‬
‫هم له �إال الأخبار‬ ‫عاد �إىل البيت مرهقا‪ ،‬الوالد كعادته ال ّ‬
‫ومايجري يف العامل العربي‪.‬ليته احتكر �إهتمامه‪ .‬بل يقحم كل من‬
‫يعرب على �شا�شته يف الربيع العربي والناتو وغريه ومن �شدة �إحرتامه‬
‫لأبيه مل يجد يوما مالذا للفرار من ال�شروحات والتف�سريات التي‬
‫ت�ستغرق يف اليوم �أكرث من ن�صف �ساعة والتي يرى فيها وقتا �ضائعا‬
‫وتفكريا مهدورا ال جدوى منه‪ .‬والده بلغ من الكرب مرحلة ال يجادل‬
‫‪ -1‬كاتب وروائي املانى ذو �أ�صول من الت�شيك ‪.1924-1883‬‬

‫‪29‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ر�سخها فيه الزمن فال ميلك �إال‬ ‫فيها يف قناعات قدمية و�إهتمامات ّ‬
‫م�سايرته وال�صرب على ماال يروقه منه على وجه الطاعة واملحبة وهذا‬
‫هو الأجدر ملن فقه الدين وتع ّلم �أ�صول احلياة ال�صحيحة وال�سليمة‪.‬‬
‫جل�س ين�صت للتحليل ال�سيا�سي الذي يتّهم فيه �إ�سرائيل بحياكة‬
‫م�ؤامرة �ضد العرب وامل�سلمني وي�شري �إىل قروب و�صول هاته امل�ؤامرة‬
‫�إىل اجلزائر وب�أنَّ الع�شرية ال�سوداء �ستعود من جديد لتكون حمراء‬
‫بدماء الإخوة الذين ف ّرقهم اليهود ب�صناعاتهم اال�ستخباراتية‪.‬‬
‫ماكان ليقلل من ثقافة والده ال�سيا�سية �إال �أنَّ تقدميها الب�سيط جعلها‬
‫تبدوا �ساذجة ومع مرور الزمن وا�ستمرار تلك احلرب البائ�سة �أ�صبح‬
‫مو�ضوعها ال يقت�صر على والده بل �شمل كل جمتمعه ال�صغري فتارة‬
‫ت� ُأ�سف و�أخرى حرية على و�ضع غري دقيق املعامل‪.‬‬
‫نام بعد حمام �ساخن �أزال عنه تعب التفكري واجل�سد‪ .‬فتحت‬
‫والدته باب غرفته وجدت يف نومه املالئكي مايثري ال�شفقة حيث نال‬
‫منه الإرهاق حلد ن�سيان غطائه وانكم�ش يتو�سل تلك الو�سادة �شيئا‬
‫من الدفئ �أو رمبا احلنان الذي افتقده يف واقعه فالتج�أ �إىل و�سادة‬
‫�صماء ت�شاركه �أنفا�سه وحنان �صدره ب�صمت‪.‬‬
‫الهاتف ي�صدح‪ ،‬ال�ساعة ت�شري �إىل ال�سابعة‪� ،‬إخرتق �أذنه �صوت‬
‫نارميان التي �إعتادت بجنونها ومرحها رفع �صوتها يف الهاتف حلد‬
‫يوقظ املوتى على حدِّ و�صفه‪.‬‬
‫‪� -‬صباح اخلري‪� ...‬إنه�ض هل ن�سيت �أنَّ احل�صة التطبيقية الأوىل‬
‫على الثامنة‪ ،‬هيا �إنه�ض يا ك�سول‪..‬‬

‫‪30‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬يا �إلهي مل اكتف من �ضجيجك يف الكلية حتى تطارديني به يف الهاتف‪.‬‬


‫‪ -‬يطيح �سعدك(((‪ .‬كون راك تندب على �أيامك‪ .‬كلي نوكل يف‬
‫الكونفتري للحلوف(((‪...‬‬
‫�إنقطع اخلط‪� ،‬ضحك برهة ثم قام من فرا�شه وهو يحافظ على‬
‫تلك االبت�سامة التي ارت�سمت على �شفتيه بفعل الأمثال ال�شعبية‬
‫التي طاملا �إ�ستخدمتها نارميان يف وقتها ومكانها املنا�سب‪.‬نارميان‬
‫طاملا احتلت دور البل�سم فما من �ضيق �أو �أمل �إال و�أزاحته بجنونها‬
‫و�ضحكاتها خمتلفة الألوان‪ ،‬دوما ما ت�صل مت�أخرة عن كل حدث �أو‬
‫ق�صة جرت‪ ،‬فتثري تارة ال�ضحك وت�سبب التعب تارة �أخرى ب�سبب‬
‫فهمها الثقيل وحبها للإحاطة بكل التفا�صيل خ�صو�صا و�أ َّنها تعتقد‬
‫يخول لها حق ال�س�ؤال و�إيجاد اجلواب ب�صفة‬‫ب�أنّ ح�سنها وجمالها ُ‬
‫ملزمة على الآخرين‪ ،‬فهي مطمع الرجال ومبتغاهم الذي يربكهم‬
‫�أمامها فتلبى كل طلباتها وتتلقى كل الأجوبة عن كل �إ�ستف�ساراتها‬
‫وبال�شرح الكايف‪� .‬إال �أمامه فتجد نف�سها تتعامل مع من ال يبذل � ُّأي‬
‫عناء يف توجيه العبارات املقللة واملفندة العتقادها‪ ،‬فقد �إعتادا‬
‫تبادل الأو�صاف الرديئة و�أ�ساليب التهكم‪.‬‬
‫كان يخ�شى �أن يقع ذات يوم يف حبها فكم من الع�شاق فتحوا‬
‫�أبواب احللم ب�ألفاظ وم�شاهد التهكم وال�سخرية فتالعب القدر‬
‫‪ -1‬عبارة �شهرية باللغة العامة اجلزائرية مفادها التهكم والتقليل من حجم‬
‫ت�صرف �أو موقف‬
‫‪ -2‬مثل �شعبي قليل اال�ستخدام مفاده اجلحود وعدم االعرتاف باجلميل‪ :‬كمن‬
‫يطعم املربى للخنزير فال فائدة ترجى من اطعام اخلنزير باملربى‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ب�أوراق قلوبهم ف�أ�صبحوا متيمني ي�صارعون �أوا�سر املحبة وال�شوق‪،‬‬


‫فتلك العالقات اجلميلة التي تخلوا من الربتوكوالت والر�سميات‬
‫دوما حتمل حبا �أعمق من غريها‪ ،‬فهي التي تن�ش�أ على يد الزمن‬
‫ترعاها الألفة والعادة ال كتلك العالقات ال�سريعة التكوين‪ ،‬ال�سريعة‬
‫التال�شي والزوال‪ ،‬حيث تفتقد روابطها يف �أول �إ�صطدام بالواقع‪.‬‬
‫وجدها تنتظ ُره يف احلديقة اخللفية التي ت�ضم‬
‫و�صل �إىل الكلية‪َ ،‬‬
‫الع�شرات من الع�شاق‪ ،‬اختلفت طرقهم يف التعبري فهذا ي�ضمها �إىل‬
‫�صدره ويهم�س يف �أذنها‪ ،‬وذلك مي�سك بيديها ويظهر مالمح الغزل‬
‫و�آخر ميار�س طقو�س الرغبة و�آخرون يرت�صدون �آخرين‪.‬‬
‫�إنها �أجواء باذخة يف الع�شق وكثريا ما تتحول �إىل �أماكن للتمتع‬
‫باخلالء‪ ،‬فال �سلطة هناك منذ �صار �أعوان الأمن ي�شتهون تلك‬
‫الأج�ساد التي ترى فيهم احلماية وال�ضمان‪ ،‬ف�آخر ف�ضيحة هزَّت‬
‫�أو�ساط الطلبة كانت يوم �أعلنت �إحدى الطالبات �أنّ رئي�س فرقة‬
‫ُ‬
‫يتحر�ش بها‬ ‫الأمن الذي بلغ من بيا�ض ال�شعر مايخفي قذارته‬
‫وي�ساومها املتعة‪.‬‬
‫هي مهزلة ب�أمت معني الكلمة‪ ،‬فمتى كان الرئي�س الكبري مظهرا‬
‫وعمرا يتحرى هاته الدناءة فكيف �سيكون حال �أولئك الذين‬
‫يرت�أ�سهم ومل تتجاوز �أعمار غالبيتهم الثالثني‪.‬‬
‫من غرابة املجتمع اجلزائري �أنَّ الت�سامح مع الأنذال عادة‪،‬‬
‫فمنذ احلقبة اال�ستعمارية ونظام «اجلماعة» والذي مفاده �أن تقوم‬
‫جمموعة من العقالء واالعيان بار�ساء دعائم ال�صلح قائم‪.‬الطالبة‬

‫‪32‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫مت ا�ستدعا�ؤها و�إقناعها ب�أنه متزوج و�أب لأطفال‪ ،‬هوعذر كايف‬


‫ح�سبهم كي تتنازل عن �شكواها‪ ،‬وياله من عذر باهت‪� ،‬أما هو الآخر‬
‫فتمت معاقبته �شفهيا بكلمة «ماحت�شم�ش(((» التي ال مردودية لها‪.‬‬
‫هذه املمار�سات �أ�صبحت ظاهرة اجلامعات التي تعرب الأ�سماع‬
‫ك ّل يوم وك�أ ّنها �أمر طبيعي‪ ،‬كما �أن هذه الظاهرة مل تقت�صر على‬
‫حمدودي الثقافة �أو العمال ذوي امل�ستويات ال�ضعيفة بل و�صلت‬
‫ع ّلتها �إىل بع�ض الأ�ساتذة و�أ�صحاب املراكز املرموقة‪ ،‬كتلك الطالبة‬
‫املجتهدة التي �صدمتها عالمة احدى املقايي�س ذات املعامل العايل‬
‫فبقيت لزمن طويل مفتوحة الفم‪ ،‬جاحظة العينني �أمام لوحة‬
‫الإعالنات التي ت�سببت يف �إغمائها بعد ع�شرة دقائق من النظر‬
‫املتوا�صل �إىل عالمة مل تكن يف احل�سبان‪.‬‬
‫حني توجهت �إىل الأ�ستاذ الدكتور امل�س�ؤول عن ذلك املقيا�س‬
‫ت�ستف�سره عن تلك اخليبة التي دمرت م�شروعها يف احل�صول على‬
‫املا�سرت‪ ،‬كان ر ُّده غريبا وهو ي�شرح لها ب�أنها عالمتها احلقيقية‬
‫و�أنّ جهدها الذي بذلته مل يحقق لها النتيجة التي انتظرتها‪ ،‬بعد‬
‫فراغه من �إقناعها ب�أنّ ال جدوى من الإحتجاج �أو طلب �إعادة النظر‬
‫عر�ض عليها حال �أخريا‪�:‬أن تزوره يف مكتبه يوم ال�سبت على ال�ساعة‬
‫التا�سعة لرمبا وجد لها خمرجا منا�سبا‪.‬‬
‫نظرت اليه وقد تغريت مالمح الأبوة التي طاملا ر�أتها فيه وح ّلت‬
‫مالمح ذئب ب�شري يرتب�ص بها‪ ،‬كالمه الذي خ ّفف وقع �صوته‬
‫وخ ّف�ض م�ستواه و�أ�صبح �أكرث ليونة يوحي بالكثري‪ ،‬مل جتد �أمام‬
‫‪ -1‬اال ت�ستحي‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫حاجتها من جهة وعدم زوال ال�شك باليقني من جهة �أخرى �سوى‬


‫التوجه اليه يف �صبيحة ذلك ال�سبت الذي م ّلت من �إنتظار مفاج�أته‪.‬‬
‫دخلت �صباحا �إىل ذلك الرواق املظلم‪.‬عدد قليل من الطلبة‬
‫وغياب �أغلب امل�ستخدمني‪ ،‬ال�سبت يوم عطلة ال تعمل فيه �إ ّال فئة‬
‫قليلة‪� .‬إنتابها اخلوف وهي تقطع �آخر اخلطوات املو�صلة �إىل مكتبه‪.‬‬
‫حلظات فقط‪.‬فتحت الباب بعد طرق خفيف لتجده بلبا�س غري‬
‫ر�سمي قريب �إىل بذلة النوم وكمن يذكره مبقامه جل�ست وهي تقول‪:‬‬
‫‪� -‬صباح اخلري دكتور‪ .‬عذرا رمبا �أرهقتك ف�أعلم �أ ّنك ال تعمل اليوم‪.‬‬
‫‪� -‬صباح النور يا ح�سناء‪ ،‬ال التعب لأجلك يعترب راحة فخدمة جميلة‬
‫مثلك �شرف‪..‬‬
‫�شعرت باالرتباك من كالمه‪ ،‬ووا�صل متنا�سيا �شرفه الأكادميي‪:‬‬
‫‪� -‬أنت خمتلفة متاما عن الأخريات‪� ،‬س ّر ما يحيط �أنوثة �إكتملت فيك‪.‬‬
‫�أمام ده�شتها بغزله حاولت التخفيف‪ ،‬وتب�سيط ما يقول ع ّله‬
‫يرجع �إىل ر�شده‪.‬‬
‫‪� -‬شكرا �أ�ستاذي‪ ...‬لكن �أخربين ماالعمل وما الذي �ستقدمه يل من‬
‫�أجل تلك العالمة؟‬
‫‪ -‬ي�ضحك‪ ...‬العالمة �شيء تافه �ستجدينها �ستة ع�شر فقط لأ ّنك‬
‫متفهمة؟؟ فهل هذا ير�ضيك؟‬
‫مل تنتتبه للفظ «متفهمة» وراحت ت�شك ُره بكل ماتعرف من عبارات‬
‫ال�شكر ثم ه ّمت باملغادرة‪ .‬ماكادت ت�صل الباب حتى وجدته قد قطع‬

‫‪34‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫طريقها و�أغلق القفل باحكام ت�أ ّكدت �أنّ توقعها مل يخب و�أنّ مامل‬
‫ت�شتهيه قد حانت �ساعته‪.‬‬
‫‪� -‬أتغادرين و�شوقي لك �أكرب من ال�شوق بذاته‪ ،‬كم انتظرت �أن نكون‬
‫وحيدين‪ ،‬ف�أنا ما�شعرت يوما ب�أنك طالبة كباقي الطالبات‪ ،‬بل دوما‬
‫كنت حلما يرفع ر�أ�سي �إىل �سماء الرتجي‪ ،‬هي �إذن �ساعة اال�ستجابة‪.‬‬
‫يتحدث وهو ميد يديه �إىل �أنوثتها املرجتفة‪ ،‬املرتبكة‪.‬‬
‫تعايل واجل�سي فلي حكاية معك لن تطول‪ ،‬كوين �أنثى كما ر�سمتك‬
‫يف اخليال‪ ،‬ال جتاديل �أنفا�سي وال متنعيها وا�ست�سلمي للقلب الذي‬
‫امتلأ بك‪.‬‬
‫متمر�س على اللغة وميلك زمامها‪ ،‬حاول �أن يكون يف �سنها ويقنعها‬
‫برذالته ودنو �أفعاله بكالم احلب الذي يحفظه عن ظهر قلب‪ ،‬وبع�ض‬
‫الورديات البالية‪ .‬مل جتد �أمام قوة �ساعديه التي ترجمها �ضغطه‬
‫على مع�صمها ب�شكل مل يعطها فر�صة للإفالت � ّأي عمل؟‬
‫‪ -‬دكتور‪ ..‬دكتور من ف�ضلك ت�أخر الوقت‪ ،‬دعني �أرحل‪...‬‬
‫وا�صل يف تعنته �إىل �أن متكن من القائها على حافة �أريكة �أع ّدت‬
‫ال�ستقبال ال�ضيوف‪� .‬ساعدته على فعله املخل باحلياء مالب�سها‬
‫ال�صيفية اخلفيفة‪ .‬نال مانال قوة وت�سلطا حتت ذرفها للدموع الذي‬
‫مل ينقطع متاما‪.‬‬
‫الأنذال الذين يتخفون ب�أقنعة العلم ميلكون من الق�سوة‬
‫والالمباالة يف تنفيذ خمططاتهم ماال يحيي �ضمائرهم‪ .‬هي مثال‬

‫‪35‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ب�سيط عن احلقارة اجلن�سية التي تختفي وراء �ستائر ربطات العنق‬


‫واملحافظ الفاخرة‪.‬‬
‫�شرعت نارميان ت�شرح له م�شاريعها التي مل تتجاوز �شراء علب‬
‫التزيني واملالب�س الباه�ضة الثمن‪ .‬كان من�شغال عن م�شاريعها‬
‫ال�ساذجة بالتفكري يف م�ستقبله وم�ستقبل غريه من ال�شباب فهو‬
‫يرى �أن خريجي اجلامعات يتكاثرون ب�شكل فظيع ومنا�صب ال�شغل‬
‫كل يوم حتد ندرتها �أكرث‪ ،‬هذا مايفتح الأفق �أمام �إ�ستفحال الآفات‬
‫االجتماعية والظواهر ال�سلبية‪.‬‬
‫�إنقطع تفكريه وهو ي�سحب يد نارميان ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬يا اهلل من تلك احل�سناء‪ ،‬هذا جمال؟ �أم جنون؟‬
‫راحت تبحث بعينيها‪ .‬من تق�صد؟ تلك الق�صرية التي ترتدي الأ�سود؟‬
‫رد بته ّكم‪ :‬هي ال ت�شبهك‪� .‬أنظري جيدا �أمام املدرج ‪ ،04‬هاهي‬
‫بح�سنها ترتدي الأبي�ض‪ ،‬ك�أ ّنها ملكة‪...‬‬
‫‪� -‬آ�آه تق�صد تلك التي ت�ضع نظارات �سوداء فوق ر�أ�سها‪!! ..‬‬
‫‪ -‬نعم هل تعرفني من تكون؟‬
‫‪� -‬أول مرة �أ�شاهدها هنا‪ ،‬رمبا �أتت من جامعة �أخرى عن طريق‬
‫التحويل �أو هي بدوية غيرّ ت مقر �سكناها‪.‬‬
‫مل يكن يف تلك الفتاة � ُّأي عالمة توحي ب�أنها تنتمي �إىل جهة �أو‬
‫جهة �أخرى‪� ،‬إال �أنّ اهتمامه بها ب�شكل خا�ص �أ�شعل الغرية يف قلب‬
‫نارميان التي مل تعتد �إهتمامه بالن�ساء‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪� -‬سحرتني ملرتني‪ ،‬لن �أغفر لها جتاهلها يل‪ ،‬كيف مل ت�شعر بوجودي‬
‫و�إهتمامي‪..‬‬
‫تهقهقه‪ ...‬هل تعرفك؟‬
‫‪ -‬ال ولكن من املفرو�ض �أنّ قلبها يعرف قلبي الذي �إهتز للمرة‬
‫الثانية‪ ،‬لكن لن �أ�ضيعها الثالثة كوين مطمئنة‪.‬‬
‫‪ -‬هل �أطمئن و�أنت تبحث عن امر�أة ال توليك � ّأي اهتمام‪ ،‬هيا لنغري‬
‫املكان فقد مللت اجللو�س هنا‪.‬‬
‫غيرّ ا املكان وجل�سا يف �أحد املدرجات الفارغة‪ ،‬بعد �أن علما �أنّ‬
‫اال�ستاذ املحا�ضر قد �ألغى املحا�ضرة وع ّو�ضها ب�أخرى يف توقيت �سيحدد‬
‫الحقا ال�صمت خ ّيم عليهما ومل يجد و�سيلة يك�سر بها �سكونا طال �أمده‬
‫�إ ّال ورقة بي�ضاء وقلم �أ�سود حملهما وبد�أ يدون �أفكارا عابرة‪ .‬تل ّمحت ما‬
‫يكتب بنظرة خاطفة فهي تخ�شى �أن ي�صطاد نظراتها فيتهمها بالتطفل‪.‬‬
‫�س�ألته عن اخلرب�شة التي يقوم بها‪� .‬أجاب ب�أنه الف�صل الأخري‬
‫لرواية ق�ضى �سنتني يف العمل عليها‪ .‬مل تعرف عن موهبته وميوالته‬
‫الأدبية �شيئا من قبل‪ ،‬لكنها مل ت�ستطع تقبل وجود م�شروع يف حياته‬
‫مل تعلم به من قبل وهي التي طاملا كانت ظله‪� .‬س�ألته عن فحوى هذا‬
‫الف�صل وعن �أ�سماء �شخ�صيات الرواية وك�أنها تنتظر �أن جتد ا�سمها‬
‫�ضمن عمله الروائي وملا ت�أكدت من عدم وجوده‪� ،‬س�ألته ب�صيغة‬
‫مبا�شرة عن مكانها يف عمله ووجود �إ�سمها من عدمه‪.‬‬
‫‪� -‬أين هو ا�سمي‪� ،‬أمل ت�ستخدمه؟ �أم عملك يخلوا من احل�سناوات‬
‫اللواتي ي�شبهنني؟‬

‫‪37‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬يبت�سم‪ :‬رمبا اذا احتجت �إىل �شخ�صية امر�أة بلهاء �س�أوظف‬


‫�شخ�صيتك ودون �شك �سيتعطل خيايل‪� ،‬أما �إ�سمك فقريبا‬
‫�س�أ�ستخدمه لأنَّ عجوزا �شمطاء �ستكون �ضمن ال�شخ�صيات ونارميان‬
‫هو الأ�صلح لها‪.‬‬
‫نظرت �إليه وهي ترفع عينيها من قدميه �إىل �شعره‪ ،‬تقي�س حجمه‪.‬‬
‫حمرة بدت على وجنتيها وما �إن رفع ر�أ�سه عن تلك الورقة حتى تل َّقى‬
‫لطمة على رقبته و�ضربة خفيفة على �ساقة ف�صاح‪:‬‬
‫�آ�آه �سروايل �أبي�ض �ش ّوهته برجلك املمتدة‪� ،‬ستغ�سلينه �أنت‪.‬‬
‫‪� -‬س�أغ�سل دماغك من كالمك هذا الذي ي�شبه مالحمك‪.‬‬
‫‪� -‬ضحكا مطوال ثم عاد ال�صمت �إليهما‪� ،‬أم�سكت يده بهدوء و�أزاحتها‬
‫عن الورقة فرتاءت لها كلمات مل تتقن فهمها فقالت‪:‬‬
‫‪ -‬حدثني عن هذه الرواية وقبل كل �شيء ماعنوانها؟‬
‫‪ -‬حديثها طويل و�شاق‪� ،‬أما عنوانها فهو «�شهادة ميت عائد من قرب‬
‫اخليانة»‪ .‬تتحدث عن احلب �أو لي�س لنا �إ ّال احلب نكتبه‪� ،‬إنه حب‬
‫كبري مل تبق له �إ ّال خطوات لي�صل �إىل تتويج بالزواج‪ .‬ملا �شعر بقرب‬
‫الو�صول قفز يف حماولة للإم�ساك بذلك الهارب املتعنت ف�سقط‬
‫متعرثا بحقيقة اخليانة‪� ،‬آه من تلك املعاناة التي �أر�سمها بالكلمات‪،‬‬
‫�أرهقني امل�ساء فكل يوم �أجد نف�سي �أبحث عن اللغة املت�شردة التي‬
‫�ض َّيعت البو�صلة �أورمبا ت�شو�شت بفعل القدر الذي اهرت�أ جراء‬
‫حياكته للم�آ�سي الروحية املتكررة والتي �أ�صبحت ت�شبه خبزنا‬
‫اليومي‪� ،‬أتدركني؟ كان يريد الزواج منها متنا�سيا �أنّ الزواج هو‬

‫‪38‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إعالن حرب على احلرية وبداية �إنتحار للفن الذي منار�س به حياتنا‬
‫ال�شخ�صية‪� ،‬إنه مر�ض مزمن يبيد كل حلم بداعي الروابط الأ�سرية‬
‫ومبد�أ امل�س�ؤولية الذي ال يحقق طموح احلاملني بال�سالم الروحي‪� .‬إنه‬
‫�شبيه باملوت‪ ،‬فقط ال يقربك يف الرتاب �إمنا يف ذاتك لتتعفن با�سم‬
‫تلبية الرغبات الدنيئة مع ج�سد يتهالك يوما بعد يوم‪.‬‬
‫‪� -‬إخت�صر و�أخربين من �أبطالها وماهو مو�ضوعها ف�أنا ال �أفهم هاته‬
‫العبارات املت�شنجة‪.‬‬
‫‪ -‬مت�شنجة‪ ...‬الت�شنج �أ�صاب عقول الكثريين وح ّولهم �إىل كومة من‬
‫النفايا الع�ضوية‪� ،‬أمتنى �أنَّ النظام الداخلي لعقلك ال يزال يعمل فرمبا‬
‫�ستقتنعني ذات يوم �أن ن�ساء اليوم ماعدن قادرات على الوفاء لأحد‪.‬‬
‫‪ -‬تتحدثون عن الوفاء ك�أنكم �أ�سياده املخل�صني‪...‬‬
‫‪ -‬رمبا ل�سنا �سادة الوفاء لكننا �أي�ضا ل�سنا �آلهة للخيانة‪ .‬الوفاء هو‬
‫�أن ت�شعل نارا قد تنري طريقك وقد حترقك واليهمك االثنان فقط‬
‫با�سم احلب‪ ،‬فهو عبودية تتطلب ال�صرب بذريعة رابطة ال منلك‬
‫�إجتاهها � ّأي �ضمان‪.‬‬
‫‪ -‬عد بي �إىل لب الرواية وكفاك ت�شعبا وفل�سفة‪..‬‬
‫‪ -‬رواية واقعية ت�ستمد �أحداثها من واقع ب�شع �سبب الكثري من الأمل‬
‫لأحمد الذي كان يعمل كمتعاقد مع اجلي�ش طوال �سنوات الع�شرية‬
‫ال�سوداء التي م ّرت على اجلزائر دمارا وفجائعا متتالية فكان �صربه‬
‫على الدماء التي ل ّوثت يده و�ضمريه يف حرب �أبناء الوطن الواحد هو‬
‫امر�أة‪ .‬دوما ا�ستب�سل يف �صراع البقاء لأجلها ويف كل رمية ر�صا�ص‬

‫‪39‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ينادي ب�صوت يهز جدران روحه «�أحبها» حتى �أن املعارك ملا ت�شتد‬
‫وتقوى نريانها كان يرفع من معنوياته بتقبيل �إ�سمها الذي جعل منه‬
‫و�شاما ال يزول‪ ،‬كان حبا �شبيها باخلرافة يف عنفوانه‪ ،‬فالحدث‬
‫ي�شبه حوادث الع�شاق‪ ،‬فالهيام الغريب هو ذلك الذي ك َّلما �إمتدت‬
‫امل�سافة بني �أطرافه كلما زاد توهجه‪ ،‬فهو يعلن عن وجوده يف كل‬
‫خطوة ابتعاد ج�سدي ال روحي‪.‬‬
‫�أ�صيب ذات يوم يف مواجهة مع جمموعة �إرهابية بجبال‬
‫ال�شلعلع(((‪ ،‬كانت �إ�صابته مميتة لوال قدر اهلل ولطفه كاد ي�ست�سلم‬
‫للموت لوال �إ�سمها الذي ه ّز ال�سماء ورفع �صداه اجلبال وهو ينادي‬
‫«زوليخة» لن �أموت» فما كان ليحافظ على احلياة ومل يكن يعنيه‬
‫بقا�ؤه كما كان يعنيه حبه الذي �إنتظر كثريا فهي ال�سنة العا�شرة وهو‬
‫يكابد امل�شاق ويعد ماا�ستطاع ومامل ي�ستطع من �ضروريات وكماليات‬
‫احلياة الزوجية ويف كل مرة تذرف دموع الي�أ�س وهي ت�س�أله عن‬
‫خطوبة طال �أمدها وجف ندى الإنتظار الذي كانت مت�سح جبينها‬
‫برطبه يف كل انقطاع لل�صرب لتحيا من جديد‪�.‬أحداث كثرية �ض ّمتها‬
‫هاته الرواية لن تكفينا ال�ساعات للحديث عنها وو�صف �أحداثها‪.‬‬
‫‪� -‬ش ّوقتني كثريا‪.‬متى تكملها لأكون �أ ّول قارئة‪ .‬ال �أظن �أنك �ستبخل‬
‫علي ب�شرف هكذا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪ -‬ال �أدري فرمبا هاته الرواية �ستنهيني معها‪ ،‬فما عدت �أطيق نقل‬
‫اخليال واحلقيقة يف هاته القوالب اللغوية العاجزة‪ .‬حقا �أنا م�صاب‬
‫‪ -1‬مكان �ساحر وذو مناظر طبيعية خالبة جبل �شاهق يقع �شرق مدينة وادى املاء‬
‫(والية باتنة) ي�صل علوه ايل حوايل ‪1848‬م‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫بارهاق مزمن ي�ستوجب ل�شفائه �إعمال قطيعة مع القلم ملدة قد‬


‫تطول كثريا‪.‬‬
‫‪ -‬كيف �إنتهى هذا احلب فعادة للروايات نهاية؟‬
‫‪ -‬احلب ال ينتهي لأنّ نزوله ال�سماوي ال ميلك �سبيال للزوال فهو‬
‫�شبيه بهذا الكون الذي ال يزول �إال بزوال من عليه وفنائهم فهو لزام‬
‫يخت�ص بالأبدية‪.‬لكن �أحمد كان مثاال لالخال�ص فبعد �أن �أخربته‬
‫بفقدها للعذرية ماا�ستطاع تقبل مابدى له خياال‪ ،‬فطاملا تغ ّنى‬
‫بطهرها‪.‬وماا�ستطاع �أن يفقدها بيده ويرتكها خلفه‪ ،‬فاختار �أن يفقد‬
‫عقله‪ ،‬ف�أ�صبح ذلك ال�شاب الو�سيم جمنونا ي�سري يف الطرقات‪ ،‬ي�سخر‬
‫أطفال‪.‬جنَّ وذهب قلبه بعقله فتلف‪.‬اجلنون كما هو معروف‪،‬‬
‫َ‬ ‫منه ال‬
‫كثريا ما�سلط على مر�ضاه �شيئا ما �أو ت�صرفا غريبا حمددا‪ ،‬كانت‬
‫علته امل�شي دون هدف ويف � ِّأي طريق فتحول حلم والديه �إىل فاجعة‪.‬‬
‫يبكيانه طوال الوقت ويت�ضرعان �إىل اهلل �أن ي�شفيه من �أزمة قد‬
‫تطول مدتها وتختلف ن�سبة االمل يف ال�شفاء منها من �شخ�ص لآخر‪.‬‬
‫�أتعلمني يا نارميان �أن للحب قدرة على هدم عقول مرتاديه‬
‫و�إقحامهم يف اخلبل‪ .‬احلب ميلك قدرة خرافية على �صنع املعجزات‪،‬‬
‫كما �أنّ له نف�س القدرة على �صنع الفاجعات‪ ،‬واجلنون يبقى اخليار‬
‫النهائي للعقل املتجرع له بافراط �إن انهزم يف معركة اخلروج من‬
‫دائرة الوهم �إىل احلقيقة فالذي يف�صل احلب والوهم خيط رفيع‪،‬‬
‫فالب�شرية كافة تعي�ش على مطلب ال�سالم واحلب ل�سبب واحد وهو‬
‫توفري الراحة النف�سية التي بفقدها ي�صبح الفرد جثة تتحرك دون‬
‫�ضا ّلة �أو هدف‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫مل ينتبها �إىل مرور الوقت وخلو املدرج من ثلة الطلبة الذين كانوا‬
‫منت�شرين يف زواياه فجلو�سهما وحيدين يعترب لدى �أعوان الأمن‬
‫�شبهة حتتاج �إىل التخل�ص منها فهم ال يتوانون يف ردع كل اثنني‬
‫يتجال�سان مهما �أوحى مظهرهما‪.‬‬
‫د ّقت �ساعة اجلوع‪�.‬أوقف مداده ونه�ض وهو ين�سق �سرواله الذي‬
‫انكم�ش متنهدا فقد �شعر �أنّ كالمه كان كثريا وهو الذي ال يتكلم‬
‫�إ ّال مبيزان ل�سانه وعقله م�سببا لنف�سه الكثري من التعب على غرار‬
‫نارميان التي ال تتوقف عن الرثثرة �إ ّال للنوم فدوما تعيب عليه‬
‫ق ّلة كالمه وخف�ض �صوته وتتهمه بتمثيل دور النجوم الكبار الذين‬
‫ترت�صد ال�صحف زالتهم و�أخطائهم فهم حما�سبون عن كل كلمة‪.‬‬
‫خرجا متوجهني �إىل بتزيريا قريبة من املركز اجلامعي القدمي‪.‬‬
‫قدمي ب�أمت معنى الكلمة فلي�س يف الكلمة �إ�شارة �إىل كونه عتيق‬
‫وفقط بل مهرتئ �أي�ضا فهو �أول من �إ�ستقبل م�شروع تكوين جامعة‬
‫حممد الب�شري االبراهيمي(((‪ .‬توفر املحالت التجارية جعلت له‬
‫ميزة حتظى بها كلية احلقوق على غرار باقي الكليات التي تتمركز‬
‫على بعد كيلومرت فتحتاج �إىل و�سيلة نقل �أو انتظار النقل اجلامعي‬
‫من �أجل الو�صول �إىل تلك املحالت وق�ضاء خمتلف احلوائج‪.‬كانت‬
‫البتزيريا �شبه خالية �إ ّال من عا�شقني �إثنني جل�سا على مقربة منهما‪.‬‬
‫�أتى النادل بتلك االبت�سامة العري�ضة امل�صطنعة‪.‬‬
‫قطعا كالمه ب�أحد الطلبات املعرو�ضة يف قائمة يحفظانها عن‬
‫ظهر قلب من فرط تعودهما على ماتقدمه هاته البتزيريا التي‬
‫‪ -1‬من اجلامعات اجلزائرية الفتية تقع بوالية برج بوعريريج ومت افتتاحها �سنة ‪.2000‬‬

‫‪42‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫تعترب الأكرث �شعبية لدى الطلبة فاجلودة التي تعمل بها نظري االثمان‬
‫املعقولة جعلتها ت�ستقطب �أعدادا كثرية ففي الكثري من االحيان ال‬
‫جتد مكانا لنف�سك وقت الغداء‪.‬‬
‫و�صل طبقهما املف�ضل كان �سي�سحب �شطرا منه لوال �أن و�ضعت‬
‫يدها على يده و�أوقفته لتحمل قارورة ال�صل�صة وتكتب فوق الطبق‬
‫الذي ال يزال �ساخنا «�أكرهك»‪.‬‬
‫متعن يف �إبداعها الذي مل يعرفه من قبل ثم �إبت�سم قائال‪:‬‬
‫�أتعلمني �أنّ نزار قباين يقول ب�أنّ �أجمل حب هو الذي نعرب عنه‬
‫بالكراهية‪...‬‬
‫�صمتت ومل جتد ردا‪� .‬شعرت بالإفحام‪ .‬ماكانت تنتظر �إجابة �أو‬
‫رد فعل �صارم فعادته يف التهكم وال�سخرية ما �أتاحت لها �أن تتوقع‬
‫هذا الرد‪ ،‬خفق قلبها وهي ت�شعر �أنها قد �إنف�ضحت بحبها مل ّرتني‬
‫يف يوم واحد وهذا موقف ال ي�شرف �أنوثتها التي �إعتادت الكربياء‬
‫و�إخفاء امل�شاعر‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي يدفع بك �إىل التحاف هاته البذالت التي ال تروق �سنك‬
‫فنعومة �أظافرك وبراءتك لن تغطيها بذلة كال�سيكية ال معنى لها‪.‬‬
‫‪� -‬أت�سخرين‪� ،‬أم تغارين؟‬
‫‪ -‬ت�ضحك‪� .‬أغار منك؟ وهل جننت لأفعل ذلك وتوا�صل �إطالق‬
‫�ضحكاتها التي �أثارت انتباه اجلميع‪.‬‬
‫مل يجد من و�سيلة ي�ستعيد بها الهدوء �سوى و�ضعه ليده على‬
‫فمها‪ .‬ما �إن الم�ست �أ�صابعه �شفتيها حتى ا�ستقر �صوتها يف جوفها‬

‫‪43‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫وا�سرتخت رمو�شها‪ ،‬وك�أن �إح�سا�سا جديدا وغريبا ت�سلل �إليها دون‬


‫�سابق �إنذار‪ ،‬مل تعرف للت�سرت طريقا فقد و�شت بها �أحا�سي�سها التي‬
‫�ضاعت يف مل�سة‪ .‬ماكاد يلتم�س �صمتها حتى التم�س ن�شوتها ف�سحب‬
‫�أ�صابعه الو�سيمة يف خفة واعتذر بابت�سامة متوجة ب�شيء من حمرة‬
‫أح�س ب�إرباكه لأنوثة ما اعتادت املالم�سة‪ ،‬ف�شفتاها‬ ‫الوجه فقد � ّ‬
‫العذراوين ال يزاالن بغ�شاء خوفهما ينتظران الرع�شة الأوىل من‬
‫حب ت�أخر‪.‬‬
‫قطع �صوت غليظ ذوبان ح�سيهما فا�ستجمعا �شتات اجلوارح‬
‫وعادا �إىل اليقظة‪.‬‬
‫�سخرية مليكة انت�شرت يف �أرجاء املحل وزادها انت�شارا �صوتها‬
‫اخل�شن الذي مل يعرف طريقا للأنوثة‪ .‬رحبا بها بتقزز غري م�سبوق‬
‫فقد قطعت عليهما توددا جميال �صنعه الهدوء و�شبه اخللوة‪� ،‬أخذت‬
‫ت�سرد جديدها وقد عاد �إليها �شيء من الهدوء‪..‬‬
‫‪ -‬هل علمتم �أنّ والدة �أ�ستاذ القانون الد�ستوري ماتت وقد ال ندر�س‬
‫�أ�سبوعا‪ ،‬ثم تطلق قهقهة تعلن جهرا �أنها فرحة لهذا اخلرب الأليم‪،‬‬
‫ردت نارميان ومالحمها قد �إكفه َّرت‪:‬‬
‫‪ -‬منذ متى نفرح باملوت‪ ،‬كم �أنت قا�سية يامليكة‪...‬‬
‫‪� -‬أنت دوما تنتهزين الفر�صة لتربزي حنانك �أمام الغري‪ ..‬تتكلم‬
‫وهي تنظر �إليه كي ت�شعرها بالت�صنع والتظاهر‪.‬‬
‫تدخل بهدوء رجل يفقه غمز الن�ساء‪ .‬دعا مليكة �إىل تناول �شيء‬
‫ما وراح ي�س�ألها عن حبيبها وم�شروع زواجها العاطل منذ �سنوات‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�شعر �أنه دا�س على مو�ضع الأمل و�أحياه حني اغرورقت عيناها ولزمت‬
‫وهم يعتذر منها �إ ّال‬
‫ال�صمت‪� .‬أح�س بالذنب ومل يجد الكالم املنا�سب َّ‬
‫�أ ّنها قاطعته وهي جته�ش بالبكاء وتطلق متتمات غري مفهومة‪.‬‬
‫م�سحت نارميان على ر�أ�سها وو�ضعت قبلة على جبينها ُر�سمت‬
‫ب�أحمر �شفاهها الذي �أعادت ترميمه قبل حلظات‪� ،‬إعتدلت مليكة‬
‫امله�شم بعد �أن �سكبت �شيئا من‬ ‫يف جل�ستها و�أخذت ت�سرد واقع قلبها ّ‬
‫ال�صودا تعيد به البلل �إىل �شفاهها التي ج ّفت‪.‬‬
‫‪� -‬إنّ الو�ضع االجتماعي كثريا ما يحرق القلوب مبا فيها من‬
‫احلب‪ ،‬كم حلمنا �أن ي�صبح حبنا خالدا و�أن ترتجم �أوا�سره �إىل‬
‫�أ�سرة نعي�ش بها ولها ونهبها من �أعمارنا الأيام والليايل‪ ،‬لكن دوما‬
‫الأنني ي�شق الب�سمة ويك�سر �أيامها بحواجز نهرم وال ت�سقط كجبال‬
‫عتيقة ال زوال لها �إ ّال بزوال هاته الدنيا ومن فيها‪.‬يوم قرر خطبتي‬
‫�إبتهج اجلميع فكل �أفراد عائلته و�أ�صدقائه ال يزالون قيد احللم‪.‬‬
‫فهذا الإبن البكر الذي رف�ض الزواج من الكثريات رغم �إحلاح �أمه ال‬
‫يزال لغزهم املحري‪ ،‬وجاء اليوم الذي ين�سحب من مائدة ال�شهوات‬
‫ويدخل قف�صا فيه �شهوة احلب والأحادية و� ُّأي حب نلنا‪.‬‬
‫�أمه كانت تنتظر �أن ير�سلها خاطبة �إىل �إحدى الأ�سر املرموقة‬
‫ذات ال�صيت واجلاه وما �أن �سمعت ا�سمي وابنة من �أكون حتى‬
‫ثارت راف�ضة لهذا الزواج و�أق�سمت ب�أغلظ االميان �أن وجهي لن يلج‬
‫بيتها مادامت على قيد احلياة وال �سبب �سوى �أين تلك اليتيمة التي‬
‫�إختطف املوت �أباها وهي يف عمر الر�ضاعة ليرتك لها �أما ت�صارع‬
‫اجل َّفاف يف بيوت الأثرياء ل�سنوات ويوم رحمها الزمن‪،‬‬ ‫لوحدها َ‬

‫‪45‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�أ�صبحت ت�شتغل عاملة نظافة يف البلدية ب�أجر زهيد ال يدافع عنه‬


‫�سوى �أنها يف من�صب ثابت وم�ستقر‪ .‬هكذا �أهانني الفقر �أمام احلب‬
‫وهكذا غا�صت �أحالمي يف ال�سراديب املظلمة ال �أنكر �أنه مل يتخل‬
‫عني حبا لكنه تخلى عني كم�شروع للزواج فهو يدرك جيدا �أنَّ ت�صلب‬
‫�أمه ال يق�ضي عليه �شيء و�أنّ هذا املوقف املتجرب لن ترجع عنه وهي‬
‫التي اكت�سبت الكرب من املال الذي جتنيه من م�شاريع زوجها الذي‬
‫غادر البالد �آمال يف تو�سعة �أعماله لتحقيق ربح �أكرب‪ ،‬فظلت عالقتنا‬
‫قائمة لكنها تعاين اله�شا�شة فال خري يف حب ال يكرب وعاجال �أم �آجال‬
‫�سين�ساين �إما بالزمن �أو بامر�أة �أخرى تفر�ضها عليه �أمه‪.‬‬
‫�صمت اجلميع وقد �أطبق احلزن على ال�شفاه �إىل �أن قطعه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬الت�سدي رواق الأمل ودعي �شعاعه ي�سري فرمبا بالغد هناك حلم‬
‫�آخر حمقق ولع ّل توقيت حظك مل يحن بعد فكما ت�شكني يف �أنَّ امر�أة‬
‫اخرى �ستن�سيه‪� ،‬سي�أتي دورك لتقتحمي بوابة الن�سيان برجل يحبك‬
‫ويخ�شى عليك حتى من الهواء‪.‬‬
‫�إبت�سمت بدموعها وعلى وجنتيها حمرة فاتنة وقالت وهي مت�سح‬
‫�أنفها مبنديل ورقي‪:‬‬
‫‪ -‬ربي يجيب اخلري ويل حبها ربي مليحة‪.‬‬
‫‪ -‬نطقا ب�صوت واحد‪� ..‬سبحانوا‪....‬‬
‫قاموا‪ .‬وهم يعيدون الكرا�سي �إىل �أمكنتها‪� ،‬سبقهم �إىل القاب�ض‬
‫فدفع ثمن الغداء وغادروا نحو النقل اجلامعي‪ ،‬حني و�صلوا كان‬
‫االكتظاظ �شديدا‪ .‬و َّدعهما طالبا منهما التقدم نحو الأبواب املكتظة‪،‬‬
‫�أما هو ف�سيتدبر �أمره‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ما فتئت حافلة النقل اجلامعي تنطلق حتى ركن �صديق قدمي له‬
‫�سيارته �أمامه �سائال �إياه ان كانت وجهته هي منزله‪� ،‬صعد �إىل ال�سيارة‬
‫وهو ي�شعر براحة فقد تخل�ص من التفكري يف النقل الذي ال �أمل فيه‪.‬‬
‫عاد �إىل البيت تعبا‪ ،‬مرهقا ويف نف�س الوقت يحمل على عاتقه‬
‫�أحا�سي�سا مربكة ال تخل�صه منها �إ ّال الكتابة‪ .‬بعد حمام �سريع حمل‬
‫�أوراقا بي�ضاء وقلما واجته �إىل حديقة البيت يبحث عن �إلهام يفرغ‬
‫فيه ما�أثقل كاهله كي يتم ّكن من النوم الحقا دون �أرق فم�شكلة الذي‬
‫يكتب ال�شعر �أنّ هاته الكتابة ت�صبح جزءا من حياته ال ي�ستطيع‬
‫الفرار منه‪.‬كما �أنّ �أحا�سي�س ال�شاعر �إجتاه �أمل الغري �أكرث �شدة من‬
‫غريه‪ ،‬فكثريا ما�أم�ضي ه�ؤالء ليايل يف الوحدة ي�صارعون �آهات‬
‫قرائهم �أو زمنهم �إن تعكر وفقد �صفوه بالنزاعات الروحية واملادية‬
‫التي وان ح َّلت فانها جتوع القلب فرحا وجتعل من احلوا�س جمامرا‬
‫جم ّردة من الأحا�سي�س اجلمالية‪ ،‬فال ترى يف اجلميل �إ ّال العيوب‬
‫فتحت�ضن الظالم ويبقى خليلك الذي ال يفارقك‪.‬‬
‫يف اليوم التايل �إ�ستيقظ ثمال ب�أحالمه الكثرية التي �إنهمرت‬
‫عليه يف ثنايا فرا�شه الوثري‪.‬فمنذ زمن عقد قرانا مع الأحالم التي‬
‫تقاربت مع �أمانيه يف الواقع ال�شحيح فخياله املو�سر كثريا ما �أقحمه‬
‫فيما ت�شتهي نف�سه من الرغبات الق�صية لذلك دوما يف �أحاديثه عن‬
‫الأمنيات يقت�ضب القول م�شبها نف�سه ب�أ�ضغاث الأحالم التي متر‬
‫كما متر �سفينة يف بحر فال تثري فيه �شيئا‪.‬‬
‫االن�سان دوما حني يحاط بواقع مبتذل فانه يبتدع �أ�شياء كي تزيل‬
‫عنه املرارة‪ ،‬لكن دوما تتعطل �أبواق ال�سعادة كي ت�صدح الرداءة‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫فجراح الوطن الذي نال منه �أبناءه‪ُ ،‬تبكي ثورته التي هزّت التاريخ‬
‫ودونته بطولة و�أجمادا جميلة‪� ،‬أما اليوم فاملبادئ التي ر�سمها �سادة‬
‫احلرية الأولون قد �ضاعت يف ق�سمة ل�صو�ص نهبوا الأحالم والأماين‬
‫وتركوه جثة با�سم ال�شرعية الفا�سدة التي �أعطت احلق ملن الحق‬
‫لهم يف �أن يرتمنوا بالت�ضحية بنا �أج�سادا و�أمواال كي ينهبوا خريات‬
‫اجلماعة ويغت�صبوا ماتبقى من �أعماقنا ومن دموع القلب اجلريح‪،‬‬
‫فكثري من الدفاع يف هذا الوطن ماكان لنا بقدر ماكان علينا‪ ،‬ونحن‬
‫الذين ظننا �أنه مك�سب نهدم به التطرف العقائدي مبختلف �صنوفه‪،‬‬
‫فكنا يف طرف �آخر و� ّأي طرف الذي يقف فيه �شعب ي�شاهد �إقت�سام‬
‫الوطن بعينني فارغتني ال تمُلأ �إال دما‪ .‬قو�ضت �أركان االبت�سامة‪،‬‬
‫ف�أين ذلك ال�سيف البتار الذي �سيقتلع �أولئك املجرمني و�أي �أجل‬
‫م�سمى قد يحني وال يحني‪.‬‬
‫دخل اجلامعة مبعنويات متذبذبة‪ ،‬ال يدري �إن كان �سيقدر‬
‫على موا�صلة الدرا�سة يف يوم �شاق ُيبدي امللل من مالحمة الأوىل‬
‫الباهتة‪ ،‬تفاج�أ وهو يرى عبد القدو�س يجل�س مع فتاة جميلة يف ركن‬
‫من �أركان احلديقة‪ ،‬وبدا تعجبه من ات�ساع مقلتيه وت�ساءل �إن كان‬
‫قد �شفي من احلب الذي �أعماه �سابقا وجعل منه كومة من احلزن‪.‬‬
‫�أوقف الأ�سئلة التي تدور بذهنه وهو يبتعد عن املكان خ�شية �أن يراه‬
‫فيحرجه‪.‬توجه نحو العمادة باحثا عن ال�سكرترية التي ترك لها‬
‫ّ‬
‫ملفا يتطلب توقيع العميد‪ ،‬ماان و�صل �أمام الرواق الأول حتّى اهتز‬
‫ف�ؤاده الذي اعتاد ال�سكون و�أح�س �أن الف�صول االربعة تعرب حوا�سه‬
‫يف حلظة �إنقب�ض قلبه وهو يرى تلك احل�سناء التي �إنبهر بها �سابقا‬
‫و�ض َّيعها يف حلظة حياء‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إنتبهت لوجوده وكيف ال ونظراته ت�شق الهواء و�أنفا�سه متد‬


‫جناحيها نحو مالحمها اللطيفة‪� ،‬إقرتب منها قليال ف�ألقت ن�سائم‬
‫عطرها �أمواجا رطبة تدغدغ �أنفه وحتيي �أحا�سي�س اجلمال‬
‫اخلامدة‪.‬كاد يلقي عليها التحية لومل ي�صب �صوته بعطب فبات‬
‫�شبيها باحل�شرجة‪.‬‬
‫أح�ست ب�ضيق ممرات �صوته فقطعت عليه اجتهاده بابت�سامة‬ ‫� ّ‬
‫وردت عليه حتية مل ينطقها وهي تقول‪� :‬صباح النور يا طالب؟؟‬
‫�سار مبتهجا ب�ضع خطوات‪� ،‬إ ّال �أنَّ رنة «طالب» يف �أذنيه ال تزال‬
‫تدق‪ ،‬وا�صل ال�سري و�ألف �س�ؤال يتوالد يف ذهنه‪ ،‬ما�أدرك �سر هاته‬
‫أهي �أنثى م�شاك�سة تع ّمدت تدويخه بخلق موقف غريب �أم‬ ‫الفتاة � ّ‬
‫هناك �أمر �آخر ما �إ�ستطاع فكره �إليه �سبيال‪.‬‬
‫ما َوجد طريقة يكفكف بها �أحا�سي�سه التي تنهمر ب�ش ّدة فجمالها‬
‫ماكان عاديا‪ ،‬وماا�ستطاع �أن ُيخرج م�شاعره من الناوو�س الذي‬
‫كانت فيه وهاهي دقات قلبه تت�سارع وهي تبتعد �شيئا ف�شيئا‪.‬‬
‫وقفت نارميان قريبة منه تالحظ �شروده‪.‬ماكان ف�ضولها �سي�سمح لها‬
‫�أن توا�صل الوقوف على بعد خطوات وهو يف حالة حتجر‪ ،‬تقدمت نحوه‬
‫مترر ميناها على �أحداقه كي تخرجه من التيه الغريب الذي �إنتابه‪.‬‬
‫‪ -‬هل ر�أيتها‪ ،‬هاهي يف �آخر الرواق تبتعد‪...‬‬
‫زيديني ع�شقا‪ ..‬زيديني(((‪...‬‬
‫يا �أحلى نوبات جنوين‪...‬‬
‫‪ -1‬مقتطف من ق�صيدة «ج�سمك خارطتي» لل�شاعر الكبري نزار قباين‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫يا �سفر اخلنجر يف �أن�سجتي‪..‬‬


‫يا غلغلة ال�سكني‪...‬‬
‫تقهقه نارميان كعادتها وتتهكم‪.‬‬
‫‪ -‬ياليتك نطقت ب�شئ من تَرهات �شعرك‪� ،‬ألن تكتف من نزار قباين؟‬
‫‪ -‬نزار من ال�شعراء الذين ال نخاف �شعرهم فهو مينحك على قدر‬
‫املوقف الكالم املوزون اجلميل‪� ،‬أما �شعري �أنا فلي�س فيه من كالم‬
‫الع�شق �شيء فكله ترعرع يف وهاد اخليانة والأمل‪ ،‬فنمى هناك حيث‬
‫ال لغة للفرح‪� ،‬أما قولك ترهات فلو �شرحت يل كلمة ترهات �شرحا‬
‫معجميا ف�س�أ�ستقيل من ال�شعر يا غيورة‪..‬‬
‫ت�ضحك ب�ش ّدة ويف عينيها حرية فقد �شعرت بهزمية ما‪ ،‬ثم وا�صلت‪:‬‬
‫‪ -‬ال �أنكر �أ ّنها �شبه جميلة لكنها تبدو كبرية‪ ،‬رمبا هي �أكرب منك ب�سنوات‪.‬‬
‫‪� -‬أ�صبح يرهقني يا نارميان ك�سرك لأحالمي‪ ،‬فه ّال �صمتِّ قليال ع ّل‬
‫الهواء يرتاح من �ضو�ضائك‪.‬‬
‫نظرت اليه مطوال بعينني ممتلئتني‪ ،‬ب�أقوال ال ترتجم ويف حلظة �صمت‬
‫كل �شئ‪� ،‬إ�ستدارت �إىل اجلدار وعادت �إىل حمياه وهي جته�ش بالبكاء‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫(‪)04‬‬

‫َو َم يِال َغ رْ َ‬
‫ي ال ُو ِد ِم ْن َك �إ َرا َدة‬
‫َو َال يِف ِ�س َواه يِل �إ َل ْي َك ِخ َط ُ‬
‫اب‬
‫�إبن حزم االندل�سي‬

‫ج َل�س ودموعها تنهمر و�صوت العويل ميل�ؤ الأفق الذي يجمعهما‪،‬‬


‫ما ا�ست�ساغ بكاءها وما ّدله عقله على فعل ينا�سب املوقف وهو الذي‬
‫مل يدرك بعد �سبب البكاء املفاجئ الذي ح ّل يف حلظة كان قلبه مليئا‬
‫بالع�شق المر�أة مل يعرف عنها �شيئا‪.‬‬
‫�إحتار‪� ،‬أي�ضمها �إىل �صدره �أم يتو�سل �سكونها �أو يكفكف دموعها‬
‫بيديه الباردتني‪.‬‬
‫�سحبها من يدها بجر�أة مل ميتلكها من قبل و�أجل�سها على ميينه‬
‫ورك ّز نظره على عينيها ثم �إ�ستعاد �أنفا�سه وراح يطرح عليها �س�ؤال‬
‫احلرية مبالحمه و�صوته الدافئ‪:‬‬
‫‪ -‬مالذي يبكيك نارميان‪� ،‬أت�شعرين ب�أمل ما؟؟‬

‫‪51‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪� -‬أي �أمل تتحدث عنه‪ ،‬مل �أعد �أعرف �شعور الأمل لأنني �أ�صحبت هو‪،‬‬
‫ب�صفاته ومالحمه املجعدة‪.‬‬
‫‪ -‬لكن مالأمر؟ مل تتحدثي بهذا املنطق من قبل فما الذي جرى لك‬
‫يف حلظات‪.‬‬
‫‪ -‬حلظات؟ عجبا لق�سوتكم �أيها الرجال‪ ،‬تعد نف�سك �شاعرا و�أنت ال‬
‫متلك م�شاعرا حتافظ بها على �إح�سا�س بريء‪.‬‬
‫كاد ي�ضحك وهو يلحظ تهجمها على لغته وهي ال تزال متوج بني‬
‫�سحائب الدموع وحديث الأمل‪.‬‬
‫‪ -‬لكن ماذا فعلت لك؟‬
‫‪ -‬ال ّلعنه‪ ،‬ف�ضحتني دموعي التي �إنهمرت على �ضفاف قلبي �آالف‬
‫املرات وهاهي اليوم ت�سيل وتندفع حقدا على عينيك اللتني ما‬
‫انتبهتا �إىل �ضربة القلب يف ر�ؤياك‪� ،‬أمل ت�شعر ب�أنَّ رمو�شي تغازلك‬
‫و�أنت تغازل امر�أة ال تعرف حتى �إ�سمك‪� .‬أمل ت�شعر ب�شئ؟‬
‫�أح ّبك‪� ..‬أح ّبك‪� ..‬أح‪ ...‬وزادت الدموع يف عينيها كثافة ك�أنها‬
‫�سحب يف �أم�سية �شتوية ماطرة‪ ،‬مل تكمل كلمة احلب الثالثة كما توقع‬
‫وعجلت تغادر و�صوت كعبها العايل يزداد �شدة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حلق بها دون جدوى فوقوفه م�شدوها � ّأخره للحظات كانت كافية‬
‫لأن تبتعد وت�صل �إىل البوابة الرئي�سية التي ال تتيح له اللحاق بها‬
‫بعدها لأنّ املكان مكتظ وقد يجلب عليهما تطفل الأعني والأل�سنة‬
‫وهذا ماال يرغب فيه �أحد‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إت�صل على هاتفها املحمول ع ّدة مرات دون جدوى‪..‬‬


‫دخل �إىل مقهى اجلامعة متثاقال ي�شعر بوحدة داخلية‪� ،‬شعر‬
‫بزعزعته مل�شاعر نارميان التي طاملا رافقته وكانت �صديقته املقربة‬
‫فكم من الأ�سرار تبادال وكم من امل�صاعب ت�شاركا‪ .‬جل�س وحيدا‪،‬‬
‫جاءه النادل يطلب خدمته‪� ،‬أ�شار عليه �أن ي�أتيه بقهوة مر ّكزة فرمبا‬
‫حترق همه بنكهتها ومذاقها املتميز فهي التي تغري الطق�س الداخلي‬
‫لنف�سيته حني تكون على و�شك االنك�سار‪.‬‬
‫فاج�أه عبد القدو�س من اخللف وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬يا�شحيح هل ب�ضع دنانري خ�سارة يف �صديقك‪ ،‬مل ال تت�صل بي متاما؟‬
‫رد عليه بعينني �شبه مغم�ضتني‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا لو �أعدت عليك �س�ؤالك يا عبد القدو�س فهل �إت�صالك �أنت‬
‫يح ِّرمه ال�شرع �أم هو معجزة ال تتحقق‪.‬‬
‫‪� -‬شعر عبد القدو�س بتوتر من الرد الكايف فغيرَّ جمرى احلديث‬
‫أح�س بتعكر �أجوائه و�شعر �أنه بالغ يف‬
‫داعيا نف�سه �إىل اجللو�س وقد � ّ‬
‫املزاح والرثثرة بعد �صمت ق�صري كان ي�ضغط فيه على فنجان القهوة‬
‫يكاد يه�شمه‪.‬نظر يف وجه عبد القدو�س ال�صامت ونطق بتنهد طويل‬
‫زاد من حما�س عبد القدو�س ملعرفة ال�سبب الذي جعله ميتلء جتهما‪.‬‬
‫�إنها نارميان‪� ،‬صديقتي املقربة مني روحا وج�سدا يا عبد القدو�س‪،‬‬
‫وطاملا كانت �سندي الذي ال يتخلى عني قويا �أو �ضعيفا‪�.‬إنها �سيدة ال‬
‫يكررها الزمن وال متتلك �شقيقة �أو �شبه يف ح�سن اخللق وجمال الروح‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�أتعل ـ ــم؟‬
‫طاملا �شعرت �أنّ �إح�سا�سها يحا�صر حوا�سي و�أنّ كالمها الذي ال‬
‫احل�سا�سة التي تخ�شى على‬‫يقال �أكرب بكثري من الذي تقوله‪ ،‬فهي ّ‬
‫خفي ك�شفته يف حلظة‬ ‫�أحا�سي�سها الف�ضيحة والإنك�شاف‪� ،‬إنها عامل ّ‬
‫عري من الكربياء والتظاهر‬
‫�أمام ده�شة عبد القدو�س وعدم فهمه لكالمه‪ ،‬كاد ي�س�أله عما‬
‫جرى �إ ّال �أنه �إ�سرت�سل من جديد وهو مي�سح على ر�أ�سه بيديه‪.‬‬
‫‪ -‬يا�صديقي كم �سبق و�أن مات الفرح بني ثنايا كالمي و�أنا �أ�صارع‬
‫الإحت�ضار العاطفي يف هذا الزّمن املر فال يروقني اليوم �أن �أوا�صل‬
‫رمي الأزهار فوق العابرين على قلبي‪ ،‬نارميان لن �أخ�سرها مهما‬
‫ك ّلف ذلك‪ ،‬لكن غري م�ستعد �أن �أكلف قلبي بالرحيل �إىل �أ�سوارها‬
‫وهو مقيم بامر�أة ال يعرف عن تفا�صيلها �شيئا‪ ،‬وامتلكت زمامه‬
‫بجمال مل ي�س َّوق بعد‪� ،‬أخاف على �أحالمها �أن ت�صبح رمادا بفعل‬
‫قلبي الذي ما �إعتاد الإنخطاف املفاجئ باحلب‪ ،‬فبعد كل ال�سنني‬
‫التي �أم�ضيتها عا�شقا للهباء‪� ،‬أ�صبحت م�شاعري �ضريرة ال تتقن‬
‫�إ ّال فن الإحرتام �أما احلب فعليه �سالم الأحرار‪.‬قد �صارحتني حني‬
‫�إنتهكت ُحرمة الغرية لديها و�أو�سعت قلبها ك�سرا وهي تتقبل تغزيل‬
‫بغريها �أمام �أحا�سي�سها الرهيفة‪.‬‬
‫نطق عبد القدو�س بعد �إن�صات عميق‪:‬‬
‫‪� -‬أنَّ امر�أة حت ُّبك وتخ�شى عليك ومنك ال�ضياع بني �أح�ضان امر�أة ال‬
‫متلك �شعورا �إجتاهك هي جوهرة ال يك ّر ُر ع�شقها يف هذا الزمن الغريب‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ده�ش �أمام حكمة عبد القدو�س املفاجئة‪ ،‬فمن �أين ح ّلت عليه‬
‫وهو الذي مل يعتد �إ َّال الإ�ستهتار ولو كان الأم��ر على قدر من‬
‫اجلد وال�صرامة‪.‬‬
‫فتحت �أفق اخليبات وتعالت �أ�صوات ال ّنكد يف جمل�س مل يطل‬
‫كثريا‪ ،‬حيث قررا املغادرة �إىل مكان ف�سيح يخلوا من �ضباب ال�سجائر‬
‫الذي �إختنق به املكان‪.‬‬
‫ما�إن خرجا حتى فاج�أه عبد القدو�س وهو ي�ستخدم حاكوما‬
‫لفتح �سيارة جميلة مركونة على بعد �أمتار من املقهى‪� ،‬أعلمه �أن‬
‫ال�سيارة ملك ل�صديق‪ ،‬فقد الحظ �أن عالمات احلرية قد �إرت�سمت‬
‫على وجهه‪.‬‬
‫توجها �إىل خارج املدينة يف طريق معبد يتيح مل�ستعمليه الإ�سراع يف‬
‫ّ‬
‫ط ِّيه وماهي �إ ّال دقائق حتى وجدا نف�سيهما �أمام طريق طويل �سهبي‬
‫تكاد حوافه تخلوا من احلياة‪� ،‬س�أل عبد القدو�س عن وجهتهما وهو‬
‫يطلب منه كبح ال�سرعة لأنه يعلم بحداثة رخ�صة �سياقته وعدم‬
‫�إمتالكه للخربة الكافية للتحكم يف املركبة يف طريق كثري االلتواءات‪.‬‬
‫كانت وجهة �سياحية نحو � ّأي مكان يحقق الراحة النف�سية التي‬
‫توفرها الطبيعة للإن�سان مبائها وخ�ضرتها البهية‪�.‬سارا طويال‬
‫و�صوت املذياع مل ينقطع متاما ف�أجواء اخليبة وال�شعور بال�ضيق ال‬
‫زاال يطاردانه‪� ،‬أ ّما عبد القدو�س فبطيبة قلبه حاول التخفيف من‬
‫�آالم ذاكرته التي �إ�ستعادت ك ّل اخليبات ب�شئ من اللهو واملو�سيقى‬
‫ال�صاخبة دون جدوى‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫و�صال �إىل منطقة املعا�ضيد(((‪� ،‬أوقف عبد القدو�س املحرك ودعاه‬


‫�إىل الرتجل و�إ�ستك�شاف املكان‪.‬ده�ش من روعة املنطقة وجمالها‬
‫فهاته الأر�ض مل يط�أها من قبل ومامتّع عينيه مبناظرها اخلالبة‬
‫قبل هاته امل�صادفة‪.‬‬
‫على بعد �أمتار‪�.‬آثار كبرية منت�شرة‪ ،‬وعالمات الت�آكل بادية عليها‪،‬‬
‫ف ّكر يف زمنها فهي تبدو من بعيد ك�آثار رومانية ّ‬
‫ه�شة وكلما تق ّدم‬
‫�أكرث زاد ف�ضوله يف معرفة البعد التاريخي للمنطقة‪.‬‬
‫و�صل �أمام قلعة �شاهقة الإرتفاع‪ ،‬رفع عنقه فيها ووا�صل ينظر‬
‫�إليها نظرة الإ�ستك�شاف‪.‬وقف �أمامه عبد القدو�س وهو يقول‪:‬‬
‫�إنها قلعة بني حماد �أمل تزرها من قبل؟؟‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬هي املرة الأوىل التي �أقف �أمامها ومل �أعلم من قبل بوجود هاته‬
‫الآثار‪ ،‬فعال البحث يف الأدب �أن�ساين تاريخ هذه الأر�ض‪� ،‬أر�ض الوطن‪.‬‬
‫تعجب عبد القدو�س فطاملا ظنّ �أنّ معلومات �صديقه ال تن�ضب‬
‫واعتقد �أنه املثقف الذي ال يجادل‪ .‬وجد الفر�صة ليثبت له �أنه مثقف‬
‫وميلك معلومات ال ميلكها‪ ،‬لكن لن يفعل ذلك حتى ي�شفي غليله من‬
‫دميومة اال�ستحواذ املعريف والثقايف الذي �إمتاز به‪.‬‬
‫‪ -‬معلومات مثل هاته‪ ،‬على قدر من الب�ساطة ال تعرفها وت ّدعي‬
‫�أنك �شاعر ومثقف‪� ،‬أمل تعرف من قبل البكاء على الأطالل هاهي‬
‫�أمامك الآن‪� ،‬أطالل دولة حماد بن بلكني‪.‬‬
‫‪ -1‬بلدية تابعة لوالية امل�سيلة ‪ -‬اجلزائر‪.-‬‬

‫‪56‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬عن �أي دولة و�أي �أطالل تتحدث يا عبد القدو�س‪ ،‬و�أي وحي تهاطل‬
‫عليك الآن؟‬
‫�ضحك عبد القدو�س ب�صوت خافت‪� ،‬ضحكة «�صفراء» كما يقول‬
‫املثل الذي �أطلقوه على �ضحكة النفاق التي ت�ستخرج من جوف‬
‫�صاحبها بجهد وكذلك ال تكون نابعة من القلب‪� ،‬أي م�صطنعة‪.‬‬
‫�صمتا قليال ليرتكا للمكان دورا يربز فيه الأ�شياء اجلميلة حيث‬
‫متتزج الأنفا�س الثخينة بنف�س الطبيعة النقي‪.‬ثم عاد عبد القدو�س‬
‫�إىل �شروحاته‪:‬‬
‫‪� -‬إنَّ هاته القلعة تعترب امتدادا لدولة حماد بن بلكني وقد �شيدت �سنة‬
‫‪1008‬م يف هذا املكان الذي اختري لكونه يتمتع باحل�صانة لأن �سفح‬
‫هذا اجلبل يعلوا بـ ‪ 1000‬مرت فوق �سطح البحر وهو الأن�سب ملراقبة‬
‫العمليات الع�سكرية يف الأماكن املجاورة وقد بني هذا ال�صرح يف‬
‫مدة ثالثني �سنة‪.‬‬
‫قاطعه قائال‪ :‬لكن �أال ترى �أنَّ �أجزاء منها ت�ضررت ويبدوا �أنّ‬
‫قطعا كثرية قد �ضاعت من حميطها ورمبا �سرقت؟؟‬
‫‪ -‬وطن ُ�سرقت فيه الأحالم‪ ،‬فكيف تنتظر �أ ّال ت�سرق �آثار ثمينة‬
‫فال�شئ الذي مل ي�أخذوه تركوا الغري ي�أخذه ف�أغلب ما ُوجد هنا من‬
‫قبل موجود الآن مبتحف الباردو والبع�ض الآخر يف باري�س كما �أنّ‬
‫الإعالم ال يلتفت متاما �إىل هاته الآثار الثمينة �إ ّال ماحدث قبل‬
‫عقدين �أو �أكرث حينما قامت منظمة اليون�سكو برتميم املوقع‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�أنهى عبد القدو�س �إ�ستعرا�ض ثقافته و�سارا �إىل �أن �شعرا بالإنهاك‬
‫فجل�سا متباعدين يتبادالن التنويه مبختلف مايعربهما من جمال وروعة‪.‬‬
‫‪� -‬إذن يا عبد القدو�س نحن الآن يف املعا�ضيد‪ ،‬املنطقة التي �سمعت‬
‫عنها كثريا‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا �سمعت؟ عن ال�صخور مثال؟ وبدا �شيء من احلمرة على‬
‫وجهه فقد ت�سلل �إليه ال�شك يف �أنه يعرف املكان وجتاهل ذلك من‬
‫�أجل �إختبار ثقافته‪.‬‬
‫‪� -‬سمعت عن �أحالم‪� ..‬أحالم ال�صحفية التي حدث معها الكثري هنا‪،‬‬
‫�إنها الرتاجيديا الواقعية يا �صديقي‪.‬‬
‫تنف�س عبد القدو�س تنف�سا عميقا فقد كان ينتظر منه �أن ي�سخر‬
‫من معلوماته �أو ي�ضحك عن �إ�ستعرا�ضه الثقايف‪ ،‬التاريخي لكن ذلك‬
‫مل يحدث‪.‬‬
‫‪ -‬مالذي حدث للم�سماة �أحالم((( وكيف ذلك؟‬
‫م ّد نظره �إىل �آخر الأفق‪ ،‬تنف�س ببطئ ثم تنهد بح�سرة وقال‪:‬‬
‫�أحالم امر�أة املواقف‪.‬مل ت�سمح لنف�سها بالهرب من م�أ�ساة الوطن‬
‫�إىل الأمان الذي مل تعرفه منذ اندالع ال�شرارة ال�سوداء التي �أ�شعلها‬
‫متطرفون مل ت�شق الرحمة لقلوبهم � ّأي طريق فكانوا ال�ساديني الذين‬
‫ماح َّنت قلوبهم وهم يرون حمامة بي�ضاء تنزف‪� .‬إن مل يبك احلمام‬
‫يوما فقد بكت �أحالم مكانه وبكت كثريا يف ظالم الليل الذي �شقّ‬
‫خا�صرها ظلما وطغيانا‪.‬‬
‫‪� -1‬أحالم بو�سا�سي من ُ�صحفيات جريدة ال�شعب اجلزائرية اغتيلت �أواخر ‪1998‬م‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫قاطعه عبد القدو�س‪...‬‬


‫لكن‪ ...‬مل ينتبه له ووا�صل �سرد حكايتها‪:‬‬
‫‪ -‬كانت �صحفية جريئة‪.‬تع َّر�ضت �إىل امل�ضايقات ككل زمالئها‬
‫الذين غدروا كال�سعيد مقبل ورابح زناتي و�أورتيالن وغريهم لكنّ‬
‫ذلك مل يثنها عن موا�صلة قول احلق وكتابته �إىل �أن حانت �ساعة‬
‫هبوب الرياح على �شمعة احلق ف�أطف�أت عمرها يف جولة �سياحية يف‬
‫هاته املنطقة التي ماظ ّنت �أبدا �أنّ �أيدي الغدر موجودة بها �أو رمبا‬
‫طاردتها‪ .‬لقد �أم�سكوها هي و�صديقة لها‪� ،‬أما �صديقتها فتخ�صلوا‬
‫منها على الفور فال حاجة لهم بها خ�صو�صا و�أنها قد �أبدت عنادا‬
‫ومقاومة فكانت ر�صا�صة واحدة كافية جللعها ت�صمت �إىل االبد‪� ،‬أما‬
‫�أحالم فقد علمت �أنّ جناحيها ُك�سرا و�أنّ املداد الذي تكتب به قد‬
‫ن�ضب‪ ،‬فهي �ساعتها التي ال فرار منها فكانت �صامدة يف وجه القتلة‬
‫فلم تبد � َّأي �ضعف‪.‬قد ُخيرِّ ت بني العي�ش يف فرن�سا �أو �سوي�سرا لكنها‬
‫�إختارت هذا الوطن الذي ن ّكل ببع�ضه البع�ض دون رحمة‪.‬‬
‫تداولوا على �إغت�صابها وفعلوا بها ماال يفعله احليوان املفرت�س‬
‫بطريدته حيث �شوهوا ج�سدها‪� ،‬أحرقوه‪ ،‬قطعوا �أع�ضاءها وهي‬
‫ت�صارع احلياة فلم ترحمها �إ ّال بعد �أن �أماتتها �آالف املرات‪.‬‬
‫هذا مارواه �أحد ال�شهود والذي جنا ب�أعجوبة‪..‬‬
‫�أحالم ماتت ومات �آالف ال�شرفاء ومل يبق �إ ّال حزن يك�سوا �أهالينا‬
‫يف كل ذكرى‪ ،‬كيف ال ومرتكبوا تلك الفظائع �أ�صبحوا روائيني‬
‫ي�سردون احلبكات على م�سمع كل قريب‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫تغيرّ مزاج عبد القدو�س وظهر على حمياه حزن عميق‪ ،‬فلهوه‬
‫ومزاحه مل ي�سلب منه احل�س الرهيف فدوما يت�أثر بهاته الق�ص�ص‬
‫الأليمة خ�صو�صا حينما علم �أن �أحالم قريبة ل�صديقه و�أنهما قد‬
‫ت�شاركا الطفولة فمع �أنها كانت تكربه كثريا �إ ّال �أنها طاملا عاملته‬
‫ك�صديق حميم‪.‬‬
‫عادا �إىل الديار وال�شم�س تو�شك على الغروب‪ ،‬ن�سي مو�ضوع نارميان‬
‫ورمبا تنا�ساه‪ ،‬فهذا اليوم بقدر ماكان جميال بقدر ماهو �شاق‪.‬‬
‫دخل �إىل اجلامعة �صباحا‪� ،‬إجته �إىل لوحة الإعالنات ع ّله يجد‬
‫من�شورا جديدا‪ ،‬فدوما يف بدايات املو�سم اجلامعي تكرث التوجيهات‬
‫للطلبة‪�.‬إنتبه �إىل �أنّ غيابه يف اليوم الفارط قد � ّأخره عن تدوين‬
‫الربنامج اجلديد فهو مل يكن حا�ضرا حينما ُعلق بل كان بني ال�صخور‬
‫واملرتفعات يدون حديث الوجدان هو وعبد القدو�س على جدار الذاكرة‪.‬‬
‫تفاج�أ وهو يرى �أن احل�صة التطبيقية اخلا�صة بالقانون التجاري‬
‫قد م ّر من زمانها ربع �ساعة فماكان له �إ ّال �أن ي�سارع �إىل احلجرة‬
‫املخ�ص�صة لهم لع ّل عدم علمه ي�شفع له عند الأ�ستاذ املطبق‪.‬‬
‫حينما و�صل �أمام الباب �أوقفه �إ�ستحيا�ؤه عند العتبة فقد خ�شي �أن‬
‫يطرده الأ�ستاذ �أمام زمالئه‪.‬‬
‫دقق و�أن�صت فعرف �أنها �أ�ستاذة � ّأي امر�أة وهنا زاد �إحتمال تعر�ضه‬
‫للزجر فقرر �أ ّال يح�ضر احل�صة مادام �أول غياب فلن ي�ضره يف �شئ‪.‬‬
‫ما �إن ا�ستدار ما�شيا �إىل وجهة تخرجه من هذا الدهليز املهرتئ‬
‫حتى �أوقفه زميل له ودعاه �إىل جتريب احلظ لأنهما لن يخ�سرا‬

‫‪60‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�شيئا‪ .‬ف ّكر قليال‪� .‬أدرك �أنّ يف زميله �إندفاعا و�أنه لن يتحمل �شيئا‬
‫لو رف�ضت الأ�ستاذة دخولهما فهذا املندفع �أبدى �إ�ستعداداته لطرق‬
‫الباب والتحدث �إليها‪.‬‬
‫طرق الباب وفتحه‪ ،‬نظرت اليه نظرة حادة وهمت �أن ترفع يدها‬
‫لتقول له �إرجع من حيث �إتيت �إ ّال �أ ّنها توقفت؟؟‬
‫ملحته وراءه يبدو عليه احلياء فهو مل يتجر�أ �أن يظهر مبحياه‬
‫اخلجل �أمامها‪�.‬أ�شارت عليهما بالدخول وب�سرعة‪.‬‬
‫ما �إن ظهر ووقعت الأنظار على بع�ضها حتى �إهتز كيانه وبهت‪،‬‬
‫فقد �شعر �أنَّ �أحا�سي�سه قد جتمدت و�أنّ عينيه تخدعانه و�شئ غريب‬
‫ب ّدل له واقعه‪.‬‬
‫ما ال ّذي يحدث �إنها تلك الأنيقة التي �أ�سرت حوا�سه وجعلت من‬
‫الواقع خياال يف م�شاهد عدة‪ ،‬فهل هذا خيال حم�ض �أم خط�أ ما‪،‬‬
‫دخل متباطئا‪ ،‬ي�سارع قلبه �إىل التفتي�ش عن حلول للخفقان الذي يهز‬
‫�أرجاءه‪ ،‬كيف ال وهو يراها �أمامه بحلتها تقف مد ِّر�سة لفن اجلمال‬
‫قبل القانون‪.‬‬
‫جل�س يف �آخر ال�صف ينظر اليها دون انقطاع‪ ،‬الحظ زميل له‬
‫مالحمه امل�ضطربة ف�س�أله بنربة ال�سخرية‪:‬‬
‫‪ -‬هل �أعجبتك؟ �ضحك ثم قال‪� :‬إنها يف �سن �أمك فان�سى الأمر ثم‬
‫�إنها �أ�ستاذتك‪.‬‬
‫رد عليه وهو يحدق بها‪:‬‬

‫‪61‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪� -‬إن امر�أة كهاته قد تغري جمرى التاريخ بل وتعدل فيه فكيف لك �أن‬
‫تفكر يف عمر جمالها وبالعمر الذي �سبقتني فيه �إىل احلياة‪.‬‬
‫‪� -‬صمت قليال ثم متتم‪« ...‬جمنون»‪ .‬مل يجد الرد املنا�سب �أمام‬
‫املعادلة ال�صعبة التي و�ضعه �أمامها‪.‬‬
‫احلب اليعرتف بحاجز العمر ولن ت�س ّد �شهوته ب�ضع �سنوات من‬
‫زمن عجول �أ�صبح النا�س ال يفرقون بني �أيامه‪ ،‬حتى �أن الأعمار‬
‫�صارت �ساعات رملية تفنى على عجل ف�أ�صبح كل �شيء عابرا‪.‬‬
‫م ّر الوقت وماا�ستفاق �إ ّال وتلك احل�سناء تعلن نهاية احل�صة فهو‬
‫مل ينتبه ل�شئ فحني كانت تلقي الدر�س كان يد ُر�س معامل اجلمال‬
‫فيها ويبحث عن حتديد كل �أبعاد الأنوثة التي ا�ستوت يف رحاب‬
‫مامتلك من فتنة �آ�سرة‪.‬‬
‫حجز لنف�سه مكانا يف ذلك الدهليز الرحب‪ ،‬يرى الأ�شكال‬
‫أح�س ب�أنّ الوحدة ت�صول‬ ‫والألوان تعربه دون �أن تعريه � ّأي اهتمام‪ّ � ،‬‬
‫وجتول فيه فتذكر نارميان املر�أة التي �أعلنت حبها له يف موقف‬
‫كاد يوقف عقارب الزمن خرج من الدهليز باحثا عنها ف�أول مكان‬
‫ف ّكر فيه هو احلديقة التي تعترب مالذ اخلائبني والعا�شقني‪ ،‬لكن‬
‫مليكة قطعت طريقه بابت�سامة �ساخرة وهي ت�س�أله عن وجهته فلم‬
‫يجد جوابا‪.‬‬
‫ماكان له �أن يقول ب�أنه يبحث عن نارميان فرمبا مليكة �ستفتح‬
‫�ألف �أفق للف�ضول والت�شكيك يف عالقتهما وماكان له �أن يقول ب�أنّ‬
‫ال وجهة له لأنه واثق من �أنها �سرتافقه مابقى يف اجلامعة وهو ال‬

‫‪62‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫يحتمل عريها الذي يثري �إنتباه العابرين والقاعدين وال �سخريتها‬


‫ولهوها الذي ال يعرف االنقطاع‪.‬‬
‫�أخلطت �أوراقه و�أفحمت نواياه وهي مت�س جدار قلبه بذكرها ملا‬
‫يحركه بل ويهزه‪:‬‬
‫‪ -‬قيل يل �أنَّ الأ�ستاذة اجلديدة امل�س�ؤولة عن التطبيقات قد فتنتك‬
‫و�أ ّنك مل ت�سحب عينيك عن ركح جمالها مذ نظرت �إليها‪...‬‬
‫‪ -‬من قال ذلك؟ ياللعجب‪..‬‬
‫‪ -‬ال ت ّدعي �أّ ّنك برئ ف�أنا واثقة من �أنّ قلبك قد اقتلع من مكانه و�أنّ‬
‫�أحا�سي�سك قد ثارت ف�أنت عا�شق بامتياز وال تناق�شني يف ذلك‪.‬‬
‫�صمت قليال ثم عاد �إىل الت�أفف وهو يقول كل �شيء تعرفوه‪ ....‬حاجة‬
‫ماتخفى‪..‬‬
‫‪ -‬هل يخفى القمر يا �صديقي �إ ّنها «هيام» التي حملت مافيك من‬
‫كرب ورمته �إىل املجهول‪� .‬آ�آه لو كانت تنا�سبك �سنا لر�أيت ب�أم عيني‬
‫كيف يتحول املتكرب �إىل خامت يف الإ�صبع‪.‬‬
‫مل يكن مهتما ملا تقوله فلفظها لإ�سم «هيام» تركه على هام�ش‬
‫التفكري فقد �إختلطت الأمور على مبادئه فوجد نف�سه يتخلى عن كل‬
‫القرارات ليكون �سجني ح�سن لن يح�صل عليه �إ ّال مبعجزة ما‪.‬‬
‫علي‪ ،‬فكر قليال‬ ‫و�إذن �إ�سمها هيام � ُّأي �إ�سم هذا‪ ..‬و� ُّأي ع�شق جلبه ّ‬
‫كي يفر من مليكة فقد �شعر بحاجة‬ ‫فوجد عذر �إت�صال عبد القدو�س ّ‬
‫ملحة �إىل الهدوء وال�سكينة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ك ّلم عبد القدو�س الذي كان يف �صوته عالمات للفرح وال�سرور‪.‬‬


‫�أراد �أن يعرف �سرها دون جدوى‪� ،‬إتفقا على االلتقاء �أمام مقهى‬
‫اجلامعة م�ساء على ال�ساعة اخلام�سة‪.‬‬
‫عاد من جديد حماوال تذكر معنى �إ�سم هُ يام املعجمي فقد م ّر‬
‫عليه وا�ستخدمه يف �إحدى الق�صائد الغزلية‪.‬‬
‫ال ُهيام هو �أ�ش ّد العط�ش‪ ،‬وهو �أي�ضا داء ي�صيب الإبل فتهيم يف‬
‫الأر�ض ال ترعى كما هو اجلنون من الع�شق‪...‬‬
‫يا�إلهي ال معنى ي�صلح لأن �أتي ّمن به والأقرب هو اجلنون من‬
‫الع�شق‪� ،‬صعب �أن �أتعثرَّ به يف �أول هجرة نحو امر�أة ال �أملك منها �إ َّال‬
‫عطرا هاربا‪.‬‬
‫�آه �أ ّيها الزمان‪ ،‬كم �أمتني نوما نرج�سيا �أختلي فيه بكربياء احلب‬
‫امل�ضاء با�سمها‪.‬‬
‫�إنتابه �شرود عميق ووا�صل ُيحدث نف�سه‪:‬‬
‫أتو�سد �أرداف احلب و�أنام كمن به احلمام وهل‬ ‫هل �سي�أتي يوم � ّ‬
‫�س�أ�صرب على عرق حار يت�صبب على ما ّيف‪.‬لي�ست يل ولي�س يل �سواي‬
‫و�أنا املبحر حتت �سماء تت�ساقط‪ ،‬تكاد تهوي‪ .‬رباه �إرحم‪..‬‬
‫ماكان تفكريه لينقطع لوال �أنه ملح نارميان تقرتب من بوابة‬
‫اخلروج فلملم �أفكاره وراح مهروال خلفها وما �إن اقرتب منها حتى‬
‫نادى عليها‪ :‬نارميان‪ ...‬نارميان‪ ،‬مل تر ّد عليه وتع ّمدت �أ ّال تبايل به‬
‫لي�س هجرا له وال كرها �إمنا حياء �أنثى خالفت قواعد حواء و�أعلنت‬
‫عليه احلب يف حلظة �ضعف عابرة‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�أم�سكها من يدها‪ ،‬ت�شابكت �أ�صابعهما فتوقفت م�شدوهة‪.‬‬


‫نظر يف عينيها بكل تركيزه‪� ،‬شعرت بغيمة من القلق واخلوف‬
‫تخرتقها وجتربها على احلديث �إليه‪.‬‬
‫‪ -‬نارميان مابك؟ �أوقفت زمني بهذا اجلفاء‪ ،‬التاريخ وفق عينيك‬
‫مي�شي وعبو�سك قد ي�أخره لذا �أخ�شى من حزن القلب الذي يزداد‬
‫كل يوم �ضيقا وخوفا‪.‬‬
‫دعاها �إىل اجللو�س باحلديقة‪� ،‬سارت معه هادئة و�صامتة تفكر فيم‬
‫�سيقول ومبا �سرت ّد عليه فخطوات احلب دوما ت�أخذنا ق�سرا �إ�شتهينا �أم‬
‫مل ن�شتهي فللعاطفة فل�سفتها التي ت�سيرِّ الإن�سان وفق ماميليه القلب‪.‬‬
‫‪ -‬نارميان مل جتنبتني ومل ب َّدلت عقيدتك �إجتاهي �أمل يحزنك �أ ّنك‬
‫جعلتني �أ�شعر بالربد �أكرث‪.‬‬
‫تكاد ت�ضحك �إ ّال �أّ ّنها حافظت على �إ�ستقرار مالحمها‪..‬‬
‫‪ -‬ماعالقتي بالربد والطق�س؟ �ألن تتخ ّل عن �أ�سلوبك هذا؟‬
‫‪ -‬رمبا مل ت�شعري بربودة الأ�شياء الدفينة ومل تطلي على ال ّداخل‬
‫املهجور‪ ،‬قد كنت يل خري الرفيق و�أنا �أ�سري وحيدا يف دروب احلزن‪،‬‬
‫�س�أ�شعر بالربد �أكرث ك ّلما غبت فطيلة الأيام التي كنا نتوا�صل فيها‬
‫كنت �أ�شعر وك�أ ّنك مت�سكني يداي وتنفخني فيهما لكن بعدك �أنت لن‬
‫يحاول �أحد تدفئتي ومالطفة جفايف‪.‬‬
‫‪� -‬صمتت مطوال‪ ،‬وقفت‪.‬م�شت ب�ضع خطوات‪ ،‬حدقت يف عينيه‪ ،‬ثم‬
‫عادت لتجل�س �أمامه ب�شكل مل يرتك �أ ّية م�سافة بينهما وك�أن م�سافة‬
‫الأج�ساد �ستخت�صر م�سافة القلوب‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�شعر ب�أ�شياء تتحرك بداخله وهي تخا�صره‪� ،‬أردافها تالم�س‬


‫�أردافه وك�أنها تتعمد �إ�ضرام النار بينهما فهي فاتنة و�أنوثتها قادرة‬
‫على �إرباكه‪.‬‬
‫‪ -‬مل �أنت �أنيق اليوم؟‬
‫‪ -‬الأناقة يف عطرك الذي يبعث الرغبة يف احلياة‪..‬‬
‫�شعرت �أنه يل ِّمح �إىل �إقرتابها ال�شديد منه‪ ،‬وت�أكدت من ذلك‬
‫حينما ر�أته يحم ُّر وهو ذابل العينني‪� ،‬إنتظرت للحظات لت�سحب‬
‫ج�سدها ب�ضع �سنتيمرتات وبقلبها رغبة يف الإجتياح‪.‬‬
‫عاد الهدوء �إىل عالقتهما لكنّ ال�صمت كان �أكرث ح�ضورا فهي مل تعد‬
‫نارميان التي يعرف فمنذ �أعلنت احلب �أ�صبحت �أكرث حياء من قبل‪.‬‬
‫مل يعد يفهم مايجري حوله وقد �أدرك �أنَّ للجمال فل�سفة فهو‬
‫�سريان الن�سيم يف الروح وموت الأمل‪� ،‬إنه ت�صوف �آخر ال ي�شعر به �إ ّال‬
‫ذ ّواق تربى عا�شقا لكل حتفة �إاله ّية �أوجدها اهلل‪.‬‬
‫تو َّزع �شعوره وتف ّرقت �أحا�سي�سه بني امر�أة حتبه و�أخرى �سيطرت‬
‫على قلبه دون �شيء يجمعه بها‪.‬نظر �إىل نارميان مطوال ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬يا �صديقتي ك ّلما حاولت الو�صول �إىل �أفكار مطلقة تزيد هواج�سي‪،‬‬
‫حلد الآن �أغرق يف التعقيد وال �أجد � ّأي خريطة للمرور �إىل حر ّيتي‬
‫التي متنحني راحة العفوية وتخرجني من عمق الهو�س والظلمة‪.‬‬
‫ر َّدت نارميان ب�صوت خافت‪:‬‬
‫�أمل تكفك عفوية حبي‪ ،‬هل �إنت�صرت و�أنت تراين �أتع َّرى من‬
‫كربيائي �أمامك‪� ،‬شاعر؟ �أين هي امل�شاعر التي تكتب بها‪ ،‬مل �أحب‬

‫‪66‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ال�شعر لكن رهاناتي على امل�سارات امللتوية لقلوب ال�شعراء دوما‬


‫تعطيني الأمل‪.‬‬
‫‪ -‬املر�أة الأنثى التي ي�سجلها تاريخ احلب وتدرج يف حكاياه هي‬
‫التي حتب ال�شعر وتعتنق مذهبه فماهو �إ ّال �صوت امر�أة يف ليل بارد‬
‫و�سكون رجل �أمام �صوتها لذا �أعلنت ال�صمت‪.‬‬
‫دوما تتحا�شى النزول معه �إىل �أروقة الفل�سفة لأ ّنها تخ�شاه‪�.‬أ�صبحت‬
‫تتحرى الب�ساطة وال�سطحية يف كثري من الأحيان‪.‬وكمن وجد خمرجا‬
‫تذ ّكرت روايته و�سعيه يف الأدب‪ ،‬ف�س�ألته عنها وعن �أحمد‪.‬‬
‫‪ -‬الرواية‪� ..‬آه ال يزال �أحمد جمنونا يطوي الأر�ض وقريبا �س�أُجن �أنا‬
‫من فرط وحدتي وتعلقي ب�أبطايل و�أوراقي‪.‬‬
‫‪ -‬لكن ملاذا تقول هذا‪� ،‬أعلم �أن لد ّيك �أ�صدقاء كرث؟؟‬
‫‪ -‬ك ّلما كربت يف الأدب نق�ص عدد �أ�صدقائي‪ ،‬منهم احلاقدون‬
‫عطلوا �أحالمي فتخل�صت منهم‪ ،‬مل يبق �إ ّال عبد‬ ‫ومنهم الذين ّ‬
‫القدو�س‪� .‬شكرا لأنك ذكرتني ب�أن موعدي معه على اخلام�سة‪.‬‬
‫ما �إن �أكمل حديثه حتى ملح مليكة قادمة من بعيد وال ي�شك �أبدا‬
‫فعجل يودع‬ ‫يف �أّنها �ستتحدث عن هيام وهذا ما�سيفتح جرحا �آخر ّ‬
‫نارميان وهو يعدها ب�أن يت�صل بها ليال‪ .‬م�شى ب�ضع خطوات‪� ،‬أعاد‬
‫النظر �إليها فر�أى حزنا ميلأ وجهها‪ ،‬لأنها مل جتد جوابا يف كالمه‬
‫ال �ضمنيا وال �شكليا‪.‬‬
‫وا�صل وهو يقول‪:‬‬

‫‪67‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬ال �سري نحو احلب منذ �صارت طريقه ثكلي و�أ�صبح العابرون فيها‬
‫ر�ضعا يتامى يت�ساقطون دون �أيدي متتد لإنت�شالهم‪�.‬إمتلأ خاطره‬
‫�أفكارا و�شعر �أنّ يف كل نهج يقوده �إىل نارميان �ألف مرتا�س جارح‪.‬‬
‫و�صل �إىل املنزل‪ ،‬دخل كعادته يبدي فرحا و�سرورا‪.‬جل�س ينتظر‬
‫تهاطل �أ�سئلة �أمه فاذا بها حزينة ال تبدي � ّأي �إن�شراح‪ ،‬بادر لي�س�ألها‬
‫عن �سبب العبو�س فقطعته وهي تعلن حزنها بدموع حارة‪.‬‬
‫�سارع يف اجللو�س �أمامها مم�سكا بيدها وم�ستجديا نطقها وبعد‬
‫حلظات �إنفجرت بعويل بارد وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬يا ابني �إنّ املوت قد فعلها بنا‪ ،‬وتوا�صل البكاء‪..‬‬
‫‪ -‬اهلل �أكرب‪ ..‬من مات؟؟‬
‫‪� -‬إنه يا�سني �إبن خالتك ميينة‪ ،‬قتلوه بتهمة �أنه جزائري‪..‬‬
‫‪� -‬آ�آه يا�سني الذي كان يعمل يف ليبيا‪ ،‬رحمة اهلل عليه‪ ،‬هل �أخربوك‬
‫�شيئا عن ظروف موته رمبا هناك مغالطة‪.‬‬
‫‪ -‬ال ياولدي قد �إت�صل �صديقه البارحة و�أعلم خالتك �أنه قد توفى‬
‫و�أن �إغتياله جاء من طرف ميلي�شيا تابعة للنظام ماكانت لتميز‬
‫بني الأفراد يف �إحقاق املوت لوال �أن �صاح �أحدهم حقدا ب�أن يا�سني‬
‫جزائري �ضد النظام ف�أ�شبعوه موتا بتهمة �أنه غريب ال �أكرث‪.‬‬
‫‪ -‬الحتزين يا �أماه ف�إن املوت �أ�صبح يهرول نحو الطيبني حافيا وك�أ ّنه‬
‫ي�شعر ب�أنهم فقدوا احلياة ورغبتها يف هذا الزمن املر‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫كم تكاثرت هاته املجموعات امل�سلحة التي يقودها �أفراد ميلكون‬


‫توجهات فكرية و�سيا�سية خمتلفة وي�شرتكون يف ميزة �إمتالك ال�سالح‬
‫و�إ�ستخدامه متى ال قوا �إعرتا�ضا يحول دون تطبيق �إيديولوجياتهم‪.‬‬
‫نحن الب�شرعدائيني‪ ،‬منلك املوت بني �أفكارنا ولوال القانون‬
‫واخلوف من العقاب لكانت الت�صفيات تتكرر يوميا ب�شكل فظيع وكل‬
‫الدليل يف هاته الأحداث التي �صارت مو�ضة للقتل والتنكيل با�سم‬
‫الربيع و� ُّأي ربيع هذا الذي جلب كل �أنواع ال�سواد والظلم على �أفراد‬
‫مل يحلموا �إال بال�سالم يف �إطار دميقراطي يحقق التوازن الفكري‬
‫واالجتماعي‪.‬‬
‫راح ي�س�أل �أ ّمه عن جنازته وتاريخ و�صول جثته لكنها �أجابته ب�أنّ‬
‫�صديقه الذي ر�آه ي�سقط قتيال‪ ،‬عاد حينما ح َّل الهدوء و�سكنت‬
‫�أ�صوات الر�صا�ص باحثا عن ج َّثته فلم يجد لها �أثرا‪ .‬املجرمون‬
‫ي�أخذون القتلى معهم لينكلوا بهم ويجعلوهم عربة ملن يحاول‬
‫خمالفة جهلهم‪.‬‬
‫ت� ّأ�سف كثريا وخرج دون �أن يتناول �شيئا ي�س ّد رمقه‪� ،‬شهيته قطعتها‬
‫�أخبار املوت ودموع �أمه‪�.‬إجته �إىل املقهى منتظرا عبد القدو�س‪،‬‬
‫و�صل قبل موعدهما الذي حدده‪ ،‬طلب له قهوة مركزة كالعادة لعلها‬
‫تخفف عنه م�شقة ترتيب �أفكاره‪.‬و�صل عبد القدو�س مرحا يبدي‬
‫رحب به ودعا النادل ليجلب له �شيئا يريحه من‬ ‫�إبت�سامة جميلة‪ّ ،‬‬
‫الطريق الذي قطعه ويوقف �إ�شتداد �شهيقه وزفريه‪.‬‬
‫�س�أله �ساخرا‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫هل �أتيت جريا �أم �إحدى ح�سناوات الإقامة اجلامعية قامت‬


‫مبطاردتك فهربت؟‬
‫‪ -‬منذ متى عبد القدو�س تطارده اجلميالت‪� ،‬إ ّنك تهذي‪ ...‬ويطلق‬
‫�ضحكة عالية‪.‬‬
‫‪ -‬اذن ما�سر �سعادتك؟؟ قد �شعرت بها منذ ك ّلمتك يف الهاتف‪..‬‬
‫هيا يا عبد القدو�س تكلم ومن دون مقدمات‪.‬‬
‫‪� -‬أوال �أبي �سيذهب �إىل احلج بعد ح�صوله على جواز �سفر خم�ص�ص‬
‫لذلك وثانيا‪..‬‬
‫‪� -‬آه مبارك‪ ..‬فعال خرب �سار‪.‬‬
‫‪� -‬أما ال�شئ الآخر فهو �أين‪....‬‬
‫‪ -‬هيا تكلم‪..‬‬
‫‪ -‬قد عرثت على املر�أة التي �أريد‪.‬‬
‫‪ -‬حقـ ـ ـ ــا؟؟‬
‫علي فتلك امل�صادفة التي‬‫هي من عرث ّ‬ ‫‪ -‬نعم عرثت عليها ورمبا َّ‬
‫جمعتنا ماكانت لتكون لوال �أنّ �إبت�سامتها �شقت بيننا طريقا حمفوفا‬
‫بالورود والإعجاب‪.‬‬
‫‪ -‬هل �أحببتها؟ �أنا ال �أحب ال ّنكد‪ ،‬لكن �أال تخ�شى غدرها و�أنت‬
‫تع�شقها بكل هذا ال�سرور؟‬
‫‪ -‬ال يا �صديقي هي �أكرث من امر�أة وقد وقعت و�س�أكرر توقيع كل‬
‫عقود احلب �أمام عينيها‪ ،‬فالوقوع حتت ظالل �شفاهها ال مينحني‬
‫حق امل�ساومة‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إبت�سم لكالم عبد القدو�س وهو يقول �سرا‪ :‬يا للجنون هل �أ�صبح‬
‫�إعالن احلب مو�ضة يتفاخر بها الع�شاق‪ ،‬كم عودونا على التفاخر‬
‫بالأمل والتباهي بجمال الكربياء يف �آن واحد‪ ،‬فحتى يف الغدر طعم ال‬
‫يدركه �إ ّال من برت قلبه دون تخدير‪.‬‬
‫�س�أله عبد القدو�س عن �سبب العبو�س وامللل‪.‬خ�شي �أن يتهمه‬
‫باالمباالة وعدم م�شاركته الفرحة‪ ،‬فاخذ ي�سرد عليه تفا�صيل وفاة‬
‫�إبن خالته يا�سني مع �أ ّنه تردد يف بادئ الأمر‪.‬‬
‫ت�أ�سف عبد القدو�س كثريا فهو �أي�ضا يعرف يا�سني‪ ،‬وطيبته‬
‫وخ�صاله احلميدة وراح يحاول التخفيف عنه بتب�سيط املوت وجعله‬
‫حدثا عابرا ال ي�ستحق � ّأي حزن بذريعة �أنّ الإن�سانية تع ّودت موت‬
‫الأخيار وتعمري الأ�شرار وراح يقول‪:‬‬
‫املوت �أ�صبح اليوم ال يحزننا حينما يختار خرية من فينا ليحملهم‬
‫على غفلة بجناحيه �إىل موطن ال رجعة منه فمابني موت الأج�ساد‬
‫وموت الأحالم �صرنا نت�شابه فنحن منوت كل يوم ب�أحالمنا �آالف‬
‫املرات‪ ،‬هي تقتلنا بال �شفقة وك�أننا ولدنا لنموت ال لنحلم‪.‬‬
‫‪� -‬صدقت يا عبد القدو�س‪..‬‬
‫‪� -‬أتعلم �أنّ املا�ضي اجلميل الذي ع�شته قد مات مع �أمي التي هجرتنا‬
‫�إىل القيامة ومل ترتك لنا فر�صة كي نقبلها �أو نقول لها وداعا‪ ،‬ال‬
‫يزال ذلك ال�صباح الكئيب عالقا بذهني يوم �إنتظرت �أن توقظني‬
‫فلم تفعل وحني ذهبت �أوقظها مل ت�ستيقظ ليعلن ج�سدها البارد‬
‫الذي �سكنت دقات القلب فيه �أ ّنها لن تفتح عينيها ولن تعود‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫عطل فرحة‬ ‫وترحم على �أمه و�شعر بندم لأنه ّ‬


‫‪ -‬ت� ّأ�سف لعبد القدو�س ّ‬
‫احلب التي كان ي�شعر بها باحلديث عن املوت‪ ،‬كاد يوا�سيه لوال �أ ّنه‬
‫قطع كالمه وهو يقول‪:‬‬
‫مت قبل اليوم والتزال‬ ‫‪ -‬فعال مل �أعد �أذكر �شيئا فقط �أتذكر �أين ّ‬
‫عودتي �إىل احلياة معلقة �إىل �أجل ّغري م�سمى‪.‬‬
‫‪ -‬تفاءل يا عبد القدو�س واترك الأحزان يف اهلل يعو�ضك بخري كثري‪.‬‬
‫‪ -‬وك�أنه �أراد الفرار من حزن ذكرى �أمه الذي داهمه فج�أة‪ ،‬عاد‬
‫ي�س�أله عن وفاة يا�سني ومالب�سات وظروف قتله‪.‬‬
‫‪ -‬البد و�أّ ّنهم مار�سوا همجيتهم يف القتل‪ ،‬كل فنونه يتقنونها‬
‫ويجيدون تطبيقها‪.‬‬
‫‪ -‬واهلل يا عبد القدو�س مل ت�صلنا تفا�صيل دقيقة‪ ،‬جثته مل تعد‬
‫موجودة‪ ،‬فخرب موته جاء من �صديقه الذي ر�آه ي�سقط �أمامه لكن مل‬
‫يجده بعد ذلك‪ ،‬رمبا �سيخفونها ت�سرتا عن جرائمهم وحموا للدليل‬
‫ورمبا �سيجعلون منها عربة ملن يقف �ضد �آلة املوت التي ي�ستخدمونها‬
‫يف حتقيق مبتغياتهم‪.‬‬
‫‪ -‬ذ ّكرتني بـ«مارينا ابراموفيك» التي قامت بتجربة �صعبة �سنة‬
‫‪ .1974‬مل يكن لها هدف �سوى �أن تثبت �أنّ جميع الب�شر مهما‬
‫�إختلفت �أو�صافهم قادرون على �إرتكاب �أفعال �شنيعة �إن توفرت لهم‬
‫الفر�صة‪ ،‬وقد جنحت يف �إثبات هذه الهمج ّية والنزعة ال�شريرة بعد‬
‫�أن �أتاحت للجماهري �أن يفعلوا بها ماي�شا�ؤون وهي واقفة مدة �ستة‬
‫�ساعات متوا�صلة بدون حركة كما و�ضعت �أمامها طاولة عليها �سكني‬
‫وم�سد�س و�أزهار م�شوكة‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫مل يجر�ؤ �أحد على الإقرتاب منها خالل بداية هذه التجربة �إ ّال‬
‫�أّ ّنهم حينما ت�أكدوا �أنها لن تقوم ب�أ ّية ردة فعل �إجتاه � ّأي ت�صرف‬
‫ي�صدر منهم‪ ،‬تركوا ال�سلمية فقاموا بتمزيق مالب�سها ونكزها‬
‫ب�أ�شواك الأزهار وحت ّر�ش بع�ضهم بها وحني �إنتهى الوقت الذي‬
‫خ�ص�صته مارينا لهاته التجربة وحت ّركت من مكانها ه ّمت تلك‬
‫اجلماهري بالفرار‪.‬‬
‫‪-‬فعال جنحت يف �إثبات �أنّ الإن�سان قد يكون عدوا لأخيه يف � ّأي‬
‫زمن ويف �أ ّية فر�صة فال�ضعف املوجود يف بواطنه يخلق دوما رغبة يف‬
‫التناف�س على الكمال الذي ال يتحقق في�صبح الإن�سان حقودا على‬
‫غريه ال ل�سبب �سوى �أ ّنه تفوق عليه يف مكا�سب م�صريها الزوال طال‬
‫الأمد �أم ق�صر‪.‬‬
‫�إفرتقا على حزن‪ .‬بعد �أن هد�أ فرح احلب يف عبد القدو�س‪،‬‬
‫مل يتع ّمد كالهما الوقوع يف براثني ال�شجن لوال �أ َّنه فر�ض نف�سه‬
‫وح�ضر بينهما‪..‬‬
‫م ّرت تلك الليلة حزينة‪ ،‬باردة‪ ،‬خالية من كل ترف روحي‪ ،‬فال‬
‫حزن عميق وال فرح راقي وال نوم هنئ‪ ،‬فاجلو �صارمرهقا ال يحقق‬
‫�أية �سعادة وال يجلب � ّأي �إبت�سامة‪.‬‬
‫كم �صعبة �أنت �أ ّيتها احلياة وكم قا�سية؟؟‬
‫احلمام يطري بحبنا �إىل كل �أفق ق�صي‪� ،‬آه يا هيام‬ ‫لن نحب مادام ِ‬
‫لو كنت �أمامي حل ّدثتك عن ن�سياين لنف�سي �أمام عينيك ال�سوداوين‪،‬‬
‫ففي ذلك امل�ساء الذي حدقت بي فعال تراخت ع�ضالتي و�أح�س�ست‬

‫‪73‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ب�أمل الف�ؤاد‪ ،‬احلتني على فرا�ش بارد كي �أمار�س البكاء اجلاف على‬
‫احلظ الهارب‪.‬‬
‫�أريد �أن �أق�ضي ليلة هادئة احت�ضن الو�سادة التي مل ت�ضمني يوما‪،‬‬
‫يدي و�صدري املزهر بك؟‬ ‫فهال كنت يا هيام حلما؟ ملا ماتوغلت بني ّ‬
‫ومل تركت بالطي ك�أنني ماا�شتهيتك ذات م�ساء �أ َومل ت�شتهي وقوف‬
‫قلبي يف ذياك ال�صباح املطري؟‬
‫مل �أكن عا�شقا قبلك ولن �أ�صبح مت َّيما بعدك‪ ،‬كل اجلفاف‬
‫الداخلي جعل من الف�ؤاد خرابا لتجتمع كل الآهات فيه ف�أ�صبحت‬
‫الروح جممعا للدموع‪.‬‬
‫فعال ع�سري حبك‪ ،‬ال�أملك �ض ّد ُه � َّأي دليل كي �أدينه �أو �أقتله َّيف‪،‬‬
‫ف�صوتك لوحده ي�أخذين �إىل غبار الأحالم التي ملأت عيناي ومانلت‬
‫من �أحالمي �إ ّال ال�صمت وال�صقيع‪.‬‬
‫�س�أعلن �إذا �أمام ال�سماء و�س�أ�سمع كل اجلبال و�س�أترك الع�صافري‬
‫تن�صت ورمبا �أجعل تلك الدوحة التي ال تتذ َّكر غار�سيها تبكي و�أنا‬
‫�أعلن بكامل �صوتي «�أح ّبك» فيا�أ�شالئي �إجتمعي جمددا واقذيف بي‬
‫يف بحرها فماعاد �شيء يخيف منذ رميت قلبي �إىل مابعد التاريخ‬
‫وقررت �أن �أتب ّنى قلبك و�أعلن �أ ّنه التاريخ‪ ،‬فلم يعد احلا�ضر الكئيب‬
‫كافيا لأن يوفر �أ�سباب العي�ش و�إذن لننفجر‪.‬‬
‫كلها خواطر جالت بقلبه وعاثت فيه متنيا و�أحالما �إىل �أن حمله‬
‫النعا�س على ك ِّفه و�سار به �إىل نوم عميق �أزال الكثري من �إحتقان‬
‫الأحا�سي�س بعد �أن �سرح يف خيال مبهم‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫توجه �إىل اجلامعة وهو مليء باحلب الذي �أغرقه منذ النظرة‬ ‫ّ‬
‫الأوىل‪ ،‬هيام �إلهة اجلمال ور ّبة الأناقة‪ ،‬كل اجلوارح تهتف با�سمك‬
‫يا ع�شرتوت‪ ،‬يارمز الأنوثة يف زمن االندثار‪.‬‬
‫توجه �إىل املدرج ‪ ،01‬وجد الطلبة يف فو�ضى وحالة من ال�ضجيج‬ ‫ّ‬
‫تعجب وهو يقول‪� :‬إيييه �أعلى الرواتب يف‬ ‫ب�سبب �إ�ضراب الأ�ساتذة‪ّ ،‬‬
‫كل القطاعات وي�ضربون �أي�ضا‪.‬‬
‫ر ّد عليه زميل له‪:‬‬
‫‪ -‬رمبا امل�س�ألة تخرج عن �إطار املال‪ ،‬رمبا م�شاكل �إدارية �أو غريها‪.‬‬
‫‪ -‬مل نعتد �أ ّية م�شاكل خارج البحث عن املال‪ ،‬والذي �أ�صبح حمركا‬
‫لكل النزاعات التي ت�صدر من املتعلمني وغري املتعلمني‪.‬‬
‫‪ -‬واهلل غريب‪...‬‬
‫رنّ هاتفه‪ ،‬ظنَّ �أنَّ عبد القدو�س �أو �أمه التي ال تفرق بني �أوقاته‪،‬‬
‫�إ ّال �أ َّنه تفاجئ حني دقق يف �شا�شة الهاتف وهو يرى نارميان بكل‬
‫الألوان‪ ،‬تر ّدد يف الرد وك�أ ّنه خ�شي ماوراء �إت�صالها فهي مل تت�صل‬
‫به منذ �أيام طويلة‪.‬‬
‫‪� -‬أهال نارميان‪ ،‬كيف حالك؟‬
‫‪ -‬بخري‪ ،‬احلمد هلل‪� ،‬أين �أنت؟‬
‫‪� -‬أمام املدرج رقم واحد‪� ،‬أظن �أنّ الدرا�سة �ستتوقف لثالثة �أيام‬
‫فالأ�ساتذة م�ضربون‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬حقا؟؟ �إنتظرين هناك �سوف �أ�صل بعد ربع �ساعة على �أكرب تقدير‪.‬‬
‫‪ -‬ح�سنا �أنتظرك‪.‬‬
‫م َّر الوقت على عجل وهاهي كلب�ؤة تختال ب�أجمل الثياب قادمة‬
‫بنظراتها الثاقبة‪ ،‬و�صلت وابت�سامتها قد �سبقتها ب�ضع خطوات‬
‫وعطرها ال�شهي ملأ �أحا�سي�سه رغبة‪.‬دعته �إىل اجللو�س حتت‬
‫الأ�شجار التي ثقلت بالع�صافري ال�شد ّية‪.‬كان اجلو مميزا بعذب‬
‫أح�س �أنّ �أحمر‬
‫الألوان والأ�شكال‪ ،‬كان ينظر �إىل نارميان با�ستمرار‪ّ � ،‬‬
‫�شفاهها �أخ ّل بالهدوء وح ّرك نريانا خامدة منذ زمن بعيد‪.‬ك�أنّ يدا‬
‫خفية تلعب ب�أفكاره وحتر�ضه على خيار من اثنني‪� .‬أن يبتلع تلك‬
‫الرغبة �أو يبتلع �شفاهها والثاين من اخليارين كان �أقوى‪.‬‬
‫مل ولن يخفى عن امر�أة �شعور رجل يجال�سها بحريق داخلي ظهر‬
‫دخانه على عينيه الذابلتني‪ ،‬نظرت �إىل مابعد الأ�شجار فلم جتد‬
‫�شيئا يثري احلياء‪ ،‬فال ثالث بينهما‪.‬‬
‫�ضغطت على يده بنحو يجذبه اليها‪ ،‬هو جديد ال يعرف الكثري‬
‫عن هذا النوع من الإقتحام‪.‬كاد ي�ضحك حني تذكر �شعر نزار قباين‪:‬‬
‫ياطفلة ال�شفتني ال تتهوري‪..‬‬
‫طبع الزوابع فيه بع�ض طباعي‪..‬‬
‫مل ي�ضحك من جنون نزار لأنّ الزوبعة مل متنح له الوقت كي يفتح‬
‫فمه �أو يهرب ب�شفتيه‪ .‬نارميان تقطعهما دون رحمة بعد �أن �إبتال‬
‫بعذب ماء �شفاهها املمزوج بنكهة الفراولة ال�شهية‪� ،‬إ�ستمر املوقف‬
‫بتقطع لإ�ستعادة الأنفا�س والذوبان ب�شكل �أكربيف كل مل�سة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إذن قد ّمت �إعالن احلب من جديد ومت �إبهار احلوا�س كذلك‪،‬‬


‫�آه يا نارميان‪ ،‬ويح احلب فيك وويحي �أنا حينما جننت و�سايرتك‪،‬‬
‫بل ق ّبلتك؟؟‬
‫عجيب �أمر زحام النهد بني �أوراقي وكيف للمفاج�أة �أن جتعلك‬
‫الق�صيد وجتعلني بع�ض الكالم‪ُّ � ،‬أي رع�شة جعلتني �أهتز‪ ،‬وجعلت‬
‫�أحا�سي�سي تنفجر �أمام نهدان �صامتان‪� ،‬سبقتني �إذا يا �شاعري و‬
‫�صدقت‪ .‬فماذا لو كان هذا املوت على فرا�ش هيام؟‬
‫عذرا يا نارميان قد خنتك ولن �أبوح لك مبا يف القلب حتى ال‬
‫ت�شعري بخيبتني خيانتي وخيانة حظك‪ .‬كان م�شدوها وكل الأفكار‬
‫ترتاكم وتتزاحم حوله‪.‬يخ�شى التورط مع نارميان فهو ت�ضييع لهيام‪.‬‬
‫ال�سري الذي �إن حت ّدث به لأحد �سي�سخر منه ال حمال‬
‫ّ‬ ‫هيام احلب‬
‫�أو يتّهمه باجلنون فهى �أ�ستاذته اجلميلة‪ ،‬ال�صامتة التي تتقن لغة‬
‫الأعني‪ ،‬ذلك الدر�س الذى �شرحته ال يزال عالقا يف ذهنه‪ ،‬رمبا‬
‫خ ّل�صه من ثقل احلفظ والن�سيان حتى ان كالمها املن�سق �إ�ضافة‬
‫هي ثرثارة وال هي �شحيحة‪ ،‬كل ماتنطق‬ ‫للجامعة وللتدري�س فال ّ‬
‫به حمبب ومرغوب‪� ،‬إبت�سامتها �إثر كل �س�ؤال يوجه لها كافية لتكون‬
‫�إجابة مكتملة ملا ترتكه من �إقتناع يف القلب‪.‬‬
‫كان يتذمر من جفاف مواد القانون التى مل متنحه املتعة احل ّقة‬
‫للتعلم على يديها كم متناها �أ�ستاذة للأدب تد ِّر�سه ع�صور ال�شعر‬
‫و�أ�صول الرواية كي ُيلقي �أمامها �أبيات عبد العزيز جويدة مثاال‬
‫وطلبا وا�ست�شهادا‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫علميني احلب يا �أ�ستاذتي‬


‫�إنني يف احلب غ�ض‬
‫ل�ست �أدري كل مايف احلب نطقا �أو كتابة‬
‫�إنني يف احلب �أمي‬
‫وعندي كل �شيء يت�شابه‬
‫كل حرف‬
‫ر�سمه عندى على �شكل قمر‬
‫�أو على �شكل �سحابة‬
‫حاويل �أن تخرجيني‬
‫من �أ�ساطري الرتابة‬
‫�إننى اململوء من قي�س‬
‫وليلى‪.‬‬
‫�إذن يا �شاعرنا ك ّلنا بحاجة للتعلم ول�ست وحدك من تعاين‬
‫الأم ّية كلنا نحتاج لأن نقر�أ ونكتب لأننا كثريوا التلعثم وكل‬
‫العبارات التي ننطقها ركيكة ال جدوى �إذن من البقاء على قيد‬
‫ال�سكوت فاجلهل �آفة الأّ ّولني والر�ضا به �أعتى من ظلم الظاملني‪.‬‬
‫بت �أ�شعر �أ ّنها تبكي‪� ،‬آه‬
‫لن �أوا�صل الإنفجار يف وجه الأوراق فقد ُّ‬
‫من هذا ال�س�ؤال الذى ُيرعبني‪ ،‬هل كل ال�شعر الذى كتبته قبل‬
‫تعلقي بعينيها ركيك �أم هو نرث رديء ال ي�صلح ل�شيء وهل بعد‬
‫تعلقي بها �س�أكتب �شعرا ج ّيدا؟‬

‫‪78‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫حلمت يف يقظتي �أن تدر�سني ع�صور ال�شعر ف�إذا بي �أكت�شف �أن‬


‫�شعري ع�صرين ع�صر ماقبل عينيها وع�صر مابعدهما‪� .‬أي امر�أة‬
‫�أنت‪ ..‬ال ّلعنة‪..‬‬
‫هيام �أ�ستاذة م�ؤقتة �إذن لن ت�شارك يف الإ�ضراب مبوجب القانون‬
‫وح�صتها بعد �ساعة‪� ،‬إهتز وهو يتذكر ذلك بعد �أن غرق يف منا�سك‬
‫احلب ومنا�سك التفجع على الورود التي يزرعها ب�أحداقها وي�سقيها‬
‫دون �أن تنتبه لهذا الب�ستاين الأ�شعث الذي غرق يف وحل ف�ؤاده‬
‫املزروع خلف قدها املدجج‪.‬‬
‫هاقد حان الوقت‪ ،‬وداعا يا نارميان‪ُ ،‬قبلتك مل تفلح يف حتنيط‬
‫تعلقي بالأخرى‪ ،‬من؟ هيام التي ب ّدلت القوانني ورفعت التع�صب‬
‫و�سكبت املياه على القلب اجلاف‪ ،‬هي مل تقل بعد كالما جميال فلو‬
‫قالت رمبا �ستجعل داخلي �شالال وقلبي املهجور ينبوعا للحنان‪.‬‬
‫مل �أعد �أتقن ال�سري يف هذا امل�ضمار ال�ضيق وال �أملك � ّأي م�ؤ�شر‬
‫يدلني على النبع‪� ،‬أريد �أن �أرتاح من هذا الطريق الغري معبد و�أ�شرب‬
‫من كلماتي ور�سائل عيناي النا�ضحة‪ ،‬ل�ست ج ّنتك ول�ست كذلك‬
‫جهنمي‪ ،‬ف�أنت بع�ض �إحرتاقي الليلي وكثري الزمهرير على توهج‬
‫خاليا حبك ّيف‪.‬‬
‫لي�س احلب يف �أن �أغتال بوحدتي ولي�ست الوحدة عربونا للطم�أنينة‬
‫عن حب ي�صارع اخلروج �إىل واقع ه�ش لن مينحه �سوى ميتة دورية‪.‬‬
‫مازال ال�شق الأمين من الف�ؤاد متوهجا با�سمك وال يزال الأي�سر يبكي‬
‫بعدك فهال �إنطف�أ احلريق وا�شتعل �إ�سمك ح�صرا ومات الأمل اجلميل‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ربااااه �أي جنون هذا الذي يقيم خيامه على خم ّيلتي كي يجعلها‬
‫منتزها عنوانه �أنت‪.‬ف�أين �أنا فيك و�أين �أنت َّيف؟؟ �أوووف‪.‬‬
‫دت جغرافيا تف�شيك يف ج�سدي لرمبا برتت ع�ضوا �أو‬ ‫لو ح ّد ِ‬
‫اثنني واقتلعتك من حوا�سي ع ّلني �أ�شفى من �شعوري باليتم �أمامك‪،‬‬
‫�ستقولني يل بكل برودة «�أنت مهبول» لو �صارحتك‪� .‬س�أجف بكل‬
‫حرارة و�أنت تطردين م�شاعري وترتكينها تبيت خارجي وخارجك‬
‫و�أنا �أموت مبئات الطعنات‪.‬‬
‫لن ي�ستوي �أن �أبتعد هكذا �صامتا فلي�س حبي لقيطا لريمى‪ ،‬كل‬
‫ال�شرعية له ولي�س هناك � ّأي مذنب فيه فقد جاء من �أر�ض بتول‬
‫و�سال نقيا‪ ،‬حافيا �إليك وعليك‪ ،‬فهل �أفجر م�شاعري �أمامك و�أمام‬
‫العلن؟ ال لن �أفعلها ففيها �شظايا خطرية قد تلم�سك فتذيب مافيك‬
‫ولو كان �صخرا‪.‬‬
‫ماعدت �أتفاءل كثريا مذ �سقط �ألوف الفر�سان عن �أح�صنتهم‬
‫وحت ّول احلب �إىل طاولة �شطرجن مهددة بالإنقالب‪ ،‬لكن �أي�ضا ال‬
‫بد من �سالم �أجل�س على ركبتيه و�أقبله كي �أرتاح من هذا اخلوف‬
‫القاتل و�أحب دون م�ض�ض و�أ�صلح مافعله الدهر وماخلف من رميم‪.‬‬
‫�إذن �س�أتكلم‪.‬‬
‫ع ّلق حواره الداخلي وجل�س �آخر احلجرة‪.‬تناول ورقة وقلما وبقي‬
‫و�صلت كما‬
‫ْ‬ ‫ينتظر و�صول القدي�سة‪� ،‬إندفع اجلميع ليدخل‪�.‬إذن قد‬
‫و�صلتُ ‪ ،‬الفرق فقط يتنا�سون �أين القادم من �أر�ض التيه �إىل التيه وهي‬
‫القادمة من العدم الذي حتمله وقد متنحني �إياه يف حلظة جتاهل‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�ألقت حت ّية �شاملة‪ ،‬جل�ست مبت�سمة وهي تدقق يف وجوه الطلبة‬


‫وك�أ ّنها ترغب يف حفظ مالحمهم �أو �إ�سرتجاع البع�ض منها‪.‬حينما‬
‫وقعت عيناها على حمياه �أ�ضافت ثواين �أخرى وحابته بنظرة مميزة‬
‫قريبة �إىل الإبت�سامة‪ ،‬ربمّ ا تذكرته ورمبا لفت نظرها ب�أمواج ع�شقه‬
‫التي يبعث بها جيو�شا‪ ،‬مل يعد يدري �شيئا �سوى �أ ّنه �أمام هيام‪ .‬ال‬
‫يهتم‪ ،‬من تكون �أو كيف �ستكون‪ ،‬هيام و�إنتهى‪.‬‬
‫الباب ُيطرق‪.‬ولج �أحد الأعوان الإداريني وهو يحمل �أوراقا‪.‬منحها‬
‫�إحدى الأوراق وطلب منها �إيداعها الحقا يف مكتب رئي�س الق�سم‪،‬‬
‫�شكرته وبعد مغادرته دققت يف الورقة وطلبت من جميع الطلبة‬
‫االنتباه �إىل ما�ستقوله‪.‬‬
‫‪ -‬الورقة متثل �إختيار الطلبة ملمثلهم ونائبه فاختاروا من ترونه‬
‫جديرا بهاته املهمة واذا مل تتفقوا فلكم �أن يرت�شح �إثنان �أو ثالثة‬
‫وجنري ت�صويتا‪.‬‬
‫ت�ضحك فتزداد جماال ويزداد ذوبانا وانبهارا‪..‬‬
‫نظر جميع الطلبة �إليه فهو املمثل ال�سابق والأجدر باملوا�صلة يف‬
‫هاته املهمة‪� ،‬صمت وك�أ ّنه ال يح�س بالنظرات التي حتطيه �إىل �أن قطع‬
‫ال�صمت زميل له وهو ي�شيد به‪� .‬إبت�سم بعد �أن تعالت �أ�صوات التزكية‪.‬‬
‫نطقت الأ�ستاذة وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬الكل موافق على هذا االقرتاح؟ الذي يوافق يرفع يده‪.‬‬
‫رفع اجلميع‪ ،‬ماعدا واحدا �أو اثنني مل تكرتث لأحد منهم‪.‬تق ّدمت‬
‫منه وهي حتمل تلك الورقة‪ ،‬يف كل خطوة منها يت�سارع خفقان قلبه‬

‫‪81‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�أكرث وكلما �أ�صبحت �أقرب‪ ،‬ه ّز حوا�سه وم�شاعره عطرها الذي طغى‬
‫على كل العطور‪.‬‬
‫طلبت منه تدوين �إ�سمه ورقم هاتفه وكل ماهو موجود يف‬
‫الإ�ستمارة‪� ،‬ض ّيع اخلط وهي تنظر �إليه من ع ّل و�ضاع هو حينما‬
‫الم�ست يدها كتفه‪.‬‬
‫م ّرت تلك احل�صة هادئة متاما‪ ،‬عانى االفراط يف الرتكيز �إىل‬
‫أح�س بف�شل ور�أى �أنّ �أحالمه تت�صاعد بخارا‪ ،‬مل يعد‬
‫غاية نهايتها‪َّ � ،‬‬
‫له مايت�شبث به بعد �أن وجد جدارا يحجز على م�شاعره ويقيدها‬
‫فمهما يكن لن تكون له معها فر�صة ولو عابرة فالعالقات الأكادميية‬
‫لها �أبعاد كثريه مبا حتمله من جمامالت وحمبة مفرت�ضة ال تخ�ضع‬
‫لقواعد املمار�سة الواقعية‪.‬‬
‫مل تبق له �أ ّية رغبة يف موا�صلة الدرا�سة �أو البقاء يف حرم اجلامعة‪،‬‬
‫�إحباط عنيف ت�س ّلل اليه كاد يقطع تلك العاطفة التي قو�ضت �أركان‬
‫كربيائه والتي �إتّخذ لأجلها ماليني القرارات ورجع عنها يف حب مل‬
‫يتخذ ّاي خطوة تلم�س من �أجله‪.‬‬
‫عجل باخلروج متو�سال خطاه �أن تخ ّل�صه من تواجده بهذا املحيط‬ ‫ّ‬
‫الذي مل يوفر له حاجيات قلبه من النوروال�شوق‪.‬ن�صف �ساعة من‬
‫ال�سري‪ ،‬و�صل �إىل البيت فلم يجد �شيئا يدل على احليوية �أو الفرح‬
‫فال�صمت مطبق متاما وال �شيء يدل على �شيء �سوى ال�سكون العميق‪.‬‬
‫موجها‬
‫بعد حمام دافئ‪ ،‬و�ضع فنجان قهوة �ساخن على حافة الأريكة ّ‬
‫له بع�ض الكالم‪:‬‬

‫‪82‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�أيا فنجانا �صامتا‪ ،‬ماذا �أفعل‪ ،‬كيف �أفعل‪ ،‬وملا �أفعل؟؟‬


‫وك�أ ّنه ينتظر ردا وهو يغرز عينيه يف الفقاعات املتمركزة و�سط‬
‫الفنجان‪�.‬إرت�شف منه قليال وهو يقول‪ :‬القهوة ال ُت�شرب على عجل‪،‬‬
‫القهوة �شقيقة الروح ت�شرب على مهل‪�.‬آه يا حممود كم كنت �شاعريا‪،‬‬
‫حمل كتاب «ذاكرة للن�سيان» الذي قال عنه حممود دروي�ش �أنه �أف�ضل‬
‫ما َكتب‪ ،‬قر�أ �صفحات وعاد ليتذكر ب�أ ّنه وحيد يف البيت‪ ،‬وحيد �آه ومل؟‬
‫�إتّ�صل ب�أمه التي مل يتوقع ردها متاما‪ ،‬فالتكنولوجيا هي �آخر‬
‫همها فعامل الهواتف املحمولة الذي �أقحموها فيه مل يكن ير�ضيها‬
‫بقي غام�ضا يعاين الإهمال‪.‬ر ّدت ف�ضحك تعجبا من هذا الرد‬ ‫لذا ّ‬
‫غري املنتظر‪.‬‬
‫‪ -‬وينكم يا ما‪ ،‬عاله تروحوا بال متقولويل ولوكان ما�شي املفتاح يف‬
‫(((‬
‫جيبي نبقى برا‬
‫‪ -‬ماعليه يا وليدي‪ ،‬فيبايل مزال ماجتي وبنت خالتك ولدت اليوم‬
‫(((‬
‫وجابت طفل �شباب �سماتوا �سليم‬
‫‪� -‬سليم؟ �آ�آه مربوك‪ ،‬املهم مطولو�ش بزاف((( �سالم‪..‬‬
‫عهر قادرة �أنت عليه‪ ،‬وا�صل‬ ‫تعجب‪� ،‬إذن قد فعلتها يا �إلهام‪ّ � ،‬أي ٍ‬
‫َّ‬
‫يتمتم‪� ،‬سليم‪� ..‬سليم‪..‬‬
‫‪� -1‬أين �أنتم با�أمي ملاذا تغادرون البيت دون اخباري‪ ،‬لومل اكن حامال للمفتاح‬
‫لبقيت خارج البيت‪.‬‬
‫‪ -2‬اعتقدت انك لن تات كما ان ابنة خالتك ولدت وكان ذكرا و�سيما �سمته �سليم‪.‬‬
‫‪ -3‬ال تت�أخروا كثريا‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫تاريخا وذكرى‪ ،‬قد يقول قارئ‬ ‫ف َعلتها لتجعل ذلك احلب القبيح ً‬
‫عن � ّأي حب قبيح تتحدث؟ وهل �إمتاز احلب بالقبح يوم َا؟ نعم هو‬
‫قبيح قبح �سليم الرجل ال الر�ضيع الربئ الذي ال ذنب له‪ ،‬رمبا‬
‫احلب �أعمى كما يقال لكن هذا القول عاجز عن تقدمي �شيء مهم‬
‫فمالتف�سري اذن؟‬
‫كل تلك الوح�شية والدونية مل يقنعاها ب�أن حياتها العاطفية معه‬
‫نكتة موجعة ال متثل احلب يف �شيء و�أنّ ق�صتها معه جعلت كلمة‬
‫احلب ركيكة ومعطوبة فطاملا ن ّكل بحبها جهارا نهارا وك�أ ّنه عدو وكم‬
‫خ ّرب ج�سدها بقذارته الالحمدودة حتى �أ�صبح �إ�سمها عنوانا للقبح‬
‫واملهانة‪.‬مل تغفر لها الذاكرة اجلماعية �شيئا لكنّ الرحمة غفرت لها‬
‫يوم �أهدتها زوجا ُح ّرم عليه �سماع �شرورها فقط لأنه بعيد عن �أر�ض‬
‫هاته ال�شرور املقد�سة التي مت الرتخي�ص بها با�سم احلب‪ ،‬ما�أ�سو�أ‬
‫�أن ي�شوه ذلك الربئ وكم هو تعي�س ببكمه وجهله‪.‬‬
‫ما�ضي‬
‫ّ‬ ‫يا �إبنة اخلالة ليتك ت�سمعني مايقوله جويف‪ ،‬وليتك تعرفني‬
‫هذا اجلوف اله�ش‪ ،‬لتعرييني ليال طوال‪ ،‬لكن لن يعود املا�ضي �إىل‬
‫ما�ضيه مادام اللون الأ�سود ال يزال مرتبطا به كعالقة املاء والبحر‪،‬‬
‫�أدرك �أنّ القلب الأخرق ميازح دموع الب�ؤ�س‪� ،‬أنا �أي�ضا حدث معي الكثري‬
‫ومن العمى كان ن�صيبي وفريا‪ ،‬كنت دوما �أت�ساءل‪َ ،‬مل �أمطار الن�سيان‬
‫تهطل يف ليايل حبنا ال�صيفية‪ ،‬كنت �ألعن جمنونتي و�أ�س�ألها عن بكاء‬
‫ال�شم�س يف �آهاتي احلارقة وجمود الندى يف ال�ضحى امل�شم�س‪.‬‬
‫قد �س�ألتها ذات يوم عن العاطفة و�ش�ؤونها فكان جوابها بائ�سا‪،‬‬
‫تكذبهم ومل ت�صدق �أكاذيبهم‬ ‫مل تخربين عن �أحاديث الع�شاق‪ ،‬مل ُ‬

‫‪84‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫يل بعجب التكذيب وبراءة الت�صديق‪ ،‬وحني �أعلنت‬ ‫فقط كانت تنظر ا ّ‬
‫عليها احلب ردت بكل ثقة و�سخرية‪:‬‬
‫‪ -‬حتبني؟ هل �أ�صدقك؟ � ّأي هبل تريد مني قبوله‪ ،‬ليت هاته الكذبة‬
‫كانت �أقل حجما فرمبا �إ�ستطعت �إبتالعها لأجل طيبتك‪� ،‬أيها الطيب‬
‫حد ال�سخرية‪.‬‬
‫رمبا كنت طيبا لكن مل �أعرف عن ال�سخرية �شيئا منذ �إ�صطدمت‬
‫بها‪ ،‬ال �أدري مالذي حدث بعد ذلك‪ ،‬فكل مايف الأمر �أنني قد زدت‬
‫تعلقا بها وزدت وجعا بحبها �إىل �أن توقف وجعي �إىل الأبد يف حلظة‬
‫الن�سيان التاريخية‪.‬‬
‫وجعي بحبي و�صل �أوجه‪ ،‬مل يكن �أمل اخليانة ومل يكن �أمل الغدر‪،‬‬
‫بل �أمل احلب‪ ،‬فحني �أحببتها كان ت�صور خ�سارتها ي�شتتني كفكرة‪،‬‬
‫فكرة تراودين يف ال�سهاد‪ ،‬ال�شئ يوحي باخل�سارة‪� ،‬إذن ال �سبب‬
‫للحزن ومن �أجل ذلك عانيت وجعا مزمنا وخلال فادحا على م�ستوى‬
‫ليلي الطويل‪ ،‬وحني حتققت اخل�سارة التي كانت فكرة جمردة‪،‬‬
‫�أعلنت وفاة احل�س و�أدركت �أن حوا�سي الداخلية مل تكن متزح و�أن‬
‫احلب �أ�صبح رمادا �أو ه�شيما‪.‬‬
‫مل �أذكر هذا الكالم وماذكرته بعد‪ ،‬لكنه نقا�ش جاد بيني وبني‬
‫ذاكرتي‪ ،‬ليتك تعلمني يا�إبنة اخلالة �أنّ مولودك امل�سمى على ذلك‬
‫احلبيب مل يكن فادحا مثلما �سم ّيت �أنا عمري بامر�أة و�إرتكبت من‬
‫الفداحة مااليغتفر‪.‬قد زوجوها كما �إدّعت و�أعتقد �أ ّنها هي من تزوجت‬
‫بعدما رغبت بذلك الرثاء‪.‬مل يكن رجال ذلك الذي تزوجته بقدر‬

‫‪85‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ماكان ثريا فهو مل يقتنع بكل ماقيل له عن حبي لها ورمبا حبها يل‬
‫وكل ماقيل كان كالم عابرين فهي مل تقل �شيئا واكتفت باتهام القدر‪.‬‬
‫�سقطتُ يف وهاد اخليانة و َفتحت �أبواب الوجع على م�صرعيها يف‬
‫وجهي‪ ،‬كنت �أت�أمل و�أرتكب جرمية البكاء احلار يف حق رجولتي وبال‬
‫جدوى‪.‬لن �أ�ساحمها يف � ّأي يوم ولو تعددت منا�سبات الغفران‪.‬‬
‫�إغفري يل يا �شريكتي يف احلب واخل�سران‪ ،‬يا ابنة اخلالة ما قلته‬
‫فكلنا يف البحر ماء‪ ،‬ولي�ساحمني اهلل لأنه �أعطاين حبا مغ�شو�شا‪.‬‬
‫نام على �أريكة احلوار‪ ،‬كان نوما خفيفا قطعه رنني الهاتف‬
‫املتوا�صل‪.‬رد ب�صوت متقطع‪..‬‬
‫‪� -‬ألو ال�سالم عليكم‪..‬‬
‫‪ -‬وعليك ال�سالم ور�ضوان اهلل‪ ،‬مرحبا‪.‬‬
‫‪� -‬أظنك �أنت ممثل الفوج الثاين من املجموعة �أ؟‬
‫‪� -‬آه نع ـ ــم‪.‬‬
‫‪� -‬أنا الأ�ستاذة حمب الدين هيام‪ ،‬من ف�ضلك يجب �أن تخرب زمالءك‬
‫�أنّ ح�صة الأ�سبوع القادم �ستعو�ض يوم االثنني بدل الثالثاء‪� ،‬أرجوا‬
‫�أن تبلغهم‪� ....‬ألو‪� ،‬ألو‪� ،،‬ألووو هل ت�سمعني؟؟‬
‫‪ -‬عذرا �س�أبلغهم ب�إذن اهلل‪� ،،‬شكرا‪.‬‬
‫‪� -‬شكــرا‪� .‬ســالم‪.‬‬
‫‪� -‬سـ ــالم‪.‬‬
‫ال ّلعنة ُيطاردين احللم يف الواقع‪ ،‬ويبحث عني حتى يجدين‪،‬‬
‫ويفعل فعلته‪ ،‬هذا مامل �أف ّكر فيه متاما‪ ،‬كيف ي�صل بركانها �إىل عقر‬

‫‪86‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫داري ويذيب تعنتي الأخري‪ ،‬هل �شعرت بغ�ضبي وخروجي ف�أرادت �أن‬
‫تخلط �سكوين الذي قر ّرت بناءه؟‬
‫يرن الهاتف من جديد‪ ،‬هي �آه نعم رقمها متوهج يف ال�شا�شة وك�أ ّنه‬
‫م�صباح الز ّيت يف �أول �إ�شتعاله‬
‫‪� -‬ألوو نعم �أ‪� ..‬أ�ستاذة‪.‬‬
‫‪ -‬عذرا �إن �أزعجتك‪� ،‬أمتنى �أ ّنك مل تخرب زمالءك لأنّ الربنامج مل‬
‫يتغري وماقلته لك قبل قليل كان ت�سرعا مني‪� ،‬آ�سفة‪.‬‬
‫‪ -‬مل �أفعل بعد وال �إزعاج يف ذلك‪ ،‬يا مرحبا‪.‬‬
‫‪� -‬شكرا جزيال‪� ،‬سالم‪.‬‬
‫‪ -‬وعليك ال�سالم‪.‬‬
‫بدا له الأمرغريبا‪ ،‬كل �شيء �إختلط ومل ت�ستقر �أ ّية فكرة‪،‬‬
‫�صوت هيام كان منوذجا للأنوثة يعادل الدرجة العا�شرة على �سلم‬
‫الإهتزازات الع�شقية‪ُّ � .‬أي �أنثى هي؟‬
‫ذلك ال�صوت امل�سافر يف حقائب احلنني والعائد من زمن‬
‫اله�شا�شة مل يكن طبيعيا‪ ،‬كان �أكرب من �أمواج �صوتية ينقلها املحمول‬
‫و�أعظم من �أن ي�سمع لب�ضع ثواين ال ت�سمن وال تغني من جوع فكل‬
‫احلوا�س ثارت بعد �أن كانت م�ساملة‪� ،‬صوت هيام يتدفق كرذاذ املطر‬
‫ال�شتوي والنطق الأول �شبيه بتفتح الأوركيد‪ ،‬ما�أ�ضخم ظالل الغواية‬
‫يف هيام وما�أ�صعب �إقتحام الظالل‪.‬‬
‫الع�صي حف َر‬
‫ّ‬ ‫هل �أحت ّرر من كل العبوديات لأقتحمك؟ هذا ال�س�ؤال‬
‫عميقا يف الطريق امللتوي بني عقله وقلبه‪ ،‬ما �أ�صعب الت�سا�ؤالت غري‬

‫‪87‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫املقنعة وما�أ�سو�أ الإجابات غري الكافية و�أجوبة دون م�ضمون تطرح‬


‫�أ�سئلة �أعمق و�أ�سو�أ‪.‬‬
‫كل الأفكار تهرب نحو حيز اجلمود وال وقت لر�سو الن�سيان وال‬
‫مرف�أ له‪ ،‬ال�صمت وح�ش يهدد ال�سالم العاطفي والكالم يف �صمت‬
‫رونق للأمل الداخلي وال �شيء �سوى املوت باملجان لقاء كل �صمت‬
‫خاطئ وكالم فارغ‪.‬‬
‫ت�س ّربت �أبيات �إبن حزم الأندل�سي �إليه كالطوفان فاحلب ع ّلة وو�صف‬
‫ال�شعراء وحديثهم كثريا ماخ ّفف تلك الأوجاع‪ ،‬راح يتذكر ذلك ال�شعر‬
‫ويلقيه ب�صمت على خاطره املتعب‪ ،‬الذابل ك�أوراق اخلريف‪:‬‬
‫وذي ع ّلة �أعيا الطبيب عالجها‬
‫�ستوردين ال �شك منهل م�صرعي‬
‫ر�ضيت ب�أن �أ�ضحى فتيل وداده‬
‫كجارع �سم يف رحيق م�شع�شع‪.‬‬
‫�صوت عبد القدو�س �أمام البيت ودقات خفيفة‪ ،‬خجول دوما و�إذا‬
‫مل ي�سرع �إىل الباب يغادر‪.‬نه�ض حافيا مهروال ليفتح له‪.‬‬
‫‪� -‬أهال بعبد القدو�س‪ ،‬مفاج�أة فعال‪.‬‬
‫‪ -‬كنت مارا من هنا‪� ،‬أخربين حد�سي �أ ّنك موجود بالبيت‪ ،‬فقلت‪،‬‬
‫�أجرب هذا احلد�س اللعني‪.‬‬
‫‪� -‬أدخل لنتحدث‪.‬‬
‫‪ -‬ال ال �أنتظرك تغيرِّ مالب�سك‪� ،‬سنتناول قهوة يف مقهى احلرية‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬هيااا ال �أحد بالبيت كفاك خجال‪.‬‬


‫دخل �إىل البيت بخطى متباطئة‪ ،‬كمن يكت�شفه لأول مرة‪ ،‬عبد القدو�س‬
‫له من احلياء ما يخيفه من كل مدخل جديد‪ ،‬فقد �سبق و�أن برهن ذلك‬
‫يوم حا�سرته ابنة خالته يف بيتهم ورف�ض االن�صياع لرغباتها من �شدة‬
‫خجله‪ ،‬ومل متنحها جر�أتها �شيئا بعدما ت�سبب اخلجل والتوتر يف عجزه‬
‫عن �أداء الدور البيولوجي الذي مل يرغب به‪.‬‬
‫قام باعداد القهوة له بينما راح عبد القدو�س يت�صفح الكتب‬
‫املتناثرة‪ ،‬غابريال غار�سيا ماركيز‪ ،‬كافكا‪ ،‬وا�سيني الأعرج‪ ،‬فدوى‬
‫طوقان‪ ،‬ك ّلها �أ�سماء‪ ،‬ال فرق عند عبد القدو�س‪ ،‬فعالقته مع الأدب‬
‫والكتاب �ضعيفة ورمبا �سيئة‪.‬‬
‫عاد من املطبخ يحمل فنجانني من القهوة يف نف�س اللحظة التي‬
‫انتبه فيها عبد القدو�س �إىل مذكرة مكتوب فيها بخط اليد‪� ،‬أخذ‬
‫يقلب الأوراق واحدة واحدة وهو يدقق يف بع�ض ماكتب‪.‬‬
‫‪ -‬هل �أعجبتك الن�صو�ص يا عبدو؟‬
‫‪ -‬عذرا عن جت�س�سي‪ ،‬هل هذا خمطوط رواية‪� ،‬أم جمرد ن�ص؟‬
‫‪� -‬إنها رواية بحاجة �إىل مراجعة وتدقيق‪.‬‬
‫‪� -‬إت�صل ب�أحد النقاد لع ّله يفيدك ويجنبك الوقوع يف م�صيدة النقد‬
‫الالذع مت�أكد �أن التنقيح من �أحدهم �سيكون مفيدا‪.‬‬
‫‪� -‬أتفق معك يف �أن للنقد دور يف حت�سني الأعمال وتوجيهها ورمبا‬
‫حتى تهذيبها لكن ما ذهب �إليه «طه ح�سني» يغريني فعال‪ ،‬ف�أنا‬

‫‪89‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�ضد النقد الذي ي�ض ّيق حدود القلم �أو النقد الذي ي�ضع يده على يد‬
‫الكاتب �أثناء ر�سمه لن�صو�صه‪ ،‬الكتابة ر�سم‪ّ � ،‬أي تدخل ليد �أخرى‬
‫�سي�شوه اللوحة‪.‬‬
‫‪� -‬إذا كان عميد الأدب العربي قد ح ّرر الكتابة من هذا ف�أنت حر‪.‬‬
‫‪ -‬نعم يا عبد القدو�س وقد �أعلن هذا يف كتاب املعذبون يف الأر�ض‬
‫فجاء على ل�سانه‪:‬‬
‫ال �أعرتف ب�أنّ للنقاد مهما يكونوا �أن ير�سموا يل القواعد والقوانني‬
‫مهما تكن‪ ،‬وال �أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته �أن يدخل بيني‬
‫وبني ما �أحب �أن �أ�سوق من احلديث و�إنمّ ا هو كالم يخطر يل فامليه‬
‫ثم �أذيعه فمن �شاء �أن يقر�أه فليقر�أه‪ ،‬ومن �ضاق بقراءته فلين�صرف‬
‫عنه ومن �شاء �أن ير�ضى عنه بعد القراءة فلري�ض م�شكورا ومن �شاء‬
‫�أن ي�سخط عليه بعد القراءة فلي�سخط م�شكورا �أي�ضا‪.‬‬
‫�أنظر �إىل قوله جتده م�ستقرا على حرية البوح‪ ،‬فكال الطرفني‬
‫اللذين ي�شكالن القطب الرئي�سي لنجاح الرواية �أعتربهما دار�سني‬
‫للن�ص ال متحكمني فيه‪.‬‬
‫�آ�سف �إن �سب ّبت لك �صداعا فانا واثق من �أ ّنك تخ�شى �أن يطول‬
‫حديث الأدب ولو �إدعيت االهتمام من �أجل �إر�ضائي‪ ،‬هيا �أخربين‬
‫عن جديدك وكيف ت�سري �أمور درا�ستك و�أين و�صلت يف الدرب‬
‫ال�صعب �أنت وحبيبتك؟‬
‫‪-‬الزلنا ن�صارع براثني الفراق مع �أنّ احلب يف �أوجه‪ ،‬فاحلب القوي‬
‫دوما معر�ض للنكبات و�أظن �أي�ضا �أنّ الفراق املهدد له يزيده قوة‬

‫‪90‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫كلما ف�شل يف حتنيطه‪� ،‬أعتقد �أي�ضا �أنّ ال�شرعية �أ�صحبت �ضرورة‬


‫ملحة فهي تطالبني ب�أن �أتقدم خلطبتها وتعترب ذلك عربونا ل�صدق‬
‫املحبة التي تتهمني ب�إدعائها‪ ،‬فنادرا مات�صدقني حني �أقول لها‬
‫�أحبك ونادرا ما تتجاوز الأمر دون �أن تطلب مني �أن اق�سم على ذلك‬
‫لذا جعلتني �أفكر مليا يف التقدم خلطبتها‪.‬‬
‫‪ -‬لكنك ال تزال بدون عمل ودرا�ستك مل تكتمل بعد ووالدك وهو �إبن‬
‫الريف الذي ال ي�ؤمن �إ ّال مبا هو تقليدي و�أ�صيل هل �سي�سهل عليه تقبل‬
‫�إبنة املدينة بطقو�سها‬
‫‪ -‬والدي متفهم ورغم كرب �سنه �إ ّال �أ ّنه رجل م�ؤمن باحلب ولن يقف‬
‫حاجزا بيني وبني من �أحب كما �أنه يثق يف �إختياري والرزق على ربي‬
‫يا رجل‪.‬‬
‫‪ -‬من �أعماق قلبي �أمتنى لك ال�سعادة يا �صديقي و�سنحتفي بك‬
‫كثريا‪ ،‬فقط كن حذرا من تداخل حريتك مع عقد الزواج‪.‬كثريا‬
‫ماجلب الب�ؤ�س والقيود على من كانوا �أحرارا قبل ولوج عامله‪ ،‬ا�سعى‬
‫�إىل زواج حر ي�ضيف �إىل حياتك جماال ما واجعل منه و�سيلة لل�سعادة‬
‫وحتقيق الأهداف الدينية والدنيوية ال�سامية ال غاية تعطل فكرك‬
‫وت�شغلك عن موا�صلة حياتك ال�سابقة‪.‬‬
‫‪� -‬صدقت‪� ،‬أظن �أن �شريكتي متفهمة ومثقفة ولن حتول دون موا�صلتي‬
‫لل�سري على �ضفاف احلرية‪ ،‬الذي يح ُّبك ال تخ�شى منه �شيئا فكل‬
‫ما�سيقوم به لن يكون �إ ّال خدمة ل�سعادتك‪.‬‬
‫‪ -‬هو ذلك‪ ،‬لكن كن حري�صا دوما‪..‬‬

‫‪91‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫دُق جر�س الباب‪ ،‬عادت العائلة من زيارة الأهل‪� ،‬إرتبك عبد‬


‫القدو�س فهو يخجل من �أم �صديقه التي تكن له حبا كبريا منذ‬
‫طفولته وتعمقت املحبة �أكرث مذ وفاة �أمه ف�أ�صبحت تعامله بحنان‬
‫يفوق حنان الأم على �أبنائها‪ ،‬فتح الباب‪ ،‬رحب بهم وهو يعاتبهم‬
‫على الت�أخر وعدم �إخباره بالزيارة‪ ،‬ن ّبه �أمه �إىل وجود عبد القدو�س‬
‫بغرفة ال�ضيوف‪ ،‬هرولت نحوه مرحبة ومبدية لفرحها به‪ ،‬نادت‬
‫على �إبنتها ال�صغرى طالبة منها �إح�ضار كمية من «الطمينة» لعبد‬
‫القدو�س وهي الأكلة التي تعد للناف�س ملا فيها من �سعرات حرارية‬
‫تعطي للمر�أة قوة بعد �إرهاق الوالدة فهي مزيج من الطحني والع�سل‬
‫والزبدة‪� ،‬أعدتها خ�صي�صا اللهام �إ ّال �أنّ الكمية كانت وافرة فرتكت‬
‫منها �شيئا لأهل البيت للربكة‪ ،‬فكل ماهو تقليدي مبارك ح�سب‬
‫الأمهات اللواتي توارثن هاته التقاليد عن الأجداد‪.‬‬
‫مانع مدعيا ال�شبع‪ ،‬لكن �سيدة الكرم ال تعرتف بذلك ولن ت�صمت‬
‫�إ ّال بعد تناوله ماير�ضيها مما هو موجود بالبيت و�إ ّال غ�ضبت عليه‬
‫و�شككت يف حبه لها وهذه عادة املر�أة الأ�صيلة التي تتخذ من اجلود‬
‫والعطاء منبعا للعزة‪� ،‬شكرها على املحبة اجلميلة وال�ضيافة الرائعة‪،‬‬
‫ثم قررا اخلروج‪.‬‬
‫�سارا نحو الطبيعة اخل�ضراء‪ ،‬يت�أمالن بداعة اخللق ورحابة ري�شة‬
‫اهلل التي ر�سمت ك ّل اجلمال‪ ،‬على بعد �أميال كانت املقربة مليئة‬
‫بال�صمت تع ُّج بالع�صافري التي تن�شد احلياة للموتى‪.‬‬
‫مل يكن داخلها �سوى ال�شيخ ال�سبتي الذي �أعطى عمره للموتى‬
‫وتنا�سى الأحياء‪ ،‬ال�صم البكم كما ي�سميهم هو ورمبا لو �إ�ستطاعوا‬

‫‪92‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫الكالم ل�شكروه عن زرع الكالم يف ال�صمت وتنظيف املحيط اجلامد‬


‫وح�ضوره ال�صامت الذي ي�شبه موتهم‪.‬‬
‫�إ ّنا هلل و�إ ّنا �إلي ِه َراج ُعون‪� ،‬أنتم ال�سابقون ونحن الالحقون‪..‬‬
‫‪ -‬مالذي �أو�صلنا يا عبد القدو�س �إىل هنا ونحن الذين �شغلنا بغري‬
‫هذا املكان حلد الن�سيان‪ ،‬ماف ّكرت �أبدا يف خ�ضم حياتى امل�ضمخة‬
‫بالأحالم �أنّ مكانا كهذه املقربة ي�سعني �أنا وك ّل الأماين‪ ،‬ال �أتذكر‬
‫العدم �إ ّال يف �ضياع الأحبة و�سفرهم �إىل النهاية و�أتذكره حني‬
‫تتهاطل اخليبات وال �أجد �شيئا مينحني �صربا على �إن�شراح احلزن‬
‫يف بواطني‪.‬‬
‫‪ -‬املوت حق يا �صديقي‪ ،‬ويعطي راحة على حد قول عجائزنا‪..‬‬
‫‪ -‬لكن فل�سفة احل�ساب والعقاب �أكرب من الراحة املجانية‪ ،‬كل �أ�سئلة‬
‫احلياة �صعبة و�ضرورة اجلواب لل�س�ؤال ت�ؤرق فكيف يواجه عبد �س�ؤال‬
‫اهلل وب� ّأي حكمة �سيجيب‪.‬‬
‫‪ -‬ح�ضر نف�سك لتجيب يف يوم ال�س�ؤال‪ ،‬ولتكن مطمئنا بحب اهلل لك‪.‬‬
‫‪ -‬معك حق عبد القدو�س‪� ،‬أن نتفل�سف يعني �أن نتدرب على املوت‬
‫ح�سب �أفالطون لكن الفل�سفة يف كيمياء احلياة واملوت والدين قد‬
‫تف�ضي �إىل نتائج غري مر�ضية لإن�سان يعي�ش بوحل الواقع‪ ،‬فلنطبق‬
‫تلك التعاليم دون فتح لأبواب التناق�ضات الكبرية‪.‬‬
‫�صوت ب�شري قادم من بعيد‪� ،‬صمتا لربهة‪..‬‬
‫�إنه �صوت ر�ضيع يبكي‪ ،‬رمبا هناك عائلة تتفقد قرب �أحد ذويها‪،‬‬
‫من يزور املقربة على اخلام�سة م�ساء‪ .‬عجيب‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�إ�ستمر ذلك ال�صوت قادما من خلف الأ�شجار‪ ،‬هيا يا عبد‬


‫القدو�س نتقدم منه‪� ،‬أمر مريب يحدث‪ ،‬ما كان لر�ضيع �أن يوا�صل‬
‫البكاء بهذا العنفوان لوكان �أحد والديه �إىل جانبه‬
‫‪ -‬هيـ ـ ـ ــا‪..‬‬
‫ب�ضع ثواين ورمبا دقائق‪ ،‬لي�س هناك من يعد الوقت‪ ،‬وجدا نف�سيهما‬
‫�أمام ر�ضيع ملفوف يف مالب�س بالية ال يظهر منها �إ ّال ر�أ�سه‪ ،‬وقف‬
‫حمدقا بكل �أرجاء املكان ينتظر ظهور �شخ�ص يعلن �أبوته وقرابته‬
‫لكن ال جدوى فاملكان خايل متاما وال وجود اال للموتى النائمني‪.‬‬
‫‪ -‬ما ال ّذي �أح�ضره �إىل هنا؟ ومن تركه يف هذا اجلو البارد؟ ال يعلم �أحد‪.‬‬
‫‪ -‬ما العمل يا عبد القدو�س؟‬
‫‪� -‬أقرتح �أن نبقى �أمامه وننتظر ظهور �أبيه �أو �أمه �أو من قام ب�إح�ضاره‬
‫�إىل هذا املكان‪.‬‬
‫‪ -‬غريب‪ .‬هل ت�شك يف �أ ّنه ولد غري �شرعي؟‬
‫‪ -‬رمبا قذفته عاهرة هنا وفرت خوفا من الف�ضيحة‪.‬‬
‫‪ -‬ال تقل عاهرة يا عبد القدو�س‪ ،‬فهذا و�صف غري معرتف به‪،‬‬
‫رمبا خمطئة‪.‬‬
‫‪� -‬أال ت�ؤمن بوجود العاهرات؟ رمبا مل تزر يوما «الماركيز(((» �أو‬
‫«ال�ساحل» لرتاهنَّ �أمامك يرق�صن وميرحن‪.‬‬
‫‪ -‬هل زرتها �أنت؟ هيا كن �صريحا‪..‬‬
‫‪ -1‬الماركيز وال�ساحل‪ :‬مالهي �شهرية يف اجلزائر‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬مل �أفعل ولكنني �سمعت الكثري عن املالهي واملواخري وبيوت الدعارة‪.‬‬


‫‪ -‬هل تعتقد �أن ه�ؤالء جئن برغبة �إىل ذلك العامل الرخي�ص‪� ،‬أال‬
‫تعتقد �أنّ القهر والظلم واحلرمان �سبب قاتل ج ّر الكثريات �إىل تلك‬
‫النهايات البائ�سة‪.‬‬
‫‪ -‬ال يهم ال�سبب مايهم هن ّعاهرات‪.‬‬
‫‪ -‬عبد القدو�س رمبا ال تدرك ح�سا�سيتي �إجتاه هذا الو�صف ال�شنيع‪،‬‬
‫فال تكرره‪ ،‬هذا �إن كنت حتبني‪.‬‬
‫�صمت الر�ضيع حينما و�ضعه يف حجره وراح يداعبه تارة ويحدث‬
‫عبد القدو�س تارة �أخرى‪ ،‬وا�صل احلديث �أمام ارتفاع حاجب عبد‬
‫القدو�س الذي مل يفهم �سر دفاعه عن العاهرات ح�سب و�صفه‪.‬‬
‫‪ -‬امل�شاعر الراقية هي التي متنعك من �أذ ّي ّة �إن�سان مهما كانت‬
‫�أو�صافه‪ ،‬فال حتمل نف�سك وزر �أحكام و�أو�صاف ال نفع منها وال نفع‬
‫من التفكري بها‪.‬‬
‫‪ -‬ما�سر هذا الكالم‪� ،‬أظنك قد �أحببت �إحداهن من قبل وهذا ما‬
‫يربر دفاعك‪.‬‬
‫‪ -‬ال لكنى �أحب كل �إن�سان وم�ؤمن ب�أنّ اخلط�أ وليد امل�صادفة ورمبا‬
‫اجلهالة‪ ،‬ولي�س وليد التكرار‪ ،‬فال �أت�صور امر�أة �إرتكبت خطيئة‬
‫وذاقت علقمها املر �ستعيد تكرار ال�سري يف الظروف احلالكة التي‬
‫�أوقعتها يف تلك امل�صيدة‪.‬‬
‫�أعرف جيدا «به ّية» املر�أة التي لو التقيتها �أنت يا عبد القدو�س‬
‫لأطلقت عليها ذلك الو�صف امل�شني‪ ،‬لكنك ال تعرف �شيئا عن بداية‬

‫‪95‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫نهايتها وال تعرف �أي�ضا � ّأي معلومة عن باعث موتها الذي دفع بها �إىل‬
‫مرمدة ت�سمى العهر‪ ،‬لكني �إلتقيت بها وعرفت مااليعرفه جمهورها‬
‫الغفري من امل�س�ؤولني وال�سا�سة‪.‬‬
‫‪ -‬بهية؟ لأول مرة تذكر هذا اال�سم �أمامي‪.‬‬
‫‪ -‬يقولون ب�أنها موم�س �أما �أنا فاقول ب�أنها �أهم �شريفة‪ .‬مل تكرم‬
‫ج�سدها لكن النخوة فيها والأحا�سي�س اجلميلة كانت هي الكرم‪.‬‬
‫‪ -‬يا �صديقي ال �أفهم �شيئا يف مفارقاتك‪� ،‬أو�ضح؟‬
‫‪ -‬بهية الطفلة‪ ،‬كانت رائعة‪ ،‬النجيبة التي تعي�ش عمر الزهور بكل‬
‫برائتها �إىل �أن قطع �أقرب ُحماتها حبل امل�ستقبل يف وجهها و�سحب‬
‫الإبت�سامة من بني �شفاهها يوم �إ�ستغل �سذاجتها وحبها له واقتلع جدار‬
‫عفتها وال �صراخ وال نواح �أفادها بل زاد على ذلك �أن هدّدها باملوت لو‬
‫فتحت فمها ومن كان؟ من هو؟ لي�س �إ ّال عمها الذي �إتخذته والدا لها‬
‫يف غياب والدها املهاجر �إىل لقمة العي�ش‪ ،‬فمن العاهر ومن العاهرة‬
‫خلطاب‬ ‫الي�ست ال�صفتان فيه‪.‬بعد ع�شر �سنوات من ال�صمت بد�أ ا ُ‬
‫يتهاطلون‪ ،‬لكن ب� ّأي كذبة �سرتدهم �أمام والدها ال�شيخ العنيد‪.‬‬
‫الكذبة �أمام وجه الف�ضيحة وال فرار من الزواج �إ ّال بالفرار من‬
‫البيت‪� ،‬أيام و�أيام‪� ،‬أ�صدقاء‪� ،‬أحبة‪ ،‬كل ال�ضيافات نفذت‪� ،‬إذن ال�شارع‬
‫هو امل�ست�ضيف‪ ،‬بج�سد طري ومغري ي�ستوقف �أ�صحاب ال�سيارات‬
‫الفارهة‪ ،‬ثم النهاية ماهي؟ راق�صة يف �أ�شهر املالهي وكلما تهالك‬
‫ج�سدها غيرّ ت امللهى �إىل �آخر �أقل �شهرة و�ستنتهي يف ال�شارع مقتولة‬
‫�أو حمروقة �أو مت�سولة بال �شك‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬ما �أرخ�ص �أولئك املجرمني يا �صديقي‪� ،‬أهتز حينما �أ�سمع �شيئا‬


‫من امل�سكوت عنه �أو ماي�صنف طابوها‪ ،‬ال �أدري كم من ال�ضحايا‬
‫مينت بداء اجلن�س احلقري وكم من لذة مبتذلة ترتكب حماقة و�سفها‬
‫يف �صمت الظالم وموت ال�ضمري‪ .‬لن �أغيرِّ قناعتي لكني لن �أجهر‬
‫بها مادامت ال تتوافق مع الذوق العام للمثقفني‪� ،‬أ�شهد لك بثقافتك‬
‫العالية و�إن�سانيتك اجلميلة لكن ح ّيز ال�شك يف املفاهيم ال ُيغلق‪.‬‬
‫‪ -‬ح�سنا يا عبد القدو�س‪ ،‬وهذا الر�ضيع الذي مل يظهر حم�ض ُره منذ‬
‫�ساعة‪ ،‬مالذي �سنفعله لأجله‪ ،‬تركه هنا م�ستحيل‪.‬‬
‫‪� -‬أعتقد �أن االت�صال بالأمن �ضرورة‪ ،‬لكن ذلك �سيجعلنا يف ورطة‬
‫حقيقة ورمبا �سيطول التحقيق معنا حلد يثري حرية الأهل فن�صبح‬
‫يف �س و ج‪.‬‬
‫‪ -‬ال مف ّر يا عبد القدو�س و�إن حتتم الأمر ن�أخذه ايل بيتنا ونقوم‬
‫بالإجراءات الالزمة فالظالم يو�شك على الوقوع واجلو بارد‪.‬‬
‫‪� -‬أتريد �أن يطردك �أبوك ويتهمك بجلب اللعنة وال�شر �إىل البيت؟‬
‫‪ -‬لن يهتم فدور �إ�سرائيل فيما ي�سمى الربيع العربي ال يزال همه‬
‫الوحيد‪� ،‬أما �أمي فهي حنون و�ستتفهم الأمر‪.‬‬
‫‪ -‬ال لن نغامر‪ ،‬هل لديك ر�صيد يف الهاتف؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬مبن تود الإت�صال؟‬
‫‪ -‬فرقة الدرك الوطني‪ ،‬د ِّون الرقم‪.‬‬
‫‪ -‬ك ـ ـ ـ ـ ــم؟‬
‫‪ ،035.79.05.61 -‬ناولني الهاتف �سوف �أ�شرح لهم‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�إت�صل بالدرك‪� ،‬شرح لهم عبد القدو�س كل تفا�صيل العثور على‬


‫الر�ضيع وح ّدد لهم املكان بدقة‪ ،‬بعد حوايل ن�صف �ساعة و�صلت‬
‫�سيارات الني�سان((( ونزلوا منها بكل الف�ضول فاملنطقة مل ت�شهد‬
‫�سابقة من هذا النوع‪ ،‬توزع �أفراد الدرك يف املنطقة بحثا عن � ّأي‬
‫�سج َل َر ِئ َ‬
‫ي�س‬ ‫�شيء يقود �إىل �إكت�شاف �سر الر�ضيع املرمي دون جدوى‪َّ ،‬‬
‫الفرقة �أقوالهما ومعلوماتهما ال�شخ�صية و�أعطى الر�ضيع الذي مل‬
‫يتوقف عن البكاء �إىل �أحد الأعوان وطلب منه و�ضعه يف ال�سيارة‬
‫والإنتباه �إليه �إىل غاية العودة �إىل املفرزة‪.‬‬
‫�شكرهما على �إح�سا�سهما بامل�س�ؤولية وغادر بعد �أن حاول اقناعهما‬
‫بالعودة معهم �إىل التجمع ال�سكاين‪ ،‬فاملكان كان بعيدا والظالم �أرخى‬
‫�ستائره �إ ّال �أ ّنهما ف�ضال العودة م�شيا على الأقدام‪.‬‬
‫بعد �أيام من التحقيق‪� ،‬شاع الأمر بني ال�سكان و�أ�صبح املعتاد‬
‫يف املدن الكربى ق�ضية يف تلك املنطقة املحافظة‪ ،‬وكربت �أ�صداء‬
‫الأقاويل وتعاىل الهرج وال�سخط �إىل �أن ظهرت �أ ُّمه العازبة بعد �أن‬
‫زارت مقر الدرك الوطني باحثة عن وليدها‪�.‬إثرالتحقيق معها ثبت‬
‫�أن والده هو �إبن املنطقة و�أ ّنه قد تركها وف ّرعنها بعدما نفذت كل‬
‫الأكاذيب و�أنها كانت ت�صارع املوت يف الأكواخ وامل�ست�شفيات‪.‬‬
‫ع ِلم ال�صغري والكبري بف�ضيحة الرجل الذي عرفه اجلميع من‬
‫ُرواد امل�ساجد ومطلقي العنان للحى‪ ،‬لكنّ القانون اجلاف مل يفعل‬
‫الكثري فقد ُ�سجن و�أطلق �سراحه وعاد حلياته‪� ،‬أما هي فال حياة لها‬
‫وال لر�ضيعها ولن يرحمها �أحد‪.‬‬
‫‪Nissane.. -1‬‬

‫‪98‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫(‪)05‬‬

‫�صباح بارد �شتوي‪ ،‬نارميان تت�صل‪.‬مل يرد على �إت�صالها فال يزال‬
‫مغم�ض العينني يف فرا�ش دافئ‪� ،‬أحلت وبالغ الهاتف يف الرنني‪.‬‬
‫حمله متثاقال ور َّد عليها م�ستف�سرا عن �سبب �إت�صالها املفاجئ يف‬
‫يوم عطلة‪ .‬تذ ّكر �أنه وحيد بالبيت بعدما غادر اجلميع نحو حمام‬
‫القرقور الذي ا�شتهر بخدماته اجليدة‪ ،‬دار يف خلده �ألف ت�سا�ؤل يف‬
‫حلظات ف�سلطة خف َّية تلح عليه ب�أن يطلب من نارميان احل�ضور �إىل‬
‫بيته مادام وحيدا‪ ،‬وقوة �أخرى حتا�صر الفكرة بع َّدة حواجز‪.‬‬
‫‪� -‬ألو‪� ،‬صباح اخلري‬
‫‪� -‬صباح الفل نارميان‪ ،‬كيف حالك؟‬
‫‪ -‬احلمد هلل‪� ،‬إ�شتقت اليك‬
‫‪� -‬أنا �أي�ضا �أ�شعر بال�شوق خ�صو�صا و�أين وحيد‪..‬‬
‫‪ -‬وحيد؟ مالذي تق�صده؟‬
‫‪ -‬ق��د غ���ادر اجل��م��ي��ع يف ال�����ص��ب��اح ال��ب��اك��ر‪ ،‬متجهني ن��ح��و حمام‬
‫معدين يقولون ب�أنه جيد‪� ،‬آه لو كنت هنا فتعدين يل قهوة وترتبني‬
‫بع�ض الأ�شياء‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬فقط حبيبي‪..‬‬
‫‪� -‬آه نعـ ــم‬
‫‪ -‬مت�أكــد؟‬
‫أ�ضفت قبلة لن �أرف�ض‪.‬‬
‫‪ -‬و�إن � ِ‬
‫ح�ضر نف�سك جيدا‪.‬‬
‫‪ -‬ح�سنا‪� ،‬س�أدعي �أن لدي م�شرتيات و�س�أح�ضر اليك‪ِ ،‬‬
‫‪ -‬مال ّذي �أح�ضره؟‬
‫ح�ضر وانتهى‪ ..‬باي‬ ‫‪ -‬قلت ِ‬
‫ربع �ساعة‪ ،‬يرن الهاتف‪ ،‬يرد م�ستعجال‪� :‬أين �أنت؟‬
‫‪� -‬إفتح الباب �أنا على بعد �أمتار وبع�ض ال�شبان يف الطريق‪� ،‬أخ�شى‬
‫م�ضايقاتهم‪.‬‬
‫‪ -‬ال تخ�شي �شيئا‪..‬‬
‫يف امل�سافة التى َق َط َع ْت َها‪ ،‬قطع م�سافة الأناقة وو�صل اليها‪ ،‬كل‬
‫العطور الم�سته وكل طرق الو�سامة تبعها �إىل �أن نال مبتغاه‪ُ ،‬‬
‫تدخل‬
‫نارميان خائفة يتملكها �إح�سا�س املغامرة الأوىل‪ ،‬جتل�س وهي تطلب‬
‫ك�أ�س ماء في�أتي به على عجل‪.‬‬
‫‪ -‬مابك نارميان‪� ،‬أعتقد �أ ّنك مل تقطع امل�سافة م�شيا ملا هذا التعب كله؟‬
‫‪� -‬أو�صلني كلوندي�ستان((( �إىل هنا لكن الكثريين ر�أوين �أدخل رمبا‬
‫يعرفني �أحدهم و�أ�صبح يف ورطة‪� ،‬أنت تدرك خطر الو�شاية‬

‫‪� -1‬سيارات يعمل �أ�صحابها على نقل الأ�شخا�ص دون رخ�صة‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬ل�ست الوحيدة التي تدخل بيتنا‪� ،‬ضيوفنا كرث‪ ،‬وعائلتي غادرت يف‬
‫ال�صباح الباكر‪ ،‬مل يرهم �أحد‪ ،‬الكل �سيعتقد �أ ّنك �ضيفة ككل ال�ضيوف‪.‬‬
‫تنزع حذاءها اخلفيف وجواربها ال�شفافة لتظهر �أقدامها ال�صغرية‬
‫بكل البيا�ض‪.‬وجدته تائها فيهما حينما رفعت ر�أ�سها‪ ،‬تعجبت وهي تقول‪:‬‬
‫حتى رجليا ت�شوف فيهم‪ ،‬يالطيف منك‪...‬‬
‫�إبت�سم‪ ..‬كل �شيء فيك فاتن‪ ،‬حتى قدميك ي�ستحقان الت�صوير‪.‬‬
‫‪ -‬كفاك �سخرية‪ ،‬هيا دل ّني على املطبخ‪� ،‬س�أع ّد لك قهوة بذوق‬
‫�شفاهك‪ ...‬تطلب ذلك وهي توجه �شفتيها �إىل الأمام ومتنح الهواء‬
‫قبلة‪ ،‬ثم تنزع خمارها وت�ضعه على كتفيها لت�صبح �أكرث جاذبية‪.‬‬
‫كر�سي يف املطبخ وهو يراها بكامل �سحرها تغ�سل �إبريق‬‫ٍّ‬ ‫جل�س على‬
‫القهوة وخ�صرها يتماوج مع يديها الغارقتني يف فقاعات االيزي�س ‪،‬‬
‫(((‬

‫�أنهت تنظيف الأواين التي تركتها �أمه و�شقيقاته ببقاياها بعد وجبة‬
‫الإفطار‪.‬و�ضعت القهوة على الطاولة وهي تقابله وجها لوجه بيا�سمني‬
‫�إبت�ساماتها و�شفاهها النا�ضحة بال�سخرية والكالم الدافئ‪.‬‬
‫حمل فنجانه امللء ب�أحا�سي�س الأنوثة و�أحا�سي�س ال�شهوة التي‬
‫�س ّيطرت على الكالم‪ ،‬وم ّد يده �إىل يدها يطلب رفقتها لإكت�شاف‬
‫�أرجاء البيت‪.‬طاف بها الدهليز والرواق وبع�ض الغرف �إىل �أن و�صال‬
‫�إىل غرفته امل�ؤثثة بالكتب والألب�سة املتناثرة‪.‬‬
‫‪� -‬إذن هذه غرفتك‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬هل �أعجبتك؟‬
‫‪ ISIS -1‬عالمة جتارية ملواد التنظيف‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪� -‬سيئة حلد الإعجاب‬


‫‪ -‬مالذي تق�صدينه؟‬
‫‪ -‬بقاياك تلك التي تعتقد �أنك تخفيها بو�ضعها يف مكان مظلم‪.‬‬
‫‪ -‬بقاي ـ ــا؟؟؟‬
‫‪ -‬هاهو ذلك املنديل الأبي�ض يط ّل من حتت ال�سرير‪ ،‬يبدوا �أ ّنك قد‬
‫ق�ضيت ليلة حمراء‪� ،‬أخربين كم عدد �ضحايا الرغبة الذين قتلتهم‬
‫يف رحم املنديل؟‬
‫‪ -‬نارميان �أنت جمنونة‪..‬‬
‫‪ -‬كلنا م�صابون بداء ال�شهوة‪ ،‬ال جتعل من نف�سك مالكا‪� ،‬أريد �أن‬
‫�أعرف �أ ّية رواية رخي�صة قادتك �إىل الإ�شتعال �أو �أي ّ‪..‬؟؟‬
‫‪ -‬تعلمني جيدا �أن ال عالقة يل بالن�ساء‪ ،‬وتدركني �أي�ضا �أنّ قتل‬
‫ال�شهوة يف الفراغ هو خلق لأخرى �أقوى و�أ�شد‪.‬‬
‫‪ -‬كف ـ ــاك‪..‬‬
‫‪ -‬تعايل جنل�س وحدثيني عنك‪� ،‬أ�شعر بحاجة �إىل الإ�ستماع اليك‪� ،‬إ�شتقتك‪.‬‬
‫‪ -‬حلظة �أذهب �إىل احلمام و�أعود‪.‬‬
‫حلظة خروجها من الغرفة تذ َّكر هيام‪.‬ال ّلعنة على القلب العا�شق‬
‫الذي يجربنا على خيانة الأفكار واحلب حتى يف حلظات �ستموج فيها‬
‫الروح برياح الأنوثة‪ ،‬ال �شيء قادر على فتق امل�ستقر ال�ضيق الذي‬
‫�أعي�شه يف �صمت هيام وال �أنا قادر على الإنبالج يف ع�ش نارميان‬

‫‪102‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ال�سخي‪ ،‬هي امر�أة محُ ِ َّبة و ُم ِل َّحة وبقدر حبها و�إحلاحها يف احلب‪،‬‬
‫�شهوانية حلد اخلطر‪ ،‬ياالهي‪ ،‬ال�شك �أنّ ذهابها �إىل احل ّمام لي�س‬
‫ل�ضرورة �أو حاجة‪� ،‬ستعود بكل اال�ستعداد لتخرب املتاري�س والأ�سالك‬
‫ال�شائكة التي ق ّيد بها الزمن ج�سدي وحال بينه وبني املتعة‪ ،‬للمرة‬
‫الثانية يانارميان‪ ،‬وهاته املرة الو�ضع �أخطر‪ ،‬فنحن وحيدان‪ ،‬ال�شئ‬
‫يراقبنا �سوى �ساعة احلائط التي بالغت يف ال ّدق‪ ،‬ال حار�س وال برد‬
‫قار�س مينعنا من التعري من عقولنا يف �أج�ساد مقفرة‪ ،‬ج�سدك �آفة‬
‫وجنونك �أ�سربين لل�شعر املحموم‪ ،‬فال ّلعنة للمرة الثانية َّ‬
‫علي ال عليك‬
‫ف�أنا امل�صاب بهبل مزمن ج ّرين �إىل كتابة الن�ساء و�إذن نحن �شريكان‬
‫يف الهبل‪� ،‬إن قتلتني اليوم �س�أ�ساحمك و�أر�ضى بجنونك و�إذا مل تفعل‬
‫�س�ألومك ف�أنا �أكره ن�صف اخلطيئة فاملغفرة تطلب كاملة وال جتزيئ‬
‫أت�شجع �إذن‬
‫لها‪ ،‬تذكرتني يا حممود يا �سيدي العظيم ب�شعرك‪� ،‬س� ّ‬
‫أي�ضا قد ُقلت‪:‬‬
‫فانت � ً‬
‫ي�أخذ املوت على ج�سمك‬
‫�شكل املغفرة‬
‫وبودي لو �أموت‬
‫داخل ال ّلذة يا تفاحتي‬
‫يا امر�أتي املنك�سرة‬
‫وبودي لو �أموت‬
‫خارج العامل‪ ..‬يف زوبعة متدثرة‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫يدان ت�ضغطان على رقبته من خلف‪ ،‬عطر �إ�شت ّد �أريجه‪ ،‬زفري‬


‫خفيف الإيقاع على حافة �أذنه اليمنى ويدان �صغريتان تتدحرجان‬
‫على �صدره‪ ،‬لعنات وفزعات الرع�شة الأوىل يرتفع �صوتها‪.‬‬
‫‪ -‬هل حتبني؟‬
‫‪ -‬كثريا يانارميان‬
‫‪ -‬حب يف �شهوة عابرة �أم حب حقيقي‪ ،‬كن �صريحا؟‬
‫‪ -‬كليهما عنوان منا�سب لرواية‪.‬‬
‫تع�ضه من �أذنه وتوا�صل‪:‬‬
‫�أخربين احلقيقة‪ ،‬لن �أغ�ضب منك فالأ�شياء ال�سيئة �أتوقعها‬
‫دوما‪ ..‬هيا‪� ...‬أعلم �أن لي�س هناك من رجل يقول المر�أة ال �أحبك‬
‫يف حلظة �إيروتيكية حتى ولو كانت عاهرة يدفع لها املال‪ ،‬لكنني �أثق‬
‫فيك ف�شرف ال�شاعر �أنه ال يكذب‪.‬‬
‫مل يجر�ؤ على الت�أكيد ومل ي�ستطع النفي‪ ،‬نارميان لن ت�صمت �إ ّال‬
‫حينما متتلء �أنفا�سا و�شبقا ككل الن�ساء‪� ،‬سحبها من يدها ال�صغرية‬
‫نحو فرا�ش �أر�ضي م�ستقر‪� ،‬إقرتب ب�شفتيه املرتبكتني‪ ،‬كاد يقبلها �إ ّال‬
‫�أ ّنها و�ضعت �أ�صابعها الدقيقة على فمه وهي �شبه عارية‪.‬‬
‫‪ -‬حبيبي‪ ،‬رمبا �أ�شتهيك‪ ،‬ال �أنكر‪ ،‬لكن مقابل هذا الإ�شتهاء الكبري‬
‫�أريد منك حبا يناف�س �سعي قلبي للإرتقاء �إىل مرحلة الهيام الذى ال‬
‫ّ‬
‫�شك يف �أنه ي�ساوي اله�شا�شة‪.‬‬
‫‪ -‬نارميان‪ ،‬م�شاعري نحوك تكرب فجنبيها كل �س�ؤال مربك‪ ،‬دعيني‬
‫�أموت فيك حبا ورغبة بكل مايحتويه ال�صمت من ثقافة وجنون‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪- aimer c’est savoire dire je t’aime sans parler(1).‬‬


‫ال �أدري �إذا كان فيكتور هيجو يق�صد ماتق�صد لكن يف قوله �ألف‬
‫معنى‪� ،‬أمتنى �أن �أجد معانيه فيك‪.‬‬
‫‪ -‬عمري‪� ،‬إ�ستح�ضارك لفكتور هيجو جعلني �أعي�ش للحظات يف قاعة‬
‫التدري�س مع �أ�ستاذة الفرن�سية اململة‬
‫‪� -‬أنت مهبول‪ ..‬لوجلبت معي كتاب �أبي الذي يعتقد �أ ّنه يخفيه لكان‬
‫�إ�ضافة لهبلك‪.‬‬
‫‪ُّ � -‬أي كتـ ــاب؟‬
‫‪ -‬كتاب ال�سيوطي‪َ ..‬ن َو ِاظ ْر الأَ ْي ْك فيِ َم ْع ِر َف ْة(((‪ ....‬ون�سخة من‬
‫ِحكم التيفا�شي(((‪.‬‬
‫‪ -‬معرفة ماذا؟؟‬
‫‪ -‬ال �شئ‪ ..‬هي كتب تتحدث عن اجلن�س‪� ،‬أظن �أنّ �أبي كان مطبقا‬
‫جيدا لو�صايا �أولئك املجانني‪ ،‬كنت جا�سو�سة من الطراز الرفيع‬
‫رج �أ�سوار �أمي الذهبية ال�صادحة و�أنفا�س‬ ‫حيث �أ�ستمع كل ليلة �إىل ّ‬
‫�أبي الذي يلهث دون توقف‪.‬‬
‫ي�ضحكان‪ ،‬ثم يغرقان يف قبلة طويلة تغو�ص بهما يف عوامل من‬
‫�سراب ت�ضمحل يف رع�شة �أخرية بعد �أن يذوي ذلك ال ّلهب الذي �أوقد‬
‫‪ -1‬احلب هو �أن تعرف كيف تقول �أحبك دون �أن تتحدث‪.‬‬
‫‪ -2‬نواظر الأيك يف معرفة النيك‪ :‬كتاب جالل الدين ال�سيوطي يتحدث عن‬
‫اجلماع والأو�ضاع اجلن�سية عمره �أكرث من ‪� 500‬سنة‪.‬‬
‫‪� -3‬شهاب الدين �أحمد بن يو�سف التيفا�شي‪�:‬شاعر وعامل اجتماع وقانون �سمي‬
‫التيفا�شي ن�سبة ايل تيفا�ش وهي مدينة �سوق �أهرا�س ‪-‬اجلزائر‪.-‬‬

‫‪105‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫كل ال�شهوات وانطف�أ فج�أة‪ ،‬نارميان العارية لي�ست نارميان الأخرى‪،‬‬


‫�إ ّنها ج�سد مفخخ يفجر كل الرغبة ب�شكل �أفظع كلما غرقت فيه �أكرث‪.‬‬
‫م�ؤملة بج�سدها ال�شر�س و�إن مل تفعل يقتلك �أنينها و�شبه ال�صراخ‬
‫الذي ت�صدره وما�إن تخطئ وتعتقد �أ ّنها تطلب التوقف حتى تفاجئك‬
‫عطلت �أو ماا�ستطعت حتقيق‬ ‫بطلب املزيد‪ ،‬تر�ضى بكل �شيء لكن �إن ّ‬
‫ن�شوتها ت�صب �أنهار الغ�ضب عليك‪ ،‬ال ُتعرف احلدود يف خرائطها وال‬
‫ت�صل �إىل م�ستقر لفحتها �إ ّال حينما ت�سيل عرقا حارا فتلقي بنف�سها‬
‫متهالكة على ندى الفرا�ش امل�ضمخ ببقايا الرماد‪.‬‬
‫مل تكن عاد ّية �أبدا �أمام ب�ساطة ماق َّد َم ُه لها‪ ،‬مبتدئ‪ ،‬خجول ال‬
‫يتقن فن اللعبة‪ ،‬مل ي�ستطع مقاومة وح�شية �إندفاعها وا�ست�سلم بكل‬
‫براءة‪ ،‬مل يجد تف�سريا مقنعا‪ ،‬هل نارميان ت�شاهد الأفالم اخلليعة‬
‫فاتقنت كل هاته الفنون �أم روايات رخي�صة علمتها �أم كتاب نواظر‬
‫الأيك �أم‪..‬؟؟‬
‫كل االحتماالت ُتقبل عنده �إ ّال �أن تكون قد ج ّربت من قبل هذا‬
‫اجلنون‪ ،‬جنون املتعة املجانية‪ ،‬فال �شيء دُفع مقابل كل ال�شهقات‪،‬‬
‫�سوى �ضمري قد يهت ّز الحقا وقد ال يهتز‪.‬ال يقبل �إقتحاما من ج�سد‬
‫م�شبع‪ ،‬فج�سده برئ ال يتقن اللغة الأخرى‪ ،‬ومل ين�ضح يوما بال�شهوة‬
‫�أمام ج�سد عاري‪ .‬ال جدوى �إذن من موا�صلة الظن فالبع�ض منه‬
‫�إثم‪ ،‬ثم �إنّ ذلك �سي�ضيع على عينيه فر�صة التمتع بج�سد يلتحف‬
‫الربودة �شيئا ف�شيئا‪.‬على بعد بالطتني جتمع نارميان لبا�سها الذي‬
‫�أ�صبح كومة مقلوبة‪ ،‬مل تنتبه وهي تعيد حامل �صدرها العري�ض �إىل‬
‫�أ ّنه قد متزق حني ج ّنت وبقي ممزقا حني �شفيت من ذلك اجلنون‪،‬‬

‫‪106‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫نظرت �إليه وهي تدافع �ضحكة تكاد تخرج‪ ،‬مللمت بقاياه البي�ضاء‬
‫اللون ورمت به على وجهه‪:‬‬
‫‪� -‬أحمق‪ ،‬مالذي �س�أفعله ب�أثداء هاربة عن بع�ضها البع�ض بدون‬
‫ُ�سوتيان((( �س�أبدوا بنهدين لعجوز يف ال�سبعني �أر�ضعت �أطفاال بحجم‬
‫مدر�سة‪.‬‬
‫‪ -‬يقهقه‪ ..‬ومن قال لك �أ ّنك ال تبدين كالعجوز و�أنت ترتدينه‪.‬‬
‫‪ -‬كلب‪ ..‬كلب‪ ..‬كلب‪ ..‬وتغم�ض عينيها وت�صرخ كالأطفال‪.‬اليوم نقتلك‪.‬‬
‫تهاجمه وتلقي بكل ج�سدها عليه‪ ،‬تت�صيد �أماكنه الأهم لت�ضربه‬
‫وتع�ضه‪ ،‬وماكان لها �إ َّال �أن تنهي ذلك العراك احلميم بدفع ركبتها‬
‫بكل ماحتمل من وزن بني �أردافه لت�ستقريف خ�صيتيه في�صيح بكل قواه‪.‬‬
‫جمنونة‪ ،‬مثال املر�أة املتعلقة باحلياة التي ترى يف مكافحة‬
‫ال�شهوة بال�شهوة �أمرا حتميا فال ال�صرب وال ال�صوم يجديان حينما‬
‫تثور براكني غريزتها‪� ،‬إ ّنها امر�أة مزدوجة حتمل خ�صال الطيبني‬
‫و�شيئا من ف�سق املعتدين‪ ،‬ال مهربة منها �إن �إعتادت الذروة مع رجل‬
‫مينحها دفئ احلب وطقو�سه يف فرا�ش وثري‪.‬ذلك النوع من الن�ساء‬
‫قادر على فعل ماال يتوقع خللق اللحظة وجعلها يف قمة اجلنون‬
‫والزهو وال�شئ يجمع بني النقي�ضني يف حلظات التعري من كل �شيء‬
‫فال�ضمري ي�صبح مقربة متعددة ال�شواهد واملحن‪ ،‬عقل عابر �إىل‬
‫موطن ال�شهوات وقلب متفرغ لبواطن النهفات‪ ،‬الح�ضور للعدم يف‬
‫عدمية الوجود بدون �إنك�سار �أمام الذروة‪.‬‬
‫‪ Soutien -1‬حامل ال�صدر‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫كل �أبواب النعيم يفتحها نفري العا�شق �إىل مع�شوقه الغريب عنه‬
‫يف �ضجيج الهم�سات‪ .‬ليت القلوب املقبورة يف ال�صدور املعتمة كانت‬
‫�أكرث تعتيما كي ال يهرب منها � ّأي �إح�سا�س ورمبا لوكانت �شفافة‬
‫ل ُعجل مبوت ن�صف �سكان الأر�ض �أو �أكرث من فرط زيفها وكذبها‬
‫الالحمدود‪.‬‬
‫بعد �أن رحلت نارميان وانطف�أت كل احلرائق‪ ،‬جل�س على حافة‬
‫مقعد حجري مم�سكا ر�أ�سه‪� ،‬شعر بدوار غريب حتول �إىل �صداع �شديد‬
‫غري مربر‪� ،‬أخذ حماما دافئا �أزاح به عرق اخلطيئة وروائحها وعاد �إىل‬
‫طهارة اجل�سد رغم �شحوب القلب‪� ،‬شرع يف �إحت�ساء القهوة مبرارتها‬
‫وبرودتها كعالج للف�شل املعنوي والإحباط امل�ؤقت‪ ،‬بحث عن �أوراقه‬
‫وقلمه‪ ،‬بعد �أن �ش ّغل جهاز اال�ستماع فراحت �شيماء ال�شايب ت�صدح‬
‫القرييييب منك بعييييد والبعيد عنك قريبببب‪.‬‬
‫على �إيقاعها املتوازن‪ ،‬اخلفيف‪.‬راح القلم يعزف �أحا�سي�سه على �أوراق‬
‫بي�ضاء �صامتة‪ ،‬تعاين الغليان فمايت�س ّرب �إليها من حديث �أكرب بكثري‬
‫من �صمتها‪ ،‬كل ال�شخو�ص ح�ضرت‪ ،‬كل امل�شاعر �إنفجرت والأحا�سي�س‬
‫املدّثرة بالقواعد والقيم رمت ماعليها من جليد ونطقت �شعرا‪:‬‬
‫ي�س َمات‬ ‫ال�ص ْب ُح ال َّن ِف ُ‬
‫ُ‬
‫ال�أَ ْر َ�ض تحَ ْ مِ ُل َه َذا ال َّل ْي ْل‬
‫الز ََّمانُ َماتَ فيِ َع ِجيج ُ‬
‫ال�ض َحى‬
‫فيِ َ�ص ْه َوة ال ًأحزَ انْ‬
‫َع ْي َن َاي َت ْب ِكي‬
‫ا�شة‬‫َال َق َ�صا ِئ َد لل َه َ�ش َ‬

‫‪108‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫حلزنُ فيِ �إ ْن ِ�ش َراح‬ ‫ا ُ‬


‫ال�س ِد ُمي َعاق‬ ‫ال ًغ ُد َ‬
‫َ�ص َب َقا َيا َذ ِاك َرة‬ ‫�أَ ْمت ُ‬
‫َم ْث ُقو َبة‬
‫�أُ َه ْر ِو ُل ُن ْح َو ال َع َد ْم‬
‫َف�أ ِق ِب ُ�ض ِ‬
‫الر َي َاح‬
‫ا�ض َها َو ِد َي‬ ‫ُي ْج ِفي َب َي ُ‬
‫اجة ت َُذم‬ ‫َو ِبال َق ْل ِب لجَ َ َ‬
‫العج ال َه َوى ِبال َق ِل ِب محَ ْ ِر ُق‬ ‫ِ‬
‫َو َال َال َح َمنْ َي ُ�ص ُد الأُ مُ ْل‬
‫َكليل �أَ َنا فيِ ُح ِبه َا‬
‫حل ُب َك َلل َو َن َد ْم‬‫وا ُ‬
‫م�صاب هو بكلل قدمي‪ ،‬زاده �ضياء هيام احلارق‪ ،‬كلال لكنّ الندم‬
‫ال‪� ،‬شاعرية وجماز �شعري‪ ،‬رمبا كتاب الأغاين لأبي فرج اال�صفهاين‬
‫�أو جمازات �ألف ليلة وليلة ب�أجزائها اجلميلة التي كان نهما يف قراءتها‬
‫قد �أثروا على �إندفاعه نحو الكتابة ورمبا هو �شعر خفي املعنى‪.‬فما‬
‫كان احلب ندما �إ َّال يوم فتح باب الإحتمال الكبري على م�صراعيه‬
‫وعا�ش امل�ستقبل يف احلا�ضر باخليال ال�شعري والت�صور الرثي الذي‬
‫م ّكنه من و�ضع �أ�سو�أ الإحتماالت فظاعة و� ّأ�شدها روعة‪.‬فاخليال‬
‫و�سيلة �سفر �آمنة �إذا كان القلب غري مفخخ بالبقايا والروا�سب‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ذاكرة للن�سيان رمبا‪� ،‬أو ذاكرة للتيه‪ ،‬يف زمن ه�ش ال ي�سري �شيء‬
‫و�سخر ل�شراذم من املنافقني‬ ‫وفق القانون‪ ،‬قانون اهلل ا�س ُت ْع ِبد ُ‬
‫وعبدة املال واجلن�س وقانون الب�شر �أ�صبح مرعوبا ال يطبق �إ َّال على‬
‫ال�ضعيف وامل�سكني‪.‬‬
‫حينما ح�� ّل امل�ساء‪ ،‬ك��ان ال�شتاء قار�سا ميار�س �سخطه على‬
‫الب�شر‪ ،‬زمهرير �شديد ي ُلف القرية‪ ،‬ال�شئ ي�أتي باجلديد املنتظر‪،‬‬
‫املكان يزحف على �أق��دام ال�شقاق والنفاق وت�سول �أخبار الغري‬
‫واحلي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ور�صد امليت‬
‫عاد �أهله مبتهجني‪� ،‬آثار التعب بادية على وجوههم والكل يتو�سله‬
‫حمل احلقائب‪ ،‬وجد بادي�س ُيغلق �أبواب ال�سيارة‪ ،‬بادي�س �إبن عمته‬
‫الويف خلاله الوحيد و�أ�سرته‪�.‬س ّلم عليه بحرارة و�ضمه‪.‬‬
‫‪� -‬ساحمنا يا بادي�س �أتعبناك‪.‬‬
‫(((‬
‫‪ -‬يل قال ياخايل قال يا بويّ ‪ ،‬واهلل والوا خويَ ‪ ،‬وين راك‪ ،‬مراك�ش تبان؟‬
‫‪ -‬اجلامعة والبيت وامل�سجد مرة على مرة‪.‬‬
‫‪ -‬ي�ضحك‪ ،‬واحل�سناوات الزم‪.‬‬
‫‪ -‬راك عارف هههه هيا �أدخل نتع�شى معا‪ ،‬لن تذهب‪.‬‬
‫‪ -‬واهلل ت�ساحمني الليلة‪ ،،‬غدا �إن �شاء اهلل نزوركم‪� ..‬سالم‪.‬‬
‫يهرول الوالد امل�سن نحو التلفاز‪ ،‬كم من مرة ي�س�ألونه �إن كان له‬
‫�أبناء �آخرين يحاربون يف ليبيا �أو �سوريا فريد ب�أنَّ العرب �إخوة و�أنّ‬
‫‪ -1‬من قال ياخايل ك�أمنا قال يا �أبي (ا�شارة �إىل قرب اخلال) ال�شئ �أخي‪� ،‬أين‬
‫�أنت مل تعد تظهر‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫التالحم �ضرورة وي�ست�شهد بحديثه عليه ال�صالة وال�سالم‪«َ :‬منْ مُ ْل‬


‫ُي ْهت ُْم َب�أمر املُ ْ�سلِمِ ينْ َ َف َل ْي َ�س ِم ْن ُه ْم»(((‪.‬‬
‫�إختلط احلابل بالنابل يف دول عربية كانت مثاال للجمال والأدب‪،‬‬
‫فاملراقب الواعي ي�شعر باملفاج�أة وال�صدمة التي تليها الده�شة‪ ،‬ثورة‬
‫�أم �صناعة لفر�صة �سيا�سية م�ستحقة؟ مل ي�ستح�ضر �أحد املخاطر‬
‫التي قد تنجر عن هاته الإحتجاجات التي در�ست وفق منط غري‬
‫متقن فاحلراك الذي �إنطلق كر ّدة فعل عفوية بد�أ متوا�ضعا ومبطالب‬
‫ب�سيطة ت�شمل املزيد من احلريات ووقف الف�ساد‪� ،‬إكت�سب وعيا ذاتيا‬
‫من داخله مما خلق �أهدافا جديدة ت�صب ك ّلها يف �إ�سقاط النظام‪،‬‬
‫مل يكن ذلك هدفا رئي�سا لوال القمع ال�شديد الذي واجهت به الأنظمة‬
‫�أولئك املتظاهرين واملتجمهرين العزّل‪� ،‬إعادة بعث فرد عربي‬
‫واعي ثمنه باه�ض ويتطلب املزيد من الدماء والدموع لكن البعث‬
‫كر�سالة �سامية يبقى مطلبا عاقرا‪ ،‬فالأهداف اخلفية والبواعث‬
‫امل�سترتة جتاوزت كل الت�صورات و�أ�صبح تعامل الأنظمة امل�ستبدة مع‬
‫�شعوبها فا�شيا ب�أمت معنى الكلمة وب�أدق ماي�شري �إليه هذا امل�صطلح‬
‫ال�سيا�سي‪ ،‬حيث جوهره يقوم على نظام �شمويل رجعي يقوم على‬
‫العنف و�سيطرة نظام الدولة القمعي‪ ،‬ف�أولئك احلكام املت�سمون‬
‫بال�سلطة القهرية �أبادوا �شعوبهم بال هوادة با�سم مكافحة االرهاب‬
‫والتطرف‪».‬كيف ميكن �أن ت�شن حربا على الإرهاب فيما احلرب‬
‫بحد ذاتها �إرهاب» �صدق هُ َورا ْد زِينْ ((( يف مقولته التي غيرّ ت فكرة‬
‫�أطراف احلرب وانت�صار اخلري على ال�شر فقبل �أيام نقلت �شا�شات‬
‫‪ -1‬ذكره ال�شيخ الألباين رحمه اهلل يف ال�سل�سلة ال�ضعيفة (‪.)312-309‬‬
‫‪ Huward zin -2‬ناقد �سيا�سي وم�ؤرخ �أمريكي‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫التلفزيون �صورا ملقاتلني م�سلحني يف حلب ال تعرف جن�سياتهم‪،‬‬


‫بلحى طويلة وهم يتقاذفون ر�ؤو�سا ب�شرية مقطوعة‪ ،‬مل يعرف �أحد‬
‫�إنتمائهم‪ ،‬فلو كانوا ثوار فهم �إرهابيون ولو كانت ميلي�شيات تابعة‬
‫للنظام فهي كذلك يف نف�س التعريف‪ ،‬فاجلرائم الإن�سانية التي‬
‫ترتكب يف حق االن�سان وحق كرامته ك ّلها �أفعال �شنيعة‪ ،‬تخريبية‪،‬‬
‫�إرهابية وال �أ�صلح من هذا التعريف ال�شامل‪.‬‬
‫قبل �سنوات ُات ُِّهم الأ�صوليون بالتخريب ون�شر الفو�ضى والإخالل‬
‫بالنظام‪ ،‬خ�صو�صا يف اجلزائر التي عرفت �إ�ضطرابات هزّتها �شعبا‬
‫واقت�صادا ودولة‪ ،‬لكن اليوم دوائر االتهام ات�سعت ب�شكل فظيع‪ ،‬فلم‬
‫يعد � ّأي فرد �سواء من ال�سلطة �أو العامة قادر على حتديد الدوافع‬
‫احلقيقية التي تقوم بها وعليها هاته الثورات‪ ،‬تعدد الأطراف يف‬
‫ق�ضية واحدة يفرق �أ�صابع الإتهام بني �شعوب مقهورة تطلب رفع‬
‫الغنب ودول طاحمة �إىل خريات غريها وتخ�شى �إ�ستقواء ال�شعوب‬
‫العربية وتقاتل الأ�شقاء بنزعات فردية �أو مايطلق عليه احلرب‬
‫الأهلية هناك ع ّدة مفارقات �أوقعت خمتلف الأفراد والطوائف يف‬
‫ظاللة م�ستدمية‪.‬‬
‫نام اجلميع على وجبة خفيفة وحديث جميل‪.‬مل ي�ستمع اليهم وهم‬
‫يعيدون �سرد الأحداث على بع�ضهم وك�أ ّنهم كانوا متفرقني ال جمتمعني‬
‫يف �سيارة واحدة وحمام واحد‪.‬فتح باب غرفته ف�صدمته رائحة عطر‬
‫نارميان التي ال تزال حمفورة يف الأثاث والفرا�ش‪ ،‬فزع �إىل عطر‬
‫يل ير�شه على الأ�شياء والهواء خ�شية �أن تدخل �أمه فتكت�شف‬ ‫رجا ّ‬
‫�سره بل ف�ضيحته‪� ،‬إدخال امر�أة �إىل البيت وممار�سة اجلن�س معها‬

‫‪112‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ف�ضيحة‪ ،‬وانتهاك حلرمة البيت ولو و�صل ذلك �إىل الوالدين امل�سنني‬
‫لقامت قيامتهما فلي�س ذلك بالهينّ عند جيل كانت املر�أة فيه ت�ستحي‬
‫�أن تتناول الطعام �أمام رجل والرجل ي�ستحي من ليلة دخلته فيفر‬
‫عن وجه والديه لأيام عدّة‪.‬نارميان بجنونها بالغت يف و�ضع العطور‬
‫املغرية فهي تعرف �أنَّ لها نكهتها اخلا�صة و�إ�ضافتها اال�ستثنائية يف‬
‫�إيقاظ كل اجلوارح وجعلها تهتز �أمام فتنة اجل�سد و�سحره‪.‬‬
‫على �إيقاع �سمفونيات ريت�شارد كليدرمان‪� ،‬إحت�ضن و�سادة باردة‪،‬‬
‫ي�ستجدي نوما مل ي�أت‪ ،‬يت�ساءل‪ :‬هل �أخدع نارمين بامتالئي ب ُهيام‬
‫دون �أن �أملك �سلطة اليقاف هذا االمتالء الالارادي؟ ما ّلذي �أفعله‬
‫لأحول دون ه�شا�شة قلبي �أمامها؟ ومل هذا القلب الأحمق �صلب �أمام‬
‫نارميان فال يتذوق �إ َّال طعم ال�شهوة؟ وا�صل يحدث نف�سه‪ :‬ليتك‬
‫�إقرتبت قليال‪ ،‬قليال فقط كي تعريف �أنك ال تعرفني خطوط الت�صدع‬
‫التي هزّتني منذ الب�سمة الأوىل‪.‬‬
‫احلب املنفرد وقد يكون احلب امل�ستحيل هو �أ�صعب الأ�شياء‬
‫و�أق�ساها‪ ،‬تعي�س �أن ت�شرب من ينبوع متجمد ميل�ؤك جمودا وه�شا�شة‪،‬‬
‫تتوهج‬
‫�أن ترمي بحزمة م�شاعرك دفعة واحدة �إىل الإحرتاق دون �أن ّ‬
‫�أ ّية �شعلة تثري بع�ض ال�سعادة‪ُ ،‬مرهق �أن ترك�ض يف مدار لي�ست له‬
‫نهاية �سعيا �إىل حبيب ال ي�سمع لهاثك خلفه فال ي�ستدير لي�سعفك‬
‫حني تتوقف فيك احلياة‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫(‪)06‬‬

‫ن َْح ُن ال ن�شْ َفى ِم ْن املُ َعان َاة َح ّتى ُن َعا ِني َها َحدّ ال ِن َها َية‬
‫و�ستْ ‪.‬‬ ‫َما ْر�سِ ْ‬
‫يل ْب ُر ْ‬

‫�صرب طويل على الإلتبا�س املتف ّرع نحو كل املناحى‪� ،‬صمت ال�سماء‬
‫بات �أمرا حمريا‪ ،‬كلية احلقوق تتنف�س احلب وك�أّنه �أك�سجينها‬
‫الوحيد‪ ،‬م ّيعت املفاهيم يف زمن ال يحق لأبنائه �إ ّال اخلجل‪ ،‬مل يعد‬
‫� ّأي �شيء ذو قيمة يحظى بالإهتمام‪ ،‬يف الزمن املر كل �شيء م�ضاد‬
‫للحقيقة وكل حقيقة تخفي وراءها كوالي�سا من الوهم املبطن‪،‬‬
‫ما�أعظم كذبة الإن�سانية التي ملأت �شعاراتها الأفئدة وما �أعظم‬
‫حب ُي َف ِّ�ص ُلك وفق مقايي�سه‪ ،‬كل‬
‫الغياب يف احل�ضور العابر‪ ،‬كل ّ‬
‫بداية جمهولة املالمح تنتهي بك �إىل �شيء غري م�ألوف قد ميل�ؤك‬
‫فرحا وقد يغمرك حزنا‪ ،‬ال�شئ مطلق وال حد�س يعمل يف التنب�ؤ مب�آل‬
‫الإهتزازات الدورية التي حتفر يف القلب �ألف ب�ؤرة للتوتر‪.‬‬
‫حينما دخل �إىل الكلية يف ذلك ال�صباح املطري كانت الأجواء‬
‫باهتة ك�صمت هيام و�شاحبة كقلبه الذي غرق يف بحور ال ّلذة‬

‫‪114‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫واحلرمان‪ ،‬كانت ال�سماء مل ّبدة ت�شي بقروب مواعيد الثلوج املُنتظرة‬


‫منذ �سنني وامل�ضربة عن ال�سقوط منذ �سنوات‪ ،‬حينما يتّحد تلبد‬
‫ال�سماء بتلبد القلب يعلوا �إح�سا�س بالن�شوة‪ ،‬ن�شوة الكرب واله�شا�شة‬
‫التي متلأ الرومن�سيني يف كل نوبة تال�شي �أمام عظمة مملكة احلب‪.‬‬
‫عبد القدو�س قادم من بعيد يحمل فرحه بني عينيه ويديل به يف‬
‫كل �إبت�سامة‪ ،‬كل �شيء فيه ي�شي بجنون احلب الذي �إعرتاه مذ �إرتبط‬
‫بهي وكل �أمر‬
‫بامر�أة ر�أى فيها احلياة واملوت فكل ماي�شرتكان فيه ّ‬
‫تغيب عنه هي م�صاب بداء ال�صمت مهما كانت احليوية فيه‪.‬‬
‫دعاه �إىل جمال�سته‪ ،‬جاء مهروال‪ ،‬متلهفا �إليه‪ ،‬يحمل بحرا من‬
‫الأحا�سي�س‪ ،‬يغرقه وقادرعلى �إغراق الكون به‪ ،‬هو عبد القدو�س الذي‬
‫كان يخ�شى العودة �إىل احلب لأ َّنه يخ�شى من خيانة �أخرى مع �أن احلب‬
‫ماخان يوما فردا بل وكل اخليانة تع َّر َ�ض لها ومنذ والدته الأوىل‪.‬‬
‫عاد بكل قواه‪ ،‬متنا�سيا عمره الذي ُ�سرق يف حلظة �إكت�شاف مل‬
‫تكن يف احل�سبان‪ ،‬ته ّي�أ له �أنّ قانون اهلل يحميه و�أنّ فطرة احلد�س‬
‫حقيقة و�إندفع يفتح �أبواب احلب بكل قواه متنا�سيا التوقف عند‬
‫ال�شك الأخرية‪.‬الباب ُفتح وجتمد الزمن املا�ضي ليلج بع�ض‬ ‫حلظة ّ‬
‫أحب امر�أة حلد‬‫اللحظات املهربة من تاريخ ذلك الفرن�سي الذي � ّ‬
‫الإبتكار ف�أن�ش�أ قبلة لها والتي �أ�صبحت اليوم رمزا للحب واخلبل‪.‬‬
‫تبادال �أطراف احلديث �ساعة قبل و�صول موعد املحا�ضرة الأوىل‪،‬‬
‫ال جديد ي�ستحق الذكر �سوى ب�ضع الهم�سات التي يطلقها عبد‬
‫القدو�س مهاجما لذاكرة احلب وما�ضي الن�سيان العريق‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫الن�سائم القادمة من ال�شمال متلأ اجلو برودة وح�سا جميال‪ ،‬كل‬


‫الأيادي تت�شابك وكل الأبدان ترتع�ش يف يوم غائم وعاطفي‪.‬‬
‫دخل �إىل الدهليز الطويل العبق برائحة ال�س ّيدات يف ال�صباح‪،‬‬
‫�سار ب�ضع خطوات ليجد نف�سه وجها لوجه مع احللم الذي ملأ لياليه‬
‫ح�ضورا وع ّمر نهاره غيابا و�ضياعا‪� ،‬إ ّنها هيام ال�صباح الآخر يف‬
‫ال�صباح والوجه املتجدد اجلمال مبالمح باري�سية تعطي لعبورها نكهة‬
‫البهاء ون�شوة التوقف فالعمر ب�أ ّيامه ولياليه بدونها جمرد مهزلة‪.‬‬
‫�إنتبهت اليه وهو يفرغ �أ�شواقه يف نظرات عا�شقة‪ ،‬يرميها بها‬
‫�سهاما‪ ،‬كانت تنظر اليه خل�سة خ�شية الت�سبب يف ت�ضييع عقله‬
‫وت�شتيت ثباته بفتح دواوين من الإحتماالت بينها وبينه وقد تكون‬
‫غري �صاحلة للقراءة‪.‬‬
‫تقهقر الإندفاع الكبري‪� ،‬صمتت كل الأ�صوات الداخلية �إىل �أن‬
‫دخل �إىل املدرج ب�أ�سف ال يعلم �صداه �إ ّال قلبه اله�ش‪.‬‬
‫الدر�س �سيكون معها �سيكون م�ساء واىل ذلك الوقت تولد �آالف‬
‫الن�صو�ص وت�صلب دون توقف‪ ،‬ف�ضجيج الأفكار ميلأ العا�شق تيها‬
‫وت�شييدا للأحالم‪.‬‬
‫نارميان اململوءة بالبهرجة والأنوثة متلأ املكان عطرا و�ضجيجا‪،‬‬
‫احلميمي املجنون‪�.‬ش َعرت ب�شئ من‬
‫ّ‬ ‫وجدها م�صادفة بعد ذلك املوعد‬
‫االرتباك الذي ظهر يف تلعثم ل�سانها املفاجئ �أمام رفيقاتها‪.‬‬
‫تذ ّكرها عارية فاحم ّر وجهه وتذكرته بال�شئ يغطيه فتلعثمت‪� ،‬إنه‬
‫موعد �أول له ح�سا�سياته‪ ،‬والحقا لن يحدث �شيء من هذا القبيل‬

‫‪116‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫فالأج�ساد لها لغتها ودوافعها كي تت�آلف وتتماهى يف بع�ضها‪ ،‬تق ّدم‬


‫�إليها م�سلما على املجموعة وم�صافحا ليدها الباردة‪� ،‬سحبها‬
‫معتذرا بحاجته �إليها وراح يلقي عليها ق�صائد اجلمال وك�أ َّنه يراها‬
‫للمرة الأوىل‪.‬‬
‫�إ�ستفزّت ميوالته الأدبية‪.‬دعته لدخول املدرج رفقة بقية �صديقاتها‬
‫اللواتي يدر�سن الأدب من �أجل حما�ضرة يقال عن الدكتور الذي‬
‫�سيلقيها �أنه �شهري ومتميز‪ ،‬واملو�ضوع هو ال�شعر اجلزائري احلديث‪.‬‬
‫مل يكن لريف�ض ذلك فال�شعر �إدمانه الذي �أ�صابه من عمر بعيد‪،‬‬
‫وجلا املدرج‪� ،‬إختارا مكانا ق�صيا ال يثري � ّأي انتباه‪ ،‬املحا�ضر فاخر‬
‫و�سخي الفكر‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الأناقة‪ ،‬و�سيم املحيا‪ ،‬يبدوا وا�سع الثقافة‬
‫�شرع ينتقد و�ضع ال�شعر و ُيذكر ب�أجماد املا�ضني من ال�شعراء‬
‫ويبكي ح��ال اللغة العربية التي حتولت م��ن ملكة يف ق�صور‬
‫اللغويني والكتاب وال�شعراء �إىل خادمة تنقل الأفكار دون مزية‬
‫ورمبا دون �إحرتام‪ ،‬مما �أغرق الكثري من الن�صو�ص يف اجلفاف‬
‫ورمبا الرداءة‪.‬‬
‫وا�صل يتطرق �إىل ال�شعر يف تلك احلقبة املظلمة‪� ،‬أيام اال�ستعمار‬
‫الغا�شم‪� ،‬أين احت�ضر الأدب �آالف امل ّرات‪ ،‬كان ُيذكر مبفدي زكريا‬
‫و�إبن بادي�س وماجادت به قرائح ذلك الزمن الذي امتلأت فيه‬
‫القلوب غي�ضا فانفجرت ثورة و�شعرا‪.‬‬
‫فج�أة رفع يده طالبا الكلمة‪� ،‬إنده�شت نارميان وخافت على نف�سها‬
‫وعل ّيه من طردهما‪ ،‬فهي تدرك حجم �إنفعاله يف امل�سائل الأدبية‬

‫‪117‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫جتزم ب�أنها مل تفهم �شيئا من املو�ضوع ومل يكن عقلها حا�ضرا‬ ‫و ّ‬


‫�أ�صال حينما كان الأ�ستاذ يف�سر وي�شرح‪.‬‬
‫تعجب وفرح يف نف�س الوقت‪،‬‬ ‫�إ�ستغرب الأ�ستاذ طلبه للكلمة‪ ،‬بل ّ‬
‫فال �أحد يجر�ؤ على توقيفه �أثناء املحا�ضرة �أو �س�ؤاله فالكل يراه‬
‫جليال ال يناق�ش‪.‬‬
‫‪-‬ك�إ�شارة �أو �إ�ضافة يا �أ�ستاذ‪� ،‬أنت مل تذكر �أحد كبار ال�شعراء‬
‫اجلزائريني من الذين ظلمهم التاريخ وح ّفهم الن�سيان‪ ،‬هو �أي�ضا‬
‫�صديق لل�شيخ �أحمد �إبن بادي�س ول ّقبه هذا الأخري بال�شاعر الفطري‪.‬‬
‫‪ -‬هل تق�صد ال�شيخ حممد الب�شري االبراهيمي؟؟‬
‫‪ -‬ال ال�شيخ االبراهيمي له �شهرة و�صيت وال يزال يذكر �إىل اليوم‪� ،‬أما‬
‫هذا ال�شاعر الذي �أنا ب�صدد احلديث عنه فهو يف العتمة منذ زمن‬
‫بعيد وم�صابنا يف هذا العامل �أن الكثري من الكبار ه ّم�شهم التاريخ‪،‬‬
‫فال يختلف حاله عن حال الناقد الكبري حممد مندور الذي جفت‬
‫الأقالم عن ذكر �صداه‪.‬‬
‫يتعجب الأ�ستاذ‪ ،‬ت�ستدير الر�ؤو�س نحوه رغبة يف �إكت�شاف �صاحب‬
‫هذا ال�صوت‪.‬‬
‫‪� -‬إذن من هو؟‬
‫‪� -‬إ ّنه ال�شاعر ال�شيخ حممد بن ب�سكر((( الذي �آمن باملبادئ العلمية‬
‫ف�سخر لها ال�شعر‬‫والإ�صالحية التي دعا اليها ال�شيخ �إبن بادي�س ّ‬

‫‪ -1‬تو ّيف �سنة ‪ ،1942‬تعود �أ�صوله �إىل مدينة بو�سعادة اجلزائرية‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫و�سيلة وغاية وله ق�صيدة �شهرية بعنوان «ومالعلم �إ ّال م�شاع(((» �أظهر‬
‫فيها جزالة حرفه وعمق هدفه‪� ،‬أحفظ منها القليل‪ ،‬ف�شعره الغزير‬
‫ال يتيح للقارئ التم ّكن من حت�صيله‪.‬‬
‫ب�إبت�سامة تظهر �شيئا من الإعجاب‪ :‬نورنا ب�أبيات �إن �أمكن‪ ،‬عفوا‬
‫ما�إ�سمك ياطالب وهل در�ست عندي �سابقا‪.‬‬
‫لدي � ّأي عالقة مع كلية الأدب‪ ،‬جمرد زائر وحمب للأدب‪،‬‬ ‫‪ -‬ال لي�ست ّ‬
‫�أما �أبيات ال�شاعر ال�شيخ فجاء فيها‪:‬‬
‫ف��ع��دوا على النف�س واع��ت��م��دوا‬ ‫م��ت��ى ف��� ّك���ر ال���ن���ا����س واحت�����دوا‬
‫وزال ال����ت����خ����اذل واحل�������س���د‬ ‫و�ضموا ايل العلم ح�سن الرجاء‬
‫رج�������وه وي���خ���ل���ق م���اق�������ص���دوا‬ ‫ي����ح����ق����ق رب���������ك �أب�������������دع م���ا‬
‫ب��ع��ي��د امل����ن����ال اذا اج���ت���ه���دوا‬ ‫ف���م���ا ن���ّي���رّ ات ال���ن���ج���وم ب�����ش��ئ‬
‫ع�����س�ير ال�����زوال اذا اج��ت��ه��دوا‬ ‫وم���ارا����س���ي���ات اجل���ب���ال ب�شغل‬
‫ن��ف��اه ب��ن��وا ال��ع��ل��وم اذا ر���ش��دوا‬ ‫فكم من امل�ستحيل على العقول قد‬
‫�أت���وه���ا وم���ن ج���ه���دوا اوج����دوا‬ ‫وك������م �أو������ض�����ح اهلل �أح���ج���ي���ة‬
‫�أَعجب الأ�ستاذ باطالعه و�أثنى عليه ودعا �إىل االقتداء به‪.‬يف �آخر‬
‫احل�صة طلبه‪ ،‬دار بينهما حوار ق�صري �إنتهى بتبادل لأرقام الهواتف‬
‫من �أجل قيام الأ�ستاذ مبراجعة روايته التي مل يبق الكثري على‬
‫اكتمالها‪.‬خرج الكل دفعة واحدة حمدثني ل�ضجيج كبري‪.‬‬
‫غادردون �أن ي�سلم من نظرات طالبات الأدب اللواتي ا�شتهرن يف‬
‫وال�سعي وراء الزواج وكنّ مثال‬
‫ّ‬ ‫تلك اجلامعة بكرب امل�ؤخرات وترهلها‬
‫‪ -1‬ن�شرت يف جملة ال�شهاب �سنة ‪ 1349‬هـ – ‪1930‬م‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫اللهو والت�أنق املبتذل‪.‬نارميان �شعرت بالنخوة وهي ت�سري بخطى ثابتة‬


‫مملوءة بالثقة والإعجاب رفقة �شاعرها وحبيبها الذي �إمتلأت به‪.‬‬
‫لزمه ال�صمت‪� ،‬صمت املحبة اخلائبة التي تتحرك بداخله ك ّلما‬
‫�شعر باندفاع نارميان نحوه‪ ،‬لو �أعاد الت�شهري بتعلقه بهيام �أمامها‬
‫لت�سبب له ذلك يف خلل فادح يهز جمال احل�ضور و�سكون العواطف‬
‫ويخلق دموعا يف موقف غري مربر �أال وهو �إ�ستجداء احلب يف قلب‬
‫مملوء يكاد الأمل ينعدم فيه‪.‬‬
‫و�صال �إىل مطعم جديد‪ّ ،‬مت فتحه قبل �أيام قليلة‪ ،‬مظهره يوحي‬
‫بخدماته الراقية‪ ،‬حميطه يثري �شهية � ّأي عابر‪ ،‬وجلاه‪� ،‬إختارا زاوية‬
‫مزينة بالورود والوان اجلدار العاطفية‪.‬و�ضع الهاتف واحلقيبة فوق‬
‫الطاولة كانت �أعينه موجهة �صوب واجهة املحل‪� ،‬شد انتباهه �شاب‬
‫ي�صفع فتاة بكل قواه‪ ،‬ثم يحت�ضنها مبا �أتيح من حنان‪� ،‬ضحك ب�شئ‬
‫تعجب من جمالية الالتوازن يف غمار العاطفة املجنونة‪.‬‬ ‫من ال�سخرية‪ّ ،‬‬
‫م�صت ل�سانه جنونا‬ ‫ق ّبلته نارميان ب�شكل مفاجئ قطع كل التيه‪ّ ،‬‬
‫وحمبة‪ ،‬انتبه النادل ل�شهقتها الأخرية ف�ضحك كمن به م�س من‬
‫احلرمان‪� ،‬ضحكة من يبحث عن �شوق �ضائع مل يعد له من توهج‪.‬‬
‫�ص َمت فج�أة فدورا تلك القبلة املحمومة ملأه مطوال‪ ،‬كان غائبا يف‬
‫ح�ضور ن�شوة احلب فلم يكن ليجاريه لوال قطار ال�شهوة الذي بعرثه‬
‫يف حلظة �شرود‪.‬متتم ب�أ�شياء غري مفهومة‪ ،‬ح ّدقت فيه نارميان‬
‫مطوال وهي حتاول فهم هم�سه ال ّرطب اخلفيف‪.‬‬
‫‪ -‬ما ال ّذي تقوله وما�سر هذا ال�صمت الذي ّ‬
‫غطى الأ�شياء فج�أة؟‬

‫‪120‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬ال �شيء يانارمياين‪ ،‬بع�ض الأفكار تعربين يف حلظات الده�شة‪،‬‬


‫وقد تذ ّكرت �أبيات من ال�شعر خلليل مطران فارجتف خاطري‬
‫و�شعرت ب�شيء يهتز بداخلي‪.‬‬
‫‪ -‬تتابع ال�شعر ب�شكل ج ّيد‪ ،‬بل وحتفظه‪� ،‬أال يرهقك ذلك؟‬
‫‪ -‬ال �أبدا‪ ،‬فال�شعر هو ال�شيء الوحيد املتبقي يل بعد الهزمية التي‬
‫تلقاها اجلمال يف هذا الكون‪ ،‬ال �شيء ي�شبه حقيقته وكل مانعي�شه‬
‫جمرد �إنعكا�س ل�صورة كاذبة ال تعزينا على مانحن فيه‪.‬‬
‫‪.... -‬ال عليك‪ ،‬ماهي الأبيات التي دارت يف خلدك؟‬
‫‪ -‬ح�سنا يانارميان‪ ،‬جنونك �أ�صبح من يومياتي‪:‬‬
‫ا�شا َء ُظ ْل ُم ِك َوا ْن َه ْي‬ ‫اظ ُلمِ ّي ِني َم َ‬‫ْ‬
‫حل ْ�س ِن �أَنْ َي ُكونَ َ�ش ِفيقا‬ ‫� ِآم َر ا ُ‬
‫َع ِّذ ِبي ِني َف َق ْد ًج َن ْيتُ َع َلى َنف ِْ�سي‬
‫اب َح ِق ْي َقا‬‫َو�أَ ْم َ�س ْيتُ ِبال ِع َق ِ‬
‫اب َعا َودْتُ ُح ِبي‬ ‫َف ِل َه َذا ال ِع َق ِ‬
‫ولأ ْل َق ُاه ُخ ْنتُ َع ِهدً ا َو ِثي ًقا‬
‫‪ -‬غريب؟ مامنا�سبة هذه الأبيات وعن � ِّأي ُظ ٍلم ت�ست�شهد بال�شعر‪ ،‬ال‬
‫تقل يل �أنه ذوق وفقط‪ ،‬ال�شيء يربر ماقدمته‪.‬‬
‫‪ -‬هي خواطر و�أحاديث يف القلب عزيزتي ويبقى ال�شعر �شعرا مبا‬
‫يحمله من جمال وجماز‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬ال ال ال �أنتم الرجال خمادعون‪ ،‬قل �إنَّ ال َع ِاه َرة الأخرى ال تزال‬
‫تغلي بداخلك‪.‬‬
‫‪ -‬عن � ّأي امر�أة تتحدثني نارميان‪ ،‬مابك؟‬
‫‪ -‬القحبة ديك هيام‪� ،‬أنت واهلل مات�ستاهل � ّأي �شيء‪.‬‬
‫‪ -‬نارمياااان‪.‬‬
‫َنه�ض ِمنَ الطاولة خم ِّلفة ل�ضجيج كبري بعد �أن �أ�سقطت ماكان‬ ‫ت ُ‬
‫عليها من ك�ؤو�س‪ ،‬مل يجد من �شيء ليقوله للنادل الذي �سارع �إليه بعد‬
‫خروجها يجمع احلطام‪ .‬متالك نف�سه وا�ستجاب لكالم النادل الذي‬
‫حجة لي�شرع يف التفل�سف والتكلف يف‬ ‫ه َّون الأمر عليه ووجد يف ذلك ّ‬
‫احلديث عن الن�ساء‪.‬‬
‫مل يلحق بها بل �إتجّ ه �إىل املقهى املحاذي للجامعة وطلب قهوة‬
‫مر ّكزة وهاتف عبد القدو�س طالبا ح�ضوره‪� .‬شعر عبد القدو�س‬
‫با�ضطرابه ف�صوته مل يكن عاديا‪ ،‬فجاء بعد دقائق مهروال مملوءا‬
‫باحلرية وال�شك‪.‬‬
‫‪ -‬مالذي حدث لك؟ �إت�صالك املفاجئ ونربة �صوتك �أفزعاين‪.‬‬
‫‪� -‬إ َّنها نارميان يا �صديقي‪ ،‬ت�سببت يل يف ف�ضيحة ومهزلة مل حتدث‬
‫معي مذ ولدت‪.‬‬
‫‪ -‬ههههههه نارميان‪ ،‬كل �شيء متوقع معها‪.‬‬
‫‪� -‬إ�ضحك �أنت فال يهمك‪ ،‬لو كنت حا�ضرا لأ�صبت باحباط مزمن‬
‫ج ّراء ت�صرفها املتهور �أمام جمهور من مرتادي املطعم اجلديد‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫البد من �أنك فعلت �شيئا خطريا مما جعل‬ ‫‪ -‬لكن كيف حدث ذلك‪َّ ،‬‬
‫ر ّدة فعلها قوية‪.‬‬
‫‪ -‬ب�ضع �أبيات من ال�شعر جعلوها تثور يف وجهي وتقلب كل ماهو‬
‫موجود على الطاولة‪.‬‬
‫‪� -‬شع ـ ــر؟؟‬
‫‪ -‬نعم‪� ،‬أبيات خلليل مطران فيها �شيء من الولع والتظلم‪� ،‬إتهمتني‬
‫بالإمتالء بهيام وب�أنيّ ال �أ�ستحق � َّأي �شيء جميل منها وغادرت بعد‬
‫الذي �أحدثته من فو�ضى‪.‬‬
‫‪ -‬رمبا �ست�صبح ماري لويز اجلديدة‪ ،‬ومل ال هههههه‪.‬‬
‫‪ -‬عبد القدو�س‪ ،‬كفاك �سخرية‪ ،‬ماعالقة نارميان مباري هذه‪.‬‬
‫‪� -‬أو لي�ست هي من حاولت �إنقاذ ن�ساء العامل من �أمل خيانة الرجال‬
‫بعد �إكت�شافها �أن جاك الذي وثقت به ي�ضاجع امر�أة �أخرى يف‬
‫فرا�شها وهي ترتدي مالب�سها الداخلية ويقول لها نف�س الكالم الذي‬
‫�إعتادت �سماعه منه‪.‬‬
‫‪ -‬مريـ ـ ـ ــع‪..‬‬
‫‪ -‬نعم وقد �أردته قتيال و�أجربت تلك الفتاة على املغادرة عارية‬
‫نحو ال�شارع‪ ،‬لرتكب هي �سيارتها وتقتل عري�سا يف طريقه �إىل عقد‬
‫القران و�أطلقت النار على كل الأطفال الذين ر�أتهم بعد �أن قا َلت‬
‫لهم «�ستكربون و�ست�صبحون رجاال وتخدعون فتيات كرث لذا �س�أنقذ‬
‫ن�ساء العامل من الأمل الذي �شعرت به»‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬بع�ض خطايا الرجال ال تغتفر فعال‪ ،‬لكن �أنا ما قلت لها �شيئا‪ ،‬ثم‬
‫�إين قد �أ�صحبت غري قادر على التحكم يف هاته امل�شاعر البليدة التي‬
‫�سلبت عفويتي وجعلتني �أ�سريا لتخمني ال حدود له‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك يا �صديقي‪ ،‬نارميان قلبها �أبي�ض وكل الأمور �ستعود �إىل‬
‫جمراها الطبيعي‪.‬‬
‫‪ -‬عذرا عبد القدو�س ن�سيت �أن �أطلب لك �شيئا ت�شربه‪ ،‬وهذا النادل‬
‫الغبي الذي �ألفنا ذاكرته املثقوبة وحركاته البطيئة ال ينتبه ل�شيء‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪�،‬س�أطلب زجنبيل و�أنا من �سيدفع‪.‬‬
‫‪ -‬دعنا يا عبد القدو�س‪ ،‬فل�ست يف وقت منا�سب لأناق�شك يف دفع‬
‫احل�ساب‪ ،‬واهلل لن تدفع �سنتيما‪.‬‬
‫‪« -‬واهلل» ت�سبقك دوما‪ ،‬ال داعي للحلف مرة �أخرى‪.‬‬
‫ن�صف �ساعة �أخرى من احلديث والغو�ص يف كل حميطات الكالم‬
‫من ال�سيا�سة �إىل احلب �إىل �أحاديث اله�شا�شة والوجدان‪ ،‬كلها حمبة‬
‫و�صداقة تلك اجلل�سات‪ ،‬عمر الذاكرة يطول ك ّلما وجد الإن�سان‬
‫طرفه الذي ي�شبهه يف فرحه ووجعه‪.‬‬
‫غادرا نحو بيته‪ ،‬ملا و�صال وجدا والده ال�شيخ جال�سا عند عتبة‬
‫رحب بهما مبت�سما ودعاهما �إىل جمال�سته‪ ،‬جل�س عبد‬ ‫الباب‪ّ ،‬‬
‫القدو�س ي�س�أله عن حاله و�أحواله بينما دخل �إىل البيت مناديا على‬
‫�أمه طالبا حت�ضري القهوة‪.‬‬
‫�شرع الوالد ال�شيخ يف احلديث عن خمتلف مناحي احلياة وعن‬
‫�أ ّيام باري�س وحكاياتها املتعددة واجلميلة‪.‬حديث �ش ّيق زاده ح�ضور‬

‫‪124‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫القهوة والتمر اجليد جماال‪.‬يف جمال�سة الكبار والإ�ستماع �إىل‬


‫ذاكرتهم هناك نكهة غريبة ت�أخذ الروح �إىل املنابع الأ�صيلة للأخالق‬
‫واجلمال‪ ،‬يوم كانت القلوب بجميع �أعمارها تت�شابه يف الطيبة �إىل‬
‫ح ّد ال�سذاجة وتتناف�س يف حب اخلري وال�سعي اليه‪.‬‬
‫يف فرن�سا تن�سى نف�سك �أوال ثم الهوية هكذا قال الوالد ال�شيخ‪،‬‬
‫حيث تغرق يف الهرج واملرج اللذان يفقدانك معامل الهوية �شيئا ف�شئ‬
‫فت�صبح بدون عقيدة حمددة وتثبت على الأهواء‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا يا عمي مل تقم ب�أخذ �أبنائك �إىل فرن�سا‪� ،‬أنت تدرك جيدا �أن‬
‫ال �شيء هنا ي�ستحق البقاء‪.‬‬
‫‪ -‬يا عبد القدو�س‪ ،‬ياولدي‪� ،‬أنت خمطئ متاما‪ ،‬مل �أر�ض لأحد ن�سيان‬
‫اهلل ون�سيان الأهل والأحبة‪ ،‬كم حدث هذا يف تلك الأيام‪� ،‬أعتقد �أنه‬
‫ال يزال يحدث مع ال�شباب الذي يرى يف الهجرة حلما بدون كوابي�س‪.‬‬
‫ال يزال طيف «عثمان بن �ساعد» عالقا بوجداين وال زلت �أتذكر جيدا‬
‫�أول يوم �إ�ستقبلته فيه ببيتي يف باري�س كان �شابا يافعا قوي البنية‪،‬‬
‫ودودا‪ ،‬ب�شو�شا‪ ،‬بقي عندي يف البيت لأيام طويلة وكنت �سعيدا به‬
‫يل رائحة اجلزائر وعبقها‬ ‫�سعادة ال تو�صف فوحده الذي كان يحمل �إ َّ‬
‫الذي �إ�شتهيته وا�شتقت له‪.‬‬
‫يف خ�ضم يومياته املليئة بالإكت�شافات واجلوالت تع ّرف على فتاة‬
‫فرن�سية تدعى «مارينا بريت» يف �أحد النوادي الباري�سية‪ ،‬تبادال بع�ض‬
‫املعلومات حول الإقامة والعمل والظروف املحيطة‪.‬بد�أت الزيارات‬
‫تتكرر بينهما‪� ،‬إنزعجت يف بادئ الأمر لك ّنه �أقنعني ب�أنه �سيتزوجها‬
‫لتكون خليلته وتحُ ِ�سن ظروفه‪.‬مع �أنه مل يكن بحاجة �إىل � ّأي �شيء‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�أيام قليلة‪ ،‬بد�أت طباعه تتغيرّ وزاد مرحه عن احلد املعقول‪ ،‬ترك‬
‫حت�سرت كثريا‬ ‫ال�صالة و�أ�صبح ال يدخل البيت �إ ّال بعد منت�صف ال ّليل‪ّ ،‬‬
‫وحاولت منا�صحته دون جدوى �إىل �أن دخل ذات ليلة باردة خممورا‬
‫يتهاوى على اجلدران فماكان مني �إ ّال �أن طردته من البيت‪ .‬مل �أره‬
‫يل ال�شرطة باحثة عني كي تعلمني‬ ‫بعدها مل ّدة �شهر �إىل �أن قدمت �إ ّ‬
‫بحكم �إقامته عندي �أنهم قد وجدوا جثته على ج�سر مريابو((( مقتوال‬
‫بر�صا�صتني‪ ،‬بعد �أيام من التحقيق عرفوا �أنّ ع�شيق مارينا هو من‬
‫«وم َ‬
‫ااحل َيا ُة ال ُد ْن َيا‬ ‫بني َ‬ ‫جنى عليه‪ .‬هذه هي عاقبة اللهو واملجون با ّ‬
‫�إِ َّال َمتَا ُع ال ُغ ُرو ْر»(((‪.‬‬
‫‪ -‬معك حق يا عمي‪ ،‬لك ّنك كنت تعي�ش حياة رغيدة هناك يف باري�س‪،‬‬
‫كيف ق ّررت العودة �إىل اجلزائر بال رجعة‪� ،‬أمل يكن ذلك القرار‬
‫قا�سيا نوعا ما؟‬
‫‪� -‬أبي �أعجبه هذا الزمن اله�ش الذي نعي�شه هنا ياعبد القدو�س‪،‬‬
‫ال�شئ مقنع فهو وحده املقتنع ب�ضرورة البقاء على �أر�ض الأجداد‬
‫وحبها والعمل عليها وتطويرها‪.‬‬
‫احل َيا َة الدً ْن َيا‬‫‪ -‬ياولداي‪� :‬أمل تنتبها �إىل قول اهلل تعاىل‪ْ �« :‬إع َل ُموا �أَنّ َ‬
‫اخر َب ْي َن ُك ْم َوت َك َا ُثر فيِ ال ْأم َو ْال َوالأ ْو اَل ْد َك َم َث ِل َغ ْي ٍث‬
‫َل ِع ُب َو َل ْهو َو ْزي َنة َو َت َف ُ‬
‫�أَ ْع َج َب ا ُل ُك َفا َر َن َبا َت ُه َث ّم َي َه ِّي َج َفترَ َا ُه َم ْ�ص َف َرا ُث َّم َي ُكونُ ُح ُطاما وَفيِ‬
‫اب َ�ش ِد ْيد َو َم ْغ ِف َرة ِمنَ اللهّ َو ُر ْ�ض َوان َو َم َ‬
‫احل َيا ُة ال ُد ْن َيا �إ َّال‬ ‫ال ِآخ َرة َع َذ ُ‬
‫َمت َا ُع ال َغ َرو ْر» ‪.‬‬
‫(((‬

‫‪1- Pont mirabeau –paris.‬‬


‫‪ -2‬الآية ‪�ُ 185‬سو َرة � ْآل ِع ْم َرانْ ‪.‬‬
‫‪ -3‬الآية ‪ِ 20‬منْ ُ�سو َر ْة َ‬
‫احل ِد ْي ْد‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�صعبة يا�أوالدي فاحذروا البهرجة والزيف ومت�سكا باحلقيقة التي‬


‫ب ّثها اهلل يف دينه احلنيف‪.‬‬
‫‪ -‬معك حق يا عمي‪ ،‬ما�أ�صعب �أن يغفل الإن�سان عن تكوين قاعدة‬
‫�صلبة و�سليمة ي�ستند اليها‪.‬‬
‫‪ -‬عبد القدو�س‪ ..‬ت�أخرنا يجب �أن نعود �إىل اجلامعة قبل الرابعة كي‬
‫ن�سحب الإ�ستمارة اخلا�صة بالتوجيه‪.‬‬
‫‪ -‬ح�سنا‪ ،‬عمي �أ�ستودعك اهلل‪� ،‬أطال عمرك وبارك فيه‪.‬‬
‫‪ -‬وداعا يا �أبي �س�أعود م�سا ًء على ال�ساد�سة‪.‬‬
‫‪ -‬ربي يحفظكم ويبقي ال�سرت عليكم روحوا بال�سالمة‪.‬‬
‫يدخل على ال�ساعة ال�ساد�سة �إىل الب ّيت بعد يوم متعب‪ ،‬دخل‬
‫احلمام حامال ثيابه‪ ،‬فتح املر�ش على �آخره‪� ،‬إمتلأ الأفق بالبخار‪،‬‬
‫وقف �أمام املر�آة يت�أمل تفا�صيله ومالحمه املت َع َبة ف�إذا بها تتقاطر‬
‫ماء وقد �أ�صبحت ال ُتظهر منه �شيئا‪ ،‬رفع �س ّبابته الي�سرى وو�ضعها‬
‫على ميني املر�آة وراح يعزف‪:‬‬
‫و�سا َب ْي َ�ضا ْء‬‫َه َي ُام َيا َع ُر ً‬
‫َت ْق ِب ُ�ض ال ْأحلاَ َ َم فيِ مجَ َ ارِي‬
‫ال�س ِق ْيم‬
‫ال ُر ِوح َ‬
‫هُ َي ُام َيا ُع ْم ًرا مَ ْل ُي ْكت َْب‬
‫ا�س َاع ٍات ِمنْ ُد ْن َياي‬ ‫َو َي َ‬
‫ت َِ�ض ْيع‬

‫‪127‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫َ�سَ�أ ْ�س ِر ُق الأَ ْ�ش َو َاق‬


‫يك ِ�إ َي َاها َن ً�صا‬‫َك ْي �أُ ْه ِد ِ‬
‫َخالِدً ا اَل َي ِ�ضيع‬
‫�أُ ِح ُّبك‪.‬‬
‫نظر مطوال يرى الندى �شعرا يمُ حى مت�ساقطا ك�أ�شواقه التي‬
‫�ضاعت يف رياح الأماين والإنتظاروراح يحدث نف�سه‪ :‬اللعنة ياهيام‪،‬‬
‫�أقف على خط ال�سكيلتون(((‪� ،‬أقف بني اجلفاف والندى يف عتبة‬
‫قلبك الذي �أخ�شى دخوله‪ ،‬فال �أنا دخلت وال �أنا عدت من حيث �أتيت‪،‬‬
‫� ُّأي َب ْح ٍر هذا و� ُّأي رمال يف هذا ال�شاطئ اله�ش و�أ ّين املفر يف هاذين‬
‫امل�ستقرين املخيفني‪.‬‬
‫�أنهى الإ�ستحمام م�ستعجال ودخل �إىل غرفته بعد وجبة خفيفة‪،‬‬
‫يفكر‪ ،‬عربته كل الأحداث الغابرة ويف نوبة حب وجنون رفع‬ ‫راح ِ‬
‫هاتفه من �أ�سفل الفرا�ش‪ ،‬فتح املعابر املغلقة وك�سر هذا الطابو‬
‫امل�سمى هيام‪.‬‬
‫‪Manu-messages-nouveau message‬‬
‫‪Bonsoir: il faut que ma chére proffesseure sache.‬‬
‫‪quelle n’est plus ce quelle était. elle habite mon cœur‬‬
‫)‪et envahit mon esprit.(2‬‬

‫‪� The skeletoncoast -1‬أحد الأماكن القليلة التي تلقتي فيها رمال ال�صحراء‬
‫مبياه البحر ويقع يف منبيا‪.‬‬
‫خليرْ َي ِج ُب �أنْ َت ْع َل َم � ْأ�ست ََاذ ِتي ال َغا ِل َية �أ َّن َها َم َاعادَت مجُ َ َر َد �أ�س َت َاذة يل‪،‬‬
‫‪َ -2‬م َ�سا ُء ا َ‬
‫لأ َن َها َ�س َك َنت ال َق ْل َب َو َج َع َلت ِمنَ ال ُروح َو َط ًنا‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إ�شارة و�صول الر�سالة ظهرت على ال�شا�شة‪� ،‬إذن هيام تقر�ؤها‬


‫الآن �أو �ستفعل الحقا‪ ،‬ال مفر من ر�سالة حملت �شيئا من �أ�شواق ال‬
‫تكفي جرائد الوطن لر�سمها‪ ،‬فكيف �سيكون ر ّدها‪ ،‬هل �سيك�سرها‬
‫كطابو ممنوع من التفكري فيه �أم �سيك�سر �إندفاعه ويزيده ه�شا�شة‪،‬‬
‫ال يدري �أحد ما تخفيه اللحظات القادمة التي �إنطلق ع ّدها ك�شهور‬
‫طويلة‪ ،‬برمج الهاتف على ر ّنة قوية وراح يتو�سل النوم �أن يزوره‪.‬‬
‫ع�شر دقائق كانت كافية لإغراقه يف بحر من الأفكار التي ملأته‪،‬‬
‫هاتف مل يرد وال رد على وروده القابلة للذبول يف �أ ّية حلظة‪.‬‬
‫�سكوتها فاجعة حتمل �ألف �إحتمال وت�أويل ونطقها مباال ي�شتهي‬
‫قلبه قد يج ُّر عليه الويالت واللوعات التي ال حدود لها‪� ،‬إذن مزيدا‬
‫من ال�صرب‪.‬‬
‫(((‬
‫ع�شر دقائق �أخرى‪ ،‬اللعنة ب� ّأي �سهم م�سموم قذفتني يا كيوبد‬
‫لأحتمل كل هذا الإنتظار امللئ باخلوف والرع�شة‪ ،‬رمبا نامت لكن‬
‫الوقت مبكر على ذلك‪ ،‬رمبا �أ�صيبت بال�صداع فنامت‪ ،‬لكن � ُّأي �صداع‬
‫هذا الذي يجربها على النوم يف هذا الوقت؟ ثم �إنّ �أودلف((( كو�سمال‬
‫قد �إجتهد كثريا وجهده لي�س عبثا فلن تنام ب�سبب �صداع عابر مت َّلك‬
‫كل الأحياء‪.‬رمبا هي ت�ستحم الآن بعد يوم �شاق ومرهق‪ ،‬ال ال حتى‬
‫طري‬
‫عمو حاجي((( لو قرر الإ�ستحمام لن يبق هاته املدة‪ ،‬ج�سد ّ‬
‫ومملوء بع�ض ال ُبخار يكفيه ليزيل تعبه فينام وحيدا كطفل معاقب‪.‬‬
‫‪� -1‬أي االلهة فينو�س يف امليثولوجيا الرومانية وا�شتهر بالو�سامة وحمله لل�سهم‬
‫وقد كان �سهمه ي�صيب الب�شر فيت�سبب يف وقوعهم يف احلب‪.‬‬
‫‪ -2‬مكت�شف املركب الذي ي�صنع منه البارا�سيتامول املعالج لل�صداع واملتعدد الإ�ستخدامات‪.‬‬
‫‪ -3‬رجل ايراين يعي�ش يف مقاطعة درهم مل ي�ستحم منذ �ستني عام‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ع�شر دقائق �أخرى من ال�صمت‪ ،‬ي�أ�س قا�سي بد�أ يت�سلل �إىل فرا�شه‬
‫احلزين وفج�أة �إهت ّز فرا�شه بر ّنة متقطعة‪.‬‬
‫حمل الهاتف بيديه االثنتني‪ ،‬رمز الر�سائل متعدد الألوان‪ ،‬المع‪،‬‬
‫ر�سالة جديدة‪ ،‬هيام �إذن‪..‬‬
‫مالذي حتمله هاته الر�سالة؟ �ش�ؤم �أم غنم؟‬ ‫ّ‬ ‫تردد يف فتحها‪:‬‬
‫اللعنة‪� ،‬أغم�ض عينيه‪� ،‬ضغط على الزر (�أوك)‪.‬‬
‫فتحت‪ ،‬كل �شيء �ضبابي‪:‬‬
‫(((‬
‫‪Abdelkodous –appelle-moi-stp‬‬
‫�أوووه يا عبد القدو�س‪ ،‬كم �أنت غريب الأطوار ومفاجئ كخيبة‬
‫غري منتظرة‪ ،‬راح الهاتف يك�سر �صمت الظالم برنينه‪.‬‬
‫‪� -‬ألو‪� ،‬أهال عبد القدو�س‪ ،‬ما ا ّلذي حدث‪ ،‬فاجئتني؟‬
‫‪ -‬عذرا �صديقي لك ّنني يف ورطة ويجب �أن نلتقي �صباحا فالأمر ال‬
‫يحتمل الإنتظار‪.‬‬
‫‪ -‬ما ال ّذي حدث‪� ،‬أخربين الآن؟‬
‫‪ -‬ال ال الق�ضية تتطلب موعدا ولي�س جمرد حديث يف الهاتف‪.‬‬
‫‪ -‬مت�أكد من �أ ّنك بخري؟ وب�أن الأمر يحتمل ال�صرب �إىل ال�صباح؟‬
‫‪ -‬نعم �صديقي فقط تذ ّكر ذلك‪� ،‬س�أت�صل بك �صباحا‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد القدو�س‪� :‬إت�صل بي من ف�ضلك‪.‬من الر�سائل املجانية التي ي�ستفيد منها‬


‫م�شرتكوا املتعامل جيزي باجلزائر‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬ح�سنا‪ ،‬ت�صبح على خري‪.‬‬


‫‪ -‬ليلة �سعيدة‪.‬‬
‫حركات بطيئة‪ ،‬ج�سد متثاقل‪ ،‬يد ممتدة �إىل هاتف بارد وقلب‬
‫ملئ باالنتظار واللهفة‪.‬راح يحدث نف�سه‪ :‬ماذا لو ر َّدت بكل ق�سوة‬
‫وكتبت كالما يحمل ك�سورا و�آالما وماذا لو مل ترد متاما؟ كيف‬
‫�س�أقابلها بوجه فارغ وقلب مك�سور‪ ،‬هل �ستف�ضحني �أمام امللأ و�أمام‬
‫كل الطلبة؟ فتعلن �إنهياري‪ ،‬اللعنة رمبا �أكادمييتها البالغة �ستفعل بي‬
‫الكثري ورمبا اله�شا�شة البادية على عينيها �ستفعل الكثري �أي�ضا لكن‬
‫مالذي �سيحدث؟ �إىل متى وهل �سيطول حريق االنتظار؟‬
‫رنني �آخر‪..‬‬
‫دق غري طبيعي يف قلبه‪� ،‬أنفا�سه �سقطت يف جوفه كدلو يف جب‬
‫عميق‪ُ ،‬تراه عبد القدو�س ثانية‪ِ ،‬‬
‫ت�ش ُع الألوان على ال�شا�شة وتتلألأ‪ ،‬زر‬
‫واحد يكفي لفتح كل املفاج�آت‪ ،‬وي�ضغط عليه‪� ،‬إ ّنها هي‪� ،‬إ�سمها ميلأ‬
‫�أعلى ال�شا�شة جماال ورفعة‪ ،‬ينظر �إىل الإ�سم مكتفيا فالن�ص �أ�سفله‬
‫يثري فوبيا ما‪ ،‬لكن يجب الإطالع عليه‪.‬‬
‫!!!‪Dores(1) mon petit et arrête ces bêtises.. fou ‬‬
‫تطلب مني نوما وكفا عن ال�شغب‪ ،‬كم �أنت جمنونة يا �أحلى‬
‫�إختطاف تع َّر�ضت له يف هذا العمر التعب‪ ،‬كيف �س�أ�سرق منك‬
‫فرحة ما و�سط هذا الأرق‪ ،‬كم �أحبك يف غيابك عن م�شهد القلب‬
‫فكيف �س�أحبك لو كنت تقبعني يف املقعد الأول للف�ؤاد‪� ،‬أ�شعر با�سمك‬
‫‪ -1‬من يا �صغريي وكفاك �شغبا‪ ،‬جمنون‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫يتوهج داخل �أ�ضلعي ويحملني �إىل ه�شا�شة جميلة‪ ،‬رمبا ح�ضورك‬


‫يعني �إ�ستقامة احلظ ورمبا غيابك يعني التعرث مبمرات البالهة‬
‫والإنك�سار‪ ،‬ل�ست �أدري‪.‬‬
‫ما الذي تخربين به هاته الر�سالة القادمة من �صربي املك�سور‬
‫و�أنا العائد من املجازفة الكبرية‪ ،‬ال �شيء‪.‬‬
‫�أغم�ض عينيه‪ ،‬و�ضع و�سادة على ر�أ�سه وقرر تعليق التفكري �إىل نوبة‬
‫�أخرى‪� ،‬أراد ن�سيان �إندفاعه وتع ّمد الالفهم وتقبل � ّأي �إنهيار �أو نتيجة‬
‫حت�صل جراء ك�سره للمتعارف عليه و�إقتحامه جلنون الالمنطق‪.‬‬
‫الليل ع�سري‪ ،‬بانتظار ر�سالة �أخرى لن ت�صل‪ ،‬نوم متقطع‪ ،‬تراوده‬
‫�أ�شباح الغد املخيف والليل طال �أمده وك�أ ّنه �سرق من الدهر الطويل‬
‫�ساعات �إ�ضافية‪ ،‬ال اليمني �أراحه وال الي�سار ج ّفف �أرقه‪.‬‬
‫م ّرت ال�ساعات بكل بطئها‪� ،‬إىل �أن ح ّل ال�صباح امل�شرق‪� ،‬صباح‬
‫املفاج�آت والإجنالء و�صباح اخلوف وال�شك‪� .‬إرتدى �أجمل ما ميلك‬
‫بعد حمام �ساخن‪ ،‬رتّب �أغرا�ضه مبا يليق ب�ساعته امل�ستعجلة وو�ضب‬
‫�ش�ؤون الو�سامة ال�صغرية وغادر البيت‪.‬‬
‫النقل اجلامعي مت�أخر دوما‪ ،‬ي�أتي بالطلبة مك ّد�سني ومملوئني‬
‫بال�صرب والإبت�سامة ككل املرابطني يف عامل متوقف ينتظر حراكا‬
‫لن يكون‪.‬‬
‫ن�صف �ساعة من االنتظار دون �شفقة من ال�صدفة �أو من العابرين‬
‫ب�أفخر املراكب‪ ،‬يتّ�صل عبد القدو�س وقد نال منه االنتظار‪� :‬أين �أنت‬
‫من املفرو�ض �أ ّنك و�صلت منذ ن�صف �ساعة؟‬

‫‪132‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫يرد عليه ب�صوت مت�أ�سف‬


‫‪ -‬عذرا يا غايل‪ ،‬النقل معطل وال �أدري ماهي الأ�سباب‪ ،‬فقط‬
‫انتظرين ومزيدا من ال�صرب‪.‬‬
‫�أراد التقدم ب�ضع خطوات لي�شاهد الطريق التي تعج باملنتظرين‬
‫فاذا ب�سيارة �سوداء تتوقف ب�شكل �أثار الإنتباه وملأ الأفق غبارا‪،‬‬
‫نزل رجل مبعطف �أ�سود ّثم عاد للركوب‪ ،‬مل يظهر من وجهه �شيء‪.‬‬
‫املعطف الأ�سود الطويل ح ّرك ف�ضول املارة يف مدينة ال يلجها الغرباء‬
‫كثريا ما تتهاطل النظرات الف�ضولية على العابرين واملتجولني‪.‬‬
‫ينادي �صوت من خلف الزجاج الأ�سود لل�سيارة‪ :‬ياا �شاعر ال�شعراء‬
‫هيااا‪ ،‬من وهل يق�صدين؟ ف ّكر مليا يف النداء فال �أحد يعرتف ب�شعره‬
‫ورمبا ال �أحد يعلم ب�أنه �شاعر يف مدينة �سرقت البطون ثقافتها ويف‬
‫وطن �إحرتف قتل مبدعيه‪.‬‬
‫فتح ال�سائق الباب و�صاح بكالم رافقته �إبت�سامة عري�ضة‬
‫هيااا هيااا‪.‬اللعنة هذا�أنت يا عبد القدو�س فاج�أتني’كيف �أتيت؟‬
‫ماتوقعت ح�ضورك ويف هذا الظرف‪�.‬أ�صبحت تثري ده�شتي دوريا‪،‬‬
‫ليتك تفعل معها �أي�ضا‪.‬‬
‫�صعدا ال�سيارة‪ ،‬وجد نف�سه مع رجل غريب مبالمح جا ّدة فوق‬
‫العادة‪ ،‬رحب به وانطلقوا نحو اجلامعة‪.‬‬
‫كان ال�صمت �س ّيد املوقف وحركات عبد القدو�س توحي بانك�سار وتوتر‬
‫غريب فمذ �أغلق باب ال�سيارة �ض ّيع �إبت�سامته وك�أ ّنه د�سها يف مكان ّ‬
‫ق�صي‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ع�شر دقائق من ال�صمت وال�شك كانت كافية لفتح كل التخمينات‬


‫وتو�سيع �أفق الريبة �إىل �أق�صى احلدود‪ ،‬كاد ي�س�أل عبد القدو�س عن‬
‫املكاملة املرتع�شة التي �أخلطت ح�ساباته حينما كان قلبه يرجتف من‬
‫رد مل ي�أت بعد‪ .‬لكن �إعتقاده ب�أنّ �إت�صال عبد القدو�س له عالقة بهذا‬
‫احل�ضور الغريب وهذا الرجل الذي غابت الطالقة عن وجهه منعه‬
‫من احلديث والإ�ستف�سار‪.‬‬
‫ركن ال�سيارة بكل هدوء‪ ،‬نزل عبد القدو�س و�صاحب املعطف‬
‫بحركات �سريعة‪ ،‬تتّبعهما من اخللف دون � ّأي فهم ل�سر الر�سمية‬
‫التى طغت فج�أة ومن دون مقدمات‪� ،‬شيء غريب يحدث فلم ي�سبق‬
‫�أن �أطبق ال�صمت على عبد القدو�س بهذا القدر املريب‪.‬‬
‫مالمح الرجل الغريب تقاربت متاما مع مالمح العبو�س والتّجهم‬
‫التي كان موبا�سان((( رمزا لها يف زمانه والذي �إنتهى به الو�ضع �إىل‬
‫�إ�صابته باجلنون �إثر �شكواه امل�ستمرة من ال�صداع‪ّ � .‬أي �سر حتمله‬
‫اللحظات القادمة وعن �أية فاجعة �سي�سفر هذا العبو�س وهاته‬
‫الوجوه التي �إكفه َّرت كامر�أة �إ�صيبت يف غريتها‪.‬‬
‫ال يزال ال�سري على طريقة �أبطال «املاحي»((( متوا�صال �إىل‬
‫وجهة غري معلومة كما �أنَّ ت�أخره بب�ضع خطوات م�ستمر‪ ،‬ال فكرة‬
‫تنا�سب هذا املوقف الهالمي‪ ،‬ت�أخره م ّكنه من الإحاطة مبا حوله من‬
‫جمانني دخلوا يف التيه والن�سيان ومن ع�شاق تناثروا حتت الأ�شجار‬
‫ويف الأماكن الأكرث �ضيقا جتنبا للأعني احلاقدة‪ ،‬كل �شيء على‬
‫‪ Guy de Maupassant -1‬كاتب وروائي فرن�سي ‪.1893-1850‬‬
‫‪2- L’effaceur (eraser) film d’action de chuck russell sortie en 1996.‬‬

‫‪134‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫مايرام مادام املجانني قد �إ�ست�سلموا لتيههم الأبدي والع�شاق الذين‬


‫تالم�ست �أنوفهم ر�ضوا بال�سرقة اجلميلة التي تع ّر�ضت لها قلوبهم‬
‫يف غفلة تعمدها القدر‪� .‬إ ّال هذا الرجل القادم من رواية بولي�سية‬
‫قدمية والذي قام بتهريب االبت�سامة من الوجوه �إىل وجهة جمهولة‪.‬‬
‫كل الأفكار جت ّمدت واجلد �إنك�سر يف �صدمة غري متوقعة‪ ،‬بهت‬
‫العا�شقون والعابرون والكل تو ّقف لي�شاهد �إمتقاع لون ذلك ال�شاب الذي‬
‫امتلأ حمرة وحياء بعد �أن تلقى �أكرب �إنك�سار �أمام امللأ ب�صفعة من فتاة‬
‫ترتدي لبا�سا �شرعيا‪� ،‬صرخت يف وجهه بكل مامتلك من جر�أة وطاقة‪:‬‬
‫كلب ال حياء لك‪ ،‬تطاردون بنات الرجال‪� ،‬أيّ رجل �أنت‪ .‬جحظت عيونه‬
‫دون �أن ير ّد بكلمة وراح ي�سحب يده �إىل اخللف‪ ،‬يد مرتع�شة فقدت قوتها‬
‫وخارت‪ ،‬مل تكن لها مقدرة على الرد‪ ،‬دمعتان من تلك املتجلببة كانتا‬
‫كافيتني ليلتف حوله الف�ضوليون ويغرقوه يف بحر من ال�شتائم وال ّلعن‪.‬‬
‫ميجد املر�أة بقدر مايك�سرها‪ ،‬ي�ضع لها �أ�صفادا كي‬ ‫جمتمع غريب ِّ‬
‫تندثر ثم يعود ليلملم �إنهيارها‪ ،‬كل املدافعني عنها لو كانوا عليها‬
‫�أ�سيادا لدافعوا عن قهرهم لها‪ ،‬امر�أة تفوقت بالدموع فيا لنزاهة‬
‫هذا التفوق اله�ش‪ ،‬وجه ذلك ال�شاب اجلميل �أ�صبح امل�سكن الأول‬
‫لل�شفقة واملمثل ال�شرعي لله�شا�شة والتحطم‪ ،‬بقدر جماله كان ر ّده‬
‫�سخرت وقتها ل�شرعنة فعلها الذي ال ميثل الأنوثة‬ ‫�أمام الوفود التي ُّ‬
‫يف �شئ‪ ،‬حيث توارى عن الأنظار وهو يردد‪ :‬ح�سبي اهلل ونعم الوكيل‪.‬‬
‫�إن كيدهن لعظيم‪.‬‬
‫ك�سر مميت ومزمن حينما تنه�ش كرامة رجل �أمام العلن‪ ،‬ال�شيء‬
‫يحتوي ذلك االنك�سار �إ ّال �صمت الهوان والتعرث‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫و�صل عبد القدو�س والرجل الغريب �إىل املقهى وحلق بهما مت�أخرا‬
‫بثواين قليلة‪ ،‬جل�سوا حول طاولة م�ستديرة ت�شبه الطاوالت املزيفة‬
‫اخلا�صة بالر�سميني‪ ،‬جاء النادل م�سرعا يوظب الك�ؤو�س‪ ،‬طلبوا منه‬
‫�أ�شياء متفرقة ومل يطلب �أحد لأحد �شيئا‪.‬‬
‫و�صلت الطلبات على وجه من ال�سرعة وبعد ر�شفة قهوة نطق الرجل‬
‫الغريب ب�صوت خ�شن مملوء باجلدية والغ�ضب موجها خطابه لعبد‬
‫القدو�س بنربة م�ستعجلة‪� :‬أنت م�س�ؤول ع ّما حدث و�ستتحمل نتائج‬
‫�أفعالك‪� ،‬سمية فتاة من منبع طيب وال ترتكب هذا ال�سفه �إ ّال بتوريط‬
‫منك‪ ،‬كن رجال وحت ّمل ما �أ�صبت به غريك و�إ ّال ف�أنت تعرف النتائج‪.‬‬
‫‪ّ � -‬أي نتائج �أحتملها عن ذنب مل �أقرتفه‪� ،‬ستدفعون �أنتم ثمن عهرها‬
‫و�سقطكم‪� ،‬أما �أنا فربئ �أمام اهلل و�أمامكم‪.‬‬
‫فظة وقام‬ ‫‪ -‬ح�سنا يا‪� ...‬سرتى‪ .‬وو�ضع الك�أ�س على الطاولة بطريقة ّ‬
‫دون �سالم و�إىل وجهة غري حمددة‪.‬‬
‫تابعه عبد القدو�س بعينيه وهو يغادر �إىل �أن غاب ظله وتوارى عن الأنظار‪.‬‬
‫‪ -‬هل ر�أيت يا �صديقي‪ ،‬ال تلمني و�سوف �أروي لك‪ ،‬هل تعدين بذلك؟‬
‫‪ -‬مال ّذي جرى يا عبد القدو�س‪ ،‬ت ّكلم‪ ،‬من هذا الرجل؟‬
‫‪� -‬إنها بداية �إنهيار الأحالم يا عزيزى‪ ،‬فج�أة وجدت نف�سي يف دوامة‬
‫�سببها امر�أة وثقت بها ح ّد التماهي‪.‬‬
‫هل �سم ّية التي نطق بها الآن هي التي ح ّدثتني عنها وقلت ب�أ ّنها‬
‫�أنثاك التي ال يكررها الزمن و�أنك تود التقدم خلطبتها؟‬

‫‪136‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬نعم‪ ..‬هي‪..‬‬
‫‪ -‬وما ا ّلذي ح�صل؟‬
‫‪ -‬كنت �أواعدها ب�شكل دوري وكنا منار�س احلب كما ميار�سه غري‬
‫املتزوجني �إىل �أن قاطعتني �أ�سبوعا ثم �إتّ�صل بي هذا الأحمق الذي‬
‫مل �أعرف حتى ا�سمه وهو ي ّدعي ب�أنه فرد من �أ�سرتها كما ت ّدعي‬
‫هي ب�أنها قد فقدت عذريتها لكن مل �أفعل ومل �أكن لأفعل ذلك ولو‬
‫علي عر�ضا‪.‬‬ ‫عر�ضت ّ‬
‫‪ -‬وما العمل الآن؟ فعال �إنّ هاته الأمور خطرية وتتطلب تريثا وحكمة‪،‬‬
‫عبد القدو�س كنت عفيفا فكيف وجلت هاته ال�سفاهة‪ ،‬حتى �إين‬
‫ح ّذرتك‪ ،‬لكن تذكر جيدا �أين هنا ويدي هي يدك وال تخ�شى �شيئا‬
‫فرمبا هي مناورات ن�سائية بحتة وتذكر قول «ر�سول حمزتوف»‪� :‬شيئان‬
‫يف الدنيا ي�ستحقان املنازعات الكبرية‪ ،‬وطن حنون وامر�أة رائعة‪.‬‬
‫ي�ضحك عبد القدو�س �أوال ّثم يتبعه بابت�سامة عري�ضة‪ ،‬ه ّون‬
‫املوقف قول ال�شاعر الداغ�ستاين الكبري و�أحالهما على نقا�شات‬
‫�أخرى‪ .‬بعد زوال ال�شك وفهم الأمروتقديره على �أنه جمرد لعبة‬
‫مبلورة من �أجل هدف ما�سيظهر خالل الأيام القادمة وا�ست�شهدا‬
‫بقول اهلل عزوجل‪ُ « :‬ق ْل ُلنْ ُي ِ�صي َب ُنا �إ َّال َما َكت ََب ُ‬
‫اهلل َل َنا هُ َو َم ْو اَل َنا َو َع َلى‬
‫اهلل َف ْل َي َت َو َك ْل المً ُ�ؤ ِْم ًنونْ »(((‪.‬‬
‫ينظ ُر �إىل عبد القدو�س م�ستغربا طي�شه‬ ‫توجها �إىل اجلامعة‪ُ ،‬‬
‫يتهجم عليه الدهر كل مرة وب�أ�شياء عجيبة ت�ض ّيع‬ ‫يف �سن التعقل‪ّ ،‬‬
‫‪ -1‬التوبة (‪.)51‬‬

‫‪137‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫العقل‪� ،‬صدق �إذن موالنا جالل الدين الرومي حينما قال‪ :‬العقل‬
‫والدهاء والذكاء �صناعة �إبلي�س والع�شق ر�أ�س مال �أبينا �آدم‪ .‬يكاد‬
‫ي�س�أله يف كل نظرة عن �سبب هاته الأحداث ثم يرتاجع لكونه ي�شعر‬
‫ب�أنَّ ال�س�ؤال �سينحرف �إىل القدر فهو الأوىل بامل�ساءلة ال املُقدر عليه‬
‫وهذا ماال ي�ست�سيغه‪.‬‬
‫اليوم حتديدا �ستو�ضع للأحالم �أ�س�س جديدة تزيد من ت�شدد‬
‫دوغماتية احلب وتفر�ضه‪ ،‬ورمبا �ستنهار كل تلك ال�صروح لتظهر‬
‫ب�شاعة الوهم القا�سية‪ ،‬اللقاء مع هيام قريب‪� ،‬ساعة �أو �ساعتان ال‬
‫�أكرث ويقف وجها لوجه مع عمره امله ّرب‪ ،‬فماذا �سيقول وما ا ّلذي‬
‫�سيحدث �س�ؤاالن �إمتلأ بهما يف �صمته‪� ،‬صمت ي�شبه �آخر الليل يف‬
‫رهبته و�سكونه‪.‬‬
‫�أمام مر�آة مك�سورة راح يجرب احلركات والأ�صوات �إحتياطا وتدريبا‬
‫فهو مل يخترب يوما احلديث مع امر�أة مت�سك ال�شريان القاعدي لقلبه‪،‬‬
‫ج ّرب كل التوقعات دون �أدنى قناعة‪� ،‬صوت �أورفيو�س((( لن يكفي‬
‫للحديث �إىل هاته املر�أة ال ّلوحة التي مينحك النظر �إليها �إح�سا�سا‬
‫جت�سد الده�شة الق�صوى للفن‬ ‫ب�أ ّنك �أمام لوحة لبرتو�س باولو�س ِّ‬
‫الباروكي الذي يجمع بني العظمة والالواقع‪.‬‬
‫و�صل وقت املواجهة وح ّلت �ساعة الوقوف على احلافة بيدين‬
‫باردتني ال حتمالن �إ ّال كومة من امل�شاعر تراكمت من حلظة الده�شة‬
‫الأوىل‪ ،‬كلما م ّد ب�صره ر�أى طيفها �أمام القاعة رقم ‪ 05‬غادر‬
‫عبد القدو�س كي يرتك له الأفق ك ّله فهو وحيد يف ف�ضاء الإنتظار‬
‫‪ -1‬من الأبطال اخلارقني يف املتولوجية اليونانية‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫واخلوف‪� ،‬إقرتب قليال منها وهي الواقفة ب�أناقتها ال�شاهقة ووحدتها‬


‫واجلمال‪.‬خ�شي �أن تنادي عليه فال �إ�ستعداد‬
‫ّ‬ ‫التي بلورت الهيبة‬
‫له ملواجهة خفقان قلبه �أمامها وربمّ ا تلعثم ل�سانه و�ضياع كالمه‪.‬‬
‫ح�صتها املخيفة وجل�س �آخر ال�صف‪،‬‬ ‫دقائق من الت�أمل ثم دخل �إىل ّ‬
‫مل ي�ستطع رفع عينيه فيها لدقائق �أخرى وحينما ج ّرب ذلك قابلت‬
‫حياءه بابت�سامة جميلة يف حلظة خاطفة حيث �أزاحت بها كل ركام‬
‫اخلوف الذي �أحاطه ج ّراء معارك الأفكار التي غمرته‪� .‬إذن ج ُّل‬
‫هالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مايتوقع ال يقع حكم �سليم �أم ت�سرع بحت‪ ،‬فعال اجلو‬
‫�ساعة ُمتر كب�ضع حلظات‪ ،‬الوقت ي�سرق بع�ضه البع�ض ليعلن‬
‫�إنتهاء احل�صة‪ ،‬يزداد �ضباب اخلوف تكاثفا وك�أنّ املواجهة قدر‬
‫قاهر حيث ال هروب وال �إختيار‪.‬‬
‫نادت عليه‪� ،‬إ�سمه جتاهلته واكتفت بتلويحة مت�أخرة‪ ،‬تق ّدم منها‬
‫وقد نال الإرتباك منه‪ ،‬يف حلظات حاول �إ�ستعادة كل مايحفظ من‬
‫�شعر احلما�س ال �شعر الغزل فال وقت ملغازلتها يف موقف ي�شبه الغزل‬
‫فيه الإنتحار‪.‬‬
‫‪� -‬أهال �أ�ستاذة‪ ،‬كيف حالك؟‬
‫‪� -‬أ�ستاذة؟؟ �أعتقد �أنيّ �صرت �أكرب بقليل‪.‬‬
‫‪ -‬بل بكثري‪.‬‬
‫‪ -‬عجيب؟ ما�سر هذا التميز الذي حق ّقته فيك والذي جعلك تتجر�أ‬
‫على كل القواعد حماوال ك�سر احلواجز بفتح قناة ال �أجد لها مربرا‬
‫وال تف�سريا‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ت�شجع وتق ّنع وراح ي�سحب �سيف الكلمات معتقدا ب�أن هذا احلوار‬ ‫ّ‬
‫لن يتكرر و�أنّ كل ثانية ت�ضيع هي خ�سارة من عمر القلب امل�صاب بها‪.‬‬
‫‪ -‬لي�س متيزا ماحق ّقته بل �إنت�صار على قلب م�شمع بالكربياء‪ ،‬فمذ‬
‫ر�أيتك �إنهارت كل الربوتكوالت و�أ�صبح هذا القلب (ي�ضع يده على‬
‫قلبه) ميدانا لل ّرع�شات والتذبذب‪.‬‬
‫‪ -‬لكن كيف وملا �أنا حتديدا‪� ،‬أن�سيت �أين �أ�ستاذتك؟‬
‫‪ -‬فعال‪ ،‬ن�سيت الأ�ستاذية التي جتمعنا‪ ،‬لكن مل ولن �أن�س �أ ّنك ال�سيدة‬
‫التي جترين �إىل املوت كمدا من فرط ال�شوق والإبتعاد‪.‬‬
‫‪ -‬املوت؟ قد قيل يل ب�أ ّنك كاتب ولديك م�ستقبل يف عامل الإبداع‪،‬‬
‫فابقى بعيدا عن العدم �أخ�شى عليك من الذي «حدث لت�شارلز‬
‫ديكنز» الذي ترك رواية «لغز دوين درود» وحيدة يف بردها ومات‬
‫عنها وحربها مل ّ‬
‫يجف بعد‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أخ�شى املوت‪ ،‬كل ما �أخ�شاه هو �أن �أبقى قيد املوت و�أنت ت�سرقني‬
‫احلقيقة باالبتعاد‪.‬‬
‫يدور احلديث بينهما بكل الإنفعال والده�شة والأعني تتناف�س يف‬
‫�إطالة النظر وك�أنّ املوقف مدبر فرمبا هو من ترتيب ال�صدفة �أو‬
‫عطل �أحالمه لأكرث من مرة‪.‬‬ ‫القدر البطئ الذي ّ‬
‫قامت هيام من مكانها‪ ،‬مل تكن بحاجة �إىل مراجعة �أناقتها‬
‫فده�شته كانت كافية لأن متنحها عمرا �آخر من الثقة بالنف�س والتي‬
‫قد ت�صل �إىل غرور جارف يحملها على جتاهل الكون مبا فيه‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�سارت و�إياه يف املمر الهادئ الذي يف�ضي �إىل دهليز كبري يقاوم‬
‫الإنهيار‪ ،‬كانت اخلطوات بطيئة والكالم مقت�ضب وكل اجلماد‬
‫من�صت �إىل دق القلوب املت�سارعة‪ ،‬هو يعلم جيدا �أنّ خروجه معها‬
‫�إىل فناء الكلية �سيفتح جماال �ضخما للأ�سئلة الباهتة خ�صو�صا و�أنّ‬
‫�صوت مليكة منت�شر بكل قواه‪.‬‬
‫�إذن مل يبق �إ ّال �إ�ستيقافها خلف البوابة الكبرية التي ت�شبه حلمه‬
‫الكبري وه�شا�شته‪.‬‬
‫‪� -‬إذن هيام‪ :‬لن �أوا�صل متثيل دور الأخر�س �أمام م�شاهد تتطلب‬
‫دواوينا من الكالم‪ ..‬لن‪..‬‬
‫‪ -‬وتتج ّر�أ وتناديني با�سمي يالك من‪...‬‬
‫‪ -‬حينما �أقول �أ�ستاذة �أ�شعر ب�أين �أغت�صب �أنوثتك فمالحمك ال يليق‬
‫بها �إ ّال �إ�سمك الطازج الذي يتجدد بريقه يف كل نظرة �إليك‪� ،‬إ�سمك‬
‫�أكرب من كل �شيء وهذا عذر كايف لإ�سقاط كل الألقاب الأكادميية‬
‫التي ال تعني للحب �شيئا‪.‬‬
‫‪ -‬كفاك غرورا وتنميقا‪ ،‬مالحمك وكالمك يظهر اخللفية ال�سيكوباتية‬
‫التى تتحدث منها وهذا الدور ال يليق بك وال بي �أي�ضا‪.‬‬
‫‪ -‬لك ـ ــن‪...‬‬
‫قل َّلت من �إنفتاح مقلتيها بحركة تدل على �سذاجة الطرق التي‬
‫يحاول �إقناعها بها لكن حبه لها كان �أكرب بكثري من ال�سذاجة و�أعمق‬
‫بقليل من لون عينيها ال ّداكن‪ ،‬غادرت دون وداع‪ ،‬تر�سم الكربياء‬

‫‪141‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫بخطوات مت�سارعة‪ ،‬تركته وحيدا ي�صارع اللوم عن جر�أة حتلى بها‬


‫يف �أكرب اللحظات خوفا وروعة‪.‬‬
‫غادرت وتوارت بطريقة �سينمائية وال ّلحاق بها جمازفة عظيمة‬
‫فهي �أ�ستاذة مهما متادى احلب وتلك احل�شود هم الطلبة‪ ،‬فيهم‬
‫الف�ضول مهما �إرتفع �سقف احل�ضارة‪ ،‬ب�أ�سلوب كايت وين�سلت يف فيلم‬
‫التيتانيك ال�شهري الذي �أ�سال دموع املاليني دون �أن يدروا ب�أن امل�شاهد‬
‫الأكرث درامية وجنونا كانت يف حو�ض من �أمتار قليلة فال بحر وال‬
‫�إنك�سار‪ ،‬فكل �شيء مده�ش �أمام هذا الفن الذي �أخذ منحى ت�صاعدي‬
‫منذ لوي�س لومبري وجورج مبلي�س �إىل جامي�س كامرون وغريه‪.‬‬
‫فاج�أه دخول نارميان �إىل الكلية يف وقت كان ح�ضورها غري متوقع‪،‬‬
‫كان بحاجة �إىل البوح لكن � ُّأي بوح وملن هذا ال�سر يقال‪ ،‬نارميان‬
‫التي ك�سرت ال�صمت كله مل تعد احللوة التي جتيد اال�ستماع والعبث‬
‫و�ض ّيعت فل�سفة �إعتبار احلدث بالالحدث حينما �ص ّبت �إهتمامها‬
‫عليه والذي �صار غ�ضبا وهبال �أنثويا جارفا‪.‬‬
‫عاد �إىل البيت بعد خروج �سري من اجلامعة‪ ،‬ال�شيء يبعث‬
‫بالراحة وكل الأحداث اجلميلة ع ّكرتها النهاية الباهتة التي �ش ّوهت‬
‫عظمة الكربياء‪ ،‬كربياء احلب واملواجهة املمزوج ببالهة العاطفة‬
‫املحتلة من امر�أة ال تعرف ح ّدا للتوقف فيه‪.‬‬
‫�سيعود‪.‬عزمية اخرى �ستقود جنونه �إىل توغل �آخر‪ ،‬لن ي�ست�سلم‬
‫�أبدا وهو امل�شع بها واملن�صهر يف حقيقتها الآ�سنة‪ ،‬قلبه املط ّرز‬
‫ب�أنوثتها مل يعد ميلك حيزا للتفكري �أو ف�سحة ملمار�سة احلرية‪ ،‬كل‬
‫�شيء يقوده نحوها‪ ،‬نحو نهاية غري وا�ضحة املعامل يف معركة متجددة‬

‫‪142‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫الوقائع ومتكاملة الأحداث مملوءة باحلرارة والربودة’املت�ضادان‬


‫اللذان ي�سببان ال�سهاد والوجع‪.‬‬
‫والده منزوي يف �أق�صى الزوايا بعدا‪ ،‬ميار�س �إنك�سار ال�شيخوخة‬
‫وخرفها املقلق‪ ،‬ال �شيء يعنيه �سوى ال�صالة والت�سبيح و�شيء من‬
‫ال�سيا�سة الدريئة التي �أ�شبعها احلكام العرب بالدناءة والتفاهة‪.‬‬
‫واقع منهار �أمام �شعوب حاملة‪ ،‬اخلراب ع ّمر بالد ال�شام ونال من‬
‫مه�شمة وحا�ضر على الهام�ش وتاريخ م�ضمخ‬ ‫احل�ضارة الب�ؤ�س‪ ،‬نخوة ّ‬
‫بالعار ال ي�ستحق الكتابة‪.‬الدماء والدموع �أحرقت كل �شيء و�أ�صبح‬
‫العويل يغطي ال�سماء يف بالد اجلمال‪ .‬حجم الركام االن�ساين‪ ،‬حجم‬
‫املوت يف زمن ه�ش‪� ،‬أ�صبح يناف�س الأنقا�ض تعددا و�سقوطا‪.‬‬
‫حينما �إقرتب من والده‪ ،‬مل يكن ذلك النكد املر�سوم على وجهه‬
‫قابال لل�سرت �أو الإدعاء ب�أن ال �شيء جعل مالحمه مرهقة‪ ،‬نظر والده‬
‫مطوال يف عينيه ثم م ّد يده نحو فرا�ش مزرك�ش كان بالقرب منه‬
‫ف�سواه ودعاه �إىل اجللو�س‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي يحدث معك ولدي؟ ل�ست بخري ال تنكر ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ال �شيء �أبي بع�ض التعب والورتني ال �أكرث وال �أقل‪.‬‬
‫‪ -‬يبدوا �أ ّنك تخفي الكثري‪� ،‬إجعل اهلل يف قلبك ولن يخذلك‪.‬‬
‫‪ -‬معك حق �أبي ‪�-‬سبحانه‪.-‬‬
‫تخ�سر مالك و�إذا نكروك ر ّيح وارتاح(((‪.‬‬
‫‪� -‬إذا ح ّبوك ال ّ‬
‫‪� -1‬إذا وقعت الن�ساء يف حبك‪ ،‬ال تبذر �أموالك و�إذا مل تفلح يف دخول قلوبهنّ‬
‫فارحت‪ :‬مثل يدعوا �إىل عدم االحلاح مع املر�أة حينما ترف�ض رجال ما‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫وجهه والده �إليه وهو يف عمر احلكمة‬ ‫فهم التلميح الأ�صيل الذي ّ‬
‫والن�سيان‪� ،‬إبت�سم وغادر جمل�سه بكل ثقة ووقار‪ ،‬جل�س يف غرفة‬
‫ق�ص ّية وراح ي�ستعيد ذلك الكالم امل�صقول‪� ،‬صعب �أن ت�ستنبط‬
‫الق�صد الدقيق من �أفواه الكبار‪ ،‬كل الكالم م�شفر وج ّل الر�سائل‬
‫احلكم‪ ،‬رحم اهلل �سيدي‬ ‫على قدر من العمق‪� ،‬أ ّبا عن جد ُتتوارث ِ‬
‫عبد الرحمان املجذوب ال�صويف الذي ترك للأجيال ما حتتكم به‬
‫وت�ستدل ب�ضيائه‪ ،‬كم كان كالمه مندفعا نحو ال�سالم ومالم�سا‬
‫ليوميات الإن�سان ال�ساعي للكمال الأخالقي واملمار�سة الإجتماعية‬
‫ور�سخ يف خواطر الباحثني عن احلكمة‬ ‫ال�سو ّية ومن �أجمل ماترك ّ‬
‫تلك الق�صيدة اجلميلة التي جاء فيها‪:‬‬
‫يحة‬ ‫�صح َ‬‫َال ت َْ�س َر ْح َحتَى ت َل َج ْم َو ْاع َق ْد ُعق َْدة ِ‬
‫يحة‬ ‫تخ َم ْم َال ت ُع ْود َعليك ْف ِ�ض َ‬ ‫َال تت َك َل ْم َحتَى َ‬
‫حلوت ُي ُع ْوم ف ُو ْق ا َملاء وهُ َوم بلاَ َماء ي ُعو ُموا‬ ‫ا ُ‬
‫وق ُم ْط َيا ْر َيا َد ْاخل ُر ْد َبا َل ْك‬ ‫الن�ساء ُ�س ْ‬
‫ُ�سوق َ‬
‫ا�س َما َل ْك‬
‫وك فيِ َر ْ‬ ‫ي َو ِر ْو َل ْك من ال ْر ْب ْح ُق ْن َطا ْر ْو ْي َخ ْ�س ُر ْ‬
‫اب ع َّي َط ْو ُكونْ َف َاه ْم‬ ‫َياليِ ْت َع َي ْط ُق َد ْام ال َب ْ‬
‫والد َر َاه ْم‬
‫الن�سا ْء ْ‬ ‫اب ِغ ْري َ‬ ‫َما ْي َف َ�س ْد ِب ْني ال ْأح َب ْ‬
‫ال�ش ْك ْر َديمْ َ ة‬ ‫َف َاع ْل ِ‬
‫اخل ْري َه ِني ْه َبال َف ْر ْح َو ُ‬
‫ال�ش ْر َخ ِلي ْه َف ْع َله َي ْر َج ْع َله َغ ِر َمية‬
‫و َف َاع ْل َ‬

‫‪144‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫الوالد ال�ش ّيخ يتحدث من خلفية بائدة‪ ،‬ق�ضى زمانها يوم كان‬
‫الرجال ي�سرفون يف �صرف املال على ن�ساء قد يولني الإهتمام وقد ال‬
‫يفعلن‪� ،‬أما الآن فالأمور �أ�صبحت ن�سبية وبع�ض ال�ساعيات �إىل زواج‬
‫خمتل يق ّدمن كل الغايل لرجل قد يويف بوعوده الكثرية وقد ال يويف‬
‫فيرتك خلفه حرائق اجليب والقلب‪.‬‬
‫مل تكن حكمة الوالد تنطبق على ماحدث ويحدث من �إرجتاجات‬
‫بينه وبني هيام‪ ،‬فلو �أح ّبته لن يفكر يف املال فالقلب املرتع�ش �سيمنحها‬
‫احلياة كلها و�إذا �أنكرت حبه فال راحة له �أمام عظمة امل�ش ّقة التي‬
‫خ�ضم ال�ضجيج العايل الذي �سكنه من‬ ‫ل ّفته مذ �إحتمل ال�صمت يف ّ‬
‫فرط ت�صارع الأفكار العا�شقة‪.‬‬
‫بزغ فجر جديد بعد ليلة �شا ّقة تزاحمت فيها �أ�شباح الإنتكا�س‬
‫على فرا�شه‪ ،‬غادر البيت متّجها �إىل اجلامعة‪ ،‬مل يعد له من الأمل‬
‫مايكفي جلعله يدخل �أبواب الكلية بربيق الع�شق املنتظر فكل �شيء‬
‫م�ؤجل �إىل جنون �آخر �أو �صدفة جميلة قد تغيرّ املوازين‪.‬‬
‫�شاع يف ذلك ال�صباح خرب قا�سي وم�ؤ�سف جاء فيه �أن فتاة‬
‫برمي نف�سها من الطابق اخلام�س‪ ،‬مت ّلك البنات الف�ضول‬ ‫�إنتحرت ِّ‬
‫و�شرعن يف �صياغة الأحاديث والأكاذيب‪ .‬تنطق الأوىل فتقول ب�أنّ‬
‫حبيبها الغايل قد خانها و�أنّ هذا �سبب كايف لركوب املوت‪ ،‬تقاطعها‬
‫لف حولها ك ّل النظرات‪ :‬اخليانة ال جتر �إىل‬ ‫الأخرى ب�صوت �أعلى ّ‬
‫الإنتحار‪� ،‬أكيد قد تز ّوج عليها �أخرى فهي متزوجة منذ �سنتني‪.‬‬
‫تنفجر يف وجهها وبكل قوة �صاحبة الأرداف الثقيلة‪ :‬لي�ست متزوجة‬
‫وال �سبب يدعوا للإنتحار �أكرب من فقدان البكارة الثمينة‪� ،‬إ ّنها دليل‬

‫‪145‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫الع ّفة وفقدانها يفر�ض املوت‪� .‬صمنت جميعا �أمام الفكرة اجلريئة‪،‬‬
‫كل الآراء جت ّمدت �أمام قبح التخمني وبالهته‪ .‬ثبت فيما بعد �أن‬
‫البنت مل تنتحر �إنمّ ا �سقطت غفلة و�سهوا حينما تنا�ست عمرها وهي‬
‫تلقي مب�ؤخرتها على حافة النافذة لتجد نف�سها �أو ليجدوها يف بركة‬
‫تقطعت لثواين ثم �إنك�سرت �إىل الأبد‪.‬‬ ‫من املوت ب�أنفا�س ّ‬
‫كل التحاليل �سقطت حتى الإمام تراجع عن قراره الظامل بعد‬
‫�أن كاد ال ي�صلي عليها‪ ،‬ماتت ب�شغبها وبعذريتها كذلك التي �ش ّككت‬
‫فيها بل �أ�سقطتها �إحدى املت�شدقات‪ .‬لي�س مهما �أن متوت ويف جوفها‬
‫غ�شاء تافه بعد �أن �شهدت الن�ساء كما الرجال على ف�سقها قد يقول‬
‫الأكرمون �أن لها �أ�سبابها وقد يقول املتع�صبون �أنها عاهرة وعلى‬
‫اهلل ح�سابها وبني القائلني الأ ّولني والآخرين جدار احلرية في�صل‬
‫وح�ساب اهلل وعقابه مع�س ّر وم ّي�سر‪.‬‬
‫الأجواء ملب ّدة‪ ،‬الروتني د ّثر العقول والقلوب‪ ،‬الإنبهار �أحاط‬
‫الأفئدة‪ ،‬كل �شيء يف غري حمله‪ ،‬واقع بدون �إعراب «ال �أحد ميلك‬
‫�أحد �إذن ال �أحد يفقد �أحد» �صدقت يا باولو كويلو‪ .‬جل�س على مقعد‬
‫مهرتئ ووا�صل حمدثا نف�سه‪ :‬هيام لي�ست يل �أعلم‪ ،‬مل �أك�سبها‬
‫لأفقدها ثم ال �أحد ميلك �أحد �إذن مل ولن‪ ،‬لكن �إذا فقدت نف�سي‬
‫�أمامها هل من خطر؟ يت�ساءل بعمق‪ ،‬ي�صاب ب�شدوه ثم يعود‪ :‬فقدتها‬
‫و�إنتهى‪ ،‬يف جتديد الفقدان �أمل يف الك�سب‪ ،‬ال لي�س ك�سبا‪ ،‬حظ ال‬
‫لي�س حظا‪ ،‬اللعنة‪..‬‬
‫وعجل‬
‫�إنقطعت اجلعجعة‪� ،‬أمطار قدمت ورذاذها حجب احلب ّ‬
‫بالتفكري يف الهرب من برودته �إىل �أقرب مكان والإكتفاء بالنظر‬

‫‪146‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إليه‪ ،‬كل جميل مباغت وخميف فبني املطر وهيام �شراكة البغتة‬
‫والده�شة وقد تتحول هاته الأ�شياء باندفاعها �إىل �صدمة‪.‬‬
‫املطر يزداد غزارة والر ّياح توجهه نحو �أماكن االختباء‪ ،‬يبحث‬
‫الذي‬
‫عنه املطر وك�أن �أ�سرارا بينهما‪ ،‬رمبا �سر البحث عن االرتواء ّ‬
‫ظ ّل معلقا على حواف ال�شفة ال�سفلى لهيام‪.‬‬
‫اجلن�س يتحكم يف الطق�س وت�ساقط الأمطار‪ ،‬ماذا لو �صدّقنا هذا‬
‫الغباء‪ ،‬كنا منلك حولك �أوهاما �صغرية يا فيلهلم راي�ش((( لكن اليوم‬
‫وهمنا كبري وكبري جدا بحجم ال�سماء‪.‬تتحكم الأمطار يف ال�شهوة‪،‬‬
‫فكرة م�ست�ساغة فالقلب يعط�ش يف ليايل ال�شتاء وال�شتاء يعطي وي�ضفي‬
‫على الن�شوة بريقا فال ت�سلم نف�س وال طرف من االحتواء والإحرتاق‬
‫لكن ال�شهوة تتحكم يف املطر ال ل�سنا �أكادميني لنعجز عن القول بفم‬
‫ملئ قد كذبت يا �سيدي‪ ،‬لو كان لها ت�صرف ويد لر ّكزت على ر�ؤو�سنا‬
‫القيظ فيزهر �سم احلمار فتتحقق نب�ؤة العامة وحترتق الن�ساء‪.‬‬
‫قطع الفناء الرحب مهروال‪ ،‬اخلطوة الأخرية كانت خطرة‪ ،‬كاد‬
‫يهوي يف بركة ماء لوال تلك الأعني املنت�شرة املنتظرة التي م ّكنته من‬
‫الإمتناع عن ال�سقوط بع�سر‪ .‬يتقاطر ماء‪� ،‬شعر مبلل وج�سد مرتع�ش‬
‫ما العمل؟ كطائر جريح يف ُّر �إىل �أ ّول وكر دافئ‪ ،‬جل�أ �إىل حجرة بها‬
‫مدف�أة �شبه باردة لكن برودتها �أقل بقليل من الطق�س لذا فاللجوء‬
‫�إليها م�شروع‪.‬‬
‫دخلت مليكة خلفه حتمل هموم الدنيا وقهرها‪ ،‬فال ّنكد �أ�صبح‬
‫زوجها الذي ال يفارقها مذ ك�سر الفقر �أحالمها‪ .‬راحت تخا�صره‬
‫‪ -1‬عامل اجتماع وباحث جن�س من�ساوي ‪.1957- 1897‬‬

‫‪147‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ب�شكل �آ�سر‪ ،‬يحم ّر وي�ص ّفر لكنه ي�صمت‪� ،‬صمت اللذة والالفهم‬
‫يطوقه‪ ،‬ينظر �إليها با�ستف�سار فال تفهم وال ت ّدعي الفهم‪ ،‬ثم �ساد‬
‫�صوت الإرتعا�ش الذي و�صل �أق�صاه‪.‬‬
‫مليكة رجل مل تكتب له الذكورة‪ ،‬لكنها رجل ورمبا �أنثى متعددة‪،‬‬
‫ال و�صف‪ .‬تبكي لتوافه الأمور وتثور �أي�ضا‪� ،‬إذا �أدمعت تن�سيك ب�ؤ�سك‬
‫كي تلتّف حول ب�ؤ�سها وتعتقد �أ ّنها اجلريحة الوحيدة يف هذا العامل‬
‫امللئ باجلرحى واملك�سورين و�إن ثارت ب�سقطها وفمها امل�ش�ؤوم ُتذهب‬
‫عنك القول ب�أنها امر�أة‪.‬‬
‫مل تلتق منذ �أ�صبحت ناهدة برجل كباقي الرجال ومل تعرف‬
‫من احلب �إ ّال التفا�صيل اخلطرية التي تف�ضي بها �إىل �أكرث البنات‬
‫كفرا بال�سر وال�سرت فت�صبح حكاية لل�ضائقني دون �أن تعرف‪ .‬ك ّلهم‬
‫دجنوانيون((( يلهثون خلف خا�صرتها يف حني تلهث هي خلف قلب‬
‫ممتلئ بال�شعاع والنور وحني متد يدها لذلك ال�ضوء الباهر تكت�شف‬
‫�أنه �شعاع كباقي الأ�شعة لكن ال جوهر له‪.‬‬
‫تعادلت دموعها ب�صالتها وح�سرتها لكن مل تكن تبكي ككل‬
‫الباكني على املغفرة ومل تطلب ال�صفح ومل ترجوا اهلل ككل الراجني‬
‫بل كانت تطلب �إ�ستقامة حظها الذي ك ّر�ست له و�صف «اللعني» كي‬
‫مينحها هذا احلظ و�صفة ت ّدك بها قلبا فتمتلكه وتكون من الناجني‬
‫الذين ماغرقوا حني تق ّلبت �أمواج العمر وعلت بال يد مباركة ت�سحب‬
‫ذلك العمر الهارب نحو بر فيه الأمان وال�سالم‪.‬‬

‫‪ -1‬من الدجنوانية وهي ال�شخ�صية التي حترتف اغواء الن�ساء وا�ستمالتهن �إىل الهوى‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫حتدّثا بنف�سية باردة كاجلو الذي �سرق الإبت�سامة فال الربيع ح ّل‬
‫وال ال�شتاء �إرحتل والغيم طال �أمده وك�أنّ ال�سماء غا�ضبة‪ ،‬حديث‬
‫متقطع‪ ،‬كالم متكا�سل‪ ،‬جمرد هروب من ال�صمت امل�ستفز وال �شيء‬
‫ي�ستحق الإعجاب‪ ،‬ن�صف �ساعة من احل�ضور الباهت قطعها نداء العون‬
‫الإداري الذي ت�ش ّبع مذ ّلة و�شيتة((( و�أ�صبح خادما لكل خمدوم وال تربير‬
‫ال�سعي �إىل ك�سب ود م�س�ؤوليه الذي ال ي�سمن وال يغني من جوع‪.‬‬‫له �سوى ّ‬
‫‪ -‬الأ�ستاذة «بو�صوف» تناديك‪ ،‬تنتظرك يف قاعة الأ�ساتذة‪.‬‬
‫نظر اليه مطوال‪.‬بو�صوف؟؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬تطلبك وهي تنتظرك يف قاعة الأ�ساتذة‪.‬‬
‫�أبله و�أحمق ليتك مانطقت بهذا �أمام مليكة (قالها بينه وبني‬
‫نف�سه) ح�سنا �أنا قادم‪ ،‬مليكة نلتقي الحقا عزيزتي‪.‬‬
‫‪� -‬إذهب مع ال�سالمة واحذر �أن تخطئ‪.‬‬
‫‪ُّ � -‬أي خط�أ‪ ..‬جمنونة‪.‬‬
‫د ّقتان على الباب‪ ،‬فتحه‪ ،‬وجدها مبت�سمة تعبث بحبات من‬
‫رحبت به‬‫الفول ال�سوداين وقلم �أحمر يالم�س ال�شفة ال�سفلى منها‪ّ .‬‬
‫خمت�صرة ودعته �إىل اجللو�س‪.‬‬
‫راح يدقق يف �سحرها‪ ،‬ال�شئ ي�شبه باقي املوجودات يف الدنيا‬
‫ال�شا�سعة‪� ،‬شاخمة و�سامقة يف رحاب الفتنة وال�سحر‪ ،‬حفنة من‬
‫‪ -1‬م�صطلح يطلق يف اجلزائر على كل من يقدم خدمات �إ�ضافية وجمانية‬
‫ل�شخ�ص ما من �أجل ك�سب وده ويو�صف به ب�شكل �أكرب من يفعل ذلك مع امل�س�ؤولني‬
‫و�أ�صحاب ال�سلطة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ال�ضوء ال �أقل تدعوه يف كل حركة �إىل الإنبهار بها �أكرث‪ ،‬هي ال‬
‫تت�شابه مع الأنوثة ورمبا هي الأنوثة مادامت كل تفا�صيلها خارجة‬
‫عن العادي وكل مقوماتها ثائرة و�إىل الأبد عن امل�ألوف‪.‬‬
‫يف �شدوهه الرقيق تذ ّكر �إيدوارد جيبون((( وهو يرفع على ركبتيه‬
‫وي�ست�سمح فتاة يف ت�أدية حتية عبادية طقو�سية جلمالها الذي د ّوخه‬
‫وهو يف �سن الهرم‪ ،‬فكيف التعامل وما الواجب �أمام الإنكار العظيم‬
‫حلوا�سه و�شهادتها ب�أنّ كل الذي �أمامها �آية و�إعجاز يف فن اخللق‪.‬‬
‫‪ -‬كيف حالك‪ ،‬هل �أنت بخري؟‬
‫‪ -‬ب�أح�سن حال‪� ،‬شكرا‪..‬‬
‫‪ -‬هيام‪ ،‬قلها وال حاجز‪.‬‬
‫‪� -‬شكرا لك‪ ،‬هذا من كرمك‪.‬‬
‫‪ -‬يف حديثنا ال�سابق‪ ،‬مددت يدك فاحتا نحو طابو جديد وجت ّر�أت‬
‫على القول ب�أنّ لك م�شاعرا �إجتاهي بل وغازلتني‪ .‬قد علِمتُ من‬
‫قبل �أن ك�سر الطابوهات عادتك بداية من كتابك «عا�صفة العاطفة»‬
‫الذي �سيطرت لغة اجل�سد و�أحاديث الأفر�شة على �صفحاته و�صوال‬
‫ىل‪ .‬ما ا ّلذي تعتقده يا �أمري ال�شعراء وكا ِتب ال ُك َتّاب‪� .‬أال تفكر ب�أنك‬
‫�إ ّ‬
‫قد جتر علينا الويالت ب�سبب هذا التهور والتطاول‪.‬‬
‫ب�أعني متعبة و�أنفا�س خمتنقة‪ ،‬راح يحدق فيها تارة وينظر �إىل‬
‫و�سط القاعة تارة �أخرى و�إىل عمود مهرتئ و�إىل زوايا �إمتلأت‬
‫بالأ�شياء القدمية التي ت�شبه الأنقا�ض �إىل ح ّد بعيد‪� .‬إ�سرت�سلت حلد‬
‫‪ Edward giffon -1‬م�ؤرخ �إجنليزي ‪.1794-1737‬‬

‫‪150‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫كبري و�أحاطت مبا يحتاج �إىل الكالم ومبا ال يحتاج ومل تتوقف عن‬
‫ر�ش قلبه بالنار واحلجارة �إ ّال حينما عاد �إىل حمياها ممتلء الأعني‬
‫ومنك�سر النظرات‪.‬‬
‫‪� -‬أجبني مل ال�صمت؟‬
‫‪� -‬إذا بدالك عن غفلة �أنّ �صراحتي واندفاعي نحوك ك�سر لطابوه فيجب‬
‫�أن توقني عن �صدق وحقيقة �أن ردم احلب وتدثريه باخلوف والرعب هو‬
‫الطابو الذي يحتاج �إىل الك�سر‪ ،‬مل �أطلب منك �إحت�ضاين ومل �أطلب‬
‫منك القول ب�أنني املهدي املنتظر‪� .‬أحبك وهذا كل مايف الأمر‪ ،‬يدي‬
‫التي امتدّت �إليك بكل �شوق ماكانت لتحمل �إليك اخلداع فهي بي�ضاء‬
‫كالقلب الذي امنحى من تتايل اله ّزات وال�ضربات املوجعة �إين‪...‬‬
‫‪� -‬س�أقول لك‪..‬‬
‫الدهر‬
‫تقول �شيئا لأنّ الكالم الذي يفور بداخلي لن يكفيه ّ‬ ‫‪ -‬لن ِ‬
‫للخروج من النور �إىل الهالمية التي غ َمرتني بها‪� ،‬أمل جت ِّربي يوما‬
‫فتح �أبواب قلبك لل�ضياء‪� ،‬أال تعرفني معنى �أن مي ّد �إن�سان طول قدميه‬
‫ل�شيء فال يح�صل عليه وفوق ذلك ي�سقط وفوق ال�سقوط يعجز عن‬
‫النهو�ض لأنّ الإنهيار كان عظيما جدا‪.‬‬
‫�ص َمتَ ومل ت�ص ُمت نظراته الثاقبة التي تغطي �ضجيجا �ضخما‪ ،‬مل تتكلم‬
‫وظ ّلت تنظر �إليه بحاجب دقيق يعتلي على الآخر‪� .‬أطلق نف�سا عميقا ووا�صل‪:‬‬
‫‪ -‬احلب حكيم والكراهية حمقاء هذا ماجاء به برتراند را�سل‪ ،‬ملا‬
‫نربتك كانت حا ّدة ملاذا جعلتني �أ�شعر بحقد وا�ستفزاز و�أنا الذي مل‬
‫�أقدم لك �سوى الورود والأزهار امل�سقية ب�سيل ال�سهر والتفكري ملا؟‬

‫‪151‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬يبدوا �أ ّنك حتا�ضرين‪� ،‬أو تعتقد �أين �أع�شق الورديات والغراميات‬


‫الباهتة‪ ،‬مثقف ح�سنا‪ ،‬هل تعرف قول كونف�شيو�س عن العزمية‪� .‬أكيد ال‪،‬‬
‫وم�صر وعازم لكن العزمية بدون معرفة هي ظالل الفو�ضى‪.‬‬ ‫�أنت مندفع ّ‬
‫�أمل تقل يف كتاب عا�صفة العاطفة �أن احلب يجعلك تقدم لنف�سك‬
‫احلجج والرباهني املقنعة وغري املقنعة التي تخدم ماميليه عليك‬
‫قلبك املتميم‪� .‬إذن ها �أنت تقدم �أ�شياء فو�ضوية‪ ،‬عنرتيات بالية‪.‬‬
‫تطلب امل�ستحيل‪ .‬بائ�س �أن يورطك كتابك فيما ال ت�شتهيه‪.‬‬
‫ا�ستهرتت وقلت ب�أن هذا الكتاب �سينام يف �صدور الن�ساء قد‬
‫علي ماجلب (بينه وبني نف�سه)‪.‬‬ ‫حتققّ �إ�ستهتاري وجلب َّ‬
‫‪� -‬أنا ال �أحا�ضرك‪ ،‬خطاب املثقف �أ�صبح غريبا وا�ستثنائيا وحني‬
‫�ص ّرح عدنان ابراهيم قائال ب�أنّ ناقدتنا قد اغتيلت مل ُيخطئ‪ .‬املر�أة‬
‫جتد ر�سالتها ودعوتها الأ�سمى يف �أن تهب نف�سها للرجل الذي تبحث‬
‫فيه عن اهلل حيث يختلط احلب االلهي والب�شري والذي هو لي�س‬
‫فقط �إعالء للحب الب�شري بل هو حتريك جزء حقيقي نحو املطلق‪.‬‬
‫هكذا حت ّدثت �سيمون دي يفوار‪� .‬أعتذر‪..‬‬
‫لدي ما �أقوله لك‪..‬‬
‫‪ -‬انتظر َّ‬
‫خرج دون انتظار حلديث �سيخرج عن ذائقته و�إعجابه‪ ،‬مل تلحق به‬
‫واكتفت بالوقوف‪� .‬أ ّما هو فهرول يف الدهليز خ�شية �أن تخرج وراءه �أو‬
‫ت�ستوقفه وهذا ماال ي�ستطيع ردّه‪ .‬ر�أى �أن احلديقة هي املكان الوحيد الذي‬
‫تغطى بالأ�شجار هو الأن�سب‬‫قد يحتوي �إنطفاءه املفاجئ وب�أنّ املقعد الذي ّ‬
‫لتخفيف حدّة الرع�شة التي �أ�صيب بها يف �أكرث اللحظات جماال وهبال‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫جل�س منك�سرا يذم قلبه الذي رمى به يف �شعاع م�صدره حمرق �أال‬
‫وهو النار‪ ،‬نار متوهجة هاته املر�أة ال�ساحرة التي ال يعرف كربيا�ؤها‬
‫ال�سكون وال الإ�ستقرار‪ ،‬مل يجد �صوته ف�سحة لينادي ب�أعلى طبقة �أ ّنه‬
‫متعب و�أ ّنها قد �أرهقت قلبه الذي طال �إنتظاره على حافة الهاوية‪.‬‬
‫غمام اخلوف كان �أكرب من م�ساحة الفرح و� ّأي �إعالن خاطئ عن‬
‫هذا احلب �سيكون بال �شك ال�سقوط احلر يف فجوات الأمل والوراثة‬
‫الفعلية للخيبة والوجع‪.‬‬
‫لف املكان وم�شاعر التيه والوحدة طغت‪.‬‬ ‫جربوت ال�صمت ّ‬
‫�إن�سحبت طفولة ذلك القلب الذي طاملا جتاهل نور احلب وحاول‬
‫تفاديه وكرب فج�أة ليجد نف�سه مليئا وحماطا بالبيا�ض وال�سواد يف‬
‫�أكرث اللحظات حميمية‪.‬‬
‫م�سه منذ عرف تاريخه‪ ،‬كم‬ ‫كل الأوهام تعانقه يف �أكرب �شدوه ّ‬
‫ته ّرب ال�صرب منه وهو يجري من خلفه وينادي‪ :‬تعال‪ ،‬تعال �أ ّيها‬
‫ال�صرب وعانقني كي يوقف القلب بكاءه ولو قليال‪.‬‬
‫ما �أو�سع الف�ضاء بوجعه الرهيب حني ينفتح �أمام القلوب البائ�سة‪،‬‬
‫ع�سري ت�صحر امل�شاعر التي كانت تنتظر �أن تخ�ض ّر‪ .‬ال جدوى من ركوع‬
‫القلب فلن يحاول �أحد رفعه من ذلك الركوع الذي قد يكون الأخري‬
‫و�آخرة القلب هي ال�صمت كمدا وحتمل الإنهيار بدون �صوت مزلزل‪.‬‬
‫ل�ست وحيدا ياولدي‪ ،‬هكذا قالت تلك العجوز العابرة ككل‬
‫العابرين الذين مل يتلقوا وخزة من قلوبهم ت�شري �إىل وجود رجل‬
‫ينتظر �أذنا ت�سمع عويل الف�ؤاد يف �صحراء هيام‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫جل�ست جامعة لأثوابها التي ال يزال عبق الثورة عالقا بها‪.‬‬


‫جميالت تلك الن�سوة بطهر قلوبهن وطيبتهن ح ّد ال�سذاجة‪.‬‬
‫ح ّدقت يف عينيه مطوال ولعنت الدنيا و�أ�ضافت �إليها فرن�سا نكاية‬
‫وفخرا فال تزال الرغبة حارقة يف �سب اال�ستعمار الذي �سرق‬
‫�شباب جيل عا�ش ن�صف عمره اجلميل يف الظالم ون�صفه املنك�سر‬
‫يف ال�ضوء فارت�سمت على مالمح جل �أفراده معامل التعب وجتاعيد‬
‫الزمن املر‪.‬‬
‫�إبت�سم م ّد يده �إىل حمفظته باحثا عن �شيء‪ ،‬قارورة م�سك طال‬
‫تخزينها وما �أكرث العطور املخزنة‪� .‬أم�سك يد املر�أة الط ّيبة وقال‪:‬‬
‫تعطري بها عند كل �صالة فريح امل�سك ط ّيب ك�أيامكم‬ ‫هي لك يا يمّ ا ّ‬
‫اجلميلة التي �سمعنا عنها الكثري‪.‬‬
‫‪ -‬ياااه ياوليدي‪ ،‬كان الراجل راجل واملراة امر�أة‪ .‬اليوم تبدلت الألوان‪.‬‬
‫�صمت �أمام هذا التعبري الب�سيط الذي يحمل ع ّفة ذلك اجليل‬
‫ورزانته لكن املعنى يبدوا كبريا بحجم خمائل �أر�ض ال�شهداء الط ّيبة‪،‬‬
‫فلم ي�صبح كل الرجال رجاال وال الن�ساء ن�ساء مذ �إنك�سرت ق ّيم كانت‬
‫نقطة االلتقاء وجممع الأخيار‪.‬‬
‫حلت على �أنه م�صاب مب�س من الود و�أن رغبته يف الزواج �شديدة‬ ‫ا ّ‬
‫وف�سرت ذلك بقروب ال�صيف‪ .‬تف�سري جميل لكن مادالالته‪ ،‬ال يعلم‬ ‫ّ‬
‫بذلك‪.‬هاته اجل ّدة ال تعرف روالن بارت ومل ت�سمع عنه �شيئا من‬
‫قبل وال تبدوا على لغتها املعرفة والتّمكن لتقر�أ كتاب الباه((( الذي‬
‫‪ -1‬رجوع ال�شيخ �إىل �صباه يف القوة على الباه كتاب للرازي ومن �أ�شهر كتب الأدب‬
‫العربي القدمي‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ع ّرف الأفر�شة بت�شعبها وبينّ منافع الزواج والنكاح وطقو�سه العطرة‬


‫والقذرة ومع ذلك تن ّبه �إىل �ضرورة الزواج‪� ،‬إبت�سم وقال مف�سرا‪:‬‬
‫ياج ّدتي‪� ،‬إنّ الوقت مبكر على الزواج كما �أنَّ الظروف �صعبة‪.‬‬
‫‪ -‬من حقك ياوليدي هذا اجليل املك�شوف وقتوا �صعيب وزيد‪ ،‬قبل‬
‫ماتخطب وتنا�سب �شاور وا�س�أل وفكر وحا�سب‪.‬‬
‫‪ -‬ما�شي �ساهل يا يمِّ ا‪.‬‬
‫‪� -‬آه مبالك وفلو�سك بنت الأكابر عرو�سك وزيد باين راك معينّ واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬يل نبغيها يا يمِّ ا راها �أكرث مني يف العمر ومني�ش عارف كيفا�ش؟‬
‫ت�ضع يدها على حنكها‪ ،‬تغ ّلب ال�شفة العليا على ال�سفلى وحترك ر�أ�سها‬
‫ميينا و�شماال‪ :‬يااا بعد ال�صرب وطول العزوبية راح �أتزوج كركوبية(((‪.‬‬
‫ي�ضحك من و�صف وحكمة املر�أة امل�سنة التي �أزاحت عنه القليل‬
‫من التعب و�أخرجته من بوتقة ال�سكون‪� .‬ضحكت ل�ضحكته‪ ،‬ف ّكر‬
‫قليال و�أعطى لذاكرته فر�صة كي ت�ستعيد �شيئا من قامو�س اجلدة‬
‫التي �سرقها املوت يف �أكرث حلظاتها �ضحكا وا�ستهتارا‪.‬‬
‫‪ -‬لكن يايمِّ ا وبال�شك تعريف املثل يل يقول‪ :‬حب حبيبتك حب يالوكان‬
‫عبد ّ‬
‫ول دب‪.‬‬
‫‪ -‬ال ال ياوليدي �أنت زين والزملك قمرة نا�س بكري قالوا الكالم ملليح‬
‫ب�صح عندهم ماخرفوا‪.‬‬
‫ابت�سم عميقا و�ضحك �أمام حكمة و�سخرية هاته اجل ّدة الط ّيبة‪.‬‬
‫فتحت النار على بنات اجلينز والأظافر الطويلة و�أبدت غ�ضبا كبريا‬
‫‪ -1‬عجوز هرمة‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫على ك ّناتها العاجزات عن كل �شيء وهي تكرر جملتها امل�سكونة‬


‫باحل�سرة والأ�سف (خلال يا وليدي خاليني‪ ،‬ال نفع فيهم)‪.‬‬
‫حوار متميز يف ظالل املا�ضي وجربوت احلا�ضر‪� ،‬صدق من قال‬
‫جال�س طفال ال يعرف عن متاهات الدنيا �شيئا �أو طاعنا يف ال�سن‬
‫�إنتهى من كل �شيء وجمال�سهما تغ�سل القلب من نكده و�سخطه على‬
‫حياة منتهية نهرول فيها نحو العدم‪.‬‬
‫غادرت تلك الأم مبتهجة نحو ال�سكن الوظيفي املفتوح على‬
‫اجلامعة وتركت عطرها العبق منت�شرا حيث انت�شى به طيلة النهار‪.‬‬
‫�أ�سبوع من الغياب عن اجلامعة‪ ،‬عزلة يف البيت‪ ،‬كل الن�صو�ص‬
‫تت�شابه وال �شيء يفجر ال�سكون وال�شيء يجعل �ضجيجها ي�سكن �أي�ضا‬
‫هذا هو م�صري كل عا�شق عجز عن مد حبائل الو�صال‪ .‬يطارده‬
‫�إختناق ي�ض ّيق عليه احلياة مبا رحبت‪.‬‬
‫تك ّررت زيارات عبد القدو�س‪ ،‬الهاتف يرنّ كل �ساعة وال�س�ؤال‬
‫عنه م�ستمر‪� ،‬آخر ات�صال كان منها‪ ،‬هيام التي ق�ست على م�شاعره‪،‬‬
‫�إت�صالها كان مفاجئا ومده�شا‪ ،‬ت�ش ّعب تفكريه وتداخل قبل �أن يرد على‬
‫مكاملتها الثالثة فالأوىل والثانية �ضاعتا من فرط الده�شة والالفهم‪.‬‬
‫�إ�ستف�سرت عن غيابه املتعمد‪ ،‬هي تعرف ج ّيدا �أنّ عقله قد ظ ّل‬
‫يف غوايتها لك ّنها ال ت�صدق �شيئا مما تعرفه وت�ض ّيق على قلبها الذي‬
‫يطرقه بكل الطرق امل�ستع�صية فقط كي ال مي�سها �شوقه املثقل ب�أمل‬
‫الإنتظار‪ .‬ت�ؤمن باحلب وتخافه‪ ،‬تخاف رماده الأ�سود و�إنهياراته‬
‫القا�سية لأنها ج ّربت مرارة ال�سقوط �أكرث من مرة‪ .‬ينه�شها احلنني‬

‫‪156‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إىل �أ ّيامها املزهرة لكنها ال تذوب يف ذلك احلنني العابر لأنّ‬


‫اجلدران التي حتيطها تك�سر الأعناق وال تتيح ر�ؤية النور مهما �إ�شت ّد‬
‫توهجه يف تلك ال�سماء البهيجة‪.‬‬
‫�إنتزعت منه وعدا بالعودة بعدما �أدركت ب�أنه مك�سور بـ�أحالمه‬
‫التي �ش ّيدها على حياتها والتي �أ�صبحت رمادية متاما‪ .‬مل متنح له‬
‫احلق يف ت�سميتها بالق�سوة الكبرية �أو الوهم العري�ض فقد رمته‬
‫بالقليل من الرذاذ كي ال تذبل وردة احلب العظيمة التي جاء بها‬
‫حممولة بني �أح�ضانه‪.‬‬
‫احلقيقة قا�سية لكن بالإمكان �أن نحبها وهي جتعل من يحبوننا‬
‫�أحرارا((( هكذا تك ّلم جورج �سانتايانا حني بحث عن ماهية احلقيقة‬
‫وجوهرها‪ .‬حبه على قدر كبري من اله�شا�شة وال�شفاء من عقمه‬
‫تتجرب يف غلق الأبواب مما جعل‬ ‫حمدود الأمل‪ ،‬بقدر هرولته نحوها ّ‬
‫اجلو �سدميا �أكرث مما ينبغي‪� ،‬سرادق بعيدة املنال يحويها مذ �إنبهر‬
‫بها �أمام حوا�سها وانتف�ض من ال�س ّدة التي كانت حتميه‪ .‬قلبه امل�شتعل‬
‫ك�سراج مك�سور مل يعد له مايقاوم به ن�سائمها وال �شيء ينت�صر به‬
‫�أمام عنفوان ال�سجال‪.‬‬
‫أ�سدل الزمن‬ ‫يف خندقه الكبري �إ�ستعاد كل املحط ّات القا�سية التي � َ‬
‫�ستائره فوقها وذل ّل الن�سيان �آالمها‪.‬تذكر ذات م�ساء حبيبته التي‬
‫ُ�سرقت منه وهو ينظر بعينني فارغتني يحفهما جو قاحل �شديد‬
‫الظلم والب�ؤ�س‪.‬‬

‫‪1- George santayana : ercivain et philosophe americain 1863-1952.‬‬

‫‪157‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫«عواطف» مل تكن �أبدا ككل الن�ساء �سيفها يقعقع بداخله ك ّلما‬


‫الن�سيان‪.‬حب جتاوز جمالية الواقع �إىل ت�شوه اخلوف من‬ ‫ُّ‬ ‫فكر يف‬
‫اخل�سران‪.‬كل مافيها يقتلعه ككما�شة قا�سية �إىل �أن وقع يف كمني‬
‫الهيام الأبدي‪.‬‬
‫�ضربة قدر موجعة �إكتوى بها وهو يخرج من لفائف احلب مهزوما‪،‬‬
‫فكيف لرجل �أن يخ�سر امر�أة �أعلنت مئات املرات �أنها تتع ّرق به و�أنها‬
‫ت�شتهي �أكل الرتاب الذي مير فوقه‪ ،‬مل يكن ذلك احلب م�شاعا لكنها‬
‫�ص ّرحت �أكرث من مرة �أ ّنها تتحدّى ك َّل ن�ساء الكون �أن مينحنه ربع �أرخبيل‬
‫من حميط احلب العظيم الذي جعلت منه م�شاربا لرجولته ال�ساحرة‪.‬‬
‫حينما �إختطفها املوت �شعر ب�أنّ النور يرجتف يف عمق ال�شم�س‬
‫و�أنّ �ضفافها العالية مل تهاجر نحو البيا�ض م�صادفة‪� ،‬إنمّ ا تعمدت‬
‫ال�سفر نحو املالئكة مقتا لهذا الكوكب الأ�سود‪.‬‬
‫مل تكن تخ�شى املوت‪ ،‬ت�ستف�سر مرارا عن وجود ج ّنة �أخرى �أعظم‬
‫من جنة الوقوف بني يديه و�شم رائحة ج�سده املزلزلة‪� ،‬شعر بحجم‬
‫املغامرة الكبرية واخلطر ال ّداهم يوم ذرفت دموعا حا ّرة وكفرت‬
‫بكل �شيء و�أفتت كرجل دين �أنّ ع�شقه حالل وط ّوقته بنزق كبري‬
‫وقب�ضت على كتفيه وقالت‪� :‬أنت ج ّنتي‪ ،‬ج ّنتي‪ ،‬ج ّنتي‪� .‬إنطف�أت كل‬
‫النزعات يف تلك ال ّلحظة املبهرة ون�سي �أنَّ العامل مليء بالن�ساء فقد‬
‫كان مملوءا بها ح ّد الفي�ضان‪ ،‬رونق الع�شق كان �شه ّيا ك�شهوة الركوة‬
‫التي ن�ضج على نورها الرهيف‪ ،‬رققّ ك ّل امل�صاعب التي �أحاطت‬
‫حبهما �إ ّال ر�شاقة املوت فقد كانت مباغتة ومفجعة حلد ال يو�صف‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫قلبه الذي حت ّول �إىل مرمدة مل يجد يدا �أو �شيئا يغلق عليه حني‬
‫عال نحيبه ك�أم ثكلى �أفقدتها احلرب حياة �أكبادها‪�.‬س�ؤدد احلب‬
‫فقد الرفعة والهمة مذ ماتت «عواطف» حيث غرق يف فقر القلب‬
‫وه�شا�شة امل�شاعر وا ّلذي �ساغ الحقا رف�ضه لكل ود وحب وهروبه‬
‫امل�ستمر من فخاخ الن�ساء‪.‬‬
‫هيام ب�سحرها املختلف وفوقيتها التي جعلت لها خ�صو�صية جعلته‬
‫خ�ص به قلبه ليخرج �إىل �ضوئها الآ�سر‬
‫ين�سل من ال�سكرتاريوم الذي ّ‬
‫البعيد ب�سكونه عن فو�ضى الواقع ورتابة احلقيقة‪.‬‬
‫يرى فيها الأمل الأوحد الذي �سي�صب الطهارة واحلب على الدُمل‬
‫التي ق ّل�صت من م�ساحة قلبه‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫(‪)07‬‬

‫«�إخْ ِد ُموا َغ َرا َب َت ُك ْم»‬


‫‪-‬فيل�سوف جمهول‪-‬‬

‫عاد �إىل اجلامعة‪ ،‬تغيرّ ت الف�صول وتعد ّدت �ألوان الطبيعة و�صارت‬
‫غطى احلزن الطويل الذي غمر‬ ‫الأيام م�شم�سة‪.‬رونق الربيع اجلميل ّ‬
‫امل�ساحات يف ف�صل ال�شتاء مع �أن �أجمل امل�شاعرعزفت يف لياليه‪،‬‬
‫�إكتملت روايته‪ ،‬معجزة الن�شر قد تتحقق وقد تن�سى‪ .‬كثريهو الأدب‬
‫الذي مات يف الأوراق وبني الرفوف لذا ف�شلت العديد من ال�سيا�سات‬
‫وماتت ثقافات‪�.‬أكتبوا ب�أهدابكم و�أظافركم �إذا مل تطعكم �أقالمكم‬
‫هكذا �أو�صى �شيخ امل�ؤرخني اجلزائريني((( هذا اجليل اجلديد الذي‬
‫�إ�ست�شعر تيهه يف عديد املنا�سبات واملواقف‪.‬‬
‫مليكة تز ّوجت‪ ،‬هكذا قالوا‪ ،‬ال معلومة وال تفا�صيل مذ غاب عن‬
‫تعجب حينما نقلت له نارميان اخلرب الغريب‬ ‫اجلامعة مثلما غابت‪ّ .‬‬
‫فلم ي�سمع �أحد بفرحها لكنّ اجلميع �سمع بحزنها‪ ،‬عني احل�سود ال‬
‫‪� -1‬أبو القا�سم �سعد اهلل (رحمه اهلل)‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ت�سود رمبا هذا مرجعها فهي خراف ّية �إىل ح ّد ما‪ .‬نارميان على ميينه‬
‫يف احلديقة املعبد تكاد تبكي حرقة و�أف�شلت زواجها بحكم م�سبق‪.‬‬
‫�صديقتها لكن لي�س حلد الفرح لفرحها‪ ،‬رغبته يف ال�ضحك زادت‪،‬‬
‫راح يحفر عميقا لتلك القهقهة التي تود اخلروج لكن مل يفلح‪ ،‬عادت‬
‫من غ�ضبها منذ �ساعات وال�ضحك يف قمة حرقتها ونكدها قد يغ ّيبها‬
‫�إىل الأبد‪.‬مل تغفر له بعد حادثة املطعم وال�شعر املُخطئ يف العنوان‬
‫وال تزال غا�ضبة حتاول �سرت غليانها الداخلي بافتعال موا�ضيع‬
‫متفرقه‪.‬قد يكون ل�شططها �سبب �آخر غري زواج مليكة والغرية منها‪،‬‬
‫قد يكون الغ�ضب القدمي من توجيه �شعر لها وهو لي�س لها لكن �أن‬
‫تفهم امر�أة فهذا الأمر م�ستع�صي وبعيد فحتى �سقراط و�شيوخ ّيته‬
‫يف الفل�سفة بقي عاجزا عن التف�سري وحني قال تهكما �أن كل مايعرفه‬
‫هو �أنه ال يعرف �شيء فان هذا التهكم قد �أ�صبح واقعا وحقيقة فبعد‬
‫�شربه لل�سم وبداية �سريان املوت فيه جتمع تالميذه حوله راغبني يف‬
‫�سماع كلمته الأخرية بعدما رف�ض كل مبادرات النجاة التي عر�ضت‬
‫عليه‪.‬طرح عليه «كرتو» تلميذه النجيب �س�ؤاال جاء فيه‪ :‬يامعلمي‬
‫الأول والأخري بعد �أن عرفت كل �شيء يف احلياة ظاهرها وباطنها‬
‫هل هناك ِمن �شيء �أعجزك ومل ت�ستطع فهمه؟ فقال �سقراط بكامل‬
‫احلرية واحلزن �أنه قد عرف الكثري �إ ّال‪ :‬ماذا تريد املر�أة‪.‬‬
‫�س�ؤال كبري وقد يكون رهيبا �أعجز �سقراط �أوال و�سيغموند فرويد‬
‫ثانيا ونزار قباين ال�شاعر الكبري ثالثا والذي ق�ضى خم�سني عاما‬
‫يف الكتابة عن الن�ساء وكذلك كتب‪ :‬قر�أت كتاب الأنوثة حرفا حرفا‬
‫ومازلت �أجهل مايدور يف ر�أ�س الن�ساء‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�صرب وانفجر مقهقها يف وجهها‪ ،‬مللمت �أغرا�ضها وغادرت‪�.‬إهتلع‬


‫من غ�ضبها فهي �آخر �أهزوجة يف زمانه ولن يجد بعدها رفيقا‬
‫مالئما من الن�ساء‪ ،‬حلق بها‪�.‬أم�سك ذراعها الأمين �سحبه فتوقفت‪،‬‬
‫�أعادها �إىل املكان الأول فرتاجعت وعادت‪.‬‬
‫�إقرتب منها قليال‪� ،‬أوتد �أطرافه على �ساعديها فاذا بالن�شوة‬
‫ت�صرخ‪ ،‬ال�شهوة ال ّداعكة تف�شت فيها‪ ،‬ن�سيا الأمام واخللف وغرقا يف‬
‫ت�شيطن فظيع‪� ،‬سرقت �شفاهه بكل �صخب‪ ،‬تئن‪ ،‬جتن ثم تت�صاغر‬
‫بعد �أن ت�شيط‪.‬‬
‫ال�شائب ُي�صبح غ ّرا �أمام هاته الأنوثة الذائبة وال �شيء يدفع‬
‫بالرجاحة يف خ�ضم التال�شي الكبري لكن العظمة الراهنة �سيئة عند‬
‫الباحث عن الأبد فال �شيء يجمع القلوب وال�شفاه �إ ّال حلظة عابرة‬
‫وزاهدة كالعمر املت�شظي واملت�صارخ على بع�ضه البع�ض‪.‬‬
‫�إعتاد ككل الواقعيني نقل الأيام �إىل ن�صو�ص وحتنيط الواقع‬
‫بالكتابة‪.‬يدرك �أن بع�ض الواقع م�صيبة ونقل امل�صائب دهك‬
‫للمحا�سن فما ّلذي �سيكتبه‪ ،‬حمتارهو‪ .‬يتذ ّكر كتاب «�سوف �أذهب‬
‫لأب�صق فوق قبوركم «((( الذي ن�شر حتت �إ�سم م�ستعار هو» فرينون‬
‫�سوليفان» لي�س هذا املهم‪ .‬الأهم هو الع�سكري الذي قتل ع�شيقته‬
‫وترك قرب جثتها كتاب فيان على �صفحة يقتل فيها بطل الكتاب‬
‫ع�شيقته على نف�س الطريقة فاتهم بوري�س فيان �أنه مرتكب اجلرمية‪،‬‬
‫حاول �إنكار اال�سم امل�ستعار فدخل يف دوامة �سوداء مل يتخ َّل�ص منها‬
‫�إ ّال بعد �سنوات طويلة‪.‬‬
‫‪ -1‬كتاب لبوري�س فيان‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�إنّ الكتابة �أخطر بقليل مما يتوقع البع�ض و�أكرب بكثري من‬
‫�إ�ست�سهال البع�ض الآخر‪ ،‬هي حياة وموت‪ ،‬ميكن �أن يحيا كاتب بع�شر‬
‫كتب وميكن �أن ميوت بن�صف �سطر‪َ « ،‬د ُعو َنا َن ْكتُب َك ّي َال نمَ ُ وت» هكذا‬
‫قالت زهور وني�سي ذات لقاء مل ي�س�ألها �أحد وللأ�سف‪ ،‬هل نكتب‬
‫فقط كي ال منوت �أم لنحيي �أ�شياء كان من املفرت�ض �أن متوت‪.‬‬
‫يبدوا على نارميان حبور كبري وك�أ ّنها قد قر�أت فن القبالت‬
‫لوليام كاين �أو تد ّربت على �أيدي احلب من يدري‪ ،‬ال �أحد يعلم‬
‫فللمر�أة �أ�سرارها العميقة ومواطن الغمو�ض الدفينة‪.‬ع�شق َ�سكنهُ‪،‬‬
‫امر�أة عطوف �سرقت ع�شقه وامر�أة من كرب قتلته برو ّية‪� ،‬أفلحت‬
‫ن�ساء زوربا يف �سرقته �أحيانا كما جنحت جاريات «رجوع ال�شيخ على‬
‫�صباه يف الق ّوة على الباه» يف �إمت�صا�ص علله و�إبتالع ال�ضجر الليلي‪.‬‬
‫�أ�سبوع �آخر من الدرا�سة‪ ،‬ال�شم�س تزيد حرارة يف كل �شروق‪ ،‬قلبه‬
‫وحر وبينهما ت�ضيق الف�سحة‪� ،‬ضاق احلال يا‬ ‫�صامت ومملوء مق ّيد ُ‬
‫هيام هكذا يقول يف �أ�شد املواقف نكدا‪.‬‬
‫يرد على نف�سه فيقول‪:‬‬
‫احل ْال َما ْت ِف ْيد �أَ ْح َو َا ْل‬
‫�إِ َال َ�ض ْاق َ‬
‫َن َ�س ْك ُنوا ا َ‬
‫خل َي ْال َو َل َن َر ْك ُبوا ال ْه َب ْال‬
‫ي�شوا املُح َا ْل َو َل نت َو ْه ُموا الأح َو ْال‬ ‫ن ِع ُ‬
‫ُنذو ُقوا ال ْأغ َال ْل َو َل ْن َغييرْ وا ال ْأ�ش َك ْال(((‪.‬‬

‫‪� -1‬أغنية �شهرية لفرقة جيل جياللة املغربية التي ت�أ�س�ست �سنة ‪.1972‬‬

‫‪163‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫هكذا احلياة اذن يا غاليتي‪� .‬أف لهذا القلب‪ ،‬حملق جيدا‪ ،‬رتب‬
‫�أفكاره‪� ،‬أعاد النظر‪ ،‬بر ّر �إقدامه لنف�سه و�سحب هاتفه وكتب‪:‬‬
‫)‪ces sentiments sont moudit. un peut d’interet ne tue pas.(1‬‬
‫ر�سالة ق�صرية تنتظر جوابا‪ ،‬م ّرة �أخرى يت�ساءل �إذا كان هاتفه‬
‫�سي�صمت كثريا �أم �سي�صدح بعد حلظات‪ ،‬قلبه جبان �أمام الإنتظار‬
‫الطويل وعاجز و�ضعيف �أمام �صمتها �إن ا�شتهته‪.‬‬
‫�ساعات طويلة من ال�شم�س‪ ،‬مل ترد ب�شيء‪ ،‬غطى الظالم الفرح‬
‫يف الوجوه وك�سر الإنتظار‪ .‬ي�أ�س كريه ت�سلل �إىل قلبه �إىل �أن �سطع‬
‫نور الهاتف‪.‬‬
‫ر�سالة ن�ص ّية‪�.‬إفتح‪.‬‬
‫‪Young boy. i don’t deny that you have sacceeded to‬‬
‫‪moving the feelings dormants in me but sorry some‬‬
‫‪things are beyoud me and talking about them open‬‬
‫)‪big doors for great maze.(2‬‬
‫تفكري طويل قاده نحو الغرق فيها لن�صف �ساعة‪ .‬ق ّرر �أن يرد لها‬
‫برودتها بقليل من الرذاذ الذي لن يحدث �شيئا فكتب‪:‬‬
‫‪No need to appologize. it is true that my heart is fil-‬‬
‫‪led by you but he is ready to dry forever if this will‬‬
‫)‪bring you happiness always. with my love.(3‬‬

‫‪ -1‬ملعونة هذه العاطفة‪ ،‬قليل من الإهتمام ال يقتل‪.‬‬


‫‪� -2‬صغريي ال �أنكر �أنك جنحت يف حتريك م�شاعري اخلامدة لكن عذرا بع�ض‬
‫الأمور تتجاوزين واخلو�ض فيها قد يفتح �أبواب متاهات عظيمة‪.‬‬
‫‪ -3‬ال حاجة لأن تعتذري‪� ،‬صحيح �أن قلبي ممتلئ بك لكنه م�ستعد لأن يجف واىل‬
‫الأبد اذا كان جفافه يحقق لك ال�سعادة‪.‬حمبتي دوما‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫مل يكن �صادقا ولو قليال فيما كتب‪ ،‬فعمره املهرب نحوها �سيل‬
‫جتاوز اجلفاف‪� ،‬إ ّنه احلب مرارا وتكرارا هو احلب بحالوته وق�سوته‪.‬‬
‫تذ ّكر ف ّلة الطفلة اجلميلة التي �ش ّبهت حبها له بلحظات الطفولة‬
‫ال�ساحرة يوم كانت جتمع الرمال على حافة ال�شاطئ لتجعل منها‬
‫متاثيال وقالعا فت�سرقها منها الأمواج املمتدة قبل ومي�ض الفرح‪،‬‬
‫كذلك هيام املفرطة يف ال�سحر‪ ،‬يبت�سم قلبها فيوهمه باحلب ثم‬
‫تن ّكد بكالمها فتمحي كل التوقعات‪.‬‬
‫رفع القلم �سحب ورقة من دفرت و�شرع يدون‪:‬‬
‫من �أكون �أمام �أنثى ت�شبهك‪� ،‬أنا ال�شيء حيث كل �شيء ين�صهر‬
‫�أمام عبقرية اجلمال وده�شة املالمح امل�ضيئة‪ ،‬يا �س ّيدتي و�سيدتهن‬
‫على هاته الكواكب كل ال ّلعنات �إذا مل تنحني دوخة ورع�شة عند‬
‫قدميك‪ ،‬لتكن كل الر�سائل �شفافة ك�شفاهك التي خلقت من نور‪.‬‬
‫ا�س�ألك؟ ملاذا جمعت كل �شيء وماتركت لهن �شئ‪ ،‬عجبا �صدمت‬
‫عرو�ش الن�ساء حني خرجت �إىل الكون رذاذا فلت�ساحمك الن�ساء عن‬
‫�إغت�صاب حقهن يف احل�سن‪.‬‬
‫د�س الق�صا�صة يف جيبه ونام‪ .‬ك ُّل �أحالم احلب �أحاطته‪ .‬ح ّفته‬ ‫ّ‬
‫ورديات كثرية �إفتقدها يف النور ف�سكنها يف ظالم الليل احلالك‪.‬‬
‫توجه �صباحا �إىل الكلية جامعا ك ّل �أو�صاف الأناقة م�ستعدا ملا قد‬
‫يواجهه من امر�أة مل يفهم بعد �أ�سرارها الكثرية‪ ،‬اجلو ربيعي وك ُّل‬
‫الأ�شياء املحطية تنب�ض باحلياة واحليوية‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫الن�ساء متزينات ب�ألوان الورود والرجال م�شمرون ي�ستبقون �أوان‬


‫ال�صيف‪ ،‬ت�شمري الن�ساء و�إظهار املفاتن ال يقلق �أحدا ورفع الرجال‬
‫لل�سراويل وارتداء التبابني ي�شكك يف الرجولة‪� .‬إختلطت املفاهيم‪.‬‬
‫دخل الدهليز املت�شبع باالهرتاء‪ .‬وجد هيام بالقرب من القاعة ‪،06‬‬
‫�شعر ببع�ض احلياء وهو مي ُّر عليها‪ ،‬مل ُي�سلم عليها‪ .‬ومل يغرزعينيه يف‬
‫مفاتنها كما تعود فاجلو بينهما حميمي قليال ومكهرب كثريا‪.‬‬
‫حينما جتاوزها بب�ضع خطوات‪ ،‬نادت‪ :‬ياطالب‪ ،‬ياطالب‪.‬‬
‫تع ّمدت عدم تلفظ ا�سمه‪ .‬حاجز الكربياء ال يزال كبريا‪.‬‬
‫ع��اد �إليها‪ ،‬دعته �إىل دخ��ول احل��ج��رة‪ ،‬جل�سا ينظران �إىل‬
‫بع�ضهما البع�ض مل يتكلم ومل يحاول الكالم ف�ساد ال�سكون لدقائق‬
‫�إىل �أن قالت‪:‬‬
‫‪ -‬هل ت�صديقك �ضرورة؟ و�إذا فعلت ما ا ّلذي �س�أجنيه من حب م�ستحيل‪.‬‬
‫ُ‬
‫تعرف‬ ‫‪� -‬ستجنني احلياة وك ّل �شيء قد ي�ستحيل �إ ّال احلب فال‬
‫الإ�ستحالة �إليه طريقا‪.‬‬
‫‪ -‬وهل يوجد احلب و�سط كل هاته الفو�ضى والتناق�ضات؟‬
‫‪� -‬أما التناق�ضات ف�سببها �إنحطاط الذوق و�إختالط الف�ضيلة‬
‫بالرذيلة وذلك يرجع �إىل غياب ال�شعر والفو�ضى متحيها العواطف‬
‫و�أجمل عاطفة هي احلب‪.‬‬
‫‪ -‬تريد القول ب�أنّ ال�شعر قادر على تخلي�ص العامل من ال�شر‬
‫و�إحالل الف�ضيلة‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫غياب ال�شعر ج َّر الذوق العام �إىل احل�ضي�ض و�إنحطاط الذوق‬ ‫‪ُ -‬‬
‫يعجل بظهور مالمح التدين‪ .‬ال�شعر هو املو�سوعة الروحية الكبرية‬ ‫ّ‬
‫للب�شرية كا ّفة‪.‬‬
‫‪ -‬ما ال ّذي �سافعله معك لو وافقت على التحدّث �إليك والتوا�صل معك‪.‬‬
‫‪� -‬س ُنغ ّيب احلزن �إىل �أجل غري م�سمى‪.‬‬
‫‪ -‬و�إن �أحببتك؟‬
‫احلب قبلك ثم �أفرح و�أفرح و�أقفز كالأطفال‬
‫‪� -‬س�أبكي لأين ماعرفت ّ‬
‫وبعدها لن �أ�س َع �إىل �شيء يف احلياة بقدر ما�س�أ�سعى لأن تكوين‬
‫عز الظالم‪.‬‬ ‫مبت�سمة ولو يف ِّ‬
‫‪ -‬تبالغ‪...‬‬
‫‪ -‬هل �أق�سم بعينيك؟‬
‫‪� -‬أق�سم باهلل‪..‬‬
‫‪ -‬لن �أق�سم‪.‬‬
‫‪� -‬إذن هراء وكذب‪.‬‬
‫‪� -‬إذا �أق�سمت باهلل ب�أين �أحبك ف�أنا �أكرب كاذب‪.‬‬
‫‪� -‬أت�سخر مني؟؟؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬لأن مابداخلي �أكرب من احلب واحللف على احلب كذبة‬
‫كبرية لو مار�ستها �س�أكون خائنا ممتازا‪� .‬إذا وجدت يف لغات العامل‬
‫احلديثة والقدمية مايرتجم �أحا�سي�سي �س�أختار �أجمل املفردات‬
‫املعربة و�أق�سم عليها‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪ -‬كال�سيكي هذا الكالم و�سمعته يف �أفالم �شاه روخ وغريه‪.‬‬


‫‪ -‬ت�شابهت �أحاديث احلب لكن امل�شاعر ال تت�شابه وك ّل كالم يجب �أن‬
‫يخ�ضع للتجربة و� ُّأي حديث خارج الفعل حم�ض �سراب‪.‬‬
‫‪ -‬تقرتح �أن �أجرب ح ّبك يل‪ ،‬ماذا لو ف�شلت‪ ،‬هل �سيكون يل احلق يف‬
‫جتاوزك ح ّد الن�سيان‪.‬‬
‫‪ -‬الف�شل �سيجعلني �أغادر بالطك ولو �إحرتق الف�ؤاد والقلب‪ .‬المكان‬
‫يف مملكة احلب �إ ّال لبا�سل وغريه غ ّرار را�ضي بفتات احلب‪ ،‬احلب‬
‫حياة جديدة وفقدانها موت من نوع خا�ص‪� ،‬أن حتب فمعنى ذلك‬
‫�أ ّنك قد �أ�صبحت �إن�سانا‪.‬‬
‫‪ -‬ماعالقة الأدب واحلب باملوت؟‬
‫‪ -‬عالقة ودية حلد ما‪ ،‬الأدب يجمع الأ�شياء امليتة يف الإن�سان‬
‫فيحتويها مب�ساحته غري املحدودة واحلب يبعث احلياة يف الأدب‪،‬‬
‫الأديب واملحب ال يخ�شيان املوت‪ ،‬لهم قدرة فوق العادة على جمابهته‪،‬‬
‫�أتذ ّكر جيدا ق�صيدة بودلر التي جاء فيها‪:‬‬
‫فيِ ْ �أْ ْر ٍ�ض َ�شح َمة َم ِلي َئة ِبال َق َوا ِق ْع‬
‫�أ ْب ِغي �أَنْ َ�أ ْح ِف َر ِب َنف ِْ�سي لحَ ْ دً ا َعمِ ي ًقا‬
‫َح ْيثُ يمُ ْ ِك ُن ِني ِع ْن َد َما �أَ َ�شا ُء‬
‫�أَنْ �أَ َ�ض َع ِع َظ ِامي ال َه ِر َمة‬
‫َو�أ َن ُام فيِ ال ِن ْ�س َي ِان َكال ِق ْر�ش فيِ ا َمل ْو ْج‬

‫‪168‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�أَ ْك َر ُه ال َو َ�صا َيا �أَ ْك َر ُه ال ُق َبو َر‬


‫مَ (((‬
‫َب َد ًال ِمنْ �إِ ْ�س ِت ْج َداء َد ْم َعة ِمنْ َه َذا ال َعال‬
‫َو�أَ َنا َحي �أُ َف ِ�ض َل �أَنْ �أَ ْد ُعوا ال ِغ ْر َبانَ‬
‫ِلت ُْد ِمي ُك َّل �أَ ْط َراف َه ْي َك ِلي ال َن ِج ْ�س‬
‫�أ ّيتها الديدان يا رفاقا �سود بال �أذن وال عيون‬
‫�أ َّيت َها ال َف ْي َل ُ�سوف َاتُ ا َمل ِاج َنات َيا َبن َاتَ ال ُع ُفو َنة‬
‫َعبرْ َ َخ َرا ِبي َت َو َغ ْلنَ ِب َال َت�أ ِنيب َ�ضمِ ْري‬
‫اب � َآخ ْر َي ْنت َِظ ُر َه َذا َ‬
‫اجل َ�س َد ال َه ِرم‬ ‫اك َع َذ ِ‬ ‫َو ُق ْلنَ ليْ �أَهُ َن َ‬
‫َفا ِق ُد ال َر ِوح َم ِّيت َبينّ َ ا َمل ْوتَى‬
‫‪ -‬ق�صيدة رائعة فعال ومن �شعرك �أنت ماذا تقول؟‬
‫‪� -‬إليـ ـ ــك؟‬
‫‪ -‬نع ـ ـ ــم‪.‬‬
‫‪ِ -‬منْ َظلاَ ِم ال ِت ّيه �إىل َنو ِر � ْإ�س ِ‬
‫مك َف َر ْرتُ‬
‫ل ْل�س َما ِء �أ َنا ِدي َيا َر ُّب َيا َر ُّب‬
‫ِذي ال َع ْذ َرا ُء تمَ َ ا َد ْت َو َ�ص ِهي ُل َ‬
‫احليرْ َ ِة َ�سا َد‬
‫وف َف ْاغ ِف ْر ليِ ُن ُ�ص َ‬
‫و�ص ال ِع َبا َدة‬ ‫َو�إ ّنك َر ُ�ؤ ُ‬

‫‪ -1‬امليت املبتهج من ديوان �أزهار ال�شر‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫اجل َم ُال َما َر ِحم ِب ِه َجا َد‬ ‫َف َذا َ‬


‫َو�إنيِّ َو ِع َّز ِت َك َل َع ْبد َ�ض ِع ْ‬
‫يف‬
‫ُو�س ِا ْر َف ْع َبينّ َ ال َقل َبينّ ِ ال ِع َما َد‬ ‫َيا َقد ُ‬
‫َو َ�س ِد ْد َن ْح ِوي ُخ ُط َوا ِت َها‬
‫يل َن َ�س َما ِت َها‬ ‫َو ُج َّر ِ�إ َّ‬
‫وا�ص ِر ْف َع ِن ال ُف َ�ؤ ِاد َن َك َ�سا ِت َها‬ ‫ْ‬
‫َو ِع َّز ِت َك �إِنّ املُ َرا َد َل َ�ش ِر ّي ْف‬
‫هُ َي ُام ُي ِاكتَا ًبا َم ْفت ْ‬
‫ُوح‬
‫َع ِززِي �أَ ْ�ش َوا ِقي ال َبا ِل َية ِب ِ�س ْح ِرك‬
‫ارحمِ ي ال َق ْل َب املُ َنا ِدي ِب ُط ْه ِر ْك‬ ‫َو َ‬
‫َفال َق َ�صا ِئ ُد �أَ ْن ِت‬
‫َو َما ُك ِت َب ِل َغيرّ ِ ك‬
‫َل ِي َ�س َل ُه‬
‫� ُّأي تَارِيخ‬
‫‪ -‬ر�سائلك و�شعرك كليهما ي�ستفز حيائي‪ ،‬مل �أت�صور يوما �أن‬
‫يواجهني رجل بكالم �ساحر ودافئ ال �أملك القدرة على مقاومته‪.‬‬
‫‪ -‬هل �سيطول عمر هذا احلاجز؟‬
‫‪ -‬ال �أدري‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬تدركني ج ّيدا ب�أين �أحرتق‪.‬‬


‫‪ -‬ال�أدري‪.‬‬
‫‪ -‬تدرين �أنيِّ �أحبك‪.‬‬
‫‪� -‬أ�شك‪.‬‬
‫‪� -‬ألن يزول ال�شك؟‬
‫‪ -‬بدِّ له باليقني‪.‬‬
‫‪ -‬هل هذا يعني �أ ّنك قد وافقت على دخوىل �إىل مملكتك‪.‬‬
‫‪......... -‬‬

‫‪171‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫� ْإ�س ِت ْي َق ْ‬
‫اف � ْإ�ض ِط َرا ِري‬

‫تَو ّقف �أ ُّي َها ال َقارِئ‪ ،‬تو َّقف‪..‬‬


‫�إنَّ َه َذا ال َرا ِوي مجُ ْ ِحف جدً ا وقد �ض َّيق على ح�ضوري و�أخفى‬
‫�ضوئي �أكرث مما يتق ّبله �شاعر �إعتاد الأ�ضواء‪.‬‬
‫تت�ساءل الآن من �أنا وكيف �إكت�سبت القدرة على �إ�ستيقافك و�إزاحة‬
‫الراوي عن امل�شهد �سوف �أخربك‪:‬‬
‫ال�سبب الوحيد الذي جعلني �أ�صعد �إىل الواجهة هو التهمي�ش‬
‫الكبري فما كتب حويل وحول ح ّبي لهيام و�صداقتي مع عبد القدو�س‬
‫وعالقتي امل�شو�شة مع نارميان وغريها مل يكن كافيا لإر�ضائي كما‬
‫�أنّ تغييب ا�سمي ح ّز يف نف�سي كثريا وحلد الآن مل �أجد لهذا التغييب‬
‫وظلم الراوي و�صل حدا‬ ‫مربرا ال فنيا وال واقعيا �إذن ما ُروي ناق�ص ُ‬
‫ال ُي�سكت عنه ولذا �س�أوا�صل‪ ،‬ثقوا بي �أحبتي‪ ،‬تعالوا لتجل�سوا �إىل‬
‫جدران الغواية هيا �أ ّيها الأح َّبة‪� ،‬أعدكم باملتعة والده�شة‪ ،‬ثقوا بي‪..‬‬
‫�إ�سمي يو�سف هكذا ينادونني‪ ،‬عمري ‪� 7‬سنوات بتقومي الأدب‬
‫وثالث وع�شرون ربيعا بعدد ال�شتاءات الطويلة‪ُ .‬عمر الفرح ق�صري‬
‫جدا �أو منعدم وعمر احلزن � ُّ‬
‫أ�شك يف �أ ّنه جتاوزين قليال ال �أملك‬

‫‪172‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫يف احلياة �إ َّال الأقالم والأوراق وابت�سامة م�صطنعة �أهديها للذين‬


‫�أحبهم مع �ش ّكي الكبري يف حم ّبتهم يل‪.‬‬
‫م�ستع�صي الو�صف فمذ ُخدعت وانهزمت �أمام‬ ‫َّ‬ ‫�أعاين قلقا كبريا‬
‫العاطفة و�أنا �أ�شعر بالتعب وال�س�أم وماكدت �أتخ ّل�ص من هذين‬
‫ال�شعورين املزعجني حتى �إ�صطدمت بهيام فركعت جلمالها �سهوا‬
‫ركبتي متعبدا للأنوثة فيها ومل �أقم من ذلك الركوع‬ ‫ّ‬ ‫و�إنزلقت على‬
‫�إىل اليوم ومل �أجنوا من ك�سور الإنزالق �أبدا وها �أنا اليوم �أمامكم‬
‫يل فلي�س ذلك الروائي هو مورطكم‬ ‫و�أنتم جمربون على الإ�ستماع �إ ّ‬
‫الوحيد بل نحن �شريكان‪.‬‬
‫�إذن �إحزموا �أمتعتكم ولن�سافر يف دهاليز ال�سرد العري�ضة‬
‫واطمئنوا فجل الذي �س�أق�صه عليكم جديد ومل ت�سمع به الآذان ال‬
‫حا�ضرا وال وجد يف املا�ضي التليد‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ا�سخَ ة ِه َي �أَ ْعدَ اء ا َ‬


‫حل ِقيقَة َو ِه َي � َأ�شدُّ خَ َطرا ِم َن‬ ‫الر ِ‬ ‫ال ْإع ِتقَا َد ْ‬
‫ات َّ‬
‫يب‪.‬‬ ‫ال َأكا ِذ ْ‬
‫يريك نِي ْت َ�ش ْه ~‬
‫~ ْفرِيدِ ْ‬

‫ُكن قا�س ًيا وم�شتعال‪ ،‬ال �شيء يقطع هاته ال ّلذة مادامت التي بني‬
‫يديك �أنثى‪.‬‬
‫كانت هذه هي اجلملة الأخرية لعواطف قبل �أن تنطف�أ �إىل الأبد‪،‬‬
‫حاولت �أن �أجعل جملتها قاعدة �أطبقها ككل القواعد متى وجدت لها‬
‫الأر�ضية املنا�سبة مع �أنّ الق�سوة مل تكن من طباعي فاملروءة التي‬
‫كنت �أظهرها كثريا يختفي وراءها قلب �شبه م�ؤنث يبكي لأ�صغر‬
‫الأ�سباب لكن قول دوجال�س ماك �آرثر حفر عميقا يف وجداين‬
‫وقد حاولت العمل به مرارا والذي جاء فيه «�سيتم تذكرك بح�سب‬
‫القواعد التي قمت بخرقها يف احلياة» وكنت قد قر ّرت �أن �أ�صب‬
‫�إ�شتعايل بعد مزجه بق�سوة الذكورة على هيام �إ ّال �أ ّنها مل متنحني‬
‫فر�صة ال لأكون دافئا �أو قا�سيا‪.‬‬
‫بعد �أحداث ع�سرية تفاقمت وتواترت فتحت هيام يل �صدرها‬
‫ورحبت مب�شاعري ب�شرط �أن‬ ‫وق ِبلت طي�شي وجنوين �شريطة تهذيبه ّ‬
‫ا�صقلها و�أم ّرنها على مايروقها هي ال مايروقني‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫م ّرت الأيام وذلك احلب اخلجل مث ّبت يف مكانه ال ت ََطور وال‬


‫ا�ضمح َّل‪ .‬نفذت �أيام املو�سم اجلامعي و�أ�صبح اللقاء بها حلما هذا‬
‫�إن مل يكن معجزة‪ ،‬ق ّلت الإت�صاالت وتع ّددت �أ�سباب ال�شوق‪.‬‬
‫فعال ا�شتقت لها‪ ،‬وليايل ال�صيف جعلت مني عا�شقا بامتياز‪،‬‬
‫�أتف ّر�س النجوم و�أبحث بني الكتب والدواوين عن �شيء ينف�س عن‬
‫خاطري فال �أجده‪ .‬رغم الربود الزلت متيما بها‪.‬‬
‫ح ّل �شهر رم�ضان فب َّدلت النا�س ال�شر باخلري وتابت و�ص ّلت �أما �أنا‬
‫فكنت �أق�ضي الليل يف كتابة ق�صائد لهيام لن تقر�أها والنهار �أق�ضيه‬
‫نائما وحاملا بها فال الدنيا ك�سبت وال من الآخرة جنوت وكنت تائها‬
‫التائهني يف مم َّرات الع�شق ودهاليزه‪.‬‬
‫ككل ِ‬
‫م�شكلتي الكبرية يف هاته ال�صائفة احلا ّرة �أنَّ �إغالق هيام لهاتفها‬
‫�أ�شعل حرارة قاتلة بف�ؤادي ومل �أجد لإطفائها �سبيال‪.‬‬
‫م ّر رم�ضان و�صامت الأقوام وفرحت بالعيد بكل ما متلك من‬
‫و�سائل الفرح �إ َّال �أن �صوم هيام عني جعلني �أ�شعر باجلوع مهما‬
‫�أكلت وبالعط�ش مهما �شربت وبالوحدة مهما جتمعت النا�س حويل‬
‫�أو بهم �إجتمعت‪.‬‬
‫بعد تلك الأ�شهر اجله َّنمية افتتح املو�سم اجلامعي من جديد وعاد‬
‫الك�سل الكثري والعلم الوفري‪ ،‬التقيت هيام حم ّمال ب�ألف �س�ؤال و�شكوى‬
‫لك ّنها �أفلحت يف جتنب ثرثرتي حينما و�ضعت قبلة على جبيني وم�سحت‬
‫على ر�أ�سي وماكدت �أنطق حتى �أ�ضافت قبلة �أخرى على �شفاهي‪� .‬إبتلعت‬
‫كالمي ف�صمتُّ وغرقت يف ل ّذة رهيبة وقبلة ذكرتني بجون وميان يف‬

‫‪175‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫فيلمه «�أنت يف اجلي�ش» والتي و�صلت مدّتها �إىل ‪ 185‬ثانية �أما �أنا وهيام‬
‫فلم ن�ستطع مناف�سة جون ربمّ ا ب�سبب اخلربة �أو اخلوف‪.‬‬
‫ن�سيت ب�أ ّنها �أ�ستاذتي ون�ست ب�أين طالب عندها وتذ ّكرنا فقط‬
‫ب�أننا عا�شقان و�شبهتُها بال�س ّيدة اليزا �شيلي �سنجر التي �أح ّبها‬
‫فلوبري جو�ستاف مع �أنها تكربه بت�سع �سنوات وهو نف�س العمر الذي‬
‫تتجاوزين به هيام مع �أنّ الذقن الذي كنت �أتفنن يف ر�سمه ب�شفره‬
‫احلالقة وربطة العنق اجلميلة �أفلحا يف �إظهاري بعمر �أكرب من‬
‫عمري قليال‪.‬‬
‫بعد ذلك الغياب الطويل الذي فرغت من غ�ضبه بقبلة ال ت�شبه‬
‫القبل‪ ،‬تع ّمقت �أ َوا�س ُر املح ّبة وزاد لهيبها‪ ،‬تزاحمت الأ�شواق �آناء‬
‫الليل و�أطراف النهار وتع ّددت وتكاثرت وتزاديت‪.‬‬
‫ملحة‬ ‫من خ�صال هيام الإحلاح‪� ،‬شعرت به بعد طول غياب كانت ّ‬
‫ودافئة ال ت�ض ِّيع حلظة من اللحظات �إ ّال وم ّرغتها يف �إناء القلب‬
‫و�صف‪.‬‬‫الكبري‪ ،‬تعا�شقنا ومتادينا يف الع�شق حلدِّ ال ُي َ‬
‫�أقيم يف �شارع بال �إ�سم‪� .‬س ّكانه ط ّيبون ومتقنون لكل فنون التقاط‬
‫الأخبار‪ ،‬مل ي�سمعوا ب�شئ �إ�سمه الأدب وال يعرفون من احلب �إ ّال‬
‫احلكايات القدمية املده�شة يف كذبها والعائدة من تراث مزيف‪.‬‬
‫احلاجة الباهية حتدثني كل م�ساء عن حكايات الوجد‬ ‫ّ‬ ‫كانت‬
‫و�أ�سرار الن�ساء وما �أخطر الأ�سرار وما�أكربها حيث �أو�صتني ب�أن‬
‫�أكون فحال وال �أتنازل عن هزمية � ِّأي امر�أة و�أن �أكون مغوارا �أزلزل‬
‫�أنوثة كل الن�ساء و�أخربتني �أي�ضا بو�صية وقد ا�سميها قاعدة‪� ،‬أكاد ال‬

‫‪176‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫�أذكرها من خويف عليكم لكنني �س�أخربكم با�سم الأدب ولي�ساحمني‬


‫هذا الأدب الذي و َّرطناه وتورطنا فيه‪ ،‬قالت يل ب�أنّ الن�ساء يع�شقن‬
‫الع�ضو ال�صغري فا�ستغربت و�ش َع َرت بذلك فف�سرت يل هاته القاعدة‬
‫رجى‬ ‫العجيبة بقولها �أن الكبري مزعج وي�صل �إىل مواطن ال فائدة ُت َ‬
‫من �إقتحامها وراحت ت�صف يل الأع�ضاء ب�أحجامها م�ستعينة بيديها‬
‫ليكون و�صفها دقيقا‪ ،‬ذ ّكرتني باملاركيز دو �ساد ومازوخ وكتاب الباه‬
‫و�ألف ليلة وليلة‪ ،‬غ�صت مع احلاجة الباهية �إىل ح ّد كبري ففقدت‬
‫القدرة على زيارة امل�سجد تلك الليلة بعدما �شعرت ببع�ض الرطوبة‬
‫اجة‬
‫احل َّ‬‫فخذي ومنذ تلك اجلل�سة �أق�سمت �أ ّال �أطيل احلديث مع َ‬
‫ّ‬ ‫بني‬
‫لأنّ الإ�سرت�سال معها بات �أمرا خميفا‪.‬‬
‫تلك احلكايات العجيبة التي حفظتها عن ظهر قلب �أ�صبحت ُت�ش ِّكل‬
‫مزاحا م�ستمرا بيني وبني هيام نلهوا بتلك الأحاديث ونتفل�سف فيها‬
‫ون�ضحك كثريا‪ ،‬ما �أجمل الأ ّمهات وما �أروع اجللو�س �إليهنَّ ‪ ،‬حتى‬
‫ال�شيوخ متميزون يف بهاء الوقار الذي يحفهم‪� ،‬أح ّبهم ولو �أين قاطعت‬
‫اجللو�س اليهم منذ قال يل �أحدهم ردا على �إدعائي بكره الن�ساء‪:‬‬
‫(((‬
‫ياوليدي يل قال الن�ساء يتملوا يا دراهموا ق ّلوا يا نف�سوا تذلوا‪.‬‬
‫بت �ساهرا �أجرب �أع�ضائي ومل �أمن‬ ‫و�إثر هذا القول الذي د ّوخ ذاتي‪ُّ ،‬‬
‫�إ ّال بعد �أن ت�أكدت من قوتها وليتني كنت متزوجا ف�أغنيت امر�أة عن‬
‫حرائق ال�صيف‪.‬‬
‫التقي بهيام يوميا‪ُ ،‬ته ٍّرب احلزن وتبعده عن بوتقتنا‪ ،‬نحارب‬
‫اليوميات البالية باحلب ونهرب معا نحو ال�صمت �أينما وجد‪.‬‬
‫‪ -1‬من يدعي كره الن�ساء ف�إما ماله نق�ص و�إم ّا عاجز جن�سيا‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫العمر الذي بيننا �سرق منها الفرح يف مواطن كثرية‪ ،‬كنت �أ�شعر‬
‫بذلك يف منا�سبات متفرقة‪ ،‬تع ّمدت دوما التهرب من املواجهة �أو‬
‫احلديث عن �ش�ؤون تقودنا �إىل قلق كبري‪.‬‬
‫توفى والدي وترك خلفه فراغا كبريا ت�سكنه الفاجعة‪� ،‬إغتاله‬
‫ال�ضغط الدموي ب�شكل رهيب ولن �أ�سامح هذا ال�ضغط ماحييت‬
‫والذي مل ينفع فيه املوديريتيك((( بكل جرعاته ومقاديره‪� ،‬أتذ ّكر‬
‫جيدا اجللطة التي �أ�صابته و�سببت له ال�شلل الن�صفي‪ ،‬مل ينفعه‬
‫ال�سانرتوم(((‪ ،‬تع ّقدت و�ضعيته فلزمه ال�شلل لأ�سابيع طويلة والذي زاد‬
‫الطينة ب ّلة هو داء ال�سكري الذي ت ّوج كل هاته العلل فكان اخلتام‪.‬‬
‫ذهب نحو قربه �آخذا معه �أخبار ال�سيا�سة وخبث ال�سيا�سيني‪،‬‬
‫مت�شبعا من الطيبني والفا�سقني‪� ،‬أخذ معه �أ�سرار باري�س وحكاياتها‬
‫وذهب حزينا على �سوريا وليبيا وكل بالد العرب‪� ،‬إتّهم اليهود كثريا‬
‫و�سب �إ�سرائيل مرارا لكنّ لعن �أبي و�شتمه ال فائدة منه ولي�س �سوى‬ ‫ّ‬
‫عويل و�سط ال�صحراء‪.‬‬
‫كان رجل املواقف ذو ر�أي ثابت‪ ،‬م�شكك يف كل جاهز ال ميلك‬
‫�أوهاما �إجتاه احلياة‪.‬‬
‫ظهر ذات �صباح عرب �شا�شة التلفزيون رجل وقور ذو حلية ك ّثة‬
‫ينادي‪� :‬أ ُّيها الداعرون‪� ،‬أ ّيتها العاهرات‪ ،‬تعجبنا منه كدت �أغيرّ‬
‫مكاين لوال حر�ص �أبي على بقائي‪.‬قال يل بكل �أ�سف‪ :‬ماهكذا تكون‬
‫‪ Moduretic -1‬من الأدوية امل�ضادة لل�ضغط‪.‬‬
‫‪ Sintrom -2‬من الأدوية امل�ضادة للتخرث‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫الدعوة‪ ،‬هذا ي�شوه الإ�سالم �أكرث ممايدعوا اليه‪.‬ماكاد �أبي يكمل‬


‫كالمه حتى وا�صل ذلك ال�شيخ متبجحا‪ :‬من يقول احلداثة كافر‬
‫من يقول اللبريالية كافر من يقول العلمانية كاااافر‪� .‬صدمنا بهاته‬
‫الإتهامات الكبرية‪.‬قطع �أبي �صدمتي وهو يقول‪ :‬جزء ي�ستخدم‬
‫الطائرات بدون طيار وجزء يحمل �أ�سلحة رو�سية وينادي �سنقاتل‬
‫الكفار‪� ،‬أقوام �صنعوا �آالت و�أقوام حطمت مامل ت�صنع وقالوا دعر‬
‫وف�سق وحرام‪.‬‬
‫تعجبت من حتليل �أبي ومن ر�ؤاه ومنذ ذلك اليوم ب ّدلت نظرتي‬ ‫ّ‬
‫نحوه وبد�أت �أرى فيه املفكر ال املتلقي ملا يفكر فيه غريه واملحلل ال‬
‫امل�شاهد وزادت املحبة‪..‬‬
‫�سرق ُه مني املوت ومن �شقيقاتي ومن �أمي التي مل ينفذ �إ�شتها�ؤها‬
‫له منذ عقود‪ ،‬فعليه رحمة اهلل ور�ضوانه‪ ،‬كان �شمعتي و�سط الدهليز‬
‫الطويل ومطر اجلفاف احلزين‪ ،‬تف ّرق الفرح منذ فقدناه و�إحتجت‬
‫لزمن طويل كي �أن�سى �أمر موته قليال �أما ذكراه فهي ال�شئ الوحيد‬
‫الذي �أجزم ب�أ ّنه �سيبقى خالدا ّيف ماحييت‪.‬‬
‫�أ�ستعيد ذكريات الطفولة ك ّلما تذكرت �أبي انت�شيت بوجهه‬
‫الهارب مني و�أنادي با�سمه يف �أكرث اللحظات �أملا وقهرا‪.‬احلياة‬
‫ماتر�سخ يف ذهني مذ عرفت معنى �أن يغادرك �شخ�ص‬ ‫ّ‬ ‫عبئ هذا‬
‫�أحببته بال رجعة‪.‬‬
‫�أين �أبي‪� ،‬أين عواطف‪� ،‬أين عزوز‪� ،‬أين ج ّدتي ال�سخ ّية �أين اليا�س‪،‬‬
‫�أين بالل كلُّهم هاجروا‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫اج ُروا‪،‬‬‫اج ُروا‪� ،‬أَ َخ ُذوا الزَ َمانَ َو َه َ‬


‫اج ُروا‪� ،‬أَ َخ ُذوا ا َمل َك َانَ َو َه َ‬
‫الأَ ِح َّبة َه َ‬
‫اج ُروا � َأخ ُذوا الكَلاَ َم‬ ‫�أَ َخ ُذوا َر َوا ِئ َح ُه ْم َع ِن ال َف َخ ْار َوال َكلأ َ‬
‫ال�ش ِح ّي ْح َو َه َ‬
‫(((‬
‫َو َه َا َج َر ال َق ْل ُب ال َق ِتي ُل َم َع ُه ْم‪...‬‬
‫�أبدعت يا حممود و�صدقت‪ ،‬القلب قتيل مذ افرتقت معهم‪ ،‬قد‬
‫نلتقي يف العامل الآخر اذا و�سعتنا رحمة اهلل‪.‬‬

‫‪ -1‬جزء من جدارية حممود دروي�ش‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫خ َار َِج املَ ْو ِت ُك ُل �شيء َم�شْ ُكوك يِف �أَ ْمره‬


‫رفي ـ ـ ــق‬

‫عبد القدو�س �صديقي اجلميل الذي تداخلت معه ح ّد الأخوة‬


‫و�أحببته كمابادلني املحبة ي�سري بخطى ثابتة نحو املجهول‪ ،‬نحو‬
‫�شيء مل نعرفه �إ ّال يف كتب القانون وحولياته‪.‬‬
‫�أودعت حبيبته ال�سابقة �شكوى �ض ّده متهمة �إياه بهتك عر�ضها‬
‫مع �أ ّنها مل تكن قا�صرا بح�سب معلوماته �إ ّال �أنّ التحريات والتحقيق‬
‫�أثبتا عدم �إكتمال �سن الر�شد لديها‪ّ .‬مت �إعتقاله و ُو�ضع رهن احلب�س‬
‫امل�ؤقت يف �إنتظار حماكمته‪.‬‬
‫�أكربفاجعة بعد وفاة �أبي هي تواجد عبد القدو�س خلف الق�ضبان‪،‬‬
‫مل يخطر ببايل يوما �أن يحدث هذا فطيبته التي ت�صل ال�سذاجة‬
‫�أحيانا ال ت�ستحق هذا اجلزاء الفظيع‪.‬‬
‫تذ ّكرت يوم �أخربين ب�أ ّنه عرث عليها‪ ،‬كان فرحا فرحا �شديدا فقلت‬
‫له‪� :‬أال تخ�شى غدرها و�أنت تع�شقها بكل هذا ال�سرور‪ .‬فقال‪ :‬ال يا‬
‫�صديقي هي �أكرث من امر�أة وقد و ّقعت و�س�أكرر توقيع ك ّل عقود احلب‬
‫�أمام عينيها فالوقوع حتت ظالل �شفاهها ال مينحني حقّ امل�ساومة‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫هاقد منحتك ظالل �شفاهها‪ ،‬ظالل ال�سجن العايل اجلدران‪.‬‬


‫�أ�صدق يا حبيبي �أ ّنك برئ و�أ ّنك قد ُورِطت‪ ،‬لكنّ الأدلة قائمة وقد‬
‫�أثبتوا كما اعرتفت مبواعدتك لها مل ي�شي بك �أحد يا �صاحبي‪ ،‬برئ‬
‫�أنت من ذلك الغ�شاء امللعون لكنّ �شهوتك قادتك �إىل �أغوار ل�ست‬
‫�أهال لدخولها‪�.‬إنّ كيدهن لعظيم‪�.‬ستقولها يل بكل برودة لكنني‬
‫�س�أرد عليك بكل ثقة لأقول لك ولو غ�ضبت ب�أنّ كيد ال�شهوة �أعظم‬
‫وب�أنّ طريقها �شائك وخطري‪� .‬ستقول يل �إنتهى الأمر وكفاك ن�صيحة‬
‫و�س�أر ُّد بقوة �أكرب لأقول‪�« :‬أَ َفلاَ َيت ََذ َّك ُرون» ليتنا مل نتح ّدث كثريا عن‬
‫هاته احلكايات‪� ،‬أن�سيت يا �صاحبي ق�صة عبد احلق التي �سردتها‬
‫عليك �أكرث من م ّرة �أ َال تتذ ّكر كيف و ّرطته �سعاد بنت املكي بجعله‬
‫ي�صب ماءه يف رحمها قهرا‪ .‬ال ّلعنة‪.‬‬
‫بعد حماكمته التي دارت يف جل�سات متعدّدة حكم عليه بخم�س‬
‫�سنوات �سجنا نافذا‪.‬زرته �أنا ونارميان �أكرث من م ّرة‪� ،‬إنهار متاما وفقد‬
‫وزنه‪ ،‬زودته بالكتب وبع�ض الأغرا�ض وعدت باكيا حاله‪ ،‬كيف كان‬
‫وكيف �أ�صبح‪.‬نارميان �إنفجرت باكية وقلبها الدافئ مل يحتمل ر�ؤيته‪،‬‬
‫�صحيح �أ ّنها ال تعرفه بعمق �إ ّال �أ َّنها مل حتتمل حتول مظهره و�ضياع‬
‫خطوط و�سامته وب�شا�شته التي عرفته بها‪ ،‬توا�صلت زياراتي ووعدت‬
‫نف�سي كما وعدته �أن �أكون رجل املوقف مهما كان مقدار التعب‪.‬‬
‫م ّرت �أيام وليايل دون حدث ي�ستحق الذكر‪ ،‬روتني قاتل يحيطني‪،‬‬
‫أمت�سك مبفاهيم جتعل ال ّدنيا جمرد و�سيلة ال‬ ‫�أ�شغل فل�سفة العبور و� ّ‬
‫غاية‪ ،‬و�سيلة لعمل ال�صاحلات والتزود من اخلريات من �أجل توفري‬
‫الأجر والثواب واكت�ساب مكان يف ج ّنة ال يت�صورها عقل وال خيال‬

‫‪182‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ر�ضي اهلل عنه قال‪ :‬قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬ ‫فعن �أبي هريرة ّ‬
‫َ‬
‫و�سلم‪ :‬قال اهلل تعاىل‪ْ � :‬أع َددْتُ ِل ِع َبا ِدي ا َل َ�صالحِ ِ َني َما َال َعينْ َر�أ ْت َو اَل‬
‫�أُ ُذن َ�سمِ َع ْت َو َال َخ َط َر َع َلى َق ْل ِب َب َ�شر‪.‬ويف بع�ض رواياته َو َال َي ْع َل ُم ُه َم َلك‬
‫َم َق َرب َو َال َن ِب ّي ُم ْر َ�س ْل‪.‬‬
‫�أحتدث عن الدين و�أتفل�سف فيه‪� ،‬أحتدّث عن الآخرة و�أ�شتهي‬
‫ج ّنتها وحني �ألتقي بهيام بو�صوف �أكاد �أن�سى �إ�سمي والعن كل القواعد‬
‫والثوابت وحني افرتق معها �أعود �إىل ر�شدي و�أ�ستغفر اهلل كثريا و�أكاد‬
‫�أبكي لكني مل �أبك م ّرة واحدة ثم �أنك�سر و�أقول ماقاله ابن عطاء اهلل‬
‫رب مع�صية �أورثت ذال وانك�سارا خري من طاعة �أورثت‬ ‫ال�سكندري‪ّ :‬‬
‫عزّا وا�ستكبارا‪ .‬و�أن�سى‪� .‬ش ّبهني �صديق برجل ي�سمى �إبن الرواندي ال‬
‫�أعرفه ومل �أ�سمع عنه �شيئا وقال ب�أنه زنديق كبري �إذن �أنا زنديق قلت‬
‫له فنفى ذلك وراح يخفف من مزحته بطرائق خمتلفة‪.‬‬
‫�أنا جمرد �شاعر ككل ال�شعراء غري املعرتف بهم �أحب هيام ال �أكرث وال‬
‫�أقل و�أكره ماتكرهه‪�.‬أعرتف و�إن قيل مهزوم‪ ،‬ف�أهال و�سهال بالهزمية‪.‬‬
‫�أكتب ب�شكل م�ستمر و�أحلم ب�أن �أ�صبح كاتبا‪ ،‬هيام ال ت�شجعني‬
‫وتتهجم على ن�صو�صي كما �سبق وقل ّلت من عا�صفة العاطفة كتابي‬ ‫ّ‬
‫الذي �ش ّكل اخلطوة الأوىل يف م�سريتي التافهة‪ ،‬قر�أت ذات يوم ب�أن‬
‫هارفيه وفوكو يعتربان الكتابة دليل الوجود و�أ ّنها رفقة اجلن�س واحلياة‬
‫ي�شكلون حقيقة واحدة‪ ،‬مل �أ�صدق هذا القول ومل �أمت ّكن من تبنيه �أو‬
‫تبني جزء منه على الأقل‪ ،‬فقد وجدته مت�شعبا ومتعدد التفا�سري‪.‬‬
‫ماركيز دو �ساد يقول ب�أنّ ال طريق ملعرفة املوت �أف�ضل من ربطه‬
‫مبخيلة فا�سقة مل �أجنح يف حتديد املفهوم الدقيق لهذا القول لكنني‬

‫‪183‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�أجد بع�ض املوت حني تهزُّين خميلة هيام الفا�سقة والتي اكت�شفتُ‬
‫حجم ف�سقها الكبري حديثا فلم تعد تكتفي بتوجيه التلميحات‬
‫والإ�شارات بل متادت و�صارت تطلب مني الهبل واجلنون وال تر�ضى‬
‫بالعادي منه بل تبحث عن �أق�صاه‪.‬‬
‫أوجه‪ ،‬يتطاير الفرح من الأعني‬ ‫م ّرت �أيام طويلة كان الع�شق يف � ّ‬
‫وبواعثه تتجدد ب�شكل يومي‪ ،‬منخطف بها �إىل حد بعيد‪� ،‬أح ُّبها وغري‬
‫ح ِّبها ال �أريد �شيئا من مملكة الن�ساء‪ ،‬ال �أنكر �أ ّنها عا�صمتي للفرح‬
‫وان ادعيت غري ذلك �أكون قد كذبت‪.‬‬
‫نارميان �أ�صبحت ت�شعر ب�ش�ساعة امل�سافة التي بيننا والتي تزداد‬
‫�إت�ساعا يوما بعد يوم‪ ،‬الإن�سان وحده بقلبه قادر على التمييز بني‬
‫الذي يحبه وبني الذي يحتِّم على نف�سه جماملته‪� ،‬إ ّال �أنَّ العا�شق‬
‫كثري الـت�أويالت مما يوقعه يف ماال ي�شتهيه هكذا كنت وال زلت حيث‬
‫ال �أجد لها بني �أ�شيائي القلب الذي يع�شقها فا�ستيالء هيام على‬
‫تفا�صيلي ال�صغرية والكبرية ح َر َمني من ذاتي وجعلني مراهقا يف‬
‫عمر الن�ضج و� َّأخر بحثي عن حقيقة احلب والأدب لأ�صبح باحثا عن‬
‫حقيقتي التي جهلتها و�أنا ب�أم�س احلاجة اليها فا ّلذي ال يعرف نف�سه‬
‫لن يجد الطريق الذي يد ُّله �إىل معرفة غريه ومعرفة الإن�سان �سابقة‬
‫ملعرفة الكون ودقائقه‪.‬‬
‫مت ُّر الأيام ب�سرعة وتتب ّدل الف�صول و�أيام العمر تتناق�ص‪.‬حينما‬
‫اقرتب املو�سم الدرا�سي من االختتام جل�ست ذات ليلة حما�سبا‬
‫ومفكرا يف ال�سنوات التي ق�ضيتها مرابطا بني جدران الكلية اتفقه‬
‫يف الفراغ و�أتع ّلم ما ُين�سى‪ ،‬مل �أجد �إ ّال �أرقام ريا�ضية دونت يف ك�شوف‬

‫‪184‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫كثرية ت�شهد على حت�صيل ن�سيت �أين ح�صلته ومل �أتذ ّكر �أبدا ب�أين‬
‫بحثت فيه �أو تعبت من �أجله ‪-‬عابرون يف كالم عابر‪.-‬‬
‫مل يتبق من اجلامعة ّ�إ َّال بع�ض الذكريات ال �أدري ان كنت �ساتذ ّكرها‬
‫م�ستقبال �أم �أن�ساها كما ن�سيت كل الدرو�س‪.‬هيام لن �أن�ساها واثق من‬
‫ذلك كما �أنني لن �أن�س الأم�سيات ال�شعرية الكثرية‪ ،‬لن �أن�س �أي�ضا‬
‫تلك الفتاة التي �إ�ستوقفتني و�أنا �أغادر �أم�سية �شعرية وطلبت مني‬
‫�أن �أج ِّرب عليها ق�صائدي املمتلئة باحلديث عن النهود والرقاب‬
‫والأرداف ووعدتها بذلك ومل �أوف بالوعد الفا�سق‪ ،‬لن �أن�س �أي�ضا‬
‫�سرق مني حينما �سقطت مغ�شيا عليها وحملتها وكاد‬ ‫عواطف قبل �أن ُت َ‬
‫حملها ُي�سقط ِني معها لوال �أن تذ ّكرت ب�أين قلت لها يف ق�صيدة‪:‬‬
‫ُل ِو ًال َي �أَ َنا‬
‫َما ُك ْن ِت �أَ ْن ِت‬
‫َو َال �أَ ْن ِت �أَ ْن ِت‬
‫َو َل ْو َال ُم ْق َلت َ‬
‫َاي‬
‫ال�س ِّي َدات‬
‫ي�س َ‬ ‫َما َد َخ ْل ِت َق َو ِام َ‬
‫َو َمااج َت َم َع ِا ْ�س ُم ِك‬
‫ِبال َيا ُقوت َوال ُكو ْن ِزيت‬
‫ال�س ْو َ�سنْ‬‫َو َ‬
‫َف� ْأ�ش ُك ُر ِك ِجدً ا‬
‫ال�س ِّي َدة ال ِتي ُت ْت ِقنُ‬‫�أَ َّي ُت َها َ‬
‫َفنَّ الت ََ�ص ُو ْف‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�إذن بجهودي بلغت الت�صوف يف احلب و�أ�صبح بامكان غريتها‬


‫�أن ت�سقطها يف فقدان الوعي‪ ،‬كم هو خطري هذا اجلنون‪ ،‬ماذا لو‬
‫�سقطت على قفاها يف تلك الغيرٍّ ة وماتت ب�سببي‪ ،‬كنت �س�أحلق بها‬
‫بعد �أن �أهديها رواية‪.‬بال�شك‪.‬‬
‫لكنّ ال�سرطان قتلها ببطئ و�شناعة ال ت�ضاهيها ب�شاعة النازيني‬
‫وامت�صها بكل حقد وبغ�ض مع �أ ّنها مل تفعل له �شيئا ومل‬ ‫ّ‬ ‫أوج قوتهم‬ ‫يف � ِّ‬
‫تظلمه ومل تتع ّرف عليه من قبل‪.‬مل �ألتق به و�إ ّال كنت �شتمته وب�صقت‬
‫عليه دون �أن �أهتّم لأخالق الكتابة �أو خلق الكاتب ويا للأ�سف‪.‬‬
‫حني فقدت َمعلم احلياة ومعامل كل �شيء جميل �إ�ستَ�ش َع َرت‬
‫�إنهيارها فاختفت عن الوجود‪.‬مل تَ�سمح ومل ُي�سمح بالدخول عليها‬
‫خمافة �أن تفقد �صورتها الربيق الذي اكت�سبته منذ �أيام الطفولة فلم‬
‫تكن جميلة وفقط بل كانت حتفة �ساحرة ومده�شة‪.‬‬
‫حينما فتحت �أمامي كامريا ال�سكايب‪� ،‬إبت�سمت وجعلتها تبت�سم‬
‫عز انك�سارها مل ت َُطل املحادثة وحني �أغلقتها‬ ‫بحماقاتي وهي يف ِّ‬
‫ركبتي‪ ،‬و�ضعت جبيني على حافة ال�سرير‬ ‫َّ‬ ‫�سقطت مبا�شرة على‬
‫وبكيت ولطمت جبيني وقلت‪:‬‬
‫ال�ص َدى ال َل ْي ِلي‬ ‫�إِ َال َك َع ِل ْم ِت ِق َوى َّ‬
‫أجن ْم َو ِه َي ت َْذ ِوي‬ ‫َع َر ِف ِت َت َو ُ�س َل ال ُ‬
‫َف َق ْدتُ َ�س َاع ِتي ال َي َد ِو َية‬
‫َل َت ْم ِل ِكي ِل َو ْح ِد ِك َ�س َاع َتينّ ْ‬
‫َ�س َاعة ُتعِدِّ ينَ ِب َها ال َو ْق َت‬

‫‪186‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫َو َ�س َاعة للآَ اَل ْم‬


‫َكانَ ِمنَ املُ ْم ِك ِن �أَنْ ُت َغا ِزليِ َق ِ�ص َيدت َِك ال ِتي مَ ْل ُت ْكت َْب‬
‫َو َت ْن ِط ِقي َح ْر ًفا ِمنْ ِح َم ِم ُف�ؤَادك‬
‫َفت َْحترَ ِ ُق َع َما َد ُة ِ‬
‫ال�ش ْع ِر‬
‫الد ْم ُع َي ْن َ�ض ْب‬
‫َو َ‬
‫ُين َادُونَ َخ ْل َف ا َل َ�ستَا ِئر‬
‫َيا َ�ص ِاح َب ال َرقم َخ ْم ِ�سني �أَ ْو ِ�س ِتني‬
‫َال ُي ِه ْم‬
‫َف�أ َن َت َو ِع ّلت َُك َل َد ْي َنا َ�س ِج ْني‬
‫ال�س ِرير الأَب َي ْ�ض‬ ‫فيِ ُع ُلو َ‬
‫َكا َن ْت ِت ْل َك ا ُل�س ُم ُ‬
‫وم َت ْع ِوي‬
‫َال َال َال‬
‫مَ ِل �أُ ْخ َلقْ ِل َه َذا‪.‬‬
‫وهكذا ك َتبتُ بالرتاب امل�ضمخ بدمعي فوق قربها �أح ُّبك ولن‬
‫ت�شبهك امر�أة ولو ملكت ك ّل الن�ساء‪ .‬بعد ليلة من �سقوطي كتب‬
‫يل �أحدهم ر�سالة على الإميايل جاء فيها‪ :‬يجب �أن ال نبكي على‬
‫�أ�صدقائنا‪ ،‬انها رحمة �أن نفقدهم باملوت وال نفقدهم وهم �أحياء‪ .‬مل‬
‫ي�شر �إىل �صاحب القول لكنني عرفت ب�أ ّنه مون�سكيو ف�أعدت له ر�سالة‬
‫كتبت فيها قوال للدكتور «م�صطفى حممود» جاء فيه‪ :‬ال توجد حقيقة‬
‫نتعامل معها وك�أ ّنها الوهم مثل املوت‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫فعال كان التفكري يف موت عواطف وهم كبري بحجم ال�سماء مل‬
‫�أت�ص ّور وقوعه يوما‪.‬‬
‫علي دون‬
‫�صاحب الإميايل كان قريبا لها ومن عائلتها‪ ،‬تع ّرف ّ‬
‫أتعرف عليه وبعد �أيام ك�شف يل حقيقته وك�شف يل حقيقة �أكرب‬ ‫�أن � ّ‬
‫من كل �شيء حني �أخربين ب�أين قد كنت الطلب الأخري الذي ُرف�ض‬
‫حلت على ر�ؤيتي يف حلظات �شرع ف�أ�س املوت يف‬ ‫لعواطف بعد �أن ا ّ‬
‫�إقتالع جذورها و�سحبها نحو البيا�ض‪.‬‬
‫با�سم احلرام والتحرمي اغت�صب ح ُّقها يف ر�ؤيتي و�ضاع حقي يف‬
‫الإم�ساك بيدها وتقبيل جبينها واهدائها ق�صيدة من �شعري الذي‬
‫كانت ت�شتهيه رغم رداءته وت�صفق له رغم ركاكة الفاظه وخلوها من‬
‫اجلزالة والد ّقة ويا للخ�سارة ربمّ ا كانت �ستو�صيني ب�شئ ما �أعرفه‪،‬‬
‫�أ ّال �أقرتب من الن�ساء و�أ ّال �أحب غريها و�أن �أتذكرها يف �صباحي‬
‫وم�سائي لكنّ العادات حرمتها من ذلك‪.‬‬
‫احلب وكل طقو�سه وجتاهلت وتع ّنت‬
‫بكيت وبكيت لأجلها وقاطعت ّ‬
‫يف التجاهل ووقفت �ض ّد كل ال�شهوات واتخذت من �أفالطون مثال‬
‫فهو الذي قاطع ال�شهوات والزواج ومات مقاطعا ولكنني عجزت‬
‫برت�سخ عواطف فيها بقدر‬‫�أمام ذاكرتي القا�سية فبقدر فرحي ُّ‬
‫وجعي من تلك الذاكرة‪ ،‬مل �أكن �أعتقد ب�أنّ احلزن �أكرب منها لأنني‬
‫متيقن من �أ ّنها تعلوا كل �شيء يف حياتي املتعبة‪.‬‬
‫حني ر�أيت هيام للم ّرة الأوىل �شعرت ب�أنَّ ميعاد التنف�س قد حان‬
‫و�أنّ جعل عواطف مرجعا وذاكرة الب ّد منه لتجاوز املحنة اخلانقة‬

‫‪188‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫التي قتلت ك ّل الأ�شياء اجلميلة بداخلي طوال عامني من تو�سدها‬


‫للرتاب الذي نال منها �إىل الأبد واليوم هي خلف ّيتي ومرجعي الذي‬
‫�أعود اليه ك ّلما هزّين ال�شوق �إىل �شيء مل �أعد �أعرفه‪.‬‬
‫يف رحلتي نحو التجديد ومعرفة حقائق العاطفة رفقة هيام‪،‬‬
‫�أدركت �أ�شياء جتاوزين فهمها وتف�سريها فهيام �أ�صبحت مرعبة‬
‫ب�سيطرتها الأنثوية وغريتها املجنونة �صرت �أ�شعر يف الكثري من‬
‫الأوقات ب�أ ّنها تتح ّكم يف ج ّل �أ�شيائي الكبرية وال�صغرية واحلميمية‬
‫منها خا�صة حيث �إنزعجت مرارا من توظيفها يل يف خدمة رغباتها‬
‫غري املحدودة فهي متلك ج�سدا مذهال من حيث التفا�صيل ومبهرا‬
‫من حيث ا�شتعاله الذي ال يلبث �أن ينطف�أ حتى يعيد الك ّرة من جديد‪.‬‬
‫اميان ج�سدي عظيم ونهم �شديد نحو اللذائذ التي ال تعرف الإنتهاء‪.‬‬
‫التقيت بها مرارا يف بيت �صغري تز ّينه الألواح وبع�ض الكتب‬
‫التجارية‪ ،‬كان قلبها ي�ستقبلي بحفاوة كبرية ال �أجد لها نظريا‪،‬‬
‫حفاوة الكالم واجل�سد املزهر‪.‬جتل�س �أمامي وا�ضعة فنجان القهوة‬
‫وبع�ض البقالوة التي مذ �أخربتها عن ا�شتهائي لها مل تت�أخر عن‬
‫جلبها يف كل لقاء‪.‬‬
‫علي و�أنا �أرت�شف من ذلك الفنجان الذهبي‪ ،‬ت�سحبه‬ ‫ال ت�صرب �أبدا ّ‬
‫من يدي وتقدم يل نهدها املمتلئ باحلياة وتل ُّح �أن ابتلع ماي�سع فمي‬
‫دون �أن تهتم الحتمال �إختناقي به وحني ترى وجهي احم ّر و�أنفا�سي‬
‫تقطعت تن�سى �آهاتها لتنفجر �ضحكا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬جمنوووونة‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪� -‬س�أقتُلك به مادمت ت�شتهيه‪.‬‬


‫‪ -‬خميف �أن �أموت بنهد‪.‬‬
‫‪ -‬لك ّنك حتبه‪.‬‬
‫‪ -‬لي�س حلد املوت به‪.‬‬
‫‪ -‬ههههههه‪.‬‬
‫ولأنني �أقل منها عمرا مارحمت يوما طفولتي �أمامها و�أفرطت يف‬
‫ن�شر هبلها اجلميل حولنا يف �أكرب اللحظات تعبا ول ّذة حيث متزق‬
‫مالب�سي الداخلية وت�سخر من �أ�شيائي ال�صغرية التي �أخافتها �أكرث‬
‫من م ّرة‪.‬‬
‫وبت �أ�شعر ب�أ ّنها ُ‬
‫حتب �آخ ًرا �أو‬ ‫مل تعد نارميان ت�أبه بي كثريا ُّ‬
‫أعرف عنه �شيئا‪� ،‬صارت �أحا�سي�س الغربة بيننا‬ ‫حب ال � ِ‬
‫تقرتب من ٍّ‬
‫ممت ّدة كج�سور طويلة‪ ،‬مل تعد تلك التي بكت كثريا يوم �صدمني‬
‫ع�شقُ �أ�ستاذتي و�أظهرته �أمامها عن غري ق�صد‪.‬‬
‫مل �ألتق بها يف � ِّأي مكان يثري ال�شبهة �أو اخلوف بعد ذلك املوعد‬
‫فاخليانات ب�شتّى �صنوفها �أ�صبحت تزعجني و�أق�سمت �أ ّال �أقرتب‬
‫منها وال من �شبهها املقلقة و�أن �أظ ّل نقيا تقيا �أمام قلب هيام الذي‬
‫منحني عاملا مل �أفكر يوما يف تواجده يف مماليك احلب الكبرية‪.‬‬
‫ك ّلما جل�ست يف البيت تذ ّكرتها وتذ ّكرت �أبي فتطغى ذكرى �أبي‬
‫على كل الذكريات و�أ�سقط بني براثني احلنني والإ�شتياق فغيابه‬
‫لي�س عاديا و�سيبقى فوق الإعتياد مهما طال الزمن‪ ،‬متنيت �أن يعود‬
‫ل�ساعة �أو ن�صفها ويرى الذي يجري يف �سوريا وليبيا والعراق‪ ،‬مت�أكد‬

‫‪190‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ب�أنه �سي�شتم كثريا االبراهيمي الذي �أح ّبه ووثق به و�سيلومه على‬
‫ترك مهامه‪ ،‬مت�أكد �أي�ضا ب�أنه لوعاد �ستكلفنا عودته �شراء تلفاز‬
‫جديد فهو ال يحتمل احلديث عن اخلالفة وربط الإ�سالم بال�سيا�سة‪.‬‬
‫الئكي متع�صب وال يعرتف بهاته الأ�شياء‪ ،‬لك ّنه لن يعود فالتفا�صيل‬
‫املقلقة ال حتفزه على العودة فهو الوحيد من �أقرانه الذي ي�ست�شهد‬
‫بالعقاد ويقول يل ب�أنه تع َّلم ودر�س احل�شرات لأنه يدر�س ال�سيا�سة‬
‫وال�سا�سة والفرق بينهم لي�س كبري‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�أَ ْح ِ�س ُب َ �أ َّن ُك َّل لحَ ْ ٍن َال َي ْع َبقُ ب ِِط ِ‬


‫يب َث ْغ ِر َك‬
‫َبقَا َيا �أَ ْنغَام َت ْن َت ِح ُب َ�ض َي َاع ا َ‬
‫جل َمال‬
‫‪َ -‬مادُو َنا ع َْ�س َكر ‪-‬‬

‫�أقيم ملتقى حول �آفاق القانون اجلنائي وتطوراته باجلزائر‬


‫علي �أن �أح�ضر‬
‫حلت َّ‬‫العا�صمة‪ ،‬هيام كانت م�شاركة وحما�ضرة فيه‪ ،‬ا ّ‬
‫رفقتها و�أكون �أني�سها خالل الأيام الثالثة‪.‬‬
‫�أقمت بفندق ال يبعد كثريا عن املقر الذي جتري فيه فعاليات‬
‫امللتقى‪ ،‬ك ُّل �شيء هادئ وجميل ويبعث على الإ�شتهاء‪ ،‬مدينة �ضخمة‬
‫ب�شوارع مكتظة و�أنا�س تعد ّدت �أو�صافهم واختلفت فيهم املالمح‪،‬‬
‫�سيطرت املدنية الغربية على املوجودات وتال�شت الكثري من‬
‫مقوماتنا وا�ضمح َّلت‪.‬‬
‫هيام تنزل ك ّل �صباح �إىل امللتقى وتته ّرب منه قدر امل�ستطاع لتكون‬
‫معي فنختلي يف حميمية كبرية و�أول مهربة هي �إتخاذها لأ�سباب‬
‫واهية لتتمل�ص من الإقامة يف ال�سوفيتال �إىل الإقامة يف فندقي‬
‫املهرتئ قليال والذي ال يحتوي �إ ّال على �سرير ممزق وبع�ض الأفر�شة‬
‫البالية واجلدران الفا�سدة الطالء‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫تعود يف امل�ساء �أو منت�صف النهار‪ ،‬ت�ستحم مبياه باردة يف حمام‬


‫ندي يه ُّز �صمتي‪.‬‬‫يل طازجة تتقاطر ب�شعر ّ‬‫�شبه معطل وت�أتي ا َّ‬
‫يف امل�ساء الأخري جل�سنا على حافة ال�سرير‪ ،‬رحنا نتح ّدث عن‬
‫البدايات وعن �أجمل اللحظات املده�شة‪ ،‬وجدتها نادمة على الوقت‬
‫الذي �ض ّيعته يف كربياء ومن�أى عني وب ّررت يل ذلك بخوفها من‬
‫بكل ماتقوله دون �أدنى‬ ‫اقتحام احلب وجنونه‪.‬وجدت نف�سي مقتنعا ِّ‬
‫تفكري فجمال املوقف ال يحبذ � ّأي فكرة تنكد عليه‪ ،‬كنت م�سرورا‬
‫حلد جتاوز الكلمات‪ ،‬منبهر بها خائفا منها وعليها‪ ،‬طاردين يف‬
‫تلك الليلة �أرق خميف ب ّدد �سكوين وجعلني �أجل�س عند قدميها‬
‫كقط مرتع�ش‪� ،‬أح�س�ست ب�أنّ املجتمع لن يرتك لنا املجال لن�ستمر‪،‬‬
‫تذ ّكرت العمر الذي بيننا بعد �أن ن�سيته‪ ،‬ف ّكرت يف احتمال خ�سارتها‬
‫ذات يوم فبكيت‪ ،‬كدت �أوقظها لأخربها ب�أين �أح ُّبها وال حياة يل‬
‫خارجها لكنني تراجعت فهي تعرف ذلك ج ّيدا وكرثة الإعرتافات‬
‫قد ت�سقطني يف �إبتذال ال �أرغب فيه فالإعالنات املتكررة عن احلب‬
‫تقتله �أكرث مما حتييه واحتكار الكلمات للمواقف الأكرث جنونا يجدي‬
‫�أكرث من رميها يف الهواء‪.‬‬
‫قذفت الأعراف بعيدا ق ّبلت قدميها ال�صغريتني‪ ،‬دخلت الفرا�ش‬
‫يل عطرها‬‫بهدوء‪ ،‬د�س�ست �أنفي بني نهديها و�أغم�ضت عيناي‪ ،‬ت�سل ّل �إ ّ‬
‫خمدرا لقلبي املرجتف‪�َ ،‬شع َرت ِبي فتالحمت معي‪� ،‬أقحمت �ساقيها‬
‫�ساقي وو�ضعت ي�سراها على خا�صرتي وميناها على �شعري فبكيت‪.‬‬ ‫بني َّ‬
‫عدنا �إىل املدينة بعد �أ ّيام جميلة انق�ضت‪ ،‬مل نتحدث بعد عودتنا‬
‫يومني �أو �أكرث‪ ،‬طلبت مني �أ ّال �أت�صل بها لأن ظروفها لن ت�سمح لها‬

‫‪193‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫با ّلرد فاقتنعت رغم �أن قلبي �إحرتق كثريا و�شعرت بحاجة ّ‬
‫ملحة‬
‫للحديث معها لكنني اكتفيت بالإنتظار‪.‬‬
‫ُزرت عبد القدو�س وجدته ذابال بائ�سا ال ي�شعر ب�شئ من احلياة‪،‬‬
‫ذهبت �سخريته وانك�سر فيه �شيء ال �أعرفه ومل �أ�ستطع حتديده‪.‬‬
‫حتدّثنا عن احلياة و�ش�ؤونها‪ ،‬عن اجلامعة‪ ،‬عن الأ�سرة‪ ،‬عن كل‬
‫�شئ‪ ،‬حاول �أن ي�ضحك ف�أفلح قليال‪.‬نظرت فيما يحيطه فوجدت احلزن‬
‫يع ِّمر املكان واخلواء كبري لوال بع�ض الكتب التي بعثت احلياة فيه فقد‬
‫حدّثني عن قراءاته املختلفة‪.‬عرفت �أنه زاد �إطالعا و�أدرك قيمة الكتب‬
‫يف ظل الفراغ الكبري‪� ،‬أده�شتني ق�صيدة حممود دروي�ش التي كتبها‬
‫بيده وا�ست�أن�س بها بد�سها يف جيبه‪� ،‬سحبها بروية وقال يل �إقر�أ‪:‬‬
‫(((‬
‫ِمترْ ُ ُم َر َب ْع فيْ ِ‬
‫ال�س ْجنْ‬
‫اب َم َاخ ْل َف ُه َج ّنة ال َق ْلب �أَ ْ�ش َيا ُ�ؤ َنا‬ ‫هُ َو ال َب ُ‬
‫اب‬ ‫اب هُ َو ال َب ْ‬ ‫ُك ُّل �شيء َل َنا‪َ .‬ن َت َم َاهى َو َب ُ‬
‫اب ُي َه ِذ ُب �أَ ِي ُلول‬ ‫احل َكا َية‪َ ،‬ب ُ‬ ‫اب ِ‬ ‫الكتَا َبة‪َ ،‬ب ُ‬ ‫اب ِ‬ ‫َب ُ‬
‫حل ُق ِول �إىل �أَ َو ِل ال َقمِ ح‬ ‫َباب َب ِعيد ا ُ‬
‫ول �إىل َخار ِِجي‬ ‫اب َل ِك َن ِني �أَ ْ�ست َِطي ُع الد ُُخ َ‬ ‫َال َباب ِبال َب ْ‬
‫َع ِا�ش ًقا َما�أ َرا ُه َو َما َال �أ َرا ُه‬
‫اجل َم ْال َوال َ َباب لل َباب‬ ‫الد َال ُل َو َه َذا َ‬ ‫�أفيِ الأَ ْر ِ�ض َه َذا َ‬

‫‪ -1‬من ق�صيدة �أربعة عناوين �شخ�صية ديوان هي �أغنية هي �أغنية ‪.1986‬‬

‫‪194‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫ِزنزَ ا َن ِتي َال ُت ِ�ض ُئ ِ�س َوى َد ِاخ ِلي‬


‫َو َ�س َالم َع َّلي َ�س َالم َع َلى َحا ِئ ٍط ُ‬
‫ال�ص ِون‪.‬‬
‫�أكملت الأبيات‪� ،‬إغرورقت عيناي‪ ،‬جت ّمد عبد القدو�س يف مكانه‬
‫و�سحبني الوقت خارج ال�سجن‪.‬‬
‫ُعدت �إىل البيت تعبا‪ ،‬وجدت �أمي كعادتها منهمكة يف نكد ال‬
‫ينتهي‪ ،‬ع ّلقت �شقيقتي التي ت�صغرين ب�سنتني �إطارا ي�ضم �صورة‬
‫�أبي‪ ،‬مل يكن لها مال لتفعل ذلك‪ ،‬عرفت �أ ّنها ا�ستهلكت ح�صالتها‬
‫التي �أخفتها من �سنني‪ ،‬ناديتها ع ّو�ضت لها املال م�ضاعفا‪ ،‬ق ّبلت‬
‫جبينها وم�شيت‪.‬‬
‫دخلت غرفتي‪ ،‬مل �أجد فيها �شيئا يغريني بالبقاء‪ ،‬رائحة الورق‬
‫الأ�صفر‪ ،‬كتب متناثرة‪ ،‬غبار‪ ،‬فرا�ش و�سخ‪� ،‬أغرا�ض غري مرتبة‪،‬‬
‫جل�ست �أفكر يف عائلتي التي ال متلك غريي‪ ،‬تذ ّكرت طفولتي اجلميلة‬
‫و�أ�شياء الرباءة التي �ضاعت‪�َ ،‬س ِخرتُ من الوقت امل�ستعجل‪ ،‬من العمر‬
‫ال�ضائع‪ ،‬من كل �شيء و�أغم�ضت عيناي رغب ًة يف النوم‪.‬‬
‫ن�صف �ساعة ِانق�ضت‪ ،‬غرقت فيها يف نوم عميق‪� ،‬إ�ستيقظت مبلال‬
‫تفح�صت الهاتف فوجدت ب�أنّ هيام قد ات�صلت �أربع‬ ‫بعرق غزير‪ّ ،‬‬
‫م ّرات‪ ،‬حمدت اهلل لعودتها‪ ،‬نه�ضت‪� ،‬أخذت حماما‪ ،‬جلبت فنجان‬
‫قهوة‪ ،‬جل�ست على ال�شرفة واتّ�صلت بها فقالت‪:‬‬
‫‪� -‬أمتنى �أ ّنك بخري‪ ،‬ا�شتقتُ لك حبيبي‪.‬‬
‫‪ -‬قد �أكون بخري لكن بدونك ال ميكن اجلزم بذلك‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫‪� -‬سنلتقي قريبا‪.‬‬


‫لك‬
‫‪� -‬أين واملو�سم اجلامعي قد انتهى بالن�سبة ِ‬
‫لدي مفاج�أة لك‪.‬‬
‫‪ -‬من قال �أنّ اللقاء �سيكون يف اجلامعة‪ّ ،‬‬
‫‪� -‬أنتظرها بحب‪.‬‬
‫‪� -‬س�أت�صل بك غدا‪ ،‬كن بخري‪� ،‬أحبك‪.‬‬
‫‪� -‬أموت فيك‪�.‬سالم‪.‬‬
‫‪� -‬س ـ ــالم‪.‬‬
‫رحت �أفكر يف مفاج�آتها‪� ،‬شعرت بنور يتوهج بداخلي و�أ�صابع من‬
‫�ضوء ت�سحب �شفاهي لرت�سم �إبت�سامة طويلة‪ .‬لن تكون عادية فلي�س‬
‫من عادة هيام الك�شف عن هبلها �أو الإنذار به‪.‬‬
‫فرحة �أكرث من عادتها‪ ،‬مبتهجة‬ ‫يف اليوم التايل �إتّ�صلت بي‪ ،‬كانت ِ‬
‫ح�ضر نف�سي للقاء معها ليلة اخلمي�س‬ ‫ب�شئ ال �أعرفه‪ ،‬طلبت مني �أن �أُ ِّ‬
‫علي‬
‫حلت َّ‬ ‫� ّأي بعد ثالثة �أيام وو�ضحت يل مكان اللقاء فتح ّفظت‪ ،‬ا ّ‬
‫وطمنتني ب�أنّ كل �شيء �سيكون جميال و�أنَّ ح�ضوري �سيكون تاريخيا‬
‫بالن�سبة لها وب�أّنَّ بيتها العائلي جمهز الحتوائنا‪.‬‬
‫ح�ضرت نف�سي ج ّيدا‪ ،‬اقتنيت بع�ض امل�ستلزمات وانتظرت‬ ‫َّ‬
‫اخلمي�س بفارغ ال�صرب‪� ،‬شعرت بنوع من املخاطرة واملغامرة كما �أنيِّ‬
‫ال �أعرف عن عائلتها �شئ‪ ،‬ف ّكرتُ وف ّكرت ثم ا�ستنتجت ب�أنَّ املر�أة ال‬
‫تدعوا رجال �إىل بيتها العائلي �إ َّال وقد �إتخذت ك َّل الإحتياطات‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫بت �أكتب‪ ،‬كتبتُ الكثري‬ ‫يف �آخر ليلة تف�صلني عن اللقاء بها‪ُّ ،‬‬
‫والكثري دون �أن �أدري �سبب النهم املفاجئ ودون �أن �أعي مفاهيم ما‬
‫فج ّل مادونته هالمي وغري وا�ضح‪ ،‬لك ّنني وا�صلت ملأ الأوراق‬ ‫�أكتب ُ‬
‫بال هوادة‪.‬‬
‫� َّأذنَ الفجر فتذ ّكرت ال�صالة التي �ض ّيعتها مذ وجلت عوامل‬
‫الالمعقول بعد �أن كنت متم�سكا بها م�ؤمنا بف�ضلها‪ ،‬م�ستنريا بها‪،‬‬
‫لك ّنني �ض ّيعتها‪.‬‬
‫بعد الفجر عدت �إىل خمطوط رواية كنت قد ن�سيتها‪ ،‬ختمتها‬
‫ببع�ض الكلمات وق ّررت �أ ّال �أن�شرها و�أنتظر �أن جتوع الأمة وت�شتهي‬
‫غطى كل �شئ‪ .‬منت ل�ساعات ثم خرجت من‬ ‫�أن تقر�أ ف�شبع البطون ّ‬
‫غرفتي وجدت �أمي و�شقيقاتي الثالثة يتبادلون �أطراف احلديث‪،‬‬
‫�شاركتهم حوارهم الذي ال يعرف نهاية‪� ،‬شقيقتي الكربى ملّحت كثريا‬
‫إالي‪ ،‬تفاديت مل ّرات ك�سر‬
‫�إىل وجود رجل يف حياتها‪ ،‬مل يفهمها �أحد � ّ‬
‫عظامها وعظامه فقد كنتُ � ُّ‬
‫أ�شك بها وبرجل �أكاد �أعرفه ومن �أو�صايف‬
‫�أنيّ ال �أعرتف باحلر ّية �أمام ال�شرف وال بال�شاعرية �أمام املهانة و�إذا‬
‫اختلطت �أ�ضلعي يف حرب خ�ضتها ال�ستعادة �شريف �س�أكون �سعيدا‬
‫و�إذا ُك�سرت عظامي يف حرب خا�ضها �أحد �ضدي ال�ستعادة �شرفه‬
‫�س�أقبل رغم �أين ال �أنتهك حرمات الغري و�أن الكثري من الن�ساء هنّ‬
‫من انتهكن حرمتي �إ ّال مع هيام فبعد �أن بهرين جمالها وجدت نف�سي‬
‫مذهوال ف�ضاعت مبادئي ومات احلديث عن ال�صون وف�ضائله‪.‬‬
‫و�صل امل�ساء‪� ،‬إتّ�صلت بي طالبة �إلتحاقي بها فهي وحيدة يف البيت‬
‫تنتظر ح�ضوري‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫ركبت �سيارة �أجرة‪ ،‬منحته العنوان‪:‬‬


‫�شارع عي�سات �إيدير عمارة رقم ‪ 05‬الطابق الثاين الباب ‪.01‬‬
‫علي ق�ص�صا‬ ‫يق�ص َّ‬
‫�إكتفى ال�سائق بال�شارع ورقم العمارة وراح ُّ‬
‫عجيبة عن امر�أة ترتدي جلبابا �صعدت معه من �أجل �إي�صالها �إىل‬
‫مكان قريب ففاج�أته بطلبها لع�ضوه الذكري و�ص ّرحت ب�أنها ال تريد‬
‫�سواه و�أخرى وجهته �إىل خارج املدينة وك�شفت له عن نهديها وقال‬
‫ُكل كثريا وال ت�شبع والقا�سم امل�شرتك بينهما هو اجلمال الرهيب‬
‫والفتنة وال�شيء امل�ستمر هو رف�ضه وعدم �إن�صياعه وراء رغباتهنَّ ‪.‬‬
‫(((‬
‫نظرت �إليه ملي ّا فوجدته ب�شعا حلد بعيد‪ ،‬ب�أ�سنانه بقايا ال�شمة‬
‫ومن فمه تنبعث روائح مقرفة‪ .‬رائحة بذلته الريا�ضية نتنة جدا‬
‫ك�سيارته التي ذ ّكرتني ب�إحدى احلافالت التي ركبتها و�أنا متوجه‬
‫مل�ؤمتر حول اللغة فنزلت مغربا و�أ�سودا‪ .‬عرفت �أن هلو�سته كبرية و�أنَّ‬
‫احلرمان ك ّون له �شخ�صية متهالكة‪ ،‬مري�ضة حتلم مبالم�سة فتاة‪.‬‬
‫فهذا الت�أليف لي�س وليد ال�صدفة وكل الن�ساء �سيت�صحرن �أمامه فال‬
‫يبقى لهنَّ بلل‪.‬‬
‫و�صلتُ منهكا من حديثه‪ ،‬دفعت له ونزلت هاربا من ب�شاعته �إىل‬
‫جمالها اقرتبت من العمارة‪� ،‬صعدت دروجها متوترا‪� ،‬إتَّ�صلت بها‬
‫يف �أ ّول ر ّنة �سمعت بابا ينفتح قليال‪ ،‬تق ّدمت ف�إذا بال�ضباب ينق�شع‬
‫واخلوف يتال�شى‪ ،‬ر�أيتها بج ّالبة �سوداء م�شتعلة بالنور‪ ،‬مل �أعرف �أنّ‬
‫ال�سواد ينري �إ ّال يف هيام‪� ،‬سحبتني من يدي نحوها و�أغلقت الباب‪.‬‬
‫‪ -1‬من �أنواع التبغ‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫حتف طاولة عري�ضة‪َ ،‬ت َو َ�سطتُ‬‫�إت�سعت �أحداقي و�أنا �أرى ال�شموع ُّ‬
‫ال�شموع احلمراء و�أ�صناف احللويات الراقية ُز ّينت الكعكة الكبرية‬
‫غطى كل �شئ‪ ،‬غيرّ ت مالب�سي خفية حتّى ال‬ ‫با�سمي وا�سمها‪ ،‬الأحمر ّ‬
‫�أف�سد هاته العاطفة بالرغبة‪ ،‬فاج�أتني �أي�ضا ج ّالبتُها التي وجدتها‬
‫قرب باب الغرفة املقابلة‪ .‬جل�ستُ �إىل الطاولة العري�ضة كطفل �صغري‬
‫ينتظر حليب ال�صباح‪.‬‬
‫�أنتظ ُر �أن تظهر بعد هذا الإختفاء املفاجئ‪ ،‬حملقت يف الأ�شياء‬
‫املحيطة بي‪ ،‬مل �أر �شيئا ذو و�صف خا�ص �إ ّال ال�صور الكال�سيكية‬
‫واللوحات الفن ّية التي زينت اجلدران‪.‬‬
‫عطرة‪ ،‬منرية‪ ،‬ارتدت نويزات((( ق�صرية‬ ‫�أط ّلت كوردة بي�ضاء ِ‬
‫�أظهرت �أردافها و�أكتافها وفاحت منها رائحة زك ّية‪ ،‬وقفت لها وكدت‬
‫يل‪� ،‬أمالت رقبتها وابت�سمت فظهرت‬ ‫�أنحني تقديرا‪ ،‬م ّدت يدها ا ّ‬
‫يل‪� ،‬شممت رائحة �شعرها‬ ‫�أ�سنانها البي�ضاء المعة‪� ،‬سحبتها من يدها �إ َّ‬
‫العبقة وانتع�شت‪� ،‬أبعدت خ�صالتها وو�ضعت يداي على وجنت ّيها‪،‬‬
‫ق ّبلتُ جبينها و�سحبته نحو �صدري ف�شعرتُ بالدفئ‪ .‬مده�شة حلد ال‬
‫�أ�ستطيع و�صفه‪.‬‬
‫َه َم َ�ست يف �أذين �أح ُّبك‪� ،‬أح ُّبك‪.‬‬
‫فقلتُ لعينيها مر ِّكزا عليها‪� :‬أموت فيييييييك‪� .‬أريد الأبد ِ‬
‫معك‪ ،‬ال‬
‫�أر�ضى بغيرّ ك‪� ،‬أح ُّبك وبغري ح ِّبك ك ِفي يف اجلحيم‪.‬‬
‫ردّت‪� :‬أمل تكن هاربا من جه ّنم احلب كما �سبق و�أن قلت يف مقال لك‪.‬‬
‫‪1- Nuisette.‬‬

‫‪199‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫فقلتُ ‪� :‬إذا كان ح ُّب ِك جه ّنم �س� ُ‬


‫أهرب �إليه ال منه‪.‬‬
‫ر ّدت‪ :‬نحبك يا مهبول‪ ،‬نح ّبااااااك‪.‬‬
‫وراح��ت تقب�ض على وجنتاي وت�سحبني منهما حتّى �إحم ّر‬
‫وجهي كلُّه‪.‬‬
‫قطعت احللوى وقالت يل‪� :‬ست�أكل‬ ‫�صمتت واجتهت نحو الطاولة‪ّ ،‬‬
‫من فمي فابت�سمت‪ ،‬رفعت �صوت الي�سا فراحت ت�شدوا بعاطفتها‪،‬‬
‫مل �أركز ال�سمع عليها �إ ّال �سمعتها تقول‪ :‬ليلة الب�سلك الأبي�ض و�صري‬
‫بي �أحالم اليقظة �إىل‬
‫ملكلك والدنيا ت�شهد‪.‬تِهتُ طويال وهاجرت َّ‬
‫�أفق بعيد‪� ،‬أو َقفتها وو�ضعت مو�سيقى لريت�شارد كليدرمان ثم عانقتني‬
‫مط ّوال و�سحبتني نحو غرفة �أخرى بها �سرير ي�سع اثنني‪.‬جل�سنا على‬
‫حافته‪� ،‬صمتنا قليال ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬حبيبي هل تقبل �أن ت�ضحي لأجلي ولأجل �سعادتنا ببع�ض الأ�شياء؟‬
‫‪� -‬أ�ضحي بالعمر كله �إن حتتّم الأمر‪.‬‬
‫‪ -‬عدين �أ ّنك لن تتخ ّلى عني لو عرفت بع�ض الأ�شياء‪.‬‬
‫‪� -‬أعــدك‪.‬‬
‫‪ -‬قل‪ :‬وعــد‪.‬‬
‫‪ -‬وعــد‪.‬‬
‫مل توا�صل كالمها وغرقت يف بكاء طويل‪ ،‬ذ ّكرتني ببكاء نارميان‬
‫ذات حب لكنني �أفلحت يف الهروب من تلك الذاكرة‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫احت�ضنتها‪ ،‬تع ّرقت كثريا فج�أة وا�ستلقت وطلبت مني الإقرتاب‪.‬‬


‫مددت يدي نحوها فراحت متتّ�ص �أ�صابعي‪� ،‬إقرتبت �أكرث فا�ستولت‬
‫أججت نارها فاعتلت �أ�صوات الأنني وتوالت ال ّرع�شات و�سكن‬ ‫علي وت� ّ‬ ‫َّ‬
‫كل �شئ‪.‬‬
‫حلظات وعدنا �إىل و�ضعنا الأول فقالت‪:‬‬
‫‪� -‬آ�آه يا هيام‪ .‬هيام حمب الدين عا�شقة؟؟ يالهي ما ال ّذي فعلته بي‬
‫يا فت ـ ــاي‪.‬‬
‫‪� -‬أحببتك فقط‬
‫‪ -‬هههههه‬
‫‪� -‬ألي�س لق ُبك بو�صوف‬
‫‪ -‬بو�صوف لقبي �أي�ضا‬
‫‪ -‬كيف ذلك؟؟‬
‫�إح��م�� ّرت و�صمتت‪ ،‬نظرت �إىل ال�سقف نظرة مليئة باخلوف‬
‫واله�شا�شة فقلتُ ‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك حبيبي؟‬
‫ر ّدت‪ :‬ال �شئ‪ ،‬قلقة من بع�ض الأ�شياء‪ ،‬ال �أريد �أن �أف ِّكر يف �شيء‬
‫عداك‪ ،‬تعال‪..‬‬
‫�إقرتبت منها‪ ،‬جعلت ر�أ�سي على �صدرها‪� ،‬أغم�ضت عيناي وكدت‬
‫�أنام يف ل ّذة ح�ضنها‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫م ّرت ن�صف �ساعة و�أنا �أمت ّرغ بني ورود �صدرها‪� ،‬ألعق حنان مل‬
‫�أعرفه منذ زمن بعيد‪ ،‬وجدت النور و�سط الظالم و�أح�س�ست ب�أنَّ‬
‫جمال الدنيا قد انح�سر يف هذا املكان اململتئ بال�سعادة‪� ،‬إرجتف‬
‫�صوتي حني حاولت �أن �أقول لها ب�أين �سعيد ومنت�شي‪� ،‬إبت�سمت‬
‫ف�صمت‪ ،‬فج�أة �شعرت بها تتخلى عن ر�أ�سي‬
‫ُّ‬ ‫ب�أنفا�سها و�ض ّمتني �أكرث‬
‫وتن�سحب بهدوء‪ ،‬مل �أحت ّدث واكتفيت بالنظر �إليها وهي ترتدي‬
‫مالب�سها وتتوجه نحو الرواق‪ ،‬م ّرت دقائق ومل تعد‪ ،‬قمت فجل�ست‬
‫تطلب مني ال�صمت‪.‬‬ ‫على حافة ال�سرير‪� ،‬س َعلتُ فجاءت مهرولة نحوي ُ‬
‫حينما نظرت �إىل عينيها وجدت رهابا كبريا وخوفا مل �أعرف‬
‫�أ�سبابه‪ ،‬هيام كما مل �أرها من قبل‪� ،‬إرجتفت وجل�ست على ركبتيها‪،‬‬
‫�أم�سكت يدي‪ ،‬ق ّبلتها وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ثق �أنني �أحببتك حبا جتاوز الت�صورات والتقدير‪ ،‬مل �أكن لأح ّبك‬
‫بهذا اجلنون لوال الرجل ال�صادق الذي ر�أيته بداخلك‪ .‬مل تتكاثر‬
‫بداخلي لومل متنحني هذا الأمان واحلب‪� ،‬أنت تدرك ذلك وتعيه‪.‬‬
‫و�سقطت على يدي دمعة حا ّرة بينما كنت �أحرك ر�أ�سي موافقا على‬
‫كل ماتقول‪.‬‬
‫‪ -‬ما ال ّذي يحدث حبيبي؟‬
‫رفعت عينيها و�أجه�شت بالبكاء‪ ،‬مل �أفهم ما الذي يجري‪� ،‬ش ّدنى‬
‫ال�ضوء املتوهج بهاتفها الذي مل يتوقف عن الإهتزاز لكني مل �أجر�ؤ‬
‫على مد يدي �إليه حفاظا على خ�صو�صيتها‪.‬‬
‫‪ -‬هيام مابك‪ ،‬ما ال ّذي يجري‪ .‬هيااااام‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫‪ -‬ال تهتم عمري‪� .‬سينتهي كل �شئ‪.‬‬


‫‪ -‬نه�ضت من مكاين بعد �أن �سمعتُ �صوتا قريبا من الرواق‪� ،‬أ�شعلت‬
‫نور الكهرباء‪ ،‬ال�صوت كان خلف الباب‪� ،‬إقرتبت منه ف�إذا به ي�سقط‬
‫نحوي مك�سورا وممزقا‪.‬‬
‫ظهر من خلف الباب رجالن‪ ،‬حاول �أحدهما خنقي ف�أفرغت فيه‬
‫ماحفظته يف احللبات‪ ،‬حينما ر�أى الآخر تغلبي عليه �صعقني ب�آلة مل‬
‫�أعرفها‪� ،‬سقطتُ وتع ّر�ضت لوابل من ال�ضربات القا�سية حيث فقدت‬
‫القدرة على فتح عيناي‪.‬‬
‫�سمعت هيام ت�صيح ب�صوت مرعوب‪:‬‬
‫�أطلقوه‪� ،‬أطلقوه‪ ،‬يا خماج((( وا�ش حتو�س عندي‪...‬‬
‫ثم �شعرت بيدين ناعمتني مت�سكان ر�أ�سي الذي ينزف وراح‬
‫�صاحب ال�صوت الغليظ يزجمر‪:‬‬
‫خائـ ــنة‪ ،‬خائ ــنة‪ ،‬عاهرة خ ّداعة الرجال وا�ش خ�صك((( معايا �أنا‬
‫يل تزوجتك ودخلتك للدار‪.‬‬
‫ر ّدت عليه بكل قوة‪:‬‬
‫‪ -‬ال �أحتاجك‪ ،‬ل�ست �أنت من ينا�سبني‪ ،‬قلتها لك �ألف م ّرة‪...‬‬
‫ثم �سكنت ك ّل الأ�صوات بدوي طلقة نارية �أ�سقطت هيام ناحية‬
‫اجلدار‪� ،‬سمعتها ترتاجع ور�أيت نورها ينطف�أ يف خيايل‪� ،‬سمعت‬
‫‪ -1‬ق ـ ــذر‪.‬‬
‫‪ -2‬مالذي ينق�صك معي‪ ،‬و�أنا من تزوجك و�أدخلك ايل بيته‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫حممد رفيق طيبي‬

‫�أ�صوات �أبواب كثرية‪� ،‬سمعت �شباب ينادون �إرهاب‪� ،‬إرهاب و�سمعت‬


‫من خلف النافذة رجال يقول‪� :‬إ ّنه خالد ال�شرطي زوج الأ�ستاذة‪،‬‬
‫�سمعت �صوت ر�ضيع غا�ضب يف الطابق العلوي و�سمعت �أنني ذاتي‬
‫وحني فتحتُ عيناي بعد �صراع ر�أيت م�سد�سا م�صوبا نحوي‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫املوت يف زمن ّ‬
‫ه�ش‬

‫عـــــــــوْدة‬

‫�أ ُّيها القارئ العزيز‪:‬‬


‫ه�شا�شتي كانت �سرت�سم لك طرقا �أكرث ده�شة ومتعة‪ ،‬ما الفائدة‬
‫حني جنري وراء ق�ص�ص هاربة ال تعرف م�ستقرا‪ ،‬جمرد رغبة يف‬
‫معرفة حياة خمتلفة قد نتطابق معها وقد نختلف‪.‬‬
‫حني تقرر الإ�ستماع �إىل ذاتك �إقر�أ رواية فوحدها الروايات‬
‫اخلالدة ت�شق لك م�سارات قد تكون معقدة لتعرف ذاتك وذات‬
‫غيرّ ك املنغم�سة يف م�شاغب الالمنتهى‪.‬‬
‫ال �أخفيك غ�ضبي ووقوعي يف مطبات النكد التي �أكرهها‪ ،‬حينما‬
‫�إ�ستمعت �إىل �سرد �شاعر تع ّود القوايف ال النرثيات‪ ،‬قد �سرقك مني‬
‫والأذن تنخطف ملا يحقق امللذات فحني تقر�أ بال�شك �أنت �أح�سن‬
‫م�ستمع ل�صوتك الداخلي الذي يربط بني حلقة الف�ؤاد وحلقات‬
‫�أخرى ينع�شها جتلي الن�صو�ص واحلقائق‪.‬‬
‫م��اح��دث بعد ك��ل ذل��ك اجل��ن��ون ال��ع��اري ك��ان خمتلفا ع��ن كل‬
‫ال�سرديات القدمية وو�صفه م�ستع�صي و�صعب حيث يوجب على‬
‫ال�سارد بذل جهود مك ّثفة‪ ،‬غري متقطعة الي�صال القارئ �إىل منطقة‬

‫‪205‬‬
‫يف وج��دان��ه مت ِّكنه من تلم�س م�شاعر غ�يره التي ت�شبه م�شاعره‬
‫م�ستقرة �أو هائجة‪.‬‬
‫عبد القدو�س‪ ،‬نارميان‪ ،‬مليكة‪ ،‬هيام وغريهم �شكلوا طوال هذا‬
‫امل�سار املرتبك فواني�س �أ�ضاءت الدروب التي فتحها معرب ورقي نحو‬
‫عوامل �أنا�س مروا على زمن ما وتركوا �آثارا خ ّلدها التماهي الكبري‬
‫مع مفردات العبث والال�سلطة‪.‬‬
‫لو توا�صلت الكلمات مع الذاكرة بو�سائل �أكرث حميمية بعيدا عن‬
‫الإ�سرتجاع املح�ض لناف�ست برو�ست وزمنه املفقود ولأ�صبح الن�ص‬
‫جملدات لكن هنا نتوقف فلم يعد جمديا احلديث مادام ال�شعراء‬
‫قد حتولوا �إىل رواة ووجدوا م�ستمعا‪.‬‬

‫اجلزائر يف‪ 09 :‬جويلية ‪2014‬‬


‫‪22:02‬‬
‫َ�صدَ َر لل َكا ِت ْب‪:‬‬
‫ا�ص َف ْة ال َع ِاط َفة َعنْ َدا ْر ًج ْ‬
‫يط ِلي ِلل َن ْ�ش ْر َوال َت ْوزِي ْع ‪-2013 -‬‬ ‫‪-‬ع ِ‬
‫َ‬

‫َي َت َنا َز ُل ال َكا ِت ُب َعنْ ُح ُقو ِق ِه ا َملا ِد َية ِل َفا ِئ َدة َج ْم ِع َّي ْة ِح َما َي ْة‬
‫ال�س َر َطانْ‬‫ا َمل ْر َ�ضى ِب َ‬

‫للتوا�صل مع امل�ؤلف‪taibimohamedrafik@gmail.com :‬‬

You might also like