Professional Documents
Culture Documents
�أمي و�أبي..
الأهل َو ُك ُّل َق ِريب..
الر َجال املخل�صون والن�ساء املخل�صات ِ
امل�ؤمنون بحقيقة الأدب وماخلق له
ُ�ش َر َفاء ال َو َطن الذينَ َر َح ُلوا.
�أ�صحاب الأيادي الكرمية التي ال حتتكر ماتعرفه
منال �أوال و�أخريا.
ميما وزمنها الآخر ،زمن الإ�ستحالة..
ك ُّل الأح ّبة �أينما ُوجدوا.،
-رفيق
ِي�س ال َن ْومَ ،ف ِب َف ْ�ض ِل َها ن َُ�ص ِّد ُق ِب ُو ُجود ا َ
جل ِحي ْم.. ُمباركة َك َواب ُ
ي�س» «خو ْرخِ ي ْلو ْ
ِي�س ُبو ْرخِ ْ ُ
املوت يف زمن ّ
ه�ش
()1
َاعذرين �أ ّيها ال َقارِئ ال َك ِرمي فال ّرغبة فيِ �إ ْز َع ِاج َك مَ ْل َت ُكنْ َه َدفيِ
ِب َق ْد ِر ماكنتُ �أرغب يف �إمتاعك و�أنا �أ�شد على يدك و�أجرفك معي
نحو وادي ال�سرد ال�سحيق ،لك ّنك الآن وقد �إقتنيت هذا الن�ص �أو
بكل �صدق ب�أين قد ورطتك معي وقع بني يديك م�صادف ًة �أ ّق ُر لك ٍّ
ولي�ست لك � ّأي مهربة من هاته الأغوار العميقة التي �سنخو�ضها معا
ف�إذا وجدت ما يزعجك فت�ضامن معي لأين قد انزعجت قبلك و�إن
فلعلي �إبت�سمت �أكرث مما ينبغي وجدت ماي�سرك فابت�سم يف مكاين ّ
بل و�ضحكت كثريا رغم �أين �سمعت ب�أن ال�ضحك مييت القلب لكن
هذا القلب يحيا به وال �أدري حلد الآن مال�سر يف حياته عو�ض موته.
قال ذات ت�صريح ب�أنّ القراءة �ستوف ُر لك الفرن�سي «مونتني» َ
ال�صديق الذي لن يخونك �أبدا ،لكنه �أغفل يف احلديث عن هذا
ال�صديق و�صفه فبع�ض الأ�صدقاء الأوفياء بقدر �إخال�صهم مزعجون
و�إين �أت�صور �أن ماقلته عن �أولئك الأ�صدقاء �سينطبق متاما على هذا
ا�ص ُل ال ِق َرا َءة � ْأح َب َب َت �أم انزعجت ولي�س الن�ص ،لأنك يا عزيزي َ�س ُت َو ِ
يل ما �أعدك به �سوى �أين لن �أُغرقك يف حكايا اخليال العجيبة ،ولن
�أمنق كثريا بل �س�أكتفي بتوفري مكان �آمن لك تطل منه على نوافذ
7
حممد رفيق طيبي
تلك النوافذ غ ُريالواقع واحلقيقة ،لكن �أن ٍّبهك وللأ�سف ال�شديد �أ ُّن َ
قابلة للغلق و�ست�شاهد الكثري وما�أو�صيك به هو �أ ّال تلومني و�أن ترتك
�أمرك هلل و�أن حتاول التعمق والرتكيز لع ّلك ت�ستفيد.
أخربك �أي�ضا ب�سر�أراه كبريا ،قد كنتُ �شاعرا وملا بد�أ عودي �س� َ
ي�شت ُّد �سمعتهم يقولون ب�أنَّ ال�شعراء يتب ُعهم الغاوون وب�أ ّنهم يف ك ّل
واد يهيمون وب�أنهم �أي�ضا يقولون مااليفعلون ففزعت ورحت �أبحث
يف التفا�سري القدمية واحلديثة فوجدت ب�أن الأمر على قدر من
اخلطورة ثم راجعتُ ال�شعر وال�شعراء فبدا يل ب�أن �أ�سطره غري قادرة
فعجلت بالبحث عن البديل وها على توريطكم فيما �أنا متورط فيه ّ
�أنا اليوم �أ�سرد عليكم مثلما �سرد عليكم كتّاب �آخرون ،لكن الفرق
بيني وبينهم �أين ق ّللت املزاح وق ّل�صت حجم الكذب الكبري الذي
تعودمتوه يف الروايات ب�شتى �أنواعها وجئتكم من الواقع �إىل الواقع.
حلد ماكتبت لك عزيزي ل�ست ب�شارح ملاق ّدمت فقط وجدت �أنّ
الإعتذار �ضرورة ولأن قارئي هو عقيدتي و�إمياين بالأدب وماخلق
له فار�ضا�ؤه غايتي وهديف الأول والأخري� ،أعرتف �أنيّ �أر�ضي �شهوة
الكتابة املختزنة بداخلي لكن قارئها هو �س ّيدها مهما تعددت
التف�سريات والإجتاهات فالأدب هو �سجل احلياة ومر�آتها كما �صدق
�أحمد �أمني وهذا ال�سجل الذي ن�شرتك فيه يحق لنا �أن جند �أنف�سنا
فيه كافة.
منذ �أيام و�أنا �أعاين من كابو�س كبري تك ّررت زياراته الليلية مما
علي النوم وجعلني �أطار ُد ال ُكتب ب�صنوفها دون جدوى ،ذلك كدّر ّ
اجلاثوم مل يكن عاديا فمايدور فيه ت�شابه مع الواقع ح ّد التماهي،
8
املوت يف زمن ّ
ه�ش
كدت اجل�أ �إىل كتب تف�سري الأحالم �إ َّال �أنّ درايتي ب�أنّ هاته اخلطوة
اخلطرية �ستخل ب�شرف الأدب والثقافة جعلتني �أمتنع عن فعل ذلك
وقررت �أن �أكتبه لكم لع ّلكم تف�سرونه �أو ت�ستمتعون به �أو تنزعجوا منه،
اليهم فقد �سبق و�أعلنت ب�أنكم قد تورطتم و�أجدد �أ�سفي على ذلك.
�إذن �إتفقنا ،وما �أجمل ال�شفافية وما �أبغ�ض التعتيم ،هيا يا
�صديقي ويا �صديقتي �إىل �أقرب هدوء ممكن� ،سنلتقي كلنا على
كابو�س وما�أخط َر ال َّلقاء...
9
حممد رفيق طيبي
10
املوت يف زمن ّ
ه�ش
()2
فتح عينيه ،رفع رمو�شه �إىل �أق�صى الأفق الذي يعلو �سريره. حني َ
عرف �أنّ الوقت ت� ّأخر و�أنَّ موعد الإ�ستيقاظ الذي �إعتاد عليه قد
فاته ،و�أنّ �أوجاع الذاكرة التي داهمته يف ليلة البارحة قد �أ ّثرت عليه.
وقف على حافة ال�سرير يتثاءب وهو ي�شعر ب�أمل ي�سري يف ج�سده،
و�صداع خفيف ي�شت ُّد بني الفينة والأخرى� ،أو�شك �أن يعود �إىل الفرا�ش
لوال �صوت �أمه الذي ملأ الرواق وهي تدعوه للنهو�ض وتناول فطوره.
غيرّ مالب�سه بعد حمام دافئ �أزال القليل من الإجهاد والت�شنج
الذي �أ�صاب حيويته ،ثم جل�س ي�ستمع �إىل حديث �أمه املعب�أ برتاكم
النكد وال�شكوى من احلياة.
تذ ّكر �أنَّ عليه زيارة اجلامعة فا�ستف�ساره عن موعد الت�سجيالت
�صار �ضرورة فمنذ �إنقطع عن عاملها و�أ�صدقائها من �أول ال�صيف،
فالهو يعلم عن �أخبارها وال هناك من يعلمه ب�أنبائها فكان منقطعا
متام االنقطاع.
بحث عن النظارات ال�سوداء بني �أ�شيائه.لن يخرج اليوم دونهما،
فهما و�صفة الكرب التي مت ِّكنه من �إختيار من يراه ومن يتظاهر بعدم
11
حممد رفيق طيبي
ر�ؤيته ،كما �أنّ �أناقته لن تكتمل �إ ّال بالتن�سيق بني ربطة العنق ال�سوداء
والأ�سود املعتم لتلك النظارات الفاخرة.
كان اجلو جميال م�شم�سا ي�شره القلب وينف�س عن اخلاطر ،ف�صفاء
ال�سماء يزيل ال�سحب الكئيبة التي تل ّبد �سماء النف�س احل�سا�سة التي
تعاين توهج الذاكرة فيها.
و�صل �إىل اجلامعة ،بعدما �إ�ستقل �سيارة �أجرة كي يتفادى امل�شي
�أو ركوب احلافالت املهرتئة ،فذكرى نزوله من احلافلة برائحة
دخان املحرك الفواحة ال تزال عالقة بذهنه ،فبعد �أن تعطر ب�أجمل
العطور و�أغالها وجد نف�سه بحاجة �إىل تغيري لبا�سه يف يوم كان
متّجها �إىل موعد مهم.
حينما دخل �أبواب رئا�سة اجلامعة �شعر ب�صخب البريوقراطية
يتعاىل و�أ�ش ّده يف تلك املكاتب ال�صغرية التي ُت�شغل كل امل�صابني
بداء البطئ والإ�ستهتار .تق ّدم �إىل �أحد املكاتب املك ّلفة بت�سيري �ش�ؤون
الطلبة ،وقف متعجبا وهو ي�شاهد بعينني حائرتني عددا من البنات
وظفن يف مكاتب ال ت�سع �إ َّال موظفا واحدا على الأكرث.ت�ساءل �إن
كانت البطالة املقنعة((( التي ُعرفت بها اال�شرتاكية قد ولىّ زمانها،
�أم هوميالد جديد لقواعد �أخرى �أجنبتها ال�سيا�سة العرجاء؟ حتى
�إنّ احل�ضور الن�سائي �صار يلفت االنتباه ،فلم يعد ح�ضورا عاديا بل
طغى على الرجال حلد ال�شبهة .فقد حتول �إىل ظاهرة �إجتماعية
حتتاج �إىل الدرا�سة ،من �أجل معرفة اال�سباب واخللفيات.
-1م�صطلح يعرب عن جمموعة من العمال الذين يح�صلون علي �أجور دون مقابل �أو
جهد من الذي تتطلبه الوظيفة وهي ن�سبة اذا مت �سحبها ال يرتتب عن خروجها �أي
أوجها.
نق�ص يف اجمايل انتاج ال�شركة �أو امل�ؤ�س�سة وهذا ماعرفت به اال�شرتاكية يف � ّ
12
املوت يف زمن ّ
ه�ش
13
حممد رفيق طيبي
14
املوت يف زمن ّ
ه�ش
تفجعه .طفق َيطلق كلمات الذعة: يجل�س لريى مايحدث وي�شاركه ُّ
يخ�سروا...
�شوف يا وليدي �أوالد الكالب يعمروا فيهم هاهم بداو ّ
هي ال�سيا�سة واعرة...
-وا�ش دير يا بابا هاذي ّ
ال�شعارات تغريت وا�ستبدلت الالفتات ب�أخرى بعد مواجهة
املتظاهرين بالر�صا�ص احلي ف�أ�صبح النداء «ال�شعب يريد ا�سقاط
النظام»((( مرت الأيام والأو�ضاع تزداد �سوءا يوما بعد يوم و�أ�صابع
ته�شم العرباالتهام ت�شري �إىل �إ�سرائيل ،فهي امل�ستفيدة الأوىل من ُّ
ودمارهم والذي مل يتحقق لها بالقوة وال�سالح حتققه بزرع الفنت
وبذر ال�شقاق.
ح َّل موعد الدخول اجلامعي الذي يتطلب تغيريا كبريا على
م�ستوى توقيت الطلبة وهيئاتهم ،وعاداتهم التي �إكت�سبوها من �أيام
ال�ضجر ال�صيفية� .شهر رم�ضان نال من الكثريين حيث �إ�ستنفذ كل
طاقاتهم وح ّلت النحافة على �أج�سادهم املرهقة فلم يتحم�س �أحد
�إىل الدرا�سة فال ّراحة تع ّود وك�سل ي�صعب التخل�ص منها خ�صو�صا
حينما متتد.
�إجته �إىل املحالت التي �إعتاد �إقتناء الألب�سة منها فهو �صديق
الأناقة الذي ال يجد �ضريا يف �أن يق�ضي �أياما ي�شبع غروره بتبديل
اخليارات والألوان والأ�شكال ،مكانته عند والديه �أتاحت له ثراء
جل رغباته دون حرية �أو تفكرييف الأموال وبذخا م ّكنه من حتقيق ِّ
� -1شعار رفعه املتظاهرون العرب يف الثورات التي �إنطلقت �ضد �أنظمة احلكم
القمعية يف الوطن العربي والحقا �أ�صبح ال�شعار الرئي�سي املرفوع يف معظم
الثورات واالحتجاجات العربية.
15
حممد رفيق طيبي
16
املوت يف زمن ّ
ه�ش
17
حممد رفيق طيبي
()03
�إميل زوال.
18
املوت يف زمن ّ
ه�ش
19
حممد رفيق طيبي
20
املوت يف زمن ّ
ه�ش
غيرّ مكانه متك�أ على جدار قريب من مدخل تلك االدارة املهرتئة.
بقي ي�سرتجع كل مام ّر عليه من �أحاديث حول الن�ساء ع ّله ي�ستخرج
خربة �أو عربة ،فهو الذي مل ي�سبق له �أن غامر بكربيائه يحتاج كثريا
�إىل الن�صائح العامة التي كان يوجهها �أ�صدقائه �إىل بع�ضهم البع�ض
على م�سمع منه ،فبع�ض الرجال يتبادلون خطط االيقاع بالن�ساء
ويتلقونها ك�أفراد يف جي�ش يو ّدون الإطاحة بعدو ما.
يف تيهه وجتاذب الأفكار التي تراكمت ،هاهي قادمة حتمل دفات ًرا
وحمفظة� ،أر�سل نظراته تفت�ش عن �أ�سرار ج�سدها املتنا�سق وم�شيتها
املرتبة ،وماان و�صلت �أمامه حتى �صدمه عطرها العبق ،نزع نظاراته
وقابل عينيها الدعجاوين بنظرات م�سرت�سلة مل تعرف االنقطاع.
�أح�ست بارتباك ما وحاولت �أن ُت�صلح من م�شيتها التي �ضاعت.
لكن ال جدوى�.إبتعدت عن تغزل عينيه بابت�سامة مت�أخرة �أبدتها
الغمازات على حواف خد ّيها وهي ت�سرييف هدوء.
ماكانت ل��ه اجل���ر�أة �أو ال��ق��درة على ال ّلحاق بها ،فطاملا كان
ي�ستهجن هاته الت�صرفات ويرى فيها تقليال من الرجولة والأنفة.
حلظات وتوارت عن �أنظاره.جل�س يفكر فيم كان يجب �أن يقوم به،
بعد حديث ذات��ي ق�صري ،قرر جت��اوز �أمرها والتوجه �إىل قاعات
التدري�س من �أج��ل ح�ضور ح�صة �أ�ستاذ �آخ��ر على قدر كبري من
التدين والتع�صب.
جل�س يف �أحد ال�صفوف الو�سطى ،مل ينتبه �إ ّال وعدد ال ب�أ�س به
من اجلميالت يحطن به .م�صادفة ،ورمبا تعمدا .بد�أ ذلك الأ�ستاذ
حمدود ال�شعبية يطلق �سهامه مهاجما �أخالق الطلبة و�سلوكياتهم
21
حممد رفيق طيبي
22
املوت يف زمن ّ
ه�ش
23
حممد رفيق طيبي
وحده النوم يقب�ض على �أرواحنا لزمن طاملا نتمنى طوله كي نعي�ش
يف غري واقعنا امللئ بال�ضجر ،ما�أ�صعب اخليبات يف احلياة ،وما �أ�ش ُّد
فظاعتها وق�ساوتها حني تواجهنا يف �أول خطوة نحو حلم ما ،فان
تتعرث يف منت�صف طريقك فذلك �أخف من التعرث يف �أول خطوة نحو
تغيريواقع ما يثري ال�شعور املزمن بتقل�ص ع�ضالت وعظام ال�صدر.
�إىل فجر �آخر كانت الأمور تخ�ضع �إىل �سيادة الروتني فال جديد
يف عامل ال ميتلك خا�صية التغيري والنا�س مولعون بتكرار الزمن
وتقليده.يعي�شون دون طموح ،رمبا هو ال�ضعف امل�ستقر يف النفو�س
ورمبا عجز عن النظر �إيل الأعلى ،فالكل يرى يف هاته احلياة املادية
�سلما ق�صيا �صعب املنال ،فالكثريون تعر�ضوا �إىل �إجتياح اجلمود
لأنف�سهم ،فماعادوا قادرين على جماراة الأحالم ،فهي التي تنتظر
فجرها على نور الأمل ،فان مل جتد ذلك الذي تنتظر ،تتال�شي كمدا
وحزنا على �أمل حقق �أمل التال�شي واال�ضمحالل.
ذات �صباح كان اجلو ممطرا ودافئا ال يخلو من ال�شعور بالهدوء
حيث يفتح �أمام الأرواح احلاملة كل �سماوات التغزل بحاجات
الطبيعة البديعة.حينما وقف بذلك املعطف الراقي الذي ز َّين �سواده
حميطه ،كان حقا �سيد الو�سامة فرجل وحيد يغازل املطر لن يكون
�أقل �إغراء عن �أي رجل يف هذا الكون مهما �إعتلت موا�صفاته.
بني الرذاذ املنت�شر على حواف �أوراق الأ�شجار ميار�س طقو�س
الكربياء بالنظر ايل ال�سماء بعينني �شبه مغم�ضتني ،قطع �سكونه خليله
الذي عرث عليه م�صادفة بابت�سامة م�شرقة وهو يلقي التحية ويقول:
24
املوت يف زمن ّ
ه�ش
-هل تعتقد �أ َّنك نزار قباين مثال� ،أو �أحد م�شاهري بوليود الذين
ميار�سون هواية الوقوف حتت املطر؟
� -أت�سخر من وقويف حتت الأمطار؟ �إنها تغ�سل ف�ؤادي كما تغ�سل
بزخاتها الأ�شجار ،ثم هي جميلة..
-يقهقه� ...أتعتقد �أنَّ ق�صائدك املاجنة تلك جعلتك �شاعرا ،كفاك
جنونا .و�أخذ يردد ب�صوت �ساخر:
�أ�صرخ حتت املطر الأ�سود يف عينيك(((..
كاملجنون..
�أرحل من مرافئ ال�شعر الذي كان...
اىل مرافئ ال�شعر الذي يكون...
� -آ�آه لو علم نزار قباين �أنَّ معتوها مثلك �سوف يحفظ كلمتني من
�شعره رمبا �إ�ستقال من ال�شعر ،هيا يا عبد القدو�س �ساخل�صك
من عاملي الراقي ولت�أخذين �إىل عامل مقهاك الذي يحوي ترف
الك�سل واجلهل.
-كم كالمك فظ وفو�ضوي ،ملاذا تتعمد اال�ساءة ملقد�ساتي؟
-ي�ضحك ...اذن املقهى مقد�س بالن�سبة لك ،واحدة بواحدة
والبادئ �أظلم .ثم �سحبه من يده وغادرا.
-1من ق�صيدة نزار قباين املن�شورة حتت عنوان :التالميذ يعت�صمون يف بيت
اخلليل بن �أحمد الفراهيدي.
25
حممد رفيق طيبي
جل�سا و�سط املقهى ،طاولة ملوثة بالبقايا والف�ضالت ،مل ينتبه النادل
�إ َّال بعد �إ�ستفزاز تلك البقايا لهما ،فجاء مهروال ومعتذرا عن غفلته،
طلبا ك�أ�سني من ال�شاي فهو الأن�سب لربودة اجلو التي ملأت املكان.
بد�أ حوارهما بفتح علبة الذاكرة والتفتي�ش عن الأحداث اجلميلة
التي عاي�شاها منذ زمن بعيد فم�شاهد الطفولة نق�ش على جدار
الذاكرة اليعرف الزوال ،ذكره عبد القدو�س بيوم �أ�سود قاما فيه
ب�سرقة دجاجة جارتهما العجوز وبيعها بع�شرة دنانري ،والعقاب
الذي نااله يوم قب�ضت عليهما ،بعد �أن ن�سيا فعلتهما ،حيث �أ�شبعتهما
لطما على اخلد وامل�ؤخرة فكان حدثا ي�ستحق التذكر ،وهاهما اليوم
يرتحمان على روحها التي تندرج �ضمن طفولتهما اجلميلة.قاطع
عبد القدو�س وهو ي�س�أله:
� -أين فتاتك التي حتلم بها� ،أم ال تزال وحيدا تتح�سر عند كل ح�سناء؟
� -آه يا �صديقي لو �أخربتك بفعلة الن�ساء..
-م�ؤخرا �أ�صبحت غام�ضا ،ك�أنَّ الزمن �أن�ساك احلميمية التي بيننا،
مال ّذي حدث معك؟ يبدو�أ �أ ّنك �أ�سرفت يف الأحالم.
-يا�صديقي مبا �أ ّنك حتب املطالعة رمبا م ّر عليك قول عبد الرحمان
علي «ال تظن الهدوء الذي تراه يف الوجود يدل منيف((( الذي يدل َّ
على الر�ضا ،لكل ان�سان �شيء يف داخله يهزه ويعذبه» وحقا كما
علي الأمل جودا وعطاء ،فبعد قلت قد �أ�سرفت يف احللم ،ف�أ�سرف َّ
ا�ستقالتي من احلب منذ �أيامي الأوىل التي دخلت فيها �إليه .عدت
-1من �أكرب الروائيني العرب .2004-1933
26
املوت يف زمن ّ
ه�ش
27
حممد رفيق طيبي
طوائف املحبني� ،إىل �أن جاء ذلك امل�ساء الأ�سود الذي رماين فيه
القدر �إىل �سراديب مظلمة ،مل �أعرف بعد كيف �أنت�شل نف�سي من
املكيدة التي حيكت ب�سذاجتي .كل هاته الآهات تف�شت يف �أرجائي
حني رنَّ هاتفي بذلك الإت�صال امل�ش�ؤوم� ،أتدري من كان� ..إنه تو�أم
اخليانة وع�شيقها الآخر الذي مل �أحت�س�س وجوده يوما ،كانت بارعة
حلد االحرتاف وجنحت يف خداعي طوال فرتة تخديري مبع�سول
كالمها وها قد �إ�ستفقت من احللم و�سقطت �إمرباطورية اخلداع يف
كمني احلقيقة جتاذبنا �أطراف احلديث �أنا وذلك الرجل الغريب
الذي يعاين ما �أعانيه فكالنا �شريكان يف علة اخليانة ،عرفت �أن كل
كل حادثة كانت عندها ماقيل يف احلب كان �شراكة بيني وبينه و�أنَّ َّ
علي.
بخربتني وجتربتني و�أن تعط�شي لها ماكان حكرا ّ
هي اخلديعة مبعناها القذر ،فما �أ�سو�أ �أن تغدر من �أحبك ح ّد
اجلنون وكم هو مروع �أن تتلقى طعنة اخلذالن و�أنت غافل عن نف�سك
من�شغل بذلك احلب الذي يعلن وفاتك يف كل كلمة دون �أن ت�شعر.
-هون عليك يا �صديقي وتذكر قول رالف امير�سون((( «مقابل كل
�شيء خ�سرته قد ك�سبت �شيئا �آخر» قد خ�سرتها هي وك�سبت نف�سك،
فال حتزن على خائنة كانت �ستوا�صل تلويث حياتك.ذلك النوع
البائ�س من الن�ساء يجد متعة يف �إ�ستغفال رجل و�إعالن اال�ستحواذ
عليه ثم التنويه بقهره و�إركاع قلبه الذي فقد مقاومته و�أ�صبح �ضحية
للحب والتعود ،يوم ك�شف �أمرها و�أعلنت لنف�سك �إنتهاء �صالحيتها،
قد �أعلنت �أي�ضا دون وعي منك �أ ّنك قد �إنت�صرت ووجدت طريقا
-1فيل�سوف و�شاعر �أمريكي .1882-1803
28
املوت يف زمن ّ
ه�ش
لتعود �إىل ذاتك وحتتكر ملكية نف�سك لعقلك .القلب عدو �إن �سار
�إىل غريك دون توجيه� ،ست�شعر حقا �أنَّ حياتك �أ�صبحت �أف�ضل و�أنك
�صت من عبودية احلب الذي ج َّر عليك الأمل واخليانة.لتن�سى قد تخ ّل َ
�أكرث.لتكون �أقدر على ممار�سة حريتك وحياتك اجلديدة.
مل ينتبها ملرور الوقت فام�ضيا �ساعتني على مو�ضوع ال ًتعرف له
نهاية ،خ�صو�صا و�أنَّ عبد القدو�س �أغلق قلبه املحرتق ب�سر الغدر و�أمله
ومل يفتحه �إ ّال اليوم حينما وجد �أني�سه ورفيق طفولته الذي طاملا �أخذ
م�شاريع احلب اخلائبة على حممل اجلد و�أعطى �أ�صحابها اجلرعات
الكافية من م�سحوق الن�سيان الثمني عن طريق �أ�شعاره وكتاباته
املغرية ،فقد رفع ال�ضماد عن جرحه ع ّله يخفف من �أمله �أو ليجد
له حلوال تكفل له الن�سيان فهو بثقافته العالية ي�ؤمن ب�أنّ على الكاتب
�أن يكون الف�أ�س التي تك�سر البحر املتجمد يف الأفراد وذلك على حد
قول فرانز كافكا((( .غادرا ذلك املقهى ب�صمت� .شبح احلزن خ ّيم
عليهما دون �أن ي�شعرا به فدوما احلديث عن الأمل واحلزن يعطي
�شعورا �سلبيا يغطي على م�س ّرات النف�س وميت�ص طاقتها.
هم له �إال الأخبار عاد �إىل البيت مرهقا ،الوالد كعادته ال ّ
ومايجري يف العامل العربي.ليته احتكر �إهتمامه .بل يقحم كل من
يعرب على �شا�شته يف الربيع العربي والناتو وغريه ومن �شدة �إحرتامه
لأبيه مل يجد يوما مالذا للفرار من ال�شروحات والتف�سريات التي
ت�ستغرق يف اليوم �أكرث من ن�صف �ساعة والتي يرى فيها وقتا �ضائعا
وتفكريا مهدورا ال جدوى منه .والده بلغ من الكرب مرحلة ال يجادل
-1كاتب وروائي املانى ذو �أ�صول من الت�شيك .1924-1883
29
حممد رفيق طيبي
ر�سخها فيه الزمن فال ميلك �إال فيها يف قناعات قدمية و�إهتمامات ّ
م�سايرته وال�صرب على ماال يروقه منه على وجه الطاعة واملحبة وهذا
هو الأجدر ملن فقه الدين وتع ّلم �أ�صول احلياة ال�صحيحة وال�سليمة.
جل�س ين�صت للتحليل ال�سيا�سي الذي يتّهم فيه �إ�سرائيل بحياكة
م�ؤامرة �ضد العرب وامل�سلمني وي�شري �إىل قروب و�صول هاته امل�ؤامرة
�إىل اجلزائر وب�أنَّ الع�شرية ال�سوداء �ستعود من جديد لتكون حمراء
بدماء الإخوة الذين ف ّرقهم اليهود ب�صناعاتهم اال�ستخباراتية.
ماكان ليقلل من ثقافة والده ال�سيا�سية �إال �أنَّ تقدميها الب�سيط جعلها
تبدوا �ساذجة ومع مرور الزمن وا�ستمرار تلك احلرب البائ�سة �أ�صبح
مو�ضوعها ال يقت�صر على والده بل �شمل كل جمتمعه ال�صغري فتارة
ت� ُأ�سف و�أخرى حرية على و�ضع غري دقيق املعامل.
نام بعد حمام �ساخن �أزال عنه تعب التفكري واجل�سد .فتحت
والدته باب غرفته وجدت يف نومه املالئكي مايثري ال�شفقة حيث نال
منه الإرهاق حلد ن�سيان غطائه وانكم�ش يتو�سل تلك الو�سادة �شيئا
من الدفئ �أو رمبا احلنان الذي افتقده يف واقعه فالتج�أ �إىل و�سادة
�صماء ت�شاركه �أنفا�سه وحنان �صدره ب�صمت.
الهاتف ي�صدح ،ال�ساعة ت�شري �إىل ال�سابعة� ،إخرتق �أذنه �صوت
نارميان التي �إعتادت بجنونها ومرحها رفع �صوتها يف الهاتف حلد
يوقظ املوتى على حدِّ و�صفه.
� -صباح اخلري� ...إنه�ض هل ن�سيت �أنَّ احل�صة التطبيقية الأوىل
على الثامنة ،هيا �إنه�ض يا ك�سول..
30
املوت يف زمن ّ
ه�ش
31
حممد رفيق طيبي
32
املوت يف زمن ّ
ه�ش
33
حممد رفيق طيبي
34
املوت يف زمن ّ
ه�ش
طريقها و�أغلق القفل باحكام ت�أ ّكدت �أنّ توقعها مل يخب و�أنّ مامل
ت�شتهيه قد حانت �ساعته.
� -أتغادرين و�شوقي لك �أكرب من ال�شوق بذاته ،كم انتظرت �أن نكون
وحيدين ،ف�أنا ما�شعرت يوما ب�أنك طالبة كباقي الطالبات ،بل دوما
كنت حلما يرفع ر�أ�سي �إىل �سماء الرتجي ،هي �إذن �ساعة اال�ستجابة.
يتحدث وهو ميد يديه �إىل �أنوثتها املرجتفة ،املرتبكة.
تعايل واجل�سي فلي حكاية معك لن تطول ،كوين �أنثى كما ر�سمتك
يف اخليال ،ال جتاديل �أنفا�سي وال متنعيها وا�ست�سلمي للقلب الذي
امتلأ بك.
متمر�س على اللغة وميلك زمامها ،حاول �أن يكون يف �سنها ويقنعها
برذالته ودنو �أفعاله بكالم احلب الذي يحفظه عن ظهر قلب ،وبع�ض
الورديات البالية .مل جتد �أمام قوة �ساعديه التي ترجمها �ضغطه
على مع�صمها ب�شكل مل يعطها فر�صة للإفالت � ّأي عمل؟
-دكتور ..دكتور من ف�ضلك ت�أخر الوقت ،دعني �أرحل...
وا�صل يف تعنته �إىل �أن متكن من القائها على حافة �أريكة �أع ّدت
ال�ستقبال ال�ضيوف� .ساعدته على فعله املخل باحلياء مالب�سها
ال�صيفية اخلفيفة .نال مانال قوة وت�سلطا حتت ذرفها للدموع الذي
مل ينقطع متاما.
الأنذال الذين يتخفون ب�أقنعة العلم ميلكون من الق�سوة
والالمباالة يف تنفيذ خمططاتهم ماال يحيي �ضمائرهم .هي مثال
35
حممد رفيق طيبي
36
املوت يف زمن ّ
ه�ش
� -سحرتني ملرتني ،لن �أغفر لها جتاهلها يل ،كيف مل ت�شعر بوجودي
و�إهتمامي..
تهقهقه ...هل تعرفك؟
-ال ولكن من املفرو�ض �أنّ قلبها يعرف قلبي الذي �إهتز للمرة
الثانية ،لكن لن �أ�ضيعها الثالثة كوين مطمئنة.
-هل �أطمئن و�أنت تبحث عن امر�أة ال توليك � ّأي اهتمام ،هيا لنغري
املكان فقد مللت اجللو�س هنا.
غيرّ ا املكان وجل�سا يف �أحد املدرجات الفارغة ،بعد �أن علما �أنّ
اال�ستاذ املحا�ضر قد �ألغى املحا�ضرة وع ّو�ضها ب�أخرى يف توقيت �سيحدد
الحقا ال�صمت خ ّيم عليهما ومل يجد و�سيلة يك�سر بها �سكونا طال �أمده
�إ ّال ورقة بي�ضاء وقلم �أ�سود حملهما وبد�أ يدون �أفكارا عابرة .تل ّمحت ما
يكتب بنظرة خاطفة فهي تخ�شى �أن ي�صطاد نظراتها فيتهمها بالتطفل.
�س�ألته عن اخلرب�شة التي يقوم بها� .أجاب ب�أنه الف�صل الأخري
لرواية ق�ضى �سنتني يف العمل عليها .مل تعرف عن موهبته وميوالته
الأدبية �شيئا من قبل ،لكنها مل ت�ستطع تقبل وجود م�شروع يف حياته
مل تعلم به من قبل وهي التي طاملا كانت ظله� .س�ألته عن فحوى هذا
الف�صل وعن �أ�سماء �شخ�صيات الرواية وك�أنها تنتظر �أن جتد ا�سمها
�ضمن عمله الروائي وملا ت�أكدت من عدم وجوده� ،س�ألته ب�صيغة
مبا�شرة عن مكانها يف عمله ووجود �إ�سمها من عدمه.
� -أين هو ا�سمي� ،أمل ت�ستخدمه؟ �أم عملك يخلوا من احل�سناوات
اللواتي ي�شبهنني؟
37
حممد رفيق طيبي
38
املوت يف زمن ّ
ه�ش
�إعالن حرب على احلرية وبداية �إنتحار للفن الذي منار�س به حياتنا
ال�شخ�صية� ،إنه مر�ض مزمن يبيد كل حلم بداعي الروابط الأ�سرية
ومبد�أ امل�س�ؤولية الذي ال يحقق طموح احلاملني بال�سالم الروحي� .إنه
�شبيه باملوت ،فقط ال يقربك يف الرتاب �إمنا يف ذاتك لتتعفن با�سم
تلبية الرغبات الدنيئة مع ج�سد يتهالك يوما بعد يوم.
� -إخت�صر و�أخربين من �أبطالها وماهو مو�ضوعها ف�أنا ال �أفهم هاته
العبارات املت�شنجة.
-مت�شنجة ...الت�شنج �أ�صاب عقول الكثريين وح ّولهم �إىل كومة من
النفايا الع�ضوية� ،أمتنى �أنَّ النظام الداخلي لعقلك ال يزال يعمل فرمبا
�ستقتنعني ذات يوم �أن ن�ساء اليوم ماعدن قادرات على الوفاء لأحد.
-تتحدثون عن الوفاء ك�أنكم �أ�سياده املخل�صني...
-رمبا ل�سنا �سادة الوفاء لكننا �أي�ضا ل�سنا �آلهة للخيانة .الوفاء هو
�أن ت�شعل نارا قد تنري طريقك وقد حترقك واليهمك االثنان فقط
با�سم احلب ،فهو عبودية تتطلب ال�صرب بذريعة رابطة ال منلك
�إجتاهها � ّأي �ضمان.
-عد بي �إىل لب الرواية وكفاك ت�شعبا وفل�سفة..
-رواية واقعية ت�ستمد �أحداثها من واقع ب�شع �سبب الكثري من الأمل
لأحمد الذي كان يعمل كمتعاقد مع اجلي�ش طوال �سنوات الع�شرية
ال�سوداء التي م ّرت على اجلزائر دمارا وفجائعا متتالية فكان �صربه
على الدماء التي ل ّوثت يده و�ضمريه يف حرب �أبناء الوطن الواحد هو
امر�أة .دوما ا�ستب�سل يف �صراع البقاء لأجلها ويف كل رمية ر�صا�ص
39
حممد رفيق طيبي
ينادي ب�صوت يهز جدران روحه «�أحبها» حتى �أن املعارك ملا ت�شتد
وتقوى نريانها كان يرفع من معنوياته بتقبيل �إ�سمها الذي جعل منه
و�شاما ال يزول ،كان حبا �شبيها باخلرافة يف عنفوانه ،فالحدث
ي�شبه حوادث الع�شاق ،فالهيام الغريب هو ذلك الذي ك َّلما �إمتدت
امل�سافة بني �أطرافه كلما زاد توهجه ،فهو يعلن عن وجوده يف كل
خطوة ابتعاد ج�سدي ال روحي.
�أ�صيب ذات يوم يف مواجهة مع جمموعة �إرهابية بجبال
ال�شلعلع((( ،كانت �إ�صابته مميتة لوال قدر اهلل ولطفه كاد ي�ست�سلم
للموت لوال �إ�سمها الذي ه ّز ال�سماء ورفع �صداه اجلبال وهو ينادي
«زوليخة» لن �أموت» فما كان ليحافظ على احلياة ومل يكن يعنيه
بقا�ؤه كما كان يعنيه حبه الذي �إنتظر كثريا فهي ال�سنة العا�شرة وهو
يكابد امل�شاق ويعد ماا�ستطاع ومامل ي�ستطع من �ضروريات وكماليات
احلياة الزوجية ويف كل مرة تذرف دموع الي�أ�س وهي ت�س�أله عن
خطوبة طال �أمدها وجف ندى الإنتظار الذي كانت مت�سح جبينها
برطبه يف كل انقطاع لل�صرب لتحيا من جديد�.أحداث كثرية �ض ّمتها
هاته الرواية لن تكفينا ال�ساعات للحديث عنها وو�صف �أحداثها.
� -ش ّوقتني كثريا.متى تكملها لأكون �أ ّول قارئة .ال �أظن �أنك �ستبخل
علي ب�شرف هكذا. َّ
-ال �أدري فرمبا هاته الرواية �ستنهيني معها ،فما عدت �أطيق نقل
اخليال واحلقيقة يف هاته القوالب اللغوية العاجزة .حقا �أنا م�صاب
-1مكان �ساحر وذو مناظر طبيعية خالبة جبل �شاهق يقع �شرق مدينة وادى املاء
(والية باتنة) ي�صل علوه ايل حوايل 1848م.
40
املوت يف زمن ّ
ه�ش
41
حممد رفيق طيبي
مل ينتبها �إىل مرور الوقت وخلو املدرج من ثلة الطلبة الذين كانوا
منت�شرين يف زواياه فجلو�سهما وحيدين يعترب لدى �أعوان الأمن
�شبهة حتتاج �إىل التخل�ص منها فهم ال يتوانون يف ردع كل اثنني
يتجال�سان مهما �أوحى مظهرهما.
د ّقت �ساعة اجلوع�.أوقف مداده ونه�ض وهو ين�سق �سرواله الذي
انكم�ش متنهدا فقد �شعر �أنّ كالمه كان كثريا وهو الذي ال يتكلم
�إ ّال مبيزان ل�سانه وعقله م�سببا لنف�سه الكثري من التعب على غرار
نارميان التي ال تتوقف عن الرثثرة �إ ّال للنوم فدوما تعيب عليه
ق ّلة كالمه وخف�ض �صوته وتتهمه بتمثيل دور النجوم الكبار الذين
ترت�صد ال�صحف زالتهم و�أخطائهم فهم حما�سبون عن كل كلمة.
خرجا متوجهني �إىل بتزيريا قريبة من املركز اجلامعي القدمي.
قدمي ب�أمت معنى الكلمة فلي�س يف الكلمة �إ�شارة �إىل كونه عتيق
وفقط بل مهرتئ �أي�ضا فهو �أول من �إ�ستقبل م�شروع تكوين جامعة
حممد الب�شري االبراهيمي((( .توفر املحالت التجارية جعلت له
ميزة حتظى بها كلية احلقوق على غرار باقي الكليات التي تتمركز
على بعد كيلومرت فتحتاج �إىل و�سيلة نقل �أو انتظار النقل اجلامعي
من �أجل الو�صول �إىل تلك املحالت وق�ضاء خمتلف احلوائج.كانت
البتزيريا �شبه خالية �إ ّال من عا�شقني �إثنني جل�سا على مقربة منهما.
�أتى النادل بتلك االبت�سامة العري�ضة امل�صطنعة.
قطعا كالمه ب�أحد الطلبات املعرو�ضة يف قائمة يحفظانها عن
ظهر قلب من فرط تعودهما على ماتقدمه هاته البتزيريا التي
-1من اجلامعات اجلزائرية الفتية تقع بوالية برج بوعريريج ومت افتتاحها �سنة .2000
42
املوت يف زمن ّ
ه�ش
تعترب الأكرث �شعبية لدى الطلبة فاجلودة التي تعمل بها نظري االثمان
املعقولة جعلتها ت�ستقطب �أعدادا كثرية ففي الكثري من االحيان ال
جتد مكانا لنف�سك وقت الغداء.
و�صل طبقهما املف�ضل كان �سي�سحب �شطرا منه لوال �أن و�ضعت
يدها على يده و�أوقفته لتحمل قارورة ال�صل�صة وتكتب فوق الطبق
الذي ال يزال �ساخنا «�أكرهك».
متعن يف �إبداعها الذي مل يعرفه من قبل ثم �إبت�سم قائال:
�أتعلمني �أنّ نزار قباين يقول ب�أنّ �أجمل حب هو الذي نعرب عنه
بالكراهية...
�صمتت ومل جتد ردا� .شعرت بالإفحام .ماكانت تنتظر �إجابة �أو
رد فعل �صارم فعادته يف التهكم وال�سخرية ما �أتاحت لها �أن تتوقع
هذا الرد ،خفق قلبها وهي ت�شعر �أنها قد �إنف�ضحت بحبها مل ّرتني
يف يوم واحد وهذا موقف ال ي�شرف �أنوثتها التي �إعتادت الكربياء
و�إخفاء امل�شاعر.
-ما الذي يدفع بك �إىل التحاف هاته البذالت التي ال تروق �سنك
فنعومة �أظافرك وبراءتك لن تغطيها بذلة كال�سيكية ال معنى لها.
� -أت�سخرين� ،أم تغارين؟
-ت�ضحك� .أغار منك؟ وهل جننت لأفعل ذلك وتوا�صل �إطالق
�ضحكاتها التي �أثارت انتباه اجلميع.
مل يجد من و�سيلة ي�ستعيد بها الهدوء �سوى و�ضعه ليده على
فمها .ما �إن الم�ست �أ�صابعه �شفتيها حتى ا�ستقر �صوتها يف جوفها
43
حممد رفيق طيبي
44
املوت يف زمن ّ
ه�ش
�شعر �أنه دا�س على مو�ضع الأمل و�أحياه حني اغرورقت عيناها ولزمت
وهم يعتذر منها �إ ّال
ال�صمت� .أح�س بالذنب ومل يجد الكالم املنا�سب َّ
�أ ّنها قاطعته وهي جته�ش بالبكاء وتطلق متتمات غري مفهومة.
م�سحت نارميان على ر�أ�سها وو�ضعت قبلة على جبينها ُر�سمت
ب�أحمر �شفاهها الذي �أعادت ترميمه قبل حلظات� ،إعتدلت مليكة
امله�شم بعد �أن �سكبت �شيئا من يف جل�ستها و�أخذت ت�سرد واقع قلبها ّ
ال�صودا تعيد به البلل �إىل �شفاهها التي ج ّفت.
� -إنّ الو�ضع االجتماعي كثريا ما يحرق القلوب مبا فيها من
احلب ،كم حلمنا �أن ي�صبح حبنا خالدا و�أن ترتجم �أوا�سره �إىل
�أ�سرة نعي�ش بها ولها ونهبها من �أعمارنا الأيام والليايل ،لكن دوما
الأنني ي�شق الب�سمة ويك�سر �أيامها بحواجز نهرم وال ت�سقط كجبال
عتيقة ال زوال لها �إ ّال بزوال هاته الدنيا ومن فيها.يوم قرر خطبتي
�إبتهج اجلميع فكل �أفراد عائلته و�أ�صدقائه ال يزالون قيد احللم.
فهذا الإبن البكر الذي رف�ض الزواج من الكثريات رغم �إحلاح �أمه ال
يزال لغزهم املحري ،وجاء اليوم الذي ين�سحب من مائدة ال�شهوات
ويدخل قف�صا فيه �شهوة احلب والأحادية و� ُّأي حب نلنا.
�أمه كانت تنتظر �أن ير�سلها خاطبة �إىل �إحدى الأ�سر املرموقة
ذات ال�صيت واجلاه وما �أن �سمعت ا�سمي وابنة من �أكون حتى
ثارت راف�ضة لهذا الزواج و�أق�سمت ب�أغلظ االميان �أن وجهي لن يلج
بيتها مادامت على قيد احلياة وال �سبب �سوى �أين تلك اليتيمة التي
�إختطف املوت �أباها وهي يف عمر الر�ضاعة ليرتك لها �أما ت�صارع
اجل َّفاف يف بيوت الأثرياء ل�سنوات ويوم رحمها الزمن، لوحدها َ
45
حممد رفيق طيبي
46
املوت يف زمن ّ
ه�ش
ما فتئت حافلة النقل اجلامعي تنطلق حتى ركن �صديق قدمي له
�سيارته �أمامه �سائال �إياه ان كانت وجهته هي منزله� ،صعد �إىل ال�سيارة
وهو ي�شعر براحة فقد تخل�ص من التفكري يف النقل الذي ال �أمل فيه.
عاد �إىل البيت تعبا ،مرهقا ويف نف�س الوقت يحمل على عاتقه
�أحا�سي�سا مربكة ال تخل�صه منها �إ ّال الكتابة .بعد حمام �سريع حمل
�أوراقا بي�ضاء وقلما واجته �إىل حديقة البيت يبحث عن �إلهام يفرغ
فيه ما�أثقل كاهله كي يتم ّكن من النوم الحقا دون �أرق فم�شكلة الذي
يكتب ال�شعر �أنّ هاته الكتابة ت�صبح جزءا من حياته ال ي�ستطيع
الفرار منه.كما �أنّ �أحا�سي�س ال�شاعر �إجتاه �أمل الغري �أكرث �شدة من
غريه ،فكثريا ما�أم�ضي ه�ؤالء ليايل يف الوحدة ي�صارعون �آهات
قرائهم �أو زمنهم �إن تعكر وفقد �صفوه بالنزاعات الروحية واملادية
التي وان ح َّلت فانها جتوع القلب فرحا وجتعل من احلوا�س جمامرا
جم ّردة من الأحا�سي�س اجلمالية ،فال ترى يف اجلميل �إ ّال العيوب
فتحت�ضن الظالم ويبقى خليلك الذي ال يفارقك.
يف اليوم التايل �إ�ستيقظ ثمال ب�أحالمه الكثرية التي �إنهمرت
عليه يف ثنايا فرا�شه الوثري.فمنذ زمن عقد قرانا مع الأحالم التي
تقاربت مع �أمانيه يف الواقع ال�شحيح فخياله املو�سر كثريا ما �أقحمه
فيما ت�شتهي نف�سه من الرغبات الق�صية لذلك دوما يف �أحاديثه عن
الأمنيات يقت�ضب القول م�شبها نف�سه ب�أ�ضغاث الأحالم التي متر
كما متر �سفينة يف بحر فال تثري فيه �شيئا.
االن�سان دوما حني يحاط بواقع مبتذل فانه يبتدع �أ�شياء كي تزيل
عنه املرارة ،لكن دوما تتعطل �أبواق ال�سعادة كي ت�صدح الرداءة،
47
حممد رفيق طيبي
فجراح الوطن الذي نال منه �أبناءهُ ،تبكي ثورته التي هزّت التاريخ
ودونته بطولة و�أجمادا جميلة� ،أما اليوم فاملبادئ التي ر�سمها �سادة
احلرية الأولون قد �ضاعت يف ق�سمة ل�صو�ص نهبوا الأحالم والأماين
وتركوه جثة با�سم ال�شرعية الفا�سدة التي �أعطت احلق ملن الحق
لهم يف �أن يرتمنوا بالت�ضحية بنا �أج�سادا و�أمواال كي ينهبوا خريات
اجلماعة ويغت�صبوا ماتبقى من �أعماقنا ومن دموع القلب اجلريح،
فكثري من الدفاع يف هذا الوطن ماكان لنا بقدر ماكان علينا ،ونحن
الذين ظننا �أنه مك�سب نهدم به التطرف العقائدي مبختلف �صنوفه،
فكنا يف طرف �آخر و� ّأي طرف الذي يقف فيه �شعب ي�شاهد �إقت�سام
الوطن بعينني فارغتني ال تمُلأ �إال دما .قو�ضت �أركان االبت�سامة،
ف�أين ذلك ال�سيف البتار الذي �سيقتلع �أولئك املجرمني و�أي �أجل
م�سمى قد يحني وال يحني.
دخل اجلامعة مبعنويات متذبذبة ،ال يدري �إن كان �سيقدر
على موا�صلة الدرا�سة يف يوم �شاق ُيبدي امللل من مالحمة الأوىل
الباهتة ،تفاج�أ وهو يرى عبد القدو�س يجل�س مع فتاة جميلة يف ركن
من �أركان احلديقة ،وبدا تعجبه من ات�ساع مقلتيه وت�ساءل �إن كان
قد �شفي من احلب الذي �أعماه �سابقا وجعل منه كومة من احلزن.
�أوقف الأ�سئلة التي تدور بذهنه وهو يبتعد عن املكان خ�شية �أن يراه
فيحرجه.توجه نحو العمادة باحثا عن ال�سكرترية التي ترك لها
ّ
ملفا يتطلب توقيع العميد ،ماان و�صل �أمام الرواق الأول حتّى اهتز
ف�ؤاده الذي اعتاد ال�سكون و�أح�س �أن الف�صول االربعة تعرب حوا�سه
يف حلظة �إنقب�ض قلبه وهو يرى تلك احل�سناء التي �إنبهر بها �سابقا
و�ض َّيعها يف حلظة حياء.
48
املوت يف زمن ّ
ه�ش
49
حممد رفيق طيبي
50
املوت يف زمن ّ
ه�ش
()04
َو َم يِال َغ رْ َ
ي ال ُو ِد ِم ْن َك �إ َرا َدة
َو َال يِف ِ�س َواه يِل �إ َل ْي َك ِخ َط ُ
اب
�إبن حزم االندل�سي
51
حممد رفيق طيبي
� -أي �أمل تتحدث عنه ،مل �أعد �أعرف �شعور الأمل لأنني �أ�صحبت هو،
ب�صفاته ومالحمه املجعدة.
-لكن مالأمر؟ مل تتحدثي بهذا املنطق من قبل فما الذي جرى لك
يف حلظات.
-حلظات؟ عجبا لق�سوتكم �أيها الرجال ،تعد نف�سك �شاعرا و�أنت ال
متلك م�شاعرا حتافظ بها على �إح�سا�س بريء.
كاد ي�ضحك وهو يلحظ تهجمها على لغته وهي ال تزال متوج بني
�سحائب الدموع وحديث الأمل.
-لكن ماذا فعلت لك؟
-ال ّلعنه ،ف�ضحتني دموعي التي �إنهمرت على �ضفاف قلبي �آالف
املرات وهاهي اليوم ت�سيل وتندفع حقدا على عينيك اللتني ما
انتبهتا �إىل �ضربة القلب يف ر�ؤياك� ،أمل ت�شعر ب�أنَّ رمو�شي تغازلك
و�أنت تغازل امر�أة ال تعرف حتى �إ�سمك� .أمل ت�شعر ب�شئ؟
�أح ّبك� ..أح ّبك� ..أح ...وزادت الدموع يف عينيها كثافة ك�أنها
�سحب يف �أم�سية �شتوية ماطرة ،مل تكمل كلمة احلب الثالثة كما توقع
وعجلت تغادر و�صوت كعبها العايل يزداد �شدة. ّ
حلق بها دون جدوى فوقوفه م�شدوها � ّأخره للحظات كانت كافية
لأن تبتعد وت�صل �إىل البوابة الرئي�سية التي ال تتيح له اللحاق بها
بعدها لأنّ املكان مكتظ وقد يجلب عليهما تطفل الأعني والأل�سنة
وهذا ماال يرغب فيه �أحد.
52
املوت يف زمن ّ
ه�ش
53
حممد رفيق طيبي
�أتعل ـ ــم؟
طاملا �شعرت �أنّ �إح�سا�سها يحا�صر حوا�سي و�أنّ كالمها الذي ال
احل�سا�سة التي تخ�شى علىيقال �أكرب بكثري من الذي تقوله ،فهي ّ
خفي ك�شفته يف حلظة �أحا�سي�سها الف�ضيحة والإنك�شاف� ،إنها عامل ّ
عري من الكربياء والتظاهر
�أمام ده�شة عبد القدو�س وعدم فهمه لكالمه ،كاد ي�س�أله عما
جرى �إ ّال �أنه �إ�سرت�سل من جديد وهو مي�سح على ر�أ�سه بيديه.
-يا�صديقي كم �سبق و�أن مات الفرح بني ثنايا كالمي و�أنا �أ�صارع
الإحت�ضار العاطفي يف هذا الزّمن املر فال يروقني اليوم �أن �أوا�صل
رمي الأزهار فوق العابرين على قلبي ،نارميان لن �أخ�سرها مهما
ك ّلف ذلك ،لكن غري م�ستعد �أن �أكلف قلبي بالرحيل �إىل �أ�سوارها
وهو مقيم بامر�أة ال يعرف عن تفا�صيلها �شيئا ،وامتلكت زمامه
بجمال مل ي�س َّوق بعد� ،أخاف على �أحالمها �أن ت�صبح رمادا بفعل
قلبي الذي ما �إعتاد الإنخطاف املفاجئ باحلب ،فبعد كل ال�سنني
التي �أم�ضيتها عا�شقا للهباء� ،أ�صبحت م�شاعري �ضريرة ال تتقن
�إ ّال فن الإحرتام �أما احلب فعليه �سالم الأحرار.قد �صارحتني حني
�إنتهكت ُحرمة الغرية لديها و�أو�سعت قلبها ك�سرا وهي تتقبل تغزيل
بغريها �أمام �أحا�سي�سها الرهيفة.
نطق عبد القدو�س بعد �إن�صات عميق:
� -أنَّ امر�أة حت ُّبك وتخ�شى عليك ومنك ال�ضياع بني �أح�ضان امر�أة ال
متلك �شعورا �إجتاهك هي جوهرة ال يك ّر ُر ع�شقها يف هذا الزمن الغريب.
54
املوت يف زمن ّ
ه�ش
ده�ش �أمام حكمة عبد القدو�س املفاجئة ،فمن �أين ح ّلت عليه
وهو الذي مل يعتد �إ َّال الإ�ستهتار ولو كان الأم��ر على قدر من
اجلد وال�صرامة.
فتحت �أفق اخليبات وتعالت �أ�صوات ال ّنكد يف جمل�س مل يطل
كثريا ،حيث قررا املغادرة �إىل مكان ف�سيح يخلوا من �ضباب ال�سجائر
الذي �إختنق به املكان.
ما�إن خرجا حتى فاج�أه عبد القدو�س وهو ي�ستخدم حاكوما
لفتح �سيارة جميلة مركونة على بعد �أمتار من املقهى� ،أعلمه �أن
ال�سيارة ملك ل�صديق ،فقد الحظ �أن عالمات احلرية قد �إرت�سمت
على وجهه.
توجها �إىل خارج املدينة يف طريق معبد يتيح مل�ستعمليه الإ�سراع يف
ّ
ط ِّيه وماهي �إ ّال دقائق حتى وجدا نف�سيهما �أمام طريق طويل �سهبي
تكاد حوافه تخلوا من احلياة� ،س�أل عبد القدو�س عن وجهتهما وهو
يطلب منه كبح ال�سرعة لأنه يعلم بحداثة رخ�صة �سياقته وعدم
�إمتالكه للخربة الكافية للتحكم يف املركبة يف طريق كثري االلتواءات.
كانت وجهة �سياحية نحو � ّأي مكان يحقق الراحة النف�سية التي
توفرها الطبيعة للإن�سان مبائها وخ�ضرتها البهية�.سارا طويال
و�صوت املذياع مل ينقطع متاما ف�أجواء اخليبة وال�شعور بال�ضيق ال
زاال يطاردانه� ،أ ّما عبد القدو�س فبطيبة قلبه حاول التخفيف من
�آالم ذاكرته التي �إ�ستعادت ك ّل اخليبات ب�شئ من اللهو واملو�سيقى
ال�صاخبة دون جدوى.
55
حممد رفيق طيبي
56
املوت يف زمن ّ
ه�ش
-عن �أي دولة و�أي �أطالل تتحدث يا عبد القدو�س ،و�أي وحي تهاطل
عليك الآن؟
�ضحك عبد القدو�س ب�صوت خافت� ،ضحكة «�صفراء» كما يقول
املثل الذي �أطلقوه على �ضحكة النفاق التي ت�ستخرج من جوف
�صاحبها بجهد وكذلك ال تكون نابعة من القلب� ،أي م�صطنعة.
�صمتا قليال ليرتكا للمكان دورا يربز فيه الأ�شياء اجلميلة حيث
متتزج الأنفا�س الثخينة بنف�س الطبيعة النقي.ثم عاد عبد القدو�س
�إىل �شروحاته:
� -إنَّ هاته القلعة تعترب امتدادا لدولة حماد بن بلكني وقد �شيدت �سنة
1008م يف هذا املكان الذي اختري لكونه يتمتع باحل�صانة لأن �سفح
هذا اجلبل يعلوا بـ 1000مرت فوق �سطح البحر وهو الأن�سب ملراقبة
العمليات الع�سكرية يف الأماكن املجاورة وقد بني هذا ال�صرح يف
مدة ثالثني �سنة.
قاطعه قائال :لكن �أال ترى �أنَّ �أجزاء منها ت�ضررت ويبدوا �أنّ
قطعا كثرية قد �ضاعت من حميطها ورمبا �سرقت؟؟
-وطن ُ�سرقت فيه الأحالم ،فكيف تنتظر �أ ّال ت�سرق �آثار ثمينة
فال�شئ الذي مل ي�أخذوه تركوا الغري ي�أخذه ف�أغلب ما ُوجد هنا من
قبل موجود الآن مبتحف الباردو والبع�ض الآخر يف باري�س كما �أنّ
الإعالم ال يلتفت متاما �إىل هاته الآثار الثمينة �إ ّال ماحدث قبل
عقدين �أو �أكرث حينما قامت منظمة اليون�سكو برتميم املوقع.
57
حممد رفيق طيبي
�أنهى عبد القدو�س �إ�ستعرا�ض ثقافته و�سارا �إىل �أن �شعرا بالإنهاك
فجل�سا متباعدين يتبادالن التنويه مبختلف مايعربهما من جمال وروعة.
� -إذن يا عبد القدو�س نحن الآن يف املعا�ضيد ،املنطقة التي �سمعت
عنها كثريا.
-ماذا �سمعت؟ عن ال�صخور مثال؟ وبدا �شيء من احلمرة على
وجهه فقد ت�سلل �إليه ال�شك يف �أنه يعرف املكان وجتاهل ذلك من
�أجل �إختبار ثقافته.
� -سمعت عن �أحالم� ..أحالم ال�صحفية التي حدث معها الكثري هنا،
�إنها الرتاجيديا الواقعية يا �صديقي.
تنف�س عبد القدو�س تنف�سا عميقا فقد كان ينتظر منه �أن ي�سخر
من معلوماته �أو ي�ضحك عن �إ�ستعرا�ضه الثقايف ،التاريخي لكن ذلك
مل يحدث.
-مالذي حدث للم�سماة �أحالم((( وكيف ذلك؟
م ّد نظره �إىل �آخر الأفق ،تنف�س ببطئ ثم تنهد بح�سرة وقال:
�أحالم امر�أة املواقف.مل ت�سمح لنف�سها بالهرب من م�أ�ساة الوطن
�إىل الأمان الذي مل تعرفه منذ اندالع ال�شرارة ال�سوداء التي �أ�شعلها
متطرفون مل ت�شق الرحمة لقلوبهم � ّأي طريق فكانوا ال�ساديني الذين
ماح َّنت قلوبهم وهم يرون حمامة بي�ضاء تنزف� .إن مل يبك احلمام
يوما فقد بكت �أحالم مكانه وبكت كثريا يف ظالم الليل الذي �شقّ
خا�صرها ظلما وطغيانا.
� -1أحالم بو�سا�سي من ُ�صحفيات جريدة ال�شعب اجلزائرية اغتيلت �أواخر 1998م.
58
املوت يف زمن ّ
ه�ش
59
حممد رفيق طيبي
تغيرّ مزاج عبد القدو�س وظهر على حمياه حزن عميق ،فلهوه
ومزاحه مل ي�سلب منه احل�س الرهيف فدوما يت�أثر بهاته الق�ص�ص
الأليمة خ�صو�صا حينما علم �أن �أحالم قريبة ل�صديقه و�أنهما قد
ت�شاركا الطفولة فمع �أنها كانت تكربه كثريا �إ ّال �أنها طاملا عاملته
ك�صديق حميم.
عادا �إىل الديار وال�شم�س تو�شك على الغروب ،ن�سي مو�ضوع نارميان
ورمبا تنا�ساه ،فهذا اليوم بقدر ماكان جميال بقدر ماهو �شاق.
دخل �إىل اجلامعة �صباحا� ،إجته �إىل لوحة الإعالنات ع ّله يجد
من�شورا جديدا ،فدوما يف بدايات املو�سم اجلامعي تكرث التوجيهات
للطلبة�.إنتبه �إىل �أنّ غيابه يف اليوم الفارط قد � ّأخره عن تدوين
الربنامج اجلديد فهو مل يكن حا�ضرا حينما ُعلق بل كان بني ال�صخور
واملرتفعات يدون حديث الوجدان هو وعبد القدو�س على جدار الذاكرة.
تفاج�أ وهو يرى �أن احل�صة التطبيقية اخلا�صة بالقانون التجاري
قد م ّر من زمانها ربع �ساعة فماكان له �إ ّال �أن ي�سارع �إىل احلجرة
املخ�ص�صة لهم لع ّل عدم علمه ي�شفع له عند الأ�ستاذ املطبق.
حينما و�صل �أمام الباب �أوقفه �إ�ستحيا�ؤه عند العتبة فقد خ�شي �أن
يطرده الأ�ستاذ �أمام زمالئه.
دقق و�أن�صت فعرف �أنها �أ�ستاذة � ّأي امر�أة وهنا زاد �إحتمال تعر�ضه
للزجر فقرر �أ ّال يح�ضر احل�صة مادام �أول غياب فلن ي�ضره يف �شئ.
ما �إن ا�ستدار ما�شيا �إىل وجهة تخرجه من هذا الدهليز املهرتئ
حتى �أوقفه زميل له ودعاه �إىل جتريب احلظ لأنهما لن يخ�سرا
60
املوت يف زمن ّ
ه�ش
�شيئا .ف ّكر قليال� .أدرك �أنّ يف زميله �إندفاعا و�أنه لن يتحمل �شيئا
لو رف�ضت الأ�ستاذة دخولهما فهذا املندفع �أبدى �إ�ستعداداته لطرق
الباب والتحدث �إليها.
طرق الباب وفتحه ،نظرت اليه نظرة حادة وهمت �أن ترفع يدها
لتقول له �إرجع من حيث �إتيت �إ ّال �أ ّنها توقفت؟؟
ملحته وراءه يبدو عليه احلياء فهو مل يتجر�أ �أن يظهر مبحياه
اخلجل �أمامها�.أ�شارت عليهما بالدخول وب�سرعة.
ما �إن ظهر ووقعت الأنظار على بع�ضها حتى �إهتز كيانه وبهت،
فقد �شعر �أنَّ �أحا�سي�سه قد جتمدت و�أنّ عينيه تخدعانه و�شئ غريب
ب ّدل له واقعه.
ما ال ّذي يحدث �إنها تلك الأنيقة التي �أ�سرت حوا�سه وجعلت من
الواقع خياال يف م�شاهد عدة ،فهل هذا خيال حم�ض �أم خط�أ ما،
دخل متباطئا ،ي�سارع قلبه �إىل التفتي�ش عن حلول للخفقان الذي يهز
�أرجاءه ،كيف ال وهو يراها �أمامه بحلتها تقف مد ِّر�سة لفن اجلمال
قبل القانون.
جل�س يف �آخر ال�صف ينظر اليها دون انقطاع ،الحظ زميل له
مالحمه امل�ضطربة ف�س�أله بنربة ال�سخرية:
-هل �أعجبتك؟ �ضحك ثم قال� :إنها يف �سن �أمك فان�سى الأمر ثم
�إنها �أ�ستاذتك.
رد عليه وهو يحدق بها:
61
حممد رفيق طيبي
� -إن امر�أة كهاته قد تغري جمرى التاريخ بل وتعدل فيه فكيف لك �أن
تفكر يف عمر جمالها وبالعمر الذي �سبقتني فيه �إىل احلياة.
� -صمت قليال ثم متتم« ...جمنون» .مل يجد الرد املنا�سب �أمام
املعادلة ال�صعبة التي و�ضعه �أمامها.
احلب اليعرتف بحاجز العمر ولن ت�س ّد �شهوته ب�ضع �سنوات من
زمن عجول �أ�صبح النا�س ال يفرقون بني �أيامه ،حتى �أن الأعمار
�صارت �ساعات رملية تفنى على عجل ف�أ�صبح كل �شيء عابرا.
م ّر الوقت وماا�ستفاق �إ ّال وتلك احل�سناء تعلن نهاية احل�صة فهو
مل ينتبه ل�شئ فحني كانت تلقي الدر�س كان يد ُر�س معامل اجلمال
فيها ويبحث عن حتديد كل �أبعاد الأنوثة التي ا�ستوت يف رحاب
مامتلك من فتنة �آ�سرة.
حجز لنف�سه مكانا يف ذلك الدهليز الرحب ،يرى الأ�شكال
أح�س ب�أنّ الوحدة ت�صول والألوان تعربه دون �أن تعريه � ّأي اهتمامّ � ،
وجتول فيه فتذكر نارميان املر�أة التي �أعلنت حبها له يف موقف
كاد يوقف عقارب الزمن خرج من الدهليز باحثا عنها ف�أول مكان
ف ّكر فيه هو احلديقة التي تعترب مالذ اخلائبني والعا�شقني ،لكن
مليكة قطعت طريقه بابت�سامة �ساخرة وهي ت�س�أله عن وجهته فلم
يجد جوابا.
ماكان له �أن يقول ب�أنه يبحث عن نارميان فرمبا مليكة �ستفتح
�ألف �أفق للف�ضول والت�شكيك يف عالقتهما وماكان له �أن يقول ب�أنّ
ال وجهة له لأنه واثق من �أنها �سرتافقه مابقى يف اجلامعة وهو ال
62
املوت يف زمن ّ
ه�ش
63
حممد رفيق طيبي
64
املوت يف زمن ّ
ه�ش
65
حممد رفيق طيبي
66
املوت يف زمن ّ
ه�ش
67
حممد رفيق طيبي
-ال �سري نحو احلب منذ �صارت طريقه ثكلي و�أ�صبح العابرون فيها
ر�ضعا يتامى يت�ساقطون دون �أيدي متتد لإنت�شالهم�.إمتلأ خاطره
�أفكارا و�شعر �أنّ يف كل نهج يقوده �إىل نارميان �ألف مرتا�س جارح.
و�صل �إىل املنزل ،دخل كعادته يبدي فرحا و�سرورا.جل�س ينتظر
تهاطل �أ�سئلة �أمه فاذا بها حزينة ال تبدي � ّأي �إن�شراح ،بادر لي�س�ألها
عن �سبب العبو�س فقطعته وهي تعلن حزنها بدموع حارة.
�سارع يف اجللو�س �أمامها مم�سكا بيدها وم�ستجديا نطقها وبعد
حلظات �إنفجرت بعويل بارد وهي تقول:
-يا ابني �إنّ املوت قد فعلها بنا ،وتوا�صل البكاء..
-اهلل �أكرب ..من مات؟؟
� -إنه يا�سني �إبن خالتك ميينة ،قتلوه بتهمة �أنه جزائري..
� -آ�آه يا�سني الذي كان يعمل يف ليبيا ،رحمة اهلل عليه ،هل �أخربوك
�شيئا عن ظروف موته رمبا هناك مغالطة.
-ال ياولدي قد �إت�صل �صديقه البارحة و�أعلم خالتك �أنه قد توفى
و�أن �إغتياله جاء من طرف ميلي�شيا تابعة للنظام ماكانت لتميز
بني الأفراد يف �إحقاق املوت لوال �أن �صاح �أحدهم حقدا ب�أن يا�سني
جزائري �ضد النظام ف�أ�شبعوه موتا بتهمة �أنه غريب ال �أكرث.
-الحتزين يا �أماه ف�إن املوت �أ�صبح يهرول نحو الطيبني حافيا وك�أ ّنه
ي�شعر ب�أنهم فقدوا احلياة ورغبتها يف هذا الزمن املر.
68
املوت يف زمن ّ
ه�ش
69
حممد رفيق طيبي
70
املوت يف زمن ّ
ه�ش
�إبت�سم لكالم عبد القدو�س وهو يقول �سرا :يا للجنون هل �أ�صبح
�إعالن احلب مو�ضة يتفاخر بها الع�شاق ،كم عودونا على التفاخر
بالأمل والتباهي بجمال الكربياء يف �آن واحد ،فحتى يف الغدر طعم ال
يدركه �إ ّال من برت قلبه دون تخدير.
�س�أله عبد القدو�س عن �سبب العبو�س وامللل.خ�شي �أن يتهمه
باالمباالة وعدم م�شاركته الفرحة ،فاخذ ي�سرد عليه تفا�صيل وفاة
�إبن خالته يا�سني مع �أ ّنه تردد يف بادئ الأمر.
ت�أ�سف عبد القدو�س كثريا فهو �أي�ضا يعرف يا�سني ،وطيبته
وخ�صاله احلميدة وراح يحاول التخفيف عنه بتب�سيط املوت وجعله
حدثا عابرا ال ي�ستحق � ّأي حزن بذريعة �أنّ الإن�سانية تع ّودت موت
الأخيار وتعمري الأ�شرار وراح يقول:
املوت �أ�صبح اليوم ال يحزننا حينما يختار خرية من فينا ليحملهم
على غفلة بجناحيه �إىل موطن ال رجعة منه فمابني موت الأج�ساد
وموت الأحالم �صرنا نت�شابه فنحن منوت كل يوم ب�أحالمنا �آالف
املرات ،هي تقتلنا بال �شفقة وك�أننا ولدنا لنموت ال لنحلم.
� -صدقت يا عبد القدو�س..
� -أتعلم �أنّ املا�ضي اجلميل الذي ع�شته قد مات مع �أمي التي هجرتنا
�إىل القيامة ومل ترتك لنا فر�صة كي نقبلها �أو نقول لها وداعا ،ال
يزال ذلك ال�صباح الكئيب عالقا بذهني يوم �إنتظرت �أن توقظني
فلم تفعل وحني ذهبت �أوقظها مل ت�ستيقظ ليعلن ج�سدها البارد
الذي �سكنت دقات القلب فيه �أ ّنها لن تفتح عينيها ولن تعود.
71
حممد رفيق طيبي
72
املوت يف زمن ّ
ه�ش
مل يجر�ؤ �أحد على الإقرتاب منها خالل بداية هذه التجربة �إ ّال
�أّ ّنهم حينما ت�أكدوا �أنها لن تقوم ب�أ ّية ردة فعل �إجتاه � ّأي ت�صرف
ي�صدر منهم ،تركوا ال�سلمية فقاموا بتمزيق مالب�سها ونكزها
ب�أ�شواك الأزهار وحت ّر�ش بع�ضهم بها وحني �إنتهى الوقت الذي
خ�ص�صته مارينا لهاته التجربة وحت ّركت من مكانها ه ّمت تلك
اجلماهري بالفرار.
-فعال جنحت يف �إثبات �أنّ الإن�سان قد يكون عدوا لأخيه يف � ّأي
زمن ويف �أ ّية فر�صة فال�ضعف املوجود يف بواطنه يخلق دوما رغبة يف
التناف�س على الكمال الذي ال يتحقق في�صبح الإن�سان حقودا على
غريه ال ل�سبب �سوى �أ ّنه تفوق عليه يف مكا�سب م�صريها الزوال طال
الأمد �أم ق�صر.
�إفرتقا على حزن .بعد �أن هد�أ فرح احلب يف عبد القدو�س،
مل يتع ّمد كالهما الوقوع يف براثني ال�شجن لوال �أ َّنه فر�ض نف�سه
وح�ضر بينهما..
م ّرت تلك الليلة حزينة ،باردة ،خالية من كل ترف روحي ،فال
حزن عميق وال فرح راقي وال نوم هنئ ،فاجلو �صارمرهقا ال يحقق
�أية �سعادة وال يجلب � ّأي �إبت�سامة.
كم �صعبة �أنت �أ ّيتها احلياة وكم قا�سية؟؟
احلمام يطري بحبنا �إىل كل �أفق ق�صي� ،آه يا هيام لن نحب مادام ِ
لو كنت �أمامي حل ّدثتك عن ن�سياين لنف�سي �أمام عينيك ال�سوداوين،
ففي ذلك امل�ساء الذي حدقت بي فعال تراخت ع�ضالتي و�أح�س�ست
73
حممد رفيق طيبي
ب�أمل الف�ؤاد ،احلتني على فرا�ش بارد كي �أمار�س البكاء اجلاف على
احلظ الهارب.
�أريد �أن �أق�ضي ليلة هادئة احت�ضن الو�سادة التي مل ت�ضمني يوما،
يدي و�صدري املزهر بك؟ فهال كنت يا هيام حلما؟ ملا ماتوغلت بني ّ
ومل تركت بالطي ك�أنني ماا�شتهيتك ذات م�ساء �أ َومل ت�شتهي وقوف
قلبي يف ذياك ال�صباح املطري؟
مل �أكن عا�شقا قبلك ولن �أ�صبح مت َّيما بعدك ،كل اجلفاف
الداخلي جعل من الف�ؤاد خرابا لتجتمع كل الآهات فيه ف�أ�صبحت
الروح جممعا للدموع.
فعال ع�سري حبك ،ال�أملك �ض ّد ُه � َّأي دليل كي �أدينه �أو �أقتله َّيف،
ف�صوتك لوحده ي�أخذين �إىل غبار الأحالم التي ملأت عيناي ومانلت
من �أحالمي �إ ّال ال�صمت وال�صقيع.
�س�أعلن �إذا �أمام ال�سماء و�س�أ�سمع كل اجلبال و�س�أترك الع�صافري
تن�صت ورمبا �أجعل تلك الدوحة التي ال تتذ َّكر غار�سيها تبكي و�أنا
�أعلن بكامل �صوتي «�أح ّبك» فيا�أ�شالئي �إجتمعي جمددا واقذيف بي
يف بحرها فماعاد �شيء يخيف منذ رميت قلبي �إىل مابعد التاريخ
وقررت �أن �أتب ّنى قلبك و�أعلن �أ ّنه التاريخ ،فلم يعد احلا�ضر الكئيب
كافيا لأن يوفر �أ�سباب العي�ش و�إذن لننفجر.
كلها خواطر جالت بقلبه وعاثت فيه متنيا و�أحالما �إىل �أن حمله
النعا�س على ك ِّفه و�سار به �إىل نوم عميق �أزال الكثري من �إحتقان
الأحا�سي�س بعد �أن �سرح يف خيال مبهم.
74
املوت يف زمن ّ
ه�ش
توجه �إىل اجلامعة وهو مليء باحلب الذي �أغرقه منذ النظرة ّ
الأوىل ،هيام �إلهة اجلمال ور ّبة الأناقة ،كل اجلوارح تهتف با�سمك
يا ع�شرتوت ،يارمز الأنوثة يف زمن االندثار.
توجه �إىل املدرج ،01وجد الطلبة يف فو�ضى وحالة من ال�ضجيج ّ
تعجب وهو يقول� :إيييه �أعلى الرواتب يف ب�سبب �إ�ضراب الأ�ساتذةّ ،
كل القطاعات وي�ضربون �أي�ضا.
ر ّد عليه زميل له:
-رمبا امل�س�ألة تخرج عن �إطار املال ،رمبا م�شاكل �إدارية �أو غريها.
-مل نعتد �أ ّية م�شاكل خارج البحث عن املال ،والذي �أ�صبح حمركا
لكل النزاعات التي ت�صدر من املتعلمني وغري املتعلمني.
-واهلل غريب...
رنّ هاتفه ،ظنَّ �أنَّ عبد القدو�س �أو �أمه التي ال تفرق بني �أوقاته،
�إ ّال �أ َّنه تفاجئ حني دقق يف �شا�شة الهاتف وهو يرى نارميان بكل
الألوان ،تر ّدد يف الرد وك�أ ّنه خ�شي ماوراء �إت�صالها فهي مل تت�صل
به منذ �أيام طويلة.
� -أهال نارميان ،كيف حالك؟
-بخري ،احلمد هلل� ،أين �أنت؟
� -أمام املدرج رقم واحد� ،أظن �أنّ الدرا�سة �ستتوقف لثالثة �أيام
فالأ�ساتذة م�ضربون.
75
حممد رفيق طيبي
-حقا؟؟ �إنتظرين هناك �سوف �أ�صل بعد ربع �ساعة على �أكرب تقدير.
-ح�سنا �أنتظرك.
م َّر الوقت على عجل وهاهي كلب�ؤة تختال ب�أجمل الثياب قادمة
بنظراتها الثاقبة ،و�صلت وابت�سامتها قد �سبقتها ب�ضع خطوات
وعطرها ال�شهي ملأ �أحا�سي�سه رغبة.دعته �إىل اجللو�س حتت
الأ�شجار التي ثقلت بالع�صافري ال�شد ّية.كان اجلو مميزا بعذب
أح�س �أنّ �أحمر
الألوان والأ�شكال ،كان ينظر �إىل نارميان با�ستمرارّ � ،
�شفاهها �أخ ّل بالهدوء وح ّرك نريانا خامدة منذ زمن بعيد.ك�أنّ يدا
خفية تلعب ب�أفكاره وحتر�ضه على خيار من اثنني� .أن يبتلع تلك
الرغبة �أو يبتلع �شفاهها والثاين من اخليارين كان �أقوى.
مل ولن يخفى عن امر�أة �شعور رجل يجال�سها بحريق داخلي ظهر
دخانه على عينيه الذابلتني ،نظرت �إىل مابعد الأ�شجار فلم جتد
�شيئا يثري احلياء ،فال ثالث بينهما.
�ضغطت على يده بنحو يجذبه اليها ،هو جديد ال يعرف الكثري
عن هذا النوع من الإقتحام.كاد ي�ضحك حني تذكر �شعر نزار قباين:
ياطفلة ال�شفتني ال تتهوري..
طبع الزوابع فيه بع�ض طباعي..
مل ي�ضحك من جنون نزار لأنّ الزوبعة مل متنح له الوقت كي يفتح
فمه �أو يهرب ب�شفتيه .نارميان تقطعهما دون رحمة بعد �أن �إبتال
بعذب ماء �شفاهها املمزوج بنكهة الفراولة ال�شهية� ،إ�ستمر املوقف
بتقطع لإ�ستعادة الأنفا�س والذوبان ب�شكل �أكربيف كل مل�سة.
76
املوت يف زمن ّ
ه�ش
77
حممد رفيق طيبي
78
املوت يف زمن ّ
ه�ش
79
حممد رفيق طيبي
ربااااه �أي جنون هذا الذي يقيم خيامه على خم ّيلتي كي يجعلها
منتزها عنوانه �أنت.ف�أين �أنا فيك و�أين �أنت َّيف؟؟ �أوووف.
دت جغرافيا تف�شيك يف ج�سدي لرمبا برتت ع�ضوا �أو لو ح ّد ِ
اثنني واقتلعتك من حوا�سي ع ّلني �أ�شفى من �شعوري باليتم �أمامك،
�ستقولني يل بكل برودة «�أنت مهبول» لو �صارحتك� .س�أجف بكل
حرارة و�أنت تطردين م�شاعري وترتكينها تبيت خارجي وخارجك
و�أنا �أموت مبئات الطعنات.
لن ي�ستوي �أن �أبتعد هكذا �صامتا فلي�س حبي لقيطا لريمى ،كل
ال�شرعية له ولي�س هناك � ّأي مذنب فيه فقد جاء من �أر�ض بتول
و�سال نقيا ،حافيا �إليك وعليك ،فهل �أفجر م�شاعري �أمامك و�أمام
العلن؟ ال لن �أفعلها ففيها �شظايا خطرية قد تلم�سك فتذيب مافيك
ولو كان �صخرا.
ماعدت �أتفاءل كثريا مذ �سقط �ألوف الفر�سان عن �أح�صنتهم
وحت ّول احلب �إىل طاولة �شطرجن مهددة بالإنقالب ،لكن �أي�ضا ال
بد من �سالم �أجل�س على ركبتيه و�أقبله كي �أرتاح من هذا اخلوف
القاتل و�أحب دون م�ض�ض و�أ�صلح مافعله الدهر وماخلف من رميم.
�إذن �س�أتكلم.
ع ّلق حواره الداخلي وجل�س �آخر احلجرة.تناول ورقة وقلما وبقي
و�صلت كما
ْ ينتظر و�صول القدي�سة� ،إندفع اجلميع ليدخل�.إذن قد
و�صلتُ ،الفرق فقط يتنا�سون �أين القادم من �أر�ض التيه �إىل التيه وهي
القادمة من العدم الذي حتمله وقد متنحني �إياه يف حلظة جتاهل.
80
املوت يف زمن ّ
ه�ش
81
حممد رفيق طيبي
�أكرث وكلما �أ�صبحت �أقرب ،ه ّز حوا�سه وم�شاعره عطرها الذي طغى
على كل العطور.
طلبت منه تدوين �إ�سمه ورقم هاتفه وكل ماهو موجود يف
الإ�ستمارة� ،ض ّيع اخلط وهي تنظر �إليه من ع ّل و�ضاع هو حينما
الم�ست يدها كتفه.
م ّرت تلك احل�صة هادئة متاما ،عانى االفراط يف الرتكيز �إىل
أح�س بف�شل ور�أى �أنّ �أحالمه تت�صاعد بخارا ،مل يعد
غاية نهايتهاَّ � ،
له مايت�شبث به بعد �أن وجد جدارا يحجز على م�شاعره ويقيدها
فمهما يكن لن تكون له معها فر�صة ولو عابرة فالعالقات الأكادميية
لها �أبعاد كثريه مبا حتمله من جمامالت وحمبة مفرت�ضة ال تخ�ضع
لقواعد املمار�سة الواقعية.
مل تبق له �أ ّية رغبة يف موا�صلة الدرا�سة �أو البقاء يف حرم اجلامعة،
�إحباط عنيف ت�س ّلل اليه كاد يقطع تلك العاطفة التي قو�ضت �أركان
كربيائه والتي �إتّخذ لأجلها ماليني القرارات ورجع عنها يف حب مل
يتخذ ّاي خطوة تلم�س من �أجله.
عجل باخلروج متو�سال خطاه �أن تخ ّل�صه من تواجده بهذا املحيط ّ
الذي مل يوفر له حاجيات قلبه من النوروال�شوق.ن�صف �ساعة من
ال�سري ،و�صل �إىل البيت فلم يجد �شيئا يدل على احليوية �أو الفرح
فال�صمت مطبق متاما وال �شيء يدل على �شيء �سوى ال�سكون العميق.
موجها
بعد حمام دافئ ،و�ضع فنجان قهوة �ساخن على حافة الأريكة ّ
له بع�ض الكالم:
82
املوت يف زمن ّ
ه�ش
83
حممد رفيق طيبي
تاريخا وذكرى ،قد يقول قارئ ف َعلتها لتجعل ذلك احلب القبيح ً
عن � ّأي حب قبيح تتحدث؟ وهل �إمتاز احلب بالقبح يوم َا؟ نعم هو
قبيح قبح �سليم الرجل ال الر�ضيع الربئ الذي ال ذنب له ،رمبا
احلب �أعمى كما يقال لكن هذا القول عاجز عن تقدمي �شيء مهم
فمالتف�سري اذن؟
كل تلك الوح�شية والدونية مل يقنعاها ب�أن حياتها العاطفية معه
نكتة موجعة ال متثل احلب يف �شيء و�أنّ ق�صتها معه جعلت كلمة
احلب ركيكة ومعطوبة فطاملا ن ّكل بحبها جهارا نهارا وك�أ ّنه عدو وكم
خ ّرب ج�سدها بقذارته الالحمدودة حتى �أ�صبح �إ�سمها عنوانا للقبح
واملهانة.مل تغفر لها الذاكرة اجلماعية �شيئا لكنّ الرحمة غفرت لها
يوم �أهدتها زوجا ُح ّرم عليه �سماع �شرورها فقط لأنه بعيد عن �أر�ض
هاته ال�شرور املقد�سة التي مت الرتخي�ص بها با�سم احلب ،ما�أ�سو�أ
�أن ي�شوه ذلك الربئ وكم هو تعي�س ببكمه وجهله.
ما�ضي
ّ يا �إبنة اخلالة ليتك ت�سمعني مايقوله جويف ،وليتك تعرفني
هذا اجلوف اله�ش ،لتعرييني ليال طوال ،لكن لن يعود املا�ضي �إىل
ما�ضيه مادام اللون الأ�سود ال يزال مرتبطا به كعالقة املاء والبحر،
�أدرك �أنّ القلب الأخرق ميازح دموع الب�ؤ�س� ،أنا �أي�ضا حدث معي الكثري
ومن العمى كان ن�صيبي وفريا ،كنت دوما �أت�ساءلَ ،مل �أمطار الن�سيان
تهطل يف ليايل حبنا ال�صيفية ،كنت �ألعن جمنونتي و�أ�س�ألها عن بكاء
ال�شم�س يف �آهاتي احلارقة وجمود الندى يف ال�ضحى امل�شم�س.
قد �س�ألتها ذات يوم عن العاطفة و�ش�ؤونها فكان جوابها بائ�سا،
تكذبهم ومل ت�صدق �أكاذيبهم مل تخربين عن �أحاديث الع�شاق ،مل ُ
84
املوت يف زمن ّ
ه�ش
يل بعجب التكذيب وبراءة الت�صديق ،وحني �أعلنت فقط كانت تنظر ا ّ
عليها احلب ردت بكل ثقة و�سخرية:
-حتبني؟ هل �أ�صدقك؟ � ّأي هبل تريد مني قبوله ،ليت هاته الكذبة
كانت �أقل حجما فرمبا �إ�ستطعت �إبتالعها لأجل طيبتك� ،أيها الطيب
حد ال�سخرية.
رمبا كنت طيبا لكن مل �أعرف عن ال�سخرية �شيئا منذ �إ�صطدمت
بها ،ال �أدري مالذي حدث بعد ذلك ،فكل مايف الأمر �أنني قد زدت
تعلقا بها وزدت وجعا بحبها �إىل �أن توقف وجعي �إىل الأبد يف حلظة
الن�سيان التاريخية.
وجعي بحبي و�صل �أوجه ،مل يكن �أمل اخليانة ومل يكن �أمل الغدر،
بل �أمل احلب ،فحني �أحببتها كان ت�صور خ�سارتها ي�شتتني كفكرة،
فكرة تراودين يف ال�سهاد ،ال�شئ يوحي باخل�سارة� ،إذن ال �سبب
للحزن ومن �أجل ذلك عانيت وجعا مزمنا وخلال فادحا على م�ستوى
ليلي الطويل ،وحني حتققت اخل�سارة التي كانت فكرة جمردة،
�أعلنت وفاة احل�س و�أدركت �أن حوا�سي الداخلية مل تكن متزح و�أن
احلب �أ�صبح رمادا �أو ه�شيما.
مل �أذكر هذا الكالم وماذكرته بعد ،لكنه نقا�ش جاد بيني وبني
ذاكرتي ،ليتك تعلمني يا�إبنة اخلالة �أنّ مولودك امل�سمى على ذلك
احلبيب مل يكن فادحا مثلما �سم ّيت �أنا عمري بامر�أة و�إرتكبت من
الفداحة مااليغتفر.قد زوجوها كما �إدّعت و�أعتقد �أ ّنها هي من تزوجت
بعدما رغبت بذلك الرثاء.مل يكن رجال ذلك الذي تزوجته بقدر
85
حممد رفيق طيبي
ماكان ثريا فهو مل يقتنع بكل ماقيل له عن حبي لها ورمبا حبها يل
وكل ماقيل كان كالم عابرين فهي مل تقل �شيئا واكتفت باتهام القدر.
�سقطتُ يف وهاد اخليانة و َفتحت �أبواب الوجع على م�صرعيها يف
وجهي ،كنت �أت�أمل و�أرتكب جرمية البكاء احلار يف حق رجولتي وبال
جدوى.لن �أ�ساحمها يف � ّأي يوم ولو تعددت منا�سبات الغفران.
�إغفري يل يا �شريكتي يف احلب واخل�سران ،يا ابنة اخلالة ما قلته
فكلنا يف البحر ماء ،ولي�ساحمني اهلل لأنه �أعطاين حبا مغ�شو�شا.
نام على �أريكة احلوار ،كان نوما خفيفا قطعه رنني الهاتف
املتوا�صل.رد ب�صوت متقطع..
� -ألو ال�سالم عليكم..
-وعليك ال�سالم ور�ضوان اهلل ،مرحبا.
� -أظنك �أنت ممثل الفوج الثاين من املجموعة �أ؟
� -آه نع ـ ــم.
� -أنا الأ�ستاذة حمب الدين هيام ،من ف�ضلك يجب �أن تخرب زمالءك
�أنّ ح�صة الأ�سبوع القادم �ستعو�ض يوم االثنني بدل الثالثاء� ،أرجوا
�أن تبلغهم� ....ألو� ،ألو� ،،ألووو هل ت�سمعني؟؟
-عذرا �س�أبلغهم ب�إذن اهلل� ،،شكرا.
� -شكــرا� .ســالم.
� -سـ ــالم.
ال ّلعنة ُيطاردين احللم يف الواقع ،ويبحث عني حتى يجدين،
ويفعل فعلته ،هذا مامل �أف ّكر فيه متاما ،كيف ي�صل بركانها �إىل عقر
86
املوت يف زمن ّ
ه�ش
داري ويذيب تعنتي الأخري ،هل �شعرت بغ�ضبي وخروجي ف�أرادت �أن
تخلط �سكوين الذي قر ّرت بناءه؟
يرن الهاتف من جديد ،هي �آه نعم رقمها متوهج يف ال�شا�شة وك�أ ّنه
م�صباح الز ّيت يف �أول �إ�شتعاله
� -ألوو نعم �أ� ..أ�ستاذة.
-عذرا �إن �أزعجتك� ،أمتنى �أ ّنك مل تخرب زمالءك لأنّ الربنامج مل
يتغري وماقلته لك قبل قليل كان ت�سرعا مني� ،آ�سفة.
-مل �أفعل بعد وال �إزعاج يف ذلك ،يا مرحبا.
� -شكرا جزيال� ،سالم.
-وعليك ال�سالم.
بدا له الأمرغريبا ،كل �شيء �إختلط ومل ت�ستقر �أ ّية فكرة،
�صوت هيام كان منوذجا للأنوثة يعادل الدرجة العا�شرة على �سلم
الإهتزازات الع�شقيةُّ � .أي �أنثى هي؟
ذلك ال�صوت امل�سافر يف حقائب احلنني والعائد من زمن
اله�شا�شة مل يكن طبيعيا ،كان �أكرب من �أمواج �صوتية ينقلها املحمول
و�أعظم من �أن ي�سمع لب�ضع ثواين ال ت�سمن وال تغني من جوع فكل
احلوا�س ثارت بعد �أن كانت م�ساملة� ،صوت هيام يتدفق كرذاذ املطر
ال�شتوي والنطق الأول �شبيه بتفتح الأوركيد ،ما�أ�ضخم ظالل الغواية
يف هيام وما�أ�صعب �إقتحام الظالل.
الع�صي حف َر
ّ هل �أحت ّرر من كل العبوديات لأقتحمك؟ هذا ال�س�ؤال
عميقا يف الطريق امللتوي بني عقله وقلبه ،ما �أ�صعب الت�سا�ؤالت غري
87
حممد رفيق طيبي
88
املوت يف زمن ّ
ه�ش
89
حممد رفيق طيبي
�ضد النقد الذي ي�ض ّيق حدود القلم �أو النقد الذي ي�ضع يده على يد
الكاتب �أثناء ر�سمه لن�صو�صه ،الكتابة ر�سمّ � ،أي تدخل ليد �أخرى
�سي�شوه اللوحة.
� -إذا كان عميد الأدب العربي قد ح ّرر الكتابة من هذا ف�أنت حر.
-نعم يا عبد القدو�س وقد �أعلن هذا يف كتاب املعذبون يف الأر�ض
فجاء على ل�سانه:
ال �أعرتف ب�أنّ للنقاد مهما يكونوا �أن ير�سموا يل القواعد والقوانني
مهما تكن ،وال �أقبل من القارئ مهما ترتفع منزلته �أن يدخل بيني
وبني ما �أحب �أن �أ�سوق من احلديث و�إنمّ ا هو كالم يخطر يل فامليه
ثم �أذيعه فمن �شاء �أن يقر�أه فليقر�أه ،ومن �ضاق بقراءته فلين�صرف
عنه ومن �شاء �أن ير�ضى عنه بعد القراءة فلري�ض م�شكورا ومن �شاء
�أن ي�سخط عليه بعد القراءة فلي�سخط م�شكورا �أي�ضا.
�أنظر �إىل قوله جتده م�ستقرا على حرية البوح ،فكال الطرفني
اللذين ي�شكالن القطب الرئي�سي لنجاح الرواية �أعتربهما دار�سني
للن�ص ال متحكمني فيه.
�آ�سف �إن �سب ّبت لك �صداعا فانا واثق من �أ ّنك تخ�شى �أن يطول
حديث الأدب ولو �إدعيت االهتمام من �أجل �إر�ضائي ،هيا �أخربين
عن جديدك وكيف ت�سري �أمور درا�ستك و�أين و�صلت يف الدرب
ال�صعب �أنت وحبيبتك؟
-الزلنا ن�صارع براثني الفراق مع �أنّ احلب يف �أوجه ،فاحلب القوي
دوما معر�ض للنكبات و�أظن �أي�ضا �أنّ الفراق املهدد له يزيده قوة
90
املوت يف زمن ّ
ه�ش
91
حممد رفيق طيبي
92
املوت يف زمن ّ
ه�ش
93
حممد رفيق طيبي
94
املوت يف زمن ّ
ه�ش
95
حممد رفيق طيبي
نهايتها وال تعرف �أي�ضا � ّأي معلومة عن باعث موتها الذي دفع بها �إىل
مرمدة ت�سمى العهر ،لكني �إلتقيت بها وعرفت مااليعرفه جمهورها
الغفري من امل�س�ؤولني وال�سا�سة.
-بهية؟ لأول مرة تذكر هذا اال�سم �أمامي.
-يقولون ب�أنها موم�س �أما �أنا فاقول ب�أنها �أهم �شريفة .مل تكرم
ج�سدها لكن النخوة فيها والأحا�سي�س اجلميلة كانت هي الكرم.
-يا �صديقي ال �أفهم �شيئا يف مفارقاتك� ،أو�ضح؟
-بهية الطفلة ،كانت رائعة ،النجيبة التي تعي�ش عمر الزهور بكل
برائتها �إىل �أن قطع �أقرب ُحماتها حبل امل�ستقبل يف وجهها و�سحب
الإبت�سامة من بني �شفاهها يوم �إ�ستغل �سذاجتها وحبها له واقتلع جدار
عفتها وال �صراخ وال نواح �أفادها بل زاد على ذلك �أن هدّدها باملوت لو
فتحت فمها ومن كان؟ من هو؟ لي�س �إ ّال عمها الذي �إتخذته والدا لها
يف غياب والدها املهاجر �إىل لقمة العي�ش ،فمن العاهر ومن العاهرة
خلطاب الي�ست ال�صفتان فيه.بعد ع�شر �سنوات من ال�صمت بد�أ ا ُ
يتهاطلون ،لكن ب� ّأي كذبة �سرتدهم �أمام والدها ال�شيخ العنيد.
الكذبة �أمام وجه الف�ضيحة وال فرار من الزواج �إ ّال بالفرار من
البيت� ،أيام و�أيام� ،أ�صدقاء� ،أحبة ،كل ال�ضيافات نفذت� ،إذن ال�شارع
هو امل�ست�ضيف ،بج�سد طري ومغري ي�ستوقف �أ�صحاب ال�سيارات
الفارهة ،ثم النهاية ماهي؟ راق�صة يف �أ�شهر املالهي وكلما تهالك
ج�سدها غيرّ ت امللهى �إىل �آخر �أقل �شهرة و�ستنتهي يف ال�شارع مقتولة
�أو حمروقة �أو مت�سولة بال �شك.
96
املوت يف زمن ّ
ه�ش
97
حممد رفيق طيبي
98
املوت يف زمن ّ
ه�ش
()05
�صباح بارد �شتوي ،نارميان تت�صل.مل يرد على �إت�صالها فال يزال
مغم�ض العينني يف فرا�ش دافئ� ،أحلت وبالغ الهاتف يف الرنني.
حمله متثاقال ور َّد عليها م�ستف�سرا عن �سبب �إت�صالها املفاجئ يف
يوم عطلة .تذ ّكر �أنه وحيد بالبيت بعدما غادر اجلميع نحو حمام
القرقور الذي ا�شتهر بخدماته اجليدة ،دار يف خلده �ألف ت�سا�ؤل يف
حلظات ف�سلطة خف َّية تلح عليه ب�أن يطلب من نارميان احل�ضور �إىل
بيته مادام وحيدا ،وقوة �أخرى حتا�صر الفكرة بع َّدة حواجز.
� -ألو� ،صباح اخلري
� -صباح الفل نارميان ،كيف حالك؟
-احلمد هلل� ،إ�شتقت اليك
� -أنا �أي�ضا �أ�شعر بال�شوق خ�صو�صا و�أين وحيد..
-وحيد؟ مالذي تق�صده؟
-ق��د غ���ادر اجل��م��ي��ع يف ال�����ص��ب��اح ال��ب��اك��ر ،متجهني ن��ح��و حمام
معدين يقولون ب�أنه جيد� ،آه لو كنت هنا فتعدين يل قهوة وترتبني
بع�ض الأ�شياء.
99
حممد رفيق طيبي
-فقط حبيبي..
� -آه نعـ ــم
-مت�أكــد؟
أ�ضفت قبلة لن �أرف�ض.
-و�إن � ِ
ح�ضر نف�سك جيدا.
-ح�سنا� ،س�أدعي �أن لدي م�شرتيات و�س�أح�ضر اليكِ ،
-مال ّذي �أح�ضره؟
ح�ضر وانتهى ..باي -قلت ِ
ربع �ساعة ،يرن الهاتف ،يرد م�ستعجال� :أين �أنت؟
� -إفتح الباب �أنا على بعد �أمتار وبع�ض ال�شبان يف الطريق� ،أخ�شى
م�ضايقاتهم.
-ال تخ�شي �شيئا..
يف امل�سافة التى َق َط َع ْت َها ،قطع م�سافة الأناقة وو�صل اليها ،كل
العطور الم�سته وكل طرق الو�سامة تبعها �إىل �أن نال مبتغاهُ ،
تدخل
نارميان خائفة يتملكها �إح�سا�س املغامرة الأوىل ،جتل�س وهي تطلب
ك�أ�س ماء في�أتي به على عجل.
-مابك نارميان� ،أعتقد �أ ّنك مل تقطع امل�سافة م�شيا ملا هذا التعب كله؟
� -أو�صلني كلوندي�ستان((( �إىل هنا لكن الكثريين ر�أوين �أدخل رمبا
يعرفني �أحدهم و�أ�صبح يف ورطة� ،أنت تدرك خطر الو�شاية
100
املوت يف زمن ّ
ه�ش
-ال ،ل�ست الوحيدة التي تدخل بيتنا� ،ضيوفنا كرث ،وعائلتي غادرت يف
ال�صباح الباكر ،مل يرهم �أحد ،الكل �سيعتقد �أ ّنك �ضيفة ككل ال�ضيوف.
تنزع حذاءها اخلفيف وجواربها ال�شفافة لتظهر �أقدامها ال�صغرية
بكل البيا�ض.وجدته تائها فيهما حينما رفعت ر�أ�سها ،تعجبت وهي تقول:
حتى رجليا ت�شوف فيهم ،يالطيف منك...
�إبت�سم ..كل �شيء فيك فاتن ،حتى قدميك ي�ستحقان الت�صوير.
-كفاك �سخرية ،هيا دل ّني على املطبخ� ،س�أع ّد لك قهوة بذوق
�شفاهك ...تطلب ذلك وهي توجه �شفتيها �إىل الأمام ومتنح الهواء
قبلة ،ثم تنزع خمارها وت�ضعه على كتفيها لت�صبح �أكرث جاذبية.
كر�سي يف املطبخ وهو يراها بكامل �سحرها تغ�سل �إبريقٍّ جل�س على
القهوة وخ�صرها يتماوج مع يديها الغارقتني يف فقاعات االيزي�س ،
(((
�أنهت تنظيف الأواين التي تركتها �أمه و�شقيقاته ببقاياها بعد وجبة
الإفطار.و�ضعت القهوة على الطاولة وهي تقابله وجها لوجه بيا�سمني
�إبت�ساماتها و�شفاهها النا�ضحة بال�سخرية والكالم الدافئ.
حمل فنجانه امللء ب�أحا�سي�س الأنوثة و�أحا�سي�س ال�شهوة التي
�س ّيطرت على الكالم ،وم ّد يده �إىل يدها يطلب رفقتها لإكت�شاف
�أرجاء البيت.طاف بها الدهليز والرواق وبع�ض الغرف �إىل �أن و�صال
�إىل غرفته امل�ؤثثة بالكتب والألب�سة املتناثرة.
� -إذن هذه غرفتك
-نعم ،هل �أعجبتك؟
ISIS -1عالمة جتارية ملواد التنظيف.
101
حممد رفيق طيبي
102
املوت يف زمن ّ
ه�ش
ال�سخي ،هي امر�أة محُ ِ َّبة و ُم ِل َّحة وبقدر حبها و�إحلاحها يف احلب،
�شهوانية حلد اخلطر ،ياالهي ،ال�شك �أنّ ذهابها �إىل احل ّمام لي�س
ل�ضرورة �أو حاجة� ،ستعود بكل اال�ستعداد لتخرب املتاري�س والأ�سالك
ال�شائكة التي ق ّيد بها الزمن ج�سدي وحال بينه وبني املتعة ،للمرة
الثانية يانارميان ،وهاته املرة الو�ضع �أخطر ،فنحن وحيدان ،ال�شئ
يراقبنا �سوى �ساعة احلائط التي بالغت يف ال ّدق ،ال حار�س وال برد
قار�س مينعنا من التعري من عقولنا يف �أج�ساد مقفرة ،ج�سدك �آفة
وجنونك �أ�سربين لل�شعر املحموم ،فال ّلعنة للمرة الثانية َّ
علي ال عليك
ف�أنا امل�صاب بهبل مزمن ج ّرين �إىل كتابة الن�ساء و�إذن نحن �شريكان
يف الهبل� ،إن قتلتني اليوم �س�أ�ساحمك و�أر�ضى بجنونك و�إذا مل تفعل
�س�ألومك ف�أنا �أكره ن�صف اخلطيئة فاملغفرة تطلب كاملة وال جتزيئ
أت�شجع �إذن
لها ،تذكرتني يا حممود يا �سيدي العظيم ب�شعرك� ،س� ّ
أي�ضا قد ُقلت:
فانت � ً
ي�أخذ املوت على ج�سمك
�شكل املغفرة
وبودي لو �أموت
داخل ال ّلذة يا تفاحتي
يا امر�أتي املنك�سرة
وبودي لو �أموت
خارج العامل ..يف زوبعة متدثرة.
103
حممد رفيق طيبي
104
املوت يف زمن ّ
ه�ش
105
حممد رفيق طيبي
106
املوت يف زمن ّ
ه�ش
نظرت �إليه وهي تدافع �ضحكة تكاد تخرج ،مللمت بقاياه البي�ضاء
اللون ورمت به على وجهه:
� -أحمق ،مالذي �س�أفعله ب�أثداء هاربة عن بع�ضها البع�ض بدون
ُ�سوتيان((( �س�أبدوا بنهدين لعجوز يف ال�سبعني �أر�ضعت �أطفاال بحجم
مدر�سة.
-يقهقه ..ومن قال لك �أ ّنك ال تبدين كالعجوز و�أنت ترتدينه.
-كلب ..كلب ..كلب ..وتغم�ض عينيها وت�صرخ كالأطفال.اليوم نقتلك.
تهاجمه وتلقي بكل ج�سدها عليه ،تت�صيد �أماكنه الأهم لت�ضربه
وتع�ضه ،وماكان لها �إ َّال �أن تنهي ذلك العراك احلميم بدفع ركبتها
بكل ماحتمل من وزن بني �أردافه لت�ستقريف خ�صيتيه في�صيح بكل قواه.
جمنونة ،مثال املر�أة املتعلقة باحلياة التي ترى يف مكافحة
ال�شهوة بال�شهوة �أمرا حتميا فال ال�صرب وال ال�صوم يجديان حينما
تثور براكني غريزتها� ،إ ّنها امر�أة مزدوجة حتمل خ�صال الطيبني
و�شيئا من ف�سق املعتدين ،ال مهربة منها �إن �إعتادت الذروة مع رجل
مينحها دفئ احلب وطقو�سه يف فرا�ش وثري.ذلك النوع من الن�ساء
قادر على فعل ماال يتوقع خللق اللحظة وجعلها يف قمة اجلنون
والزهو وال�شئ يجمع بني النقي�ضني يف حلظات التعري من كل �شيء
فال�ضمري ي�صبح مقربة متعددة ال�شواهد واملحن ،عقل عابر �إىل
موطن ال�شهوات وقلب متفرغ لبواطن النهفات ،الح�ضور للعدم يف
عدمية الوجود بدون �إنك�سار �أمام الذروة.
Soutien -1حامل ال�صدر.
107
حممد رفيق طيبي
كل �أبواب النعيم يفتحها نفري العا�شق �إىل مع�شوقه الغريب عنه
يف �ضجيج الهم�سات .ليت القلوب املقبورة يف ال�صدور املعتمة كانت
�أكرث تعتيما كي ال يهرب منها � ّأي �إح�سا�س ورمبا لوكانت �شفافة
ل ُعجل مبوت ن�صف �سكان الأر�ض �أو �أكرث من فرط زيفها وكذبها
الالحمدود.
بعد �أن رحلت نارميان وانطف�أت كل احلرائق ،جل�س على حافة
مقعد حجري مم�سكا ر�أ�سه� ،شعر بدوار غريب حتول �إىل �صداع �شديد
غري مربر� ،أخذ حماما دافئا �أزاح به عرق اخلطيئة وروائحها وعاد �إىل
طهارة اجل�سد رغم �شحوب القلب� ،شرع يف �إحت�ساء القهوة مبرارتها
وبرودتها كعالج للف�شل املعنوي والإحباط امل�ؤقت ،بحث عن �أوراقه
وقلمه ،بعد �أن �ش ّغل جهاز اال�ستماع فراحت �شيماء ال�شايب ت�صدح
القرييييب منك بعييييد والبعيد عنك قريبببب.
على �إيقاعها املتوازن ،اخلفيف.راح القلم يعزف �أحا�سي�سه على �أوراق
بي�ضاء �صامتة ،تعاين الغليان فمايت�س ّرب �إليها من حديث �أكرب بكثري
من �صمتها ،كل ال�شخو�ص ح�ضرت ،كل امل�شاعر �إنفجرت والأحا�سي�س
املدّثرة بالقواعد والقيم رمت ماعليها من جليد ونطقت �شعرا:
ي�س َمات ال�ص ْب ُح ال َّن ِف ُ
ُ
ال�أَ ْر َ�ض تحَ ْ مِ ُل َه َذا ال َّل ْي ْل
الز ََّمانُ َماتَ فيِ َع ِجيج ُ
ال�ض َحى
فيِ َ�ص ْه َوة ال ًأحزَ انْ
َع ْي َن َاي َت ْب ِكي
ا�شةَال َق َ�صا ِئ َد لل َه َ�ش َ
108
املوت يف زمن ّ
ه�ش
109
حممد رفيق طيبي
ذاكرة للن�سيان رمبا� ،أو ذاكرة للتيه ،يف زمن ه�ش ال ي�سري �شيء
و�سخر ل�شراذم من املنافقني وفق القانون ،قانون اهلل ا�س ُت ْع ِبد ُ
وعبدة املال واجلن�س وقانون الب�شر �أ�صبح مرعوبا ال يطبق �إ َّال على
ال�ضعيف وامل�سكني.
حينما ح�� ّل امل�ساء ،ك��ان ال�شتاء قار�سا ميار�س �سخطه على
الب�شر ،زمهرير �شديد ي ُلف القرية ،ال�شئ ي�أتي باجلديد املنتظر،
املكان يزحف على �أق��دام ال�شقاق والنفاق وت�سول �أخبار الغري
واحلي.
ِّ ور�صد امليت
عاد �أهله مبتهجني� ،آثار التعب بادية على وجوههم والكل يتو�سله
حمل احلقائب ،وجد بادي�س ُيغلق �أبواب ال�سيارة ،بادي�س �إبن عمته
الويف خلاله الوحيد و�أ�سرته�.س ّلم عليه بحرارة و�ضمه.
� -ساحمنا يا بادي�س �أتعبناك.
(((
-يل قال ياخايل قال يا بويّ ،واهلل والوا خويَ ،وين راك ،مراك�ش تبان؟
-اجلامعة والبيت وامل�سجد مرة على مرة.
-ي�ضحك ،واحل�سناوات الزم.
-راك عارف هههه هيا �أدخل نتع�شى معا ،لن تذهب.
-واهلل ت�ساحمني الليلة ،،غدا �إن �شاء اهلل نزوركم� ..سالم.
يهرول الوالد امل�سن نحو التلفاز ،كم من مرة ي�س�ألونه �إن كان له
�أبناء �آخرين يحاربون يف ليبيا �أو �سوريا فريد ب�أنَّ العرب �إخوة و�أنّ
-1من قال ياخايل ك�أمنا قال يا �أبي (ا�شارة �إىل قرب اخلال) ال�شئ �أخي� ،أين
�أنت مل تعد تظهر.
110
املوت يف زمن ّ
ه�ش
111
حممد رفيق طيبي
112
املوت يف زمن ّ
ه�ش
ف�ضيحة ،وانتهاك حلرمة البيت ولو و�صل ذلك �إىل الوالدين امل�سنني
لقامت قيامتهما فلي�س ذلك بالهينّ عند جيل كانت املر�أة فيه ت�ستحي
�أن تتناول الطعام �أمام رجل والرجل ي�ستحي من ليلة دخلته فيفر
عن وجه والديه لأيام عدّة.نارميان بجنونها بالغت يف و�ضع العطور
املغرية فهي تعرف �أنَّ لها نكهتها اخلا�صة و�إ�ضافتها اال�ستثنائية يف
�إيقاظ كل اجلوارح وجعلها تهتز �أمام فتنة اجل�سد و�سحره.
على �إيقاع �سمفونيات ريت�شارد كليدرمان� ،إحت�ضن و�سادة باردة،
ي�ستجدي نوما مل ي�أت ،يت�ساءل :هل �أخدع نارمين بامتالئي ب ُهيام
دون �أن �أملك �سلطة اليقاف هذا االمتالء الالارادي؟ ما ّلذي �أفعله
لأحول دون ه�شا�شة قلبي �أمامها؟ ومل هذا القلب الأحمق �صلب �أمام
نارميان فال يتذوق �إ َّال طعم ال�شهوة؟ وا�صل يحدث نف�سه :ليتك
�إقرتبت قليال ،قليال فقط كي تعريف �أنك ال تعرفني خطوط الت�صدع
التي هزّتني منذ الب�سمة الأوىل.
احلب املنفرد وقد يكون احلب امل�ستحيل هو �أ�صعب الأ�شياء
و�أق�ساها ،تعي�س �أن ت�شرب من ينبوع متجمد ميل�ؤك جمودا وه�شا�شة،
تتوهج
�أن ترمي بحزمة م�شاعرك دفعة واحدة �إىل الإحرتاق دون �أن ّ
�أ ّية �شعلة تثري بع�ض ال�سعادةُ ،مرهق �أن ترك�ض يف مدار لي�ست له
نهاية �سعيا �إىل حبيب ال ي�سمع لهاثك خلفه فال ي�ستدير لي�سعفك
حني تتوقف فيك احلياة.
113
حممد رفيق طيبي
()06
ن َْح ُن ال ن�شْ َفى ِم ْن املُ َعان َاة َح ّتى ُن َعا ِني َها َحدّ ال ِن َها َية
و�ستْ . َما ْر�سِ ْ
يل ْب ُر ْ
�صرب طويل على الإلتبا�س املتف ّرع نحو كل املناحى� ،صمت ال�سماء
بات �أمرا حمريا ،كلية احلقوق تتنف�س احلب وك�أّنه �أك�سجينها
الوحيد ،م ّيعت املفاهيم يف زمن ال يحق لأبنائه �إ ّال اخلجل ،مل يعد
� ّأي �شيء ذو قيمة يحظى بالإهتمام ،يف الزمن املر كل �شيء م�ضاد
للحقيقة وكل حقيقة تخفي وراءها كوالي�سا من الوهم املبطن،
ما�أعظم كذبة الإن�سانية التي ملأت �شعاراتها الأفئدة وما �أعظم
حب ُي َف ِّ�ص ُلك وفق مقايي�سه ،كل
الغياب يف احل�ضور العابر ،كل ّ
بداية جمهولة املالمح تنتهي بك �إىل �شيء غري م�ألوف قد ميل�ؤك
فرحا وقد يغمرك حزنا ،ال�شئ مطلق وال حد�س يعمل يف التنب�ؤ مب�آل
الإهتزازات الدورية التي حتفر يف القلب �ألف ب�ؤرة للتوتر.
حينما دخل �إىل الكلية يف ذلك ال�صباح املطري كانت الأجواء
باهتة ك�صمت هيام و�شاحبة كقلبه الذي غرق يف بحور ال ّلذة
114
املوت يف زمن ّ
ه�ش
115
حممد رفيق طيبي
116
املوت يف زمن ّ
ه�ش
117
حممد رفيق طيبي
118
املوت يف زمن ّ
ه�ش
و�سيلة وغاية وله ق�صيدة �شهرية بعنوان «ومالعلم �إ ّال م�شاع(((» �أظهر
فيها جزالة حرفه وعمق هدفه� ،أحفظ منها القليل ،ف�شعره الغزير
ال يتيح للقارئ التم ّكن من حت�صيله.
ب�إبت�سامة تظهر �شيئا من الإعجاب :نورنا ب�أبيات �إن �أمكن ،عفوا
ما�إ�سمك ياطالب وهل در�ست عندي �سابقا.
لدي � ّأي عالقة مع كلية الأدب ،جمرد زائر وحمب للأدب، -ال لي�ست ّ
�أما �أبيات ال�شاعر ال�شيخ فجاء فيها:
ف��ع��دوا على النف�س واع��ت��م��دوا م��ت��ى ف��� ّك���ر ال���ن���ا����س واحت�����دوا
وزال ال����ت����خ����اذل واحل�������س���د و�ضموا ايل العلم ح�سن الرجاء
رج�������وه وي���خ���ل���ق م���اق�������ص���دوا ي����ح����ق����ق رب���������ك �أب�������������دع م���ا
ب��ع��ي��د امل����ن����ال اذا اج���ت���ه���دوا ف���م���ا ن���ّي���رّ ات ال���ن���ج���وم ب�����ش��ئ
ع�����س�ير ال�����زوال اذا اج��ت��ه��دوا وم���ارا����س���ي���ات اجل���ب���ال ب�شغل
ن��ف��اه ب��ن��وا ال��ع��ل��وم اذا ر���ش��دوا فكم من امل�ستحيل على العقول قد
�أت���وه���ا وم���ن ج���ه���دوا اوج����دوا وك������م �أو������ض�����ح اهلل �أح���ج���ي���ة
�أَعجب الأ�ستاذ باطالعه و�أثنى عليه ودعا �إىل االقتداء به.يف �آخر
احل�صة طلبه ،دار بينهما حوار ق�صري �إنتهى بتبادل لأرقام الهواتف
من �أجل قيام الأ�ستاذ مبراجعة روايته التي مل يبق الكثري على
اكتمالها.خرج الكل دفعة واحدة حمدثني ل�ضجيج كبري.
غادردون �أن ي�سلم من نظرات طالبات الأدب اللواتي ا�شتهرن يف
وال�سعي وراء الزواج وكنّ مثال
ّ تلك اجلامعة بكرب امل�ؤخرات وترهلها
-1ن�شرت يف جملة ال�شهاب �سنة 1349هـ – 1930م.
119
حممد رفيق طيبي
120
املوت يف زمن ّ
ه�ش
121
حممد رفيق طيبي
-ال ال ال �أنتم الرجال خمادعون ،قل �إنَّ ال َع ِاه َرة الأخرى ال تزال
تغلي بداخلك.
-عن � ّأي امر�أة تتحدثني نارميان ،مابك؟
-القحبة ديك هيام� ،أنت واهلل مات�ستاهل � ّأي �شيء.
-نارمياااان.
َنه�ض ِمنَ الطاولة خم ِّلفة ل�ضجيج كبري بعد �أن �أ�سقطت ماكان ت ُ
عليها من ك�ؤو�س ،مل يجد من �شيء ليقوله للنادل الذي �سارع �إليه بعد
خروجها يجمع احلطام .متالك نف�سه وا�ستجاب لكالم النادل الذي
حجة لي�شرع يف التفل�سف والتكلف يف ه َّون الأمر عليه ووجد يف ذلك ّ
احلديث عن الن�ساء.
مل يلحق بها بل �إتجّ ه �إىل املقهى املحاذي للجامعة وطلب قهوة
مر ّكزة وهاتف عبد القدو�س طالبا ح�ضوره� .شعر عبد القدو�س
با�ضطرابه ف�صوته مل يكن عاديا ،فجاء بعد دقائق مهروال مملوءا
باحلرية وال�شك.
-مالذي حدث لك؟ �إت�صالك املفاجئ ونربة �صوتك �أفزعاين.
� -إ َّنها نارميان يا �صديقي ،ت�سببت يل يف ف�ضيحة ومهزلة مل حتدث
معي مذ ولدت.
-ههههههه نارميان ،كل �شيء متوقع معها.
� -إ�ضحك �أنت فال يهمك ،لو كنت حا�ضرا لأ�صبت باحباط مزمن
ج ّراء ت�صرفها املتهور �أمام جمهور من مرتادي املطعم اجلديد.
122
املوت يف زمن ّ
ه�ش
البد من �أنك فعلت �شيئا خطريا مما جعل -لكن كيف حدث ذلكَّ ،
ر ّدة فعلها قوية.
-ب�ضع �أبيات من ال�شعر جعلوها تثور يف وجهي وتقلب كل ماهو
موجود على الطاولة.
� -شع ـ ــر؟؟
-نعم� ،أبيات خلليل مطران فيها �شيء من الولع والتظلم� ،إتهمتني
بالإمتالء بهيام وب�أنيّ ال �أ�ستحق � َّأي �شيء جميل منها وغادرت بعد
الذي �أحدثته من فو�ضى.
-رمبا �ست�صبح ماري لويز اجلديدة ،ومل ال هههههه.
-عبد القدو�س ،كفاك �سخرية ،ماعالقة نارميان مباري هذه.
� -أو لي�ست هي من حاولت �إنقاذ ن�ساء العامل من �أمل خيانة الرجال
بعد �إكت�شافها �أن جاك الذي وثقت به ي�ضاجع امر�أة �أخرى يف
فرا�شها وهي ترتدي مالب�سها الداخلية ويقول لها نف�س الكالم الذي
�إعتادت �سماعه منه.
-مريـ ـ ـ ــع..
-نعم وقد �أردته قتيال و�أجربت تلك الفتاة على املغادرة عارية
نحو ال�شارع ،لرتكب هي �سيارتها وتقتل عري�سا يف طريقه �إىل عقد
القران و�أطلقت النار على كل الأطفال الذين ر�أتهم بعد �أن قا َلت
لهم «�ستكربون و�ست�صبحون رجاال وتخدعون فتيات كرث لذا �س�أنقذ
ن�ساء العامل من الأمل الذي �شعرت به».
123
حممد رفيق طيبي
-بع�ض خطايا الرجال ال تغتفر فعال ،لكن �أنا ما قلت لها �شيئا ،ثم
�إين قد �أ�صحبت غري قادر على التحكم يف هاته امل�شاعر البليدة التي
�سلبت عفويتي وجعلتني �أ�سريا لتخمني ال حدود له.
-ال عليك يا �صديقي ،نارميان قلبها �أبي�ض وكل الأمور �ستعود �إىل
جمراها الطبيعي.
-عذرا عبد القدو�س ن�سيت �أن �أطلب لك �شيئا ت�شربه ،وهذا النادل
الغبي الذي �ألفنا ذاكرته املثقوبة وحركاته البطيئة ال ينتبه ل�شيء.
-ال عليك�،س�أطلب زجنبيل و�أنا من �سيدفع.
-دعنا يا عبد القدو�س ،فل�ست يف وقت منا�سب لأناق�شك يف دفع
احل�ساب ،واهلل لن تدفع �سنتيما.
« -واهلل» ت�سبقك دوما ،ال داعي للحلف مرة �أخرى.
ن�صف �ساعة �أخرى من احلديث والغو�ص يف كل حميطات الكالم
من ال�سيا�سة �إىل احلب �إىل �أحاديث اله�شا�شة والوجدان ،كلها حمبة
و�صداقة تلك اجلل�سات ،عمر الذاكرة يطول ك ّلما وجد الإن�سان
طرفه الذي ي�شبهه يف فرحه ووجعه.
غادرا نحو بيته ،ملا و�صال وجدا والده ال�شيخ جال�سا عند عتبة
رحب بهما مبت�سما ودعاهما �إىل جمال�سته ،جل�س عبد البابّ ،
القدو�س ي�س�أله عن حاله و�أحواله بينما دخل �إىل البيت مناديا على
�أمه طالبا حت�ضري القهوة.
�شرع الوالد ال�شيخ يف احلديث عن خمتلف مناحي احلياة وعن
�أ ّيام باري�س وحكاياتها املتعددة واجلميلة.حديث �ش ّيق زاده ح�ضور
124
املوت يف زمن ّ
ه�ش
125
حممد رفيق طيبي
�أيام قليلة ،بد�أت طباعه تتغيرّ وزاد مرحه عن احلد املعقول ،ترك
حت�سرت كثريا ال�صالة و�أ�صبح ال يدخل البيت �إ ّال بعد منت�صف ال ّليلّ ،
وحاولت منا�صحته دون جدوى �إىل �أن دخل ذات ليلة باردة خممورا
يتهاوى على اجلدران فماكان مني �إ ّال �أن طردته من البيت .مل �أره
يل ال�شرطة باحثة عني كي تعلمني بعدها مل ّدة �شهر �إىل �أن قدمت �إ ّ
بحكم �إقامته عندي �أنهم قد وجدوا جثته على ج�سر مريابو((( مقتوال
بر�صا�صتني ،بعد �أيام من التحقيق عرفوا �أنّ ع�شيق مارينا هو من
«وم َ
ااحل َيا ُة ال ُد ْن َيا بني َ جنى عليه .هذه هي عاقبة اللهو واملجون با ّ
�إِ َّال َمتَا ُع ال ُغ ُرو ْر»(((.
-معك حق يا عمي ،لك ّنك كنت تعي�ش حياة رغيدة هناك يف باري�س،
كيف ق ّررت العودة �إىل اجلزائر بال رجعة� ،أمل يكن ذلك القرار
قا�سيا نوعا ما؟
� -أبي �أعجبه هذا الزمن اله�ش الذي نعي�شه هنا ياعبد القدو�س،
ال�شئ مقنع فهو وحده املقتنع ب�ضرورة البقاء على �أر�ض الأجداد
وحبها والعمل عليها وتطويرها.
احل َيا َة الدً ْن َيا -ياولداي� :أمل تنتبها �إىل قول اهلل تعاىلْ �« :إع َل ُموا �أَنّ َ
اخر َب ْي َن ُك ْم َوت َك َا ُثر فيِ ال ْأم َو ْال َوالأ ْو اَل ْد َك َم َث ِل َغ ْي ٍث
َل ِع ُب َو َل ْهو َو ْزي َنة َو َت َف ُ
�أَ ْع َج َب ا ُل ُك َفا َر َن َبا َت ُه َث ّم َي َه ِّي َج َفترَ َا ُه َم ْ�ص َف َرا ُث َّم َي ُكونُ ُح ُطاما وَفيِ
اب َ�ش ِد ْيد َو َم ْغ ِف َرة ِمنَ اللهّ َو ُر ْ�ض َوان َو َم َ
احل َيا ُة ال ُد ْن َيا �إ َّال ال ِآخ َرة َع َذ ُ
َمت َا ُع ال َغ َرو ْر» .
(((
126
املوت يف زمن ّ
ه�ش
127
حممد رفيق طيبي
� The skeletoncoast -1أحد الأماكن القليلة التي تلقتي فيها رمال ال�صحراء
مبياه البحر ويقع يف منبيا.
خليرْ َي ِج ُب �أنْ َت ْع َل َم � ْأ�ست ََاذ ِتي ال َغا ِل َية �أ َّن َها َم َاعادَت مجُ َ َر َد �أ�س َت َاذة يل،
َ -2م َ�سا ُء ا َ
لأ َن َها َ�س َك َنت ال َق ْل َب َو َج َع َلت ِمنَ ال ُروح َو َط ًنا.
128
املوت يف زمن ّ
ه�ش
129
حممد رفيق طيبي
ع�شر دقائق �أخرى من ال�صمت ،ي�أ�س قا�سي بد�أ يت�سلل �إىل فرا�شه
احلزين وفج�أة �إهت ّز فرا�شه بر ّنة متقطعة.
حمل الهاتف بيديه االثنتني ،رمز الر�سائل متعدد الألوان ،المع،
ر�سالة جديدة ،هيام �إذن..
مالذي حتمله هاته الر�سالة؟ �ش�ؤم �أم غنم؟ ّ تردد يف فتحها:
اللعنة� ،أغم�ض عينيه� ،ضغط على الزر (�أوك).
فتحت ،كل �شيء �ضبابي:
(((
Abdelkodous –appelle-moi-stp
�أوووه يا عبد القدو�س ،كم �أنت غريب الأطوار ومفاجئ كخيبة
غري منتظرة ،راح الهاتف يك�سر �صمت الظالم برنينه.
� -ألو� ،أهال عبد القدو�س ،ما ا ّلذي حدث ،فاجئتني؟
-عذرا �صديقي لك ّنني يف ورطة ويجب �أن نلتقي �صباحا فالأمر ال
يحتمل الإنتظار.
-ما ال ّذي حدث� ،أخربين الآن؟
-ال ال الق�ضية تتطلب موعدا ولي�س جمرد حديث يف الهاتف.
-مت�أكد من �أ ّنك بخري؟ وب�أن الأمر يحتمل ال�صرب �إىل ال�صباح؟
-نعم �صديقي فقط تذ ّكر ذلك� ،س�أت�صل بك �صباحا.
130
املوت يف زمن ّ
ه�ش
131
حممد رفيق طيبي
132
املوت يف زمن ّ
ه�ش
133
حممد رفيق طيبي
134
املوت يف زمن ّ
ه�ش
135
حممد رفيق طيبي
و�صل عبد القدو�س والرجل الغريب �إىل املقهى وحلق بهما مت�أخرا
بثواين قليلة ،جل�سوا حول طاولة م�ستديرة ت�شبه الطاوالت املزيفة
اخلا�صة بالر�سميني ،جاء النادل م�سرعا يوظب الك�ؤو�س ،طلبوا منه
�أ�شياء متفرقة ومل يطلب �أحد لأحد �شيئا.
و�صلت الطلبات على وجه من ال�سرعة وبعد ر�شفة قهوة نطق الرجل
الغريب ب�صوت خ�شن مملوء باجلدية والغ�ضب موجها خطابه لعبد
القدو�س بنربة م�ستعجلة� :أنت م�س�ؤول ع ّما حدث و�ستتحمل نتائج
�أفعالك� ،سمية فتاة من منبع طيب وال ترتكب هذا ال�سفه �إ ّال بتوريط
منك ،كن رجال وحت ّمل ما �أ�صبت به غريك و�إ ّال ف�أنت تعرف النتائج.
ّ � -أي نتائج �أحتملها عن ذنب مل �أقرتفه� ،ستدفعون �أنتم ثمن عهرها
و�سقطكم� ،أما �أنا فربئ �أمام اهلل و�أمامكم.
فظة وقام -ح�سنا يا� ...سرتى .وو�ضع الك�أ�س على الطاولة بطريقة ّ
دون �سالم و�إىل وجهة غري حمددة.
تابعه عبد القدو�س بعينيه وهو يغادر �إىل �أن غاب ظله وتوارى عن الأنظار.
-هل ر�أيت يا �صديقي ،ال تلمني و�سوف �أروي لك ،هل تعدين بذلك؟
-مال ّذي جرى يا عبد القدو�س ،ت ّكلم ،من هذا الرجل؟
� -إنها بداية �إنهيار الأحالم يا عزيزى ،فج�أة وجدت نف�سي يف دوامة
�سببها امر�أة وثقت بها ح ّد التماهي.
هل �سم ّية التي نطق بها الآن هي التي ح ّدثتني عنها وقلت ب�أ ّنها
�أنثاك التي ال يكررها الزمن و�أنك تود التقدم خلطبتها؟
136
املوت يف زمن ّ
ه�ش
-نعم ..هي..
-وما ا ّلذي ح�صل؟
-كنت �أواعدها ب�شكل دوري وكنا منار�س احلب كما ميار�سه غري
املتزوجني �إىل �أن قاطعتني �أ�سبوعا ثم �إتّ�صل بي هذا الأحمق الذي
مل �أعرف حتى ا�سمه وهو ي ّدعي ب�أنه فرد من �أ�سرتها كما ت ّدعي
هي ب�أنها قد فقدت عذريتها لكن مل �أفعل ومل �أكن لأفعل ذلك ولو
علي عر�ضا. عر�ضت ّ
-وما العمل الآن؟ فعال �إنّ هاته الأمور خطرية وتتطلب تريثا وحكمة،
عبد القدو�س كنت عفيفا فكيف وجلت هاته ال�سفاهة ،حتى �إين
ح ّذرتك ،لكن تذكر جيدا �أين هنا ويدي هي يدك وال تخ�شى �شيئا
فرمبا هي مناورات ن�سائية بحتة وتذكر قول «ر�سول حمزتوف»� :شيئان
يف الدنيا ي�ستحقان املنازعات الكبرية ،وطن حنون وامر�أة رائعة.
ي�ضحك عبد القدو�س �أوال ّثم يتبعه بابت�سامة عري�ضة ،ه ّون
املوقف قول ال�شاعر الداغ�ستاين الكبري و�أحالهما على نقا�شات
�أخرى .بعد زوال ال�شك وفهم الأمروتقديره على �أنه جمرد لعبة
مبلورة من �أجل هدف ما�سيظهر خالل الأيام القادمة وا�ست�شهدا
بقول اهلل عزوجلُ « :ق ْل ُلنْ ُي ِ�صي َب ُنا �إ َّال َما َكت ََب ُ
اهلل َل َنا هُ َو َم ْو اَل َنا َو َع َلى
اهلل َف ْل َي َت َو َك ْل المً ُ�ؤ ِْم ًنونْ »(((.
ينظ ُر �إىل عبد القدو�س م�ستغربا طي�شه توجها �إىل اجلامعةُ ،
يتهجم عليه الدهر كل مرة وب�أ�شياء عجيبة ت�ض ّيع يف �سن التعقلّ ،
-1التوبة (.)51
137
حممد رفيق طيبي
العقل� ،صدق �إذن موالنا جالل الدين الرومي حينما قال :العقل
والدهاء والذكاء �صناعة �إبلي�س والع�شق ر�أ�س مال �أبينا �آدم .يكاد
ي�س�أله يف كل نظرة عن �سبب هاته الأحداث ثم يرتاجع لكونه ي�شعر
ب�أنَّ ال�س�ؤال �سينحرف �إىل القدر فهو الأوىل بامل�ساءلة ال املُقدر عليه
وهذا ماال ي�ست�سيغه.
اليوم حتديدا �ستو�ضع للأحالم �أ�س�س جديدة تزيد من ت�شدد
دوغماتية احلب وتفر�ضه ،ورمبا �ستنهار كل تلك ال�صروح لتظهر
ب�شاعة الوهم القا�سية ،اللقاء مع هيام قريب� ،ساعة �أو �ساعتان ال
�أكرث ويقف وجها لوجه مع عمره امله ّرب ،فماذا �سيقول وما ا ّلذي
�سيحدث �س�ؤاالن �إمتلأ بهما يف �صمته� ،صمت ي�شبه �آخر الليل يف
رهبته و�سكونه.
�أمام مر�آة مك�سورة راح يجرب احلركات والأ�صوات �إحتياطا وتدريبا
فهو مل يخترب يوما احلديث مع امر�أة مت�سك ال�شريان القاعدي لقلبه،
ج ّرب كل التوقعات دون �أدنى قناعة� ،صوت �أورفيو�س((( لن يكفي
للحديث �إىل هاته املر�أة ال ّلوحة التي مينحك النظر �إليها �إح�سا�سا
جت�سد الده�شة الق�صوى للفن ب�أ ّنك �أمام لوحة لبرتو�س باولو�س ِّ
الباروكي الذي يجمع بني العظمة والالواقع.
و�صل وقت املواجهة وح ّلت �ساعة الوقوف على احلافة بيدين
باردتني ال حتمالن �إ ّال كومة من امل�شاعر تراكمت من حلظة الده�شة
الأوىل ،كلما م ّد ب�صره ر�أى طيفها �أمام القاعة رقم 05غادر
عبد القدو�س كي يرتك له الأفق ك ّله فهو وحيد يف ف�ضاء الإنتظار
-1من الأبطال اخلارقني يف املتولوجية اليونانية.
138
املوت يف زمن ّ
ه�ش
139
حممد رفيق طيبي
ت�شجع وتق ّنع وراح ي�سحب �سيف الكلمات معتقدا ب�أن هذا احلوار ّ
لن يتكرر و�أنّ كل ثانية ت�ضيع هي خ�سارة من عمر القلب امل�صاب بها.
-لي�س متيزا ماحق ّقته بل �إنت�صار على قلب م�شمع بالكربياء ،فمذ
ر�أيتك �إنهارت كل الربوتكوالت و�أ�صبح هذا القلب (ي�ضع يده على
قلبه) ميدانا لل ّرع�شات والتذبذب.
-لكن كيف وملا �أنا حتديدا� ،أن�سيت �أين �أ�ستاذتك؟
-فعال ،ن�سيت الأ�ستاذية التي جتمعنا ،لكن مل ولن �أن�س �أ ّنك ال�سيدة
التي جترين �إىل املوت كمدا من فرط ال�شوق والإبتعاد.
-املوت؟ قد قيل يل ب�أ ّنك كاتب ولديك م�ستقبل يف عامل الإبداع،
فابقى بعيدا عن العدم �أخ�شى عليك من الذي «حدث لت�شارلز
ديكنز» الذي ترك رواية «لغز دوين درود» وحيدة يف بردها ومات
عنها وحربها مل ّ
يجف بعد.
-ال �أخ�شى املوت ،كل ما �أخ�شاه هو �أن �أبقى قيد املوت و�أنت ت�سرقني
احلقيقة باالبتعاد.
يدور احلديث بينهما بكل الإنفعال والده�شة والأعني تتناف�س يف
�إطالة النظر وك�أنّ املوقف مدبر فرمبا هو من ترتيب ال�صدفة �أو
عطل �أحالمه لأكرث من مرة. القدر البطئ الذي ّ
قامت هيام من مكانها ،مل تكن بحاجة �إىل مراجعة �أناقتها
فده�شته كانت كافية لأن متنحها عمرا �آخر من الثقة بالنف�س والتي
قد ت�صل �إىل غرور جارف يحملها على جتاهل الكون مبا فيه.
140
املوت يف زمن ّ
ه�ش
�سارت و�إياه يف املمر الهادئ الذي يف�ضي �إىل دهليز كبري يقاوم
الإنهيار ،كانت اخلطوات بطيئة والكالم مقت�ضب وكل اجلماد
من�صت �إىل دق القلوب املت�سارعة ،هو يعلم جيدا �أنّ خروجه معها
�إىل فناء الكلية �سيفتح جماال �ضخما للأ�سئلة الباهتة خ�صو�صا و�أنّ
�صوت مليكة منت�شر بكل قواه.
�إذن مل يبق �إ ّال �إ�ستيقافها خلف البوابة الكبرية التي ت�شبه حلمه
الكبري وه�شا�شته.
� -إذن هيام :لن �أوا�صل متثيل دور الأخر�س �أمام م�شاهد تتطلب
دواوينا من الكالم ..لن..
-وتتج ّر�أ وتناديني با�سمي يالك من...
-حينما �أقول �أ�ستاذة �أ�شعر ب�أين �أغت�صب �أنوثتك فمالحمك ال يليق
بها �إ ّال �إ�سمك الطازج الذي يتجدد بريقه يف كل نظرة �إليك� ،إ�سمك
�أكرب من كل �شيء وهذا عذر كايف لإ�سقاط كل الألقاب الأكادميية
التي ال تعني للحب �شيئا.
-كفاك غرورا وتنميقا ،مالحمك وكالمك يظهر اخللفية ال�سيكوباتية
التى تتحدث منها وهذا الدور ال يليق بك وال بي �أي�ضا.
-لك ـ ــن...
قل َّلت من �إنفتاح مقلتيها بحركة تدل على �سذاجة الطرق التي
يحاول �إقناعها بها لكن حبه لها كان �أكرب بكثري من ال�سذاجة و�أعمق
بقليل من لون عينيها ال ّداكن ،غادرت دون وداع ،تر�سم الكربياء
141
حممد رفيق طيبي
142
املوت يف زمن ّ
ه�ش
143
حممد رفيق طيبي
وجهه والده �إليه وهو يف عمر احلكمة فهم التلميح الأ�صيل الذي ّ
والن�سيان� ،إبت�سم وغادر جمل�سه بكل ثقة ووقار ،جل�س يف غرفة
ق�ص ّية وراح ي�ستعيد ذلك الكالم امل�صقول� ،صعب �أن ت�ستنبط
الق�صد الدقيق من �أفواه الكبار ،كل الكالم م�شفر وج ّل الر�سائل
احلكم ،رحم اهلل �سيدي على قدر من العمق� ،أ ّبا عن جد ُتتوارث ِ
عبد الرحمان املجذوب ال�صويف الذي ترك للأجيال ما حتتكم به
وت�ستدل ب�ضيائه ،كم كان كالمه مندفعا نحو ال�سالم ومالم�سا
ليوميات الإن�سان ال�ساعي للكمال الأخالقي واملمار�سة الإجتماعية
ور�سخ يف خواطر الباحثني عن احلكمة ال�سو ّية ومن �أجمل ماترك ّ
تلك الق�صيدة اجلميلة التي جاء فيها:
يحة �صح ََال ت َْ�س َر ْح َحتَى ت َل َج ْم َو ْاع َق ْد ُعق َْدة ِ
يحة تخ َم ْم َال ت ُع ْود َعليك ْف ِ�ض َ َال تت َك َل ْم َحتَى َ
حلوت ُي ُع ْوم ف ُو ْق ا َملاء وهُ َوم بلاَ َماء ي ُعو ُموا ا ُ
وق ُم ْط َيا ْر َيا َد ْاخل ُر ْد َبا َل ْك الن�ساء ُ�س ْ
ُ�سوق َ
ا�س َما َل ْك
وك فيِ َر ْ ي َو ِر ْو َل ْك من ال ْر ْب ْح ُق ْن َطا ْر ْو ْي َخ ْ�س ُر ْ
اب ع َّي َط ْو ُكونْ َف َاه ْم َياليِ ْت َع َي ْط ُق َد ْام ال َب ْ
والد َر َاه ْم
الن�سا ْء ْ اب ِغ ْري َ َما ْي َف َ�س ْد ِب ْني ال ْأح َب ْ
ال�ش ْك ْر َديمْ َ ة َف َاع ْل ِ
اخل ْري َه ِني ْه َبال َف ْر ْح َو ُ
ال�ش ْر َخ ِلي ْه َف ْع َله َي ْر َج ْع َله َغ ِر َمية
و َف َاع ْل َ
144
املوت يف زمن ّ
ه�ش
الوالد ال�ش ّيخ يتحدث من خلفية بائدة ،ق�ضى زمانها يوم كان
الرجال ي�سرفون يف �صرف املال على ن�ساء قد يولني الإهتمام وقد ال
يفعلن� ،أما الآن فالأمور �أ�صبحت ن�سبية وبع�ض ال�ساعيات �إىل زواج
خمتل يق ّدمن كل الغايل لرجل قد يويف بوعوده الكثرية وقد ال يويف
فيرتك خلفه حرائق اجليب والقلب.
مل تكن حكمة الوالد تنطبق على ماحدث ويحدث من �إرجتاجات
بينه وبني هيام ،فلو �أح ّبته لن يفكر يف املال فالقلب املرتع�ش �سيمنحها
احلياة كلها و�إذا �أنكرت حبه فال راحة له �أمام عظمة امل�ش ّقة التي
خ�ضم ال�ضجيج العايل الذي �سكنه من ل ّفته مذ �إحتمل ال�صمت يف ّ
فرط ت�صارع الأفكار العا�شقة.
بزغ فجر جديد بعد ليلة �شا ّقة تزاحمت فيها �أ�شباح الإنتكا�س
على فرا�شه ،غادر البيت متّجها �إىل اجلامعة ،مل يعد له من الأمل
مايكفي جلعله يدخل �أبواب الكلية بربيق الع�شق املنتظر فكل �شيء
م�ؤجل �إىل جنون �آخر �أو �صدفة جميلة قد تغيرّ املوازين.
�شاع يف ذلك ال�صباح خرب قا�سي وم�ؤ�سف جاء فيه �أن فتاة
برمي نف�سها من الطابق اخلام�س ،مت ّلك البنات الف�ضول �إنتحرت ِّ
و�شرعن يف �صياغة الأحاديث والأكاذيب .تنطق الأوىل فتقول ب�أنّ
حبيبها الغايل قد خانها و�أنّ هذا �سبب كايف لركوب املوت ،تقاطعها
لف حولها ك ّل النظرات :اخليانة ال جتر �إىل الأخرى ب�صوت �أعلى ّ
الإنتحار� ،أكيد قد تز ّوج عليها �أخرى فهي متزوجة منذ �سنتني.
تنفجر يف وجهها وبكل قوة �صاحبة الأرداف الثقيلة :لي�ست متزوجة
وال �سبب يدعوا للإنتحار �أكرب من فقدان البكارة الثمينة� ،إ ّنها دليل
145
حممد رفيق طيبي
الع ّفة وفقدانها يفر�ض املوت� .صمنت جميعا �أمام الفكرة اجلريئة،
كل الآراء جت ّمدت �أمام قبح التخمني وبالهته .ثبت فيما بعد �أن
البنت مل تنتحر �إنمّ ا �سقطت غفلة و�سهوا حينما تنا�ست عمرها وهي
تلقي مب�ؤخرتها على حافة النافذة لتجد نف�سها �أو ليجدوها يف بركة
تقطعت لثواين ثم �إنك�سرت �إىل الأبد. من املوت ب�أنفا�س ّ
كل التحاليل �سقطت حتى الإمام تراجع عن قراره الظامل بعد
�أن كاد ال ي�صلي عليها ،ماتت ب�شغبها وبعذريتها كذلك التي �ش ّككت
فيها بل �أ�سقطتها �إحدى املت�شدقات .لي�س مهما �أن متوت ويف جوفها
غ�شاء تافه بعد �أن �شهدت الن�ساء كما الرجال على ف�سقها قد يقول
الأكرمون �أن لها �أ�سبابها وقد يقول املتع�صبون �أنها عاهرة وعلى
اهلل ح�سابها وبني القائلني الأ ّولني والآخرين جدار احلرية في�صل
وح�ساب اهلل وعقابه مع�س ّر وم ّي�سر.
الأجواء ملب ّدة ،الروتني د ّثر العقول والقلوب ،الإنبهار �أحاط
الأفئدة ،كل �شيء يف غري حمله ،واقع بدون �إعراب «ال �أحد ميلك
�أحد �إذن ال �أحد يفقد �أحد» �صدقت يا باولو كويلو .جل�س على مقعد
مهرتئ ووا�صل حمدثا نف�سه :هيام لي�ست يل �أعلم ،مل �أك�سبها
لأفقدها ثم ال �أحد ميلك �أحد �إذن مل ولن ،لكن �إذا فقدت نف�سي
�أمامها هل من خطر؟ يت�ساءل بعمق ،ي�صاب ب�شدوه ثم يعود :فقدتها
و�إنتهى ،يف جتديد الفقدان �أمل يف الك�سب ،ال لي�س ك�سبا ،حظ ال
لي�س حظا ،اللعنة..
وعجل
�إنقطعت اجلعجعة� ،أمطار قدمت ورذاذها حجب احلب ّ
بالتفكري يف الهرب من برودته �إىل �أقرب مكان والإكتفاء بالنظر
146
املوت يف زمن ّ
ه�ش
�إليه ،كل جميل مباغت وخميف فبني املطر وهيام �شراكة البغتة
والده�شة وقد تتحول هاته الأ�شياء باندفاعها �إىل �صدمة.
املطر يزداد غزارة والر ّياح توجهه نحو �أماكن االختباء ،يبحث
الذي
عنه املطر وك�أن �أ�سرارا بينهما ،رمبا �سر البحث عن االرتواء ّ
ظ ّل معلقا على حواف ال�شفة ال�سفلى لهيام.
اجلن�س يتحكم يف الطق�س وت�ساقط الأمطار ،ماذا لو �صدّقنا هذا
الغباء ،كنا منلك حولك �أوهاما �صغرية يا فيلهلم راي�ش((( لكن اليوم
وهمنا كبري وكبري جدا بحجم ال�سماء.تتحكم الأمطار يف ال�شهوة،
فكرة م�ست�ساغة فالقلب يعط�ش يف ليايل ال�شتاء وال�شتاء يعطي وي�ضفي
على الن�شوة بريقا فال ت�سلم نف�س وال طرف من االحتواء والإحرتاق
لكن ال�شهوة تتحكم يف املطر ال ل�سنا �أكادميني لنعجز عن القول بفم
ملئ قد كذبت يا �سيدي ،لو كان لها ت�صرف ويد لر ّكزت على ر�ؤو�سنا
القيظ فيزهر �سم احلمار فتتحقق نب�ؤة العامة وحترتق الن�ساء.
قطع الفناء الرحب مهروال ،اخلطوة الأخرية كانت خطرة ،كاد
يهوي يف بركة ماء لوال تلك الأعني املنت�شرة املنتظرة التي م ّكنته من
الإمتناع عن ال�سقوط بع�سر .يتقاطر ماء� ،شعر مبلل وج�سد مرتع�ش
ما العمل؟ كطائر جريح يف ُّر �إىل �أ ّول وكر دافئ ،جل�أ �إىل حجرة بها
مدف�أة �شبه باردة لكن برودتها �أقل بقليل من الطق�س لذا فاللجوء
�إليها م�شروع.
دخلت مليكة خلفه حتمل هموم الدنيا وقهرها ،فال ّنكد �أ�صبح
زوجها الذي ال يفارقها مذ ك�سر الفقر �أحالمها .راحت تخا�صره
-1عامل اجتماع وباحث جن�س من�ساوي .1957- 1897
147
حممد رفيق طيبي
ب�شكل �آ�سر ،يحم ّر وي�ص ّفر لكنه ي�صمت� ،صمت اللذة والالفهم
يطوقه ،ينظر �إليها با�ستف�سار فال تفهم وال ت ّدعي الفهم ،ثم �ساد
�صوت الإرتعا�ش الذي و�صل �أق�صاه.
مليكة رجل مل تكتب له الذكورة ،لكنها رجل ورمبا �أنثى متعددة،
ال و�صف .تبكي لتوافه الأمور وتثور �أي�ضا� ،إذا �أدمعت تن�سيك ب�ؤ�سك
كي تلتّف حول ب�ؤ�سها وتعتقد �أ ّنها اجلريحة الوحيدة يف هذا العامل
امللئ باجلرحى واملك�سورين و�إن ثارت ب�سقطها وفمها امل�ش�ؤوم ُتذهب
عنك القول ب�أنها امر�أة.
مل تلتق منذ �أ�صبحت ناهدة برجل كباقي الرجال ومل تعرف
من احلب �إ ّال التفا�صيل اخلطرية التي تف�ضي بها �إىل �أكرث البنات
كفرا بال�سر وال�سرت فت�صبح حكاية لل�ضائقني دون �أن تعرف .ك ّلهم
دجنوانيون((( يلهثون خلف خا�صرتها يف حني تلهث هي خلف قلب
ممتلئ بال�شعاع والنور وحني متد يدها لذلك ال�ضوء الباهر تكت�شف
�أنه �شعاع كباقي الأ�شعة لكن ال جوهر له.
تعادلت دموعها ب�صالتها وح�سرتها لكن مل تكن تبكي ككل
الباكني على املغفرة ومل تطلب ال�صفح ومل ترجوا اهلل ككل الراجني
بل كانت تطلب �إ�ستقامة حظها الذي ك ّر�ست له و�صف «اللعني» كي
مينحها هذا احلظ و�صفة ت ّدك بها قلبا فتمتلكه وتكون من الناجني
الذين ماغرقوا حني تق ّلبت �أمواج العمر وعلت بال يد مباركة ت�سحب
ذلك العمر الهارب نحو بر فيه الأمان وال�سالم.
-1من الدجنوانية وهي ال�شخ�صية التي حترتف اغواء الن�ساء وا�ستمالتهن �إىل الهوى.
148
املوت يف زمن ّ
ه�ش
حتدّثا بنف�سية باردة كاجلو الذي �سرق الإبت�سامة فال الربيع ح ّل
وال ال�شتاء �إرحتل والغيم طال �أمده وك�أنّ ال�سماء غا�ضبة ،حديث
متقطع ،كالم متكا�سل ،جمرد هروب من ال�صمت امل�ستفز وال �شيء
ي�ستحق الإعجاب ،ن�صف �ساعة من احل�ضور الباهت قطعها نداء العون
الإداري الذي ت�ش ّبع مذ ّلة و�شيتة((( و�أ�صبح خادما لكل خمدوم وال تربير
ال�سعي �إىل ك�سب ود م�س�ؤوليه الذي ال ي�سمن وال يغني من جوع.له �سوى ّ
-الأ�ستاذة «بو�صوف» تناديك ،تنتظرك يف قاعة الأ�ساتذة.
نظر اليه مطوال.بو�صوف؟؟
-نعم ،تطلبك وهي تنتظرك يف قاعة الأ�ساتذة.
�أبله و�أحمق ليتك مانطقت بهذا �أمام مليكة (قالها بينه وبني
نف�سه) ح�سنا �أنا قادم ،مليكة نلتقي الحقا عزيزتي.
� -إذهب مع ال�سالمة واحذر �أن تخطئ.
ُّ � -أي خط�أ ..جمنونة.
د ّقتان على الباب ،فتحه ،وجدها مبت�سمة تعبث بحبات من
رحبت بهالفول ال�سوداين وقلم �أحمر يالم�س ال�شفة ال�سفلى منهاّ .
خمت�صرة ودعته �إىل اجللو�س.
راح يدقق يف �سحرها ،ال�شئ ي�شبه باقي املوجودات يف الدنيا
ال�شا�سعة� ،شاخمة و�سامقة يف رحاب الفتنة وال�سحر ،حفنة من
-1م�صطلح يطلق يف اجلزائر على كل من يقدم خدمات �إ�ضافية وجمانية
ل�شخ�ص ما من �أجل ك�سب وده ويو�صف به ب�شكل �أكرب من يفعل ذلك مع امل�س�ؤولني
و�أ�صحاب ال�سلطة.
149
حممد رفيق طيبي
ال�ضوء ال �أقل تدعوه يف كل حركة �إىل الإنبهار بها �أكرث ،هي ال
تت�شابه مع الأنوثة ورمبا هي الأنوثة مادامت كل تفا�صيلها خارجة
عن العادي وكل مقوماتها ثائرة و�إىل الأبد عن امل�ألوف.
يف �شدوهه الرقيق تذ ّكر �إيدوارد جيبون((( وهو يرفع على ركبتيه
وي�ست�سمح فتاة يف ت�أدية حتية عبادية طقو�سية جلمالها الذي د ّوخه
وهو يف �سن الهرم ،فكيف التعامل وما الواجب �أمام الإنكار العظيم
حلوا�سه و�شهادتها ب�أنّ كل الذي �أمامها �آية و�إعجاز يف فن اخللق.
-كيف حالك ،هل �أنت بخري؟
-ب�أح�سن حال� ،شكرا..
-هيام ،قلها وال حاجز.
� -شكرا لك ،هذا من كرمك.
-يف حديثنا ال�سابق ،مددت يدك فاحتا نحو طابو جديد وجت ّر�أت
على القول ب�أنّ لك م�شاعرا �إجتاهي بل وغازلتني .قد علِمتُ من
قبل �أن ك�سر الطابوهات عادتك بداية من كتابك «عا�صفة العاطفة»
الذي �سيطرت لغة اجل�سد و�أحاديث الأفر�شة على �صفحاته و�صوال
ىل .ما ا ّلذي تعتقده يا �أمري ال�شعراء وكا ِتب ال ُك َتّاب� .أال تفكر ب�أنك
�إ ّ
قد جتر علينا الويالت ب�سبب هذا التهور والتطاول.
ب�أعني متعبة و�أنفا�س خمتنقة ،راح يحدق فيها تارة وينظر �إىل
و�سط القاعة تارة �أخرى و�إىل عمود مهرتئ و�إىل زوايا �إمتلأت
بالأ�شياء القدمية التي ت�شبه الأنقا�ض �إىل ح ّد بعيد� .إ�سرت�سلت حلد
Edward giffon -1م�ؤرخ �إجنليزي .1794-1737
150
املوت يف زمن ّ
ه�ش
كبري و�أحاطت مبا يحتاج �إىل الكالم ومبا ال يحتاج ومل تتوقف عن
ر�ش قلبه بالنار واحلجارة �إ ّال حينما عاد �إىل حمياها ممتلء الأعني
ومنك�سر النظرات.
� -أجبني مل ال�صمت؟
� -إذا بدالك عن غفلة �أنّ �صراحتي واندفاعي نحوك ك�سر لطابوه فيجب
�أن توقني عن �صدق وحقيقة �أن ردم احلب وتدثريه باخلوف والرعب هو
الطابو الذي يحتاج �إىل الك�سر ،مل �أطلب منك �إحت�ضاين ومل �أطلب
منك القول ب�أنني املهدي املنتظر� .أحبك وهذا كل مايف الأمر ،يدي
التي امتدّت �إليك بكل �شوق ماكانت لتحمل �إليك اخلداع فهي بي�ضاء
كالقلب الذي امنحى من تتايل اله ّزات وال�ضربات املوجعة �إين...
� -س�أقول لك..
الدهر
تقول �شيئا لأنّ الكالم الذي يفور بداخلي لن يكفيه ّ -لن ِ
للخروج من النور �إىل الهالمية التي غ َمرتني بها� ،أمل جت ِّربي يوما
فتح �أبواب قلبك لل�ضياء� ،أال تعرفني معنى �أن مي ّد �إن�سان طول قدميه
ل�شيء فال يح�صل عليه وفوق ذلك ي�سقط وفوق ال�سقوط يعجز عن
النهو�ض لأنّ الإنهيار كان عظيما جدا.
�ص َمتَ ومل ت�ص ُمت نظراته الثاقبة التي تغطي �ضجيجا �ضخما ،مل تتكلم
وظ ّلت تنظر �إليه بحاجب دقيق يعتلي على الآخر� .أطلق نف�سا عميقا ووا�صل:
-احلب حكيم والكراهية حمقاء هذا ماجاء به برتراند را�سل ،ملا
نربتك كانت حا ّدة ملاذا جعلتني �أ�شعر بحقد وا�ستفزاز و�أنا الذي مل
�أقدم لك �سوى الورود والأزهار امل�سقية ب�سيل ال�سهر والتفكري ملا؟
151
حممد رفيق طيبي
152
املوت يف زمن ّ
ه�ش
جل�س منك�سرا يذم قلبه الذي رمى به يف �شعاع م�صدره حمرق �أال
وهو النار ،نار متوهجة هاته املر�أة ال�ساحرة التي ال يعرف كربيا�ؤها
ال�سكون وال الإ�ستقرار ،مل يجد �صوته ف�سحة لينادي ب�أعلى طبقة �أ ّنه
متعب و�أ ّنها قد �أرهقت قلبه الذي طال �إنتظاره على حافة الهاوية.
غمام اخلوف كان �أكرب من م�ساحة الفرح و� ّأي �إعالن خاطئ عن
هذا احلب �سيكون بال �شك ال�سقوط احلر يف فجوات الأمل والوراثة
الفعلية للخيبة والوجع.
لف املكان وم�شاعر التيه والوحدة طغت. جربوت ال�صمت ّ
�إن�سحبت طفولة ذلك القلب الذي طاملا جتاهل نور احلب وحاول
تفاديه وكرب فج�أة ليجد نف�سه مليئا وحماطا بالبيا�ض وال�سواد يف
�أكرث اللحظات حميمية.
م�سه منذ عرف تاريخه ،كم كل الأوهام تعانقه يف �أكرب �شدوه ّ
ته ّرب ال�صرب منه وهو يجري من خلفه وينادي :تعال ،تعال �أ ّيها
ال�صرب وعانقني كي يوقف القلب بكاءه ولو قليال.
ما �أو�سع الف�ضاء بوجعه الرهيب حني ينفتح �أمام القلوب البائ�سة،
ع�سري ت�صحر امل�شاعر التي كانت تنتظر �أن تخ�ض ّر .ال جدوى من ركوع
القلب فلن يحاول �أحد رفعه من ذلك الركوع الذي قد يكون الأخري
و�آخرة القلب هي ال�صمت كمدا وحتمل الإنهيار بدون �صوت مزلزل.
ل�ست وحيدا ياولدي ،هكذا قالت تلك العجوز العابرة ككل
العابرين الذين مل يتلقوا وخزة من قلوبهم ت�شري �إىل وجود رجل
ينتظر �أذنا ت�سمع عويل الف�ؤاد يف �صحراء هيام.
153
حممد رفيق طيبي
154
املوت يف زمن ّ
ه�ش
155
حممد رفيق طيبي
156
املوت يف زمن ّ
ه�ش
157
حممد رفيق طيبي
158
املوت يف زمن ّ
ه�ش
قلبه الذي حت ّول �إىل مرمدة مل يجد يدا �أو �شيئا يغلق عليه حني
عال نحيبه ك�أم ثكلى �أفقدتها احلرب حياة �أكبادها�.س�ؤدد احلب
فقد الرفعة والهمة مذ ماتت «عواطف» حيث غرق يف فقر القلب
وه�شا�شة امل�شاعر وا ّلذي �ساغ الحقا رف�ضه لكل ود وحب وهروبه
امل�ستمر من فخاخ الن�ساء.
هيام ب�سحرها املختلف وفوقيتها التي جعلت لها خ�صو�صية جعلته
خ�ص به قلبه ليخرج �إىل �ضوئها الآ�سر
ين�سل من ال�سكرتاريوم الذي ّ
البعيد ب�سكونه عن فو�ضى الواقع ورتابة احلقيقة.
يرى فيها الأمل الأوحد الذي �سي�صب الطهارة واحلب على الدُمل
التي ق ّل�صت من م�ساحة قلبه.
159
حممد رفيق طيبي
()07
عاد �إىل اجلامعة ،تغيرّ ت الف�صول وتعد ّدت �ألوان الطبيعة و�صارت
غطى احلزن الطويل الذي غمر الأيام م�شم�سة.رونق الربيع اجلميل ّ
امل�ساحات يف ف�صل ال�شتاء مع �أن �أجمل امل�شاعرعزفت يف لياليه،
�إكتملت روايته ،معجزة الن�شر قد تتحقق وقد تن�سى .كثريهو الأدب
الذي مات يف الأوراق وبني الرفوف لذا ف�شلت العديد من ال�سيا�سات
وماتت ثقافات�.أكتبوا ب�أهدابكم و�أظافركم �إذا مل تطعكم �أقالمكم
هكذا �أو�صى �شيخ امل�ؤرخني اجلزائريني((( هذا اجليل اجلديد الذي
�إ�ست�شعر تيهه يف عديد املنا�سبات واملواقف.
مليكة تز ّوجت ،هكذا قالوا ،ال معلومة وال تفا�صيل مذ غاب عن
تعجب حينما نقلت له نارميان اخلرب الغريب اجلامعة مثلما غابتّ .
فلم ي�سمع �أحد بفرحها لكنّ اجلميع �سمع بحزنها ،عني احل�سود ال
� -1أبو القا�سم �سعد اهلل (رحمه اهلل).
160
املوت يف زمن ّ
ه�ش
ت�سود رمبا هذا مرجعها فهي خراف ّية �إىل ح ّد ما .نارميان على ميينه
يف احلديقة املعبد تكاد تبكي حرقة و�أف�شلت زواجها بحكم م�سبق.
�صديقتها لكن لي�س حلد الفرح لفرحها ،رغبته يف ال�ضحك زادت،
راح يحفر عميقا لتلك القهقهة التي تود اخلروج لكن مل يفلح ،عادت
من غ�ضبها منذ �ساعات وال�ضحك يف قمة حرقتها ونكدها قد يغ ّيبها
�إىل الأبد.مل تغفر له بعد حادثة املطعم وال�شعر املُخطئ يف العنوان
وال تزال غا�ضبة حتاول �سرت غليانها الداخلي بافتعال موا�ضيع
متفرقه.قد يكون ل�شططها �سبب �آخر غري زواج مليكة والغرية منها،
قد يكون الغ�ضب القدمي من توجيه �شعر لها وهو لي�س لها لكن �أن
تفهم امر�أة فهذا الأمر م�ستع�صي وبعيد فحتى �سقراط و�شيوخ ّيته
يف الفل�سفة بقي عاجزا عن التف�سري وحني قال تهكما �أن كل مايعرفه
هو �أنه ال يعرف �شيء فان هذا التهكم قد �أ�صبح واقعا وحقيقة فبعد
�شربه لل�سم وبداية �سريان املوت فيه جتمع تالميذه حوله راغبني يف
�سماع كلمته الأخرية بعدما رف�ض كل مبادرات النجاة التي عر�ضت
عليه.طرح عليه «كرتو» تلميذه النجيب �س�ؤاال جاء فيه :يامعلمي
الأول والأخري بعد �أن عرفت كل �شيء يف احلياة ظاهرها وباطنها
هل هناك ِمن �شيء �أعجزك ومل ت�ستطع فهمه؟ فقال �سقراط بكامل
احلرية واحلزن �أنه قد عرف الكثري �إ ّال :ماذا تريد املر�أة.
�س�ؤال كبري وقد يكون رهيبا �أعجز �سقراط �أوال و�سيغموند فرويد
ثانيا ونزار قباين ال�شاعر الكبري ثالثا والذي ق�ضى خم�سني عاما
يف الكتابة عن الن�ساء وكذلك كتب :قر�أت كتاب الأنوثة حرفا حرفا
ومازلت �أجهل مايدور يف ر�أ�س الن�ساء.
161
حممد رفيق طيبي
162
املوت يف زمن ّ
ه�ش
�إنّ الكتابة �أخطر بقليل مما يتوقع البع�ض و�أكرب بكثري من
�إ�ست�سهال البع�ض الآخر ،هي حياة وموت ،ميكن �أن يحيا كاتب بع�شر
كتب وميكن �أن ميوت بن�صف �سطرَ « ،د ُعو َنا َن ْكتُب َك ّي َال نمَ ُ وت» هكذا
قالت زهور وني�سي ذات لقاء مل ي�س�ألها �أحد وللأ�سف ،هل نكتب
فقط كي ال منوت �أم لنحيي �أ�شياء كان من املفرت�ض �أن متوت.
يبدوا على نارميان حبور كبري وك�أ ّنها قد قر�أت فن القبالت
لوليام كاين �أو تد ّربت على �أيدي احلب من يدري ،ال �أحد يعلم
فللمر�أة �أ�سرارها العميقة ومواطن الغمو�ض الدفينة.ع�شق َ�سكنهُ،
امر�أة عطوف �سرقت ع�شقه وامر�أة من كرب قتلته برو ّية� ،أفلحت
ن�ساء زوربا يف �سرقته �أحيانا كما جنحت جاريات «رجوع ال�شيخ على
�صباه يف الق ّوة على الباه» يف �إمت�صا�ص علله و�إبتالع ال�ضجر الليلي.
�أ�سبوع �آخر من الدرا�سة ،ال�شم�س تزيد حرارة يف كل �شروق ،قلبه
وحر وبينهما ت�ضيق الف�سحة� ،ضاق احلال يا �صامت ومملوء مق ّيد ُ
هيام هكذا يقول يف �أ�شد املواقف نكدا.
يرد على نف�سه فيقول:
احل ْال َما ْت ِف ْيد �أَ ْح َو َا ْل
�إِ َال َ�ض ْاق َ
َن َ�س ْك ُنوا ا َ
خل َي ْال َو َل َن َر ْك ُبوا ال ْه َب ْال
ي�شوا املُح َا ْل َو َل نت َو ْه ُموا الأح َو ْال ن ِع ُ
ُنذو ُقوا ال ْأغ َال ْل َو َل ْن َغييرْ وا ال ْأ�ش َك ْال(((.
� -1أغنية �شهرية لفرقة جيل جياللة املغربية التي ت�أ�س�ست �سنة .1972
163
حممد رفيق طيبي
هكذا احلياة اذن يا غاليتي� .أف لهذا القلب ،حملق جيدا ،رتب
�أفكاره� ،أعاد النظر ،بر ّر �إقدامه لنف�سه و�سحب هاتفه وكتب:
)ces sentiments sont moudit. un peut d’interet ne tue pas.(1
ر�سالة ق�صرية تنتظر جوابا ،م ّرة �أخرى يت�ساءل �إذا كان هاتفه
�سي�صمت كثريا �أم �سي�صدح بعد حلظات ،قلبه جبان �أمام الإنتظار
الطويل وعاجز و�ضعيف �أمام �صمتها �إن ا�شتهته.
�ساعات طويلة من ال�شم�س ،مل ترد ب�شيء ،غطى الظالم الفرح
يف الوجوه وك�سر الإنتظار .ي�أ�س كريه ت�سلل �إىل قلبه �إىل �أن �سطع
نور الهاتف.
ر�سالة ن�ص ّية�.إفتح.
Young boy. i don’t deny that you have sacceeded to
moving the feelings dormants in me but sorry some
things are beyoud me and talking about them open
)big doors for great maze.(2
تفكري طويل قاده نحو الغرق فيها لن�صف �ساعة .ق ّرر �أن يرد لها
برودتها بقليل من الرذاذ الذي لن يحدث �شيئا فكتب:
No need to appologize. it is true that my heart is fil-
led by you but he is ready to dry forever if this will
)bring you happiness always. with my love.(3
164
املوت يف زمن ّ
ه�ش
مل يكن �صادقا ولو قليال فيما كتب ،فعمره املهرب نحوها �سيل
جتاوز اجلفاف� ،إ ّنه احلب مرارا وتكرارا هو احلب بحالوته وق�سوته.
تذ ّكر ف ّلة الطفلة اجلميلة التي �ش ّبهت حبها له بلحظات الطفولة
ال�ساحرة يوم كانت جتمع الرمال على حافة ال�شاطئ لتجعل منها
متاثيال وقالعا فت�سرقها منها الأمواج املمتدة قبل ومي�ض الفرح،
كذلك هيام املفرطة يف ال�سحر ،يبت�سم قلبها فيوهمه باحلب ثم
تن ّكد بكالمها فتمحي كل التوقعات.
رفع القلم �سحب ورقة من دفرت و�شرع يدون:
من �أكون �أمام �أنثى ت�شبهك� ،أنا ال�شيء حيث كل �شيء ين�صهر
�أمام عبقرية اجلمال وده�شة املالمح امل�ضيئة ،يا �س ّيدتي و�سيدتهن
على هاته الكواكب كل ال ّلعنات �إذا مل تنحني دوخة ورع�شة عند
قدميك ،لتكن كل الر�سائل �شفافة ك�شفاهك التي خلقت من نور.
ا�س�ألك؟ ملاذا جمعت كل �شيء وماتركت لهن �شئ ،عجبا �صدمت
عرو�ش الن�ساء حني خرجت �إىل الكون رذاذا فلت�ساحمك الن�ساء عن
�إغت�صاب حقهن يف احل�سن.
د�س الق�صا�صة يف جيبه ونام .ك ُّل �أحالم احلب �أحاطته .ح ّفته ّ
ورديات كثرية �إفتقدها يف النور ف�سكنها يف ظالم الليل احلالك.
توجه �صباحا �إىل الكلية جامعا ك ّل �أو�صاف الأناقة م�ستعدا ملا قد
يواجهه من امر�أة مل يفهم بعد �أ�سرارها الكثرية ،اجلو ربيعي وك ُّل
الأ�شياء املحطية تنب�ض باحلياة واحليوية.
165
حممد رفيق طيبي
166
املوت يف زمن ّ
ه�ش
غياب ال�شعر ج َّر الذوق العام �إىل احل�ضي�ض و�إنحطاط الذوق ُ -
يعجل بظهور مالمح التدين .ال�شعر هو املو�سوعة الروحية الكبرية ّ
للب�شرية كا ّفة.
-ما ال ّذي �سافعله معك لو وافقت على التحدّث �إليك والتوا�صل معك.
� -س ُنغ ّيب احلزن �إىل �أجل غري م�سمى.
-و�إن �أحببتك؟
احلب قبلك ثم �أفرح و�أفرح و�أقفز كالأطفال
� -س�أبكي لأين ماعرفت ّ
وبعدها لن �أ�س َع �إىل �شيء يف احلياة بقدر ما�س�أ�سعى لأن تكوين
عز الظالم. مبت�سمة ولو يف ِّ
-تبالغ...
-هل �أق�سم بعينيك؟
� -أق�سم باهلل..
-لن �أق�سم.
� -إذن هراء وكذب.
� -إذا �أق�سمت باهلل ب�أين �أحبك ف�أنا �أكرب كاذب.
� -أت�سخر مني؟؟؟
-ال ،لأن مابداخلي �أكرب من احلب واحللف على احلب كذبة
كبرية لو مار�ستها �س�أكون خائنا ممتازا� .إذا وجدت يف لغات العامل
احلديثة والقدمية مايرتجم �أحا�سي�سي �س�أختار �أجمل املفردات
املعربة و�أق�سم عليها.
167
حممد رفيق طيبي
168
املوت يف زمن ّ
ه�ش
169
حممد رفيق طيبي
170
املوت يف زمن ّ
ه�ش
171
حممد رفيق طيبي
� ْإ�س ِت ْي َق ْ
اف � ْإ�ض ِط َرا ِري
172
املوت يف زمن ّ
ه�ش
173
حممد رفيق طيبي
ُكن قا�س ًيا وم�شتعال ،ال �شيء يقطع هاته ال ّلذة مادامت التي بني
يديك �أنثى.
كانت هذه هي اجلملة الأخرية لعواطف قبل �أن تنطف�أ �إىل الأبد،
حاولت �أن �أجعل جملتها قاعدة �أطبقها ككل القواعد متى وجدت لها
الأر�ضية املنا�سبة مع �أنّ الق�سوة مل تكن من طباعي فاملروءة التي
كنت �أظهرها كثريا يختفي وراءها قلب �شبه م�ؤنث يبكي لأ�صغر
الأ�سباب لكن قول دوجال�س ماك �آرثر حفر عميقا يف وجداين
وقد حاولت العمل به مرارا والذي جاء فيه «�سيتم تذكرك بح�سب
القواعد التي قمت بخرقها يف احلياة» وكنت قد قر ّرت �أن �أ�صب
�إ�شتعايل بعد مزجه بق�سوة الذكورة على هيام �إ ّال �أ ّنها مل متنحني
فر�صة ال لأكون دافئا �أو قا�سيا.
بعد �أحداث ع�سرية تفاقمت وتواترت فتحت هيام يل �صدرها
ورحبت مب�شاعري ب�شرط �أن وق ِبلت طي�شي وجنوين �شريطة تهذيبه ّ
ا�صقلها و�أم ّرنها على مايروقها هي ال مايروقني.
174
املوت يف زمن ّ
ه�ش
175
حممد رفيق طيبي
فيلمه «�أنت يف اجلي�ش» والتي و�صلت مدّتها �إىل 185ثانية �أما �أنا وهيام
فلم ن�ستطع مناف�سة جون ربمّ ا ب�سبب اخلربة �أو اخلوف.
ن�سيت ب�أ ّنها �أ�ستاذتي ون�ست ب�أين طالب عندها وتذ ّكرنا فقط
ب�أننا عا�شقان و�شبهتُها بال�س ّيدة اليزا �شيلي �سنجر التي �أح ّبها
فلوبري جو�ستاف مع �أنها تكربه بت�سع �سنوات وهو نف�س العمر الذي
تتجاوزين به هيام مع �أنّ الذقن الذي كنت �أتفنن يف ر�سمه ب�شفره
احلالقة وربطة العنق اجلميلة �أفلحا يف �إظهاري بعمر �أكرب من
عمري قليال.
بعد ذلك الغياب الطويل الذي فرغت من غ�ضبه بقبلة ال ت�شبه
القبل ،تع ّمقت �أ َوا�س ُر املح ّبة وزاد لهيبها ،تزاحمت الأ�شواق �آناء
الليل و�أطراف النهار وتع ّددت وتكاثرت وتزاديت.
ملحة من خ�صال هيام الإحلاح� ،شعرت به بعد طول غياب كانت ّ
ودافئة ال ت�ض ِّيع حلظة من اللحظات �إ ّال وم ّرغتها يف �إناء القلب
و�صف.الكبري ،تعا�شقنا ومتادينا يف الع�شق حلدِّ ال ُي َ
�أقيم يف �شارع بال �إ�سم� .س ّكانه ط ّيبون ومتقنون لكل فنون التقاط
الأخبار ،مل ي�سمعوا ب�شئ �إ�سمه الأدب وال يعرفون من احلب �إ ّال
احلكايات القدمية املده�شة يف كذبها والعائدة من تراث مزيف.
احلاجة الباهية حتدثني كل م�ساء عن حكايات الوجد ّ كانت
و�أ�سرار الن�ساء وما �أخطر الأ�سرار وما�أكربها حيث �أو�صتني ب�أن
�أكون فحال وال �أتنازل عن هزمية � ِّأي امر�أة و�أن �أكون مغوارا �أزلزل
�أنوثة كل الن�ساء و�أخربتني �أي�ضا بو�صية وقد ا�سميها قاعدة� ،أكاد ال
176
املوت يف زمن ّ
ه�ش
177
حممد رفيق طيبي
العمر الذي بيننا �سرق منها الفرح يف مواطن كثرية ،كنت �أ�شعر
بذلك يف منا�سبات متفرقة ،تع ّمدت دوما التهرب من املواجهة �أو
احلديث عن �ش�ؤون تقودنا �إىل قلق كبري.
توفى والدي وترك خلفه فراغا كبريا ت�سكنه الفاجعة� ،إغتاله
ال�ضغط الدموي ب�شكل رهيب ولن �أ�سامح هذا ال�ضغط ماحييت
والذي مل ينفع فيه املوديريتيك((( بكل جرعاته ومقاديره� ،أتذ ّكر
جيدا اجللطة التي �أ�صابته و�سببت له ال�شلل الن�صفي ،مل ينفعه
ال�سانرتوم((( ،تع ّقدت و�ضعيته فلزمه ال�شلل لأ�سابيع طويلة والذي زاد
الطينة ب ّلة هو داء ال�سكري الذي ت ّوج كل هاته العلل فكان اخلتام.
ذهب نحو قربه �آخذا معه �أخبار ال�سيا�سة وخبث ال�سيا�سيني،
مت�شبعا من الطيبني والفا�سقني� ،أخذ معه �أ�سرار باري�س وحكاياتها
وذهب حزينا على �سوريا وليبيا وكل بالد العرب� ،إتّهم اليهود كثريا
و�سب �إ�سرائيل مرارا لكنّ لعن �أبي و�شتمه ال فائدة منه ولي�س �سوى ّ
عويل و�سط ال�صحراء.
كان رجل املواقف ذو ر�أي ثابت ،م�شكك يف كل جاهز ال ميلك
�أوهاما �إجتاه احلياة.
ظهر ذات �صباح عرب �شا�شة التلفزيون رجل وقور ذو حلية ك ّثة
ينادي� :أ ُّيها الداعرون� ،أ ّيتها العاهرات ،تعجبنا منه كدت �أغيرّ
مكاين لوال حر�ص �أبي على بقائي.قال يل بكل �أ�سف :ماهكذا تكون
Moduretic -1من الأدوية امل�ضادة لل�ضغط.
Sintrom -2من الأدوية امل�ضادة للتخرث.
178
املوت يف زمن ّ
ه�ش
179
حممد رفيق طيبي
180
املوت يف زمن ّ
ه�ش
181
حممد رفيق طيبي
182
املوت يف زمن ّ
ه�ش
ر�ضي اهلل عنه قال :قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه فعن �أبي هريرة ّ
َ
و�سلم :قال اهلل تعاىلْ � :أع َددْتُ ِل ِع َبا ِدي ا َل َ�صالحِ ِ َني َما َال َعينْ َر�أ ْت َو اَل
�أُ ُذن َ�سمِ َع ْت َو َال َخ َط َر َع َلى َق ْل ِب َب َ�شر.ويف بع�ض رواياته َو َال َي ْع َل ُم ُه َم َلك
َم َق َرب َو َال َن ِب ّي ُم ْر َ�س ْل.
�أحتدث عن الدين و�أتفل�سف فيه� ،أحتدّث عن الآخرة و�أ�شتهي
ج ّنتها وحني �ألتقي بهيام بو�صوف �أكاد �أن�سى �إ�سمي والعن كل القواعد
والثوابت وحني افرتق معها �أعود �إىل ر�شدي و�أ�ستغفر اهلل كثريا و�أكاد
�أبكي لكني مل �أبك م ّرة واحدة ثم �أنك�سر و�أقول ماقاله ابن عطاء اهلل
رب مع�صية �أورثت ذال وانك�سارا خري من طاعة �أورثت ال�سكندريّ :
عزّا وا�ستكبارا .و�أن�سى� .ش ّبهني �صديق برجل ي�سمى �إبن الرواندي ال
�أعرفه ومل �أ�سمع عنه �شيئا وقال ب�أنه زنديق كبري �إذن �أنا زنديق قلت
له فنفى ذلك وراح يخفف من مزحته بطرائق خمتلفة.
�أنا جمرد �شاعر ككل ال�شعراء غري املعرتف بهم �أحب هيام ال �أكرث وال
�أقل و�أكره ماتكرهه�.أعرتف و�إن قيل مهزوم ،ف�أهال و�سهال بالهزمية.
�أكتب ب�شكل م�ستمر و�أحلم ب�أن �أ�صبح كاتبا ،هيام ال ت�شجعني
وتتهجم على ن�صو�صي كما �سبق وقل ّلت من عا�صفة العاطفة كتابي ّ
الذي �ش ّكل اخلطوة الأوىل يف م�سريتي التافهة ،قر�أت ذات يوم ب�أن
هارفيه وفوكو يعتربان الكتابة دليل الوجود و�أ ّنها رفقة اجلن�س واحلياة
ي�شكلون حقيقة واحدة ،مل �أ�صدق هذا القول ومل �أمت ّكن من تبنيه �أو
تبني جزء منه على الأقل ،فقد وجدته مت�شعبا ومتعدد التفا�سري.
ماركيز دو �ساد يقول ب�أنّ ال طريق ملعرفة املوت �أف�ضل من ربطه
مبخيلة فا�سقة مل �أجنح يف حتديد املفهوم الدقيق لهذا القول لكنني
183
حممد رفيق طيبي
�أجد بع�ض املوت حني تهزُّين خميلة هيام الفا�سقة والتي اكت�شفتُ
حجم ف�سقها الكبري حديثا فلم تعد تكتفي بتوجيه التلميحات
والإ�شارات بل متادت و�صارت تطلب مني الهبل واجلنون وال تر�ضى
بالعادي منه بل تبحث عن �أق�صاه.
أوجه ،يتطاير الفرح من الأعني م ّرت �أيام طويلة كان الع�شق يف � ّ
وبواعثه تتجدد ب�شكل يومي ،منخطف بها �إىل حد بعيد� ،أح ُّبها وغري
ح ِّبها ال �أريد �شيئا من مملكة الن�ساء ،ال �أنكر �أ ّنها عا�صمتي للفرح
وان ادعيت غري ذلك �أكون قد كذبت.
نارميان �أ�صبحت ت�شعر ب�ش�ساعة امل�سافة التي بيننا والتي تزداد
�إت�ساعا يوما بعد يوم ،الإن�سان وحده بقلبه قادر على التمييز بني
الذي يحبه وبني الذي يحتِّم على نف�سه جماملته� ،إ ّال �أنَّ العا�شق
كثري الـت�أويالت مما يوقعه يف ماال ي�شتهيه هكذا كنت وال زلت حيث
ال �أجد لها بني �أ�شيائي القلب الذي يع�شقها فا�ستيالء هيام على
تفا�صيلي ال�صغرية والكبرية ح َر َمني من ذاتي وجعلني مراهقا يف
عمر الن�ضج و� َّأخر بحثي عن حقيقة احلب والأدب لأ�صبح باحثا عن
حقيقتي التي جهلتها و�أنا ب�أم�س احلاجة اليها فا ّلذي ال يعرف نف�سه
لن يجد الطريق الذي يد ُّله �إىل معرفة غريه ومعرفة الإن�سان �سابقة
ملعرفة الكون ودقائقه.
مت ُّر الأيام ب�سرعة وتتب ّدل الف�صول و�أيام العمر تتناق�ص.حينما
اقرتب املو�سم الدرا�سي من االختتام جل�ست ذات ليلة حما�سبا
ومفكرا يف ال�سنوات التي ق�ضيتها مرابطا بني جدران الكلية اتفقه
يف الفراغ و�أتع ّلم ما ُين�سى ،مل �أجد �إ ّال �أرقام ريا�ضية دونت يف ك�شوف
184
املوت يف زمن ّ
ه�ش
كثرية ت�شهد على حت�صيل ن�سيت �أين ح�صلته ومل �أتذ ّكر �أبدا ب�أين
بحثت فيه �أو تعبت من �أجله -عابرون يف كالم عابر.-
مل يتبق من اجلامعة ّ�إ َّال بع�ض الذكريات ال �أدري ان كنت �ساتذ ّكرها
م�ستقبال �أم �أن�ساها كما ن�سيت كل الدرو�س.هيام لن �أن�ساها واثق من
ذلك كما �أنني لن �أن�س الأم�سيات ال�شعرية الكثرية ،لن �أن�س �أي�ضا
تلك الفتاة التي �إ�ستوقفتني و�أنا �أغادر �أم�سية �شعرية وطلبت مني
�أن �أج ِّرب عليها ق�صائدي املمتلئة باحلديث عن النهود والرقاب
والأرداف ووعدتها بذلك ومل �أوف بالوعد الفا�سق ،لن �أن�س �أي�ضا
�سرق مني حينما �سقطت مغ�شيا عليها وحملتها وكاد عواطف قبل �أن ُت َ
حملها ُي�سقط ِني معها لوال �أن تذ ّكرت ب�أين قلت لها يف ق�صيدة:
ُل ِو ًال َي �أَ َنا
َما ُك ْن ِت �أَ ْن ِت
َو َال �أَ ْن ِت �أَ ْن ِت
َو َل ْو َال ُم ْق َلت َ
َاي
ال�س ِّي َدات
ي�س َ َما َد َخ ْل ِت َق َو ِام َ
َو َمااج َت َم َع ِا ْ�س ُم ِك
ِبال َيا ُقوت َوال ُكو ْن ِزيت
ال�س ْو َ�سنَْو َ
َف� ْأ�ش ُك ُر ِك ِجدً ا
ال�س ِّي َدة ال ِتي ُت ْت ِقنُ�أَ َّي ُت َها َ
َفنَّ الت ََ�ص ُو ْف.
185
حممد رفيق طيبي
186
املوت يف زمن ّ
ه�ش
187
حممد رفيق طيبي
فعال كان التفكري يف موت عواطف وهم كبري بحجم ال�سماء مل
�أت�ص ّور وقوعه يوما.
علي دون
�صاحب الإميايل كان قريبا لها ومن عائلتها ،تع ّرف ّ
أتعرف عليه وبعد �أيام ك�شف يل حقيقته وك�شف يل حقيقة �أكرب �أن � ّ
من كل �شيء حني �أخربين ب�أين قد كنت الطلب الأخري الذي ُرف�ض
حلت على ر�ؤيتي يف حلظات �شرع ف�أ�س املوت يف لعواطف بعد �أن ا ّ
�إقتالع جذورها و�سحبها نحو البيا�ض.
با�سم احلرام والتحرمي اغت�صب ح ُّقها يف ر�ؤيتي و�ضاع حقي يف
الإم�ساك بيدها وتقبيل جبينها واهدائها ق�صيدة من �شعري الذي
كانت ت�شتهيه رغم رداءته وت�صفق له رغم ركاكة الفاظه وخلوها من
اجلزالة والد ّقة ويا للخ�سارة ربمّ ا كانت �ستو�صيني ب�شئ ما �أعرفه،
�أ ّال �أقرتب من الن�ساء و�أ ّال �أحب غريها و�أن �أتذكرها يف �صباحي
وم�سائي لكنّ العادات حرمتها من ذلك.
احلب وكل طقو�سه وجتاهلت وتع ّنت
بكيت وبكيت لأجلها وقاطعت ّ
يف التجاهل ووقفت �ض ّد كل ال�شهوات واتخذت من �أفالطون مثال
فهو الذي قاطع ال�شهوات والزواج ومات مقاطعا ولكنني عجزت
برت�سخ عواطف فيها بقدر�أمام ذاكرتي القا�سية فبقدر فرحي ُّ
وجعي من تلك الذاكرة ،مل �أكن �أعتقد ب�أنّ احلزن �أكرب منها لأنني
متيقن من �أ ّنها تعلوا كل �شيء يف حياتي املتعبة.
حني ر�أيت هيام للم ّرة الأوىل �شعرت ب�أنَّ ميعاد التنف�س قد حان
و�أنّ جعل عواطف مرجعا وذاكرة الب ّد منه لتجاوز املحنة اخلانقة
188
املوت يف زمن ّ
ه�ش
189
حممد رفيق طيبي
190
املوت يف زمن ّ
ه�ش
ب�أنه �سي�شتم كثريا االبراهيمي الذي �أح ّبه ووثق به و�سيلومه على
ترك مهامه ،مت�أكد �أي�ضا ب�أنه لوعاد �ستكلفنا عودته �شراء تلفاز
جديد فهو ال يحتمل احلديث عن اخلالفة وربط الإ�سالم بال�سيا�سة.
الئكي متع�صب وال يعرتف بهاته الأ�شياء ،لك ّنه لن يعود فالتفا�صيل
املقلقة ال حتفزه على العودة فهو الوحيد من �أقرانه الذي ي�ست�شهد
بالعقاد ويقول يل ب�أنه تع َّلم ودر�س احل�شرات لأنه يدر�س ال�سيا�سة
وال�سا�سة والفرق بينهم لي�س كبري.
191
حممد رفيق طيبي
192
املوت يف زمن ّ
ه�ش
193
حممد رفيق طيبي
با ّلرد فاقتنعت رغم �أن قلبي �إحرتق كثريا و�شعرت بحاجة ّ
ملحة
للحديث معها لكنني اكتفيت بالإنتظار.
ُزرت عبد القدو�س وجدته ذابال بائ�سا ال ي�شعر ب�شئ من احلياة،
ذهبت �سخريته وانك�سر فيه �شيء ال �أعرفه ومل �أ�ستطع حتديده.
حتدّثنا عن احلياة و�ش�ؤونها ،عن اجلامعة ،عن الأ�سرة ،عن كل
�شئ ،حاول �أن ي�ضحك ف�أفلح قليال.نظرت فيما يحيطه فوجدت احلزن
يع ِّمر املكان واخلواء كبري لوال بع�ض الكتب التي بعثت احلياة فيه فقد
حدّثني عن قراءاته املختلفة.عرفت �أنه زاد �إطالعا و�أدرك قيمة الكتب
يف ظل الفراغ الكبري� ،أده�شتني ق�صيدة حممود دروي�ش التي كتبها
بيده وا�ست�أن�س بها بد�سها يف جيبه� ،سحبها بروية وقال يل �إقر�أ:
(((
ِمترْ ُ ُم َر َب ْع فيْ ِ
ال�س ْجنْ
اب َم َاخ ْل َف ُه َج ّنة ال َق ْلب �أَ ْ�ش َيا ُ�ؤ َنا هُ َو ال َب ُ
اب اب هُ َو ال َب ْ ُك ُّل �شيء َل َناَ .ن َت َم َاهى َو َب ُ
اب ُي َه ِذ ُب �أَ ِي ُلول احل َكا َيةَ ،ب ُ اب ِ الكتَا َبةَ ،ب ُ اب ِ َب ُ
حل ُق ِول �إىل �أَ َو ِل ال َقمِ ح َباب َب ِعيد ا ُ
ول �إىل َخار ِِجي اب َل ِك َن ِني �أَ ْ�ست َِطي ُع الد ُُخ َ َال َباب ِبال َب ْ
َع ِا�ش ًقا َما�أ َرا ُه َو َما َال �أ َرا ُه
اجل َم ْال َوال َ َباب لل َباب الد َال ُل َو َه َذا َ �أفيِ الأَ ْر ِ�ض َه َذا َ
194
املوت يف زمن ّ
ه�ش
195
حممد رفيق طيبي
196
املوت يف زمن ّ
ه�ش
بت �أكتب ،كتبتُ الكثري يف �آخر ليلة تف�صلني عن اللقاء بهاُّ ،
والكثري دون �أن �أدري �سبب النهم املفاجئ ودون �أن �أعي مفاهيم ما
فج ّل مادونته هالمي وغري وا�ضح ،لك ّنني وا�صلت ملأ الأوراق �أكتب ُ
بال هوادة.
� َّأذنَ الفجر فتذ ّكرت ال�صالة التي �ض ّيعتها مذ وجلت عوامل
الالمعقول بعد �أن كنت متم�سكا بها م�ؤمنا بف�ضلها ،م�ستنريا بها،
لك ّنني �ض ّيعتها.
بعد الفجر عدت �إىل خمطوط رواية كنت قد ن�سيتها ،ختمتها
ببع�ض الكلمات وق ّررت �أ ّال �أن�شرها و�أنتظر �أن جتوع الأمة وت�شتهي
غطى كل �شئ .منت ل�ساعات ثم خرجت من �أن تقر�أ ف�شبع البطون ّ
غرفتي وجدت �أمي و�شقيقاتي الثالثة يتبادلون �أطراف احلديث،
�شاركتهم حوارهم الذي ال يعرف نهاية� ،شقيقتي الكربى ملّحت كثريا
إالي ،تفاديت مل ّرات ك�سر
�إىل وجود رجل يف حياتها ،مل يفهمها �أحد � ّ
عظامها وعظامه فقد كنتُ � ُّ
أ�شك بها وبرجل �أكاد �أعرفه ومن �أو�صايف
�أنيّ ال �أعرتف باحلر ّية �أمام ال�شرف وال بال�شاعرية �أمام املهانة و�إذا
اختلطت �أ�ضلعي يف حرب خ�ضتها ال�ستعادة �شريف �س�أكون �سعيدا
و�إذا ُك�سرت عظامي يف حرب خا�ضها �أحد �ضدي ال�ستعادة �شرفه
�س�أقبل رغم �أين ال �أنتهك حرمات الغري و�أن الكثري من الن�ساء هنّ
من انتهكن حرمتي �إ ّال مع هيام فبعد �أن بهرين جمالها وجدت نف�سي
مذهوال ف�ضاعت مبادئي ومات احلديث عن ال�صون وف�ضائله.
و�صل امل�ساء� ،إتّ�صلت بي طالبة �إلتحاقي بها فهي وحيدة يف البيت
تنتظر ح�ضوري.
197
حممد رفيق طيبي
198
املوت يف زمن ّ
ه�ش
حتف طاولة عري�ضةَ ،ت َو َ�سطتُ�إت�سعت �أحداقي و�أنا �أرى ال�شموع ُّ
ال�شموع احلمراء و�أ�صناف احللويات الراقية ُز ّينت الكعكة الكبرية
غطى كل �شئ ،غيرّ ت مالب�سي خفية حتّى ال با�سمي وا�سمها ،الأحمر ّ
�أف�سد هاته العاطفة بالرغبة ،فاج�أتني �أي�ضا ج ّالبتُها التي وجدتها
قرب باب الغرفة املقابلة .جل�ستُ �إىل الطاولة العري�ضة كطفل �صغري
ينتظر حليب ال�صباح.
�أنتظ ُر �أن تظهر بعد هذا الإختفاء املفاجئ ،حملقت يف الأ�شياء
املحيطة بي ،مل �أر �شيئا ذو و�صف خا�ص �إ ّال ال�صور الكال�سيكية
واللوحات الفن ّية التي زينت اجلدران.
عطرة ،منرية ،ارتدت نويزات((( ق�صرية �أط ّلت كوردة بي�ضاء ِ
�أظهرت �أردافها و�أكتافها وفاحت منها رائحة زك ّية ،وقفت لها وكدت
يل� ،أمالت رقبتها وابت�سمت فظهرت �أنحني تقديرا ،م ّدت يدها ا ّ
يل� ،شممت رائحة �شعرها �أ�سنانها البي�ضاء المعة� ،سحبتها من يدها �إ َّ
العبقة وانتع�شت� ،أبعدت خ�صالتها وو�ضعت يداي على وجنت ّيها،
ق ّبلتُ جبينها و�سحبته نحو �صدري ف�شعرتُ بالدفئ .مده�شة حلد ال
�أ�ستطيع و�صفه.
َه َم َ�ست يف �أذين �أح ُّبك� ،أح ُّبك.
فقلتُ لعينيها مر ِّكزا عليها� :أموت فيييييييك� .أريد الأبد ِ
معك ،ال
�أر�ضى بغيرّ ك� ،أح ُّبك وبغري ح ِّبك ك ِفي يف اجلحيم.
ردّت� :أمل تكن هاربا من جه ّنم احلب كما �سبق و�أن قلت يف مقال لك.
1- Nuisette.
199
حممد رفيق طيبي
200
املوت يف زمن ّ
ه�ش
201
حممد رفيق طيبي
م ّرت ن�صف �ساعة و�أنا �أمت ّرغ بني ورود �صدرها� ،ألعق حنان مل
�أعرفه منذ زمن بعيد ،وجدت النور و�سط الظالم و�أح�س�ست ب�أنَّ
جمال الدنيا قد انح�سر يف هذا املكان اململتئ بال�سعادة� ،إرجتف
�صوتي حني حاولت �أن �أقول لها ب�أين �سعيد ومنت�شي� ،إبت�سمت
ف�صمت ،فج�أة �شعرت بها تتخلى عن ر�أ�سي
ُّ ب�أنفا�سها و�ض ّمتني �أكرث
وتن�سحب بهدوء ،مل �أحت ّدث واكتفيت بالنظر �إليها وهي ترتدي
مالب�سها وتتوجه نحو الرواق ،م ّرت دقائق ومل تعد ،قمت فجل�ست
تطلب مني ال�صمت. على حافة ال�سرير� ،س َعلتُ فجاءت مهرولة نحوي ُ
حينما نظرت �إىل عينيها وجدت رهابا كبريا وخوفا مل �أعرف
�أ�سبابه ،هيام كما مل �أرها من قبل� ،إرجتفت وجل�ست على ركبتيها،
�أم�سكت يدي ،ق ّبلتها وقالت:
-ثق �أنني �أحببتك حبا جتاوز الت�صورات والتقدير ،مل �أكن لأح ّبك
بهذا اجلنون لوال الرجل ال�صادق الذي ر�أيته بداخلك .مل تتكاثر
بداخلي لومل متنحني هذا الأمان واحلب� ،أنت تدرك ذلك وتعيه.
و�سقطت على يدي دمعة حا ّرة بينما كنت �أحرك ر�أ�سي موافقا على
كل ماتقول.
-ما ال ّذي يحدث حبيبي؟
رفعت عينيها و�أجه�شت بالبكاء ،مل �أفهم ما الذي يجري� ،ش ّدنى
ال�ضوء املتوهج بهاتفها الذي مل يتوقف عن الإهتزاز لكني مل �أجر�ؤ
على مد يدي �إليه حفاظا على خ�صو�صيتها.
-هيام مابك ،ما ال ّذي يجري .هيااااام.
202
املوت يف زمن ّ
ه�ش
203
حممد رفيق طيبي
204
املوت يف زمن ّ
ه�ش
عـــــــــوْدة
205
يف وج��دان��ه مت ِّكنه من تلم�س م�شاعر غ�يره التي ت�شبه م�شاعره
م�ستقرة �أو هائجة.
عبد القدو�س ،نارميان ،مليكة ،هيام وغريهم �شكلوا طوال هذا
امل�سار املرتبك فواني�س �أ�ضاءت الدروب التي فتحها معرب ورقي نحو
عوامل �أنا�س مروا على زمن ما وتركوا �آثارا خ ّلدها التماهي الكبري
مع مفردات العبث والال�سلطة.
لو توا�صلت الكلمات مع الذاكرة بو�سائل �أكرث حميمية بعيدا عن
الإ�سرتجاع املح�ض لناف�ست برو�ست وزمنه املفقود ولأ�صبح الن�ص
جملدات لكن هنا نتوقف فلم يعد جمديا احلديث مادام ال�شعراء
قد حتولوا �إىل رواة ووجدوا م�ستمعا.
َي َت َنا َز ُل ال َكا ِت ُب َعنْ ُح ُقو ِق ِه ا َملا ِد َية ِل َفا ِئ َدة َج ْم ِع َّي ْة ِح َما َي ْة
ال�س َر َطانْا َمل ْر َ�ضى ِب َ