Professional Documents
Culture Documents
كان ينظر للحياة بدهشة طفل وسخرية رجل ال ينطلى عليه الكالم الكبير وسرور صوفى يثق فى حدسه وال ينخدع فى شعاع الفجر الكاذب ..
صادقا على نحو غير مألوف ومربك ..لديه ميل فطرى للكتابة العادية (الشعبية) فالكاتب الذى يمتلك حسا سليما سيبصر األشياء العادية فى
.تفاعالتها مع الطبيعة من وجهة نظره
مهموما على الدوام بأنماط القهر وتفكيك كل صور االستبداد ..ملهما أللبير كامو فى رواية «الطاعون» و«الرجل الراكض» لستيفن كنج
وغيرهما ،تلميذ الدوس هكسلي ،المقروء من قبل تشرشل باهتمام الفت ،كتاباته ليست لها نهايات سعيدة ،لكنها مليئة بأوصاف مفصلة وابتسامات
.مبتورة ومقاطع صريحة باالبيض واالسود فقط دون تلوين أو رتوش
.إنه جورج أورويل ( )1950 – 1903الكاتب والروائى اإلنجليزى الفذ ،الذى صنفته التايمز من بين أبرز خمسين كاتبا فى بريطانيا
سيرته الذاتية محملة بكل التفاصيل التى تجلت فى مشروعه األدبى من خالل المهن البسيطة والمتعددة التى امتهنها واختالطه بالفقراء والمشردين
فى لندن وباريس وانخراطه فى صفوف الجماعات المناهضة لفرانكو فى إسبانيا ..فخبرته السياسية كانت وليدة الخبرة العملية ،إضافة إلى عمله
بالتدريس واإلذاعة البريطانية وتأليفه لعدد من الكتب السياسية المتنوعة ..إال أن الشهرة العالمية جاءته متأخرة بأثر رجعى بعد وفاته ،وقد خلدت
سيرته بعملين رائعين لهما مذاق خاص جدا « :مزرعة الحيوانات » ورواياتنا ( )1984التى نحن بصدد الحديث عنها ..كان كاتب مقاالت بارعا
،كتاباته تتسم بألق سياسى متفرد ،يعتقد بوجود دون كيشوت وتابعه (سانشو) فى ذهن كل منا ( الذات على سجيتها وصوت المعدة المحتج بال
مكابرة) عمل بالشرطة اإلمبريالية الهندية فى بورما ،من هنا ترسخ رفضه لممارسات بالده االمبريالية اسمه األصلى اريك آرثر بلير كانت لديه
.رغبة فى جعل الكتابة السياسية نقطة انطالق ووعى بالظلم
روايات المستقبل
تعتبر رواية ()1984هى درة عقد معظم هذه الروايات التى تنتمى ألدب المدينة الفاسدة (ديستوبيا)عكس اليوتوبيا تماما ،تنطلق من رؤية مستقبلية
قاتمة تبدو متشائمة ألول وهلة فهى تلقى ضوءا مشعا فى جب عميق تمور بداخله وحوش كثيرة ترصد هذه الروايات لحظات تأهبها
لالنطالق،تقتحم المجهول لتنبهنا وتحذرنا وتمتعنا فى آن،بدأت الموجة األولى من هذه الروايات مع بداية الثورة الصناعية ،ثم اتسعت تدريجيا مع
انتشار االتجاهات العدمية وااليديولوجيات بعد الحربين العالميتين فظهرت «نحن» لألديب الروسى زاماتين ،فى أعقاب الثورة البلشفية ،تأثر
أورويل بها تأثيرا ملموسا فى روايته حيث استشرف زاماتين مآالت التوتالتارية ومدى قدرتها على االستبداد وانتهاك الحريات الشخصية ،بالرقابة
المتواصلة وانتهاك الخصوصيات وفرض أساليب معيشة بصورة جبرية فى منازل ذات حوائط زجاجية ،فى مجتمع كهذا يذعن فيه الفرد لفكرة
الزى والغذاء والطعام الواحد ،من الطبيعى أن يفقد أسمه ويتحول الى رقم ،وتكشف رواية «فهرنهايت »451لراى برادبورى النقاب عن لحظة
عودة الوعى للبطل الذى كان منوطا به إحراق الكتب ،وفقا ألوامر السلطة السياسية ،ويحذرنا من مدى السطحية وحشو المعلومات فى مجتمعه
الذى كان يقتات القشور السطحية والتفاهات اللهاء الجماهير ،ورواية واسينى األعرج وعنوانها ( ) 2084تبحث فى األفق عما وراء مرحلة انتهاء
داعش وانقراض العرب سياسيا وحضاريا والعودة الى القيم البدائية مرة أخرى وظهور محور سياسى شرقي،رواية تحذيرية تستبق الزمن شأن
.معظم روايات الديستوبيا
وتنفرد رواية الدوس هكسلى «عالم جديد شجاع» برؤيتها المستقبلية للحياة االجتماعية ونمطها الذى ستسيطر فيه اآلالت على البشر بصورة مبهرة
لرواية كتبت عام 1932ويحتفل العالم هذا العام بمرور 85عاما على كتابتها ،انتقادات متنوعةللنخب التى ستكرس التكنولوجيا لخدمتها وتعزيز
أو التنظيم المبالغ فيه «ديكتاتورية مقنعة» ،افق Over Organizationمكانتها واستبعاد القاعدة الشعبية من المعادلة ،األمر الذى سينتج عنه
الرواية يتسع للحديث عن أطفال األنابيب واألستغناء عن األسرة مستقبال وهيمنة الشاشات والهندسة الجينية واستخدام أقراص مخدرة (سوما)
ستكون هناك معلومات هائلة بصورة ..للتنويم المغناطيسي ،عالم الدوس هكسلى يعتقد فيه البسطاء أنهم سعداء ألنهم يمتلكون تكنولوجيا العصر
يصعب معها اإلفادة منها ،االمر الذى سيدفع الناس الى السلبية واالقتراب أكثر من شاشاتهم « ستعرفون الحقيقة ولكن الحقيقة ستصيبكم بالجنون «
.هكذا يحذرنا صوت الراوى فى هذه الرواية التى تبدو أنها كتبت لزماننا
من نازية هتلر ودموية ستالين وركام الحرب العالمية الثانية التى شهدها أورويل نبتت فكرة هذه التحفة األدبية التى ترجمت ألكثر من ( )60لغة
ووصلت أرقام مبيعاتها عام 1984إلى أكثر من 35مليون نسخة ،وتم اختيارها من ضمن أفضل مائة رواية مكتوبة باالنجليزية فى القرن
العشرين ..وجاءت على قائمة أكثر الروايات مبيعا فى قائمة صحيفة «الواشنطن بوست» الشهر الماضي..واستشهدت بها « هيالرى كلينتون »
ماذا حدث؟ » فى معرض انتقادها الستخدام ترامب ألساليب خاصة يتعامل بها لتحريف الحقيقة وتكراره « فى كتابها الصادر مؤخرا بعنوان
لمصطلحات « رواية » 1984مثل تعبير :الحقيقة البديلة وغيره من التعبيرات التى نقل بها « حربه على الحقيقة» إلى أجواء الحقبة السوفيتية
التقليدية ما ارتبط بها من استبداد وتستحضر مشاهد الفيلم المأخوذ عن الرواية وهو آخر أفالم ريتشارد بيرتون ..ومؤخرا عبر اوليفر ستون
للرئيس الروسى بوتين عن اندهاشه من إقرار روسيا لنظام مراقبة االتصاالت أو «األخ األكبر فى روسيا» فى الفيلم التسجيلى الذى أخرجه
حوارات بوتين) االمر الذى يتناقض مع وجود « سنودن » فى روسيا كالجيء سياسى أنتقد اختراقات وكالة االمن القومى األمريكى لخصوصيات (
مواطنيه وكان رد بوتين مدعما بالتبرير االمنى الملح ،حضور هذه الرواية ال ينتهى فقد أصبحت جزءا من الثقافة الشعبية فى أمريكا وأوروبا منذ
انتخاب ترامب الذى ساهم فى تنشيطها وإعادة توظيفها سياسيا فى انتقاده ..منذ شهور قليلة صدر ايضا كتاب توماس ركس الذى كرسه للمقارنة بين
تشرشل وأورويل ،حيث كان كال الرجلين متمردين على ما يهادنه غيرهما من شئون ،رفض تشرشل االنصياع لرغبة حزب المحافظين فى
الثالثينيات ولم يسترضى هتلر كما طلب منه الحزب بل بادر بكشف ما يقوم به هتلر من إعادة تسليح ألمانيا ورفع شعاره بعدم االستسالم فمنعه
الحزب من حضور جلسات مجلس الوزراء،وتمرد أورويل على أكاذيب اليسار الذى كان ينتمى إليه بعد أن عاد من إسبانيا عقب تغطيته الحرب
األهلية ،كال الرجلين كان مهموما بتشكك بعض الناس فى عصرهما بجدوى الديمقراطية ،فما سر هذه الرواية؟ التى لم يكن أورويل راضيا أو
.رافضا تماما لها فهى كتبت تحت وطأة مرضه بالسل
الرواية بنيتها بسيطة لكنها محملة بأفكار عميقة ومن الغريب أنها لم تحقق صدى واسعا وقت صدورها ..لكنها مازالت تطرح من التأويالت
والرؤى المستجدة ما يغرى الكثير من األقالم فى كل اللغات بقراءتها باعتبارها أدبا إنسانيا يحمل شذرات فكرية مكثفة تشعل التفاعل بين الكاتب
».والقارئ وينطبق عليها الوصف القائل بحق «القراءة كتابة ال نهائية
األخ األكبر» فى الرواية يمثل أعلى سلطة من سلطات المراقبة التى يخضع لها شعب أوقيانيا على مدار 24ساعة بل إن شرطة الفكر فى هذه «
الدولة تستطيع معرفة مسار تفكير أى إنسان وتصويبه بصورة إيجابية إزاء الحزب و األخ األكبر وهو معصوم من الخطأ وال يعرفه العامة إال من
صورته تاريخ ميالده غير معروف لم يسمع الناس صوته لكن سلطانه أسطورى على جماهير أوقيانيا،يطور فكره وأسلوبه باستمرار حتى يضمن
األخ األكبر يراقبك) أما كراهية األعداء فتتم من خالل برنامج تنشيط يومى لمدة دقيقتين ( ..نصره الدائم،صوره تمأل الشوارع مصحوبة بعبارة
بطل الرواية « ونستون سميث « اختار له أورويل االسم األول كناية عن اتشرش ..البطل يعمل فى وزارة الحقيقة التى تقوم بتزوير الحقائق فى
السجالت لكى تصبح توقعات الحزب السابقة صحيحة متوافقة مع الواقع ..يرتبط ونستون بعالقة عاطفية مع زميلته جوليا ويفصحان لبعضهما
البعض بحبهما وكراهيتهما لألخ األكبر وللحزب ويخدعهما عضو الحزب أوبراين ويعتقدان أنه له نفس الهوى السياسى ويهدى ونستون كتاب «
الذى يمثل تروتسكى – وتمرده على ستالين وسياسته الدموية – جولدشتاين « المنشق عن الحزب
من هنا ينفتح أفق الرواية بصورة بديعة لحوارات جدلية وتفسير لفكرة اللغة الجديدة التى طرحها أورويل فى هذه الرواية ودخلت قواميس اللغة ..
بسببه ،فظهر تعبير (األورويلية) فى االنجليزية احتفاء بالرجل الذى سرد لنا بأسلوب بديع كيف تحاول السلطة التحكم باللغة وتقليل عدد مفرداتها
وتضيق نطاقها لكى تحكم سيطرتها على الشعوب؟ «اختفاء كلمة الديمقراطية مثال يخفى الديمقراطية ذاتها» ..صاحب التعبيرات المبتكرة الشهيرة
الذى يتمثل فى القدرة على التفكير فى الشيء ونقيضه ،أن تستخدم المنطق ضد المنطق أن تدعى األخالق وترفضها فى نفس »«الفكر المزدوج
الوقت ،فاللغة السياسية مصممة لتحول األكاذيب إلى حقائق ويناقش أورويل مشكلة اختفاء المعايير من ذاكرة المسنين ،حين ناقش رجال عجوزا
عن حال البالد قبل الثورة وهل كانت أفضل مما هى عليه ؟ لم يستطع الرجل اإلجابة وكان يتذكر مليون شيء ال قيمة له ..شجار مع صديق ،يوم
عاصف ,لكن كل حقيقة ذات معنى كانت خارج بصره مثل النملة التى ترى األشياء الصغيرة وتعجز عن رؤية األشياء الضخمة ويسترسل قائال :
عندما تخبو ذاكرة هؤالء الناس يتم تزوير السجالت المكتوبة حيث يصبح ال وجود لمعيار يمكن استخدامه ,وتتشعب حوارات اوبراين وونستون
الرائعة – المشهد الذى أشارت إليه هيالرى كلينتون -حول كيفية اقتناعه بأن اثنين زائد اثنين يساوى خمسا أو ثالثا أو أربعة حسب رغبة الحزب
..وينتقل النقاش بينهما إلى نقد ونستون :أنت خلل فى النموذج البد من إزالته ..سيكون التقدم فى عالمنا صوب مزيد من األلم ،انه عالم مصنوع من
الفوز واالنتصارات وضغط ال ينتهى على عصب السلطة ،لن يبقى حب إال لألخ األكبر ويجادله ونستون :ستهزمكم الحياة ال يمكنك أن تقيم
فى الحال جاء رد اوبراين الحاسم :أنت تتخيل أن هناك طبيعة بشرية سوف تغضب ! حضارة على الخوف والكراهية ،لن تستمر ستنهار ال محالة
وتنقلب علينا لكننا نحن الذين نصنع هذه الطبيعة ..إذا كنت إنسانا ياونستون فأنت اإلنسان األخير أنت خارج التاريخ ،جنسك منقرض ونحن
.الوارثون
وينتقل الحوار إلى الكيفية التى تتم بها مراقبة بيوت عامة الناس ويخبره اوبراين أن بيوت عامة الناس ليس بها شاشات للمراقبة ،ولم تكن الشرطة
تتدخل فى شئونهم اال ما ندر بالرغم من وجود قدر كبير من الجرائم واللصوص ورجال العصابات ومروجى المخدرات فال أهمية لذلك ألنهم أدنى
من أن يطالهم الشك فأحد شعارات الحزب تقول « :العامة والحيوانات أحرار » وذكره أيضا بالحوار الذى دار بينهما من قبل « سنتقابل فى مكان
ال ظلمة فيه ..هكذا تم اللقاء فى السجن حيث الضوء الساطع مثل العتمة ،وسيلة من وسائل التعذيب ويندهش القارئ من كالم أورويل المبكر جدا
روسيا) وهى عالقة (عن كيفية إدارة الحروب فى العالم حين يتحدث أوبراين عن مفهوم الحزب للحرب والعالقة بين أوقيانيا (بريطانيا) أوراسيا
ال تحاول أى قوة من القوى العظمى الثالث القيام بأى مغامرات حربية وتعتمد :عدائية وإيستاسيا (بمثابة الصين وشرق آسيا) وهى حليف
إستراتيجية قوامها اكتساب قواعد جديدة وإبرام الصفقات والضربات فى الوقت المناسب ..كانت الحرب شيئا البد أن ينتهى بنصر أو هزيمة
ألنها لم تعد خطيرة عندما صارت مستمرة )الحرب تشن اآلن من أجل المحافظة على بنية المجتمع كما هى كلمة الحرب نفسها تصبح (مضللة
بالمعنى الحرفى للكلمة ..إذ اتفقت الدول الثالث على العيش فى سلم أبدى وأن تظل كل منها آمنة ضمن حدودها متحررة لألبد من الخطر الخارجى
واستدرك أوبراين :رغم )الذى يجعلها فى يقظة دائمة ..هنا يكون السلم الدائم مثل الحرب الدائمة وهذا هو معنى شعار الحزب ( الحرب هى السلم
.أن أعضاء الحزب يفهمون هذا الشعار فهما شديد الضحالة
هذه الروايات تستدعى تلقائيا كتابات زيجمونت باومان عالم االجتماع الراحل وحديثه عن السجن الكبير (البانوبيتكون) ومدى ارتباطه بأزمة
المراقبة التكنولوجية (األخ األكبر فى عصرنا) وتفسيره لهذا النموذج من االختراقات المتواصلة لهواتفنا وكاميرات أجهزتنا التى يفتحها قراصنة
يرصدون من خاللها كل شاردة وواردة ..فالحداثة فيما سبق كانت غايتها فرض نظام يتغلب على الفوضى أما(الحداثة السائلة) فهى مصطلح
باومان الذى قضى من عمره سنوات لرصد تجلياتها ..تلك السيولة المفرطة التى تجرى وتلهث وراء كل جديد فى عالم بلغ من الوضوح ما يجعله
فالمرونة هى )غير قابل للمالحظة – على حد تعبيره – فنحن نعيش فترات زمنية ال يعتلى فيها أى عرش وال يعترف فيها إال بصولجان (التغيير
للمفارقة – أثناء السعى لترسيخ البنى االجتماعية حتى تكون أكثر صالبة ،حماية لها – الثبات الوحيد ...بدأت حالة اإلذابة من وجهة نظر باومان
من التفكك والفوضى ودعم الروابط اإلنسانية ..ولكننا فوجئنا أن هذه المنظومات ذابت ألنها لم تكن بالصالبة التى تتحمل عنفوان الحداثة
وحرارتها لذلك انصهرت وتحولت قيم ما بعد الحداثة إلى أفق ملغم من التحديث المستمر المفتوح على مصراعيه دون وجود خط لنهاية أى شيء..
فنحن نشعر أكثر مما نعلم ،يوجد قطاع كبير من البشر يبحث ويترقب « ما بعد الشيء » وهى حالة أوجدتها التكنولوجيا من التحديثات فى ظل
غياب القوة وتعدد مراكز الفعل ،الحالة السائدة فى المجتمعات البشرية ترصد شعورا بالخوف من بقاء األشياء المتماسكة التى بقت طويال وخوفا
.من مراقبة الكاميرات ،وغرضها الحقيقى يتعلق بعملية الفرز اإلجتماعى كما يرصدها األخ األكبر أو الكاميرات
نعيش العصر الذى بشر به أورويل من المراقبة وتكريسها لخدمة التكنولوجيا الرقمية حاليا ..وفى مجتمعات تشكو من قلة خصوبة سكانها
وانخفاض نسبة المواليد (كاليابان) حيث يجرى حاليا « أتمتة البشر وأنسنة اآلالت» من أجل هذا المشهد العبثى تكتب روايات المستقبل لتحذرنا من
مغبة إفساح المجال أمام الذكاء االصطناعى دون وجود « خط نهاية أو رجعة » كما يقول باومان كيف يتم االستغناء عن اإلنسان واالستعانة باآللة
(الروبوت) للقيام بما يقوم به البشر ؟ بعد أن كنا (نلمس) آالتنا وأجهزتنا االلكترونية – أصبحت الروبوتات تقوم بهذه المهمة بلمسة يد الكترونية
سيعلم الروبوت الكثير من أحوال المرضى والعديد من األفكار التى تشغلنا ويؤنس وحدة المسنين ،سنترك اإلنسان ونؤثر عليه اآللة إنها تحذيرات
.ال تخرج عن مخاوف أورويل فى رواية .. 1984خطوط تماس هذه الرواية مع الواقع منذ تاريخ صدورها مذهلة إلى حد بعيد
وموظفات يقمن بإجراء المقابالت لتقييم السيرة الذاتية مع المتقدمين ..يوجد اآلن حيوانات روبوتية أليفة للمسنين وروبوتات تقوم بتأليف الموسيقى
وتتصدر اليابان قائمة الدول التى تستثمر فى هذه ..للوظائف بحلول عام 2025ستقوم الروبوتات بأداء %45من جميع مهام التصنيع
التكنولوجيا ..لم يعش أورويل ليشاهد كيف تقتحم الشركات الكبرى خصوصيتنا وأن فى لندن وحدها وفقا آلخر إحصائية فى 2017ما يقرب من
كاميرا لكل 11بريطانيا وأن كل فرد فى هذه المدينة يتم تصويره بمعدل سبعين مرة يوميا ..وتشتهر هذه الكاميرات التى تنتهك الحياة الخاصة
.أيضا باألخ األكبر
فهل كل تقدم تكنولوجى يسعد البشر ؟ وهل هامش حرية االختيار يتقلص أمام اإلنسان المتمرد على القمع بالتكنولوجيا وعلى أنسنة اآلالت ..
ولنتذكر أن أورويل وصف غرفة التعذيب رقم ( ) 101بأن فيها أسوأ شيء فى العالم .واستدرك قائال :أسوأ شيء فى العالم أمر نسبى يختلف من
.شخص آلخر
النبوءة ) كما تراءى ألورويل ..فحصلت على اهتمام غير مسبوق ( عام 1983أصبحت الرواية تحظى بقيمة خاصة عالميا القتراب موعد عام
من المراجعات النقدية ..قبل سقوط سور برلين وانهيار االتحاد السوفيتى بخمس سنوات تم تقديمها فى فيلم سينمائى عام 1984بطولة جون هارت
الفيلم األخير للممثل اإلنجليزى القدير ريتشارد بيرتون حيث قام بدور أوبراين مسئول الحزب الذى خدع ونستون « ويصفه األخير بقوله فى
الرواية « :كان وجه أوبراين يعرف كل شيء أنه يعرف العالم أفضل مما أعرفه ألف مرة ويعرف فى أى درك يعيش أكثر البشر ..كان كائنا
.ضخما ..ولم تكن أى فكرة خطرت فى بال ونستون إال وعرفها أوبراين منذ زمن طويل ودرسها ..كان عقله مشتمال على عقل ونستون
الرواية ألهمت المخرج الكبير رايدلى سكوت بإخراج إعالن عن أجهزة كمبيوتر عام 1984مستوحى من الرواية كسر به الشكل النمطى
لإلعالنات حيث يفتتح المشهد على شاشة سينما يتحدث منها األخ األكبر إلى جمع من الشباب المتشابهين فى مظهرهم بطريقة آلية وفجأة تجرى
فتاة ومن ورائها جنود يريدون اإلمساك بها ثم تضرب الشاشة واألخ الكبر بمضرب البيسبول وسط ذهول الحاضرين ،ويظهر شعار اإلعالن(:فى
يناير 1984ستعلمون لماذا 1984ال تشبه 1984؟) صنف اإلعالن ضمن أفضل اإلعالنات على اإلطالق ..وكان بمثابة دعوة ذكية لفكرة التمرد
.على القطيع ،شأن فكرة الرواية
ويتوالى الحديث فى كتاب « جولدشتاين « وكيف أنه ال يمكن االحتفاظ بالسلطة إال عن طريق التوفيق بين المتناقضات « ..فهمت األنظمة الشمولية
هكذا استرسل أوبراين – أنهم يجب عليهم تدمير كرامة ضحاياهم قبل محاكمتهم وتعذيبهم فيعترفون ..ولكن نتيجة لذلك صار –بطريق الخطأ
األموات شهداء ونسى الناس ما ارتكبوا من خزى ألن االعترافات التى يدلون بها كانت منتزعة تحت التعذيب ،نحن ال نرتكب مثل هذه
األخطاء،إننا نجعل االعترافات صحيحة وال نسمح للموتى بأن ينهضوا فى وجهنا من جديد عليك بالتوقف عن تخيل أن المستقبل سوف ينتقم لك يا
».ونستون :نحن ال نصنع شهداء ..لن يبقى منك أى شيء ال اسم وال سجل وال ذكري
وتنت هى الرواية بعد تعذيب ونستون بمحبته لألخ األكبر وعبر أوبراين عن رؤيته للمستقبل وكيف أنها تتمثل فى حذاء يضغط على وجه إنسان إلى
األبد ويسأل ونستون( :كيف يحكم إنسان سلطته على إنسان آخر؟) أجابه ونستون :بأن يجعله يقاسى األلم ،يجعله يعاني ,السلطة هى انزال األلم
باآلخرين ،الرواية تمنح قارئها أفقا وصفه أورويل بأنه « يرعبه أكثر من القنابل الذرية» ..أفق االستسالم واإلذعان ألى سلطة مستبدة أيا كانت
هذه السلطة ولو كانت سلطة تكنولوجيا جامحة ..خشى أورويل من تفريط البشر طواعية فى حريتهم وحذر من خطورة القبول بتبديل وجه
الديكتاتورية وشكلها ال رفضها ..وتعمد فى الرواية أن يشير إلى قبول ونستون مبدأ القتل والسرقة والتزوير ونشر المخدرات وإلقاء مادة كاوية
على وجه طفل ..وحين ادعى أنه أكثر إنسانية من أوبراين اسمعه صوته وهو يقر بهذه الشروط ..هى رواية هزلية تحمل نبرة تهكمية ومبالغة فى
خائفا مضطربا خضع لصناعة الخوف التى انتشرت عقب الحرب العالمية ..السخرية ..فالبطل الذى استسلم فى النهاية ..كان إنسانا مهزوما
كالطاعون ..الرواية تدعو للخروج من القطيع وتفتح باب األمل ألننا لن نحمل كل مشكالت عصرنا دفعة واحدة وسيدركنا العمر ونحن لم نعانى من
ويالت المستقبل المحتملة ،أدب الكبار ليس أدب اليأس بل األمل والرجاء واالكتشافات والتحذيرات (الناس يصعدون يوميا إلى التالل الستكشاف
األراضى البكر مفعمون باألمل فى الهدوء والراحة لكنهم ال يجدون دوما إال «سحر البدايات» هكذا هو حال اإلنسان منذ األزل ،فاألمل متى رأيناه
ال يكون أمال ،فما يراه اإلنسان لماذا يأمله بعد) من رسالة بولس ألهل روما ..فال نهاية لقدرة اإلنسان على اإلبداع واالكتشاف وعلى تصويب
.أخطائه أيضا