You are on page 1of 4

‫األهرام ‪ -‬الجمعة ‪ 13‬أكتوبر ‪ 2017‬السنة ‪ 142‬العدد ‪4779‬‬

‫‪ :‬اإلجابة فى رواية ‪1984‬‬


‫كيف يفرض اإلنسان سلطته على اآلخرين ؟‬
‫ســهير حلــمى‬

‫كان ينظر للحياة بدهشة طفل وسخرية رجل ال ينطلى عليه الكالم الكبير وسرور صوفى يثق فى حدسه وال ينخدع فى شعاع الفجر الكاذب ‪..‬‬
‫صادقا على نحو غير مألوف ومربك ‪ ..‬لديه ميل فطرى للكتابة العادية (الشعبية) فالكاتب الذى يمتلك حسا سليما سيبصر األشياء العادية فى‬
‫‪.‬تفاعالتها مع الطبيعة من وجهة نظره‬

‫مهموما على الدوام بأنماط القهر وتفكيك كل صور االستبداد ‪ ..‬ملهما أللبير كامو فى رواية «الطاعون» و«الرجل الراكض» لستيفن كنج‬
‫وغيرهما‪ ،‬تلميذ الدوس هكسلي‪ ،‬المقروء من قبل تشرشل باهتمام الفت ‪ ،‬كتاباته ليست لها نهايات سعيدة‪ ،‬لكنها مليئة بأوصاف مفصلة وابتسامات‬
‫‪ .‬مبتورة ومقاطع صريحة باالبيض واالسود فقط دون تلوين أو رتوش‬

‫‪.‬إنه جورج أورويل (‪ )1950 – 1903‬الكاتب والروائى اإلنجليزى الفذ ‪ ،‬الذى صنفته التايمز من بين أبرز خمسين كاتبا فى بريطانيا‬

‫سيرته الذاتية محملة بكل التفاصيل التى تجلت فى مشروعه األدبى من خالل المهن البسيطة والمتعددة التى امتهنها واختالطه بالفقراء والمشردين‬
‫فى لندن وباريس وانخراطه فى صفوف الجماعات المناهضة لفرانكو فى إسبانيا ‪ ..‬فخبرته السياسية كانت وليدة الخبرة العملية‪ ،‬إضافة إلى عمله‬
‫بالتدريس واإلذاعة البريطانية وتأليفه لعدد من الكتب السياسية المتنوعة ‪ ..‬إال أن الشهرة العالمية جاءته متأخرة بأثر رجعى بعد وفاته‪ ،‬وقد خلدت‬
‫سيرته بعملين رائعين لهما مذاق خاص جدا ‪ « :‬مزرعة الحيوانات » ورواياتنا (‪ )1984‬التى نحن بصدد الحديث عنها ‪ ..‬كان كاتب مقاالت بارعا‬
‫‪ ،‬كتاباته تتسم بألق سياسى متفرد ‪ ،‬يعتقد بوجود دون كيشوت وتابعه (سانشو) فى ذهن كل منا ( الذات على سجيتها وصوت المعدة المحتج بال‬
‫مكابرة) عمل بالشرطة اإلمبريالية الهندية فى بورما‪ ،‬من هنا ترسخ رفضه لممارسات بالده االمبريالية اسمه األصلى اريك آرثر بلير كانت لديه‬
‫‪.‬رغبة فى جعل الكتابة السياسية نقطة انطالق ووعى بالظلم‬

‫روايات المستقبل‬

‫تعتبر رواية (‪)1984‬هى درة عقد معظم هذه الروايات التى تنتمى ألدب المدينة الفاسدة (ديستوبيا)عكس اليوتوبيا تماما‪ ،‬تنطلق من رؤية مستقبلية‬
‫قاتمة تبدو متشائمة ألول وهلة فهى تلقى ضوءا مشعا فى جب عميق تمور بداخله وحوش كثيرة ترصد هذه الروايات لحظات تأهبها‬
‫لالنطالق‪،‬تقتحم المجهول لتنبهنا وتحذرنا وتمتعنا فى آن‪،‬بدأت الموجة األولى من هذه الروايات مع بداية الثورة الصناعية‪ ،‬ثم اتسعت تدريجيا مع‬
‫انتشار االتجاهات العدمية وااليديولوجيات بعد الحربين العالميتين فظهرت «نحن» لألديب الروسى زاماتين‪ ،‬فى أعقاب الثورة البلشفية‪ ،‬تأثر‬
‫أورويل بها تأثيرا ملموسا فى روايته حيث استشرف زاماتين مآالت التوتالتارية ومدى قدرتها على االستبداد وانتهاك الحريات الشخصية‪ ،‬بالرقابة‬
‫المتواصلة وانتهاك الخصوصيات وفرض أساليب معيشة بصورة جبرية فى منازل ذات حوائط زجاجية‪ ،‬فى مجتمع كهذا يذعن فيه الفرد لفكرة‬
‫الزى والغذاء والطعام الواحد‪ ،‬من الطبيعى أن يفقد أسمه ويتحول الى رقم‪ ،‬وتكشف رواية «فهرنهايت‪ »451‬لراى برادبورى النقاب عن لحظة‬
‫عودة الوعى للبطل الذى كان منوطا به إحراق الكتب‪ ،‬وفقا ألوامر السلطة السياسية‪ ،‬ويحذرنا من مدى السطحية وحشو المعلومات فى مجتمعه‬
‫الذى كان يقتات القشور السطحية والتفاهات اللهاء الجماهير‪ ،‬ورواية واسينى األعرج وعنوانها ( ‪ ) 2084‬تبحث فى األفق عما وراء مرحلة انتهاء‬
‫داعش وانقراض العرب سياسيا وحضاريا والعودة الى القيم البدائية مرة أخرى وظهور محور سياسى شرقي‪،‬رواية تحذيرية تستبق الزمن شأن‬
‫‪ .‬معظم روايات الديستوبيا‬

‫وتنفرد رواية الدوس هكسلى «عالم جديد شجاع» برؤيتها المستقبلية للحياة االجتماعية ونمطها الذى ستسيطر فيه اآلالت على البشر بصورة مبهرة‬
‫لرواية كتبت عام ‪ 1932‬ويحتفل العالم هذا العام بمرور ‪ 85‬عاما على كتابتها‪ ،‬انتقادات متنوعةللنخب التى ستكرس التكنولوجيا لخدمتها وتعزيز‬
‫أو التنظيم المبالغ فيه «ديكتاتورية مقنعة»‪ ،‬افق ‪ Over Organization‬مكانتها واستبعاد القاعدة الشعبية من المعادلة‪ ،‬األمر الذى سينتج عنه‬
‫الرواية يتسع للحديث عن أطفال األنابيب واألستغناء عن األسرة مستقبال وهيمنة الشاشات والهندسة الجينية واستخدام أقراص مخدرة (سوما)‬
‫ستكون هناك معلومات هائلة بصورة ‪..‬للتنويم المغناطيسي‪ ،‬عالم الدوس هكسلى يعتقد فيه البسطاء أنهم سعداء ألنهم يمتلكون تكنولوجيا العصر‬
‫يصعب معها اإلفادة منها‪ ،‬االمر الذى سيدفع الناس الى السلبية واالقتراب أكثر من شاشاتهم « ستعرفون الحقيقة ولكن الحقيقة ستصيبكم بالجنون «‬
‫‪.‬هكذا يحذرنا صوت الراوى فى هذه الرواية التى تبدو أنها كتبت لزماننا‬

‫النبوءة فى رواية ‪1984‬‬

‫من نازية هتلر ودموية ستالين وركام الحرب العالمية الثانية التى شهدها أورويل نبتت فكرة هذه التحفة األدبية التى ترجمت ألكثر من (‪ )60‬لغة‬
‫ووصلت أرقام مبيعاتها عام ‪ 1984‬إلى أكثر من ‪ 35‬مليون نسخة‪ ،‬وتم اختيارها من ضمن أفضل مائة رواية مكتوبة باالنجليزية فى القرن‬
‫العشرين ‪ ..‬وجاءت على قائمة أكثر الروايات مبيعا فى قائمة صحيفة «الواشنطن بوست» الشهر الماضي‪..‬واستشهدت بها « هيالرى كلينتون »‬
‫ماذا حدث؟ » فى معرض انتقادها الستخدام ترامب ألساليب خاصة يتعامل بها لتحريف الحقيقة وتكراره « فى كتابها الصادر مؤخرا بعنوان‬
‫لمصطلحات « رواية ‪ » 1984‬مثل تعبير ‪ :‬الحقيقة البديلة وغيره من التعبيرات التى نقل بها « حربه على الحقيقة» إلى أجواء الحقبة السوفيتية‬
‫التقليدية ما ارتبط بها من استبداد وتستحضر مشاهد الفيلم المأخوذ عن الرواية وهو آخر أفالم ريتشارد بيرتون ‪ ..‬ومؤخرا عبر اوليفر ستون‬
‫للرئيس الروسى بوتين عن اندهاشه من إقرار روسيا لنظام مراقبة االتصاالت أو «األخ األكبر فى روسيا» فى الفيلم التسجيلى الذى أخرجه‬
‫حوارات بوتين) االمر الذى يتناقض مع وجود « سنودن » فى روسيا كالجيء سياسى أنتقد اختراقات وكالة االمن القومى األمريكى لخصوصيات (‬
‫مواطنيه وكان رد بوتين مدعما بالتبرير االمنى الملح‪ ،‬حضور هذه الرواية ال ينتهى فقد أصبحت جزءا من الثقافة الشعبية فى أمريكا وأوروبا منذ‬
‫انتخاب ترامب الذى ساهم فى تنشيطها وإعادة توظيفها سياسيا فى انتقاده‪ ..‬منذ شهور قليلة صدر ايضا كتاب توماس ركس الذى كرسه للمقارنة بين‬
‫تشرشل وأورويل‪ ،‬حيث كان كال الرجلين متمردين على ما يهادنه غيرهما من شئون‪ ،‬رفض تشرشل االنصياع لرغبة حزب المحافظين فى‬
‫الثالثينيات ولم يسترضى هتلر كما طلب منه الحزب بل بادر بكشف ما يقوم به هتلر من إعادة تسليح ألمانيا ورفع شعاره بعدم االستسالم فمنعه‬
‫الحزب من حضور جلسات مجلس الوزراء‪،‬وتمرد أورويل على أكاذيب اليسار الذى كان ينتمى إليه بعد أن عاد من إسبانيا عقب تغطيته الحرب‬
‫األهلية‪ ،‬كال الرجلين كان مهموما بتشكك بعض الناس فى عصرهما بجدوى الديمقراطية‪ ،‬فما سر هذه الرواية؟ التى لم يكن أورويل راضيا أو‬
‫‪.‬رافضا تماما لها فهى كتبت تحت وطأة مرضه بالسل‬

‫الرواية بنيتها بسيطة لكنها محملة بأفكار عميقة ومن الغريب أنها لم تحقق صدى واسعا وقت صدورها ‪ ..‬لكنها مازالت تطرح من التأويالت‬
‫والرؤى المستجدة ما يغرى الكثير من األقالم فى كل اللغات بقراءتها باعتبارها أدبا إنسانيا يحمل شذرات فكرية مكثفة تشعل التفاعل بين الكاتب‬
‫‪».‬والقارئ وينطبق عليها الوصف القائل بحق «القراءة كتابة ال نهائية‬

‫األخ األكبر» فى الرواية يمثل أعلى سلطة من سلطات المراقبة التى يخضع لها شعب أوقيانيا على مدار ‪ 24‬ساعة بل إن شرطة الفكر فى هذه «‬
‫الدولة تستطيع معرفة مسار تفكير أى إنسان وتصويبه بصورة إيجابية إزاء الحزب و األخ األكبر وهو معصوم من الخطأ وال يعرفه العامة إال من‬
‫صورته تاريخ ميالده غير معروف لم يسمع الناس صوته لكن سلطانه أسطورى على جماهير أوقيانيا‪،‬يطور فكره وأسلوبه باستمرار حتى يضمن‬
‫األخ األكبر يراقبك) أما كراهية األعداء فتتم من خالل برنامج تنشيط يومى لمدة دقيقتين ‪( ..‬نصره الدائم‪،‬صوره تمأل الشوارع مصحوبة بعبارة‬
‫بطل الرواية « ونستون سميث « اختار له أورويل االسم األول كناية عن اتشرش‪ ..‬البطل يعمل فى وزارة الحقيقة التى تقوم بتزوير الحقائق فى‬
‫السجالت لكى تصبح توقعات الحزب السابقة صحيحة متوافقة مع الواقع ‪ ..‬يرتبط ونستون بعالقة عاطفية مع زميلته جوليا ويفصحان لبعضهما‬
‫البعض بحبهما وكراهيتهما لألخ األكبر وللحزب ويخدعهما عضو الحزب أوبراين ويعتقدان أنه له نفس الهوى السياسى ويهدى ونستون كتاب «‬
‫الذى يمثل تروتسكى – وتمرده على ستالين وسياسته الدموية – جولدشتاين « المنشق عن الحزب‬

‫األخ األكبر و اللغة السياسية‬

‫من هنا ينفتح أفق الرواية بصورة بديعة لحوارات جدلية وتفسير لفكرة اللغة الجديدة التى طرحها أورويل فى هذه الرواية ودخلت قواميس اللغة ‪..‬‬
‫بسببه‪ ،‬فظهر تعبير (األورويلية) فى االنجليزية احتفاء بالرجل الذى سرد لنا بأسلوب بديع كيف تحاول السلطة التحكم باللغة وتقليل عدد مفرداتها‬
‫وتضيق نطاقها لكى تحكم سيطرتها على الشعوب؟ «اختفاء كلمة الديمقراطية مثال يخفى الديمقراطية ذاتها»‪ ..‬صاحب التعبيرات المبتكرة الشهيرة‬
‫الذى يتمثل فى القدرة على التفكير فى الشيء ونقيضه‪ ،‬أن تستخدم المنطق ضد المنطق أن تدعى األخالق وترفضها فى نفس »«الفكر المزدوج‬
‫الوقت‪ ،‬فاللغة السياسية مصممة لتحول األكاذيب إلى حقائق ويناقش أورويل مشكلة اختفاء المعايير من ذاكرة المسنين ‪ ،‬حين ناقش رجال عجوزا‬
‫عن حال البالد قبل الثورة وهل كانت أفضل مما هى عليه ؟ لم يستطع الرجل اإلجابة وكان يتذكر مليون شيء ال قيمة له ‪ ..‬شجار مع صديق‪ ،‬يوم‬
‫عاصف‪ ,‬لكن كل حقيقة ذات معنى كانت خارج بصره مثل النملة التى ترى األشياء الصغيرة وتعجز عن رؤية األشياء الضخمة ويسترسل قائال ‪:‬‬
‫عندما تخبو ذاكرة هؤالء الناس يتم تزوير السجالت المكتوبة حيث يصبح ال وجود لمعيار يمكن استخدامه‪ ,‬وتتشعب حوارات اوبراين وونستون‬
‫الرائعة – المشهد الذى أشارت إليه هيالرى كلينتون ‪ -‬حول كيفية اقتناعه بأن اثنين زائد اثنين يساوى خمسا أو ثالثا أو أربعة حسب رغبة الحزب‬
‫‪ ..‬وينتقل النقاش بينهما إلى نقد ونستون‪ :‬أنت خلل فى النموذج البد من إزالته ‪..‬سيكون التقدم فى عالمنا صوب مزيد من األلم‪ ،‬انه عالم مصنوع من‬
‫الفوز واالنتصارات وضغط ال ينتهى على عصب السلطة‪ ،‬لن يبقى حب إال لألخ األكبر ويجادله ونستون ‪ :‬ستهزمكم الحياة ال يمكنك أن تقيم‬
‫فى الحال جاء رد اوبراين الحاسم ‪ :‬أنت تتخيل أن هناك طبيعة بشرية سوف تغضب ! حضارة على الخوف والكراهية‪ ،‬لن تستمر ستنهار ال محالة‬
‫وتنقلب علينا لكننا نحن الذين نصنع هذه الطبيعة ‪..‬إذا كنت إنسانا ياونستون فأنت اإلنسان األخير أنت خارج التاريخ‪ ،‬جنسك منقرض ونحن‬
‫‪ .‬الوارثون‬

‫وينتقل الحوار إلى الكيفية التى تتم بها مراقبة بيوت عامة الناس ويخبره اوبراين أن بيوت عامة الناس ليس بها شاشات للمراقبة‪ ،‬ولم تكن الشرطة‬
‫تتدخل فى شئونهم اال ما ندر بالرغم من وجود قدر كبير من الجرائم واللصوص ورجال العصابات ومروجى المخدرات فال أهمية لذلك ألنهم أدنى‬
‫من أن يطالهم الشك فأحد شعارات الحزب تقول‪ « :‬العامة والحيوانات أحرار » وذكره أيضا بالحوار الذى دار بينهما من قبل « سنتقابل فى مكان‬
‫ال ظلمة فيه ‪..‬هكذا تم اللقاء فى السجن حيث الضوء الساطع مثل العتمة‪ ،‬وسيلة من وسائل التعذيب ويندهش القارئ من كالم أورويل المبكر جدا‬
‫روسيا) وهى عالقة (عن كيفية إدارة الحروب فى العالم حين يتحدث أوبراين عن مفهوم الحزب للحرب والعالقة بين أوقيانيا (بريطانيا) أوراسيا‬
‫ال تحاول أى قوة من القوى العظمى الثالث القيام بأى مغامرات حربية وتعتمد ‪ :‬عدائية وإيستاسيا (بمثابة الصين وشرق آسيا) وهى حليف‬
‫إستراتيجية قوامها اكتساب قواعد جديدة وإبرام الصفقات والضربات فى الوقت المناسب ‪ ..‬كانت الحرب شيئا البد أن ينتهى بنصر أو هزيمة‬
‫ألنها لم تعد خطيرة عندما صارت مستمرة )الحرب تشن اآلن من أجل المحافظة على بنية المجتمع كما هى كلمة الحرب نفسها تصبح (مضللة‬
‫بالمعنى الحرفى للكلمة ‪ ..‬إذ اتفقت الدول الثالث على العيش فى سلم أبدى وأن تظل كل منها آمنة ضمن حدودها متحررة لألبد من الخطر الخارجى‬
‫واستدرك أوبراين ‪ :‬رغم )الذى يجعلها فى يقظة دائمة ‪ ..‬هنا يكون السلم الدائم مثل الحرب الدائمة وهذا هو معنى شعار الحزب ( الحرب هى السلم‬
‫‪.‬أن أعضاء الحزب يفهمون هذا الشعار فهما شديد الضحالة‬

‫السجن الكبير والمراقبة‬

‫هذه الروايات تستدعى تلقائيا كتابات زيجمونت باومان عالم االجتماع الراحل وحديثه عن السجن الكبير (البانوبيتكون) ومدى ارتباطه بأزمة‬
‫المراقبة التكنولوجية (األخ األكبر فى عصرنا) وتفسيره لهذا النموذج من االختراقات المتواصلة لهواتفنا وكاميرات أجهزتنا التى يفتحها قراصنة‬
‫يرصدون من خاللها كل شاردة وواردة ‪..‬فالحداثة فيما سبق كانت غايتها فرض نظام يتغلب على الفوضى أما(الحداثة السائلة) فهى مصطلح‬
‫باومان الذى قضى من عمره سنوات لرصد تجلياتها ‪ ..‬تلك السيولة المفرطة التى تجرى وتلهث وراء كل جديد فى عالم بلغ من الوضوح ما يجعله‬
‫فالمرونة هى )غير قابل للمالحظة – على حد تعبيره – فنحن نعيش فترات زمنية ال يعتلى فيها أى عرش وال يعترف فيها إال بصولجان (التغيير‬
‫للمفارقة – أثناء السعى لترسيخ البنى االجتماعية حتى تكون أكثر صالبة ‪ ،‬حماية لها – الثبات الوحيد ‪ ...‬بدأت حالة اإلذابة من وجهة نظر باومان‬
‫من التفكك والفوضى ودعم الروابط اإلنسانية ‪ ..‬ولكننا فوجئنا أن هذه المنظومات ذابت ألنها لم تكن بالصالبة التى تتحمل عنفوان الحداثة‬
‫وحرارتها لذلك انصهرت وتحولت قيم ما بعد الحداثة إلى أفق ملغم من التحديث المستمر المفتوح على مصراعيه دون وجود خط لنهاية أى شيء‪..‬‬
‫فنحن نشعر أكثر مما نعلم ‪ ،‬يوجد قطاع كبير من البشر يبحث ويترقب « ما بعد الشيء » وهى حالة أوجدتها التكنولوجيا من التحديثات فى ظل‬
‫غياب القوة وتعدد مراكز الفعل ‪ ،‬الحالة السائدة فى المجتمعات البشرية ترصد شعورا بالخوف من بقاء األشياء المتماسكة التى بقت طويال وخوفا‬
‫‪ .‬من مراقبة الكاميرات‪ ،‬وغرضها الحقيقى يتعلق بعملية الفرز اإلجتماعى كما يرصدها األخ األكبر أو الكاميرات‬

‫هل أسعدتنا التكنولوجيا ؟‬

‫نعيش العصر الذى بشر به أورويل من المراقبة وتكريسها لخدمة التكنولوجيا الرقمية حاليا‪ ..‬وفى مجتمعات تشكو من قلة خصوبة سكانها‬
‫وانخفاض نسبة المواليد (كاليابان) حيث يجرى حاليا « أتمتة البشر وأنسنة اآلالت» من أجل هذا المشهد العبثى تكتب روايات المستقبل لتحذرنا من‬
‫مغبة إفساح المجال أمام الذكاء االصطناعى دون وجود « خط نهاية أو رجعة » كما يقول باومان كيف يتم االستغناء عن اإلنسان واالستعانة باآللة‬
‫(الروبوت) للقيام بما يقوم به البشر ؟ بعد أن كنا (نلمس) آالتنا وأجهزتنا االلكترونية – أصبحت الروبوتات تقوم بهذه المهمة بلمسة يد الكترونية‬
‫سيعلم الروبوت الكثير من أحوال المرضى والعديد من األفكار التى تشغلنا ويؤنس وحدة المسنين‪ ،‬سنترك اإلنسان ونؤثر عليه اآللة إنها تحذيرات‬
‫‪.‬ال تخرج عن مخاوف أورويل فى رواية ‪ .. 1984‬خطوط تماس هذه الرواية مع الواقع منذ تاريخ صدورها مذهلة إلى حد بعيد‬

‫وموظفات يقمن بإجراء المقابالت لتقييم السيرة الذاتية مع المتقدمين ‪..‬يوجد اآلن حيوانات روبوتية أليفة للمسنين وروبوتات تقوم بتأليف الموسيقى‬
‫وتتصدر اليابان قائمة الدول التى تستثمر فى هذه ‪ ..‬للوظائف بحلول عام ‪ 2025‬ستقوم الروبوتات بأداء ‪ %45‬من جميع مهام التصنيع‬
‫التكنولوجيا‪ ..‬لم يعش أورويل ليشاهد كيف تقتحم الشركات الكبرى خصوصيتنا وأن فى لندن وحدها وفقا آلخر إحصائية فى ‪ 2017‬ما يقرب من‬
‫كاميرا لكل ‪ 11‬بريطانيا وأن كل فرد فى هذه المدينة يتم تصويره بمعدل سبعين مرة يوميا ‪ ..‬وتشتهر هذه الكاميرات التى تنتهك الحياة الخاصة‬
‫‪.‬أيضا باألخ األكبر‬

‫فهل كل تقدم تكنولوجى يسعد البشر ؟ وهل هامش حرية االختيار يتقلص أمام اإلنسان المتمرد على القمع بالتكنولوجيا وعلى أنسنة اآلالت ‪..‬‬
‫ولنتذكر أن أورويل وصف غرفة التعذيب رقم ( ‪ ) 101‬بأن فيها أسوأ شيء فى العالم‪ .‬واستدرك قائال ‪ :‬أسوأ شيء فى العالم أمر نسبى يختلف من‬
‫‪.‬شخص آلخر‬

‫النبوءة ) كما تراءى ألورويل ‪ ..‬فحصلت على اهتمام غير مسبوق ( عام ‪ 1983‬أصبحت الرواية تحظى بقيمة خاصة عالميا القتراب موعد عام‬
‫من المراجعات النقدية ‪ ..‬قبل سقوط سور برلين وانهيار االتحاد السوفيتى بخمس سنوات تم تقديمها فى فيلم سينمائى عام ‪ 1984‬بطولة جون هارت‬
‫الفيلم األخير للممثل اإلنجليزى القدير ريتشارد بيرتون حيث قام بدور أوبراين مسئول الحزب الذى خدع ونستون « ويصفه األخير بقوله فى‬
‫الرواية‪ « :‬كان وجه أوبراين يعرف كل شيء أنه يعرف العالم أفضل مما أعرفه ألف مرة ويعرف فى أى درك يعيش أكثر البشر ‪ ..‬كان كائنا‬
‫‪.‬ضخما ‪ ..‬ولم تكن أى فكرة خطرت فى بال ونستون إال وعرفها أوبراين منذ زمن طويل ودرسها ‪ ..‬كان عقله مشتمال على عقل ونستون‬

‫الرواية ألهمت المخرج الكبير رايدلى سكوت بإخراج إعالن عن أجهزة كمبيوتر عام ‪ 1984‬مستوحى من الرواية كسر به الشكل النمطى‬
‫لإلعالنات حيث يفتتح المشهد على شاشة سينما يتحدث منها األخ األكبر إلى جمع من الشباب المتشابهين فى مظهرهم بطريقة آلية وفجأة تجرى‬
‫فتاة ومن ورائها جنود يريدون اإلمساك بها ثم تضرب الشاشة واألخ الكبر بمضرب البيسبول وسط ذهول الحاضرين‪ ،‬ويظهر شعار اإلعالن‪(:‬فى‬
‫يناير ‪ 1984‬ستعلمون لماذا ‪ 1984‬ال تشبه ‪1984‬؟) صنف اإلعالن ضمن أفضل اإلعالنات على اإلطالق ‪ ..‬وكان بمثابة دعوة ذكية لفكرة التمرد‬
‫‪.‬على القطيع‪ ،‬شأن فكرة الرواية‬

‫ويتوالى الحديث فى كتاب « جولدشتاين « وكيف أنه ال يمكن االحتفاظ بالسلطة إال عن طريق التوفيق بين المتناقضات ‪« ..‬فهمت األنظمة الشمولية‬
‫هكذا استرسل أوبراين – أنهم يجب عليهم تدمير كرامة ضحاياهم قبل محاكمتهم وتعذيبهم فيعترفون‪ ..‬ولكن نتيجة لذلك صار –بطريق الخطأ‬
‫األموات شهداء ونسى الناس ما ارتكبوا من خزى ألن االعترافات التى يدلون بها كانت منتزعة تحت التعذيب‪ ،‬نحن ال نرتكب مثل هذه‬
‫األخطاء‪،‬إننا نجعل االعترافات صحيحة وال نسمح للموتى بأن ينهضوا فى وجهنا من جديد عليك بالتوقف عن تخيل أن المستقبل سوف ينتقم لك يا‬
‫‪».‬ونستون‪ :‬نحن ال نصنع شهداء ‪ ..‬لن يبقى منك أى شيء ال اسم وال سجل وال ذكري‬

‫وتنت هى الرواية بعد تعذيب ونستون بمحبته لألخ األكبر وعبر أوبراين عن رؤيته للمستقبل وكيف أنها تتمثل فى حذاء يضغط على وجه إنسان إلى‬
‫األبد ويسأل ونستون‪( :‬كيف يحكم إنسان سلطته على إنسان آخر؟) أجابه ونستون‪ :‬بأن يجعله يقاسى األلم‪ ،‬يجعله يعاني‪ ,‬السلطة هى انزال األلم‬
‫باآلخرين‪ ،‬الرواية تمنح قارئها أفقا وصفه أورويل بأنه « يرعبه أكثر من القنابل الذرية» ‪ ..‬أفق االستسالم واإلذعان ألى سلطة مستبدة أيا كانت‬
‫هذه السلطة ولو كانت سلطة تكنولوجيا جامحة ‪ ..‬خشى أورويل من تفريط البشر طواعية فى حريتهم وحذر من خطورة القبول بتبديل وجه‬
‫الديكتاتورية وشكلها ال رفضها ‪ ..‬وتعمد فى الرواية أن يشير إلى قبول ونستون مبدأ القتل والسرقة والتزوير ونشر المخدرات وإلقاء مادة كاوية‬
‫على وجه طفل‪ ..‬وحين ادعى أنه أكثر إنسانية من أوبراين اسمعه صوته وهو يقر بهذه الشروط ‪ ..‬هى رواية هزلية تحمل نبرة تهكمية ومبالغة فى‬
‫خائفا مضطربا خضع لصناعة الخوف التى انتشرت عقب الحرب العالمية ‪..‬السخرية ‪ ..‬فالبطل الذى استسلم فى النهاية ‪ ..‬كان إنسانا مهزوما‬
‫كالطاعون‪ ..‬الرواية تدعو للخروج من القطيع وتفتح باب األمل ألننا لن نحمل كل مشكالت عصرنا دفعة واحدة وسيدركنا العمر ونحن لم نعانى من‬
‫ويالت المستقبل المحتملة‪ ،‬أدب الكبار ليس أدب اليأس بل األمل والرجاء واالكتشافات والتحذيرات (الناس يصعدون يوميا إلى التالل الستكشاف‬
‫األراضى البكر مفعمون باألمل فى الهدوء والراحة لكنهم ال يجدون دوما إال «سحر البدايات» هكذا هو حال اإلنسان منذ األزل‪ ،‬فاألمل متى رأيناه‬
‫ال يكون أمال ‪ ،‬فما يراه اإلنسان لماذا يأمله بعد) من رسالة بولس ألهل روما ‪..‬فال نهاية لقدرة اإلنسان على اإلبداع واالكتشاف وعلى تصويب‬
‫‪ .‬أخطائه أيضا‬

You might also like