You are on page 1of 218

‫الطبعة األولى‬

‫‪ 1437‬هـ ‪ 2016 -‬م‬

‫ردمك ‪978-614-02-1476-7‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫هاتف بيروت‪+9613223227 :‬‬

‫‪ 149‬شارع حسيبة بن بوعلي‬


‫الجزائر العاصمة ‪ -‬الجزائر‬
‫هاتف‪/‬فاكس‪+213 21676179 :‬‬
‫‪e-mail: editions.elikhtilef@gmail.com‬‬

‫يمنــع ن ـ سو ا ــأعمجز سم جــا مــا هــيا ال أــج ب يـة و ــي ة أيــويرية سو ال أرونيــة سو‬
‫مي جني ية بمج فيه الأ جيز الفوأوغرافي والأ ـجيز ل ـى سطـرطة سو سصـرار مقـرو أ سو سيـة‬
‫و ي ة نطر سخرى بمج فيهج حفظ المع ومجت‪ ،‬وا أرججلهج ما دوا إيا خطـي مـا النجطـر‬

‫إن اآلراء الواردة يف هذا الكتاب ال تعرب بالضرورة عن رأي‬


‫«لي ت القدا ة سا أ وا نـو ار وسنـت نـور‪ ،‬ولـيف الفخـجر سا‬
‫أ ــوا نــج ار وسنــت نــجر‪ ،‬وا ّنمــج القدا ــة والفخــجر سا أ ــوا نــو ار‬
‫ونـج ار وسنـت أـ ار وسا أ ـبق وأقــدف وسنـت صـجدر ل ـى الف ــجد‬
‫والعدواا »‬
‫(‪)1‬‬
‫لبّجف محمود العقجد‬

‫(‪ )1‬العقّاد عبّاس حممود‪ ،‬إبليس‪ ،‬حبث يف تاريخ اخلري والشّرّ ومتييز اإلنساا‬
‫بينهما من مطلع التّاريخ إىل اليوم‪ ،‬دار هنضة مصر للطّبع والنّشر‪ ،‬الفجالة‬
‫القاهرة‪ ،‬د ت‪ ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪5‬‬
‫‪-1-‬‬

‫‪ 02‬جوي ية ال ّ جلة ‪ 17:00‬م ج‬

‫‪-‬مع ر‪-‬‬

‫حتت أشعّة مشس جويلية احلارقة‪ ،‬شعر يوسف بالضّيّق داخا‬


‫سيّارته‪ ،‬نظر من خالل الزّجاج األماميّ إىل شرطة الطّريق وهي تنظّم‬
‫حركة السّري‪ .‬وصفهم باألغبياء مثّ نظر إىل ساعة معصامه وكانات‬
‫تشري إىل اخلامسة وعشر دقاقق‪ .‬فتح زرًّا من أزرار قميصه الفااتح مثّ‬
‫أغلق زجاج النوافذ وشغّ مكيّف اهلواء على ‪°18‬مئوية‪ .‬على لوحة‬
‫عدّادات السّيّارة ألصق متثا ًال صغريًا لدبٍّ يتحرّك رأسه تبعا حلركاة‬
‫السّيّارة‪ .‬كا تذكارا من طفلته الصّغرية‪.‬‬
‫شعر بصداع يف رأسه ففتح صندوق السّايّارة وتنااول حبّاة‬
‫أسربين‪ .‬مثّ سكب يف فمه جرعة ماء لتنزلق عرب حلقه‪ .‬المس جبهته‬
‫برؤوس أصابعه مثّ مرّرها على شعره جهة الايم ليحاافع علاى‬
‫تسرحيته‪.‬‬
‫بدا خلف مقود السّيّارة كشخصية حديديّة‪ .‬تنمّ مالحمه البارزة‬
‫عن شخصية جذابة‪ ،‬شعر أسود داكن وسوالف عريضة تنتهي عناد‬
‫شحميت األذ ‪ .‬نقر على زرّ املذياع‪ ،‬فانطلقت أمواج امليدي ‪ 1‬عارب‬
‫اهلواء ومسع املذيعة تقدّم نشرة األخبار اجلوّيّة‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫بعد انتظار دام مخس ثانية‪ ،‬ومض الضّوء األخضار أخاريًا‪.‬‬
‫انطلقت سيّارة الكونغو طراز ‪ 2015‬عرب الطّريق بسارعة تدرييّاة‪.‬‬
‫وبعد ختطّي عدّة مباين احنرف إىل طريق ثانويّ عن يساره‪ ،‬يؤدي إىل‬
‫اجلزء اجلنويبّ من املدينة مرورا مبحالّت املِيزَابِيَ والكنيسة القدمية مثّ‬
‫إىل ساحة «موقادور»‪ .‬ألقى نظرة خاطفة على املرآة اجلانبية فلماح‬
‫سيّارة رونو خلفه مباشرة‪ .‬كا ذهنه مركزا على شيء ما‪ .‬مل يتوقّف‬
‫عن التّفكري طوال الطّريق‪.‬‬
‫مرّت أكثر من مخس دقاقق منذ أ الحع تلك السّيّارة وراءه‪،‬‬
‫كا يلتفت إىل أي شيء يذب االنتباه‪ .‬يف األخري لع السّيّارة تتجه‬
‫إىل نفس املكا ‪ ،‬فاملدينة صغرية وقد يلتقي املرء بأناس خاالل ياوم‬
‫واحد أكثر من مرة‪.‬‬
‫كا ممّا لفت نظره إليها أهنا من طراز أصبح نادرا هذه األيّاام‪،‬‬
‫رونو ‪" ،R18‬من يرغب يف هذه اخلردة؟" خاطب نفسه‪.‬‬
‫على بعد شارع أبطأ من سرعته وركن السّيّارة على جاناب‬
‫الطّريق‪ .‬ترجّ منها وقصد كشكا صغريا لبيع التبغ واجلراقد‪ .‬بانات‬
‫قامته الفارهة وهو ميشي على الرصيف اإلمسنيت حبذاقه األسود الالّمع‪.‬‬
‫كانت خطواته ثابتة تضاهي مشية عسكريّ‪ ،‬وأضفت بذلته الرّمسيّاة‬
‫على هيئته جاذبية ال تقاوم‪ .‬اشترى علبة مالبورو واجلريدة اليومية‪ ،‬مثّ‬
‫عاد إىل السّيّارة وانطلق مرة أخرى‪ .‬تنهّد بارتياح عندما بدأ يادخن‬
‫أول لفافة تبغ‪ ،‬كانت تلك العلبة الثّانية هلذا اليوم‪.‬‬
‫شدّ قميصه داخ احلزام وأعاد ضبط هندامه بعناياة‪ ،‬كانات‬
‫املنطقة الثامنة خاملة يف ذلك الوقت‪ ،‬رَنَا ببصره إىل شرفة يف الطّابق‬
‫الثالث من إحدى العمارات‪ .‬دبّ النشاط يف جسمه وشعر باحليوياة‬
‫‪8‬‬
‫وهو يرتقي السُّلّم صعودا إىل الطّابق الثالث‪ .‬انعطف ميينا وهو حيم‬
‫يف يده علبة من الفراولة‪ ،‬اشتراها من حم ّ البقالة قب دقيقت ‪ .‬تقادّم‬
‫خبطوات ثابتة حنو هناية املمرّ‪.‬‬
‫ضغط بطرف أصبعه على اجلرس وانتظر‪ .‬وبعد قلي مسع وقاع‬
‫أقدام تقترب‪ ،‬فتح الباب عن امرأة مجيلة بدت من خاالل تعاابري‬
‫وجهها أهنا توقعت هذه الزّيارة‪ .‬تنحّت جانبا عن مدخ الباب وقد‬
‫سرت على شفتيها املمتلئت ابتسامة مرحّبة‪ .‬دلف إىل الدّاخ وأغلق‬
‫الباب من جديد‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪- 2-‬‬

‫‪ 04‬جوي ية ال ّ جلة ‪15:00‬‬

‫المنطقة الثجمنة ‪-‬مع ر‪-‬‬

‫ثالث سنوات مضت منذ أ رآها آلخر مرّة‪ .‬شاعر بااملرارة‬


‫واحلنق خينقانه‪ ،‬وهو يرس بصره إىل الشُّرفة يف الطّابق الرّابع‪ ،‬حيث‬
‫نُشر الغسي ‪ .‬مل يظفر إال مبشهد محّاالت الصّدر وجُبّات وبعاض‬
‫السّراوي القطنية‪ ،‬ولكن ما لفت انتباهه هناك‪ ،‬أنّه رأى قطعا صغرية‬
‫من القماش تتدلّى أيضا من احلب وبدت لطف يف الثالثة من عماره‪.‬‬
‫ه ميكن أ يكو ابين؟ ولكن الطّالق مت داخ السّجن‪ ،‬أي مناذ‬
‫سنت ونصف‪ .‬احلقرية تركتين وذهبت لتعيش مع رج آخر‪.‬‬
‫يستحي أ يكو ابنهما‪ ،‬فلو كا كذلك لكاا سانُّه اآل ال‬
‫يتجاوز السَّنة والنّصف‪ .‬تأجّجت نار الغضب بداخله ولكنّها مخادت‬
‫مبجرّد التّفكري يف ذلك الطّف الصّغري‪ ،‬داعب األم عقله وعاد يتساءل‪،‬‬
‫أترى ذكر هو أم أنثى؟‪ .‬مل يكن يدري ما الّذي جاء به إىل هذا املكا ‪،‬‬
‫فتلك امرأة مل تعد حِالًّ له وال هو حِ ٌّ هلا‪ .‬ولكنّه ال يستطيع أ يشاكم‬
‫فضولَه‪ ،‬وال أ مينع تفكريه‪ ،‬يف امرأة ذادت عنه عند الشدّة مثّ تعلّقات‬
‫برج آخر‪ .‬مل يستطع ختيُّ شكله أو التّكهُّن بشخصيّته وال حتّى معرفة‬
‫امسه‪ .‬ك ّ ما كا يعرفه أنّه أصبح بسببه رجال مُطَلِّقًا‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫غادر موقفه جمربًا خوفا من أ يتعرّف عليه أحد هنااك‪ ،‬كاتم‬
‫دموعه املستفيضة وأجّلها إىل وقت الحق‪ .‬ما عاد يستطيع مللمة حياته‬
‫من جديد‪ .‬جرّ خطواته املتثاقلة‪ ،‬ويف ظ ّ غياب وعيه باحلاضر واص‬
‫سريه من غري وجهة معيّنة‪ ،‬تقوست كتفاه إىل األمام وارختت ياداه‬
‫جبانبيه؛ مل يبق له شيء يهتمّ به يف هذه احلياة‪...‬‬
‫مضى إىل حمطّة احلافالت‪ ،‬وانضمّ إىل الربوليتاريا ‪-‬على حادّ‬
‫تعبريه ‪ -‬الّيت بدأت تتكتّ يف جمموعة واحدة‪ ،‬لركوب احلافلة‪ .‬صعد‬
‫على متنها‪ ،‬فألفاها مكتظّة بالرّكّاب تكاد تلفظهم لشدّة تكدّساهم‬
‫هبا‪ ،‬ثق اهلواء يف الدّاخ وامتزجت رواقح التّعرُّق براقحة السّامك‬
‫املتعفّن املنبعث من إحدى القفف‪ .‬كا التحرّك داخ الباص عسريًا؛‬
‫سُدّت مجيع الثّغرات بأجسام مترهّلة‪ .‬بذل جهدا غري يسري ليدسّ يده‬
‫يف قعر جيبه‪ ،‬وقام بدفع مثن تذكرته‪ ،‬وبعد عدّة نقاط توقّف‪ ،‬طلاب‬
‫النّزول يف «سيّدي سعيد»‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪-3-‬‬

‫عدّل ربطة عنقه‪ ،‬وألقى على هندامه نظرة متفحّصة مان خاالل‬
‫مرآة السّيّارة‪ .‬ردّد أغنية قدمية للشّاب خالد "وَعْالش تلوموين" مساح‬
‫جبهته يف حبور‪ ،‬مستمتعًا بذكريات السّاعة املاضية‪ ،‬دخ مقطّبا وخرج‬
‫مبتسما‪ ،‬يا للنّساء!! تغيّرت سُحنته بالكام وهو اآل يقود سيّارته عارب‬
‫الطّريق متّجها حنو بيته‪ .‬نقر على املقود بأصابعه وهو يردّد مع األغنية‬
‫"وعالش تلوموين‪ ...‬وعاالش تلوماوين قلبااي بغاهاا‪...‬‬
‫وكرهتوين"‪.‬‬
‫مرّ حبي «الفيالّت»‪ ،‬وختطّى مسجد «مصعب بن عمري»‪ ،‬وملّاا‬
‫انعطف على ميينه سطع ضوءٌ باهر‪ ،‬مأل عينياه فجاأة‪ ،‬مل يساتطع‬
‫التّعرُّف على السّيّارة من خالل املرآة‪ ،‬فقد وخز الضّوء عينيه بشدّة‪.‬‬
‫اضطرّ إىل التخفيف من سرعته مثّ توقف عند إشارة املرور‪ .‬رأى من‬
‫خالل املرآة اجلانبية أ تلك السّيّارة اختفت متاما‪.‬‬
‫كا اهلدوء يعمّ احليَّ اإلداريّ برمّته‪ ،‬وأوشكت السّاعة علاى‬
‫بلوغ احلادية عشرة والنّصف ليال‪ .‬نزع يوسف حزام األما قبا أ‬
‫يوقف السّيّارة‪ ،‬وهي من العادات السيئة الّيت اكتسبها مؤخّرًا‪ .‬نظار‬
‫إىل ساعة «التّيسو» يف معصمه مثّ عقف يده وفرك جبهتاه بأصاابع‬
‫متوتّرة‪ .‬أخذ يوطّن النّفس كك ّ ليلة للقاء زوجته‪ .‬توقّف احملرّك عن‬
‫اهلدير‪ ،‬ظهر جوربه األسود وهو يضع رجال خارج السّيّارة‪ .‬ألقاى‬
‫‪12‬‬
‫عقب السّجارة األخرية على األرض‪ ،‬فسحقها برجله وأغلق بااب‬
‫السّيّارة‪ .‬وما كاد يستدير حتّى رأى شبح شاخ يقاف أماماه‪.‬‬
‫سكنت رعشة قوية كام جسده‪ ،‬ووقف مباهورا‪ ،‬أماام املشاهد‬
‫املرعب‪ .‬كا الشبح يقف على بعد متر فقط‪ .‬وغمغم يوسف قاقال‪:‬‬
‫"مراد؟"‬
‫ندت عنه ابتسامة متوتّرة وهو حياول ضبط أعصابه عبثا‪.‬‬
‫"ماذا تفع هنا؟!"‪.‬‬
‫كا مراد يف السّابعة والثالث ‪ ،‬ميي إىل القصر مع حنافة اجلسم‬
‫وضالّته‪ ،‬أمسر البشرة مع حلية قصرية متفرّقة على ذقناه وجانبااي‬
‫فكّيه‪ ،‬يف خدّه األيسر شامة سوداء‪ ،‬قلّلت من شحوب وجهه‪ .‬دامت‬
‫حلظات صمت مرعبة‪ .‬ختلّلها وميض عماود اإلناارة الوحياد يف‬
‫الشّارع‪ .‬بدت عيناه يف الظّالم كحفرت يف وجهه‪ .‬تكلّام الرّجا‬
‫وقال بنربة حتم يف طياهتا كرها دفينا‪:‬‬
‫"ماذا أفع هنا؟ ربّما مل أسجن مدّة كافية؟"‪.‬‬
‫وقف يوسف مشدوها أمام هذا املوقف الغريب وقال ماداريا‬
‫ارتباكه‬
‫"ال مل أعنِ هذا يا مراد؟"‬
‫ازدرد ريقه بصعوبة مثّ أضاف‪:‬‬
‫"أعلم أنّك غاضب اآل ‪ ،‬ولكن هذا لن يغيّر من األمر شايئا‪.‬‬
‫انظر إىل املستقب "‬
‫"ثالث سنوات انتزعت من حيايت‪ ،‬مثّ تتكلّم بكا ّ حقاارة‪،‬‬
‫لتخربين أ أواص حيايت؟!"‬
‫صمت برهة وحدجه بنظرة كالسّهم وكأنّه يقول له‪:‬‬
‫‪13‬‬
‫"أعلم أنّك تراوغ"‪ ،‬وواص يقول‪" :‬تريد التّخلّ منّي جمادّدًا‬
‫كما فعلت سابقا‪ .‬هه؟! أو تريد مين أ أغضّ الطّرف عمّا جارى‬
‫ألواص حيايت بك ّ بساطة وكأ ّ شيئا مل حيدث؟!"‬
‫ضحك مراد بعصبيّة مفرطة‬
‫"أريدك أ تواص حياتك‪ ،‬ال أ هتدرها يف املشاك ‪ ،‬سنتكلّم‬
‫الحقا إذا شئت"‬
‫وهمّ باملغادرة ولكن مراد اعترض طريقه حبزم وبقاي ثابتاا يف‬
‫موقفه ال يرم‪.‬‬
‫"مراد أرجو أ ختلي سبيلي اآل ‪ ،‬الوقت متأخّر"‪.‬‬
‫تبدّلت نظرة مراد بعض الشّيء وبدا وكأنّه سيكشف عن شيء‬
‫ما‪.‬‬
‫"كالنا يعلم أنّي بريئ‪ .‬ستحاكمو قريبا عندما حي الوقت"‬
‫قطع كالمه أزيز سيّارة حادّ‪ .‬مزّق سكو احلايّ‪ ،‬رأى أثنااء‬
‫ذلك مراد وهو يبتعد خبطوات قصرية‪ ،‬أخذ ظلّه يتداخ ويتمازج مع‬
‫العتمة الّيت سلكها واختفى شبحه وسط الظّالم‪.‬‬
‫كانت تقترب منه بسرعة جنونية‪ .‬ر ّ هاتفه يف تلك األثنااء‪،‬‬
‫دسّ يده يف قعر جيبه ليجيب‪ .‬وفجأة امتأل املكا بنور ساطع‪ ،‬مثّ مسع‬
‫صوت اإلطارات وهي حتتكّ بعنف على األرض‪ .‬تسارعت نبضاات‬
‫قلبه مع تسارع األحداث‪ ،‬تيبّست قدماه وكأنّهماا عماودا مان‬
‫اخلرسانة املسلّحة‪ ،‬فغر فاه ومل يكد يصدّق ما تراه عيناه‪ .‬برزت من‬
‫نافذة السّيّارة ذراع طويلة امتدّت حنوه‪ ،‬ورأى فوهة املسدّس تصوب‬
‫باجتاهه‪ .‬تبدّى له يف تلك الثواين القليلة شريطُ حياته بالكام ‪ ،‬ومارّ‬
‫أمامه كومضة شعاع خاطف‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫انقشع الضّباب من عينيه وتراءى له املشهد كامال جمسّما‪ ،‬كا‬
‫بطال لنهايته التراجيدية‪ .‬انطلقت رصاصتا من املسادّس‪ .‬حااول‬
‫االبتعاد قب ااألوا ولكن والت ح مناص‪ .‬اخترقت الرّصاصاتا‬
‫صدره اختراقا‪ ،‬وسقط على األرض قابضا علاى صادره املضارّج‬
‫بالدّماء‪.‬‬
‫استمرّ رن اهلاتف من مكا ماا علاى األرض‪ ،‬وانطلقات‬
‫السّيّارة مسرعة عرب الطّريق‪ ،‬مثّ اختفت يف ملح البصر‪ .‬ظهرت بقعتا‬
‫من الدّم على قميصه‪ ،‬وسرعا ما ازداد حجمهما‪ ،‬التقتا باخلاصّاية‬
‫الشّعريّة‪ ،‬لتشكّال بقعة واحدة كبرية‪ .‬ارتعش كام جساده وكاا‬
‫صدره يعلو وينخفض بصعوبة‪ ،‬يف تلك الثواين بدأ يفقد اإلحسااس‬
‫بأطرافه شيئا فشيئا‪ ،‬وبعد حلظات انطفأت حرارة جسده املسجّى ومل‬
‫يبقَ إال أثرها‪ ،‬كفر يصدر لفحات بعد إمخاد ناره املتوقدة‪ .‬جتمّاع‬
‫الدّم حوله وشكّ بركة صغرية محراء ما زالت مزبادة‪ .‬انتفضات‬
‫روحه فلفع آخر أنفاسه يف تلك اللّحظة وودّع احلياة‪.‬‬
‫استم ّر الهاتف في الرّنين‪...‬‬

‫‪15‬‬
‫‪- 4-‬‬

‫كا يقف على شاطئ البحر متأمّال زرقته الدّاكناة والسّاماء‬


‫الصّافية تتخلّلها بعض السّحب الرّقيقة‪ .‬غمرته أشعّة الشّمس الدّافئاة‬
‫بإحساس مريح‪ ،‬ومأل صوت البحر أذنيه برن عجيب‪ .‬رأى خاطّ‬
‫األفق وهو يربط ب السّماء والبحر يف ذلك املشهد اهلادئ‪ .‬بساط‬
‫يديه يف اهلواء وأغمض عينيه‪.‬‬
‫أحسّ باالطمئنا واهلدوء‪ ،‬مثّ باحلياة وهي تسري يف جساده‪.‬‬
‫فتح عينيه مرّة أخرى‪ ،‬وتبدّل املشهد فجأة؛ أظلمت السّماء وأصابح‬
‫لو البحر حالكا‪ .‬نك على عقبيه مرتعبا إلحساسه بااخلطر‪ .‬زاد‬
‫البحر من هوله‪ ،‬فربزت من األعماق موجة هاقلة‪ ،‬غطّات السّاماء‬
‫واألفق وحجبت ضوء الشّمس عن األرض‪ ،‬وارتفعت حتّى كاادت‬
‫تالمس السّماء‪.‬‬
‫غاصت قدماه يف الرّمال وعجز عن احلركة فجأة‪ .‬أخذ يصرخ‬
‫بشدّة وعيناه تطلقا الدّموع من دو أ يادري‪ .‬مالات املوجاة‬
‫كالطود العظيم‪ ،‬وشكّلت ذنَبا شاقال وكأنّها شيطا مارد‪ ،‬يوشاك‬
‫أ ينقضّ عليه‪ ،‬وما زال يصرخ ويصرخ حتّى غمرته املياه‪ ،‬وحتوّلت‬
‫صرخاته إىل فقاعات‪ .‬حاول الصعود إىل السّطح عبثا‪ ،‬منازعا الغرق‬
‫واملوت معا‪ ،‬ختبّط يف العمق حتّى أصبح عاجزا واستسالم للماوت‬
‫أخريًا‪ ،‬كانت سكرات املوت عنيفة ومؤملة‪ ،‬ويف تلك اللّحظة العسرية‬
‫‪16‬‬
‫شعر بيد ضخمة متتد حنوه وتنقذه من املوت احملتمّ‪ .‬بدأ يطفاو حناو‬
‫السّطح‪ ،‬والنّور يزداد وضوحا واألم يكرب شيئا فشيئا‪ ...‬اساتيقع‬
‫الهثا‪ ،‬مبهور األنفاس‪ ،‬مرتعش اجلسد رغم حرارة اجلوّ داخ الغرفة‬
‫وهدوء املكا ‪.‬‬
‫كا يتعرّق بشدّة‪ ،‬واهلاتف ير ّ‪ .‬قوّم نفسه على السّرير واستردّ‬
‫شيئا من سكينته‪ ،‬ألقى نظرة متفحّصة على الغرفة وكانت السّااعة‬
‫الرّقمية فوق املنضدة تشري إىل الواحدة صباحا‪ ،‬كا احللم مزعجاا‪،‬‬
‫لقد تفنّن عقله الباطينُّ يف ترويعه‪ .‬مسح وجهه املبلا وارارط يف‬
‫االستغفار والتّعوّذ من الشيطا ‪ .‬كا اهلاتف ال يزال ير ّ‪ .‬متطّاى يف‬
‫فراشه بكس مثّ مدّ يده فوق املنضدة وتناول اهلاتف‪.‬‬
‫كا املتكلّم يف مكا يعجّ بالفوضى‪ .‬نظّف أمحاد حنجرتاه‬
‫وقال‪:‬‬
‫"ألو‪ .‬من معي؟" كا صوته خشنا نوعا ما‪.‬‬
‫"ماذا حدث‪ ..‬مىت‪ ،‬اليوم؟"‬
‫"نعم‪ ...‬أين؟‪ ...‬نعم‪ ..‬آه‪ ..‬حسنا سأوافيك هناك"‬

‫أقف اخلط وعاد الصّمت ليطبق على الغرفة من جديد‪ ،‬وومض‬


‫يف ذهنه فجأة ذلك احللم املزعج‪ .‬عاصفة مرعبة كادت تبتلعه لاوال‬
‫تلك اليد العجيبة‪ .‬مل يكن يعوّل كثريا على تفسري األحالم ولكن هذا‬
‫احللم بقي أثره راسخًا يف ذهنه‪.‬‬
‫هنض من مكانه بعد االنتهاء من املكاملة‪ ،‬ومضى حنو احلمّاام‪.‬‬
‫انكفأ على احلوض يغس وجهه‪ ،‬مضمض فمه باملاء ليتخلّ مان‬
‫محوضته‪ ،‬وألقى على املرآة نظرة متفحّصة‪ ،‬رأى وجهاا لرجا يف‬
‫‪17‬‬
‫اخلامسة والثالث ‪ ،‬ذا بشرة مسراء وعين بنّيّت تنمّا عان الاذكاء‬
‫واجلرأة‪ ،‬فوقهما حاجبا دقيقا وجبهة عريضاة‪ .‬جفّاف وجهاه‬
‫باملنشفة‪ ،‬مثّ رجع إىل غرفته مسرعًا‪ .‬ارتدى مالبسه وسارّح شاعره‬
‫األسود القصري برؤوس أصابعه‪ .‬وملّا همّ باخلروج تذكّر شيئا‪ .‬عاد إىل‬
‫غرفة النّوم وحبث يف درج اخلزانة‪ .‬وأخريًا وجد املسدّس هناك فالتقطه‬
‫مثّ خرج مسرعا‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪-5-‬‬

‫طوقت الشّرطة املكا باألشرطة‪ .‬وانعكس وميض العالقاات‬


‫الضوقية‪ ،‬وشعاع اللمبات احلمراء‪ ،‬على مسرح اجلرمية‪ .‬كا هنااك‬
‫العشرات من أزواج األع ‪ ،‬احملدّقة إىل املكا الّذي يلقى فيه الارداء‬
‫األبيض على جثّة رج ميت‪ .‬سيطر الرّعب على قلوهبم‪ .‬يف حا‬
‫عملت الشّرطة على إبعادهم وتشتيتهم‪ ،‬تناوش الشّرطيّ على احلاجز‬
‫مع أحد املواطن وفضّ النزاع بعد تدخ شرطيّ آخار‪ .‬يف تلاك‬
‫اللّحظات‪ ،‬كانت الشّرطة تنتشر على كام تراب املدينة‪ ،‬وعملات‬
‫على غلق مجيع املنافذ والطرق‪ ،‬إلقاماة حاواجز أمنيّاة لتفتايش‬
‫السّيّارات‪.‬‬
‫بدا املكا كورشة عم بعد وصول الشّرطة العلميّاة‪ ،‬الّايت‬
‫شرعت بتفتيش ومعاينة مسرح اجلرمية‪ .‬وضعت عالمات على بعض‬
‫األماكن‪ ،‬وقام شرطيّ آخر بتصوير اجلثّة وما حييط هباا‪ .‬ويف تلاك‬
‫األثناء اقترب علي بن ذهيبة من املصوّر‪ ،‬مثّ أمره بالتقاط صور آلثاار‬
‫العجالت املطّاطية على الطّريق‪ .‬كا عليّ صارمًا ونشايطا‪ ،‬كماا‬
‫يفترض مبفتّش الشّرطة أ يكو ‪ ،‬غري أ ّ شفته العليا كانت منتفخاة‬
‫أكثر من الالّزم‪ ،‬وظ يفرك عينيه لعدّة مرات‪ ،‬كاا يتمياز عان‬
‫اآلخرين حبدّة نظرته‪ ،‬وبرودة عينيه‪ ،‬كما استطاع أ يكسب لنفسه‬
‫هيبة ال يستها هبا‪ ،‬عن طريق الزجر والقسوة يف بعض األحيا ‪ .‬غري‬
‫‪19‬‬
‫أنّه كا رجال طموحا‪ ،‬توّاقا العتالء املناصب‪ ،‬ولو علاى ظهاور‬
‫اآلخرين‪ ،‬ال يتواىن يف اقتناص الفرص لصاحله‪ ،‬واستطاع بفض لباقته‬
‫متلق رؤساءه والوصولَ إىل ما وص إليه اليوم‪.‬‬
‫اختلس نظرة إىل جمموعة من النّاس‪ ،‬كانت تقف عان كثاب‬
‫ملشاهد ة ما حيدث‪ ،‬فوقع بصره على رج ‪ ،‬كا يتبادل احلديث مع‬
‫شخص آخرين‪ .‬حاول شرطيّ ردع امرأة‪ ،‬أرادت أ تقترب مان‬
‫اجلثّة‪ .‬عرف من خالل صراخها أهنا زوجة امليّت‪ .‬سقط اخلمار على‬
‫كتفيها فربز شعرها األشقر وهي حتاول االرمتاء على زوجها‪ .‬يف ح‬
‫انضمّت إليها شرطيّة لتهدّئ من روعها‪ ،‬ولكنّها واصلت النّحياب‪،‬‬
‫فسقطت مغشيًّا عليها‪ ،‬ونقلت على إثرها إىل املستشفى‪.‬‬
‫"وكي اجلمهوريّة وص ‪ .‬سيّدي "تكلّم الشّرطيّ األقرب إليه‪.‬‬
‫وملح بن ذهيبة قديرو معمّري‪ ،‬ينزل من سيّارة سوداء‪ ،‬من طراز بولو‬
‫‪ .2011‬كانت بشرته كلو طالء السّيّارة‪ ،‬ذو شعر جمعّاد وجبهاة‬
‫بارزة وذقن حليق بعناية زاقدة‪ .‬وقف الرّج أمام املفاتّش‪ ،‬وكاا‬
‫يفوقه يف الطول بعض الشّيء‪ ،‬إال أ كليهما كا ميي إىل القصار‪.‬‬
‫وأخذ حيدّق من وراء كتفيه إىل احلشد‪ ،‬مثّ ما لبث أ استقرّت نظرته‬
‫اجلامدة على بن ذهيبة‪.‬‬
‫"سيّدي‪ ،‬مرحبا"‬
‫تكلّم عليّ مبذلة وهو يرفع يده صوب صدغه إللقاء التّحيّة‪.‬‬
‫مل يردّ قديرو على التّحيّة‪ ،‬وسأله دو مقدّمات‪.‬‬
‫"من الضّحيّة؟"‬
‫"يوسف قدادرة مدير مؤسّسة البنااء‪ .‬أصايب بطلقات يف‬
‫صدره‪".‬‬
‫‪20‬‬
‫تذبذبت عيناه يف املكا ‪ ،‬متفرّسا يف الوجوه‪ ،‬مثّ استقرّتا على بن‬
‫ذهيبة أخريًا‪.‬‬
‫"ه ك ّ اجملموعة حاضرة هنا؟"‬
‫"نعم سيّدي الشّرطة العلميّة تقوم بواجبها‪ ،‬وسنسهر أيضا على‬
‫حفع األدلّة كما هي"‪ .‬نظر مرة أخرى وراء كتفي املفتّش‪ ،‬مثّ التفت‬
‫حنو اجلثّة ودو أ يرفع نظره عنها قال بنربة قاسية تدلّ على عادم‬
‫التوافق بينهما‪.‬‬
‫"ما تقييمك للوضع؟" بدا السّؤال مربكا‪ ،‬ولو أنّه أتاى مان‬
‫شخ آخر لكا اجلواب هيّنا‪.‬‬
‫"تلقّينا مكاملة من أحد األشخاص‪ ،‬خيربنا فيها أنه مساع دويًّاا‬
‫مرعبا‪ ،‬وكا ذلك حوايل احلادية عشر والنّصف‪ ،‬وعندما وصالت‬
‫عناصرنا إىل املكا وجد الرّج مقتوال‪ ،‬ولكن الطّبياب الشّارعيّ‬
‫سيضبط لنا توقيت الوفاة‪".‬‬
‫حكّ قديرو معمّري ذقنه احلليق وتكلّم بنفاد صرب‪:‬‬
‫"ه لديكم مشتبه هبم؟" أحسّ بن ذهيبة بالتّنافر بينهما‪ .‬فكّار‬
‫هبدوء مثّ أجاب بتؤدة‪:‬‬
‫"ليس بعد‪ ،‬حنن جنمع األدلّة‪ ،‬وبثثنا العيو ب النّاس" صامت‬
‫كالمها فترة قصرية مثّ عاد يقول على سبي املداهنة‪:‬‬
‫"سنعم جبهد أكرب‪ ،‬للحصول على النتاقج املرجوّة يف ظارف‬
‫أربع وعشرين ساعة‪ .‬ستنق اجلثّة إىل املشرحة بعد دقاقق‪ ،‬وسنحص‬
‫غدا على تقرير الطّبيب الشّرعيّ"‬
‫وليوضح أكثر قاده مبحاذاة أثار العجالت‪ ،‬مبينا املسار الّاذي‬
‫سلكته سيّارة القات ‪ ،‬والزّاوية الّيت سدّد منها الرّصاص‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫"غدا صباحا‪ ،‬أريد تقريرًا مفصَّال عمّا وصلتم إليه من نتااقج‪،‬‬
‫ومن اآل فصاعدًا وافِين بك ّ صغرية وكبرية‪ ،‬أريد للقضايّةأ حتا ّ‬
‫بأسرع ما ميكن"‬
‫ارتبك عليّ وُنضِح وجهه بالدّم‪ .‬لقد انتبه معمّري إىل شااربه‬
‫املنتفخ‪ ،‬وكا أكثر ما خييفه‪ ،‬أ ينهره أمام أفراد الشّرطة الّذين هام‬
‫حتت إمرته‪ .‬تراجع خطوات غري متزنة إىل اخللف‪ ،‬واجتنب النّظر إليه‬
‫مباشرة‪.‬‬
‫همّ معمّري مبغادرة املكا ‪ ،‬ولكنّه توقّف فجأة‪ ،‬حانات مناه‬
‫التفاتة إىل الوراء‪ .‬فرأى املفتّش ينتزع من فمه شيئا ويقذف به علاى‬
‫األرض‪ .‬تسمّر يف مكانه واقفًا‪ ،‬وبدأ طرف عينه اليسرى يرتعش‪.‬‬
‫"أيها املفتّش‪ ".‬دوّى صوته كالرّعد‪ ،‬التفت بن ذهيباة حناوه‬
‫وابيض لونه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مصعوقا‪ ،‬ففر الدّم من وجهه‬
‫"كيف تتجرّأ على رمي قاذوراتك هنا؟"‬
‫دقّ قلبه بعنف‪ ،‬ارتعدت ركبتاه وتفصّد العارق مان جبيناه‬
‫املنكمش عن خطوط متعرّجة‪ .‬فتح بن ذهيبة فمه ليتكلّم‪.‬‬
‫"آسف‪ ...‬يا سيّدي‪"...‬‬
‫"ما هذا؟! ه أنت يف إصطب ؟! قا يل أرجاوك! كياف‬
‫أصبحت مفتّشا هبذه الطّريقة؟!"‬
‫هزّ معمّري رأسه آسفا «محار‪ ...‬محار يف إصاطب !» مهاس‬
‫لنفسه مثّ غادر املكا ‪.‬‬
‫سكن روع بن ذهيبة بعد انصراف «معمّري»‪ ،‬وكاد ينسى ما‬
‫حدث بالرّغم من قوّة أعصابه‪ ،‬ولطبعه الالّمبايل‪ ،‬ولكنّه باات اآل‬
‫يواجه أمرا بالغ اخلطورة‪ ،‬وهو رأي عناصر الشّرطة فيه‪ ،‬وخاصّة بعد‬
‫‪22‬‬
‫متوقعًا‪ .‬فقد جتاه‬
‫انتكاسته هذه‪ .‬لعنهم يف سرّه‪ ،‬وبالطّبع كا األمر َّ‬
‫اآلخرو ما حدث‪ ،‬وكأنّهم مل يكونوا هناك‪ .‬فوّحت راقحة التباغ‬
‫لدى إشعاله لفافة‪ ،‬ضغط عليها ب شفتيه الغليظت ‪ ،‬وأطلق ساحابة‬
‫من الدّخا ‪ .‬بدا مظهره حتت األضواء الزرقاء واحلمراء‪ ،‬كعفريت يف‬
‫زي بوليسي‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪- 6-‬‬

‫كانت السّاعة تشري إىل الثالثة ومخس وعشرين دقيقاة‪ ،‬حا‬


‫جلس عليّ وراء مكتبه‪ .‬ينقر على سطح املكتب بأصاابع متاوتّرة‪،‬‬
‫وينظر إىل الباب املغلق دو أ يرى شيئا‪ .‬ر ّ اهلاتف يف تلك اللّحظة‬
‫ممزّقا هدوء الغرفة الثّقي ‪ .‬استردّ إحساسه باحلاضر والتقط السّمّاعة‪.‬‬
‫"امسح له بالدخول" أجاب بن ذهيبة‪ .‬وبعد مرور أق ّ من دقيقة‬
‫نقر شخ على الباب‪.‬‬
‫"تفضّ ‪"...‬‬
‫فتح الباب عن رج طوي القامة‪ ،‬قويّ العظام‪ .‬يرتدي سروالَ‬
‫«كاكي» أبيضَ‪ ،‬وقميصًا أزرقَ باهتًا‪ ،‬برز مان خاللاه سااعداه‬
‫املفتوال وصدره العريض‪ .‬تقدّم حنوه خبطوات ثقيلة‪ ،‬وألقى بنفساه‬
‫على كرسيّ أمام املكتب‬
‫"ما رأيك أمحد؟"‬
‫"يف احلقيقة يبدو األمر معقّدا بعض الشّيء‪ ،‬وغري منطقيّ أيضا"‬
‫"يبدو أنّك تعلم شيئا أجهله؟"‬
‫نظر إليه مباشرة يترقّب اجلواب يف هلفة‪.‬‬
‫"حسنا‪ ،‬علمت من خالل حمادثيت مع بعاض األشاخاص‪ ،‬أ ّ‬
‫الضّحيّة شوهد مع رج قب وفاته بلحظات قصرية‪ ،‬وكاا ذلاك‬
‫حوايل السّاعة احلادية عشر والنّصف‪ .‬وحسب شاهد آخر قال أنّاه‬
‫‪24‬‬
‫رأى الرّج تزامنا مع إطالق النار‪ .‬ولكين أشك يف صحة أقواله‪ .‬أل‬
‫إطالق النار كما قال شاهد آخر‪ ،‬تزامن مع مرور سيّارة سوداء مان‬
‫طراز رونو ‪ R14‬سنة ‪ ،1985‬والّيت رآها فيما بعد تنطلق كالسّاهم‪.‬‬
‫لكن مل يتعرّف أحد من هؤالء على هوية القات الفعليّ‪ ،‬وك ّ هاذه‬
‫األقوال تبقى جمرّد افتراضات"‬
‫"إذ لدينا أكثر من مشتبه به يف هذه القضيّة؟"‬
‫شابك عليّ ب أصابعه مفكّرا‪:...‬‬
‫"أوّال وقب ك ّ شيء‪ .‬يب معرفة هويّة ذلك الشّخ ‪ ،‬وماذا‬
‫كا يفع مع الضّحيّة‪ ،‬وإذا أردت رأيي صراحة‪ ،‬أظنّه متورّطاا يف‬
‫األمر‪".‬‬
‫مل يتحرّك أمحد طيلة فترة جلوسه‪ ،‬وظ ّ صامتًا فحثّه عليّ على‬
‫التكلّم‪.‬‬
‫"ما رأيك أنت؟"‬
‫"ال أظنّه غبيًّا إىل هذه الدّرجة‪ ،‬ليضع نفسه يف موقاف حارج‬
‫كهذا‪ ،‬أرى أالَّ نستبق األحداث"‬
‫"آه‪ .‬تذكّرت أمرا آخر‪ .‬وجدنا مع األدلّة هاتفا حمموال‪ ،‬ساقط‬
‫من يد الضّحيّة عند وقوعه على األرض‪ .‬تفحّصنا املكاملات ووجدنا‬
‫أنّه تلقى يف الدّقاقق األخرية اتّصاالت متتالية"‬
‫"وه عرفتم صاحب الرّقم؟"‬
‫"املتص فضّ حجْب رقمه‪ ،‬ولكننا سنكشف مصادره غادا‬
‫حبول اهلل"‬
‫ألقى عليّ ظهره على مسند الكرس ّي ووضع يديه فاوق بطناه‬
‫وقد جتلى القلق يف مالحمه‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫"سيذاع اخلرب غدا يف مجيع القنوات التلفزيونية‪ ،‬وستصوّب حنونا‬
‫األنظار‪ ،‬السلطات احمللية لن تقف مكتوفة األيدي أمحد‪ .‬األمر يعنيها‬
‫من الدّرجة األوىل لذلك علينا تقدم حلول سريعة مهما كلّف األمر"‬
‫حتسّس بن ذهيبة جيبه مثّ أخرج لفافة تبغ‪ ،‬رمى العلباة فاوق‬
‫سطح املكتب‪ .‬أشع السّجارة وأخذ نفَسا عميقا‪ .‬نفث الادّخا يف‬
‫الغرفة متتبعا أثره يف اهلواء بعينيه الضّيّقت ‪ ،‬التفت حنو أمحد الّذي بدأ‬
‫يتكلّم فأنصت باهتمام‪.‬‬
‫"من احملتم جدًّا أ يكو له أعداء‪ ،‬ومبدقيًّا سننطلق من هاذه‬
‫الفكرة‪ .‬سأستجوب زوجته هذا الصّباح‪ ،‬عسى أ تتّضح األماور‪.‬‬
‫واكتشاف السّيّارة اجملهولة سيساعدنا على تعقّب القات ‪ ،‬ولكان ال‬
‫تعوّل على احل ّ الثّاين كثريا‪ ،‬ألنّه سيستغرق أسابيع أو أشاهرا قبا‬
‫اكتشافها‪".‬‬
‫غادر أمحد مكتب املدير‪ .‬يف اخلارج ويف الثلث األخري من اللّي‬
‫أطلق صدره للهواء املنعش‪ ،‬أصغى ألوّل نداء يف هذا اليوم‪ .‬كا نداء‬
‫املؤذّ ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪-7-‬‬

‫كانت الشّمس ال تزال منخفضة‪ ،‬والسّماء صافية‪ ،‬يوم طويا‬


‫حلصُر قاد فرشات علاى‬ ‫آخر من شهر جويلية احلارق‪ ،‬وكانت ا ُ‬
‫اإلسفلت داخ القيطو ليجلس عليها «الطُّلبة» لاتالوة آي مان‬
‫القرآ الكرم‪.‬‬
‫علّقت املصابيح فصُفّت يف خيط كهرباقيّ شدّ بعضها داخا‬
‫ال‪.‬‬
‫القيطو من األعلى‪ ،‬وأكثرُها هُيّئ إلنارة الشّارع لي ً‬
‫كا أمحد ميقت جوّ اجلناقز‪ ،‬املليء بالرّياء والنّفااق‪ ،‬جماالس‬
‫تستباح فيها النّميمة وتطلق فيها النّكت‪ ،‬مل يستغرب قلّاة حضاور‬
‫النّاس‪ ،‬أل اليوم مخيس والوقت ال يزال ضحى‪ .‬حبث عن أقاارب‬
‫املتوفَّى‪ ،‬واهتدى يف األخري عن طريق شخ كا هناك إىل رجا ‪،‬‬
‫كا حماطا بنفر من النّاس ملواساته‪ ،‬قال أنّه أخ األرملة‪ .‬مضى حناوه‬
‫بتوتّر‪ ،‬ومل يعرف ماذا يفترض به أ يفع ‪ ،‬ه يقدم علاى تعزيتاه‬
‫أوّال‪ ،‬أم على تقدم نفسه؟ تقدّم ببطء‪ ،‬لفّ يده حول الرّج ‪ ،‬وانغرز‬
‫عظم كتفه اليمىن‪ ،‬داخ صدر أمحد العريض‪ .‬اختفى الرّج متاما‪ .‬مثّ‬
‫ظهر مرة أخرى ح ابتعد أمحد عنه‪.‬‬
‫"عظّم اهلل أجرك"‪.‬‬
‫"أجرنا وأجركم‪ ،‬إ شاء اهلل" الحع أمحد من خاالل عينياه‬
‫الزرقاوين‪ ،‬تعبا‪ ،‬حزنا وتفكريا‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫"أودّ التّحدّث معك دقيقة‪ ،‬لو مسحت"‬
‫تنحّى الرّجال جانبا‪ ،‬فرأى أمحد حركة الرّجا املضاطربة‬
‫ونظرته املترقّبة الّيت رمقه هبا‪ .‬أخرج بطاقة الشّرطة ووجّهها إليه‪.‬‬
‫"أنا مكلّف بالتّحقيق يف قضيّة مقت يوسف‪ ،‬رمحه اهلل"‬
‫صمت قليال لريى تأثري كالمه على تعابري وجهه‪ ،‬كا الرّجا‬
‫هادقا‪ .‬فاستطرد قاقال‪:‬‬
‫"أريد طرح بعض األسئلة فيما يتعلّق بالقضيّة"‬
‫هزّ الرّج رأسه وواص أمحد‪:‬‬
‫"علمت أ ّ له زوجة وطفلة صغرية‪ ،‬أليس كذلك؟"‬
‫هزّ الرّج رأسه موافقًا‪.‬‬
‫"اهلل معهما‪ ،‬الّذي خلق لن يضيّع‪ ،‬يا أخي‪ .‬ما امسك؟" تفارّس‬
‫يف مالمح الرّج وكا التّعب باديا عليه‪.‬‬
‫"خلي ‪ ..‬خلي الشّيباين"‬
‫"خلي ‪ ،‬يب أ أكلّم زوجته‪ ،‬أريد طرح بعض األسئلة فيماا‬
‫يتعلّق بوفاة زوجها"‪.‬‬
‫رأى أمحد تردّدا قصريًا‪ ،‬طرأ على مالحمه‪:‬‬
‫"إنّها يف حالة يرثى هلا‪ ،‬أنت تعرف‪ ...‬حسنا‪ .‬أمهلين دقيقة"‬
‫اختفى خلي ‪ ،‬مثّ عاد بعد دقيقة‪ ،‬فسأله أمحد ومها يف طريقهماا‬
‫حنو البيت‪:‬‬
‫"مىت موعد الدّفن؟"‬
‫"غدا بعد صالة اجلمعة"‬
‫كانت جتلس على أريكة تتوسّط اجلدار املقاب ملدخ الباب‪ ،‬يف‬
‫منظر كئيب‪ ،‬تنتظر قدومهما‪ ،‬وقفت طفلة صغرية ب يديها‪ ،‬تلافّ‬
‫‪28‬‬
‫ذراعها حول دميتها‪ ،‬وحاملا رأت القادم ‪ ،‬وخزت أمّها وأشاارت‬
‫حنومها‪.‬‬
‫"ماما‪ ..‬ماما‪ .‬رجال دخلوا"‬
‫كانت الدّمية تتدلّى من يدها الصّغرية‪ ،‬يف ح الحاع أمحاد أ‬
‫إحدى عينيها مفقودة‪ .‬انتبهت املرأة للوافدين‪ ،‬فأطرقت حياءا‪ .‬كانات‬
‫تتلفّع مبالءة سوداء‪ ،‬أضفت على بياض بشرهتا نقاءا‪ .‬تدلّت خصاالت‬
‫من شعرها األشقر حنو جبهتها‪ .‬سوّت اخلمار حبركة رشيقة‪ ،‬وسترت ما‬
‫برز منه‪ .‬كا أنفها الصّغري حممرًّا‪ ،‬ووجهها شديد االصفرار‪ ،‬انتفخات‬
‫املنطقة احمليطة مبحجريها‪ ،‬وبرزت خطوط محاراء يف بيااض عينيهاا‪.‬‬
‫طأطأت رأسها حياءا وأخذت مترّر منديال ورقيًّا على أنفها‪ .‬استمدّ أمحد‬
‫من وجهها نظرة خاطفة‪ ،‬فظهرت له عينا زرقاوا كلو البحر‪ .‬تيقّن‬
‫أمحد أ الرّج اجلالس جبانبه طبق األص هلذه املرأة‪.‬‬
‫"سيّديت‪ ،‬عظّم اهلل أجركم وأحسن ثوابكم‪ ،‬إنّا هلل وإنّاا إلياه‬
‫راجعو "‬
‫ازدادت احنناءة ظهرها تقوُّسا عند مسااع الكلماة األخارية‪،‬‬
‫تشاغلت بالنّظر إىل أصابع يديها املتوتّرة‪.‬‬
‫"آم ‪ ..‬آم يا رب‪ "...‬اختنق صوهتا وهي حتاول التكلّم‪.‬‬
‫بدت الطّفلة الصّغرية حاقرة فأحسّات بالضّايّق‪ ،‬واختلجات‬
‫شفتاها‪ .‬شدّت طرف مالءة أمّها‪ ،‬واساتنجدت بصاوت مرتفاع‬
‫"ماما‪ ..‬ماما‪ ..‬مالْكِي‪ ...‬ماما" سقطت الدّمية على األرض ووضعت‬
‫يدا على وجهها مثّ اررطت يف بكاء صارخ‪.‬‬
‫أومأت إىل شقيقها ليأخذها خارج الغرفة‪ .‬فقاومات الطّفلاة‬
‫خاهلا بعناد‪ ،‬وتشبّثت برداء أمّها‪ ،‬فسحبت الرّداء معها وكُشف أسف ُ‬
‫‪29‬‬
‫ساق أمّها‪ .‬سترت نفسها بسرعة‪ .‬استردّت رباطة جأشها‪ ،‬عنادما‬
‫غابت الطّفلة عن ناظريها‪.‬‬
‫"ه لديك فكرة عن املكا الّذي كا متواجادًا فياه قبا‬
‫مقتله؟"‬
‫"ال‪ .‬ال أعلم" صمتت قليال مثّ أضاافت متاأثّرة "مل يسامع‬
‫كالمي ح طلبت منه الرّجوع باكرا" بدا وكأنّها مل تسمع ساؤاله‬
‫جيّدا‪.‬‬
‫"ال بأس سيّديت‪ ،‬إنه املكتوب وال مناص من قدر اهلل"‬
‫صمت برهة لتستر ّد املرأة هدوءها‪.‬‬
‫"ه كا له أعداء؟"‬
‫رفعت األصابع املرتعشة حنو فمها‪.‬‬
‫"ال"‬
‫نطقتها بنربة ال تشجّع على التّحدّث‪.‬‬
‫"ه أنت متأكّدة‪ ،‬سيّديت؟"‬
‫كا يرى بوضوح مسحة احلز حتت حاجبيها الدّقيق ‪.‬‬
‫"نعم‪ .‬زوجي‪ ...‬كا طيّبا‪ ،‬مل يدع أحدا حيقد عليه"‬
‫تكلّمت بشي من اهلدوء‪ ،‬متغلبة على انفعاهلا‪.‬‬
‫"سيّديت إ أي معلومات تعرفينها‪ ،‬قد تساعدنا يف القضيّة"‬
‫اتّكأ بكوعيه على ركبتيه ومال جبسمه إىل األمام‪.‬‬
‫"ما الفاقدة هه؟‪ .‬لقد فات األوا ‪ .‬ه تستطيع هذه املعلومات‬
‫إرجاعه إيلّ؟ خالص مات وفات احلال"‬
‫أراد تدارك الوضع والتّشبّث بآخر أم للحصول على املعلومات‬
‫الالّزمة‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫"أعلم أ ّ األمر عسري‪ ،‬ولكن اجملرم ال يزال طليقا‪ ،‬قد تنقاذين‬
‫أشخاصا آخرين‪ ،‬مبساعدتنا"‪.‬‬
‫انتبه يف تلك اللّحظة إىل خلي الّذي كا يلهث عند عودتاه‪،‬‬
‫تعاىل صوت الطّفلة من مكا ما داخ املنزل قب أ يغلق الباب مرّة‬
‫أخرى‪ ،‬مسحت املرأة دموعها مبندي ورقيّ وقد امحارّت شافتاها‬
‫بشدّة‪ .‬اكتفى أمحد هبذا القدر من األسئلة ورأى أنّه من الصّواب ترك‬
‫املرأة لتودّع زوجها كما يليق‪.‬‬
‫"شكرًا على صربك معي‪ ،‬انتهينا من األسئلة"‬
‫غادرت املرأة الغرفة وتركت اجملال حلديث الرّجال‪.‬‬
‫أحاط الغرفة بنظرة متفحّصة‪ ،‬كا أثاثها مرتّبًا بشاك أنياق‬
‫ومتناسق‪ ،‬جدرا مطليّة باللّو األبيض وأرضيّة مفروشاة بساجاد‬
‫مغرباي‪ ،‬ويتدىل من السّقف فانوس به مصباحا ‪ ،‬وستارة حريرياة‬
‫أسدلت على النّافذة الوحيدة يف الغرفة‪.‬‬
‫"اعذرنا‪ ،‬ال تزال حتت تأثري الصّدمة"‪.‬‬
‫أخرج علبة السّجاقر من جيب صدره‪ ،‬تناول لفافة تبغ وحباث‬
‫عن الوالّعة يف جيب سرواله ولكن يد أمحد امتدّت حنوه قب أ يعثر‬
‫عليها‪ ،‬قدح الوالّعة وأشع لفافته‪.‬‬
‫"ال عليك‪ ،‬أتيت يف الوقت غري املناسب"‬
‫قدم له خلي علبة السجاقر وتناول أمحد منها لفافة‪.‬‬
‫"أستطيع مساعدتك إذا أردت‪ ،‬أعرف زوجها جيّادًا‪ .‬كنّاا‬
‫طالب معًا يف نفس اجلامعة‪ .‬وأتردّد على بيت أخيت باستمرار"‬
‫استعادت القشرة الدّماغية ألمحد نشاطها مع أوّل نفاس مان‬
‫السّيجارة‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫"تعيش هنا إذ ؟"‬
‫أطلق سهمًا من الدّخا يف اهلواء‪.‬‬
‫"نعم تقريبا‪ ،‬أقضي معظم وقيت برفقتهما‪ .‬أنا أعزب"‬
‫"آه لست متزوّجا‪ ،‬وما هو عملك؟" سأل أمحد‪.‬‬
‫"كنت مسؤوال عن فرع يف مديريّة املالية‪ .‬ترقّيت منذ حاوايل‬
‫أسبوع فقط إىل مدير عامّ"‪.‬‬
‫"مربوك عليك‪ .‬إذ ما رأيك"‬
‫"رأىي؟‪ ..‬يف ماذا؟"‬
‫"من يرغب يف قتله؟" ضحك خلي ضحكة عسرية‪ ،‬وتاراق‬
‫يف اهلواء خيط متعرّج من الدّخا ‪.‬‬
‫"هذا سؤال صعب‪ ..‬ال يوجد شخ حمدّد‪ .‬ولكن أعتقاد أ‬
‫طبيعة عمله كانت تفرض عليه التعام مع املقاول ورجال األعمال‬
‫حبزم‪ ،‬ما يعله عرضة للمشاك يف أغلب األحيا ‪".‬‬
‫"وه رأيت ما جعلك تعتقد بوجود ضغاقن؟"‬
‫صمت برهة وفكّر فيما سيقوله الحقا‪.‬‬
‫"إنّها يف احلقيقة جمرّد ختمينات"‬
‫كا أمحد يؤمن بقاعدة سقراط املنهجية‪ .‬حيث تقول القاعدة‪:‬‬
‫«اتّبع الربها إىل حيث يقودك»‪ .‬هكذا قرأهاا يف إحادى كتاب‬
‫الفلسفة ح كا طالبا يف جامعة احلقوق‪ ،‬مجلة بسيطة سااعدته يف‬
‫كثري من املرات خالل حبثه عن حقيقة األشياء‪.‬‬
‫"ه لديك فكارة عان مكاا تواجاده قبا حادوث‬
‫اجلرمية؟"‬
‫هزّ رأسه نفيا وقال‪:‬‬
‫‪32‬‬
‫"بدأ يتغيب يف اآلونة األخرية عن املنزل بشك ملحوظ‪ ،‬هاذا‬
‫ك ّ ما الحظته"‬
‫"أمل يكن يعاين من مشك ما؟ زوجته مثال‪ ،‬أمل تالحع شايئا‬
‫مريبا بشأنه؟"‬
‫حترّكت ركبتا خلي بتوتّر‪ ،‬وأشاح ببصره حنو النّافذة مثّ أجاب‪.‬‬
‫"أخربتين منذ عدّة أيّام‪ ،‬أنّهاا وجادت يف خزانتاه حباوب‬
‫«الترامادول»‪ ،‬وهي مهدّقات قويّة كما تعلم"‬
‫"حبوب الترامادول؟ البدّ أنّه اهنيار عصيبّ‪".‬‬
‫"ال أدري‪ ...‬رمبا‪ .‬ولكن ما حيّرين فعال‪ ،‬هو أنّه بادا طبيعيّاا‬
‫جدًّا"‪.‬‬
‫بدا خلي واثقا من كالمه‪.‬‬
‫"ولكن تناول املهدّقات وغيابه عن املنزل بشك ملحاوظ‪ ،‬ال‬
‫يبدوا تصرّفا طبيعيّا"‬
‫"هذا ما اعتقدته أيضا"‬
‫فكّر أمحد يف السّؤال التّايل‪ ،‬وتردّد قليال مثّ مسع نفسه يقول‪:‬‬
‫"كيف كانت عالقته مع زوجته؟"‬
‫شعر باإلحراج عندما شاهد اندهاش خلي ‪ ،‬الّاذي حترّكات‬
‫عضلة فكّيه القويّ ‪ ،‬وشدّت البشرة البيضاء على وجهه‪.‬‬
‫"آسف على تدخلي يف شؤو األسرة‪ ،‬ولكنّها جرمية قت وأناا‬
‫أقوم بعملي فحسب"‪.‬‬
‫هدّأ روعه قليال وهو يستمع إىل الشّرطيّ يتكلّم‪.‬‬
‫"كانت عالقتهما كك األزواج ثابتة ومستقرّة" كانت نربتاه‬
‫تشي بانزعاج واضح‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫"أين كنت متواجدا ب السّاعة العاشرة والثّانية عشرة؟"‬
‫نظر خلي حنو أمحد حبدّة والتقت نظرتامها‪.‬‬
‫"من الثامنة إىل العاشرة كنت متواجدا يف عرس أحد األصدقاء‪،‬‬
‫يدعى محزة بوقادير‪ ،‬ميكن أ تتأكّد بنفسك‪ .‬غادرت مان هنااك‬
‫حوايل السّاعة العاشرة‪ .‬مثّ ذهبت إىل بييت ومل أبرحه إالّ عند مسااعي‬
‫خبرب الوفاة"‬
‫"لقد شوهد قب مقتله بلحظات قصرية مع رج غريب‪ ،‬ها‬
‫لديك فكرة عمّن يكو هذا الشّخ ؟"‪.‬‬
‫تأفّف ضجرًا وقال‪:‬‬
‫"أظنّ أ إياد القات هي مهمّتك أنت‪ ،‬قلت لاك كا ّ ماا‬
‫أعرفه"‪.‬‬
‫هنض أمحد من مكانه‪ ،‬شدّ قامته‪ ،‬وأحسّ باألمل عند هناية العمود‬
‫الفقريّ‪.‬‬
‫"أريد رقم هاتفك‪ ،‬التّص بك عند احلاجة؟"‬
‫"نعم‪ ،‬حلظة فقط"‬
‫أخرج بطاقة عم من حافظة النقود وسلّمها له‪.‬‬
‫"تفضّ عليها رقمي اخلاصّ‪ ،‬رقم اهلاتف يف املكتب‪ ،‬واإلميي "‬
‫مدّ يده إىل الرّج مثّ تصافحا‪ ،‬وغادر املكا ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪-8-‬‬

‫اعتدلت الشّمس يف السّماء وتقلّصت الظّاالل علاى األرض‪،‬‬


‫ح كا أمحد يعرب الشّارع ماشيًا على قدميه‪ ،‬كا اهلواء جافًّا‪ .‬نفخ‬
‫على قطرة العرق الّيت وقفت على أرنبة أنفه‪ .‬بدا وكأ الشّمس على‬
‫بعد أمتار فقط‪ .‬من قال أ ّ ‪ 149.6‬مليو كيلومتر هي املسافة با‬
‫الشّمس واألرض‪ ،‬ومن قال أ ّ أشعّتها تستغرق مثّانية دقاقق لتقطاع‬
‫تلك املسافة‪ .‬فهو حتما مل خيترب هذا احلرّ‪.‬‬
‫أوقف سيّارة أجرة كانت مترّ أمامه يف تلك اللّحظة‪ ،‬اساتقلّها‬
‫وطلب من الساقق التوجُّه إىل مبىن الشّرطة الرّقيسيّ‪.‬‬
‫يف قاعة اإلجتماعات جلس أمحد جبانب النّافذة وألقى ظهاره‬
‫على مسند الكرسيّ‪ ،‬نظر «فتحي زمالة» احملقق الشّاابّ إىل مادير‬
‫القسم بن ذهيبة‪ ،‬وكا ك ّ من الطّبيب الشّرعيّ محزة بوبكر وضابط‬
‫الشّرطة العلميّة صويلح مهري حاضرين هناك‪ .‬تنحنح بن ذهيبة عن‬
‫قصد ليلفت انتباه أمحد الّذي راح حيدّق إىل وافدة جديادة كانات‬
‫جتلس يف القاعة‪ .‬انتظر حتّى يعمّ اهلدوء مثّ قال‪:‬‬
‫"ينتظرنا عم طوي ‪ ،‬لذلك أريد مانكم التّركياز يف هاذه‬
‫القضيّة" طوى بن ذهيبة ذراعيه أمام صدره‪ ،‬ونق ثقله من قادم إىل‬
‫أخرى‪ .‬كا يضع حتت شفته العليا ‪ -‬جريا على عادتاه ‪ -‬لفافاة‬
‫حمشوّة بالتبغ‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫"سنبدأ بسبب الوفاة أوّال" ملعت النظّارة الداقرية علاى وجاه‬
‫محزة‪ ،‬حترّك يف مقعده مثّ قال بنربة تدل على حنكة طبيب خمضرم‪:‬‬
‫"الضّحيّة تويف حوايل السّاعة احلادية عشار والنّصاف‪ ،‬و‪"..‬‬
‫قاطعه فتحي فجأة‪ ،‬وقد ارتسم على وجهه تعبري غيبّ‪ ،‬كاا أمحاد‬
‫ميقت ذلك الشّخ من أعماقه‪.‬‬
‫"نفس الوقت الّذي اتّص فيه الشاهد‪ ،‬ليخربنا بساماع طلاق‬
‫ناري"‬
‫هزّ محزة رأسه موافقا‬
‫"أظهرت التّحالي املخربية‪ ،‬وجود كمية معتربة مان مهادّئ‬
‫األعصاب يف دمه‪ ،‬البدّ أ هلا تأثريا سلبيًّا على جسامه ولكنّهاا مل‬
‫تتسبّب يف وفاته‪ .‬أصيب بطلق ناريّ أسف كتفه اليمىن‪ ،‬أمّا الرّصاصة‬
‫الثّانية فمزّقت عضلة البط األمين ليتوقّف القلب عن ضخّ الادّماء‪،‬‬
‫وينقطع األكسج عن باقي أعضاء اجلسم"‬
‫"القات جمرّد هاوٍ‪ ،‬كا من املمكن أ خيطئه‪ ،‬لوال سوء احلع"‬
‫التفتت الوجوه حنو الفتاة فجأة‪ ،‬ويف تلك الدّقيقة كا وجههاا‬
‫حيمرّ خجال‪.‬‬
‫"أقدم لكم «كهينة منّاد»‪ ،‬خرية جامعة اجلزاقار‪ ،‬خمتصّاة يف‬
‫جراقم اإلنترنت وخبرية يف علم البصمات والتّحقيقات اجلناقيّة"‬
‫كانت يف اخلامسة والعشرين‪ ،‬ذات بشرة كلو اخلبز‪ ،‬هلا عينا‬
‫سوداوا ‪ ،‬فوقهما حاجبا يرتسما بعناية‪ ،‬كانت جتلس باساتقامة‬
‫على الكرسيّ اخلشباي‪ .‬فالحع أمحد احنناءة وركيها ورِبْلَتَيْ ساقيها‬
‫املشدودت برشاقة‪ .‬كا شعرها الكستناقيّ معقوفا إىل اخللف بعناية‪،‬‬
‫وافق الطّبيب الشّرع ّي على كالمها قاقال‪:‬‬
‫‪36‬‬
‫"هذا صحيح‪ ،‬فاملسافة الّيت قطعتها الرّصاصة لتبلغ اهلدف كانت‬
‫ال تتعدى الستة أمتار"‬
‫التفتت الوجوه مرّة أخرى إىل الطّبيب الشّرعيّ‪ .‬ولكن أمحاد‬
‫بقي ينظر إىل الفتاة‪.‬‬
‫"إ ّ حركة السّيّارة العنيفة هي الّيت حتكمت يف مسار الرّصاص"‬
‫عمّ اهلدوء يف القاعة عندما تكلّم أمحد‪ ،‬وارتسم علاى وجاه‬
‫فتحي زمالة تعبري ساخر‪ ،‬وسأل بن ذهيبة بفراغ صرب‪:‬‬
‫"كيف تتحكم سيّارة يف مسار الرّصاص؟"‬
‫متلم أمحد يف جلسته‪ ،‬وأرخى ظهره الثّقيا علاى مساند‬
‫الكرسيّ‪ ،‬وكأنّه يستمتع بتلك اللّحظة‪.‬‬
‫"لو رأينا آثار العجالت على الطّريق‪ ،‬الساتنتجنا أ توقاف‬
‫السّيّارة املسرعة كا مفاجئا وعنيفا‪ ،‬مما جع تصويب املسدّس حناو‬
‫اهلدف أمرًا صعبًا"‬
‫"نقطة مهمّة ولكنّها ال تساعد حاليًّا على حتديد هوية القات "‬
‫تكلّم بن ذهيبة وردد بصره ب احلاضرين‪.‬‬
‫"لدينا مشتبه به رقيسي يف هذه القضيّة‪ ،‬ولكنّه ال يزال جمهاول‬
‫اهلوية‪ ،‬حسب الشهود كا مع الضّحيّة قب وقوع اجلرمية بلحظات‬
‫قصرية‪ ،‬البدّ أ يكو له عالقة مباشرة باجلرمية"‬
‫التفت أمحد‪ ،‬فالتقت عيناه بعيين الفتاة ألول مرة‪ ،‬ثانيت مان‬
‫التخاطر عرب العيو ‪ ،‬كانت كافية لنحت صورهتا داخا تالفياف‬
‫دماغه‪.‬‬
‫"أجنع ح هو تتبع الرّقم التسلسلي للمسدّس ومعرفة مصادره‬
‫أوال‪ ،‬مثّ اقتفاء أثره فيما بعد"‬
‫‪37‬‬
‫تكلّم فتحي وهو يشابك ب ذراعيه فوق صدره ويستند علاى‬
‫ظهر الكرسيّ‪ ،‬وتراقصت عيناه يف القاعة لتتبع مدى أمهّيّة حديثه‪.‬‬
‫"ستب نتاقج البحث بعد غد‪ ،‬عن مصدر املكاملات األخرية الّيت‬
‫تلقاها الضّحيّة قب وفاته‪ ،‬أمّا معرفة نوع الرّصاص فهو من اختصاص‬
‫كهينة‪ ،‬وما تبقى من املهامّ فليتنافس املتنافسو ‪ ،‬أريد مانكم نتااقج‬
‫إيابية‪ ،‬وانسوا من اآل فصاعدا أيّاام العطا وهناياة األسابوع‪،‬‬
‫ستعوضو فيما بعد عند هناية القضيّة"‪.‬‬
‫صمت قليال ومرر لسانه حتت شفته العلياا‪ ،‬ليساوي كوماة‬
‫الشمة‪ .‬كا احلرّ شديدا يف اخلارج‪ .‬احندرت قطرة عرق على جبينه‬
‫الناصع‪ .‬مثّ استطرد قاقال‪:‬‬
‫"آه‪ .‬كدت أنسى‪ ،‬أين وصلنا يف قضيّة االختطاف‪ .‬فتحي؟"‬
‫ردّد أمحد بصره بينهما ملعرفة أوجه الشبه‪ ،‬أو األخطاء السابعة‬
‫إ صحّ القول‪ .‬كا الغباء هو النّقطة املشتركة بدو شك‪.‬‬
‫"ال شيء جديد يذكر‪ ،‬حبثنا يف ملفاات املسابوق قضااقيا‬
‫واملشتبه هبم عن حاالت اختطاف مماثلة‪ ،‬وقمنا بعدد من الزياارات‬
‫ألماكن ارتبنا يف أمرها‪ ،‬ولكننا إىل حدّ السّااعة مل نصا إىل أيّاة‬
‫نتيجة‪".‬‬
‫جبهة ضيقة ووجه مربع‪ ،‬حتّى أفكاره كانت مربعة الشاك ‪،‬‬
‫واحنرف جانب شفتيه تعبريا عن استياقه الظاهري‪ ،‬واكتملت الصّورة‬
‫يف خميلة أمحد‪ ،‬وبدأ يضحك‪.‬‬
‫ساد الصّمت فجأة يف القاعة والتفتت الوجوه حنوه يف استنكار‪،‬‬
‫كا الشرر يتطاير من عيين بن ذهيبة الّذي فرغ صربه‪.‬‬
‫"ما املضحك يف األمر يا سي‪"...‬‬
‫‪38‬‬
‫مل يرد النطق بامسه تعبريا عن استياقه‪.‬‬
‫"ال شيء مهمّ‪ ،‬آسف على اإلزعاج"‬
‫أحسّ بعين داخ وجه مربع ترسال شعاعا حارقا‪.‬‬
‫"ال بأس‪ ،‬نريد معرفة هذا الشّيء غري املهم"‬
‫بلغه صوت بن ذهيبة املشوب حبنق‪ .‬وبدت الفكرة سخيفة إىل‬
‫حدّ بعيد‪ ،‬ماذا يقول؟ "ذكّرتين بروبوكوب مثال" بدا األمر ساخيفًا‬
‫وحرجًا يف آ واحد‪ ،‬ومتنّى لو تنصرف عنه األع ‪.‬‬
‫"ساحموين‪ ،‬إنه أمر تافه ال يستحقّ املعرفة"‪.‬‬
‫"هذا مؤشر جيد على جدية العم ‪ ،‬قلايال مان االنضاباط‬
‫يا أمحد"‪.‬‬
‫عاد الصّمت مرة أخرى كما كا عناد بداياة االنضاباط‪،‬‬
‫وارتسم على األرضيّة اجلرانيتية‪ ،‬مربع من أشعّة الشّمس تسلّلت عرب‬
‫زجاج النّافذة‪.‬‬
‫"صويلح ه تريد قول شيء ما خبصوص االختطاف؟"‪.‬‬
‫"ال" قاهلا بإياز‪ .‬وفتح بن ذهيبة فمه ليتكلّم ولكن «صاويلح‬
‫مهري» قاطعه قاقال‪:‬‬
‫"هناك أمر مهم‪ ،‬الفتاة اختطفت باستعمال سيّارة جمهولة‪ ،‬وهي‬
‫نفس احلالة الّيت شهدناها يف جرمية القت األخرية‪".‬‬
‫استوىل االنتباه على احلضور‪ ،‬وأطبق الصّمت فجأة يف القاعاة‪،‬‬
‫طنّت ذبابة كسولة يف اجلوّ‪ ،‬بينت مدى عمق اهلادوء يف املكاا ‪،‬‬
‫وأمهّيّة الكالم الّذي يقال‪.‬‬
‫"نفهم من كالمك أ القات حيتم أ يكو هو نفسه الّاذي‬
‫اختطف الفتاة"‬
‫‪39‬‬
‫"ال أقول هذا‪ ،‬وإنّما أردت اإلشارة إىل أمهّيّة آثار العجالت يف‬
‫مسرحي اجلرمية‪ .‬حتّى وإ مل نتوص إىل نوع السّيّارة فرمبا سانجد‬
‫رابطا ب احلادث وبذلك نكو قد ركزنا جهودنا علاى هادف‬
‫واحد"‬
‫"أظنّها فكرة جيدة" عاد الصّمت مرة أخرى والتصقت الذباباة‬
‫بزجاج النّافذة‪ ،‬حدّقت أزواج من األع إىل أمحد‪ .‬كانت تترقاب‬
‫دعابة أخرى ولكنّه بدا رصينا أكثر من أي وقت مضى‪ .‬مل يكن على‬
‫عالقة حسنة بالكه مهري صويلح‪ ،‬إال أنه كا حيترم طريقة عمله‪،‬‬
‫الّيت تعتمد على التحلي املنطقي والتجربة الشّخصيّة‪.‬‬
‫"اختطفت الفتاة منذ شهر تقريبا‪ .‬ال منلاك أدىن فكارة عان‬
‫املختطف ‪ ،‬أو املكا الّذي تتواجد فيه‪ ،‬كما لسنا متيقّن إ كانت‬
‫ال تزال على قيد احلياة‪ ،‬ليس لدينا حلول أخرى لالختياار‪ ،‬لاذلك‬
‫أتفق مع فكرة صويلح حول آثار العجالت"‪.‬‬
‫ألقى أمحد نظرة إىل جمموعة من األوراق وامللفاات اإلداريّاة‬
‫املكدّسة فوق املكتب بدو ترتيب‪ .‬وجبانبها وضع على حافة سطح‬
‫املكتب علم اجلزاقر يف حجم صغري وماسكة أقالم‪ ،‬وعلاى اجلادار‬
‫املقاب علق تقوم موبيليس لشهر جوا ‪ .2015‬كانت راقحة التباغ‬
‫املتعفّنة متأل مكتب رقيس القسم‪ ،‬وتبعث يف النفس نفاورا وتقاززا‬
‫مريعا‪ ،‬كراقحة معدة فارغة عند االستيقاظ من النّوم‪.‬‬
‫"ه تعلم ملاذا استدعيتك اآل ؟" تكلّم بن ذهيبة بعاد فتارة‬
‫صمت تعمّد إطالتها‪ .‬مثّ تظاهر بترتيب األوراق املتراكمة فوق سطح‬
‫املكتب‪.‬‬
‫"ال" ردّ أمحد باختصار متجاهال املعىن من اساتدعاقه‪ ،‬وركّاز‬
‫‪40‬‬
‫نظراته على وجه بن ذهيبة املربّع‪ ،‬والحع االحنناءة الّيت حتات أنفاه‬
‫مباشرة‪.‬‬
‫"أريد تنبيهك عمّا حدث يف قاعة االنضباط"‬
‫استدار حول املكتب وغاص يف معقده املريح‪.‬‬
‫عاودته تلك الفكرة السّخيفة عندما ألقى نظرة علاى وجهاه‬
‫املربع‪ ،‬بدت شفته العليا أكثر انتفاخا من أي وقت مضى‪ ،‬وأوشاك‬
‫أ يضحك مرة أخرى لوال قوة عجيبة جعلته ميسك عن الضحك‪:‬‬
‫"لقد فهمت األمر‪ .‬أريد منك طلبا"‬
‫"أنت معاقب‪ ،‬وال حيق لك طلب أي شيء"‬
‫مال أمحد جبسمه إىل األمام‪ ،‬ووضع رأسه ب كفيه وانغرسات‬
‫أصابع يده يف شعره البنّيّ الداكن‪ .‬وكأنّه حيمي أفكاره املتسارعة من‬
‫الظّهور‪.‬‬
‫"أحتاج إىل سيّارة الدورية يف العم "‬
‫نظر بن ذهيبة إليه مليًّا مثّ قال‪:‬‬
‫"سنتكلّم يف األمر الحقا‪ ،‬واآل عليك التّركياز يف اآليت‪ ،‬أل‬
‫الوقت يدامهنا"‪.‬‬
‫كانت احلرارة ال تطاق يف اخلارج‪ ،‬وقف أمحد أمام مبىن الشّارطة‬
‫خيتار أيّ وجهة سيسلكها‪ ،‬أحس مبعدته تصدر صوتا مزعجاا‪ ،‬كاا‬
‫اجلوع ينهش أمعاءه يف تلك اللّحظة‪ .‬أشارت السّاعة إىل الثّانية والنّصف‬
‫زواال عندما قصد مطعما يقع على بعد شارع ‪ ،‬يعدّ وجبات ساريعة‬
‫وبسعر مناسب‪ .‬التهم غذاءه الدسم مثّ غادر املطعم وهو حيارّك عاود‬
‫األسنا يف فمه‪ ،‬كا للوجبة املليئة بالدهو ‪ ،‬أثرٌ سيئ على معدته‪ ،‬فقد‬
‫بدأ يعاين من احلموضة واإلحساس باالحتراق‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫‪- 9-‬‬

‫يف التّاسعة والرّبع من اليوم التايل مضى حنو مركز الشّرطة مشيا‬
‫على األقدام‪ .‬كا يوم اجلمعة ثقيال كالعادة‪ ،‬شوارع خالية وحركاة‬
‫سري بطيئة‪ ،‬الشّيء الوحيد الّذي ينبض باحلياة هو املساجد‪ .‬استغرق‬
‫نصف ساعة للوصول إىل مكتبه‪ .‬كا يتصبّب عرقا عندما فتح باب‬
‫مكتبه ووجد بدر الدّين هناك عاكفا على لعبة السّوليتري‪.‬‬
‫"السّالم عليكم‪ .‬أنت هنا؟!" سأل أمحد باندهاش‪.‬‬
‫"أنت أيضا جئت؟"‬
‫اتَّجه أمحد حنو مقعده ليستريح قليال‪ ،‬ويترك عرقه ليجفّ‪.‬‬
‫"بن ذهيبة ناقم على القطن وبدر الدّين حيرس اجلزاقر‪ ،‬برافو"‬
‫"يوم اجلمعة صباحا ومباريات املنتخب الوطينّ‪ ،‬يف هذه األوقاات‬
‫تستطيع أ تسطو على أي مصرف يف اجلزاقر‪ ،‬وتستطيع هتريب بااخرة‬
‫من اهلريوين أو طاقرة من حبوب اإلكستازيا‪ ،‬بدو مشك "‪.‬‬
‫نظر بدر الدّين إىل ساعة معصمه مثّ قال‪:‬‬
‫"أنت متأخّر نوعا ما عن املوعد فقد رأيت تلك املدلّلة اجلديدة‬
‫مع محزة قب نصف ساعة‪ ،‬يبدو أنّه يري وراءها‪".‬‬
‫سرت موجة كهرباقية يف جسد أمحد عناد مساعاه للجملاة‬
‫األخرية‪ .‬ضبط تعابري وجهه وكأنّه يداري أمرا مل يفهم معناه‪ .‬فتعمد‬
‫تغيري دفة احلديث‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫"شاهدت البارحة فيلما لكانو ريف‪ ،‬مدته سااعتا هلاذا مل‬
‫أستيقع باكرا"‬
‫"ذو املاتريكس؟"‬
‫"ال‪ .‬سويت نوفمرب"‬
‫"أفضّ «بوينت برييك» إنّها أفض أفالمه"‬
‫هزّ أمحد كتفيه وتظاهر باإلصغاء‪.‬‬
‫"هذا املمثّ ولد يف بريوت"‬
‫عبثت أصابع أمحد بقلم كا فوق مكتبه‪ ،‬مثّ سادت فترة صمت‬
‫قصرية قب أ يتكلّم وكأنّه تذكر أمرا مهمًّا‪:‬‬
‫"هناك أمور عالقة يب أ أهنيها"‬
‫هنض من مكانه حبركة متثاقلة وحترّك حنو الباب‪.‬‬
‫"ه رأيت التّقرير الّذي وص اليوم"‬
‫توقّف أمحد يف مكانه فجأة واتَّجه حنو زميله‪ ،‬تناول التّقرير من‬
‫يدي بدرالدّين‪ ،‬وألقى عليه نظرة شاملة‪ ،‬كا حيتوي على القحة من‬
‫أرقام اهلواتف‪ ،‬حترّك يف الغرفة ببطء دو أ يرفع بصره عن الورقة مثّ‬
‫وضعها على سطح مكتبه برفق‪ ،‬واحنىن فوقها باهتماام‪ ،‬حترّكات‬
‫سبابته على أرقام اهلواتف بعناية‪ ،‬مثّ توقف أصبعه عند رقام لفات‬
‫انتباهه‪ .‬مل يظهر أنّه حيت ّ الصّدارة على أرقام الالقحة‪ ،‬لكنّه بعاد أ‬
‫ظهر للمرّة األوىل مل يلبث أ تكرّر مرارًا‪ .‬نظر حنو بادر الادّين يف‬
‫اهتمام‪.‬‬
‫"ه تستطيع أ تتأكّد من صاحب هذا الرّقم؟"‬
‫كا بدر الدّين يقف جبانبه وقد وافق بإمياءة من رأسه‪ ،‬اساتقرّ‬
‫بصر أمحد على خانة معينة مثّ تكلّم ببطء‪:‬‬
‫‪43‬‬
‫يف هاذه القاقماة‬ ‫"أريدك أ تعرف مكا تواجد ك ّ شخ‬
‫وقت وقوع اجلرمية"‪.‬‬
‫"سأتكفّ باألمر ولكن أمهلين بعض الوقت فأنا أعم لوحدي‬
‫هنا"‬
‫"حسنا يا سيّدي‪ .‬أبطئ وجئنا بالكام "‬

‫‪44‬‬
‫‪-10-‬‬

‫مضى حنو الطّابق الثّاين‪ ،‬بعد أ كلّف بدر الدّين بتلك املهمّة‪،‬‬
‫عرب الرّواق القصري على ميينه‪ ،‬حتّى بلغ املكتب األخري عند هنايتاه‪.‬‬
‫كانت دفّة الباب نصف موصدة‪ ،‬دفعه برفق ودلاف إىل الادّاخ ‪.‬‬
‫أحسّ هبدوء عميق وضوء خافت ينتشر بالدّاخ ‪ .‬جوّ مالقم ملمارسة‬
‫اليوغا‪ .‬مكتب مرتّب وأنيق‪ ،‬وضع يف الزّاوية اليمىن أصاي نبتاة‬
‫العنكبوت‪ .‬وعلى اجلانب اآلخر طاولة معدنيّة ذات أدراج وساطح‬
‫أملس‪ .‬كانت شاشة الكمبيوتر تتوسّط الغرفة‪ ،‬برز من وراء حافتاها‬
‫شعر كستناقيّ‪ .‬وملّا أصبح داخ الغرفة حترّك الرّأس حناوه بابطء‪،‬‬
‫وبرزت من خالله عينا عسليّتا فوقهما حاجبا يرتسما بعناياة‪.‬‬
‫نظرت إليه من فوق الشّاشة ومل يبدُ عليها االندهاش‪ .‬أحسّ بارتباك‬
‫عند التقاء نظراهتما للمرّة الثّانية‪ .‬حاول جاهدًا أال يبدو مبظهر املغفّ‬
‫أمامها‪.‬‬
‫"صباح اخلري‪ ،‬آسف على التّأخري"‬
‫"ال بأس‪ ،‬كنت انتظر قدومك" مل تعد قدماه قاادرت علاى‬
‫محله‪.‬‬
‫"ه من جديد يف القضيّة؟"‬
‫أومأت له باجللوس على مقعد كا جبانبها‪ .‬التقطت خياشايمه‬
‫راقحة عطرها العجيب‪ .‬كا مظهرها يوحي بالثقة واهلدوء‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫"توصّلت إىل معرفة نوع املسدّس الّذي اساتعمله القاتا يف‬
‫اجلرمية"‬
‫ر ّ صوهتا بإيقاع مجي ‪ ،‬وظهر من هلجتها أنّها مان ناواحي‬
‫العاصمة‪.‬‬
‫ومضت عيناه وهو حيدّق إىل شاشة الكمبيوتر‪ ،‬ظهرت أماماه‬
‫خلفيّة سوداء وجدول حيتوي على جمموعة من األرقام التسلسالية‪.‬‬
‫كانت املسافة بينهما ج ّد متقاربة وكا يفص بينهما خيط شاعاع‪،‬‬
‫اخترق زجاج النّافذة‪.‬‬
‫انسدل شعرها الطّوي على كتفيها وبرز من خاللاه رقبتاها‬
‫النّحيفة‪ .‬حبركة رشيقة من أصابعها النّاعمة كبسات علاى لوحاة‬
‫املفاتيح وشغّلت حمرّك البحث‪ .‬الحع أنّها ال تضاع أيّ خاامت يف‬
‫أصبعها وهي تضغط على زرّ الفأرة‪ ،‬انتظر ظهور النّتيجة يف صامت‬
‫مطبق‪ ،‬ختلّ تلك الثواين املقبلة قلق وعاد يستنشق راقحة عطرهاا‪.‬‬
‫تذكّر أنّه قرأ يف إحدى املرّات مقالة عن العطور يقاول كاتباها أ ّ‬
‫ثالثة آالف خليّة عصبيّة تنفتح يف مخّ الرّج ح يشمّ عطر سيّدة‪.‬‬
‫التفتت حنوه بعد أ ضغطت على زرّ آخر‪ .‬التقات عينامهاا‬
‫فجأة‪ .‬كا البياض الّذي يلفّ حدقة الع ناصعا جدًّا‪.‬‬
‫"ستظهر النّتيجة بعد دقيقة فقط"‬
‫ثبّتت خصالت شعرها فوق أذهنا اليسرى‪ .‬واكتفى بإميااءة مان‬
‫رأسه مثّ غاص يف الكرسيّ وحدّق يف الشّاشة الّيت تنظر إليها نفس هات‬
‫العين العسليّت ‪ .‬متنّى أمحد لو يتوقّف به الزّمن يف تلك اللّحظة‪.‬‬
‫أصبح لو الشّاشة أزرق كلو البحر‪ .‬وكمن يعارف عملاه‬
‫جيّدا‪ ،‬أشارت حنو جدول جديد ظهر على شاشة الكمبيوتر‪ ،‬احننت‬
‫‪46‬‬
‫قليال‪ ،‬مثّ قامت بالتقاط كيس شفّاف من داخ درج املكتب‪ ،‬رفعته‬
‫حنو أمحد بأصبع حنيفت ‪ ،‬فلمعت من خالله رصاصتا متماثلتا ‪.‬‬
‫"تسع مليمتر" تكلّم أمحد‪.‬‬
‫مل تستطع منع ابتسامة مرّت سريعا على شفتيها‪.‬‬
‫"املسدّس املستعم نصف أوتوماتيكيّ‪ ،‬إيطايل الصّنع‪ .‬مُوديا‬
‫قدم الصّنع"‪.‬‬
‫"نعم هذا واضح‪ ،‬املسدّس مسروق أو مهرّب عرب احلدود"‬
‫ثبتت عيناها على اجلهاز وأدارت عجلة الفأرة‪.‬‬
‫"أنت حمقّ فعال‪ .‬املسدّس من طراز برييطا ألف وتسعماقة واثن‬
‫وتسع ‪ 9‬ميليمتر‪ .‬سعة مذخرته مخسة عشر طلقة"‬
‫"وواحدة احتياطيّة‪ ".‬تزحزح يف مكانه قليال وزجّ يده يف منطقة‬
‫اخلصر‪.‬‬
‫"هذا هو املسدّس‪ ،‬إنّه مشابه له متاما‪ .‬مثّ فكّك زناده وأظهار‬
‫رأس الرّصاصة‪".‬‬
‫رفع رأسه ومتعّن يف شكلها وهي تنظر إىل الرّصاصة باهتماام‬
‫صيبّ‪ ،‬يكتشف شيئا جديدا‪ .‬كانت تضع حول جيدها قالدة ذهبيّاة‬
‫رقيقة تنتهي بوردة الزورديّة وحتتوي على فصوص ملّاعة دقيقة‪.‬‬
‫"ه سبق لك أ أطلقت الرّصاص هبذا املسدّس؟"‬
‫"ال مل أستعمله مطلقا‪ ،‬ما عدا يف التّدريبات"‬
‫"لطاملا استغربت هذا األمر‪ ،‬إ كنتم ال تستعملونه أبدا فلمااذا‬
‫تكلّفو أنفسكم عناء محله‪".‬‬
‫"قطعة من الزّيّ الرّمسيّ ال أكثر‪ ،‬إنّاه كربطاة العناق ماثال أو‬
‫كاجلورب‪ .‬حنن أصال كدمى املاريونيت‪ ،‬حترّكنا يد عليا‪ ،‬جتعلنا هادق ‪،‬‬
‫‪47‬‬
‫عنيف ‪ ،‬نضطهد احلرّيّات‪ ،‬ونقمع املظااهرات‪ ،‬نزكّاي االنتخاباات‪،‬‬
‫ونبجّ الشعارات‪ ،‬حنن اليد الّيت تبطش هبا والرّج الّيت متشي عليها‪".‬‬
‫صمت كالمها مثّ أطرق برأسه إىل األرض‪ ،‬كانت معرفة ناوع‬
‫الرّصاصة غري جمدية للتقدم يف القضيّة‪ .‬وضع رأسه ب يديه‪ ،‬مثّ مسعها‬
‫تقول‪:‬‬
‫"ه هناك خطب ما؟" رفع رأسه ببطء ونظر إليهاا‪ .‬اخاتلج‬
‫جفناها فحولتهما إىل الشّاشة املضيئة‪.‬‬
‫"ال شيء‪ .‬ه تستطيع احلصاول علاى معلوماات عان‬
‫املسدّسات الضاقعة؟"‪.‬‬
‫"نعم بك تأكيد‪ ،‬لن يستغرق البحث أكثر من دقيقت "‬
‫كبست على لوحة املفاتيح بسرعة ودقّة متناهية وماهي إال ثوا‬
‫حتّى ظهرت النّتيجة‪.‬‬
‫"هذه قاقمة املسدّسات املسجلة والّيت أبلغ عن فقداهنا‪ ،‬وهاذه‬
‫قاقمة أخرى لبعض األسلحة الّيت أبلغ عن ضاياعها مان خمتلاف‬
‫القطاعات األمنيّة‪ ،‬كلّها مرفقة بتقارير تبيّن ظروف اختفاقها"‬
‫"ولكن القاقمة طويلة جدًّا"‬
‫"هذا طبيعيّ ألننا نعم بربنامج وطينّ موحّد‪ ،‬وهاذه القاقماة‬
‫تشتم على ك ّ احلاالت يف اجلزاقر"‪ .‬كبست أصابعها النّحيفة خبفّة‬
‫على أزرار الكيبورد مثّ أضافت‪:‬‬
‫"أستطيع تضييق جمال البحث‪ ،‬حلظة فقط" استغ ّ أمحد اهنماكها‬
‫يف العم ‪ ،‬واختلس نظرة سريعة إىل جسدها‪ ،‬احنناءات رشيقة وبشرة‬
‫ناعمة‪ ،‬وكأ ّ املالبس الّيت ترتديها‪ ،‬مل تصنع إال من أجلها‪ ،‬ال دهو‬
‫زاقدة وال ضمور يف شكلها‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫"ها هي‪ .‬انظر‪ ...‬هنا"‬
‫أشارت بأصابع ذات أظافر مطليّة باللّو األمحر إىل جمموعة من‬
‫األمساء‪ .‬كا من ب تلك التّقارير ما لفت انتباهه‪ ،‬احنىن أمام الشّاشة‬
‫الزرقاء‪ ،‬مثّ ضيّق عينيه وقال‪:‬‬
‫"افتحي هذا امللفّ" كبست على زرّ الكيبورد ومَرّت أجزاء من‬
‫الثّانية قب أ تظهر النّتيجة املدهشة أمام عينيه‪:‬‬
‫قضيّة بوبكر جياليل‬
‫وأخذ يقرأ ما يراه على الشّاشة بصوت مرتفع‪:‬‬
‫"‪ 5‬أفري ‪ ...2009‬حيّ «باباا علاي»‪ ..‬السّااعة الساابعة‬
‫صباحا‪ ...‬متّ العثور على جثّة املدعوّ بوبكر جياليل ميتا إثر رصاصت‬
‫يف البطن"‬
‫"الطلقة املستعملة من عيار تسعة ميليمتار‪ ،‬مسادّس نصاف‬
‫أوتوماتيكيّ"‪.‬‬
‫كا يتحدث كما لو أنه يريد أ يسمع شخصا بعيدا‪.‬‬
‫"مل تعثر الشّرطة على سالح اجلرمية"‪ .‬أضافت كهينة‪.‬‬
‫"من احملتم أ تكو نفس األداة الّيت استعملها القات للقضااء‬
‫على ضحيّته"‪.‬‬
‫ألقى ظهره العريض على مسند الكرسيّ‪ ،‬مثّ شابك ب ذراعيه‬
‫ومسع كهينة تقول‪:‬‬
‫"قد تكو حمقا‪ ،‬ولكن املدّة الزّمنية الفاصلة ب القضيّت بعيدة‬
‫جدًّا"‪.‬‬
‫"لكن هذا ال ينفي فكريت"‬
‫"هناك املئات من املسدّسات املفقودة عرب الوطن"‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫"سأخربك بالقصّة إذ "‬
‫رمقته بنظرة حاقرة كمن يرجو تفسريًا مقنعا‪.‬‬
‫"قب ست سنوات‪ ،‬عملت مع صويلح يف قضيّة مقت شاب يف‬
‫حي باب علي‪ ،‬أصيب برصاصت يف نفس املكا الّذي أصيب فياه‬
‫يوسف‪ ،‬وضعنا املشتبه هبم يف تلك القضيّة حتت املراقبة‪ ،‬ولكننا مل‬
‫نتوص إىل شيء حلدّ السّاعة"‬
‫"ه يعق أ يكو القات هو نفسه"‬
‫هزّ أمحد رأسه ببطء‪ ،‬وساد صمت قصري‪.‬‬
‫"آسف أرهقتك بالبحث" تكلّم أمحد وهو حيكّ فروة رأسه‪.‬‬
‫"ال بأس‪ .‬أقوم بعملي فحسب‪ ".‬أجابته بلكنة عاصميّة أنيقاة‪،‬‬
‫وبنفس احلركة السّابقة‪ ،‬ثبتت خصالت شعرها فوق أذنيها فظهار‬
‫قرطها الذّهيبّ المعا‪.‬‬
‫وقف أمحد واستع ّد للمغادرة‪ .‬كانت الورقة قد خرجات مان‬
‫الطّابعة يف تلك اللّحظة‪.‬‬
‫"سنلتقي مرّة أخرى" أحسّ هبفوته‪ ،‬ولكنّه اساتدرك يف آخار‬
‫املطاف وقال‪:‬‬
‫"ألعلمك بتطوّر األوضاع"‪.‬‬
‫ندت عنها ابتسامة رقيقة مثّ التقطت الورقة من الطّابعة‬
‫"مرحبا بك يف أي وقت يا سي‪"....‬‬
‫"امسي أمحد ولد جياليل‪ ،‬آسف ألنّين مل أقدّم نفسي منذ البداية"‬
‫"ال بأس أنا امسي كهينة"‬
‫دوّنت رقما على قطعة صغرية من الورق‪ ،‬مثّ أرفقتها بالورقاة‬
‫املطبوعة وسلمتها إليه‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫"هذا رقمي إ احتجت إىل أيّة مساعدة‪".‬‬
‫"أيّة مساعدة؟!" وبدل إجابته على سؤاله انشقّت شفتاها عان‬
‫ابتسامة عذبة‪.‬‬
‫غادر أمحد املبىن إىل الشّارع‪ .‬هبر النّور السّاطع عينيه يف اخلارج‪.‬‬
‫احتاج لدقيقت لكي يتعوّد على الكمية اهلاقلة من احلزم الضاوقية‪.‬‬
‫كانت الشوارع خالية من احلركة تقريبا‪ .‬قصد مطعمه املعتاد‪ ،‬وتناول‬
‫سندوتشا برقاقق البطاطا واللّحم املفروم‪ .‬توجه إىل املسجد مثّ أصغَى‬
‫إىل اخلطبة الّيت ألقاها اإلمام يف اهتمام‪ .‬فاضت عيناه بالدّموع وكااد‬
‫يبكي لشدّة تأثره باخلطبة وما وقع ب بالل بن ربااح وأبااي ذرّ‬
‫الغفاريّ بعد غضب الرّسول صلّى اهلل عليه وسلّم على هذا األخاري‪.‬‬
‫عند انتهاء صالة اجلمعة‪ ،‬مضى حنو منزله ومل يغاادره إال يف الياوم‬
‫التايل‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫‪-11-‬‬

‫س بانقباض يف صدره ومشى خبطوات متعبة‪ .‬مطأطأ الارّأس‬ ‫أح ّ‬


‫كاسف البال‪ ،‬غارقا يف حبر من األفكار‪ .‬وزاد من تفاقم الوضع آالم‬
‫ظهره والتّجاعيد الّيت برزت على زوايا عينيه‪.‬‬
‫ال يزال مرتبكًا حيال مستقبله الغامض‪ ،‬ال يعرف أي منحاى‬
‫سيتّخذه‪ .‬أعاد تقييم وضعه من جديد ووضع احلقاقق نصب عينياه‪.‬‬
‫تراءى له شبح الوحدة خييّم على ما بقي من حياته‪ .‬مل يكن شارطيّا‬
‫باملعىن الدّقيق‪ .‬كا بك ّ بساطة شخصا منباوذا يف جمتماع حيتقار‬
‫الشّرطة‪.‬‬
‫تابع سريه يف الطّريق املتعرّج خبطوات حذرة‪ ،‬كانت تقوم على‬
‫جانبيه بيوت متداعية ويسطع يف ذلك اجلوّ هواء فاسد تنضاح فياه‬
‫راقحة السّمك املتعفّن ومياه الصّرف الكريهة الّيت فاضت من اجملاري‪.‬‬
‫كانت األرضيّة قذرة ومتآكلة حبيث ال تسمح بالساري عليهاا‬
‫باطمئنا ‪ .‬مضى أمحد إىل بيت قدم تتوسّطه فسقيّة واسعة تنبات يف‬
‫مركزها شجرة ت مهملة‪ .‬امتدّت بعض أغصاهنا إىل الدّهليز املطا ّ‬
‫على الفسقيّة وتفرّعت أغصاهنا يف ك ّ جانب لتغطّي ك ّ احليّز الّذي‬
‫اشتم عليه الفناء‪ .‬كا املبىن على شاكلة املنازل التّقليديّة تتقاسام‬
‫حجراته ثالث عاقالت ويشتركو يف مرحاض واحد يقع يف معازل‬
‫جبانب شجرة التّ ‪ ،‬ال يكو شاغرا إال لِمامًا كما أنّهم يشاتركو‬
‫‪52‬‬
‫يف مدخ واحد للبناية يظ ّ بابه اخلشيبّ الثّقي مفتوحًا طوال النّهار‪،‬‬
‫ويغلق فيما بعد صالة العشاء وقب صالة الصّابح عناد خاروج‬
‫احلاجّ عبد اهلل مؤذّ املسجد‪ ،‬وتتغيّر تلك الفترات بتغيُّر طول اللّيا‬
‫والنّهار‪.‬‬
‫أحدث ثق الباب صريرًا مز ِعجًا‪ ،‬بعد أ دفعه برفاق «ملااذا‬
‫يعجزو عن طلي هذه الرّزز الصّدقة بالزّيت أو الدّهن؟!»‪ ،‬وجاد‬
‫نفسه بالدّاخ ‪ ،‬مثّ ارتقى سلّما انتهى به إىل الطّابق الثّاين واألخاري‪.‬‬
‫مشى على يساره يف الرّواق‪ ،‬وبعد مخسة أمتار توقّف‪ .‬طرق البااب‬
‫برفق وأعاد الكرّة‪ ،‬بعد مرور الثواين مل يسفر ذلك عن أيّاة نتيجاة‬
‫تذكر‪ .‬مرّت ثالث دقاقق على وقوفه أمام الباب فأعاد الطّرق مارّة‬
‫أخرى ولكن بقوّة هذه املرّة‪.‬‬
‫"يا محار اقتلع الباب‪ ..‬انتظر‪ ..‬انتظر!"‬
‫مسع وقع خطوات حافية ترج األرضية رجاّّْ وما هي إالّ حلظات‬
‫حتّى فتح الباب‪ .‬رأى شخصا منتصبا أمامه ويده ما تزال على مقبض‬
‫الباب‪ .‬نطقت عيناه احملمرّتا وندبة شفته العليا بالغضب‪ .‬كا جفناه‬
‫متالصق عند ظهوره أمام الباب‪ ،‬مثّ بدآ يف االنفراج شيئا فشيئا بعد‬
‫أ ألفَا النّور السّاطع يف اخلارج‪ .‬كا يف التّاسعة والعشرين يف مثا‬
‫طول أمحد متاما جبسم مكتنز ميي إىل الضخامة‪ ،‬وَشعر متجعّد وأنف‬
‫صغري ينتهي بفتحت منفرجت وتظهر على أرنبته ندباة حديثاة‪،‬‬
‫كانت خملّفات آخر شجار خاضه منذ أيّام‪ .‬ظهر جبسامه اململاوء‬
‫وصدره العاري ومل يكن يرتدي إالّ شورتا قصريا أط ّ باطن جيباه‬
‫األيسر منه إىل اخلارج‪.‬‬
‫"هذا أنت؟!"‬
‫‪53‬‬
‫فرك عينيه وحرّك أصبعه يف زاوية عينه ليمسح القذى عناها‪.‬‬
‫أفسح له الباب فأصبحا يف الدّاخ ‪ ،‬استلقى أمحد على أريكة قدمية يف‬
‫شقّة‪ .‬كا املكا ضيّقا ال يتّسع لوضع قطاع‬ ‫الفراغ املقاب ملدخ ال ّ‬
‫أخرى من األثاث حبيث انتشرت الفوضى يف ك ّ شرب من املنازل‪،‬‬
‫رأى جوربا ملقى على األرض وفردته الثّانية تتدلّى مان احلاذاء يف‬
‫أقصى البهو وكأنّها تريد أ تزحف لتلحق بصديقتها‪.‬‬
‫وضعت على طاولة أمامه مرمدة مليئة بأعقاب السّجاقر وملاح‬
‫بعضا منها كا مرميّا على األرضيّة الّيت مل متسح منذ عدّة أسابيع‪.‬‬
‫"يا أخي‪ .‬ملاذا ال تقلع عن تدخ هذه احلشيشة"‪.‬‬
‫قطّب «سفيا » حاجبيه اعتراضا على قوله وقال مدافعا عان‬
‫نفسه‪:‬‬
‫"أوه‪ ...‬لقد بدأ الواعع التقي الطاهر أبو اخلشوع والاورع يف‬
‫إلقاء نصاقحه؟"‬
‫تأفّف مثّ غلبه التثاؤب ولكن روح السّخرية أبات أ تغاادر‬
‫حديثه فقال جبفاء ظاهريّ‪:‬‬
‫"أفسدت نومي وتريد اآل أ تفسد يومي حبديثك املشؤوم"‬
‫مل يب أمحد عن هذا السّؤال وعوضا عن ذلك راح يبتسم‪.‬‬
‫"ه تعلم‪ .‬هه؟‪ ..‬أنت تبدو خمنّثا‪ ..‬هه هذا الشُّورت الضّيّق‪...‬‬
‫أال متلك غريه؟"‬
‫"تأدّب يا بغ أنت يف حضرة سيدك هنا لذلك اجلس وكفاناا‬
‫فنتازيا وثرثرة"‬
‫ذهب إىل احلمّام حيث غاب لدقاقق ورجع ليجلس على الكرسيّ‬
‫ووجهه يقطر باملاء إما نسي مسحه باملنشفة أو أ مجيعها متّسخة‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫"ملاذا مل تأت البارحة‪ ،‬كانت مباراة جيّدة‪".‬‬
‫"كنت مرهقا‪ ،‬كما أ ّ ركبيت ما زالت تاؤملين‪ .‬ال أرياد أ‬
‫أجازف"‪.‬‬
‫"دافيد بيكام مثال؟"‬
‫انشقّت شفتاه عن ابتسامة خافتة‪ ،‬ورغاب يف تغايري جمارى‬
‫احلديث‪.‬‬
‫"ه مسعت باجلرمية الّيت حدثت منذ يوم يف احليّ اإلداريّ؟"‬
‫"نعم‪ ،‬ومن ال يسمع‪ ،‬أظنّها ضغاقن ال أكثر"‬
‫"هذا ما أظنّه أيضا ولكن لألسف ال تزال هوية القات جمهولاة‬
‫متاما وهذا ما جعلين أطلب مساعدتك"‬
‫"مساعديت؟ كيف أساعدك؟"‬
‫قطّب سفيا حاجبيه وبدا قلقا‪:‬‬
‫"ال ختف فلن أورّطك يف شيء‪ .‬أريد منك بعاض املعلوماات‬
‫فقط‪".‬‬
‫"ال‪ .‬ال لست خاقفا ال أحبّ أ أضع نفسي يف موقف الواشي‬
‫ولكن ال بأس ق ما تريد ربّما أستطيع مساعدتك"‬
‫هيّأ أمحد نفسه ليسرد الوضع بطريقة مالقمة‪.‬‬
‫"حدثت منذ مدّة جرمية قت راح ضحيّتها املدعوّ بوبكر جياليل‬
‫ه تذكره؟"‬
‫اكتفى سفيا هبزّ رأسه إىل األمام والوراء‪.‬‬
‫"كا فيما يبدو أنه يف نزاع مع شخ آخر ولساوء حظّاه‬
‫امتلك ذلك اخلصم مسدّسا يرجّح أنّه من قام بقتله"‪.‬‬
‫صمت برهة ليترك اجملال للتفكري مثّ واص ‪:‬‬
‫‪55‬‬
‫"هناك صلة ب القضيّت أل ّ املسدّس املستعم يف القضاء على‬
‫«بوبكر جياليل» مشابه متامًا للمسدّس الّذي قت به يوسف قدادرة"‪.‬‬
‫"دقيقة واحدة" قطع احلديث بإشارة من يده‪ .‬أبرقات عينااه‬
‫بغموض غريب مثّ هنض من مكانه متحمّسا ومادّ ياده يف جياب‬
‫سرواله امللقى على مسند الكرسيّ‪ .‬أخرج سيجارة ورقاقة لفّ تباغ‬
‫بيضاء‪ .‬نظر إليه أمحد باستغراب‪ ،‬كا يعرف اإلجابة مسبقا ولكنّاه‬
‫رغم ذلك قال متساقال‪:‬‬
‫"سفيا ماذا تفع ؟"‬
‫"تريد املساعدة أم ال؟ إذ يب عليّ التّركياز ألمتكّان مان‬
‫التّذكّر‪ .‬وال أستطيع ذلك من دو هذه"‬
‫وأشار بيده إىل قطعة صغرية من القنب كانت يف باطن كفّاه‪.‬‬
‫أمسكها بأطراف أصابعه وقام بتسخينها عدّة مرّات متقطّعة بواسطة‬
‫الوالّعة‪.‬‬
‫"مازلت أذكر ذلك اليوم جيّدا‪ ،‬وذلك عند مروري مبقربة مان‬
‫مكا احلادثة مسعت طلقات نارية‪ .‬ظننت أننا يف يوم املولد النّباويّ‬
‫وكانت تلك األصوات أشبه مبفرقعات األلعاب النارياة‪ .‬هرولات‬
‫مباشرة حنو مصدر الصّوت ملبّيًا نداء الفضول‪ .‬أصبت بالذّعر وأناا‬
‫أرى حلقة من البشر حتيط جبسد طريح‪ .‬اقتربات مادفوعا برغباة‬
‫االستطالع ومل تكد عيناي تقعا عليه حتّى عرفته‪ .‬كا ذلك اجلسد‬
‫لبوبكر نفسه"‪.‬‬
‫صمت حلظة قصرية أطرق خالهلا برأسه إىل األسف وبعثر التبغ‬
‫يف باطن كفّه اليمىن مثّ رشّ فوقه فتات قطعة القنب املساخّنة علاى‬
‫الورق األبيض الرّفيع‪ّ ،‬مث لعق طرفيْه بلسانه كغراء طبيعيّ ولفّه بعناية‬
‫‪56‬‬
‫ورفق حتّى تكوّر وأصبح على شك سيجار كويبّ‪ ،‬ودو أ يرفاع‬
‫بصره عن اللفافة استطرد قاقال‪:‬‬
‫"مسعت أحدهم يقول أ ّ بوبكر دخ مع اجلماعاة يف صاراع‬
‫حادّ منذ أشهر وربّما كا سوء التفاهم ما فرّق مشلهم‪".‬‬
‫"أخربين عن هذه اجلماعة؟"‬
‫امتأل وجه سفيا بتعبري ينمّ عن خطورة ما سيقول فتعمّد الصّمت‬
‫ملدّة ليضفي أمهّيّة على ما سيقول‪ .‬كا يبدو أنّه يعطي درساا لتلمياذ‬
‫مقب على امتحا مهمّ‪ .‬ووسط ك ّ اجلدّيّة الّيت أبداها أمحد وهو يستمع‬
‫للقصّة اشتعلت نقطة بارزة بنفسجيّة يف هناية السّيجار مثّ خفتت فجاأة‬
‫وانطلق منها دخا كثيف يتراق يف اجلوّ متأللئًاا كساحابة تغشاى‬
‫املكا ‪ .‬نظر سفيا من خالل غيمة الدّخا إىل أمحد وقال‪:‬‬
‫"مجاعة اهلواري"‬
‫غاب أمحد عن الوجود عند مساع ذلك االسم جمادّدًا قبا أ‬
‫يستفيق من غيبوبته‪.‬‬
‫"توقف حلظة!‪ ،‬ه قلت يل هواري؟‪ ...‬أنت تقصد هاواري‬
‫ولد ماريا؟!"‬
‫تكاثف الدّخا يف اهلواء فتصاعد وكوّ غيمة قامتة يف السّقف‪.‬‬
‫"نعم" نفث الدّخا السّامّ من فمه وبدا وكأنّه يستمتع بتعذيب‬
‫أمحد من خالل تقطري اإلجابة قطرة قطرة‪ .‬تابع بعينيه عماودا مان‬
‫الدّخا كا يتماي يف اهلواء صاعًدا حنو السّقف‪.‬‬
‫"أطلق سراحه بعفو رّقاسيّ منذ أشهر"‪.‬‬
‫صمت كالمها فترة وجيزة من الزّمن وقد خيّم علاى املكاا‬
‫سكو عميق شبيه مبا يكتنف الوسيط من هدوء قب إحياء الطّبياب‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫كا مثّة ضوء خافت ينساب من نافذة مطلّة على الفسقيّة‪ ،‬بدا وكأ‬
‫ظلمة املكا تتفق مع جوّها الضّبايبّ‪ .‬احنىن أمحد برأسه لألمام واتّكاأ‬
‫مبرفقيه على ركبتيه وأوحت عيناه الثّابتتا وحاجباه املرتفعا بأمهّيّاة‬
‫ما سيقوله‪:‬‬
‫"ه سبق وأ رأيت أحد هؤالء األشخاص يف سايّارة روناو‬
‫سوداء اللّو من طراز ‪ ،R18‬أقصد يف هذا احليّ أو رمباا شخصًاا‬
‫آخر‪ .‬تذكّرْ أرجوك"‬
‫"ما دخلها يف املوضوع؟"‬
‫"يا صديقي؛ القات الّذي نبحث عنه فرّ يف هذه السّيّارة"‬
‫"لست أذكر أين رأيت مث هذه السّيّارة منذ زمن بعيد‪ ،‬ها‬
‫أنت متأكّد أنّها رونو ‪R18‬؟"‬
‫"متأكّد"‪.‬‬
‫مدّ رجليه يف استياء وغااص يف األريكاة‪ ،‬أحاسّ بأطرافاه‬
‫تستجيب خليبة األم إذ اعترته رغبة ملحّة للتّدخ ‪.‬‬
‫"أدر السّيجارة وال تكن أنانيًّا!"‬
‫استرخى كالمها يف هدوء بديع يصغيا لتأمُّالهتما الباطنيّة‪.‬‬
‫"سفيا ‪".‬‬
‫نادى أمحد وبدا على وجهه آي التّردّد ولكنّه قاال أخاريًا يف‬
‫هدوء مفعم بنشوة خمدّرة‪:‬‬
‫"سيّاريت عند امليكانيكيّ‪ .‬أريدك أ تقرضين مبلغا من املال"‬

‫‪58‬‬
‫«تغيّرت حياته منذ ذلك اليوم‪ ،‬حني رفضه العامل وختلّى عنهه‬
‫اجلميع‪ .‬انساب كاحليّة الرّقطاء يتتبّع وهاد الضّياع ويتيه يف مروج‬
‫النّسيان‪.‬‬
‫سرت يف شرايينه دمهاء قوونهة باحلوها واومل والكهر ‪،‬‬
‫وتضمّخت أنفاسه املتسارعة برائحة الغار‪ .‬تذبذبت خطواته الثّويلة‬
‫حتت تأثري الكحول‪ .‬ووسط فناء مهجور وجها اهالّته هنها ‪.‬‬
‫سكون سرمايّ مثّ ظالم أبايّ‪ .‬تويّأ كلّ ما يف جوفه وبصق مرارة‬
‫فمه على اورايّة الوذرة‪ .‬رأى الرّجوع إىل الوراء أمرا مسهتحيال‬
‫كما يُستحال إرجاع هذا الويء إىل معاته‪.‬‬
‫استسلم للحزن فافن وجهه بني يايه وأجهش بالبكاء‪ .‬هبّت‬
‫ريح مسوم‪ ،‬محلت معها ذرّات الغبار وشكّلت زوبعة حول جسا‬
‫املنحين‪ ،‬كشولة عورب وسط الصحراء‪».‬‬

‫‪59‬‬
‫‪-12-‬‬

‫استردّ أمحد نظره من اجلريدة بعدما أحسّ بوقوف الفىت أماام‬


‫الطّاولة‪ ،‬كا مشمّرا عن ساعديه وأبدى استعدادا لتلبية طلب زبونه‪.‬‬
‫ولكن رؤيته لتلك البقع الدّاكنة أثار يف نفسه امشئزازا‪ .‬فكّر ّمث قادّر‪،‬‬
‫وأخريًا قام بطلب شيء ال تستطيع هاتا اليدا القذرتا أ تقوماا‬
‫بإعداده أو ملسه مباشرة‪.‬‬
‫اوف‬ ‫اادل ملفا‬ ‫ام‪ ،‬وما‬ ‫اغرية احلجا‬ ‫اي صا‬ ‫اارورة بيبسا‬ ‫"قا‬
‫بالبالستيك"‪.‬‬
‫وضع ثالث أصابع من يده على جانب جبهته وضغط بقوّة‪ .‬بدأ‬
‫اليوم مستيقظا على إثر الصّداع النّصفيّ ولكنّه اكتفى بشرب قارص‬
‫أسربين دو أ ينقُ من األمل شيئٌ‪ .‬بعد حلظات عاد الشّاابّ ذو‬
‫األظافر احملشوّة‪.‬‬
‫ر ّ اهلاتف يف جيبه وكا االتّصال من بدر الدّين‪.‬‬
‫"السّالم عليكم‪ ،‬كيف احلال؟"‪...‬‬
‫"تأكّدت من القاقمة إذ "‪...‬‬
‫"نعم صاحب ذلك الرّقم"‪...‬‬
‫"امرأة؟ متأكّد"‪....‬‬
‫"زهيّة برّاشد‪ .‬ه متلك عنواهنا؟"‪...‬‬
‫"حسنا ال بأس سأطلبه من كهينة‪ .‬شكرًا لك"‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫أقف اخلطّ مثّ انزلق املشروب املنعش يف حلقه بسالسة‪ ،‬وبعاد‬
‫ذلك عاد إىل الصّحيفة جمدّدًا وتابع قراءة عمود السّياسة الّذي توقّف‬
‫عنده‪ .‬ختطّى بضع صفحاتٍ مثّ ركّز نظره على عمود آخار ملفكّار‬
‫اقتصاديّ‪ .‬رمى يف فمه قطعة من املادل وسكب على إثرها جرعت‬
‫كبريت من املشروب الغازيّ‪ .‬ردّد بصره ب العناوين العريضة وكا‬
‫أغلبها جمترًّا ال خيرج عن املألوف‪ .‬كا العمود جمرّد زعيق منظوم يف‬
‫نثر ال يسترعي االنتباه وال حيرّك عاطفة أو خاطرة ما إالّ التّذمّر مان‬
‫ثق ظ ّ كاتبه‪ .‬قلب اجلريدة إىل صفحة أخرى‪ .‬ضااقت عينااه يف‬
‫تلك اللّحظة وتقوّست كتفاه وهو ينحين فوق اجلريدة‪ .‬وضع أصبعا‬
‫على خرب واضح يف صفحة االجتماعيّات‪.‬‬
‫"مجاعة إرهابية تغتال مدير البناء والتعمري لوالية معسكر أماام‬
‫مقرّ إقامته‪.".‬‬
‫ملّا انتهى من قراءة ذلك التّقرير طوى اجلريدة وطوّح هبا علاى‬
‫املاقدة‪ .‬غري مكترث للماء الّذي المس أطرافها‪.‬‬
‫"شيفو ال حتقيق وال متحي ‪ .‬صحافة كاذبة وسياسة منافقة‪".‬‬
‫عبّ ما تبقى يف الزّجاجة من عصري مثّ مح ما تبقّى من املادل‬
‫ولفّه باجلريدة وهو يداري ختوّفه من أ يراه أحد وهو يقوم بذلك‪.‬‬
‫كانت السّيّارة بعد استرجاعها من امليكانيكيّ تبادو يف حالاة‬
‫مستقرّة وهو يعرب هبا حيَّ «فوبور» مرورا مبسجد عثما ابن عفا ‪.‬‬
‫انعطف إىل منحدر على يساره‪ .‬وعلى بعد مخس مئة متر تراءى لاه‬
‫املبىن الرّقيسيّ للشّرطة الوالقيّة‪.‬‬
‫فح هذا الصّباح نسبة الزّيت واملرشّح اجلديد قب أ يهادر‬
‫احملرّك‪ ،‬مل يتعوّد بعدُ على األزيز املزعج الّذي يصدره أثناء القيادة‪...‬‬
‫‪61‬‬
‫أثناء ذلك عرب بذهنه خاطرٌ مل يكد خيبو أثره حتّى الاتقط اهلااتف‬
‫ورفعه حنو أذنه‪ .‬مرّت عشر ثوا قب أ يسمع صوتا ناعما من اجلهة‬
‫املقابلة‬
‫"ألو‪ ..‬صباح اخلري‪ ".‬كا صوتا أنثويّا مألوفا‪.‬‬
‫"صباح اخلري كهينة‪ .‬كيف احلال؟"‬
‫"خبري شكرًا لك‪ .‬وأنت كيف أحوال العم ‪".‬‬
‫"عجلة التّحقيق تدور ببطء ودرجة احلرارة ال تطاق"‬
‫مل يكن هذا ما يصبو إليه من خالل مهاتفتها ولكنّه اكتفى هبذا‬
‫القدر‪.‬‬
‫"تبدو قلقا"‬
‫ووقع احملذور‪...‬‬
‫شعر باخلج وكأنّها بسؤاهلا عرّته كامال وكشفت ما يدور يف‬
‫خلده‪.‬‬
‫"أعاين الصّداع النّصفيّ‪ ..‬أنا وساط االزدحاام وأتوجّاه إىل‬
‫العم "‬
‫كا يبذل جهدًا جلع احلديث سلسا عن طريق التّحادّث يف‬
‫أمور ساذجة‪ ،‬لع ّ اتّصاله كا سربا ملعرفة رأيها حوله فقط‪.‬‬
‫"مممم الصّداع النّصفيّ‪ ،‬ه تضع قبّعة على راساك باساكو‬
‫السخانة اليوم"‬
‫"وي السّخانة ال حتتم ولكن ال أحبّ القبّعات إنّها تضايقين"‬
‫"األعشاب الطبية جيدة البدّ أ جترّهبا ستكو ‪"...‬‬
‫ارتبك صوهتا يف اجلملة األخرية قب أ تتحوّل للحديث ماع‬
‫شخ آخر‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫"أرجو املعذرة أحدهم أراد استعمال الفاكس"‬
‫آه لقد برح اخلفاء؛ كا ميكنها فقاط طلاب العفاو عان‬
‫املقاطعة ولكنّها أظهرت السّبب لدحض ك ّ احتمال يربطهاا ماع‬
‫أحد‪ ،‬البدّ أنّها ختلي له الطّريق هبذه املناورة الرّاقعة‪ .‬نشاط خيالاه‬
‫سريعا ومتنّى لو ينكشف حجاب املظاهر فتتجلّاى األماور علاى‬
‫حقيقتها‪.‬‬
‫"شكرًا لك كهينة ال أريد أ أطي عليك ولكنّي أودّ منك طلبًا‬
‫صغريًا"‬
‫"نعم بالطّبع تفضّ أمحد‪".‬‬
‫"أريد عنوا أحدهم‪ ،‬تدعى برّاشد زهيّة"‪.‬‬
‫"حسنا دقيقة‪"...‬‬
‫"املنطقة الثامنة عمارة د‪ 40‬رقم ‪."147‬‬
‫دوّ الرّقم على مفكّرته" ه من طلب آخر؟"‬
‫"ال‪ ..‬شكرًا لك كهينة فقط أريد‪ ."...‬وشى صاوته بارتبااك‬
‫واضح‪.‬‬
‫"ماذا تريد؟"‬
‫"فقط‪ ...‬ال شيء مهمّ سنلتقي الحقا وشكرًا على املساعدة"‬
‫أغلق اخلطّ وشعر برغبة ليصفع نفسه وينتقم من انتكاستها الّيت‬
‫جرّته اآل إىل ندم عميق‪ .‬ركن السّيّارة حتت ظ ّ الشّجرة الّيت علاى‬
‫حافّة الرّصيف وكانت تبعد مخس مترًا عن مقرّ الشّارطة‪ .‬عناد‬
‫دخوله إىل املبىن وجد شخصًا يعرفه حقَّ املعرفة‪ ،‬جسم مكتنز وجب‬
‫يتصبّب عرقًا على مدار العام كا يدعى كمال‪ .‬تبادال حتية مقتضابة‬
‫مثّ سأله كما اعتاد أ يفع عند هناية ك ّ شهر‪:‬‬
‫‪63‬‬
‫"ه تلقّيت راتبك؟" تطلّع إىل اجلواب ومتنّى أ يكاو نعام‬
‫ولكنّه كا خميّبًا لآلمال حبيث تكلّم كمال خبربته املعهودة يف معرفاة‬
‫أجر ك ّ عام وحتّى املدير‪ ،‬كما كا على اتّصال بأحد عمّال مقرّ‬
‫الربيد حيث يتمّ تسديد الرّواتب‪.‬‬
‫"ال ليس بعد‪ ،‬هذا الشهر سيحص تأخري على ما أظنّ‪ .‬بسبب‬
‫مشك السّيولة‪ .‬ربّما األسبوع القادم سنستلم رواتبنا بإذ اهلل"‬
‫كا أمحد يهمّ باملغادرة ويف تلك األثناء وصلت سيّارة شارطة‬
‫توقّفت أمام املدخ بعنف‪ .‬ترجّ منها شرطيّا مثّ أعقباهم شاابّ‬
‫مقيّد باألصفاد‪ .‬تطاير الشّرّ من عينيه وقد تبعه على األثر شارطيّا‬
‫آخرا كانا يف تلك اللّحظة قد دارا حول السّيّارة ليتمكّنا من اللّحاق‬
‫باآلخرين وقد القوا صعوبة يف دفعه إىل الدّاخ ‪ .‬بدا كثور هااقج يف‬
‫حلبة املاتادور يتربّ به الرّجال بأرديتهم القوطيّة وأوشحتهم احلمراء‬
‫الّيت تثري غضب الثّور فيزداد حنقًا على الرّغم من إصاابته‪ .‬يارتطم‬
‫بأجسام الشّرطيّ ليتحرّر من قبضاهتم اخلشنة‪.‬‬
‫"انتظر حلظة ريثما نتولّى أمره!" التفت أمحد إىل كمال الّاذي‬
‫قال ذلك حبماس مثّ طار من مكانه على الرّغم من بدانتاه املفرطاة‬
‫ارجتّت وهتدّلت طيّات كرشه الضّخمة وهو يركض مسارعًا حناو‬
‫اجلوقة ملساعدهتم على إدخال الثّور‪ ،‬وكانت كرشه تتحارّك مييناا‬
‫ومشاال‪ ،‬أعلى وأسف ‪.‬‬
‫كا املكا يضجّ بالفوضى‪ ،‬وضرباتُ األقدام العنيفاة علاى‬
‫األرضيّة الغرانيتية هتزّ املكا ‪ ،‬وما هي إالّ حلظات قليلة حتّى وقفات‬
‫عند املدخ امرأة تتلفّع جبلباب أسود وتغطّي رأسها خبماار أبايض‬
‫يظهر سنّها من خالل مالحمها أنّها يف هناية العقد اخلامس‪ .‬كا يقف‬
‫‪64‬‬
‫إىل جانبها شابّ ال يتعدّى العشرين شديد الشَّبَه هبا‪ ،‬أمّا اآلخر فكا‬
‫سنّه يربو على السّتّ ‪ .‬وزيادة على تشابه املالمح كا التّجهّم هاو‬
‫القاسم املشترك بينهم‪ .‬وما إ اختفى الشّابّ عن أنظاارهم وهاو‬
‫يغادرهم حتّى دخلت العاقلة يف نقاش حادّ مع شرطيّ آخر‪.‬‬
‫مل يعد كمال كما كا قب تدخّله‪ .‬بدا وكأنّه غطس يف بركة‬
‫من العرَق‪ ،‬كا يلهث بشدّة وهو ميسح العرق براحة يده مثّ يرشّاه‬
‫على األرض بكيفية حترّك التّقزّز‪ ،‬حركة عنيفة‪.‬‬
‫"باهلل عليك فهّمين ما خطب هؤالء؟!" سأله أمحد وهو ينظر إىل‬
‫قطرات العرق على األرضيّة‪ .‬لقد كا الرّج آية يف السّمنة حبيث مل‬
‫يبق ثقب آخر يف احلزام ليتالءم مع قطر بطنه املتدلّية‪.‬‬
‫"كا فارًّا منذ أيّام‪ .‬ولكن أفرادنا تعقبوا أثره حتّى وقاع با‬
‫أيديهم"‪.‬‬
‫"ما سبب االعتقال وماذا فع ليفرّ"‬
‫"متّهم باالختطاف واالبتزاز"‬
‫"اختطاف ماذا؟"‬
‫هزّ كتفيه قاقال‪" :‬فتاة"‬

‫‪65‬‬
‫‪-13-‬‬

‫أشارت ساعة احلاقط إىل اخلامسة إال الرّبع ومال عمود الشّمس‬
‫املتسلّ عرب النّافذة ميلة استقرّ موضعه على بقعة من األرضيّة جباناب‬
‫الصّوا وما هي إالّ حلظات حتّى تعالت أصوات املآذ معلنة دخول‬
‫وقت العصر‪ .‬هنض من مكانه بتثاق ‪ ،‬وذهب إىل املغتس ‪ ..‬اكتشف‬
‫أ ّ املاء مل يص إىل شقّته منذ ثالثة أيّام‪ ،‬ونسي أ ميأل القاارورات‬
‫الفارغة قب انقطاعه‪ ،‬ولكنّه عثر حتت ا َملجْلَى يف املطبخ على قارورة‬
‫مليئة نسيها هناك منذ مدة فالتقطها وذهب هبا حنو احلمّاام فغسا‬
‫إبطيه باملاء مثّ وجهه بالصابو ومسّد شعره باملشط وغس أسانانه‬
‫املتبقيّة وهو ينظر إىل وجهه من خالل املرآة‪ ،‬بصاق يف احلاوض مثّ‬
‫مضمض‪ .‬بعد لقاء معبودته كهينة ‪ -‬بدأ يقلق حيال مظهاره العاامّ‬
‫ويوليه عناية خاصّة وال يكاد خيرج من املنزل إالّ واملرآة تشكو كثرة‬
‫مرور شبحه على أدميها‪ .‬عرب رواقا ضيّقا حنو حجرة النّاوم وفاتح‬
‫خزانة املالبس مثّ تناول يت شريت أخضر اللّو من القطن الصّاناعيّ‬
‫بدو أزرار وذو أكمام قصرية تشك ياقته حرف ‪.V‬‬
‫تطلّع إىل املرآة وهو يستظهر صورته يف مالبسه اجلديدة آلخار‬
‫مرّة‪ ،‬أعاد ترتيب شعره وتثبيته مبرهم رخي ‪ .‬فتح الربّاد وألفاه فارغا‬
‫تقريبا ال حيتوي إالّ على علبة خردل‪ ،‬علبة جنب بقي بداخلها قطعتا‬
‫فقط وجبانبهما أقراص الكاشري اخلمس وحبّاات الليماو يف درج‬
‫‪66‬‬
‫اخلضروات باألسف وعلى الرّفوف قارورة املاء األخرية‪ ،‬صنع لنفسه‬
‫سندويشا من اجلنب والكاشري املتبقّي مثّ قام بلفّه يف ورق السّيلوفا‬
‫شقّة وغادر املكا ‪.‬‬ ‫ليلتهمه يف اخلارج‪ ،‬أقف باب ال ّ‬
‫كانت السّاعة تشري إىل اخلامسة ومخس دقاقق عندما شغّ حمرّك‬
‫السّيّارة مثّ انطلق عرب الطّريق ببطء‪ ،‬وازدادت سرعته تادرييّا ماع‬
‫دخوله يف الطّريق الرّقيسيّ‪.‬‬
‫السّاعة اخلامسة والرّبع‪ ،‬وال يزال عالقا وساط االزدحاام يف‬
‫منتصف الطّريق‪.‬‬
‫السّاعة اخلامسة وثالث دقيقة‪ ،‬يقف عند إشارة املرور ينتظار‬
‫الضّوء األخضر‪.‬‬
‫السّاعة اخلامسة وأربعو دقيقة‪ ،‬يدخ حيّ املنطقاة الثامناة‬
‫ويركن السّيّارة يف جانب الطّريق‪.‬‬
‫نظر إىل العنوا املدوّ يف الورقة وهو يقف أمام عمارة مكوّنة من‬
‫أربعة طوابق‪ ،‬ارتقى السّلّم ببطء وقد بدأ يتعرّق من جديد‪ .‬توقّف عناد‬
‫الطّابق الثالث ليلتقط أنفاسه‪ ،‬أحسّ بأ ّ لياقته البدنية تفقد مرونتها ربّما‬
‫بسبب توقّفه عن ممارسة الرّياضة ملدّة طويلة‪ .‬مسح العرق املتصبّب على‬
‫جبينه بباطن كفّه مثّ جفّفه على طرف قميصه‪ .‬انعطف على ميينه وطرق‬
‫باب الشّقّة مثّ جاء صوت املزالج ينبّهه إىل انفتاح الباب‪ .‬ظهار رجا‬
‫مسنّ يف عباءة بيضاء له شاربا مقصوصا بعناية‪ .‬مل يكن هناك أرقاام‬
‫على جانب الباب‪ .‬حدجه الرّج بنظرة متساقلة‪:‬‬
‫"آسف على إزعاجك سيّدي‪ .‬ه هذه شقّة برّاشد؟"‬
‫اضطرّ أمحد للسّؤال بعد أ علم أنّه طرق الباب اخلطأ فأشاار‬
‫شقّة املقابلة ودو‬
‫الرّج إىل الباب املقاب ‪ .‬استدار أمحد وتقدّم حنو ال ّ‬
‫‪67‬‬
‫تردّد مدّ يده ضاغطا على زرّ اجلرس‪ .‬مرّت عشرو ثانياة مثّ أعااد‬
‫الضّغط على اجلرس مرّة أخرى‪ .‬مرّت مخس ثوا أخرى‪ .‬مسع صوتا‬
‫رقيقا أنثويّا خيترق الباب لتص إىل مسامعه كلمة‪" .‬نععععم"‬
‫فتح الباب عن فم أمحر وعين خضراوت وشعر متموّج أشقر‪.‬‬
‫من خالل ما كانت ترتديه علم أمحد أنّها إمّا أتت من العم للتّوّ‪ ،‬أو‬
‫أنّها تستعدّ للخروج‪ ،‬رفعت حاجبها املرسوم بدقّة ومل تدار ارتباكها‬
‫ح نظرت إليه‪ .‬كانت تبدو فاتنة بارتداقها للجينز األزرق الفااتح‬
‫ويت شريت ذا لو ورديّ بدو ياقة مشبك بورود تبدأ ناحية الصّدر‬
‫لتنتهي وسط منطقة البطن‪ .‬كا جيدها النّاعم متّصال بأعلى صادر‬
‫ناهد با شقّه من خالل ياقة الّيت شريت الواسعة وقد تدلّى قرطاا‬
‫ذهبيّا على شك فراشة من شحمة أذهنا ومتنطقت حبزام رقيق حول‬
‫بطنها ليربز حدود منطقة اخلصر ويرسم احنناءاته بدقّة‪.‬‬
‫"زهيّة برّاشد؟"‬
‫سأل أمحد بأدب وجتنّب النّظر إىل احنناءاهتا‪.‬‬
‫"نعم‪ .‬من أنت؟"‬
‫سألته بنربة حامسة تعوزها الرّقّة بعض الشّيء‪.‬‬
‫أظهر بطاقة الشّرطة على مرأى من ناظريها‪ .‬أحسّ بانزعاجهاا‬
‫وهو يرى تلك النّظرة املتفحّصة الّيت رمقته هبا‪.‬‬
‫"أنا املكلّف بالتّحقيق يف قضيّة يوسف قدادرة أودّ التكلّم معك‬
‫لو مسحت"‪.‬‬
‫تنحّت جانبًا وأذنت له بالدّخول حبركة من يدها‪ .‬داعبَ أنفُاه‬
‫راقحةَ عطرها الزّكيّ وهو ميرّ جبانبها يف شبه المباالة‪ .‬كانت تضاع‬
‫«املاسكارا» وتصبغ شفتيها بأمحر الشّفاه‪ .‬مسع كثريا ب أقراناه أ‬
‫‪68‬‬
‫هناك نساء بشعات يظهر بشك مغاير بعد وضع املساحيق ولكا ّن‬
‫األمر هنا خيتلف اختالفا تامّا؛ فصاحبة هذه العجيزة الطريّاة تبادو‬
‫وكأنّها خرجت من إحدى اجملالّت‪.‬‬
‫طلبت منه اجللوس على أريكة مرحية يف قاعة الضّيوف‪ ،‬كاا‬
‫أثاث بيتها مرتّبا ومتناسقا ذات طابع أنثويّ ينم عن ذوق رفيع‪ .‬فجأة‬
‫قفز إىل ذهنه بدو سابق إنذار شك بيته الكارثي وحاول جاهادا‬
‫إغضاء الفكرة عن رأسه ولكن بدو جدوى فقاد كاا النظاام‬
‫والتناسق يف تلك الصالة يدعوانه إىل التّفكري بغرفته‪ .‬اختفت برهة من‬
‫الزّمن مثّ عادت حتم ب يديها صينية عليها ابريق شاي وقدح مااء‬
‫وضعت ك ّ ذلك فوق املاقدة‪.‬‬
‫"ملاذا أتعبت نفسك سيّديت‪ ،‬لن أطي عليكم" أحسّ حبرج كبري‬
‫حنو ما أبدته من كرم وكياسة تليق بالضّيوف أو ألنّه أيضا سيضاطر‬
‫لطرح أسئلة حمرجة‪ ،‬لذلك بدا مرتبكا بعض الشّيء وهو يتناول قدح‬
‫الشاي ليشرب آخر جرعة تأدّبا فقط‪.‬‬
‫رجعت زهيّة وقد طرأ عليها هالة من السّكينة والغموض مل يد‬
‫له تفسريا لطاملا كا خبريا بسلوك األشخاص وردود أفعاهلم فاآثر‬
‫الصّمت والتّريُّث حتّى يكوّ رأيًا خاصًّا حوهلا‬
‫"أريد توجيه بعض األسئلة خبصوص املرحوم يوسف"‬
‫الحع أ استياءًا جتلّى يف مالحمها عند ذكر الكلمة األخارية‪،‬‬
‫ولكنّها بدت هادقة من خالل استقامة ظهرها ونظراهتا املتمعّنة‪.‬‬
‫"خذ راحتك واسأل كما تشاء"‬
‫"وجدنا رقمك على القحة األرقام الّيت اتّصلت بيوسف يف نفس‬
‫اليوم الّذي قت فيه‪ ،‬وتصادف أ كا اتّصالك هو األخري"‬
‫‪69‬‬
‫"هذا صحيح" أجابت باقتضاب‪ ،‬مثّ كاوّرت قبضاة يادها‬
‫وبسطتها حتّى ابيضّت أطراف أصابعها‪.‬‬
‫"ه تشكّو يف أنين من قتلته؟"‬
‫"مل أقصد ذلك سيّديت‪ ،‬أريد التأكّد من ك ّ النقاط هذا ك ّ ما‬
‫يف األمر"‬
‫هزّت رأسها موافقة‪.‬‬
‫"إذ ما سبب اتّصالك يف هذا الوقت املتأخّر؟"‬
‫ساد صمت رهيب عقب إلقاقه السّؤال األخاري‪ ،‬وراح ينظار‬
‫إليها بع متفحّصة‪ ،‬ملح شبح تقطيبة على وجهها مثّ اختفت بسرعة‬
‫وح ّ مكاهنا نظرة جافّة وهدوء خيايلّ غري متوقّع من امرأة هبذا املظهر‬
‫الرّقيق‪.‬‬
‫"املرحوم مديري يف العم وزوجي أيضا"‪.‬‬
‫صعق لدى مساعه هذه اإلجابة وراح يتخي حياة يوسف الّايت‬
‫بدأ يلفها الغموض‪.‬‬
‫"زوجته؟" إذا مل يكن خمطئا فقد رأى زوجته منذ أيّاام‪ .‬أماا‬
‫هذه‪...‬‬
‫"أنا زوجته الثّانية" ظهر عدم االرتياح على مالحمه فوضحت أكثر‪.‬‬
‫"زواج عريف‪ ،‬األخرى مل تكن لتقب بذلك"‬
‫زواج عريفّ! هذا يفسّر اتّصااهلا يف ذلاك الوقات املتاأخّر‬
‫واتّصاالهتا املتكرّرة ولكن ما رأي زوجته األوىل وه تعلام بكا ّ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫طامنت من رأسها وهي جتفف دموعها يف هدوء‪ .‬مرت حلظات‬
‫جناقزية قب أ تسأل‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫"ه توصّلتم إىل معرفة القات "‬
‫"ال نزال يف طور التّحقيق ولكنّنا نبذل أقصى‪"...‬‬
‫مسحت وجهها بكفّيها مثّ مسّدت شعرها وجذبته إىل اخللاف‬
‫يف حركة أنيقة وراحت تطبق أصابعها وتبساطها مان جدياد يف‬
‫حركات عصبية‬
‫"مل أشأ أ أحضر اجلنازة‪ .‬أنت تعلم السّبب فهي لن تسامح‬
‫بذلك‪ .‬ال أستطيع تصديق أنه اغتي هكذا ببساطة‪ .‬إهنا الكارثة حباد‬
‫ذاهتا‪ .‬هلل درك أين الرقابة يف هذا البلد كيف يفر القات ببساطة مان‬
‫وسط املدينة وأمام العيا ؟"‬
‫"إنّها أوّل جرمية بالسّالح الناري منذ فترة اإلرهاب‪ ،‬ليس األمر‬
‫بتلك البساطة الّيت تعتقدينها‪ ،‬لقد كا مراقبًا من قب وقتلاه كاا‬
‫مدبَّرا ومدروسا بإتقا ‪ .‬ولذلك أريد أ أعرف إذا ما كاا املادير‬
‫يوسف على خالف مع أحادهم يف العما ‪ ،‬أو حتّاى يف حياتاه‬
‫الشّخصيّة؟"‬
‫تردّدت فترة وكأنّها تفكر فيما ستقوله‪.‬‬
‫"أظنّ أنّك تتحدّث عن شخ يدعى بطّيّب ماراد‪ ،‬خارج‬
‫مؤخّرا من السّجن"‬
‫أخرجته حبديثها من قوقعته وطفق يسأل بتركيز شديد‪:‬‬
‫"ولكن ما عالقة هذا األخري بيوسف؟"‬
‫سجن قب ثالث سنوات بتهمة التّزوير وتلقِّي الرُّشَى‪ .‬فقارّر‬
‫يوسف التّخلّ منه بعد حماكمته وفص هناقيًّا عن العم "‬
‫استقرّت عيناها اخلضراوا إىل ما وراء كتفياه وحادّقت يف‬
‫الفراغ وكأنّها تستدرّ من ذاكرهتا أحداثا قد طواها الزّمن‪ .‬الحت يف‬
‫‪71‬‬
‫عينيها نظرة جادّة‪ .‬جتعدت جبهتها بشك طفيف وحترّكت شافتاها‬
‫ببطء‪.‬‬
‫"كا غريب األطوار يف اآلونة األخرية وبالتّحديد قب أسبوع‪.‬‬
‫بدا مرتبكا على حنو مثري للذعر"‬
‫توقّفت عن الكالم وبدا التردّد واضحا على نرباهتاا فشاجّعها‬
‫أمحد على الكالم‪:‬‬
‫"واصلي من فضلك!"‬
‫"ظروف منزله مل جتع منه رجال سعيدا‪ .‬كانت تصرّفاته شاذّة‬
‫عن املألوف وكا يرفض أي تدخّ يف شؤونه"‪.‬‬
‫صمت كالمها دقيقة‪ ،‬مرّرت املندي على خدّها لتمناع دمعاة‬
‫حارّة من االجنراف‪ .‬غرزت أصابعها النّحيفاة يف شاعرها األشاقر‬
‫املتموّج وجذبته إىل اخللف حبركتها االعتياديّة‪.‬‬
‫"مع مَن كا متورّطا بالضّبط؟"‬
‫"شركة بناء خاصّة «تشييد وعمرا » كانات متعاقادة ماع‬
‫مؤسّستنا من أج جمموعة من املشاريع اهلامّة على مستوى الوالية"‪.‬‬
‫كانت تراقبه هبدوء وحذر فطري ملّا رأت ذلك الدّفتر الصّاغري‬
‫ب يديه وهو خيطّ عليه بعض العبارات‪ ،‬ودو أ يرفع بصره حنوها‬
‫سأهلا مرّة أخرى‪:‬‬
‫"مىت كانت آخر مرّة التقيتما فيها؟"‬
‫استقام ظهرها ووجّهت إليه نظرة قلقة‪ .‬كا يلس هبدوء‪ ،‬ينظر‬
‫إىل القَسِمات املرسومة بعناية فاققة‪ ،‬يتطلّع إىل اإلجابة من ب شفتيها‬
‫املطليّت بأمحر الشّفاه واللّت ملح فيهما مهًّا بالتّكلّم والتّردّد‪ .‬أطرقت‬
‫برأسها وعادت إىل الصّمت فترة وجيزة قب أ تقول يف األخري‪:‬‬
‫‪72‬‬
‫"يوم الثّالثاء‪ ،‬كنّا هنا معًا مثّ غادر بعد ذلك يف حوايل السّااعة‬
‫التّاسعة مساءا كعادته ك ّ يوم‪ ...‬مل أكن أعلم أنّهاا آخرحلظاات‬
‫حياته"‪ .‬وضعت يدها على فمها وأنفها لتكتم شهقة جارفةً كاادت‬
‫تغلبها‪.‬‬
‫خرج من الزّيارة مرهق األعصاب وقد ألفى الظّالم هابطًا مناذ‬
‫مدّة‪ .‬شعر برغبة للتّنفيس عن صدره فقد بدأت القضيّةتنزلق مبخلّفاهتا‬
‫إىل حياته نوعًا َما‪ ،‬اتَّجه إىل اجلانب اآلخر من الطّريق أيان ركان‬
‫سيّارته قب ساعة من اآل ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫‪-14-‬‬

‫كا املنزل كئيبا والوحدة القاتلة ختنقه مبخالباها احلاادّة‪ .‬فاتح‬


‫الثالّجة‪ ،‬شرب جرعة ماء مثّ حبث عن شيء يأكله ولكن الثالّجة كانت‬
‫فارغة‪ .‬أحسّ بالضّجر واتَّجه رأسا إىل الكمبيوتر‪ .‬تصفّح صفحته علاى‬
‫الفايسبوك كالعادة‪ ،‬قرأ مقالة إلحدى الصّفحات العلميّة مثّ فتح برياده‬
‫اإللكتروينّ كجري عادته‪ ،‬رساق روتينيّة‪ ،‬أغلبها ال يثري االنتباه‪ .‬أحاسّ‬
‫بالتّعب وأراد االستلقاء قليال وقب أ يطفئ اجلهاز وقع نظاره علاى‬
‫رسالة من ضمن الرّساق الواردة يف الربيد اإللكتروينّ‪ .‬توقّفت يده فوق‬
‫الفأرة فجاة وأعاد قراءة اسم املرسِ باهتمام‪ ،‬كا امسًا غاري ماألوف‬
‫ويوحي بالغرابة‪ ،‬فتح الرّسالة وكانت حتتوي على سطر واحد فقط‬
‫هارُ‬‫ها ال سغه‬‫هاا لَهه‬
‫هبا هًنه‬
‫سه‬‫هال تسح س‬
‫َفه‬
‫هة هًن ه ُا‬
‫ةانسيه‬
‫هجَيةَ نسف هلّ ك هلّ َّ‬
‫سسه َّ‬
‫زاد هذا البيت الشّعريّ من غرابة اإلميي ‪ .‬أعاد تفقّاد االسام‬
‫ولكن ذلك زاده تيهانًا‪ .‬توتّرت أصابع يده وهو حيرّك الفأرة حاول‬
‫االسم »‪ «Cadavre‬تساءَل أمحد يف نفسه عن الغرض من هذا البيت‬
‫الّذي يتكلّم صراحة عن الغدر وعن عالقته به‪ ،‬كما قام بتفقد كا ّ‬
‫خلية من دماغه حبثا عن صاحب هذا االسم‪ .‬مل يتوصّ إىل شايء‪.‬‬
‫أراد جتاهله ولكن رغبة التّحدي جتري يف عروقه فنبضت أصابعه فوق‬
‫الكيبورد ردًّا على الرّسالة‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫"العاقل من افتتح يف كلّ أمر خامتته‪ ،‬وعلم من باء كلّ شيء‬
‫عاقبته"‬
‫كا رصيده يف الشّعر ال بأس به‪ ،‬معتمدا على ذاكرته منذ أيّام‬
‫الثانويّة‪ ،‬ولكنّه مل يفلح يف تذكّر قاق هذا البيت‪ .‬وأخريًا ضغط على‬
‫زرّ اإلرسال وبعث الرّسالة‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫‪-15-‬‬

‫امتزج اهلواء بذرّات الغبار املتطاير‪ .‬أحسّ بذوق التّراب وهو يلصق‬
‫بأعلى حلقه‪ ،‬حرّك لسانه داخ فمه مثّ بصق على األرض‪ .‬شقّ طريقاه‬
‫بصعوبة ب آالت البيلدوزار‪ .‬ب أشعّة الظّهر السّاطعة والغباار الّاذي‬
‫تسبّبت فيه اآلالت ملح أمحد غري بعيد عنه قبّعات صفراء واقية للصّدمات‬
‫تربق حتت توهّج هليب الشّمس وتتحرّك بنشاط داخ الورشة‪.‬‬
‫على مرمى حجر منه رأى العربة املخصّصة للتّقنيّ واملسؤوليّن‬
‫على إدارة املشروع‪ ،‬وعلى بعد ثالث مترًا تقع حفرة عميقة تنتظار‬
‫وضع األساسات األوىل للبناء‪.‬‬
‫اتَّجه حنو العربة خبطًى ثابتةٍ‪ .‬نقر على الباب مثّ مساح العارق‬
‫املتجمّع على جبينه ومسح سطح شعره لكيال يفسد تسرحيته‪ .‬كانت‬
‫العربة على شك مقطورة مستطيلة الشك عرضاها ثالثاة أمتاار‬
‫ونصف املتر أمّا طوهلا فسبعة أمتار وكانت مزوّدة مبكيّفات‪.‬‬
‫انتبه أمحد إىل حركة الباب وهو يفتح عن وجه صارم المارأة‬
‫تضع نظّارة طبّيّة متسك شعرها األسود إىل اخللف على شك ذيا‬
‫حصا ‪ .‬نظرت إليه من خالل عينيها البنّيّت ‪.‬‬
‫"تفضّ ‪ ،‬احذر أ تعثر بالدّرج" أصدرت الدّرجة األوىل صريرًا‬
‫عندما وضع قدمه عليها‪ .‬وجد نفسه بالدّاخ ‪ ،‬وفجأة شعر بفاارق‬
‫احلرارة ب داخ العربة وخارجها كانت املكيّفات تبعث يف املكاا‬
‫‪76‬‬
‫برودة منعشة عملت على تلطيف اجلوّ‪ ،‬إالّ أّ ذلاك مل ميناع مان‬
‫انبعاث راقحة العرق اجلافّ وراقحة األنفاس الكريهة الّايت خلّفهاا‬
‫العمّال وراءهم‪.‬‬
‫استطاع يف حملة واحدة اكتشاف املكا برمّته وعلى أقصى اليسار‬
‫تقع حُجرة موصدة بباب مبطّن‪ .‬مخّن أنّه مكتب صاحب الشّركة‪.‬‬
‫أبرز بطاقته ووجّهها حنوها‪.‬‬
‫"بشري فالوي هنا؟"‬
‫"السّيّد بشري يف مكتبه اآل وهو مشغول حاليًّا"‪.‬‬
‫حدجته بنظرة ارتياب وأحسّت بعدم االرتياح وهو خيطو بأرض‬
‫العربة أمامها مقلّبا نظره يف ك ّ ركن منها دو أ يلتفت إليها‪.‬‬
‫"سيّديت األمر ال حيتم التّأخري‪ ،‬أبلغيه أ ّ هناك شرطيّا يف انتظاره"‬
‫"انتظر دقيقة سأعلمه حبضورك"‬
‫قعد أمحد على كرسيّ يف غرفة مزدمحة بااألوراق املكدّساة‬
‫وشاشات الكمبيوتر‪ ،‬حتسّس ذقنه الّذي أصبح حباجاة إىل حالقاة‬
‫عندما استدارت واتَّجهت حنو الغرفة يف أقصى العربة‪ .‬اساتطاع أ‬
‫مييّز من ب ثياهبا الرّقيقة خيط محالة صدرها وتوغّ ببصره ب ذلك‬
‫مميّزا شامةً صغرية احلجم على أدم بشرهتا البيضاء‪ ،‬واحندرت عينااه‬
‫حنو عجيزهتا املدملجة واملشدودة بفع سروال اجلينز الضّيّق وعبّر عن‬
‫إعجابه بتنهيدة عميقة أسفرت عن صوت شبيه كصفري الرّيااح يف‬
‫فالة مقفرة‪ ،‬استدار عنقها فجأة فضبطته مستغرقا يف التّأمّ فتظااهر‬
‫بالنّظر إىل احلاقط‪ ،‬ولكنّها جتاهلته غري مبدية انزعاجا ب راقها فعلاه‬
‫أل ّ ذلك يدلّ على أ ّ مظهرها ال يزال جذّابًا‪ .‬غابت ملادّة مخاس‬
‫دقاقق وعاد إليه ضمريه يؤنّبه‪ ،‬فتذكّر خطبة اجلمعة املاضية وكياف‬
‫‪77‬‬
‫صرخ اإلمام من فوق احملراب متوعّدا اخلاطئ بنار جهانّم‪ .‬أحاسّ‬
‫حينئذ أنّه يقصده من ب ك ّ النّاس‪.‬‬
‫وكمن حيذف ملفًّا من الكمبيوتر بكبسة زرّ واحدة‪ ،‬أزاح أمحد‬
‫عن رأسه ك ّ شيء برمشة ع وهو يتطلّع إىل صاحبة الشّامة علاى‬
‫الظّهر وقد أطلّت بوجهها الشّاحب من وراء اجلدار الفاصا با‬
‫غرفة اإلنتظار ومكتب الرّقيس‪ ،‬فبانت صفحة رقبتها اليسرى وتدلّت‬
‫قالدهتا الذّهبيّة مع شعرها املنداح‪.‬‬
‫"تفض ‪ ،‬إنّه يف انتظارك"‪.‬‬
‫راقبته بنظراهتا املرتبكة وهو خيطر أرض العرباة متّجهاا حناو‬
‫اجلانب اآلخر وكانت األخرى هتم باملغادرة أثناء دخول أمحد‪ .‬نقار‬
‫على الباب مستأذنا‪ ،‬مثّ دفعه برفق وجع ينظر إىل شاخ حسان‬
‫الطلعة‪ .‬قصري القامة‪ ،‬أمسر البشرة‪ ،‬توحي نظراته بالسؤدد والنفاوذ‪.‬‬
‫كا يلس وراء مكتبه‪ ،‬يتحدث عرب اهلاتف‪ ،‬أوما له للجلوس علاى‬
‫األريكة‪ ،‬ريثما ينهي املكاملة‪ .‬على اليسار تدفّق شعاع من الضّوء من‬
‫خالل النّافذة الثّانية يف العربة والوحيدة يف الغرفة‪ .‬على اجلانب األمين‬
‫وعلى بعد متر ونصف املتر من املكتب وضعت ثالجة صغرية احلجم‪.‬‬
‫"السّالم عليكم"‪.‬‬
‫مدّ أمحد يده مصافحًا مثّ اهتزت يدامها وافترقتا دو أ يتارك‬
‫الرّج اهلاتف من يده األخرى‪ ،‬استمرّ حديثه مع اهلاتف وكأنّه نسي‬
‫حضوره‪ .‬أهنى املكاملة جبملة صارمة مثّ خبط مسّاعة اهلاتف بقوّة ونظر‬
‫حنو أمحد بعين ختلوا من التّعبري‪ ،‬كا رجال يف اخلمس ‪ ،‬ذا جسم‬
‫مكتنز وكرش عظيمة مل مينعها القمي الفضفاض من الظّهور بشك‬
‫بارز‪ ،‬له شفتا شهوانيّتا وعينا بنّيّتا واسترس شاربه العاريض‬
‫‪78‬‬
‫وكأنّه جناحي طاقر السّنونو‪ .‬انفرج ثغره عن ابتسامة بغيضة‪.‬‬
‫"نعم‪ .‬تفضّ ‪ ،‬كيف أخدمك"‬
‫وأخذ يهتزّ داخ كرسيّه املتحرّك ذات اليم وذات الشّامال‪،‬‬
‫ممسكًا بالقلم ب يديه‪ ،‬ينتظر بنفاد صرب ظاهريّ خروج الزّاقر عان‬
‫الصّمت‪ .‬تنهّد أمحد بعمق‪ ،‬أغلق قبضة يده وفتحها حبيث ابيضّات‬
‫مفاص أصابعه‪ .‬اندفع يقول وكأنّه يلقي بقنبلة يدويّة‪:‬‬
‫"جئت خبصوص قضيّة مقت قدادرة يوسف وأودّ طرح بعاض‬
‫األسئلة إ كنت ال متانع"‬
‫رأى أمارات القلق تظهر على مالمح الرّج ‪.‬‬
‫"ال بأس تفضّ "‬
‫شابك البشري ب يديه فوق كرشه الكبرية وراح يركّز نظره يف‬
‫الشّخ القاعد قبالته‬
‫"ه تذكر مراد بطّيّب؟"‬
‫"مراد بطّيّب؟"‬
‫صمت برهة وأسند ذقنه على راحته ودوّر عينيه وكأنّه حيااول‬
‫التّذكّر‪.‬‬
‫"ال‪ ..‬ال أظنّ أنّي أعرفه؟"‬
‫"أمتأكّد من أنّك ال تعرفه‪ .‬ألنّه إ صحّت معلومايت فقد سجن‬
‫منذ ثالث سنوات بسبب تزوير تورّطت فيه مؤسّستك"‬
‫كا أمحد يرى أثر كالمه عندما امتقع وجه الرّجا واحاتقن‬
‫بالدّماء وكأنّه ثور هاقج مثّ راح يردّ الصّاع صاع وقال‪:‬‬
‫"باهلل عليك‪ ،‬كيف تريد منّي أ أذكر شخصا مل أره منذ ثالث‬
‫سنوات‪ ،‬لديّ هنا فقط ‪-‬وأشار بيده إىل خارج النّافذة‪-‬ماقتا عاما‬
‫‪79‬‬
‫وبعضهم يعم لديّ منذ مخس سنوات أو أكثر‪ ،‬وال أعرف أمساءهم‪،‬‬
‫فكيف باي أ أذكر هذا الشّخ ؟!"‬
‫كا أمحد متيقّنا بأنّه يعرف بطّيّب مراد كما يعرف عدد أصابع‬
‫قدميه‪ ،‬ولكنّه عمد إىل الّلفّ والدّورا حبجّة أمهّيّته الكربى الّايت ال‬
‫حتتم االلتفات إىل التّوافه من األمور‪ .‬كانت ناربة صاوته قاساية‬
‫ومنطقيّة إىل أبعد احلدود‪.‬‬
‫"أعلم أنّك مشغول جدًّا‪ ،‬ولكنّنا أمام جرمية قت والبادّ مان‬
‫اإلجابة عن بعض األسئلة"‪.‬‬
‫"حسنا تفضّ ‪ ،‬أنا أصغي"‪ .‬ملح طيف ابتسامة مستهزقة‪.‬‬
‫"ميكنك إخباري بك ّ ما تعرفه عن يوسف"‬
‫"رمحه اهلل‪ ،‬كا إنسانا خملصًا يف عمله‪ .‬وطيّاب القلاب‪ .‬ال‬
‫يستحق تلك امليتة على ك ّ حال‪".‬‬
‫مل يطرأ أيّ تغيري على تعابري وجهه وهو يعبّار عان شاعوره‬
‫باألسى حنو امليّت وكأنّه عملة ذات وجه متشاهب ‪.‬‬
‫"أتظنّ أنّه كا على خالف مع أحدهم؟"‬
‫أطلق الرّج ضحكة قصرية وكأنّها ذي ابتسامة‪.‬‬
‫"اللّي شافه‪ ،‬أنا من اخلدمة للدار"‬
‫"كيف كانت عالقتكما"‬
‫فجأة رأى حترّكا طفيفا على حاجبيه ولكنّه سرعا ماا خا‬
‫ذلك التّعبري وح ّ مكانه خواء تامّ واستدرك أمحد ليوضّح أكثر‪.‬‬
‫"أعين ه كانت أمور العم جتري على ما يرام"‬
‫"جيّدة احلمد هلل‪ ،‬ك ّ شيء يسري وفق املخطط واآلجال املقرّرة"‬
‫كا واضحا أ ّ أمحد بدأ ميقت الرّج وعجرفته املقصودة‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫"أنت تعلم أ ّ أيّ معلومة منك ستقدّم اإلضافة الالّزمة‪ ،‬لاذلك‬
‫أريد معرفة ك ّ التفاصي وحتّى اململة منها‪ .‬قال ذلك عمدا وفاتح‬
‫ال فوق رجله الثّانية‪.‬‬
‫مفكّرته ومتلم يف األريكة املرحية ووضع رج ً‬
‫"أين كنت بالضّبط مساء يوم الثّالثاء؟"‬
‫"كنت يف وهرا ورجعت إىل معسكرحوايل السّاعة الرّابعة أو‬
‫اخلامسة‪ ،‬ال أذكر بالضّبط مىت ولكن بعدها ذهبت إىل املطعم لتناول‬
‫وجبة الفطور املتأخّرة"‬
‫"من كا معك يف املطعم؟"‬
‫سأل أمحد دو أ يرفع نظره عن املفكّرة‪.‬‬
‫"كنت مع حماسباي الشّخصيّ‪ ،‬كنّا نناقش أمور العم بالطّبع‪،‬‬
‫مثّ بعد ذلك اتَّجهت إىل بييت حيث مكثت هنالك حوايل سااعت ‪،‬‬
‫وبعد صالة املغرب توجّهت إىل مطعم للعشاء‪ ،‬وعند حوايل السّااعة‬
‫احلادية عشرة ليال رجعت إىل البيت‪".‬‬
‫طوى أمحد مفكّرته ودسّها يف جيبه‪ ،‬ورآه يف تلاك اللّحظاة‬
‫مستندا على ظهر الكرسيّ الفخم‪ ،‬وأخذ يتدحرج مينة ويسرة‪ .‬فتا‬
‫شاربيه مثّ تثاءب وأمسك بالقلم من جديد ب يديه وهو ينظار إىل‬
‫أمحد بازدراء‪ .‬حفّزته تلك النّظرة على االسترسال يف طرح األسئلة‪.‬‬
‫"كيف حتصلت على هذا املشروع‪ ،‬أعين ه كا هناك ثالثاة‬
‫أظرفة فقط؟"‬
‫كا أمحد على علم مبا تنتهجه بعض املؤسّسات الفاسدة عناد‬
‫التّعاقد مع أحد املقاول ‪ .‬ولتغطية التّزوير بثوب النّزاهة يقوم املقاول‬
‫باللّجوء إىل حيلة الثالثة أظرفة‪ ،‬تعدّ بطريقة جتعله األق ّ سعرًا من ب‬
‫املشارك ‪ .‬وهكذا يكو ك ّ شيء قانونيًّا‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫شعر بالتّفاعالت الكيمياقية الّيت حتدث حاليًّا داخ ذلك اجلسم‬
‫املنتفخ‪ ،‬أخريًا بلغ السّي الزّىب‪ .‬زوى الرّج ما ب حاجبيه‪ .‬وخالل‬
‫حلظات انتشرت يف املكا ضحكة طاقشة مثّ ما لبثت أ غاصت يف‬
‫أساريره‪ .‬قفز على رجليه واقفا‪ ،‬معلنا بذلك هناية املقابلة‪.‬‬
‫"باملناقصة‪ .‬رحبت الصّفقة عن طريق املناقصة يا سيّدي ولك أ‬
‫تتأكّد إذا أردت‪ .‬ونصيحيت إليك هي أالّ تزعج نفساك بالبحاث‪،‬‬
‫فك ّ شيء قانوينّ‪".‬‬
‫هبّ أمحد واقفا من مكانه بعدما دسّ املفكّرة والقلام معًاا يف‬
‫جيب سرواله‪ .‬مدّ الرّج يده أمامه للمصافحة‪ ،‬وبرزت ألوّل مارّة‬
‫أسنانه العلويّة البيضاء وكانت مستوية ومرتّبة بعناية فاققة‪ ،‬كانات‬
‫نقيض أسنانه السّفلية‪ ،‬احلقيقة أ ّ هذا الرّج ك ّ جزء مناه حيما‬
‫تناقضا صارخا‪.‬‬
‫"شكرًا على الزّيارة‪ ،‬أمتىن أنّك قمت بواجبك"‪.‬‬
‫جتاه أمحد الرّج وأدار ظهره متّجها حنو باب الغرفة‪ .‬شاعر‬
‫باالمتنا وهو ينهي ذلك اللّقاءالسّمج هبذه الطّريقاة‪ .‬توجّاه حناو‬
‫اخلارج وملّا فتح الباب لفحته موجة من اهلواء احلارّ على وجهه‪ .‬هبّت‬
‫ريح عاتية محلت معها حبّات الرّم ‪ .‬دخ بعضها يف عينيه فادمعتا‬
‫على إثر ذلك‪ .‬أخذ يدعك أهدابه حتّى امحرّت عينااه مان شادّة‬
‫االحتكاك‪ .‬لعن املكا ولعن احلرارة ولعن الرّيح ولعن الياوم‪ ،‬لعان‬
‫املتسبّب يف قطع املاء عن شقّته‪ ،‬لعن سيّارته القدمية‪ ،‬لعان حياتاه‬
‫كلّها‪ .‬أراد يف تلك اللّحظة أ يبتعد عن ذلك املكا بأقصى سارعة‬
‫ممكنة فما عاد حيتم املكوث ملدّة أطول‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫‪-16-‬‬

‫وجد نفسه مرغما على تقبّ الوضع‪ .‬استوىل عليه اليأس وغلّفه‬
‫القنوط‪ .‬ومل يكن لريضى حبياة أساسها االضطراب والتّخفّاي‪ .‬آثار‬
‫سكينة السّجن على قلق احلرّيّة‪ ،‬وهدوء البال على سجن األفكار‪.‬‬
‫قرّر أ يسلّم نفسه هذه املرّة‪ ،‬مذعنًا لقدره احملتّم وتعبًاا مان‬
‫هروبه املتّص ‪ .‬قادته خطواته املختلجة حنو مركز الشّارطة‪ .‬ارتقاى‬
‫الدّرج األماميّ حنو املدخ الرّقيسيّ‪ .‬الحاع أ أفاراد الشّارطة‬
‫منهمكو يف العم ‪ .‬مل يتمكّن أحد من التّعرُّف علياه وهاو ميارّ‬
‫جبانبهم‪ .‬قاوم تردّده للمرّة األخرية كانتحاريّ يودّ تفجري قنبلة تلافّ‬
‫جسده‪ .‬تقدّم حنو عام االستقبال‪ ،‬ولكن هذا األخاري مل يعاره أيّ‬
‫انتباه‪.‬‬
‫كا مستغرقًا يف مكاملة هاتفيّة صاخبة‪ .‬انتظار حتّاى يفارغ‬
‫الشّرطيّ من املكاملة‪ .‬أقف اخلطّ ورمقه بنظرة فاترة جعلته يتردّد‪.‬‬
‫"نعم؟ رخصة القيادة؟"‬
‫"ال‪ .‬أريد أ ‪ "...‬قاطعه الشّرطيّ فجأة‪:‬‬
‫"إذًا تريد التبليغ عن شيء ضاقع؟"‬
‫"نعم يف احلقيقة‪ "...‬قاطعه مرّة أخرى مشريًا بيده حناو بااب‬
‫مغلق‪:‬‬
‫"تقدّم حنو ذلك املكتب وانتظر ريثما يعود املوظّف"‬
‫‪83‬‬
‫وحتوّل الشّرطيّ إىل أغراضه متجاهال الرّج الواقف أمامه‪.‬‬
‫"أنا متّهم يف جرمية قت ‪ ،‬أريد تسليم نفسي"‬
‫هبت الشّرطيّ وراء مكتبه‪ ..‬التفت حنو مراد وقاد انساحبت‬
‫الدّماء من وجهه‪.‬‬
‫كا بن ذهيبة مغتبطا يف جلسته واثقا من نفسه ألوّل مارّة بعاد‬
‫جرمية القت وهو يضع ملفًّا على سطح املكتب‪ .‬التقط وكي اجلمهوريّة‬
‫امللفّ‪ ،‬واستغرق منه ستّة دقاقق كاملة لتصفّحه‪ .‬ساد صامت مقلاق‬
‫تشوبه خشخشة األوراق‪ ،‬تنهيدات متقطّعة‪ .‬بلّ معمّري إهبامه على حنو‬
‫ال شعوريّ وقلّب ناظريه يف الصّفحات هبدوء‪ ،‬وبعد حلظات وضاعها‬
‫جانبًا وظهر وجهه فارغًا من أيّ تعبري‪ .‬نظراته الغاقمة حرّكت الرّعاب‬
‫يف قلب بن ذهيبة وجعلته يشكّك يف اقتناعه بقوّة األدلّة‪.‬‬
‫"قام بتسليم نفسه؟"‬
‫وجد نفسه مضطرّا إلثراء األدلّة فتحرّكت شافتاه الغليظتاا‬
‫وقال بصوت واثق‪.‬‬
‫"انطبقت عليه مواصفات الشّخ الّذي شوهد أثنااء وقاوع‬
‫اجلرمية‪ .‬كما أنّه ميلك الدّافع الرتكاب جرمية قت "‪.‬‬
‫"ولكن هذا ليس كافيًا إلدانته‪ .‬ه متلكو دليال قاطعا ضدّه؟"‬
‫ارتبك بن ذهيبة وتردّد يف اإلجابة‪.‬‬
‫"هذا ك ّ ما توصّلنا إليه حاليًّا"‪.‬‬
‫"عليكم بتقدم األدلّة الكافية يف أج قرياب‪ ،‬أل ّ القضايّة ال‬
‫حتتم التّأخري فقد بدأت تأخذ أبعادا سياسيّة ال حتمد عواقبها أبادًا‪.‬‬
‫سيحضر ك ّ من اإلذاعة الوطنيّة وممثّلي اجلراقد الرّمسيّة خالل احلكم‪،‬‬
‫لدينا قضيّة بالغة يف األمهّيّة وعم كبري يف االنتظار"‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫‪-17-‬‬

‫أمسكت كهينة حافّة الفستا املعروض بواجهة احمل ّ على عارضة‬


‫أزياء بالستيكيّة وحتسّست ملمس القماش‪ .‬كا ناعما كأصابع ياديها‬
‫الرّقيقت ‪ ،‬حبثت عن مثنه ولكنّها مل جتده مكتوبًا يف أيّ موضع‪ ،‬كانت ال‬
‫تزال متسك بذي الثّوب عندما التفتت حنو صاحب احمل ّ‪.‬‬
‫"أخي‪ ،‬كم مثن هذا؟"‬
‫مل تتلقَّ أي جواب‪ .‬فقد كا منهمكًا مع إحدى الزّبونات‪.‬‬
‫"كم مثن هذا الفستا سيّدي؟"‬
‫حانت من الباقع التفاتة إىل صاحبة الصّوت‪ .‬كانات متساك‬
‫بطرف الفستا وتنتظر إجابته‪.‬‬
‫"أوو‪ ..‬ساحميين أخيت مل أرك‪ ..‬مثن هذا مخساة آالف ديناار‬
‫ولكن سأخصم لك من املبلغ إذا أردت شراءها"‪.‬‬
‫"شكرًا لك‪ ..‬سآخذها ولكن بقياس ‪ 38‬سم"‬
‫خرجت من متجر املالبس النّساقيّة وكانت حتيط هبا هالة مان‬
‫عطر «نينا ريتشي» اشترته للتّوّ‪ .‬ارتدت جلبابًا فضفاضًا أخضر اللّو‬
‫وأمسكت شعرها إىل األعلى مباسكة الشّعر وافترقت خصالته مشكّلة‬
‫رأس رلة باسقة‪.‬‬
‫كانت تتأبّط حقيبة مملوءة مبالبس األطفال وحتما يف يادها‬
‫اليسرى كيسًا بالستيكيًّا وضع يف داخله الفستا ومالبس داخليّاة‬
‫‪85‬‬
‫بالدونتال وبعض اللّعب الّيت اقتنتها قب مرورها على حم ّ املالباس‬
‫كهديّة ألبناء أختها‪ .‬لطاملا تشوّقت لرؤيتهم بعد مرور أكثار مان‬
‫مخسة أشهر على آخر زيارة ألختها وهيبة والّيت مثّلت هلا البدي عن‬
‫أمّها فقد كانت ك ّ شيء بالنّسبة هلا‪ .‬ولكن أختها أصبحت مبناأى‬
‫عن مهومها بعد زواجها وانتقاهلا للعيش يف العاصمة‪ .‬مل تكن تضامر‬
‫هلا شيئا ولكنّها فقدت ذلك الشّعور بالصّلة الّيت كانت تربطهما‪.‬‬
‫بينما تنهال عليها هذه األفكار متسارعة أحسّت باهتزاز هاتفها‬
‫داخ حقيبها‪ .‬انتدبت مكانا خيلو من املارّة ووضعت األكياس برفق‬
‫على األرض‪ .‬دسّت يدها يف قعر احلقيبة لتلتقط اهلااتف‪ ،‬أصايبت‬
‫بتيبّس يف عضالهتا وارتفع الدّم إىل وجهها وهي حتدّق يف الرّسالة الّيت‬
‫ظهرت على شاشة اهلاتف‪ ،‬كا شعورًا عجيبًا وغري متوقّع ولكنّه أتى‬
‫يف وقته متامًا‪.‬‬
‫كا أمحد قد بدأ يشغ حيّزا من دماغها وخاصّة بعد الرّساق‬
‫القصرية الّيت تبادالها يف األيّام األخرية‪ .‬ك ّ رسالة منه كانت جديرة‬
‫بإرباكها‪ .‬حبست أنفاسها وفتحت الرّسالة «سالم علهيكم كيه‬
‫حالك كهينة؟ أرجو أن تكوين خبري تهذكّرتك وأردت أن أسهأل‬
‫عنك وينّ مل أر منذ يومني»‬
‫أشرق وجهها بابتسامة وأعادت قراءة الرّسالة مخاس مارّات‬
‫وكأنّها تبحث عن كلمة خمفيّةٍ أو معنًى جديدٍ ينبثق من تلك الرّسالة‪.‬‬
‫تردّدت قليال قب أ تبدأ بكتابة الرّسالة املناسبة‪ .‬بادأت أصاابعها‬
‫تتحرّك فوق أزرار اهلاتف بنعومة وتوقّفت أثناء ذلك عدّة مرّات متحو‬
‫كلمة تستبدل مكاهنا أخرى وتضيف معىن جديادًا‪ ،‬أهنات حتريار‬
‫الرّسالة وضغطت على زرّ اإلرسال‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫كانت تتصرّف كفتاة يف اخلامسة عشرة وقد شعرت باخلجا‬
‫وهي تنسى نفسها واقفة هكذا يف الطّريق‪ ،‬محلت األكيااس مارّة‬
‫أخرى مثّ مضت يف سبيلها وهي تستذكر الرّسالة األخرية‪ .‬كانات‬
‫رساقلهما املتبادلة مفعمة بالودّ والرباءة‪ ،‬ولكنّها مل خت ُ مان تلمايح‬
‫وإحياءات باإلعجاب والرّغبة يف التّقرّب أكثر‪.‬‬
‫انشغلت فجأة بشيء لفت انتباهها‪ ،‬كانت يف طريقها إىل البيت‬
‫عندما تذكّرت أنّها مل تقم بشراء املاأكوالت األساسايّة وبعاض‬
‫الفواكه‪ .‬فتّشت حمفظة نقودها وخاب ظنّها عندما تاذكّرت أنّهاا‬
‫أنفقت ك ّ نقودها لشراء األلبسة واللّعب‪ ،‬مل يتبقّ إالّ القليا مان‬
‫النّقود والّيت ال تفي بالغرض‪ .‬أنفقت بسخاء هذا الياوم أل ّ أختاها‬
‫اتّصلت هذا الصّباح‪ ،‬وأعلمتها بقدومها يوم األحد فرأت أنّاه مان‬
‫الضّروريّ جتهيز بعض اهلدايا وإعداد احللويّات الستقبال العاقلة كما‬
‫يب‪ ،‬ولطاملا أعربت هلا أختها عن حبّ زوجها للبقالوة الّيت تعدّها‬
‫برباعة فاققة ورثتها عن أمّها‪ .‬دفعت بكام الفكّاة لبااقع اخلضار‬
‫فمألت كيسا من اخلضر مثّ اشترت رطال من حلم العج ‪.‬‬
‫شعرت بالرّاحة وهي تفكّر يف أ ّ يوم غد هو يوم اجلمعة‪ .‬هكذا‬
‫تستطيع حتمّ الكمّ اهلاق من االنشغاالت‪ ،‬بدءا بتنظياف املنازل‬
‫وإعداد العشاء وترتيب األغراض على الرّفاوف‪ ..‬وهلامّ جارًّا‪.‬‬
‫أحسّت بالبهجة مرّة أخرى‪ .‬استحوذت الرّسالة األخرية على كام‬
‫اهتمامها‪.‬‬
‫وصلت إىل البيت بعد تسوّقها فوجدت والدها منكبًّاا علاى‬
‫صحيفته كالعادة‪ ،‬متّخذًا وضعيّة غريبة على مقعد اخليزرا اهلازّاز‪،‬‬
‫وكا قد خلع قميصه من شدّة احلرّ وهو يرتدي سرواال قصريا‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫"صباح اخلري بابا خالص ولّيت"‬
‫نظر إليها من فوق نظّارته وتفحّ تلاك األكيااس بعيان‬
‫متساقلت ‪.‬‬
‫"اشتريتُ بعض املالبس واللّعب للطّفل ‪ ،‬توحّشْنَاهُم" نزعات‬
‫حذاءها عند الباب ووضعته يف خزانة األحذياة بعادما وضاعت‬
‫األكياس على األرض وثبّتت املفاتيح على العُالقة امللصقة على احلاقط‬
‫جبانب الباب مثّ عادت تقول خماطبة أباها برقّة وهي تلتقط أنفاساها‬
‫املتقطّعة‪:‬‬
‫"ال أعلم كيف يبدو شك «آية» اآل ‪ ،‬قالت يل وهيباة أهناا‬
‫تشبه أمّي" حكّ صدره مثّ أسف ذقنه يف سرور‪.‬‬
‫"مضت ستّة أشهر على والدهتا‪ ،‬البدّ أ «رياض» لدياه مان‬
‫ينافسه يف أمّه‪ ،‬من املؤكد أ ّ سلوكه سيتغيّر حنو األساوإ بسابب‬
‫الغرية"‬
‫ابتسمت كهينة‪.‬‬
‫"قالت وهيبة أنّه بدأ يبلّ فراشه منذ والدة أخته"‬
‫"ذكّرتِين بأختك عندما والدتك‪ ،‬كانت ال تتوقّف عن البكااء‬
‫واحنرف سلوكها حنو األسوإ حتّى مسّيناها ماروكو"‬
‫استغرق كالمها يف الضّحك‪ ،‬مثّ محلت األكياس ومضت هبا حنو‬
‫املطبخ مرورا بدهليز قصري على مي الدّاخ ‪ .‬قامت بوضع األغراض‬
‫على الطّاولة والبعض اآلخر جبانب َمجْلَى األواين‪ .‬وبعد ذلك ذهبت‬
‫حنو غرفتها لتبدي مالبسها وأخذ محّام بارد‪ ،‬وكا عليها قب ذلاك‬
‫أ تضع قِدر املاء ليغلي حتت إناء الكساكس لتعاود إلياه بعاد‬
‫االستحمام فقد بقي ساعتا على أذا اجلمعة‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫‪-18-‬‬

‫أصدر احملرّك هديرا قويّا عندما ضغط على الدّوّاساة بقدماه‬


‫اليسرى لريتفع مؤشّر السّرعة إىل ستّ كيلومترا يف السّاعة‪ ،‬انبعاث‬
‫الدّخا بكثافة وتصاعد ليحجب عنه الرّؤية اخللفيّة‪ ،‬بدا وكأنّه حيم‬
‫مشواة حلم داخ صندوق السّيّارة‪ .‬ضرب املقود بقبضة يده مارّات‬
‫متتالية‪ ،‬مطلقا شتمات متالحقة‪.‬‬
‫صعد الطّريق املنحدر ببطء وجلبة كبرية‪ .‬كانات السّايّارات‬
‫مترّ جبانبه كالربق بينما هو ال يزال يكابد احملارّك بالضاغط علاى‬
‫الدّوّاسة للصّعود حنو نقطة التّقاطع‪ ،‬أين ينحرف ميينا حناو املنطقاة‬
‫اإلداريّة‪.‬‬
‫هذه املرّة فكر جدّيًّا يف بيعها ألنّه مل يعد حيتم نفقاهتا الكثرية‪.‬‬
‫الحع مساحة شاغرة يف موقف السّايّارات فحشار سايّارته‬
‫الصّغرية هناك‪ .‬نزع حزام األما الّذي ضايقه أثناء الطّريق واحنىن إىل‬
‫األسف جبانبه األمين ومدّ يده حنو أسف املقعد فالتقط هاتفه الّاذي‬
‫انزلق من جيبه أثناء السّياقة‪ .‬ترجّ من السّايّارة وأحاسّ جبسامه‬
‫املرتعش بفع اهتزاز احملرّك يستريح نوعًا ما من تلاك التّشانّجات‬
‫املستمرّة أثناء القيادة‪.‬‬
‫وجد نفسه أمام مدخ مديريّة السكن والتّجهيزات العموميّاة‪.‬‬
‫كانت الواجهة منوذجًا لك ّ مبىن إداريّ يف اجلزاقر‪ .‬ارتقى الدّرج بتأ ٍّ‬
‫‪89‬‬
‫حنو الطّابق الثّاين ويف هناية السّلّم دهليز حييط جمموعة من املكاتاب‬
‫ك ّ منها حيم ترقيما وامسًا للخدمة الّيت يقدّمها‪.‬‬
‫كا صوت الطّابعة املزعجة املنبعث من مكا ما‪ ،‬ميزّق هادوء‬
‫الطّابق الثّاين الّذي كا أكثر هدوءا من الطّاابق األوّل واألرضايّ‪.‬‬
‫كا يصدر صريرا مزعجا كوجع الرّأس‪ ،‬حبيث خيّ إلياه أ كا ّ‬
‫حركة يف املبىن تصدر من الطّابعة‪.‬‬
‫اهتدى إىل مكتب املدير وكا يف الزّاوية األكثر هادوءا حياث‬
‫ثبتت على مقربة منها كامريا على السّقف‪ .‬كا باب السّكرترية نصفَ‬
‫مفتوح مُزوّدا بعازل من الفلّ املكسوّ باجللد‪ .‬تساءل أمحد كيف يطرق‬
‫هذا الباب‪ ،‬كما ال يوجد أيّ زرّ جلرسٍ مَا على اجلدار! وقف ملدّة دقيقة‬
‫أمام الباب منتظرًا بدو نتيجة‪ .‬فاضطرّه أخريًا إىل الدّخول‪ .‬دفع البااب‬
‫برفق وتقدّم ببطء‪ .‬الحع أ ّ الباب الفاص ب السّاكرترية ومكتاب‬
‫املدير مفتوح واستغرب خلوّ املكا هبذا الشّك ‪ ،‬ومباا أنّاه مل ياد‬
‫السّكرترية أراد أ خيرج إىل قاعة االنتظار ريثما تعود إىل مكتبها‪ ،‬ولكنّه‬
‫يف تلك اللّحظة صرف تلك الفكرة عن رأسه فأصاخ السّمع عند مساعه‬
‫ألوّل حركة‪ .‬تناهى إىل مسعه صوت خافت من وراء جادار املكتاب‪،‬‬
‫اقترب من الصّوت أكثر واتّضح أنّها خشخشة أوراق واحتكاك لاوح‬
‫الدّرج داخ اخلزانة‪ .‬بدا أ ّ هناك من يبحث عن شيء ضااقع‪ .‬تقادّم‬
‫خبطوات سلسة حنو الدّاخ ‪ ،‬وسَدّ فرجة الباب جبسمه الطّوي ‪ ،‬غري أنّاه‬
‫الحع أ ّ ذلك الشّخ مل ينتبه بعد حلضوره‪.‬‬
‫"السّالم عليكم‪ .‬كنت أحبث عنك"‪.‬‬
‫كانت زهيّة تبدو مشدوهة وقد ابيضّ وجهها وجفّت شرايينها‬
‫من آخر قطرة دم‪ .‬سقطت األوراق من ب أصابعها من فرط التّوتّر‪،‬‬
‫‪90‬‬
‫ودو انتباه جثت على ركبتيها والتقطتها مان األرض‪ .‬طوّحات‬
‫شعرها املصفّف بعناية إىل اخللف يف حركة تلقاقيّاة‪ ،‬ومل تساتطع‬
‫كتما دهشتها رغم ما بذلته من جهد وهي تقف مرة أخرى علاى‬
‫قدميها وحتم األوراق ب يديها لتضعها فوق املكتب‪ ،‬وقد استغلت‬
‫فترة الصّمت تلك لتتمالك أعصاهبا‪.‬‬
‫"لقد أفزعتين بظهورك املفاجئ‪ ،‬كا البدّ لك أ تستأذ قبا‬
‫الدّخول"‪.‬‬
‫الحع أمحد أثر الدّموع يف مقلتيها وهي تتكلّم بانفعال مفرط‪.‬‬
‫"آسف ملدامهتك"‬
‫ورفع قبضة يده حنو كتفه ووجّه اإلهبام خلفه مشريًا حنو البااب‬
‫اخلارجيّ‪.‬‬
‫"طرقت الباب ومل أجد أحدا لذلك‪"...‬‬
‫قطعت كالمه فجأة‪:‬‬
‫"ال بأس تفضّ باجللوس"‬
‫كا األثاث يف املكتب مرتّبا بعناية‪ ،‬كما أنّه اشتم على نوافذ‬
‫تط ّ على منظرين خمتلف ‪ .‬اكتست جدراناه خبشاب ال «‪»MDF‬‬
‫الّذي امتدّ من األرض إىل األعلى على ارتفاع مترين مثّ يليه جادار‬
‫بطالء أبيض يلتقي مع السّقف من نفس اللّو ‪ .‬وضعت يف ك ّ زاوية‬
‫منها أصُ لنباتات متوسّطة احلجم‪ .‬كانت ال تزال تقاف وساط‬
‫احلجرة وقد غابت عنها نظرة القلق وارتسمت على وجهها ابتسامة‬
‫هادقة‬
‫"كما ترى أقوم بترتيب املكتب‪ .‬الفوضى تعمّ املكا "‬
‫ابتسم أمحد بلطف وهو يرمق السّيّدة احلزينة‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫"مل أستوعب بعد غيابه عنّا"‬
‫توقّفت حلظة لتمنع نفسها من البكاء‪.‬‬
‫"احلياة تستمرّ‪ .‬كلّنا فقدنا أحبّاءَنا وهذه سُنّة احلياة"‬
‫"أعلم ذلك ولكن‪"...‬‬
‫انسحبت كلمتها األخرية من فمها وتراكمت الدّموع خلاف‬
‫جفنيها‪.‬‬
‫"ه تعرّفتم على القات ؟"‬
‫"ليس بعد‪ ،‬لذلك أريد منك مساعديت‪ .‬أودّ إلقاء نظارة علاى‬
‫امللفّات الّيت متّ تزويرها سابقًا وإلجراء مقابلة مع زمالقه مان نفاس‬
‫املكتب أل ّ التّقارير ستعاد مجلة وتفصيال لتقدميها كأدلّاة إىل قاعاة‬
‫احملكمة؛ فالقضيّة تأخذ أبعادا واسعة اآل "‪.‬‬
‫كانت ترتدي مالبس ضيّقة تفضح مجيع احننااءات جسامها‬
‫املتناسقة وقد المس شعرها املصفّف بعناية كتفيها وانسادل علاى‬
‫ظهرها‪ .‬متلّى النّظر إليها مليّا وقد أصبحت نظرهتا ضبابيّة ومتفكّارة‬
‫وهي تنظر من وراء كتفيه‪ ،‬بدت غامضة ومنزعجاة‪ .‬حادقت يف‬
‫وجهه بتمعّن مثّ قالت بإياز‪:‬‬
‫"ال تق يل أ ّ مراد هو الّذي‪ ...‬يا أمّاااه"‬
‫فتحت فمها دهِشَةً مثّ تطلّعت إىل أمحد وكا وجهها كلّه عيونًا‬
‫حتدّق إليه يف تلك اللّحظة‪.‬‬
‫"يف الوقت الرّاهن هو املتّهم الرّقيسيّ والوحيد يف هذه القضيّة‪ ،‬ومبا‬
‫أنّنا حتت الضّغط‪ ،‬علينا تقدم حلول سريعة ومرضية يف آ واحد"‬
‫ربّت أمحد على مسند األريكة وراح يتحسّس ملمسها النّااعم‬
‫وهو يسترق النّظرات إىل خصرها تارة وثدييها طورا وكأنّاه خيتارب‬
‫‪92‬‬
‫بتلمّسه جللد األريكة ملمس بشرهتا النّاعمة‪ ،‬وواص كالماه بينماا‬
‫راحت تبحث عن امللفّ الّذي أتى من أجله‪.‬‬
‫"إنّها السّياسة حنن نتّبع التّعليمات ليس إالّ‪ ،‬قال لاك «اقتناا‬
‫مبجرم» عثرنا عليه‪ ،‬قال لك «اقتنا بضحيّة» أتينا بضحيّة‪ .‬االنتخابات‬
‫التّشريعيّة على األبواب ومهمّتنا الرّقيسيّة اآل ليست تطبيق العدالاة‪،‬‬
‫وإنّما إرضاء الرّأي العامّ‪".‬‬
‫قال ذلك بشيء من السّخرية والتّذمّر‪.‬‬
‫"مل أكن أظن أ مراد يتجارأ عا القياام بعما كهاذا!‬
‫إنّه شخ مسامل وانطواقيّ كما عرفنااه هناا‪ .‬مل يكان لياؤذيَ‬
‫ذبابة"‬
‫"هاهو‪ ...‬لقد وجدته"‬
‫نفضت عنه طبقة الغبار الثخينة مثّ تركته يسقط على الطّاولاة‬
‫أمام أمحد‪.‬‬
‫"شكرًا لك ه لك أ تدليين على مكا عمله السّابق؟"‬
‫مشى على أثرها يتبعها وكانت متيس بقدّها الرّشايق الّاذي‬
‫ارتسم شكله بدقّة من خالل املالبس الضّيّقة وشك حرف ‪ 8‬أو على‬
‫شك قيتارة‪ ،‬أمعن النّظر يف املؤخّرة حتّى انتبه هلا وهي تلتفت إلياه‬
‫وحدجته بنظرة ثاقبة وكأنّها تقول له "رأيتك تنظر" بأفصح لساا ‪،‬‬
‫ولكنّها مضت يف طريقها غري عابئة حبرارة نظره علاى عجيزهتاا مثّ‬
‫توقّفا حلظة يف الدّهليز املط ّ على الطّاابق األوّل واساتندت علاى‬
‫الدّرابزين لتشري بيدها النّاعمة املطليّة بالنّيفيا إىل مكتب يف األسف مثّ‬
‫قالت موضّحة إشارهتا‪.‬‬
‫"امسه هشام مغراوي إنّه يف ذلك املكتب"‬
‫‪93‬‬
‫هبط السّالمل درجة درجة ولكن خبفّة كابرية‪ ،‬أصابح اآل يف‬
‫الطّابق األوّل‪ ،‬اتَّجه إىل يساره‪ ،‬ختطّى مكتب قب أ يص إىل بااب‬
‫موصد ثبتت على سطحه الفتة كتب عليها بأحرف عريضة مذهباة‪.‬‬
‫"مكتب احملاسبة"‪ .‬نقر على الباب مستأذنا ومل يط به االنتظار أكثر‬
‫من مخس ثوا حتّى مسع دمدمة مبهمة تصدر من وراء البااب‪ ،‬دقّ‬
‫مرّة أخرى فأتاه الصّوت هذه املرّة أكثر ارتفاعا ووضوحا‪.‬‬
‫"نعم‪ ..‬نعم‪ .‬أدخ ‪ .‬أدخ "‪.‬‬
‫أدار املزالج وأصدر صريرا مزعجا‪ .‬كا لسا القف عالقاا يف‬
‫مكانه‪ ،‬ويف تلك اللّحظة انشقّ الباب عن فتحة ظهر من خالهلا رج‬
‫طوي القامة أبيض البشرة حنيف العود يضع أصابعه النّحيفاة علاى‬
‫طرف نظّارته الطبّيّة ‪ -‬بدو إطارين ‪ -‬ويتفحّ الواقف أمامه دو‬
‫أ يرفع يده األخرى عن املزالج‪.‬‬
‫"ادفع املزالج جيّدا‪ .‬هكذا‪ ...‬ألنّه مستعصي قليال"‬
‫"السّالم عليكم‪ .‬ه أنت السي هشام؟"‬
‫سأل أمحد وهو ينظر ناحية الرّج بتعابري مان يبحاث عان‬
‫أحدهم يف لعبة الغميضة وقد متّ ضبطه بعد االختباء‪.‬‬
‫"نعم أنا هو هشام" أجابه بطريقة ساخرة هازًّا رأسه إىل اخللف‬
‫واألمام مثّ تبادل الرّجال ابتسامة مرحة‪ .‬قدّم أمحد نفسه للرّج على‬
‫أنّه شرطيّ مثّ جلسا يتحدثا ‪ .‬ثبّت نظّارته فوق أنفه حبركة آلية مان‬
‫أصبعه وقد بدا ألمحد أ ّ الرّج يتمتّع حبسّ فكاهيّ على الرّغم مان‬
‫مظهره الصّارم‪.‬‬
‫إذا مسحت يل بشيء من وقتك‪ ،‬أريد أ أتطارّق إىل قضايّة‬
‫لقدادرة يوسف‪ ،‬أخربتين السّكرترية أنّك كنت زميله فيما مضى"‬
‫‪94‬‬
‫"مراد كا زميلي داخ املكتب وخارجه ولكان األساباب‬
‫تقطّعت بيننا منذ أ سجن‪ .‬كا دؤوبا يف عمله مااهرًا يف أماور‬
‫احملاسبة ضليعًا بقوان الصّفقات العموميّة‪ .‬لقد تارك وراءه ثغارة‬
‫عميقة مل يقدر أيّ أحد على سدّها رغم تدعيم فرعنا مبوظّف جدد‪.‬‬
‫أمّا حياته الشّخصيّة فهو مسامل طيّب القلب‪ ،‬هادئ وانطواقيّ الطّبع‬
‫وحقيقة األمر أ ّ ك ّ من عرفه مل يستسغ بعد بأنّه القات ‪ .‬واهلل ماا‬
‫تعرف شيئًا يف هذه الدنيا"‬
‫"رمبا كا خيفي جانبا من شخصيّته مل يطّلع عليه أحد منكم"‬
‫"قد تصيب يف تكهناتك ولكنّي ال أستطيع أ أتصاوّر ماراد‬
‫قاتال"‬
‫"حسنا هناك بعض النقاط املهمّة الّيت أود سؤالك عنها"‬
‫هنض هشام من مكانه واقفا عاد إىل جملسه بعد أ أغلق البااب‪.‬‬
‫ألقى قَذالَه على مسند الكرسيّ ومدّد ساقيه حتت الطّاولة‪ ،‬بدا مسترخيًا‬
‫يف وضعيّته اجلديدة وهو ينظر حنو أمحد من وراء زجاج النظّارة‪.‬‬
‫"البدّ أنّك تعلم السّبب وراء سجنه‪ ،‬لاذلك أرياد اختصاار‬
‫احلديث والذّهاب حنو الصّميم"‬
‫أمسك املفكّرة ب يديه وداعبت أصابعه القلم‪.‬‬
‫"ه كا يعاين من مشاك ماليّة يف تلك الفترة؟"‪.‬‬
‫"كا رقيس مكتب احملاسبة وعملت حتت إشرافه كمسااعد‪،‬‬
‫حررنا مئات الفواتري خالل عدة سنوات‪ ،‬وجنحنا يف تسيري األشاغال‬
‫بطرق قانونيّة حبتة غري مستسلم إلغراءات املقاول ومل نكن نعاين‬
‫من أي مشك رغم الصعوبة الّيت نواجهها للتادقيق يف احلساابات‬
‫وإعادة مراقبة األرقام واملواد القانونيّة‪ .‬صحيح أ ّ املرتّب ضئي وقد‬
‫‪95‬‬
‫ال يلبّي احتياجات موظّف عاديّ من أمثالنا ولكن ماراد شاخ‬
‫مستقيم ومتديّن‪ .‬ال ميكن أ يستسلم إلغراء املال‪ .‬هاذه ليسات‬
‫شهاديت وإنّما شهادة مجيع من عرفه‪ ،‬وسيقولو لك نفس الشّيء"‪.‬‬
‫"كيف تتم عملية حترير الفاتورةو املصادقة عليها؟"‬
‫"نقوم عادة مبتابعة املشاريع ماليًّا‪ ،‬فنحااول قادر اإلمكاا‬
‫التّقيُّد بدفتر الشّروط والعرض املقدّم من قِبَ املقاول إلنشاء املشروع‬
‫حتّى يتمّ تسليمه هناقيًّا‪ .‬وخالل هذه املدّة من العقد‪ ،‬يتقدّم املقااول‬
‫عند إهناء ك ّ شطر من العم بإيداع فااتورة مساتحقّاته‪ ،‬نقاوم‬
‫بالتأكّد من صحّتها وبعد ذلك تُ ْمضَى من طارف املساؤول عان‬
‫احملاسبة لتنتقّ أخريًا إىل اخلزينة املاليّة الّيت تدفع بادورها املبلاغ إىل‬
‫حساب املقاول"‬
‫تذكّر فجأة أ ّ خلي هو مدير اخلزينة إ مل ختنه الذّاكرة وفكّر‬
‫يف االتّصال به الحقا‪.‬‬
‫"إذًا فاملراقب الوحيد هو احملاسب‪ ،‬أي ما كا يفعله مراد متامًا‬
‫قب أ يوقف؟"‬
‫"هذا صحيح"‬
‫"وه وقعت تزويرات مماثلة من قب ؟"‬
‫"ال أظنّ ذلك‪ ،‬مل يسبق وأ صادفت ذلك طوال مسارييت يف‬
‫العم "‬
‫مَرّ فاص صمت قصري‪ ..‬حَكّ أمحد فروة رأسه بالقلم الّاذي‬
‫بيده‪ .‬تزحزح يف مكانه لينفض عن جسمه أردا القلق‪.‬‬
‫"مبا أنّك تؤمن برباءته فلماذا مل تقم بتقدم يد العو لزميلاك‬
‫وتشهد لصاحله؟!"‬
‫‪96‬‬
‫طامن الرّج رأسَه إىل األرض مفكّرا مثّ رفع وجهاه ورمقاه‬
‫بنظرة منكسرة مفعمة باحلسرة والشّعور بالذّنب‪.‬‬
‫"كنت يف موقف ضَعف مل يسمح يل بالتّصرف حساب ماا‬
‫تقتضيه األمور‪ ،‬مل أكن أملك األدلّة الدّامغة‪ ،‬زد على ذلك وظيفيت‪..‬‬
‫أال تستحقّ أ أحافع عليها؟! لدي مخسة أوالد"‪.‬‬
‫هزّ رأسه موافقًا واكتفى بالنّظر إىل مفكّرته‪.‬‬
‫"ما هو رأيك يف فالوي البشري؟"‪.‬‬
‫"ال يعبأ بأحد طاملا هناك مال كاف لرشوة اجلميع"‪.‬‬
‫"لكنّه مل يتهم قط يف قضيّة بطّيّب على الارّغم مان تورطاه‬
‫الواضح"‪.‬‬
‫مال جبسده إىل األمام ووضع مرفقه فوق سطح املكتب‪.‬‬
‫"هذا صحيح ولكن املبالغ اجليّدة كفيلة بإبعاد التّهم"‬
‫هزّ كتفيه وكأ ّ األمر مسلّم به‪.‬‬
‫"كيف حص على ك ّ هذه املشاريع يف نفس املديناة‪ .‬ألايس‬
‫هناك مقاولو آخرو ؟"‬
‫"بالطّبع هم كثريو ويعانو البطالة بسبب األزمة املالية‪"..‬‬
‫توقّف هشام عن الكالم والتفت أمحد صوب املدخ عند مساع‬
‫طرْق على الباب ولكن الصّوت ما لبث أ اختفى فجأة‪ ،‬وواصا‬
‫هشام ما بدأه قاقال‪:‬‬
‫"أتركنا من اهلموم‪ ،‬قد يكو أحد الزّمالء‪ ..‬أين كنا‪ ..‬آه نعام‬
‫كا يتّفق مع جمموعة من املقاول الكبار ذوي الكفاءات العليا ومع‬
‫اإلدارة السّابقة عند عرض مناقصة وطنيّة إلياداع ثاالث ملفّاات‬
‫للدّخول يف املناقصة دو أ ينشر اإلعال "‬
‫‪97‬‬
‫"ولكن ك ّ مناقصة ينبغي هلا أ تعلن يف اجلراقد"‬
‫"هه‪ ..‬مل أق لك عكس ذلك إنّما تنشار يف جراقاد الشّارق‬
‫اجلزاقريّ ومن أين لك أ جتدها‪ ،‬واملرحلة احلامسة يف العمليّة أ يقضاي‬
‫االتّفاق جبع عرض البشري فالوي األق تكلفة وأق ّ مدّة لإلجناز"‪.‬‬
‫"هكذا إذ يفوز باملشاريع بطريقة قانونيّة ويسدّ الطّريق أماام‬
‫رجال أعمال آخرين!"‪.‬‬
‫"مَن هم املعنيّو يف اإلدارة باالتّفاق مع املقاول ؟"‬
‫ظهر القلق فجأة على مالحمه والحع ارتباكا من خالل حركاة‬
‫يديْه اللّت حرّكتا النظّارة مث اهتزاز رجليه‪.‬‬
‫"ال أستطيع أ أجزم من بالفع فهذه القرارات تتّخذ عادة من‬
‫قِبَ أشخاص خمتلف ؛ فاملدير ليس مسؤوال لوحده كما تتخيّ ‪ ،‬با‬
‫هناك جلنة كاملة تتكوّ من عدّة أشخاص وتتغيّر باساتمرار علاى‬
‫حسب الظّروف"‪.‬‬
‫ساد الصّمت ملدّة عشر ثوا سقط خالهلا القلم من يدي أمحد‬
‫على األرض فمال جبسمه إىل األسف ليلتقطه مثّ عاد يقول‪:‬‬
‫"ما رأيك يف زهيّة برّاشد؟"‬
‫احنرفت زاويتا فمه عن ابتسامة ماكرة‪.‬‬
‫"فاتنة‪ ،‬مجيلة وجذّابة‪ ،‬إذا أقبلت فتنت وإذا أدبرت أهلكات‪،‬‬
‫فماذا أتكلّم وماذا أقول ومن أين أبدأ؟!"‬
‫بدَا حالِمًا وهو يشيح ببصره حنو الفراغ‪ ،‬افتع ذلك إلضافاء‬
‫جوّ من املرح‪ ،‬ارتسمت على وجه أمحد ابتسامة طفيفة‪.‬‬
‫"أقصد ما هو رأيك يف شخصيّتها كزميلة لك يف العم ‪ ،‬أعاين‬
‫كفاءاهتا‪ ،‬دورها يف املديريّة‪ ،‬ه هي نزيهة‪ ،‬ه هي نظيفة‪ .‬عالقاهتا‬
‫‪98‬‬
‫بأفراد هذه املؤسّسة داخلها وخارجها؟!"‪.‬‬
‫"إنّها تبدو هادقة طوال الوقت‪ ،‬وصارمة أيضا‪ .‬كانات تادير‬
‫تقريبا ك ّ األعمال بالنّيابة عن املدير‪ .‬كا يضع فيها ثقة عمياء"‪.‬‬
‫مل يستغرب أمحد هذا األمر ب رآه منطقيا بالنظر إىل العالقاة‬
‫الّيت تربطهما‪.‬‬
‫"ه كانت متضي األوراق عوض املدير؟"‬
‫كا سؤاله مباشرا ومل يرى أي أثر للدهشة على وجه حمدثه‪.‬‬
‫"نعم أحيانا‪ .‬أعين‪ ...‬يف حاالت خاصّة فقط"‪.‬‬
‫"ما هي احلاالت اخلاصّة مثال؟"‪.‬‬
‫نظر إليه من حتت حاجبيه املستقيم ‪.‬‬
‫"عند تغيبه خالل العط أو السفر ألداء مهمّة‪ .‬فتقوم باإلمضاء‬
‫نيابة عنه"‬
‫"ولكن هذا غري قانوين؟"‬
‫"أعلم هذا ولكن للضرورة أحكام"‪.‬‬
‫بدأ هشام يشعر بأنّه يتخطّى احلدود‪ ،‬فشعر بضرورة التّوقّاف‬
‫عند هذه النّقطة‪.‬‬
‫تزامحت األفكار داخ مججمة أمحد‪ .‬حاول التّحكّم فيها وتكوين‬
‫صورة واضحة ولكن دو جدوى‪ .‬بيد أنّه مل يد رابطا ب ك ّ هاذه‬
‫األدلّة‪ .‬هنض من مكانه وتصافح مع الرّج معلنًا هناية املقابلة‪.‬‬
‫"تشرّفت مبعرفتك أيّها الصّديق‪ ،‬شكرًا لك"‪.‬‬
‫"اهلل يسلّمك أخي‪ .‬مرحبًا بك يف أيّ وقت‪ ،‬أنت تعلام اآل‬
‫مكا املكتب"‬

‫‪99‬‬
‫‪-19-‬‬

‫تكوّمت املباين وتراصّت يف بشاعة وفوضى؛ ألوا صارخة غري‬


‫مناسبة للقرميد أو واجهات غري متناسقة حبيث بدت املدينة كومة من‬
‫اإلمسنت املنحوت بيد حنّات خممور‪ .‬أشع أمحد غمّازات االنعطاف‬
‫مثّ دار بالسّيّارة جانبًا وركنها‪.‬‬
‫أتى حارس املوقف وطلب أجره مسبقًا‪ .‬دسّ يده يف جيبه ونظر‬
‫إىل اخلمس دينارا مطوّال قب أ يعطيها له‪ .‬ترجّ مان السّايّارة‬
‫مثّ اتَّجه حنو املبىن املوازي للحديقة العموميّة ومح معاه امللافّ إىل‬
‫هناك‪.‬‬
‫كا املبىن من الطّراز الكولونيايلّ بين إبّا االحتالل بداية القر‬
‫املاضي ويتّشح بزخرفاته املميّزة على األفاريز املمتدّة علاى طاول‬
‫الواجهة‪ .‬متتاز الواجهة بنوافذ طويلة ومقوّسة‪ ،‬يذكّر شك مدخلاه‬
‫بالطّراز النّيوكالسيكيّ املستعم يف أوروبا خالل القر التّاسع عشر‪.‬‬
‫علّقت فوقها الفتة "بنك اجلزاقر الدّاخلي"‪.‬‬
‫كا عام االستقبال مشغوال بوضع الشّيكات أمام الصّارّاف‬
‫حسب صفّ املنتظرين‪ ،‬ال شك أ املراقب يف مكا آخار‪ ،‬علاى‬
‫األرجح كا يف املقهى‪ .‬توجه أمحد حنو املكتب الّذي يقع إىل اليم‬
‫مباشرة حيث قرأ احلروف على لوح الباب‪" .‬سكرترية"‪ .‬دق البااب‬
‫برفق مثّ مسع نداءا يسمح له بالدخول‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫وراء مكتب فخم جلست امرأة يف عقدها الثالاث‪ ،‬تنظار إىل‬
‫طالء أظافرها تارة وإىل اآليفو طورًا‪ .‬كانت هتمّ بالرّدّ على رساالة‬
‫وردهتا يف تلك اللّحظة الّيت عقبت دخوله‪ ،‬مل ترفع رأسها حنوه وكأنّه‬
‫ال أحد‪.‬‬
‫"السّالم عليكم"‬
‫رفعت بصرها ونظرت حنوه متفحّصة شكله من قدميه إىل رأسه‬
‫ودو أ تزحزح أصابعها املطليّة عن شاشة اهلاتف‪ ،‬ر ّ صاوهتا يف‬
‫احلجرة مُعلنًا عن دخوهلا اخلدمة‬
‫"سالاام‪ .‬نعم؟"‬
‫"أريد رؤية برافيف قادة‪".‬‬
‫دو أ تتفوّه بكلمة رفعت مسّاعة اهلاتف مباشرة ونقرت على‬
‫رقم ‪.‬‬
‫"قادة؟ لديك زاقر‪".‬‬
‫تنظر مرة أخرى إىل أمحد وتسأله‪:‬‬
‫"من أقول له؟"‬
‫"أمحد‪.".....‬‬
‫قب أ يتّجه إىل مكتب قادة وضع بطاقة تعريفه هناك؛ مل يارد‬
‫إثارة شكوك السّكرترية بوضع بطاقة العم كما أنّه أتى لزيارة صديق‬
‫قدم وحسب مل ير داعيًا للفت االنتباه‪ .‬وجد الرّج َ بانتظاره هناك‪.‬‬
‫كا برافيف يلس وراء مكتبه يف هدوء‪ .‬له بشرة مسراء ضااربة يف‬
‫العمق وعينا ال تعبّرا عن شيء وأنف ضخم مستقيم وشامة علاى‬
‫خدّه األيسر‪ .‬كا معتدل القامة ممتلئَ اجلسم‪ ،‬يرتدي قميصا أبايض‬
‫اللّو وسرواال أسود ويضع حول عنقه ربطة زرقاء داكنة‬
‫‪101‬‬
‫"أمحد! كيف حالك تفضّ ‪ ،‬ال تصطنع اخلج هيّا تفضّ !"‬
‫"حاضر يا سي املدير‪ ،‬تبدو مهذبا وراء هذا املكتب"‬
‫حدجه بنظرة خاصّة‪.‬‬
‫"ملاذا تبتسم هكذا؟"‬
‫"لو رأوك ح كنت تربّي الكالب يف بابا علي وح كنات‬
‫تسرق النّحاس من دكّا عمّي امليلود ملا تركاوك تعما يف هاذا‬
‫البنك"‬
‫"وأنت نسيت نفسك؟ سفّاح القطط وأعظم رامي حجاارة يف‬
‫احليّ كلّه‪ ،‬ذكّرين كم من ندبة خلّفتاها يف رؤوس اآلخارين!‪ ،‬إذا‬
‫بدأت بالعدّ فلن يسعين اليوم كلّه إلحصاء ضحاياك"‬
‫"آه يا لأليّام عِيشْ تْشُوفْ كيف كنت وكيف أصبحت!"‬
‫تطرّق أمحد خالل حديثه عن امللفّ الّذي حيمله معه وأخربه عن‬
‫القضيّة يف إياز وطلب مساعدته على فح امللفّ‪.‬‬
‫"يف هذه احلالة أنصحك باستشارة رج خبري يف هذه األماور‪.‬‬
‫ولكنّه اآل متقاعد لذا ساتّص به ألعلمه بقدومك"‪.‬‬
‫التقط قطعة صغرية من الورق مثّ خطّ عليها اسم اخلبري الكام‬
‫مرفقا بعنوا إقامته‪ .‬حتدّثا لوقت يسري مثّ وقف أمحد من مكانه ومدّ‬
‫يده مصافحًا‪ ،‬تشابكت األيدي واهتزّت حتّاى ابيضّات أطاراف‬
‫األصابع من الضّغط وافترقت يف األخري‪.‬‬
‫كا املبىن مكوّنًا من ثالثة طوابق ك ّ طابق حيتوي على شقّت‬
‫متقابلت ‪ ،‬كانت راقحة العفن يف املدخ كريهة جدًّا‪ .‬صعد الادّرج‬
‫إىل الطّابق األوّل وانعطف إىل اليم ‪ ،‬وقف أمام باب شاقّة كتاب‬
‫عليها االسم الكام كما يف الورقة‪ .‬نقر على اجلرس امللتصق باجلدار‬
‫‪102‬‬
‫وانتظر واقفًا‪ ،‬وبعد حلظات قليلة مسع وقع خطوات تقتارب‪ .‬فاتح‬
‫الباب عن وجه طفويلّ مشرق‪ ،‬ذعرت تلك الطّفلة ذات السّانوات‬
‫العشر وهي تنظر إىل خيال رج غريب‪ .‬انتظر عشرين ثانية ليسمع‬
‫صوتًا آخر شبيهًا مبحرّك سيّارته‪ .‬خشخشة عنيفة وخفق نعل علاى‬
‫األرض‪ .‬تنحّت الطّفلة عن ركام بشريّ‪ ،‬كا يبدو كهيك عظمايّ‬
‫مكسوّ بشمع أصفر‪ .‬يضع فوق أنفه اجملعّد عند جانبيه نظّارة طبّيّاة‬
‫مسيكة الزّجاج‪ ،‬مل يتبيّن أمحد من خالهلما شك عينيه‪ ،‬ولكنّ مظهره‬
‫الوقور ونظرته اهلادقة أضفت عليه هيبة تتناسب مع سِنّه املتقدّمة‪ .‬نظر‬
‫حصًا مظهره من خالل نظّارته السّميكة‪ .‬سع‬ ‫إىل الزّاقر باهتمام متف ّ‬
‫بشدّة حتّى تراكمت الدّموع يف زاوييت عينيه‪.‬‬
‫"السّالم عليكم‪ .‬احلاج علي؟"‪.‬‬
‫"نعم بالضبط‪ ،‬والبد أنك‪"...‬‬
‫كا بالكاد يتنفس وأصدرت رقتاه صفريا مزعجا‪.‬‬
‫"أمحد‪ "....‬أجاب أمحد‪.‬‬
‫"آه‪ .‬أنا آسف مل أعرفك يف البداية‪ .‬تفضّ ‪ .‬تفضّ ‪".‬‬
‫قاده العجوز حنو صالة على يسار املدخ مباشرة‪ .‬كا املكاا‬
‫معدًّا للضّيوف مبا فرش على أرضها من بساط مازركش خبطاوط‬
‫متداخلة‪ ،‬وما رتّب فيها من أثاث أنيق‪ .‬رأى أمحد على اجلدار املقاب‬
‫للنّافذة املطلّة على اخلارج خزانة من خشب البلّوط رفّت عليها كتب‬
‫القانو وّجملّدات للطّربيّ وتفسري القرآ وحتّى بعض روايات ولياام‬
‫فولكنر الدّوس هكسلي وتولوستوي‪ .‬جلسا معًا على أريكة مبطّناة‬
‫بالدّيباج وقد أعجب أمحد بذوق الرّج يف انتقااء الكتاب وراح‬
‫خيتلس نظرات خاطفة إىل الرّفوف‪ ،‬وجرى بصاره ساريعًا با‬
‫‪103‬‬
‫عناوينها‪ ،‬التّنوم املغناطيسيّ لكولن ويلساو ‪ ،‬رسااق اجلااحع‪،‬‬
‫مقامات احلريريّ وبديع الزّما اهلمذاينّ حتّى إنّه ملح بعض الكتاب‬
‫أدهشه حضورها هناك‪ ،‬كأجاثا كريسايت ودا باراو جاورج‬
‫أوروي ‪ .‬وضعت أمامهما ماقدة زجاجيّة‪ ،‬هلا أرج علاى شاك‬
‫انسيايبّ من الفوالذ الالّمع‪ .‬ردّد أمحد بصره ب تلك الكتاب الّايت‬
‫رتّبت بعناية وتناسق مع شك اخلزانة وقد أذهله تنوّعها واشاتماهلا‬
‫على كافّة األذواق‪.‬‬
‫"ق يل كيف أحوال فضي ‪".‬‬
‫سأل الرّج فجأة بعد أ استقرّ هبم اجللوس‪.‬‬
‫"خبري‪ .‬احلمد هلل"‪ .‬أجاب بتؤدة لكيال يثري رقتيه‪.‬‬
‫"قال يل برافيف أنّك حتتاج إىل استشارة"‬
‫"نعم‪ .‬يف احلقيقة أشتغ على جرمية قت حدثت منذ أيّام‪ .‬قادين‬
‫التّحقيق إىل هذه الوثاقق"‬
‫وضع امللفّ أمامه‪.‬‬
‫"أريد منك أ تتأكّد إ كانت مزورة بالفع "‪.‬‬
‫التقط الرّج املسنّ حزمة األوراق الّيت بداخ امللفّ‪ .‬وجّههاا‬
‫حنوه مثّ تناوهلا احلاجّ علي بكلتا يديه وكأنّه خيشى إسقاطها‪ .‬انتازع‬
‫نظّارته ووضعها على الطّاولة وتناول نظّارة أخرى كانت يف جياب‬
‫صدره‪ .‬بعد مخس دقاقق من الصّمت استردّ بصره فجأة ورشق أمحد‬
‫بنظرة ثاقبة وكأنّه ينتبه له ألوّل مرّة‪.‬‬
‫"ألوّل وهلة تظهر األوراق بشك عااديّ ولكان بالتّادقيق‬
‫سنكوّ فكرة أخرى حوهلا" قال احلاج علي بصوت خفيض خشاية‬
‫أ يُذهب وترية تركيزه‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫أعاد النّظر مرة أخرى إىل تلك األوراق بتمعن وقرهبا إىل وجهه‬
‫حتّى كادت أ تالمس أرنبة أنفه مثّ وضعها على الطّاولة‪.‬‬
‫"دقيقة من فضلك!"‬
‫هنض من مكانه واقفًا وبذل جهدًا غري يسري لالستقامة‪ .‬مساع‬
‫أمحد طرطقة مفاصله وهو يقف منتصبًا جبسمه اهلزي ‪ .‬سع بشادّة‬
‫وهو يتجه حنو اخلزانة الّيت تالصق اجلدار املقاب للمدخ ‪ .‬فتح أحاد‬
‫أدراجها اخلمسة ودسّ يده ليبحث عن شيء ما‪ ،‬وحا عااد إىل‬
‫جملسه كا حيم يف يده عدسة مكبّرة‪ .‬نظر من خالهلا إىل التّوقيعات‬
‫يف قاع الصّفحة واستغرق يف التّمعّن‪ .‬رفع رأسه أخاريًا ويف عينياه‬
‫نظرة تنمّ عن اكتشاف جديد ولكنّها سرعا ما خبت بعد أ سع‬
‫احلاج علي بشدّة هذه املرّة وارتجّ صدره بقوّة حتّى خيّ ألمحاد أ‬
‫رقتيه تكادا أ تُقذفَا من فمه وقد جتمّعت الدّموع علاى زاويايت‬
‫عينيه‪.‬‬
‫مرّر منديال على حميط شفتيه‬
‫"آسف يا بينّ إهنا ضريبة أربع سنة من التّدخ "‪.‬‬
‫نظّف حنجرته عدّة مرات قب أ يتكلّم‪ .‬مثّ قال بصوت يشوبه‬
‫صفري رقتيه‪:‬‬
‫"إ ّ توقيع هذه األوراق وطريقة كتابة األرقام مقارنة ببعضاها‬
‫البعض تبيّن أنّها ليست متطابقة متاما‪ .‬هناك خل يف اخلطّ"‬
‫قسّم األوراق إىل جمموعت مثّ أشار إىل إحدامها‪.‬‬
‫"كال اجملموعت حيم توقيعًا مشاهبًا لآلخر ولكنّهاا ليسات‬
‫متطابقة يف ك ّ شيء فهناك هفوات‪".‬‬
‫"إذ هي مزوّرة بالفع ؟"‬
‫‪105‬‬
‫تساءل أمحد بشغف وقد بلغ به االهتمام مداه‪.‬‬
‫هزّ احلاج علي رأسه األبيض وأومأ بيده إىل أمحد أ يقترب من‬
‫الورقة وينظر من خالل العدسة املكبّرة‪.‬‬
‫"انظُرْ إىل حركة القلم هناك بطء" أشارت سبّابته إىل اإلمضااء‬
‫يف قاع الصّفحة‪.‬‬
‫"لو متعّنت جيّدا يف الكتابة فستجد أ ّ هنالك متاثال يف اجلرّات‬
‫القلميّة ومسك اخلط‪ .‬ولكنّ الفرق الوحيد ب اخلطّ هي النّهاياات‬
‫الّيت ال يب أ تنتهي خبطوط مسيكة يف التّوقيع الصّحيح‪".‬‬
‫مرّر أصبعه مع خطوط التّوقيع وأحسّ أمحد بأنفاساه احلاارّة‬
‫املشبعة براقحة التبغ‪.‬‬
‫"القلم املستعم هنا هو نفسه ولكن مواقع الوقاوف ليسات‬
‫بالكيفيّة نفسها‪ .‬هذا ما يؤكّد حماولة شخ ماا حماكااة التّوقياع‬
‫األصليّ"‪.‬‬
‫هزّ الرّج رأسه وحرّك كتفيه إىل األعلى‪.‬‬
‫"ولكن توقيع أيّ شخ ال ميكن حماكاته هبذه السّهولة‪ ،‬البادّ‬
‫أ يكو هذا الشّخ أحد املوظّف الّذين اعتادوا التّاردّد علاى‬
‫مكتب الضّحيّة"‬
‫"نعم ب أقرب ممّا تتصوّر فمعظم الشّيكات الّيت تزوّر‪ .‬تكاو‬
‫من طرف أحد أبناء العاقلة أو بعض األصدقاء املقرّب ‪ ،‬ويف بعاض‬
‫احلاالت حتّى من األوالد أو الزّوجات‪ .‬إذ البدّ أ يكاو أحاد‬
‫زمالقه من نفس املكتب‪ ،‬أو يف مكا ما يف مبىن اإلدارة‪ .‬قد يكاو‬
‫احلارس وقد يكو املدير‪ .‬مث هذه احملاكاة غالبا ما تتطلّاب وقتًاا‬
‫وتدقيقًا‪".‬‬
‫‪106‬‬
‫وافق بإمياءة من ذقنه‪ ،‬مقتنعًا باألدلّة الدّامغة الّيت يقدمها أماماه‬
‫اآل على طبق من فضّة‪ .‬علم أ هناك حلقة مفقودة يف القضيّة‪ ،‬متويه‬
‫مقصود من طرف أحد األشخاص‪ .‬إ كا على حاقّ وتبايّن أ ّ‬
‫شخصًا ما عبث باألوراق فإ ّ بطّيّب مراد هو الشّهيد يف هذه القصّة‬
‫من بدايتها إىل هنايتها وقد بدأت الفجوات باالظّهور كشاقوق يف‬
‫حاقط هاق بعد زلزال عنيف‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫ااطرب العامل من حوله‪ .‬حترّكت الظّالل حوله كأنّها أطياف‬
‫ةري مرئيّة‪ .‬واع قاميه يف درب شائك‪ .‬هنا يف هناية النّفق الحت‬
‫له النّهاية قريبة وقتومة‪ .‬عانا قار هبروب يائل‪ .‬ههروب مهن‬
‫ذكريات طفت إىل السّطح‪ .‬ذكريات ال يريا تذكّرها أباًا‪ ...‬ماض‬
‫مضى ومل يعا له وجود‪.‬‬
‫التفت حوله يف حركة متلهّفة ومترقّبهة‪ ،‬يتهوجّل ارطهر‬
‫ويتسرّب الولق إىل نفسه املكاودة‪ ،‬باأ حييا وقتا عصيبا‪ .‬استحال‬
‫معه اهلاوء والسّكينة‪ .‬احنارت قطرة عرق بهاردة علهى جبينهه‬
‫الرّطب لتتوّق عنا مشها مرعب‪ .‬يف مكان ما‪ ،‬خله شهووق‬
‫الذّاكرة ووراء الظالل الاّاكنة شعر بتخاطر ةريب خيترق مججمته‬
‫نافذا حنو لبّه‪ .‬أعوبه إحساس بارزي والعهار‪« ...‬مهمَ اهلهروب‬
‫واالختباء ووصمة العار ختلّاها اويّام؟! إىل أين املناص وهو سجني‬
‫ماض ليل ببعيا؟! ولكنّه ماض لن يعود‪ .‬ماض مل يعا له وجود‪».‬‬

‫‪108‬‬
‫‪-20-‬‬

‫انكمش على نفسه ولفّ يديه حول رجليه‪ .‬ساقط يف هاوّة‬


‫نفسيّة المتناهية‪ .‬عمّا قريب سيقدّم كمجرم أمام وكي اجلمهوريّاة‪.‬‬
‫سيضربو بقوّة هذه املرّة‪ ،‬ستكرب أجيال وتليها أجيال أخرى بينماا‬
‫ميضي هو ما تبقّى من حياته داخ حجرة ال تتعدى مخساة أمتاار‬
‫مربّعة‪.‬‬
‫كانت الزّنزانة عالية السّقف هبا كوة ضيّقة على اجلدار الفاص‬
‫ب الزّنزانة وحجرة احلراسة وكا الوقت ميرّ ببطء شديد‪ .‬هنض من‬
‫على األرض وجرّ خطواته الكئيبة حنو مقعد امسنيت يتّصا باحلااقط‬
‫املقاب له‪ .‬استلقى على ظهره وشابك ذراعيه خلف رأسه مثّ حادّق‬
‫إىل السّقف بوجوم وحاول أ ينام ولكن دو جدوى‪ .‬كا املكا‬
‫يشعّ بنور باهت يفيض من مصابيح النّيو املعلّقة يف السّقف‪ .‬حاول‬
‫أ يسترخي ويطلق عنا أفكاره خارج حيّزه املا ّديّ ولكانّ طنيناا‬
‫مستمرّا كا يصدر من مكا ما أزعجه‪ ،‬وظنّ مراد أ لاه عالقاة‬
‫بفتحات التّهوقة‪ ،‬كا ينظر إىل الشّقوق الّيت تشكلت على السّاقف‬
‫ورمست حرف‪ .X‬مال إىل األمام واتّكأ مبرفقيه على فخذياه ودفان‬
‫وجهه ب يديه وأجهش بالبكاء‪...‬‬
‫بعد حلظات اقتربت أقدام من الباب مثّ مسع هسهسة مفاتيح تلتاها‬
‫طقطقة داخ القف ‪ .‬وأثناء ذلك صدر صوت حركة مفاجئة أتت مان‬
‫‪109‬‬
‫بعيد واستمرّت يف االرتفاع وكأ ّ صاحبها قادم حنو الباب‪ .‬استمرّ ذلك‬
‫الصّوت وبدا يتّضح بعض الشّيء وكا مصحوبا بكلمات شتم بذيئاة‪.‬‬
‫سقط شيء ما على األرض كطاولة أو شيء صلب وكأ ّ هناك عراكًاا‬
‫خلف الباب‪ .‬ارتفع الضّجيج مبجيء أقدام أخرى من األرجاح أنّهاا‬
‫لشرطي آخرِين انضمّوا إىل الرّكب وبدوا على عجلة مان أمارهم‪،‬‬
‫وكأنّهم ياذبو شخصًا ما أو يسوقو ثورًا هاقجًا إىل املذحبة‪.‬‬
‫"أيّها احلمقى ابتعدوا عنّي! ال تلمسين أنت‪ ،‬ابتعد!‪."...‬‬
‫تكلّم ذلك الصّوت خلف الباب‪.‬‬
‫مثّ تناهى إىل مسعه صوت طقطقة أعقبها تألّم وأن أصدر الباب‬
‫صريرا مكتوما وهو يفتح وظهر من خالله شرطيّ ضخم‪ ،‬بوجه قاس‬
‫ومتحجّر يبدو من مظهره الصّارم أنّه ميتث ألوامر شاخ آخار‪.‬‬
‫عندها تقدّم شرطيّ آخر قصري القامة ميي إىل البدانة توحي نظراتاه‬
‫املتفحّصة بالبالدة والقسوة‪ .‬كا يلوّح هبراوته واضعا إيّاها ب إهبامه‬
‫وسبّابته‪ .‬ارتعد مراد بشدّة عندما شاهد تلاك الوجاوه العابساة‬
‫واأليادي الضّخمة وهي تتالعب باهلراوات وتترنّح ساحبة معها اهلواء‬
‫ميينا ومشاال‪ .‬حتوّل اهتمامه بغتة إىل مصدر الضّجيج أين رأى شرطيّ‬
‫يقتادا شابًّا مقيّدا باألصفاد‬
‫"اتْرُكوين! أفلتين!‪ ...‬جبناء أنتم جبناء"‬
‫بدا غاضبا بشدّة وهو يقاوم الدّفع والرّك ‪ .‬تذكّر مراد لقطات‬
‫الكاتش الّيت كا يشاهدها على التّلفاز‪ .‬عندما يصارع املقات مان‬
‫أج البقاء يف احللبة‪ .‬يقول املعلّق يف رأس مراد‪:‬‬
‫«املباراة مشتعلة واآل اثنا ضدّ واحد‪ ،‬إنّه يتلقّاى ضاربات‬
‫جنونيّة‪ ،‬ميدّ يده إىل الطّرف اآلخر‪ ،‬سيستع بزميله خارج احللباة‪،‬‬
‫‪110‬‬
‫مهال لقد أخفق من جديد‪ ...‬سقط على األرضيّة‪ ،‬يا له من مشهد!!‬
‫أوو‪ ..‬ال‪ ..‬ركالت قويّة تنهال عليه‪ ...‬سيّدايت وساديت إنّاه يقااوم‬
‫عمليّة اإلخضاع بشجاعة أسطوريّة‪.»..‬‬
‫كا الفىت يقاوم دو أ ينسى أ يطلق سِبَابًا مع ك ّ تنهيدة‪،‬‬
‫كا يسبّ كما يتنفّس‪ ،‬كا يلهث ويقاوم‪.‬‬
‫«سيّدايت وساديت إنّه عند العتبة اآل ‪ ،‬ه ميكن أ يصامد‪ ،‬ال‬
‫ميكنين أ أصدّق هذه البسالة الّيت يقدّمها هذا الفاىت‪ ..‬أووو ال الال‬
‫أين احلَكَم؟ أال تشاهد الضّربات غري القانونيّة؟! إنّها حتات احلازام‬
‫مباشرة ربّاااه‪»...‬‬
‫تدحرج الرّج داخ الزّنزانة ميسك خبصيتيه ويتألّم من الضّربة‬
‫الّيت وجّهها له الشّرطيّ ب فخذيه‪ .‬كانت طريقتهم الوحيدة لكابح‬
‫هذا احلصا اجلامح الّذي ال يروّض إالّ بانتزاع األعضاء احلسّاساة‪.‬‬
‫تقدّم ذلك الشّرطيّ الضّخم حنوه حيم هراوته وبدأت األوتار تاربز‬
‫من حتت باطن ذراعه‪ .‬رفع يده باهلراوة وباعد ب ساقيه‪ ،‬مثّ هوى هبا‬
‫بقوّة على ذراعه‪.‬‬
‫"هاا احلمار حترّك! هيّا اهنض! اهنض من هنا اهنض!"‬
‫ابتعد ذلك الفىت من أمام العتبة وهنض مترنّحا مان مكاناه إىل‬
‫داخ الزّنزانة وهو ميسك يده املصابة‪ .‬كزّ أسنانَه وقد حترّكت شفتاه‬
‫بالشّتم ولكن هذه املرّة دو أ يُسمع منه شيئٌ‪ .‬كانت الضّربة الّيت‬
‫تلقّاها كفيلة بأ جتعله يقعد يف مكانه دو أ ينبس بكلمة‪ .‬وحوّل‬
‫الشّرطيّ الغاضب وجهه املظلم حنو مراد الّذي أجفا وارتعادت‬
‫أوصاله وهو حتت نظراته النّافذة‪ ،‬وقد برزت أوردة رقبته وبدا كثور‬
‫املتادور يف احللبة يكشط األرضيّة حبوافره ويستعدّ للنّطح‪ .‬غادر آخر‬
‫‪111‬‬
‫شرطيّ احلجرة صافقًا الباب وراءه بقوّة كانت كافية لتهزّ املبىن كلّه‪،‬‬
‫مثّ مسع صوت دورا املفتاح داخ يف القف وعمّ اهلدوء‪...‬‬
‫جثا الشّابّ على ركبتيه ويديه مثّ تقيأ علاى األرض يف زاوياة‬
‫بعيدة‪ ،‬وحينما هدأ قليال التفت ليلقي نظرة عابرة على املكا ‪ ،‬ووقع‬
‫بصره على مراد‪ ،‬ولكنّه جتاهله ومتدّد على املقعد جبسامه النّحيا‬
‫وصدره يعلو وينخفض برتابة‪ ،‬كا الثّور يلتقط أنفاسه‪.‬‬
‫خيّم الصّمت من جديد على املكا وقبع ماراد علاى األرض‬
‫مستندا بظهره على احلاقط‪ .‬نظر إىل القيء بصورة فجّة تثري االمشئزاز‬
‫مثّ استردّ بصره وكا الفىت قد غفا خالل ذلك‪ .‬نظر إليه وكا يبدو‬
‫بوجهه األبيض النّحيف قرير الع وكأنّه يف غرفة فندق مخسة جنوم‪،‬‬
‫كا يستدير جبسمه ذات اليم وذات الشّمال‪ ،‬حتّى خيّ إىل مراد‬
‫أنّه سريقد ثالث ماقة سنة وسيظ خالهلا وحيدًا يف دوّامة من اجلحيم‬
‫النتظار مصريه احملتوم‪.‬‬
‫بعد أ استيقع الحقا من النّوم أخذ يتفحّ املكا حوله ألوّل‬
‫مرّة منذ دخوله‪.‬‬
‫محلق مراد يف الباب متحاشيًا املتاعب‪ .‬قد يكو الرّج خطريًا‬
‫ممّا يعين الوقوع يف مأزق على الرّغم من ذلك أحسّ حبرارة بصره‪.‬‬
‫"أححمم أمحمم"‬
‫أدار مراد حنو الصّوت عنقه والتقت نظراهتما يف تلك اآلوناة‪.‬‬
‫تالشت خماوفه فورًا وبدت مالمح الفىت مساملة ال أثر للعنف عليها‪.‬‬
‫"منذ مىت وأنت هنا؟"‬
‫سأل الفىت وهو حيكّ موضع الضّربة على كتفه‪.‬‬
‫بدت بقعة من اللّو األرجواينّ والبنّيّ املصفرّ‪.‬‬
‫‪112‬‬
‫"منذ اللّيلة املاضية" أجاب مراد وقد بدت عيناه حتت اإلضااءة‬
‫اخلافتة كحفرت يف وجهه‪.‬‬
‫"كم من الوقت وأنا ناقم؟"‬
‫قال ذلك وأشاح نظره حنو الباب مثّ هنض من مكانه‪.‬‬
‫"ملدّة ساعة تقريبا‪ ،‬كنت تشخر بصوت مرتفع‪ ،‬البادّ أنّاك‬
‫متعب جدا؟"‬
‫"هه حقًّا؟! ه شخرت؟ مل أكن أعلم بأنّين أشخر أثناء نومي"‬
‫أظهر ابتسامة ودّيّة مثّ توجّه حنو الباب يف خطو وقيد‪ .‬تفحّا‬
‫قفله مثّ ألصق أذنه اليسرى وأحسّ بربودة املعد فقط‪ .‬بيد أ ّ مسعه مل‬
‫يلتقط أية حركة من وراء الباب‪.‬‬
‫"إىل مىت سنظ ّ هنا؟ بدأت أضيق باملكا "‬
‫ولكن مراد ظ ّ صامتًا؛ فكالمها كا يعرف اجلواب مسبقًا‬
‫"لن تشرق الشّمس على األق ّ يف هذا اليوم"‬

‫‪113‬‬
‫‪-21-‬‬

‫نزعت غطاء القدر املضغوط لترى إ كا املرق قاد أصابح‬


‫جاهزًا‪ ،‬انبعث يف املطبخ عرف طيب من الزّعفرا ‪ ،‬تناولت ملعقاة‬
‫خشبيّة وحرّكت قطع اللّحم واخلضر الّيت كانت تسبح يف الطّنجرة‪.‬‬
‫أعادت الغطاء إىل مكانه مثّ ارتدت قفّازا واقيًاا وفتحات الفار ‪،‬‬
‫تفحّصت قطع الدّجاج احملشوّة باللّحم املفروم وغرزت يف ك ّ قطعة‬
‫عود تنظيف األسنا ‪ ،‬تعلّمت هذه الوصفة من مشااهداهتا الكاثرية‬
‫لقنوات الطّبخ‪ .‬كانت األختا كثريا ما تشكّال عونًا كابريا لاألمّ‬
‫وخاصّة يف أيّام رمضا ‪ .‬وعلى الرّغم من إحلاح األمّ هلاا للتّفارّغ‬
‫لدراستها إالّ أ ّ كهينة كانت تثابر على تعلّم وصافات جديادة‪،‬‬
‫أحبّت أمّها كأيّ فتاة تتعلّق بوالدهتا‪ .‬ولكانّ األقادار شااءت أ‬
‫تأخذها منها لتترك يف البيت فراغا هاقال ويف القلب جرحا ال يندم ‪.‬‬
‫طفلة األمس هي امرأة اليوم‪ ،‬مفعمة باألنوثة يف ريّق الشّاباب‪ ،‬هلاا‬
‫يدا قويّتا رغم نعومتهما‪ ،‬وقفت أمام ا َملجْلَى متسح الغباار عان‬
‫األطباق‪.‬‬
‫أعدّت الصّحو فوق الطّاولة ورتّبت املالعق والشّوكات على‬
‫حسب عدد األشخاص‪ ،‬ألقت نظرة على ساعة اجلدار وكانت تشري‬
‫إىل السّادسة ومخس دقاقق‪ .‬بعد دقاقق فقط ستصا وهيباة رفقاة‬
‫زوجها توفيق وابنيهما رياض وآية‪ .‬رتّبت هذا الصّباح غرفة النّاوم‬
‫‪114‬‬
‫الّيت تقع يف الطّابق األوّل وأضافت سريرًا صغريًا آلية‪ ،‬كانات هاي‬
‫آخر من استعمله خالل طفولتها القصرية‪ .‬ومل تنس أ تغلّف الفراش‬
‫لِرياض باجللد جتنُّبًا أليّ طارئ خالل النّوم‪ .‬صبّت ك ّ اهتمامهاا يف‬
‫طريقة وضع شراقح اللّحم وسط املرق والبطاطاا املقليّاة‪ ،‬فتحات‬
‫الثالّجة مثّ انتقلت إىل الطّاولة ووضاعت قااروريت بيبساي علاى‬
‫سطحها‪ .‬ابتعدت خطوت إىل الوراء لتلمح املظهر العامّ للماقدة‪ ،‬بدا‬
‫االرتياح واضحًا على وجهها الرّيّا وخدّيها املوردّين ملّا اساتطاعت‬
‫حتضري العشاء يف ظرف وجيز‪ .‬كانت أجواء املنزل تالقمها‪ ،‬فهاي مل‬
‫تعتد بعد اجللوس أمام شاشة الكمبيوتر لساعات وانتظاار األوامار‬
‫والنّواهي من شخ ٍ غيبّ‪.‬‬
‫كا مظهرها يف املنزل خيتلف كلّيًّا عن مظهرها خارج البيت‪،‬‬
‫كانت تبدو سعيدة وهي ترتدي سرواال رياضيّا ضّيقًا‪ ،‬ثالث خطوط‬
‫بيضاء متوازية متتدّ من على جانبيه‪ ،‬وتلك احلروف الباارزة علاى‬
‫املؤخّرة تشكّ كلمة ‪ ،ADIDAS‬تلفّ حول خصرها مئزرًا مليئاا‬
‫بالورود الزّهريّة‪ ،‬شعر كستناقيّ‪ ،‬شدّ مبشبك إىل األعلى وتفرّعات‬
‫أطرافه حنو السّقف‪ ،‬هتتزّ مع ك ّ حركة من خصرها‪ .‬تدلّت قالدهتاا‬
‫الذّهبيّة من جيدها النّاعم وملست هنايتها مفرق الثّدي ‪.‬‬
‫بعد إعداد الطّاولة نزعت املئزر من وسطها ومهّت إىل الطّاابق‬
‫األوّل ملناداة والدها‪ ،‬كا ال يزال منزويًا يف غرفته كعادتاه ككا ّ‬
‫مساء‪ ،‬يفتح خصاص النّافذة ويلس على حافّة كرسيّه اهلزّازليحا ّ‬
‫تقاطع الكلمات‪ ،‬كا مفرنسا بك ّ ما تعنيه الكلمة من معىن‪ ،‬يتكلّم‬
‫بالفرنسيّة‪ .‬يشاهد القنوات الفرنسايّة‪ .‬يقارأ بالفرنسايّة ويشاتم‬
‫بالفرنسيّة‪ .‬ك ّ شيء يف حياته يتمركز حول هذه اللّغاة‪ .‬وكأنّهاا‬
‫‪115‬‬
‫إكسري احلياة‪ .‬كا من النّوع الّذي يعاتب اجلي احلايل علاى عادم‬
‫متكّنه من هذه اللّغة‪ ،‬وكا يردّد كثريا هذه العباارة "جاامعيّ وال‬
‫يعرف كتابة طلب خطّيّ!" أو "مهندس وال يفارّق با املؤنّاث‬
‫واملذكّر!" نظر إىل ابنته ‪-‬الّيت سدّت مدخ الغرفة‪-‬من فوق حافاة‬
‫نظّارته‪.‬‬
‫"بابا اتّصلت باي وهيبة اآل ‪ ،‬قالت يل أنّهام يف طاريقم إىل‬
‫هنا‪ ،‬سيصلو بعد عشر دقاقق"‬
‫هزّ رأسه معلنًا بذلك استعداده الستقبال زوجها‪.‬‬
‫ر ّ جرس الباب عندما كانت كهينة يف بيت املاء تضع مزيا‬
‫راقحة العرق على إبطيها‪ ،‬فقد جعلتها حرارة املطبخ تتعرّق قليال‪ ،‬من‬
‫حسن حظّها أنّها استحمّت مباشرة بعد رجوعها من العم ‪ ،‬خفاق‬
‫قلبها عند مساع اجلرس‪ .‬نزلت إىل الطّابق األرضيّ مثّ اتَّجهات حناو‬
‫الباب مهرولة‪ ،‬وملّا فُتح الباب رأت وهيبة تقف أمامها وهي حتما‬
‫ب ذراعيها ابنتها وخلفها مباشرة توفيق ميساك بقبضاة ريااض‬
‫الصّغرية‪ ،‬تعانقت األختا طويال وحبرارة‪ ،‬وأفسحت الباب لزوجهاا‬
‫وألقت عليه التّحيّة‪ .‬دلف األربعة إىل الدّاخ وأعادت غلق الباب مرّة‬
‫أخرى‪ ،‬اتَّجهت عينا كهينة إىل الزّاقر اجلديد يف تفحّ وإعجااب‪،‬‬
‫فامتدّت يداها إىل الطّفلة الصّغرية واحتضنتها إىل صادرها‪ ،‬كانات‬
‫تداعبها برقّة فابتسمت على إثر ذلك‪ ،‬كانت تكوّر قبضتها الصّغرية‬
‫وحتشرها داخ فمها الصّغري‪ ،‬وسال اللّعاب على ذقنها وصادرها‪،‬‬
‫وبرزت يف فمها سِنّا كحبّيت األرز‪ ،‬وأثناء ذلك شعرت جبسم صغري‬
‫يلتصق برجلها األيسر‪ ،‬التفتت إليه فابتسمت عندما سقط نظرها على‬
‫رياض وهو يعانق خالته‪ .‬كانت نظرته ب التّرجّي واحلز ‪ ،‬جثات‬
‫‪116‬‬
‫على ركبتها واحتضنته مثّ طبعت علاى خدّياه املناتفخ قبلات‬
‫أودعتهما ك ّ حناهنا‪.‬‬
‫اجتمع مش العاقلة بعد طول غياب حول ماقدة العشاء وسااد‬
‫جوّ محيميّ قلّما حيدث يف هذا البيت‪ ،‬فقد باات لكا ّ شاخ‬
‫مسؤوليّاته وارتباطاته وما تبع ذلك من رحي األسرة إىل معسكر منذ‬
‫تقاعد األب‪ .‬قهقه توفيق بينما اكتفى اآلخرو باالبتساام بسابب‬
‫حادث طريف وقع فيه رياض منذ أيّام‪ .‬لكزتْه وهيبة على ركبته حتت‬
‫الطّاولة ليمسك عن القهقهة‪ ،‬استردّ هدوءه فورا بينما راحت هاي‬
‫تتكلّم لتداري ابتذاله‪ ،‬فقالت تتحدّث عن رحلتهم حنو معسكر‪:‬‬
‫"لقد شاهدنا يف الطّريق السّيّار حادثًا مروّعا‪ ،‬سيّارة قولف مع‬
‫شاحنة‪ ،‬لو رأيتم املشهد‪"...‬‬
‫مثّ دورت عينيها وهزّت رأسها لتعبّر عن أمهّيّة ما تقول‪ .‬علاى‬
‫ح راح األب يتساءل باهتمام‪:‬‬
‫"وه جنَا الرّكّاب؟!"‬
‫ارتفع حاجبَا وهيبة املستقيما وتوقّفت امللعقاة يف منتصاف‬
‫املسافة إىل فمها‪.‬‬
‫"بابا‪ .‬القولف طُحنت‪ ،‬مل يبقَ منها شيء‪ ،‬أكيد هنااك ماوتى‬
‫ولكن ال أدري كم من شخ لقي حتفه هناك‪ .‬عندما مررنا جبانبهم‬
‫كانت احلماية املدنيّة واجلمارك تطوّق املكا بيد أنّي مل ألق الشّجاعة‬
‫للنّظر إىل داخ السّيّارة"‬
‫وتدخّ توفيق يف تلك اللّحظة ممازحًا زوجته وإ بدا مظهاره‬
‫جادًّا فقال بتهكُّم‪:‬‬
‫"ه تريدين إفقادي الشّهيّة باحلديث عن املوتى؟"‬
‫‪117‬‬
‫فردّت عليه بنفس الطّريقة‪.‬‬
‫"وه يفقد الغول شهيّته؟!"‬
‫وانفجر البقيّة ضاحك ‪ ،‬حتّى األطفال شاركوهم الضّحك وإ‬
‫مل يعرفوا سبب ذلك‪.‬‬
‫كانت كهينة ختتلس النّظر إىل الزّوج ومهاا جالساا ماع‬
‫بعضهما‪ ،‬توفيق ببشرته القمحيّة وعوده النّحيف وهي ببشرهتا العاجيّة‬
‫وجسمها املمتلئ‪ ،‬كا هو أطول منها وهي أمج منه‪ ،‬هاو ذكايّ‬
‫حليم وهي رقيقة عاطفيّة‪ ،‬اختالف يف املظهر‪ ،‬تناسجُ وذوبا ُ كليهما‬
‫يف اآلخر يُشكّ أسرة سعيدة‪.‬‬
‫ك ّ ذلك أثار غريهتا وحرّك عاطفتها ومل تدر كيف استرجعت‬
‫يف تلك األثناء صورة أمحد‪ ،‬خفق قلبها بعناف فخفضات رأساها‬
‫متشاغلةً خشية أ يطّلع اجلالسو على سرّها وراحت تأك بادو‬
‫وعي‪ ،‬أحسّت بعاطفة غريبة جتتاحها فجأة‪ .‬ولكنّه مل يباد أي نيّاة‬
‫واضحة للزّواج‪ ،‬جمرّد كلمات إعجاب وقُب باألسااميس‪ ،‬ليسات‬
‫متيقّنة بعدُ من صدق نواياه على الرّغم من شخصه اللّطيف ورجولته‬
‫املستفحلة‪ ،‬لذا بدا هلا التّفكري يف األمر سابقًا ألوانه ولو اطّلعت على‬
‫ما ينطوى داخ صدره من صدق لتصدّع قلبها شوقًا وحنينًا‪.‬‬
‫أغراها مشهد الطّفل ومها يلطّخا ثياهبما اجلميلة‪ ،‬آية تسكب‬
‫احلليب على صدرها‪ ،‬ورياض يلطّخ مجيع مالبسه باملرق وهو يرماق‬
‫أمّه حبذر ب الفينة واألخرى ملعرفة ما إ كانات تالحظاه أم ال‪.‬‬
‫ختيّلت نفسَها تكوّ أسرة صغرية حتت سقف بسيط‪ ،‬ومتارّ عليهاا‬
‫السّنو لتجد نفسها قد شاخت جبانب زوجهاا وأماام أوالدهاا‪.‬‬
‫امتدّت السّهرة لساعات‪ .‬انضمت وهيبة ملساعدة كهيناة يف غسا‬
‫‪118‬‬
‫الصّحو الّيت تكوّمت فوق ا َملجْلَى‪ ،‬كما تركت لزوجها االهتماا َم‬
‫بالصّغريين ومراقبة رياض بعدما أرضعت آية ووضعتها يف السّارير‪.‬‬
‫واستمرّت األختا يف السّمر حتّى ساعات متأخّرة من اللّي ‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫‪-22-‬‬

‫وضع خلي يده على ربطة عنقه وعدّهلا قليال ليسمح للاهواء‬
‫البارد املنبعث من املكيّف باملُرور من خالل ياقته‪ .‬كا يتحدّث عرب‬
‫هاتفه احملمول‪ ،‬يلس خلف مكتب فاخر يلمع سطحه الزّجاجيّ كأنّه‬
‫مرآة مصقولة‪ .‬وراءه مباشرة وعلى احلاقط علّقت صاورة‪ ،‬كلّلات‬
‫بإطار ذهيبّ مزركش متثّ فخامة الرّقيس وهو يقف كالصّنم جباناب‬
‫العلم اجلزاقريّ‪ .‬ضغط على ال ّزرّ إلنْهاء املكاملة‪ ،‬وضع اهلاتف فاوق‬
‫سطح املكتب ومتطّى يف مكانه مثّ شابك يديه خلف قذالاه وأخاذ‬
‫يتثاءب ببطء‪ .‬نظر إىل ساعة معصمه السّويتش‪ ،‬مثّ رفع مسّاعة اهلاتف‬
‫إىل أذنه وضغط فوقه على رقم قب أ يسمع جوابًا مان اجلهاة‬
‫املقابلة‪ ،‬كا صوتا أنثويّا هادقًا يدغدغ احلواسّ‪ ،‬ولكن خلي مل يعد‬
‫يتأثّر بعذوبته مع مرور األيّام‪:‬‬
‫"أمينة أجّلي اإلجتماع لنصف ساعة‪ ،‬لديّ زاقر اآل "‬
‫وضع السّمّاعة على اهلاتف واتّكأ على املكتب مبرفقيه وشابك‬
‫ب أصابع يديه حتت ذقنه‪ ،‬مستغرقًا يف تفكري عميق‪.‬‬
‫دُقّ الباب مرّت كما جرت العادة‪ ،‬ودو أ يأذ للطّارق فُتح‬
‫الباب ودلفت إىل الدّاخ فتاة يف الثالث ‪ .‬كاا يكساو وجههاا‬
‫الشّديد البياض طبقة من املساحيق‪ ،‬وبرزت املاسكارا مان خاالل‬
‫أهداهبا كخطّ قلم لباد أسود‪ ،‬وقد سامهت البُودرا يف إبراز امحارار‬
‫‪120‬‬
‫خدّيها‪ .‬ختطّت العتبة وتقدّمت حنو املدير‪ .‬كا خلي حيدجها بنظرة‬
‫صامتة‪ .‬وضعت يدها اليسرى على خصلة من شعرها تدلّت جباناب‬
‫صدغها األيسر‪ ،‬ولكنّها عادت إىل موضعها األوّل وثبّتتها هذه املارّة‬
‫حبركة غري مكترثة ولكن دو نتيجة‪ ،‬كا ينظر إليها بعصبيّة‪ ،‬وختيّ‬
‫نفسه يقوم من مكانه ليمسك تلك اخلصلة املتدلّية بنفساه ويثبّتاها‬
‫بالغراء على جبينها‪ .‬ارتبكت بسبب نظراته املتفحّصة قب أ تصوغ‬
‫مجلتها األخرية بلباقة بارعة‪:‬‬
‫"هناك رج يدعى أمحد بن مهنة‪ .‬يريد مقابلتك"‬
‫"نعم كنت يف انتظاره‪ ،‬دعيه يدخ !"‬
‫اختفت وراء املكتب‪ ،‬وبعد حلظات قصرية مأل أمحاد فاراغ‬
‫الباب جبسمه الطّوي ومنكبيه العريض ‪ ،‬أحسّ باهلدوء يعمّ يف املكا‬
‫مقارنة باملكاتب الّيت مرّ هبا من قب ‪ ،‬ك ّ شيء يف مكانه‪ :‬املشجب‪،‬‬
‫الصّورة‪ ،‬املكتب‪ ،‬األريكة‪ ،‬السّتاقر املسدلة‪ .‬ال راقحة تبغ ماتعفّن‪،‬‬
‫ال أوراق مكدّسة‪ .‬استطاع أ يشمّ خليطا من الارّواقح الزّكيّاة‪،‬‬
‫راقحة قويّة البدّ أ تكو إمّا «إيغو بوس» أو «أنتونيو بونديراس»‪،‬‬
‫وراقحة أخرى مل يستطع تبيُّنها لتركيز األوىل وطغياهنا على راقحاة‬
‫اليامس ‪.‬‬
‫قام خلي نصف قَومَةٍ من الكُرسيّ املريح ومدّ يده حنو يد أمحد‬
‫املعلّقة يف اهلواء‪ ،‬تصافح الرّجال وتبادال التّحيّاة‪ ،‬مثّ طلاب مناه‬
‫اجللوس‪ .‬ناء الكرس ّي بثق أمحد فأصدر أزيزًا خفيفًا عند جلوساه‪.‬‬
‫كا أوّل ما وقع عليه بصره تلك الصّورة املعلّقة على اجلدار‪ .‬حدّق‬
‫إىل ذلك الوجه املألوف لربهة مثّ جتاه الصّورة باالنّظر إىل خليا‬
‫وكا األخري يتّخذ وضعيّة استرخاقيّة‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫"مرحبًا بك‪ ،‬كنت على وشك عقد انضباط قبا أ تتّصا‬
‫باي‪ ،‬ولكنّي أجّلته ألمتكّن من مقابلتك"‬
‫هزّ أمحد رأسه شاكرًا وقال بتحفع‪:‬‬
‫"شكرًا لك‪ ،‬أل ّ األمر يتعلّق بقضيّتنا"‬
‫وعندقذ الح االهتمام على خلي ‪.‬‬
‫"ه تعرفتم على القات ؟ أخيت ال تنفكّ تتساءل عن هويّته‪ ،‬أنت‬
‫تعرف كيف يكو شعورها يف هذه احلالة"‬
‫"يف الوضع الرّاهن ال أستطيع إخبارك بالشّيء الكاثري ولكانّ‬
‫القضيّة حترز تق ّدمًا‪ ،‬وعذرًا على هذا التّوقيت غري املالقم‪ .‬هناك أمور‬
‫ال تزال عالقة أريد توضيحها"‪.‬‬
‫"أكيد ال أمانع‪ ،‬تفض "‬
‫"أمل يُلمح يوسفُ قب مقتله إىل أيّ حادث أو خَطْابٍ ماا يف‬
‫العم ؟" واستدرك‪:‬‬
‫"ألكو َ أكثر وضوحًا؛ نظنّ أنّه كا ينوي القيام بشيء ماا يف‬
‫األيّام األخرية من حياته‪ ،‬ولكن ال نعلم ما هو بالضّبط‪ ،‬شيء ما كا‬
‫يقلقه كثريًا"‬
‫كا خلي يبدو هادقًا وواثقًا من نفسه‪ ،‬لطاملا أحَسّ أمحد بعدم‬
‫ارتياح اجتاه هدوءه الغريب‪ ،‬علمته اإلساتجوابات أ أي شاخ‬
‫طبيعيّ وإ كا صرحيا أو بريئًا‪ ،‬تنتابه حلظات ارتباك وتاوتّر أثنااء‬
‫اإلستجواب وذلك ما مل يالحظّه على خلي ‪.‬‬
‫"كا هادقًا وال أظنّ أنّه كا خيفي شيئًا ما ولو كاا هنااك‬
‫خطب ما لعلمت من خالل أخيت‪ ،‬فهو مل يكن يساتطيع كتماا‬
‫األسرار ملدّة طويلة"‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫"كيف كانت عالقته بزهيّة يف اآلونة األخرية؟"‬
‫احتاج خلي إىل فاص صمت قب أ ييب قاقال‪:‬‬
‫"كيف يل أ أعرف؟ مِن املفترض أ تسأهلا هي"‬
‫وخيّ ألمحد أنّه رأى ظالًّ من االنزعاج يغلّف علاى وجهاه‬
‫ولكن سرعا ما تالشى‪.‬‬
‫"البدّ أنّك تعرف من يكو البشري فالوي؟"‬
‫"نعم أعرف أنّه صاحب شركة بناء‪ ،‬ولكنّها معرفة سطحيّة عن‬
‫طريق العم "‬
‫"جيّد‪ .‬قب ثالث سنوات أدينت شاركته بزياادة يف تكلفاة‬
‫املشروع‪ ،‬مبعىن آخر اختالس غري مباشر‪ .‬ولكنّ الشّاركة أبعادت‬
‫االتّهام عن نفسها فيما راح ضحيّة ذلك بطّيّب مراد‪ .‬ولكن ماا أودّ‬
‫معرفته حقًّا‪ .‬ملاذا أبعدت التّهمة عن البشري فالوي وكأ ال دخ له‬
‫باملوضوع؟!"‬
‫وتركّزت عيناه على حركات خلي وهو ميي جبسمه إىل األمام‬
‫ويضع مرفقيه فوق الزّجاج الالّمع للطّاولة وتالقات رؤؤس أصاابع‬
‫يديه فيما بينها‪ ،‬نظّف حنجرته مثّ قال‪:‬‬
‫"مضى زمن طوي على ذلك‪ ،‬كنت حينها رقيس قسم احملاسبة‪،‬‬
‫وأشرفت بنفسي على التّدقيق يف دفتر الشّروط والبيا الكَمّيّ لتلاك‬
‫الصّفقة‪ ،‬واكتشفنا خالل التّحقيق أ ّ أحدًا من املاوظّف مبديريّاة‬
‫التّجهيزات قام بإضافة مبالغ ألعمال ومهيّاة مل جتسَّاد علاى أرض‬
‫الواقع‪ ،‬وتوصّ التّحرّي إىل أ ّ بطّيّب مراد هو املسؤول قانونيًّا عان‬
‫التّجاوز‪ .‬عم البشري من ناحيته على َدرْءِ االتّهامات عن نفسه بتقدم‬
‫أدلّة دامغة لتربقته متامًا‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫مل يرد أمحد أ خيربه بالتّطوّرات الّيت حصلت بعد زيارة اخلبري‪،‬‬
‫واكتشاف النّقاق يف اإلمضاءات‪ ،‬ممّا يعين أ ّ هناك شخصًا ما قاام‬
‫خبدعة بارعة‪ .‬وقع بصره مرّة أخرى على الصّورة املعلّقة «ذاك الوجه‬
‫العابس الّذي مل يتغيّر منذ ستّ عشرة سنة‪ .‬مل يستطع فهام سابب‬
‫تعليق هذه الصّورة العابسة يف ك ّ مكتب‪ ،‬ه هاي الوطنيّاة‪ ،‬أم‬
‫العبوديّة؟ ملاذا ال يعلّق األوروبّيُّو صور رؤساقهم فوق رؤوسهم‪.‬؟!‬
‫يب شاخ مناافق‬ ‫ه قادة العرب أعظم شأنًا من قادهتم أم أ ّ العر ّ‬
‫بطبعه؟»‪ ..‬تذكّر فجأة تلك املقولة املشهورة لصاموقي جونساو‬
‫«الوطنيّة هي املالذ األخري لألوغاد»‪.‬‬
‫"ه هناك ما كا حياول إخفاءه عن اجلميع؟"‬
‫"ال أظنّ ذلك‪ ،‬لكنت علمت باألمر منذ البداياة‪ ،‬أل ّ أخايت‬
‫ستخربين يف ك ّ األحوال"‪.‬‬
‫"ما أقصده هو حماولة إخفاقه حتّى عن أعزّ أقرباقه مبان فايهم‬
‫زوجته"‪.‬‬
‫تغضّن جب ُ الرّج وظهر أخدودٌ ب حاجبيه‪ ،‬فيما راح حيدّق‬
‫إليه مبديًا انزعاجه‪.‬‬
‫"األمور واضحة كما قلت سابقًا‪ .‬شؤونه اخلاصّاة ال هتمّاك‪،‬‬
‫كما ال ينبغي لك التّمادي فيما ال يعنيك‪ .‬أنا شخصايًّا ال أحااول‬
‫معرفة تفاصي حياته‪ ،‬خاصّة بعد وفاته"‪.‬‬
‫"زهيّة برّاشد أمل يسبق لك أ مسعت هبذا االسم؟"‬
‫أمطره بواب من األسئلة وملح ارتباكًا طفيفًا على نربات صاوته‬
‫عندما أجاب‪:‬‬
‫"نعم سكرتريته اخلاصّة‪ ،‬ولكن ما عالقتها باألمر؟!"‬
‫‪124‬‬
‫مل يرَ أمحد أ ّ الوقت مناسب للخوض يف هذا احلديث‪ ،‬لاذلك‬
‫حاول االعتذار بكياسة‪ ،‬فقال بصوت هادئ‪:‬‬
‫"أرجو أالّ تكو منزعجا من طريقيت يف طرح األسائلة‪ ،‬أناا‬
‫أؤدي عملي فقط"‪.‬‬
‫ندت عن خلي ضحكة قصرية عسرية‪.‬‬
‫"وأنا كنت صرحيا معك"‬
‫هنض أمحد من مكانه واقفا وقد خاب ظنه‪ .‬تصافح الارّجال‬
‫وغادر املبىن حممال بتساؤالت جديدة وأجوبة تاؤدّي معظمهاا إىل‬
‫طرق مسدودة‪ ،‬كا عليه االستعانة خبطة جديدة‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫‪-23-‬‬

‫مرت فترة من الصّمت ختلله صوت احتكاك ظهر مراد باحلاقط‬


‫اخلزيف ووقع خطوات ذلك الشّخ السيء املزاج الّذي انقلاب إىل‬
‫شخ هادئ‪ ،‬راقبه بعين ناعست ومستيقظت يف نفس الوقات‪،‬‬
‫وهو يذرع أرض احلجرة بتوتّر‪ ،‬حمرّكا يديه ليمسح هبما وجهه وحيك‬
‫كتفيه يف نرفزة‪.‬‬
‫"أهذه جتربتك األوىل يف هذا املكا ؟"‪.‬‬
‫توقف الشّابّ يف مكانه فجأة والتفت إليه وقد احنرف حاجبااه‬
‫قليال وصوب نظرات حادة إىل مراد الّذي بدا أنه ندم على مفاحتتاه‬
‫هبذا احلديث‪.‬‬
‫"املرّة األوىل"‪ .‬رد الفىت بصوت يشوبه األسى وحك قفاه حبركة‬
‫عصبية‬
‫"ما السّبب الّذي جاء بك إىل هذا املكا ؟"‪.‬‬
‫ومضت عينا الشّابّ بربيق خافت واتَّجه حنو املقعد مثّ جلاس‬
‫هبدوء وقال بنربة حامسة‪.‬‬
‫"أهتمت باختطاف فتاة"‪.‬‬
‫كا يستمتع كو كالمه يلفت انتباه مراد‬
‫"اختطاف‪ .‬كيف ذلك؟" ارتسمت علاى جبهتاه خطاوط‬
‫متعرّجة‪.‬‬
‫‪126‬‬
‫"اختفت منذ عشرة أيّام‪ ،‬ومل يظهر هلا أي أثر إىل يومناا هاذا‬
‫بالرّغم من البحث املستمرّ"‬
‫كا األمر مثريا ومقلقا يف آ واحد‪ .‬حبث يف مالمح الرّج عن‬
‫ما يوحي باخلطورة ولكنّه فش يف ذلك‪.‬‬
‫"ولكن ما عالقتك أنت باملوضوع؟ فهمين"‬
‫"ههه‪ ...‬علمت أنّك تفكر يف األمر على هذا النحو يا صديقي‪.‬‬
‫ههه‪"...‬‬
‫ضحك بعصبية مفرطة وقد برزت أسنانه الصفراء‪.‬‬
‫"كنت على وشك التقدم خلطبتها ومن أج ذلك عملت على‬
‫توفري سب العيش فاشتغلت يف ك ّ احلرف تقريبا وعانيت مضاض‬
‫االنتظار‪ .‬إال أ والدها رفضين متاما‪ .‬ب وسخر مين أيضا عندما قال‬
‫أنه لن يصاهر ابن حداد‪ .‬يف آخر املطاف اتفقنا على موعد للهروب‪.‬‬
‫وقب ذلك بيوم فقط خرجت من شقة صديقتها علاى السّااعة‬
‫اخلامسة بعد الظّهر ومضت يف سبيلها حنو البيت وشوهدت للمارّة‬
‫األخرية‪ .‬أظنّك تستطيع ختم الباقي وأما عن مصريي فهو مارتبط‬
‫مبدى قدرة الشّرطة على إياد املختطف وانقاذ حنا من األسر"‪.‬‬
‫"أنت يف ورطة يا صاح!" صمت قليال‪ ،‬يقيم كالمه وبدا جادا‬
‫يف قوله‪.‬‬
‫"مل تق يل ما امسك؟"‬
‫"عثما "‪ .‬قال الرّج ‪.‬‬
‫"تشرفت مبعرفتك عثما "‬

‫‪127‬‬
‫‪-24-‬‬

‫كا الشّعاع الوحيد يف الغرفة صادرًا مان شاشاة الكمبياوتر‬


‫املسطّحة ذات اخلمسة عشر إنشًا‪ .‬نقر أمحد علاى الفاأرة فظهارت‬
‫صفحته الشّخصيّة على الفايسبوك‪ .‬أدخ كلمة يف حمرّك البحث وبعاد‬
‫عشر ثوا ظهرت قاقمة بأمساء متشاهبة‪ .‬ردّد بصره بينها وقرأها بتاأ ٍّ‪.‬‬
‫وأخريًا استقرّ سهم الفأرة على أحد األمساء‪ ،‬فنقر وانتظر‪ .‬كاا تادفّق‬
‫األنترنت بطيئا جدًّا ويبعث على التّوتّر وبعد مرور دقيقة وعشرين ثانياة‬
‫‪-‬خالل ذلك هنش قضمت من السّندويتش‪-‬ظهرت صافحة جديادة‬
‫كانت لشخ آخر ويف الزّاوية العليا صورة لوجه مألوف‪ ،‬طالع الوجه‬
‫بإعجاب‪ .‬صور كهينة يف البيت‪ .‬مع طف صغري حتمله با ذراعيهاا‪.‬‬
‫برزت أسناهنا العاجيّة يف ابتسامة خالّبة‪ .‬انزلقت البيبسي يف حلقه وأغلق‬
‫عينيه من شدّة احتراقه بالغاز املوجود فيها‪ .‬جتشّأ بصوت مقزّز مسموع‪.‬‬
‫مثّ مرّر ظاهر كفّه على شفتيه وذقنه املبت ّ بالبيبسي‪ .‬كانت عيناه مثبتت‬
‫على الصّور األخرى‪ .‬مل تكن تضع صورًا هلا باستثناء تلك الّايت علاى‬
‫الصّفحة الرّقيسيّة‪ ،‬ولكنّها أيضا مل تكن واضحة‪ .‬لقد تعمّادت ذلاك‬
‫وكانت تضع خلفيّة سوداء كتب عليها خبطّ أبيض عريض‪:‬‬
‫«‪»Ne fait pas confiance aux mots; fait confiance aux actions‬‬
‫كانت بياناهتا متواجدة وعرف من خالهلا أ ّ تاريخ ميالدها ‪04‬‬
‫ديسمرب ‪ .1993‬انتابه شعور بأنّها تبادله نفس اإلحساس‪ .‬على الرّغم‬
‫‪128‬‬
‫من ك ّ ذلك تردّد لفترة قصرية يفكّر يف كتابة رسالة أكثر جارأة‪،‬‬
‫ويطلب منها اخلروج معه يف موعد‪ ،‬بالطّبع عن طريق املمازحة حتسّبا‬
‫أليّ إعراض منها‪ .‬وفجأةً وبينما كا يفكّر يف صياغة العبارات ملعت‬
‫يف ذهنه فكرة صورة راودته طوال اليوم األخريين‪ .‬ترك الرّسالة يف‬
‫منتصفها وفتح نافذة جديدة وكتب االسم اجلديد يف خانة البحاث‬
‫عن األشخاص‪.‬‬
‫مل ينتظر أكثر من عشر ثوا قب أ يعثار علاى الشّاخ‬
‫املنشود‪ ،‬تفحّ الصّفحة اجلديدة وهو ميضغ قضمة أخرى‪ .‬علقات‬
‫اللقمة يف حلقه وهو حيدّق إىل الشّاشة بفم فاغر‪ .‬قب أ يساتوعب‬
‫املشهد على الصّورة قفز اهلاتف فوق الطّاولة ممزّقا هدوء الغرفة‪ .‬كا‬
‫االتّصال من صويلح مهري‪ ،‬ولكن ماذا يريد منه الطّبيب الشّارعيّ‬
‫ويف هذه السّاعة املتأخّرة من اللّي ؟‬
‫"ألو‪ ..‬نعم‪ ..‬نعم"‬
‫كا الصّوت من اجلهة املقابلة يعلو وسط ضجيج حادّ‪.‬‬
‫"ماذا؟‪ ...‬كيف‪ ...‬نعم‪ .......‬أين؟"‬
‫وقف شعر رأسه وهو حيوّل السّمّاعة إىل أذنه اليسرى‪.‬‬
‫انتصب واقفّا كردّة فع فساقط الكرسايّ وراءه‪ .‬مل ينتباه‪،‬‬
‫سجّادة‪ .‬مل ينتبه‪.‬‬‫تدفّقت البيبسي على ال ّ‬
‫كانت ألكسيس تكساس تصرخ ومل ينتبه‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫ـدو يعـ ّـد لــك‬
‫"لنــدمج أطــجهد العيــجفير أأطــجير مــا دغــز فجلعـ ّ‬
‫مينج"‬
‫‪ -‬وا سأاو ‪-‬‬

‫ـدوف ويعــرو نف ــه يقعــد مجدــة معر ــة مــا دوا‬


‫"مــا يعــرو لـ ّ‬
‫نيـر‬
‫ا‬ ‫لدوف ول ا يعرو نف ـه فقـد يحـرا‬ ‫خطر‪ ،‬وما اليعرو ّ‬
‫لـدوف وال يعـرو نف ـه ي ع ـا فـي‬
‫وي قى هايمة‪ ،‬وما ال يعـرو ّ‬
‫دادرأ الخطر في ّز معر ة"‬
‫‪ -‬وا سأاو ‪-‬‬

‫صوأــك‪ ،‬و ــمجلك لقيــو‬‫"اصأاللــك لطــجرأ ةــعيفة ال يعنــي ّ‬


‫طمف ال أعنـي س ّنـك‬
‫حجد ال مع‪ ،‬ورؤيأك ل ّ‬
‫الرلد ال يعني س ّنك ّ‬ ‫ّ‬
‫حجد ال ّنظر"‬
‫ّ‬
‫‪ -‬مثز ييني ‪-‬‬

‫‪130‬‬
‫‪-01-‬‬

‫مضت أكثر من نصف ساعة منذ اقتحاام الشّارطة إلحادى‬


‫الشّقق‪ ،‬حبيّ املنطقة التّاسعة‪ .‬عمّت الفوضاى يف املكاا وتوافاد‬
‫السّكّا حول املبىن ملشاهدة ما حيدث يف الادّاخ ‪ .‬حااول أمحاد‬
‫الوصول بسرعة ولكنّه استغرق وقتا طويال بسبب انعدام وساق النّق‬
‫يف هذه السّاعة املتأخّرة‪ .‬كا أوّل من التقى به هناك‪ ،‬بادر الادّين‬
‫رفقة أعوا الشّرطة‪ ،‬حياولو إبعاد احلشد عن مسرح اجلرمية‪ .‬حيّااه‬
‫حبركة من يده مثّ اتَّجه مباشرة حنو الطّابق الثّالث‪ ،‬حبس أنفاسه وهو‬
‫يصعد السّلّم‪ .‬مستعدّا للوضع اجلديد الّذي مل حيسب له أيّ حساب‪.‬‬
‫شقّة بأفراد الشّرطة وثق اهلواء بداخلها‪ .‬وجد هناك فتحي‬ ‫اكتظّت ال ّ‬
‫زمالة رفقة ضابط الشّرطة بن ذهيبة يتبادال احلديث‪ ،‬ختطّامهاا دو‬
‫أ يلتفت حنومها‪ ،‬مثّ عرب الرّواق حنو غرفة يف هنايته أين تتواجد اجلثّة‪.‬‬
‫كا الطّبيب الشّرعيّ يدير ظهره ألمحد ح دخ الغرفاة‪ ،‬يقادّم‬
‫تعليمات ويصدر أوامره جملموعة من الشّبّا حديثي العهد يف الشّرطة‬
‫العلميّة‪.‬‬
‫كا املنزل خاليًا من األثاث إالّ من بعض اللّوازم األساسايّة‪،‬‬
‫افتقر إىل اللّمسة األنثويّة‪ .‬تقدّم حنو اجلثّة حبذر وكأنّه خيشى اكتشاف‬
‫احلقيقة‪ .‬حسر الرّداء عن اجلثّة‪ ،‬وبرز من خالله وجه متصلّب ينطاق‬
‫خواءا‪ .‬نزع الطّبيب قفّازيه ح بدأت احلماية املدنيّة تستعدّ لنقا‬
‫‪131‬‬
‫اجلثّة إىل املشرحة‪ .‬وقف جبانب أمحد وهو يفّاف عارق جبيناه‬
‫املتفصّد‪.‬‬
‫"لقد أتيت متأخّرا؟"‬
‫"أنا بدو سيّارة" كا يركز بصره على اجلساد املتصالّب‪.‬‬
‫تشاغ بإصالح تسرحية شعره‪ ،‬مثّ حكّ عثنونه بإهبامه‪.‬‬
‫"كيف حدثت الوفاة؟!"‬
‫"السّكتة القلبية"‬
‫"موت طبيعيّ؟"‬
‫صمت الطّبيب لوهلة متردّدا مثّ قال‪:‬‬
‫"لست متأكّدًا بعد"‬
‫"أتقصد أنّه مات مقتوال؟"‬
‫عظم اهتمام أمحد وودّ لو ينزع اإلجابة من فم الطّبيب نزعا‪.‬‬
‫"حمتم جدًّا‪ ،‬على أيّة حال سنتأكّد بعد تشريح اجلثّة"‬
‫حرّك الطّبيب ياقة قميصه ليسمح بدخول اهلواء‪.‬‬
‫"يف حقيقة األمر هناك أكثر من فرضاية تقودناا باالساتنتاج‬
‫بوجود قات "‬
‫عقف أصبع سبابته وحكّ أرنبة أنفه‪.‬‬
‫"عندما فحصت اجلثّة يف بداية األمر بدَا ك ّ شيء طبيعيّا‪ .‬حتّى‬
‫مشمت راقحة غريبة كانت تنبعث من اجلثّة‪ ،‬اكتشفت الحقًا أنّهاا‬
‫راقحة الكلوفورم"‬
‫نظر إليه من زاوية عينيه‪ ،‬كما يفع عادة عندما يشكّ يف أمار‬
‫مريب‪.‬‬
‫"وما عالقة الكلوروفورم بك هذا؟"‬
‫‪132‬‬
‫اضطرب أمحد أمام جهله هلذه املادّة‪ ،‬وأنصت باحترام إىل الطّبيب‪.‬‬
‫"هو ساق عدم اللّو له ذوق وراقحة حلوة عادة‪ ،‬قوّته تكمن‬
‫يف قدرة ‪ 3‬ملم منه على ختدير أيّ شخ ‪ ،‬كما أ ّ أيّ زيادة قليلاة‬
‫تعين توقّف القلب عن اخلفقا ‪ ،‬وبالتّايل املوت املباشر"‪.‬‬
‫"إذ مات متأثرا هبذه املادة؟"‬
‫هزّ صويلح مهري رأسه إيابًا ووضع أصبع من ياده علاى‬
‫صفحة رقبته اليمىن‪.‬‬
‫"حقن هنا يف الوريد‪ ،‬ولكن ذلك متّ بعد ختديره بوضع قطعاة‬
‫قماش مضمّخ بنفس املادّة على أنفه"‬
‫"هذا ما يفسّر عدم مقاومة الضّحيّة للقات "‬
‫"بالفع هذا صحيح"‬
‫يف تلك اللّحظة كا ك ّ ما بناه من أفكار‪ ،‬يتقوّض أمامه‪ .‬ظ ّ‬
‫السّؤال يلحّ عليه مرارًا وتكرارًا‬
‫«من يودّ التّخلّ من خلي وما عالقة ذلك بالقضايّة األوىل؟‬
‫هناك خيوط غري مرقيّة حتاك يف اخلفاء‪».‬‬
‫ضاق باملكا والضّجيج فتحرّك خارجًا ليستنشق هواءًا منعشًا‪.‬‬
‫كانت السّماء صافية والنّجوم شديدة اللّمعا حاول التّفكري ولكانّ‬
‫أعصابه املنهكة منعته من ذلك‪.‬‬
‫عاد إىل الدّاخ عندما رأى بن ذهيبة يستعدّ للمغاادرة رفقاة‬
‫فتحي زمالة‪.‬‬
‫"إذ ما رأيك؟"‬
‫التفت أمحد حنو صاحب الصّوت وكا بدر الدّين يقف أمامه‪.‬‬
‫"رأيي؟ أرى أ النّوم أفض شيء ميكن أ أفعله اآل "‬
‫‪133‬‬
‫بدا منهمكا وهو يقول هذه العبارة‪.‬‬
‫"مل يسفر التّحقيق عن أيّ شيء ذي أمهّيّة‪ .‬ولكنّ عجوزًا مان‬
‫شقّة هذا اليوم‪ ،‬ولكان حنان‬ ‫اجلريا ادّعت أنّها رأت امرأة تغادر ال ّ‬
‫نشكّ يف شهادهتا ألنّها تضع نظّارة مسيكة جدًّا"‬
‫تغيّرت سحنة أمحد من الفتور إىل االهتماام‪ .‬وتاذكر فجاأة‬
‫مشهدًا رومنسيًّا مشاهبًا‪ .‬نفس الباخرة الّيت رآها يف صور الرّج مان‬
‫قب ‪ ،‬ولكن مل يظهرًا معًا يف أيّ صورة‪ .‬وقد يكو ك ّ ذلك حماض‬
‫صدفة‪ .‬تذكّر التفاصي داخ الصّور وحازت تلك اللّقطة الّيت اختذها‬
‫خلي فوق ظهر الباخرة على انتباهه‪ .‬كا ظ ّ شخ ما يسقط أمام‬
‫املصوّر‪ .‬وقد حدث العكس عندما رأى صورها هي أيضا‪ .‬كانات‬
‫تتّخذ نفس الوضعيّة وتبتسم لآللة املصوّرة وظ ّ رَج ٌ يسقط علاى‬
‫األرضيّة اخلشبيّة يعكس صورة املصوّر‪ .‬لقد برح اخلفاء‪.‬‬
‫"ما هي مواصفاهتا؟"‬
‫شقّة حوايل‬‫"قالت أنّها رأت فتاة متحجّبة معتدلة القامة تغادر ال ّ‬
‫الثّانية زواال"‬
‫"ه هذا ما متكّنتم من معرفته؟"‬
‫بدت خيبة األم ظاهرة على حميّاه‪.‬‬
‫"لألسف هذا ك ّ شيء"‬
‫عاد إىل منزله مشيًا‪ ..‬وحيدًا يف الشّاارع يساتمع لصادى‬
‫خطواته‪ .‬يف إعياء تامّ‪ .‬كا النّور املنبعث من أحد أعمدة املصاابيح‬
‫يسقط على جسده باهتًا‪ .‬كا شكله وسط الظّالم يوحي بالغموض‬
‫والغرابة‪ .‬كا موزّع الّنفَس كاسف البال وقد ارختات كتفااه إىل‬
‫األمام‪ .‬اهنار ك ّ ما كا يؤمن به‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫وص إىل مدخ العمارة مثّ ارتقى السلم حنو شقّته‪ .‬حباث يف‬
‫جيبه عن املفتاح‪ ،‬وأثناء ذلك وحتت ضوء املصباح املنبعث من الطّابق‬
‫األعلى رأى يف علبة الربيد رسالة موجّهة بامسه‪ ،‬التقطها مثّ دخ إىل‬
‫منزله‪ .‬مل تكن حتم اسم املرس ‪ ،‬ممّا جعله يستغرب األمار ويهامّ‬
‫بفتحها مباشرة‪ .‬كانت عبارة عن ورقة مطويّة ففضّها وسرى بصاره‬
‫سريعًا على مضموهنا‪ .‬ختشّب جسده بالكام وانتابه رعب شاديد‪.‬‬
‫ألقى حوله نظرة متفحّصة مثّ اتّكأ على حافّة الطّاولاة كاردّ فعا‬
‫النصدامه ملا ورد يف الرّسالة‪.‬‬
‫أحسّ بارتعاش يف ركبتيه وهو يقلّب الرّسالة ب يديه‪ .‬وأعااد‬
‫قراءهتا للمرّة الثّانية بصوت مرتفع وكأنّه يريد التأكّد بسمعه أيضًا‪.‬‬
‫أعلم أنّك ستذهل عنا إمتام هذ الرّسالة‪ ،‬لست جمنونًا كمها‬
‫ستعتوا‪ .‬هنا حاّ فاصل بني اجلنون والعبوريّة‪ .‬ميكنك اعتبار هذ‬
‫الرّسالة كعربون ثوة متبادلة‪.‬‬
‫أمّا بعا فإنّي أعرب لك عن أسفي الشّايا ونّين خيّبت أملك‬
‫يف الوصول إيلّ‪ .‬ال أقصا اإلساءة ولكن الباّ من الويام باملهمّهة‪.‬‬
‫إهراق الاّماء والوضاء على اوحياء ليل أمرًا ممتعًا كما تتوقّهع‪.‬‬
‫ختيّل كلّ تلك الفواى الّيت عليك تنظيفها‪ ،‬ولكن الباّ من العمل‬
‫بوول الشاعر‪:‬‬
‫ويف الشَهههرِّ جنهههاةٌ حهههنيس‬
‫ال يُنجَّيهههههكس إحسههههها ُن‬
‫اعذرين عن هذ الوساوة‪ .‬ماذا تتوقّع من رجل مسيّر ولهيل‬
‫مبخيّر‪ .‬أنا أؤدّي عملي كما يؤدّيه أيّ شخص شهري يف ههذا‬
‫الوطن‪ .‬خذ على سبيل املثال خليل مل يتألّم كما تألّم يوس ! كنت‬
‫‪135‬‬
‫رحيما معه بإعطائه خماّرا للتّوليل من آالمه‪ .‬أمّا يوس فهو باايهة‬
‫لوحة مل تكتمل بعا‪.‬‬
‫أبقَّ هذ الرّسالة معك حتّى أقوم ببعض العمهل‪ ،‬مثّ سهلّمها‬
‫لرجال الشّرطة‪ ،‬فسكّيين حادة‪ ،‬ممّا جيعلين أرةب يف العمل حاال لو‬
‫واتتين الفرصة‪.‬‬
‫مل يكد يصدّق ما قرأت عيناه وهو يقلّب الرّسالة ب يديه علّها‬
‫حتم أثرا ما‪ .‬ولكنّه ازداد حرية مع مرور الوقت‪ .‬فقد استعم هاذا‬
‫الشّخ الطّابعة لتحرير الرّسالة‪ .‬وضعها جانبًاا وأخاذ يفكّار يف‬
‫الشّخ الّذي أرس هذه الرّسالة‬
‫«ترى من يكو صاحب هذه الرّسالة؟! وكياف وصالت؟!‬
‫وملاذا أرسلت إليه من ب ك ّ النّاس؟!»‬
‫بدأت هذه األسئلة تطرح نفسها بإحلاح شديد‪ .‬ولكنّاه كاا‬
‫مرهقًا عاجزًا عن التّفكري بشك منطقيّ‪ .‬استوىل عليه القلق وطاار‬
‫النّعاس من عينيه‪ .‬كا األرق آخر شيء يتوقّعه يف هذه اللّيلة‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫‪-02-‬‬

‫وص إىل مقر الشّرطة باكرا هذا الصّاباح‪ .‬تصافح اجلريادة‬


‫اإللكترونيّة يف مكتبه مثّ اطلع على رساق اإلميي ‪ .‬كانت اللّيلة املاضية‬
‫حافلة باألحداث‪ .‬أخذ يستوعب ببطء ما جرى‪ .‬تلك الصور الّايت‬
‫رآها على صفحة الفايسبوك‪ ،‬مثّ خلي وهو يرقد جثّة هامدة‪ .‬فجاأة‬
‫قطع حب أفكاره صوت أتى من داخ الغرفة‪.‬‬
‫"صباح اخلري‪ ،‬أتيت باكرا اليوم؟"‬
‫كا بدر الدّين يقف وسط الغرفة‪ ،‬وضع أغراضًا على ساطح‬
‫املكتب وهتالك جبسمه املكتنز على مقعده‪.‬‬
‫"مل أستطع النّوم‪ ،‬كرهت املكوث يف البيت"‬
‫"هذا واضح‪ ،‬تبدو مرهقًا"‬
‫مسح أمحد وجهه حبركة من كفّه‪ ،‬مثّ زفر هواءًا سااخنًا مان‬
‫منخريه‪.‬‬
‫"لدينا اجتماع على السّاعة التّاسعة‪ ،‬ه أبلغت باألمر؟"‬
‫"حقًّا؟!"‬
‫غطست قاعة االجتماعات يف أشعّة الشّمس الذّهبيّة‪ ،‬وبادأت‬
‫تستعدّ الجتماع جديد‪ .‬كا فتحي متواجدًا هناك رفقة محزة بوبكر‪،‬‬
‫واكتم احلضور عندما دخ بن ذهيبة القاعة يتقدّمه صويلح مهري‪.‬‬
‫عمّ اهلدوء فجأة‪ .‬انتصب بن ذهيبة أمام القاعة وشا ّد قامتاه وهاو‬
‫‪137‬‬
‫يتفرّس يف الوجوه‪ .‬التفت أمحد حوله وحبث عن كهينة ولكنّهاا مل‬
‫تكن حاضرة هناك‪.‬‬
‫"وقعت األمس عمليّة قت من قِبَ ِ شخ ال يازال جمهاوال‪.‬‬
‫الضّحيّة مدير اخلزينة العموميّة وصهر يوسف قدادرة"‬
‫توقّف عند بن ذهيبة هذه النّقطة ليجذب اهتمام اجلالسا مثّ‬
‫أضاف‪:‬‬
‫"يبدو أنّنا يف موقف ال حنسد عليه‪ ،‬علينا تكثياف اجلهاود إ‬
‫أردنا اخلروج من هذه الورطة"‬
‫حترّك خطوة إىل األمام مثّ أطرق خالهلا كمن يوشك على اتّخاذ‬
‫قرار مهمّ‪:‬‬
‫"البدّ من تغيريخطّتنا والعم جبهد أكارب‪ ،‬لاذلك سأساتمع‬
‫القتراح ك ّ واحد منكم"‬
‫استطالت رقبة فتحي وبدأ يتكلّم‪:‬‬
‫"تعقّبنا حسابات يوسف وخلي البنكية‪ ،‬واكتشفنا أ ّ كليهماا‬
‫قام بتحويالتٍ معتربةٍ خالل السّنت املاضيت ‪"...‬‬
‫"ه كانا يتلقّيا رُشًى من أحد؟" قاطعه بن ذهيبة‬
‫"مصدرها ال يزال جمهوال‪ ،‬ولكن الشّيء املثري لالهتمام‪ ،‬هو أ ّ‬
‫كليهما قام بسحب ك ّ األموال قب مقتله ببضعة أيّام فقط"‪.‬‬
‫كا ذهن أمحد حاضرًا‪ ،‬ولكنّه مل ميتنع عن التّفكري يف كهيناة‬
‫وعن سبب غياهبا‪.‬‬
‫"ربّما كانا خيطّطا لشيء ما فعلم القات باملبلغ الطّاق الّاذي‬
‫حبوزهتما" أضاف محزة‬
‫"أو أنّهما كانا خاقف من الشّيء نفسه" نطق أمحد أخريًا‬
‫‪138‬‬
‫ولفت انتباه احلاضرين‪ ،‬ليس بأمهّيّة ما يقول‪ ،‬وإنّما بسبب حبّاة‬
‫يف صوته‪.‬‬
‫تنحنح ثالث مرّات قب أ يعيد كالمه‪:‬‬
‫"هناك دافع خفيّ جع من كليهما يقرّر اهلروب مع كا ّ ماا‬
‫ميلكه من أموال"‪.‬‬
‫"إذا افترضنا أنّهما حتت ضغط ما فلماذا ال يتّصال بالشّرطة‪ ،‬مثّ‬
‫حيتفظا مبا ميلكا من أموال؟!"‬
‫كا يف صوت فتحي نربة َتحَدٍّ‪.‬‬
‫"لن يقدرا على ذلك‪ .‬أل ّ اختيارهم اهلروب يؤكّد تورّطهماا‬
‫يف أمر خطري‪ ،‬مّما يع اللّجوء إىل الشّرطة توريطا هلماا يف حادّ‬
‫ذاته"‬
‫"فِيمَ هُمَا متورّطا إذ ؟" سأل بن ذهيبة حبذر‪.‬‬
‫"هذا ما أودّ الوصول إليه"‬
‫يف تلك اللّحظة ظهرت كهينة فجأة عند مدخ القاعة‪ .‬وبدت‬
‫جدّ مرتبكة وهي تتخطّى أمحد حنو مقعد شاغر‪ .‬وص شذى عطرها‬
‫إىل أنفه قويًّا‪ .‬انتعش من جديد‪ .‬عاد إىل أمحد شاعوره باالطمئناا‬
‫لدى رؤيتها‪ ،‬ولكن ظهورها مل ميرّ مرور الكرام‪.‬‬
‫"صباح اخلري آنسة كهينة" تكلّم بن ذهيبة بنربة استهزاء‪ ،‬مثّ نظر‬
‫إىل ساعته‪.‬‬
‫"حنن على وشك االنتهاء" استأنف بن ذهيبة عمله بتكليف ك ّ‬
‫فرد مبهامّه‪.‬‬
‫كا فتحي على موعد مع زوجة يوسف للتّحقيق معها حاول‬
‫مقت أخيها‪ .‬أمّا الطّبيب مهري فقام بتقدم تقرير مفصّ عن حالاة‬
‫‪139‬‬
‫اجلثّة‪ ،‬وأمر بن ذهيبة بدر الدّين مب ء إحدى االستمارات وإرساال‬
‫التّقرير إىل وكي اجلمهوريّة‪.‬‬
‫هنض أمحد من مكانه وشعر بتوعّك يف كام أحنااء جساده‪،‬‬
‫تثاءب مثّ اتَّجه إىل مكتب كهينة‪ .‬دقّ الباب برفق وتقدّم إىل وساط‬
‫الغرفة‪ .‬كانت تبدو أكثر مجا ًال وهي حتت تأثري الغضب‪.‬‬
‫"صباح اخلري"‬
‫"صباح اخلري" كانت عبارهتا حتم نوعًا مان احلاز ‪ ،‬ورأى‬
‫اضطرابًا يف عينيها‬
‫"كيف حالك؟"‬
‫"بتّ اللّيلة يف املستشفى‪ ،‬وتركت أباي وحيدًا هناك‪ ،‬آليت هنا‬
‫وأتلقّى توبيخًا من شخ ال يفقه معىن اللّباقة"‪.‬‬
‫"ما الّذي حدث له‪ ،‬ه به علّة؟"‬
‫"أباي مدمن على النّيكوت لذلك قال يل األطبّاء أنّه سارطا‬
‫املريء‪ ،‬حالته تستدعي القلق"‬
‫تشاغلت مبداعبة خصالت من شعرها تعبريًا عن توتّرها‪ .‬ورأى‬
‫أمحد أ خيفف عنها‪:‬‬
‫"ال تقلقي سيكو خبري‪ ،‬أعرف أشخاصًا عانوا األمار نفسَاه‪،‬‬
‫ولكنّهم سرعا ما متاثلوا للشفاء بعد تتبّع نصاقح الطّبيب"‪.‬‬
‫مل يبدُ حلديثه أيُّ تأثري عليها وهَمّ بالكالم لوال أ قاطعته قاقلة‪:‬‬
‫"ه صحيح أ ّ خلي هو صهر يوسف قدادرة؟"‬
‫"نعم"‬
‫"إذ الشكّ من وجود رابط ب اجلرميت "‬
‫"هذا ما أعتقده أيضا"‬
‫‪140‬‬
‫"وه توصّلت إىل شيء ما؟"‬
‫نظر إليها صامتًا مثّ أخرج من جيبه ورقة مطويّة‪.‬‬
‫"اقرقيها!"‬
‫بدأت يف قراءة الرّسالة وقد جتلّت الدّهشة يف مالحمها‪ .‬نظارت‬
‫صوبَ أمحد مستغربة‪.‬‬
‫"من أين أتيت هبذه الرّسالة؟!"‬
‫"أرسلها شخ ٌ جمهول يدّعي أنّه القات "‬
‫"وملاذا يرسلها إليك ويُعرّض نفسه للخطر؟!"‬
‫"قد يكو شخصًا جمنونًا أراد لفت االنتباه"‬
‫"ه اطّلع عليها أحد غرينا؟"‬
‫"ال‪ ،‬أنت فقط‪ ،‬رأيتُ أ أشاور يف األمر"‬
‫تفقّدهتا ب يديها لوهلة‪ ،‬مثّ طوهتا جمدّدًا وحشارهتا يف حقيباة‬
‫اليد‪.‬‬
‫"اتْرُكْهَا معي سأرى ما ميكنين فعله!"‬
‫"شكرًا‪ ..‬هناك أمرٌ آخر مل أذكره لكِ بعد"‬
‫تفرّست يف مالحمه لعلّها تطّلع على سرّ آخر‪.‬‬
‫"وجدتُ عالقة تربط ب القضيّت ‪ ،‬إهنا امرأة وتُادعى زهيّاة‬
‫برّاشد‪ ،‬سكرترية يوسف وخليلة صهره خلي "‬
‫"زهيّة برّاشد الّيت سألتَين عن عنواهنا من قب ؟"‬
‫"نعم"‬
‫ارتبك أمحد قليال وهو يقول العبارة األخرية‪.‬‬
‫"قمتُ بزيارهتا من قب ‪ ،‬واكتشفت ذلك من خالل متابعتاها‬
‫على صفحة الفايسبوك‪ ،‬وممّا زاد من سوء ظنّي أ ّ أحد الشّهود رآها‬
‫‪141‬‬
‫تغادر شقّة خلي قب مقتله بساعات قليلة"‬
‫"وملاذا مل تتكلّم من قب ‪ ،‬على األق ّ ملنع اجلرمية الثّانية؟!"‬
‫كا يف نربهتا نوع من املعاتبة‪.‬‬
‫"مل أكن أظنّ أ ّ هلا يدًا يف األمر‪ ،‬ممّا جعلين أقصيها من داقارة‬
‫املشتبه هبم"‬
‫"وماذا تريد أ تفع اآل ؟"‬
‫شابكت ب ذراعيها فوق صدرها ونظرت إليه يف اهتمام‪.‬‬
‫"نقوم برصد حترّكاهتا دو أ جنعلها حتسّ بذلك‪ ،‬كما سأعهد‬
‫إليك مبراقبة مكاملاهتا اهلاتفيّة ومجيع حساباهتا البنكيّة"‪.‬‬
‫غمره ارتياح عميق وهو خيفّف عن كاهله أعباء الكتما ‪ .‬فقد‬
‫رأى يف كهينة سندًا قويًّا يعتمد عليه يف هذه احملنة‪ .‬ممّا سايتيح لاه‬
‫التّفرّغ ملهامّ أخرى‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫‪-03-‬‬

‫هبط اللّي ببطء وتسلّلت األضواء املنبعثة من األعمادة عارب‬


‫الشّارع الضّيّق‪ .‬انطلق صوت املؤ ّذ مدويًّا يف السّماء‪.‬‬
‫"ال إله إال اهلل"‪.‬‬
‫كانت احلركة يف بابا علي بطيئة ختلو من اهلواء‪ .‬مشى اهلاويىن‬
‫يف مسلك متعرّج‪ ،‬تاركًا سيّارته على بعد أمتار‪ .‬يف تلك األثناء شعر‬
‫بأمل فظيع داخ مججمته وكأ ّ مطرقة عنيفة تدقّ النّصف األيسر من‬
‫جبهته‪.‬‬
‫نظر أمحد إىل الورقة الّيت أخذها من كهينة قب أيّام‪ .‬رأى ص َورًا‬
‫ألشخاص متبوع قضاقيًّا‪ ،‬راجع القاقمة بدقّة ولكنّهاا مل تسااعده‬
‫كثريا يف حتديد هدفه‪ ،‬يف تلك األثناء هبّت رياح خفيفة جرت معها‬
‫العلب الفارغة واألوراق املبعثرة على الطّريق‪ .‬داعبت نسمة رقيقاة‬
‫عروق جبهته النّابضة باألمل فأحسّ بارتياح طفيف‪.‬‬
‫طلب هذا الصّباح مذكّرة تفتيش من مركز الشّارطة فاأوعز‬
‫إىل بن ذهيبة هذا األمر لتسهي اإلجراءات‪ .‬ولكن هذا األخري رفض‬
‫ذلك وطلب منه التّريُّث وعدم االندفاع حنو اجملهول‪ .‬حثّ خطاه حنو‬
‫ذلك اجملهول أين تتواجد املباين العتيقة بتعرّجاهتا الضّيّقة‪ .‬ختطّى زاوية‬
‫الوايل سيّدي بن عبد اهلل واخترق ملعب ال ّزلّيج‪ ،‬وبعد مخس دقااقق‬
‫وجد نفسه يف طريق مسدود تتفرّع على جانبياه أباواب األبنياة‬
‫‪143‬‬
‫املتزامحة‪ ،‬وكا ضيّقا ومتعرّجا‪ ،‬خييّ إىل النّاظر أنّه يفضي إىل مما ّر‬
‫آخر‪ ،‬ولكنّه يف احلقيقة ينتهي ببنايات متشعّبة ومتداخلة فيما بيناها‪.‬‬
‫انتبه على إثرها إىل مسلك ضيّق يف الزّاوية على يساره‪ .‬تقدّم بضاع‬
‫خطوات حذرة إىل األمام‪ .‬ملح يف النّهاية األخرى هايكال يقباع يف‬
‫الظّالم الدّامس‪ .‬تفحّ املكا حوله مثّ تقدّم ببطء حنو ذلك اهليك‬
‫املعدينّ‪ .‬استغرق األمر منه دقيقة فقط‪ ،‬قب أ تألف عيناه الظّاالم‪.‬‬
‫رويدا رويدا بدأ حق الرّؤية يتّضح أمامه‪.‬‬
‫أحسّ برجليه تتيبّسا ‪ .‬انبهر أمام املشهد الغريب وغري املتوقّع؛‬
‫كانت الرّونو السوداء تقبع هناك كشبح‪ .‬ويا هلا من مصادفة!! تفاع‬
‫جسمه مع املفاجأة فأحسّ بنبضه يتسارع‪.‬‬
‫دوّ رقم تسلسلها على املفكّرة‪ ،‬مثّ ألقى نظرة خاطفة حولاه‪،‬‬
‫أحسّ بقدوم شخ ما ولكنّه عاد مرّة أخرى إىل السّيّارة وبدأ يفكّر‬
‫يف طريقة لتفتيشها من الدّاخ ‪ .‬إنّها من النّوع الّذي يسه فتحاه‪،‬‬
‫ولن تشكّ له أيّ عاقق طاملا أنّها ليست مزوّدة جبهاز إنذار يفضحه‪.‬‬
‫عندما بدأ معاجلة الباب تناهى إىل مسعه صوت أقدام ثقيلاة تارتطم‬
‫باألرضيّة وختترق غشاء الصّمت الّذي اكتنف احليّ كلّه‪ .‬عند زاوية‬
‫املنعطف ملح ثالثة أشخاص يدخلو املمرّ يف خطوات متعبة‪ ،‬فتوارى‬
‫خلف السّيّارة خمتبئًا‪ .‬جثَا على ركبتيه وراقبهم هبدوء خلف اهليكا‬
‫املعدينّ‪.‬‬
‫عندما أصبحوا على بعد ستّة أمتار تبيّن لاه وجاه ماألوف‬
‫فاتّسعت عيناه دهشة لدى رؤيته‪ .‬تقدّم أحدهم جبانب السّيّارة وكا‬
‫على بعد ثالثة أمتار‪ .‬مسع أمحد هسهسة املفاتيح وكأنّها تبحث عان‬
‫القف الّذي يب أ يكو قطره أكثر من متر إلياده‪ ،‬وأثناء ذلاك‬
‫‪144‬‬
‫سقطت عُالقة املفاتيح من ب يديه على األرض‪ ،‬استطاع أمحاد أ‬
‫يرى حلقة املفاتيح ملقاة جبانب عجلة السّيّارة‪ ،‬مثّ شااهد أصاابع‬
‫مضطربة تبحث عن احللقة عبثا‪ ،‬وبعد جهد غري يسري اساتطاع أ‬
‫يلتقطها مرّة أخرى‪ .‬كانوا يف حالة سكر شديدة ممّا جع أحادهم‬
‫يربّت على كتف اآلخر‪ ،‬مطلقا صيحات طاقشة‪ ،‬يف موجات صوتيّة‬
‫بشعة‪ ،‬عرف أمحد صاحب هذا الصّوت‪.‬‬
‫"يا بغ ه أسقطتَها ثانية؟!‪"...‬‬
‫" ‪ ...‬أمّك يا ولد ال‪ .....‬أال ترى؟ افتح هذا الباب تاع‪"...‬‬
‫دار املفتاح يف القف ‪ ،‬وسُمع صرير الباب الثّقي وهو يُفتح‪ .‬ملّا‬
‫شارفوا على الدّخول تناهى إىل مسامعهم رن قويّ‪ .‬يف تلك اللّحظة‬
‫الّيت أعقبت فتح الباب حدث ما مل يكن يف احلسبا ؛ توقّف الازّمن‬
‫وكا ك ّ شيء يبدو عبثيًّا ال معىن له‪ ،‬حعٌّ سيّء‪ ،‬قدر عابث‪ ،‬مسّها‬
‫كما حتبّ ولكن الوضع تأزّم وانفلت األمر من ب يدياه حا ر ّ‬
‫هاتفه يف جيبه‪ .‬نزلت قطرة عرق باردة على جب أمحد وأحرقات‬
‫عينه اليمىن‪ ،‬دسّ يده يف جيبه ليسكت اهلاتف اللّع ‪ .‬كا االتّصاال‬
‫من املفتّش ولكنّه ضغط الزّر األمحر لينهي املكاملة‪ .‬توقّفت خطواهتم‬
‫فجأة وساد سكو عميق‪ ،‬تَال ذلك حترّك األقدام واقتراهبا من ناحيته‪،‬‬
‫أحسّ بدنُوّ شخ ما ولكن ظِالل ذلك الشّبح توقّفت فجأة ومل تعد‬
‫تتحرّك‪ ،‬ثبت الرّج يف مكانه برهة وأحسّ أمحد خالهلا بضاربات‬
‫قلبه تزداد قوّة مع مرور الوقت‪.‬‬
‫خيّ إليه وكأ ّ ذلك الظّ ّ ولّى مدبرًا على عقبيْه‪ ،‬وبدأت أنفاساه‬
‫تعود إليه مع ابتعاد اخلطر‪ .‬تنهّد الصّعداء وقد أحسّ أنّه خرج للتّوّ مان‬
‫فم األسد ساملًا‪ .‬كا قاب قوس أو أدىن من الوقوع يف ورطة العمر‪.‬‬
‫‪145‬‬
‫أطبق السّكو على املكا من جديد وعادت نبضات قلباه إىل‬
‫حالتها الطبيعيّة وبعد أ تأهّب للوقوف أحسّ بأنفاس مشبعة براقحة‬
‫اخلمر تالمس قذاله‪ ،‬لفّ عنقه‪ ،‬وقب أ يدور ‪ 180‬درجة إذا بيَادٍ‬
‫تلوّح بعصًا يف وجهه حالت دو رؤية مالماح ذلاك الشّاخ ‪،‬‬
‫أصابته الضّربة يف منطقة الصّداع من رأسه‪ .‬ارختت عضالته فجاأة‬
‫وسقط على األرض مغمًى عليه مثّ ساد الظّالم‪.‬‬
‫كا يقف على شاطئ البحر متأمّال زرقته الدّاكناة والسّاماء‬
‫الصّافية تتخلّلها بعض السّحب الرّقيقة‪ .‬غمرته أشعّة الشّمس الدّافئاة‬
‫بإحساس مريح‪ ،‬ومأل صوت البحر أذنيه برن عجيب‪ .‬رأى خاطّ‬
‫األفق وهو يربط ب السّماء والبحر يف ذلك املشهد اهلادئ‪ .‬بساط‬
‫يديه يف اهلواء وأغمض عينيه‪ .‬أحسّ باالطمئنا واهلدوء‪ ،‬مثّ باحليااة‬
‫وهي تسري جبسده‪ .‬فتح عينيه مرّة أخرى وتبدّل املشاهد فجاأة‪.‬‬
‫أظلمت السّماء وأصبح لو البحر حالكًا‪ .‬نك على عقبيه مرتعبًاا‬
‫إلحساسه باخلطر‪ .‬زاد البحر من هوله‪ ،‬فربزت من األعماق موجاة‬
‫هاقلة‪ ،‬غطت السّماء واألفق وحجبت ضوء الشّمس عان األرض‪،‬‬
‫وارتفعت حتّى كادت تالمس السّماء‪ .‬غاصت قادماه يف الرّماال‬
‫وعجز عن احلركة فجأة‪ .‬أخذ يصرخ بشدّة وعيناه تطلقا الادّموع‬
‫من دو أ يدري‪ .‬مالت املوجة كالطّود العظيم‪ ،‬وشاكلت ذنَبًاا‬
‫شاقال وكأنّها شيطا ماردٌ يوشك أ ينقضّ عليه‪ ،‬وما زال يصارخ‬
‫ويصرخ حتّى غمرته املياه‪ ،‬وحتوّلت صرخاته إىل فقاعات‪.‬‬
‫حاول الصّعود إىل السّطح عبثًا‪ ،‬منازعًا الغرق واملاوت معًاا‪،‬‬
‫ختبّط يف العمق حتّى أصبح عاجزًا واستسلم للموت أخريًا‪ ،‬كانات‬
‫سكرات املوت عنيفة ومؤملة‪ ،‬ويف تلك اللّحظة العسرية شاعر بياد‬
‫‪146‬‬
‫ضخمة متتدّ حنوه وتنقذه من املوت احملتّم‪ .‬بدأ يطفو حناو السّاطح‪،‬‬
‫والنّور يزداد وضوحا واألم يكرب شيئا فشيئا‪...‬‬
‫استيقع أمحد من حلمه فزعا‪ ،‬وكانت ثيابه مبلّلة ووجهه يقطر‬
‫باملاء‪ .‬نظرة ضبابيّة مشوّشة‪ ،‬ص َورٌ تتراق حبركاتٍ هبلوانيّاة مان‬
‫حوله‪ .‬نظر إىل الظّ ّ الّذي كا يقف أمامه بعين متعبت ‪ .‬مل يستطع‬
‫متييز شيء إالّ مههمة الرّج وهو حيم يف إحدى يديه دلوًا بالستيكيًّا‬
‫يتقاطر منه املاء على األرض‪.‬‬
‫أطلّت من عينيه نظرة مظلمة‪ ،‬وكا ظلّه الثّقي يعكس مادى‬
‫ضخامته‪.‬‬
‫زَأرَ الصّوت بقوّة‪:‬‬
‫"استيقع‪ .‬استيقع!"‬
‫عند ذلك بدأت نظرة أمحد تتّضح شيئًا فشايئًا‪ .‬دار رأساه يف‬
‫املكا وعاد األمل هذه املرّة أكثر حدة‪ .‬ختثّر الدّم على صدغه األميان‬
‫وسال على خدّه وصفحة رقبته اليمىن‪ .‬أطلق صراخا صافرًا ومتلما‬
‫يف األرضيّة الصّلبة جبسده الطّريح‪ .‬كا لو قميصه ملطّخاا ببقاع‬
‫أرجوانيّة من أثر النّزيف‪.‬‬
‫انكمش الظّ ُّ أمامه و اقترب منه وجه دميم‪ .‬كانات راقحاة‬
‫الشّراب تنبعث مع أنفاسه املخمورة وترتطم بأنف أمحد الّذي كاتم‬
‫رغبة يف التّقيّؤ‪ .‬كا يفصله عن هواري ولد ماريا عشرو سانتيمترا‬
‫فقط‪.‬‬
‫"ه أتيت لزيارتنا؟"‬
‫تفحّ وجهه بنظرة غاضبة‬
‫"هذا من دواعي سرورنا"‬
‫‪147‬‬
‫مل يكن مثّة أيُّ انعكاس يف عينيه باستثناء صورة وجه أمحد الّيت‬
‫سكنت بشك خافت يف ك ّ واحدة منهما‪ .‬كوّر قبضة يده وسدّدها‬
‫حنوه بك ّ قوّته‪ ،‬ارتطم وجه أمحد باحلاقط وبدأت الدّماء تنزف مان‬
‫أنفه وفمه بغزارة‪ .‬زمّ على شفتيه من شدّة األمل وكاد يغياب عان‬
‫الوعي مرّة أخرى‪.‬‬
‫"هذا عربو ضيافة فقط‪ ،‬ال تقلق سنكرمك كما يب"‪.‬‬
‫وقف الرّج أخريًا وسدّد نظرة ثاقبة أخرية مثّ غادر احلجرة‪.‬‬
‫بعد مرور مخس وعشرين دقيقة من اساتيقاظه شاعر بأغنياة‬
‫«قناوي» تعزف يف رأسه‪ .‬كا مقيّدا باألصفاد‪ ،‬شادّت باأنبوب‬
‫حناسيّ ثبّت على اجلدار‪ .‬جلس القرفصاء واسند ظهره على احلاقط‪،‬‬
‫مصغيًا لألمل الّذي يهرس عظامه‪.‬‬
‫بلغ مسمعه صوت خافت‪ ،‬أرهف السّمع وتراقصت عينااه يف‬
‫احلجرة حبثًا عن مصدر الصّوت‪ .‬كا املصباح الوحياد يف الغرفاة‬
‫يتدلّى من السّقف إال أ اإلضاءة كانت ضعيفة‪ .‬استطاع أ يارى‬
‫بوضوح سريرًا يف الزّاوية البعيدة للغرفة‪ .‬كانت نوابضه تصُارّ با‬
‫الفينة واألخرى ممّا يعين أّ شخصًا ما يستلقي هنااك؟؟؟؟ جباناب‬
‫السّرير كرسيّ من اخلشب بدو ذراع مبطّن بقطيفة محراء ممزّقاة‬
‫اجلانب ‪ ،‬وبرزت منها حشوات الصّوف‪ ،‬وانبعثت يف اجلوّ راقحاة‬
‫اخلبز املتعفّن ورواقح أخرى كريهة‪ .‬ك ّ هذا بدا طبيعيّا‪ ،‬نظرًا النعدام‬
‫أيّ فتحات للتّهوية‪ .‬مكا حقري على جدرانه شقوق بارزة وآثاار‬
‫أصابع ملطّخة بشيء يشبه الرباز‪.‬‬
‫على اجلدار األمين جبانب الباب منضدة خشبيّة ذات قواقم ثابتة‬
‫هلا أربعة أدراج تكسّرت بعض مقابضها ووضعت فاوق ساطحها‬
‫‪148‬‬
‫زجاجتا ويسكي إحدامها مملوءة إىل الثلث والثّانية فارغة‪ .‬وجباهبماا‬
‫أربع قنّينات «رادبول» و«باور هورس»‪ .‬بدا وكأنّه قضى سااعات‬
‫ممدّدا على األرض‪ .‬تناهى إىل مسعه ذلك الصّوت الواهن مرّة أخرى‪،‬‬
‫ولكنّه جاء هذه املرّة أكثر وضوحًا‪ ،‬كا السّرير يتّسع لشخصا ‪،‬‬
‫مطّ رقبته وقاوم رغبته يف الصّراخ‪ .‬تشنّجت أطرافه وأطلق أنّة مان‬
‫أعماقه كنصف مهسة من أحد جانباي فمه املطبق بإحكاام‪ .‬رفاع‬
‫ذقنه حنو األعلى ليتسنّى له الرّؤية بوضوح‪ .‬استطاع أ يلمح أصابع‬
‫بيضاء شاحبة تربز من خالل حافّة السّرير‪ ،‬واساتدلّ مان خاالل‬
‫األظافر الّيت بدأ الطّالء األمحر ينجلي عنها يف بعض املنااطق أنّهاا‬
‫امرأة‪ .‬استغرب من تواجدها يف هذا املكا وخاصّة أنّها مل تساتيقع‬
‫يف ظ ّ تواجده يف نفس احلجرة‪.‬‬
‫حبث عن طريقة ليتخلّ هبا من األصفاد الّيت بدأت تنغارز يف‬
‫رصغيه وتضيف أملًا آخرَ إىل آالمه‪ .‬يف مكا ٍ ما مِن ذلاك البيات‪،‬‬
‫تناهى إىل مسعه هسيس خافت تبيّن الحقًا أنّها أصوات فرقعة أحجار‬
‫الدّومينو‪ ،‬تتبعها صيحات استياء وتذمّر‪.‬‬
‫مكث ردحا من الزّمن على تلك احلالة‪ .‬ويف إحدى اللّحظاات‬
‫مسع خطوات ثقيلة تقترب من الغرفة‪ .‬ثبت بصره حنو العتبة مترقّباا‬
‫ظهوره أحدهم‪ .‬كا الشّيء الوحيد املتبقّي من الباب هاو إطااره‬
‫اخلشيبّ وثالث مفصّالت صدقة يف كال اجلانب ‪ ،‬لذلك كانت الغرفة‬
‫مفتوحة على الدّوام‪ ،‬وما هي إالّ حركة جفن واحادة حتّاى رأى‬
‫جسما ضخما يسدّ فتحة الباب الواسعة‪ ،‬واتّضح أنّه اهلواري‪ ،‬ولكنّه‬
‫مل يتقدّم أكثر من ذلك عند مساع صوت صاحبه ينادي من مكاا‬
‫آخر داخ البيت‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫"هواري‪ ..‬أين أنت‪ ..‬هيا سنبدأ!‪."..‬‬
‫التفت حبركة آليّة اجتاه الرّواق وبرزت عضالت رقبته املتينة ملّاا‬
‫دار وجهه وأجاب بلهجة حادّة‪:‬‬
‫"ال تب َدأُوا من دوين! انتظروا!‪."..‬‬
‫التفت مرّة أخرى وختطّى وسط الغرفة متّجهًاا حناو أمحاد‬
‫خبطواتٍ ثابتة‪ .‬نظر أمحد من مكانه إىل الرّج فبادا كجبا مان‬
‫العضالت أو كمخلوق خرايفّ له عينا شبيهتا بالكهوف العميقة‪.‬‬
‫وقف أمامه على بعد عشر سنتمترات وارتعش خدّه غضابًا‪ ،‬ولعا ّ‬
‫اخلمر زادت من حدّة غضبه وانفعاالته‪.‬‬
‫ظ ّ أمحد صامتًا وهو ينظر إليه من األسف ‪ ،‬كا يعلم أنّه يريد‬
‫التّنكي به نظرًا إىل العداوة القدمية بينهما‪ .‬قد تتفااقم األماور إىل‬
‫األسوإ وربّما لن يعيش حتّى يبلغ هنار الغد‪.‬‬
‫"تكلّمْ! ملاذا أنت صامت‪ ،‬أنت أصم؟!!"‬
‫كا وجهه متصلّبا خاليًا من احلياة‪ ،‬وحدمها عيناه كانتا تنبضا‬
‫باحلياة‪.‬‬
‫مل يستطع أمحد أ يكتم ما كا يعتلج داخله على الرّغم مان‬
‫دقّة وضعه اخلطري‪ .‬لقد جعلته تلك النّظرة العنيدة عصبيًّا‪.‬‬
‫"ماذا تريدين أ أقول؟ ها‪"!!..‬‬
‫رفسه برجله على كتفه بقوّة وضغط بشدّة‪ ،‬تأوّه من شدّة األمل‪،‬‬
‫أحسّ بكتفه تنخلع من مكاهنا وهو يستلقي على األرض ضاكًّا على‬
‫أسنانه من قوّة التّألّم‪.‬‬
‫"ق يل «شكرًا» ألنّين أبقيتك حيًّا‪ ،‬هيّا انطق! ما الّذي أتى بك‬
‫إىل هنا؟"‬
‫‪150‬‬
‫ضغط أمحد على أسنانه وكافح بقوّة ليص اهلواء إىل رقتيه وقال‬
‫بصوت خمتنق‪:‬‬
‫"تظن أنّك ستتخلّ منّي بسهولة؟ هكذا تقتلين مثّ ينتهي األمر"‬
‫كانت نظرته على الرّغم من موقفه الضّاعيف حتما حتادّيًا‬
‫واضحًا‪.‬‬
‫احنرفت مالمح اهلواري عن ذلك التّعبري القاسي الّاذي غطّاى‬
‫وجهه مث قناع وكانت حدقتاه حتملقا يف الرّكام البشريّ‪ .‬دسّ يده‬
‫يف قعر جيبه واست ّ منها علبة قولواز‪ ،‬أمسك بسيجار با إهباماه‬
‫وسبّابته‪ ،‬مثّ أخذ يقلّبه ب أصابعه ويتملّى النّظر إليه وكأنّه يفكّار يف‬
‫أمر ما‪.‬‬
‫"أنت بالنّسبة يل ال شيء ولذلك سأحموك من الوجاود ولان‬
‫يصيبين أيّ مكروه أو تعلم ملاذا؟ أل ّ األمور تغيّارت‪ ،‬أساتطيع أ‬
‫أتنقّ كيفما أشاء وأنق معي ما أشاء دو أ يتعرّض يل أحد مان‬
‫الدّرك أو الشّرطة‪ ،‬حتّى إنّين لو طلبت منهم نساءهم ملاا رفضاوا‬
‫ذلك"‪.‬‬
‫قال ذلك مثّ انفجر ضاحكًا وقد برزت أسنانه الصّفراء تتخلّلها‬
‫ثقوب سوداء‪ .‬ارفض جبسمه إىل مستوى أمحد مثّ أمسك لفافة التّبغ‬
‫ب أسنانه وأخرج والّعة من جيبه‪ ،‬أحرق اللّفافة وامحرّت الشّاعلة‬
‫عند أوّل نفس‪ .‬دسّ يده يف جيبه اآلخر وأخرج هاتفًا نقّاال وحافظة‬
‫هبا مخسماقة دينار وبعض القطع املعدنيّة‪ .‬مثّ مرّر يده مرّة أخارى يف‬
‫منطقة اخلصر وراء احلزام وظهر املسدّس يف يده‪ .‬وضع تلك األغراض‬
‫على األرض مثّ تطلّع إىل تعابري أمحد والّذي أصبح لو وجهه رماديًّا‬
‫شاحبًا‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫"كنت تراقبين إذ ! لو كنت رجال لقابلتين مباشرة"‬
‫تداعى قناع السّخرية وامتقع وجهه وكأنّه يدعوه ليتجرّأ فقاط‬
‫وخيربه بشيء خمتلف‬
‫«جت ّرأْ وسترى! أنت تعبث باألشياء اخلطرية‪ ،‬وتتدخّ فيماا ال‬
‫يعنيك‪ .‬هه‪ .‬هيّا! ما الّذي جاء بك إىل هنا؟! أمازلت تالحقين"! هيّا‬
‫اهذر!"‬
‫التقط املسدّس ووضع فوهته على رأسه‪ .‬أحسّ بربودة املاسورة‬
‫وهي تلمس صدغه األيسر‪ ،‬مكا الصّداع‪ .‬ارتدّ املسدّس وعاد ببطء‬
‫إىل منطقة خصره عندما مسع صوتّا مباغتًا من اجلانب اآلخر‪.‬‬
‫"مل أنته معك‪ ،‬سأعود إليك"‪.‬‬
‫استوى واقفًا مثّ حوّل وجهته حنو السّرير الّذي بدأت نوابضاه‬
‫بالصّرير‪ .‬انطلق نداء ياقس من املرأة املستلقية هناك‪ .‬بدا أنّها تعاين من‬
‫خطب ما‪.‬‬
‫أسند ظهره إىل اجلدار ورفع نفسه قليال معتمدًا على رجليه‪ .‬متكّن‬
‫أخريًا من رؤية شبح هزي المرأة يف مقتب العمر‪ ،‬شاحبة البشرة‪ .‬قاد‬
‫برزت عظمتا وجنتيها من شدّة الضّمور‪ .‬مال اهلواري عليها وسقط ظلّه‬
‫الثّقي على جسمها النّحيف الغارق يف الفراش‪ .‬حترّكت أصاابعه حناو‬
‫جبهتها ببطء مثّ انغرست داخ شعرها األسود احلريريّ‪ .‬متكّن أمحد من‬
‫رؤية ارتعاشها وكأنّها ردّة فع ياقسة ضدّ حترّشه الوحشيّ‪ .‬الحاع أ ّ‬
‫اجلزء األماميّ من مرفقيها يتّشح بظالل داكنة متداخلاة مان اللّاون‬
‫األرجواينّ والبنّيّ املمتزج بالصّفرة‪ ،‬وملح ثقبًا مليئًا بدم أسود يف منتصف‬
‫ك ّ من الكدمت ‪ .‬كانت تتصبّب عرقًا وقد التصقت شاعريات مان‬
‫شعرها جببهتها وصدغيها وكوّنت خطوطا متعرّجة‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫لسبب ما ظن أنّه رآها يف مكا ما من قب ولكنّه سرعا ماا‬
‫جتاه تلك الفكرة بسبب اجلوّ املشحو بالتّوتّر والرّعب‪.‬‬
‫"ه تشعرين بتحسّن اآل عزيزيت؟" ربّت على خدّها وتكلّام‬
‫برقّة حاملة ال تتناسب مع املوقف‪ .‬أشاحت برأسها حناو احلااقط مثّ‬
‫ندت عنها صيحة مكتومة‪ .‬استطاع أمحد أ يرى املريئ من خاالل‬
‫جيدها يرتفع حنو األعلى مثّ ينخفض بصعوبة الزدراء اللّعاب‪ ،‬وندت‬
‫عنها كلمات متقطّعة ومج غري مفهومة‪ .‬التقطات أذناه اجلملاة‬
‫األخرية‪.‬‬
‫"أريد دواء‪ ...‬أعطين الدّواء‪ .‬الدّواء" كانت تتكلّم مبشقّة كبرية‪.‬‬
‫"مازال الوقت مبكّرا‪ .‬كوين مطيعة وستحصال علاى ماا‬
‫تريدين!"‬
‫ذهبت ابتسامته أدراج الرّياح وزفر اهلواء من رقتياه فاتّساع‬
‫منخراه وتصلّبت مالمح وجهه بنظرة متمعّنة مل يرتح هلا أمحد‪.‬‬
‫"أرجوك‪ ...‬الدّوا‪"...‬‬
‫استطاعت أ ترفع رأسها هذه املرّة وتنق نظراهتا إىل املنضادة‬
‫حيث كا هواري متوجّها‪ .‬غادر الغرفة ملدّة دقيقة وعاد حيما يف‬
‫يديه كأس ماء تغطّيه قطرات من املاء بفع الرّطوبة‪ .‬وضع الكاأس‬
‫فوق املنضدة اخلشبيّة‪ .‬فتح أحد أدراجها مثّ تناول قرصي دواء مان‬
‫علبة كتب عليها بأحرف إفرجنيّة "‪ "nozino‬أمسك القرص بقبضته‬
‫القويّة وأعاد غلق الدّرج بوركه مثّ تناول الكأس مرّة أخرى‪.‬‬
‫رفعت الفتاة نفسها بعناء ومحاس على مرفقيها مبساعدة هواري‬
‫وقوّمت نفسها على السّرير‪ .‬حشر القرص يف فمها فأحسّت مبلوحة‬
‫أصابعه أطبقت عليهما مباشرة وانزلقا حنو معدهتا دو مساعدة املاء‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫رأى وجهها مضاءا بالعرق‪ ،‬وشعرها ملتصقا جببهتها‪ .‬هلاا عيناا‬
‫عسليّتا حتفّ هبما أهداب طويلة‪ ،‬وشفتا ممتلئتا تشاقّقتا بفعا‬
‫اجلفاف‪.‬‬
‫"هه‪ ...‬ألن تشرباي املاء؟"‬
‫سال بعض املاء على ذقنها وبلّ رقبتها وقميصاها‪ ،‬مثّ أبعاد‬
‫الكأس عنها ونظر إليها بإعجاب‪.‬‬
‫استغ ّ أمحد انشغاله مع الفتاة وبدأ معاجلة القف بيديه ولكنّاه‬
‫ازداد ضيقا وبرزت يف رسغه أخاديد مبيضّة‪.‬‬
‫"ما بك؟‪ ...‬ه بدأت‪ ...‬أمل أعطك دواءك‪ ...‬تاوقّفي عان‬
‫البكاء هيا!‪"..‬‬
‫انتابته هسترييا طارقة وانفجر يف وجهها صارخًا‪ .‬قرّب وجهاه‬
‫منها حتّى أصبح على بُعد سنتمترات قليلة فقط‪ .‬غلبت عليها راقحة‬
‫أنفاسه الكريهة فأشاحت وجهها عنه يف حركة ياقسة‪.‬‬
‫"أنت حقرية ه تعلميّن ملاذا‪ .‬ألنّك تتصرّف كمومس‪ ،‬ما إ‬
‫حصلت على غايتك حتّى أدرت يل وجهك"‪.‬‬
‫وضع يده على وجهها وضغط بقوّة على خادّيها الغااقرين مثّ‬
‫أداره بقوّة وشعر أمحد بالتّشنّجات على مستوى رقبتها وهي تادور‬
‫ستّ درجة عكس حركتها اإلراديّة‪.‬‬
‫"قلت لك انظري إيلّ عندما أتكلّم تنظرين يف عيين مباشرة!"‪.‬‬
‫وجّه هلا لطمةً كانت مبثابة لكمة المرأة مبث هاذا الضُّاعف‪،‬‬
‫اختفى رأسها داخ الوسادة املبقّعة باللّعاب واملاء املتدفّق من الكأس‪،‬‬
‫شهقت على إثرها وظنّ أمحد أنّه قد قضى عليها بتلك الضّربة‪ .‬وماا‬
‫لبث أ التفت يف غضب إىل ضيفه اآلخر‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫"إىل ماذا حتدّق أنت‪ ،‬ما بك؟!"‪.‬‬
‫كا وجهه يصطبغ حبمرة غريبة واحندرت قطرات العرق علاى‬
‫خدّيه‪ .‬زوى ما ب حاجبيه وبرزت العروق من صدغه وكأنّه علاى‬
‫وشك االختناق‪.‬‬
‫وكما تنحدر الصّخور من قمم اجلبال لتحطّم أيّ شيء يعترض‬
‫سبيلها‪ .‬اهنالت ركالت اهلواري على أمحد بدو رمحاة‪ ،‬أصاابته‬
‫إحداها يف باطن ركبته‪ .‬فأطلق صفريا صارخا وسقط علاى األرض‬
‫يتلوّى‪ .‬و ّد لو ميسكها بكلتا يديه ويبكي من شدّة األمل‪.‬‬
‫"أال يروق لك األمر؟! هاه تكلّم! هيا تكلّم!‪ ..‬أنات رجا‬
‫القانو فماذا ستفع اآل ؟!" قال ذلك بأنفااس متساارعة دو أ‬
‫يتوقّف عن الرّك ‪.‬‬
‫«سيّدايت ساديت إنّها املباراة األخرية يف القتال احلارّ‪ .‬هاواري‬
‫يسدّد ضربات قويّة‪ ،‬هذا املصارع ال يرحم‪ 120 ،‬كلغ للرّكلة ولدينا‬
‫هنا واب منها‪ ،‬ه يستطيع أمحد الصّمود أمام هذا اهلجوم الشّرس؟!‪.‬‬
‫سيّدايت وساديت ربّما سيعلن احلكم عن هناية املباراة قريبا‪».‬‬
‫اجلمهور يصرخ وراء احللبة يشتم احلكم‪ .‬الدّماء تنادلق علاى‬
‫األرضيّة‪ .‬سيدايت وساديت حسمت املباراة‪ .‬يبدو أنّه يستسلم أخاريًا‪.‬‬
‫ولكنّ اخلصم ال يزال يسدّد ركالته جبنو ‪ ،‬ملاذا ال يتوقّف؟! أين أنت‬
‫أيّها احلكم؟! سيّدي احلكم ما هذا؟! أين أنت؟! جلنة التّحكيم تغضّ‬
‫الطّرف‪.‬‬
‫اجلمهور خيتفي فجأة‪ ،‬ويتالشى صوت املعلّق كاذلك ويبقَاى‬
‫األمل وحده مثّ ظلمة طارقة‪ ،‬أغمي عليه مرّة أخرى‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫‪-04-‬‬

‫أخذ يستر ّد وعيه يف ومضات متقطّعة‪ .‬فتح عينه ببطء وكانات‬


‫نظرته ضبابيّة‪ .‬مل يدر كم استغرق يف غيبوبته‪ .‬مل يطرأ أيّ تغيري على‬
‫الغرفة‪ ،‬هدوء نسيبّ تتخلّله قرقرة أحجار الدّومينو من وراء اجلدرا ‪.‬‬
‫شعر بامللوحة يف فمه فبصق على األرض بصقة اصاطبغت بااللّو‬
‫األمحر‪ .‬دار لسانه داخ فمه متحسّسا موضع األمل وقد الحع تناوب‬
‫موجات النّور املرسلة من املصباح املعلّق من السّاقف‪ .‬رأى فراشاة‬
‫حتوم حول الضّوء الباهر ناشرة جناحيها يف اهلواء‪.‬‬
‫اتّخذ وضعيّة اجللوس من جديد ومكث على تلك الوضعيّة فترة‬
‫ليلتقط أنفاسه‪ .‬حفّزه املوقف اخلطري على إيااد حا ّ ساريع‪ .‬يف‬
‫حلظات توتّره استوىل على انتباهه شيء ما‪ ،‬كاا يساتلقي علاى‬
‫األرض‪ .‬نشط خياله فجأة وانتعشت فرصه للنّجاة‪ ،‬فتمادّد بكاما‬
‫طوله على األرضيّة اخلشنة وانزلقت رجله حنو ماسكة الشّعر‪ .‬كانت‬
‫بعيدة نوعا ما ولكنّه استعم قدمه اليسرى ليص إليها‪ ،‬وبقي بيناه‬
‫وبينها مخسة سنتمترات فقط‪ .‬البدّ أ ّ القدر رماها أماماه يف تلاك‬
‫اللّحظة‪ .‬انغرزت األصفاد يف األخاديد عندما مطّ جسامه بأقصاى‬
‫طوله وملس حافّة املاسكة فتزحزحت من مكاهنا وابتعادت أكثار‪.‬‬
‫انكمش مرّة أخرى على نفسه وأ ّ من األمل وكأنّه آلة األكوردياو‬
‫تصدر أحلانا عند انكماشها‪ .‬نزع فردة احلذاء اليمىن مبساعدة رجلاه‬
‫‪156‬‬
‫اليسرى مثّ أطبق على حافة احلذاء بأصابع قدمه العارية ورفعه مثّ متدّد‬
‫مرّة أخرى موجّها قامته حنو املاسكة وبذل جمهودا جبّارا رغم آالماه‬
‫لكيال يفلته من ب أصابعه‪ ،‬ألقى فردة احلذاء على األرض مثّ جارّه‬
‫إليه ولكنّه أخطأ اهلدف‪ .‬شعر وكأ ّ أظافر خفيّة حنيلة تضغط علاى‬
‫صدغيه‪ .‬التقط نفسا عميقا مثّ أعاد الكرّة مرّة أخرى وبتركيز أكارب‪،‬‬
‫هذه املرّة أحسّ وكأ رسغه سينقطع وكانت قطرات العرق تتجمّع‬
‫على جبهته‪ .‬وقع احلذاء فوق املاسكة مثّ بدأ يسحب ببطء وحاذر‪..‬‬
‫وأخريًا حص عليها‪ .‬ويف تلك اللّحظة‪ .‬صكّ مسعه نعياق الصّاياح‬
‫وتتالت كلمات الشّتم حتّى خيّ إليه أ ّ عراكا شاديدًا نشاب يف‬
‫املكا ‪.‬‬
‫"توقّف‪ ...‬لقد رأيتك‪ ،‬رأيتك أرين ما يف يدك‪ ،‬أدر الورقاة‪...‬‬
‫هيّا‪ .‬قلت لك أدر!‪ "....‬مثّ مسع صوت تكّسر الزّجاج وانقالب شيءٍ‬
‫صلب ربّما يكو طاولة أو منضدة‪ .‬دوّى فجأة يف احلجرات صراخ‬
‫كهزم الرّعد زلزل أركا البيت وصمّ اآلذا ‪ ،‬وحتّى الفتاة النّاقماة‬
‫استيقظت من سباهتا‪ .‬لقد خرجت األمور عن السّايطرة واحتادم‬
‫النّزاع‪ .‬حاول أمحد اغتنام الفرصة بإخفاء املاسكة‪ ،‬وأل ّ إعادة لبس‬
‫احلذاء بدو استعمال اليدين أصبح أمرا مستحيال‪ .‬أصبح اآل بعاد‬
‫حصوله على املاسكة يف معضلة أخرى وهي كيفيّة وضع املاسكة ب‬
‫يديه‪ ،‬وقفزت إىل ذهنه فكرة أرعبته طريقة تنفيذها‪ .‬رأى األرضايّة‬
‫املتّسخة وأدميها املكسوّ ببقع داكنة تراكمت بفع اإلمهال مع مرور‬
‫األيّام‪ .‬مل تتح له خيارات أخرى فوجد نفسه مضطرّا لتنفيذ الفكرة‪.‬‬
‫تردّد بادئ األمر مثّ انكفأ جبسمه متّخذا وضعيّة السّجود وقب القذارة‬
‫بثغره عدّة مرات‪ ،‬ويف القبلة الرّابعة استطاع أ حيم املاسكة با‬
‫‪157‬‬
‫شفتيه‪ .‬وجّهها حنو يديه اللت بدأتا تتخدّرا ‪ .‬اختلجت األصاوات‬
‫اآل وبات البيت يشهد معركة طاحنة‪ .‬كانت األواين واألغاراض‬
‫تتساقط كالسّي العارم حمدثة صوت انكسار حادّ‪ .‬صرخة مثّ أنّاة‪.‬‬
‫صيحة غضب ناريّة وهلاث متّص ‪ .‬قبض بيده على املاسكة وعقاف‬
‫سلكها عند هنايته مثّ مررها داخ فتحة القف ‪ .‬يف فترة ماضية مان‬
‫حياته وأثناء مرحلة التّكوين يف مركز تدريب الشّرطة تلقّى دروساا‬
‫حول كيفية فتح خمتلف األقفال‪ ،‬ومل يسبق له من قب أ جرّب ذلك‬
‫على أرض الواقع‪ ،‬وقد بدت له تلك الدّروس يف ذلك الوقت تافهة‪.‬‬
‫ال جمال الستعماهلا‪.‬‬
‫ولكنّه اآل يعود إىل الزّمن البعيد ويتذكّر كيف كاا ذلاك‬
‫العقيد يشرح آليّة عم القف وكيفيّة فتحه دو مفتاح‪ .‬تذكّر كيف‬
‫كا يعاجل القف أمامهم خبفّة متناهية وسرعة مدهشة‪ .‬خربش السّلك‬
‫داخ القف وأحسّ بانزالقة حتدث بالدّاخ ‪ ،‬ولكن مل ينفتح بعاد‪،‬‬
‫لسعت قطرات العرق عينيه حتّى سالت بالدّموع‪.‬‬
‫"اهلواري‪ ..‬ستقتله‪ ...‬ال‪ .‬ال‪ ..‬هواري‪"....‬‬
‫دوّت الصّرخات مصحوبة برجاء ياقس حتّاى أصابح علاى‬
‫شك مهسات كأنفاس مبهورة‪ ،‬مثّ ما لبث أ أطبق السّكو علاى‬
‫املكا ‪.‬‬
‫التقط نفَسا عميقا وحاول عدم تضييع املزيد من الوقت‪ .‬أدخ‬
‫املاسكة املعقوفة يف القف يف حماولة أخرى‪ .‬حرّكهاا إىل األعلاى‪.‬‬
‫خربش السّلك داخ القف ‪ ،‬مثّ حرّكه بشدّة إىل اليم ‪ .‬مسع طكّاة‬
‫وتوقّفت أنفاسه فجأة‪ .‬كانت األصفاد ال تزال تلفّ رسغيه‪ ،‬أغمض‬
‫عينيه جرّاء خيبة األم ‪.‬‬
‫‪158‬‬
‫وفجأة أحسّ برسغه األمين يتحرّر‪ .‬جتلّت نظرة االندهاش وهاو‬
‫ينظر إىل األصفاد‪ ..‬ال يكاد يصدّق عينيه أنّه قد جنح‪ .‬نعم جنح أخريًا‬
‫وحترّرت يداه‪ .‬هنض من مكانه بعناء مستندًا بظهره وكوعياه علاى‬
‫احلاقط‪ ،‬طرطقت مفاصله الصّدقة وكا جسمه يغنّي أوبريا حزينة من‬
‫األمل‪.‬‬
‫ألوّل مرّة يشاهد الفتاة يف صورة كاملة‪ ،‬كانت كنجم الماع‬
‫فقد بريقه‪ .‬اصطبغت شفتاها بزرقة خفيفة‪ .‬كانت ترتادي خرقاة‬
‫بالية قد امتألت ببقع يف أماكن خمتلفة‪ .‬الحع كدمات على سااقيها‬
‫العاريت ‪ .‬كا مظهرها يبعاث علاى القشاعريرة واحلاز يف آ‬
‫واحد‪.‬‬
‫اتَّجه حنو املنضدة‪ ..‬تفقّدها فلم يد شيئا ذا أمهّيّة كانت هنااك‬
‫بعض األكياس البالستيكيّة حمشوّة حببوب اإلكتازيا والكوكاي ‪ .‬فتح‬
‫الدّرج األوّل وكا حيتوي على أقراص البانادول والبيتادي وعلاب‬
‫النّوزينو الفارغة وبعض األقراص املساعدة على النّاوم‪ .‬أعااده إىل‬
‫مكانه هبدوء‪ .‬فتح الدّرج الثّاين‪ .‬الشيء سوى أوقية ذكريّة وبعاض‬
‫السّكّر املندلق مل يعرف كيف وص إىل هذا املكا ‪ .‬وأقراص مبعثرة‬
‫خمتلفة احلجم واللّو ‪ .‬أعاده إىل مكانه‪ .‬الدّرج الثالث له مقابض يف‬
‫وضعيّة حرجة‪ ..‬جرّة بسيطة وينخلع من مكاناه‪ .‬ساحبه بابطء‬
‫وإشفاق ولكنّه انكسر يف يده ومن حسن حظّه مل يهو على األرض‪.‬‬
‫وإالّ أصدر جلبة هو يف غىن عنها متامًا‪.‬‬
‫وضع املقبض جبانب قوارير الويسكي مثّ شدّ أعصاب أصاابعه‬
‫ومرّرها على حافيت الدّرج اجلانبيّ وقام جبذبه بقوّة‪ .‬وفتح الادّرج‬
‫فوجد شيئا يستحقّ أ يسحب من أجله هواءًا منعشًا لرقتيه وأعصابه‬
‫‪159‬‬
‫احملترقة‪ .‬كا هناك جمموعة من اهلواتف الّنقّالة ذات طراز قدم‪ .‬البدّ‬
‫أهنا تستعم يف عمليّات التّهريب واملتاجرة باملخدّرات‪.‬‬
‫تناول هاتفا نوكيا مودي ‪ .6310‬انتبه يف حلظة ماا إىل وقاع‬
‫خطوات تعرب احلجرة وتتقدّم بثبات يف الرّواق‪ .‬كا اندفاع األدينال‬
‫يف أطرافه وقلبه مؤملًا‪ .‬توقّف حلظة ينتظر ظهور ذلك الشّخ يف أيّة‬
‫حلظة‪ ،‬ودقّ قلبه بعنف وتأهّب جملاهبة مصريه احملتّم‪ ،‬ولكان تلاك‬
‫اخلطوات متهّلت واستقرّت لتعود أدراجها‪.‬‬
‫اضطرب بشدّة حتّى إنّه مل يستطع تركيز انتباهاه إليااد زرّ‬
‫التّشغي ‪ .‬استمع إىل اخلطوات يف املمرّ وأدرك يف تلاك اللّحظاة أ ّ‬
‫عليه أ يقوم بشيءٍ مَا‪ .‬كانت اخلطوات باتّجاه الغرفة‪ .‬بسرعة أعاد‬
‫الدّرج إىل مكانه ولكنّه علق يف مكانه وبقي جزء صغري باارز مان‬
‫املنضدة‪.‬‬
‫سبع ثوا ‪...‬‬
‫مخس ثوا ‪...‬‬
‫ثانيتا ‪...‬‬
‫ولكن اخلطوات مل تتوقّف ب واصلت طريقها حنو هناية الرّواق‪،‬‬
‫أين مسع صوت ارتطام الباب باإلطار‪ .‬عاد إليه هدوءه مؤقّتا‪ .‬اغتانم‬
‫الفرصة ليجرّب اهلاتف‪ .‬أصدر رنينا مكتوما وهو يشتغ فسدّ منافذ‬
‫الصّوت براحة يده‪ .‬ضغط على األرقام بأصابع مرتعشاة وتاردّد يف‬
‫آخر رقم ‪ .‬كا حمتارا ب ‪ 86‬أو ‪ 68‬فجرّب االحتمال األوّل‪.‬‬
‫"إ ّ رصيد حسابكم غري كا‪ ".....‬كلّمه اهلاتف بصوت أنثويّ‬
‫هادئ ورزين‪ .‬حضّته غريزة البقاء على املقاومة ومن حسن حظّه أ ّ‬
‫متعاملي جيزي لديهم خاصّية الرّساق اجملّانيّة‪ .‬ضغط على الرّقم ‪720‬‬

‫‪160‬‬
‫انتظر ستّ ثوا ٍ مثّ ضغط على الرّقم ‪ .1‬مخس ثاوا ٍ أخارى ورأى‬
‫تعليمة توجبه بإدخال رقم املرس إليه‪ .‬كتب الرّقم باالحتمال األوّل‪.‬‬
‫أعاد الكرّة مّرة أخرى بالرّقم الثّاين ليدحض شكّه بالكام ‪.‬‬
‫هبطت درجة احلرارة نسبيًّا يف الغرفة وكا السّكو خميّماا يف‬
‫اخلارج‪ .‬مخّنت السّاعة البيولوجية بداخله أ ّ الوقت اآل حوايل الثالثة‬
‫صباحا‪ .‬فكّر يف مجيع االحتماالت‪ .‬قد يكو الرّقما كالمها خاطئًا‬
‫عندها ال أم يف وصول الرّسالة‪ .‬ولكن حتّى وإ كاا أحادمها‬
‫صحيحًا‪ ،‬فاحتمال قراءهتا ضئي ‪ .‬ألنّه بك ّ بساطة ناقم‪ .‬قاد يقارأ‬
‫الرّسالة ولن يعريها أدىن اهتمام فاألرقام اجملهولة غالبا ما تالقي جتاهال‬
‫من قب األشخاص‪ .‬وخاصّة إذا تعلّق األمر برسالة جمّانيّة يف عزّ اللّي ‪.‬‬
‫إذ ال يوز لرج متزوّج مث بدر الدّين أ ير ّد على رساالة جمّانيّاة‬
‫قصرية مبكاملة وهو يف السّرير جبانب زوجته‪ .‬كا ّ هاذه األفكاار‬
‫تزامحت يف رأسه النّابض باألمل وبقي احتمال أخري رأى أنّه مساتبعد‬
‫متامًا‪ ،‬يلوذ حنو الباب اخلارجيّ وإ حالفه احلعّ ووجده مفتوحا فارّ‬
‫هاربًا ولكن فكرة ترك الفتاة وحيدة والفرار جعلته يبادو كجباا ‪،‬‬
‫وأشفق من أ يندم على املوقف الحقًا طوال حياتاه‪ .‬لاذلك فتار‬
‫محاسه للفكرة‪ ،‬وألنّه أيضًا قد يد الباب موصدًا بالقف وعند حماولة‬
‫فتحه سيصدر صريرًا يلفت االنتباه‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫‪-05-‬‬

‫"بدر الدّين‪ ..‬بدر الدّين‪ ..‬استيقع!"‬


‫رفع جفنيه املثقل بالنّعاس وأطلق أنّة يف شبه غيبوبة اعتراضًاا‬
‫على إيقاظه من نومه اللّذيذ‪ ،‬مل يرد لشايء أ يزعجاه يف تلاك‬
‫اللّحظة‪ ،‬أطبق جفنيه وغاص مرّة أخرى يف السّكينة الّايت مل تادم‬
‫كثريًا‪ .‬عاوده ذلك الصّوت مرّة أخرى وبشيء من احلدّة‪.‬‬
‫"بدر الدّين‪ ..‬بدر الدّين‪ .‬أال تسمع‪ ،‬قلت لك اهنض!"‬
‫كا يستلقي على بطنه‪ ،‬ميدّد أطرافه علاى مسااحة السّارير‬
‫ويضع رأسه املتعب على وسادة تكسوها بقع لعاب حديثة‪ ،‬آخرهاا‬
‫تلك الّيت انتشرت حول خدّه امللتصق بالوسادة‪ ،‬كا فمه مفتوحاا‬
‫تنبعث منه راقحة مقرفة‪ .‬بذل جهدًا جبّارا لكي يفتح عينيه ويستدير‬
‫ناحية زوجته‪ ،‬الّيت جلست القرفصاء على السّرير جبانباه وتركات‬
‫اهلاتف يتأرجح ب إهبامها وسبّابتها وكأنّه إنذار عن سخطها‪ .‬قارأ‬
‫يف عينيها نظرة تنمّ عن استعدادها لالنقضاض عليه بشراسة‪ .‬التفات‬
‫إىل املنبّه على املنضدة ليتأكّد من أ ّ الوقت ال يزال مبكّرًا‪ .‬قرأ األرقام‬
‫احلمراء على السّاعة اإللكترونيّة والّيت أشارت إىل الثّانية والنّصاف‬
‫صباحا‪ .‬فرك عينه اليسرى ومسح بظاهر كفّه حميط فمه مان بقاياا‬
‫اللّعاب‪ .‬سدّدت حنوه نظرة شزراء كانت كفيلة بطرد آخر أثر للنّوم‪.‬‬
‫قوّم نفسه يف مكانه مثّ جلس على السّرير وأخذ يدعو اهلل يف سارّه‬
‫‪162‬‬
‫أالّ تكو قد اّطلعت على رساقله‪ .‬نظّف حنجرته وقاال بصاوت‬
‫خشن‪:‬‬
‫"ما بك‪ .‬هيّا تكلّمي مالك؟"‬
‫انتظر اجلواب بفارغ الصّرب وكانت تودّ قول شايء وأخاذت‬
‫حترّك اهلاتف وتردّد بصرها ب زوجها تارة واهلاتف طورًا‪.‬‬
‫"وصلتك رسالة قصرية على هاتفك منذ قلي ‪ ،‬رقام جدياد‬
‫كالعادة"‬
‫ظهرت دهشة مصطنعة على مالحمه ليداري هبا ارتباكه‪ .‬عرف‬
‫أنّه قد وقع يف احلفرة‪.‬‬
‫"حسنا أعطين اهلاتف ألقرأ الرّسالة!"‬
‫مدّ يده حنوها ولكنّها أبعدت عنه اهلاتف وارتدّت يده فارغاةً‪،‬‬
‫هنرته حبدّة وصعدت نظرها فيه حتّى أحسّ بفورة الغضاب تتاأجّج‬
‫داخ رأسها الصّغري‪ .‬ر ّ صوهتا يف احلجرة وكأنّها ضابط يستجوب‬
‫سارقا ال يريد االعتراف بسرقته‪:‬‬
‫"ال‪ ..‬ال‪ ..‬تريد أ ختتلق عذرًا ما‪ ،‬هذه املرّة سنتفاهم مليح"‪.‬‬
‫"هلل درّك!‪ ،‬إهدقي‪ ،‬اخفضي صوتك ستوقظ األطفال!"‪.‬‬
‫كا يفكّر يف طريقة ليه ّدئَ هبا زوجته الثّاقرة ولكنّهاا هازّت‬
‫كتفيها استهانة بسخافة قوله وقطّبت حاجبيها بشدّة‪ ،‬كاا اجلاوّ‬
‫مكهربًا فوق السّرير‪ ،‬وعليه التّفكري يف ح ّ سريع‪ .‬تضرّع إىل اهلل يف‬
‫سرّه أالّ تكو الرّسالة من إحدى عشيقاته‪.‬‬
‫"حسنا‪ ،‬إذا أردت وجع الرّأس فأنا أرغب يف النّوم"‬
‫وتظاهر بالغضب مثّ انزلق على ظهاره واساتدار إىل اجلهاة‬
‫األخرى‬
‫‪163‬‬
‫ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة عندما تأكّد ظنّه ومسعهاا‬
‫تقول‪:‬‬
‫"حسنًا من يقوم بإرسال رسالة على الثّانية والنّصف صاباحًا؟!‬
‫ال تق يل زميليت يف العم ! أريد أ أعرف احلقيقة"‬
‫نعم لقد جنحت خطّته أخريًا ومل يقع يف الفخّ الّذي نصبته لاه‬
‫رغم ارتباكه يف البداية‪ .‬وخزته يف ظهره باهلاتف فاساتدار وجلاس‬
‫جبانبها األرُبعَاء واستلم اهلاتف من ب يديها‪ .‬أضاء الشّاشة وعارض‬
‫الرّسالة وقرأها بارتياح‪ ،‬كانت عبارة عن رسالة منطيّة جمّانيّة "اتّصا‬
‫باي" ندت عنه ضحكة عصبيّة قصرية عنادما رأى رقماا يهلاه‬
‫متامًا‪.‬‬
‫"ه أتّص بالرّقم لتتأكّدي من هبتانك؟"‬
‫كا يعلم يف قرارة نفسه أنّه خياطر وربّما تكو بالفع امرأة ما‬
‫ع هو الّذي سيكو فاصال يف عالقته خالل الثّواين القليلة املقبلة‪.‬‬ ‫واحل ّ‬
‫ر ّ اهلاتف بقوّة ومأل الغرفة اهلادقة بعد أ شغ مكبّر الصّوت‪.‬‬
‫وخزها شعور بالذّنب وهي تستمع إىل اجلانب اآلخر للمكاملة‪ ،‬نظار‬
‫إليها بعين برّاقت وأثبت صوت الرّج املضطرب من وراء اخلطّ أ‬
‫بدر الدّين بريء من االتّهام‪ .‬وفجأة ارتسمت اجلدّيّة علاى وجهاه‬
‫ونسيَ زوجته متامًا‪ .‬قفز من السّرير إىل األرض حايفَ القدم ‪.‬‬
‫"نعم أنا‪ ..‬ما األمر؟‪ ..‬ولكن أين أنت؟‪ ..‬ارفع صوتك قليال‪...‬‬
‫نعم‪ ..‬نعم‪".‬‬
‫كانت تعابري وجهه تتغضّن مع مرور ك ّ ثانية‪.‬‬
‫"من هؤالء؟‪ ...‬ولكن أين بالضّابط؟‪ ...‬مااذا قلات يل؟‪...‬‬
‫سيّارتك هناك؟! أين؟‪ ..‬أمحد!! أمحد‪"!!.‬‬
‫‪164‬‬
‫انقطعت املكاملة وهرع بدر الدّين حنو خزانة املالباس‪ .‬لعان‬
‫اجلورب املقلوب نزعه وأعاد ارتداءَه من جديد‪ .‬وعند وصاوله إىل‬
‫باب مسكنه انتبه إىل سحّابة سرواله فأغلقها وتوجّه حناو سايّارته‬
‫مسرعًا‪.‬‬
‫انطلق بسرعة يف الطّريق‪ ،‬دو أ يقوم بتسخ احملرّك‪ .‬فاور‬
‫خروجه أجرى اتّصاال طارقًا مبركز الشّرطة‪ .‬أثناء طريقه إىل املخفر‪.‬‬
‫دوّت صافرات الشّرطة واندفعت السّايّارات مسارعة عارب‬
‫الطّريق‪ .‬كا اجلميع على أهبة االستعداد القتحام احليّ‪ .‬سيطر القلق‬
‫على بن ذهيبة‪ ،‬الّذي تذمّر أوّل األمر عند اتّصاهلم به يف عز اللّيا ‪.‬‬
‫ولكنّه اآل مل يعد قادرًا على احتمال الضغط‪ ،‬فقرّر تارك عجلاة‬
‫القيادة لشرطيّ آخر‪ .‬تفحّ ساعته وكانت تشري إىل الثالثة والرّباع‬
‫صباحا‪ .‬التفت إىل الساقق وقال‪:‬‬
‫"ه تعرف باب علي جيّدا؟"‬
‫"نعم سيّدي‪ .‬ك ّ شرب فيها"‬
‫"جيّد‪ .‬إذ اضغط على الدّوّاسات بأقصى طاقتاك‪ ،‬الطّرياق‬
‫فارغة‪ ،‬يب أ نص يف الوقت املناسب"‬

‫‪165‬‬
‫‪-06-‬‬

‫أحسّ أمحد بوجوب إياد ح ّ ملشكلته‪ .‬عاد إىل وضعيّته األوىل‬


‫مستندًا على احلاقط مفكّرا‪ ،‬وعاود النّوم الفتاة ومل تكن تعاي ماا‬
‫يدور حوهلا وكأ ّ ذلك ال يعنيها يف شيء‪ .‬فجأة تذكّر ذلك املنظار‬
‫الّذي رأى فيه شاباّ يساق إىل احلبس مقيّدا باألصفاد‪ ،‬وطفات إىل‬
‫السّطح ذكرياته حول الكلمات الّيت مسعها عن اختطااف شاابّة يف‬
‫مث سنّ هذه الفتاة‪ .‬أعاد النّظر إليها وكأنّه يراها ألوّل مرّة‪ .‬تايقّن‬
‫أ ّ الصّورة الّيت رآها ألكثر من مرّة يف قاقمة املفقودين ترجع هلاذه‬
‫الفتاة‪.‬‬
‫ختشّب جسده عندما مسع خطوات ثقيلاة تشاقّ طريقهاا يف‬
‫الرّواق‪ .‬مل ميلك وقتا للتفكري وأصبح يف ورطة حقيقيّة‪.‬‬
‫أرخى يديه وسقط اهلاتف على األرض وانفصلت عنه البطاريّة‬
‫والغطاء‪ .‬رأى اهلواري يقف عند مدخ الغرفة بوجه ينبض رعبًاا‪.‬‬
‫حتوّل جبينه إىل اللّو األسود‪ ،‬وكا منخراه يتوسّاعا ويضايقا‬
‫بشك منتظم‪ ،‬ورأى بقعًا من الدّماء على قميصه وبنطاله الّذي تغيّر‬
‫لونه إىل األرجواينّ‪.‬‬
‫تبادال نظرة طويلة تنمّ عن التّحدي وعندما همّ أمحد باالوقوف‬
‫الحع أنّه حيم يف قبضة يده سكينا حادّة‪ ،‬ملع نصلها حتات ضاوء‬
‫املصباح‪ .‬انقضّ عليه الرّج حبركة خفيفة ولوّح بالسّكّ يف وجهاه‬
‫‪166‬‬
‫ولكنّ أمحد جتنّب الضّربة بأعجوبة‪ .‬مسع أحد أضلعه تنحارف عان‬
‫موضعها إثر حركته املفاجئة‪ .‬سرت يف جسامه موجاة كهرباقيّاة‬
‫صاعقة جعلته ينتبه إلصابة ركبته اليسرى‪ .‬تراجع خطوت إىل الوراء‬
‫متّخذا وضعيّة الدّفاع‪ .‬هلث أمحد بشدّة وتدفق األدرينال بقاوّة يف‬
‫عروقه وغابت موجة األمل حتت طوفا االنفعال‪ .‬لوّح الرّج بضربة‬
‫خادعة قصد هبا أ يكشف أمحد عن جسده‪ ،‬وبسرعة الربق قاذف‬
‫ثق يده يف ذلك السّك ‪ .‬حبركة سريعة قفاز أمحاد إىل اجلاناب‬
‫واصطدم جسده باملنضدة‪.‬‬
‫مل يسمح له الرّج بثانية يتمالك فيها توازنه وانقاضّ علياه‬
‫موجّها النّص بقبضة حديديّة ويف جزء من الثّانية توقّف النّصا يف‬
‫طريقه حنو صدر أمحد على بعد عشرين سنتمترا فقاط‪ .‬تشاابكت‬
‫األيادي يف اهلواء‪ .‬شدّ على عضالت ساعديه للتّخلّ من السّكّ ‪.‬‬
‫ثىن الرّج ساقه اليمىن وطعنه أسف عظم التّرقوة‪ .‬انفجرت شارارة‬
‫األمل وتراخت قبضته على املعصم‪ .‬تأكّد أ ّ مصريه ب يديه فعاضّ‬
‫على نواجذه ومال بثقله على جسد الرّج دافعًا إيّااه إىل احلااقط‪.‬‬
‫سقطت السّك على األرض والتحم الرّجال يف قتاال باأليادي‬
‫وقبض الرّج بيدين حديديّت على رقبته وضغط بوحشايّة ليكاتم‬
‫أنفاسه فتقهقر أمحد إىل الوراء حماوال التّخلّ من قبضته‪ .‬اصاطدم‬
‫أسف ظهره بتلك املنضدة فارجتّت يف مكاهنا وهوت القوارير وتنااثر‬
‫الزّجاج على األرض‪ .‬كانت أظافره مدفونة يف عنقه وأحسّ بااهلواء‬
‫ينسدّ يف رقتيه‪ ،‬وملّا متكّن خصمه من عنقه بدأ يادخ يف غيبوباة‪.‬‬
‫ومضات متقطّعة من مشهد عنيف‪ .‬ال يزال بإمكانه مشاهدة اللّعاب‬
‫يسي من فم خصمه وعينيه جاحظت تكادا تبتلعانه‪.‬‬
‫‪167‬‬
‫بيأس حاول استجماع ما بقي يف عروقه من طاقاة ختبّطات‬
‫رجاله يف حماولة لدفع خصمه‪ ،‬ولكنّ عضالته بدأت تفقد قوّهتا ماع‬
‫انقطاع األوكسج ‪ .‬كا األمر حامسًا عندما حتسّس بيده جساما‬
‫صلبا فوق املنضدة‪ .‬مرّت ثوا ٍ انقطع فيها نفس أمحد وهاو يباذل‬
‫جهدا جبّارا للتّخلّ من وضعيّته‪ .‬التقط الزّجاجة ووسدّدها حناوه‬
‫فتبعثر الزّجاج فوق رأس خصمه‪ .‬مال مترنّحا إىل الوراء وتفجّارت‬
‫الدّماء من رأسه‪ .‬وضع أمحد يده على صدره وسع بشادّة متاأثّرا‬
‫بفقدا اهلواء ملدّة دقيقة‪ .‬تغلّب على آالمه ووجّه خلصمه املكشاوف‬
‫لكمة قويّة‪ .‬سقط على إثرها ومال أمحد فوقه واهنال عليه بلكماات‬
‫قويّة متتابعة‪ .‬مل ينتبه إىل صراخ الفتاة الّذي دوّى يف املكاا حتّاى‬
‫غطّى الدّم وجه الرّج بالكام وتوقّف عن املقاومة‪.‬‬
‫وقف أمحد عند رأس خصمه وصدره يعلو وينخفض‪ ،‬تُهارّسُ‬
‫عظامَه آالم قاسية‪ .‬ارمتى جبانب خصمه يئزّ من األمل وقد ابت ّ وجهه‬
‫بالعرق‪ ،‬ساق معصمه إىل جانبه حيث كا األمل مباشرًا وشاديدًا‪.‬‬
‫لوال موقفه لظ ّ مستلقيًا على األرض صارخا وباكيًا‪ .‬ولكنّه متاسك‬
‫مثّ هنض بصعوبة بالغة‪ .‬توجّه حنو الفتاة الّيت احننت فوق السّارير يف‬
‫وضعيّة جن ‪ .‬أصبح لو بشرهتا رماديّا غريبا‪ .‬انشقّت ابتسامة على‬
‫مالحمه ‪-‬وتألّم جرّاء ذلك ‪-‬وهو ينظر إليها بإشفاق‪ .‬أحسّ باخلجا‬
‫ألنّه يذرف الدّموع يف حضورها‪ .‬مدّ يده إليهاا وسااعدها علاى‬
‫النّهوض من السّرير كانت من الوهن والضّعف حبيث بدت كمومياء‬
‫حمنّطة‪.‬‬
‫منعها من السّقوط عندما وقفت بالكاد على قادميها ولافّ‬
‫ذراعها حول رقبته مثّ قادها إىل الرّواق حنو الباب اخلارجيّ‪ .‬حلسان‬
‫‪168‬‬
‫احلعّ كا الباب مغلقا من الدّاخ فقط‪ ،‬سحب املزالج من األسف‬
‫وأدار القف عكس اتّجاه عقارب السّاعة‪ ،‬فتح الباب وأحسّ هببوب‬
‫أوّل نسمة رقيقة يف ليلة زامتة‪.‬‬
‫هبطا الدّرج معا وكانت الفتاة تغفو من ح آلخار واضاطرّ‬
‫أمحد للتّوقّف عدّة مرّات قب أ يواص طريقه‪ ،‬مل يستطع محلها رغم‬
‫خفّة وزهنا وهو يعرج يف مشيته من شدّة األمل‪ .‬شاقّا طريقهماا يف‬
‫األزقّة الضّيّقة‪ .‬فتح باب سيّارته وأجلس الفتاة على مقعد الرّاكاب‬
‫برفق مثّ أعاد غلقه وتأكّد من عدم وجود أحد يف اجلوار‪ .‬دار حاول‬
‫السّيّارة مثّ فتح الباب وقب أ ينزلق إىل الدّاخ مسع صوت حمارّك‬
‫يتموّج مع اقتراب سيّارة على بعد أمتار من الطّريق املتعرّج‪ .‬وفجاأة‬
‫بزغت أضواء ساطعة‪ ،‬سرعا ما بدأت يف االنتشار‪...‬‬
‫تالحقت السّيّارت كسرب جراد اكتسح احليّ بأضواقه احلمراء‬
‫والزّرقاء سيّارتا مثّ ثالثة‪ ....‬تبدّد الظّالم فجأة حتت وقع األضاواء‬
‫السّاطعة‪ .‬وضع يده على عينيه ليحجب عنها الضّوء البااهر وبعاد‬
‫برهة استطاع متييز ذلك املشهد كامال‪ .‬انتشرت سيّارات الشّرطة يف‬
‫املكا ودارت األضواء الزّرقاء واحلمراء يف أسطحها وهي تغلق منافذ‬
‫احليّ‪.‬‬
‫كانت ركبته تنبض بقوّة وهصره أملها الّذي طغى على مجياع‬
‫آالم جسمه‪ .‬رفع أمحد رأسه عندما شعر بشبح يقف أمامه نظر إلياه‬
‫يف عدم اكتراث‪ .‬حكّ بدر الدّين عثنونه ورمقه بنظرة إشفاق‪.‬‬
‫"ه أنت خبري؟"‬
‫هزّ أمحد رأسه إيابًا وقد أثر منظره اجلديد يف نفسيّة بدر الدّين‪.‬‬
‫انتفخ جفناه كالبوندا وكا وجهه مض ّرجًا بالدّماء وبقيات آثاار‬
‫‪169‬‬
‫خطوط األظافر على صفحة رقبته‪ ،‬ولكنّه على الرّغم من دهشته إالّ‬
‫أنّه مل يستطع كتما سروره الطاغي على مجيع مشاعره‪.‬‬
‫"عثرنا على السّيّارة الّيت كنا نبحث عنها‪".‬‬
‫تفرّس يف كدماته حلظات‪.‬‬
‫"كنت سببا يف إنقاذ الفتاة املختطفة و‪"....‬‬
‫كشّر أمحد من األمل عندما متلم يف مقعده‪.‬‬
‫"ه أنت متأكّد بأنّك خبري؟ أرى أ نأخاذك إىل املستشافى‬
‫أمحد فإصاباتك تبدو خطرية"‪.‬‬
‫بدا أمحد وكأنّه مل يسمع كالمه فراح يربّت على ركبته املصابة‬
‫ويتلوّى يف مقعده وودّ لو ينتهي ك ّ شيء ويغادر إىل البيت‪ ،‬حياث‬
‫اهلدوء واألمل ميتزجا معًا دو أ يعكّر صفومها أحد‪.‬‬
‫"أين الفتاة؟" تكلّم حتت أسنانه‪.‬‬
‫"ال تقلق هي حتت رعاية احلماية املدنيّة ستكو خبري‪ ،‬اتّصالنا‬
‫بوالديها ومها يف أوج السّعادة‪ ،‬أنت ال تعلم مقدار ما فعلته أمحاد‪،‬‬
‫أنت بط "‬
‫"شكرًا لك"‬
‫كا يصغي آلالم جسمه احملطّم‪ .‬اقتحم أفراد الشّارطة البيات‬
‫واكتشفوا كمّيّة هاقلة من القنب اهلنديّ‪ ،‬ألفَيْ قرص إكتازيا‪ ،‬أكياس‬
‫الكوكاي وأسلحة بيضاء‪ ،‬رشّاش كالشينكوف‪ ،‬ولكنّهم مل يعثروا‬
‫على املسدّس الّذي استعم يف اجلرمية األوىل‪.‬‬
‫شاهد فرقة الباي آر إي وهاي تنقا السّاالح وتصاادر‬
‫املمنوعات مثّ رأى احلماية املدنيّة تنق جثّة يف كيس جلديّ أساود‪.‬‬
‫كا البيت خاليا من األشخاص عندما اقتحامه‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫"استغرب وجود جثّة واحدة فطفق يسأل باستغراب‪:‬‬
‫"أرى أ ّ هناك جثّة لشخ واحد فقط‪ ،‬فأين الثّانية؟" رمقاه‬
‫بدر الدّين بنظرة مل تكن أق ّ استغرابًا‪.‬‬
‫"الثّانية‪ ،‬أنت متأكّد؟"‬
‫وضع أمحد يده على جانبه األيسر وش ّد على أسنانه‪.‬‬
‫"جدّ متأكّد‪ ،‬وجثّة من هذه الّيت نقلت قب قلي ؟"‬
‫"إنّه شخ قصري القامة أبيض البشرة يف اخلامسة والعشارين‬
‫الظّاهر أنّه توفّي على إثر طعنات‪ ،‬ألاديك فكارة عمّاا حادث‬
‫بالدّاخ ؟"‬
‫"ماذا؟ ولكن‪"....‬‬
‫صمت قليال ليستوعب كالمه‪ .‬عضّ على نواجذه ليتكلّم‪:‬‬
‫"اهلواري ولد ماريا كا هناك‪ ،‬ولكن الكلب جنا"‬
‫"من هو هذا الشّخ ‪ ،‬ه كا معهم هناك؟"‬
‫"إنّه من كنّا نبحث عنه ك ّ هذه املدّة‪ ،‬تلك الرّوناو سايّارته‬
‫واملسدّس البدّ وأ يكو يف حوزته اآل "‪.‬‬
‫تغضّن جبينه حلظة مثّ عاد يقول وهو يتحسّس موضع اجلاروح‬
‫يف رقبته‪.‬‬
‫"أتساءل عان كيفيّاة هروباه‪ .‬تركتاه صاريعا هنااك‪،‬‬
‫ظننت‪"....‬‬
‫يف تلك اآلونة أقب بن ذهيبة حنومها بشاربه املنتفخ‪ ،‬يبدو أنّاه‬
‫أتى ليضع حجر األساس على العم املنجز‪.‬‬
‫"لقد حذّرتك من عدم اخلوض يف األمار لوحادك‪ ،‬ولكان‬
‫سأساحمك هذه املرّة ألنّك قمت بعم راقع"‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫اكتفى أمحد بتحريك رأسه إىل األعلى واألسف موافقًا علاى‬
‫كالمه دو أ ينبس ببنت شفة‪.‬‬
‫"ستنال ترقية هبذا العم لذلك أهنئك جمدّدًا‪ ،‬فلقد وجدنا‪"...‬‬
‫"سنتكلّم عن ذلاك الحقًاا‪ ،‬واآل أرجاوا أ تسامح يل‬
‫باالنصراف"‪ .‬اغتاض بن ذهيبة ملقاطعة أمحد لكالمه هبذه الكيفيّاة‪،‬‬
‫ولكنّ شك أمحد املزري جعله يه ّدئُ من روعه قليال‪.‬‬
‫ف وخذ قسطا من الرّاحة فإصابتك تبدو خطرية!"‬ ‫"إذ لتنصر ْ‬
‫كا أمحد يعلم أنّه الدّجاجة الّيت تبيض ذهبّا وهو يدرك بغريزته‬
‫أ ّ الواقف أمامه ال يكترث ألمره بتاتًا‪ ،‬وك ّ ما يهمّاه هاو ما ء‬
‫سريته الذّاتية باإلجنازات لتقلّد أعلى املناصب‪ ،‬ولو على جثث عناصر‬
‫الشّرطة‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫‪-07-‬‬

‫متدّد أمحد على سريره مستغرقا يف نوم عميق‪ .‬شخري‪ .‬شخري‪...‬‬


‫مثّ شخري‪ .‬بقع حديثة على الوسادة تتشكّ جباناب فماه املفتاوح‬
‫وخطوط متعرّجة حتيط ببقع اللّعاب اجلافّة‪ .‬بوسع أيّ فأر يف تلاك‬
‫اللحظة أ يدخ فمه الواسع‪ .‬كا يغطّ يف نوم عميق بعدما قضاى‬
‫بقيّة اللّي مسهّدا بآالمه‪ .‬اتّخذ جسمه شكال غريبا فاوق السّارير‪.‬‬
‫كا مستلقيًا على ظهره وامتدّت رجله اليسرى فوق السّارير‪ ،‬أمّاا‬
‫الرّج األخرى فكانت معقوفة إىل اجلانب اآلخر‪ ،‬بينما يده اليسرى‬
‫متوضعت فوق معدته واألخرى رمست زاوية منفرجة بنفس املنحاى‬
‫الّذي شكّلته الرّج املعقوفة‪ .‬بدا وكأنّه قفز من الطّابق السّت لريتطم‬
‫باألرضيّة ويصبح هبذا الشّك ‪ .‬كا اهلدوء يف الغرفة ثقايال وكاا‬
‫اللّي يف ثلثه األخري‪ .‬على األرضيّة خرقة ملطّخة بالدّم وبعض القطع‬
‫املتناثرة من القطن الّذي تغيّر لونه من األبيض إىل البنّيّ بفع البيتادين‬
‫والقيح‪.‬‬
‫فوق املنضدة علبة أقراص صفراء مكتاوب عليهاا دولياربا‬
‫‪ 500‬مغ وقارورة كحول‪ .‬وجبانبها وضعت قارورة هبتاجي الّيت تقوم‬
‫مبفعوهلا اآل واهلل وحده يعلم ما يدور يف أحالمه‪ .‬كا حيلم بشاراء‬
‫سيّارة جديدة‪ .‬وكهينة الّيت تنضمّ إىل سريره‪ ،‬وتبدّت لاه يف ساترة‬
‫حريريّة شفّافة يظهر من خالهلا‪ ...‬ال‪ .‬سأتوقّف فهاذا لايس مان‬
‫‪173‬‬
‫شأنكم‪ .‬ربّما سيحشو مسدّسه «الغلوك» بالرّصااص وميشاي يف‬
‫الشّارع كشخصيّة سوندرياس اهلسترييّة‪ .‬يطلق النّار على أيّ شخ‬
‫تسوّل له نفسه الوقوفَ أمامه‪ .‬سيفتح بابا لعينا وينقلع القف يف يده‪.‬‬
‫يا لقوّته!‬
‫ميشي يف البهو الواسع يسأله شرطيّ االستقبال عان وجهتاه‬
‫فيسدّد له لكمة تطري هلا أسنانه يف اهلواء على طريقة فيلم ماتريكس‪.‬‬
‫مثّ يتقدم إىل األمام وقد امتأل عزما والنّاس هتمس سرًّا على شاجاعته‬
‫وترنو إليه األع بإعجاب‪ .‬اآل أصبح يف مكتب املدير وقاد بارز‬
‫ساعداه وهو يوجّه لكمات قويّة تتباطأ حركتها كتلك الّايت يعااد‬
‫عرضها ببطء يف مباريات املالكمة‪ .‬سقط بالضّربة القاضية وطاارت‬
‫كومة الشّمّة من فمه يف اهلواء‪ .‬أصبح رأسه كحبّة طماطم مرميّة على‬
‫األرض دهسها رج عمالق بقدمه‪ .‬ال يزال هناك باب آخر‪ ،‬يهرع‬
‫حنوه بثبات مثّ يرفع رجله إىل األعلى ويسدّد ضربته القويّاة لايطري‬
‫الباب يف اهلواء‪ .‬رأى وجوها ريّانة حتملق فيه باساتغراب‪ .‬ترتادي‬
‫أربطة عنق وبذالت أنيقة حيفّو حول ماقدة مساتديرة يف انضاباط‬
‫حملاربة التّقشّف‪ .‬ضغط زناد املسدّس وطار الرّصاص طاقشا يف القاعة‬
‫الفخمة وتساقط القتلى كما يتساقط اجلراد باملبيد‪ .‬رأى يدا ترتفاع‬
‫من حتت الطّاولة املستديرة وترتفع يف حركة ياقسة إىل األعلى تنازع‬
‫من أج البقاء‬
‫"ال‪ .‬ال شكرًا لن أنتخب"‪.‬‬
‫مثّ أطلق الرّصاص‪ .‬ويف آخر املرحلة الّيت ينبغي للبط االنتصاار‬
‫فيها‪ ،‬وقب مساع اجلماهري هتتف ممجّدة امسه‪ ،‬وقب أ يلوّح هلم بك ّ‬
‫تواضع‪.‬‬
‫‪174‬‬
‫رأى مقعدا مرصّعا بأربعة جنوم المعة‪ .‬من العجياب أ ّ ذلاك‬
‫الشّخ الّذي كا يلس فوقه مل يستطع النّهوض من الكرسيّ ومل‬
‫يبدِ نية يف التّزحزح من مكانه رغم أ ّ ماساورة املسادّس ساتقبّ‬
‫مؤخّرته قريبًا‬
‫«اهنض! اهنض من الكرسيّ!»‬
‫مل ينبس ببنت شفة ومل تصدر منه أيّة حركة‪ .‬بقاي جالساا‬
‫وتساءل أمحد إ كا الكرسيّ والشّخ شيئًأ واحدًا‪ ،‬أو أ ّ الغراء‬
‫مينع مؤخّرته من أ تربح الكرسيّ! أو الكرسيّ ال يريد لتلك املؤخّرة‬
‫أ تربحه! تعجّب أمحد ومل يد تفسريا هلذا األمر‪.‬‬
‫كا ذلك الشّخ أشبه بالدّمية منه إىل اآلدميّة‪ .‬واآل عليه أ‬
‫يقضي على العدوّ األخري‪ .‬بقي يف املسدّس مخس رصاصات‪ .‬رماهاا‬
‫كلّها فلم تصب اهلدف‪ .‬ولكنّ الطلقة األخرية احنرفت بطريقة عجيبة‬
‫مكوّنة جيوبًا هواقيّة هاقلة يف مسارها املنحرف‪ .‬اخترقت ذلك الرّأس‬
‫األصلع يف األخري وأحدثت ثقبًا كبريًا‪ .‬ك ّ ذلك حادث بطريقاة‬
‫سرياليّة متباطئة‪ .‬من خالل الثّقب برز شعاع سرعا ما بدأ ينتشار‬
‫أكثر فأكثر‪ .‬كا املكا يشتدّ حرارة مع مرور الوقت وفجأة أصبح‬
‫ك ّ شيء ساطعًا‪ .‬ساطعًا وحارًّا جدًّا‪.‬‬
‫استيقع أمحد وأشعّة الشّمس حترق خدّه وصفحة رقبته اليسرى‪.‬‬
‫أصيب باإلحباط الشّديد عندما ألقى نظرة حوله وعاودتاه ذكرياات‬
‫حياته الباقسة‪ ،‬متنّى لو انزلق هذا احللم إىل هذا العامل لتتحقّق العدالاة‬
‫اإلهليّة وينتصر اخلري على الشّرّ‪ .‬كانت خصاص النّافذة مفتوحة علاى‬
‫مصراعيْها والسّتارُ حمسورًا عنها إىل أحد اجلاانب ‪ .‬كانات راقحاة‬
‫البيتادي والكحول املتدفّقة على الفراش تفوح يف املكا ‪.‬‬
‫‪175‬‬
‫جلس أمحد على حافّة السّرير يصغي آلالمه مع ك ّ حركة كا‬
‫يقوم هبا‪ .‬بقيَ على وضعيّته تلك بضع دقاقق يتحسّس مواقاع األمل يف‬
‫جسده ويسرب مكمنه ب أضلعه‪ .‬حاول النّهوض من مكانه مساتندًا‬
‫على املنضدة الّيت جبوار السّرير‪ ،‬وقف على قدميه املتعبات وفجاأة‬
‫استيقع األمل يف ركبته اليسرى ضغط على أسنانه بشدّة وهو ينظر إىل‬
‫ساعة احلاقط والّيت أشارت إىل احلادية عشرة صباحا‪ .‬كا يعارج يف‬
‫خطوات بطيئة ليعرب غرفة النّوم حنو غرفة احلمام‪ .‬فتح الصّنبور مثّ جتمّع‬
‫املاء يف حفنة ب كفيه كما يفع عادة ليغس وجهه من آثار النّعاس‪.‬‬
‫أدرك فجأة أ عينه متورّمة فقام بتبلي إحدى كفّيه ومرّرهاا علاى‬
‫وجهه هبدوء متجنّبا منطقة األمل‪ .‬قب أ يغادر الشّقّة توقّف أمام الباب‬
‫واحننَى إىل األسف ليلتقط رسالت كانتا ملقيّت عند عتباة البااب‪.‬‬
‫حبس أنفاسه وهو يفتح الظّرف‪ ،‬نفض الرّسالة وكانت عباارة عان‬
‫فاتورة الكهرباء والغاز‪ ،‬شعر بالدّورا عندما رأى األرقاام احملساوبة‬
‫بعناية أسف الورقة ومل يستطع صربا على مشااهدة ماا يف الرّساالة‬
‫األخرى‪ ،‬فإّ اهلموم إذا حلّت بامرئ جاءت تباعًا‪ ،‬وكأ ّ بعضها يشدّ‬
‫عضد البعض ليؤكّد سوء خبته وتدهور أوضاعه االنضباطيّة‪ ،‬حادّق يف‬
‫الرّقم الثّاين عندما فضّ الرّسالة الثّانية وكانت فاتورة اهلااتف النّقّاال‬
‫أكرب وقعا على نفسه‪ .‬وطفق يلعن ويسبّ املوظّف الّذي أرس هاذه‬
‫الرّسالة‪ .‬كانت تلك ضريبة الرّساق الغراميّة الّيت كا يرسلها ماؤخّرا‬
‫إىل كهينة‪ .‬طوّح بالرّسالت على طاولة املطبخ وغادر الشّاقّة ماوزّعَ‬
‫النّفس مشتّت البال ال يلوي على شيء‪.‬‬
‫وقف عند رأس السّلّم ونظر بإشفاق إىل الكامّ اهلاقا مان‬
‫الدّرجات الّيت تتطلّب منه ثين ركبته عند ك ّ واحدة مناها‪ .‬كاا‬
‫‪176‬‬
‫أمامه ستّ ومخسو درجة‪ .‬فكّر للحظة أ يانك علاى عقبيْاه‬
‫ويستريح يف البيت طوال اليوم‪ ،‬ولكنّه فكّر يف املل الّذي سيصايبه‪،‬‬
‫وهناك كهينة‪ ..‬يف احلقيقة رأى عدّة أشياء تستحقّ بأ يتحمّا يف‬
‫ستّ واخلمس درجة‪ .‬هبط السّلّم بابطء واساتند علاى‬ ‫سبيلها ال ّ‬
‫الدّرابزين برفق‪ .‬استغرق ستّ دقاقق كاملة للخروج مان مادخ‬
‫العمارة‪.‬‬
‫شغّ السّيّارة‪ .‬انطلق يف الطّريق ببطء وبعد مخس دقاقق اندمج‬
‫مع السّيّارات يف الطّريق الرّقيسيّ‪ .‬متكّن أخريًا من فتح عينه املتورّماة‬
‫ولكنّها ال تزال تزعجه كثريًا وخاصّة عندما يرمش‪ .‬نظر من خاالل‬
‫الزّجاج إىل الطّريق وكانت السّيّارة تطوي الطّرياق طيًّاا واحاتجّ‬
‫حمرّكها الصّاخب مُصدرًا أزيزا قويًّا كاألفكار الّيت تنازعت يف رأسه‪.‬‬
‫انزلقت املباين خلفه بنفس سرعة السّيّارة كما متضي الذّكريات‬
‫بنفس السّرعة الّيت تأيت هبا األحداث‪ ،‬على الرّغم ممّا وصالت إلياه‬
‫القضيّة من تطوّر إالّ أ ّ احل ّ ال يزال مغلقًا‪ ،‬وخاصّة أنّه مل يد أيّاة‬
‫عالقة منطقيّة تربط الضّحيّة باهلواري‪ .‬الضّحيّة من الطّبقاة الرّاقياة‬
‫واآلخر تاجر خمدّرات ومسبوق قضاقيّا‪ .‬مل يبدُ األمر منطقيًّا كفاياة‬
‫للخروج بنتيجة مُرضية‪ ،‬هناك حلقة مفقاودة يف القضايّة‪ .‬كانات‬
‫السّاعة املنتصبة على قمّة العمود وسط نقطة الدّورا تشري إىل الثّانية‬
‫عشرة إالّ عشر دقاقق‪ .‬ازدادت حركة املرور اختناقًا‪ .‬جتاه إشاارة‬
‫عدم التّوقّف ونزع حزام األما ‪ .‬وأثناء ذلك صدر صوت كاالنّعيق‬
‫من خارج السّيّارة‪ .‬التفت خلفه فرأى شرطيّا يهرول حناوه وهاو‬
‫ميسك قبعته بإحدى يديه ليمنعها من السّقوط‪ .‬كا يبادو وكأنّاه‬
‫تلقّف شيئا مثينًا يستوجب ك ّ هذا احلرص واحليويّة الّيت يبديها وهو‬
‫‪177‬‬
‫يقترب من السّيّارة رغم حرارة جويلية الالّفحة‪ .‬فحّ صوته كااألفعى‬
‫وهو يلهث‪:‬‬
‫"أعطين وثاقق السّيّارة!" قال ذلك بصافاقة دو مقادّمات مثّ‬
‫انتصب كالتّمثال حيدّق إىل أمحد من وراء النّافذة بعين ثاقبت ‪ .‬كا‬
‫يف سنّ اخلامسة واألربع ‪ ،‬يط ّ الغباء من جبهته الضّيّقة والبالهة من‬
‫عينيه الباردت ‪ .‬بدا مضحكا يف اللّباس الرّمسيّ‪ ،‬والّذي ال يتناسب مع‬
‫حجمه الضّئي ‪.‬‬
‫"ما حاجتك للوثَاقق؟"‬
‫اندهش الشّرطيّ جلرأته يف الكالم‪ .‬فجأة أبرقت عيناه وتكلّام‬
‫بلهجة املعلّم‪.‬‬
‫"ممنوع التّوقّف يف هذا املكا ‪ ،‬هناك إشارة متنع ذلك"‬
‫وأشار حنو عمود على حافّة الطّريق‪.‬‬
‫"مل أجد مكانا شاغرًا ميكنين التّوقّف فيه‪ .‬زيادة على ذلك لان‬
‫أطي هنا سأعود بعد قلي "‪.‬‬
‫اربدّ وجه الشّرطيّ وتكلّم حبزم مُظهرًا صرامة ال حدود هلا‪.‬‬
‫"ال سيّدي‪ .‬أعطين الوثاقق حاال! أحرّر لاك املخالفاة الّايت‬
‫ارتكبتها مثّ تنصرف من هنا‪ .‬إنّه القانو "‪.‬‬
‫«تبًّا للقانو الّذي يطبّقه أمثالك‪».‬‬
‫"قانو ؟ ماذا تعين بالقانو ومىت بدأت تكترث بتطبيقه؟"‪.‬‬
‫يهملو األمور اجلدّيّة‪ ،‬كالسّرقات والقت يف ضاوء النّهاار‪،‬‬
‫وتعدّي املسلّح على املواطن يف عرض الطّريق وعلى مارأى مان‬
‫أعينهم‪ .‬يغضّو أبصارهم أمام جور الظّامل احلقيقيّ ‪ ،‬الّذين يرتدو‬
‫البذالت األنيقة ويعيثو يف األرض فسادًا‪ .‬تراهم يتهلّلو عند رؤياة‬
‫‪178‬‬
‫ساقق حافلة يقتات من سياقته وهو يرتكب خمالفة سخيفة‪ .‬فيلتفّاو‬
‫حوله كالذّقاب ويتلذّذو مبشاهدته وهو يترجّاهم السترجاع رخصة‬
‫السّياقة الّيت تعلّق عليها عاقلته ك ّ أملها لتقتات منها‪.‬‬
‫"ما هذه التفاهة؟ ابتعد عن باب السّيّارة حا ًال!"‪.‬‬
‫اندهش الشّرطيّ هلذه اللّهجة احلادّة‪ ،‬نزع أمحد النظّارة فظهرت‬
‫كدمات بشعة حول عينيه كحبّة الباذجنا ‪ .‬غادَا شخصًاا مرعبًاا‬
‫بسحنته األرجوانيّة املتدرّجة إىل االخضرار‪.‬‬
‫"أنا شرطيّ أيضًا وقد ارتكبت لتوّك خمالفة إيقاف سري عمليّاة‬
‫التّحقيق الّيت أباشر هبا‪ ،‬وأخربين ما امسك؟"‬
‫تقهقر إىل اخللف ورفع يده حنو صدغه‪ ،‬ملقيًا التّحيّة على زميله‬
‫يف ارتباك واضح‪.‬‬
‫"آسف‪ .‬ولكن ال يبدو يف مظهرك أنّك تعم معنا‪ .‬مل أدرِ أنّك‬
‫شرطيّ أيضا"‪.‬‬
‫فتح أمحد باب السّيّارة مثّ ترجّ وقال بتهكّم‪:‬‬
‫"رافقين إىل املكتب"‬
‫"عفوًا سيّدي ولكنّي أراقب حركة املرور ألنّها يف فترة األوج‪،‬‬
‫عذرًا مرّة أخرى"‪.‬‬
‫"حسنا إذ ‪ ،‬سأذهب وحدي ولكن سأترك السّايّارة حتات‬
‫رقابتك"‪.‬‬
‫"أج ‪ .‬بالتّأكيد إنّها حتت أنظاري ال تقلق أبدا"‪.‬‬
‫ثبّت أمحد خصالت شعره املشعث وهو يعرب مادخ البناياة‬
‫خبطى بطيئة لكيال يكو عرجه ظاهرًا‪ .‬حَيّى الشّرطيّ الواقف خلف‬
‫مكتب االستقبال وتبادال بعض اللّياقات‪ ،‬مثّ اجتاز البهو حنو السّالّم‬
‫‪179‬‬
‫املؤدّي إىل الطّابق األوّل وصعد ببطء‪ .‬حفّزت حركتاه تلاك آالم‬
‫ركبته الّيت أخذت تزداد تدرييّا مع ك ّ درجة يرتقيها‪ .‬وقرّر يف تلك‬
‫اللّحظة زيارة الطّبيب الحقًا‪.‬‬
‫"كيف حال صحّتك أمحد؟ ه حتسّنت قليال؟"‪.‬‬
‫تكلّم بن ذهيبة وهو يلقِي نظرة متفحّصة على هيئته الزّريّة‪ .‬نازع‬
‫أمحد النّظّارة ووضعها على سطح املكتب واكتم البدر‪ .‬برزت عيناه‬
‫املتورّمة وبدت كأنّها حبّة باذجنا ‪ ،‬نظّف حنجرته مثّ تكلّام بصاوت‬
‫هادئ‪:‬‬
‫"احلمد هلل‪ .‬أنَا خبري‪ .‬ه من جديد؟"‪.‬‬
‫"باملناسبة نشرنا عدّة دوريّات يف منطقة باب علي وهي تعما‬
‫متخفّية ب عامّة النّاس وأؤكّد لك أنّهام يراقباو كا ّ صاغرية‬
‫وكبرية"‪.‬‬
‫كا أثناء حديثه يتجنّب النّظر إىل تورّمه الّاذي باات ماثريًا‬
‫لالمشئزاز‪...‬‬
‫"اكتشفنا بعد البحث يف السّجالّت القضاقّية عن ملافّ بان‬
‫مهلة خمتار املدعوّ باهلواري‪ .‬سجن عدة مرّات بتهم خمتلفاة يف كا ّ‬
‫مرّة‪".‬‬
‫قال ذلك وهو يفتح درجًا يف املكتب‪ .‬تناول منه ملفًّا مثّ وضعه‬
‫على سطح املكتب‪.‬‬
‫شعر برغبة يف احلك فرفع يده حنو وجهه ولكناها توقفات يف‬
‫منتصف الطريق‪ .‬اكتفى بتحريك أهدابه فقط‪.‬‬
‫بل بن ذهيبة إهبامه على حناو ال شاعوري وقلاب بعاض‬
‫الصفحات وأدارها حنو أمحد مث واص حديثه قاقال‪:‬‬
‫‪180‬‬
‫"قضى اهلواري مدة اخلمس سنوات األخرية يف املؤسسة العقابية‬
‫لسيدي حممد بن علي‪ .‬بتهمة حيازة املخدرات"‪ .‬توقف حلظة أطرق‬
‫خالهلا حنو امللف مث أضاف‪:‬‬
‫"أما التهم األخرى اليت مل تثبت ضده فال حصار هلاا‪ .‬مناها‬
‫اشتباهه يف قضية قت منذ سنة ‪ ،2003‬اختطاف‪ ،‬سرقة‪ ،‬تعادي‪...‬‬
‫إخل"‪.‬‬
‫أغلق امللف حبركة من يده‪.‬‬
‫"الرج ذو ماض حاف كما ترى"‪.‬‬
‫"لقد فر من ب أيدينا يف الوقت الذي حنتاج فيه إىل إجاباات‬
‫واضحة عن أسئلتنا"‪ .‬كانت يف نربة أمحد نوع من معاتبة للانفس‪،‬‬
‫ولكن بن ذهيبة مل يتفطن لألمر‪.‬‬
‫"طلبت منا احملمكة هذا الصباح إطالق سراح مشروط يف حق‬
‫مراد بطيب بعد تفنيد األدلة اليت تورطه يف القضية‪ ،‬مل يعد مهما لنا‪،‬‬
‫فاألمر ليس بتلك البساطة اليت كنا نتوقعها"‪ .‬مل ينبس أمحد بكلماة‬
‫وساوره القلق لسبب غري واضح‪.‬‬
‫"بطيب أستعم كطعم ولألسف ابتلعناه بساهولة وأظان أ‬
‫الشخ املدبر هلذه اجلراقم يعرف مراد معرفة جيدة‪ .‬إذ قب أسبوع‬
‫من اآل قمت بفح الوثاقق اليت تسببت بسجنه قب ثالث سنوات‬
‫وذلك مبساعدة خبري يف جمال التزوير فوجدناها مازورة بالفعا "‪.‬‬
‫توقف حلظة ليضع يده على ركبته املصابة‪.‬‬
‫"أثبت التدقيق أ الفاتورة قد تالعب هبا شخ آخر‪ ،‬يعما يف‬
‫نفس اإلدارة اليت اشتغ فيها مراد ودلي مث هذا ال ميكن أ نتجاهلاه‬
‫ونلقيه عرض احلاقط‪ .‬إذ البد من تفسري معقول لك ما حدث"‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫متلم أمحد يف مقعده‪ ،‬يبحث عن وضعية مرحية‪.‬‬
‫"وجدنا األرقام يف الفواتري حتم أكثر مان القيماة احلقيقاة‬
‫للمشروع‪ .‬قام املزور بتضخيم الفاتورة عن طرياق وضاع أعماال‬
‫إضافية ومهية للمشروع‪ .‬والسؤال الذي الزال حيريين هاو تاورط‬
‫البشري يف هذه القضية من امخ رجليه حىت آخر شعرة من رأسه ومل‬
‫يلقى أي عقاب"‪.‬‬
‫صمت برهة ليستطلع رأي بن ذهيبة الذي أشاح وجهه خلاف‬
‫كتفه مث متعن يف الع املتورمة فترة بينما شابك أمحد با ذراعياه‬
‫وانتظر يف صمت وراح بن ذهيبة يقول بتؤدة‪:‬‬
‫"أنت تتكلم عن شيء خطري ال نستطيع جماراته‪ .‬أظن أ لدياه‬
‫نفوذا يف السلطة‪ ،‬أرباب املال يف بالدنا هم من يسن لنا القوان وهم‬
‫من يدفع لنا رواتبنا‪ ،‬كيف تتوقع أ يسجن شاخ مثا هاذا‪،‬‬
‫ستتوقف اجلزاقر يا صديقي"‪.‬‬
‫"ولكن إ ظهر أنه سبب مباشر أو غري مباشار يف ارتكااب‬
‫اجلرمية فلن أتواىن يف القبض عليه واألجدر بك أ تفع ذلك أيضا"‪.‬‬
‫كا بن ذهيبة ينظر إىل أمحد بعين ناعست يط منهما عادم‬
‫اإلكتراث وملح أمحد طيف ابتسامة حتوم فوق زاوييت فمه‪.‬‬
‫"هذا أكيد‪ .‬القانو فوق اجلميع وال يسعنا إال تطبيقه‪ ،‬سنعم‬
‫ما بوسعنا والباقي على اهلل"‪ .‬رفع كفيه يف اهلواء مستسلما‪.‬‬
‫استأذ باالنصراف وهبّ من مكانه واقفًا وبدَا عليه عدم االرتياح‬
‫لِما مسعه للتّوّ‪ .‬التقط النظّارة من فوق املكتب مثّ وضعها على وجهه‪.‬‬
‫"علينا االستمرار يف التّحقيق ألنّنا إ مل نتحرّك بسرعة فسنفقد‬
‫التّرابط ب األحداث فال يزال أمامنا أسبوع كام "‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫‪-08-‬‬

‫لعق أصابعه مثّ قلّب اجلريدة‪ ،‬وأخذ يف قراءة عمود يف االقتصاد‪،‬‬


‫كا مضمونه أ ّ أسعار البترول يف ارفاض مستمرّ واحلكومة تعلان‬
‫عن حالة التّقشّف‪ .‬كا يلس أمام طاولة على«تِرَاسْ» املقهى‪ .‬شادّ‬
‫الصّحيفة بيد واضعا أصبعه كعالمة للصّفحة الّيت توقّف فيها‪ .‬الاتقط‬
‫باليد األخرى فنجانًا من الشّاي السّاخن‪ ،‬تطفو فوق سطحه ورقاة‬
‫نعناع أخضر منعزلة‪ .‬رشف من الكأس مثّ أطبق شافتيه ليستسايغ‬
‫الطَّعمَ الرّاقع‪ .‬أحسّ باملشروب السّاخن ميرّ حبنجرته ليترك انطباعًاا‬
‫بالرّضا‪ .‬أعاد فتح الصّفحة وأجال بصره يف العناوين الرّقيسيّة‪ .‬بادأ‬
‫يندم لشراء اجلريدة‪ .‬جمرّد تدوير لألحداث وتلفيق كذبات منذ أكثر‬
‫من نصف قر ‪ .‬عناوين فضفاضة باللّو األمحر جلسّ نبض الشّارع‪.‬‬
‫دوّر الصّفحة التّالية وكانت يف قسم أحوال النّاس‪ .‬مجد يف مكاناه‬
‫حمدّقا إىل أسف الصّفحة‪ .‬وضع أصبعه على عنوا مكتاوب خباطّ‬
‫عريض كا مكتوبا بالعبارات التالية‪:‬‬
‫«تفكيك شبكة تتاجر باملخاّرات‪.‬‬
‫عرفت مااخل بابا علي مباينة معسكر ليلة اومل تعزيهزات‬
‫أمنيّة كبرية‪ ،‬انتشرت عناصر اومن يف عني املكان وااعة حهواجز‬
‫مراقبة يف جلّ النّواط‪ ،‬ودوريّات راجلة للبحث والتّوقيه رهرم‬
‫مطلوب للعاالة يف قضايا السّرقة واالعتااءات املسلحة‪ ،‬واملتاجرة‬
‫‪183‬‬
‫باملخاّرات‪ .‬سبق احلكم عليه ةيابياا بينما ال تزال مصهاا اومهن‬
‫تواصل التّحرّي‪».‬‬
‫ازدرد كأس ماء بارد وأفرغه يف جوفه جرعة واحادة‪ .‬وضاع‬
‫باطن كفّه على فمه وجتعّدت املنطقة جبانب أنفه مثّ تقلصت جبهتاه‬
‫مربزة خطوطا عميقة بسبب تكهرب يف أسنانه جرّاء التقااء الباارد‬
‫بالسّاخن‪.‬‬
‫ارتفعت إىل األعلى سحابة من الدّخا األسود غطّت املشاهد‬
‫كلّه‪ .‬مل يكن حريق غابة ومل يكن حف شواء‪ .‬وإنّما كا ينبثق مان‬
‫خلف سيّارة قدمية أصدر حمرّكها الدّيازال أزيزًا مزعجًا‪.‬‬
‫كانت السّيّارة أشبه بدبّابة يف صوهتا وهي تشقّ طريقها فاوق‬
‫أرضيّة ملغّمة‪ .‬أطلق أمحد سِبابًا متتابعًا‪ ،‬وألقى نظرة خاطفة يف مرآة‬
‫الصّورة اخللفيّة‪ .‬أحسّ باألبصار تزلقه وعلم أنّه يف تلك اآلونة حما ّ‬
‫سخط اجلميع‪.‬‬
‫«أنا علم يرفرف يف مساقكم وحمرّكي ضجيج يقضّ مضاجعكم‪.‬‬
‫انظروا إيلّ جيّدًا‪ ،‬بقرة وشَاَفتْ رُومِي‪ .‬هيّاا انظاروا‪ ،‬سأضاخّكم‬
‫بأكسيد الكربو ‪ .‬هيّا شهيق‪ ...‬و‪ ..‬زفري‪ ،..‬تنفّساوا بابطء هيّاا‬
‫شهييييق‪ .....‬مثّ زفييري‪»...‬‬
‫خاطب نفسه بصوت مسموع وانفعال جتلّى يف نربات صاوته‬
‫احلادّة ويف ظ تلك العصبيّة جاء الدّور على أزمة جديدة‪ .‬اشاتع‬
‫ضوء املؤشّر وأشار إىل نفاد البنزين يف خزّا الوقود‪ ،‬غيّر وجهته حنو‬
‫حمطّة البنزين‪.‬‬
‫على بُعد ماقة متر ظهرت العمارة الّيت تقيم فيها زهيّة‪ .‬ارتقاى‬
‫السّلّم صعودًا حنو الطّابق الثّالث مثّ دقّ الباب برفق وانتظار‪ .‬دارت‬
‫‪184‬‬
‫األكَ َرةُ وفُتح الباب‪ .‬أط ّ وجه أنثويّ خال من املساحيق‪ .‬بدا لاو‬
‫بشرهتا باهتًا حتّى كاد يسأهلا عن زهيّة ولكنّه تدارك نفسه يف الوقت‬
‫املناسب‪.‬‬
‫"أهال زهيّة"‬
‫"نعم‪ .‬ما األمر؟"‬
‫كانت تسدّ ثغرة الباب جبسمها اللّحيم‪ .‬واستشافّ يف ناربة‬
‫صوهتا انزعاجًا ولكنّه مل يبال‪.‬‬
‫"لديّ بضع أسئلة أودّ طرحها"‬
‫ظنّ أنّه قال «افتح يا مسسم» ملّا رآها تنزاح عن املدخ وتفسح‬
‫له الطّريق مثّ تبعها على األثر إىل غرفة الضّيوف‪.‬‬
‫"األمر يتعلّق خبلي "‬
‫حرّكت جفنيها تعبريًا عن تفهّمها‪ .‬فكرّر سؤاله مرّة أخرى‪:‬‬
‫"ما الّذي تورّط فيه يوسف وله عالقة خبلي ؟"‬
‫حدّقت فيه‪ ،‬مثّ انفرجت شفتاها تدرييّا‪.‬‬
‫"ال أعرف عمّ تتحدّث"‬
‫بذلت جهدًا لتظهر وجهًا هادقًا‪.‬‬
‫"توفّي كالمها يف ظرف غامض ومن املرجّح أ يكو القات هاو‬
‫نفسه يف كلتا احلالت ‪ .‬لذا أطلب منك رجاءا التّفكري يف األمر جمدّدًا"‬
‫حتوّل لو وجهها إىل الرّماديّ فجأة واشتدّت قساوة نظراهتاا‬
‫حنو أمحد وكانت على حدّ قول الشاعر‪:‬‬
‫عسينا س قَا دسلَّتا عسينسهيّ مًنهكس عسلهى‬
‫أَشياءَ لَوالهُمها مها كُنهتس رائيهها‬

‫‪185‬‬
‫وسالعسنيُ تسعلَهمُ مًهن عسينسهي مُحهاِّثًها‬
‫إَّن كانَ مًن حًزبَّها أَو مًهن أعاديهها‬

‫"أؤكّد لك أنّي ال أعلام عمّاا تتحادّث فكياف ميكانين‬


‫مساعدتك؟"‬
‫طأطأ أمحدُ رأسه ياقسًا فاضطرّ إىل استعمال آخر ورقة يف يده‪.‬‬
‫"ماذا سيكو موقفك إزاء الشّرطة بعد أ تكتشف أنّك قمت‬
‫بزيارة خلي يف شقّته قب مقتله بساعات؟!"‬
‫رأى حترّكات عنيفة على مستوى عضالت وجهها واحنارف‬
‫حاجبَاها حنو األعلى‪ .‬حاولت قول شيء ولكنّ كلماهتا ضااعت يف‬
‫اهلواء‪.‬‬
‫"كنّا‪".....‬‬
‫انقطعت عن الكالم‪ ،‬فحثّها على املواصلة‪.‬‬
‫"هيّا! أخربيين ماذا كنتما؟"‬
‫"كنّا صديق مقرّبَ "‬
‫خاب رجاءُه هلذا الّلفّ الّذي متارسه للتّهرّب من اجلواب‪.‬‬
‫"تقصدين أنّك عشيقته‪ .‬أليس كذلك؟"‬
‫مرّ فاص صمت قصري قب أ ميزّق صوهتا غشااء الصّامت‬
‫الثّقي ‪.‬‬
‫"نعم؟"‬
‫غاصت نظراهتا القاسية لتتحوّل إىل شرود‪.‬‬
‫"اللّعنة حتيط بنا الواحد تلو اآلخر"‬
‫"عن أي لعنة تتحدث ؟!"‬
‫‪186‬‬
‫أظلم جبينها وختطّت أفكارها عامل احملسوسات‪ .‬أتاى صاوت‬
‫أمحد لينتشلها من رحلتها امليتافيزيقيّة‪.‬‬
‫"إنّها لعنة املوت‪ .‬أال ترى أ ّ ك ّ من حييطو بااي ميوتاو‬
‫الواحد تلو اآلخر؟!"‪.‬‬
‫تركها حلظة لتستجمع قواها العقليّة‪.‬‬
‫"ماذا كنت تفعل هناك؟ أخربيين"‪.‬‬
‫"اتّص باي ليخربين أنّه سيسافر بعد يوم "‪.‬‬
‫"وملاذا اتّص بك يف ذلك الوقت؟"‬
‫بدَا وكأنّها بعثت من القرب للتّوّ‪.‬‬
‫"أراد منّي مرافقته"‬
‫زاد يقينه بأ ّ خلي كا يتوجّس من شيء ماا لاذلك قارّر‬
‫السّفر فجأة‪ .‬وربّما ذلك ما يفسّر سبب سحب مجيع األموال مان‬
‫البنك‪.‬‬
‫"إىل أين؟"‬
‫"قال أ ّ عدم إخباري بوجهته‪ ،‬سيكو من أج مصلحيت"‬
‫"مصلحتك؟ ه يهرب من أمر ما؟"‬
‫"ال أدري ولكنّين رأيته مرتبكا جدًّا"‬
‫كانت تنظر تارة إىل أمحد وطورًا إىل أصابعها املتوتّرة‪.‬‬
‫"لقد وجدنا أ ّ كالًّ من يوسف وخلي قاما بسحب ما ميلكانه‬
‫يف البنك وذلك قب مصرعهما بأيّام فقط‪ .‬أال يعين لك هذا شيئا؟!"‪.‬‬
‫"آسفة قلت ك ّ ما عندي"‬
‫أرغمته على التّوقّف عند هذا احلادّ فهاب واقفًاا واساتعدّ‬
‫للمغادرة‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫"ال أظنّ أ ّ التّكتّم عن األمر سيكو يف صاحلك‪ .‬ما دمات مل‬
‫أغادر املكا ميكننا التّوصّ إىل اتّفاق بيننا"‬
‫انتظر ردّها بفارغ الصرب ولكنّ مجود نظرهتا أوحت باستحالة ما‬
‫يروم إليه‪ .‬بدت أشدّ صالبة وبرودة من جلمود غرانييتّ‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫‪-09-‬‬

‫تكاسلت الشّمس يف كبد السّماء مطلقة سهاما حارقة‪ ،‬لتبادّد‬


‫ك ّ ما يعترض طريقها من سحب يف تلك األثناء‪ ،‬دوّى آذا الظّهر‬
‫من أعلى منارة يف حيّ بابا علي‪.‬‬
‫خالل تلك املدّة مل يتوقّف أمحد عن السّري رغام آالم ركبتاه‬
‫املتزايدة‪ ،‬وكا يتفيّأ الظّ ّ اجتنابًا حلرارة الشّامس‪ .‬فكارة عاابرة‬
‫تسبّبت يف مضيّه قُدمًا حنو هذا احليّ وانتابه إحسااس عمياق باأ ّ‬
‫اهلواري لن يبتعد أكثر من مخس ماقة متر عن مكا إقامته السّاابق‪.‬‬
‫على احلاقط عبارات غرافييت‪.‬‬
‫«ال ترمي اووساخ هنا» مرفقة بسهم يشاري إىل الفضاالت‬
‫املتكوّمة يف األسف ‪.‬‬
‫«هذا ممرّ وليل مرحاض يا محار»‬
‫وحتت العبارة ساق أصفر يتجمّع على األرض ويباهت لاو‬
‫اجلدار حتّى خييّ إىل املارّة من هناك أ ّ الرّاقحاة لان تزايلاهم إال‬
‫باالستحمام‪.‬‬
‫«حياة أنتً مونامور»‪« ...‬دولة ز‪»...‬‬
‫يف ركن هادئ من احليّ قصد بيتًا متواضعًا على جانب املمارّ‪.‬‬
‫دفع الباب الثّقي ودلف إىل الدّاخ ومضى يعرب الفسقيّة املشمساة‪.‬‬
‫شدّ الدّرابزين بيده اليسرى وارتقى حنو الطّابق العلويّ درجة بدرجة‬
‫‪189‬‬
‫منتبها إىل ركبته املصابة‪ .‬ابت ّ قميصه حتت ابطياه وجافّ حلقاه‪،‬‬
‫فمسح جبينه بباطن كفّه مثّ طرق على الباب وانتظر‪ ...‬أعاد الطّارق‬
‫مرّة أخرى‪ ...‬ال شيء‪ .‬طرق بعصبيّة هذه املرّة وكاد يغادر املكا إالّ‬
‫أنّه هذه املرّة كوفئ خبطوات أقدام بطيئة ترتدي خفًّا منزليًّا‪ ،‬تاأرجح‬
‫ثقب الباب ليفتح خالل دقيقة‪ ،‬وتألّقت ع بنّيّة اللّو ألقت نظارة‬
‫خاطفة عليه‪ ،‬مثّ أغلق الثّقب خبطفة سريعة وفتح الباب عان وجاه‬
‫بسّام‪.‬‬
‫"أهال‪ .‬أهال‪ .‬زارتنا بركة‪ ..‬تفضّ ‪ ،‬تفضّ "‪.‬‬
‫تنحّى فُضي عن مدخ الباب وهذه املرّة بدا مبتهجًا عن آخر مرّة‬
‫رآه فيها‪ ،‬كا حيم يف يده منشفة استحال لوهنا األبايض إىل البنّايّ‪،‬‬
‫وشعر رأسه املشعث ال يزال مبتالًّ‪ ،‬كا شبه عارٍ يرتدي شورتا تبلّلات‬
‫حوافّه والتصق شعر رجليه جبلده وشكّ خطوطا متعرّجة‪.‬‬
‫"ماذا كنت تفع اهلل يرحم بُوكْ؟"‬
‫أغلق فضي الباب بضربة من قدمه‪ ،‬ودلف أمحد إىل الادّاخ‬
‫ورأى آثار املاء الّذي تركته قدماه على األرض‪.‬‬
‫"كنت أستحمّ‪ ،‬تبًّا لك أنت جتلب النّحس‪ ،‬يلزماك حجااب‬
‫ورقية شرعيّة ألنّك كلما أتيت عطّلتين عن شيء ما"‬
‫وأشار بيده إىل وجهه املبلّ وصفحة رقبته مثّ قال‪:‬‬
‫"الصّابو ال يزال يلتصق بوجهي"‪.‬‬
‫اتَّجها حنو األريكة يف منتصف املنزل وفجأة شيء ماا جعا‬
‫فضي يتسمّر يف مكانه من الذّهول‪.‬‬
‫"سقطتُ من السّلّم‪ .‬إنّه جمرّد التواء بسيط يف األربطة وسأتعاىف‬
‫بسرعة"‪.‬‬
‫‪190‬‬
‫يف احلقيقة مل يد أمحد ما يقوله غري هذه الكذبة السّوداء‪.‬‬
‫"يا ابن آدم الدّورة ستبدأ األسبوع املقب ‪ ،‬ه تسخر منّي"‪.‬‬
‫هزّ رأسه ممتعضًا دو أ يشيح وجهه عن أمحد الّذي ظ يدور‬
‫بعينيه يف الغرفة لتهوين األمر‪ .‬مثّ قال بلهجة خبري باإلصابات‪.‬‬
‫"إ لعبت هبذه احلالة‪ ،‬فستقضي بقيّة حياتك يف لعب التّنس مع‬
‫املخنّث "‬
‫وأجاب أمحد بعدم اكتراث وسقط نظره على صرصور طااقر‬
‫كا يدبّ يف األرض مثّ تسلّق احلاقط ببطء يسبقه قرنَا االستشعار‪.‬‬
‫"ال تقلق نفسك فضي ‪ ،‬سألعب حارس مرمى إ توجب األمر"‬
‫قال ذلك مبتسما مث هتالك على األريكة ونزع النظارة من وجهاه مث‬
‫طوحها فوق الطاولة جبانب علب املالبورو الفارغة‪ .‬كا فضي يوليه‬
‫ظهره ليعلق املنشفة على مسند الكرسي مث التفت مرة أخرى وعااد‬
‫يقول وقد شكمه مظهر الوجه املتغري عن الكالم حلظة‪ ،‬حىت استوعب‬
‫األمر‪.‬‬
‫"ما به وجهك أيضا‪ ،‬سلم آخر أم ماذا؟" مط أمحاد جساده‬
‫الطوي شعر برغبة يف حك عينيه املصابة‪.‬‬
‫"أحتاج منك بعض املعلومات‪ .‬ه مازلت تتردد على هاؤالء‬
‫األشخاص‪ ،‬هناك؟"‪.‬‬
‫"من؟ مجاعة احلاج وفيص ؟"‪ .‬أومأ أمحد برأسه إيابا‪.‬‬
‫"أبتاع القنب منهما مرة ك يوم تقريبا‪ .‬يقيما جبانب بيت‬
‫احلاجة ال ال خدية القدم‪ ،‬أتذكره؟"‪.‬‬
‫"نعم‪ .‬أذكره جيدا"‬
‫صمت فضي برهة ليهيأ حلديث آخر‪.‬‬
‫‪191‬‬
‫"أمحد‪ .‬الك يعلم مباذا حدث ليلة األمس‪ ،‬وكذلك أساتطيع‬
‫ختم من تسبب بتلك الكدمات"‪.‬‬
‫"لوال حفع اهلل وطول األج لكنت اليوم تصلي علي صاالة‬
‫اجلنازة وأنت تعلم اآل أين أتيت من أج اهلواري ولن أتركه يفلت‬
‫من قبضيت هذه املرة‪ .‬باهلل عليك فضي إهنا آخر مرة أقصدك فيها عن‬
‫شيء ما"‪.‬‬
‫أطرق فضي برأسه إىل األرض وفكرا مليا يف األمر وأخريا بادا‬
‫أنه على استعداد لتقدم يد املساعدة‪.‬‬
‫"الرج الذي قت باألمس كا خياد مجاعة اهلاواري مناذ‬
‫خروجه من السجن‪ ،‬وهو ابن احلي كذلك وجار قدم‪ .‬أبوه كاا‬
‫صديقا خلايل خلضر"‪ .‬صمت برهة من الزمن تبادال خالهلا نظارات‬
‫حامسة‪.‬‬
‫"أتذكر املكا الذي ذكرته منذ قلي ؟"‬
‫"حوش احلاجة ال ال خدية القدم؟"‬
‫"نعم بالضبط ولكن هذه املرة ال تلعب دور البط ‪ ،‬دع هتورك‬
‫جانبا فاحلذر يغلب القدر"‬
‫"يبدو يل من حديثك أنه مع أشخاص خماتلف !! ها هام‬
‫مسلحو ؟"‬
‫"واهلل ال أدري وال تورطين يف األمر أكثر من ذلك‪ .‬لن أتكلام‬
‫بعد اآل "‪ .‬قال ذلك حبدة مبالغا يف إظهار مدى صرامته‪.‬‬
‫"ملاذا تضحك‪ ،‬ه أنا أمزح هنا أم ماذا؟"‪.‬‬
‫زوى ما ب حاجبيه وأودع تعابري وجهه ك صفات العباوس‬
‫وما لبث أ انبسطت أساريره وابتسم بعدوى الضحك الذي انتاب‬
‫‪192‬‬
‫أمحد‪ .‬أمسك باملنشفة وكورها يف قبضة يده على شاك كارة مث‬
‫سددها حنو وجهه املورم‪ .‬ولكنها أصابته يف بطناه وزادت وتارية‬
‫الضحك بعد أ أمسك باملنشفة‪.‬‬
‫"أخخ‪ ...‬ما هذه اخلرقة النّتنة؟!‪ .‬أخخ‪"..‬‬

‫‪193‬‬
‫‪-10-‬‬

‫اشتدّ سواد اللّي وكانت املدينة تنطق باحلز والكآبة من خالل‬


‫أضواقها الشاحبة الّيت تألألت كشمعة تكااد تنطفائ‪ .‬تراكمات‬
‫السّحب يف السّماء فحجبت النّجوم وضوء القمر‪ .‬مشى أمحد خببًاا‬
‫ب املباين اهلرمة‪ ،‬يدخّن لفافة تبغ على غري عادته‪ .‬كانات اللفافاة‬
‫اخلامسة على التّوايل‪ ..‬قب أربع دقيقة كا يف شقّته مستلقيًا يفكّر‬
‫يف أمر خطر على باله بعد أ جافاه النّوم‪ .‬استقرّ به الرّأي أخاريًا إىل‬
‫شقّة مصمّما على بلوغ‬ ‫تنفيذ خطّته الّيت راودته منذ ساعات‪ .‬غادر ال ّ‬
‫هدفه مهما كانت النّتيجة‪ .‬فاألمور وصلت إىل حدّ ال يطاق كما أ ّ‬
‫أعصابه مل تعد حتتم الضّغط‪ .‬مثّة ثغرة أخرية يف هذه القضيّة وعلياه‬
‫إيادها‪.‬‬
‫لبد عند زاوية منعطف الطّريق‪ ،‬كا احليّ العتياق غارقاا يف‬
‫الظّالم الدّامس‪ ،‬يسود أركانه هدوء كاذب‪ .‬عطف إىل يساره سالكا‬
‫طريقا ميتدّ يف الظّالم مل يستطع رؤية هنايته‪ ،‬فيمّم شطره وأخذ يساري‬
‫ببطء‪ .‬رمى عقب السّيجارة على األرض مثّ داس عليه بقدمه ومدّ يده‬
‫إىل املسدّس‪ .‬كا القمر خيتفي من وقت آلخر خلف ساحابة‪ ،‬مثّ ال‬
‫يلبث أ يظهر من جديد‪ ،‬متامًا كمشهد خميف يف أفالم الرّعب‪ .‬تقدّم‬
‫بضع خطوات إىل األمام مثّ توقّف برهة‪ .‬صكّ مسعه صاوت قاويّ‬
‫لقارورة من الزّجاج تدحرجت على األرض‪.‬‬
‫‪194‬‬
‫اشتدّت قبضته على املسدّس وركّز نظره على جهة الصّاوت‪.‬‬
‫تسمّر يف مكانه فاحتًا عينيه بدو طاق وساط موجاات الظّاالم‬
‫القامتة الّيت منعته من الرّؤية‪ .‬حتّى ضوء القمر مل يد طريقًا إىل هاذا‬
‫املكا ‪.‬‬
‫عاد الصّوت مرّة أخرى‪ .‬وكا قويا هذه املرّة‪ ،‬بادا وكاأ ّ‬
‫شخصًا ما يتحرّك باتّجاهه‪ .‬تزايدت نبضات قلبه يف اخلفقا وارتفع‬
‫منسوب األدرينال يف شرايينه بشك رهيب‪ .‬غاب أمل ركبته ماع‬
‫اندفاع االدرينال ‪ ،‬أراد أ يقدم على خماطرة حمسوبة‪ ،‬فوجّه ماسورة‬
‫املسدّس إىل األمام مثّ دسّ يده يف جيبه وتناول اهلاتف وهاذه املارّة‬
‫شغّ اهلزّاز بدل الرّنّة قب أ يدخ احليّ‪ .‬مرّت عشر ثوا ٍ قبا أ‬
‫ينري مصباح اهلاتف الصّغري‪ .‬جتمّد يف مكانه عندما ملح أشباحا تتحرّك‬
‫بسرعة خاطفة لتختبئ يف الظّالل‪ ،‬لقد كانت قططًا لعيناة‪ ،‬كانات‬
‫تعبث بالقمامة الّيت تراكمت منذ يوم على األق ّ‪ .‬أطلاق سِابابًا‬
‫متالحقة وانتابته رغبة جمنونة لينتقم‪ .‬أخريًا عاادت إلياه أنفاساه‬
‫املتقطعة‪.‬‬
‫وهدأ روعه رويدا رويدا ولكن دو أ يفقد حذره‪.‬‬
‫أعاد اهلاتف إىل جيبه‪ ،‬وكا قد ملح بابا صدقًا مطليّاا بلاو‬
‫أسود‪ .‬يُفضي إىل بيت عتيق‪ ،‬من املفترض أنّه جماور حلوش احلاجّاة‬
‫الَالّ خدية‪ .‬كانت احلجارة تربز من خالل اجلدرا السّميكة الّايت‬
‫أمهلت منذ عقود‪ ،‬قد يكو عصر هذا البناء يرجع إىل فترة ما قبا‬
‫العثمانيّ بقرن من الزّمن‪ .‬كا الباب املؤدّي إىل ذلك البيات ال‬
‫يغلق أبدا‪ ،‬إذ ال طاق من إغالقه‪ ،‬فهنالك عدّة مداخ تكوّنات يف‬
‫اجلدرا املتصدّعة مع مرور الوقت واإلمهال املتواص ‪.‬‬
‫‪195‬‬
‫وضع يده على الباب الثّقي ودفعه برفق لكيال يصدر صاريرًا‬
‫يذب االنتباه‪ .‬انسابت األضواء من بعض النّوافذ على أرض الفِنااء‪.‬‬
‫رأى يف إحدى النّوافذ خيال ظ ّ يتحرّك داخ الغرفة‪ ،‬كا لرجا‬
‫على ما يبدو‪ .‬تقدّم هبدوء وحذر‪.‬‬
‫كانت هندسة البيت بسيطة‪ ،‬ثالث حجرات واملطبخ يف الوساط‪.‬‬
‫مشى خبطوات متلصّصة‪ ،‬وبدأ يصله صوت مبتذل‪ ،‬صراخ أشبه باأن‬
‫لذّة كا مصدره من الغرفة الّيت شاهد فيها خيال الرّج من خصااص‬
‫النّافذة‪ .‬ختطّى الغرفة الثّانية بسرعة تاركا ذلك الصّاوت وراءه‪ .‬ألقاى‬
‫نظرة مترقّبة حوله‪ ،‬مثّ تقدّم حنو الغرفة الّيت تلي املطبخ‪ .‬كانت األضاواء‬
‫منعدمة بالدّاخ ‪ .‬وضع أذنه على الباب وأصغى ولكنّه مل ياتمكّن مان‬
‫مساع أيّ صوت‪ .‬وضع يده على أكَرة الباب فدار املازالج بساهولة‬
‫ولكنّه أحدث طقّة خفيفة نتيجة للصدإ الّذي حص يف لسا القف ‪.‬‬
‫انفتح الباب وكا املسدّس ال يزال يف يده موجّها إىل األمام مثّ‬
‫أخذ يف االهتزاز بشك ال إراديّ‪ .‬حتسّس بيده احلاقط جبانب الباب‬
‫ليجد زرّ املصباح‪ .‬يف تلك اللّحظة انتشر النّور من السّاقف مبادّدا‬
‫خيوط الظّالم املتناسجة يف الغرفة‪ .‬بدا املكا ألوّل وهلة كمختارب‬
‫لألحباث العلميّة‪ .‬تقدّم حنو الدّاخ واشتدّت قبضته على املسادّس‪.‬‬
‫قامت على طول اجلدار األمين للغرفة طاولة معدنيّة‪ ،‬على ساطحها‬
‫أقنعة طبّيّة وجمموعة كبرية من أكياس بالستيكيّة صاغرية احلجام‪،‬‬
‫حتتوي على مسحوق أبيض‪.‬‬
‫أغلق الباب خلفه بكعبه مثّ رأى سريرًا لشخ واحد يف ركن‬
‫الغرفة‪ ،‬تنتشر فوقه معدّات لتغليف القنب اهلنديّ وتقطيعه‪ ،‬أقاراص‬
‫الرّيفوتري ‪ ،‬باركيدي ‪ ،‬السّيبيتاكس‪ ،‬وأكياس أخرى مليئة باأقراص‬
‫‪196‬‬
‫اإلكتازيا‪ ،‬كا املكا مبثابة جنّة املدمن واملنحرف ‪ ،‬وألفى بعاض‬
‫األسلحة البيضاء‪ ،‬ملعت نصاهلا احلادّة حتت ضوء املصباح‪ .‬كا اهلواء‬
‫عابقا براقحة الكحول الطبّيّة احلادّة‪.‬‬
‫مسح أركا الغرفة بعينيه فلمح شيئا جذب انتباهه‪ .‬كا هناك‬
‫قطع من الزّجاج املتناثر على األرض جبانب السّرير وبقع عشاواقيّة‬
‫تصبغ األرضيّة باللّو األمحر‪ .‬عمّ يف اجلوّ سكو غريب حممّ براقحة‬
‫أكثر غرابة بدأت تزداد قوّة مع عبوره صدر الغرفاة‪ ،‬وعلاى ميا‬
‫السّرير ثالّجة صغرية احلجم يوضع فوق سطحها األملاس نفّاضاة‬
‫سجاقر‪ .‬كانت خيوطها تصدر شرارة كهرباقيّة مزعجة‪ .‬غمز الضّوء‬
‫أثناء تقدّمه خطوت إىل األمام وكأنّه يدعوه للحذر‪ .‬مع ك ّ خطاوة‬
‫كا خيطوها ازدادت البقع احلمراء يف الظّهور من وراء السّرير‪ .‬ساق‬
‫قدما إىل األمام وصوّب مسدّسه حتسّبا أليّ حركة مفاجئة‪.‬‬
‫دقّ قلبه بعنف وظهرت العروق من خالل معصمه وهو يشادّ‬
‫على املسدّس‪ ،‬تقدّم خطوة أخرى إىل األمام‪ .‬كا مرتبكا وأحاسّ‬
‫بالعرق البارد ينساب عرب عموده الفقريّ‪ .‬جتمّدت الدّماء يف عروقاه‬
‫فجأة‪ ،‬تسمّر يف مكانه ال يكاد يصدّق ما تراه عيناه‪ .‬كاا املشاهد‬
‫مكتمال واملنظر بشعًا‪ ،‬إنّها اللوحة الّيت حتدّث عنها ذلك املختا ّ يف‬
‫رسالته‪ .‬جثّة هامدة ترقد على األرض يف سكو غري آدميّ‪ .‬حشار‬
‫املسدّس خلفه يف حركة سريعة وارفض ليتفحّ اجلثّاة‪ .‬مل تتغيّار‬
‫مالمح اهلواري كثريا وهو فاقد للرّوح‪ .‬ال تازال ملساات العباث‬
‫واخلطورة تتجلّى يف ندوب وجهه وقوّة عارضيه‪ .‬غري أنّاه الحاع‬
‫مسحة من اجلمود والربودة تتمثّ على بشرته الشّاحبة‪ .‬كا مستلقيًا‬
‫على ظهره ورأسه يرتكز على احلاقط ليغوص داخ صدره املضارّج‬
‫‪197‬‬
‫بالدّماء‪ .‬كانت ذراعاه املرختيتا تنبسطتا على األرضيّة ويف قبضاة‬
‫يده اليسرى مسدّس من عيار برييتا ‪ 9‬مليمتر‪.‬‬
‫انتبه حلركاته يف حذر وهو يتفحّ مكا اإلصاابة‪ .‬الحاع‬
‫جرحًا عميقا على مستوى الرّأس‪ ،‬البدّ أ ّ الضّربة كانت مهلكاة‪.‬‬
‫دو أ يلمس أيّ شيء مال إىل احلاقط باتّجاه الرّأس واساتطاع أ‬
‫يلمح ثقبًا عميقا اخترق مججمته‪.‬‬
‫ك فقد كا دماغاه‬ ‫شخ ما أطلق عليه الرّصاص من دو ش ّ‬
‫مهشّما بالكام ‪ .‬كا املشهد يدلّ على أ الرّج انتحار بسابب‬
‫هلوسة حادّة أو حالة هسترييّة جراء تعاطي املخدّرات‪ .‬ولكنّ األمار‬
‫الّذي مل يستوعبه هو مكا الرّصاصة‪ .‬لو كا ذلك يف صادغه‪ ،‬أو‬
‫يف فمه أو حتت ذقنه لكا ممكنا‪ ،‬أمّا يف تلك املنطقاة فاأمر شابه‬
‫مستحي ‪ .‬وازدادت حريته فأخذ يفكّر يف احتمال وجود قات آخار‬
‫ولكن من يكو هذا الشّخ ؟‬
‫بات األمر أكثر تعقيدًا‪ ،‬فبدال من احلصول على إجابات تظهار‬
‫جثّة أخرى‪ .‬يبدو أ ّ األمور قد بدأت خترج عن سيطرهتم‪ .‬انتابه نوع‬
‫من اإلحباط بعد فش يف الوصول إليه أوّال‪ .‬اهلواري مهزة الوصا‬
‫الوحيدة يف القضيّة لذلك شعر القات باخلطر فأجهز علياه قبا أ‬
‫تص إليه الشّرطة‪ .‬أسئلة باتت تعلّق يف رأسه كالغراء وتفرض علياه‬
‫نسقًا من التّفكري‬
‫«مَن الّذي استفاد سابقا من اتّهام مراد وسجنه؟ ومَاا الّاذي‬
‫سيجنيه من مقت يوسف قدادرة؟!»‬
‫غري أنّه أجّ ذلك إىل وقت الحق‪ ،‬عنادما كاا ياتفحّ‬
‫األغراض الّيت تعجّ هبا الغرفة‪ .‬فلمح قارورة داكنة بنّيّة اللّو ‪ .‬استيقع‬
‫‪198‬‬
‫اجلزء املسؤول يف دماغه عن متييز الرّواقح‪ .‬رفعها وقرّهبا إليه فقرأ على‬
‫امللصق الكلوروفورم‪ .‬نفس املادّة الّيت أخربه عنها الطّبيب الشّارعيّ‬
‫يوم وجد خلي ميّتا داخ شقّته‪.‬‬
‫تناهى إىل مسعه وقع أقدام يف اخلارج‪ ،‬بدا وكأنّها تقترب مان‬
‫الباب مثّ توقّفت فجأة‪ ،‬وجبانب النّافذة الوحيدة يف الغرفة ملح أمحاد‬
‫طيفا ميرّ كالظّ ّ‪ .‬اتَّجه حنو مدخ الغرفة يشادّ املسادّس بقبضاة‬
‫حديديّة‪ .‬وما إ وص إىل هناك حتّى اختفى الظّ ّ وذاب يف الظّالم‪.‬‬
‫ربّما كا يتوهّم فالّرواقح بالدّاخ قويّة جدًّا‪.‬‬
‫كانت الشّرطة يف طريقها إىل هذا املكاا ‪ .‬نظار إىل سااعة‬
‫معصمه وانتظر قدوم أفراد الشّرطة بفارغ الصّرب‪ ،‬فكّر أمحاد يف أ ّ‬
‫األمور مهما خرجت عن سيطرهتم فإنّها ستعود إىل نصاهبا حتمًا‪ .‬إنّه‬
‫قانو احلياة‪ ،‬إذ ال رماد مِن دو نار‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫‪-11-‬‬

‫كانت السّاعة تشري إىل التّاسعة صباحا‪ .‬بقي ممدّدا يف ساريره‬


‫فترة مثّ استند على مرفقيه ليجلس على حافّة السّرير‪ .‬تذكّر حلماه‬
‫تدرييّا‪ ،‬ومضات مثّ شريط من األحداث العشاواقيّة‪ .‬رأى نفساه‬
‫يرتقي هضبة شديدة االحندار‪ ،‬ال تظهر هنايتها لشدّة ارتفاعها‪ .‬ظا ّ‬
‫ميشي ويرتقي العقبات دو أ يبلغ قمّته الشاخمة والّيت أخذت ختتفي‬
‫وراء الغيوم‪ .‬فقد السّيطرة على حركته وكلّت قدماه فلام يساتطع‬
‫حراكًا‪ .‬وهكذا أحسّ بالتّعب بعد استيقاظه من النّوم‪ .‬سقط كجثّاة‬
‫هامدة ليلة أمس‪ ،‬فبعد تلك األمسية الرّهيبة زاره النّوم أخريًا‪.‬‬
‫كا ال يزال يرتدي سروال اجلينز‪ .‬عجب لنفسه كيف ناام‪.‬‬
‫دو أ يزعجه ذلك‪ .‬أخذ محّامًا باردا مثّ أعدّ الشاي‪ ،‬وجلاس إىل‬
‫طاولة املطبخ‪ ،‬يتثاءب وحيتسي الشّراب السّاخن‪ ،‬املعدّ بنكهة النّعناع‪،‬‬
‫وعاد يفكّر يف هدوء بعد رشفة من فنجانه‪ ،‬كا قد أعدّ خطّة حول‬
‫ما سيفعله يف هذا اليوم بالتّحديد‪.‬‬
‫خرج من شقّته منتعشًا‪ ،‬ومشى اهلويىن على الرّصايف‪ .‬كاا‬
‫يتّجه حنو مديريّة سونلغار لتسديد فاتورة الكهرباء‪ .‬وأثنااء الطّرياق‬
‫نشط خياله إىل أ اضطرّ إىل التّوقّف يف مكانه‪ .‬ومضات يف ذهناه‬
‫فكرة ال تقب النّزول عن تنفيذها‪ .‬غيّر وجهته متامًا ودار ‪ 180‬درجة‬
‫حنو اجلهة املعاكسة‪ .‬أجّ تسديد الفاتورة الحقًا‪ .‬كا حيّ سايّدي‬
‫‪200‬‬
‫حممد بن علي يقع على بعد مسافة عدةّ مباين من ساحة ابن باديس‪.‬‬
‫نظر إىل ساعة معصمه وكانت تشري إىل الثالثة والنّصف زواال‪ .‬ماا‬
‫يعين وقت خروج العمّال من مكاتبهم‪ .‬حثّ خطواته ولوال حيااءه‬
‫لركض بأقصى سرعته‪ .‬بعد عدّة أمتار بدأ يتصبّب بالعرق‪ .‬ك ّ ماا‬
‫كا خيشاه اصطدامُه بعراقي تثنيه عن عزمه‪ .‬خاصّة وأنّه ال ميلك أيّ‬
‫رخصة لدخول السّجن‪.‬‬
‫من حسن حظّه كا املدير ال يزال داخ مكتبه‪ .‬وقف أماام‬
‫السّكرترية ميسح العرق املتراكم على جبينه‪ .‬طلاب مقابلاة املادير‬
‫فأذنت له السّكرترية بالدّخول‪ ،‬بعد أ خرجت من مكتبه وأعلمتاه‬
‫بقدوم زاقر‪ .‬سارت األمور بعد ذلك بسالسة مل يكن ليتوقّعهاا يف‬
‫مكا كهذا‪ ،‬فقد وجد رحابة صدر وتعاونًا من طرف مدير السّجن‪.‬‬
‫متكّن من معرفة جمموعة من التّفاصي املهمّة‪ ،‬منها اكتشاافه رقام‬
‫الزّنزانة الّيت مكث فيها اهلواري رفقة شخ آخار يادعى مجاال‬
‫صفاج‪ .‬نفس الرّج الّذي وجد مقتوال بعد حادثة احتجازه‪.‬‬
‫كانت الزّيارة مثمرة ونتاقجها غري متوقّعة‪ .‬بعد خروجاه مان‬
‫السّجن‪ ،‬بدَا شارد الذّهن‪ ،‬يفكّر يف خطوته التّالية والّايت ينبغاي أ‬
‫يسلكها‪ .‬انقلبت املوازين يف ملح البصر وتغيّرت نظرته لألمور مان‬
‫أساسها‪« .‬كيف مل أتفطّن لألمر من قب ؟»‬
‫كا يف تلك اللّحظة يتسابق مع الزّمن‪ .‬كا عليه أ يتصارّف‬
‫قب فوات األوا ‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫‪-12-‬‬

‫صعد حنو الطّابق الثّاين مسرعًا‪ ،‬متجاهال أمل ركبتاه الّايت مل‬
‫تتعافَ بعد‪ .‬طرق الباب وانتظر‪ .‬متنّى أ يكو حدسه خاطئًا‪ .‬فاتح‬
‫الباب عن عجوز تكسو وجهها التّجاعيد وبدأت خيبة األم واضحة‬
‫على مالحمها وهي ترى أمحد وكأنّها توقّعت رؤية شخ آخر‪.‬‬
‫"آسف على اإلزعاج سيّديت‪ .‬أتيت ألسأل زهيّة عن‪"...‬‬
‫ومل يكد يتمّ مجلته حتّى قاطعته قاقلة‪:‬‬
‫"زهيّة ليست يف البيت‪ ،‬هي غاقبة منذ أمس"‪.‬‬
‫وقع ما كا خيشاه‪.‬‬
‫"وه لديك فكرة ما عن املكا الّذي تتواجد فيه؟"‬
‫هزّت رأسها ذات اليم والشّمال‪.‬‬
‫"ال‪ .‬لو كنت أعرف مكا ابنيت التّصلت هبا مباشرة‪ .‬ليس من‬
‫عادهتا التّغيّب ك ّ هذه الفترة"‬
‫"مىت غادرت البيت آلخر مرة؟"‬
‫هتدّج صوهتا بشك مريب‪:‬‬
‫"منذ األمس على السّاعة السّابعة والنّصف مساءا"‪.‬‬
‫"ه حاولتِ االتّصال هبا؟"‬
‫تعاظم قلقه وهو حيدّق إىل الوجه احلزين‪ ،‬أطرق رأسه وقد أهلب‬
‫مظهرها الكئيب أفكاره القامتة‪.‬‬
‫‪202‬‬
‫"هاتفها مغلق‪ .‬مل أمن هذه اللّيلة بسبب قلقي عليها‪ .‬أنا أنتظار‬
‫قدومها يف أيّة حلظة ولكنّها مل تظهر بعاد‪ .‬أميكان أ حيا ّ هباا‬
‫مكروه؟!"‬
‫توسّمت يف ظهوره أم احلصول على إجابة تشفي غليلها‪.‬‬
‫"ال تقلقي سأقوم بالبحث عنها‪ .‬ولكن إذا ظهارت جمادّدًا ال‬
‫تتردّدي يف االتّصال باي فورًا‪ .‬وإغالق الباب وعدم السّاماح أليّ‬
‫كا بالدّخول!‪ .‬ه هذا مفهوم؟!"‬
‫"نعم"‬
‫غادر العمارة وهو ال يلوي على شيء‪ .‬كا إحساسه يف حملّاه‬
‫هذه املرّة‪ .‬أدرك أ أيّ تأخّر سيؤدّي إىل جرمية أخارى وخاروج‬
‫القضيّة عن السّيطرة متامًا‪ .‬قرأ يف إحدى كتب الفلسافة أ ّ الشّاكّ‬
‫يقود إىل الفح الدّقيق ملا يُعتقد معرفةً‪ .‬وبالتايل إعاادة النّظار يف‬
‫الواقعيّة السّاذجة لتكوين فكرة واضحة عن اجملرم احلقيقيّ‪ .‬أزمع على‬
‫جماهبة األمر وجهًا لوجه فاستق ّ سيّارة طاكسي مثّ اتَّجه إىل غارب‬
‫املدينة‪ .‬اتّص بكهينة ليعلمها بوجهته اجلديدة وطلب مناها عناوا‬
‫أحدهم‪ .‬أقف اخلطّ بعد أ طلب منها موافاته هناك رفقاة عناصار‬
‫األمن‪.‬‬
‫مل ميض زمن طوي حتّى وص إىل العنوا املطلوب‪ .‬كانات‬
‫العمارات متراصّة وتتخلّلها مساحات ترابيّة مهملة وطريق إسافليتّ‬
‫يسمح مبرور سيّارة واحدة فقط‪ .‬كانت الشّمس متي حنو األصاي‬
‫والسّماء تتخلّلها بعض الغيوم‪ .‬بدت كقطن متفرّق تالعبت به أصابع‬
‫صباي‪ .‬أجال بصره يف املكا وحترّكت قدماه بثبات‪ .‬فجاأة بارز‬
‫شخ من ب السّيّارات املركونة داخ حيّز مستطي على شاك‬
‫‪203‬‬
‫ملعب كرة قدم‪ .‬كا ميسك بسلسلة تنتهي بطاوق يلافّ عناق‬
‫«بيتبول» ضخم البنية‪ .‬اقترب من الشّخ حبذر فالتفات الرّجا‬
‫حنوه‪.‬‬
‫"مراد يب أ ترافقين إىل مركز الشّرطة"‬
‫اهتزّت السّلسلة يف يده بعنف وانغرز الطّوق يف رقبة البيتباول‬
‫حتّى خيّ إليه أ ّ رقبته ستنقلع بفع الشّدّ‪ .‬كا نباحه حادًّا وأسنانه‬
‫قاطعة‪ .‬حاول التّركيز على ما سيقوله‪.‬‬
‫"انتهى األمر مراد‪ .‬لقد ظهرت حقيقتك كاملة ويب أ تسلّم‬
‫نفسك"‪.‬‬
‫كا أدم السّماء أزرقَ تتخلّله سحب بيضاء بادَا للحظاات‬
‫وكأنّها تتوقّف يف مكاهنا‪ .‬يف تلك اللّحظات أخرج ماراد مسادّس‬
‫برييطا ‪ 92‬من حتت قميصه وصوّبه حنو أمحاد‪ .‬انقطعات الرّيااح‬
‫وتوقّفت األرض عن الدّورا فجأة‪ .‬كا ك ّ ما ياراه هاو فوهاة‬
‫املسدّس مصوّبة حنوه‪.‬‬
‫"لن أرافقك إىل أيّ مكا "‬
‫بدت مالحمه متصلّبة وقد أظلم جبينه فجأة وهو يبذل جهاده‬
‫لإلمساك بالكلب‪.‬‬
‫"إهْ َدأْ مراد أعلم ما عانيته يف املاضي‪ .‬اآل عليك أ تتوقّف أل ّ‬
‫األمور قد بدأت خترج عن سيطرتك"‬
‫حاول أمحد كسب املزيد من الوقت وإهلاءه بالكالم للخاروج‬
‫من الورطة‪.‬‬
‫قاد يده حنو خصره حبثًا عن املسدّس‪.‬‬
‫"إرمِ املسدّس جانبًا وإال أطلقت النّار عليك!"‬
‫‪204‬‬
‫زاد غضبه من هياج الكلب ونباحه‪.‬‬
‫رفع يده مستسلما ورمى املسدّس أمامه على بعد متارين‪ .‬دقّ‬
‫قلبه بعنف كالرّعد وهو ينظر إىل فوهة املسدّس‪ .‬كا جسمه كلّاه‬
‫ينضح بالعرق فراح يأخذ أنفاسًا عميقة وبطيئة ليهدّئ من نفسه‪.‬‬
‫"العاقل من افتتح يف كلّ أمر خامتتهه‬
‫وعلم من باء كهلّ شهيء عاقبتهه‬
‫أال تذكر هذا البيت؟ يبدو أنّك مل تعرف عاقبة هتوّرك عنادما‬
‫حشرت نفسك يف األمر‪ .‬إنّين أطبّق العدالة الّيت عجز عنها القاانو ‪.‬‬
‫هذا ك ّ ما يف األمر‪ .‬وأنت اآل تقف ضدّ هذه العدالة"‪.‬‬
‫انشقّت شفتاه عن ابتسامة غريبة‪ ،‬عكس بريق عينيه الّذي أنذر‬
‫بشرّ مستطري‪.‬‬
‫كا لعاب الكلب يتطاير من فكّه القويّة‪ .‬ورأى يف تلك األثناء‬
‫سيّارة الشّرطة تقترب حنومها‪ .‬حترّر الكلب من طوقه وانقضّ علياه‪.‬‬
‫قب أ يبلغ املسافة الّيت تفصله عن املسدّس‪ ،‬شعر بأسنا قوية تنغرز‬
‫داخ ذراعه‪ .‬فقد توازنه وارتطم باألرض‪ .‬أحسّ بسااق سااخن‬
‫يتدفّق من ذراعه فوق صدره ويغطي كتفه‪ .‬قاوم بشدّة ولكن ذلاك‬
‫زاد عضالت البيتبول أشدّ انقباضًا‪ .‬قاوم بشدّة واساتمات ليحارّر‬
‫نفسه‪ ،‬ولكن العضّة كانت أقوى ممّا يتخيّ ‪ .‬أفقدته قوّته وتركيازه‬
‫فاستسلم أخريًا وبدأت نظرته تصبح ضبابيّة وتالشت الصّاورة مان‬
‫أمام عينيه تدرييّا‪ ،‬وأثناء ذلك ويف اللّحظة الّيت تسبق فقدا الوعي‪،‬‬
‫مسع صوتا شبيها بطلقات ناريّة‪ ،‬أعقبها نباح خافت‪ .‬رفاع نفساه‬
‫بعناء‪ ،‬وبالكاد كانت ركبتاه قادرت على محله‪ .‬سال الادّم غزيارًا‬
‫على قميصه‪ .‬عضّ على شفتيه أملًا وهو ميسك بذراعه املصابة‪ .‬التقط‬
‫‪205‬‬
‫املسدّس من األرض وقب أ يستوعب األمر‪ .‬كا الكلاب ملقاى‬
‫يتمدّد على األرض بدو حراك‪ ،‬يبدو أ ّ تلك الرّصاصة أصاابته‪ .‬مثّ‬
‫رأى مراد يستلقي على األرض إثر إصابة يف فخذه‪ .‬وقد همّ شرطيّا‬
‫بتقييده‪.‬‬
‫كانت كهينة من أنقذته بتلك الطّلقات النّاريّة‪ .‬حبياث رآهاا‬
‫تقترب الهثة وهي تضع املسدّس يف جرابه‪ .‬تفقّدت الكلب مثّ دنات‬
‫من أمحد وقد استوىل عليها الذّعر‪.‬‬
‫"ه أنت خبري؟ ذراعك تنزف أمحد"‬
‫تغضّنت مالحمه وهو يضع أصبعا على اجلرح‪.‬‬
‫"ال تقلقي أنا خبري‪ ،‬ه وجدمت زهيّة؟"‬
‫"نعم حلسن احلعّ‪ ،‬وجدناها داخ شقّته مقيّدة ولكنّها خبري"‬
‫تنهّد أمحد بارتياح وازداد أمله مع مرور الوقت مثّ مسع كهيناة‬
‫تقول بلهجتها العاصميّة‪:‬‬
‫"دعنا نأخذك إىل املستشفى‪ ،‬فأنت تنزف بغزارة!"‪.‬‬
‫وساقت يدها دو شعورها إىل معصمه فاأحسّ برعشاة يف‬
‫جسده وكأنّها تيّارٌ كهرباقيّ مرّ جبسده‪ .‬استرجعت يادها يف رفاق‬
‫وهي تنظر إليه يف قلق‪.‬‬
‫"لن أذهب للمستشفى إالّ بشرط"‬
‫نظرت إليه يف حرية‪.‬‬
‫"حسنا‪ .‬ما هو؟"‪.‬‬
‫"رافقيين إىل هناك!"‪.‬‬
‫ابتسمت موافقة مثّ لفّت ذراعه بيدها النّاعمة وغادرا املكا ‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫‪-13-‬‬

‫يف صباح اليوم التّايل‪ .‬عُقد اجتماع يف الطّابق العلويّ واستُدع َي‬
‫مجيع أعضاء القسم‪ .‬اضطرّ بن ذهيبة يف ذلك اليوم رغماا عناه إىل‬
‫إفساح اجملال ألمحد‪ .‬الّذي بسط ذراعه اليسرى فوق الطّاولة يف وضع‬
‫مستريح‪ ،‬وكانت يده األخرى مضمّدة بإحكام‪ .‬وضع رجْال فاوق‬
‫األخرى بينما نقرت أصابع يده حبركة عشواقيّة على سطح الطّاولة‪.‬‬
‫جلست كهينة على اجلهة املقابلة وأخذت متسّد شعرها حبركة رشيقة‬
‫من ذراعها‪ .‬تبادال األحلاظ لفترة وذلك قب أ يطبق الصّمت علاى‬
‫القاعة ويرغَم احلاضرو على االنتباه‪.‬‬
‫كا بن ذهيبة يشتع حنقا‪ ،‬وهو يرى الوجوه تويل اهتمامهاا‬
‫شطر الشّرطيّ األكثر إثارةً للمتاعب يف القسم‪.‬‬
‫"قب التّطرّق للموضوع سأترك كهينة توضّح لكم بعض األمور‬
‫فهي أقدر منّي يف ذلك"‬
‫امحرّت وجنتاها من شدّة احلياء وما كانت تتوقّع أ يباغتاها‬
‫هبذه املهمّة‪.‬‬
‫"حسنا‪ .‬لنبدأ بعرض القصّة من هنايتها"‪.‬‬
‫طوّحت شعر رأسها إىل اخللف مثّ أردفت‪:‬‬
‫"بعد تلقّي اتّصال أمحد‪ ،‬توجّهنا إىل املكا ملوافاتاه‪ .‬بعاد أ‬
‫شقّة فعثرنا على رهينة حمتجزة هناك‪ .‬تدعى‬ ‫قبضنا على مراد‪ ،‬فتّشنا ال ّ‬
‫‪207‬‬
‫زهيّة وجدنا أ ّ هلا عالقة مع ك ّ ما حدث يف اآلونة األخرية‪ .‬مان‬
‫حسن احلعّ أنّنا وصلنا إليها يف الوقت املناسب"‪.‬‬
‫اشرأبّت األعناق حوهلا وتطلّعت إىل مساع املزيد‪ .‬زادها ذلاك‬
‫ارتباكا وحياءا‪.‬‬
‫شقّة عثرنا على مبلغ من املال‪ ،‬واألهمّ من كا ّ‬ ‫"بعد تفتيش ال ّ‬
‫هذا أنّنا وجدنا ساق الكلوروفورم‪ ،‬هذا املخادّر الّاذي اساتعمله‬
‫لإلطاحة بفريسته يف ك ّ مرّة"‪.‬‬
‫توقّفت حلظة عن سرد األحداث‪ ،‬لتستردّ أنفاسها مان شادّة‬
‫االنفعال‪.‬‬
‫"هذا ك ّ شيء‪ .‬فمن خالل املعلومات الّيت حبوزتنا‪ ،‬علمنا أنّها‬
‫حجزت تذكرة ذهاب إىل باريس قب يوم فقط‪ ،‬وذلاك عقاب‬
‫حتويالت ماليّة ضخمة قامت بضخّها يف أحد البنوك األجنيّة‪ .‬وهاو‬
‫نفس البنك الّذي أودع فيه كال الضّحيّت أقصد يوساف وخليا‬
‫أمواهلما من قب ‪ ،‬فقد قامت باالحتيال على الرّجل بطريقة ماكرة"‪.‬‬
‫"يبدو أ ّ هذه األخرية شعرت بالتّهديد يالحقها وخاصّة بعاد‬
‫مصرع خلي ‪ ،‬فحاولت اهلروب قب فوات األوا ‪ .‬ولكنّها وقعت يف‬
‫الفخ الّذي نصبه هلا مراد منذ البداية‪ .‬ومن حسن حظّها أنّنا وصالنا‬
‫إليها يف الوقت املناسب"‪.‬‬
‫توقّفت عند هذه النّقطة لترى إ كا ما تقوله إىل حدّ اآل قد‬
‫قدّم اإلضافة الالّزمة‪ .‬وكانت النّتيجة مرضية‪ ،‬وطغى الصّمت علاى‬
‫القاعة‪ .‬كا أمحد يرمقها بإعجاب‪ ،‬والسّرّ وراء طلبه السّاابق هاو‬
‫حبّه للكنتها العاصميّة‪ .‬ومسعت إذْ ذاك صوتا مباغتا أتى من جاناب‬
‫القاعة‪ .‬التفتت فرأت فتحي يتكلّم‪:‬‬
‫‪208‬‬
‫"مادام أنّها عرفت أنّه وراء ك ّ اجلراقم املرتكبة فلماذا مل تَشِ به‬
‫من قب علمًا أنّها كانت مستهدفة منذ البداية؟"‬
‫"كا لديها خيارا " تدخّ أمحد أخريًا‪.‬‬
‫"اخليار األوّل متثّ يف اعتقال مراد بتهمة القت وبالتّايل اخلروج‬
‫من الورطة بأق ّ األضرار ولكنّنا يف األخري مل جند دليال كافيًا إلدانته‪،‬‬
‫فأطلق سراحه‪ .‬بالتّايل أصبح أمامها خيار أخري‪ ،‬وهو أ تلوذ بالفرار‬
‫مع ما خفّ محله وثق مثنه‪ .‬أعين التّحويالت املاليّة الّيت قامت هبا‪ .‬مثّ‬
‫ترتيبات السّفر حنو فرنسا"‪.‬‬
‫توقّف برهة يتفرّس يف الوجوه احملدّقة‪:‬‬
‫"أظنّين حتدّثت طويال عن شيء ثانويّ‪ ،‬لنعد إىل البداية‪ ،‬حياث‬
‫إنّين قلت يف أوّل األمر أ ّ كالًّ من خلي ويوسف كا َ يفرّ من شيء‬
‫ما ولكنّين مل أكن أعلم حينئذ السّبب يف ذلك‪ .‬ولكن بعد التّحقياق‬
‫يف االختالسات الّيت وقعت قب ثالث سنوات تبيّن أ ّ ماراد كاا‬
‫بريئا متامًا‪ .‬ممّا جعلين أعتقد بوجود شيء مشبوه إزاء تلك القضايّة‪.‬‬
‫كانت هناك مؤامرة خبيثة حيكت ب خلي ويوسف لإلطاحة مبراد‬
‫الّذي مارس عمله حتت ضغوط رهيبة‪ ،‬وحتت التّهديد بفصاله عان‬
‫العم يف عدّة مناسبات‪ .‬من أج تغطية الرّجل ‪.‬‬
‫"يف خضمّ هذا النّزاع‪ ،‬الحت يف األفق مشكلة جديدة‪ ،‬تزامنت‬
‫مع ظهور زهيّة‪ .‬اكتشفتُ بعد التّحقيق أنّها كانات مرتبطاة ماع‬
‫يوسف‪-‬مديرها السّابق‪-‬يف عالقة شرعيّة (زواج عريفّ)‪ .‬كانت هي‬
‫من تسبّبت يف تدمري مراد وإرساله إىل السّجن‪ .‬كا دورها يتمثّ يف‬
‫عقد الصّفقات املهمّة إلجناز بعض املشاريع‪ .‬مسح هلا نفوذها لتتالعب‬
‫بأرقام املشارك يف املناقصات الوطنيّة لصاحل شركة بنااء معيّناة‪.‬‬
‫‪209‬‬
‫وتقوم هذه الشّركة بدورها‪ ،‬بتسديد شطر من املاال إىل حسااهبا‬
‫اخلاصّ‪ .‬ولسدّ هذه الثّغرة املاليّة البدّ من ح ّ آخر‪ .‬يتمثّ هذا احلا ّ‬
‫يف إنشاء عالقة خاصّة مع خلي ‪ ،‬مثّ توريطه يف األمر ليكو سندا هلا‬
‫يف اخلطّة‪ .‬وبالتّايل تكو املصادقة على كلفة املشروع املضافة‪ ،‬أعاين‬
‫الومهيّة‪ ،‬بدو متاعب‪ .‬لتدفع اخلزينة يف األخري هذا املبلغ للشركة"‪.‬‬
‫"ولتكو اخلطّة مثالية‪ ،‬وجب عليهم التّضحيّة بشخ آخر‪ ،‬له‬
‫عالقة مباشرة باملوضوع‪ .‬كا هذا الشّخ املثايلّ‪ ،‬هو بطّيّب مراد‪.‬‬
‫كلّكم تذكرو تلك الوثاقق املزوّرة الّيت تسبّبت يف توقيفاه‪ .‬فبعاد‬
‫التّحقيق يف الوثاقق وجدنا أ التّوقيعات ليست ملراد‪ ،‬وإنّماا هاي‬
‫لشخ آخر قام مبحاكاة التّوقيع األصليّ"‪.‬‬
‫"أمّا مراد فقد احندرت حياته بشك رهيب وتعقّدت أوضاعه؛‬
‫فقد عاىن الرّج من مشاك عاقليّة وعاطفيّة جعلته يفقاد رشاده‬
‫الحقًا‪ .‬طلبت زوجته الطّالق بعد أيّام من سجنه وتزوّجات مارّة‬
‫أخرى وهو ال يزال داخ السّجن‪ّ ،‬مث مل مترّ أشاهر عديادة حتّاى‬
‫توفّيت والدته إثر مرض عضال يف دار العجزة‪ .‬ك ّ ذلك كاا لاه‬
‫األثر البالغ على نفسيّة مراد‪ .‬فقد علمتُ من خالل زياريت للسّاجن‬
‫أنّه كا يعاين من أعراض انفصام الشّخصيّة‪ ،‬وأوشك إطالق سراحه‬
‫بعد عامه األوّل‪ ،‬ولكنّهم عدلوا عن قرارهم بعد أ بدَا متماسكًا‪.‬‬
‫هناك يف السّجن قام بإنشاء عالقات جديدة مع نزالء آخارين‪،‬‬
‫أين تعرّف على اهلواري‪ ،‬لتستمرّ العالقة إىل ما وراء القضبا ‪ .‬أظنّكم‬
‫تذكرو مادّة الكلوروفورم الّيت استعملت للقضاء على خلي ‪ .‬وجدنا‬
‫الحقا بعد مقت اهلواري كمّيّة من نفس املادّة داخ مسرح اجلرمية‪،‬‬
‫والّيت جعلتنا نعتقد أ ّ القات يف حالّيت يوسف وخلي هاو نفساه‪.‬‬
‫‪210‬‬
‫وبالفع كا اهلواري مبثابة قات مستأجر من مراد‪ .‬إذ كا بيناهما‬
‫اتّفاق على أ يتقاضى هذا األخري مبلغا ضخما لقاء ما يقاوم باه‪.‬‬
‫حص مراد على املال عن طريق ابتزاز ك ّ من يوسف وخلي عان‬
‫طريق تقدم أدلّة تدينهما أو عن طريق التهديد بالسالح‪ ،‬وهذا ماا‬
‫يفسر سبب رغبتهما يف اهلروب‪ .‬أعترف أ مراد قام خبطوة جريئاة‬
‫وذكية ح قام بتسليم نفسه‪ .‬اضطرّنا إىل إخراجه من حساباتنا بعد‬
‫وفاة خلي ‪ .‬خدع اجلميع وأبعد نفسه عن داقرة االتّهام ممّا سيهيّئ له‬
‫الفرصة الذّهبيّة فيما بعد إلمتام عمله اإلنتقاميّ يف هدوء"‪.‬‬
‫أطلق زفرة عميقة كمن يتأسّف على ضياع شيء ما‪.‬‬
‫"إذا رأينا القضيّة منذ البداية فإنّنا مل جند أيّ رابط ب اهلاواري‬
‫والضّحايا‪ .‬ممّا جعلين أشكّ يف وجود طرف آخر‪ .‬ذلك ما قادين إىل‬
‫التّحقيق يف ماضي ك ّ من الضّحايا الثالث‪ ،‬فعثرت على خيط قادين‬
‫حنو احلقيقة‪ .‬كا عليّ التأكّد من أمرٍما‪ ،‬فقمت بزيارةٍ إىل السّاجن‪،‬‬
‫أين قضى مراد ثالث سنواتٍ هناك‪ .‬مل أكن ألختيّ أ تلك الزّياارة‬
‫ستسفر عن ح ّ ك ّ املشكالت الّيت استعصت عن احل ّ‪ .‬ومن حسن‬
‫احلعّ أنّنا حترّكنا يف الوقت املناسب"‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫‪-14-‬‬

‫كانت تتأبّط حقيبة اليد وتنق خطواهتاا يف رشااقة ملفتاة‬


‫لألنظار‪ ،‬وأحسّت وكأ ّ طيفا بشريًّا يف أثرها وتضايقت أشدّ الضّيّق‬
‫حتّى حثّت خطواهتا لتبتعد عن الطّيف‪ .‬مل يكن من ضامن عاداهتاا‬
‫التلفّت حنو األشخاص دو سبب وجيه‪ .‬كانت ترتدي سروال جينز‬
‫بلو اخلردل وقميصا مزركشا بالورود‪ .‬وتعق شعرها الكساتناقيّ‬
‫بإحكام إىل الوراء‪ .‬حانت منها التفاتة اجتاه مصدر النّداء‪.‬‬
‫"كهينة‪ ...‬كهينة"‬
‫وقفت وجهًا لوجه أمام رج طوي القامة‪ ،‬تبادّدت نظرهتاا‬
‫الصّارمة يف اخلج ملّا رأت أمحد يقف أمامها على بعد أق ّ من متر‪.‬‬
‫كا يتفحّ مظهرها دو أ تعلم بذلك‪ .‬ارتبكت لادى رؤيتاه‬
‫وعّربت عن ذلك اإلحساس املباغت بابتسامة هادقة‪ .‬استطاع أ يقرأ‬
‫تلك النّظرة يف عينيها‪ .‬أراد أ يتكلّم ولكن كهينة سبقته إىل ذلك‪:‬‬
‫"أمحد؟ كيف حالك‪ ،‬ماذا تفع هنا؟!"‬
‫كانت هلجتها العاصميّة هتزّ قلبه من أعماقه‪ .‬شعر بانقبااض يف‬
‫معدته‪ ،‬وجاهد نفسه ليمنع أيّة كلمة محقاء قد تصدر من ب شفتيه‬
‫املرتعشت ‪ .‬رفع كيسًا ثقيال مثّ أشار إليه بإمياءة من رأسه‪.‬‬
‫"أتبضّع كما ترين‪ ،‬اخلضر واملوادّ الغذاقيّة"‪.‬‬
‫توقّف حلظة ليضبط انفعاله‪ ،‬مثّ ليربّر طريقة التقاقه هبا‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫"حملتك عن طريق الصّدفة مترّين من هنا‪ ،‬فلم أرَ بدًّا من اللّحاق‬
‫بك"‬
‫ندت عنه ابتسامة عصبيّة وتطلع إىل تعابري وجهها املتناساقة‪،‬‬
‫آمال أ تكو حجّته قويّة مبا فيه الكفاياة‪ .‬وماع خفقاات قلباه‬
‫املتسارعة وقع كالمها من نفسه موقع املاء من ذي الغلّة الصّادي‪.‬‬
‫"ماذا ستطبخ لنا هبذه اخلضر يا ترى؟ إنّي أتعجّاب لكوناك‬
‫طبّاخا!"‬
‫"يف احلقيقة أنا أسوأ طبّاخ على وجه املعماورة‪ ،‬أردت كسار‬
‫الرّوت فقط‪ ،‬لذلك سأطبخ هذه اللّيلة عشاءا فاخرًا يف املنزل"‬
‫سدّت فمها بيدها وهي حتاول السّيطرة على ضحكتها وت ّوجَتْها‬
‫بسخرية خمدّرة‪.‬‬
‫"ممممم‪ ..‬ال تنسَ أ تترك يل نصيبًا من الطّعاام! الظّااهر أ ّ‬
‫الوجبة ستكو لذيذة"‬
‫«ولكن ليس ألذّ من شفتيك»‬
‫"سأعم على أ يكو الطّعام شاهيًّا‪ .‬وإ كاا كاذلك‬
‫ستكون أوّل من تتذوقينه‪ ،‬ولكن لن أتسامح معاك إ ساخرت‬
‫منّي"‬
‫نظر إليها من خالل زاوييت عينيه كتوكيد لتحذيره إيّاها‪.‬‬
‫"هه‪ ..‬هه‪ ..‬حسنا موافقة"‬
‫"ه تسمح بأ أرافقك يف الطّريق؟"‬
‫خرجت هذه الكلمة من فمه دو وعي‪ ،‬ولكنّها أتت مبفعوهلاا‬
‫السّحريّ‪.‬‬
‫"إيهْ‪ ..‬بيا سوغ"‬
‫‪213‬‬
‫تلك اللّهجة قتلته وأراد مساع املزيد‪.‬‬
‫"كيف أحوال العم ؟"‬
‫"خبري أنت تعرف‪ ،‬الرّوت نفسه على مدى ‪ 365‬يومًا‪ ..‬كما أ ّ‬
‫احلرارة الّيت ال تطاق‪"...‬‬
‫انتبهت إىل األكياس الّيت كا حيملها فمدت يدها حنوه قاقلة‪:‬‬
‫"دعْين أمح ْ معك هذه‪ ،‬ذراعك مل تُشفَ بعد!"‬
‫كا صدره رحبًا إزاء ك ّ مبادرة منها‪ .‬فسكر بنشوة إحساسه‬
‫بالرّضى وتركها تساعده على مح أخفّ كيس‪.‬‬
‫"شكرًا لك"‬
‫حلظة صمت وعاد يقول‪:‬‬
‫"قرأت رسالتك األخرية‪ ،‬كانت راقعة"‬
‫كادت تتعثّر عندما مسعت تلك الكلمة األخرية‪ ،‬ومها مل يتخطّيا‬
‫بعد مرحلة التّواص عرب اهلاتف والفايسبوك‪ ،‬لذلك كا لوقع كالمه‬
‫عن إعجابه برسالتها مباشرة‪ ،‬أثرٌ بالغٌ يف قلبها‪ .‬هزّها من األعمااق‪،‬‬
‫ولكنّها كانت أفض منه يف مداراة عواطفها‪ .‬قد يكو لذلك عالقة‬
‫يف عدم رغبتها للتّمادي يف عالقة ال تعرف عواقبها‪ .‬إال أنّها أحسّت‬
‫حنوه جباذبيّة غريبة كانت لتسخر منها يف حياهتا السّابقة‪ .‬أمّا أمحاد‬
‫فكا أمله منوطا برغبتها فيه ومدى احتياجها إليه‪.‬‬
‫"ظننت أنّك مل تقرأها بعد"‬
‫كانت تتكلّم يف شبه دالل وإ طغت نربات احلزم على كالمها‬
‫وكا لسا حاهلا يقول‪:‬‬
‫«ملاذا مل تردّ عليها؟! ما الّذي منعك؟! ولكن ساأردّها لاك‬
‫واحدة بواحدة‪».‬‬
‫‪214‬‬
‫"يف احلقيقة مررت بظروف صعبة خالل الياوم املنصارم‬
‫ولكنّي فكّرت فيك يف ك ّ حلظة"‬
‫رنا بصره إليها لريى انعكاس كلماته على مالحمها ويبدو أنّها مل‬
‫تقتنع بعد مبا قاله للتّوّ‪.‬‬
‫اقتربا يف تلك اللّحظة من متجر يبيع املأكوالت فتوقّفاا أماام‬
‫الباب الزّجاجيّ واستعدّ أمحد للّحظة احلامسة‪ .‬وألوّل مارّة ودو أ‬
‫يتوقّع ذلك‪ ،‬قامت حبركة رشيقة مفاجئة‪ ،‬فشدّته من ذراعه وجذبته‬
‫معها إىل داخ املتجر‪ ،‬مثّ قالت موضحة تصرّفها املفاجئ‪:‬‬
‫"أريدك أ تساعدين على جذب العلب من أعايل الرّفوف ألنّك‬
‫طوي "‬
‫تركها جتوب املكا حبرّيّة وحيويّة مثّ تناول العلب الّيت أشارت‬
‫إليها قب أ تبتعد عنه ورآها أثناء ذلك تنفق بسخاء ودو اكتراث‬
‫لألسعار‪.‬‬
‫خرجا من املتجر حممّل باألثقال‪ ،‬وكا يفكّر يف تلك املدّة مبا‬
‫سيقوم به‪ .‬دسّ يده يف كيسه اخلاصّ وتناول علبة مغلقة يلفّها شريط‬
‫ورديّ وتتوّج يف قمّتها عقدة على شك وردة‪ ،‬مثّ قدّمها إليها‪.‬‬
‫"خذي هذه اهلديّة لك!"‪.‬‬
‫"ما هذا أمحد؟!"‬
‫مل يعرف إ كا ردّ فعلها هذا عدم ارتياح منها أم تعبريًا عان‬
‫سرورها‪ .‬ولكنّه ترك الثّواين املقبلة لتقرّر ذلك‪ .‬مهّت بنزع الشّريط‪،‬‬
‫مثّ الغالف‪ ،‬وأخريًا نزعت الغطاء عن العلبة‪ .‬وضعت يدها على تَريبَة‬
‫صدرها‪ ،‬وانفرجت شفتاها‪.‬‬
‫"أووه‪ ...‬شكرًا لك"‪.‬‬
‫‪215‬‬
‫داعبت أناملها الرّقيقة قالدة فضّيّة كانت داخ العلبة‪ .‬حدّقت‬
‫فيها بإعجاب‪.‬‬
‫"إنّها مجيلة جدًّا‪ .‬شكرًا لك"‬
‫تناولتها ب يديها يف سرور مل تستطع مداراته‪ .‬واصال طريقهما‬
‫يف هدوء‪ ،‬حتّى بلغا الشّارع الرّقيسيّ‪ ،‬مثّ توقّافَ كالمهاا إياذانًا‬
‫باالنصراف ووجوب تبادل كلمات تليق باملوقف‪.‬‬
‫مل يقوال شيئا بالتّحديد‪ .‬فقط اكتفا باالبتسام‪ ،‬فقد وجادا يف‬
‫الصّمت خري مترجم ملشاعرمها‪ .‬طلب هلا سيّارة أجرة واقترب موعد‬
‫فراقهما‪ .‬وقب أ تصعد إىل السّيّارة‪ ،‬التفتت حنوه يف جرأة مل يعهدها‬
‫فيها من قب ‪ ،‬ورآها تعبث بأصابعها داخ حقيبة اليد‪ ،‬تناولت مناه‬
‫شيئا مثّ وضعته يف كفّه وغادرت املكا ‪.‬‬
‫وقف وحيدًا يف مكانه‪ ،‬يشيّع السّيّارة بناظريه‪ ،‬رآهاا تبتعاد‬
‫مسرعة عرب الطّريق‪ .‬خملفة وراءها أملا رهيبا‪ ،‬أمل يشقى اإلنسا مان‬
‫أجله‪ ،‬أمل مجي يدعى احلب‪ .‬كا يعيش حلظاة ساكو داخلاي‪،‬‬
‫مصفاة من بياض عينيها وراقحة جسمها‪ ،‬تغذيها البسمات والنظرات‬
‫احلارقة‪ .‬حلظة بلحظة وكما يغفوا الناقم من حلم مجي ‪ ،‬بادأ حياس‬
‫بشيء داخ قبضته‪ ،‬ناعما وباردا‪ .‬بسط كفّه مرّة أخرى‪.‬‬
‫كا اخلامت يف كفّه المعًا حتت تأثري أشعّة الشّمس الذّهبيّة‪.‬‬

‫‪216‬‬

You might also like