Professional Documents
Culture Documents
ردمك 978-614-02-1476-7
يمنــع ن ـ سو ا ــأعمجز سم جــا مــا هــيا ال أــج ب يـة و ــي ة أيــويرية سو ال أرونيــة سو
مي جني ية بمج فيه الأ جيز الفوأوغرافي والأ ـجيز ل ـى سطـرطة سو سصـرار مقـرو أ سو سيـة
و ي ة نطر سخرى بمج فيهج حفظ المع ومجت ،وا أرججلهج ما دوا إيا خطـي مـا النجطـر
( )1العقّاد عبّاس حممود ،إبليس ،حبث يف تاريخ اخلري والشّرّ ومتييز اإلنساا
بينهما من مطلع التّاريخ إىل اليوم ،دار هنضة مصر للطّبع والنّشر ،الفجالة
القاهرة ،د ت ،ص .6
5
-1-
-مع ر-
9
- 2-
11
-3-
عدّل ربطة عنقه ،وألقى على هندامه نظرة متفحّصة مان خاالل
مرآة السّيّارة .ردّد أغنية قدمية للشّاب خالد "وَعْالش تلوموين" مساح
جبهته يف حبور ،مستمتعًا بذكريات السّاعة املاضية ،دخ مقطّبا وخرج
مبتسما ،يا للنّساء!! تغيّرت سُحنته بالكام وهو اآل يقود سيّارته عارب
الطّريق متّجها حنو بيته .نقر على املقود بأصابعه وهو يردّد مع األغنية
"وعالش تلوموين ...وعاالش تلوماوين قلبااي بغاهاا...
وكرهتوين".
مرّ حبي «الفيالّت» ،وختطّى مسجد «مصعب بن عمري» ،وملّاا
انعطف على ميينه سطع ضوءٌ باهر ،مأل عينياه فجاأة ،مل يساتطع
التّعرُّف على السّيّارة من خالل املرآة ،فقد وخز الضّوء عينيه بشدّة.
اضطرّ إىل التخفيف من سرعته مثّ توقف عند إشارة املرور .رأى من
خالل املرآة اجلانبية أ تلك السّيّارة اختفت متاما.
كا اهلدوء يعمّ احليَّ اإلداريّ برمّته ،وأوشكت السّاعة علاى
بلوغ احلادية عشرة والنّصف ليال .نزع يوسف حزام األما قبا أ
يوقف السّيّارة ،وهي من العادات السيئة الّيت اكتسبها مؤخّرًا .نظار
إىل ساعة «التّيسو» يف معصمه مثّ عقف يده وفرك جبهتاه بأصاابع
متوتّرة .أخذ يوطّن النّفس كك ّ ليلة للقاء زوجته .توقّف احملرّك عن
اهلدير ،ظهر جوربه األسود وهو يضع رجال خارج السّيّارة .ألقاى
12
عقب السّجارة األخرية على األرض ،فسحقها برجله وأغلق بااب
السّيّارة .وما كاد يستدير حتّى رأى شبح شاخ يقاف أماماه.
سكنت رعشة قوية كام جسده ،ووقف مباهورا ،أماام املشاهد
املرعب .كا الشبح يقف على بعد متر فقط .وغمغم يوسف قاقال:
"مراد؟"
ندت عنه ابتسامة متوتّرة وهو حياول ضبط أعصابه عبثا.
"ماذا تفع هنا؟!".
كا مراد يف السّابعة والثالث ،ميي إىل القصر مع حنافة اجلسم
وضالّته ،أمسر البشرة مع حلية قصرية متفرّقة على ذقناه وجانبااي
فكّيه ،يف خدّه األيسر شامة سوداء ،قلّلت من شحوب وجهه .دامت
حلظات صمت مرعبة .ختلّلها وميض عماود اإلناارة الوحياد يف
الشّارع .بدت عيناه يف الظّالم كحفرت يف وجهه .تكلّام الرّجا
وقال بنربة حتم يف طياهتا كرها دفينا:
"ماذا أفع هنا؟ ربّما مل أسجن مدّة كافية؟".
وقف يوسف مشدوها أمام هذا املوقف الغريب وقال ماداريا
ارتباكه
"ال مل أعنِ هذا يا مراد؟"
ازدرد ريقه بصعوبة مثّ أضاف:
"أعلم أنّك غاضب اآل ،ولكن هذا لن يغيّر من األمر شايئا.
انظر إىل املستقب "
"ثالث سنوات انتزعت من حيايت ،مثّ تتكلّم بكا ّ حقاارة،
لتخربين أ أواص حيايت؟!"
صمت برهة وحدجه بنظرة كالسّهم وكأنّه يقول له:
13
"أعلم أنّك تراوغ" ،وواص يقول" :تريد التّخلّ منّي جمادّدًا
كما فعلت سابقا .هه؟! أو تريد مين أ أغضّ الطّرف عمّا جارى
ألواص حيايت بك ّ بساطة وكأ ّ شيئا مل حيدث؟!"
ضحك مراد بعصبيّة مفرطة
"أريدك أ تواص حياتك ،ال أ هتدرها يف املشاك ،سنتكلّم
الحقا إذا شئت"
وهمّ باملغادرة ولكن مراد اعترض طريقه حبزم وبقاي ثابتاا يف
موقفه ال يرم.
"مراد أرجو أ ختلي سبيلي اآل ،الوقت متأخّر".
تبدّلت نظرة مراد بعض الشّيء وبدا وكأنّه سيكشف عن شيء
ما.
"كالنا يعلم أنّي بريئ .ستحاكمو قريبا عندما حي الوقت"
قطع كالمه أزيز سيّارة حادّ .مزّق سكو احلايّ ،رأى أثنااء
ذلك مراد وهو يبتعد خبطوات قصرية ،أخذ ظلّه يتداخ ويتمازج مع
العتمة الّيت سلكها واختفى شبحه وسط الظّالم.
كانت تقترب منه بسرعة جنونية .ر ّ هاتفه يف تلك األثنااء،
دسّ يده يف قعر جيبه ليجيب .وفجأة امتأل املكا بنور ساطع ،مثّ مسع
صوت اإلطارات وهي حتتكّ بعنف على األرض .تسارعت نبضاات
قلبه مع تسارع األحداث ،تيبّست قدماه وكأنّهماا عماودا مان
اخلرسانة املسلّحة ،فغر فاه ومل يكد يصدّق ما تراه عيناه .برزت من
نافذة السّيّارة ذراع طويلة امتدّت حنوه ،ورأى فوهة املسدّس تصوب
باجتاهه .تبدّى له يف تلك الثواين القليلة شريطُ حياته بالكام ،ومارّ
أمامه كومضة شعاع خاطف.
14
انقشع الضّباب من عينيه وتراءى له املشهد كامال جمسّما ،كا
بطال لنهايته التراجيدية .انطلقت رصاصتا من املسادّس .حااول
االبتعاد قب ااألوا ولكن والت ح مناص .اخترقت الرّصاصاتا
صدره اختراقا ،وسقط على األرض قابضا علاى صادره املضارّج
بالدّماء.
استمرّ رن اهلاتف من مكا ماا علاى األرض ،وانطلقات
السّيّارة مسرعة عرب الطّريق ،مثّ اختفت يف ملح البصر .ظهرت بقعتا
من الدّم على قميصه ،وسرعا ما ازداد حجمهما ،التقتا باخلاصّاية
الشّعريّة ،لتشكّال بقعة واحدة كبرية .ارتعش كام جساده وكاا
صدره يعلو وينخفض بصعوبة ،يف تلك الثواين بدأ يفقد اإلحسااس
بأطرافه شيئا فشيئا ،وبعد حلظات انطفأت حرارة جسده املسجّى ومل
يبقَ إال أثرها ،كفر يصدر لفحات بعد إمخاد ناره املتوقدة .جتمّاع
الدّم حوله وشكّ بركة صغرية محراء ما زالت مزبادة .انتفضات
روحه فلفع آخر أنفاسه يف تلك اللّحظة وودّع احلياة.
استم ّر الهاتف في الرّنين...
15
- 4-
18
-5-
23
- 6-
26
-7-
34
-8-
يف التّاسعة والرّبع من اليوم التايل مضى حنو مركز الشّرطة مشيا
على األقدام .كا يوم اجلمعة ثقيال كالعادة ،شوارع خالية وحركاة
سري بطيئة ،الشّيء الوحيد الّذي ينبض باحلياة هو املساجد .استغرق
نصف ساعة للوصول إىل مكتبه .كا يتصبّب عرقا عندما فتح باب
مكتبه ووجد بدر الدّين هناك عاكفا على لعبة السّوليتري.
"السّالم عليكم .أنت هنا؟!" سأل أمحد باندهاش.
"أنت أيضا جئت؟"
اتَّجه أمحد حنو مقعده ليستريح قليال ،ويترك عرقه ليجفّ.
"بن ذهيبة ناقم على القطن وبدر الدّين حيرس اجلزاقر ،برافو"
"يوم اجلمعة صباحا ومباريات املنتخب الوطينّ ،يف هذه األوقاات
تستطيع أ تسطو على أي مصرف يف اجلزاقر ،وتستطيع هتريب بااخرة
من اهلريوين أو طاقرة من حبوب اإلكستازيا ،بدو مشك ".
نظر بدر الدّين إىل ساعة معصمه مثّ قال:
"أنت متأخّر نوعا ما عن املوعد فقد رأيت تلك املدلّلة اجلديدة
مع محزة قب نصف ساعة ،يبدو أنّه يري وراءها".
سرت موجة كهرباقية يف جسد أمحد عناد مساعاه للجملاة
األخرية .ضبط تعابري وجهه وكأنّه يداري أمرا مل يفهم معناه .فتعمد
تغيري دفة احلديث.
42
"شاهدت البارحة فيلما لكانو ريف ،مدته سااعتا هلاذا مل
أستيقع باكرا"
"ذو املاتريكس؟"
"ال .سويت نوفمرب"
"أفضّ «بوينت برييك» إنّها أفض أفالمه"
هزّ أمحد كتفيه وتظاهر باإلصغاء.
"هذا املمثّ ولد يف بريوت"
عبثت أصابع أمحد بقلم كا فوق مكتبه ،مثّ سادت فترة صمت
قصرية قب أ يتكلّم وكأنّه تذكر أمرا مهمًّا:
"هناك أمور عالقة يب أ أهنيها"
هنض من مكانه حبركة متثاقلة وحترّك حنو الباب.
"ه رأيت التّقرير الّذي وص اليوم"
توقّف أمحد يف مكانه فجأة واتَّجه حنو زميله ،تناول التّقرير من
يدي بدرالدّين ،وألقى عليه نظرة شاملة ،كا حيتوي على القحة من
أرقام اهلواتف ،حترّك يف الغرفة ببطء دو أ يرفع بصره عن الورقة مثّ
وضعها على سطح مكتبه برفق ،واحنىن فوقها باهتماام ،حترّكات
سبابته على أرقام اهلواتف بعناية ،مثّ توقف أصبعه عند رقام لفات
انتباهه .مل يظهر أنّه حيت ّ الصّدارة على أرقام الالقحة ،لكنّه بعاد أ
ظهر للمرّة األوىل مل يلبث أ تكرّر مرارًا .نظر حنو بادر الادّين يف
اهتمام.
"ه تستطيع أ تتأكّد من صاحب هذا الرّقم؟"
كا بدر الدّين يقف جبانبه وقد وافق بإمياءة من رأسه ،اساتقرّ
بصر أمحد على خانة معينة مثّ تكلّم ببطء:
43
يف هاذه القاقماة "أريدك أ تعرف مكا تواجد ك ّ شخ
وقت وقوع اجلرمية".
"سأتكفّ باألمر ولكن أمهلين بعض الوقت فأنا أعم لوحدي
هنا"
"حسنا يا سيّدي .أبطئ وجئنا بالكام "
44
-10-
مضى حنو الطّابق الثّاين ،بعد أ كلّف بدر الدّين بتلك املهمّة،
عرب الرّواق القصري على ميينه ،حتّى بلغ املكتب األخري عند هنايتاه.
كانت دفّة الباب نصف موصدة ،دفعه برفق ودلاف إىل الادّاخ .
أحسّ هبدوء عميق وضوء خافت ينتشر بالدّاخ .جوّ مالقم ملمارسة
اليوغا .مكتب مرتّب وأنيق ،وضع يف الزّاوية اليمىن أصاي نبتاة
العنكبوت .وعلى اجلانب اآلخر طاولة معدنيّة ذات أدراج وساطح
أملس .كانت شاشة الكمبيوتر تتوسّط الغرفة ،برز من وراء حافتاها
شعر كستناقيّ .وملّا أصبح داخ الغرفة حترّك الرّأس حناوه بابطء،
وبرزت من خالله عينا عسليّتا فوقهما حاجبا يرتسما بعناياة.
نظرت إليه من فوق الشّاشة ومل يبدُ عليها االندهاش .أحسّ بارتباك
عند التقاء نظراهتما للمرّة الثّانية .حاول جاهدًا أال يبدو مبظهر املغفّ
أمامها.
"صباح اخلري ،آسف على التّأخري"
"ال بأس ،كنت انتظر قدومك" مل تعد قدماه قاادرت علاى
محله.
"ه من جديد يف القضيّة؟"
أومأت له باجللوس على مقعد كا جبانبها .التقطت خياشايمه
راقحة عطرها العجيب .كا مظهرها يوحي بالثقة واهلدوء.
45
"توصّلت إىل معرفة نوع املسدّس الّذي اساتعمله القاتا يف
اجلرمية"
ر ّ صوهتا بإيقاع مجي ،وظهر من هلجتها أنّها مان ناواحي
العاصمة.
ومضت عيناه وهو حيدّق إىل شاشة الكمبيوتر ،ظهرت أماماه
خلفيّة سوداء وجدول حيتوي على جمموعة من األرقام التسلسالية.
كانت املسافة بينهما ج ّد متقاربة وكا يفص بينهما خيط شاعاع،
اخترق زجاج النّافذة.
انسدل شعرها الطّوي على كتفيها وبرز من خاللاه رقبتاها
النّحيفة .حبركة رشيقة من أصابعها النّاعمة كبسات علاى لوحاة
املفاتيح وشغّلت حمرّك البحث .الحع أنّها ال تضاع أيّ خاامت يف
أصبعها وهي تضغط على زرّ الفأرة ،انتظر ظهور النّتيجة يف صامت
مطبق ،ختلّ تلك الثواين املقبلة قلق وعاد يستنشق راقحة عطرهاا.
تذكّر أنّه قرأ يف إحدى املرّات مقالة عن العطور يقاول كاتباها أ ّ
ثالثة آالف خليّة عصبيّة تنفتح يف مخّ الرّج ح يشمّ عطر سيّدة.
التفتت حنوه بعد أ ضغطت على زرّ آخر .التقات عينامهاا
فجأة .كا البياض الّذي يلفّ حدقة الع ناصعا جدًّا.
"ستظهر النّتيجة بعد دقيقة فقط"
ثبّتت خصالت شعرها فوق أذهنا اليسرى .واكتفى بإميااءة مان
رأسه مثّ غاص يف الكرسيّ وحدّق يف الشّاشة الّيت تنظر إليها نفس هات
العين العسليّت .متنّى أمحد لو يتوقّف به الزّمن يف تلك اللّحظة.
أصبح لو الشّاشة أزرق كلو البحر .وكمن يعارف عملاه
جيّدا ،أشارت حنو جدول جديد ظهر على شاشة الكمبيوتر ،احننت
46
قليال ،مثّ قامت بالتقاط كيس شفّاف من داخ درج املكتب ،رفعته
حنو أمحد بأصبع حنيفت ،فلمعت من خالله رصاصتا متماثلتا .
"تسع مليمتر" تكلّم أمحد.
مل تستطع منع ابتسامة مرّت سريعا على شفتيها.
"املسدّس املستعم نصف أوتوماتيكيّ ،إيطايل الصّنع .مُوديا
قدم الصّنع".
"نعم هذا واضح ،املسدّس مسروق أو مهرّب عرب احلدود"
ثبتت عيناها على اجلهاز وأدارت عجلة الفأرة.
"أنت حمقّ فعال .املسدّس من طراز برييطا ألف وتسعماقة واثن
وتسع 9ميليمتر .سعة مذخرته مخسة عشر طلقة"
"وواحدة احتياطيّة ".تزحزح يف مكانه قليال وزجّ يده يف منطقة
اخلصر.
"هذا هو املسدّس ،إنّه مشابه له متاما .مثّ فكّك زناده وأظهار
رأس الرّصاصة".
رفع رأسه ومتعّن يف شكلها وهي تنظر إىل الرّصاصة باهتماام
صيبّ ،يكتشف شيئا جديدا .كانت تضع حول جيدها قالدة ذهبيّاة
رقيقة تنتهي بوردة الزورديّة وحتتوي على فصوص ملّاعة دقيقة.
"ه سبق لك أ أطلقت الرّصاص هبذا املسدّس؟"
"ال مل أستعمله مطلقا ،ما عدا يف التّدريبات"
"لطاملا استغربت هذا األمر ،إ كنتم ال تستعملونه أبدا فلمااذا
تكلّفو أنفسكم عناء محله".
"قطعة من الزّيّ الرّمسيّ ال أكثر ،إنّاه كربطاة العناق ماثال أو
كاجلورب .حنن أصال كدمى املاريونيت ،حترّكنا يد عليا ،جتعلنا هادق ،
47
عنيف ،نضطهد احلرّيّات ،ونقمع املظااهرات ،نزكّاي االنتخاباات،
ونبجّ الشعارات ،حنن اليد الّيت تبطش هبا والرّج الّيت متشي عليها".
صمت كالمها مثّ أطرق برأسه إىل األرض ،كانت معرفة ناوع
الرّصاصة غري جمدية للتقدم يف القضيّة .وضع رأسه ب يديه ،مثّ مسعها
تقول:
"ه هناك خطب ما؟" رفع رأسه ببطء ونظر إليهاا .اخاتلج
جفناها فحولتهما إىل الشّاشة املضيئة.
"ال شيء .ه تستطيع احلصاول علاى معلوماات عان
املسدّسات الضاقعة؟".
"نعم بك تأكيد ،لن يستغرق البحث أكثر من دقيقت "
كبست على لوحة املفاتيح بسرعة ودقّة متناهية وماهي إال ثوا
حتّى ظهرت النّتيجة.
"هذه قاقمة املسدّسات املسجلة والّيت أبلغ عن فقداهنا ،وهاذه
قاقمة أخرى لبعض األسلحة الّيت أبلغ عن ضاياعها مان خمتلاف
القطاعات األمنيّة ،كلّها مرفقة بتقارير تبيّن ظروف اختفاقها"
"ولكن القاقمة طويلة جدًّا"
"هذا طبيعيّ ألننا نعم بربنامج وطينّ موحّد ،وهاذه القاقماة
تشتم على ك ّ احلاالت يف اجلزاقر" .كبست أصابعها النّحيفة خبفّة
على أزرار الكيبورد مثّ أضافت:
"أستطيع تضييق جمال البحث ،حلظة فقط" استغ ّ أمحد اهنماكها
يف العم ،واختلس نظرة سريعة إىل جسدها ،احنناءات رشيقة وبشرة
ناعمة ،وكأ ّ املالبس الّيت ترتديها ،مل تصنع إال من أجلها ،ال دهو
زاقدة وال ضمور يف شكلها.
48
"ها هي .انظر ...هنا"
أشارت بأصابع ذات أظافر مطليّة باللّو األمحر إىل جمموعة من
األمساء .كا من ب تلك التّقارير ما لفت انتباهه ،احنىن أمام الشّاشة
الزرقاء ،مثّ ضيّق عينيه وقال:
"افتحي هذا امللفّ" كبست على زرّ الكيبورد ومَرّت أجزاء من
الثّانية قب أ تظهر النّتيجة املدهشة أمام عينيه:
قضيّة بوبكر جياليل
وأخذ يقرأ ما يراه على الشّاشة بصوت مرتفع:
" 5أفري ...2009حيّ «باباا علاي» ..السّااعة الساابعة
صباحا ...متّ العثور على جثّة املدعوّ بوبكر جياليل ميتا إثر رصاصت
يف البطن"
"الطلقة املستعملة من عيار تسعة ميليمتار ،مسادّس نصاف
أوتوماتيكيّ".
كا يتحدث كما لو أنه يريد أ يسمع شخصا بعيدا.
"مل تعثر الشّرطة على سالح اجلرمية" .أضافت كهينة.
"من احملتم أ تكو نفس األداة الّيت استعملها القات للقضااء
على ضحيّته".
ألقى ظهره العريض على مسند الكرسيّ ،مثّ شابك ب ذراعيه
ومسع كهينة تقول:
"قد تكو حمقا ،ولكن املدّة الزّمنية الفاصلة ب القضيّت بعيدة
جدًّا".
"لكن هذا ال ينفي فكريت"
"هناك املئات من املسدّسات املفقودة عرب الوطن".
49
"سأخربك بالقصّة إذ "
رمقته بنظرة حاقرة كمن يرجو تفسريًا مقنعا.
"قب ست سنوات ،عملت مع صويلح يف قضيّة مقت شاب يف
حي باب علي ،أصيب برصاصت يف نفس املكا الّذي أصيب فياه
يوسف ،وضعنا املشتبه هبم يف تلك القضيّة حتت املراقبة ،ولكننا مل
نتوص إىل شيء حلدّ السّاعة"
"ه يعق أ يكو القات هو نفسه"
هزّ أمحد رأسه ببطء ،وساد صمت قصري.
"آسف أرهقتك بالبحث" تكلّم أمحد وهو حيكّ فروة رأسه.
"ال بأس .أقوم بعملي فحسب ".أجابته بلكنة عاصميّة أنيقاة،
وبنفس احلركة السّابقة ،ثبتت خصالت شعرها فوق أذنيها فظهار
قرطها الذّهيبّ المعا.
وقف أمحد واستع ّد للمغادرة .كانت الورقة قد خرجات مان
الطّابعة يف تلك اللّحظة.
"سنلتقي مرّة أخرى" أحسّ هبفوته ،ولكنّه اساتدرك يف آخار
املطاف وقال:
"ألعلمك بتطوّر األوضاع".
ندت عنها ابتسامة رقيقة مثّ التقطت الورقة من الطّابعة
"مرحبا بك يف أي وقت يا سي"....
"امسي أمحد ولد جياليل ،آسف ألنّين مل أقدّم نفسي منذ البداية"
"ال بأس أنا امسي كهينة"
دوّنت رقما على قطعة صغرية من الورق ،مثّ أرفقتها بالورقاة
املطبوعة وسلمتها إليه.
50
"هذا رقمي إ احتجت إىل أيّة مساعدة".
"أيّة مساعدة؟!" وبدل إجابته على سؤاله انشقّت شفتاها عان
ابتسامة عذبة.
غادر أمحد املبىن إىل الشّارع .هبر النّور السّاطع عينيه يف اخلارج.
احتاج لدقيقت لكي يتعوّد على الكمية اهلاقلة من احلزم الضاوقية.
كانت الشوارع خالية من احلركة تقريبا .قصد مطعمه املعتاد ،وتناول
سندوتشا برقاقق البطاطا واللّحم املفروم .توجه إىل املسجد مثّ أصغَى
إىل اخلطبة الّيت ألقاها اإلمام يف اهتمام .فاضت عيناه بالدّموع وكااد
يبكي لشدّة تأثره باخلطبة وما وقع ب بالل بن ربااح وأبااي ذرّ
الغفاريّ بعد غضب الرّسول صلّى اهلل عليه وسلّم على هذا األخاري.
عند انتهاء صالة اجلمعة ،مضى حنو منزله ومل يغاادره إال يف الياوم
التايل.
51
-11-
58
«تغيّرت حياته منذ ذلك اليوم ،حني رفضه العامل وختلّى عنهه
اجلميع .انساب كاحليّة الرّقطاء يتتبّع وهاد الضّياع ويتيه يف مروج
النّسيان.
سرت يف شرايينه دمهاء قوونهة باحلوها واومل والكهر ،
وتضمّخت أنفاسه املتسارعة برائحة الغار .تذبذبت خطواته الثّويلة
حتت تأثري الكحول .ووسط فناء مهجور وجها اهالّته هنها .
سكون سرمايّ مثّ ظالم أبايّ .تويّأ كلّ ما يف جوفه وبصق مرارة
فمه على اورايّة الوذرة .رأى الرّجوع إىل الوراء أمرا مسهتحيال
كما يُستحال إرجاع هذا الويء إىل معاته.
استسلم للحزن فافن وجهه بني يايه وأجهش بالبكاء .هبّت
ريح مسوم ،محلت معها ذرّات الغبار وشكّلت زوبعة حول جسا
املنحين ،كشولة عورب وسط الصحراء».
59
-12-
65
-13-
أشارت ساعة احلاقط إىل اخلامسة إال الرّبع ومال عمود الشّمس
املتسلّ عرب النّافذة ميلة استقرّ موضعه على بقعة من األرضيّة جباناب
الصّوا وما هي إالّ حلظات حتّى تعالت أصوات املآذ معلنة دخول
وقت العصر .هنض من مكانه بتثاق ،وذهب إىل املغتس ..اكتشف
أ ّ املاء مل يص إىل شقّته منذ ثالثة أيّام ،ونسي أ ميأل القاارورات
الفارغة قب انقطاعه ،ولكنّه عثر حتت ا َملجْلَى يف املطبخ على قارورة
مليئة نسيها هناك منذ مدة فالتقطها وذهب هبا حنو احلمّاام فغسا
إبطيه باملاء مثّ وجهه بالصابو ومسّد شعره باملشط وغس أسانانه
املتبقيّة وهو ينظر إىل وجهه من خالل املرآة ،بصاق يف احلاوض مثّ
مضمض .بعد لقاء معبودته كهينة -بدأ يقلق حيال مظهاره العاامّ
ويوليه عناية خاصّة وال يكاد خيرج من املنزل إالّ واملرآة تشكو كثرة
مرور شبحه على أدميها .عرب رواقا ضيّقا حنو حجرة النّاوم وفاتح
خزانة املالبس مثّ تناول يت شريت أخضر اللّو من القطن الصّاناعيّ
بدو أزرار وذو أكمام قصرية تشك ياقته حرف .V
تطلّع إىل املرآة وهو يستظهر صورته يف مالبسه اجلديدة آلخار
مرّة ،أعاد ترتيب شعره وتثبيته مبرهم رخي .فتح الربّاد وألفاه فارغا
تقريبا ال حيتوي إالّ على علبة خردل ،علبة جنب بقي بداخلها قطعتا
فقط وجبانبهما أقراص الكاشري اخلمس وحبّاات الليماو يف درج
66
اخلضروات باألسف وعلى الرّفوف قارورة املاء األخرية ،صنع لنفسه
سندويشا من اجلنب والكاشري املتبقّي مثّ قام بلفّه يف ورق السّيلوفا
شقّة وغادر املكا . ليلتهمه يف اخلارج ،أقف باب ال ّ
كانت السّاعة تشري إىل اخلامسة ومخس دقاقق عندما شغّ حمرّك
السّيّارة مثّ انطلق عرب الطّريق ببطء ،وازدادت سرعته تادرييّا ماع
دخوله يف الطّريق الرّقيسيّ.
السّاعة اخلامسة والرّبع ،وال يزال عالقا وساط االزدحاام يف
منتصف الطّريق.
السّاعة اخلامسة وثالث دقيقة ،يقف عند إشارة املرور ينتظار
الضّوء األخضر.
السّاعة اخلامسة وأربعو دقيقة ،يدخ حيّ املنطقاة الثامناة
ويركن السّيّارة يف جانب الطّريق.
نظر إىل العنوا املدوّ يف الورقة وهو يقف أمام عمارة مكوّنة من
أربعة طوابق ،ارتقى السّلّم ببطء وقد بدأ يتعرّق من جديد .توقّف عناد
الطّابق الثالث ليلتقط أنفاسه ،أحسّ بأ ّ لياقته البدنية تفقد مرونتها ربّما
بسبب توقّفه عن ممارسة الرّياضة ملدّة طويلة .مسح العرق املتصبّب على
جبينه بباطن كفّه مثّ جفّفه على طرف قميصه .انعطف على ميينه وطرق
باب الشّقّة مثّ جاء صوت املزالج ينبّهه إىل انفتاح الباب .ظهار رجا
مسنّ يف عباءة بيضاء له شاربا مقصوصا بعناية .مل يكن هناك أرقاام
على جانب الباب .حدجه الرّج بنظرة متساقلة:
"آسف على إزعاجك سيّدي .ه هذه شقّة برّاشد؟"
اضطرّ أمحد للسّؤال بعد أ علم أنّه طرق الباب اخلطأ فأشاار
شقّة املقابلة ودو
الرّج إىل الباب املقاب .استدار أمحد وتقدّم حنو ال ّ
67
تردّد مدّ يده ضاغطا على زرّ اجلرس .مرّت عشرو ثانياة مثّ أعااد
الضّغط على اجلرس مرّة أخرى .مرّت مخس ثوا أخرى .مسع صوتا
رقيقا أنثويّا خيترق الباب لتص إىل مسامعه كلمة" .نععععم"
فتح الباب عن فم أمحر وعين خضراوت وشعر متموّج أشقر.
من خالل ما كانت ترتديه علم أمحد أنّها إمّا أتت من العم للتّوّ ،أو
أنّها تستعدّ للخروج ،رفعت حاجبها املرسوم بدقّة ومل تدار ارتباكها
ح نظرت إليه .كانت تبدو فاتنة بارتداقها للجينز األزرق الفااتح
ويت شريت ذا لو ورديّ بدو ياقة مشبك بورود تبدأ ناحية الصّدر
لتنتهي وسط منطقة البطن .كا جيدها النّاعم متّصال بأعلى صادر
ناهد با شقّه من خالل ياقة الّيت شريت الواسعة وقد تدلّى قرطاا
ذهبيّا على شك فراشة من شحمة أذهنا ومتنطقت حبزام رقيق حول
بطنها ليربز حدود منطقة اخلصر ويرسم احنناءاته بدقّة.
"زهيّة برّاشد؟"
سأل أمحد بأدب وجتنّب النّظر إىل احنناءاهتا.
"نعم .من أنت؟"
سألته بنربة حامسة تعوزها الرّقّة بعض الشّيء.
أظهر بطاقة الشّرطة على مرأى من ناظريها .أحسّ بانزعاجهاا
وهو يرى تلك النّظرة املتفحّصة الّيت رمقته هبا.
"أنا املكلّف بالتّحقيق يف قضيّة يوسف قدادرة أودّ التكلّم معك
لو مسحت".
تنحّت جانبًا وأذنت له بالدّخول حبركة من يدها .داعبَ أنفُاه
راقحةَ عطرها الزّكيّ وهو ميرّ جبانبها يف شبه المباالة .كانت تضاع
«املاسكارا» وتصبغ شفتيها بأمحر الشّفاه .مسع كثريا ب أقراناه أ
68
هناك نساء بشعات يظهر بشك مغاير بعد وضع املساحيق ولكا ّن
األمر هنا خيتلف اختالفا تامّا؛ فصاحبة هذه العجيزة الطريّاة تبادو
وكأنّها خرجت من إحدى اجملالّت.
طلبت منه اجللوس على أريكة مرحية يف قاعة الضّيوف ،كاا
أثاث بيتها مرتّبا ومتناسقا ذات طابع أنثويّ ينم عن ذوق رفيع .فجأة
قفز إىل ذهنه بدو سابق إنذار شك بيته الكارثي وحاول جاهادا
إغضاء الفكرة عن رأسه ولكن بدو جدوى فقاد كاا النظاام
والتناسق يف تلك الصالة يدعوانه إىل التّفكري بغرفته .اختفت برهة من
الزّمن مثّ عادت حتم ب يديها صينية عليها ابريق شاي وقدح مااء
وضعت ك ّ ذلك فوق املاقدة.
"ملاذا أتعبت نفسك سيّديت ،لن أطي عليكم" أحسّ حبرج كبري
حنو ما أبدته من كرم وكياسة تليق بالضّيوف أو ألنّه أيضا سيضاطر
لطرح أسئلة حمرجة ،لذلك بدا مرتبكا بعض الشّيء وهو يتناول قدح
الشاي ليشرب آخر جرعة تأدّبا فقط.
رجعت زهيّة وقد طرأ عليها هالة من السّكينة والغموض مل يد
له تفسريا لطاملا كا خبريا بسلوك األشخاص وردود أفعاهلم فاآثر
الصّمت والتّريُّث حتّى يكوّ رأيًا خاصًّا حوهلا
"أريد توجيه بعض األسئلة خبصوص املرحوم يوسف"
الحع أ استياءًا جتلّى يف مالحمها عند ذكر الكلمة األخارية،
ولكنّها بدت هادقة من خالل استقامة ظهرها ونظراهتا املتمعّنة.
"خذ راحتك واسأل كما تشاء"
"وجدنا رقمك على القحة األرقام الّيت اتّصلت بيوسف يف نفس
اليوم الّذي قت فيه ،وتصادف أ كا اتّصالك هو األخري"
69
"هذا صحيح" أجابت باقتضاب ،مثّ كاوّرت قبضاة يادها
وبسطتها حتّى ابيضّت أطراف أصابعها.
"ه تشكّو يف أنين من قتلته؟"
"مل أقصد ذلك سيّديت ،أريد التأكّد من ك ّ النقاط هذا ك ّ ما
يف األمر"
هزّت رأسها موافقة.
"إذ ما سبب اتّصالك يف هذا الوقت املتأخّر؟"
ساد صمت رهيب عقب إلقاقه السّؤال األخاري ،وراح ينظار
إليها بع متفحّصة ،ملح شبح تقطيبة على وجهها مثّ اختفت بسرعة
وح ّ مكاهنا نظرة جافّة وهدوء خيايلّ غري متوقّع من امرأة هبذا املظهر
الرّقيق.
"املرحوم مديري يف العم وزوجي أيضا".
صعق لدى مساعه هذه اإلجابة وراح يتخي حياة يوسف الّايت
بدأ يلفها الغموض.
"زوجته؟" إذا مل يكن خمطئا فقد رأى زوجته منذ أيّاام .أماا
هذه...
"أنا زوجته الثّانية" ظهر عدم االرتياح على مالحمه فوضحت أكثر.
"زواج عريف ،األخرى مل تكن لتقب بذلك"
زواج عريفّ! هذا يفسّر اتّصااهلا يف ذلاك الوقات املتاأخّر
واتّصاالهتا املتكرّرة ولكن ما رأي زوجته األوىل وه تعلام بكا ّ
ذلك.
طامنت من رأسها وهي جتفف دموعها يف هدوء .مرت حلظات
جناقزية قب أ تسأل.
70
"ه توصّلتم إىل معرفة القات "
"ال نزال يف طور التّحقيق ولكنّنا نبذل أقصى"...
مسحت وجهها بكفّيها مثّ مسّدت شعرها وجذبته إىل اخللاف
يف حركة أنيقة وراحت تطبق أصابعها وتبساطها مان جدياد يف
حركات عصبية
"مل أشأ أ أحضر اجلنازة .أنت تعلم السّبب فهي لن تسامح
بذلك .ال أستطيع تصديق أنه اغتي هكذا ببساطة .إهنا الكارثة حباد
ذاهتا .هلل درك أين الرقابة يف هذا البلد كيف يفر القات ببساطة مان
وسط املدينة وأمام العيا ؟"
"إنّها أوّل جرمية بالسّالح الناري منذ فترة اإلرهاب ،ليس األمر
بتلك البساطة الّيت تعتقدينها ،لقد كا مراقبًا من قب وقتلاه كاا
مدبَّرا ومدروسا بإتقا .ولذلك أريد أ أعرف إذا ما كاا املادير
يوسف على خالف مع أحادهم يف العما ،أو حتّاى يف حياتاه
الشّخصيّة؟"
تردّدت فترة وكأنّها تفكر فيما ستقوله.
"أظنّ أنّك تتحدّث عن شخ يدعى بطّيّب ماراد ،خارج
مؤخّرا من السّجن"
أخرجته حبديثها من قوقعته وطفق يسأل بتركيز شديد:
"ولكن ما عالقة هذا األخري بيوسف؟"
سجن قب ثالث سنوات بتهمة التّزوير وتلقِّي الرُّشَى .فقارّر
يوسف التّخلّ منه بعد حماكمته وفص هناقيًّا عن العم "
استقرّت عيناها اخلضراوا إىل ما وراء كتفياه وحادّقت يف
الفراغ وكأنّها تستدرّ من ذاكرهتا أحداثا قد طواها الزّمن .الحت يف
71
عينيها نظرة جادّة .جتعدت جبهتها بشك طفيف وحترّكت شافتاها
ببطء.
"كا غريب األطوار يف اآلونة األخرية وبالتّحديد قب أسبوع.
بدا مرتبكا على حنو مثري للذعر"
توقّفت عن الكالم وبدا التردّد واضحا على نرباهتاا فشاجّعها
أمحد على الكالم:
"واصلي من فضلك!"
"ظروف منزله مل جتع منه رجال سعيدا .كانت تصرّفاته شاذّة
عن املألوف وكا يرفض أي تدخّ يف شؤونه".
صمت كالمها دقيقة ،مرّرت املندي على خدّها لتمناع دمعاة
حارّة من االجنراف .غرزت أصابعها النّحيفاة يف شاعرها األشاقر
املتموّج وجذبته إىل اخللف حبركتها االعتياديّة.
"مع مَن كا متورّطا بالضّبط؟"
"شركة بناء خاصّة «تشييد وعمرا » كانات متعاقادة ماع
مؤسّستنا من أج جمموعة من املشاريع اهلامّة على مستوى الوالية".
كانت تراقبه هبدوء وحذر فطري ملّا رأت ذلك الدّفتر الصّاغري
ب يديه وهو خيطّ عليه بعض العبارات ،ودو أ يرفع بصره حنوها
سأهلا مرّة أخرى:
"مىت كانت آخر مرّة التقيتما فيها؟"
استقام ظهرها ووجّهت إليه نظرة قلقة .كا يلس هبدوء ،ينظر
إىل القَسِمات املرسومة بعناية فاققة ،يتطلّع إىل اإلجابة من ب شفتيها
املطليّت بأمحر الشّفاه واللّت ملح فيهما مهًّا بالتّكلّم والتّردّد .أطرقت
برأسها وعادت إىل الصّمت فترة وجيزة قب أ تقول يف األخري:
72
"يوم الثّالثاء ،كنّا هنا معًا مثّ غادر بعد ذلك يف حوايل السّااعة
التّاسعة مساءا كعادته ك ّ يوم ...مل أكن أعلم أنّهاا آخرحلظاات
حياته" .وضعت يدها على فمها وأنفها لتكتم شهقة جارفةً كاادت
تغلبها.
خرج من الزّيارة مرهق األعصاب وقد ألفى الظّالم هابطًا مناذ
مدّة .شعر برغبة للتّنفيس عن صدره فقد بدأت القضيّةتنزلق مبخلّفاهتا
إىل حياته نوعًا َما ،اتَّجه إىل اجلانب اآلخر من الطّريق أيان ركان
سيّارته قب ساعة من اآل .
73
-14-
75
-15-
امتزج اهلواء بذرّات الغبار املتطاير .أحسّ بذوق التّراب وهو يلصق
بأعلى حلقه ،حرّك لسانه داخ فمه مثّ بصق على األرض .شقّ طريقاه
بصعوبة ب آالت البيلدوزار .ب أشعّة الظّهر السّاطعة والغباار الّاذي
تسبّبت فيه اآلالت ملح أمحد غري بعيد عنه قبّعات صفراء واقية للصّدمات
تربق حتت توهّج هليب الشّمس وتتحرّك بنشاط داخ الورشة.
على مرمى حجر منه رأى العربة املخصّصة للتّقنيّ واملسؤوليّن
على إدارة املشروع ،وعلى بعد ثالث مترًا تقع حفرة عميقة تنتظار
وضع األساسات األوىل للبناء.
اتَّجه حنو العربة خبطًى ثابتةٍ .نقر على الباب مثّ مساح العارق
املتجمّع على جبينه ومسح سطح شعره لكيال يفسد تسرحيته .كانت
العربة على شك مقطورة مستطيلة الشك عرضاها ثالثاة أمتاار
ونصف املتر أمّا طوهلا فسبعة أمتار وكانت مزوّدة مبكيّفات.
انتبه أمحد إىل حركة الباب وهو يفتح عن وجه صارم المارأة
تضع نظّارة طبّيّة متسك شعرها األسود إىل اخللف على شك ذيا
حصا .نظرت إليه من خالل عينيها البنّيّت .
"تفضّ ،احذر أ تعثر بالدّرج" أصدرت الدّرجة األوىل صريرًا
عندما وضع قدمه عليها .وجد نفسه بالدّاخ ،وفجأة شعر بفاارق
احلرارة ب داخ العربة وخارجها كانت املكيّفات تبعث يف املكاا
76
برودة منعشة عملت على تلطيف اجلوّ ،إالّ أّ ذلاك مل ميناع مان
انبعاث راقحة العرق اجلافّ وراقحة األنفاس الكريهة الّايت خلّفهاا
العمّال وراءهم.
استطاع يف حملة واحدة اكتشاف املكا برمّته وعلى أقصى اليسار
تقع حُجرة موصدة بباب مبطّن .مخّن أنّه مكتب صاحب الشّركة.
أبرز بطاقته ووجّهها حنوها.
"بشري فالوي هنا؟"
"السّيّد بشري يف مكتبه اآل وهو مشغول حاليًّا".
حدجته بنظرة ارتياب وأحسّت بعدم االرتياح وهو خيطو بأرض
العربة أمامها مقلّبا نظره يف ك ّ ركن منها دو أ يلتفت إليها.
"سيّديت األمر ال حيتم التّأخري ،أبلغيه أ ّ هناك شرطيّا يف انتظاره"
"انتظر دقيقة سأعلمه حبضورك"
قعد أمحد على كرسيّ يف غرفة مزدمحة بااألوراق املكدّساة
وشاشات الكمبيوتر ،حتسّس ذقنه الّذي أصبح حباجاة إىل حالقاة
عندما استدارت واتَّجهت حنو الغرفة يف أقصى العربة .اساتطاع أ
مييّز من ب ثياهبا الرّقيقة خيط محالة صدرها وتوغّ ببصره ب ذلك
مميّزا شامةً صغرية احلجم على أدم بشرهتا البيضاء ،واحندرت عينااه
حنو عجيزهتا املدملجة واملشدودة بفع سروال اجلينز الضّيّق وعبّر عن
إعجابه بتنهيدة عميقة أسفرت عن صوت شبيه كصفري الرّيااح يف
فالة مقفرة ،استدار عنقها فجأة فضبطته مستغرقا يف التّأمّ فتظااهر
بالنّظر إىل احلاقط ،ولكنّها جتاهلته غري مبدية انزعاجا ب راقها فعلاه
أل ّ ذلك يدلّ على أ ّ مظهرها ال يزال جذّابًا .غابت ملادّة مخاس
دقاقق وعاد إليه ضمريه يؤنّبه ،فتذكّر خطبة اجلمعة املاضية وكياف
77
صرخ اإلمام من فوق احملراب متوعّدا اخلاطئ بنار جهانّم .أحاسّ
حينئذ أنّه يقصده من ب ك ّ النّاس.
وكمن حيذف ملفًّا من الكمبيوتر بكبسة زرّ واحدة ،أزاح أمحد
عن رأسه ك ّ شيء برمشة ع وهو يتطلّع إىل صاحبة الشّامة علاى
الظّهر وقد أطلّت بوجهها الشّاحب من وراء اجلدار الفاصا با
غرفة اإلنتظار ومكتب الرّقيس ،فبانت صفحة رقبتها اليسرى وتدلّت
قالدهتا الذّهبيّة مع شعرها املنداح.
"تفض ،إنّه يف انتظارك".
راقبته بنظراهتا املرتبكة وهو خيطر أرض العرباة متّجهاا حناو
اجلانب اآلخر وكانت األخرى هتم باملغادرة أثناء دخول أمحد .نقار
على الباب مستأذنا ،مثّ دفعه برفق وجع ينظر إىل شاخ حسان
الطلعة .قصري القامة ،أمسر البشرة ،توحي نظراته بالسؤدد والنفاوذ.
كا يلس وراء مكتبه ،يتحدث عرب اهلاتف ،أوما له للجلوس علاى
األريكة ،ريثما ينهي املكاملة .على اليسار تدفّق شعاع من الضّوء من
خالل النّافذة الثّانية يف العربة والوحيدة يف الغرفة .على اجلانب األمين
وعلى بعد متر ونصف املتر من املكتب وضعت ثالجة صغرية احلجم.
"السّالم عليكم".
مدّ أمحد يده مصافحًا مثّ اهتزت يدامها وافترقتا دو أ يتارك
الرّج اهلاتف من يده األخرى ،استمرّ حديثه مع اهلاتف وكأنّه نسي
حضوره .أهنى املكاملة جبملة صارمة مثّ خبط مسّاعة اهلاتف بقوّة ونظر
حنو أمحد بعين ختلوا من التّعبري ،كا رجال يف اخلمس ،ذا جسم
مكتنز وكرش عظيمة مل مينعها القمي الفضفاض من الظّهور بشك
بارز ،له شفتا شهوانيّتا وعينا بنّيّتا واسترس شاربه العاريض
78
وكأنّه جناحي طاقر السّنونو .انفرج ثغره عن ابتسامة بغيضة.
"نعم .تفضّ ،كيف أخدمك"
وأخذ يهتزّ داخ كرسيّه املتحرّك ذات اليم وذات الشّامال،
ممسكًا بالقلم ب يديه ،ينتظر بنفاد صرب ظاهريّ خروج الزّاقر عان
الصّمت .تنهّد أمحد بعمق ،أغلق قبضة يده وفتحها حبيث ابيضّات
مفاص أصابعه .اندفع يقول وكأنّه يلقي بقنبلة يدويّة:
"جئت خبصوص قضيّة مقت قدادرة يوسف وأودّ طرح بعاض
األسئلة إ كنت ال متانع"
رأى أمارات القلق تظهر على مالمح الرّج .
"ال بأس تفضّ "
شابك البشري ب يديه فوق كرشه الكبرية وراح يركّز نظره يف
الشّخ القاعد قبالته
"ه تذكر مراد بطّيّب؟"
"مراد بطّيّب؟"
صمت برهة وأسند ذقنه على راحته ودوّر عينيه وكأنّه حيااول
التّذكّر.
"ال ..ال أظنّ أنّي أعرفه؟"
"أمتأكّد من أنّك ال تعرفه .ألنّه إ صحّت معلومايت فقد سجن
منذ ثالث سنوات بسبب تزوير تورّطت فيه مؤسّستك"
كا أمحد يرى أثر كالمه عندما امتقع وجه الرّجا واحاتقن
بالدّماء وكأنّه ثور هاقج مثّ راح يردّ الصّاع صاع وقال:
"باهلل عليك ،كيف تريد منّي أ أذكر شخصا مل أره منذ ثالث
سنوات ،لديّ هنا فقط -وأشار بيده إىل خارج النّافذة-ماقتا عاما
79
وبعضهم يعم لديّ منذ مخس سنوات أو أكثر ،وال أعرف أمساءهم،
فكيف باي أ أذكر هذا الشّخ ؟!"
كا أمحد متيقّنا بأنّه يعرف بطّيّب مراد كما يعرف عدد أصابع
قدميه ،ولكنّه عمد إىل الّلفّ والدّورا حبجّة أمهّيّته الكربى الّايت ال
حتتم االلتفات إىل التّوافه من األمور .كانت ناربة صاوته قاساية
ومنطقيّة إىل أبعد احلدود.
"أعلم أنّك مشغول جدًّا ،ولكنّنا أمام جرمية قت والبادّ مان
اإلجابة عن بعض األسئلة".
"حسنا تفضّ ،أنا أصغي" .ملح طيف ابتسامة مستهزقة.
"ميكنك إخباري بك ّ ما تعرفه عن يوسف"
"رمحه اهلل ،كا إنسانا خملصًا يف عمله .وطيّاب القلاب .ال
يستحق تلك امليتة على ك ّ حال".
مل يطرأ أيّ تغيري على تعابري وجهه وهو يعبّار عان شاعوره
باألسى حنو امليّت وكأنّه عملة ذات وجه متشاهب .
"أتظنّ أنّه كا على خالف مع أحدهم؟"
أطلق الرّج ضحكة قصرية وكأنّها ذي ابتسامة.
"اللّي شافه ،أنا من اخلدمة للدار"
"كيف كانت عالقتكما"
فجأة رأى حترّكا طفيفا على حاجبيه ولكنّه سرعا ماا خا
ذلك التّعبري وح ّ مكانه خواء تامّ واستدرك أمحد ليوضّح أكثر.
"أعين ه كانت أمور العم جتري على ما يرام"
"جيّدة احلمد هلل ،ك ّ شيء يسري وفق املخطط واآلجال املقرّرة"
كا واضحا أ ّ أمحد بدأ ميقت الرّج وعجرفته املقصودة.
80
"أنت تعلم أ ّ أيّ معلومة منك ستقدّم اإلضافة الالّزمة ،لاذلك
أريد معرفة ك ّ التفاصي وحتّى اململة منها .قال ذلك عمدا وفاتح
ال فوق رجله الثّانية.
مفكّرته ومتلم يف األريكة املرحية ووضع رج ً
"أين كنت بالضّبط مساء يوم الثّالثاء؟"
"كنت يف وهرا ورجعت إىل معسكرحوايل السّاعة الرّابعة أو
اخلامسة ،ال أذكر بالضّبط مىت ولكن بعدها ذهبت إىل املطعم لتناول
وجبة الفطور املتأخّرة"
"من كا معك يف املطعم؟"
سأل أمحد دو أ يرفع نظره عن املفكّرة.
"كنت مع حماسباي الشّخصيّ ،كنّا نناقش أمور العم بالطّبع،
مثّ بعد ذلك اتَّجهت إىل بييت حيث مكثت هنالك حوايل سااعت ،
وبعد صالة املغرب توجّهت إىل مطعم للعشاء ،وعند حوايل السّااعة
احلادية عشرة ليال رجعت إىل البيت".
طوى أمحد مفكّرته ودسّها يف جيبه ،ورآه يف تلاك اللّحظاة
مستندا على ظهر الكرسيّ الفخم ،وأخذ يتدحرج مينة ويسرة .فتا
شاربيه مثّ تثاءب وأمسك بالقلم من جديد ب يديه وهو ينظار إىل
أمحد بازدراء .حفّزته تلك النّظرة على االسترسال يف طرح األسئلة.
"كيف حتصلت على هذا املشروع ،أعين ه كا هناك ثالثاة
أظرفة فقط؟"
كا أمحد على علم مبا تنتهجه بعض املؤسّسات الفاسدة عناد
التّعاقد مع أحد املقاول .ولتغطية التّزوير بثوب النّزاهة يقوم املقاول
باللّجوء إىل حيلة الثالثة أظرفة ،تعدّ بطريقة جتعله األق ّ سعرًا من ب
املشارك .وهكذا يكو ك ّ شيء قانونيًّا.
81
شعر بالتّفاعالت الكيمياقية الّيت حتدث حاليًّا داخ ذلك اجلسم
املنتفخ ،أخريًا بلغ السّي الزّىب .زوى الرّج ما ب حاجبيه .وخالل
حلظات انتشرت يف املكا ضحكة طاقشة مثّ ما لبثت أ غاصت يف
أساريره .قفز على رجليه واقفا ،معلنا بذلك هناية املقابلة.
"باملناقصة .رحبت الصّفقة عن طريق املناقصة يا سيّدي ولك أ
تتأكّد إذا أردت .ونصيحيت إليك هي أالّ تزعج نفساك بالبحاث،
فك ّ شيء قانوينّ".
هبّ أمحد واقفا من مكانه بعدما دسّ املفكّرة والقلام معًاا يف
جيب سرواله .مدّ الرّج يده أمامه للمصافحة ،وبرزت ألوّل مارّة
أسنانه العلويّة البيضاء وكانت مستوية ومرتّبة بعناية فاققة ،كانات
نقيض أسنانه السّفلية ،احلقيقة أ ّ هذا الرّج ك ّ جزء مناه حيما
تناقضا صارخا.
"شكرًا على الزّيارة ،أمتىن أنّك قمت بواجبك".
جتاه أمحد الرّج وأدار ظهره متّجها حنو باب الغرفة .شاعر
باالمتنا وهو ينهي ذلك اللّقاءالسّمج هبذه الطّريقاة .توجّاه حناو
اخلارج وملّا فتح الباب لفحته موجة من اهلواء احلارّ على وجهه .هبّت
ريح عاتية محلت معها حبّات الرّم .دخ بعضها يف عينيه فادمعتا
على إثر ذلك .أخذ يدعك أهدابه حتّى امحرّت عينااه مان شادّة
االحتكاك .لعن املكا ولعن احلرارة ولعن الرّيح ولعن الياوم ،لعان
املتسبّب يف قطع املاء عن شقّته ،لعن سيّارته القدمية ،لعان حياتاه
كلّها .أراد يف تلك اللّحظة أ يبتعد عن ذلك املكا بأقصى سارعة
ممكنة فما عاد حيتم املكوث ملدّة أطول.
82
-16-
وجد نفسه مرغما على تقبّ الوضع .استوىل عليه اليأس وغلّفه
القنوط .ومل يكن لريضى حبياة أساسها االضطراب والتّخفّاي .آثار
سكينة السّجن على قلق احلرّيّة ،وهدوء البال على سجن األفكار.
قرّر أ يسلّم نفسه هذه املرّة ،مذعنًا لقدره احملتّم وتعبًاا مان
هروبه املتّص .قادته خطواته املختلجة حنو مركز الشّارطة .ارتقاى
الدّرج األماميّ حنو املدخ الرّقيسيّ .الحاع أ أفاراد الشّارطة
منهمكو يف العم .مل يتمكّن أحد من التّعرُّف علياه وهاو ميارّ
جبانبهم .قاوم تردّده للمرّة األخرية كانتحاريّ يودّ تفجري قنبلة تلافّ
جسده .تقدّم حنو عام االستقبال ،ولكن هذا األخاري مل يعاره أيّ
انتباه.
كا مستغرقًا يف مكاملة هاتفيّة صاخبة .انتظار حتّاى يفارغ
الشّرطيّ من املكاملة .أقف اخلطّ ورمقه بنظرة فاترة جعلته يتردّد.
"نعم؟ رخصة القيادة؟"
"ال .أريد أ "...قاطعه الشّرطيّ فجأة:
"إذًا تريد التبليغ عن شيء ضاقع؟"
"نعم يف احلقيقة "...قاطعه مرّة أخرى مشريًا بيده حناو بااب
مغلق:
"تقدّم حنو ذلك املكتب وانتظر ريثما يعود املوظّف"
83
وحتوّل الشّرطيّ إىل أغراضه متجاهال الرّج الواقف أمامه.
"أنا متّهم يف جرمية قت ،أريد تسليم نفسي"
هبت الشّرطيّ وراء مكتبه ..التفت حنو مراد وقاد انساحبت
الدّماء من وجهه.
كا بن ذهيبة مغتبطا يف جلسته واثقا من نفسه ألوّل مارّة بعاد
جرمية القت وهو يضع ملفًّا على سطح املكتب .التقط وكي اجلمهوريّة
امللفّ ،واستغرق منه ستّة دقاقق كاملة لتصفّحه .ساد صامت مقلاق
تشوبه خشخشة األوراق ،تنهيدات متقطّعة .بلّ معمّري إهبامه على حنو
ال شعوريّ وقلّب ناظريه يف الصّفحات هبدوء ،وبعد حلظات وضاعها
جانبًا وظهر وجهه فارغًا من أيّ تعبري .نظراته الغاقمة حرّكت الرّعاب
يف قلب بن ذهيبة وجعلته يشكّك يف اقتناعه بقوّة األدلّة.
"قام بتسليم نفسه؟"
وجد نفسه مضطرّا إلثراء األدلّة فتحرّكت شافتاه الغليظتاا
وقال بصوت واثق.
"انطبقت عليه مواصفات الشّخ الّذي شوهد أثنااء وقاوع
اجلرمية .كما أنّه ميلك الدّافع الرتكاب جرمية قت ".
"ولكن هذا ليس كافيًا إلدانته .ه متلكو دليال قاطعا ضدّه؟"
ارتبك بن ذهيبة وتردّد يف اإلجابة.
"هذا ك ّ ما توصّلنا إليه حاليًّا".
"عليكم بتقدم األدلّة الكافية يف أج قرياب ،أل ّ القضايّة ال
حتتم التّأخري فقد بدأت تأخذ أبعادا سياسيّة ال حتمد عواقبها أبادًا.
سيحضر ك ّ من اإلذاعة الوطنيّة وممثّلي اجلراقد الرّمسيّة خالل احلكم،
لدينا قضيّة بالغة يف األمهّيّة وعم كبري يف االنتظار".
84
-17-
99
-19-
107
ااطرب العامل من حوله .حترّكت الظّالل حوله كأنّها أطياف
ةري مرئيّة .واع قاميه يف درب شائك .هنا يف هناية النّفق الحت
له النّهاية قريبة وقتومة .عانا قار هبروب يائل .ههروب مهن
ذكريات طفت إىل السّطح .ذكريات ال يريا تذكّرها أباًا ...ماض
مضى ومل يعا له وجود.
التفت حوله يف حركة متلهّفة ومترقّبهة ،يتهوجّل ارطهر
ويتسرّب الولق إىل نفسه املكاودة ،باأ حييا وقتا عصيبا .استحال
معه اهلاوء والسّكينة .احنارت قطرة عرق بهاردة علهى جبينهه
الرّطب لتتوّق عنا مشها مرعب .يف مكان ما ،خله شهووق
الذّاكرة ووراء الظالل الاّاكنة شعر بتخاطر ةريب خيترق مججمته
نافذا حنو لبّه .أعوبه إحساس بارزي والعهار« ...مهمَ اهلهروب
واالختباء ووصمة العار ختلّاها اويّام؟! إىل أين املناص وهو سجني
ماض ليل ببعيا؟! ولكنّه ماض لن يعود .ماض مل يعا له وجود».
108
-20-
113
-21-
119
-22-
وضع خلي يده على ربطة عنقه وعدّهلا قليال ليسمح للاهواء
البارد املنبعث من املكيّف باملُرور من خالل ياقته .كا يتحدّث عرب
هاتفه احملمول ،يلس خلف مكتب فاخر يلمع سطحه الزّجاجيّ كأنّه
مرآة مصقولة .وراءه مباشرة وعلى احلاقط علّقت صاورة ،كلّلات
بإطار ذهيبّ مزركش متثّ فخامة الرّقيس وهو يقف كالصّنم جباناب
العلم اجلزاقريّ .ضغط على ال ّزرّ إلنْهاء املكاملة ،وضع اهلاتف فاوق
سطح املكتب ومتطّى يف مكانه مثّ شابك يديه خلف قذالاه وأخاذ
يتثاءب ببطء .نظر إىل ساعة معصمه السّويتش ،مثّ رفع مسّاعة اهلاتف
إىل أذنه وضغط فوقه على رقم قب أ يسمع جوابًا مان اجلهاة
املقابلة ،كا صوتا أنثويّا هادقًا يدغدغ احلواسّ ،ولكن خلي مل يعد
يتأثّر بعذوبته مع مرور األيّام:
"أمينة أجّلي اإلجتماع لنصف ساعة ،لديّ زاقر اآل "
وضع السّمّاعة على اهلاتف واتّكأ على املكتب مبرفقيه وشابك
ب أصابع يديه حتت ذقنه ،مستغرقًا يف تفكري عميق.
دُقّ الباب مرّت كما جرت العادة ،ودو أ يأذ للطّارق فُتح
الباب ودلفت إىل الدّاخ فتاة يف الثالث .كاا يكساو وجههاا
الشّديد البياض طبقة من املساحيق ،وبرزت املاسكارا مان خاالل
أهداهبا كخطّ قلم لباد أسود ،وقد سامهت البُودرا يف إبراز امحارار
120
خدّيها .ختطّت العتبة وتقدّمت حنو املدير .كا خلي حيدجها بنظرة
صامتة .وضعت يدها اليسرى على خصلة من شعرها تدلّت جباناب
صدغها األيسر ،ولكنّها عادت إىل موضعها األوّل وثبّتتها هذه املارّة
حبركة غري مكترثة ولكن دو نتيجة ،كا ينظر إليها بعصبيّة ،وختيّ
نفسه يقوم من مكانه ليمسك تلك اخلصلة املتدلّية بنفساه ويثبّتاها
بالغراء على جبينها .ارتبكت بسبب نظراته املتفحّصة قب أ تصوغ
مجلتها األخرية بلباقة بارعة:
"هناك رج يدعى أمحد بن مهنة .يريد مقابلتك"
"نعم كنت يف انتظاره ،دعيه يدخ !"
اختفت وراء املكتب ،وبعد حلظات قصرية مأل أمحاد فاراغ
الباب جبسمه الطّوي ومنكبيه العريض ،أحسّ باهلدوء يعمّ يف املكا
مقارنة باملكاتب الّيت مرّ هبا من قب ،ك ّ شيء يف مكانه :املشجب،
الصّورة ،املكتب ،األريكة ،السّتاقر املسدلة .ال راقحة تبغ ماتعفّن،
ال أوراق مكدّسة .استطاع أ يشمّ خليطا من الارّواقح الزّكيّاة،
راقحة قويّة البدّ أ تكو إمّا «إيغو بوس» أو «أنتونيو بونديراس»،
وراقحة أخرى مل يستطع تبيُّنها لتركيز األوىل وطغياهنا على راقحاة
اليامس .
قام خلي نصف قَومَةٍ من الكُرسيّ املريح ومدّ يده حنو يد أمحد
املعلّقة يف اهلواء ،تصافح الرّجال وتبادال التّحيّاة ،مثّ طلاب مناه
اجللوس .ناء الكرس ّي بثق أمحد فأصدر أزيزًا خفيفًا عند جلوساه.
كا أوّل ما وقع عليه بصره تلك الصّورة املعلّقة على اجلدار .حدّق
إىل ذلك الوجه املألوف لربهة مثّ جتاه الصّورة باالنّظر إىل خليا
وكا األخري يتّخذ وضعيّة استرخاقيّة.
121
"مرحبًا بك ،كنت على وشك عقد انضباط قبا أ تتّصا
باي ،ولكنّي أجّلته ألمتكّن من مقابلتك"
هزّ أمحد رأسه شاكرًا وقال بتحفع:
"شكرًا لك ،أل ّ األمر يتعلّق بقضيّتنا"
وعندقذ الح االهتمام على خلي .
"ه تعرفتم على القات ؟ أخيت ال تنفكّ تتساءل عن هويّته ،أنت
تعرف كيف يكو شعورها يف هذه احلالة"
"يف الوضع الرّاهن ال أستطيع إخبارك بالشّيء الكاثري ولكانّ
القضيّة حترز تق ّدمًا ،وعذرًا على هذا التّوقيت غري املالقم .هناك أمور
ال تزال عالقة أريد توضيحها".
"أكيد ال أمانع ،تفض "
"أمل يُلمح يوسفُ قب مقتله إىل أيّ حادث أو خَطْابٍ ماا يف
العم ؟" واستدرك:
"ألكو َ أكثر وضوحًا؛ نظنّ أنّه كا ينوي القيام بشيء ماا يف
األيّام األخرية من حياته ،ولكن ال نعلم ما هو بالضّبط ،شيء ما كا
يقلقه كثريًا"
كا خلي يبدو هادقًا وواثقًا من نفسه ،لطاملا أحَسّ أمحد بعدم
ارتياح اجتاه هدوءه الغريب ،علمته اإلساتجوابات أ أي شاخ
طبيعيّ وإ كا صرحيا أو بريئًا ،تنتابه حلظات ارتباك وتاوتّر أثنااء
اإلستجواب وذلك ما مل يالحظّه على خلي .
"كا هادقًا وال أظنّ أنّه كا خيفي شيئًا ما ولو كاا هنااك
خطب ما لعلمت من خالل أخيت ،فهو مل يكن يساتطيع كتماا
األسرار ملدّة طويلة".
122
"كيف كانت عالقته بزهيّة يف اآلونة األخرية؟"
احتاج خلي إىل فاص صمت قب أ ييب قاقال:
"كيف يل أ أعرف؟ مِن املفترض أ تسأهلا هي"
وخيّ ألمحد أنّه رأى ظالًّ من االنزعاج يغلّف علاى وجهاه
ولكن سرعا ما تالشى.
"البدّ أنّك تعرف من يكو البشري فالوي؟"
"نعم أعرف أنّه صاحب شركة بناء ،ولكنّها معرفة سطحيّة عن
طريق العم "
"جيّد .قب ثالث سنوات أدينت شاركته بزياادة يف تكلفاة
املشروع ،مبعىن آخر اختالس غري مباشر .ولكنّ الشّاركة أبعادت
االتّهام عن نفسها فيما راح ضحيّة ذلك بطّيّب مراد .ولكن ماا أودّ
معرفته حقًّا .ملاذا أبعدت التّهمة عن البشري فالوي وكأ ال دخ له
باملوضوع؟!"
وتركّزت عيناه على حركات خلي وهو ميي جبسمه إىل األمام
ويضع مرفقيه فوق الزّجاج الالّمع للطّاولة وتالقات رؤؤس أصاابع
يديه فيما بينها ،نظّف حنجرته مثّ قال:
"مضى زمن طوي على ذلك ،كنت حينها رقيس قسم احملاسبة،
وأشرفت بنفسي على التّدقيق يف دفتر الشّروط والبيا الكَمّيّ لتلاك
الصّفقة ،واكتشفنا خالل التّحقيق أ ّ أحدًا من املاوظّف مبديريّاة
التّجهيزات قام بإضافة مبالغ ألعمال ومهيّاة مل جتسَّاد علاى أرض
الواقع ،وتوصّ التّحرّي إىل أ ّ بطّيّب مراد هو املسؤول قانونيًّا عان
التّجاوز .عم البشري من ناحيته على َدرْءِ االتّهامات عن نفسه بتقدم
أدلّة دامغة لتربقته متامًا.
123
مل يرد أمحد أ خيربه بالتّطوّرات الّيت حصلت بعد زيارة اخلبري،
واكتشاف النّقاق يف اإلمضاءات ،ممّا يعين أ ّ هناك شخصًا ما قاام
خبدعة بارعة .وقع بصره مرّة أخرى على الصّورة املعلّقة «ذاك الوجه
العابس الّذي مل يتغيّر منذ ستّ عشرة سنة .مل يستطع فهام سابب
تعليق هذه الصّورة العابسة يف ك ّ مكتب ،ه هاي الوطنيّاة ،أم
العبوديّة؟ ملاذا ال يعلّق األوروبّيُّو صور رؤساقهم فوق رؤوسهم.؟!
يب شاخ مناافق ه قادة العرب أعظم شأنًا من قادهتم أم أ ّ العر ّ
بطبعه؟» ..تذكّر فجأة تلك املقولة املشهورة لصاموقي جونساو
«الوطنيّة هي املالذ األخري لألوغاد».
"ه هناك ما كا حياول إخفاءه عن اجلميع؟"
"ال أظنّ ذلك ،لكنت علمت باألمر منذ البداياة ،أل ّ أخايت
ستخربين يف ك ّ األحوال".
"ما أقصده هو حماولة إخفاقه حتّى عن أعزّ أقرباقه مبان فايهم
زوجته".
تغضّن جب ُ الرّج وظهر أخدودٌ ب حاجبيه ،فيما راح حيدّق
إليه مبديًا انزعاجه.
"األمور واضحة كما قلت سابقًا .شؤونه اخلاصّاة ال هتمّاك،
كما ال ينبغي لك التّمادي فيما ال يعنيك .أنا شخصايًّا ال أحااول
معرفة تفاصي حياته ،خاصّة بعد وفاته".
"زهيّة برّاشد أمل يسبق لك أ مسعت هبذا االسم؟"
أمطره بواب من األسئلة وملح ارتباكًا طفيفًا على نربات صاوته
عندما أجاب:
"نعم سكرتريته اخلاصّة ،ولكن ما عالقتها باألمر؟!"
124
مل يرَ أمحد أ ّ الوقت مناسب للخوض يف هذا احلديث ،لاذلك
حاول االعتذار بكياسة ،فقال بصوت هادئ:
"أرجو أالّ تكو منزعجا من طريقيت يف طرح األسائلة ،أناا
أؤدي عملي فقط".
ندت عن خلي ضحكة قصرية عسرية.
"وأنا كنت صرحيا معك"
هنض أمحد من مكانه واقفا وقد خاب ظنه .تصافح الارّجال
وغادر املبىن حممال بتساؤالت جديدة وأجوبة تاؤدّي معظمهاا إىل
طرق مسدودة ،كا عليه االستعانة خبطة جديدة.
125
-23-
127
-24-
129
ـدو يعـ ّـد لــك
"لنــدمج أطــجهد العيــجفير أأطــجير مــا دغــز فجلعـ ّ
مينج"
-وا سأاو -
130
-01-
136
-02-
142
-03-
155
-04-
160
انتظر ستّ ثوا ٍ مثّ ضغط على الرّقم .1مخس ثاوا ٍ أخارى ورأى
تعليمة توجبه بإدخال رقم املرس إليه .كتب الرّقم باالحتمال األوّل.
أعاد الكرّة مّرة أخرى بالرّقم الثّاين ليدحض شكّه بالكام .
هبطت درجة احلرارة نسبيًّا يف الغرفة وكا السّكو خميّماا يف
اخلارج .مخّنت السّاعة البيولوجية بداخله أ ّ الوقت اآل حوايل الثالثة
صباحا .فكّر يف مجيع االحتماالت .قد يكو الرّقما كالمها خاطئًا
عندها ال أم يف وصول الرّسالة .ولكن حتّى وإ كاا أحادمها
صحيحًا ،فاحتمال قراءهتا ضئي .ألنّه بك ّ بساطة ناقم .قاد يقارأ
الرّسالة ولن يعريها أدىن اهتمام فاألرقام اجملهولة غالبا ما تالقي جتاهال
من قب األشخاص .وخاصّة إذا تعلّق األمر برسالة جمّانيّة يف عزّ اللّي .
إذ ال يوز لرج متزوّج مث بدر الدّين أ ير ّد على رساالة جمّانيّاة
قصرية مبكاملة وهو يف السّرير جبانب زوجته .كا ّ هاذه األفكاار
تزامحت يف رأسه النّابض باألمل وبقي احتمال أخري رأى أنّه مساتبعد
متامًا ،يلوذ حنو الباب اخلارجيّ وإ حالفه احلعّ ووجده مفتوحا فارّ
هاربًا ولكن فكرة ترك الفتاة وحيدة والفرار جعلته يبادو كجباا ،
وأشفق من أ يندم على املوقف الحقًا طوال حياتاه .لاذلك فتار
محاسه للفكرة ،وألنّه أيضًا قد يد الباب موصدًا بالقف وعند حماولة
فتحه سيصدر صريرًا يلفت االنتباه.
161
-05-
165
-06-
172
-07-
185
وسالعسنيُ تسعلَهمُ مًهن عسينسهي مُحهاِّثًها
إَّن كانَ مًن حًزبَّها أَو مًهن أعاديهها
188
-09-
193
-10-
199
-11-
201
-12-
صعد حنو الطّابق الثّاين مسرعًا ،متجاهال أمل ركبتاه الّايت مل
تتعافَ بعد .طرق الباب وانتظر .متنّى أ يكو حدسه خاطئًا .فاتح
الباب عن عجوز تكسو وجهها التّجاعيد وبدأت خيبة األم واضحة
على مالحمها وهي ترى أمحد وكأنّها توقّعت رؤية شخ آخر.
"آسف على اإلزعاج سيّديت .أتيت ألسأل زهيّة عن"...
ومل يكد يتمّ مجلته حتّى قاطعته قاقلة:
"زهيّة ليست يف البيت ،هي غاقبة منذ أمس".
وقع ما كا خيشاه.
"وه لديك فكرة ما عن املكا الّذي تتواجد فيه؟"
هزّت رأسها ذات اليم والشّمال.
"ال .لو كنت أعرف مكا ابنيت التّصلت هبا مباشرة .ليس من
عادهتا التّغيّب ك ّ هذه الفترة"
"مىت غادرت البيت آلخر مرة؟"
هتدّج صوهتا بشك مريب:
"منذ األمس على السّاعة السّابعة والنّصف مساءا".
"ه حاولتِ االتّصال هبا؟"
تعاظم قلقه وهو حيدّق إىل الوجه احلزين ،أطرق رأسه وقد أهلب
مظهرها الكئيب أفكاره القامتة.
202
"هاتفها مغلق .مل أمن هذه اللّيلة بسبب قلقي عليها .أنا أنتظار
قدومها يف أيّة حلظة ولكنّها مل تظهر بعاد .أميكان أ حيا ّ هباا
مكروه؟!"
توسّمت يف ظهوره أم احلصول على إجابة تشفي غليلها.
"ال تقلقي سأقوم بالبحث عنها .ولكن إذا ظهارت جمادّدًا ال
تتردّدي يف االتّصال باي فورًا .وإغالق الباب وعدم السّاماح أليّ
كا بالدّخول! .ه هذا مفهوم؟!"
"نعم"
غادر العمارة وهو ال يلوي على شيء .كا إحساسه يف حملّاه
هذه املرّة .أدرك أ أيّ تأخّر سيؤدّي إىل جرمية أخارى وخاروج
القضيّة عن السّيطرة متامًا .قرأ يف إحدى كتب الفلسافة أ ّ الشّاكّ
يقود إىل الفح الدّقيق ملا يُعتقد معرفةً .وبالتايل إعاادة النّظار يف
الواقعيّة السّاذجة لتكوين فكرة واضحة عن اجملرم احلقيقيّ .أزمع على
جماهبة األمر وجهًا لوجه فاستق ّ سيّارة طاكسي مثّ اتَّجه إىل غارب
املدينة .اتّص بكهينة ليعلمها بوجهته اجلديدة وطلب مناها عناوا
أحدهم .أقف اخلطّ بعد أ طلب منها موافاته هناك رفقاة عناصار
األمن.
مل ميض زمن طوي حتّى وص إىل العنوا املطلوب .كانات
العمارات متراصّة وتتخلّلها مساحات ترابيّة مهملة وطريق إسافليتّ
يسمح مبرور سيّارة واحدة فقط .كانت الشّمس متي حنو األصاي
والسّماء تتخلّلها بعض الغيوم .بدت كقطن متفرّق تالعبت به أصابع
صباي .أجال بصره يف املكا وحترّكت قدماه بثبات .فجاأة بارز
شخ من ب السّيّارات املركونة داخ حيّز مستطي على شاك
203
ملعب كرة قدم .كا ميسك بسلسلة تنتهي بطاوق يلافّ عناق
«بيتبول» ضخم البنية .اقترب من الشّخ حبذر فالتفات الرّجا
حنوه.
"مراد يب أ ترافقين إىل مركز الشّرطة"
اهتزّت السّلسلة يف يده بعنف وانغرز الطّوق يف رقبة البيتباول
حتّى خيّ إليه أ ّ رقبته ستنقلع بفع الشّدّ .كا نباحه حادًّا وأسنانه
قاطعة .حاول التّركيز على ما سيقوله.
"انتهى األمر مراد .لقد ظهرت حقيقتك كاملة ويب أ تسلّم
نفسك".
كا أدم السّماء أزرقَ تتخلّله سحب بيضاء بادَا للحظاات
وكأنّها تتوقّف يف مكاهنا .يف تلك اللّحظات أخرج ماراد مسادّس
برييطا 92من حتت قميصه وصوّبه حنو أمحاد .انقطعات الرّيااح
وتوقّفت األرض عن الدّورا فجأة .كا ك ّ ما ياراه هاو فوهاة
املسدّس مصوّبة حنوه.
"لن أرافقك إىل أيّ مكا "
بدت مالحمه متصلّبة وقد أظلم جبينه فجأة وهو يبذل جهاده
لإلمساك بالكلب.
"إهْ َدأْ مراد أعلم ما عانيته يف املاضي .اآل عليك أ تتوقّف أل ّ
األمور قد بدأت خترج عن سيطرتك"
حاول أمحد كسب املزيد من الوقت وإهلاءه بالكالم للخاروج
من الورطة.
قاد يده حنو خصره حبثًا عن املسدّس.
"إرمِ املسدّس جانبًا وإال أطلقت النّار عليك!"
204
زاد غضبه من هياج الكلب ونباحه.
رفع يده مستسلما ورمى املسدّس أمامه على بعد متارين .دقّ
قلبه بعنف كالرّعد وهو ينظر إىل فوهة املسدّس .كا جسمه كلّاه
ينضح بالعرق فراح يأخذ أنفاسًا عميقة وبطيئة ليهدّئ من نفسه.
"العاقل من افتتح يف كلّ أمر خامتتهه
وعلم من باء كهلّ شهيء عاقبتهه
أال تذكر هذا البيت؟ يبدو أنّك مل تعرف عاقبة هتوّرك عنادما
حشرت نفسك يف األمر .إنّين أطبّق العدالة الّيت عجز عنها القاانو .
هذا ك ّ ما يف األمر .وأنت اآل تقف ضدّ هذه العدالة".
انشقّت شفتاه عن ابتسامة غريبة ،عكس بريق عينيه الّذي أنذر
بشرّ مستطري.
كا لعاب الكلب يتطاير من فكّه القويّة .ورأى يف تلك األثناء
سيّارة الشّرطة تقترب حنومها .حترّر الكلب من طوقه وانقضّ علياه.
قب أ يبلغ املسافة الّيت تفصله عن املسدّس ،شعر بأسنا قوية تنغرز
داخ ذراعه .فقد توازنه وارتطم باألرض .أحسّ بسااق سااخن
يتدفّق من ذراعه فوق صدره ويغطي كتفه .قاوم بشدّة ولكن ذلاك
زاد عضالت البيتبول أشدّ انقباضًا .قاوم بشدّة واساتمات ليحارّر
نفسه ،ولكن العضّة كانت أقوى ممّا يتخيّ .أفقدته قوّته وتركيازه
فاستسلم أخريًا وبدأت نظرته تصبح ضبابيّة وتالشت الصّاورة مان
أمام عينيه تدرييّا ،وأثناء ذلك ويف اللّحظة الّيت تسبق فقدا الوعي،
مسع صوتا شبيها بطلقات ناريّة ،أعقبها نباح خافت .رفاع نفساه
بعناء ،وبالكاد كانت ركبتاه قادرت على محله .سال الادّم غزيارًا
على قميصه .عضّ على شفتيه أملًا وهو ميسك بذراعه املصابة .التقط
205
املسدّس من األرض وقب أ يستوعب األمر .كا الكلاب ملقاى
يتمدّد على األرض بدو حراك ،يبدو أ ّ تلك الرّصاصة أصاابته .مثّ
رأى مراد يستلقي على األرض إثر إصابة يف فخذه .وقد همّ شرطيّا
بتقييده.
كانت كهينة من أنقذته بتلك الطّلقات النّاريّة .حبياث رآهاا
تقترب الهثة وهي تضع املسدّس يف جرابه .تفقّدت الكلب مثّ دنات
من أمحد وقد استوىل عليها الذّعر.
"ه أنت خبري؟ ذراعك تنزف أمحد"
تغضّنت مالحمه وهو يضع أصبعا على اجلرح.
"ال تقلقي أنا خبري ،ه وجدمت زهيّة؟"
"نعم حلسن احلعّ ،وجدناها داخ شقّته مقيّدة ولكنّها خبري"
تنهّد أمحد بارتياح وازداد أمله مع مرور الوقت مثّ مسع كهيناة
تقول بلهجتها العاصميّة:
"دعنا نأخذك إىل املستشفى ،فأنت تنزف بغزارة!".
وساقت يدها دو شعورها إىل معصمه فاأحسّ برعشاة يف
جسده وكأنّها تيّارٌ كهرباقيّ مرّ جبسده .استرجعت يادها يف رفاق
وهي تنظر إليه يف قلق.
"لن أذهب للمستشفى إالّ بشرط"
نظرت إليه يف حرية.
"حسنا .ما هو؟".
"رافقيين إىل هناك!".
ابتسمت موافقة مثّ لفّت ذراعه بيدها النّاعمة وغادرا املكا .
206
-13-
يف صباح اليوم التّايل .عُقد اجتماع يف الطّابق العلويّ واستُدع َي
مجيع أعضاء القسم .اضطرّ بن ذهيبة يف ذلك اليوم رغماا عناه إىل
إفساح اجملال ألمحد .الّذي بسط ذراعه اليسرى فوق الطّاولة يف وضع
مستريح ،وكانت يده األخرى مضمّدة بإحكام .وضع رجْال فاوق
األخرى بينما نقرت أصابع يده حبركة عشواقيّة على سطح الطّاولة.
جلست كهينة على اجلهة املقابلة وأخذت متسّد شعرها حبركة رشيقة
من ذراعها .تبادال األحلاظ لفترة وذلك قب أ يطبق الصّمت علاى
القاعة ويرغَم احلاضرو على االنتباه.
كا بن ذهيبة يشتع حنقا ،وهو يرى الوجوه تويل اهتمامهاا
شطر الشّرطيّ األكثر إثارةً للمتاعب يف القسم.
"قب التّطرّق للموضوع سأترك كهينة توضّح لكم بعض األمور
فهي أقدر منّي يف ذلك"
امحرّت وجنتاها من شدّة احلياء وما كانت تتوقّع أ يباغتاها
هبذه املهمّة.
"حسنا .لنبدأ بعرض القصّة من هنايتها".
طوّحت شعر رأسها إىل اخللف مثّ أردفت:
"بعد تلقّي اتّصال أمحد ،توجّهنا إىل املكا ملوافاتاه .بعاد أ
شقّة فعثرنا على رهينة حمتجزة هناك .تدعى قبضنا على مراد ،فتّشنا ال ّ
207
زهيّة وجدنا أ ّ هلا عالقة مع ك ّ ما حدث يف اآلونة األخرية .مان
حسن احلعّ أنّنا وصلنا إليها يف الوقت املناسب".
اشرأبّت األعناق حوهلا وتطلّعت إىل مساع املزيد .زادها ذلاك
ارتباكا وحياءا.
شقّة عثرنا على مبلغ من املال ،واألهمّ من كا ّ "بعد تفتيش ال ّ
هذا أنّنا وجدنا ساق الكلوروفورم ،هذا املخادّر الّاذي اساتعمله
لإلطاحة بفريسته يف ك ّ مرّة".
توقّفت حلظة عن سرد األحداث ،لتستردّ أنفاسها مان شادّة
االنفعال.
"هذا ك ّ شيء .فمن خالل املعلومات الّيت حبوزتنا ،علمنا أنّها
حجزت تذكرة ذهاب إىل باريس قب يوم فقط ،وذلاك عقاب
حتويالت ماليّة ضخمة قامت بضخّها يف أحد البنوك األجنيّة .وهاو
نفس البنك الّذي أودع فيه كال الضّحيّت أقصد يوساف وخليا
أمواهلما من قب ،فقد قامت باالحتيال على الرّجل بطريقة ماكرة".
"يبدو أ ّ هذه األخرية شعرت بالتّهديد يالحقها وخاصّة بعاد
مصرع خلي ،فحاولت اهلروب قب فوات األوا .ولكنّها وقعت يف
الفخ الّذي نصبه هلا مراد منذ البداية .ومن حسن حظّها أنّنا وصالنا
إليها يف الوقت املناسب".
توقّفت عند هذه النّقطة لترى إ كا ما تقوله إىل حدّ اآل قد
قدّم اإلضافة الالّزمة .وكانت النّتيجة مرضية ،وطغى الصّمت علاى
القاعة .كا أمحد يرمقها بإعجاب ،والسّرّ وراء طلبه السّاابق هاو
حبّه للكنتها العاصميّة .ومسعت إذْ ذاك صوتا مباغتا أتى من جاناب
القاعة .التفتت فرأت فتحي يتكلّم:
208
"مادام أنّها عرفت أنّه وراء ك ّ اجلراقم املرتكبة فلماذا مل تَشِ به
من قب علمًا أنّها كانت مستهدفة منذ البداية؟"
"كا لديها خيارا " تدخّ أمحد أخريًا.
"اخليار األوّل متثّ يف اعتقال مراد بتهمة القت وبالتّايل اخلروج
من الورطة بأق ّ األضرار ولكنّنا يف األخري مل جند دليال كافيًا إلدانته،
فأطلق سراحه .بالتّايل أصبح أمامها خيار أخري ،وهو أ تلوذ بالفرار
مع ما خفّ محله وثق مثنه .أعين التّحويالت املاليّة الّيت قامت هبا .مثّ
ترتيبات السّفر حنو فرنسا".
توقّف برهة يتفرّس يف الوجوه احملدّقة:
"أظنّين حتدّثت طويال عن شيء ثانويّ ،لنعد إىل البداية ،حياث
إنّين قلت يف أوّل األمر أ ّ كالًّ من خلي ويوسف كا َ يفرّ من شيء
ما ولكنّين مل أكن أعلم حينئذ السّبب يف ذلك .ولكن بعد التّحقياق
يف االختالسات الّيت وقعت قب ثالث سنوات تبيّن أ ّ ماراد كاا
بريئا متامًا .ممّا جعلين أعتقد بوجود شيء مشبوه إزاء تلك القضايّة.
كانت هناك مؤامرة خبيثة حيكت ب خلي ويوسف لإلطاحة مبراد
الّذي مارس عمله حتت ضغوط رهيبة ،وحتت التّهديد بفصاله عان
العم يف عدّة مناسبات .من أج تغطية الرّجل .
"يف خضمّ هذا النّزاع ،الحت يف األفق مشكلة جديدة ،تزامنت
مع ظهور زهيّة .اكتشفتُ بعد التّحقيق أنّها كانات مرتبطاة ماع
يوسف-مديرها السّابق-يف عالقة شرعيّة (زواج عريفّ) .كانت هي
من تسبّبت يف تدمري مراد وإرساله إىل السّجن .كا دورها يتمثّ يف
عقد الصّفقات املهمّة إلجناز بعض املشاريع .مسح هلا نفوذها لتتالعب
بأرقام املشارك يف املناقصات الوطنيّة لصاحل شركة بنااء معيّناة.
209
وتقوم هذه الشّركة بدورها ،بتسديد شطر من املاال إىل حسااهبا
اخلاصّ .ولسدّ هذه الثّغرة املاليّة البدّ من ح ّ آخر .يتمثّ هذا احلا ّ
يف إنشاء عالقة خاصّة مع خلي ،مثّ توريطه يف األمر ليكو سندا هلا
يف اخلطّة .وبالتّايل تكو املصادقة على كلفة املشروع املضافة ،أعاين
الومهيّة ،بدو متاعب .لتدفع اخلزينة يف األخري هذا املبلغ للشركة".
"ولتكو اخلطّة مثالية ،وجب عليهم التّضحيّة بشخ آخر ،له
عالقة مباشرة باملوضوع .كا هذا الشّخ املثايلّ ،هو بطّيّب مراد.
كلّكم تذكرو تلك الوثاقق املزوّرة الّيت تسبّبت يف توقيفاه .فبعاد
التّحقيق يف الوثاقق وجدنا أ التّوقيعات ليست ملراد ،وإنّماا هاي
لشخ آخر قام مبحاكاة التّوقيع األصليّ".
"أمّا مراد فقد احندرت حياته بشك رهيب وتعقّدت أوضاعه؛
فقد عاىن الرّج من مشاك عاقليّة وعاطفيّة جعلته يفقاد رشاده
الحقًا .طلبت زوجته الطّالق بعد أيّام من سجنه وتزوّجات مارّة
أخرى وهو ال يزال داخ السّجنّ ،مث مل مترّ أشاهر عديادة حتّاى
توفّيت والدته إثر مرض عضال يف دار العجزة .ك ّ ذلك كاا لاه
األثر البالغ على نفسيّة مراد .فقد علمتُ من خالل زياريت للسّاجن
أنّه كا يعاين من أعراض انفصام الشّخصيّة ،وأوشك إطالق سراحه
بعد عامه األوّل ،ولكنّهم عدلوا عن قرارهم بعد أ بدَا متماسكًا.
هناك يف السّجن قام بإنشاء عالقات جديدة مع نزالء آخارين،
أين تعرّف على اهلواري ،لتستمرّ العالقة إىل ما وراء القضبا .أظنّكم
تذكرو مادّة الكلوروفورم الّيت استعملت للقضاء على خلي .وجدنا
الحقا بعد مقت اهلواري كمّيّة من نفس املادّة داخ مسرح اجلرمية،
والّيت جعلتنا نعتقد أ ّ القات يف حالّيت يوسف وخلي هاو نفساه.
210
وبالفع كا اهلواري مبثابة قات مستأجر من مراد .إذ كا بيناهما
اتّفاق على أ يتقاضى هذا األخري مبلغا ضخما لقاء ما يقاوم باه.
حص مراد على املال عن طريق ابتزاز ك ّ من يوسف وخلي عان
طريق تقدم أدلّة تدينهما أو عن طريق التهديد بالسالح ،وهذا ماا
يفسر سبب رغبتهما يف اهلروب .أعترف أ مراد قام خبطوة جريئاة
وذكية ح قام بتسليم نفسه .اضطرّنا إىل إخراجه من حساباتنا بعد
وفاة خلي .خدع اجلميع وأبعد نفسه عن داقرة االتّهام ممّا سيهيّئ له
الفرصة الذّهبيّة فيما بعد إلمتام عمله اإلنتقاميّ يف هدوء".
أطلق زفرة عميقة كمن يتأسّف على ضياع شيء ما.
"إذا رأينا القضيّة منذ البداية فإنّنا مل جند أيّ رابط ب اهلاواري
والضّحايا .ممّا جعلين أشكّ يف وجود طرف آخر .ذلك ما قادين إىل
التّحقيق يف ماضي ك ّ من الضّحايا الثالث ،فعثرت على خيط قادين
حنو احلقيقة .كا عليّ التأكّد من أمرٍما ،فقمت بزيارةٍ إىل السّاجن،
أين قضى مراد ثالث سنواتٍ هناك .مل أكن ألختيّ أ تلك الزّياارة
ستسفر عن ح ّ ك ّ املشكالت الّيت استعصت عن احل ّ .ومن حسن
احلعّ أنّنا حترّكنا يف الوقت املناسب".
211
-14-
216