You are on page 1of 92

‫البوهيمي‬

‫جمموعة قصصية‬
‫البوهيمي‬

‫جمموعة قصصية‬

‫أحمد رشدي‬
‫مشروع‬ ‫البوهيمي‬
‫النشـ ـ ــر‬
‫احلـ ـ ـ ـ ـ ــر‬ ‫جمموعة قصصية‬
‫أحمد رشدي‬

‫إصدار‪ :‬أكتوبر ‪2017‬‬

‫رقم اإليداع بدار الكتب المصرية‬

‫‪2017 / 21773‬‬

‫‪Mob:‬‬ ‫‪+2 01091985809 - +2 01272143509‬‬


‫‪WhatsApp:‬‬ ‫‪+2 01091985809‬‬
‫‪Site:‬‬ ‫‪www.Lotusfreepub.com‬‬
‫‪Mail:‬‬ ‫‪Lotusfreepub@gmail.com‬‬
‫‪F Account:‬‬ ‫‪www.facebook.com/lotusbookshopp‬‬
‫‪F Page:‬‬ ‫‪www.facebook.com/lotusfreepub‬‬

‫منشورات دار لوتس للنشر الحر‬


‫أول شارع الملك فيصل ‪ -‬بجوار محطة مترو فيصل ‪ -‬الجيزة ‪ -‬مصر‬

‫كل مــا ورد بهــذا الكتــاب هــو مســئولية مؤلفــه مــن حيــث اآلراء واألفــكار‬
‫أصيــا لــه غيــر منقــول‪ ،‬وجميــع الحقــوق محفوظــة لــه‪.‬‬
‫ً‬ ‫والمعتقــدات‪ ،‬وكونــه‬

‫الغالف واإلخراج الداخلي‪ :‬دار لوتس للنشر الحر‬


‫إىل مىن‪ ..‬ملهميت‪ ،‬وسيدة تلك الكلمات‬
‫إطاللة‬

‫ـذت كرســيًا علــى ميــن طاولــة تطــل علــى شــرفة كازينــو‪،‬‬


‫اختـ ُ‬
‫حدقــت انحيــة الشــارع متأمــا‪ ،‬أحاديــث املــارة متداخلــة‪،‬‬
‫أص ـوات‪ ،‬وأض ـواء ســيارات‪ ،‬أعمــده إانرة عاليــة تتــدىل برأســها‬
‫علــى رصيــف حيمــل مقاعــد عامــة جيلــس عليهــا املتحابــن يف‬
‫تبــادل للهمســات‪ ،‬كان عــدد اجلالســن كثـرا؛ فاليــوم هــو العيــد‬
‫ـف العشــاق علــى الكراســي اثنــن‬ ‫املقـ ّـرر عامليــا للحــب! اصطـ ّ‬
‫اثنــن‪ ،‬وامتــأت املطاعــم‪ ،‬واملقاهــي‪ ،‬وأتلقــت حمــاالت اهلــدااي‪،‬‬
‫‪7‬‬
‫كل شــيء اكتســى برداء أمحر اللون‪ ،‬كل شــيء حويل قد اعتنق‬
‫اللــون األمحــر‪ ،‬مالبــس محـراء‪ ،‬وهــدااي معلقــة ابللــون األمحــر‪ ،‬حىت‬
‫الســيارات ذات اللــون األمحــر كثــرت علــى الطريــق‪ ،‬أضـواء اإلانرة‬
‫ـدت‬
‫محـراء طابعــة علــى الطريــق اللــون األمحــر‪ ،‬وعلــى الوجــوه وجـ ُ‬
‫كل شــيء مكتســي ابألمحــر‪ ،‬كل شــيء أمحــر‪ ،‬انتبهــت لنقطــة‬
‫ابهتــة اللــون التــف‪ ،‬حوهلــا كل هــذا االمح ـرار!‬
‫كانــت قابعــة علــى حافــة الشــارع‪ ،‬بقعــة داكنــة يعتليهــا غبــش‬
‫ت نظــري عليهــا حــى ابنــت يل واضحــة‪ ،‬وصــار‬
‫وغمــوض‪ ،‬ركـ ْـز ُ‬
‫مشوشــا وابهتــا‪ ،‬وجدهتــا جالســة علــى كرســي‬
‫ً‬ ‫كل ‪-‬مــا عداهــا‪-‬‬
‫ـي اللــون‪ ،‬وعلــى رأســها غطــاء‬
‫متحــرك‪ ،‬وترتــدى ثــواب مهــرائ بـ ّ‬
‫شــعر أزرق‪ ،‬تضــع علــى قدميهــا قطعــة كحــاء مــن القمــاش‪،‬‬
‫ورود محـراء مل أكــن ألحملهــا إال مــن‬
‫يـراص عليهــا بعــض الــورود‪ٌ ،‬‬
‫بعــد متعــن شــديد‪.‬‬
‫ـت مــن جلســي للخــارج‪ ،‬متجهــا‬
‫قــادين الفضــول أكثــر‪ ،‬فنهضـ ُ‬
‫ـت منهــا‪ ،‬فبــان‬
‫حنوهــا خبطـوات مسـريبة بعــض الشــيء حــى اقرتبـ ُ‬
‫ـت مــن جيــي بعــض‬
‫يل مشــهدها الكئيــب أكثــر وضوحــا‪ ،‬أخرجـ ُ‬
‫‪8‬‬
‫ـت مــن ِحجرهــا‬
‫النقــود ومــددت هلــا يــدي‪ ،‬فأمـ َـدت يدهــا وأخرجـ ْ‬
‫ـت يل يدهــا وألقــت عليــا نظــرة مسـريبة‪ ،‬أخذهتــا منهــا‬
‫وردة‪ ،‬رفعـ ْ‬
‫ـت مــن اهتمامــي قائلــة‪:‬‬
‫وأان أنظــر إليهــا شــاكرا إايهــا‪ ،‬تعجبَـ ْ‬
‫‪ -‬رىب يعطيك الصحة‪.‬‬

‫عُــدت مــن حيــث أتيــت جبـوار الشــرفة أأتمــل النــاس‪ ،‬ضحــكات‬


‫تتعــاىل‪ ،‬وأايد متشــابكة‪ ،‬عــدت ألأتملهــا مــن جديــد‪ ،‬كانــت‬
‫نظـرايت هلــا حتمــل نوعــا مــن التأمــل‪ ،‬والشــفقة‪ ،‬واالســتغراب! أي‬
‫حيــاة تلــك الــي حتياهــا هــذه املســكينة؟ ملــاذا مييــز عيــد احلــب‬
‫يرعــى احلــب بغــر‬
‫بــن النــاس فيختــار مــن بينهــم األصلــح؟ كيــف َ‬
‫حيــاد؟‬
‫ـت عليــا نظــرة قصــرة‪،‬‬
‫ـت يل‪ ،‬ألقـ ْ‬
‫ـت النظــر إليهــا قليــا فانتبهـ ْ‬
‫أطلـ ُ‬
‫مث أشــاحت بوجههــا للناحيــة اليســرى‪ ،‬ومل تفتــأ أن أدارتــه انحيــي‬
‫ـت يف‬‫مــن جديــد‪ ،‬تلــك النظــرة الثانيــة كانــت طويلــة نوعــا‪ ،‬حملـ ُ‬
‫ـان متداخلــة؛ تعجــب‪ ،‬وفضــول‪ ،‬وانكســار‪ ،‬وحــزن‪،‬‬ ‫نظراهتــا معـ ٍ‬
‫َ‬
‫وأيضــا اهتمــام‪ ،‬حــى قطــع نظرهتــا شــاب وفتــاة‪ ،‬وق َفــا أمامهــا‬

‫‪9‬‬
‫ليبتاعــا منهــا ورودا‪ ،‬مل تَكــن يف جعبتهــا ســوى أربــع وردات‪،‬‬
‫يت أان واحــدة‪ ،‬ووجدهتــا متــد يدهــا بوردتــن هلذيــن احملبــن‪،‬‬
‫اشـر ُ‬
‫ـت يل وهلــا‬
‫وبقــي معهــا وردة واحــدة‪ ،‬عندمــا ذهــب االثنــن وضحـ ْ‬
‫نطــاق الرؤيــة مــن جديــد‪ ،‬فأعــادت النظــر يل مــرة أخــرى‪.‬‬
‫ما شغلين يف تلك النظرة عن سابقيها أنين خجلت من نظرهتا‪،‬‬
‫ـي صوهبــا اثنيــة‪،‬‬
‫ـحت بوجهــي عنهــا ومل ألبــث أن أدرت عيـ ّ‬
‫أشـ ُ‬
‫ـدت شــااب وفتــاة يقفــان أمامهــا وبعــد قليــل تركاهــا واســتأنفا‬‫فوجـ ُ‬
‫ـت يل البائعــة‪ ،‬حملتهــا متــد يدهــا حلِجرهــا ممســكة‬ ‫ســرمها‪ ،‬فبانـ ْ‬
‫ابلــوردة املتبقيــة‪.‬‬

‫ظللت متأمال ألعرف من ذا صاحب احلظ الذي سينال الوردة‬


‫األخــرة؟ وجدهتــا تُلقــى النظ ـرات هنــا وهنــاك‪ ،‬تتأمــل الســائرين‬
‫أبعــن ُموشــاة ابلرتقــب‪َ .‬علــت األص ـوات وكثُــر املــارة وامتــأ‬
‫الكازينــو ابلرفقــاء‪ ،‬فجــأة قاطعــي صــوت‪ ،‬إنــه صــوت رفيقــي‬
‫الــي كنــت يف انتظارهــا‪ ،‬كانــت مبتهجــة للغايــة‪ ،‬ومتألقــة‪ ،‬مرتديــة‬
‫أمجــل األل ـوان الــي ‪-‬ابلطبــع‪ -‬يرتأســها اللــون األمحــر‪ ،‬اقرتبــت‬

‫‪10‬‬
‫مــي حمملــة ابهلــدااي والــورود‪ ،‬تكســو وجههــا ســعادة طفوليــة ومــرح‬
‫ـت يف‬
‫ـت جبانــي فابتســمت هلــا ومهسـ ُ‬
‫ورغبــة يف االنطــاق‪ ،‬جلسـ ْ‬
‫أذهنــا بكلمــات‪ ،‬كان كالمهــا كث ـرا ولطيفــا‪ ،‬حتدثنــا قليــا حــى‬
‫اقرتب منّا النادل متســائال عما نريده من شـراب‪ ،‬ومن مث ذهب‬
‫ـت رفيقــي قائلــة‪:‬‬
‫متنقــا بــن الطــاوالت‪ .‬مهسـ ْ‬
‫‪ -‬املكان مجيل جدا‪.‬‬
‫مث أشــاحت بوجههــا عــي متأملــة املــكان واجلالســن‪ ،‬والزينــة‬
‫أدرت أان وجهــي للناحيــة األخــرى حيــث الشــرفة‪،‬‬ ‫املعلقــة‪ُ ،‬‬
‫ـت حينمــا وجــدت البائعــة تنظــر حنــوان!‬
‫تعجبـ ُ‬
‫مل أجــد يف يدهــا الــوردة املتبقيــة‪ ،‬فأدركــت أن صاحــب احلــظ‬
‫قــد انهلــا‪ ،‬كانــت نظرهتــا هــذه املــرة حتمــل عمقــا عجيبــا؛ وجههــا‬
‫انعــس بعــض الشــيء وعيناهــا غائ ـراتن حزينتــان‪ ،‬وهتدلــت‬
‫شــفتاها ابنفراجــة بســيطة‪ ،‬أضفــت علــى وجههــا طابعــا مســكينا‪،‬‬
‫ـت يديهــا علــى إطــارات‬
‫ـت االنشــغال عنّــا‪ ،‬بعــد قليــل وضعـ ْ‬
‫تصنّعـ ْ‬
‫ـت مــن‬
‫الكرســي دافعــة إايه لألمــام ويف انعطافهــا بــه ميينــا وقعـ ْ‬
‫ـت!‬
‫حجرهــا وردة‪ ،‬تعجبـ ُ‬
‫‪11‬‬
‫ـت فجــأة واحننــت جبســدها لألســفل ملتقطــة إايهــا برقّــة‪،‬‬
‫توق َفـ ْ‬
‫وضعْتهــا مــرة أخــرى يف ِحجرهــا‪ ،‬ودفعــت بكرســيها يف اجتــاه‬
‫ـاي عليهــا‪ ،‬تدفــع ابإلطــارات‬
‫ـمرت عينـ ّ‬
‫الشــارع املعاكــس يل‪ ،‬تسـ ْ‬
‫لألمــام فيتحــرك الكرســي وعندمــا يتباطــأ‪ ،‬تقــوم ابلدفــع مــرة أخرى‬
‫ـذت يف االبتعــاد أكثــر فأكثــر وســط الزحــام حــى‬
‫ابحـراف‪ ،‬أخـ ْ‬
‫ابتلعهــا الشــارع‪ ،‬وتالشــت متامــا عــن نظــري‪.‬‬

‫•••‬

‫‪12‬‬
‫البوهيمي‬

‫وقــت الغــروب؛ الطقــس خريفــي‪ ،‬أوراق شــجر متســاقطة‪ ،‬صــوت‬


‫احلفيــف‪ ،‬يف وســط تلــك االختالجــات الطبيعيــة الرائعــة‪ ،‬يســر‬
‫ممــدوح وســط شــارع ضيــق نوعــا مــا‪ ،‬تـراص علــى حوافــه أعمــدة‬
‫إضــاءة تشــع ضــوء أمحـرا خافتــا بعــض الشــيء مرتــداي قبعــة وكوفيــة‬
‫وواضعــا يديــه يف جيــب معطفــه الطويــل‪.‬‬
‫كان يســر بتــؤدة‪ ،‬خافضــا رأســه قليــا؛ أخــرج يديــه مــن جيبــه‬
‫ليشــعل ســيجارة‪ ،‬نفــث الدخــان فتصاعــد عاليــا يف صــورة‬

‫‪13‬‬
‫إهليجــات ابلغــة الرهافــة‪ ،‬بعــد قليــل مــن ســره قابلــه رجــل جالــس‬
‫ميينــا‪ ،‬يرتــدي ســرة ممزقــة وميــد يديــه ليشــحذ‪ ،‬مل يعــره ممــدوح أي‬
‫اهتمــام ومل ينظــر إليــه أصــا‪..‬‬
‫(كانت تلك عادته دوما يف التعامل مع الشحاذين)‪،‬‬
‫أمــد اخلطــى منحــي الـرأس حــى وصــل إىل آخــر الشــارع‪ ،‬احنــدر‬
‫ميينــا ومــن مث دخــل أحــد املقاهــي الراقيــة إىل حــد مــا ليختفــي أثــره‬
‫مــن الشــارع املمتــد يف ال مبــاالة‪.‬‬

‫•••‬

‫ـت املقهــى ألجــد هــذا العربيــد جالســا يف ركنــه األقصــى‬‫دخلـ ُ‬


‫كعادتــه‪ ،‬يف وجــود ممــدوح أُلفــة ومــاذ صــادق‪ ،‬ولطاملــا طُفنــا‬
‫ســواي يف أحنــاء املدينــة وارتــدان مقاهيهــا وابراهتــا وأرصفتهــا! يف‬
‫جلســي معــه أفيــض مبــا ميــوج بداخلــي وأبــوح مبكنــوين‪ ،‬يســرين‬
‫ـحبت كرســيا أمــام الطاولــة وجلســت يف مواجهتــه‪،‬‬
‫معــه البــوح؛ سـ ُ‬
‫‪14‬‬
‫أتملتــه قليــا قبــل أن أجــده يقــول‪:‬‬
‫‪ -‬حنن جمتمع يستحق اإلابدة!‬
‫مل أرد‪ ،‬وأخذت أحدق يف صمت فاستطرد‪:‬‬
‫‪ -‬كل مــا نعيشــه ابت ال يطــاق‪ ،‬حــى هــؤالء الشــحاذين ال‬
‫أعــرف ملــاذا ميلــؤون الشـوارع بتلــك الطريقــة املقــززة؟!‬
‫أمت مجلتــه مث أمســك بكــوب الشــاي الكائــن أمامــه مرتشــفا منــه‪،‬‬
‫بعدهــا وضعــه علــى الطاولــة بقــوة جعلــت بعــض الــرذاذ يتطايــر‬
‫ملوحا بيده ألعلى‪،‬‬
‫وكأنه يشاركه يف مترده‪ ،‬وقبل أن يتفوه أشار ّ‬
‫اقــرب منــه النــادل مذعنــا لطلبــه فقــال لــه ممــدوح‪:‬‬
‫‪ -‬أريد زجاجة من (الريد ليبول) وبعض حبات الذرة اإلسبانية‪.‬‬
‫أدار النــادل مؤخرتــه الكبــرة جلالســي وذهــب متوجهــا لغرضــه‬
‫حــى تالشــى عــن انظرينــا‪ ،‬نظــر يل صديقــي بغضــب قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا ال تتكلم؟!‬
‫رمقته بنظرة اثقبة قبل أن أطلق كلمايت‪:‬‬
‫‪ -‬ألن تكف عن تلك اهللوسة اليت تعرتيك؟‬

‫‪15‬‬
‫ابن الغضب أكثر وضوحا على وجهه‪ ،‬أخذ نفسا من سيجارته‬
‫ونفث دخانه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أي هلوسة تلك اليت تتحدث عنها؟‬
‫فاستأنفت حماكميت‪:‬‬
‫‪ -‬مــا الــذي دهــاك؟! حنــن يف عــامل حيتــاج لتصرفــات وليــس‬
‫الهتامــات جوفــاء نُعلــق عليهــا فشــلنا‪ ،‬يف هــذا العــامل اي ســيدي‬
‫البقــاء والغلبــة لصاحــب املــال‪ ،‬وليــس لصاحــب أقــام الرصــاص‬
‫الرخيصــة‪.‬‬

‫كان النــادل قــد أتــى ابلش ـراب‪ ،‬أزال ممــدوح غطــاء الزجاجــة‬
‫وأفــرغ القليــل مــن الويســكي يف الكــوب‪ ،‬ابتلعــه برشــفة واحــدة‬
‫مث نظــر إليــا قائــا وقــد ابنــت علــى وجهــه عالمــات االســتنكار‪:‬‬
‫‪ -‬هل ستتخلى عن مبادئك؟‬
‫قلت بصوت أهدى قليال رامسًا على وجهي ابتسامة صفراء‪:‬‬
‫‪ -‬أي مبــادئ تلــك؟ مــاذا فعــل يل الفــن التشــكيلي اي ممــدوح؟!‬

‫‪16‬‬
‫مــا ســعاديت يف بعثــرة أل ـوان علــى لــوح أبيــض‪ ،‬وأان ال أجــد مــا‬
‫أقتــات عليــه؟‬
‫‪ -‬ســعادتك يف إمتــام رســالتك بصــرف النظــر عــن أي مقابــل‬
‫مــادي‪.‬‬

‫ت عليــه بنفــس‬‫ـرد ْد ُ‬
‫قاهلــا وهــو يرتشــف مــن الــكأس الثــاين‪ ،‬فـ َ‬
‫مالمــح النظــرة األوىل‪ ،‬ولكــن بصــوت أعلــى قليــا‪:‬‬
‫‪ -‬أفِــق مــن غيابــك‪ ،‬املــال هــو كل شــيء‪ ،‬أنظــر حولــك لــرى‬
‫البنــاايت الشــاهقة‪ ،‬والســيارات الفارهــة‪ ،‬والنســاء األنيقــات‬
‫اجلميــات‪ ،‬كل هــذا لــن أييت إليــك إال ابملــال‪ ،‬لــن أييت إال‬
‫ابلص ـراع‪.‬‬
‫قاطعين بسرعة قائال‪:‬‬
‫‪ -‬الصراع والنفاق والسرقة؟‬
‫قلت بغضب‪:‬‬
‫‪ -‬وليكــن اي صديقــي‪ ،‬خــذ احليــاة علــى مــا عليهــا‪ ،‬كــم حيــاة‬

‫‪17‬‬
‫ستعيشها؟ إن مل تنتهز الفرص فعليك السالم‪ ،‬اخلع عنك رداء‬
‫الغــرور هــذا‪ ،‬انبســط للنــاس وعــش معهــم بطريقتهــم‪ ،‬إن كذب ـوا‬
‫الشعر‬‫فاكذب وإن سرقوا فاسرق وإن فسدوا فأفسد‪ ،‬واعلم أن ِ‬
‫لــن يـُـؤيت مثــاره ولــن جيعلــك تعيــش حيــاة كرميــة‪.‬‬
‫رمقين بتعجب قبل أن يقول‪:‬‬
‫‪ -‬يؤسفين أن تقول مثل هذا الكالم‪.‬‬

‫كنت أعلم يقينا أنه لن يتقبل كالمي‪ ،‬فأان أعرف ممدوح جيدا‪،‬‬
‫ليــس مــن الســهل أن يتغــر أو أن يقتنــع مبــا خيالــف اعتقاداتــه‪،‬‬
‫ممــدوح يعتقــد أبنــه إنســاان عظيــم وعبقــري‪ ،‬وأنــه أفضــل شــاعر‬
‫مقارنــة مبعاصريــه مــن الشــعراء‪ ،‬كل مــا يشــغل اهتمامــه هــو كتابــة‬
‫الشــعر واحتســاء الويســكي ومرافقــة الفتيــات‪ ،‬يرفــض كل تقاليــد‬
‫اجملتمــع وعاداتــه‪ ،‬حــى الديــن نفســه ختلــى عــن اعتناقــه قائــا ذات‬
‫ُسـ ْكر‪:‬‬
‫‪ -‬الدين هو أكثر اعتقاد اجتماعي متخلف‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫يبتعــد دائمــا عــن أي تقيــد‪ ،‬حــى الــزواج يــرى أنــه مبثابــة إحجــام‬
‫حلريتــه‪ ،‬فهــو أســلوب اجتماعــي مشــوه‪ ،‬فأطلــق العنــان حلريتــه‪،‬‬
‫ـددت عالقاتــه ابجلنــس اآلخــر‪ ،‬مل يكــن ليفــرق بــن فتــاة صغــرة‬
‫تعـ ْ‬
‫أو امـرأة طاعنــة يف الســن‪ ،‬يغتنــم منهــن حلظــات متعــة عابــرة وال‬
‫يفتــأ يكتــب عنهــن شــعرا!‬
‫الشــعر الــذي اختــذه ممــدوح قِبلــة أحاديــة حلياتــه برمتهــا‪ ،‬تفــرغ‬
‫متامــا للكتابــة برغــم فقــره املدقــع‪ ،‬الــذي جعلــه يديــن للعديــد مــن‬
‫أصدقائــه مببالــغ ماليــة طائلــة‪.‬‬
‫ـت ‪-‬ولألبــد‪ -‬الفــن التشــكيلي‪ ،‬ال أنكــر أنــي‬
‫أمــا أان فقــد تركـ ُ‬
‫موهــوب فيــه وإن مل تكــن موهبــة ثقيلــة‪ ،‬بَيــد أنــي اخــرت طريقــا‬
‫آخــر‪ ،‬طريــق املــال الــذي اكتشــفت أنــي موهــوب فيــه أكثــر مــن‬
‫الرســم‪ ،‬موهبــي تكمــن يف ذكائــي االجتماعــي‪ ،‬وقــدريت علــى‬
‫إقنــاع أي شــخص ابلعمــل معــي‪ ،‬مســامها مبالــه الــذي أســتثمره‬
‫برباعــة ليعــود بربــح مغــدق علـ ّـي وعليــه‪ ،‬وبرغــم انشــغايل الدائــم‬
‫ابلعمــل‪ ،‬وقناعــايت املاديــة‪ ،‬مل أعتــزل صديقــي ممــدوح وأنتهــز كل‬

‫‪19‬‬
‫فرصــة مــن املمكــن أن أجالســه فيهــا‪.‬‬

‫ـعلت أان أيضــا‪ ،‬مث أمـ ّد يــده‬


‫أشــعل ممــدوح ســيجارة أخــرى‪ ،‬وأ ْشـ ُ‬
‫يل بزجاجــة الويســكي طالبــا مــي أن أشــاركه الش ـراب‪ ،‬أخذهتــا‬
‫ت نصــف الكــوب‪ ،‬كانــت ح ـ ّدة احلديــث قــد‬ ‫مــن يــده وعب ـأْ ُ‬
‫الســك ِر والتغيــب‪ ،‬أخــذان نرتشــف‬
‫ـت علينــا رغبــة شــديدة يف ُ‬
‫أضفـ ْ‬
‫كأســا تلــو اآلخــر‪ ،‬وبــدأ انتشــاء الســكر يســرى بداخلنــا‪ ،‬بــدأ‬
‫احلديــث أيخــذ منحــى آخــر‪ ،‬حتدثنــا يف السياســة وعــن فتيــات‬
‫الليــل‪ ،‬قــال يل ممــدوح‪:‬‬
‫‪ -‬هــل هنــاك فــرق يف جمتمعنــا بــن السياســة والعُهــر؟ وبــن‬
‫التديــن والفجــور؟ النــاس يف الظاهــر ميقتــون الرذيلــة ويؤتوهنــا يف‬
‫اخلفــاء‪ ،‬والسياســي الــذي يتحــدث عــن اإلصــاح هــو ذاتــه الــذي‬
‫ينافــق األعلــى منــه ســلطة‪ ،‬واملتديــن الــذي يتشــدق ابألخــاق هــو‬
‫الــذي يكــذب ويتخابــث‪.‬‬
‫‪ -‬معك حق‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫هكــذا قلــت ممــا جعلــه يســتطرد أكثــر وقــد ابنــت علــى وجهــه‬
‫عالمــات الثمالــة‪:‬‬
‫‪ -‬فليحــرق اجملتمــع بــكل مــا فيــه‪ ،‬أفــكار رجعيــة عفــا عنهــا‬
‫الزمــن‪ ،‬خبــث‪ ،‬ونفــاق‪ ،‬ولئــم‪ ،‬وكــذب‪ ،‬وفهلــوة‪ ،‬وفســاد‪،‬‬
‫وختلــف‪ ،‬وجهــل‪ ،‬حنــن عالــة علــى الوجــود‪ ،‬أال يــدرك الغــرب‬
‫واألمريــكان هــذه احلقيقــة؟ ملــاذا اخرتعـوا القنابــل الذريــة وتركوهــا‬
‫بــا اســتخدام؟ ملــاذا ال يقومــون إبابدتنــا؟‬
‫قــال تلــك اجلملــة فضحكــت بصــوت عـ ٍ‬
‫ـال‪ ،‬وضحــك هــو أيضــا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫قلــت لــه وقــد ســكرت أان أيضــا حــد الثمالــة‪:‬‬
‫‪ -‬رمبــا ينتظــرون كــي يعرف ـوا إن كانــت تلــك القنابــل ســتتأثر هبــا‬
‫حقــول البــرول أم ال!‬
‫ـرت جبانــي فوجــدت لوحــة معلقــة علــى‬ ‫علــت ضحكاتنــا‪ ،‬نظـ ُ‬
‫احلائــط‪ ،‬تطلعــت إليهــا قليــا‪ ،‬كانــت اللوحــة عبــارة عــن ام ـرأة‬
‫ريفيــة تقــوم بوضــع أطبــاق الطعــام علــى طاولــة أرضيــة منخفضــة‪،‬‬
‫قــد التــف حوهلــا ابقــي أفـراد العائلــة الفقــرة‪ ،‬ظللــت أأتمــل اللوحــة‬

‫‪21‬‬
‫قليــا‪ ،‬فجــاء صــوت ممــدوح قاطعــا أتملــي‪:‬‬
‫‪ -‬هل أعجبتك اللوحة؟‬
‫قلت مقتضبا‪:‬‬
‫‪ -‬قليــا‪ ،‬ال علينــا مــن هــذا اآلن‪ ،‬قــل يل ألــن تقــوم بطبــع ديوانــك‬
‫األول قريبا؟‬
‫وكأن السؤال كان سكينا طعنته‪ ،‬أجابين ابستنكار‪:‬‬
‫‪ -‬طبــع مــاذا؟ أنشــر ملــن اي صديقــي؟ هــل جننــت؟! أان أكتــب‬
‫الشــعر لنفســي ولصفوة الشــعراء‪ ،‬تكفيين حمافل الشــعر اليت أتردد‬
‫عليهــا وبعــض النــدوات‪ ،‬الطباعــة تعــى نشــر الشــعر للجمهــور‪،‬‬
‫واجلماهريــة تعــي الفشــل!‬
‫‪ -‬ولكن كيف ستصل كتاابتك للناس؟‬
‫‪ -‬أان يهمين صفوة الشعراء‪ ،‬ال يهمين الناس‪.‬‬
‫موبا‪:‬‬
‫هكذا قال بغرور واضح‪ ،‬فأجبته ّ‬
‫‪ -‬أنــت تكــذب علــى نفســك اي ممــدوح‪ ،‬ليــس هــذا مــا مينعــك‬
‫مــن الطباعــة‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫أتهب إلجابيت بعدما سألين‪:‬‬
‫‪ -‬وما الذي مينعين إذن؟‬
‫‪ -‬مينعك أنك ال متتلك املال الالزم للطباعة أصال‪.‬‬
‫فرد على حبدة‪:‬‬
‫أغضبته تلك اجلملة كثريا ّ‬
‫‪ -‬ال أقبــل منــك هكــذا الــكالم‪ ،‬هــل ســكرت اي عزيــزي؟ هــل‬
‫تُكذبــي فيمــا أقــول؟ افتقــادي للمــال ال جيعلــي أكــذب‪ ،‬لــو كان‬
‫املــال هــو الســبب فلــن أأتخــر عــن البــوح لــك بذلــك‪.‬‬
‫وجدتــه قــد احتــد يف الــكالم كث ـرا وابنــت علــى وجهــه إشــارات‬
‫الضيــق‪ ،‬فاســتطرد ملقيــا علـ ّـي بتلــك اجلملــة‪:‬‬
‫‪ -‬أان لست عبدا للمال مثلك‪.‬‬
‫أتملت كثريا من هذا الكالم مما جعلين أردد‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬كلنــا عبيــدا للمــال‪ ،‬لــو كنــت متتلــك املــال لكنــت اآلن‬
‫شــاعرا معروفــا ومشــهورا‪ ،‬ولقمــت بنشــر العديــد مــن الدواويــن‪.‬‬
‫‪ -‬ال يهمين النشر وال الناس‪.‬‬
‫‪ -‬بل يهمك‪ ،‬كلنا عبيد للمال‪ ،‬وأنت أولنا‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫صمت حلظة‪ ،‬بعدها وجدته يرمقين بنظرة اثقبة قائال‪:‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬صديقــي؟! ال‪ ،‬مل يعــد يوجــد بيننــا صداقــة مــن اآلن‪ ،‬فليذهــب‬
‫كل منــا يف طريقــه‪.‬‬
‫ألقــى علـ ّـي بتلــك الكلمــات الغريبــة واحلــادة‪ ،‬مث هنــض مــن‬
‫كرســيه متجهــا حنــو اخلــارج‪ ،‬اتبعتــه بنظـرات مندهشــة ومتعجبــة‪،‬‬
‫ـفت كــواب مــن الويســكي بنهــم ورميــت عليــه قبــل أن خيــرج‬
‫ارتشـ ُ‬
‫مجلــي اآلنفــة‪:‬‬
‫‪ -‬ال تنسى‪ ،‬كلنا عبيدا للمال‪.‬‬
‫ـي‪ ،‬كنــت متأملــا جــدا ممــا قالــه‪ ،‬هــل بتلــك‬
‫حــى غــاب عــن عيـ ّ‬
‫السهولة يتخلى عن صداقتنا؟! ال‪ ،‬من املؤكد أنه سيعود لرشده‬
‫ـي املزغللــة مــن أثــر الش ـراب يف أحنــاء املــكان‪،‬‬
‫قريبــا‪ ،‬دارت عيـ ّ‬
‫ـت مــرة أخــرى علــى تلــك اللوحــة املعلقــة‪ ،‬ظللــت‬
‫وفجــأة وقعـ ْ‬
‫أنظــر إليهــا‪ ،‬أأتمــل تفاصيلهــا البديعــة‪ ،‬فأحسســت بطيــف مجــايل‬
‫كأســا آخــر‪ ،‬وأشــعلت ســيجارة‪،‬‬
‫ـت ً‬‫يعلــوين ويســتبد يب! صببـ ُ‬
‫أتملــت اللوحــة مــرة أخــرى‪ ،‬وتذكــرت تلــك األايم الــي كنــت‬

‫‪24‬‬
‫أابشــر فيهــا موهبــي يف الفــن‪ ،‬راودتــي إحساســات غريبــة افتقدهتــا‬
‫كث ـرا‪ ،‬أشــحت بوجهــي عــن اللوحــة بعيــدا‪ ،‬وطلبــت زجاجــة‬
‫أخــرى مــن الويســكي‪.‬‬

‫•••‬

‫خــرج ممــدوح مــن املقهــى حيــث الشــارع الضيــق مــرة أخــرى‪ ،‬كان‬
‫لف كوفيته لتطوق رقبته جيدا‪ ،‬ووضع‬
‫املطر أشد من ذي قبل‪ّ ،‬‬
‫يديــه يف جيــوب معطفــه‪ ،‬أخــذ يســر خبطـوات بطيئــة غــر عابــئ‬
‫ابملطــر؛ انعكســت أض ـواء اإلانرة علــى امليــاه املتســاقطة أرضــا‬
‫صانعــة ملعــاان ملفتــا‪ ،‬فاختلجــت بداخلــه الكثــر مــن الشــاعرية‪،‬‬
‫الطقــس مهيــأ لإلبــداع‪ ،‬هــا هــو الشــعر يتجلــى! انتشــى كث ـرا‬
‫بذلــك‪ ،‬مل يكــن يهمــه تركــه لصديقــه فمــن املمكــن أنــه سيســتعيد‬
‫صداقتــه مــرة أخــرى‪ ،‬ولكــن مــا يهمــه اآلن هــو أن يبعثــر تلــك‬
‫األحاســيس شــعرا علــى الوريقــات‪ ،‬فــإن أمهــل هــذا التجلــى لــن‬

‫‪25‬‬
‫يســتطيع اســتعادته‪ ،‬أســرع اخلطــى يف هــذا الطريــق الالمــع املمتــد‪،‬‬
‫كان الطريــق خاليــا متامــا مــن املــارة‪ ،‬لكنــه وجــد علــى مشالــه ذاك‬
‫الشــحاذ اليـزال جالســا كمــا هــو‪ ،‬ينهــال مــن فوقــه املطــر بــا أدىن‬
‫اكـراث منــه‪ ،‬رمقــه ممــدوح بنظــرة متعاليــة مث نظــر أمامــه مســتأنفا‬
‫الســر‪ ،‬حــى تالشــى متامــا عــن الطريــق الــذي مل يعــد فيــه ســوى‬
‫تصــارع األمطــار فــوق رأس الشــحاذ‪.‬‬

‫•••‬

‫‪26‬‬
‫الغريب‬

‫ـت علــى حافــة الرصيــف مرتــداي ســرة ســوداء‪ ،‬وىف يــدي‬


‫وقفـ ُ‬
‫اليســرى غليوان منتظرا قطار السادســة‪ ،‬حيدوين أانســا من أماكن‬
‫خمتلفــة‪ ،‬عــن مييــي جتلــس ام ـرأة عجــوز مبالمــح قاســية‪ ،‬لونتهــا‬
‫ريشــة الزمــن أبلـوان ابهتــة‪ ،‬تضــع جبانبهــا قفــة مــن اجلريــد مغطــاة‬
‫مبالئــة بنيّــة اللــون‪ ،‬وأســفل قدميهــا يرقــد جــرو صغــر يعــاين مــن‬
‫اهل ـزال الشــديد‪ ،‬وعــن يســاري يقــف رجــان يف منتصــف العمــر‬
‫يتبــادالن األحاديــث والضحــكات‪ ،‬وخلفــي مــن يــروح ومــن‬
‫جيــيء ومــن يتوقــف لرتقــب القطــار‪ ،‬لــكل هــؤالء حيــاة خمتلفــة‪،‬‬
‫‪27‬‬
‫مــن املؤكــد أهنــا عامــرة ابألحــداث‪ ،‬والتفاصيــل‪ ،‬واالنشــغاالت‪،‬‬
‫لــكل منهــم أغراضــه املنفصلــة عــن األخريــن‪ ،‬ولكننــا مجيعــا ‪-‬بــا‬
‫شــك‪ -‬اجتمعنــا يف هــذا املــكان لغــرض واحــد فقــط‪ ،‬وهــو انتظــار‬
‫تلــك الــدودة احلديديــة الطويلــة‪ ،‬تلــك الــي يقتصــر غرضنــا اآلن‬
‫عليهــا‪ ،‬مبجــرد وصوهلــا نتداعــى هلــا مجيعــا مصطفــن للولــوج‬
‫بداخلهــا‪ ،‬نـراص فيهــا ابنتظــام‪ ،‬ال يشــغلنا ســوى غــرض حمــدد‬
‫وواحــد‪ ،‬وهــو الوصــول للنقطــة األخــرى‪ ،‬تلــك النقطــة الــي ينتهــى‬
‫عندهــا الغــرض املوحــد‪ ،‬ومــا نلبــث أن نتناثــر خارجهــا لنلتــف يف‬
‫دائــرة احليــاة‪ ،‬لــكل منــا غرضــه املنفصــل األحــادي‪.‬‬

‫تتـواىل الدقائــق اقـرااب مــن السادســة‪ ،‬وتتـواىل نفثــات الدخــان مــن‬


‫ـت جلبــة‬
‫فمــي‪ ،‬أنظــر إىل يســاري ألملــح وصــول القطــار‪ ،‬حدثـ ْ‬
‫ّ‬
‫حــويل اســتعدادا الســتقباله‪ ،‬هــا هــو يلــوح مــن بعيــد! يعجبــي هــذا‬
‫القطــار كث ـرا‪ ،‬فلــم أجــد يف حيــايت شــيئا منضبطــا مثلــه‪ ،‬يســر‬
‫علــى قضيبــن يف اجتــاه اثبــت طيلــة الوقــت‪ ،‬لــه حمطــات حمــددة‬
‫يتوقــف عندهــا بثقــة‪ ،‬وال يلبــث أن يتحــرك يف طريقــه املباشــر غــر‬

‫‪28‬‬
‫عابــئ أبحــد‪.‬‬
‫بــدأ القطــار ابلتباطــؤ التدرجيــي املهيــب‪ ،‬حــى اخرتقــت مقدمتــه‬
‫مبتــدأ الطـوارئ‪ ،‬مــرورا مبنتصفــه حيــث أقــف‪ ،‬إنتهــاء آبخــره‪ ،‬بــدأ‬
‫النــاس يف التدافــع خروجــا منــه‪ ،‬بشــر مــن كل صــوب‪ ،‬رجــال‬
‫ونســاء‪ ،‬شــباب وفتيــات‪ ،‬أطفــال وعجائــز‪ ،‬منهــم الضاحــك‬
‫ومنهــم الباكــي‪ ،‬منهــم العابــس ومنهــم املنبســط‪ ،‬منهــم النشــيط‬
‫ومنهــم اخلامــل‪ ،‬انتظــرت حــى تتحــن يل فرصــة الصعــود للــدودة‬
‫ـرت عــن مييــي فوجــدت العجــوز تنهــض حاملــة علــى‬
‫الكبــرة‪ ،‬نظـ ُ‬
‫رأســها قفتهــا اجلريديــة‪ ،‬فبــان حتــت قدميهــا اجلــرو اهلزيــل بشــكل‬
‫أكثــر وضوحــا‪.‬‬
‫ـت لصعــود القطــار‪ ،‬ألقيــت غليــوين ووضعــت عليــه قدمــي‬
‫أتهبـ ُ‬
‫ـت‬
‫فــاركا إايه ألطفــئ شــعلته‪ ،‬وأان أطأطــئ رأســي لألســفل‪ ،‬رفعـ ُ‬
‫رأســي مــرة أخــرى فوجــدت مشــهدا غريبــا‪ ،‬رجــل غريــب اهليئــة‪،‬‬
‫الدنــو‪ ،‬وجدتــه يقــرب مــي خبط ـوات‬ ‫غريــب الســحنة‪ ،‬غريــب ُ‬
‫بطيئــة ورتيبــة‪ ،‬وقــف أمامــي متامــا ونظــر يل قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬أستأذنك يف سؤال‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫ـرت إليــه بنظــرة مس ـريبة وقلقــة‪ ،‬كانــت مالحمــه غريبــة قليــا‬
‫نظـ ُ‬
‫عــن قاطــي مدينتنــا‪ ،‬البــد وأنــه مــن منطقــة بعيــدة؛ تكســو وجهــه‬
‫محــرة خمتلجــة بلــون قمحــي‪ ،‬ذو ذقــن متوســطة الطــول‪ ،‬وشــعر‬
‫رأســه طويــل نوعــا مــا خيتلــط سـواده ببياضــه‪ ،‬كانــت نظرتــه احلانيــة‬
‫والطيبــة جعلتــي أذعــن الســتئذانه قائــا هبــدوء‪:‬‬
‫‪ -‬تفضل‪.‬‬
‫العوز‪:‬‬
‫شكرين قبل أن يتفوه بصوت هادئ يتخلله َ‬
‫‪ -‬أان لســت مــن هنــا‪ ،‬ووقــع يل حــاداث يف طريقــي إىل هنــا قــد‬
‫أَحــدث شــرخا يف عظــام قدمــي اليمــي علــى مــا يبــدو‪ ،‬وأمتالــك‬
‫خط ـوايت بصعوبــة‪ ،‬أريــد منــك فقــط أن ترشــدين ألقــرب فنــدق‪.‬‬
‫تفحصته قليال قبل أن أجيب‪:‬‬
‫ـددا‪ ،‬ولكــن‬
‫‪ -‬ســيدي‪ ،‬أان ال اعــرف يف هــذه املنطقــة فندقــا حمـ ً‬
‫مــن املؤكــد إن حبثــت ســتجد م ـرادك‪.‬‬
‫شــكرين علــى مضــض‪ ،‬وقبــل أن يرتكــي نظــر جبانبــه لتلــك امل ـرأة‬
‫العجــوز‪ ،‬فوجدهــا تنظــر إليــه هــي أيضــا! كانــت تســر خبط ـوات‬
‫ـت‬ ‫ِ‬
‫متثاقلــة متجهــة لبــاب القطــار واحلمـ ُـل يهتــز فــوق رأســها‪ ،‬التفـ َ‬
‫‪30‬‬
‫بوجهــه انحيــي مــرة أخــرى بعدمــا تفقدهــا قائــا يل بثقــة‪:‬‬
‫‪ -‬ستقع القفة من على رأس هذه العجوز‪.‬‬
‫كان واقفــا أمامــي فاصــا بيــي وبــن البــاب الــذي تعتليــه امل ـرأة‬
‫تـوا‪ ،‬وعندمــا تركــي ابن يل مشــهد العجــوز قبــل أن تصعــد القطــار‬
‫بربهــة‪ ،‬فجــأة‪ ..‬ســقطت القفــة مــن علــى رأســها مرتطمــة ابألرض‬
‫وانثــرة حملتوايهتــا!‬
‫ـت مــن فــوري انظـرا لــذاك الغريــب‪ ،‬الغريــب‬
‫ـت بشــدة والتفـ ُ‬
‫تعجبـ ُ‬
‫جــدا‪ ،‬كان يبتعــد عــي خبط ـوات فيهــا عــرج قليــل‪ ،‬اتبعتــه حــى‬
‫خــرج مــن حمطــة القطــار خمرتقــا أحــد الش ـوارع اجلانبيــة املؤديــة‬
‫ملنطقــة مل أجلــأ إليهــا مــن قبــل‪ ،‬ال يهــم! كل مــا يشــغلين اآلن‬
‫هــو أن أعــرف إىل أيــن ســيذهب هــذا الرجــل‪ ،‬مــا كان يهمــي‬
‫ـت لالقـراب منــه كــي أســأله عــن كنهــه‪ ،‬وكيــف‬
‫هــو مراقبتــه‪ ،‬مهمـ ُ‬
‫عــرف أن القفــة ســتقع مــن علــى رأس العجــوز‪ ،‬ولكــي تراجعــت‬
‫مهاب ـةً‪ ،‬وآثــرت املراقبــة فقــط‪ ،‬كان يســر ببــطء ومتالــك‪ ،‬رأيتــه‬
‫قــد توقــف أمــام شــخصني حمــداث إايمهــا‪ ،‬البــد وأنــه يســأهلما عــن‬
‫ـتأنفت أان أيضا‪ ،‬احندر لشــارع‬
‫عنوان فندق‪ ،‬اســتأنف ســره واسـ ُ‬
‫‪31‬‬
‫احندرت حيثما‬
‫ُ‬ ‫حبرص لئِال يراين‪،‬‬
‫أسرعت اخلطى ٍ‬
‫ُ‬ ‫جانيب صغري‪،‬‬
‫احنــدر‪ ،‬كان مبنتصــف الشــارع‪ ،‬وكنــت أان أبولــه‪ ،‬ابن عليــه العــرج‬
‫أكثــر مــن ذي قبــل‪ ،‬توقــف واحنــى واضعــا يــده علــى قدمــه اليمــى‪،‬‬
‫ومــن مث اســتقام وراح يتحــرك ببــطء أكثــر وعــرج أوضــح‪ ،‬كان‬
‫الليــل قــد أذن وخفتــت الرؤيــة يف الظــام‪ ،‬حملتــه منحــدرا لشــارع‬
‫آخــر‪ ،‬جريــت خوفــا مــن أن يغيــب عــن انظــري‪ ،‬وعندمــا وصلــت‬
‫نظــرت ابحثــا عنــه‪ ،‬ولكنــي مل أجــده! كان هــذا الشــارع يفضــي‬
‫ـت حــويل فلــم‬
‫إىل شـوارع أخــرى كثــرة أكثــر ضيقــا وشــرودا‪ ،‬التفـ ُ‬
‫أجــد ســوى ثالثــة أشــخاص‪ ،‬كانــت تلــك املنطقــة غريبــة عــي‪،‬‬
‫وتركيــزي مــع ذلــك الغريــب قــد أضلــي عــن تذكــر الشــارع الــذي‬
‫وجدت الثالثة أشخاص يقرتبون مين‪ ،‬ابدر‬
‫ُ‬ ‫جئت منه إىل هنا‪،‬‬
‫أحدهــم ابلس ـؤال‪:‬‬
‫‪ -‬هل تبحث عن شيء؟‬
‫قلت له‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬أريد فقط أن تدلين على الشارع املــُفضي حملطة القطار‪.‬‬
‫ابلعــوز‪ ،‬فقــال يل‬
‫كانــت نظــريت لــه فيهــا بعــض احلُنــو املختلــج َ‬
‫‪32‬‬
‫بعدمــا رمقــي بتشــكك‪:‬‬
‫انعطف يسارا مث‪..‬‬
‫ْ‬ ‫‪ -‬اسلك هذا الشارع مث‬
‫ـدت أعــن الثالثــة تتجــه صــوب‬
‫وقبــل أن يكمــل وصفــه‪ ،‬وجـ ُ‬
‫ـت بفضــول‪ ،‬فوجــدت ذاك الغريــب! كان‬
‫شــيء مــا خلفــي‪ ،‬التفـ ُ‬
‫واقفــا أمــام مبــى مكــون مــن ثــاث طوابــق‪ ،‬معلــق عليــه الفتــة‬
‫ُكتــب عليهــا (فنــدق الســعادة)‪ ،‬مل تكــن رؤيــي لــه واضحــة يف‬
‫الظــام‪ْ ،‬بيــد أنــي أعتقــد أنــه نظــر يل! ومــن مث حملتــه يتجــه ليصعــد‬
‫ـت لثالثتهــم‪ ،‬فقــال يل أحدهــم بعدمــا وجــدين‬
‫ســلم الفنــدق‪ ،‬التفـ ُ‬
‫أرمــق الغريــب ابهتمــام‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعرف هذا الرجل؟‬
‫قلت بثقة‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ولكنين أعتقد أنه سيقع من على السلم اآلن!‬
‫بعدمــا أهنيــت تلــك اجلملــة‪ ،‬مسعنــا صــوت ارتطــام علــى الســلم!‬
‫ركــض الثالثــة ابجتــاه الرجــل وهــم يلقــون علـ ّـي نظ ـرات متعجبــة‪،‬‬
‫ـت مــن‬
‫ـرت خبط ـوات بطيئــة‪ ،‬حــى خرجـ ُ‬
‫أدرت ظهــري هلــم وسـ ُ‬
‫ـت حملطــة القطــار حيــث كنــت‪،‬‬
‫تلــك الش ـوارع الضيقــة‪ ،‬وصلـ ُ‬
‫‪33‬‬
‫كان الط ـوارئ مزدمحــا‪ ،‬أانس مــن كل مــكان‪ ،‬وجــدت املقعــد‬
‫الــذي كانــت جتلــس عليــه العجــوز فارغــا‪ ،‬فجلســت عليــه‪ ،‬وحتــت‬
‫قدمــي كان يرقــد اجلــرو اهلزيــل الــذي ظللــت أأتملــه حــى قــدوم‬
‫قطــار التاســعة‪.‬‬

‫•••‬

‫‪34‬‬
‫ال ُلعبة‬

‫يف قف ـزات طفوليــة متتاليــة‪ ،‬يســر حمَمــد جبانــب أبيــه ‪-‬األســتاذ‬


‫عبــد النــي‪ -‬متجهـ ْـن إىل الســوق لش ـراء بعــض املتطلبــات‬
‫للمنــزل‪ ،‬كان الرجــل يرتــدي بنطــاال أســود اللــون‪ ،‬يعلــوه قميــص‬
‫تعمــد أن يســدله خــارج‬
‫أبيــض بــه خطــوط برتقاليــة اللــون ‪-‬الــذي ّ‬
‫البنطــال ليــداري بــه حزامــه املهــرئ‪ -‬يف ســر األســتاذ عبــد النــي‬
‫جدية وانشــغال‪ ،‬وىف ســر حمَمد مرح وارتياح ابل‪ ،‬على جنبات‬
‫الشــارع ت ـراص حمــات كثــرة‪ ،‬جــال حمَمــد ببصــره هنــا وهنــاك‬
‫ابهتمــام‪ ،‬حــى وقعــت عينــاه علــى حمــل لبيــع لعــب األطفــال‪،‬‬
‫‪35‬‬
‫كانــت يــده اليمــى متشــابكة بيــد أبيــه‪ ،‬فرفــع اليســرى وأشــار‬
‫صــوب احملــل قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬اباب‪ ،‬عاوز اللعبة دي‪.‬‬
‫ـدل عليــه برأســه وقــال‬
‫انتبــه إليــه أبــوه انظـ ًـرا حيثمــا أشــار‪ ،‬مث تـ ّ‬
‫برويــة‪:‬‬
‫‪ -‬واحنا راجعني أن شاء هللا‪.‬‬
‫‪ -‬ال ال‪ ،‬أان عاوزها دلوقت‪.‬‬
‫هكــذا قــال الطفــل‪ ،‬فتذمــر أبــوه ومل جيــد بـُ ًـدا مــن أن يتجــه بــه‬
‫انحيــة احملــل‪ِ ،‬‬
‫ولــا بداخلــه‪ ،‬انطلــق حمَمــد داخــل احملــل بفــرح ابلــغ‬
‫حــى وقعــت عينــاه علــى لعبــة كانــت تعشــش يف خميلتــه منــذ زمــن‪،‬‬
‫كانــت اللعبــة عبــارة عــن ســيارة صغــرة تســر ابلتحكــم عــن بعــد‪،‬‬
‫ركــض حنوهــا بســرعة وأمــد يــده ليلتقطهــا‪ ،‬فانتبــه إليــه أبــوه ومــن‬
‫مث ســأل البائــع‪:‬‬
‫‪ -‬بكم دي؟‬
‫‪ -‬عشرين جنيه‪.‬‬
‫أخــرج مــن جيبــه أوراقــا نقديــة ‪-‬ال تزيــد فئتهــا عــن العش ـرين‬

‫‪36‬‬
‫جنيهــا‪ -‬كانــت غــر مرتبــة‪ ،‬ســحب منهــا ورقتــن مــن فئــة العشــر‬
‫جنيهــات ومــن مث أعطاهــا للرجــل‪ ،‬محــل حمَمــد اللعبــة بــن يديــه‬
‫وقــد ابنــت علــى وجهــه ابتســامة فيهــا مــن الســعادة الكثــر‪ ،‬ومــن‬
‫احملــل متجهـ ْـن إىل ســبيلهما اآلنــف‪.‬‬
‫خرجــا مــن َ‬
‫الـراءة أكثــر‪ ،‬مث َ‬

‫•••‬

‫حمل صغريا لبيع البقالة‪،‬‬


‫األستاذ "عبد النيب ب ْدر شحاتة" ميتلك ً‬
‫صاحــب هيئــة هزيلــة وجســد غــر ممشــوق‪ ،‬يبلــغ مــن العمــر حنــو‬
‫الثالثة و اخلمسني‪ ،‬سنوات عمره كانت شاقة للغاية‪ ،‬تن ّقل فيها‬
‫بــن عمــل وآخــر ليقتــات منــه‪ ،‬ويصــرف علــى زوجتــه وأوالده‪،‬‬
‫إىل أن قــام ابســتئجار حملــه؛ حمَمــد هــو أصغــر أبنــاءه اخلمســة‪،‬‬
‫آخــر العُنقــود‪ ،‬واالبــن املدلّــل حبكــم ســنه‪ ،‬فربغــم ظــروف األســتاذ‬
‫عبــد النــي الصعبــة مل يكــن ليبخــل علــى حمَمــد أبي شــيء يريــده‪،‬‬
‫يشــري لــه األلعــاب وأيخــذه للرتفيــه‪ ،‬ولكنــه يف نفــس الوقــت‬
‫مقص ـرا قليــا مــع زوجتــه وابقــي أوالده‪ ،‬ليــس هــذا ُبــا‬
‫كان ّ‬
‫‪37‬‬
‫منــه‪ ،‬ولكــن لظروفــه املاديــة الصعبــة‪ ،‬وكان حيــاول بقــدر اإلمــكان‬
‫إرضــاء زوجتــه وتلبيــة طلبــات البيــت حــى ولــو ابلقليــل‪ ،‬ذات يــوم‬
‫كانــت زوجتــه تــود الذهــاب حلفــل زفــاف ابنــة جارهتــا وطلبــت‬
‫منــه عبــاءة جديــدة‪ ،‬فقــال هلــا‪:‬‬
‫‪ -‬الزم عباية جديدة؟‬
‫حينها أجابته ابقتضاب واضح‪:‬‬
‫‪ -‬أيــوه اي عبــده الزم‪ ،‬هــو ينفــع أروح حباجــة قدميــة؟ ترضهــايل؟‬
‫ـرد عليهــا‪:‬‬
‫هزتــه تلــك الكلمــات كثـرا‪ ،‬فـ ّ‬
‫‪ -‬هجيب ليكي أحلي عباية حاضر‪ ،‬مفاجأة!‬

‫وكانــت مفاجأتــه أنــه أخــذ مــن عندهــا عبــاءة قدميــة‪ ،‬وذهــب‬


‫هبــا إىل صديقــه صاحــب حمــل التطريــز طالبــا منــه صبــغ العبــاءة‪،‬‬
‫وإضافــة بعــض اخلــرز الالمــع هلــا‪ ،‬وكويهــا جيــدا‪ ،‬اســتلمها منــه‬
‫ـردد‪:‬‬
‫بعــد يومــن وذهــب هبــا إىل زوجتــه فرح ـاً وهــو يـ ّ‬
‫ـت زوجتــه وشــكرته برغــم أهنــا كانــت تعلــم‬
‫‪ -‬أحلــى عبايــة! فرحـ ْ‬
‫مســبقا أنــه ســيفعل ذلــك‪ ،‬إهنــا ‪-‬واحلــق يقــال‪ -‬زوجــة طيبــة‬

‫‪38‬‬
‫وأصيلــة للغايــة‪ ،‬وتتقبلــه علــى احللــو وعلــى املـ ّـر‪ ،‬ولكنهــا أحيــاان‬
‫تضغــط عليــه كــي تعطيــه دافعــا للحركــة واإلنتــاج‪.‬‬

‫•••‬

‫دخــل عبــد النــي إىل بيتــه بعدمــا أمت ش ـراء املتطلبــات‪ ،‬وضعهــا‬
‫علــى الطاولــة مث ارتكــن علــى (الكنبــة) لــراتح مــن أثــر الطريــق‪،‬‬
‫فرحــا بلعبتــه اجلديــدة‪،‬‬
‫ولكــن حمَمــد ظــل ميــرح ويقفــز هنــا وهنــاك؛ ً‬
‫جـ َـرى علــى والدتــه قائــا هلــا‪:‬‬
‫‪ -‬أان جبت عربية اي ماما‪.‬‬
‫ـت أمــه مــن غرفتهــا حيــث الصالــة‪ ،‬فوجــدت عبــد النــي‬
‫خرجـ ْ‬
‫مرتكنــا‪ ،‬اقرتبــت منــه وهــي تقــول‪:‬‬
‫‪ -‬الراجل صاحب البيت طالب اإلجيار‪.‬‬
‫اقتضب زوجها وابنت عليه عالمات الضيق قائال‪:‬‬
‫‪ -‬حاضر‪.‬‬
‫‪ -‬إحنا بقالنا شهرين متأخرين عنه و‪..‬‬

‫‪39‬‬
‫قطعها قبل أن تُكمل‪:‬‬
‫‪ -‬يوووه‪ ،‬ما قلت حاضر‪.‬‬
‫بعدهــا دخلــت غرفتهــا وتركتــه‪ ،‬انطلــق حمَمــد حنــو أبيــه بســرعة‬
‫قائــا وهــو ميــد لــه اللعبــة‪:‬‬
‫‪ -‬اباب‪ ..‬اباب‪ ..‬تعاىل شغلي العربية دي‪.‬‬
‫مل يرد عليه‪ ،‬فاستطرد الولد‪:‬‬
‫‪ -‬يال تعاىل شغلي العربية‪ ،‬عاوز ألعب‪.‬‬
‫‪ -‬اي ابين خالص بقى روح ألمك خليها تشغلهالك‪.‬‬

‫هنــره أبــوه بتلــك الكلمــات فرتكــه الولــد ودخــل ألمــه‪ ،‬خــرج مــن‬
‫عندهــا وقــام بوضــع الســيارة علــى األرض ممســكا برميوهتــا‪ ،‬وأخــذ‬
‫حيركهــا لألمــام وللخلــف وهــو يضحــك بصــوت عـ ٍ‬
‫ـال وهبجــة‬
‫عارمــة‪ ،‬كان األســتاذ عبــد النــي يفكــر مليــا يف إجيــار الشــقة‪،‬‬
‫جيــب أن يتحصــل علــى املبلــغ املطلــوب أبي شــكل‪ ،‬فلــم يعــد‬
‫أمامــه فرصــة للتأجيــل‪.‬‬
‫علــت ضحــكات حمَمــد أكثــر‪ ،‬فنهــره أبــوه مــرة أخــرى‪ ،‬مل يصمــت‬

‫‪40‬‬
‫حمَمــد‪ ،‬وجلجلــت ضحكاتــه‪ ،‬انفعــل عليــه أبــوه أكثــر‪ ،‬مث بعــد‬
‫وخرج‪.‬‬
‫قليل قام من جلســته متجها حنو ابب الشــقة فاحتًا إايه‪َ ،‬‬

‫•••‬

‫جلــس األســتاذ فــوزي علــى ســطح منزلــه واضعــا أمامــه الشيشــة‪،‬‬


‫أشــعل انرهــا وأخــذ ينفــث الدخــان ألعلــى منتشــيا‪ ،‬كان يرتــدي‬
‫بين اللون ومتســخا من حافته الســفلية‪ ،‬اليت تتديل‬
‫جلبااب طويال ّ‬
‫انحيــة حــذاءه األبيــض املهــرئ‪ ،‬بعــد قليــل أمــد ذراع الشيشــة‬
‫لعبــد النــي الــذي التقطــه متجهــا بــه صــوب فمــه‪ ،‬وبعدمــا أخــرج‬
‫نفحــة الدخــان األوىل‪ ،‬رمــق صديقــه فــوزي قليــا مث قــال وهــو‬
‫يهــرش يف ذقنــه‪:‬‬
‫‪ -‬اياه اي فوزي‪ ،‬وهللا وأايم زمان‪.‬‬
‫‪ -‬منور اي عبده‪.‬‬
‫هكذا قال فوزي‪ ،‬فرد عليه عبد النيب‪:‬‬
‫‪ -‬دا نورك اي غاىل‪ ،‬أخبار الشغل ايه؟‬

‫‪41‬‬
‫‪ -‬كل شــيء متــام وأخــر حــاوة‪ ،‬ســيبك مــن الشــغل دلوقــى‪ ،‬أان‬
‫عنــدي ليــك حتــة نفحــة مغربيــة ملهــاش حــل!‬
‫قاهلــا وهــو يضــع يــده يف جيــب جلبابــه ُمرجــا منــه قطعــه مــن‬
‫(احلشــيش)‪ ،‬ملَّصهــا مــن غطائهــا وقطــم منهــا قطعــة صغــرة‪،‬‬
‫واضعــا إايهــا علــى حجــر الشيشــة‪ ،‬مث نظــر لصديقــه قائــا وهــو‬
‫حيــرك حاجبيــه‪:‬‬
‫‪ -‬شد وادعيلي!‬
‫اعتلــت مالمــح االنتشــاء وجــه عبــد النــي بعــد وضــع احلشيشــة‪،‬‬
‫وقــال وهــو ينظــر إىل حــذاء فــوزي‪:‬‬
‫‪ -‬أيوا كدا‪ ،‬هو دا الشغل!‬
‫ضحــك االثنــان وســاد بينهمــا صمــت‪ ،‬بعــد هنيهــة؛ رمـ َـق عبــد‬
‫النــي صديقــه بنظــرة متفكــرة ومتفحصــة مث قــال‪:‬‬
‫‪ -‬فــوزي‪ ،‬إنــت عــارف َمعزتــك عنــدي‪ ،‬وعــارف إين ال حيوجــي‬
‫ليــك إال الشــديد القــوى‪ ،‬أان عنــدي طلــب منــك لــو ممكــن؟‬
‫رد عليه صديقه وهو على علم مسبق بطلبه‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أؤمرين‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪ -‬كنت حمتاج منك ألفني جنيه‪.‬‬
‫صمــت فــوزي قليــا وقــد تبدلــت مالمــح وجهــه مــن االنتشــاء إىل‬
‫اجلديــة‪ ،‬مث قــال‪:‬‬
‫‪ -‬إنت عارف اي عبده إنت عليك ليا كام؟!‬
‫‪ -‬عــارف وهللا‪ ،‬لكــن الظــروف صعبــة‪ ،‬أان حمــرج منــك ولكــن‬
‫غصــب عــى‪.‬‬
‫‪ -‬كان بودي وهللا‪ ،‬بس معلش‪ ،‬أان مش معااي فلوس حاليا‪.‬‬
‫فهــم عبــد النــي أن فــوزي يتهــرب منــه‪ ،‬ولكنــه ‪-‬وحفظــا لكرامتــه‪-‬‬
‫عجــل مــن جلســته معــه وبعــد‬
‫مل يعــاود احملاولــة معــه مــرة اثنيــة‪ّ ،‬‬
‫قليــل اســتأذن ابلرحيــل‪ ،‬ورحــل‪.‬‬

‫•••‬

‫دخــل عبــد النــي شــقته فاســتقبلته زوجتــه ابلتحيــة وســألته إن كان‬


‫ســيتناول وجبــة الغــداء‪ ،‬فرفــض مث ارتكــن حلالــه علــى األريكــة‪،‬‬
‫ـت جبانبــه‪،‬‬
‫ـت زوجتــه علــى وجهــه آاثر الضيــق واحلــزن‪ ،‬فجلسـ ْ‬
‫حملـ ْ‬
‫‪43‬‬
‫طبطبــت علــى كتفــه قائلــة‪:‬‬
‫‪ -‬اي عبــد النــي‪ ،‬متقلقــش‪ ،‬أن شــاء هللا ربنــا هيفرجهــا‪ ،‬ربنــا مــش‬
‫بيســيب اللــي بيلجــأ إليــه‪ ،‬هــون عــن نفســك‪ ،‬وامحــد ربنــا علــى‬
‫كل حــال‪.‬‬
‫‪ -‬احلمد هلل‪.‬‬
‫ـت‬
‫هكــذا قــال‪ ،‬مث طلــب مــن زوجتــه أن ترتكــه وحــده‪ ،‬فذهبـ ْ‬
‫وتركتــه‪ ،‬اجــرت األفــكار بعضهــا يف ذهنــه‪ ،‬أخــذ حيســبها ميينــا‬
‫عصــر فكــره وأتمــل مهــه مليــا‪ ،‬وفجــأة‪ ،‬قطــع تفكــره‬ ‫ومشــاال‪َ ،‬‬
‫جلبــة ابنــه‪َ ،‬خــرج حمَمــد مــن غرفــة أخواتــه حنــو الصالــة بســيارته‬
‫األثــرة‪ ،‬وضعهــا أرضــا وراح حيركهــا إىل األمــام وإىل اخللــف وهــو‬
‫يضحــك بـراءة طفوليــة خاليــة مــن أي هــم‪ ،‬بعــد قليــل تــرك اللعبــة‬
‫وذهــب إلحــدى الغــرف‪ ،‬هــدأ املــكان‪ ،‬ولكــن دمــاغ عبــد النــي‬
‫مل هتــدأ‪ ،‬راح يفكــر مــرة أخــرى‪ ،‬مــال برأســه للخلــف وركنهــا‬
‫علــى احلافــة العلويــة لظهــر األريكــة‪ ،‬جالــت عينــاه متأملــة ســقف‬
‫الصالــة املتشــقق‪ ،‬أطلــق زف ـرا ومــن مث هبــط برأســه مــرة أخــرى‪،‬‬
‫ـتقرت عينــاه علــى اللعبــة‪ ،‬كانــت الســيارة لوهنــا خليــط مــن‬
‫فاسـ ْ‬
‫‪44‬‬
‫األمحــر واألصفــر والبنفســجي‪ ،‬طـ َـرد نظــره عنهــا‪ ،‬حــى جــاءه‬
‫صــوت ابنــه قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬اباب‪ ،‬تعاىل إلعب معااي ابلعربية‪.‬‬
‫‪ -‬بس اي ابين اسكت روح إلعب‪.‬‬
‫بكي الولد قائال له بصوت متقطع‪:‬‬
‫‪ -‬ال أان مش هلعب لوحدي‪ ،‬تعاىل العب معااي‪.‬‬
‫هنــض معــه أبــوه علــى مضــض وتــردد‪ ،‬انولــه الولــد "رميــوت"‬
‫الســيارة مث قــال‪:‬‬
‫‪ -‬دوس هنا هتتحرك لقدام وهنا هتتحرك لورا‪ ،‬يالاا!‬
‫ضغط عبد النيب على الزر املشار إليه فانطلقت السيارة لألمام‪،‬‬
‫مث ضغــط علــى الــزر اآلخــر فعــادت للخلــف‪ ،‬قــام بتكـرار العمليــة‬
‫مــرة أخــرى‪ ،‬ضحــك ابنــه كثـرا وقــد لفْتــه ســعادة غامــرة‪ ،‬ابتســم لــه‬
‫أبــوه‪ ،‬خطــف منــه حمَمــد الرميــوت وبــدأ حيــرك الســيارة وهــو واقــف‬
‫جبانــب أبيــه مبتهجــا‪ ،‬أتملــه أبــوه وابتســم لــه‪ ،‬بعــد حلظــة اندت‬
‫األم علــى ابنهــا كــي يتنــاول طعامــه‪ ،‬فرفــض هــو أيضــا! زعقــت‬
‫لــه أمــه‪ ،‬تذمــر مث ألقــي ابلرميــوت علــى األرض وذهــب اتركا أابه‬

‫‪45‬‬
‫وحــده‪ ،‬ظـ ّـل عبــد النــي واقفــا‪ ،‬نظــر لألســفل صــوب الرميــوت مث‬
‫احنــى ملتقطــا إايه‪ ،‬كاد أن يلقيــه وجيلــس؛ ولكنــه فجــأة‪ ،‬قــام‬
‫ابلضغــط علــى األزرار مــرة أخــرى! فأخــذت الســيارة تــروح وجتيــئ‬
‫لألمــام وللخلــف ابحننــاءات طفيفــة‪ ،‬نظــر إليهــا بتمعــن‪ ،‬أحــس‬
‫بشــيء مــا يســرى بداخلــه‪ ،‬رمبــا اطمئنــان مــن نــوع مــا‪ ،‬فكـ ّـرر‬
‫العمليــة مــرة أخــرى‪ ،‬أتمــل الســيارة وهــي تتحــرك‪ ،‬تفحــص ألواهنــا‪،‬‬
‫ضغطــة علــى الــزر العلــوي تتقــدم الســيارة إىل األمــام‪ ،‬مث ضغطــة‬
‫علــى الســفلى ترجــع للخلــف‪ ،‬ارتســمت علــى وجهــه ابتســامة‬
‫عريضــة‪ ،‬ولكنــه مل يلبــث أن اغرورقــت عينــاه ابلدمــوع‪ ،‬حــى‬
‫أجهــش ابلبــكاء‪.‬‬

‫•••‬

‫‪46‬‬
‫سيجارة‬

‫ـت أمامــي‪ ،‬كانــت ترتــدي معطفــا بنيًــا ومــن حتتــه قميصــا‬


‫جلسـ ْ‬
‫مفتوحا من عند الصدر‪ ،‬ليربز إنضمام هنديها‪ ،‬و"جيبة" قصرية‬
‫ً‬
‫نوعــا مــا مفتوحــة مــن جانــب فخذهــا‪ ،‬الــذي أتلــق بياضــه عندمــا‬
‫ً‬
‫وضعــت قدمهــا اليمــي فــوق اليســرى‪ ،‬كانــت يف غايــة اجلمــال‬
‫ـت أأتملهــا مــن أعالهــا إىل أســفلها كل‬
‫والتألــق والفتنــة‪ ،‬ظللـ ُ‬
‫ـت وجههــا مليــا حــى اســتقرت عينــاي‬
‫شــيء فيهــا جــذاب‪ ،‬أتملـ ُ‬
‫علــى عينيهــا الــي ل ّفتهــا رمســة كحــل مرّكــز‪ ،‬عيناهــا فيهمــا متــرد‬
‫ـي مباشــرة‪ -‬ذبــذابت‬
‫ـوب عيـ ّ‬
‫وشــرودا فيهمــا ‪-‬حينمــا تنظــر صـ َ‬
‫‪47‬‬
‫تنبهــي! فتجعلــي أروح خبيــايل بعيــدا عــن حــدود جلســتنا‪ ،‬أشــرد‬
‫هبمــا يف ليلــة ســاحرة و رائقــة‪ ،‬بطلتهــا جليســي‪ ،‬ليلــة هادئــة يف‬
‫بيــت مجيــل جنلــس فيــه ســواي علــى طاولــة لتنــاول العشــاء مــع‬
‫كأســن مــن النبيــذ‪ ،‬وحولنــا الشــموع تضفــي علــى املــكان ج ـوا‬
‫شــاعراي‪ ،‬علــى خلفيتــه صــوت موســيقي هافــت‪ ،‬فأخذهــا مــن‬
‫يدهــا ونرقــص ســواي‪ ،‬أقــرب منهــا حاضنــا إايهــا‪ ،‬حــى أذوب يف‬
‫ـت‬
‫نـران جســدها املتوهجــة‪ ،‬كان هــذا خيــايل احلــامل؛ بيــد أنــي أفقـ ُ‬
‫علــى أنــه مــن املمكــن أن هــذا اخليــال ال يليــق مبــا قــد تَقابلنــا مــن‬
‫أجلــه‪ ،‬انتبهــت هلــا‪ ،‬فوجدهتــا متيــل بصدرهــا لتســتند علــى الطاولــة‬
‫قبضــت أبانملهــا املنمنمــة مح ـراء‬
‫الكائنــة أمامنــا يف املقهــى‪َ ،‬‬
‫األظافــر‪ ،‬علــى مقبــض فنجــال القهــوة وش ـ ّدته مرتفعــا ليســتقر‬
‫فطبعــت علــى إطــار‬
‫بــن شــفتيها املطليــة ابألمحــر‪ ،‬ارتشــفت منــه‪َ ،‬‬
‫حافــة الفنجــان العلويــة نصــف دائــرة مح ـراء‪ ،‬مث أعادتــه حيــث‬
‫ـت علبــة ســجائرها مــن أمامهــا‪ ،‬وأخرجــت‬
‫كان‪ ،‬بعدهــا التقطـ ْ‬
‫ـت‬
‫ســيجارة واضعــة إايهــا بــن إصبعيهــا الســبابة والوســطى‪ ،‬التقطـ ُ‬
‫مالت‬
‫أان الوالعة بسرعة طالبا منها أن تسمح يل بتلك املهمة‪ْ ،‬‬
‫‪48‬‬
‫برأســها لألمــام قليــا فانســدلت أط ـراف شــعرها لتغطــي جــزءا‬
‫ت‬‫ـحرا‪ ،‬أشــعلَ ْ‬
‫مــن عينهــا اليمــي‪ ،‬أضفــي ذلــك عليهــا مجـ ًـال وسـ ً‬
‫الســيجارة مــن يــدي مث عــادت بظهرهــا للخلــف‪ ،‬يف حركتهــا‬
‫عندمــا تقــرب مــي تفــوح منهــا رائحــة عجيبــة! رائحــة ليســت‬
‫انجتــة عــن وضعهــا أليــة عطــور‪ ،‬ولكنهــا رائحــة هلــا عالقــة أبنوثتهــا‬
‫حْتمــا‪ ،‬فعندمــا تلفــي رائحتهــا تتملكــي إحساســات عجيبــة‬
‫جتمــع بــن االنتشــاء واخلــدر والرغبــة‪ ،‬جتعلــي أجــذب لداخلــي‬
‫نفســا عميقــا يتخلــل كل أحنائــي‪ ،‬ويدغــدغ ابطــي‪.‬‬

‫نفســا مــن الســيجارة فتوهجــت شــعلتها األماميــة‪ ،‬مث‬


‫ت ً‬ ‫ســحبَ ْ‬
‫نفثت دخاهنا فتصاعد يف صورة أشكال إهليجية رهيفة‪ ،‬كانت‬
‫ْ‬
‫ممســكة بســيجارهتا بعنايــة واعت ـزاز‪ ،‬كانــت تتعامــل معهــا حبــرص‬
‫طرِدهــا لرمادهــا احملــرق يف املطفــأة‪ ،‬كان يتــم برقــة‬
‫ابلــغ‪ ،‬حــى ْ‬
‫ابلغــة وكأهنــا تريــد أن حتتفــظ برتابــط حمتــوايت الســيجارة وأانقتهــا‬
‫بــن أانملهــا‪ ،‬ارتفعــت يدهــا الراعيــة للتبــغ امللفــوف لتت ـوازي مــع‬
‫أفــق وجههــا‪ ،‬مث نظــرت يل بتمعــن وكأهنــا تكتشــفين أو تنتــوي‬

‫‪49‬‬
‫اختبــاري يف أمــر مــا‪:‬‬
‫‪ -‬ما امسك؟‬
‫فأجبت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫هكذا سألتين ابقتضابة من جبينها‪،‬‬
‫‪ -‬امسي عالء‪.‬‬
‫تردد َبزمة من شفتيها‪:‬‬
‫اعتلت وجهها ابتسامة رقيقة وهي ّ‬
‫ْ‬
‫‪" -‬لوووءة"‬
‫عندمــا تضحــك وتبــن أســناهنا الناصعــة يضفــي ذلــك علــى‬
‫وجههــا مجــاال أكثــر فتنــة‪ ،‬وأشــد جــذاب‪ ،‬قلــت هلــا‪:‬‬
‫‪ -‬مل أمسع امسي أبرق من هذا من قبل‪.‬‬
‫ـت خبالعــة وســرعان مــا هفتــت ضحكتهــا‪ ،‬رمقتــي بنظــرة‬
‫ضح َكـ ْ‬
‫شــهية قائلــة‪:‬‬
‫‪ -‬كم امرأة جربتها من قبل؟‬
‫‪ِ -‬‬
‫أنت أول امرأة‪.‬‬
‫قلت هذه اجلملة بصدق‪ ،‬فابتسمت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬إذن سأستغلك ألنك خام‪ ،‬اي لوووءة!‬
‫ضحكنا وقلت‪:‬‬

‫‪50‬‬
‫‪ -‬أان علــى أمت االســتعداد بدفــع أي مبلــغ تريدينــه‪ ،‬فأنــت حبــق‬
‫تســتحقني‪.‬‬
‫ابتســمت واحننــت بصدرهــا املســتدير انحيــي قليــا وهــي تنفــث‬
‫وهزهتــا كــي توقــع‬
‫ـت بســيجارهتا حنــو املطفــأة ّ‬
‫الدخــان‪ ،‬توجهـ ْ‬
‫رمادهــا املعلــق‪ ،‬كانــت الســيجارة قــد أتكل منهــا ثلثهــا تقريبــا‬
‫ـت هبــا‬
‫وقصــرت قليــا‪ ،‬وابنــت أقــل متاســكا مــن ذي قبــل‪ ،‬ارتفعـ ْ‬
‫مــرة أخــري لتنظــر يل قائلــة‪:‬‬
‫‪ -‬ليليت أبلف جنيه‪.‬‬
‫ِ‬
‫سأعطيك ألفا يف ليلتني‪ ،‬قابلني للزايدة إن أسعدتين‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ـت قطــة صغــرة‬
‫ـرحت عــي بعينيهــا‪ ،‬بعــد هنيهــة حملـ ُ‬
‫مل تــرد علــى وسـ ْ‬
‫وهشــت القطــة‬
‫ـت جليســي ّ‬
‫بيضــاء تقــرب مــن طاولتنــا‪ ،‬فارتبكـ ْ‬
‫ـرت جليســي أبال‬
‫بعيـ ًـدا‪ ،‬لكنهــا عــاودت االق ـراب اثنيــة‪ ،‬فأخـ ُ‬
‫ختــاف‪ ،‬تركناهــا حلاهلــا‪ ،‬وعــدت للحديــث املهــم‪:‬‬
‫‪ -‬ها! ما رأيك؟‬
‫‪ -‬يف ماذا؟!‬
‫تعجبت من سؤاهلا‪ ،‬فقلت ابهتمام‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪51‬‬
‫‪ -‬فيما عرضته عليك‪.‬‬
‫علي؟!‬
‫عرضت ّ‬
‫َ‬ ‫‪ -‬ماذا‬
‫‪ -‬ليلتان أبلف‪.‬‬
‫وردت بال اكرتاث‪:‬‬
‫مل تعبأ بكالمي كثرياً‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬ااه!‬
‫ـت حلظــة فوجدهتــا متــد يدهــا‬
‫كانــت يف حالــة تيــه غريبــة‪ ،‬صمـ ُ‬
‫ـت منــه حبــة‬
‫وختــرج مــن حقيبتهــا البنيــة شـريطا مــن الــدواء‪ ،‬اقتلعـ ْ‬
‫وقذفْتهــا يف فمهــا مث أتبعتهــا برشــفتني مــن املــاء بُغيــة االبتــاع‪،‬‬
‫ـت مــن ذلــك ومــن مث قالــت‪:‬‬
‫خلصـ ْ‬
‫َ‬
‫‪ -‬أسفة اي لوووءة‪ ،‬أان فقط أعاين من بعض املشاكل‪.‬‬
‫قلت هلا‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليــك‪ ،‬علــى العمــوم حنــن لــن نتجــادل كثـرا يف هــذا األمــر‪،‬‬
‫املهم أن تســعديين‪.‬‬
‫‪ -‬سأسعدك‪ ،‬أال تثق يف؟!‬
‫فيك‪ ،‬أحاول أن أأتكد ِ‬
‫منك بسؤايل‪.‬‬ ‫‪ -‬من فرط ثقيت ِ‬
‫قلــت ذلــك وأان أصطنــع ابتســامة‪ ،‬فابتســمت هــي أيضــا‪ ،‬وتبادلنــا‬

‫‪52‬‬
‫ـث الدخــان مــن فمهــا بــن‬
‫بعــض اهلمســات الــي كان يتخللهــا نفـ ُ‬
‫ـت قدمهــا الــي‬
‫ـت فجــأة عــن احلديــث‪ ،‬وأنزلـ ْ‬
‫احلــن واآلخــر‪ ،‬توق َفـ ْ‬
‫كانــت تعتلــي األخــرى‪ ،‬وكأهنــا تتأهــب العتــاء مــن نــوع آخــر!‬
‫كانــت الســيجارة قــد ُحـ ِرق منهــا الكثــر ومل يبــق منهــا إال القليــل‪،‬‬
‫ممــا جعلهــا تفقــد أانقتهــا األوليــة ومتاســكها‪ :‬كثــرت التجاعيــد يف‬
‫الورقــة الــي حتــوي التبــغ‪ ،‬واهـرأت مؤخــرة الســيجارة القطنيــة مــن‬
‫أثــر البلــل الناتــج عــن ملــس الشــفاه‪ ،‬قالــت يل‪:‬‬
‫‪ -‬شقتُك بعيدة؟‬
‫أجبتها بسرعة‪:‬‬
‫‪ -‬ليس كثريا‪ ،‬ربع ساعة ابلسيارة‪.‬‬
‫‪ -‬إذا فهيا بنا‪.‬‬
‫وسَرت بداخلي ارجتافات خفيفة وإحساسات‬
‫سعدت بطلبها‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫شــهية‪ ،‬فقلــت هلــا بنظــرة داعيــة‪:‬‬
‫‪ -‬هيا بنا‪ ،‬تفضلي‪.‬‬
‫ـت مــن جلســتها فبانــت يف اســتقامة جســدها مثــرة للغايــة‪،‬‬
‫هنضـ ْ‬
‫َ‬
‫ـت شــهويت أكثــر‪ ،‬وكنــت أمتــى أن أحلــق هبــا س ـريعا حيــث‬
‫حتركـ ْ‬
‫‪53‬‬
‫شــقيت‪ ،‬ربــع ســاعة كثــرة جــدا! لــن يســعفين الصــر علــى هــذا‬
‫اجلســد الفائــر املثــر‪.‬‬
‫محلَــت حقيبتهــا علــى ِ‬
‫كتفهــا واســتدارت أتهبــا للســر‪ ،‬وقبــل أن‬ ‫ْ‬
‫ـت بســيجارهتا املنتهيــة علــى األرض‪ ،‬كانــت قــد‬
‫تتقــدم خطــوة ألقـ ْ‬
‫احرتقت أبكملها ومل يتبق منها سوي القطعة القطنية امللوثة من‬
‫ت بيدهــا‬
‫ـت عليهــا بقدمهــا فاركــة إايهــا‪ ،‬أخـ ْذ ُ‬
‫أثــر القطـران‪ ،‬داسـ ْ‬
‫ـت القطــة البيضــاء تقــرب‬
‫وسـران‪ ،‬بعــد حـوايل خطوتــن منّــا‪ْ ،‬حملـ ُ‬
‫بســرعة حنــو بقــااي الســيجارة املفروكــة‪ ،‬تدلّــت برأســها مستنشــقة‬
‫إايهــا‪ ،‬ولكــن فجــأة‪ ،‬هــزت القطــة رأســها بتقــزز وجـ َـرت بعيــدا‬
‫عنهــا‪ ،‬وعــن حمــور الطاولــة‪.‬‬

‫•••‬

‫‪54‬‬
‫‪.‬‬

‫عطر وابتسامة‬

‫يف كربايئهــا املتأنــق‪ ،‬ختتــال مــرمي علــى عتبــات ســلم منزهلــا النــازل‬
‫بشــكل مســتدير قاصــدة الطريــق املقابــل‪ ،‬تشــع منهــا هبجــة‬
‫وأتلــق‪ ،‬وتفــوح منهــا رائحــة عطريــة مجيلــة‪ ،‬مرتديــة "جيبــة" محـراء‬
‫يعلوهــا قميصــا أبيضــا مطــرزا خبــرز فضــي المــع‪ ،‬وعلــى شــعرها‬
‫مموجــا‪ ،‬ابنــت‬
‫"بونيــه" رقيــق أمحــر اللــون يؤطــره ش ـريطا ذهبيــا ً‬
‫بكلهــا فاتنــة وجذابــة‪ ،‬خارقــة حلــدود التشــابه مــع األخ ـرايت‪،‬‬
‫تلفهــا هالــة جتعلهــا كنجمــة مضيئــة وســط ظــام حالــك؛ أمــدت‬

‫‪55‬‬
‫خطاهــا الرقيقــة بتثنيــات أنثويــة فيهــا مــن الفتنــة الكثــر‪ ،‬ومــن‬
‫اإلغ ـواء أكثــر‪.‬‬
‫ســاقان ملفوفتــان ابنســيابية يعلومهــا احننــاءة خصرهــا اجلــذاب‪،‬‬
‫وهنــدان انفـران يشــعان ذبــذابت منبهــة ألعــن العابريــن‪ ،‬اجلميــل‬
‫أكثــر يف مــرمي أهنــا واثقــة جــدا مــن نفســها‪ ،‬ليســت تلــك الثقــة‬
‫وليــدة أتملهــا لذاهتــا فقــط‪ ،‬بــل ألن الكثرييــن والكث ـرات لطاملــا‬
‫مدحوهــا وأثنــو علــى ِ‬
‫مجالــا‪.‬‬
‫مبعثرين عليها أرق وأعذب األوصاف والكلمات‪ ،‬وهي ‪-‬واحلق‬
‫يقال‪ -‬مجيلة للغاية‪ ،‬غري أن تلك الثقة وذاك اإلحساس جبماهلا‬
‫مل جيعالهــا ختــرج عــن نطــاق التمــرد والتمنــع األنثــوي عــن اجلنــس‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫ال تُبــدي اهتمامــا ألي رجــل مهمــا كان جــذااب ووســيما‪ ،‬وال‬
‫تفضــل أن تكــون وســط رجــال يف أيــة مناســبة‪ ،‬وال يف غــر‬
‫مناســبة‪ ،‬واهتمامهــا بنفســها وأنوثتهــا ليــس رهــن وجــود رجــا يف‬
‫حياهتــا‪ ،‬ولكنــه اهتمامــا خيصهــا هــي فقــط‪ ،‬يبعــث مــا بداخلهــا‬

‫‪56‬‬
‫مــن رضــا ويضفــي علــى نفســها إحساســا بسـّـرها األنثــوي الفاتــن‪.‬‬

‫بــدت يف طريقهــا فاتنــة تســر خبط ـوات واثقــة‪ ،‬ال تلتفــت وال‬
‫تكــرث مبــن حوهلــا‪ ،‬وال هتتــم بكلمــات الغــزل املتســاقطة عليهــا‬
‫من هنا وهناك‪ ،‬كل ما يشــغلها اآلن هو أن تصل حملل العطور‪،‬‬
‫لتقتــي مــا تفضلــه مــن عطــر؛ يف العطــور أسـرار ابلغــة‪ ،‬فهــي حتــرك‬
‫مشــاعران وأتخــذان خليــاالت طليقــة ونش ـوات روحيــة‪ ،‬يف العطــر‬
‫ذكــرى دافئــة حينمــا ترتبــط بــه إحساســات مجيلــة ســابقة؛ عطرهــا‬
‫يكتمــل بــه إحساســها بكياهنــا‪ ،‬تبــدع يف اختيــاره وال تقتصــر علــى‬
‫اســتخدام نوعــا واحــدا منــه‪ ،‬ومــا تنويــه اليــوم هــو أن تقتــي عطـرا‬
‫برائحــة الفواكــه الفواحــة‪.‬‬
‫ذكراهــا مــع الفاكهــة متتــد لزمــن مـ ٍ‬
‫ـاض عندمــا كانــت تصـ ّـر دومــا‬
‫على الذهاب إىل حديقة شــجر الربتقال‪ ،‬فتظل تتجول فيها أو‬
‫تركــض بفــرح طفــويل‪ ،‬فتنتشــي برائحــة الثمــار املعتقــة أبيــد مساويــة‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫وقبــل أن تصــل إىل احملــل‪ ،‬حملــت ثلــة مــن الذكــور‪ ،‬مــا يقــارب‬
‫اخلمســة شــباب‪ ،‬أبعــن اثقبــة ومتطفلــة‪ ،‬أمــدت اخلطــى أكثــر كــي‬
‫تتجنبهم‪ ،‬يف الســر األنثوي السـريع حراكا جســداي أكثر إغواء!‬
‫أتبعوهــا ملقــن عليهــا بعــض الكلمــات الغزليــة اجلوفــاء‪ ،‬فأســرعت‬
‫خبطوهــا حــى دخلــت حمــل العطــور واختفــت عــن األنظــار‪.‬‬

‫اقتنــت عطرهــا األثــر‪ ،‬وخرجــت عائــدة حيــث طريقهــا املــؤدي‬


‫للمنــزل‪ ،‬فوجــدت هــؤالء اخلمســة ابنتظارهــا يف اخلــارج! ارتبكــت‬
‫وعــا وجههــا ضيــق وغضــب‪ ،‬مل تعريهــم أي اهتمــام ومضــت‬
‫يف طريقهــا بفتنتهــا اآلنفــة‪ ،‬حلقــو هبــا وأحلقوهــا بنفــس الكلمــات‬
‫الغزليــة الفارغــة‪ ،‬مث اقــرب أحدهــم منهــا هامســا ببضــع كلمــات‪،‬‬
‫أســرعت يف خطاهــا بغضــب ال خيلــو مــن ارتبــاك‪ ،‬وكادت أن‬
‫تلقــي عليهــم ابلشــتائم ولكنهــا تعالــت عــن ذلــك‪ ،‬وراودهتــا ظنــون‬
‫كثــرة‪.‬‬
‫مــاذا لــو هتجــم عليهــا هــؤالء؟! مــاذا لــو أمــد أحدهــم يــده ليلمــس‬

‫‪58‬‬
‫جــزءا فيهــا؟ مــاذا لــو ظل ـوا قاصديــن إايهــا طيلــة األايم املقبلــة؟‬
‫طــردت تلــك األفــكار مــن ذهنهــا‪ ،‬وصــار كل مــا يشــغلها هــو‬
‫أن تصــل إىل املنــزل بســرعة‪ ،‬فليســت تلــك هــي املــرة األوىل الــي‬
‫تتعــرض فيهــا ملثــل هــؤالء‪ ،‬ولكنهــا املــرة األويل الــي ضمــت هــذا‬
‫العــدد منهــم‪.‬‬

‫تنفســت الصعــداء وابن عليهــا االرتيــاح عندمــا وصلــت إىل‬


‫املنــزل‪ ،‬تواتــرت قدماهــا علــى الســلم كأانمــل عــازف بيانــو حمرتف‪،‬‬
‫واعرتاهــا وهــي صاعــدة إحساســا ابخلــاص مــن هــؤالء‪.‬‬
‫فتحــت ابب شــقتها ودخلــت مســرعة حنــو غرفتهــا‪ ،‬اســتلقت‬
‫قليــا علــى س ـريرها‪ ،‬ومــن مث هنضــت ووقفــت أمــام املــرآة أبعــن‬
‫فضوليــة‪ ،‬نظــرت بعينيهــا العســليتني إىل نفســها‪ ،‬وأمســكت‬
‫بزجاجــة العطــر بيدهــا الصغــرة رافعــة إايهــا حنــو وجههــا‪ ،‬اشــتمت‬
‫رأس الزجاجــة منتشــية برائحتهــا وهــي تغمــض عينيهــا وأتخــذ‬
‫نفســا عميقــا إىل قــاع أعماقهــا‪ ،‬بعثــرت علــى هندامهــا القليــل‬

‫‪59‬‬
‫منــه‪ ،‬مث اعتلــت وجههــا ابتســامة رقيقــة‪.‬‬

‫•••‬

‫‪60‬‬
‫َف ْقد‬

‫احلســي‪ ،‬لغــة ملســي البديعــة مل تكــن‬


‫يف اللمــس لُغــي‪ ،‬وإدراكــي ّ‬
‫لتتأتــى يل بــدون ف ْقــد‪ ،‬يف الفقــد يلهمــي القــدر عطــااي ليســت‬
‫ألحــد‪ ،‬أســتطيع أن أميــز األصـوات برباعــة مهمــا كانــت مشوشــة‬
‫ومتداخلــة‪ ،‬أشــتم الروائــح مبــذاق خمتلــف طاملــا حكيتــه ألهلــي‬
‫ولصديقــي‪ ،‬أتــذوق مشــرويب املفضــل بتلــذذ غريــب‪.‬‬

‫تلــك عطــااي الفقــد‪ ،‬بيــد أن عطيــي األهــم اآلن‪ ،‬واألثقــل‪ ،‬هــي‬

‫‪61‬‬
‫أانملــي‪ .‬أحــب قـراءة الــرواايت كثـرا‪ ،‬فهــي حتــرك خيــايل احلــامل‪،‬‬
‫أرى يف خيــايل كل مــا حيلــو يل‪ ،‬فهــو حاســي العلويــة؛ حاســي‬
‫اجلماليــة الــي أدرك هبــا ألـواان وصــورا وأانسـاً‪ ،‬وحبيبــا طاملــا أتملتــه‬
‫يف تلــك الشاشــة اخلياليــة الصافيــة‪.‬‬
‫صنعتــه ليرتبــع علــى عــرش روحــي ونفســي‪ ،‬وأوجــدت لــه امســا‪،‬‬
‫مسيتــه ســعد‪ ،‬ففــي وجــوده ســعادة‪ ،‬وىف أتملــه إســعاد يل‪ ،‬ورغــد‬
‫اشــتياقي لــه يومــي‪ ،‬وعندمــا يتمــرد علــى خيــايل وجتــف ينابيعــه‪،‬‬
‫أرويــه بق ـراءة الــرواايت‪.‬‬

‫وضعــت أمامــي روايــي الــي اقتنيتهــا جديــدا‪ ،‬حركــت أانملــي علــى‬


‫غالفهــا ومــن مث بــدأت التصفــح‪ ،‬بــدأت أانملــي تتحــرك‪ ،‬كانــت‬
‫تلــك الكلمــة هــي عن ـوان القصــة "أتــوق للقــاء"‪ ،‬بــدأت بق ـراءة‬
‫تفاصيــل القصــة أبصابعــي!‬
‫عندمــا أنســرب داخــل مجاليــات احليــاة والســرد اإلبداعــي تتالشــى‬
‫إحساســايت ابلفقــد‪ ،‬ويســتبد بروحــي التَــوق‪ ،‬أتغــذى علــى‬

‫‪62‬‬
‫الوريقــات بنهــم لذيــذ وتعرتيــي رغبــة ملحــة يف التحليــق‪ ،‬فأطــر‬
‫ألفــاق علويــة أبجنحــة مــن فضــة‪ ،‬حيــدين عــن مييــي وعــن مشــايل‬
‫مالئكــة‪ ،‬وســحب‪ ،‬واحننــاءات قــوس قــزح‪ ،‬وأسـراب مــن الطيــور‬
‫احلانيــة‪ ،‬وأحيــاان أخــرى تلــح علـ ّـي رغبــة يف الركــض‪ ،‬فأظــل أركــض‬
‫بــا ســبيل هــرواب مــن جماهيــل روحــي ومــن فقــدي‪.‬‬

‫حركــت أانملــي علــى مبتــدأ القصــة‪ ،‬متلمســة النقــاط البــارزة‪،‬‬


‫جذبــي مبتــدأ الــكالم كثـرا‪ ،‬فاســتأنفت القـراءة بشــغف‪ ،‬وأتثــرت‬
‫ببطلــة القصــة الــي كانــت تنتظــر لقائهــا حببيبهــا‪ ،‬هــي مثلــى يف‬
‫االنتظــار مــع اختــاف بســيط؛ وهــو أهنــا تنتظــر لقــاء حبيبهــا‬
‫الواقعــي‪ ،‬أمــا أان فأنتظــره يف خيــايل‪.‬‬
‫أمتمــت ق ـراءة مبتــدأ القصــة وصــوال ملنتصفهــا؛ يف االنتصــاف‬
‫تكمــن داللــة األشــياء‪ ،‬نقطــة املنتصــف هــي حمــور الــكل الدائــري‪،‬‬
‫منهــا جييــئ املبتــدأ واملنتهــي‪ ،‬ومنهــا تلــوح إشــارات االســتبصار‬
‫الكلــي‪ ،‬كانــت أانملــي تتحــرك برفــق وبلمســات رقيقــة‪ ،‬فتتلقــف‬

‫‪63‬‬
‫النقــاط وترســلها لعقلــي الــذى يفــك شــفرهتا وحيوهلــا لرمــوز مجاليــة‬
‫ابلغــة الروعــة‪ ،‬قـراءة أانملــي بلمــس الــروز‪ ،‬وقـراءة عقلــي بلمــس‬
‫ـت أانملــي عنــد مجلــة أعجبتــي "يف‬
‫شاشــة خيــايل امللســاء‪ ،‬توقفـ ْ‬
‫احلــب تــوق للوصــال"‪ ،‬هــل الوصــال ترمجــة فعليــه للحــب؟ وهــل‬
‫يكفــي الوصــال اخليــايل لــروي ظمــأ احملبــن؟‬
‫هــو اآلن يكفيــي وبــه أرتــوى‪ ،‬واألن يتألــق خيــايل وأتخــذين‬
‫الق ـراءة لســموات فســيحة يتألــق فيهــا ســعدي‪ ،‬أق ـرأ بســعادة‬
‫ومبشــاعر رائقــة‪ ،‬ترتســم علــى وجهــي ابتســامات خفيفــة متتاليــة‪،‬‬
‫ترتاقــص أانملــي علــى األحــرف البــارزة وكأهنــا راقصــة ابليــه حمرتفــة‪،‬‬
‫وفجــأة توقفــت أانملــي عــن الرقــص! ‪....‬‬

‫مل تكــن بــروز تلــك اجلملــة كــروز ابقــي اجلمــل كانــت بــروزا حــادة‪،‬‬
‫ـرت هبــا كث ـرا‪ ،‬وتوقــف ذهــي عندهــا ليرتجــم كل‬
‫وشــائكة‪ ،‬أتثـ ُ‬
‫حــرف منهــا علــى حــدا‪ ،‬حتولــت ابتســاميت لشــجو‪ ،‬وتدفــق الدمــع‬
‫مــن عيــي متســاقطا بــن حنــااي الــروز‪ ،‬خلصــت مــن قـراءة القصــة‬

‫‪64‬‬
‫ابلكامــل‪ ،‬أعجبتــي كث ـرا‪ ،‬وراودت إغ ـواءات خيــايل الــذي كاد‬
‫ـت حبائطــي لوحــات مــن عــامل مجيــل أتلقــت‬
‫نبعــه جيــف‪ ،‬وألصقـ ْ‬
‫عليــه لوحــة حبيــي‪ ،‬ذاك الســعد املنتظــر‪ ،‬مــى اي إهلــي ســيتأتى‬
‫الوصــال؟ إين لفــي فقــد‪ ،‬لفــي شــغف‪.‬‬

‫ـذت شــهيقا عميقــا‬


‫كانــت الصفحــة التـزال مفــرودة أمامــي‪ ،‬أخـ ُ‬
‫أنتشــي علــى إثــره جســدي‪ ،‬حركــت أصابعــي بطريقــة عش ـوائية‬
‫علــى الكلمــات‪ ،‬وطــار خيــايل ألعلــى‪ ،‬طــار إليــه‪ ،‬طــار معــه‪،‬‬
‫هــل ســأجده يومــا مــا هنــا معــي؟ هــل سأتلمســه ألأتكــد أنــه‬
‫ليــس فقــط خياليــا؟ البــد وأنــه ســيأيت يومــا‪ ،‬البــد وأن يتجســد يل‬
‫حقيقــة ملموســة‪ ،‬وليــس فقــط رؤيــة خياليــة‪.‬‬

‫ـاي ليــس فيهمــا غــر دمــوع بــدأت تتداعــى‪ ،‬ليــس فيهمــا‬ ‫عينـ َ‬
‫ضــوء‪ ،‬وال بصــر‪ ،‬وال أشــياء‪ ،‬فقــط دمــوع تتســاقط علــى الورقــة‪،‬‬
‫وعشـوائية ملــس قصدهتــا ألصــل إىل هــذه اجلملــة األثــرة‪ ،‬األليمــة‪،‬‬

‫‪65‬‬
‫ـي"‪.‬‬
‫ـور عيـ ّ‬
‫ـت نـ ُ‬
‫واجلميلــة أيضــا "أنـ َ‬

‫•••‬

‫‪66‬‬
‫ُكحل‬

‫أحبتــهُ‪ ،‬وال ت ـزال ُتبــه‪ ،‬عاهــدت ذاهتــا املتكئــة علــى ذاتــه أهنــا‬
‫ســتظل حتبــه‪ ،‬يف ليلهــا املم ـ ّدد كطفــل انعــس علــى فخذيهــا‬
‫تداعبــه؛ أماطــت عــن مجودهــا الشــرود وراحــت حتــدق يف صمــت‬
‫دومــا‪ ،‬فخياهلــا عندمــا‬
‫وأتمــل‪ ،‬ليســت اجلنّــات بعيــدة عــن خيالنــا ً‬
‫يتخللــه صــورة احملبــوب‪ ،‬تتفتــح هلــا أب ـوااب تفضــي جلنتــه الرحبيــة‬
‫وزهــوره ونســماته‪ ،‬أخــذت تداعــب ليلهــا الوديــع‪ ،‬ويداعــب‬
‫خياهلــا َمــن ألجلــه قــد اعرتاهــا األرق اجلميــل‪ ،‬يف الليــل حكمــة‬
‫احملبــن وقداســة العشــاق‪ ،‬العاشــقون ليليــون ابلضــرورة‪ ،‬والليليــون‬
‫‪67‬‬
‫هــم غالبــا مــن العشــاق‪ ،‬وهــي عاشــقة ليليــة كزهــرة تظــل ذابلــة‬
‫طيلــة النهــار وتتــورد ليــا‪ ،‬تفــوح‪ ،‬وتتفتــح خميالهتــا الــي تتقمصــه‪،‬‬
‫وتتش ـربه كــي يــروى ظمأهــا‪ ،‬يرويهــا‪ ،‬فتمتــد وتتســع حدائــق‬
‫مبهجــة‪ ،‬وطيــور‪ ،‬وحب ـرات‪ ،‬وأشــجار‪ ،‬ومقعــد جيلســان عليــه‬
‫وحدمهــا‪ ،‬جمرديــن مــن أي اعتبــار‪ ،‬ســوى أهنمــا فقــط مــع بعضهمــا‬
‫ـدو األول للواقــع‪،‬‬
‫ـال هــو العـ ّ‬
‫البعــض‪ ،‬متحــاابن و متعانقــان‪ ،‬اخليـ ُ‬
‫وهــو دائمــا علــى حــق‪ ،‬هــو حمــارب أســطوري‪ ،‬ذو أســلحة بديعــة‬
‫ويف دائمــا لصاحبــه‪ ،‬فهــو عــارف أكثــر منــا بواقعنــا‬
‫وكثــرة‪ّ ،‬‬
‫الغريــب املمتلــئ بتفاصيــل قاتلــة‪ ،‬واعتبــارات‪ ،‬وأحـوال‪ ،‬وخمــاوف‬
‫وأشــخاص‪ ،‬عندمــا نســتدعيه يســتَل ســيفه مــن غمــده ويقاتــل‬
‫بنُبــل‪ ،‬فيقــف أمامــه واقعنــا كحشــرة ضعيفــة ضلّــت طريقهــا إىل‬
‫الضــوء احلــارق‪ ،‬وأيخــذان ‪-‬خيالنــا النبيــل‪ -‬ألفــاق رحبــة علويــة‬
‫مجيلــة ترتأســها صــورة احملبــوب الغــر مشــوبة واملنجليــة‪ ،‬واملتجليــة‬
‫علــى تفاصيــل الــروح واجلســد‪ ،‬وروحهــا اآلن فيــه‪ ،‬وجســدها‬
‫متمــدد حتــت الليــل وزغزغــة النســمات‪ ،‬كانــت قــد َخلُصــت‬
‫لتوهــا مــن إعــداد مالبســها املنتقــاة بعنايــة دقيقــة‪ ،‬وأعــدت أمامهــا‬
‫ّ‬
‫‪68‬‬
‫"مكيــاج الوجــه املتعــدد"‪ :‬بــودرة بيضــاء‪ ،‬طــاء شــفاه وردي‪،‬‬
‫ألـوان للجفــن خضـراء وزرقــاء‪ ،‬واألهــم مــن هــذا كلــه هــو الكحــل‬
‫األســود الــذي أهــداه هلــا حبيبهــا ذات لقــاء‪ ،‬الكحــل فيــه بعــد‬
‫ـحرا يشــبه الليــل حينمــا‬
‫مجــايل عجيــب‪ ،‬يضفــي علــى العينــن سـ ً‬
‫يلتــف حــول القمــر‪ ،‬عيناهــا مهــا القمــر‪ ،‬والكحــل ليــل‪ ،‬وابقــي‬
‫وجههــا كــون فســيح فيــه كل معــاين اجلمــال والفتنــة‪ ،‬ليلتهــا هانئــة‬
‫و ســعيدة‪ ،‬ليلــة ال يعقبهــا صحــو علــى س ـرير‪ ،‬وال علــى نـ ٍ‬
‫ـداء‬
‫أجــش‪ ،‬وال علــى منبــه اتلــف مــن صنــع الكوريــن‪ ،‬بــل يعقبهــا‬
‫اب‪ ،‬علــى عشـ ٍـق جمسـ ٍـد‪ ،‬يعقبهــا‬ ‫صحــو علــى لقـ ٍ‬
‫ـاء‪ ،‬علــى اق ـر ٍ‬
‫صحــو علــى احملبــوب‪.‬‬

‫للملــوك عــروش أرضيــة‪ ،‬وللعشــاق عــروش مساويــة‪ ،‬عرشــها اآلن‬


‫هو ذاك الكرسي الصغري القائم أمام مرآة تعكس صورة لوجهها‬
‫احلامل اجلميل‪ ،‬املرآة دائما ال متيز بني ما هو مجيل وما هو قبيح‪،‬‬
‫وهــي أداة بشـرية مل يهبهــا اإلنســان العقــل‪ ،‬لــو كانــت تلــك املــرآة‬
‫ذات حــس مجــايل‪ ،‬لعكســت صــورة وجههــا فقــط دومنــا الباقــي‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫أعــن حبيبهــا فقــط هــي الــي تســتطيع التمييــز‪ ،‬وهــى تــدرك أن‬
‫حبيبهــا اآلن مثلهــا‪ ،‬يف انتظــار وتــوق‪ ،‬أطلّــت علــى وجههــا يف‬
‫املــرآة مبتســمة‪ ،‬وبــدأت يف وضــع األل ـوان عليــه‪ ،‬بــدأت ببــودرة‬
‫اخلديــن واجلبــن‪ ،‬مث بطلــي اجلفنــن ابألخضــر واألزرق‪ ،‬وقبــل أن‬
‫تضــع طــاء الشــفاه الــوردي‪ ،‬أمــدت يدهــا اليمــى لتلتقــط قلــم‬
‫ال ُكحــل األســود‪ ،‬فلمحــت جبانبهــا تلــك الورقــة الــي كتــب عليهــا‬
‫منتظرهــا ذات ليــل "أحبــك اي روح القلــب" حركــت أصابعهــا‬
‫لتتلمــس الورقــة‪ ،‬مث التقطــت القلــم الكحلــي متجهــة بــه حنــو عينهــا‬
‫اليمىن؛ حركة ودوران الكحل حول العني بتلك الدقة والرقة‪ ،‬هلا‬
‫داللة على ســر األنوثة نفســها‪ ،‬ليس من شــغل األنثى أن تراقب‬
‫األفالك مبيكروســكوب من العصر الوســيط‪ ،‬وال أن أتخذ حفنة‬
‫مــن األعشــاب وحتللهــا معمليــا‪ ،‬وال أن تقيــس قــدرة داببــة علــى‬
‫الفتــك‪ ،‬شــغلها أبســط وأرق مــن هــذا كلــه‪ ،‬وكل بســيط مجيــل‪،‬‬
‫وكل رقيــق بديــع‪ ،‬وكل أثــى كامــن بداخلهــا اجلمــال واإلبــداع‪،‬‬
‫اللــذان تتجســدا علــى ســلوكها واهتماماهتــا‪ ،‬رمســت حــول عينيهــا‬
‫دائــرة الكحــل‪ ،‬فـزاد بريقيهمــا واســتجابت األعــن لزائرهــا األمســر‬

‫‪70‬‬
‫الــذى احتواهــا ول ّفهــا‪ ،‬ومل تتمــرد عليــه راضيــة بتطفلــه املســتدير‪.‬‬

‫كان الكحــل متماســكا ومرســوما بدقــة‪ ،‬أمتــت جلســتها بوضــع‬


‫طــاء الشــفاه الــوردي‪ ،‬وقبــل أن تنهــض ألقــت نظــرة علــى الورقــة‬
‫األثــرة وابتســمت‪ ،‬فاســتجابت إلبتســامتها كل أل ـوان وجههــا‪،‬‬
‫تثنــت بــودرة خديهــا مــع تثنيهمــا‪ ،‬ومتطــى الطــاء الــوردي مــع‬
‫متطــى شــفاهها‪ ،‬وتوقفــت عــن الرمــش بعينيهــا فت ـوارى األزرق‬
‫واألخضــر خلــف رموشــها‪ ،‬كل تفاصيــل وجههــا اســتجابت‬
‫لبســمتها‪ ،‬إال ال ُكحــل الــذي ظــل اثبتــا مــع ثبــات عينيهــا علــى‬
‫الورقــة‪.‬‬

‫أشــفق عليهــا خياهلــا الليلــي الســابق حامــا إايهــا ليضعهــا رغمــا‬


‫عــن الواقــع جبانبــه‪ ،‬جتســد اخليــال حقيقــة؛ فهــا هــي اآلن قريبــة‬
‫منــه‪ ،‬متلهفــة لتلــك النظ ـرات الشــاردة مــن عينيــه‪ ،‬يف شــرودمها‬
‫شــجو ســرعان مــا خيبــو‪ ،‬عندمــا تتعامــد عينــاه علــى عينيهــا‪،‬‬
‫لتتخلــل مالحمــه هبجــة وســعادة‪ ،‬تظــل تتأملــه كــي ختــزن يف الذاكــرة‬

‫‪71‬‬
‫أدق تفاصيلــه الــي تكــون هلــا مبثابــة الــرايق يف حلظــات الفـراق‪،‬‬
‫نظ ـرات عينيــه‪ ،‬إميــاءات وجهــه‪ ،‬إشــارات يديــه‪ ،‬رائحــة عطــره‪،‬‬
‫أنفاســه‪ ،‬أل ـوان مالبســه‪ ،‬كلماتــه؛ يف وصالــه هبــا اســتكانةٌ‪،‬‬
‫ـت؛ يف صمــت احملبــن معــى بليــغ‪ ،‬الصمــت‬ ‫وانبســا ٌط‪ ،‬وصمـ ٌ‬
‫حــن الوصــال هــو أقــوى معــر‪ ،‬ال حيتــاج احملبــون إىل كلمــات‬
‫كســائر النــاس؛ الــكالم هــو أدىن مراتــب البــوح؛ الصمــت لغــة‬
‫أثرييــة حتمــل أدق اإلحساســات مــن احملــب إىل احملبــوب؛ بــن‬
‫احملبــن ذبــذابت روحيــة ال يفــك شــفرهتا ّإلهــم؛ وهــي اآلن مل‬
‫أحســت‬‫َيْــف عليهــا أبن شــروده اليــوم خمتلفــا عــن كل لقــاء‪ّ ،‬‬
‫بتغــر مــا قــد طـرأ عليــه‪ ،‬انبســطت لــه أكثــر انظــرة إىل عينيــه حبنـ ٍو‪،‬‬
‫فانتبــه إليهــا انظ ـرا إىل عينيهــا هــو أيضــا‪ ،‬كانــت نظراتــه حتمــل‬
‫نوعــا مــن احلــزن واألســى‪ ،‬وأيضــا الــردد‪ ،‬حــارت عينــاه حــول‬
‫حنــااي وجههــا اجلميــل املتلهــف بقلــق عليــه‪ ،‬غــاص يف عينيهــا كمــا‬
‫مل يفعــل مــن قبــل‪ ،‬فلمــح اســتدارة الكحــل الــي طاملــا أعجبتــه‬
‫وأثــى عليهــا‪ ،‬وفجــأة أشــاح بوجهــه عنهــا ومل يفتــأ أداره إليهــا مــن‬
‫جديــد قائــا أبســى‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫‪ -‬هل ستساحمينين؟‬
‫قلقــت للغايــة مــن هــذا الس ـؤال‪ ،‬مالــت يف جلســتها حنــوه قليــا‬
‫لــرى عينيــه وقــد ملعــت مــن أثــر الدمــوع‪ ،‬ارتبكــت وقالــت وهــي‬
‫ترمــش‪:‬‬
‫‪ -‬أساحمك على ماذا؟‬
‫كان ارتباكهــا قــد جعلــه يــردد قليــا يف اإلجابــة‪ ،‬أغمضــت‬
‫عينيهــا فانغلقــت دائــرة الكحــل علــى نفســها‪ ،‬أخــذت نفســا‬
‫عميقــا‪ ،‬مث فتحــت عينيهــا مــن جديــد‪ ،‬فوجدتــه يقــول‪:‬‬
‫لك‪ ،‬احلياة أقوى مين‪ ..‬ساحمين‪.‬‬‫‪ -‬لن أستطيع فعل أي شيء ِ‬

‫قــال تلــك اجلملــة قبــل أن ينهــض مــن مكانــه‪ ،‬اتركا إايهــا يف‬
‫معمعــات التيــه‪.‬‬

‫•••‬

‫دخلــت غرفتهــا وســحبت كرســيا وجلســت أمــام املــرآة‪ ،‬يف‬

‫‪73‬‬
‫حديثهــا مــع املــرآة تفيــض بــكل مــا جييــش بداخلهــا مــع قرينهــا‬
‫املنعكــس‪ ،‬ســألت ذاهتــا كث ـرا‪ ،‬هــل أخطــأت يف حقــه يومــا؟‬
‫هــل يكــون بتلــك الســهولة ابتعــاده؟ كيــف ســيكون حاهلــا مــن‬
‫بعــده؟ احنــت رأســها لألســفل قليــا شــجوا وح ـزان‪ ،‬فوقعــت‬
‫عيناهــا علــى تلــك الورقــة املوضوعــة أمامهــا‪ ،‬نظــرت إليهــا برفــق‪،‬‬
‫أتثــرت هبــا كث ـرا‪ ،‬حــى ملعــت عيناهــا مــن أثــر الدمــوع‪ ،‬كانــت‬
‫مالحمهــا حزينــة ومقتضبــة وجامــدة‪ ،‬ظلــت مالمــح وجههــا اثبتــة‪،‬‬
‫وظلــت تلــك األلـوان املرســومة علــى وجههــا غــر عابئــة مبــا جييــش‬
‫بداخلهــا‪ ،‬إال الكحــل! الــذي اختلــط وامتــزج مــع الدمــع منزلقــا‪،‬‬
‫رامســا خطــن متوازيــن علــى خدهــا األملــس‪.‬‬

‫•••‬

‫‪74‬‬
‫نشوة اجلسد‬

‫ورد ال ُف ـؤاد‪ ،‬ألُــق الــروح‪ ،‬تلــك األنوثــة املختالــة‬


‫ـك اجلَســد‪ُ ،‬‬
‫مسـ ُ‬
‫ْ‬
‫علــى مجــود الكــون‪ ،‬وضجيــج الوجــود‪ ،‬يف طلّتهــا ضيــاء‪ ،‬فتبــدو‬
‫كنجمــة تتمــرد علــى حنــااي الكــون املســحول بشــهقة الظــام‪،‬‬
‫تلــك الــي تتبعثــر جبنــون علــى أحنائــي‪ ،‬وتنســاب برفــق يف أورديت‪،‬‬
‫وتتــوه بــن حنــااي جســدي‪ ،‬ذاك اجلســد املبتــل بعســلها‪ ،‬املخمــور‬
‫برائحتهــا املخلوطــة بعطــر الســماء‪ ،‬مــا هــذا الــذي حيــدث لنــا؟‬
‫وحيــدث بيننــا؟ إان إ ًذا ِلفــي عشــق‪ ،‬إ ّن ِلفــي ولَـ ٍـه‪.‬‬
‫هــي رغــدة منــذ عرفتهــا‪ ،‬أبعوامهــا الثالثــن الــي مل يدللهــم أي‬
‫‪75‬‬
‫رجــل‪ ،‬تلــك اجلامــدة دومــا يف ســلوكها واخلائفــة مــن إقباهلــا‪،‬‬
‫املنطويــة علــى ذاهتــا‪ ،‬ختشــى البــوح حــى ألقــرب أقارهبــا‪ ،‬مل ُتــرب‬
‫احلــب قــط‪ ،‬ومل تلــج دنيــا الرجــال كمثيالهتــا‪ ،‬هــي جبســدها‬
‫الرائــع املعمــول بدقــة‪ ،‬املرصــع أببــدع االلتفــااتت‪ ،‬الناصــع أبنقــى‬
‫البياضــات‪ ،‬هــي ابلتفــاف ســاقيها اجلميلتــن‪ ،‬وهنديهــا النافريــن‪،‬‬
‫وشــفتيها الشــهيتني‪ ،‬وأذنيهــا املنمنمتــن‪ ،‬تلــك األذن الــي اقرتبــت‬
‫منهــا ذات هلفــة هامســا‪:‬‬
‫‪ -‬أنت أمجل أنثى يف الكون‪.‬‬

‫ـرف خديهــا نغــازاتن‬


‫حينهــا ابتســمت برقــة ودالل‪ ،‬فبانــت علــى طـ َْ‬
‫مجيلتــان‪ ،‬وانثنــت انحيــي بدلَـ ْـع‪ ،‬ف ُقلــت يف نفســي‪" :‬إين اآلن‬
‫لفــي اشــتياق"‬
‫حينهــا كانــت جالســة جبانــي‪ ،‬مــددت يــدي ووضعتهــا علــى‬
‫يدهــا‪ ،‬واقرتبــت منهــا أكثــر ألغمــس أنفــي يف شــعرها الفـ ّـواح‬
‫ـت يــدي األخــرى علــى كتفهــا وضممتهــا‬ ‫برائحــة اخلــدر‪ ،‬وضعـ ُ‬
‫ـت يــدي مــن علــى يدهــا‬
‫إىل صــدري‪ ،‬فمالــت وارتكنــت‪ ،‬رفعـ ُ‬
‫‪76‬‬
‫ـفيت لرتتــوي مــن عســل‬
‫ـت بشـ ّ‬
‫ألرفــع هبــا وجههــا حنــو وجهــي‪ ،‬اقرتبـ ُ‬
‫شــفتيها‪ ،‬غرقــت يف قُبلتهــا‪ ،‬وانتشــيت بطعــم رضاهبــا احلُلــو‪،‬‬
‫الســكر‪،‬‬
‫ودفــئ جســدها الفائــر‪ ،‬واســتبد يب العشــق‪ ،‬وهــد أركاين ُ‬
‫فســرت بكل خالاي جســدي رعشــات لذيذة جعلتين أمتايل ح ّد‬ ‫َ‬
‫اإلغشــاء‪ ،‬حينهــا ر ّن جــرس هاتفــي احملمــول‪ ،‬فتحــت الســماعة‬
‫علــى الطالــب قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حالك حبيبيت؟‪ ،‬لقد أوحشتنين كثريا‪.‬‬
‫‪ -‬أين أنت؟‬
‫‪ -‬أان هنا أقضي بعض األمور‪.‬‬
‫‪ -‬وملاذا مل تسأل عين منذ يومني؟‬

‫كنــت أحتــدث ورغــدة جبانــي‪ ،‬فلــم تعــرين أي اهتمــام‪ ،‬كانــت‬


‫متقوقعــة علــى ذاهتــا ومرتقبــة وصامتــة‪ ،‬وكنــت أان أهيــم وأكمــل يف‬
‫احلديــث اهلاتفــي‪:‬‬
‫‪ -‬أسف حبيبيت‪ ،‬كنت مشغوال‪.‬‬
‫‪ -‬أنت أوحشتين كثريا وأتوق الحتضانك‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫إليك‪ ،‬هل سأر ِاك غدا يف شقتنا؟‬ ‫‪-‬و ِ‬
‫أنت أيضا كم أشتاق ِ‬
‫‪ -‬أكيد‪.‬‬

‫ـت احملادثــة التليفونيــة مث انتبهــت بكلــي إىل تلــك القابعــة‬ ‫أمتمـ ُ‬


‫جبانــي‪ ،‬ابلطبــع مل تُعلــق علــى تلــك املكاملــة كعادهتــا‪ ،‬ومل تكــرث‬
‫خليانــي كعادهتــا أيضــا! رغــدة مل جتــرب أي رجــل مــن قبــل‪ ،‬عرفتهــا‬
‫عــن طريــق املصادفــة البحتــة‪ ،‬أعجبتــي كثـرا‪ ،‬ومــا أعجبــي أكثــر‬
‫يف مــن شــبق‪،‬‬
‫‪-‬واحلــق يقــال‪ -‬هــو جســدها‪ ،‬اشــتهيتها بــكل مــا ّ‬
‫وعاهــدت نفســى أبال اتركهــا إال وهــي يف حضــي‪ ،‬وقــد كان‪،‬‬
‫أضــأت شاشــة هاتفــي ألســتمع ألغنيــة مــن مفضــايت‪ ،‬كانــت‬
‫ـرت إىل‬
‫أغنيــة "أغــدا ألقــاك" ألم كلثــوم‪ ،‬اســتبد يب الطــرب فنظـ ُ‬
‫رغــدة بلهفــة‪ ،‬أفهمتهــا أبين مشــتاق إليهــا فاســتجابت‪ ،‬أخذهتــا‬
‫ـت‬
‫مــن يدهــا واســتقلنا ســيارة حــى شــقيت‪ ،‬دخلنــا الشــقة وأغلقـ ُ‬
‫البــاب خلفنــا‪ ،‬كان صــوت أم كلثــوم يهــل مــن مساعــة اهلاتــف‬
‫وهتــل أيضــا فرحــة القــرب مــن رغــدة‪ ،‬دخلنــا إىل الغرفــة‪ ،‬هــذا هــو‬
‫الدخــول اخلامــس معهــا إىل تلــك الغرفــة‪ ،‬جلســنا علــى الس ـرير‬

‫‪78‬‬
‫قميصــا أمح ـرا قص ـرا‪ ،‬شــفاف اخلصــر والنهــد‪،‬‬
‫ت ً‬ ‫بعدمــا ارتـ َـد ْ‬
‫فاضــح للخفــااي ُمــركا لألعاصــر اجلســدية‪ ،‬توالــت حتــداييت فيهــا‪،‬‬
‫وراحــت يــدي متســح علــى كتفهــا وشــفيت تــدور حــول وجههــا‬
‫ـفيت علــى شــفتيها فتنهــدت‪ ،‬مــددت‬
‫ـت بشـ ّ‬
‫فتلـ َـوت رغــدة!‪ ،‬قبضـ ُ‬
‫ـت‪ ،‬حركــت يــدي علــى ردفهــا‬
‫يــدي لتعبــث برفــق يف هندهــا فتأوهـ ْ‬
‫ـت‪ ،‬كــدت‬
‫انمــت! اعتليــت جســدها بــكل مــا يف جســد تقلبـ ْ‬
‫أدخلهــا فــر ّن جــرس اهلاتــف! ر ّن قاطعــا صــوت أم كلثــوم‪ ،‬مل ُأرد‬
‫ـت رغــدة لقلقــي أشــارت يل هبــدوء وهــي حتــرك‬‫هــذه املــرة‪ ،‬انتبهـ ْ‬
‫يدهــا كــي تستفســر عمــا حيــدث‪ ،‬فأفهمتهــا أبن كل شــيء علــى‬
‫ـت شاشــة اهلاتــف تضــيء وختفــت فنبهتــي أبن هنــاك‬
‫مــا يـرام‪َ ،‬حملـ ْ‬
‫ـت منهــا أبن ال هتتــم؛ كنــت أعلــم ســلفا مــن‬
‫مــن يتصــل‪ ،‬طلبـ ُ‬
‫الــذى يقــوم ابالتصــال يب‪ ،‬تكـ ّـرر االتصــال مــرة تلــو األخــرى‪،‬‬
‫وأخـ َذت الشاشــة تضــئ وختفــت مـرات متتاليــة‪ ،‬وأان مثلهــا‪ ،‬أضــئ‬
‫ـارت يل صامتــة مــرة اثنيــة أبن أغلــق‬
‫وأخفــت داخــل رغــدة أشـ ْ‬
‫ـددت يــدي وقبضــت علــي اهلاتــف ولكنهــا اهتــزت‬
‫اهلاتــف‪ ،‬فمـ ُ‬
‫فوقــع مــي علــى األرض‪ ،‬أشــارت يل لتســتعلم عــن املتصــل‪،‬‬

‫‪79‬‬
‫أفهمتهــا ابإلشــارات أبن مــا يضــيء اهلاتــف هــي األغنيــة‪ ،‬ســألتين‬
‫ـت يــداي مبــا يعــى أهنــا أغنيــة "أغــدا‬
‫بيديهــا عــن األغنيــة!‪ ،‬فحركـ ُ‬
‫ـمت هلــا ومــن مث احتضنتهــا غارقــا‬
‫ـمت يل وابتسـ ُ‬
‫ألقــاك؟ ابتسـ ْ‬
‫بكلــي يف كلهــا‪.‬‬

‫كان التليفــون ُملقــي علــى األرض جبانبنــا وتضــئ شاشــته وختفــت‬


‫مـر ًارا‪ ،‬مل ألتفــت إليــه‪ ،‬ال يهــم‪ ،‬عنــدي خــرة كافيــة جتعلــي أتعامــل‬
‫الصــم والبُكــم خصيصــا‬
‫ـت إشــارات ُ‬
‫مــع رغــدة ابإلشــارات‪ ،‬تعلمـ ُ‬
‫مــن أجلهــا‪ ،‬مــا أمجــل هــذه التجربــة الصامتــة واهلادئــة‪ ،‬مــا أروع‬
‫االنتشــاء اخلــايل مــن الكــدر! ظلّــت الغرفــة طـوال الليــل تغــط يف‬
‫لــذة عارمــة‪ ،‬وظللــت أان أغــط يف متعــة ونشــوة جســدية‪.‬‬

‫•••‬

‫‪80‬‬
‫ارتواء‬

‫ت يل اببتســامة مث أحنــت‬ ‫ِ‬


‫ـت إليهــا‪ ،‬نظـ َـر ْ‬
‫ـكت بيدهــا وإلتفـ ُ‬
‫أمسـ ُ‬
‫ـت‬ ‫ِ‬
‫ـت علــى يدهــا برفــق‪ ،‬فضحكـ ْ‬ ‫رأســها لألســفل خجــا‪ ،‬قبضـ ُ‬
‫ابســتحياء‪:‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫أحبك‪.‬‬
‫ـت فجــأة‬
‫ـت وأان أقــرب مــن أذهنــا‪ ،‬زادت ســعادهتا توق َفـ ْ‬ ‫مهسـ ُ‬
‫ـت يل لتمتثــل أمامــي ب ُكلّهــا‪ ،‬اب َن وجههــا أكثــر مجــاالً‬
‫والتفتـ ْ‬
‫وملعــاان‪ ،‬قالــت بســرعة‪:‬‬
‫‪ -‬أان أيضا أحبك‪.‬‬
‫ـدت عـ ّـي وهــي‬
‫ـت هبــا ابتعـ ْ‬
‫ـت يــدي واعتلــت الط ـوارئ‪ ،‬حلقـ ُ‬
‫تركـ ْ‬
‫‪81‬‬
‫ـت علــى يدهــا مــرة أخــرى‬
‫تضحــك بعذوبــة زادت روعتهــا‪ ،‬قبضـ ُ‬
‫ـتأنفي الســر‪.‬‬
‫وضحكنــا مس ـ ْ‬
‫الطقــس ربيعــي‪ ،‬طيــور تعتلــي األشــجار املورقــة ابخضـرار‪ ،‬نســائم‬
‫هادئــة حتمــل معهــا عبــق الزهــور‪ ،‬أفــق صــايف خمتلــج بســحب‬
‫ـماوي‬
‫بيضــاء تتحــرك ببطــيء لتكشــف عــن ســحر اللــون السـ ّ‬
‫البهيــج‪.‬‬

‫احنــدران ميينــا لتلــك احلديقــة الواســعة‪ ،‬ســبقتين خبطوتــن كغ ـزال‬


‫ـمت هلــا قائــا‪:‬‬
‫ـت فجــأة كــي تنتظــرين‪ ،‬ابتسـ ُ‬
‫رشــيق‪ ،‬توقفـ ْ‬
‫‪ -‬سأتركك وحدك‪.‬‬
‫ـت‬
‫ـيت بعكــس اجتاههــا‪ ،‬جـَـرت خلفــي حــى حلقـ ْ‬‫ـت ومشـ ُ‬‫مث التفـ ُ‬
‫يب أمســكتين مــن قميصــي وجذبتــي إليهــا برقــة‪ِ ،‬س ـران ســواي‬
‫متجهــن لقلــب احلديقــة األخضــر‪ ،‬علــى اجلنبــات تـراص الزهــور‬
‫حملقــة فوقهــا الفراشــات امللونــة الراقصــة علــى زقزقــات العصافــر‪،‬‬
‫أض َفــت علينــا تلــك االختالجــات البديعــة هبجــة روحيــة جعلتنــا‬
‫ْ‬
‫ـذت شــهيقا فانتشــيت‬
‫نتألــق حبــا وفرحــا‪ ،‬ارتوينــا ابلنســائم‪ ،‬أخـ ُ‬
‫‪82‬‬
‫ـت معهــا جالسـ ْـن علــى احلشــائش اخلض ـراء‪:‬‬ ‫ِ‬
‫بــه ومــال يب‪ ،‬فملـ ُ‬
‫الطقس مجيل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ـت هلــا وأان أنظــر حــويل‪ ،‬فمالــت برأســها وغمزتــي بعينهــا قائلــة‬
‫قلـ ُ‬
‫بدالل‪:‬‬
‫‪ -‬الطقس فقط هو اجلميل؟‬
‫ـت منهــا قليــا وتفرســتها بنظــرة فاحصــة لتفاصيــل احلســن‬
‫اقرتبـ ُ‬
‫علــى وج ِههــا هامســا‪:‬‬
‫‪ -‬كل ما حولنا حياول أن يقلدك‪ِ ،‬‬
‫أنت أمجل ما ُهنا‪.‬‬

‫ـت‬
‫ـددت يــدي ورفعـ ُ‬
‫احننــت رأســها لألســفل اببتســامة رقيقــة فمـ ُ‬
‫ـي مــن جديــد؛ يف عيوهنــا ســحر وألــق‪ ،‬فيهمــا‬
‫وجههــا صــوب عيـ ّ‬
‫جتليــات مــن عــامل علــوي مجيــل‪ ،‬أتخــذين عيناهــا ألسـرار اجلمــال‬
‫مــن حــويل‪ ،‬فتجعلــي أكثــر تدبـرا وإدراكا للســر الكامــن بداخلنــا‪،‬‬
‫ذلــك الســر العميــق الــذي يتجلــى علينــا يف حلظــات الوصــال‬
‫والعشــق‪ ،‬وحيلــق بنــا لنتلمــس أفاقــا بعيــدة عازفــن علــى أواتر‬
‫التجليــات اجلماليــة يف الوجــود‪ ،‬قلــت هلــا‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ -‬عيونك مجيلة‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬أنت أمجل‪.‬‬
‫‪ -‬ما رأيك يف هذا املكان؟‬
‫تساءلت‪ ،‬فأجابتين بفرح‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬اياه!‪ ..‬مكان مجيل‪ ..‬سبحان هللا!‬

‫ـت بتلــك الكلمــة نقــاط احلــرة بداخلــي‪ ،‬هللا! هــل يكــون‬


‫مسـ ْ‬
‫ّ‬
‫هــذا اجلمــال مــن صنــع هللا فعــا؟ أم أهنــا الطبيعــة الــي تشــكلت‬
‫ذاتيــا ووضعــت قوانينهــا اخلاصــة بعيـ ًـدا عــن خالــق علــوي؟‪ ،‬مــن‬
‫املمكــن أن يشــكل انســكاب األلـوان علــى لوحــة بيضــاء رســوما‬
‫عش ـوائية‪ ،‬ولكــن عندمــا تكــون تلــك الرســوم متناســقة لتشــكل‬
‫موضوعــا مجاليــا فالبــد هلــا مــن خالــق بديــع‪ ،‬ولكــن ملــاذا حيتجــب‬
‫هللا عنا بذاته؟ وما الســر يف ذلك؟ هل من وصول لتلك الذات‬
‫احلســي‪ ،‬أم أننــا حنتــاج إلدراكات مــن‬
‫الكليــة اخلالقــة ابإلدراك ّ‬
‫نــوع آخــر؟ إين لفــي شــطط!‬

‫‪84‬‬
‫نبهتين هلا بعدما سرحت عنها قليال‪:‬‬
‫‪ -‬حنن هنا‪.‬‬
‫ـت مــن جلســتها واضعــة قدميهــا بتثــي حتتهــا‪ ،‬فبـ َـدت‬
‫مث ب ّدلـ ْ‬
‫احنناءاهتــا األنثويــة أكثــر انســيابية ووضوحــا ومجــاال‪ ،‬أمســكت‬
‫بيديهــا االثنتــن قائــا‪:‬‬
‫‪ -‬لن أفارقك أبدا‪.‬‬
‫ـت ثياهبــا‪ ،‬وقالــت وهــي تبتعــد‬
‫‪ -‬هنضنــا مــن جلســتنا‪ ،‬عدلَـ ْ‬
‫خطوتــن للخلــف‪:‬‬
‫‪ -‬هل تستطيع اللحاق يب؟‬

‫ـت حنوهــا فالتفتــت بســرعة راكضــة أمامــي بدلــع ودالل‪،‬‬ ‫مهمـ ُ‬


‫ـت هبــا عنــد شـريط مــن الزهــور اجلميلــة‬
‫ـت خلفهــا حــى حلقـ ُ‬
‫جريـ ُ‬
‫املختلفــة أنواعهــا‪ ،‬وقفنــا متقابلــن‪ ،‬خفتــت ضحكتهــا تدرجييــا‬
‫ـكت بيدهــا‪،‬‬
‫وتبدلــت اببتســامات هادئــة خمتلجــة حبنــو ابلــغ‪ ،‬أمسـ ُ‬
‫ت جبانبهــا واقتطفــت وردة مح ـراء‪ ،‬أهدهتــا يل قائلــة‪:‬‬
‫نظـ َـر ْ‬
‫‪ -‬أحبك‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫أخذت الوردة من يدها مستنشــقا إايها‪ ،‬سـَـرى بداخلي عبقها‪،‬‬
‫ُ‬
‫فانتشــت روحــي‪ ،‬وتفتحــت مســام جســدي‪ ،‬استنشــقتها مــرة‬
‫َ‬
‫أخــري وأغمضــت عيــي قائـاً‪:‬‬
‫‪ -‬هللا !!‬

‫•••‬

‫‪86‬‬
‫الفهرست‬

‫إطاللة ‪7..........................‬‬
‫البوهيمي‪13. .......................‬‬
‫الغريب‪27. ........................‬‬
‫ال ُلعبة‪35. .........................‬‬
‫سيجارة ‪47. .....................‬‬
‫عطر وابتسامة ‪55. ...................‬‬
‫َف ْقد ‪61. .........................‬‬
‫ُكحل ‪67. ........................‬‬
‫نشوة اجلسد ‪75. .....................‬‬
‫ارتواء ‪81. ........................‬‬
‫عن الدار ومشروع النشر احلر‬

‫دار لوتــس للنشــر احلــر هــي أول دار نشــر تعتمــد مبــدأ النشــر احلــر‬
‫مــن خــال مشــروع طمــوح يهــدف إىل ختطــي عقبــات النشــر يف وطننــا‬
‫العــريب‪ ،‬والتخلــص مــن النظــرة الرحبيــة عــن طريــق توفــر الكتــاب الورقــي‬
‫بتكلفــة طباعتــه فقــط‪ ،‬واإللكــروين ابجملــان‪.‬‬
‫دار لوتــس للنشــر احلــر هــي مشــروع خدمــي وليــس جتــاري‪ ،‬تدعــم‬
‫الكاتــب املوهــوب وتســانده بــدون تكلفــة ماليــة تُذكــر‪ ،‬ومتنحــه كافــة‬
‫احلقــوق بكتابــه‪ ،‬حتــاول االرتقــاء مبســتوى األدب‪ ،‬وهتــدف إىل اح ـرام‬
‫الكاتــب والقــارئ مــن خــال نشــر كل مــا هــو جيــد يف جمــاالت الروايــة‪،‬‬
‫القصــة القصــرة‪ ،‬الشــعر واخلواطــر‪ ،‬األدب الســاخر‪ ،‬والفكــر‪ ،‬وبعــض‬
‫الكتــب الــي ال ختضــع للتصنيــف الســابق لكــن بــدون اإلســاءة لشــخص‪،‬‬
‫أو أشــخاص‪ ،‬أو مؤسســات‪ ،‬أو أفــكار‪ ،‬أو عقائــد‪ ،‬أو دايانت‪ ،‬أو‬
‫أنظمــة سياســية‪.‬‬
‫إن كنــت كاتــب وتــود النشــر مــن خــال الــدار وفقـاً ملشــروع النشــر احلــر‪،‬‬
‫أو دعمــه‪ ،‬أو املســامهة بــه‪...‬‬
‫إن كنت قارئ وتريد احلصول على أي كتاب من منشورات الدار‪..‬‬
‫فتواصل معنا‪:‬‬
‫‪Mob:‬‬ ‫‪+2 01091985809 - +2 01272143509‬‬
‫‪WhatsApp:‬‬ ‫‪+2 01091985809‬‬
‫‪Site:‬‬ ‫‪www.Lotusfreepub.com‬‬
‫‪Mail:‬‬ ‫‪Lotusfreepub@gmail.com‬‬
‫‪F Account:‬‬ ‫‪www.facebook.com/lotusbookshopp‬‬
‫‪F Page:‬‬ ‫‪www.facebook.com/lotusfreepub‬‬
‫أصدارات الدار‬

‫جمموعة مؤلفني‬ ‫‪.............‬‬


‫خواطر‬ ‫‪.............‬‬ ‫قلم عطر‬
‫‪.............‬‬ ‫‪.............‬‬
‫راضية موحوس‬ ‫رواية‬ ‫وعادت رميا‬
‫‪.............‬‬ ‫‪.............‬‬
‫أمساء إبراهيم‬ ‫‪.............‬‬ ‫خواطر‬ ‫‪.............‬‬
‫مثل ليلة حب‬
‫زهرة العدوي‬ ‫‪.............‬‬ ‫خواطر‬ ‫‪.............‬‬ ‫وكأين أحبك‬
‫هاين النجار‬ ‫‪..............‬‬ ‫أدب ساخر‬ ‫‪..............‬‬ ‫عامل قراطيس قراطيس‬
‫‪..............‬‬ ‫‪..............‬‬ ‫أواتر‬
‫جمموعة مؤلفني‬ ‫‪..............‬‬
‫خواطر‬
‫‪..............‬‬
‫نسمة أبو النصر‬ ‫‪..............‬‬ ‫رواية‬ ‫دماء على ثوب أبيض‬
‫‪..............‬‬
‫حامت سالمة‬ ‫‪..............‬‬ ‫فكر‬ ‫‪..............‬‬ ‫كوين أماً عظيمة‬
‫حممد مجال‬ ‫‪.............‬‬ ‫رواية‬ ‫‪.............‬‬ ‫أموات فوق األرض‬
‫أمنه حممد قنّاش‬ ‫‪.............‬‬ ‫شعر‬ ‫‪.............‬‬ ‫بقلم رصاص‬
‫‪.............‬‬ ‫‪.............‬‬ ‫حريق على اجلسر‬
‫هانيب النجار‬ ‫‪.............‬‬ ‫رواية‬
‫‪.............‬‬
‫أمحد شاكر‬ ‫‪.............‬‬ ‫فكر‬ ‫العامل لن ينتظرك‬
‫‪.............‬‬
‫بسام سامي‬ ‫‪.............‬‬ ‫تنمية ذاتية‬ ‫‪.............‬‬ ‫القدرات السحرية‬
‫أمحد رشدي‬ ‫‪..............‬‬ ‫جمموعة قصصية‬ ‫‪..............‬‬ ‫البوهيمي‬
‫لوتس لإلنتاج والتوزيع‬

‫رقم اإليداع بدار الكتب المصرية‬

‫‪2017 / 21773‬‬

You might also like