Professional Documents
Culture Documents
البوهيمي - مكتبة زاد
البوهيمي - مكتبة زاد
جمموعة قصصية
البوهيمي
جمموعة قصصية
أحمد رشدي
مشروع البوهيمي
النشـ ـ ــر
احلـ ـ ـ ـ ـ ــر جمموعة قصصية
أحمد رشدي
2017 / 21773
كل مــا ورد بهــذا الكتــاب هــو مســئولية مؤلفــه مــن حيــث اآلراء واألفــكار
أصيــا لــه غيــر منقــول ،وجميــع الحقــوق محفوظــة لــه.
ً والمعتقــدات ،وكونــه
9
ليبتاعــا منهــا ورودا ،مل تَكــن يف جعبتهــا ســوى أربــع وردات،
يت أان واحــدة ،ووجدهتــا متــد يدهــا بوردتــن هلذيــن احملبــن،
اشـر ُ
ـت يل وهلــا
وبقــي معهــا وردة واحــدة ،عندمــا ذهــب االثنــن وضحـ ْ
نطــاق الرؤيــة مــن جديــد ،فأعــادت النظــر يل مــرة أخــرى.
ما شغلين يف تلك النظرة عن سابقيها أنين خجلت من نظرهتا،
ـي صوهبــا اثنيــة،
ـحت بوجهــي عنهــا ومل ألبــث أن أدرت عيـ ّ
أشـ ُ
ـدت شــااب وفتــاة يقفــان أمامهــا وبعــد قليــل تركاهــا واســتأنفافوجـ ُ
ـت يل البائعــة ،حملتهــا متــد يدهــا حلِجرهــا ممســكة ســرمها ،فبانـ ْ
ابلــوردة املتبقيــة.
10
مــي حمملــة ابهلــدااي والــورود ،تكســو وجههــا ســعادة طفوليــة ومــرح
ـت يف
ـت جبانــي فابتســمت هلــا ومهسـ ُ
ورغبــة يف االنطــاق ،جلسـ ْ
أذهنــا بكلمــات ،كان كالمهــا كث ـرا ولطيفــا ،حتدثنــا قليــا حــى
اقرتب منّا النادل متســائال عما نريده من شـراب ،ومن مث ذهب
ـت رفيقــي قائلــة:
متنقــا بــن الطــاوالت .مهسـ ْ
-املكان مجيل جدا.
مث أشــاحت بوجههــا عــي متأملــة املــكان واجلالســن ،والزينــة
أدرت أان وجهــي للناحيــة األخــرى حيــث الشــرفة، املعلقــةُ ،
ـت حينمــا وجــدت البائعــة تنظــر حنــوان!
تعجبـ ُ
مل أجــد يف يدهــا الــوردة املتبقيــة ،فأدركــت أن صاحــب احلــظ
قــد انهلــا ،كانــت نظرهتــا هــذه املــرة حتمــل عمقــا عجيبــا؛ وجههــا
انعــس بعــض الشــيء وعيناهــا غائ ـراتن حزينتــان ،وهتدلــت
شــفتاها ابنفراجــة بســيطة ،أضفــت علــى وجههــا طابعــا مســكينا،
ـت يديهــا علــى إطــارات
ـت االنشــغال عنّــا ،بعــد قليــل وضعـ ْ
تصنّعـ ْ
ـت مــن
الكرســي دافعــة إايه لألمــام ويف انعطافهــا بــه ميينــا وقعـ ْ
ـت!
حجرهــا وردة ،تعجبـ ُ
11
ـت فجــأة واحننــت جبســدها لألســفل ملتقطــة إايهــا برقّــة،
توق َفـ ْ
وضعْتهــا مــرة أخــرى يف ِحجرهــا ،ودفعــت بكرســيها يف اجتــاه
ـاي عليهــا ،تدفــع ابإلطــارات
ـمرت عينـ ّ
الشــارع املعاكــس يل ،تسـ ْ
لألمــام فيتحــرك الكرســي وعندمــا يتباطــأ ،تقــوم ابلدفــع مــرة أخرى
ـذت يف االبتعــاد أكثــر فأكثــر وســط الزحــام حــى
ابحـراف ،أخـ ْ
ابتلعهــا الشــارع ،وتالشــت متامــا عــن نظــري.
•••
12
البوهيمي
13
إهليجــات ابلغــة الرهافــة ،بعــد قليــل مــن ســره قابلــه رجــل جالــس
ميينــا ،يرتــدي ســرة ممزقــة وميــد يديــه ليشــحذ ،مل يعــره ممــدوح أي
اهتمــام ومل ينظــر إليــه أصــا..
(كانت تلك عادته دوما يف التعامل مع الشحاذين)،
أمــد اخلطــى منحــي الـرأس حــى وصــل إىل آخــر الشــارع ،احنــدر
ميينــا ومــن مث دخــل أحــد املقاهــي الراقيــة إىل حــد مــا ليختفــي أثــره
مــن الشــارع املمتــد يف ال مبــاالة.
•••
15
ابن الغضب أكثر وضوحا على وجهه ،أخذ نفسا من سيجارته
ونفث دخانه وهو يقول:
-أي هلوسة تلك اليت تتحدث عنها؟
فاستأنفت حماكميت:
-مــا الــذي دهــاك؟! حنــن يف عــامل حيتــاج لتصرفــات وليــس
الهتامــات جوفــاء نُعلــق عليهــا فشــلنا ،يف هــذا العــامل اي ســيدي
البقــاء والغلبــة لصاحــب املــال ،وليــس لصاحــب أقــام الرصــاص
الرخيصــة.
كان النــادل قــد أتــى ابلش ـراب ،أزال ممــدوح غطــاء الزجاجــة
وأفــرغ القليــل مــن الويســكي يف الكــوب ،ابتلعــه برشــفة واحــدة
مث نظــر إليــا قائــا وقــد ابنــت علــى وجهــه عالمــات االســتنكار:
-هل ستتخلى عن مبادئك؟
قلت بصوت أهدى قليال رامسًا على وجهي ابتسامة صفراء:
-أي مبــادئ تلــك؟ مــاذا فعــل يل الفــن التشــكيلي اي ممــدوح؟!
16
مــا ســعاديت يف بعثــرة أل ـوان علــى لــوح أبيــض ،وأان ال أجــد مــا
أقتــات عليــه؟
-ســعادتك يف إمتــام رســالتك بصــرف النظــر عــن أي مقابــل
مــادي.
ت عليــه بنفــسـرد ْد ُ
قاهلــا وهــو يرتشــف مــن الــكأس الثــاين ،فـ َ
مالمــح النظــرة األوىل ،ولكــن بصــوت أعلــى قليــا:
-أفِــق مــن غيابــك ،املــال هــو كل شــيء ،أنظــر حولــك لــرى
البنــاايت الشــاهقة ،والســيارات الفارهــة ،والنســاء األنيقــات
اجلميــات ،كل هــذا لــن أييت إليــك إال ابملــال ،لــن أييت إال
ابلص ـراع.
قاطعين بسرعة قائال:
-الصراع والنفاق والسرقة؟
قلت بغضب:
-وليكــن اي صديقــي ،خــذ احليــاة علــى مــا عليهــا ،كــم حيــاة
17
ستعيشها؟ إن مل تنتهز الفرص فعليك السالم ،اخلع عنك رداء
الغــرور هــذا ،انبســط للنــاس وعــش معهــم بطريقتهــم ،إن كذب ـوا
الشعرفاكذب وإن سرقوا فاسرق وإن فسدوا فأفسد ،واعلم أن ِ
لــن يـُـؤيت مثــاره ولــن جيعلــك تعيــش حيــاة كرميــة.
رمقين بتعجب قبل أن يقول:
-يؤسفين أن تقول مثل هذا الكالم.
كنت أعلم يقينا أنه لن يتقبل كالمي ،فأان أعرف ممدوح جيدا،
ليــس مــن الســهل أن يتغــر أو أن يقتنــع مبــا خيالــف اعتقاداتــه،
ممــدوح يعتقــد أبنــه إنســاان عظيــم وعبقــري ،وأنــه أفضــل شــاعر
مقارنــة مبعاصريــه مــن الشــعراء ،كل مــا يشــغل اهتمامــه هــو كتابــة
الشــعر واحتســاء الويســكي ومرافقــة الفتيــات ،يرفــض كل تقاليــد
اجملتمــع وعاداتــه ،حــى الديــن نفســه ختلــى عــن اعتناقــه قائــا ذات
ُسـ ْكر:
-الدين هو أكثر اعتقاد اجتماعي متخلف.
18
يبتعــد دائمــا عــن أي تقيــد ،حــى الــزواج يــرى أنــه مبثابــة إحجــام
حلريتــه ،فهــو أســلوب اجتماعــي مشــوه ،فأطلــق العنــان حلريتــه،
ـددت عالقاتــه ابجلنــس اآلخــر ،مل يكــن ليفــرق بــن فتــاة صغــرة
تعـ ْ
أو امـرأة طاعنــة يف الســن ،يغتنــم منهــن حلظــات متعــة عابــرة وال
يفتــأ يكتــب عنهــن شــعرا!
الشــعر الــذي اختــذه ممــدوح قِبلــة أحاديــة حلياتــه برمتهــا ،تفــرغ
متامــا للكتابــة برغــم فقــره املدقــع ،الــذي جعلــه يديــن للعديــد مــن
أصدقائــه مببالــغ ماليــة طائلــة.
ـت -ولألبــد -الفــن التشــكيلي ،ال أنكــر أنــي
أمــا أان فقــد تركـ ُ
موهــوب فيــه وإن مل تكــن موهبــة ثقيلــة ،بَيــد أنــي اخــرت طريقــا
آخــر ،طريــق املــال الــذي اكتشــفت أنــي موهــوب فيــه أكثــر مــن
الرســم ،موهبــي تكمــن يف ذكائــي االجتماعــي ،وقــدريت علــى
إقنــاع أي شــخص ابلعمــل معــي ،مســامها مبالــه الــذي أســتثمره
برباعــة ليعــود بربــح مغــدق علـ ّـي وعليــه ،وبرغــم انشــغايل الدائــم
ابلعمــل ،وقناعــايت املاديــة ،مل أعتــزل صديقــي ممــدوح وأنتهــز كل
19
فرصــة مــن املمكــن أن أجالســه فيهــا.
20
هكــذا قلــت ممــا جعلــه يســتطرد أكثــر وقــد ابنــت علــى وجهــه
عالمــات الثمالــة:
-فليحــرق اجملتمــع بــكل مــا فيــه ،أفــكار رجعيــة عفــا عنهــا
الزمــن ،خبــث ،ونفــاق ،ولئــم ،وكــذب ،وفهلــوة ،وفســاد،
وختلــف ،وجهــل ،حنــن عالــة علــى الوجــود ،أال يــدرك الغــرب
واألمريــكان هــذه احلقيقــة؟ ملــاذا اخرتعـوا القنابــل الذريــة وتركوهــا
بــا اســتخدام؟ ملــاذا ال يقومــون إبابدتنــا؟
قــال تلــك اجلملــة فضحكــت بصــوت عـ ٍ
ـال ،وضحــك هــو أيضــا، ُ
قلــت لــه وقــد ســكرت أان أيضــا حــد الثمالــة:
-رمبــا ينتظــرون كــي يعرف ـوا إن كانــت تلــك القنابــل ســتتأثر هبــا
حقــول البــرول أم ال!
ـرت جبانــي فوجــدت لوحــة معلقــة علــى علــت ضحكاتنــا ،نظـ ُ
احلائــط ،تطلعــت إليهــا قليــا ،كانــت اللوحــة عبــارة عــن ام ـرأة
ريفيــة تقــوم بوضــع أطبــاق الطعــام علــى طاولــة أرضيــة منخفضــة،
قــد التــف حوهلــا ابقــي أفـراد العائلــة الفقــرة ،ظللــت أأتمــل اللوحــة
21
قليــا ،فجــاء صــوت ممــدوح قاطعــا أتملــي:
-هل أعجبتك اللوحة؟
قلت مقتضبا:
-قليــا ،ال علينــا مــن هــذا اآلن ،قــل يل ألــن تقــوم بطبــع ديوانــك
األول قريبا؟
وكأن السؤال كان سكينا طعنته ،أجابين ابستنكار:
-طبــع مــاذا؟ أنشــر ملــن اي صديقــي؟ هــل جننــت؟! أان أكتــب
الشــعر لنفســي ولصفوة الشــعراء ،تكفيين حمافل الشــعر اليت أتردد
عليهــا وبعــض النــدوات ،الطباعــة تعــى نشــر الشــعر للجمهــور،
واجلماهريــة تعــي الفشــل!
-ولكن كيف ستصل كتاابتك للناس؟
-أان يهمين صفوة الشعراء ،ال يهمين الناس.
موبا:
هكذا قال بغرور واضح ،فأجبته ّ
-أنــت تكــذب علــى نفســك اي ممــدوح ،ليــس هــذا مــا مينعــك
مــن الطباعــة.
22
أتهب إلجابيت بعدما سألين:
-وما الذي مينعين إذن؟
-مينعك أنك ال متتلك املال الالزم للطباعة أصال.
فرد على حبدة:
أغضبته تلك اجلملة كثريا ّ
-ال أقبــل منــك هكــذا الــكالم ،هــل ســكرت اي عزيــزي؟ هــل
تُكذبــي فيمــا أقــول؟ افتقــادي للمــال ال جيعلــي أكــذب ،لــو كان
املــال هــو الســبب فلــن أأتخــر عــن البــوح لــك بذلــك.
وجدتــه قــد احتــد يف الــكالم كث ـرا وابنــت علــى وجهــه إشــارات
الضيــق ،فاســتطرد ملقيــا علـ ّـي بتلــك اجلملــة:
-أان لست عبدا للمال مثلك.
أتملت كثريا من هذا الكالم مما جعلين أردد:
-ال ،كلنــا عبيــدا للمــال ،لــو كنــت متتلــك املــال لكنــت اآلن
شــاعرا معروفــا ومشــهورا ،ولقمــت بنشــر العديــد مــن الدواويــن.
-ال يهمين النشر وال الناس.
-بل يهمك ،كلنا عبيد للمال ،وأنت أولنا.
23
صمت حلظة ،بعدها وجدته يرمقين بنظرة اثقبة قائال:
َ
-صديقــي؟! ال ،مل يعــد يوجــد بيننــا صداقــة مــن اآلن ،فليذهــب
كل منــا يف طريقــه.
ألقــى علـ ّـي بتلــك الكلمــات الغريبــة واحلــادة ،مث هنــض مــن
كرســيه متجهــا حنــو اخلــارج ،اتبعتــه بنظـرات مندهشــة ومتعجبــة،
ـفت كــواب مــن الويســكي بنهــم ورميــت عليــه قبــل أن خيــرج
ارتشـ ُ
مجلــي اآلنفــة:
-ال تنسى ،كلنا عبيدا للمال.
ـي ،كنــت متأملــا جــدا ممــا قالــه ،هــل بتلــك
حــى غــاب عــن عيـ ّ
السهولة يتخلى عن صداقتنا؟! ال ،من املؤكد أنه سيعود لرشده
ـي املزغللــة مــن أثــر الش ـراب يف أحنــاء املــكان،
قريبــا ،دارت عيـ ّ
ـت مــرة أخــرى علــى تلــك اللوحــة املعلقــة ،ظللــت
وفجــأة وقعـ ْ
أنظــر إليهــا ،أأتمــل تفاصيلهــا البديعــة ،فأحسســت بطيــف مجــايل
كأســا آخــر ،وأشــعلت ســيجارة،
ـت ًيعلــوين ويســتبد يب! صببـ ُ
أتملــت اللوحــة مــرة أخــرى ،وتذكــرت تلــك األايم الــي كنــت
24
أابشــر فيهــا موهبــي يف الفــن ،راودتــي إحساســات غريبــة افتقدهتــا
كث ـرا ،أشــحت بوجهــي عــن اللوحــة بعيــدا ،وطلبــت زجاجــة
أخــرى مــن الويســكي.
•••
خــرج ممــدوح مــن املقهــى حيــث الشــارع الضيــق مــرة أخــرى ،كان
لف كوفيته لتطوق رقبته جيدا ،ووضع
املطر أشد من ذي قبلّ ،
يديــه يف جيــوب معطفــه ،أخــذ يســر خبطـوات بطيئــة غــر عابــئ
ابملطــر؛ انعكســت أض ـواء اإلانرة علــى امليــاه املتســاقطة أرضــا
صانعــة ملعــاان ملفتــا ،فاختلجــت بداخلــه الكثــر مــن الشــاعرية،
الطقــس مهيــأ لإلبــداع ،هــا هــو الشــعر يتجلــى! انتشــى كث ـرا
بذلــك ،مل يكــن يهمــه تركــه لصديقــه فمــن املمكــن أنــه سيســتعيد
صداقتــه مــرة أخــرى ،ولكــن مــا يهمــه اآلن هــو أن يبعثــر تلــك
األحاســيس شــعرا علــى الوريقــات ،فــإن أمهــل هــذا التجلــى لــن
25
يســتطيع اســتعادته ،أســرع اخلطــى يف هــذا الطريــق الالمــع املمتــد،
كان الطريــق خاليــا متامــا مــن املــارة ،لكنــه وجــد علــى مشالــه ذاك
الشــحاذ اليـزال جالســا كمــا هــو ،ينهــال مــن فوقــه املطــر بــا أدىن
اكـراث منــه ،رمقــه ممــدوح بنظــرة متعاليــة مث نظــر أمامــه مســتأنفا
الســر ،حــى تالشــى متامــا عــن الطريــق الــذي مل يعــد فيــه ســوى
تصــارع األمطــار فــوق رأس الشــحاذ.
•••
26
الغريب
28
عابــئ أبحــد.
بــدأ القطــار ابلتباطــؤ التدرجيــي املهيــب ،حــى اخرتقــت مقدمتــه
مبتــدأ الطـوارئ ،مــرورا مبنتصفــه حيــث أقــف ،إنتهــاء آبخــره ،بــدأ
النــاس يف التدافــع خروجــا منــه ،بشــر مــن كل صــوب ،رجــال
ونســاء ،شــباب وفتيــات ،أطفــال وعجائــز ،منهــم الضاحــك
ومنهــم الباكــي ،منهــم العابــس ومنهــم املنبســط ،منهــم النشــيط
ومنهــم اخلامــل ،انتظــرت حــى تتحــن يل فرصــة الصعــود للــدودة
ـرت عــن مييــي فوجــدت العجــوز تنهــض حاملــة علــى
الكبــرة ،نظـ ُ
رأســها قفتهــا اجلريديــة ،فبــان حتــت قدميهــا اجلــرو اهلزيــل بشــكل
أكثــر وضوحــا.
ـت لصعــود القطــار ،ألقيــت غليــوين ووضعــت عليــه قدمــي
أتهبـ ُ
ـت
فــاركا إايه ألطفــئ شــعلته ،وأان أطأطــئ رأســي لألســفل ،رفعـ ُ
رأســي مــرة أخــرى فوجــدت مشــهدا غريبــا ،رجــل غريــب اهليئــة،
الدنــو ،وجدتــه يقــرب مــي خبط ـوات غريــب الســحنة ،غريــب ُ
بطيئــة ورتيبــة ،وقــف أمامــي متامــا ونظــر يل قائــا:
-أستأذنك يف سؤال.
29
ـرت إليــه بنظــرة مس ـريبة وقلقــة ،كانــت مالحمــه غريبــة قليــا
نظـ ُ
عــن قاطــي مدينتنــا ،البــد وأنــه مــن منطقــة بعيــدة؛ تكســو وجهــه
محــرة خمتلجــة بلــون قمحــي ،ذو ذقــن متوســطة الطــول ،وشــعر
رأســه طويــل نوعــا مــا خيتلــط سـواده ببياضــه ،كانــت نظرتــه احلانيــة
والطيبــة جعلتــي أذعــن الســتئذانه قائــا هبــدوء:
-تفضل.
العوز:
شكرين قبل أن يتفوه بصوت هادئ يتخلله َ
-أان لســت مــن هنــا ،ووقــع يل حــاداث يف طريقــي إىل هنــا قــد
أَحــدث شــرخا يف عظــام قدمــي اليمــي علــى مــا يبــدو ،وأمتالــك
خط ـوايت بصعوبــة ،أريــد منــك فقــط أن ترشــدين ألقــرب فنــدق.
تفحصته قليال قبل أن أجيب:
ـددا ،ولكــن
-ســيدي ،أان ال اعــرف يف هــذه املنطقــة فندقــا حمـ ً
مــن املؤكــد إن حبثــت ســتجد م ـرادك.
شــكرين علــى مضــض ،وقبــل أن يرتكــي نظــر جبانبــه لتلــك امل ـرأة
العجــوز ،فوجدهــا تنظــر إليــه هــي أيضــا! كانــت تســر خبط ـوات
ـت ِ
متثاقلــة متجهــة لبــاب القطــار واحلمـ ُـل يهتــز فــوق رأســها ،التفـ َ
30
بوجهــه انحيــي مــرة أخــرى بعدمــا تفقدهــا قائــا يل بثقــة:
-ستقع القفة من على رأس هذه العجوز.
كان واقفــا أمامــي فاصــا بيــي وبــن البــاب الــذي تعتليــه امل ـرأة
تـوا ،وعندمــا تركــي ابن يل مشــهد العجــوز قبــل أن تصعــد القطــار
بربهــة ،فجــأة ..ســقطت القفــة مــن علــى رأســها مرتطمــة ابألرض
وانثــرة حملتوايهتــا!
ـت مــن فــوري انظـرا لــذاك الغريــب ،الغريــب
ـت بشــدة والتفـ ُ
تعجبـ ُ
جــدا ،كان يبتعــد عــي خبط ـوات فيهــا عــرج قليــل ،اتبعتــه حــى
خــرج مــن حمطــة القطــار خمرتقــا أحــد الش ـوارع اجلانبيــة املؤديــة
ملنطقــة مل أجلــأ إليهــا مــن قبــل ،ال يهــم! كل مــا يشــغلين اآلن
هــو أن أعــرف إىل أيــن ســيذهب هــذا الرجــل ،مــا كان يهمــي
ـت لالقـراب منــه كــي أســأله عــن كنهــه ،وكيــف
هــو مراقبتــه ،مهمـ ُ
عــرف أن القفــة ســتقع مــن علــى رأس العجــوز ،ولكــي تراجعــت
مهاب ـةً ،وآثــرت املراقبــة فقــط ،كان يســر ببــطء ومتالــك ،رأيتــه
قــد توقــف أمــام شــخصني حمــداث إايمهــا ،البــد وأنــه يســأهلما عــن
ـتأنفت أان أيضا ،احندر لشــارع
عنوان فندق ،اســتأنف ســره واسـ ُ
31
احندرت حيثما
ُ حبرص لئِال يراين،
أسرعت اخلطى ٍ
ُ جانيب صغري،
احنــدر ،كان مبنتصــف الشــارع ،وكنــت أان أبولــه ،ابن عليــه العــرج
أكثــر مــن ذي قبــل ،توقــف واحنــى واضعــا يــده علــى قدمــه اليمــى،
ومــن مث اســتقام وراح يتحــرك ببــطء أكثــر وعــرج أوضــح ،كان
الليــل قــد أذن وخفتــت الرؤيــة يف الظــام ،حملتــه منحــدرا لشــارع
آخــر ،جريــت خوفــا مــن أن يغيــب عــن انظــري ،وعندمــا وصلــت
نظــرت ابحثــا عنــه ،ولكنــي مل أجــده! كان هــذا الشــارع يفضــي
ـت حــويل فلــم
إىل شـوارع أخــرى كثــرة أكثــر ضيقــا وشــرودا ،التفـ ُ
أجــد ســوى ثالثــة أشــخاص ،كانــت تلــك املنطقــة غريبــة عــي،
وتركيــزي مــع ذلــك الغريــب قــد أضلــي عــن تذكــر الشــارع الــذي
وجدت الثالثة أشخاص يقرتبون مين ،ابدر
ُ جئت منه إىل هنا،
أحدهــم ابلس ـؤال:
-هل تبحث عن شيء؟
قلت له:
-ال ،أريد فقط أن تدلين على الشارع املــُفضي حملطة القطار.
ابلعــوز ،فقــال يل
كانــت نظــريت لــه فيهــا بعــض احلُنــو املختلــج َ
32
بعدمــا رمقــي بتشــكك:
انعطف يسارا مث..
ْ -اسلك هذا الشارع مث
ـدت أعــن الثالثــة تتجــه صــوب
وقبــل أن يكمــل وصفــه ،وجـ ُ
ـت بفضــول ،فوجــدت ذاك الغريــب! كان
شــيء مــا خلفــي ،التفـ ُ
واقفــا أمــام مبــى مكــون مــن ثــاث طوابــق ،معلــق عليــه الفتــة
ُكتــب عليهــا (فنــدق الســعادة) ،مل تكــن رؤيــي لــه واضحــة يف
الظــامْ ،بيــد أنــي أعتقــد أنــه نظــر يل! ومــن مث حملتــه يتجــه ليصعــد
ـت لثالثتهــم ،فقــال يل أحدهــم بعدمــا وجــدين
ســلم الفنــدق ،التفـ ُ
أرمــق الغريــب ابهتمــام:
-هل تعرف هذا الرجل؟
قلت بثقة:
-ال ،ولكنين أعتقد أنه سيقع من على السلم اآلن!
بعدمــا أهنيــت تلــك اجلملــة ،مسعنــا صــوت ارتطــام علــى الســلم!
ركــض الثالثــة ابجتــاه الرجــل وهــم يلقــون علـ ّـي نظ ـرات متعجبــة،
ـت مــن
ـرت خبط ـوات بطيئــة ،حــى خرجـ ُ
أدرت ظهــري هلــم وسـ ُ
ـت حملطــة القطــار حيــث كنــت،
تلــك الش ـوارع الضيقــة ،وصلـ ُ
33
كان الط ـوارئ مزدمحــا ،أانس مــن كل مــكان ،وجــدت املقعــد
الــذي كانــت جتلــس عليــه العجــوز فارغــا ،فجلســت عليــه ،وحتــت
قدمــي كان يرقــد اجلــرو اهلزيــل الــذي ظللــت أأتملــه حــى قــدوم
قطــار التاســعة.
•••
34
ال ُلعبة
36
جنيهــا -كانــت غــر مرتبــة ،ســحب منهــا ورقتــن مــن فئــة العشــر
جنيهــات ومــن مث أعطاهــا للرجــل ،محــل حمَمــد اللعبــة بــن يديــه
وقــد ابنــت علــى وجهــه ابتســامة فيهــا مــن الســعادة الكثــر ،ومــن
احملــل متجهـ ْـن إىل ســبيلهما اآلنــف.
خرجــا مــن َ
الـراءة أكثــر ،مث َ
•••
38
وأصيلــة للغايــة ،وتتقبلــه علــى احللــو وعلــى املـ ّـر ،ولكنهــا أحيــاان
تضغــط عليــه كــي تعطيــه دافعــا للحركــة واإلنتــاج.
•••
دخــل عبــد النــي إىل بيتــه بعدمــا أمت ش ـراء املتطلبــات ،وضعهــا
علــى الطاولــة مث ارتكــن علــى (الكنبــة) لــراتح مــن أثــر الطريــق،
فرحــا بلعبتــه اجلديــدة،
ولكــن حمَمــد ظــل ميــرح ويقفــز هنــا وهنــاك؛ ً
جـ َـرى علــى والدتــه قائــا هلــا:
-أان جبت عربية اي ماما.
ـت أمــه مــن غرفتهــا حيــث الصالــة ،فوجــدت عبــد النــي
خرجـ ْ
مرتكنــا ،اقرتبــت منــه وهــي تقــول:
-الراجل صاحب البيت طالب اإلجيار.
اقتضب زوجها وابنت عليه عالمات الضيق قائال:
-حاضر.
-إحنا بقالنا شهرين متأخرين عنه و..
39
قطعها قبل أن تُكمل:
-يوووه ،ما قلت حاضر.
بعدهــا دخلــت غرفتهــا وتركتــه ،انطلــق حمَمــد حنــو أبيــه بســرعة
قائــا وهــو ميــد لــه اللعبــة:
-اباب ..اباب ..تعاىل شغلي العربية دي.
مل يرد عليه ،فاستطرد الولد:
-يال تعاىل شغلي العربية ،عاوز ألعب.
-اي ابين خالص بقى روح ألمك خليها تشغلهالك.
هنــره أبــوه بتلــك الكلمــات فرتكــه الولــد ودخــل ألمــه ،خــرج مــن
عندهــا وقــام بوضــع الســيارة علــى األرض ممســكا برميوهتــا ،وأخــذ
حيركهــا لألمــام وللخلــف وهــو يضحــك بصــوت عـ ٍ
ـال وهبجــة
عارمــة ،كان األســتاذ عبــد النــي يفكــر مليــا يف إجيــار الشــقة،
جيــب أن يتحصــل علــى املبلــغ املطلــوب أبي شــكل ،فلــم يعــد
أمامــه فرصــة للتأجيــل.
علــت ضحــكات حمَمــد أكثــر ،فنهــره أبــوه مــرة أخــرى ،مل يصمــت
40
حمَمــد ،وجلجلــت ضحكاتــه ،انفعــل عليــه أبــوه أكثــر ،مث بعــد
وخرج.
قليل قام من جلســته متجها حنو ابب الشــقة فاحتًا إايهَ ،
•••
41
-كل شــيء متــام وأخــر حــاوة ،ســيبك مــن الشــغل دلوقــى ،أان
عنــدي ليــك حتــة نفحــة مغربيــة ملهــاش حــل!
قاهلــا وهــو يضــع يــده يف جيــب جلبابــه ُمرجــا منــه قطعــه مــن
(احلشــيش) ،ملَّصهــا مــن غطائهــا وقطــم منهــا قطعــة صغــرة،
واضعــا إايهــا علــى حجــر الشيشــة ،مث نظــر لصديقــه قائــا وهــو
حيــرك حاجبيــه:
-شد وادعيلي!
اعتلــت مالمــح االنتشــاء وجــه عبــد النــي بعــد وضــع احلشيشــة،
وقــال وهــو ينظــر إىل حــذاء فــوزي:
-أيوا كدا ،هو دا الشغل!
ضحــك االثنــان وســاد بينهمــا صمــت ،بعــد هنيهــة؛ رمـ َـق عبــد
النــي صديقــه بنظــرة متفكــرة ومتفحصــة مث قــال:
-فــوزي ،إنــت عــارف َمعزتــك عنــدي ،وعــارف إين ال حيوجــي
ليــك إال الشــديد القــوى ،أان عنــدي طلــب منــك لــو ممكــن؟
رد عليه صديقه وهو على علم مسبق بطلبه:
ّ
-أؤمرين.
42
-كنت حمتاج منك ألفني جنيه.
صمــت فــوزي قليــا وقــد تبدلــت مالمــح وجهــه مــن االنتشــاء إىل
اجلديــة ،مث قــال:
-إنت عارف اي عبده إنت عليك ليا كام؟!
-عــارف وهللا ،لكــن الظــروف صعبــة ،أان حمــرج منــك ولكــن
غصــب عــى.
-كان بودي وهللا ،بس معلش ،أان مش معااي فلوس حاليا.
فهــم عبــد النــي أن فــوزي يتهــرب منــه ،ولكنــه -وحفظــا لكرامتــه-
عجــل مــن جلســته معــه وبعــد
مل يعــاود احملاولــة معــه مــرة اثنيــةّ ،
قليــل اســتأذن ابلرحيــل ،ورحــل.
•••
45
وحــده ،ظـ ّـل عبــد النــي واقفــا ،نظــر لألســفل صــوب الرميــوت مث
احنــى ملتقطــا إايه ،كاد أن يلقيــه وجيلــس؛ ولكنــه فجــأة ،قــام
ابلضغــط علــى األزرار مــرة أخــرى! فأخــذت الســيارة تــروح وجتيــئ
لألمــام وللخلــف ابحننــاءات طفيفــة ،نظــر إليهــا بتمعــن ،أحــس
بشــيء مــا يســرى بداخلــه ،رمبــا اطمئنــان مــن نــوع مــا ،فكـ ّـرر
العمليــة مــرة أخــرى ،أتمــل الســيارة وهــي تتحــرك ،تفحــص ألواهنــا،
ضغطــة علــى الــزر العلــوي تتقــدم الســيارة إىل األمــام ،مث ضغطــة
علــى الســفلى ترجــع للخلــف ،ارتســمت علــى وجهــه ابتســامة
عريضــة ،ولكنــه مل يلبــث أن اغرورقــت عينــاه ابلدمــوع ،حــى
أجهــش ابلبــكاء.
•••
46
سيجارة
49
اختبــاري يف أمــر مــا:
-ما امسك؟
فأجبت:
ُ هكذا سألتين ابقتضابة من جبينها،
-امسي عالء.
تردد َبزمة من شفتيها:
اعتلت وجهها ابتسامة رقيقة وهي ّ
ْ
" -لوووءة"
عندمــا تضحــك وتبــن أســناهنا الناصعــة يضفــي ذلــك علــى
وجههــا مجــاال أكثــر فتنــة ،وأشــد جــذاب ،قلــت هلــا:
-مل أمسع امسي أبرق من هذا من قبل.
ـت خبالعــة وســرعان مــا هفتــت ضحكتهــا ،رمقتــي بنظــرة
ضح َكـ ْ
شــهية قائلــة:
-كم امرأة جربتها من قبل؟
ِ -
أنت أول امرأة.
قلت هذه اجلملة بصدق ،فابتسمت قائلة:
-إذن سأستغلك ألنك خام ،اي لوووءة!
ضحكنا وقلت:
50
-أان علــى أمت االســتعداد بدفــع أي مبلــغ تريدينــه ،فأنــت حبــق
تســتحقني.
ابتســمت واحننــت بصدرهــا املســتدير انحيــي قليــا وهــي تنفــث
وهزهتــا كــي توقــع
ـت بســيجارهتا حنــو املطفــأة ّ
الدخــان ،توجهـ ْ
رمادهــا املعلــق ،كانــت الســيجارة قــد أتكل منهــا ثلثهــا تقريبــا
ـت هبــا
وقصــرت قليــا ،وابنــت أقــل متاســكا مــن ذي قبــل ،ارتفعـ ْ
مــرة أخــري لتنظــر يل قائلــة:
-ليليت أبلف جنيه.
ِ
سأعطيك ألفا يف ليلتني ،قابلني للزايدة إن أسعدتين. -
ـت قطــة صغــرة
ـرحت عــي بعينيهــا ،بعــد هنيهــة حملـ ُ
مل تــرد علــى وسـ ْ
وهشــت القطــة
ـت جليســي ّ
بيضــاء تقــرب مــن طاولتنــا ،فارتبكـ ْ
ـرت جليســي أبال
بعيـ ًـدا ،لكنهــا عــاودت االق ـراب اثنيــة ،فأخـ ُ
ختــاف ،تركناهــا حلاهلــا ،وعــدت للحديــث املهــم:
-ها! ما رأيك؟
-يف ماذا؟!
تعجبت من سؤاهلا ،فقلت ابهتمام:
ُ
51
-فيما عرضته عليك.
علي؟!
عرضت ّ
َ -ماذا
-ليلتان أبلف.
وردت بال اكرتاث:
مل تعبأ بكالمي كثرياًّ ،
-ااه!
ـت حلظــة فوجدهتــا متــد يدهــا
كانــت يف حالــة تيــه غريبــة ،صمـ ُ
ـت منــه حبــة
وختــرج مــن حقيبتهــا البنيــة شـريطا مــن الــدواء ،اقتلعـ ْ
وقذفْتهــا يف فمهــا مث أتبعتهــا برشــفتني مــن املــاء بُغيــة االبتــاع،
ـت مــن ذلــك ومــن مث قالــت:
خلصـ ْ
َ
-أسفة اي لوووءة ،أان فقط أعاين من بعض املشاكل.
قلت هلا:
-ال عليــك ،علــى العمــوم حنــن لــن نتجــادل كثـرا يف هــذا األمــر،
املهم أن تســعديين.
-سأسعدك ،أال تثق يف؟!
فيك ،أحاول أن أأتكد ِ
منك بسؤايل. -من فرط ثقيت ِ
قلــت ذلــك وأان أصطنــع ابتســامة ،فابتســمت هــي أيضــا ،وتبادلنــا
52
ـث الدخــان مــن فمهــا بــن
بعــض اهلمســات الــي كان يتخللهــا نفـ ُ
ـت قدمهــا الــي
ـت فجــأة عــن احلديــث ،وأنزلـ ْ
احلــن واآلخــر ،توق َفـ ْ
كانــت تعتلــي األخــرى ،وكأهنــا تتأهــب العتــاء مــن نــوع آخــر!
كانــت الســيجارة قــد ُحـ ِرق منهــا الكثــر ومل يبــق منهــا إال القليــل،
ممــا جعلهــا تفقــد أانقتهــا األوليــة ومتاســكها :كثــرت التجاعيــد يف
الورقــة الــي حتــوي التبــغ ،واهـرأت مؤخــرة الســيجارة القطنيــة مــن
أثــر البلــل الناتــج عــن ملــس الشــفاه ،قالــت يل:
-شقتُك بعيدة؟
أجبتها بسرعة:
-ليس كثريا ،ربع ساعة ابلسيارة.
-إذا فهيا بنا.
وسَرت بداخلي ارجتافات خفيفة وإحساسات
سعدت بطلبهاَ ،
ُ
شــهية ،فقلــت هلــا بنظــرة داعيــة:
-هيا بنا ،تفضلي.
ـت مــن جلســتها فبانــت يف اســتقامة جســدها مثــرة للغايــة،
هنضـ ْ
َ
ـت شــهويت أكثــر ،وكنــت أمتــى أن أحلــق هبــا س ـريعا حيــث
حتركـ ْ
53
شــقيت ،ربــع ســاعة كثــرة جــدا! لــن يســعفين الصــر علــى هــذا
اجلســد الفائــر املثــر.
محلَــت حقيبتهــا علــى ِ
كتفهــا واســتدارت أتهبــا للســر ،وقبــل أن ْ
ـت بســيجارهتا املنتهيــة علــى األرض ،كانــت قــد
تتقــدم خطــوة ألقـ ْ
احرتقت أبكملها ومل يتبق منها سوي القطعة القطنية امللوثة من
ت بيدهــا
ـت عليهــا بقدمهــا فاركــة إايهــا ،أخـ ْذ ُ
أثــر القطـران ،داسـ ْ
ـت القطــة البيضــاء تقــرب
وسـران ،بعــد حـوايل خطوتــن منّــاْ ،حملـ ُ
بســرعة حنــو بقــااي الســيجارة املفروكــة ،تدلّــت برأســها مستنشــقة
إايهــا ،ولكــن فجــأة ،هــزت القطــة رأســها بتقــزز وجـ َـرت بعيــدا
عنهــا ،وعــن حمــور الطاولــة.
•••
54
.
عطر وابتسامة
يف كربايئهــا املتأنــق ،ختتــال مــرمي علــى عتبــات ســلم منزهلــا النــازل
بشــكل مســتدير قاصــدة الطريــق املقابــل ،تشــع منهــا هبجــة
وأتلــق ،وتفــوح منهــا رائحــة عطريــة مجيلــة ،مرتديــة "جيبــة" محـراء
يعلوهــا قميصــا أبيضــا مطــرزا خبــرز فضــي المــع ،وعلــى شــعرها
مموجــا ،ابنــت
"بونيــه" رقيــق أمحــر اللــون يؤطــره ش ـريطا ذهبيــا ً
بكلهــا فاتنــة وجذابــة ،خارقــة حلــدود التشــابه مــع األخ ـرايت،
تلفهــا هالــة جتعلهــا كنجمــة مضيئــة وســط ظــام حالــك؛ أمــدت
55
خطاهــا الرقيقــة بتثنيــات أنثويــة فيهــا مــن الفتنــة الكثــر ،ومــن
اإلغ ـواء أكثــر.
ســاقان ملفوفتــان ابنســيابية يعلومهــا احننــاءة خصرهــا اجلــذاب،
وهنــدان انفـران يشــعان ذبــذابت منبهــة ألعــن العابريــن ،اجلميــل
أكثــر يف مــرمي أهنــا واثقــة جــدا مــن نفســها ،ليســت تلــك الثقــة
وليــدة أتملهــا لذاهتــا فقــط ،بــل ألن الكثرييــن والكث ـرات لطاملــا
مدحوهــا وأثنــو علــى ِ
مجالــا.
مبعثرين عليها أرق وأعذب األوصاف والكلمات ،وهي -واحلق
يقال -مجيلة للغاية ،غري أن تلك الثقة وذاك اإلحساس جبماهلا
مل جيعالهــا ختــرج عــن نطــاق التمــرد والتمنــع األنثــوي عــن اجلنــس
اآلخر.
ال تُبــدي اهتمامــا ألي رجــل مهمــا كان جــذااب ووســيما ،وال
تفضــل أن تكــون وســط رجــال يف أيــة مناســبة ،وال يف غــر
مناســبة ،واهتمامهــا بنفســها وأنوثتهــا ليــس رهــن وجــود رجــا يف
حياهتــا ،ولكنــه اهتمامــا خيصهــا هــي فقــط ،يبعــث مــا بداخلهــا
56
مــن رضــا ويضفــي علــى نفســها إحساســا بسـّـرها األنثــوي الفاتــن.
بــدت يف طريقهــا فاتنــة تســر خبط ـوات واثقــة ،ال تلتفــت وال
تكــرث مبــن حوهلــا ،وال هتتــم بكلمــات الغــزل املتســاقطة عليهــا
من هنا وهناك ،كل ما يشــغلها اآلن هو أن تصل حملل العطور،
لتقتــي مــا تفضلــه مــن عطــر؛ يف العطــور أسـرار ابلغــة ،فهــي حتــرك
مشــاعران وأتخــذان خليــاالت طليقــة ونش ـوات روحيــة ،يف العطــر
ذكــرى دافئــة حينمــا ترتبــط بــه إحساســات مجيلــة ســابقة؛ عطرهــا
يكتمــل بــه إحساســها بكياهنــا ،تبــدع يف اختيــاره وال تقتصــر علــى
اســتخدام نوعــا واحــدا منــه ،ومــا تنويــه اليــوم هــو أن تقتــي عطـرا
برائحــة الفواكــه الفواحــة.
ذكراهــا مــع الفاكهــة متتــد لزمــن مـ ٍ
ـاض عندمــا كانــت تصـ ّـر دومــا
على الذهاب إىل حديقة شــجر الربتقال ،فتظل تتجول فيها أو
تركــض بفــرح طفــويل ،فتنتشــي برائحــة الثمــار املعتقــة أبيــد مساويــة.
57
وقبــل أن تصــل إىل احملــل ،حملــت ثلــة مــن الذكــور ،مــا يقــارب
اخلمســة شــباب ،أبعــن اثقبــة ومتطفلــة ،أمــدت اخلطــى أكثــر كــي
تتجنبهم ،يف الســر األنثوي السـريع حراكا جســداي أكثر إغواء!
أتبعوهــا ملقــن عليهــا بعــض الكلمــات الغزليــة اجلوفــاء ،فأســرعت
خبطوهــا حــى دخلــت حمــل العطــور واختفــت عــن األنظــار.
58
جــزءا فيهــا؟ مــاذا لــو ظل ـوا قاصديــن إايهــا طيلــة األايم املقبلــة؟
طــردت تلــك األفــكار مــن ذهنهــا ،وصــار كل مــا يشــغلها هــو
أن تصــل إىل املنــزل بســرعة ،فليســت تلــك هــي املــرة األوىل الــي
تتعــرض فيهــا ملثــل هــؤالء ،ولكنهــا املــرة األويل الــي ضمــت هــذا
العــدد منهــم.
59
منــه ،مث اعتلــت وجههــا ابتســامة رقيقــة.
•••
60
َف ْقد
61
أانملــي .أحــب قـراءة الــرواايت كثـرا ،فهــي حتــرك خيــايل احلــامل،
أرى يف خيــايل كل مــا حيلــو يل ،فهــو حاســي العلويــة؛ حاســي
اجلماليــة الــي أدرك هبــا ألـواان وصــورا وأانسـاً ،وحبيبــا طاملــا أتملتــه
يف تلــك الشاشــة اخلياليــة الصافيــة.
صنعتــه ليرتبــع علــى عــرش روحــي ونفســي ،وأوجــدت لــه امســا،
مسيتــه ســعد ،ففــي وجــوده ســعادة ،وىف أتملــه إســعاد يل ،ورغــد
اشــتياقي لــه يومــي ،وعندمــا يتمــرد علــى خيــايل وجتــف ينابيعــه،
أرويــه بق ـراءة الــرواايت.
62
الوريقــات بنهــم لذيــذ وتعرتيــي رغبــة ملحــة يف التحليــق ،فأطــر
ألفــاق علويــة أبجنحــة مــن فضــة ،حيــدين عــن مييــي وعــن مشــايل
مالئكــة ،وســحب ،واحننــاءات قــوس قــزح ،وأسـراب مــن الطيــور
احلانيــة ،وأحيــاان أخــرى تلــح علـ ّـي رغبــة يف الركــض ،فأظــل أركــض
بــا ســبيل هــرواب مــن جماهيــل روحــي ومــن فقــدي.
63
النقــاط وترســلها لعقلــي الــذى يفــك شــفرهتا وحيوهلــا لرمــوز مجاليــة
ابلغــة الروعــة ،قـراءة أانملــي بلمــس الــروز ،وقـراءة عقلــي بلمــس
ـت أانملــي عنــد مجلــة أعجبتــي "يف
شاشــة خيــايل امللســاء ،توقفـ ْ
احلــب تــوق للوصــال" ،هــل الوصــال ترمجــة فعليــه للحــب؟ وهــل
يكفــي الوصــال اخليــايل لــروي ظمــأ احملبــن؟
هــو اآلن يكفيــي وبــه أرتــوى ،واألن يتألــق خيــايل وأتخــذين
الق ـراءة لســموات فســيحة يتألــق فيهــا ســعدي ،أق ـرأ بســعادة
ومبشــاعر رائقــة ،ترتســم علــى وجهــي ابتســامات خفيفــة متتاليــة،
ترتاقــص أانملــي علــى األحــرف البــارزة وكأهنــا راقصــة ابليــه حمرتفــة،
وفجــأة توقفــت أانملــي عــن الرقــص! ....
مل تكــن بــروز تلــك اجلملــة كــروز ابقــي اجلمــل كانــت بــروزا حــادة،
ـرت هبــا كث ـرا ،وتوقــف ذهــي عندهــا ليرتجــم كل
وشــائكة ،أتثـ ُ
حــرف منهــا علــى حــدا ،حتولــت ابتســاميت لشــجو ،وتدفــق الدمــع
مــن عيــي متســاقطا بــن حنــااي الــروز ،خلصــت مــن قـراءة القصــة
64
ابلكامــل ،أعجبتــي كث ـرا ،وراودت إغ ـواءات خيــايل الــذي كاد
ـت حبائطــي لوحــات مــن عــامل مجيــل أتلقــت
نبعــه جيــف ،وألصقـ ْ
عليــه لوحــة حبيــي ،ذاك الســعد املنتظــر ،مــى اي إهلــي ســيتأتى
الوصــال؟ إين لفــي فقــد ،لفــي شــغف.
ـاي ليــس فيهمــا غــر دمــوع بــدأت تتداعــى ،ليــس فيهمــا عينـ َ
ضــوء ،وال بصــر ،وال أشــياء ،فقــط دمــوع تتســاقط علــى الورقــة،
وعشـوائية ملــس قصدهتــا ألصــل إىل هــذه اجلملــة األثــرة ،األليمــة،
65
ـي".
ـور عيـ ّ
ـت نـ ُ
واجلميلــة أيضــا "أنـ َ
•••
66
ُكحل
أحبتــهُ ،وال ت ـزال ُتبــه ،عاهــدت ذاهتــا املتكئــة علــى ذاتــه أهنــا
ســتظل حتبــه ،يف ليلهــا املم ـ ّدد كطفــل انعــس علــى فخذيهــا
تداعبــه؛ أماطــت عــن مجودهــا الشــرود وراحــت حتــدق يف صمــت
دومــا ،فخياهلــا عندمــا
وأتمــل ،ليســت اجلنّــات بعيــدة عــن خيالنــا ً
يتخللــه صــورة احملبــوب ،تتفتــح هلــا أب ـوااب تفضــي جلنتــه الرحبيــة
وزهــوره ونســماته ،أخــذت تداعــب ليلهــا الوديــع ،ويداعــب
خياهلــا َمــن ألجلــه قــد اعرتاهــا األرق اجلميــل ،يف الليــل حكمــة
احملبــن وقداســة العشــاق ،العاشــقون ليليــون ابلضــرورة ،والليليــون
67
هــم غالبــا مــن العشــاق ،وهــي عاشــقة ليليــة كزهــرة تظــل ذابلــة
طيلــة النهــار وتتــورد ليــا ،تفــوح ،وتتفتــح خميالهتــا الــي تتقمصــه،
وتتش ـربه كــي يــروى ظمأهــا ،يرويهــا ،فتمتــد وتتســع حدائــق
مبهجــة ،وطيــور ،وحب ـرات ،وأشــجار ،ومقعــد جيلســان عليــه
وحدمهــا ،جمرديــن مــن أي اعتبــار ،ســوى أهنمــا فقــط مــع بعضهمــا
ـدو األول للواقــع،
ـال هــو العـ ّ
البعــض ،متحــاابن و متعانقــان ،اخليـ ُ
وهــو دائمــا علــى حــق ،هــو حمــارب أســطوري ،ذو أســلحة بديعــة
ويف دائمــا لصاحبــه ،فهــو عــارف أكثــر منــا بواقعنــا
وكثــرةّ ،
الغريــب املمتلــئ بتفاصيــل قاتلــة ،واعتبــارات ،وأحـوال ،وخمــاوف
وأشــخاص ،عندمــا نســتدعيه يســتَل ســيفه مــن غمــده ويقاتــل
بنُبــل ،فيقــف أمامــه واقعنــا كحشــرة ضعيفــة ضلّــت طريقهــا إىل
الضــوء احلــارق ،وأيخــذان -خيالنــا النبيــل -ألفــاق رحبــة علويــة
مجيلــة ترتأســها صــورة احملبــوب الغــر مشــوبة واملنجليــة ،واملتجليــة
علــى تفاصيــل الــروح واجلســد ،وروحهــا اآلن فيــه ،وجســدها
متمــدد حتــت الليــل وزغزغــة النســمات ،كانــت قــد َخلُصــت
لتوهــا مــن إعــداد مالبســها املنتقــاة بعنايــة دقيقــة ،وأعــدت أمامهــا
ّ
68
"مكيــاج الوجــه املتعــدد" :بــودرة بيضــاء ،طــاء شــفاه وردي،
ألـوان للجفــن خضـراء وزرقــاء ،واألهــم مــن هــذا كلــه هــو الكحــل
األســود الــذي أهــداه هلــا حبيبهــا ذات لقــاء ،الكحــل فيــه بعــد
ـحرا يشــبه الليــل حينمــا
مجــايل عجيــب ،يضفــي علــى العينــن سـ ً
يلتــف حــول القمــر ،عيناهــا مهــا القمــر ،والكحــل ليــل ،وابقــي
وجههــا كــون فســيح فيــه كل معــاين اجلمــال والفتنــة ،ليلتهــا هانئــة
و ســعيدة ،ليلــة ال يعقبهــا صحــو علــى س ـرير ،وال علــى نـ ٍ
ـداء
أجــش ،وال علــى منبــه اتلــف مــن صنــع الكوريــن ،بــل يعقبهــا
اب ،علــى عشـ ٍـق جمسـ ٍـد ،يعقبهــا صحــو علــى لقـ ٍ
ـاء ،علــى اق ـر ٍ
صحــو علــى احملبــوب.
69
أعــن حبيبهــا فقــط هــي الــي تســتطيع التمييــز ،وهــى تــدرك أن
حبيبهــا اآلن مثلهــا ،يف انتظــار وتــوق ،أطلّــت علــى وجههــا يف
املــرآة مبتســمة ،وبــدأت يف وضــع األل ـوان عليــه ،بــدأت ببــودرة
اخلديــن واجلبــن ،مث بطلــي اجلفنــن ابألخضــر واألزرق ،وقبــل أن
تضــع طــاء الشــفاه الــوردي ،أمــدت يدهــا اليمــى لتلتقــط قلــم
ال ُكحــل األســود ،فلمحــت جبانبهــا تلــك الورقــة الــي كتــب عليهــا
منتظرهــا ذات ليــل "أحبــك اي روح القلــب" حركــت أصابعهــا
لتتلمــس الورقــة ،مث التقطــت القلــم الكحلــي متجهــة بــه حنــو عينهــا
اليمىن؛ حركة ودوران الكحل حول العني بتلك الدقة والرقة ،هلا
داللة على ســر األنوثة نفســها ،ليس من شــغل األنثى أن تراقب
األفالك مبيكروســكوب من العصر الوســيط ،وال أن أتخذ حفنة
مــن األعشــاب وحتللهــا معمليــا ،وال أن تقيــس قــدرة داببــة علــى
الفتــك ،شــغلها أبســط وأرق مــن هــذا كلــه ،وكل بســيط مجيــل،
وكل رقيــق بديــع ،وكل أثــى كامــن بداخلهــا اجلمــال واإلبــداع،
اللــذان تتجســدا علــى ســلوكها واهتماماهتــا ،رمســت حــول عينيهــا
دائــرة الكحــل ،فـزاد بريقيهمــا واســتجابت األعــن لزائرهــا األمســر
70
الــذى احتواهــا ول ّفهــا ،ومل تتمــرد عليــه راضيــة بتطفلــه املســتدير.
71
أدق تفاصيلــه الــي تكــون هلــا مبثابــة الــرايق يف حلظــات الفـراق،
نظ ـرات عينيــه ،إميــاءات وجهــه ،إشــارات يديــه ،رائحــة عطــره،
أنفاســه ،أل ـوان مالبســه ،كلماتــه؛ يف وصالــه هبــا اســتكانةٌ،
ـت؛ يف صمــت احملبــن معــى بليــغ ،الصمــت وانبســا ٌط ،وصمـ ٌ
حــن الوصــال هــو أقــوى معــر ،ال حيتــاج احملبــون إىل كلمــات
كســائر النــاس؛ الــكالم هــو أدىن مراتــب البــوح؛ الصمــت لغــة
أثرييــة حتمــل أدق اإلحساســات مــن احملــب إىل احملبــوب؛ بــن
احملبــن ذبــذابت روحيــة ال يفــك شــفرهتا ّإلهــم؛ وهــي اآلن مل
أحســتَيْــف عليهــا أبن شــروده اليــوم خمتلفــا عــن كل لقــاءّ ،
بتغــر مــا قــد طـرأ عليــه ،انبســطت لــه أكثــر انظــرة إىل عينيــه حبنـ ٍو،
فانتبــه إليهــا انظ ـرا إىل عينيهــا هــو أيضــا ،كانــت نظراتــه حتمــل
نوعــا مــن احلــزن واألســى ،وأيضــا الــردد ،حــارت عينــاه حــول
حنــااي وجههــا اجلميــل املتلهــف بقلــق عليــه ،غــاص يف عينيهــا كمــا
مل يفعــل مــن قبــل ،فلمــح اســتدارة الكحــل الــي طاملــا أعجبتــه
وأثــى عليهــا ،وفجــأة أشــاح بوجهــه عنهــا ومل يفتــأ أداره إليهــا مــن
جديــد قائــا أبســى:
72
-هل ستساحمينين؟
قلقــت للغايــة مــن هــذا الس ـؤال ،مالــت يف جلســتها حنــوه قليــا
لــرى عينيــه وقــد ملعــت مــن أثــر الدمــوع ،ارتبكــت وقالــت وهــي
ترمــش:
-أساحمك على ماذا؟
كان ارتباكهــا قــد جعلــه يــردد قليــا يف اإلجابــة ،أغمضــت
عينيهــا فانغلقــت دائــرة الكحــل علــى نفســها ،أخــذت نفســا
عميقــا ،مث فتحــت عينيهــا مــن جديــد ،فوجدتــه يقــول:
لك ،احلياة أقوى مين ..ساحمين. -لن أستطيع فعل أي شيء ِ
قــال تلــك اجلملــة قبــل أن ينهــض مــن مكانــه ،اتركا إايهــا يف
معمعــات التيــه.
•••
73
حديثهــا مــع املــرآة تفيــض بــكل مــا جييــش بداخلهــا مــع قرينهــا
املنعكــس ،ســألت ذاهتــا كث ـرا ،هــل أخطــأت يف حقــه يومــا؟
هــل يكــون بتلــك الســهولة ابتعــاده؟ كيــف ســيكون حاهلــا مــن
بعــده؟ احنــت رأســها لألســفل قليــا شــجوا وح ـزان ،فوقعــت
عيناهــا علــى تلــك الورقــة املوضوعــة أمامهــا ،نظــرت إليهــا برفــق،
أتثــرت هبــا كث ـرا ،حــى ملعــت عيناهــا مــن أثــر الدمــوع ،كانــت
مالحمهــا حزينــة ومقتضبــة وجامــدة ،ظلــت مالمــح وجههــا اثبتــة،
وظلــت تلــك األلـوان املرســومة علــى وجههــا غــر عابئــة مبــا جييــش
بداخلهــا ،إال الكحــل! الــذي اختلــط وامتــزج مــع الدمــع منزلقــا،
رامســا خطــن متوازيــن علــى خدهــا األملــس.
•••
74
نشوة اجلسد
77
إليك ،هل سأر ِاك غدا يف شقتنا؟ -و ِ
أنت أيضا كم أشتاق ِ
-أكيد.
78
قميصــا أمح ـرا قص ـرا ،شــفاف اخلصــر والنهــد،
ت ً بعدمــا ارتـ َـد ْ
فاضــح للخفــااي ُمــركا لألعاصــر اجلســدية ،توالــت حتــداييت فيهــا،
وراحــت يــدي متســح علــى كتفهــا وشــفيت تــدور حــول وجههــا
ـفيت علــى شــفتيها فتنهــدت ،مــددت
ـت بشـ ّ
فتلـ َـوت رغــدة! ،قبضـ ُ
ـت ،حركــت يــدي علــى ردفهــا
يــدي لتعبــث برفــق يف هندهــا فتأوهـ ْ
ـت ،كــدت
انمــت! اعتليــت جســدها بــكل مــا يف جســد تقلبـ ْ
أدخلهــا فــر ّن جــرس اهلاتــف! ر ّن قاطعــا صــوت أم كلثــوم ،مل ُأرد
ـت رغــدة لقلقــي أشــارت يل هبــدوء وهــي حتــركهــذه املــرة ،انتبهـ ْ
يدهــا كــي تستفســر عمــا حيــدث ،فأفهمتهــا أبن كل شــيء علــى
ـت شاشــة اهلاتــف تضــيء وختفــت فنبهتــي أبن هنــاك
مــا يـرامَ ،حملـ ْ
ـت منهــا أبن ال هتتــم؛ كنــت أعلــم ســلفا مــن
مــن يتصــل ،طلبـ ُ
الــذى يقــوم ابالتصــال يب ،تكـ ّـرر االتصــال مــرة تلــو األخــرى،
وأخـ َذت الشاشــة تضــئ وختفــت مـرات متتاليــة ،وأان مثلهــا ،أضــئ
ـارت يل صامتــة مــرة اثنيــة أبن أغلــق
وأخفــت داخــل رغــدة أشـ ْ
ـددت يــدي وقبضــت علــي اهلاتــف ولكنهــا اهتــزت
اهلاتــف ،فمـ ُ
فوقــع مــي علــى األرض ،أشــارت يل لتســتعلم عــن املتصــل،
79
أفهمتهــا ابإلشــارات أبن مــا يضــيء اهلاتــف هــي األغنيــة ،ســألتين
ـت يــداي مبــا يعــى أهنــا أغنيــة "أغــدا
بيديهــا عــن األغنيــة! ،فحركـ ُ
ـمت هلــا ومــن مث احتضنتهــا غارقــا
ـمت يل وابتسـ ُ
ألقــاك؟ ابتسـ ْ
بكلــي يف كلهــا.
•••
80
ارتواء
ـت
ـددت يــدي ورفعـ ُ
احننــت رأســها لألســفل اببتســامة رقيقــة فمـ ُ
ـي مــن جديــد؛ يف عيوهنــا ســحر وألــق ،فيهمــا
وجههــا صــوب عيـ ّ
جتليــات مــن عــامل علــوي مجيــل ،أتخــذين عيناهــا ألسـرار اجلمــال
مــن حــويل ،فتجعلــي أكثــر تدبـرا وإدراكا للســر الكامــن بداخلنــا،
ذلــك الســر العميــق الــذي يتجلــى علينــا يف حلظــات الوصــال
والعشــق ،وحيلــق بنــا لنتلمــس أفاقــا بعيــدة عازفــن علــى أواتر
التجليــات اجلماليــة يف الوجــود ،قلــت هلــا:
83
-عيونك مجيلة.
قالت:
-أنت أمجل.
-ما رأيك يف هذا املكان؟
تساءلت ،فأجابتين بفرح:
ُ
-اياه! ..مكان مجيل ..سبحان هللا!
84
نبهتين هلا بعدما سرحت عنها قليال:
-حنن هنا.
ـت مــن جلســتها واضعــة قدميهــا بتثــي حتتهــا ،فبـ َـدت
مث ب ّدلـ ْ
احنناءاهتــا األنثويــة أكثــر انســيابية ووضوحــا ومجــاال ،أمســكت
بيديهــا االثنتــن قائــا:
-لن أفارقك أبدا.
ـت ثياهبــا ،وقالــت وهــي تبتعــد
-هنضنــا مــن جلســتنا ،عدلَـ ْ
خطوتــن للخلــف:
-هل تستطيع اللحاق يب؟
85
أخذت الوردة من يدها مستنشــقا إايها ،سـَـرى بداخلي عبقها،
ُ
فانتشــت روحــي ،وتفتحــت مســام جســدي ،استنشــقتها مــرة
َ
أخــري وأغمضــت عيــي قائـاً:
-هللا !!
•••
86
الفهرست
إطاللة 7..........................
البوهيمي13. .......................
الغريب27. ........................
ال ُلعبة35. .........................
سيجارة 47. .....................
عطر وابتسامة 55. ...................
َف ْقد 61. .........................
ُكحل 67. ........................
نشوة اجلسد 75. .....................
ارتواء 81. ........................
عن الدار ومشروع النشر احلر
دار لوتــس للنشــر احلــر هــي أول دار نشــر تعتمــد مبــدأ النشــر احلــر
مــن خــال مشــروع طمــوح يهــدف إىل ختطــي عقبــات النشــر يف وطننــا
العــريب ،والتخلــص مــن النظــرة الرحبيــة عــن طريــق توفــر الكتــاب الورقــي
بتكلفــة طباعتــه فقــط ،واإللكــروين ابجملــان.
دار لوتــس للنشــر احلــر هــي مشــروع خدمــي وليــس جتــاري ،تدعــم
الكاتــب املوهــوب وتســانده بــدون تكلفــة ماليــة تُذكــر ،ومتنحــه كافــة
احلقــوق بكتابــه ،حتــاول االرتقــاء مبســتوى األدب ،وهتــدف إىل اح ـرام
الكاتــب والقــارئ مــن خــال نشــر كل مــا هــو جيــد يف جمــاالت الروايــة،
القصــة القصــرة ،الشــعر واخلواطــر ،األدب الســاخر ،والفكــر ،وبعــض
الكتــب الــي ال ختضــع للتصنيــف الســابق لكــن بــدون اإلســاءة لشــخص،
أو أشــخاص ،أو مؤسســات ،أو أفــكار ،أو عقائــد ،أو دايانت ،أو
أنظمــة سياســية.
إن كنــت كاتــب وتــود النشــر مــن خــال الــدار وفقـاً ملشــروع النشــر احلــر،
أو دعمــه ،أو املســامهة بــه...
إن كنت قارئ وتريد احلصول على أي كتاب من منشورات الدار..
فتواصل معنا:
Mob: +2 01091985809 - +2 01272143509
WhatsApp: +2 01091985809
Site: www.Lotusfreepub.com
Mail: Lotusfreepub@gmail.com
F Account: www.facebook.com/lotusbookshopp
F Page: www.facebook.com/lotusfreepub
أصدارات الدار
2017 / 21773