Professional Documents
Culture Documents
معتمــة مــن صــراع اإلنســان مــع البحــر والحيتــان .وبقــدر القصة األوىل :الحوت يجعل الصيّاد روائ ّياً
ّ
مــا تكشــف روايــات «ميلفيــل» عــن إجالــه للحــوت ،سـ ِّـيد «بطــيء الفهــم والكام»؛ هكذا وصــف «آالن ميلفيل» ابنه
ـوة الهائلــة
البحــار ،هــي تكشــف ،كذلــك ،عــن افتتانــه بالقـ ّ «هيرمــان» ذا الســنوات الســبع ،عــام ( .)1826بعــد عشــرين
ـمى باإلنســان،التــي ينطوي عليها هذا الكائن الضعيف المسـ َّ عامـاً ،بالتمــام ،سينشــر« هيرمان ميلفيــل» رواياتــه( :تايبيه،
ـوأ الطفــل (بطــيء ـوة مــن أن يتبـ َّ
وليــس أدلّ علــى تلــك القـ ّ ،)1846و(أومو ،)1847 ،و(ماردي ،)1894 ،و(ريدبيرن،)1849 ،
الفهــم والــكام) مكانــة ســامقة فــي تاريــخ البشــرية ،بفضــل و(وايــت جاكــت .)1950 ،بفضــل هــذه الروايــات الخمــس،
شــغفه بعالــم الحيتــان. روائي عالــم البحار. ـي «ميلفيــل» بشــهرة كبيــرة ،بوصفه ِ
َّ َحظـ َ
ـول الطفــل (بطــيء الفهــم والــكام) إلــى روائــي لــم يكــن تحـ ُّ
القصة الثانية :الحوت يهرب من السقوط يف ُفوَّهة النسيان
ّ مرمــوق ،ممكنـ ًا لــوال خمــس ســنوات قضاهــا في البحــر فيما
في ( )28ســبتمبر/أيلول ( ،)1891نشــرت جريدة «نيويورك وصياد ًا في
ّ بيــن ( )1839و( ،)1844عامـ ً
ا فــي ســفن تجاريــة،
تايمــز» نعيـ ًا قصيــر ًا لـ«هيرمــان ميلفيــل» .لــم تكــن كتابــات ـول «ميلفيل» ســفن صيــد الحيتان .خال هذه الســنوات ،تجـ ّ
«ميلفيــل» هــي المح ِّفــزة على كتابــة النعي ،بل أشــياء أخرى بيــن موانــئ العالــم الجديــد ،والعالــم القديــم ،مــن مدينــة
ُعــرف بهــا الرجل مثل كونه (أشــهر محامي قضايــا جنائية في نيويــورك األميركية إلى ليفربول اإلنجليزية ،ومن نيوبيدفورد
واليــة كنيكتيكــت ،وأقــدم قاطنــي منطقــة أورانــج ،ومهنــدس إلــى البحــار الجنوبيــة ،ومــن جزر ماركــوس إلى جــزر هاواي.
مدنــي .)...وبعــد صفــات أخــرى كثيــرة ،ذكــرت الصحيفــة، ـرد بحــري ،واع ُتقــل فــي ِســجن ،فــي تاهيتــي، اشــترك فــي تمـ ُّ
باقتضــاب ،أنــه كاتــب أيضـاً ،وأخطــأت ،بعــد ذلك ،فــي كتابة أمدتــه بكنز مــن الخبرات وعركتــه أهــوال ومخاطــر وتجــاربَّ ،
اســم روايتــه «موبــي ديك». لكتابتــه الروائية.
ـدة خمــس ســنوات ،فــي مطلــع بعــد شــهرة قصيــرة ،لمـ ّ كان للســنوات التــي قضاهــا «ميلفيــل» فــي ســفن صيــد
حياتــه األدبيــة ،لــم َي ُعــد «هيرمــان ميلفيــل» كاتبـ ًا معروفـاً. الحيتــان ،أثــر هائــل فــي حياتــه وأعمالــه األدبيــة؛ ففــي هــذه
لــم يجــنِ شــهرة أو مــا ً
ال أو مكانــة مــن أعمالــه األدبيــة األكثــر الفتــرة ،اف ُتتــن بالحــوت ،المخلــوق األكثــر ضخامــةً ومهابــةً
أهم ّيــةً ،وأصالــةً ،بــدء ًا مــن روايــة (موبــي ديــك ،أو الحــوت)،
ِّ فــي كوكبنــا األزرق .جمــع معــارف هائلــة عــن حيــاة الحيتان،
المنشــورة عــام ( ،)1851حتــى وفاتــه بعــد أربعيــن عامــاً، وعاداتهــا ،وأنواعهــا ،وســفن صيدهــا ،وآالتهــا ،وزيوتهــا،
بالتمــام والكمــال ،لــم يحصــل بفضــل أروع مــا كتــب علــى وأكبادهــا ..إلــى غيــر ذلــك .ومثلمــا طــارد «ميلفيــل» حيتانـ ًا
جائــزة أو تكريــم أو اســتحقاق .وســرعان مــا توقَّــف عــن حقيقيــة فــي عــرض البحــر ،ابتغــاء صيدهــا ،طــارد حكايــات
ـت ســنوات من نشــر «موبــي ديك»، الكتابــة ،بعــد أقلّ من سـ ّ ـاء جمعهــا .كان «ميلفيــل» ابــن الحيتــان مــع اإلنســان ابتغـ َ
ألن أحــد ًا مــن الناشــرين لــم يقبــل أن يطبــع أعمالــه .وكان زمنــه ،تمامـاً ،وبقــدر مــا كان صيــد الحــوت ضروريـ ًا إلبقــاء
ـدر ًا ألعمالــه أن يخنقهــا العفــن والعطــن فــي المكتبــات مقـ َّ بعدة مصابيــح العالــم الجديــد مضاءة ،قبل اكتشــاف النفط ّ
المهجــورة ،أو أن تكــون وقــود ًا للتدفئــة فــي شــتاءات أميــركا ضروريـ ًا إلضــاءة منطقــة
ّ عقــود ،كان صيــد حكايــات الحــوت
يناير 182 2023 86
التحيــة المقتضبة، ّ بعــد أشــهر طويلة مــن تبادل عبــارات
ـت :رواية «موبي ســألتني ،يومـاً :ما هذا الكتــاب الضخم؟ قلـ ُ
ـت :عــن صــراع ـدث؟ قلـ ُ أي شــيء تتحـ ّ ديــك» .قالــت :عــن ّ
الحــوت موبــي ديــك مــع القبطــان آهــاب .ارتفــع حاجباهــا
ضيع أســبوع ًا من حياتــك في قراءة تعجبـاً ،وســألتني :هــل ُت ِّ ُّ
قلــت :أســتمتع ،منــذ ُ وصيــاد؟
ّ حــوت عــن ث تتحــد
ّ روايــة
ـد ،إلــى ثلثيهــا .نقَّلــت أســبوعين ،بقراءتهــا ،ولــم أصــل ،بعـ ُ
نظرتهــا بيــن وجهــي والكتــاب ،ثــم ارتســمت علــى وجههــا
ـت.
نبــرة أســى قصيــرة ،وانصرفـ ْ
أواخــر العــام الثانــي مــن دروســنا المشــتركة ،كان حفلٌ ،
ـرة ،أراهــا بزينــة كاملــة ،وفســتان ألول مـ ّالمدعويــنَّ .
ّ وك َّنــا
ـي
ـرت فــي عينـ َّ ـت فــي مواجهتــي مباشــرةً .نظـ ْ بديــع .جلسـ ْ
جــادةً،
ّ ، ــةًذكي
ّ ، جميلــةً ، بــدت
ْ ، ٍ
مثاليــة ٍ
كعــروس طويــاً.
جلي ـاً ،فــي
ـرأت ّ واثقــةً ،مشــرقةً ،وأشــياء أخــرى كثيــرة .قـ ُ
كنــت أكــذِّ ب
ُ ابتســامتها المتو ِّتــرة ،وعيونهــا الحالمــة ،مــا
حاولت لملمةُ نفســي بشــأنه طوال الشــهور الثاثة األخيرة.
ـرددي بيــن البقاء الكلمــات مــن أطــراف لســاني ،ولــم يطُ ــلْ تـ ّ هيرمان ميلفيل ▲
ـت.ـي مــن عينيهــا ،وانصرفـ ُ ـت عينـ َّوالرحيــل ..انتزعـ ُ
ناقديْــن اســتطاعا إنقــاذ أعمالــه مــن الســقوط البــاردة ،لــوال َ
الحوت يُعطي درساً يف التواضع
ُ القصة الرابعة:
ّ ـوة النســيان ،بعــد ثاثيــن عامـ ًا مــن وفاته .لقــد أعادت فــي هـ ّ
فــي صالــة بيتــه الصغيرة ،تحلَّقنا :شــباب في عشــرينيات كتابــات «رايمونــد ويفــر» و«فــان دوريــن» الحيــا َة ألعمــال
العمــر ،وأســتاذ علــى مشــارف الخمســين .لم يكن المشــرف «ميلفيــل» ،وأصبــح حو َتــه ،وقبطانــه (آهــاب) حديــث اآلفاق.
علــى رســائلنا جميعــاً ،لكنــه كان األقــرب إلــى القلــوب ـر ســنوات قليلــة حتــى أصبحــت روايــة الحــوت ولــم تكــد تمـ ّ
ـدث «موبــي ديــك» مــن أشــهر الروايــات األميركيــة ،وواحــدة مــن
ـدة ســاعات ،كلّ أســبوع ،نتحـ َّ والعقــول .يحوينــا بيتــه عـ ّ
فــي العلــم ،والجامعــة ،وقســمنا األثيــر .فــي تلــك الليلــة، ـم األعمــال األدبيــة قاطبــةً ،فــي تاريــخ اإلنســانية .وبنهاية أهـ ّ
ترســخت مكانــة «ميلفيــل» بوصفــه واحد ًا القــرن العشــرينَّ ،
ـص الروائي أخذَ نــا الحديــث إلى الروايــات التي تمزج بين القـ ّ
أنهيت قراءة ـت قد ـم ك َّتــاب العالــم ،طــوال التاريــخ .أفكّ ــر اآلن :كــم مــن
مــن أهـ ّ
ُ والخبــر الصحافــي أو المقال العلمي .كنـ ُ
«موبــي ديــك» ،قبــل أســابيع قليلــة ،وهــي الروايــة العالميــة آالف األعمــال العظيمــة التــي ابتلعهــا النســيان؛ ألن ناقــد ًا
متلهفــ ًا علــى األهــم فــي اســتعمال هــذه التقنيــة .بــدوت بارع ـ ًا مرموق ـ ًا لــم ُي ـز ِْح عنهــا التــراب! .كــم مبــدع حقيقــي
ّ ّ
كنت دهســته أقــدام عربة الشــهرة الطائشــة التي ال يركبهــا ّإال قلّة
وأصحح لثالثُ . ّ ـدث ،أقاطــع زمياً ،وأخالف آخــر، التحـ َّ
منتشــي ًا بتحليلــي لروايــة الحــوت .أتكلّم بنبرة تم ِّزق الشــعرة مــن المبدعيــن الحقيقييــن ،وكثــرة مــن األفّاقيــن البارعيــن
ال بقــراءات وتحليات، الرقيقــة بيــن الثقــة والعجرفــة ،مختا ً األهم،
ّ ـم آخــر لم ُيذكَ ــر ضمــن
فــي صنــع الضوضــاء! كــم اسـ ٍ
تحرك أســتاذي خارج ال معهــم ،مثلمــا كان مــع واألروع؛ ألن الزمــن لــم يكــن عــاد ً
أنهيت حديثيَّ ، ُ ـارى .حين ظنن ُتهــا ال تبـ َ
ـت أن ـ َّعق تو ـي.ـ ونادان ـاء، ـ الزم ـامع ـ مس ـن
ـ ع ً
ا ـد الصالــة ،بعيـ «ميلفيــل»؛ قبــل قــرن مــن الزمــان!.
ُ
يربــت علــى كتفــي ،ويمتــدح معرفتــي وعلمــي ،لكنــه ،بــد ً
ال ِّ
مــن ذلــك ،قــال بنظــرة تمزج بين األســى والغضــب :أرجوك. حب لم تولَد
قصة ّ
القصة الثالثة :الحوت يُجهض ّ
ّ
تواضــع فــي حديثــك ،وال تتعــالَ علــى زمائــك. كنــت ألتقيهــا ثاثــة ّأيــام،
ُ فــي قاعــة درس جامعيــة،
ـاد ،اخترقــت عبارتــه القصيــرة صميــم مثــل نصــل ســهم حـ ّ مــدرس ّ أســبوعياً .هــي معيــد ٌة فــي كل ِّّيــة مرموقــة ،وأنــا
ّ
ــدت إلــى المجلــس صامتــاً ،مطأطــأ الــرأس ،ال روحــيُ .ع ُ مســاعد فــي كل ِّّيــة غيــر مرموقــة!.
ـر عقــدان ،بالتمــام والكمــال ،علــى أكاد أســمع مــا ُيقــال .مـ َّ قاهري.
ّ ـرة ،ســألتني :تبدو غيــر ـي ،أول مـ ّ
ـت إلـ َّ
تحدثـ ْ
حيــن َّ
ـت
ُ ـ همم ـا
ـ َّم
ل ك ـن، ـ الحي ـك ـ ذل ـذـ ومن تلــك النصيحــة المؤلمــة. الفيوم ،قالت ،بنبرة قاســية :نعم ،أعرفها. ـتّ : مــا بلدك؟ قلـ ُ
أي مجلس علــم ،ر َّنت كلمات أســتاذي في أذني، بالــكام ،فــي ّ قلــت :ال أدري ،حقيقــةً ،ُ أليســت أفقــر محافظــات مصــر؟
ـت أن أرســل الــكام ـتحضرت عظــة روايــة الحــوت ،وحاولـ ُ ُ واسـ لكنــي أعشــق خضرتهــا ،وأهلهــا ،وريفهــا .ســأل ُتها ،بــدوري:
هينـ ًا خفيضـاً .وحين تغلبني الرعونــة أو الغضب أو الحماس، ِّ ـدت في القاهــرة ،وأعيش ـت؟ قالــت :المنوفيــة ،لكنــي ولـ ُ وأنـ ِ
أســتحضر كلمــات أســتاذي ،وأؤ ّنــب نفســي ،مــن جديــد ،حتى ـت المنوفيــة أعلــى محافظــات مصــر طرد ًا ـت :أليسـ ْفيهــا .قلـ ُ
ال يبتلعنــي حــوت االفتتــان بالــذات .عمــاد عبــد اللطيــف وانصرفت.
ْ ورفعت رأســها عاليـاً،
ْ لســكّ انها؟ قالــت :ال أدري،
يناير 182 2023 87
▲ Moby Dick final chase