You are on page 1of 110

‫حكايات السندباد‬

‫‪100‬‬
‫مجان ًا مع العدد (‪ )143‬من مج َّلة «الدوحة» ‪ -‬سبتمرب ‪2019 -‬‬
‫ُي َوزَّع ّ‬

‫عنوان الكتاب‪ :‬حكايات السندباد‬


‫تقديم‪ :‬خالد بلقاسم‬

‫النارش‪ :‬وزارة الثّقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬


‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية‪:‬‬
‫الرتقيم الدويل (ردمك)‪:‬‬

‫الفنّي ‪ -‬مج ّلة الدوحة‬


‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم َ‬
‫رسومات‪( Maria Kuza′s :‬روسيا)‬

‫هذا الكتاب‪:‬‬
‫عب عن آراء مؤ ِّلفه‪ ،‬وال ُي ِّ‬
‫عب ‪-‬بالرضورة‪ -‬عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة‬ ‫ُي ِّ‬
‫حكايات السندباد‬

‫تقديم‪:‬‬
‫خالد بلقاسم‬

‫من كتاب «ألف ليلة وليلة» المجلد الثالث‬


‫النص مطابق لطبعة ‪ 1935‬عن المطبعة والمكتبة السعيدية‬
‫المطابقة لنسخة مطبعة بوالق األميرية ‪1863‬‬
‫تقديم‬

‫جز ٌء من ال ّنجاة»‬
‫«يف امل ُخاطرة ُ‬
‫«موقف البحر» للنفّري‬

‫‪ .1‬إضاءة‬
‫حري‪،‬‬‫ّ‬ ‫تسـب حكاي ُة سـندباد البَ‬ ‫ُ‬ ‫مل ُؤلَّـف «ألـف ليلة وليلة»‪ ،‬الذي إليه ت َ ْن‬
‫عب َمسـالكِ‬ ‫شـائج قويّـ ٌة بامل َتاهـة‪ .‬فبنيـ ُة هـذا امل ُؤلَّـف قامئـة على تشَ ـ ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َو‬
‫شـائج ال من تف ُّرع الحكايات وانشـطارِها‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫حيك وتشـابُكها‪ .‬تتبدَّى هذه ال َو‬ ‫ال َ‬
‫ِ‬
‫وتوالُدهـا وتع ُّدد امل َسـارب التي تشـقُّها وحسـب‪ ،‬بل أيضاً مـن ك ْون كتاب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ر قراءتِه أ ْن‬ ‫ر قابلٍ لالسـتنفا ِد تأويالً‪ ،‬كام لو أ ّن َمصي َ‬ ‫«ألـف ليلـة وليلة» غي َ‬
‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬
‫تنفك تت َولَّـ ُد م ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عي إىل تأ ُّولـه شـاهدا ً على امل َتاهـات التـي ال‬ ‫سـ ْ‬‫ظـل ك ُُّل َ‬
‫يَ َّ‬
‫عـد‬ ‫ِ‬
‫فـق بنيـة املتاهـة‪ .‬إنّهـا‪ ،‬أبْ َ‬ ‫حكاياتـه‪ .‬تبـدُو هـذه الحكايـاتُ ُمنتظمـ ًة َو َ‬
‫ـج متاهات‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أصلاً‪ ،‬يك تُنت َ‬ ‫َت‪ْ ،‬‬ ‫ِمـن ذلـك‪ ،‬تَبْـدو كما ل ْو أنّهـا صيغ ْ‬

‫‪5‬‬
‫جهـول امل ُؤلِّف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كتـاب «ألـف ليلـة وليلة»‪ ،‬فَضلاً عن ذلك‪َ ،‬م‬ ‫ُ‬ ‫إذا كان‬
‫سـحيقة‪.‬‬ ‫ل َ‬ ‫أصو ٍ‬ ‫ـن ُمتخيَّـل ذي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بـا ألنّـ ُه حصيلـ ُة ثقافـات ُمسـت َم ّدة م ْ‬ ‫فل ُر ّ‬
‫َـت هـذه‬ ‫ِ‬
‫كتـاب واحـدٌ‪ ،‬وإ ْن احت َفظ ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫صوغـ ٌة يف حكايـات ض َّمهـا‬ ‫ثقافـاتٌ َم ُ‬
‫ل‬ ‫ـن حيـث بناؤُهـا وانشـطا ُرها وتشـابُكُها وتوالُدُهـا‪ ،‬باحتام ِ‬ ‫ِ‬
‫الحكايـاتُ ‪ ،‬م ْ‬
‫َّـف «ألـف ليلـة وليلـة» كُتُبـاً يف كتاب‪ ،‬على نَحو ما شـ ّددَت عليه‬ ‫َعـ ِّد ُمؤل ِ‬
‫رو َر ِة ت َكوينه‪.‬‬ ‫وبسي ُ‬
‫غلَت مبَسـار تشـكُّل هذا الكتـاب َ‬ ‫الدراسـاتُ التي انشـ َ‬
‫سـحيقٍ‬ ‫يف َ‬‫عبر تاريـخ ثقـا ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫سيرور َة حكايـات تك َّونـت ْ‬ ‫إ ّن تأويلَـه‪ ،‬ب َوصفـ ِه َ‬
‫ٍ‬
‫ثقافـات‬ ‫عـرب‪ ،‬نِ َ‬
‫تـاج‬ ‫ـب إىل ال َ‬ ‫انتس َ‬
‫َ‬ ‫عـد ِِّه‪ ،‬حتـى وإن‬ ‫سـمح ب َ‬‫ُ‬ ‫عب‪ ،‬يَ‬ ‫و ُمتشـ ِّ‬
‫حصيل َة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫عـدِّه تأليفاً بأياد َعديدة أكرث مـن اعتباره َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ت يف ت َشَ ـكُّله‪ ،‬وب َ‬ ‫أسـ َه َم ْ‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫جه عا ّم‪ ،‬إذ نشَ ـأتْ‬ ‫ٍ‬ ‫غامض ب َو ْ‬
‫ٌ‬ ‫أص َل هذا الكتـاب‬ ‫ْيص‪ .‬ذلـك أ ّن ْ‬ ‫تأليـف شَ ـخ ّ‬ ‫ٍ‬
‫صـوغ‬ ‫شـارك يف َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫حكايات ُـهُ‪ ،‬كما يَـرى بورخيـس‪ ،‬بطريقـة غامضـة؛ فقـد‬
‫م‬ ‫ِ‬
‫أي من ُهم أنّ ُه كان يُسـاه ُ‬ ‫م ٌّ‬ ‫آالف امل ُؤلِّفين‪ ،‬دُون أن يَعلـ َ‬ ‫هـذه الحكايـات ُ‬
‫ـن أ ْعظَـم ال ُكتُب ‪.‬‬
‫(((‬ ‫ٍ‬
‫واحـد ِم ْ‬ ‫ع‬
‫يف إبـدا ِ‬
‫جعـل َمعنـاه يتل َّو ُن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫جهـول امل ُؤلِّـف يَ‬ ‫كـ ْو ُن كتـاب «ألـف ليلـة وليلـة» َم‬
‫حها لـ ُه القراءةُ‪ ،‬ويَجعلُـ ُه ُمتح ِّررا ً‬ ‫ك َُّل َمـ ّر ٍة باالحتماالت الدالل ّيـة التـي تَ ْ َن ُ‬
‫ن‬ ‫ع ْينـه‪ ،‬و ُمتح ِّررا ً ِمـن أث َر هذه ال ِّنسـبة و ِم ْ‬ ‫ٍ‬
‫ـخص ب َ‬ ‫ِمـن نِسـب ِة الكتـاب إىل شَ‬
‫تاهـات التأويـل‬ ‫ِ‬ ‫الكتـاب على َم‬
‫َ‬ ‫ْطهـا يف ت َ ْوجيـ ِه التأويـل‪ .‬تحـ ُّر ٌر يَ ُ‬
‫فتـح‬ ‫ضَ غ ِ‬
‫ن بن َي ِتـه‪ .‬كأ ّن القراء َة قـ َد ُر هذا الكتـاب‪ .‬إنّها ُمؤلِّفُـ ُه امل ُت َ‬
‫ج ِّد ُد‬ ‫امل ُتخلِّقـة ِمـ ْ‬
‫ِّـف ُمتجـ ِّد ٌد يف ذاتـه‪ ،‬و ُمجـ ِّد ٌد‬ ‫دَومـاً‪ .‬القـراءةُ‪َ ،‬وفـق هـذا التصـ ُّور‪ُ ،‬مؤل ٌ‬
‫ن ُمسـتق َبلِ التأويـل‬ ‫ِّـف قـاد ٌم باسـتمرار ِمـ ْ‬ ‫ِ‬
‫نفسـه؛ ُمؤل ٌ‬ ‫مل َق ُروئـ ِه يف اآلن‬
‫جهولـ ِه‪.‬‬‫و َم ْ‬
‫كتـاب «ألـف ليلـة وليلـة»‪ُ ،‬منـذ تنبّـ َه‬
‫ُ‬ ‫لهـذا كُلّـه‪ ،‬غالبـاً مـا اجتَ َ‬
‫ـذب‬
‫ِّـن‬
‫يك ُ‬ ‫األوروبيّـون إىل قي َم ِتـه‪ ،‬قُـ ّرا َء كبـارا ً‪ ،‬ألنّ ُهـم َعثرُوا فيـه على مـا ُ َ‬
‫يئ فيها‪ .‬ذلـك أ ّن قراء َة هذا الكتـاب َمنذو َر ٌة‬ ‫القـراء َة ِمـن ُمال َمسـ ِة الالنها ِّ‬

‫‪(1) Jorge Luis Borges, Œuvres completes, II, Traduit par Jean Pierre Bernès, Roger‬‬
‫‪Callois, Claude Esteban, Nestor Ibarra et Françoise Rosset, Bibliothèque de la Pléiade,‬‬
‫‪Ed. Gallimard, 2010, p. 673.‬‬

‫‪6‬‬
‫يئ‪،‬‬‫م ال ِفعـل القـرا ّ‬ ‫صميـ َ‬ ‫َـس‪ ،‬أساسـاً‪َ ،‬‬ ‫جزِهـا أسـئل ًة مت ُّ‬ ‫ألَ ْن ت ُ َولِّـ َد لـدى ُمن ِ‬
‫عـد‬ ‫ج ُهولـه‪ .‬أبْ َ‬ ‫ع َم ْ‬
‫سـو َ‬ ‫ُمـوض هـذا ال ِفعـل‪ ،‬وت َعقُّـ َد آليّاتـه‪ ،‬وشُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َـس غ‬
‫ومت ُّ‬
‫علُـو ُه‬ ‫الكتـاب إىل َمـدا ِر اهتام ِمهـم و َ‬
‫ج َ‬ ‫َ‬ ‫ح َّولـوا هـذا‬ ‫ـن َ‬ ‫ِمـن ذلـك‪ ،‬إ ّن َم ْ‬
‫االنشـغال إىل اإلقـرار بـأ ّن َمـدا َر الكتـاب‬ ‫ُ‬ ‫أس انشـغالهم‪ ،‬قا َد ُهـم هـذا‬ ‫َّ‬
‫الالفـت‪ ،‬إذا ً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نفصلاً‪ ،‬هـو ذاتـهُ‪ ،‬عـن أسـئل ِة القـراء ِة وقضاياهـا‪.‬‬ ‫ليـس ُم ِ‬
‫تحويـل كتـاب «ألـف ليلـة وليلـة» إىل َمـدار اهتمامٍ ‪ ،‬على ُمسـتوى‬ ‫َ‬ ‫أ ّن‬
‫ج ٍة بين‬ ‫عثـور على َوشـي َ‬ ‫حكي وبامل َعنـى‪ ،‬يُفْضي إىل ال ُ‬ ‫االنشـغال بال َ‬
‫يئ‬
‫ـن نـذ َر اهتام َمـ ُه القـرا َّ‬ ‫َمـدار هـذا الكتـاب وبين القـراءة‪ .‬البـ ّد لـك ُِّل َم ْ‬
‫ـل مـدا َر هـذا امل ُؤلَّـف بالقـراءة‪ .‬إنّـ ُه‬ ‫ص ُ‬ ‫لهـذا الكتـاب أ ْن يَعثرَ على مـا يَ ِ‬
‫عنى فيـه‪ ،‬النهائيّـ َة ال ِفعل‬ ‫كي وامل َ ْ‬ ‫ح ْ‬ ‫عب ال َ‬ ‫جسـدُ‪ ،‬بب ْنيَ ِتـ ِه وبتشَ ـ ُّ‬ ‫َّـف يُ ِّ‬‫ُمؤل ٌ‬
‫الكتـاب هـذه الالنهائ ّيـ َة وحسـب‪ ،‬بـل يَصونُهـا أيضـاً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جسـ ُد‬
‫يئ‪ .‬ال يُ ِّ‬ ‫القـرا ّ‬
‫ـوط ت ُؤكِّـ ُد انتسـابَ ُه إىل‬‫خ ُي ٍ‬ ‫ـن ُ‬ ‫حمـي دَوا َمهـا مبـا تنطـوي عليـه بنيتُـ ُه ِم ْ‬ ‫ويَ ْ‬
‫مبقـدوره قـراءة هـذا الكتـاب إىل ال ّنهاية‪،‬‬ ‫َمسـارب امل َتاهـات‪ ،‬إذ ال أحـ َد َ‬
‫يئ ‪.‬‬
‫(((‬
‫ـل‪ ،‬بـل ألنّـ ُه ال نهـا ّ‬ ‫كتـاب ُم ِم ّ‬
‫ٌ‬ ‫ال ألنّـه‬
‫ُـف عن أنْ تكـونَ واحدةً‪،‬‬ ‫ع الحكايـ ِة الواحـدة‪ ،‬الـذي ب ِه تَك ُّ‬ ‫ليـس تفـ ُّر ُ‬
‫ـق للحكايـ ِة ُد ُروباً‬
‫صفَـ َة املتاهـة ُهـو فقـط ما يَشُ ُّ‬ ‫وانشـطا ُرها وات ّخاذُهـا ِ‬
‫ـح فيها‪ .‬مث ّة‪ ،‬إىل جانـب ذلك‪ ،‬تجا ُو ُر‬ ‫عـ َد ِد الشِّ ـعاب التي ت َنف ِت ُ‬ ‫تأويل ّيـ ًة ب َ‬
‫ّب‬ ‫رتت ُ‬
‫ـن جهـة‪ ،‬أي اجتام ُعهـا يف كتاب واحد‪ ،‬مبـا ي َ‬ ‫الحكايـات العـا ّم‪ِ ،‬م ْ‬
‫ع هذه‬ ‫سـ ِّو ِ‬
‫غات اجتام ِ‬ ‫ـن ُم َ‬‫يل ُمسـت َم ٍّد ِم ْ‬
‫ل دال ٍّ‬ ‫ن احتام ٍ‬ ‫على هـذا األ ْمـر ِم ْ‬
‫يئ كما يَـ َرى بورخيس(((‪ ،‬يف‬ ‫ُنتسـب إىل الالنهـا ِّ‬ ‫ع َد ِدهـا امل ِ‬ ‫الحكايـات‪ ،‬ب َ‬
‫ح ٍو يَقتضي‪ ،‬يف ك ُِّل قـراء ٍة ُمنشـغل ٍة بالكتاب‪،‬‬ ‫إضاممـ ٍة واحـدة‪ ،‬على نَ ْ‬
‫ـن‬‫الصامـت يف َعـد ِد الليـايل‪ .‬ومث ّـة‪ِ ،‬م ْ‬ ‫ِ‬ ‫اسـتحضا َر تجـا ُو ِر الالنهـا ِّ‬
‫يئ‬
‫الخـاص‪ ،‬القائـم على الـ ُورو ِد امل ُبـارش لحكايـ ٍة‬ ‫ّ‬ ‫جهـ ٍة أخـرى‪ ،‬التجـا ُو ُر‬

‫((( املرجع السابق‪ ،‬ص‪.675 .‬‬


‫أجمل العناوين يف عالَم الكُ ُتب‪ .‬ورأى يف كلمة «ألْف» ُمرادف ًا‬ ‫عد بورخيس ُعنوان «ألف ليلة وليلة» ِم ْن ْ‬ ‫((( َّ‬
‫والح ْص‪ .‬ورأى‪ ،‬تبع ًا‬
‫َ‬ ‫للعد‬
‫ّ‬ ‫غري قابلة‬
‫َ‬ ‫ليايلَ‬ ‫ة‪،‬‬ ‫النهائي‬
‫ّ‬ ‫ليايلَ‬ ‫ني‬‫َع‬
‫ْ‬ ‫ت‬ ‫ليلة»‬ ‫«ألف‬ ‫صيغة‬ ‫وأن‬
‫ّ‬ ‫ّ»‪،‬‬
‫يئ‬‫«الالنها‬ ‫لكلمة‬
‫النهائية‪ .‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.671.‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ليلة إىل ليالٍ‬ ‫أن صيغة «ألف ليلة وليلة» ت َْعني إضافةَ‬‫لذلك‪ّ ،‬‬

‫‪7‬‬
‫املتحقِّـق بين‬ ‫التسـاؤل عـن القُـرب ُ‬ ‫َ‬ ‫فـرض‬
‫ُ‬ ‫عـ َد أخـرى(((‪ ،‬على نَحـ ٍو يَ‬ ‫بَ ْ‬
‫ـط ُر وتتوالـدُ‪ ،‬مبـا‬ ‫جعـل الحكايـ َة الواحـد َة ت َ ْنشَ ِ‬‫ُ‬ ‫كتـاب يَ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الحكايـات يف‬
‫غه‬ ‫صـ َد امتدا ِد هـذا التّوالُـد وتعـ ُّد ِد ِ‬
‫صيَ ِ‬ ‫تيـح‪ ،‬على ُمسـتوى التأويـل‪َ ،‬ر ْ‬ ‫يُ ُ‬
‫يف التجـا ُور القريـب بين الحكايـات‪ ،‬أي يف الـ ُورود امل ُبـارش لحكايـ ٍة‬
‫سـمح بالحديـث‪ ،‬يف كتـاب «ألف‬ ‫ُ‬ ‫ـل هـذا األ ْمـر هـو ما يَ‬ ‫عـد أخـرى‪ .‬لَ َ‬
‫ع ّ‬ ‫بَ ْ‬
‫ين الحكايـات‪.‬‬ ‫ليلـة وليلـة»‪ ،‬عـن التجـا ُور ال َبعيـد والتّجـا ُور القريـب بَ ْ‬
‫ـح القـراء َة على ُد ُروبهـا الشـبي َه ِة باملتاهات‪ ،‬وعىل‬ ‫كِال التّجا ُو َريْـن يَ ْفتَ ُ‬
‫أسـئل ِتها الخَصيبة‪ ،‬أي أسـئل ِة ال َوشـائج‪ ،‬والتامثالت‪ ،‬والخُيوط الناظم ِة‬
‫شـائج‬
‫ُ‬ ‫سـحيق ِة األصـداء‪ .‬تتقـ ّوى هـذه ال َو‬ ‫ٍ‬
‫عالقـات َ‬ ‫ج قائـمٍ على‬ ‫ل َنسـي ٍ‬
‫أصـدا ِء‬ ‫حفْـر يف ْ‬ ‫ب كُلّما را َه َنـت القـراء ُة على ال َ‬ ‫ع ُ‬ ‫والتامثلاتُ وتتشـ َّ‬
‫جذورهـا الغامضَ ـ ِة وامل ُو ِغلـ ِة‬ ‫أصولهـا ال َبعيـدة‪ ،‬ويف ُ‬ ‫الحكايـات‪ ،‬ويف ُ‬
‫يف ال ِقـدَم‪.‬‬
‫َت‬ ‫شـائج والتامثلاتُ يف بنـا ِء التأويـل وت َ‬
‫ح ّول ْ‬ ‫ُ‬ ‫ـت هـذه ال َو‬ ‫كُلّما تح ّك َم ْ‬
‫صـو َر َة متاهـة‪ .‬ت َغـدُو‬ ‫َت القـرا َء ُة ذات ُهـا ُ‬ ‫يئ‪ ،‬ات ّخـذ ِ‬‫ل قـرا ّ‬ ‫إىل انشـغا ٍ‬
‫القـراءةُ‪ ،‬يف هـذه الحـال‪َ ،‬د ْربـاً ال نهايـ َة لـهُ‪ ،‬وداخلاً بلا خـارج‪ .‬هكـذا‬
‫وكل بنـا ٍء لهـا ‪-‬ألنّ العثـو َر‬‫ـن ال َوشـائج ُّ‬ ‫يَغـدو ك ُُّل ُعثـور على َوشـيج ٍة ِم َ‬
‫ري ُمنفَصلٍ عـن بنائها‪ -‬إيذانـاً بتوال ُِد‬ ‫جة‪ ،‬يف هذا السـياق‪ ،‬غ ُ‬ ‫على ال َوشـي َ‬
‫صيب‬‫ُ‬ ‫ال َوشـائج‪ ،‬أي أنّ َعـ ْد َوى بن َيـ ِة الحكايـات‪ ،‬يف «ألـف ليلـة وليلـة»‪ ،‬يُ‬
‫م يف بنيَ ِتها‪ .‬ال‬ ‫جهة التـي تأخُذها‪ ،‬ويَتحكَّـ ُ‬ ‫ويتـ ُّد إىل الو ْ‬ ‫القـراء َة ذات َهـا‪َ ،‬‬
‫كتـاب «ألف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إنتـاج امل َتاهـات‪ ،‬يف هـذه الحال‪ ،‬شـأناً ُمقتصا ً عىل‬ ‫ُ‬ ‫يَبقـى‬
‫ـن هـذا األ ْمر‬ ‫ِ‬
‫جانـب م ْ‬
‫ٌ‬ ‫بـا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سري يف صيَـغ قرا َءتـه‪ .‬ل ُر ّ‬ ‫ليلـة وليلـة»‪ ،‬بـل يَ ْ‬
‫عـض امل ُنشـغلني بال ِكتـاب يَتحدَّثـون عـن َعـدواه‪ ،‬وعـن‬ ‫َ‬ ‫عـل بَ‬‫ج َ‬‫هـو مـا َ‬

‫كن اإلشارة إىل‬‫ي ُ‬ ‫التجاور القريب بني حكاية وأخرى‪ْ ُ ،‬‬


‫ُ‬ ‫نفتح ِم َن‬
‫يئ الذي َي ُ‬ ‫َلمحٍ ِم ْن َمالمحِ الالنها ّ‬
‫((( للتمثيل مل َ‬
‫العربية لكتاب «ألف ليلة‬ ‫ّ‬ ‫الطبعات‬ ‫من‬ ‫العديد‬ ‫يف‬ ‫كريم‪،‬‬ ‫حاسب‬ ‫حكاية‬ ‫ر‬‫لتجاو‬
‫ُ‬ ‫كيليطو‬ ‫الفتاح‬ ‫قار ِ‬
‫بة عبد‬ ‫ُم َ‬
‫تجاو ٌر نَفَ ى كيليطو‪،‬‬
‫ُ‬ ‫باش ًة َب ْعد حكاية حاسب كريم‪.‬‬
‫وليلة»‪ ،‬مع حكاية السندباد‪ ،‬التي َتر ُِد يف هذه الطبعات ُم َ‬
‫إن االنشغالَ‬
‫ثم‪ّ ،‬‬ ‫الحكايتي‪ .‬ومن ّ‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫قرابة عميقة بني‬ ‫عزاه إىل‬
‫ُ‬ ‫الص ْدفة‪ ،‬إذ‬
‫وليد ُّ‬
‫أن يكون َ‬ ‫ِ‬
‫رشيعة القراءة‪ْ ،‬‬ ‫بناء عىل‬
‫ً‬
‫ف عن ُولوج املتاهات‪ .‬اُنظر‪ :‬عبد الفتاح كيليطو‪،‬‬ ‫من قرابات لن َيخت ِل َ‬ ‫ب عليه ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬
‫ّ‬ ‫يرت‬ ‫وما‬ ‫الحكايات‬ ‫بني‬ ‫بالقُرب‬
‫حملو الحكاية‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1‬ص‪ 56 .‬وما َب ْعدها‪.‬‬ ‫األعامل‪ ،‬الجزء الرابع‪ّ ،‬‬

‫‪8‬‬
‫خُطـو َر ِة قرا َءتِـه‪ ،‬وعـن ِ‬
‫صلَ ِتـ ِه بامل َوت‪.‬‬
‫ُـف عـن تَخْصيـب‬ ‫يئ آخَـ ُر ال يَك ُّ‬
‫إىل جانـب مـا تقـدَّم‪ ،‬مث ّـة َموقـ ٌع قـرا ٌّ‬
‫ن‬ ‫م ك َُّل حكايـ ٍة ِمـ ْ‬ ‫حكُـ ُ‬
‫ّـق األ ْمـ ُر بال َوشـائج التـي ت َ ْ‬
‫التأويـل وإغنائـه‪ .‬يتعل ُ‬
‫ن جهة‪،‬‬ ‫حكايـات «ألـف ليلـة وليلـة» بالحكايـ ِة اإلطـار يف هـذا الكتـاب‪ِ ،‬مـ ْ‬ ‫ِ‬
‫كل‬ ‫ن جهـة أخـرى‪ .‬ذلـك أ ّن ّ‬ ‫ومبَسـار العالقـ ِة بين شـهرزاد وشـهريار‪ِ ،‬مـ ْ‬
‫ل هـذ ِه‬ ‫تفتـح كـوى عديـد ًة لتت ُّبـعِ ِظلا ِ‬ ‫ُ‬ ‫حكايـ ٍة‪ ،‬يف «ألـف ليلـة وليلـة»‪،‬‬
‫حكي وعالماتِـه‪.‬‬ ‫العالقـ ِة يف تفاصيـلِ ال َ‬
‫حـري ُمرشعـ ٌة هـي كذلـك‪ ،‬شـأنُها شـأ ُن باقـي‬ ‫ّ‬ ‫حكايـ ُة سـندباد ال َب‬
‫سـج التامثالت‪،‬‬ ‫حكايـات «ألـف ليلـة وليلة»‪ ،‬على التآويـل امل ُنشَ ـغلة ب َن ْ‬
‫لال‬‫ع يف هـذه الحكايـة أصـدا ُء قدميـةٌ‪ ،‬وت ُـ َرى بين ط ّياتِهـا ِظ ٌ‬ ‫إذ ت ُسـ َم ُ‬
‫ن‬ ‫ـن أصـدا َء بَعيـد ٍة‪ ،‬ومـا يُـ َرى يف تراكيبهـا ِم ْ‬ ‫ع فيهـا ِم ْ‬ ‫سـحيقةٌ‪ .‬مـا يُسـ َم ُ‬ ‫َ‬
‫َطـوي يف الحكايـة‪ ،‬وإِ ْن‬‫ِّ‬ ‫أطيـاف ُمتشـابكة‪ ،‬يُغْـري القـراء َة باسـتجال ِء امل‬ ‫ٍ‬
‫عثـور على الطّ ّيـات‬ ‫حـدودَهُ يف ال ُ‬‫عي لهـذا االسـتجال ِء يَعـي ُ‬ ‫سـ ْ‬
‫كان ك ُُّل َ‬
‫ويف تَ ديدهـا‪.‬‬
‫حـري‪ ،‬ويف حكايـات «ألـف ليلـة‬ ‫ّ‬ ‫َطـوي يف حكايـ ِة سـندباد البَ‬ ‫َّ‬ ‫إ ّن امل‬
‫جـ ٍه عـا ّم‪ُ ،‬ممتـ ٌّد يف أ ْز ِمنـ ٍة ُمو ِغلـ ٍة يف ال ِقـدم‪ ،‬و ُمضْ ِمـ ٌر لتمث ٍ‬
‫ُّالت‬ ‫وليلـة» ب َو ْ‬
‫مات الدّالّ ِة عىل‬‫ِ‬ ‫الس‬
‫ن ِّ‬ ‫ري سـحيقة‪ .‬االمتدا ُد واإلضما ُر ِم َ‬ ‫ن أسـاط َ‬ ‫قادمـ ٍة ِمـ ْ‬
‫جـوه العديـدة‪ ،‬و ُهما معـاً؛ االمتـدا ُد واإلضامر‪،‬‬ ‫ذات ال ُو ُ‬ ‫ال نهائيّـ ِة الكتـاب ِ‬
‫حكايـات الليـايل وتوال ُِدهـا‪ .‬إذا كان تشـابُ ُك‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫يَنضافـان إىل ت َشـابُ ِ‬
‫يئ‪ ،‬الـذي بـه‬ ‫سمان َم ْنحـى أفقيّـاً لل َمل َمـح الالنهـا ِّ‬ ‫الحكايـات وتوالُدُهـا يَ ْر ُ‬
‫َطـوي يف هذه‬‫َّ‬ ‫ـف قرا َءتُـ ُه يف اآلن ذاتـه‪ ،‬فـإ ّن امل‬ ‫ص ُ‬ ‫الكتـاب‪ ،‬وبـه تَتَّ ِ‬
‫ُ‬ ‫ـف‬ ‫ص ُ‬ ‫يَتَّ ِ‬
‫جـه امل ُرتبـط‬ ‫ج َه ْيـه؛ ال َو ْ‬ ‫م َم ْنحـى َعموديّـاً لهـذا امل َل َمـح ب َو ْ‬ ‫سـ ُ‬ ‫الحكايـات يَ ْر ُ‬
‫سـلك قرا َءتِـه‪ .‬إ ّن تضافُـ َر‬ ‫جـه امل ُقترن مبَ ْ‬ ‫حكي يف ال ِكتـاب‪ ،‬وال َو ْ‬ ‫بب ْنيَـ ِة ال َ‬
‫صـو َر َة امل َتاهـة‪َ ،‬مازجـاً‬ ‫ـف ُ‬ ‫يئ‪ ،‬ويُضا ِع ُ‬ ‫يئ القـرا َّ‬ ‫ـف الالنهـا َّ‬ ‫ين يُضا ِع ُ‬ ‫ح َي ْ‬‫امل َ ْن َ‬
‫مـودي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ع‬
‫فقـي بالغَـ ْور ال َ‬ ‫فيهـا االمتـدا َد األُ َّ‬

‫‪9‬‬
‫‪ .2‬التسمية مبا هي تحديد لل ُهويّة‬
‫حـري‬
‫ّ‬ ‫التمثيـل لألصـداء امل ُض َمـ َرة يف حكايـ ِة سـندباد ال َب‬ ‫ُ‬ ‫ن‬
‫يكـ ُ‬ ‫ُْ‬
‫السـفرات التي قا َمـت عليها هـذه الحكاية‪ .‬وهو‬ ‫عـ َد ِد ّ‬ ‫بالحمولـة الدالل ّيـة ل َ‬
‫عـض دارسـيها‪ .‬ليس عبثـاً أ ْن يكو َن عد ُد سـفرات‬ ‫ُ‬ ‫سـبق أ ْن تن َّبـ َه إليـه بَ‬ ‫َ‬ ‫أ ْمـ ٌر‬
‫هـات مفتوح ًة على التآويل‪.‬‬ ‫ج ٍ‬ ‫حـري سـ ْبعاً‪ ،‬بـل إ ّن للعـدد ُم َو ِّ‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد ال َب‬
‫ـق‬ ‫أدق التفاصيـل‪ ،‬بـل تنطلِ ُ‬ ‫بالصدفـة حتـى يف ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫فرشيعـ ُة القـراءة ال ت ُقـ ُّر‬
‫ظائـف ويَنطـوي‬ ‫َ‬ ‫كل تفصيـل يف الكتـاب‪َ ،‬م ْهما ضَ ـ ُؤ َل‪ ،‬يَضطلـ ُع ب َو‬ ‫ن أ ّن َّ‬ ‫ِمـ ْ‬
‫ج َهـ ٍة الختيـار العـدد «سـبعة» ‪،‬‬
‫(((‬
‫افتراض مقصديّـة ُم َو ِّ‬ ‫َ‬ ‫على أبعـاد‪ .‬إ ّن‬
‫جعـل‬‫ُ‬ ‫سـحيقٍ ُمتحكّـمٍ يف هـذا االختيـار‪ ،‬يَ‬ ‫معـي َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ـي َج‬ ‫افتراض ال َو ْع ٍ‬ ‫َ‬ ‫أو‬
‫العـد َد ُمنطَلَقـاً تأويل ّيـاً وعالمـ ًة ُمض ِمر ًة لِمعـانٍ َرهين ٍة مبـا ت ُ َولِّـدُهُ القراءةُ‪،‬‬
‫يتداخـل فيهـا‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بـدالالت‬ ‫ثقـل‬
‫خـاص‪ُ ،‬م ٌ‬ ‫ّ‬ ‫جـ ٍه‬
‫عـدد‪ ،‬ب َو ْ‬ ‫خُصوصـاً أ ّن هـذا ال َ‬
‫عبر ال ّزمـن‪،‬‬ ‫َّـت ت َن ُمـو ْ َ‬ ‫ُّلات أسـطوريّ ٍة ظل ْ‬ ‫ـل بتمث ٍ‬ ‫ُـديس‪ ،‬و ُمح َّم ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ّينـي بالق‬ ‫الد ُّ‬
‫كتـاب‬ ‫ٍ‬ ‫تحـت‬
‫َ‬ ‫ط بحكايـ ٍة ُم ْنضَ ويـ ٍة‬ ‫عـد َد يَرتبـ ُ‬ ‫ُصوصـاً أيْضـاً أ ّن هـذا ال َ‬ ‫وخ ُ‬
‫يئ؛ إنّـ ُه عـد ُد «األ لْـف»‪،‬‬ ‫صلـ ٍة بالالنهـا ّ‬ ‫ن ُعنوانُـ ُه العـا ُّم على َعـد ٍد ذي ِ‬ ‫را َهـ َ‬
‫عنوا ُن‬ ‫فتح على بدايـ ٍة ال نهايَ َة لهـا‪ .‬فهـذا ال ُ‬ ‫انضـاف إليـه َعـ َد ٌد آخَـ ُر يَ ُ‬ ‫َ‬ ‫وقـد‬
‫ِ ِ (((‬
‫م يف بنيـ ِة الكتـاب‪ ،‬ويُ َولِّدُ‪ ،‬حسـب بورخيـس‪ ،‬ال ّرغبـ َة يف قرا َءته ‪،‬‬ ‫يَتحكَّـ ُ‬
‫ن َعتبته‪،‬‬ ‫عدد وح َيويّتَـ ُه يف تأويل الكتاب بَ ِّي َنتـان ِم ْ‬ ‫ـف أ ّن أه ّميـة ال َ‬ ‫يكش ُ‬ ‫مبـا ِ‬
‫ن ُعنوانـه‪.‬‬ ‫أي ِمـ ْ‬
‫ـي االفتراض السـابق ويُعضِّ ُد ُهما هـو التنبُّـ ُه إىل‬ ‫ج َه ْ‬
‫إنّ مـا يُقـ ّوي َو ْ‬
‫ِ‬
‫َحديـد‬ ‫ِ‬
‫قتصر ُورودُهُ على ت‬ ‫عـدَد «سـبعة» يف الحكايـة‪ ،‬إذ ملْ يَ‬ ‫تكـرار ال َ‬
‫تن الحكاية‪ .‬فقـ ْد َور َد‬ ‫حضـو ُرهُ إىل َم ْ‬‫َعـ َد ِد سـفرات السـندباد‪ ،‬بـل امت ّد ُ‬
‫حري‬
‫ّ‬ ‫ّص السـندبا ُد البَ‬‫السـفرة الرابعة عندما تخل َ‬ ‫هذا العد ُد يف حكاي ِة ّ‬

‫ُؤرخني بكتابتها‪.‬‬‫يأمر امل ّ‬ ‫حكاي َتها للخليفة هارون الرشيد الذي ُ‬ ‫َ‬ ‫السندباد‬
‫ُ‬ ‫السفرة السادسة‪َ ،‬يروي‬ ‫((( يف نهاية ّ‬
‫كون حكاية السندباد‬ ‫ْ‬ ‫إىل‬ ‫فرة‪،‬‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫د‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ع‬ ‫ب‬
‫ُ َ ْ‬ ‫الكتابة‪،‬‬ ‫إىل‬ ‫اللجوء‬
‫َ‬ ‫هذا‬ ‫ون‬ ‫ز‬
‫ُ‬ ‫ع‬‫َ ْ‬‫ي‬ ‫الباحثني‬ ‫بعض‬
‫َ‬ ‫وهو ما جعلَ‬
‫العدد «سبعة» َبدا خليق ًا ْ‬
‫بأن َي َن َحها نهايةً ُم ْرضية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الس ْح َر الذي ينطوي عليه‬
‫أن ِّ‬ ‫تتضم ُن ست أسفار فقط‪ ،‬غري ّ‬
‫ّ‬
‫حملو‬‫لدالالت حمول ِته‪ .‬اُنظر‪ :‬عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬األعامل‪ ،‬الجزء الرابع‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ض االستجابةَ‬ ‫فر َ‬
‫العدد َ‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫كام لو ّ‬
‫الحكاية‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪.62 .‬‬
‫‪(2) Jorge Luis Borges, Œuvres completes, II, op. cit., p. 674.‬‬

‫‪10‬‬
‫تقـول الحكاية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ـن السـودان الذيـن يَأكُلـون البَشر‪ ،‬حيث َمكـثَ ‪ ،‬كام‬ ‫ِم َ‬
‫حشـد الـذي‬ ‫هتـدي إىل ال َ‬ ‫َ‬ ‫«سـبعة أيّـام بلياليهـا» يف الجزيـرة‪ ،‬قبْـل أنْ يَ‬
‫«سـبعة»‪ ،‬يف حكاي ِة‬ ‫ع الفلفـل‪ .‬إىل جانـب ذلك‪ُ ،‬ذكِـ َر العد ُد َ‬ ‫كان يَجمـ ُ‬
‫جـل‬ ‫ـت يف زا ِد ال ّر ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫ض َ‬‫السـفرة الرابعـة ذاتِهـا‪ُ ،‬مقرتنـاً باأل ْر ِغفـة التـي ُو ِ‬ ‫ّ‬
‫ـب رفقـة زَوجتـه مل َّـا فا َرقَـت الحيـاة‪ .‬وتكـ ّر َر‬ ‫ُ ِّ‬‫ج‬ ‫ال‬ ‫يف‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ح‬
‫َ ّ‬ ‫ـن‬ ‫ِ‬
‫ف‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫الـذي‬
‫ـب حيّـاً‬ ‫ج ِّ‬‫حـري هـو أيضـاً إىل ال ُ‬ ‫ّ‬ ‫العـد ُد كذلـك أثنـاء إنـزال السـندباد البَ‬
‫ين يف حالةِ‬ ‫ج ْ‬ ‫فـق عاد ِة قَـومٍ ال يُف ِّرقون بين ال ّز ْو َ‬ ‫ّيـت زَوجتُـهُ‪َ ،‬و َ‬ ‫مل َّـا ت ُوف ْ‬
‫ـن ذلـك‪ ،‬الب ّد‬ ‫عـد ِم ْ‬ ‫الحـي إىل جـوار امليـت‪ .‬أبْ َ‬ ‫ُّ‬ ‫ح ِدهما‪ ،‬إذ يُ ْدف ُ‬
‫َـن‬ ‫وفـا ِة أ َ‬
‫ـن االنتبـاه‪ ،‬يف هـذا السـياق‪ ،‬إىل أنّ األبيـاتَ الشـعريّ َة التـي تص ّد َرت‬ ‫ِم َ‬
‫ـت‬‫ج َه ْ‬ ‫ـن إطارهـا العـا ّم و َو ّ‬ ‫جـزءا ً ِم ْ‬ ‫حـري وشـكّلت ُ‬ ‫ّ‬ ‫حكايـ َة سـندباد ال َب‬
‫السـبع ُة كانـت حاسـ َم ًة‬ ‫َّ‬ ‫سـ ْبعة‪ .‬فاألبيـاتُ‬ ‫َمسـا َر َمعناهـا‪ ،‬كان عددُهـا َ‬
‫سـيَأيت‬ ‫سـبْع سـفرات‪ ،‬كام َ‬ ‫سـبْع ِة أيّـام‪ ،‬عن َ‬ ‫حكي‪ ،‬مل ُـ ّد ِة َ‬ ‫يف انطلاقِ ال َ‬
‫بيـانُ ذلك‪.‬‬
‫ـعاب َعديد ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫ش‬ ‫خـارج حكايـ ِة السـندباد‪ِ ،‬‬ ‫َ‬ ‫عـدَد «سـبعة»‪،‬‬ ‫لِحمولـ ِة ال َ‬
‫كـن أنْ نَسـتثم َر ِم ْنهـا‬ ‫ي ُ‬ ‫ُـديس‪ْ ُ .‬‬
‫ّ‬ ‫بالدينـي وبالق‬ ‫ِّ‬ ‫األسـطوري‬
‫ُّ‬ ‫تداخـل فيهـا‬
‫ُ‬ ‫يَ‬
‫حـري‪ ،‬عالق َة‬ ‫ّ‬ ‫ح به حكاي ُة سـندباد البَ‬ ‫ُـص‪َ ،‬وفق ما تسـ َم ُ‬ ‫عباً واحـدا ً يَخ ُّ‬ ‫شـ ْ‬‫ِ‬
‫وبتحديـد ال ُهويّـة‪ ،‬خُصوصـاً أنّ‬ ‫ِ‬ ‫الشـخيص‪،‬‬
‫ّ‬ ‫باالسـم‬‫ْ‬ ‫العـدد «سـبعة»‬
‫َسري ُمضْ َمـ َر ًة يف‬‫َ‬ ‫صيحـ ٍة ق ْبـل أنْ ت‬ ‫ـل‪ ،‬بصـور ٍة َ‬ ‫َموضوعـة «االسـم» ت ُِط ُّ‬
‫م بني‬ ‫حكي‪ُ ،‬منـذ بدايـ ِة الحكاية‪ ،‬أي ُمنـذ لحظ ِة التعا ُرف الـذي ت َّ‬ ‫ثنايـا ال َ‬
‫الحمل‪ .‬مـا العالقـة‪ ،‬إذا ً‪ ،‬امل ُحت َملة بني‬ ‫ّ‬ ‫حـري والسـندباد‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد ال َب‬
‫حـري؟ لقد اقرتنَ هذا العـددُ‪ُ ،‬منذ أ ْز ِمن ٍة‬ ‫ّ‬ ‫واسـمِ السـندباد البَ‬ ‫هذا العدَد ْ‬
‫َسـ ِميَ َة امل َولود‪،‬‬ ‫َسـبق ت ْ‬
‫ُ‬ ‫جسـ َد عد َد األيّام التي ت‬ ‫سـحيقة‪ ،‬بالتّسـ ِميَة‪ ،‬إذ َّ‬ ‫َ‬
‫اإلسلامي‪ .‬سـبع ُة أيّام‬ ‫ّ‬ ‫كما هـي الحـال يف العقيقـة َوفق منظـور الدين‬
‫َسـ ِم َيتُ ُه يف ال َيـوم السـابع كما لـو‬ ‫اسـم‪ ،‬فتكـونُ ت ْ‬ ‫يكـونُ فيهـا الفـر ُد بلا ْ‬
‫حري‬‫ّ‬ ‫يل ل ُهويّتـه‪ .‬أيَنطوي‪ ،‬إذا ً‪َ ،‬ع َد ُد سـفرات السـندباد ال َب‬ ‫أنّهـا تحديـ ٌد أ ّو ٌّ‬
‫االسـم‪ ،‬وتحديـدا ً‬ ‫ْ‬ ‫السـمه‪ ،‬وكشْ ـفاً لداللـ ِة‬ ‫على مـا يَجعلُهـا ت َسـويغاً ْ‬
‫لِل ُهو يّة؟‬

‫‪11‬‬
‫تعين االنتبـاه‪ ،‬أثنـاء التفكير يف هـذا السـؤال‪ ،‬إىل َموضوعـ ِة‬ ‫َّ ُ‬ ‫بـا يَ‬ ‫ل ُر َّ‬
‫«البـاب» حيّـزا ً دالليّـاً ها ّمـاً يف‬ ‫ُ‬ ‫شـغل‬
‫َ‬ ‫«البـاب» يف بدايـة الحكايـة‪ .‬لقـد‬ ‫ِ‬
‫بر‪ ،‬الذي‬ ‫َين؛ عامل ال ّ‬ ‫َصـل بني عامل ْ‬ ‫اإلطـار العـا ّم لحكايـة السـندباد‪ ،‬إذ ف َ‬
‫والعجائبـي‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫الحمال‪ ،‬وعـامل البَحـر والغرابـة‬ ‫ّ‬ ‫عـاش السـندبا ُد‬ ‫َ‬ ‫فيـه‬
‫لباب الدار‪ ،‬التي‬ ‫ِ‬ ‫الحمال‬
‫ّ‬ ‫حري‪ .‬اجتياز السـندباد‬ ‫ّ‬ ‫عيش السـندبا ُد البَ‬ ‫ُ‬ ‫فيـه يَ‬
‫صاحـب الدار‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫حـري‪ ،‬اقتر َن بدَعـو ٍة تلقّاهـا ِمـ ْ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ن السـندباد البَ‬ ‫فيهـا يَقطـ ُ‬
‫ُؤانسـة والرتحيـب واإلطعام‪ ،‬قبْـل أن ت ُثا َر‬ ‫واقترنَ‪ ،‬أساسـاً‪ ،‬بالتقريب وامل َ‬
‫ُوس‬ ‫االسـم‪ ،‬وبطق ِ‬ ‫ٍ‬
‫ّـق باحتفاء بدالل ِة ْ‬ ‫االسـم‪ ،‬كما لـ ْو أ ّن األم َر يَتعل ُ‬ ‫َمسـأل ُة ْ‬
‫َرحيب‬‫ٌ‬ ‫سـ ِميَ َة دَعو ٌة و ُمؤانسـ ٌة وت‬ ‫ف هـذه الدّاللـة‪ .‬أ ْن تتق َّد َم التّ ْ‬ ‫التهيُّـؤ لتعـ ُّر ِ‬
‫ن َمعنـى‪ ،‬أ ّن الضياف َة تَهيي ٌء السـتيعاب‬ ‫ما يَحت ِملُـ ُه ِم ْ‬ ‫ع َنـا ُه‪ِ ،‬م ّ‬ ‫وإطعـا ٌم‪َ ،‬م ْ‬
‫ن َز َمنٍ تحـ َّددَ‪ ،‬يف الحكاية‪،‬‬ ‫االسـتيعاب ِمـ ْ‬
‫ُ‬ ‫االسـم‪ ،‬ولِما يَتطلّبُ ُه هذا‬ ‫داللـ ِة ْ‬
‫ـت‬ ‫حضـور إىل بَيْ ِ‬ ‫دأب على ال ُ‬ ‫الحمال َ‬ ‫ّ‬ ‫سـبْع ِة أيّـام‪ .‬ذلـك أ ّن السـندباد‬ ‫يف َ‬
‫حـري‪ ،‬مل ُـ ّد ِة سـبعة أيّـامٍ ُمتتاليـة‪ ،‬يك يَتعـ َّر َف َمـن ُهـو هـذا‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد البَ‬
‫السـبعة‬ ‫ن األيّـام َّ‬ ‫كل يَـوم‪ِ ،‬مـ َ‬ ‫اسـ َمه و ُهويَّتَـه‪ .‬كا َن ُّ‬ ‫األخير‪ ،‬أي أ ْن يتعـ َّر َف ْ‬
‫ن‬ ‫لجانـب ِمـ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫الحمال بالبَيـت‪ ،‬يُشـك ُّل إضـاء ًة‬ ‫ّ‬ ‫ـل فيهـا السـندبا ُد‬ ‫ح َّ‬ ‫التـي َ‬
‫كل‬ ‫م يف ّ‬ ‫حيكُ‪ ،‬الذي كان يت ُّ‬ ‫أتاح ال َ‬ ‫حري‪ ،‬إذ َ‬ ‫ّ‬ ‫جوانب شـخصيّ ِة السـندباد البَ‬ ‫َ‬
‫حري‬‫ّ‬ ‫ن سـفرات السـندباد ال َب‬ ‫السـبعة‪ ،‬اسـتجال َء سـفر ٍة ِم ْ‬ ‫ن األيّـامِ َّ‬ ‫يَـ ْومٍ ِمـ َ‬
‫ج َوانب هذه‬ ‫ل ال َيوم السـابع‪ ،‬اسـتجال ُء ُمختلـف َ‬ ‫حلو ِ‬ ‫م‪ ،‬ب ُ‬ ‫السـبع‪ ،‬إىل أ ْن تـ َّ‬
‫ـف‪،‬‬ ‫حري يتكشَّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫اسـمِ السـندباد ال َب‬ ‫جـز ٌء ِمن ْ‬ ‫كل يَـوم‪ ،‬كان ُ‬ ‫الشـخص ّية‪ .‬يف ِّ‬
‫ت حكاي ُة‬ ‫السـبعة‪ .‬وبانتهائها‪ ،‬انت َه ْ‬ ‫سـ ِم َي ُة بانتهاء األيّام َّ‬ ‫إىل أن اكت َملَت التّ ْ‬
‫السـبع‪ ،‬مبَعنـى‬ ‫السـفراتُ َّ‬ ‫جـ ٍه عـا ّم‪ .‬أال تُـوازي‪ ،‬إذا ً‪ّ ،‬‬ ‫حـري ب َو ْ‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد ال َب‬
‫االسـم عىل الفَـرد؟ أملْ تكُن ضياف ُة‬ ‫إطالق ْ‬ ‫َ‬ ‫السـبعة التي تتق َّد ُم‬ ‫مـا‪ ،‬األيّـا َم َّ‬
‫وعب دالل َة‬ ‫َ‬ ‫حـري إيذانـاً للأ ّول بـأ ْن يتعـ َّر َف الثاين‪ ،‬وبـأ ْن يَسـتَ‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد ال َب‬
‫سـبع ِة‬ ‫ّـت روايـ ُة أحداثهـا يف َ‬ ‫السـ ْبع‪ ،‬التـي مت ْ‬ ‫السـفراتُ َّ‬ ‫اسـ ِمه؟ أملْ تكُـن ّ‬ ‫ْ‬
‫ل االحتفـا ِء بالتّسـمية‪ ،‬انطالقاً ِمن اسـتجال ِء ُهويّة‬ ‫أيّـام‪ ،‬تنطـوي على ِظال ِ‬
‫حري؟‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد ال َب‬
‫ج حكايـ ِة‬
‫ن خـار ِ‬ ‫ْس ِمـ ْ‬ ‫حـد ٍ‬ ‫تحصلـ ًة عـن َ‬
‫ّ‬ ‫سـت األسـئل ُة السـابق ُة ُم‬ ‫ليْ َ‬
‫ن داخـل‬ ‫ِ‬
‫حـري‪ .‬إنّهـا‪ ،‬على العكـس‪ ،‬أسـئل ٌة ُمت َولِّـد ٌة مـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد البَ‬

‫‪12‬‬
‫جزءا ً‬ ‫سـ ِميَة ُ‬ ‫الحكايـة‪ ،‬وتحديـدا ً ِمـن بدايَ ِتهـا‪ ،‬التي تُشـك ُّل فيها مسـأل ُة التّ ْ‬
‫الحمل‬ ‫ّ‬ ‫حيـب السـندباد البَحـري بالسـندباد‬ ‫ِ‬ ‫عـد تَ ْر‬ ‫ن التأطير العـا ّم‪ .‬فبَ ْ‬ ‫ِمـ َ‬
‫اسـ ُمك؟‬ ‫بـاشة قائلاً‪« :‬فما يكو ُن ْ‬ ‫بصـو َر ٍة ُم ِ َ‬ ‫سـأل األ ّو ُل الثـاين ُ‬ ‫َ‬ ‫وإطْعا ِمـه‪،‬‬
‫الحمل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الصنائـع؟ فقال لهُ‪ :‬يا سـيّدي‪ ،‬اسـمي السـندباد‬ ‫ن ّ‬ ‫ومـا ت ُعـاين ِمـ َ‬
‫صاحـب املـكان‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫فتبسـ َ‬
‫َّ‬ ‫أسـباب النـاس باألجـرة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫مـل على رأيس‬ ‫ح ُ‬ ‫وأنـا أ ْ‬
‫حري»‪.‬‬‫ّ‬ ‫حمل أ ّن اسـ َم َك ِمثل اسـمي‪ ،‬فأنا السـندبا ُد البَ‬ ‫ِ‬
‫وقـال لـهُ‪ :‬اعلم يـا ّ‬
‫جوابَـهُ‪ ،‬يف هذا الشـاهد‪َ ،‬مصوغـان بتَ ْوجي ٍه‬ ‫حـري و َ‬
‫ّ‬ ‫ـؤال السـندباد البَ‬ ‫س َ‬ ‫إ ّن ُ‬
‫ي‬ ‫رب ّ‬
‫السـبْعة التـي أنشـدَها السـندبا ُد ال ّ‬ ‫ن امل َعنـى امل ُض َمـر يف األبيـات َّ‬ ‫ِمـ َ‬
‫عندمـا تجـا َو َز املصطبـة إىل البـاب‪ ،‬ومنـ ُه إىل داخـل منـزل السـندباد‬
‫حري قري َنـ ُه عن نَ ْوع ُمعاناته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سـؤال السـندباد البَ‬ ‫ن ُ‬ ‫ي ِم ْ‬‫حـري‪ .‬ت َ ْوجي ٌه بَ ِّ ٌ‬
‫ّ‬ ‫البَ‬
‫ين ضَ يفـه‪ .‬إنّهـا امل ُامثلـ ُة التـي‬ ‫ن إقـراره بامل ُامثلـ ِة بَيْ َنـ ُه وبَ ْ َ‬ ‫ين أيضـاً ِمـ ْ‬ ‫وبَ ّ ٌ‬
‫كل أطوارهـا‪ ،‬على إبـراز االختلاف‬ ‫حـري‪ ،‬يف ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َـت حكايـ ُة السـندباد البَ‬ ‫ع ِمل ْ‬
‫السـبْع‪ ،‬كان‬ ‫السـفرات َّ‬ ‫الـذي يَبنيهـا‪ ،‬كما لـو أ ّن نُ ُـ َّو املعنـى‪ ،‬يف حكايـ ِة ّ‬
‫َمحكومـاً ‪-‬أساسـاً‪ -‬بالكشْ ـف عـن االختلاف البـاين لل ُمامثلـة‪.‬‬
‫سـت‬ ‫االسـم‪ ،‬إذا ً‪ ،‬على االختلاف‪ .‬فامل ُامثلـ ُة ل ْي َ‬ ‫ْ‬ ‫تنطَـوي امل ُامثلـ ُة يف‬
‫بصفَـ ٍة تُبرزُ‪،‬‬ ‫تي ِ‬ ‫ن الشـخص ّي ْ‬ ‫كل شـخص ّي ٍة ِمـ َ‬ ‫م‪ ،‬احتفظَـت ُّ‬ ‫تطابُقـاً‪ .‬مـن ث َـ َّ‬
‫الصفـة‪ ،‬انطالقـاً ِم ّ‬
‫ما‬ ‫حـ َّددَ‪َ ،‬وفـق هـذه ِّ‬ ‫االختلاف الـذي ت َ َ‬ ‫َ‬ ‫اسـ ِمها‪ ،‬هـذا‬ ‫يف ْ‬
‫تر ٌك‬‫تي ُمش َ‬ ‫اسـمِ الشـخص ّي ْ‬ ‫ـق األ ّو ُل ِمن ْ‬ ‫ـل املـا َء عـن اليابسـة‪ .‬الشِّ ٌّ‬ ‫يَ ِ‬
‫فص ُ‬
‫َ‬
‫االختلاف‬ ‫ن‬‫ـف‪ .‬لكـ ّ‬ ‫الصفَـةُ‪ ،‬ف ُمختلِ ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫سـدُهُ‬ ‫ج ِّ‬ ‫بين ُهما‪ ،‬أ ّمـا الثـاين‪ ،‬الـذي ت ُ َ‬
‫ك ذاتِـ ِه‪ ،‬إ ْذ كان‬ ‫تر ِ‬‫الصفـ ِة‪ ،‬حتّـى يف امل ُش َ‬ ‫ن ِّ‬ ‫ح ِمـ َ‬ ‫واضـ ٍ‬‫ِ‬ ‫سري‪ ،‬بتأثير‬ ‫يَ ْ‬
‫ترك ُمختلِفـاً‬ ‫عـل هـذا امل ُش َ‬ ‫ج ْ‬‫ئيـس يف َ‬ ‫لالسـم دَو ٌر َر ٌ‬ ‫ْ‬ ‫للصفـ ِة امل ُشـكِّل ِة‬ ‫ِّ‬
‫السـبع تأكيـدَهُ ‪ .‬لقد‬ ‫ّ‬ ‫ـفرات‬ ‫الس‬
‫ّ‬ ‫ة‬‫ُ‬ ‫حكايـ‬ ‫م‬ ‫ُ ُ‬‫و‬ ‫ر‬ ‫َـ‬ ‫ت‬ ‫مـا‬ ‫هـذا‬ ‫ـل‬
‫ّ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْسـه‪.‬‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫اآلن‬ ‫يف‬
‫املشـاق واألهـوال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫م على تح ُّمـل‬ ‫جيل امل ُشترَك القائـ َ‬ ‫َسـت ْ‬ ‫كانـت‪ ،‬وهـي ت ْ‬
‫بر‪،‬‬ ‫َختلـف فيـه أهـوال املـاء عـن أهـوال ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت ُبرزُ‪ ،‬يف ال َوقـت ذاتـه‪ ،‬مـا ت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اسـم السـندباد‪ ،‬عالمـة فارقـة بني‬ ‫حـري»‪ ،‬يف ْ‬ ‫ّ‬ ‫صفَـ َة «البَ‬ ‫عـل ِ‬ ‫ج َ‬ ‫حـ ٍو َ‬ ‫على نَ ْ‬
‫الصفـةُ‪ُ ،‬مت َوقِّفـاً على‬ ‫َـت بـه هـذه ّ‬ ‫م‪ ،‬الـذي اقرتَن ْ‬ ‫الشـخصيّتني‪ .‬كان االسـ ُ‬
‫ـف تدريجيّاً‬ ‫ي‪ ،‬وهي تتكشّ ُ‬ ‫رب َّ‬
‫ـت السـندبا َد ال ّ‬ ‫ْس ْ‬ ‫دالل ِتهـا‪ .‬إنّهـا الداللة التي أن َ‬
‫حيك‪،‬‬ ‫ت لل َ‬ ‫نص ُ‬ ‫ي‪ ،‬وهو يُ ِ‬ ‫حيك‪ ،‬مشـاقّ ُه و ُمعاناته‪ .‬كان السـندباد ال ّ‬
‫رب ّ‬ ‫عب ال َ‬ ‫َْ‬

‫‪13‬‬
‫م السـندباد انطالقـاً‬ ‫الصفـة‪ ،‬أي يتعـ َّر ُف اسـ َ‬ ‫ن هـذه ّ‬ ‫جوانـب ِمـ ْ‬
‫َ‬ ‫يتعـ َّر ُف‬
‫منهـا‪ ،‬ويتعـ َّر ُف اختالف ُهما‪ ،‬يف اآلن ذاتـه‪ ،‬بنـا ًء عليهـا‪ .‬كانـت الحكايـة‪،‬‬
‫ـف عـن األهـوال والشـدائد وامل َصائـب‪ ،‬التـي كابَدَها السـندبا ُد‬ ‫وهـي تَك ِ‬
‫ْش ُ‬
‫ي و ُمعاناتـه‪ ،‬وتَنتـز ُع‬ ‫بر ّ‬ ‫مشـاق السـندباد ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫خ‬
‫َنسـ ُ‬
‫حـري‪ ،‬كما لـو أنّهـا ت َ‬ ‫ّ‬ ‫البَ‬
‫عبت‬ ‫ح ْملـه الذي ّ َ‬ ‫ـف هشاشـ َة ِ‬ ‫ِ‬
‫وتكش ُ‬ ‫ي من دَهشـ ِت ِه وتقديره‪،‬‬ ‫اعرتافَـ ُه ال َب ِّ َ‬
‫َـول‬‫كح ْملي»‪ .‬ق ٌ‬ ‫ـل الدّهـ ُر يَ ْومـاً ِ‬ ‫عنـ ُه األبيـاتُ الشـعريّة بالقـول‪« :‬ومـا ح َم َ‬
‫لص َف ِة‬ ‫السـفرة األوىل‪ .‬كأ ّن املـا َء الباين ِ‬ ‫أخـ َذ يَفقـ ُد مصداقيّتَ ُه ُمنذ حكاي ِة ّ‬
‫ي‪،‬‬ ‫رب ّ‬ ‫ـل السـندباد ال ّ‬ ‫ح ْم َ‬ ‫عها ِ‬ ‫جـ َر َف َم َ‬ ‫«الحمال»‪ ،‬و َ‬
‫ّ‬ ‫صفَـ َة‬‫جـ َر َف ِ‬ ‫حـري» َ‬
‫ّ‬ ‫«ال َب‬
‫تهويـل أضْ َم َرتْ ُه‬
‫ٌ‬ ‫ـل الذي كان صاح ُبـ ُه يُه ِّو ُل منهُ‪.‬‬ ‫خ ّف ِة هذا ِ‬
‫الح ْم َ‬ ‫وأبـا َن عـن ِ‬
‫ن‬ ‫حـري‪ ،‬حتـى لَيُ ْم ِك ُ‬
‫ّ‬ ‫السـبعة التـي أنشـدَها عىل باب السـندباد البَ‬ ‫األبيـاتُ َّ‬
‫خ للظنـون التـي تضَ ّم َنتْهـا األبيـاتُ‬ ‫َسـ ٌ‬
‫السـ ْب ُع بأنّهـا ن ْ‬
‫َّ‬ ‫أ ْن ت ُقـرأ الحكايـاتُ‬
‫حـ ُه يف حينـه‪.‬‬ ‫سـيأيت تَوضي ُ‬ ‫السـبعة‪ ،‬وهـو مـا َ‬ ‫ّ‬
‫السـبع‪،‬‬ ‫السـفرات َّ‬ ‫السـبعة‪ ،‬التي اسـتغ َرقَتْها رواي ُة حكايات ّ‬ ‫إ ّن األيّـام َّ‬
‫م‬ ‫السـبعة‪ ،‬يَكـو ُن اسـ ُ‬‫عـد انتهـا ِء األيّـام ّ‬ ‫سـمية‪ .‬فبَ ْ‬ ‫شـبيه ٌة بالتهيّـؤ للتَّ ْ‬
‫ـف‪ ،‬ويكـو ُن قري ُنـه وامل ُنصتـون للحكايـات قـد‬ ‫حـري قـد تكشَّ َ‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد البَ‬
‫االسـم ُمرادفـ ٌة لل ُمغا َمـرة‪ ،‬ولإلقامـ ِة على‬ ‫حـري» يف ْ‬ ‫ّ‬ ‫صفَـ َة «ال َب‬ ‫أ ْد َركـوا أ ّن ِ‬
‫حـري‪ ،‬أل ّن ُهويّتَـ ُه قامئـ ٌة على‬
‫ّ‬ ‫حـدُود الخَطـر‪ .‬لقـد تسـ َّمى السـندبا ُد بالبَ‬ ‫ُ‬
‫عـرف االسـتقرار‪ ،‬قامئـ ٌة على امل ُغا َمـرة يف أقايص البحـار‪ ،‬وعىل‬ ‫ُ‬ ‫مـا ٍء ال يَ‬
‫ـفرات السـبع تُسـ ِّمي السـندبا َد‬‫ِ‬ ‫امل ُخاطرة يف حدِّها األقىص‪ .‬فحكاي ُة ّ‬
‫الس‬
‫تعين االنتباه إليـه هو أ ّن الحكاي َة تُشـ ِّددُ‪ ،‬يف‬‫َّ ُ‬ ‫ـل ما يَ‬ ‫ع ّ‬ ‫جيل ُهويّتَـهُ‪ .‬لَ َ‬ ‫َسـتَ ْ‬‫وت ْ‬
‫تحديد هذه ال ُهويّة‪ ،‬إذ كان الفتاً أ ّن ظُهو َر‬‫ِ‬ ‫سـياق التسـميَة‪ ،‬عىل الف ِ‬
‫َقد يف‬
‫والسـفرة الثالثـة‪ ،‬اقتر َن‬ ‫ّ‬ ‫السـفرة الثانيـة‬ ‫تـي ّ‬ ‫االسـم‪ ،‬يف حكايَ ْ‬ ‫َموضوعـ ِة ْ‬
‫ـل السـندبا ُد على اسـتعاد ِة ملكيّتهـا بروايـ ِة حكايـ ٍة‬ ‫ببضاعـ ٍة َمفقـو َد ٍة َع ِم َ‬
‫ظـل‬‫السـفرات‪ ،‬يَ ُّ‬ ‫ُثبـت نِسـب َة امل َفقـود إليـه‪ .‬إ ّن مـا يُسـتعادُ‪ ،‬يف أغلـب ّ‬ ‫ت ُ‬
‫ِّدات‬‫ن ُمحـد ِ‬ ‫َموشـوماً بتَجربـ ٍة َمشـدود ٍة إىل الفَقـد والتيـه‪ ،‬باعتبارهما ِمـ ْ‬
‫حـري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُهويّـ ِة السـندباد البَ‬

‫‪14‬‬
‫‪ .3‬هُويّ ُة االمتالك بالتيه وال َفقْد‬
‫ـل هـذا‬ ‫ص ُ‬ ‫السـفر مبـا يَ ِ‬ ‫حـري أ ّو َل مـ ّرة يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ر السـندباد ال َب‬ ‫ظ تفكي ُ‬ ‫يَحتفـ ُ‬
‫بصـ َو ٍر‬‫َسري تجلّيـاتُ هـذا ال َفقْـد‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫مبوضوعـ ِة ال َفقْـد‪ ،‬ق ْبـل أ ْن ت‬ ‫ر َ‬ ‫التفكي َ‬
‫السـ ْبع‪ .‬أ ّما التّيـه‪ ،‬فيكا ُد‬ ‫السـفرات َّ‬ ‫أخـرى‪ ،‬يف ال َوقائـع التـي شـه َدتْها ك ُُّل ّ‬
‫قصدَتْ‬ ‫السـ ْبع‪َ ،‬‬ ‫السـفرات َّ‬ ‫ن ّ‬ ‫ن سـفر ٍة‪ِ ،‬مـ َ‬ ‫يكـو ُن ثابتـاً يف ك ُِّل سـفرة‪ .‬مـا ِمـ ْ‬
‫كل‬ ‫ئيسـ ًة يف حكايـ ِة ِّ‬ ‫ج َهتَهـا دُون تيـه‪ .‬ذلـك أ ّن التّيـ َه شـك َّل َموضوعـ ًة َر َ‬ ‫و ْ‬
‫السـبْع التي يَرويها‬ ‫ن الحكايات َّ‬ ‫كل حكايـ ٍة ِم َ‬ ‫جـز ٌء ِمن ب ْنيَ ِة ِّ‬ ‫سـفرة‪ ،‬بـل هو ُ‬
‫َ‬
‫هتـدي امل ْر ُء‬
‫َ‬ ‫خ األمـ ُر التايل‪ :‬يك يَ‬ ‫رتسـ ُ‬ ‫ٍ‬
‫كل سـفرة‪ ،‬يَ َّ‬ ‫حـري‪ .‬يف ِّ‬‫ّ‬ ‫السـندبا ُد البَ‬
‫م‪ ،‬شَ ـهدَت‬ ‫كل اهتـداء‪ .‬ومـن ث َـ َّ‬ ‫ـبيل ِّ‬ ‫س ُ‬ ‫ج َه ِتـه‪ ،‬البـ ّد أ ْن يَتيـهَ‪ .‬فالتيـ ُه َ‬ ‫إىل و ْ‬
‫ين الفَقـد والتيـه‪ .‬إ ّن إضا َعـ َة امللكيّـة‬ ‫السـبْ ُع تشـابُكاً دالليّـاً بَ ْ‬ ‫َّ‬ ‫الحكايـاتُ‬
‫َ‬
‫وسـلوك‬ ‫عـد فَقْدهـا‪،‬‬ ‫ص على اسـتعاد ِة ملكيّـة ذاتيّـة بَ ْ‬ ‫ِ‬
‫امل َوروثـة‪ ،‬والحـ ْر َ‬
‫سـم ُهويّـ ِة السـندباد‬ ‫طريـقٍ يقـو ُم دَومـاً على التيـه‪ ،‬أمـو ٌر ُمتداخلـ ٌة يف َر ْ‬
‫ـل عـن امل ُخاطـرة‪ ،‬بـل بهـا تتحـ َّد ُد وتتجـ َّددُ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تنفص ُ‬ ‫حـري؛ ُهويّـة ال‬ ‫ّ‬ ‫البَ‬
‫انطلـق أساسـاً‪ ،‬يف‬ ‫َ‬ ‫السـفر‬
‫حـري بـأ ّن الشرو َع يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ح السـندبا ُد ال َب‬ ‫رص َ‬‫َّ‬
‫ع‬ ‫ـ‬
‫َ ْ َ َْ ِ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫د‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫بتعبيره‪،‬‬ ‫أو‬ ‫منـه‪،‬‬ ‫ّـى‬
‫ق‬ ‫تب‬ ‫مـا‬ ‫ـع‬ ‫ي‬
‫َْ‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫األب‬ ‫ث‬ ‫ر‬ ‫إ‬
‫َ ْ‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫إضا‬ ‫ـد‬ ‫ع‬
‫َ ْ‬ ‫ب‬ ‫ـدء‪،‬‬ ‫ال َب‬
‫م‪ ،‬إذا ً‪ ،‬بدافـعِ‬ ‫السـفر‪ ،‬بهـذا املعنـى‪ ،‬تـ َّ‬ ‫انطلاق ّ‬ ‫ُ‬ ‫لـك يَـدُه‪.‬‬ ‫جميـع مـا تَ ُ‬
‫حـث عـن الـذات‬ ‫ـق بدايـ ٍة جديـدة‪ ،‬أي بدافـعِ البَ ْ‬ ‫ل عـن األب وشَ ِّ‬ ‫االنفصـا ِ‬
‫حري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫االنفصال‪ ،‬يف تجرب ِة السـندباد البَ‬ ‫ُ‬ ‫ْص ُم ْم ِكنها‪ .‬لقد كا َن‬ ‫واختبار أق َ‬
‫ج َهـ ُة هـذا االنفصـال َمنحـى‬ ‫حيويّـاً يف بنـاء ُهويّتـه‪ ،‬حتّـى وإن اتّخَـذَت و ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ـف‪ِ ،‬م ْ‬ ‫ن بني ما من ُه يتكشَّ ُ‬ ‫ـف‪ِ ،‬م ْ‬ ‫انفصال يتكشَّ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫سـيأيت بَيانُـه‪.‬‬ ‫دائريّـاً‪ ،‬كما َ‬
‫اس‬ ‫ن تَ ّ‬ ‫حـري‪ ،‬و ِمـ ْ‬‫ّ‬ ‫متـاس الحيـاة بامل َـوت يف تجربـ ِة السـندباد البَ‬ ‫ِّ‬ ‫قـراء ِة‬
‫ومتـاس التيـه باالسـتهداء يف الدّرب الذي تشُ ـ ُّق ُه‬ ‫ِّ‬ ‫ال َفقْـد باالمتلاك فيهـا‪،‬‬
‫م‬ ‫ح ِّديَّـةً؛ ت ُقي ُ‬ ‫جعـل تجرب َة السـندباد َ‬ ‫َ‬ ‫ح ٍو‬
‫حياتهـا‪ ،‬على نَ ْ‬ ‫هـذه الشـخصيّ ُة ل َ‬
‫حـدّ‪،‬‬ ‫تقابلين‪ ،‬وتَ ْبنـي ِمـن داخـل هـذا ال َ‬ ‫ْ‬ ‫فين ُم‬ ‫حـ ِّد الفاصـل بَين ط َر ْ‬ ‫يف ال َ‬
‫حيـاة‪.‬‬‫عنـى خَصيبـاً للـذات ولل َ‬ ‫الفاصـل‪َ ،‬م ْ‬ ‫ِ‬ ‫اصـلِ ال‬ ‫ال َو ِ‬
‫ح ِّديَّ ِة‪ ،‬تتخل ُّق الحيا ُة ِم ْ‬
‫ن ُمال َمسـ ِة امل َوت‪ ،‬وتتحق ُّق‬ ‫يف هـذه التجربـة ال َ‬
‫ِ‬
‫ـب بإضا َعة امل ُمتلَـك‪ .‬يف هذه‬ ‫الكس ُ‬‫ْ‬ ‫ـل‬
‫ص ُ‬ ‫النجـا ُة على حافـ ِة الهالك‪ ،‬ويت َ‬
‫ح ّ‬

‫‪15‬‬
‫التجربـة‪ ،‬مث َّـ َة َمشـه ٌد يَـكا ُد يكـو ُن ثابتـاً‪ ،‬يتعل ُّق األمـ ُر بالسـندباد َوحيدا ً بال‬
‫ِ‬
‫املشـهد الذي‬ ‫كل يشء‪ ،‬وبـدُون متـاع‪ِ .‬مـن داخل هذا‬ ‫رفيـق‪ُ ،‬مجـ َّردا ً مـن ِّ‬
‫ْصى ُم ْم ِكـن‬ ‫ُ‬
‫يُقـ ِّوي داللـ َة االنفصـال‪ ،‬تَبْـ َدأ‪ ،‬يف الغالـب‪ُ ،‬مغا َمـر ُة اختبـار أق َ‬
‫غ األقـايص‪ ،‬الذي تُ ْرسـي ِه تجرب ُة السـندباد‪،‬‬ ‫الـذات‪ ،‬على شـفا امل َـوت‪ .‬بُلو ُ‬
‫الطريق‬
‫َ‬ ‫َيص تيـ ٌه وفقدٌ‪ ،‬ويُفي ُد أ ّن هذه‬
‫الطريق إىل ال َبعيد الق ِّ‬ ‫َ‬ ‫يُفيـ ُد دَومـاً أ ّن‬
‫ص َيغـه وأقْصاها‪.‬‬ ‫ألقس ِ‬
‫َ‬ ‫حـدُو ِد امل َوت وحسـب‪ ،‬بل اختبـا ٌر‬ ‫إقامـ ٌة ال على ُ‬
‫السـ ْبع تض َّم َنـت تد ُّرجـاً يف فَظاعـ ِة امل َـوت‪ ،‬كام‬
‫السـفرات ّ‬ ‫ذلـك أ ّن حكايـ َة ّ‬
‫لـ ْو أنّهـا كانَـت تَـ ُرو ُم اإلقنا َع باختبار الشـخصيّ ِة لك ُِّل أشـكاله‪.‬‬
‫ن تَجربَ ِة السـندباد إقامـ ًة يف األقايص(((‪،‬‬ ‫َـت ِم ْ‬
‫عل ْ‬ ‫ح ِّديَّـ َة َ‬
‫ج َ‬ ‫السـ َم َة ال َ‬
‫إ ّن ِّ‬
‫ح َيـاة‪ ،‬يف هـذه التجربـة‪ُ ،‬م ْنفَصلاً عـن امل ُخاطـ َرة‪،‬‬ ‫إذ ملْ يَكُـن َمفهـو ُم ال َ‬
‫ّي يف التجربـة‬ ‫سـ ِة عتبـات امل َـوت‪ .‬لذلـك‪ ،‬كان مـا هـو َ‬
‫حـد ٌّ‬ ‫وعـن ُمال َم َ‬
‫حـ ِّد ال فاصلاً بَي َن ُهما‪ ،‬أل ّن‬
‫ف ال َ‬‫ين طَـ َر َ‬
‫سـبقَت اإلشـارةُ‪ ،‬بَ ْ َ‬ ‫واصلاً‪ ،‬كما َ‬
‫القصي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫السـفرات كشـفَت أ ّن املُخَاطـ َرة ُرؤيـ ٌة لحيـا ٍة تتخل ُ‬
‫َّـق مـن‬ ‫ّ‬
‫ن ال يشء‪ ،‬أي اتّخا ُذ‬ ‫االنطالق ِمـ ْ‬
‫ُ‬ ‫القيص يف التجربـة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ن مالمـح هـذا‬ ‫ِمـ ْ‬
‫ْـد سـبيالً إىل االمتلاك‪ ،‬واعتما ُد التيـ ِه سـبيالً إىل االهتـداء‪ .‬مث َّـة‬ ‫ال َفق ِ‬
‫السـفر‪،‬‬ ‫السـفر‪ ،‬كأ ّن فكر َة َّ‬ ‫حـري يف بدايـ ِة َّ‬ ‫ّ‬ ‫ش ٌء يتحـ َّر ُر منـ ُه السـندبا ُد ال َب‬ ‫َ‬
‫ط ال‬ ‫التخلي عـن إ ْرث األب‪ ،‬أي عـن َروابـ َ‬ ‫ِّ‬ ‫مبـا هـي تجـ ُّددٌ‪َ ،‬مشـدود ٌة إىل‬
‫َ‬
‫اكتشـاف‬ ‫ُتيح‬
‫جذور‪ ،‬وال ت ُ‬ ‫ـمح بامل ُغا َمـرة وامل ُخاط َرة واالنفصـال عن ال ُ‬ ‫َس ُ‬ ‫ت ْ‬
‫عـو ُد دومـاً إىل‬ ‫حيـح أ ّن السـندباد يَ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ص‬‫الـذات باكتشـاف الغَريـب عنهـا‪َ .‬‬
‫عـ َد أن يَبتعـ َد عـن‬ ‫لي‪ ،‬ولك ّنـ ُه يَعـو ُد ب ْ‬ ‫مدينـ ِة االنطلاق؛ إىل َم ْوطنـه األص ّ‬
‫عـودةَ‪،‬‬ ‫م ال َ‬ ‫عـود ِة بأقصى مـا يَكـو ُن البُعـد‪ .‬هـذا البُعـ ُد هـو ما يَ ِ‬
‫سـ ُ‬ ‫مـكان ال َ‬
‫ـف عـن لحظـ ِة االنطلاق‪ .‬اإلرثُ ‪ ،‬يف هـذا‬ ‫إىل امل َوطـن األ ّول‪ ،‬مبـا بـ ِه تختلِ ُ‬
‫م على َروابط‪ ،‬إنّ ُه ُمكـوثٌ يف مكانٍ واحد‪ ،‬أ ّما َّ‬
‫السـف ُر‬ ‫ٌ‬
‫ّصـال قائـ ٌ‬ ‫السـياق‪ ،‬ات‬
‫عـودة إىل املـكان األ ّول‪ ،‬ولكـن ب ُرؤيـ ٍة أخـرى يَك ُُّف فيها‬ ‫ح بال َ‬‫فتجـ ُّد ٌد يَسـ َم ُ‬

‫انطباع ُي َول ُِّد ُه هذا الكتاب‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫ُميزة لكتاب «ألف ليلة وليلة»‪ .‬هو‪ ،‬كام يرى بورخيس‪،‬‬
‫أحد املالمح امل ّ‬‫القيص هو ُ‬ ‫ُّ‬ ‫(((‬
‫القيص‪ .‬املرجع السابق‪ .‬ص‪.674 .‬‬
‫ّ‬ ‫«الرشق» بأ ّن ُه هذا‬
‫ُ‬ ‫در ُك‬
‫الذي فيه ُي َ‬

‫‪16‬‬
‫ٌ‬
‫انفصال‬ ‫نفسـهُ‪ ،‬أل ّن العائ َد ملْ يبْ َق ُه َو ُهو‪ّ .‬‬
‫السـف ُر‬ ‫املكا ُن عن أ ْن يَبقى هو َ‬
‫ـب ذايتٍّ جديـد‪ ،‬انطالقـاً مـن امل ُغا َمـرة وامل ُخاطـرة‪،‬‬‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫كس ٍ‬ ‫عـن إ ْرث‪ ،‬بغايـ ِة ْ‬
‫صو َرتِ ِه األوىل‪.‬‬ ‫ن ُ‬ ‫ج َعـ ْ‬ ‫القريب يَخ ُر ُ‬
‫َ‬ ‫تجعـل‬
‫ُ‬ ‫القيص‪ُ .‬مال َمسـ ٌة‬
‫ّ‬ ‫و ِمـن ُمال َمسـ ِة‬
‫تحصلة‬ ‫ّ‬ ‫حيا ٍة ُم‬ ‫جا ُوباً مـع َ‬ ‫ُـرب امل ُنطـوي عىل البُعد وامل ُت َولِّـ ُد منهُ‪ ،‬تَ َ‬ ‫إنّـ ُه الق ُ‬
‫م‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫امتالك بالفَقد‪ ،‬و َم َع اسـتهداء بالتيـه‪ .‬ومن ث َ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫حـدُو ِد امل َـوت‪ ،‬ومع‬ ‫على ُ‬
‫ِ‬
‫الفقـد‬ ‫ـف أه ّميـ َة‬ ‫كش ُ‬ ‫حـري‪ ،‬يَ ِ‬
‫ّ‬ ‫السـفر‪ ،‬يف تجربـة السـندباد البَ‬ ‫َـق َّ‬ ‫إ ّن ُمنطل َ‬
‫ـل اسـتعاد ِة‬ ‫ع َ‬ ‫ِ‬
‫يف التّحصيـل‪ ،‬وأه ّميتَـ ُه يف بنـاء ال ُهويّـة الذاتيّـة‪ ،‬بـل إ ّن ِف ْ‬
‫يِ ُّد هذا‬ ‫عم بـه ُ‬ ‫وواهب‪ .‬وفَضلاً َّ‬ ‫ٌ‬ ‫املفقـود‪ ،‬يف هـذه التجربـة‪ِ ،‬ف ٌ‬
‫عـل ُم ِمـ ٌّد‬
‫ن االضطلاع بالهبَـة‪ ،‬إذ بـ ِه‬ ‫ي ّك ُنـ ُه هـو أيضـاً ِمـ َ‬ ‫حـري‪َ ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عـل السـندبا َد البَ‬ ‫ال ِف ُ‬
‫أصالً‬ ‫وتحصيـل ما ملْ يَكُـن ْ‬ ‫ُ‬ ‫عطـاء‪ .‬اسـ ِتعاد ُة امل َفقـود‬ ‫ر قـادرا ً على ال َ‬ ‫يَصي ُ‬
‫حكي‪ ،‬و ُهما مـا يَجعلُـ ُه‬ ‫يف حـوزة السـندباد‪ُ ،‬هما مـا يَ َهبُـ ُه قُـدر ًة على ال َ‬
‫يف اآلن ذاتـ ِه واهبـاً‪ .‬إ ّن َموضوعـ َة ال ِهبَـة‪ ،‬سـواء أتعلّقـت هـذه ال ِهبَة مبَ ْنح‬
‫حـري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الهدايـا أم بتقديـمِ حكايـات‪ ،‬دالّـ ٌة يف تجربـ ِة السـندباد البَ‬
‫السـفر التـي‬ ‫بَ ْعـ َد هـذا امل َعنـى العـا ّم‪ ،‬الـذي اتّخَـ َذهُ الفَقـ ُد يف فكـر ِة َّ‬
‫صور ًة‬ ‫السـ ْبع جمي ِعها ُ‬ ‫السـفرات َّ‬ ‫حـري‪ ،‬اتّخ َذ الفَق ُد يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـت للسـندباد ال َب‬ ‫ع َّن ْ‬
‫كل سـفرة بالتّه ُّيـؤ واالسـتعداد‪ ،‬وذلـك بتَوفري أسـبابها‪ ،‬أي‬ ‫َنطلـق ُّ‬
‫ُ‬ ‫أخـرى‪ .‬ت‬
‫كل سـفرة‪ ،‬على‬ ‫حـ ْزم حمـول نَفيسـة‪ .‬وتقـو ُم ُّ‬ ‫اقتنـاء ال َبضائـع واأل ْمتعـة و َ‬
‫للسـفرة‪ ،‬حتّى ل َي ْبـدُو أ ّن ال َبضائ َع‬ ‫ريهُ ُع ّد ًة ّ‬
‫م تَ ْوف ُ‬ ‫نحـ ٍو ُمتواتـر‪ ،‬على فَق ِْد ما ت َّ‬
‫صف‬ ‫َشـهد فَقْدهـا‪ ،‬ب َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫السـفرة‪ ،‬إلّ تَحضيرا ً مل‬ ‫مـول ال تُ َه َّيـأ‪ ،‬يف بدايـ ِة ّ‬ ‫ح َ‬ ‫وال ُ‬
‫م‬ ‫السـبع‪ .‬يَت ُّ‬ ‫السـفرات َّ‬ ‫ن حكايـات ّ‬ ‫كل حكايـ ٍة ِمـ ْ‬ ‫ِ‬
‫ثوابـت ِّ‬ ‫حـد‬ ‫هـذا امل َشـهد أ َ‬
‫ـف‪ ،‬ب َفقْدهـا‪،‬‬ ‫للسـفر وتأمينـاً لـه‪ ،‬بـل لِتُضا ِع َ‬ ‫سـندا ً ّ‬ ‫ر ال ُعـ ّد ِة ال لتكـو َن َ‬ ‫تَوفي ُ‬
‫ل دائم حتى وإ ْن‬ ‫وتجعـل التج ُّد َد قامئاً عىل انفصـا ٍ‬ ‫َ‬ ‫امل ُغا َمـر َة وامل ُخاطـ َرة‪،‬‬
‫كان َمنحـا ُه دائريّـاً‪ .‬هكـذا تكـو ُن اسـتعاد ُة ال ُعـدّة الضّ ائعة‪ ،‬كما يف بَعض‬
‫سـفرات أخـرى‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫حسـن ِمنهـا‪ ،‬كما يف‬ ‫السـفرات‪ ،‬أو تعويضُ هـا مبـا هـو أ ْ‬ ‫ّ‬
‫نفسـهُ‪ ،‬أل ّن صاحبَـ ُه‬ ‫ُـف فيـه امل ُسـتعا ُد عـن أ ْن يَكُـو َن هـو َ‬ ‫تجـدُّدا ً ذاتيّـاً‪ ،‬يَك ُّ‬
‫ملْ يَبْـق‪ ،‬لحظـ َة اسـتعادتِ ِه امل َفقـودَ‪ُ ،‬هـ َو ُهـ َو‪ ،‬حتـى إ ْن ظلَّـت البضاعـةُ‬
‫ح ِّديَّ ٍة‬ ‫تحصلاً عن تجربـ ٍة َ‬ ‫ّ‬ ‫الحالتين ُم‬
‫ْ‬ ‫م يف‬ ‫هـي‪ .‬يَكـو ُن ال ُغ ْنـ ُ‬ ‫هـي َ‬ ‫املفقـود ُة َ‬
‫م‪،‬‬ ‫ن ث َـ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َصي يف بنـاء ال ُهويّـة‪ .‬مـ ْ‬ ‫ِ‬
‫حيَويّـ َة الق ِّ‬ ‫خ َ‬ ‫ُرسـ ُ‬ ‫ـس الفَقـد التّـا ّم‪ ،‬وت ِّ‬ ‫تُال ِم ُ‬

‫‪17‬‬
‫ال‬ ‫السـفرة األخرية‪ ،‬ب َد َو ّ‬ ‫َص»‪ ،‬يف حكاي ِة ّ‬ ‫صدفـ ًة أ ْن تظه َر داللـ ُة «الق ِ ّ‬ ‫ليـس ُ‬
‫الصني»‪ ،‬امل ُرتبطة‬ ‫«الصين»‪ ،‬إذ بلغَت الرحل ُة «مدينـة ّ‬ ‫ّ‬ ‫عديـد ٍة‪ ،‬أ ّولهـا ّ‬
‫دال‬
‫جـ َه قائـ ُد امل َركـب‬ ‫«آخـر» البحـار وتخومهـا‪ ،‬إذ ت َو َّ‬ ‫ودال ِ‬‫ّ‬ ‫َصي‪،‬‬
‫بالبُ ْعـد الق ّ‬
‫ِ‬
‫غلـب علينـا و َر َمانـا يف آخـر بحار‬ ‫َ‬ ‫يـح قـد‬ ‫ِ‬
‫إىل الـ ّركّاب قائلاً‪« :‬اعلمـوا أ ّن ال ّر َ‬
‫شء‪،‬‬ ‫كل َ‬ ‫طـال َّ‬ ‫َ‬ ‫القيص‪ ،‬الـذي‬ ‫ّ‬ ‫جـا َوب دالليّـاً مـع الفَقـد‬ ‫الدّنيـا»‪ .‬وهـو مـا تَ َ‬
‫السـابعة‪ ،‬عـن امل َركـب‪:‬‬ ‫السـفرة َّ‬ ‫حـري‪ ،‬يف حكايـ ِة ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقـول السـندبا ُد البَ‬ ‫ُ‬ ‫إذ‬
‫َـت َجميـ ُع األلـواح وغَرقَـت َجميـ ُع الحمـول والتّجـار‬ ‫«فانكسر وتف َّرق ْ‬
‫ََ‬
‫َصي يف التجربة‪،‬‬ ‫الشـامل تَجسـي ٌد للق ِّ‬ ‫ُ‬ ‫والـ ّركّاب يف البَحـر»‪ .‬هذا امل َشـه ُد‬
‫َفسـهُ‪،‬‬ ‫حري ن َ‬ ‫ّ‬ ‫سـ ِة تُخومِ امل ُخاطَ َرة‪ .‬هكذا يَج ُد السـندبا ُد البَ‬ ‫وتجسـي ٌد مل ُال َم َ‬
‫شء‪ .‬أيكـو ُن‬ ‫كل َ‬ ‫ن ِّ‬ ‫آخـر بحـار الدّنيـا‪ُ ،‬مجـ َّردا ً ِمـ ْ‬ ‫وفـق هـذا امل َشـهد‪ ،‬يف ِ‬
‫القصي؟ أيكـو ُن هـو مـا‬ ‫ّ‬ ‫غ األقصى يف تجربـ ِة‬ ‫الشـامل البلـو َ‬ ‫ُ‬ ‫هـذا الفقـ ُد‬
‫ن‬ ‫الشـامل‪ ،‬مبـا يَنطـوي عليـه ِم ْ‬ ‫ُ‬ ‫أليـس هـذا ال َفقْـ ُد‬
‫َ‬ ‫أتـاح اإلشـبا َع الشـامل؟‬ ‫َ‬
‫السـفر‪ ،‬رغـم‬ ‫ن ّ‬ ‫حـري أخيرا ً ِمـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ب «تَ ْوبـ ِة» السـندباد البَ‬ ‫ع شـاملٍ ‪ ،‬سـبَ َ‬ ‫إشـبا ٍ‬
‫ـت‬ ‫السـابعة‪ ،‬التـي دا َم ْ‬ ‫السـفر ُة َّ‬ ‫السـف َر كا َن ُمحـدِّدا ً ل ُهويّتـه؟ أملْ تكُـن ّ‬ ‫أ ّن ّ‬
‫سـب َع َة وعرشيـن عامـاً (ل َن ْنتَبـه َمـ ّر ًة أخـرى النبثاق ال َعـدَد «سـبعة») ق ّم َة‬ ‫(((‬

‫السـفر شَ ـكالً ِمـن‬ ‫ن ّ‬ ‫امل ُخاطـ َرة التـي ال يشء بَ ْعدهـا؟ أليسـت «التوبـة» ِمـ َ‬
‫ن اتّخاذ‬ ‫يك ُ‬ ‫مم يُلز ُم باأل ْوبَـة؟ ُ ْ‬ ‫أشـكال بلـوغ األقىص الـذي ال يشء وراء ُه‪ّ ،‬‬
‫هـذه األسـئلة كوى تأويل ّيـةً‪ ،‬يف قـراءات ُمسـتقبل ّي ٍة‪ ،‬لِتأ ُّملِ تَوبَ ِة السـندباد‬
‫السـف َر بالتوبـة(((‪.‬‬ ‫ط َّ‬ ‫ن أ ْن يَربـ َ‬ ‫يكـ ُ‬
‫السـفر‪ ،‬وللتسـاؤُل عماَّ ُ ْ‬ ‫ن ّ‬ ‫ِمـ َ‬
‫اإلملاح إليها سـابقاً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َصيصـ ِة ال َوشـائج التي تـ َّ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ن‪ ،‬اسـتنادا ً إىل خ‬
‫يكـ ُ‬
‫ُْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫التنبّـهُ‪ ،‬يف سـياق ُهويّـة تقـو ُم على الفَقد‪ ،‬إىل عالقـة اسـتعا َدة امل َفقود‪،‬‬

‫الست السابقة عنها قد‬


‫ّ‬ ‫السفرات‬
‫أن ّ‬ ‫ضنا ّ‬
‫رت ْ‬
‫زم َنها‪ .‬إذا اف َ‬
‫حد ُد الحكايةُ َ‬‫السابعة هي الوحيدة التي ُت ِّ‬ ‫السفر ُة َّ‬
‫((( ّ‬
‫وأن‬
‫ب حيات َُه للسفر‪ّ ،‬‬ ‫السندباد البحري َو َه َ‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫ب عىل ذلك‪ ،‬هو ّ‬ ‫فإن ما يرت ّت ُ‬
‫مدة طويلة‪ّ ،‬‬ ‫َت هي أيض ًا ّ‬ ‫استغرق ْ‬
‫َ‬
‫مبعنى ما‪ ،‬للسفر أو لذكراه عىل‬ ‫متديد‪َ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫ال‬ ‫ِ‬
‫حكاية األسفار إ ّ‬ ‫إرصاره عىل رواية‬‫ُ‬ ‫السفر‪ ،‬وما‬
‫كان يف ّ‬
‫عظم حياته َ‬ ‫َ‬ ‫ُم‬
‫األقلّ ‪.‬‬
‫السفَ ُر ِم َن املَحظورات؟ ما هو الذَّ نْب الذي اقرتف َُه [يقصد‬ ‫((( سبق لكيليطو‪ ،‬يف هذا السياق‪ ،‬أن تساءلَ ‪« :‬هل ّ‬
‫تاب ِم ْن «فتنة العالَم الغَ ريب‬‫أن السندباد َ‬ ‫رج َح كيليطو ّ‬ ‫س َتلزم التوبة؟»‪ .‬وقد ّ‬ ‫حري] والذي َي ْ‬
‫الب ّ‬‫السندباد َ‬
‫والنزعة إىل الذوبان فيه»‪ .‬اُنظر‪ :‬عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬األعامل‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬املايض حارضاً‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1‬ص‪.98 .‬‬

‫‪18‬‬
‫الدائـري يف االنفصـال الـذي عليه‬ ‫ّ‬ ‫حـري‪ ،‬بامل َنحـى‬
‫ّ‬ ‫يف حكايـ ِة سـندباد البَ‬
‫السـفرات‬ ‫ن ّ‬ ‫كل سـفرة‪ِ ،‬م َ‬ ‫ع ُه ُّ‬ ‫َنهـض الحكايـة‪ .‬ذلـك أ ّن امل َسـا َر الذي تقط ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬
‫السـفرة‪،‬‬ ‫َـق ّ‬ ‫ر م ُنطل ُ‬ ‫السـبع‪ ،‬يَنطـوي على هـذا امل َنحـى‪ ،‬إذ غالبـاً مـا يَصي ُ‬
‫م‪ ،‬إ ّن ك َُّل‬ ‫ن ثـ ّ‬ ‫ِ‬
‫جهتَهـا‪ .‬ومـ ْ‬ ‫عـد التّيـه و ُمال َمسـ ِة أقصى ال َهلاك‪ ،‬هـو و ْ‬ ‫بَ ْ‬
‫م إىل بحـا ٍر وجزائـ َر و ُمـ ُدنٍ‬ ‫ن بغـداد إىل البَصرة‪ ،‬ثـ َّ‬ ‫ِ‬
‫السـفرات انطلقَـت مـ ْ‬ ‫ّ‬
‫عـد‬ ‫ن بغـداد بَ ْ‬ ‫ِ‬
‫نائيـة‪ ،‬قبْـل أ ْن ت َعـو َد إىل البَصرة‪ ،‬وم ْنهـا إىل بغـداد‪ .‬لكـ ّ‬
‫حـري‪ ،‬هـي ذاتَها‪ ،‬أل ّن السـندباد‬ ‫ّ‬ ‫السـفر ال ت َبقـى‪ ،‬يف منظـور السـندباد البَ‬ ‫ّ‬
‫بالقصي الـذي يَنطـوي عىل العجيـب والغَريـب‪ ،‬وأل ّن‬ ‫ِّ‬ ‫يَعـو ُد إليهـا ُمح َّملاً‬
‫ن ُهم يف‬ ‫حكي‪ ،‬أي بإخبار َمـ ْ‬ ‫العائـ َد يَغـدو قـادرا ً عىل االضطلاع مبه َّمة ال َ‬
‫بَغـداد مبـا يَجهلونَـهُ‪ ،‬ومبـا يَبـدُو ل ُهـم غَريبـاً و ُمدهشـاً‪ .‬أملْ يُ ِث السـندبا ُد‬
‫السـلطة‬ ‫سـ ُد هر َم ُّ‬ ‫ج ِّ‬‫إعجاب الخليفة هارون الرشـيد‪ ،‬الذي يُ َ‬ ‫َ‬ ‫حـري حتـى‬
‫ّ‬ ‫البَ‬
‫السـفرة السادسـة؟‬ ‫زَمنئـذ‪ ،‬مل َّـا َروى لـ ُه أحـداثَ ّ‬
‫ل‬ ‫م على انفصـا ٍ‬ ‫الدائـري يف رحلـة السـندباد ليـس ُمغلقـاً‪ .‬إنّـ ُه قائـ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫إ ّن‬
‫ج َهـة‪ .‬ال يَغـدو‬ ‫ُنطلـق إىل و ْ‬ ‫َ‬ ‫َـق حتـى وهـو يُحـ ِّو ُل هـذا امل‬ ‫يُجـ ِّد ُد امل ُنطل َ‬
‫ن‬ ‫حـ ٍو ُ َ‬
‫يكّـ ُ‬ ‫عـ َد الفَقـد والتيـه واختبـار امل َـوت‪ ،‬على نَ ْ‬ ‫ج َهـ ًة ّ‬
‫إل بَ ْ‬ ‫َلـق و ْ‬
‫امل ُنط ُ‬
‫جعل تجربة‬ ‫ُ‬ ‫ع َّل هذا امل َسـار هو مـا يَ‬ ‫ن أن يَحظـى بالغَريـب‪ .‬لَ َ‬ ‫َـق ِمـ ْ‬
‫امل ُنطَل َ‬
‫عـ ْودة إىل امل َوطـن‬ ‫ـت دَومـاً بال َ‬ ‫حـري‪ ،‬وإِ ْن انت َه ْ‬
‫ّ‬ ‫سـفرات السـندباد ال َب‬ ‫ِ‬
‫كل َعـود ٍة‪ُ ،‬مك ِّونـاً‬ ‫ر‪ ،‬يف ِّ‬ ‫الغريـب يَصي ُ‬
‫َ‬ ‫األ ّول‪ ،‬قامئـ ًة على االنفتـاح‪ ،‬أل ّن‬
‫ن التيه‪ ،‬ومن‬ ‫ـل ِمـ َ‬ ‫تحص ٌ‬
‫ّ‬ ‫م يف هـذه التجربـة ُم‬ ‫ن ُمك ِّونـات التجربـة‪ .‬الغُنـ ُ‬ ‫ِمـ ْ‬
‫حري‬ ‫َّ‬ ‫ن السـندبا َد ال َب‬ ‫يكِّـ ُ‬ ‫م َُ‬ ‫اسـتعادة امل َفقـود على شـفا الهلاك‪ .‬إنّـ ُه غُنـ ٌ‬
‫تجديـد ذاتـ ِه‬‫ِ‬ ‫ن‬‫ي ّك ُنـ ُه ِمـ ْ‬
‫عـد مـن ذلـك‪َ ُ ،‬‬ ‫النفيسـة‪ ،‬بـل أبْ َ‬
‫َ‬ ‫ن الجواهـر‬ ‫ال ِمـ َ‬
‫ويُ َؤ ِّهلُـ ُه لروايـ ِة حكايـات‪.‬‬

‫والسفر‬
‫ّ‬ ‫‪ .4‬الحيك‬
‫حـري‪ ،‬شـدي ُد‬ ‫ّ‬ ‫بالسـفر‪ ،‬يف حكايـ ِة السـندباد البَ‬‫ّ‬ ‫كي‬
‫ـل الح َ‬ ‫إِ ّن مـا يَ ِ‬
‫ص ُ‬
‫حدَهـا‪ ،‬بل‬ ‫صر على هـذه الحكايـ ِة َو ْ‬ ‫عب والتشـابُك‪ .‬وهـو أ ْمـ ٌر ال يقت ُ‬ ‫التشّ ـ ُّ‬
‫ن‬ ‫ِ‬
‫عـ ُّد مـ َ‬
‫كي يف كتـاب «ألـف ليلـة وليلـة»‪ ،‬الـذي يُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ٍ‬
‫جـه عـا ّم‪ ،‬ال َ‬‫م‪ ،‬ب َو ْ‬‫سـ ُ‬‫يَ ِ‬

‫‪19‬‬
‫عـي ب َك ْونِه‬
‫َت ال َو َ‬ ‫حكي و َع َواملِـ ِه‪ ،‬و َر َّ‬
‫سـخ ِ‬ ‫أسار ال َ‬
‫ال ُكتُـب التـي كشَ ـفَت عـن ْ‬
‫ِ‬
‫إحـداث التغيري يف‬ ‫السـلَط‪ ،‬وقُـ ّو ًة قادر ًة عىل‬ ‫سـلط ًة نافـذ ًة ت َ ْ‬
‫علُـو عىل ك ُّل ُّ‬ ‫ُ‬
‫حيَـاة‪.‬‬ ‫الـذوات وامل َواقـف‪ ،‬ويف ُمختلـف َمناحـي ال َ‬
‫والسـفر‪ ،‬يف حكايـ ِة‬ ‫َّ‬ ‫حكي‬ ‫ين ال َ‬ ‫ك القائـمِ بَ ْ‬ ‫سـ َم ٍة للتّشـابُ ِ‬ ‫ـل أ ّو َل ِ‬ ‫ع ّ‬‫لَ َ‬
‫م العالقـ َة بَين ُهما؛‬ ‫الدائـري الـذي يَحكُـ ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َلمـح‬
‫ُ‬ ‫ـري‪ ،‬هـو امل‬ ‫ح ّ‬ ‫السـندباد ال َب ْ‬
‫حضُ ـور يف الحكايـة‪ ،‬إذ تتعـ َّد ُد تجلّيات ُـه فيهـا‪ ،‬كام‬ ‫َلمـح ضَ الـ ُع ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫فهـذا امل‬
‫عض هذه‬ ‫اإلملـاح سـابقاً إىل بَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫لـ ْو أ ّن أثـ َر بنيـ ِة املتاهـ ِة ُممتـ ٌّد فيـه‪ .‬لقد ت َّ‬
‫ـل‬ ‫ص ُ‬ ‫َيهـا اعتمادا ً على مـا يَ ِ‬ ‫ن ُمواصلـ ُة اإلشـا َرة إىل غ ْ‬ ‫وي ِكـ ُ‬
‫التجلّيـات‪ْ ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫تعين التشـدي ُد عليـه‪ ،‬يف إضـا َءة هـذا األ ْمـر‪ ،‬هو أ ّن‬ ‫ُّ‬ ‫بالسـفر‪ .‬مـا يَ‬ ‫ّ‬ ‫كي‬
‫ح َْ‬ ‫ال َ‬
‫ع إىل‬ ‫حصلـة‪ ،‬يف البَـدء‪ ،‬عـن نُـزو ٍ‬ ‫السـفر مل تكُـن ُمتَ ّ‬ ‫ْ‬ ‫َرغبـ َة السـندباد يف ّ‬
‫ن حكايـ ٍة تذكّ َرهـا ‪َ ،‬وفق ما‬
‫(((‬
‫جـدُّد وحسـب‪ ،‬بـل ت َولَّـدتْ أيضـاً بإيعـا ٍز ِمـ ْ‬ ‫التّ َ‬
‫حـري الرثو َة التي‬ ‫ّ‬ ‫عد أ ْن ب ّد َد السـندبا ُد البَ‬ ‫لقصته‪ .‬فبَ ْ‬ ‫ّ‬ ‫تض َّم َنـ ُه اإلطـا ُر العـا ّم‬
‫نفسـهُ‪ ،‬إىل أ ّن مالَ ُه قد مـال وحالَ ُه‬ ‫عب هـو ُ‬ ‫ت َ َركهـا لـ ُه والـدُهُ ‪ ،‬وانتبـهَ‪ ،‬كما َّ َ‬
‫ب اتّخـاذه قرا َر‬ ‫َت سـ َب َ‬ ‫سـليامن بـن داود‪ ،‬التـي كان ْ‬ ‫قـد حـال‪ ،‬تذكّـ َر حكايـ َة ُ‬
‫ِّـب‪ ،‬إذا ً‪ ،‬على حكايـ ٍة‪ ،‬ق ْبـل أ ْن‬ ‫رتت ٌ‬ ‫السـف َر‪ ،‬يف هـذه الحـال‪ُ ،‬م َ‬ ‫السـفر‪ .‬إ ّن ّ‬ ‫َّ‬
‫السـفر‪ ،‬الـذي قا َد‬ ‫َت ال َّرغب ُة يف ّ‬ ‫حكي ت َولَّـد ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫نتـج هـو أيضـاً حكايَتَـهُ‪ِ .‬م َ‬ ‫يُ َ‬
‫كي‬‫ح ُ‬ ‫ج حكايـات‪ .‬ال َ‬ ‫حكي‪ ،‬وعلى إنتـا ِ‬ ‫امتلاك القُـدرة على ال َ‬ ‫ِ‬ ‫بـدَوره إىل‬
‫ن‬ ‫حـري ِمـ َ‬
‫ّ‬ ‫ن السـندبا َد ال َب‬ ‫يكِّـ ُ‬‫والسـف ُر هـو مـا ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫السـفر‪،‬‬ ‫هـو امل ُ َولِّـ ُد ل َرغبـ ِة ّ‬
‫والسـفر دائريّـة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫حكي‬ ‫حكي‪ .‬فالعالقـ ُة بين ال َ‬ ‫ال َ‬
‫بنـا ًء على هـذه العالقـ ِة الدائريّـة‪ ،‬تبـدو حكاي ُة السـندباد ناجمـةً‪ ،‬هي‬
‫َّـب على تذكّـره لحكايـ ٍة أيْقظَـت ل َديْـ ِه ال ّرغبـة يف ّ‬
‫السـفر‪.‬‬ ‫عما ترت َ‬‫ذات ُهـا‪ّ ،‬‬
‫جـ ٍه عـا ّم‪ ،‬يف َ‬
‫حياة‬ ‫كي كان حاسماً‪ ،‬ب َو ْ‬ ‫وهـو مـا يُفضي إىل اإلقـرار أ ّن الح َ‬
‫عكـس‪ .‬لهذا‬ ‫حيك ال ال َ‬ ‫حـري‪ ،‬كما لـ ْو أ ّن هذه الحيـا َة نِ ٌ‬
‫تـاج لل َ‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد ال َب‬

‫ف‪ ،‬يف هذه الحالة‪ ،‬عن التآخي بني‬ ‫شعرية‪ ،‬عىل ن َْح ٍو َي ِ‬
‫كش ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ثالثة أبيات‬ ‫أن هذا التذكّ ر تع َّز َز بتذكُّ ر‬
‫((( الالفت ّ‬
‫أن ُن ّي ُز بني‬ ‫كن‬
‫ُ ُ ْ‬ ‫ي‬ ‫جه‪.‬‬ ‫و‬
‫ْ َ‬‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫رث‬
‫َ‬ ‫أك‬ ‫‪،‬‬ ‫حري‬
‫َ ّ‬ ‫الب‬ ‫السندباد‬ ‫حكاية‬ ‫يف‬ ‫‪،‬‬ ‫ذُ‬ ‫تأخ‬
‫بينهام ُ‬ ‫أن العالقة ُ‬ ‫والشعر‪ .‬ذلك ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الحيك‬
‫َ‬
‫قائم عىل التآخي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫والثاين‬ ‫عر‪،‬‬ ‫الش‬
‫ِّ‬ ‫حمولة‬ ‫خ‬ ‫َس‬
‫ْ‬ ‫ن‬ ‫إىل‬ ‫الحيكُ‬ ‫ى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫س‬‫ْ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫فيه‬ ‫ض‪،‬‬ ‫التعار‬
‫ُ‬ ‫عىل‬ ‫قائم‬
‫ٌ‬ ‫ل‬ ‫األو‬
‫ّ‬ ‫؛‬ ‫جهي‬
‫َو ْ‬
‫حري يف ا ّتخاذ القرار‪.‬‬
‫الب ّ‬‫السندباد َ‬
‫ُ‬ ‫وظيفة الدليل‪ ،‬أي عندما َيستهدي بهام‬ ‫ِ‬ ‫شتِكَ ان يف ِ‬
‫أداء‬ ‫صوص ًا عندما َي َ‬ ‫ُخ ُ‬

‫‪20‬‬
‫حـري‪ ،‬إذ كثيرا ً مـا كان‬ ‫ّ‬ ‫داخـل حكايـ ِة السـندباد البَ‬ ‫َ‬ ‫األ ْمـر امتدادات ُـ ُه حتـى‬
‫سـفراته اعتمادا ً على‬ ‫السـندبا ُد يَعثرُ على تفسيرٍ ل َوقائـ َع تُصادفُـ ُه يف َ‬
‫عكـس‪.‬‬ ‫املواقـف ُمرتتّبـ ًة على الحكايـات ال ال َ‬ ‫ُ‬ ‫ت َ َذكُّـر ِه لحكايـات‪ ،‬فتكـو ُن‬
‫سـفراته‪ ،‬عىل‬ ‫داخل َ‬
‫َ‬ ‫ن الحكايـات‬ ‫وكثيرا ً مـا كان يَلجـأ إىل روايـ ِة حكايـ ٍة ِم َ‬
‫ظل‬ ‫حكي امل ُخلِّص‪ ،‬الذي يَ ُّ‬ ‫السـفرات‪َ ،‬عن ال َ‬ ‫تيـح الحديثَ ‪ ،‬يف هذه ّ‬ ‫نحـ ٍو يُ ُ‬
‫ن‬ ‫صلُ ُه بعالق ِة شـهرزاد بشـهريار‪ .‬أبْع َد ِم ْ‬ ‫ُيـوط َرفيعـ ٍة إىل ما يَ ِ‬ ‫َمشـدودا ً بخ ٍ‬
‫ناسـب ٍة‪،‬‬‫ن ُم َ‬ ‫حري أثناء سـفراته‪ ،‬يف أكرث ِم ْ‬ ‫ّ‬ ‫ذلـك‪ ،‬فقـ ْد تحـ َّو َل السـندبا ُد البَ‬
‫لقـي حت َف ُه يف‬ ‫َ‬ ‫ـخص‬
‫ٌ‬ ‫سـتَ ِمعٍ لحكايتـ ِه وهـي تُـ ْر َوى لـهُ‪ ،‬وتُخبر ُه أنّ ُه شَ‬ ‫إىل ُم ْ‬
‫سما ُعه لحكايتـه‪ ،‬التـي يَكـو ُن فيهـا يف ِعـداد األمـوات‪،‬‬ ‫ر َ‬ ‫ال َبحـر‪ ،‬ف َيصي ُ‬
‫استرجاعِ‪ ،‬ال‬ ‫ِْ‬ ‫ْسـه‪ ،‬وحافـزا ً على‬ ‫دا ِفعـاً ُمو ِقظـاً ل َر ْغ َب ِتـ ِه يف التعريـف ب َنف ِ‬
‫ح َياتـه‪ ،‬وهـو مـا‬ ‫بضا َع ِتـ ِه التـي ت َ َركهـا يف امل َركـب وحسـب‪ ،‬بـل استرجاع َ‬
‫ن حكايتـه يكْ يتسـ َّنى لـ ُه أ ْن يُقنـ َع‬ ‫تفاصيـل دقيقـ ٍة ِمـ ْ‬ ‫َ‬ ‫كا َن يُلز ُمـ ُه بروايـ ِة‬
‫السرد وقُ ّو ِة‬‫َّ‬ ‫يتـأت لـهُ‪ ،‬بفَضْ ـلِ‬ ‫َّ‬ ‫ملـك لـهُ‪ ،‬ويك‬ ‫ٌ‬ ‫قائـ َد املركـب بـأ ّن األمتعـ َة‬
‫عـود َة مـن‬ ‫جديـد‪ .‬إ ّن ال َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن امل َـ ْوت ويَغـ ُد َو حيّـاً ِمـ ْ‬ ‫حكي‪ ،‬أ ْن يَعـو َد ِمـ َ‬ ‫ال َ‬
‫ج ِة‬ ‫ن َمال ِمـح ال َوشـي َ‬ ‫ح ِمـ ْ‬ ‫سـ َوى َمل َمـ ٍ‬ ‫ـت ِ‬ ‫س ْ‬ ‫ن الحكي‪ ،‬ل ْي َ‬ ‫بتأثير ِمـ َ‬
‫ٍ‬ ‫امل َـوت ‪،‬‬
‫(((‬

‫حـري وعالقـ ِة شـهرزاد بشـهريار‪ .‬إنّهـا‬ ‫ّ‬ ‫الصا ِمتَـ ِة بين حكايـ ِة السـندباد ال َب‬
‫ْب‬ ‫ن قل ِ‬ ‫حياة واسـتعا َدتِها ِمـ ْ‬ ‫ن ال َ‬
‫حكي على تأمي ِ‬ ‫ن قُـ ْد َر ِة ال َ‬ ‫ج ٌة بَ ّي َنـ ٌة ِمـ ْ‬‫َوشـي َ‬
‫ا مل َوت (((‪.‬‬

‫ح حكايـ ُة السـندباد‪ ،‬بنـا ًء على مـا تقـدَّم‪ ،‬بالتمييـز فيهـا بَ ْ‬


‫ين‬ ‫تَسـ َم ُ‬

‫تأول‬
‫القرائية الواعدة يف ُّ‬ ‫ّ‬ ‫أحد املواقع‬
‫حري‪ .‬وهي ُ‬ ‫الب ّ‬‫تجليات عديد ٌة يف حكاية سندباد َ‬ ‫ٌ‬ ‫للع ْو َدة ِم َن املَوت‬
‫((( َ‬
‫حري تجربةً ملّا‬ ‫الب ّ‬‫خربه السندباد َ‬ ‫ُ‬ ‫العودة‪ ،‬مسألة َدفن األحياء مثالً‪ .‬ذلك ما‬ ‫أهم تجلّيات هذه َ‬ ‫الحكاية‪ِ .‬م ْن ّ‬
‫تقود‬
‫ُ‬ ‫كو ٍة‬
‫هتدي إىل ّ‬
‫َ‬ ‫أن َي‬
‫قبل ْ‬ ‫جاور َة املَوت ْ‬
‫«أتاح» له ُم َ‬
‫َ‬ ‫فارقت الحياة‪ ،‬عىل ن َْح ٍو‬ ‫حي ًا إىل جوار َزوجته التي َ‬ ‫فن ّ‬ ‫ُد َ‬
‫حري‪ِ ،‬لام‬‫الب ّ‬ ‫الخصوبة‪ ،‬يف تجربة السندباد َ‬ ‫منه شديد ُة ُ‬
‫ودة ُ‬ ‫الع َ‬ ‫ِ‬
‫ودالالت َ‬ ‫جاو َرة املَوت‬ ‫ِ‬
‫دالالت ُم َ‬ ‫إن‬
‫إىل الحياة‪ّ .‬‬
‫روب للتأويل‪.‬‬ ‫تفتح ُه من ُد ٍ‬ ‫ُ‬
‫الرب ّي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالسندباد‬ ‫حري‬
‫َ ّ‬ ‫الب‬ ‫السندباد‬ ‫عالقة‬ ‫يف‬ ‫وليس‬ ‫الحكاية‬ ‫داخل‬ ‫تظهر‬
‫ُ‬ ‫التي‬ ‫ة‪،‬‬ ‫الوشيج‬
‫َ‬ ‫هذه‬ ‫رث عىل‬ ‫((( ال نَع ُ‬
‫حري بالسندباد‬ ‫الب ّ‬‫تي يف الحكاية؛ عالقة شهرزاد بشهريار وعالقة السندباد َ‬ ‫َركزي ْ‬
‫العالقتي امل ّ‬ ‫ْ‬ ‫حكم‪،‬‬‫ُ‬ ‫َبني ما َي‬
‫بالحيك‪،‬‬‫َ‬ ‫عيف َم ْن يتكفّلُ‬ ‫الض ُ‬ ‫بدو‪ ،‬كام قال كيليطو‪َ ،‬معكوساً‪ .‬يف العالقة األوىل‪َّ ،‬‬ ‫حكمهام َي ُ‬‫أن ما َي ُ‬ ‫الرب ّي‪ .‬ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫ينهض به‪ .‬اُنظر‪ :‬عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬األعامل‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬املايض‬ ‫ُ‬ ‫فالقوي َم ْن‬
‫ُّ‬ ‫حكاية السندباد‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أما يف‬ ‫ّ‬
‫حارضاً‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪.96 .‬‬

‫‪21‬‬
‫كي‬‫ح ُ‬ ‫ن الدّاخـل‪ ،‬أي ال َ‬ ‫كي البـاين لهـا ِمـ َ‬ ‫حكي‪ .‬أ ّولهما؛ الح ُ‬ ‫ن ال َ‬ ‫َطين ِمـ َ‬ ‫ْ‬ ‫نَ‬
‫داخـل‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ن امل ُغا َمـرة‪ ،‬باعتبـاره يَتـ ُّ‬ ‫جـز ٌء ِمـ َ‬ ‫كل سـفرة و ُ‬ ‫ن ِّ‬ ‫جـز ٌء ِمـ َ‬ ‫مبـا هـو ُ‬
‫ـف‬ ‫م يف ال َوقائـع وامل َواقـف ونُ ُـ ِّو األحـداث‪ ،‬عىل نَح ٍو ِ‬
‫يكش ُ‬ ‫سـه ُ‬ ‫السـفر ويُ ْ‬ ‫َّ‬
‫الخارجـي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حكي‬ ‫والسـفر‪ .‬وثانيهما؛ ال َ‬ ‫ّ‬ ‫ين الحكي‬ ‫يـوي بَ ْ َ‬ ‫ح َّ‬ ‫التشـابُ َك ال َ‬
‫كل سـفر ٍة‪،‬‬ ‫باش ًة َّ‬ ‫يك فيها يَيل ُم َ‬ ‫لحظتين‪ ،‬اللحظة التي كا َن الح ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ويَتض ّمـ ُ‬
‫م اللحظة‬ ‫السـفرة‪ ،‬ثـ ّ‬ ‫حبـ ِه مـا َوقَ َع ل ُه يف ّ‬ ‫وص ْ‬‫وفيـه يَـ ْروي السـندبا ُد أل ْهلـ ِه َ‬
‫سـبع ِة أيّـام‪ ،‬بسـ َبب لقـا ِء‬ ‫حكي‪ ،‬وهـي التـي متَّـت يف َ‬ ‫امل ُرتبطـة بإعـاد ِة ال َ‬
‫ْصـت للحكايـات‬ ‫َ‬ ‫ي‪ ،‬الـذي كانَ‪ ،‬وإِ ْن أن‬ ‫البر ّ‬
‫حـري بالسـندباد َ ّ‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد ال َب‬
‫ْصو َد‬ ‫لي املَق ُ‬ ‫حـري‪ ،‬امل ُتلقِّي الفع َّ‬ ‫ّ‬ ‫أصحـاب السـندباد البَ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫لـس ضَ ـ َّ‬ ‫ج ٍ‬ ‫يف َم ْ‬
‫ن إعـادة روايـ ِة الحكايـات‪ ،‬التـي غَـدَتْ ‪ ،‬يف هـذه الحـال‪ ،‬حكايـ َة حيـاةٍ‬ ‫ِمـ ْ‬
‫كي الـذي‬ ‫ح َ‬ ‫ن‪ ،‬ال فقـط ال َ‬ ‫حكي كا َن يَتض ّمـ ُ‬ ‫ط الثـاين ِمـ َ‬
‫ن ال َ‬ ‫كا ِملـة(((‪ .‬فال ّنمـ ُ‬
‫سـياقات ُمختلفـة أثنـاء سـفراته‪ ،‬بـل أيْضـاً‬ ‫ٍ‬ ‫حـري يف‬
‫ّ‬ ‫قـا َم بـه السـندبا ُد البَ‬
‫خـاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جـ ٍه‬
‫ي ب َو ْ‬ ‫بر ّ‬
‫الحكايـات ب ُر َّمتهـا‪ ،‬مـا دا َم يُعيدُهـا للسـندباد ال ّ‬
‫حـري إىل أ ْن يُعيـ َد روايَ َة‬ ‫ّ‬ ‫مـا الداعـي‪ُ ،‬عمومـاً‪ ،‬الـذي دَف َع السـندبا َد البَ‬
‫َب أو‬ ‫حري يف إعـاد ِة حكايته بنـا ًء عىل طل ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫شر ُع السـندبا ُد البَ‬ ‫حكاي ِتـه؟ ال يَ َ‬
‫الس َد يَت َولَّدُ‪،‬‬
‫َـب يف اإلنصات للحكاية‪ .‬ذلـك أ ّن َّ‬ ‫سـؤال تلقّـا ُه ِمن جه ٍة ترغ ُ‬ ‫ُ‬
‫ـف َعـن الرغبة‬ ‫كش ُ‬‫نـي يَ ِ‬ ‫ض ْم ٍّ‬ ‫صيـح أو ِ‬ ‫َـب َ‬ ‫يف الغالـب العـا ّم‪ ،‬بنـا ًء على طل ٍ‬
‫م‪ ،‬مبَعنـى مـا‪ ،‬يف عالق ِة شـهرزاد بشـهريار‪.‬‬ ‫يف السماع‪ .‬وهـو أ ْمـ ٌر ُمتحكِّـ ٌ‬
‫حـرص َد ْومـاً‪ ،‬يف بنائـ ِه لهـا‪ ،‬على‬ ‫ُ‬ ‫أي حكايـة‪ ،‬يَ‬ ‫كما أ ّن سـار َد الحكايـة‪ِّ ،‬‬
‫ين ُع‬ ‫َجديـد َرغبـ ِة امل ُتلقِّـي يف السماع‪ ،‬وعلى تقويّـ ِة هـذه الرغبـة‪ ،‬مبـا َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬
‫ي‬ ‫أسـاس التعاق ِ‬
‫ُـد بَ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِمـن انطفائهـا وخُمودهـا‪ ،‬ذلـك أ ّن ت َوقُّـ َد هـذه ال َّرغبة‬
‫ح حكايـ ُة السـندباد‬ ‫صر ُ‬ ‫كي‪ .‬ال ت ُ ِّ‬ ‫ح ْ‬ ‫وأسـاس اسـ ِت ْم َرار ال َ‬ ‫ُ‬ ‫السـارد وامل ُتلقِّـي‪،‬‬
‫ن عـد َم الترصيـح‬ ‫ِ‬
‫حثَّـ ُه على روايَتهـا‪ ،‬لكـ ّ‬ ‫َـب تلقّـا ُه صاحبُهـا و َ‬ ‫حـري بطَل ٍ‬
‫ّ‬ ‫البَ‬
‫عنـي عـد َم حـ ْرص السـندباد‬ ‫ِ‬ ‫بالطلـب ال يَعنـي غيابَـهُ‪ ،‬أو بدقّـة أكبر‪ ،‬ال يَ ْ‬
‫ن االنتباه‬ ‫حيك‪ .‬البـدّ‪ ،‬إذا ً‪ِ ،‬م َ‬ ‫ليـده وات ّخا ِذه تَ ِعلّ ًة النطالق ال َ‬ ‫حـري على ت َ ْو ِ‬
‫ّ‬ ‫البَ‬

‫أن املتلقِّي الفعيلَّ للحكايات هو شهريار‪.‬‬ ‫((( ال ينبغي أيض ًا ْ‬


‫أن َن ْن َس‪ ،‬يف هذا السياق‪ّ ،‬‬

‫‪22‬‬
‫ي إىل‬ ‫أرسـل غُال َمـ ُه لدَعو ِة السـندباد ال ّ‬
‫رب ّ‬ ‫َ‬ ‫حـري عندمـا‬ ‫َّ‬ ‫إىل أ ّن السـندبا َد البَ‬
‫األبيات الشـعريّ َة التي‬ ‫ِ‬ ‫ن هذا األخري أ ْن يُعي َد إنشـا َد‬ ‫َلـب ِم ْ‬ ‫ْـب امل َنـزل‪ ،‬ط َ‬ ‫قل ِ‬
‫طلـب إعـاد ِة اإلنشـاد‬ ‫َ‬ ‫ي أ ْن أنشـدَها وهـو بالبَـاب‪ .‬إ ّن‬ ‫بر ّ‬
‫ـبق للسـندباد ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ (((‬
‫حـري روايـة حكايتـه ‪ ،‬التـي‬ ‫ّ‬ ‫غ إعـاد ِة السـندباد ال َب‬ ‫سـ ِّو ُ‬ ‫عمـق‪ُ ،‬م َ‬ ‫هـو‪ ،‬يف ال ُ‬
‫السـ ْبع‪ .‬إنّ ُه‬ ‫حدَى سـفراته َّ‬ ‫نإ ْ‬ ‫كل َع ْو َد ٍة ِم ْ‬ ‫عقـب ِّ‬ ‫َ‬ ‫سدَهـا ُمتقطِّعـ ًة‬ ‫سـبق أ ْن َ‬ ‫َ‬
‫خـاص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ه‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫ب‬
‫ّ ّ َ ْ‬ ‫ي‬ ‫بر‬ ‫ال‬ ‫للسـندباد‬ ‫ـام‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ي‬‫أ‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫ـبع‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫يف‬ ‫ً‪،‬‬ ‫ة‬ ‫تتاليـ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫هـا‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫رواي‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫عيـ‬ ‫يُ‬
‫حـري على‬ ‫ّ‬ ‫ثر السـندبا ُد ال َب‬ ‫بَعـد ُمطال َب ِتـ ِه بإعـا َد ِة األبيـات التـي فيهـا ع َ‬
‫ن‬ ‫جهُ‪ ،‬مبا ت َض ّم َنتْـ ُه األبياتُ ِم ْ‬ ‫ي كان يَت َو َّ‬ ‫البر ّ‬ ‫نـي‪ .‬كأ ّن السـندبا َد َ ّ‬ ‫ل ض ْم ّ‬ ‫سـؤا ٍ‬ ‫ُ‬
‫عم‬ ‫ع ُد بهـذه ال ِّن َ‬ ‫َسـ َ‬ ‫بالسـؤال التـايل‪ :‬كيف ت ْ‬ ‫ُّ‬ ‫حـري‬
‫ّ‬ ‫عنـى‪ ،‬إىل السـندباد البَ‬ ‫َم ْ‬
‫ح ْملي ال َمثيـل‬ ‫وكيـف أشـقى يف التعاسـة رغـم أن ِ‬ ‫َ‬ ‫جهـد أو َمشـقّة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫دُون‬
‫حمال اعلـم أ ّن يل‬ ‫ّ‬ ‫حـري بالقـول‪« :‬يـا‬ ‫ّ‬ ‫لـه؟ وهـو مـا ر َّد عليـه السـندباد ال َب‬
‫جميع مـا صا َر يل وما جـ َرى يل من ق ْبل أ ْن‬ ‫ربك ب َ‬ ‫وسـوف أخ ُ‬ ‫قصـ ًة عجيبـةً‪َ ،‬‬ ‫ّ‬
‫فإن‬‫وأجلـس يف هـذا املـكان الـذي تراين فيـه‪ّ .‬‬ ‫َ‬ ‫ر إىل هـذه السـعادة‬ ‫أصي َ‬
‫ب شـديد‪ ،‬ومشـ ّق ٍة‬ ‫ع ٍ‬
‫ع َد ت َ َ‬ ‫إل بَ ْ‬ ‫السـعادة وهـذا املكان ّ‬ ‫لـت إىل هـذه ّ‬ ‫ص ُ‬ ‫مـا َو َ‬
‫صب»‪.‬‬‫ـب وال ّن ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن التّ َ‬ ‫ت ِمـ َ‬ ‫ل كثيرة‪ .‬وكـم قاسـيْ ُ‬ ‫عظيمـ ٍة‪ ،‬وأهـوا ٍ‬
‫ناسـخ ًة َمضْ ُمو َن األبيات الشـعريّة‪ ،‬كام‬ ‫َـت روايـ ُة الحكاي ِة ِ‬ ‫هكـذا انطلق ْ‬
‫ن‬ ‫َت َعـ ْ‬
‫السـبع كشـف ْ‬ ‫السـفرات ّ‬ ‫ِ‬
‫حكايـات ّ‬ ‫كل حكايـ ٍة مـن‬‫سـ َبقَت اإلشـارة‪ُّ .‬‬
‫م اعتامدا ً على االنتقال‬ ‫ينٍ‪ ،‬إذ انتظـ َ‬ ‫ج بَ ِّ‬
‫فـق ت َد ُّر ٍ‬ ‫شـاق وشـدائ َد وأ ْهـوا ٍ‬
‫ل َو َ‬ ‫ّ‬ ‫َم‬
‫ن ذلـك‪ ،‬تَ َد ُّرجـاً ال‬ ‫ـب‪ .‬إ ّن مث َّـة‪ ،‬أبْعـ َد ِمـ ْ‬
‫ع َ‬ ‫ن ُمصي َبـ ٍة إىل أخـرى أشـ َّد وأص ْ‬ ‫ِمـ ْ‬
‫حـ َّد ِة امل َصائـب وحسـب‪ ،‬بـل يف صيَـغ امل َـوت أيضـاً‪ .‬يف ك ُِّل سـف َر ٍة‬ ‫يف ِ‬
‫أصعب‬
‫ُ‬ ‫الحقـ ٍة‪ ،‬تتبـدَّى فداحـ ُة املـوت‪ ،‬حتى َغدَتْ عبـار ُة «إ ّن هذا املـوتَ‬
‫كل سـفرة الحق ٍة‬ ‫َـوت األ ّول» مألوفـ ًة لـدى قـارئ الحكايـة‪ .‬ت َنطوي ُّ‬ ‫مـن امل ِ‬
‫كانـت‬‫ِ‬ ‫ن ِميتَـ ٍة إىل ِميتَـ ٍة‪،‬‬‫على مـا يَتجـا َو ُز سـابقتَها يف حـ َّد ِة املـوت‪ِ .‬مـ ْ‬

‫السفر‪.‬‬
‫حري‪ ،‬إىل ّ‬ ‫الب ّ‬ ‫األمر ب ُنزوع أصيل‪ ،‬يف كيان السندباد َ‬ ‫ُ‬ ‫ُس ِّوغ‪ ،‬إذ يتعل ُّق‬ ‫أعمق ِم ْن هذا امل َ‬‫ُ‬ ‫((( مثّة ما هو‬
‫األول‪ ،‬تحويل‬
‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫الس‬
‫َّ َ ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫األقلّ‬ ‫عىل‬ ‫ي‬ ‫ب‬
‫َ ََ ْ‬ ‫ب‬‫لس‬ ‫يك‬ ‫الح‬
‫َ‬ ‫يف‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫ينط‬ ‫يكْ‬ ‫ٍ‬
‫ّة‬‫ل‬ ‫ِ‬
‫َع‬ ‫ت‬ ‫ْقِ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫عىل‬ ‫األصل‪ّ ،‬إل‬
‫مل َيعمل‪ ،‬يف ْ‬ ‫وبذلك‪ْ ،‬‬
‫عن‬
‫كف ْ‬
‫أن َّ‬
‫بع َد ْ‬‫ْ‬ ‫يك‪،‬‬ ‫الح‬
‫َ‬ ‫عب‬
‫َْ‬ ‫ولو‬ ‫فر‬ ‫الس‬
‫ُ َّ‬ ‫تحضار‬ ‫اس‬
‫ْ‬ ‫الثاين‪،‬‬ ‫بب‬ ‫الس‬
‫َّ ُ‬ ‫تتالية‪.‬‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫حكاية‬ ‫إىل‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫ع‬ ‫تقطِّ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫واه‬
‫ُ‬ ‫ر‬
‫بق ْ َ‬
‫أن‬ ‫ما َس َ‬
‫وعب الحيك‪.‬‬
‫بالحيك ْ َ‬ ‫السفر‪ ،‬ولكن َ‬ ‫حري إىل َّ‬
‫الب ّ‬ ‫متديد ل ُن ُزوع السندباد َ‬ ‫ٌ‬ ‫األم َر‬
‫كأن ْ‬ ‫لموسة‪ّ .‬‬ ‫يكون تجربةً َم ُ‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫ْ‬

‫‪23‬‬
‫م‬ ‫ي‪ ،‬القائـ ُ‬ ‫بر ّ‬‫السـندباد ال ّ‬ ‫الفظاعـ ُة تشـت ُّد وتتضخَّـم‪ ،‬إىل أ ْن فقـ َد ادّعـا ُء ِّ‬
‫بـا كا َن التكرا ُر‬ ‫ح ْملـه بلا مثيـل‪ ،‬مصداقيّتَـهُ‪ ،‬وبَـدا بلا َمعنـى‪ .‬ل ُر َّ‬ ‫على أ ّن ِ‬
‫خ‬ ‫َسـ َ‬
‫ضمنيّـاً‪ ،‬ن ْ‬ ‫كل سـفر ٍة‪ ،‬يَـ ُرو ُم‪ِ ،‬‬ ‫الالفـت للفـظ «الحمـول»‪ ،‬يف بدايـ ِة ِّ‬
‫«الحمال» كلّما‬ ‫ّ‬ ‫ن ِ‬
‫صفـ ِة‬ ‫ي ِمـ ْ‬
‫بر ّ‬
‫البيّـة‪ ،‬وتجريـ َد السـندباد ال ّ‬ ‫الحمـول َ ّ‬
‫ـل بامل َـاء‪ ،‬أي بالبَحـر ‪.‬‬
‫(((‬ ‫اقتر َن ِ‬
‫الح ْم ُ‬
‫شـ ْبه قـا َّرة‪.‬‬ ‫السـبع إىل بنيـ ٍة ِ‬ ‫ن الحكايـات َّ‬ ‫كل حكايـ ٍة ِمـ َ‬ ‫ـت ُّ‬ ‫لقـد احتك َم ْ‬
‫خ مـا ت َض ّم َنتْـ ُه األبيـاتُ‬ ‫َسـ ِ‬‫ن نُ ُـ ِّو امل َعنـى َوفـق قانـونِ ن ْ‬ ‫ـل َعـ ْ‬ ‫بنيـ ٌة ال ت ِ‬
‫َنفص ُ‬
‫م‪،‬‬ ‫الشـعريّة‪ .‬ومـع ذلـك‪ ،‬فهـذا القانونُ‪ ،‬على أه ّم ّيتـه‪ ،‬ليس هو مـا يتح ّك ُ‬
‫السـفر‪،‬‬ ‫م فيها أساسـاً هو َّ‬ ‫يف األصـل‪ ،‬يف عنـارص هـذه البنيـة‪ .‬إ ّن ما يتح ّك ُ‬
‫ين الحيك‪ُ .‬منذ‬ ‫ك القائمِ بَ ْي َن ُه وبَ ْ َ‬ ‫ن َمال ِمح التشـابُ ِ‬ ‫ح ِم ْ‬
‫سـ َوى َملمـ ٍ‬ ‫سـت ِ‬ ‫إذ ل ْي َ‬
‫تواليـات حكايـ ِة‬ ‫ِ‬ ‫جـ ٍه عـا ّم‪ُ ،‬م‬ ‫السـفرة الثانيـة‪ ،‬التـي اسـتعادَتْ ‪ ،‬ب َو ْ‬ ‫حكايـ ِة ّ‬
‫رص الثابتـ َة يف هـذه البنيـة‪ ،‬التـي‬ ‫ْرك القـارئُ العنـا َ‬ ‫السـفرة األوىل‪ ،‬يُـد ُ‬ ‫ّ‬
‫فق‬ ‫ـت هـذه البنيـة َو َ‬ ‫ُـف عـن التَّوات ُـر يف باقـي الحكايـات‪ .‬لقـد انتظ َم ْ‬ ‫لـن تك ّ‬
‫انطلاق ال ِّرحلـة‬ ‫ُ‬ ‫حـز ُم األمتعـة‪،‬‬ ‫السـفر‪َ ،‬‬
‫الشـوق إىل ّ‬ ‫ُ‬ ‫املتواليـات اآلتيـة‪:‬‬
‫م امل َركـب أو ما‬ ‫حـدوثُ مـا يُحطِّ ُ‬ ‫َموسـوم ًة يف ال َبـدْء بالهـدوء والسـكينة‪ُ ،‬‬
‫انطلاق َمرحلـة التيـه‬ ‫ُ‬ ‫َّـف عـن اللحـاق بـه‪،‬‬ ‫حـري يتخل ُ‬ ‫ّ‬ ‫يجعـل السـندباد ال َب‬
‫أشـق‬‫ِّ‬ ‫كل يشء‪ُ ،‬مكابـد ُة‬ ‫التـي يكـو ُن فيهـا السـندبا ُد َوحيـدا ً و ُمجـ َّردا ً ِمـن ِّ‬
‫واكتشـاف‬‫ُ‬ ‫غ أقصى العـوامل‬ ‫األهـوال والعيـش على حافـة املـوت‪ ،‬بلـو ُ‬
‫الغريـب والعجيـب فيهـا‪ ،‬الظفر بأشـياء نفيسـة‪ ،‬بدايـ ُة االنفـراج باهتدا ِء‬
‫عـودة إىل موطنـه األ ّول‪ .‬إ ّن‬ ‫ن يُسـاعدَهُ على ال َ‬ ‫حـري إىل َمـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫السـندباد ال َب‬
‫ن أطـوار‬ ‫ن ُمتوالياتهـا‪ِ ،‬مـ ْ‬ ‫ين ِمـ ْ‬ ‫بنيـة الحكايـة ُمسـتم ّدةٌ‪ ،‬وفـق مـا هـو بَ ّ ٌ‬
‫م‬ ‫جهاً لهـذه امل ُتواليات‪ ،‬ناج ٌ‬ ‫م بالغريب‪ ،‬ب َوصفـه ُم َو ِّ‬ ‫السـفر‪ .‬كما أ ّن الغُنـ َ‬ ‫َّ‬
‫الغرائبي َمشـدود ٌة إىل‬ ‫ّ‬ ‫إىل‬ ‫السـندباد‬ ‫حكاية‬ ‫انتسـاب‬
‫َ‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ى‬‫ّ‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫ـفر‪،‬‬ ‫الس‬
‫َّ‬ ‫عن‬

‫له عىل مصطبة‬ ‫حم ُ‬


‫وإن َو َض َع ْ‬
‫الرب َّي‪ ،‬حتى ْ‬
‫السندباد ّ‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫تنب َه إىل ّ‬
‫عميق يف هذا السياق‪ ،‬إذ ّ‬‫ٌ‬ ‫((( لكيليطو تأويلٌ‬
‫حري‪ ،‬التي كان‬ ‫الب ّ‬‫آخر‪ ،‬حملِ حكاية السندباد َ‬ ‫بحمل َ‬
‫ْ‬ ‫الحمل‪ ،‬أل ّنه انتقلَ إىل االضطالعِ‬
‫ّ‬ ‫مل َيفقد ِ‬
‫صفةَ‬ ‫الباب‪ْ ،‬‬
‫الرب ّي لها‪ .‬ل ََعلّ هذا التأويل هو ما حدا بكيليطو إىل َع ْن َون َِة ُ‬
‫الجزء‬ ‫يزداد َيوم ًا َبعد يومٍ أثناء سامع السندباد ّ‬
‫ُ‬ ‫ثقلها‬
‫حملو‬‫«حملو الحكاية»‪ .‬اُنظُ ر‪ :‬عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬األعامل‪ ،‬الجزء الرابع‪ّ ،‬‬ ‫الرابع من أعامله عىل النحو التايل‪ّ :‬‬
‫الحكاية‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪.69 .‬‬

‫‪24‬‬
‫ّ‬
‫األول‪ ،‬أي إىل الرتحـال‪.‬‬ ‫ُمفا َرقـ ِة املـكان‬
‫حري‪،‬‬‫ّ‬ ‫والسـفر‪ ،‬يف حكاي ِة سـندباد ال َب‬ ‫َّ‬ ‫حيك‬ ‫ين ال َ‬‫ك القائـمِ بَ ْ‬ ‫إ ّن للتشـابُ ِ‬
‫ر قابل ٍة للتحديد‬ ‫حري غَي ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُوجوهـاً عديـدةً‪ ،‬أل ّن ُهويّ َة شـخص ّي ِة السـندباد ال َب‬
‫نجـذب‪ ،‬يف‬ ‫ٌ‬ ‫سـفَا ٌر‪ ،‬إنُّـ ُه ُم‬ ‫حـري ِم ْ‬
‫ّ‬ ‫السـفر‪ .‬فالسـندبا ُد ال َب‬ ‫َمفصولـ ًة عـن َّ‬
‫سـ ِف ُر عنـ ُه‬ ‫التسـاؤل‪ ،‬تبعـاً لذلـك‪َّ ،‬‬
‫عما يُ ْ‬ ‫َ‬ ‫التحـال‪ .‬إ َّن‬ ‫عميـق‪ ،‬إىل ّ‬ ‫كيانـه ال َ‬
‫جـواب عـن‬ ‫فتـح ُمحا َولـ َة ال َ‬ ‫السـ َف ُر لـدى هـذه الشـخص ّية امل َسـكونَ ِة بـه يَ ُ‬ ‫ّ‬
‫كل قـراء ٍة على‬ ‫وب تأويل ّيـ ٍة عديـد ٍة‪َ ،‬وفـق قُـدر ِة ِّ‬ ‫هـذا التسـاؤُل على ُد ُر ٍ‬
‫السـ َف ُر‬
‫سـف ُر َّ‬ ‫بـا يُ ْ‬ ‫حكي‪ .‬ل ُر َّ‬ ‫السـفر‪ ،‬واسـتكناه عالقتـ ِه بال َ‬ ‫أسار َّ‬ ‫اسـتكناه ْ‬
‫ح ِّديَّـ ٍة ال‬ ‫سـف ُر عنـه‪ ،‬عـن ت َجربـ ٍة َ‬ ‫حـري‪ِ ،‬مـن بَين مـا يُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫لـدى السـندباد ال َب‬
‫ن عُمـقِ الحياة‬ ‫ن ُمال َمسـ ِة امل َـوت و ُمجا َو َرتِـه‪ ،‬بغَاي ِة االقتراب ِم ْ‬ ‫تتـوان َعـ ْ‬
‫َ‬
‫سـ ِف ُر‪ ،‬أيْضـاً‪ ،‬عـن‬ ‫بـا يُ ْ‬ ‫صفهـا ُمخاطـ َرة‪ .‬ول ُر ّ‬ ‫والتحقٌّـق مـن اسـتيعابها ب َو ْ‬
‫ن‬ ‫السـفر‪ ،‬وبـه يُؤ ّم ُ‬ ‫ن السـندبا ُد إقا َمتَـ ُه يف ذكـ َرى َّ‬ ‫حكي‪ ،‬الـذي بـ ِه يَض َمـ ُ‬ ‫ال َ‬
‫ُ‬
‫الرتحـال‪،‬‬ ‫ّـف‬
‫عـ َد أ ْن توق َ‬ ‫حـ ُه اللُّغـة‪ ،‬بَ ْ‬ ‫السـفر الـذي ت ُتي ُ‬ ‫االنتقـال إىل خَيـال َّ‬ ‫َ‬
‫وكـف عـن أ ْن يكـو َن تجربـ ًة حيات ّيـة َمل ُموسـة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫حـري‪ ،‬امل َفتوحـ َة دَومـاً على التّحيني‬
‫ّ‬ ‫جملـة‪ ،‬إ ّن حكايـ َة سـندباد ال َب‬ ‫بال ُ‬
‫يئ‪ ،‬تَ ْبنـي َمفهومـاً ُمتط ِّورا ً للتجربـة‪َ ..‬مفهوماً يتقاط ُع مـع التص ُّورات‬ ‫القـرا ِّ‬
‫ن معـاين التجربـة‪ ،‬يف هـذه الحكايـة‪ ،‬كونُهـا اختبـارا ً للـذات‬ ‫الحديثـة‪ِ .‬مـ ْ‬
‫جـز ٌء ِمـ َ‬
‫ن ال ّنجـاة‪،‬‬ ‫حـدُود املـوت‪ .‬التجربـة ُمخاطـ َرةٌ‪ .‬الخطـ ُر فيهـا ُ‬ ‫على ُ‬
‫م عنه‪.‬‬
‫ن التّيـه وناجـ ٌ‬ ‫ـل ِمـ َ‬
‫تحص ٌ‬
‫ّ‬ ‫واالهتـدا ُء إىل ُغ ْنمهـا ُم‬

‫خالد بلقاسم‬

‫‪25‬‬
‫حكايات السندباد‬
‫قالـت‪ :‬بلغنـي أنـه كان يف زمن الخليفـة أمري املؤمنني هارون الرشـيد‪،‬‬
‫الحمال‪ ،‬وكان رجالً فقير الحال‬
‫َّ‬ ‫مبدينـة بغـداد‪ ،‬رجـل يقـال لـه السـندباد‬
‫يحمـل تاجرتـه على رأسـه‪ ،‬فاتَّفـق له أنـه حمل‪ ،‬يف يـوم من األيّـام‪ ،‬حملة‬
‫ثقيلـة‪ ،‬وكان ذلـك اليـوم شـديد الحـ ّر‪ ،‬تعـب مـن تلـك الحملـة‪ ،‬وعـرق‪،‬‬
‫ورش‪ ،‬وهناك‬
‫ّ‬ ‫واشـت ّد عليـه الحـ ّر‪ ،‬فمـ ّر على بـاب رجل تاجـر قدّامـه كنـس‬
‫الحمال حملته‬
‫َّ‬ ‫هـواء معتـدل‪ ،‬وكان بجانـب الباب مصطبـة عريضة‪ ،‬فح ّ‬
‫ط‬
‫م الهواء‪.‬‬
‫على تلـك املصطبـة ليستريح ويشـ ّ‬
‫وأدرك شهر زاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫الحمل مل ّا‬
‫َّ‬ ‫ويف الليلـة (‪ ،)525‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن‬
‫م الهواء‪ ،‬خـرج عليه من‬ ‫ط حملتـه على تلـك املصطبة ليستريح‪ ،‬ويشـ ّ‬ ‫حـ ّ‬
‫الحمل لذلـك‪ ،‬وجلس عىل‬ ‫َّ‬ ‫ذلـك البـاب نسـيم رائق ورائحـة ذكية فاسـتل ّذ‬
‫جانـب املصطبة‪ ،‬فسـمع يف ذلك املكان نغم أوتـار وعود وأصوات مطربة‬
‫وأنـواع إنشـاد معربـة‪ ،‬وسـمع‪ -‬أيضـاً‪ -‬أصـوات طيـور تناغـي وتسـبِّح اللـه‬
‫(تعـاىل) باختلاف األصـوات وسـائر اللّغـات‪ ،‬مـن قماري وهـزار وشـحارير‬
‫جـب يف نفسـه‪ ،‬وطـرب طربـاً‬ ‫وبلبـل وفاخـت وكـروان‪ ،‬فعنـد ذلـك تع َّ‬
‫شـديدا ً‪ ،‬فتقـدَّم إىل ذلـك فوجـد داخـل البيـت بسـتاناً عظيماً‪ ،‬ونظـر فيـه‬

‫‪29‬‬
‫غلامناً وعبيدا ً وخدماً وحشماً وشـيئاً ال يوجد إلّ عند امللوك والسلاطني‪،‬‬
‫وبعـد ذلـك هبطـت عليـه رائحـة أطعمـة طيِّبـة زكيـة مـن جميـع األلـوان‬
‫املختلفـة والشراب الطيِّـب‪ ،‬فرفـع طَ ْرفـه إىل السماء‪ ،‬وقال‪ :‬سـبحانك يا‬
‫م إين أسـتغفرك‬ ‫رب‪ ،‬ياخالـق يـا رازق‪ ،‬تـرزق مـن تشـاء بغير حسـاب‪ .‬الله َّ‬
‫ّ‬
‫رب‪ ،‬ال أعترض عليك يف‬ ‫مـن جميـع الذنـوب‪ ،‬وأتوب إليـك من العيوب‪ .‬يـا ّ‬
‫كل يشء قديـر‪.‬‬ ‫عما تفعـل‪ ،‬وأنـت على ّ‬ ‫حكمـك وقدرتـك‪ ،‬فإنـك ال تُسـأل ّ‬
‫ّ‬
‫وتـذل من‬ ‫سـبحانك‪ ،‬تغنـي مـن تشـاء‪ ،‬وتفقـر من تشـاء‪ ،‬وتع ّز من تشـاء‪،‬‬
‫تشـاء‪ ،‬ال إلـه إلّ أنـت‪ .‬مـا أعظـم شـأنك! ومـا أقـوى سـلطانك! ومـا أحسـن‬
‫تدبيرك! قـد أنعمـت على من تشـاء من عبـادك‪ ،‬فهـذا املـكان صاحبه يف‬
‫غايـة النعمـة‪ ،‬وهـو متلـذِّذ بالروائـح اللطيفـة واملـآكل اللذيذة واملشـارب‬
‫الفاخـرة يف سـائر الصفـات‪ ،‬وقـد حكمـت يف خلقـك مبـا تريـد ومـا قدَّرتـه‬
‫عليهـم؛ فمنهـم تعبـان‪ ،‬ومنهـم مستريح‪ ،‬ومنهـم سـعيد‪ ،‬ومنهـم من هو‬
‫مثلي يف غايـة التعـب والـذّل‪ ،‬ثـم أنشـد يقول‪:‬‬

‫وظل‬
‫ِّ‬ ‫ينعم يف خري َ‬
‫فء‬ ‫شقي بال راح ٍة‬
‫ٍّ‬ ‫فكم من‬
‫وأمري عجيب‪ ،‬وقد زاد حميل‬ ‫وأصبحت يف تعب ٍ‬
‫زائد‬
‫ح َمل الدهر يوماً كحميل‬
‫وما َ‬ ‫وغريي سعيد بال شقو ٍة‬
‫ورشب وأكلِ‬
‫ٍ‬ ‫ببسط وع ٍّز‬ ‫ينعم يف عيشة دامئاً‬
‫أنا مثل هذا‪ ،‬وهذا كمثيل‬ ‫وكل الخالئق من نطف ٍة‬
‫ّ‬
‫وخل!‬
‫ِّ‬ ‫وشتّان بني خمر‬ ‫ولكن شتّان ما بيننا!‬
‫فأنت حكيم حكمت بعد ِ‬
‫ل‬ ‫ولست أقول عليك افرتا ًء‬
‫الحمال من شـعره ونظمـه‪ ،‬أراد أن يحمـل حملته‬
‫َّ‬ ‫فلما فـرغ السـندباد‬
‫ن حسـن الوجه‬ ‫ويسير‪ ،‬إذ قـد طلـع عليـه مـن ذلك البـاب غالم صغري السـ ّ‬
‫الحمل‪ ،‬وقال لـه‪ :‬ادخل‪ ،‬كلِّم‬
‫َّ‬ ‫مليـح القـ ّد فاخـر املالبس‪ ،‬فقبض عىل يـد‬
‫الحمال االمتنـاع مـن الدخـول مع الغلام فلم‬
‫َّ‬ ‫سـيِّدي فإنـه يدعـوك‪ .‬فـأراد‬
‫ط حملتـه عنـد البـاب يف دهليـز املـكان‪ ،‬ودخـل مع‬ ‫يقـدر على ذلـك‪ ،‬فحـ َّ‬

‫‪30‬‬
‫الغلام الـدار‪ ،‬فوجـد دارا ً مليحـة‪ ،‬وعليهـا أنـس ووقـار‪ ،‬ونظـر إىل مجلـس‬
‫عظيـم فنظـر فيـه من السـادات الكـرام واملـوايل العظام‪ ،‬وفيـه من جميع‬
‫أصنـاف الزهـر وجميـع أصناف املشـموم ومن أنواع النقـل والفواكه ويشء‬
‫خـواص دوايل‬
‫ّ‬ ‫كثير مـن أصنـاف األطعمـة النفيسـة‪ ،‬وفيـه مشروب مـن‬
‫كل‬
‫الكـرام‪ ،‬وفيـه آالت السماع والطـرب ومـن أصنـاف الجـواري الحسـان‪ّ ،‬‬
‫منهـم يف مقامـه‪ ،‬على حسـب الرتتيـب‪ .‬ويف صـدر ذلـك املجلـس رجـل‬
‫عظيـم محترم قـد لكـزه الشـيب يف عوارضـه‪ ،‬وهـو مليـح الصـورة حسـن‬
‫املنظـر وعليـه هيبـة ووقـار وعـ ّز وافتخـار‪ .‬فعنـد ذلـك‪ ،‬بهـت السـندباد‬
‫الحمال وقـال يف نفسـه‪ :‬واللـه‪ ،‬إن هـذا املـكان مـن بقـع الجنـان‪ ،‬أو أنـه‬
‫َّ‬
‫يكـون قصر ملـك أو سـلطان‪ ،‬ثـم تـأدَّب وسـلَّم عليـه‪ ،‬ودعـا لهـم‪ ،‬وقبَّـل‬
‫األرض بين يديهـم‪ ،‬ووقـف وهـو منكِّـس راسـه‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)526‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫الحمال مل ّـا ق َّبـل األرض بين أيديهم‪ ،‬وقـف منكَّس الرأس متخشّ ـع‪ ،‬فأذن‬ ‫َّ‬
‫لـه صاحـب املـكان بالجلـوس فجلـس‪ ،‬وقـد ق َّربـه إليـه‪ ،‬وصـار يؤانسـه‬
‫حـب بـه‪ ،‬ثـم إنـه قـدَّم لـه شـيئاً مـن أنـواع الطعـام املفتخـر‬ ‫بالـكالم وير ِّ‬
‫الحمال وسـ َّمى وأكل حتـى اكتفـى‬ ‫َّ‬ ‫الط ِّيـب النفيـس‪ ،‬فتقـدَّم السـندباد‬
‫كل حـال‪ ،‬ثـم إنـه غسـل يديـه وشـكرهم‬ ‫وشـبع‪ ،‬وقـال‪ :‬الحمـد للـه على ّ‬
‫على ذلـك‪ .‬فقـال صاحـب املـكان‪ :‬مرحبـاً بـك‪ ،‬ونهـارك مبـارك‪ .‬فما يكون‬
‫اسـمك؟ ومـا تعـاين مـن الصنائـع؟ فقـال لـه‪ :‬يـا سـيِّدي‪ ،‬اسـمي السـندباد‬
‫فتبسـم صاحـب‬‫َّ‬ ‫الحمال‪ ،‬وأنـا أحمـل على رأيس أسـباب النـاس باألجـرة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫حمال‪ -‬أن اسـمك مثـل اسـمي‪ ،‬فأنا السـندباد‬ ‫َّ‬ ‫م‪ -‬يـا‬
‫املـكان وقـال لـه‪ :‬اعلـ ْ‬
‫حمل‪ -‬قصـدي أن تسـمعني األبيات التي كنت تنشـدها‬ ‫البحـري‪ ،‬ولكـن‪ -‬يـا َّ‬
‫الحمال وقال له‪ :‬بالله عليـك‪ ،‬ال تؤاخذين فإن‬ ‫َّ‬ ‫وأنـت عىل الباب‪ ،‬فاسـتحى‬
‫التعـب واملشـقّة وقلّـة ما يف اليد تعلِّم اإلنسـان قلّة األدب والسـفه‪ .‬فقال‬
‫لـه‪ :‬ال تسـتحي‪ ،‬فأنـت رصت أخـي‪ ،‬فأنشـ ْد هذه األبيـات فإنهـا أعجبتني مل ّا‬
‫الحمال تلك‬
‫َّ‬ ‫سـمعتها منـك‪ ،‬وأنـت تنشـدها عىل البـاب؛ عند ذلك‪ ،‬أنشـده‬

‫‪31‬‬
‫قصـة عجيبـة‪،‬‬
‫األبيـات فأعجبتـه وطـرب لسماعها‪ ،‬وقـال لـه‪ :‬اعلـم أن يل ّ‬
‫وسـوف أخبرك بجميـع مـا صـار يل ومـا جرى يل مـن قبل أن أصير يف هذه‬
‫السـعادة‪ ،‬وأجلـس يف هـذا املـكان الـذي تـراين فيـه‪ ،‬فـإين مـا وصلت إىل‬
‫هـذه السـعادة وهـذا املـكان‪ ،‬إلّ بعد تعب شـديد ومشـقّة عظيمـة وأهوال‬
‫كثيرة‪ ،‬وكـم قاسـيت يف الزمـن األ َّول مـن التعـب والنصـب! وقـد سـافرت‬
‫وكل ذلـك بالقضـاء‬
‫تحير الفكـر‪ّ .‬‬‫ِّ‬ ‫وكل سـفرة لهـا حكايـة‬‫سـبع سـفرات‪ّ ،‬‬
‫والقـدر‪ ،‬وليـس مـن املكتـوب مفـ ّر وال مهـرب‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫الحكاية األوىل‬
‫(أ َّول السفرات)‬

‫اعلمـوا‪ -‬يـا سـادة يـا كرام‪ -‬أنـه كان يل أب تاجـر‪ ،‬وكان مـن أكابر الناس‬
‫جـار‪ ،‬وكان عنـده مـال كثير ونـوال جزيـل‪ ،‬وقـد مـات وأنـا ولـد صغري‪،‬‬ ‫والت ّ‬
‫فلما كبرت وضعـت يـدي على الجميـع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وخلَّـف يل مـاالً وعقـارا ً وضياعـاً‪.‬‬
‫وقـد أكلـت أكالً مليحـاً‪ ،‬ورشبت رشباً مليحـاً‪ ،‬وعارشت الشـباب‪ ،‬وتج ّملت‬
‫الخلان واألصحـاب‪ ،‬واعتقـدت أن ذلـك يدوم‬ ‫ّ‬ ‫بلبـس الثيـاب‪ ،‬ومشـيت مـع‬
‫يل وينفعنـي‪ ،‬ومل أزل على هـذه الحالـة مـ ّد ًة مـن الزمـان‪ .‬ثـم إين رجعـت‬
‫إىل عقلي‪ ،‬وأفقـت مـن غفلتي فوجـدت مايل قد مال‪ ،‬وحـايل قد حال وقد‬
‫ذهـب جميـع مـا كان عندي‪ ،‬ومل أسـتفق لنفيس إلّ وأنا مرعـوب مدهوش‪،‬‬
‫وقـد تفكَّـرت حكايـة كنـت أسـمعها سـابقاً‪ ،‬وهي حكاية سـ ِّيدنا سـليامن بن‬
‫داود (عليـه السلام) يف قولـه‪ :‬ثالثـة خير مـن ثالثـة‪ ،‬يوم املمات خري من‬
‫حـي خير مـن سـبع ميِّـت‪ ،‬والقبر خير مـن القصر‪.‬‬ ‫يـوم الـوالدة‪ ،‬وكلـب ّ‬

‫‪33‬‬
‫ثـم إين قمـت وجمعـت مـا كان عنـدي مـن أثـاث وملبـوس وبعته‪ ،‬ثـم بعت‬
‫عقـاري وجميـع مـا متلـك يـدي‪ ،‬فجمعـت ثالثـة آالف درهـم‪ ،‬وقـد خطـر‬
‫ببـايل السـفر إىل بلاد النـاس‪ ،‬وتذكَّـرت كالم بعـض الشـعراء حيـث قال‪:‬‬

‫ن طلب العال سهر الليايل‬


‫و َم ْ‬ ‫بقدر الك ّد تُكتَسب املـعـالـي‬
‫ويحظى بالسـيادة والـنـوا ِ‬
‫ل‬ ‫يغوص البحر من طلب الآللئ‬
‫أضاع العمر يف طلب املحا ِ‬
‫ل‬ ‫ن طلب العال من غري كَـ ٍّد‬
‫و َم ْ‬
‫فعنـد ذلـك‪ ،‬هممـت فقمـت واشتريت يل بضاعـة ومتاعـاً وأسـباباً‬
‫وشـيئاً مـن أغـراض السـفر‪ ،‬وقـد سـمحت يل نفسي بالسـفر يف البحـر‪،‬‬
‫جـار‬
‫فنزلـت املركـب وانحـدرت إىل مدينـة البصرة مـع جامعـة مـن الت ّ‬
‫ورسنـا يف البحـر أيّامـاً وليـايل‪ ،‬وقـد مررنـا بجزيـرة بعـد جزيـرة ومـن بحـر‬
‫كل مـكان مررنـا بـه نبيـع ونشتري ونقايـض‬ ‫إىل بحـر ومـن بـ ٍّر إىل بَـ ّر‪ .‬ويف ّ‬
‫بالبضائـع فيـه‪ ،‬وقـد انطلقنا يف سير البحـر إىل أن وصلنا إىل جزيـرة كأنها‬
‫روضـة مـن ريـاض الج ّنـة‪ ،‬فـأرىس بنـا صاحـب املركب على تلـك الجزيرة‪،‬‬
‫ورمـى مراسـيها وشـ َّد السـقالة‪ ،‬فنـزل جميـع مـن كان يف املركـب يف تلك‬
‫الجزيـرة‪ ،‬وعملـوا لهـم كوانين‪ ،‬وأوقـدوا فيهـا النـار‪ ،‬واختلفت أشـغالهم؛‬
‫فمنهـم مـن صـار يطبـخ‪ ،‬ومنهم من صـار يغسـل‪ ،‬ومنهم من صـار يتف َّرج‪،‬‬
‫وكنـت أنـا مـن جملة املتف ِّرجين يف جوانـب الجزيـرة‪ .‬وقد اجتمـع الركَّاب‬
‫على أكل ورشب ولهـو ولعـب‪ .‬فبينام نحـن عىل تلك الحالـة‪ ،‬وإذا بصاحب‬
‫املركـب واقـف عىل جانبه‪ ،‬وصاح بأعلى صوته‪ :‬يا ركّاب السلامة‪ ،‬أرسعوا‬
‫واطلعـوا إىل املركـب‪ ،‬وبـادروا إىل الطلـوع‪ ،‬واتركـوا أسـبابكم‪ ،‬واهربـوا‬
‫بأرواحكـم‪ ،‬وفـوزوا بسلامة أنفسـكم مـن الهلاك؛ فـإن هـذه الجزيـرة التي‬
‫أنتـم عليهـا مـا هـي جزيـرة وإمنـا هي سـمكة كبيرة رسـت يف وسـط البحر‪،‬‬
‫فبنـى عليهـا الرمـل فصـارت مثـل الجزيـرة وقـد نبتـت عليهـا األشـجار مـن‬
‫أحسـت بالسـخونة فتح َّركـت‪،‬‬‫َّ‬ ‫قديـم الزمـان‪ ،‬فلما أوقدتـم عليهـا النـار‬
‫ويف هـذا الوقـت تنـزل بكـم يف البحـر فتغرقـون جميعـاً‪ ،‬فاطلبـوا النجـاة‬
‫ألنفسـكم قبـل الهلاك‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)527‬قالـت‪ :‬بلغني‪ -‬أيُّها امللك السـعيد‪ -‬أن ريِّس املركب‬
‫مل ّـا صـاح على الـركّاب وقـال لهـم‪ :‬اطلبـوا النجـاة ألنفسـكم‪ ،‬واتركـوا‬
‫األسـباب‪ ،‬ومل ّـا سـمع الـركّاب كالم ذلـك الريِّـس‪ ،‬أرسعوا وبـادروا بالطلوع‬
‫إىل املركب‪ ،‬وتركوا األسـباب وحوائجهم ودسـوتهم وكوانينهم‪ ،‬فمنهم من‬
‫لحـق املركـب‪ ،‬ومنهـم من مل يلحقه وقـد تح َّركت تلك الجزيـرة ونزلت إىل‬
‫قـرار البحـر بجميـع مـا كان عليهـا‪ ،‬وانطبق عليهـا البحر العجـاج املتالطم‬
‫باألمـواج‪ ،‬وكنـت مـن جملة مـن تخلَّف يف الجزيـرة‪ ،‬فغرقـت يف البحر مع‬
‫جاين مـن الغـرق‪ ،‬ورزقني‬ ‫جملـة مـن غـرق‪ ،‬ولكـن اللـه (تعـاىل) أنقـذين ون ّ‬
‫بقطعة خشـب كبرية من القطع التي كانوا يغسـلون فيها فمسـكتها بيدي‪،‬‬
‫وركبتهـا مـن حلاوة الـروح‪ ،‬ورفسـت يف املـاء برجلي مثـل املجاذيـف‬
‫واألمـواج تلعـب يب ميينـاً وشماالً‪ .‬وقـد نشر الريِّس قلاع املركب وسـافر‬
‫بالذيـن طلـع بهـم يف املركـب‪ ،‬ومل يلتفـت ملن غـرق منهـم‪ .‬ومازلت أنظر‬
‫لي‬‫إىل ذلـك املركـب حتـى خفـي عـن عينـي‪ ،‬وأيقنـت بالهلاك‪ .‬ودخـل ع َّ‬
‫الليـل وأنـا على هـذه الحالـة‪ ،‬فمكثـت على مـا أنـا فيـه يومـاً وليلـة‪ ،‬وقـد‬
‫سـاعدين الريـح واألمـواج إىل أن رسـت يب تحت جزيرة عالية وفيها أشـجار‬
‫مطلّـة على البحـر‪ ،‬فمسـكت فرعـاً مـن شـجرة عاليـة‪ ،‬وتعلَّقـت بـه بعدمـا‬
‫ومتسـكت به إىل أن طلعـت إىل الجزيرة‪ ،‬فوجدت يف‬ ‫َّ‬ ‫أرشفـت على الهالك‬
‫رجلي خـدالً وأثـر أكل السـمك يف بطونهما‪ ،‬ومل أشـعر بذلك من شـدّة ما‬
‫كنـت فيـه مـن الكـرب والتعـب‪ ،‬وقـد ارمتيـت يف الجزيـرة وأنـا مثـل امل ِّيت‬
‫وغبـت عـن وجـودي‪ ،‬وغرقـت يف دهشـتي‪ ،‬ومل أزل على هـذه الحالـة إىل‬
‫يل‬
‫لي‪ ،‬وانتبهت يف الجزيـرة فوجدت رج َّ‬ ‫ثـاين يـوم‪ .‬وقد طلعت الشـمس ع َّ‬
‫قـد ورمتـا‪ ،‬فسرت حزينـاً على مـا أنـا فيـه‪ ،‬فتـار ًة أزحـف‪ ،‬وتـار ًة أحبـو عىل‬
‫ركبـي‪ .‬وكان يف الجزيـرة فواكـه كثيرة‪ ،‬وعيـون مـاء عـذب‪ ،‬فصرت آكل‬
‫مـن تلـك الفواكـه‪ ،‬ومل أزل على هـذه الحالـة مـدّة أيّـام وليالٍ‪ ،‬فتنعنشـت‬
‫نفسي‪ ،‬و ُردَّت يل روحـي‪ ،‬وقَويَـت حركتـي‪ ،‬ورصت أتفكَّـر وأميش يف جانب‬
‫مما خلق الله (تعاىل)‪ .‬وقـد عملت يل عكّازا ً‬ ‫الجزيـرة وأتفـ َّرج بني األشـجار ّ‬
‫مـن تلـك األشـجار أتـوكَّأ عليـه‪ .‬ومل أزل على هـذه الحالـة إىل أن متشَّ ـيت‬

‫‪35‬‬
‫شـبح مـن بعيـد فظننـت أنـه‬ ‫ٌ‬ ‫فلاح يل‬
‫َ‬ ‫يومـاً مـن األيّـام يف جانـب الجزيـرة‪،‬‬
‫دواب البحـر‪ ،‬فتمشَّ ـيت إىل نحـوه‪ ،‬ومل أزل أتفـ َّرج‬
‫ّ‬ ‫وحـش أو أنـه دابّـة مـن‬
‫عليـه وإذا هـو فـرس عظيم املنظـر‪ ،‬مربوط يف جانب الجزيرة عىل شـاطئ‬
‫لي رصخة عظيمـة‪ ،‬فارتعبت منـه وأردت أن‬ ‫البحـر‪ ،‬فدنـوت منـه‪ ،‬فرصخ ع َّ‬
‫يل‪ ،‬وتبعنـي وقال يل‪:‬‬ ‫أرجـع‪ ،‬وإذا برجـل خـرج من تحـت األرض‪ ،‬وصـاح ع َّ‬
‫مـن أنـت؟ ومـن أيـن جئـت؟ وما سـبب وصولك إىل هـذا املـكان؟ فقلت له‪:‬‬
‫يـا سـ ِّيدي‪ ،‬اعلـم أين رجـل غريـب‪ ،‬وكنت يف مركـب وغرقت أنـا وبعض من‬
‫كان فيهـا‪ ،‬فرزقنـي اللـه بقطعـة خشـب فركبتهـا وعامـت يب إىل أن رمتنـي‬
‫فلما سـمع كالمـي أمسـكني مـن يـدي‪ ،‬وقـال‬ ‫ّ‬ ‫األمـواج يف هـذه الجزيـرة‪.‬‬
‫امـش معـي‪ .‬فنـزل يب يف رسداب تحـت األرض‪ ،‬ودخـل يب إىل قاعـة‬ ‫ِ‬ ‫يل‪:‬‬
‫كبيرة تحـت األرض وأجلسـني يف صـدر تلـك القاعـة‪ ،‬وجـاء يل بشيء من‬
‫الطعـام‪ ،‬وأنـا كنـت جائعاً فأكلت حتى شـبعت واكتفيـت‪ ،‬وارتاحت نفيس‪،‬‬
‫ثـم إنـه سـألني عـن حـايل وما جـرى يل‪ ،‬فأخربتـه بجميـع ما كان مـن أمري‬
‫فلما فرغت مـن حكايتي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قصتـي‪.‬‬
‫جـب مـن َّ‬ ‫مـن املبتـدأ إىل املنتهـى‪ ،‬فتع َّ‬
‫قلـت‪ :‬باللـه عليـك‪ ،‬ياسـيِّدي‪ ،‬ال تؤاخـذين‪ ،‬فأنـا قـد أخربتـك بحقيقة حايل‬
‫ومـا جـرى يل‪ ،‬وأنـا أشـتهي منـك أن تخبرين مـن أنـت‪ ،‬وما سـبب جلوسـك‬
‫يف هـذه القاعـة التـي تحـت األرض‪ ،‬ومـا سـبب ربطـك هـذه الفـرس على‬
‫جانـب البحـر‪ ،‬فقـال يل‪ :‬اعلـم أننـا جامعـة متف ِّرقون يف هـذه الجزيرة عىل‬
‫جوانبهـا‪ ،‬ونحـن سـيّاس امللـك املهرجـان‪ ،‬وتحـت أيدينـا جميـع خيولـه‪.‬‬
‫كل شـهر‪ ،‬عنـد القمـر‪ ،‬نـأيت بالخيل الجيـاد ونربطها يف هـذه الجزيرة‬ ‫ويف ّ‬
‫كل بكـر‪ ،‬ونختفـي يف هـذه القاعـة تحـت األرض حتـى ال يرانـا أحـد‪،‬‬ ‫مـن ّ‬
‫فيجـيء حصـان مـن خيـول البحـر على رائحـة تلـك الخيـل‪ ،‬ويطلـع على‬
‫بر فـإن مل يـ َر أحـدا ً‪ ،‬ي ِثب عليهـا ويقيض منهـا حاجته‪ ،‬وينـزل عنها ويريد‬ ‫ال ّ‬
‫أخذهـا معـه‪ ،‬فلا تقـدر أن تسير معـه من الربـاط‪ ،‬فتصيـح عليـه ويرضبها‬
‫برأسـه ورجليـه ويصيـح‪ ،‬فنسـمع صوتـه‪ ،‬فنعلـم أنـه نـزل عنهـا‪ ،‬فنطلـع‬
‫صارخين عليـه‪ ،‬فيخـاف وينـزل البحـر‪ .‬والفـرس تحمـل وتلد مهـرا ً أو مهرة‬
‫تسـاوي خزنـة مـال‪ ،‬وال يوجد لها نظير عىل وجه األرض‪ .‬وهـذا وقت طلوع‬
‫الحصـان‪ ،‬وإن شـاء اللـه (تعـاىل) آخـذك معـي إىل امللـك املهرجان‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)528‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـايس‬
‫قـال للسـندباد البحـري‪ :‬آخـذك معـي إىل امللـك املهرجـان وأف ِّرجك عىل‬
‫بالدنـا‪ .‬واعلـم أنـه لـوال اجتامعـك علينـا ما كنـت ترى أحـدا ً يف هـذا املكان‬
‫غرينـا‪ ،‬وكنـت متـوت كمـدا ً‪ ،‬وال يـدري بـك أحـد‪ ،‬ولكـن أنـا أكـون سـبب‬
‫حياتـك ورجوعـك إىل بلادك‪ ،‬فدعـوت لـه وشـكرته على فضلـه وإحسـانه‪.‬‬
‫فبينما نحـن يف هـذا الـكالم‪ ،‬وإذا بالحصـان قـد طلـع مـن البحـر ورصخ‬
‫فلما فـرغ منهـا نـزل عنهـا‪ ،‬وأراد‬‫ّ‬ ‫رصخـة عظيمـة‪ ،‬ثـم وثـب على الفـرس‬
‫أخذهـا معـه فلـم يقـدر‪ ،‬ورفسـت وصاحـت عليـه فأخـذ الرجـل السـايس‬
‫سـيفاً بيـده ودرقـة‪ ،‬وطلـع مـن بـاب تلـك القاعـة‪ ،‬وهـو يصيـح على رفقتـه‬
‫ويقـول‪ :‬اطلعـوا إىل الحصـان‪ ،‬ويضرب بالسـيف على الدرقـة‪ ،‬فجـاء‬
‫جامعـة بالرمـاح صارخين‪ ،‬فجفـل منهـم الحصـان وراح إىل حـال سـبيله‪،‬‬
‫ونـزل يف البحـر مثـل الجامـوس‪ ،‬وغـاب تحـت املـاء‪ .‬فعنـد ذلـك‪ ،‬جلـس‬
‫كل واحد فـرس يقودها‪،‬‬ ‫الرجـل قليلاً‪ ،‬وإذا هـو بأصحابـه قد جاؤوه‪ ،‬ومـع ّ‬
‫فنظـروين عنـده فسـألوين عـن أمـري‪ ،‬فأخربتهـم مبـا حكيتـه لـه‪ ،‬وقربـوا‬
‫منـي ومـدّوا السماط وأكلـوا‪ ،‬وعزمـوين‪ ،‬فأكلـت معهـم‪ ،‬ثـم إنهـم قامـوا‬
‫وركبـوا الخيـول‪ ،‬وأخـذوين إىل مدينـة امللـك املهرجـان‪ ،‬وقد دخلـوا عليه‬
‫بقصتـي‪ ،‬فطلبنـي‪ ،‬فأدخلوين عليـه وأوقفوين بني يديه‪ ،‬فسـلَّمت‬ ‫وأعلمـوه َّ‬
‫حـب يب وح ّيـاين بإكـرام‪ ،‬وسـألني عـن حـايل‪،‬‬ ‫لي السلام ور َّ‬
‫عليـه فـر َّد ع َّ‬
‫وبـكل مـا رأيتـه مـن املبتـدأ إىل املنتهـى‪.‬‬‫ّ‬ ‫فأخربتـه بجميـع مـا حصـل يل‬
‫ومما جـرى يل‪ ،‬فعنـد ذلـك قـال يل‪ :‬يـا‬ ‫ّ‬ ‫مما وقـع يل‬‫عنـد ذلـك‪ ،‬تعجـب ّ‬
‫ولـدي‪ ،‬واللـه لقـد حصـل لـك مزيـد السلامة‪ ،‬ولوال طـول عمرك مـا نجوت‬
‫يل‬
‫مـن هـذه الشـدائد‪ ،‬ولكـن الحمـد للـه على السلامة‪ .‬ثـم إنـه أحسـن إ َّ‬
‫وأكرمنـي وق َّربنـي إليـه وصـار يؤانسـني بالـكالم واملالطفة‪ ،‬وجعلنـي عنده‬
‫بر‪ ،‬ورصت واقفاً‬ ‫كل مركب عربت إىل ال ّ‬ ‫عاملاً يف مينـاء البحـر وكاتباً على ّ‬
‫كل جانـب‪،‬‬ ‫يل وينفعنـي مـن ّ‬ ‫عنـده ألقضي لـه مصالحـه‪ ،‬وهـو يحسـن إ ّ‬
‫وقـد كسـاين كسـوة مليحـة فاخـرة‪ ،‬ورصت مقدَّمـاً عنـده يف الشـفاعات‬
‫أشـق على‬
‫ّ‬ ‫وقضـاء مصالـح النـاس‪ ،‬ومل أزل عنـده مـدّة طويلـة‪ .‬وأنـا كلَّما‬

‫‪37‬‬
‫جـار واملسـافرين والبحريين عـن ناحيـة مدينـة‬ ‫جانـب البحـر‪ ،‬اسـأل الت ّ‬
‫بغـداد؛ لعـل أحـدا ً يخبرين عنهـا‪ ،‬فـأروح معـه إليهـا‪ ،‬وأعـود إىل بلادي‪،‬‬
‫تحيرت يف ذلـك‬ ‫َّ‬ ‫فلـم يعرفهـا أحـد‪ ،‬ومل يعـرف مـن يـروح إليهـا‪ ،‬وقـد‬
‫وسـئمت مـن طـول الغربـة‪ .‬ومل أزل على هـذه الحالـة مـدّة مـن الزمـان‬
‫إىل أن جئـت يومـاً مـن األيّـام‪ ،‬ودخلـت على امللـك املهرجـان‪ ،‬فوجـدت‬
‫حبـوا‬
‫عنـده جامعـة مـن الهنـود‪ ،‬فسـلَّمت عليهـم فـردّوا علي السلام ور َّ‬
‫يب‪ ،‬وقـد سـألوين عـن بلادي فذكرتهـا لهـم‪ ،‬وسـألتهم عـن بالدهـم فذكروا‬
‫يل أنهـم أجنـاس مختلفـة؛ فمنهـم الشـاركية‪ ،‬وهـم أرشف أجناسـهم‪ :‬ال‬
‫يظلمـون أحـدا ً وال يقهرونـه‪ ،‬ومنهم جامعة تسـ ّمى (الرباهمـة) وهم قوم ال‬
‫ظ وصفاء ولهو وطـرب وجامل‬ ‫يرشبـون الخمـر أبـدا ً‪ ،‬وإمنا هـم أصحاب حـ ّ‬
‫ومـواش‪ ،‬وأعلمـوين أن صنـف الهنـود يفترق على اثنين وسـبعني‬ ‫ٍ‬ ‫وخيـول‬
‫جبـت مـن ذلـك غايـة العجـب!‪ .‬ورأيـت يف مملكـة املهرجـان‬ ‫فرقـة‪ ،‬فتع َّ‬
‫جزيـرة مـن جملـة الجزائـر‪ ،‬يقـال لهـا (كابـل) يُسـ َمع فيهـا رضب الدفـوف‬
‫والطبـول‪ ،‬طـول الليـل‪ .‬وقـد أخربنـا أصحـاب الجزائـر واملسـافرون أنهـم‬
‫أصحـاب الجـ ّد والـرأي‪ .‬ورأيـت يف البحـر سـمكة طولهـا مئتـا ذراع‪ ،‬ورأيت‪-‬‬
‫أيضـاً‪ -‬سـمكاً وجهـه مثـل وجـه البـوم‪ ،‬ورأيـت يف تلـك السـفرة كثيرا ً مـن‬
‫مما لـو حكيته لكم لطـال رشحـه‪ .‬ومل أزل أتف َّرج عىل‬‫العجائـب والغرائـب ّ‬
‫تلـك الجزائـر ومـا فيهـا‪ ،‬إىل أن وقفـت يومـاً مـن األيَّـام على جانـب البحر‪،‬‬
‫جـار كثريون‪.‬‬ ‫ويف يـدي عـكّاز حسـب عـادايت‪ ،‬وإذا مبركـب قـد أقبـل وفيه ت ّ‬
‫فلما وصـل إىل مينـاء املدينـة وفرضتـه‪ ،‬وطـوى الريِّـس قلوعـه‪ ،‬وأرسـله‬ ‫ّ‬
‫بر‪ ،‬و َمـ ّد السـقالة وأطلـع البحريـة جميـع مـا كان يف ذلـك املركب‬ ‫على ال ّ‬
‫بر‪ ،‬وأبطـأوا يف تطليعـه‪ ،‬وأنـا واقـف أكتـب عليهـم‪ ،‬فقلـت لصاحـب‬ ‫إىل ال ّ‬
‫املركـب‪ :‬هـل بقـي يف مركبـك يشء؟ فقـال‪ :‬نعم‪ ،‬يا سـ ّيدي‪ ،‬معـي بضائع‬
‫يف بطـن املركـب‪ ،‬ولكـن صاحبهـا غرق معنـا يف البحر يف بعـض الجزائر‪،‬‬
‫ونحـن قادمـون يف البحـر‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)529‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن الريِّس قال‬

‫‪38‬‬
‫للسـندباد البحـري أن صاحـب هـذه البضائع غـرق‪ ،‬وصارت بضائعـه معنا‪،‬‬
‫فغرضنـا أننـا نبيعهـا ونأخـذ مثنهـا ألجـل أن نوصلـه إىل أهلـه يف مدينـة‬
‫بغـداد‪ ،‬دار السلام‪ ،‬فقلـت للريِّـس‪ :‬مـا يكـون اسـم ذلـك الرجـل صاحـب‬
‫البضائـع؟ فقـال‪ :‬اسـمه السـندباد البحـري‪ ،‬وقـد غـرق معنـا يف البحـر‪.‬‬
‫فلما سـمعت كالمـه حقَّقـت النظـر فيـه فعرفتـه‪ ،‬ورصخـت عليـه رصخـة‬ ‫ّ‬
‫عظيمـة‪ ،‬وقلـت‪ :‬يـا ريِّـس‪ ،‬اعلـم أين أنـا صاحـب البضائـع التـي ذكرتهـا‪،‬‬
‫وأنـا السـندباد البحـري الـذي نزلـت مـن املركـب يف الجزيـرة مـع جملـة‬
‫جـار‪ ،‬ومل ّـا تحركـت السـمكة التـي ك ّنـا عليهـا وصحـت أنت‬ ‫ن نـزل مـن الت ّ‬‫َمـ ْ‬
‫علينـا‪ ،‬طلـع مـن طلـع وغـرق الباقـي‪ ،‬وكنت أنـا من جملـة من غـرق‪ ،‬ولكن‬
‫جـاين مـن الغـرق بقطعـة كبيرة مـن القطـع التـي‬ ‫اللـه (تعـاىل) سـلمني ون َّ‬
‫كان الـركّاب يغسـلون فيهـا‪ ،‬فركبتهـا ورصت أرفـس برجلي‪ ،‬وسـاعدين‬
‫الريـح واملـوج إىل أن وصلـت إىل هـذه الجزيـرة‪ ،‬فطلعـت فيهـا وأعاننـي‬
‫لي‬
‫بقصتـي‪ ،‬فأنعـم ع َّ‬ ‫َّ‬ ‫بسـيّاس امللـك املهرجـان‪ ،‬فأخربتـه‬ ‫اللـه (تعـاىل) ُ‬
‫وجعلنـي كاتبـاً على مينـاء هـذه املدينـة‪ ،‬فصرت أنتفـع بخدمتـه‪ ،‬وصـار‬
‫يل عنـده قبـول‪ ،‬وهـذه البضائـع التـي معـك بضائعـي ورزقي‪ .‬قـال الريِّس‪:‬‬
‫لي العظيـم‪ .‬مـا بقـي ألحـد أمانـة وال ذ ّمـة‪،‬‬
‫ال حـول وال قـ ّوة إال باللـه الع ّ‬
‫بقصتـي؟ فقال‬‫فقلـت لـه‪ :‬يـا ريِّـس‪ ،‬ما سـبب ذلك وأنـك سـمعتني أخربتك َّ‬
‫الريِّـس‪ :‬ألنـك سـمعتني أقـول أن معـي بضائـع صاحبهـا غـرق‪ ،‬فرتيـد أن‬
‫حـق‪ ،‬وهـذا حـرام عليـك‪ ،‬فإننـا رأينـاه مل ّـا غـرق‪ ،‬وكان معـه‬ ‫تأخذهـا بلا ّ‬
‫جامعـة مـن الـركّاب كثيرون ومـا نجـا منهـم أحـد‪ ،‬فكيـف تدَّعـي أنـك أنـت‬
‫قصتـي‪ ،‬وافهـم كالمي يظهر‬ ‫صاحـب البضائـع؟ فقلـت لـه‪ :‬يا ريِّس‪ ،‬اسـمع َّ‬
‫لـك صدقـي‪ ،‬فـإن الكـذب سـمة املنافقين‪ ،‬ثـم إين حكيـت للريِّـس جميـع‬
‫مـا كان منـي‪ ،‬مـن حين خرجـت معـه مـن مدينـة بغـداد إىل أن وصلنا تلك‬
‫الجزيـرة التـي غرقنـا فيها‪ ،‬وأخربتـه ببعض أحـوال جرت بينـي وبينه‪ ،‬فعند‬
‫جـار مـن صدقـي فعرفـوين وه ّنـأوين بالسلامة‪،‬‬ ‫ذلـك تحقَّـق الريِّـس والت ّ‬
‫وقالـوا جميعـاً‪ :‬واللـه‪ ،‬مـا ك ّنـا نصـدِّق بأنك نجوت مـن الغرق‪ ،‬ولكـن َرزَقك‬
‫اللـه عمـرا ً جديـدا ً‪ .‬ثـم إنهـم أعطـوين البضائـع‪ ،‬فوجـدت اسـمي مكتوبـاً‬
‫عليهـا ومل ينقـص منهـا يشء‪ ،‬ففتحتهـا وأخرجـت منهـا شـيئاً نفيسـاً غايل‬

‫‪39‬‬
‫الثمـن‪ ،‬وحملتـه معـي بحريـة املركب‪ ،‬وطلعـت به إىل امللك‪ ،‬عىل سـبيل‬
‫الهديـة‪ ،‬وأعلمـت امللـك بـأن هـذا املركـب هـو الـذي كنـت فيـه‪ ،‬وأخربتـه‬
‫جب‬ ‫يل بالتمام والكمال‪ ،‬وأن هـذه الهدية منهـا‪ .‬فتع َّ‬ ‫أن بضائعـي وصلـت إ َّ‬
‫امللـك مـن ذلـك األمر غايـة العجـب‪ ،‬وظهر له صدقـي يف جميع مـا قلته‪،‬‬
‫وقـد أحبَّنـي محبّة شـديدة‪ ،‬وأكرمنـي إكراماً زائدا ً‪ ،‬ووهب يل شـيئاً كثريا ً يف‬
‫نظير هديِّتـي‪ ،‬ثـم بعـت حمولتي ومـا كان معي مـن البضائع وكسـبت فيها‬
‫شـيئاً كثيرا ً‪ ،‬واشتريت بضاعـة وأسـباباً ومتاعاً من تلـك املدينـة‪ .‬ومل ّا أراد‬
‫جـار املركـب السـفر‪ ،‬شـحنت جميـع مـا كان معـي يف املركـب‪ ،‬ودخلـت‬ ‫ت ّ‬
‫عنـد امللـك‪ ،‬وشـكرته على فضلـه وإحسـانه‪ ،‬ثـم اسـتأذنته يف السـفر إىل‬
‫بلادي وأهلي فودَّعنـي وأعطـاين شـيئاً كثيرا ً‪ ،‬عنـد سـفري‪ ،‬مـن متـاع تلـك‬
‫املدينـة‪ ،‬فودعتـه ونزلـت املركـب وسـافرنا بـإذن اللـه (تعـاىل)‪ ،‬وخدمنـا‬
‫السـعد وسـاعدتنا املقاديـر‪ .‬ومل نزل مسـافرين ليلاً ونهـارا ً إىل أن وصلنا‪،‬‬
‫بالسلامة‪ ،‬إىل مدينـة البصرة‪ ،‬وطلعنـا إليهـا وأقمنـا فيهـا زمنـاً قليلاً‪،‬‬
‫جهـت إىل مدينة‬ ‫وقـد فرحـت بسلامتي وعـوديت إىل بلادي‪ .‬بعـد ذلـك‪ ،‬تو َّ‬
‫بغـداد‪ ،‬دار السلام‪ ،‬ومعـي مـن الحمـول واملتـاع واألسـباب يشء كثري له‬
‫قيمـة عظيمـة‪ .‬ثـم جئـت إىل حـاريت‪ ،‬ودخلت بيتـي‪ ،‬وقد جـاء جميع أهيل‬
‫وأصحـايب‪ ،‬ثـم إين اشتريت يل خدمـاً وحشماً ومامليـك ورساري وعبيـدا ً‬
‫حتـى صـار عنـدي يشء كثير‪ ،‬واشتريت يل دورا ً وأماكـن وعقـارا ً أكثر مـن‬
‫مم كنت‬ ‫الخلان‪ ،‬ورصت أكثر ّ‬‫ّ‬ ‫األ َّول‪ .‬ثـم إين عـارشت األصحـاب‪ ،‬ورافقـت‬
‫عليـه يف الزمـن األ َّول‪ ،‬ونسـيت جميع ما كنت قاسـيت مـن التعب والغربة‬
‫رات واملـآكل الط ِّيبة‬ ‫واملشـقّة وأهـوال السـفر‪ ،‬واشـتغلت باللذّات واملس ّ‬
‫واملشـارب النفيسـة‪ ،‬ومل أزل على هـذه الحالـة‪ .‬وهـذا مـا كان يف أ ّول‬
‫غـد‪ -‬إن شـاء اللـه (تعـاىل)‪ -‬أحكي لكـم الثانيـة مـن السـبع‬ ‫سـفرايت‪ ،‬ويف ٍ‬
‫بري عنـده‪ ،‬وأمـر لـه‬ ‫عشى السـندباد ال ّ‬
‫ّ‬ ‫سـفرات‪ .‬ثـم إن السـندباد البحـري‬
‫الحمل‪ ،‬وأخذ‬ ‫َّ‬ ‫مبئـة مثقـال ذهباً‪ ،‬وقال له‪ :‬آنسـتنا يف هـذا النهار‪ ،‬فشـكره‬
‫معـه مـا وهبـه لـه وانصرف إىل حـال سـبيله‪ ،‬وهـو متفكِّـر فيما يقـع ومـا‬
‫جـب غايـة العجـب‪ ،‬ونـام تلـك الليلـة يف منزلـه‪ .‬ومل ّا‬ ‫يجـري للنـاس‪ ،‬ويتع َّ‬
‫حـب‬ ‫أصبـح الصبـاح‪ ،‬جـاء إىل بيـت السـندباد البحـري‪ ،‬ودخـل عنـده فر َّ‬

‫‪40‬‬
‫بـه وأكرمـه وأجلسـه عنـده‪ ،‬وملـا حضر بقيّـة أصحابـه قـدَّم لهـم الطعـام‬
‫والشراب‪ ،‬وقـد صفـا لهـم الوقـت‪ ،‬وحصـل لهـم الطـرب‪ ،‬فبـدأ السـندباد‬
‫البحـري بالـكالم‪ ،‬وقـال‪ :‬اعلمـوا‪ ،‬يـا إخـواين‪ ،‬أننـي كنـت يف ألـ ّذ عيـش‬
‫وأصفـى رسور على مـا تقـدَّم ذكـره لكـم باألمـس‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الحكاية الثانية‬
‫(السفرة الثانية)‬

‫ويف الليلـة (‪ ،)530‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬


‫البحـري مل ّـا اجتمـع عنـده أصحابـه‪ ،‬قـال لهم‪ :‬إين كنـت يف ألـ ّذ عيش إىل‬
‫أن خطـر ببـايل‪ ،‬يومـاً مـن األيَّام‪ ،‬السـف َر إىل بلاد الناس‪ ،‬واشـتاقت نفيس‬
‫إىل التجـارة والتفـ ُّرج يف البلـدان والجزائـر واكتسـاب املعـاش‪ ،‬فهممـت‬
‫يف ذلـك األمـر‪ ،‬وأخرجـت مـن مايل شـيئاً كثريا ً اشتريت به بضائع وأسـباباً‬
‫تصلح للسـفر‪ ،‬وحزمتها وجئت إىل السـاحل‪ ،‬فوجدت مركباً مليحاً جديدا ً‪،‬‬
‫ولـه قلـع قماش مليـح‪ ،‬وهـو كثير الرجـال زائـد العـدّة‪ ،‬وأنزلـت حمولتـي‬
‫جـار‪ ،‬وقد سـافرنا يف ذلك النهار وطاب لنا السـفر‪.‬‬ ‫فيـه أنـا وجامعـة من الت ّ‬
‫محـل رسـونا‬
‫ّ‬ ‫وكل‬
‫ومل نـزل مـن بحـر إىل بحـر‪ ،‬ومـن جزيـرة إىل جزيـرة‪ّ ،‬‬
‫جـار وأربـاب الدولـة والبائعني واملشترين‪ ،‬ونبيع ونشتري‬ ‫عليـه نقابـل الت ّ‬
‫ونقايـض بالبضائـع فيـه‪ .‬ومل نـزل عىل هـذه الحالة‪ ،‬إىل أن ألقتنـا املقادير‬

‫‪43‬‬
‫على جزيـرة كثيرة األشـجار يانعـة األمثـار فائحـة األزهـار مرتنِّ ـة األطيـار‬
‫صافيـة األنهـار‪ ،‬ولكـن ليـس بهـا َديّـار وال نافخ نار‪ ،‬فـأرىس بنـا الريِّس عىل‬
‫جـار والـركّاب إىل تلك الجزيـرة‪ ،‬يتف َّرجون عىل‬ ‫تلـك الجزيـرة‪ ،‬وقـد طلع الت ّ‬
‫جبـون‬ ‫مـا بهـا مـن األشـجار واألطيـار‪ ،‬ويسـبِّحون اللـه الواحـد الق ّهـار ويتع َّ‬
‫مـن قـدرة امللـك الجبّـار‪ .‬فعنـد ذلـك‪ ،‬طلعـت إىل الجزيـرة مـع جملـة من‬
‫صـاف بين األشـجار‪ ،‬وكان معـي يشء من‬ ‫ٍ‬ ‫طلـع‪ ،‬وجلسـت على عين مـاء‬
‫املـأكل‪ ،‬فجلسـت يف هـذا املـكان آكل مـا قسـم اللـه (تعـاىل) يل‪ ،‬وقـد‬
‫سـنة مـن النـوم‬ ‫طـاب النسـيم بذلـك املـكان‪ ،‬وصفـا يل الوقـت فأخذتنـي ِ‬
‫فارتحـت يف ذلـك املكان‪ ،‬وقد اسـتغرقت يف النوم وتلذَّذت بذلك النسـيم‬
‫جار وال من‬ ‫الط ِّيـب والروائـح الزكيـة‪ ،‬ثـم إين قمت فلم أجد أحدا ً‪ ،‬ال مـن الت ّ‬
‫التفـت فيهـا مييناً وشماالً‪ ،‬فلم أجد‬ ‫ُّ‬ ‫البحريـة‪ ،‬فرتكـوين يف الجزيـرة‪ ،‬وقـد‬
‫بهـا أحـدا ً غيري‪ ،‬فحصـل عنـدي قهـر شـديد‪ ،‬مـا عليـه مـن مزيـد‪ ،‬وكادت‬
‫م والحـزن والتعـب‪ ،‬ومل يكن‬ ‫مـراريت تنفقـع مـن شـدّة مـا أنـا فيـه مـن الغـ ّ‬
‫معـي يشء مـن حطـام الدنيـا‪ ،‬وال مـن املـأكل وال مـن املشرب‪ ،‬ورصت‬
‫وحيـدا ً‪ ،‬وقـد تعبـت يف نفسي‪ ،‬ويئسـت من الحيـاة‪ .‬بعد ذلـك‪ ،‬قمت عىل‬
‫حييل ومتشَّ ـيت يف الجزيرة مييناً وشماالً‪ ،‬ورصت ال أسـتطيع الجلوس يف‬
‫محـل واحـد‪ .‬ثـم إين صعـدت على شـجرة عاليـة‪ ،‬ورصت أنظـر مـن فوقهـا‬ ‫ّ‬
‫ميينـاً وشماالً‪ ،‬فلـم أ َر غير سماء ومـاء وأشـجار وأطيـار وجزر ورمـال‪ ،‬ثم‬
‫فلاح يل يف الجزيـرة يشء أبيض عظيم الخلقـة‪ ،‬فنزلت من‬ ‫َ‬ ‫حقَّقـت النظـر‬
‫فـوق الشـجرة وقصدتـه ورصت أمشي إىل ناحيتـه‪ ،‬ومل أزل سـائرا ً إىل أن‬
‫وصلـت إليـه‪ ،‬وإذا بـه ق ّبـة كبيرة بيضـاء شـاهقة يف العلـو‪ ،‬كبيرة الدائرة‪،‬‬
‫فدنـوت منهـا ودرت حولهـا‪ ،‬فلـم أجـد لهـا باباً‪ ،‬ومل أجـد يل قـ ّوة وال حركة‬
‫يف الصعـود عليهـا مـن شـدّة النعومة‪ ،‬فعلمـت مكان وقـويف‪ ،‬ودرت حول‬
‫الق ّبـة أقيـس دائرتهـا فـإذا هـي خمسـون خطـوة وافية‪ ،‬فصرت متفكِّـرا ً يف‬
‫الحيلـة املوصلـة إىل دخولها وقـد قرب زوال النهار وغروب الشـمس‪ .‬وإذا‬
‫بالشـمس قـد خفيـت‪ ،‬والجـ ّو قـد أظلم‪ ،‬واحتجبت الشـمس عنـي‪ ،‬فظننت‬
‫جبـت‬ ‫أنـه جـاء على الشـمس غاممـة‪ ،‬وكان ذلـك يف زمـن الصيـف‪ ،‬فتع َّ‬
‫ورفعـت رأيس وتأ َّملـت يف ذلـك‪ ،‬فرأيـت طيرا ً عظيـم الخلقـة كبير الجثـة‬

‫‪44‬‬
‫عريـض األجنحـة طائـرا ً يف الجـ ّو‪ ،‬وهـو الذي غطّـى عني الشـمس وحجبها‬
‫عـن الجزيـرة‪ ،‬فـازددت مـن ذلك عجبـاً‪ ،‬ثـم إين تذكَّـرت حكاية‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)531‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللك السـعيد‪ -‬أن السـندباد البحري‬
‫جبـه مـن الطائـر الـذي رآه يف الجزيـرة تذكَّـر حكايـة‪ ،‬أخبره‬ ‫مل ّـا زاد تع ُّ‬
‫بها‪-‬قدميـاً‪ -‬أهل السـياحة واملسـافرون‪ ،‬وهـي أن يف بعـض الجزائر طريا ً‬
‫يـزق أوالده باألفيـال‪ ،‬فتحقَّقـت أن الق ّبـة التـي‬‫ّ‬ ‫عظيماً يقـال لـه الـرخّ‪،‬‬
‫جبـت مـن خلـق اللـه‬ ‫رأيتهـا إمنـا هـي بيضـة مـن بيـض الـرخّ؛ ثـم إين تع َّ‬
‫(تعـاىل)‪ .‬فبينما أنـا على هـذه الحالـة‪ ،‬وإذا بذلـك الطير نـزل على تلـك‬
‫القبّـة وحضنهـا بجناحيـه وقـد َمـ َّد رجليـه مـن خلفـه على األرض‪ ،‬ونـام‬
‫عليهـا‪ ،‬فسـبحان مـن ال ينـام!‪ .‬عنـد ذلك فككـت عاممتي من فـوق رأيس‪،‬‬
‫وثنيتهـا وفتلتهـا حتـى صـارت مثـل الحبل وتح َّزمت بها‪ ،‬وشـددت وسـطي‬
‫رجلي ذلـك الطير‪ ،‬وشـددتها شـ ّدا ً وثيقـاً‪ ،‬وقلـت يف‬ ‫َْ‬ ‫وربطـت نفسي يف‬
‫لعـل هـذا يوصلنـي إىل بالد املـدن والعمار‪ ،‬ويكون ذلك أحسـن‬ ‫َّ‬ ‫نفسي‪:‬‬
‫وبت تلك الليلة سـاهرا ً؛ خوفـاً من أن أنام‬ ‫مـن جلـويس يف هـذه الجزيـرة‪ّ .‬‬
‫فلما طلـع الفجر‪ ،‬وبـان الصباح قـام الطائر‬ ‫ّ‬ ‫فيطير يب‪ ،‬على حين غفلة‪.‬‬
‫مـن فـوق بيضتـه‪ ،‬وصـاح صيحـة عظيمة وارتفـع يب إىل الجـ ّو حتى ظننت‬
‫أنـه وصـل إىل عنـان السماء‪ ،‬وبعـد ذلك تنـازل يب حتى نـزل إىل األرض‪،‬‬
‫فلما وصلـت إىل األرض أرسعـت وفككت‬ ‫ّ‬ ‫ط على مـكان مرتفـع عـال‪،‬‬ ‫حـ َّ‬
‫و َ‬
‫يحـس يب‪ .‬وبعـد مـا فككـت‬ ‫ّ‬ ‫الربـاط مـن رجليـه‪ ،‬وأنـا خائـف منـه‪ ،‬ومل‬
‫عاممتـي وخلّصتهـا مـن رجليـه‪ ،‬وأنـا أنتفـض‪ ،‬مشـيت يف ذلـك املـكان‬
‫ثـم إنـه أخـذ شـيئاً مـن وجـه األرض يف مخالبـه‪ ،‬وطـار إىل عنـان السماء‬
‫فتأ َّملتـه‪ ،‬فـإذا هـو ح ّيـة عظيمـة الخلقـة كبرية الجسـم قد أخذهـا وذهب‬
‫جبـت مـن ذلـك‪ .‬ثـم إين متشَّ ـيت يف ذلـك املـكان‪،‬‬ ‫بهـا إىل البحـر‪ ،‬فتع َّ‬
‫فوجـدت نفسي يف مـكان عـال‪ ،‬وتحتـه وا ٍد كبير واسـع عميـق‪ ،‬وبجانبـه‬
‫جبـل عظيـم شـاهق يف العلـ ّو‪ ،‬ال يقـدر أحد أن يـرى أعاله من فـرط عل ِّوه‪،‬‬
‫وليـس ألحـد قـدرة على الطلـوع فوقـه‪ ،‬فلمـت نفسي على مـا فعلتـه‬

‫‪45‬‬
‫وقلـت‪ :‬يـا ليتنـي مكثـت يف الجزيرة‪ ،‬فإنها أحسـن من هذا املـكان القفر‪،‬‬
‫ألن الجزيـرة كان يوجـد فيهـا يشء آكلـه مـن أصنـاف الفواكـه‪ ،‬وأرشب‬
‫مـن أنهارهـا‪ ،‬وهـذا املـكان ليـس فيه أشـجار وال أمثار وال أنهـار‪ ،‬فال حول‬
‫لي العظيـم‪ ..‬أنـا كلّما انتهيـت مـن مصيبـة وقعـت‬ ‫إل باللـه الع ّ‬‫وال قـ ّوة ّ‬
‫فيما هـو أعظـم منهـا وأشـدّ‪ .‬ثـم إين قمـت وق َّويـت نفسي‪ ،‬ومشـيت يف‬
‫ذلـك الـوادي‪ ،‬فرأيـت أرضه مـن حجر األملاس الـذي يثقبون بـه املعادن‬
‫والجواهـر ويثقبـون بـه الصينـي والجـزع وهو حجـر صلب يابـس ال يعمل‬
‫فيـه الحديـد وال الصخـر‪ ،‬وال أحد يقـدر أن يقطع منه شـيئاً‪ ،‬وال أن يكرسه‬
‫وكل واحـدة مثـل‬ ‫وكل ذلـك الـوادي ح ّيـات وأفـاعٍ‪ّ ،‬‬ ‫إلّ بحجـر الرصـاص‪ّ .‬‬
‫النخلـة‪ ،‬ومـن عظـم خلقتهـا لـو جاءهـا فيـل البتلعتـه‪ ،‬وتلـك الح ّيـات‬
‫خ أو النسر أن‬ ‫يظهـرن يف الليـل‪ ،‬ويختفين يف النهـار خوفـاً مـن طير الـر ّ‬
‫يختطفهـا ويقطِّعهـا‪ ،‬وال أدري ما سـبب ذلك!‪ ،‬فأقمت بذلـك الوادي‪ ،‬وأنا‬
‫جلـت بالهالك‬ ‫متنـدِّم على مـا فعلتـه‪ ،‬وقلـت يف نفسي‪ :‬والله‪ ،‬إين قـد ع َّ‬
‫لي‪ ،‬فصرت أمشي يف ذلـك الـوادي‪،‬‬ ‫ول النهـار ع َّ‬ ‫على نفسي‪ ،‬وقـد ّ‬
‫محـل أبيـت فيـه وأنا خائـف من تلـك الحيّات‪ ،‬ونسـيت أكيل‬ ‫ّ‬ ‫وألتفـت على‬
‫حـت يل مغـارة بالقـرب منـي‪،‬‬ ‫ورشيب ومعـايش‪ ،‬واشـتغلت بنفسي‪ ،‬فال َ‬
‫فمشـيت فوجـدت بابهـا ضيِّقاً فدخلتهـا ونظرت إىل حجر كبير عند بابها‪،‬‬
‫فدفعتـه وسـددت بـه بـاب تلك املغـارة‪ ،‬وأنـا داخلهـا‪ ،‬وقلـت يف نفيس‪:‬‬
‫قـد أمنـت مل ّـا دخلـت يف هـذا املـكان‪ ،‬وإن طلـع النهـار أطلـع‪ ،‬وأنظـر ما‬
‫التفـت يف داخـل املغـارة‪ ،‬فرأيـت ح ّيـة عظيمـة نامئة‬ ‫ّ‬ ‫تفعـل القـدرة‪ .‬ثـم‬
‫يف صـدر املغـارة على بيضهـا‪ ،‬فاقشـع َّر بـدين‪ ،‬وأقمـت رأيس وسـلمت‬
‫وبـت سـاهرا ً طـوال الليـل إىل أن طلـع الفجـر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أمـري للقضـاء والقـدر‪،‬‬
‫والح‪ ،‬فزحـت الحجـر الـذي سـددت بـه بـاب املغـارة‪ ،‬وخرجـت منـه وأنا‬
‫مثـل السـكران‪ ،‬دائـخ مـن شـدّة السـهر والجـوع والخـوف‪ ،‬ومتشَّ ـيت‬
‫يف الـوادي‪ .‬وبينما أنـا على هـذه الحالـة‪ ،‬وإذا بذبيحـة قـد سـقطت مـن‬
‫جبـت مـن ذلـك أشـ ّد العجـب‪ ،‬وتفكَّـرت‬ ‫قدّامـي‪ ،‬ومل أجـد أحـدا ً فتع َّ‬
‫جـار واملسـافرين وأهل‬ ‫حكايـة أسـمعها مـن قديـم الزمان‪ ،‬مـن بعض الت ّ‬
‫السـياحة‪ ،‬أن يف جبـال حجـر األملـاس األهـوال العظيمـة‪ ،‬وال يقدر أحد‬

‫‪46‬‬
‫جـار الذيـن يجلبـون األملـاس يعملـون حيلـة‬ ‫أن يسـلك إليهـا‪ ،‬ولكـن الت ّ‬
‫يف الوصـول إليـه‪ ،‬ويأخـذون الشـاة مـن الغنـم ويذبحونهـا ويسـلخونها‪،‬‬
‫ويرشـون لحمهـا ويرمونـه من أعلى ذلك الجبـل إىل أرض الـوادي‪ ،‬فتنزل‬
‫جـار إىل‬
‫وهـي طريّـة فيلتصـق بهـا يشء مـن هـذه الحجـارة ثـم ترتكهـا الت ّ‬
‫نصـف النهـار‪ ،‬فتنـزل الطيور من النسـور والـرخ إىل ذلك اللحـم‪ ،‬وتأخذه‬
‫جـار وتصيـح عليهـا‪،‬‬ ‫يف مخالبهـا‪ ،‬وتصعـد إىل أعلى الجبـل‪ ،‬فيأتيهـا الت ّ‬
‫فتصير عنـد ذلـك اللحـم‪ ،‬وتخلِّـص منـه الحجـارة الالصقـة بـه‪ ،‬ويرتكون‬
‫اللحـم للطيـور والوحـوش ويحملـون الحجـارة إىل بالدهـم‪ ،‬وال أحد يقدر‬
‫إل بهـذه الحيلـة‪.‬‬ ‫يتوصـل إىل مجـيء حجـر األملـاس ّ‬‫َّ‬ ‫أن‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ )532‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري صـار يحكي ألصحابـه جميـع مـا حصـل لـه يف جبـل املـاس‪،‬‬
‫إل بحيلـة مثـل‬ ‫جـار ال يقـدرون على مجـيء يشء منـه ّ‬ ‫ويخربهـم أن الت ّ‬
‫فلما نظـرت إىل تلـك الذبيحـة تذكَّـرت هـذه‬ ‫ّ‬ ‫الـذي ذكـره‪ ،‬ثـم قـال‪:‬‬
‫الحكايـة فقمـت وجئـت عنـد الذبيحـة‪ ،‬فنقَّيـت مـن هـذه الحجارة شـيئاً‬
‫كثيرا ً‪ ،‬وأدخلتـه يف جيبـي وبين ثيـايب‪ ،‬ورصت أنقِّـي وأدخـل يف جيويب‬
‫وحزامـي وعاممتـي وبين حوائجـي‪ .‬فبينما أنـا على هـذه الحالـة‪ ،‬وإذا‬
‫بذبيحـة كبيرة‪ ،‬فربطـت نفسي عليهـا ومنـت على ظهـري‪ ،‬وجعلتهـا‬
‫على صـدري وأنـا قابـض عليهـا‪ ،‬فصـارت عاليـة على األرض‪ ،‬وإذا بنرس‬
‫نـزل على تلـك الذبيحـة وقبـض عليهـا مبخالبـه‪ ،‬وأقلـع بهـا إىل الجـ ّو‪،‬‬
‫وأنـا معلَّـق بهـا‪ .‬ومل يـزل طائـرا ً بهـا إىل أن صعـد بهـا إىل أعلى الجبـل‪،‬‬
‫وحطَّهـا‪ ،‬وأراد أن ينهـش منهـا‪ ،‬وإذا بصيحـة عظيمـة عاليـة مـن خلـف‬
‫ذلـك النسر‪ ،‬ويشء يخبـط بالخشـب على ذلـك الجبـل‪ ،‬فجفـل النسر‬
‫وطـار إىل الجـو‪ ،‬ففككـت نفسي مـن الذبيحـة وقـد تل َّوثـت ثيـايب مـن‬
‫دمهـا‪ ،‬ووقفـت بجانبهـا‪ ،‬وإذا بذلـك التاجـر الـذي صـاح على النسر‬
‫يتقـدَّم إىل الذبيحـة‪ ،‬فـرآين واقفـاً فلـم يكلِّمنـي وقـد فزع منـي وارتعب‪،‬‬
‫وأىت الذبيحـة وقلَّبهـا‪ ،‬فلـم يجـد فيهـا شـيئاً‪ ،‬فصـاح صيحـة عظيمـة‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫إل باللـه‪ .‬نعـوذ باللـه مـن الشـيطان‬ ‫وقـال‪ :‬واخيبتـاه! ال حـول وال قـ ّوة ّ‬
‫أي يشء‬ ‫كـف ويقول‪ :‬واحرستـاه! ّ‬ ‫الرجيـم‪ ،‬وهـو يتنـدَّم ويخبط ك ّفاً عىل ّ‬
‫هـذا الحـال؟‪ ،‬فتقدَّمـت إليـه‪ ،‬فقـال يل‪ :‬مـن أنـت؟ ومـا سـبب مجيئـك‬
‫إنسي مـن خيـار‬
‫ّ‬ ‫إىل هـذا املـكان؟ فقلـت لـه‪ :‬ال تخـف‪ ،‬وال تخـش فـإين‬
‫وقصة غريبة‪ .‬وسـبب وصويل‬ ‫ّ‬ ‫اإلنـس‪ ،‬وكنـت تاجرا ً‪ ،‬ويل حكايـة عظيمة‬
‫رسك‬‫إىل هـذا الجبـل وهـذا الـوادي حكايـة عجيبـة‪ ،‬فلا تخـف فلك مـا ي ّ‬
‫منـي‪ ،‬وأنـا معـي يشء كثير مـن حجـر األملـاس فأعطيـك منـه شـيئاً‬
‫كل يشء يأتيـك‪ ،‬فلا تجـزع وال‬ ‫وكل قطعـة معـي أحسـن مـن ّ‬ ‫يكفيـك‪ّ ،‬‬
‫جار‬
‫تخـف‪ .‬عنـد ذلك‪ ،‬شـكرين الرجل‪ ،‬ودعـا يل وتحدَّث معـي‪ ،‬وإذا بالت ّ‬
‫كل تاجر رمـى ذبيحته‪،‬‬ ‫يل‪ ،‬وكان ّ‬‫سـمعوا كالمـي مـع رفيقهـم‪ ،‬فجـاؤوا إ َّ‬
‫فلما قدمـوا علينـا سـلَّموا علينـا وه َّنـؤوين بالسلامة‪ ،‬وأخـذوين معهم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫قصتـي ومـا قاسـيته يف سـفريت‪ ،‬وأخربتهـم بسـبب‬ ‫َّ‬ ‫بجميـع‬ ‫وأعلمتهـم‬
‫وصـويل إىل هـذا الـوادي‪ ،‬ثـم إين أعطيت لصاحب الذبيحـة التي تعلَّقت‬
‫مما كان معـي ففرح يب ودعايل‪ ،‬وشـكرين على ذلك‪.‬‬ ‫فيهـا شـيئاً كثيرا ً ّ‬
‫ِ‬
‫وقـال يل‪ :‬و‪،‬اللـه‪ ،‬إنـه قـد كُتـب لـك عمـر جديـد؛ فما أحـد وصـل إىل‬
‫هـذا املـكان قبلـك ونجـا منـه‪ ،‬ولكـن الحمـد للـه على بسلامتك‪ ،‬وباتوا‬
‫وبـت عندهـم وأنـا فرحـان غايـة الفـرح بسلامتي‬ ‫ّ‬ ‫يف مـكان مليـح أمـان‪،‬‬
‫ونجـايت مـن وادي الحيّات‪ ،‬ووصـويل إىل بالد العامر‪ .‬ومل ّـا طلع النهار‪،‬‬
‫قمنـا ورسنـا على ذلـك الجبـل العظيـم‪ ،‬ورصنـا ننظـر يف ذلـك الجبـل‬
‫ح ّيـات كثيرة‪ ،‬ومل نـزل سـائرين إىل أن أتينـا بسـتاناً يف جزيـرة عظيمـة‬
‫يسـتظل تحتها إنسـان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وكل شـجرة منـه‬ ‫مليحـة‪ ،‬وفيهـا شـجر الكافـور‪ّ ،‬‬
‫وإذا أراد أن يأخـذ منـه أحـد يثقـب من أعىل الشـجرة ثقباً بشيء طويل‪،‬‬
‫ويتلقّـى مـا ينـزل منـه فيسـيل منـه مـاء الكافـور‪ ،‬ويعقـد مثـل الشـمع‬
‫وهـو عسـل ذلـك الشـجر‪ ،‬وبعدهـا تيبـس الشـجرة وتصير حطبـاً‪ .‬ويف‬
‫تلـك الجزيـرة‪ ،‬صنـف مـن الوحوش يقـال له (الكركـدن) يرعى فيهـا رعياً‬
‫مثـل مـا يرعـى البقـر والجامـوس يف بالدنـا‪ ،‬ولكن جسـم ذلـك الوحش‬
‫أكبر مـن جسـم الجمل‪ ،‬ويأكل العلـق‪ ،‬وهو دابّة عظيمة لهـا قرن واحد‬
‫غليـظ يف وسـط رأسـها‪ ،‬طولـه قدر عشرة أذرع وفيه صورة إنسـان‪ ،‬ويف‬

‫‪48‬‬
‫تلـك الجزيـرة يشء مـن صنف البقـر‪ .‬وقد قال لنا البحريّون املسـافرون‬
‫وأهـل السـياحة يف الجبـال واألرايض إن هـذا الوحـش املسـ ّمى‬
‫بـ(الكركـدن) يحمـل الفيـل الكبير‪ ،‬على قرنـه‪ ،‬ويرعـى بـه يف الجزيـرة‬
‫والسـواحل‪ ،‬وال يشـعر بـه‪ ،‬وميـوت الفيـل على قرنـه ويسـيح دهنه من‬
‫حـ ّر الشـمس على رأسـه‪ ،‬ويدخـل يف عينيـه فيعمـى‪ ،‬فريقـد يف جانـب‬
‫خ فيحملـه يف مخالبـه‪ ،‬ويـروح بـه عند‬ ‫السـواحل‪ ،‬فيجـيء لـه طير الـر ّ‬
‫أوالده ويزقّهـم بـه‪ ،‬ومبـا على قرنـه‪ .‬وقـد رأيـت يف تلـك الجزيـرة شـيئاً‬
‫كثيرا ً مـن صنـف الجامـوس‪ ،‬ليـس لـه عندنـا نظير‪ .‬ويف ذلـك الـوادي‬
‫يشء كثير مـن حجـر األملـاس الـذي حملتـه معـي وخبّأتـه يف جيبـي‪،‬‬
‫وقايضـوين عليـه ببضائـع ومتـاع مـن عندهـم‪ ،‬وحملوهـا يل معهـم‪،‬‬
‫وأعطـوين دراهـم ودنانير‪ .‬ومل أزل سـائرا ً معهـم‪ ،‬وأنـا أتفـ ُّرج على بلاد‬
‫النـاس‪ ،‬وعلى مـا خلـق اللـه‪ ،‬مـن وا ٍد إىل واد ومـن مدينـة إىل مدينـة‪،‬‬
‫ونحـن نبيـع ونشتري إىل أن وصلنـا إىل مدينـة البصرة‪ ،‬وأقمنا بهـا أيّاماً‬
‫قالئـل‪ ،‬ثـم جئـت إىل مدينـة بغـداد‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)533‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا رجـع مـن غيبتـه‪ ،‬ودخـل مدينـة بغـداد‪ ،‬دار السلام‪ ،‬وجـاء‬
‫إىل حارتـه ودخـل داره‪ ،‬ومعـه مـن صنـف حجـر األملـاس يشء كثير‪،‬‬
‫ومعـه مـال ومتـاع وبضائـع لهـا صـورة‪ ،‬وقـد اجتمـع بأهلـه وأقاربـه ثـم‬
‫تصـدُّق‪ ،‬ووهـب وأعطـى وهادى جميـع أهله وأصحابـه‪ ،‬وصار يـأكل طيِّباً‪،‬‬
‫ويشرب طيِّبـاً‪ ،‬ويلبـس ملبسـاً طيِّبـاً‪ ،‬ويعـارش ويرافـق‪ ،‬ونسي جميـع ما‬
‫هنـي وصفـاء خاطـر وانشراح صـدر ولعـب‬ ‫ّ‬ ‫قاسـاه‪ .‬ومل يـزل يف عيـش‬
‫كل مـن سـمع بقدومـه يجـيء إليـه ويسـأله عـن حـال‬ ‫وطـرب‪ ،‬وصـار ّ‬
‫جب‬ ‫السـفر وأحـوال البلاد‪ ،‬فيخبره ويحيك لـه ما لقيـه وما قاسـاه‪ ،‬فيتع َّ‬
‫مـن شـدَّة مـا قاسـاه‪ ،‬ويه ِّنئـه بالسلامة‪ .‬وهـذا آخر ما جـرى يل ومـا اتَّفق‬
‫يل يف السـفرة الثانيـة‪ .‬ثـم قـال لهـم‪ :‬ويف الغـد‪ ،‬إن شـاء اللـه (تعـاىل)‪،‬‬
‫فلم فرغ السـندباد البحـري من حكايته‬ ‫أحكي لكـم حال السـفرة الثالثة‪ّ .‬‬

‫‪49‬‬
‫جبـوا مـن ذلـك ونعشـوا عنـده‪ ،‬وأمـر للسـندباد مبئة‬ ‫بري تع َّ‬
‫للسـندباد ال ّ‬
‫مم قاسـاه‬
‫جب ّ‬ ‫جـه إىل حـال سـبيله‪ ،‬وهـو يتع َّ‬
‫مثقـال ذهبـاً‪ ،‬فأخذهـا وتو َّ‬
‫السـندباد البحـري‪ ،‬وشـكره‪ ،‬ودعا لـه يف بيته‪ .‬ومل ّا أصبـح الصباح وأضاء‬
‫بري‪ ،‬كما أمـره‪ ،‬ودخـل إليـه وصبَّـح عليـه‪،‬‬‫بنـوره والح‪ ،‬قـام السـندباد ال ّ‬
‫حـب بـه‪ ،‬وجلـس معـه حتـى أتـاه باقـي أصحابـه وجامعتـه‪ ،‬فأكلـوا‬ ‫فر َّ‬
‫ورشبـوا وتلـذَّذوا وطربـوا وانرشحـوا‪ ،‬ثـم ابتـدأ السـندباد البحـري بالكالم‬
‫وقال‪:‬‬

‫‪50‬‬
‫الحكاية الثالثة‬
‫(السفرة الثالثة)‬

‫اعلموا‪ ،‬يا إخواين‪ ،‬واسـمعوا منـي حكاية‪ ،‬فإنها أعجب من الحكايات‬


‫املتقدّمـة قبـل تاريخـه‪ .‬واللـه أعلم بغيبـة واحكم أين فيما مىض وتقدم‬
‫ملـا جئـت مـن السـفرة الثانيـة وأنـا يف غايـة البسـط واالنشراح‪ ،‬فرحـان‬
‫بالسلامة‪ ،‬وقـد كسـبت مـاالً كثيرا ً كما حكيـت لكم أمـس تاريخـه‪ ،‬وقد‬
‫عـ َّوض اللـه على جميـع مـا راح منـي‪ .‬أقمـت مبدينـة بغـداد مـدّة مـن‬
‫ظ والصفـاء والبسـط واالنشراح‪ ،‬فاشـتاقت‬ ‫الزمـان‪ ،‬وأنـا يف غايـة الحـ ّ‬
‫نفسي إىل السـفر والفرجـة‪ ،‬وتشـ َّوقت إىل املتجـر والكسـب والفوائـد‪،‬‬
‫والنفـس أ ّمـارة بالسـوء فهممـت واشتريت شـيئاً كثيرا ً مـن البضائـع‬
‫املناسـبة لسـفر البحر‪ ،‬وحزمتها للسـفر‪ ،‬وسـافرت بها من مدينة بغداد‬
‫إىل مدينـة البصرة‪ ،‬وجئـت إىل سـاحل البحـر فرأيـت مركبـاً عظيماً فيـه‬
‫جـار وركّاب كثيرة‪ ،‬أهـل خير ونـاس ملاح طيِّبـون‪ ،‬أهـل ديـن ومعروف‬ ‫ت ّ‬

‫‪51‬‬
‫وصلاح‪ ،‬فنزلـت معهـم يف ذلـك املركـب‪ ،‬وسـافرنا على بركـة اللـه‬
‫(تعـاىل)‪ ،‬بعونـه وتوفيقـه‪ ،‬وقـد اسـتبرشنا بالخير والسلامة‪ .‬ومل نـزل‬
‫سـائرين مـن بحـر إىل بحر ومن جزيرة إىل جزيـرة ومن مدينة‪ ،‬إىل مدينة‬
‫كل مـكان مررنـا عليـه نتفـ َّرج ونبيع ونشتري‪ ،‬ونحـن يف غاية الفرح‬ ‫ويف ّ‬
‫والسرور إىل أن ك ّنـا‪ ،‬يومـاً مـن األيّام‪ ،‬سـائرين يف وسـط البحـر العجاج‬
‫املتالطـم باألمـواج فـإذا بالريِّـس‪ ،‬وهو جانـب املركب‪ ،‬ينظـر إىل نواحي‬
‫البحـر‪ ،‬ثـم إنـه لطم وجهه‪ ،‬وطـوى قلوع املركـب‪ ،‬ورمى مراسـيه‪ ،‬ونتف‬
‫لحيتـه ومـ َّزق ثيابـه‪ ،‬وصاح صيحـة عظيمة‪ ،‬فقلنا له‪ :‬يـا ريِّس‪ ،‬ما الخرب؟‬
‫فقـال‪ :‬اعلمـوا‪ ،‬يـا ركّاب السلامة‪ ،‬أن الريـح غلـب علينـا‪ ،‬وعسـف بنا يف‬
‫وسـط البحـر‪ ،‬ورمتنـا املقاديـر‪ -‬لسـوء بختنـا‪ -‬إىل جبـل القـرود‪ ،‬ومـا‬
‫أحـس قلبـي بهالكنا‬
‫ّ‬ ‫ط‪ ،‬وقـد‬‫وسـلِم منـه قـ ّ‬
‫وصـل إىل هـذا املـكان أحـد‪َ ،‬‬
‫م قول الريِّس حتـى جاءنا القـرود‪ ،‬وأحاطوا املركب‬ ‫أجمعين‪ .‬فام اسـتت ّ‬
‫كل جانـب‪ ،‬وهـم يشء كثري مثـل الجراد املنتشر يف املركب وعىل‬ ‫مـن ّ‬
‫بر‪ ،‬فخفنـا إن قتلنـا منهـم أحـدا ً أو طردنـاه أن يقتلونـا؛ لفـرط كرثتهـم‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫والكثرة تغلـب الشـجاعة‪ .‬وبقينا خائفني منهـم أن ينهبوا رزقنـا ومتاعنا‪،‬‬
‫وهـم أقبـح الوحـوش‪ ،‬وعليهـم شـعور مثل لبد األسـود‪ ،‬ورؤيتهـم تفزع‪،‬‬
‫وال يف َهـم لهـم أحـد كالمـاً‪ ،‬وال خبرا ً‪ ،‬وهـم مستوحشـون مـن النـاس‪،‬‬
‫كل واحـد منهم أربعة‬ ‫صفـر العيـون وسـود الوجوه صغـار الخلقة‪ ،‬طول ّ‬
‫أشـبار‪ ،‬وقـد طلعـوا على حبـال املرسـاة وقطَّعوهـا بأسـنانهم‪ ،‬وقطَّعـوا‬
‫ورسـت‬
‫كل جانب‪ ،‬فمال املركـب من الريح‪َ ،‬‬ ‫جميـع حبـال املركـب مـن ّ‬
‫جـار‬
‫على جبلهـم‪ ،‬وصـارت املركـب يف ب ِّرهـم‪ ،‬وقبضـوا على جميـع الت ّ‬
‫والـركّاب‪ ،‬وطلعـوا إىل الجزيـرة‪ ،‬وأخـذوا املركـب بجميـع مـا كان فيهـا‬
‫وراحـوا بهـا‪ .‬فبينما نحـن يف تلـك الجزيـرة‪ ،‬نـأكل مـن أمثارهـا وبقولهـا‬
‫وفواكههـا ونشرب مـن األنهـار التـي فيهـا‪ ،‬إذ الح لنا بيت عامر يف وسـط‬
‫تلـك الجزيـرة فقصدنـاه‪ ،‬ومشـينا إليه فـإذا هو قرص مشـ َّيد األركان عايل‬
‫األسـوار‪ ،‬لـه بـاب بدرفتين‪ ،‬مفتـوح‪ ،‬وهـو من خشـب األبانـوس‪ ،‬فدخلنا‬
‫بـاب ذلـك القصر‪ ،‬فوجدنـا لـه حظيرا ً واسـعأً مثـل الحـوش الواسـع‬
‫الكبير‪ ،‬ويف دائـره أبـواب كثيرة‪ ،‬ويف صدره مصطبة عاليـة كبرية‪ ،‬وفيها‬

‫‪52‬‬
‫أواين طبيـخ معلَّقـة على الكوانين‪ ،‬وحواليهـا عظـام كثرية‪ ،‬ومل نـ َر فيها‬
‫جبنـا مـن ذلـك غايـة العجب‪ ،‬وجلسـنا يف حضير ذلك القرص‬ ‫أحـد‪ ،‬فتع َّ‬
‫قليلاً‪ ،‬ثـم بعـد ذلـك مننا‪ ،‬ومل نـزل نامئني من ضحـوة النهـار إىل غروب‬
‫جـت مـن تحتنـا وسـمعنا دويـاً مـن الجـ ّو‪،‬‬
‫الشـمس‪ ،‬وإذ بـاألرض قـد ارت َّ‬
‫وقـد نـزل علينـا من أعىل القرص شـخص عظيـم الخلقة يف صفة إنسـان‪،‬‬
‫وهـو أسـود اللـون طويـل القامـة كأنـه نخلـة عظيمـة‪ ،‬ولـه عينـان كأنهام‬
‫شـعلتان مـن نـار‪ ،‬وله أنيـاب مثل أنيـاب الخنازير‪ ،‬وله فـم عظيم الخلقة‬
‫مثـل البئر‪ ،‬ولـه مشـافر مثـل مشـافر الجمـل مرخ ّيـة على صـدره‪ ،‬ولـه‬
‫أذنـان مثـل الحرامين مرخيَّتـان على أكتافـه‪ ،‬وأظافـر يديه مثـل مخالب‬
‫َـوي خوفنا‪،‬‬‫فلما نظرنـاه على هـذه الحالة غبنـا عن وجودنـا‪ ،‬وق َ‬
‫ّ‬ ‫السـبع‪،‬‬
‫واشـت َّد فزعنـا‪ ،‬ورصنـا مثـل املـوىت من شـدّة الخـوف والجـزع والفزع‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)534‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري ورفقتـه مل ّـا رأوا هذا الشـخص الهائـل الصورة‪ ،‬حصـل لهم غاية‬
‫فلما نـزل على األرض جلـس قليلاً على املصطبة‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫الخـوف والفـزع‪،‬‬
‫جـار‪،‬‬ ‫إنـه قـام وجـاء عندنـا‪ ،‬ثـم قبـض على يـدي مـن بين أصحـايب الت ّ‬
‫ورفعنـي بيـده عـن األرض‪ ،‬وحبسـني وقلَّبنـي فصرت يف يـده مثـل‬
‫اللقمـة الصغيرة‪ ،‬وصـار يحبسـني مثل ما يحبـس الج ّزار ذبيحـة الغنم‪،‬‬
‫فوجـدين ضعيفـاً مـن كثرة القهر هزيالً من كثرة التعب والسـفر‪ ،‬وليس‬
‫يف يشء مـن اللحـم فأطلقنـي مـن يـده‪ ،‬وأخـذ واحـدا ً غيري مـن رفاقـي‬ ‫َّ‬
‫وقلَّبـه كما قلَّبنـي‪ ،‬وحبسـه كما حبسـني‪ ،‬ثـم أطلقـه‪ .‬ومل يـزل يحبسـنا‬
‫ويقل ِّبنـا‪ ،‬واحـدا ً بعـد واحـد‪ ،‬إىل أن وصـل إىل ريِّـس املركـب الـذي ك ّنـا‬
‫فيـه‪ ،‬وكان رجلاً سـميناً غليظـاً عريـض األكتـاف صاحـب قـ ّوة وشـدّة‪،‬‬
‫فأعجبـه وقبـض عليـه مثـل مـا يقبـض الجـ ّزار على ذبيحتـه‪ ،‬ورمـاه عىل‬
‫األرض‪ ،‬ووضـع رجلـه على رقبتـه وجاء بسـيخ طويل‪ ،‬فأدخلـه يف حلقه‬
‫حتـى أخرجـه مـن دبـره‪ ،‬وأوقـد نـارا ً شـديدة وركَّـب عليهـا ذلـك السـيخ‬
‫املشـكوك فيـه الريِّـس‪ ،‬ومل يـزل يقلبه على الجمر حتى اسـتوى لحمه‪،‬‬

‫‪53‬‬
‫وأطلعـه مـن النـار وحطّـه قدّامـه‪ ،‬وفسـخه كما يفسـخ الرجـل الفرخة‪.‬‬
‫وصـار يقطِّـع لحمه بأظافره‪ ،‬ويـأكل منه‪ .‬ومل يزل عىل هـذه الحالة حتى‬
‫أكل لحمـه‪ ،‬ونهـش عظمـه‪ ،‬فلـم يبـقِ منه شـيئاً‪ ،‬ورمى باقـي العظام يف‬
‫جنـب القصر‪ .‬ثـم إنـه جلـس قليلاً‪ ،‬وانطـرح ونـام على تلـك املصطبـة‬
‫وصـار يشـخر مثل شـخري الخـروف أو البهيمـة املذبوحة‪ ،‬ومل يـزل نامئاً‬
‫فلما تحقَّقنا بعـده تحدَّثنا‬
‫ّ‬ ‫إىل الصبـاح‪ ،‬ثـم قـام وخرج إىل حال سـبيله‪.‬‬
‫معـاً‪ ،‬وبكينـا على أرواحنـا وقلنـا‪ :‬ليتنـا غرقنـا يف البحـر‪ ،‬وأكلتنـا القرود‬
‫خير من شـوي اإلنسـان على الجمر‪ .‬واللـه‪ ،‬إن هذا املـوت رديء‪ ،‬ولكن‬
‫لي العظيـم‪ .‬لقـد كدنا‬ ‫إل باللـه الع ّ‬‫مـا شـاء اللـه كان‪ ،‬وال حـول وال قـ ّوة ّ‬
‫منـوت كمـدا ً‪ ،‬ومل يـد ِر بنـا أحـد‪ ،‬ومـا بقـي لنـا نجـاة من هـذا املـكان‪ .‬ثم‬
‫إننـا قمنـا وخرجنـا إىل الجزيـرة لننظـر لنـا مكانـاً نختفـي فيـه أو نهـرب‪،‬‬
‫وقـد هـان علينـا أن منـوت وال يُشـوى لحمنـا بالنـار‪ ،‬فلـم نجـد مكانـاً‬
‫نختفـي فيـه‪ ،‬وقـد أدركنـا املسـاء فعدنـا إىل القصر مـن شـدّة خوفنـا‪.‬‬
‫جلسـنا قليلاً‪ ،‬وإذا بـاألرض قد ارتجفـت من تحتنا‪ ،‬وأقبل ذلك الشـخص‬
‫األسـ َود‪ ،‬وجـاء عندنـا‪ ،‬وصـار يقلِّبنا واحـدا ً بعد اآلخر مثل املـ ّرة األوىل‪،‬‬
‫ويحبسـنا حتـى أعجبـه واحـد‪ ،‬فقبـض عليـه وفعـل بـه مثـل مـا فعـل‬
‫بالريِّـس يف أ َّول يـوم‪ ،‬فشـواه وأكلـه على تلـك املصطبة‪ ،‬ومل يـزل نامئاً‬
‫فلما طلـع النهـار قـام وراح‬‫ّ‬ ‫يف تلـك الليلـة وهـو يشـخر مثـل الذبيحـة‪،‬‬
‫إىل حـال سـبيله‪ ،‬وتركنـا على جـري عادتـه‪ ،‬فاجتمعنـا‪ ،‬وتحدَّثنـا وقلنـا‪:‬‬
‫واللـه‪ ،‬ألن نلقـي أنفسـنا يف البحر ومنـوت غرقاً خري مـن أن منوت حرقاً؛‬
‫ألن هـذه قتلـة شـنيعة‪ .‬فقال واحد م ّنا‪ :‬اسـمعوا كالمي‪ ،‬علينـا أن نحتال‬
‫عليـه ونقتلـه‪ ،‬فرنتـاح مـن ه ّمـه‪ ،‬ونريح املسـلمني مـن عدوانـه وظلمه‪.‬‬
‫فقلـت لهـم‪ :‬اسـمعوا‪ ،‬يـا إخـواين‪ :‬إن كان البـ ّد من قتلـه فإننا نحـ ِّول هذا‬
‫الخشـب‪ ،‬وننقـل شـيئاً مـن هـذا الحطـب‪ ،‬ونعمـل لنا فلـكاً مثـل املركب‬
‫أي‬
‫وبعـد ذلـك‪ ،‬نحتـال يف قتلـه‪ ،‬وننزل يف الفلـك‪ ،‬ونروح يف البحـر إىل ّ‬
‫محـل يريـده اللـه‪ .‬وإننـا نقعـد يف هـذا املـكان حتـى ميـ ّر علينـا مركـب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فننـزل فيـه‪ ،‬وإن مل نقـدر على قتله ننزل ونـروح يف البحر ولـو ك ّنا نغرق‬
‫نرتـاح مـن شـيِّنا على النـار‪ ،‬ومـن الذبـح‪ ،‬فـإن سـلمنا سـلمنا‪ ،‬وإن غرقنا‬

‫‪54‬‬
‫متنا شـهداء‪ .‬فقالوا جميعاً‪ :‬والله‪ ،‬هذا رأي سـديد وفعل رشـيد‪ .‬وات َّفقنا‬
‫على هـذا األمـر‪ ،‬ورشعنـا يف فعلـه‪ ،‬فنقلنا األخشـاب إىل خـارج القرص‪،‬‬
‫وصنعنـا فلـكاً وربطنـاه على جانـب البحـر‪ ،‬ون َّزلنـا فيـه شـيئاً مـن الـزاد‪،‬‬
‫فلما كان وقـت املسـاء‪ ،‬إذا بـاألرض قـد ارتجفـت‬ ‫ّ‬ ‫ثـم عدنـا إىل القصر‪.‬‬
‫بنـا ودخـل علينـا األسـ َود‪ ،‬وكأنه الكلـب العقور‪ ،‬ثـم قلَّبنا وحبسـنا واحدا ً‬
‫بعـد واحـد‪ ،‬ثـم أخـذ واحـدا ً وفعـل به مثـل ما فعـل بسـاب َق ْيه‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)535‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري قـال إن األسـود أخذ واحدا ً م ّنا‪ ،‬وفعل به مثل ما فعل بسـاب َق ْيه‪،‬‬
‫وأكلـه ثـم نام على املصطبة‪ ،‬وصار شـخريه مثـل الرعد‪ ،‬فنهضنـا وقمنا‬
‫وأخذنـا سـيخني مـن حديـد مـن األسـياخ املنصوبـة‪ ،‬ووضعناهما يف‬
‫النـار القويّـة حتـى احمـ ّرا وصـارا مثـل الجمـر‪ ،‬وقبضنـا عليهما قبضـاً‬
‫شـديدا ً وجئنـا بهما إىل ذلـك األسـود وهـو نائـم يشـخر‪ ،‬ووضعناهام يف‬
‫عينيـه واتكأنـا عليهما جميعـاً بق َّوتنا‪ ،‬وعزمنـا فأدخلناهما يف عينيه وهو‬
‫نائـم‪ ،‬فانطمسـتا وصـاح صيحـة عظيمـة‪ ،‬فارتعبـت قلوبنـا منـه‪ ،‬ثـم قام‬
‫مـن فـوق تلـك املصطبـة بعزمـه‪ ،‬وصـار يفتِّـش علينـا‪ ،‬ونحن نهـرب منه‬
‫ميينـاً وشماالً‪ ،‬فلـم ينظرنـا وقد َع ِمي بصره‪ ،‬فخفنا منه مخافة شـديدة‪،‬‬
‫وأيق ّنـا يف تلـك السـاعة بالهلاك‪ ،‬ويئسـنا من النجـاة‪ .‬فعنـد ذلك‪ ،‬قصد‬
‫يحسـس‪ ،‬وخـرج منـه وهـو يصيـح‪ ،‬ونحـن يف غايـة الرعـب‬ ‫ِّ‬ ‫البـاب وهـو‬
‫فلما خـرج مـن‬ ‫ّ‬ ‫ترتـج مـن تحتنـا مـن شـدّة صوتـه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منـه‪ ،‬وإذا بـاألرض‬
‫القصر راح إىل حـال سـبيله‪ ،‬وهـو يـدور علينـا‪ ،‬ثـم إنـه رجـع ومعـه أنثى‬
‫فلما رأينـاه والـذي معـه أفظـع حالـة‬
‫ّ‬ ‫أكبر منـه‪ ،‬وأوحـش منـه خلقـةً‪،‬‬
‫فلما رأونـا أرسعنا ونهضنـا ففككنـا الفلك الذي‬ ‫ّ‬ ‫منـه خفنـا غايـة الخوف‪،‬‬
‫كل واحـد منهـم‬ ‫صنعنـاه‪ ،‬ونزلنـا فيـه ودفعنـاه يف البحـر‪ ،‬وكان مـع ّ‬
‫صخـرة عظيمـة‪ ،‬وصـارا يرجامننـا بهـا إىل أن مـات أكرثنـا مـن الرجـم‪،‬‬
‫وبقـي م ّنـا ثالثـة أشـخاص‪ :‬أنـا واثنان‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)536‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا نـزل يف الفلـك هـو وأصحابـه‪ ،‬صـار يرجامنهـم‪ ،‬األسـود‬
‫إل ثالثـة أشـخاص‪ ،‬فطلع بهم‬ ‫ورفيقتـه‪ ،‬فماتَ أكرثهـم‪ ،‬ومل يبـق منهـم ّ‬
‫الفلـك إىل جزيـرة‪ .‬قـال‪ :‬فمشـينا إىل آخـر النهـار‪ ،‬فدخـل علينـا الليـل‬
‫ونحـن على هـذه الحالـة فنمنا قليلاً‪ ،‬واسـتيقظنا مـن نومنـا وإذا بثعبان‬
‫عظيـم الخلقـة كبير الجثّـة واسـع الجـوف قـد أحـاط بنـا‪ ،‬وقصـد واحـدا ً‬
‫تتكسر يف بطنـه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫فبلعـه إىل أكتافـه‪ ،‬ثـم بلـع باقيـه‪ ،‬فسـمعنا أضالعـه‬
‫جبنـا مـن ذلـك غايـة العجـب‪ ،‬وحزنّـا على‬ ‫وراح يف حـال سـبيله‪ ،‬فتع َّ‬
‫رفيقنـا‪ ،‬ورصنـا يف غايـة الخـوف على أنفسـنا‪ ،‬وقلنـا‪ :‬واللـه‪ ،‬هـذا أمـر‬
‫كل موتـة أشـنع من السـابقة‪ .‬وك ّنا فرحنا بسلامتنا من األسـود‪،‬‬ ‫عجيـب! ّ‬
‫فما متَّـت الفرحـة‪ ،‬وال حـول وال قـ ّوة إلّ باللـه‪ .‬واللـه‪ ،‬قـد نجونـا مـن‬
‫األسـ َود ومـن الغـرق‪ ،‬فكيـف تكـون نجاتنا من هـذه اآلفة املشـؤومة؟ ثم‬
‫إننـا قمنا فمشـينا يف الجزيـرة‪ ،‬وأكلنا من مثرها ورشبنـا من أنهارها‪ ،‬ومل‬
‫نـزل فيهـا إىل وقـت املسـاء‪ ،‬فوجدنـا صخـرة عظيمـة عاليـة‪ ،‬فطلعناهـا‬
‫فلما دخـل الليـل‪ ،‬وأظلـم‬ ‫ّ‬ ‫ومننـا فوقهـا‪ ،‬وقـد طلعـت أنـا على فروعهـا‪.‬‬
‫الوقـت‪ ،‬جـاء الثعبـان وتلفَّـت ميينـاً وشماالً‪ ،‬ثـم إنـه قصد تلك الشـجرة‬
‫التـي نحـن عليهـا ومشى حتـى وصـل إىل رفيقـي وبلعـه حتـى أكتافـه‪،‬‬
‫يتكسر يف بطنـه‪ ،‬ثـم بلعـه‬
‫َّ‬ ‫والتفـت بـه على الشـجرة‪ ،‬فسـمعت عظمـه‬
‫بعينـي‪ ،‬ثـم إن الثعبـان نـزل مـن فـوق تلـك الشـجرة‬‫َّ‬ ‫بتاممـه‪ ،‬وأنـا أنظـر‬
‫فلما‬
‫ّ‬ ‫وراح إىل حـال سـبيله‪ .‬ومل أزل على تلـك الشـجرة يف تلـك الليلـة‪،‬‬
‫طلـع النهـار وبـان النـور ونزلـت مـن فـوق الشـجرة وأنـا مثـل امل ِّيـت مـن‬
‫كثرة الخـوف والفـزع‪ ،‬أردت أن ألقـي بنفسي يف البحـر وأستريح مـن‬
‫لي روحـي ألن الـروح عزيـزة‪ ،‬فربطت خشـبة عريضة‬ ‫الدنيـا‪ ،‬فلـم تهـن ع َّ‬
‫على أقدامـي بالعـرض‪ ،‬وربطـت واحـدة مثلهـا على جنبـي الشمال‪،‬‬
‫ومثلهـا على جنبـي اليمين‪ ،‬ومثلهـا على بطنـي‪ ،‬وربطـت واحـدة طويلة‬
‫عريضـة مـن فـوق رأيس بالعـرض مثل التـي تحت أقدامـي‪ ،‬ورصت أنا يف‬
‫كل جانـب وقـد شـددت ذلـك‬ ‫وسـط هـذا الخشـب‪ ،‬وهـو محتـاط يب مـن ّ‬
‫شـ ّدا ً وثيقـاً‪ ،‬وألقيـت نفسي بالجميع على األرض‪ ،‬فرصت نامئـاً بني تلك‬

‫‪56‬‬
‫فلما أمسى الليـل أقبـل ذلـك‬ ‫ّ‬ ‫األخشـاب وهـي محيطـة يب كاملقصـورة‪.‬‬
‫يل وقصـدين فلـم يقـدر أن يبلغنـي‪،‬‬ ‫الثعبـان‪ ،‬على جـري عادتـه‪ ،‬ونظـر إ َّ‬
‫كل جانـب‪ ،‬فـدار الثعبـان‬ ‫وأنـا على تلـك الحالـة واألخشـاب حـويل مـن ّ‬
‫بعينـي وقـد رصت كامل ِّيـت‬
‫َّ‬ ‫يل‪ ،‬وأنـا أنظـر‬
‫حـويل فلـم يسـتطع الوصـول إ َّ‬
‫يل‪ ،‬ومل‬‫مـن شـدّة الخـوف والفـزع‪ ،‬وصـار الثعبـان يبعـد عنـي ويعـود إ َّ‬
‫يل ليبتلعنـي متنعـه تلـك‬ ‫يـزل على هـذه الحالـة‪ ،‬وكلَّما أراد الوصـول إ َّ‬
‫كل جانـب‪ .‬ومل يـزل كذلـك مـن غـروب‬ ‫لي مـن ّ‬ ‫األخشـاب املشـدودة ع ّ‬
‫الشـمس إىل أن طلـع الفجـر‪ ،‬وبـان النـور وأرشقـت الشـمس‪ ،‬فمضى‬
‫الثعبـان إىل حـال سـبيله‪ ،‬وهـو يف غايـة مـن القهـر والغيـظ‪ .‬عنـد ذلك‪،‬‬
‫مـددت يـدي‪ ،‬وفككـت نفسي من تلـك األخشـاب وأنـا يف حكـم األموات‬
‫مـن شـدّة ماقاسـيت مـن ذلـك الثعبـان‪ ،‬ثـم إين قمـت ومشـيت يف‬
‫الجزيـرة حتـى انتهيـت إىل آخرهـا‪ ،‬فالحـت يل منـي التفاتـة إىل ناحيـة‬
‫جـة‪ ،‬فأخذت فرعـاً كبريا ً من‬ ‫البحـر‪ ،‬فرأيـت مركبـاً على بعد يف وسـط الل ّ‬
‫فلما رأوين قالـوا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫شـجرة ول َّوحـت بـه إىل ناحيتهـم‪ ،‬وأنـا أصيـح عليهـم‪.‬‬
‫البـ َّد أننـا ننظـر مـا يكون هـذا‪ ،‬لعلّه إنسـان! ثم إنهـم قربوا مني وسـمعوا‬
‫يل وأخذوين معهم يف املركب‪ ،‬وسـألوين عن‬ ‫صياحـي‪ ،‬عليهـم فجـاؤوا إ َّ‬
‫حـايل فأخربتهـم بجميـع مـا جـرى يل‪ ،‬مـن أ َّولـه إىل آخـره‪ ،‬وماقاسـيته‬
‫جبـوا مـن ذلـك غايـة العجـب‪ ،‬ثـم إنهم ألبسـوين من‬ ‫مـن الشـدائد‪ ،‬فتع َّ‬
‫عندهـم ثيابـاً‪ ،‬وستروا عـوريت‪ .‬وبعـد ذلـك‪ ،‬قدَّمـوا يل شـيئاً مـن الـزاد‬
‫حتـى اكتفيت‪ ،‬وسـقوين ماء بـاردا ً عذبـاً فانتعش قلبـي‪ ،‬وارتاحت نفيس‬
‫وحصـل يل راحـة عظيمـة‪ ،‬وأحيـاين اللـه (تعـاىل) بعـد مـويت‪ ،‬فحمدتـه‬
‫على نعمـه الوافرة‪ ،‬وشـكرته‪ ،‬وقَ ّويت ه َّمتـي بعدما كنـت أيقنت بالهالك‬
‫حتـى تخ َّيـل يل أن جميـع مـا أنـا فيـه منـام‪ .‬ومل نـزل سـائرين‪ ،‬وقد طاب‬
‫لنـا الريـح بـإذن اللـه (تعـاىل) إىل أن أرشفنا على جزيرة يقال لهـا جزيرة‬
‫(السلاهطة) فأوقـف الريِّـس املركـب عليهـا‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)537‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن املركـب‬

‫‪57‬‬
‫الـذي نـزل فيـه السـندباد البحـري رسـت على جزيـرة‪ ،‬فنـزل منـه جميع‬
‫يل صاحـب املركب وقال يل‪ :‬اسـمع كالمـي‪ .‬أنت رجل‬ ‫جـار‪ ،‬فالتفـت إ َّ‬ ‫الت ّ‬
‫غريـب فقير‪ ،‬وقـد أخربتنـا أنك قاسـيت أهواالً كثيرة‪ ،‬ومـرادي أن أنفعك‬
‫بشيء يعينـك عىل الوصـول إىل بالدك وتبقى تدعـو يل‪ ،‬فقلت له‪ :‬نعم‪،‬‬
‫ولـك منـي الدعـاء‪ .‬فقال‪ :‬اعلم أنـه كان معنا رجل مسـافر ففقدناه‪ ،‬ومل‬
‫حـي أم مـات‪ ،‬ومل نسـمع عنـه خبرا ً‪ ،‬ومـرادي أن أدفـع‬ ‫ّ‬ ‫نعلـم هـل هـو‬
‫لـك حمولـة لتبيعهـا يف هذه الجزيـرة وتحفظها‪ ،‬وأعطيك شـيئاً يف نظري‬
‫تعبـك وخدمتـك ومـا بقـي منهـا نأخـذه إىل أن تعـود إىل مدينـة بغـداد‪،‬‬
‫فنسـأل عـن أهلـه وندفـع إليهـم بق َّيتهـا ومثـن مـا بيـع منهـا‪ ،‬فهـل لك أن‬
‫جار؟ فقلت‪ :‬سـمعاً‬ ‫تتسـلَّمها وتنـزل بهـا هـذه الجزيـرة‪ ،‬فتبيعها مثـل الت ّ‬
‫وطاعـة لـك‪ ،‬يـا سـ ِّيدي‪ ،‬ولـك الفضـل والجميل‪ .‬دعـوت له وشـكرته عىل‬
‫الحملين والبحريـة بإخـراج تلـك البضائـع إىل الجزيـرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ذلـك‪ ،‬ثـم أمـر‬
‫يل‪ ،‬فقـال كاتـب املركـب‪ :‬يـا ريِّـس‪ ،‬مـا هـذه الحمـول‬ ‫وأن يسـلموها إ َّ‬
‫جـار أكتبها؟ فقال‪:‬‬
‫ن من الت ّ‬‫باسـمِ َمـ ْ‬
‫والحملون؟ ْ‬
‫ّ‬ ‫التـي أخرجهـا البحريـة‬
‫اكتـب عليها اسـم السـندباد البحري الذي كان مع َنا‪ ،‬وغـرق يف الجزيرة‪،‬‬
‫ومل يأتنـا عنـه خبر‪ ،‬فرنيد أن يبيعهـا هذا الغريب ونحمـل مثنها ونعطيه‬
‫شـيئاً منـه نظير تعبه وبيعـه‪ ،‬والباقي نحمله معنا حتـى نرجع إىل مدينة‬
‫بغـداد‪ ،‬فـإن وجدنـاه أعطينـاه إيّـاه‪ ،‬وإن مل نجـده ندفعـه إىل أهلـه يف‬
‫فلم سـمعت‬ ‫مدينـة بغـداد‪ ،‬فقـال الكاتـب‪ :‬كالمك مليـح‪ ،‬ورأيك رجيح‪ّ .‬‬
‫كالم الريِّـس‪ ،‬وهـو يذكـر أن الحمـول باسـمي‪ ،‬قلت يف نفسي‪ :‬والله‪ ،‬أنا‬
‫السـندباد البحـري‪ ،‬وأنـا غرقـت يف الجزيـرة مـع جملـة من غـرق‪ ،‬ثم إين‬
‫جـار مـن املركـب‪ ،‬واجتمعـوا يتحدَّثـون‬ ‫تجلَّـدت وصبرت إىل أن طلـع الت ّ‬
‫ويتذاكـرون يف أمـور البيـع والشراء‪ .‬فتقدَّمـت إىل صاحـب املركـب‪،‬‬
‫وقلـت لـه‪ :‬يـا سـ ِّيدي‪ ،‬هـل تعـرف كيـف كان صاحـب الحمـول التـي‬
‫يل ألبيعهـا؟ فقـال يل‪ :‬ال أعلـم لـه حـاالً‪ ،‬ولكنـه كان رجلاً مـن‬ ‫سـلَّمتها إ َّ‬
‫مدينـة بغـداد‪ ،‬يقـال لـه السـندباد البحـري‪ ،‬وقد أرسـينا على جزيرة من‬
‫الجزائـر فغـرق م ّنـا فيهـا خلـق كثير‪ ،‬وفُ ِقـد هو مـن جملتهـم‪ ،‬ومل نعلم‬
‫لـه خبرا ً إىل هـذا الوقـت‪ .‬عند ذلـك‪ ،‬رصخت رصخـة عظيمـة‪ ،‬وقلت له‪:‬‬

‫‪58‬‬
‫يـا ريِّـس السلامة‪ ،‬اعلـم أين أنـا السـندباد البحـري‪ .‬أنـا مل أغـرق‪ ،‬ولكـن‬
‫جـار والـركّاب طلعـت أنـا مـع جملـة‬ ‫مل ّـا أرسـيت على الجزيـرة وطلـع الت ّ‬
‫النـاس‪ ،‬ومعـي يشء آكلـه بجانـب الجزيـرة‪ ،‬ثـم إين تلـذَّذت بالجلـوس‬
‫سـ َنة من النوم‪ ،‬فنمت وغرقـت يف النوم‪ ،‬ثم‬ ‫يف ذلـك املـكان‪ ،‬فأخذتنـي ِ‬
‫إين قمـت فلـم أجـد املركـب‪ ،‬ومل أجـد أحـدا ً عنـدي‪ .‬وهـذا املـال مايل‪،‬‬
‫جـار الذيـن يجلبون حجـر األملاس‬ ‫وهـذه البضائـع بضائعـي‪ ،‬وجميـع الت ّ‬
‫رأوين وأنـا يف جبـل األملـاس‪ ،‬ويشـهدون يل بـأين أنا السـندباد البحري‪،‬‬
‫بقصتـي ومـا جـرى يل معكـم يف املركـب‪ ،‬وأخربتهـم‬ ‫َّ‬ ‫كما أين أخربتهـم‬
‫بأنكـم نسـيتموين يف الجزيـرة نامئـاً‪ ،‬وقمـت فلـم أجـد أحـدا ً‪ ،‬وجـرى يل‬
‫لي‪ ،‬فمنهـم‬ ‫جـار والـركّاب كالمـي‪ ،‬اجتمعـوا ع َّ‬ ‫فلما سـمع الت ّ‬
‫ّ‬ ‫مـا جـرى‪.‬‬
‫مـن صدَّقنـي‪ ،‬ومنهـم مـن كذَّبنـي‪ .‬فبينما نحـن كذلـك‪ ،‬وإذا بتاجـر مـن‬
‫جـار حين سـمعني أذكـر وادي األملـاس نهـض وتقـدَّم عنـدي‪ ،‬وقـال‬ ‫الت ّ‬
‫لهـم‪ :‬اسـمعوا‪ ،‬يـا جامعـة‪ ،‬كالمـي‪ :‬إين مل ّـا كنـت ذكـرت لكـم أعجـب ما‬
‫رأيـت يف أسـفاري مل ّا ألقينـا الذبائح يف وادي األملـاس‪ ،‬وألقيت ذبيحتي‬
‫معهـم‪ ،‬على جـري عـاديت‪ ،‬طلـع على ذبيحتـي رجـل متعلِّـق بهـا‪ ،‬ومل‬
‫تصدِّقـوين بـل كذَّبتمـوين‪ .‬فقالـوا لـه‪ :‬نعـم‪ ،‬حكيـت لنـا هـذا األمـر‪ ،‬ومل‬
‫نصدِّقـك‪ .‬فقـال لهـم‪ :‬هذا هـو التاجر الـذي تعلَّق بذبيحتـي‪ ،‬وقد أعطاين‬
‫شـيئاً مـن حجـر األملـاس الغايل الثمـن الـذي ال يوجد نظيره‪ ،‬وع َّوضني‬
‫أكثر مـا كان يطلـع يل يف ذبيحتـي‪ ،‬وقد اسـتصحبته معـي إىل أن وصلنا‬
‫جـه إىل بلاده وودَّعنـا‪ ،‬ورجعنـا إىل‬ ‫إىل مدينـة البصرة‪ ،‬وبعـد ذلـك تو َّ‬
‫بالدنـا‪ ،‬وهـو هـذا‪ ،‬وقـد أعلمنـا أن اسـمه السـندباد البحـري‪ ،‬وأخربنـا‬
‫بذهـاب املركـب وجلوسـه يف هـذه الجزيـرة‪ .‬واعلمـوا أن هـذا الرجـل ما‬
‫مما قلته لكم‪ ،‬وهـذه البضائـع كلّها رزقه‬ ‫إل لتصدِّقـوا كالمـي ّ‬
‫جاءنـا هنـا ّ‬
‫فلم‬
‫فإنـه أخبر بهـا يف وقت اجتامعـه علينا‪ ،‬وقـد ظهر صدقـه يف قوله‪ّ .‬‬
‫سـمع الريِّـس كالم ذلـك التاجـر‪ ،‬قـام على حيلـه‪ ،‬وجـاء عنـدي وحقَّـق‬
‫يف النظـر سـاعةً‪ ،‬وقـال‪ :‬مـا عالمـة بضائعـك؟ فقلت لـه‪ :‬اعلـم أن عالمة‬ ‫َّ‬
‫بضائعـي مـا هـو كذا وكـذا‪ ،‬وقد أخربتـه بأمـر كان بيني وبينـه‪ ،‬ومل ّا نزلت‬
‫معـه املركـب مـن البصرة‪ ،‬فتحقَّـق أين أنـا السـندباد البحـري‪ ،‬فعانقني‬

‫‪59‬‬
‫قصتـك عجيبـة‪،‬‬‫لي‪ ،‬وهنـأين بالسلامة‪ ،‬وقـال يل‪ :‬ياسـيِّدي‪ ،‬إن َّ‬
‫وسـلَّم ع َّ‬
‫َ‬
‫وأمـرك غريـب‪ ،‬ولكـن الحمـد لله الذي جمـع بيننـا وبينـك‪ ،‬ور َّد بضائعك‬
‫ومالـك عليك‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)538‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫جـار أنـه هـو عينـه‪ ،‬وقـال لـه الريِّـس‪:‬‬ ‫تبين للريِّـس والت ّ‬
‫َّ‬ ‫البحـري ملـا‬
‫رصفت‬ ‫«الحمـد للـه الـذي ر َّد بضائعك ومالك عليـك»‪ ،‬قال‪ :‬فعنـد ذلك ت َّ‬
‫يف بضائعـي مبعرفتـي‪ ،‬وربحـت بضائعـي يف تلـك السـفرة شـيئاً كثيرا ً‪،‬‬
‫يل‪ .‬ومل نزل‬ ‫وفرحـت بذلـك فرحـاً عظيماً‪َ ،‬هن ِئت بالسلامة‪ ،‬وعاد مـايل إ ّ‬
‫نبيـع ونشتري يف الجزائـر إىل أن وصلنـا إىل بلاد السـندباد‪ ،‬وبعنـا فيهـا‬
‫واشترينا‪ ،‬ورأيـت يف ذلـك البحـر شـيئاً كثيرا ً مـن العجائـب والغرائب ال‬
‫عـ ّد وال ت ُحصى‪ ،‬ومـن جملة مـا رأيت‪ ،‬يف ذلك البحر‪ ،‬سـمكة عىل صفة‬ ‫تُ َ‬
‫البقـرة‪ ،‬وشـيئاً على صفـة الحمير‪ ،‬ورأيـت طريا ً يخـرج من صـدف البحر‬
‫ويبيـض ويفـ ِّرخ على وجـه املـاء وال يطلـع من البحـر عىل وجـه األرض‪،‬‬
‫أبـدا ً‪ .‬وبعـد ذلـك‪ ،‬مل نـزل مسـافرين‪ ،‬بـإذن اللـه (تعـاىل)‪ ،‬وقد طـاب لنا‬
‫الريـح والسـفر إىل أن وصلنـا إىل البصرة‪ ،‬وقـد أقمـت فيهـا أيّامـاً قالئل‪،‬‬
‫جهت إىل حـاريت ودخلت بيتي‪،‬‬ ‫وبعـد ذلـك جئـت إىل مدينة بغـداد‪ ،‬فتو َّ‬
‫وسـلَّمت على أهيل وأصحـايب وأصدقايئ‪ ،‬وقد فرحت بسلامتي وعوديت‬
‫َسـ ْوت األرامل‬ ‫إىل بلادي وأهلي ومدينتي وديـاري‪ ،‬وتصدَّقت ووهبت‪ ،‬وك َ‬
‫واأليتـام‪ .‬وجمعـت أصحـايب وأحبـايب‪ ،‬ومل أزل على هـذه الحالـة يف‬
‫أكل ورشب ولهـو وطـرب‪ ،‬وأنـا آكل وأرشب طيِّبـاً‪ ،‬وأعـارش وأخالـط‪ ،‬وقد‬
‫نسـيت جميـع مـا جرى يل‪ ،‬وما قاسـيت من الشـدائد واألهوال‪ ،‬وكسـبت‬
‫عـ ّد وال يُحصى‪ ،‬وهـذا أعجب مـا رأيته يف هذه‬ ‫شـيئاً يف هـذه السـفرة ال يُ َ‬
‫يل‪ ،‬فأحكي لك حكاية‬ ‫السـفرة‪ .‬ويف غـد‪ ،‬إن شـاء اللـه (تعـاىل)‪ ،‬تجيء إ ّ‬
‫السـفرة الرابعـة‪ ،‬فإنهـا أعجـب مـن هـذه السـفرات‪ .‬ثـم إن السـندباد‬
‫البحـري أمـر بـأن يدفعـوا إليه مئـة مثقال مـن الذهب‪ ،‬عىل جـري عادته‪،‬‬
‫جبـون من تلك‬ ‫وتعشى الجامعـة‪ ،‬وهـم يتع ّ‬
‫ّ‬ ‫وأمـر مبـ ّد السماط‪ ،‬فمـدّوه‬

‫‪60‬‬
‫الحكايـة‪ ،‬ومـا جـرى فيهـا‪ .‬ثـم إنهـم‪ ،‬بعـد العشـاء‪ ،‬انرصفـوا إىل حـال‬
‫الحمال مـا أُ ِمـر لـه بـه‪ ،‬مـن الذهـب‪،‬‬
‫َّ‬ ‫سـبيلهم‪ ،‬وقـد أخـذ السـندباد‬
‫مما سـمعه مـن السـندباد‬ ‫جـب ّ‬ ‫وانصرف إىل حـال سـبيله‪ ،‬وهـو متع ِّ‬
‫البحـري‪ ،‬وبـات يف بيتـه‪ .‬ومل ّـا أصبـح الصبـاح‪ ،‬وأضـاء بنـوره والح‪ ،‬قـام‬
‫ومتشى إىل السـندباد البحـري‪ ،‬وقـد‬
‫َّ‬ ‫وصلى الصبـح‬
‫َّ‬ ‫الحمال‬
‫ّ‬ ‫السـندباد‬
‫دخـل عليـه وتلقَّـاه بالفـرح واالنرشاح‪ ،‬وأجلسـه عنـده إىل أن حرض بقيّة‬
‫أصحابـه‪ ،‬وقدَّمـوا الطعـام‪ ،‬فأكلـوا ورشبوا وانبسـطوا‪ ،‬فبدأهـم بالكالم‪،‬‬
‫وحكى لهـم الحكايـة الرابعة‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫الحكاية الرابعة‬
‫(السفرة الرابعة)‬

‫(قـال) السـندباد البحـري‪ :‬اعلمـوا‪ ،‬يـا أخـواين‪ ،‬أين مل ّا عـدت إىل مدينة‬
‫بغـداد واجتمعـت على أصحـايب وأحبـايب‪ ،‬ورصت يف أعظـم مـا يكـون من‬
‫الهنـاء والسرور والراحـة‪ ،‬وقـد نسـيت ما كنت فيـه لكرثة الفوائـد‪ ،‬وغرقت‬
‫يف اللهـو والطـرب ومجالسـة األحباب واألصحاب‪ ،‬وأنا يف ألـ ّذ ما يكون من‬
‫العيـش‪ ،‬حدَّثتنـي نفيس الخبيثة بالسـفر إىل بالد الناس‪ ،‬وقد اشـتقت إىل‬
‫مصاحبـة األجنـاس والبيع واملكاسـب‪ ،‬فهممـت يف ذلك األمر‪ ،‬واشتريت‬
‫بضاعـة نفيسـة تناسـب البحر‪ ،‬وحزمت حمـوالً كثرية زيادة عـن العادة‪ ،‬ثم‬
‫سـافرت مـن مدينـة بغـداد إىل مدينة البصرة‪ ،‬ون َّزلت حمولتـي يف املركب‬
‫جهنا إىل السـفر‪ ،‬فسـافر بنا‬ ‫واصطحبـت بجامعـة من أكابر البرصة‪ ،‬وقد تو َّ‬
‫املركـب‪ ،‬على بركـة اللـه (تعـاىل)‪ ،‬يف البحر العجـاج املتالطـم باألمواج‪،‬‬
‫ل وأيّام‪ ،‬مـن جزيرة‬‫وطـاب لنـا السـفر‪ .‬ومل نـزل على هـذه الحالة مـدّة ليـا ٍ‬

‫‪63‬‬
‫إىل جزيـرة ومـن بحـر إىل بحـر‪ ،‬إىل أن خرجـت علينـا ريـح مختلفـة‪ ،‬يومـاً‬
‫مـن األيّـام‪ ،‬فرمى الريِّس مـرايس املركب‪ ،‬وأوقفها يف وسـط البحر؛ خوفاً‬
‫عليهـا مـن الغـرق يف وسـط البحـر‪ .‬فبينما نحـن على هـذه الحالـة ندعـو‬
‫ضرع إىل اللـه (تعـاىل)‪ ،‬إذ خـرج علينـا عاصـف ريـح شـديد مـ َّزق القلع‬ ‫ونت َّ‬
‫وقطَّعـه قطعـاً‪ ،‬وغـرق النـاس وجميـع حمولهـم ومـا معهـم مـن املتـاع‬
‫ـت يف البحر نصـف نهار‪ ،‬وقد‬ ‫ن غرق‪ ،‬وع ْم ُ‬ ‫واألمـوال‪ ،‬وغرقـت أنـا بجملـة َمـ ْ‬
‫فيسر اللـه (تعـاىل) يل قطعـة لـوح خشـب مـن ألـواح‬ ‫َّ‬ ‫تخلَّيـت عـن نفسي‬
‫جار‪.‬‬
‫املركـب‪ ،‬فركبتهـا أنـا وجامعة مـن الت ّ‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)539‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري‪ ،‬بعـد أن غرقـت املركـب‪ ،‬وطلع عىل لوح خشـب هـو وجامعة من‬
‫جـار‪ ،‬قـال‪ :‬اجتمعنـا معـاً‪ ،‬ومل نـزل راكبين على ذلـك اللـوح‪ ،‬نرفـس‬ ‫الت ّ‬
‫بأرجلنـا يف البحـر واألمـواج والريـح تسـاعدنا‪ ،‬وقـد مكثنا عىل هـذه الحالة‬
‫فلما كان ثـاين يـوم ضحـوة نهـار‪ ،‬ثـار علينـا ريح‪ ،‬وهـاج البحر‬ ‫ّ‬ ‫يومـاً وليلـة‪.‬‬
‫وقـوي املـوج والريـح‪ ،‬فرمانـا املـاء على جزيـرة ونحـن مثـل املـوىت مـن‬
‫شـدّة السـهر والتعـب والبرد والجـوع والخـوف والعطـش‪ ،‬وقد مشـينا يف‬
‫جوانـب تلـك الجزيـرة فوجدنا فيهـا نباتاً كثريا ً‪ ،‬فأكلنا منه شـيئاً يسـ ّد رمقنا‬
‫فلم أصبح الصبـاح وأضاء‬ ‫ويقيتنـا‪ .‬وبتنـا تلـك الليلة على جانب الجزيـرة‪ّ ،‬‬
‫فالح لنـا عامرة عىل‬
‫َ‬ ‫بنـوره والح‪ ،‬قمنـا ومشـينا يف الجزيـرة ميينـاً وشماالً‪،‬‬
‫بعـد‪ ،‬فرسنـا يف تلـك الجزيـرة قاصدين تلك العمارة التي رأيناهـا من بُعد‪،‬‬
‫ومل نـزل سـائرين إىل أن وقفنـا على بابهـا‪ .‬فبينما نحـن واقفـون هنـاك‪،‬‬
‫خـرج علينـا‪ ،‬مـن ذلك الباب‪ ،‬جامعـة عـراة ومل يكلِّمونا‪ ،‬وقد قبضـوا علينا‬
‫وأخذونـا عنـد ملكهـم‪ ،‬فأمرنـا بالجلوس فجلسـنا‪ ،‬وقـد أحرضوا لنـا طعاماً‬
‫مل نعرفـه‪ ،‬ومل نـ َر مثلـه يف حياتنـا‪ ،‬فلـم تقبله نفسي‪ ،‬ومل آكل منه شـيئاً‬
‫دون رفقتـي‪ ،‬وكانـت قلّـة أكيل منه لطفـاً من الله (تعاىل)‪ ،‬حتى عشـت إىل‬
‫اآلن‪ .‬فلما أكل أصحـايب من ذلـك الطعام ذُهلت عقولهم‪ ،‬وصـاروا يأكلون‬
‫وتغيرت أحوالهم‪ ،‬وبعد ذلـك أحرضوا لهم دهـن النارجيل‬ ‫َّ‬ ‫مثـل املجانين‬

‫‪64‬‬
‫فلم رشب أصحـايب من ذلـك الدهن زاغت‬ ‫فسـقوهم منـه ودهنوهـم منـه‪ّ ،‬‬
‫أعينهـم مـن وجوههـم‪ ،‬وصـاروا يأكلـون مـن ذلـك الطعـام بخلاف أكلهـم‬
‫أتأسـف عليهـم‪ ،‬وقد صار‬ ‫املعتـاد‪ ،‬وعنـد ذلـك احترت يف أمرهم‪ ،‬ورصت َّ‬
‫م عظيـم مـن شـدّة الخـوف على نفسي مـن هـؤالء العرايـا‪ ،‬وقـد‬ ‫عنـدي َهـ ّ‬
‫ن وصل إىل‬ ‫وكل َمـ ْ‬
‫تأ َّملتهـم فـإذا هـم قوم مجـوس‪ ،‬وملك مدينتهم غـول‪ّ ،‬‬
‫بالدهـم أو رأوه يف الـوادي أو الطرقـات يجيئـون به إىل ملكهـم‪ ،‬ويطعمونه‬
‫مـن ذلـك الطعـام‪ ،‬ويدهنونـه بذلـك الدهـن فيتَّسـع جوفـه ألجـل أن يـأكل‬
‫كثيرا ً ويذهـل عقلـه وتنطمـس فكرتـه ويصير مثـل اإلبـل‪ ،‬فيزيـدون لـه‬
‫األكل والشرب مـن ذلـك الطعـام والدهن حتى يسـمن ويغلـظ‪ ،‬فيذبحونه‬
‫ويشـوونه ويطعمونـه مللكهـم‪ .‬وأ ّمـا أصحـاب امللـك فيأكلـون مـن لحـم‬
‫اإلنسـان بلا شـوي وال طبـخ‪ .‬فلما نظـرت منهـم ذلـك األمـر رصت يف غاية‬
‫الكـرب على نفسي وعلى أصحايب‪ ،‬وقد صـار أصحايب من فرط ما دهشـت‬
‫عقولهـم ال يعلمـون مـا يفعـل بهـم وقـد سـلَّموهم إىل شـخص‪ ،‬فصـار‬
‫كل يـوم ويخـرج يرعاهـم يف تلـك الجزيـرة مثـل البهائـم‪ ،‬وأمـا‬ ‫يأخذهـم ّ‬
‫أنـا فقـد رصت‪ ،‬مـن شـدّة الخـوف والجـوع‪ ،‬ضعيفاً سـقيم الجسـم‪ ،‬وصار‬
‫فلما رأوين عىل هـذه الحالة تركوين‪ ،‬ونسـوين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لحمـي يابسـاً على عظمي‪.‬‬
‫ومل يتذكُّـرين منهـم أحـد‪ ،‬وال خطـرت لهـم يف بـال‪ ،‬إىل أن تحيَّلـت يومـاً‬
‫مـن األيَّـام وخرجـت مـن ذلـك املـكان‪ ،‬فمشـيت يف تلـك الجزيـرة‪ ،‬ومل‬
‫أزل سـائرا ً حتـى طلـع النهـار وأصبـح الصبـاح وأضـاء بنـوره والح‪ ،‬وطلعـت‬
‫الشـمس على رؤوس الـروايب والبطـاح‪ ،‬وقـد تعبـت وجعـت وعطشـت‬
‫فصرت آكل مـن الحشـيش والنبـات الـذي يف الجزيـرة‪ ،‬ومل أزل آكل مـن‬
‫ذلـك النبـات حتـى شـبعت‪ ،‬وانسـ َّد رمقـي‪ .‬بعـد ذلـك‪ ،‬قمـت ومشـيت يف‬
‫الجزيـرة‪ ،‬ومل أزل على هـذه الحالـة طول النهـار والليل‪ ،‬وكلَّما أجوع آكل‬
‫فلم كانت‬
‫مـن النبـات‪ ،‬ومل أزل على هذه الحالة مدّة سـبعة أيّام بلياليهـا‪ّ .‬‬
‫صبيحـة اليـوم الثامـن‪ ،‬الحـت منـي نظـرة فرأيـت شـبحاً مـن بعيـد‪ ،‬فرست‬
‫حصلتـه بعـد غـروب الشـمس فحقَّقـت النظـر‬ ‫إليـه‪ ،‬ومل أزل سـائرا ً إىل أن َّ‬
‫فيـه وأنـا بعيـد عنـه‪ ،‬وقلبـي خائـف مـن الـذي قاسـيته أ َّوالً وثانيـاً‪ ،‬فـإذا هم‬
‫يل‬
‫فلما قربـت منهم ونظـروين تسـارعوا إ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ـب الفلفـل‪،‬‬
‫ح ّ‬ ‫جامعـة يجمعـون َ‬

‫‪65‬‬
‫كل جانـب وقالـوا يل‪ :‬مـن أنـت؟ ومن‬
‫وجـاؤوا عنـدي‪ ،‬وقـد أحاطـوا يب مـن ّ‬
‫أيـن أقبلـت؟ فقلـت لهـم‪ :‬اعلمـوا‪ -‬يـا جامعـة‪ -‬أين رجل غريب مسـكني‪ ،‬ثم‬
‫أخربتهـم بجميـع مـا كان مـن أمـري‪ ،‬ومـا جـرى يل مـن األهـوال والشـدائد‬
‫وما قاسـيته‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)540‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫ـب الفلفـل يف الجزيـرة‪،‬‬‫ح ّ‬
‫البحـري ملـا رأى الجامعـة الذيـن يجمعـون َ‬
‫وسـألوه عـن حالـه‪ ،‬حكى لهم جميع ما جرى له‪ ،‬وما قاسـاه من الشـدائد‪،‬‬
‫فقالـوا‪ :‬واللـه‪ ،‬هـذا أمر عجيب! ولكـن‪ ،‬كيف خالصك من السـودان؟ وكيف‬
‫مـرورك عليهـم يف هـذه الجزيـرة وهـم خلـق كثيرون ويأكلـون النـاس‪ ،‬وال‬
‫يسـلم منهـم أحـد‪ ،‬وال يقـدر أن يجـوز عليهـم أحـد؟ فأخربتهـم مبـا جـرى‬
‫يل معهـم‪ ،‬وكيـف أخـذوا أصحـايب وأطعموهـم الطعـام‪ ،‬ومل آكل منـه‬
‫مما جرى يل‪ ،‬ثم أجلسـوين عندهم‬ ‫جبون ّ‬ ‫فه َّنـأوين بالسلامة‪ ،‬وصـاروا يتع َّ‬
‫حتـى فرغـوا مـن شـغلهم وأتـوين بشيء مـن الطعـام‪ ،‬فأكلت منـه‪ ،‬وكنت‬
‫جائعـاً‪ ،‬وارتحـت عندهم سـاعة من الزمـان‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬أخـذوين ونزلوا يب‬
‫يف مركـب‪ ،‬وجـاؤوا إىل جزيرتهـم ومسـاكنهم وقـد عرضـوين على ملكهم‪،‬‬
‫حـب يب وأكرمنـي وسـألني عـن حـايل‪ ،‬فأخربتـه مبـا كان‬ ‫فسـلَّمت عليـه ور َّ‬
‫مـن أمـري‪ ،‬ومـا جـرى يل ومـا اتَّفـق يل مـن يـوم خروجي مـن مدينـة بغداد‬
‫قصتـي غاية العجـب‪ ،‬هو ومن‬ ‫جـب ملكهم من َّ‬ ‫إىل حين وصلـت إليـه‪ ،‬فتع َّ‬
‫كان حـارضا ً يف مجلسـه‪ ،‬ثـم إنـه أمـرين بالجلـوس عنـده فجلسـت‪ ،‬وأمـر‬
‫بإحضـار الطعـام فأحضروه فأكلـت منـه عىل قـدر كفايتي‪ ،‬وغسـلت يدي‪،‬‬
‫وشـكرت فضـل اللـه (تعـاىل) وحمدتـه وأثنيـت عليـه‪ .‬ثم إين قمـت من عند‬
‫ملكهـم‪ ،‬وتف َّرجـت يف مدينتـه‪ ،‬فإذا هـي مدينة عامرة كثيرة األهل واملال‪،‬‬
‫كثيرة الطعـام واألسـواق والبضائـع والبائعين واملشترين‪ ،‬ففرحـت‬
‫بوصـويل إىل تلـك املدينـة‪ ،‬وارتـاح خاطـري‪ ،‬واستأنسـت بأهلهـا‪ ،‬ورصت‬
‫عندهـم وعنـد ملكهـم معـ َّززا ً مك َّرمـاً زيـادة عـن أهـل مملكتـه مـن عظماء‬
‫مدينتـه‪ ،‬ورأيـت جميـع أكابرهـا وأصاغرهـا يركبـون الخيـل الجيـاد امللاح‬

‫‪66‬‬
‫ألي يشء‪ -‬يـا‬ ‫جبـت مـن ذلـك‪ ،‬ثـم إين قلـت للملـك‪ّ :‬‬ ‫مـن غير رسوج‪ ،‬فتع َّ‬
‫مـوالي‪ -‬مل تركـب على رسج؟؛ إن فيـه راحة للراكب وزيادة قـ ّوة‪ ،‬فقال يل‪:‬‬
‫كيـف يكـون السرج؟ هـذا يشء عمرنـا مـا رأينـاه‪ ،‬وال ركبنـا عليهـا‪ ،‬فقلـت‬
‫لـه‪ :‬هـل لـك أن تـأذن يل أن أصنـع لـك رسجـاً تركـب عليـه وتنظـر حظّـه؟‬
‫فقـال يل‪ :‬افعـل‪ .‬فقلت له‪ :‬أحرض يل شـيئاً من الخشـب‪ ،‬فأمـر يل بإحضار‬
‫جارا ً شـاطرا ً‪ ،‬وجلسـت عنـده وعلَّمته‬‫جميـع مـا طلبتـه‪ .‬عنـد ذلـك‪ ،‬طلبت ن ّ‬
‫صنعـة السرج‪ ،‬وكيـف يعمله‪ ،‬ثـم إين أخذت صوفـاً ونقشـته وصنعت منه‬
‫لبـدا ً‪ ،‬وأحضرت جلـدا ً وألبسـته السرج وصقلته ثم ركَّبت سـيوره وشـددت‬
‫رشيحتـه‪ ،‬وبعـد ذلـك أحضرت الحـدّاد ووصفـت لـه كيفيـة الـركاب‪ ،‬فـدقَّ‬
‫ركابـاً عظيماً وب َر ْدتُـه وب َّيضتـه بالقصديـر‪ ،‬ثـم إين شـددت لـه أهدابـاً مـن‬
‫الحريـر‪ ،‬وبعـد ذلـك قمـت وجئت بحصان مـن خيار خيول امللك وشـددت‬
‫عليـه السرج‪ ،‬وعلَّقـت فيه الـركاب‪ ،‬وألجمتـه بلجام‪ ،‬ثم قدّمتـه إىل امللك‬
‫فأعجبـه والق بخاطـره‪ ،‬وشـكرين‪ ،‬ثـم ركب عليـه‪ ،‬قد حصل له فرح شـديد‬
‫فلما نظرين وزيره‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بذلـك السرج‪ ،‬وأعطاين شـيئاً كثريا ً يف نظير عميل له‪.‬‬
‫وقـد عملـت ذلـك السرج‪ ،‬طلـب مني واحـدا ً مثله فعملـت له رسجـاً مثله‪،‬‬
‫وقـد صـار أكابـر الدولـة وأصحـاب املناصـب يطلبـون مني السروج فأفعل‬
‫جـار صنعـة السرج‪ ،‬والحـدَّاد صنعـة الـركاب‪ ،‬ورصنـا‬ ‫لهـم‪ ،‬وعلَّمـت الن ّ‬
‫نعمـل السروج والركابـات ونبيعهـا لألكابـر واملخاديـم‪ ،‬وقـد جمعـت من‬
‫ذلـك مـاالً كثيرا ً‪ ،‬وصـار يل عندهـم مقـام كبير وأحبّـوين محبّـة زائـدة‪،‬‬
‫وبقيـت صاحـب منزلـة عالية عند امللـك وجامعته وعند أكابـر البلد وأرباب‬
‫الدولـة‪ ،‬إىل أن جلسـت يومـاً مـن األيَّـام عنـد امللـك‪ ،‬وأنا يف غايـة الرسور‬
‫والعـ ّز‪ .‬فبينما أنـا جالس قـال يل امللك‪ :‬اعلـم‪ -‬يا هذا‪ -‬أنـك رصت معزوزا ً‬
‫مك َّرمـاً عندنـا‪ ،‬وواحـدا ً م ّنـا‪ ،‬وال نقدر على مفارقتك‪ ،‬وال نسـتطيع خروجك‬
‫مـن مدينتنـا‪ .‬ومقصـودي منـك يشء تطيعنـي فيه‪ ،‬وال تر ّد قـويل‪ ،‬فقلت له‬
‫ومـا الـذي تريـد منـي‪ ،‬أيُّهـا امللـك؛ فـإين ال أر ّد قولـك‪ ،‬ألنـه صار لـك فضل‬
‫لي‪ ،‬والحمـد للـه أنـا رصت من بعـض خدامـك؟ فقال‪:‬‬ ‫وجميـل وإحسـان ع َّ‬
‫أريـد أن أز ِّوجـك عندنـا بزوجـة حسـنة مليحـة ظريفة صاحبة مـال وجامل‪،‬‬
‫وتصير مسـتوطناً عندنـا‪ ،‬وأُسـكنك عنـدي يف قرصي‪ ،‬فلا تخالفنـي وال تر ّد‬

‫‪67‬‬
‫وسـكت‪ ،‬ومل أر ّد عليـه‬
‫ّ‬ ‫فلما سـمعت كالم امللـك اسـتحييت منـه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كالمـي‪.‬‬
‫لي‪ ،‬يـا ولـدي! فقلـت‪ :‬يـا‬ ‫جوابـاً مـن كثرة الحيـاء‪ ،‬فقـال يل‪ :‬لِـ َ‬
‫م ال تـر ّد ع َّ‬
‫سـيِّدي‪ ،‬األمـر أمـرك يـا ملـك الزمـان‪ .‬فأرسـل مـن وقتـه وسـاعته فأحضر‬
‫القـايض والشـهود وز َّوجنـي‪ ،‬يف ذلـك الوقـت‪ ،‬بامـرأة رشيفـة القـدر عالية‬
‫النسـب كثيرة املـال والنـوال عظيمـة األصـل بديعـة الجمال والحسـن‬
‫صاحبـة أماكـن وأمالك وعقـارات‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)541‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري بعـد أن ز َّوجـه امللـك‪ ،‬وعقـد لـه على امـرأة عظيمـة‪ ،‬قال‪ :‬ثـم إنه‬
‫خدّامـاً وحشماً‪ ،‬ورتَّـب لـه‬ ‫أعطـاين بيتـاً عظيماً مليحـاً مبفـرده‪ ،‬وأعطـاين ُ‬
‫جرايـات وجوامـك‪ ،‬ورصت يف غايـة الراحـة والبسـط واالنشراح‪ ،‬ونسـيت‬
‫جميـع مـا حصـل يل مـن التعـب واملشـقّة والشـدّة‪ ،‬وقلـت يف نفسي‪ :‬إذا‬
‫وكل يشء مقـدَّر عىل اإلنسـان الب َّد منه‪،‬‬
‫سـافرت إىل بلادي آخذهـا معـي‪ّ ،‬‬
‫ومل يعلـم مبـا يجـري لـه‪ ،‬وقـد أحببتهـا وأح َّبتنـي مح ّبـة عظيمـة‪ ،‬ووقـع‬
‫الوفـاق بينـي وبينهـا‪ ،‬وقـد أقمنـا يف ألـ ّذ عيـش‪ ،‬وأرغد مـورد‪ ،‬ومل نزل عىل‬
‫هـذه الحالـة مـدّة مـن الزمـن إىل أفقـد اللـه (تعـاىل) زوجـة جـاري‪ ،‬وكان‬
‫صاحبـاً يل‪ ،‬فدخلـت إليـه ألع ّزيـه يف زوجتـه‪ ،‬فرأيتـه يف أسـوأ حـال وهـو‬
‫ر والخاطـر‪ ،‬فعنـد ذلـك ع َّزيتـه وسـلّيته‪ ،‬وقلـت لـه‪ :‬ال‬‫مهمـوم تعبـان الس ّ‬
‫تحـزن على زوجتـك‪ .‬اللـه يعوضـك خيرا ً منهـا‪ ،‬ويكـون عمـرك طويلاً‪ ،‬إن‬
‫شـاء اللـه (تعـاىل)‪ ،‬فبكى بـكا ًء شـديدا ً وقـال‪ :‬يـا صاحبـي‪ ،‬كيـف أتـز َّوج‬
‫بغريهـا‪ ،‬أو كيـف يع ِّوضنـي اللـه خريا ً منهـا‪ ،‬وأنا بقي من عمـري يوم واحد؟‬
‫تبشر عىل روحك باملـوت‪ ،‬فإنك‬ ‫ِّ‬ ‫فقلـت لـه‪ :‬يا أخـي‪ ،‬ارجـع إىل عقلك‪ ،‬وال‬
‫ط ِّيـب بخير وعافيـة‪ .‬فقـال يل‪ :‬يـا صاحبـي‪ ،‬وحياتـك‪ ،‬إنـك يف غـد سـوف‬
‫تَ ْعدمنـي‪ ،‬ومـا بقيـت عمـرك تنظرين‪ ،‬فقلت لـه‪ :‬وكيف ذلـك؟ فقال يل‪ :‬يف‬
‫هـذا النهـار يدفنـون زوجتـي‪ ،‬ويدفنـوين معهـا يف القبر‪ ،‬فإنهـا عادتنـا يف‬
‫بالدنـا‪ :‬إذا ماتـت املـرأة يدفنـون معهـا زوجهـا بالحيـاة‪ ،‬وإن مـات الرجـل‬
‫يدفنـون معـه زوجتـه بالحيـاة‪ ،‬حتـى ال يتلـذَّذ أحـد منهـم بالحيـاة‪ ،‬بعـد‬

‫‪68‬‬
‫رفيقـه‪ ،‬فقلـت لـه‪ :‬باللـه‪ ،‬إن هذه العـادة رديئة جـ ّدا ً‪ ،‬وما يقـدر عليها أحد!‬
‫فبينما نحـن يف ذلك الحديث‪ ،‬إذا بغالـب أهل املدينة قد حرضوا‪ ،‬وصاروا‬
‫يعـ ّزون صاحبـي يف زوجتـه ويف نفسـه‪ ،‬وقـد رشعـوا يف تجهيزهـا على‬
‫جـري عادتهـم‪ ،‬فأحضروا تابوتـاً وحملـوا فيـه املـرأة وذلك الرجـل معهم‪،‬‬
‫وخرجـوا بهما إىل خـارج املدينـة‪ ،‬وأتـوا إىل مـكان يف جانـب الجبـل على‬
‫البحـر‪ ،‬وتقدَّمـوا إىل مـكان ورفعـوا عنـه حجـرا ً كبيرا ً‪ ،‬فبا َن مـن تحت ذلك‬
‫الحجـر خـرزة مـن الحجـر مثـل خـرزة البئر‪ ،‬فرمـوا تلك املـرأة فيهـا‪ ،‬وإذا‬
‫جـب كبير تحـت الجبـل ثـم إنهـم جـاؤوا بذلـك الرجـل‪ ،‬وربطـوه تحت‬ ‫ّ‬ ‫هـو‬
‫الجـب‪ ،‬وأنزلـوا عنـده كـوز مـاء عـذب‬ ‫ّ‬ ‫صـدره يف سـلبة‪ ،‬وأنزلـوه يف ذلـك‬
‫فك نفسـه من السـلبة فسـحبوا‬ ‫كبير وسـبعة أرغفـة مـن الزاد‪ ،‬ومل ّا أنزلوه َّ‬
‫السـلبة‪ ،‬وغطَّـوا فـم البئر بذلك الحجـر الكبري مثـل مـا كان‪ ،‬وانرصفوا إىل‬
‫الجـب! فقلـت يف نفسي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫حـال سـبيلهم‪ ،‬وتركـوا صاحبـي عنـد زوجتـه يف‬
‫واللـه‪ ،‬إن هـذا املـوت أصعـب من املـوت األ ّول‪ .‬ثـم إين جئت عنـد ملكهم‬
‫الحـي مـع امليِّـت يف بالدكـم؟ فقـال‬
‫ّ‬ ‫وقلـت لـه‪ :‬يـا سـيِّدي‪ ،‬كيـف تدفنـون‬
‫يل‪ :‬اعلـم أن هـذه عادتنـا يف بالدنـا‪ ،‬إذا مـات الرجـل ندفـن معـه زوجتـه‪،‬‬
‫وإذا ماتـت املـرأة ندفـن معهـا زوجهـا بالحيـاة‪ ،‬حتـى ال نفـ ِّرق بينهما يف‬
‫الحيـاة وال يف املمات‪ ،‬وهـذه العادة عـن أجدادنا‪ .‬فقلت‪ :‬يـا ملك الزمان‪،‬‬
‫وكـذا الرجـل الغريـب مثلي؛ إذا ماتـت زوجتـه عندكـم تفعلـون بـه مثـل ما‬
‫فلما‬
‫ّ‬ ‫فعلتـم بهـذا؟ فقـال يل‪ :‬نعـم‪ ،‬ندفنـه معهـا ونفعـل بـه كما رأيـت‪.‬‬
‫م والحـزن على‬ ‫سـمعت ذلـك الـكالم منـه انشـقَّت مـراريت مـن شـدّة الغـ ّ‬
‫نفسي‪ ،‬وذهـل عقلي‪ ،‬ورصت خائفاً مـن أن متوت زوجتي قبلي‪ ،‬فيدفنوين‬
‫لعلي أموت أنـا قبلهـا‪ ،‬وال يعلم‬
‫ّ‬ ‫معهـا وأنـا بالحيـاة‪ ،‬ثـم إين سـلَّيت نفسي‬
‫أحـد السـابق مـن الالحـق‪ .‬ورصت أتالهـى يف بعض األمور‪ .‬فما مضت مدّة‬
‫يسيرة بعـد ذلـك‪ ،‬حتـى مرضت زوجتي وقـد مكثـت أيّاماً قالئل‪ ،‬ثـم ماتت‪.‬‬
‫فاجتمـع غالـب النـاس يع ّزوننـي‪ ،‬ويعـ ّزون أهلها فيهـا‪ ،‬وقد جـاءين امللك‬
‫فغسـلوها‬
‫َّ‬ ‫يع ِّزينـي فيهـا على جـري عادتهـم‪ ،‬ثـم إنهـم جـاؤوا لها بغاسـلة‬
‫وألبسـوها أفخـر مـا عندهـا مـن الثيـاب واملصـاغ والقالئـد والجواهـر مـن‬
‫فلما ألبسـوا زوجتـي وحطّوهـا يف التابـوت وحملوهـا وراحوا بها‬ ‫ّ‬ ‫املعـادن‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫الجـب‪ ،‬وألقوها فيـه‪ ،‬أقبل جميع‬
‫ّ‬ ‫إىل ذلـك الجبـل‪ ،‬ورفعـوا الحجر عن فم‬
‫أصحـايب وأهـل زوجتـي يودِّعوننـي يف روحـي‪ ،‬وأنـا أصيـح بينهـم‪ :‬أنـا رجـل‬
‫غريـب‪ ،‬وليـس يل صبر عىل عادتكم‪ ،‬وهم ال يسـمعون قـويل‪ ،‬وال يلتفتون‬
‫إىل كالمـي‪ .‬ثـم إنهـم أمسـكوين وربطـوين بالغصـب وربطـوا معـي سـبعة‬
‫أقـراص مـن الخبـز وكوز ماء عـذب‪ ،‬عىل جـري عادتهم‪ ،‬وأنزلـوين يف ذلك‬
‫فـك نفسـك‬‫البئر فـإذا هـو مغـارة كبيرة تحـت ذلـك الجبـل‪ ،‬وقالـوا يل‪ّ :‬‬
‫لي الحبـال‪ ،‬ثـم غطّوا فم‬ ‫أرض أن ّ‬
‫أفـك نفسي‪ ،‬فرمـوا ع َّ‬ ‫مـن الحبـال‪ ،‬فلـم َ‬
‫املغـارة بذلـك الحجـر الكبير الـذي كان عليهـا‪ ،‬وراحوا إىل حال سـبيلهم‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)542‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا حطّوه يف املغارة مـع زوجته التي ماتـت‪ ،‬وردّوا باب املغارة‪،‬‬
‫وراحـوا إىل حـال سـبيلهم‪ ،‬قـال‪ :‬وأ ّما أنا فـإين رأيت يف تلك املغـارة أمواتاً‬
‫كثرييـن‪ ،‬وكانـت رائحتهـا منتنة كريهـة‪ ،‬فلمت نفيس عىل مـا فعلته وقلت‪:‬‬
‫أسـتحق جميـع مـا يجري يل‪ ،‬وما يقع يل‪ .‬ثـم إين رصت ال أعرف‬ ‫ّ‬ ‫واللـه‪ ،‬إين‬
‫الليـل مـن النهـار‪ ،‬ورصت أتقـ َّوت باليسير‪ ،‬وال آكل حتـى يـكاد أن يقطعني‬
‫الجـوع‪ ،‬وال أرشب حتـى يشـت ّد يب العطـش‪ ،‬وأنـا خائـف أن يفـرغ مـا عندي‬
‫أي يشء‬ ‫مـن الـزاد واملاء‪ ،‬وقلت‪ :‬ال حول وال ق ّوة إلّ بالله العيل العظيم‪ّ ..‬‬
‫بلاين بالـزواج يف هـذه املدينة؟ وكلّما قلت إين خرجت مـن مصيبة أقعت‬
‫يف مصيبـة أقـوى منهـا! والله‪ ،‬إن هذا املوت موت مشـؤوم‪ .‬يا ليتني غرقت‬
‫مـت يف الجبـال‪ ،‬فذلـك أحسـن يل مـن هـذا املـوت الـرديء‪.‬‬ ‫يف البحـر أو ّ‬
‫ومل أزل على هـذه الحالـة‪ ،‬ألـوم نفسي‪ ،‬ثـم منـت على عظـام األمـوات‪،‬‬
‫واسـتعنت باللـه حتـى أحـرقَ قلبـي الجـوع‪ ،‬وألهبنـي العطـش فقعـدت‬
‫وحسسـت على الخبـز وأكلـت منـه شـيئاً قليلاً‪ ،‬وتج َّرعـت عليه شـيئاً قليالً‬
‫مـن املـاء‪ ،‬ثـم إين قمـت ووقفـت على حيلي‪ ،‬ورصت أمشي يف جانـب‬
‫تلـك املغـارة فرأيتهـا متَّسـعة الجوانب خاليـة البطون‪ ،‬ويف أرضهـا أموات‬
‫كثيرون وعظـام رميمـة مـن قديـم الزمـان‪ .‬عنـد ذلـك‪ ،‬عملـت يل مكاناً يف‬
‫جانـب املغـارة بعيـدا ً عن املـوىت الطريِّين‪ ،‬ورصت أنام فيه وقـد ق ََّل زادي‬

‫‪70‬‬
‫كل يوم أو أكثر أكلة‪ ،‬وأرشب‬ ‫ومـا بقـي معي إلّ يشء يسير‪ ،‬كنـت آكل يف ّ‬
‫رشبـة؛ خوفـاً مـن فـراغ املـاء والـزاد من عنـدي‪ ،‬قبـل مـويت‪ .‬ومل أزل عىل‬
‫هـذه الحالـة‪ ،‬إىل أن جلسـت‪ ،‬يوماً مـن األيَّام‪ ،‬أفكِّر يف نفسي‪ :‬كيف أفعل‬
‫صرة قـد تزحزحـت مـن مكانهـا‪،‬‬ ‫إذا فـرغ الـزاد واملـاء مـن عنـدي؟ وإذا بال ّ‬
‫ونـزل منـه النـور عندي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا تـرى‪ ،‬ما الخرب؟ وإذا بالقـوم واقفون عىل‬
‫رأس البئر وقـد أنزلـوا رجلاً م ِّيتـاً وامـرأة معـه بالحيـاة‪ ،‬وهي تبكي وتصيح‬
‫على نفسـها‪ ،‬وقـد أنزلـوا عندها شـيئاً كثيرا ً من الـزاد واملاء‪ ،‬فصرت أنظر‬
‫املـرأة وهـي مل تنظـرين‪ ،‬وقـد غطّوا فـم البرئ بالحجـر‪ ،‬وانرصفـوا إىل حال‬
‫سـبيلهم‪ ،‬فقمـت أنـا وأخـذت يف يـدي قصبة رجـل م ِّيت‪ ،‬وجئـت إىل املرأة‬
‫ورضبتهـا يف وسـط رأسـها‪ ،‬فوقعـت على األرض مغشـ ّياً عليهـا‪ ،‬فرضبتهـا‬
‫ثانيـاً وثالثـاً‪ ،‬فامتـت‪ ،‬فأخـذت خبزهـا ومـا معهـا‪ ،‬ورأيـت عليهـا شـيئاً كثريا ً‬
‫مـن الحلي والحلـل والقالئـد والجواهـر واملعـادن‪ ،‬ثـم إين أخـذت املـاء‬
‫والـزاد الـذي مـع املـرأة‪ ،‬وقعدت يف املوضـع الذي كنـت عملته يف جانب‬
‫املغـارة ألنـام فيـه‪ ،‬ورصت آكل مـن ذلـك الـزاد شـيئاً قليلاً‪ ،‬على قـدر مـا‬
‫يق ِّوتنـي حتـى ال يفـرغ برسعـة‪ ،‬فأمـوت مـن الجـوع والعطـش‪ .‬وأقمـت يف‬
‫ن ُد ِفـن معه‬‫تلـك املغـارة مـدّة مـن الزمـان‪ ،‬وأنـا كلّما دفنوا أحـدا ً أقتـل َم ْ‬
‫بالحيـاة‪ ،‬وآخـذ أكلـه ورشبـه أتق َّوت بـه‪ ،‬إىل أن كنت نامئاً‪ ،‬يومـاً من األيّام‪،‬‬
‫فاسـتيقظت مـن منامي وسـمعت شـيئاً يكركـب يف جانب املغـارة‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫فلم‬ ‫مـا يكـون هـذا؟ ثـم إين قمت ومشـيت نحـوه‪ ،‬ومعـي قصبة رجـل ميِّت ّ‬
‫أحـس يب فَـ ّر وهـرب منـي‪ ،‬فـإذا هو وحش فتبعتـه إىل صدر املغـارة‪ ،‬فبا َن‬ ‫َّ‬
‫يل نـور مـن مـكان صغير مثـل النجمـة‪ ،‬تـار ًة يبين يل‪ ،‬وتـار ًة يخفـى عنـي‪.‬‬
‫فلما نظرتـه قصـدت نحـوه‪ ،‬وبقيـت كلَّما أتقـ َّرب منـه يظهـر يل نـور منـه‬ ‫ّ‬
‫ويتَّسـع‪ ،‬فعنـد ذلـك تحقَّقـت أنـه خـرق يف تلك املغـارة ينفـذ إىل الخالء‪،‬‬
‫فقلـت يف نفسي‪ :‬البـ َّد أن يكـون لهـذا املـكان حركـة‪ :‬إ ّمـا أن يكـون مدفنـاً‬
‫ثانيـاً مثـل الـذي نزلـوين منـه‪ ،‬وإ ّمـا أن يكـون تخريقـاً مـن هـذا املـكان‪ .‬ثـم‬
‫إين تفكَّـرت يف نفسي سـاعة من الزمان‪ ،‬ومشـيت إىل ناحيـة النور‪ ،‬وإذا به‬
‫ثقـب يف ظهـر الجبـل مـن الوحوش‪ ،‬ثقبـوه‪ ،‬وصـاروا يدخلون منـه إىل هذا‬
‫فلما‬
‫ّ‬ ‫املـكان ويأكلـون املـوىت حتـى يشـبعوا‪ ،‬ويطلعـوا مـن ذلـك الثقـب‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫رأيتـه هـدأت روحـي واطأمنَّـت نفسي‪ ،‬وارتـاح قلبـي‪ ،‬وأيقنـت بالحيـاة بعد‬
‫املمات‪ ،‬ورصت كأين يف املنـام‪ .‬ثـم إين عالجـت حتـى طلعـت مـن ذلـك‬
‫الثقـب‪ ،‬فرأيـت نفسي على جانـب البحـر املالـح‪ ،‬فـوق جبـل عظيـم وهـو‬
‫قاطـع بين البحريـن وبين الجزيـرة واملدينـة‪ ،‬وال يسـتطيع أحـد الوصـول‬
‫ِي قلبي‪.‬‬‫إليـه فحمـدت اللـه (تعـاىل)‪ ،‬وشـكرته وفرحـت فرحاً عظيماً‪ ،‬وقـو َ‬
‫ثـم إين‪ ،‬بعـد ذلـك‪ ،‬رجعـت مـن الثقـب إىل املغـارة‪ ،‬ونقلـت جميـع مـا‬
‫فليهـا مـن الـزاد واملاء الـذي كنت وفَّرته‪ ،‬ثـم إين أخذت من ثيـاب األموات‬
‫مما عليهـم شـيئاً كثيرا ً‬
‫لي‪ ،‬وأخـذت ّ‬‫ولبسـت شـيئاً منهـا غير الـذي كان ع َّ‬
‫مـن أنـواع العقـود والجواهـر وقالئـد اللؤلـؤ واملصـاغ مـن الفضّ ـة والذهب‬
‫املرصـع بأنـواع املعـادن والتحـف‪ ،‬وربطتـه يف ثيـاب املـوىت‪ ،‬وأخرجتهـا‬
‫َّ‬
‫كل‬
‫مـن الثقـب إىل ظهـر الجبـل‪ ،‬ووقفـت على جانـب البحـر‪ .‬وبقيـت يف ّ‬
‫كل من دفنـوه زاده ومـاءه وأقتله‪،‬‬‫يـوم أنـزل املغـارة‪ ،‬ثـم أطلـع وآخذ مـن ّ‬
‫سـواء أكان ذكـرا ً أم كان أنثـى‪ ،‬وأطلـع مـن ذلك الثقب فأجلـس عىل جانب‬
‫لي‪ .‬ورصت أنقل من‬ ‫البحـر ألنتظـر الفـرج مـن الله (تعاىل) مبركـب تجوز ع َّ‬
‫كل يشء رأيتـه مـن املصـاغ‪ ،‬وأربطـه يف ثيـاب املـوىت‪ ،‬ومل‬ ‫تلـك املغـارة ّ‬
‫أزل على هـذه الحالـة مـدّة مـن الزمان‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)543‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري صـار ينقـل مـن تلـك املغـارة مـا يلقـاه فيهـا مـن مصـاغ وغيره‪،‬‬
‫ويجلـس على جانـب البحر مـدّة من الزمـان‪ .‬قال‪ :‬فبينما أنا جالـس‪ ،‬يوماً‬
‫مـن األيّـام‪ ،‬على جانـب البحر‪ ،‬وأنا متفكِّـر يف أمري‪ ،‬وإذا مبركب سـائر يف‬
‫وسـط البحـر العجـاج املتالطـم باألمـواج‪ ،‬فأخـذت يف يدي ثوبـاً أبيض من‬
‫ثيـاب املـوىت وربطته يف عكَّاز وجريت به عىل شـاطئ البحر‪ ،‬ورصت أشير‬
‫إليهـم بذلـك الثوب حتـى الحت منهم التفاتة‪ ،‬فـرأوين وأنا يف رأس الجبل‪،‬‬
‫يل بعـد أن سـمعوا صـويت‪ ،‬وأرسـلوا إيل زورقـاً مـن عندهـم‪ ،‬وفيه‬ ‫فجـاؤوا إ َّ‬
‫جامعـة مـن املركـب‪ .‬ومل نـزل مسـافرين مـن جزيـرة إىل جزيـرة ومن بحر‬
‫إىل بحـر‪ ،‬وأنـا أرجـو النجـاة‪ ،‬ورصت فرحانـاً بسلامتي‪ ،‬وكنـت كلَّما أتفكَّـر‬

‫‪72‬‬
‫قعـودي يف املغـارة مـع زوجتـي يغيـب عقلي‪ .‬وقـد وصلنـا‪ ،‬بقـدرة اللـه‬
‫(تعـاىل)‪ ،‬مـع السلامة‪ ،‬إىل مدينـة البصرة‪ ،‬فطلعـت إليهـا‪ ،‬وأقمـت فيهـا‬
‫أيّامـاً قالئـل‪ ،‬وبعدهـا جئـت إىل مدينـة بغـداد‪ ،‬فجئـت إىل حـاريت ودخلت‬
‫داري وقابلـت أهلي وأصحـايب وسـألت عنهم‪ ،‬ففرحـوا بسلامتي وه ّنأوين‪،‬‬
‫وقـد خ َّزنـت جميـع مـا كان معـي مـن األمتعـة يف حواصلي وتصدَّقـت‪،‬‬
‫ووهبـت‪ ،‬وكسـوت األيتـام واألرامـل‪ ،‬ورصت يف غايـة البسـط والسرور‪،‬‬
‫وقـد عـدت إىل مـا كنـت عليه مـن املعـارشة واملرافقة ومصاحبـة اإلخوان‬
‫واللهـو والطـرب‪ ،‬وهـذا أعجـب مـا صـار يل يف السـفرة الرابعة!‬
‫تعـش عنـدي‪ ،‬وخـذ عادتـك‪ ،‬ويف غـد تجـيء عنـدي‬ ‫َّ‬ ‫ولكـن‪ ،‬يـا أخـي‪،‬‬
‫فأخبرك مبـا كان يل ومـا جـرى يل يف السـفرة الخامسـة‪ ،‬فإنهـا أعجـب‬
‫وتعش‬
‫ّ‬ ‫مما سـبق! ثـم أمـر لـه مبئة مثقـال ذهـب‪ ،‬و َمـ ّد السماط‪،‬‬ ‫وأغـرب ّ‬
‫وكل‬
‫جبون غايـة العجب‪ٌّ ،‬‬ ‫الجامعـة وانرصفـوا إىل حال سـبيلهم‪ ،‬وهـم متع ِّ‬
‫الحمال إىل منزله‪ ،‬وبات‬
‫ّ‬ ‫حكايـة أعظـم مـن التـي قبلها‪ .‬وقد راح السـندباد‬
‫جـب! ومل ّـا أصبـح الصبـاح وأضـاء‬ ‫يف غايـة البسـط واالنشراح‪ ،‬وهـو متع ِّ‬
‫متشى إىل أن دخـل‬
‫ّ‬ ‫وصلى الصبـح‪ ،‬ثـم‬ ‫َّ‬ ‫بنـوره والح‪ ،‬قـام السـندباد البري‬
‫حـب بـه‪ ،‬وأمـره بالجلـوس عنـده‬ ‫دار السـندباد البحـري‪ ،‬وص َّبـح عليـه فر َّ‬
‫حتـى جـاء بق ّيـة أصحابـه‪ ،‬فأكلـوا ورشبـوا وتلـذَّذوا وطربـوا‪ ،‬ودارت بينهـم‬
‫املحادثـة‪ ،‬فابتـدأ السـندباد البحـري بالـكالم‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫الحكاية الخامسة‬
‫(السفرة الخامسة)‬

‫ويف الليلـة (‪ ،)544‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬


‫البحـري ابتـدأ بالـكالم فيما جـرى ومـا وقـع لـه يف الحكايـة الخامسـة‪،‬‬
‫فقـال‪ :‬اعلمـوا‪ ،‬يا إخـواين‪ ،‬أين مل ّا رجعت من السـفرة الرابعة وقد غرقت‬
‫يف اللهـو والطـرب واالنشراح‪ ،‬نسـيت جميـع مـا كنـت لقيتـه ومـا جـرى‬
‫يل‪ ،‬ومـا قاسـيته مـن شـدّة فرحي باملكسـب والربـح والفوائـد‪ ،‬فحدَّثتني‬
‫نفسي بالسـفر والتفـ ُّرج يف بالد النـاس ويف الجزائر‪ ،‬فقمـت وهممت يف‬
‫ذلـك الوقـت واشتريت بضاعة نفيسـة تناسـب البحـر‪ ،‬وحزمـت الحمول‪،‬‬
‫جهت إىل مدينة البرصة‪ ،‬ومشـيت عىل جانب‬ ‫ورست من مدينة بغداد وتو َّ‬
‫السـاحل فرأيـت مركبـاً كبيرا ً مليحـاً فأعجبتني فاشتريتها‪ ،‬وكانـت عدَّتها‬
‫جديـدة‪ ،‬واكرتيـت لـه ريِّسـاً وبحريّـة‪ ،‬ونظـرت عليهـا عبيـدي وغلماين‪،‬‬
‫جـار فن َّزلـوا حمولهـم‬
‫وأنزلـت فيهـا حمـويل‪ .‬وجـاءين جامعـة مـن الت ّ‬

‫‪75‬‬
‫فيهـا‪ ،‬ودفعـوا يل األجـرة‪ ،‬ورسنـا ونحـن يف غايـة الفـرح والسرور‪ ،‬وقـد‬
‫اسـتبرشنا بالسلامة والكسـب‪ ،‬ومل نـزل مسـافرين من جزيـرة إىل جزيرة‬
‫ومـن بحـر إىل بحـر‪ ،‬ونحن نتفـ َّرج يف الجزائر والبلدان‪ ،‬ونطلـع إليها نبيع‬
‫فيهـا ونشتري‪ .‬ومل نـزل على هـذه الحالة حتـى وصلنـا‪ ،‬يوماً مـن األيّام‪،‬‬
‫إىل جزيـرة خاليـة مـن السـكّان‪ ،‬وليـس فيها أحد‪ ،‬وهـي خـراب وفيها قبّة‬
‫خ‬
‫عظيمـة بيضـاء كبيرة الحجـم‪ ،‬فطلعنا نتفـ َّرج عليهـا‪ ،‬وإذا هـي بيضة ر ّ‬
‫جـار إليهـا‪ ،‬وتف َّرجـوا عليهـا‪ ،‬مل يعلمـوا أنهـا بيضـة‬ ‫فلما طلـع الت ّ‬
‫ّ‬ ‫كبيرة‪.‬‬
‫ُسرت‪ ،‬ونـزل منهـا مـاء كثير وقـد بـان منهـا‬ ‫رخ فرضبوهـا بالحجـارة فك ِ‬
‫فـرخ الـرخّ‪ ،‬فسـحبوه منهـا وأخرجـوه مـن تلـك البيضـة وذبحـوه‪ ،‬وأخذوا‬
‫منـه لحماً كثيرا ً‪ ،‬وأنـا يف املركـب‪ ،‬فلـم أعلـم مبـا فعلـوه ومل يطلعـوين‬
‫عليـه‪ ،‬فعنـد ذلـك قـال يل واحـد مـن الـركّاب‪ :‬يـا سـ ِّيدي‪ ،‬قـم تفـ َّرج عىل‬
‫جار‬‫هـذه البيضـة التـي تحسـبها ق ّبـة‪ ،‬فقمـت ألتفـ َّرج عليهـا‪ ،‬فوجـدت الت ّ‬
‫يرضبـون البيضـة‪ ،‬فصحـت بهـم‪ :‬ال تفعلـوا هـذا الفعـل‪ ،‬فيطلـع طير‬
‫خ ويكسر مركبنـا‪ ،‬ويهلكنـا‪ ،‬فلـم يسـمعوا كالمـي‪ .‬فبينما هـم على‬ ‫الـر ّ‬
‫هـذه الحالـة وإذا بالشـمس قـد غابـت ع ّنـا‪ ،‬والنهـار أظلـم‪ ،‬وصـار فوقنـا‬
‫م الجـ ُّو منهـا‪ ،‬فرفعنا رؤوسـنا ننظر مـا الذي حـال بيننا وبني‬ ‫غاممـة‪ ،‬أظلـ َ‬
‫الشـمس‪ ،‬فرأينـا أجنحـة الـرخ وقد حجبـت ع ّنا ضوء الشـمس حتى أظلم‬
‫خ رأى بيضتـه انكرست فتبعنا وصـاح علينا‪،‬‬ ‫الجـ ّو‪ ،‬وذلـك أنـه مل ّا جاء الـر ّ‬
‫َين على املركـب يرصخان بصوت أشـ ّد من‬ ‫فجـاءت رفيقتـه‪ ،‬وصـارا حامئ ْ‬
‫الرعـد‪ ،‬فصحـت أنـا عىل الريِّـس والبحريـة‪ ،‬وقلت لهم‪ :‬ادفعـوا املركب‪،‬‬
‫جـار‪ ،‬ورسنا يف‬ ‫واطلبـوا السلامة قبـل أن نهلـك‪ ،‬فأرسع الريِّـس وطلع الت ّ‬
‫خ قـد رسنـا يف البحـر غـاب ع ّنـا سـاعة مـن‬ ‫تلـك الجزيـرة‪ .‬فلما رآنـا الـر ّ‬
‫الزمـان‪ ،‬وك ّنـا قد رسنـا وأرسعنا يف السير باملركب‪ ،‬نريـد الخالص منهام‬
‫كل‬
‫جـل ّ‬ ‫والخـروج مـن أرضهما‪ ،‬وإذا بهما قـد تبعانـا وأقبلا علينـا ويف ر ْ‬
‫خ الذكَر الصخـرة التي‬ ‫واحـد منهما صخـرة عظيمة مـن الجبـل فألقى الـر ّ‬
‫كانـت معـه علينـا‪ ،‬فجـذب الريِّـس املركـب وقـد أخطأهـا نـزول الصخـرة‬
‫بشيء قليـل‪ ،‬فنزلـت يف البحـر تحـت املركـب‪ ،‬فقـام بنـا املركـب وقعد‬
‫مـن ِعظَـم وقوعهـا يف البحـر‪ ،‬وقـد رأينـا قعـر البحـر مـن شـدّة عزمهـا‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫خ ألقـت علينـا الصخـرة التـي معهـا‪ ،‬وهـي أصغـر مـن‬ ‫ثـم إن رفيقـة الـر ّ‬
‫وطيرت الدفّة‬
‫َّ‬ ‫األوىل‪ ،‬فنزلـت باألمـر املقـدَّر على مؤخِّر املركب فكرسته‬
‫عرشيـن قطعـة‪ ،‬وقـد غـرق جميـع مـا كان يف املركـب بالبحـر‪ ،‬فصرت‬
‫أحـاول النجـاة مـن حلاوة الـروح‪ ،‬فقـدَّر اللـه (تعـاىل) يل لوحاً مـن ألواح‬
‫املركـب‪ ،‬فتعلَّقـت فيـه‪ ،‬وركبتـه ورصت أقـذف عليـه برجلي والريـح‬
‫واملـوج يسـاعداين على السير‪ ،‬وكان املركـب قـد غـرق بالقـرب مـن‬
‫جزيـرة يف وسـط البحـر‪ ،‬فرمتنـي املقاديـر‪ -‬بـإذن اللـه (تعـاىل)‪ -‬إىل تلك‬
‫الجزيـرة فطلعـت عليهـا وأنـا عىل آخر نفـس‪ ،‬ويف حالة املوت من شـدّة‬
‫مـا قاسـيته من التعب واملشـقّة والجوع والعطش‪ .‬ثـم إين انطرحت عىل‬
‫شـاطئ البحر سـاعة مـن الزمان‪ ،‬حتـى ارتاحت نفيس‪ ،‬واطمأ ّن قلبي‪ ،‬ثم‬
‫مشـيت يف تلـك الجزيـرة فرأيتها كأنها روضـة من رياض الج ّنة‪ :‬أشـجارها‬
‫يانعـة‪ ،‬وأنهارهـا دافقـة‪ ،‬وطيورهـا مغـ ِّردة تسـ ِّبح مـن لـه العـ ّزة والبقـاء‪.‬‬
‫ويف تلـك الجزيـرة يشء كثري من األشـجار والفواكه وأنـواع األزهار‪ ،‬فعند‬
‫ذلـك أكلـت مـن الفواكـه حتـى شـبعت‪ ،‬ورشبـت مـن تلـك األنهـار حتـى‬
‫رويـت‪ ،‬وحمـدت اللـه (تعـاىل) على ذلـك‪ ،‬وأثنيـت عليه‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)545‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري حمـد اللـه‪ ،‬وأثنـى عليـه‪ ،‬وقـال‪ :‬ومل أزل على هذه الحالـة قاعدا ً‬
‫مما‬
‫يف الجزيـرة إىل أن أمسى املسـاء‪ ،‬وأقبـل الليـل وأنـا مثـل القتيـل ّ‬
‫حصـل يل مـن التعـب والخـوف‪ ،‬ومل أسـمع يف تلـك الجزيرة صوتـاً‪ ،‬ومل‬
‫أ َر فيهـا أحـدا ً‪ ،‬ومل أزل راقـدا ً فيهـا إىل الصبـاح‪ ،‬ثـم قمـت على حيلي‪،‬‬
‫ومشـيت بين تلـك األشـجار فرأيـت سـاقية على عين مـاء جاريـة‪ ،‬وعنـد‬
‫تلـك السـاقية شـيخ جالـس مليـح وذلـك الشـيخ مؤتـزر بـإزار مـن ورق‬
‫لعـل هـذا الشـيخ طلـع إىل هـذه الجزيـرة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫األشـجار‪ ،‬فقلـت يف نفسي‪:‬‬
‫ُسرت بهـم املركـب‪ ،‬ثـم دنـوت منـه وسـلَّمت‬ ‫وهـو مـن الغرقـى الذيـن ك ِ‬
‫لي السلام باإلشـارة‪ ،‬ومل يتكلَّـم‪ .‬فقلـت لـه‪ :‬يـا شـيخ‪ ،‬مـا‬‫عليـه فـر َّد ع َّ‬
‫وتأسـف‪ ،‬وأشـار يل بيده؛‬
‫َّ‬ ‫سـبب جلوسـك يف هـذا املـكان؟ فحـ َّر َك رأسـه‬

‫‪77‬‬
‫أن احملنـي على رقبتـك‪ ،‬وانقلنـي مـن هـذا املـكان إىل جانـب السـاقية‬
‫الثانيـة‪ ،‬فقلـت يف نفسي‪ :‬اعمـل مـع هـذا معروفـاً‪ ،‬وأنقلـه إىل املـكان‬
‫لعـل ثوابـه يحصل يل‪ ،‬فتقدَّمـت إليه وحملتـه عىل أكتايف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الـذي يريـده‪،‬‬
‫وجئـت إىل املـكان الـذي أشـار يل إليـه‪ ،‬وقلت لـه‪ :‬انزل على مهلك‪ ،‬فلم‬
‫ينـزل عـن أكتايف‪ ،‬وقد ل ََّف رجليه عىل رقبتـي‪ ،‬فنظرت إىل رجليه فرأيتهام‬
‫مثـل جلد الجاموس يف السـواد والخشـونة‪ ،‬ففزعت منـه وأردت أن أرميه‬
‫مـن فـوق أكتـايف‪ ،‬فقرط على رقبتي برجليـه‪ ،‬وخنقني بهام حتى اسـودَّت‬
‫الدنيـا يف وجهـي‪ ،‬وغبـت عن وجـودي‪ ،‬ووقعـت عىل األرض مغشـ ّياً ع َّ‬
‫يل‬
‫مثـل امل ِّيـت‪ ،‬فرفـع سـاقيه ورضبنـي على ظهـري وعلى أكتـايف فحصـل‬
‫يل أمل شـديد‪ ،‬فنهضـت قامئـاً بـه وهـو راكـب فـوق أكتـايف‪ ،‬وقـد تعبـت‬
‫ادخـل بني األشـجار‪ ،‬فدخلت إىل أطيـب الفواكه‬ ‫ْ‬ ‫منـه فأشـار يل بيـده؛ أن‬
‫وكنـت إذا خالفتـه يرضبنـي برجليـه رضبـاً أشـ ّد مـن رضب األسـواط‪ .‬ومل‬
‫كل مـكان أراده‪ ،‬وأنـا أمشي به إليـه‪ ،‬وإن توانيت‬ ‫يل بيـده إىل ّ‬
‫يـزل يشير إ َّ‬
‫أو مت َّهلـت رضبنـي وأنـا معـه شـبه األسير‪ ،‬وقـد دخلنـا يف وسـط الجزيرة‬
‫بين األشـجار‪ ،‬وصـار يبـول ويغـوط على أكتـايف‪ ،‬وال ينـزل ليلاً وال نهارا ً‪،‬‬
‫يلـف رجليـه على رقبتـي وينام قليلاً‪ ،‬ثم يقـوم ويرضبني‪،‬‬ ‫وإذا أراد النـوم ّ‬
‫فأقـوم مرسعـاً بـه وال أسـتطيع مخالفتـه مـن شـدّة مـا أقـايس منـه‪ ،‬وقـد‬
‫ملـت نفسي على مـا كان م ّنـي مـن حملـه والشـفقة عليـه‪ .‬ومل أزل معـه‬
‫على هـذه الحالـة‪ ،‬وأنـا يف أشـ ّد مـا يكـون التعـب‪ ،‬وقلـت يف نفسي‪ :‬أنـا‬
‫لي رشا ً‪ .‬واللـه‪ ،‬مـا بقيت أفعـل مع أحد‬ ‫فعلـت مـع هـذا خيرا ً‪ ،‬فانقلـب ع َّ‬
‫كل‬‫خيرا ً طـول عمـري‪ ،‬وقـد رصت أمت ّنـى املـوت مـن اللـه (تعـاىل)‪ ،‬يف ّ‬
‫وقـت وكل سـاعة؛ مـن كثرة مـا أنـا فيـه مـن التعـب واملشـقّة‪ .‬ومل أزل‬
‫على هـذه الحالـة مـدّة مـن الزمـان‪ ،‬إىل أن جئـت بـه‪ ،‬يومـاً مـن األيّـام‪،‬‬
‫إىل مـكان يف الجزيـرة‪ ،‬فوجـدت فيـه يقطينـاً كثيرا ً ومنـه يشء يابـس‪،‬‬
‫فأخـذت منـه واحـدة كبيرة يابسـة‪ ،‬وفتحـت رأسـها وصفَّيتهـا إىل شـجرة‬
‫العنـب فمألتهـا منهـا‪ ،‬وسـددت رأسـها ووضعتهـا يف الشـمس‪ ،‬وتركتهـا‬
‫كل يوم أرشب منه ألسـتعني‬ ‫مـدّة أيّـام حتـى صـارت خمرا ً صافيـاً‪ ،‬ورصت ّ‬
‫بـه على تعبـي مع ذلـك الشـيطان املريد‪ ،‬وكنـت كلَّام سـكرت منها تقوى‬

‫‪78‬‬
‫ه َّمتـي‪ ،‬فنظـرين‪ ،‬يومـاً مـن األيَّـام‪ ،‬وأنـا أرشب‪ ،‬فأشـار يل بيـده‪ :‬مـا هذا؟‬
‫فقلـت لـه‪ :‬هـذا يشء مليـح يق ّوي القلـب‪ ،‬ويرشح الخاطر‪ .‬ثـم إين جريت‬
‫بـه ورقصـت بني األشـجار‪ ،‬وحصل يل نشـوة من السـكر فصفَّقـت وغ َّنيت‬
‫فلما رآين على هـذه الحالـة أشـار يل أن أناولـه اليقطينـة‬ ‫ّ‬ ‫وانرشحـت‪،‬‬
‫ليشرب منهـا فخفـت منـه‪ ،‬وأعطيتهـا لـه فشرب مـا كان باقيـاً فيهـا ثـم‬
‫رماهـا على األرض‪ ،‬وقـد حصـل لـه طـرب‪ ،‬فصـار يهتـ ّز على أكتـايف‪ ،‬ثـم‬
‫سـ ِكر وغـرق يف السـكْر‪ ،‬وقد ارتخـت جميـع أعضائه وفرائصـه‪ ،‬وصار‬ ‫إنـه َ‬
‫بسـكْره‪ ،‬وأنـه غـاب عـن الوجـود‪،‬‬
‫فلما علمـت ُ‬ ‫ّ‬ ‫يتاميـل مـن فـوق أكتـايف‪،‬‬
‫مـددت يـدي إىل رجليـه وفككتهما مـن رقبتـي‪ ،‬ثـم ملـت بـه إىل األرض‪،‬‬
‫وألقيتـه عليها‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)547‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا ألقـى الشـيطان عـن أكتافـه‪ ،‬على األرض‪ ،‬قال‪ :‬فما صدَّقت‬
‫أين خلصـت نفسي‪ ،‬ونجـوت مـن األمر الذي كنـت فيه‪ ،‬ثـم أين خفت منه‬
‫أن يقـوم مـن سـكْره فيؤذينـي‪ ،‬فأخـذت صخـرة عظيمـة مـن بني األشـجار‬
‫وجئـت إليـه فرضبتـه على رأسـه‪ ،‬وهـو نائـم‪ ،‬فاختلـط لحمـه بدمـه وقـد‬
‫قُ ِتـل‪ ،‬فلا رحمـة اللـه عليـه‪ .‬بعـد ذلـك‪ ،‬مشـيت يف الجزيـرة‪ ،‬وقـد ارتـاح‬
‫خاطـري وجئـت إىل املـكان الـذي كنـت فيـه عىل سـاحل البحـر‪ ،‬ومل أزل‬
‫يف تلـك الجزيـرة آكل مـن أمثارهـا وأرشب مـن أنهارهـا مـدّة مـن الزمـان‪،‬‬
‫وأنـا أترقَّـب مركبـاً متـ ّر يب‪ ،‬إىل أن كنـت جالسـاً يومـاً مـن األيّـام‪ ،‬متفكِّـرا‬
‫فيما جـرى يل ومـا كان مـن أمـري‪ ،‬وأقـول يف نفسي‪ :‬يا ترى‪ ،‬هـل يبقيني‬
‫اللـه سـاملاً‪ ،‬ثـم أعود إىل بلادي واجتمـع بأهيل وأصحـايب؟‪ ،‬وإذا مبركب‬
‫قـد أقبلـت من وسـط البحـر العجـاج املتالطم باألمـواج‪ ،‬ومل تزل سـائرة‬
‫حتـى رسـت على تلك الجزيرة‪ ،‬وطلـع منها الركّاب إىل الجزيرة‪ ،‬فمشـيت‬
‫لي كلُّهـم مرسعين‪ ،‬واجتمعـوا حـويل‪،‬‬ ‫فلما نظـروين أقبلـوا ع َّ‬ ‫ّ‬ ‫إليهـم‪،‬‬
‫وقـد سـألوين عـن حـايل وما سـبب وصـويل إىل تلـك الجزيـرة‪ ،‬فأخربتهم‬
‫جبـوا مـن ذلـك غايـة العجـب‪ ،‬وقالـوا‪ :‬إن هـذا‬ ‫بأمـري ومـا جـرى يل فتع َّ‬

‫‪79‬‬
‫الرجـل الـذي ركـب على أكتافـك يسـ ّمى شـيخ البحـر‪ ،‬ومـا أحـد دخـل‬
‫تحـت أعضائـه وخلـص منـه إلّ أنـت‪ ،‬والحمدللـه على سلامتك‪ .‬ثـم إنهم‬
‫يل بشيء مـن الطعـام‪ ،‬فأكلـت حتى اكتفيـت وأعطوين شـيئاً من‬ ‫جـاؤوا إ ّ‬
‫امللبـوس لبسـته‪ ،‬وسترت بـه عـوريت‪ ،‬ثـم أخـذوين معهـم يف املركـب‪.‬‬
‫وقـد رسنـا أيّامـاً وليـا َ‬
‫يل‪ ،‬فر َمتْنـا املقاديـر عىل مدينـة عالية البنـاء جميع‬
‫بيوتهـا مطلّـة على البحـر‪ ،‬وتلـك املدينة يقـال لهـا (مدينة القـرود)‪ ،‬وإذا‬
‫دخـل الليـل يـأيت الناس الذين يسـكنون يف تلـك املدينـة‪ ،‬فيخرجون من‬
‫هـذه األبـواب التي على البحر‪ ،‬ثم ينزلـون يف زوارق ومراكـب ويبيتون يف‬
‫البحـر خوفـاً من القـرود أن ينزلوا عليهـم يف الليل‪ ،‬مـن الجبال‪ ،‬فطلعت‬
‫أتفـ َّرج يف تلـك املدينـة‪ ،‬فسـافرت املركـب ومل أعلـم‪ ،‬فندمـت على‬
‫طلوعـي إىل تلـك املدينـة‪ ،‬وتذكَّـرت رفقتي وما جـرى يل مع القـرود‪ ،‬أ َّوالً‬
‫يل رجل من أصحـاب هذه البلد‬ ‫وثانيـاً‪ ،‬فقعـدت أبكي وأنا حزيـن‪ ،‬فتقدَّم إ ّ‬
‫وقـال‪ :‬يـا سـيِّدي‪ ،‬كأنـك غريـب يف هذه الديـار! فقلت له‪ :‬نعـم‪ ،‬أنا غريب‬
‫ومسـكني‪ ،‬وكنـت يف مركـب قـد رسـت على تلـك املدينـة‪ ،‬فطلعـت منها‬
‫وس معنـا‪ .‬انزل‬ ‫ألتفـ َّرج يف املدينـة‪ ،‬وعـدت إليهـا فلـم أ َرهـا‪ ،‬فقال‪ :‬قـم ِ ْ‬
‫الـزورق فإنـك إن قعـدت يف املدينة ليلاً أهلتك القرود‪ ،‬فقلت‪ :‬له سـمعاً‬
‫وطاعـة‪ .‬وقمـت مـن وقتـي وسـاعتي‪ ،‬ونزلـت معهـم يف الـزورق‪ ،‬ودفعوه‬
‫بر حتـى أبعـدوه عـن سـاحل البحـر مقدار ميـل‪ ،‬وباتـوا تلـك الليلة‬ ‫مـن ال ّ‬
‫فلم أصبح الصبـاح رجعوا بالـزورق إىل املدينة‪،‬‬ ‫وأنـا معهـم يف الـزورق‪ّ .‬‬
‫كل‬‫كل واحـد منهـم إىل شـغله‪ ،‬ومل تـزل هـذه عادتهـم ّ‬ ‫وطلعـوا‪ ،‬وراح ّ‬
‫وكل مـن تخلَّـف منهـم يف املدينـة‪ ،‬بالليـل‪ ،‬جـاءت إليـه القـرود‬ ‫ليلـة‪ّ ،‬‬
‫فأهلكتـه‪ .‬ويف النهـار‪ ،‬تطلـع القـرود إىل خـارج املدينـة فتـأكل مـن أمثار‬
‫البسـاتني‪ ،‬وترقـد يف الجبـال إىل وقـت املسـاء ثـم تعـود إىل املدينـة‪،‬‬
‫وهـذه املدينـة يف أقصى بالد السـودان‪ .‬ومـن أعجب ما وقـع يل من أهل‬
‫بـت معهم يف الـزورق‪ ،‬قال‬ ‫هـذه املدينـة أن شـخصاً مـن الجامعة الذين ّ‬
‫يل‪ :‬يـا سـ ِّيدي‪ ،‬أنـت غريـب يف هـذه الديار فهل لـك صنعة تشـتغل فيها؟‬
‫فقلـت‪ :‬ال واللـه‪ ،‬يـا أخـي‪ ،‬ليـس يل صنعـة‪ ،‬ولسـت أعـرف عمـل يشء‪،‬‬
‫وأنـا رجـل تاجـر صاحـب مـال ونـوال‪ ،‬وكان يل مركـب ملكي مشـحونة‬

‫‪80‬‬
‫بأمـوال كثيرة وبضائـع فكسرت يف البحر وغـرق جميع مـا كان فيها‪ ،‬وما‬
‫نجـوتُ مـن الغرق إلّ بـإذن الله‪ ،‬فرزقنـي الله بقطعة لـوح ركبتها‪ ،‬فكانت‬
‫السـبب يف نجـايت مـن الغـرق‪ .‬عنـد ذلـك قام الرجـل‪ ،‬وأحضر يل مخالة‬
‫مـن قطـن‪ ،‬وقـال يل‪ :‬خـذ هـذه املخلاة‪ ،‬وامألهـا حجـارة زلـط مـن هـذه‬
‫املدينـة‪ ،‬ثـم أخـرج مـع جامعـة مـن أهـل املدينـة‪ ،‬وأنـا أرافقـك إليهـم‪،‬‬
‫وأوصيهـم بـك‪ .‬افعـل كما يفعلـون؛ فلعلَّـك تعمـل بشيء تسـتعني بـه‬
‫على سـفرك وعـودك إىل بالدك‪ .‬ثـم إن ذلك الرجل أخـذين وأخرجني إىل‬
‫خـارج املدينـة‪ ،‬فنقَّيـت حجـارة صغرية مـن الزلط‪ ،‬ومألت تلـك املخالة‪،‬‬
‫وإذا بجامعـة خارجين مـن املدينـة‪ ،‬فأرفقنـي بهـم وأوصاهـم يب‪ ،‬وقـال‬
‫لهـم‪ :‬هـذا رجـل غريـب فخـذوه معكـم وعلِّمـوه اللقـط‪ ،‬فلعلّـه يعمـل‬
‫بشيء يتقـ َّوت بـه‪ ،‬ويبقـى لكـم األجـر والثـواب‪ .‬فقالـوا‪ :‬سـمعاً وطاعـةً‪.‬‬
‫وكل واحـد منهـم معـه مخلاة مثل‬ ‫حبـوا يب وأخـذوين معهـم‪ ،‬وسـاروا ّ‬ ‫ور َّ‬
‫املخلاة التـي معـي مملـوءة زلطـاً‪ ،‬ومل نـزل سـائرين إىل أن وصلنـا إىل‬
‫وا ٍد واسـع فيـه أشـجار كثيرة عاليـة‪ ،‬ال يقـدر أحـد أن يطلـع عليهـا‪ .‬ويف‬
‫ذلـك الـوادي قـرود كثرية فلما رأتنا هذه القـرود نفرت م ّنا‪ ،‬وتسـلَّقت تلك‬
‫األشـجار‪ ،‬فصـاروا يرجمـون القـرود بالحجـارة التـي معهـم يف املخـايل‪،‬‬
‫والقـرود تقطـع مـن مثار تلك األشـجار وترمـي بها هؤالء الرجـال‪ ،‬فنظرت‬
‫فلما رأيـت ذلـك‬
‫ّ‬ ‫تلـك الثمار التـي ترميهـا القـرود وإذا هـي جـوز هنـدي‪،‬‬
‫العمـل مـن القـوم اخرتت شـجرة عظيمة عليهـا قرود كثيرة‪ ،‬وجئت إليها‬
‫ورصت أرجـم هـذه القـرود فتقطع مـن ذلك الجـوز وترميني بـه‪ ،‬فأجمعه‬
‫كما يفعـل القـوم‪ ،‬فما فرغـت الحجـارة مـن مخاليت حتـى جمعت شـيئاً‬
‫كثيرا ً‪ .‬ومل ّـا فـرغ القـوم من هذا العمل مل ّـوا جميع مـا كان معهم وحمل‬
‫كل واحـد منهـم مـا أطاقـه‪ ،‬ثـم عدنـا إىل املدينـة يف باقـي يومنـا‪ .‬فجئت‬ ‫ّ‬
‫إىل الرجـل صاحبـي الذي أرفقنـي بالجامعة‪ ،‬وأعطيته جميـع ما جمعت‪،‬‬
‫وشـكرت فضلـه‪ ،‬فقـال يل‪ :‬خذ هذا بعـه وانتفع بثمنه‪ ،‬ثـم أعطاين مفتاح‬
‫مـكان يف داره‪ ،‬وقـال يل‪ :‬ضـع يف هـذا املـكان هـذا الـذي بقـي معك من‬
‫كل يـوم مـع الجامعـة مثـل مـا طلعـت هـذا اليـوم‪،‬‬ ‫الجـوز‪ ،‬واطلـع يف ّ‬
‫عـه وانتفع بثمنـه واحفظه عندك‬ ‫والـذي تجـيء بـه ميِّ ْز منه الـرديء‪ ،‬ثم ب ْ‬

‫‪81‬‬
‫يف هـذا املـكان فلعلَّـك تجمـع منـه شـيئاً يعينـك على سـفرك‪ .‬فقلـت‪:‬‬
‫كل يوم‬‫أجـرك على اللـه (تعـاىل)‪ .‬وفعلـت مثـل مـا قـال يل‪ ،‬ومل أزل يف ّ‬
‫أملأ املخلاة مـن الحجـارة‪ ،‬وأطلـع مع القـوم‪ ،‬وأعمـل مثل مـا يعملون‪.‬‬
‫وقـد صـاروا يتواصـون يب ويدلّوننـي عىل الشـجرة التي فيها الثمـر الكثري‪.‬‬
‫ومل أزل على هـذا الحـال مـدّة من الزمـان‪ ،‬وقد اجتمع عنـدي يشء كثري‬
‫مـن الجـوز الهنـدي الط ِّيب‪ ،‬وبعت شـيئاً كثيرا ً‪ ،‬وكرث عنـدي مثنه‪ ،‬ورصت‬
‫والق لخاطـري‪ ،‬وقـد صفا وقتـي وزاد يف املدينة‬‫َ‬ ‫كل يشء رأيتـه‪،‬‬
‫أشتري ّ‬
‫حظّـي‪ .‬ومل أزل على هـذه الحالـة مدّة‪ ،‬فبينام أنا واقف على جانب البحر‬
‫وإذا مبركـب قـد وردت إىل تلـك املدينـة‪ ،‬ورسـت على السـاحل‪ ،‬وفيهـا‬
‫جـار معهـم بضائـع‪ ،‬فصـاروا يبيعـون ويشترون ويقايضـون على يشء‬ ‫ت ّ‬
‫مـن الجـوز الهنـدي وغيره‪ ،‬فجئـت عنـد صاحبـي وأعلمتـه باملركـب التي‬
‫جـاءت‪ ،‬وأخربتـه بـأين أريد السـفر إىل بلادي‪ ،‬فقـال‪ :‬الرأي لـك‪ .‬فودَّعته‬
‫يل‪ ،‬ثـم إين جئـت عند املركـب‪ ،‬وقابلـت الريِّس‪،‬‬‫وشـكرته على إحسـانه إ ّ‬
‫وأكرتيـت معـه‪ ،‬وأنزلـت مـا كان معـي من الجـوز وغريه يف تلـك املركب‪،‬‬
‫ثـم سـاروا باملركب‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)548‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا نـزل مـن مدينـة القـرود يف املركـب‪ ،‬وأخـذ مـا كان معه من‬
‫الجـوز الهنـدي وغيره‪ ،‬واكترى مـع الريِّـس‪ ،‬قـال‪ :‬وقـد سـاروا باملركـب‬
‫يف ذلـك اليـوم‪ ،‬ومل نـزل سـائرين مـن جزيـرة إىل جزيـرة‪ ،‬ومـن بحـرإىل‬
‫بحـر‪ ،‬إىل أن وصلنـا البصرة‪ ،‬فطلعـت إليهـا‪ ،‬وأقمـت بها مدّة يسيرة‪ ،‬ثم‬
‫جهـت إىل مدينـة بغـداد‪ ،‬ودخلـت حـاريت‪ ،‬وجئـت إىل بيتـي‪ ،‬وسـلَّمت‬ ‫تو َّ‬
‫على أهلي وأصحـايب فه ّنـأوين بالسلامة‪ ،‬ثـم خ َّزنـت جميع مـا كان معي‬
‫مـن البضائـع واألمتعـة‪ ،‬وكسـوت األيتـام واألرامـل‪ ،‬وتصدَّقـت ووهبـت‬
‫مما راح‬
‫لي بأكرث ّ‬
‫وهاديـت أهلي وأصحـايب وأح ّبـايب‪ ،‬وقـد عـ َّوض اللـه ع َّ‬
‫منـي أربـع مـ ّرات‪ ،‬وقـد نسـيت ما جـرى يل وما قاسـيته من التعـب‪ ،‬بكرثة‬
‫الربـح والفوائـد‪ ،‬وعـدت إىل مـا كنـت عليـه يف الزمن األ ّول مـن املعارش‬

‫‪82‬‬
‫والصحبـة وهـذا أعجـب مـا كان مـن أمـري يف السـفرة الخامسـة‪ ...‬ولكن‬
‫تعشّ ـوا اآلن‪ ،‬ويف غـد تعالـوا أخربكـم مبـا كان يف السـفرة السادسـة؛‬
‫فلما فرغـوا‬
‫ّ‬ ‫فإنهـا أعجـب مـن هـذه‪ .‬عنـد ذلـك‪ ،‬مـدّوا السماط وتعشّ ـوا‪.‬‬
‫للحمال مبئـة مثقـال مـن الذهـب‪ ،‬فأخذهـا‬‫ّ‬ ‫مـن العشـاء أمـر السـندباد‬
‫الحمال يف بيته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جب مـن ذلك األمر‪ ،‬وبات السـندباد‬ ‫وانصرف وهـو متع ِّ‬
‫وصلى الصبـح ثـم مشى إىل أن وصـل إىل دار‬ ‫ّ‬ ‫ومل ّـا أصبـح الصبـاح قـام‬
‫السـندباد البحـري‪ ،‬فدخـل عليـه‪ ،‬وأمـره بالجلـوس‪ ،‬فجلـس عنـده‪ .‬ومل‬
‫يـزل يتحـدَّث معـه حتـى جـاء بقيّـة أصحابـه‪ ،‬فتحدَّثـوا ومـدّوا السماط‪،‬‬
‫وأكلـوا‪ ،‬ورشبـوا‪ ،‬وتلـذذوا‪ ،‬وطربـوا‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الحكاية السادسة‬
‫(السفرة السادسة)‬

‫وابتـدأ السـندباد البحـري يحدِّثهـم بحكايـة السـفرة السادسـة‪ ،‬فقـال‬


‫لهـم‪ :‬اعلمـوا‪ -‬يـا إخـواين وأح ّبـايئ وأصحـايب‪ -‬أين مل ّـا جئـت مـن تلـك‬
‫السـفرة الخامسـة‪ ،‬ونسـيت مـا كنـت قاسـيته بسـبب اللهـو والطـرب‬
‫والبسـط واالنشراح‪ ،‬وأنـا يف غايـة الفـرح والسرور‪ .‬ومل أزل على هـذه‬
‫ظ ورسور وانشراح زائـد‪،‬‬ ‫الحالـة إىل أن جلسـت يومـاً مـن األيّـام يف حـ ّ‬
‫لي‪ ،‬وعليهـم آثـار‬
‫جـار وردوا ع َّ‬‫فبينما أنـا جالـس إذا بجامعـة مـن الت ّ‬
‫السـفر‪ ،‬فعنـد ذلـك تذكَّـرت أيّـام قدومـي مـن السـفر‪ ،‬وفرحـي بلقـاء‬
‫أهلي وأصحـايب وأح ّبـايئ‪ ،‬وفرحـي ببلادي‪ ،‬واشـتاقت نفسي إىل السـفر‬
‫جـارة‪ ،‬فعزمـت عىل السـفر واشتريت يل بضائع نفيسـة فاخرة تصلح‬ ‫والت ّ‬
‫للبحـر‪ ،‬وحملـت حمـويل وسـافرت مـن مدينة بغـداد إىل مدينـة البرصة‪،‬‬
‫جـار وأكابر‪ ،‬ومعهـم بضائع نفيسـة‪ ،‬فنزلت‬ ‫فرأيـت سـفينة عظيمـة فيها ت ّ‬

‫‪85‬‬
‫حمـويل معهـم يف هـذه السـفينة ورسنـا‪ ،‬بالسلامة‪ ،‬مـن مدينـة البرصة‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)549‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا ج َّهـز حمولـه ون ّزلها يف املركب مـن مدينة البرصة‪ ،‬وسـافر‪،‬‬
‫قـال‪ :‬ومل نـزل مسـافرين مـن مـكان إىل مـكان ومـن مدينـة إىل مدينـة‪،‬‬
‫ونحـن نبيـع ونشتري ونتفـ َّرج على بلاد النـاس‪ ،‬وقـد طـاب لنـا السـعد‬
‫والسـفر‪ ،‬واغتنمنـا املعـاش إىل أن ك ّنـا سـائرين‪ ،‬يومـاً مـن األيّـام‪ ،‬وإذا‬
‫بريِّـس املركـب قـد رصخ وصـاح‪ ،‬ورمـى عاممتـه‪ ،‬ولطـم على وجهـه‪،‬‬
‫م والقهـر‪ ،‬فاجتمع‬ ‫ونتـف لحيتـه‪ ،‬ووقـع يف بطـن املركـب مـن شـدّة الغـ ّ‬
‫جـار والـركّاب وقالـوا لـه‪ :‬يـا ريِّس‪ ،‬مـا الخرب؟ فقـال لهم‪:‬‬ ‫عليـه جميـع الت ّ‬
‫اعلمـوا‪ -‬يـا جامعـة‪ -‬أننـا قـد تهنـا مبركبنـا‪ ،‬وخرجنـا مـن البحـر الـذي ك ّنا‬
‫فيـه‪ ،‬ودخلنـا بحـرا ً مل نعـرف طرقـه‪ ،‬وإذا مل يقيِّض الله لنا شـيئاً يخلّصنا‬
‫جينـا من هذا‬ ‫مـن هـذا البحـر هلكنـا بأجمعنـا‪ ،‬فادعـوا اللـه (تعـاىل) أن ين ِّ‬
‫يحـل القلـوع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األمـر‪ .‬ثـم إن الريـس قـام وصعـد على الصـاري‪ ،‬وأراد أن‬
‫ِي الريـح على املركـب‪ ،‬فردَّهـا على مؤخّرهـا‪ ،‬فانكسرت دفَّتها قرب‬ ‫فقـو َ‬
‫إل باللـه‬
‫جبـل عـالٍ‪ ،‬فنـزل الريِّـس مـن الصـاري‪ ،‬وقـال‪ :‬ال حـول وال قـ ّوة ّ‬
‫لي العظيـم‪ .‬ال يقـدر أحـد أن مينـع املقـدور‪ ،‬واعلمـوا أننـا قـد وقعنـا‬ ‫الع ّ‬
‫يف مهلكـة عظيمـة‪ ،‬ومل يبـق لنـا منهـا خلاص وال نجـاة‪ .‬فبكى جميـع‬
‫الـركاب على أنفسـهم‪ ،‬وودَّع بعضهـم بعضـاً لفـراغ أعامرهـم‪ ،‬وانقطـع‬
‫رجاؤهـم‪ ،‬ومـال املركـب على ذلـك الجبـل‪ ،‬فانكسر‪ ،‬وتف َّرقـت الواحـة‪،‬‬
‫جار يف البحـر؛ فمنهم من غـرق‪ ،‬ومنهم‬ ‫فغـرق جميـع مـا فيها‪ ،‬ووقـع الت ّ‬
‫متسـك بذلـك الجبـل وطلـع عليـه‪ ،‬وكنـت أنـا مـن جملـة مـن طلـع‬ ‫َّ‬ ‫مـن‬
‫على ذلـك الجبـل‪ ،‬وإذا فيـه جزيـرة كبيرة‪ ،‬عندهـا كثير مـن املراكـب‬
‫املكسرة‪ ،‬وفيهـا أرزاق كثيرة عىل شـاطئ البحـر من الذي يطرحـه البحر‬ ‫َّ‬
‫يحير العقل‬‫ّ‬ ‫كثري‬ ‫يشء‬ ‫وفيهـا‬ ‫ّابها‪،‬‬ ‫ك‬‫ر‬ ‫وغـرق‬ ‫ت‪،‬‬ ‫ُس‬‫ِ‬ ‫ك‬ ‫التـي‬ ‫املراكـب‬ ‫مـن‬
‫والفكـر مـن املتـاع واألمـوال التي يلقيهـا البحر على جوانبهـا‪ .‬عند ذلك‪،‬‬
‫طلعـت على تلـك الجزيـرة ومشـيت فيهـا‪ ،‬فرأيـت يف وسـطها عين مـاء‬

‫‪86‬‬
‫عـذب حـا ّر‪ ،‬خـارج مـن تحـت أ َّول ذلـك الجبـل‪ ،‬وداخـل يف آخـره مـن‬
‫ن نجـا مـن الـركّاب على ذلـك الجبل‬ ‫الجانـب الثـاين‪ .‬عنـد ذلـك‪ ،‬طلـع َمـ ْ‬
‫إىل الجزيـرة‪ ،‬وانتشروا فيهـا وقـد ذهلت عقولهـم من ذلك‪ ،‬وصـاروا مثل‬
‫املجانين مـن كثرة مـا أروا يف الجزيرة من األمتعة واألموال عىل سـاحل‬
‫البحـر‪ .‬وقـد رأيت‪ ،‬يف وسـط تلك العني‪ ،‬شـيئاً كثريا ً من أصنـاف الجواهر‬
‫واملعـادن واليواقيـت والآللـئ الكبـار امللوكيـة‪ ،‬وهـي مثـل الحصى يف‬
‫مجـاري املـاء يف تلـك الغيطـان‪ .‬وجميـع أرض تلك العني تبرق من كرثة‬
‫مـا فيهـا مـن املعـادن وغريهـا‪ .‬ورأينـا كثيرا ً يف تلـك الجزيـرة مـن أعلى‪:‬‬
‫العـود الصينـي‪ ،‬والعـود القماري‪ ،‬ويف تلـك الجزيـرة عين نابعـة مـن‬
‫صنـف العنبر الخـام وهـو يسـيل مثل الشـمع على جانب تلـك العني من‬
‫شـدّة حـ ّر الشـمس‪ ،‬وميتد عىل سـاحل البحر فتطلع الهوايـش من البحر‬
‫وتبتلعـه ثـم تنـزل يف البحـر‪ ،‬فيحمى يف بطونهـا فتقذفه مـن أفواهها يف‬
‫يتغي لونـه وأحوالـه فتقذفه‬‫ِّ‬ ‫البحـر فيجمـد على وجـه املـاء‪ ،‬وعند ذلـك‬
‫جـار الذيـن يعرفونـه‬ ‫األمـواج إىل جانـب البحـر‪ ،‬فيأخـذه السـ ّواحون والت ّ‬
‫فيبيعونـه‪ .‬أ ّمـا العنبر الخالـص مـن االبتلاع فإنـه يسـيل عىل جانـب تلك‬
‫العين‪ ،‬ويتج َّمـد بأرضـه‪ ،‬وإذا طلعـت عليـه الشـمس يسـيح وتبقـى منـه‬
‫رائحـة ذلـك الـوادي كلّـه مثـل املسـك‪ ،‬وإذا زالـت عنـه الشـمس يجمـد‪.‬‬
‫وذلـك املـكان‪ ،‬الـذي هـو فيـه هـذا العنبر الخـام‪ ،‬ال يقـدر أحـد على‬
‫دخولـه‪ ،‬وال يسـتطيع سـلوكه فـإن الجبل محـاط بتلك الجزيـرة‪ ،‬وال يقدر‬
‫أحـد على صعـود الجبـل‪ .‬ومل نـزل دائريـن يف تلـك الجزيـرة نتفـ َّرج عىل‬
‫متحيرون يف أمرنا‪ ،‬وفيام‬
‫ِّ‬ ‫مـا خلـق اللـه (تعاىل) فيهـا من األرزاق‪ ،‬ونحـن‬
‫نـراه‪ ،‬وعندنـا خـوف شـديد‪ .‬وقـد جمعنـا عىل جانـب الجزيـرة شـيئاً قليالً‬
‫كل يـوم أو يومني‪ ،‬أكلـة واحدة‪،‬‬‫مـن الـزاد‪ ،‬فرصنـا نوفِّـره ونـأكل منه‪ ،‬يف ّ‬
‫ونحـن خائفـون مـن أن يفـرغ الـزاد م ّنـا فنمـوت كمـدا ً مـن شـدّة الجـوع‬
‫وكل مـن مـات م ّنـا نغسـله ونكفِّنـه يف ثيـاب وقامش مـن الذي‬ ‫والخـوف‪ّ ،‬‬
‫يبق‬
‫يطرحـه البحـر على جانـب الجزيـرة‪ ،‬حتـى مـات م ّنا خلـق كثير‪ ،‬ومل َ‬
‫إل جامعـة قليلـة فضعفنـا بوجـع البطـن مـن البحـر‪ ،‬وأقمنـا مـدّة قليلة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وكل من مـات منهم‬ ‫فمات جميـع أصحـايب ورفقـايئ‪ ،‬واحـدا ً بعد واحـد‪ّ ،‬‬

‫‪87‬‬
‫ندفنـه‪ .‬وبقيـت يف تلـك الجزيـرة وحـدي‪ ،‬وبقـي معـي زاد قليـل‪ ،‬بعـد أن‬
‫مت قبـل رفقـايئ‪ ،‬وكانوا‬
‫كان كثيرا ً‪ ،‬فبكيـت على نفسي وقلـت‪ :‬يـا ليتني ّ‬
‫لي العظيـم‪.‬‬
‫إل باللـه الع ّ‬
‫غسـلوين ودفنـوين‪ ،‬فلا حـول وال قـ ّوة ّ‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)550‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا دفـن رفقـاءه جميعـاً‪ ،‬وصـار يف الجزيـرة وحـده‪ ،‬قـال‪:‬‬
‫ثـم إين أقمـت مـ ّد ًة يسيرة‪ ،‬ثـم قمـت حفـرت لنفسي حفـرة عميقـة يف‬
‫جانـب تلـك الجزيـرة‪ ،‬وقلـت يف نفسي‪ :‬إذا ضعفـت‪ ،‬وعلمـت أن املـوت‬
‫قـد أتـاين‪ ،‬أرقـد يف هـذا القبر فأمـوت فيـه‪ ،‬ويبقـى الريـح يسـفي الرمـل‬
‫لي‪ ،‬فيغطّينـي وأصير مدفونـاً فيه‪ .‬ورصت ألـوم نفيس على قلّة عقيل‪،‬‬ ‫ع َّ‬
‫وخروجـي مـن بلادي ومدينتي‪ ،‬وسـفري إىل البلاد بعد الذي قاسـيته أ َّوالً‬
‫إل وأقايس فيها‬ ‫وثانيـاً وثالثـاً ورابعاً وخامسـاً‪ ،‬وما من سـفرة من األسـفار ّ‬
‫أشـق وأصعب مـن األهوال التي قبلها‪ ،‬ومـا أصدق بالنجاة‬ ‫ّ‬ ‫أهواالً وشـدائد‬
‫والسلامة وأتـوب عـن السـفر يف البحر وعن عـودي إليه‪ ،‬ولسـت محتاجاً‬
‫ملـال وعنـدي يشء كثري‪ ،‬والـذي عندي ال أقدر أن أفنيـه‪ ،‬وال أض ِّيع نصفه‬
‫يف باقـي عمـري‪ ،‬وعنـدي مـا يكفينـي وزيـادة‪ .‬ثـم إين تفكَّـرت يف نفسي‬
‫وقلـت‪ :‬واللـه‪ ،‬البـ ّد أن هـذا النهـر لـه أ ّول وآخر‪ ،‬والبـ ّد له من مـكان يخرج‬
‫منـه إىل العمار‪ .‬والـرأي السـديد عنـدي أن أعمـل يل فلـكاً صغيرا ً على‬
‫قـدر مـا أجلـس فيـه‪ ،‬وأنـزل وألقيـه يف هـذا النهـر وأسير بـه فـإن وجدت‬
‫ـت‬‫أنـج بـإذن اللـه (تعـاىل)‪ ،‬وإن مل أجـد يل مخلصـاً أ ُم ْ‬
‫خالصـاً الـذي هـو ُ‬
‫أتحسر على نفيس‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫داخـل هـذا النهـر‪ ،‬أحسـن مـن هـذا املـكان‪ ،‬ورصت‬
‫ثـم إين قمـت وسـعيت‪ ،‬فجمعـت أخشـاباً مـن تلـك الجزيـرة مـن خشـب‬
‫العـود الصينـي والقماري‪ ،‬وشـددتها على جانـب البحـر بحبـال املراكب‬
‫التـي كُسرت‪ ،‬وجئـت بألـواح مسـاوية مـن ألـواح املراكـب‪ ،‬ووضعتهـا‬
‫أقـل‬
‫يف ذلـك الخشـب‪ ،‬وجعلـت ذلـك الفُلـك يف عـرض ذلـك النهـر أو ّ‬
‫مـن عرضـه‪ ،‬وشـددته ط ِّيبـاً مكينـاً‪ ،‬وقـد أخـذت معـي مـن تلـك املعـادن‬
‫والجواهـر واألمـوال واللؤلـؤ الكبير الـذي هـو مثـل الحصى‪ ،‬وغير ذلـك‬

‫‪88‬‬
‫مـن الـذي يف تلـك الجزيـرة‪ ،‬وشـيئاً مـن العنبر الخـام الخالـص الطيِّـب‪،‬‬
‫ووضعتـه يف ذلـك الفُلـك‪ ،‬ووضعـت فيه جميع مـا جمعته مـن الجزيرة‪،‬‬
‫وأخـذت معـي جميـع مـا كان باقيـاً مـن الـزاد‪ ،‬ثـم إين ألقيـت ذلـك الفُلك‬
‫يف هـذا النهـر وجعلت له خشـبتني على جنبيه مثل املجاديـف‪ ،‬وعملت‬
‫بقـول بعض الشـعراء‪:‬‬

‫ن بناها‬
‫وخل الدا َر تنعي َم ْ‬
‫ِّ‬ ‫ح ْل عن مكانٍ فيه ضي ٌ‬
‫م‬ ‫تر َّ‬
‫ونفسك مل تج ْد نفساً سواها‬ ‫فإنك واج ٌد أرضاً بأرض‬
‫فكل مصيبة يأيت انتهاها‬ ‫وال تجز ْع لحادثِة الليايل‬
‫فليس ميوتُ يف ٍ‬
‫أرض سواها‬ ‫ٍ‬
‫بأرض‬ ‫ومن كانت منيَّته‬
‫ٍ‬
‫لنفس ناصحة سواها‬ ‫فام‬ ‫م‬
‫وال تبعث رسولك يف مه ّ‬
‫ورست بذلـك الفلـك يف النهـر‪ ،‬وأنـا متفكِّر فيام يصري إليـه أمري‪ ،‬ومل‬
‫أزل سـائرا ً إىل املـكان الـذي يدخل فيه النهر تحت ذلـك الجبل‪ ،‬فأدخلت‬
‫سـنة من‬‫الفلـك يف هـذا املـكان وقـد رصت يف ظلمـة شـديدة‪ ،‬فأخذتنـي ِ‬
‫النـوم مـن شـدّة القهـر‪ ،‬فنمـت على وجهـي يف الفلـك‪ ،‬ومل يـزل سـائرا ً‬
‫يب وأنـا نائـم‪ ،‬ال أدري بكثير وال قليـل حتـى اسـتيقظت فوجـدت نفسي‬
‫عينـي فرأيـت مكانـاً واسـعاً‪ ،‬وذلك الفُلـك مربوط عىل‬ ‫َّ‬ ‫يف النـور‪ ،‬ففتحـت‬
‫فلما رأوين قمـت نهضوا‬‫ّ‬ ‫جزيـرة‪ ،‬وحـويل جامعـة مـن الهنـود والحبشـة‪،‬‬
‫ن أنـه حلم‪ ،‬وأن‬
‫يل وكلَّمـوين بلسـانهم فلـم أعـرف ما يقولـون‪ ،‬وبقيت أظ ّ‬ ‫إ َّ‬
‫فلما كلّموين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هـذا يف املنـام من شـدّة مـا كنت فيه مـن الضيـق والقهر‪.‬‬
‫ومل أعـرف حديثهـم‪ ،‬ومل أر ّد عليهـم جوابـاً تقـدَّم إ َّ‬
‫يل رجـل منهـم‪ ،‬وقـال‬
‫يل بلسـان عـريب‪ :‬السلام عليـك‪ ،‬يـا أخانا‪ .‬من أنـت؟ ومن أيـن جئت؟ وما‬
‫سـبب مجيئـك إىل هـذا املـكان؟ نحـن أصحـاب الـزرع والغيطـان‪ ،‬وجئنـا‬
‫لنسـقي غيطاننـا وزرعنـا فوجدنـاك نامئـاً يف الفُلـك‪ ،‬فأمسـكناه وربطنـاه‬
‫عندنـا‪ ،‬حتـى تقـوم على مهلـك‪ ،‬فأخربنـا‪ :‬مـا سـبب وصولـك إىل هـذا‬
‫املـكان؟ فقلـت لـه بالله عليـك‪ ،‬يا سـيِّدي‪ ،‬ائتني بيشء مـن الطعام فإين‬

‫‪89‬‬
‫عما تريـد‪ ،‬فـأرسع وأتـاين بالطعـام‪ ،‬فأكلـت‬ ‫جائـع‪ ،‬وبعـد ذلـك اسـألني ّ‬
‫ن روعي‪ ،‬وازداد شـبعي و ُردَّت يل روحي‪،‬‬ ‫حتى شـبعت‪ ،‬واسترحت‪ ،‬وسـك َ‬
‫كل حـال‪ ،‬وفرحـت بخروجـي من ذلـك النهر‬ ‫فحمـدت اللـه (تعـاىل) على ّ‬
‫ووصـويل إليهـم‪ ،‬وأخربتهـم بجميـع مـا جـرى يل من أ َّولـه إىل آخـره‪ ،‬وما‬
‫لقيتـه يف ذلـك النهـار وضيقه‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)551‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا طلـع مـن الفلك على جانب الجزيـرة‪ ،‬ورأى فيهـا جامعة من‬
‫بقصته‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الهنود والحبشـة‪ ،‬واستراح من تعبه‪ ،‬سـألوه عن خربه فأخربهم‬
‫ثـم إنهـم تكلَّمـوا فيما بينهـم‪ ،‬وقالـوا‪ :‬البـ َّد أن نأخـذه معنـا‪ ،‬ونعرضـه‬
‫على ملكنـا ليخبره مبـا جـرى لـه‪ .‬قـال‪ :‬فأخـذوين معهـم وحملـوا معـي‬
‫الفلـك بجميـع ما فيـه من املـال والنـوال والجواهر واملعـادن واملصاغ‪،‬‬
‫حـب يب‪،‬‬ ‫لي ور َّ‬
‫وأدخلـوين على ملكهـم‪ ،‬وأخبروه مبـا جـرى‪ ،‬فسـلَّم ع َّ‬
‫وسـألني عـن حـايل ومـا اتَّفـق يل من األمـور‪ ،‬فأخربتـه بجميع مـا كان من‬
‫جب امللـك من هـذه الحكاية‬ ‫أمـري‪ ،‬ومـا القيتـه مـن أ َّولـه إىل آخـره‪ ،‬فتع َّ‬
‫غايـة العجـب‪ ،‬وه َّنـأين بالسلامة‪ .‬عنـد ذلـك‪ ،‬قمـت وأخرجـت مـن ذلـك‬
‫الفلـك شـيئاً كثيرا ً مـن املعـادن والجواهـر والعـود والعنبر الخـام‪،‬‬
‫وأهديتـه إىل امللـك‪ .‬فقبلـه منـي وأكرمني إكرامـاً زائـدا ً‪ ،‬وأنزلني يف مكان‬
‫عنـده‪ ،‬وقـد صاحبت أخيارهـم وأكابرهم‪ ،‬وأع ّزوين معـ ّزة عظيمة‪ ،‬ورصت‬
‫ال أفـارق دار امللـك‪ ،‬وصـار الـواردون إىل تلـك الجزيـرة يسـألونني عـن‬
‫أمـور بلادي‪ ،‬فأخربهم بهـا‪ ،‬وكذلك أسـألهم عن أمور بالدهـم‪ ،‬فيخربوين‬
‫بهـا‪ ،‬إىل أن سـألني ملكهـم‪ ،‬يومـاً مـن األيَّـام‪ ،‬عـن أحـوال بلادي‪ ،‬وعـن‬
‫أحـوال حكـم الخليفة يف بلاد مدينة بغداد‪ ،‬فأخربتـه بعدله يف أحكامه‪،‬‬
‫جـب مـن أمـوره‪ ،‬وقـال يل‪ :‬واللـه‪ ،‬إن هـذا الخليفـة لـه أمـور عقليـة‬ ‫فتع َّ‬
‫وأحوال ُم ْرضية‪ ،‬وأنت قد ح َّببتني فيه‪ ،‬ومرادي أن أج ِّهز له هدية وأرسـلها‬
‫معـك إليـه‪ .‬فقلت‪ :‬سـمعاً وطاعـة‪ ،‬يا موالنا‪ ،‬سـوف أوصلها إليـه‪ ،‬وأخربه‬
‫محـب صـادق‪ .‬ومل أزل مقيماً عنـد ذلـك امللـك‪ ،‬وأنـا يف غايـة الع ّز‬ ‫ّ‬ ‫أنـك‬

‫‪90‬‬
‫واإلكـرام وحسـن املعيشـة‪ ،‬مـدّة مـن الزمـان‪ ،‬إىل أن كنت جالسـاً‪ ،‬يوماً‬
‫مـن األيَّـام‪ ،‬يف دار امللـك‪ ،‬فسـمعت بخرب جامعة من تلـك املدينة أنهم‬
‫ج َّهـزوا لهـم مركبـاً يريـدون السـفر فيـه إىل نواحـي مدينة البصرة‪ ،‬فقلت‬
‫يف نفسي‪ :‬ليـس يل أوفـق من السـفر مع هـؤالء الجامعـة‪ ،‬فأرسعت من‬
‫وقتـي وسـاعتي‪ ،‬وقبَّلـت يـد ذلـك امللـك‪ ،‬وأعلمته بـأن مرادي السـفر مع‬
‫الجامعـة يف املركـب الـذي ج َّهزوه‪ ،‬ألين اشـتقت إىل أهيل وبالدي‪ ،‬فقال‬
‫يل امللـك‪ :‬الـرأي لـك‪ ،‬وإن شـئت اإلقامـة عندنـا فعلى الـرأس والعين‪،‬‬
‫وقـد حصـل لنـا أنسـك‪ ،‬فقلـت‪ :‬واللـه‪ ،‬يـا سـ ّيدي‪ ،‬لقـد غمرتنـي بجميلـك‬
‫فلما سـمع كالمـي‬‫ّ‬ ‫وإحسـانك‪ ،‬لكنـي اشـتقت إىل أهلي وبلادي وعيـايل‪.‬‬
‫جـار الذيـن ج ّهزوا املركب‪ ،‬وأوصاهم يب‪ ،‬ووهب يل شـيئاً كثريا ً‬ ‫أحضر الت ّ‬
‫مـن عنـده‪ ،‬ودفـع عنـي أجـرة املركـب‪ ،‬وأرسـل معـي هديّـة عظيمـة إىل‬
‫الخليفـة هـارون الرشـيد يف مدينـة بغـداد‪ .‬ثـم إين ودَّعت امللـك‪ ،‬ودّعت‬
‫جار‪،‬‬‫جميـع أصحـايب الذيـن كنت أتـردَّد عليهم‪ ،‬ثم نزلـت املركب مـع الت ّ‬
‫ورسنـا وقـد طـاب لنا الريح والسـفر‪ ،‬ونحـن متوكِّلون عىل الله (سـبحانه‪،‬‬
‫وتعـاىل)‪ .‬ومل نـزل مسـافرين مـن بحـر إىل بحـر ومـن جزيـرة إىل جزيـرة‬
‫حتـى أن وصلنـا بالسلامة‪ -‬بـإذن اللـه‪ -‬إىل مدينـة البصرة‪ ،‬فطلعـت مـن‬
‫وليال حتـى ج َّهزت نفيس‪،‬‬
‫َ‬ ‫املركـب‪ .‬ومل أزل مقيماً بـأرض البصرة أيّامـاً‬
‫جهـت إىل مدينـة بغـداد (دار السلام) فدخلـت‬ ‫وحملـت حمـويل‪ ،‬ثـم تو َّ‬
‫على الخليفـة هـارون الرشـيد‪ ،‬وقدَّمـت إليـه تلـك الهديّـة‪ ،‬وأخربتـه‬
‫بجميـع مـا جـرى يل‪ .‬ثـم خ َّزنـت جميـع أمـوايل وأمتعتي‪ ،‬ودخلـت حاريت‬
‫فجـاءين أهلي وأصحـايب‪ ،‬وف َّرقـت الهدايـا عىل جميـع أهلي‪ ،‬وتصدَّقت‪،‬‬
‫يل الخليفـة فسـألني عـن سـبب‬ ‫ووهبـت‪ .‬وبعـد مـدة مـن الزمـان‪ ،‬أرسـل إ َّ‬
‫تلـك الهديّـة‪ ،‬ومـن أيـن هـي‪ ،‬فقلـت‪ :‬يـا أمير املؤمنين‪ ،‬واللـه ال أعـرف‬
‫للمدينـة التـي هـي منهـا اسماً وال طريقـاً‪ ،‬ولكـن مل ّـا غـرق املركـب الـذي‬
‫كنـت فيـه طلعـت عىل جزيـرة‪ ،‬وصنعت يل فُلـكاً‪ ،‬ونزلت فيـه يف نهر كان‬
‫يف وسـط الجزيـرة‪ ،‬ثـم أخربتـه مبـا جـرى يل فيهـا‪ ،‬وكيـف كان خلايص‬
‫مـن ذلـك النهـر إىل تلـك املدينـة‪ ،‬ومبـا جـرى يل فيهـا‪ ،‬وبسـبب إرسـال‬
‫جـب مـن ذلـك غايـة العجـب‪ ،‬وأمـر املؤ ِّرخـون أن يكتبـوا‬ ‫الهديـة‪ ،‬فتع َّ‬

‫‪91‬‬
‫كل مـن رآهـا‪ ،‬ثم إنـه أكرمني‬‫حكايتـي‪ ،‬ويجعلوهـا يف خزائنـه ليعتبر بهـا ّ‬
‫إكرامـاً زائـدا ً‪ .‬أقمـت يف مدينة بغـداد عىل ما كنت عليـه يف الزمن األ َّول‪،‬‬
‫ونسـيت جميـع مـا جـرى يل وما قاسـيته مـن أ ّولـه إىل آخـره‪ ،‬ومل أزل يف‬
‫لـذّة عيـش ولهـو وطـرب‪ .‬وهـذا مـا كان من أمـري يف السـفرة السادسـة‪،‬‬
‫يـا إخـواين‪ .‬وإن شـاء اللـه (تعـاىل)‪ ،‬أحكي لكـم‪ ،‬يف غـد‪ ،‬حكايـة السـفر‬
‫السـابعة‪ ،‬فإنهـا أعجـب وأغـرب مـن هـذه السـفرات‪ ،‬ثـم إنـه أمـر مبـ ّد‬
‫الحمل مبئة‬‫ّ‬ ‫السماط‪ ،‬وتعشّ ـوا عنده‪ ،‬وأمر السـندباد البحري للسـندباد‬
‫جبـون من ذلك‬ ‫مثقـال مـن الذهـب‪ ،‬فأخذهـا وانرصف الجامعـة وهم متع ِّ‬
‫غايـة العجب‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫الحكاية السابعة‬
‫(السفرة السابعة)‬

‫ويف الليلـة (‪ ،)552‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬


‫كل واحـد إىل حـال‬ ‫البحـري مل ّـا حكى حكايـة سـفرته السادسـة‪ ،‬وراح ّ‬
‫صلى الصبـح‪ ،‬وجـاء إىل‬ ‫ّ‬ ‫الحمال يف منزلـه‪ ،‬ثـم‬
‫ّ‬ ‫سـبيله‪ ،‬بـات السـندباد‬
‫فلما تكلَّمـوا ابتـدأ السـندباد‬
‫ّ‬ ‫منـزل السـندباد البحـري ثـم أقبـل الجامعـة‪.‬‬
‫البحـري بالـكالم يف حكايـة السـفرة السـابعة‪ ،‬وقـال‪ :‬اعلمـوا‪ -‬يـا جامعـة‪-‬‬
‫أين مل ّـا رجعـت مـن السـفرة السادسـة‪ ،‬وعـدت لِما كنـت عليـه يف الزمـن‬
‫األ َّول مـن البسـط واالنشراح واللهـو والطـرب‪ ،‬أقمـت على تلـك الحالـة‬
‫مـدّة مـن الزمـان وأنـا متواصـل الهناء والسرور ليلاً ونهارا ً‪ ،‬وقـد حصل يل‬
‫مكاسـب كثيرة وفوائـد عظيمـة‪ ،‬فاشـتاقت نفسي إىل الفرجـة يف البلاد‪،‬‬
‫جـار وسماع األخبـار‪ ،‬فهممـت بذلـك األمـر‬ ‫وإىل ركـوب البحـر و ِع ْ‬
‫شرة الت ّ‬
‫حريـة مـن األمتعـة الفاخـرة‪ ،‬وحملتهـا من مدينـة بغداد‬ ‫وحزمـت أحماالً بَ ْ‬

‫‪93‬‬
‫جار‬ ‫محضا ً للسـفر‪ ،‬وفيه جامعة مـن الت ّ‬
‫َّ‬ ‫إىل مدينـة البصرة‪ ،‬فرأيـت مركبـاً‬
‫العظـام فنزلـت معهم واستأنسـت بهـم‪ ،‬ورسنا بسلامة وعافيـة‪ ،‬قاصدين‬
‫السـفر‪ ،‬وقـد طـاب لنـا الريـح حتـى وصلنـا إىل مدينـة الصين‪ ،‬ونحـن يف‬
‫غايـة الفـرح والسرور نتحـدَّث معـاً يف أمـر السـفر واملتجـر‪ .‬فبينما نحـن‬
‫هب مـن مقـدم املركب‪ ،‬ونـزل علينا‬ ‫على هـذه الحالـة‪ ،‬وإذا بريـح عاصـف ّ‬
‫مطـر شـديد حتـى ابتلّينا وابتلَّت حمولنـا فغطَّينا الحمـول بالل ّباد والخيش‪،‬‬
‫رضع‬‫خوفـاً على البضاعـة من التلف باملطـر‪ ،‬ورصنا ندعو اللـه (تعاىل) ونت َّ‬
‫مم نحـن فيـه‪ .‬فعند ذلـك‪ ،‬قام ريِّـس املركب‪،‬‬ ‫إليـه يف كشـف مـا نـزل بنـا ّ‬
‫وشـ َّد حزامـه وتشـ َّمر وطلـع على الصـاري‪ ،‬وصـار يلتفـت ميينـاً وشماالً‪،‬‬
‫وبعـد ذلـك نظـر إىل أهـل املركـب ولطـم عىل وجهـه ونتـف لحيتـه‪ ،‬فقلنا‪:‬‬
‫مما وقعنا‪،‬‬ ‫يـا ريِّـس‪ ،‬مـا الخرب؟ فقـال لنا‪ :‬اطلبـوا من الله (تعـاىل) النجاة ّ‬
‫وابكـوا على أنفسـكم‪ ،‬ليودِّعـوا أحدكـم اآلخـر‪ ،‬واعلمـوا أن الريـح قد غلب‬
‫علينـا ورمانـا يف آخـر بحـار الدنيـا‪ .‬ثـم إن الريِّـس نـزل مـن فـوق الصـاري‪،‬‬
‫وفتـح صندوقـه وأخرج منه كيسـاً قطنـاً وفكَّه وأخرج منه ترابـاً مثل الرماد‪،‬‬
‫وبَلَّـه باملـاء‪ ،‬وصبر عليـه قليلاً وشـ َّمه‪ ،‬ثـم إنـه أخرج مـن ذلـك الصندوق‬
‫كتابـاً صغيرا ً وقـرأ فيـه‪ ،‬وقـال لنـا‪ :‬اعلمـوا‪ -‬يـا ركّاب‪ -‬أن يف هـذا الكتـاب‬
‫ينـج منهـا‪ ،‬بـل‬‫كل مـن وصـل إىل هـذه األرض مل ُ‬ ‫يـدل على أن ّ‬‫أمـرا ً عجيبـاً ّ‬
‫يهلـك‪ ،‬وهـذه األرض تسـ ّمى (إقليـم امللـوك)‪ ،‬وفيهـا قبر سـيِّدنا سـليامن‬
‫فكل‬
‫بـن داود (عليهما السلام)‪ ،‬وفيـه حيّات عظـام الخلقة هائلـة املنظر‪ّ ،‬‬
‫مركـب وصـل إىل هـذا اإلقليـم يطلـع لـه حـوت مـن البحـر فيبتلعـه بجميع‬
‫جبنـا غايـة العجـب مـن‬ ‫فلما سـمعنا هـذا الـكالم مـن الريِّـس تع َّ‬‫ّ‬ ‫مـا فيـه‪.‬‬
‫م الريِّـس كالمـه لنـا حتـى صـار املركـب يرتفَّـع بنـا عـن‬ ‫حكايتـه‪ ،‬فلـم يُتـ ّ‬
‫املـاء‪ ،‬ثـم ينـزل‪ ،‬وسـمعنا رصخـ ًة عظيمـة مثـل الرعـد القاصـف‪ ،‬فارتعبنا‬
‫منهـا ورصنـا كاألمـوات وأيق ّنـا بالهلاك يف ذلـك الوقـت‪ ،‬وإذا بحـوت قـد‬
‫أقبـل على املركـب كالجبـل العـايل ففزعنـا منـه‪ ،‬وقـد بكينـا على أنفسـنا‬
‫جب من‬ ‫بـكا ًء شـديدا ً‪ ،‬وتجهزنـا للموت‪ ،‬ورصنـا ننظر إىل ذلك الحـوت ونتع َّ‬
‫خلقتـه الهائلـة‪ ،‬وإذا بحـوت ثـانٍ قـد أقبل علينـا‪ ،‬فام رأينا أعظـم خلق ًة منه‬
‫وال أكبر!‪ .‬فعنـد ذلـك‪ ،‬ودّع بعضنـا بعضـاً ونحـن نبكي على أرواحنـا‪ ،‬وإذا‬

‫‪94‬‬
‫بحـوت ثالـث قـد أقبـل وهـو أكبر مـن االثنين اللذيـن جاءانـا قبلـه‪ ،‬ورصنا‬
‫ال نعـي وال نعقـل وقـد اندهشـت عقولنـا مـن شـدّة الخـوف والفـزع‪ ،‬ثـم‬
‫إن هـذه الحيتـان الثالثـة صـارت تـدور حـول املركـب‪ ،‬وقـد أهـوى الحـوت‬
‫بـكل مـا فيـه‪ ،‬وإذا بريـح عظيـم ثـار فقـام املركـب‬
‫الثالـث ليبتلـع املركـب ّ‬
‫شـ ْعب عظيم‪ ،‬فانكسر وتف َّرقت جميـع األلـواح‪ ،‬وغرقت جميع‬ ‫ونـزل على ِ‬
‫لي مـن‬‫جـار والـركاب يف البحـر‪ .‬فخلعـت أنـا جميـع مـا ع َّ‬ ‫الحمـول والت ّ‬
‫لي غير ثـوب واحـد‪ ،‬ثـم عمـت قليلاً فلحقت لوحـاً من‬ ‫الثيـاب‪ ،‬ومل يبـق ع َّ‬
‫ألـواح املركـب‪ ،‬وتعلَّقـت بـه ثـم طلعت عليـه وركبتـه‪ ،‬وقد صـارت األمواج‬
‫واألريـاح تلعـب يب على وجـه املـاء وأنـا قابـض عىل ذلـك اللـوح‪ ،‬واملوج‬
‫يرفعنـي ويحطّنـي‪ ،‬وأنـا يف أشـ ّد مـا يكـون مـن املشـقّة والخـوف والجـوع‬
‫والعطـش‪ ،‬ورصت ألـوم نفسي على مـا فعلتـه‪ ،‬وقـد تعبـت نفسي بعـد‬
‫كل مـ ّرة تقـايس فيهـا‬
‫بحـري‪ ،‬أنـت مل تتـب! ّ‬
‫ّ‬ ‫الراحـة فقلـت‪ :‬يـا سـندباد‪ ،‬يـا‬
‫الشـدائد والتعـب‪ ،‬ومل تتـب عـن سـفر البحـر‪ ،‬وإن تبـت تكـذب يف التوبة‪،‬‬
‫تسـتحق جميـع مـا يحصـل لك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل مـا تلقـاه فإنـك‬ ‫ِ‬
‫فقـاس ّ‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ )553‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا غـرق يف البحـر َركـب لوحـاً مـن الخشـب‪ ،‬وقـال يف نفسـه‪:‬‬
‫لي مـن الله (تعـاىل) حتى‬ ‫وكل هـذا مقـدَّر ع ّ‬
‫أسـتحق جميـع مـا يجـري يل‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫عما أنـا فيـه مـن الطمـع‪ ،‬وهـذا الـذي أقاسـيه هـو مـن طمعـي؛ فإن‬ ‫أرجـع ّ‬
‫رجعـت إىل عقيل‪ ،‬وقلـت‪ :‬إين يف هذه‬ ‫ُ‬ ‫عنـدي مـاالً كثيرا ً‪ ،‬ثم إنـه قال‪ :‬وقد‬
‫السـفرة قـد تبـت إىل اللـه (تعـاىل) توبـة نصوحـاً عـن السـفر‪ ،‬ومـا بقيـت‬
‫ضرع إىل اللـه‬
‫عمـري أذكـره على لسـاين‪ ،‬وال يخطـر يف بـايل‪ .‬ومل أزل أت َّ‬
‫(تعـاىل)‪ ،‬وأبكي‪ .‬ثم إين تذكَّرت يف نفيس ما كنـت فيه من الراحة والرسور‬
‫واللهـو والطـرب واالنشراح‪ ،‬ومل أزل عىل هـذه الحالة أ َّول يـوم وثاين يوم‪،‬‬
‫إىل أن طلعـت على جزيـرة عظيمـة فيهـا يشء كثير مـن األشـجار واألنهار‬
‫فصرت آكل مـن مثـر تلـك األشـجار‪ ،‬وأرشب مـن مـاء تلـك األنهـار حتـى‬
‫يل روحـي‪ ،‬وقويـت ه ّمتـي‪ ،‬وانشرح صـدري‪ .‬ثـم مشـيت‬ ‫انتعشـت و ُردَّت إ َّ‬

‫‪95‬‬
‫يف الجزيـرة‪ ،‬فرأيـت يف جانبهـا الثـاين نهرا ً عظيماً من املـاء العذب‪ ،‬لكن‬
‫ذلـك النهـر يجـري جريـاً قويّـاً‪ :‬فتذكـرت أمـر الفلـك الـذي كنـت فيه سـابقاً‬
‫لعلي أنجـو من هـذا األمر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وقلـت يف نفسي‪ :‬البـ َّد أن أعمـل يل فُلـكاً مثلـه‬
‫فـإن نجـوت بـه حصـل املـراد‪ ،‬وتبـت إىل اللـه (تعـاىل) مـن السـفر‪ ،‬وإن‬
‫هلكـت ارتـاح قلبـي مـن التعـب واملشـقّة‪ .‬ثـم إين قمـت فجمعـت أخشـاباً‬
‫مـن تلـك األشـجار مـن خشـب الصنـدل العـال الـذي ال يوجـد مثلـه‪ ،‬وأنا ال‬
‫أي يشء هـو‪ .‬ومل ّـا جمعـت تلـك األخشـاب تحلَّيـت بأغصـان ونبـات‬ ‫أدري ّ‬
‫مـن هـذه الجزيـرة‪ ،‬وفتلتهـا مثـل الحبـال وشـددت بهـا الفلـك‪ ،‬وقلـت‪ :‬إن‬
‫سـلمت فمـن اللـه‪ .‬ثـم إين أنزلت يف ذلـك‪ ،‬الفلك ورست بـه يف ذلك النهر‬
‫حتـى خرجـت مـن آخـر الجزيـرة‪ ،‬ثـم بعـدت عنهـا‪ .‬ومل أزل سـائرا ً أ َّول يوم‬
‫وثـاين يـوم وثالـث يـوم‪ ،‬بعـد مفارقـة الجزيـرة‪ ،‬وأنـا نائـم ومل آكل يف هذه‬
‫املـدّة شـيئاً‪ ،‬وإذا عطشـت رشبـت مـن ذلـك النهـر‪ ،‬ورصت مثـل الفـرخ‬
‫الدايـخ مـن شـدّة التعـب والجـوع‪ ،‬حتـى انتهـى يب الفلـك إىل جبـل عـالٍ‪،‬‬
‫فلما رأيـت ذلـك خفـت على نفسي مـن الضيـق‬ ‫ّ‬ ‫والنهـر داخـل مـن تحتـه‪.‬‬
‫الـذي كنـت أنـا فيـه‪ ،‬أ ّول مـ ّرة‪ ،‬يف النهـر السـابق‪ ،‬وأردت أن أوقـف الفُلـك‬
‫وأطلـع منـه إىل جانـب الجبل‪ ،‬فغلبني املـاء‪ ،‬فجذب الفلك وأنـا فيه ونزل‬
‫بـه تحـت الجبـل‪ .‬فلما رأيت ذلـك أيقنـت بالهالك‪ ،‬وقلـت‪ :‬ال حـول وال ق ّوة‬
‫لي العظيـم‪ .‬ومل يـزل الفُلـك سـائرا ً مسـافة يسيرة‪ ،‬ثـم طلـع‬ ‫إلّ باللـه الع ّ‬
‫دوي‬
‫ّ‬ ‫دوي مثل‬ ‫ٌّ‬ ‫إىل مـكان واسـع وإذا هـو واد كبير‪ ،‬واملـاء يهـدر فيـه‪ ،‬ولـه‬
‫الرعـد‪ ،‬وجريـا ٌن مثـل جريـان الريح‪ ،‬فصرت قابضاً عىل ذلـك الفُلك بيدي‪،‬‬
‫وأنـا خائـف أن أقـع فوقـه‪ ،‬واألمـواج تلعب يب مييناً وشماالً يف وسـط ذلك‬
‫املـكان‪ .‬ومل يـزل الفلـك منحـدرا ً مـع املـاء الجـاري يف ذلك الـوادي‪ ،‬وأنا‬
‫بر‪ ،‬إىل أن رىس يب‬ ‫ال أقـدر على منعـه‪ ،‬وال أسـتطيع الدخـول به يف جهة ال ّ‬
‫فلما‬‫ّ‬ ‫على جانـب مدينـة عظيمـة املنظـر مليحـة البنـاء‪ ،‬فيهـا خلـق كثير‪.‬‬
‫رأوين وأنـا يف ذلـك الفُلـك منحـدرا ً يف وسـط النهـر مـع الت ّيـار رمـوا ع َّ‬
‫لي‬
‫الشـبكة والحبـال يف ذلـك الفلـك‪ ،‬ثـم أطلعـوا الفُلـك مـن ذلـك النهـر إىل‬
‫بر‪ ،‬فسـقطت بينهـم وأنـا مثل امليِّـت من شـدّة الجوع والسـهر والخوف‪،‬‬ ‫ال ّ‬
‫ن‪ ،‬وهو شـيخ عظيم‪،‬‬ ‫رجـل كبري يف السـ ّ‬
‫ٌ‬ ‫فتلقّـاين مـن بين هـؤالء الجامعة‬

‫‪96‬‬
‫ـب يب ورمـى يل ثيابـاً كثيرة جميلـة فسترت بهـا عوريت‪ ،‬ثـم إنه أخذين‬ ‫ح َّ‬
‫ور َ‬
‫الحمام‪ ،‬ثم جـاء يل باألرشبة والروائـح الزكية‪ ،‬ثم بعد‬ ‫ّ‬ ‫وسـار يب وأدخلنـي‬
‫الحمام أخـذين إىل بيتـه وأدخلنـي فيـه‪ ،‬ففـرح يب أهـل بيته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خروجنـا مـن‬
‫وأجلسـني يف مـكان ظريـف‪ ،‬وه َّيـأ يل شـيئاً مـن الطعـام الفاخـر‪ ،‬فأكلـت‬
‫حتـى شـبعت‪ ،‬وحمـدت‪ .‬بعـد ذلـك‪ ،‬قـدَّم يل غلامنه ما ًء سـاخناً فغسـلت‬
‫يـدي‪ ،‬وجـاءين جواريـه مبناشـف مـن الحريـر فنشَّ ـفت يـدي ومسـحت‬
‫فمـي‪ ،‬ثـم إن ذلـك الشـيخ قـام مـن وقتـه‪ ،‬وأخلى يل مكانـاً منفـردا ً وحـده‬
‫يف جانـب داره‪ ،‬وألـزم غلامنـه وجواريـه بخدمتـي وقضـاء حاجتـي وجميع‬
‫مصالحـي‪ ،‬فصـاروا يتع َّهدوننـي‪ .‬ومل أزل على هـذه الحالـة عنـده يف دار‬
‫الضيافـة‪ ،‬ثالثـة أيّـام‪ ،‬وأنـا على أكل طيِّـب ورشب طيِّـب ورائحـة طيِّبة حتى‬
‫فلما كان‬
‫ّ‬ ‫يل روحـي‪ ،‬وسـكن روعـي‪ ،‬وهـدأ قلبـي‪ ،‬وارتاحـت نفسي‪.‬‬ ‫ُردَّت إ َّ‬
‫يل الشـيخ وقـال يل‪ :‬آنسـتنا‪ ،‬يـا ولـدي‪ .‬والحمـد للـه‬ ‫اليـوم الرابـع‪ ،‬تقـدَّم إ َّ‬
‫على سلامتك‪ ،‬فهـل لـك أن تقـوم معـي إىل سـاحل البحـر‪ ،‬وتنزل السـوق‬
‫فسـكت‬
‫ّ‬ ‫فتبيـع البضاعـة وتقبـض مثنها؛ لعلَّك تشتري بها شـيئاً تتَّجر فيه؟‬
‫قليلاً‪ ،‬وقلـت يف نفسي‪ :‬ليـس معـي بضاعـة‪ ،‬وما سـبب هـذا الـكالم؟ قال‬
‫م وال تفكِّـر‪ ،‬فقـم بنـا إىل السـوق‪ ،‬فـإن رأينـا مـن‬
‫الشـيخ‪ :‬يـا ولـدي‪ ،‬ال تهتـ ّ‬
‫يعطيـك يف بضاعتـك مثنـاً يرضيـك أقبضـه لـك‪ ،‬وإن مل يجـئ فيهـا يشء‬
‫يرضيـك أحفظهـا لك عنـدي يف حواصيل‪ ،‬حتـى تجيء أيّام البيـع والرشاء‪.‬‬
‫أي يشء تكون هذه‬ ‫فتفكَّـرت يف أمـري‪ ،‬وقلـت لعقلي‪ :‬طا ِو ْعـه‪ ،‬حتى تنظـر َّ‬
‫البضاعـة‪ ،‬ثـم قلـت لـه‪ :‬سـمعاً وطاعـة‪ ،‬يـا ع ّمـي الشـيخ‪ .‬والـذي تفعلـه‬
‫فيـه الربكـة‪ ،‬وال ميكننـي مخالفتـك يف يشء‪ ،‬ثـم جئـت معـه إىل السـوق‬
‫فـك الفُلـك الـذي جئت فيـه‪ ،‬وهو من خشـب الصنـدل وأطلق‬ ‫فوجدتـه قـد ّ‬
‫املنادي‪.‬‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح‪ ،‬فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)554‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا ذهـب مـع الشـيخ إىل شـاطئ البحـر‪ ،‬ورأى الفلـك الـذي‬
‫جار‪،‬‬
‫جـاء فيـه من خشـب الصنـدل مفكـوكاً‪ ،‬ورأى الـدلّ ل يدلِّـل عليـه الت ّ‬

‫‪97‬‬
‫وفتحـوا بـاب سـعره وتزايـدوا فيـه إىل أن بلغ مثنـه ألف دينـار‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫جـار عـن الزيـادة‪ ،‬فالتفـت إىل الشـيخ وقـال‪ :‬اسـمع‪ ،‬يـا ولدي‪،‬‬ ‫توقَّـف الت ّ‬
‫هـذا سـعر بضاعتـك يف مثـل هـذه األيّـام‪ ،‬فهـل تبيعهـا بهـذا السـعر أم‬
‫تصبر وأنـا أحفظهـا لـك عنـدي يف حواصلي حتـى يجـيء أوان زيادتهـا‬
‫يف الثمـن‪ ،‬فنبيعهـا لـك؟ فقلـت لـه‪ :‬يـا سـيِّدي‪ ،‬األمـر أمـرك‪ ،‬فافعـل مـا‬
‫تريـد‪ .‬فقـال‪ :‬ياولـدي‪ ،‬أتبيعنـي هـذا الخشـب بزيادة مئـة دينـار ذهباً فوق‬
‫جـار؟ فقلـت له‪ :‬نعـم‪ ،‬بعتـك‪ .‬ثم قبضـت الثمـن‪ .‬فعند‬ ‫مـا أعطـى فيـه الت ّ‬
‫ذلـك‪ ،‬أمـر غلامنـه بنقـل الخشـب إىل حواصلـه‪ ،‬ثـم إين رجعـت معه إىل‬
‫بيتـه‪ ،‬فجلسـنا و َعـ َّد يل جميـع مثـن ذلـك الخشـب‪ ،‬وأحضر يل أكياسـاً‬
‫ووضـع املـال فيهـا وقفـل عليهـا بقفـل حديـد‪ ،‬وأعطـاين مفتاحـه‪ .‬وبعـد‬
‫مـدّة أيّـام وليـالٍ‪ ،‬قال الشـيخ‪ :‬يـا ولدي‪ ،‬إين أعرض عليك شـيئاً‪ ،‬وأشـتهي‬
‫أن تطاوعنـي فيـه‪ ،‬فقلـت لـه‪ :‬ومـا ذاك األمـر؟ فقـال يل‪ :‬اعلـم أين بقيـت‬
‫ن ظريفة‬ ‫ن‪ ،‬وليـس يل ولد ذكر‪ ،‬وعنـدي بنت صغرية السـ ّ‬ ‫رجلاً كبير السـ ّ‬
‫الشـكل‪ ،‬لهـا مـال كثير وجمال‪ ،‬فأريـد أن أز ِّوجهـا لـك وتقعـد معهـا‬
‫يف بالدنـا‪ ،‬ثـم إين أملِّـكك جميـع مـا هـو عنـدي‪ ،‬ومـا متلكـه يـدي‪ ،‬فـإين‬
‫فسـكت‪ ،‬ومل أتكلَّـم‪ .‬فقـال‬
‫ُّ‬ ‫أصبحـت رجلاً كبيرا ً‪ ،‬وأنـت تقـوم مقامـي‪.‬‬
‫يل‪ :‬أطعنـي‪ ،‬يـا ولـدي‪ ،‬يف الـذي أقولـه لـك‪ ،‬فـإن مـرادي لك الخير‪ ،‬فإن‬
‫أطعتنـي ز َّوجتـك ابنتـي‪ ،‬ورصت مثـل ولـدي‪ ،‬وجميـع مـا يف يـدي ومـا هو‬
‫جارة والسـفر إىل بلادك فلن مينعك أحد‪،‬‬ ‫ملكي يصير لك‪ ،‬وإن أردت الت ّ‬
‫وهـذا لـك تحـت يـدك‪ ،‬فافعـل بـه مـا تريـد وما تختـاره‪ .‬فقلـت لـه‪ :‬والله‪،‬‬
‫يـا ع ّمـي الشـيخ‪ ،‬أنـت رصت مثـل والـدي‪ ،‬وأنـا قاسـيت أهواالً كثيرة‪ ،‬ومل‬
‫يبـق يل رأي وال معرفـة‪ ،‬فاألمـر أمـرك يف جميـع ما تريد‪ .‬فعنـد ذلك‪ ،‬أمر‬
‫الشـيخ غلامنـه بإحضـار القـايض والشـهود‪ ،‬فأحرضوهـم وز َّوجنـي ابنته‪،‬‬
‫وعمـل لنـا وليمـة عظيمة وفرحاً كبيرا ً‪ ،‬وأدخلنـي عليها‪ ،‬فرأيتهـا يف غاية‬
‫الحسـن والجمال بقـد ٍر واعتـدال‪ ،‬وعليهـا يشء كثير مـن أنـواع الحلي‬
‫والحلـل واملعـادن واملصـاغ والعقـود والجواهـر الثمينـة التـي قيمتهـا‬
‫فلما دخلـت عليها‬‫ّ‬ ‫ألـوف األلـوف مـن الذهـب‪ ،‬وال يقـدر أحـد على مثنها‪.‬‬
‫أعجبتنـي‪ ،‬ووقعـت املحبّـة بيننـا‪ ،‬وأقمـت معهـا مـدّة مـن الزمـان وأنـا‬

‫‪98‬‬
‫تـوف والدهـا إىل رحمـة اللـه (تعـاىل)‬ ‫ِّ‬ ‫يف غايـة األنـس واالنشراح‪ ،‬وقـد‬
‫فجهزنـاه ودفَ ّنـاه‪ .‬ثـم وضعـت يـدي على مـا كان معـه‪ ،‬وصـار جميـع‬
‫جار مرتبته ألنه كان‬ ‫وولين الت ّ‬
‫غلامنـه غلماين وتحت يدي‪ ،‬ويف خدمتـي‪ّ ،‬‬
‫إل مبعرفتـه وإذنـه؛ ألنـه شـيخهم‪ ،‬ورصت‬ ‫كبريهـم‪ ،‬وال يأخـذ أحـد شـيئاً ّ‬
‫فلما خالطـت أهـل تلـك املدينـة وجدتهـم تنقلـب حالتهم‬ ‫ّ‬ ‫أنـا يف مكانـه‪.‬‬
‫كل شـهر‪ ،‬فتظهـر لهـم أجنحـة يطيرون بهـا إىل عنـان السماء‪ ،‬وال‬ ‫يف ّ‬
‫يبقـى متخلِّفـاً يف ذلـك املدينـة غري األطفال والنسـاء! فقلـت يف نفيس‪:‬‬
‫إذا جـاء رأس الشـهر أسـأل أحدا ً منهم‪ ،‬فلعلَّهـم يحملوين معهم إىل أين‬
‫تغيت ألوانهـم‪ ،‬وانقلبت صورهم‪،‬‬ ‫فلما جاء رأس ذلك الشـهر َّ‬ ‫َّ‬ ‫يروحـون‪،‬‬
‫فدخلـت على واحـد منهـم وقلـت لـه‪ :‬باللـه عليـك‪ ،‬احملنـي معـك حتـى‬
‫أتفـ َّرج‪ ،‬وأعـود معكـم‪ ،‬فقـال يل‪ :‬هـذا يشء ال ميكـن‪ .‬فلـم أزل أتدخَّـل‬
‫لي بذلـك‪ ،‬وقـد رافقتهـم وتعلَّقـت بـه‪ ،‬فطـار يب يف‬ ‫عليـه‪ ،‬حتـى أنعـم ع َّ‬
‫الهـواء‪ ،‬ومل أُعلِـم أحـدا ً مـن أهـل بيتـي وال مـن غلماين وال مـن أصحايب‪.‬‬
‫ومل يـزل طائـرا ً يب ذلـك الرجـل‪ ،‬وأنـا على أكتافـه حتـى علا يب يف الج ّو‪،‬‬
‫جبـت مـن ذلـك وقلـت‪:‬‬ ‫فسـمعت تسـبيح األملاك يف قبّـة األفلاك‪ ،‬فتع َّ‬
‫م التسـبيح حتـى خرجـت نـار مـن‬ ‫سـبحان اللـه‪ ،‬والحمدللـه! فلـم أسـتت ّ‬
‫السماء كادت تحرقهـم‪ ،‬فنزلـوا جميعـاً‪ ،‬وألقـوين على جبـل عـالٍ‪ ،‬وقـد‬
‫صـاروا يف غايـة الغيـظ منـي‪ ،‬وراحـوا وخلّـوين‪ ،‬فصرت وحـدي يف ذلـك‬
‫إل باللـه‬
‫الجبـل‪ ،‬فلمـت نفسي على مـا فعلـت‪ ،‬وقلـت‪ :‬ال حـول وال قـ ّوة ّ‬
‫أنجح من مصيبـة حتى أقع يف مصيبـة أقوى منها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لي العظيـم‪ .‬مـا إن‬ ‫الع ّ‬
‫ومل أزل يف ذلـك‪ ،‬وال أعلـم أيـن أذهـب‪ ،‬وإذا بغالمين سـائرين كأنهما‬
‫كل واحد منهام قضيب مـن ذهب‪ ،‬يتعكَّز عليه‪ ،‬فتقدَّمت‬ ‫قمـران‪ ،‬ويف يـد ّ‬
‫لي السلام‪ ،‬فقلـت لهما‪ :‬باللـه عليكام‪،‬‬ ‫إليهما وسـلَّمت عليهما‪ ،‬فـردّا ع َّ‬
‫مـن أنتما؟ ومـا شـأنكام؟ فقـاال يل‪ :‬نحن مـن عباد اللـه (تعاىل) ثـم إنهام‬
‫أعطيـاين قضيبـاً مـن الذهـب األحمر الـذي كان معهما‪ ،‬وانرصفا يف حال‬
‫سـبيلهام وخلَّيـاين‪ .‬فصرت أسير على رأس الجبـل‪ ،‬وأنـا أتعكـز بالعكّاز‪،‬‬
‫حيّـة قـد خرجـت مـن تحـت ذلـك‬ ‫وأتفكَّـر يف أمـر هذيـن الغالمين‪ ،‬وإذا ب َ‬
‫الجبـل‪ ،‬ويف فمهـا رجـل بلعتـه إىل تحـت رصتـه وهـو يصيـح ويقـول‪ :‬من‬

‫‪99‬‬
‫كل شـدة‪ ،‬فتقدَّمـت إىل تلـك الحيّـة ورضبتها‬
‫يخلِّصنـي يخلِّصـه اللـه مـن ّ‬
‫جـل مـن فمها‪.‬‬
‫بالقضيـب الذهبـي على رأسـها‪ ،‬فرمـت الر ُ‬
‫وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكالم املباح‪.‬‬
‫ويف الليلـة (‪ ،)555‬قالـت‪ :‬بلغنـي‪ -‬أيُّهـا امللـك السـعيد‪ -‬أن السـندباد‬
‫البحـري مل ّـا رضب الح ّيـة بالقضيـب الذهب الـذي كان بيـده‪ ،‬وألقت الرجل‬
‫يل الرجـل‪ ،‬وقـال‪ :‬حيـث كان خاليص على يديك‬ ‫مـن فمهـا‪ ،‬قـال‪ :‬فتقـدَّم إ َّ‬
‫مـن هـذه الح ّيـة‪ ،‬فما بقيـت أفارقـك‪ ،‬وأنـت رصت رفيقـي يف هـذا الجبـل‪،‬‬
‫فقلـت لـه‪ :‬مرحبـاً‪ .‬ورسنـا يف ذلـك الجبل‪ ،‬وإذا بقـوم أقبلوا علينـا‪ ،‬فنظرت‬
‫إليهـم فـإذا فيهـم الرجل الذي كان حملنـي عىل أكتافه وطـار يب‪ ،‬فتقدَّمت‬
‫إليـه واعتـذرت لـه‪ ،‬وتلطَّفـت بـه‪ ،‬وقلـت لـه‪ :‬يـا صاحبـي‪ ،‬مـا هكـذا تفعـل‬
‫األصحـاب بأصحابهـم! فقـال يل الرجـل‪ :‬أنت الـذي أهلكتنا بتسـبيحك عىل‬
‫ظهـري‪ .‬فقلـت لـه‪ :‬ال تؤاخـذين‪ ،‬فـإين مل أكـن أعلـم بهـذا األمـر‪ ،‬لكننـي ال‬
‫لي ألّ أذكر‬
‫أتكلَّـم‪ ،‬بعـد ذلـك‪ ،‬أبـدا ً‪ ،‬فسـمح بأخـذي معـه‪ ،‬لكنـه اشترط ع َّ‬
‫اللـه‪ ،‬وال أسـ ِّبحه على ظهـره‪ .‬ثـم إنـه حملنـي‪ ،‬وطـار يب مثـل األ ّول حتـى‬
‫لي‪ ،‬وه َّنأتني بالسلامة‪،‬‬
‫أوصلنـي إىل منـزيل‪ ،‬فتلقَّتنـي زوجتـي‪ ،‬وسـلَّمت ع َّ‬
‫وقالـت يل‪ :‬احترس مـن خروجـك‪ ،‬بعـد ذلـك‪ ،‬مـع هـؤالء األقـوام‪ ،‬وال‬
‫تعارشهـم؛ فإنهـم إخوان الشـياطني‪ ،‬وال يعلمون ذكر اللـه (تعاىل)‪ .‬فقلت‬
‫لهـا‪ :‬كيـف حـال أبيـك معهـم؟ فقالـت يل إن أيب ليـس منهـم‪ ،‬وال يعمـل‬
‫مثلهـم‪ ،‬والـرأي عنـدي‪ -‬حيـث مـات أيب‪ -‬أنـك تبيع جميـع ما عندنـا‪ ،‬وتأخذ‬
‫بثمنـه بضائـع‪ ،‬ثـم تسـافر إىل بلادك وأهلـك‪ ،‬وأنـا أسير معـك‪ ،‬فليـس يل‬
‫حاجـة بالقعـود هنـا يف هـذه املدينـة‪ ،‬بعـد أ ّمـي وأيب‪ .‬فعنـد ذلـك رصت‬
‫أبيـع مـن متـاع ذلـك الشـيخ شـيئاً بعـد يشء‪ ،‬وأنـا أترقَّـب أحدا ً يسـافر من‬
‫تلـك املدينـة‪ ،‬فأسير معـه‪ .‬فبينما أنـا كذلـك‪ ،‬وإذا بجامعـة يف املدينـة‬
‫أرادوا السـفر‪ ،‬ومل يجـدوا لهـم مركبـاً‪ ،‬فاشتروا خشـباً وصنعوا لهـم مركباً‬
‫كبيرا ً‪ ،‬فاكرتيـت معهـم‪ ،‬ودفعـت إليهم األجـرة بتاممها‪ .‬ثـم أنزلت زوجتي‬
‫وجميـع مـا كان معنـا يف املركـب‪ ،‬وتركنـا األملاك والعقـارات‪ ،‬فرسنـا‬
‫ومل نـزل سـائرين يف البحـر مـن جزيـرة إىل جزيـرة‪ ،‬ومـن بحـر إىل بحـر‪،‬‬

‫‪100‬‬
‫وقـد طـاب لنـا ريـح السـفر‪ ،‬حتـى وصلنـا‪ -‬بالسلامة‪ -‬إىل مدينـة البصرة‪،‬‬
‫فلـم أقـم بهـا‪ ،‬بـل اكرتيـت مركبـاً آخـر‪ ،‬ونقلـت إليـه جميـع مـا كان معـي‪،‬‬
‫جهـت إىل مدينـة بغـداد‪ ،‬ثم دخلت حـاريت‪ ،‬وجئـت داري وقابلت أهيل‬ ‫وتو َّ‬
‫وأصحـايب وأحبـايب وخ َّزنت جميع مـا كان معي مـن البضائع يف حواصيل‪،‬‬
‫وقـد حسـب أهلي مدَّة غيايب عنهم يف السـفرة السـابعة‪ ،‬فوجدوها سـبعاً‬
‫فلم جئـت وأخربتهـم بجميع ما‬ ‫وعرشيـن سـنة حتـى قطعـوا الرجاء منـي‪ّ .‬‬
‫جبون مـن ذلك األمـر عجباً‬ ‫كان مـن أمـري‪ ،‬ومـا جـرى يل صـاروا كلَّهـم يتع َّ‬
‫كبيرا ً‪ ،‬وقـد ه ّنـأوين بالسلامة‪ ،‬ثـم إين تبـت إىل اللـه (تعـاىل) عـن السـفر‬
‫بر ويف البحـر‪ ،‬بعـد هـذه السـفرة السـابعة التـي هـي غاية السـفرات‬ ‫يف ال ّ‬
‫وقاطعـة الشـهوات‪ ،‬وشـكرت اللـه (سـبحانه وتعـاىل)‪ ،‬وحم ْدتُـه‪ ،‬وأثنيـت‬
‫عليـه‪ ،‬ألنـه أعـادين إىل أهلي وبلادي وأوطـاين‪ .‬فانظـر‪ ،‬يـا سـندباد‪ ،‬يـا‬
‫ربي‬‫بـ ّري‪ ،‬مـا جـرى يل‪ ،‬ومـا وقـع يل‪ ،‬وما كان من أمـري! فقال السـندباد ال ّ‬
‫للسـندباد البحـري‪ :‬باللـه عليـك‪ ،‬التؤاخـذين مبـا كان م ّنـي يف حقِّـك‪ .‬ومل‬
‫يزالـوا يف مـودّة مع بسـط زائـد وفرح وانشراح‪ ،‬إىل أن أتاهم هـادم اللذّات‬
‫ومفـ ِّرق الجامعـات ومخـ ِّرب القصـور ومع ِّمـر القبـور؛ وهـو كأس املـوت‪،‬‬
‫الحـي الـذي ال ميـوت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فسـبحان‬

‫‪101‬‬
‫الفهرس‬

‫‪5‬‬ ‫تقديـم ‪.......................................................‬‬

‫‪27‬‬ ‫حكايات السـندباد ‪............................................‬‬

‫‪33‬‬ ‫(أول السـفرات) ‪..............................‬‬


‫الحكايـة األوىل‪َّ :‬‬

‫‪43‬‬ ‫الحكاية الثانية‪( :‬السفرة الثانية) ‪..............................‬‬

‫‪51‬‬ ‫الحكاية الثالثة‪( :‬السفرة الثالثة) ‪..............................‬‬

‫‪63‬‬ ‫الحكاية الرابعة‪( :‬السـفرة الرابعة) ‪............................‬‬

‫‪75‬‬ ‫الحكاية الخامسـة‪( :‬السفرة الخامسة) ‪........................‬‬

‫‪85‬‬ ‫الحكاية السادسـة‪( :‬السـفرة السادسـة) ‪.......................‬‬

‫‪93‬‬ ‫الحكاية السـابعة‪( :‬السـفرة السـابعة) ‪.........................‬‬


‫صدر يف سلسلة‬

‫‪2011‬‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫‪2012‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬
‫ّ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫واملدنية‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم بني العلم‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫الصديق‬
‫ّ‬ ‫عبقرية‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫‪2013‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫السياسية‬
‫ّ‬ ‫الكتابات‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫مجموعة مؤلفني‬ ‫العربية‬
‫ّ‬ ‫فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة‬ ‫‪31‬‬
‫‪2014‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫عامليني)‬
‫ّ‬ ‫ِساج ُّ‬
‫الرعاة (حوارات مع كُ تاب‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل ِح ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬
‫َ‬ ‫عن‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشيل سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫(تأمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬
‫تزفيتان تودوروف ُّ‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الف ّنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري»‬ ‫‪43‬‬
‫‪2015‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫جرجي زيدان‬
‫ُ‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫عباد يف سنواته األخرية باألرس‬
‫بن َّ‬
‫ُعتمد ُ‬
‫ُ‬ ‫امل‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف ذَ نّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة‪ ،‬الخط‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫‪2016‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫والفن والحضارة)‬
‫ّ‬ ‫واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب‬
‫ّ‬ ‫بني الج ْزر‬ ‫‪56‬‬
‫مي زيادة‬ ‫ظلّ الذّ اكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مجلّة الدوحة»‬ ‫املرصية (‪ )1932‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬
‫ّ‬ ‫الرحلة الف ّنية إىل الديار‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫(مختارات ِش ْع ّ‬
‫رية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫براعم األمل ُ‬
‫ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫ال ّتوت امل ُّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ِ‬
‫جلجامش‬ ‫ملحمة‬
‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬
‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫‪2017‬‬
‫محمد فريد سيالة‬
‫ّ‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
‫عبدالله كنون‬ ‫املقاالت الصحفية‬ ‫‪70‬‬
‫نجيب محفوظ‬ ‫قصص قصرية‬ ‫‪71‬‬
‫إبراهيم الخطيب‬ ‫بول بولز ‪ -‬يوميات طنجة‬ ‫‪72‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫الحياة‬ ‫فن َ‬ ‫ّ‬ ‫‪73‬‬
‫خري الدين التونيس‬ ‫ك ِف َم ْع ِر َف ِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ‬
‫ك‬ ‫َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ‬ ‫‪74‬‬
‫أحمد أمني‬ ‫َ‬
‫األخلق‬ ‫كتاب‬ ‫‪75‬‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ر ِْح َلةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْح َلةٌ َص ْع َبة‬ ‫‪76‬‬
‫مجموعة من الكتاب‬ ‫ريةُ ِف قَطَ ر)‬ ‫صةُ ا ْلق ِ‬
‫َص َ‬ ‫ارات ِمن َا ْل ِق َّ‬
‫(مخ َت َ‬ ‫ِق ْ‬
‫ـطاف ُ‬ ‫‪77‬‬
‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج‪ 1 :‬جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫‪78‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية‪ .‬ج‪2 :‬‬ ‫‪79‬‬
‫‪2018‬‬
‫إسحق موىس الحسيني‬ ‫مذكرات دجاجة‬ ‫‪80‬‬
‫نورمان ج‪ .‬فينكلستاين‪ -‬ترجمة‪ :‬أحمد زراقي‬ ‫ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟‬ ‫‪81‬‬
‫د‪ .‬نزار شقرون‬ ‫نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب‬ ‫‪82‬‬
‫إس‪ .‬إس‪ .‬بيو ‪ -‬ترجمة‪ :‬يعقوب رصوف ‪ -‬فارس منر‬ ‫والعظَ َم ِء الق َُدماء‬
‫ُ‬ ‫ِمن ِس َي ا َ‬
‫ألبْطَ ال‬ ‫‪83‬‬
‫إغناطيوس كراتشكوفسيك‬ ‫العريب‬
‫ّ‬ ‫مقاالت ِف األدب‬ ‫ٌ‬ ‫‪84‬‬
‫صوف‬
‫صموئيل ساميلز ‪ -‬ترجمة‪َ :‬يعقُوب َ ُّ‬ ‫س ال َّن َج ِ‬
‫اح‬ ‫ِ ُّ‬ ‫‪85‬‬
‫ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور‬ ‫ِم ْن آ َثا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور‬ ‫‪86‬‬
‫أحمد الهاشمي‬ ‫الع ْ ِ‬
‫ص َّية‬ ‫ات َ‬ ‫اء املُكَ ات ََب ِ‬
‫ِنش ُ‬
‫إ َ‬ ‫‪87‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالرحمن الخمييس وآخرين‬ ‫السوفْيي ِّتي‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫الش‬
‫ِّ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ارات‬
‫ٌ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫خ‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫أجراس‬ ‫‪88‬‬
‫اختارها وترجمها‪ :‬جربا إبراهيم جربا‬ ‫حكايات من الفونتني‬ ‫‪89‬‬
‫ألبريطو مانْغيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬إبراهيم الخطيب‬ ‫مع بورخيس‬ ‫‪90‬‬
‫لوسيان جولدمان‪ ،‬ناتايل ساروت‪ ،‬آالن روب‬ ‫الرواية الجديدة والواقع‬ ‫‪91‬‬
‫غرييه‪ ،‬جينفياف مويلو‪ .‬ترجمة‪ :‬رشيد بنحدو‬
‫‪2019‬‬

‫إميل الوست ‪ -‬ترجمة‪ :‬إدريس امللياين‬ ‫أمازيغية)‬


‫َّ‬ ‫شعبية‬
‫َّ‬ ‫(حكايات‬
‫ٌ‬ ‫غزالن الليل‬ ‫‪92‬‬
‫املؤلف‪ :‬جورج النغالن ‪ -‬ترجمة‪ :‬خليفة ه ّزاع‬ ‫الذُّ َب َ‬
‫ابةُ‬ ‫‪93‬‬
‫عبد اللطيف الوراري‬ ‫ترجمة النفس (السرية الذاتية عند العرب)‬ ‫‪94‬‬
‫أحمد الصفريوي ‪ -‬ترجمة‪ :‬رشيد مرون‬ ‫‪ 95‬صندوق العجائب‬
‫كارلوين وفيلو ‪ -‬ترجمة‪ :‬كيتي سامل‬ ‫‪ 96‬النقد األديب‬
‫ترجمة‪ :‬خالد الريسوين‬ ‫شعرية)‬
‫ّ‬ ‫خوان مانويل روكا‪َ ..‬صا ِن ُع ا َ‬
‫مل َر َايا (مختارات‬ ‫‪97‬‬
‫ميشيل بوتور‪-‬ترجمة‪ :‬فريد أنطونيوس‬ ‫الجديدة‬
‫الر َواية َ‬
‫‪ 98‬بحوث يف ّ‬
‫حسن املودن‬ ‫النفيس‬
‫ّ‬ ‫‪ 99‬األدب والتحليل‬
‫من إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

You might also like