Professional Documents
Culture Documents
محسن الموسوي
الناشر :
وزارة الثقافة والفنون والتراث -دولة قطر
رقم اإليداع بدار الكتب القطرية :
الترقيم الدولي (ردمك) :
المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة.
المحتويات
4 توطئة
7
النخبة الفكرية واالنشقاق
كان هؤالء يعنون كثير ًا بمشروع يتجاوز حركة اإلحياء التي زاولها بعض
روّاد حركة النهضة ،وبرز فيها الشيوخ ،من أمثال إبراهيم اليازجي .لم
تكن الحركة اعتيادية ،لكن طبيعة تك ّونها بقي إشكالي ًا :فهل هي محض
حراك طبيعي جاء نتيجة لالحتكاك بالغرب وبأوروبا ،منذ غزو نابليون
ّ
تتشكل ج ّراء صدام البد لها أن
ّ وفريقه المعرفي لمصر؟ وهل كان
سيما أن االحتالل البريطاني لمصر جاء عاصف ًا قبيل
مع أوروبا ،ال ّ
امتدادات الحرب األولى واتفاقية سايكس بيكو لتقسيم المنطقة بين
َّ
تتشكل حركات األطراف الرابحة في تلك الحرب (الكونية)؟ أم هل
التح ّول من مجموعة من العوامل ،تنتهي بمعادالت األخذ المتباينة،
في عملية أشبه ما تكون بـ(الترجمة) عن الثقافات األجنبية؟ و َلربَّما
تكمن اإلجابة في جميع هذه األسئلة ،و َلربَّما ينبغي لهذا األمر أن يبقى
إشكالي ًا ،يستزيد ،في القارى والمؤ ّرخ ،الرغبة في البحث والتنقيب
والتساؤل ،وهيَ -ل َعمري -من مواصفات الحراك الفكري ،ال جموده
وخموده .وكأني بالباحثين الجدد يعيشون هذه (اإلشكالية) ،ويبحثون
في ثناياها ،بصفتها بعض ًا من (هويّة) مُ لتبسة .وهذا االلتباس هو الذي
يميز (النهضة) ،وكذلك ما اقترن بها من مشاريع تطمح أن ُت ِ
ظهر الدولة ِّ
(غربي) التكوين ،ديموقراطي النظام ،ح ّر الفكر .كان
ّ الوطنية بلبوس
ذلك مشروع (النهضويين) ،وهو مشروع ورثته الدولة في نشأتها تحت
بود القوتين أن تظهر
ظل اإلدارتين :البريطانية ،والفرنسية .إذ كان ّ
8
األشباه والنظائر في المنطقة .وهذا الطموح كان يعني -ضمن ًا -ا ّتساع
نطاق التعليم وتزايد الخدمات التي تقدمها الدولة ،وتشكيل الحواضر
تشكي ً
ال قريب ًا إلى المدنية األوروبية ،كما أراد الخديوي إسماعيل
للقاهرة أن تكون كباريس.
وبمثل هذه الرغبة كان هناك جفاء إزاء الموروث الشعبي ،وما يرتبط به
من تراكمات ومعتقدات ،وتو ّلدت فجوة غير مقصودة ،تقودها النخبة
التي توارثت الحكم بطرائق وأشكال متباينة .هذه النخبة ،أو الصفوة
العارفة عاشت (مصالحتها) المتو ِ ّترة ،سلب ًا وإيجاب ًا ،مع األنظمة،
لكنها لم تكن منقطعة عنها ،جاهلة بسبيلها ،وفي مرحلة الحقة ،ومنذ
دخول (العسكرتاريا) ،أخذت تشعر بوطأة مصادرة آرائها وتط ّلعها نحو
َّ
تتشكل بين (الح ّريّة في التعبير واألداء والتنظيم .وبدأت فجوة عميقة
نظام العسكرتاريا وبين هذه النخب ،وازدادت الفجوة عمق ًا ،وتعاظمت
ُه ّوةً ،حتى جاءت أيام الجفاف والقطيعة منذ الستينيات .هذا الظرف
وتنحيه عن المشهد السياسي قاد إلى
ّ تميز باستقالة (المثقَّ ف)
الذي َّ
مجموعة من الظواهر التي لم تزل شاخصة حتى يومنا هذا ،وكان أن
ظهر من داخل صفوف ال ُنخب تم ُّرد من نوع آخر :فورات وانتقاضات،
تسكن الهوامش والمنافي ،وتكثر ،هناك ،متشرذم ًة وكثير ًة في آن
واحد ،فال جامع لها غير كونها (ثقافة هامش) أو (منفى) ،فعلها لم
9
النخبة الفكرية واالنشقاق
ميزت ثقافتنا
ولهذا ،فالكتاب يقود القارئ إلى نقطة االلتباس التي َّ
اليوم .وعلى الرغم من أنه كان ،في أصله ،محاضر ًة ألقيتها في القاهرة
سنة ،2001إال أنه وضع لَبِ نات واقع نحياه ونعيشه ،وهو واقع ،زادت
تحديات التحوالت التقنية وسبل التواصل االجتماعي،
ّ في وطأته
أهم ّية البحث فيه.
وح َّتمت ّ
10
الفصل األول
تـحــــوالت األدوار:
ُّ
النخبة الفكرية والدولة العصرية
«ليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين ،نبنيه بالح ّريّة والفكر والمصنع»
الطهطاوي
11
النخبة الفكرية واالنشقاق
يراجع ،في هذا الموضوع ،ألبرت حوراني :الفكر العربي في عصر النهضة (بيروت :دار
َ -1
النهار ،ط)1986 ،4؛ وهشام شرابي :المثقفون العرب والغرب (بيروت :دار النهار.د.ت)؛
وأنور عبدالملك :الفكر العربي في معركة النهضة ،ت :بدر الدين عرودكي (بيروت :دار
اآلداب )1987؛ ومحسن جاسم الموسوي :االستشراق في الفكر العربي (بيروت :المؤسسة
12
األخيرة يمكن أن تثير لدى مفكري النخبة مجموع ًة من التساؤالت
زت والخالفات تتفاوت مع ما َألِفْ ناه من السجاالت السابقة ،أي تلك ّ
مي ْ
خطاب الكواكبي ،واألفغاني ،وعبده .فبينما انهمك هؤالء في تمييز
َ
اإلسالم واألمّة عن غيرهما ،في ضوء التحديات الغربية القائمة ،ومن
السياسي
ّ بينها المواجهة الفكرية التي تتك َّرر شذرا ُتها في الخطاب
لكرومر ،ودنلوب ،وغيرهما ،كان التالون ،من أمثال نجيب عازوري،
يتخاصمون -أيض ًا -مع خطاب سابق أو معاصر بين العرب والمسلمين،
يرى االستعمار آف ًة وبالءً .فاألفغاني ،كما هو شأن الروّاد النهضويين،
انشغل بإحياء يواجه المعضالت والتحديات القائمة ،بوصف الغرب
حضار ًة تمتلك ُع ّد َتها وقدراتها الفاعلة ،ال في تقويض اإلمبراطورية
العثمانية المتدهورة فحسب ،وإنما في تهديد الحاضر أيض ًا .وبينما
تستدعي هذه الحالةالتحليل ،وصو ً
ال إلى تص ُّور بديل لجامعة إسالمية
بعد ،في أذهان ّ
كل من الكواكبي ،واألفغاني، ليست واضحة المعالم ُ
أن االستبداد آف ٌة
فإن ما ي ّتفق عليه هؤالء هو ّ
وعبده ،ورشيد رضاّ ،
قادت إلى وضع «الرجل المريض» ،من دون أن تكون هناك ع ّلة
اإلسالمي؛ فما َظ َه َر
ّ ّ
يتشكل منها الدين جوهرية في المبادئ التي
في اإلمبراطورية المنهارة ال يتجاوز ممارسات فاسدة منشؤها نظام
13
النخبة الفكرية واالنشقاق
14
عالقات مباشرة مع عدد من المثقَّ فين الذين يراهنون على َأ ْه َون الش َّر ْين،
في مسعاهم لتحقيق «اليقظة» العربية .ولم يكن عازوري ينشغل بهذه
ٍ
بمعزل عن هجومه على «األتراك»؛ فهؤالء هم أصل التخ ُّلف اليقظة
كما يقول ،وم َْن يشايعهم مِ َن العرب أو المصريين هم «التعساء»
الذين «يعانون ،كالخيل ،من سياط المماليك واألتراك والشراكسة»..
(ص .)107وهكذا ،يجري إعال ُء فرنسا -مث ً
ال -موضوع ًا في سجل
ألن
من اإلحاالت الحضارية التي تتفاوت مع «السياط» و«الخيل» ّ
ت» للكاثوليك العرب ،كما
«اسم فرنسا مبارك اليوم» ،وألنها «أحس َن ْ
أنها «نجحت» -كديبلوماسية -بدي ً
ال لإليطاليين وغيرهم .فال يغزو
السياسي
ّ ألن الفكر ويفوز إ ّ
ال ما هو أحسن وأفضل (ص)123؛ ذلك ّ
ازدهرت بين مثقَّ في الفئات األوروبية
ْ آلي ِ
ات تفكير لديه ينساق إلى ّ
الوسطى طيلة القرن الماضي ،وهي آليات تجمع العناية اإللهية إلى
ّ
المادي ،في تبرير شائع لنجاحاتها الدنيوية ولتحويراتها الدينية التقدم
ّ
وتأويالتها للمجاز التوراتي ،ولم تنعزل هذه األفكار عما تقود إليه
العلمية المستجدة قبل داروين ،وبعده ،والتي تعلي من شأن الغالب
على ش ّتى الصعد.
15
النخبة الفكرية واالنشقاق
16
قدر ًا من المصداقية وي ُْسر التوصيل .وم ّرة أخرىّ ،
فإن العناية بمفهوم
النشوء واالرتقاء ،واستقدام داروين إلى ساحة السياسة وعلم االجتماع
والشرائع ،يبتغيان نسف فكرة الثبات والس ّنة ونقطة اإلحالة الجوهرية
ّ
يتمكن هؤالء من اختراق البنية الذهنية القائمة عند األصوليين ،فال
على أساس الموروث المنتمي إلى نقطة ما ال حياد عنها ،إال بتأ كيد
مشروعية بيولوجية ،تحيل على أخرى مثيلة ،في الحياة والمجتمع.
فالمعروف أن فكرة داروين عن أصل األنواع واألشياء سرعان ما
وصحبه بمثل هذا
ُ شميل
ّ انسحبت على األديان والعلوم ،وهكذا ،جاء
ّ
يجتث ما كان الوعي الجديد ،باحثين عن تحديث مماثل للمفاهيم،
العربي لم يكن
ّ سائد ًا من تأويل .والهدف من تصدير داروين إلى الفكر
منقطع ًا عما اندرج في مساجالت نهاية القرن الماضي وبدايات القرن
العشرين ،فالشرق في أدبيات الرحالة والمستعمرين والمثقَّ فين المرافقين
وصد التغيير .وهكذا ،يأتي
ّ هم بالركود والثبات
للحملة االستعمارية ،م ُت ٌ
ِّ
المفكرون والمثقَّ فون العرب بالفرضية ومنهجيات المناقشة إلى ساحة
المضي في طرح مشروع التغيير ،انسجام ًا
ّ ِّ
الفكر العربي ،عازمين على
مع ُس ّن ٍة جديدة ،علمية الجذر ،تأخذ عن اآلخر لتلغي فرضياته ،اآلن
بصحة التهمة.
ّ ومستقب ً
ال ،بما يعني -ضمن ًا -االعتراف
17
النخبة الفكرية واالنشقاق
-1شبلي شم ِ ّيل ،مجموعة الدكتور شبلي شم ِ ّيل ،جزءان( ،القاهرة :مطبعة المعارف.)1908 .
18
والعادات؛ ولهذا فإن س ّر تخ ُّلف الشرق يعود إلى «قتل األفكار وإفساد
األخالق وموت الك ّتاب» كما يقول في (ج ،2ص.)273 - 236
ضدهمَ ،
أول األمر ،بطرائق مختلفة ،فإما «اشتراؤهم ويبتدئ السعي ّ
بالمال ليكتبوا غي ّر ما ّ
يفكرون ،أو يصمتوا عما يعتقدون» ..وإما يؤول
ونبراسها ،أولئك
َ المآل بالكاتب إلى الموت ،فتخسر األمّة رموزها
ويشيدون فخارها» (ص.)237
ّ الذين «يرفعون شأن األمّة،
- 1ظهر في لبنان ،ثم أصدرته دار المعارف في مصر بعد ثورة .1952ط .1976 ،4ص.191
19
النخبة الفكرية واالنشقاق
ولهذا ِ ّ
يشدد الفاسي ،في تعريفه لضرورات األرستقراطية الفكرية على
وتكيفه حسب روح العصر» (ص .)131وبينما
ّ «تجدد النموذج
ُّ
20
وأهمية مواصلة االرتباط به ،فإنه يرى
ّ التاريخي»
ّ يص ّر على «الوجود
للمضي إلى أمام.
ّ البد منه
ّ التناسق واالنتظام مع روح العصر تناغم ًا
ومثل هذا التناغم ال تجرؤ على استقدامه غير األرستقراطية الفكرية
يعده بمنزلة
القادرة على إشاعة ما هو مغاير لمنطق الشارع ،الذي ّ
موروثات وأعراف وخرافات حقّ قت تراكم ًا م َّتسع ًا ،على مدى العصور،
يخص به المجتمع المغربي يمكن أن
ّ لكن ما
ّ في المجتمع الغربي،
يتبين في كتابات معاصرة
ّ يجد مثيله في المجتمعات األخرى ،كما
ال ،عند محمود السيد ،وحامد عمار ،ومحمود ِّ
متأخرة عنه قلي ً له أو
أن (علّال
يهمنا في هذا المجال هو ّ
ّ العبطة ،وعلي الوردي ( ((.وما
الفاسي) يرى لزوم حضور األرستقراطية الفكرية ،بصفتها النخبة
ألن هذه الفئة هي التي َتقْ در
القادرة على مصارحة الحاكم والمحكومّ ،
على تقليب األشياء على ش ّتى األوجه «وتنفذ إلى أعماقها» (ص.)46
ب ،في كل شؤونها ،بكامل َ
تخاط َ ألن «األمّة يجب أن
وحضورها الزم ّ
الصراحة وبكل بيان» ( .)49وال يدري المرء ما إذا كان علّال الفاسي
يحيل على سينت بوف ،وماثيو آرنولد ،اللذين كتبا في هذا األمر ،إ ّ
ال
أرستقراطيته الفكرية تتعالى ،هي األخرى ،على الفئات االجتماعية،
ألنها تتن ّزه عن المصلحة ،وتجاهِ د لبلوغ الحقيقة .فاألرستقراطية هنا
- 1يراجع :محسن جاسم الموسوي ،ثارات شهرزاد ،بيروت :دار األداب ،1995 ،ص.276 - 215
21
النخبة الفكرية واالنشقاق
ّ
مفكرة ناقدة ،تستعيد نخبة الخالص عند آرنولد ،كما هي مجموعة
أنها ليست فئة اجتماعية كبقية الفئات ،ألنها تتح ّرر من قيود الطبقات
ِّ
«المفكرون الذين هم ومصالحها .يقول في «النقد الذاتي»(ص:)47
ّ
السبيل ،ويبعثون من هذه الطبقة ،هم ر ُُسل الفكر للناسّ ِ ،
يمهدون لهم
الصعب
ّ روح الطموح ،ويستسهلون في سبيل ذلك كله
َ في النفوس
والذلول».
وبينما تبدو المقارنة بمقالة آرنولد عن «النخبة الم ْنقِذة أو المخ ّلصة»
22
كاستجابة لحتمي ٍة ما ،ورضوخ لروح العصر ،وهكذا يكتب الفاسي في
معنى المجاهدة لالنتماء إلى تلك األرستقراطية الفكرية:
ِّ
وشميل وفرح أنطون، ليبرالية في مصر -مث ً
ال -كما هو حال ص ّروف
النخب
َ فإن المرحلة التالية لم تكن ميسورة ديموقراطي ًا؛ إذ سيتجاذب
ّ
مستجد،
ّ ّ
استعماري ارتداد على ظرف
ٌ الفكرية ،داخل الوطن العربي،
متغير جديد ،كذلك الذي تم ِ ّثله ثورة سعد زغلول في
ِّ وانحياز إلى
أن الرحيل ما بين الوطن والمنفى ،بين بغداد واآلستانة-
مصر .كما ّ
مث ً
ال -كانت تح ّتمه ظروف االحتالل اإلنجليزي من دون أن يعني
التح ّو ُل إلى اآلستانة -بالضرورة -انحياز ًا إلى اإلمبراطورية التركية
المنهارة حينذاك .فهذا محمود شكري اآللوسي يرفض منصب القضاء
الذي َت ْعرضه عليه سلطة االحتالل اإلنكليزي ،وهذا الشاعر الكبير
23
النخبة الفكرية واالنشقاق
العربي
ّ ظهرت في طول الوطن
ْ لكن هذه الفئة من النخب الثقافية ،التي
ّ
أن المواقف الشخصية
وعرضه ،لم تكن تحيل على أرض بور ،على رغم ّ
كانت بادية ،وتم ّثل العالمات األكيدة للفعل والمشاركة الوطنية والقومية
والدينية طيلة العقدين األوّلين من القرن العشرين .فأمثال سعد زغلول،
في حينه ،يم ّثلون ضمير ًا وطني ًا للفئات المدينية المتع ّلمة؛ بينما سينمو
- 1حسين الكرخي ،مجالس األدب في بغداد ،ج ،1بغداد :النهضة العربية ،1987 ،ص ،21هامش.1
24
جيل الحق يخوض صراعه بحسب قواعد الدولة المحمية ،كجعفر أبي
ّ
يشكل وأمثا َله أنموذج ًا قيادي ًا لجمهور العامّة؛ في التمن -مث ً
ال -الذي
حين كان الشعراء ،كمحمد مهدي البصير في العراق ،وحافظ إبراهيم
وشوقي في مصر ،يتجاذبون الفعل ما بين تمثيل وخطاب ،فم ّر ًة يكون
ِّ
والمفكر والشاعر ،مصدر ًا للرأي ومنتج ًا للموقف، الفقيه ،أي المثقَّ ف
وينشد إليه .وق َّلما تفترق الحالتان،
ّ وم ّرة أخرى يرافق الفاعل السياسي
بمعية
ّ كما تشهد بذلك حال أبي الرباب الشاعر عبدالمحسن الكاظمي،
سعد زغلول.
َ
حال الشروع بتفقُّ د مفاهيم النخبة ملي ًا عنده،
وما ينبغي التوقُّ ف ّ
نص أسبق؛ فإذا كان جهد األفغاني
وحضورها ،هو اإلحالة على ّ
ومحمد عبده ورشيد رضا يحيل تلقائي ًا على أصول ُ
وسنة َتستقدم لهم
يود أن يراه علّال الفاسي أيض ًا،
اإلسالم نقي ًا خالي ًا من التشويه ،كما ّ
وتحدي الحضارة الغربية المنازعة لإلسالم ،في
ّ فإن مزاحمة المستعمِ ر
ّ
شرائعه وتقاليده (المتناقّ لة عند العثمانيين أو عند منطق الشارع؛ ْ
أي بين
عادات الناس وأعرافهم) هما الدافعان لمثل ذلك االستقدام لألصول،
ثم استدراج ما هو
بصفتها نقطة ابتداء تستحقّ البناء ،واالنطالق ،ومن ّ
عصري من الحضارات األخرى ،كما كان حال الحضارة اإلسالمية أيام
لكن النخبة الفكرية ،وهي تحيل على أصول ،لم َت ْحسم
ّ بني العباس.
25
النخبة الفكرية واالنشقاق
26
انسحاب مفهوم «النشوء واالرتقاء» من علم
َ وسواء َأ َخ ّ
ص األمر
األحياء ومن مجاوراته العلمية إلى المجتمع والصراع في داخله ،أم
ِّ
شميل فإن ما التجأ إليه شبلي
تعميمه بين األفكار والحضاراتّ ،
ُ جرى
وإسماعيل مظهر وغي ُرهما في التشديد على إمكان تخليص المجتمع
َج َد صداه
من عقدة التقاليد والثوابت با ّتجاه التغيير سرعان ما و َ
عند عدد من المثقَّ فين اآلخرين في الوطن العربي .فها هو صفوان،
المسماة «صفوان األديب»
ّ بطل رواية الكاتب العراقي كاظم مكي
التغيرات التي
ُّ (البصرة :مطبعة الفيحاء ،)1939 ،يحكي في تفسير
يسمى سبنسر ،يجزم
لعت على أقوال لعال ٍِم ّ طرأت على ذهنه قائ ً
ال« :اطّ ُ ْ
مادة،
فيها أن القوة والمادة غير منفصلتين ،وليست هناك ق ّوة بال ّ
والمادة بال ق ّوة ،وأن كل شيء ال تدركه الحواس فهو معدوم .فتغ ّلبت
ّ
هذه اآلراء على ما في نفسي من إيمان ،وعفا الله ،بعد ذلك ،عن
ِّ
شميل» .وبعد أن يسهب صفوان في إيضاح سبنسر والدكتور شبلي
دفعت به إلى تغيير تفسير بدء
ْ اله ّزة التي م ّر بها إثر هذه القراءة ،والتي
- 1االقتباس عن د .يوسف عز الدين ،الرواية في العراق :تطورها وأثر الفكر فيها (القاهرة:
معهد البحوث والدراسات العربية ،)1973 ،ص.131
27
النخبة الفكرية واالنشقاق
وتط َّرف بعض المثقّ فين في األخذ بدعوة ص ّروف التي جاءت في
28
ّ
يحث الجميع على رفض «المقتطف» قبل أ كثر من عقدين ،وفيها
ُ
والتصافح مع نهضة أخرى لم يألفها العرب منذ علمي،
ّ كل ما هو ال
قرون ،ووجدت هذه الدعوة أذن ًا مصغية لدى مب ِ ّرزين ،من أمثال
والروائي محمود أحمد السيد الذي َش َغ َل الصحافة بجهده
ّ الكاتب
أن مزاج السيد
في العقود األولى من القرن العشرين .وعلى رغم ّ
القصصي يضعه في الصدارة بين المثقَّ فين العرب المعنيين بالسرد
المعرفي وانشغاله باألفكار ،غالب ًا ما ضغطا على
ّ حينذاك ،فإن انهماكه
تدفُّ ق السرد لديه .فالسيد نشر روايات غرامية كـ «في سبيل الزواج»
أسف على ذلك،
و«مصير الضعفاء» ،و«النكبات» ،لكنه سرعان ما ِ
قائ ً
ال في مقالة بعنوان «هيكل الماضي -على مسرح الحياة»« :آه،
ليت الظروف كانت َتفهم ،فتكسر يدي قبل أن أ كتب تلك الروايات
الغرامية الفاسدة ..التي َأ ُع ّدها لطخة عار في حياتي وحياة األدب» (((.
29
النخبة الفكرية واالنشقاق
فالسيد البغدادي ،شأن آخرين من المثقّ فينَ ،ت َنقَّ َل -أيض ًا -ما بين فكر
وآخر ،في رحلة البحث عن مواجهة صريحة مع العصر؛ ولهذا فعندما
يُقدم محمود أحمد السيد على كتابة شيء من سيرته الشخصية بعنوان
«جالل وخالد» ،الصادرة عام (1928بغداد :دار السالم) ،فإنه
يتجاوز الخيارين السابقين ،ما بين األصولية الفكرية والعلمية الغربية
المضببة المتسترة
َّ ِّ
شميل وآخرون .وعندما نقرأ تلك السيرة التي ينقلها
30
فن كتابة السيرة ،كما يفعل المازني
في ضوء انتهاج عدد من الك ّتاب َّ
في «إبراهيم الكاتب» ،وطه حسين في «األيام» ،وتوفيق الحكيم في
ّ
«مذكرات نائب في األرياف» ،يمكن أن تجتمع لدينا خيوط مسعى
ومنحها انتظام ًا،
ِ ك ّتاب النخبة الفكرية إلعادة ترتيب حياتهم الثقافية.
يودون إسقاطه على التجربة الحياتية المبعثرة التي تحيط بهم .وعلى
ّ
أن الك ّتاب -جميع ًا -يحيلون على حياة شخصية تنتقل ما بين
رغم ّ
الريف والمدينة ،أو ما بينهما وبين الحاضرة الغربية ،ألغراض الدراسة،
فإن هؤالء كانوا ينقلون
العالميّ ،
ّ أو من خالل القراءة ومجاورة الفكر
المستجدة،
ّ تتغير في ضوء العالقة
َّ معهم همومهم وتط ُّلعاتهم ،التي،
زمن ًا ،ما بين صاحب التجربة والظروف المحيطة ،ومن ضمنها ش ّتى
اال ّتجاهات المتصارعة واألفكار التي غالب ًا ما تترك بصمات ظاهرة
على الشخصية التي ترى نفسها طرف ًا في التغيير .ومن الجانب اآلخر.
فإن صاحب السيرة ،كمحمود أحمد السيد -مث ً
ال -ال ي َْعرض «تذبذبه
بين اإلنسانية والقومية والدين» ،وقراءته لتاريخ بالده القريب ،ما بين
العثمانيين واإلنكليز وثورة العشرين واندحارها ،إال في ضوء تدفُّ ق
َّ
تتشكل منه مطارحات الراوي ونزعات مستجد واسع لفكر عالمي غزير
ّ
الموزعة بين لينين وغوركي ،ودوستويفسكي ،وزوال ،وأناتول
ّ حجاجه
ِّ
شميل ،وعشرات الك ّتاب األتراك فرانس ،وغوستاف لوبون ،وشبلي
كعبد الحق ،وتوفيق فكرت ،وأحمد مدحت ،وعشاقي زاده ،وخالد
31
النخبة الفكرية واالنشقاق
ضياء ،ورشاد نوري .وك ّلما استزاد المؤ ِ ّلف في هذا الحجاج ،وأمعن
في المقتبس ن ّوه -أيض ًا -بمصير الفالحين والعمال ،وحاجتِهم إلى
ُ
مجريات األمور القومية في تغيير اجتماعي منصف ،بينما تستميله
ومثل هذه الموضوعات التي تتك ّرر في سرديات السيرة الشخصية ما
لكن حضورها
ّ ميزت األجواء الثقافية والفكرية، هي إ ّ
ال انشغاالت ّ
مدوَّن ًة واشتباك هذا الحضور بعالقات ذات رصيد سياسي قادم ،كعالقة
محمود أحمد السيد بِ َع ْوني بكر صدقي وأخيه لطفي ،قائد االنقالب
تمعن ًا
التالي على الحكومة العراقية المرضي عنها بريطاني ًا ((( ،يح ّتمان ُّ
في ظهور المفاهيم التي ُتعنى بالدولة العصرية .فالنخبة كما يَعرضها
َّ
«المعذبون في األرض»، طه حسين ،في مقاالته التي جمعها بعنوان
ليست مجموعة من األذهان المثقَّ فة المط ّلة على المشهد السياسي؛
ِّ
متحضرة قادرة إنهم أولئك الذين «أفنوا» شبابهم من أجل دولة مستق ّلة
والصحة والح ّريّة
ّ على العناية بأبنائها ،وضمان المساواة االجتماعية
موحد ًا؛ إذ إن فيها داعية الحكم
أن هذه النخبة ليست لفيف ًا َّ
العامّة .كما ّ
والمستبد العادل،
ّ الموحدة،
ّ الدستوري؛ كما أن فيها داعية اإلمبراطورية
- 1ويجري اقتباس التنصيص عما نقله يوسف عز الدين أيض ًا ..ص.159 - 158 - 165
- 2المصدر نفسه ،ص.83
32
الذي سيرى خالد محمد خالد والدته بالءً ،وثن ًا عجيب ًا ((( ،ال يستحقّ
منهم ذلك الجهد الذي كتب فيه الدعا ُة األوائل .وإذ لم تكن خيارات
َ
االنغالق على ِّ
ومفكرون النخبة وقف ًا على أنموذج الداعية ،رأى مثقَّ فون
التقدم ،فدعوا إلى ديموقراطية واسعة
ُّ األصول والمذاهب عثر ًة في وجه
ِّ
للمفكرين بمزاولة تتيح تح ّرر األذهان من العادات واألعراف ،وتسمح
منهجية علمية أخرى ،تسعد في تحقيق مثل هذا التح ُّرر واالنعتاق.
- 1خالد محمد خالد ،الديموقراطية أبد ًا ،ط( ،3بغداد :المثنى) ،مواطنون ال رعايا ،ط6
(بغداد :المثنى) :القاهرة ،الخانجي.1958،
33
النخبة الفكرية واالنشقاق
الفكر المج َّرد .وبالطبع يحيل ابن نبي ،في وجهة العالم اإلسالمي،
على أصول إسالمية ،يراها امتياز ًا في اله ّوية ،في مواجهة فعل المستعمر
مشروع ْي محمد علي باشا،
َ الذي بانت نتائجه في مصر عند إيقاف
نص ًا والخديوي إسماعيل مث ً
ال ( (( .وما يبدو رصيد ًا نظري ًا عا ّم ًا ،أو ّ
ُ
أطرافه عند الشيخ الثعالبي، تماسكت
ْ حاضن ًا عند ابن نبي ،سبق أن
ومحمد العربي الخطابي ،بدرجة أو بأخرى .فالثعالبي الذي تج ّول بين
يطمئن
ّ تونس والمشرق ،وأقام في الشام والعراق مع النخب الفاعلة،
إلى مزاوجة الزمة ما بين اله ّوية العربية -اإلسالمية والفكر الليبرالي
الذي ي ّتسع للح ّريّة ،والديموقراطية ،والمساواة (((.
-1مالك بن نبي :وجهة العالم اإلسالمي .ط( 1مصر :المؤسسة السعودية.)1959 ،
ص125و.126
- 2يراجع بشأن عبدالعزيز الثعالبي ،في :تونس الشهيدة .وخلفيات المؤتمر اإلسالمي
بالقدس ،وكذلك محمد العربي الخطابي في :المغرب في طريق االستقالل ،عبدالمجيد
البدوي :مواقف المفكرين العرب من قضايا النهضة في العالم العربي ،من مطلع القرن إلى
موفى الستين ّيات (تونس :منشورات كلية اآلداب بمئوية ،)1996 ،ص.52 - 50
34
فإن انتماءه إلى «ليبرالية وطنية» تدين بحقوق اإلنسان
للمقاومةّ ،
وتعددية «األجناس والديانات» والحياة الديموقراطية تجعله كالثعالبي
ُّ
في النتيجة ،رافض ًا أي نزوع مغاير لهذا االنتماء .ومثل هذا المهاد
ألن األخير يَعرض الدولة
الّ ، َّ
يتشكل مختلف ًا عند ابن نبي مث ً الليبرالي
العصرية ،بأصولها اإلسالمية وه ّويتها ،بوصفها اجتماع ًا إلرادة واسعة،
ال استعاد ًة لمفاهيم بالية ذات صفة طقوسية ،تعطي الحق لشخص
بعينه ،وتتص ّوره بط ً
ال قادر ًا على انتشال األمّة من وهدتها.
35
النخبة الفكرية واالنشقاق
36
ِ
مهاد ما الرواية المذكورة ،يمكن أن يُقرأ اليوم من زاوية أخرى؛ فهو وليد
المرشح
َّ ومؤسسات مختلفة ،ليظهر الفضاء الثالثيني
َّ اشتغلت فيه أفكار
الجادة،
ّ لتغذية الدولة العصرية مليئ ًا باأللغام ،عاز ً
ال للنخب الفكرية
منتهك ًا لها ،واضع ًا إيّاها في منطقة الفراغ التي َّ
حذ َر منها مالك بن
ّ
النظري أو الفكر المج ّرد. نبي ،عند ا ّتهامه المستعمر بمصارعة االنتظام
يقول ذو النون أيوب في الرواية التي صدرت عام :1939
37
النخبة الفكرية واالنشقاق
38
ّ
املستقل ،وتهرب من شرطتي يف الزحام وتنشئ عاملها
وتخلق واقعها فوق واقعنا ،أو جت ّردنا من سياج املنام
ُّ
التدخل بني النيام.. حلم اجلماهير فوضى ،وال نستطيع
فيصبح ُ
أنا س ّيد احللم! ال جتلسوا حول قصري بغير الطعام
اإلباحي يف لغة من رخام..
ّ وال تأذنوا للفراشات بالطيران
...فمن لغتي تأخذون مالمح أحالمكم م ّر ًة َّ
كل عام
..ومن لغتي تعرفون احلقيقة يف لفظتني :حالل ،حرام
فال تبحثوا يف القواميس عن لغة ال تكتفي بهذا املقام،
عم الفساد ،وساد اخلراب.
فإن زادت املفردات عن األلف ّ
ألنّ الكالم الكثير غبا ُر الذباب
وأن نظام اخلطاب
(((
خطاب النظام..
« -1خطب الدكتاتور الموزونة» شعر محمود درويش ،تقديم طلعت الشايب ،مجلة «أدب
ونقد» ،العدد 141مايو (آيار) ،1997صفحات ،128 - 97االقتباس ص .126 - 125
39
النخبة الفكرية واالنشقاق
الفصل الثاني
توالُ دات اخلطاب من النهضة إلى العصيان
ٍ
وهاو ،وخالق لغة، وهامشي،
ّ كمنفي،
ّ «ومن هنا كان تصويري للمثقَّ ف
40
ليس استقبال القرن الحادي والعشرين هو وحده الذي يُح ِ ّتم قراءة
مستجدة لمفاهيم النخبة والمثقَّ فين ،في الحياة العربية ،طيلة القرن
ّ
أن دخولنا هذا العصر من التح ُّوالت الكبرى،
العشرين ،وذلك على رغم ّ
يتسبب في
َّ وما تعنيه من تراجع الحدود :إعالمي ًا ومعلوماتي ًا ،ينبغي أن
يقظة عنيفة إزاء الذات والهوية والمجتمع ،تستتبعها تص ُّورات تستوعب
ولكن ،وباستثناء الفعل
ْ ِّ
والمتدفق ،باستمرار ،أو تتصارع معه. اآلتي
ّ
يؤكد تزايد التو ُّتر واالرتياب إزاء مفاهيم ثمة ما
التقني ومخابرهّ ،
ّ
محط اهتمام ،في ضوء واقع ومواقف ،يبدو منتجو المعرفة ،بموجبها،
الحال من جهة ،والتعريفات التي تأتي بها نظريات خطاب ما بعد
االستقالل عالمي ًا ،من جهة أخرى.
ِّ
والمفكر هو ما يلفت االنتباه ،على رغم وليس التفريق بين المثقَّ ف
مب ِ ّررات ذلك ( (( .كما ال تستنطق كثر ُة الكتابة في المفهوم الريب َة
إن كثرة الكتابات في
والتساؤل ،على رغم مشروعية االستغراب؛ إذ ّ
-1يراجع -بخاصة -في التفريق أعاله :علي حرب في :أوهام النخبة أو نقد المثقف
(بيروت :المركز الثقافي العربي ،)1996 ،سمير أمين :بعض قضايا للمستقبل (القاهرة:
مكتبة مدبولي ،)1991 ،الحضارة واالغتراب ،لعزيز السيد جاسم (بيروت :دار االندلس،
،)1987وبالطبع ،صور المثقف ،ألدوارد سعيد (بيروت :دار النهار .)1996 ،وأحيل-
أيض ًا -على حوار أجراه فاروق البقيلي في جريدة البيان (الثقافي) -دبي الدولية -مع عزيز
السيد جاسم ،تم في عام ،1985وظهر تباع ًا ،منذ 31تشرين األول/أ كتوبر (عدد ،)5979
،1996ص.30
41
النخبة الفكرية واالنشقاق
فثمة
معنوية ،أو اندماجهم معها ،ال تعني وضوح الحال ويسر المنالّ ،
تو ُّتر تنطوي عليه لغة المناقشة ،يُفْ صح عن عصابية وانشداد وانفصامات
تنفي ،ضمن ًا ،استقرار المفهوم ،كما تومئ با ّتجاه محنة حقيقية ال تقوم
بين المثقَّ فين والسلطات المختلفة ،أو بين العائلة والفئات واألحزاب
وهي ،كذلك ،ال بسبب ما تنطوي عليه من حسرة ك ّلما جرت المقارنة
بماض ،لم تزل الدولة فيه قيد التكوين ،متصالحة مع النخب ،أخذة
ٍ
في حدود منجزه المعرفي واحترامه لمثقَّ فيه (((؛ فهذه الحسرة تتك ّرر،
42
لكن عصابية اللغة ،في مجموعات
ّ باستمرار ،في غير مقال وسجال (((.
ّ
تشكل خطاب االمتعاض الثقافي ،تندرج عند نقطتين :أوالهما هائلة،
تخص تعامالت المثقّ فين ،بعضهم مع بعض ،وهم في داخل السلطة،
ّ
بمواقعها ومعانيها المختلفة ،أو خارجها .فبين الثأر واال ّتهام والتشفّ ي
والغدر واالنكفاء على الذات ،تتشظّ ى قصائد وقصص وروايات
ومقاالت ،وتنغرس لغاتها في أخرى ،كما لم يحصل من قبل ،وعندما
نقرأ هذه في ضوء النخبة واالنشقاق ،كما يتأ ّتى الحق ًا ،يمكن أن
ُ
مهادات العصيان التي تنقاد إليها الثقافة ،ال بمواصفات تتبدى أمامنا
ّ
نتواطأ عليها ،إيجاب ًا ،بالضرورة ،وإنما بصفتها االفتراضية المتفاوتة
ِّ
وتبشر بآخر. المكتظّ ة المتعاكسة ،التي قد َت ْدحض شيئ ًا،
ّ
الفكري ومناخ الح ّريّات بعد ،1919 -1يراجع ما يقوله نجيب محفوظ بشأن االزدهار
وتراجعات ذلك بعد ،1952في كتاب فؤاد د ّوارة «نجيب محفوظ :من القومية إلى
نفسه عن
ُ العالمية» (القاهرة :الهيئةالمصرية ،)1989 ،ص .244 - 242ويقال األمر
ثورات مماثلة في العراق وغيره .ويراجع-أيض ًا -سماح إدريس «المثقف العربي والسلطة»
(بيروت :دار اآلداب .)1992 .ويكتب مصطفى عبدالغني مستنتج ًا «أنّ المثقفين في
عقد العشرينيات كانوا أ كثر طواعية في فرض فكرهم ،ال س ّيما من القصر ،وهو ما ال نجده
في عقد األربعينيات ،حيث قلت هيمنة قوى االحتالل على النظام ،وزادت نوازع الملك
األوتوقراطية» ،المثقفون وعبدالناصر (القاهرة :دار الصباح ،)199 ،ص.64
43
النخبة الفكرية واالنشقاق
َّ
المثقفين في هذه الثورة ويراجع سماح إدريس ،وإحالته -1تكثر اإلشارات إلى مشاركة
ً
مثال، على لويس عوض وعبدالرزاق حسن ،وكذلك تأثيرات حزب الوفد في ثورة 1952
في كتاب إدريس المذكور سابق ًا ،ص .35 - 34وبشأن العراق ،وثورة ،1958يراجع كتاب
«الذاكرة التاريخية» (بغداد :منشورات الشؤون الثقافية -آفاق عربية.)1985 ،
المثقفين ما بين حرق الجسور عند ميخائيل نعيمةَّ -2ويختصر سماح إدريس مواقف
ورئيف خوري ،وإقامة جسور عند سعد الدين إبراهيم ،وانتقادات إيليا حريق ومحمود أمين
العالم ..إلخ .ص 24 - 20من كتابه المذكور.
44
أخصت هذه المناقشة الوالدات المستحدثة
ّ العام المعلن لله ّزة .وسواء
تعاملت مع الدولة
ْ اقتصادي ًا عن المشايخ واإلقطاعات السابقة ،أم
أ كثر العصرية الطموح ،فإنها تعني النخبة ،بوصفها «مرجعية ثقة»
(((
ِّ
معنية بأولئك الذين يصيحون مع جوليان بندا« :مملكتي من كونها
ليست من هذا العالم» (((.
المثقف ،ص . 16وكذلك عند Bendaفي The Treason of the َّ -1سعيد ،صور
.Intellectualsوبحسب مارتن لبست Lipestفإن التعريف يتحدد بإنتاج األفكار
وبمنتجيها«:فالمثقفون هم أولئك الذين يخلقون الثقافة ويوزعونها ويستخدمونها تطبيق ًا،
بصفتها عالم اإلنسان الرمزي ،وضمنها الفنّ والعلم والدين» .ولهذا يأتي عند Christian
المثقفين ُيلزمنا -أيض ًا -أن نتعامل بجدية ،مع منتوجهم
َّ Joppkeما يعني «أنّ التأ كيد على
الخاص -أي األفكار» .المقتبس عن لبست في كتابه «اإلنسان السياسيّ » (بالتميور :جامعة
جونز هوبكنز) ،الصادر عام .1959وعند Joppkeفي «»Intellectuals,Nationalism
في مجلة:
in Society&History Comparative Studiesالعدد ،37نيسان/إبرايل ،1995ص.213
-2سعيد ،مصدر مذكور ص ،29 ،23بالنسبة إلى المقتبس عينه.
-3االلتزام والتصوف في شعر عبدالوهاب البياني (بغداد :الثقافية )1990 .ص .228
-4عبدالغني ،ص .57
45
النخبة الفكرية واالنشقاق
خطاب االمتعاض
ٍ
وهاو» ،كما يقترحه إدوارد وهامشي،
ّ كمنفي،
ّ إن الوعي بـ «المثقَّ ف
ّ
سعيد حين يبني ،جزئي ًا ،على «غرباء» ماثيو أرنولد الخارجين غير
المحكومين بمصلحة أو فئة ،يَضطرنا إلى قراءة خطاب االمتعاض من
أهم ّي ًة عن تلك التي تنطلق منها تبعية أفواج منهم عدة ال ّ
تقل ّ زوايا ّ
لـ «جوهرية» أو «مركزية» حزبية أو فئوية أو دينية ،يدين ،بموجبها،
االنشقاق وتم ُّثالته من دون سعي للتع ُّرف إلى اآلخر ،الغريب المظلوم (((.
هؤالء وأمثالهم ممن يحيدون عن مهمة المثقَّ فين ،ينطبق عليهم ما
المثقفين عن مهماتهم ،في سياق ما يسميه بندا «خيانات َّ - 1وتكثر الشواهد على تباعدات
المثقفين» ،أو في سياقات تجاهل المهمات االنية البادية التي تخص حضورهم المفترض، َّ
لكنّ األم ّر والمحزن هو التشفي والصمت عندما يتعرض ر ّواد االنشقاق لقهر خصم مشترك.
وتتعدد األمثلة والشواهد .فثمة كيد عتيق ،وثمة انزعاج من رؤية آخر أ كثر انسجام ًا مع
مهماته الثقافية ومبادئه .ولهذا يصمت «المريض» إزاء المثقف الشهيد أو السجين ،وتكتب
فاطمة المحسن في فضح ظاهرة الصمت ،في مقال ظهر في جريدة «الحياة» 31كانون
األول/ديسمبر 1996عن المفكر العراقي السجين عزيز السيد جاسم .لكنها في المناخ
السائد بين المغتربين ال تجد خالص ًا كلي ًا من تبعات آراء هؤالء المتفاوتة وصراعاتهم .ولهذا
لم تتمكن من تخطي الحاجز الذي لم يزل يتأسس منذ مطلع السبعينيات عند المهاجرين
العراقيين ،فتقول ،من دون قصد فعليّ بما تعرضه اللغة كمكبوت« :ومثاله نادر في الكيفية
الكاتب أن يوظف ّ
كل شاردة وواردة من قراءاته في تضاعيف أفكار تو ِ ّلد ُ التي يستطيع فيها
أفكار ًا ،كما أنّ الحروب في العراق واحدة تلد األخرى» .نالحظ هنا أن التشبيه األخير سلبي
وملغوم ،يسقط صفة السلب على اإلشارة األولى .ومع ذلك تختلف هذه الكتابة الشجاعة
عن أخرى ،إذ ينشر السيد سامي مهدي كتاب ًا بعنوان «الموجة الصاخبة» عام ،1993يتناول
فيه مقاالت الشعر الستينية العراقية ،ويمر على مقاالت عزيز السيد جاسم فيصفها بأنها مهمة
في قضية الشعر الحر؛ أما وأن كاتبها سجين منذ ،14/4/1991فإنّ الشاعر يتجنب ذكر
اسمه ،ويكتفي باإلشارة إليه بأنه «كاتب آخر»! والخطأ هنا هو استخدام الشعراء والك ّتاب
أدواتهم في الحذف والتصفية التي تقابل سلطة الجور أو السجن والقتل.
46
مهمتهم» بصفته «السمة السائدة في
ّ يسميه «انحراف المثقَّ فين عن
ّ
معظم األحيان» (ص.)33
-1بالنسبة إلى اإلشارات إلى غرامشي ،يراجع كتاب «غرامشي وقضايا المجتمع المدني»
(دمشق .دار كنعان ،)1991 ،ص .219 - 215أما شرطية حضور المثقفين المنضوين في
الطبقة المهيمنة فهي لزوم إنتاج فلسفة ونظرية سياسية واقتصادات تؤلف مع ًا وجهة نظر
شاملة متسقة ،تسهّ ل ترجمة مبادئها من حقل إلى آخر ،بحيث تنسجم طموحات الجماعة
التي يخدمونها مع مصالح المجتمع بر ّمته.
يراجع مقال Enrico Augelliو Craig Murphyبعنوان «غرامشي والعالقات الدولية» في كتاب:
Gramsci,Historical Materalism and International Relation.Ed.Stephen
Gill (Cambridge U.P. 1993.p.131).
47
النخبة الفكرية واالنشقاق
ِّ
يشخص عزيز السيد حصة كبيرة ،كما
تأخذ فيها التوصيات واإلدانات ّ
جاسم ذلك في أبرز قراءاته ألمراض الحركات السياسية في العالم
الثالث ( (( .إذ ينبغي أن يجد المثقَّ ف نفسه عند مفترق الطرق :فال
تعددت أدوات
الحزب ضامن للحقيقة ،وال الجماهير لصيقة به ،مهما َّ
الخديعة ،وتباينت عندما يكون مالك ًا للسلطة ،ما بين دعاية وإعالم
وتسويف وخديعة .فالمثقَّ ف يتباعد ،لزام ًا ،عن أية مرجعية نخبوية أو
اقتران ،شأنه شأن المسكونين بالتص ُّوف ،غريب ًا يح ِ ّتم االنفصام المذكو ُر
المدرسي أو مجت ّر ًا
ّ ّ
التقليدي أو اغترابه؛ فهو ليس مسترجع ًا للخطاب
الميتافيزيقي من دون أن يح ِ ّتم ذلك انقطاعه
ّ له ،كما أنه يعيش منفاه
ِّ
محقق ًا انتماءه البديل في ّ
الفكري اللصيق بحياة الناس، عن مشروعه
يتموضع بين األشقياء والغرباء والصعاليك،
ُ الكتابة الممكنة ،وإال فإنه
كما فعل غي ُره ،من ُ
قبل ،في التاريخ ،مسترجع ًا إياهم ،مستأنس ًا بهم ،في
صحبة مدوَّنة هي بمثابة تطويع تاريخي لشرعية االنتماء ما بين سقراط،
والشريف الرضي ،وعبد األمير الحصيري والرصافي ،كما يفعل عزيز
السيد -جاسم -أيض ًا في مجموعة الكتب التي توالت له ،كأنها تلك
يسميها أدورنو «الكتابة مكان ًا للعيش» .بحسب ما ينقله إدوارد
ّ التي
48
سعيد مصادق ًا (ص ،67من «صور المثقَّ ف») ( (( .فالمثقَّ فون ليسوا،
بالضرورة ،بين «الموالين» و«االنتهازيين» و«االعتذاريين» الذين
يتابع سماح إدريس حضورَهم في المدوّنة السردية الحديثة في مصر،
ولكن ،يمكن أن يكونوا «رافضين» و«هروبيين»،
ْ منذ ثورة .1952
المس َتعدين أو المرفوضين ،أيض ًا ،فاألنماط األخيرة من الخوارج
وبين ُ
يوحدها غي ُر موقفها ،بما يتطابق مع
جامع ،وال ّ
ٌ هي التي ال يجمعها
ّ
الفطري عثرة تخصيصات سعيد بوجوب أال يكون االنتماء أو الوالء
في طريق رأي المثقَّ ف أو موقفه .أما «تغيير اآلراء تبع ًا للظروف» أو
المتأخرة» فك ّلها من
ّ والردة
ّ الوطني
ّ والتبجح
ُّ «التزام الصمت الحذر
مواصفات انتفاء الصفة ال حضورها (ص.)14
ْ
وظهرت لعزيز السيد جاسم مجموعة متالحقة من الكتابة بصفتها مدونة لالنتماء، -1
أبرزها :الحضارة واالغتراب (بيروت :دار االندلس ،)1987 ،االغتراب في حياة الشريف
الرضي وشعره (بيروت :دار االندلس ،)1987 ،ديوان عبداألمير الحصيري :جزءان (بغداد
الثقافية ،)1987 ،الرصافي الخالد (بغداد :العبايجي ،)1990 ،علي بن أبي طالب :سلطة
الحق (بيروت :اآلداب1988 ،؛ ط ،2بيروت :دار االنتشار العربي.)1997 ،
49
النخبة الفكرية واالنشقاق
-1وفي هذه القراءة تُستخدم طبعة دار الطليعة :ترجمة سامي الدروبي وجمال األتاسي
( ،1963ط .)1984 ،5بينما تُستخدم مقدمة سارتر الواردة في الطبعة اإلنجليزية بترجمة
كونستانس فارينغتون.)N.Y.: Grove Press. 1963.1968( :
50
المهيأة في نفسية هذا الوريث
ّ أسهمت في تشكيل المادة
ْ وحوارات
نخب أخرى في اإلتيان باألجواء الليبرالية
ٌ شاركت
ْ والكامنة عنده .وكما
ٍ
حركات وأفكار ًا نخبوية أخرى جاءت بِ وِ الدات مش َّوهة فإن
والدستوريةّ ،
ردته إزاء
لكن خطورة هذا الوريث تكمن في عنف ّ
ّ ومريضة أيض ًا،
الذاتي والمركزية
ّ حاضر يمضي في ا ّتجاه آخر يتف ّتت عنده التمحور
و«البطولة» المنشودة ،بما يبقي العصابي مأزوم ًا بين خياله المليء
ّ
كسجل ألفعال شخصية خارقة ،وبين مغازلة المستفيدين بعقدة التاريخ
ِّ
متوهم ًا غَ َز َلهم إذعان ًا ورضوخ ًا واعتراف ًا .وما بين األمرين، من وجوده،
الداخلي؛ فالوريث ينظر ،با ِ ّتهام ،إلى ّ
كل ّ التأزم ،ومعه القهر
ُّ يشتد
ّ
ّ
المتحكم في الذهن وأخيلته ،والذي صوت نشاز يتباين مع المراد
تتك ّرر أصداؤه في أوراق المستفيدين وأصواتهم ،داخ ً
ال وخارج ًا.
ثمة م َْن
مادة غزير ٌة قيد االستعمال بين هذه األطرافّ ، ّ
تتشكل ّ وإذ
يعيد تبويبها في مجريات الصور المك َّررة عن «الشرق» و«العقل»
العربي واإلسالم ( (( ،بصفتها امتداد ًا لسياقات الدموية واالستبداد
ّ
ِّ
يشك ُل مفردات ّ
وكل ما والخبل والقهر والعدوانية والعنف واإلسراف
ّ
االستعماري؛ من هنا تأتي ضرورة وضع هذه الوالدة العصابية الخطاب
51
النخبة الفكرية واالنشقاق
إن قدرة بعض المثقَّ فين على المكوث في ذهن العامّة ،على رغم
ّ
ضدهم ،ال تتأ ّكد إال بصفتها حاجة الناس إلى الحلم
التشويهات الكثيرة ّ
وإمكانات التحقّ ق التي ال يضمنها الواقع .وك ّلما تباعد المثقَّ فون عن
السياسي ،أو تع ّرضوا للمكيدة
ّ «المصلحة» ،أو تعا َل ْوا على المجتمع
ُ
أمثال هذا والموت ،ضمنوا التحاقهم بالحلم .ومنذ النهضة حضر
المثقَّ ف في ذهن الجمهور.
52
األدبي
ّ غير مشغول بالفعل السياسي ،وآخر شريك في تكوين الرأي
مهمته تتجاوز االنهماكات
أن ّالبحثي الخالص ،وثالث يرى ّ
ّ المحض أو
البحثية المحض با ّتجاه تفعيل الرأي العام وتحريكه ،من خالل الشراكة
مع الجماعات والفئات والجمعيات ،أو مباشر ًة عبر منابر الدرس
والصحافة والمنافذ العربية واألجنبية .وعندما تتعقّ د المواجهة ،غالب ًا
العصيان ،مع ما يعنيه ذلك من نتائج
ُ ُ
الصمت أو التعارض أو ما يسود
كضحية محتملة.
ّ تخص المثقَّ ف نفسه
ّ متفاوتة
- 1مجلة «الرسالة»« ،في األدب العربي الحديث» ،العدد .170ويواصل ذلك في
األعداد 171و 174و .181ويراجع ،كذلك« ،االستشراق في الفكر العربي» ،بقصد
متابعة مفصلة لمثل هذه المفاهيم.
53
النخبة الفكرية واالنشقاق
ٍ
لنسق ما ،كانحياز ٌ
انحيازات عرقية أو دينية أو طائفية وقد تجري
الغربي الذي يتعرض له هشام شرابي قاطع ًا،
ّ المسيحيين إلى التجديد
شهدت تعقيد ًا واشتباك ًا ك ّلما تفاعل أو تقاطع
ْ لكن ا ّتجاهات ال ُّن َخب
ّ
ُ
فضغط األخير يتأ ّتى من وقائع حضوره، يخصان البيئة والفكر؛
ّ عامالن
كما هو حال مثقَّ في وسط العراق وجنوبه إزاء اإلنجليز مث ً
ال ،عندما
لعب المثقَّ فون ،من العوائل الشيعية التقليدية ،دورَهم ،جنب ًا إلى جنب،
54
أن األفكار التالية ،من نازية وماركسية ،لم
مع المشايخ الكبار .كما ّ
الليبرالي الناهض ،منذ نهاية القرن
ّ تكن ضعيفة األثر في مشاكسة التيار
التاسع عشر.
بأن ا ّتجاه
وتعددية المنابر واألصوات ،يَصعب القطع ّ
ُّ وبمثل هذا التعقيد
ّ
.ولعل (((
العلماني» وحده
ّ اإلسالمي
ّ القومية العربية خرج من «الجيل
ُي ْربك مثل ذلك القطع ،بحكم انفتاح الوعي القومي على غيره ،وسعيه
القومي:
ّ با ّتجاه المشروع
- 1حول آراء شرابي ،يراجع كتابه «المثقفون العرب والغرب» (بيروت :دار النهار،
1969؛ ط ،)1991 ،4ص 71و.126
- 2يراجع« :االستشراق في الفكر العربيّ » ،ص.182 - 161
55
النخبة الفكرية واالنشقاق
56
اإلسالم انبعاث ًا (((.
ُ أ كيد استعاده
أعده شكيب
ّ والمفهوم يأخذ عن ستودارد كثير ًا ،ألن كتابه الذي
أرسالن َح َ
فل بهوامش ومتابعات ُت َع ّد في جوهر النظرية القومية التي
يسمي ستودارد مجيء الرسالة
يلتقطها األرسوزي ،وعفلق ،وآخرون ،إذ ّ
أن
«االستحالة الكبرى واالنقالب العظيم واالستجداد الكبير»؛ أي ّ
ّ
العصري ،كما أنها تدعو على عالئم النهضة الماضية تب ّرر مسعى ال َت َن ُّور
ُص ُعد البحث والتوعية إلى استعادة الماضي في ضوء عالقته بالحاضر،
بموجب منهجية تأخذ بجانب من تاريخانية تحديثية ،و ُت ْهمل الفسحة
التي ينبغي أن ِ ّ
ييسرها العص ُر لألق ّل ّيات .وعلى رغم ّ
أن هؤالء ي ّتفقون
ّ
تتشكل ،بمعناها أن الدولة لم
مع «ولز» ،كما يفعل أرسالن ،في ّ
أسسوها
جميع الحكومات التي َّ
ُ العصري عند العرب ،عندما كانت
مطلقة ،عرض ًة للزالزل والمكايد والغيلة والعوارض التي هي من لوازم
كل حكومة مطلقة التص ُّرف ،فإن المجادلة َتسعى إلى تمكين ذلك .إذ
إن جوهر العالقة باألفكار والقراءات عن الغرب ،بخصوص الماضي
ّ
والحاضر ،ي ّتجه نحو استنطاق نظرية ما ت َّتسع لمشروع النهضة .وعندما
نم ّر بـ«الوعي القومي» لزريق ،وقبله «ثورة العرب» ألسعد داغر
- 1وأقترح ،في التعريف بتبلور هذه التيارات ،العودة إلى كتابي« :االستشراق في الفكر
العربيّ » ،وال س ّيما الصفحات .182 - 149 ،147 - 111 ،60 - 45
57
النخبة الفكرية واالنشقاق
تحرص
ُ ُلدت عن المثاقَفة،
فإن النخبة المثاقِفة ،والتي و ْ
وبكلمة أخرىّ ،
على تقديم مفهوماتها عبر االستعانة باآلخر ،بينما تجري االختيارات
معدوم الدولة
َ ٍ
متفاوت للماضي :بين م َْن يراه االنتقائية في ضوء فهم
يحبذه انفجار ًا رسولي ًا
والمؤسسة ،وم َْن يراه إمبراطوري ًا مطلق ًا ،وبين من ّ
َّ
قاب ً
ال للتوالد.
الدولة واإلمبراطورية
58
والثقافة األوروبية ،لمقابلة صياغاته المقصودة إزاء اآلخرين ،يميل
الغربي،
ّ الشرقي مقابل الروح
ّ توفيق الحكيم إلى العزل بين الروح
يسميه انعقاد النوايا على إحياء المجد الغابر والمكانة
ّ بقصد بلوغ ما
واالزدهار ،ال بعث المادة نفسها؛ أي أنه يَخرج من النزاعات الدائرة
بين الوطنية المصرية ،واإلسالمية ،والقومية العربية ،نحو ما هو أوسع
لكن التوفيق أو التفريق ليس هو
ّ لتأ كيد فعل العصر في هضم الماضي.
الخاص عام .1938بل هو
ّ الذي يعني طه حسين في عدد «الهالل»
معنى -تحديد ًا -بـ«مسألة الوحدة العربية أو الوحدة اإلسالمية التي
ّ
وتشتد الخصومة» ،لكنه يعارض أن تفنى أ ّم ٌة في
ّ يَكثر فيها الكالم،
شعب لشعب ،رافض ًا من دون مواربة ،فكرة اإلمبراطورية
ٌ أمّة ،أو ي َ
ُخض َع
عام شامل ،يبسط عليها جناحيه ،ويح ّوطها الجامعة في ّ
ظل سلطان ّ
بق ّوته وبأسه .وباستشراق للعصر ولضغوطه واتجاهاتهّ ِ ،
يؤكد حسين
لزوم االحتفاظ بالقوميات والشخصيات الوطنية ،وبحركتها التامّة،
وبالسيادة العامّة لهم ،في حياتهم الداخلية والخارجية .إنه ،بذلك،
ِّ
المفكرون القوميون نحو ي ّتجه نحو بناء الدولة الوطنية ،في حين ي ّتجه
الدولة القومية ،ولو جرى االنتباه إلى ما قيل ،وغي ُره كثي ٌرَ ،ل َتج َّن َ
ب
المحن الكثيرة والصراعات!
َ العرب
ُ
59
النخبة الفكرية واالنشقاق
ّ
يتشكل بحسب انتماءات اإلحاالت التاريخية؛ فثمة تباين ،في النظرة،
ومثاقفات وشروط؛ ولهذا يحيل على العقلين المتباينين اللذين جرت
اإلشارة إليهما عند كراتشكويفسكي من قبل ،إذ سنرى« :عق ً
ال حديث ًا
َيفْ همها (أي الوحدة العربية) على وجه ،وعق ً
ال قديم ًا يفهمها على وجه
آخر» ( (( .أما العقل الحديث فهو الذي يشرع بتاريخانية التحديث،
مستأنف ًا ما كان من قبل:
- 1مجلة «الهالل» ،1938 ،عدد ممتاز بعنوان« :العرب واإلسالم في العصر الحديث».
وعنوان مشاركة طه حسين« :في العقل العربيّ الحديث» ،ص.49
60
ِقل َُّة طه حسين المثقَّ فة
لكن إحالة طه حسين على تفاوتات العقلين تسعى ،ضمن ًا ،إلى التقاط
ّ
ني بلفت االنتباه إلى
ُخ ِب ما بعد النهضة؛ فهو م َْع ّ
اال ّتجاه األبرز بين ن َ
يسميها الق ّلة المثقّ فة .وهذه
فئة فاعلة في تكوين الدولة العصرية ،ولهذا ّ
الفئة تتماهى مع تعريفات ماثيو أرنولد للق ّلة المخ ِ ّلصة ،أو المنقِذة،
ت عقلها
جرد ْ
َّ مع جوليان بندا في منعطف ،لتحيد عنه في آخر ،ألنها
اإلعراض .وهذه الفئة المخ ِ ّلصة هي التي يَعهد إليها بندا بـ«تدبير
األمور»(ص .)49نحن ،إذ ًا ،بإزاء خطاب فيه يقيني ٌة عالية بوجود ق ّلة
أو حزب ،ويمكن أن تكون هي الم َّت َهمة عند سارتر وفانون ،بصفتها
- 1يقول سارتر« :إنّ النخبة األوروبية تتكفل بصناعة نخبة من األهالي» ،ص 7من الطبعة
يراجع فانون ،ص- 20
ُ المستعمر،
َ اإلنجليزية لـ «معذبو األرض» لفانون .وحول المثقف
22من الطبعة العربية.
61
النخبة الفكرية واالنشقاق
القادمة.
متف ّرقة« ،فلم تحفل بها الحكومة القائمة إذ ذاك ،ولم تلتفت إليها»
يوم ،في
ذات ٍ
َ معت، (ص ،)9بينما ِح َ
يل بينها وبين القراء عندما ُج ْ
كتاب ،وأرادت أن تصل إلى أيدي الق ّراء مجتمع ًة لتعظ المسرِ َ
ف وتع ّزي
شاء الله من ألوان العبث ما دامت ال تصل إلى أيدي الق ّراء» (ص.)8
- 1ظهر الكتاب في لبنان ،ثم أصدرته دار المعارف بعد ثورة ،1952ط .1976 ،4لكن
«موقف المتردد» على صعيد الممارسة يميز طه حسين وآخرين من رواد النهضة كلما
َصعبت المواجهة ،واستمالتهم الرغبة في اإلصالح والتأثير في الملك .ولهذا يكتب مصطفى
يتوجهون بالثناء على مجهودات
ّ عبدالغني عن خطف المجاملة لدى طه حسين وغيره ،وهم
الملك .يراجع «المثقفون وعبدالناصر» .ص.85 - 82
62
القرن السابع عشر» (ص .(( ( )10أما ما يعنيه المنع والمصادرة عند
أن التنكيل بالكاتب يجري من طريق التنكيل بكتابه،
طه حسين ،فهو ّ
وأن هذا الفعل من قبل السلطة «هو االستجابة للهوى واالنقياد للشهوة
ّ
بالحب والبغض ،ال بالحقّ والعدل» (ص.)11 - 10
ّ والح ْك ِم في الناس
ُ
َ
ضعف السلطة المهيمنة ،وخوفَها لكن المنع يعني ،من الجانب اآلخر،
ّ
وهلعها وطغيانَها ،فهو الخوف الذي يو ِ ّرط في البغي ،وهو الذعر الذي
َ
ألن
يدفع إلى الطغيان ،وكالهما ال يحوالن دون ذيوع الممنوع؛ ذلك ّ
والكبح يح ِ ّتم الذيوع ،فالسلطة «تصادر
َ التحريم يزيد في االنتشار،
كتاب ًا في مصر ،وتظن أنها حالت بينه وبين المصريين ،ثم ال تلبث أن
الناس فيها ،وانتقض عليها
ُ تراه قد نُشِ َر في لبنان ،وعاد إلى مصر فقرأه
ّرت ،واستبقَ الناس إلى هذا الكتاب،
َسد عليها ما دب ْ
أبرمت .وف َ
ْ كل ما
وتنافسوا في الظفر به»(ص.)11
وبهذا الفعل الالحق ،أي المنع ،يكتسب النص مع ًنى مضاف ًا ،فهو
- 1ويمكن أن نتبين قدرة طه حسين على تثوير خطابه باستمرار .مقارن ًة بمبررات الكتابة.
عندما جاء بـ«مستقبل الثقافة» في مصر .وتجدر اإلشار إلى أنّ مجلة «التطور» التي
ْ
نشرت مقالة لرمسيس أصدرتها جماعة الفنّ والح ّريّة عام ،1940واشرف عليها أنور كامل،
يونان سعى فيها إلى ترميم ما غاب عن «مستقبل الثقافة»؛ فال الديموقراطية تتوقف على
المعلومات الجديدة .وال الثقافة تخلو من األخالق والمعرفة والعلم .كما ال يكفي أن نعطي
الح ّريّة ،وإنما البد من ممارستها لنتعلم هذه الح ّريّة (ص 17 - 16من «الكتابة األخرى»،
نشرت -أيض ًا -دفاعها عن طه حسين ْ إعادة نشر كانون األول/ديسمبر .)1992لكنّ المجلة
ضد الهجمات الرجعية .ولم تغب هذه المالحظات عن طه حسين في كتاباته الالحقة.
63
النخبة الفكرية واالنشقاق
مستجدة
ّ ٍ
مقاالت مع أخرى ،لينشئ عالقات يتكاتف ،بعضه مع بعض،
بدت غائبة من قبل ،و َيظْ هر المؤ ِ ّلف ،في ضوء هذه العالقات ،صاحب
كبحه ُّ
أقل ضرر ًا من تح ُّرره ،بالنسبة إلى قضية ،وصاحب صوت مسموعُ ،
نظام الحكم القائم .وفي هذه المقاالت تتراكم صورة مثقّ ف النخبة،
مع حقوق الناس ومصائرهم ،واالكتناز وعي ًا بما ينبغي أن يَؤول إليه
ُ
أطرقت إلى أما أنا فأعترف بأني لم أرفع كتفي ،ولم أه ّز رأسي ،وإنما
64
الناس فلم يروني» (((.
ُ
تشكيل صورة المثقَّ ف من هذا اإلحساس الذي يح ِ ّرره طه ويبتدئ
حسين من مظاهر الغرور والكبرياء واالعتداد بالنفس والوطنّ ِ ،
مؤكد ًا
البد من أن يطاله
ّ أنه -كغيره من «المصريين المثقَّ فين» (ص-)186
معني ًا مثلهم بحاضر الناس والبالد ،على خالف
ّ الحزن والخزي ،ما دام
ُ
كثرة كاثرة «حيا ُتهم تجري على الوتيرة التي َألِفناها» (ص.)191
أما هو وصحبه فـ«ق ّلة ضئيلة ليس أيس َر من إحصائها» (ص.)191
فإن الكثرة الم ّتهمة «ماضون في حياتهم كما تع َّودوا أن
وفي المقابلّ ،
أشد
ّ ال ،وعقو ً
ال قصار ًا ،وقلوب ًا قاسية كالحجار ،بل يمضوا :ألسن ًة طوا ً
قسوة» .وال يعني هذا التقابل والتعارض وجه ًا طارئ ًا؛ فالكثرة الم َّتهمة
«كانوا مشغولين بأنفسهم عن المثقَّ فين المصريين» ،بينما يعيش
«األيام السود»
ُ هؤالء بمسؤولياتهم وأحالمهم وآمالهمُ .ت ْغرقهم هذه
و«الفلسفة اليائسة» (ص.)190
65
النخبة الفكرية واالنشقاق
كثير ًا من الحرص واألناة حين يقرأ أنبا َء مصر في فرنسا ،وحين يقرأ
أن مصر تبلغ،
يردد الناس ّ
أنباء فرنسا في مصر» (ص .)182أما عندما ّ
اآلن مرتبة أوروبية ،فإنه يس ِ ّلم بأمر ليدحضه بآخر ،فيقول ّ
إن في مصر
وزارات منظمة ،كما يوجد فيها برلمان ،وأهلها «نالوا من الترف ما
ّ
المتحضرة في هذه األيام» (ص .)188أما ُصرِ َ
ف عن كثير من األمم
رده فإحالة أخرى على األخبار ،لتكون برهانه وسالحه في دحض
ُّ
السياسي« :العالم كله قد تلقّ ى منذ شهر ،نب ًأ
ّ مشروعية المجتمع
66
المسيطرين على أمره؛ فهو حائر بين الحركة والسكون ،وبين الكالم
إن عودة االستعمار
والصمت ،وبين الشعور والجمود» (صّ .)185
ألن «البلد الذي كنا نراه
ذهن طه حسينّ ،
َ الش ّباك هي التي تسكن
من ّ
أه ً
ال لالستقالل ،والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له
بحقّ ه في هذا االستقالل ،ثم نحن ننظر فإذا هو ُي َر ّد عن حقه أعنف
ّ
يترضونه ويتم ّلقونه في أمس الرد وأقساه ،وإذا المنتصرون الذين كانوا
ّ
ّ
وتنكروا له ،وكادوه كيد ًا ،إن َص َّو َر شيئ ًا فإنما القريب قد ائتمروا به،
يص ّور الجو َر له والغد َر والظلم والجحود» (ص )186 - 185والنتيجة
هي شعور النخبة بالخديعة« ،كأنهم لم ينعموا بهذه اآلمال ،وكأنهم
لم ي َْسعدوا بما حاولوا من األعمال ،وكأنهم لم يستمتعوا بها بما بذلوا
يتحدث ُ
بعضهم إلى ّ يتحدثوا إلى أنفسهم ،ولم
ّ من الجهود ،وكأنهم لم
بأن آمالهم التي كانت بعيدة قد أخذت َتق ُرب حتى توشك أن
بعض ّ
تتحقّ ق» (ص.)189
67
النخبة الفكرية واالنشقاق
ِّ
والمتحقق، ومثل هذا الخطاب ال يكتفي بالمقارنة ما بين المرتجى
السياسي
ّ وإنما يُكثر من التكرار لضمان حضوره الصورة المرفوضة للنظام
امتعاضي ،تتك ّرر
ّ وإدانتها ،وتمييز موقف المثقَّ فين قبالتها .إنه خطاب
مواصفا ُته ،بشكل أو بأخر ،في الكتابة ،منذ منتصف األربعينيات ،في
«القاهرة الجديدة» ،و«خان الخليلي» و«زقاق المدق» و«السراب»
لكن خطاب
ّ و«بداية ونهاية» بين كتابات محفوظ قبل ثورة .1952
الرفض واالمتعاض (الذي تتأ ّكد ميزاته في القصيدة أيض ًا) يمتلك
ميله الداخلي إلى التصحيح والتصويب واالستدراك أ كثر من ميله إلى
السياسي تحريض ًا
ّ المعنيون بالفعل
ّ االنقالب والتغيير ،وقد يقرأ فيه
ويشبون عليه،
ّ على التم ُّرد أو إفصاح ًا عن استياء ،فيتع ّلمون منه،
يتبدى في بالغات التغيير المعروفة
ّ ويأخذون مفرداتهم عنه كما
ّ
يتشكل وحده عادةً ،لكونه متموضع ًا في والبيانات األولى ،لك ّنه ال
كتابات تاريخية ومنقوالت عن اآلداب األخرى وبالغات نهضوية
68
السياسي لم
ّ إن جماعات المجتمع
وفكرية وقراءات سوسيولوجية؛ إذ ّ
حلمهم عن رغبة
ُ أملهم أو
ُ يأتوا إلى فكرة التغيير من فراغ ،ولم َيل ِْد
شاركت
ْ فحسب ،وما القراءات األولى والتالية غير صياغات ذهنية (((،
غالب هذه
ُ السياسي .ولهذا تقع
ّ في تشكيل أذهان جماعات الفعل
تتعمق أو َت ْبهت ،لتظهر فاعلي ُتها في ضوء
ّ القراءات عند عتبة المثاقفة،
ُقطْ َبي االنشداد :ما بين الرغبة في اآلخر من جانب ،وزخم الموروث
والواقع من جانب آخر.
ُ
التكوينات اللفظية ،بما هي عليه من األهمية التي تنطوي عليها
ّ أما
اجتماعي ومعارضة سياسية عند طه حسين ،وفي الرواية عند
ّ تراكم
نجيب محفوظ ومجموعة أخرى من الروائيين والشعراء العرب ،فهي
بتبدالت جوهرية في خطاب ما بعد الحرب الثانية ،الذي كونها ِ
تؤذن ّ
يكاد أن يكون خطاب التمهيد للتغييرات السياسية ومشروع الدول
الوطنية .إنه خطاب يتفاوت مع اهتمامات ال ُّن َخب السابقة في مواجهتها
للغرب أو تالقيها معه؛ فهو لم ي َُع ْد م َْعن ِّي ًا ،أساس ًا ،بمفاهيم األمّة والدولة
مثال -كتاب د .مارلين نصر« ،التصور القوميّ العربيّ في فكر جمال ً -1يراجع-
عبدالناصر» ،ويحيل عليه عزيز السيد جاسم في كتابه «مقتل جمال عبدالناصر»(بغداد:
النهضة ،1985 ،ط ،)1985 ،3ص ،27 - 25حيث ترد في القراءات األولى كتابات
رواد النهضة وحياة األبطال ،وكتابات شكيب أرسالن ..إلخ .ويقول عزيز السيد جاسم،
معقب ًا ،حول إمكانية تدوين التاريخ العربي والثورة المصرية في مصر« :لما يتسم به الكتاب
ّ
دور مصري وعربي هو والمثقفون المصريون من أصالة ثقافية وخبرة عالية تؤهالن لتأدية ٍ
دور طليعيّ حتم ًا»(ص.)52
69
النخبة الفكرية واالنشقاق
70
االجتماع ،االقتصاد ،السياسة ،علم الجمال ،األدب ،الفلسفة ((( .و َت ْكثر
الخمسينيات ،من علماء االجتماع ،خصوص ًا ،كشاكر
ّ مشاركات ك ّتاب
ِّ
المتخصصة كـ«الثقافة مصطفى سليم وآخرين ،بينما تبتدئ المجلّات
العراقية» ،ومجلّات مصرية عدة ،باإلضافة إلى «األديب» و«اآلداب»
معمقة في قضايا األدب واالجتماع والفكر
و«علوم» ،بتقديم قراءات ّ
عما كان سائد ًا من قبل ما بين اإلحياء ّ
تشكل افتراق ًا ،في االهتمامّ ،
والنهضة القومية.
« -1القرية المصرية بين القديم والجديد» في« :دراسات في الثقافة الوطنية» ،ص.313
71
النخبة الفكرية واالنشقاق
ِّ
المفكرين والمؤ ِ ّرخين العرب المشغولين بقضية التح ُّرر فإن
ومهما يكنّ ،
الوطني حاولوا الفصل بين «المثقَّ فين الهامشيين الغرباء عن وطنهم»،
ّ
«الخالقين الليبرالي ،وبين
ّ يسمي أنور عبدالملك جماعة الترفُّ ع
ّ كما
ِ
المثقّ فين مهمة نشر الثقافة» .وهؤالء ّ الذين أخذوا على عاتقهم
(بكسر القاف) ليسوا المثقَّ فين (بفتح القاف)؛ ْ
أي «كل م َْن يكسب
الذهني» .كما أنهم
ّ الجانب
ُ ذهني ،أو ي َْغلب عليه
ّ حياته بواسطة عمل
ليسوا «كل المثقّ فين ،بالمعنى الواسع للكلمة» بمعنى أولئك الذين
«شغيلة الثقافة» .وهذا المسعى للتعريف،
ّ يستخدمون «الثقافة» أو
متباعد ًا عن « ِق ّلة» طه حسين ،هو الذي يدعو عبدالملك إلى التصريح،
72
بأن أفكار غرامشي حول المثقَّ فين لم تتحقّ ق «في يوم من األيّام
بفرحّ ،
العربي اليوم» (((؛ إذ لم يسبق
ّ يتم في العالم
بمثل هذا السطوع الذي ّ
العربي،
ّ لقيت تصديق ًا كهذا الذي تلقاه اليوم في العالم
ْ ألطروحاته أن
لكن هذا االستبشار يتكافأ بالقلق إزاء انكفاء
ّ كما يقول في مكان آخر.
فعالية موازية ،يدركها طه حسين ،نسبي ًا ،في مفهومه للق ّلة المثقَّ فةْ :
فعبد ّ
أدى إلى «تق ُّلص في اإلسهام
الغرامشي ّ
ّ أن هذا االنشغال
الملك يرى ّ
األعم» ((( .ومن
ّ ّ
النظري على المستوى العربي المباشر في عمل التطوير
ّ
أن تفريقات عبدالملك المستعينة ،جزئي ًا ،بغرامشي ال َت ْحسم
الواضح ّ
الواقع الفعلي للمثقَّ فين ،وال عالقتهم بالمعرفة والح ّريّة والدولة والحزب
َ
معنية بمثقّ ف
ّ الذي يديرها في غياب الليبرالية الواسعة .كما أنها ليست
الداخلي ،الذي َي ْرصده إدوارد سعيد ،جغرافي ًا وميتافيزيقي ًا،
ّ المنفى
ّ
كالمفكر عزيز السيد يستحث ِ ّ
منقب ًا عن الح ّريّة ّ لدى أدورنو ،بينما
لكن ،لو ُذبح
ْ جاسم ،إلى أن يصيح «لقد ُذبح الكبش فدا ًء إلسماعيل،
إسماعيل فما قيمة أن يُذبح الكبش؟» ((( .ذلك ألن عبدالملك يشتغل،
ّ
«المثقفون والثقافة» .في المصدر السابق ،وبشأن غرامشي ،ص . 437وتظهر اإلشارة -1
في ترجمة مختلفة عادة في كتابه «الفكر العربي في معركة النهضة» ،ص.44
- 2الفكر العربي في معركة النهضة ،ص44
- 3حاوره فاروق البقيلي« :عزيز السيد جاسم يرسم خريطة الثقافة العربية»ُ .من َْج ٌز عام
،1985و ُنشر في «البيان»(الثقافي)-دبي ،الخميس 21تشرين الثاني/نوفمبر ،1996
ص.30
73
النخبة الفكرية واالنشقاق
وفي ذهنه قضيتان أساسيتان :أوالهما االنتصار للثورة الوطنية على رغم
صدها له ولغيره ،ورميها إيّاه في أبي زعبل؛ وثانيتهما ،مواجه ُة سياسة
ّ
ٌ
حال عا ّم ٌة من الضعف نتجت عنها -كما يقول-
ْ دنلوب التعليمية التي
البد من التفريق بين مجموعة من المفاهيم التي
ّ المعرفي ((( .من هنا
ّ
الخمسينيات ،بشأن النخبة والمثقَّ ف.
ّ أخذت في التك ُّون الواضح ،منذ
ْ
« - 1كيف نعالج مشكلة الثقافة العا ّمة؟» ،في دراسات ..ص ،141 - 137عن «المساء».
.22/10/1957
- 2ويجري إسقاط تسمية غرامشي لحزب الطبقة العاملة الطليعيّ ،كإرادة جماعية ،على
ْ
آمنت بقيادتها للكفاح وللتحول الوطنيّ أحزاب البورجوازيات الصغيرة ومثيالتها التي
الديموقراطيّ .
74
ّ
تشكلت على الهيمنة التي يرصدها غرامشي عند الفئات الطليعية ،أم
أساس الهيمنة التي يرصدها غرامشي عند الفئات الطليعية ،أو على
أساس الشراكة العامّة في التثقيف .وهؤالء ليسوا كيان ًا واحد ًا ،وغالب ًا
توجهاتهم لـ «معتقدات» مركزية ،تدعو أنور عبدالملك-
ّ ما َتخضع
مث ً
ال -إلى الدفاع عن الثورة الوطنية ،حتى عندما َت ْدفع به إلى السجن،
الشيوعي
ّ مبشر ًا بأمر ومشير ًا ،بمرارة ،إلى أمر آخر؛ ذلك ألن التثقيف
ّ
بأهمية االنتصار
ّ في حينه (في مصر والعراق والسودان وسوريا)يقول
للثورة الوطنية ،وكذلك للزعيم الوط ّني ،مهما بدا عليه من اختالل أو
صراع مع الفئات الوطنية .وكانت النتائج المتر ِ ّتبة على هذه الفرضيات
معروفة.
أن المثقَّ فين المنتمين إلى األحزاب ،غالب ًا ما يضطرون إلى ممارسة
كما ّ
فعل كالذي يمكن أن يمارسه المحترف السياسي ،من كيد أو قسر أو
أداء .وأشير إلى أن التجارب الكثيرة والمعلومات عن واقع المثقَّ فين
لكن
ّ ضحي ًة للتوجيه ( ((.
ّ شدة وقوع مثقَّ في االنتماء المنتمين ِ ّ
توضح ّ
- 1يذكر السيد فاضل ثامر ،وهو ناقد أدبي عراقي مبرّز ،أنه كتب ردّ ًا على رواية عزيز السيد
جاسم«،المناضل» ( ،)1969الجزء األول من الثالثية الصادرة عن دار الطليعة ،في ضوء
توجيه حزبيّ له .وكان فاضل ثامر عضو ًا في الحزب الشيوعي العراقي .وللمفارقة ،فإن الردّ
ظهر في مجلة «ألف باء» عندما كان يشرف على صفحتها األدبية الناقد والشاعر فاضل
العزاوي( .وقد ترك الحزب الشيوعيّ حينذاك) ،بينما يدير رئاسة التحرير الشاعر سامي
مهدي (وكان عضو ًا متقدم ًا في حزب البعث) .وتكمن المفارقات في أنّ المثقف الح ّر
يواجه خصومة األحزاب المحترفة جميع ًا ،وكان السيد عامر عبدالله ،عضو اللجنة المركزية
75
النخبة الفكرية واالنشقاق
للحزب الشيوعيّ العراقي ،قد طلب من المرحوم عبدالخالق السامرائي ،عضو القيادة لحزب
ُّ
التدخل إليقاف الثالثية. البعث،
76
التي يتالقى بعضها مع اآلخر ،أو يسقط نفسه على أنماط وضفاف
أخرى ،فتتآلف الكتابة ،أو تنهض ،بمثل هذه الظالل ،تتوارى م ّرةٌ،
وتع ّلن َم ّر ًة أخرى ،من دون اجتياز عتبة الخطيئة أو التكفير؛ فال
يتدخل
ّ تستبعدهم سلطةٌ ،وال يتعرضون إلقصاء مقصود ،إال عندما
مضاد ،مث ً
ال (((. ّ ّ
تقليدي» العام تحت ضغط «شاعر
ّ ُ
الرأي
وفي فضاء الثقافة الح ّرة تقيم األذهان الفاعلة التي تنحاز إلى الفكر
وساحاته ،مك ّونة لذواتها مناب َرها الداخلية التي ال ترى صيرورتها إ ّ
ال
تتعدد
ّ من خالل التفاعل مع حياة الناس ووجدانهم ومستقبلهم .هنا،
ُ
سبل الخروج على الهيمنة أو التغرير ،وتتن ّوع ما بين سجال ،وتورية،
1والهجمات ضدّ أدونيس ،غالب ًا ما تأتي من هذا الباب .وتكثر الشواهد غير المد ّونة بعدُ ،
بهذا الخصوص.
77
النخبة الفكرية واالنشقاق
لكن هذا الجمع ال يعني انعدام التفاوت؛ إذ تبقى قضية المثقَّ فين
ّ
ثمة
العرب داعية إلى مزيد من التأمُّل والمقارنة .فما بعد النهضةّ ،
حركات تح ُّرر ،ودول وطنية ،وتق ُّلبات ،وحكومات ،وسلطات متفاوتة،
بما يجعل الحركة والرأي يتفاوتان في ضوء كل مرحلة ،من دون أن
يعني ذلك التنازل عن ٍ ّ
أي من مك ّونات الهوية أعاله .ويمكن أن نلجأ
إلى اختيار نمطين من المثقف الح ّر ،يجتمعان في أشياء ،ويفترقان في
لنتبين المساحة التي يلتقي عندها المثقَّ فون ،من حيث الفاعلية
َّ أخرى،
الفكرية والشراكة الحياتية في التعبير عن الوجدان العام ومستلزمات
األداء الح ّر ،مهما بدت التكلفة غالية وجسيمة .وليكن هذان النمطان:
أنور عبدالملك ،وعزيز السيد جاسم.
78
التالقي واالفتراق
-1عزيز السيد جاسم :ملف خاص ،في مجلة األقالم .تموز ،1990ص .111
79
النخبة الفكرية واالنشقاق
80
كثير ًا عند ظواهر التس ُّلط واالنحراف عن المعلن؛ إذ قد يصادق
عبدالملك -مث ً
ال -على خطاب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في
االعتراف بالح ّريّات الطبقية وتمثيالتها ،وكذلك على «النهضة الثانية»
التي يراها وليدة جيل مثقَّ ف أنتج ،وشارك ،منذ األربعينيات ،واجد ًا
في ذلك شروع ًا نحو تحرير العقلية المصرية من ا ّتجاهها األسطوري،
العلمي .لكنه ،في مثل هذه الدعوة ،ال تغيب عن
ّ ودفعها نحو االتجاه
باله حقيقة أن سنوات ما بعد الثورة ولغاية 1964هي أ كثر تحديد ًا
وكبح ًا من النهضة األؤلى ومن ليبراليتها وانفتاحها ،فيقول« :إن
المح ّرمات في ميادين الدين والفلسفة والسياسة والجماليات تتضاعف
باسم الدفاع عن االستقالل الجديد وحمايته» ((( .وبينما يم ّر عبدالملك
على مشكلة المح َّرمات مرور ًا عابر ًا ،يتوقَّف عندها عزيز السيد جاسم
ملي ًا ،بصفتها من أمراض الحركات ،عند استالمها السلطة .فهو يراها
ّ
انعكاس ًا لظاهرة التخ ُّلف على قيادة الدولة ،كما أنها ظاهرة قابلة
لالستشراء في صياغات كثيرة يضطلع بها المحترفون الجدد ،من أبناء
البورجوازية الصغيرة الذين يحابون نزعة التخ ُّلف الحتواء االمتيازات.
ّ
الالثوري»، ّ
كـ«الثوري ولهذا لم تكن كتبه األولى في هذا الميدان،
81
النخبة الفكرية واالنشقاق
غير تشريح ألمراض الحركات الثورية الممتلئة بروح الريف ،وهي َتقْ ُدم
شغلت فانون تشغله ،لكنه يقوم بتعميقها
ْ إلى المدن .فالظواهر التي
في هذه الكتابات ،من خالل التجربة والدليل .ذلك أن خبرته في
الفالحي» وقراءاته الواسعة أتاحتا له تقديم تشريح لظواهر
ّ «العمل
الفعل المريض الذي قد يتالقى مع أمراض «اليسار الطفولي» ..لكنه،
82
تعم ٍق
األكاديمي من جانب آخر ،ال يقودان إلى ُّ
ّ الذهني
ّ والتأسيس
المضاد يحفر حضوره في
ّ نصه
فإن ّ
وتقص م ّتصل .ورغم ذلكّ ،
ّ مضن
ٍ
بخاصة ( ((.
ّ فعالة فيه ،خارج مصر،
واقع خمسيني ،لم تزل الليبرالية ّ
ٍ
ولهذا كان السياب ،والبياتي ،والفنان جواد سليم ،وغائب طعمة فرمان،
وحنا مينه ،والشاروني ،ويوسف إدريس ،وأمل دنقل ،وفؤاد التكرلي،
ومهدي عيسى الصقر ،وعبدالملك نوري ،وعشرات الشعراء والفنانين
المضاد ،انتصار ًا
ّ النص
ّ والك ّتاب يتجاورون في تكوين مواصفات
لإلنسان المغلوب المضطهد.
لكن االفتراق بين العقلين :أنور عبدالملك ،وعزيز السيد جاسم ،يتأ كد
ّ
ّ
فكري، السياسي ،با ّتجاه ما هو
ّ االجتماعي-
ّ الهم
ّ عندما يتباعدان عن
يخص السلطة والداعية الثقافي في أن واحد؛ إذ سيكتب كالهما في
ّ
كدت صفة
ْ لكن تأمّالتهما تتباين ك ّلما تأ
ّ موضوعات الفكر المعاصر،
وقاص
ّ ّ
النظري .فعزيز السيد جاسم ناقد اإلبداع على حساب المستبق
ّ
األجل ،بينما ينهمك عبدالملك ورسام ،استجمع الفكر طاقته
ّ وشاعر
في مشروعه التاريخي -الحضاري ،وإليه يستدرج مناقشاته المختلفة
العربي المعاصر،
ّ تتلخص في أطروحته للدكتوراه عن الفكر
ّ التي
-1يراجع سماح إدريس في هذا الموضوع ،وحجم إحاالته على ذكريات المثقفين
المصريين ،في كتابه المثقف العربيّ والسلطة» .لكنّ السنوات الالحقة طاولت المثقفين
السوريين -أيض ًا -تحت مظلة الوحدة!
83
النخبة الفكرية واالنشقاق
النص المضادّ
ّ تشكيالت
وبدء ًا ،ي ّتفق االثنان على سارتر ،لكنهما يتباعدان عند هذا االبتداء.
- 1مجلة «األقالم» ،عزيز السيد جاسم :ملف خاص ،تموز ،1990ص.111
84
ّ
الوجودي ،والتحاقه فعبد الملك يثني على سارتر لسعيه خارج المدى
أن «ال سبيل إلى
بحركات التح ُّرر ،إذ إنه أدرك -بكلمات سارترْ -
.أما عزيز السيد جاسم فإنه يرى الح ّريّة إال بمقاومة الغاصب»
( ((
الوجودية ِ ّ
تقدم ،أيام األزمات ،أطباق ًا مناسبةً ،لكنها لم تكن حلو ً
ال
بالمعنى اإليجابي -االجتماعي ،بل كانت نوع ًا من عزاء الذهن
الحادة« :كان رأي سارتر حول
ّ السياسي في إطار عصر اإلحباطات
وبأن االشتراكية هي النظرية والمذهب
ّ صلة الوجودية باالشتراكية،
التنصل نهائي ًا .عموم ًا ،كانت الوجودية تستجيب
ُّ األم ،مناسب ًا لعدم
ّ
للهروب من الماركسية وتحافظ -بدرجة ما -على حقّ الذات البشرية
في االختيار» (((.
ومثل هذا االفتراق يقترن -أيض ًا -بالموقف الشخصي حينذاك؛ إذ
بقي عبدالملك داخل التنظيمات ،بينما تركها عزيز السيد جاسم في
بحثه المأزوم عن الح ّريّة .ولهذا كان عبدالملك ينطلق ،في معالجته
للوجودية ،من الظرف العام ،من مؤتمر باندونغ وبشائر حركات التح ُّرر،
تصد الفلسفات
ّ يستجد في قلبه األمل في تطوير فلسفة تثقيفية
ّ حيث
وضد فلسفة
ّ ضد كامو،
ّ يتوجه مباشر ًة
ّ المضادة؛ ولهذا
ّ واال ّتجاهات
85
النخبة الفكرية واالنشقاق
ّ
المفكر االنتحار (ص ،)108مستغرب ًا أن يصادق الق ّراء على رأي هذا
الفلسفي في المقعولية الكون ،وفردية الكفاح ،ومسلك الرفض.
ويُجري كامو إسقاط ًا ألفكاره ،في أسطورة سيزيف ،حول ال جدوى
الفعل اإلنساني ،وعدمية الحياة .من هنا ،يرى عبد الملك الفلسفة
ُّ
والتنكر لكل مكاسب للتنصل من المسؤولية
ُّ المذكورة بمثابة «دعوة
العلوم البشرية» (ص.)111
86
تمت معها التساؤالت الفلسفية
مهمةّ ،
ّ كانت بمثابة «انتفاضات أدبية
ِ
باطّ راد عجيب :ما اإلنسان؟ ما المصير؟ ل َِم الموت؟ ول َِم الحياة إذ ًا؟»
يستجد بروز «حقيقة النزاع بين اإلنسان والمجموع
ّ (ص .)191ولهذا
ِّ
متوهج ًا ذاتي ًا «يهوي كنجم الخارجي» (ص ،)192فيظهر التم ُّرد
يقدم
ّ أن سارتر -مث ً
ال- مذ ّنب إلى قعر الفقدان الالمتناهي» لوال ّ
«تجربة فريدة مدهشة ،هي تجربة اإلنسان الذي لم توقفه تفاهة المصير
عن إعطاء معنى إلنسانيته» (ص.)193
87
النخبة الفكرية واالنشقاق
ُّ
الثوري فيه ،وإنما إن المبدع عند عزيز السيد جاسم ال يصادره المثقَّ ف
يمتزجان مع ًا إزاء قضية الح ّريّة ،فانشداده إلى التحليل الماركسي لم
يلغ انشداده إلى مفهوم الح ّريّة الوجودية ،وهذا ما يدعوه إلى تناقضية
ِ
َ
شرطي الفهم التاريخ والح ّريّة« :فالتاريخ هو تحقيق الح ّريّة حسب
88
ونشاطيته تبقى
ّ الصحيح ْين :الهيغلي ،والماركسي ،ولكن صحة التاريخ
َ
مع َّلقة مادامت الح ّريّة مفتقده وباقية كموضوع مجاهدة» ،كما يقول في
«الثورة والح ّريّة الناقصة» ((( .ويلتقط عبدالله العروي هذه المالحظة
ويقرنها بالمعنى الواسع الذي منحه المثقَّ فون العرب للمفهوم ،من
يعدونه إغفا ً
ال ج ّراء تأثّرهم بالوجودية ،ومن ج ّراء انتقاد ِ ّ
مفكريهم لما ّ
تالي ًا لمدياتها .ويكتب العروي محاور ًا السيد جاسم:
لكن السبب الذي جعل المؤ ِ ّلف يعي هذا التناقض ،اليوم ،هو
ّ الشاب،
ألنه -بكل بساطة -سيرجئ الح ّريّة الفردية المطلقة إلى ما بعد نهاية
التاريخ .طلبه اإلبقاء على الح ّريّة في نطاق التاريخ كما يعيشه اإلنسان،
-1بيروت .1971
ّ
العروي :مفهوم الح ّريّة (بيروت :المركز الثقافي العربي ،1993 ،ط ،)5ص .78 -2عبدالله
89
النخبة الفكرية واالنشقاق
ّ
يتشكل ،عند عبدالملك ،عبر الولوج إلى المضاد
ّ أن النص
وكما ّ
المساحة التي يبلغها ويستثمرها دنلوب ،بما يبدي هذا النص واقع ًا في
الح ّريّة الفردية وتأ كيدها ،والسعي الحثيث نحو التثقيف بمشروعية
القومي.
ّ االجتماعي والتح ُّرر
ّ التح ُّرر
ّ
االنتهازي ،بصفته بذرة انتعاش - 2وهي كثيرة اإلحاالت على السلوك
والسياسي.
ّ واالقتصادي،
90
ّ
جذري لفعاليته - 5وهي تح ّرك التاريخ بدينامية أخرى ،واستطالع
المضادة للتم ُّلك واالستثمار والتس ُّلط ،كما في «محمد الحقيقة
ّ
العظمى» (دار األندلس ،)1988 ،و«علي بن أبي طالب :سلطة
الحق» (ط ،2دار االنتشار العربي).
ٌ
درويش :ل َِم ترتدي األزرق؟ فأجاب« :ترك الرسول ثالثة أشياء :الفقر ،والمعرفة، «سئل
ُ -1
والسيف .فالسيف أخذه الملوك وأساءوا استعماله ،والمعرفة أختارها العلما ُء وقنعوا بمجرد
تعلمها ،والفقر اختاره الدراويش وجعلوه وسيلة لإلثراء» .وإني ألبس األزرق حداد ًا على ما
أصاب هؤالء الثالثة من مصيبة» ،أبو الحسن علي بن عثمان الهجويري ،كشف المحجوب،
تحقيق محمود أحمد ماضي أبوالعزائم (القاهرة :التراث العربي .د .ت).
-2دراسات نقدية في األدب الحديث (بغداد :اإلرشاد .)1969 ،أعادت الهيئة العامة
المصرية للكتاب نشره ،1995 ،مقالته «انتمائية كولن ولسن» ،ص .227وتجري اإلحالة
على كتاب عزيز السيد جاسم داخل المتن.
91
النخبة الفكرية واالنشقاق
ّ
فكري انتشر في مقاالته وكتبه. بدء ًا من شقاء ،1988بعد تململ
92
و«ال» ،في وقت واحد» (ص .)202
ِّ
والمفكر ،وكذلك الف ّنان الحقيقي ،هو «ذلك الذي يمتلك ،من -2
الجرأة النادرة ،ما يخ َّوله حقّ المجابهة الذاتية» من أجل «القيام
داخلي مغلق» (ص ،)236على نحو ما
ّ بسياحة طويلة متعبة في عالم
يكتب عن المحنة التي جعلت من أندريه جيد كاتب ًا كبير ًا (ص .)236
ِّ
ومفكر ًا ،ال ينفصل عنده الحضور والكلمة .وعندما - 4والمثقَّ ف ف ّنان ًا
يحيل السيد جاسم على الشعراء يرى أن تكون القصيدة مشروع ًا ضخم ًا
إيجابي ًا مغامر ًا ي ّتحد بكل ثقته مع تس ُّلكات الشاعر ومواقفه ،مستند ًا
إلى مقولة لجيمس جويس« :اإلنتاج والحياة كنسيج واحد متداخل
يتلمسها إدوارد سعيد عندما يعرض سيرة ف ّن ٍان في
متماسك» (صّ ،)89
شبابه في صور المثقَّ ف .ومثل هذا االمتزاج يتأ َّكد في مالحظات أخرى:
93
النخبة الفكرية واالنشقاق
ج -وتستطلع فيها فرادة القصيدة ،بصفتها موقف ًا متسامي ًا للمثقَّ ف،
خالق ًا ومتعام ً
ال بالكلمات سلوك ًا :فـ «كل قصيدة مكتملة فني ًا هي
إنسانية ،ألنها تفرقع البعد المزيَّف ،وتم ِ ّزق الصورة التقليدية الرقيعة
لتمد نياشين استطالع فردية جديدة» (ص .)97وكذلك شأن
ّ للعالم،
ِّ
المفكر في صياغاته المتسامية لما ينبغي أن يكون عليه أمر المثقَّ ف
األوضاع.
- 5والمثقَّ فون ،بهذا المعنى المعروض عند عزيز السيد جاسم ،ليسوا
باعة كالم ومُ َس ِ ّوقين لألدعية .كما أنهم ليسوا َس َدنة الهيئات واألحزاب
94
المضط ّرين إلى تلفيق المقال نزو ً
ال عند الرغبات العليا .وحتى أولئك
الذين يُكثرون من اإلحالة على الجماهير ،قد ي َْعنون بالشعبية االنتشا َر
ّ
«كل َ
والتغلغل بين الصفوف الجماهيرية ،بينما ينسون أنها تعني بدء ًا
ما يق ّر وي َْستهدف مصلحة الشعب وسيل ًة وغايةً» (ص .)102وهؤالء
الجادة ،مملكة
ّ «يدخلون ،بجواز سفر مزيَّف ،إلى مملكة الحقيقة
ّ
يشكل الكلمة الواحد َة المتطابق َة مع الواقع البسطامي ،حيث ُّ
كل شيء
الداخلي للفرد» (ص .)115
ّ
- 6والمثقَّ ف ،بهذا االستناد ،ليس داعي ًة سياسية ،وال يُنتظر منه ،أو
من الشاعر أن ِ ّ
يقدم صورة للمباشرة التخاطبية .فالشاعر -مث ً
ال -يمتلك
مباشر ًة أخرى ،هي االلتقاء مع ثغور العالم الس ّريّة .وهكذا ،ي َُكون انتما ُء
ألن التزامه غريب كغرابة َ
المنتظر منهّ ، خاص ًا به ،ال االنتماء
ّ الشاعر
أطواره ،ولهذا «كان خطر الشاعر في كل العصور» (ص .)94وعندما
يجري تطبيق االستنتاج على ماالرميه -مث ً
ال -يرى السيد جاسم التزامه
«إن شعر ماالرميه هو ح ّريّة بدائية
ّ ِّ
المتجذر للح ّريّة: قائم ًا في نشدانه
هائلة ،عودة إلى براءة األلفاظ األولى» (ص .)95
إن المثقَّ فين ،كالشعراء والمتص ِ ّوفة ،يمكن أن َي ْنخرط فع ُلهم في
ّ -7
ومسميات بين «المنتمي» كولن ولسن ،عندما يظل الالمنتمي
ّ حاالت
ُ
الرأي ح ّر ًا من أية «مقولة دينية أو فكرية أو أية رابطة ،إنما يتأ ّله لديه
95
النخبة الفكرية واالنشقاق
- 8أما المثقَّ ف الذي يتآلف بين الصور فهو رديف الشاعر ومثيله،
ذلك الذي «يعيش التجربة الثورية في حضور دائم وحا ّر في ميدان
المجابهات»؛ بما يعني فناء الذات عبر «االندغام ..التلقائي
ّ
ليحل في الثورة، سخي ًا عن ذاته
ّ المتفاعل» فيعيش الشاعر «تخ ّلي ًا
ّ
وتحل فيه» (ص .)167
ِّ
والمفكر، وبمثل هذه التمثيالت ،ما بين الف ّنان ،والشاعر ،والكاتب،
تتراءى مجموعة قواسم مشتركة تستبعد التبعية واألنانية والصنمي َة
والركاكة ،و ُتعلي من الفداء والبهاء والفرادة والمشاكسة الغنية التي
التهادن ورهاناته ،وتتداخل -أساس ًا -مع انهماك ذهني وانشغال
َ َت ْرفض
ّ
ثانوي اني ،تتح ّول المصالح والصراعات الصغيرة إزاءه إلى موقع
ج ّو ّ
تمام ًا .وبكلمة أخرىّ ،
فإن صور عزيز السيد جاسم للشعراء والف ّنانين
تتداخل مع تلك التي ي َْعرضها -الحق ًا -إدوارد سعيد ،وهو يحيل على
نصوص الغربة،
َ مجموعة أسماء وآراء .ومثل هذه التمثيالت َت ْستطلع
96
واالمتعاض ،والفتنة ،وما يتوالد عنها من نصوص أخرى .وكل توالد
97
النخبة الفكرية واالنشقاق
لكن الوريث
ّ المؤ ِ ّرخين العرب الذين جرى التنوي ُه بهم من بين آخرين.
تمتد هي األخرى في الماضي
ّ أن خصومته
ليس صنيع نفسه ،كما ّ
امتداد
ٌ والحاضر؛ وأقواها ذلك االمتداد الجمعي في الذاكرة ،وهو
ّ
يتشكل من موروثات تؤثّر كثير ًا في تكوين «البنية الشعورية» ،على حد
تعبير ريموند وليامز؛ فهي تستم ّر في الذاكرة ،بانحرافات متفاوتة ،لكنها
ضد ما هو وعي زائف .وحتى عندما يخاتلها الوريث،
تقبع ،هناكّ ،
تدعي السذاجة عند
باستخدام واسع لإلعالم والدعاية ،فإنها كالحرباء ّ
ِّ
متغيرة تستجيب -دائم ًا -لنداءات المثقّ ف ُ
الح ّر .وبينما تبدو النخب
مستح ّبة أو مطرودة ،بحسب طبيعة المجتمع
َ باستمرار ،قلقة ،متململةً،
السياسي ،تبقى فئات الموروثات الشعبية مكتنزة ،قابل ًة لالستحضار في
لكن النخب تتح ّرك
ّ المناسبات التي يبدو فيها المثقَّ ف الح ُّر وحيد ًا.
وفعالية أ كبر ،في المجتمعات الليبرالية ،وفي تلك الحائزة قدر ًا ما
بح ّريّة ّ
من الديموقراطية .وهذه الدينامية ال تعني غياب االنشقاق :فكل عالقة
98
تنبني على أساس النفوذ والق ّوة ،بما يعني دفع آخرين إلى الهامش،
وكل هامش يبتغي استعادة المركز بحسب مصالحة أو توازن أو تغيير ما،
فيغدو مركزي ًا ،وهكذا دواليك .وبين هذه الدينامية من جانب ،وحركية
الجمعي،
ّ ّ
الشعوري رفض الوريث ،وحضور البنى التقليدية أو وعيها
وسري ومطرود ،تمام ًا
ّ وجواني
ّ جانبي
ّ تنشأ النصوص محيل ًة على ما هو
ستجم ُع
َ كما تستعين بالمشاعر واألهواء ،وتستند إليها ،لك ّنها غالب ًا ما ُت
في حلقات متوالدة باستمرار ،في شتى المجتمعات العربية ومهاجرها،
داخل ثقافة عربية م ّتسعة باستمرار ،تقول ،لما هو منغلق وانطوائي
إن زمانه قد فات. ّ
ودمويّ ، ونكوصي ومت ّلف
ونصه الظل
ّ خطاب االمتعاض :مكوِّ ناته ،وآلياته،
خطاب االمتعاض
ُ ّ
يتشكل ِ
واستئساده وبمقدار حضور وريث المستعمِ ر
وانفراطا ُته الكثيرة في نصوص العصيان .إنه خطاب ما بعد االستقالل،
أن ما ورد عند طه
تين في آن واحد ،لدرجة ّ
رد ْ
ولهذا فهو يحمل عنف َّ
يتوجه نحو
ّ حسين في «المعذبون في األرض» ّ
يقل عنه بكثير ،ألنه
مهيمن أسوأ بكثير مما كان عليه األمر أيام التبعية للمستعمِ ر.
ٍ داخل
حد ًة وافتراق ًا ،إ ّلا نقطة
بالقدر والفجيعة ال توازيهاّ ،
َ الحس
ّ إن نبرة
ّ
خطاب النخبة القومية في
َ زت
مي ْ االبتداءْ ،
أي نبر ُة الطموح التي َّ
الثالثينيات وبد ِء األربعينيات ،وهي ُتطْ لق «تف ّو ٍ
هات طقوسيةً ،مشبوبة،
99
النخبة الفكرية واالنشقاق
كما يضيف أركون ،فإنه يستم ّر ،ولفترة ليست قصيرة ،مقترن ًا بقداسة
ما ،يستثمرها الدعاة إلى أقصى َح ّد ،حتى يأتيها الوريث بط ً
ال سياسي ًا
ال يطيق شبهة االختالف؛ ولهذا ليس مستغرب ًا -كما يقول أركون-
ِّ
المفكرين والفئات أن يكون تاريخ العقود األخيرة هو تاريخ تصفية
فإن والدة االمتعاض توازي ق ّوة
االجتماعية النشيطة .وبكلمة أخرىّ ،
البد منه.
ّ المضاد الذي
ّ والدة التف ُّوهات الطقوسية ،كما أنها وريثها
-1أرنولد هوتنغر ،أمين الريحاني :نظرة ذاتية لعربي عصري في الحياة الفكرية في المشرق
العربي( 1939 - 1890 ،بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية) ،ص 124و.125
-2محمد أركون ،ولوي غارديه :اإلسالم :األمس والغد ،ص .154
100
ّ
المصري والجماعة فكما ظهر للنهضة ،بليبرالية اهتماماتها عند الجيل
ٌ
وريث وأكث ُر ،ي ّتسع لآلخرين من شتى األهواء واال ّتجاهات، السورية،
كان لكل نخبة وارثون ،يتفاوتون قدر ًا وعق ً
ال وطموح ًا ومشروعية.
لكن وريث التف ّوهات الطقوسية يبقى األكثر قدرة على الدمار ،وذلك
ّ
إلسقاطه مفهوم البطولة التاريخية ،بشكلها المتوارث خط ًأ ،على نفسه،
ومسعاه السترجاعها بش ّتى السبل ،ما دام ينطلق من المثالية األولى
ميزتا خطاب النخبة القومية ،وحادتا به عن
الحادة اللتين ّ
ّ واإلطالقية
الفهم السوسيولوجي والمعرفة بالذات وتاريخانية التحديث .فالوريث
البد من طاعته .ويصفه محمود
ّ يبلغ قناعة قاطعة بأنه الرسول الذي
درويش مستبطن ًا كما يلي:
سيد احللم! ال جتلسوا حول قصري بغير الطعام
«أنا ّ
وال تأذنوا للفراشات بالطيران اإلباحي يف لغة من رخام.
....فمن لغتي تأخذون مالمح أحالمكم مر ًة كلّ عام
....ومن لغتي تعرفون احلقيقة يف لفظتني:
حرام ،حرام.
حتى يقول« :وأن نظام اخلطاب
(((
خطاب النظام»...
« -1خطب الدكتاتور الموزونة» ،أدب ونقد ،العدد ،141مايو/أيار ،1997ص .126
101
النخبة الفكرية واالنشقاق
ِّ
«مذكرات ديناصور» (((، ويلتقط الروائي مؤنس الرزاز هذه الصورة في
ّ
يتمكن من بلوغ طاووسية الديناصور نص
التي تكاد أن تكون أبلغ ّ
وثقته ويقينه بقدرته على امتالك الحاضر والماضي ،بمجموعات
التصقت بذهنه ،منذ زمن ،وحادت به عن الواقع الذي يزدرده
ْ مفردات
خطاب ًا على لسان شريكته الضحية «زهرة» ،التي تسعى ،من دون
طائل ،لتحريره من التجريدات والشعارات التي تمتلك عقله وسلوكه.
وتحج ُر النفس
ّ بهذا التفكيك ،يتأ كد انكفاء الطاووسية على ذاتها،
على شعاراتها ،والتحام الوريث بالصورة إلى درجة الفناء .وتتعامل
خطابات الرفض مع هذا الحضور بصفته تكوين ًا لفظي ًا أنتجته مجموعة
لكن خطاب االمتعاض ال يعني العصيان :إنه
ّ تكوينات سابقة عليه.
مجموعة استراتيجيات تبتغي التوصيل ،والنقد واإلدانة ،والمصارحة،
والمكاشفة ،والتذكير ،مثلما تفعل الكتابات المختلفة ،كالقصائد
البياتية وقصائد حجازي وصالح عبدالصبور ودنقل .كما أن المصارحة
ّ
يس َر َّ
تشكل ثقل القصيدة العمودية عند الجواهري ،ك ّلما َّ المحتملة
الجو ذلك ،أو ّ
مكنته الغرب ُة من اإلفصاح .وقد يأتي السرد ،بالمقارنة
بين حالين ،في روايات محفوظ كـ «الشحاذ» مث ً
ال ،ليبدو الحاضر
102
السياسيين .بينما ستكون بنية التورية عبر التاريخ مسلك ًا مراوغ ًا للرواية
ّ
الشك واليقين ،والدهشة إزاء قسوة الفئات عند الغيطاني .أما تقابالت
التي تقول األيديولوجية عنها إنها مادة الحركات الثورية ،فال يوازيها،
عند عثمان خليل ،غير االستدراك بذكر «ماليين الضحايا المجهولين
منذ عهد القرد» الذين «رفعوا اإلنسان إلى مرتبة سامية».
103
النخبة الفكرية واالنشقاق
فإن الوريث يأخذ هذا عنه ،ويع ِ ّززه بحنقه على الفئات التي عاونته
ّ
على الصعود ،فيشتم الجميع م ّرة واحدة ،ويصف الجمهور بأنه عدواني
وال أخالقي وفاسد وتافه .وهذا يعني ،في النتيجة ،لزوم البطش بهذا
الجمهور وتصفيته ،أو كما يقول محمود درويش في «خطب الدكتاتور
الموزونة»:
104
ضد السكان من
- 2كما أنه سيضيف ،إلى ما كان المستعمِ ر يفعله ّ
تجويع وإهانة ،كالذي يرصده فانون (ص ،)19ببرنامج يتساير مع
سياسة الترغيب والترهيب والضغط.
105
النخبة الفكرية واالنشقاق
يتحملها.
ّ يتحمل تبعات أفعاله ،أو ينبغي له أن
َّ - 6لكنه؛ أي الوريث،
تجليات خطاب العصيان ،كتوالد ٍ
مواز عن خطاب االمتعاض الغزير ُ وما
عن الغيطاني وغيره ،غير عالمات في دورة البدء واالنتهاء:
أ -فاللغة التي تحتدم قصر ًا وكثاف ًة وتو ّتر ًا وصراخ ًا ومقاطعة وتش ُّنج ًا
في القصيدة ليست إال تم ُّثالت صرخة الرفض اآلتية من داخل القهر
المسرف ،فك ّلما بالغ الوريث في العنف فَقَ د هذا العنف معناه ،وأنتج
106
ما هو ضده ،على نحو ما ُتفْ صح الكتابة عن ذلك ،متماثل ًة مع الواقع.
ب -وك ّلما استقدم آليات األخذ بالجريرة ،باطش ًا بالعوائل والناس،
شباب ال أهل لهم وال ارتباط ،يفيضون بق ّوة ثأر ال تماثلها
ٌ خرج عليه
غير قصائد وقصص وكتابات ،ال أب ّوة بادية لها ،تنتشر بالعشرات،
منفية ،منقطعة ،بإصرار ،عن غيرها.
ّ مناكِ دةً،
االجتماعي واألخالقيات
ّ ّ
وتتشكل من ج ّراء هذا التفتيت للتكافل د-
ٍ
خرق واسعة ،ال تتوقَّف عند َح ّد ،بحيث يضط ّر الدارجة قاعدة
الوريث إلى التقوقع في شرنقته ،مذعور ًا من غالبية المحيطين .ويحيل
خطاب العصيان على هذه القاعدة ،فيكون الخرق استمرار ًا للقواعد
ّ
مذكر ًا بها؛ لكنه الخرق الذي ين ّز باإلدانة المستمرة. واالعتبارات،
هـ -وإذ يصادر الوريث الخزينة ،فيتعامل معها ملْك ًا شخصي ًا ،فإنه
ي ُْكثر من الغواية واإلغراء ،بما يعني قتل وجوده ،أي انتحاره الذي
107
النخبة الفكرية واالنشقاق
قديس ًا وال
يتم فجأة .فالقادم عبر الشعار وطقوس القومية لم يعد ّ
ال ّ
من َّزه ًا؛ إنه مرتع الدنس .ولهذا ال يأتيه ،في خطاب العصيان ،غير
الشتيمة ،أو ملفوظ االجتثاث ،كما ال يأتيه ،في الواقع ،غي ُر الغدر الذي
َّ
يتشكل منه خطابه وسلوكه :فالتق ُّلب َم ّرةً ،والذرائعية َم ّر ًة أخرى يحفران
في مصداقية خطابه ،حتى يجت ّثان جذور مقدمه األول ،فيبقى عاري ًا،
مجموع ًة من الخطابات التي تتقاطع ،فهو يبيع ويشتري ،كما أنه يباع
َّ
يتشكل فضاؤه إال على أساس الربح والخسارة؛ ولهذا ال ويُشترى ،ولم
يأتيه خطاب العصيان إال بمفردات تحيل على البداية وعلى النهاية:
قطبي تح ّركه العنيف .فخروج العامّة هو السباق في استنطاق المزيد
ْ
من المكبوت في خطاب ال ُّن َخب .إنها ترى نفسها مغدورة ومفجوعة
ومه َّزأة ،فتفرط العالقة ،وتطرد األلفة ،فيستغرب الوريث ذلك .أما
على صعيد تح ُّوالت النفوذ والق ّوة ما بين خطاب وآخر ،فإن المغدور
ممتد ًا في الخرق والتجاوز .وكما يقول فوكو ،فإذا
ّ والمقصي يجد نفسه
ّ
فإن الخرق هو الحاسم
الجدليّ ،
ّ كان التناقض هو الحاسم في الفكر
في الثقافة العصرية .وما دوره إال قياس المسافة البادية الكبيرة في
ُ
خرقه وتجاوزُ ه والح ّد؛ فما يتأ كد ،يقين ًا وقداسةً ،يجري
َ قلب الحصر
ُ
وبلوغ س ّر ظهوره ،كشرط النتهائه.
108
خطابات الوريث
وال يعني حضور الوريث ،وهو ي ُْسقط القداس َة على نفسه ،وراث ًة
الطقوسي؛ فهو
ّ شكلية أو ساللية للمستعمِ ر أو للنخبة ذات الخطاب
الخطابين في آن واحد ،مقيم ًا كيانه في شراكة
ْ يحيل -بالطبع -على
منفرطة ،ظاهر ًا ،مع المستعمِ ر .وهي شراكة تتأ َّكد بالخصومة المنتشرة
في ثنايا خطابه ،بمقارناته معه أي المستعمِ ر ،ال بصفته الفكرية أو
القهرية ،إنما بصفته الشخصية ،سفير ًا أو وزير ًا أو تشخيصات أخرى.
إنه ال ِ ّ
يؤكد حضوره إال عبر هذه المقارنة ،ويسعفه الملفوظ التجريدي
المفعم بالنشوة بما يريد ،لالرتقاء إلى مصاف الخصم المرغوب فيه،
يقدمان تفسير ًا
لكن التماهي مع المرفوض والتعالي على الناس ال ّ
ّ
المتلهف الفاجع لشرعية القداسة ،أو انتمائها ،إال
ّ كافي ًا لهذا البحث
من خالل التاريخ .وهكذا تأتي الساللة الشرعية مرغوب ًة منه ،فيعلن
قدمت التضحية والفداء علي ،مث ً
ال ،ألن هذه الساللة ّ ّ االنتماء إلى آل
والشهامة والتخ ّلي عن كرسي الحكم ،فاستحقّ ت مصادقة العامّة على
يقدم نصوصه المختلفة أيض ًا؛
ولكن التاريخ ّ
ّ وقدسيتها.
ّ صفائها وشرفها
فعدا هذا االنتماء المع َلن من طرف واحد ،هناك الخلفاء الدمويون،
مُ لّاك السلطة بامتياز ،بوسائلهم الكثيرة في الترغيب والترهيب ،الذين
وتهيؤات وصور ،وهم يأتونهم
ّ يشحنون الرومانسيين العصابيين بأخيلة
109
النخبة الفكرية واالنشقاق
والوريث يجد نفسه مثل هؤالء -أيض ًا -منبهر ًا ومأخوذ ًا بالجاه والسلطة،
وكالهما ّ
يغذيان عنده رغبته الفاجعة في كل شيء ،منطلق ًا من قاع
ّ
اليساري الطفولي:
ّ الحرمان الذي سكنته طفولته قبل مجيء الفكر
ّ
يشذ هنا ،عن منتوجات القراءات م ّرةً ،والقومي م ّر ًة أخرى .وهو ال
المسطّ حة ،أولئك الذين أتاحت لهم الحركات السياسية وتدفّ قات حركة
الترجمة أفكار ًا مثيرة في التغيير واالبتكار ،فح ّلت لديهم بدي ً
ال من أية
ِّ
والمتأصلة عند العامّة، َّ
تتشكل من بنى المشاعر االعتيادية خطابات
ولهذا انقطع هؤالء عن الناس ،كما ينقطع الوريث .وبينما ينادي
هؤالء بالطفرات السطحية م ّرةً ،وبالنقالت الكبرى م ّر ًة أخرى ،يلتقط
الحس بالمغامرة ،فتكون
ّ الوريث (الذي يمكن أن ّ
ينط من بين هؤالء)
هذه سبيله ومبتغاه .إنه المحترف المغامر الموهوب الذي تجيء به
األحزاب والهيئات واألفكار المتواردة بين األدبيات الشائعة ،منذ نهاية
الخمسينيات .وليس غريب ًا أن تتع َّزز اله ّوة بين المحترفين والمغامرين
والجماعات المشاكسة (اليسار الطفولي ،والقومي الشوفيني) وبين
ِّ
المفكرين ،ومن بينهم رجال السياسة واالقتصاد .وليس غريب ًا -أيض ًا-
أن يمضي المحترف -المغامر في استبعاد هؤالء ،ومحاصرة توالدهم
في الجامعات واأل كاديميات وسوق األفكار .وتتساير هذه الرغبة مع
110
رغبة أخرى في اجتثاث التكوين التقليدي للمجتمع؛ فاألخير عائق أمام
والتهيؤات والطقوس
ُّ القداسات المفتعلة ،كما أنه كابح أمام الهوى
لكن التاريخ ال
ّ التي يبتدعها المحترفون والمغامرون الختراق العامّة.
الترحم على القديم بالظهور
ّ يشتغل بحسب السياق المشتهى ،فيبتدئ
ماض قريب فيه ما هو أجمل ،مقارن ًة بحاضر ٍ
أخذ ٍ خطاب ًا حنيني ًا ،فكل
باالنحسار .وما يبدو -ألوّل وهلة -حنين ًا رجعي ًا ،سرعان ما يتموضع
في شبكة عميقة من التراسل العاطفي بين العامّة والمؤ ِ ّرخ الذي يلتقط
نبضها ،فتم ّر حاالت واسعة من هذه العودات كأنها تراهن ،من دون
ا ِ ّتفاق مسبق ،على أن مآل حاضر عجول صلف هو االندحار مقابل ما
نصه -باستمرار -ك ّلما
إن الوريث َي ْنسف ّ يتراءى جمي ً
ال في الماضيّ .
ألن األخير يمتلك أ كثر من لسان وجد نفسه مستما ً
ال إلى التاريخّ ،
وسيف :فخطابه المنتسب إلى آل البيت َي ْنسفه انتماؤه العنيف إلى
القومي المفعم بالحرارة يتآ كل
ّ الدنيا ،بطيشها وغرورها ،كما أن خطابه
كلما تعارض مع الرغبات األخرى لديه ،المليئة بالخصومة .وأما ما
ّ
يتيسر من صراع في الملفوظات مع المستعمِ ر فسرعان ما يصدأ إزاء
ّ
ليبرالية األخير الظاهرة في األقل؛ فوسائل اال ّتصال تنقل -باستمرار-
حرص هذا األخير على أبناء جلدته ،واحترامه لهم ،وضمانه لح ّريّاتهم،
111
النخبة الفكرية واالنشقاق
وبينما يمضي العالم إلى أمام ،يبدو التموضع الرجعي ،في التاريخ
أهم ّية
ّ كخلفاء وخالفة ،وفي الماضي المفتعل ،رجع ًا من النشاز ،ال
لكن الصعيد العالمي هو الذي
ّ تتهدم الوراثة.
ّ له وال مردود .هكذا
بالضدَ ،سفَ ه مسعى الوريث إلثبات البطولة المعاكسة .فإذ ي ّتجه
ّ ّ
يؤكد،
العالم نحو الديموقراطيات من جانب ،ونحو عولم ٍة ما من جانب
آخر ،يسعى الوريث لدخول التيارات والشقوق الكثيرة فيها عبر كنز
المال -أساس ًا -واستجماع اإلعالم بعد ذلك .إن الشراكة المالية
وممتد ًا في الشراكات الدولية الحاكمة .وهكذا ،تتف ّرع عنه
ّ تبقيه قو ّي ًا
بمسميات مختلفة ،لكنه يتقرب بذلك من حتفه أيض ًا.
ّ بنوك ومصالح
لمسببات مقدمه وشعاراته ينسف بقاءه ،ليتح َّول إلى مم ِ ّثل
ِّ فكل هدم
مضحك ،من نمط أولئك المفتونين بأنفسهم ،الذين واجهوا الناس
عراةً ،غير عارفين بمحطّ ات االستضافة التي تنتظرهم ،لتستنزف منهم
مال شعوبهم المسروق.
112
اآلنية والفئوية والعرقية والطبقية ،بما يعني انهيارات القوى المهيمنة
ُخبها ،ومعها تبدو األدبية المحض ،وكذلك خطاب الحقيقة مُ َّت َه َم ْين،
ون َ
تدعي القداسة لتحذف أخرى.
وتبري َر ْين للغدر والسرقة ،أو لعقيدة ّ
وهكذا ،فإن ما يجري خارج ًا له مقابله الداخلي ،وإذ لم تعد النخبة
يتوزع بينها
ّ اختيار ًا ،فلنا أن نتأمّلها شتات ًا يطالب بتسميات أخرى،
نص العصيان.
النص المضادُّ ،
ُّ ومن الجسد :هيبته أو أطماره ،يبتدئ
المكتظ باألماني واألخيلة والتق ُّلبات،
ّ تكسرات الخطاب
ّ فعلى هامش
ينشأ ،من متن االمتعاض المضاد المتزايد بين الناس ،خطاب العصيان.
-1البد من اإلشارة إلى حواري المثمر مع صديقي د .فوزي فهمي في هذه النقطة ،وقضية
البطولة والمخيال الشعبي.
113
النخبة الفكرية واالنشقاق
114
خصومات الوريث الواسعة :الثقافة الشعبية
وينبغي عدم التقليل من شأن المكر الذي تتغ َّلف به عقلية الوريث ،وذلك
َّ
يتشكل داخل هذه العقلية .فالوريث ،أو ( toad-Kingالملك- الذي
يسميه وول سوينكا ،يبتدئ رحلة الصراع مع اآلخر،
ّ الضفدع) كما
مضاد إلى التاريخ ،مقروء ًا من ق َِبله،
ّ أو المستعمر ،مستما ً
ال بانجذاب
ومطابق ًا لهواياته التي ال تعدو أن تكون هواية السلطة واالنفراد؛ ولهذا
ضديّة نحو اآلخر ،مبني ٍة داخل المفردات والقوالب ّ
يتشكل خطابه من ّ
التاريخية التي تفضي إلى انفراده وتس ُّلطه .إنها مفردات واسعةّ ،
جذابة،
بال ضفاف ،ال تحيل على الجمهور ،وال تؤكد أيّة صراعات .فكل ما
قدسيته الك ّل ّية وقداسة المحاكاة في آن واحد :إنه
ّ ماض يمتلك
ٍ هو
خلفاء وزعماء ونجاحات وبالغات تنتشر في فضاء التجريد؛ ولهذا
ومرتد ًا .وكل
ّ مضاد داخل التاريخ مستبعد ًا ،ومنفي ًا ،وغريب ًا،
ّ يبدو ما هو
ضد الزعامات الوطنية السابقة ،تستوطن هذه
ضد اآلخر ،أو حتى ّ
خطوة ّ
وتتوجه نحو
ّ يسرتها المدوّنة الرسمية،
األرض الشاسعة من القداسة التي ّ
الجمهور المغلوب المليء بعقدة اإلهانة طيلة العالقة باآلخر المستعمِ ر
ينشد أيض ًا ،بطبيعته ،إلى
ّ لكن هذا الجمهور
ّ والقوى التالية المثيلة.
الطقوس الشعبية ،وكذلك إلى األسماء الشعرية والفكرية والفنية ،فيكبر
في ذهن العامّة الشاعر واألديب والفنان ك ّلما بدا عميق االمتداد في
115
النخبة الفكرية واالنشقاق
َّ
تشكل وعيه فيها ومنها .وهكذا يكبر الرصافي، هذه الطقوس ،وك ّلما
والجواهري ،والكاظمي ،وحافظ إبراهيم ،وأبوريشة ،وعشرات الشعراء
تأسس سلطتهم داخل هذا الوعي ،كما
في الذاكرة الشعبية ،وهكذا َّ
ّ
والمفكرين الذين يتص َّور الوريث أنهم ينحسرون تكبر أسماء المثقَّ فين
سيفاجأ
َ عندما ي ُْغلق عليهم وعنهم وسائل اال ّتصال المحكومة من ق َِبله.
بأن مظفّ ر النواب ينتشر داخل الكاسيت ،وأن محمود درويش قد
يبلغ أقصى قاعات الدرس في أنحاء العالم ،وأن أحمد فؤاد نجم قد
وأن مقال ًة لعزيز السيد جاسم
يتجاوز حدود المدوّنة نحو المسموعّ ،
تتلبس عشرات الصور ،وأن ف ّنانين متفاوتي الحضور المباشر قد يبلغون
ّ
ّ
تتشكل عقدة الغيرة من جمهور ًا لم يألف أجهزة التلفاز .ومن هنا
جانب ،والخصومة من جانب آخر ،بين الملوك -الضفادع في تعبير
وول سوينكا (وهو يحيل على الزعامات المح ّنطة في إفريقيا) وبين
حد ًا يصعب تص ُّوره من دون معرفة
وتشتد هذه حتى تبلغ ّ
ّ المثقَّ فين.
عقلية الوريث.
ّ
يتشكل من عقد ٍة ما ،تبتدئ بتصفية األعوان والرفاق واألصدقاء، فهو
مستخدم ًا ميزانية البالد من دون حدود ،ومستزيد ًا من الخداع والتغرير
والتزييف وشراء الذمم للحيلولة دون الديموقراطية الحقيقية .إنه يبني
يبدد كل شيء ،ويعيد بناء المجتمعات في ضوء
التاريخ لنفسه ،ولهذا ّ
116
هذه الرغبة ،مطمئ ّن ًا إلى أن الفئات الجديدة هي سنده ،بصفتها ربيبته
الواعية بعطائه وبذله ،وكذلك بِ َسطوته وبطشه .إنها بديلة للفئات
التقليدية ،وهي ،لهذا ،حرباء الحياة ،وطفيلية السلوك ،تتح ّرك له ومنه.
تغيرات الوقائع ،ولهذا يتآ كل
لك ّنه ينسى مكيدة التاريخ ،ويجهل ُّ
وينهار.
ِّ
الضيق المذكور ،فهو ويصعب استيعاب عقدة الوريث في إطارها
يدرك ،شأن الحيوانات الحريصة على حياتها ،أن مجاالت النفوذ
واالنتشار في ذاكرة الناس ،واستالب هذه الذاكرة ،ال يتس ّنى لها
التضاد مع المستعمِ ر وإشغال المتبقّ ي
ّ االكتمال إال بمزيد من خطابية
من وسائل اال ّتصال بما يريده ،من أجل مصادرة الذهن والذاكرة.
ولما كانت الذاكرة تحتاج انتما ًء ك ّل ّي ًا إلى القنوات التي تظهر عنه،
ّ
بقصد ضمان عدم انفراطها في الطقوس واال ّتجاهات التي تقوم في
الحياة التقليدية ،فإنه يجري تطويق المجتمع التقليدي بش ّتى السبل؛
ولهذا ،فإن الوريث يبتدئ بحرب شعواء ،مستور ٍة غالب ًا ،على الغناء
ال ّ
وتحل بدي ً الشعبي والطقوس واألغاني والعادات ومثيالت ذلك،
ّ
المعبأة ،للمشاغلة م ّرةً ،وللمنع والكيد م ّر ًة أخرى،
ّ منها مختلف الجهود
مشفوع ًة جميع ًا بمصادرة واسعة للعقليات الشعبية ،فكل منزل وحارة
ومقهى يتع ّرض لال ِ ّتهام ،ويكايده الوريث ،ويستأصل أطرافه ،ويتابعه
إن حكم الوريث يبتدئ طقس الدمار والموت في عالقته
حتى النهايةّ .
117
النخبة الفكرية واالنشقاق
« -1صاعد ًا حتى الينبوع» ،من األعمال الشعرية (عمان :المؤسسة العربية للدراسات،
،)1993ص.97
118
ويؤول الوطن إلى عسس وكالب وغرفة مهجورة مُ راقَبة عند محمود
لكن المخلوق الذي يقود إلى كل هذا اإلخالء
ّ الريماوي في «الفندق»،
للحب والجمال والعشق واإلنشداد واألرض واألحباب ال يستم ّر غائب ًا،
ّ
يوحي بوجوده عبر نتائج حضوره ،فاألصوات في «اعترافات كاتم صوت»
تنبه إلى حضوره الطاغي ،بينما تتراءى صورة الوريث في
لمؤنس الرزاز ّ
عشرات النتائج :من أوامر ،ومضايقات ،ومشاعر مم ّزقة وأحزان .إنه
يمتلك الهواء والحياة ،ولن يطيق اإلبقاء على شيء ال يقع تحت طائلته،
وكل م َْن ِّ
المفكر والمثقَّ فّ ، لكن خصومته األولى في «اعترافات» هي مع
ّ
ي َْحمل «شبهة االختالف» ،على َح ّد تعبير محمد أركون.
وحتى عندما تتأ ّكد «كتابة اإلحالة الذاتية» بين المؤ َّلفات العربية
الغربي:
ّ مت حضورها
المعاصرة ،فإنها ليست قائمة ،لألسباب التي ح ّت ْ
بشحة مادة األدب ،ونضوب حيويَّته ،وجفاف
ّ إنها ليست إيذان ًا
حكاياته ،كما هو األمر في غالبية «روايات التغاير» التي تحيل على
نفسها ،أو تتموضع بين النصوص األخرى المماثلة ،مق ِ ّلد ًة أو مشاكسةً،
الرد فما يتشاكس مع النص األسبق ،كما تفعل جين ريس -مث ً
ال -في ّ
على «جين إير» ،رواية شارلوت برونتي ((( ،يتأ ّتى من تحالف وتعارض
ٌ
استنطاق لنص في وجهة النظر ،إزاء الجنس والعنصر والطبقة مث ً
ال .إنه
119
النخبة الفكرية واالنشقاق
القصية
ّ معنية بالعصيان ،بل َت ْشغل المساحة
ّ لكن هذه النصوص ليست
ّ
على أطراف خطاب االمتعاض؛ فهي تكتشف ما ال شفاء منه في
نص ًا .لكنها لم تعلن انشقاقها بعد .إنها تتجاوز تلك
الواقع ،بصفته ّ
المالمسات االجتماعية والوجودية الظاهرة ،وتنحو باتجاه فتح ملفّ ات
ُص َمت عنه ،لكنها ليست إعالنات في
المواجهة ،لتكشف عما ال ي ْ
120
المواجهة كتلك التي تستقدمها المجلّات الصغيرة ودواوين الصراخ
أخذت تغزو سوق الكتب .فقد تقرأ ترجمة بشير السباعي
ْ والريبة التي
«امتياز الحياة» لجورج حنين في «الكتابة األخرى»( ،كانون األول/
ديسمبر ،)1992 ،لتدرك أن هذا االمتياز هو امتياز الثقافة والمثقَّ فين،
عندما يجري امتزاج المعرفة بالمشاركة في الدفاع عن حقّ اإلنسان
في الحياة الفكرية:
«أنا الذي يجلس على جانب الطريق
والذي ُيبقي أعداءه حتت رحمة ضجره
يتوجب ،يف نظره ،التدقيق يف كل شيء:
َّ والذي
طال أمد العمر أم قصر،
ليس لذلك شأن كبير
ليس لذلك شأن كبير بالنسبة لإلنسان الذي يثأر
من هوان شأن اإلنسان» (((.
121
النخبة الفكرية واالنشقاق
في قصيدته «دائرة الخوف الذي يفضي إلى وطن» المنشورة في
«االغتراب األدبي»:
«سأسميك املساح ْه
ّ
وأصلّي كي أرى ظلك فوق االسئ َل ْه
نخلةً أو مقص َل ْه ،أو شظايا قنبل ْه
وطن» (((.
وأسميك ْ
ّ
ويتجمد
ّ فالمحنة التي ُت ْحرق المغترب تلتقي تلك التي يموت فيها الوطن،
«حلم ًا» كالح ًا ،كابوس ًا ،ال يجاريه غير وطأة الخبر المليء باالندحار
ّ
اإلنساني .يكتب برهان شاوي في قصيدة بعنوان «تعارضات»:
ّ
«ورسمت يف األحالم لي وطنا
ُ
حر ..فانطلقا
رت فيه ال َب َ
فج ُ
ّ
فعدوت يف أنحائه َم ِرحا
ُ
ومشيت يف أرجائه قلقا
ُ
بالنار ..أحر َقنَي
ِ عمدت ُُه
ّ
ورششتُ ُه باملاءِ فاحترقا
فانطفأت
ْ الشمس
َ أسريت فيه
ُ
رعداً ..فما برقا
ومنحتُ ه ْ
122
والنيران يف جسدي
ُ فغفوت
وت..
وص َح ُ
َ
ليت احلل َم ماَصدقا» (((.
ْ
وظهرت في «اللحظة الشعرية» (لندن) ،العدد،1993 ،2 -1كتبها عام ،1980بيروت،
ص .18 - 17
« -2قصف» في «اللحظة الشعرية» ،العدد ،1993 ،2ص.13
123
النخبة الفكرية واالنشقاق
ِ
الصحف الكاذ َب ْه طي
تكمن َّ
ُ
ورمبا متضي إلى املقهى
الشاي وقد تكتفي
َ قد حتتسي
بالنظر الباردِ للجالسني
وتدخل األحزاب أ ّنى تشاء
تبني قالعاً ..ال تراها العيون
وربا حتكم تلك البالد
ّ
التي يرتادها السائحون» (((.
بينما يستعيد صفاءه ،بين اللحظة واألخرى ،ذلك الشاع ُر الذي ال يني
من متابعة رهانه مع الشعر ،ومع نفسه ،ومع الح ّريّة والناس ،هذا الشاعر
ْ
وظهرت في اللحظة الشعرية ،العدد ،1993 ،2ص.17 -1كتبها عام ،1981
124
يتواطأ على أمر ،ويتم َّرد على آخر ال لبس فيه:
احللم
ُ «شاعر يغسله
يغ ّني :أنحني للعشب
ال للطاغي ْه» (((.
125
النخبة الفكرية واالنشقاق
ليست ظاهرة للتظ ُّرف؛ إنها رهان ابتعاد ،ال مزحة فيه ،أصحابه عارفون
الحقيقي ٌ
كل إلى غربة ّ أنهم ماضون إلى افتراق منذ زمن« :في الوداع
سائر» ((( ،كما يكتب صالح نيازي ،بعدما انطفأت اآلمال ،وغاصت
العالم المتأ ِ ّلق غير الرؤى الجامدة» ،كما يكتب الشهيد محمد طالب
يخصه
ّ أما المستقبل فال يعدو أن يكون كمم ّر الجرذان ،أو كذلك الذي
بالذكر ،مجاز ًا ،في «بار األنتيل» .والسبيل إلى البهو ملتبس كالسبيل.
126
تحديات لمفاهيم النخبة
ّ
ومثل هذه الكتابات ،في السرد والشعر والخاطرة ،داخل جغرافية الثقافة
ٍ
تحديات العربية وخارجها ،حيث المهاج ُر والمنافي ،تم ِ ّثل ،اليوم،
حقيق ًة لمفاهيمنا المتداولة ،منذ «النهضة» ،حول النخب وحضورها.
ضغط
ٍ إنها إعالنات إدانة وانشقاق وخروج وعصيان ،تتوالد تحت
عتي يتفاوت جغرافي ًا ،ويهدأ في بؤرة ليهتاج في أخرى ...بينما تنقاد
ّ
النصوص ،بعضها إلى بعض ،في مدلوالت وإشارات وإحاالت وسنن
ُ
ّ
تكذب ما كنا نفترضه حول أشجار النسب الم ّتصلة ،ضارب ًة جذورَها في
ألن نشأة مساح ٍة من دون أخرى ،أو في ّ
ظل تأثير من دون غيره؛ ذلك ّ
ِّ
متجذرة تمام ًا ،بينما قلعت الدولة الطغيانية النخب الفكرية لم تكن
ما تبقى من جذر .ولهذا يكتب عزيز السيد جاسم بتاريخ 6كانون
الثاني/يناير ( 1991العراق« ،النخبة والفكر» ،ص« :)6يجوز لنا أن
نشبه النخبة الفكرية في البلدان اآلسيوية واإلفريقية ببالون مع ّلق خارج
ِّ
حدود تسميات المكان والزمان؛ فهي مقطوعة عن الماضي ،مقصومة
عن الحاضر والمستقبل» .وعندما نقرأ هذا الرأي في ضوء المهاجر
ألن
المستجدة نجد أنفسنا أمام ظاهرة تطالبنا بإعادة ترتيب المفاهيمّ ،
ّ
قدر ًا من ثقافتنا يقيم خارج المساحات الجغرافية التي تع ّرفنا إليها
وطن ًا ،منذ زمن بعيد.
127
النخبة الفكرية واالنشقاق
وفي اللحظة التي يجري فيها تص ّو ُر انطالقة الروح في المنفىُ ،تفْ صح
نصوص ومواقف كثيرة عن مشكالت عصابية عنيفة تتجاوز الحدود
ٌ
ِّ
المتحكمة نفسها .فالمعروف أن المنفيين من المثقَّ فين هم إما الفئوية
من الهاربين :اختيار ًا أو طواعية ،وإما من الباحثين عن مزاج مناسب
128
في األكاديميات والفضاءات الثقافية ،وهؤالء هم جماعة المنفى
ّ
االختياري .أما أولئك الذين يضط ّرون إلى الهرب أمام التهديد بالموت
«المنفي» ،إذ يعني بقاؤهم في
ّ فهم الذين يصدق عليهم وصف
أوطانهم مجازف ًة بحياتهم (((.
-1وينبغي أن نتذكر الكيفية التي تُفصح فيها هذه الوقائع عن نفسها في رؤية أهل
الخارج ألنفسهم .فهل تصدق كلمة «منفيّ » وصف ًا لكل هؤالء؟ يكتب عواد ناصر عن
قائال« :ثمة من يريد أن يجعلنا متساوي القامات وعدد ً أولئك الذين يخلطون التمايزات
السياط التي تلقيناها على عيوننا ،بينما كان بعضنا يعدّ ها ،ومن يعدّ العصي ليس كمن
يتلقاها على عينيه» .أي أن المنفى قد َيؤُول امتياز ًا ،وتنافس ًا ،وكذلك استثمار ًا وطمس ًا
وتراجع بشأن المنفي مقالة
ُ لمسببات النفي »...االغتراب األدبي ،1997 ،36 ،ص.10
إدوارد سعيد باإلنجليزية «تأمالت في المنفى» ،نشرها رسل فرغسون وآخرون في «بعيداً
هناك :التهميش والثقافات المعاصر» ( ،)N.Y.MIT,1992وكذلك مناقشة إعجاز أحمد
الموضوع في كتابه .In Theory
129
النخبة الفكرية واالنشقاق
ّ
يدل على ضد ّ
كل ما حاد ّ
ّ العصابية قد تتط َّور إلى نزعة لتفعيل حنق
والمنفي .فإذ يشعر عدد من هؤالء
ّ للم ْب َعد
بهتان االختيارات األضعف ُ
بأن «الداخل» هو شاهد الصدق على الموقف ،سجن ًا أو موت ًاّ ،
ثمة من
ويتوسد
َّ نده الذي يعايشه مرغم ًا ،ينام
يسد أذنيه عنه ،متخاصم ًا معهّ ،
ّ
العلني،
ّ معه وسادة واحدة ،نصفه اآلخر الشجاع الرافض! أما النصف
فإنه -ما بين فئوية االنحياز وضمان مصالحه الجديدة ضمن الفئات
التي يقودها ،والتم ُّرد على نصفه الجريء -يمارس سلطة أخرى ملؤها
الحنق والرفض والتقريع وتقليل الشأن .إنه ال ّ
يقل أذى عن الديكتاتور،
وريث المستعمِ ر.
ِّ
المفكر، وهكذا ،يشترك الصانع والمصنوع في إقصاء المثقَّ ف أو
ضده ،في ثنائية ال فكاك
ضده ،راغبين فيه ،وساعين ّ
ومزاولة التكفير ّ
ِّ
المفكر ،في بينها وال انفصام؛ إذ ،كما يقول أنور عبدالملك ،يؤول
المتجبر ،إلى «ملك غالب ًا ما ُصلب :غير أنه
ِّ عرف المجتمع السياسي
ليس حاكم ًا ،كما أنه ليس إداري ًا جهازي ًا» (الفكر العربي ،ص.)44
وهكذا ،ترانا مدع ّوين ثاني ًة إلى مقاربة مفاهيم الحضور والغياب ما
130
ضد ما
نحو الح ّريّة ،ي َْسهل أن نعرف س ّر انغالق «الجوهرية السلفية» ّ
يتفاوت معها ،ورغبتها في تكفير ما عداها .بينما تبدو «الليبراليات
ِ
محقّ قَ ًة حضورَها عند التالقي المتفاوتة خالصة من عقدة التحريم،
ِّ
المفكر والمثقَّ ف ،فتؤول النخب فاعلةً ،بشكل أو بآخر. والتحاور مع
والتجبر ،ولهذا ال يرى نفسه
ُّ ردة وريث االستعمار ،فتكتنز بالغرور
أما ّ
ِّ
المفكر والفيلسوف ((( .في حين تنطلق الكيانات إال بغياب اآلخر ،أي
المنفتحة على اقتصادات العالم غير عابئة بهذا الحوار ،ما دام يقيم-
أص ً
ال -خارج م ََديات االهتمام األساس .أما السمة الغالبة للحياة
االجتماعي
ّ العامّة ،فهي تلك التي تدفع بالمثقَّ فين العرب إلى الفعل
لكن واقع العقود
ّ السياسي ،بينما تضط ّر اآلخرين إلى االستقالة.
األخيرة عرض للمثقَّ فين في ما يشبه سيرة غرامشي ،أو لسيرة ريجيس
دوبريه ،الذين ولعوا به ،منذ منتصف الستينيات ،قرأوا في االمتزاج
ردهم على انتهازات األداء ّ
النظري -السياسي عنده ،حينذاكّ ،
السياسي وذرائع البورجوازية الصغيرة ،لكنهم ،في ذلك االمتزاج ،قد
ِّ
للمفكر عزيز السيد جاسم في يؤول بهم الحال إلى االعتقال المزري
-1يقول عبدالله العروي «إنّ رجل التطبيق العمليّ ، ...وبتبنيه أيديولوجية ترمي إلى
الشمولية ،يقطع في المسألة ،وال يدع للفلسفة إال مهمة تفسير أفعاله» .أزمة المثقفين العرب
(بيروت :المؤسسة العربية ،)1978 ،ص .111وال يتصور العروي أن األمر يتعدى ذلك
بكثير ،ويؤول إلى التصفية عند المحترف السياسيّ .
131
النخبة الفكرية واالنشقاق
بغداد ،أو لمقتل حسين مروة ،وكمال خير بك وغسان كنفاني ،وكمال
ناصر ،ومهدي عامل في لبنان ،ومحمد طالب وعلولة في الجزائر.
وسواء أنتمى هؤالء أو بعضهم وغيرهم ،إلى فئة ،أم لم ينتموا ،فإنهم
ّ
فكري وثقافي ومعرفي .أما األطراف جميع ًا أصحاب قضية وانشغال
التي شاركت في القمع والقتل والتصفية ،ما بين سلطة متز ِ ّمتة وكيانات
وجهات قهر ،فإنها تلتقي جميع ًا متآلفة
مريضة ومخابرات صهيونية ِ
العتية للمثقَّ فين .وألوّل م ّرة تجتمع كل هذه
ّ متماثلةّ ِ ،
لتؤكد خصومتها
ِّ
المفكرين واألدباء وآالمهم وعذاباتهم. ِّ
متوحدة ،على جثث الجهات
أما حال المثقَّ ف فهي تلك التي نلتقيها عند سعدي يوسف ،في «حوار
مع األخضر بن يوسف»« :ها نحن نشقى/وها نحن نُلقى/وعبداللطيف
على ساحة السجن مُ لقى».
والمثقَّ فون ،بهذا المعنى ،ليسوا الفئات الفنية والمتع ِ ّلمة وسلطات
ِّ
«المثقفين» (بكسر القاف)، المديرين .لكنهم قد يحتوون في ما بينهم
ّ
والمفكرين ،الذين يتعالون ،عند علي حرب ،على وكذلك الفالسفة
الفئوية والمصلحة والتبعية .ويمكن القول إن التعالي على المصلحة
ال وفع ً
ال ،هو الذي يلتقيه المرء نشدان ًا للمعرفة الح ّرة وح ّريّة اإلنسان ،قو ً
بين ثنايا تعريفات إدوارد سعيد ،وما استعا َن ُته بتعالي نخب ِة الخالص
ُ
وتعاط ُف ُه مع طهرانية مثقف جوليان بندا إال مسعاه للحيدة عند أرنولد
132
بالتعريف عن التصاقات التبريرات والتغاضي المحسوب ،والتصامت
إزاء محنة اآلخرين .فإن «ال تملك شيئ ًا وال يملكك شيء» ،كما يستعير
عزيز السيد جاسم من الصوفي سمنون تعريفه للمتص ِ ّوفة ،قد يكون
منطلق ًا ومعيار ًا للفعل الح ّر؛ وإذا ما بلغه المثقَّ ف تح ّررََ ،وو
َجدت فيه
ْ
وتنشد إليه في عريها وبحثها عن
ّ كتابات العصيان الكثيرة صوت ًا تنشده
ُ
ِّ
المتمعنة في تشفيرات الحلّاج والسهروردي، لكن القراءة
ّ الخالص.
وتلك التي تتأ َّكد لدى المثقَّ ف المغدور في «متص ِ ّوفة بغداد» (طبعة
نص
ّ أصحاب
َ جديدة ،1997المركز الثقافي ،بيروت)ُ ،تظهرهم
وسلوك يتحايالن على إسالم الخلفاء وفقهائهم لتحرير النصوص
إن المتص ِ ّوف قد يكون مثقَّ ف ًا بامتياز ،ما دام
من وجهها األوحد .إذ ّ
يسعى -أيض ًا -إلى مثل هذا التحرير ،لئال يبقى التاريخ عند فقهاء
تقديس» ،كما يكتب فؤاد زكريا« ،فوق مستوى البشر
ٍ «تاريخ
َ الخليفة
الفانين» ((( .ويضيف أنه لو كان بمقدور فقهاء الخالفة ُ
فعل شيء إزاء
المدوّنة «الستأصلوا من التاريخ مباشر ًة ُّ
كل إشارة إلى ما ي َْخرج من
المؤسسة الرسمي ُة للخالفة» (((.
ّ ذلك التيار الرئيس الذي تم ِ ّثله
« -1نقد االستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة -دراسة في المنهج» ،فكر ،ع،10
،1986ص.٤٢
ً
فعال .وتم تشذيب الطبري من قبل مؤرخين اشتغلوا «فقهاء» أيض ًا. -2وللمفارقة حصل هذا
133
النخبة الفكرية واالنشقاق
134
جزاف ًا ،وإنما صادف أن تالقت األهواء والغايات واال ّتجاهات ،في
المؤسسة السياسية قبل النكسة
َّ إحباط ،وخروج ٍ
تال ،على ٍ مرحلة
ّ
والشك، َّ
لتتشكل من هذه ابتداءات في التساؤل الحزيرانية ،وعندها،
فتئت
ْ حاول وريث األيديولوجية الطقوسية االلتفاف عليها ،لكنها ما
تتك ّون ما بين المنافي والمركز واألطراف ،من دون اتفاقات أو تعاهدات
بين المثقَّ فين .إننا ،إذ نقرأ المك ّونات العامّة ،في مجموعة خطابات
منشقّ ة ،على فقيه الخليفة ،ندرك -أيض ًا -أن أصحاب هذه الخطابات
تيسرت لهم فرصة التحاور واللقاء المباشر؛ فبعضهم يقبع سجين ًا
ْ قلما
وتتم تصفية اآلخر ،ويبقى ابن
ّ من دون ٍ
تناد من اآلخرين إلنقاذه،
طليقين ،بإمكانهما
ْ الدولة الدستورية وساكن المنفى يمتلكان الح ّريّة
التباحث في قضية المثقَّ ف على مداخل القرن الحادي والعشرين،
لهذا ينبغي أال نستغرب صيحة األلم التي تدفع مثقَّ ف ًا ،كالهندي إعجاز
أحمد ،إلى أن ُيطْ ري إدوارد سعيد ،بينما ينتقد فيه ذلك الترويض
الذي يجريه عبر Bendaآلراء غرامشي ((( .فالثقافة والمنفى يفعالن
واع ،ضرورةً ،للجمالية العالية على حساب
ٍ فعلهما في إعال ٍء غير
التماس المنشود مع تفصيالت القهر الداخلية التي يعانيها اإلنسان
بخاصة .فهؤالء كغيرهم ،منذ سقراط -كما يقول
ّ العربي ،والمثقَّ فون
135
النخبة الفكرية واالنشقاق
ّ
يشكلون االمتحان عزيز السيد جاسم في «الحضارة واالغتراب» (((-
لكن الدعوة إلى
ّ الحقيقي للمجتمع السياسي ،وكذلك للرأي العام.
ّ
تخصه كتابات
ّ ِّ
المتصدع الذي مزيد من اليقظة الذهنية إزاء الداخل
أهم ّية مسعى إدوارد سعيد
العصيان باإلدانة القاطعة ال تعني التقليل من ّ
ِّ
مكدر ًا للصفو العام ،مُ ْربِ ك ًا في إعالء شأن خاصية المثقَّ ف ،بوصفه
والمصلحي .وحتى عندما ينتقل الكالم
ّ والتوفيقي،
ّ للراكد ،والساكن،
إلى دريدا ،مع الفارق ذهن ًا ومنهج ًا ،يجدر االنتباه إلى بدء التفكيك
عنده ،ألن منطقة القلق ،والتماسها المشاغب َه ْد َم قطعية النصوص،
والمقصي ،تستكمل ما ُأرتج أص ً
ال عند كامو ،والتقطه ّ المغيب
َّ وتفجير
للعدة
ّ المثقَّ فون العرب في صراعهم الواعي مع اليقينية المغلقة
لكن تحفُّ ظات «سيير» وغيره على ما قيل
ّ األيديولوجية الطقوسية.
تبقى تستحقّ االنتباه؛ ذلك ألن هجنة األصول الشخصية قد تنحرف،
أو انحرفت فع ً
ال ،بـ«دريدا» نحو إبداالت ال تنتهي ،قد ال تتوافق،
المعرفي الح ّر ( (( .ولهذا يمكن األخذ بتعاطف
ّ ضرورةً ،مع المبتغى
فوكو ،أي جذبات الكون ،بعضه بعض ًا« ،قاطع ًة أوسع الفضاءات في
المتالك س ّر الديمومة ،والتي تأسر مدارات المثقَّ ف الح ّر، لحظة»
(((
136
وهو يلتقط ابتغاء اإلنسان للكرامة والخالص من االمتهان .كما يمكن
أن يؤخذ عن دريدا ما يقيمه من تساؤل م ّتصل للخروج على يقين
السياسي ،أو سلطة الديكتاتور ،بينما يلتمس المرء في فوكو
ّ المجتمع
المضي نحو
ّ النص وتحليله الكتشاف فعل الهيمنة فيه ،بقصد
ّ قراءة
ما هو أوسعْ ،
أي فعالية النصوص في ما هو أوسع؛ أو وضع الثقافة
داخل الجهد اإلنساني برمّته ،كما يكتب سعيد في مقالته عن «النقد
بين الثقافة واالنتظام» في «النص ،العالم ،الناقد» ( .)1983وليس
ينشد هذا المثقف ،كما فعل غرامشي ،إلى الموروثات
ّ مستغرب ًا أن
ّ
جوهري ،ح ّر ،منشود ،عميق، الشعبية التي يخرج منها اإلنسان بما هو
لم يخضع ،بعد ،أل كداس التزييف وعوامل القهر والتشويه والتضليل
التي تتقاطر ،باستمرار ،من شتى الخطابات الناشدة للهيمنة والمزاولة
لها ،منقطع ًة عن المصلحة العامّة لإلنسان ،وآماله في الح ّريّة والكرامة
والعيش أو ً
ال .وك ّلما جرى استنطاق هذا الموروث ،كالحاج أحمد-
تمثي ً
ال -في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» ،مخزون ًا
تبدت
للحكمة المختمرة وحسن الذوق والفقر العفيف والمكابدةَّ ،
جوانب الثقافة التي تخفيها عنا تراكمات االفتراق والقطيعة
ُ أمامنا
واالغتراب وقشرة المصالح والتقاطعات ،تلك الجوانب المليئة بدفق
137
النخبة الفكرية واالنشقاق
ّ
والمفكر باإلنسان ب ،يلتقي عندها المثقَّ ف
والح ّ
ُ عذب من الحياة
االعتيادي .وعند هذه تتحطّ م النخبوية ،كما يقترح غرامشي
ّ أو الفرد
عندما يتأمَّل الثقافة الشعبية ((( ،وهو ما يحيل عليه عزيز السيد جاسم-
ضمن ًا -حين يرى المبتغى األول ،ونقطة االبتداء ،حقوق هذا اإلنسان
في وطنه ،ال بصفتها من ًة ومنح ًة ُتعطى ،وإنما بصفتها امتيازه األول
الذي ال مراء فيه ،وال مواربة ،وال اختالف ،إذ يقول:
ّ
للمفكرين محصلة الجهود الذاتية والموضوعية
ّ «الثقافة الصحيحة هي
ّ
مفكر وكل مثقَّ ف هو مواطن والمثقَّ فين .وفي مرسى األمور فإن كل
يحتاج إلى التم ُّتع بحقوقه اإلنسانيةْ ،
أي بحقوق المواطنة ،حتى تكون
وحب وإيمان ال تصنعه
ّ صلته بوطنه ليست صلة بالمدفن ،بل صلة حياة
يتهيأ إال
َّ األناشيد والقصائد ،وإنما يصنعه إيمان واقعي ال يتحقّ ق وال
يتنسمها المواطن في وطنه» (((.
َّ عبر أجواء الح ّريّة التي
ِّ
والمفكر، وبمثل هذا االبتداء ينقاد توجيه االهتمام إلى المثقَّ ف،
واإلنسان ،منتج ًا وشريك ًا في المعرفة ،ال يتحقَّ ق فعله إال في فضا ٍء ح ّر
يتأ َّكد في وطنه أ ّو ً
ال ،وكلما غابت حقوق المواطن اختلفت أولويات
وتفاوتت ،بيننا وبين مجتمعات قطعت خطوات في شراكتها
ْ التعريف،
138
الفعلية .وبينما تبدو نصوص هؤالء الكثيرة متوالدة عن أخرى أو
مستجيبة لها في نقطة التقاطع الحاسمة ،يبقى المؤ ِ ّلفون حاضرين
بالق ّوة نفسها ،يقيمون وجودهم في الحياة العربية شهود ًا وأصحاب
مضاد ،يتضافر فيه حضورهم الرافض مع المدوَّنة ،والمواجهة
ّ نص
ٍّ
والعصيان ،وتعكير مزاج ملّاكي المجتمع السياسي ،ومديري الرأي
مية االستعالء والتس ُّلط وعقدة
العام في المجتمعات المحكومة بِ َه َر ّ
«الخليفة» .و«فضالت» هذه المجتمعات الظاهرة تزكم األنوف،
ّ
تذكر ،دائم ًا ،بالغائب الذي يشير إلى وجوده عبر عشرات لكنها
أفصحت عنه ،بامتياز،
ْ اإلشارات والفراغات ،ذلك الغائب الذي
رواي ُة تيسير سبول القصيرة «أنت منذ اليوم» ((( .إن خطاب العصيان
ضد النخبة التي غازلت استمرار الوراثة ،وكأنه يستعيد
يتوجه ،بعنفّ ،
َّ
ما يتوقّ عه فانون من قبل ،بينما يتعايش ،كالمريد ،مع حاالت المثقَّ ف
الح ّر وتج ّلياته وشجون قدره.
لكن نشدان الح ّريّة والتوق إلى المعرفة (وهما سمتا المثقَّ ف) ال
ّ
النص وحده ،ألن األخير يحيل على هذا العالم ،كما أن
ّ يتأ َّكدان في
المعني مرصود ومقصود من شتى القوى المضادة للسمتين
ّ المثقَّ ف
-1حول هذه الرواية ورويات مماثلة ،يراجع للمؤلف :ثارات شهرزاد :فن السرد العربي
الحديث (بيروت :دار اآلداب .)1993 ،وصدرت الرواية المذكورة ( )1968عن دار النهار.
139
النخبة الفكرية واالنشقاق
« -1كتابات ،»1984 - 1964 ،دار الجمل ،1990 ،ص 33و .45وظهرت القصيدة
وتقديمها في الكلمة العراقية .1968 ،أما بالنسبة لكتابات تلك المرحلة ،وتنامي بذرة
العصيان عند حميد سعيد وجمال الغيطاني وآخرين ،فقد ناقشته في الفصل السابع من
«ثارات شهرزاد».
140
متقاطعة بين هذه الجماعات ،وقد تصعد مجموعات منه إلى صفوة،
بمعية أخرى ،بمجاورة َّ
تتشكل صنوف من الخطاب هنا أو هناك .كما
ّ
خطاب مهيمن قاهر أو محدود .ولهذا تبتدئ رحلة الخرق ،ما بين
ويتوجه الخطاب
ّ الفكاهة واالستعراض والسخرية والتصريح والفضح.
في مواصفات المجاورة بين العصيان والهيمنة والرفض واالحتكار
ّ
يشكله المتس ّلط ضد المجتمع السياسي ،بصفته فرد ًا؛ ْ
أي ذلك الذي ّ
يتقصد الخرق ،ال المراوغة
ّ حوله :ما ً
ال ،ووجاهة ،ونفوذ ًا .وهو خطاب
التي يبتغيها خطاب الرفض واالمتعاض بقصد النتيجة ،فهو يريد إعالن
نفسه وإزاحة اآلخر ،أو خلخلة وجوده في األقل .وقد يؤول الخطاب
المذكور فاضح ًا ،أو تخاطبي ًا ،كما يمكن أن ينغمس في تشفيرات كثيرة
تنتهي إلى نتيجة مماثلة عندما تجتمع على صورة أو رمز .كما قد يزداد
تو ُّتر ًا تحت ضغوط العصر ومنجزاته ،لكنه ينفتح عليها ،آخذ ًا منها،
جامع ًا بين تم ُّرد الرومانسيين ونزق الثوريين ومعرفة المنذورين إلى
الثقافة ،لكنه قد ينتشر بين المجلّات الثقافية ،كما قد يجد طريقه بين
المستجد .إنه هنا ،ليزيح التدفُّ ق
ّ ّ
والبث والتخاطب وسائل اال ّتصال
غبي ًا من التلفيقات لتجميل صورة
ال ّ المنهمر الضاغط ،الذي ِ ّ
يقدم شلّا ً
فعا ً
ال، وحب الذات .ولربّما ال يبدو ّ
ّ ِّ
متحصنين بالمال مديري البغي،
بالقدرة نفسها ،ألن التدفُّ ق التلفيقي أ كبر بكثير وأعتى ،لكن ُّ
تشكالت
العصيان ،في مجاورتها لالمتعاض والرفض والنقد ،تنتمي إلى شهامة
141
النخبة الفكرية واالنشقاق
جميع ًا ،ر ّنة الرجاء واألمل ،وشقّ عصا الطاعة على ُ
المفترين ،فهو
عمق تناغمها مع حركة كونية ،ومع حاجة الناس ورغباتهم ،وكذلك مع
وتعددياته
ُّ البنية الشعورية العامّة ،وتلك الم ّتصلة بنبض العصر وانفتاحه
وتحدياته .وهكذا تستعاد هذه الخطابات عبر دروبها المختلفة في
ّ
داخل فعل ثقافي واسع ،له رهانه َم ّرةً ،وبراءاته َم ّر ًة أخرى ،لكنه ،هنا
للمستبد والمتخ ِ ّلف ،وما ينتميان إليه من
ّ وهناك ،ق َّلما يُبقي يقين ًا ما
ٍ
حضور لهذه األصوات هو خرق ،بدرجة أو ّ
فكل معتقد أو رأي عام،
المسميات
ّ بأخرى ،وكل إصغاء لها هو شراكة معها ،قد ال تأتلف تحت
المتداولة للمجتمعات الراكدة ،لكنها َت ْحفر في الحدود التي أريد لها
أن تنغلق على الح ّريّة والناس.
ِ
المنقذة ِ
القلّة
142
المثقَّ ف» ،أو بين أولئك الذين تع ّرض لهم «جوليان بندا» من قبل
ّ
يشكلون القاعدة في «خيانة المثقَّ فين» .لكنهم ،قبل هذا وذاك،
خصها ماثيو أرنولد بكتابه الذائع عن المجتمع اإلنجليزي في
ّ التي
النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،أي «الثقافة والفوضى» .فإذ
حج متصل نحو االكتمال ،ومعرفة متواصلة
َي ُؤول معنى الثقافة إلى ّ
بأحسن المتوارث والمنقول ،يكون َح َملة المواصفات الثقافية أ كثر من
زهاد مرشدين ومر ِ ّبين وفقهاء ّ
ووعاظ .إنهم أقرب ما يكونون إلى ّ مج َّرد ِ
ِّ
تشكل لهم إغراءات الحياة األخرى جذب ًا ما؛ في معبد المعرفة ،ال
تحدد ،بموجبه ،صفات
ّ ولهذا يكون حضورهم بمثابة المقياس الذي
الفئات والطبقات االجتماعية وحدودها وواجباتها .إنهم المرجع الذي
البد منه ،إزاء االحتدام الحياتي والصراعات الطبقية التي تص ّو َر ماثيو
ّ
ِّ
الضيقة التي أرنولد ،في حينه ،أنها إفصاح عن المصالح والرغبات
تتوالد عنها الفوضى وحاالت االحتراب .وبمثل شفاعة الثقافة هذه
المخ َرج من االحتدام والصراع نحو «مركز السلطة» أي
يقترح أرنولد َ
الم َخ ِ ّلصة.
يسميهم البقية المنقِذة أو ُ
الدولة ،التي يقودها هؤالء ،أو من ّ
تبين جذور الفكر األرنولدي؛ فهو وريث التعليم «الكالسي
وليس صعبا ُّ
الجديد» الذي يدين بمركزية أوروبية ،تتناقل ،بحسب فرضة أسطورية ال
غير ،فكرةً ،مفادها أن الجذر اليوناني جاء بحالوة العقالنية واالنتظام
والتناسب واالجتهاد والفكر الخلّاق ،بينما جاء الفكر العبري-
143
النخبة الفكرية واالنشقاق
لكن أرنولد ،شأن غيره من المربّين والشعراء والنقاد ،سليل تربية سادت
في الجامعات القوية النافذة آنذاك ،وتستند إلى خطاب مهيمن هي
األخرى ،لم يكن حضور الوالد توماس أرنولد مدير ًا لمدرسة «رغبي»
الصناعية
ّ ضعيف ًا فيه ،ناهيك عن الفاعلية االقتصادية لمجتمع الثورة
الذي أخذ يفرض حضوره على أنماط المعرفة والتعليم والتربية والنشاط
(ومود ٍة ما) ،إلى أنموذج
ّ العام .وقد نظر ذلك المجتمع ،بارتياب وخشية
ّ
الثورة الفرنسية ،عندما لعب المثقَّ فون دور ًا مُ ْغر ّي ًا في التغيير ،ليجدوا
أنفسهم ،فجأةً ،داخل دوامة الفوضى والدماء ،حيث تتعاظم لديهم
144
مب ّررات السجن واإلبادة والتصفية ،في ضوء جرائم السلطة القديمة.
وسيغلب الثأر نورانية المثقَّ ف اإلنجليزي ،ويُسقطه ،ثانيةً ،ضحية
للرغبات واالنفعاالت ،بما يو ّلد ريبة لديه ،لم يتخ ّلص منها غير ق ّلة
قليلة ،من أمثال شلي ،ولي هانت ،والتالين من شعراء الحركة الجارتية.
أما ووردزورث ،وغيره فسيلوذون بمراجعة لتاريخهم وأفكارهم،
تضعهم ،ثانيةً ،داخل التيار اإلنجليزي المحافظ ،الذي سيأخذ شيئ ًا من
تساميات األلمان ،وشيئ ًا من منهجيات الفرنسيين ،من دون االختالط
يعدونه مهاد ًا ال يقود إال إلى ظهور األباطرة والمتس ِ ّلطين، ّ
الفكري بما ّ
سي ِجهز المثقَّ فون اإلنجليز -لفظي ًا -على تلك
من أمثال نابليون .ولهذا ُ
مدينتين» ،وثاكري في
ْ «قصة
ّ التجربة الفرنسية ،كما يفعل ديكنز في
«سوق الغرور» ،وكاراليل في كتاباته عن الثورة الفرنسية ،بينما يشتغل
آخرون ،من أمثال مكاولي وغيره ،في تبيان مواصفات روح العصر،
متباعدين ،في التأويل ،عن المشروع القومي األلماني ،وم ّتجهين إلى
التشديد على حضور «قباطنة الصناعة» ،أي على أولئك المديرين
والصناعيين الذين بدوا قاد ًة حقيقيين للتغييرات الكبرى في هيكلية
التوسع االستعماري في الخارج.
ُّ المجتمع اإلنجليزي ،وفي
145
النخبة الفكرية واالنشقاق
الحالي
ّ منطلق ال يتح َّرر ك ّل ّي ًا من امتيازات المعرفة السائدة والموقع
لصاحب النظرية ،بقصد التباعد عن التجربة الفرنسية والتشديد على
ما هو إنجليزي ،فإذا كان المثقَّ ف الفرنسي منحدر ًا مع األحاسيس
الشعبية العارمة ومنساق ًا نحوها من دون قدرة على إيقافها ،فإن التجربة
ِ
شريك ال ِق ّلة المنقِذة: اإلنجليزية تبتدئ بتحديد مواصفات هذا المثقَّ ف،
ٍ
متعال على َصلحي ًا،
فهو وريث المعرفة ،ح ٌّر من االنفعال ،معت ّز م ْ
متسام على األهواء السياسية ،ولهذا ُي ْر َكن إليه من
ٍ الطبقية،
ّ الطموحات
َّ
المؤكد أن فكر ًة طرف الفئات ،مجتمعةً ،بحكم هذا «التخ ّلي» .ومن
والعملية ،كما أن الحزبين
ّ العلمية
ّ كهذه لن ِ ّ
يرحب بها دعاة المعرفة
المتنافسين يريان فيها جه ً
ال بالواقع اإلنجليزي الداخلي والضرورات
ترن ،على رغم
لكن قوة المناقشة ّ
ّ السياسية ،في الداخل وفي الخارج.
يتوجه نحوهم ماثيو أرنولد.
ّ ذلك ،في أذهان الساسة الذين
146
فثمة غرض َ
المحضّ ، إلى المثقَّ ف ّ
حسه بالنزاهة .ولكنها ليست النزاهة
عما يأسره ويؤثّمه ّ
ويتشكل في ذهن المثقَّ ف ،متباعد ًا ّ داخلي يقيم
ويؤطّ ره ويط ّوقه ويمنعه من قول الحق .وإذا بنا ،ههنا ،نستعيد أدوار
المثقَّ فين في التاريخ العربي ،أولئك الذين رفضوا مصاحبة السلطان،
واختاروا «ال» ،أو المكاشفة بدي ً
ال للمكاسب وطقوس الجاه .ومثل
ّ
المحك هو الذي يعيد إلشكالية الفئة المثقَّ فة حرارتها؛ وذلك ألن هذا
المثقَّ فين ،في ضوء هذا التحديد ،ليسوا المتع ّلمين ،بشكلهم الواسع
الوظيفية
ّ الفنية أو
ّ المهنية أو
ّ المتعارف عليه ،كما أنهم ليسوا الفئات
النساك في
في قطاعات الدولة وهياكلها ،بل هم أقرب إلى مجموعات ّ
محراب الثقافة والمعرفة .إنهم معتزلة ،عندهم ما يقال ،ولك أن تسمع
ولكن ،من يترك لهم ذلك؟
ْ أو ترفض ،ويكفيهم هذا األمر.
الـمـنـفي والـطـريـد
ُّ
(المنفي ،والترحال،
ّ عندما تثار ،خالل األعوام األخيرة ،قضية
والتش ُّرد) ،فألن الموضوع وثيق العالقة بتمثيالت الموقف وحضوره
فالمستجدات النظرية األدبية ُتبدي ،أحيان ًا ،نزع ًة ما بعد
ّ وصوره.
حداثية ،ينخرط فيها انتماء المثقَّ ف داخل فضاءات بال حدود ،على
147
النخبة الفكرية واالنشقاق
القومية،
ّ أساس أنه انتماء في المطلق الجغرافي ال داخل الضفاف
فالعالم في ُع ْرف هذه المجموعة ،كسلمان رشدي ،ينفرط في ثقافات
متشابكة ُتلْغي الحدود السابقة ،و ُت ْضفي على الحضور الثقافي تن ُّوع ًا
واسع ًا ال يلغي االنتماء األصلي للمثقَّ ف ،وإنما ِ ّ
يؤكد غربته من ج ّراء
لكن مثقّ ف ًا ،كإعجاز أحمد ،يرى في هذه
ّ المستجدة،
ّ كثرة انتماءاته
النظرة تجاوز ًا ألصول الرؤية؛ فثمة جذر اجتماعي ،وديني ،وقومي
ّ
يتحكم في ما يُقال وما يدوّن .و َي ْرصد أحمد في مثل هذا التخريج
ِّ
المتعددة الجنسية وتجاوزيَّتها الحدوديّة، تماهي ًا ساذج ًا مع الشركات
ّ
متحكمة ومهيمنة ِّ
مؤكد ًا أنها ،في النتيجة ،تنتمي إلى إمبراطورية كبرى
في السياسة واالقتصاد ،ويرى ما بعد حداثية بعض المثقَّ فين بمثابة
انحدار مع تيار ظاهر يُخفي حقيقة عميقة للتمييز واالستغالل .وهكذا،
فإن في عرض رشدي للمثقَّ ف ،بوصفه طريد ًا أو منفي ًا ،يشكو عدم
ّ
تعدديته االنتمائية ،أو انتشاره في أ كثر من مكان
االنتماء من ج ّراء ّ
داخل لغة سائدة ...أقول :إن في هذا العرض الكثير من التعالي على
حقيقة االنقطاع واالستئصال اللذين يتع ّرض لهما المثقَّ ف ،ويعانيهما.
148
المنفي طريد ،يضط ّره التهديد بالسجن أو القتل
َّ المنفي؛ وذلك ألن
ُّ
إلى الرحيل والتخفّ ي والهجرة ...وأما المنفى االختياري فرغب ٌة ذاتية،
و«الرحالة» و«المتش َّرد» ،ال
ّ ويليق بمن اختاره تعبير «المتج ّول»
«المنفي» (((.
ّ
وتحيل هذه التمييزات على مشكلة أخرى عويصة أيض ًا :فأين يقف
المثقَّ ف عندما يقيم في المركز األوروبي أو في أميركا؟ إن إدوارد
سعيد يتح َّرر من تبعة السؤال ألنه صاحب قضية داف ََع عنها ،وتع ّرض،
ولكن ماذا
ْ بسببها ،للتهديد والضغط ،كما َيقْ ترح إعجاز أحمد محقّ ًا (((.
عن ف.س.نابيول الذي يبيع هويّته بحث ًا عن ٍ
جلد بديل؟ وماذا يقال
عن مثقَّ فين يتواطأون إزاء محن شعوبهم بقصد المهادنة والبقاء وتمضية
إن الخيانة يمكن أن تطاول العشرات الذين
حياتهم بهدوء تعيس؟ ّ
ضد شعوبهم،
َس ّ
يتخاذلون إزاء قضايا اإلرهاب والضغط الذي يُمار ُ
ضد أشكال القمع
الكلي ّ
ّ بينما تح ّتم عليهم هويّتهم الثقافية االنخراط
وتبلورت .فالهوية الثقافية ال
ْ ظهرت
ْ واإلرهاب والتس ُّلط كافة ،أينما
تدوم من دون فعل ح ٍ ّر ،وشراكة مُ ْخلص ٍة ،واندفاع نزيه نحو الح ّريّة
والكرامة.
149
النخبة الفكرية واالنشقاق
َح ْجر ًا أو حصار ًا كاللذين عاناهما أمثالهم في بلدان أخرى ،كما يشير
المؤسسات
َّ إلى ذلك إعجاز أحمد ( (( ...أو كمصر التي حال حضور
فيها ،وحالت شخصيتها نفسها ،في معضم عهودها ،دون نجاح أساليب
ّ
الفكري. االضطهاد
150
لآلتي ،وأخرى مغادرة له ،تاركة إياه لشأنه ،لعله يتركها لشأنها هي
األخرى .وأما الخطاب التقليدي فقد الذ بالرفض ،بعدما َه َّل َل لقادم
َصعد المنابر
جديد ،هو دولة االستقالل ،ليجدها تطالبه ،بإلحاح ،أن ي ْ
فيمجد ف َْع َلها الذي يتواطأ على إصالح قليل مقابل مقات َِل
ِّ ألجلها،
حد لها .وهكذا ،سيبقى محمد مهدي الجواهري شريد ًا حتى
كثير ٍة ال ّ
ّ
تشكلت ساللته فيه منذ مماته ((( ،مستند ًا إلى إرث رافض ،هو قدره التي
المتنبي .فمشكلة طغيانية األباطرة الجدد ،في مرحلة ما بعد االستقالل،
هي في أحادية النظرة ،واالنهماك المظلم في األنانية؛ ولهذا يلوذون
بالحجاج ،والمنصور،
ّ بجانب من التاريخ ،متناسين الباقي منه :يلوذون
والسفّ اح ،ومعاوية مث ً
ال ،وينسون مقاتل الطالبيين ،وأبا ذ ّر الغفاري،
لكن الخصومة ال تتشكل ضرورةً،
ّ وعمار بن ياسر ،وابن المقفّ ع ...إلخ.
ّ
بين المثقَّ ف والطغيانية المذكورة ،على رغم أن األخيرة تشغل المساحة
الكبرى من القهر الذي يعانيه المثقَّ فون.
المثقَّ ف والطاغية
151
النخبة الفكرية واالنشقاق
152
السياسية ((( .لكنه سيخرج وصحبه ،من صالة العرض،
ّ إلى شرعية الحياة
منكسر ًا حانق ًا أيض ًا ،كلما اختار الضحايا نهايتهم بقدرة أخرى تتعالى
على صنعه التدمير والقهر .وعندما ينكسر مصدر السلطة والقهر ،ال
يمتلك صاحبها غير الخيبة والمزيد من الحنق .أما الخارجون من الحياة
ألن أثرهم يقوم في أجيال معاصرة أو تالية،
فال ي َْعنيهم ما يجري اآلنّ ،
تمام ًا كما يتصورون مهمتهم الثقافية غرس ًا متنامي ًا متوالد ًا باستمرار.
تساميهم على الحياة
َ ومرة أخرى ،يُعلن هؤالء ،عبر ف ِْعل التصحية،
مقدمين لقراءة أرنولد ،وبعده بندا أنموذج ًا آخر من التعالي
وأدرانِهاّ ،
ّ
يتجذر عند أرنولد في الميالد األوَّل للمسيحية ،ويتك ّرر في الذي
علي وعائلته ،على نحو ما يكتب هو نفسه في
ّ شهادة الحسين بن
«مسرحية انفعال فارسية» تعليقّ ًا على ما جاء
ّ تج ّليات مقالته الذائعة
عند غوبينو وآخرين.
الخــيـانــة
وليس صعب ًا تص ّو ُر الخيانات التي تراف ُِق هذه التضحيات؛ فالناس الذين
علي،
ّ الحسين
ْ ُ
«سيوفهم علينا ،وقلوبُهم معنا» ،كما يأتي على لسان
-1المرور عبر الرموز الوطنية والثقافية إلى كسب ثقة الجمهور عادة جارية .وتكرّرت
في ثورة 1952في مصر ،وكذلك في عا َميْ 1958و 1968في العراق .يراجع مصطفى
عبدالغني ،ص213؛ وإبراهيم كبه ،هذا هو دفاعي عن ثورة ( 1958بيروت :دار الطليعة،
،)1996وعزيز السيد جاسم ،مهمات العمل التقدميّ ( ،بيروت ،المؤسسة العرب ّية.)1971 ،
153
النخبة الفكرية واالنشقاق
هم وقود الخيانة التي يستدرجها المال ،وي َْشحذها الوعد بالسلطان
وسيخص
ّ والوجاهة .وسيكتب الشعراء التالون عن مشاهد الخيانة،
الشاعر الصعلوك الحصيري نفسه بالتأنيب عندما يكتب ،معتذر ًا ،في
لكن مثله َيقْ در على المراجعة
ّ قصيدة يهديها إلى عزيز السيد جاسم.
-1ديوان عبداألمير الحصيري (بغداد :الثقافية .)1986 ،يقول معتذر ًا في قصيدة طويلة:
َ
ترض لن يتبسما (ص )266 لم
عبوس ..إذا ْ
ٌ ب ّ
يلف المدى دُ جى َ
تغض ْ حنانك ..إن
-2بلقيس شرارة« :رحيل الكاتبة العراقية حياة شرارة »...القدس 15 ،آب .1997وتقول
الكاتبة إنّ شرارة انتمت إلى الحزب الشيوعيّ ،بينما افترق والدُ ها عنه ،واختلف معه إبان
154
أساسيين في تكوين فاعلية
ْ عاملين
ْ الفكرية المختلفة ُت ْجمع على
العام .وعندما تتح ّول
ّ المثقف :ح ّريّته ،وشراكته في تكوين الرأي
سلطات الجماعات واألحزاب إلى مجموعة من الضوابط والكوابح
لصده أو تحجيمه ،فإنها تفقده دوره ،وتودعه في قوالبها الخاصة،
ّ
فيغدو غير قادر على المشاركة في تنمية أفكاره أو نشرها .ومثل هؤالء
الرد أو المناقشة؛
ّ هم المثقَّ فون الذين يُصار إلى توجيههم للكتابة أو
الثقافي .وعلى رغم
ّ ُّ
وفكل توجيه هو مصادرة للرأي واستهانة بالضمير
ّ
الفكري، ّ
المفكرين ،كإعجاز أحمد ،ي ُْعلون من شأن االنتماء أن بعض
ّ
كقاعدة أساس في رؤية جوانب الخطابات والمواقف والمدوّنات
القسر ،بالمعنى المذكور ،لم
ْ فإن
والتمثيالت والملفوظات والوقائعّ ،
ِّ
المتجذرة للرأي، يَرِ ْد في أذهانهم .فالمقصود بـ«االنتماء» هو المزاولة
ال تس ُّلم األوامر واإلرشادات! بل قد يبلغ األمر ببعض «المنتمين»
إلى إعالن الحرج واالمتناع عن التوقيع على مذك ّرة تطالب بإطالق
ّ
مفكر .وقد يندفع آخر -رضوخ ًا للكوابح أو تناغم ًا معها -إلى سراح
ِّ
المفكرين ،حتى في أحلك أيامهم وأشقاها، مضاد على
ّ فرض حصار
في السجون والمعتقالت .وقد يبيع نف ٌر آخر نفسه َم ّرة واحدة إلى
شيطان «االنتماء» الذي يوصيه بمعاقبة المختلفين والمنشقّ ين:
ْ
فاضطرت إلى قبول التوجيه والتضحية بمشاعرها الشخصية .وربما الستينيات في العراق،
تخص الخوف عليها من السلطة آنذاك.
ّ تكمن تفسيرات أخرى
155
النخبة الفكرية واالنشقاق
ومن حق إدوارد سعيد أن يتعالى على هذه النماذج ألنها لم َت ْخطر في
لكن التجارب
باله ،كما لم تخطر في بال جوليان بندا ،وال ماثيو أرنولدّ .
الستالينية وأيام الرايخ الثالث جاءت بنماذج كثيرة
ّ الالحقة أيام المرحلة
تدخل مساحة الغدر اإلنساني تلك
إن ْ
من الخيانات .وهي نماذج ،ما ْ
مجرم
ٌ حتى تفقد صفة «الثقافة» ،لتؤول إلى ممارسة قذرة ،صاحبها
االدعاء.
أي صفة أخرى جاءته من طريق القراءة أو ّ أو ً
ال قبل أن يمتلك ّ
ولم ي َْخط ْر أصحاب الذهنيات المجرِ مة في بال المنظّ رين لمفاهيم
المثقَّ فين وصورهم .وعلى رغم أن إعجاز أحمد ي َْذكر أسماء لها ماضيها
ّ
الهندي الح ّر فإن تجربته في الفضاء الملتبس ،شأن بول دي مان ،مث ً
الّ ،
نسبي ًا أبقته ،و(تبقيه) متسامي ًا عن التقاط مثل هذا الغدر .أما الساحة
شواهدها العجيبة التي َت ْدفع المرء إلى تفسير ما لسقوط
ُ العربية فلها
ّ
فالم ْخبِ رون من تخوم القراءة
ُ أسماء ليست اعتيادية في مستنقع العفن.
ّ
يشكلون شيئ ًا في مناقشة من والممارسة اإلعالمية والكتابة الهشة ال
156
لكن الجامعيين ،من أساتذة الفلسفة أو اآلداب مث ً
ال ،الذين ّ هذا النوع.
وسجن
ينخرطون ،عند الطلب ،في إعداد محاضر التحريم والتجريم َ
ّ
مفكري مصر أيام ضد عدد من ّ
المفكرين ،على نحو ما فعله نفر منهم ّ
عبدالناصر والسادات ((( ،وضد عزيز السيد جاسم في عام 1988في
إن مثل أولئك «الجامعيين» ي َْدفعون
العراق من بين آخرين ...أقولّ :
المرء إلى التنقيب في انقالباتهم النفسية والفيزيولوجية .ولربما يعيدنا
لكن هذا
ّ ّ
المادي لتفسير مثل هذه السقطات، إعجاز أحمد إلى العامل
اإلنسانية ،لكون هذه هي المستفيدة
ّ الدافع يعني ارتكاب جريمة بحقّ
يخص
ّ دافع آخر
ٌ ّ
والمفكرين .ولربما و ُِج َد األولى من حريّة الك ّتاب
نفسية
ّ داخ ً
ال مضطرب ًا يدعونا إلى تم ّلي كتابات هؤالء ،بصفتها وثائق
م ّتهمة ،منتقا ًة من قبل سلطة الهيمنة والقهر ،بمهارة ،للمرور نحو
ألن الكتابة ،مزاول ًة وإنتاج ًاَ ،ت ْخضع للفحص واإلفادة
أصحابها؛ وذلك ّ
والتوظيف :خير ًا أو شر ًا.
الـتـحــزُّب
يراجع :سماح إدريس ،ومصطفى عبدالغني ،في كتابيهما المذكورين آنف ًا.
ّ -1
157
النخبة الفكرية واالنشقاق
وعندما تجري قراءة هذه الخيانات المختلفة ،التي تندرج -تحديد ًا-
في باب خروج المثقَّ ف على ثوابت هويّته (كالح ّريّة ،وتفعيل الرأي
العصابية،
ّ نتبين فيها مشكلة قابلة لالنفجار في ما يُشبه األمراض
العام) َّ
فالمثقَّ ف قد ال يكون قرين المخبرين والجواسيس وأصحاب مكاتب
ٍ
انشغال صاحب
ُ العالقات العامّة ومروّجي التسويق الذاتي ،بل هو
158
وهاجس يمأل حياته ،وي َْدفعه إلى ا ّتخاذ موقف ما من المعترك
ٍ ذهني،
خاصة .لكنه قد ينساق ،تحت
ّ الحياتي عامّة ،وقضايا الفكر والثقافة
ّ
حس آخر بـ«االلتزام» ،فيجد نفسه عرضة للرضوخ لألوامر
ّ وطأة
والتعليمات والضوابط اآلتية من الفئات واألحزاب التي يجد فيها
تم ُّثالت أفكاره أو طموحاته .ولربما تبدو تلك التعليمات والضوابط-
ألوَّل وهلة -متماهية مع طغيان األفكار لديه وسيادتها في ذهنه ،لكنها
يُمكن أن تصبح ،بعد حين ،الق ّوة المهيمنة والضاغطة لديه ،وعندها
يتوزع ذهنه بين الرغبة المكبوتة وبين هيمنة اآلخرين عليه .وحتى
ّ
عندما يحقّ ق االلتئام مع الحزب رغب ًة في القيادة والهيمنة ،فإنه يشكو
من هذا االنفصام بين الذهنين :الذهن الح ّر ،واآلخر الملتحم بالحزب
أو الفئة أو الجهاز الفاعل .وتدريجي ًا ،تبتدئ عنده رحالت التح ُّلل أو
النقد ،با ّتجاه ضفّ ة المثقَّ ف الذي ال تستوقفه التعليمات والضوابط
159
النخبة الفكرية واالنشقاق
160
القديسين والشياطين.
ّ فضاؤها األوسع ينتج أشكا ً
ال متباينة تتراوح بين
ولهذا ،غالب ًا ما تنتهي رحلة المثقَّ ف مع تلك األيديولوجيات في عمر
مبكر ،بعد معايشة فكرية يسيرة ،ينتهكها الشيطان ،ليطرد المثقَّ ف
المستعد
ّ منهاَ ،م َّرة ،وإلى األبد ،مستعين ًا -بدي ً
ال لذلك المثقَّ ف -بالنفر
لمزاولة الدعاية؛ أي بالبقية الباقية على أنقاض األيديولوجية القديمة.
الشهود
والتحمت
ْ إن النخب تنقرض وتتآ كل ك ّلما ضاقت الحياة واألجواء،
إرادة القوى المهيمنة بفئاتها الطفيلية .وتنضب الخيارات في مثل هذا
الواقع :بين اعتزال وتباعد ،وكفرٍ بالماضي ،وانكفا ٍء على الذكريات..
تتيسر الظروف ،بحث ًا عن عالم بديل
ّ أو الهجران والخروج ،عندما
مهمة ،يدرك الطريد استحالتها خارج المنشأ .أما الذين
يتيح استكمال ّ
فإن سلطة الهيمنة ُتبقيهم تحت عدسة المتابعة،
يعتزلون في الداخل ّ
ّ
لتنقض عليهم بين يوم وليلة ،ال لخطأ ارتكبوه ،وإنما خشية أن يكونوا
شهود ًا على تعاسه الحاضر وخيانته للبداية .وعند المقارنة ،تبدو
األجواء الدستورية والفضاءات الح ّرة نسبي ًا ،وكذلك الحياة التقليدية
ند ًا يكشف للمثقَّ فين خدعة الشعار الذي يلجأ
للمجتمعات المتوارثةّ ،
التعددية والحياة
ُّ إليه النظام المهيمن بدي ً
ال لح ّريّة الناس وحقّ هم في
الكريمة.
161
النخبة الفكرية واالنشقاق
إن النخبة الثقافية ال تحيا خارج فضاء الح ّريّة ،وفعل القانون الم ّتسع
للتعدد .بل إن النخبة الطريدة منها تبقى تحمل معها ذكرى الماضي
ُّ
معنية بذاتها أ ّو ً
ال ،كذات مليئة بالحزن والكبت واأللم. ّ مادامت
162
163
النخبة الفكرية واالنشقاق
املصــــادر و الـمـراجـــع
العربية:
164
-الثوري الالثوري ،بغداد :دار األديب.1970 ،
-دراسات نقدية في األدب الحديث (مقاالت الستينات) ،ط ،1بغداد :اإلدارة المحلية1970 ،؛
ط ،2القاهرة :الهيئة المصرية العامة للكتاب.1996 ،
-ديوان عبداألمير الحصيري ،بغداد :الثقافية .1987
-الرصافي الخالد ،بغداد :العابيجي.1990 ،
-الزهر الشقي (رواية) ،القاهرة :الهيئة المصرية.1988 ،
-علي بن أبي طالب :سلطة الحق ،بيروت :دار اآلداب.1988 ،
-المجالسية بين النظرية والتطبيق ،بيروت :دار الطليعة.1973 ،
-مقتل جمال عبدالناصر ،بغداد :النهضة.1985 ،
-هل التطور الرأسمالي حقيقة أم وهم؟ بيروت :دار الطليعة.1976 ،
- 16عالل الفاسي ،النقد الذاتي ،الرباط ،ط.1979 ،4
- 17علي حرب ،أوهام النخبة أو نقد المثقف ،بيروت :المركز الثقافي.1996 ،
- 18فاضل عباس هادي ،كتابات ،1984 - 1964ألمانيا :دار الجمل.1990 ،
- 19فاضل العزاوي ،صاعد ًا حتى الينبوع (األعمال الشعرية) ،عمان :المؤسسة العربية للدراسات،
.1993
- 20فؤاد دوارة ،نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية ،القاهرة :الهيئة المصرية.1989 ،
- 21مالك بن نبي ،وجهة العالم اإلسالمي ،مصر :المؤسسة السعودية.1959 ،
- 22مجموعة من المؤلفين:
-الحياة الفكرية في المشرق العربي ،1939 - 1890بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية.
-غرامشي وقضايا المجتمع المدني ،دمشق :مركز البحوث العربية.1991 ،
- 23محسن جاسم الموسوي:
-االستشراق في الفكر العربي ،بيروت :المؤسسة العربية للدراسات والنشر.1993 ،
-ثارات شهرزاد :فن السرد العربي الحديث ،بيروت :اآلداب.1993 ،
- 24محمد أركون ولوي غارديه ،اإلسالم :األمس والغد ،بيروت.
- 25محمد جالل ،األعمال الكاملة ،القاهرة :الهيئة المصرية.1992 ،
- 26محمود أحمد السيد:
-في سبيل الزواج.1921 ،
165
النخبة الفكرية واالنشقاق
:اإلنجليزية
166
الصحف والمجالت:
167
عبد الرحمن الكواكبي طبائع االستبداد 1
غسان كنفاين برقوق نيسان 2
سليامن فياض األمئة األربعة 3
عمر فاخوري الفصول األربعة 4
عيل عبدالرازق اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم 5
نبي
مالك بن ّ رشوط النهضة 6
محمد بغدادي صالح جاهني -أمري شعراء العامية 7
أبو القاسم الشايب نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب 8
سالمة موىس حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ 9
ميخائيل نعيمة الغربال 10
الشيخ محمد عبده اإلسالم بني العلم واملدنية 11
بدر شاكر السياب أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته 12
ترجمة :غادة حلواين • فتنة الحكاية جون أيديك -سينثيا أوزيك -جيل ماكوركل -باتريشيا هامبل
الطاهر حداد امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع 13
طه حسني الشيخان 14
محمود درويش ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية 15
توفيق الحكيم يوميات نائب يف األرياف 16
عباس محمود العقاد عبقرية عمر 17
عباس محمود العقاد عبقرية الصدّيق 18
عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ رحلتان إىل اليابان 19
ميخائيل الصقال لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) 20
د .محمد حسني هيكل ثورة األدب 21
ريجيس دوبريه يف مديح الحدود 22
اإلمام محمد عبده الكتابات السياسية 23
عبد الكبري الخطيبي نحو فكر مغاير 24
روحي الخالدي تاريخ علم األدب 25
عباس محمود العقاد عبقرية خالد 26
خمسون قصيدة من الشعر العاملي أصوات الضمري 27
يحيى حقي مرايا يحيى حقي 28
عباس محمود العقاد عبقرية محمد 29
حوار أجراه محمد الداهي عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب 30
فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية 31
ترجمة :رشف الدين شكري عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) 32
خالد النجار ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني) 33
ترجمة :مصطفى صفوان مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) 34
د.بنسامل حِ ّميش سريت ابن بطوطة وابن خلدون عن َ 35
ابن طفيل حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني 36
ميشال سار اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل 37
محمد إقبال محمد إقبال -مختارات شعرية 38
ترجمة :محمد الجرطي تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة ،والدميوقراطية ،والغريية) 39
أحمد رضا حوحو مناذج برشية 40
د.زيك نجيب محمود الرشق الفنان 41
ترجمة :يارس شعبان تشيخوف -رسائل إيل العائلة 42
إلياس أبو شبكة “العصفور الصغري” -مختارات شعرية 43
األمري شكيب أرسالن ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟ 44
عيل املك مختارات من األدب السوداين 45
ُجرجي زيدان رحلة إىل أوروبا 46
د.عبدالدين حمروش ا ُملعتمدُ بنُ ع َّباد يف سنواته األخرية باألرس 47
سالمة موىس تاريخ الفنون وأشهر الصور 48
إيدوي بلينيل -ترجمة :عبداللطيف القريش من أجل املسلمني 49
يوسف َذنّون زِينة املعنى (الكتابة ،الخط ،الزخرفة ) 50
أحمد فارس الشدياق الواسطة يف معرفة أحوال مالطة 51
دُ .محسن املوسوي النخبة الفكرية واالنشقاق ( تحـ ُّوالت الصـفـوة العارفة يف املجتمع العريب الحديث) 52
170
171