You are on page 1of 171

‫د‪ُ .

‬محسن الموسوي‬

‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬


‫حتـــ ُّوالت الصــفــوة الـعـارفة‬
‫يف املجتــمع العربي احلديث‬
‫‪52‬‬
‫يوزع مجانا ً مع العدد ‪ 95‬من مجلة الدوحة سبتمبر ‪2015‬‬

‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬


‫حتـــ ُّوالت الصــفــوة الـعـارفة‬
‫يف املجتــمع العربي احلديث‬
‫تأليف‪ :‬د‪ُ .‬مـحـسـن الـمـوســـوي‬

‫الناشر ‪:‬‬
‫وزارة الثقافة والفنون والتراث ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬

‫لوحة الغالف‪ :‬ضياء الدين العزاوي ‪ -‬العراق‬


‫اإلخراج والتصميم‪ :‬عالء األلفي ‪ -‬مجلة الدوحة‬

‫المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة‪.‬‬
‫المحتويات‬

‫‪4‬‬ ‫توطئة‬

‫‪9‬‬ ‫الفصل األول‬

‫تـحــــ ُّوالت األدوار‪ :‬النخبة الفكرية والدولة العصرية‬

‫‪38‬‬ ‫الفصل الثاني‬

‫توا ُلدات الخطاب من النهضة إلى العصيان‬

‫‪44‬‬ ‫‪ -‬خطاب االمتعاض‬

‫‪45‬‬ ‫‪ -‬من األمير الجمعي إلى الوريث‬

‫‪51‬‬ ‫‪ -‬مهاد النخب‬

‫‪56‬‬ ‫‪ -‬الدولة واالمبراطورية‬

‫‪59‬‬ ‫‪ -‬قلة طح حسين المثقفة‬


‫‪64‬‬ ‫‪ -‬أين مشروع النهضة؟‬
‫‪72‬‬ ‫‪ -‬المثقفون‪ :‬صورهم في الحياة العربية‬
‫‪77‬‬ ‫‪ -‬التالقي واالفتراق‬
‫‪82‬‬ ‫‪ -‬تشكيالت النص المضاد‬
‫‪88‬‬ ‫‪ -‬خطاب ما بعد االستقالل‬
‫‪97‬‬ ‫‪ -‬خطاب االمتعاض‪ :‬مكوناته وآلياته‪ ،‬ونصه الظل‬
‫‪107‬‬ ‫‪ -‬خطابات الوريث‬
‫‪113‬‬ ‫‪ -‬خصومات الوريث الواسعة‪ ،‬الثقافة الشعبية‬
‫‪116‬‬ ‫‪ -‬تجاور االمتعاض والعصيان‬
‫‪125‬‬ ‫‪ -‬تحديات لمفاهيم النخبة‬
‫‪140‬‬ ‫‪ -‬القلة المنقذة‬
‫‪145‬‬ ‫‪ -‬المنفي والطريد‬
‫‪149‬‬ ‫‪ -‬المثقف والطاغية‬
‫‪151‬‬ ‫‪ -‬الخيانة‬
‫‪155‬‬ ‫‪ -‬التحزب‬
‫‪159‬‬ ‫‪ -‬الشهود‬

‫‪162‬‬ ‫المصــــادر و الـمـراجـــع‬


‫توطئة‬

‫ونيف‪ ،‬في موضوع (النهضة)‪ ،‬بين‬


‫ك ُثرت الدراسات‪ ،‬خالل عقد ّ‬
‫سيما‬
‫ُصفوف األكاديميين في الواليات المتحدة األميركية وأوروبا‪ ،‬ال ّ‬
‫أولئك الذين جاءوا من أصول عربية‪ ،‬وليست هذه مصادفة اعتيادية‬
‫وطارئة‪ :‬فم َّر قرن أو أ كثر على تلك االندفاعة القوية في التأليف‬
‫والمناقشة التي حفلت بها مجلّات ودوريات عربية‪ ،‬كـ«الجنان» التي‬
‫أصدرها بطرس البستاني في بيروت‪ ،‬وبعدها «المقتطف» ليعقوب‬
‫ص ّروف‪ ،‬والتي استقرت‪ -‬الحق ًا‪ -‬في القاهرة‪ ،‬و«الهالل» لجرجى‬
‫زيدان‪ ،‬ومن ثم «الرسالة» ألحمد حسن الزيات و«لسان العرب» لألب‬
‫أنستاس الكرملي‪ .‬وهناك صحف ومجالت أخرى‪ ،‬كـ«المحروسة»‬
‫التي تو ّلت فيها مي زيادة دور ًا بارز ًا‪ ،‬بصفتها مج ّلة أبيها‪ ،‬أ ّو ً‬
‫ال‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫كان هؤالء يعنون كثير ًا بمشروع يتجاوز حركة اإلحياء التي زاولها بعض‬
‫روّاد حركة النهضة‪ ،‬وبرز فيها الشيوخ‪ ،‬من أمثال إبراهيم اليازجي‪ .‬لم‬
‫تكن الحركة اعتيادية‪ ،‬لكن طبيعة تك ّونها بقي إشكالي ًا‪ :‬فهل هي محض‬
‫حراك طبيعي جاء نتيجة لالحتكاك بالغرب وبأوروبا‪ ،‬منذ غزو نابليون‬
‫ّ‬
‫تتشكل ج ّراء صدام‬ ‫البد لها أن‬
‫ّ‬ ‫وفريقه المعرفي لمصر؟ وهل كان‬
‫سيما أن االحتالل البريطاني لمصر جاء عاصف ًا قبيل‬
‫مع أوروبا‪ ،‬ال ّ‬
‫امتدادات الحرب األولى واتفاقية سايكس بيكو لتقسيم المنطقة بين‬
‫َّ‬
‫تتشكل حركات‬ ‫األطراف الرابحة في تلك الحرب (الكونية)؟ أم هل‬
‫التح ّول من مجموعة من العوامل‪ ،‬تنتهي بمعادالت األخذ المتباينة‪،‬‬
‫في عملية أشبه ما تكون بـ(الترجمة) عن الثقافات األجنبية؟ و َلربَّما‬
‫تكمن اإلجابة في جميع هذه األسئلة‪ ،‬و َلربَّما ينبغي لهذا األمر أن يبقى‬
‫إشكالي ًا‪ ،‬يستزيد‪ ،‬في القارى والمؤ ّرخ‪ ،‬الرغبة في البحث والتنقيب‬
‫والتساؤل‪ ،‬وهي‪َ -‬ل َعمري‪ -‬من مواصفات الحراك الفكري‪ ،‬ال جموده‬
‫وخموده‪ .‬وكأني بالباحثين الجدد يعيشون هذه (اإلشكالية)‪ ،‬ويبحثون‬
‫في ثناياها‪ ،‬بصفتها بعض ًا من (هويّة) مُ لتبسة‪ .‬وهذا االلتباس هو الذي‬
‫يميز (النهضة)‪ ،‬وكذلك ما اقترن بها من مشاريع تطمح أن ُت ِ‬
‫ظهر الدولة‬ ‫ِّ‬
‫(غربي) التكوين‪ ،‬ديموقراطي النظام‪ ،‬ح ّر الفكر‪ .‬كان‬
‫ّ‬ ‫الوطنية بلبوس‬
‫ذلك مشروع (النهضويين)‪ ،‬وهو مشروع ورثته الدولة في نشأتها تحت‬
‫بود القوتين أن تظهر‬
‫ظل اإلدارتين‪ :‬البريطانية‪ ،‬والفرنسية‪ .‬إذ كان ّ‬

‫‪8‬‬
‫األشباه والنظائر في المنطقة‪ .‬وهذا الطموح كان يعني‪ -‬ضمن ًا‪ -‬ا ّتساع‬
‫نطاق التعليم وتزايد الخدمات التي تقدمها الدولة‪ ،‬وتشكيل الحواضر‬
‫تشكي ً‬
‫ال قريب ًا إلى المدنية األوروبية‪ ،‬كما أراد الخديوي إسماعيل‬
‫للقاهرة أن تكون كباريس‪.‬‬

‫وبمثل هذه الرغبة كان هناك جفاء إزاء الموروث الشعبي‪ ،‬وما يرتبط به‬
‫من تراكمات ومعتقدات‪ ،‬وتو ّلدت فجوة غير مقصودة‪ ،‬تقودها النخبة‬
‫التي توارثت الحكم بطرائق وأشكال متباينة‪ .‬هذه النخبة‪ ،‬أو الصفوة‬
‫العارفة عاشت (مصالحتها) المتو ِ ّترة‪ ،‬سلب ًا وإيجاب ًا‪ ،‬مع األنظمة‪،‬‬
‫لكنها لم تكن منقطعة عنها‪ ،‬جاهلة بسبيلها‪ ،‬وفي مرحلة الحقة‪ ،‬ومنذ‬
‫دخول (العسكرتاريا)‪ ،‬أخذت تشعر بوطأة مصادرة آرائها وتط ّلعها نحو‬
‫َّ‬
‫تتشكل بين‬ ‫(الح ّريّة في التعبير واألداء والتنظيم‪ .‬وبدأت فجوة عميقة‬
‫نظام العسكرتاريا وبين هذه النخب‪ ،‬وازدادت الفجوة عمق ًا‪ ،‬وتعاظمت‬
‫ُه ّوةً‪ ،‬حتى جاءت أيام الجفاف والقطيعة منذ الستينيات‪ .‬هذا الظرف‬
‫وتنحيه عن المشهد السياسي قاد إلى‬
‫ّ‬ ‫تميز باستقالة (المثقَّ ف)‬
‫الذي َّ‬
‫مجموعة من الظواهر التي لم تزل شاخصة حتى يومنا هذا‪ ،‬وكان أن‬
‫ظهر من داخل صفوف ال ُنخب تم ُّرد من نوع آخر‪ :‬فورات وانتقاضات‪،‬‬
‫تسكن الهوامش والمنافي‪ ،‬وتكثر‪ ،‬هناك‪ ،‬متشرذم ًة وكثير ًة في آن‬
‫واحد‪ ،‬فال جامع لها غير كونها (ثقافة هامش) أو (منفى)‪ ،‬فعلها لم‬

‫‪9‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫وهواجس في ربوع األوطان المنكسرة التي تعيش‬


‫َ‬ ‫يزل يداعب أخيل ًة‬
‫حطامها‪ ،‬دون أن تجمعها قصيدة‪ ،‬كانت‪ ،‬في يوم ما‪ ،‬عند إبراهيم‬
‫اليازجي والجواهري‪ ،‬والرصافي‪ ،‬وحافظ إبراهيم‪ ،‬وشوقي‪ ،‬تنطق بلسان‬
‫متوحد ًا َعزوم ًا ومتط ِ ّلع ًا إلى أمام‪ .‬أما تم ُّثالت (العصيان)‬
‫ِّ‬ ‫جمهور بدا‬
‫الكثيرة التي شهدتها العقود الماضية فإنها (لواعج شخصية‪ ،‬وتأمُّ الت‪،‬‬
‫و(تنهدات) و(صرخات) و(ذكريات)‪ ،‬بدا بعضها يداعب أم ً‬
‫ال‪ ،‬وآخر‬ ‫ُّ‬
‫يثير شجن ًا‪ ،‬بينما يزيد اآلخر في الشكوى‪ ،‬والتذمُّر‪ ،‬والبكاء على طلل‬
‫لم يعد قادر ًا على استجماع رأي‪ ،‬كما كان أيام القصيدة الجاهلية‪،‬‬
‫حيث منتهى اللوعة لالنتماء إلى (المجتمع)‪ ،‬مجتمع العائلة والقبيلة‪،‬‬
‫واألمّة‪.‬‬

‫ميزت ثقافتنا‬
‫ولهذا‪ ،‬فالكتاب يقود القارئ إلى نقطة االلتباس التي َّ‬
‫اليوم‪ .‬وعلى الرغم من أنه كان‪ ،‬في أصله‪ ،‬محاضر ًة ألقيتها في القاهرة‬
‫سنة ‪ ،2001‬إال أنه وضع لَبِ نات واقع نحياه ونعيشه‪ ،‬وهو واقع‪ ،‬زادت‬
‫تحديات التحوالت التقنية وسبل التواصل االجتماعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫في وطأته‬
‫أهم ّية البحث فيه‪.‬‬
‫وح َّتمت ّ‬

‫والله ولي التوفيق‬

‫‪10‬‬
‫الفصل األول‬
‫تـحــــوالت األدوار‪:‬‬
‫ُّ‬
‫النخبة الفكرية والدولة العصرية‬

‫«ليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين‪ ،‬نبنيه بالح ّريّة والفكر والمصنع»‬

‫الطهطاوي‬

‫ولكن‪ ،‬لو ُذبح إسماعيل فما قيمة‬


‫ْ‬ ‫«لقد ُذبح الكبش فدا ًء إلسماعيل‪،‬‬

‫أن يُذبح الكبش؟»‬

‫عزيز السيد جاسم‬

‫‪11‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫النخب الثقافية والفكرية العربية‪ ،‬منذ النصف الثاني‬ ‫َّ‬


‫يتشكل حضور َ‬ ‫لم‬
‫الردة عليه‬
‫للقرن التاسع عشر‪ ،‬بمعزل عن «اآلخر»؛ أي الغرب‪ .‬فبين ّ‬
‫تراكمها ما يجري‬
‫ُ‬ ‫ليضمن‬
‫والرغبة فيه تكاثرت المواقف والنصوص َ‬
‫التواطؤ بشأنه كنهضة فعلية؛ بمعنى القطيعة مع مرحلة ضاعت فيها‬
‫ُ‬
‫ودويالت األطراف لتخضع للهيمنة العثمانية‬ ‫اإلمبراطورية العربية‬
‫عد العالق ُة بالدولة العثمانية ذات إشكالية خاصة‪،‬‬
‫فترة طويلة‪ .‬وبينما ُت ّ‬
‫ما بين تيارين متعاكسين‪ :‬أحدهما يرى في «إسالمية» هذه الدولة‬
‫الصعد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حاضن ًا ضامن ًا للهوية الدينية‪ ،‬وآخر يراها تس ُّلط ًا مقيت ًا على شتى‬
‫وتدمير ًا للمجتمعات العربية وإرادتها في االنبعاث‪ ،‬فإن النتائج المت ِ ّرتبة‬
‫نصوص تندرج‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬في تراكمات‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫تتشكل منها‬ ‫على الموقفين‬
‫النهضة ومواقفها‪ :‬فالهجرات الكبيرة من لبنان والشام إلى مصر‪،‬‬
‫وتجمعات الطلبة في البلدان الغربية‪ ،‬والمؤتمرات الوطنية والقومية‬
‫ُّ‬
‫هناك‪ ،‬ك ّلها من نتائج الوجود العثماني وتصادمه مع النزعات القومية‬
‫التي لم ت َر القوى األوروبية الناشطة استعماري ًا ب ُّد ًا من التعاون معها‪ ،‬في‬
‫تحالفات معروفة‪ ،‬قادت إلى سلسلة من األحداث السياسية‪ ،‬كالثورات‬
‫لكن الحمايات‬
‫ّ‬ ‫وتقسيمات الحماية البريطانية والفرنسية التالية ( ((‪.‬‬

‫يراجع‪ ،‬في هذا الموضوع‪ ،‬ألبرت حوراني‪ :‬الفكر العربي في عصر النهضة (بيروت‪ :‬دار‬
‫َ‬ ‫‪-1‬‬
‫النهار‪ ،‬ط‪)1986 ،4‬؛ وهشام شرابي‪ :‬المثقفون العرب والغرب (بيروت‪ :‬دار النهار‪.‬د‪.‬ت)؛‬
‫وأنور عبدالملك‪ :‬الفكر العربي في معركة النهضة‪ ،‬ت‪ :‬بدر الدين عرودكي (بيروت‪ :‬دار‬
‫اآلداب ‪)1987‬؛ ومحسن جاسم الموسوي‪ :‬االستشراق في الفكر العربي (بيروت‪ :‬المؤسسة‬

‫‪12‬‬
‫األخيرة يمكن أن تثير لدى مفكري النخبة مجموع ًة من التساؤالت‬
‫زت‬ ‫والخالفات تتفاوت مع ما َألِفْ ناه من السجاالت السابقة‪ ،‬أي تلك ّ‬
‫مي ْ‬
‫خطاب الكواكبي‪ ،‬واألفغاني‪ ،‬وعبده‪ .‬فبينما انهمك هؤالء في تمييز‬
‫َ‬
‫اإلسالم واألمّة عن غيرهما‪ ،‬في ضوء التحديات الغربية القائمة‪ ،‬ومن‬
‫السياسي‬
‫ّ‬ ‫بينها المواجهة الفكرية التي تتك َّرر شذرا ُتها في الخطاب‬
‫لكرومر‪ ،‬ودنلوب‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬كان التالون‪ ،‬من أمثال نجيب عازوري‪،‬‬
‫يتخاصمون‪ -‬أيض ًا‪ -‬مع خطاب سابق أو معاصر بين العرب والمسلمين‪،‬‬
‫يرى االستعمار آف ًة وبالءً‪ .‬فاألفغاني‪ ،‬كما هو شأن الروّاد النهضويين‪،‬‬
‫انشغل بإحياء يواجه المعضالت والتحديات القائمة‪ ،‬بوصف الغرب‬
‫حضار ًة تمتلك ُع ّد َتها وقدراتها الفاعلة‪ ،‬ال في تقويض اإلمبراطورية‬
‫العثمانية المتدهورة فحسب‪ ،‬وإنما في تهديد الحاضر أيض ًا‪ .‬وبينما‬
‫تستدعي هذه الحالةالتحليل‪ ،‬وصو ً‬
‫ال إلى تص ُّور بديل لجامعة إسالمية‬
‫بعد‪ ،‬في أذهان ّ‬
‫كل من الكواكبي‪ ،‬واألفغاني‪،‬‬ ‫ليست واضحة المعالم ُ‬
‫أن االستبداد آف ٌة‬
‫فإن ما ي ّتفق عليه هؤالء هو ّ‬
‫وعبده‪ ،‬ورشيد رضا‪ّ ،‬‬
‫قادت إلى وضع «الرجل المريض»‪ ،‬من دون أن تكون هناك ع ّلة‬
‫اإلسالمي؛ فما َظ َه َر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتشكل منها الدين‬ ‫جوهرية في المبادئ التي‬
‫في اإلمبراطورية المنهارة ال يتجاوز ممارسات فاسدة منشؤها نظام‬

‫العربية للدراسات‪.)1992 .‬‬

‫‪13‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫فإن المرحلة التي م ََّهدت‬


‫الحكم‪ ،‬ال الدين نفسه‪ .‬وبكلمة موجزة‪ّ ،‬‬
‫تميزت بالسعي‬ ‫النهضوي‪ ،‬واستم ّرت ظ ً‬
‫ال له‪ ،‬ا ّتفاق ًا وتباين ًا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫للوعي‬
‫إلى امتالك فرصة االنهيار العثماني وتفعيلها ثانيةً‪ ،‬باتجاه يتغاير مع‬
‫السياسي ‪-‬االقتصادي والحضاري كما يراه الروّاد‪ .‬ولم‬
‫ّ‬ ‫الغربي‬
‫ّ‬ ‫المراد‬
‫يكن مبعث االنشغال العميق بقضية االستبداد طارئ ًا‪ .‬وعلى رغم أنه‬
‫يعني وعي ًا بما كان قائم ًا في صدارة العلل داخل اإلمبراطورية العثمانية‬
‫فإن وضعه أولويات السجال الدائر لم ِ‬
‫يأت جزاف ًا‪،‬‬ ‫المتآ كلة والمنهارة‪ّ ،‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬بوصفه‬
‫َ‬ ‫مضاد يتكرر في أدبيات الغرب‪ ،‬ي َْعرض‬
‫ّ‬ ‫فثمة ضاغط‬
‫رديف ًا لألتراك‪ ،‬وتجري المفاضلةُ‪ ،‬بموجبه‪ ،‬ما بين غرب ُح ّر‪ ،‬وشرق‬
‫ُّ‬
‫وكل‬ ‫ستعبد‪ ،‬بما يح ّتم‪ ،‬في النتيجة‪ ،‬إعال َء الغرب على حساب الشرق؛‬
‫َ‬ ‫مُ‬
‫يتوزع السجال‬
‫ّ‬ ‫إعالء يعني نية إخضاع اآلخر‪ .‬ولهذا كان البد من أن‬
‫حادة قاطعة‪ ،‬كتلك‬
‫بين النخب الفكرية العربية واإلسالمية في ثنائيات ّ‬
‫ال‪ -‬مؤ ِ ّيد ًا لإلنكليز والفرنسيين‪ّ ،‬‬
‫مؤكد ًا اقتران‬ ‫التي تضع عازوري‪ -‬مث ً‬
‫التمدن‪ :‬فـ «مشعل الحضارة والح ّريّة‬
‫ُّ‬ ‫بالتقدم والح ّريّة وشروط‬
‫ُّ‬ ‫وجودهم‬
‫األسطع إشعاع ًا»‪ْ ،‬‬
‫أي فرنسا‪ ،‬هي التي َت ْمنح الناس الح ّريّة؛ وهي «حامية‬
‫للمقهور» كما يكتب في «يقظة األمّة العربية»‪( ،‬ص‪ .)108‬وليس‬
‫مهم ًا معرفة امتداد خطوط الالجئين العرب مع «الخارجية الفرنسية»‬
‫التي يكتب عنها أحمد بو ملحم في تقديمه لكتاب عازوري (ص‪8‬‬
‫الغربي القوية أقامت‪ -‬منذ البدء‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ألن دول االستعمار‬
‫‪)9 -‬؛ ذلك ّ‬

‫‪14‬‬
‫عالقات مباشرة مع عدد من المثقَّ فين الذين يراهنون على َأ ْه َون الش َّر ْين‪،‬‬
‫في مسعاهم لتحقيق «اليقظة» العربية‪ .‬ولم يكن عازوري ينشغل بهذه‬
‫ٍ‬
‫بمعزل عن هجومه على «األتراك»؛ فهؤالء هم أصل التخ ُّلف‬ ‫اليقظة‬
‫كما يقول‪ ،‬وم َْن يشايعهم مِ َن العرب أو المصريين هم «التعساء»‬
‫الذين «يعانون‪ ،‬كالخيل‪ ،‬من سياط المماليك واألتراك والشراكسة»‪..‬‬
‫(ص‪ .)107‬وهكذا‪ ،‬يجري إعال ُء فرنسا‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬موضوع ًا في سجل‬
‫ألن‬
‫من اإلحاالت الحضارية التي تتفاوت مع «السياط» و«الخيل» ّ‬
‫ت» للكاثوليك العرب‪ ،‬كما‬
‫«اسم فرنسا مبارك اليوم»‪ ،‬وألنها «أحس َن ْ‬
‫أنها «نجحت»‪ -‬كديبلوماسية‪ -‬بدي ً‬
‫ال لإليطاليين وغيرهم‪ .‬فال يغزو‬
‫السياسي‬
‫ّ‬ ‫ألن الفكر‬ ‫ويفوز إ ّ‬
‫ال ما هو أحسن وأفضل (ص‪)123‬؛ ذلك ّ‬
‫ازدهرت بين مثقَّ في الفئات األوروبية‬
‫ْ‬ ‫آلي ِ‬
‫ات تفكير‬ ‫لديه ينساق إلى ّ‬
‫الوسطى طيلة القرن الماضي‪ ،‬وهي آليات تجمع العناية اإللهية إلى‬
‫ّ‬
‫المادي‪ ،‬في تبرير شائع لنجاحاتها الدنيوية ولتحويراتها الدينية‬ ‫التقدم‬
‫ّ‬
‫وتأويالتها للمجاز التوراتي‪ ،‬ولم تنعزل هذه األفكار عما تقود إليه‬
‫العلمية المستجدة قبل داروين‪ ،‬وبعده‪ ،‬والتي تعلي من شأن الغالب‬
‫على ش ّتى الصعد‪.‬‬

‫أن دعاة «الجامعة اإلسالمية» لم يُجمعوا على مؤازرة‬


‫وعلى رغم ّ‬
‫فإن الخطاب السجالي التالي وضعهم في‬
‫العثمانيين ودولة السلطان‪ّ ،‬‬

‫‪15‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫مهماته في إعالء شأن القادم البديل‪ .‬فمن‬


‫خانة واحدة‪ ،‬لتسهيل تحديد ّ‬
‫أن األفغاني‪ ،‬وعبده‪ ،‬والكواكبي كتبوا في طبائع االستبداد‬
‫المعروف ّ‬
‫والحكم‪ ،‬وينحو خي ُر الدين التونسي‬
‫ُ‬ ‫وسوء شأنه في اإلدارة والتشريع‬
‫ّ‬
‫الحل‬ ‫منحاهم نفسه ك ّلما كثر التأ كيد عنده على لزوم مشاركة «أهل‬
‫والعقد» في «ك ّل ّيات السياسة»‪ .‬وما كان سياسي ًا عند الطهطاوي؛ أي‬
‫الملكية الدستورية‪ ،‬ومزيج ًا ديني ًا‪ -‬دنيوي ًا عند خير الدين‪ ،‬وعبده‪،‬‬
‫ورشيد رضا‪ ،‬واألفغاني‪ ،‬سرعان ما يتح ّرر عند مجموعات علمانية‬
‫الثنائي با ّتجاه أفق أوسع ي َْعرض المرحلة‪ ،‬بوصفها‬
‫ّ‬ ‫من هذا االنتماء‬
‫غير مقطوعة عن روح العصر‪ .‬ولهذا يتعامل قاسم أمين‪ ،‬وفرح أنطون‪،‬‬
‫شميل‪ ،‬وإسماعيل مظهر‪ ،‬وسالمة موسى‪ ،‬والزهاوي‪ ،‬ومحمود‬
‫ّ‬ ‫وشبلي‬
‫سعته الفعلية االجتماعية‪ ،‬التي تح ِ ّتم‬
‫أحمد السيد‪ ،‬مع الموضوع بِ َ‬
‫الشراكة والح ّريّات االجتماعية عند أمين والزهاوي‪ ،‬والمساواة عند‬
‫المستجد‬
‫ّ‬ ‫لكن هذا الوعي‬
‫ّ‬ ‫محمود أحمد السيد والرصافي وقاسم أمين‪.‬‬
‫الذي يبحث لمساقاته عن منهجيات بديل لما هو سائد قد يعلن االنتماء‬
‫إلى مشروع الح ّريّة‪ ،‬كما جاء عند ِ ّ‬
‫مفكري القرن التاسع عشر في الثقافة‬
‫األوروبية‪ ،‬غير أ ّنه غالب ًا ما آل إلى مجموعة من اإلعالنات المقترنة‬
‫بشعارات الثورة الفرنسية؛ ولهذا لم تكن مشايعة النشوء واالرتقاء عند‬
‫شميل‪ ،‬والريحاني‪ -‬مث ً‬
‫ال‪-‬‬ ‫ِّ‬ ‫سالمة موسى‪ ،‬وإسماعيل مظهر‪ ،‬وشبلي‬
‫غي َر مسعى لوضع مجموعات الفرضيات المستجدة في سياق يتيح لها‬

‫‪16‬‬
‫قدر ًا من المصداقية وي ُْسر التوصيل‪ .‬وم ّرة أخرى‪ّ ،‬‬
‫فإن العناية بمفهوم‬
‫النشوء واالرتقاء‪ ،‬واستقدام داروين إلى ساحة السياسة وعلم االجتماع‬
‫والشرائع‪ ،‬يبتغيان نسف فكرة الثبات والس ّنة ونقطة اإلحالة الجوهرية‬
‫ّ‬
‫يتمكن هؤالء من اختراق البنية الذهنية القائمة‬ ‫عند األصوليين‪ ،‬فال‬
‫على أساس الموروث المنتمي إلى نقطة ما ال حياد عنها‪ ،‬إال بتأ كيد‬
‫مشروعية بيولوجية‪ ،‬تحيل على أخرى مثيلة‪ ،‬في الحياة والمجتمع‪.‬‬
‫فالمعروف أن فكرة داروين عن أصل األنواع واألشياء سرعان ما‬
‫وصحبه بمثل هذا‬
‫ُ‬ ‫شميل‬
‫ّ‬ ‫انسحبت على األديان والعلوم‪ ،‬وهكذا‪ ،‬جاء‬
‫ّ‬
‫يجتث ما كان‬ ‫الوعي الجديد‪ ،‬باحثين عن تحديث مماثل للمفاهيم‪،‬‬
‫العربي لم يكن‬
‫ّ‬ ‫سائد ًا من تأويل‪ .‬والهدف من تصدير داروين إلى الفكر‬
‫منقطع ًا عما اندرج في مساجالت نهاية القرن الماضي وبدايات القرن‬
‫العشرين‪ ،‬فالشرق في أدبيات الرحالة والمستعمرين والمثقَّ فين المرافقين‬
‫وصد التغيير‪ .‬وهكذا‪ ،‬يأتي‬
‫ّ‬ ‫هم بالركود والثبات‬
‫للحملة االستعمارية‪ ،‬م ُت ٌ‬
‫ِّ‬
‫المفكرون والمثقَّ فون العرب بالفرضية ومنهجيات المناقشة إلى ساحة‬
‫المضي في طرح مشروع التغيير‪ ،‬انسجام ًا‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫الفكر العربي‪ ،‬عازمين على‬
‫مع ُس ّن ٍة جديدة‪ ،‬علمية الجذر‪ ،‬تأخذ عن اآلخر لتلغي فرضياته‪ ،‬اآلن‬
‫بصحة التهمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ومستقب ً‬
‫ال‪ ،‬بما يعني‪ -‬ضمن ًا‪ -‬االعتراف‬

‫وكما نحا الشعراء‪ ،‬آنذاك‪ ،‬إلى استعادة مفاهيم رومانسية أو موروثة‬

‫‪17‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫القدم‪ ،‬عن أدوارهم‪ ،‬بوصفهم منقذين وع ّرافين وموهوبين‬


‫َ‬ ‫ضاربة في‬
‫عدد من مثقّ في النخبة يَعرضون أنفسهم‬
‫ٌ‬ ‫يصدقهم الجمهور‪ ،‬كان‬
‫ّ‬
‫حدها المادي لتؤول‬
‫بوصفهم دعا ًة وأصحاب رؤية واضحة قد تتجاوز ّ‬
‫ٍ‬
‫تمنيات تنقلها‬ ‫اختلطت حدود الواقع والعلم‪ ،‬وتح ّولت‬
‫ْ‬ ‫إلى رؤيا‪ ،‬كلما‬
‫اللغة متواتر ًة كأنها حلقة من الحقائق الثابتة‪ .‬وبينما كان جبران‬
‫بـ«النبي» حام ً‬
‫ال هاجس ًا خفيض ًا إلى ما هو بوار‪ ،‬كانت جماعة‬ ‫ّ‬ ‫يأتي‬
‫حلم التغيير‬
‫َ‬ ‫«الديوان»‪ ،‬في مصر‪ ،‬تأخذ عن الرومانسيين اإلنكليز‬

‫واختراق الظاهر والمادي بحث ًا ّ‬


‫عما هو قابع خلف «القناع»‪ ،‬كما‬
‫لكن هذه الهواجس والتمنيات واآلمال‬
‫ّ‬ ‫يقول الشاعر اإلنكليزي شلي‪.‬‬
‫ّ‬
‫تغذيها فسحة الكتابة في المجلّات والصحف اآلخذة في‬ ‫التي‬
‫االنتشار‪ ،‬وكثرة تداول المكتوب بين النخبة المتع ِ ّلمة‪ ،‬لم تكن تغري‬
‫ّ‬
‫والمفكرين (((‪ ،‬ما دام‬ ‫مثقَّ ف ًا كشبلي ِ ّ‬
‫شميل باالطمئنان إلى حال الك ّتاب‬
‫السياسي قائم ًا على االستبداد ال الديموقراطية‪ .‬غير أ ّنه يضع‬
‫ّ‬ ‫الوضع‬
‫ُ‬
‫العالقة بين المثقَّ فين والحكومات داخل سياق أوسع‪ ،‬هو الصراع ما‬
‫ّ‬
‫لكل ما يعني‬ ‫بين التفكير الح ّر واالستبداد‪ .‬وكما ي َّتسع التفكير الح ّر‬
‫فإن م ََدياته الفلسفية‪ ،‬ومنهجياته‬
‫والمحدات‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فك االرتباط مع الكوابح‬
‫وثوقي في األعراف والديانات‬
‫ّ‬ ‫ادعاء يقيني‬ ‫ّ‬
‫كل ّ‬ ‫َت ْهدم‪-‬ضمن ًا‪-‬‬

‫‪-1‬شبلي شم ِ ّيل‪ ،‬مجموعة الدكتور شبلي شم ِ ّيل‪ ،‬جزءان‪( ،‬القاهرة‪ :‬مطبعة المعارف‪.)1908 .‬‬

‫‪18‬‬
‫والعادات؛ ولهذا فإن س ّر تخ ُّلف الشرق يعود إلى «قتل األفكار وإفساد‬
‫األخالق وموت الك ّتاب» كما يقول في (ج‪ ،2‬ص‪.)273 - 236‬‬
‫ضدهم‪َ ،‬‬
‫أول األمر‪ ،‬بطرائق مختلفة‪ ،‬فإما «اشتراؤهم‬ ‫ويبتدئ السعي ّ‬
‫بالمال ليكتبوا غي ّر ما ّ‬
‫يفكرون‪ ،‬أو يصمتوا عما يعتقدون»‪ ..‬وإما يؤول‬
‫ونبراسها‪ ،‬أولئك‬
‫َ‬ ‫المآل بالكاتب إلى الموت‪ ،‬فتخسر األمّة رموزها‬
‫ويشيدون فخارها» (ص‪.)237‬‬
‫ّ‬ ‫الذين «يرفعون شأن األمّة‪،‬‬

‫النبي والع ّراف‪ ،‬عند جبران وجماعة «الديوان»‪،‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتشكل صور ُة‬ ‫وكما‬
‫َ‬
‫مشعل التغيير‬ ‫ال‬ ‫ِّ‬
‫المفكر حام ً‬ ‫َت ْنهض‪ -‬من خالل هذا التقاطع‪ -‬صور ُة‬
‫فإن مثقَّ ف النهضة سيكون‬
‫واختراق ما هو فاسد وتحريره؛ ولهذا ّ‬
‫من بين ق ّلة مصطفاة‪ ،‬لك ّنها ترى نفسها صاحبة مشاركة حقيقية في‬
‫خلق الدولة العصرية‪ ،‬كما يكتب طه حسين عام ‪ 1947‬في مقاالته‬
‫َّ‬
‫«المعذبون في األرض» ( ((‪ .‬ويصعب‬ ‫التي جمعها بين د َّف َت ْي كتابه‬
‫لكن الكتابات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المفكرون‪،‬‬ ‫ّ‬
‫(للمفكر) يتواطأ عليه‬ ‫ادعاء وجود مفهوم‬
‫ّ‬
‫وفعاليته‪ ،‬تحيل على موروث‬ ‫ّ‬
‫المفكر ّ‬ ‫المتناثرة المعنية بتحديد حضور‬
‫فعلي ًا في الحياة‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫المفكر شريك ًا‬ ‫كتب التاريخ‪ ،‬وي َْعرض‬
‫ُ‬ ‫مدوَّن تتناقله‬
‫معني‬
‫ّ‬ ‫الخاصة والحياة العامّة‪ :‬ما بين فقيه للخليفة‪ ،‬أو معارض له‪ ،‬غير‬
‫ّ‬
‫برغباته؛ أي أنه يمكن أن يكون مثي ً‬
‫ال للقاضي أبي يوسف‪ ،‬كما يمكن‬

‫‪ - 1‬ظهر في لبنان‪ ،‬ثم أصدرته دار المعارف في مصر بعد ثورة ‪ .1952‬ط‪ .1976 ،4‬ص‪.191‬‬

‫‪19‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫صنيع ثقافة متراكمة‬


‫ُ‬ ‫أن يكون كابن المقفع‪ ،‬لكنه‪ ،‬في كال الحالين‪،‬‬
‫ووعي عميق وموهبة يعترف بها المجتمع‪ ،‬على رغم ما يعترضها‪،‬‬
‫سياسي ًا‪ ،‬من تسويف أو تعطيل أو قتل‪ .‬وبينما يحيل ك ّتاب النهضة‬
‫على هذا التاريخ‪ ،‬ثمة ما يتم ّنون مَقدمه من الثقافة الغربية‪ ،‬منذ القرن‬
‫ِّ‬
‫والمفكرون واألدباء والعلماء في‬ ‫الثامن عشر‪ ،‬عندما شارك الفالسفة‬
‫الحداثي الذي ّ‬
‫شكل قطيعة مع العصر الوسيط وسلطة‬ ‫ّ‬ ‫مشروع التغيير‬
‫الكنيسة والنبالء‪ ،‬ومثل هذا الجمع بين تاريخ وآخر هو الذي تستند‬
‫يخصها علّال الفاسي بالتفيسر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إليه«األرستقراطية الفكرية» التي‬
‫حين ي َْجمع ما بين إسالمية السلف وعروبته‪ ،‬وبين الح ّريّة األوروبية أو‬
‫«ليبرالية» الفكر السائد (((؛ فإذ يحيل الفاسي على ديموقراطية الغرب‪،‬‬
‫المحدثة اآلتية بـ «إرادة الشعب الواعية»‪ ،‬بصفتها‬
‫ْ‬ ‫وكأنها «الروح»‬
‫الذاتي‪ ،‬ص‪ ،)51‬فإنه‬
‫ّ‬ ‫الغربي (النقد‬
‫ّ‬ ‫األساس األول ألنظمة الحكم‬
‫المجتمع‬
‫ّ‬ ‫ال فكري ًا ومنهج ًا حياتي ًا ّ‬
‫يمكنان‬ ‫يعترف بهذه الديموقراطية سبي ً‬

‫ماض من األصول من دون‬


‫ٍ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬في حاضره‪ ،‬من االستناد إلى‬
‫ّ‬
‫محاكاة عمياء‪.‬‬

‫ولهذا ِ ّ‬
‫يشدد الفاسي‪ ،‬في تعريفه لضرورات األرستقراطية الفكرية على‬
‫وتكيفه حسب روح العصر» (ص‪ .)131‬وبينما‬
‫ّ‬ ‫«تجدد النموذج‬
‫ُّ‬

‫‪ - 1‬النقد الذاتي‪ ،‬ط‪ ،4‬الرباط‪.1979 ،‬‬

‫‪20‬‬
‫وأهمية مواصلة االرتباط به‪ ،‬فإنه يرى‬
‫ّ‬ ‫التاريخي»‬
‫ّ‬ ‫يص ّر على «الوجود‬
‫للمضي إلى أمام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫البد منه‬
‫ّ‬ ‫التناسق واالنتظام مع روح العصر تناغم ًا‬
‫ومثل هذا التناغم ال تجرؤ على استقدامه غير األرستقراطية الفكرية‬
‫يعده بمنزلة‬
‫القادرة على إشاعة ما هو مغاير لمنطق الشارع‪ ،‬الذي ّ‬
‫موروثات وأعراف وخرافات حقّ قت تراكم ًا م َّتسع ًا‪ ،‬على مدى العصور‪،‬‬
‫يخص به المجتمع المغربي يمكن أن‬
‫ّ‬ ‫لكن ما‬
‫ّ‬ ‫في المجتمع الغربي‪،‬‬
‫يتبين في كتابات معاصرة‬
‫ّ‬ ‫يجد مثيله في المجتمعات األخرى‪ ،‬كما‬
‫ال‪ ،‬عند محمود السيد‪ ،‬وحامد عمار‪ ،‬ومحمود‬ ‫ِّ‬
‫متأخرة عنه قلي ً‬ ‫له أو‬
‫أن (علّال‬
‫يهمنا في هذا المجال هو ّ‬
‫ّ‬ ‫العبطة‪ ،‬وعلي الوردي ( ((‪.‬وما‬
‫الفاسي) يرى لزوم حضور األرستقراطية الفكرية‪ ،‬بصفتها النخبة‬
‫ألن هذه الفئة هي التي َتقْ در‬
‫القادرة على مصارحة الحاكم والمحكوم‪ّ ،‬‬
‫على تقليب األشياء على ش ّتى األوجه «وتنفذ إلى أعماقها» (ص‪.)46‬‬
‫ب‪ ،‬في كل شؤونها‪ ،‬بكامل‬ ‫َ‬
‫تخاط َ‬ ‫ألن «األمّة يجب أن‬
‫وحضورها الزم ّ‬
‫الصراحة وبكل بيان» (‪ .)49‬وال يدري المرء ما إذا كان علّال الفاسي‬
‫يحيل على سينت بوف‪ ،‬وماثيو آرنولد‪ ،‬اللذين كتبا في هذا األمر‪ ،‬إ ّ‬
‫ال‬
‫أرستقراطيته الفكرية تتعالى‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬على الفئات االجتماعية‪،‬‬
‫ألنها تتن ّزه عن المصلحة‪ ،‬وتجاهِ د لبلوغ الحقيقة‪ .‬فاألرستقراطية هنا‬

‫‪ - 1‬يراجع‪ :‬محسن جاسم الموسوي‪ ،‬ثارات شهرزاد‪ ،‬بيروت‪ :‬دار األداب‪ ،1995 ،‬ص‪.276 - 215‬‬

‫‪21‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ّ‬
‫مفكرة ناقدة‪ ،‬تستعيد نخبة الخالص عند آرنولد‪ ،‬كما‬ ‫هي مجموعة‬
‫أنها ليست فئة اجتماعية كبقية الفئات‪ ،‬ألنها تتح ّرر من قيود الطبقات‬
‫ِّ‬
‫«المفكرون الذين هم‬ ‫ومصالحها‪ .‬يقول في «النقد الذاتي»(ص‪:)47‬‬
‫ّ‬
‫السبيل‪ ،‬ويبعثون‬ ‫من هذه الطبقة‪ ،‬هم ر ُُسل الفكر للناس‪ّ ِ ،‬‬
‫يمهدون لهم‬
‫الصعب‬
‫ّ‬ ‫روح الطموح‪ ،‬ويستسهلون في سبيل ذلك كله‬
‫َ‬ ‫في النفوس‬
‫والذلول»‪.‬‬

‫هؤالء الغرباء عن الطبقية‪ ،‬والمتباعدون عن األهواء عند آرنولد‬


‫نلتقيهم‪ -‬ثانيةً‪ -‬عند الفاسي‪،‬فـ«هؤالء العباقرة ال يصلون إلى هذا‬
‫ال بعد عناء شديد ودهر مديد يقضونه في ق ّلة فهم الجمهور له‬
‫الفوز إ ّ‬
‫وعدم اعتنائه بشؤونهم»(ص‪.)47‬‬

‫وبينما تبدو المقارنة بمقالة آرنولد عن «النخبة الم ْنقِذة أو المخ ّلصة»‬

‫ممكنة‪ ،‬فثمة ما يحيل‪ -‬أيض ًا‪ -‬على ما َدر َ‬


‫َج في األدبيات الرائجة‪،‬‬
‫حينئذاك‪ ،‬في الثقافة األوروبية‪ ،‬أيام ازدهار الديموقراطية والدعوة إلى‬
‫يسميه‬
‫ّ‬ ‫ح ّريّة الفرد إزاء ضغوط األعراف والعادات والتقاليد‪ ،‬أو إزاء ما‬
‫التجب ُر‬
‫ُّ‬ ‫«تجبر األكثرية» وتس ّلطها‪ .‬وقد يتقابل هذا‬
‫ُّ‬ ‫جون ستيوارت مِ ل‬
‫السجال وق ّوة الدعوة‬
‫لكن نكهة ّ‬
‫ّ‬ ‫مع «منطق الشارع» عند الفاسي‪،‬‬
‫إلى التح ُّرر من هذا المنطلق تمنحان مقالة الفاسي حرار ًة وآني ًة َك َت ْينك‬

‫اللتين تح ِ ّتمان ظهور المشاركات الفكرية‪ّ -‬‬


‫السجالية‪ ،‬في أوانها‪،‬‬ ‫ْ‬

‫‪22‬‬
‫كاستجابة لحتمي ٍة ما‪ ،‬ورضوخ لروح العصر‪ ،‬وهكذا يكتب الفاسي في‬
‫معنى المجاهدة لالنتماء إلى تلك األرستقراطية الفكرية‪:‬‬

‫«وإذا أردنا أن نك ّون من نفوسنا هذه الطبقة الرفيعة من جهة الفكر‪،‬‬


‫وجب علينا أن نتع َّود التح ُّررَ‪ -‬تدريجي ًا‪ -‬من منطق الشارع‪ ،‬والترفّ َع‪،‬‬
‫َ‬
‫قلي ً‬
‫ال‪ ،‬عن التأثر بواقعية الحياة‪ .‬يجب أن نخرق السدود التي َب َنتها أمام‬
‫الظالم أمد ًا طوي ً‬
‫ال» (ص‪.)49‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫أجيال غطّ ى عليها‬ ‫عقولنا‬

‫ال طارئ ًا بين صفوف المتع ِ ّلمين‬


‫واالنشغال بالتكوين المذكور ليس فع ً‬
‫ّ‬
‫والمفكرين‪ .‬وفي حين اضط ّرت‬ ‫وعلماء الدين والك ّتاب والشعراء‬
‫ظروف التمييز المختلفة عدد ًا من أهل الشام ولبنان إلى اختيار فضاءات‬

‫ِّ‬
‫وشميل وفرح أنطون‪،‬‬ ‫ليبرالية في مصر‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬كما هو حال ص ّروف‬
‫النخب‬
‫َ‬ ‫فإن المرحلة التالية لم تكن ميسورة ديموقراطي ًا؛ إذ سيتجاذب‬
‫ّ‬
‫مستجد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫استعماري‬ ‫ارتداد على ظرف‬
‫ٌ‬ ‫الفكرية‪ ،‬داخل الوطن العربي‪،‬‬
‫متغير جديد‪ ،‬كذلك الذي تم ِ ّثله ثورة سعد زغلول في‬
‫ِّ‬ ‫وانحياز إلى‬
‫أن الرحيل ما بين الوطن والمنفى‪ ،‬بين بغداد واآلستانة‪-‬‬
‫مصر‪ .‬كما ّ‬
‫مث ً‬
‫ال‪ -‬كانت تح ّتمه ظروف االحتالل اإلنجليزي من دون أن يعني‬
‫التح ّو ُل إلى اآلستانة‪ -‬بالضرورة‪ -‬انحياز ًا إلى اإلمبراطورية التركية‬
‫المنهارة حينذاك‪ .‬فهذا محمود شكري اآللوسي يرفض منصب القضاء‬
‫الذي َت ْعرضه عليه سلطة االحتالل اإلنكليزي‪ ،‬وهذا الشاعر الكبير‬

‫‪23‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫لي ْجري عليه العلّامة محمد‬


‫عبدالمحسن الكاظمي يهاجر إلى مصر ُ‬
‫عبده مر َّتب ًا شهري ًا من دون التعريف بمصدره‪ ،‬بينما «أدناه المرحوم‬
‫سعد زغلول فكان الشاع َر الذي خ ّلد كل ما قام به سعد من أعمال» (((‪،‬‬
‫ضد السلطان العثمانية‪ ،‬ودافع عن ح ّريّة‬
‫أما الشاعر الزهاوي فقد وقف ّ‬
‫والسياسي‪ ،‬كما لم يفعل الكثيرون ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المرأة‪ ،‬وصارع الفساد االجتماعي‬

‫وس ِجن م ّرات ّ‬


‫عدة‪ .‬وشأنه كشأن الشاعر معروف الرصافي الذي‬ ‫ف ُنفِي ُ‬
‫وتصدى لالحتالل اإلنكليزي‪ ،‬وانتقد نظام الحماية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جاهر برأيه‪،‬‬
‫ومثلهما الشيخ الثعالبي وبيرم التونسي‪ .‬وال يختلف عنهم آخرون‬
‫كمحمد رضا الشبيبي ومحمد فهمي المد ِ ّرس‪ ،‬وعشرات المثقَّ فين‪،‬‬
‫من ك ّتاب وشعراء وعلماء ومشايخ‪ ،‬شاركوا في األحداث والمناسبات‪،‬‬
‫ضد االحتالل اإلنكليزي‪ ،‬ودافعوا عن الح ّريّات‬
‫كثورة العشرين العراقية ّ‬
‫الفكرية السياسية‪.‬‬

‫العربي‬
‫ّ‬ ‫ظهرت في طول الوطن‬
‫ْ‬ ‫لكن هذه الفئة من النخب الثقافية‪ ،‬التي‬
‫ّ‬
‫أن المواقف الشخصية‬
‫وعرضه‪ ،‬لم تكن تحيل على أرض بور‪ ،‬على رغم ّ‬
‫كانت بادية‪ ،‬وتم ّثل العالمات األكيدة للفعل والمشاركة الوطنية والقومية‬
‫والدينية طيلة العقدين األوّلين من القرن العشرين‪ .‬فأمثال سعد زغلول‪،‬‬
‫في حينه‪ ،‬يم ّثلون ضمير ًا وطني ًا للفئات المدينية المتع ّلمة؛ بينما سينمو‬

‫‪ - 1‬حسين الكرخي‪ ،‬مجالس األدب في بغداد‪ ،‬ج‪ ،1‬بغداد‪ :‬النهضة العربية‪ ،1987 ،‬ص‪ ،21‬هامش‪.1‬‬

‫‪24‬‬
‫جيل الحق يخوض صراعه بحسب قواعد الدولة المحمية‪ ،‬كجعفر أبي‬
‫ّ‬
‫يشكل وأمثا َله أنموذج ًا قيادي ًا لجمهور العامّة؛ في‬ ‫التمن‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬الذي‬
‫حين كان الشعراء‪ ،‬كمحمد مهدي البصير في العراق‪ ،‬وحافظ إبراهيم‬
‫وشوقي في مصر‪ ،‬يتجاذبون الفعل ما بين تمثيل وخطاب‪ ،‬فم ّر ًة يكون‬
‫ِّ‬
‫والمفكر والشاعر‪ ،‬مصدر ًا للرأي ومنتج ًا للموقف‪،‬‬ ‫الفقيه‪ ،‬أي المثقَّ ف‬
‫وينشد إليه‪ .‬وق َّلما تفترق الحالتان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وم ّرة أخرى يرافق الفاعل السياسي‬
‫بمعية‬
‫ّ‬ ‫كما تشهد بذلك حال أبي الرباب الشاعر عبدالمحسن الكاظمي‪،‬‬
‫سعد زغلول‪.‬‬

‫َ‬
‫حال الشروع بتفقُّ د مفاهيم النخبة‬ ‫ملي ًا عنده‪،‬‬
‫وما ينبغي التوقُّ ف ّ‬
‫نص أسبق؛ فإذا كان جهد األفغاني‬
‫وحضورها‪ ،‬هو اإلحالة على ّ‬
‫ومحمد عبده ورشيد رضا يحيل تلقائي ًا على أصول ُ‬
‫وسنة َتستقدم لهم‬
‫يود أن يراه علّال الفاسي أيض ًا‪،‬‬
‫اإلسالم نقي ًا خالي ًا من التشويه‪ ،‬كما ّ‬
‫وتحدي الحضارة الغربية المنازعة لإلسالم‪ ،‬في‬
‫ّ‬ ‫فإن مزاحمة المستعمِ ر‬
‫ّ‬
‫شرائعه وتقاليده (المتناقّ لة عند العثمانيين أو عند منطق الشارع؛ ْ‬
‫أي بين‬
‫عادات الناس وأعرافهم) هما الدافعان لمثل ذلك االستقدام لألصول‪،‬‬
‫ثم استدراج ما هو‬
‫بصفتها نقطة ابتداء تستحقّ البناء‪ ،‬واالنطالق‪ ،‬ومن ّ‬
‫عصري من الحضارات األخرى‪ ،‬كما كان حال الحضارة اإلسالمية أيام‬
‫لكن النخبة الفكرية‪ ،‬وهي تحيل على أصول‪ ،‬لم َت ْحسم‬
‫ّ‬ ‫بني العباس‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫بد لمجاميع متف ِ ّرقة داخل هذه النخب‬


‫موضوع الدولة وشكلها‪ ،‬وكان ال ّ‬
‫المستبد‬
‫ّ‬ ‫أن تواجه أشكال الدولة المحتملة‪ ،‬فتتوالى مقترحاتها‪ ،‬عن‬
‫ضد االستبداد‪،‬علی أساس أنه خيار‬ ‫العادل‪ ،‬متك ّرر ًة عند ِ ّ‬
‫كل م َْن كتب ّ‬
‫ّ‬
‫يتعذر حضورها في‬ ‫هين وميسور إزاء «الديموقراطية» المقترحة التي‬
‫ّ‬
‫ظل الواقع السائد‪ ،‬ولهذا سيحيل المثقَّ فون‪ ،‬منذ الطهطاوي‪ ،‬على مثل‬
‫هذا المزيج‪ ،‬ما بين الخالفة‪ ،‬والديموقراطية‪ ،‬واالستبداد‪ ،‬والعدل‪ .‬فقد‬
‫سيرد التالون قاطعين باستحالة‬
‫ّ‬ ‫مقيدة؛ بينما‬
‫يقترح الطهطاوي مَلكية ّ‬
‫التقدم من دون ديموقراطية‪ ،‬فيرى الثعالبي في الدولة الدستورية مرف ًأ‬
‫ّ‬
‫مستق ً‬
‫ال ممكن ًا‪ ،‬ومثله محمد العربي الخطابي‪ ،‬وكذلك طه حسين في‬
‫لكن جماعة الفكر القومي سيعرضون الدولة‬
‫ّ‬ ‫فكرة الدولة الدستورية‪،‬‬

‫العربية‪ ،‬بوصفها استجماع ًا مطلق ًا إلرادة األمّة‪ ،‬من دون ُّ‬


‫تفحص لمعنى‬
‫أن هذه‬
‫اإلرادة واألمّة والمجتمع ونظام الحكم‪ .‬وما يستحقّ اإلشارة هو ّ‬
‫تتميز بالبحث الدؤوب عن رؤية‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫فضاءات‬ ‫ٍ‬
‫توالدات في‬ ‫المفاهيم تأتي‬
‫عدة‪ :‬ما بين التحرر‪ ،‬واالستقالل‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫اهتمامات ّ‬ ‫تتوزعه‬
‫ّ‬ ‫ممكنة‪ ،‬في ظرف‬

‫ومواجهة الجهل‪ ،‬والتخ ّلف االجتماعي‪ ،‬والفساد السياسي‪ .‬وكما ّ‬


‫أن‬
‫محمد عبده وسعد زغلول هما الخيمة التي ينضوي‪ ،‬داخلها‪ ،‬الكاظمي‬
‫ّ‬
‫تتشكل من أطراف متفاوتة‪ ،‬ينضوي فيها‬ ‫مث ً‬
‫ال‪ ،‬فثمة فضاءت أخرى‬

‫وداخلها آخرون‪ ،‬لتتوالد مفاهيم أخرى ِ ّ‬


‫تميز مرحلة البحث واالحتدام‪،‬‬
‫طيلة العقود األولى من القرن العشرين‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫انسحاب مفهوم «النشوء واالرتقاء» من علم‬
‫َ‬ ‫وسواء َأ َخ ّ‬
‫ص األمر‬
‫األحياء ومن مجاوراته العلمية إلى المجتمع والصراع في داخله‪ ،‬أم‬

‫ِّ‬
‫شميل‬ ‫فإن ما التجأ إليه شبلي‬
‫تعميمه بين األفكار والحضارات‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫جرى‬
‫وإسماعيل مظهر وغي ُرهما في التشديد على إمكان تخليص المجتمع‬
‫َج َد صداه‬
‫من عقدة التقاليد والثوابت با ّتجاه التغيير سرعان ما و َ‬
‫عند عدد من المثقَّ فين اآلخرين في الوطن العربي‪ .‬فها هو صفوان‪،‬‬
‫المسماة «صفوان األديب»‬
‫ّ‬ ‫بطل رواية الكاتب العراقي كاظم مكي‬
‫التغيرات التي‬
‫ُّ‬ ‫(البصرة‪ :‬مطبعة الفيحاء‪ ،)1939 ،‬يحكي في تفسير‬
‫يسمى سبنسر‪ ،‬يجزم‬
‫لعت على أقوال لعال ٍِم ّ‬ ‫طرأت على ذهنه قائ ً‬
‫ال‪« :‬اطّ ُ‬ ‫ْ‬
‫مادة‪،‬‬
‫فيها أن القوة والمادة غير منفصلتين‪ ،‬وليست هناك ق ّوة بال ّ‬
‫والمادة بال ق ّوة‪ ،‬وأن كل شيء ال تدركه الحواس فهو معدوم‪ .‬فتغ ّلبت‬
‫ّ‬
‫هذه اآلراء على ما في نفسي من إيمان‪ ،‬وعفا الله‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬عن‬

‫ِّ‬
‫شميل»‪ .‬وبعد أن يسهب صفوان في إيضاح‬ ‫سبنسر والدكتور شبلي‬
‫دفعت به إلى تغيير تفسير بدء‬
‫ْ‬ ‫اله ّزة التي م ّر بها إثر هذه القراءة‪ ،‬والتي‬

‫الخلق‪ ،‬يقول إن «المارك‪ ،‬ودارون‪ ،‬والدكتور شبلي ِ ّ‬


‫شميل‪ ،‬وإسماعيل‬
‫مظهر‪ ،‬وسالمة موسى هم الرجال المسؤولون عن هذا الكفر الذي يؤمن‬
‫ُ‬
‫توالدات‬ ‫به عقلي‪ ..‬عفا الله عنهم جميع ًا» (((‪ .‬فالفضاء الذي تجري‬

‫‪ - 1‬االقتباس عن د‪ .‬يوسف عز الدين‪ ،‬الرواية في العراق‪ :‬تطورها وأثر الفكر فيها (القاهرة‪:‬‬
‫معهد البحوث والدراسات العربية‪ ،)1973 ،‬ص‪.131‬‬

‫‪27‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫المفاهيم فيه ليس سياسي ًا أو اجتماعي ًا فحسب‪ْ ،‬‬


‫إذ رغم كثرة العناية‬
‫والخاصة بالمجتمعات العربية‪ ،‬فثمة إحالة بادية‬
‫ّ‬ ‫بالموضوعات العامّة‪،‬‬
‫على ما يجري في الثقافة الغربية من نقاش محتدم ما بين النزعات‬
‫أن اإلنسانيين يستندون إلى سنن «غربية» حضارية‪،‬‬
‫المختلفة‪ .‬وكما ّ‬
‫تهدم اليقين واإليمان‪ ،‬فثمة‬ ‫يرون االنتماء إليها استمرار ًا حضاري ًا‪َ ،‬‬
‫أيام ُّ‬
‫م َْن يرى العصر م ّتجه ًا‪ ،‬من دون مواربة‪ ،‬نحو تح ُّوالت ال تحتضنها‬
‫ُ‬
‫كتابات إينشتاين واكتشافا ُته‪.‬‬ ‫«ميثولوجيا» المعتقد‪ ،‬كما ِ ّ‬
‫تؤكد لهم‬
‫ظهرت في مسعى طه حسين لقراءة الموروث‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫الشك التي‬ ‫وحتى منهجية‬
‫الشعري‪ ،‬سرعان ما وجدت طريقها إلى أذهان المثقّ فين العرب‪ ،‬الذين‬
‫أخذوا يتناقلون التساؤل في الموروث‪ ،‬والتدقيق في شجرة النسب‪،‬‬
‫ّ‬
‫يتمكنون منها‪،‬‬ ‫ومن ث ََّم توسيع دائرة التأثير في الوسائل المختلفة التي‬
‫كالصحافة‪ ،‬واإلذاعة‪ ،‬والكتابة اإلبداعية‪ .‬وليس مستغرب ًا أن يقرأ المرء‬
‫في «صفوان األديب»‪ -‬أيض ًا‪ -‬ذلك االنهماك في منهجية الشك بعد‬
‫وتمعن في كتاب طه حسين «في األدب الجاهلي»‪ ،‬إذ‬
‫ّ‬ ‫طول قراءة‬
‫ّ‬
‫الشك‪..‬‬ ‫ُ‬
‫أسرعت إلى‬ ‫يقول البطل‪« :‬لم أ كد أفرغ من كتابه ذاك حتى‬
‫وأصبحت ال أقيم لهذا األدب وزن ًا من جهة كونه صادر ًا من أصحابه» (((‪.‬‬
‫ُ‬

‫وتط َّرف بعض المثقّ فين في األخذ بدعوة ص ّروف التي جاءت في‬

‫‪ - 1‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.132‬‬

‫‪28‬‬
‫ّ‬
‫يحث الجميع على رفض‬ ‫«المقتطف» قبل أ كثر من عقدين‪ ،‬وفيها‬
‫ُ‬
‫والتصافح مع نهضة أخرى لم يألفها العرب منذ‬ ‫علمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل ما هو ال‬
‫قرون‪ ،‬ووجدت هذه الدعوة أذن ًا مصغية لدى مب ِ ّرزين‪ ،‬من أمثال‬
‫والروائي محمود أحمد السيد الذي َش َغ َل الصحافة بجهده‬
‫ّ‬ ‫الكاتب‬
‫أن مزاج السيد‬
‫في العقود األولى من القرن العشرين‪ .‬وعلى رغم ّ‬
‫القصصي يضعه في الصدارة بين المثقَّ فين العرب المعنيين بالسرد‬
‫المعرفي وانشغاله باألفكار‪ ،‬غالب ًا ما ضغطا على‬
‫ّ‬ ‫حينذاك‪ ،‬فإن انهماكه‬
‫تدفُّ ق السرد لديه‪ .‬فالسيد نشر روايات غرامية كـ «في سبيل الزواج»‬
‫أسف على ذلك‪،‬‬
‫و«مصير الضعفاء»‪ ،‬و«النكبات»‪ ،‬لكنه سرعان ما ِ‬
‫قائ ً‬
‫ال في مقالة بعنوان «هيكل الماضي ‪ -‬على مسرح الحياة»‪« :‬آه‪،‬‬
‫ليت الظروف كانت َتفهم‪ ،‬فتكسر يدي قبل أن أ كتب تلك الروايات‬
‫الغرامية الفاسدة‪ ..‬التي َأ ُع ّدها لطخة عار في حياتي وحياة األدب» (((‪.‬‬

‫المح َدثة اقتصادية علمية‪ ،‬ال‬


‫ْ‬ ‫فالسيد البغدادي يرى النهضة األوروبية‬
‫َتأْلف اآلداب والكتابات العاطفية‪ ،‬مندفع ًا‪ ،‬بتط ّرف‪ ،‬إلى الجانب اآلخر‬
‫المناوئ لألدبيات اإلنسانية‪ ،‬الذي ساد في النصف الثاني من القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬داخل الثقافة األوروبية‪ .‬ولهذا يكتب بتاريخ ‪ 8‬أيلول‪،‬‬

‫‪ - 1‬ظهرت الرواية األولى عام ‪ ،1921‬وظهرت روايته «مصير الضعفاء»‪ ،‬ومجموعته‬


‫«النكبات في القاهرة» عام ‪.1922‬‬

‫‪29‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫‪« :1923‬في اليوم الذي تجتهد المكاتب والمطابع في أوروبا إلصدار‬


‫الماليين من النسخ من كتاب «رأس المال» لماركس‪ ،‬ونظريات‬
‫مطابعنا منهمكة في إصدار‬
‫َ‬ ‫آينشتاين وكتاب «النشوء واالرتقاء» تجد‬
‫نسخ جديدة من «األغاني» و«ألف ليلة وليلة» و«تزيين األسواق‬
‫في أحوال العشاق‪ »..‬مقارن ًا بين هذا الرأي وسرديات محمود أحمد‬

‫السيد المنشورة منذ عام ِ ّ‬


‫ونيف‪ .‬لكنه كان يستشهد‪ ،‬حينذاك‪ ،‬بمقوالت‬
‫ّ‬
‫المادي‪ ،‬من خالل ما يجتمع لدى المسلمين‬ ‫الكواكبي في َس ّد العوز‬
‫من مال الزكاة والكفّ ارات المالية‪ ،‬إذا ماالتزموا بأصول اإلسالم‪،‬‬
‫ومستجداتها‪ .‬ويقول صديقه عبدالوهاب‬
‫ّ‬ ‫وتصدوا لضرورات الحياة‬
‫ّ‬
‫الغربي‪ ،‬وكانت‬
‫ّ‬ ‫وراءالتقدم بالمفهوم‬
‫ّ‬ ‫األمين‪« :‬كنا نريد أن نركض‬
‫ّ‬
‫الفكري» (((‪.‬‬ ‫مصر‪ -‬بطبيعة الحال‪ -‬هي الرائد األول‪ ،‬وهي غذاؤنا‬

‫فالسيد البغدادي‪ ،‬شأن آخرين من المثقّ فين‪َ ،‬ت َنقَّ َل‪ -‬أيض ًا‪ -‬ما بين فكر‬
‫وآخر‪ ،‬في رحلة البحث عن مواجهة صريحة مع العصر؛ ولهذا فعندما‬
‫يُقدم محمود أحمد السيد على كتابة شيء من سيرته الشخصية بعنوان‬
‫«جالل وخالد»‪ ،‬الصادرة عام ‪(1928‬بغداد‪ :‬دار السالم)‪ ،‬فإنه‬
‫يتجاوز الخيارين السابقين‪ ،‬ما بين األصولية الفكرية والعلمية الغربية‬
‫المضببة المتسترة‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫شميل وآخرون‪ .‬وعندما نقرأ تلك السيرة‬ ‫التي ينقلها‬

‫‪ - 1‬اإلشارات‪ ،‬عن يوسف عز الدين‪ ،95 ، 90 - 89 ،99 ،‬بالتتابع‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫فن كتابة السيرة‪ ،‬كما يفعل المازني‬
‫في ضوء انتهاج عدد من الك ّتاب َّ‬
‫في «إبراهيم الكاتب»‪ ،‬وطه حسين في «األيام»‪ ،‬وتوفيق الحكيم في‬
‫ّ‬
‫«مذكرات نائب في األرياف»‪ ،‬يمكن أن تجتمع لدينا خيوط مسعى‬
‫ومنحها انتظام ًا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ك ّتاب النخبة الفكرية إلعادة ترتيب حياتهم الثقافية‪.‬‬
‫يودون إسقاطه على التجربة الحياتية المبعثرة التي تحيط بهم‪ .‬وعلى‬
‫ّ‬
‫أن الك ّتاب‪ -‬جميع ًا‪ -‬يحيلون على حياة شخصية تنتقل ما بين‬
‫رغم ّ‬
‫الريف والمدينة‪ ،‬أو ما بينهما وبين الحاضرة الغربية‪ ،‬ألغراض الدراسة‪،‬‬
‫فإن هؤالء كانوا ينقلون‬
‫العالمي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫أو من خالل القراءة ومجاورة الفكر‬
‫المستجدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تتغير في ضوء العالقة‬
‫َّ‬ ‫معهم همومهم وتط ُّلعاتهم‪ ،‬التي‪،‬‬
‫زمن ًا‪ ،‬ما بين صاحب التجربة والظروف المحيطة‪ ،‬ومن ضمنها ش ّتى‬
‫اال ّتجاهات المتصارعة واألفكار التي غالب ًا ما تترك بصمات ظاهرة‬
‫على الشخصية التي ترى نفسها طرف ًا في التغيير‪ .‬ومن الجانب اآلخر‪.‬‬
‫فإن صاحب السيرة‪ ،‬كمحمود أحمد السيد‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬ال ي َْعرض «تذبذبه‬
‫بين اإلنسانية والقومية والدين»‪ ،‬وقراءته لتاريخ بالده القريب‪ ،‬ما بين‬
‫العثمانيين واإلنكليز وثورة العشرين واندحارها‪ ،‬إال في ضوء تدفُّ ق‬
‫َّ‬
‫تتشكل منه مطارحات الراوي ونزعات‬ ‫مستجد واسع لفكر عالمي غزير‬
‫ّ‬
‫الموزعة بين لينين وغوركي‪ ،‬ودوستويفسكي‪ ،‬وزوال‪ ،‬وأناتول‬
‫ّ‬ ‫حجاجه‬

‫ِّ‬
‫شميل‪ ،‬وعشرات الك ّتاب األتراك‬ ‫فرانس‪ ،‬وغوستاف لوبون‪ ،‬وشبلي‬
‫كعبد الحق‪ ،‬وتوفيق فكرت‪ ،‬وأحمد مدحت‪ ،‬وعشاقي زاده‪ ،‬وخالد‬

‫‪31‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ضياء‪ ،‬ورشاد نوري‪ .‬وك ّلما استزاد المؤ ِ ّلف في هذا الحجاج‪ ،‬وأمعن‬
‫في المقتبس ن ّوه‪ -‬أيض ًا‪ -‬بمصير الفالحين والعمال‪ ،‬وحاجتِهم إلى‬
‫ُ‬
‫مجريات األمور القومية في‬ ‫تغيير اجتماعي منصف‪ ،‬بينما تستميله‬

‫إيطاليا وألمانيا‪ ،‬باعث ًة عنده رغب ًة في اجتماع العرب ّ‬


‫ولم شتاتهم (((‪.‬‬

‫ومثل هذه الموضوعات التي تتك ّرر في سرديات السيرة الشخصية ما‬
‫لكن حضورها‬
‫ّ‬ ‫ميزت األجواء الثقافية والفكرية‪،‬‬ ‫هي إ ّ‬
‫ال انشغاالت ّ‬
‫مدوَّن ًة واشتباك هذا الحضور بعالقات ذات رصيد سياسي قادم‪ ،‬كعالقة‬
‫محمود أحمد السيد بِ َع ْوني بكر صدقي وأخيه لطفي‪ ،‬قائد االنقالب‬
‫تمعن ًا‬
‫التالي على الحكومة العراقية المرضي عنها بريطاني ًا (((‪ ،‬يح ّتمان ُّ‬
‫في ظهور المفاهيم التي ُتعنى بالدولة العصرية‪ .‬فالنخبة كما يَعرضها‬
‫َّ‬
‫«المعذبون في األرض»‪،‬‬ ‫طه حسين‪ ،‬في مقاالته التي جمعها بعنوان‬
‫ليست مجموعة من األذهان المثقَّ فة المط ّلة على المشهد السياسي؛‬
‫ِّ‬
‫متحضرة قادرة‬ ‫إنهم أولئك الذين «أفنوا» شبابهم من أجل دولة مستق ّلة‬
‫والصحة والح ّريّة‬
‫ّ‬ ‫على العناية بأبنائها‪ ،‬وضمان المساواة االجتماعية‬
‫موحد ًا؛ إذ إن فيها داعية الحكم‬
‫أن هذه النخبة ليست لفيف ًا َّ‬
‫العامّة‪ .‬كما ّ‬
‫والمستبد العادل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الموحدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الدستوري؛ كما أن فيها داعية اإلمبراطورية‬

‫‪ - 1‬ويجري اقتباس التنصيص عما نقله يوسف عز الدين أيض ًا‪ ..‬ص‪.159 - 158 - 165‬‬
‫‪ - 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.83‬‬

‫‪32‬‬
‫الذي سيرى خالد محمد خالد والدته بالءً‪ ،‬وثن ًا عجيب ًا (((‪ ،‬ال يستحقّ‬
‫منهم ذلك الجهد الذي كتب فيه الدعا ُة األوائل‪ .‬وإذ لم تكن خيارات‬
‫َ‬
‫االنغالق على‬ ‫ِّ‬
‫ومفكرون‬ ‫النخبة وقف ًا على أنموذج الداعية‪ ،‬رأى مثقَّ فون‬
‫التقدم‪ ،‬فدعوا إلى ديموقراطية واسعة‬
‫ُّ‬ ‫األصول والمذاهب عثر ًة في وجه‬
‫ِّ‬
‫للمفكرين بمزاولة‬ ‫تتيح تح ّرر األذهان من العادات واألعراف‪ ،‬وتسمح‬
‫منهجية علمية أخرى‪ ،‬تسعد في تحقيق مثل هذا التح ُّرر واالنعتاق‪.‬‬

‫وعندما تختلط المعايير والغايات‪ ،‬والمنهجيات والنوايا‪ ،‬كما هو‬


‫األمر عند عازوري‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬يكتب الالحقون‪ ،‬من أمثال مالك بن نبي‬
‫في التمييز بين ا ّتجاهات النخب الفكرية‪ ،‬فاالستعمار يحارب ظهور‬
‫المستعمرة‬
‫َ‬ ‫نظرية معرفية يجري االستناد إليها في تحضير المجتمعات‬
‫نخب ثقافية في مشروع‬
‫ٌ‬ ‫سابق ًا‪ .‬ومن الجانب اآلخر يمكن أن تنخرط‬
‫يسميه‬
‫ّ‬ ‫العدة النظرية‪ ،‬أو الفكر المج ّرد‪ ،‬كما‬
‫ّ‬ ‫استعماري يمنع استكمال‬
‫ابن نبي‪ .‬وإذ يع ّول ابن نبي كثير ًا على هذا االنتظام النظري‪ ،‬فإن‬
‫مسعى حثيث ًا النتقاء ما يريد من‬
‫ً‬ ‫اآلخر أو المستعمر‪ ،‬في تقديره‪ ،‬يبذل‬
‫أفكار َتخدم مشاريعه‪ ،‬بينما يع ّول على جامعيين «مخدوعين» وآخرين‬
‫الملّاك و«أدعياء» التص ّوف‪ ،‬لمشاغلة العامّة وتعميق عزلة جماعة‬
‫من ُ‬

‫‪ - 1‬خالد محمد خالد‪ ،‬الديموقراطية أبد ًا‪ ،‬ط‪( ،3‬بغداد‪ :‬المثنى)‪ ،‬مواطنون ال رعايا‪ ،‬ط‪6‬‬
‫(بغداد‪ :‬المثنى)‪ :‬القاهرة‪ ،‬الخانجي‪.1958،‬‬

‫‪33‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫الفكر المج َّرد‪ .‬وبالطبع يحيل ابن نبي‪ ،‬في وجهة العالم اإلسالمي‪،‬‬
‫على أصول إسالمية‪ ،‬يراها امتياز ًا في اله ّوية‪ ،‬في مواجهة فعل المستعمر‬
‫مشروع ْي محمد علي باشا‪،‬‬
‫َ‬ ‫الذي بانت نتائجه في مصر عند إيقاف‬
‫نص ًا‬ ‫والخديوي إسماعيل مث ً‬
‫ال ( ((‪ .‬وما يبدو رصيد ًا نظري ًا عا ّم ًا‪ ،‬أو ّ‬
‫ُ‬
‫أطرافه عند الشيخ الثعالبي‪،‬‬ ‫تماسكت‬
‫ْ‬ ‫حاضن ًا عند ابن نبي‪ ،‬سبق أن‬
‫ومحمد العربي الخطابي‪ ،‬بدرجة أو بأخرى‪ .‬فالثعالبي الذي تج ّول بين‬
‫يطمئن‬
‫ّ‬ ‫تونس والمشرق‪ ،‬وأقام في الشام والعراق مع النخب الفاعلة‪،‬‬
‫إلى مزاوجة الزمة ما بين اله ّوية العربية‪ -‬اإلسالمية والفكر الليبرالي‬
‫الذي ي ّتسع للح ّريّة‪ ،‬والديموقراطية‪ ،‬والمساواة (((‪.‬‬

‫وال يعني هذا االمتزاج تهاون ًا في مقاومة المستعمِ ر؛ فكالهما يقفان‬


‫ضد الحماية‪ ،‬بصفتها نمط ًا استيطاني ًا يستهدف معاقبة األهالي وتمكين‬
‫فئة عميلة من التس ُّلط على رقاب الناس وحقوقهم‪ .‬ولهذا‪ ،‬هناك‬
‫ّ‬
‫«فضلوا السجن والنفي والعذاب على مطاوعة اإلدارة الفرنسية‬ ‫من‬
‫وأذنابها»‪ ،‬كما يقول الخطابي‪ .‬وإذا كان األخير يرى الملك رمز ًا‬

‫‪ -1‬مالك بن نبي‪ :‬وجهة العالم اإلسالمي‪ .‬ط‪( 1‬مصر‪ :‬المؤسسة السعودية‪.)1959 ،‬‬
‫ص‪125‬و‪.126‬‬
‫‪ - 2‬يراجع بشأن عبدالعزيز الثعالبي‪ ،‬في‪ :‬تونس الشهيدة‪ .‬وخلفيات المؤتمر اإلسالمي‬
‫بالقدس‪ ،‬وكذلك محمد العربي الخطابي في‪ :‬المغرب في طريق االستقالل‪ ،‬عبدالمجيد‬
‫البدوي‪ :‬مواقف المفكرين العرب من قضايا النهضة في العالم العربي‪ ،‬من مطلع القرن إلى‬
‫موفى الستين ّيات (تونس‪ :‬منشورات كلية اآلداب بمئوية‪ ،)1996 ،‬ص‪.52 - 50‬‬

‫‪34‬‬
‫فإن انتماءه إلى «ليبرالية وطنية» تدين بحقوق اإلنسان‬
‫للمقاومة‪ّ ،‬‬
‫وتعددية «األجناس والديانات» والحياة الديموقراطية تجعله كالثعالبي‬
‫ُّ‬
‫في النتيجة‪ ،‬رافض ًا أي نزوع مغاير لهذا االنتماء‪ .‬ومثل هذا المهاد‬
‫ألن األخير يَعرض الدولة‬
‫ال‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫يتشكل مختلف ًا عند ابن نبي مث ً‬ ‫الليبرالي‬
‫العصرية‪ ،‬بأصولها اإلسالمية وه ّويتها‪ ،‬بوصفها اجتماع ًا إلرادة واسعة‪،‬‬
‫ال استعاد ًة لمفاهيم بالية ذات صفة طقوسية‪ ،‬تعطي الحق لشخص‬
‫بعينه‪ ،‬وتتص ّوره بط ً‬
‫ال قادر ًا على انتشال األمّة من وهدتها‪.‬‬

‫لكن مهادات األفكار التي تتوالد عنها األنظمة‪ ،‬وصياغات الدولة‬


‫العصرية‪ ،‬ال ُتفْ ِ‬
‫صح عن استيعاب عميق للمشكالت الحقيقية للمجتمعات‬
‫العربية‪ ،‬على ُص ُعد اجتماعية ‪ -‬اقتصادية ومعتقدية عامة؛ ولهذا فإن‬
‫تحققت‪ ،‬منذ الثالثينيات‪ ،‬لم تتجاوز اآلفاق النظرية‬
‫ْ‬ ‫االنتقالية التي‬
‫لجذب‬
‫ٍ‬ ‫لمفاهيم اله ّوية والقومية واألمّة‪ .‬وغالب ًا ما كانت هذه َت ْخضع‬
‫آخر‪ ،‬هو مجموعة من األفكار المقترنة بالدولة الروسية أو األلمانية أو‬
‫اإليطالية‪ ،‬عالو ًة على األوروبية األخرى‪ ،‬م ّرت عليه الروايات المدوّنة‪،‬‬
‫حينذاك‪ ،‬ك ّلما انتعشت األفكار والمشاريع الدولية‪ ،‬وتناقلها المثقّ فون‪.‬‬
‫فما بين مشروع الدولة الوطنية والقومية‪ ،‬وأسسها ومك ّوناتها‪ ،‬تلتقي‬
‫ش ّتى األفكار وتتقاطع‪ ،‬كما يَعرضها ذو النون أيوب‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬في روايته‬
‫نفسها في‬
‫َ‬ ‫وجدت‬
‫ْ‬ ‫«الدكتور إبراهيم» (‪ ،)1939‬فالنخب الفكرية‬

‫‪35‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫عشية نشأتها‪ ،‬أو عند مخاضات االستقالل‪،‬‬


‫ّ‬ ‫أثناء الدولة العصرية‪ ،‬أو‬
‫عت بين ش ّتى األطراف‪ ،‬ما بين‬
‫وتوز ْ‬
‫ّ‬ ‫غرفت بش ّتى اال ّتهامات‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وقد ُأ‬
‫ّ‬
‫ونازي‪ ،‬بحسب مصالح الطرف القادر على اال ّتهام ونوعية‬ ‫شيوعي‪،‬‬
‫ّ‬
‫قوي م ّتسع متداخل‪ ،‬للقوى الدولية المتطاحنة‪.‬‬ ‫تبعيته‪ ،‬في ّ‬
‫ظل نفوذ‬ ‫َّ‬
‫القومي‪ ،‬كساطع الحصري‪ ،‬يرفضون أسطورة‬
‫ّ‬ ‫أن دعاة الفكر‬
‫وعلى رغم ّ‬
‫األصول والدم‪ ،‬ويحيلون على اللغة والتاريخ عام َل ْين في تحديد ه ّوية‬
‫فإن الدكتور إبراهيم‪ ،‬بطل الرواية المذكورة يرى‬
‫األقوام والجماعات‪ّ ،‬‬
‫يتعصبون لقضايا الدم أ كثر‬
‫ّ‬ ‫العثمانيين من «بعض رجال المعارف»‬
‫الفارسي األصل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتعصب لها العرب األقحاح؛ فما كان منه‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬ ‫مما‬
‫القومي‪ .‬ويمكن أن نطالع تقاطعات‬
‫ّ‬ ‫إال أن اندرج مثلهم في الحقل‬
‫التوجه نحوه‬
‫ّ‬ ‫لكن الذي ينبغي‬
‫ّ‬ ‫متفاوتة في فئات ومواقف أخرى‪،‬‬
‫وتعمقها ك ّلما حصدت‬
‫ّ‬ ‫قراء ًة وتمحيص ًا هو طبيعة ظهور هذه الدعوات‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المنتفذة حصاد هذا الهذر الذي‬ ‫الفرد أو الجهة‬
‫ُ‬ ‫الدولة العصرية وراعيها‬
‫بمهمات النخب‪ ،‬بعيد ًا عن أصولها وتط ُّلعاتها‪ .‬وبينما يتط ّلب‬
‫ّ‬ ‫ينحرف‬
‫التعمق في المشكالت السياسية واالقتصادية ومسعى مواجهتها حرص ًا‬
‫ُّ‬
‫منتظم ًا ما بين النخب ووليدتها الدولة العصرية أو ّ‬
‫خليتها المحتملة في‬
‫ُ‬
‫تشتيت الجهد‬ ‫أثناء حروب االستقالل والمقاومة‪ ،‬جرى منذ وقت مبكر‬
‫واالنتباه‪ ،‬بعيد ًا عن المواجهة التي يح ِ ّتمها واقع تحديث المجتمعات‬
‫العربية وتهيئة نواة دولتها الديموقراطية‪ .‬وما يبدو طارئ ًا وهذر ًا‪ ،‬تعرضه‬

‫‪36‬‬
‫ِ‬
‫مهاد ما‬ ‫الرواية المذكورة‪ ،‬يمكن أن يُقرأ اليوم من زاوية أخرى؛ فهو وليد‬
‫المرشح‬
‫َّ‬ ‫ومؤسسات مختلفة‪ ،‬ليظهر الفضاء الثالثيني‬
‫َّ‬ ‫اشتغلت فيه أفكار‬
‫الجادة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لتغذية الدولة العصرية مليئ ًا باأللغام‪ ،‬عاز ً‬
‫ال للنخب الفكرية‬
‫منتهك ًا لها‪ ،‬واضع ًا إيّاها في منطقة الفراغ التي َّ‬
‫حذ َر منها مالك بن‬
‫ّ‬
‫النظري أو الفكر المج ّرد‪.‬‬ ‫نبي‪ ،‬عند ا ّتهامه المستعمر بمصارعة االنتظام‬
‫يقول ذو النون أيوب في الرواية التي صدرت عام ‪:1939‬‬

‫«وما يسري على الحكومات يسري على الزعماء ورؤساء الوزارات‬


‫والشخصيات البارزة‪ ،‬وحتى على المتك ِ ّلمين والخطباء والك ّتاب‪ .‬فلكل‬
‫اسم مي ُله واتجاهه ومبدؤه‪ :‬ففالن‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬فاشستي‪ ،‬وآخر إنكليزي‪،‬‬
‫شيوعي‪ ،‬وآخر طائفي‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نازي‪ ،‬وخامس‬ ‫وثالث عربي قومي‪ ،‬ورابع‬
‫والتصقت هذه المبادئ بالجرائد والمجلّات‪ ،‬وحتى بالكتب‪،‬‬
‫ْ‬ ‫إلخ‪.‬‬
‫ُ‬
‫األغراض الشخصية‬ ‫سواء أكانت علمية أم أدبية أم قصصية‪ .‬واستترت‬
‫وراء هذه الكلمات‪ ،‬وغدت أفعال تلك العبارات أسلح ًة ماضية بيد‬
‫األقوياء‪ ،‬يقاتلون بها‪ .‬يهاجمون ويدافعون‪ ،‬فيفوزون أو يندحرون‪ .‬أما‬
‫القضاء‪ ،‬والعدل‪ ،‬والكفاءة‪ ،‬والمحاكمة المنطقية‪ ،‬والعلم‪ ،‬والنزاهة‪،‬‬
‫فلم يعد لها أثر» (((‪.‬‬

‫ومثل هذا الوصف ال يحتاج إلى مزيد من التفصيل‪ .‬فخطاب الفئة‬

‫‪ - 1‬ورد االقتباس عند يوسف عز الدين‪ ،‬ص‪.218‬‬

‫‪37‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫عدته من شتى اال ّتهامات‪ ،‬لتكون‬


‫مهيمن هو اآلخر‪ ،‬يَستجمع ّ‬
‫ٌ‬ ‫الغالبة‬
‫هذه أداة التجريم واإلدانة؛ ولهذا‪ ،‬غالب ًا ما تنقاد أفعال الغالب إلى مثل‬
‫هذا الخطاب وتوالداته‪ ،‬فيجري التحريم والعقاب والقمع والتصفية‬
‫في تصاريف‪ ،‬ال مانع لها وال كابح‪ ،‬بما يعني ضياع الدولة ومسعى‬
‫النخب‪ ،‬وانفراطها في بؤر مُ دانة ومطرودة؛ فمثل هذا الخطاب ينبني‬
‫ا ّتهامه على أساس االفتراق عن «آخر» خصم‪ ،‬قائم أو محتمل؛ فال‬
‫يتأسس‬
‫َّ‬ ‫خطاب‬
‫ٌ‬ ‫المختلف وحده م ّتهم ًا يستحقّ التغييب ما دام‬
‫يغدو ُ‬
‫في تصاريح عدة‪ ،‬تشتبه في كل ما هو مجازي‪ ،‬قاب ً‬
‫ال للتأويل‪ .‬وماكان‬
‫نبوئي ًا أو مثير ًا للتأمُّل والتعددية االنتمائية (بين القراء) يغيظ المجموعة‬
‫المنتفذة وآمرها الدكتاتور الذي ال يرتضيه غير خطابه‪ .‬يقول محمود‬
‫درويش في استبطانه لعقل الغالب المتس ِ ّلط‪:‬‬
‫ُ‬
‫عروق الكالم‬ ‫جفتَ‬ ‫ُ‬
‫املفردات عن األلف‪ّ ،‬‬ ‫إذا زادت‬
‫وشاع فسادُ البالغة‪ ..‬وانتشر الشعر بني العوام‬
‫وصار على كل مفردة أن تقول‪ ،‬و ُت ْخفي ما حولها من غمام‬
‫فأن متدح الور َد معناه‪ :‬أنك تهجو الظالم‬
‫تتذكر َ‬
‫برق السيوف القدمية معناه‪ :‬أنك تهجو السالم‬ ‫وأن َّ‬
‫وأن تذكر الياسمني كثير ًا وتضحك معناه‪ :‬أنك تهجو النظام‬
‫ُ‬
‫احلكومة شنق املجاز ونفي األسى عن هديل احلمام‪..‬‬ ‫وال تستطيع‬
‫وبني الطباق وبني اجلناس تقول القصيدة مابيننا من حطام‬

‫‪38‬‬
‫ّ‬
‫املستقل‪ ،‬وتهرب من شرطتي يف الزحام‬ ‫وتنشئ عاملها‬
‫وتخلق واقعها فوق واقعنا‪ ،‬أو جت ّردنا من سياج املنام‬
‫ُّ‬
‫التدخل بني النيام‪..‬‬ ‫حلم اجلماهير فوضى‪ ،‬وال نستطيع‬
‫فيصبح ُ‬
‫أنا س ّيد احللم! ال جتلسوا حول قصري بغير الطعام‬
‫اإلباحي يف لغة من رخام‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وال تأذنوا للفراشات بالطيران‬
‫‪ ...‬فمن لغتي تأخذون مالمح أحالمكم م ّر ًة َّ‬
‫كل عام‬
‫‪ ..‬ومن لغتي تعرفون احلقيقة يف لفظتني‪ :‬حالل‪ ،‬حرام‬
‫فال تبحثوا يف القواميس عن لغة ال تكتفي بهذا املقام‪،‬‬
‫عم الفساد‪ ،‬وساد اخلراب‪.‬‬
‫فإن زادت املفردات عن األلف ّ‬
‫ألنّ الكالم الكثير غبا ُر الذباب‬
‫وأن نظام اخلطاب‬
‫(((‬
‫خطاب النظام‪..‬‬

‫‪« -1‬خطب الدكتاتور الموزونة» شعر محمود درويش‪ ،‬تقديم طلعت الشايب‪ ،‬مجلة «أدب‬
‫ونقد»‪ ،‬العدد ‪ 141‬مايو (آيار) ‪ ،1997‬صفحات ‪ ،128 - 97‬االقتباس ص ‪.126 - 125‬‬

‫‪39‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫الفصل الثاني‬
‫توالُ دات اخلطاب من النهضة إلى العصيان‬

‫ٍ‬
‫وهاو‪ ،‬وخالق لغة‪،‬‬ ‫وهامشي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كمنفي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫«ومن هنا كان تصويري للمثقَّ ف‬

‫يحاول قول الحق للسلطة‪».‬‬

‫إدوارد سعيد ‪ ،‬صوت المثقف‬

‫السياسي تتعاكس‪ ،‬بعنف‪ ،‬مع‬


‫ّ‬ ‫«الق ّوة الضخمة للخبراء ولسادة القرار‬

‫الالأهمية االجتماعية للمثقَّ فين‪ ..‬هكذا يكتسح التشاؤم واالستقالة‬

‫معظم المثقَّ فين‪».‬‬

‫محمد أركون‪ ،‬تاريخية الفكر العربي‬

‫‪40‬‬
‫ليس استقبال القرن الحادي والعشرين هو وحده الذي يُح ِ ّتم قراءة‬
‫مستجدة لمفاهيم النخبة والمثقَّ فين‪ ،‬في الحياة العربية‪ ،‬طيلة القرن‬
‫ّ‬
‫أن دخولنا هذا العصر من التح ُّوالت الكبرى‪،‬‬
‫العشرين‪ ،‬وذلك على رغم ّ‬
‫يتسبب في‬
‫َّ‬ ‫وما تعنيه من تراجع الحدود‪ :‬إعالمي ًا ومعلوماتي ًا‪ ،‬ينبغي أن‬
‫يقظة عنيفة إزاء الذات والهوية والمجتمع‪ ،‬تستتبعها تص ُّورات تستوعب‬
‫ولكن‪ ،‬وباستثناء الفعل‬
‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫والمتدفق‪ ،‬باستمرار‪ ،‬أو تتصارع معه‪.‬‬ ‫اآلتي‬
‫ّ‬
‫يؤكد تزايد التو ُّتر واالرتياب إزاء مفاهيم‬ ‫ثمة ما‬
‫التقني ومخابره‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫محط اهتمام‪ ،‬في ضوء واقع‬ ‫ومواقف‪ ،‬يبدو منتجو المعرفة‪ ،‬بموجبها‪،‬‬
‫الحال من جهة‪ ،‬والتعريفات التي تأتي بها نظريات خطاب ما بعد‬
‫االستقالل عالمي ًا‪ ،‬من جهة أخرى‪.‬‬

‫ِّ‬
‫والمفكر هو ما يلفت االنتباه‪ ،‬على رغم‬ ‫وليس التفريق بين المثقَّ ف‬
‫مب ِ ّررات ذلك ( ((‪ .‬كما ال تستنطق كثر ُة الكتابة في المفهوم الريب َة‬
‫إن كثرة الكتابات في‬
‫والتساؤل‪ ،‬على رغم مشروعية االستغراب؛ إذ ّ‬

‫‪ -1‬يراجع‪ -‬بخاصة‪ -‬في التفريق أعاله‪ :‬علي حرب في‪ :‬أوهام النخبة أو نقد المثقف‬
‫(بيروت‪ :‬المركز الثقافي العربي‪ ،)1996 ،‬سمير أمين‪ :‬بعض قضايا للمستقبل (القاهرة‪:‬‬
‫مكتبة مدبولي‪ ،)1991 ،‬الحضارة واالغتراب‪ ،‬لعزيز السيد جاسم (بيروت‪ :‬دار االندلس‪،‬‬
‫‪ ،)1987‬وبالطبع‪ ،‬صور المثقف‪ ،‬ألدوارد سعيد (بيروت‪ :‬دار النهار‪ .)1996 ،‬وأحيل‪-‬‬
‫أيض ًا‪ -‬على حوار أجراه فاروق البقيلي في جريدة البيان (الثقافي)‪ -‬دبي الدولية ‪ -‬مع عزيز‬
‫السيد جاسم‪ ،‬تم في عام ‪ ،1985‬وظهر تباع ًا‪ ،‬منذ ‪ 31‬تشرين األول‪/‬أ كتوبر (عدد ‪،)5979‬‬
‫‪ ،1996‬ص‪.30‬‬

‫‪41‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫مكانة المثقَّ فين وصورهم وأدوارهم وافتراقاتهم عن أية سلطة ّ‬


‫ماديّة أو‬

‫فثمة‬
‫معنوية‪ ،‬أو اندماجهم معها‪ ،‬ال تعني وضوح الحال ويسر المنال‪ّ ،‬‬
‫تو ُّتر تنطوي عليه لغة المناقشة‪ ،‬يُفْ صح عن عصابية وانشداد وانفصامات‬

‫تنفي‪ ،‬ضمن ًا‪ ،‬استقرار المفهوم‪ ،‬كما تومئ با ّتجاه محنة حقيقية ال تقوم‬

‫بين المثقَّ فين والسلطات المختلفة‪ ،‬أو بين العائلة والفئات واألحزاب‬

‫والمجتمعات والحكومات والرأي العام فحسب‪ ،‬إنما بين المثقَّ فين‬

‫أن «العصابية» واالنشداد‪ ،‬بوصفهما سمتين واضحتين‬


‫أنفسهم‪ .‬ذلك ّ‬
‫في الجدل والسرد وإيجازات القصيدة وتوقيعاتها اليوم‪ ،‬يعلنان‪ ،‬ضمن ًا‪،‬‬

‫العربي‪ ،‬وتو ّرمه الذي يكاد ينفجر في أ كثر‬


‫ّ‬ ‫احتقان الخطاب الثقافي‬

‫من موضع‪ ،‬وبأ كثر من صيغة وعالمة‪.‬‬

‫وهي‪ ،‬كذلك‪ ،‬ال بسبب ما تنطوي عليه من حسرة ك ّلما جرت المقارنة‬

‫بماض‪ ،‬لم تزل الدولة فيه قيد التكوين‪ ،‬متصالحة مع النخب‪ ،‬أخذة‬
‫ٍ‬

‫متهيبة حضورها‪ ،‬ضمن وعيها بإيجابية المركز االستعماري‬


‫ّ‬ ‫عنها ومنها‪،‬‬

‫في حدود منجزه المعرفي واحترامه لمثقَّ فيه (((؛ فهذه الحسرة تتك ّرر‪،‬‬

‫للمثقفين‪ ،‬وال المشكالت التي انطوت‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬


‫النازي‬ ‫‪ -1‬وال يعني ذلك تجاهل االضطهاد‬
‫َّ‬
‫عليها الشراكة في الثورة الفرنسية‪ .‬ولكنّ إحاالت الك ّتاب والمثقفين العرب اتّجهت نحو‬
‫ّ‬
‫االستعماري‪ ،‬وال س ّيما بريطانيا وفرنسا‪ ،‬قبيل استقبال آثار‬ ‫حضورهم الفاعل في المركز‬
‫المثقفين الروس الحق ًا‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪42‬‬
‫لكن عصابية اللغة‪ ،‬في مجموعات‬
‫ّ‬ ‫باستمرار‪ ،‬في غير مقال وسجال (((‪.‬‬
‫ّ‬
‫تشكل خطاب االمتعاض الثقافي‪ ،‬تندرج عند نقطتين‪ :‬أوالهما‬ ‫هائلة‪،‬‬
‫تخص تعامالت المثقّ فين‪ ،‬بعضهم مع بعض‪ ،‬وهم في داخل السلطة‪،‬‬
‫ّ‬
‫بمواقعها ومعانيها المختلفة‪ ،‬أو خارجها‪ .‬فبين الثأر واال ّتهام والتشفّ ي‬
‫والغدر واالنكفاء على الذات‪ ،‬تتشظّ ى قصائد وقصص وروايات‬
‫ومقاالت‪ ،‬وتنغرس لغاتها في أخرى‪ ،‬كما لم يحصل من قبل‪ ،‬وعندما‬
‫نقرأ هذه في ضوء النخبة واالنشقاق‪ ،‬كما يتأ ّتى الحق ًا‪ ،‬يمكن أن‬
‫ُ‬
‫مهادات العصيان التي تنقاد إليها الثقافة‪ ،‬ال بمواصفات‬ ‫تتبدى أمامنا‬
‫ّ‬
‫نتواطأ عليها‪ ،‬إيجاب ًا‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬وإنما بصفتها االفتراضية المتفاوتة‬
‫ِّ‬
‫وتبشر بآخر‪.‬‬ ‫المكتظّ ة المتعاكسة‪ ،‬التي قد َت ْدحض شيئ ًا‪،‬‬

‫الثقافي‪ ،‬فتتأتى من المصافحة‬


‫ّ‬ ‫أما ثانية النقطتين في خطاب االمتعاض‬
‫المستجدة التي يستيقظ عندها المثقّ فون بمزيد من االرتباك والتبعثر‬
‫ّ‬
‫والتق ُّلب واالنهماك والمرارة والشكوى والرغبة في آن واحد؛ فالصنيع‬

‫ّ‬
‫الفكري ومناخ الح ّريّات بعد ‪،1919‬‬ ‫‪ -1‬يراجع ما يقوله نجيب محفوظ بشأن االزدهار‬
‫وتراجعات ذلك بعد ‪ ،1952‬في كتاب فؤاد د ّوارة «نجيب محفوظ‪ :‬من القومية إلى‬
‫نفسه عن‬
‫ُ‬ ‫العالمية» (القاهرة‪ :‬الهيئةالمصرية‪ ،)1989 ،‬ص ‪ .244 - 242‬ويقال األمر‬
‫ثورات مماثلة في العراق وغيره‪ .‬ويراجع‪-‬أيض ًا‪ -‬سماح إدريس «المثقف العربي والسلطة»‬
‫(بيروت‪ :‬دار اآلداب‪ .)1992 .‬ويكتب مصطفى عبدالغني مستنتج ًا «أنّ المثقفين في‬
‫عقد العشرينيات كانوا أ كثر طواعية في فرض فكرهم‪ ،‬ال س ّيما من القصر‪ ،‬وهو ما ال نجده‬
‫في عقد األربعينيات‪ ،‬حيث قلت هيمنة قوى االحتالل على النظام‪ ،‬وزادت نوازع الملك‬
‫األوتوقراطية»‪ ،‬المثقفون وعبدالناصر (القاهرة‪ :‬دار الصباح‪ ،)199 ،‬ص‪.64‬‬

‫‪43‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫الذي شاركوا في صياغته وتكوينه (دولة عصرية) ال يستق ّر على حال‪،‬‬


‫وال ينتهي عند مآل‪ ،‬ولربما يتنامى هنا‪ ،‬وينهار‪ ،‬هناك‪ ،‬فال َت ْنفع‬
‫ُ‬
‫مقترحات التجسير الكثيرة المقترحة لرأب الصدع إال عندما تتيسر‬
‫المناخات شبه الح ّرة (((‪ .‬وال تبدو مقترحات سعد الدين إبراهيم بشأن‬
‫والخشبي‪ ،‬غير تبريرات ذرائعية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والفضي‪،‬‬ ‫الذهبي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الجسور الثالثة‪:‬‬
‫لواقع الحال في مناخات ال تسمح بتصفية المثقَّ ف‪ .‬فاالعتراف بالوظيفة‬
‫االجتماعية قائم وموجود‪ ،‬وقد يندرج المثقَّ فون في الشراكة شريطة‬
‫فضي م ُوصل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أال تستعديهم الدولة‪ .‬أما التورية أو االلتفاف‪ ،‬كجسر‬
‫فلربّما يتحقَّ قان‪ ،‬نسبي ًا‪ ،‬كلما اضط ّر المثقّ ف إلى اإلذعان والمسايرة‪.‬‬
‫الخشبي‪ ،‬الذي ال يبتغى أ كثر من الحيلولة دون القهر‪ ،‬فال‬
‫ّ‬ ‫وأما الجسر‬
‫يتأ َّكد إال إذا ما ضمنت السلط ُة مصلحتها في عدم اعتماد الممارسة‬
‫المذكورة ( ((؛ أي ّ‬
‫أن الجسور تحيل على المجتمعات السياسية التي‬
‫يفترق عنها المثقَّ فون أص ً‬
‫ال‪ ،‬فال َتؤول‪ ،‬في النتيجة إلى أ كثر من كونها‬
‫انحرافات عن أدوارهم‪ .‬فالدولة الليبرالية ليست بحاجة لهذه‪ ،‬أما دولة‬
‫التقليدي فإن لجوءها إلى القهر يتحقَّ ق عندما يتع َّرض رأيُها‬
‫ّ‬ ‫الخطاب‬

‫َّ‬
‫المثقفين في هذه الثورة ويراجع سماح إدريس‪ ،‬وإحالته‬ ‫‪ -1‬تكثر اإلشارات إلى مشاركة‬
‫ً‬
‫مثال‪،‬‬ ‫على لويس عوض وعبدالرزاق حسن‪ ،‬وكذلك تأثيرات حزب الوفد في ثورة ‪1952‬‬
‫في كتاب إدريس المذكور سابق ًا‪ ،‬ص‪ .35 - 34‬وبشأن العراق‪ ،‬وثورة ‪ ،1958‬يراجع كتاب‬
‫«الذاكرة التاريخية» (بغداد‪ :‬منشورات الشؤون الثقافية ‪ -‬آفاق عربية‪.)1985 ،‬‬
‫المثقفين ما بين حرق الجسور عند ميخائيل نعيمة‬‫َّ‬ ‫‪ -2‬ويختصر سماح إدريس مواقف‬
‫ورئيف خوري‪ ،‬وإقامة جسور عند سعد الدين إبراهيم‪ ،‬وانتقادات إيليا حريق ومحمود أمين‬
‫العالم‪ ..‬إلخ‪ .‬ص‪ 24 - 20‬من كتابه المذكور‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫أخصت هذه المناقشة الوالدات المستحدثة‬
‫ّ‬ ‫العام المعلن لله ّزة‪ .‬وسواء‬
‫تعاملت مع الدولة‬
‫ْ‬ ‫اقتصادي ًا عن المشايخ واإلقطاعات السابقة‪ ،‬أم‬
‫أ كثر‬ ‫العصرية الطموح‪ ،‬فإنها تعني النخبة‪ ،‬بوصفها «مرجعية ثقة»‬
‫ (((‬

‫ِّ‬
‫معنية بأولئك الذين يصيحون مع جوليان بندا‪« :‬مملكتي‬ ‫من كونها‬
‫ليست من هذا العالم» (((‪.‬‬

‫فاالختالف مع السلطة يبقى ميزة المثقَّ ف عند بندا في التحليل‬


‫«مكدر ًا للصفو العام» عند إدوارد سعيد‪ .‬إنه‬
‫ّ‬ ‫النهائي‪ ،‬كما أنه سيغدو‬
‫صنو المتص ِ ّوف الذي «إذا ن ََطقّ كان كالمُ ه عين حاله»‪ ،‬كما يحيل‬
‫عزيز السيد جاسم كالم «ذو النون المصري» المذكور على قصائد‬
‫البياتي ( ((‪ .‬وال تخرج عن ذلك متابعة مصطفى عبدالغني الحتضان‬
‫المثقَّ ف المعاصر لـ «قيم المتص ِ ّوف القديم» (((‪.‬‬

‫المثقف‪ ،‬ص‪ . 16‬وكذلك عند ‪ Benda‬في ‪The Treason of the‬‬ ‫َّ‬ ‫‪ -1‬سعيد‪ ،‬صور‬
‫‪ .Intellectuals‬وبحسب مارتن لبست ‪ Lipest‬فإن التعريف يتحدد بإنتاج األفكار‬
‫وبمنتجيها‪«:‬فالمثقفون هم أولئك الذين يخلقون الثقافة ويوزعونها ويستخدمونها تطبيق ًا‪،‬‬
‫بصفتها عالم اإلنسان الرمزي‪ ،‬وضمنها الفنّ والعلم والدين»‪ .‬ولهذا يأتي عند ‪Christian‬‬
‫المثقفين ُيلزمنا‪ -‬أيض ًا‪ -‬أن نتعامل بجدية‪ ،‬مع منتوجهم‬
‫َّ‬ ‫‪ Joppke‬ما يعني «أنّ التأ كيد على‬
‫الخاص‪ -‬أي األفكار»‪ .‬المقتبس عن لبست في كتابه «اإلنسان السياسيّ » (بالتميور‪ :‬جامعة‬
‫جونز هوبكنز)‪ ،‬الصادر عام ‪ .1959‬وعند ‪ Joppke‬في «‪»Intellectuals,Nationalism‬‬
‫في مجلة‪:‬‬
‫‪ in Society&History Comparative Studies‬العدد ‪ ،37‬نيسان‪/‬إبرايل ‪ ،1995‬ص‪.213‬‬
‫‪ -2‬سعيد‪ ،‬مصدر مذكور ص‪ ،29 ،23‬بالنسبة إلى المقتبس عينه‪.‬‬
‫‪ -3‬االلتزام والتصوف في شعر عبدالوهاب البياني (بغداد‪ :‬الثقافية‪ )1990 .‬ص‪ .228‬‬
‫‪ -4‬عبدالغني‪ ،‬ص‪ .57‬‬

‫‪45‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫خطاب االمتعاض‬
‫ٍ‬
‫وهاو»‪ ،‬كما يقترحه إدوارد‬ ‫وهامشي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كمنفي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إن الوعي بـ «المثقَّ ف‬
‫ّ‬
‫سعيد حين يبني‪ ،‬جزئي ًا‪ ،‬على «غرباء» ماثيو أرنولد الخارجين غير‬
‫المحكومين بمصلحة أو فئة‪ ،‬يَضطرنا إلى قراءة خطاب االمتعاض من‬
‫أهم ّي ًة عن تلك التي تنطلق منها تبعية أفواج منهم‬ ‫عدة ال ّ‬
‫تقل ّ‬ ‫زوايا ّ‬
‫لـ «جوهرية» أو «مركزية» حزبية أو فئوية أو دينية‪ ،‬يدين‪ ،‬بموجبها‪،‬‬
‫االنشقاق وتم ُّثالته من دون سعي للتع ُّرف إلى اآلخر‪ ،‬الغريب المظلوم (((‪.‬‬
‫هؤالء وأمثالهم ممن يحيدون عن مهمة المثقَّ فين‪ ،‬ينطبق عليهم ما‬

‫المثقفين عن مهماتهم‪ ،‬في سياق ما يسميه بندا «خيانات‬ ‫َّ‬ ‫‪ - 1‬وتكثر الشواهد على تباعدات‬
‫المثقفين»‪ ،‬أو في سياقات تجاهل المهمات االنية البادية التي تخص حضورهم المفترض‪،‬‬ ‫َّ‬
‫لكنّ األم ّر والمحزن هو التشفي والصمت عندما يتعرض ر ّواد االنشقاق لقهر خصم مشترك‪.‬‬
‫وتتعدد األمثلة والشواهد‪ .‬فثمة كيد عتيق‪ ،‬وثمة انزعاج من رؤية آخر أ كثر انسجام ًا مع‬
‫مهماته الثقافية ومبادئه‪ .‬ولهذا يصمت «المريض» إزاء المثقف الشهيد أو السجين‪ ،‬وتكتب‬
‫فاطمة المحسن في فضح ظاهرة الصمت‪ ،‬في مقال ظهر في جريدة «الحياة»‪ 31‬كانون‬
‫األول‪/‬ديسمبر ‪1996‬عن المفكر العراقي السجين عزيز السيد جاسم‪ .‬لكنها في المناخ‬
‫السائد بين المغتربين ال تجد خالص ًا كلي ًا من تبعات آراء هؤالء المتفاوتة وصراعاتهم‪ .‬ولهذا‬
‫لم تتمكن من تخطي الحاجز الذي لم يزل يتأسس منذ مطلع السبعينيات عند المهاجرين‬
‫العراقيين‪ ،‬فتقول‪ ،‬من دون قصد فعليّ بما تعرضه اللغة كمكبوت‪« :‬ومثاله نادر في الكيفية‬
‫الكاتب أن يوظف ّ‬
‫كل شاردة وواردة من قراءاته في تضاعيف أفكار تو ِ ّلد‬ ‫ُ‬ ‫التي يستطيع فيها‬
‫أفكار ًا‪ ،‬كما أنّ الحروب في العراق واحدة تلد األخرى»‪ .‬نالحظ هنا أن التشبيه األخير سلبي‬
‫وملغوم‪ ،‬يسقط صفة السلب على اإلشارة األولى‪ .‬ومع ذلك تختلف هذه الكتابة الشجاعة‬
‫عن أخرى‪ ،‬إذ ينشر السيد سامي مهدي كتاب ًا بعنوان «الموجة الصاخبة» عام ‪ ،1993‬يتناول‬
‫فيه مقاالت الشعر الستينية العراقية‪ ،‬ويمر على مقاالت عزيز السيد جاسم فيصفها بأنها مهمة‬
‫في قضية الشعر الحر؛ أما وأن كاتبها سجين منذ ‪ ،14/4/1991‬فإنّ الشاعر يتجنب ذكر‬
‫اسمه‪ ،‬ويكتفي باإلشارة إليه بأنه «كاتب آخر»! والخطأ هنا هو استخدام الشعراء والك ّتاب‬
‫أدواتهم في الحذف والتصفية التي تقابل سلطة الجور أو السجن والقتل‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫مهمتهم» بصفته «السمة السائدة في‬
‫ّ‬ ‫يسميه «انحراف المثقَّ فين عن‬
‫ّ‬
‫معظم األحيان» (ص‪.)33‬‬

‫الجمعي إلى الوريث‬


‫ّ‬ ‫من األمير‬

‫ومحنة هؤالء هي أنهم ينغلقون إزاء احتماالت انكفاء الفئة الطليعية‪،‬‬


‫أو الحزب وأمثاله‪ ،‬لعشرات األسباب التي تستبعد‪ ،‬طواعي ًة أو اضطرار ًا‪،‬‬
‫حزب الطبقة العاملة‪ ،‬أو بديله‬
‫ُ‬ ‫مثقَّ فيه غير المحترفين‪ ،‬فاألمير الجديد‪،‬‬
‫ال ‪ -‬كما يعرضه‬ ‫َّ‬
‫يتشكل أص ً‬ ‫المقترح في األحزاب الماركسية أو القومية‬
‫الحس العام‪ ،‬عق ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫حتمي لحال‬
‫ّ‬ ‫مستجد‬
‫ّ‬ ‫غرامشي ‪ -‬بمثابة استجماع‬
‫اجتماعي ًا‪ ،‬وجمعي ًا ضامن ًا للحقيقة‪ ،‬قد يؤول إلى بيروقراطية منغلقة‬
‫يتوقّ ف تفاع ُلها مع الجمهور‪ ،‬مصدر حضوره‪ .‬وإزاء هذا االنقطاع عن‬
‫جذر حياته لم يعد حزب ًا طليعي ًا‪ ،‬وإنما ش ّلة إلدارة المصالح وتناقل‬
‫اآلراء ما بين المركز واألطراف (((‪ ،‬بموجب األوامر والتعليمات التي‬

‫‪ -1‬بالنسبة إلى اإلشارات إلى غرامشي‪ ،‬يراجع كتاب «غرامشي وقضايا المجتمع المدني»‬
‫(دمشق‪ .‬دار كنعان‪ ،)1991 ،‬ص‪ .219 - 215‬أما شرطية حضور المثقفين المنضوين في‬
‫الطبقة المهيمنة فهي لزوم إنتاج فلسفة ونظرية سياسية واقتصادات تؤلف مع ًا وجهة نظر‬
‫شاملة متسقة‪ ،‬تسهّ ل ترجمة مبادئها من حقل إلى آخر‪ ،‬بحيث تنسجم طموحات الجماعة‬
‫التي يخدمونها مع مصالح المجتمع بر ّمته‪.‬‬

‫يراجع مقال ‪ Enrico Augelli‬و‪ Craig Murphy‬بعنوان «غرامشي والعالقات الدولية» في كتاب‪:‬‬
‫‪Gramsci,Historical Materalism and International Relation.Ed.Stephen‬‬
‫‪Gill (Cambridge U.P. 1993.p.131).‬‬

‫‪47‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ِّ‬
‫يشخص عزيز السيد‬ ‫حصة كبيرة‪ ،‬كما‬
‫تأخذ فيها التوصيات واإلدانات ّ‬
‫جاسم ذلك في أبرز قراءاته ألمراض الحركات السياسية في العالم‬
‫الثالث ( ((‪ .‬إذ ينبغي أن يجد المثقَّ ف نفسه عند مفترق الطرق‪ :‬فال‬
‫تعددت أدوات‬
‫الحزب ضامن للحقيقة‪ ،‬وال الجماهير لصيقة به‪ ،‬مهما َّ‬
‫الخديعة‪ ،‬وتباينت عندما يكون مالك ًا للسلطة‪ ،‬ما بين دعاية وإعالم‬
‫وتسويف وخديعة‪ .‬فالمثقَّ ف يتباعد‪ ،‬لزام ًا‪ ،‬عن أية مرجعية نخبوية أو‬
‫اقتران‪ ،‬شأنه شأن المسكونين بالتص ُّوف‪ ،‬غريب ًا يح ِ ّتم االنفصام المذكو ُر‬
‫المدرسي أو مجت ّر ًا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التقليدي أو‬ ‫اغترابه؛ فهو ليس مسترجع ًا للخطاب‬
‫الميتافيزيقي من دون أن يح ِ ّتم ذلك انقطاعه‬
‫ّ‬ ‫له‪ ،‬كما أنه يعيش منفاه‬
‫ِّ‬
‫محقق ًا انتماءه البديل في‬ ‫ّ‬
‫الفكري اللصيق بحياة الناس‪،‬‬ ‫عن مشروعه‬
‫يتموضع بين األشقياء والغرباء والصعاليك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الكتابة الممكنة‪ ،‬وإال فإنه‬
‫كما فعل غي ُره‪ ،‬من ُ‬
‫قبل‪ ،‬في التاريخ‪ ،‬مسترجع ًا إياهم‪ ،‬مستأنس ًا بهم‪ ،‬في‬
‫صحبة مدوَّنة هي بمثابة تطويع تاريخي لشرعية االنتماء ما بين سقراط‪،‬‬
‫والشريف الرضي‪ ،‬وعبد األمير الحصيري والرصافي‪ ،‬كما يفعل عزيز‬
‫السيد‪ -‬جاسم‪ -‬أيض ًا في مجموعة الكتب التي توالت له‪ ،‬كأنها تلك‬
‫يسميها أدورنو «الكتابة مكان ًا للعيش»‪ .‬بحسب ما ينقله إدوارد‬
‫ّ‬ ‫التي‬

‫‪ -1‬يراجع‪« :‬الثوري الالثوري‪ ،‬واالنتهازية في العمل السياسي‪ ،‬والبيروقراطية» (بغداد‪:‬‬


‫دار األديب ‪ ،)1970‬و«هل التطور الرأسمالي حقيقة أم وهم؟» (بيروت‪ :‬دار الطليعة‪،‬‬
‫‪ ،)1976‬و«المجالسية بين النظرية والتطبيق»‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‪.)1973 ،‬‬

‫‪48‬‬
‫سعيد مصادق ًا (ص‪ ،67‬من «صور المثقَّ ف») ( ((‪ .‬فالمثقَّ فون ليسوا‪،‬‬
‫بالضرورة‪ ،‬بين «الموالين» و«االنتهازيين» و«االعتذاريين» الذين‬
‫يتابع سماح إدريس حضورَهم في المدوّنة السردية الحديثة في مصر‪،‬‬
‫ولكن‪ ،‬يمكن أن يكونوا «رافضين» و«هروبيين»‪،‬‬
‫ْ‬ ‫منذ ثورة ‪.1952‬‬
‫المس َتعدين أو المرفوضين‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬فاألنماط األخيرة من الخوارج‬
‫وبين ُ‬
‫يوحدها غي ُر موقفها‪ ،‬بما يتطابق مع‬
‫جامع‪ ،‬وال ّ‬
‫ٌ‬ ‫هي التي ال يجمعها‬
‫ّ‬
‫الفطري عثرة‬ ‫تخصيصات سعيد بوجوب أال يكون االنتماء أو الوالء‬
‫في طريق رأي المثقَّ ف أو موقفه‪ .‬أما «تغيير اآلراء تبع ًا للظروف» أو‬
‫المتأخرة» فك ّلها من‬
‫ّ‬ ‫والردة‬
‫ّ‬ ‫الوطني‬
‫ّ‬ ‫والتبجح‬
‫ُّ‬ ‫«التزام الصمت الحذر‬
‫مواصفات انتفاء الصفة ال حضورها (ص‪.)14‬‬

‫ّنات االمتعاض كلما تأ ّكدت االنفراطات ما بين النخب‬


‫وتتأزم مدو ُ‬
‫ّ‬
‫الحس‬
‫ُّ‬ ‫والجمهور‪ .‬كما أنها تتفاقم‪ ،‬تو ُّتر ًا أو انشداد ًا‪ ،‬عندما يطالها‬
‫بالغدر والخيانة والخديعة والتل ُّوث بعد انكشاف وريثي المستعمِ ر؛‬
‫فينكبون على آليات‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫أي أولئك الذين تنتهي إليهم مركزية األحزاب‪،‬‬
‫النخب وأفكارها‪ ،‬بمهارة المحترف وحرص المهووس‪ ،‬فيجمعون هذا‬
‫َ‬

‫ْ‬
‫وظهرت لعزيز السيد جاسم مجموعة متالحقة من الكتابة بصفتها مدونة لالنتماء‪،‬‬ ‫‪-1‬‬
‫أبرزها‪ :‬الحضارة واالغتراب (بيروت‪ :‬دار االندلس‪ ،)1987 ،‬االغتراب في حياة الشريف‬
‫الرضي وشعره (بيروت‪ :‬دار االندلس‪ ،)1987 ،‬ديوان عبداألمير الحصيري‪ :‬جزءان (بغداد‬
‫الثقافية‪ ،)1987 ،‬الرصافي الخالد (بغداد‪ :‬العبايجي‪ ،)1990 ،‬علي بن أبي طالب‪ :‬سلطة‬
‫الحق (بيروت‪ :‬اآلداب‪1988 ،‬؛ ط‪ ،2‬بيروت‪ :‬دار االنتشار العربي‪.)1997 ،‬‬

‫‪49‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫بذاك‪ ،‬متجاوزين المعروف والمتداوَل في تصانيف البلدان واألركان‬


‫والسلطان‪ ،‬ومنزلقين‪ ،‬ذهن ًا‪ ،‬نحو اعتبارات تاريخانية التحديث‪ ،‬آخذين‬
‫لبوس شخوص التاريخ أو خلفائه تحديد ًا‪ ،‬فيستعيدونهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫عنها‪ ،‬فقط‪،‬‬
‫جامعين لكل بأس وقوة ومال‪ ،‬في أيديهم‪ ،‬متم ِ ّثلين آراء في التحديث‪،‬‬
‫ّ‬
‫المادي والتسامي‬ ‫من هنا وهناك‪ ،‬يمين ًا ويسار ًا‪ ،‬عازمين على التسامي‬
‫المعنوي‪ ،‬بما يعني تعظيم اله ّوة في المجا َل ْين‪ ،‬بينهم وبين النخب‬
‫ّ‬
‫شاركت في تصعيدهم‪ ،‬وكذلك بينهم وبين الجمهور الذي ينسحق‬
‫ْ‬ ‫التي‬
‫مهمة تشريح‬
‫ّ‬ ‫يؤدي‬
‫بأساليب‪ ،‬لم تخطر في بال فرانز فانون‪ ،‬حين كان ّ‬
‫ّ‬
‫«معذبو األرض» (((‪ :‬فالوريث ال يأبه‬ ‫المستعمِ ر ووريثِه المحتمل في‬
‫فعلي‪ ،‬ألنه يس ْتجمع المال والجاه‬
‫ّ‬ ‫طليعي‬
‫ّ‬ ‫لقانون أو دستور أو حزب‬
‫التاريخي المش ّوه‪ ،‬آخذ ًا عن فتات إيديولوجية متفرقة؛‬
‫ّ‬ ‫والقوة والمراد‬
‫يتمكن من قطع مسافة التحايل من دون االبتداء من حضور‬ ‫َّ‬ ‫لكنه ال‬
‫النخب المثالية‪ ،‬بتص ّوراتها وأخيلتها التي ي ّتسع مجا ُلها لتنامي‬
‫ُ‬ ‫يس َرت ُه له‬
‫َّ‬
‫القديسين واألبالسة‪ ،‬في ٍ‬
‫آن واحد‪.‬‬ ‫ّ‬

‫المستقبلي من دون أن نتأمّل ذلك‬


‫ّ‬ ‫فهم الحاضر وفعله‬
‫َصعب ُ‬
‫من هنا‪ ،‬ي ْ‬
‫يقدمه الماضي‪ ،‬بِ ُن َخبه‪ ،‬في مقاالت وكتب‬
‫ّ‬ ‫«الغدر البريء» الذي‬

‫‪ -1‬وفي هذه القراءة تُستخدم طبعة دار الطليعة‪ :‬ترجمة سامي الدروبي وجمال األتاسي‬
‫(‪ ،1963‬ط‪ .)1984 ،5‬بينما تُستخدم مقدمة سارتر الواردة في الطبعة اإلنجليزية بترجمة‬
‫كونستانس فارينغتون‪.)N.Y.: Grove Press. 1963.1968( :‬‬

‫‪50‬‬
‫المهيأة في نفسية هذا الوريث‬
‫ّ‬ ‫أسهمت في تشكيل المادة‬
‫ْ‬ ‫وحوارات‬
‫نخب أخرى في اإلتيان باألجواء الليبرالية‬
‫ٌ‬ ‫شاركت‬
‫ْ‬ ‫والكامنة عنده‪ .‬وكما‬
‫ٍ‬
‫حركات وأفكار ًا نخبوية أخرى جاءت بِ وِ الدات مش َّوهة‬ ‫فإن‬
‫والدستورية‪ّ ،‬‬
‫ردته إزاء‬
‫لكن خطورة هذا الوريث تكمن في عنف ّ‬
‫ّ‬ ‫ومريضة أيض ًا‪،‬‬
‫الذاتي والمركزية‬
‫ّ‬ ‫حاضر يمضي في ا ّتجاه آخر يتف ّتت عنده التمحور‬
‫و«البطولة» المنشودة‪ ،‬بما يبقي العصابي مأزوم ًا بين خياله المليء‬
‫ّ‬
‫كسجل ألفعال شخصية خارقة‪ ،‬وبين مغازلة المستفيدين‬ ‫بعقدة التاريخ‬

‫ِّ‬
‫متوهم ًا غَ َز َلهم إذعان ًا ورضوخ ًا واعتراف ًا‪ .‬وما بين األمرين‪،‬‬ ‫من وجوده‪،‬‬
‫الداخلي؛ فالوريث ينظر‪ ،‬با ِ ّتهام‪ ،‬إلى ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫التأزم‪ ،‬ومعه القهر‬
‫ُّ‬ ‫يشتد‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫المتحكم في الذهن وأخيلته‪ ،‬والذي‬ ‫صوت نشاز يتباين مع المراد‬
‫تتك ّرر أصداؤه في أوراق المستفيدين وأصواتهم‪ ،‬داخ ً‬
‫ال وخارج ًا‪.‬‬

‫ثمة م َْن‬
‫مادة غزير ٌة قيد االستعمال بين هذه األطراف‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫تتشكل ّ‬ ‫وإذ‬
‫يعيد تبويبها في مجريات الصور المك َّررة عن «الشرق» و«العقل»‬
‫العربي واإلسالم ( ((‪ ،‬بصفتها امتداد ًا لسياقات الدموية واالستبداد‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫يشك ُل مفردات‬ ‫ّ‬
‫وكل ما‬ ‫والخبل والقهر والعدوانية والعنف واإلسراف‬
‫ّ‬
‫االستعماري؛ من هنا تأتي ضرورة وضع هذه الوالدة العصابية‬ ‫الخطاب‬

‫كتاب المؤ ّلف «االستشراق في الفكر العربي» (بيروت‪:‬‬


‫ُ‬ ‫‪ -1‬ويراجع‪ ،‬بصدد هذا األمر‪،‬‬
‫المؤسسة العربية للدراسات‪.)1993 .‬‬

‫‪51‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫في سياقها‪ ،‬مقارنة بِ وِ الدات مغايرة تؤمن بالشرعية الدستورية واألجواء‬


‫ف من أجله‪ :‬المعرفة‪ ،‬والح ّريّة‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وبكل ما يقف المثقَّ ُ‬ ‫الليبرالية‪،‬‬

‫إن قدرة بعض المثقَّ فين على المكوث في ذهن العامّة‪ ،‬على رغم‬
‫ّ‬
‫ضدهم‪ ،‬ال تتأ ّكد إال بصفتها حاجة الناس إلى الحلم‬
‫التشويهات الكثيرة ّ‬
‫وإمكانات التحقّ ق التي ال يضمنها الواقع‪ .‬وك ّلما تباعد المثقَّ فون عن‬
‫السياسي‪ ،‬أو تع ّرضوا للمكيدة‬
‫ّ‬ ‫«المصلحة»‪ ،‬أو تعا َل ْوا على المجتمع‬
‫ُ‬
‫أمثال هذا‬ ‫والموت‪ ،‬ضمنوا التحاقهم بالحلم‪ .‬ومنذ النهضة حضر‬
‫المثقَّ ف في ذهن الجمهور‪.‬‬

‫بخاصة‪ ،‬كانت له‬


‫ّ‬ ‫األوروبي‬
‫ّ‬ ‫إن مثقّ ف النهضة‪ ،‬ذلك العائد من الخارج‬
‫رسالتان‪ :‬إحداهما تروم بلوغ ذوي األمر‪ ،‬وتستطلع األخرى احتماالت‬
‫العالقة المباشرة بالعامّة أو بالجمهور المتع ِ ّلم منها‪ .‬لكنه‪ ،‬بين‬
‫الرسالتين‪ ،‬يقيم حواره المستمر مع الجانبين‪ ،‬مشيد ًا جسوره الكثيرة‪،‬‬
‫الخاص‪ ،‬الذي غالب ًا ما‬
‫ّ‬ ‫ال لنفسه كيانه‬ ‫ِّ‬
‫مشك ً‬ ‫ما بين المسايرة والرفض‪،‬‬
‫يتجاوز لحظات استهالك ذاته ك ّلما استعان بخطاب الحلم والطموح‪-‬‬
‫وهو الخطاب الذي يتعالى على واقع الحال‪ -‬بينما يحيد بنفسه عن‬
‫األنظمة السياسية‪.‬‬

‫السياسي‪ ،‬والحاكم منه‪ ،‬تحديد ًا‪ ،‬أو‬


‫ّ‬ ‫وعندما نستثني مثقَّ في المجتمع‬
‫ليبرالي‬
‫ّ‬ ‫ذلك المتناوب معه‪ ،‬تتفاوت فاعلي ُة المثقَّ فين العرب‪ :‬ما بين‬

‫‪52‬‬
‫األدبي‬
‫ّ‬ ‫غير مشغول بالفعل السياسي‪ ،‬وآخر شريك في تكوين الرأي‬
‫مهمته تتجاوز االنهماكات‬
‫أن ّ‬‫البحثي الخالص‪ ،‬وثالث يرى ّ‬
‫ّ‬ ‫المحض أو‬
‫البحثية المحض با ّتجاه تفعيل الرأي العام وتحريكه‪ ،‬من خالل الشراكة‬
‫مع الجماعات والفئات والجمعيات‪ ،‬أو مباشر ًة عبر منابر الدرس‬
‫والصحافة والمنافذ العربية واألجنبية‪ .‬وعندما تتعقّ د المواجهة‪ ،‬غالب ًا‬
‫العصيان‪ ،‬مع ما يعنيه ذلك من نتائج‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الصمت أو التعارض أو‬ ‫ما يسود‬
‫كضحية محتملة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تخص المثقَّ ف نفسه‬
‫ّ‬ ‫متفاوتة‬

‫مهاد ال ُّن َخب‬

‫وقد ال يتباين القول في مهاد ال ُّن َخب وتشكيلها عما يكتبه‬


‫كراتشكويفسكي عام ( ((‪ .1936‬ففي تم ّليه لل ُّن َخب الثقافية منذ‬
‫الطهطاوي‪ ،‬وعلي مبارك‪ ،‬وعبدالله فكري‪ ،‬وبطرس البستاني‪ ،‬وعبده‪،‬‬
‫وزيدان‪ ،‬والمنفلوطي‪ ،‬والزهاوي‪ ،‬والرصافي‪ ،‬واليازجي‪ ،‬والريحاني‪،‬‬
‫والمدرسة السورية بعامّة‪ ،‬وكذلك «الجماعة المصرية» أي لطفي‬
‫السيد‪ ،‬وحسين هيكل‪ ،‬ي َْستنتج ما يَصدق على مشاركة ال ُّن َخب في‬
‫الحياة السياسية والعامّة‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬

‫‪ - 1‬مجلة «الرسالة»‪« ،‬في األدب العربي الحديث»‪ ،‬العدد ‪ .170‬ويواصل ذلك في‬
‫األعداد ‪171‬و ‪ 174‬و ‪ .181‬ويراجع‪ ،‬كذلك‪« ،‬االستشراق في الفكر العربي»‪ ،‬بقصد‬
‫متابعة مفصلة لمثل هذه المفاهيم‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫األوروبي‪ .‬فقد ا َّتجه‬


‫ّ‬ ‫العربي ليس إ ّ‬
‫ال تاريخ النفوذ‬ ‫ّ‬ ‫«إن تاريخ األدب‬
‫هذا األدب ا َّتجاهين رئيسيين‪ :‬النضال بين األفكار القديمة واألفكار‬
‫األوروبي الحديث‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفن‬
‫ّ‬ ‫الحديثة‪ ،‬والمشكالت التي نشأت من طابع‬
‫األدبي‪ ،‬فشوهدت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وقد اتخذ هذا النضال أشكا ً‬
‫ال متباينة في المضمار‬
‫ظهرت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫في كل مرحلة‪ ،‬تق ُّل ٌ‬
‫بات تختلف عن األخرى‪ ،‬وأهم الميول التي‬
‫بجالء‪ ،‬هي‪ :‬أو ً‬
‫ال‪ :‬االحتجاج على كل جديد‪ ،‬ومحاول ُة البقاء في دائرة‬
‫القديم‪ ،‬وإحيا ُء األساليب القديمة‪ .‬ثاني ًا‪ :‬السير سير ًا سطحي ًا على منوال‬
‫العربي بأسره‪ .‬ثالث ًا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫األوروبيين‪ ،‬وتقليد أفكارهم‪ ،‬واحتقا ُر الماضي‬
‫العربي بأشكاله جديدة مبتكرة‬
‫ّ‬ ‫محاولة صبغ األصول الصحيحة لألدب‬
‫من أساسها‪ ،‬مع ا ّتخاذ الطرق األوروبية والثقافة الغربية وسيلة للوصول‬
‫إلى هذا الغرض‪ ،‬وما تزال هذه الميول قائمة حتى اآلن‪ ،‬جنب ًا إلى‬
‫جنب» (ص‪.)1627‬‬

‫ٍ‬
‫لنسق ما‪ ،‬كانحياز‬ ‫ٌ‬
‫انحيازات عرقية أو دينية أو طائفية‬ ‫وقد تجري‬
‫الغربي الذي يتعرض له هشام شرابي قاطع ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المسيحيين إلى التجديد‬
‫شهدت تعقيد ًا واشتباك ًا ك ّلما تفاعل أو تقاطع‬
‫ْ‬ ‫لكن ا ّتجاهات ال ُّن َخب‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫فضغط األخير يتأ ّتى من وقائع حضوره‪،‬‬ ‫يخصان البيئة والفكر؛‬
‫ّ‬ ‫عامالن‬
‫كما هو حال مثقَّ في وسط العراق وجنوبه إزاء اإلنجليز مث ً‬
‫ال‪ ،‬عندما‬
‫لعب المثقَّ فون‪ ،‬من العوائل الشيعية التقليدية‪ ،‬دورَهم‪ ،‬جنب ًا إلى جنب‪،‬‬

‫‪54‬‬
‫أن األفكار التالية‪ ،‬من نازية وماركسية‪ ،‬لم‬
‫مع المشايخ الكبار‪ .‬كما ّ‬
‫الليبرالي الناهض‪ ،‬منذ نهاية القرن‬
‫ّ‬ ‫تكن ضعيفة األثر في مشاكسة التيار‬

‫التاسع عشر‪.‬‬

‫بأن ا ّتجاه‬
‫وتعددية المنابر واألصوات‪ ،‬يَصعب القطع ّ‬
‫ُّ‬ ‫وبمثل هذا التعقيد‬
‫ّ‬
‫‪.‬ولعل‬‫ (((‬
‫العلماني» وحده‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫القومية العربية خرج من «الجيل‬

‫يخصها شرابي باإلشارة‪ ،‬هو الذي‬


‫ّ‬ ‫تبلور األوضاع‪ ،‬عقب المرحلة التي‬

‫ُي ْربك مثل ذلك القطع‪ ،‬بحكم انفتاح الوعي القومي على غيره‪ ،‬وسعيه‬

‫مستقبلي كالذي يدعو ساطع الحصري إليه‬


‫ّ‬ ‫إلى بلورة نظرية لمشروع‬
‫‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬إليه باإلفادة من فيخته والفكر األلماني المعاصر في تحديد‬
‫ّ‬
‫الوحدي ( ((‪.‬‬ ‫الخاصة باألمّة والقومية ومستقبل سطوعها‬
‫ّ‬ ‫المك ِ ّونات‬

‫وعندما نقرأ له‪ ،‬ولشكيب أرسالن‪ ،‬وميشيل عفلق‪ ،‬وقسطنطين زريق‪،‬‬

‫وزكي األرسوزي‪ ،‬وآخرين يتحاورون مع الكتابات االستشراقية أو‬

‫الكتابات الخاصة بالفكر األلماني وتوا ُلداته‪ ،‬ندرك ّ‬


‫أن مهاد ًا واسع ًا بال‬
‫ّ‬
‫بالتشكل بين هذه النخب المؤثّرة‪ ،‬وهي تستجمع طاقتها‬ ‫ضفاف آخذ‬

‫القومي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫با ّتجاه المشروع‬

‫‪ - 1‬حول آراء شرابي‪ ،‬يراجع كتابه «المثقفون العرب والغرب» (بيروت‪ :‬دار النهار‪،‬‬
‫‪1969‬؛ ط‪ ،)1991 ،4‬ص‪ 71‬و‪.126‬‬
‫‪ - 2‬يراجع‪« :‬االستشراق في الفكر العربيّ »‪ ،‬ص‪.182 - 161‬‬

‫‪55‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫فالفكر األلماني يستعيد في أوجه منذ مطلع القرن العشرين مشروعية‬


‫التط ُّلع التي أ كدها فيخته منذ أكثر من قرن‪ ،‬حين كان يرى األمّة‬
‫ال‪ ،‬ما شتا ُتها‬ ‫ِّ‬
‫متوحدة واقع ًا ولغ ًة وثقاف ًة وجد ً‬ ‫األلمانية متف ِ ّرقة دو ً‬
‫ال‪،‬‬
‫إال طارئ‪ ،‬وما تالقيها غير جوهر‪ .‬وسواء َأ َأخذ شكيب أرسالن من‬
‫جدلية الركود واالنبعاث أو تعاقبية التقهقر واالنتعاش‬
‫ّ‬ ‫«ستودارد»‬
‫في ضوء واقع السلطة‪ ،‬فإن هذه الفرضية تستعيد نفسها بكثرة في‬
‫يسميه عوامل «اللغة»‬
‫ّ‬ ‫القومي‪ .‬ويأخذ الحصري بما‬
‫ّ‬ ‫كتابات التط ُّلع‬

‫و«القدرة الفاطرة» و«األمّة الواحدة»‪ ،‬متشارك ًا مع آخرين ِ ّ‬


‫للرد علن ًا أو‬
‫تلميح ًا على الدعوات «المتوسطية» أو «السورية» أو ذات «الجوهر‬
‫الماركسي من تغليب الفرضيات‬
‫ّ‬ ‫مستجد ُ‬
‫ات الفكر‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي»‪ .‬وتزيد‬
‫والحاالت في القراءة العامّة للتاريخ‪ ،‬ومن ضمنها تحديدات أوجه‬
‫الصراع بين الغالب والمغلوب‪ ،‬على سوء اإلنتاج أ ّو ً‬
‫ال‪ ،‬والمواجهة مع‬
‫االستعمار ثاني ًا‪ .‬بما يقود‪ -‬أيض ًا‪ -‬إلى وضع األمّة مقابل االحتالل‪.‬‬
‫ُ‬
‫الجدل إلى تصوير المحن واالنكسارات على أنها‬ ‫وغالب ًا ما ينتهي‬
‫العربي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫غيبات وعثرات سببها التس ُّلط الطارئ الغريب على الجوهر‬
‫وبمثل هذه العودات يجري التكاتف مع «األساسية» اإلسالمية في‬
‫نقطة ما‪ ،‬كالتي يحيل عليها الكواكبي‪ ،‬واألفغاني‪ ،‬وعبده ورضا‪،‬‬
‫استرجاع مفهوم األمّة على أنه أصل‬
‫ُ‬ ‫بخصوص االستبداد‪ ،‬بينما يجري‬

‫‪56‬‬
‫اإلسالم انبعاث ًا (((‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أ كيد استعاده‬

‫أعده شكيب‬
‫ّ‬ ‫والمفهوم يأخذ عن ستودارد كثير ًا‪ ،‬ألن كتابه الذي‬
‫أرسالن َح َ‬
‫فل بهوامش ومتابعات ُت َع ّد في جوهر النظرية القومية التي‬
‫يسمي ستودارد مجيء الرسالة‬
‫يلتقطها األرسوزي‪ ،‬وعفلق‪ ،‬وآخرون‪ ،‬إذ ّ‬
‫أن‬
‫«االستحالة الكبرى واالنقالب العظيم واالستجداد الكبير»؛ أي ّ‬
‫ّ‬
‫العصري‪ ،‬كما أنها تدعو على‬ ‫عالئم النهضة الماضية تب ّرر مسعى ال َت َن ُّور‬
‫ُص ُعد البحث والتوعية إلى استعادة الماضي في ضوء عالقته بالحاضر‪،‬‬
‫بموجب منهجية تأخذ بجانب من تاريخانية تحديثية‪ ،‬و ُت ْهمل الفسحة‬

‫التي ينبغي أن ِ ّ‬
‫ييسرها العص ُر لألق ّل ّيات‪ .‬وعلى رغم ّ‬
‫أن هؤالء ي ّتفقون‬
‫ّ‬
‫تتشكل‪ ،‬بمعناها‬ ‫أن الدولة لم‬
‫مع «ولز»‪ ،‬كما يفعل أرسالن‪ ،‬في ّ‬
‫أسسوها‬
‫جميع الحكومات التي َّ‬
‫ُ‬ ‫العصري عند العرب‪ ،‬عندما كانت‬
‫مطلقة‪ ،‬عرض ًة للزالزل والمكايد والغيلة والعوارض التي هي من لوازم‬
‫كل حكومة مطلقة التص ُّرف‪ ،‬فإن المجادلة َتسعى إلى تمكين ذلك‪ .‬إذ‬
‫إن جوهر العالقة باألفكار والقراءات عن الغرب‪ ،‬بخصوص الماضي‬
‫ّ‬
‫والحاضر‪ ،‬ي ّتجه نحو استنطاق نظرية ما ت َّتسع لمشروع النهضة‪ .‬وعندما‬
‫نم ّر بـ«الوعي القومي» لزريق‪ ،‬وقبله «ثورة العرب» ألسعد داغر‬

‫‪ - 1‬وأقترح‪ ،‬في التعريف بتبلور هذه التيارات‪ ،‬العودة إلى كتابي‪« :‬االستشراق في الفكر‬
‫العربيّ »‪ ،‬وال س ّيما الصفحات ‪.182 - 149 ،147 - 111 ،60 - 45‬‬

‫‪57‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫(‪ ،)1916‬و«يقظة األمّة العربية» (‪ )1905‬لنجيب عازوري‪ ،‬و«الثورة‬


‫العربية الكبرى» ألمين سعيد (‪ ،)1934‬وكتابات نجيب‪ ،‬وسعادة‪،‬‬
‫فثمة ٌ‬
‫ميل إلى تبرير مشروعية‬ ‫والحصري‪ ،‬وعبداللطيف شرارة‪ ،‬وآخرين‪ّ ،‬‬
‫الحديث عن «األمّة» كمفهوم أوسع من «الدولة» التاريخية التي ال‬
‫سند تاريخي ًا لها‪ ،‬وال داللة حالية‪ ،‬في مقتبل نشأة الدولة الوطنية أو‬
‫مسعاها الضعيف نحو ذلك‪ .‬و ُت َع ّد الكتاب ُة والمناقشة‪ ،‬حينذاك‪ ،‬فع ً‬
‫ال‬
‫نضالي ًا‪ ،‬ولهذا لم يوفّ ر الجميع جهد ًا في متابعة بعضهم بعض ًا‪ ،‬كما‬
‫يفعل الحصري‪ ،‬مث ً‬
‫ال‪ ،‬إزاء آراء الحكيم‪ ،‬وطه حسين‪ ،‬من بين آخرين‪.‬‬

‫تحرص‬
‫ُ‬ ‫ُلدت عن المثاقَفة‪،‬‬
‫فإن النخبة المثاقِفة‪ ،‬والتي و ْ‬
‫وبكلمة أخرى‪ّ ،‬‬
‫على تقديم مفهوماتها عبر االستعانة باآلخر‪ ،‬بينما تجري االختيارات‬
‫معدوم الدولة‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫متفاوت للماضي‪ :‬بين م َْن يراه‬ ‫االنتقائية في ضوء فهم‬
‫يحبذه انفجار ًا رسولي ًا‬
‫والمؤسسة‪ ،‬وم َْن يراه إمبراطوري ًا مطلق ًا‪ ،‬وبين من ّ‬
‫َّ‬
‫قاب ً‬
‫ال للتوالد‪.‬‬

‫الدولة واإلمبراطورية‬

‫وعندما نستعيد‪ ،‬اليوم‪ ،‬ذلك الجدل حول مفهومات الدولة واألمّة‬


‫خطاب ما بعد االستقالل‬
‫ُ‬ ‫يستمدها‬
‫ّ‬ ‫والروح‪ ،‬نرى كثرة المفردات التي‬
‫الجاري‪ ،‬اليوم‪ ،‬من كتابات االحتدام السابقة‪ .‬فإذ يدعو ‪،Majumdar‬‬
‫الغربي‬
‫ّ‬ ‫مث ً‬
‫ال‪ ،‬إلى لزوم استخدام صيغ التعميم إزاء اآلخر‪ ،‬كاألدب‬

‫‪58‬‬
‫والثقافة األوروبية‪ ،‬لمقابلة صياغاته المقصودة إزاء اآلخرين‪ ،‬يميل‬
‫الغربي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الشرقي مقابل الروح‬
‫ّ‬ ‫توفيق الحكيم إلى العزل بين الروح‬
‫يسميه انعقاد النوايا على إحياء المجد الغابر والمكانة‬
‫ّ‬ ‫بقصد بلوغ ما‬
‫واالزدهار‪ ،‬ال بعث المادة نفسها؛ أي أنه يَخرج من النزاعات الدائرة‬
‫بين الوطنية المصرية‪ ،‬واإلسالمية‪ ،‬والقومية العربية‪ ،‬نحو ما هو أوسع‬
‫لكن التوفيق أو التفريق ليس هو‬
‫ّ‬ ‫لتأ كيد فعل العصر في هضم الماضي‪.‬‬
‫الخاص عام ‪ .1938‬بل هو‬
‫ّ‬ ‫الذي يعني طه حسين في عدد «الهالل»‬
‫معنى‪ -‬تحديد ًا‪ -‬بـ«مسألة الوحدة العربية أو الوحدة اإلسالمية التي‬
‫ّ‬
‫وتشتد الخصومة»‪ ،‬لكنه يعارض أن تفنى أ ّم ٌة في‬
‫ّ‬ ‫يَكثر فيها الكالم‪،‬‬
‫شعب لشعب‪ ،‬رافض ًا من دون مواربة‪ ،‬فكرة اإلمبراطورية‬
‫ٌ‬ ‫أمّة‪ ،‬أو ي َ‬
‫ُخض َع‬
‫عام شامل‪ ،‬يبسط عليها جناحيه‪ ،‬ويح ّوطها‬ ‫الجامعة في ّ‬
‫ظل سلطان ّ‬
‫بق ّوته وبأسه‪ .‬وباستشراق للعصر ولضغوطه واتجاهاته‪ّ ِ ،‬‬
‫يؤكد حسين‬
‫لزوم االحتفاظ بالقوميات والشخصيات الوطنية‪ ،‬وبحركتها التامّة‪،‬‬
‫وبالسيادة العامّة لهم‪ ،‬في حياتهم الداخلية والخارجية‪ .‬إنه‪ ،‬بذلك‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المفكرون القوميون نحو‬ ‫ي ّتجه نحو بناء الدولة الوطنية‪ ،‬في حين ي ّتجه‬

‫الدولة القومية‪ ،‬ولو جرى االنتباه إلى ما قيل‪ ،‬وغي ُره كثي ٌر‪َ ،‬ل َتج َّن َ‬
‫ب‬
‫المحن الكثيرة والصراعات!‬
‫َ‬ ‫العرب‬
‫ُ‬

‫يستمد مشروعيته من‬


‫ّ‬ ‫لم يكن طه حسين يُسقط تص ُّور ًا سياسي ًا‪ ،‬يريد أن‬

‫‪59‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ّ‬
‫يتشكل بحسب انتماءات‬ ‫اإلحاالت التاريخية؛ فثمة تباين‪ ،‬في النظرة‪،‬‬
‫ومثاقفات وشروط؛ ولهذا يحيل على العقلين المتباينين اللذين جرت‬
‫اإلشارة إليهما عند كراتشكويفسكي من قبل‪ ،‬إذ سنرى‪« :‬عق ً‬
‫ال حديث ًا‬
‫َيفْ همها (أي الوحدة العربية) على وجه‪ ،‬وعق ً‬
‫ال قديم ًا يفهمها على وجه‬
‫آخر» ( ((‪ .‬أما العقل الحديث فهو الذي يشرع بتاريخانية التحديث‪،‬‬
‫مستأنف ًا ما كان من قبل‪:‬‬

‫أن المسلمين قد‬ ‫العربي ي ّ‬


‫َدل‪ ،‬في وضوح‪ ،‬على ّ‬ ‫ّ‬ ‫«التاريخ القصير للعقل‬
‫أشده في القرن‬
‫ّ‬ ‫صنعوه منذ أواخر القرن األول للهجرة‪ ،‬حتى بلغوا به‬
‫األمم األخرى عقولها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الرابع للهجرة‪ ،‬وقد صنعوه على نحو ما تصنع‬
‫أي ك َّونوه من عنصرين أساسيين‪ :‬أحدهما التراث القديم‪ ،‬واآلخر ما‬
‫أخذوه من غيرهم من األمم األجنبية أخذ ًا‪ ،‬أ َف َترانا نستطيع أن نصنع‬
‫العربي الحديث على نحو يخالف هذا النحو؟ أم ترانا مضط ّرين‬
‫ّ‬ ‫العقل‬
‫ُ‬
‫أسالفنا في القرن الثاني‬ ‫إلى أن نذهب‪ ،‬في هذا العصر‪ ،‬كما ذهب‬
‫والثالث‪ ،‬فنحتفظ بالقديم كما احتفظوا به‪ ،‬ونصل أسبابنا بأوروبا كما‬
‫وصلوا أسبابهم باليونان والفرس والهند؟» (ص‪.)47‬‬

‫‪ - 1‬مجلة «الهالل»‪ ،1938 ،‬عدد ممتاز بعنوان‪« :‬العرب واإلسالم في العصر الحديث»‪.‬‬
‫وعنوان مشاركة طه حسين‪« :‬في العقل العربيّ الحديث»‪ ،‬ص‪.49‬‬

‫‪60‬‬
‫ِقل َُّة طه حسين المثقَّ فة‬

‫لكن إحالة طه حسين على تفاوتات العقلين تسعى‪ ،‬ضمن ًا‪ ،‬إلى التقاط‬
‫ّ‬
‫ني بلفت االنتباه إلى‬
‫ُخ ِب ما بعد النهضة؛ فهو م َْع ّ‬
‫اال ّتجاه األبرز بين ن َ‬
‫يسميها الق ّلة المثقّ فة‪ .‬وهذه‬
‫فئة فاعلة في تكوين الدولة العصرية‪ ،‬ولهذا ّ‬
‫الفئة تتماهى مع تعريفات ماثيو أرنولد للق ّلة المخ ِ ّلصة‪ ،‬أو المنقِذة‪،‬‬

‫الضيقة‪ .‬كما أنها تلتقي‬


‫ّ‬ ‫أو مجموعة الغرباء عن المصالح والفئويات‬

‫ت عقلها‬
‫جرد ْ‬
‫َّ‬ ‫مع جوليان بندا في منعطف‪ ،‬لتحيد عنه في آخر‪ ،‬ألنها‬

‫تجريد ًا‪ ،‬وتعيش منسجمة مع عصرها؛ لكنها ما تكاد َتسمع بالخالفة‬

‫أو الملْك الشامل أو اإلمبراطورية حتى تضيق وتزو ّر وتعرض أشد‬

‫اإلعراض‪ .‬وهذه الفئة المخ ِ ّلصة هي التي يَعهد إليها بندا بـ«تدبير‬

‫األمور»(ص‪ .)49‬نحن‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬بإزاء خطاب فيه يقيني ٌة عالية بوجود ق ّلة‬

‫أن القِلة هنا ال عالقة لها بتنظيم‬ ‫ٍ‬


‫منقاد‪ .‬ومن الواضح ّ‬ ‫ٍ‬
‫وسواد أعظم‬ ‫قائدة‪،‬‬

‫أو حزب‪ ،‬ويمكن أن تكون هي الم َّت َهمة عند سارتر وفانون‪ ،‬بصفتها‬

‫لكن طه حسين يحيد عند هذا التخصيص‬


‫َّ‬ ‫صوت ثقافة المستعمِ ر (((‪.‬‬
‫َّ‬
‫«المعذبون‬ ‫حملت عنوان‬
‫ْ‬ ‫والسيما تلك التي‬
‫ّ‬ ‫في الكتابات الالحقة‪،‬‬

‫‪ - 1‬يقول سارتر‪« :‬إنّ النخبة األوروبية تتكفل بصناعة نخبة من األهالي»‪ ،‬ص‪ 7‬من الطبعة‬
‫يراجع فانون‪ ،‬ص‪- 20‬‬
‫ُ‬ ‫المستعمر‪،‬‬
‫َ‬ ‫اإلنجليزية لـ «معذبو األرض» لفانون‪ .‬وحول المثقف‬
‫‪ 22‬من الطبعة العربية‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫في األرض»‪ ،‬وهو مجموعة مقاالته في نهاية األربعينيات ( ((؛ إذ ّ‬


‫إن‬

‫توسل به من نقد ومالحظة لألحوال االجتماعية والسياسية َص َد َر‬


‫َّ‬ ‫ما‬

‫مع في كتاب‪ ،‬بما يضع ق ّلة طه حسين في موضع‬


‫المنع‪ ،‬بعدما ُج َ‬
‫ُ‬ ‫ضده‬

‫االختالف والمعارضة‪ ،‬ضمن حدود محتملة‪ ،‬مقارنة بتح ُّوالت العقود‬

‫القادمة‪.‬‬

‫وال تتأ َّكد فاعلي ُة الكتاب إ ّ‬


‫ال في ضوء فعله‪ ،‬وما ينطوي عليه ذلك‬
‫ّ‬
‫«المعذبون» مقاالت‬ ‫من خوف لدى الرقيب والسلطة المهيمِ نة‪َ ،‬‬
‫فظ َه َر‬

‫متف ّرقة‪« ،‬فلم تحفل بها الحكومة القائمة إذ ذاك‪ ،‬ولم تلتفت إليها»‬

‫يوم‪ ،‬في‬
‫ذات ٍ‬
‫َ‬ ‫معت‪،‬‬ ‫(ص‪ ،)9‬بينما ِح َ‬
‫يل بينها وبين القراء عندما ُج ْ‬
‫كتاب‪ ،‬وأرادت أن تصل إلى أيدي الق ّراء مجتمع ًة لتعظ المسرِ َ‬
‫ف وتع ّزي‬

‫«تؤخذ نسخ ٌة من المطبعة إلى‬


‫َ‬ ‫المحروم‪ ،‬فكان أن َص َد َر فيها األم ُر بأن‬

‫السلطان ما يشاء‪ :‬يحرقها‪ ،‬أو يخرقها‪ ،‬أو يغرقها‪ ،‬أو ما‬


‫ُ‬ ‫حيث يصنع بها‬

‫شاء الله من ألوان العبث ما دامت ال تصل إلى أيدي الق ّراء» (ص‪.)8‬‬

‫أن مصر عادت «إلى ما كانت عليه فرنسا في أثناء‬


‫وجاء المنع ليعني ّ‬

‫‪ - 1‬ظهر الكتاب في لبنان‪ ،‬ثم أصدرته دار المعارف بعد ثورة ‪ ،1952‬ط‪ .1976 ،4‬لكن‬
‫«موقف المتردد» على صعيد الممارسة يميز طه حسين وآخرين من رواد النهضة كلما‬
‫َصعبت المواجهة‪ ،‬واستمالتهم الرغبة في اإلصالح والتأثير في الملك‪ .‬ولهذا يكتب مصطفى‬
‫يتوجهون بالثناء على مجهودات‬
‫ّ‬ ‫عبدالغني عن خطف المجاملة لدى طه حسين وغيره‪ ،‬وهم‬
‫الملك‪ .‬يراجع «المثقفون وعبدالناصر»‪ .‬ص‪.85 - 82‬‬

‫‪62‬‬
‫القرن السابع عشر» (ص‪ .(( ( )10‬أما ما يعنيه المنع والمصادرة عند‬
‫أن التنكيل بالكاتب يجري من طريق التنكيل بكتابه‪،‬‬
‫طه حسين‪ ،‬فهو ّ‬
‫وأن هذا الفعل من قبل السلطة «هو االستجابة للهوى واالنقياد للشهوة‬
‫ّ‬
‫بالحب والبغض‪ ،‬ال بالحقّ والعدل» (ص‪.)11 - 10‬‬
‫ّ‬ ‫والح ْك ِم في الناس‬
‫ُ‬

‫َ‬
‫ضعف السلطة المهيمنة‪ ،‬وخوفَها‬ ‫لكن المنع يعني‪ ،‬من الجانب اآلخر‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهلعها وطغيانَها‪ ،‬فهو الخوف الذي يو ِ ّرط في البغي‪ ،‬وهو الذعر الذي‬
‫َ‬
‫ألن‬
‫يدفع إلى الطغيان‪ ،‬وكالهما ال يحوالن دون ذيوع الممنوع؛ ذلك ّ‬
‫والكبح يح ِ ّتم الذيوع‪ ،‬فالسلطة «تصادر‬
‫َ‬ ‫التحريم يزيد في االنتشار‪،‬‬
‫كتاب ًا في مصر‪ ،‬وتظن أنها حالت بينه وبين المصريين‪ ،‬ثم ال تلبث أن‬
‫الناس فيها‪ ،‬وانتقض عليها‬
‫ُ‬ ‫تراه قد نُشِ َر في لبنان‪ ،‬وعاد إلى مصر فقرأه‬
‫ّرت‪ ،‬واستبقَ الناس إلى هذا الكتاب‪،‬‬
‫َسد عليها ما دب ْ‬
‫أبرمت‪ .‬وف َ‬
‫ْ‬ ‫كل ما‬
‫وتنافسوا في الظفر به»(ص‪.)11‬‬

‫وبهذا الفعل الالحق‪ ،‬أي المنع‪ ،‬يكتسب النص مع ًنى مضاف ًا‪ ،‬فهو‬

‫‪ - 1‬ويمكن أن نتبين قدرة طه حسين على تثوير خطابه باستمرار‪ .‬مقارن ًة بمبررات الكتابة‪.‬‬
‫عندما جاء بـ«مستقبل الثقافة» في مصر‪ .‬وتجدر اإلشار إلى أنّ مجلة «التطور» التي‬
‫ْ‬
‫نشرت مقالة لرمسيس‬ ‫أصدرتها جماعة الفنّ والح ّريّة عام ‪ ،1940‬واشرف عليها أنور كامل‪،‬‬
‫يونان سعى فيها إلى ترميم ما غاب عن «مستقبل الثقافة»؛ فال الديموقراطية تتوقف على‬
‫المعلومات الجديدة‪ .‬وال الثقافة تخلو من األخالق والمعرفة والعلم‪ .‬كما ال يكفي أن نعطي‬
‫الح ّريّة‪ ،‬وإنما البد من ممارستها لنتعلم هذه الح ّريّة (ص‪ 17 - 16‬من «الكتابة األخرى»‪،‬‬
‫نشرت‪ -‬أيض ًا‪ -‬دفاعها عن طه حسين‬ ‫ْ‬ ‫إعادة نشر كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ .)1992‬لكنّ المجلة‬
‫ضد الهجمات الرجعية‪ .‬ولم تغب هذه المالحظات عن طه حسين في كتاباته الالحقة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫مستجدة‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫مقاالت مع أخرى‪ ،‬لينشئ عالقات‬ ‫يتكاتف‪ ،‬بعضه مع بعض‪،‬‬

‫بدت غائبة من قبل‪ ،‬و َيظْ هر المؤ ِ ّلف‪ ،‬في ضوء هذه العالقات‪ ،‬صاحب‬
‫كبحه ُّ‬
‫أقل ضرر ًا من تح ُّرره‪ ،‬بالنسبة إلى‬ ‫قضية‪ ،‬وصاحب صوت مسموع‪ُ ،‬‬
‫نظام الحكم القائم‪ .‬وفي هذه المقاالت تتراكم صورة مثقّ ف النخبة‪،‬‬

‫كما لم َيظْ هر من قبل‪ ،‬مقارن ًة بفعل مثقَّ فين كالرصافي‪ ،‬والزهاوي‪،‬‬

‫والريحاني‪ ،‬وميخائيل نعيمة‪ ،‬رأوا المثقَّ ف متعالي ًا على دولة التبعية‬

‫والهيمنة في آن واحد‪ ،‬لكنها صورة تكاد تقترب من صور أخرى‪،‬‬

‫تمتزج فيها المعارضة والشراكة في «البرلمان الديموقراطي» والحكومة‬


‫«الم ْمكنة»‪ ،‬كما يفعل ‪-‬مث ً‬
‫ال‪ -‬الشبيبي‪ ،‬والشرقي‪ ،‬وغي ُرهما‪ ،‬في‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫والتعاطف‬ ‫العراق‪ .‬وتبتدئ هذه الصورة بالمشاركة في الحياة العامّة‪،‬‬

‫مع حقوق الناس ومصائرهم‪ ،‬واالكتناز وعي ًا بما ينبغي أن يَؤول إليه‬

‫الحال‪ .‬وعندما ت ّتجه السفينة نحو اإلسكندرية‪ ،‬وتعلن استحالة التزوُّد‬

‫بالماء هناك‪ ،‬لوجود وباء الكوليرا‪ ،‬يقول طه حسين‪:‬‬

‫«هنالك لم نرفع األكتاف‪ ،‬ولم نه ّز الرؤوس‪ ،‬ولم نبتسم ابتسامات‬


‫ُ‬
‫بعض المسافرين إلى بعضهم يتساءلون‪،‬‬ ‫جادة‪ ،‬وإنما نظر‬
‫ّ‬ ‫ساخرة وال‬

‫ُ‬
‫أطرقت إلى‬ ‫أما أنا فأعترف بأني لم أرفع كتفي‪ ،‬ولم أه ّز رأسي‪ ،‬وإنما‬

‫إلي م َْن حولي من‬ ‫ُ‬


‫ووددت لو نظر ّ‬ ‫ُ‬
‫وجعلت أتضاءل وأتضاءل‪،‬‬ ‫األرض‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫الناس فلم يروني» (((‪.‬‬

‫ُ‬
‫تشكيل صورة المثقَّ ف من هذا اإلحساس الذي يح ِ ّرره طه‬ ‫ويبتدئ‬
‫حسين من مظاهر الغرور والكبرياء واالعتداد بالنفس والوطن‪ّ ِ ،‬‬
‫مؤكد ًا‬
‫البد من أن يطاله‬
‫ّ‬ ‫أنه‪ -‬كغيره من «المصريين المثقَّ فين» (ص‪-)186‬‬
‫معني ًا مثلهم بحاضر الناس والبالد‪ ،‬على خالف‬
‫ّ‬ ‫الحزن والخزي‪ ،‬ما دام‬
‫ُ‬
‫كثرة كاثرة «حيا ُتهم تجري على الوتيرة التي َألِفناها» (ص‪.)191‬‬
‫أما هو وصحبه فـ«ق ّلة ضئيلة ليس أيس َر من إحصائها» (ص‪.)191‬‬
‫فإن الكثرة الم ّتهمة «ماضون في حياتهم كما تع َّودوا أن‬
‫وفي المقابل‪ّ ،‬‬
‫أشد‬
‫ّ‬ ‫ال‪ ،‬وعقو ً‬
‫ال قصار ًا‪ ،‬وقلوب ًا قاسية كالحجار‪ ،‬بل‬ ‫يمضوا‪ :‬ألسن ًة طوا ً‬
‫قسوة»‪ .‬وال يعني هذا التقابل والتعارض وجه ًا طارئ ًا؛ فالكثرة الم َّتهمة‬
‫«كانوا مشغولين بأنفسهم عن المثقَّ فين المصريين»‪ ،‬بينما يعيش‬
‫«األيام السود»‬
‫ُ‬ ‫هؤالء بمسؤولياتهم وأحالمهم وآمالهم‪ُ .‬ت ْغرقهم هذه‬
‫و«الفلسفة اليائسة» (ص‪.)190‬‬

‫هذا التمييز بين المثقَّ فين الحزانى واآلخرين يكتسب داللته في ّ‬


‫نص‬
‫التغير‪ ،‬من خالل االقتران بين الالمباالة من جانب‪ ،‬و«مصر المريضة»‬
‫ُّ‬
‫أن واقع الحال يح ِ ّتم نظرة مستطلعة‬
‫(ص ‪ )182‬من جانب آخر‪ .‬كما ّ‬
‫الفرنسي‪« :‬فالقارئ المستبصر خليق أن يصطنع‬
‫ّ‬ ‫وشكوكة في الطرف‬
‫َ‬

‫‪ - 1‬منشور في تشرين األول‪/‬أ كتوبر ‪ ،1947‬ط دار المعارف ص ‪.184‬‬

‫‪65‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫كثير ًا من الحرص واألناة حين يقرأ أنبا َء مصر في فرنسا‪ ،‬وحين يقرأ‬
‫أن مصر تبلغ‪،‬‬
‫يردد الناس ّ‬
‫أنباء فرنسا في مصر» (ص‪ .)182‬أما عندما ّ‬
‫اآلن مرتبة أوروبية‪ ،‬فإنه يس ِ ّلم بأمر ليدحضه بآخر‪ ،‬فيقول ّ‬
‫إن في مصر‬
‫وزارات منظمة‪ ،‬كما يوجد فيها برلمان‪ ،‬وأهلها «نالوا من الترف ما‬
‫ّ‬
‫المتحضرة في هذه األيام» (ص‪ .)188‬أما‬ ‫ُصرِ َ‬
‫ف عن كثير من األمم‬
‫رده فإحالة أخرى على األخبار‪ ،‬لتكون برهانه وسالحه في دحض‬
‫ُّ‬
‫السياسي‪« :‬العالم كله قد تلقّ ى منذ شهر‪ ،‬نب ًأ‬
‫ّ‬ ‫مشروعية المجتمع‬

‫مقتضب ًا‪ ،‬ولك ّنه‪ ،‬على ذلك‪ ،‬خطير ّ‬


‫أشد الخطورة‪ .‬تلقّ ى النبأ ّ‬
‫بأن مصر‪،‬‬

‫التي أراد إسماعيل أن يراها جزء ًا من أوروبا‪ ،‬قد ّ‬


‫ألم بها وباء الكوليرا‪،‬‬
‫وأقام فيها» (ص‪.)188‬‬

‫أين مشروع النهضة؟‬

‫وما يقترن بمشروع إسماعيل من مصادقة يُسقطها عليه الخب ُر الذي‬


‫االسترسال والمقارنة واالستدعاء‪ ،‬يح ِ ّتم تحديد ًا‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫يلغم به طه حسين‬
‫لموقف ِ ّ‬
‫باث الخطاب ومُ ْر ِسله إزاء النهضة‪ ،‬وما آل إليه المشروع‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ما‬
‫فالبلد «الذي ك ّنا نراه أه ً‬
‫ال للح ّريّة واألمن‪ ،‬والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا‬
‫وجهودنا وقوانا لنظفر له ببعض من الح ّريّة واألمن» (ص‪ )185‬يَظهر‪،‬‬
‫معقود اللسان‪« :‬ي َْخشى أن ي َْعمل فيغضب سادته‪،‬‬
‫َ‬ ‫مقيد ًا‬ ‫اليوم‪ ،‬مغلو ً‬
‫ال َّ‬
‫ويخشى أن يقول فيتحفّ ظ قاد ُته‪ ،‬ويخشى أن يسكت فيسوء به ُّ‬
‫ظن‬

‫‪66‬‬
‫المسيطرين على أمره؛ فهو حائر بين الحركة والسكون‪ ،‬وبين الكالم‬
‫إن عودة االستعمار‬
‫والصمت‪ ،‬وبين الشعور والجمود» (ص‪ّ .)185‬‬
‫ألن «البلد الذي كنا نراه‬
‫ذهن طه حسين‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫الش ّباك هي التي تسكن‬
‫من ّ‬
‫أه ً‬
‫ال لالستقالل‪ ،‬والذي أفنينا شبابنا وكهولتنا وجهودنا وقوانا لنظفر له‬
‫بحقّ ه في هذا االستقالل‪ ،‬ثم نحن ننظر فإذا هو ُي َر ّد عن حقه أعنف‬
‫ّ‬
‫يترضونه ويتم ّلقونه في أمس‬ ‫الرد وأقساه‪ ،‬وإذا المنتصرون الذين كانوا‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وتنكروا له‪ ،‬وكادوه كيد ًا‪ ،‬إن َص َّو َر شيئ ًا فإنما‬ ‫القريب قد ائتمروا به‪،‬‬
‫يص ّور الجو َر له والغد َر والظلم والجحود» (ص‪ )186 - 185‬والنتيجة‬
‫هي شعور النخبة بالخديعة‪« ،‬كأنهم لم ينعموا بهذه اآلمال‪ ،‬وكأنهم‬
‫لم ي َْسعدوا بما حاولوا من األعمال‪ ،‬وكأنهم لم يستمتعوا بها بما بذلوا‬
‫يتحدث ُ‬
‫بعضهم إلى‬ ‫ّ‬ ‫يتحدثوا إلى أنفسهم‪ ،‬ولم‬
‫ّ‬ ‫من الجهود‪ ،‬وكأنهم لم‬
‫بأن آمالهم التي كانت بعيدة قد أخذت َتق ُرب حتى توشك أن‬
‫بعض ّ‬
‫تتحقّ ق» (ص‪.)189‬‬

‫لكن طه حسين لم يصادق على كل ما فعله ُ‬


‫سلفه األقرب‪ ،‬ألن المثقَّ فين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫من أمثاله‪ ،‬تلقّ وا من آبائهم «وطن ًا ضعيف ًا مهيض ًا علي ً‬
‫ال‪ ،‬فما زالوا به‬
‫ردوا إليه شيئ ًا من ق ّوة وصحة وعافية ونشاط‪ ،‬ومضوا به في طريق‬
‫حتى ّ‬
‫لكن ذلك لم يكتمل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الع ّزة والكرامة أشواط ًا وأشواط ًا» (ص‪)190‬؛‬
‫لتدهور «األداة السياسية» (ص‪ ،)156‬فانتشر «الوباء» و«الفساد‬

‫‪67‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫الخلقي» و«الرشوة» و«السرقة» و«تقطيع الصالت بين الناس‪،‬‬


‫ّ‬
‫والظلمة في الضمائر والقلوب» و«اليأس حتى من روح الله» و«الذ ّلة‬
‫والمسكنة والهوان» و«اإلذعان للظلم واالستسالم للعسف‪ ،‬واالنقياد‬
‫اإلنسان إنسان ًا»‬
‫َ‬ ‫لالستبداد بالح ّريّة والكرامة‪ ،‬واالزدراء لكل ما ي َْجعل‬
‫(ص‪.)145‬‬

‫ِّ‬
‫والمتحقق‪،‬‬ ‫ومثل هذا الخطاب ال يكتفي بالمقارنة ما بين المرتجى‬
‫السياسي‬
‫ّ‬ ‫وإنما يُكثر من التكرار لضمان حضوره الصورة المرفوضة للنظام‬
‫امتعاضي‪ ،‬تتك ّرر‬
‫ّ‬ ‫وإدانتها‪ ،‬وتمييز موقف المثقَّ فين قبالتها‪ .‬إنه خطاب‬
‫مواصفا ُته‪ ،‬بشكل أو بأخر‪ ،‬في الكتابة‪ ،‬منذ منتصف األربعينيات‪ ،‬في‬
‫«القاهرة الجديدة»‪ ،‬و«خان الخليلي» و«زقاق المدق» و«السراب»‬
‫لكن خطاب‬
‫ّ‬ ‫و«بداية ونهاية» بين كتابات محفوظ قبل ثورة ‪.1952‬‬
‫الرفض واالمتعاض (الذي تتأ ّكد ميزاته في القصيدة أيض ًا) يمتلك‬
‫ميله الداخلي إلى التصحيح والتصويب واالستدراك أ كثر من ميله إلى‬
‫السياسي تحريض ًا‬
‫ّ‬ ‫المعنيون بالفعل‬
‫ّ‬ ‫االنقالب والتغيير‪ ،‬وقد يقرأ فيه‬
‫ويشبون عليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫على التم ُّرد أو إفصاح ًا عن استياء‪ ،‬فيتع ّلمون منه‪،‬‬
‫يتبدى في بالغات التغيير المعروفة‬
‫ّ‬ ‫ويأخذون مفرداتهم عنه كما‬
‫ّ‬
‫يتشكل وحده عادةً‪ ،‬لكونه متموضع ًا في‬ ‫والبيانات األولى‪ ،‬لك ّنه ال‬
‫كتابات تاريخية ومنقوالت عن اآلداب األخرى وبالغات نهضوية‬

‫‪68‬‬
‫السياسي لم‬
‫ّ‬ ‫إن جماعات المجتمع‬
‫وفكرية وقراءات سوسيولوجية؛ إذ ّ‬
‫حلمهم عن رغبة‬
‫ُ‬ ‫أملهم أو‬
‫ُ‬ ‫يأتوا إلى فكرة التغيير من فراغ‪ ،‬ولم َيل ِْد‬
‫شاركت‬
‫ْ‬ ‫فحسب‪ ،‬وما القراءات األولى والتالية غير صياغات ذهنية (((‪،‬‬
‫غالب هذه‬
‫ُ‬ ‫السياسي‪ .‬ولهذا تقع‬
‫ّ‬ ‫في تشكيل أذهان جماعات الفعل‬
‫تتعمق أو َت ْبهت‪ ،‬لتظهر فاعلي ُتها في ضوء‬
‫ّ‬ ‫القراءات عند عتبة المثاقفة‪،‬‬
‫ُقطْ َبي االنشداد‪ :‬ما بين الرغبة في اآلخر من جانب‪ ،‬وزخم الموروث‬
‫والواقع من جانب آخر‪.‬‬

‫ُ‬
‫التكوينات اللفظية‪ ،‬بما هي عليه من‬ ‫األهمية التي تنطوي عليها‬
‫ّ‬ ‫أما‬
‫اجتماعي ومعارضة سياسية عند طه حسين‪ ،‬وفي الرواية عند‬
‫ّ‬ ‫تراكم‬
‫نجيب محفوظ ومجموعة أخرى من الروائيين والشعراء العرب‪ ،‬فهي‬
‫بتبدالت جوهرية في خطاب ما بعد الحرب الثانية‪ ،‬الذي‬ ‫كونها ِ‬
‫تؤذن ّ‬
‫يكاد أن يكون خطاب التمهيد للتغييرات السياسية ومشروع الدول‬
‫الوطنية‪ .‬إنه خطاب يتفاوت مع اهتمامات ال ُّن َخب السابقة في مواجهتها‬
‫للغرب أو تالقيها معه؛ فهو لم ي َُع ْد م َْعن ِّي ًا‪ ،‬أساس ًا‪ ،‬بمفاهيم األمّة والدولة‬

‫مثال‪ -‬كتاب د‪ .‬مارلين نصر‪« ،‬التصور القوميّ العربيّ في فكر جمال‬ ‫ً‬ ‫‪ -1‬يراجع‪-‬‬
‫عبدالناصر»‪ ،‬ويحيل عليه عزيز السيد جاسم في كتابه «مقتل جمال عبدالناصر»(بغداد‪:‬‬
‫النهضة‪ ،1985 ،‬ط‪ ،)1985 ،3‬ص‪ ،27 - 25‬حيث ترد في القراءات األولى كتابات‬
‫رواد النهضة وحياة األبطال‪ ،‬وكتابات شكيب أرسالن‪ ..‬إلخ‪ .‬ويقول عزيز السيد جاسم‪،‬‬
‫معقب ًا‪ ،‬حول إمكانية تدوين التاريخ العربي والثورة المصرية في مصر‪« :‬لما يتسم به الكتاب‬
‫ّ‬
‫دور مصري وعربي هو‬ ‫والمثقفون المصريون من أصالة ثقافية وخبرة عالية تؤهالن لتأدية ٍ‬
‫دور طليعيّ حتم ًا»(ص‪.)52‬‬

‫‪69‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫َج َد مشكالت أخرى تستأثر باهتمامه بتفصيل وتحليل‬


‫والقومية‪ ،‬بل و َ‬
‫ونقد؛ ولهذا ينبغي أن يؤخذ هذا الخطاب بالحسبان ك ّلما أردنا قراءة‬
‫انشغاالت المثقَّ فين الخمسينيين بقراءة المجتمعات العربية‪ ،‬كما يفعل‬
‫على الوردي في «لمحات من تاريخ المجتمع العراقي»‪ ،‬وحامد‬
‫عمار في تم ّليه لظاهرة الفهلوة‪ ،‬وعبدالحميد يونس في مجتمعنا‬
‫(‪ ،)1958‬ومحمود العبطة في «رجل الشارع في بغداد» (‪،)1962‬‬
‫العربي» (القاهرة‬
‫ّ‬ ‫ومحمد عبد الغني حسن في «مالمح من المجتمع‬
‫‪ ،)1951‬و«األرض والفالح والمسألة الزراعية في مصر» إلبراهيم‬
‫عامر‪ ،‬وتط ُّور الحركة الوطنية للشهيد شهدي عطية الشافعي‪ ،‬والصعلكة‬
‫كتب أخرى كثيرة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫والفتوة في اإلسالم» ألحمد أمين‪ ،‬ومثل هذه‬
‫واهتمامات ومقاالت تستدعي المالحظة والتعليق‪ ،‬كما يفعل أنور‬
‫عبدالملك‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬بإزاء قراءات جاك بيرك؛ فكتاب األخير بعنوان‬
‫«تاريخ اجتماعي لقرية مصرية في القرن العشرين» (‪ )1958‬يسعى‪،‬‬
‫إنساني بين قطاعين من إنسانيتنا في القرن‬
‫ّ‬ ‫استشراقي ًا‪ ،‬إلى إقامة جسر‬
‫المتقدم‪ ،‬والقطاع‬
‫ّ‬ ‫األميركي‬
‫ّ‬ ‫األوروبي ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫العشرين‪ :‬القطاع الصناعي‬
‫الزراعي اآلسيوي‪ -‬اإلفريقي المتخ ِ ّلف‪ ،‬على أنقاض االستعمار‪،‬‬
‫أن هذه‬
‫يهم األخير هو ّ‬ ‫كما ينقل أنور عبدالملك عنه موافق ًا‪ّ ،‬‬
‫ألن ما ّ‬
‫الدراسة «تأخذ في اعتبارها عنصري اللغة والتراث القديم‪ ،‬ولكنها‬
‫تقوم‪ -‬أيض ًا‪ -‬على أسس متينة من العلوم اإلنسانية المعاصرة‪ :‬علم‬

‫‪70‬‬
‫االجتماع‪ ،‬االقتصاد‪ ،‬السياسة‪ ،‬علم الجمال‪ ،‬األدب‪ ،‬الفلسفة (((‪ .‬و َت ْكثر‬
‫الخمسينيات‪ ،‬من علماء االجتماع‪ ،‬خصوص ًا‪ ،‬كشاكر‬
‫ّ‬ ‫مشاركات ك ّتاب‬

‫ِّ‬
‫المتخصصة كـ«الثقافة‬ ‫مصطفى سليم وآخرين‪ ،‬بينما تبتدئ المجلّات‬
‫العراقية»‪ ،‬ومجلّات مصرية عدة‪ ،‬باإلضافة إلى «األديب» و«اآلداب»‬
‫معمقة في قضايا األدب واالجتماع والفكر‬
‫و«علوم»‪ ،‬بتقديم قراءات ّ‬
‫عما كان سائد ًا من قبل ما بين اإلحياء‬ ‫ّ‬
‫تشكل افتراق ًا‪ ،‬في االهتمام‪ّ ،‬‬
‫والنهضة القومية‪.‬‬

‫ثمة تح ُّوالت في‬


‫وحتى عندما نستعيد جهاد حركة الحداثة الشعرية‪ّ ،‬‬
‫مت حضورها في تطويع اللغة لبلوغ شبه قطيعة مع ما هو‬
‫الوعي ح ّت ْ‬
‫الداخلي في التجربة وتالقياتها‪ .‬وقد‬
‫ّ‬ ‫معني بالغوص‬
‫ّ‬ ‫إبالغي توصيلي غير‬
‫تستعيد هذه تكوينات ميثية وصورية‪ ،‬مأخوذة بها من طريق االحتكاك‬
‫لكن الشاعر يعي استحالة مغالبة َح َّد ْي لغة الترجمة من جانب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫باآلخر‪،‬‬
‫معرفي مقابل‪ ،‬في‬
‫ّ‬ ‫غوص‬
‫ٍ‬ ‫والبالغة الضاربة من جانب آخر‪ ،‬من دون‬
‫االجتماعي‪ ،‬بما‬
‫ّ‬ ‫موروثه‪ .‬وهكذا تجتمع الشكوى والمرارة والنقد‬
‫ُ‬
‫صوت الشاعر (األنثى‬ ‫أصلي ودائم‪ .‬وفي هذا االمتزاج‪ ،‬يتك ّرر‬
‫ّ‬ ‫هو‬
‫ّ‬
‫المفكرين‬ ‫والرجل) رسولي ًا‪ ،‬مهما بدا عليه من محنة وتو ُّتر‪ ،‬فهو‪ ،‬شأن‬
‫ني أ ّو ً‬
‫ال‪-‬بتم ّلي واقع الحال‪ ،‬ما بين الكوليرا‬ ‫والدارسين والباحثين‪ ،‬م َْع ّ‬

‫‪« -1‬القرية المصرية بين القديم والجديد» في‪« :‬دراسات في الثقافة الوطنية»‪ ،‬ص‪.313‬‬

‫‪71‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫السياسي واالستعمار‪ .‬إنه ي ّ‬


‫ُطل على‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي والقهر‬
‫ّ‬ ‫والفساد‬
‫يسميهم أنور‬
‫ّ‬ ‫المشهد‪ ،‬ويشارك فيه‪ ،‬ويعلن صو َته بين أولئك الذين‬
‫عبدالملك «المثقَّ فين» (((‪ .‬إذ ال ّ‬
‫تقل «المومس العمياء»‪ ،‬أو مثيالتها‬
‫من قصائد‪ ،‬عناي ًة بمصير البالد عن الكتابات اإلبالغية الكثيرة‪ ،‬كما‬
‫البياتي‪ ،‬وبلند الحيدري االجتماعية ّ‬
‫أقل وعي ًا بالحياة‬ ‫قصائد ّ‬
‫ُ‬ ‫ال تبدو‬
‫العاديّة‪ ،‬مقارن ًة بالدوافع التي ح ّتمت اليقظة إزاء سوسيولوجيا المعرفة‬
‫وتغيراتها وضرورات قراءة حياة الفئات والناس‪ ،‬بعيد ًا عن الشعارات‬
‫ّ‬
‫والصياغات العامّة‪.‬‬

‫ِّ‬
‫المفكرين والمؤ ِ ّرخين العرب المشغولين بقضية التح ُّرر‬ ‫فإن‬
‫ومهما يكن‪ّ ،‬‬
‫الوطني حاولوا الفصل بين «المثقَّ فين الهامشيين الغرباء عن وطنهم»‪،‬‬
‫ّ‬
‫«الخالقين‬ ‫الليبرالي‪ ،‬وبين‬
‫ّ‬ ‫يسمي أنور عبدالملك جماعة الترفُّ ع‬
‫ّ‬ ‫كما‬
‫ِ‬
‫المثقّ فين‬ ‫مهمة نشر الثقافة»‪ .‬وهؤالء‬ ‫ّ‬ ‫الذين أخذوا على عاتقهم‬
‫(بكسر القاف) ليسوا المثقَّ فين (بفتح القاف)؛ ْ‬
‫أي «كل م َْن يكسب‬
‫الذهني»‪ .‬كما أنهم‬
‫ّ‬ ‫الجانب‬
‫ُ‬ ‫ذهني‪ ،‬أو ي َْغلب عليه‬
‫ّ‬ ‫حياته بواسطة عمل‬
‫ليسوا «كل المثقّ فين‪ ،‬بالمعنى الواسع للكلمة» بمعنى أولئك الذين‬
‫«شغيلة الثقافة»‪ .‬وهذا المسعى للتعريف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يستخدمون «الثقافة» أو‬
‫متباعد ًا عن « ِق ّلة» طه حسين‪ ،‬هو الذي يدعو عبدالملك إلى التصريح‪،‬‬

‫‪« -1‬المثقفون والثقافة»‪«،‬المساء» ‪ ،25/11/1958‬في‪«:‬دراسات في الثقافة الوطنية» ص‪.201‬‬

‫‪72‬‬
‫بأن أفكار غرامشي حول المثقَّ فين لم تتحقّ ق «في يوم من األيّام‬
‫بفرح‪ّ ،‬‬
‫العربي اليوم» (((؛ إذ لم يسبق‬
‫ّ‬ ‫يتم في العالم‬
‫بمثل هذا السطوع الذي ّ‬
‫العربي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لقيت تصديق ًا كهذا الذي تلقاه اليوم في العالم‬
‫ْ‬ ‫ألطروحاته أن‬
‫لكن هذا االستبشار يتكافأ بالقلق إزاء انكفاء‬
‫ّ‬ ‫كما يقول في مكان آخر‪.‬‬

‫فعالية موازية‪ ،‬يدركها طه حسين‪ ،‬نسبي ًا‪ ،‬في مفهومه للق ّلة المثقَّ فة‪ْ :‬‬
‫فعبد‬ ‫ّ‬
‫أدى إلى «تق ُّلص في اإلسهام‬
‫الغرامشي ّ‬
‫ّ‬ ‫أن هذا االنشغال‬
‫الملك يرى ّ‬
‫األعم» (((‪ .‬ومن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النظري على المستوى‬ ‫العربي المباشر في عمل التطوير‬
‫ّ‬
‫أن تفريقات عبدالملك المستعينة‪ ،‬جزئي ًا‪ ،‬بغرامشي ال َت ْحسم‬
‫الواضح ّ‬
‫الواقع الفعلي للمثقَّ فين‪ ،‬وال عالقتهم بالمعرفة والح ّريّة والدولة والحزب‬
‫َ‬
‫معنية بمثقّ ف‬
‫ّ‬ ‫الذي يديرها في غياب الليبرالية الواسعة‪ .‬كما أنها ليست‬
‫الداخلي‪ ،‬الذي َي ْرصده إدوارد سعيد‪ ،‬جغرافي ًا وميتافيزيقي ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المنفى‬
‫ّ‬
‫كالمفكر عزيز السيد‬ ‫يستحث ِ ّ‬
‫منقب ًا عن الح ّريّة‬ ‫ّ‬ ‫لدى أدورنو‪ ،‬بينما‬
‫لكن‪ ،‬لو ُذبح‬
‫ْ‬ ‫جاسم‪ ،‬إلى أن يصيح «لقد ُذبح الكبش فدا ًء إلسماعيل‪،‬‬
‫إسماعيل فما قيمة أن يُذبح الكبش؟» (((‪ .‬ذلك ألن عبدالملك يشتغل‪،‬‬

‫ّ‬
‫«المثقفون والثقافة»‪ .‬في المصدر السابق‪ ،‬وبشأن غرامشي‪ ،‬ص‪ . 437‬وتظهر اإلشارة‬ ‫‪-1‬‬
‫في ترجمة مختلفة عادة في كتابه «الفكر العربي في معركة النهضة»‪ ،‬ص‪.44‬‬
‫‪ - 2‬الفكر العربي في معركة النهضة‪ ،‬ص‪44‬‬
‫‪ - 3‬حاوره فاروق البقيلي‪« :‬عزيز السيد جاسم يرسم خريطة الثقافة العربية»‪ُ .‬من َْج ٌز عام‬
‫‪ ،1985‬و ُنشر في «البيان»(الثقافي)‪-‬دبي‪ ،‬الخميس ‪ 21‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪،1996‬‬
‫ص‪.30‬‬

‫‪73‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫وفي ذهنه قضيتان أساسيتان‪ :‬أوالهما االنتصار للثورة الوطنية على رغم‬
‫صدها له ولغيره‪ ،‬ورميها إيّاه في أبي زعبل؛ وثانيتهما‪ ،‬مواجه ُة سياسة‬
‫ّ‬
‫ٌ‬
‫حال عا ّم ٌة من الضعف‬ ‫نتجت عنها‪ -‬كما يقول‪-‬‬
‫ْ‬ ‫دنلوب التعليمية التي‬
‫البد من التفريق بين مجموعة من المفاهيم التي‬
‫ّ‬ ‫المعرفي (((‪ .‬من هنا‬
‫ّ‬
‫الخمسينيات‪ ،‬بشأن النخبة والمثقَّ ف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أخذت في التك ُّون الواضح‪ ،‬منذ‬
‫ْ‬

‫المثقَّ فون‪:‬صورهم في الحياة العربية‬

‫يسميهم طه حسين «الخطّ افين»‪ْ ،‬‬


‫أي أولئك الطارئين الذين‬ ‫ّ‬ ‫فالذين‬
‫والمرئي‪ ،‬ضجيج ًا‪ ،‬آخذين‬
‫ّ‬ ‫يمألون اإلعالم‪ :‬المكتوب‪ ،‬والمسموع‪،‬‬
‫ماد ٌة فعلي ٌة قائمة في أجهزة الدولة‬
‫بسطرٍ من هنا وصفحة من هناك‪ ،‬هم ّ‬
‫ّ‬
‫يشكلون نسبة عالية في أجهزة «األمير» الحديث (((‪،‬‬ ‫الوطنية‪ .‬كما أنهم‬
‫وشحة معرفتهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وكذلك في استثمارات الزعماء الفرادى‪ ،‬لق ّلة وعيهم‪،‬‬
‫ويُسرِ تداولهم‪ ،‬وتق ُّل ِب مواصفاتهم‪ ،‬ورضاهم بالصدارة المسطّ حة‪.‬‬

‫يخصهم عبدالملك بالمالحظة‪ ،‬هم أولئك الذين‬


‫ّ‬ ‫لكن المثقَّ فين الذين‬
‫ّ‬
‫لت على أساس‬ ‫َّ‬
‫أتشك ْ‬ ‫يَروْن في الفعالية الثقافية مسؤولية تربوية‪ ،‬سواء‬

‫‪« - 1‬كيف نعالج مشكلة الثقافة العا ّمة؟»‪ ،‬في دراسات‪ ..‬ص‪ ،141 - 137‬عن «المساء»‪.‬‬
‫‪.22/10/1957‬‬
‫‪ - 2‬ويجري إسقاط تسمية غرامشي لحزب الطبقة العاملة الطليعيّ ‪ ،‬كإرادة جماعية‪ ،‬على‬
‫ْ‬
‫آمنت بقيادتها للكفاح وللتحول الوطنيّ‬ ‫أحزاب البورجوازيات الصغيرة ومثيالتها التي‬
‫الديموقراطيّ ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫ّ‬
‫تشكلت على‬ ‫الهيمنة التي يرصدها غرامشي عند الفئات الطليعية‪ ،‬أم‬
‫أساس الهيمنة التي يرصدها غرامشي عند الفئات الطليعية‪ ،‬أو على‬
‫أساس الشراكة العامّة في التثقيف‪ .‬وهؤالء ليسوا كيان ًا واحد ًا‪ ،‬وغالب ًا‬
‫توجهاتهم لـ «معتقدات» مركزية‪ ،‬تدعو أنور عبدالملك‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ما َتخضع‬
‫مث ً‬
‫ال‪ -‬إلى الدفاع عن الثورة الوطنية‪ ،‬حتى عندما َت ْدفع به إلى السجن‪،‬‬
‫الشيوعي‬
‫ّ‬ ‫مبشر ًا بأمر ومشير ًا‪ ،‬بمرارة‪ ،‬إلى أمر آخر؛ ذلك ألن التثقيف‬
‫ّ‬
‫بأهمية االنتصار‬
‫ّ‬ ‫في حينه (في مصر والعراق والسودان وسوريا)يقول‬
‫للثورة الوطنية‪ ،‬وكذلك للزعيم الوط ّني‪ ،‬مهما بدا عليه من اختالل أو‬
‫صراع مع الفئات الوطنية‪ .‬وكانت النتائج المتر ِ ّتبة على هذه الفرضيات‬
‫معروفة‪.‬‬

‫أن المثقَّ فين المنتمين إلى األحزاب‪ ،‬غالب ًا ما يضطرون إلى ممارسة‬
‫كما ّ‬
‫فعل كالذي يمكن أن يمارسه المحترف السياسي‪ ،‬من كيد أو قسر أو‬
‫أداء‪ .‬وأشير إلى أن التجارب الكثيرة والمعلومات عن واقع المثقَّ فين‬
‫لكن‬
‫ّ‬ ‫ضحي ًة للتوجيه ( ((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شدة وقوع مثقَّ في االنتماء‬ ‫المنتمين ِ ّ‬
‫توضح ّ‬

‫‪ - 1‬يذكر السيد فاضل ثامر‪ ،‬وهو ناقد أدبي عراقي مبرّز‪ ،‬أنه كتب ردّ ًا على رواية عزيز السيد‬
‫جاسم‪«،‬المناضل» (‪ ،)1969‬الجزء األول من الثالثية الصادرة عن دار الطليعة‪ ،‬في ضوء‬
‫توجيه حزبيّ له‪ .‬وكان فاضل ثامر عضو ًا في الحزب الشيوعي العراقي‪ .‬وللمفارقة‪ ،‬فإن الردّ‬
‫ظهر في مجلة «ألف باء» عندما كان يشرف على صفحتها األدبية الناقد والشاعر فاضل‬
‫العزاوي‪( .‬وقد ترك الحزب الشيوعيّ حينذاك)‪ ،‬بينما يدير رئاسة التحرير الشاعر سامي‬
‫مهدي (وكان عضو ًا متقدم ًا في حزب البعث)‪ .‬وتكمن المفارقات في أنّ المثقف الح ّر‬
‫يواجه خصومة األحزاب المحترفة جميع ًا‪ ،‬وكان السيد عامر عبدالله‪ ،‬عضو اللجنة المركزية‬

‫‪75‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫هؤالء‪ ،‬من ش ّتى الفئات‪ ،‬غالب ًا ما تع ّرضوا لمواجهات عنيفة ومازالوا‬


‫تتضمن المتابعة والسجن والتعذيب والقتل‪ .‬ولو أجرى‬
‫ّ‬ ‫يتعرضون لها‪،‬‬
‫المعنيون إحصائيات بأسماء المثقَّ فين الذين لقوا حتفهم في أنحاء‬
‫ّ‬
‫كدت أمامنا صور ٌة كئيب ٌة تحكي ‪ -‬في َح ّد‬
‫ْ‬ ‫العربي الفسيح لتأ‬
‫ّ‬ ‫عالمنا‬
‫أن هذه‬
‫وتهدم الحياة‪ .‬كما ّ‬
‫ُّ‬ ‫ذاتها‪ -‬أسباب هدر الثروات والكفايات‬
‫الفعلي الذي يكمن خلف انكفاء المعرفة وق ّلة‬
‫ّ‬ ‫نسبي ًا‪ -‬الس ّر‬
‫ّ‬ ‫تحكي‪-‬‬
‫وتفسِ ر‪ -‬أيض ًا‪ -‬تدهور «الدولة»‪ ،‬كيان ًا‪ ،‬في أ كثر من‬
‫ّ‬ ‫الفلسفي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الفكر‬
‫مكان‪.‬‬

‫لكن الفعالية األوسع للمثقّ فين األحرار‪ْ ،‬‬


‫أي ألولئك الساعين إلى‬ ‫ّ‬
‫ِّ‬
‫المترف ُع‬ ‫االحتفاظ بمرونة عقلية عالية‪ ،‬ال ت ّتسم باالنسجام؛ إذ يقيم‬
‫اللبيرالي بين هؤالء أيض ًا‪ ،‬وهو الذي يرى نفسه قائم ًا وموجود ًا‬
‫ّ‬
‫«أنتولوجي ًا» في تداخل الثقافات وتالقيها‪ ،‬ما بين هوية وأخرى‪،‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫لتتشكل‪ ،‬في ذهنه‪ ،‬بموجب أنماط أصلية‪،‬‬ ‫َي ْرصدها هنا أو هناك‪،‬‬
‫عدد من مثقّ في الخمسينيات‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وأخرى ح ّرة‪ ،‬كتلك التي انشغل عندها‬
‫فال «المفدي» أو «الضحية» أو «الداعية» يقيم عند هذا الطرف‪ ،‬ما‬
‫َّ‬
‫يتشكل‪ -‬أص ً‬
‫ال‪ -‬من القراءات والصور والرسوم واإلشارات‬ ‫الوعي‬
‫ُ‬ ‫دام‬

‫للحزب الشيوعيّ العراقي‪ ،‬قد طلب من المرحوم عبدالخالق السامرائي‪ ،‬عضو القيادة لحزب‬
‫ُّ‬
‫التدخل إليقاف الثالثية‪.‬‬ ‫البعث‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫التي يتالقى بعضها مع اآلخر‪ ،‬أو يسقط نفسه على أنماط وضفاف‬
‫أخرى‪ ،‬فتتآلف الكتابة‪ ،‬أو تنهض‪ ،‬بمثل هذه الظالل‪ ،‬تتوارى م ّرةٌ‪،‬‬
‫وتع ّلن َم ّر ًة أخرى‪ ،‬من دون اجتياز عتبة الخطيئة أو التكفير؛ فال‬
‫يتدخل‬
‫ّ‬ ‫تستبعدهم سلطةٌ‪ ،‬وال يتعرضون إلقصاء مقصود‪ ،‬إال عندما‬
‫مضاد‪ ،‬مث ً‬
‫ال (((‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تقليدي»‬ ‫العام تحت ضغط «شاعر‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الرأي‬

‫وفي فضاء الثقافة الح ّرة تقيم األذهان الفاعلة التي تنحاز إلى الفكر‬
‫وساحاته‪ ،‬مك ّونة لذواتها مناب َرها الداخلية التي ال ترى صيرورتها إ ّ‬
‫ال‬
‫تتعدد‬
‫ّ‬ ‫من خالل التفاعل مع حياة الناس ووجدانهم ومستقبلهم‪ .‬هنا‪،‬‬
‫ُ‬
‫سبل الخروج على الهيمنة أو التغرير‪ ،‬وتتن ّوع ما بين سجال‪ ،‬وتورية‪،‬‬

‫واستثمار لفرصة‪ .‬وبينما يبدو هؤالء استمرار ًا لريادة النهضة‪ّ ،‬‬


‫فإن‬
‫والحياتي يع ِ ّرضهم لمكابدات عنيفة في ضوء واقع‬
‫ّ‬ ‫المعرفي‬
‫ّ‬ ‫انهماكهم‬
‫الحال‪ .‬ويمكن أن يكون هؤالء قد انتموا إلى فئ ٍة أو حزب في يوم‬
‫تقيدها‬
‫ما‪ ،‬لكن انشغالهم الح ّر يتفاعل مع األذهان بما ي َُحول دون ُّ‬
‫انشقاقهم حتمي ًا‪ ،‬يتعالون‪ ،‬بموجبه‪ ،‬على‬
‫ُ‬ ‫بصياغة تنظيمية‪ ،‬فيأتي‬
‫«الساحة السياسية» المحددة‪ ،‬كما يقول أرنولد‪ .‬وبين الخالص من‬
‫ضغط العالقة المذكورة والعناية بالفعل الثقافي‪ -‬الحياتي‪ ،‬يكون‬

‫‪ 1‬والهجمات ضدّ أدونيس‪ ،‬غالب ًا ما تأتي من هذا الباب‪ .‬وتكثر الشواهد غير المد ّونة بعدُ ‪،‬‬
‫بهذا الخصوص‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫المثقَّ ف منسجم ًا مع ما يعنيه إدوارد سعيد في حيداته الكثيرة عن‬


‫مفهوم واحد‪ ،‬حين يقول‪« :‬إن المثقَّ ف الحقيقي كائن علماني‪ ،‬ومهما‬
‫بالغ المثقَّ فون في تظاهرهم بأنهم يم ِ ّثلون شؤون ًا علوية أو ق َِيم ًا جوهرية‪،‬‬
‫فإن األخالقية تبدأ بنشاطهم في دنيانا العلمانية هذه» (ص ‪ ،121‬من‬
‫ّ‬
‫«صور المثقّ ف»)‪ .‬فالتوق إلى الح ّريّة‪ ،‬والمجاهدة لخدمة المجتمع‪،‬‬
‫والتعارض مع رغبات القمع والهيمنة لدى السلطات‪ ،‬اجتماعية أو‬
‫والتمسك بأولويات الفعل اإلنساني وشروطه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫سياسية أو فردية حاكمة‪،‬‬
‫هي مك ّونات هويّة المثقَّ ف‪.‬‬

‫لكن هذا الجمع ال يعني انعدام التفاوت؛ إذ تبقى قضية المثقَّ فين‬
‫ّ‬
‫ثمة‬
‫العرب داعية إلى مزيد من التأمُّل والمقارنة‪ .‬فما بعد النهضة‪ّ ،‬‬
‫حركات تح ُّرر‪ ،‬ودول وطنية‪ ،‬وتق ُّلبات‪ ،‬وحكومات‪ ،‬وسلطات متفاوتة‪،‬‬
‫بما يجعل الحركة والرأي يتفاوتان في ضوء كل مرحلة‪ ،‬من دون أن‬
‫يعني ذلك التنازل عن ٍ ّ‬
‫أي من مك ّونات الهوية أعاله‪ .‬ويمكن أن نلجأ‬
‫إلى اختيار نمطين من المثقف الح ّر‪ ،‬يجتمعان في أشياء‪ ،‬ويفترقان في‬
‫لنتبين المساحة التي يلتقي عندها المثقَّ فون‪ ،‬من حيث الفاعلية‬
‫َّ‬ ‫أخرى‪،‬‬
‫الفكرية والشراكة الحياتية في التعبير عن الوجدان العام ومستلزمات‬
‫األداء الح ّر‪ ،‬مهما بدت التكلفة غالية وجسيمة‪ .‬وليكن هذان النمطان‪:‬‬
‫أنور عبدالملك‪ ،‬وعزيز السيد جاسم‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫التالقي واالفتراق‬

‫ينطلق عبدالملك وعزيز السيد جاسم من ضرورات تعميق الوعي‬


‫ِّ‬
‫والمفكرين في‬ ‫المعرفي‪ ،‬وزيادة الحضور الشعبي‪ ،‬وشراكة المثقَّ فين‬
‫ّ‬
‫تحرير القدرات واإلمكانات‪ ،‬بما يح ّتم مواجهة الهيمنة الفئوية أو التس ُّلط‬
‫السياسي‪ .‬كما أنهما يستندان إلى مرجعية معرفية واسعة‪ ،‬تدعوهما إلى‬
‫وتقصي المقارنة‪ ،‬على شتى الصعد‪ ،‬فها هو عزيز‬
‫ّ‬ ‫التعمق في النظرة‬
‫ُّ‬
‫السيد جاسم يقول في تفسير االنفتاح الفكري في كتاباته‪« :‬من األمور‬
‫ّ‬
‫المادي‬ ‫مهم ًا في تخفيف غلواء المنهج‬
‫ّ‬ ‫لعبت دور ًا‬
‫ْ‬ ‫األساسية التي‬
‫وبخاصة ح ّريّة‬
‫ّ‬ ‫التاريخي الذي تأثرت به سابق ًا‪ ..‬شعوري بقيمة الح ّريّة‪،‬‬
‫الفكر»( ((()‪ .‬وغالب ًا ما تخترق إحاالت مماثلة كتابات أنور عبدالملك‪،‬‬
‫حين يكتب في الثقافة واالجتماع‪ ،‬أو عن كتابات جاك بيرك مث ً‬
‫ال‪،‬‬
‫بالرد على المستعمر‪ ،‬على أساس أن الدولة‬
‫ّ‬ ‫لكن عبدالملك يبتدئ‬
‫ّ‬
‫الوطنية قامت لتبديل الحال‪ :‬فيرى الفعل الثقافي سعي ًا تربوي ًا‪ ،‬كما يراه‬
‫غرامشي عند المجتمع المهيمن‪ ،‬بقصد معاكسة سياسة دنلوب‪ ،‬مستشار‬
‫لورد كرومر‪ ،‬لـ «إخراج عقول عاجزة عن النقد والتفكير الخلّاق»‪ .‬أما‬
‫الرد‪ ،‬بل سيكتب‬ ‫ِّ‬
‫تتشكل من مثل هذا ّ‬ ‫اهتمامات عزيز السيد جاسم فال‬
‫مقاالته األدبية الستينية بعد عقد من مشاركة عبدالملك في «المساء»‪،‬‬

‫‪ -1‬عزيز السيد جاسم‪ :‬ملف خاص‪ ،‬في مجلة األقالم‪ .‬تموز ‪ ،1990‬ص ‪.111‬‬

‫‪79‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫موزع ًا إياها بين‪« :‬المعرفة» السورية‪ ،‬و«اآلداب»‪،‬‬


‫والصحافة األخرى‪ّ ِ ،‬‬
‫و«األديب»‪ ،‬و«علوم»‪ ،‬و«الكلمة العراقية»‪ ،‬وكذلك بين الصحف‪،‬‬
‫عارض ًا قضية الثقافة ومفاهيمها وا ّتجاهاتها‪ ،‬وعارض ًا‪ -‬أيض ًا‪ -‬الفلسفة‬
‫سيعنى به االثنان من منظور متعارض‪،‬‬
‫واألدب الوجودي؛ وهذا األخير ُ‬
‫لكن عزيز السيد جاسم سيرفد هذه المقاالت‬
‫ّ‬ ‫يتبين بعد حين‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كما‬
‫بعد ‪ ،1968‬بما يراه حتمية أخرى للممارسة‪ ،‬تستبطن‪ ،‬عن بعد زمني‬
‫ومكاني‪ ،‬ما فعله عبدالملك بعد ثورة ‪ ،1952‬متناو ً‬
‫ال مجموعة من‬
‫ٍ‬
‫مساق شبيه بذاك الذي يحدو‬ ‫المشكالت االجتماعية واالقتصادية في‬
‫باالقتصاد ِ ّي ْين‪ :‬إبراهيم كبه‪ ،‬ومحمد سلمان حسن‪ ،‬وسعدون حمادي‬
‫(النفطي) لإلتيان بتص ُّور ما‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واالقتصادي‬ ‫إلى قراءة الوضع الفلّاحي‬
‫عن احتماالت المستقبل‪ .‬وبينما كان حمادي ي ّتجه نحو «إصالحية»‬
‫متهادنة‪ ،‬كان الفكر الجديد المتأ ِ ّثر بالماركسية ينحو باتجاه التحويل‬
‫االقتصادي المتكافئ في دولة اشتراكية مستقبلية‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬ليس الفكر هو ما يجمع السيد جاسم وعبدالملك‪ ،‬وإنما هو‬


‫ْ‬
‫الحس الطاغي بالمشاركة في المناقشة والجدل والتصويب‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫ّ‬
‫نقرأ لعبدالملك عشرات الردود والمناقشات‪ ،‬ومثله عزيز السيد جاسم‬
‫يعده‬
‫الذي ال يتوقَّف حتى عن مناقشة عالم االجتماعي الوردي‪ ،‬في ما ّ‬
‫خليط ًا بين قراءة اإلفراز الحضري والبداوة‪ .‬كما أن االثنين يتوقّ فان‬

‫‪80‬‬
‫كثير ًا عند ظواهر التس ُّلط واالنحراف عن المعلن؛ إذ قد يصادق‬
‫عبدالملك‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬على خطاب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في‬
‫االعتراف بالح ّريّات الطبقية وتمثيالتها‪ ،‬وكذلك على «النهضة الثانية»‬
‫التي يراها وليدة جيل مثقَّ ف أنتج‪ ،‬وشارك‪ ،‬منذ األربعينيات‪ ،‬واجد ًا‬
‫في ذلك شروع ًا نحو تحرير العقلية المصرية من ا ّتجاهها األسطوري‪،‬‬
‫العلمي‪ .‬لكنه‪ ،‬في مثل هذه الدعوة‪ ،‬ال تغيب عن‬
‫ّ‬ ‫ودفعها نحو االتجاه‬
‫باله حقيقة أن سنوات ما بعد الثورة ولغاية ‪ 1964‬هي أ كثر تحديد ًا‬
‫وكبح ًا من النهضة األؤلى ومن ليبراليتها وانفتاحها‪ ،‬فيقول‪« :‬إن‬
‫المح ّرمات في ميادين الدين والفلسفة والسياسة والجماليات تتضاعف‬
‫باسم الدفاع عن االستقالل الجديد وحمايته» (((‪ .‬وبينما يم ّر عبدالملك‬
‫على مشكلة المح َّرمات مرور ًا عابر ًا‪ ،‬يتوقَّف عندها عزيز السيد جاسم‬
‫ملي ًا‪ ،‬بصفتها من أمراض الحركات‪ ،‬عند استالمها السلطة‪ .‬فهو يراها‬
‫ّ‬
‫انعكاس ًا لظاهرة التخ ُّلف على قيادة الدولة‪ ،‬كما أنها ظاهرة قابلة‬
‫لالستشراء في صياغات كثيرة يضطلع بها المحترفون الجدد‪ ،‬من أبناء‬
‫البورجوازية الصغيرة الذين يحابون نزعة التخ ُّلف الحتواء االمتيازات‪.‬‬
‫ّ‬
‫الالثوري»‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كـ«الثوري‬ ‫ولهذا لم تكن كتبه األولى في هذا الميدان‪،‬‬

‫‪-1‬عن خطاب عبدالناصر‪« :‬كل واحد حر في تفكيره‪ »...‬في «المساء» ‪.1957/9/17‬‬


‫دراسات‪ ،..‬ص‪ :118‬وعن الردّ على دنلوب وكرومر‪ ،‬ص‪ 219‬وص ‪255‬؛ وعن مجتمعنا‪،‬‬
‫ص‪303‬؛ واالستقالل الجديد‪ ،‬ص‪.443‬‬

‫‪81‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫غير تشريح ألمراض الحركات الثورية الممتلئة بروح الريف‪ ،‬وهي َتقْ ُدم‬
‫شغلت فانون تشغله‪ ،‬لكنه يقوم بتعميقها‬
‫ْ‬ ‫إلى المدن‪ .‬فالظواهر التي‬
‫في هذه الكتابات‪ ،‬من خالل التجربة والدليل‪ .‬ذلك أن خبرته في‬
‫الفالحي» وقراءاته الواسعة أتاحتا له تقديم تشريح لظواهر‬
‫ّ‬ ‫«العمل‬
‫الفعل المريض الذي قد يتالقى مع أمراض «اليسار الطفولي»‪ ..‬لكنه‪،‬‬

‫أي الفعل‪ ،‬يتجاوز هذا اليسار كثير ًا‪ ،‬بحكم ُّ‬


‫تعدديات االنتماء والجذر‬
‫االجتماعي‪ ،‬وتمازج األفكار‪ ،‬وتباين الفئات‪ ،‬وتداخل الوالءات‪ .‬كما‬
‫والتعمق تتجاوز الخطاب النظري ك ّلما‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫المفكر على االستزادة‬ ‫أن قدرة‬
‫ّ‬
‫ا َّتسعت تجربته‪ ،‬واختلطت بالحياة التفصيلية للناس‪.‬‬

‫وقد يكون عبدالملك شغوف ًا بالفلّاحين ومشكالتهم ومستلزمات‬


‫اإلصالحات الزراعية‪ ،‬كما يظهر في مراجعته لكتاب إبراهيم عامر‬
‫تقصيه يتوقّ ف عند‬
‫ّ‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫مث ً‬
‫ال‪ ،‬أو عند مراجعته لكتاب بيرك ( ((‪.‬‬
‫المضاد من‬
‫ّ‬ ‫نصه‬ ‫ّ‬
‫يتشكل ّ‬ ‫عنايته المعرفية‪ ،‬والتربوية تحديد ًا‪ .‬وهكذا‬
‫نص ًا مكتوب ًا‬
‫الرد على دنلوب مستشار لورد كرومر‪ :‬فما يعرضه األخير ّ‬
‫ّ‬
‫مقدس ًا‪ ،‬ينبغي دفع المصريين لحفظه ونقله وتعاطيه‪ ،‬يُستعاد مقلوب ًا‬
‫ّ‬
‫يقدم‬ ‫ينمي َم َل َك َة التفكير بدي ً‬
‫ال للحفظ‪ ،‬لكنه ال ِ ّ‬ ‫عند عبدالملك بما ّ‬
‫تشكيالت هذا النص؛ فالتجربة خارج أفق التنظيمات من جانب‪،‬‬

‫‪-1‬دراسات‪ ،...‬ص ‪.312 ،290‬‬

‫‪82‬‬
‫تعم ٍق‬
‫األكاديمي من جانب آخر‪ ،‬ال يقودان إلى ُّ‬
‫ّ‬ ‫الذهني‬
‫ّ‬ ‫والتأسيس‬
‫المضاد يحفر حضوره في‬
‫ّ‬ ‫نصه‬
‫فإن ّ‬
‫وتقص م ّتصل‪ .‬ورغم ذلك‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫مضن‬
‫ٍ‬
‫بخاصة ( ((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فعالة فيه‪ ،‬خارج مصر‪،‬‬
‫واقع خمسيني‪ ،‬لم تزل الليبرالية ّ‬
‫ٍ‬
‫ولهذا كان السياب‪ ،‬والبياتي‪ ،‬والفنان جواد سليم‪ ،‬وغائب طعمة فرمان‪،‬‬
‫وحنا مينه‪ ،‬والشاروني‪ ،‬ويوسف إدريس‪ ،‬وأمل دنقل‪ ،‬وفؤاد التكرلي‪،‬‬
‫ومهدي عيسى الصقر‪ ،‬وعبدالملك نوري‪ ،‬وعشرات الشعراء والفنانين‬
‫المضاد‪ ،‬انتصار ًا‬
‫ّ‬ ‫النص‬
‫ّ‬ ‫والك ّتاب يتجاورون في تكوين مواصفات‬
‫لإلنسان المغلوب المضطهد‪.‬‬

‫لكن االفتراق بين العقلين‪ :‬أنور عبدالملك‪ ،‬وعزيز السيد جاسم‪ ،‬يتأ كد‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫فكري‪،‬‬ ‫السياسي‪ ،‬با ّتجاه ما هو‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي‪-‬‬
‫ّ‬ ‫الهم‬
‫ّ‬ ‫عندما يتباعدان عن‬
‫يخص السلطة والداعية الثقافي في أن واحد؛ إذ سيكتب كالهما في‬
‫ّ‬
‫كدت صفة‬
‫ْ‬ ‫لكن تأمّالتهما تتباين ك ّلما تأ‬
‫ّ‬ ‫موضوعات الفكر المعاصر‪،‬‬
‫وقاص‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النظري‪ .‬فعزيز السيد جاسم ناقد‬ ‫اإلبداع على حساب المستبق‬
‫ّ‬
‫األجل‪ ،‬بينما ينهمك عبدالملك‬ ‫ورسام‪ ،‬استجمع الفكر طاقته‬
‫ّ‬ ‫وشاعر‬
‫في مشروعه التاريخي ‪ -‬الحضاري‪ ،‬وإليه يستدرج مناقشاته المختلفة‬
‫العربي المعاصر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تتلخص في أطروحته للدكتوراه عن الفكر‬
‫ّ‬ ‫التي‬

‫‪-1‬يراجع سماح إدريس في هذا الموضوع‪ ،‬وحجم إحاالته على ذكريات المثقفين‬
‫المصريين‪ ،‬في كتابه المثقف العربيّ والسلطة»‪ .‬لكنّ السنوات الالحقة طاولت المثقفين‬
‫السوريين‪ -‬أيض ًا ‪ -‬تحت مظلة الوحدة!‬

‫‪83‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫وسيكتب عزيز السيد عشرات الكتب‪ ،‬بكفاية عالية‪ ،‬وإحساس عميق‬


‫بضرورة القول‪ ،‬تفتقده مئات الدراسات األكاديمية‪ ،‬فهو يتناول «حق‬
‫ميزا‬
‫(المؤسسة العربية‪ )1981 ،‬بالكفاية والحرص اللذين ّ‬
‫ّ‬ ‫المرأة»‬
‫كتابه الالحق «المفهوم التاريخي للمرأة» (‪ .)1986‬كما أنه كتاب‬
‫«في المجالسية‪ ،‬والثورة والح ّريّة الناقصة‪ ،‬والرأسمالية‪ :‬حقيقة أم‬
‫و َْهم»‪ ،‬يثير من المعضالت أ كثر بكثير من الحلول‪ .‬وقد يبحث في‬
‫«الطبقة واألمة» منذ ‪ ،1976‬وبعده في ديالكتيك العالقة المعقَّ دة‬
‫المادية والمثالية (‪ ،)1981‬لكنه ال يريد أن يعلي أمر ًا على حساب‬
‫ّ‬ ‫بين‬
‫آخر؛ فثنائية المقارنة هي بحث عن تعاقدية الحل‪ .‬وحتى عندما‬
‫يتساءل في االلتزام والتص ُّوف في شعر البياتي (‪ ،)1990‬فليس ثمة‬
‫ألن «الروح المشترك» الذي ت ّتحد‬
‫خيار ميسور يبتغي الوصول إليه‪ّ ،‬‬
‫عنده األشياء في تأمُّ الت «الطبيعة المثقَّ فة» عنيد وصعب أيض ًا ( ((‪.‬‬
‫ولعل هذا الهاجس‪ ،‬وكذلك ابتغاء الح ّريّة سبي ً‬
‫ال وغاية‪ ،‬هما اللذان‬
‫يميزانه عن أنور عبدالملك‪ ،‬فليكن مثا ُلنا على ذلك تناو َلهما للوجودية‪،‬‬
‫ِّ‬
‫الخمسينيات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الثقافي‪ ،‬منذ‬
‫ّ‬ ‫ا ِ ّتجاه ًا‪ ،‬وفلسف ًة حاضر ًة في الذهن‬

‫النص المضادّ‬
‫ّ‬ ‫تشكيالت‬
‫وبدء ًا‪ ،‬ي ّتفق االثنان على سارتر‪ ،‬لكنهما يتباعدان عند هذا االبتداء‪.‬‬

‫‪- 1‬مجلة «األقالم»‪ ،‬عزيز السيد جاسم‪ :‬ملف خاص‪ ،‬تموز ‪ ،1990‬ص‪.111‬‬

‫‪84‬‬
‫ّ‬
‫الوجودي‪ ،‬والتحاقه‬ ‫فعبد الملك يثني على سارتر لسعيه خارج المدى‬
‫أن «ال سبيل إلى‬
‫بحركات التح ُّرر‪ ،‬إذ إنه أدرك‪ -‬بكلمات سارتر‪ْ -‬‬
‫‪ .‬أما عزيز السيد جاسم فإنه يرى‬ ‫الح ّريّة إال بمقاومة الغاصب»‬
‫ ( ((‬

‫الوجودية ِ ّ‬
‫تقدم‪ ،‬أيام األزمات‪ ،‬أطباق ًا مناسبةً‪ ،‬لكنها لم تكن حلو ً‬
‫ال‬
‫بالمعنى اإليجابي‪ -‬االجتماعي‪ ،‬بل كانت نوع ًا من عزاء الذهن‬
‫الحادة‪« :‬كان رأي سارتر حول‬
‫ّ‬ ‫السياسي في إطار عصر اإلحباطات‬
‫وبأن االشتراكية هي النظرية والمذهب‬
‫ّ‬ ‫صلة الوجودية باالشتراكية‪،‬‬
‫التنصل نهائي ًا‪ .‬عموم ًا‪ ،‬كانت الوجودية تستجيب‬
‫ُّ‬ ‫األم‪ ،‬مناسب ًا لعدم‬
‫ّ‬
‫للهروب من الماركسية وتحافظ ‪ -‬بدرجة ما‪ -‬على حقّ الذات البشرية‬
‫في االختيار» (((‪.‬‬

‫ومثل هذا االفتراق يقترن‪ -‬أيض ًا‪ -‬بالموقف الشخصي حينذاك؛ إذ‬
‫بقي عبدالملك داخل التنظيمات‪ ،‬بينما تركها عزيز السيد جاسم في‬
‫بحثه المأزوم عن الح ّريّة‪ .‬ولهذا كان عبدالملك ينطلق‪ ،‬في معالجته‬
‫للوجودية‪ ،‬من الظرف العام‪ ،‬من مؤتمر باندونغ وبشائر حركات التح ُّرر‪،‬‬
‫تصد الفلسفات‬
‫ّ‬ ‫يستجد في قلبه األمل في تطوير فلسفة تثقيفية‬
‫ّ‬ ‫حيث‬
‫وضد فلسفة‬
‫ّ‬ ‫ضد كامو‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتوجه مباشر ًة‬
‫ّ‬ ‫المضادة؛ ولهذا‬
‫ّ‬ ‫واال ّتجاهات‬

‫‪ -1‬روز اليوسف‪ ،‬العدد ‪.١٩٥٦/٧/٢٣ ،1467‬‬


‫‪ -2‬األقالم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.111‬‬

‫‪85‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ّ‬
‫المفكر‬ ‫االنتحار (ص ‪ ،)108‬مستغرب ًا أن يصادق الق ّراء على رأي هذا‬
‫الفلسفي في المقعولية الكون‪ ،‬وفردية الكفاح‪ ،‬ومسلك الرفض‪.‬‬
‫ويُجري كامو إسقاط ًا ألفكاره‪ ،‬في أسطورة سيزيف‪ ،‬حول ال جدوى‬
‫الفعل اإلنساني‪ ،‬وعدمية الحياة‪ .‬من هنا‪ ،‬يرى عبد الملك الفلسفة‬
‫ُّ‬
‫والتنكر لكل مكاسب‬ ‫للتنصل من المسؤولية‬
‫ُّ‬ ‫المذكورة بمثابة «دعوة‬
‫العلوم البشرية» (ص‪.)111‬‬

‫وال يصادق عزيز السيد جاسم‪ ،‬في مقالته عن األدب الوجودي‪،‬‬


‫المنشورة عام ‪ 1967‬في «األدب»‪ ،‬على كل ما في الكتابة الوجودية‪:‬‬
‫يسميه «تشخيص الشيء الجوهري» لدى الوجودية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فهو ينطلق مما‬
‫اليد على مح ِ ّرك الوجود وقبطانه‪ ،‬أو اإلنسان كذات‬
‫َ‬ ‫أي وضعها‬
‫«تتبدل كل القيم واألفكار‪ ،‬وإذا‬
‫ّ‬ ‫وكمجموعة بشرية‪ .‬وبموجب ذلك‬
‫مقدس‪ ...‬ينتقل إلى مرحلة جديدة من الفحص واالختبار وإثبات‬ ‫ّ‬
‫بكل َّ‬
‫ينشد إليها‪ ،‬ولهذا‬
‫ّ‬ ‫أو نفي المشروعية» (((‪ .‬ومثل هذه النقطة هي التي‬
‫جد نائية ال يصل‬
‫«إن اليقين عنده منطقة ّ‬
‫ّ‬ ‫يقول حميد سعيد عنه‪:‬‬
‫إلى تخومها إ ّلا عبر عذابات الشك وحرائق األسئلة»‪ .‬ويجد َم َثله في‬
‫الوجودية عندما أوجدت «فوضى قيمية ضاربة»‪ ،‬كما يقول‪ ،‬ألنها‬

‫‪ -1‬دراسات نقدية في األدب الحديث (بغداد‪ :‬اإلرشاد‪)1970 ،‬؛ ط جديدة‪ ،‬الهيئة‬


‫المصرية العامة للكتاب‪.1996 ،‬‬

‫‪86‬‬
‫تمت معها التساؤالت الفلسفية‬
‫مهمة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫كانت بمثابة «انتفاضات أدبية‬
‫ِ‬
‫باطّ راد عجيب‪ :‬ما اإلنسان؟ ما المصير؟ ل َِم الموت؟ ول َِم الحياة إذ ًا؟»‬
‫يستجد بروز «حقيقة النزاع بين اإلنسان والمجموع‬
‫ّ‬ ‫(ص ‪ .)191‬ولهذا‬

‫ِّ‬
‫متوهج ًا ذاتي ًا «يهوي كنجم‬ ‫الخارجي» (ص ‪ ،)192‬فيظهر التم ُّرد‬
‫يقدم‬
‫ّ‬ ‫أن سارتر‪ -‬مث ً‬
‫ال‪-‬‬ ‫مذ ّنب إلى قعر الفقدان الالمتناهي» لوال ّ‬
‫«تجربة فريدة مدهشة‪ ،‬هي تجربة اإلنسان الذي لم توقفه تفاهة المصير‬
‫عن إعطاء معنى إلنسانيته» (ص‪.)193‬‬

‫ثقافي ْين مؤ ِ ّثرين‪ ،‬هما سارتر‪ ،‬وكامو‪،‬‬


‫َّ‬ ‫وعندما يجري التفريق بين كيان َْين‬
‫يعيد عزيز السيد جاسم تحرير اللغة من المحاكمة أو الرفض القاطع‪.‬‬

‫إن «اإلنسان عاصفة ِ ّ‬


‫ميتة» فإنه كاني يعاني‬ ‫فعندما يقول سارتر ّ‬
‫هلعية البورجوازية الصغيرة التي تجأر بين الخور واالعتداد باإلرادة‬
‫الالمبالية‪ ،‬لكنه سرعان ما عادل ذلك بمفهوم االلتزام‪ ،‬أما كامو فلم‬
‫«يلتزم االلتزام من دون أن ينكره‪ .‬بل إنه يجعل األديب متنقّ ً‬
‫ال حول‬
‫الموضوعات‪ ،‬ملتزم ًا تارةً‪ ،‬ومبتعد ًا تار ًة أخرى‪ ،‬لعله‪ ،‬في ذلك‪ ،‬يستطيع‬
‫تعديل وجهات نظره على تفاوت الزمن والمسافة» (ص ‪ .)194‬ومثل‬
‫الجادة الوجودية ُكلّاً ‪ ،‬ألنه‬
‫ّ‬ ‫هذه المصادقة الضمنية لم تدفع به إلى‬
‫يرى األدب الوجودي ذكي ًا‪ ،‬من دون أن يعطي جواب ًا معقو ً‬
‫ال لعالم‬
‫تحكمه الالمعقولية؛ ولهذا تجيء االستجابة لسارتر بسبب «مزاوجته‬

‫‪87‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫لكن حضور الفلسفة‬


‫ّ‬ ‫وجوديّته مع ديالكتيكية علمية تاريخية» (‪.)194‬‬
‫للتجمعات والتنظيمات التي‬
‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫وتحد‬ ‫«رد فعل‬
‫ّ‬ ‫الوجودية يأتي بمثابة‬

‫ك ّونتها الرأسمالية‪ ،‬مذيب ًة للوجود الفردي ُ‬


‫الح ّر» (ص ‪.)194‬‬

‫الح ّر» سيكون جوهر الكتاب وغاية النشدان‪.‬‬ ‫ّ‬


‫الفردي ُ‬ ‫هذا «الوجود‬
‫الالتيني»‬
‫ّ‬ ‫العربي‪ ،‬لوال أن «الحي‬
‫ّ‬ ‫يتجسد في السرد‬
‫َّ‬ ‫وهو ما يستحقّ أن‬
‫لسهيل إدريس‪ ،‬و«الصمت والمطر» لحليم بركات‪ ،‬و«المهزومون»‬
‫لهاني الراهب‪ ،‬و«جيل القدر» و«ثائر محترف» لمطاع صفدي‪،‬‬
‫يعوزها أم ٌر ما‪ ،‬ي َْعرضه بسؤال عما إذا جادت الفردية والهوس والتح ُّلل‬
‫واإلذابة بما يقابلها‪ -‬أيض ًا‪ -‬من إرادة وتم ّرد وتوثُّب وشجاعة‪ .‬إنه‬
‫يشدها كـ«وعي أصيل مدرك لشروط التاريخ‬
‫ّ‬ ‫يراها ناقصة يعوزها ما‬
‫وصيرورة األشياء وكينونتها وحيويّتها»‪ .‬إنها‪ -‬كما يرى‪« -‬قفزات‬
‫أهم ّية ملغاة‪ ،‬ألنها لم تصدر عن بصيرة‬
‫مبدعة‪ ،‬لكنها‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬ذات ّ‬
‫ثابتة متطلعة مستطلعة كاشفة‪ ،‬تعتمد‪ ،‬في منحها وإعطائها‪ ،‬على نضوج‬
‫فكري مخصب‪ّ ِ ،‬‬
‫تنشطه التجربة والعمل» (ص ‪.)195‬‬ ‫ّ‬

‫ُّ‬
‫الثوري فيه‪ ،‬وإنما‬ ‫إن المبدع عند عزيز السيد جاسم ال يصادره المثقَّ ف‬
‫يمتزجان مع ًا إزاء قضية الح ّريّة‪ ،‬فانشداده إلى التحليل الماركسي لم‬
‫يلغ انشداده إلى مفهوم الح ّريّة الوجودية‪ ،‬وهذا ما يدعوه إلى تناقضية‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫شرطي الفهم‬ ‫التاريخ والح ّريّة‪« :‬فالتاريخ هو تحقيق الح ّريّة حسب‬

‫‪88‬‬
‫ونشاطيته تبقى‬
‫ّ‬ ‫الصحيح ْين‪ :‬الهيغلي‪ ،‬والماركسي‪ ،‬ولكن صحة التاريخ‬
‫َ‬
‫مع َّلقة مادامت الح ّريّة مفتقده وباقية كموضوع مجاهدة»‪ ،‬كما يقول في‬

‫«الثورة والح ّريّة الناقصة» (((‪ .‬ويلتقط عبدالله العروي هذه المالحظة‬

‫ويقرنها بالمعنى الواسع الذي منحه المثقَّ فون العرب للمفهوم‪ ،‬من‬
‫يعدونه إغفا ً‬
‫ال‬ ‫ج ّراء تأثّرهم بالوجودية‪ ،‬ومن ج ّراء انتقاد ِ ّ‬
‫مفكريهم لما ّ‬
‫تالي ًا لمدياتها‪ .‬ويكتب العروي محاور ًا السيد جاسم‪:‬‬

‫«التناقض موجود بالفعل عند ماركس الشاب‪ ،‬وحتى عند هيغل‬

‫لكن السبب الذي جعل المؤ ِ ّلف يعي هذا التناقض‪ ،‬اليوم‪ ،‬هو‬
‫ّ‬ ‫الشاب‪،‬‬

‫أنه يستعمل مفهوم التاريخ كالماركسيين‪ ،‬ومفهوم الح ّريّة كالوجوديين‪.‬‬

‫أحس أبد ًا بهذا التناقض‬


‫ّ‬ ‫لو بقي في نطاق ماركسية أنجلس‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬لما‬

‫ألنه‪ -‬بكل بساطة‪ -‬سيرجئ الح ّريّة الفردية المطلقة إلى ما بعد نهاية‬

‫التاريخ‪ .‬طلبه اإلبقاء على الح ّريّة في نطاق التاريخ كما يعيشه اإلنسان‪،‬‬

‫ضد مفهوم الموضوع‪،‬‬


‫اآلن‪ ،‬هو طلب الوجوديين منذ أن ثار كيركغارد ّ‬
‫ْ‬
‫أي مفهوم التاريخ عند هيغل» (((‪.‬‬

‫‪ -1‬بيروت ‪.1971‬‬
‫ّ‬
‫العروي‪ :‬مفهوم الح ّريّة (بيروت‪ :‬المركز الثقافي العربي‪ ،1993 ،‬ط ‪ ،)5‬ص ‪.78‬‬ ‫‪ -2‬عبدالله‬

‫‪89‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫خطاب ما بعد االستقالل‬

‫ّ‬
‫يتشكل‪ ،‬عند عبدالملك‪ ،‬عبر الولوج إلى‬ ‫المضاد‬
‫ّ‬ ‫أن النص‬
‫وكما ّ‬
‫المساحة التي يبلغها ويستثمرها دنلوب‪ ،‬بما يبدي هذا النص واقع ًا في‬

‫َص عزيز السيد جاسم‬


‫فإن ن ّ‬
‫استراتجيات خطاب ما بعد االستقالل‪ّ ،‬‬
‫ال من مجموعة مك ّونات‬ ‫ِّ‬
‫متشك ً‬ ‫يتوجه نحو حاضر اللحظة ومستقبلها‪،‬‬
‫ّ‬
‫وجمعت حولها المريدين‪:‬‬
‫ْ‬ ‫أخذت مداها في التأثير‪،‬‬
‫ْ‬

‫‪ - 1‬فهي قراءات فكرية وأدبية وسياسية تتواطأ في ما بينها إلعالء‬

‫الح ّريّة الفردية وتأ كيدها‪ ،‬والسعي الحثيث نحو التثقيف بمشروعية‬

‫القومي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي والتح ُّرر‬
‫ّ‬ ‫التح ُّرر‬

‫ّ‬
‫االنتهازي‪ ،‬بصفته بذرة انتعاش‬ ‫‪ - 2‬وهي كثيرة اإلحاالت على السلوك‬

‫مجسد ًا في أفراد أو جماعات‪.‬‬


‫َّ‬ ‫القهر‬

‫معنية بتقديم برامج عمل لإلصالح الزراعي‪ ،‬واالجتماعي‪،‬‬


‫ّ‬ ‫‪ - 3‬وهي‬

‫والسياسي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واالقتصادي‪،‬‬

‫‪ - 4‬وهي تثير عالمات االستفهام عن تعاظم المركزية‪ ،‬مح ِ ّرر ًا خطابه‬

‫قصته «حصانة‬ ‫ّ‬


‫كافكوي‪ ،‬كما هو األمر في ّ‬ ‫من أنيته بوضعه في مزاج‬

‫السيد س»‪ ،‬وكذلك في «الحضارة واالغتراب»‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫ّ‬
‫جذري لفعاليته‬ ‫‪ - 5‬وهي تح ّرك التاريخ بدينامية أخرى‪ ،‬واستطالع‬
‫المضادة للتم ُّلك واالستثمار والتس ُّلط‪ ،‬كما في «محمد الحقيقة‬
‫ّ‬
‫العظمى» (دار األندلس‪ ،)1988 ،‬و«علي بن أبي طالب‪ :‬سلطة‬
‫الحق» (ط‪ ،2‬دار االنتشار العربي)‪.‬‬

‫‪ - 6‬وهي تستحضر غربة المثقَّ ف‪ ،‬منذ سقراط‪ ،‬مرور ًا بالشريف الرضي‪،‬‬


‫ومتص ِ ّوفة بغداد‪.‬‬

‫‪ - 7‬وهي ذات حضور شخصي‪ ،‬تراه في المدوَّنة‪ ،‬كما تراه في‬


‫سلوكه‪ .‬وقبيل اعتقاله (‪ )1991/4/15‬في بغداد‪ ،‬كان يمشي وئيد ًا‬
‫بمالبس زرقاء كالحة فاتني معناها ( ((‪ ،‬كما فات اآلخرين من قليلي‬
‫يخصها بالمالحظة‪ ،‬دائم ًا‪ ،‬ك ّلما كتب عن راسل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الوعي بالعالقة التي‬
‫وسقراط‪ ،‬وسارتر‪ ،‬وآخرين (((‪ .‬وكانت جوالته مشي ًا على األقدام بمثابة‬
‫اليومي‪ ،‬منذ أن َش َغفه التص ّو ُ‬
‫ف‪ ،‬واستمالته الدروش ُة والزهد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تمرينه‬

‫ٌ‬
‫درويش‪ :‬ل َِم ترتدي األزرق؟ فأجاب‪« :‬ترك الرسول ثالثة أشياء‪ :‬الفقر‪ ،‬والمعرفة‪،‬‬ ‫«سئل‬
‫‪ُ -1‬‬
‫والسيف‪ .‬فالسيف أخذه الملوك وأساءوا استعماله‪ ،‬والمعرفة أختارها العلما ُء وقنعوا بمجرد‬
‫تعلمها‪ ،‬والفقر اختاره الدراويش وجعلوه وسيلة لإلثراء»‪ .‬وإني ألبس األزرق حداد ًا على ما‬
‫أصاب هؤالء الثالثة من مصيبة»‪ ،‬أبو الحسن علي بن عثمان الهجويري‪ ،‬كشف المحجوب‪،‬‬
‫تحقيق محمود أحمد ماضي أبوالعزائم (القاهرة‪ :‬التراث العربي‪ .‬د‪ .‬ت)‪.‬‬
‫‪ -2‬دراسات نقدية في األدب الحديث (بغداد‪ :‬اإلرشاد‪ .)1969 ،‬أعادت الهيئة العامة‬
‫المصرية للكتاب نشره‪ ،1995 ،‬مقالته «انتمائية كولن ولسن»‪ ،‬ص ‪ .227‬وتجري اإلحالة‬
‫على كتاب عزيز السيد جاسم داخل المتن‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ّ‬
‫فكري انتشر في مقاالته وكتبه‪.‬‬ ‫بدء ًا من شقاء ‪ ،1988‬بعد تململ‬

‫التشعب‪ ،‬ي َْغرف من التجربة والمثاقفة‪ ،‬فيه‬


‫ُّ‬ ‫نصه المضاد كثي ُر‬
‫أي أن ّ‬
‫ُ‬
‫ومعارف عامّة وقراء ُة‬ ‫تج ّليات صوفية‪ ،‬ووجودية‪ ،‬وأخرى ماركسية‪،‬‬
‫عميقة في الموروث‪ ،‬بما يبديه مشروع ًا ال ينتهي‪ ،‬مليئ ًا بـ «التوثُّب‬
‫ّ‬
‫النظري الذي ال ينقطع»‪ ،‬كما يكتب عنه عبدالرحمن طهمازي‬
‫(األقالم‪ ،‬تموز ‪ ،1990‬ص ‪ .)124‬وما يجعل هذا النص متسجيب ًا‬
‫للمفارقة المعقودة‪ ،‬في ثنايا هذه الدراسة‪ ،‬للنخبة الثقافية واالنشقاق‬
‫عنها هو أنه يراهن على رفض التبعية‪ ،‬دافع ًا خطابه إلى المشاكسة‬
‫المستم ّرة‪ ،‬وهو يعزل بين مقولة وأخرى‪ ،‬وبين فعل وآخر‪ .‬فالخطاب‬
‫ال‪ -‬من مجموعة قراءات في المدوّنة المثقَّ فة‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬
‫يتشكل‪ -‬أو ً‬ ‫المضاد‬
‫تتبدى في هذا الخطاب‬
‫معينة؛ ولهذا ّ‬
‫أنه يحيل على أوضاع ومواقف ّ‬
‫صور للمثقَّ ف تستحقّ االستطالع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫مجموع ُة‬

‫يحن لجذور األشياء‪ ،‬من دون أن يح ِ ّول‬


‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫«المفكر دوم ًا‬ ‫‪ - 1‬فهو يقول‪:‬‬
‫تراثي أو مومياء تعشق أمسها»‪ ،‬مشير ًا إلى مرتكز الثقة‬
‫ّ‬ ‫نفسه إلى صنم‬
‫التي تحول دون انقذاف الذهن في ما هو محتدم التناقض من دون‬
‫جذر‪ ،‬كما يكتب عن كولن ولسن (ص ‪ .)205‬ومثل هذا التناقض هو ما‬
‫ي َْعرضه أيض ًا كانفراط بين القول والفعل‪ ،‬أو كـ «انشراخ في متاهات‪..‬‬
‫ّ‬
‫المفكرون والك ّتاب «نعم»‬ ‫متعارضة» (ص ‪ ،)168‬وذلك عندما يقول‬

‫‪92‬‬
‫و«ال»‪ ،‬في وقت واحد» (ص ‪.)202‬‬

‫ِّ‬
‫والمفكر‪ ،‬وكذلك الف ّنان الحقيقي‪ ،‬هو «ذلك الذي يمتلك‪ ،‬من‬ ‫‪-2‬‬
‫الجرأة النادرة‪ ،‬ما يخ َّوله حقّ المجابهة الذاتية» من أجل «القيام‬
‫داخلي مغلق» (ص ‪ ،)236‬على نحو ما‬
‫ّ‬ ‫بسياحة طويلة متعبة في عالم‬
‫يكتب عن المحنة التي جعلت من أندريه جيد كاتب ًا كبير ًا (ص ‪.)236‬‬

‫يتردد في الخيار عند الضرورة‪ ،‬ما بين‬


‫ّ‬ ‫‪ - 3‬والمثقَّ ف كاتب ًا‪ ،‬ال‬
‫الطموحات الشخصية والفن‪ .‬ويقول عن كازانتزاكي إنه شارك في‬
‫السلطة‪ ،‬وعندما شعر بالحيرة بين «أن يخون ما آمن به باألمس‪ ،‬أو أن‬
‫فعلي ًا» اختار الموقف الثاني «فظل اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫رأس ٍ‬
‫مال‬ ‫َ‬ ‫يعطي ألفكاره‬
‫في عقله وقلبه‪ ،‬واجت ّر مع مبادئه العج َز الذي ق ّوض وجدانه‪ ،‬فتخ ّلى‬
‫عن الوزارة‪ ،‬وكمن ي ُْخفق في شيء عليه أن يتوارى‪ ،‬فهرب بعيد ًا عن‬
‫بلده وإخوته» (ص ‪.)253‬‬

‫ِّ‬
‫ومفكر ًا‪ ،‬ال ينفصل عنده الحضور والكلمة‪ .‬وعندما‬ ‫‪ - 4‬والمثقَّ ف ف ّنان ًا‬
‫يحيل السيد جاسم على الشعراء يرى أن تكون القصيدة مشروع ًا ضخم ًا‬
‫إيجابي ًا مغامر ًا ي ّتحد بكل ثقته مع تس ُّلكات الشاعر ومواقفه‪ ،‬مستند ًا‬
‫إلى مقولة لجيمس جويس‪« :‬اإلنتاج والحياة كنسيج واحد متداخل‬
‫يتلمسها إدوارد سعيد عندما يعرض سيرة ف ّن ٍان في‬
‫متماسك» (ص‪ّ ،)89‬‬
‫شبابه في صور المثقَّ ف‪ .‬ومثل هذا االمتزاج يتأ َّكد في مالحظات أخرى‪:‬‬

‫‪93‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫أ ‪ -‬يتجاور فيها الشعر مع الغربة‪ ،‬على أساس أن الغربة هي امتياز‬


‫«يمتلكه (الشاعر)‪ ،‬لمجاورته المستم ّرة لمناخات الح ّريّة والمعرفة»‪،‬‬
‫(ص ‪.)88‬‬

‫نشدان الح ّريّة عبر كل والدة‪ .‬فالشاعر «ال يرتضي‬


‫ُ‬ ‫ب‪ -‬ويتحقّ ق فيها‬
‫الصمت»‪ ،‬مستخدم ًا سالحه الدائم‪ ،‬أي الشعر‪ ،‬فـ «يبدأ استئنافه من‬
‫جديد وفي ميالد كل قصيدة‪ّ ِ ،‬‬
‫مؤكد ًا ح ّريّته‪ .‬وهذه الح ّريّة‪َ ،‬ك َت ّ‬
‫كش ٍف‬
‫وانتزاع مستم ّرين‪ُ ،‬تصدم بأسيجة عديدة» (ص ‪ .)22‬ولهذا ال تذهب‬
‫ٍ‬
‫كلمات الشاعر أدراج الرياح «وال يمكن أن تزخرف بنا ًء موهوم ًا‪.‬‬
‫بل إنها تقاوم رصف الممسوخات لتحارب الممسوخية» (ص ‪.)25‬‬
‫وهكذا يتح َّول الشاعر إلى خالق‪.‬‬

‫ج‪ -‬وتستطلع فيها فرادة القصيدة‪ ،‬بصفتها موقف ًا متسامي ًا للمثقَّ ف‪،‬‬
‫خالق ًا ومتعام ً‬
‫ال بالكلمات سلوك ًا‪ :‬فـ «كل قصيدة مكتملة فني ًا هي‬
‫إنسانية‪ ،‬ألنها تفرقع البعد المزيَّف‪ ،‬وتم ِ ّزق الصورة التقليدية الرقيعة‬
‫لتمد نياشين استطالع فردية جديدة» (ص‪ .)97‬وكذلك شأن‬
‫ّ‬ ‫للعالم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المفكر في صياغاته المتسامية لما ينبغي أن يكون عليه أمر‬ ‫المثقَّ ف‬
‫األوضاع‪.‬‬

‫‪ - 5‬والمثقَّ فون‪ ،‬بهذا المعنى المعروض عند عزيز السيد جاسم‪ ،‬ليسوا‬
‫باعة كالم ومُ َس ِ ّوقين لألدعية‪ .‬كما أنهم ليسوا َس َدنة الهيئات واألحزاب‬

‫‪94‬‬
‫المضط ّرين إلى تلفيق المقال نزو ً‬
‫ال عند الرغبات العليا‪ .‬وحتى أولئك‬
‫الذين يُكثرون من اإلحالة على الجماهير‪ ،‬قد ي َْعنون بالشعبية االنتشا َر‬
‫ّ‬
‫«كل‬ ‫َ‬
‫والتغلغل بين الصفوف الجماهيرية‪ ،‬بينما ينسون أنها تعني بدء ًا‬
‫ما يق ّر وي َْستهدف مصلحة الشعب وسيل ًة وغايةً» (ص ‪ .)102‬وهؤالء‬
‫الجادة‪ ،‬مملكة‬
‫ّ‬ ‫«يدخلون‪ ،‬بجواز سفر مزيَّف‪ ،‬إلى مملكة الحقيقة‬
‫ّ‬
‫يشكل الكلمة الواحد َة المتطابق َة مع الواقع‬ ‫البسطامي‪ ،‬حيث ُّ‬
‫كل شيء‬
‫الداخلي للفرد» (ص ‪.)115‬‬
‫ّ‬

‫‪ - 6‬والمثقَّ ف‪ ،‬بهذا االستناد‪ ،‬ليس داعي ًة سياسية‪ ،‬وال يُنتظر منه‪ ،‬أو‬

‫من الشاعر أن ِ ّ‬
‫يقدم صورة للمباشرة التخاطبية‪ .‬فالشاعر‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬يمتلك‬
‫مباشر ًة أخرى‪ ،‬هي االلتقاء مع ثغور العالم الس ّريّة‪ .‬وهكذا‪ ،‬ي َُكون انتما ُء‬
‫ألن التزامه غريب كغرابة‬ ‫َ‬
‫المنتظر منه‪ّ ،‬‬ ‫خاص ًا به‪ ،‬ال االنتماء‬
‫ّ‬ ‫الشاعر‬
‫أطواره‪ ،‬ولهذا «كان خطر الشاعر في كل العصور» (ص ‪ .)94‬وعندما‬
‫يجري تطبيق االستنتاج على ماالرميه‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬يرى السيد جاسم التزامه‬
‫«إن شعر ماالرميه هو ح ّريّة بدائية‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫المتجذر للح ّريّة‪:‬‬ ‫قائم ًا في نشدانه‬
‫هائلة‪ ،‬عودة إلى براءة األلفاظ األولى» (ص ‪.)95‬‬

‫إن المثقَّ فين‪ ،‬كالشعراء والمتص ِ ّوفة‪ ،‬يمكن أن َي ْنخرط فع ُلهم في‬
‫‪ّ -7‬‬
‫ومسميات بين «المنتمي» كولن ولسن‪ ،‬عندما يظل الالمنتمي‬
‫ّ‬ ‫حاالت‬
‫ُ‬
‫الرأي‬ ‫ح ّر ًا من أية «مقولة دينية أو فكرية أو أية رابطة‪ ،‬إنما يتأ ّله لديه‬

‫‪95‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫والحس الفردي» (ص ‪)222‬؛ «ولهذا‪ ،‬يمكن أن يكون نيتشه بين‬


‫ّ‬
‫هؤالء‪ ،‬كما يمكن أن يكون المتص ِ ّوفة الشرقيون‪ .‬كما ّ‬
‫أن الالانتماء‬
‫لكن الخطوة التالية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والسحرة وغيرهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫قد يشمل الس ّواح الج ّوالين‬
‫في هذا المهاد‪ ،‬هي التي تق ِ ّرر رحلة المثقَّ ف» (ص ‪،)223 - 222‬‬
‫وتفصل بينه وبين هؤالء‪.‬‬

‫‪ - 8‬أما المثقَّ ف الذي يتآلف بين الصور فهو رديف الشاعر ومثيله‪،‬‬
‫ذلك الذي «يعيش التجربة الثورية في حضور دائم وحا ّر في ميدان‬
‫المجابهات»؛ بما يعني فناء الذات عبر «االندغام‪ ..‬التلقائي‬
‫ّ‬
‫ليحل في الثورة‪،‬‬ ‫سخي ًا عن ذاته‬
‫ّ‬ ‫المتفاعل» فيعيش الشاعر «تخ ّلي ًا‬
‫ّ‬
‫وتحل فيه» (ص ‪.)167‬‬

‫ِّ‬
‫والمفكر‪،‬‬ ‫وبمثل هذه التمثيالت‪ ،‬ما بين الف ّنان‪ ،‬والشاعر‪ ،‬والكاتب‪،‬‬
‫تتراءى مجموعة قواسم مشتركة تستبعد التبعية واألنانية والصنمي َة‬
‫والركاكة‪ ،‬و ُتعلي من الفداء والبهاء والفرادة والمشاكسة الغنية التي‬
‫التهادن ورهاناته‪ ،‬وتتداخل‪ -‬أساس ًا‪ -‬مع انهماك ذهني وانشغال‬
‫َ‬ ‫َت ْرفض‬
‫ّ‬
‫ثانوي‬ ‫اني‪ ،‬تتح ّول المصالح والصراعات الصغيرة إزاءه إلى موقع‬
‫ج ّو ّ‬
‫تمام ًا‪ .‬وبكلمة أخرى‪ّ ،‬‬
‫فإن صور عزيز السيد جاسم للشعراء والف ّنانين‬
‫تتداخل مع تلك التي ي َْعرضها‪ -‬الحق ًا‪ -‬إدوارد سعيد‪ ،‬وهو يحيل على‬
‫نصوص الغربة‪،‬‬
‫َ‬ ‫مجموعة أسماء وآراء‪ .‬ومثل هذه التمثيالت َت ْستطلع‬

‫‪96‬‬
‫واالمتعاض‪ ،‬والفتنة‪ ،‬وما يتوالد عنها من نصوص أخرى‪ .‬وكل توالد‬

‫جاد ال يأتي جزاف ًا‪ّ ،‬‬


‫ألن نصوص العصيان التالية ال تتم ّرد على مجهول؛‬ ‫ّ‬
‫العربي‪ .‬وإذا‬
‫ّ‬ ‫فهو ليس المستعمِ ر هذه الم ّرة‪ ،‬إذا ما أردنا قراءة مهادها‬
‫التقطت هذا المستعمِ ر‪،‬‬
‫ْ‬ ‫كانت روايات األربعينيات عند محفوظ قد‬
‫فإن نصوص العصيان تجد بذرتها عنده‬
‫وتابعت حضوره في الثالثية‪ّ ،‬‬
‫ْ‬
‫«الشحاذ»‪ ،‬كما تجدها عند الغيطاني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫في «اللص والكالب»‪ ،‬وفي‬
‫ِ‬
‫بصمات‬ ‫وفتحي غانم‪ ،‬وغائب طعمة فرمان‪ ،‬وآخرين‪ ،‬وسيجد هؤالء‬
‫ٍ‬
‫وصنوف متفاوتة‪ ،‬من السلطة والنفوذ‬ ‫المستجد بهيئات‬
‫ّ‬ ‫وريث المستعمِ ر‬
‫والغواية‪.‬‬

‫لكن انكفاء الوريث في رقع ٍة جغرافية ما‪ ،‬داخل خارطة الثقافة‬


‫ّ‬
‫أن‬
‫المضاد‪ ،‬بالضرورة‪ .‬فكما ّ‬
‫ّ‬ ‫والمجتمعات‪ ،‬ال يعني محدودية أثره‬
‫هتك «عصمته» المعلنة من طرف واحد‪ ،‬يجري في نصوص َت ْصدر‬
‫عن ش ّتى البقاع داخل الثقافة العربية‪ ،‬كذلك يتأ َّكد حضو ُر الوريث‬

‫بذر ًة مريض ًة تنتمي إلى سياقات َم َر ّ‬


‫ضية داخل المدوَّنة التاريخية‬
‫العصابيين والبغاة‪.‬‬
‫واإليديولوجية اآلخذة عنها‪ ،‬والمتناغمة مع رغبات ُ‬

‫فالوريث استعادة قاصرة للبطولة والقداسة‪ .‬وألنه كذلك‪ ،‬يستدعي‬


‫المضادة‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫متجسد ًا في خطابه وفعله‪ ،‬ش ّتى النصوص‬ ‫وجوده‪،‬‬
‫ُ‬
‫بينها تلك التي َت ْحضر عند الشعراء والروائيين والف ّنانين‪ ،‬وكذلك عند‬

‫‪97‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫لكن الوريث‬
‫ّ‬ ‫المؤ ِ ّرخين العرب الذين جرى التنوي ُه بهم من بين آخرين‪.‬‬
‫تمتد هي األخرى في الماضي‬
‫ّ‬ ‫أن خصومته‬
‫ليس صنيع نفسه‪ ،‬كما ّ‬
‫امتداد‬
‫ٌ‬ ‫والحاضر؛ وأقواها ذلك االمتداد الجمعي في الذاكرة‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬
‫يتشكل من موروثات تؤثّر كثير ًا في تكوين «البنية الشعورية»‪ ،‬على حد‬
‫تعبير ريموند وليامز؛ فهي تستم ّر في الذاكرة‪ ،‬بانحرافات متفاوتة‪ ،‬لكنها‬
‫ضد ما هو وعي زائف‪ .‬وحتى عندما يخاتلها الوريث‪،‬‬
‫تقبع‪ ،‬هناك‪ّ ،‬‬
‫تدعي السذاجة عند‬
‫باستخدام واسع لإلعالم والدعاية‪ ،‬فإنها كالحرباء ّ‬

‫بعض الجماعات‪ ،‬ل َت ْحضر‪ ،‬في أوانها‪ ،‬رافض ًة ّ‬


‫عتيةً‪ .‬إنها تستوعب آليات‬
‫الدعاية وحتى غواية الوريث‪ ،‬لكنها تتح ّرك في المساحة الرمادية‪،‬‬
‫استجاب ًة ورفض ًا‪ ،‬وكأنها تمتلك رصيدها الذي يتف ّوق على القراءات‬
‫واالنتماءات‪ .‬وعلى رغم أن فئات هذه المجتمعات تغيب‪ -‬مرةً‪ -‬عند‬
‫اإلعالم المهيمن‪ ،‬و ُت ْستمال‪ -‬ثانيةً‪ -‬بحسب الضرورات والمناسبات‬
‫الفعلي يستق ّر في المراوغة العميقة؛ ولهذا‬
‫ّ‬ ‫والحروب‪ ،‬فإن رصيدها‬

‫ِّ‬
‫متغيرة‬ ‫تستجيب‪ -‬دائم ًا‪ -‬لنداءات المثقّ ف ُ‬
‫الح ّر‪ .‬وبينما تبدو النخب‬
‫مستح ّبة أو مطرودة‪ ،‬بحسب طبيعة المجتمع‬
‫َ‬ ‫باستمرار‪ ،‬قلقة‪ ،‬متململةً‪،‬‬
‫السياسي‪ ،‬تبقى فئات الموروثات الشعبية مكتنزة‪ ،‬قابل ًة لالستحضار في‬
‫لكن النخب تتح ّرك‬
‫ّ‬ ‫المناسبات التي يبدو فيها المثقَّ ف الح ُّر وحيد ًا‪.‬‬
‫وفعالية أ كبر‪ ،‬في المجتمعات الليبرالية‪ ،‬وفي تلك الحائزة قدر ًا ما‬
‫بح ّريّة ّ‬
‫من الديموقراطية‪ .‬وهذه الدينامية ال تعني غياب االنشقاق‪ :‬فكل عالقة‬

‫‪98‬‬
‫تنبني على أساس النفوذ والق ّوة‪ ،‬بما يعني دفع آخرين إلى الهامش‪،‬‬
‫وكل هامش يبتغي استعادة المركز بحسب مصالحة أو توازن أو تغيير ما‪،‬‬
‫فيغدو مركزي ًا‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬وبين هذه الدينامية من جانب‪ ،‬وحركية‬
‫الجمعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشعوري‬ ‫رفض الوريث‪ ،‬وحضور البنى التقليدية أو وعيها‬
‫وسري ومطرود‪ ،‬تمام ًا‬
‫ّ‬ ‫وجواني‬
‫ّ‬ ‫جانبي‬
‫ّ‬ ‫تنشأ النصوص محيل ًة على ما هو‬
‫ستجم ُع‬
‫َ‬ ‫كما تستعين بالمشاعر واألهواء‪ ،‬وتستند إليها‪ ،‬لك ّنها غالب ًا ما ُت‬
‫في حلقات متوالدة باستمرار‪ ،‬في شتى المجتمعات العربية ومهاجرها‪،‬‬
‫داخل ثقافة عربية م ّتسعة باستمرار‪ ،‬تقول‪ ،‬لما هو منغلق وانطوائي‬
‫إن زمانه قد فات‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ودموي‪ّ ،‬‬ ‫ونكوصي ومت ّلف‬

‫ونصه الظل‬
‫ّ‬ ‫خطاب االمتعاض‪ :‬مكوِّ ناته‪ ،‬وآلياته‪،‬‬

‫خطاب االمتعاض‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫يتشكل‬ ‫ِ‬
‫واستئساده‬ ‫وبمقدار حضور وريث المستعمِ ر‬
‫وانفراطا ُته الكثيرة في نصوص العصيان‪ .‬إنه خطاب ما بعد االستقالل‪،‬‬
‫أن ما ورد عند طه‬
‫تين في آن واحد‪ ،‬لدرجة ّ‬
‫رد ْ‬
‫ولهذا فهو يحمل عنف َّ‬
‫يتوجه نحو‬
‫ّ‬ ‫حسين في «المعذبون في األرض» ّ‬
‫يقل عنه بكثير‪ ،‬ألنه‬
‫مهيمن أسوأ بكثير مما كان عليه األمر أيام التبعية للمستعمِ ر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫داخل‬
‫حد ًة وافتراق ًا‪ ،‬إ ّلا نقطة‬
‫بالقدر والفجيعة ال توازيها‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫الحس‬
‫ّ‬ ‫إن نبرة‬
‫ّ‬
‫خطاب النخبة القومية في‬
‫َ‬ ‫زت‬
‫مي ْ‬ ‫االبتداء‪ْ ،‬‬
‫أي نبر ُة الطموح التي َّ‬
‫الثالثينيات وبد ِء األربعينيات‪ ،‬وهي ُتطْ لق «تف ّو ٍ‬
‫هات طقوسيةً‪ ،‬مشبوبة‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫نشطةً‪ ،‬مشعوذة» كما يكتب أرنولد هوتنغر عن «الدعوة القومية‬


‫السياسي» (((‪ .‬وهذه‬
‫ّ‬ ‫الخاصة بتحقيق الذات التي سيطرت على الفكر‬
‫ّ‬
‫الدعوة المتعاكسة مع الخطاب النهضوي‪ ،‬بتأ كيده على الدفاع الذاتي‬
‫التقدم‪ ،‬كانت تبني حماستها على رفض‬
‫ُّ‬ ‫واالعتذار وتسنين مشروعية‬
‫حدتها وحرارتها من هذا الرفض‪ ،‬ك ّلما كانت‬
‫األجنبي‪ ،‬وكانت تكتسب ّ‬
‫تؤكد انتماء الذات إلى الجماعة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫تشكالت ماضوية عميقة ّ‬ ‫تحيل على‬
‫جد ًا بالشعارات» كما‬ ‫ْ‬
‫أي أن «الجماهير اكتفت في حاالت عديدة ّ‬
‫يقول هوتنغر في تحليله لخطاب النخبة القومية‪ ،‬و«الشعار‪ ..‬هو التعبير‬
‫العاطفي المشبوب عن الرغبة في االنتماء للجماعة وعن تأ ّكد عظمتها»‪.‬‬
‫ّ‬
‫وإذ يتيح الشعار اختزا ً‬
‫ال إطالقي ًا للفكر‪ ،‬و«عبور ًا اقتناعي ًا للواقع»‬
‫ ( ((‬

‫كما يضيف أركون‪ ،‬فإنه يستم ّر‪ ،‬ولفترة ليست قصيرة‪ ،‬مقترن ًا بقداسة‬
‫ما‪ ،‬يستثمرها الدعاة إلى أقصى َح ّد‪ ،‬حتى يأتيها الوريث بط ً‬
‫ال سياسي ًا‬
‫ال يطيق شبهة االختالف؛ ولهذا ليس مستغرب ًا‪ -‬كما يقول أركون‪-‬‬
‫ِّ‬
‫المفكرين والفئات‬ ‫أن يكون تاريخ العقود األخيرة هو تاريخ تصفية‬
‫فإن والدة االمتعاض توازي ق ّوة‬
‫االجتماعية النشيطة‪ .‬وبكلمة أخرى‪ّ ،‬‬
‫البد منه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المضاد الذي‬
‫ّ‬ ‫والدة التف ُّوهات الطقوسية‪ ،‬كما أنها وريثها‬

‫‪ -1‬أرنولد هوتنغر‪ ،‬أمين الريحاني‪ :‬نظرة ذاتية لعربي عصري في الحياة الفكرية في المشرق‬
‫العربي‪( 1939 - 1890 ،‬بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية)‪ ،‬ص ‪ 124‬و‪.125‬‬
‫‪ -2‬محمد أركون‪ ،‬ولوي غارديه‪ :‬اإلسالم‪ :‬األمس والغد‪ ،‬ص ‪.154‬‬

‫‪100‬‬
‫ّ‬
‫المصري والجماعة‬ ‫فكما ظهر للنهضة‪ ،‬بليبرالية اهتماماتها عند الجيل‬
‫ٌ‬
‫وريث وأكث ُر‪ ،‬ي ّتسع لآلخرين من شتى األهواء واال ّتجاهات‪،‬‬ ‫السورية‪،‬‬
‫كان لكل نخبة وارثون‪ ،‬يتفاوتون قدر ًا وعق ً‬
‫ال وطموح ًا ومشروعية‪.‬‬
‫لكن وريث التف ّوهات الطقوسية يبقى األكثر قدرة على الدمار‪ ،‬وذلك‬
‫ّ‬
‫إلسقاطه مفهوم البطولة التاريخية‪ ،‬بشكلها المتوارث خط ًأ‪ ،‬على نفسه‪،‬‬
‫ومسعاه السترجاعها بش ّتى السبل‪ ،‬ما دام ينطلق من المثالية األولى‬
‫ميزتا خطاب النخبة القومية‪ ،‬وحادتا به عن‬
‫الحادة اللتين ّ‬
‫ّ‬ ‫واإلطالقية‬
‫الفهم السوسيولوجي والمعرفة بالذات وتاريخانية التحديث‪ .‬فالوريث‬
‫البد من طاعته‪ .‬ويصفه محمود‬
‫ّ‬ ‫يبلغ قناعة قاطعة بأنه الرسول الذي‬
‫درويش مستبطن ًا كما يلي‪:‬‬
‫سيد احللم! ال جتلسوا حول قصري بغير الطعام‬
‫«أنا ّ‬
‫وال تأذنوا للفراشات بالطيران اإلباحي يف لغة من رخام‪.‬‬
‫‪ ....‬فمن لغتي تأخذون مالمح أحالمكم مر ًة كلّ عام‬
‫‪ ....‬ومن لغتي تعرفون احلقيقة يف لفظتني‪:‬‬
‫حرام‪ ،‬حرام‪.‬‬
‫حتى يقول‪« :‬وأن نظام اخلطاب‬
‫(((‬
‫خطاب النظام‪»...‬‬

‫‪« -1‬خطب الدكتاتور الموزونة»‪ ،‬أدب ونقد‪ ،‬العدد ‪ ،141‬مايو‪/‬أيار ‪ ،1997‬ص ‪.126‬‬

‫‪101‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ِّ‬
‫«مذكرات ديناصور» (((‪،‬‬ ‫ويلتقط الروائي مؤنس الرزاز هذه الصورة في‬
‫ّ‬
‫يتمكن من بلوغ طاووسية الديناصور‬ ‫نص‬
‫التي تكاد أن تكون أبلغ ّ‬
‫وثقته ويقينه بقدرته على امتالك الحاضر والماضي‪ ،‬بمجموعات‬
‫التصقت بذهنه‪ ،‬منذ زمن‪ ،‬وحادت به عن الواقع الذي يزدرده‬
‫ْ‬ ‫مفردات‬
‫خطاب ًا على لسان شريكته الضحية «زهرة»‪ ،‬التي تسعى‪ ،‬من دون‬
‫طائل‪ ،‬لتحريره من التجريدات والشعارات التي تمتلك عقله وسلوكه‪.‬‬
‫وتحج ُر النفس‬
‫ّ‬ ‫بهذا التفكيك‪ ،‬يتأ كد انكفاء الطاووسية على ذاتها‪،‬‬
‫على شعاراتها‪ ،‬والتحام الوريث بالصورة إلى درجة الفناء‪ .‬وتتعامل‬
‫خطابات الرفض مع هذا الحضور بصفته تكوين ًا لفظي ًا أنتجته مجموعة‬
‫لكن خطاب االمتعاض ال يعني العصيان‪ :‬إنه‬
‫ّ‬ ‫تكوينات سابقة عليه‪.‬‬
‫مجموعة استراتيجيات تبتغي التوصيل‪ ،‬والنقد واإلدانة‪ ،‬والمصارحة‪،‬‬
‫والمكاشفة‪ ،‬والتذكير‪ ،‬مثلما تفعل الكتابات المختلفة‪ ،‬كالقصائد‬
‫البياتية وقصائد حجازي وصالح عبدالصبور ودنقل‪ .‬كما أن المصارحة‬
‫ّ‬
‫يس َر‬ ‫َّ‬
‫تشكل ثقل القصيدة العمودية عند الجواهري‪ ،‬ك ّلما َّ‬ ‫المحتملة‬
‫الجو ذلك‪ ،‬أو ّ‬
‫مكنته الغرب ُة من اإلفصاح‪ .‬وقد يأتي السرد‪ ،‬بالمقارنة‬
‫بين حالين‪ ،‬في روايات محفوظ كـ «الشحاذ» مث ً‬
‫ال‪ ،‬ليبدو الحاضر‬

‫تغليب ًا لبورجوازية بديلة من أخرى بالية‪ ،‬ومطاردة أ كثر ّ‬


‫حدة للمختلفين‬

‫المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪)1992 ،‬‬


‫ّ‬ ‫‪( -1‬بيروت‪ ،‬عمان‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫السياسيين‪ .‬بينما ستكون بنية التورية عبر التاريخ مسلك ًا مراوغ ًا للرواية‬
‫ّ‬
‫الشك واليقين‪ ،‬والدهشة إزاء قسوة الفئات‬ ‫عند الغيطاني‪ .‬أما تقابالت‬
‫التي تقول األيديولوجية عنها إنها مادة الحركات الثورية‪ ،‬فال يوازيها‪،‬‬
‫عند عثمان خليل‪ ،‬غير االستدراك بذكر «ماليين الضحايا المجهولين‬
‫منذ عهد القرد» الذين «رفعوا اإلنسان إلى مرتبة سامية»‪.‬‬

‫لكن هذا االستدراك لن يق ّلل من المحنة‪ ،‬أي من احتماالت الصدمة‬


‫َّ‬
‫تتشكل من هذه المفارقات بين التضحية والقهر فحسب‪،‬‬ ‫التي ال‬
‫وإنما من استجماع ذوي االستعداد‪ ،‬من بين الجمهور وأناس تعساء‬
‫من صميم الشعب‪ ،‬لطاقة عدوانية عنيفة تنفجر وتتأ ّكد في تعذيب‬
‫المثقَّ فين‪ ،‬كما ي َْعرض ذلك كتاب سماح إدريس «المثقَّ ف العربي‬
‫والسلطة»‪ ،‬وهو يحيل على مجموعة من الكتابات والمشاهدات‬
‫ال‬ ‫ّ‬
‫تشكل‪ -‬وحدها‪ ،‬أو بمعية مثيالتها العربيات‪ -‬فص ً‬ ‫واالعترافات التي‬
‫خطير ًا في الثورات والحركات المغدورة‪ .‬ومن بين هؤالء التعساء‪ ،‬أو‬
‫ماكِ نات القهر والتعذيب‪ ،‬قد تتكامل شخصية طامحة إلى الزعامة‪،‬‬
‫وهي شخصية تتجاوز المستعمر‪ ،‬بعد أن خبرته‪ ،‬وعرفت عنه‪ ،‬وسمعت‬

‫بالمتوالدين عنه عنف ًا أو قهر ًا‪ ،‬فتأتي ّ‬


‫بعدة مضاعفة‪:‬‬

‫المستعمرين‪ -‬كما يقول فانون‪-‬‬


‫َ‬ ‫‪ - 1‬فإذا كان المستعمِ ر يتص َّرف مع‬
‫على أنهم يخلون من «القيم»‪ ،‬وال سبيل لنفاذ األخالق إلى أنفسهم‪،‬‬

‫‪103‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫فإن الوريث يأخذ هذا عنه‪ ،‬ويع ِ ّززه بحنقه على الفئات التي عاونته‬
‫ّ‬
‫على الصعود‪ ،‬فيشتم الجميع م ّرة واحدة‪ ،‬ويصف الجمهور بأنه عدواني‬
‫وال أخالقي وفاسد وتافه‪ .‬وهذا يعني‪ ،‬في النتيجة‪ ،‬لزوم البطش بهذا‬
‫الجمهور وتصفيته‪ ،‬أو كما يقول محمود درويش في «خطب الدكتاتور‬
‫الموزونة»‪:‬‬

‫‪ ..‬ومن أجل هذا السالم ُأ ُ‬


‫عيد اجلنو َد من الثكنات‬
‫إلى العاصمة‪،‬‬
‫وأَ ْجعلهم شرطةً للدفاع عن األمن ّ‬
‫ضد الرعاع‪،‬‬
‫وضد اجلياع‬
‫ّ‬
‫وضد ا ّتساع املعارضة اآلثمة‪،‬‬
‫ّ‬
‫فليس السالم مع اآلخرين هناك‬
‫سالم ًا مع الغاضبني هنا‪..‬‬
‫ألي فئات يسارية قائمة‪،‬‬
‫هنا لن تقوم ّ‬
‫سأَ ْفرم حل َم اليسار‪ ،‬وأَ ْحجب ضوء النهار‬
‫عن الزمرة الناقمة‪..‬‬
‫ويف السجن ُم َّتسع للجميع‬
‫من الشيخ حتى الرضيع‪،‬‬
‫ومن رجل الدين حتى النقابي واخلادمة‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫ضد السكان من‬
‫‪ - 2‬كما أنه سيضيف‪ ،‬إلى ما كان المستعمِ ر يفعله ّ‬
‫تجويع وإهانة‪ ،‬كالذي يرصده فانون (ص‪ ،)19‬ببرنامج يتساير مع‬
‫سياسة الترغيب والترهيب والضغط‪.‬‬

‫‪ - 3‬وبينما يرصد المستعمِ ر في المثقَّ ف (فانون‪ ،‬ص‪ )21‬اآلخذ عنه‬


‫فإن الوريث يلجأ إلى التوظيف عالنيةً‪،‬‬
‫يس َر توظيفه بصورة مراوغة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫والكذابين والمفترين والمزيَّفين‪،‬‬ ‫بقصد تكوين ماكِ نة من المه ِ ّرجين‬
‫ِ‬
‫والمنظّ رين ذوي الماضي المحترم‪ ،‬بقصد تصدير بضاعته إلى هذا‬
‫سيما ذلك المقيم خارج محيطه المباشر‪ ،‬وي َْجهل سلوكه‬
‫الجمهور‪ ،‬وال ّ‬
‫الداخلي‪ .‬كما يجري ذلك‪ ،‬بأ كمله‪ ،‬في سياق‪ ،‬ينتبه إليه سليم بركات‬
‫ّ‬
‫بشفافية الشاعر المشاكس‪ ،‬فثمة إلغاء لمفردة «التعليم»‪ ،‬وتعميم لكلمة‬
‫المؤسسات‪ ،‬بما يعني إلزام اآلخرين‬
‫َّ‬ ‫«التربية» ابتدا ًء من تسميات‬
‫بالخضوع واستالم التوجيه‪« :‬انحصرت التربية في تلقين الطاعة‬
‫بأساليب ش ّتى» (((‪.‬‬

‫‪ - 4‬ويجري تطويع هذا المثقَّ ف المستعمر بقصد صرف «طاقته‬


‫الهجومية في خدمة مصالحه الخاصة»‪ ،‬كما يقول فانون (ص‪،)29‬‬
‫متشبه ًا بالعالم االستعماري‪ ،‬فيأتيه الوريث السترضاء هذه الشحنة‬
‫ِّ‬
‫ضد الجمهور هذه الم ّرة‪.‬‬
‫وتفعيلها وتوظيفها لصالحه ّ‬

‫‪ -1‬فقهاء الظالم (قبرص‪ :‬بيسان‪ ،)1985 ،‬ص ‪.79‬‬

‫‪105‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫‪ - 5‬وبينما يلجأ المستعمِ ر إلى تكوين أحزاب ق ََبلية وعشائرية ودينية‪-‬‬


‫كما يقول فانون (ص‪ -)64‬بقصد الحيلولة دون َت َب ْل ُور «حزب المدينة»‪،‬‬
‫ّ‬
‫االستعماري‪ :‬فلحماية‬ ‫ممتد ًا في هذا السياق‬
‫ّ‬ ‫فإن الوريث يرى نفسه‬
‫ّ‬
‫قبلي وعصبي وعشائري وطائفي‪ ،‬مسترجع ًا‬
‫ّ‬ ‫مصالحه يلجأ إلى كل ما هو‬
‫ومعمق ًا المشكالت‬
‫ّ‬ ‫الناس‪،‬‬
‫َ‬ ‫ما يعتقد المثقَّ فون أنه مندثر‪ ،‬مشاغِ ً‬
‫ال‬
‫االجتماعية‪ ،‬ومستزيد ًا في الخرق االجتماعي‪ ،‬بقصد االستئثار الك ّل ّي‬
‫بالسلطة وزيادة حجم مصالحه‪ .‬لكنه يبتدئ بتوطيد نفسه‪ ،‬والمق ّربين‬
‫مادية حاكمة‪ .‬إنه يبني هذه‬
‫منه‪ ،‬عائلته وأطرافها‪ ،‬إلى حين إيجاد ق ّوة ّ‬
‫القوة‪ ،‬ويمنحها سلطة ذهنية باإلكراه‪ ،‬نازع ًا عن الدولة قطاعاتها العامّة‬
‫السابقة‪ ،‬وعن التجار والبورجوازية أموالهم‪ ،‬لتحويلها نحو الفئة التي‬
‫ي َْخلقها بنفسه‪ .‬إن الوريث لم يخطر في بال ماركس‪ ،‬لكنه أخذ عن‬
‫المادية‪ ،‬والذهنية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ماركس المنا َق َلة بين الق ّوتين‪:‬‬

‫يتحملها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يتحمل تبعات أفعاله‪ ،‬أو ينبغي له أن‬
‫َّ‬ ‫‪ - 6‬لكنه؛ أي الوريث‪،‬‬
‫تجليات خطاب العصيان‪ ،‬كتوالد ٍ‬
‫مواز عن خطاب االمتعاض الغزير‬ ‫ُ‬ ‫وما‬
‫عن الغيطاني وغيره‪ ،‬غير عالمات في دورة البدء واالنتهاء‪:‬‬

‫أ‪ -‬فاللغة التي تحتدم قصر ًا وكثاف ًة وتو ّتر ًا وصراخ ًا ومقاطعة وتش ُّنج ًا‬
‫في القصيدة ليست إال تم ُّثالت صرخة الرفض اآلتية من داخل القهر‬
‫المسرف‪ ،‬فك ّلما بالغ الوريث في العنف فَقَ د هذا العنف معناه‪ ،‬وأنتج‬

‫‪106‬‬
‫ما هو ضده‪ ،‬على نحو ما ُتفْ صح الكتابة عن ذلك‪ ،‬متماثل ًة مع الواقع‪.‬‬

‫ب‪ -‬وك ّلما استقدم آليات األخذ بالجريرة‪ ،‬باطش ًا بالعوائل والناس‪،‬‬
‫شباب ال أهل لهم وال ارتباط‪ ،‬يفيضون بق ّوة ثأر ال تماثلها‬
‫ٌ‬ ‫خرج عليه‬
‫غير قصائد وقصص وكتابات‪ ،‬ال أب ّوة بادية لها‪ ،‬تنتشر بالعشرات‪،‬‬
‫منفية‪ ،‬منقطعة‪ ،‬بإصرار‪ ،‬عن غيرها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مناكِ دةً‪،‬‬

‫ج‪ -‬وكلما زاد وريث المستعمر والنخبة ذات الخطاب المليء‬


‫التجسس والمتابعة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫بالتف ُّوهات الطقوسية‪ ،‬من استثمار النميمة وشبكة‬
‫وتيسر انتهاؤه‪ .‬وتتماثل صورة االنزواء مع ما تبديه‬
‫ّ‬ ‫تقوقع على نفسه‪،‬‬
‫عناوين القصائد والمقاالت والقصص من محاصرة لهذا المطعون‬
‫المتجبر على غيرها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منها‪،‬‬

‫االجتماعي واألخالقيات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتتشكل من ج ّراء هذا التفتيت للتكافل‬ ‫د‪-‬‬
‫ٍ‬
‫خرق واسعة‪ ،‬ال تتوقَّف عند َح ّد‪ ،‬بحيث يضط ّر‬ ‫الدارجة قاعدة‬
‫الوريث إلى التقوقع في شرنقته‪ ،‬مذعور ًا من غالبية المحيطين‪ .‬ويحيل‬
‫خطاب العصيان على هذه القاعدة‪ ،‬فيكون الخرق استمرار ًا للقواعد‬
‫ّ‬
‫مذكر ًا بها؛ لكنه الخرق الذي ين ّز باإلدانة المستمرة‪.‬‬ ‫واالعتبارات‪،‬‬

‫هـ ‪ -‬وإذ يصادر الوريث الخزينة‪ ،‬فيتعامل معها ملْك ًا شخصي ًا‪ ،‬فإنه‬
‫ي ُْكثر من الغواية واإلغراء‪ ،‬بما يعني قتل وجوده‪ ،‬أي انتحاره الذي‬

‫‪107‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫قديس ًا وال‬
‫يتم فجأة‪ .‬فالقادم عبر الشعار وطقوس القومية لم يعد ّ‬
‫ال ّ‬
‫من َّزه ًا؛ إنه مرتع الدنس‪ .‬ولهذا ال يأتيه‪ ،‬في خطاب العصيان‪ ،‬غير‬
‫الشتيمة‪ ،‬أو ملفوظ االجتثاث‪ ،‬كما ال يأتيه‪ ،‬في الواقع‪ ،‬غي ُر الغدر الذي‬
‫َّ‬
‫يتشكل منه خطابه وسلوكه‪ :‬فالتق ُّلب َم ّرةً‪ ،‬والذرائعية َم ّر ًة أخرى يحفران‬
‫في مصداقية خطابه‪ ،‬حتى يجت ّثان جذور مقدمه األول‪ ،‬فيبقى عاري ًا‪،‬‬
‫مجموع ًة من الخطابات التي تتقاطع‪ ،‬فهو يبيع ويشتري‪ ،‬كما أنه يباع‬
‫َّ‬
‫يتشكل فضاؤه إال على أساس الربح والخسارة؛ ولهذا ال‬ ‫ويُشترى‪ ،‬ولم‬
‫يأتيه خطاب العصيان إال بمفردات تحيل على البداية وعلى النهاية‪:‬‬
‫قطبي تح ّركه العنيف‪ .‬فخروج العامّة هو السباق في استنطاق المزيد‬
‫ْ‬
‫من المكبوت في خطاب ال ُّن َخب‪ .‬إنها ترى نفسها مغدورة ومفجوعة‬
‫ومه َّزأة‪ ،‬فتفرط العالقة‪ ،‬وتطرد األلفة‪ ،‬فيستغرب الوريث ذلك‪ .‬أما‬
‫على صعيد تح ُّوالت النفوذ والق ّوة ما بين خطاب وآخر‪ ،‬فإن المغدور‬
‫ممتد ًا في الخرق والتجاوز‪ .‬وكما يقول فوكو‪ ،‬فإذا‬
‫ّ‬ ‫والمقصي يجد نفسه‬
‫ّ‬
‫فإن الخرق هو الحاسم‬
‫الجدلي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫كان التناقض هو الحاسم في الفكر‬
‫في الثقافة العصرية‪ .‬وما دوره إال قياس المسافة البادية الكبيرة في‬
‫ُ‬
‫خرقه وتجاوزُ ه‬ ‫والح ّد؛ فما يتأ كد‪ ،‬يقين ًا وقداسةً‪ ،‬يجري‬
‫َ‬ ‫قلب الحصر‬
‫ُ‬
‫وبلوغ س ّر ظهوره‪ ،‬كشرط النتهائه‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫خطابات الوريث‬

‫وال يعني حضور الوريث‪ ،‬وهو ي ُْسقط القداس َة على نفسه‪ ،‬وراث ًة‬
‫الطقوسي؛ فهو‬
‫ّ‬ ‫شكلية أو ساللية للمستعمِ ر أو للنخبة ذات الخطاب‬
‫الخطابين في آن واحد‪ ،‬مقيم ًا كيانه في شراكة‬
‫ْ‬ ‫يحيل‪ -‬بالطبع‪ -‬على‬
‫منفرطة‪ ،‬ظاهر ًا‪ ،‬مع المستعمِ ر‪ .‬وهي شراكة تتأ َّكد بالخصومة المنتشرة‬
‫في ثنايا خطابه‪ ،‬بمقارناته معه أي المستعمِ ر‪ ،‬ال بصفته الفكرية أو‬
‫القهرية‪ ،‬إنما بصفته الشخصية‪ ،‬سفير ًا أو وزير ًا أو تشخيصات أخرى‪.‬‬
‫إنه ال ِ ّ‬
‫يؤكد حضوره إال عبر هذه المقارنة‪ ،‬ويسعفه الملفوظ التجريدي‬
‫المفعم بالنشوة بما يريد‪ ،‬لالرتقاء إلى مصاف الخصم المرغوب فيه‪،‬‬
‫يقدمان تفسير ًا‬
‫لكن التماهي مع المرفوض والتعالي على الناس ال ّ‬
‫ّ‬
‫المتلهف الفاجع لشرعية القداسة‪ ،‬أو انتمائها‪ ،‬إال‬
‫ّ‬ ‫كافي ًا لهذا البحث‬
‫من خالل التاريخ‪ .‬وهكذا تأتي الساللة الشرعية مرغوب ًة منه‪ ،‬فيعلن‬
‫قدمت التضحية والفداء‬ ‫علي‪ ،‬مث ً‬
‫ال‪ ،‬ألن هذه الساللة ّ‬ ‫ّ‬ ‫االنتماء إلى آل‬
‫والشهامة والتخ ّلي عن كرسي الحكم‪ ،‬فاستحقّ ت مصادقة العامّة على‬
‫يقدم نصوصه المختلفة أيض ًا؛‬
‫ولكن التاريخ ّ‬
‫ّ‬ ‫وقدسيتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫صفائها وشرفها‬
‫فعدا هذا االنتماء المع َلن من طرف واحد‪ ،‬هناك الخلفاء الدمويون‪،‬‬
‫مُ لّاك السلطة بامتياز‪ ،‬بوسائلهم الكثيرة في الترغيب والترهيب‪ ،‬الذين‬
‫وتهيؤات وصور‪ ،‬وهم يأتونهم‬
‫ّ‬ ‫يشحنون الرومانسيين العصابيين بأخيلة‬

‫‪109‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫من بطون الكتب المترجمة والمنقولة والمزوّرة والملفّ قة‪.‬‬

‫والوريث يجد نفسه مثل هؤالء‪ -‬أيض ًا‪ -‬منبهر ًا ومأخوذ ًا بالجاه والسلطة‪،‬‬
‫وكالهما ّ‬
‫يغذيان عنده رغبته الفاجعة في كل شيء‪ ،‬منطلق ًا من قاع‬
‫ّ‬
‫اليساري‬ ‫الطفولي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الحرمان الذي سكنته طفولته قبل مجيء الفكر‬
‫ّ‬
‫يشذ هنا‪ ،‬عن منتوجات القراءات‬ ‫م ّرةً‪ ،‬والقومي م ّر ًة أخرى‪ .‬وهو ال‬
‫المسطّ حة‪ ،‬أولئك الذين أتاحت لهم الحركات السياسية وتدفّ قات حركة‬
‫الترجمة أفكار ًا مثيرة في التغيير واالبتكار‪ ،‬فح ّلت لديهم بدي ً‬
‫ال من أية‬

‫ِّ‬
‫والمتأصلة عند العامّة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫تتشكل من بنى المشاعر االعتيادية‬ ‫خطابات‬
‫ولهذا انقطع هؤالء عن الناس‪ ،‬كما ينقطع الوريث‪ .‬وبينما ينادي‬
‫هؤالء بالطفرات السطحية م ّرةً‪ ،‬وبالنقالت الكبرى م ّر ًة أخرى‪ ،‬يلتقط‬
‫الحس بالمغامرة‪ ،‬فتكون‬
‫ّ‬ ‫الوريث (الذي يمكن أن ّ‬
‫ينط من بين هؤالء)‬
‫هذه سبيله ومبتغاه‪ .‬إنه المحترف المغامر الموهوب الذي تجيء به‬
‫األحزاب والهيئات واألفكار المتواردة بين األدبيات الشائعة‪ ،‬منذ نهاية‬
‫الخمسينيات‪ .‬وليس غريب ًا أن تتع َّزز اله ّوة بين المحترفين والمغامرين‬
‫والجماعات المشاكسة (اليسار الطفولي‪ ،‬والقومي الشوفيني) وبين‬
‫ِّ‬
‫المفكرين‪ ،‬ومن بينهم رجال السياسة واالقتصاد‪ .‬وليس غريب ًا‪ -‬أيض ًا‪-‬‬
‫أن يمضي المحترف‪ -‬المغامر في استبعاد هؤالء‪ ،‬ومحاصرة توالدهم‬
‫في الجامعات واأل كاديميات وسوق األفكار‪ .‬وتتساير هذه الرغبة مع‬

‫‪110‬‬
‫رغبة أخرى في اجتثاث التكوين التقليدي للمجتمع؛ فاألخير عائق أمام‬
‫والتهيؤات والطقوس‬
‫ُّ‬ ‫القداسات المفتعلة‪ ،‬كما أنه كابح أمام الهوى‬
‫لكن التاريخ ال‬
‫ّ‬ ‫التي يبتدعها المحترفون والمغامرون الختراق العامّة‪.‬‬
‫الترحم على القديم بالظهور‬
‫ّ‬ ‫يشتغل بحسب السياق المشتهى‪ ،‬فيبتدئ‬
‫ماض قريب فيه ما هو أجمل‪ ،‬مقارن ًة بحاضر ٍ‬
‫أخذ‬ ‫ٍ‬ ‫خطاب ًا حنيني ًا‪ ،‬فكل‬
‫باالنحسار‪ .‬وما يبدو‪ -‬ألوّل وهلة‪ -‬حنين ًا رجعي ًا‪ ،‬سرعان ما يتموضع‬
‫في شبكة عميقة من التراسل العاطفي بين العامّة والمؤ ِ ّرخ الذي يلتقط‬
‫نبضها‪ ،‬فتم ّر حاالت واسعة من هذه العودات كأنها تراهن‪ ،‬من دون‬
‫ا ِ ّتفاق مسبق‪ ،‬على أن مآل حاضر عجول صلف هو االندحار مقابل ما‬
‫نصه‪ -‬باستمرار‪ -‬ك ّلما‬
‫إن الوريث َي ْنسف ّ‬ ‫يتراءى جمي ً‬
‫ال في الماضي‪ّ .‬‬
‫ألن األخير يمتلك أ كثر من لسان‬ ‫وجد نفسه مستما ً‬
‫ال إلى التاريخ‪ّ ،‬‬
‫وسيف‪ :‬فخطابه المنتسب إلى آل البيت َي ْنسفه انتماؤه العنيف إلى‬
‫القومي المفعم بالحرارة يتآ كل‬
‫ّ‬ ‫الدنيا‪ ،‬بطيشها وغرورها‪ ،‬كما أن خطابه‬
‫كلما تعارض مع الرغبات األخرى لديه‪ ،‬المليئة بالخصومة‪ .‬وأما ما‬
‫ّ‬
‫يتيسر من صراع في الملفوظات مع المستعمِ ر فسرعان ما يصدأ إزاء‬
‫ّ‬
‫ليبرالية األخير الظاهرة في األقل؛ فوسائل اال ّتصال تنقل‪ -‬باستمرار‪-‬‬
‫حرص هذا األخير على أبناء جلدته‪ ،‬واحترامه لهم‪ ،‬وضمانه لح ّريّاتهم‪،‬‬

‫مهما بدت هذه مفتعلة أو خالية من الدقّ ة‪ .‬ثمة َج ْور َ‬


‫وج ْور‪ ،‬وال يجاري‬
‫َ‬
‫الوريث آخر في االنفعال والقسوة‪ ،‬كما يقول فانون عن ظاهرة العنف‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫وبينما يمضي العالم إلى أمام‪ ،‬يبدو التموضع الرجعي‪ ،‬في التاريخ‬
‫أهم ّية‬
‫ّ‬ ‫كخلفاء وخالفة‪ ،‬وفي الماضي المفتعل‪ ،‬رجع ًا من النشاز‪ ،‬ال‬
‫لكن الصعيد العالمي هو الذي‬
‫ّ‬ ‫تتهدم الوراثة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫له وال مردود‪ .‬هكذا‬
‫بالضد‪َ ،‬سفَ ه مسعى الوريث إلثبات البطولة المعاكسة‪ .‬فإذ ي ّتجه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يؤكد‪،‬‬
‫العالم نحو الديموقراطيات من جانب‪ ،‬ونحو عولم ٍة ما من جانب‬
‫آخر‪ ،‬يسعى الوريث لدخول التيارات والشقوق الكثيرة فيها عبر كنز‬
‫المال‪ -‬أساس ًا‪ -‬واستجماع اإلعالم بعد ذلك‪ .‬إن الشراكة المالية‬
‫وممتد ًا في الشراكات الدولية الحاكمة‪ .‬وهكذا‪ ،‬تتف ّرع عنه‬
‫ّ‬ ‫تبقيه قو ّي ًا‬
‫بمسميات مختلفة‪ ،‬لكنه يتقرب بذلك من حتفه أيض ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بنوك ومصالح‬
‫لمسببات مقدمه وشعاراته ينسف بقاءه‪ ،‬ليتح َّول إلى مم ِ ّثل‬
‫ِّ‬ ‫فكل هدم‬
‫مضحك‪ ،‬من نمط أولئك المفتونين بأنفسهم‪ ،‬الذين واجهوا الناس‬
‫عراةً‪ ،‬غير عارفين بمحطّ ات االستضافة التي تنتظرهم‪ ،‬لتستنزف منهم‬
‫مال شعوبهم المسروق‪.‬‬

‫لكن التفصيالت الدقيقة‪ ،‬الوثيقة العالقة بالثقافة‪ ،‬تستحقّ االنتباه؛‬


‫ّ‬
‫يدعون العصمة والحقيقة في لحظة انهيار اليقين‪.‬‬
‫فالوريث وأشباهه ّ‬
‫يقدمونه على أنه مز ّي ُنهم يرتطم بعشرات عالمات االستفهام التي‬
‫وما ّ‬
‫مد ٍع لحقيقة‪ ،‬بصفته امتداد ًا في الهيمنة وخطاباتها‪.‬‬ ‫تكيد ِ ّ‬
‫لكل ما هو ّ‬
‫كت تحت وطأة االنشقاقات‬ ‫هنا‪ ،‬ينبغي أن نتذكر أن الس ّنة الغربية َّ‬
‫تفك ْ‬

‫‪112‬‬
‫اآلنية والفئوية والعرقية والطبقية‪ ،‬بما يعني انهيارات القوى المهيمنة‬
‫ُخبها‪ ،‬ومعها تبدو األدبية المحض‪ ،‬وكذلك خطاب الحقيقة مُ َّت َه َم ْين‪،‬‬
‫ون َ‬
‫تدعي القداسة لتحذف أخرى‪.‬‬
‫وتبري َر ْين للغدر والسرقة‪ ،‬أو لعقيدة ّ‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن ما يجري خارج ًا له مقابله الداخلي‪ ،‬وإذ لم تعد النخبة‬
‫يتوزع بينها‬
‫ّ‬ ‫اختيار ًا‪ ،‬فلنا أن نتأمّلها شتات ًا يطالب بتسميات أخرى‪،‬‬

‫الوريث باحث ًا عن ترقيع ما ل َِبدنه الذي َت ْعجز ّ‬


‫تبد ُ‬
‫الت الهيبة أن تستره!‬

‫نص العصيان‪.‬‬
‫النص المضاد‪ُّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫ومن الجسد‪ :‬هيبته أو أطماره‪ ،‬يبتدئ‬
‫المكتظ باألماني واألخيلة والتق ُّلبات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تكسرات الخطاب‬
‫ّ‬ ‫فعلى هامش‬
‫ينشأ‪ ،‬من متن االمتعاض المضاد المتزايد بين الناس‪ ،‬خطاب العصيان‪.‬‬

‫أن ورثاء المستعمِ ر عايشوا مختلف الخطابات‪،‬‬ ‫هنا‪ ،‬ينبغي أن َّ‬


‫نتذكر ّ‬
‫وأخذوا عنها‪ .‬كما أنهم تموضعوا في التاريخ بين الخلفاء الدمويين‪،‬‬
‫ومدوا أيديهم إلى أمثالهم القريبين‪ ،‬راسمين ألنفسهم خطّ ة البقاء‪،‬‬
‫ّ‬
‫ختمت‬
‫ْ‬ ‫التي غالب ًا ما تكون خطّ ة انهيار غير سويّة‪ .‬فالمأساوية التي‬
‫أوقفت خطاب العصيان المضاد؛ إذ منذ ‪ 1967‬كان‬
‫ْ‬ ‫حياة عبدالناصر‬
‫العصيان ينفرط شهادات في اإلحباط والخيبة (((؛ وكذلك كان البالغ‬
‫الناصري‪ ،‬ولم تكن استكماالته التالية غير مضادات للذروة ال غير‪،‬‬

‫‪ -1‬البد من اإلشارة إلى حواري المثمر مع صديقي د‪ .‬فوزي فهمي في هذه النقطة‪ ،‬وقضية‬
‫البطولة والمخيال الشعبي‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫مضادات تتعايش مع الخيبة‪ ،‬لكنها ُتعِين في تفريغ المثقَّ ف من‬


‫ّ‬ ‫وهي‬
‫بسعي‬
‫ٍ‬ ‫الخطاب المضاد؛ فهو يبايع شرف ًا بآخر‪ ،‬ويعترف لعبد الناصر‬
‫المضادة في‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مأسوي يستنفد الطاقة‬ ‫ٍ‬
‫وموقف مأساوي‪ .‬وكل ما هو‬ ‫وخيب ٍة‬
‫المضاد‪ ،‬بينما ال يتحقّ ق ذلك ك ّلما بدا المق ّلد لهذه الزعامة‬
‫ّ‬ ‫الخطاب‬
‫مشغو ً‬
‫ال بنفسه وببطوالته وبتم ُّثالته‪.‬‬

‫ومن دون وقفة واحدة تأتي بمواجهة حاسمة مع الذات‪ ،‬بصفتها‬


‫الخصم األكبر للشخصيات النرجسية‪ ،‬كما هو األمر مع هتلر‪َ ،‬ت ُؤول‬
‫تتوزع في احتماالت‬
‫الشخصية إلى تشرذمات كثيرة‪ ،‬وإلى وجوه وأقنعة ّ‬
‫ّ‬
‫ويتحكم بها‪ ،‬بما يعني فقدانها إلى األبد‪،‬‬ ‫وإمكانات يسودها التشييء‬
‫بودها االلتحام فيه‪ ،‬أي التاريخ‪ .‬وهكذا‬
‫وخروجها من النص الذي ّ‬
‫ِّ‬
‫متلذذ ًا ومتشفّ ي ًا‪،‬‬ ‫يأتي خطاب العصيان شاغ ً‬
‫ال للمساحات المتروكة‪،‬‬
‫ال تتم ّلكه رحمة‪ ،‬وال تحدوه أية قناعة بوجود ما يستدعي الرأفة‪.‬‬
‫مقلد بائس‪ ،‬وألنه كذلك يزدريه ويالحقه‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫المأسوي‬ ‫إن مضاد البطل‬
‫ّ‬
‫المضاد‪ ،‬كما هي ضحكات جمهور المسرح وتهريجاته‪ .‬أما‬
‫ّ‬ ‫الخطاب‬
‫القراءات المتزايدة في دينامية التاريخ عند فيصل السامر في «حركة‬
‫الزنج»‪ ،‬وعند الطيب تيزيني‪ ،‬وحسين مروة‪ ،‬والجابري‪ ،‬وهشام جعيط‪،‬‬
‫وأركون‪ ،‬وعزيز السيد جاسم‪ ،‬فإنها تهدم‪ -‬أص ً‬
‫ال‪ -‬الصورة التي يسقطها‬
‫الوريث على نفسه من تاريخ الخلفاء‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫خصومات الوريث الواسعة‪ :‬الثقافة الشعبية‬

‫وينبغي عدم التقليل من شأن المكر الذي تتغ َّلف به عقلية الوريث‪ ،‬وذلك‬
‫َّ‬
‫يتشكل داخل هذه العقلية‪ .‬فالوريث‪ ،‬أو ‪( toad-King‬الملك‪-‬‬ ‫الذي‬
‫يسميه وول سوينكا‪ ،‬يبتدئ رحلة الصراع مع اآلخر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الضفدع) كما‬
‫مضاد إلى التاريخ‪ ،‬مقروء ًا من ق َِبله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أو المستعمر‪ ،‬مستما ً‬
‫ال بانجذاب‬
‫ومطابق ًا لهواياته التي ال تعدو أن تكون هواية السلطة واالنفراد؛ ولهذا‬
‫ضديّة نحو اآلخر‪ ،‬مبني ٍة داخل المفردات والقوالب‬ ‫ّ‬
‫يتشكل خطابه من ّ‬
‫التاريخية التي تفضي إلى انفراده وتس ُّلطه‪ .‬إنها مفردات واسعة‪ّ ،‬‬
‫جذابة‪،‬‬
‫بال ضفاف‪ ،‬ال تحيل على الجمهور‪ ،‬وال تؤكد أيّة صراعات‪ .‬فكل ما‬
‫قدسيته الك ّل ّية وقداسة المحاكاة في آن واحد‪ :‬إنه‬
‫ّ‬ ‫ماض يمتلك‬
‫ٍ‬ ‫هو‬
‫خلفاء وزعماء ونجاحات وبالغات تنتشر في فضاء التجريد؛ ولهذا‬
‫ومرتد ًا‪ .‬وكل‬
‫ّ‬ ‫مضاد داخل التاريخ مستبعد ًا‪ ،‬ومنفي ًا‪ ،‬وغريب ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يبدو ما هو‬
‫ضد الزعامات الوطنية السابقة‪ ،‬تستوطن هذه‬
‫ضد اآلخر‪ ،‬أو حتى ّ‬
‫خطوة ّ‬
‫وتتوجه نحو‬
‫ّ‬ ‫يسرتها المدوّنة الرسمية‪،‬‬
‫األرض الشاسعة من القداسة التي ّ‬
‫الجمهور المغلوب المليء بعقدة اإلهانة طيلة العالقة باآلخر المستعمِ ر‬
‫ينشد أيض ًا‪ ،‬بطبيعته‪ ،‬إلى‬
‫ّ‬ ‫لكن هذا الجمهور‬
‫ّ‬ ‫والقوى التالية المثيلة‪.‬‬
‫الطقوس الشعبية‪ ،‬وكذلك إلى األسماء الشعرية والفكرية والفنية‪ ،‬فيكبر‬
‫في ذهن العامّة الشاعر واألديب والفنان ك ّلما بدا عميق االمتداد في‬

‫‪115‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫َّ‬
‫تشكل وعيه فيها ومنها‪ .‬وهكذا يكبر الرصافي‪،‬‬ ‫هذه الطقوس‪ ،‬وك ّلما‬
‫والجواهري‪ ،‬والكاظمي‪ ،‬وحافظ إبراهيم‪ ،‬وأبوريشة‪ ،‬وعشرات الشعراء‬
‫تأسس سلطتهم داخل هذا الوعي‪ ،‬كما‬
‫في الذاكرة الشعبية‪ ،‬وهكذا َّ‬
‫ّ‬
‫والمفكرين الذين يتص َّور الوريث أنهم ينحسرون‬ ‫تكبر أسماء المثقَّ فين‬
‫سيفاجأ‬
‫َ‬ ‫عندما ي ُْغلق عليهم وعنهم وسائل اال ّتصال المحكومة من ق َِبله‪.‬‬
‫بأن مظفّ ر النواب ينتشر داخل الكاسيت‪ ،‬وأن محمود درويش قد‬
‫يبلغ أقصى قاعات الدرس في أنحاء العالم‪ ،‬وأن أحمد فؤاد نجم قد‬
‫وأن مقال ًة لعزيز السيد جاسم‬
‫يتجاوز حدود المدوّنة نحو المسموع‪ّ ،‬‬
‫تتلبس عشرات الصور‪ ،‬وأن ف ّنانين متفاوتي الحضور المباشر قد يبلغون‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫تتشكل عقدة الغيرة من‬ ‫جمهور ًا لم يألف أجهزة التلفاز‪ .‬ومن هنا‬
‫جانب‪ ،‬والخصومة من جانب آخر‪ ،‬بين الملوك‪ -‬الضفادع في تعبير‬
‫وول سوينكا (وهو يحيل على الزعامات المح ّنطة في إفريقيا) وبين‬
‫حد ًا يصعب تص ُّوره من دون معرفة‬
‫وتشتد هذه حتى تبلغ ّ‬
‫ّ‬ ‫المثقَّ فين‪.‬‬
‫عقلية الوريث‪.‬‬

‫ّ‬
‫يتشكل من عقد ٍة ما‪ ،‬تبتدئ بتصفية األعوان والرفاق واألصدقاء‪،‬‬ ‫فهو‬
‫مستخدم ًا ميزانية البالد من دون حدود‪ ،‬ومستزيد ًا من الخداع والتغرير‬
‫والتزييف وشراء الذمم للحيلولة دون الديموقراطية الحقيقية‪ .‬إنه يبني‬
‫يبدد كل شيء‪ ،‬ويعيد بناء المجتمعات في ضوء‬
‫التاريخ لنفسه‪ ،‬ولهذا ّ‬

‫‪116‬‬
‫هذه الرغبة‪ ،‬مطمئ ّن ًا إلى أن الفئات الجديدة هي سنده‪ ،‬بصفتها ربيبته‬
‫الواعية بعطائه وبذله‪ ،‬وكذلك بِ َسطوته وبطشه‪ .‬إنها بديلة للفئات‬
‫التقليدية‪ ،‬وهي‪ ،‬لهذا‪ ،‬حرباء الحياة‪ ،‬وطفيلية السلوك‪ ،‬تتح ّرك له ومنه‪.‬‬
‫تغيرات الوقائع‪ ،‬ولهذا يتآ كل‬
‫لك ّنه ينسى مكيدة التاريخ‪ ،‬ويجهل ُّ‬
‫وينهار‪.‬‬

‫ِّ‬
‫الضيق المذكور‪ ،‬فهو‬ ‫ويصعب استيعاب عقدة الوريث في إطارها‬
‫يدرك‪ ،‬شأن الحيوانات الحريصة على حياتها‪ ،‬أن مجاالت النفوذ‬
‫واالنتشار في ذاكرة الناس‪ ،‬واستالب هذه الذاكرة‪ ،‬ال يتس ّنى لها‬
‫التضاد مع المستعمِ ر وإشغال المتبقّ ي‬
‫ّ‬ ‫االكتمال إال بمزيد من خطابية‬
‫من وسائل اال ّتصال بما يريده‪ ،‬من أجل مصادرة الذهن والذاكرة‪.‬‬
‫ولما كانت الذاكرة تحتاج انتما ًء ك ّل ّي ًا إلى القنوات التي تظهر عنه‪،‬‬
‫ّ‬
‫بقصد ضمان عدم انفراطها في الطقوس واال ّتجاهات التي تقوم في‬
‫الحياة التقليدية‪ ،‬فإنه يجري تطويق المجتمع التقليدي بش ّتى السبل؛‬
‫ولهذا‪ ،‬فإن الوريث يبتدئ بحرب شعواء‪ ،‬مستور ٍة غالب ًا‪ ،‬على الغناء‬
‫ال‬ ‫ّ‬
‫وتحل بدي ً‬ ‫الشعبي والطقوس واألغاني والعادات ومثيالت ذلك‪،‬‬
‫ّ‬
‫المعبأة‪ ،‬للمشاغلة م ّرةً‪ ،‬وللمنع والكيد م ّر ًة أخرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫منها مختلف الجهود‬
‫مشفوع ًة جميع ًا بمصادرة واسعة للعقليات الشعبية‪ ،‬فكل منزل وحارة‬
‫ومقهى يتع ّرض لال ِ ّتهام‪ ،‬ويكايده الوريث‪ ،‬ويستأصل أطرافه‪ ،‬ويتابعه‬
‫إن حكم الوريث يبتدئ طقس الدمار والموت في عالقته‬
‫حتى النهاية‪ّ .‬‬

‫‪117‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫بالموروث الشعبي؛ فكل ما ال ي َْخضع للتزييف وال ينساق لخدمته‪،‬‬


‫عليه االختفاء‪ .‬إنه يستعيد ما يقرنه فانون بالمستعمِ ر‪ ،‬عندما يقول في‬
‫َ‬
‫أبيض أو‬ ‫تحليله لعقلية األخير‪ ،‬في عالقته باألهالي‪« :‬فلتتح َّو ْل إلى‬
‫َف ْل َتغُ ْر َو َت ْخ َت ِف»‪ّ .‬‬
‫إن الوريث يصيح بأصوات متباينة‪ :‬لي إلى األبد‪ ،‬أو‬
‫َفل ْ‬
‫ْتمت‪ .‬إنه أ كثر قسوة من المستعمِ ر ألنه وريثه الخبير!‬

‫تجاور االمتعاض والعصيان‬


‫إن التجاور بين االمتعاض والعصيان كثيف وحاضر باستمرار‪ ،‬كما ُتظهر‬
‫ّ‬
‫قصائد نزار قباني‪ ،‬وفاضل الع ّزاوي‪ ،‬ومظفّ ر الن ّواب‪ ،‬وعشرات‬
‫ُ‬ ‫ذلك‬
‫الشعراء الشباب‪ ،‬وكذلك قصص وروايات مؤنس الرزاز‪ ،‬ويوسف‬
‫القعيد‪ ،‬ومحمود الريماوي‪ ،‬ومحمد عبدالسالم‪ ،‬وآخرين‪ .‬يكتب فاضل‬
‫العزاوي في «األبواب»‪:‬‬
‫«سأفتح باب ًا يف العتمة‪،‬‬
‫جلدون)‬
‫مهرجون‪ ،‬شعراء‪ّ ،‬‬
‫فيسقط الوطن (أعراب‪ ،‬مماليك‪ِّ ،‬‬
‫رف املاضي املتروك أمامي‪-‬‬
‫من ّ‬
‫عناكبه معه وغباره ‪ -‬أمسح عن جبهته جرح ًا‬
‫ينزف ملحاً‪ ،‬أغسل عينيه بحفنة من ماءِ‬
‫دجلة‪ ،‬وأسنده إلى اجلدار» (((‪.‬‬

‫‪« -1‬صاعد ًا حتى الينبوع»‪ ،‬من األعمال الشعرية (عمان‪ :‬المؤسسة العربية للدراسات‪،‬‬
‫‪ ،)1993‬ص‪.97‬‬

‫‪118‬‬
‫ويؤول الوطن إلى عسس وكالب وغرفة مهجورة مُ راقَبة عند محمود‬
‫لكن المخلوق الذي يقود إلى كل هذا اإلخالء‬
‫ّ‬ ‫الريماوي في «الفندق»‪،‬‬
‫للحب والجمال والعشق واإلنشداد واألرض واألحباب ال يستم ّر غائب ًا‪،‬‬
‫ّ‬
‫يوحي بوجوده عبر نتائج حضوره‪ ،‬فاألصوات في «اعترافات كاتم صوت»‬
‫تنبه إلى حضوره الطاغي‪ ،‬بينما تتراءى صورة الوريث في‬
‫لمؤنس الرزاز ّ‬
‫عشرات النتائج‪ :‬من أوامر‪ ،‬ومضايقات‪ ،‬ومشاعر مم ّزقة وأحزان‪ .‬إنه‬
‫يمتلك الهواء والحياة‪ ،‬ولن يطيق اإلبقاء على شيء ال يقع تحت طائلته‪،‬‬
‫وكل م َْن‬ ‫ِّ‬
‫المفكر والمثقَّ ف‪ّ ،‬‬ ‫لكن خصومته األولى في «اعترافات» هي مع‬
‫ّ‬
‫ي َْحمل «شبهة االختالف»‪ ،‬على َح ّد تعبير محمد أركون‪.‬‬

‫وحتى عندما تتأ ّكد «كتابة اإلحالة الذاتية» بين المؤ َّلفات العربية‬
‫الغربي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مت حضورها‬
‫المعاصرة‪ ،‬فإنها ليست قائمة‪ ،‬لألسباب التي ح ّت ْ‬
‫بشحة مادة األدب‪ ،‬ونضوب حيويَّته‪ ،‬وجفاف‬
‫ّ‬ ‫إنها ليست إيذان ًا‬
‫حكاياته‪ ،‬كما هو األمر في غالبية «روايات التغاير» التي تحيل على‬
‫نفسها‪ ،‬أو تتموضع بين النصوص األخرى المماثلة‪ ،‬مق ِ ّلد ًة أو مشاكسةً‪،‬‬
‫الرد‬ ‫فما يتشاكس مع النص األسبق‪ ،‬كما تفعل جين ريس‪ -‬مث ً‬
‫ال‪ -‬في ّ‬
‫على «جين إير»‪ ،‬رواية شارلوت برونتي (((‪ ،‬يتأ ّتى من تحالف وتعارض‬
‫ٌ‬
‫استنطاق لنص‬ ‫في وجهة النظر‪ ،‬إزاء الجنس والعنصر والطبقة مث ً‬
‫ال‪ .‬إنه‬

‫‪Jean Rhys, Wide Sargasso Sea -1‬‬

‫‪119‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫أسبق‪ ،‬وتفجير احتماالته األخرى‪ ،‬بحسب ما تمليه الوقائع واألحوال‬


‫الملمة بالمثقَّ فين‬
‫ّ‬ ‫المستجدة‪ .‬أما عندما تبدو المشكالت‬
‫ّ‬ ‫والمدارك‬
‫ُحسدون عليه‪.‬‬
‫والك ّتاب بهذه السعة وهذه القسوة‪ ،‬فإنهم في وضع ال ي َ‬
‫اب بأصواتهم‪ ،‬كيوسف القعيد في «شكاوى الفالح‬
‫َظهر الك ّت ُ‬
‫ولهذا ي ْ‬
‫الفصيح»‪ ،‬المتحان األحوال والبديهيات من أصلها ولوضعها من جديد‬
‫تحت المجهر‪ ،‬فيأتي الكاتب نفسه مربك ًا األجواء‪ ،‬ومثير ًا التساؤالت‬
‫وعما ألفوه كأنه حقيقة واقعة‪ .‬وعندما‬
‫ّ‬ ‫عما ضاع في خطاب الناس‪،‬‬
‫ّ‬
‫نقرأ «السيرة الملغومة» (شعر ًا)‪ ،‬كما عند سعدي يوسف‪ ،‬أو «الزهر‬
‫الشقي» عند عزيز السيد جاسم‪ ،‬أو كتابات محمد برادة‪ ،‬وخليل‬
‫عدة ال تنضب‬
‫النعيمي‪ ،‬وحيدر حيدر‪ ،‬ندرك أن المبدعين يمتلكون ّ‬
‫اآلليات المستحدثة الجتثاث التوتير الثقافي‪ ،‬فإزاء النصوص‬
‫ّ‬ ‫في تسفيه‬
‫امتلكت من‬
‫ْ‬ ‫المتح ِ ّركة تتح ّول تكوينات الوريث قواقع حمقاء‪ ،‬مهما‬
‫طاقة للدمار‪.‬‬

‫القصية‬
‫ّ‬ ‫معنية بالعصيان‪ ،‬بل َت ْشغل المساحة‬
‫ّ‬ ‫لكن هذه النصوص ليست‬
‫ّ‬
‫على أطراف خطاب االمتعاض؛ فهي تكتشف ما ال شفاء منه في‬
‫نص ًا‪ .‬لكنها لم تعلن انشقاقها بعد‪ .‬إنها تتجاوز تلك‬
‫الواقع‪ ،‬بصفته ّ‬
‫المالمسات االجتماعية والوجودية الظاهرة‪ ،‬وتنحو باتجاه فتح ملفّ ات‬
‫ُص َمت عنه‪ ،‬لكنها ليست إعالنات في‬
‫المواجهة‪ ،‬لتكشف عما ال ي ْ‬

‫‪120‬‬
‫المواجهة كتلك التي تستقدمها المجلّات الصغيرة ودواوين الصراخ‬
‫أخذت تغزو سوق الكتب‪ .‬فقد تقرأ ترجمة بشير السباعي‬
‫ْ‬ ‫والريبة التي‬
‫«امتياز الحياة» لجورج حنين في «الكتابة األخرى»‪( ،‬كانون األول‪/‬‬
‫ديسمبر‪ ،)1992 ،‬لتدرك أن هذا االمتياز هو امتياز الثقافة والمثقَّ فين‪،‬‬
‫عندما يجري امتزاج المعرفة بالمشاركة في الدفاع عن حقّ اإلنسان‬
‫في الحياة الفكرية‪:‬‬
‫«أنا الذي يجلس على جانب الطريق‬
‫والذي ُيبقي أعداءه حتت رحمة ضجره‬
‫يتوجب‪ ،‬يف نظره‪ ،‬التدقيق يف كل شيء‪:‬‬
‫َّ‬ ‫والذي‬
‫طال أمد العمر أم قصر‪،‬‬
‫ليس لذلك شأن كبير‬
‫ليس لذلك شأن كبير بالنسبة لإلنسان الذي يثأر‬
‫من هوان شأن اإلنسان» (((‪.‬‬

‫ضده بذرة العصيان‪َ ،‬ت ْحفل‬


‫ّ‬ ‫َّ‬
‫تتشكل‬ ‫وألن هذا «الهوان» هو الذي‬
‫ّ‬
‫بضدية عالية تأنف من احتماالت المالمسة الفوقية‪ ،‬لكنها‬
‫ّ‬ ‫القصيدة‬
‫تستوعب‪ -‬بجالدة‪ -‬الخيارات الصعبة‪ ،‬شريطة أال تنقاد الحال إلى‬
‫أشد نكاية من الموت‪ .‬يكتب شريف الربيعي‬
‫ّ‬ ‫استهانة وإهمال هما‬

‫‪ -1‬الكتاب الثالث‪( 1992 ،‬كانون األول‪/‬ديسمبر)‪ ،‬ص‪.94‬‬

‫‪121‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫في قصيدته «دائرة الخوف الذي يفضي إلى وطن» المنشورة في‬
‫«االغتراب األدبي»‪:‬‬
‫«سأسميك املساح ْه‬
‫ّ‬
‫وأصلّي كي أرى ظلك فوق االسئ َل ْه‬
‫نخلةً أو مقص َل ْه‪ ،‬أو شظايا قنبل ْه‬
‫وطن» (((‪.‬‬
‫وأسميك ْ‬
‫ّ‬

‫ويتجمد‬
‫ّ‬ ‫فالمحنة التي ُت ْحرق المغترب تلتقي تلك التي يموت فيها الوطن‪،‬‬
‫«حلم ًا» كالح ًا‪ ،‬كابوس ًا‪ ،‬ال يجاريه غير وطأة الخبر المليء باالندحار‬
‫ّ‬
‫اإلنساني‪ .‬يكتب برهان شاوي في قصيدة بعنوان «تعارضات»‪:‬‬
‫ّ‬
‫«ورسمت يف األحالم لي وطنا‬
‫ُ‬
‫حر‪ ..‬فانطلقا‬
‫رت فيه ال َب َ‬
‫فج ُ‬
‫ّ‬
‫فعدوت يف أنحائه َم ِرحا‬
‫ُ‬
‫ومشيت يف أرجائه قلقا‬
‫ُ‬
‫بالنار‪ ..‬أحر َقنَي‬
‫ِ‬ ‫عمدت ُُه‬
‫ّ‬
‫ورششتُ ُه باملاءِ فاحترقا‬
‫فانطفأت‬
‫ْ‬ ‫الشمس‬
‫َ‬ ‫أسريت فيه‬
‫ُ‬
‫رعداً‪ ..‬فما برقا‬
‫ومنحتُ ه ْ‬

‫‪ -1‬العدد ‪(1994 ،27‬لندن)‪ ،‬ص‪.39‬‬

‫‪122‬‬
‫والنيران يف جسدي‬
‫ُ‬ ‫فغفوت‬
‫وت‪..‬‬
‫وص َح ُ‬
‫َ‬
‫ليت احلل َم ماَصدقا» (((‪.‬‬

‫فالشاعر‪ ،‬كما ينبغي للمثقَّ ف في مساق هذه القراءة أن يكون‪ ،‬تحاصر‬


‫وقائع الدمار واالستهانة‪ ،‬والخنق‬
‫ُ‬ ‫عواطف الحب للناس‪ ،‬وتواجهه‬
‫المستم ّر لبذر الحياة والحب‪ .‬ولهذا يتأمل الشاعر مشهد الدمار‪ ،‬شام ً‬
‫ال‪،‬‬
‫َ‬
‫وجذره‪:‬‬ ‫العصب الحياتي‬
‫َ‬ ‫يتقصد‬
‫ّ‬
‫«املدينة جتلس عاق َل ْه‬
‫(((‬
‫والسماء التي فوقها مطر َق ْه»‬
‫كما يكتب حيدر الكعبي‪.‬‬

‫التلبد لم يعد ثمة ما تلتقيه الذاكرة حضور ًا جمي ً‬


‫ال‪ ،‬أو فيض ًا‬ ‫ُّ‬ ‫وبمثل هذا‬
‫للسياح‪ ،‬يرتادونها للمشاهدة‪ ،‬ال تسكنها‬
‫ّ‬ ‫مخصصة‬
‫ّ‬ ‫الحب‪ ،‬فالمساحة‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫غير أفعى‪ ،‬أبقتها صفصف ًا‪ ،‬كما يقول برهان شاوي‪:‬‬
‫«تكمن حتت الصخرة الناتئ ْة‬
‫السقوف‬
‫ْ‬ ‫ويف زوايا البيت‪ ،‬بني‬

‫ْ‬
‫وظهرت في «اللحظة الشعرية» (لندن)‪ ،‬العدد‪،1993 ،2‬‬ ‫‪ -1‬كتبها عام ‪ ،1980‬بيروت‪،‬‬
‫ص ‪.18 - 17‬‬
‫‪« -2‬قصف» في «اللحظة الشعرية»‪ ،‬العدد ‪ ،1993 ،2‬ص‪.13‬‬

‫‪123‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ِ‬
‫الصحف الكاذ َب ْه‬ ‫طي‬
‫تكمن َّ‬
‫ُ‬
‫ورمبا متضي إلى املقهى‬
‫الشاي وقد تكتفي‬
‫َ‬ ‫قد حتتسي‬
‫بالنظر الباردِ للجالسني‬
‫وتدخل األحزاب أ ّنى تشاء‬
‫تبني قالعاً‪ ..‬ال تراها العيون‬
‫وربا حتكم تلك البالد‬
‫ّ‬
‫التي يرتادها السائحون» (((‪.‬‬

‫فيفْ رد علي العلّاق‬


‫وتكثر مثل هذه النصوص‪ ،‬وتتن ّوع األصوات‪ُ ،‬‬
‫تسميات للشعراء‪ ،‬كتلك التي قد تسقط على أنماط من المثقَّ فين‬
‫الخارجين على التسمية‪ ،‬أولئك الذين يصمتون أو يبيعون أنفسهم‪:‬‬
‫«شاعر ينبح يف‬
‫مزرعة السلطان‪:‬‬
‫قلب أسود النبض‬
‫وأذن صاغية»‪.‬‬

‫بينما يستعيد صفاءه‪ ،‬بين اللحظة واألخرى‪ ،‬ذلك الشاع ُر الذي ال يني‬
‫من متابعة رهانه مع الشعر‪ ،‬ومع نفسه‪ ،‬ومع الح ّريّة والناس‪ ،‬هذا الشاعر‬

‫ْ‬
‫وظهرت في اللحظة الشعرية‪ ،‬العدد ‪ ،1993 ،2‬ص‪.17‬‬ ‫‪ -1‬كتبها عام ‪،1981‬‬

‫‪124‬‬
‫يتواطأ على أمر‪ ،‬ويتم َّرد على آخر ال لبس فيه‪:‬‬
‫احللم‬
‫ُ‬ ‫«شاعر يغسله‬
‫يغ ّني‪ :‬أنحني للعشب‬
‫ال للطاغي ْه» (((‪.‬‬

‫ومثل هذه الكتابات‪ ،‬وكذلك المجالت الصغيرة والمطبوعات‪،‬‬


‫الضاجة بالعصيان‪ ،‬تم ُّرد ًا على حال‪ ،‬ورفض ًا للمسايرات والمجامالت‪،‬‬
‫ّ‬
‫حاد ًة وقاطعة‪ ،‬ال يلتبس صو ُتها‪ ،‬وال يحيد عن إرادته‬
‫ّ‬ ‫تمتلك صرام ًة‬
‫ومرامه‪ ،‬فبعدما ُر ِ ّو َ‬
‫ض المثقَّ ف في سراديب الموت‪ ،‬أو شاهد وسمع‬
‫ُ‬
‫حال ف ّن ِان محمد‬ ‫عن آخرين م ّروا قبله‪ ،‬يموت لديه الزمن‪ ،‬كما هو‬
‫جالل في «محاكمة في منتصف الليل»‪ .‬وبهذا الموت تنتهي الرغبة‪،‬‬
‫وكذلك الماضي‪ ،‬لتبتدئ عنده لحظ ٌة أخرى‪ ،‬هي مك ِ ّونات العصيان‬
‫ّ‬
‫اللغوي ما بين إبليس وقوى الهيمنة‪ ،‬وما‬ ‫وإرهاصاته‪ ،‬فيجري اإلبدال‬
‫بين الحياة والجحيم‪ .‬ونقرأ في ذهن فتحية تأمّالتها لطاقة االنشقاق‬
‫عند توفيق‪« :‬إنني أتذكر‪ -‬يا توفيق‪ -‬لحظة القرار‪ ،‬قرار العصيان‪..‬‬
‫تجاس َر شي ٌء في‬
‫َ‬ ‫تسميها‪ ،‬عندما قال إبليس لربّه‪ :‬ال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هكذا كنت‬
‫ت م ّتهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫مهاد ٌن أو مسايِ ٌر أو صامِ ٌ‬ ‫الوجود‪ ،‬وقال‪ :‬ال» (((‪ .‬فكل ما هو‬

‫‪« -1‬طبقات الشعراء»‪ ،‬االغتراب األدبيّ (لندن)‪ ،‬العدد ‪ ،1995 ،31‬ص‪.36‬‬


‫‪ -2‬األعمال الكاملة‪ ،‬الهيئة المصرية‪ ،1992 ،‬ص‪.325 ،235‬‬

‫‪125‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫خطاب العصيان بدينامية أخرى‪ ،‬ومثل هذه الكتابات‬


‫ُ‬ ‫يتوجه نحوه‬

‫ليست ظاهرة للتظ ُّرف؛ إنها رهان ابتعاد‪ ،‬ال مزحة فيه‪ ،‬أصحابه عارفون‬
‫الحقيقي ٌ‬
‫كل إلى غربة‬ ‫ّ‬ ‫أنهم ماضون إلى افتراق منذ زمن‪« :‬في الوداع‬

‫سائر» (((‪ ،‬كما يكتب صالح نيازي‪ ،‬بعدما انطفأت اآلمال‪ ،‬وغاصت‬

‫«األفاعي» في الوحل‪ ،‬ومعها الهول والدمار‪ ،‬فـ«لم يبق من ذلك‬

‫العالم المتأ ِ ّلق غير الرؤى الجامدة»‪ ،‬كما يكتب الشهيد محمد طالب‬

‫تضج بِ َل ْوعة الضياع والغربة‪ ،‬بينما‬


‫ّ‬ ‫«سفْ ر الخروج» قصيدته التي‬
‫في ِ‬
‫يحيل سعدي يوسف على المأزق الذي يجد المثقَّ ف نفسه فيه بين‬

‫التماسات الحلم األيديولوجي وعنف المجتمع السياسي‪ ،‬والنتيجة‪:‬‬

‫«نسافر بني اجلواز املز َّور والق ّوة املستحيلة‬


‫ألن القناعات أكبر منا‬
‫ونأسى‪ّ ،‬‬
‫وأصغر منا‪،‬‬
‫التشرد كانت جبالَ القبيل ْه» (((‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وأن اجلبال التي ناولتنا‬
‫ّ‬

‫يخصه‬
‫ّ‬ ‫أما المستقبل فال يعدو أن يكون كمم ّر الجرذان‪ ،‬أو كذلك الذي‬

‫بالذكر‪ ،‬مجاز ًا‪ ،‬في «بار األنتيل»‪ .‬والسبيل إلى البهو ملتبس كالسبيل‪.‬‬

‫‪ -1‬قصيدته «للناصرية» في االغتراب األدبي‪ ،‬عدد ‪ ،1996 ،32‬ص‪.70‬‬


‫‪ -2‬اللحظة الشعرية‪ ،1993 ،4 ،‬ص‪ .11‬واالقتباس عن سعدي يوسف‪ ،‬من حوار مع‬
‫األخضر بن يوسف(‪)1974‬‬

‫‪126‬‬
‫تحديات لمفاهيم النخبة‬
‫ّ‬

‫ومثل هذه الكتابات‪ ،‬في السرد والشعر والخاطرة‪ ،‬داخل جغرافية الثقافة‬
‫ٍ‬
‫تحديات‬ ‫العربية وخارجها‪ ،‬حيث المهاج ُر والمنافي‪ ،‬تم ِ ّثل‪ ،‬اليوم‪،‬‬
‫حقيق ًة لمفاهيمنا المتداولة‪ ،‬منذ «النهضة»‪ ،‬حول النخب وحضورها‪.‬‬
‫ضغط‬
‫ٍ‬ ‫إنها إعالنات إدانة وانشقاق وخروج وعصيان‪ ،‬تتوالد تحت‬
‫عتي يتفاوت جغرافي ًا‪ ،‬ويهدأ في بؤرة ليهتاج في أخرى‪ ...‬بينما تنقاد‬
‫ّ‬
‫النصوص‪ ،‬بعضها إلى بعض‪ ،‬في مدلوالت وإشارات وإحاالت وسنن‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫تكذب ما كنا نفترضه حول أشجار النسب الم ّتصلة‪ ،‬ضارب ًة جذورَها في‬
‫ألن نشأة‬ ‫مساح ٍة من دون أخرى‪ ،‬أو في ّ‬
‫ظل تأثير من دون غيره؛ ذلك ّ‬
‫ِّ‬
‫متجذرة تمام ًا‪ ،‬بينما قلعت الدولة الطغيانية‬ ‫النخب الفكرية لم تكن‬
‫ما تبقى من جذر‪ .‬ولهذا يكتب عزيز السيد جاسم بتاريخ ‪ 6‬كانون‬
‫الثاني‪/‬يناير ‪( 1991‬العراق‪« ،‬النخبة والفكر»‪ ،‬ص‪« :)6‬يجوز لنا أن‬
‫نشبه النخبة الفكرية في البلدان اآلسيوية واإلفريقية ببالون مع ّلق خارج‬
‫ِّ‬
‫حدود تسميات المكان والزمان؛ فهي مقطوعة عن الماضي‪ ،‬مقصومة‬
‫عن الحاضر والمستقبل»‪ .‬وعندما نقرأ هذا الرأي في ضوء المهاجر‬
‫ألن‬
‫المستجدة نجد أنفسنا أمام ظاهرة تطالبنا بإعادة ترتيب المفاهيم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫قدر ًا من ثقافتنا يقيم خارج المساحات الجغرافية التي تع ّرفنا إليها‬
‫وطن ًا‪ ،‬منذ زمن بعيد‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ومنجى من ش ّتى العقد؛ فثمة‬


‫ً‬ ‫وال تعني ثقافة المنفى خالص ًا ك ّل ّي ًا‬
‫ّ‬
‫يتشكل عند مجافاة حركية الحياة‬ ‫عفن يستوطن العقل‪ ،‬ال مهرب منه‪،‬‬
‫ودينامية الفكر‪ ،‬فيبتدئ باجترار حاله‪ ،‬ال يرى غير ما ألفه منذ زمن‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ومسموعات‪ُ ،‬تبقي مهاد الذهن المثقَّ ف‬ ‫خصومات‪ ،‬وأنماط تفكير‪،‬‬
‫تتخصب فيه األذهان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مأسور ًا بانطوائية فكرية‪ ،‬ومجانبة للحوار الذي‬
‫وتتجاور‪ ،‬وتستقدم طاقتها‪ ،‬ثانيةً‪ ،‬لخدمة المعرفة وإعالء شأن اإلنسان‬
‫وحقّ ه المطلق في الح ّريّة‪ ،‬ولهذا ثمة أ كثر من خطاب مأزوم‪ ،‬يتعالى‬
‫بعضها محتكم ًا‪ ،‬كالديكتاتور‪ ،‬إلى مرجعيته القديمة‪ ،‬ظا ّن ًا أنه بلغ‬
‫الحقيقة وصادف اليقين‪ ،‬بينما تستميل خطاب ًا آخر نزع ٌة عصابية‬
‫ّ‬
‫تشكلت تحت وطأة القهر والعنف والتعذيب‪ ،‬فاستلمت المراد من‬
‫عصابيتها‪ ،‬مشحون ًة بالمرض‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أدوات القهر وأصحابه‪ ،‬وبدأت بتصدير‬
‫وكأنها تنقل معها زنزانة ذهن مشلول لم يعد يرى شيئ ًا غير هذا الشكل‪،‬‬
‫فيكون مدعا ًة للتشفّ ي بعد أن تحقّ ق فيه المراد الذي سعى إليه مريدو‬
‫القمع‪.‬‬

‫وفي اللحظة التي يجري فيها تص ّو ُر انطالقة الروح في المنفى‪ُ ،‬تفْ صح‬
‫نصوص ومواقف كثيرة عن مشكالت عصابية عنيفة تتجاوز الحدود‬
‫ٌ‬
‫ِّ‬
‫المتحكمة نفسها‪ .‬فالمعروف أن المنفيين من المثقَّ فين هم إما‬ ‫الفئوية‬
‫من الهاربين‪ :‬اختيار ًا أو طواعية‪ ،‬وإما من الباحثين عن مزاج مناسب‬

‫‪128‬‬
‫في األكاديميات والفضاءات الثقافية‪ ،‬وهؤالء هم جماعة المنفى‬
‫ّ‬
‫االختياري‪ .‬أما أولئك الذين يضط ّرون إلى الهرب أمام التهديد بالموت‬
‫«المنفي»‪ ،‬إذ يعني بقاؤهم في‬
‫ّ‬ ‫فهم الذين يصدق عليهم وصف‬
‫أوطانهم مجازف ًة بحياتهم (((‪.‬‬

‫لكن عدد ًا كبير ًا من المقيمين في الخارج يحملون بصمة زمن الهجرة‪،‬‬


‫ّ‬
‫ال يتجاوزونه ذهني ًا‪ ،‬يحيلون عليه بصفته نقطة الوداع‪ ،‬ما بعدها يحيل‬
‫يحب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫على ما قبلها‪ ،‬يدور دورته تراجع ًا دائم ًا‪ ،‬فيحتقن بما يعرف وما‬
‫بينما يتخفّ ى الفئوي في قناعين‪ :‬قناع االنتماء الذي يدعوه إلى‬
‫أشد ظروفهم‬
‫ّ‬ ‫استبعاد المختلفين‪ ،‬وإلى عدم االنتصار لقضاياهم في‬
‫قسوةً‪ ،‬كالسجن أو التصفية داخل وطنهم؛ وقناع التآلف الداخلي‬
‫ّ‬
‫لتشكل ظاهرة‬ ‫الذي يدعوه إلى التضامن‪ .‬وتكثر شواهد االنفصام‪،‬‬
‫لكن هذه‬
‫ّ‬ ‫المستجدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تتحدى ف َْه َم الذين يجهلون عصابية الذهن‬
‫ّ‬ ‫حادة‪،‬‬
‫ّ‬

‫‪ -1‬وينبغي أن نتذكر الكيفية التي تُفصح فيها هذه الوقائع عن نفسها في رؤية أهل‬
‫الخارج ألنفسهم‪ .‬فهل تصدق كلمة «منفيّ » وصف ًا لكل هؤالء؟ يكتب عواد ناصر عن‬
‫قائال‪« :‬ثمة من يريد أن يجعلنا متساوي القامات وعدد‬ ‫ً‬ ‫أولئك الذين يخلطون التمايزات‬
‫السياط التي تلقيناها على عيوننا‪ ،‬بينما كان بعضنا يعدّ ها‪ ،‬ومن يعدّ العصي ليس كمن‬
‫يتلقاها على عينيه»‪ .‬أي أن المنفى قد َيؤُول امتياز ًا‪ ،‬وتنافس ًا‪ ،‬وكذلك استثمار ًا وطمس ًا‬
‫وتراجع بشأن المنفي مقالة‬
‫ُ‬ ‫لمسببات النفي‪ »...‬االغتراب األدبي‪ ،1997 ،36 ،‬ص‪.10‬‬
‫إدوارد سعيد باإلنجليزية «تأمالت في المنفى»‪ ،‬نشرها رسل فرغسون وآخرون في «بعيداً‬
‫هناك‪ :‬التهميش والثقافات المعاصر» (‪ ،)N.Y.MIT,1992‬وكذلك مناقشة إعجاز أحمد‬
‫الموضوع في كتابه ‪.In Theory‬‬

‫‪129‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ّ‬
‫يدل على‬ ‫ضد ّ‬
‫كل ما‬ ‫حاد ّ‬
‫ّ‬ ‫العصابية قد تتط َّور إلى نزعة لتفعيل حنق‬
‫والمنفي‪ .‬فإذ يشعر عدد من هؤالء‬
‫ّ‬ ‫للم ْب َعد‬
‫بهتان االختيارات األضعف ُ‬
‫بأن «الداخل» هو شاهد الصدق على الموقف‪ ،‬سجن ًا أو موت ًا‪ّ ،‬‬
‫ثمة من‬
‫ويتوسد‬
‫َّ‬ ‫نده الذي يعايشه مرغم ًا‪ ،‬ينام‬
‫يسد أذنيه عنه‪ ،‬متخاصم ًا معه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫العلني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫معه وسادة واحدة‪ ،‬نصفه اآلخر الشجاع الرافض! أما النصف‬
‫فإنه‪ -‬ما بين فئوية االنحياز وضمان مصالحه الجديدة ضمن الفئات‬
‫التي يقودها‪ ،‬والتم ُّرد على نصفه الجريء‪ -‬يمارس سلطة أخرى ملؤها‬
‫الحنق والرفض والتقريع وتقليل الشأن‪ .‬إنه ال ّ‬
‫يقل أذى عن الديكتاتور‪،‬‬
‫وريث المستعمِ ر‪.‬‬

‫ِّ‬
‫المفكر‪،‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬يشترك الصانع والمصنوع في إقصاء المثقَّ ف أو‬
‫ضده‪ ،‬في ثنائية ال فكاك‬
‫ضده‪ ،‬راغبين فيه‪ ،‬وساعين ّ‬
‫ومزاولة التكفير ّ‬
‫ِّ‬
‫المفكر‪ ،‬في‬ ‫بينها وال انفصام؛ إذ‪ ،‬كما يقول أنور عبدالملك‪ ،‬يؤول‬
‫المتجبر‪ ،‬إلى «ملك غالب ًا ما ُصلب‪ :‬غير أنه‬
‫ِّ‬ ‫عرف المجتمع السياسي‬
‫ليس حاكم ًا‪ ،‬كما أنه ليس إداري ًا جهازي ًا» (الفكر العربي‪ ،‬ص‪.)44‬‬

‫وهكذا‪ ،‬ترانا مدع ّوين ثاني ًة إلى مقاربة مفاهيم الحضور والغياب ما‬

‫بين المثقَّ فين وال ُّن َخب في ضوء ُّ‬


‫تعددية األحوال والوقائع والهجرات‬
‫انطبعت على وجوه هذا الوطن‬
‫ْ‬ ‫والمنافي والسجون والباليا الكثيرة التي‬
‫َ‬
‫عرض ْته هذه القراءة‪ ،‬من امتزاج المعرفة بالمسعى‬ ‫الكبير‪ .‬وضمن ما‬

‫‪130‬‬
‫ضد ما‬
‫نحو الح ّريّة‪ ،‬ي َْسهل أن نعرف س ّر انغالق «الجوهرية السلفية» ّ‬
‫يتفاوت معها‪ ،‬ورغبتها في تكفير ما عداها‪ .‬بينما تبدو «الليبراليات‬
‫ِ‬
‫محقّ قَ ًة حضورَها عند التالقي‬ ‫المتفاوتة خالصة من عقدة التحريم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المفكر والمثقَّ ف‪ ،‬فتؤول النخب فاعلةً‪ ،‬بشكل أو بآخر‪.‬‬ ‫والتحاور مع‬
‫والتجبر‪ ،‬ولهذا ال يرى نفسه‬
‫ُّ‬ ‫ردة وريث االستعمار‪ ،‬فتكتنز بالغرور‬
‫أما ّ‬
‫ِّ‬
‫المفكر والفيلسوف (((‪ .‬في حين تنطلق الكيانات‬ ‫إال بغياب اآلخر‪ ،‬أي‬
‫المنفتحة على اقتصادات العالم غير عابئة بهذا الحوار‪ ،‬ما دام يقيم‪-‬‬
‫أص ً‬
‫ال‪ -‬خارج م ََديات االهتمام األساس‪ .‬أما السمة الغالبة للحياة‬
‫االجتماعي‬
‫ّ‬ ‫العامّة‪ ،‬فهي تلك التي تدفع بالمثقَّ فين العرب إلى الفعل‬
‫لكن واقع العقود‬
‫ّ‬ ‫السياسي‪ ،‬بينما تضط ّر اآلخرين إلى االستقالة‪.‬‬
‫األخيرة عرض للمثقَّ فين في ما يشبه سيرة غرامشي‪ ،‬أو لسيرة ريجيس‬
‫دوبريه‪ ،‬الذين ولعوا به‪ ،‬منذ منتصف الستينيات‪ ،‬قرأوا في االمتزاج‬
‫ردهم على انتهازات األداء‬ ‫ّ‬
‫النظري‪ -‬السياسي عنده‪ ،‬حينذاك‪ّ ،‬‬
‫السياسي وذرائع البورجوازية الصغيرة‪ ،‬لكنهم‪ ،‬في ذلك االمتزاج‪ ،‬قد‬
‫ِّ‬
‫للمفكر عزيز السيد جاسم في‬ ‫يؤول بهم الحال إلى االعتقال المزري‬

‫‪ -1‬يقول عبدالله العروي «إنّ رجل التطبيق العمليّ ‪ ، ...‬وبتبنيه أيديولوجية ترمي إلى‬
‫الشمولية‪ ،‬يقطع في المسألة‪ ،‬وال يدع للفلسفة إال مهمة تفسير أفعاله»‪ .‬أزمة المثقفين العرب‬
‫(بيروت‪ :‬المؤسسة العربية‪ ،)1978 ،‬ص‪ .111‬وال يتصور العروي أن األمر يتعدى ذلك‬
‫بكثير‪ ،‬ويؤول إلى التصفية عند المحترف السياسيّ ‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫بغداد‪ ،‬أو لمقتل حسين مروة‪ ،‬وكمال خير بك وغسان كنفاني‪ ،‬وكمال‬
‫ناصر‪ ،‬ومهدي عامل في لبنان‪ ،‬ومحمد طالب وعلولة في الجزائر‪.‬‬
‫وسواء أنتمى هؤالء أو بعضهم وغيرهم‪ ،‬إلى فئة‪ ،‬أم لم ينتموا‪ ،‬فإنهم‬
‫ّ‬
‫فكري وثقافي ومعرفي‪ .‬أما األطراف‬ ‫جميع ًا أصحاب قضية وانشغال‬
‫التي شاركت في القمع والقتل والتصفية‪ ،‬ما بين سلطة متز ِ ّمتة وكيانات‬
‫وجهات قهر‪ ،‬فإنها تلتقي جميع ًا متآلفة‬
‫مريضة ومخابرات صهيونية ِ‬
‫العتية للمثقَّ فين‪ .‬وألوّل م ّرة تجتمع كل هذه‬
‫ّ‬ ‫متماثلة‪ّ ِ ،‬‬
‫لتؤكد خصومتها‬
‫ِّ‬
‫المفكرين واألدباء وآالمهم وعذاباتهم‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫متوحدة‪ ،‬على جثث‬ ‫الجهات‬
‫أما حال المثقَّ ف فهي تلك التي نلتقيها عند سعدي يوسف‪ ،‬في «حوار‬
‫مع األخضر بن يوسف»‪« :‬ها نحن نشقى‪/‬وها نحن نُلقى‪/‬وعبداللطيف‬
‫على ساحة السجن مُ لقى»‪.‬‬

‫والمثقَّ فون‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬ليسوا الفئات الفنية والمتع ِ ّلمة وسلطات‬
‫ِّ‬
‫«المثقفين» (بكسر القاف)‪،‬‬ ‫المديرين‪ .‬لكنهم قد يحتوون في ما بينهم‬
‫ّ‬
‫والمفكرين‪ ،‬الذين يتعالون‪ ،‬عند علي حرب‪ ،‬على‬ ‫وكذلك الفالسفة‬
‫الفئوية والمصلحة والتبعية‪ .‬ويمكن القول إن التعالي على المصلحة‬
‫ال وفع ً‬
‫ال‪ ،‬هو الذي يلتقيه المرء‬ ‫نشدان ًا للمعرفة الح ّرة وح ّريّة اإلنسان‪ ،‬قو ً‬

‫بين ثنايا تعريفات إدوارد سعيد‪ ،‬وما استعا َن ُته بتعالي نخب ِة الخالص‬
‫ُ‬
‫وتعاط ُف ُه مع طهرانية مثقف جوليان بندا إال مسعاه للحيدة‬ ‫عند أرنولد‬

‫‪132‬‬
‫بالتعريف عن التصاقات التبريرات والتغاضي المحسوب‪ ،‬والتصامت‬
‫إزاء محنة اآلخرين‪ .‬فإن «ال تملك شيئ ًا وال يملكك شيء»‪ ،‬كما يستعير‬
‫عزيز السيد جاسم من الصوفي سمنون تعريفه للمتص ِ ّوفة‪ ،‬قد يكون‬
‫منطلق ًا ومعيار ًا للفعل الح ّر؛ وإذا ما بلغه المثقَّ ف تح ّررَ‪َ ،‬وو‬
‫َجدت فيه‬
‫ْ‬
‫وتنشد إليه في عريها وبحثها عن‬
‫ّ‬ ‫كتابات العصيان الكثيرة صوت ًا تنشده‬
‫ُ‬

‫ِّ‬
‫المتمعنة في تشفيرات الحلّاج والسهروردي‪،‬‬ ‫لكن القراءة‬
‫ّ‬ ‫الخالص‪.‬‬
‫وتلك التي تتأ َّكد لدى المثقَّ ف المغدور في «متص ِ ّوفة بغداد» (طبعة‬
‫نص‬
‫ّ‬ ‫أصحاب‬
‫َ‬ ‫جديدة ‪ ،1997‬المركز الثقافي‪ ،‬بيروت)‪ُ ،‬تظهرهم‬
‫وسلوك يتحايالن على إسالم الخلفاء وفقهائهم لتحرير النصوص‬
‫إن المتص ِ ّوف قد يكون مثقَّ ف ًا بامتياز‪ ،‬ما دام‬
‫من وجهها األوحد‪ .‬إذ ّ‬
‫يسعى‪ -‬أيض ًا‪ -‬إلى مثل هذا التحرير‪ ،‬لئال يبقى التاريخ عند فقهاء‬
‫تقديس»‪ ،‬كما يكتب فؤاد زكريا‪« ،‬فوق مستوى البشر‬
‫ٍ‬ ‫«تاريخ‬
‫َ‬ ‫الخليفة‬
‫الفانين» (((‪ .‬ويضيف أنه لو كان بمقدور فقهاء الخالفة ُ‬
‫فعل شيء إزاء‬
‫المدوّنة «الستأصلوا من التاريخ مباشر ًة ُّ‬
‫كل إشارة إلى ما ي َْخرج من‬
‫المؤسسة الرسمي ُة للخالفة» (((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك التيار الرئيس الذي تم ِ ّثله‬

‫فإن النص «الخارجي»‪ ،‬أي المنشقّ ‪ ،‬سرعان ما‬


‫ومن الجانب اآلخر‪ّ ،‬‬

‫‪« -1‬نقد االستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة‪ -‬دراسة في المنهج»‪ ،‬فكر‪ ،‬ع‪،10‬‬
‫‪ ،1986‬ص‪.٤٢‬‬
‫ً‬
‫فعال‪ .‬وتم تشذيب الطبري من قبل مؤرخين اشتغلوا «فقهاء» أيض ًا‪.‬‬ ‫‪ -2‬وللمفارقة حصل هذا‬

‫‪133‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫يستعاد بتشفيراته مفتوح ًة ومقروءةً‪ ،‬بأوجه أخرى تتباين مع ما ي ّ‬


‫ُظن فيها‬
‫من ٍ‬
‫تعال‪ ،‬عندما قرأها الروائيون العرب في لحظة التعارض واالمتعاض‪،‬‬
‫أو كما استعادها الشعراء وهم يقيمون مقارناتهم وإحاالتهم الكثيرة على‬
‫والزهاد والثوريين والصعاليك والشهداء واألبطال‪ ،‬ما بين‬
‫ّ‬ ‫المتص ِ ّوفة‬
‫علي بن أبي طالب‪ ،‬وعمر بن عبدالعزيز‪ ،‬والحسين بن علي‪ ،‬وأبي ذر‬
‫الغفاري‪ ،‬والحلّاج‪ ،‬وطرفة بن العبد‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وهكذا‪ ،‬بدأت القصيدة‬
‫ضجتها وعصيانها عند منتصف الستينيات مع طهمازي‪ ،‬وأدونيس‪،‬‬
‫ّ‬
‫وسعدي يوسف‪ ،‬ودرويش‪ ،‬وحميد سعيد‪ ،‬وأمل دنقل‪ ،‬وحسب الشيخ‬
‫جعفر‪ ،‬وآخرين‪ ،‬لتلتقي كتابات عزيز السيد جاسم‪ ،‬ومحمد مبارك‪،‬‬
‫ونقّ اد كثيرين رنَّت عندهم أصوات دوبريه‪ ،‬كما استمالتهم اعتراضات‬
‫سارتر وتو ُّترات كامو‪ ،‬بين القلق واليقين‪ .‬بينما اصطاد نجيب محفوظ‬
‫النبض‪ ،‬فأوجد العالقة بين المتص ِ ّوف الجنيدي وبين المغدور سعيد‬
‫مهران في «اللص والكالب» (‪ ،)1961‬ل َِيل ِْي ِه الغيطاني‪ ،‬وفوزية رشيد‪،‬‬
‫انفجرت أمامهم وتحت تنقيبهم قشر ُة التاريخ‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وعدد من الكتاب الذين‬
‫ٌ‬
‫فضج المدوّن باألصوات لتبتدئ حكاية أخرى‪ ،‬لم َيفْ هم مغزاها الوريث‬
‫ّ‬
‫التالي الساعي‪ ،‬با ّتجاه معاكس‪ ،‬من أجل حصاد معاكس أيض ًا‪ ،‬ليقيم‬
‫تحت القشرة بين ركام التلفيق‪.‬‬

‫وثمة مسار مغاير‪ :‬فالتقاط نبرة االنشقاق لم ِ‬


‫يأت‬ ‫ثمة ا ّتجاه‪ّ ،‬‬
‫لكن‪ّ ،‬‬
‫ْ‬

‫‪134‬‬
‫جزاف ًا‪ ،‬وإنما صادف أن تالقت األهواء والغايات واال ّتجاهات‪ ،‬في‬
‫المؤسسة السياسية قبل النكسة‬
‫َّ‬ ‫إحباط‪ ،‬وخروج ٍ‬
‫تال‪ ،‬على‬ ‫ٍ‬ ‫مرحلة‬
‫ّ‬
‫والشك‪،‬‬ ‫َّ‬
‫لتتشكل من هذه ابتداءات في التساؤل‬ ‫الحزيرانية‪ ،‬وعندها‪،‬‬
‫فتئت‬
‫ْ‬ ‫حاول وريث األيديولوجية الطقوسية االلتفاف عليها‪ ،‬لكنها ما‬
‫تتك ّون ما بين المنافي والمركز واألطراف‪ ،‬من دون اتفاقات أو تعاهدات‬
‫بين المثقَّ فين‪ .‬إننا‪ ،‬إذ نقرأ المك ّونات العامّة‪ ،‬في مجموعة خطابات‬
‫منشقّ ة‪ ،‬على فقيه الخليفة‪ ،‬ندرك‪ -‬أيض ًا‪ -‬أن أصحاب هذه الخطابات‬
‫تيسرت لهم فرصة التحاور واللقاء المباشر؛ فبعضهم يقبع سجين ًا‬
‫ْ‬ ‫قلما‬
‫وتتم تصفية اآلخر‪ ،‬ويبقى ابن‬
‫ّ‬ ‫من دون ٍ‬
‫تناد من اآلخرين إلنقاذه‪،‬‬
‫طليقين‪ ،‬بإمكانهما‬
‫ْ‬ ‫الدولة الدستورية وساكن المنفى يمتلكان الح ّريّة‬
‫التباحث في قضية المثقَّ ف على مداخل القرن الحادي والعشرين‪،‬‬
‫لهذا ينبغي أال نستغرب صيحة األلم التي تدفع مثقَّ ف ًا‪ ،‬كالهندي إعجاز‬
‫أحمد‪ ،‬إلى أن ُيطْ ري إدوارد سعيد‪ ،‬بينما ينتقد فيه ذلك الترويض‬
‫الذي يجريه عبر ‪ Benda‬آلراء غرامشي (((‪ .‬فالثقافة والمنفى يفعالن‬
‫واع‪ ،‬ضرورةً‪ ،‬للجمالية العالية على حساب‬
‫ٍ‬ ‫فعلهما في إعال ٍء غير‬
‫التماس المنشود مع تفصيالت القهر الداخلية التي يعانيها اإلنسان‬
‫بخاصة‪ .‬فهؤالء كغيرهم‪ ،‬منذ سقراط‪ -‬كما يقول‬
‫ّ‬ ‫العربي‪ ،‬والمثقَّ فون‬

‫‪ ،In Theory -1‬ص‪.169‬‬

‫‪135‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ّ‬
‫يشكلون االمتحان‬ ‫عزيز السيد جاسم في «الحضارة واالغتراب» (((‪-‬‬
‫لكن الدعوة إلى‬
‫ّ‬ ‫الحقيقي للمجتمع السياسي‪ ،‬وكذلك للرأي العام‪.‬‬
‫ّ‬
‫تخصه كتابات‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫المتصدع الذي‬ ‫مزيد من اليقظة الذهنية إزاء الداخل‬
‫أهم ّية مسعى إدوارد سعيد‬
‫العصيان باإلدانة القاطعة ال تعني التقليل من ّ‬
‫ِّ‬
‫مكدر ًا للصفو العام‪ ،‬مُ ْربِ ك ًا‬ ‫في إعالء شأن خاصية المثقَّ ف‪ ،‬بوصفه‬
‫والمصلحي‪ .‬وحتى عندما ينتقل الكالم‬
‫ّ‬ ‫والتوفيقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫للراكد‪ ،‬والساكن‪،‬‬
‫إلى دريدا‪ ،‬مع الفارق ذهن ًا ومنهج ًا‪ ،‬يجدر االنتباه إلى بدء التفكيك‬
‫عنده‪ ،‬ألن منطقة القلق‪ ،‬والتماسها المشاغب َه ْد َم قطعية النصوص‪،‬‬
‫والمقصي‪ ،‬تستكمل ما ُأرتج أص ً‬
‫ال عند كامو‪ ،‬والتقطه‬ ‫ّ‬ ‫المغيب‬
‫َّ‬ ‫وتفجير‬
‫للعدة‬
‫ّ‬ ‫المثقَّ فون العرب في صراعهم الواعي مع اليقينية المغلقة‬
‫لكن تحفُّ ظات «سيير» وغيره على ما قيل‬
‫ّ‬ ‫األيديولوجية الطقوسية‪.‬‬
‫تبقى تستحقّ االنتباه؛ ذلك ألن هجنة األصول الشخصية قد تنحرف‪،‬‬
‫أو انحرفت فع ً‬
‫ال‪ ،‬بـ«دريدا» نحو إبداالت ال تنتهي‪ ،‬قد ال تتوافق‪،‬‬
‫المعرفي الح ّر ( ((‪ .‬ولهذا يمكن األخذ بتعاطف‬
‫ّ‬ ‫ضرورةً‪ ،‬مع المبتغى‬
‫فوكو‪ ،‬أي جذبات الكون‪ ،‬بعضه بعض ًا‪« ،‬قاطع ًة أوسع الفضاءات في‬
‫المتالك س ّر الديمومة‪ ،‬والتي تأسر مدارات المثقَّ ف الح ّر‪،‬‬ ‫لحظة»‬
‫ (((‬

‫‪( -1‬بيروت‪ :‬دار األندلس‪ ،)1987 ،‬ص‪.132‬‬


‫‪2- David Spurr, Rhetoric of the Empire (Durham: Duke U.P. 1993),p. 196.‬‬
‫‪3- Michel Foucault, The Order of Things: An Archaeology of the‬‬

‫‪136‬‬
‫وهو يلتقط ابتغاء اإلنسان للكرامة والخالص من االمتهان‪ .‬كما يمكن‬
‫أن يؤخذ عن دريدا ما يقيمه من تساؤل م ّتصل للخروج على يقين‬
‫السياسي‪ ،‬أو سلطة الديكتاتور‪ ،‬بينما يلتمس المرء في فوكو‬
‫ّ‬ ‫المجتمع‬
‫المضي نحو‬
‫ّ‬ ‫النص وتحليله الكتشاف فعل الهيمنة فيه‪ ،‬بقصد‬
‫ّ‬ ‫قراءة‬
‫ما هو أوسع‪ْ ،‬‬
‫أي فعالية النصوص في ما هو أوسع؛ أو وضع الثقافة‬
‫داخل الجهد اإلنساني برمّته‪ ،‬كما يكتب سعيد في مقالته عن «النقد‬
‫بين الثقافة واالنتظام» في «النص‪ ،‬العالم‪ ،‬الناقد» (‪ .)1983‬وليس‬
‫ينشد هذا المثقف‪ ،‬كما فعل غرامشي‪ ،‬إلى الموروثات‬
‫ّ‬ ‫مستغرب ًا أن‬
‫ّ‬
‫جوهري‪ ،‬ح ّر‪ ،‬منشود‪ ،‬عميق‪،‬‬ ‫الشعبية التي يخرج منها اإلنسان بما هو‬
‫لم يخضع‪ ،‬بعد‪ ،‬أل كداس التزييف وعوامل القهر والتشويه والتضليل‬
‫التي تتقاطر‪ ،‬باستمرار‪ ،‬من شتى الخطابات الناشدة للهيمنة والمزاولة‬
‫لها‪ ،‬منقطع ًة عن المصلحة العامّة لإلنسان‪ ،‬وآماله في الح ّريّة والكرامة‬
‫والعيش أو ً‬
‫ال‪ .‬وك ّلما جرى استنطاق هذا الموروث‪ ،‬كالحاج أحمد‪-‬‬
‫تمثي ً‬
‫ال‪ -‬في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»‪ ،‬مخزون ًا‬
‫تبدت‬
‫للحكمة المختمرة وحسن الذوق والفقر العفيف والمكابدة‪َّ ،‬‬
‫جوانب الثقافة التي تخفيها عنا تراكمات االفتراق والقطيعة‬
‫ُ‬ ‫أمامنا‬
‫واالغتراب وقشرة المصالح والتقاطعات‪ ،‬تلك الجوانب المليئة بدفق‬

‫‪Human Scienes (London: Routledge,1970), p,23.‬‬

‫‪137‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ّ‬
‫والمفكر باإلنسان‬ ‫ب‪ ،‬يلتقي عندها المثقَّ ف‬
‫والح ّ‬
‫ُ‬ ‫عذب من الحياة‬
‫االعتيادي‪ .‬وعند هذه تتحطّ م النخبوية‪ ،‬كما يقترح غرامشي‬
‫ّ‬ ‫أو الفرد‬
‫عندما يتأمَّل الثقافة الشعبية (((‪ ،‬وهو ما يحيل عليه عزيز السيد جاسم‪-‬‬
‫ضمن ًا‪ -‬حين يرى المبتغى األول‪ ،‬ونقطة االبتداء‪ ،‬حقوق هذا اإلنسان‬
‫في وطنه‪ ،‬ال بصفتها من ًة ومنح ًة ُتعطى‪ ،‬وإنما بصفتها امتيازه األول‬
‫الذي ال مراء فيه‪ ،‬وال مواربة‪ ،‬وال اختالف‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬

‫ّ‬
‫للمفكرين‬ ‫محصلة الجهود الذاتية والموضوعية‬
‫ّ‬ ‫«الثقافة الصحيحة هي‬
‫ّ‬
‫مفكر وكل مثقَّ ف هو مواطن‬ ‫والمثقَّ فين‪ .‬وفي مرسى األمور فإن كل‬
‫يحتاج إلى التم ُّتع بحقوقه اإلنسانية‪ْ ،‬‬
‫أي بحقوق المواطنة‪ ،‬حتى تكون‬
‫وحب وإيمان ال تصنعه‬
‫ّ‬ ‫صلته بوطنه ليست صلة بالمدفن‪ ،‬بل صلة حياة‬
‫يتهيأ إال‬
‫َّ‬ ‫األناشيد والقصائد‪ ،‬وإنما يصنعه إيمان واقعي ال يتحقّ ق وال‬
‫يتنسمها المواطن في وطنه» (((‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عبر أجواء الح ّريّة التي‬

‫ِّ‬
‫والمفكر‪،‬‬ ‫وبمثل هذا االبتداء ينقاد توجيه االهتمام إلى المثقَّ ف‪،‬‬
‫واإلنسان‪ ،‬منتج ًا وشريك ًا في المعرفة‪ ،‬ال يتحقَّ ق فعله إال في فضا ٍء ح ّر‬
‫يتأ َّكد في وطنه أ ّو ً‬
‫ال‪ ،‬وكلما غابت حقوق المواطن اختلفت أولويات‬
‫وتفاوتت‪ ،‬بيننا وبين مجتمعات قطعت خطوات في شراكتها‬
‫ْ‬ ‫التعريف‪،‬‬

‫‪ -1‬في غرامشي وقضايا المجتمع المدني‪ ،‬ص‪ 243‬و‪.244‬‬


‫‪ -2‬حاوره فاروق البقيلي‪ ،‬الحلقة الرابعة‪ ،‬مصدر سابق‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫الفعلية‪ .‬وبينما تبدو نصوص هؤالء الكثيرة متوالدة عن أخرى أو‬
‫مستجيبة لها في نقطة التقاطع الحاسمة‪ ،‬يبقى المؤ ِ ّلفون حاضرين‬
‫بالق ّوة نفسها‪ ،‬يقيمون وجودهم في الحياة العربية شهود ًا وأصحاب‬
‫مضاد‪ ،‬يتضافر فيه حضورهم الرافض مع المدوَّنة‪ ،‬والمواجهة‬
‫ّ‬ ‫نص‬
‫ٍّ‬
‫والعصيان‪ ،‬وتعكير مزاج ملّاكي المجتمع السياسي‪ ،‬ومديري الرأي‬
‫مية االستعالء والتس ُّلط وعقدة‬
‫العام في المجتمعات المحكومة بِ َه َر ّ‬
‫«الخليفة»‪ .‬و«فضالت» هذه المجتمعات الظاهرة تزكم األنوف‪،‬‬
‫ّ‬
‫تذكر‪ ،‬دائم ًا‪ ،‬بالغائب الذي يشير إلى وجوده عبر عشرات‬ ‫لكنها‬
‫أفصحت عنه‪ ،‬بامتياز‪،‬‬
‫ْ‬ ‫اإلشارات والفراغات‪ ،‬ذلك الغائب الذي‬
‫رواي ُة تيسير سبول القصيرة «أنت منذ اليوم» (((‪ .‬إن خطاب العصيان‬
‫ضد النخبة التي غازلت استمرار الوراثة‪ ،‬وكأنه يستعيد‬
‫يتوجه‪ ،‬بعنف‪ّ ،‬‬
‫َّ‬
‫ما يتوقّ عه فانون من قبل‪ ،‬بينما يتعايش‪ ،‬كالمريد‪ ،‬مع حاالت المثقَّ ف‬
‫الح ّر وتج ّلياته وشجون قدره‪.‬‬

‫لكن نشدان الح ّريّة والتوق إلى المعرفة (وهما سمتا المثقَّ ف) ال‬
‫ّ‬
‫النص وحده‪ ،‬ألن األخير يحيل على هذا العالم‪ ،‬كما أن‬
‫ّ‬ ‫يتأ َّكدان في‬
‫المعني مرصود ومقصود من شتى القوى المضادة للسمتين‬
‫ّ‬ ‫المثقَّ ف‬

‫‪ -1‬حول هذه الرواية ورويات مماثلة‪ ،‬يراجع للمؤلف‪ :‬ثارات شهرزاد‪ :‬فن السرد العربي‬
‫الحديث (بيروت‪ :‬دار اآلداب‪ .)1993 ،‬وصدرت الرواية المذكورة (‪ )1968‬عن دار النهار‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫المذكورتين‪ :‬فكما أن الديكتاتور يرى فيهما انتهاءه‪ ،‬كذلك األمر‬


‫والمستبدة؛ إذ‬
‫ّ‬ ‫بالنسبة إلى أفراد الفئة الظالمية والمتخ ِ ّلفة والشوفينية‬
‫يجتمع هؤالء إلى مائدة واحدة‪ ،‬الإنسانية‪ ،‬تفيض بالكراهية‪ ،‬وتخلو‬
‫تعددية الخطاب‪،‬‬
‫من أبسط مق ّومات الكرامة؛ ولهذا يجدر بنا أن نتأمَّل ُّ‬
‫ٍ‬
‫خرق ينتمي‪ ،‬في النتيجة‪ ،‬إلى‬ ‫خطاب العصيان‪ ،‬في ضوء‬
‫ُ‬ ‫ومن ضمنها‬
‫ذلك النزق العميق والتم ُّرد الواعي على كل ما يستهدف وضع اإلنتاج‬
‫المعرفي ومنتجه‪ ،‬في أطر التحريم والكبح والضغط والمصادرة والمنع‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكن جرثومة‬
‫ّ‬ ‫وغالب ًا ما تحتمل الخطابات الكثيرة بذرة االنشقاق‪.‬‬
‫العصيان ال ت َّتحدد‪ -‬ضرورةً‪ -‬بانتماء اجتماعي واحد أو فئوي سياسي‬
‫محدد‪ ،‬بل قد تتجاور مع إشراقات مستدعاة عند أدونيس‪ ،‬تصطاد‬
‫َّ‬
‫مراياها سدنة اإلرهاب والدمار‪ ،‬وقد تتع َّثر‪ -‬سريالي ًا‪ -‬عند آخرين‬
‫كفاضل عباس هادي «في الشارع‪/‬مقطوع الرأس أسير‪/‬كلي رأس»‪،‬‬
‫لكن رهانه‪ ،‬ورهان غيره من الشباب‪ ،‬في حينه‪ ،‬هو «أن التاريخ‪ ..‬لن‬
‫ّ‬
‫يخذلهم‪ »...‬إذ إنهم «حليفو الفكر العلمي ومتعاطفون‪ -‬قلبي ًا‪ -‬مع‬
‫الفكر الجديد‪ .((( »...‬كما أن جماعات هذا الخطاب ال تمتلك انتما ًء‬
‫ردات‬
‫ثمة ّ‬ ‫ّ‬
‫تشكل هامش ًا مترف ًا بين فئات ميسورة؛ ولهذا ّ‬ ‫واحد ًا‪ ،‬وقد‬

‫‪« -1‬كتابات‪ ،»1984 - 1964 ،‬دار الجمل‪ ،1990 ،‬ص‪ 33‬و‪ .45‬وظهرت القصيدة‬
‫وتقديمها في الكلمة العراقية‪ .1968 ،‬أما بالنسبة لكتابات تلك المرحلة‪ ،‬وتنامي بذرة‬
‫العصيان عند حميد سعيد وجمال الغيطاني وآخرين‪ ،‬فقد ناقشته في الفصل السابع من‬
‫«ثارات شهرزاد»‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫متقاطعة بين هذه الجماعات‪ ،‬وقد تصعد مجموعات منه إلى صفوة‪،‬‬
‫بمعية أخرى‪ ،‬بمجاورة‬ ‫َّ‬
‫تتشكل صنوف من الخطاب‬ ‫هنا أو هناك‪ .‬كما‬
‫ّ‬
‫خطاب مهيمن قاهر أو محدود‪ .‬ولهذا تبتدئ رحلة الخرق‪ ،‬ما بين‬
‫ويتوجه الخطاب‬
‫ّ‬ ‫الفكاهة واالستعراض والسخرية والتصريح والفضح‪.‬‬
‫في مواصفات المجاورة بين العصيان والهيمنة والرفض واالحتكار‬
‫ّ‬
‫يشكله المتس ّلط‬ ‫ضد المجتمع السياسي‪ ،‬بصفته فرد ًا؛ ْ‬
‫أي ذلك الذي‬ ‫ّ‬
‫يتقصد الخرق‪ ،‬ال المراوغة‬
‫ّ‬ ‫حوله‪ :‬ما ً‬
‫ال‪ ،‬ووجاهة‪ ،‬ونفوذ ًا‪ .‬وهو خطاب‬
‫التي يبتغيها خطاب الرفض واالمتعاض بقصد النتيجة‪ ،‬فهو يريد إعالن‬
‫نفسه وإزاحة اآلخر‪ ،‬أو خلخلة وجوده في األقل‪ .‬وقد يؤول الخطاب‬
‫المذكور فاضح ًا‪ ،‬أو تخاطبي ًا‪ ،‬كما يمكن أن ينغمس في تشفيرات كثيرة‬
‫تنتهي إلى نتيجة مماثلة عندما تجتمع على صورة أو رمز‪ .‬كما قد يزداد‬
‫تو ُّتر ًا تحت ضغوط العصر ومنجزاته‪ ،‬لكنه ينفتح عليها‪ ،‬آخذ ًا منها‪،‬‬
‫جامع ًا بين تم ُّرد الرومانسيين ونزق الثوريين ومعرفة المنذورين إلى‬
‫الثقافة‪ ،‬لكنه قد ينتشر بين المجلّات الثقافية‪ ،‬كما قد يجد طريقه بين‬
‫المستجد‪ .‬إنه هنا‪ ،‬ليزيح التدفُّ ق‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والبث والتخاطب‬ ‫وسائل اال ّتصال‬
‫غبي ًا من التلفيقات لتجميل صورة‬
‫ال ّ‬ ‫المنهمر الضاغط‪ ،‬الذي ِ ّ‬
‫يقدم شلّا ً‬
‫فعا ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫وحب الذات‪ .‬ولربّما ال يبدو ّ‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫متحصنين بالمال‬ ‫مديري البغي‪،‬‬
‫بالقدرة نفسها‪ ،‬ألن التدفُّ ق التلفيقي أ كبر بكثير وأعتى‪ ،‬لكن ُّ‬
‫تشكالت‬
‫العصيان‪ ،‬في مجاورتها لالمتعاض والرفض والنقد‪ ،‬تنتمي إلى شهامة‬

‫‪141‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫ما‪ ،‬نقاء آخر‪ ،‬تتحقَّ ق عبر قنوات ّ‬


‫رد الفعل والمشاكسة‪ .‬أما ما يكسبها‪،‬‬

‫جميع ًا‪ ،‬ر ّنة الرجاء واألمل‪ ،‬وشقّ عصا الطاعة على ُ‬
‫المفترين‪ ،‬فهو‬
‫عمق تناغمها مع حركة كونية‪ ،‬ومع حاجة الناس ورغباتهم‪ ،‬وكذلك مع‬
‫وتعددياته‬
‫ُّ‬ ‫البنية الشعورية العامّة‪ ،‬وتلك الم ّتصلة بنبض العصر وانفتاحه‬
‫وتحدياته‪ .‬وهكذا تستعاد هذه الخطابات عبر دروبها المختلفة في‬
‫ّ‬
‫داخل فعل ثقافي واسع‪ ،‬له رهانه َم ّرةً‪ ،‬وبراءاته َم ّر ًة أخرى‪ ،‬لكنه‪ ،‬هنا‬
‫للمستبد والمتخ ِ ّلف‪ ،‬وما ينتميان إليه من‬
‫ّ‬ ‫وهناك‪ ،‬ق َّلما يُبقي يقين ًا ما‬
‫ٍ‬
‫حضور لهذه األصوات هو خرق‪ ،‬بدرجة أو‬ ‫ّ‬
‫فكل‬ ‫معتقد أو رأي عام‪،‬‬
‫المسميات‬
‫ّ‬ ‫بأخرى‪ ،‬وكل إصغاء لها هو شراكة معها‪ ،‬قد ال تأتلف تحت‬
‫المتداولة للمجتمعات الراكدة‪ ،‬لكنها َت ْحفر في الحدود التي أريد لها‬
‫أن تنغلق على الح ّريّة والناس‪.‬‬

‫ِ‬
‫المنقذة‬ ‫ِ‬
‫القلّة‬

‫غالب ًا ما تختلط مواصفات المثقَّ فين بغيرهم‪ ،‬في القارات الثالث‪.‬‬


‫وأما المثقَّ فون العرب الذين ُتعنى بهم قراءتي هذه ف َُه ْم ن ُّساك المعرفة‪،‬‬
‫تتأسس في أذهانهم مشاريع الكرامة اإلنسانية في‬
‫َّ‬ ‫الذين يمكن أن‬
‫الوقت نفسه‪ .‬إنهم االمتزاج الدقيق بين العفّ ة والتزام الح ّريّة‪ ،‬هدف ًا‬
‫ومسعى للناس جميع ًا‪ ،‬من دون استثناء؛ وعليه يُمكن أن يكونوا‬
‫يخصهم إدوارد سعيد بالمناقشة في كتابه «صور‬
‫ّ‬ ‫بين أولئك الذين‬

‫‪142‬‬
‫المثقَّ ف»‪ ،‬أو بين أولئك الذين تع ّرض لهم «جوليان بندا» من قبل‬
‫ّ‬
‫يشكلون القاعدة‬ ‫في «خيانة المثقَّ فين»‪ .‬لكنهم‪ ،‬قبل هذا وذاك‪،‬‬
‫خصها ماثيو أرنولد بكتابه الذائع عن المجتمع اإلنجليزي في‬
‫ّ‬ ‫التي‬
‫النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬أي «الثقافة والفوضى»‪ .‬فإذ‬
‫حج متصل نحو االكتمال‪ ،‬ومعرفة متواصلة‬
‫َي ُؤول معنى الثقافة إلى ّ‬
‫بأحسن المتوارث والمنقول‪ ،‬يكون َح َملة المواصفات الثقافية أ كثر من‬
‫زهاد‬ ‫مرشدين ومر ِ ّبين وفقهاء ّ‬
‫ووعاظ‪ .‬إنهم أقرب ما يكونون إلى ّ‬ ‫مج َّرد ِ‬
‫ِّ‬
‫تشكل لهم إغراءات الحياة األخرى جذب ًا ما؛‬ ‫في معبد المعرفة‪ ،‬ال‬
‫تحدد‪ ،‬بموجبه‪ ،‬صفات‬
‫ّ‬ ‫ولهذا يكون حضورهم بمثابة المقياس الذي‬
‫الفئات والطبقات االجتماعية وحدودها وواجباتها‪ .‬إنهم المرجع الذي‬
‫البد منه‪ ،‬إزاء االحتدام الحياتي والصراعات الطبقية التي تص ّو َر ماثيو‬
‫ّ‬

‫ِّ‬
‫الضيقة التي‬ ‫أرنولد‪ ،‬في حينه‪ ،‬أنها إفصاح عن المصالح والرغبات‬
‫تتوالد عنها الفوضى وحاالت االحتراب‪ .‬وبمثل شفاعة الثقافة هذه‬
‫المخ َرج من االحتدام والصراع نحو «مركز السلطة» أي‬
‫يقترح أرنولد َ‬
‫الم َخ ِ ّلصة‪.‬‬
‫يسميهم البقية المنقِذة أو ُ‬
‫الدولة‪ ،‬التي يقودها هؤالء‪ ،‬أو من ّ‬
‫تبين جذور الفكر األرنولدي؛ فهو وريث التعليم «الكالسي‬
‫وليس صعبا ُّ‬
‫الجديد» الذي يدين بمركزية أوروبية‪ ،‬تتناقل‪ ،‬بحسب فرضة أسطورية ال‬
‫غير‪ ،‬فكرةً‪ ،‬مفادها أن الجذر اليوناني جاء بحالوة العقالنية واالنتظام‬
‫والتناسب واالجتهاد والفكر الخلّاق‪ ،‬بينما جاء الفكر العبري‪-‬‬

‫‪143‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫المسيحي (أي اإلرث العبراني الطاغي في المسيحية) بالتأ كيد على‬


‫العمل واألداء واألخالقية الصارمة‪ .‬وبينما تأخذ الفئات الوسطى‬
‫الفاعلة في مجتمع ما بعد الثورة الصناعية‪ ،‬من هذه «العبرانية»‪ّ ،‬‬
‫كل ما‬
‫وتصلبها العائلي‪ ،‬وتعوزها حالوة‬
‫يتناسب مع طموحاتها وميولها المادية ُّ‬
‫األرستقراطية بالنقد والمراجعة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يخص أرنولد الفئة‬
‫ّ‬ ‫األفكار الهلينية‪،‬‬
‫ألن لديها الكثير من «الهليني» على حساب «الع ِْبري»‪ ،‬وهي‪ ،‬لهذا‬
‫ّ‬
‫تخط الفئات العاملة حياتها‬ ‫السبب‪ ،‬تقف خارج إيقاع العصر‪ ،‬بينما‬
‫بعيد ًا عن الطبقتين المذكورتين‪ ،‬وتعوزها الحالوة واألفكار في ٍ‬
‫آن‬
‫واحد‪ ،‬كما يقول أرنولد مستند ًا إلى وقائع أحداث الهايد بارك في‬
‫الشغيلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خمسينيات القرن التاسع عشر‪ ،‬لي َّتخذ منها مقياسه في قراءة‬

‫لكن أرنولد‪ ،‬شأن غيره من المربّين والشعراء والنقاد‪ ،‬سليل تربية سادت‬
‫في الجامعات القوية النافذة آنذاك‪ ،‬وتستند إلى خطاب مهيمن هي‬
‫األخرى‪ ،‬لم يكن حضور الوالد توماس أرنولد مدير ًا لمدرسة «رغبي»‬
‫الصناعية‬
‫ّ‬ ‫ضعيف ًا فيه‪ ،‬ناهيك عن الفاعلية االقتصادية لمجتمع الثورة‬
‫الذي أخذ يفرض حضوره على أنماط المعرفة والتعليم والتربية والنشاط‬
‫(ومود ٍة ما)‪ ،‬إلى أنموذج‬
‫ّ‬ ‫العام‪ .‬وقد نظر ذلك المجتمع‪ ،‬بارتياب وخشية‬
‫ّ‬
‫الثورة الفرنسية‪ ،‬عندما لعب المثقَّ فون دور ًا مُ ْغر ّي ًا في التغيير‪ ،‬ليجدوا‬
‫أنفسهم‪ ،‬فجأةً‪ ،‬داخل دوامة الفوضى والدماء‪ ،‬حيث تتعاظم لديهم‬

‫‪144‬‬
‫مب ّررات السجن واإلبادة والتصفية‪ ،‬في ضوء جرائم السلطة القديمة‪.‬‬
‫وسيغلب الثأر نورانية المثقَّ ف اإلنجليزي‪ ،‬ويُسقطه‪ ،‬ثانيةً‪ ،‬ضحية‬
‫للرغبات واالنفعاالت‪ ،‬بما يو ّلد ريبة لديه‪ ،‬لم يتخ ّلص منها غير ق ّلة‬
‫قليلة‪ ،‬من أمثال شلي‪ ،‬ولي هانت‪ ،‬والتالين من شعراء الحركة الجارتية‪.‬‬
‫أما ووردزورث‪ ،‬وغيره فسيلوذون بمراجعة لتاريخهم وأفكارهم‪،‬‬
‫تضعهم‪ ،‬ثانيةً‪ ،‬داخل التيار اإلنجليزي المحافظ‪ ،‬الذي سيأخذ شيئ ًا من‬
‫تساميات األلمان‪ ،‬وشيئ ًا من منهجيات الفرنسيين‪ ،‬من دون االختالط‬
‫يعدونه مهاد ًا ال يقود إال إلى ظهور األباطرة والمتس ِ ّلطين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الفكري بما ّ‬
‫سي ِجهز المثقَّ فون اإلنجليز‪ -‬لفظي ًا‪ -‬على تلك‬
‫من أمثال نابليون‪ .‬ولهذا ُ‬
‫مدينتين»‪ ،‬وثاكري في‬
‫ْ‬ ‫«قصة‬
‫ّ‬ ‫التجربة الفرنسية‪ ،‬كما يفعل ديكنز في‬
‫«سوق الغرور»‪ ،‬وكاراليل في كتاباته عن الثورة الفرنسية‪ ،‬بينما يشتغل‬
‫آخرون‪ ،‬من أمثال مكاولي وغيره‪ ،‬في تبيان مواصفات روح العصر‪،‬‬
‫متباعدين‪ ،‬في التأويل‪ ،‬عن المشروع القومي األلماني‪ ،‬وم ّتجهين إلى‬
‫التشديد على حضور «قباطنة الصناعة»‪ ،‬أي على أولئك المديرين‬
‫والصناعيين الذين بدوا قاد ًة حقيقيين للتغييرات الكبرى في هيكلية‬
‫التوسع االستعماري في الخارج‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫المجتمع اإلنجليزي‪ ،‬وفي‬

‫تتقصد تحليل وضع‬


‫َّ‬ ‫الم َخ ِ ّلصة‬
‫إن إحاالت أرنولد على الق ّلة المنقِذة أو ُ‬
‫الخاصة بها‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫الفئات في ضوء المواصفات األخالقية والفكرية‬

‫‪145‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫الحالي‬
‫ّ‬ ‫منطلق ال يتح َّرر ك ّل ّي ًا من امتيازات المعرفة السائدة والموقع‬
‫لصاحب النظرية‪ ،‬بقصد التباعد عن التجربة الفرنسية والتشديد على‬
‫ما هو إنجليزي‪ ،‬فإذا كان المثقَّ ف الفرنسي منحدر ًا مع األحاسيس‬
‫الشعبية العارمة ومنساق ًا نحوها من دون قدرة على إيقافها‪ ،‬فإن التجربة‬
‫ِ‬
‫شريك ال ِق ّلة المنقِذة‪:‬‬ ‫اإلنجليزية تبتدئ بتحديد مواصفات هذا المثقَّ ف‪،‬‬
‫ٍ‬
‫متعال على‬ ‫َصلحي ًا‪،‬‬
‫فهو وريث المعرفة‪ ،‬ح ٌّر من االنفعال‪ ،‬معت ّز م ْ‬
‫متسام على األهواء السياسية‪ ،‬ولهذا ُي ْر َكن إليه من‬
‫ٍ‬ ‫الطبقية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الطموحات‬
‫َّ‬
‫المؤكد أن فكر ًة‬ ‫طرف الفئات‪ ،‬مجتمعةً‪ ،‬بحكم هذا «التخ ّلي»‪ .‬ومن‬
‫والعملية‪ ،‬كما أن الحزبين‬
‫ّ‬ ‫العلمية‬
‫ّ‬ ‫كهذه لن ِ ّ‬
‫يرحب بها دعاة المعرفة‬
‫المتنافسين يريان فيها جه ً‬
‫ال بالواقع اإلنجليزي الداخلي والضرورات‬
‫ترن‪ ،‬على رغم‬
‫لكن قوة المناقشة ّ‬
‫ّ‬ ‫السياسية‪ ،‬في الداخل وفي الخارج‪.‬‬
‫يتوجه نحوهم ماثيو أرنولد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬في أذهان الساسة الذين‬

‫وأنموذجه الشخصي في العرض والمجادلة هو الذي يستحقّ المناقشة؛‬


‫ويبدو أنه األنموذج الذي استأثر باهتمام جوليان بندا الحق ًا‪ ،‬تمام ًا‬
‫كما استأثر سانت بوف باهتمام أرنولد من قبل؛ إذ هل يمكن للمثقَّ ف‬
‫أن يتعالى على المصالح واألنانيات‪ ،‬راهب ًا أو ناسك ًا‪ ،‬يستعين بالمعرفة‬

‫نور ًا ليرى بواسطته‪ ،‬ويتيح لآلخرين مثل هذه الرؤية؟ ّ‬


‫إن مثل هذا‬
‫ب‪ ،‬يعيد‬
‫بح ّ‬
‫التساؤل الذي يعرضه جوليان بندا‪ ،‬ويلتقطه إدوارد سعيد ُ‬

‫‪146‬‬
‫فثمة غرض‬ ‫َ‬
‫المحض‪ّ ،‬‬ ‫إلى المثقَّ ف ّ‬
‫حسه بالنزاهة‪ .‬ولكنها ليست النزاهة‬
‫عما يأسره ويؤثّمه‬ ‫ّ‬
‫ويتشكل في ذهن المثقَّ ف‪ ،‬متباعد ًا ّ‬ ‫داخلي يقيم‬
‫ويؤطّ ره ويط ّوقه ويمنعه من قول الحق‪ .‬وإذا بنا‪ ،‬ههنا‪ ،‬نستعيد أدوار‬
‫المثقَّ فين في التاريخ العربي‪ ،‬أولئك الذين رفضوا مصاحبة السلطان‪،‬‬
‫واختاروا «ال»‪ ،‬أو المكاشفة بدي ً‬
‫ال للمكاسب وطقوس الجاه‪ .‬ومثل‬
‫ّ‬
‫المحك هو الذي يعيد إلشكالية الفئة المثقَّ فة حرارتها؛ وذلك ألن‬ ‫هذا‬
‫المثقَّ فين‪ ،‬في ضوء هذا التحديد‪ ،‬ليسوا المتع ّلمين‪ ،‬بشكلهم الواسع‬
‫الوظيفية‬
‫ّ‬ ‫الفنية أو‬
‫ّ‬ ‫المهنية أو‬
‫ّ‬ ‫المتعارف عليه‪ ،‬كما أنهم ليسوا الفئات‬
‫النساك في‬
‫في قطاعات الدولة وهياكلها‪ ،‬بل هم أقرب إلى مجموعات ّ‬
‫محراب الثقافة والمعرفة‪ .‬إنهم معتزلة‪ ،‬عندهم ما يقال‪ ،‬ولك أن تسمع‬
‫ولكن‪ ،‬من يترك لهم ذلك؟‬
‫ْ‬ ‫أو ترفض‪ ،‬ويكفيهم هذا األمر‪.‬‬

‫ومن هذا المنطلق تجري استعادة مفاهيم «النخبة الشريدة»‪ ،‬و«المثقَّ ف‬


‫المنفي»‪ ،‬و«الطريد»‪.‬‬
‫ّ‬

‫الـمـنـفي والـطـريـد‬
‫ُّ‬

‫(المنفي‪ ،‬والترحال‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عندما تثار‪ ،‬خالل األعوام األخيرة‪ ،‬قضية‬
‫والتش ُّرد)‪ ،‬فألن الموضوع وثيق العالقة بتمثيالت الموقف وحضوره‬
‫فالمستجدات النظرية األدبية ُتبدي‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬نزع ًة ما بعد‬
‫ّ‬ ‫وصوره‪.‬‬
‫حداثية‪ ،‬ينخرط فيها انتماء المثقَّ ف داخل فضاءات بال حدود‪ ،‬على‬

‫‪147‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫القومية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أساس أنه انتماء في المطلق الجغرافي ال داخل الضفاف‬
‫فالعالم في ُع ْرف هذه المجموعة‪ ،‬كسلمان رشدي‪ ،‬ينفرط في ثقافات‬
‫متشابكة ُتلْغي الحدود السابقة‪ ،‬و ُت ْضفي على الحضور الثقافي تن ُّوع ًا‬
‫واسع ًا ال يلغي االنتماء األصلي للمثقَّ ف‪ ،‬وإنما ِ ّ‬
‫يؤكد غربته من ج ّراء‬
‫لكن مثقّ ف ًا‪ ،‬كإعجاز أحمد‪ ،‬يرى في هذه‬
‫ّ‬ ‫المستجدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كثرة انتماءاته‬
‫النظرة تجاوز ًا ألصول الرؤية؛ فثمة جذر اجتماعي‪ ،‬وديني‪ ،‬وقومي‬
‫ّ‬
‫يتحكم في ما يُقال وما يدوّن‪ .‬و َي ْرصد أحمد في مثل هذا التخريج‬

‫ِّ‬
‫المتعددة الجنسية وتجاوزيَّتها الحدوديّة‪،‬‬ ‫تماهي ًا ساذج ًا مع الشركات‬
‫ّ‬
‫متحكمة ومهيمنة‬ ‫ِّ‬
‫مؤكد ًا أنها‪ ،‬في النتيجة‪ ،‬تنتمي إلى إمبراطورية كبرى‬
‫في السياسة واالقتصاد‪ ،‬ويرى ما بعد حداثية بعض المثقَّ فين بمثابة‬
‫انحدار مع تيار ظاهر يُخفي حقيقة عميقة للتمييز واالستغالل‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫فإن في عرض رشدي للمثقَّ ف‪ ،‬بوصفه طريد ًا أو منفي ًا‪ ،‬يشكو عدم‬
‫ّ‬
‫تعدديته االنتمائية‪ ،‬أو انتشاره في أ كثر من مكان‬
‫االنتماء من ج ّراء ّ‬
‫داخل لغة سائدة‪ ...‬أقول‪ :‬إن في هذا العرض الكثير من التعالي على‬
‫حقيقة االنقطاع واالستئصال اللذين يتع ّرض لهما المثقَّ ف‪ ،‬ويعانيهما‪.‬‬

‫يخص مفاهيم النخبة الثقافية‬


‫ّ‬ ‫ولمثل هذه الرؤية تراكمات كثيرة‪ ،‬بعضها‬
‫المهاجرة؛ فالمنفى الذي يتحدث عنه رشدي وإدوارد سعيد مستوطن‬
‫ُ‬
‫الشريك ال‬ ‫داخل الثقافة الغربية‪ ،‬وشريك فيها‪ .‬إنه‪ ،‬في عرف أحمد‪،‬‬

‫‪148‬‬
‫المنفي طريد‪ ،‬يضط ّره التهديد بالسجن أو القتل‬
‫َّ‬ ‫المنفي؛ وذلك ألن‬
‫ُّ‬
‫إلى الرحيل والتخفّ ي والهجرة‪ ...‬وأما المنفى االختياري فرغب ٌة ذاتية‪،‬‬
‫و«الرحالة» و«المتش َّرد»‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫ويليق بمن اختاره تعبير «المتج ّول»‬
‫«المنفي» (((‪.‬‬
‫ّ‬

‫وتحيل هذه التمييزات على مشكلة أخرى عويصة أيض ًا‪ :‬فأين يقف‬
‫المثقَّ ف عندما يقيم في المركز األوروبي أو في أميركا؟ إن إدوارد‬
‫سعيد يتح َّرر من تبعة السؤال ألنه صاحب قضية داف ََع عنها‪ ،‬وتع ّرض‪،‬‬
‫ولكن ماذا‬
‫ْ‬ ‫بسببها‪ ،‬للتهديد والضغط‪ ،‬كما َيقْ ترح إعجاز أحمد محقّ ًا (((‪.‬‬
‫عن ف‪.‬س‪.‬نابيول الذي يبيع هويّته بحث ًا عن ٍ‬
‫جلد بديل؟ وماذا يقال‬
‫عن مثقَّ فين يتواطأون إزاء محن شعوبهم بقصد المهادنة والبقاء وتمضية‬
‫إن الخيانة يمكن أن تطاول العشرات الذين‬
‫حياتهم بهدوء تعيس؟ ّ‬
‫ضد شعوبهم‪،‬‬
‫َس ّ‬
‫يتخاذلون إزاء قضايا اإلرهاب والضغط الذي يُمار ُ‬
‫ضد أشكال القمع‬
‫الكلي ّ‬
‫ّ‬ ‫بينما تح ّتم عليهم هويّتهم الثقافية االنخراط‬
‫وتبلورت‪ .‬فالهوية الثقافية ال‬
‫ْ‬ ‫ظهرت‬
‫ْ‬ ‫واإلرهاب والتس ُّلط كافة‪ ،‬أينما‬
‫تدوم من دون فعل ح ٍ ّر‪ ،‬وشراكة مُ ْخلص ٍة‪ ،‬واندفاع نزيه نحو الح ّريّة‬
‫والكرامة‪.‬‬

‫‪.Aijaz Ahmad, p. 131 -1‬‬


‫‪ -2‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.160‬‬

‫‪149‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫إن تعقيدات األوضاع في البلدان النامية ُت ْسقِط تفاوت ًا شديد ًا بين‬


‫ّ‬
‫«مثقَّ في» هذه البلدان وبين المركز األوروربي أو األميركي‪ .‬كما‬
‫أن الليبرالية النسبية‪ ،‬أو درجة المرونة الفكرية‪ ،‬تجعل من «ح ّريّة»‬
‫ِّ‬
‫المفكر أمر ًا ممكن ًا‪ :‬فهو قد يتع ّرض للمضايقة هنا أو هناك‪ ،‬لكن الح ّريّة‬
‫تتهيأ ظروف مماثلة‬
‫ّ‬ ‫المحتملة تجعل الفعل ميسور ًا وممكن ًا‪ .‬ولربّما‬
‫ّ‬
‫المفكرون‬ ‫ال‪ ،‬التي لم يواجه فيها‬ ‫لمثقَّ في بعض البلدان‪ ،‬كالهند مث ً‬

‫َح ْجر ًا أو حصار ًا كاللذين عاناهما أمثالهم في بلدان أخرى‪ ،‬كما يشير‬
‫المؤسسات‬
‫َّ‬ ‫إلى ذلك إعجاز أحمد ( ((‪ ...‬أو كمصر التي حال حضور‬
‫فيها‪ ،‬وحالت شخصيتها نفسها‪ ،‬في معضم عهودها‪ ،‬دون نجاح أساليب‬
‫ّ‬
‫الفكري‪.‬‬ ‫االضطهاد‬

‫لكن البلدان ليست متساوية‪ .‬بل إن مشروع التنوير الذي َع َر َ‬


‫ض الشاع ُر‬ ‫ّ‬
‫نفسه فيه ع ّراب ًا وصاحب نبوءة‪ ،‬سرعان ما التهمته «البيروقراطية»‬
‫و«الطغيانية»‪ ،‬بحسب تعبير عزيز السيد جاسم‪ ،‬ليجد الشاعر نفسه‪ ،‬بين‬
‫ليلة وضحاها‪ ،‬طريد ًا متش ِ ّرد ًا‪ ،‬مساحته الهامش‪ ،‬بعدما تص َّور أن المركز‬
‫والصدارة سيكونان مآله ومبتغاه وقدره! وعندما يم ُّر قارئ النصوص‬
‫والسياب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عبر مساحة تاريخية ليست عريضة بين جبران‪ ،‬وعبدالصبور‪،‬‬
‫والبياتي‪ ،‬والحيدري ي َْشعر بتفاوت الرؤيتين‪ :‬ما بين واحدة مستقبلة‬
‫ّ‬

‫‪ -1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.85 ،75‬‬

‫‪150‬‬
‫لآلتي‪ ،‬وأخرى مغادرة له‪ ،‬تاركة إياه لشأنه‪ ،‬لعله يتركها لشأنها هي‬
‫األخرى‪ .‬وأما الخطاب التقليدي فقد الذ بالرفض‪ ،‬بعدما َه َّل َل لقادم‬
‫َصعد المنابر‬
‫جديد‪ ،‬هو دولة االستقالل‪ ،‬ليجدها تطالبه‪ ،‬بإلحاح‪ ،‬أن ي ْ‬
‫فيمجد ف َْع َلها الذي يتواطأ على إصالح قليل مقابل مقات َِل‬
‫ِّ‬ ‫ألجلها‪،‬‬
‫حد لها‪ .‬وهكذا‪ ،‬سيبقى محمد مهدي الجواهري شريد ًا حتى‬
‫كثير ٍة ال ّ‬
‫ّ‬
‫تشكلت ساللته فيه منذ‬ ‫مماته (((‪ ،‬مستند ًا إلى إرث رافض‪ ،‬هو قدره التي‬
‫المتنبي‪ .‬فمشكلة طغيانية األباطرة الجدد‪ ،‬في مرحلة ما بعد االستقالل‪،‬‬
‫هي في أحادية النظرة‪ ،‬واالنهماك المظلم في األنانية؛ ولهذا يلوذون‬
‫بالحجاج‪ ،‬والمنصور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بجانب من التاريخ‪ ،‬متناسين الباقي منه‪ :‬يلوذون‬
‫والسفّ اح‪ ،‬ومعاوية مث ً‬
‫ال‪ ،‬وينسون مقاتل الطالبيين‪ ،‬وأبا ذ ّر الغفاري‪،‬‬
‫لكن الخصومة ال تتشكل ضرورةً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وعمار بن ياسر‪ ،‬وابن المقفّ ع‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫ّ‬
‫بين المثقَّ ف والطغيانية المذكورة‪ ،‬على رغم أن األخيرة تشغل المساحة‬
‫الكبرى من القهر الذي يعانيه المثقَّ فون‪.‬‬

‫المثقَّ ف والطاغية‬

‫إن مواصفات دولة ما بعد االستقالل الطغيانية لم َت ْخطر في بال أرنولد‪،‬‬


‫ّ‬
‫على رغم حضورها في سلطة العصور الوسطى‪ ،‬وإلى درجة ما في‬
‫العصور التالية إبان الصراع بين البالد وخصومها في الدولة األوروبية‪.‬‬

‫‪ -1‬توفاه الله في هولندا عام ‪ ،1999‬ودُ فِن في دمشق‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫حادة‪ ،‬واستبداد ًا‬


‫ّ‬ ‫لكنها في دولة ما بعد االستقالل تكتسب إطالقية‬
‫دموي ًا قاطع ًا‪ ،‬يؤول المثقَّ ف في عرفهما‪ ،‬إلى خصم‪ ،‬أو شاهد محتمل‬
‫لتح ُّلل صاحب السلطة من شعاراته‬
‫على واقع مشين‪ ،‬ومرآة عاكسة َ‬
‫األولى وانحداره إلى حضيض المصلحة واألنانية‪ .‬ويمكن أن تجد‬
‫صورة الطغاة في عشرات القصائد والقصص والروايات‪ .‬وسيثأر‬
‫الك ّتاب منهم بطرائق مختلفة‪ ،‬فيعيد واحدهم تصويرهم كعصابيين‬
‫مأزومين يشكون شتى األمراض النفسية والجنسية‪ ،‬كما يفعل غالب‬
‫هلسا في روايته «السؤال»‪ ،‬وفتحي غانم في «األفيال»‪ ،‬و«زينب‬
‫بظل قاتم للمعلن‪ ،‬متق ِ ّلب‬
‫ّ‬ ‫والعرش»‪ ...‬بينما سيص ِ ّورهم آخرون أشبه‬
‫ّ‬
‫وسوداوي‪ ،‬كما هو أمرهم في «محاكمة في منتصف الليل» لمحمد‬
‫جالل و«اللجنة» لصنع الله إبراهيم‪ .‬لكنهم‪ ،‬دائم ًا وأبد ًا‪ ،‬ديناصورات‬
‫فعلي ًا إلى روح العصر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وقوى ال تريد أن َتفْ قه الجاري‪ ،‬وال أن تتع ّرف‬
‫الرزاز في «مذكرات ديناصور»‪.‬‬
‫على نحو ما يص ّورهم مؤنس ّ‬

‫وقد يُقْ ِدم الديناصور على استقدام «المتخ ّلين»‪ْ ،‬‬


‫أي أولئك الذين آثروا‬
‫لي ْشهد‬
‫َ‬ ‫يسميهم إبراهيم الكوني في «واو الصغرى»‬
‫ (((‬
‫ّ‬ ‫االعتزال‪ ،‬كما‬
‫مع َص ْحبه عروض محاكماتهم أو التحقيقات الجارية معهم أو مشاهد‬
‫ّ‬
‫متلذذ ًا بمرأى األلم والعذاب‪ ،‬أو التراجع واالنسحاب‬ ‫التعذيب نفسها‪،‬‬
‫ّ‬
‫يشكل للديكتاتور عتبة الدخول‬ ‫من ضغط المشهد الثقافي الذي كان‬

‫‪ -1‬منشورات المؤسسة العرب ّية للدراسات‪ ،‬بيروت ‪ -‬عمان‪.1997 ،‬‬

‫‪152‬‬
‫السياسية (((‪ .‬لكنه سيخرج وصحبه‪ ،‬من صالة العرض‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إلى شرعية الحياة‬
‫منكسر ًا حانق ًا أيض ًا‪ ،‬كلما اختار الضحايا نهايتهم بقدرة أخرى تتعالى‬
‫على صنعه التدمير والقهر‪ .‬وعندما ينكسر مصدر السلطة والقهر‪ ،‬ال‬
‫يمتلك صاحبها غير الخيبة والمزيد من الحنق‪ .‬أما الخارجون من الحياة‬
‫ألن أثرهم يقوم في أجيال معاصرة أو تالية‪،‬‬
‫فال ي َْعنيهم ما يجري اآلن‪ّ ،‬‬
‫تمام ًا كما يتصورون مهمتهم الثقافية غرس ًا متنامي ًا متوالد ًا باستمرار‪.‬‬
‫تساميهم على الحياة‬
‫َ‬ ‫ومرة أخرى‪ ،‬يُعلن هؤالء‪ ،‬عبر ف ِْعل التصحية‪،‬‬
‫مقدمين لقراءة أرنولد‪ ،‬وبعده بندا أنموذج ًا آخر من التعالي‬
‫وأدرانِها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫يتجذر عند أرنولد في الميالد األوَّل للمسيحية‪ ،‬ويتك ّرر في‬ ‫الذي‬
‫علي وعائلته‪ ،‬على نحو ما يكتب هو نفسه في‬
‫ّ‬ ‫شهادة الحسين بن‬
‫«مسرحية انفعال فارسية» تعليقّ ًا على ما جاء‬
‫ّ‬ ‫تج ّليات مقالته الذائعة‬
‫عند غوبينو وآخرين‪.‬‬

‫الخــيـانــة‬

‫وليس صعب ًا تص ّو ُر الخيانات التي تراف ُِق هذه التضحيات؛ فالناس الذين‬
‫علي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الحسين‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫«سيوفهم علينا‪ ،‬وقلوبُهم معنا»‪ ،‬كما يأتي على لسان‬

‫‪ -1‬المرور عبر الرموز الوطنية والثقافية إلى كسب ثقة الجمهور عادة جارية‪ .‬وتكرّرت‬
‫في ثورة ‪ 1952‬في مصر‪ ،‬وكذلك في عا َميْ ‪ 1958‬و‪ 1968‬في العراق‪ .‬يراجع مصطفى‬
‫عبدالغني‪ ،‬ص‪213‬؛ وإبراهيم كبه‪ ،‬هذا هو دفاعي عن ثورة ‪( 1958‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‪،‬‬
‫‪ ،)1996‬وعزيز السيد جاسم‪ ،‬مهمات العمل التقدميّ ‪( ،‬بيروت‪ ،‬المؤسسة العرب ّية‪.)1971 ،‬‬

‫‪153‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫هم وقود الخيانة التي يستدرجها المال‪ ،‬وي َْشحذها الوعد بالسلطان‬
‫وسيخص‬
‫ّ‬ ‫والوجاهة‪ .‬وسيكتب الشعراء التالون عن مشاهد الخيانة‪،‬‬
‫الشاعر الصعلوك الحصيري نفسه بالتأنيب عندما يكتب‪ ،‬معتذر ًا‪ ،‬في‬
‫لكن مثله َيقْ در على المراجعة‬
‫ّ‬ ‫قصيدة يهديها إلى عزيز السيد جاسم‪.‬‬

‫واالعتذار بحكم قدرته الكبيرة بوصفه شاعر ًا؛ ف َ‬


‫ِكب ُر الموهبة ي َُحول‬
‫لكن آخرين ي َُخ ّصهم السياب باالستبطان‬
‫ّ‬ ‫النهائي ( ((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دون السقوط‬
‫«الم ْخبِ ر»‪ ،‬وي َُع ُّدون بالعشرات والمئات‪ ،‬ي ّ‬
‫ُشكلون طابور ًا‬ ‫ُ‬ ‫في قصيدته‬
‫يؤدون فيها دور ًا منكود ًا وضعيف ًا يليق‬
‫هامشي ًا في الحياة الثقافية‪ّ ،‬‬
‫الهشة في ذهن القارئ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بمكانتهم‬

‫الدوني‪ ،‬ألنها تحيل على‬


‫ّ‬ ‫الغ ْدر‬
‫لكن مشكلة الخيانة تتعالى على هذا َ‬
‫ّ‬
‫إن‬ ‫مجموعة من المعتقدات واآلمال والسنن‪ .‬وعندما يقال‪ ،‬مث ً‬
‫ال‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫تتمكن‪ ،‬في شبابها‪ ،‬من زيارة والدها‬ ‫كاتبة كالراحلة حياة شرارة لم‬
‫الشيوعي لها بزيارته الختالفه معه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الحزب‬
‫ُ‬ ‫السجين‪ ،‬إذ لم ي َْسمح‬
‫معقدة أخرى‬
‫ّ‬ ‫سياسي ًا‪ ،‬في الخمسينيات‪ ،‬فإننا نضع يدنا على مشكلة‬
‫ِّ‬
‫المفكرين إلى التغاير والتباين (((‪ .‬فالدعوة التي تنعقد بين الفئات‬ ‫تدفع‬

‫‪ -1‬ديوان عبداألمير الحصيري (بغداد‪ :‬الثقافية‪ .)1986 ،‬يقول معتذر ًا في قصيدة طويلة‪:‬‬

‫َ‬
‫ترض لن يتبسما (ص ‪)266‬‬ ‫لم‬
‫عبوس‪ ..‬إذا ْ‬
‫ٌ‬ ‫ب ّ‬
‫يلف المدى دُ جى‬ ‫َ‬
‫تغض ْ‬ ‫حنانك‪ ..‬إن‬
‫‪ -2‬بلقيس شرارة‪« :‬رحيل الكاتبة العراقية حياة شرارة‪ »...‬القدس‪ 15 ،‬آب ‪ .1997‬وتقول‬
‫الكاتبة إنّ شرارة انتمت إلى الحزب الشيوعيّ ‪ ،‬بينما افترق والدُ ها عنه‪ ،‬واختلف معه إبان‬

‫‪154‬‬
‫أساسيين في تكوين فاعلية‬
‫ْ‬ ‫عاملين‬
‫ْ‬ ‫الفكرية المختلفة ُت ْجمع على‬
‫العام‪ .‬وعندما تتح ّول‬
‫ّ‬ ‫المثقف‪ :‬ح ّريّته‪ ،‬وشراكته في تكوين الرأي‬
‫سلطات الجماعات واألحزاب إلى مجموعة من الضوابط والكوابح‬
‫لصده أو تحجيمه‪ ،‬فإنها تفقده دوره‪ ،‬وتودعه في قوالبها الخاصة‪،‬‬
‫ّ‬
‫فيغدو غير قادر على المشاركة في تنمية أفكاره أو نشرها‪ .‬ومثل هؤالء‬
‫الرد أو المناقشة؛‬
‫ّ‬ ‫هم المثقَّ فون الذين يُصار إلى توجيههم للكتابة أو‬
‫الثقافي‪ .‬وعلى رغم‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫وفكل توجيه هو مصادرة للرأي واستهانة بالضمير‬
‫ّ‬
‫الفكري‪،‬‬ ‫ّ‬
‫المفكرين‪ ،‬كإعجاز أحمد‪ ،‬ي ُْعلون من شأن االنتماء‬ ‫أن بعض‬
‫ّ‬
‫كقاعدة أساس في رؤية جوانب الخطابات والمواقف والمدوّنات‬
‫القسر‪ ،‬بالمعنى المذكور‪ ،‬لم‬
‫ْ‬ ‫فإن‬
‫والتمثيالت والملفوظات والوقائع‪ّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫المتجذرة للرأي‪،‬‬ ‫يَرِ ْد في أذهانهم‪ .‬فالمقصود بـ«االنتماء» هو المزاولة‬
‫ال تس ُّلم األوامر واإلرشادات! بل قد يبلغ األمر ببعض «المنتمين»‬
‫إلى إعالن الحرج واالمتناع عن التوقيع على مذك ّرة تطالب بإطالق‬
‫ّ‬
‫مفكر‪ .‬وقد يندفع آخر‪ -‬رضوخ ًا للكوابح أو تناغم ًا معها ‪ -‬إلى‬ ‫سراح‬
‫ِّ‬
‫المفكرين‪ ،‬حتى في أحلك أيامهم وأشقاها‪،‬‬ ‫مضاد على‬
‫ّ‬ ‫فرض حصار‬
‫في السجون والمعتقالت‪ .‬وقد يبيع نف ٌر آخر نفسه َم ّرة واحدة إلى‬
‫شيطان «االنتماء» الذي يوصيه بمعاقبة المختلفين والمنشقّ ين‪:‬‬

‫ْ‬
‫فاضطرت إلى قبول التوجيه والتضحية بمشاعرها الشخصية‪ .‬وربما‬ ‫الستينيات في العراق‪،‬‬
‫تخص الخوف عليها من السلطة آنذاك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تكمن تفسيرات أخرى‬

‫‪155‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫وإن الصمت الذي تواطأ عليه مثقّ فونه‪ ،‬في صفوف‬


‫أحياء أو شهداء! ّ‬
‫اليسار وصفوف اليمين‪ ،‬داخل أجهزة القمع وخارجها‪ ،‬بين الموالين‬
‫مفكرين سجناء كعزيز السيد جاسم‪َ ،‬ل ُي ِ ّ‬
‫شكل إدانة‬ ‫ّ‬ ‫والمعارضين‪ ،‬ضد‬
‫عدة‪ ،‬ولهيئات تبيع صداقتها للمشاهير فقط‪ْ ،‬‬
‫أي لمك ِ ّوني‬ ‫قاطعة ألسماء ّ‬
‫اليومي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التجاري‬ ‫اإلعالن‬

‫ومن حق إدوارد سعيد أن يتعالى على هذه النماذج ألنها لم َت ْخطر في‬
‫لكن التجارب‬
‫باله‪ ،‬كما لم تخطر في بال جوليان بندا‪ ،‬وال ماثيو أرنولد‪ّ .‬‬
‫الستالينية وأيام الرايخ الثالث جاءت بنماذج كثيرة‬
‫ّ‬ ‫الالحقة أيام المرحلة‬
‫تدخل مساحة الغدر اإلنساني تلك‬
‫إن ْ‬
‫من الخيانات‪ .‬وهي نماذج‪ ،‬ما ْ‬
‫مجرم‬
‫ٌ‬ ‫حتى تفقد صفة «الثقافة»‪ ،‬لتؤول إلى ممارسة قذرة‪ ،‬صاحبها‬
‫االدعاء‪.‬‬
‫أي صفة أخرى جاءته من طريق القراءة أو ّ‬ ‫أو ً‬
‫ال قبل أن يمتلك ّ‬
‫ولم ي َْخط ْر أصحاب الذهنيات المجرِ مة في بال المنظّ رين لمفاهيم‬
‫المثقَّ فين وصورهم‪ .‬وعلى رغم أن إعجاز أحمد ي َْذكر أسماء لها ماضيها‬
‫ّ‬
‫الهندي الح ّر‬ ‫فإن تجربته في الفضاء‬ ‫الملتبس‪ ،‬شأن بول دي مان‪ ،‬مث ً‬
‫ال‪ّ ،‬‬
‫نسبي ًا أبقته‪ ،‬و(تبقيه) متسامي ًا عن التقاط مثل هذا الغدر‪ .‬أما الساحة‬
‫شواهدها العجيبة التي َت ْدفع المرء إلى تفسير ما لسقوط‬
‫ُ‬ ‫العربية فلها‬
‫ّ‬
‫فالم ْخبِ رون من تخوم القراءة‬
‫ُ‬ ‫أسماء ليست اعتيادية في مستنقع العفن‪.‬‬
‫ّ‬
‫يشكلون شيئ ًا في مناقشة من‬ ‫والممارسة اإلعالمية والكتابة الهشة ال‬

‫‪156‬‬
‫لكن الجامعيين‪ ،‬من أساتذة الفلسفة أو اآلداب مث ً‬
‫ال‪ ،‬الذين‬ ‫ّ‬ ‫هذا النوع‪.‬‬
‫وسجن‬
‫ينخرطون‪ ،‬عند الطلب‪ ،‬في إعداد محاضر التحريم والتجريم َ‬
‫ّ‬
‫مفكري مصر أيام‬ ‫ضد عدد من‬ ‫ّ‬
‫المفكرين‪ ،‬على نحو ما فعله نفر منهم ّ‬
‫عبدالناصر والسادات (((‪ ،‬وضد عزيز السيد جاسم في عام ‪ 1988‬في‬
‫إن مثل أولئك «الجامعيين» ي َْدفعون‬
‫العراق من بين آخرين‪ ...‬أقول‪ّ :‬‬
‫المرء إلى التنقيب في انقالباتهم النفسية والفيزيولوجية‪ .‬ولربما يعيدنا‬
‫لكن هذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المادي لتفسير مثل هذه السقطات‪،‬‬ ‫إعجاز أحمد إلى العامل‬
‫اإلنسانية‪ ،‬لكون هذه هي المستفيدة‬
‫ّ‬ ‫الدافع يعني ارتكاب جريمة بحقّ‬
‫يخص‬
‫ّ‬ ‫دافع آخر‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫والمفكرين‪ .‬ولربما و ُِج َد‬ ‫األولى من حريّة الك ّتاب‬
‫نفسية‬
‫ّ‬ ‫داخ ً‬
‫ال مضطرب ًا يدعونا إلى تم ّلي كتابات هؤالء‪ ،‬بصفتها وثائق‬
‫م ّتهمة‪ ،‬منتقا ًة من قبل سلطة الهيمنة والقهر‪ ،‬بمهارة‪ ،‬للمرور نحو‬
‫ألن الكتابة‪ ،‬مزاول ًة وإنتاج ًا‪َ ،‬ت ْخضع للفحص واإلفادة‬
‫أصحابها؛ وذلك ّ‬
‫والتوظيف‪ :‬خير ًا أو شر ًا‪.‬‬

‫الـتـحــزُّب‬

‫ومن المتداول أن األحزاب والهيئات‪ ،‬كالهياكل السلطوية األخرى‪،‬‬


‫تمارس فع َلها داخل مثقَّ فيها‪ .‬كما أنها َتفْ رض هيمنتها عليهم‪ ،‬ك ّلما‬
‫ٍ‬
‫تكوينات مغلق ًة وأنظم ًة قسرية‪ .‬وعندما‬ ‫ت هذه الجهات والفئات‬
‫ب ََد ْ‬

‫يراجع‪ :‬سماح إدريس‪ ،‬ومصطفى عبدالغني‪ ،‬في كتابيهما المذكورين آنف ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪-1‬‬

‫‪157‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫تشتد نزع ُتها إلى االنغالق والهيمنة‬


‫ّ‬ ‫تمتلك هذه األحزاب السلطة‬
‫ُ‬
‫وتناقل‬ ‫ٍ‬
‫جهاز للتنفيذ‬ ‫لت إلى‬
‫القمة تح ّو ْ‬
‫ّ‬ ‫وصلت إلى‬
‫ْ‬ ‫الرأسية‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫األوامر والصمت‪ .‬وعندما ي َْكثر الصمت‪ ،‬ينعدم الذهن وتزول قدراته‪.‬‬
‫الصمم إزاء‬ ‫ُ‬
‫الميل إلى ّ‬ ‫ويشتد‬
‫ّ‬ ‫الضمير أو يكاد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وبهذا الزوال يموت‬
‫ّ‬
‫المفكرين‪ ،‬بينما يكثر الحماس‬ ‫النداءات الداعية إلى حريّة الفكر أو‬
‫إلى التكاتف‪ ،‬مع دعوات عامّة‪ ،‬إلى رفع الرقابة عن كتاب في الجنس‪،‬‬
‫أو إلى دفع الضرر عن داعية طليق!‬

‫يعرِ ضها سعيد‪ ،‬استناد ًا إلى جوليان بندا‪،‬‬


‫فإن ق ّوة المناقشة التي ْ‬
‫ولهذا‪ّ ،‬‬
‫المضاد الذي تنتحر الح ّريّة عنده داخل أجهزة‬
‫ّ‬ ‫تتأ ّتى من خطر الخنق‬
‫الهيمنة والتم ُّلك والحصار‪ .‬وهو ما يح ّتم على المثقَّ ف اختيار الح ّريّة‬
‫أ ّو ً‬
‫ال‪ ،‬من دون أن يعني ذلك التخ ّلي عن األفكار األساس؛ ْ‬
‫أي تلك‬
‫التي تمنح مشروعه الفكري إنساني َته وطراو َته ودفاعه المستميت عن‬
‫حقّ الشعوب واألفراد في حياة ح ّرة وكريمة‪.‬‬

‫وعندما تجري قراءة هذه الخيانات المختلفة‪ ،‬التي تندرج‪ -‬تحديد ًا‪-‬‬
‫في باب خروج المثقَّ ف على ثوابت هويّته (كالح ّريّة‪ ،‬وتفعيل الرأي‬
‫العصابية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نتبين فيها مشكلة قابلة لالنفجار في ما يُشبه األمراض‬
‫العام) َّ‬
‫فالمثقَّ ف قد ال يكون قرين المخبرين والجواسيس وأصحاب مكاتب‬
‫ٍ‬
‫انشغال‬ ‫صاحب‬
‫ُ‬ ‫العالقات العامّة ومروّجي التسويق الذاتي‪ ،‬بل هو‬

‫‪158‬‬
‫وهاجس يمأل حياته‪ ،‬وي َْدفعه إلى ا ّتخاذ موقف ما من المعترك‬
‫ٍ‬ ‫ذهني‪،‬‬
‫خاصة‪ .‬لكنه قد ينساق‪ ،‬تحت‬
‫ّ‬ ‫الحياتي عامّة‪ ،‬وقضايا الفكر والثقافة‬
‫ّ‬
‫حس آخر بـ«االلتزام»‪ ،‬فيجد نفسه عرضة للرضوخ لألوامر‬
‫ّ‬ ‫وطأة‬
‫والتعليمات والضوابط اآلتية من الفئات واألحزاب التي يجد فيها‬
‫تم ُّثالت أفكاره أو طموحاته‪ .‬ولربما تبدو تلك التعليمات والضوابط‪-‬‬
‫ألوَّل وهلة‪ -‬متماهية مع طغيان األفكار لديه وسيادتها في ذهنه‪ ،‬لكنها‬
‫يُمكن أن تصبح‪ ،‬بعد حين‪ ،‬الق ّوة المهيمنة والضاغطة لديه‪ ،‬وعندها‬
‫يتوزع ذهنه بين الرغبة المكبوتة وبين هيمنة اآلخرين عليه‪ .‬وحتى‬
‫ّ‬
‫عندما يحقّ ق االلتئام مع الحزب رغب ًة في القيادة والهيمنة‪ ،‬فإنه يشكو‬
‫من هذا االنفصام بين الذهنين‪ :‬الذهن الح ّر‪ ،‬واآلخر الملتحم بالحزب‬
‫أو الفئة أو الجهاز الفاعل‪ .‬وتدريجي ًا‪ ،‬تبتدئ عنده رحالت التح ُّلل أو‬
‫النقد‪ ،‬با ّتجاه ضفّ ة المثقَّ ف الذي ال تستوقفه التعليمات والضوابط‬

‫والقرارات‪ ،‬مغامر ًا بح ّريّته‪ ،‬عارف ًا بالحصار القادم ّ‬


‫ضده‪ .‬وهكذا‪ ،‬أمكن‬
‫غارودي أن يتح ّرك نحو شطآن هذه الح ّريّة منذ أن كتب «واقعية بال‬
‫ضفاف»‪ ،‬ليبلغ «ماركسية القرن العشرين»‪ ،‬وما تال ذلك من مواجهة‬
‫وتغيرات‪ .‬وسينخرط مثقَّ فون مصريون في مثل هذه المعالجات‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ِّ‬
‫المتعدد مع األحزاب والسلطات‪ ،‬بل مع الذات نفسها‪،‬‬ ‫وفي الجدل‬
‫لكن التجربة الفعلية‬
‫ّ‬ ‫وسيكتب يوسف الصائغ مسعاه لتبرير خالصه‪.‬‬
‫للتعالي على «التح ُّزب» هي تلك التي يكتبها عزيز السيد جاسم في‬

‫‪159‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫الشقي» (‪ )1987‬ح ِ ّر ًا‪ ،‬ولكنه عابئ‪-‬‬


‫ّ‬ ‫«المناضل» (‪ ،)1696‬و«الزهر‬
‫أيض ًا‪ -‬بمصير األصدقاء والرفاق الذين تململوا ما بين طلب اليقين‬
‫وعثرات الضوابط الصارمة لدى مختلف الكيانات واألحزاب‪ .‬وليس‬
‫الذهني‬
‫ّ‬ ‫هما أن نبحث في التبعات التي تنتهي إليها سرديات االنعتاق‬
‫َّ‬
‫ولكن هذه‪ ،‬جميع ًا‪ُ ،‬ت َع ّد‪ ،‬اليوم‪ ،‬من بين وثائق اال ّتهام‬
‫ّ‬ ‫المذكورة‪،‬‬
‫العتي‪ ،‬أيام‬
‫ّ‬ ‫ضد السلطات والديكتاتور والجهاز‬
‫ّ‬ ‫الموجهة‬
‫َّ‬ ‫األساسية‬
‫انتحار األيديولوجيات داخل األنظمة وجماعات الهيمنة فيها‪ .‬وقد‬
‫تتبدد مثل تلك السرديات في مشاريع أحادية كتلك التي تؤول بماركوز‬
‫َّ‬
‫لكن هذه المآالت تحكي‬
‫ّ‬ ‫إلى ابتكار شهوانية بديلة للمواجهة الثقافية‪،‬‬
‫تن ُّوع ًا حتمي ًا للتجربة الثقافية‪ ،‬هو بمثابة فاعليتها في تحريك الحياة‪،‬‬
‫أما الذين يختارون البقاء داخل الحصار الذهني المفروض عليهم فقد‬
‫يتح ّولون إلى عصابِ ِ ّيين‪ ،‬يرون في الح ّريّة الفكريّة لدى اآلخر‪ ،‬أي‬
‫توجه نحوهم أصابع اال ِ ّتهام واإلدانة‪ .‬ولهذا‪ ،‬غالب ًا‬
‫المنشقّ عنهم‪ ،‬مرآ ًة ِ ّ‬
‫ما تبدو ردود الجماعات المغ َّلفة بالكوابح والضوابط بمثابة َت َو ُّرمات‬
‫منفجرة تبعث نتن ًا كريه ًا‪ ،‬من دون أن تفضي إلى صحوة فعلية‪.‬‬

‫أما األيديولوجيات التي تستند إلى المطلق في االبتداء‪ ،‬وتنتهي عند‬


‫«نظريات العمل»؛ أي عند المبررات البراغماتية لألنظمة المتوالدة‬
‫عتي‪ ،‬ما دام‬
‫ّ‬ ‫عنها‪ ،‬فإنها تنهار كأحالم‪ ،‬ال يحتاج الفتك بها إلى خصم‬

‫‪160‬‬
‫القديسين والشياطين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فضاؤها األوسع ينتج أشكا ً‬
‫ال متباينة تتراوح بين‬
‫ولهذا‪ ،‬غالب ًا ما تنتهي رحلة المثقَّ ف مع تلك األيديولوجيات في عمر‬
‫مبكر‪ ،‬بعد معايشة فكرية يسيرة‪ ،‬ينتهكها الشيطان‪ ،‬ليطرد المثقَّ ف‬
‫المستعد‬
‫ّ‬ ‫منها‪َ ،‬م َّرة‪ ،‬وإلى األبد‪ ،‬مستعين ًا ‪ -‬بدي ً‬
‫ال لذلك المثقَّ ف‪ -‬بالنفر‬
‫لمزاولة الدعاية؛ أي بالبقية الباقية على أنقاض األيديولوجية القديمة‪.‬‬

‫الشهود‬

‫والتحمت‬
‫ْ‬ ‫إن النخب تنقرض وتتآ كل ك ّلما ضاقت الحياة واألجواء‪،‬‬
‫إرادة القوى المهيمنة بفئاتها الطفيلية‪ .‬وتنضب الخيارات في مثل هذا‬
‫الواقع‪ :‬بين اعتزال وتباعد‪ ،‬وكفرٍ بالماضي‪ ،‬وانكفا ٍء على الذكريات‪..‬‬
‫تتيسر الظروف‪ ،‬بحث ًا عن عالم بديل‬
‫ّ‬ ‫أو الهجران والخروج‪ ،‬عندما‬
‫مهمة‪ ،‬يدرك الطريد استحالتها خارج المنشأ‪ .‬أما الذين‬
‫يتيح استكمال ّ‬
‫فإن سلطة الهيمنة ُتبقيهم تحت عدسة المتابعة‪،‬‬
‫يعتزلون في الداخل ّ‬
‫ّ‬
‫لتنقض عليهم بين يوم وليلة‪ ،‬ال لخطأ ارتكبوه‪ ،‬وإنما خشية أن يكونوا‬
‫شهود ًا على تعاسه الحاضر وخيانته للبداية‪ .‬وعند المقارنة‪ ،‬تبدو‬
‫األجواء الدستورية والفضاءات الح ّرة نسبي ًا‪ ،‬وكذلك الحياة التقليدية‬
‫ند ًا يكشف للمثقَّ فين خدعة الشعار الذي يلجأ‬
‫للمجتمعات المتوارثة‪ّ ،‬‬
‫التعددية والحياة‬
‫ُّ‬ ‫إليه النظام المهيمن بدي ً‬
‫ال لح ّريّة الناس وحقّ هم في‬
‫الكريمة‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫إن النخبة الثقافية ال تحيا خارج فضاء الح ّريّة‪ ،‬وفعل القانون الم ّتسع‬

‫للتعدد‪ .‬بل إن النخبة الطريدة منها تبقى تحمل معها ذكرى الماضي‬
‫ُّ‬

‫ولؤم الحاضر‪ ،‬تستعيده لنفسها كل يوم‪ ،‬ساعي ًة إلى تأسيسات للوطن‬

‫األصل ولتم ُّثالته‪ .‬وغالب ًا ما تأخذ هذه التأسيسات شك ً‬


‫ال كتابي ًا له‬

‫حادة ال تبتغي المصالحة مع اآلخرين‪،‬‬


‫ّ‬ ‫مواصفات‪ ،‬كآليات متش ِ ّنجة‬

‫معنية بذاتها أ ّو ً‬
‫ال‪ ،‬كذات مليئة بالحزن والكبت واأللم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مادامت‬

‫‪162‬‬
163
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

‫املصــــادر و الـمـراجـــع‬

‫العربية‪:‬‬

‫‪ - 1‬إبراهيم الكوني‪ ،‬واو الصغرى‪ ،‬بيروت ‪ -‬عمان‪ :‬المؤسسة العربية‪.1997 ،‬‬


‫‪ - 2‬إدوارد سعيد‪ ،‬صور المثقَّ ف‪ ،‬بيروت‪ :‬دار النهار‪.1996 ،‬‬
‫‪ - 3‬ألبرت حوراني‪ ،‬الفكر العربي في عصر النهضة‪ ،‬بيروت‪ :‬دار النهار‪ ،‬ط‪.1986 ،4‬‬
‫‪ - 4‬أنور عبدالملك‪ ،‬دراسات في الثقافة الوطنية‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‪.1966 ،‬‬
‫‪ - 5‬جورج حنين‪ ،‬الكتاب الثالث‪ :‬امتياز الحياة‪.1992 ،‬‬
‫‪ - 6‬حسين الكرخي‪ ،‬مجالس األدب في بغداد‪ ،‬ج‪ ،1‬بغداد‪ :‬دار النهضة العربية‪.1987 ،‬‬
‫‪ - 7‬ترجمة سامي الدروبي وجمال األتاسي‪ ،‬معذبو األرض‪ ،‬تأليف فرانتس فانون‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬
‫الطليعة‪.1963 ،‬‬
‫‪ - 8‬سامي مهدي‪ ،‬الموجة الصاخبة‪ ،‬بغداد‪ :‬الثقافية‪.1993 ،‬‬
‫‪ - 9‬سليم بركات‪ ،‬فقهاء الظالم (رواية)‪ ،‬قبرص‪ :‬بيسان‪.1985 ،‬‬
‫‪ - 10‬سماح إدريس‪ ،‬المثقف العربي والسلطة‪ ،‬بيروت‪ :‬دار اآلداب‪.1992 ،‬‬
‫‪ - 11‬سمير أمين‪ ،‬بعض قضايا للمستقبل‪ ،‬القاهرة‪ :‬مدبولي‪.1991 ،‬‬
‫‪ - 12‬شبلي شميل‪ ،‬المجموعة الكاملة‪ ،‬ج‪ ،2‬القاهرة‪ :‬مطبعة المعارف‪.1908 ،‬‬
‫‪ - 13‬طه حسين‪:‬‬
‫‪ -‬المعذبون في األرض‪ ،‬القاهرة‪ :‬المعارف‪ ،‬ط‪.1976 ،7‬‬
‫‪ -‬نقد وإصالح‪ ،‬بيروت‪ :‬دار العلم‪ ،‬ط‪.1966 ،2‬‬
‫‪ - 14‬عبدالله العروي‪:‬‬
‫‪ -‬أزمة المثقفين العرب‪ ،‬بيروت‪ :‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪.1978 ،‬‬
‫‪ -‬مفهوم الحرية‪ ،‬بيروت‪ :‬المركز الثقافي العربي‪.1993 ،‬‬
‫‪ - 15‬عزيز السيد جاسم‪:‬‬
‫‪ -‬االغتراب في حياة الشريف الرضي وشعره‪ ،‬بيروت‪ :‬دار األندلس‪.1987 ،‬‬
‫‪ -‬االلتزام والتصوف في شعر عبدالوهاب البياتي‪ ،‬بغداد‪ :‬الثقافية‪.1990 ،‬‬
‫‪ -‬الثورة والحرية الناقصة‪ ،‬بيروت‪.1971 ،‬‬

‫‪164‬‬
‫‪ -‬الثوري الالثوري‪ ،‬بغداد‪ :‬دار األديب‪.1970 ،‬‬
‫‪ -‬دراسات نقدية في األدب الحديث (مقاالت الستينات)‪ ،‬ط‪ ،1‬بغداد‪ :‬اإلدارة المحلية‪1970 ،‬؛‬
‫ط‪ ،2‬القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪.1996 ،‬‬
‫‪ -‬ديوان عبداألمير الحصيري‪ ،‬بغداد‪ :‬الثقافية ‪.1987‬‬
‫‪ -‬الرصافي الخالد‪ ،‬بغداد‪ :‬العابيجي‪.1990 ،‬‬
‫‪ -‬الزهر الشقي (رواية)‪ ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية‪.1988 ،‬‬
‫‪ -‬علي بن أبي طالب‪ :‬سلطة الحق‪ ،‬بيروت‪ :‬دار اآلداب‪.1988 ،‬‬
‫‪ -‬المجالسية بين النظرية والتطبيق‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الطليعة‪.1973 ،‬‬
‫‪ -‬مقتل جمال عبدالناصر‪ ،‬بغداد‪ :‬النهضة‪.1985 ،‬‬
‫‪ -‬هل التطور الرأسمالي حقيقة أم وهم؟ بيروت‪ :‬دار الطليعة‪.1976 ،‬‬
‫‪ - 16‬عالل الفاسي‪ ،‬النقد الذاتي‪ ،‬الرباط‪ ،‬ط‪.1979 ،4‬‬
‫‪ - 17‬علي حرب‪ ،‬أوهام النخبة أو نقد المثقف‪ ،‬بيروت‪ :‬المركز الثقافي‪.1996 ،‬‬
‫‪ - 18‬فاضل عباس هادي‪ ،‬كتابات ‪ ،1984 - 1964‬ألمانيا‪ :‬دار الجمل‪.1990 ،‬‬
‫‪ - 19‬فاضل العزاوي‪ ،‬صاعد ًا حتى الينبوع (األعمال الشعرية)‪ ،‬عمان‪ :‬المؤسسة العربية للدراسات‪،‬‬
‫‪.1993‬‬
‫‪ - 20‬فؤاد دوارة‪ ،‬نجيب محفوظ من القومية إلى العالمية‪ ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية‪.1989 ،‬‬
‫‪ - 21‬مالك بن نبي‪ ،‬وجهة العالم اإلسالمي‪ ،‬مصر‪ :‬المؤسسة السعودية‪.1959 ،‬‬
‫‪ - 22‬مجموعة من المؤلفين‪:‬‬
‫‪ -‬الحياة الفكرية في المشرق العربي ‪ ،1939 - 1890‬بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪.‬‬
‫‪ -‬غرامشي وقضايا المجتمع المدني‪ ،‬دمشق‪ :‬مركز البحوث العربية‪.1991 ،‬‬
‫‪ - 23‬محسن جاسم الموسوي‪:‬‬
‫‪ -‬االستشراق في الفكر العربي‪ ،‬بيروت‪ :‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪.1993 ،‬‬
‫‪ -‬ثارات شهرزاد‪ :‬فن السرد العربي الحديث‪ ،‬بيروت‪ :‬اآلداب‪.1993 ،‬‬
‫‪ - 24‬محمد أركون ولوي غارديه‪ ،‬اإلسالم‪ :‬األمس والغد‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ - 25‬محمد جالل‪ ،‬األعمال الكاملة‪ ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة المصرية‪.1992 ،‬‬
‫‪ - 26‬محمود أحمد السيد‪:‬‬
‫‪ -‬في سبيل الزواج‪.1921 ،‬‬

‫‪165‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬

.1922 :‫ القاهرة‬،‫ مصير الضعفاء‬-


.1922 ،‫ النكبات‬-
.1993 ،‫ دار سعاد الصباح‬:‫ القاهرة‬،‫ المثقفون وعبدالناصر‬،‫ مصطفى عبدالغني‬- 27
:‫ مؤنس الرزاز‬- 28
.1992 ،‫ المؤسسة العربية للدراسات‬:‫ عمان‬- ‫ بيروت‬،‫ مذكرات ديناصور‬-
.1992 ،‫ المؤسسة العربية للدراسات‬:‫ عمان‬- ‫ بيروت‬،‫ مذكرات كاتم صوت‬-
.1969 ،‫ دار النهار‬:‫ بيروت‬،‫ المثقفون العرب والغرب‬،‫ هشام شرابي‬- 29
‫ المنظمة العربية للتربية‬:‫ القاهرة‬،‫ تطورها وأثر الفكر فيها‬:‫ الرواية في العراق‬،‫ يوسف عز الدين‬- 30
.1973 ،‫والثقافة والعلوم‬

:‫اإلنجليزية‬

31 - Aijaz Ahmed, In Theory: Classes ,Nations, Literatures, N.Y: Verso, 1992.


32 - Christian Joppke, “Intellectuals, Nationalism...” in: Comparative studies
in Society& History no 37, April 1995.
33- Craig Murphy& Enrico Augelli,Gramsci,Historical Materialism &
International Relations. Ed. Stphen Gill, Cambridge U.P. 1993.
34- David Spurr, Rhetoric of Empire. Durham: Duke, 1993.
35- Edward Said, “Reflections on Exile” in: Russel Fergusson and others.
Marginalization & Contemporary Cultures. N.Y: MIT, 1990.
36- J. Benda, The Treason of the Intelectuals. N.Y: WW Norton, 1969.
37- J.P.Sartre, Introd. Wretched of the Earth by F. Fanon, Grove Press,
1963, 1968.
38- Michel Foucault, The Order of Things: An Archaeology of the Human
Sciences. London: Routledge, 1970.
39- Politics, Philosophy and Culture. Ed. Kritzman. London: Routledge,
1988.

166
‫الصحف والمجالت‪:‬‬

‫‪ - 40‬برهان شاوي‪« ،‬تعارضات» لندن‪ :‬اللحظة الشعرية‪ ،‬العدد ‪ ،2‬سنة ‪.1993‬‬


‫‪ - 41‬حيدر الكعبي‪« ،‬قصف» لندن‪ :‬اللحظة الشعرية‪ ،‬العدد ‪ ،2‬سنة ‪.1993‬‬
‫‪ - 42‬رمسيس يونان‪« ،‬مقالة» مجلة الكتابة األخرى‪ ،‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪.1992‬‬
‫‪ - 43‬سعدي يوسف‪« ،‬بار األنتيل»‪ ،‬لندن‪ :‬اللحظة الشعرية‪ ،‬العدد ‪ ،4‬سنة ‪.1993‬‬
‫‪ - 44‬شريف الربيعي‪« ،‬دائرة الخوف الذي يفضي إلى وطن»‪ ،‬لندن‪ :‬االغتراب األدبي‪ ،‬العدد ‪،27‬‬
‫سنة ‪.1994‬‬
‫‪ - 45‬عزيز السيد جاسم‪« ،‬النخبة والفكر»‪ ،‬بغداد‪ :‬جريدة العراق‪ 16 ،‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪.1990‬‬
‫‪ - 46‬علي جعفر العالق‪« ،‬طبقات الشعراء»‪ ،‬لندن‪ :‬االغتراب األدبي‪ ،‬العدد ‪ ،31‬سنة ‪.1995‬‬
‫‪ - 47‬عواد ناصر‪« ،‬عن المنفى»‪ ،‬لندن‪ :‬االغتراب األدبي‪ ،‬العدد ‪ ،36‬سنة ‪.1997‬‬
‫‪ - 48‬فاروق البقيلي‪« ،‬حوارات مع عزيز السيد جاسم»‪ ،‬دبي‪ :‬جريدة البيان (الثقافي)‪ 31 ،‬أ كتوبر‬
‫‪.1996‬‬
‫‪ - 49‬فاطمة المحسن‪« ،‬عندما تأ كل السلطة مثقفيها»‪ ،‬لندن‪ :‬جريدة الحياة‪ ،31 ،‬كانون األول‪/‬‬
‫ديسمبر ‪.1996‬‬
‫‪ - 50‬فؤاد زكريا‪« ،‬نقد االستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة‪ :‬دراسة في المنهج»‪ ،‬مجلة فكر‪،‬‬
‫العدد ‪ ،10‬سنة ‪.1986‬‬
‫‪ - 51‬صالح نيازي‪« ،‬الناصرية»‪ ،‬لندن‪ :‬االغتراب األدبي‪ ،‬العدد ‪ ،32‬سنة ‪.1996‬‬
‫‪ - 52‬طه حسين‪« ،‬في العقل العربي» مجلة الهالل‪ ،‬عدد خاص بعنوان‪« :‬العرب واإلسالم في‬
‫العصر الحديث»‪ ،‬سنة ‪.1938‬‬
‫‪ - 53‬مجموعة من الكتاب‪ ،‬عدد خاص عن عزيز السيد جاسم‪ ،‬بغداد‪ :‬مجلة األقالم‪ ،‬العدد ‪،7‬‬
‫تموز (يوليو)‪ ،‬سنة ‪.1990‬‬

‫‪167‬‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫• فتنة الحكاية جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫عن َ‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الفنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫إلياس أبو شبكة “العصفور الصغري” ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪43‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫ُجرجي زيدان‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫ا ُملعتمدُ بنُ ع َّباد يف سنواته األخرية باألرس‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف َذنّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة ‪ ،‬الخط ‪ ،‬الزخرفة )‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق ( تحـ ُّوالت الصـفـوة العارفة يف املجتمع العريب الحديث)‬ ‫‪52‬‬
170
171

You might also like