Professional Documents
Culture Documents
الناشر :
وزارة الثقافة والفنون والتراث -دولة قطر
رقم اإليداع بدار الكتب القطرية :
الترقيم الدولي (ردمك) :
المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة.
فهرس الكتاب
المترجم
في االنعتاق !
محمد الرميحي
عندما دفع إليّ األخوة في إدارة تحرير مجلة «الدوحة» بهذا الكتاب كي
أ كتب له مقدّ مة أصابتني الحيرة ،فكيف يكتب كاتب مقدّ مة في بداية
القرن الواحد والعشرين ،لكتاب صدر منتصف القرن السادس عشر؟ بعد
القراءة وجدت أنه كتاب صغير له معنى كبير يعبر إلى تاريخ اإلنسانية.
هو في الحقيقة رسالة ،أو ما يسمّ ى اليوم مقالة ،في موضوع محدَّ د ،هو
البحث عن االنعتاق اإلنساني ،كما ال يفوت القارئ الفطن عند إلقائه
نظرة عامة على الرسالة ،أن ثمة عالقة واضحة بين األفكار التي سطّ رها
الكاتب (المقالة) وبين ما يجري حولنا في الفضاء العربي اليوم ،بل هي
مفكري النهضة بعد ذلك في القرون الثالثة
مبكرة لما شغل ِ ّ
إرهاصات ِ ّ
الالحقة لكتابة المقالة.
الكتاب الذي بين أيدينا عنوانه «مقال في العبودية المختارة» .ولو خطر
للمؤلّف أن تكون مقالته بعنوان آخر مثل «مقالة في االستبداد» لما أخطأ
7
الهدف .ألن أحد تعريفات االستبداد هو (عدم قبول المشورة في الشأن
العام) ،أو االستبداد بالرأي ،وهو أيض ًا معنى من معاني العبودية !
8
سوف تجد شخص ًا ما في بلد ما يحكم تقريب ًا بنصائح «األمير» ،حتى لو
لم يكن قد قرأ الكتاب ،كُ تّاب آخرون مثل كارل ماركس وآدم سميث،
كانو من الموتى عندما أدرك العالم أهمية ما كتبوا ،كتاب واحد في
تاريخنا العريي المعاصر ال يتعدّ ى أربعين صفحة ،ولم يقرأه إال عدد
قليل من الناس على أبعد تقدير ،أودى بحياة حاكم حديث .الكتاب هو
«الفريضة الغائبة» والحاكم هو أنور السادات ،تغيَّرت بعده المعادالت
وال زالت تتغيَّر .هكذا الكتب تبقى وتُطبَع َمرّة تلو َمرّة ،حتى لو كانت
رسائل قصيرة ،ما يجمع بينها هو حكمة إنسانية مفقودة عند الغير وغير
قابلة للتطبيق في آن معاً.
9
والوالة في عصره ،رغم الرمزية التي كتب بها نصائحه ،ولو عدنا إليها
اليوم الندثر أمامنا الجدل الذي تمَّ ت اإلخاضة فيه في ذلك الوقت ،وال
زالت أسبابه تفعل فعلها إلى اليوم ،ألن المعضالت الفكرية التي أثارها
ال زالت دون َحلّ حتى الساعة.
الرسالة التي بين أيدينا مؤ ِ ّلفها هو إيتيان دي البويسيه الذي ولد في مدينة
سارال عام 1530إلى الجنوب من ليموج ،المعروفة حتى اليوم بصناعة
البورسلين .الفترة التي عاشها المؤ ِ ّلف هي فترة النقاش العظيم الذي ساد
انبثاق األفكار الحديثة في أورربا في مجمل القرن السادس عشر،ولكن
لم يكن هذا النقاش دون معارضة ،وهي فترة كان الصراع فيها دامي ًا بين
مك ِّونات المجتمع األوروبي الدينية والقومية .كانت الكنيسة قد غرقت
في عصر الخرافة ،وكانت الطليعة األوروبية تنزع إلى التفكير العلمي في
ومتعددة
ِّ مرحلة بداية االكتشافات العلمية ،وهي مرحلة شديدة االحتقان
الصراعات ،نشطت فيها حركات التفكيك الديني مع التجمُّ ع القومي ،مع
الحروب األهلية الضروس ،مما أدّ ى إلى سيل ضخم من الدماء واآلالم
والبؤس والفاقة والظلم.
يناقش الكتاب فكرة مركزية هي( :هل الح ّريّة مطلب مركزي لإلنسانية؟
وإن كانت كذلك ،لماذا يقبل البعض أن يكون (مستعبَداً) بشكل طوعي،
دون أن يحاول التخلص من عبوديته؟) ،ويحاول اإلجابة عن هذا السؤال
ال باإلشارة إلى أهمية (الوعي)
الكبير والمعقَّ د الذي أر ََّق اإلنسانية طوي ً
لدى اإلنسان ،وكيف يتكوَّن هذا الوعي ،سواء الوعي بمقاومة العبودية
أو نقص الوعي بقبولها!
10
«الخادم ،أو رئيس الخدم» الرجل األسود الذي جاء من العبودية بكل
سوءاتها ليخدم بشكل متواصل خمسة رؤساء أميركيين في البيت األبيض،
من الرئيس دوايت أيزنهور إلى الرئيس بل كلنتون،ومشاهد الفيلم مثيرة،
خاصة في بدايتها ،عندما يغتصب رجل أبيض والدة البطل ،ثم سماعه
صراخها الموجع ،ثم يخرج المغتصب ليرمقه األب بنظرة لم يستحسنها،
فيُخرِ ج الرجل األبيض مسدسه ،ويفرغ في رأسه رصاصة تنهي حياته في
لحظة ،الولد الذي أصبح رئيس خدم شهد هذا في صباه ،ولم تفارقه
مؤخر ًا كان بعنوان «اثنا عشر
َّ تلك الصورة .والفيلم الثاني الذي شاهدته
عام ًا من العبودية» يحكي قصة رجل أسود ح ّر ومتزوج ،تقوم عصابة
محترفة بخطفه وتح ِّوله إلى عبد يُباع في سوق النخاسة ،يقاسي األ َمرَّين
من عبوديته في حقول القطن في نهاية القرن التاسع عشر إلى درجة أنه
أشرف على الموت شنق ًا بسبب كلمة رَدَّ فيها على رئيس العمال ،حتى
تُكتَب له الح ّريّة تحت ظروف معقَّ دة ،بعد اثني عشر عام ًا من العبودية،
وبقي ليروي قصته ،التي كانت نادرة ،فمعظم المختطفين وقتها من
السود ،وهم وإن كانوا أحرار ًا إال أنهم قضوا حياتهم في العبودية.
هل يعني أن اإلنسان خلق في جسم واحد من قسمين :جانب خ ِ ّير منه،
وجانب بالغ الشر؟ هل اإلنسان يمكن أن يكون شيطاني ًا وشرير ًا إلى
11
بأحط من معاملة الحيوان؟ وهل يمكن أن
ّ درجة أن يعامل إنسان ًا آخر
يكون اإلنسان -بسبب ظروف المنشأ أو ظروف العيش -مطواع ًا لغيره
دون أن يبدي تذمُّر ًا أو رغب ًة في االنعتاق ؟ تلك أسئلة إنسانية كبرى يقوم
المؤ ِ ّلف هنا بنقاشها ،حتى وهو في فضاء القرن السادس عشر ،حيث
انتشرت العبودية ،بل والتجارة فيها انتشار ًا يشبة اليوم انتشار التجارة في
التليفونات المحمولة!.
العجيب والمُ َح ِ ّير أن األسئلة األساس التي يطرحها المؤ ِ ّلف في ذلك
المتقدم ،عصر التراتب االجتماعي الحادّ ،وعصر امتالك األرض
ِّ العصر
ومَنْ عليها ،وعصر اإلقطاع والسيطرة على ما فوق األرض وما تحتها،
عصر النبالء ورعاة الكنيسة وسيطرة البابا على قلوب وعقول ماليين
البشر ،وانتشار الخرافة ،تلك األسئلة نفسها تُطرَح اليوم في كتابات
معاصرة ،بل إن من يقرأ الرسالة التي بين أيدينا وقد َسمَّ يْتها (كتاباً)
يرى أنه تقريب ًا يصادف القضايا نفسها التي يطرحها الكتاب تقريباً،
كأشكال الحكم ،وسبب الثورات ،وحقوق الشعب ،والوعي أو نقصه،
والقهر ،وأهمية التسامح ،وقصور َحلّ الصراعات بالقوة ..إلى آخر مثل
هذه المفردات والعناوين التي ال يخلو منها مؤلّف اليوم في السياسة أو
االجتماع.
ننظـــر إلـــى أوروبـــا اليـــوم ،أو باألحـــرى ،ينظـــر إليهـــا الجيـــل الجديـــد
وكأنه ــا ب ــاد م ــن (خب ــز وعس ــل) إن ص ــح التعبير:ديموقراطي ــة مزده ــرة،
وحقــوق إنســان ،ومحاكــم دوليــة ومح ّل ّيــة عادلــة ،واعتنــاء بالمحتاجيــن
فـــي المجتمـــع ،ومســـاواة أمـــام القانون،وضرائـــب عــــادلة،ومنتجات
حديثـــة ،ومســـاواة بيـــن الرجـــل والمـــرأة ،أي تقريبـــ ًا كل مـــا يلـــزم
العتب ــار المواط ــن ف ــي تل ــك الب ــاد ف ــي ش ــبه َج ّن ــة أرضي ــة ! ولك ــن،
بالرجـــوع إلـــى بضعـــة قـــرون قليلـــة ال تتعـــدّ ى األربعـــة ،ســـوف نـــرى
12
صـــورة مختلفـــة وعكســـية بـــل وســـوداوية :صراعـــ ًا دمويـــاً ،وقمعـــ ًا ال
إنس ــاني ًا ال يمك ــن حت ــى تصــوُّر م ــدى صلف ــه ووحش ــيته ،يعن ــى ذل ــك
كل ــه أن اإلنس ــان يس ــتطيع أن يتق ــدَّ م ف ــي ُس ـلَّم (اإلنس ــانية) إن اس ــتطاع
يحكــم العقــل مــن جهــة ،وإن اســتطاع المقهــور رفــع رأســه ليقــول:
ِّ أن
كف ــى.
مرة أخرى :هل (الح ّريّة) مطلب إنساني؟ في ذلك الوقت (القرن
السادس عشر) كانت مطلب ًا للمثقَّ فين وأصحاب الوعي ،وكانت تعتبر
باب ًا ال مناص من دخوله من أجل أن يصبح اإلنسان إنسان ًا بحق ،إال أن
القرون الالحقة ،ومع تطوُّر البشرية وتجاربها المريرة لم تعد (الح ّريّة)
على إطالقها هي المقصد ،فهي (أي الح ّريّة) مهمّ ة عندما تُقَ نَّن ،ويصبح
لها قواعد مُ تَفَّ ق عليها.
إذاً ،صناديق االنتخاب ليست حلّاً قاطع ًا يجلب (الح ّريّة) ،ثم تطوَّر
13
(مؤسسات المجتمع المدني) ،وقد انبهر ذلك
َّ الحديث إلى أهمية وجود
العالِم الفرنسي ألكسي دي توكفيل بالتنظيم (المجتمعي الذي وجده في
ُرجع إليه
الواليات المتحدة) ،وكتب عن الديموقراطية األميركية ما صار ي َ
حتى اليوم ،ووجد أن التقدُّ م في أي مجتمع هو ثانوي للتعاون البشري،
أي مجتمع إال إذا كان محكوم ًا
الذي هو األصل ،وال يمكن أن يصل إليه ّ
بـ(حكومة قوانين ال بشر)! إذاً ،الروابط التي تجمع الجماعات الصغيرة
لتحقق أهدافها ،هي التي تجعل المجتمع ُح ّراً ،متى
ِّ في المجتمع األكبر
َكنَها الفضاء القانوني من تنظيم نفسها.
ما م َّ
هنا أضفنا إلى فكرة الح ّريّة والديموقراطية فكرة أخرى هي (المجتمع
المدني المنظّ م) إال أنه يبقى شيء آخر يُسَ مّ ى اليوم (الوعي) .يشير
الكاتب إلى فكرة الوعي بقصة لها معنى مأخوذة من تاريخ اإلغريق تقول
إن شخص ًا أخذ َج ْر َويْن من أمّ واحدة ،أحدهم تمَّ ت تنشئته في المطبخ،
ُضع أرنب و إناء
وآخر أُطلِق في الحقول ،وبعد فترةِ ،جي َء بالكلبين ،وو ِ
فيه حساء أمامهما ،فقام كلب المطبخ باالقتراب من الحساء لشربه ،أما
كلب الحقول فقد بدأ يطارد األرنب! هذه القصة التي تبدو رمزية ،تعني
تتحكم في تصرُّف المخلوق ،واإلنسان كذلك ابن بيئته .فمن
َّ أن البيئة
يكون عبد ًا فإن أبناءه يشبّون على قبول العبودية ،وتبدو لهم أنها من
طبيعة األشياء ال يحتاجون إلى تغييرها.
صحيح أن الح ّريّة التي هي صلب هذه الرسالة تعني أن يكون الفرد قادر ًا
تدخل من اآلخرين ،كما أن القيمة المعنوية
ُّ على اختيار تصرُّفاته دون
َحلّ نقاش من أجل تقدُّ م المجتمع ،كما طوَّرها فالسفة
للح ّريّة لم تعد م َ
أوروبا في القرن التاسع عشر ،مثل جان لوك ،وثومس هوبز ،ومن جاء
المفكرين ،إال أن البشرية اصطدمت بـ(حدود الح ّريّة) من
ِّ بعدهما من
جهة ،وبآليّات تحقيق تلك الح ّريّة من جهة أخرى .من هنا ظهرت فكرتا
14
(الح ّريّة اإليجابية) و(الح ّريّة السلبية) اللتان طوَّرهما الفيلسوف إكسفورد
إيزايا برلين ،في مقال شهير بعنوان «مفهومان للح ّريّة» ،وقد عرف الح ّريّة
السلبية بأنها (النطاق الذي يمكن للشخص أن يتصرَّف فيه دون إعاقة
من اآلخرين) أي أنها عالَم للفِعال غير المكبوحة ،أو غياب اإلجبار ،أما
اإليجابية فهي (كون اإلنسان َس ِ ّيد نفسه) .زعم إيزايا أن األخيرة ليست
ح ّريّة بل هي قدرة ،ألن الحرمان من الح ّريّة هي (النيّة على منع العمل).
والفارق بينهما كالفارق بين عدم شراء كتاب ،ألن السلطة قد منعت
تداوله ،أو عدم القدرة على شرائه ألنه ال توجد نسخة منه في السوق! هنا
الفرق بين (الحرمان) من الح ّريّة ووجود عائق ما يمنع مؤَّقت ًا تحقيق رغبة
ما .األخيرة تقع في حدود الح ّريّة.
المفكرين
ِّ أمّا آليات الح ّريّة فهي أ كثر تعقيداً ،فعلى الرغم من أن كثير ًا من
ذهبوا إلى أن تحقيق الح ّريّة هي بوضع تنظيم يُسَ مّ ى (الديموقراطية) أي
أن يكفل للجميع من المواطنيين ح ّريّة اختيار مم ِ ّثليهم .إال أن آخرين،
منهم كارل ماركس وجد (أن الناس ال يدركون مصالحكم الحقيقية)،
ولذا وجب أن تقوم طبقة لها وعي ناضج بمصالحها بقيادة المجتمع
(الطبقة العاملة) .وعلى رغم أن مثل هذه النظرية و ُِجد مَنْ يف ِ ّندها ،إال
أن الفكرة العامة وهي (هل يستطيع جميع األفراد في المجتمع تحقيق
مصالحهم؟) ظلت محلّ أخذ َورَدّ في فضاء الديموقراطيات الحديثة .فمن
خالل آليات الديموقراطية الحديثة يمكن تضليل الجمهور العام ،ويمكن
أن تصادر (األغلبية) حقوق (األق ّليّة) ،بل ال زال مفهوم (وعي الناخب
بمصالحه) محدوداً ،حيث يمكن إغراؤه أو تضليله تحت شعارات قومية
أو وطنية أو حتى دينية أو فئوية ! فالناس يمكن أن يقعوا -بسهولة -ضحية
ألحاسيسهم وتحيُّزاتهم وعواطفهم ،حتى إنهم يمكن أن يقعوا -بسهولة-
في خداع الحديث أو خداع الوعود ،أي إنهم (أو أ كثرهم) ،في النهاية،
15
تحكم تصرفاتهم -خاصة السياسية -أليات غير منطقية ،ويخضعون
للهوى ال للعقل .حتى في التجارب النيابية ،كثيرون في فضائنا الشرقي
ومحققين لمصالح
ِّ على األقلّ يظلون مندوبين مقيَّدين بآراء الناخبين
ناخبيهم الض ِ ّيقة ،كما إن بعضهم ينضمّ إلى الدهماء خوف ًا منهم أو رجاء
أصواتهم.
من هنا تطوَّر البحث عن الح ّريّة لتقديم مفهوم يسمّ ى اليوم (الديموقراطية
الليبرالية) التي لها عدد من الشروط تنجيها مما ُعرِ ف في بعض التجارب
بـ(الديموقراطية الشمولية) .من تلك الشروط المسبقة المساواة بين أفراد
ال المساواة األخالقية بين
الشعب ،وهي خمس أنواع من المساواة :أو ً
أفراد الشعب ،والمساواة أمام القانون ثانياً ،أي أن القانون -كما يشار
إليه في الكثير من النصوص الحديثة (-أعمى) ال يتحيَّز لجنس أو عرق
أو فئة أو نفوذ أو جاه أو سلطة .ثالثاً :المساواة السياسية ،فعلى امتداد
تاريخ البشرية تعرَّضت المساوة السياسية إلى تجاهُ ل بشع باسم السلطان
أ كان روحي ًا أم كان دنيوياً ،وهنا يتلبس األمر بين (التماثل) و(التساوي).
والقصد هو التساوي في الحقوق العامة كحقّ الحياة والتداوي والتعليم،
وحقّ القول والبحث والنشر والح ّريّة والتملُّك والمرور ،أي الحقوق التي
أصبحت تسمّ ى (طبيعية) لإلنسان الفرد .ورابعاً :المساواة في الفرص
المتاحة للمواطنيين ،وأخيراً :التفرقة اإليجابية للمحرومين كاألقيات أو
كأصحاب القدرات المحدودة(اإلعاقة) .و-في بعض األحيان -كالمرأة
في مجتمعات تحرمها من حقوقها اإلنسانية.
دخل اليوم -بداية القرن الواحد والعشرين -مفهوم جديد بدأ في
الصعود منذ نهاية القرن الثامن عشر وهو (الح ّريّة االقتصادية) .وعلى
ال مع صعود
الرغم من خفوت هذا العنصر في بعض مناحي التاريخ (مث ً
االشتراكية الماركسية) في بعض البلدان ،إال إن سقوطها السريع نسبي ًا
16
ال أن (الح ّريّة االقتصادية) جزء ال
وفشلها وجمودها ضرب للبشرية مث ً
يتجزّأ من الح ّريّة ،وهي كالح ّريّات األخرى ال تكون مطلقة ،بل مقيَّدة
بما يفرضه العقل من عدم جور على حقوق اآلخرين .لقد عرفت البشرية
أن االقتصاد الح ّر يرفع من مرتَّبات العمال ،ويصون حقوقهم ،ويساعد
على المسيرتين االقتصادية واالجتماعية ،بل إن بعض الدراسات تقول
لنا إن االقتصاد األميركي لم ينتعش إال بعد تحرير العبيد ،فهم كقوة عمل
وقوة شرائية أفضل لالقتصاد من استرقاقهم ،بل الح ّريّة االقتصادية هي
مؤخر ًا أن استفادة بلد مثل بريطانيا من
َّ أفضل من االستعمار ،وقد ثبت
عالقة متوازنة اقتصادية مع بالد مثل الهند ،أفضل مما كانت تستفيد منه
بريطانيا لَمّ ا كانت مستعمِ رة للهند طوال أ كثر من قرنين من الزمان!
تبقى نقطة أخيرة تجبرنا الرسالة التي نحن بصدد قراءتها على التفكير
فيها مل ّياً ،فعلى الرغم من تقدُّ م التفكير البشري في موضوعات مثل
الح ّريّة والديموقراطية وحقوق اإلنسان والمساواة بين البشر وحق
المتاجرة ،وحقّ االنتخاب والتمثيل إال أن (الوعي) ال زال في حدود
غير ناضجة لدى الكثير من قاطني هذه األرض التي نحيا عليها .فهناك
من يقبل (الضيم) أو يساعد علية بأسماء مختلفة منها :الديني ،والقومي،
والخرافي ،وغير العقالني! والسؤال :كيف يمكن تطوير الوعي؟ هنا نجد
أن وسائل تطوير الوعي المستخدمة اليوم بعضها -في حقيقة األمر-
(يز ِّيف الوعي)؛ فالمدارس يمكن أن تكون وسيلة لتزييف الوعي،
وكذلك وسائل اال ِ ّتصال الحديثة ،وكذالك التنشئة األسرية والتضليل
السياسي ،كلّها بسبب مصالح فئات اجتماعية تملك النفوذ تقوم بتزييف
وعي المواطن لدرجة قبوله بالضيم،أو حتى بشكل من أشكال العبودية
الحديثة ،كعبودية العادة أو العرف أو التقليد أو المحاكاة .ال زال البعض
منا يرى أن غاية الحكومة الحديثة هي (تعزيز الفضيلة) ،وال يريد أن
17
يعترف أن الفضيلة نسبية ومتغ ِ ّيرة! وأن غاية الحكومة الحفاظ على
الح ّريّة من أجل ازدهار المجتمع ،وتزيد وسائل االتصال الحديثة في
بعض المجتمعات -من بينها المجتمعات العربية -في تغييب الوعي
بتوزيع ونشر الخرافات واألفكار غير العلمية ،فيقع الفرد (عبداً) لتلك
األفكار ،بعد أن تحوَّلت العبودية في زماننا من حالها المادي إلى الحال
المعنوي.لقد واجهت شعوب كثيرة نقص الوعي ،ولعل قول توماس
جفرسون -الرئيس األميركي واضع إعالن االستقالل -في ذلك ،شارة
المؤسسون في أميركا من صعوبات ،إذ قال« :ال
ِّ إلى ما كان يواجهه
أعرف مكان ًا أ كثر أمن ًا لسلطة المجتمع المطلقة من الناس أنفسهم ،وإذا
اعتقدنا أنهم غير مستنيرين بما يكفي لممارسة سيطرتهم بتعقُّ ل كامل،
فلن يكون العالج هو سلبهم تلك السلطة ،بل توجيه وعيهم من خالل
التثقيف والتعليم السياسي .».والتعليم والتثقيف السياسي هما ما تفقده
اليوم األغلبية من المجتمعات الناشئة.
ويأتي اآلن السؤال الجوهري :كيف يمكن -في زماننا -أن تُستحدَ ث
(الحدّ من استخدام السلطة تعسُّ فياً)؟ اإلجابة عن هذا
َ سلطات من أجل
السؤال تبدو بسيطة في الحديث ،عسيرة في التنفيذ وهي (أن يملك
والمؤسسات لعزل مَنْ هم في السلطة إن أساؤوا
َّ الناس الحقّ ،والقدرة،
استخدامها)! لم يتوافر ذلك في الفضاء العربي حتى الساعة؛ لذلك نجد
أن التغيير من أجل الفكاك من الظلم االجتماعي جاء عنيف ًا أو شبه عنيف
في فضائنا العربي ،وهو ال زال كذلك في بعض ربوعنا ،وربَّما يستمرّ،
وطرُق التغيير والتداول
وقد يكون أ كثر عنف ًا كلما َسدَّ ت السلطات ُسبُل ُ
على السلطة.
صرخة إيتيان دي البويسيه قبل خمسة قرون التي قال فيها «حتى غدت
يمت إلى الطبيعة» هي صرخة ال زالت
ّ الح ّريّة تبدو اليوم وكأنها شيء ال
18
تتردَّ د في أرجاء مختلفة من المعمورة ،فالح ّريّة تلك التي يبحث عنها
اإلنسان ال زالت مُ تناَزلَ عنها في مكان ،ومزيَّفة في مكان آخر ،وال زال
قوله« :إن الحيوان ال يتنازل عن ح ّريَّته إال بعد دفاع ضروس ! ولكن
اإلنسان يفعل ذلك بسبب الحاجة أو بسبب غياب الوعي» ماثالً.
***
19
حياة دي البويسيه وأعماله
Étienne de La Boétie
) (1530 - 1563
ِ
تنقض بضعة أعوام على وصول ُولِد البويسيه عام ،1530وفي قرن بدأ و َل ّما
كريستوفر كولومبوس إلى سواحل أميركا ( 1492م) ،وفاسكو دي جاما
إلى الهند ( 1498م) ((( .ولد في األول من نوفمبر في مدينة سارال إلى
الجنوب من ليموج وإلى الشرق من بوردو(فرنسا) ،وال يزال بوسع السائح
وهو يم ّر بشوارع هذه المدينة الصغيرة أن يعجب بجمال منازلها التي تشهد
لها منذ القرن السادس عشر بالدعة والرخاء .ونعلم أن الملوك -وإن اختفى
بظهورهم واشتداد نفوذهم الحلم القديم حلم «المملكة المسيحية-
قد استندوا مع ذلك في تقسيم المدن واألقاليم إلى تقسيمات الكنيسة
وبدأوا بها ،فكانت سارال من الوجهة الكنسية أبرشية ،وكانت من الوجهة
-1من المقطوع به أن الصين كان لها أسطول وصلت سفنه إلى سواحل إفريقية ،وكان ألميراالته مشاريع
موحدة ،أي دولة ال ترى وجه ًا لجمع المال إال بتحصيل
َّ أقرانهم األوروبيين ،ولكن الصين كانت إمبراطورية
متحجرة ال ترى في أمثال هذه المشاريع إال مغامرات ال طائل
ِّ الضرائب والمكوس ،وترتكز إلى بيروقراطية
من اإلنفاق عليها ،بينما كانت أوروبا مسرح ًا تتصارع فيه النظم السياسية على اختالفها ،ويتصارع فيها
على احتكار الدول وتأسيسها ملوك كانوا هم أنفسهم كما قال أحد المؤررخين أول أصحاب المشاريع ،زاد
شرههم للذهب بقدر استنزافهم له في الحروب .ويكاد يكون من المقطوع به أيض ًا أن فاسكو دي جاما
قد اعتمد في عبور المحيط الهندي على الملّاحين العرب المنتشرين في إفريقيا دون أن ينتبه أحد إلى أن
وصوله إلى الهند كان يعني النجاح في تطويق العالم اإلسالمي.
20
المدنية تدخل في عداد المتص ّرفيات التي ينوب فيها عن الملك متص ِ ّرف
يؤدي باسمه الوظائف القضائية واإلدارية ،إال أن هؤالء
(بايى أوسنيشال) ّ
المتصرفين الذين كانوا ينتمون إلى الطبقة األرستوقراطية آثروا البقاء في
حاشية الملك ،أو آثر الملك إبقاءهم في حاشيته ،فتركوا أعمالهم لن ّوابهم،
وكان أبو إيتيان دي البويسيه أحد هؤالء الن ّواب .كان مؤ ِ ّلفنا -إذ ًا -ينتمي
إلى عائلة ميسورة مثقَّ فة .إال أن أباه أدركه القَ َدر وهو طفل فتولّى أمره
عمه ،وكان من رجال الكنيسة المتض ِ ّلعين في الالهوت واآلداب ،فنشأ ُّ
لما يبلغ العاشرة،
إيتيان ،الذي بدأت معالم ذكائه الخارق تتبين وهو ّ
محبته لها
َّ على تقديس «اإلنسانيات» اليونانية والالتينية .وساعد على
وتم ُّرسه بها أن حركة النهضة قد قويت في سارال بنوع خاص؛ إذ كان
أسقفها كاردينال إيطالي (وهو الكاردينال نيقولو جادي) ربطت أواصر
تبحره بطابع المتأ ِ ّنس
القرابة بينه وبين آل مديسيس الفلورنسيين ،وانطبع ُّ
اإليطالي حتى إنه كان يحلم بأن يجعل من أسقفيته جمهورية لآلداب
والفنون مثلما كانت أثينا.
انكب البويسيه على الدرس .وال ندريَّ في هذا الوسط الراقي الثقافة
َّ
المؤكد هو أن أساتذته على التحقيق بأيّة مدرسة التحق ،ولكن الشيء
فوجهوه إليها .وكان
َّ قد لمسوا من نجابته ما ِ ّ
يؤهله لاللتحاق بالجامعة
أن إيتيان دي البويسيه قد
أن التحق بجامعة أورليان التي تشهد سجلّاتها ّ
تأهب ًا لالشتغال ال باآلداب ،بل بالقضاء.
جاءها لدراسة القانون ُّ
ولسنا نعجب لذلك كثير ًا .فقد رأينا أن البويسيه كان ينتسب إلى هذه
الشريحة االجتماعية التي كان يخرج منها القائمون باألعمال العامة ،ثم
إن دراسة القانون نفسها كانت تصطنع منهج ًا ال يختلف عن المنهج
الم َّتبع في دراسة النصوص األدبية ،وأعني به منهج التفسير النقدي الذي
يتعداهما
ّ ال يقف عند بيان الفروق بين المذاهب واإلحاطة بها ،بل
21
إلى التفسير النحوي للصيغ التشريعية وتحليل مدلوالت الكلمات
واستعماالتها ثم االستعانة بالتاريخ توضيح ًا لمرادها .فدراسة القانون
المح ّل األول-دراسة لغوية فيلولوجية
َ كدراسة اإلنسانيات كانت-في
تستمد غذاءها من التفكير الفلسفي والبحث
ّ نص ّبة على النصوص)
(أي مُ َ
الحجة واالستدالل .وكان
ّ التاريخي ومن أعمال النقد والثقة بسلطان
هذا المنهج الذي يجعل من دراسة القانون جزء ًا من اإلنسانيات كدراسة
ال في جامعة أورليان التي كانت الم َّتبع فع ً
الشعر والفلسفة هو المنهج ُ
ُت َع ّد ثانية جامعات فرنسا بعد جامعة باريس .وإذا كانت شهرة مدرسة
القانون فيها ال تعدل شهرة مدرسة بولونيا أو بادو بإيطاليا فقد كان لها
حظ وافر من أساتذة القانون الفطاحل (يكفي أن نذكر منهم كوجا أيض ًا ّ
الح ّي الالتيني يحمل اسمه حتى اليوم ،والذي
الذي ال يزال أحد شوارع َ
يرجع إليه الفضل في أن أعاد إلى القانون الروماني المعنى الذي كان له
في المجتمع الذي وضع فيه) ،ويجدر بالذكر أيض ًا أن كالفن ،اعظم رجال
اإلصالح الديني بعد لوثر ،قد درس فيها بين 1528و 1533م ،وأن عدد ًا
من زمالء البويسيه في هذه الجامعة ،وفي مقدمتهم هوتمان ،قد صاروا من
مشاهير هذه الحركة .وال غرو في ذلك لما نعلمه من ا ّتفاق رجال اإلصالح
والمتأ ِ ّنسين على هذه الدعوة :الرجوع إلى األصول.
حصل البويسيه على درجة الجامعة في 23سبتمبر عام 1553م وحصل من
الملك هنري الثاني على تصريح يبيح له شراء حق العمل قاضي ًا في برلمان
السن القانونية (الخامسة والعشرين) وبدأ ممارسة أعماله
ّ بوردو ((( قبل بلوغ
ُعف
-1بلغ من احتياج الملك فرنسوا األول إلى المال أنه جعل الحصول على المناصب بالشراء ،وإن لم ي ِ
ذلك طالب الوظيفة من االمتحان .هذا وكانت كلمة البرلمان تطلق على المحكمة ،وكانت المحكمة نفسها
مركَّ ب ًا قانوني ًا معقَّ د ًا يضمّ عدّ ة «غرف» يتميَّز شاغِ لو كل منها برداء خاص :أولها وأعالها مرتبة الغرفة
الكبيرة ،أما الغرف التالية فكانت تنقسم ويتعدّ د كل قسم منها بحسب االحتياجات ،كغرفة التحقيقات،
وغرفة العرائض ...إلخ .هذا وكان األعضاء بعضهم من رجال الدين والبعض اآلخر من المدنيين ،ولكن
الغلبة صارت للمدنيين مع مرور الزمن.
22
فيها بعد االمتحان في 17من مايو عام 1554م .فلما جاء مونتني ليعمل هو
أيض ًا قاضي ًا في هذه المحكمة عام 1557م .انعقدت بين الرجلين الصداقة
التي َخ َّلد مونتني ذكرها في مقاالته .ولسنا نعلم في أي المنازعات قضى
البويسيه أو مونتني ،ولكنا نعلم أن البرلمانات قد بدأت خالل القرن السادس
عشر تشارك مشاركة ملحوظة في الحياة السياسية كان من َج ّرائها أن ا َّتخذ
برلمان بوردو إزاء مآسي الصراع الديني المتصاعدة في جنوب فرنسا
الغربي موقف ًا ا َّت َسم بالوالء للملكية وباالستمساك بالعقيدة الكاثوليكية
أدى بقضاته إلى اعتبار الهجنوت (وهو االسم الذي ُأطِ لق على السواءّ ،
على أشياع «كالفن» بفرنسا) هراطقة ،فأوقعوا فيهم عقوبات ضارية
الزج بهم في المحارق ،ولكن المحارق لم تزد الحزازات الدينية إال
بلغت ّ
مهمة ظاهرها االحتكام إلىسعير ًا .عندئذ أوفِد البويسيه إلى باريس في ّ
مجلس الشورى الملكي في خالف بين قضاة بوردو وسلطاتها البلدية،
ولكن باطنها كان ّ
أدق وأعمق.
23
النصح إلى َح ِ ّيز التشريع ،ولكن وضوح تفكيره وواقعيته سرعان ما أقنعاه
بأن سياسة التسامح آيلة إلى اإلخفاق لتوالي أعمال العنف من الجانبين.
يتردد -حين ظهر مرسوم 17يناير 1562م القاضي بترك َّ ومع هذا لم
حرية العبادة ألشياع كالفن دون اعتبارهم هراطقة -في أن يكتب مُ َذ ِ ّكرة
شرح فيها النتائج المنحوسة التي تنجم عن المنازعات الدينية وب ََّي َن
يؤدي الردع الدموي ال إلى القضاء على األعداء بل -بنظر ثاقب -كيف ّ
أهلية تحرم الدولة من صفوة ّ إلى تفاقم العداوة تفاقم ًا ِ ّ
يهدد البالد بحرب
يفكر فيمن استشهد من أساتذته وأصدقائه. العقول .وأغلب الظن أنه كان ِ ّ
لما بلغت المذابح مداها ،وضاق البويسيه برفض بعض قضاة بوردو ثم ّ
اإلذعان لكل نصح بالمسألة ،كما ضاق باالنقسامات الدفينة التي تناهبت
القصر الملكي نفسه كتب ِ ّ
مذكرة في قانون يناير 1562م لم ينكر فيها
الكاثوليكية بما هي دين للدولة إال أنه دعا إلى «كاثوليكية مستصلحة»
تترك مجا ً
ال للتوافق بين الكاثوليكية والبروتستانت.
لم يلبث مونتني أن نشر عام 1580م مع الطبعة األولى لكتابه الخالد
مقاالت وأعمال صديقه األدبية .وكانت قسمين :شعر نظمه في مقتبل
العمر ،وترجمات عن المؤ ِ ّرخ اليوناني كسينوفون ،منها الفصول الستة
األولى االقتصادية من كتابه (وكانت تنسب إذ ذاك إلى أرسطو) وأخرى
ِّ
متعددة عن بلوتارك ،منها قواعد الزوج ،ورسالة العزاء التي كتبها بلوتارك
تبين في هذه الترجمات ما وصفناه
إلى زوجته تعزية لها في وفاة ابنتيهماّ .
24
وتأدبهم الذي يتج ّلى في شروحهم وتعليقاتهم وفي
ُّ من ثقافة المتأ ِ ّنسين
حرصهم الصبور على استعادة النصوص القديمة كاملة استناد ًا إلى
مخطوطات منقوصة أو مح َّرفة في كثير من األحايين .ولكن مونتني لم
ينشر أعمال صديقه النثرية ألنه رأى فيها -كما قال« -حياكة أدق وألطف
من أن تخرج إلى الجو الخشن الثقيل الذي ا َّت َسم به هذا الفصل الفاسد»،
وهي عبارة تحوي إشارة إلى الصراع السافر الذي انتهت إليه العالقة
بين حركة اإلصالح الديني وبين الدولة (أي الملكية) والذي تجاوز
عام .1572والراجح الح ّد الذي ال رجعة بعده بمذبحة الهجنوت
( ((
َ
أن البويسيه كان قد قرأ «مقال في العبودية المختارة» على بعض أقرانه
بجامعة أورليان ،وأن بعضهم نسخوه .ومنهم من كان أو (صار) من أشياع
كالفن ،فأدرجوا في كتاباتهم ومنشوراتهم التأليبية المتعاقبة مع تصاعد
العداء واستحكامه مقتبسات تطول أو تقصر من هذا المقال .وهذا هو ما
يقوله مونتني صراحة في صدد مقال البويسيه على التحديد« :لقد عدلت
المح ّل ألني رأيته وقد خرج إلى الضوء منذ
َ عن إنزال هذا العمل بهذا
ذلك الحين (أي منذ مات صديقه) ،ولغاية غير بريئة ،وأخرجه الساعون
إلى إشاعة االضطراب بمدينتنا دون أن يتساءلوا أهم بذلك مصلحوها!،
زجوا البويسيه في زمرة
ومزجوه بكتابات أخرى من عجينهم» .وبذا ّ
الك ّتاب الذين أطلق عليهم اسم «أعداء الملوك»(موناركواك) ،وجعلوا
من «مقال في العبودية المختارة» ((( نص ًا يستخدمه المجاهد السياسي
ألغراضه .وأكاد أضيف :قبل أن يفهم غرضه .وربما كان هذا الشطط
هو الذي دعا مونتني أن يه ّون بعض الشيء من مقال صديقه ،فقال:
-1وهي المذبحة المعروفة بليلة القديس بارتورليمي .بدأت بقرع النواقيس من كنيسة سان جرمان دوكسروا
في باريس.
-2مونتني ،مقاالت ،الكتاب األول ،الفصل ،28والمراد بالواحد هنا هو الملك ألن الكلمة األوروبية
(مونارك) التي تترجم بـ(الملك) مشتقة من كلمتين يونانيتين تعنيان «حكم الواحد».
25
«وهو مقال خلع عليه اسم العبودية المختارة ،ولكن م َْن ال علم لهم
فس ّموه «تهافت الواحد» .كتبه على
بذلك أعادوا تعميده منذ ذلك الحين َ
سبيل التمرين في مطلع شبابه»؛ وهي الثامنة عشرة (أي عام )1548
بحسب الطبعات األولى من المقاالت ،وفي طبعة ظهرت عام 1593
وفق ًا لتصحيح بيد مونتني هي السادسة عشرة -أي عام .1546فبأي
تاريخ نأخذ؟.
كانت الوحدة السكنية في الريف هي القرية التي خلق أهلها ليعملوا في
المشَ َّيدة
األرض المحيطة بهم دون أن يملكوها ،وليعبدوا الله في الكنيسة ُ
وسطها .لذا كانت القرية من حيث هي جماعة من الناس يشاركون العمل
في األمور التي تخصهم جميع ًا (كتعبيد طريق أو بناء جسر أو فض نزاع
أو تحديد األرض المشتركة للرعي أو اتخاذ موقف مشترك إزاء مطلب
تسمى باسم المشتركية (كومين) ،كما كانت
جديد للنبيل ...إلخ ).كانت ّ
تسمى من وجهة اإلدارة الكنسية ،أو بما هي خلية روحية (األبرشية) (((.ّ
وكان النبيل يمتلك األرض وما عليها ،يملك ما َح َّلق في سمائها من الطير
وما شقَّ ها من الطرق واألنهار ،وكان يقتطع أجزاء من هذه األرض لمن
وهب نفسه لخدمته بسيفه من الفرسان ،وإن غلب أن يكون ذلك في
صورة الحيازة ال التمليك .أما الفالحون فكانوا يعملون في خدمة النبالء
والفرسان بمحاريثهم ومناجلهم ،يعيشون بما يبقى لهم من المحصول
حصتهم ،وحتى هذا المتبقّ ي كانت تثقله شتى
َّ بعد أن يأخذ هؤالء
الضرائب المباشرة وغير المباشرة ،لهذا ازدحم تاريخ العصور الوسطى
بالثورات الشعبية (بالمعنى الذي ال تعني فيه كلمة الشعب أهل البلد كله
-1ويل للبالد التي َخيَّم عليها سلطان الدولة قبل أن تخوض شعوبها -لعوائق جغرافية وتاريخية -
مثل هذه التجربة في التضامن على المصالح التي عرفتها أوروبا في شكل المتجسديات في المدن،
والمشتركيات في الريف.
26
بل المستضعفين منهم) التي انتشرت في أوروبا خالل الفترة بين 1330
و 1420بنوع خاص ،حتى صار لكلمة «المشتركية» معنيان :معنى
أهم هذه الثورات
الوحدة اإلدارية ،ومعنى الثورة أو االنتفاضة .وكان ّ
وأشهرها الثورة التي وقعت في المنطقة التي تقع فيها باريس (ايل دي
فرانس) والتي عرفت باسم صار يطلق بعد ذلك على جميع هذه الثورات:
جاكري (نسبة إلى جاك وهو أكثر األسماء شعبية) .وفي عام ،1548أي
حين كان البويسيه في الثامنة عشرة من عمره اندلعت في الجوين (وهي
اإلقليم الذي نشأ فيه مؤ ِ ّلفنا وعمل قاضي ًا بعاصمة بوردو) ثورة اجتاحت
جنوب فرنسا كله .ثورة كانت ال تختلف من حيث وصفها عن سابقاتها،
فهي أيض ًا كانت «جاكري» ولكنها من حيث داللتها قد ألفت حدث ًا
الجدة ،بدأت به صفحة جديدة في تاريخ ثورات الفالحين
ّ جديد ًا كل
في أوروبا ،صفحة لم تنت ِه إال بانتهاء الحياة القروية نفسها في شكلها
تقدم المدنية الصناعية خالل القرن التاسع عشر ،ذلك أنها
المعهود ،مع ُّ
كانت تختلف عن سابقاتها من وجهين:
- 2لم تكن ثورة على نبيل أو عدد من النبالء بل ثورة في وجه الدولة،
فقد فرض الملك فرانسوا األول عام 1541ضريبة على الملح ،وهي
تهيؤا للشتاء ،فبدأت
ضرورة حيوية لحاجة الفالحين إليه لتجفيف اللحوم ُّ
ال شمل المنطقة كلها عامهنا وهناك حركات من التم ُّرد استفحلت استفحا ً
ِ
يكتف الفالحون بطرد جباة الملح الممقوتين ،بل تعقَّ بوهم .1548فلم
إلى المدن حيث ديارهم ومراكز عملهم ،فحاصروا بعضها ،واستولوا على
البعض اآلخر بينها مدينة بوردو نفسها .وهناك أوقعوا الموت بكل من
توهموا أنه منهم .ثم بعد ذلك اجتمعت حشودهم
رأوه من الجباة أو َّ
27
ببعض المنازل الفسيحة أو بالميادين العامة كيما يح ِ ّرروا عرائض إلى
الملك (وكان إذ ذاك هنري الثاني) وك ّلفوا بعض األعيان -سواء أشاءوا
الرد وعد ًا برفع شكاوى رعاياه
أم لم يشاءوا -برفعها إلى جاللته ،فكان ّ
ال رفعت الضريبة في سبتمبر عام .1549ولكن اكتفوا به فتف َّرقوا .وفع ً
َّ
ونكل بعد أن أرسل اليهم الملك جيش ًا رادع ًا نشر الرعب في اإلقليم،
بأهله ش َّر تنكيلَ :ح ّل برلمان بوردو ،وتسريح قضاته ،وإلغاء امتيازاته .وال
نتحدث َّن عن اإلرهاب الدموي فقد بلغ من ُقتِلوا على سبيل «التأديب» مئة
وخمسين رج ً
ال .ومنه َت َّتضح الحدود التي تح َّرك في نطاقها المتم ِ ّردون.
يفكرون في المساس بسلطة الملك ،بل يحتكمون إليه :فالملك فهم ال ّ
«أمير» وعادل ،إنه يجهل مِ َحن الشعب التي يخفيها عنه وزراء السوء ،فأما
هم فما اجتمعوا وتس َّلحوا إال بمشيئة الله ،وما مقتوا إال الجباة العاتين،
وما كرهوا ضريبة الملح إال ألنها «بدعة» .فاألحداث قد دارت وكأن
بم َثل أعلى من الطيبة والرحمة ال يتوقَّعونث ّوارنا كان يصلهم حبل س ّري َ
كذب الواقع توقُّ عهم آثروا تكذيب الواقع منه إال العدل والمحبة ،فإن َّ
شك أن البويسيه قد تابع هذه األحداثبم َثلِهم األعلى .وال ّ
واإلمساك َ
وأن هذه الظاهرة قد استوقفته :أن نرى شعب ًا بأسره (الشعب الذي ينتمي
إليه) ين ِ ّزه عن القسوة من تقع بأمره أقصى القسوة ! وأقول ال شك ألنه
ذكر هذه الظاهرة صراحة وإن خال مقاله من كل إشارة إلى األحداث التي
أشك -إذ ًا -في أن البويسيه قد كتب العبودية المختارة
ّ أملت سؤاله .وال
وهو في الثامنة عشرة من عمره بعد ثورة الفالحين ،ال تعبير ًا عن سخطه
على منطق الدولة بما هو منطق العدالة اإلرهابية ،بل ألن اخفاق هذه
الثورة قد جعله يلمس شيئ ًا من حدود المشروع الثوري .أهذا كل ما
نستطيع قوله؟.
28
سانت بيف ال يرى فيه إال أنموذج ًا المع ًا لما يكتبه الطالب النابغ في
فصل البالغة .ومعنى هذا الرأي أن النص المذكور غير ذي موضوع
أو-باألدق -أن الموضوع فيه ليس إال مناسبة يستغ ّلها الطالب ليبدي
التمكنه مما تع َّلمه على مقاعد الدرس .غير أن سانت بيف هذا كان مثا ً ُّ
همه األوَّل الحكم يسمى (الناقد األدبي) أي رج ً
ال ُّ ّ فاضح ًا على ما كان
والقضاء على ما يقرأ -ألن الحكم والقضاء يضيفان الجاه -ال أن
يتفهم ويتع َّلم .ولكننا سوف نرى أن هذا التحليق البالغي إنما كان أحسن
َّ
توسل بها الكاتب -وتلك ثقافته وثقافة قارئه -إلى تصويرالسبل التي َّ
ينم فكره عن واقعية ندر أن
ما لمسه من الواقع .وأعني بذلك أن البويسيه ّ
تتحقَّ ق ،وال يخلو تحقُّ قها لدى شاب في الثامنة عشرة من الغرابة .لهذا
كنت ِ ّ
أرجح أنه إنما رمى الرمية األولى وهو بهذه السن ،ولكنه لم ينت ِه
من االشتغال بالمقال إال في سن َت ْي دراسته بجامعة أورليان بين 1553
و 1555مستعين ًا بمناقشاته مع أقرانه ،إذ ،بالمناقشة ،تتبين األفكار وإن
لم َت َّتفق ،وبما اكتسبه من اإلحاطة بعلوم القانون والتاريخ على أيدي
أساتذته.
هذا عن تاريخ كتابة هذا المقال .ننتقل اآلن إلى الحديث عن مصيره.
***
29
مقالة يف
العبود ّية املختارة
30
«كثرة األمراء سوء ،كفى ِ ّ
سيد واحد ،ملك واحد» (.)1
بهذه الكلمات خاطب أوليس القوم في هوميروس .ولو أنه وقف عند
قوله« :كثرة األمراء سوء» ألحسن القول بما ال مزيد عليه .لكنه حيث
وجب تعليل ذلك بالقول بأن سيطرة الكثيرين ال يمكن أن يأتي منها
تسمى باسم السيد صعبة
ّ الخير ما دامت القوة المسندة إلى واحد ،متى
االحتمال منافية للمعقول ،راح يعكس الكالم ،فأضاف« :كفى َسيِ ّ د
واحد ،ملك واحد».
31
فيها :إذا ما كانت أشكال الجمهورية ( )2األخرى ِ ّ
تفضل حكم الواحد(.)3
ولو أردت لوددت قبل النظر في مكانة هذا الحكم بين األشكال األخرى
أن أعرف أو ً
ال هل له مكانة ما ،ألن من الصعب االعتقاد ببقاء شيء
يخص الجماعة حيث ينفرد واحد بكل شيء ،ولكن هذه مسألة متروكة ّ
لوقت آخر ،وتقتضي مقا ً
ال يفرد لها ،وإال جلبت معها جميع المنازعات
السياسية.
فأما اآلن فلست أبتغي شيئ ًا إال أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس،
من البلدان ،من المدن ،من األمم أن يحتملوا أحيان ًا طاغية واحد ًا ال
يملك من السلطان إال ما أعطوه ،وال من القدرة على األذى إال بقدر
احتمالهم األذى منه ،وال كان يستطيع إنزال الش ّر بهم لوال إيثارهم الصبر
عليه بدل مواجهته .إنه ألمر جلل حق ًا -وإن انتشر انتشار ًا أدعى إلى األلم
منه إلى العجب -أن نرى الماليين من البشر يخدمون في بؤس ،وقد
ُغ ّلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أ كبر ،بل هم(فيما يبدو) قد
سحرهم وأخذ بألبابهم مُ َج َّرد االسم الذي ينفرد به البعض ،كان أولى بهم
أال يخشوا جبروته ،فليس معه غيره ،وال أن يعشقوا صفاته ،فما يرون منه
ووحشيته .إن ضعفنا نحن -البشر -كثير ًا ما يفرض
َّ إال ُخل َّوه من اإلنسانية
علينا طاعة القوة ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء في األرجاء ما دمنا
ال نملك دائم ًا أن نكون األقوى .فلو أن أمة أجبرت بقوة الحرب على أن
ِ
لخادمِ ّيتِها تخدم واحد ًا(مثل أثينا الطغاة الثالثين)( )4لما وجب الدهش
بل الرثاء لنازلتها ،أو باألحرى ما وجب الدهش وال الرثاء بل الصبر على
والتأهب لمستقبل أفضل.
ُّ المكروه
إن من شأن طبيعتنا أن تستغرق واجبات الصداقة المشتركة بيننا قسط ًا
ال بأس به من مجرى حياتنا .فمن العقل محبة الفضيلة وتقدير األعمال
الجليلة وعرفان الفضل من حيث تلقيناه ،واالستغناء أحيان ًا عن بعض ما
32
الحب .فلو
ّ نحب ومن استحق هذا
ّ فيه راحتنا لنزيد به شرف ًا وامتياز ًا من
أن بلد ًا رأى سكانه كبير ًا منهم يبدي بالبرهان فطنة كبيرة في نصحهم
وجرأة شديدة في الدفاع عنهم ،وتر ِ ّوي ًا َج ّم ًا في حكمهم ،فانتقلوا من
حد إعطائه ميزات دونهم فما
ذلك إلى طاعته وإسالم قيادهم له إلى ّ
أدري :أهي حكمة أن ينقلوه من حيث كان يسدي الخير إليهم إلى حيث
يصبح الشر في مقدوره؟ إن التخ ّلي عن خشية الش ّر ممن لم نلق منه إال
الخير لحكمة لو كان محا ً
ال أال يخالط طيبته نقص.
نسمي ذلك؟ ّ
أي تعس هذا؟ أيّة رذيلة ،أو ّ ولكن ما هذا يا ربي؟ كيف
باألصدق ،أيّة رذيلة تعسة أن نرى عدد ًا ال حصر له من الناس ال أقول
بد بهم ،ال ملْك لهم وال
يطيعون بل يخدمون ،وال أقول يُحكمون بل يُس َت ّ
أهل وال نساء وال أطفال بل حياتهم نفسها ليست لهم! أن نراهم يحتملون
السلب والنهب وضروب القسوة ال من جيش وال من عسكر أجنبي ينبغي
ضده ،بل من واحد ال هو بهرقل وال شمشون
عليهم الذود عن حياضهم ّ
بل خنث( ،)5هو في معظم األحيان أجبن من في األمة وأكثرهم تأنُّث ًا ،ال
ألفة له بغبار المعارك بل بالرمل المنثور على الحلبات(إن وَطِ َئها) وال
يحظى بقوة يأمر بها الناس ،بل يعجز عن أن يخدم ذلي ً
ال أقل تأنُّث ًا()6؟
أنسمي ذلك جبن ًا؟ أنقول أن ّ
خدامه حثالة من الجبناء؟ لو أن رجلين، ّ
ضد واحد لبدا ذلك شيئ ًا
لو أن ثالثة أو أربعة لم يدافعوا عن أنفسهم ّ
غريب ًا ،لكنه بعد ممكن ،ولوسعنا القول عن حق إن الهمة تنقصهم .ولكن
لو أن مئة ،لو أن ألف ًا احتملوا واحد ًا أال نقول :إنهم ال يريدون صده
ليس ألنهم ال يجرأون على االستدارة له ،ال عن جبن،بل احتقار ًا له في
األرجح واستهانة بشأنه؟ فأما أن نرى ال مئة وال ألف رجل بل مئة بلد،
ألف مدينة ،مليون رجل ،أن نراهم ال يقاتلون واحد ًا أقصى ما يناله من
نسمي به ذلك؟ّ ّ
والرق ،فأ ّنى لنا باسم حسن معاملته ٌّ
أي منهم هو القنانة
33
حد ًا تأبى طبيعتها تجاوزه .فلقد يخشى اثنان
أهذا جبن؟ إن لكل رذيلة ّ
واحد ًا ،ولقد يخشاه عشرة .فأما ألف ،فأما مليون .فأما ألف مدينة إن هي
لم تنهض دفاع ًا عن نفسها في وجه واحد فما هذا بجبن ألن الجبن ال
يذهب إلى هذا المدى ،كما أن الشجاعة ال تعني أن يتس َّلق امرؤ وحده
حصن ًا أو أن يهاجم جيش ًا أو يغزو مملكة! ّ
فأي مسخ من مسوخ الرذيلة
هذا الذي ال يستحق حتى اسم الجبن ،وال يجد كلمة تكفي قبحه ،والذي
تنكر الطبيعة صنعه ،وتأبى اللغة تسميته؟
34
ناء بثقلها البحر ،وعلى أن يدحروا أمم ًا بلغ من كثرتها أن كتيبة اإلغريق
بأسرها ما كان يكفي جنودها تزويد أعدائها ولو بالق ّواد ليس غير؟ ماذا
سوى أن المعركة لم تكن في هذه األيام المجيدة معركة اإلغريق ضد
الفرس ،بقدر ما كانت تعني انتصار الحرية على السيادة ،وانتصار العتق
على جشع االسترقاق؟
إ ّنا ندهش إذ نسمع قصص الشجاعة التي تمأل بها الحرية قلوب المدافعين
عنها .أما ما يقع في كل بلد لكل الناس كل يوم :أن يقهر واحد األلوف
المؤلّفة ،ويحرمها ح ّريّتها ،فمن ذا الذي كان يسعه تصديقه لو وقف عند
سماعه دون معاينته؟ ولو أن هذا القهر لم يكن يحدث إال في بلد أجنبي
يتردد في ظ ِ ّنه كذب ًا وافتراء ال حقيقة
تردد نبأ ُه أ كان أحد َّ
وأرض قاصية ،ثم َّ
واقعة؟ ومع هذا فهذا الطاغية ال يحتاج األمر إلى محاربته وهزيمته ،فهو
مهزوم خلقة ،بل يكفي أال يستكين البلد الستعباده .وال األمر يحتاج إلى
انتزاع شيء منه ،بل يكفي االمتناع عن عطائه .فللبلد -إذا أراد -أال
يتحمل مشقّ ة السعي وراء ما فيه منفعته ،كل ما يقتضيه األمر هو اإلمساك
َّ
عما يجلب ضرره .الشعوب -إذ ًا -هي التي تترك القيود ِ ّ
تكبلها ،أو قل
َ
بالك ّ تكبل أنفسها بأنفسها ما دام خالصها مرهون ًا
ف عن خدمته. إنها ِ ّ
الشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه ،ويشقّ حلقه بيده .هو الذي ملك الخيار
ّ
الغل .هو المنصاع لمصابه ،أو الرق والعتق ،فترك الخالص وأخذ ّ بين
(باألصدق) يسعى إليه .فلو أن الظفر بح ّريّته كان يك ِ ّلفه شيئ ًا لوقفت عن
ح ِ ّثه :أليس أوجب األمور على اإلنسان أن يحرص أ كبر الحرص على
يرتد عن الحيوانية ليصبح إنسان ًا؟ ولكنني ال أطمع
ّ ِّ
حقه الطبيعي( ،)8وأن
منه في هذه الجرأة ،وال أنا أنكر عليه تفضيله نوع ًا آمن ًا من أنواع الحياة
التعسة على أمل غير محقَّ ق في حياة كريمة .ولكن! ولكن ،إذا كان نوال
الحرية اليقتضي إال أن نرغب فيها ،وكان يكفي فيه أن نريد ،أ ُك ّنا نرى
35
على وجه األرض شعب ًا يستفدح ثمن ًا ال يعدو تم ّنيها ،أو يقبض إرادته عن
فقده على الشرفاء أن تصبح
استرداد خير ينبغي شراؤه بالدم ،ويستوجب ُ
والموت خالص ًا؟ إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم،
ُ الحياة مُ ّر ًة عندهم
نصب ماء
ّ ال ،ثم تخبو وحدها دون أن كلما وجدت حطب ًا زادت اشتعا ً
عليها ،يكفي أال نلقي إليها بالحطب كأنها إذا عدمت ما ُتهلِكُ ،تهلِك
نفسها ،و ُتمسي بال قوة ،ولم َت ُع ْد نار ًا .كذلك الطغاة كلما نهبوا طمعوا،
كلما َدمَّروا وهدموا ،وكلما م ّوناهم وخدمناهم زادوا جرأة ،واستقووا،
وزادوا إقبا ً
ال على الفناء والدمار .فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن
طاعتهم صاروا -بال حرب وال ضرب -عرايا مكسورين ال شبيه لهم
ّ
فجف وذوى. بشيء إال أن يكون فرع ًا عدمت جذوره الماء والغذاء
إن الشهام ال يخشون الخطر من أجل الظفر بمطلبهم ،كما أن األذكياء ال
يحجمون عن المشقّ ة .أما الجبناء والمغفَّ لون فال يعرفون احتمال الضرر
الجبن قوة العمل
ُ تم ّنيه ،يسلبهم
وال تحصيل الخير ،وإنما يقفون عند َ
عليه ،فالرغبة في امتالكه إنما تلصق بهم بحكم الطبيعة .هذه الرغبة ،هذه
اإلرادة الفطرية أمر يشترك فيه الحكيم والملتاث ،ويشترك فيه الشجاع
يودون تلك األشياء التي يجلب اكتسابها السعادة والرضى.
والجبان ،به ّ
شيء واحد ال أدري كيف تركت الطبيعة الناس بال قوة على الرغبة فيه:
الح ّريّة التي هي مع ذلك الخير األعظم واألطيب ،حتى إن ضياعها ال
يلبث أن تتبعه النواكب تترى ،وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده
رونقه وطعمه .الح ّريّة وحدها هي ما ال يرغب الناس فيه .ال لسبب ،فيما
يبدو ،إال ألنهم لو رغبوا لنالوها ،حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب
الجميل لفرط سهولته.
ّ
لذل شعوب فقدت العقل! ويا لبؤسها! يا ألمم أمعنت في آذاها يا
وعميت عن منفعتها! ُتسلبون أجمل مواردكم وأنتم على السلب عيان،
36
تتركون حقولكم ُتنهب ومنازلكم ُتسرق و ُتج ّرد من متاعها القديم المورث
عن آبائكم ! تحيون نوع ًا من الحياة ال تملكون فيه الفخر بملْك ما ،حتى
لكأنها نعمة كبرى في ناظركم لو بقي لكم ولو النصف من أمالككم
وأسركم وأعماركم ،وكل هذاالخراب ،هذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم ال
على يد أعدائكم بل يأتيكم يقين ًا على يد العدو الذي صنعتم أنتم كبره،
والذي تمشون إلى الحرب بال وجل من أجله ،وال تنفرون من مواجهة
الموت بأشخاصكم في سبيل مجده .هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا
المدى ليس له إال عينان ويدان وجسد واحد( ،)9وال يملك شيئ ًا فوق ما
يملكه أق ّلكم على كثرة مدنكم ،التي ال يحصرها َ
الع ّد إال ما أسبغتموه
عليه من القدرة على تدميركم .فأ ّنى له بالعيون التي يتبصص بها عليكم
يستمدها
ّ ّ
باألكف التي بها يصفعكم إن لم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له
منكم؟ أ ّنى له باألقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف
يقوى عليكم إن لم يق َو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لوال تواطؤكم
للص الذي ينهبكم ،شركاء
معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة ّ
لي ْذريه .تؤثثون
للقاتل الذي يصرعكم ،خونة ألنفسكم؟ تبذرون الحب ُ
بيوتكم وتمألونها حتى تعظم سرقاته .تربّون بناتكم كيما يجد ما يشبع
شهواته .تنشئون أوالدكم حتى يكون أحسن ما يصيبهم منه ج ّرهم إلى
حروبه ،وسوقهم إلى المجزرة ،ولكي يصنع منهم وزراء مطامعه ومن ِّفذي
رغباته االنتقامية .تتم َّرسون باأللم كيما يترفَّه في مس ّراته ويتم َّرغ في
ملذاته القذرة ،وتزيدون وهن ًا ليزيد قوة وشراسة ويَسِ َمكم بلجامه .كل هذهّ
األلوان من المهانة التي إما البهائم ال تشعر بها ،أو ما كانت تحتملها،
يسعكم الخالص منها لو حاولتم ال أقول العمل عليه ،بل محض الرغبة
فيه ،اعقدوا العزم أال تخدموا تصبحوا أحرار ًا .فما أسألكم مصادمته
أو دفعه بل محض االمتناع عن مساندته .فترونه كتمثال هائل ُس ِحبت
قاعد ُته فهوى على األرض بق ّوة وزنه وحدها ،وانكسر.
37
بيد أن األطباء محقّ ون -بال شك -إذ ينهون عن لمس الجروح التي ال برء
منها ،وال أظنني أسلك مسلك ًا حكيم ًا إذا أردت أن أسدي هنا الموعظة
إلى الشعب بعد أن فقد كل معرفة منذ أمد طويل ،وصار فقدان حساسيته
باأللم دلي ً
ال كافي ًا على أن مرضه قد صار مميت ًا .لنحاول ،إذ ًا ،أن نتبين -لو
أمكن ذلك -كيف استطاعت جذور هذه اإلرادة العنيدة ،إرادة العبودية،
إلى هذا المدى البعيد حتى صارت الحرية نفسها تبدو اليوم كأنها شيء
يمت إلى الطبيعة بسبب.
ّ ال
38
دليل على أنها إذا أعطت البعض نصيب ًا أ كبر ،والبعض األخر نصيب ًا
أصغر ،لم تكن تهدف إال إلى أن تترك المجال للتعاطف األخوي حتى
يظهر وجوده ما دام البعض يملك ق ّوة العطاء ،والبعض اآلخر الحاجة
الطيبة قد جعلت لنا من األرض قاطبة سكن ًا، ِّ األم
إليه .فإذا كانت هذه ّ
وأنزلتنا جميع ًا المنزل نفسهّ ،
وهي َأ ْتنا على أنموذج واحد كيما يتس ّنى لكل
م ّنا أن يتأمّل نفسه ،ويقترب من معرفتها في مرآة اآلخرين ،وإذا كانت قد
وهبتنا جميع ًا تلك الهبة الكبرى ،هبة الصوت والكالم حتى نزيد تعارف ًا
وتآخي ًا ،وحتى تتالقى إرادتنا باإلعراب المتبادل عن أفكارنا ،وإذا كانت
قد جهدت بكل السبل حتى نزيد توثّق ُعرى التحالف واالجتماع بيننا،
وإذا كانت قد ب ََّي َنت في كل ما تصنع أنها ال تهدف إلى توحيدنا جميع ًا
بقدر ما تهدف إلى أن نكون جميع ًا آحاد ًا ،فقد ارتفع بذلك كل شيء في
أننا جميع ًا أحرار بالطبيعة ،ما دمنا رفاق ًا ،وامتنع أن يدخل في عقل عاقل
ّ
الرق بينما هي قد آلفت بيننا. أن الطبيعة قد ضربت علينا
39
فكما السمك يترك الحياة حين يترك الماء ،كذلك هي تترك الضوء وتأبى
العيش بعد فقدان ح ّريّتها الطبيعية .فلو كانت لها مراتب لجعلت من
الح ّريّة عنوان نبالتها .فأما البقية من أ كبرها إلى أصغرها ،فهي ال تستسلم
أل ْسر حين نقتنصها إال بعد أن تظهر أشد المقاومة باألظافر ،والقرون، ل َ
والمناقير ،واألقدام ،معلنة بذلك مدى إعزازها لما تفقد .ثم هي تبدي
الجلية على مدى إحساسها بمصابها حتى إننا لنعجب إذ ّ لنا العالمات
نراها تؤثر الضوى على الحياة ،كأنها إنما تقبل البقاء لترثي ما خسرت
ال لتنعم بعبوديَّتها .هل يقول الفيل شيئ ًا آخر حين يقاتل دفاع ًا عن نفسه
أل ْسر ،فإذا هو يغرس َّ
فكيه حتى يستنفذ قواه ،ويرى ضياع األمل وشوك ا َ
محطم ًا على الشجر ِس َّن ْيه؟ هل يقول شيئ ًا آخر سوى أن رغبته الشديدة ِّ
في البقاء ُح ّر ًا تلهمه الذكاء ،فتح ّثه على مساومة ق ّناصيه لع َّلهم يتركون
له الحرية ثمن ًا لعاجه ،ولعله يفتدي به حريته؟ إننا نستأنس الجياد منذ
مولدها لند ِ ّربها على خدمتنا ،فإذا ك ّنا مع ذلك حين نجيء إلى ترويضها
الح َك َمة ،وتنفر من ّ
تعض َ الح ّد الذي ال يجعلها
نعجز عن مالطفتها إلى َ
المهماز ،فما هذا في اعتقادي إال شهادة منها بأنها إنما تقبل خدمتنا
كارهة ال مختارة .ما القول -إذ ًا« -حتى البقر َأ َّن تحت النير /وشكا في أقفاصه الطير»
كما َع َّن لي قوله حين شغلني فيه َنظْ منا الفرنسي()11؟ ألني وأنا أكتب
إليك يا ُلونجا( )12مازج َا بالكالم أشعاري التي ال أقرأها أبد ًا ،ال أخشى
قط أن يج ّرك ما تبديه من الرضا عنها إلى جعلها مدعاة لفخري. ّ
الحس تشعر إذ
ّ خالصة القول أنه َل َّما كانت جميع الكائنات الحاصلة على
تحصل عليه بألم خضوعها ،وتسعى وراء ح ّريَّتها ،و َل ّما كانت الحيوانات،
وهي المجعولة لخدمة اإلنسان ،ال تستطيع أن تألف العبودية دون أن
الضد ،فما هي تلك الرذيلة التي
ّ تبدي احتجاج ًا يعرب عن الرغبة في
استطاعت أن تمسخ طبيعة اإلنسان ،وهو وحده المولود حقيقة ليعيش
ُح ّر ًا ،وأن تجعله ينسى ذكرى وجوده األول ،وينسى الرغبة في استعادته؟
40
هناك ثالثة أصناف من الطغاة :البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب
الشعب ،والبعض اآلخر بقوة السالح ،والبعض الثالث بالوراثة المحصورة
في ساللتهم .فأما من انبنى حقُّ هم على الحرب فنعلم جيد ًا أنهم يسلكون،
كما نقول ،في أرض محت ّلة .وأما من وُلدوا ملوك ًا فهم عادة ال يفضلون قط
ألنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدر الطغيان ،يمتصون جبلة الطاغية وهم
رضاع ،وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد،
ويتص َّرفون في شؤون المملكة كما يتص َّرفون في ميراثهم ،كل بحسب
استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ .أما من َو ّلاه الشعب مقاليد الدولة،
فينبغي فيما يبدو أن يكون احتماله أهون .ولقد يكون األمر كذلك -على
ما أعتقد -لوال أنه ما إن يرى نفسه يرتقي مكان ًا يعلو به الجميع ،وما إن
المسمى بالعظمة ،حتى يعقد النية على أال
ّ يستغويه هذا الشيء الغريب
قط .وما إن يتلقَّ ف هؤالء هذه الفكرة حتى نشهد شيئ ًا
ينزاح من مكانه ّ
أي مدى يب ّزون سائر الطغاة في جميع أبواب الرذائل،عجب ًا :نشهد إلى ّ
بل في قسوتهم ،دون أن يروا سبي ً
ال إلى تثبيت دعائم االستبداد الجديد،
سوى مضاعفة االستعباد وطرد فكرة الح ّريّة عن أذهان رعاياهم ،حتى
يعفو عليها النسيان رغم قرب حضورها في ذاكرتهم .فكلمة الحق هي
أني أرى بعض ًا من االختالف بين الطغاة ،ولكني ال أرى اختيار ًا بينهم،
ألن الطرق التي يستولون بها على زمام الحكم تكاد ال تختلف :فمن
انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله ،والغزاة كأنه فريستهم،
والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتالك ًا طبيعي ًا.
41
بنص َ
خدمة رجل ما ،هذا إال إذا كان هؤالء القوم هم شعب إسرائيل الذي َّ
طاغي ًا عليه بغير إكراه وال احتياج :وإنه لشعب ال أقرأ قصته أبد ًا دون أن
يملكني حنق عظيم حتى أل كاد أتج َّرد من اإلنسانية فأفرح بجميع ما نزل
عليه بعدئذ من الباليا( .)13ولكن ،طالما بقي باإلنسان أثر من اإلنسان
فهو -يقين ًا -ال ينساق إلى العبودية إال عن أحد سبيلين :إما مكره ًا وإما
مخدوع ًا .مكره ًا إما بسالح أجنبي مثل مدين َت ْي إسبرطة وأثينا ،إذ قهرتهما
قوات اإلسكندر ،وإما بطائفة من مجتمعه ،مثلما حدث في أثينا في زمن
أسبق حين استولى بيسيسترانس على مقاليد الحكم( .)14فأما الخديعة
تؤدي أيض ًا إلى فقدان الح ّريّة فمرجعها إلى تغرير الغير في
من حيث ّ
أ كثر األحيان من مرجعها إلى كون الناس يخدعون أنفسهم بأنفسهم.
مثال ذلك شعب سيراقوصة(عاصمة صقيلة) إذ هجم عليه األعداء من كل
جانب ،ولها فك ُره عن كل شيء إال عن الخطر الحاضرَ ،ف َرفع ديونيسيوس
إلى الرياسة دون نظر إلى المستقبل ،وأسند إليه قيادة الجيش ،ولم يدرك
إلى أي َح ّد ق ّواه إال حين رجع هذا الداهية منتصر ًا كأنه قد غزا مواطنيه
فتسمى باسم القائد ،ثم الملك ،ثم الملك المطلق( .)15وإنه
ّ ال أعداءهم،
ألمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب متى َت َّم خضوعه ،يسقط فجأة
في هاوية من النسيان العميق لح ّريّته إلى َح ّد يسلبه القدرة على االستيقاظ
الستردادها ،ويجعله يسرع إلى الخدمة صراحة وطواعية حتى َل ُي َه َّي ُأ لمن
يراه أنه لم يخسر حريته ،بل كسب عبوديته .صحيح أن الناس ال يقبلون
على الخدمة في أول األمر إال جبر ًا وخضوع ًا للقوة ،ولكن من يأتون
بعدهم يخدمون دون أن يساورهم أسف ،ويأتون طواعية ما أتاه السابقون
اضطرار ًا .ذلك أن من ولدوا وهم مغلولو األعناق ،ثم أطعموا وتربّوا في
ظل االسترقاق ،دون نظر إلى أفق أبعد ،يقنعون بالعيش مثلما ولدوا .ثمّ
لما كان التفكير في حال مختلفة أو في حق آخر ال يطرأ على بالهم،
إنه ّ
فهم يأخذون وضعهم حال مولدهم مأخذ األمر الطبيعي .ومع هذا فما من
42
وارث إال نظر أحيان ًا في مستندات أبيه ليرى :هل يتم َّتع بحقوق َترِ َكته
كاملة ،أم أن غبن ًا قد أصابه أو أصاب سلفه؟ لكن -ال شك -في أن
العادة ،مع سيطرتها علينا في كل مجال ال تظهر قوة تأثيرها مثلما تظهر
تلقننا العبودية ،وحين تع ِ ّلمنا ،مثلما قبل ،عن ميثريدات الذي صار
حين ِ ّ
سم االسترقاق دون الشعورالس ّم عنده شراب ًا مألوف ًا ،كيف نجرع ّ
()16
ّ
بمرارته .ال جدال في أن للطبيعة نصيب ًا كبير ًا في توجيهناحيث تشاء ،وأننا
تدخره لنا من فطرة حسنة أو ِ ّ
سيئة ،ولكن المناص من التسليم نولد على ما َّ
بأن سلطانها علينا ّ
يقل عن سلطان العادة ألن االستعداد الطبيعي مهما
نتعهده ،في حين إن العادة تفرض علينا َص ْوغَ ها
َّ حسن يذهب هباء إذا لم
أ ّي ًا كان هذا االستعداد .فالبذور التي تنشرها فينا الطبيعة ضئيلة واهية إلى
تتم بمثل السهولة َح ّد يجعلها ال تحتمل ّ
أقل غذاء منافر لها ،فرعايتها ال ّ
تتبدد بها وتفنى ،شأنها شأن أشجار الفاكهة :كل شجرة منها لها
َّ التي
طبيعتها التي تؤتي بمقتضاها ثمارها إذا تركتها ،ولكنها تخرج عن طبيعتها
طعمتها .كذلك األعشاب :كل عشب له وتؤدي ثمار ًا غريبة غير ثمارها إذا ّ
ّ
خاصيته وطبيعته وتف ُّرده ،ولكن البرد والجو ثم التربة ويد البستاني تعين
نم َّوه كثير ًا ،أو تعوقه كثير ًا حتى إن النبات الذي نراه في قطر ال نكاد نعرفه
تخي ْل رج ً
ال رأى أهل مدينة البندقية -وهم ق ّلة من الناس َّ في قطر آخر.
يعيشون أحرار ًا ،حتى ليأبى أقلهم جاه ًا أن يت َّوج ملك ًا على جميعهم،
ولدوا ونشأوا على أال يعرف أي منهم مطمع ًا إال اإلدالء بأحسن النصح
َّ
وتشكلوا من أجل الحفاظ على الحرية والسهر عليها ،تربّوا منذ المهد،
يمدوا أيديهم إلى سائر نِعم األرض مجتمعة عوض ًا عن ذرة ّ على أال
ال رأى هؤالء القوم ،ثم ذهب بعد تخي ْل رج ً
َّ من ح ّريّتهم( - )17أقول:
أن غادرهم إلى أرض ينشر عليها سلطانه م َْن لقَّ بناه بـ« َمل ِِك زمانه)(،)18
أرض يرى فيها أناس ًا ال يولدون إال لخدمته ،وال يعيشون إال لدوام ق ّوته،
ترى ،هل يظن أن هؤالء وأولئك من عجينة واحدة ،أم األرجح أنه سوف
43
يعتقد أنه قد ترك مدينة آدمية ودخل حظيرة للدواب؟
يحكى أن ليكورج (مُ شَ ِ ّرع إسبرطة( ))19قد ربَّى كلبين خرجا من بطن
واحد ،ورضعا الثدي ذاته ،فجعل أحدهما يسمن في المطابخ ،وترك
فلما أراد أن ِ ّ
يبين لشعب األخر يجري في الحقول وراء أبواق الصيدّ .
السيدومونيا( )20أن الناس هم ما تصنع بهم تربيتهم جاء بالكلبين وسط
السوق ،ووضع بينهم حسا ًء وأرنب ًا ،فإذا أحدهما يجري وراء الطبق،
واألخر وراء األرنب .فقال ليكورج :ومع هذا فهما أخوان ! هكذا نجح
بفضل قوانينه ودستوره في أن ينشئ سكان السيدومونيا تنشئة ،جعلت
سيد ًا آخر سوى
يفضل الموت ألف ميتة على أن يختار لنفسه ِ ّ
ِّ كلّاً منهم
القانون والعقل.
ويطيب لي هنا أن أتذكر حديث ًا جرى في قديم الزمان بين أحد المق َّربين
إلى إكسرس ملك فارس األعظم وبين رجلين من السيدومونيا .أخذ
إكسرس ،وهو ُيع ِّد جيشه الضخم لغزو اليونان ،يبعث رسله إلى المدن
اليونانية يطلبون إليها الماء والتراب :وهو تعبير كان يستخدمه الفرس،
تج َّنب
إشارة إلى أنهم يأمرون المدن باالستسالم .إال أثينا وإسبرطة ،فقد َ
أن يرسل إليهم أحد ًا .ذلك أن األثينيين واإلسبرطيين كان قد سبق لهم أن
فزجوا بعضهم في الحفر والبعض اآلخر في أمسكوا بسفراء أبيه داريوسّ ،
اآلبار قائلين :خذوا ما تريدون من الماء والتراب ! كانوا قوم ًا ال يطيقون
تمس ح ّريَّتهم .غير أن اإلسبرطيين بعد أن صنعوا هذا الصنيع،
ّ ولو كلمة
أدركوا أنهم قد َج ّروا على أنفسهم غضب اآللهة وغضب تالثيبيوس ،إله
الرسل ،بنوع خاص ،فق َّرروا أن يرسلوا إلى إكسرس مواط َن ْين من بينهم
لي ْمثُال بين يديه ،وليصنع بهما ما يشاء انتقام ًا لمن ُقت َِل من ر ُُسل أبيه.
َ
فتط َّوع رجالن ليدفعا هذا الثمن ،اسم أحدهما سبرثيوس ،واسم اآلخر
بولس .وبينما هما في الطريق صادفا قصر ًا يملكه رجل فارسي اسمه
44
هندران ،كان الملك قد َع َّي َنه والي ًا على جميع المدن الواقعة على الساحل،
ب بهما أكرم ترحيب ،وأطعمهما بغير حساب ،ثم سألهما -بعد أن فرح َ
َّ
الح ّد صداقة
أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث -ل َِم يرفضان إلى هذا َ
إلي أيها اإلسبرطيان ،وا َّتخذا مني مثا ً
ال تعلمان منه الملك .قال« :انظرا َّ
َّ
وتذكرا أنكما لو صرتما من كيف يعرف الملك تشريف من استحقّ ،
أتباعه ،لرأيتما من صنيعه ما رأيت ،وأنكما لو دنتما له بالطاعة وعرف
أمركما لما خرج كالكما عن أن يكون أمير ًا لمدينة من مدن اليونان».
ِّ
محدثاه« :لهذا -يا هندرمان -أمر ال تملك فيه إسداء النصح فأجابه
إلينا ،ألنك َج َّربت النعمة التي َتعِدنا بها ،ولكنك ال تعلم شيئ ًا عن نعمتنا،
لقد ذقت حظوة الملك ،وأما الح ّريّة فلست تعرف ما مذاقها وال مدى
عذوبتها ،ولو فعلت لنصحتنا بالدفاع عنها ال بالرمح والدرع بل باألسنان
واألظافر» .هذا الجواب وحده هو الصدق ،ومع هذا فال َّ
شك في أن
تحدثوا وفاق ًا لنشأتهم ،فما كان للفارسي أن يستشعر األسف على
َّ ثالثتهم
الحرية وهو لم ينلها ق ّ
َط ،وال لإلسبرطي أن يحتمل التبعية بعد أن ذاق
الح ّريّة.
لكرم محتده ،ولِما كان بينه وبين سيلّا من أواصر القرابة .وكان معلمه
يصحبه في كل زيارة ،على ما جرت به العادة إذ ذاك مع أبناء األسر
حسم بتلك الدار بمحضر
تبي َن له أن مصائر الناس ُت َ
العريقة .ولم يلبث أن َّ
ُسجن ،والبعض يُدان ،هذا ُينفَ ى ،وهذا
من سيلّا نفسه أو بأمره :البعض ي َ
يُش َنق ،هذا يُطالب بمصادرة أمالك أحد المواطنين،وذاك يطلب رأسه.
تبين له -باالختصار -أن األمور ال تجري على ما ينبغي لدى مسؤولَّ
استبد بالشعب ،وأن المكان لم يكن ساحة
َّ أعملته المدينة بل لدى طاغية
45
للعدل بل مصنع ًا للطغيان .عندئذ قال الفتى لمع ِ ّلمه« :أنَّى لي بخنجر
أدسه تحت ردائي ،فإني كثير ًا ما أرى سيلّا في حجرته قبل أن يستيقظ،
ُّ
بساعدي لق ّوة تكفي خالص المدينة منه» .هذه حق ًا كلمة تليق
َّ وإن
َّ
برجل من معدن كاتو ،وهكذا بدأت حياة هذا البطل الذي مات كريم ًا
ب أنك لم تذكر االسم وال البلد مكتفي ًا
مثلما عاش كريم ًا .ومع هذا َه ْ
تتحدث عندئذ عن نفسها َّ بذكر الواقعة كما هي :ال َّ
شك أن الواقعة سوف
ّ
يستدل السامع منها أن قائل هذا القول روماني ُولِد في بنفسها ،لسوف
أحضان روما حين كانت روما مدينة ُح ّرة .ل َِم أقول ذلك؟ طبع ًا؛ال ألني
أظن أن البلد أو األرض يضيفان إلى الشيء ما ليس فيه ،فالعبودية م ّرة
في كل قطر وج ّو .والحرية عزيزة ،ولكن ألني أرى أن من َس َبق النير
مولدهم جديرون بالرثاء ،فواجبنا عذرهم أو الصفح لهم إذا كانوا ال
يرون ض ّر ًا في عبوديَّتهم ما داموا لم يروا ولو ظِ َّل الحرية ،وال سمعوا عنها
ق ّ
َط .فلو كان ثمة بلد كبلد السِ َم َر ِ ّيين( ،)23فيما يقول هوميروس ،بلد ال
تشرق عليه الشمس شروقها المألوف علينا ،وإنما بعد أن تفيض عليهم
بنورها ستة أشهر متوالية تتركهم نيام ًا في الحلكة خالل النصف اآلخر من
السنة :م َْن ُولِدوا في غياهب هذا الليل الطويل ،إذا كانوا لم يسمعوا البتة
يتحدث عن الضوء ،هل نعجب لو أنهم ألفوا الظلمات التي ُولِدوا
ّ أحد ًا
فيها دون أن يستشعروا الرغبة في النور؟ إنا ال نفتقد ما لم نحصل عليه
المس ّرة .ودوم ًا تأتي ذكرى الفرح
َ ّ
قط ،وإنما يأتي األسف في أعقاب
المنقضي مع خبرة األلم .أجل إن طبيعة اإلنسان أن يكون ُح ّر ًا ،وأن يريد
يتطبع بما نشأ عليه.
َّ كونه كذلك ،ولكن من طبيعته أيض ًا أن
لنقل -إذ ًا -إن ما درج اإلنسان عليه وتع َّو َده يجري عنده بمثابة الشيء
الطبيعي ،فال شيء ينتسب إلى فطرته سوى ما تدعوه إليه طبيعته الخالصة
يمسها التغيير .ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة:
التي لم ّ
46
الح َكمة بالنواجذ في البدء ،ثم تلهو بها ّ
تعض َ كشأن الجياد الشوامس
أخير ًا ،وبعد أن كانت ترجم ،وال تكاد تستق ّر تحت السرج إذا هي اآلن
تتح ّلى برحالها ،وتركبها الخيالء وهي تتبختر في دروزها ،تقول إنها
كانت منذ البدء ملك ًا لمالكها ،وإن آباءها عاشت كذلك ،وتظن أنها
ملزمة باحتمال الجور ،وتضرب األمثلة لتقتنع بهذا اإللزام ،ويم ّر الزمن
تدعم هي نفسها امتالك طغاتها إياها .ولكن الحقيقة هي أن السنين ال
ال( .)24آج ً
ال أو تجعل أبد ًا من الغبن حق ًا ،وإنما تزيد اإلساءة استفحا ً
ّ
الغل ،وال ال يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن يشعرون بوطأة عاج ً
التبعية والخضوع،
ّ يتمالكون عن َه َّزه َه ّز ًا ،وال يرضون أنفسهم أبد ًا على
بل هم مثلهم كمثل أوليس وهو يجتاب األرض والبحر عساه يرى الدخان
َط عن التفكير في حقوقهم الطبيعية الذي يصعد من داره ،ال يمسكون ق ّ
ُّ
وتذكر وضعهم األوَّل .أولئك هم الذين إذا ملكوا تقدموهم وعن ُّ
تذكر من َّ
فهم ًا نافذ ًا ورأي ًا بصري ًا ،وانصقلت عقولهم لم يكتفوا -كما يفعل العامة-
بالنظر إلى مواطئ أقدامهم دون التفات إلى ما أمامهم وما وراءهم ،ودون
َّ
يتذكروا وقائع الماضي ليسترشدوا بها في الحكم على المستقبل وسبر أن
الحاضر .أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطبيعتها فزادوها بالدراسة
ّحت من وجه األرض ،وتركتها والمعرفة تهذيب ًا .أولئك لو أن الح ّريّة ام َ
وأحسوا بها في عقولهم ،وتذوَّقوها ذوق ًا ،ولم يجدوا ّ لتخيلوها،
َّ كلها
للعبودية طمع ًا مهما تبرقعت.
لقد أدرك قراقوش الترك( )25هذا األم َر أحسن إدراك :أدرك أن الكتب
بالحس والفهم
ّ والثقافة الصحيحة تز ِ ّودان الناس أ كثر من أي شيء آخر
اللذين يتيحان لهم التعارف ،واالجتماع على كراهية الطغيان ،دليل ذلك
خل ّو أرضه من العلماء ،وبعده عن طلبهم .وفي سائر األرض -بوجه عام-
محبتهم دون أن يكون لهم
َّ ّ
وتظل ّ
تظل حماسة من أخلصوا قلوبهم للح ّريّة،
47
أثر مهما كثر عددهم النقطاع التواصل بينهم :فالطاغية يسلبهم كل ح ّريّة:
ح ّريّة العمل وحرية الكالم -ولو أمكن -فح ّريّة الفكر ،فإذا هم منفردون
تخيله .وعليه فما با َل َغ اإلله الساخر موموس( )26في
ُّ منعزلون ٌّ
كل في
سخريَّته ،إذ شهد اإلنسان الذي صنعه فولكان( )27فنصحه أن يضع أيض ًا
بقلب صنيعه نافذ ًة صغيرة لكي تتس ّنى رؤية أفكاره من خاللها .ولقد قيل
إن بروتوس وكاسيوس( )28حين شرعا في تحرير روما ،أو باألصدق تحرير
العالم أجمعَ ،أبَيا أن يشركا شيشرون .وهو المدافع المنقطع عن المصلحة
العامة ،فيما عقدا العزم عليه؛ إذ كان من رأيهما أن قلبه أضعف من أن
يثبت في هذا الموقف العصيب .كانا يثقان في صدق إرادته من غير أن
يضمنا شجاعته .وإن لفي وسع من أراد استقراء وقائع الماضي وسجلّات
التاريخ ،أن يتحقَّ ق أن من رأوا بلدهم ُتساء سياسته وتستحوذ عليه ٍ
أياد
ال ترد َد فيها َّ
قل أ ّ جانية فعقدوا العزم على تحريره بن ِّية صادقة ،مستقيمة ،ال ُّ
قضيتها .انظر إلى
َّ يحالفهم النجاح ،وأن الحرية تساندهم في الدفاع عن
هارموديوس ،وأرسطجيتون ،وثراسيبول ،وبروتوس األقدم ،وفالريوس،
وديون( :)29لقد كان عملهم ناجح ًا مثلما كان فكرهم فاض ً
ال ،ألن الحظ
ال يكاد يتخ ّلى أبد ًا في مثل هذه القضية عن مناصرة اإلرادة الطيبة.
كذلك نجح بروتوس األصغر وكاسيوس في رفع العبودية ،وإن كانا إذ
استرجعا الجمهورية قد خسرا الحياة خسارة ال تحط من شأنهما(فأيّة
الحطّ ة إلى أمثال هؤالء القوم سواء في الحياة أو في
ُس ّبة هذه أن تنسب ِ
الممات!) بل خسارة عانت منها الجمهورية أ كبر الضرر ،وعانت البؤس
أبد الدهر ،واندثرت اندثار ًا كأنها قد دفنت بدفنهما .فأما ما تال ذلك من
ضد األباطرة الرومانيين ،فلم تكن إال مؤامرات حاكها
الموجهة ّ
َّ الحركات
قوم طامحون ال يستحقّ ون الرثاء على سوء مآلهم ،فقد كان من الواضح
أن مطلبهم لم يكن تقويض العرش بل زحزحة التاج ،مُ َّدعين طرد الطاغية
أود لهم نجاح ًا ،وإنه
مع اإلبقاء على الطغيان .هؤالء قوم ما كنت نفسي ّ
48
المقدس ال
َّ ليس ّرني أنهم قد ضربوا بأنفسهم المثل على أن اسم الحرية
يجوز استخدامه مع اعوجاج القصد.
ولكني كي أعود إلى موضوعنا الذي كاد يغيب عن نظري أقول إن السبب
األول الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية لالستعباد ،هو كونهم يولدون
رقيق ًا وينشأون كذلك .إلى هذا السبب يُضاف سبب آخر :إن الناس
يسهل تح ُّولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخ َّنثين .ولكم أشكر أبا
الم َع َّلى
وع َّب َر عنه أحسن تعبير في كتابه ُ
الطب هيبوقراط إذ فطن إلى ذلكَ ،
عن األمراض .لقد كان هذا الرجل يملك يقين ًا في جميع أحواله قلب ًا
يزخر بالمروءة ،أبدى ذلك حين أراد ملك الفرس جذبه بالعطايا والهدايا
فأجابه أنه لن يسلم من وخزات الضمير لو أنه أشتغل بعالج األجانب
الذين يريدون موت اإلغريق ،وراح يخدمهم بف ِ ّنه بينما هو يريد إخضاع
ال إلى يومنا هذاالمرسل إلى ملك الفرس ماث ً
َ بالدهم .وال يزال خطابه
ِّ
الطيب وطبيعته النبيلة .من بين سائر كتاباته ،يشهد مدى الدهر على قلبه
المحقَّ ق إذ ًا أن الح ّريّة تزول بزوالها الشهامة .فالقوم التابعون ال هِ ّمة لهم
شد ًا،
في القتال وال َج َلد ،إنهم يذهبون إلى الخطر كأنهم يُشَ ّدون إليه ّ
يؤدون واجب ًا ُفرِ ض عليهم ،ال يشعرون بلهب الح ّريّة يحترق في
أشبه بنيام ّ
ويود لو اكتسب
ّ قلوبهم ،هذا اللهب الذي يجعل المرء يزدري المخاطر،
والمجد بين أقرانه .إن األحرار يتنافسون ٌ
كل من أجل َ َ
الشرف بروع ِة موت ِه
الجماعة ومن أجل نفسه ،وينتظرون جميع ًا نصيبهم المشترك من ألم
ستع َبدون فهم -عدا هذه الشجاعة
الم ْ
االنكسار أو فرحة االنتصار ،أما ُ
الهمة في كل موقف ،وتسقط قلوبهم وتخور
ّ في القتال -يفقدون أيض ًا
وتقصر عن عظيم األعمال .وهذا أمر يعلمه الطغاة جيد ًا ،فهم ما إن يروا
المضي فيه كي يزيدوا
ّ الناس في هذا المنعطف حتى يعاونونهم على
استنعاج ًا.
49
،وهو مؤ ِ ّرخ ّ
جاد من أئمة المؤ ِ ّرخين اليونانيين، ()30
لقد وضع ْكسي ُنوفون
تخي َل فيه حوار ًا بين سيمونيد وطاغية سيراقوصة هيرون حول كروب كتاب ًا َّ
جادة ،وإن ا َّتسمت
ّ الطاغية .هذا الكتاب مليء بنظرات نقدية ِ ّ
طيبة
مع ذلك -في رأيي -بأقصى ما يمكن من اللطف .ليت طغاة األرض
وضعوا هذا الكتاب نصب أعينهم أ ّنى و ُِجدوا لتكون لهم منه مرآة لهم!
لتبينوا رذائلهم ،و َل َ
أخج َل ْتهم مساعيهم .في هذا الحوار يصف فلو فعلوا َّ
كسينوفون كرب الطغاة .إذ يضط ّرهم األذى الذي يلحقونه بالناس جميع ًا
ال بين ما يقول إن الملوك الفاسدين يستخدمون إلى خشيتهم جميع ًا ،قائ ً
شن الحروب َف َرق ًا من ترك السالح في أيدي
المرتزقة األجانب في ّ
رعاياهم ،الذين أمعنوا في غبنهم( .هذا وإن يكن من الصحيح أن التاريخ
قد شهد بين الفرنسيين أنفسهم ،وفي الماضي أ كثر منه في الحاضر ،ملوك ًا
صالحين َج َّندوا جيوش ًا من األمم األجنبية ال عن حذر ،بل حرص ًا على
بني وطنهم ،وتقدير ًا منهم أن خسارة المال يبخس ثمنها في سبيل صيانة
األرواح عم ً
ال بما يسند إلى سيبيون( ،وأظنه اإلفريقي)( ،)31من قوله أنه
ِّ
«يفضل لو أنقذ مواطن ًا على أن يدحر ألف عدو» .ولكن الشيء المحقَّ ق
استتب له إال أن يبلغ تلك
َّ هو أنه ما من طاغية يظن أبد ًا أن السلطان قد
الغاية التي هي تصفية المأمورين بأمره من كل رجل ذي قيمة ما .بحيث
يحقّ لنا أن ِ ّ
نوجه إليه التقريع الذي يفخر تيراسون في إحدى مسرحيات
تيرانس بتوجيهه إلى مر ِ ّوض األفيال:
أألنك تأمر األنعام ،تجرؤ هذه الجرأة()32؟
بيد أن هذا التحايل من ق َِبل الطغاة على التغرير برعاياهم ال يمكن أن
يتج ّلى على نحو يفوق تج ّليه فيما صنع كسرى إزاء الليديين( ،)33إذ دحرهم
بثرائه ،واستولى على عاصمتهم سارد ،وأسر كريسوس ملكهم الذي ضربت
بثرائه األمثال ،وعاد به إلى بالده فبلغه أن أهل سارد قد ثاروا .وكان يسعه
50
سحقهم إال أنه رغب عن تدمير مدينة فاق جمالها األوصاف ،ثم هو لم
ِّ
يجمد بها جيش ًا لحراستها .فتف َّتقَ ذهنه عن حيلة كبيرة يكن يريد أن
توصل بها إلى مأربه :فتح دور الدعارة والخمر واأللعاب الجماهيرية، َّ
يحض السكان على اإلقبال على هذا كله .فكانت له من هذهّ ونشر أمر ًا
ّ
يسل السيف في وجه الليديين ،فقد الحيلة حامية أغنته إلى األبد عن أن
انصرف هؤالء المساكين البؤساء إلى التف ُّنن في اختراع األلعاب من كل
لون وصنف ،حتى إن الالتينيين اشتقّ وا من اسمهم الكلمة التي يدلّون
بها على اللهو فقالوا (لودي) ،وكأنهم يريدون أن يقولوا (ليدي) .صحيح
أن الطغاة لم يعلنوا جميع ًا عما يسعون إليه من تخنيث الشعوب .ولكن
يتوخاه معظم اآلخرين خفية .والحقيقة هي أن تلك
ّ ما فعله هذا صراحة
طبيعة العامة الذين تضم المدن القسط األوفر منهم ،فهم ّ
شكاك فيمن
تظنن أن ثمة عصفور ًا يسهل اقتناصه
ّ أحبهمُ ،س ّذج حيال من خدعهم .فال
َّ
بالصفافير( ،)34أو سمكة تهرع إلى الطعم بمثل العجلة التي تسرع بها
إلى العبودية ُّ
كل الشعوب منجذبة ،كما نقول ،بأقل َزغَ بة تقرب فاها .وإنه
ألمر عجيب أن نراها تندفع هذا االندفاع ،يكفي فيه مُ َج َّرد زعزعتها.
المسارح واأللعاب والمساخر والمشاهد والمصارعون والوحوش الغريبة
ِّ
المخدرات كانت لدى الشعوب والميداليات واللوحات ،هذه وغيرها من
القديمة ُط ْع ُم عبوديتها ،وثمن ح ّريَّتها ،وأدوات االستبداد بها .هذه الوسيلة
وهذا المنهج وهذه المغريات هي ما تذرَّع به الطغاة القدامى حتى تنام
ؤخذ الشعوب المخدوعة إذ تروق لها هذه رعيتهم تحت النير .هكذا ُت َ
َّ
المالهي ،وتتس ّلى ّ
بلذة باطلة تخطف أبصارها في تع ُّود العبودية بسذاجة
تشبه سذاجة األطفال ،الذين تخلب ُل َّبهم الكتب المص َّورة فيحاولون ّ
فك
بتخبط أ كبر .واكتشف الطغاة الرومانيون اكتشاف ًا آخر
ُّ حروفها ،ولكن
فوق هذا ك ّله :موائد العشرات( )35يكثرون من الدعوة إليها في األعياد
تمويه ًا على هؤالء الرعاع الذين ال ينقادون لشيء مثلما ينقادون َّ
للذة
51
أشدهم مكر ًا ،وأقربهم إلى أسماعهم ،أن
ّ الفم ،والذين ما كان يستطيع
يترك وعاء حسائه ليسترجع ح ّريّة جمهورية أفالطون .كان الطغاة يجودون
برطل من القمح ،ونصف ليتر من النبيذ ،وبدرهم ،وكان أمر ًا يدعو إلى
الحسرة أن ي ُْعلوا عندئذ الهتاف :عاش الملك! فما كان يخطر على بال
يستردون جزء ًا مما لهم ،وحتى هذا الجزء
ّ هؤالء األغبياء أنهم إنما كانوا
ما كان الطاغية ليجود به عليهم لوال َس ْبقه إلى سلبهم إياه .من يلتقط اليوم
مسبح ًا بحمد تيبريوس ،ونيرون ،وبسخاء
ِّ الدرهم ويأ كل حتى التخمة
عطائهما ال ينبس بحرف يزيد َع ّما ينبس به الحجر ،وال تصدر عنه خلجة
تزيد عما يصدر عن الجذع المقطوع ،حين يرغم غد ًا على أن يترك
أمالكه لجشع هؤالء األباطرة المفخمين ،وأطفاله لشهواتهم ،ال بل دمهم
نفسه لقسوتهم .ذلك كان شأن الشعب الجاهل دائم ًا :مفتوح الذراعين،
مستسلم ِل ّلذة التي كانت األمانة تقضي باإلمساك عنها ،فاقد اإلحساس
بالغبن واأللم اللذين كانت األمانة تستدعي الشعور بهما .إني ال أرى
اليوم أحد ًا يسمع حديث ًا عن نيرون إال ارتعد لمج َّرد ذكر اسم هذا المسخ
ث العالم أجمع ،ومع هذا فال الكريه ،هذا الوباء الشنيع القذر الذي ل َّو َ
سبيل إلى إنكار أن هذا السفّ اح ،هذا الجلّاد ،هذا الوحش الضاري حين
مات ميتة ال ّ
تقل خزي ًا عن حياته( )36قد أثار بموته هذا حزن الشعب
َّ
يتذكر ألعابه ووالئمه حتى أوشك على الحداد الروماني النبيل الذي راح
ِّ
محقق في طليعة من (هذا ما كتبه كورنيليوس تاسيت ،وهو مؤ ِ ّلف جاد
يوثق بهم(.).)37
52
أن هذه الحالوة المسمومة هي التي سك َرت طعم العبودية لدى الشعب
الروماني ،ولكنه ما إن مات حتى شرع هذا الشعب -و َل ّم َا تزل والئمه في
فمه وعطاياه بذاكرته -في تكريمه وتكديس المقاعد المنتثرة في الميدان
العام ليوقد منها النار التي تح ِ ّوله تراب ًا ،ثم بنى له نصب ًا تذكارية ِ ّ
ملقب ًا إياه
بأبي الشعب(هذا ما جاء بعالية النصب) ،وأبدى له من مظاهر التشريف
ميت ًا ما لم يكن ينبغي إبداؤه ل َِح ّي إال إذا أردنا أن نستثني قاتليه(،)38
ينس األباطرة الرومان التلقُّ ب
َ ثم لقب وكيل الشعب( .)39هذا أيض ًا لم
به الواحد بعد اآلخر ،لِما كان لهذه الوظيفة من الحرمة والقداسة ،ثم
ألن القانون اقتضاها للدفاع عن الشعب وحمايته في ظل الدولة .بذا
أرادوا اكتساب ثقة الشعب كأنما كان َه ّم هذا األخير هو سماع االسم
ال الشعور بنتائجه .وما يُحسن عنهم صنع ًا طغاة اليوم ،الذين ال يرتبكون
ش ّر ًا مهما َع ُظ َم دون أن يُسبقوه بكالم َّ
منمق عن خير الجماعة وعن األمن
العام« :ألنك تعلم حقّ العلم ،يا لونجا»( ،)40ثبت الصيغ المحفوظة التي
يريدون بها تغذية فصاحتهم ،وإن جانبت الفصاحة غالبيتهم لنفورها من
وقاحتهم .كان ملوك آشور ،ومن بعدهم ملوك ميديا ،ال يظهرون عالنية
شكَ :أ ُهم بشر ِّ
متأخر بقدر المستطاع ،ليتركوا الجمهور في ّ إال بعد وقت
وليس ّلموا لهذه األحالم أناس ًا ال ينشط خيالهم إال حيث
أم شيء يزيد! ُ
يعجزون عن الحكم على األشياء عيان ًا .هكذا عاشت في ظل اإلمبراطورية
متعددة ألفت خدمة هذا السيد الغامض ،وخدمته طائعة ِّ اآلشورية شعوب
بمقدار جهلها ّ
أي ِ ّ
سيد يسودها ،ال بل هي كانت تكاد ال تعلم إن كان
لمثل هذا السيد وجود ،فخشيت جميعها بعين االعتقاد واحد ًا لم يره
قط .كذلك ملوك مصر األوائل كانوا ال يظهرون عالنية إال وقد أحد ّ
حملوا على رؤوسهم حين ًا قط ًا ،وحين ًا فرع ًا ،وحين ًا نار ًا ،تق َّنعوا بها وتب َّرجوا
كالمشعوذين ،وبذا أثاروا ،بغرابة المنظر ،المهابة واإلعجاب في نفوس
رعاياهم ،وكان أجدر بالناس-لوال فرط حمقهم وعبوديتهم -أال يروا في
53
هذا كله-على ما أعتقد -إال مدعاة ِل َّلهو والضحك( .)41إنه ألمر يدعو
إلى الرثاء أن نسمع بأي الوسائل تذر ََّع الطغاة حتى ِ ّ
يؤسسوا طغيانهم،
أي الحيل التجأوا دون أن تتخ َّلف الكثرة الجاهلة في كل زمان عن
وإلى ِ ّ
مالقاتهم ،فال يرمون شبكة إليها إال ارتموا فيها ،وخال تغريرهم بها من
المشقّ ة حتى إنهم إنما ينجحون في خداعها أكبر النجاح حين يسخرون
منها أكبر السخرية.
ثم ماذا أقول عن محرقة أخرى تلقَّ فَ تها الشعوب القديمة كأنها نقد ال
زيف فيه؟ لقد دخل في اعتقادها أن إبهام بي َّروس( ،)42ملك اإليبيريّين،
جملوا القصة،ّ كان يصنع المعجزات،ويشفي أمراض الطحال ،ثم
فأضافوا أن هذا اإلصبع قد ظهر سليم ًا وسط الرماد ،لم تصبه النار بأذى
بعد أن احترق الجسد كله .هكذا يصنع الشعب نفسه األكاذيب كيما
سجلها كثير من الناس ،ولكن على ِّ
ليصدقها .هذه الحكايات قد َّ يعود
تردد في جلبة ّ
للشك في أنهم لم يعدوا نقلها عما َّ نمط ال يترك مجا ً
ال
المدن ،وعلى أفواه العامة .منها أن فاسياسيان( )43رجع من آشور ف ََم َّر
العرج، متوجه ًا إلى روما ،فصنع في طريقه المعجزات :ق ّوم ُ
ِّ باإلسكندرية
الع ْمي ،وأتى عجائب أخرى من هذا القبيل ،ال يغفل-
َور ََّد البصر إلى ُ
ُنسب إلى
في رأيي -عن زيفها إال من أصابه عمى يغلب عمى الذين ي َ
فاسياسيان شفاؤهم .إن الطغاة أنفسهم يعجبون لقدرة الناس على احتمال
ما يصيبه على رؤوسهم من اإلساءة إنسان مثلهم ،لهذا احتموا بالدين،
واستتروا وراءه ،ولو استطاعوا الستعاروا نبذة من األلوهية سند ًا لحياتهم
الع َّرافة ،في ملحمة فرجل ،أنه
الباطلة .إليك بسالونيوس الذي تروي َ
()44
يرقد اآلن في قاع الجحيم عقاب ًا على هزئه بالناس إلى َح ّد جعله يريد
تقمص جوبيتر أمامهم:
ُّ
54
محاكاة جوبيتر :رعده وصواعقه
َ
فش َّد أربعة جياد صواهل إلى عربته الفانية،
َّ
غطتها هي وجيادها وربّها وصاعقته.
فإذا كان هذا المأفون ال يزال يلقى هذا العقاب في الدار األخرى ،بينا هو
ال يعدو أن رَكِ َب ْته نزوة من الحمق ،فيقيني أن من تذرَّعوا بالدين تحقيق ًا
لشرورهم ينتظرهم كيل أعظم.
أما طغاتنا نحن فقد نثروا في فرنسا رموز ًا ال أدري كنهها كالضفادع،
المقدسة ،والشعلة الذهبية( ،)45وكلها أشياء ال أريد -أ ّي ًا
َّ والزنابق ،والقارورة
التشكك فيها ما دمنا وأجدادنا ،لم ن َر مدعاة ُّ ماهياتها -أن أثير
ّ كانت
لالرتداد عن تصديقها؛ إذ وُهِ بنا على الدوام ملوك ًا طيبين في السلم،
شجعان في الحرب ،حتى ليخال المرء أنهم ،وإن ُولِدوا ملوك ًا ،لم تس ِ ّوهم
الطبيعة على غرار اآلخرين ،وإنما اختارهم الله القدير قبل أن يولدوا
55
لحكم هذه المملكة والحفاظ عليها( .)46وحتى لو لم يكن األمر كذلك
لما أردت الخوض في الحديث عن صحة قصصنا ،وال نقدها نقد ًا
دقيق ًا ،حتى ال أفسد جما ً
ال قد يتبارى فيه شعراؤنا أمثال رونسار ،وباييف
،وبالي( ،)47الذين ال أقول أنهم َح َّسنوا شعرنا ،بل خلقوه خلق ًا جديد ًا،
تقدم ًا يجعلني أجرؤ على األمل في أال تعود بعد تقدموا بلغتنا ُّ
وبذا َّ
ذلك لليونانية والالتينية مزية عليها سوى حقّ األقدم .فال َش َّك في أني
سوف أسيء اآلن إلى َنظْ منا(وال أنكر أني استخدم هذه الكلمة طواعية،
ألنه إذا كان من الحق أن البعض قد جعل من النظم صنعة آلية ،فمن
الحق أيض ًا أن هناك عدد ًا كافي ًا من القادرين على استرجاع نبله ومقامه
األول) ،أقول إني أسيء اآلن إلى َنظْ منا لو أني َج َّردته من حكايات
الملك كلوفيس الجميلة ،بعد أن رأيت بأية رشاقة وسهولة يسبح فيها
أحس أثر الرجل في المستقبل ،إني ّ وحي رونسار في فرنسويّاته .إني
أعرف توقُّ د فكره وأعلم لطفه :لسوف يوفّ ي الشعلة الذهبية حقّ ها مثلما
صنع الرومان بدروعهم :دروع السماء الملقاة على أرضنا( -)48كما يقول
فرجيل -لسوف يرفق بقارورتنا رفق األثينيين بس ّلة إريكتون( ،)49ولسوف
يجعل الناس تشيد بشعاراتنا مثلما شاد األثينيون بغصن الزيتون ،الذي ال
الحد -يقين ًا -لو أني
ّ زالوا يحفظونه في برج مينرفا .لهذا كنت أتجاوز
أردت تكذيب كتبنا ،وجريت في مراتع شعرائنا .ولكني -لكي أعود إلى
أفلت مني خيطه -ألحظ أن الطغاة كانواَ موضوعي الذي ال أدري كيف
يستتب سلطانهم ،إلى تعويد الناس على أن يدينوا لهم
ّ يسعون دائم ًا ،كيما
ال بالطاعة والعبودية فحسب ،بل باإلخالص كذلك(.)50
فكل ما ذكرته حتى اآلن عن الوسائل التي يصطنعها الطغاة ليع ِ ّلموا الناس
كيف يخدمونهم طواعية إنما ينطبق على الكثرة الساذجة من الشعب.
إني أقترب اآلن من نقطة هي التي يكمن فيها -على ما أعتقد -زنبلك
56
السيادة وس ّرها ،ويكمن أساس الطغيان وعماده .إن من يظن أن الرمّاحة
والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطئ ،في رأيي ،خط ًأ كبير ًا؛
ففي يقيني أنهم إنما يعمدون إليها مظهر ًا وإثارة للفزع ال ارتكاز ًا إليها.
تصد من ال حول لهم وال قوة على اقتحام القصر ،ولكنها ال ّ فالق ّواسة
تصد المس َّلحين القادرين على بعض العزم .ثم إن من السهل أن نتحقَّ ق أن
ّ
أباطرة الرومان الذين حماهم ق َّواسوهم يق ّلون عدد ًا َع َّمن قتلهم حراسهم.
فال جموع الخيالة وال فرق المشاة وال قوة األسلحة تحمي الطغاة .األمر
يصعب على التصديق للوهلة األولى ،ولكنه الحق عينه :هم دوم ًا أربعة أو
يشدون له البلد كله إلى
خمسة يبقون الطاغية في مكانه ،أربعة أو خمسة ّ
مقود العبودية .في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في
يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية ،في كل عهد
مكانه ،أربعة أو خمسة ّ
كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية ،يتق َّربون منه ،أو يق ِ ّربهم
إليه ليكونوا شركاء جرائمه ،وخلّان ملذاته ،وق ّواد شهواته ،ومقاسميه
ب .هؤالء الستة يد ِ ّربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع ،ال
فيما ن ََه َ
بشروره وحدها ،بل بشروره وشرورهم .هؤالء الستة ينتفع في كنفهم
ستمئة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية ،ثم هؤالء الستمئة يذيلهم ستة
آالف تابع ،يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إمَّا حكم األقاليم،
وإمّا التصرف في األموال ،ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم ،وليطيحوا بهم
متى شاؤوا ،تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما ال يجعل لهم بقا ًء
إال في ظلهم ،وال بعد ًا عن طائلة القوانين وعقوباتها إال عن طريقهم .ما
أطول سلسلة األتباع بعد ذلك !
57
تضخم مجلس الشيوخ في عهد يوليوس( ،)51وجاء
ُّ جميع ًا .من هنا جاء
خلق المناصب الجديدة ،وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه،
كل هذا -يقين ًا-ال من أجل إصالح العدالة ،بل أو ً
ال وأخير ًا من أجل
أن تزيد سواعد الطاغية .خالصة القول -إذ ًا -هي أن الطغاة ُتجنى من
ورائهم حظوات ،و ُتج َنى مغانم ومكاسب ،فإذا من ربحوا من الطغيان،
أو هكذا ُه ِ ّي َئ إليهم ،يعدلون في النهاية من يؤثرون الحرية .فكما يقول
األطباء إن جسدنا ال يفسد جزء منه إال إن انجذبت أمزجته إلى هذا الجزء
الفاسد ،دون غيره ،كذلك ما إن يعلن ملك عن استبداده بالحكم حتى
ّ
تلتف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها ،وما أعني بذلك حشد صغار
اللصوص والموصومين الذين ال يملكون لبلد نفع ًا ،وال ض ّر ًا ،بل أولئك
الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد( ،)52يلتفون حوله ويعضدونه
مصغرين في ظل
َّ لينالوا نصيبهم من الغنيمة ،وليصيروا هم أنفسهم طغاة
الطاغية الكبير .هكذا الشأن بين كبار اللصوص ومشاهير القراصنة :فريق
يستكشف البلد ،وفريق يالحق المسافرين ،فريق يقف على َم ْرقَبة ،وفريق
تعددت المراتب بينهم،
يختبئ ،فريق يقتل ،وفريق يسلب .ولكنهم -وإن َّ
وكانوا بعض ًا توابع ،وبعض ًا رؤساء -إال أنه ما من أحد منهم إال خرج
بكسب ما ،إن لم يكن بالغنيمة كلها ،فيما انتشل .أال يحكى أن القراصنة
حد ًا لم يجعل ب ُّد ًا من إرسال
الصقليين لم تبلغ فقط كثرة عددهم ّ
()53
بومبي أعظم قواد العصر لمهاجمتهم ،بل هم فوق ذلك قد ج ّروا إلى
التحالف معهم عدد ًا كبير ًا من المدن الجميلة والثغور العظيمة التي كانوا
يلوذون بها بعد غزواتهم لقاء بعض الربح مكافأة على إخفاء أسالبهم؟
هكذا يستعبد الطاغية رعاياه بعضهم ببعض ،يحرسه من كان أولى بهم
ّ
يفل االحتراس منه لو كانوا يساوون شيئ ًا ،وهكذا يصدق المثل :ال
الخشب إال مسمار من الخشب ذاته .هاهو ذا يحيط به َق ّواسته وح ّراسه
58
وحاملو حرباته ،ال ألنهم ال يقاسون األذى منه أحيان ًا ،بل ألن هؤالء
الضالين الذين تخ ّلى اللّه عنهم ،وتخ َّلت الناس ،يستمرئون احتمال األذى
يردوه ال إلى من أنزله بهم ،بل إلى من قاسوه مثلهم دون أن يملكواحتى ّ
إال الصبر .غير أني إذ أنظر إلى هؤالء الضالّين الذين يجرون وراء ُك َرات
الطاغية ،حتى ِ ّ
يحققوا مآربهم من وراء طغيانه ،ومن وراء عبودية الشعب
على َح ّد سواء يتم َّلكني أحيان ًا كثيرة العجب لرداءتهم ،وأرثي أحيان ًا
لحماقتهم :فهل يعني القرب من الطاغية ،في الحقيقة ،شيئ ًا آخر سوى
البعد عن الح ّريّة واحتضانها بالذراعين ،إذا جاز التعبير؟
59
شيء أقسى احتما ً
ال ،ال أقول على رجل ذي قلب ،وال على إنسان حسن
المولد ،وإنما على كائن حظي بقسط من الفهم العام ،أو له وجه إنسان
أشد تعس ًا من حياة على هذا النحو ال يملك فيها المرء
ال أكثر؟ أي وضع ّ
مستمد ًا من غيره راح َت ُه وح ّريَّته وجسد ُه وحياته؟
ّ شيئ ًا لنفسه،
60
اآلخرين:ففي معظم األحيان يثرى الغير بما يسلبون بعد أن أثروا هم بما
سلبوا في ظل ما تم َّتعوا به من الحظوة.
تردوا في هذه العواقب لحسن خلقهم ،كفى فلو قلنا إن هؤالء الثالثة إنما ّ
أن ِ ّ
نسدد النظر حول نيرون نفسه لنرى أن الذين لقوا حظوته واستقروا فيها
بأرذل الوسائل لم يدم عهدهم زمن ًا أطول .من الذي سمع عن حب استسلم
له صاحبه بال َح ّد ،عن إعزاز بال قيد؟ من الذي قرأ في أي زمن من
األزمنة عن رجل ولع بامرأة ولع ًا عنيد ًا مالزم ًا َك َو َلع نيرون هذا ببوبيا(،)55
زوجها كلوديوس س لها السم؟ ألم تقتل أمه أجريبينا ثم بعدئذ َد َّ
()56
حتى تفسح له الهيمنة على اإلمبراطورية؟ ألم تبذل ما وسعت؟ ألم ُتقبل
طواعية على كل إثم إعالء له؟ ومع هذا ما لبث ابنها هذا ،رضيعها،
إمبراطورها الذي صنعته بيدها ،ما لبث -بعد أن جحدها مرار ًا -أن انتزع
حياتها في النهاية ،وإنه لعقاب ما كان أحد ينكر أنه جزاؤها المستحقّ لو
61
أن يد ًا أخرى أنزلته بها غير يد م َْن م َّكنتهّ .
أي رجل كان أسهل انقياد ًا،
أي رجل وأكثر سذاجة أو ،باألصح ،أ كثر َب َله ًا من اإلمبراطور كلوديوس؟ ّ
ركبته امرأة مثلما ركبته مسالينا()57؟ ومع هذا أسلمها أخير ًا ليد الجلّاد!
إن الغباوة تالزم الطغاة دائم ًا ،حتى حين يريدون إسداء الحسن إذا أرادوا
إسداءه ،ولكنهم حين يريدون البطش بالمق َّربين إليهم يستيقظ فيهم -ال
أدري كيف! -القليل من فصاحتهم .أال تعلم هذه النادرة التي فاه بها
هذا الذي رأى صدر المرأة التي شغف بها أيّما شغف ،حتى بدا كأنه
ال يستطيع الحياة دونها ،رآه عاري ًا فداعبها بهذه المزحة« :هذا العنق
الجميل قد ُيقطَ ف قريب ًا لو أردت»؟ لهذا كان معظم الطغاة القدامى
يالقون حتفهم .لم يستطيع المق َّربون االطمئنان إلى إرادة الطاغية بقدر
كومودس إحدى
َ وقتلت
ْ يسيان،
َ اتين ُدومِ
ْ ما حذروا ق ّوته .هكذا قَتلت
محظياته ،كما ُقتِل أنطونان على يد مارسان ،وهكذا في سائرهم .
()58
ّ
الحب.
ّ الحب أبد ًا ،وال هو يعرف
ّ إن من المستيقن أن الطاغية ال يلقى
َحلّاً إال بين
فالصداقة اسم قدسي وجوهر طاهر ،إنها ال تعرف لها م َ
تؤخذ إال بالتقدير المتبادل ال بإغداق النعم .فالصديق إنما
األفاضل ،وال َ
يأمن إلى الصديق لما يعرفه من استقامته .ضمانته هي استقامته وصدق
طويَّته وثباته .فال مكان للصداقة حيث القسوة ،حيث الخيانة ،حيث
حب يسود بينهم بل
الجور .فاألشرار إذا اجتمعوا تآمروا ،ولم يتزاملوا ،ال ّ
الخشية ،فما هم بأصدقاء ،بل هم متواطئون.
يضم فؤاد
ّ لتبي ّنا أن من الصعب أن
ولو صرفنا النظر عن هذه العوائق ّ
وع ِد َم كل رفيق ،قد خرج بهذا
حب ًا يوثق به ،ألنه إذا عال الجميعَ ،
الطاغية ّ
عينه عن حدود الصداقة التي مقعدها الحق هو المساواة ،والتي تأبى
دوم ًا التع ُّثر في خطواتها المتساوية أبد ًا .لهذا نرى(فيما يقال) شيئ ًا من
القسط بين اللصوص عند اقتسام الغنيمة ،ألنهم متزاملون متكافلون ،وإذا
62
ّ
األقل يتبادلون الحذر ،وال يرغبون في كانوا ال يتبادلون الحب فهم على
إضعاف ق ّوتهم بالتف ُّرق بدل الوحدة .أما الطاغية فما يستطيع المق َّربون
إليه االطمئنان إليه أبد ًا ،ما دام قد تع َّلم منهم أنفسهم أنه قادر على كل
شيء ،وأنه ال حقَّ وال واجب يجبرانه ،وما دام تعريفه صار يقوم في
اعتبار إرادته العقل ،وفي انتفاء كل نظير ،وسيادة الجميع .أليس أمر ًا
يدعو إلى الرثاء أن كل هذه األمثلة الواضحة ،وهذا الخطر الدائم ،ال
تدعو أحد ًا إلى اال ِ ّتعاظ بها ،وأن يتقرب إلى الطاغية طواعية هذا العدد
الغفير من الناس دون أن يجد أحد الحصافة والجرأة اللتين ِ ّ
تمكناه من أن
يقول ما قاله الثعلب ،على ما ورد في الحكاية ،لملك الغابة الذي اصطنع
المرض« :كنت أزورك طواعية في عرينك لوال أني أرى وحوش ًا كثيرة
َت َّت ِجه آثارها قدم ًا إليك ،وما أرى أثر ًا يعود»؟.
هؤالء التعساء يرون بريق كنوز الطاغية ،وينظرون مشاهد بذخه وقد
أشعتها ،فإذا هذا الضوء يغريهم فيقتربون منه دون أن يروا أنهم
ّ بهرتهم
إنما يلقون بأنفسهم في اللهب الذي لن يتخ َّلف عن إهالكهم .هكذا صنع
الساتير( )59الطفيلي ،الذي تحكي الحكاية أنه شهد النار التي اكتشفها
ال فائق ًا فذهب ّ
يقبلها فاحترق. بروميثيوس وهي تضيء ،فرأى لها جما ً
مثله مثل الفراشة التي تلقي بنفسها في النار أم ً
ال في الحظوة ّ
بلذة من
نورها ،فإذا هي تعرف ق ّوتها األخرى :ق ّوتها الحارقة ،كما يقول الشاعر
التوسكاني( .)60ولكن لنفرض أن هؤالء األغرار يفلتون من قبضة من
يخدمون ،أيعلمون أي ملك آت من بعد؟ إذا كان طيِ ّ ب ًا وجبت اإلجابة
بسيدهم فلسوف يصحبه عما صنعوه ،ول َِم صنعوه ،وإذا كان سيئ ًا شبيه ًا ِ ّ
ّ
أيض ًا أتباعه الذين ال يقنعون باالستحواذ على مكان اآلخرين ،بل تلزمهم
أيض ًا في معظم األحايين أمالكهم وحياتهم .أيمكن إذ ًا -وهذا مدى
التهلكة ،ومدى قلة األمن -أن يكون هناك امرؤ يرغب في ملء هذا
63
أي عذاب ،أي سيد هذا مبلغ خطره؟ ّ المكان البائس ليقاسي خدمة ِ ّ
الرب الحق ،أن يقضي المر ُء النهار بعد الليل وهو
ّ استشهاد هذا ،أيها
يفكر كيف يرضي واحد ًا ،بينما هو يخشاه مع ذلك أ كثر مما يخشى ّ
أي ّ
البص وأذن ًا تسترق
ّ إنسان آخر على وجه البسيطة! أن يكون عين ًا دائمة
السمع ،حتى يحدس مأتى الضربة القادمة ،وموقع المصائد ،وحتى يقرأ
في وجوه أقرانه أيّهم يغدر به ،يبتسم لكل منهم وهو يخشاهم جميع ًا ،ال
دام ال ق َِب َل
يطمئن إليه ،الوجه باسم ،والقلب ٍ
ّ عدو ًا سافر ًا يرى وال صديق ًا
له بالسرور ،وال جرأة على الحزن!
وحتى عظامهم ذاتها -إذا جاز هذا التعبير -يم ِ ّرغها الوحل عقاب ًا لهم بعد
مماتهم على فساد حياتهم.
لنتع َّلم ،إذن ،لنتع َّلم مرة أن نسلك سلوك ًا حسن ًا .لنرفع أعيننا إلى السماء
64
بدعوة من كرامتنا ،أو من محبة الفضيلة ذاتها ،أو -إذا أردنا الكالم عن
علم فيقين ًا بدعوة من محبة الله القادر على كل شيء ،وتبجيله ،ولهو
الشاهد الذي ال يغفل عن أفعالنا ،والقاضي العادل في أخطائنا .أما
فيما يتع َّلق بي فإني ألرى -ولست بالمخدوع ما دام ال شيء أبعد عن
يدخر في الدار اآلخرة للطغاة
َّ الله ،وهو الغفور الرحيم من الطغيان -أنه
وشركائهم عقاب ًا من نوع خاص.
***
65
هوامش املترجم
66
- 1عن اإللياذة ،األنشودة الثانية ،البيتان … 204كانت جيوش اليونانيين
َّ
تتمكن من االستيالء عليها ،فبدأ تحاصر طروادة منذ تسع سنوات دون أن
المحاربون يستهويهم اقتراح العودة إلى ديارهم دون تحقيق النصر .إال أن
تحدث إلى جندي
َّ حجته للق ّواد من أقرانه ،فإن
أوليس استوقفهم يشرح ّ
َع َّنفَ هَّ ،
وذكره أن واجبه الطاعة ألن األمر والرأي إنما يكونان لواحد.
67
يومنا هذا ،كل االختالف الذي ينجم حين تعتنق هذه المجتمعات عقيدة
التوحيد ،هو أن الرؤساء ال ينسبون أنفسهم إلى اآللهة ،بل إلى األنبياء،
والغزاة ،واألبطال من كل مضمار.
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
68
بمعنى السلطة أو الحكم.
--------------------------------------------------------------
69
الح ّد الذي يخلق حزازات وضغائن ال ّ
يشتط في مطالبه إلى َ الشعب بأال
نهاية لها .في وقت خرجت فيه أثينا والدول اليونانية عامة من الحرب
َّ
ومكن فيليب المقدوني ضعيفة منهكة إلى َح ّد لم تقم لها قائمة بعده.
وابنه اإلسكندر من افتراسها .ويذهب بعض ُ
الك ّتاب المعاصرين إلى أن
اال ّتفاق المذكور كان بمثابة النقلة التي َح َّلت فيها فوقية القانون أو سيادته
فوقية إرادة الشعب .ولكن المغزى األوضح الذي يخرج من ّ ّ
محل العليا
هذا اال ّتفاق هو أن«القانون»إنما يعني هنا العقد ،الذي َت َّم بمقتضاه
التراضي بين الطبقات في وقت لم يكن فيه ب ُّد من التراضي.
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
- 6ثار نقاش حول من المراد بهذا الوصف :أهو شارل التاسع أو هنري
الثالث؟ ولكن األصح أن المؤلف إنما أراد أن يرسم صورة أنموذجية،
وإن صدقت على كثير من الحكام ،دحض ًا للرأي القائل بأن هناك من
ُجعِلوا بطبيعتهم للسيادة ،وهناك من ُجعِلوا مس َّودين.
--------------------------------------------------------------
70
يرجع إلى سياسته تقوية األسطول األثيني ،ويرجع إلى براعته ونبوغه
الفضل األول في انتصار اليونانيين الحاسم في معركة (سالمين)البحرية
عام 480ق.م ،.التي انتهكت بها حملة كسركس الثانية ،التي كان قد
َأ َع ّد لها جيش ًا ُيقَ َّدر بمئة ألف مقاتل ،وأسطو ً
ال ُيقَ َّدر بألف سفينة .أما
ليونيداس فإسبرطي خ ّلد ذكره استشهاده مع ثالثمئة من رجاله في معركة
تقدم الفرس في البر .هذا ولقد
مضيق ثرموبيل ،التي خاضها بغية تعويق ُّ
صار هذا االنتصار رمز ًا إلى انتصار الحرية على االستبداد .وصحيح أن
شعوب اإلغريق كانت لها في إدارة شؤونها مشاركة حرمت منها في أغلب
الظن شعوب العدو ،وأن هذا الفارق ربَّما لعب دور ًا في هذا االنتصار.
ولكن ذلك ال يمنع أن هذه الحرب -أي ًا كان وجه استخدامها ألغراض
الرمز -كانت في واقع أمرها صراع ًا ضاري ًا بين قوتين تهدف كل منها إلى
السيطرة على المعمورة :فارس ،وأثينا .ومن المعلوم أن المدن أو الدول
اليونانية ما إن تحقَّ قَ لها هذا النصر المشترك حتى عادت إلى تف ُّرق بعد
ا ِ ّتحاد ،وحتى َش ّن بعضها الحرب على أثينا في حرب البيلوبونيز التي
سبقت اإلشارة إليها.
--------------------------------------------------------------
71
ُ
البعض معينة :نشبت الحرب بينها ،و ُأ ِسر
بشعوب العالم إلى َس ّن شرائع َّ
وصاروا عبيد ًا خالف ًا لقانون الطبيعة .فالناس بحسب قانون الطبيعة ُولِدوا
أحرار ًا في البدء» .هذا بينما«تصدر جميع العقود تقريب ًا عن قانون كافة
الشعوب ،سواء أتع َّلق األمر ببيع أو أيجار أو شركة أو إيداع أو قرض أو
يخصه جزء منه ،ويشترك بجزء آخر منه مع
ّ يطبق قانون ًا
غيره»فكل شعب ِ ّ
مفكرو العصور الوسطى ،الذين لم تكن فكرة الدولة غيره .ولقد استعاد ِ ّ
ال جديدة آخذة في عندهم قضية مُ َس َّلمة ،ألنهم إنما كانوا يشهدون دو ً
النشوء على أنقاض الدولة الرومانية المندثرة ،استعادوا فكرة القانون
الطبيعي هذه ،ألنهم واجهوا هذا السؤال :كيف يمكن أال يكون القانون
إال بالدولة ومن أجلها وفي ظلها ،وأال تكون الدولة إال بالقانون ومن
أجله وفي ظله؟ فوجدوا المخرج في التمييز الذي فصله بنوع خاص
القديس توماس اإلكويني بين«القانون الطبيعي»و«القانون الوضعي».
تجدد في عصرنا االهتمام بمناقشاتهم في هذا الباب كما في َّ هذا وقد
غيره ،خاصة وأن السؤال الذي أثاره قد ارتبط ارتباط ًا وثيق ًا بسؤال آخر ال
ّ
يقل عنه ِح ّدة :هل جوهر القانون هو العقل أم اإلرادة؟
--------------------------------------------------------------
72
رأس الشعب وحاكمه(حسب القانون)طالما بقي الشعب … وفي هذا
االسم ال يموت الملك أبد ًا .أضف أن هذه النظرية مستقاة ال من العقائد
النصرانية عن المسيح والكنيسة وحسب ،بل أيض ًا -وأكاد أقول أو ً
ال -من
استعارة الجسد من حيث تطلق على كل مجتمع ديني أو مدني ،وعلى
مق ِ ّوماته المختلفة بما فيها االتحادات المهنية والجامعية التي لعبت دور ًا
ها ّم ًا في تط ُّور الغرب ،والتي يطلق عليها في لغاته اسم ترجمته الحرفية
ِّ
«المتجسدات».
--------------------------------------------------------------
73
- 11ال وجود لهذين البيتين في أشعار البويسيه التي نشرها مونتني.
--------------------------------------------------------------
74
- 14كان بيستراتس ينتمي إلى الطبقة األرستقراطية الحاكمة .برز في
ب االنقسامالحرب بين أثينا وميغارا ،حوالي العام 565ق.م .فلما َد َّ
الحكام َّ
ترأس هو فريق ًا أو حزب ًا ثالث ًا َض َّم إليه المعتقين ّ في أثينا بين
نصب نفسه طاغية بحرس منحه إياه الشعب ،عام 561 والمدقعين ،ثم َّ
ق.م .غير أن أعداءه تحالفوا عليه فطردوه من الحكم بعد أن ظل يمارسه
زهاء خمس سنوات ،فلم يستتب له االستبداد به إال بعد أن رجع وانتصر
مرض .ولقد
ٍ عليهم انتصار ًا حاسم ًا عام 546ق.م .مات عام 527بعد
حرص بيستراتس على االلتزام بدستور صولون فلم يذهب إلى َح ّد
مصادرة أمالك النبالء وتوزيعها بالتساوي ،ولكنه َش َّج َع صغار الملّاك
بتيسير القروض لهم ،وعمل على إزاحة البطالة من الريف معتمد ًا في
هذه السياسة على الضرائب المفروضة على اإلنتاج والتجارة ،في وقت
جمل أثينا
ازدهرت فيه صناعة الخزف ،وانتشرت في كل بالد اليونانّ ،
وجمع أشعار هوميروس ونشرها ،وكان من نتائج حكمه الطويل أن أضعف
وش َّجع ظهور الفردية في كثير من المجاالت،
قبضة النبالء على أشياعهمَ ،
مما م ََّهد الطريق لعودة الديموقراطية بعد أن تخ َّلص الشعب من أبنائه.
--------------------------------------------------------------
75
األدرياتيك .كان ديونيسيوس طاغية من الطراز األول ،ا َّت َسم حكمه بمزيج
من البأس والحنكة واألبهة ما زال يثير العجب حتى اليوم.
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
76
العمرانية الكبرى التي يؤمّها التجار والصيارفة ،وصانعو الثروات من كل
حدب وصوب ،كانت تتم َّتع فع ً
ال بح ّريّة اجتماعية واسعة تتيح تجاور
الجميع على اختالف عاداتهم وأزيائهم .أما من الناحية السياسية فقد
احتكرت الحكم فيها ،منذ القرن الرابع عشر ،طبقة من األعيان ذوي
الثروات الطائلة انقطعت صلتها بالشعب(وأعني -باألخص -الحرفيين
الذين كان لهم -على العكس -دور مهم في فلورنسا)وإن حرصت على
أال ينفرد به واحد منهم .لهذا أسندت السلطة إلى مجلس العشرة .هذا
المجلس ،الذي ندر أن حاذاه جهاز في اتجاهه المحافظ ،هو الذي كان
يقوم بانتخاب الدوق المنوط به تجسيد قوة البندقية ،ولكن مع قيود ترمي
جميعها إلى تخفيف دوره الشخصي.
--------------------------------------------------------------
تتسمى في
ّ - 18سلطان تركياّ ِ .
ننبه إلى أن الشعوب األوروبية كانت
القرن الثالث عشر باسم المسيحية أو بالد المسيحيين ،وهي تسمية كانت
تصدر عن الشعور بالوحدة الدينية التي بثته فيها الحروب الصليبية ،وفي
القرن الخامس عشر ظهرت التسمية باسم أوروبا أو الشعوب األوروبية.
ال ألن هذه الشعوب كانت قد تحقَّ قت بينها وحدة سياسية ،فقد حدث
ادعاء ال صلة له
العكس :صارت فكرة اإلمبراطورية الواحدة أو الشاملة ّ
بالواقع ،بينما بدأ ظهور الدول الحديثة بانقسام الشعوب األوروبية إلى
ممالك يحكم كل منها ملك غيور على استقالله ،كما ّ
تدل عليه العبارة
الجارية إذ ذاك«:كل ملك إمبراطور على مملكته» .إال أن هذه الشعوب
كان يبدو لها أن ملوكها هؤالء ،ووالة األمر فيها كانت لهم فيما بينهم،
عما يتبعه طغاة الشرق ،ومنه كان ظهور
وفي تعاملهم معها ،قواعد تختلف ّ
التسمية الجديدة ينطوي على تعريف الغرب لنفسه بالحرية السياسية،
أضف إليه تق ّوي الشعور بالوحدة الثقافية ،ثم حاجة التمييز الجغرافي
77
بالنسبة إلى األرض المكتشفة حديث ًا ،وأعني بها القارة األميركية .فأما
الصحة أو الكذب فهذا ما يستحق أن يُف َرد له
ّ نصيب هذا التعريف من
مبحث خاص.
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
78
به تق ُّلبات هذه الحرب بأن حاصرته قوات قيصر ،وهو في أوتيكا(مدينة
على الساحل األفريقي ال تبعد عن قرطاجنة)حيث مات موت ًا مشهود ًا
مم ِ ّزق ًا أحشاءه بيده ،كما ورد في «سير األعالم» لبلوتارك.
--------------------------------------------------------------
َّ
استغل قوته بين العسكر - 22سيلّا( 78 - 138ق.م).هو أول قائد روماني
فاستحوذ على زمام الدولة مستهدف ًا تقوية الجمهورية فيما يبدو ،ولكنه في
الواقع إنما رسم المثل الذي احتذاه بعد ذلك من هدموها .بلغ من إمعانه
في مصادرة األموال والنفي واالغتيال أن َع َّم الخوف مناصريه أنفسهم.
--------------------------------------------------------------
79
- 25التعبير الفرنسي ترجمته الحرفية (التركي الكبير) ،ولكنه ينطوي
على استخفاف ،ثم إن حامله كان ي َُع ّد الرمز األول للطغيان .وال ي َُك ّذب
كالم البويسيه -هنا وإن لم يكف -في تأييده ما يخبرنا به الدكتور
المقَ َّدمة إلى السوربون عام ،1939عن التعليم
إبراهيم سالمة في رسالته ُ
اإلسالمي في مصر من أثر سياسة األتراك في القضاء على المدارس.
--------------------------------------------------------------
- 26هذا اإلله الساخر شخصية مسرحية أ كثر من كونه خلق ًا أسطوري ًا.
--------------------------------------------------------------
80
فاشتد
َّ ص البلد منه ،ولكن زمام األمور أفلت من يديه، فلما أخفق َخ َّل َ
وتعسف ،برغم ِ ّ
ادعائه االستناد إلى المبادئ الفلسفية ،حتى ُقتِل بدوره. َّ
--------------------------------------------------------------
- 30عاش كسينوفون بين 427و 354ق.م .وضع كتب ًا كثيرة ،ربما كان
أشهرها دفاعه عن سقراط .انفرد باهتمامه بالقضايا المالية واالقتصادية.
أما الكتاب الذي كتبه في شكل حوار ،كما ينبغي لرجل تتلمذ على
سقراط ،فيشير عنوانه «هيرون» إلى طاغية فتح بالطه للشعراء والفالسفة،
بينما زادته انتصاراته في األلعاب صيت ًا على صيت .مات عام /476ق.م.
وكان سيمونيد ،وهو طاغية آخر حكم جزيرة رسبوس ،قد زاره في
سيراقوصة عام 476ق.م.
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
-------------------------------------------------------------
81
نحو مُ َع َّين.
--------------------------------------------------------------
ّ
يلتف حولها أفراد الشعب ،عشرة حول كل مائدة. - 35موائد
--------------------------------------------------------------
- 37وصف دقيق لهذا المؤ ِ ّرخ الذي ولد عام 56بعد الميالد ،وال
نعلم على التحقيق متى مات .تق َّلب في أرفع المناصب ،وكتب كتب ًا
كثيرة أشهرها المعروف باسم «التواريخ» .وصف فيه الحرب األهلية بما
زخرت به سواء من المطامع والمؤامرات ،أو من أمثلة الشجاعة والصداقة،
وصف ًا ال يدانى في قوته.
--------------------------------------------------------------
82
كان دون االنتظام في الصف .وفي خالل األلعاب الجنائزية تغ ّنى الناس
باألشعار التي تثير الشفقة على قيصر ،والنقمة على قاتليه ،مثل هذا البيت
…« َأو َ
َجب أن ينقذهم ليصبحوا قاتليه؟»وأبيات أخرى بالمعنى نفسه …،
واكتفى القنصل أنطونيو(مارك)في رثائه بأن طلب إلى أحد المنادين
أن يقرأ مرسوم مجلس الشيوخ الذي أسبغ على قيصر باإلجماع كل
التشريفات اإللهية ،واإلنسانية ،وكذلك العهد الذي كان جميع الشيوخ قد
أقسموا فيه على الذود عن حياة قيصر .ولم يضف هو إال كلمات قليلة ،ثم
منصة الخطابة عدد من كبار رجال
بعدئذ حمل النعش إلى الميدان أمام ّ
الدولة الحاضرين والسابقين .وكان البعض يرى حرقه في معبد جوبيتر
على الكابيتول ،والبعض اآلخر في مجلس الشيوخ .وإذا برجلين تمنطق
كالهما بسيف ،وحمل بيده رمح ًا يشعالن فيه النار فجأة بشموع موقدة.
ومنصات
ّ س حوله الحطب والمقاعد المشيعين أن َك َّد َ
ِّ ولم يلبث جمهور
القضاة ،ثم جمع الهدايا التي وسعه أن يجدها .بعدئذ خلع العبو المزامير
والممثلون ثياب االحتفال بالنصر ،التي كانوا ارتدوها لهذه المناسبة،
وزجوا بها في النار ،كما َز َّج قدماء الجنود الذين حاربوا تحت لوائه ّ
باألسلحة التي كانوا قد تزيَّنوا بها للمشاركة في جنازته .ال بل إن عدد ًا
وحلي أطفالهن وعباءاتهم .إلى
ّ كبير ًا من األمهات رمت في النار ّ
حليها
أدت الجالياتجانب هذه المظاهر العامة التي تج ّلى فيها حزن الجمهور َّ
األجنبية مراسم الحداد ،كل جالية على حدة حسب طقوسها ،وبخاصة
ِّ
متعددة( ،ألن قيصر التجمع حول قبره ليالي
ُّ اليهود الذين ذهبوا إلى َح ّد
هو الذي هزم بومبي الذي كان قد استولى على القدس).
و بعد أن انتهت الجنازة على الفور َش َّيد له العامة عمود ًا من مرمر نوميديا
بلغ ارتفاعه نحو العشرين قدم ًا ،ونقش عليه« :إلى أبي الوطن».
83
- 39لقب (وكيل الشعب) يحتاج إلى بعض اإليضاح .ذلك أن رومولوس
كان قد ق ََّس َم الشعب الروماني تقسيم ًا إداري ًا (وليس على أساس صالت
الدم ،أو الرحم) إلى عشر قبائل َّ
يترأس ك ً
ال منها عشرة آباء أو شيوخ،
ويتك َّون من مجموعهم المجلس المعروف بهذا االسم .أما الملك فلم يكن
يتولّى الحكم بالوراثة ،بل كان يستخلفه سابقه .فإن مات السابق دون أن
يستخلف أحد ًا تناوب الشيوخ الحكم إلى أن يختار الشعب ملك ًا بشرط
أن يوافق الشيوخ على اختياره .وكانت سلطة الملك،أو باألدق إمارته
المدنية(أمبريوم)إمارة مطلقة تشمل حقّ السلْم والحرب ،وحقّ الحياة
والموت على جميع ّ
سكان المدينة .ثم هي كانت ال تنفصل عن إمارته
الدينية(آوسبيسيوم)التي تبيح له حقّ استشارة اآللهة لمعرفة مشيئتهم في
شؤون السياسة والحرب والقضاء .وفي القرن الخامس قبل الميالد سقط
َح َّله «الجمهورية»(انظر الهامش .)2ولكن
وح َّلت م َ
النظام الملكيَ ،
جميع الوظائف القيادية في إدارة الدولة ظلت بيد الشيوخ و ُأ َسرهم،
فنجم عن ذلك شقاق َه َّد َد بانصداع األمة كلها لوال أن العامة ظفرت
يتحدثون باسمها دفاع ًا عن مصالحها .ولم
َّ بحق انتخاب وكالئها الذين
يكن هؤالء الوكالء يشاركون في الحكم مشاركة إيجابية ،ولكن ،كان
في مستطاعهم حماية شرف العامة ومصالحها بممارسة حق الفيتو إزاء
جميع القرارات اإلدارية ،وإزاء القوانين التي يصدرها مجلس الشيوخ
على السواء .هذا ولقد كانت كلمة (تريبونوس) الالتينية التي ترجمناها
بـ (الوكيل) مشتقة من كلمة (تريبوس) بمعنى قبيلة ،ألن كل قبيلة كانت
تختار وكالءها .ويقال أيض ًا لبعضهم ماجستير ،ومعناه :كل موظف في
جهاز الدولة ،وإن غلب بعد ذلك إطالقه على القضاة خاصة.
--------------------------------------------------------------
84
مكانه ،يعلم بطبيعة الحال نصوص القرارات والمراسيم الملكية التي لم
يكن يخلو واحد منها من نفاق التع ُّلل بالخير المشترك ،والمنفعة العامة.
--------------------------------------------------------------
- 41كان ملوك مصر القديمة -وكذلك ملوك آشور -شيئ ًا يزيد على
البشر فع ً
ال ،كما يقول البويسيه .كان فرعون أقرب إلى الشمس منه إلى
سائر الخلق :فهو ابن رع ،وإلى السماء منه إلى األرض :فهو حوريس
المح ِ ّلق فوق القبة الزرقاء ،وكانت له بعد الممات حياة يُبعث إليها في
شكل أوزيريس .ثم هو كان الوسيط بين اآللهة والبشر ،يضمن ألولئك
أداء الفرائض ولهؤالء الرغد والعدالة والنصر .لذا ُس ِ ّمي حكمه حكم ًا
َب) .وكان حصول هذه ثيوقراطي ًا أو ربوبي ًا(ثيو :باليونانية = إله أو ر ّ
المكانة فيه يتحقَّ ق بطقوس من نوع ما ي َُس ّمى في األنثروبولوجيا (طقوس
أهمها -عدا التزيية والتتويج-
ّ االنتقال) ،يد ِ ّبرها الكهنة تدبير ًا دقيق ًا
التطهير بالماء ،والدهن بالزيت ،ومنه ُس ِ ّمي الملك في المسيحية بعد
أن انتقلت إليها بعض هذه الطقوس عبر التوراة باسم«دهين الله» .هذا
إال أن القيمة الكبرى التي كان يع ِ ّلقها قدماء المصريين على اإللهة من
(الحقيقة والعدالة)كانت تحول دون جنوح الحكم الفرعوني إلى ما
ي َُس ّمى (الحكم المطلق) ،وإن تكن هذه القيمة قد بقيت في صورة العرف
دون أن َت َّتخذ شكل التشريع .أضف أن هذه المكانة التي كان فرعون يعلو
بها سائر البشر لم تكن ُتضفَ ى عليه من حيث وجوده الفردي البيولوجي
بل من حيث وظيفته العامة .لذا يخطئ القارئ إذا ظن أن هذه التعلية
مركب من لفظ َّ ُ
فلفظ فرعون نفسه ٌ التقدم.
ُّ قد امَّحت اليوم آثارها بفضل
كلمتين تعنيان بالمصرية القديمة (البيت الكبير) ،مثلما نقول اليوم البيت
األبيض ،أو اإلليزيه ،داللة على رؤساء الدول المعاصرين .أما األغاني
التي كانت تصحب طقوس الدهن أو التتويج ،كهذه األغنية«:ليفرح البلد
85
كله فقد جاء الزمن السعيد .عال َس ِ ّيد جميع األراضي … والغمر فاض
والنهار طال .الليل انضبطت ساعاته والقمر يرجع في مواقيته» ،فهل ثمة
ّ
بالحكام من شيم الشعوب؟ م َْن ينكر أن التغ ّني
--------------------------------------------------------------
- 43ولد فسباسيان عام 9م .كان أبوه جابي ًا للضرائب ،وكانت أسرة أمه
يسمى في روما (طبقة الفرسان) ،وهي طبقة ّ
تقل درجة عن تنتمي إلى ما ّ
طبقة الشيوخ ،وإن يكن أخوها قد دخل مجلسهم .تق َّلب في أ كبر مناصب
الدولة المدنية والعسكرية ،ثم َل ّما احتدم الصراع حول خالفة اإلمبراطور
(جالبا) أعلنت فرقتان رومانيتان باإلسكندرية اختيارهما له إمبراطور ًا
في األول من يوليه عام ،69ولم يلبث أن حذت حذوها الجيوش
الرومانية في فلسطين وسوريا .كان ذا طاقة كبيرة على العمل ،متواضع ًا
حب ًا انحرف إلى المحاباة ،حتى إنه استخلف محب ًا ألسرته ّ
ّ في حياته،
الم َّت َبع في روما .ربما كان
كالم َّت َبع في ممالك الشرق وبخالف ُ
ُ ولديه
أعظم منجزاته إنهاء الحرب األهلية ونشر السالم .هذا ولقد كان االعتقاد
بقدرة الملوك على إتيان الشفاء ال يزال ساري ًا في عصر البويسيه في
فرنسا وإنجلترا على السواء .كان المرض -بالتحديد -هو البرص ،وكان
يتلمس المواضع المصابة ورسم عالمة الصليب تتلوه صدقة نقدية.
الشفاء َّ
وكان المفروض أن هذه الكرامة تدخل فيما يحصل للملك بفضل طقوس
الدهن .ولم يبطل هذا االعتقاد ،ألن الوقائع َك َّذ َب ْته فكون الع ّلة تدخل في
86
ّ
سجل الواقع، ّ
سجل الوهم ال يمنع قدرتها على إحداث نتائج تدخل في
ولكن بفضل الثورات السياسية التي بدأت في إنجلترا وفرنسا.
87
الم َع َّمد)«أنبولة» صغيرة حوت الزيت
إلى القديس ريمي(األسقف ُ
المطلوب .هذا الدهان الذي ليس من هذه األرض َّ
ظل محفوظ ًا في
يتم
قارورته األصلية بكاتدرائية رانس ،وهكذا كان تتويج ملوك فرنسا ّ
دائم ًا في هذه المدينة.
--------------------------------------------------------------
- 46أغلب الظن أن البويسيه ال يشير هنا إلى رموز الملك ،بل إلى
إمارات العرق ،مثل عالمة الرمح التي قيل إنها ِ ّ
تميز العائالت النبيلة
في طيبة اليونانية .نُسِ جت أمثال هذه الروايات عن الملوك المسيحيين
يتميزون بعالمة في هيئة الصليب على
َّ في القرون الوسطى ،فقيل إنهم
الكتف األيمن دلي ً
ال على اختيار الله لهم.
--------------------------------------------------------------
- 47ينتمي هؤالء الشعراء الثالثة إلى جيل قريب العهد باكتشاف ذخائر
تتأجج
َّ األدب اليوناني ،فكانت أولى رغبات المثقَّ فين -في وقت بدأت
فيه المشاعر الوطنية مع تحقُّ ق وحدة المملكة ،على يد أسرة فالوا -هي
أحبوه في اليونانية.
أن يسبغوا على اللغة الفرنسية وشعرها الجمال الذي ّ
أعلن بالي مذهبهم في كتابه «دفاع وبيان عن اللغة الفرنسية» الذي نُشِ ر
سماها رونسار ،الذي نشر
عام .1549وتألّفت منهم جماعة اليلياد كما ّ
هو أيض ًا موجز ًا في فن الشعر .وال غرو أن يعرب البويسيه عن إعجابه
بهم ،فقد َأثْروا اللغة الفرنسية بوسائل ال ُتحصى :خلق الجديد ،استرجاع
القديم ،االشتقاق من الالتينية ،واليونانية ،واإليطالية ،حر ّي ّة الصرف
والنحت ،ابتكار صيغ جديدة الوجود لها في اللغة الفرنسية ،وإن و ُِجدت
في اللغات األخرى ...إلخ.
88
- 48دروع قيل أنها سقطت من السماء على أرض روما في عهد الملك
نوما ،وأن الغلبة سوف تظل دائم ًا لهذه المدينة طالما احتفظ الرومان بها.
--------------------------------------------------------------
89
حدود لها يترك كل متعة في الواقع».
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------
محظية نيرون ،تزوَّجها ،ثم قتلها ،ويقال بِ َر ْكلة ق ََدم -عام .65
ّ « - 55بوبيا»
--------------------------------------------------------------
90
كاراكاال)حكموا على الترتيب في السنوات اآلتية 80إلى 180 ،96إلى
211 ،192إلى .217
--------------------------------------------------------------
- 59كائن في صورة إنسان له قرون الماعز وأقدامها .يُط َلق مجاز ًا على
الفاجر.
- 60المراد «بترارك».
--------------------------------------------------------------
« - 61آ كلو الشعوب» وصف ورد في اإللياذة عدة مرات خلعه
هوميروس على بعض الملوك.
***
91
صدر يف سلسلة كتاب الدوحة
عبد الرحمن الكواكبي طبائع االستبداد 1
غسان كنفاين برقوق نيسان 2
سليامن فياض األمئة األربعة 3
عمر فاخوري الفصول األربعة 4
عيل عبدالرازق اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم 5
نبي
مالك بن ّ رشوط النهضة 6
محمد بغدادي صالح جاهني -أمري شعراء العامية 7
أبو القاسم الشايب نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب 8
سالمة موىس حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ 9
ميخائيل نعيمة الغربال 10
الشيخ محمد عبده اإلسالم بني العلم واملدنية 11
بدر شاكر السياب أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته 12
ترجمة :غادة حلواين • فتنة الحكاية جون أيديك -سينثيا أوزيك -جيل ماكوركل -باتريشيا هامبل
92
93
94