You are on page 1of 94

‫مقالة يف‬

‫العبود ّية املختارة‬


‫إيتيان دي البويسيه‬

‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬


‫تقديم‪ :‬محمد الرميحي‬
‫‪34‬‬
‫يوزع مجانا ً مع العدد ‪ 77‬من مجلة الدوحة مارس ‪2014‬‬

‫مقالة يف العبود ّية املختارة‬


‫إيتيان دي البويسيه‬

‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬

‫توطئة‪ :‬محمد الرميحي‬

‫الناشر ‪:‬‬
‫وزارة الثقافة والفنون والتراث ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬

‫العمل الفني للغالف ‪ - Kallo Viktor :‬هنغاريا‬


‫اإلخراج والتصميم ‪ :‬عالء األلفي ‪ -‬مجلة الدوحة‬

‫المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة‪.‬‬
‫فهرس الكتاب‬

‫‪5‬‬ ‫توطئة‪ :‬في اإلنعتاق!‬

‫‪18‬‬ ‫حياة المؤلف البويسيه وأعماله‬

‫‪28‬‬ ‫مقال في العبودية المختارة‬

‫‪64‬‬ ‫هوامش المترجم‬


‫إهداء‬

‫إلى إنجي أفالطون وفؤاد مرسي‬

‫عاشا يجمعهما حب مصر‬

‫وماتا كما نموت جميعاً‪ :‬فرادى‬

‫المترجم‬
‫في االنعتاق !‬

‫محمد الرميحي‬

‫عندما دفع إليّ األخوة في إدارة تحرير مجلة «الدوحة» بهذا الكتاب كي‬
‫أ كتب له مقدّ مة أصابتني الحيرة‪ ،‬فكيف يكتب كاتب مقدّ مة في بداية‬
‫القرن الواحد والعشرين‪ ،‬لكتاب صدر منتصف القرن السادس عشر؟ بعد‬
‫القراءة وجدت أنه كتاب صغير له معنى كبير يعبر إلى تاريخ اإلنسانية‪.‬‬
‫هو في الحقيقة رسالة ‪،‬أو ما يسمّ ى اليوم مقالة‪ ،‬في موضوع محدَّ د‪ ،‬هو‬
‫البحث عن االنعتاق اإلنساني‪ ،‬كما ال يفوت القارئ الفطن عند إلقائه‬
‫نظرة عامة على الرسالة‪ ،‬أن ثمة عالقة واضحة بين األفكار التي سطّ رها‬
‫الكاتب (المقالة) وبين ما يجري حولنا في الفضاء العربي اليوم‪ ،‬بل هي‬
‫مفكري النهضة بعد ذلك في القرون الثالثة‬
‫مبكرة لما شغل ِ ّ‬
‫إرهاصات ِ ّ‬
‫الالحقة لكتابة المقالة‪.‬‬

‫الكتاب الذي بين أيدينا عنوانه «مقال في العبودية المختارة»‪ .‬ولو خطر‬
‫للمؤلّف أن تكون مقالته بعنوان آخر مثل «مقالة في االستبداد» لما أخطأ‬

‫‪7‬‬
‫الهدف‪ .‬ألن أحد تعريفات االستبداد هو (عدم قبول المشورة في الشأن‬
‫العام)‪ ،‬أو االستبداد بالرأي‪ ،‬وهو أيض ًا معنى من معاني العبودية !‬

‫المقالة كُ تِبت في القرن السادس عشر الميالدي‪ ،‬ونحن اآلن في القرن‬


‫الواحد والعشرون‪ ،‬يالها من مسيرة زمن طويل مثقل بالمآسي اإلنسانية!‬
‫ّف تَمَّ تحريره في ذلك الوقت‬
‫إال أن الصاعق ألهل العقل‪ ،‬أن يكون مؤل ٌ‬
‫وفي تلك الظروف األوروبية العسيرة‪ ،‬له عالقة بما نحن فيه اليوم‪،‬‬
‫وإن اختلفت التفاصيل‪ ،‬أو على األقل بجزء كبير مما نحن فيه‪( ،‬قبول‬
‫العبودية) طوع ًا بأشكالها المختلفة‪ ،‬دون أن يكون هناك وعي لما تعنيه‬
‫وحقه األصيل في الح ّريّة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫العبودية من ضرر فادح على اإلنسان وكرامته‬

‫الكتب ليست بحجمها‪ ،‬إنما الكتب لها‬


‫ال لنرى أن ُ‬
‫هنا علينا أن نتوقَّف قلي ً‬
‫معيار أهم من الحجم‪ ،‬وهو معيار بقائها عبر العصور‪ ،‬ومقاومتها لتصاريف‬
‫الزمن الذي يُبلي تقريب ًا كل شيء‪ ،‬عدا األفكار‪ .‬يالها من قوة إنسانية‬
‫ال‬
‫تملكها (األفكار) التي تبقى كل هذه السنين‪ ،‬وتؤ ِ ّثر في الناس جي ً‬
‫بعد جيل‪ ،‬وتتحول معانيها مع ظروف مستجدّ ة إلى مواءمة تكاد تكون‬
‫متطابقة‪ ،‬بين عصر مضى وعصر قادم! َأتُرى أن س ّر بقاء هذه األفكار هو‬
‫أن اإلنسان (ال يتعلَّم) من الماضي ومن أخطائه ومن تاريخه‪ ،‬يريد دائم ًا‬
‫أن يم َّر بالتجربة نفسها في كل جيل وفي كل عصر حتى يختبرها بنفسه؟‬
‫يخل من (شيطان) في داخله‪ ،‬يز ِّين له أن‬
‫ُ‬ ‫أم أن اإلنسان في الحقيقة لم‬
‫السيطرة على اآلخرين ونزع إنسانيتهم وتحقيق نوع من المتعة الغامضة‪،‬‬
‫يحقق الشعور بالتفوُّق‬
‫ِّ‬ ‫والتصرُّف في حياتهم على أنه نوع من النجاح‬
‫ويشبعه؟‬

‫من الكتب التاريخية الصغيرة في حجمها والكبيرة في تأثيرها والتي‬


‫بقيت على َم ّر الزمن كتاب «األمير» لميكافيلي‪ ،‬الذي إن قرأته اليوم‬

‫‪8‬‬
‫سوف تجد شخص ًا ما في بلد ما يحكم تقريب ًا بنصائح «األمير»‪ ،‬حتى لو‬
‫لم يكن قد قرأ الكتاب‪ ،‬كُ تّاب آخرون مثل كارل ماركس وآدم سميث‪،‬‬
‫كانو من الموتى عندما أدرك العالم أهمية ما كتبوا‪ ،‬كتاب واحد في‬
‫تاريخنا العريي المعاصر ال يتعدّ ى أربعين صفحة‪ ،‬ولم يقرأه إال عدد‬
‫قليل من الناس على أبعد تقدير‪ ،‬أودى بحياة حاكم حديث‪ .‬الكتاب هو‬
‫«الفريضة الغائبة» والحاكم هو أنور السادات‪ ،‬تغيَّرت بعده المعادالت‬
‫وال زالت تتغيَّر‪ .‬هكذا الكتب تبقى وتُطبَع َمرّة تلو َمرّة‪ ،‬حتى لو كانت‬
‫رسائل قصيرة‪ ،‬ما يجمع بينها هو حكمة إنسانية مفقودة عند الغير وغير‬
‫قابلة للتطبيق في آن معاً‪.‬‬

‫انظر كيف تحتفل الثقافة العربية في عصرنا بكتاب «طبائع االستبداد‬


‫ومصارع االستعباد» لعبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬يعجز المرء أن يعرف عدد‬
‫تكرار طبعاته حتى اليوم‪ .‬هذا الكتاب ال زال يُقرَأ‪ ،‬ويكتشف العربي بعد‬
‫قراءته أنه كتب له ولعصره‪ ،‬رغم مرور ما يقرب من قرن على تسطيره ! لم‬
‫يكن هذا الكتاب‪ ،‬كما قال آخرون‪ ،‬منهم عباس محمود العقاد‪ ،‬خالي ًا من‬
‫أفكار كتبها فالسفة أوروبيون قبل الكواكبي‪ ،‬وقد تأثّر بها‪ .‬كتاب آخر هو‬
‫من ثمانين صفحة فقط للكاتب الشيخ علي عبدالرازق «اإلسالم وأصول‬
‫الحكم» َج َّر عليه في حينه لعنة السلطة وتوابعها‪ ،‬إال أنه بقي منبر ًا تجري‬
‫العودة إليه تكراراً‪ ،‬كلما احتدّ النقاش حول العالقة بين الحكم واإلسالم‬
‫محط نقاش في المستقبل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في الفضاء العربي‪ ،‬وأعتقد أنه سيكون‬

‫في تاريخنا العربي الكثير من الكتب التي تتَّصف تقريب ًا بمواصفات‬


‫تختزلها ثالث كلمات (صغيرة‪ ،‬عميقة‪ ،‬ومستمرة التأثير) لو قرأنا اليوم‬
‫«رسالة الصحابة» التي َخطّ ها عبدالله بن المقفع‪َ ،‬ضمَّ نَها رؤيته إلصالح‬
‫الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور وأصحابه‪ ،‬ورأى وجوب الجهر‬
‫الحكام‬
‫ّ‬ ‫بالنصيحة حين ساءت أحوال األمة‪ ،‬وقد القى اضطهاد ًا من‬

‫‪9‬‬
‫والوالة في عصره‪ ،‬رغم الرمزية التي كتب بها نصائحه‪ ،‬ولو عدنا إليها‬
‫اليوم الندثر أمامنا الجدل الذي تمَّ ت اإلخاضة فيه في ذلك الوقت‪ ،‬وال‬
‫زالت أسبابه تفعل فعلها إلى اليوم‪ ،‬ألن المعضالت الفكرية التي أثارها‬
‫ال زالت دون َحلّ حتى الساعة‪.‬‬

‫الرسالة التي بين أيدينا مؤ ِ ّلفها هو إيتيان دي البويسيه الذي ولد في مدينة‬
‫سارال عام ‪ 1530‬إلى الجنوب من ليموج‪ ،‬المعروفة حتى اليوم بصناعة‬
‫البورسلين‪ .‬الفترة التي عاشها المؤ ِ ّلف هي فترة النقاش العظيم الذي ساد‬
‫انبثاق األفكار الحديثة في أورربا في مجمل القرن السادس عشر‪،‬ولكن‬
‫لم يكن هذا النقاش دون معارضة‪ ،‬وهي فترة كان الصراع فيها دامي ًا بين‬
‫مك ِّونات المجتمع األوروبي الدينية والقومية‪ .‬كانت الكنيسة قد غرقت‬
‫في عصر الخرافة‪ ،‬وكانت الطليعة األوروبية تنزع إلى التفكير العلمي في‬
‫ومتعددة‬
‫ِّ‬ ‫مرحلة بداية االكتشافات العلمية‪ ،‬وهي مرحلة شديدة االحتقان‬
‫الصراعات‪ ،‬نشطت فيها حركات التفكيك الديني مع التجمُّ ع القومي‪ ،‬مع‬
‫الحروب األهلية الضروس‪ ،‬مما أدّ ى إلى سيل ضخم من الدماء واآلالم‬
‫والبؤس والفاقة والظلم‪.‬‬

‫يناقش الكتاب فكرة مركزية هي‪( :‬هل الح ّريّة مطلب مركزي لإلنسانية؟‬
‫وإن كانت كذلك‪ ،‬لماذا يقبل البعض أن يكون (مستعبَداً) بشكل طوعي‪،‬‬
‫دون أن يحاول التخلص من عبوديته؟)‪ ،‬ويحاول اإلجابة عن هذا السؤال‬
‫ال باإلشارة إلى أهمية (الوعي)‬
‫الكبير والمعقَّ د الذي أر ََّق اإلنسانية طوي ً‬
‫لدى اإلنسان‪ ،‬وكيف يتكوَّن هذا الوعي‪ ،‬سواء الوعي بمقاومة العبودية‬
‫أو نقص الوعي بقبولها!‬

‫في األشهر األخيرة صدف أن شاهدت عدد ًا من األفالم يدور موضوعها‬


‫حول (العبودية)‪ .‬اثنان ال زالت أحداثهما عالقة في مخ ِ ّيلتي‪ :‬األول اسمه‬

‫‪10‬‬
‫«الخادم‪ ،‬أو رئيس الخدم» الرجل األسود الذي جاء من العبودية بكل‬
‫سوءاتها ليخدم بشكل متواصل خمسة رؤساء أميركيين في البيت األبيض‪،‬‬
‫من الرئيس دوايت أيزنهور إلى الرئيس بل كلنتون‪،‬ومشاهد الفيلم مثيرة‪،‬‬
‫خاصة في بدايتها‪ ،‬عندما يغتصب رجل أبيض والدة البطل‪ ،‬ثم سماعه‬
‫صراخها الموجع‪ ،‬ثم يخرج المغتصب ليرمقه األب بنظرة لم يستحسنها‪،‬‬
‫فيُخرِ ج الرجل األبيض مسدسه‪ ،‬ويفرغ في رأسه رصاصة تنهي حياته في‬
‫لحظة‪ ،‬الولد الذي أصبح رئيس خدم شهد هذا في صباه‪ ،‬ولم تفارقه‬
‫مؤخر ًا كان بعنوان «اثنا عشر‬
‫َّ‬ ‫تلك الصورة‪ .‬والفيلم الثاني الذي شاهدته‬
‫عام ًا من العبودية» يحكي قصة رجل أسود ح ّر ومتزوج‪ ،‬تقوم عصابة‬
‫محترفة بخطفه وتح ِّوله إلى عبد يُباع في سوق النخاسة‪ ،‬يقاسي األ َمرَّين‬
‫من عبوديته في حقول القطن في نهاية القرن التاسع عشر إلى درجة أنه‬
‫أشرف على الموت شنق ًا بسبب كلمة رَدَّ فيها على رئيس العمال‪ ،‬حتى‬
‫تُكتَب له الح ّريّة تحت ظروف معقَّ دة‪ ،‬بعد اثني عشر عام ًا من العبودية‪،‬‬
‫وبقي ليروي قصته‪ ،‬التي كانت نادرة‪ ،‬فمعظم المختطفين وقتها من‬
‫السود‪ ،‬وهم وإن كانوا أحرار ًا إال أنهم قضوا حياتهم في العبودية‪.‬‬

‫القصتان السابقتان حقيقيَّتان‪ ،‬والسينما الحديثة قد رسمت ما عاناه العبيد‬


‫في الواليات المتحدة وفي غيرها من ظلم بالغ القسوة وشديد القهر وغير‬
‫إنساني‪ ،‬وبعضه كان ُي َبرَّر وقتها بنصوص دينية‪ .‬بل لقد شهدت ذلك في‬
‫زيارة منذ سنوات إلى الجزيرة السنغالية حيث كان العبيد السود يُساقون‬
‫منها إلى الواليات المتحدة‪ ،‬كان كل اثنين يُربَطان معاً‪ ،‬وإن اختلَّ توازن‬
‫أحدهما وهو في الطريق الضيّق إلى السفينة وسقط في البحر فإنه يأخذ‬
‫اآلخر معه إلى غياهب بحر الظلمات‪.‬‬

‫هل يعني أن اإلنسان خلق في جسم واحد من قسمين‪ :‬جانب خ ِ ّير منه‪،‬‬
‫وجانب بالغ الشر؟ هل اإلنسان يمكن أن يكون شيطاني ًا وشرير ًا إلى‬

‫‪11‬‬
‫بأحط من معاملة الحيوان؟ وهل يمكن أن‬
‫ّ‬ ‫درجة أن يعامل إنسان ًا آخر‬
‫يكون اإلنسان ‪-‬بسبب ظروف المنشأ أو ظروف العيش‪ -‬مطواع ًا لغيره‬
‫دون أن يبدي تذمُّر ًا أو رغب ًة في االنعتاق ؟ تلك أسئلة إنسانية كبرى يقوم‬
‫المؤ ِ ّلف هنا بنقاشها‪ ،‬حتى وهو في فضاء القرن السادس عشر‪ ،‬حيث‬
‫انتشرت العبودية‪ ،‬بل والتجارة فيها انتشار ًا يشبة اليوم انتشار التجارة في‬
‫التليفونات المحمولة‪!.‬‬

‫العجيب والمُ َح ِ ّير أن األسئلة األساس التي يطرحها المؤ ِ ّلف في ذلك‬
‫المتقدم‪ ،‬عصر التراتب االجتماعي الحادّ ‪ ،‬وعصر امتالك األرض‬
‫ِّ‬ ‫العصر‬
‫ومَنْ عليها‪ ،‬وعصر اإلقطاع والسيطرة على ما فوق األرض وما تحتها‪،‬‬
‫عصر النبالء ورعاة الكنيسة وسيطرة البابا على قلوب وعقول ماليين‬
‫البشر‪ ،‬وانتشار الخرافة‪ ،‬تلك األسئلة نفسها تُطرَح اليوم في كتابات‬
‫معاصرة‪ ،‬بل إن من يقرأ الرسالة التي بين أيدينا وقد َسمَّ يْتها (كتاباً)‬
‫يرى أنه تقريب ًا يصادف القضايا نفسها التي يطرحها الكتاب تقريباً‪،‬‬
‫كأشكال الحكم‪ ،‬وسبب الثورات‪ ،‬وحقوق الشعب‪ ،‬والوعي أو نقصه‪،‬‬
‫والقهر‪ ،‬وأهمية التسامح‪ ،‬وقصور َحلّ الصراعات بالقوة‪ ..‬إلى آخر مثل‬
‫هذه المفردات والعناوين التي ال يخلو منها مؤلّف اليوم في السياسة أو‬
‫االجتماع‪.‬‬

‫ننظـــر إلـــى أوروبـــا اليـــوم‪ ،‬أو باألحـــرى‪ ،‬ينظـــر إليهـــا الجيـــل الجديـــد‬
‫وكأنه ــا ب ــاد م ــن (خب ــز وعس ــل) إن ص ــح التعبير‪:‬ديموقراطي ــة مزده ــرة‪،‬‬
‫وحقــوق إنســان‪ ،‬ومحاكــم دوليــة ومح ّل ّيــة عادلــة‪ ،‬واعتنــاء بالمحتاجيــن‬
‫فـــي المجتمـــع‪ ،‬ومســـاواة أمـــام القانون‪،‬وضرائـــب عــــادلة‪،‬ومنتجات‬
‫حديثـــة‪ ،‬ومســـاواة بيـــن الرجـــل والمـــرأة‪ ،‬أي تقريبـــ ًا كل مـــا يلـــزم‬
‫العتب ــار المواط ــن ف ــي تل ــك الب ــاد ف ــي ش ــبه َج ّن ــة أرضي ــة ! ولك ــن‪،‬‬
‫بالرجـــوع إلـــى بضعـــة قـــرون قليلـــة ال تتعـــدّ ى األربعـــة‪ ،‬ســـوف نـــرى‬

‫‪12‬‬
‫صـــورة مختلفـــة وعكســـية بـــل وســـوداوية‪ :‬صراعـــ ًا دمويـــاً‪ ،‬وقمعـــ ًا ال‬
‫إنس ــاني ًا ال يمك ــن حت ــى تصــوُّر م ــدى صلف ــه ووحش ــيته‪ ،‬يعن ــى ذل ــك‬
‫كل ــه أن اإلنس ــان يس ــتطيع أن يتق ــدَّ م ف ــي ُس ـلَّم (اإلنس ــانية) إن اس ــتطاع‬
‫يحكــم العقــل مــن جهــة‪ ،‬وإن اســتطاع المقهــور رفــع رأســه ليقــول‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫أن‬
‫كف ــى‪.‬‬

‫مرة أخرى‪ :‬هل (الح ّريّة) مطلب إنساني؟ في ذلك الوقت (القرن‬
‫السادس عشر) كانت مطلب ًا للمثقَّ فين وأصحاب الوعي‪ ،‬وكانت تعتبر‬
‫باب ًا ال مناص من دخوله من أجل أن يصبح اإلنسان إنسان ًا بحق‪ ،‬إال أن‬
‫القرون الالحقة‪ ،‬ومع تطوُّر البشرية وتجاربها المريرة لم تعد (الح ّريّة)‬
‫على إطالقها هي المقصد‪ ،‬فهي (أي الح ّريّة) مهمّ ة عندما تُقَ نَّن‪ ،‬ويصبح‬
‫لها قواعد مُ تَفَّ ق عليها‪.‬‬

‫في القرون الالحقة لصدور ما نحن بصدد قرءاته «مقال في العبودية‬


‫المختارة» تطوَّر التفكير إلى ما بعد الح ّريّة‪ ،‬صار لدينا مفهوم مرادف‬
‫اسمه (الديموقراطية) أي أن ينتخب الناس مَنْ يم ِ ّثلهم بشكل دوري مُ قَ نَّن‪،‬‬
‫تنظم أعمال المجتمع‪.‬‬
‫وأن يقوم هؤالء المنتخبون بكتابة القوانين التي ِ ّ‬
‫لم يكن ذلك نهاية المطاف‪ ،‬فقد وجدت اإلنسانية من خالل تجاربها‬
‫المرّة التي تشبه العلقم أن (صناديق االنتخاب) يمكن أن تأتي بدكتاتورية‬
‫مقيتة‪ ،‬حدث هذا لَمّ ا اعتلى أدولف هتلر وحزبه ُسدّ ة الحكم في ألمانيا‬
‫في أواخر ثالثينيات القرن الماضي‪ ،‬عن طريق صناديق االنتخاب‪ .‬كان‬
‫ذلك درس ًا لإلنسانية يقول‪ :‬لو أن ألمانيا لم ترزح تحت وضع اقتصادي‬
‫واضطراب وتصدُّ ع اجتماعيين نتيجة ما حاق بها من هزيمة في الحرب‬
‫العالمية األولى‪ ،‬لَظلَّ أدولف هتلر نَقّ اش ًا غير معروف!‬

‫إذاً‪ ،‬صناديق االنتخاب ليست حلّاً قاطع ًا يجلب (الح ّريّة)‪ ،‬ثم تطوَّر‬

‫‪13‬‬
‫(مؤسسات المجتمع المدني)‪ ،‬وقد انبهر ذلك‬
‫َّ‬ ‫الحديث إلى أهمية وجود‬
‫العالِم الفرنسي ألكسي دي توكفيل بالتنظيم (المجتمعي الذي وجده في‬
‫ُرجع إليه‬
‫الواليات المتحدة)‪ ،‬وكتب عن الديموقراطية األميركية ما صار ي َ‬
‫حتى اليوم‪ ،‬ووجد أن التقدُّ م في أي مجتمع هو ثانوي للتعاون البشري‪،‬‬
‫أي مجتمع إال إذا كان محكوم ًا‬
‫الذي هو األصل‪ ،‬وال يمكن أن يصل إليه ّ‬
‫بـ(حكومة قوانين ال بشر)! إذاً‪ ،‬الروابط التي تجمع الجماعات الصغيرة‬
‫لتحقق أهدافها‪ ،‬هي التي تجعل المجتمع ُح ّراً‪ ،‬متى‬
‫ِّ‬ ‫في المجتمع األكبر‬
‫َكنَها الفضاء القانوني من تنظيم نفسها‪.‬‬
‫ما م َّ‬

‫هنا أضفنا إلى فكرة الح ّريّة والديموقراطية فكرة أخرى هي (المجتمع‬
‫المدني المنظّ م) إال أنه يبقى شيء آخر يُسَ مّ ى اليوم (الوعي)‪ .‬يشير‬
‫الكاتب إلى فكرة الوعي بقصة لها معنى مأخوذة من تاريخ اإلغريق تقول‬
‫إن شخص ًا أخذ َج ْر َويْن من أمّ واحدة‪ ،‬أحدهم تمَّ ت تنشئته في المطبخ‪،‬‬
‫ُضع أرنب و إناء‬
‫وآخر أُطلِق في الحقول‪ ،‬وبعد فترة‪ِ ،‬جي َء بالكلبين‪ ،‬وو ِ‬
‫فيه حساء أمامهما‪ ،‬فقام كلب المطبخ باالقتراب من الحساء لشربه‪ ،‬أما‬
‫كلب الحقول فقد بدأ يطارد األرنب! هذه القصة التي تبدو رمزية‪ ،‬تعني‬
‫تتحكم في تصرُّف المخلوق‪ ،‬واإلنسان كذلك ابن بيئته‪ .‬فمن‬
‫َّ‬ ‫أن البيئة‬
‫يكون عبد ًا فإن أبناءه يشبّون على قبول العبودية‪ ،‬وتبدو لهم أنها من‬
‫طبيعة األشياء ال يحتاجون إلى تغييرها‪.‬‬

‫صحيح أن الح ّريّة التي هي صلب هذه الرسالة تعني أن يكون الفرد قادر ًا‬
‫تدخل من اآلخرين‪ ،‬كما أن القيمة المعنوية‬
‫ُّ‬ ‫على اختيار تصرُّفاته دون‬
‫َحلّ نقاش من أجل تقدُّ م المجتمع‪ ،‬كما طوَّرها فالسفة‬
‫للح ّريّة لم تعد م َ‬
‫أوروبا في القرن التاسع عشر‪ ،‬مثل جان لوك‪ ،‬وثومس هوبز‪ ،‬ومن جاء‬
‫المفكرين‪ ،‬إال أن البشرية اصطدمت بـ(حدود الح ّريّة) من‬
‫ِّ‬ ‫بعدهما من‬
‫جهة‪ ،‬وبآليّات تحقيق تلك الح ّريّة من جهة أخرى‪ .‬من هنا ظهرت فكرتا‬

‫‪14‬‬
‫(الح ّريّة اإليجابية) و(الح ّريّة السلبية) اللتان طوَّرهما الفيلسوف إكسفورد‬
‫إيزايا برلين‪ ،‬في مقال شهير بعنوان «مفهومان للح ّريّة»‪ ،‬وقد عرف الح ّريّة‬
‫السلبية بأنها (النطاق الذي يمكن للشخص أن يتصرَّف فيه دون إعاقة‬
‫من اآلخرين) أي أنها عالَم للفِعال غير المكبوحة‪ ،‬أو غياب اإلجبار‪ ،‬أما‬
‫اإليجابية فهي (كون اإلنسان َس ِ ّيد نفسه)‪ .‬زعم إيزايا أن األخيرة ليست‬
‫ح ّريّة بل هي قدرة‪ ،‬ألن الحرمان من الح ّريّة هي (النيّة على منع العمل)‪.‬‬
‫والفارق بينهما كالفارق بين عدم شراء كتاب‪ ،‬ألن السلطة قد منعت‬
‫تداوله‪ ،‬أو عدم القدرة على شرائه ألنه ال توجد نسخة منه في السوق! هنا‬
‫الفرق بين (الحرمان) من الح ّريّة ووجود عائق ما يمنع مؤَّقت ًا تحقيق رغبة‬
‫ما‪ .‬األخيرة تقع في حدود الح ّريّة‪.‬‬

‫المفكرين‬
‫ِّ‬ ‫أمّا آليات الح ّريّة فهي أ كثر تعقيداً‪ ،‬فعلى الرغم من أن كثير ًا من‬
‫ذهبوا إلى أن تحقيق الح ّريّة هي بوضع تنظيم يُسَ مّ ى (الديموقراطية) أي‬
‫أن يكفل للجميع من المواطنيين ح ّريّة اختيار مم ِ ّثليهم‪ .‬إال أن آخرين‪،‬‬
‫منهم كارل ماركس وجد (أن الناس ال يدركون مصالحكم الحقيقية)‪،‬‬
‫ولذا وجب أن تقوم طبقة لها وعي ناضج بمصالحها بقيادة المجتمع‬
‫(الطبقة العاملة)‪ .‬وعلى رغم أن مثل هذه النظرية و ُِجد مَنْ يف ِ ّندها‪ ،‬إال‬
‫أن الفكرة العامة وهي (هل يستطيع جميع األفراد في المجتمع تحقيق‬
‫مصالحهم؟) ظلت محلّ أخذ َورَدّ في فضاء الديموقراطيات الحديثة‪ .‬فمن‬
‫خالل آليات الديموقراطية الحديثة يمكن تضليل الجمهور العام‪ ،‬ويمكن‬
‫أن تصادر (األغلبية) حقوق (األق ّليّة)‪ ،‬بل ال زال مفهوم (وعي الناخب‬
‫بمصالحه) محدوداً‪ ،‬حيث يمكن إغراؤه أو تضليله تحت شعارات قومية‬
‫أو وطنية أو حتى دينية أو فئوية ! فالناس يمكن أن يقعوا ‪-‬بسهولة‪ -‬ضحية‬
‫ألحاسيسهم وتحيُّزاتهم وعواطفهم‪ ،‬حتى إنهم يمكن أن يقعوا ‪-‬بسهولة‪-‬‬
‫في خداع الحديث أو خداع الوعود‪ ،‬أي إنهم (أو أ كثرهم)‪ ،‬في النهاية‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫تحكم تصرفاتهم ‪-‬خاصة السياسية‪ -‬أليات غير منطقية‪ ،‬ويخضعون‬
‫للهوى ال للعقل‪ .‬حتى في التجارب النيابية‪ ،‬كثيرون في فضائنا الشرقي‬
‫ومحققين لمصالح‬
‫ِّ‬ ‫على األقلّ يظلون مندوبين مقيَّدين بآراء الناخبين‬
‫ناخبيهم الض ِ ّيقة‪ ،‬كما إن بعضهم ينضمّ إلى الدهماء خوف ًا منهم أو رجاء‬
‫أصواتهم‪.‬‬

‫من هنا تطوَّر البحث عن الح ّريّة لتقديم مفهوم يسمّ ى اليوم (الديموقراطية‬
‫الليبرالية) التي لها عدد من الشروط تنجيها مما ُعرِ ف في بعض التجارب‬
‫بـ(الديموقراطية الشمولية)‪ .‬من تلك الشروط المسبقة المساواة بين أفراد‬
‫ال المساواة األخالقية بين‬
‫الشعب‪ ،‬وهي خمس أنواع من المساواة‪ :‬أو ً‬
‫أفراد الشعب‪ ،‬والمساواة أمام القانون ثانياً‪ ،‬أي أن القانون ‪ -‬كما يشار‬
‫إليه في الكثير من النصوص الحديثة ‪(-‬أعمى) ال يتحيَّز لجنس أو عرق‬
‫أو فئة أو نفوذ أو جاه أو سلطة‪ .‬ثالثاً‪ :‬المساواة السياسية‪ ،‬فعلى امتداد‬
‫تاريخ البشرية تعرَّضت المساوة السياسية إلى تجاهُ ل بشع باسم السلطان‬
‫أ كان روحي ًا أم كان دنيوياً‪ ،‬وهنا يتلبس األمر بين (التماثل) و(التساوي)‪.‬‬
‫والقصد هو التساوي في الحقوق العامة كحقّ الحياة والتداوي والتعليم‪،‬‬
‫وحقّ القول والبحث والنشر والح ّريّة والتملُّك والمرور‪ ،‬أي الحقوق التي‬
‫أصبحت تسمّ ى (طبيعية) لإلنسان الفرد‪ .‬ورابعاً‪ :‬المساواة في الفرص‬
‫المتاحة للمواطنيين‪ ،‬وأخيراً‪ :‬التفرقة اإليجابية للمحرومين كاألقيات أو‬
‫كأصحاب القدرات المحدودة(اإلعاقة)‪ .‬و‪-‬في بعض األحيان ‪-‬كالمرأة‬
‫في مجتمعات تحرمها من حقوقها اإلنسانية‪.‬‬

‫دخل اليوم ‪-‬بداية القرن الواحد والعشرين‪ -‬مفهوم جديد بدأ في‬
‫الصعود منذ نهاية القرن الثامن عشر وهو (الح ّريّة االقتصادية)‪ .‬وعلى‬
‫ال مع صعود‬
‫الرغم من خفوت هذا العنصر في بعض مناحي التاريخ (مث ً‬
‫االشتراكية الماركسية) في بعض البلدان‪ ،‬إال إن سقوطها السريع نسبي ًا‬

‫‪16‬‬
‫ال أن (الح ّريّة االقتصادية) جزء ال‬
‫وفشلها وجمودها ضرب للبشرية مث ً‬
‫يتجزّأ من الح ّريّة‪ ،‬وهي كالح ّريّات األخرى ال تكون مطلقة‪ ،‬بل مقيَّدة‬
‫بما يفرضه العقل من عدم جور على حقوق اآلخرين‪ .‬لقد عرفت البشرية‬
‫أن االقتصاد الح ّر يرفع من مرتَّبات العمال‪ ،‬ويصون حقوقهم‪ ،‬ويساعد‬
‫على المسيرتين االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬بل إن بعض الدراسات تقول‬
‫لنا إن االقتصاد األميركي لم ينتعش إال بعد تحرير العبيد‪ ،‬فهم كقوة عمل‬
‫وقوة شرائية أفضل لالقتصاد من استرقاقهم‪ ،‬بل الح ّريّة االقتصادية هي‬
‫مؤخر ًا أن استفادة بلد مثل بريطانيا من‬
‫َّ‬ ‫أفضل من االستعمار‪ ،‬وقد ثبت‬
‫عالقة متوازنة اقتصادية مع بالد مثل الهند‪ ،‬أفضل مما كانت تستفيد منه‬
‫بريطانيا لَمّ ا كانت مستعمِ رة للهند طوال أ كثر من قرنين من الزمان!‬

‫تبقى نقطة أخيرة تجبرنا الرسالة التي نحن بصدد قراءتها على التفكير‬
‫فيها مل ّياً‪ ،‬فعلى الرغم من تقدُّ م التفكير البشري في موضوعات مثل‬
‫الح ّريّة والديموقراطية وحقوق اإلنسان والمساواة بين البشر وحق‬
‫المتاجرة‪ ،‬وحقّ االنتخاب والتمثيل إال أن (الوعي) ال زال في حدود‬
‫غير ناضجة لدى الكثير من قاطني هذه األرض التي نحيا عليها‪ .‬فهناك‬
‫من يقبل (الضيم) أو يساعد علية بأسماء مختلفة منها‪ :‬الديني‪ ،‬والقومي‪،‬‬
‫والخرافي‪ ،‬وغير العقالني! والسؤال‪ :‬كيف يمكن تطوير الوعي؟ هنا نجد‬
‫أن وسائل تطوير الوعي المستخدمة اليوم بعضها ‪-‬في حقيقة األمر‪-‬‬
‫(يز ِّيف الوعي)؛ فالمدارس يمكن أن تكون وسيلة لتزييف الوعي‪،‬‬
‫وكذلك وسائل اال ِ ّتصال الحديثة‪ ،‬وكذالك التنشئة األسرية والتضليل‬
‫السياسي‪ ،‬كلّها بسبب مصالح فئات اجتماعية تملك النفوذ تقوم بتزييف‬
‫وعي المواطن لدرجة قبوله بالضيم‪،‬أو حتى بشكل من أشكال العبودية‬
‫الحديثة‪ ،‬كعبودية العادة أو العرف أو التقليد أو المحاكاة‪ .‬ال زال البعض‬
‫منا يرى أن غاية الحكومة الحديثة هي (تعزيز الفضيلة)‪ ،‬وال يريد أن‬

‫‪17‬‬
‫يعترف أن الفضيلة نسبية ومتغ ِ ّيرة! وأن غاية الحكومة الحفاظ على‬
‫الح ّريّة من أجل ازدهار المجتمع‪ ،‬وتزيد وسائل االتصال الحديثة في‬
‫بعض المجتمعات ‪-‬من بينها المجتمعات العربية‪ -‬في تغييب الوعي‬
‫بتوزيع ونشر الخرافات واألفكار غير العلمية‪ ،‬فيقع الفرد (عبداً) لتلك‬
‫األفكار‪ ،‬بعد أن تحوَّلت العبودية في زماننا من حالها المادي إلى الحال‬
‫المعنوي‪.‬لقد واجهت شعوب كثيرة نقص الوعي‪ ،‬ولعل قول توماس‬
‫جفرسون ‪-‬الرئيس األميركي واضع إعالن االستقالل‪ -‬في ذلك‪ ،‬شارة‬
‫المؤسسون في أميركا من صعوبات‪ ،‬إذ قال‪« :‬ال‬
‫ِّ‬ ‫إلى ما كان يواجهه‬
‫أعرف مكان ًا أ كثر أمن ًا لسلطة المجتمع المطلقة من الناس أنفسهم‪ ،‬وإذا‬
‫اعتقدنا أنهم غير مستنيرين بما يكفي لممارسة سيطرتهم بتعقُّ ل كامل‪،‬‬
‫فلن يكون العالج هو سلبهم تلك السلطة‪ ،‬بل توجيه وعيهم من خالل‬
‫التثقيف والتعليم السياسي‪ .».‬والتعليم والتثقيف السياسي هما ما تفقده‬
‫اليوم األغلبية من المجتمعات الناشئة‪.‬‬

‫ويأتي اآلن السؤال الجوهري‪ :‬كيف يمكن ‪-‬في زماننا‪ -‬أن تُستحدَ ث‬
‫(الحدّ من استخدام السلطة تعسُّ فياً)؟ اإلجابة عن هذا‬
‫َ‬ ‫سلطات من أجل‬
‫السؤال تبدو بسيطة في الحديث‪ ،‬عسيرة في التنفيذ وهي (أن يملك‬
‫والمؤسسات لعزل مَنْ هم في السلطة إن أساؤوا‬
‫َّ‬ ‫الناس الحقّ ‪ ،‬والقدرة‪،‬‬
‫استخدامها)! لم يتوافر ذلك في الفضاء العربي حتى الساعة؛ لذلك نجد‬
‫أن التغيير من أجل الفكاك من الظلم االجتماعي جاء عنيف ًا أو شبه عنيف‬
‫في فضائنا العربي‪ ،‬وهو ال زال كذلك في بعض ربوعنا‪ ،‬وربَّما يستمرّ‪،‬‬
‫وطرُق التغيير والتداول‬
‫وقد يكون أ كثر عنف ًا كلما َسدَّ ت السلطات ُسبُل ُ‬
‫على السلطة‪.‬‬

‫صرخة إيتيان دي البويسيه قبل خمسة قرون التي قال فيها «حتى غدت‬
‫يمت إلى الطبيعة» هي صرخة ال زالت‬
‫ّ‬ ‫الح ّريّة تبدو اليوم وكأنها شيء ال‬

‫‪18‬‬
‫تتردَّ د في أرجاء مختلفة من المعمورة‪ ،‬فالح ّريّة تلك التي يبحث عنها‬
‫اإلنسان ال زالت مُ تناَزلَ عنها في مكان‪ ،‬ومزيَّفة في مكان آخر‪ ،‬وال زال‬
‫قوله‪« :‬إن الحيوان ال يتنازل عن ح ّريَّته إال بعد دفاع ضروس ! ولكن‬
‫اإلنسان يفعل ذلك بسبب الحاجة أو بسبب غياب الوعي» ماثالً‪.‬‬

‫تقدم لنا ضوء ًا نستنير به في طريق البحث‬


‫هذه المقالة التي بين أيدينا قد ِ ّ‬
‫عن الح ّريّة‪.‬‬

‫***‬

‫‪19‬‬
‫حياة دي البويسيه وأعماله‬

‫‪Étienne de La Boétie‬‬
‫) ‪(1530 - 1563‬‬

‫ِ‬
‫تنقض بضعة أعوام على وصول‬ ‫ُولِد البويسيه عام ‪ ،1530‬وفي قرن بدأ و َل ّما‬
‫كريستوفر كولومبوس إلى سواحل أميركا (‪ 1492‬م)‪ ،‬وفاسكو دي جاما‬
‫إلى الهند (‪ 1498‬م) (((‪ .‬ولد في األول من نوفمبر في مدينة سارال إلى‬
‫الجنوب من ليموج وإلى الشرق من بوردو(فرنسا)‪ ،‬وال يزال بوسع السائح‬
‫وهو يم ّر بشوارع هذه المدينة الصغيرة أن يعجب بجمال منازلها التي تشهد‬
‫لها منذ القرن السادس عشر بالدعة والرخاء‪ .‬ونعلم أن الملوك ‪-‬وإن اختفى‬
‫بظهورهم واشتداد نفوذهم الحلم القديم حلم «المملكة المسيحية‪-‬‬
‫قد استندوا مع ذلك في تقسيم المدن واألقاليم إلى تقسيمات الكنيسة‬
‫وبدأوا بها‪ ،‬فكانت سارال من الوجهة الكنسية أبرشية‪ ،‬وكانت من الوجهة‬

‫‪ -1‬من المقطوع به أن الصين كان لها أسطول وصلت سفنه إلى سواحل إفريقية‪ ،‬وكان ألميراالته مشاريع‬
‫موحدة‪ ،‬أي دولة ال ترى وجه ًا لجمع المال إال بتحصيل‬
‫َّ‬ ‫أقرانهم األوروبيين‪ ،‬ولكن الصين كانت إمبراطورية‬
‫متحجرة ال ترى في أمثال هذه المشاريع إال مغامرات ال طائل‬
‫ِّ‬ ‫الضرائب والمكوس‪ ،‬وترتكز إلى بيروقراطية‬
‫من اإلنفاق عليها‪ ،‬بينما كانت أوروبا مسرح ًا تتصارع فيه النظم السياسية على اختالفها‪ ،‬ويتصارع فيها‬
‫على احتكار الدول وتأسيسها ملوك كانوا هم أنفسهم كما قال أحد المؤررخين أول أصحاب المشاريع‪ ،‬زاد‬
‫شرههم للذهب بقدر استنزافهم له في الحروب‪ .‬ويكاد يكون من المقطوع به أيض ًا أن فاسكو دي جاما‬
‫قد اعتمد في عبور المحيط الهندي على الملّاحين العرب المنتشرين في إفريقيا دون أن ينتبه أحد إلى أن‬
‫وصوله إلى الهند كان يعني النجاح في تطويق العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫المدنية تدخل في عداد المتص ّرفيات التي ينوب فيها عن الملك متص ِ ّرف‬
‫يؤدي باسمه الوظائف القضائية واإلدارية‪ ،‬إال أن هؤالء‬
‫(بايى أوسنيشال) ّ‬
‫المتصرفين الذين كانوا ينتمون إلى الطبقة األرستوقراطية آثروا البقاء في‬
‫حاشية الملك‪ ،‬أو آثر الملك إبقاءهم في حاشيته‪ ،‬فتركوا أعمالهم لن ّوابهم‪،‬‬
‫وكان أبو إيتيان دي البويسيه أحد هؤالء الن ّواب‪ .‬كان مؤ ِ ّلفنا ‪-‬إذ ًا‪ -‬ينتمي‬
‫إلى عائلة ميسورة مثقَّ فة‪ .‬إال أن أباه أدركه القَ َدر وهو طفل فتولّى أمره‬
‫عمه‪ ،‬وكان من رجال الكنيسة المتض ِ ّلعين في الالهوت واآلداب‪ ،‬فنشأ‬ ‫ُّ‬
‫لما يبلغ العاشرة‪،‬‬
‫إيتيان‪ ،‬الذي بدأت معالم ذكائه الخارق تتبين وهو ّ‬
‫محبته لها‬
‫َّ‬ ‫على تقديس «اإلنسانيات» اليونانية والالتينية‪ .‬وساعد على‬
‫وتم ُّرسه بها أن حركة النهضة قد قويت في سارال بنوع خاص؛ إذ كان‬
‫أسقفها كاردينال إيطالي (وهو الكاردينال نيقولو جادي) ربطت أواصر‬
‫تبحره بطابع المتأ ِ ّنس‬
‫القرابة بينه وبين آل مديسيس الفلورنسيين‪ ،‬وانطبع ُّ‬
‫اإليطالي حتى إنه كان يحلم بأن يجعل من أسقفيته جمهورية لآلداب‬
‫والفنون مثلما كانت أثينا‪.‬‬

‫انكب البويسيه على الدرس‪ .‬وال ندري‬‫َّ‬ ‫في هذا الوسط الراقي الثقافة‬
‫َّ‬
‫المؤكد هو أن أساتذته‬ ‫على التحقيق بأيّة مدرسة التحق‪ ،‬ولكن الشيء‬
‫فوجهوه إليها‪ .‬وكان‬
‫َّ‬ ‫قد لمسوا من نجابته ما ِ ّ‬
‫يؤهله لاللتحاق بالجامعة‬
‫أن إيتيان دي البويسيه قد‬
‫أن التحق بجامعة أورليان التي تشهد سجلّاتها ّ‬
‫تأهب ًا لالشتغال ال باآلداب‪ ،‬بل بالقضاء‪.‬‬
‫جاءها لدراسة القانون ُّ‬

‫ولسنا نعجب لذلك كثير ًا‪ .‬فقد رأينا أن البويسيه كان ينتسب إلى هذه‬
‫الشريحة االجتماعية التي كان يخرج منها القائمون باألعمال العامة‪ ،‬ثم‬
‫إن دراسة القانون نفسها كانت تصطنع منهج ًا ال يختلف عن المنهج‬
‫الم َّتبع في دراسة النصوص األدبية‪ ،‬وأعني به منهج التفسير النقدي الذي‬
‫يتعداهما‬
‫ّ‬ ‫ال يقف عند بيان الفروق بين المذاهب واإلحاطة بها‪ ،‬بل‬

‫‪21‬‬
‫إلى التفسير النحوي للصيغ التشريعية وتحليل مدلوالت الكلمات‬
‫واستعماالتها ثم االستعانة بالتاريخ توضيح ًا لمرادها‪ .‬فدراسة القانون‬
‫المح ّل األول‪-‬دراسة لغوية فيلولوجية‬
‫َ‬ ‫كدراسة اإلنسانيات كانت‪-‬في‬
‫تستمد غذاءها من التفكير الفلسفي والبحث‬
‫ّ‬ ‫نص ّبة على النصوص)‬
‫(أي مُ َ‬
‫الحجة واالستدالل‪ .‬وكان‬
‫ّ‬ ‫التاريخي ومن أعمال النقد والثقة بسلطان‬
‫هذا المنهج الذي يجعل من دراسة القانون جزء ًا من اإلنسانيات كدراسة‬
‫ال في جامعة أورليان التي كانت‬ ‫الم َّتبع فع ً‬
‫الشعر والفلسفة هو المنهج ُ‬
‫ُت َع ّد ثانية جامعات فرنسا بعد جامعة باريس‪ .‬وإذا كانت شهرة مدرسة‬
‫القانون فيها ال تعدل شهرة مدرسة بولونيا أو بادو بإيطاليا فقد كان لها‬
‫حظ وافر من أساتذة القانون الفطاحل (يكفي أن نذكر منهم كوجا‬ ‫أيض ًا ّ‬
‫الح ّي الالتيني يحمل اسمه حتى اليوم‪ ،‬والذي‬
‫الذي ال يزال أحد شوارع َ‬
‫يرجع إليه الفضل في أن أعاد إلى القانون الروماني المعنى الذي كان له‬
‫في المجتمع الذي وضع فيه)‪ ،‬ويجدر بالذكر أيض ًا أن كالفن‪ ،‬اعظم رجال‬
‫اإلصالح الديني بعد لوثر‪ ،‬قد درس فيها بين ‪ 1528‬و ‪ 1533‬م‪ ،‬وأن عدد ًا‬
‫من زمالء البويسيه في هذه الجامعة‪ ،‬وفي مقدمتهم هوتمان‪ ،‬قد صاروا من‬
‫مشاهير هذه الحركة‪ .‬وال غرو في ذلك لما نعلمه من ا ّتفاق رجال اإلصالح‬
‫والمتأ ِ ّنسين على هذه الدعوة‪ :‬الرجوع إلى األصول‪.‬‬

‫حصل البويسيه على درجة الجامعة في ‪ 23‬سبتمبر عام ‪1553‬م وحصل من‬
‫الملك هنري الثاني على تصريح يبيح له شراء حق العمل قاضي ًا في برلمان‬
‫السن القانونية (الخامسة والعشرين) وبدأ ممارسة أعماله‬
‫ّ‬ ‫بوردو ((( قبل بلوغ‬

‫ُعف‬
‫‪ -1‬بلغ من احتياج الملك فرنسوا األول إلى المال أنه جعل الحصول على المناصب بالشراء‪ ،‬وإن لم ي ِ‬
‫ذلك طالب الوظيفة من االمتحان‪ .‬هذا وكانت كلمة البرلمان تطلق على المحكمة‪ ،‬وكانت المحكمة نفسها‬
‫مركَّ ب ًا قانوني ًا معقَّ د ًا يضمّ عدّ ة «غرف» يتميَّز شاغِ لو كل منها برداء خاص‪ :‬أولها وأعالها مرتبة الغرفة‬
‫الكبيرة‪ ،‬أما الغرف التالية فكانت تنقسم ويتعدّ د كل قسم منها بحسب االحتياجات‪ ،‬كغرفة التحقيقات‪،‬‬
‫وغرفة العرائض‪ ...‬إلخ‪ .‬هذا وكان األعضاء بعضهم من رجال الدين والبعض اآلخر من المدنيين‪ ،‬ولكن‬
‫الغلبة صارت للمدنيين مع مرور الزمن‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫فيها بعد االمتحان في ‪ 17‬من مايو عام ‪ 1554‬م‪ .‬فلما جاء مونتني ليعمل هو‬
‫أيض ًا قاضي ًا في هذه المحكمة عام ‪ 1557‬م‪ .‬انعقدت بين الرجلين الصداقة‬
‫التي َخ َّلد مونتني ذكرها في مقاالته‪ .‬ولسنا نعلم في أي المنازعات قضى‬
‫البويسيه أو مونتني‪ ،‬ولكنا نعلم أن البرلمانات قد بدأت خالل القرن السادس‬
‫عشر تشارك مشاركة ملحوظة في الحياة السياسية كان من َج ّرائها أن ا َّتخذ‬
‫برلمان بوردو إزاء مآسي الصراع الديني المتصاعدة في جنوب فرنسا‬
‫الغربي موقف ًا ا َّت َسم بالوالء للملكية وباالستمساك بالعقيدة الكاثوليكية‬
‫أدى بقضاته إلى اعتبار الهجنوت (وهو االسم الذي ُأطِ لق‬ ‫على السواء‪ّ ،‬‬
‫على أشياع «كالفن» بفرنسا) هراطقة‪ ،‬فأوقعوا فيهم عقوبات ضارية‬
‫الزج بهم في المحارق‪ ،‬ولكن المحارق لم تزد الحزازات الدينية إال‬
‫بلغت ّ‬
‫مهمة ظاهرها االحتكام إلى‬‫سعير ًا‪ .‬عندئذ أوفِد البويسيه إلى باريس في ّ‬
‫مجلس الشورى الملكي في خالف بين قضاة بوردو وسلطاتها البلدية‪،‬‬
‫ولكن باطنها كان ّ‬
‫أدق وأعمق‪.‬‬

‫ال في العاشرة‪ .‬وكان‬ ‫الملِك‪،‬في هذا الوقت‪( ،‬ديسمبر ‪ 1560‬م) طف ً‬ ‫كان َ‬


‫زمام الحكم بيد أ ِ ّمه كاترين دي ميدديسيس وكان َه ّم هذه المرأة اإليطالية‬
‫أهلية ِ ّ‬
‫تهدد النظام أو‬ ‫ّ‬ ‫هو الحيلولة دون انقالب الصراع الديني إلى حرب‬
‫الملك ك ّله‪ .‬لهذا كانت تستمع طواعية إلى النصح الذي كان يسديه إليها‬
‫مستشارها ميشل دي لوبيتال الذي قام البويسيه بزيارته في باريس‪ .‬وكان‬
‫الرجالن ‪-‬على اختالف السن بينهما بما يبلغ ربع القرن‪-‬قد ُخلِقا ليتفاهما‪:‬‬
‫ِّ‬
‫متحمس‬ ‫لرد القضاء إلى شكلياته‪،‬‬‫كالهما ضليع في علوم القانون‪ ،‬وكاره ّ‬
‫لإلنسانيات‪ ،‬كما كان كالهما مستقيم الخلق‪ ،‬صادق ًا في وطنيته‪ .‬ف َ‬
‫َك َّلف‬
‫ميشيل دي لوبيتال صديقه بأن يشرح لبرلمان بوردو الذي انتصر أعضاؤه‬
‫ِّ‬
‫المتعصب سياسة التسامح الديني التي كان يدعو‬ ‫للفريق الكاثوليكي‬
‫مهمته حتى كاد ينعقد لقاء وطني‬
‫َّ‬ ‫إليها‪ .‬ونجح البويسيه أول األمر في‬
‫ِّ‬
‫ويمهد إلخراج سياسة التسامح من مجال‬ ‫يضم رجال الدين من الطرفين‪،‬‬
‫ّ‬

‫‪23‬‬
‫النصح إلى َح ِ ّيز التشريع‪ ،‬ولكن وضوح تفكيره وواقعيته سرعان ما أقنعاه‬
‫بأن سياسة التسامح آيلة إلى اإلخفاق لتوالي أعمال العنف من الجانبين‪.‬‬
‫يتردد ‪ -‬حين ظهر مرسوم ‪ 17‬يناير ‪ 1562‬م القاضي بترك‬ ‫َّ‬ ‫ومع هذا لم‬
‫حرية العبادة ألشياع كالفن دون اعتبارهم هراطقة ‪ -‬في أن يكتب مُ َذ ِ ّكرة‬
‫شرح فيها النتائج المنحوسة التي تنجم عن المنازعات الدينية وب ََّي َن‬
‫يؤدي الردع الدموي ال إلى القضاء على األعداء بل‬ ‫‪-‬بنظر ثاقب‪ -‬كيف ّ‬
‫أهلية تحرم الدولة من صفوة‬ ‫ّ‬ ‫إلى تفاقم العداوة تفاقم ًا ِ ّ‬
‫يهدد البالد بحرب‬
‫يفكر فيمن استشهد من أساتذته وأصدقائه‪.‬‬ ‫العقول‪ .‬وأغلب الظن أنه كان ِ ّ‬
‫لما بلغت المذابح مداها‪ ،‬وضاق البويسيه برفض بعض قضاة بوردو‬ ‫ثم ّ‬
‫اإلذعان لكل نصح بالمسألة‪ ،‬كما ضاق باالنقسامات الدفينة التي تناهبت‬
‫القصر الملكي نفسه كتب ِ ّ‬
‫مذكرة في قانون يناير ‪ 1562‬م لم ينكر فيها‬
‫الكاثوليكية بما هي دين للدولة إال أنه دعا إلى «كاثوليكية مستصلحة»‬
‫تترك مجا ً‬
‫ال للتوافق بين الكاثوليكية والبروتستانت‪.‬‬

‫بعد ذلك نزل به مرض ال نعلم هل كان الديسنتاريا أم الطاعون‪ .‬فطلب‬


‫نقله إلى أرض تملكها امرأته‪ ،‬ولكن المرض ألجأه إلى النزول عند صديق‬
‫كانت تصله بمونتني أواصر المصاهرة‪ ،‬على بضع كيلومترات من بوردو‪.‬‬
‫وصيته تارك ًا مكتبته لمونتني‬
‫َّ‬ ‫وفي ‪ 14‬أغسطس أدرك دن ّو نهايته‪ ،‬فكتب‬
‫عنوان ًا على صداقته‪ .‬وفي ‪ 18‬أغسطس لفَ َظ َنفَ َسه األخير ومونتني بجانبه‪.‬‬

‫لم يلبث مونتني أن نشر عام ‪ 1580‬م مع الطبعة األولى لكتابه الخالد‬
‫مقاالت وأعمال صديقه األدبية‪ .‬وكانت قسمين‪ :‬شعر نظمه في مقتبل‬
‫العمر‪ ،‬وترجمات عن المؤ ِ ّرخ اليوناني كسينوفون‪ ،‬منها الفصول الستة‬
‫األولى االقتصادية من كتابه (وكانت تنسب إذ ذاك إلى أرسطو) وأخرى‬
‫ِّ‬
‫متعددة عن بلوتارك‪ ،‬منها قواعد الزوج‪ ،‬ورسالة العزاء التي كتبها بلوتارك‬
‫تبين في هذه الترجمات ما وصفناه‬
‫إلى زوجته تعزية لها في وفاة ابنتيهما‪ّ .‬‬

‫‪24‬‬
‫وتأدبهم الذي يتج ّلى في شروحهم وتعليقاتهم وفي‬
‫ُّ‬ ‫من ثقافة المتأ ِ ّنسين‬
‫حرصهم الصبور على استعادة النصوص القديمة كاملة استناد ًا إلى‬
‫مخطوطات منقوصة أو مح َّرفة في كثير من األحايين‪ .‬ولكن مونتني لم‬
‫ينشر أعمال صديقه النثرية ألنه رأى فيها ‪-‬كما قال‪« -‬حياكة أدق وألطف‬
‫من أن تخرج إلى الجو الخشن الثقيل الذي ا َّت َسم به هذا الفصل الفاسد»‪،‬‬
‫وهي عبارة تحوي إشارة إلى الصراع السافر الذي انتهت إليه العالقة‬
‫بين حركة اإلصالح الديني وبين الدولة (أي الملكية) والذي تجاوز‬
‫عام ‪ .1572‬والراجح‬ ‫الح ّد الذي ال رجعة بعده بمذبحة الهجنوت‬
‫ ( ((‬
‫َ‬
‫أن البويسيه كان قد قرأ «مقال في العبودية المختارة» على بعض أقرانه‬
‫بجامعة أورليان‪ ،‬وأن بعضهم نسخوه‪ .‬ومنهم من كان أو (صار) من أشياع‬
‫كالفن‪ ،‬فأدرجوا في كتاباتهم ومنشوراتهم التأليبية المتعاقبة مع تصاعد‬
‫العداء واستحكامه مقتبسات تطول أو تقصر من هذا المقال‪ .‬وهذا هو ما‬
‫يقوله مونتني صراحة في صدد مقال البويسيه على التحديد‪« :‬لقد عدلت‬
‫المح ّل ألني رأيته وقد خرج إلى الضوء منذ‬
‫َ‬ ‫عن إنزال هذا العمل بهذا‬
‫ذلك الحين (أي منذ مات صديقه)‪ ،‬ولغاية غير بريئة‪ ،‬وأخرجه الساعون‬
‫إلى إشاعة االضطراب بمدينتنا دون أن يتساءلوا أهم بذلك مصلحوها!‪،‬‬
‫زجوا البويسيه في زمرة‬
‫ومزجوه بكتابات أخرى من عجينهم»‪ .‬وبذا ّ‬
‫الك ّتاب الذين أطلق عليهم اسم «أعداء الملوك»(موناركواك)‪ ،‬وجعلوا‬
‫من «مقال في العبودية المختارة» ((( نص ًا يستخدمه المجاهد السياسي‬
‫ألغراضه‪ .‬وأكاد أضيف‪ :‬قبل أن يفهم غرضه‪ .‬وربما كان هذا الشطط‬
‫هو الذي دعا مونتني أن يه ّون بعض الشيء من مقال صديقه‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪ -1‬وهي المذبحة المعروفة بليلة القديس بارتورليمي‪ .‬بدأت بقرع النواقيس من كنيسة سان جرمان دوكسروا‬
‫في باريس‪.‬‬

‫‪ -2‬مونتني‪ ،‬مقاالت‪ ،‬الكتاب األول‪ ،‬الفصل ‪ ،28‬والمراد بالواحد هنا هو الملك ألن الكلمة األوروبية‬
‫(مونارك) التي تترجم بـ(الملك) مشتقة من كلمتين يونانيتين تعنيان «حكم الواحد»‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫«وهو مقال خلع عليه اسم العبودية المختارة‪ ،‬ولكن م َْن ال علم لهم‬
‫فس ّموه «تهافت الواحد»‪ .‬كتبه على‬
‫بذلك أعادوا تعميده منذ ذلك الحين َ‬
‫سبيل التمرين في مطلع شبابه»؛ وهي الثامنة عشرة (أي عام ‪)1548‬‬
‫بحسب الطبعات األولى من المقاالت‪ ،‬وفي طبعة ظهرت عام ‪1593‬‬
‫وفق ًا لتصحيح بيد مونتني هي السادسة عشرة ‪ -‬أي عام ‪ .1546‬فبأي‬
‫تاريخ نأخذ؟‪.‬‬

‫كانت الوحدة السكنية في الريف هي القرية التي خلق أهلها ليعملوا في‬
‫المشَ َّيدة‬
‫األرض المحيطة بهم دون أن يملكوها‪ ،‬وليعبدوا الله في الكنيسة ُ‬
‫وسطها‪ .‬لذا كانت القرية من حيث هي جماعة من الناس يشاركون العمل‬
‫في األمور التي تخصهم جميع ًا (كتعبيد طريق أو بناء جسر أو فض نزاع‬
‫أو تحديد األرض المشتركة للرعي أو اتخاذ موقف مشترك إزاء مطلب‬
‫تسمى باسم المشتركية (كومين)‪ ،‬كما كانت‬
‫جديد للنبيل‪ ...‬إلخ‪ ).‬كانت ّ‬
‫تسمى من وجهة اإلدارة الكنسية‪ ،‬أو بما هي خلية روحية (األبرشية) (((‪.‬‬‫ّ‬
‫وكان النبيل يمتلك األرض وما عليها‪ ،‬يملك ما َح َّلق في سمائها من الطير‬

‫وما شقَّ ها من الطرق واألنهار‪ ،‬وكان يقتطع أجزاء من هذه األرض لمن‬
‫وهب نفسه لخدمته بسيفه من الفرسان‪ ،‬وإن غلب أن يكون ذلك في‬
‫صورة الحيازة ال التمليك‪ .‬أما الفالحون فكانوا يعملون في خدمة النبالء‬
‫والفرسان بمحاريثهم ومناجلهم‪ ،‬يعيشون بما يبقى لهم من المحصول‬
‫حصتهم‪ ،‬وحتى هذا المتبقّ ي كانت تثقله شتى‬
‫َّ‬ ‫بعد أن يأخذ هؤالء‬
‫الضرائب المباشرة وغير المباشرة‪ ،‬لهذا ازدحم تاريخ العصور الوسطى‬
‫بالثورات الشعبية (بالمعنى الذي ال تعني فيه كلمة الشعب أهل البلد كله‬

‫‪ -1‬ويل للبالد التي َخيَّم عليها سلطان الدولة قبل أن تخوض شعوبها ‪ -‬لعوائق جغرافية وتاريخية ‪-‬‬
‫مثل هذه التجربة في التضامن على المصالح التي عرفتها أوروبا في شكل المتجسديات في المدن‪،‬‬
‫والمشتركيات في الريف‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫بل المستضعفين منهم) التي انتشرت في أوروبا خالل الفترة بين ‪1330‬‬
‫و‪ 1420‬بنوع خاص‪ ،‬حتى صار لكلمة «المشتركية» معنيان‪ :‬معنى‬
‫أهم هذه الثورات‬
‫الوحدة اإلدارية‪ ،‬ومعنى الثورة أو االنتفاضة‪ .‬وكان ّ‬
‫وأشهرها الثورة التي وقعت في المنطقة التي تقع فيها باريس (ايل دي‬
‫فرانس) والتي عرفت باسم صار يطلق بعد ذلك على جميع هذه الثورات‪:‬‬
‫جاكري (نسبة إلى جاك وهو أكثر األسماء شعبية)‪ .‬وفي عام ‪ ،1548‬أي‬
‫حين كان البويسيه في الثامنة عشرة من عمره اندلعت في الجوين (وهي‬
‫اإلقليم الذي نشأ فيه مؤ ِ ّلفنا وعمل قاضي ًا بعاصمة بوردو) ثورة اجتاحت‬
‫جنوب فرنسا كله‪ .‬ثورة كانت ال تختلف من حيث وصفها عن سابقاتها‪،‬‬
‫فهي أيض ًا كانت «جاكري» ولكنها من حيث داللتها قد ألفت حدث ًا‬
‫الجدة‪ ،‬بدأت به صفحة جديدة في تاريخ ثورات الفالحين‬
‫ّ‬ ‫جديد ًا كل‬
‫في أوروبا‪ ،‬صفحة لم تنت ِه إال بانتهاء الحياة القروية نفسها في شكلها‬
‫تقدم المدنية الصناعية خالل القرن التاسع عشر‪ ،‬ذلك أنها‬
‫المعهود‪ ،‬مع ُّ‬
‫كانت تختلف عن سابقاتها من وجهين‪:‬‬

‫انضم إليهم بعض أهل‬


‫َّ‬ ‫‪ - 1‬لم تكن مقصورة على الفالحين وحدهم‪ ،‬بل‬
‫المدن الذين َّ‬
‫مكنهم ثراؤهم من شراء األرض واالشتغال بزراعتها‪.‬‬

‫‪ - 2‬لم تكن ثورة على نبيل أو عدد من النبالء بل ثورة في وجه الدولة‪،‬‬
‫فقد فرض الملك فرانسوا األول عام ‪ 1541‬ضريبة على الملح‪ ،‬وهي‬
‫تهيؤا للشتاء‪ ،‬فبدأت‬
‫ضرورة حيوية لحاجة الفالحين إليه لتجفيف اللحوم ُّ‬
‫ال شمل المنطقة كلها عام‬‫هنا وهناك حركات من التم ُّرد استفحلت استفحا ً‬
‫ِ‬
‫يكتف الفالحون بطرد جباة الملح الممقوتين‪ ،‬بل تعقَّ بوهم‬ ‫‪ .1548‬فلم‬
‫إلى المدن حيث ديارهم ومراكز عملهم‪ ،‬فحاصروا بعضها‪ ،‬واستولوا على‬
‫البعض اآلخر بينها مدينة بوردو نفسها‪ .‬وهناك أوقعوا الموت بكل من‬
‫توهموا أنه منهم‪ .‬ثم بعد ذلك اجتمعت حشودهم‬
‫رأوه من الجباة أو َّ‬

‫‪27‬‬
‫ببعض المنازل الفسيحة أو بالميادين العامة كيما يح ِ ّرروا عرائض إلى‬
‫الملك (وكان إذ ذاك هنري الثاني) وك ّلفوا بعض األعيان ‪-‬سواء أشاءوا‬
‫الرد وعد ًا برفع شكاوى رعاياه‬
‫أم لم يشاءوا ‪-‬برفعها إلى جاللته‪ ،‬فكان ّ‬
‫ال رفعت الضريبة في سبتمبر عام ‪ .1549‬ولكن‬ ‫اكتفوا به فتف َّرقوا‪ .‬وفع ً‬
‫َّ‬
‫ونكل‬ ‫بعد أن أرسل اليهم الملك جيش ًا رادع ًا نشر الرعب في اإلقليم‪،‬‬
‫بأهله ش َّر تنكيل‪َ :‬ح ّل برلمان بوردو‪ ،‬وتسريح قضاته‪ ،‬وإلغاء امتيازاته‪ .‬وال‬
‫نتحدث َّن عن اإلرهاب الدموي فقد بلغ من ُقتِلوا على سبيل «التأديب» مئة‬
‫وخمسين رج ً‬
‫ال‪ .‬ومنه َت َّتضح الحدود التي تح َّرك في نطاقها المتم ِ ّردون‪.‬‬
‫يفكرون في المساس بسلطة الملك‪ ،‬بل يحتكمون إليه‪ :‬فالملك‬ ‫فهم ال ّ‬
‫«أمير» وعادل‪ ،‬إنه يجهل مِ َحن الشعب التي يخفيها عنه وزراء السوء‪ ،‬فأما‬
‫هم فما اجتمعوا وتس َّلحوا إال بمشيئة الله‪ ،‬وما مقتوا إال الجباة العاتين‪،‬‬
‫وما كرهوا ضريبة الملح إال ألنها «بدعة»‪ .‬فاألحداث قد دارت وكأن‬
‫بم َثل أعلى من الطيبة والرحمة ال يتوقَّعون‬‫ث ّوارنا كان يصلهم حبل س ّري َ‬
‫كذب الواقع توقُّ عهم آثروا تكذيب الواقع‬ ‫منه إال العدل والمحبة‪ ،‬فإن َّ‬
‫شك أن البويسيه قد تابع هذه األحداث‬‫بم َثلِهم األعلى‪ .‬وال ّ‬
‫واإلمساك َ‬
‫وأن هذه الظاهرة قد استوقفته‪ :‬أن نرى شعب ًا بأسره (الشعب الذي ينتمي‬
‫إليه) ين ِ ّزه عن القسوة من تقع بأمره أقصى القسوة ! وأقول ال شك ألنه‬
‫ذكر هذه الظاهرة صراحة وإن خال مقاله من كل إشارة إلى األحداث التي‬
‫أشك ‪-‬إذ ًا‪ -‬في أن البويسيه قد كتب العبودية المختارة‬
‫ّ‬ ‫أملت سؤاله‪ .‬وال‬
‫وهو في الثامنة عشرة من عمره بعد ثورة الفالحين‪ ،‬ال تعبير ًا عن سخطه‬
‫على منطق الدولة بما هو منطق العدالة اإلرهابية‪ ،‬بل ألن اخفاق هذه‬
‫الثورة قد جعله يلمس شيئ ًا من حدود المشروع الثوري‪ .‬أهذا كل ما‬
‫نستطيع قوله؟‪.‬‬

‫نص ح َّلق كاتبه في آفاق البالغة تحليق ًا جعل‬


‫إن العبودية المختارة ّ‬

‫‪28‬‬
‫سانت بيف ال يرى فيه إال أنموذج ًا المع ًا لما يكتبه الطالب النابغ في‬
‫فصل البالغة‪ .‬ومعنى هذا الرأي أن النص المذكور غير ذي موضوع‬
‫أو‪-‬باألدق‪ -‬أن الموضوع فيه ليس إال مناسبة يستغ ّلها الطالب ليبدي‬
‫ال‬‫تمكنه مما تع َّلمه على مقاعد الدرس‪ .‬غير أن سانت بيف هذا كان مثا ً‬ ‫ُّ‬
‫همه األوَّل الحكم‬ ‫يسمى (الناقد األدبي) أي رج ً‬
‫ال ُّ‬ ‫ّ‬ ‫فاضح ًا على ما كان‬
‫والقضاء على ما يقرأ ‪ -‬ألن الحكم والقضاء يضيفان الجاه ‪ -‬ال أن‬
‫يتفهم ويتع َّلم‪ .‬ولكننا سوف نرى أن هذا التحليق البالغي إنما كان أحسن‬
‫َّ‬
‫توسل بها الكاتب ‪ -‬وتلك ثقافته وثقافة قارئه ‪ -‬إلى تصوير‬‫السبل التي َّ‬
‫ينم فكره عن واقعية ندر أن‬
‫ما لمسه من الواقع‪ .‬وأعني بذلك أن البويسيه ّ‬
‫تتحقَّ ق‪ ،‬وال يخلو تحقُّ قها لدى شاب في الثامنة عشرة من الغرابة‪ .‬لهذا‬
‫كنت ِ ّ‬
‫أرجح أنه إنما رمى الرمية األولى وهو بهذه السن‪ ،‬ولكنه لم ينت ِه‬
‫من االشتغال بالمقال إال في سن َت ْي دراسته بجامعة أورليان بين ‪1553‬‬
‫و ‪ 1555‬مستعين ًا بمناقشاته مع أقرانه‪ ،‬إذ‪ ،‬بالمناقشة‪ ،‬تتبين األفكار وإن‬
‫لم َت َّتفق‪ ،‬وبما اكتسبه من اإلحاطة بعلوم القانون والتاريخ على أيدي‬
‫أساتذته‪.‬‬

‫هذا عن تاريخ كتابة هذا المقال‪ .‬ننتقل اآلن إلى الحديث عن مصيره‪.‬‬

‫***‬

‫‪29‬‬
‫مقالة يف‬
‫العبود ّية املختارة‬

‫‪30‬‬
‫«كثرة األمراء سوء‪ ،‬كفى ِ ّ‬
‫سيد واحد‪ ،‬ملك واحد» (‪.)1‬‬

‫بهذه الكلمات خاطب أوليس القوم في هوميروس‪ .‬ولو أنه وقف عند‬
‫قوله‪« :‬كثرة األمراء سوء» ألحسن القول بما ال مزيد عليه‪ .‬لكنه حيث‬
‫وجب تعليل ذلك بالقول بأن سيطرة الكثيرين ال يمكن أن يأتي منها‬
‫تسمى باسم السيد صعبة‬
‫ّ‬ ‫الخير ما دامت القوة المسندة إلى واحد‪ ،‬متى‬
‫االحتمال منافية للمعقول‪ ،‬راح يعكس الكالم‪ ،‬فأضاف‪« :‬كفى َسيِ ّ د‬
‫واحد‪ ،‬ملك واحد»‪.‬‬

‫بيد أن أوليس ربما وجبت معذرته؛ إذ لم يكن له مف ّر من استخدام هذه‬


‫اللغة حتى ِ ّ‬
‫يهدئ ثورة الجيش مطابق ًا بمقاله المقام بدل مطابقة الحقيقة‪.‬‬
‫فإن وجب الحديث عن وعي صادق فإنه لبؤس ما بعده بؤس أن يخضع‬
‫لسيد واحد‪ ،‬يستحيل الوثوق بطبيعته أبد ًا ما دام السوء في مقدوره‬
‫المرء ِ ّ‬
‫تعد َد البؤس الذي ما بعده بؤس بقدر ما‬
‫تعد َد األسياد ّ‬
‫متى أراد‪ ،‬فإن ّ‬
‫نملك منهم‪ .‬وما أريد في هذه الساعة طرق هذه المسألة التي كثر الجدل‬

‫‪31‬‬
‫فيها‪ :‬إذا ما كانت أشكال الجمهورية (‪ )2‬األخرى ِ ّ‬
‫تفضل حكم الواحد(‪.)3‬‬
‫ولو أردت لوددت قبل النظر في مكانة هذا الحكم بين األشكال األخرى‬
‫أن أعرف أو ً‬
‫ال هل له مكانة ما‪ ،‬ألن من الصعب االعتقاد ببقاء شيء‬
‫يخص الجماعة حيث ينفرد واحد بكل شيء‪ ،‬ولكن هذه مسألة متروكة‬ ‫ّ‬
‫لوقت آخر‪ ،‬وتقتضي مقا ً‬
‫ال يفرد لها‪ ،‬وإال جلبت معها جميع المنازعات‬
‫السياسية‪.‬‬

‫فأما اآلن فلست أبتغي شيئ ًا إال أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس‪،‬‬
‫من البلدان‪ ،‬من المدن‪ ،‬من األمم أن يحتملوا أحيان ًا طاغية واحد ًا ال‬
‫يملك من السلطان إال ما أعطوه‪ ،‬وال من القدرة على األذى إال بقدر‬
‫احتمالهم األذى منه‪ ،‬وال كان يستطيع إنزال الش ّر بهم لوال إيثارهم الصبر‬
‫عليه بدل مواجهته‪ .‬إنه ألمر جلل حق ًا ‪-‬وإن انتشر انتشار ًا أدعى إلى األلم‬
‫منه إلى العجب‪ -‬أن نرى الماليين من البشر يخدمون في بؤس‪ ،‬وقد‬
‫ُغ ّلت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أ كبر‪ ،‬بل هم(فيما يبدو) قد‬
‫سحرهم وأخذ بألبابهم مُ َج َّرد االسم الذي ينفرد به البعض‪ ،‬كان أولى بهم‬
‫أال يخشوا جبروته‪ ،‬فليس معه غيره‪ ،‬وال أن يعشقوا صفاته‪ ،‬فما يرون منه‬
‫ووحشيته‪ .‬إن ضعفنا نحن ‪-‬البشر ‪-‬كثير ًا ما يفرض‬
‫َّ‬ ‫إال ُخل َّوه من اإلنسانية‬
‫علينا طاعة القوة ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء في األرجاء ما دمنا‬
‫ال نملك دائم ًا أن نكون األقوى‪ .‬فلو أن أمة أجبرت بقوة الحرب على أن‬
‫ِ‬
‫لخادمِ ّيتِها‬ ‫تخدم واحد ًا(مثل أثينا الطغاة الثالثين)(‪ )4‬لما وجب الدهش‬
‫بل الرثاء لنازلتها‪ ،‬أو باألحرى ما وجب الدهش وال الرثاء بل الصبر على‬
‫والتأهب لمستقبل أفضل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫المكروه‬

‫إن من شأن طبيعتنا أن تستغرق واجبات الصداقة المشتركة بيننا قسط ًا‬
‫ال بأس به من مجرى حياتنا‪ .‬فمن العقل محبة الفضيلة وتقدير األعمال‬
‫الجليلة وعرفان الفضل من حيث تلقيناه‪ ،‬واالستغناء أحيان ًا عن بعض ما‬

‫‪32‬‬
‫الحب‪ .‬فلو‬
‫ّ‬ ‫نحب ومن استحق هذا‬
‫ّ‬ ‫فيه راحتنا لنزيد به شرف ًا وامتياز ًا من‬
‫أن بلد ًا رأى سكانه كبير ًا منهم يبدي بالبرهان فطنة كبيرة في نصحهم‬
‫وجرأة شديدة في الدفاع عنهم‪ ،‬وتر ِ ّوي ًا َج ّم ًا في حكمهم‪ ،‬فانتقلوا من‬
‫حد إعطائه ميزات دونهم فما‬
‫ذلك إلى طاعته وإسالم قيادهم له إلى ّ‬
‫أدري‪ :‬أهي حكمة أن ينقلوه من حيث كان يسدي الخير إليهم إلى حيث‬
‫يصبح الشر في مقدوره؟ إن التخ ّلي عن خشية الش ّر ممن لم نلق منه إال‬
‫الخير لحكمة لو كان محا ً‬
‫ال أال يخالط طيبته نقص‪.‬‬

‫نسمي ذلك؟ ّ‬
‫أي تعس هذا؟ أيّة رذيلة‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫ولكن ما هذا يا ربي؟ كيف‬
‫باألصدق‪ ،‬أيّة رذيلة تعسة أن نرى عدد ًا ال حصر له من الناس ال أقول‬
‫بد بهم‪ ،‬ال ملْك لهم وال‬
‫يطيعون بل يخدمون‪ ،‬وال أقول يُحكمون بل يُس َت ّ‬
‫أهل وال نساء وال أطفال بل حياتهم نفسها ليست لهم‍‍! أن نراهم يحتملون‬
‫السلب والنهب وضروب القسوة ال من جيش وال من عسكر أجنبي ينبغي‬
‫ضده‪ ،‬بل من واحد ال هو بهرقل وال شمشون‬
‫عليهم الذود عن حياضهم ّ‬
‫بل خنث(‪ ،)5‬هو في معظم األحيان أجبن من في األمة وأكثرهم تأنُّث ًا‪ ،‬ال‬
‫ألفة له بغبار المعارك بل بالرمل المنثور على الحلبات(إن وَطِ َئها) وال‬
‫يحظى بقوة يأمر بها الناس‪ ،‬بل يعجز عن أن يخدم ذلي ً‬
‫ال أقل تأنُّث ًا(‪)6‬؟‬
‫أنسمي ذلك جبن ًا؟ أنقول أن ّ‬
‫خدامه حثالة من الجبناء؟ لو أن رجلين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ضد واحد لبدا ذلك شيئ ًا‬
‫لو أن ثالثة أو أربعة لم يدافعوا عن أنفسهم ّ‬
‫غريب ًا‪ ،‬لكنه بعد ممكن‪ ،‬ولوسعنا القول عن حق إن الهمة تنقصهم‪ .‬ولكن‬
‫لو أن مئة‪ ،‬لو أن ألف ًا احتملوا واحد ًا أال نقول‪ :‬إنهم ال يريدون صده‬
‫ليس ألنهم ال يجرأون على االستدارة له‪ ،‬ال عن جبن‪،‬بل احتقار ًا له في‬
‫األرجح واستهانة بشأنه؟ فأما أن نرى ال مئة وال ألف رجل بل مئة بلد‪،‬‬
‫ألف مدينة‪ ،‬مليون رجل‪ ،‬أن نراهم ال يقاتلون واحد ًا أقصى ما يناله من‬
‫نسمي به ذلك؟‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والرق‪ ،‬فأ ّنى لنا باسم‬ ‫حسن معاملته ٌّ‬
‫أي منهم هو القنانة‬

‫‪33‬‬
‫حد ًا تأبى طبيعتها تجاوزه‪ .‬فلقد يخشى اثنان‬
‫أهذا جبن؟ إن لكل رذيلة ّ‬
‫واحد ًا‪ ،‬ولقد يخشاه عشرة‪ .‬فأما ألف‪ ،‬فأما مليون‪ .‬فأما ألف مدينة إن هي‬
‫لم تنهض دفاع ًا عن نفسها في وجه واحد فما هذا بجبن ألن الجبن ال‬
‫يذهب إلى هذا المدى‪ ،‬كما أن الشجاعة ال تعني أن يتس َّلق امرؤ وحده‬
‫حصن ًا أو أن يهاجم جيش ًا أو يغزو مملكة! ّ‬
‫فأي مسخ من مسوخ الرذيلة‬
‫هذا الذي ال يستحق حتى اسم الجبن‪ ،‬وال يجد كلمة تكفي قبحه‪ ،‬والذي‬
‫تنكر الطبيعة صنعه‪ ،‬وتأبى اللغة تسميته؟‬

‫مدججين بالسالح‪ .‬وضع مثلهم في‬


‫َّ‬ ‫جانب‪ ،‬خمسين ألف رجل‬
‫ٍ‬ ‫ضع‪ ،‬في‬
‫الجانب األخر‪ .‬دعهم يصطفّ ون للمعركة‪ ،‬ثم يلتحمون‪ .‬بعضهم أحرار‬
‫يقاتلون دفاع ًا عن ح ّريَّتهم والبعض األخر بغية سلبهم إياها‪ .‬ترى من تظنك‬
‫َتع ُِد بالنصر؟ من تظن أنهم ذاهبون إلى ساحة القتال بخطى مقدامة؟ َأ ُهم‬
‫م َْن يأملون االحتفاظ بح ّريتهم جزا ًء على عنائهم؟ أم أولئك الذين سواء‬
‫َأكالوا الضربات أم تلقّ وها لم ينتظروا أجر ًا عليها سوى استعباد الغير؟‬
‫األولون يضعون دائم ًا نصب أعينهم سعادة الحياة الماضية وتوقُّ ع نعيم‬
‫يماثلها في المستقبل‪ ،‬وال يفكرون في القليل الذي تلزم مكابدته زمن‬
‫سيفرض عليهم أبد الدهر‪ ،‬هم وأوالدهم‬
‫المعركة‪ ،‬بقدر ما يفكرون فيما ُ‬
‫وجميع ذريتهم‪ .‬أما األخرون فال حافز لهم إال وخز من الطمع ال يلبث‬
‫حد ًا ال تطفئه أول‬
‫أن يسكن أمام الخطر‪ ،‬وال يمكن أن يبلغ التهابه ّ‬
‫تنض بها جروحهم‪ .‬خذ المعارك المشهودة التي خاضها‬ ‫ّ‬ ‫قطرة من الدم‬
‫ميلسيادس‪ ،‬وليونيداس‪ ،‬وثميستوكل منذ ألفي عام(‪ ،)7‬والتي ما زالت‬
‫تحيا في صفحات الكتب وذاكرة البشر حتى اليوم؛ كأن رحاها لم تدر إال‬
‫باألمس على أرض اإلغريق‪ ،‬من أجل اإلغريق ومن أجل أن تكون مث ً‬
‫ال‬
‫للدنيا قاطبة‪ :‬ما الذي ‪-‬في زعمك‪ -‬أعطى فئة قليلة قلة اإلغريق إذ ذاك‬
‫ال أقول القوة بل الجرأة على الصمود في وجه أساطيل بلغ من حشدها أن‬

‫‪34‬‬
‫ناء بثقلها البحر‪ ،‬وعلى أن يدحروا أمم ًا بلغ من كثرتها أن كتيبة اإلغريق‬
‫بأسرها ما كان يكفي جنودها تزويد أعدائها ولو بالق ّواد ليس غير؟ ماذا‬
‫سوى أن المعركة لم تكن في هذه األيام المجيدة معركة اإلغريق ضد‬
‫الفرس‪ ،‬بقدر ما كانت تعني انتصار الحرية على السيادة‪ ،‬وانتصار العتق‬
‫على جشع االسترقاق؟‬

‫إ ّنا ندهش إذ نسمع قصص الشجاعة التي تمأل بها الحرية قلوب المدافعين‬
‫عنها‪ .‬أما ما يقع في كل بلد لكل الناس كل يوم‪ :‬أن يقهر واحد األلوف‬
‫المؤلّفة‪ ،‬ويحرمها ح ّريّتها‪ ،‬فمن ذا الذي كان يسعه تصديقه لو وقف عند‬
‫سماعه دون معاينته؟ ولو أن هذا القهر لم يكن يحدث إال في بلد أجنبي‬
‫يتردد في ظ ِ ّنه كذب ًا وافتراء ال حقيقة‬
‫تردد نبأ ُه أ كان أحد َّ‬
‫وأرض قاصية‪ ،‬ثم َّ‬
‫واقعة؟ ومع هذا فهذا الطاغية ال يحتاج األمر إلى محاربته وهزيمته‪ ،‬فهو‬
‫مهزوم خلقة‪ ،‬بل يكفي أال يستكين البلد الستعباده‪ .‬وال األمر يحتاج إلى‬
‫انتزاع شيء منه‪ ،‬بل يكفي االمتناع عن عطائه‪ .‬فللبلد ‪-‬إذا أراد ‪-‬أال‬
‫يتحمل مشقّ ة السعي وراء ما فيه منفعته‪ ،‬كل ما يقتضيه األمر هو اإلمساك‬
‫َّ‬
‫عما يجلب ضرره‪ .‬الشعوب ‪-‬إذ ًا‪ -‬هي التي تترك القيود ِ ّ‬
‫تكبلها‪ ،‬أو قل‬
‫َ‬
‫بالك ّ‬ ‫تكبل أنفسها بأنفسها ما دام خالصها مرهون ًا‬
‫ف عن خدمته‪.‬‬ ‫إنها ِ ّ‬
‫الشعب هو الذي يقهر نفسه بنفسه‪ ،‬ويشقّ حلقه بيده‪ .‬هو الذي ملك الخيار‬
‫ّ‬
‫الغل‪ .‬هو المنصاع لمصابه‪ ،‬أو‬ ‫الرق والعتق‪ ،‬فترك الخالص وأخذ‬ ‫ّ‬ ‫بين‬
‫(باألصدق) يسعى إليه‪ .‬فلو أن الظفر بح ّريّته كان يك ِ ّلفه شيئ ًا لوقفت عن‬
‫ح ِ ّثه‪ :‬أليس أوجب األمور على اإلنسان أن يحرص أ كبر الحرص على‬
‫يرتد عن الحيوانية ليصبح إنسان ًا؟ ولكنني ال أطمع‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫حقه الطبيعي(‪ ،)8‬وأن‬
‫منه في هذه الجرأة‪ ،‬وال أنا أنكر عليه تفضيله نوع ًا آمن ًا من أنواع الحياة‬
‫التعسة على أمل غير محقَّ ق في حياة كريمة‪ .‬ولكن! ولكن‪ ،‬إذا كان نوال‬
‫الحرية اليقتضي إال أن نرغب فيها‪ ،‬وكان يكفي فيه أن نريد‪ ،‬أ ُك ّنا نرى‬

‫‪35‬‬
‫على وجه األرض شعب ًا يستفدح ثمن ًا ال يعدو تم ّنيها‪ ،‬أو يقبض إرادته عن‬
‫فقده على الشرفاء أن تصبح‬
‫استرداد خير ينبغي شراؤه بالدم‪ ،‬ويستوجب ُ‬
‫والموت خالص ًا؟ إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الحياة مُ ّر ًة عندهم‬
‫نصب ماء‬
‫ّ‬ ‫ال‪ ،‬ثم تخبو وحدها دون أن‬ ‫كلما وجدت حطب ًا زادت اشتعا ً‬
‫عليها‪ ،‬يكفي أال نلقي إليها بالحطب كأنها إذا عدمت ما ُتهلِك‪ُ ،‬تهلِك‬
‫نفسها‪ ،‬و ُتمسي بال قوة‪ ،‬ولم َت ُع ْد نار ًا‪ .‬كذلك الطغاة كلما نهبوا طمعوا‪،‬‬
‫كلما َدمَّروا وهدموا‪ ،‬وكلما م ّوناهم وخدمناهم زادوا جرأة‪ ،‬واستقووا‪،‬‬
‫وزادوا إقبا ً‬
‫ال على الفناء والدمار‪ .‬فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن‬
‫طاعتهم صاروا ‪ -‬بال حرب وال ضرب ‪ -‬عرايا مكسورين ال شبيه لهم‬
‫ّ‬
‫فجف وذوى‪.‬‬ ‫بشيء إال أن يكون فرع ًا عدمت جذوره الماء والغذاء‬

‫إن الشهام ال يخشون الخطر من أجل الظفر بمطلبهم‪ ،‬كما أن األذكياء ال‬
‫يحجمون عن المشقّ ة‪ .‬أما الجبناء والمغفَّ لون فال يعرفون احتمال الضرر‬
‫الجبن قوة العمل‬
‫ُ‬ ‫تم ّنيه‪ ،‬يسلبهم‬
‫وال تحصيل الخير‪ ،‬وإنما يقفون عند َ‬
‫عليه‪ ،‬فالرغبة في امتالكه إنما تلصق بهم بحكم الطبيعة‪ .‬هذه الرغبة‪ ،‬هذه‬
‫اإلرادة الفطرية أمر يشترك فيه الحكيم والملتاث‪ ،‬ويشترك فيه الشجاع‬
‫يودون تلك األشياء التي يجلب اكتسابها السعادة والرضى‪.‬‬
‫والجبان‪ ،‬به ّ‬
‫شيء واحد ال أدري كيف تركت الطبيعة الناس بال قوة على الرغبة فيه‪:‬‬
‫الح ّريّة التي هي مع ذلك الخير األعظم واألطيب‪ ،‬حتى إن ضياعها ال‬
‫يلبث أن تتبعه النواكب تترى‪ ،‬وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده‬
‫رونقه وطعمه‪ .‬الح ّريّة وحدها هي ما ال يرغب الناس فيه‪ .‬ال لسبب‪ ،‬فيما‬
‫يبدو‪ ،‬إال ألنهم لو رغبوا لنالوها‪ ،‬حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب‬
‫الجميل لفرط سهولته‪.‬‬

‫ّ‬
‫لذل شعوب فقدت العقل! ويا لبؤسها! يا ألمم أمعنت في آذاها‬ ‫يا‬
‫وعميت عن منفعتها! ُتسلبون أجمل مواردكم وأنتم على السلب عيان‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫تتركون حقولكم ُتنهب ومنازلكم ُتسرق و ُتج ّرد من متاعها القديم المورث‬
‫عن آبائكم ! تحيون نوع ًا من الحياة ال تملكون فيه الفخر بملْك ما‪ ،‬حتى‬
‫لكأنها نعمة كبرى في ناظركم لو بقي لكم ولو النصف من أمالككم‬
‫وأسركم وأعماركم‪ ،‬وكل هذاالخراب‪ ،‬هذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم ال‬
‫على يد أعدائكم بل يأتيكم يقين ًا على يد العدو الذي صنعتم أنتم كبره‪،‬‬
‫والذي تمشون إلى الحرب بال وجل من أجله‪ ،‬وال تنفرون من مواجهة‬
‫الموت بأشخاصكم في سبيل مجده‪ .‬هذا العدو الذي يسودكم إلى هذا‬
‫المدى ليس له إال عينان ويدان وجسد واحد(‪ ،)9‬وال يملك شيئ ًا فوق ما‬
‫يملكه أق ّلكم على كثرة مدنكم‪ ،‬التي ال يحصرها َ‬
‫الع ّد إال ما أسبغتموه‬
‫عليه من القدرة على تدميركم‪ .‬فأ ّنى له بالعيون التي يتبصص بها عليكم‬
‫يستمدها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫باألكف التي بها يصفعكم إن لم‬ ‫إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له‬
‫منكم؟ أ ّنى له باألقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف‬
‫يقوى عليكم إن لم يق َو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لوال تواطؤكم‬
‫للص الذي ينهبكم‪ ،‬شركاء‬
‫معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة ّ‬
‫لي ْذريه‪ .‬تؤثثون‬
‫للقاتل الذي يصرعكم‪ ،‬خونة ألنفسكم؟ تبذرون الحب ُ‬
‫بيوتكم وتمألونها حتى تعظم سرقاته‪ .‬تربّون بناتكم كيما يجد ما يشبع‬
‫شهواته‪ .‬تنشئون أوالدكم حتى يكون أحسن ما يصيبهم منه ج ّرهم إلى‬
‫حروبه‪ ،‬وسوقهم إلى المجزرة‪ ،‬ولكي يصنع منهم وزراء مطامعه ومن ِّفذي‬
‫رغباته االنتقامية‪ .‬تتم َّرسون باأللم كيما يترفَّه في مس ّراته ويتم َّرغ في‬
‫ملذاته القذرة‪ ،‬وتزيدون وهن ًا ليزيد قوة وشراسة ويَسِ َمكم بلجامه‪ .‬كل هذه‬‫ّ‬
‫األلوان من المهانة التي إما البهائم ال تشعر بها‪ ،‬أو ما كانت تحتملها‪،‬‬
‫يسعكم الخالص منها لو حاولتم ال أقول العمل عليه‪ ،‬بل محض الرغبة‬
‫فيه‪ ،‬اعقدوا العزم أال تخدموا تصبحوا أحرار ًا‪ .‬فما أسألكم مصادمته‬
‫أو دفعه بل محض االمتناع عن مساندته‪ .‬فترونه كتمثال هائل ُس ِحبت‬
‫قاعد ُته فهوى على األرض بق ّوة وزنه وحدها‪ ،‬وانكسر‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫بيد أن األطباء محقّ ون‪ -‬بال شك‪ -‬إذ ينهون عن لمس الجروح التي ال برء‬
‫منها‪ ،‬وال أظنني أسلك مسلك ًا حكيم ًا إذا أردت أن أسدي هنا الموعظة‬
‫إلى الشعب بعد أن فقد كل معرفة منذ أمد طويل‪ ،‬وصار فقدان حساسيته‬
‫باأللم دلي ً‬
‫ال كافي ًا على أن مرضه قد صار مميت ًا‪ .‬لنحاول‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬أن نتبين‪ -‬لو‬
‫أمكن ذلك‪ -‬كيف استطاعت جذور هذه اإلرادة العنيدة‪ ،‬إرادة العبودية‪،‬‬
‫إلى هذا المدى البعيد حتى صارت الحرية نفسها تبدو اليوم كأنها شيء‬
‫يمت إلى الطبيعة بسبب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال‬

‫الشك يتط ّرق إليه أننا لو كنا نعيش وفاق ًا للحقوق‬


‫ّ‬ ‫أو ً‬
‫ال‪ ،‬إنه ألمر ال أظن‬
‫طيعين للوالدين‬ ‫الممنوحة لنا من الطبيعة والدروس التي ُت ِ ّ‬
‫لقننا إياها‪ ،‬لك ّنا ّ‬
‫مسخرين ّ‬
‫ألي كان‪ .‬فالطاعة التي يحملها‬ ‫ّ‬ ‫بالطبع‪ ،‬خاضعين للعقل‪ ،‬غير‬
‫كل منا ألبيه وأمه دون أن يهديه إليها إال صوت الطبيعة أم ّر الناس جميع ًا‬
‫كل عن نفسه‪ .‬فأما العقل‪ ،‬وهل يولد معنا أم ال‪ ،‬فمسألة‬ ‫شهود عليه؛ ّ‬
‫تقارع فيها األ كاديميون(‪ ،)10‬ولم تتخ َّلف مدرسة من المدارس الفلسفية‬
‫عن الخوض فيها‪ ،‬وال أظنني أجانب الصواب‪ ،‬اآلن‪ ،‬إذ أقول إن في‬
‫تعهدناها‬
‫نفوسنا بذرة طبيعية من العقل تزدهر في شكل الفضيلة‪ ،‬إذا َّ‬
‫الطيبة والقدوة الحسنة‪ ،‬ولكنها‪ -‬على العكس‪ -‬كثير ًا ما تغلبها‬
‫بالنصيحة ِ ّ‬
‫الرذائل فتخمد وتنفق‪ .‬غير أن الشيء المحقَّ ق هو أنه إذا كان في رحاب‬
‫الطبيعة شيء واضح باد للعيان‪ ،‬وال يجوز أن نعمى عنه فذلك أن الطبيعة‬
‫وهي وزيرة الخالق وآمرة الخلق قد َس َّوتنا جميع ًا على شبه واحد حتى‬
‫لكأنها‪-،‬إذا جاز التعبير‪ -‬قد َص َّب ْتنا في القالب ذاته‪ ،‬وذلك حتى يعرف‬
‫في اآلخرين رفاقه أو باألصدق إخوته‪ .‬وإذا كانت الطبيعة وهي تو ِ ّزع‬
‫هباتها قد أسبغت على البعض مزية جسدية أو عقلية‪ ،‬وإذا كانت‪ -‬رغم‬
‫ذلك‪ -‬لم تتركنا في هذه الدنيا كأننا في حقل مغلق‪ ،‬ولم تف ِ ّوض األقوياء‬
‫سراحهم في الغابة‪ ،‬فذلك‬ ‫ُ‬ ‫والم َكرة بافتراس الضعفاء كقطّ اع طرق ُأطلِق‬
‫َ‬

‫‪38‬‬
‫دليل على أنها إذا أعطت البعض نصيب ًا أ كبر‪ ،‬والبعض األخر نصيب ًا‬
‫أصغر‪ ،‬لم تكن تهدف إال إلى أن تترك المجال للتعاطف األخوي حتى‬
‫يظهر وجوده ما دام البعض يملك ق ّوة العطاء‪ ،‬والبعض اآلخر الحاجة‬
‫الطيبة قد جعلت لنا من األرض قاطبة سكن ًا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫األم‬
‫إليه‪ .‬فإذا كانت هذه ّ‬
‫وأنزلتنا جميع ًا المنزل نفسه‪ّ ،‬‬
‫وهي َأ ْتنا على أنموذج واحد كيما يتس ّنى لكل‬
‫م ّنا أن يتأمّل نفسه‪ ،‬ويقترب من معرفتها في مرآة اآلخرين‪ ،‬وإذا كانت قد‬
‫وهبتنا جميع ًا تلك الهبة الكبرى‪ ،‬هبة الصوت والكالم حتى نزيد تعارف ًا‬
‫وتآخي ًا‪ ،‬وحتى تتالقى إرادتنا باإلعراب المتبادل عن أفكارنا‪ ،‬وإذا كانت‬
‫قد جهدت بكل السبل حتى نزيد توثّق ُعرى التحالف واالجتماع بيننا‪،‬‬
‫وإذا كانت قد ب ََّي َنت في كل ما تصنع أنها ال تهدف إلى توحيدنا جميع ًا‬
‫بقدر ما تهدف إلى أن نكون جميع ًا آحاد ًا‪ ،‬فقد ارتفع بذلك كل شيء في‬
‫أننا جميع ًا أحرار بالطبيعة‪ ،‬ما دمنا رفاق ًا‪ ،‬وامتنع أن يدخل في عقل عاقل‬
‫ّ‬
‫الرق بينما هي قد آلفت بيننا‪.‬‬ ‫أن الطبيعة قد ضربت علينا‬

‫غير أن الحقيقة هي أن الجدل فيما إذا كانت الحرية حق ًا طبيعي ًا أم ال‬


‫نسترق كائن ًا دون أن نلحق‬‫ّ‬ ‫لن يكون إال تحصي ً‬
‫ال للحاصل ما دمنا ال‬
‫األذى به‪ ،‬وما دام الغبن أ كره األشياء إلى الطبيعة التي هي مستودع‬
‫العقل‪ .‬إذ ًا‪ ،‬يبقى أن الح ّريّة شيء طبيعي‪ ،‬ويبقى بهذا عينه أننا(فيما‬
‫محبة الذود‬
‫ّ‬ ‫أرى) ال نولد أحرار ًا وحسب‪ ،‬بل نحن أيض ًا مفطورون على‬
‫عنها‪ .‬فإن ا َّتفق بعد ذلك أن ساورنا ٌّ‬
‫شك فيما أقول‪ ،‬وأن بلغ من فسادنا‬
‫أننا لم نعد نستطيع تمييز مصالحنا‪ ،‬وال مشاعرنا الطبيعية‪ ،‬لم يبق إال أن‬
‫تمت إلى‬
‫ّ‬ ‫أ كرمكم اإلكرام الذي تستحقّ ون‪ ،‬وأن أترك الحيوانات التي ال‬
‫صلة تصعد المنبر لتع ِ ّلمكم ما هي طبيعتكم‪ ،‬وما وضع وجودكم‪.‬‬
‫المدنية بِ ِ‬
‫يصموا آذانهم لسمعوها‬
‫ّ‬ ‫إن الحيوانات (أخذ اللّه بعوني!) إذا البشر لم‬
‫تصرخ فيهم‪ :‬عاشت الحرية ! الكثير منها ال يكاد يقع في األسر إال مات‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫فكما السمك يترك الحياة حين يترك الماء‪ ،‬كذلك هي تترك الضوء وتأبى‬
‫العيش بعد فقدان ح ّريّتها الطبيعية‪ .‬فلو كانت لها مراتب لجعلت من‬
‫الح ّريّة عنوان نبالتها‪ .‬فأما البقية من أ كبرها إلى أصغرها‪ ،‬فهي ال تستسلم‬
‫أل ْسر حين نقتنصها إال بعد أن تظهر أشد المقاومة باألظافر‪ ،‬والقرون‪،‬‬ ‫ل َ‬
‫والمناقير‪ ،‬واألقدام‪ ،‬معلنة بذلك مدى إعزازها لما تفقد‪ .‬ثم هي تبدي‬
‫الجلية على مدى إحساسها بمصابها حتى إننا لنعجب إذ‬ ‫ّ‬ ‫لنا العالمات‬
‫نراها تؤثر الضوى على الحياة‪ ،‬كأنها إنما تقبل البقاء لترثي ما خسرت‬
‫ال لتنعم بعبوديَّتها‪ .‬هل يقول الفيل شيئ ًا آخر حين يقاتل دفاع ًا عن نفسه‬
‫أل ْسر‪ ،‬فإذا هو يغرس َّ‬
‫فكيه‬ ‫حتى يستنفذ قواه‪ ،‬ويرى ضياع األمل وشوك ا َ‬
‫محطم ًا على الشجر ِس َّن ْيه؟ هل يقول شيئ ًا آخر سوى أن رغبته الشديدة‬ ‫ِّ‬
‫في البقاء ُح ّر ًا تلهمه الذكاء‪ ،‬فتح ّثه على مساومة ق ّناصيه لع َّلهم يتركون‬
‫له الحرية ثمن ًا لعاجه‪ ،‬ولعله يفتدي به حريته؟ إننا نستأنس الجياد منذ‬
‫مولدها لند ِ ّربها على خدمتنا‪ ،‬فإذا ك ّنا مع ذلك حين نجيء إلى ترويضها‬
‫الح َك َمة‪ ،‬وتنفر من‬ ‫ّ‬
‫تعض َ‬ ‫الح ّد الذي ال يجعلها‬
‫نعجز عن مالطفتها إلى َ‬
‫المهماز‪ ،‬فما هذا في اعتقادي إال شهادة منها بأنها إنما تقبل خدمتنا‬
‫كارهة ال مختارة‪ .‬ما القول ‪-‬إذ ًا‪« -‬حتى البقر َأ َّن تحت النير ‪ /‬وشكا في أقفاصه الطير»‬

‫كما َع َّن لي قوله حين شغلني فيه َنظْ منا الفرنسي(‪)11‬؟ ألني وأنا أكتب‬
‫إليك يا ُلونجا(‪ )12‬مازج َا بالكالم أشعاري التي ال أقرأها أبد ًا‪ ،‬ال أخشى‬
‫قط أن يج ّرك ما تبديه من الرضا عنها إلى جعلها مدعاة لفخري‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الحس تشعر إذ‬
‫ّ‬ ‫خالصة القول أنه َل َّما كانت جميع الكائنات الحاصلة على‬
‫تحصل عليه بألم خضوعها‪ ،‬وتسعى وراء ح ّريَّتها‪ ،‬و َل ّما كانت الحيوانات‪،‬‬
‫وهي المجعولة لخدمة اإلنسان‪ ،‬ال تستطيع أن تألف العبودية دون أن‬
‫الضد‪ ،‬فما هي تلك الرذيلة التي‬
‫ّ‬ ‫تبدي احتجاج ًا يعرب عن الرغبة في‬
‫استطاعت أن تمسخ طبيعة اإلنسان‪ ،‬وهو وحده المولود حقيقة ليعيش‬
‫ُح ّر ًا‪ ،‬وأن تجعله ينسى ذكرى وجوده األول‪ ،‬وينسى الرغبة في استعادته؟‬

‫‪40‬‬
‫هناك ثالثة أصناف من الطغاة‪ :‬البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب‬
‫الشعب‪ ،‬والبعض اآلخر بقوة السالح‪ ،‬والبعض الثالث بالوراثة المحصورة‬
‫في ساللتهم‪ .‬فأما من انبنى حقُّ هم على الحرب فنعلم جيد ًا أنهم يسلكون‪،‬‬
‫كما نقول‪ ،‬في أرض محت ّلة‪ .‬وأما من وُلدوا ملوك ًا فهم عادة ال يفضلون قط‬
‫ألنهم وقد ولدوا وأطعموا على صدر الطغيان‪ ،‬يمتصون جبلة الطاغية وهم‬
‫رضاع‪ ،‬وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى تركة من العبيد‪،‬‬
‫ويتص َّرفون في شؤون المملكة كما يتص َّرفون في ميراثهم‪ ،‬كل بحسب‬
‫استعداده الغالب نحو البخل أو البذخ‪ .‬أما من َو ّلاه الشعب مقاليد الدولة‪،‬‬
‫فينبغي فيما يبدو أن يكون احتماله أهون‪ .‬ولقد يكون األمر كذلك‪ -‬على‬
‫ما أعتقد‪ -‬لوال أنه ما إن يرى نفسه يرتقي مكان ًا يعلو به الجميع‪ ،‬وما إن‬
‫المسمى بالعظمة‪ ،‬حتى يعقد النية على أال‬
‫ّ‬ ‫يستغويه هذا الشيء الغريب‬
‫قط‪ .‬وما إن يتلقَّ ف هؤالء هذه الفكرة حتى نشهد شيئ ًا‬
‫ينزاح من مكانه ّ‬
‫أي مدى يب ّزون سائر الطغاة في جميع أبواب الرذائل‪،‬‬‫عجب ًا‪ :‬نشهد إلى ّ‬
‫بل في قسوتهم‪ ،‬دون أن يروا سبي ً‬
‫ال إلى تثبيت دعائم االستبداد الجديد‪،‬‬
‫سوى مضاعفة االستعباد وطرد فكرة الح ّريّة عن أذهان رعاياهم‪ ،‬حتى‬
‫يعفو عليها النسيان رغم قرب حضورها في ذاكرتهم‪ .‬فكلمة الحق هي‬
‫أني أرى بعض ًا من االختالف بين الطغاة‪ ،‬ولكني ال أرى اختيار ًا بينهم‪،‬‬
‫ألن الطرق التي يستولون بها على زمام الحكم تكاد ال تختلف‪ :‬فمن‬
‫انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله‪ ،‬والغزاة كأنه فريستهم‪،‬‬
‫والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتالك ًا طبيعي ًا‪.‬‬

‫ب في هذا الموضع أن الصدفة شاءت أن يولد نمط جديد من البشر‪،‬‬


‫ف ََه ْ‬
‫ال ألفة لهم بالعبودية وال ولع بالحرية‪ ،‬وال يعلمون ما هذه وال تلك‪ ،‬بل‬
‫فعالم‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الرق وبين الحياة أحرار ًا‪،‬‬ ‫يجهلون حتى اسميهما‪ ،‬ثم ُخ ِ ّيروا بين‬
‫ّ‬
‫للشك في أنهم سوف يؤثرون طاعة العقل وحده على‬ ‫يجمعون؟ ال مجال‬

‫‪41‬‬
‫ب‬‫نص َ‬
‫خدمة رجل ما‪ ،‬هذا إال إذا كان هؤالء القوم هم شعب إسرائيل الذي َّ‬
‫طاغي ًا عليه بغير إكراه وال احتياج‪ :‬وإنه لشعب ال أقرأ قصته أبد ًا دون أن‬
‫يملكني حنق عظيم حتى أل كاد أتج َّرد من اإلنسانية فأفرح بجميع ما نزل‬
‫عليه بعدئذ من الباليا(‪ .)13‬ولكن‪ ،‬طالما بقي باإلنسان أثر من اإلنسان‬
‫فهو‪ -‬يقين ًا‪ -‬ال ينساق إلى العبودية إال عن أحد سبيلين‪ :‬إما مكره ًا وإما‬
‫مخدوع ًا‪ .‬مكره ًا إما بسالح أجنبي مثل مدين َت ْي إسبرطة وأثينا‪ ،‬إذ قهرتهما‬
‫قوات اإلسكندر‪ ،‬وإما بطائفة من مجتمعه‪ ،‬مثلما حدث في أثينا في زمن‬
‫أسبق حين استولى بيسيسترانس على مقاليد الحكم(‪ .)14‬فأما الخديعة‬
‫تؤدي أيض ًا إلى فقدان الح ّريّة فمرجعها إلى تغرير الغير في‬
‫من حيث ّ‬
‫أ كثر األحيان من مرجعها إلى كون الناس يخدعون أنفسهم بأنفسهم‪.‬‬
‫مثال ذلك شعب سيراقوصة(عاصمة صقيلة) إذ هجم عليه األعداء من كل‬
‫جانب‪ ،‬ولها فك ُره عن كل شيء إال عن الخطر الحاضر‪َ ،‬ف َرفع ديونيسيوس‬
‫إلى الرياسة دون نظر إلى المستقبل‪ ،‬وأسند إليه قيادة الجيش‪ ،‬ولم يدرك‬
‫إلى أي َح ّد ق ّواه إال حين رجع هذا الداهية منتصر ًا كأنه قد غزا مواطنيه‬
‫فتسمى باسم القائد‪ ،‬ثم الملك‪ ،‬ثم الملك المطلق(‪ .)15‬وإنه‬
‫ّ‬ ‫ال أعداءهم‪،‬‬
‫ألمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب متى َت َّم خضوعه‪ ،‬يسقط فجأة‬
‫في هاوية من النسيان العميق لح ّريّته إلى َح ّد يسلبه القدرة على االستيقاظ‬
‫الستردادها‪ ،‬ويجعله يسرع إلى الخدمة صراحة وطواعية حتى َل ُي َه َّي ُأ لمن‬
‫يراه أنه لم يخسر حريته‪ ،‬بل كسب عبوديته‪ .‬صحيح أن الناس ال يقبلون‬
‫على الخدمة في أول األمر إال جبر ًا وخضوع ًا للقوة‪ ،‬ولكن من يأتون‬
‫بعدهم يخدمون دون أن يساورهم أسف‪ ،‬ويأتون طواعية ما أتاه السابقون‬
‫اضطرار ًا‪ .‬ذلك أن من ولدوا وهم مغلولو األعناق‪ ،‬ثم أطعموا وتربّوا في‬
‫ظل االسترقاق‪ ،‬دون نظر إلى أفق أبعد‪ ،‬يقنعون بالعيش مثلما ولدوا‪ .‬ثم‬‫ّ‬
‫لما كان التفكير في حال مختلفة أو في حق آخر ال يطرأ على بالهم‪،‬‬
‫إنه ّ‬
‫فهم يأخذون وضعهم حال مولدهم مأخذ األمر الطبيعي‪ .‬ومع هذا فما من‬

‫‪42‬‬
‫وارث إال نظر أحيان ًا في مستندات أبيه ليرى‪ :‬هل يتم َّتع بحقوق َترِ َكته‬
‫كاملة‪ ،‬أم أن غبن ًا قد أصابه أو أصاب سلفه؟ لكن‪ -‬ال شك‪ -‬في أن‬
‫العادة‪ ،‬مع سيطرتها علينا في كل مجال ال تظهر قوة تأثيرها مثلما تظهر‬
‫تلقننا العبودية‪ ،‬وحين تع ِ ّلمنا‪ ،‬مثلما قبل‪ ،‬عن ميثريدات الذي صار‬
‫حين ِ ّ‬
‫سم االسترقاق دون الشعور‬‫الس ّم عنده شراب ًا مألوف ًا ‪ ،‬كيف نجرع ّ‬
‫(‪)16‬‬
‫ّ‬
‫بمرارته‪ .‬ال جدال في أن للطبيعة نصيب ًا كبير ًا في توجيهناحيث تشاء‪ ،‬وأننا‬
‫تدخره لنا من فطرة حسنة أو ِ ّ‬
‫سيئة‪ ،‬ولكن المناص من التسليم‬ ‫نولد على ما َّ‬
‫بأن سلطانها علينا ّ‬
‫يقل عن سلطان العادة ألن االستعداد الطبيعي مهما‬
‫نتعهده‪ ،‬في حين إن العادة تفرض علينا َص ْوغَ ها‬
‫َّ‬ ‫حسن يذهب هباء إذا لم‬
‫أ ّي ًا كان هذا االستعداد‪ .‬فالبذور التي تنشرها فينا الطبيعة ضئيلة واهية إلى‬
‫تتم بمثل السهولة‬ ‫َح ّد يجعلها ال تحتمل ّ‬
‫أقل غذاء منافر لها‪ ،‬فرعايتها ال ّ‬
‫تتبدد بها وتفنى‪ ،‬شأنها شأن أشجار الفاكهة‪ :‬كل شجرة منها لها‬
‫َّ‬ ‫التي‬
‫طبيعتها التي تؤتي بمقتضاها ثمارها إذا تركتها‪ ،‬ولكنها تخرج عن طبيعتها‬
‫طعمتها‪ .‬كذلك األعشاب‪ :‬كل عشب له‬ ‫وتؤدي ثمار ًا غريبة غير ثمارها إذا ّ‬
‫ّ‬
‫خاصيته وطبيعته وتف ُّرده‪ ،‬ولكن البرد والجو ثم التربة ويد البستاني تعين‬
‫نم َّوه كثير ًا‪ ،‬أو تعوقه كثير ًا حتى إن النبات الذي نراه في قطر ال نكاد نعرفه‬
‫تخي ْل رج ً‬
‫ال رأى أهل مدينة البندقية ‪ -‬وهم ق ّلة من الناس‬ ‫َّ‬ ‫في قطر آخر‪.‬‬
‫يعيشون أحرار ًا‪ ،‬حتى ليأبى أقلهم جاه ًا أن يت َّوج ملك ًا على جميعهم‪،‬‬
‫ولدوا ونشأوا على أال يعرف أي منهم مطمع ًا إال اإلدالء بأحسن النصح‬
‫َّ‬
‫وتشكلوا‬ ‫من أجل الحفاظ على الحرية والسهر عليها‪ ،‬تربّوا منذ المهد‪،‬‬
‫يمدوا أيديهم إلى سائر نِعم األرض مجتمعة عوض ًا عن ذرة‬ ‫ّ‬ ‫على أال‬
‫ال رأى هؤالء القوم‪ ،‬ثم ذهب بعد‬ ‫تخي ْل رج ً‬
‫َّ‬ ‫من ح ّريّتهم(‪ - )17‬أقول‪:‬‬
‫أن غادرهم إلى أرض ينشر عليها سلطانه م َْن لقَّ بناه بـ« َمل ِِك زمانه)(‪،)18‬‬
‫أرض يرى فيها أناس ًا ال يولدون إال لخدمته‪ ،‬وال يعيشون إال لدوام ق ّوته‪،‬‬
‫ترى‪ ،‬هل يظن أن هؤالء وأولئك من عجينة واحدة‪ ،‬أم األرجح أنه سوف‬

‫‪43‬‬
‫يعتقد أنه قد ترك مدينة آدمية ودخل حظيرة للدواب؟‬

‫يحكى أن ليكورج (مُ شَ ِ ّرع إسبرطة(‪ ))19‬قد ربَّى كلبين خرجا من بطن‬
‫واحد‪ ،‬ورضعا الثدي ذاته‪ ،‬فجعل أحدهما يسمن في المطابخ‪ ،‬وترك‬
‫فلما أراد أن ِ ّ‬
‫يبين لشعب‬ ‫األخر يجري في الحقول وراء أبواق الصيد‪ّ .‬‬
‫السيدومونيا(‪ )20‬أن الناس هم ما تصنع بهم تربيتهم جاء بالكلبين وسط‬
‫السوق‪ ،‬ووضع بينهم حسا ًء وأرنب ًا‪ ،‬فإذا أحدهما يجري وراء الطبق‪،‬‬
‫واألخر وراء األرنب‪ .‬فقال ليكورج‪ :‬ومع هذا فهما أخوان ! هكذا نجح‬
‫بفضل قوانينه ودستوره في أن ينشئ سكان السيدومونيا تنشئة‪ ،‬جعلت‬
‫سيد ًا آخر سوى‬
‫يفضل الموت ألف ميتة على أن يختار لنفسه ِ ّ‬
‫ِّ‬ ‫كلّاً منهم‬
‫القانون والعقل‪.‬‬

‫ويطيب لي هنا أن أتذكر حديث ًا جرى في قديم الزمان بين أحد المق َّربين‬
‫إلى إكسرس ملك فارس األعظم وبين رجلين من السيدومونيا‪ .‬أخذ‬
‫إكسرس‪ ،‬وهو ُيع ِّد جيشه الضخم لغزو اليونان‪ ،‬يبعث رسله إلى المدن‬
‫اليونانية يطلبون إليها الماء والتراب‪ :‬وهو تعبير كان يستخدمه الفرس‪،‬‬
‫تج َّنب‬
‫إشارة إلى أنهم يأمرون المدن باالستسالم‪ .‬إال أثينا وإسبرطة‪ ،‬فقد َ‬
‫أن يرسل إليهم أحد ًا‪ .‬ذلك أن األثينيين واإلسبرطيين كان قد سبق لهم أن‬
‫فزجوا بعضهم في الحفر والبعض اآلخر في‬ ‫أمسكوا بسفراء أبيه داريوس‪ّ ،‬‬
‫اآلبار قائلين‪ :‬خذوا ما تريدون من الماء والتراب ! كانوا قوم ًا ال يطيقون‬
‫تمس ح ّريَّتهم‪ .‬غير أن اإلسبرطيين بعد أن صنعوا هذا الصنيع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ولو كلمة‬
‫أدركوا أنهم قد َج ّروا على أنفسهم غضب اآللهة وغضب تالثيبيوس‪ ،‬إله‬
‫الرسل‪ ،‬بنوع خاص‪ ،‬فق َّرروا أن يرسلوا إلى إكسرس مواط َن ْين من بينهم‬
‫لي ْمثُال بين يديه‪ ،‬وليصنع بهما ما يشاء انتقام ًا لمن ُقت َِل من ر ُُسل أبيه‪.‬‬
‫َ‬
‫فتط َّوع رجالن ليدفعا هذا الثمن‪ ،‬اسم أحدهما سبرثيوس‪ ،‬واسم اآلخر‬
‫بولس‪ .‬وبينما هما في الطريق صادفا قصر ًا يملكه رجل فارسي اسمه‬

‫‪44‬‬
‫هندران‪ ،‬كان الملك قد َع َّي َنه والي ًا على جميع المدن الواقعة على الساحل‪،‬‬
‫ب بهما أكرم ترحيب‪ ،‬وأطعمهما بغير حساب‪ ،‬ثم سألهما ‪ -‬بعد أن‬ ‫فرح َ‬
‫َّ‬
‫الح ّد صداقة‬
‫أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث‪ -‬ل َِم يرفضان إلى هذا َ‬
‫إلي أيها اإلسبرطيان‪ ،‬وا َّتخذا مني مثا ً‬
‫ال تعلمان منه‬ ‫الملك‪ .‬قال‪« :‬انظرا َّ‬
‫َّ‬
‫وتذكرا أنكما لو صرتما من‬ ‫كيف يعرف الملك تشريف من استحقّ ‪،‬‬
‫أتباعه‪ ،‬لرأيتما من صنيعه ما رأيت‪ ،‬وأنكما لو دنتما له بالطاعة وعرف‬
‫أمركما لما خرج كالكما عن أن يكون أمير ًا لمدينة من مدن اليونان»‪.‬‬
‫ِّ‬
‫محدثاه‪« :‬لهذا ‪-‬يا هندرمان‪ -‬أمر ال تملك فيه إسداء النصح‬ ‫فأجابه‬
‫إلينا‪ ،‬ألنك َج َّربت النعمة التي َتعِدنا بها‪ ،‬ولكنك ال تعلم شيئ ًا عن نعمتنا‪،‬‬
‫لقد ذقت حظوة الملك‪ ،‬وأما الح ّريّة فلست تعرف ما مذاقها وال مدى‬
‫عذوبتها‪ ،‬ولو فعلت لنصحتنا بالدفاع عنها ال بالرمح والدرع بل باألسنان‬
‫واألظافر»‪ .‬هذا الجواب وحده هو الصدق‪ ،‬ومع هذا فال َّ‬
‫شك في أن‬
‫تحدثوا وفاق ًا لنشأتهم‪ ،‬فما كان للفارسي أن يستشعر األسف على‬
‫َّ‬ ‫ثالثتهم‬
‫الحرية وهو لم ينلها ق ّ‬
‫َط‪ ،‬وال لإلسبرطي أن يحتمل التبعية بعد أن ذاق‬
‫الح ّريّة‪.‬‬

‫التردد على منزل‬


‫ُّ‬ ‫وكان كاتو(‪ )21‬األوتيكي‪ ،‬وهو طفل تحت الوصاية كثير‬
‫ُص ّد الباب في وجهه أبد ًا‬
‫الدكتاتور سيلّا ‪ ،‬يروح ويجيء متى شاء ال ي َ‬
‫(‪)22‬‬

‫لكرم محتده‪ ،‬ولِما كان بينه وبين سيلّا من أواصر القرابة‪ .‬وكان معلمه‬
‫يصحبه في كل زيارة‪ ،‬على ما جرت به العادة إذ ذاك مع أبناء األسر‬
‫حسم بتلك الدار بمحضر‬
‫تبي َن له أن مصائر الناس ُت َ‬
‫العريقة‪ .‬ولم يلبث أن َّ‬
‫ُسجن‪ ،‬والبعض يُدان‪ ،‬هذا ُينفَ ى‪ ،‬وهذا‬
‫من سيلّا نفسه أو بأمره‪ :‬البعض ي َ‬
‫يُش َنق‪ ،‬هذا يُطالب بمصادرة أمالك أحد المواطنين‪،‬وذاك يطلب رأسه‪.‬‬
‫تبين له ‪-‬باالختصار‪ -‬أن األمور ال تجري على ما ينبغي لدى مسؤول‬‫َّ‬
‫استبد بالشعب‪ ،‬وأن المكان لم يكن ساحة‬
‫َّ‬ ‫أعملته المدينة بل لدى طاغية‬

‫‪45‬‬
‫للعدل بل مصنع ًا للطغيان‪ .‬عندئذ قال الفتى لمع ِ ّلمه‪« :‬أنَّى لي بخنجر‬
‫أدسه تحت ردائي‪ ،‬فإني كثير ًا ما أرى سيلّا في حجرته قبل أن يستيقظ‪،‬‬
‫ُّ‬
‫بساعدي لق ّوة تكفي خالص المدينة منه»‪ .‬هذه حق ًا كلمة تليق‬
‫َّ‬ ‫وإن‬
‫َّ‬
‫برجل من معدن كاتو‪ ،‬وهكذا بدأت حياة هذا البطل الذي مات كريم ًا‬
‫ب أنك لم تذكر االسم وال البلد مكتفي ًا‬
‫مثلما عاش كريم ًا‪ .‬ومع هذا َه ْ‬
‫تتحدث عندئذ عن نفسها‬ ‫َّ‬ ‫بذكر الواقعة كما هي‪ :‬ال َّ‬
‫شك أن الواقعة سوف‬
‫ّ‬
‫يستدل السامع منها أن قائل هذا القول روماني ُولِد في‬ ‫بنفسها‪ ،‬لسوف‬
‫أحضان روما حين كانت روما مدينة ُح ّرة‪ .‬ل َِم أقول ذلك؟ طبع ًا؛ال ألني‬
‫أظن أن البلد أو األرض يضيفان إلى الشيء ما ليس فيه‪ ،‬فالعبودية م ّرة‬
‫في كل قطر وج ّو‪ .‬والحرية عزيزة‪ ،‬ولكن ألني أرى أن من َس َبق النير‬
‫مولدهم جديرون بالرثاء‪ ،‬فواجبنا عذرهم أو الصفح لهم إذا كانوا ال‬
‫يرون ض ّر ًا في عبوديَّتهم ما داموا لم يروا ولو ظِ َّل الحرية‪ ،‬وال سمعوا عنها‬
‫ق ّ‬
‫َط‪ .‬فلو كان ثمة بلد كبلد السِ َم َر ِ ّيين(‪ ،)23‬فيما يقول هوميروس‪ ،‬بلد ال‬
‫تشرق عليه الشمس شروقها المألوف علينا‪ ،‬وإنما بعد أن تفيض عليهم‬
‫بنورها ستة أشهر متوالية تتركهم نيام ًا في الحلكة خالل النصف اآلخر من‬
‫السنة‪ :‬م َْن ُولِدوا في غياهب هذا الليل الطويل‪ ،‬إذا كانوا لم يسمعوا البتة‬
‫يتحدث عن الضوء‪ ،‬هل نعجب لو أنهم ألفوا الظلمات التي ُولِدوا‬
‫ّ‬ ‫أحد ًا‬
‫فيها دون أن يستشعروا الرغبة في النور؟ إنا ال نفتقد ما لم نحصل عليه‬
‫المس ّرة‪ .‬ودوم ًا تأتي ذكرى الفرح‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫قط‪ ،‬وإنما يأتي األسف في أعقاب‬
‫المنقضي مع خبرة األلم‪ .‬أجل إن طبيعة اإلنسان أن يكون ُح ّر ًا‪ ،‬وأن يريد‬
‫يتطبع بما نشأ عليه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫كونه كذلك‪ ،‬ولكن من طبيعته أيض ًا أن‬

‫لنقل ‪-‬إذ ًا‪ -‬إن ما درج اإلنسان عليه وتع َّو َده يجري عنده بمثابة الشيء‬
‫الطبيعي‪ ،‬فال شيء ينتسب إلى فطرته سوى ما تدعوه إليه طبيعته الخالصة‬
‫يمسها التغيير‪ .‬ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة‪:‬‬
‫التي لم ّ‬

‫‪46‬‬
‫الح َكمة بالنواجذ في البدء‪ ،‬ثم تلهو بها‬ ‫ّ‬
‫تعض َ‬ ‫كشأن الجياد الشوامس‬
‫أخير ًا‪ ،‬وبعد أن كانت ترجم‪ ،‬وال تكاد تستق ّر تحت السرج إذا هي اآلن‬
‫تتح ّلى برحالها‪ ،‬وتركبها الخيالء وهي تتبختر في دروزها‪ ،‬تقول إنها‬
‫كانت منذ البدء ملك ًا لمالكها‪ ،‬وإن آباءها عاشت كذلك‪ ،‬وتظن أنها‬
‫ملزمة باحتمال الجور‪ ،‬وتضرب األمثلة لتقتنع بهذا اإللزام‪ ،‬ويم ّر الزمن‬
‫تدعم هي نفسها امتالك طغاتها إياها‪ .‬ولكن الحقيقة هي أن السنين ال‬
‫ال(‪ .)24‬آج ً‬
‫ال أو‬ ‫تجعل أبد ًا من الغبن حق ًا‪ ،‬وإنما تزيد اإلساءة استفحا ً‬
‫ّ‬
‫الغل‪ ،‬وال‬ ‫ال يظهر أفراد ولدوا على استعداد أحسن يشعرون بوطأة‬ ‫عاج ً‬
‫التبعية والخضوع‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتمالكون عن َه َّزه َه ّز ًا‪ ،‬وال يرضون أنفسهم أبد ًا على‬
‫بل هم مثلهم كمثل أوليس وهو يجتاب األرض والبحر عساه يرى الدخان‬
‫َط عن التفكير في حقوقهم الطبيعية‬ ‫الذي يصعد من داره‪ ،‬ال يمسكون ق ّ‬
‫ُّ‬
‫وتذكر وضعهم األوَّل‪ .‬أولئك هم الذين إذا ملكوا‬ ‫تقدموهم‬ ‫وعن ُّ‬
‫تذكر من َّ‬
‫فهم ًا نافذ ًا ورأي ًا بصري ًا‪ ،‬وانصقلت عقولهم لم يكتفوا ‪-‬كما يفعل العامة‪-‬‬
‫بالنظر إلى مواطئ أقدامهم دون التفات إلى ما أمامهم وما وراءهم‪ ،‬ودون‬
‫َّ‬
‫يتذكروا وقائع الماضي ليسترشدوا بها في الحكم على المستقبل وسبر‬ ‫أن‬
‫الحاضر‪ .‬أولئك هم الذين استقامت أذهانهم بطبيعتها فزادوها بالدراسة‬
‫ّحت من وجه األرض‪ ،‬وتركتها‬ ‫والمعرفة تهذيب ًا‪ .‬أولئك لو أن الح ّريّة ام َ‬
‫وأحسوا بها في عقولهم‪ ،‬وتذوَّقوها ذوق ًا‪ ،‬ولم يجدوا‬ ‫ّ‬ ‫لتخيلوها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كلها‬
‫للعبودية طمع ًا مهما تبرقعت‪.‬‬

‫لقد أدرك قراقوش الترك(‪ )25‬هذا األم َر أحسن إدراك‪ :‬أدرك أن الكتب‬
‫بالحس والفهم‬
‫ّ‬ ‫والثقافة الصحيحة تز ِ ّودان الناس أ كثر من أي شيء آخر‬
‫اللذين يتيحان لهم التعارف‪ ،‬واالجتماع على كراهية الطغيان‪ ،‬دليل ذلك‬
‫خل ّو أرضه من العلماء‪ ،‬وبعده عن طلبهم‪ .‬وفي سائر األرض ‪-‬بوجه عام‪-‬‬
‫محبتهم دون أن يكون لهم‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫وتظل‬ ‫ّ‬
‫تظل حماسة من أخلصوا قلوبهم للح ّريّة‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫أثر مهما كثر عددهم النقطاع التواصل بينهم‪ :‬فالطاغية يسلبهم كل ح ّريّة‪:‬‬
‫ح ّريّة العمل وحرية الكالم ‪-‬ولو أمكن‪ -‬فح ّريّة الفكر‪ ،‬فإذا هم منفردون‬
‫تخيله‪ .‬وعليه فما با َل َغ اإلله الساخر موموس(‪ )26‬في‬
‫ُّ‬ ‫منعزلون ٌّ‬
‫كل في‬
‫سخريَّته‪ ،‬إذ شهد اإلنسان الذي صنعه فولكان(‪ )27‬فنصحه أن يضع أيض ًا‬
‫بقلب صنيعه نافذ ًة صغيرة لكي تتس ّنى رؤية أفكاره من خاللها‪ .‬ولقد قيل‬
‫إن بروتوس وكاسيوس(‪ )28‬حين شرعا في تحرير روما‪ ،‬أو باألصدق تحرير‬
‫العالم أجمع‪َ ،‬أبَيا أن يشركا شيشرون‪ .‬وهو المدافع المنقطع عن المصلحة‬
‫العامة‪ ،‬فيما عقدا العزم عليه؛ إذ كان من رأيهما أن قلبه أضعف من أن‬
‫يثبت في هذا الموقف العصيب‪ .‬كانا يثقان في صدق إرادته من غير أن‬
‫يضمنا شجاعته‪ .‬وإن لفي وسع من أراد استقراء وقائع الماضي وسجلّات‬
‫التاريخ‪ ،‬أن يتحقَّ ق أن من رأوا بلدهم ُتساء سياسته وتستحوذ عليه ٍ‬
‫أياد‬
‫ال‬ ‫ترد َد فيها َّ‬
‫قل أ ّ‬ ‫جانية فعقدوا العزم على تحريره بن ِّية صادقة‪ ،‬مستقيمة‪ ،‬ال ُّ‬
‫قضيتها‪ .‬انظر إلى‬
‫َّ‬ ‫يحالفهم النجاح‪ ،‬وأن الحرية تساندهم في الدفاع عن‬
‫هارموديوس‪ ،‬وأرسطجيتون‪ ،‬وثراسيبول‪ ،‬وبروتوس األقدم‪ ،‬وفالريوس‪،‬‬
‫وديون(‪ :)29‬لقد كان عملهم ناجح ًا مثلما كان فكرهم فاض ً‬
‫ال‪ ،‬ألن الحظ‬
‫ال يكاد يتخ ّلى أبد ًا في مثل هذه القضية عن مناصرة اإلرادة الطيبة‪.‬‬
‫كذلك نجح بروتوس األصغر وكاسيوس في رفع العبودية‪ ،‬وإن كانا إذ‬
‫استرجعا الجمهورية قد خسرا الحياة خسارة ال تحط من شأنهما(فأيّة‬
‫الحطّ ة إلى أمثال هؤالء القوم سواء في الحياة أو في‬
‫ُس ّبة هذه أن تنسب ِ‬
‫الممات!) بل خسارة عانت منها الجمهورية أ كبر الضرر‪ ،‬وعانت البؤس‬
‫أبد الدهر‪ ،‬واندثرت اندثار ًا كأنها قد دفنت بدفنهما‪ .‬فأما ما تال ذلك من‬
‫ضد األباطرة الرومانيين‪ ،‬فلم تكن إال مؤامرات حاكها‬
‫الموجهة ّ‬
‫َّ‬ ‫الحركات‬
‫قوم طامحون ال يستحقّ ون الرثاء على سوء مآلهم‪ ،‬فقد كان من الواضح‬
‫أن مطلبهم لم يكن تقويض العرش بل زحزحة التاج‪ ،‬مُ َّدعين طرد الطاغية‬
‫أود لهم نجاح ًا‪ ،‬وإنه‬
‫مع اإلبقاء على الطغيان‪ .‬هؤالء قوم ما كنت نفسي ّ‬

‫‪48‬‬
‫المقدس ال‬
‫َّ‬ ‫ليس ّرني أنهم قد ضربوا بأنفسهم المثل على أن اسم الحرية‬
‫يجوز استخدامه مع اعوجاج القصد‪.‬‬

‫ولكني كي أعود إلى موضوعنا الذي كاد يغيب عن نظري أقول إن السبب‬
‫األول الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية لالستعباد‪ ،‬هو كونهم يولدون‬
‫رقيق ًا وينشأون كذلك‪ .‬إلى هذا السبب يُضاف سبب آخر‪ :‬إن الناس‬
‫يسهل تح ُّولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخ َّنثين‪ .‬ولكم أشكر أبا‬
‫الم َع َّلى‬
‫وع َّب َر عنه أحسن تعبير في كتابه ُ‬
‫الطب هيبوقراط إذ فطن إلى ذلك‪َ ،‬‬
‫عن األمراض‪ .‬لقد كان هذا الرجل يملك يقين ًا في جميع أحواله قلب ًا‬
‫يزخر بالمروءة‪ ،‬أبدى ذلك حين أراد ملك الفرس جذبه بالعطايا والهدايا‬
‫فأجابه أنه لن يسلم من وخزات الضمير لو أنه أشتغل بعالج األجانب‬
‫الذين يريدون موت اإلغريق‪ ،‬وراح يخدمهم بف ِ ّنه بينما هو يريد إخضاع‬
‫ال إلى يومنا هذا‬‫المرسل إلى ملك الفرس ماث ً‬
‫َ‬ ‫بالدهم‪ .‬وال يزال خطابه‬
‫ِّ‬
‫الطيب وطبيعته النبيلة‪ .‬من‬ ‫بين سائر كتاباته‪ ،‬يشهد مدى الدهر على قلبه‬
‫المحقَّ ق إذ ًا أن الح ّريّة تزول بزوالها الشهامة‪ .‬فالقوم التابعون ال هِ ّمة لهم‬
‫شد ًا‪،‬‬
‫في القتال وال َج َلد‪ ،‬إنهم يذهبون إلى الخطر كأنهم يُشَ ّدون إليه ّ‬
‫يؤدون واجب ًا ُفرِ ض عليهم‪ ،‬ال يشعرون بلهب الح ّريّة يحترق في‬
‫أشبه بنيام ّ‬
‫ويود لو اكتسب‬
‫ّ‬ ‫قلوبهم‪ ،‬هذا اللهب الذي يجعل المرء يزدري المخاطر‪،‬‬
‫والمجد بين أقرانه‪ .‬إن األحرار يتنافسون ٌ‬
‫كل من أجل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الشرف‬ ‫بروع ِة موت ِه‬
‫الجماعة ومن أجل نفسه‪ ،‬وينتظرون جميع ًا نصيبهم المشترك من ألم‬
‫ستع َبدون فهم‪ -‬عدا هذه الشجاعة‬
‫الم ْ‬
‫االنكسار أو فرحة االنتصار‪ ،‬أما ُ‬
‫الهمة في كل موقف‪ ،‬وتسقط قلوبهم وتخور‬
‫ّ‬ ‫في القتال‪ -‬يفقدون أيض ًا‬
‫وتقصر عن عظيم األعمال‪ .‬وهذا أمر يعلمه الطغاة جيد ًا‪ ،‬فهم ما إن يروا‬
‫المضي فيه كي يزيدوا‬
‫ّ‬ ‫الناس في هذا المنعطف حتى يعاونونهم على‬
‫استنعاج ًا‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫‪ ،‬وهو مؤ ِ ّرخ ّ‬
‫جاد من أئمة المؤ ِ ّرخين اليونانيين‪،‬‬ ‫(‪)30‬‬
‫لقد وضع ْكسي ُنوفون‬
‫تخي َل فيه حوار ًا بين سيمونيد وطاغية سيراقوصة هيرون حول كروب‬ ‫كتاب ًا َّ‬
‫جادة‪ ،‬وإن ا َّتسمت‬
‫ّ‬ ‫الطاغية‪ .‬هذا الكتاب مليء بنظرات نقدية ِ ّ‬
‫طيبة‬
‫مع ذلك‪ -‬في رأيي‪ -‬بأقصى ما يمكن من اللطف‪ .‬ليت طغاة األرض‬
‫وضعوا هذا الكتاب نصب أعينهم أ ّنى و ُِجدوا لتكون لهم منه مرآة لهم!‬
‫لتبينوا رذائلهم‪ ،‬و َل َ‬
‫أخج َل ْتهم مساعيهم‪ .‬في هذا الحوار يصف‬ ‫فلو فعلوا َّ‬
‫كسينوفون كرب الطغاة‪ .‬إذ يضط ّرهم األذى الذي يلحقونه بالناس جميع ًا‬
‫ال بين ما يقول إن الملوك الفاسدين يستخدمون‬ ‫إلى خشيتهم جميع ًا‪ ،‬قائ ً‬
‫شن الحروب َف َرق ًا من ترك السالح في أيدي‬
‫المرتزقة األجانب في ّ‬
‫رعاياهم‪ ،‬الذين أمعنوا في غبنهم‪( .‬هذا وإن يكن من الصحيح أن التاريخ‬
‫قد شهد بين الفرنسيين أنفسهم‪ ،‬وفي الماضي أ كثر منه في الحاضر‪ ،‬ملوك ًا‬
‫صالحين َج َّندوا جيوش ًا من األمم األجنبية ال عن حذر‪ ،‬بل حرص ًا على‬
‫بني وطنهم‪ ،‬وتقدير ًا منهم أن خسارة المال يبخس ثمنها في سبيل صيانة‬
‫األرواح عم ً‬
‫ال بما يسند إلى سيبيون‪( ،‬وأظنه اإلفريقي)(‪ ،)31‬من قوله أنه‬
‫ِّ‬
‫«يفضل لو أنقذ مواطن ًا على أن يدحر ألف عدو»‪ .‬ولكن الشيء المحقَّ ق‬
‫استتب له إال أن يبلغ تلك‬
‫َّ‬ ‫هو أنه ما من طاغية يظن أبد ًا أن السلطان قد‬
‫الغاية التي هي تصفية المأمورين بأمره من كل رجل ذي قيمة ما‪ .‬بحيث‬
‫يحقّ لنا أن ِ ّ‬
‫نوجه إليه التقريع الذي يفخر تيراسون في إحدى مسرحيات‬
‫تيرانس بتوجيهه إلى مر ِ ّوض األفيال‪:‬‬
‫أألنك تأمر األنعام‪ ،‬تجرؤ هذه الجرأة(‪)32‬؟‬

‫بيد أن هذا التحايل من ق َِبل الطغاة على التغرير برعاياهم ال يمكن أن‬
‫يتج ّلى على نحو يفوق تج ّليه فيما صنع كسرى إزاء الليديين(‪ ،)33‬إذ دحرهم‬
‫بثرائه‪ ،‬واستولى على عاصمتهم سارد‪ ،‬وأسر كريسوس ملكهم الذي ضربت‬
‫بثرائه األمثال‪ ،‬وعاد به إلى بالده فبلغه أن أهل سارد قد ثاروا‪ .‬وكان يسعه‬

‫‪50‬‬
‫سحقهم إال أنه رغب عن تدمير مدينة فاق جمالها األوصاف‪ ،‬ثم هو لم‬
‫ِّ‬
‫يجمد بها جيش ًا لحراستها‪ .‬فتف َّتقَ ذهنه عن حيلة كبيرة‬ ‫يكن يريد أن‬
‫توصل بها إلى مأربه‪ :‬فتح دور الدعارة والخمر واأللعاب الجماهيرية‪،‬‬ ‫َّ‬
‫يحض السكان على اإلقبال على هذا كله‪ .‬فكانت له من هذه‬‫ّ‬ ‫ونشر أمر ًا‬
‫ّ‬
‫يسل السيف في وجه الليديين‪ ،‬فقد‬ ‫الحيلة حامية أغنته إلى األبد عن أن‬
‫انصرف هؤالء المساكين البؤساء إلى التف ُّنن في اختراع األلعاب من كل‬
‫لون وصنف‪ ،‬حتى إن الالتينيين اشتقّ وا من اسمهم الكلمة التي يدلّون‬
‫بها على اللهو فقالوا (لودي)‪ ،‬وكأنهم يريدون أن يقولوا (ليدي)‪ .‬صحيح‬
‫أن الطغاة لم يعلنوا جميع ًا عما يسعون إليه من تخنيث الشعوب‪ .‬ولكن‬
‫يتوخاه معظم اآلخرين خفية‪ .‬والحقيقة هي أن تلك‬
‫ّ‬ ‫ما فعله هذا صراحة‬
‫طبيعة العامة الذين تضم المدن القسط األوفر منهم‪ ،‬فهم ّ‬
‫شكاك فيمن‬
‫تظنن أن ثمة عصفور ًا يسهل اقتناصه‬
‫ّ‬ ‫أحبهم‪ُ ،‬س ّذج حيال من خدعهم‪ .‬فال‬
‫َّ‬
‫بالصفافير(‪ ،)34‬أو سمكة تهرع إلى الطعم بمثل العجلة التي تسرع بها‬
‫إلى العبودية ُّ‬
‫كل الشعوب منجذبة‪ ،‬كما نقول‪ ،‬بأقل َزغَ بة تقرب فاها‪ .‬وإنه‬
‫ألمر عجيب أن نراها تندفع هذا االندفاع‪ ،‬يكفي فيه مُ َج َّرد زعزعتها‪.‬‬
‫المسارح واأللعاب والمساخر والمشاهد والمصارعون والوحوش الغريبة‬
‫ِّ‬
‫المخدرات كانت لدى الشعوب‬ ‫والميداليات واللوحات‪ ،‬هذه وغيرها من‬
‫القديمة ُط ْع ُم عبوديتها‪ ،‬وثمن ح ّريَّتها‪ ،‬وأدوات االستبداد بها‪ .‬هذه الوسيلة‬
‫وهذا المنهج وهذه المغريات هي ما تذرَّع به الطغاة القدامى حتى تنام‬
‫ؤخذ الشعوب المخدوعة إذ تروق لها هذه‬ ‫رعيتهم تحت النير‪ .‬هكذا ُت َ‬
‫َّ‬
‫المالهي‪ ،‬وتتس ّلى ّ‬
‫بلذة باطلة تخطف أبصارها في تع ُّود العبودية بسذاجة‬
‫تشبه سذاجة األطفال‪ ،‬الذين تخلب ُل َّبهم الكتب المص َّورة فيحاولون ّ‬
‫فك‬
‫بتخبط أ كبر‪ .‬واكتشف الطغاة الرومانيون اكتشاف ًا آخر‬
‫ُّ‬ ‫حروفها‪ ،‬ولكن‬
‫فوق هذا ك ّله‪ :‬موائد العشرات(‪ )35‬يكثرون من الدعوة إليها في األعياد‬
‫تمويه ًا على هؤالء الرعاع الذين ال ينقادون لشيء مثلما ينقادون َّ‬
‫للذة‬

‫‪51‬‬
‫أشدهم مكر ًا‪ ،‬وأقربهم إلى أسماعهم‪ ،‬أن‬
‫ّ‬ ‫الفم‪ ،‬والذين ما كان يستطيع‬
‫يترك وعاء حسائه ليسترجع ح ّريّة جمهورية أفالطون‪ .‬كان الطغاة يجودون‬
‫برطل من القمح‪ ،‬ونصف ليتر من النبيذ‪ ،‬وبدرهم‪ ،‬وكان أمر ًا يدعو إلى‬
‫الحسرة أن ي ُْعلوا عندئذ الهتاف‪ :‬عاش الملك! فما كان يخطر على بال‬
‫يستردون جزء ًا مما لهم‪ ،‬وحتى هذا الجزء‬
‫ّ‬ ‫هؤالء األغبياء أنهم إنما كانوا‬
‫ما كان الطاغية ليجود به عليهم لوال َس ْبقه إلى سلبهم إياه‪ .‬من يلتقط اليوم‬
‫مسبح ًا بحمد تيبريوس‪ ،‬ونيرون‪ ،‬وبسخاء‬
‫ِّ‬ ‫الدرهم ويأ كل حتى التخمة‬
‫عطائهما ال ينبس بحرف يزيد َع ّما ينبس به الحجر‪ ،‬وال تصدر عنه خلجة‬
‫تزيد عما يصدر عن الجذع المقطوع‪ ،‬حين يرغم غد ًا على أن يترك‬
‫أمالكه لجشع هؤالء األباطرة المفخمين‪ ،‬وأطفاله لشهواتهم‪ ،‬ال بل دمهم‬
‫نفسه لقسوتهم‪ .‬ذلك كان شأن الشعب الجاهل دائم ًا‪ :‬مفتوح الذراعين‪،‬‬
‫مستسلم ِل ّلذة التي كانت األمانة تقضي باإلمساك عنها‪ ،‬فاقد اإلحساس‬
‫بالغبن واأللم اللذين كانت األمانة تستدعي الشعور بهما‪ .‬إني ال أرى‬
‫اليوم أحد ًا يسمع حديث ًا عن نيرون إال ارتعد لمج َّرد ذكر اسم هذا المسخ‬
‫ث العالم أجمع‪ ،‬ومع هذا فال‬ ‫الكريه‪ ،‬هذا الوباء الشنيع القذر الذي ل َّو َ‬
‫سبيل إلى إنكار أن هذا السفّ اح‪ ،‬هذا الجلّاد‪ ،‬هذا الوحش الضاري حين‬
‫مات ميتة ال ّ‬
‫تقل خزي ًا عن حياته(‪ )36‬قد أثار بموته هذا حزن الشعب‬
‫َّ‬
‫يتذكر ألعابه ووالئمه حتى أوشك على الحداد‬ ‫الروماني النبيل الذي راح‬
‫ِّ‬
‫محقق في طليعة من‬ ‫(هذا ما كتبه كورنيليوس تاسيت‪ ،‬وهو مؤ ِ ّلف جاد‬
‫يوثق بهم(‪.).)37‬‬

‫وال أظننا سنعجب لذلك كثير ًا إذا َّ‬


‫تذكرنا ما صنعه هذا الشعب من قبل‬
‫حين مات يوليوس قيصر الذي استهان بالقوانين والح ّريّة مع ًا‪ ،‬والذي‬
‫ال أرى في شخصه مزية ما ألن إنسانيته التي كثر الحديث عنها في كل‬
‫معرض ومقام كانت أبلغ ضرر ًا من قسوة الوحوش الضارية‪ ،‬فالحقيقة هي‬

‫‪52‬‬
‫أن هذه الحالوة المسمومة هي التي سك َرت طعم العبودية لدى الشعب‬
‫الروماني‪ ،‬ولكنه ما إن مات حتى شرع هذا الشعب ‪-‬و َل ّم َا تزل والئمه في‬
‫فمه وعطاياه بذاكرته‪ -‬في تكريمه وتكديس المقاعد المنتثرة في الميدان‬
‫العام ليوقد منها النار التي تح ِ ّوله تراب ًا‪ ،‬ثم بنى له نصب ًا تذكارية ِ ّ‬
‫ملقب ًا إياه‬
‫بأبي الشعب(هذا ما جاء بعالية النصب)‪ ،‬وأبدى له من مظاهر التشريف‬
‫ميت ًا ما لم يكن ينبغي إبداؤه ل َِح ّي إال إذا أردنا أن نستثني قاتليه(‪،)38‬‬
‫ينس األباطرة الرومان التلقُّ ب‬
‫َ‬ ‫ثم لقب وكيل الشعب(‪ .)39‬هذا أيض ًا لم‬
‫به الواحد بعد اآلخر‪ ،‬لِما كان لهذه الوظيفة من الحرمة والقداسة‪ ،‬ثم‬
‫ألن القانون اقتضاها للدفاع عن الشعب وحمايته في ظل الدولة‪ .‬بذا‬
‫أرادوا اكتساب ثقة الشعب كأنما كان َه ّم هذا األخير هو سماع االسم‬
‫ال الشعور بنتائجه‪ .‬وما يُحسن عنهم صنع ًا طغاة اليوم‪ ،‬الذين ال يرتبكون‬
‫ش ّر ًا مهما َع ُظ َم دون أن يُسبقوه بكالم َّ‬
‫منمق عن خير الجماعة وعن األمن‬
‫العام‪« :‬ألنك تعلم حقّ العلم‪ ،‬يا لونجا»(‪ ،)40‬ثبت الصيغ المحفوظة التي‬
‫يريدون بها تغذية فصاحتهم‪ ،‬وإن جانبت الفصاحة غالبيتهم لنفورها من‬
‫وقاحتهم‪ .‬كان ملوك آشور‪ ،‬ومن بعدهم ملوك ميديا‪ ،‬ال يظهرون عالنية‬
‫شك‪َ :‬أ ُهم بشر‬ ‫ِّ‬
‫متأخر بقدر المستطاع‪ ،‬ليتركوا الجمهور في ّ‬ ‫إال بعد وقت‬
‫وليس ّلموا لهذه األحالم أناس ًا ال ينشط خيالهم إال حيث‬
‫أم شيء يزيد! ُ‬
‫يعجزون عن الحكم على األشياء عيان ًا‪ .‬هكذا عاشت في ظل اإلمبراطورية‬
‫متعددة ألفت خدمة هذا السيد الغامض‪ ،‬وخدمته طائعة‬ ‫ِّ‬ ‫اآلشورية شعوب‬
‫بمقدار جهلها ّ‬
‫أي ِ ّ‬
‫سيد يسودها‪ ،‬ال بل هي كانت تكاد ال تعلم إن كان‬
‫لمثل هذا السيد وجود‪ ،‬فخشيت جميعها بعين االعتقاد واحد ًا لم يره‬
‫قط‪ .‬كذلك ملوك مصر األوائل كانوا ال يظهرون عالنية إال وقد‬ ‫أحد ّ‬
‫حملوا على رؤوسهم حين ًا قط ًا‪ ،‬وحين ًا فرع ًا‪ ،‬وحين ًا نار ًا‪ ،‬تق َّنعوا بها وتب َّرجوا‬
‫كالمشعوذين‪ ،‬وبذا أثاروا‪ ،‬بغرابة المنظر‪ ،‬المهابة واإلعجاب في نفوس‬
‫رعاياهم‪ ،‬وكان أجدر بالناس‪-‬لوال فرط حمقهم وعبوديتهم‪ -‬أال يروا في‬

‫‪53‬‬
‫هذا كله‪-‬على ما أعتقد‪ -‬إال مدعاة ِل َّلهو والضحك(‪ .)41‬إنه ألمر يدعو‬
‫إلى الرثاء أن نسمع بأي الوسائل تذر ََّع الطغاة حتى ِ ّ‬
‫يؤسسوا طغيانهم‪،‬‬
‫أي الحيل التجأوا دون أن تتخ َّلف الكثرة الجاهلة في كل زمان عن‬
‫وإلى ِ ّ‬
‫مالقاتهم‪ ،‬فال يرمون شبكة إليها إال ارتموا فيها‪ ،‬وخال تغريرهم بها من‬
‫المشقّ ة حتى إنهم إنما ينجحون في خداعها أكبر النجاح حين يسخرون‬
‫منها أكبر السخرية‪.‬‬

‫ثم ماذا أقول عن محرقة أخرى تلقَّ فَ تها الشعوب القديمة كأنها نقد ال‬
‫زيف فيه؟ لقد دخل في اعتقادها أن إبهام بي َّروس(‪ ،)42‬ملك اإليبيريّين‪،‬‬
‫جملوا القصة‪،‬‬‫ّ‬ ‫كان يصنع المعجزات‪،‬ويشفي أمراض الطحال‪ ،‬ثم‬
‫فأضافوا أن هذا اإلصبع قد ظهر سليم ًا وسط الرماد‪ ،‬لم تصبه النار بأذى‬
‫بعد أن احترق الجسد كله‪ .‬هكذا يصنع الشعب نفسه األكاذيب كيما‬
‫سجلها كثير من الناس‪ ،‬ولكن على‬ ‫ِّ‬
‫ليصدقها‪ .‬هذه الحكايات قد َّ‬ ‫يعود‬
‫تردد في جلبة‬ ‫ّ‬
‫للشك في أنهم لم يعدوا نقلها عما َّ‬ ‫نمط ال يترك مجا ً‬
‫ال‬
‫المدن‪ ،‬وعلى أفواه العامة‪ .‬منها أن فاسياسيان(‪ )43‬رجع من آشور ف ََم َّر‬
‫العرج‪،‬‬ ‫متوجه ًا إلى روما‪ ،‬فصنع في طريقه المعجزات‪ :‬ق ّوم ُ‬
‫ِّ‬ ‫باإلسكندرية‬
‫الع ْمي‪ ،‬وأتى عجائب أخرى من هذا القبيل‪ ،‬ال يغفل‪-‬‬
‫َور ََّد البصر إلى ُ‬
‫ُنسب إلى‬
‫في رأيي‪ -‬عن زيفها إال من أصابه عمى يغلب عمى الذين ي َ‬
‫فاسياسيان شفاؤهم‪ .‬إن الطغاة أنفسهم يعجبون لقدرة الناس على احتمال‬
‫ما يصيبه على رؤوسهم من اإلساءة إنسان مثلهم‪ ،‬لهذا احتموا بالدين‪،‬‬
‫واستتروا وراءه‪ ،‬ولو استطاعوا الستعاروا نبذة من األلوهية سند ًا لحياتهم‬
‫الع َّرافة‪ ،‬في ملحمة فرجل‪ ،‬أنه‬
‫الباطلة‪ .‬إليك بسالونيوس الذي تروي َ‬
‫(‪)44‬‬

‫يرقد اآلن في قاع الجحيم عقاب ًا على هزئه بالناس إلى َح ّد جعله يريد‬
‫تقمص جوبيتر أمامهم‪:‬‬
‫ُّ‬

‫لحقه شديد العذاب إذ ابتغى‬

‫‪54‬‬
‫محاكاة جوبيتر‪ :‬رعده وصواعقه‬

‫َ‬
‫فش َّد أربعة جياد صواهل إلى عربته الفانية‪،‬‬

‫ثم عالها ممسك ًا بشعلة من النار الساطعة‬

‫و جرى في سوق إليدا ناثر ًا الرعب بين سكانها‬

‫المجنون ادّ عى ملك السماء‪ ،‬وادّ عى بالصاج‬

‫محاكاة الرعد الذي يأبى دويّه المحاكاة !‬

‫و لكن جوبيتر رماه بالصاعقة الحقّ ة‬

‫فقلب عربته في زوبعة من النار‬

‫َّ‬
‫غطتها هي وجيادها وربّها وصاعقته‪.‬‬

‫كان النصر قصير ًا‪ ،‬ولكن العذاب مقيم‪.‬‬

‫فإذا كان هذا المأفون ال يزال يلقى هذا العقاب في الدار األخرى‪ ،‬بينا هو‬
‫ال يعدو أن رَكِ َب ْته نزوة من الحمق‪ ،‬فيقيني أن من تذرَّعوا بالدين تحقيق ًا‬
‫لشرورهم ينتظرهم كيل أعظم‪.‬‬

‫أما طغاتنا نحن فقد نثروا في فرنسا رموز ًا ال أدري كنهها كالضفادع‪،‬‬
‫المقدسة‪ ،‬والشعلة الذهبية(‪ ،)45‬وكلها أشياء ال أريد ‪-‬أ ّي ًا‬
‫َّ‬ ‫والزنابق‪ ،‬والقارورة‬
‫التشكك فيها ما دمنا وأجدادنا‪ ،‬لم ن َر مدعاة‬ ‫ُّ‬ ‫ماهياتها‪ -‬أن أثير‬
‫ّ‬ ‫كانت‬
‫لالرتداد عن تصديقها؛ إذ وُهِ بنا على الدوام ملوك ًا طيبين في السلم‪،‬‬
‫شجعان في الحرب‪ ،‬حتى ليخال المرء أنهم‪ ،‬وإن ُولِدوا ملوك ًا‪ ،‬لم تس ِ ّوهم‬
‫الطبيعة على غرار اآلخرين‪ ،‬وإنما اختارهم الله القدير قبل أن يولدوا‬

‫‪55‬‬
‫لحكم هذه المملكة والحفاظ عليها(‪ .)46‬وحتى لو لم يكن األمر كذلك‬
‫لما أردت الخوض في الحديث عن صحة قصصنا‪ ،‬وال نقدها نقد ًا‬
‫دقيق ًا‪ ،‬حتى ال أفسد جما ً‬
‫ال قد يتبارى فيه شعراؤنا أمثال رونسار‪ ،‬وباييف‬
‫‪،‬وبالي(‪ ،)47‬الذين ال أقول أنهم َح َّسنوا شعرنا‪ ،‬بل خلقوه خلق ًا جديد ًا‪،‬‬
‫تقدم ًا يجعلني أجرؤ على األمل في أال تعود بعد‬ ‫تقدموا بلغتنا ُّ‬
‫وبذا َّ‬
‫ذلك لليونانية والالتينية مزية عليها سوى حقّ األقدم‪ .‬فال َش َّك في أني‬
‫سوف أسيء اآلن إلى َنظْ منا(وال أنكر أني استخدم هذه الكلمة طواعية‪،‬‬
‫ألنه إذا كان من الحق أن البعض قد جعل من النظم صنعة آلية‪ ،‬فمن‬
‫الحق أيض ًا أن هناك عدد ًا كافي ًا من القادرين على استرجاع نبله ومقامه‬
‫األول)‪ ،‬أقول إني أسيء اآلن إلى َنظْ منا لو أني َج َّردته من حكايات‬
‫الملك كلوفيس الجميلة‪ ،‬بعد أن رأيت بأية رشاقة وسهولة يسبح فيها‬
‫أحس أثر الرجل في المستقبل‪ ،‬إني‬ ‫ّ‬ ‫وحي رونسار في فرنسويّاته‪ .‬إني‬
‫أعرف توقُّ د فكره وأعلم لطفه‪ :‬لسوف يوفّ ي الشعلة الذهبية حقّ ها مثلما‬
‫صنع الرومان بدروعهم‪ :‬دروع السماء الملقاة على أرضنا(‪ -)48‬كما يقول‬
‫فرجيل‪ -‬لسوف يرفق بقارورتنا رفق األثينيين بس ّلة إريكتون(‪ ،)49‬ولسوف‬
‫يجعل الناس تشيد بشعاراتنا مثلما شاد األثينيون بغصن الزيتون‪ ،‬الذي ال‬
‫الحد ‪-‬يقين ًا ‪ -‬لو أني‬
‫ّ‬ ‫زالوا يحفظونه في برج مينرفا‪ .‬لهذا كنت أتجاوز‬
‫أردت تكذيب كتبنا‪ ،‬وجريت في مراتع شعرائنا‪ .‬ولكني ‪-‬لكي أعود إلى‬
‫أفلت مني خيطه‪ -‬ألحظ أن الطغاة كانوا‬‫َ‬ ‫موضوعي الذي ال أدري كيف‬
‫يستتب سلطانهم‪ ،‬إلى تعويد الناس على أن يدينوا لهم‬
‫ّ‬ ‫يسعون دائم ًا‪ ،‬كيما‬
‫ال بالطاعة والعبودية فحسب‪ ،‬بل باإلخالص كذلك(‪.)50‬‬

‫فكل ما ذكرته حتى اآلن عن الوسائل التي يصطنعها الطغاة ليع ِ ّلموا الناس‬
‫كيف يخدمونهم طواعية إنما ينطبق على الكثرة الساذجة من الشعب‪.‬‬

‫إني أقترب اآلن من نقطة هي التي يكمن فيها‪ -‬على ما أعتقد‪ -‬زنبلك‬

‫‪56‬‬
‫السيادة وس ّرها‪ ،‬ويكمن أساس الطغيان وعماده‪ .‬إن من يظن أن الرمّاحة‬
‫والحرس وأبراج المراقبة تحمي الطغاة يخطئ‪ ،‬في رأيي‪ ،‬خط ًأ كبير ًا؛‬
‫ففي يقيني أنهم إنما يعمدون إليها مظهر ًا وإثارة للفزع ال ارتكاز ًا إليها‪.‬‬
‫تصد من ال حول لهم وال قوة على اقتحام القصر‪ ،‬ولكنها ال‬ ‫ّ‬ ‫فالق ّواسة‬
‫تصد المس َّلحين القادرين على بعض العزم‪ .‬ثم إن من السهل أن نتحقَّ ق أن‬
‫ّ‬
‫أباطرة الرومان الذين حماهم ق َّواسوهم يق ّلون عدد ًا َع َّمن قتلهم حراسهم‪.‬‬
‫فال جموع الخيالة وال فرق المشاة وال قوة األسلحة تحمي الطغاة‪ .‬األمر‬
‫يصعب على التصديق للوهلة األولى‪ ،‬ولكنه الحق عينه‪ :‬هم دوم ًا أربعة أو‬
‫يشدون له البلد كله إلى‬
‫خمسة يبقون الطاغية في مكانه‪ ،‬أربعة أو خمسة ّ‬
‫مقود العبودية‪ .‬في كل عهد كان ثمة أربعة أو خمسة يبقون الطاغية في‬
‫يشدون له البلد كله إلى مقود العبودية‪ ،‬في كل عهد‬
‫مكانه‪ ،‬أربعة أو خمسة ّ‬
‫كان ثمة أربعة أو خمسة تصيخ إليهم أذن الطاغية‪ ،‬يتق َّربون منه‪ ،‬أو يق ِ ّربهم‬
‫إليه ليكونوا شركاء جرائمه‪ ،‬وخلّان ملذاته‪ ،‬وق ّواد شهواته‪ ،‬ومقاسميه‬
‫ب‪ .‬هؤالء الستة يد ِ ّربون رئيسهم على القسوة نحو المجتمع‪ ،‬ال‬
‫فيما ن ََه َ‬
‫بشروره وحدها‪ ،‬بل بشروره وشرورهم‪ .‬هؤالء الستة ينتفع في كنفهم‬
‫ستمئة يفسدهم الستة مثلما أفسدوا الطاغية‪ ،‬ثم هؤالء الستمئة يذيلهم ستة‬
‫آالف تابع‪ ،‬يوكلون إليهم مناصب الدولة ويهبونهم إمَّا حكم األقاليم‪،‬‬
‫وإمّا التصرف في األموال‪ ،‬ليشرفوا على بخلهم وقساوتهم‪ ،‬وليطيحوا بهم‬
‫متى شاؤوا‪ ،‬تاركين إياهم يرتكبون من السيئات ما ال يجعل لهم بقا ًء‬
‫إال في ظلهم‪ ،‬وال بعد ًا عن طائلة القوانين وعقوباتها إال عن طريقهم‪ .‬ما‬
‫أطول سلسلة األتباع بعد ذلك !‬

‫َس َع ُه أن يرى ال ستة آالف‪،‬‬


‫يتقصى هذه الشبكة و ِ‬
‫ّ‬ ‫إن من أراد التس ّلي بأن‬
‫وال مئة ألف‪ ،‬بل أن يرى الماليين يربطهم بالطاغية هذا الحبل‪ ،‬مثل‬
‫جوبيتر إذ يجعله هوميروس يتفاخر بأنه لو َش ّد سلسلته َل َج َذب إليه اآللهة‬

‫‪57‬‬
‫تضخم مجلس الشيوخ في عهد يوليوس(‪ ،)51‬وجاء‬
‫ُّ‬ ‫جميع ًا‪ .‬من هنا جاء‬
‫خلق المناصب الجديدة‪ ،‬وفتح باب التعيينات والترقيات على مصراعيه‪،‬‬
‫كل هذا ‪-‬يقين ًا‪-‬ال من أجل إصالح العدالة‪ ،‬بل أو ً‬
‫ال وأخير ًا من أجل‬
‫أن تزيد سواعد الطاغية‪ .‬خالصة القول‪ -‬إذ ًا‪ -‬هي أن الطغاة ُتجنى من‬
‫ورائهم حظوات‪ ،‬و ُتج َنى مغانم ومكاسب‪ ،‬فإذا من ربحوا من الطغيان‪،‬‬
‫أو هكذا ُه ِ ّي َئ إليهم‪ ،‬يعدلون في النهاية من يؤثرون الحرية‪ .‬فكما يقول‬
‫األطباء إن جسدنا ال يفسد جزء منه إال إن انجذبت أمزجته إلى هذا الجزء‬
‫الفاسد‪ ،‬دون غيره‪ ،‬كذلك ما إن يعلن ملك عن استبداده بالحكم حتى‬
‫ّ‬
‫تلتف حوله كل أسقاط المملكة وحثالتها‪ ،‬وما أعني بذلك حشد صغار‬
‫اللصوص والموصومين الذين ال يملكون لبلد نفع ًا‪ ،‬وال ض ّر ًا‪ ،‬بل أولئك‬
‫الذين يدفعهم طموح حارق وبخل شديد(‪ ،)52‬يلتفون حوله ويعضدونه‬
‫مصغرين في ظل‬
‫َّ‬ ‫لينالوا نصيبهم من الغنيمة‪ ،‬وليصيروا هم أنفسهم طغاة‬
‫الطاغية الكبير‪ .‬هكذا الشأن بين كبار اللصوص ومشاهير القراصنة‪ :‬فريق‬
‫يستكشف البلد‪ ،‬وفريق يالحق المسافرين‪ ،‬فريق يقف على َم ْرقَبة‪ ،‬وفريق‬
‫تعددت المراتب بينهم‪،‬‬
‫يختبئ‪ ،‬فريق يقتل‪ ،‬وفريق يسلب‪ .‬ولكنهم‪ -‬وإن َّ‬
‫وكانوا بعض ًا توابع‪ ،‬وبعض ًا رؤساء‪ -‬إال أنه ما من أحد منهم إال خرج‬
‫بكسب ما‪ ،‬إن لم يكن بالغنيمة كلها‪ ،‬فيما انتشل‪ .‬أال يحكى أن القراصنة‬
‫حد ًا لم يجعل ب ُّد ًا من إرسال‬
‫الصقليين لم تبلغ فقط كثرة عددهم ّ‬
‫(‪)53‬‬

‫بومبي أعظم قواد العصر لمهاجمتهم‪ ،‬بل هم فوق ذلك قد ج ّروا إلى‬
‫التحالف معهم عدد ًا كبير ًا من المدن الجميلة والثغور العظيمة التي كانوا‬
‫يلوذون بها بعد غزواتهم لقاء بعض الربح مكافأة على إخفاء أسالبهم؟‬

‫هكذا يستعبد الطاغية رعاياه بعضهم ببعض‪ ،‬يحرسه من كان أولى بهم‬
‫ّ‬
‫يفل‬ ‫االحتراس منه لو كانوا يساوون شيئ ًا‪ ،‬وهكذا يصدق المثل‪ :‬ال‬
‫الخشب إال مسمار من الخشب ذاته‪ .‬هاهو ذا يحيط به َق ّواسته وح ّراسه‬

‫‪58‬‬
‫وحاملو حرباته‪ ،‬ال ألنهم ال يقاسون األذى منه أحيان ًا‪ ،‬بل ألن هؤالء‬
‫الضالين الذين تخ ّلى اللّه عنهم‪ ،‬وتخ َّلت الناس‪ ،‬يستمرئون احتمال األذى‬
‫يردوه ال إلى من أنزله بهم‪ ،‬بل إلى من قاسوه مثلهم دون أن يملكوا‬‫حتى ّ‬
‫إال الصبر‪ .‬غير أني إذ أنظر إلى هؤالء الضالّين الذين يجرون وراء ُك َرات‬
‫الطاغية‪ ،‬حتى ِ ّ‬
‫يحققوا مآربهم من وراء طغيانه‪ ،‬ومن وراء عبودية الشعب‬
‫على َح ّد سواء يتم َّلكني أحيان ًا كثيرة العجب لرداءتهم‪ ،‬وأرثي أحيان ًا‬
‫لحماقتهم‪ :‬فهل يعني القرب من الطاغية‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬شيئ ًا آخر سوى‬
‫البعد عن الح ّريّة واحتضانها بالذراعين‪ ،‬إذا جاز التعبير؟‬

‫ليتركوا‪ -‬ولو حين ًا‪ -‬مطامعهم‪ ،‬وليتج ّردوا‪ -‬ولو قلي ً‬


‫ال‪ -‬من بخلهم‪،‬‬
‫ولينظروا بعدئذ إلى أنفسهم‪ ،‬وليقبلوا على معرفتها‪ :‬لسوف يرون عندئذ‬
‫أن أهل القرى والفالحين الذين يحلو لهم دوسهم باألقدام طالما‬
‫الس َخ َرة والعبيد‪،‬‬ ‫استطاعوا‪ ،‬وتحلو لهم معاملتهم معامل ًة َ‬
‫أش ّر من معاملة َّ‬
‫سوف يرون أن هؤالء المستضعفين هم‪ -‬مع ذلك‪ -‬أسعد حظ ًا وأوفر‬
‫والح َرفي‪ ،‬وإن اس ُتعبدا‪ ،‬يفرغان مما ُضرب‬‫ِ‬ ‫ح ّريّة بالقياس إليهم‪ .‬فاألجير‬
‫عليهما بأداء ما يُط َلب إليهما‪ .‬ولكن الطاغية يرى اآلخرين يتزلّفون إليه‪،‬‬
‫ويستجدون حظوته‪ ،‬فعليهم ال العمل بما يقول وحسب‪ ،‬بل عليهم أيض ًا‬
‫التفكير فيما يريد‪ ،‬وغالب ًا ما يحقّ عليهم أن يحدسوا ما يدور بِ َخ َلده حتى‬
‫ير ِ ّوضه‪ .‬فطاعتهم له ليست كل شيء‪ ،‬بل تجب أيض ًا مماألته واالنقطاع‬
‫له‪ ،‬ويجب أن ِ ّ‬
‫يعذبوا أنفسهم‪ ،‬وأن يَنفقوا في العمل تحقيق ًا لمراميه‪ .‬ثم‬
‫تلذ لهم إال إذا َل َّذت له‪ ،‬فليتركوا أذواقهم لذوقه‪،‬‬
‫َل ّما كانت نفوسهم ال ّ‬
‫وليتك َّلفوا ما ليس منهم‪ ،‬وليتج َّردوا من سليقتهم‪ ،‬عليهم االنتباه لكلماته‬
‫وصوبه‪ ،‬ولِما يبدر منه من العالمات‪ ،‬ولنظراته‪ ،‬لينزلوا عن أعينهم وعن‬
‫تحسس رغباته‬
‫ُّ‬ ‫أرجلهم وأيديهم‪ ،‬وليكون وجودهم كله رصد ًا من أجل‬
‫وتبين أفكاره‪ .‬أهذه حياة سعيدة؟ أ ُت َس ّمى هذه حياة؟ هل في الدنيا‬
‫ُّ‬

‫‪59‬‬
‫شيء أقسى احتما ً‬
‫ال‪ ،‬ال أقول على رجل ذي قلب‪ ،‬وال على إنسان حسن‬
‫المولد‪ ،‬وإنما على كائن حظي بقسط من الفهم العام‪ ،‬أو له وجه إنسان‬
‫أشد تعس ًا من حياة على هذا النحو ال يملك فيها المرء‬
‫ال أكثر؟ أي وضع ّ‬
‫مستمد ًا من غيره راح َت ُه وح ّريَّته وجسد ُه وحياته؟‬
‫ّ‬ ‫شيئ ًا لنفسه‪،‬‬

‫لكنهم يريدون العبودية ليجنوا من ورائها األمالك‪ :‬كما لو كان في‬


‫مستطاعهم أن يغنموا شيئ ًا‪ ،‬بينا هم ال يستطيعون أن يقولوا أنهم يملكون‬
‫يودون لو حازوا األشياء كأن للحيازة مُ َّتسع ًا في ظل الطاغية‪،‬‬
‫أنفسهم‪ّ .‬‬
‫ويتناسون أنهم هم الذين أعطوه القوة على أن يسلب الجميع كل شيء‪،‬‬
‫دون أن يترك ألحد شيئ ًا يمكن القول إنه له‪ .‬إنهم يرون أنه ما من شيء‬
‫يع ِ ّرض الناس لقسوته مثل الخير‪ ،‬وأنه ال جريمة نحوه تستحقّ الموت في‬
‫يحب إال الثروات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يستقل به المرء عنه‪ .‬إنهم يرون أنه ال‬ ‫نظره كحيازة ما‬
‫وال يكسر إال األثرياء‪ .‬وهم مع هذا يسعون إليه سعيهم إلى الج ّزار كي‬
‫يمثلوا بين يديه مألى مكتنزين‪ ،‬ولكي يستثيروا جشعه‪ .‬هؤالء المق ّربون‬
‫َّ‬
‫يتذكروا من غنموا من الطغاة كثير ًا‪ ،‬بل أولئك الذين‬ ‫قد كان أولى بهم أال‬
‫بعد أن َك َّدسوا المغانم بعض الوقت خسروا المغانم والحياة جميع ًا‪ ،‬كان‬
‫ت‪ ،‬بل بالق ّلة التي استطاعت‬ ‫أولى بهم أن َي َّتعِظوا ال بالكثرة التي َأ ْث َر ْ‬
‫االحتفاظ بما كسبت‪ .‬لنستعرض كل القصص القديمة‪ ،‬ولنستعد تلك‬
‫التي تعيها ذاكرتنا‪ :‬لسوف نرى ملء عيوننا إلى أي مدى َك ُث َر عدد الذين‬
‫اجتذبوا آذان الطاغية بطرق بخسة‪ ،‬مح ِ ّركين سوء ِجب َّلتهم‪ ،‬أو مستغ ّلين‬
‫ُسحقون في النهاية سحق ًا بأيدي األمراء‬ ‫غفلتهم‪ ،‬ثم إذا هم بعد ذلك ي َ‬
‫أنفسهم‪ ،‬ال يعدل مقدار السهولة التي ع ّلوهم بها إال مقدار ما خبروه‬
‫من انقالب إلى ضربهم‪ .‬هذا العدد الغفير من الناس‪ ،‬الذين عاشوا في‬
‫حمى هذه الكثرة من الملوك األرذال‪ ،‬لم يسلم منهم يقين ًا إال القليل‪،‬‬
‫ّ‬
‫ضد‬
‫إن لم نقل لم يسلم منهم أحد‪ ،‬من قسوة الطاغية التي بدأوا بتأليبها ّ‬

‫‪60‬‬
‫اآلخرين‪:‬ففي معظم األحيان يثرى الغير بما يسلبون بعد أن أثروا هم بما‬
‫سلبوا في ظل ما تم َّتعوا به من الحظوة‪.‬‬

‫يحبه الطاغية‪ ،‬فهم مهما‬


‫ّ‬ ‫أما القوم األفاضل‪ ،‬لو وجد بينهم رجل واحد‬
‫لقوا من قبوله‪ ،‬ومهما سطعت فيهم الفضيلة والنزاهة اللتان ال يقربهما‬
‫أحد‪ ،‬ولو كان أردأ الناس صنف ًا‪ ،‬وأثارتا فيه بعض ًا من االحترام‪ ،‬هؤالء‬
‫القوم ال دوام لهم في كنف الطاغية‪ :‬فهم يؤولون إلى ما آل إليه الجميع‪،‬‬
‫وال يجدون مف ّر ًا من أن يعرفوا بخبرة مرة ما هو الطغيان‪ .‬خذ مث ً‬
‫ال هؤالء‬
‫األفاضل‪ :‬سينيكا‪ ،‬وبورّوس‪ ،‬وترازياس(‪ .)54‬األوالن منهم كان من نكد‬
‫طالعهما أن عرفا الطاغية فترك لهما إدارة أشغاله‪َ ،‬‬
‫وأك ّن لهما التقدير‬
‫تعهده في طفولته‪ ،‬وكان له في ذلك‬
‫واإلعزاز‪ ،‬خاصة وأن أوّلهما كان قد َّ‬
‫ضمان لصداقته‪ ،‬ولكن ثالثتهم يشهد موتهم األليم شهادة كافية بأن حظوة‬
‫السيد الرديء ليست أقل من ضمانها‪ .‬وفي الحق‪ :‬أي ضمان يُر َتجى من‬
‫كرهه مملك َته المذعنة ألمره‪ ،‬ونضبت فيه معرفة‬
‫رجل قسا قلبه حتى شمل ُ‬
‫الحب‪ ،‬فلم يعد يعرف إال كيف يعدم نفسه‪ ،‬ويد ِ ّمر إمبراطوريته؟‬

‫تردوا في هذه العواقب لحسن خلقهم‪ ،‬كفى‬ ‫فلو قلنا إن هؤالء الثالثة إنما ّ‬
‫أن ِ ّ‬
‫نسدد النظر حول نيرون نفسه لنرى أن الذين لقوا حظوته واستقروا فيها‬
‫بأرذل الوسائل لم يدم عهدهم زمن ًا أطول‪ .‬من الذي سمع عن حب استسلم‬
‫له صاحبه بال َح ّد‪ ،‬عن إعزاز بال قيد؟ من الذي قرأ في أي زمن من‬
‫األزمنة عن رجل ولع بامرأة ولع ًا عنيد ًا مالزم ًا َك َو َلع نيرون هذا ببوبيا(‪،)55‬‬
‫زوجها كلوديوس‬ ‫س لها السم؟ ألم تقتل أمه أجريبينا‬ ‫ثم بعدئذ َد َّ‬
‫(‪)56‬‬

‫حتى تفسح له الهيمنة على اإلمبراطورية؟ ألم تبذل ما وسعت؟ ألم ُتقبل‬
‫طواعية على كل إثم إعالء له؟ ومع هذا ما لبث ابنها هذا‪ ،‬رضيعها‪،‬‬
‫إمبراطورها الذي صنعته بيدها‪ ،‬ما لبث ‪ -‬بعد أن جحدها مرار ًا‪ -‬أن انتزع‬
‫حياتها في النهاية‪ ،‬وإنه لعقاب ما كان أحد ينكر أنه جزاؤها المستحقّ لو‬

‫‪61‬‬
‫أن يد ًا أخرى أنزلته بها غير يد م َْن م َّكنته‪ّ .‬‬
‫أي رجل كان أسهل انقياد ًا‪،‬‬
‫أي رجل‬ ‫وأكثر سذاجة أو‪ ،‬باألصح‪ ،‬أ كثر َب َله ًا من اإلمبراطور كلوديوس؟ ّ‬
‫ركبته امرأة مثلما ركبته مسالينا(‪)57‬؟ ومع هذا أسلمها أخير ًا ليد الجلّاد!‬
‫إن الغباوة تالزم الطغاة دائم ًا‪ ،‬حتى حين يريدون إسداء الحسن إذا أرادوا‬
‫إسداءه‪ ،‬ولكنهم حين يريدون البطش بالمق َّربين إليهم يستيقظ فيهم ‪-‬ال‬
‫أدري كيف!‪ -‬القليل من فصاحتهم‪ .‬أال تعلم هذه النادرة التي فاه بها‬
‫هذا الذي رأى صدر المرأة التي شغف بها أيّما شغف‪ ،‬حتى بدا كأنه‬
‫ال يستطيع الحياة دونها‪ ،‬رآه عاري ًا فداعبها بهذه المزحة‪« :‬هذا العنق‬
‫الجميل قد ُيقطَ ف قريب ًا لو أردت»؟ لهذا كان معظم الطغاة القدامى‬
‫يالقون حتفهم‪ .‬لم يستطيع المق َّربون االطمئنان إلى إرادة الطاغية بقدر‬
‫كومودس إحدى‬
‫َ‬ ‫وقتلت‬
‫ْ‬ ‫يسيان‪،‬‬
‫َ‬ ‫اتين ُدومِ‬
‫ْ‬ ‫ما حذروا ق ّوته‪ .‬هكذا قَتلت‬
‫محظياته‪ ،‬كما ُقتِل أنطونان على يد مارسان‪ ،‬وهكذا في سائرهم ‪.‬‬
‫(‪)58‬‬
‫ّ‬

‫الحب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحب أبد ًا‪ ،‬وال هو يعرف‬
‫ّ‬ ‫إن من المستيقن أن الطاغية ال يلقى‬
‫َحلّاً إال بين‬
‫فالصداقة اسم قدسي وجوهر طاهر‪ ،‬إنها ال تعرف لها م َ‬
‫تؤخذ إال بالتقدير المتبادل ال بإغداق النعم‪ .‬فالصديق إنما‬
‫األفاضل‪ ،‬وال َ‬
‫يأمن إلى الصديق لما يعرفه من استقامته‪ .‬ضمانته هي استقامته وصدق‬
‫طويَّته وثباته‪ .‬فال مكان للصداقة حيث القسوة‪ ،‬حيث الخيانة‪ ،‬حيث‬
‫حب يسود بينهم بل‬
‫الجور‪ .‬فاألشرار إذا اجتمعوا تآمروا‪ ،‬ولم يتزاملوا‪ ،‬ال ّ‬
‫الخشية‪ ،‬فما هم بأصدقاء‪ ،‬بل هم متواطئون‪.‬‬

‫يضم فؤاد‬
‫ّ‬ ‫لتبي ّنا أن من الصعب أن‬
‫ولو صرفنا النظر عن هذه العوائق ّ‬
‫وع ِد َم كل رفيق‪ ،‬قد خرج بهذا‬
‫حب ًا يوثق به‪ ،‬ألنه إذا عال الجميع‪َ ،‬‬
‫الطاغية ّ‬
‫عينه عن حدود الصداقة التي مقعدها الحق هو المساواة‪ ،‬والتي تأبى‬
‫دوم ًا التع ُّثر في خطواتها المتساوية أبد ًا‪ .‬لهذا نرى(فيما يقال) شيئ ًا من‬
‫القسط بين اللصوص عند اقتسام الغنيمة‪ ،‬ألنهم متزاملون متكافلون‪ ،‬وإذا‬

‫‪62‬‬
‫ّ‬
‫األقل يتبادلون الحذر‪ ،‬وال يرغبون في‬ ‫كانوا ال يتبادلون الحب فهم على‬
‫إضعاف ق ّوتهم بالتف ُّرق بدل الوحدة‪ .‬أما الطاغية فما يستطيع المق َّربون‬
‫إليه االطمئنان إليه أبد ًا‪ ،‬ما دام قد تع َّلم منهم أنفسهم أنه قادر على كل‬
‫شيء‪ ،‬وأنه ال حقَّ وال واجب يجبرانه‪ ،‬وما دام تعريفه صار يقوم في‬
‫اعتبار إرادته العقل‪ ،‬وفي انتفاء كل نظير‪ ،‬وسيادة الجميع‪ .‬أليس أمر ًا‬
‫يدعو إلى الرثاء أن كل هذه األمثلة الواضحة‪ ،‬وهذا الخطر الدائم‪ ،‬ال‬
‫تدعو أحد ًا إلى اال ِ ّتعاظ بها‪ ،‬وأن يتقرب إلى الطاغية طواعية هذا العدد‬
‫الغفير من الناس دون أن يجد أحد الحصافة والجرأة اللتين ِ ّ‬
‫تمكناه من أن‬
‫يقول ما قاله الثعلب‪ ،‬على ما ورد في الحكاية‪ ،‬لملك الغابة الذي اصطنع‬
‫المرض‪« :‬كنت أزورك طواعية في عرينك لوال أني أرى وحوش ًا كثيرة‬
‫َت َّت ِجه آثارها قدم ًا إليك‪ ،‬وما أرى أثر ًا يعود»؟‪.‬‬

‫هؤالء التعساء يرون بريق كنوز الطاغية‪ ،‬وينظرون مشاهد بذخه وقد‬
‫أشعتها‪ ،‬فإذا هذا الضوء يغريهم فيقتربون منه دون أن يروا أنهم‬
‫ّ‬ ‫بهرتهم‬
‫إنما يلقون بأنفسهم في اللهب الذي لن يتخ َّلف عن إهالكهم‪ .‬هكذا صنع‬
‫الساتير(‪ )59‬الطفيلي‪ ،‬الذي تحكي الحكاية أنه شهد النار التي اكتشفها‬
‫ال فائق ًا فذهب ّ‬
‫يقبلها فاحترق‪.‬‬ ‫بروميثيوس وهي تضيء‪ ،‬فرأى لها جما ً‬
‫مثله مثل الفراشة التي تلقي بنفسها في النار أم ً‬
‫ال في الحظوة ّ‬
‫بلذة من‬
‫نورها‪ ،‬فإذا هي تعرف ق ّوتها األخرى‪ :‬ق ّوتها الحارقة‪ ،‬كما يقول الشاعر‬
‫التوسكاني(‪ .)60‬ولكن لنفرض أن هؤالء األغرار يفلتون من قبضة من‬
‫يخدمون‪ ،‬أيعلمون أي ملك آت من بعد؟ إذا كان طيِ ّ ب ًا وجبت اإلجابة‬
‫بسيدهم فلسوف يصحبه‬ ‫عما صنعوه‪ ،‬ول َِم صنعوه‪ ،‬وإذا كان سيئ ًا شبيه ًا ِ ّ‬
‫ّ‬
‫أيض ًا أتباعه الذين ال يقنعون باالستحواذ على مكان اآلخرين‪ ،‬بل تلزمهم‬
‫أيض ًا في معظم األحايين أمالكهم وحياتهم‪ .‬أيمكن إذ ًا‪ -‬وهذا مدى‬
‫التهلكة‪ ،‬ومدى قلة األمن‪ -‬أن يكون هناك امرؤ يرغب في ملء هذا‬

‫‪63‬‬
‫أي عذاب‪ ،‬أي‬ ‫سيد هذا مبلغ خطره؟ ّ‬ ‫المكان البائس ليقاسي خدمة ِ ّ‬
‫الرب الحق‪ ،‬أن يقضي المر ُء النهار بعد الليل وهو‬
‫ّ‬ ‫استشهاد هذا‪ ،‬أيها‬
‫يفكر كيف يرضي واحد ًا‪ ،‬بينما هو يخشاه مع ذلك أ كثر مما يخشى ّ‬
‫أي‬ ‫ّ‬
‫البص وأذن ًا تسترق‬
‫ّ‬ ‫إنسان آخر على وجه البسيطة! أن يكون عين ًا دائمة‬
‫السمع‪ ،‬حتى يحدس مأتى الضربة القادمة‪ ،‬وموقع المصائد‪ ،‬وحتى يقرأ‬
‫في وجوه أقرانه أيّهم يغدر به‪ ،‬يبتسم لكل منهم وهو يخشاهم جميع ًا‪ ،‬ال‬
‫دام ال ق َِب َل‬
‫يطمئن إليه‪ ،‬الوجه باسم‪ ،‬والقلب ٍ‬
‫ّ‬ ‫عدو ًا سافر ًا يرى وال صديق ًا‬
‫له بالسرور‪ ،‬وال جرأة على الحزن!‬

‫و لكن األغرب هو أن نرى ما يعود عليهم من هذا العذاب الشديد‪،‬‬


‫والكسب الذي يستطيعون توقُّ عه من مكابدتهم وحياتهم البائسة‪ .‬فالذي‬
‫يقع هو أن الشعب ال ي َّتهم الطاغية أبد ًا بما يقاسيه‪ ،‬وإنما ينسبه طواعية‬
‫واألمم‪ ،‬ويعرفها‬
‫ُ‬ ‫الشعوب‬
‫ُ‬ ‫إلى من سيطروا عليه‪ :‬هؤالء تعرف أسماءهم‬
‫ويصبون عليهم ألف‬
‫ّ‬ ‫العالم قاطبة‪ ،‬حتى الفالحون واألجراء يعرفونها‪،‬‬
‫ضدهم‪ ،‬كل‬
‫قذيعة وألف شتيمة وألف ُس ّبة‪ ،‬كل أدعيتهم وأمانيهم َت َّتجه ّ‬
‫ما يلحق بهم من الباليا واألوبئة والمجاعات يقع فيه اللوم عليهم‪ ،‬فإن‬
‫تظاهروا أحيان ًا بتبجيلهم َس ّبوهم مع ًا في قلوبهم‪ ،‬ونفروا منهم كما ال‬
‫ينفرون من الوحوش الكاسرة‪ .‬هذا هو الشرف‪ ،‬وهذا هو المجد‪ :‬ينالون‬
‫جزاء على ما صنعوه تجاه الناس الذين لو ملك كل منهم جزء ًا من‬
‫أجسادهم لما شقي‪ ،‬وال رأى فيه نصف عزاء عن شقائه‪ ،‬فإن أدركهم‬
‫يتوان من يجيء بعدهم عن أن يظهر بينهم ألف قلم‪ ،‬يس ِ ّود‬ ‫َ‬ ‫الموت لم‬
‫بمداده أسماء آ كلي الشعوب هؤالء‪ ،‬ويم ِ ّزق سمعتهم في ألف كتاب‪،‬‬
‫(‪)61‬‬

‫وحتى عظامهم ذاتها‪ -‬إذا جاز هذا التعبير‪ -‬يم ِ ّرغها الوحل عقاب ًا لهم بعد‬
‫مماتهم على فساد حياتهم‪.‬‬

‫لنتع َّلم‪ ،‬إذن‪ ،‬لنتع َّلم مرة أن نسلك سلوك ًا حسن ًا‪ .‬لنرفع أعيننا إلى السماء‬

‫‪64‬‬
‫بدعوة من كرامتنا‪ ،‬أو من محبة الفضيلة ذاتها‪ ،‬أو ‪-‬إذا أردنا الكالم عن‬
‫علم فيقين ًا بدعوة من محبة الله القادر على كل شيء‪ ،‬وتبجيله‪ ،‬ولهو‬
‫الشاهد الذي ال يغفل عن أفعالنا‪ ،‬والقاضي العادل في أخطائنا‪ .‬أما‬
‫فيما يتع َّلق بي فإني ألرى‪ -‬ولست بالمخدوع ما دام ال شيء أبعد عن‬
‫يدخر في الدار اآلخرة للطغاة‬
‫َّ‬ ‫الله‪ ،‬وهو الغفور الرحيم من الطغيان‪ -‬أنه‬
‫وشركائهم عقاب ًا من نوع خاص‪.‬‬

‫***‬

‫‪65‬‬
‫هوامش املترجم‬

‫‪66‬‬
‫‪ - 1‬عن اإللياذة‪ ،‬األنشودة الثانية‪ ،‬البيتان ‪ … 204‬كانت جيوش اليونانيين‬
‫َّ‬
‫تتمكن من االستيالء عليها‪ ،‬فبدأ‬ ‫تحاصر طروادة منذ تسع سنوات دون أن‬
‫المحاربون يستهويهم اقتراح العودة إلى ديارهم دون تحقيق النصر‪ .‬إال أن‬
‫تحدث إلى جندي‬
‫َّ‬ ‫حجته للق ّواد من أقرانه‪ ،‬فإن‬
‫أوليس استوقفهم يشرح ّ‬
‫َع َّنفَ ه‪َّ ،‬‬
‫وذكره أن واجبه الطاعة ألن األمر والرأي إنما يكونان لواحد‪.‬‬

‫هذا ولقد كانت المدن أو الدول اليونانية األولى(حوالي القرن الحادي‬


‫عصبيات يرأسها ملوك وأمراء‪ ،‬مثل الذين‬
‫ّ‬ ‫عشر قبل الميالد)تتألّف من‬
‫أشاد هوميروس بحروبهم على طروادة‪ .‬صحيح أن هوميروس كان يفصل‬
‫بينه وبين هذه الوقائع نحو ثالثة قرون‪ ،‬وأن إلهامه كان يستند في أغلب‬
‫تتردد على األفواه إبان حياته(القرن الثامن‬
‫الظن إلى روايات كانت ما تزال َّ‬
‫ق‪.‬م)إال أن التطابق بين أوصافه وبين ما يمكن استنباطه من الحفريات‬
‫بصحتها‪ .‬فال َش َّك في أن هؤالء الملوك واألمراء كانوا‬
‫َّ‬ ‫يدعو إلى األخذ‬
‫يتفاخرون بانتسابهم إلى اآللهة‪ ،‬وأن هذا االنتساب لم يكن يلقى تصديق‬
‫الجميع وحسب‪ ،‬بل إن عامة الناس كانت ترى فيه‪ -‬تحديد ًا‪ -‬السبب‬
‫الذي من أجله تسرع إلى خدمتهم والقتال في سبيلهم‪ .‬وهذه ظاهرة ما‬
‫نزال نشهدها بين العشائر التي يتألّف منها كثير من المجتمعات إلى‬

‫‪67‬‬
‫يومنا هذا‪ ،‬كل االختالف الذي ينجم حين تعتنق هذه المجتمعات عقيدة‬
‫التوحيد‪ ،‬هو أن الرؤساء ال ينسبون أنفسهم إلى اآللهة‪ ،‬بل إلى األنبياء‪،‬‬
‫والغزاة‪ ،‬واألبطال من كل مضمار‪.‬‬

‫أمر أخر يجدر الوقوف عنده‪ .‬ذلك أن الكلمات الدالة في اللغة‬


‫اليونانية(واللغة دستور الجميع إذا جاز التعبير)على عل ّو المكانة(مثل‬
‫تدل كذلك على‬ ‫ّ‬ ‫أريسطوس‪ ،‬وأجاثوس‪ ،‬وأستلوس‪ ...‬إلخ)كانت‬
‫السم ّو الخلقي‪ .‬وهذه أيض ًا ظاهرة ما نزال نشهدها إلى يومنا في اللغة‬
‫ال حيث ّ‬
‫تدل الكلمة ذاتها(نوبل)على االنتماء إلى الطبقة‬ ‫اإلنجليزية‪ .‬مث ً‬
‫األرستقراطية‪ ،‬وعلى صفة تسند إلى أفعال الشخص أو حتى إلى ما ِ ّ‬
‫يقدمه‬
‫من النبيذ‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 2‬الكلمة التي ترجمناها هنا بـ (الجماعة) هي ما يترجم اليوم‬


‫بـ(الجمهورية)‪ .‬ولكنها كانت ترد في القرن السادس العشر بالمعنى‬
‫الحرفي الذي يخرج من اشتقاقها‪ ،‬وهي مشتقّ ة من كلمتين في اللغة‬
‫اليونانية‪ :‬رس بمعنى شيء‪ ،‬وبويليكوس بمعنى عام‪ .‬ومنه كان معناها‬
‫األضبط هو المنفعة أو المصلحة العامة‪ .‬ولما كانت هذه الفكرة أحد‬
‫التص ُّورات األساسية التي ينبني عليها القانون الروماني‪ ،‬فقد بدا لنا ‪-‬بعد‬
‫نبهنا إليه الدكتور إسماعيل عبد الله‪ -‬أن أقرب ما يعادلها في الفقه‬
‫أن َّ‬
‫العربي هو (تص ُّور الجماعة)‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 3‬هنا أيض ًا يستخدم المؤلّف كلمة تترجم اليوم بـ (الملكية)‪ ،‬وترجمناها‬


‫بـ (حكم الواحد) الشتقاقها من اليوناني مونوس بمعنى واحد‪ ،‬و(آركي)‬

‫‪68‬‬
‫بمعنى السلطة أو الحكم‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 4‬كانت الديموقراطية في أثينا(مثلها في الواليات المتحدة اليوم)ال‬


‫تنفصل عن سياستها المسيطرة أو اإلمبريالية‪ ،‬التي تكفل رغد مواطنيها‪.‬‬
‫عدد‬
‫ٌ‬ ‫لذا أعلنت عليها الحرب عام ‪ 431‬ق‪.‬م ‪-‬درء ًا لهذه السياسة‪-‬‬
‫من المدن أو الدول اليونانية تزعمتها إسبرطة‪ ،‬وهي الحرب المعروفة‬
‫باسم حرب البيلوبونيز‪ .‬وفي العام ‪ 404‬ق‪.‬م‪ .‬انتهت هذه الحرب الطويلة‬
‫بهزيمة أثينا‪ ،‬وبأن أملت إسبرطة على شعبها مجتمع ًا في مجلسه اختيار‬
‫ثالثين«محرر ًا»(لوغوغوافوي) ُأوكِ ل إليهم تحرير دستور جديد‪ .‬ولم يلبث‬
‫هؤالء الثالثون‪ ،‬الذين ينتمون إلى الطبقة األوليغاركية‪ ،‬أي إلى الق ّلة الثريّة‬
‫ذات الحسب‪ ،‬أن استولوا على زمام الحكم‪ ،‬ولم يلبث حكمهم أن انقلب‬
‫إلى رعب مسلط على الرؤوس‪ :‬الجيش اإلسبرطي يرابط فوق األكروبول‪،‬‬
‫األجانب المقيمون بأثينا‪ ،‬ومواطنوها أنفسهم إما يقتلون أو يُشَ َّردون‪ ،‬أو‬
‫صادر ممتلكاتهم‪ ،‬أما الدستور الموعود فلم ي َر الضوء‪ .‬وبلغت المأساة‬ ‫ُت َ‬
‫ذروتها حين ُقتل زعيم المعتدلين بين الثالثين‪ ،‬الثيرامين‪ ،‬وانفرد بالحكم‬
‫أعتاهم‪ ،‬كريتياس‪ .‬إال أن الطغاة لم يستطيعوا دفع جماعة من المتم ِ ّردين‬
‫ترأسهم ثراسيبول عن االستيالء على بيريه‪ ،‬مرفأ أثينا‪ ،‬بعد معركة‬‫الذين َّ‬
‫قتل فيها كريتياس(ديسمبر ‪ -‬يناير ‪ 44/43‬ق‪.‬م‪ .).‬بهذا االنتصار تس ّنى‬
‫االتفاق بين المعتدلين من األوليغاركيين وبين الديموقراطيين اتفاق ًا‬
‫توسط فيه ملك إسبرطة‪ .‬وانتهت المحنة برجوع النظام الديموقراطي في‬
‫َّ‬
‫أواخر صيف ‪ 403‬ق‪.‬م‪ ،‬والقضاء على فلول الثالثين‪ .‬وي َُع ّد هذا االتفاق‬
‫صفحة من أمجد صفحات الديمقراطية في أثينا‪ ،‬ألن ثراسيبول قد أمكنه‬
‫من جهة فرض مطالب الشعب(أي الفالحين والحرفيين وبعض التجار)‬
‫ومن ناصره من العبيد واألجانب‪ ،‬ولكنه من جهة أخرى قد أمكنه إقناع‬

‫‪69‬‬
‫الح ّد الذي يخلق حزازات وضغائن ال‬ ‫ّ‬
‫يشتط في مطالبه إلى َ‬ ‫الشعب بأال‬
‫نهاية لها‪ .‬في وقت خرجت فيه أثينا والدول اليونانية عامة من الحرب‬
‫َّ‬
‫ومكن فيليب المقدوني‬ ‫ضعيفة منهكة إلى َح ّد لم تقم لها قائمة بعده‪.‬‬
‫وابنه اإلسكندر من افتراسها‪ .‬ويذهب بعض ُ‬
‫الك ّتاب المعاصرين إلى أن‬
‫اال ّتفاق المذكور كان بمثابة النقلة التي َح َّلت فيها فوقية القانون أو سيادته‬
‫فوقية إرادة الشعب‪ .‬ولكن المغزى األوضح الذي يخرج من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محل‬ ‫العليا‬
‫هذا اال ّتفاق هو أن«القانون»إنما يعني هنا العقد‪ ،‬الذي َت َّم بمقتضاه‬
‫التراضي بين الطبقات في وقت لم يكن فيه ب ُّد من التراضي‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫استمده من لفظ التيني‬


‫َّ‬ ‫‪ - 5‬يبتدع البويسيه في هذا الموضع لفظ ًا فرنسي ًا‬
‫تجده عند شيشيرون‪ ،‬والمؤ ِ ّلف المسرحي ب ّلرط‪ ،‬بمعنى صيغة التصغير من‬
‫ُج ْيل»‪ .‬آثرنا ترجمته بكلمة«خنث»من«خنث‬‫رجل‪ ،‬كما لو قلنا بالعربية«ر َ‬
‫وتثن‪ ،‬فكان على صورة الرجال وأحوال‬
‫ّ‬ ‫وتكسر‬
‫ُّ‬ ‫الرجل خنث ًا‪ :‬كان فيه لين‬
‫النساء فهو خنث»(عن المنجد)‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 6‬ثار نقاش حول من المراد بهذا الوصف‪ :‬أهو شارل التاسع أو هنري‬
‫الثالث؟ ولكن األصح أن المؤلف إنما أراد أن يرسم صورة أنموذجية‪،‬‬
‫وإن صدقت على كثير من الحكام‪ ،‬دحض ًا للرأي القائل بأن هناك من‬
‫ُجعِلوا بطبيعتهم للسيادة‪ ،‬وهناك من ُجعِلوا مس َّودين‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 7‬ميلسيادس قائد أثيني تحقَّ ق بفضله أول انتصار حازه اإلغريق ّ‬


‫ضد‬
‫الفرس‪ ،‬وذلك في معركة (ماراتون) عام ‪490‬ق‪.‬م‪ .‬ثيميستوكل قائد آخر‬

‫‪70‬‬
‫يرجع إلى سياسته تقوية األسطول األثيني‪ ،‬ويرجع إلى براعته ونبوغه‬
‫الفضل األول في انتصار اليونانيين الحاسم في معركة (سالمين)البحرية‬
‫عام ‪480‬ق‪.‬م‪ ،.‬التي انتهكت بها حملة كسركس الثانية‪ ،‬التي كان قد‬
‫َأ َع ّد لها جيش ًا ُيقَ َّدر بمئة ألف مقاتل‪ ،‬وأسطو ً‬
‫ال ُيقَ َّدر بألف سفينة‪ .‬أما‬
‫ليونيداس فإسبرطي خ ّلد ذكره استشهاده مع ثالثمئة من رجاله في معركة‬
‫تقدم الفرس في البر‪ .‬هذا ولقد‬
‫مضيق ثرموبيل‪ ،‬التي خاضها بغية تعويق ُّ‬
‫صار هذا االنتصار رمز ًا إلى انتصار الحرية على االستبداد‪ .‬وصحيح أن‬
‫شعوب اإلغريق كانت لها في إدارة شؤونها مشاركة حرمت منها في أغلب‬
‫الظن شعوب العدو‪ ،‬وأن هذا الفارق ربَّما لعب دور ًا في هذا االنتصار‪.‬‬
‫ولكن ذلك ال يمنع أن هذه الحرب ‪-‬أي ًا كان وجه استخدامها ألغراض‬
‫الرمز‪ -‬كانت في واقع أمرها صراع ًا ضاري ًا بين قوتين تهدف كل منها إلى‬
‫السيطرة على المعمورة‪ :‬فارس‪ ،‬وأثينا‪ .‬ومن المعلوم أن المدن أو الدول‬
‫اليونانية ما إن تحقَّ قَ لها هذا النصر المشترك حتى عادت إلى تف ُّرق بعد‬
‫ا ِ ّتحاد‪ ،‬وحتى َش ّن بعضها الحرب على أثينا في حرب البيلوبونيز التي‬
‫سبقت اإلشارة إليها‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫نص تشريعي صاغ فكرة القانون‪ ،‬أو الحق الطبيعي هو (موسوعة‬


‫‪ - 8‬أول ّ‬
‫القانون الروماني) التي قام (تريبونيان) بجمعها وتبويبها وتعريف تصوراتها‬
‫األساسية واإلشراف على تحريرها‪ ،‬بأمر من اإلمبراطور جوستنيان‪ ،‬أمام‬
‫رجال القانون في عصره‪ :‬تريبونيان‪ .‬يبدأ النص بهذا التعريف‪«:‬قانون‬
‫الطبيعة هو القانون الذي غرسته الطبيعة في جميع المخلوقات»‪ .‬تلي ذلك‬
‫الم َس ّمى أيض ًا باسم«قانون كافة الشعوب»و«بين‬
‫التفرقة بين هذا القانون ُ‬
‫قانون الدولة»‪ ،‬أي القانون الخاص بهذه الدولة أو تلك‪ ،‬ثم بيان عن‬
‫أدت‬
‫سبب هذه التفرقة‪«:‬إن ضرورات الحياة اإلنسانية بمطالبها قد َّ‬

‫‪71‬‬
‫ُ‬
‫البعض‬ ‫معينة‪ :‬نشبت الحرب بينها‪ ،‬و ُأ ِسر‬
‫بشعوب العالم إلى َس ّن شرائع َّ‬
‫وصاروا عبيد ًا خالف ًا لقانون الطبيعة‪ .‬فالناس بحسب قانون الطبيعة ُولِدوا‬
‫أحرار ًا في البدء»‪ .‬هذا بينما«تصدر جميع العقود تقريب ًا عن قانون كافة‬
‫الشعوب‪ ،‬سواء أتع َّلق األمر ببيع أو أيجار أو شركة أو إيداع أو قرض أو‬
‫يخصه جزء منه‪ ،‬ويشترك بجزء آخر منه مع‬
‫ّ‬ ‫يطبق قانون ًا‬
‫غيره»فكل شعب ِ ّ‬
‫مفكرو العصور الوسطى‪ ،‬الذين لم تكن فكرة الدولة‬ ‫غيره‪ .‬ولقد استعاد ِ ّ‬
‫ال جديدة آخذة في‬ ‫عندهم قضية مُ َس َّلمة‪ ،‬ألنهم إنما كانوا يشهدون دو ً‬
‫النشوء على أنقاض الدولة الرومانية المندثرة‪ ،‬استعادوا فكرة القانون‬
‫الطبيعي هذه‪ ،‬ألنهم واجهوا هذا السؤال‪ :‬كيف يمكن أال يكون القانون‬
‫إال بالدولة ومن أجلها وفي ظلها‪ ،‬وأال تكون الدولة إال بالقانون ومن‬
‫أجله وفي ظله؟ فوجدوا المخرج في التمييز الذي فصله بنوع خاص‬
‫القديس توماس اإلكويني بين«القانون الطبيعي»و«القانون الوضعي»‪.‬‬
‫تجدد في عصرنا االهتمام بمناقشاتهم في هذا الباب كما في‬ ‫َّ‬ ‫هذا وقد‬
‫غيره‪ ،‬خاصة وأن السؤال الذي أثاره قد ارتبط ارتباط ًا وثيق ًا بسؤال آخر ال‬
‫ّ‬
‫يقل عنه ِح ّدة‪ :‬هل جوهر القانون هو العقل أم اإلرادة؟‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 9‬ال َش َّك أن البويسيه ِ ّ‬


‫يلمح هنا إلى نظرية أذاعها المش ِ ّرعون اإلنجليز‬
‫مؤداها أن للملك جسدين‪ :‬أحدهما مادي ٍ‬
‫فان‪،‬‬ ‫في عصر أسرة تيودور ّ‬
‫واآلخر غيبي ال يتط َّرق إليه الفناء‪ .‬هذه النظرية المضحكة فيزيولوجي ًا‬
‫كانت لها وظيفة سياسية بالغة األهمية‪ ،‬هي إدخال التمييز بين ما يعود‬
‫من الحكم إلى شخص الحاكم‪ ،‬وما يعود إلى وظيفته أو منصبه‪ .‬هذا‬
‫التمييز هو الذي سمح لإلنجليز بمحاكمة الملك شارل ستوارت وإعدامه‬
‫بتهمة الخيانة‪ ،‬دون أن يذهبوا إلى إلغاء الملكية كما فعل الفرنسيون في‬
‫‪ ،1793‬ألن«الملك»‪-‬كما قال أحد قضاتهم‪ ،-‬اسم للدوام‪ٍ ،‬‬
‫باق بما هو‬

‫‪72‬‬
‫رأس الشعب وحاكمه(حسب القانون)طالما بقي الشعب … وفي هذا‬
‫االسم ال يموت الملك أبد ًا‪ .‬أضف أن هذه النظرية مستقاة ال من العقائد‬
‫النصرانية عن المسيح والكنيسة وحسب‪ ،‬بل أيض ًا ‪-‬وأكاد أقول أو ً‬
‫ال‪ -‬من‬
‫استعارة الجسد من حيث تطلق على كل مجتمع ديني أو مدني‪ ،‬وعلى‬
‫مق ِ ّوماته المختلفة بما فيها االتحادات المهنية والجامعية التي لعبت دور ًا‬
‫ها ّم ًا في تط ُّور الغرب‪ ،‬والتي يطلق عليها في لغاته اسم ترجمته الحرفية‬
‫ِّ‬
‫«المتجسدات»‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 10‬المراد باألكاديميين هنا هم أشياع الفلسفة األفالطونية في القرن‬


‫س أفالطون‪ ،‬في‬
‫أس َ‬
‫السادس عشر‪ .‬ففي ‪ 385‬ق‪.‬م‪ ،‬على أرجح التقدير‪َّ ،‬‬
‫ضاحية من ضواحي أثينا‪ ،‬مدرسة عرفت باسم (األكاديمية) لوقوعها في‬
‫حديقة وملعب ُعرِ فا بهذا االسم‪ ،‬نسبة إلى البطل أ كاديموس‪ .‬استم َّر نشاط‬
‫هذه المدرسة تسعة قرون‪ ،‬إلى أن َح َّلها جوستينيان في ‪ 529‬ب‪.‬م‪ .‬وفي‬
‫القرن الخامس عشر‪ ،‬بعد أن سقطت القسطنطينية في يد الترك‪ ،‬وهجرها‬
‫العلماء اإلهيللينيون‪ ،‬سنحت للغرب معرفة المخطوطات المشتملة على‬
‫ِّ‬
‫متعددة‪.‬‬ ‫محاورات أفالطون ورسائله‪ ،‬وما لبثت أن ظهرت لها ترجمات‬
‫ومع هذا ظلت الجامعات تعرض عن تدريس فلسفته لغلبة الفلسفة‬
‫األرسطية عليها‪ .‬لهذا عاد الفضل في نشر الفلسفة األفالطونية‪ ،‬التي‬
‫يتم انتصارها إال في القرن السابع عشر‪ ،‬إلى رجال عرفوا باسم‬ ‫لم ّ‬
‫(األكاديميين)‪ .‬ولم يكن غريب ًا أن َي َّتجه أول اهتمام هؤالء إلى مسائل‬
‫ال ال يكاد يترك مجا ً‬
‫ال‬ ‫الفلسفة السياسية التي اشتغل أفالطون بها اشتغا ً‬
‫أسس مدرسته بغية تكوين التالميذ تكوين ًا ِ ّ‬
‫يؤهلهم‬ ‫ّ‬
‫للشك‪ ،‬في أنه إنما َّ‬
‫لخدمة المدينة على أفضل وجه‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫‪ - 11‬ال وجود لهذين البيتين في أشعار البويسيه التي نشرها مونتني‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 12‬عضو برلمان بوردو الذي أخذ البويسيه مقعده‪ ،‬وإليه أهدى‬


‫مخطوطه‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 13‬إشارة إلى ما ورد في العهد القديم(صموئيل األول‪ ،‬اإلصحاح‬


‫الثامن)من أن كل شيوخ إسرائيل اجتمعوا‪ ،‬وجاءوا إلى صموئيل يسألونه‬
‫أن يجعل لهم َملِك ًا يقضي لهم كسائر الشعوب(وكان يحكم إسرائيل‬
‫قضاة)فساء األمر في عيني صموئيل‪ ،‬فص ّلى إلى الرب‪ ،‬فأمره بأن يصنع‬
‫ما طلب الشعب بعد أن ينذره‪ .‬فأنذره‪«:‬هذا يكون قضاء الملك الذي‬
‫يملك عليكم‪ .‬يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه‪ ،‬لمراكبه وفرسانه‪ ،‬فيركضون‬
‫أمام مراكبه‪ .‬ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ًا ورؤساء خماسين‪ ،‬فيحرثون‬
‫حراثه‪ ،‬ويحصدون حصاده‪ ،‬ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه‪ .‬ويأخذ‬
‫وخبازات‪ .‬ويأخذ حقولكم وكرومكم‬
‫ّ‬ ‫وطباخات‬
‫ّ‬ ‫بناتكم عطّ ارات‬
‫ويعشر زروعكم وكرومكم‪ ،‬ويعطي‬
‫ّ‬ ‫وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبيده‪.‬‬
‫وشبانكم الحسان وحميركم‬
‫ّ‬ ‫لخصيانه وعبيده‪ .‬ويأخذ عبيدكم وجواريكم‬
‫ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيد ًا‪ .‬فتصرخون في‬
‫ّ‬ ‫ويستعملهم لشغله‪.‬‬
‫ذلك اليوم في وجه ملككم الذي اخترتموه ألنفسكم فال يستجيب لكم‬
‫الرب في ذلك اليوم‪ .‬فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل وقالوا ال‬
‫ّ‬
‫بل يكون علينا ملك»‪ .‬ومما يذكر أن اختيار صموئيل قد وقع بإيعاز من‬
‫وصب على رأسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫َّ‬ ‫الرب شاول‪ .‬فجعله ملك ًا بأن أخذ «قنينة الدهن‬
‫ّ‬
‫أليس ألن الرب قد مسحك على ميراثه رئيس ًا؟»‪ .‬وهكذا بدأت طقوس‬
‫الدهن التي سبقت اإلشارة إليها في التراث اليهودي المسيحي‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫‪ - 14‬كان بيستراتس ينتمي إلى الطبقة األرستقراطية الحاكمة‪ .‬برز في‬
‫ب االنقسام‬‫الحرب بين أثينا وميغارا‪ ،‬حوالي العام ‪ 565‬ق‪.‬م‪ .‬فلما َد َّ‬
‫الحكام َّ‬
‫ترأس هو فريق ًا أو حزب ًا ثالث ًا َض َّم إليه المعتقين‬ ‫ّ‬ ‫في أثينا بين‬
‫نصب نفسه طاغية بحرس منحه إياه الشعب‪ ،‬عام ‪561‬‬ ‫والمدقعين‪ ،‬ثم َّ‬
‫ق‪.‬م‪ .‬غير أن أعداءه تحالفوا عليه فطردوه من الحكم بعد أن ظل يمارسه‬
‫زهاء خمس سنوات‪ ،‬فلم يستتب له االستبداد به إال بعد أن رجع وانتصر‬
‫مرض‪ .‬ولقد‬
‫ٍ‬ ‫عليهم انتصار ًا حاسم ًا عام ‪ 546‬ق‪.‬م‪ .‬مات عام ‪ 527‬بعد‬
‫حرص بيستراتس على االلتزام بدستور صولون فلم يذهب إلى َح ّد‬
‫مصادرة أمالك النبالء وتوزيعها بالتساوي‪ ،‬ولكنه َش َّج َع صغار الملّاك‬
‫بتيسير القروض لهم‪ ،‬وعمل على إزاحة البطالة من الريف معتمد ًا في‬
‫هذه السياسة على الضرائب المفروضة على اإلنتاج والتجارة‪ ،‬في وقت‬
‫جمل أثينا‬
‫ازدهرت فيه صناعة الخزف‪ ،‬وانتشرت في كل بالد اليونان‪ّ ،‬‬
‫وجمع أشعار هوميروس ونشرها‪ ،‬وكان من نتائج حكمه الطويل أن أضعف‬
‫وش َّجع ظهور الفردية في كثير من المجاالت‪،‬‬
‫قبضة النبالء على أشياعهم‪َ ،‬‬
‫مما م ََّهد الطريق لعودة الديموقراطية بعد أن تخ َّلص الشعب من أبنائه‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 15‬ديونيسيوس بين ‪430‬و‪ 367‬ق‪.‬م‪ .‬تقريب ًا‪ .‬في عام ‪ 406‬أخفقت‬


‫سيراقوصة في تحرير اجريجنتا من قبضة القرطاجنيين‪ ،‬فتسنى له إقناع‬
‫مجلس الشعب بانتخاب قواد جدد بينهم هو‪ .‬ثم لم يلبث أن أزاح زمالءه‬
‫َّ‬
‫وظل انتخابه على رأس الدولة يتكرر تكرر ًا منتظم ًا‬ ‫وتزود بحرس خاص‪،‬‬
‫إال أنه أخفق في وقت تقدم القرطاجنيين‪ ،‬وواجه ثورة أرستقراطية جعلته‬
‫يقبل صلح ًا باهظ ًا مع قرطاجنة‪ .‬فلما تغ َّلب على المعارضة الداخلية عاد‬
‫وص َّد غزواتها المتعددة‪ .‬ثم بعدئذ وسع‬
‫إلى محاربتها حتى انتصر عليها‪َ ،‬‬
‫امتد نفوذه إلى‬
‫َّ‬ ‫سلطانه على الجزء الغربي من صقلية‪ ،‬وعلى إيطاليا‪ ،‬حتى‬

‫‪75‬‬
‫األدرياتيك‪ .‬كان ديونيسيوس طاغية من الطراز األول‪ ،‬ا َّت َسم حكمه بمزيج‬
‫من البأس والحنكة واألبهة ما زال يثير العجب حتى اليوم‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 16‬المراد ميثريدات السادس ملك بونطوس جنوب البحر األسود‪ .‬حكم‬


‫بين ‪120‬و‪ 63‬ق‪.‬م‪ .‬ازدحمت حياته باألحداث العاصفة‪ .‬أولها مصرع‬
‫ووصي ُة تدعو إلى االرتياب يستخلف فيها زوجته وولديه األصغرين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أبيه‪،‬‬
‫َّ‬
‫وظل هارب ًا حتى عاد فجأة إلى العاصمة سينوب فحبس أمه‪،‬‬ ‫َف َّر من أمه‪،‬‬
‫التوسعية فاستولى على‬
‫ُّ‬ ‫وقتل أخاه‪ ،‬وتزوَّج أخته‪ .‬ثم استأنف سياسة والده‬
‫رده الرومان‪.‬‬‫معظم آسيا الصغرى‪ ،‬وامتدت فتوحاته إلى اليونان حيث َّ‬
‫وقعت بينه وبينهم عدة حروب انتهت باستيالئهم على بونطوس‪ ،‬وبثورة‬
‫تبين أن نظام ًا من‬
‫الرعية‪ ،‬وعلى رأسها ابنه فارناسس‪ .‬فلما أراد االنتحار َّ‬
‫ضد السم‪ .‬فمات بسيف حارس من‬ ‫الوجبات الوقائية قد جعل له مناعة ّ‬
‫حراسه وقد بلغ به العمر ‪ 69‬عام ًا‪ .‬ال ّ‬
‫شك أن ميثريدات كان أصلب أعداء‬
‫روما عود ًا في مكره وشجاعته وقدرته على تعبئة الجيوش وتنظيمها‪.‬‬
‫رعيته‪.‬‬
‫ولكنه خال من المهارة في التخطيط‪ ،‬وعجز عن االحتفاظ بوالء َّ‬
‫ثم هو ‪-‬في النهاية‪ -‬لم يكن يم ِ ّثل تمثي ً‬
‫ال صادق ًا ال اليونانيين الذين كان‬
‫ّ‬
‫(تدل صوره على تقليد اإلسكندر)‪ ،‬وال‬ ‫التشبه بهم‬
‫ُّ‬ ‫يميل إليهم‪ ،‬ويحب‬
‫اإليرانيين الذين كان يتك َّون منهم العنصر الغالب بين أبناء شعبه‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 17‬كان مثقَّ فو عصر النهضة يرون في جمهورية مدينة البندقية المثل‬


‫األجمل للح ّريّة‪ ،‬حتى إن البويسيه كان يؤثر لو أنه ُولِد فيها‪ ،‬على ما‬
‫يخبرنا به صديقه مونتني(المقاالت‪ ،‬الكتاب األول‪ ،‬الفصل ‪ .)28‬ولكن‬
‫الحقيقة هي أن األمر كان له وجهان‪ :‬فالبندقية شأنها شأن جميع المراكز‬

‫‪76‬‬
‫العمرانية الكبرى التي يؤمّها التجار والصيارفة‪ ،‬وصانعو الثروات من كل‬
‫حدب وصوب‪ ،‬كانت تتم َّتع فع ً‬
‫ال بح ّريّة اجتماعية واسعة تتيح تجاور‬
‫الجميع على اختالف عاداتهم وأزيائهم‪ .‬أما من الناحية السياسية فقد‬
‫احتكرت الحكم فيها‪ ،‬منذ القرن الرابع عشر‪ ،‬طبقة من األعيان ذوي‬
‫الثروات الطائلة انقطعت صلتها بالشعب(وأعني ‪-‬باألخص‪ -‬الحرفيين‬
‫الذين كان لهم ‪-‬على العكس‪ -‬دور مهم في فلورنسا)وإن حرصت على‬
‫أال ينفرد به واحد منهم‪ .‬لهذا أسندت السلطة إلى مجلس العشرة‪ .‬هذا‬
‫المجلس‪ ،‬الذي ندر أن حاذاه جهاز في اتجاهه المحافظ‪ ،‬هو الذي كان‬
‫يقوم بانتخاب الدوق المنوط به تجسيد قوة البندقية‪ ،‬ولكن مع قيود ترمي‬
‫جميعها إلى تخفيف دوره الشخصي‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫تتسمى في‬
‫ّ‬ ‫‪ - 18‬سلطان تركيا‪ّ ِ .‬‬
‫ننبه إلى أن الشعوب األوروبية كانت‬
‫القرن الثالث عشر باسم المسيحية أو بالد المسيحيين‪ ،‬وهي تسمية كانت‬
‫تصدر عن الشعور بالوحدة الدينية التي بثته فيها الحروب الصليبية‪ ،‬وفي‬
‫القرن الخامس عشر ظهرت التسمية باسم أوروبا أو الشعوب األوروبية‪.‬‬
‫ال ألن هذه الشعوب كانت قد تحقَّ قت بينها وحدة سياسية‪ ،‬فقد حدث‬
‫ادعاء ال صلة له‬
‫العكس‪ :‬صارت فكرة اإلمبراطورية الواحدة أو الشاملة ّ‬
‫بالواقع‪ ،‬بينما بدأ ظهور الدول الحديثة بانقسام الشعوب األوروبية إلى‬
‫ممالك يحكم كل منها ملك غيور على استقالله‪ ،‬كما ّ‬
‫تدل عليه العبارة‬
‫الجارية إذ ذاك‪«:‬كل ملك إمبراطور على مملكته»‪ .‬إال أن هذه الشعوب‬
‫كان يبدو لها أن ملوكها هؤالء‪ ،‬ووالة األمر فيها كانت لهم فيما بينهم‪،‬‬
‫عما يتبعه طغاة الشرق‪ ،‬ومنه كان ظهور‬
‫وفي تعاملهم معها‪ ،‬قواعد تختلف ّ‬
‫التسمية الجديدة ينطوي على تعريف الغرب لنفسه بالحرية السياسية‪،‬‬
‫أضف إليه تق ّوي الشعور بالوحدة الثقافية‪ ،‬ثم حاجة التمييز الجغرافي‬

‫‪77‬‬
‫بالنسبة إلى األرض المكتشفة حديث ًا‪ ،‬وأعني بها القارة األميركية‪ .‬فأما‬
‫الصحة أو الكذب فهذا ما يستحق أن يُف َرد له‬
‫ّ‬ ‫نصيب هذا التعريف من‬
‫مبحث خاص‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪« - 19‬ليكورج» مش ِ ّرع نسب إليه اإلسبرطيون دستورهم ونظامهم‬


‫السياسي واالجتماعي‪ ،‬وظلوا حتى منتصف القرن الرابع ق‪.‬م‪ّ ِ .‬‬
‫يوجهون‬
‫إليه من مظاهر التبجيل ما ال يحظى به إال اآللهة‪ .‬أما العصر الذي عاش‬
‫فيه فهذا ما اختلفت فيه الروايات اختالف ًا تفاوت بين القرنين التاسع‬
‫والسادس ق‪.‬م‪ .‬هذا االختالف وهذا التبجيل المفرط جعال بعض‬
‫محتجين أيض ًا بأن الكثير من‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الك ّتاب ينحون إلى الشك في وجوده‪،‬‬
‫سمات نظامه تشبه السنن القبلية البدائية‪ .‬ولكن معظم الثقاة ي َّتفقون على‬
‫رس َيت في القرن السابع ق‪.‬م‪ ،.‬وأنه ما من‬‫أن قواعد النظام اإلسبرطي قد ُأ ِ‬
‫حجة تمنع االعتقاد بأن إرساءها هذا كان من صنع مش ِ ّرع واحد عظيم‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 20‬ورد اسم السيدومونيا في هوميروس مرادف ًا إلسبرطة‪ .‬ثم غلبت‬


‫داللته الجغرافية والسياسية‪ ،‬إذ أطلق على هذه المدينة وعلى الريف التابع‬
‫لها بما هي جميعها وحدة سياسية‪ .‬بينما تتك َّثف حول إسبرطة مستدعيات‬
‫تاريخية شعرية فلم يستخدم اسمها أبد ًا للداللة على األرض دون المدينة‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 21‬كاتو(‪ 46 - 95‬ق‪.‬م‪).‬أحد كبار رجال الدولة الرومانية في أواخر‬


‫انضم‬
‫َّ‬ ‫عهد الجمهورية‪ُ .‬عرِ ف بصرامته وبانتصاره الذي ال يلين للمبادئ‪.‬‬
‫إلى بومبي حين قامت الحرب األهلية بينه وبين يوليوس قيصر‪ .‬وانتهت‬

‫‪78‬‬
‫به تق ُّلبات هذه الحرب بأن حاصرته قوات قيصر‪ ،‬وهو في أوتيكا(مدينة‬
‫على الساحل األفريقي ال تبعد عن قرطاجنة)حيث مات موت ًا مشهود ًا‬
‫مم ِ ّزق ًا أحشاءه بيده‪ ،‬كما ورد في «سير األعالم» لبلوتارك‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫َّ‬
‫استغل قوته بين العسكر‬ ‫‪ - 22‬سيلّا(‪ 78 - 138‬ق‪.‬م‪).‬هو أول قائد روماني‬
‫فاستحوذ على زمام الدولة مستهدف ًا تقوية الجمهورية فيما يبدو ‪،‬ولكنه في‬
‫الواقع إنما رسم المثل الذي احتذاه بعد ذلك من هدموها‪ .‬بلغ من إمعانه‬
‫في مصادرة األموال والنفي واالغتيال أن َع َّم الخوف مناصريه أنفسهم‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 23‬السمريّون(وباآلشورية الجمريّون الوارد ذكرهم في التوراة‪ ،‬سفر‬


‫التكوين)شعب أقام على شواطئ البحر األسود حيث االتحاد السوفييتي‬
‫سابق ًا‪ ،‬ثم طرده السكيثيون‪ ،‬فأغار على آسيا الصغرى مق ِ ّوض ًا عرشها‪،‬‬
‫ناشر ًا الذعر في ربوعها‪ ،‬إلى أن قضت عليه شيئ ًا فشيئ ًا األوبئة وحروبه‬
‫ضد الليديين واآلشوريين‪ .‬ولكنه يرد في اإللياذة للداللة على شعب‬
‫أسطوري يستوطن أبعد بقاع المعمورة‪ ،‬حيث ال تشرق الشمس أبد ًا‪،‬‬
‫وإليه قصد أوليس بغية استحضار الموتى‪ ،‬واستفسار الع ّراف ثيريسياس‪،‬‬
‫ُنسب إليه العلم بالغيب‪ .‬الراجح أن البويسيه ِ ّ‬
‫يلمح هنا إلى‬ ‫الذي كان ي َ‬
‫أسطورة أهل الكهف عند أفالطون‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫النص هنا رأي ًا قانوني ًا يدحض الرأي القائل بأن أساس‬


‫َ‬ ‫يتضمن‬
‫َّ‬ ‫‪- 24‬‬
‫تنبهنا‪ -‬إلى أن الكلمة‬
‫الحقّ هو العادة أو العرف‪ .‬وتتأيَّد هذه الداللة ‪-‬إذا َّ‬
‫الفرنسية التي ترجمناها بـ(الغبن) تعني حرفي ًا ‪-‬إذا رجعنا إلى اشتقاقها‪-‬‬
‫انتفاء الحق أو عدمه‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫‪ - 25‬التعبير الفرنسي ترجمته الحرفية (التركي الكبير)‪ ،‬ولكنه ينطوي‬
‫على استخفاف‪ ،‬ثم إن حامله كان ي َُع ّد الرمز األول للطغيان‪ .‬وال ي َُك ّذب‬
‫كالم البويسيه ‪-‬هنا وإن لم يكف‪ -‬في تأييده ما يخبرنا به الدكتور‬
‫المقَ َّدمة إلى السوربون عام ‪ ،1939‬عن التعليم‬
‫إبراهيم سالمة في رسالته ُ‬
‫اإلسالمي في مصر من أثر سياسة األتراك في القضاء على المدارس‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 26‬هذا اإلله الساخر شخصية مسرحية أ كثر من كونه خلق ًا أسطوري ًا‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 27‬فولكان إله النار والحدادة‪ ،‬هيفايستوس عند اليونان‪.‬‬


‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 28‬بروتوس وكاسيوس قاتال يوليوس قيصر‪.‬‬


‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 29‬هارموديوس وأرسطوجيتون شابان أرادا قتل هيساس الذي تولّى‬


‫حكم أثينا مع أخيه‪ ،‬بعد موت أبيهما بيستراتوس(انظر هامش ‪،)14‬‬
‫ولكنهما‪ ،‬أخفقا وماتا َش ّر ميتة‪ .‬رأى األثينيون في موتهما استشهاد ًا‪،‬‬
‫وأشادوا بذكرهما ملقّ بين إياهما بلقب (مانحي اإليسومونيا)‪،‬أي وهو‬
‫المساواة أمام القانون‪.‬‬

‫عن ثراسيبول انظر الهامش (‪ .)4‬أما بروتوس األقدم وفالريوس‪ ،‬فكانا‬


‫ِّ‬
‫مؤسسي الجمهورية الرومانية‪ .‬أما ديون فكان صهر ًا لديونيسيوس‬ ‫بين‬
‫األول الذي سبق ذكره(هامش ‪ .)15‬أراد أن يجعل من ابنه ديونيسيوس‬
‫الثاني ملك ًا فيلسوف ًا متأ ِ ّثر ًا في ذلك بعالقته بأفالطون واأل كاديمية‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫فاشتد‬
‫َّ‬ ‫ص البلد منه ‪ ،‬ولكن زمام األمور أفلت من يديه‪،‬‬ ‫فلما أخفق َخ َّل َ‬
‫وتعسف‪ ،‬برغم ِ ّ‬
‫ادعائه االستناد إلى المبادئ الفلسفية‪ ،‬حتى ُقتِل بدوره‪.‬‬ ‫َّ‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 30‬عاش كسينوفون بين ‪ 427‬و‪ 354‬ق‪.‬م‪ .‬وضع كتب ًا كثيرة‪ ،‬ربما كان‬
‫أشهرها دفاعه عن سقراط‪ .‬انفرد باهتمامه بالقضايا المالية واالقتصادية‪.‬‬
‫أما الكتاب الذي كتبه في شكل حوار‪ ،‬كما ينبغي لرجل تتلمذ على‬
‫سقراط‪ ،‬فيشير عنوانه «هيرون» إلى طاغية فتح بالطه للشعراء والفالسفة‪،‬‬
‫بينما زادته انتصاراته في األلعاب صيت ًا على صيت‪ .‬مات عام ‪/476‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫وكان سيمونيد‪ ،‬وهو طاغية آخر حكم جزيرة رسبوس‪ ،‬قد زاره في‬
‫سيراقوصة عام ‪ 476‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 31‬حمل كثير من رجال الدولة الرومانية اسم سيبيون‪ُ .‬ل ِ ّق َ‬


‫ب أحدهم‬
‫بـ(اإلفريقي) ألنه فتح إفريقية‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫ص ّي»‪ ،‬الفصل الثالث‪ ،‬المشهد األول‪.‬‬


‫«الخ ِ‬
‫َ‬ ‫‪ - 32‬من مسرحية‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫أسس اإلمبراطورية الفارسية في القرن‬


‫‪ - 33‬المراد كسرى األكبر‪ ،‬الذي َّ‬
‫السادس قبل الميالد‪ ،‬وليديا من ممالك آسيا الصغرى‪.‬‬

‫‪-------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 34‬طريقة في اصطياد العصافير تقوم على استدراجها بالصفير لها على‬

‫‪81‬‬
‫نحو مُ َع َّين‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫ّ‬
‫يلتف حولها أفراد الشعب‪ ،‬عشرة حول كل مائدة‪.‬‬ ‫‪ - 35‬موائد‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪َ - 36‬ف َّر (نيرون) من روما بعد أن تم َّرد عليه ّ‬


‫حكام األقاليم‪ ،‬ولفظه‬
‫الشعب بجميع طبقاته‪ .‬فلما لحق به مطاردوه انتحر في مخبئه وهو يولول‪،‬‬
‫مصدق لما يحدث له‪ ،‬هكذا كان مبلغ فتونه بنفسه‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫غير‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 37‬وصف دقيق لهذا المؤ ِ ّرخ الذي ولد عام ‪ 56‬بعد الميالد‪ ،‬وال‬
‫نعلم على التحقيق متى مات‪ .‬تق َّلب في أرفع المناصب‪ ،‬وكتب كتب ًا‬
‫كثيرة أشهرها المعروف باسم «التواريخ»‪ .‬وصف فيه الحرب األهلية بما‬
‫زخرت به سواء من المطامع والمؤامرات‪ ،‬أو من أمثلة الشجاعة والصداقة‪،‬‬
‫وصف ًا ال يدانى في قوته‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 38‬وصف المؤ ِ ّرخ سويتون جنازة قيصر في كتابه «حياة القياصرة‬


‫ُصبت المحرقة في‬‫االثني عشر» فقال‪ :‬فلما ُأعِ لن عن موعد الجنازة ن ِ‬
‫قيصر)‪،‬وش ِ ّيد تجاه منصة‬
‫ُ‬ ‫ميدان مارس(إله الحرب)بجانب قبر يوليا(ابنة‬
‫ُضع به‬
‫مطلي بالذهب‪ ،‬على طراز معبد فينوس الوالدة‪ ،‬و ِ‬‫ّ‬ ‫الخطابة مبنى‬
‫ُضعت على رأس السرير‬ ‫سرير من العاج ُغ ِ ّطي باألرجوان والذهب‪ .‬وو ِ‬
‫شارات انتصارات قيصر مع الثياب التي كان يرتديها حين ُق ِ ِتل‪ .‬ولما‬
‫تبين أن اليوم كله لن يكفي لمرور الناس الذين اصطفّ وا حاملين قرابينهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫ً‬
‫صدر قرار بأن يحمل كل من شاء قرابينه إلى ميدان مارس متبعا أي طريق‬

‫‪82‬‬
‫كان دون االنتظام في الصف‪ .‬وفي خالل األلعاب الجنائزية تغ ّنى الناس‬
‫باألشعار التي تثير الشفقة على قيصر‪ ،‬والنقمة على قاتليه‪ ،‬مثل هذا البيت‬
‫…« َأو َ‬
‫َجب أن ينقذهم ليصبحوا قاتليه؟»وأبيات أخرى بالمعنى نفسه …‪،‬‬
‫واكتفى القنصل أنطونيو(مارك)في رثائه بأن طلب إلى أحد المنادين‬
‫أن يقرأ مرسوم مجلس الشيوخ الذي أسبغ على قيصر باإلجماع كل‬
‫التشريفات اإللهية‪ ،‬واإلنسانية‪ ،‬وكذلك العهد الذي كان جميع الشيوخ قد‬
‫أقسموا فيه على الذود عن حياة قيصر‪ .‬ولم يضف هو إال كلمات قليلة‪ ،‬ثم‬
‫منصة الخطابة عدد من كبار رجال‬
‫بعدئذ حمل النعش إلى الميدان أمام ّ‬
‫الدولة الحاضرين والسابقين‪ .‬وكان البعض يرى حرقه في معبد جوبيتر‬
‫على الكابيتول‪ ،‬والبعض اآلخر في مجلس الشيوخ‪ .‬وإذا برجلين تمنطق‬
‫كالهما بسيف‪ ،‬وحمل بيده رمح ًا يشعالن فيه النار فجأة بشموع موقدة‪.‬‬
‫ومنصات‬
‫ّ‬ ‫س حوله الحطب والمقاعد‬ ‫المشيعين أن َك َّد َ‬
‫ِّ‬ ‫ولم يلبث جمهور‬
‫القضاة‪ ،‬ثم جمع الهدايا التي وسعه أن يجدها‪ .‬بعدئذ خلع العبو المزامير‬
‫والممثلون ثياب االحتفال بالنصر‪ ،‬التي كانوا ارتدوها لهذه المناسبة‪،‬‬
‫وزجوا بها في النار‪ ،‬كما َز َّج قدماء الجنود الذين حاربوا تحت لوائه‬ ‫ّ‬
‫باألسلحة التي كانوا قد تزيَّنوا بها للمشاركة في جنازته‪ .‬ال بل إن عدد ًا‬
‫وحلي أطفالهن وعباءاتهم‪ .‬إلى‬
‫ّ‬ ‫كبير ًا من األمهات رمت في النار ّ‬
‫حليها‬
‫أدت الجاليات‬‫جانب هذه المظاهر العامة التي تج ّلى فيها حزن الجمهور َّ‬
‫األجنبية مراسم الحداد‪ ،‬كل جالية على حدة حسب طقوسها‪ ،‬وبخاصة‬
‫ِّ‬
‫متعددة‪( ،‬ألن قيصر‬ ‫التجمع حول قبره ليالي‬
‫ُّ‬ ‫اليهود الذين ذهبوا إلى َح ّد‬
‫هو الذي هزم بومبي الذي كان قد استولى على القدس)‪.‬‬

‫و بعد أن انتهت الجنازة على الفور َش َّيد له العامة عمود ًا من مرمر نوميديا‬
‫بلغ ارتفاعه نحو العشرين قدم ًا‪ ،‬ونقش عليه‪« :‬إلى أبي الوطن»‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ - 39‬لقب (وكيل الشعب) يحتاج إلى بعض اإليضاح‪ .‬ذلك أن رومولوس‬
‫كان قد ق ََّس َم الشعب الروماني تقسيم ًا إداري ًا (وليس على أساس صالت‬
‫الدم‪ ،‬أو الرحم) إلى عشر قبائل َّ‬
‫يترأس ك ً‬
‫ال منها عشرة آباء أو شيوخ‪،‬‬
‫ويتك َّون من مجموعهم المجلس المعروف بهذا االسم‪ .‬أما الملك فلم يكن‬
‫يتولّى الحكم بالوراثة‪ ،‬بل كان يستخلفه سابقه‪ .‬فإن مات السابق دون أن‬
‫يستخلف أحد ًا تناوب الشيوخ الحكم إلى أن يختار الشعب ملك ًا بشرط‬
‫أن يوافق الشيوخ على اختياره‪ .‬وكانت سلطة الملك‪،‬أو باألدق إمارته‬
‫المدنية(أمبريوم)إمارة مطلقة تشمل حقّ السلْم والحرب‪ ،‬وحقّ الحياة‬
‫والموت على جميع ّ‬
‫سكان المدينة‪ .‬ثم هي كانت ال تنفصل عن إمارته‬
‫الدينية(آوسبيسيوم)التي تبيح له حقّ استشارة اآللهة لمعرفة مشيئتهم في‬
‫شؤون السياسة والحرب والقضاء‪ .‬وفي القرن الخامس قبل الميالد سقط‬
‫َح َّله «الجمهورية»(انظر الهامش ‪ .)2‬ولكن‬
‫وح َّلت م َ‬
‫النظام الملكي‪َ ،‬‬
‫جميع الوظائف القيادية في إدارة الدولة ظلت بيد الشيوخ و ُأ َسرهم‪،‬‬
‫فنجم عن ذلك شقاق َه َّد َد بانصداع األمة كلها لوال أن العامة ظفرت‬
‫يتحدثون باسمها دفاع ًا عن مصالحها‪ .‬ولم‬
‫َّ‬ ‫بحق انتخاب وكالئها الذين‬
‫يكن هؤالء الوكالء يشاركون في الحكم مشاركة إيجابية‪ ،‬ولكن‪ ،‬كان‬
‫في مستطاعهم حماية شرف العامة ومصالحها بممارسة حق الفيتو إزاء‬
‫جميع القرارات اإلدارية‪ ،‬وإزاء القوانين التي يصدرها مجلس الشيوخ‬
‫على السواء‪ .‬هذا ولقد كانت كلمة (تريبونوس) الالتينية التي ترجمناها‬
‫بـ (الوكيل) مشتقة من كلمة (تريبوس) بمعنى قبيلة‪ ،‬ألن كل قبيلة كانت‬
‫تختار وكالءها‪ .‬ويقال أيض ًا لبعضهم ماجستير‪ ،‬ومعناه‪ :‬كل موظف في‬
‫جهاز الدولة‪ ،‬وإن غلب بعد ذلك إطالقه على القضاة خاصة‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 40‬كان «لونجا»‪ ،‬وهو عضو برلمان بوردو‪ ،‬الذي أخذ البويسيه‬

‫‪84‬‬
‫مكانه‪ ،‬يعلم بطبيعة الحال نصوص القرارات والمراسيم الملكية التي لم‬
‫يكن يخلو واحد منها من نفاق التع ُّلل بالخير المشترك‪ ،‬والمنفعة العامة‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 41‬كان ملوك مصر القديمة ‪-‬وكذلك ملوك آشور ‪ -‬شيئ ًا يزيد على‬
‫البشر فع ً‬
‫ال‪ ،‬كما يقول البويسيه‪ .‬كان فرعون أقرب إلى الشمس منه إلى‬
‫سائر الخلق‪ :‬فهو ابن رع‪ ،‬وإلى السماء منه إلى األرض‪ :‬فهو حوريس‬
‫المح ِ ّلق فوق القبة الزرقاء‪ ،‬وكانت له بعد الممات حياة يُبعث إليها في‬
‫شكل أوزيريس‪ .‬ثم هو كان الوسيط بين اآللهة والبشر‪ ،‬يضمن ألولئك‬
‫أداء الفرائض ولهؤالء الرغد والعدالة والنصر‪ .‬لذا ُس ِ ّمي حكمه حكم ًا‬
‫َب)‪ .‬وكان حصول هذه‬ ‫ثيوقراطي ًا أو ربوبي ًا(ثيو‪ :‬باليونانية = إله أو ر ّ‬
‫المكانة فيه يتحقَّ ق بطقوس من نوع ما ي َُس ّمى في األنثروبولوجيا (طقوس‬
‫أهمها ‪-‬عدا التزيية والتتويج‪-‬‬
‫ّ‬ ‫االنتقال)‪ ،‬يد ِ ّبرها الكهنة تدبير ًا دقيق ًا‬
‫التطهير بالماء‪ ،‬والدهن بالزيت‪ ،‬ومنه ُس ِ ّمي الملك في المسيحية بعد‬
‫أن انتقلت إليها بعض هذه الطقوس عبر التوراة باسم«دهين الله»‪ .‬هذا‬
‫إال أن القيمة الكبرى التي كان يع ِ ّلقها قدماء المصريين على اإللهة من‬
‫(الحقيقة والعدالة)كانت تحول دون جنوح الحكم الفرعوني إلى ما‬
‫ي َُس ّمى (الحكم المطلق)‪ ،‬وإن تكن هذه القيمة قد بقيت في صورة العرف‬
‫دون أن َت َّتخذ شكل التشريع‪ .‬أضف أن هذه المكانة التي كان فرعون يعلو‬
‫بها سائر البشر لم تكن ُتضفَ ى عليه من حيث وجوده الفردي البيولوجي‬
‫بل من حيث وظيفته العامة‪ .‬لذا يخطئ القارئ إذا ظن أن هذه التعلية‬
‫مركب من‬ ‫لفظ َّ‬ ‫ُ‬
‫فلفظ فرعون نفسه ٌ‬ ‫التقدم‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫قد امَّحت اليوم آثارها بفضل‬
‫كلمتين تعنيان بالمصرية القديمة (البيت الكبير)‪ ،‬مثلما نقول اليوم البيت‬
‫األبيض‪ ،‬أو اإلليزيه‪ ،‬داللة على رؤساء الدول المعاصرين‪ .‬أما األغاني‬
‫التي كانت تصحب طقوس الدهن أو التتويج‪ ،‬كهذه األغنية‪«:‬ليفرح البلد‬

‫‪85‬‬
‫كله فقد جاء الزمن السعيد‪ .‬عال َس ِ ّيد جميع األراضي … والغمر فاض‬
‫والنهار طال‪ .‬الليل انضبطت ساعاته والقمر يرجع في مواقيته»‪ ،‬فهل ثمة‬
‫ّ‬
‫بالحكام من شيم الشعوب؟‬ ‫م َْن ينكر أن التغ ّني‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 42‬بيروس(‪ 272 - 219‬ق‪.‬م‪).‬هو أشهر ملوك إبيروس بجوار مقدونيا‪.‬‬


‫بهر معاصريه ببراعته في فنون الحرب والقتال وبمهارته االنتهازية في‬
‫يحقق نصر ًا دائم ًا‪ .‬ربما كان ّ‬
‫أهم آثاره أنه َح َّول‬ ‫مجال السياسة‪ ،‬ولكنه لم ِ ّ‬
‫إبيروس إلى دولة قوية مندمجة اندماج ًا تام ًا في العالم الهلليني‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 43‬ولد فسباسيان عام ‪ 9‬م‪ .‬كان أبوه جابي ًا للضرائب‪ ،‬وكانت أسرة أمه‬
‫يسمى في روما (طبقة الفرسان)‪ ،‬وهي طبقة ّ‬
‫تقل درجة عن‬ ‫تنتمي إلى ما ّ‬
‫طبقة الشيوخ‪ ،‬وإن يكن أخوها قد دخل مجلسهم‪ .‬تق َّلب في أ كبر مناصب‬
‫الدولة المدنية والعسكرية‪ ،‬ثم َل ّما احتدم الصراع حول خالفة اإلمبراطور‬
‫(جالبا) أعلنت فرقتان رومانيتان باإلسكندرية اختيارهما له إمبراطور ًا‬
‫في األول من يوليه عام ‪ ،69‬ولم يلبث أن حذت حذوها الجيوش‬
‫الرومانية في فلسطين وسوريا‪ .‬كان ذا طاقة كبيرة على العمل‪ ،‬متواضع ًا‬
‫حب ًا انحرف إلى المحاباة‪ ،‬حتى إنه استخلف‬ ‫محب ًا ألسرته ّ‬
‫ّ‬ ‫في حياته‪،‬‬
‫الم َّت َبع في روما‪ .‬ربما كان‬
‫كالم َّت َبع في ممالك الشرق وبخالف ُ‬
‫ُ‬ ‫ولديه‬
‫أعظم منجزاته إنهاء الحرب األهلية ونشر السالم‪ .‬هذا ولقد كان االعتقاد‬
‫بقدرة الملوك على إتيان الشفاء ال يزال ساري ًا في عصر البويسيه في‬
‫فرنسا وإنجلترا على السواء‪ .‬كان المرض ‪-‬بالتحديد‪ -‬هو البرص‪ ،‬وكان‬
‫يتلمس المواضع المصابة ورسم عالمة الصليب تتلوه صدقة نقدية‪.‬‬
‫الشفاء َّ‬
‫وكان المفروض أن هذه الكرامة تدخل فيما يحصل للملك بفضل طقوس‬
‫الدهن‪ .‬ولم يبطل هذا االعتقاد‪ ،‬ألن الوقائع َك َّذ َب ْته فكون الع ّلة تدخل في‬

‫‪86‬‬
‫ّ‬
‫سجل الواقع‪،‬‬ ‫ّ‬
‫سجل الوهم ال يمنع قدرتها على إحداث نتائج تدخل في‬
‫ولكن بفضل الثورات السياسية التي بدأت في إنجلترا وفرنسا‪.‬‬

‫‪ - 44‬ورد ذكر سالمونيوس في النشيد السادس من ملحمة فرجيل‪ ،‬عن‬


‫وقائع إينيه‪ ،‬على أنه ملك إليدا في شمال شبه جزيرة اليونان قريب ًا من‬
‫المبنية على‬
‫ّ‬ ‫يتردد في هذه القصة صدى الطقوس السحرية‬
‫البحر األيوتي‪َّ .‬‬
‫تقنية المحاكاة‪ :‬كقرع الطبول استثارة ًللرعد‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 45‬كانت هذه الرموز تز ِ ّين خواتم الملوك وأختامها وأزياءهم‬


‫وسالحهم ومتاعهم‪ ،‬وكان كل منها بمثابة نواة تراكمت حولها الحكايات‬
‫‪ -‬أصلها أن الملك كلوفيس‬ ‫واألساطير على َم ّر العصور‪ .‬فالزنابق ‪-‬مثال ً‬
‫قبل أن يهتدي إلى المسيحية كانت رموزه األه ّلة(وهنا تنطوي القصة‬
‫على خلط بين الوثنية واإلسالم)‪ .‬ولكن ناسك ًا أعطى زوجته المسيحية‬
‫كلوتيلد درع ًا يحمل الزنابق الثالث ِ ّ‬
‫مؤكد ًا لها أن زوجها منتصر به‪ ،‬فما‬
‫نصر معه كذلك الشعلة الذهبية(وهي راية في صورة الشعلة أ كثر‬
‫انتصر ُت َ‬
‫استخدامها استخدام زخرفي في مواكب الملوك)قصتها أن إمبراطور‬
‫القسطنطينية رأى في المنام فارس ًا يقف بجانب مضجعه وبيده رمح خرج‬
‫منه اللهب‪ ،‬وعندئذ بدا له مالك ُي َن ِ ّبه إلى أن هذا الفارس ال أحد غيره‬
‫هو الذي سوف يخ ِ ّلص أراضيه من قبضة العرب‪ .‬وكان هذا الفارس هو‬
‫أحب هذه القصص إلى النفوس‪ ،‬وأثبتها‬ ‫ّ‬ ‫شارلمان ملك الفرنجة‪ .‬ولكن‬
‫في االعتقاد ال ِ ّتصالها بالمشاعر الدينية‪ ،‬كانت تلك المتع ِ ّلقة بالقارورة أو‬
‫المقدسة‪ ،‬وهي زجاجة صغيرة كانت تحوي الزيت الذي كانت‬
‫َّ‬ ‫الق ِ ّنينة‬
‫القس‬
‫ّ‬ ‫تقتضي الطقوس بدهن الملك به كما سبقت اإلشارة إليه‪ .‬قيل إن‬
‫المك َّلف بإحضار الزيوت الطاهرة قد عاقته حشود الجماهير عن الوصول‬
‫في الميعاد يوم تعميد الملك كلوفيس‪ ،‬فهبطت يمامة من السماء تحمل‬

‫‪87‬‬
‫الم َع َّمد)«أنبولة» صغيرة حوت الزيت‬
‫إلى القديس ريمي(األسقف ُ‬
‫المطلوب‪ .‬هذا الدهان الذي ليس من هذه األرض َّ‬
‫ظل محفوظ ًا في‬
‫يتم‬
‫قارورته األصلية بكاتدرائية رانس‪ ،‬وهكذا كان تتويج ملوك فرنسا ّ‬
‫دائم ًا في هذه المدينة‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 46‬أغلب الظن أن البويسيه ال يشير هنا إلى رموز الملك‪ ،‬بل إلى‬
‫إمارات العرق‪ ،‬مثل عالمة الرمح التي قيل إنها ِ ّ‬
‫تميز العائالت النبيلة‬
‫في طيبة اليونانية‪ .‬نُسِ جت أمثال هذه الروايات عن الملوك المسيحيين‬
‫يتميزون بعالمة في هيئة الصليب على‬
‫َّ‬ ‫في القرون الوسطى‪ ،‬فقيل إنهم‬
‫الكتف األيمن دلي ً‬
‫ال على اختيار الله لهم‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 47‬ينتمي هؤالء الشعراء الثالثة إلى جيل قريب العهد باكتشاف ذخائر‬
‫تتأجج‬
‫َّ‬ ‫األدب اليوناني‪ ،‬فكانت أولى رغبات المثقَّ فين ‪-‬في وقت بدأت‬
‫فيه المشاعر الوطنية مع تحقُّ ق وحدة المملكة‪ ،‬على يد أسرة فالوا‪ -‬هي‬
‫أحبوه في اليونانية‪.‬‬
‫أن يسبغوا على اللغة الفرنسية وشعرها الجمال الذي ّ‬
‫أعلن بالي مذهبهم في كتابه «دفاع وبيان عن اللغة الفرنسية» الذي نُشِ ر‬
‫سماها رونسار‪ ،‬الذي نشر‬
‫عام ‪ .1549‬وتألّفت منهم جماعة اليلياد كما ّ‬
‫هو أيض ًا موجز ًا في فن الشعر‪ .‬وال غرو أن يعرب البويسيه عن إعجابه‬
‫بهم‪ ،‬فقد َأثْروا اللغة الفرنسية بوسائل ال ُتحصى‪ :‬خلق الجديد‪ ،‬استرجاع‬
‫القديم‪ ،‬االشتقاق من الالتينية‪ ،‬واليونانية‪ ،‬واإليطالية‪ ،‬حر ّي ّة الصرف‬
‫والنحت‪ ،‬ابتكار صيغ جديدة الوجود لها في اللغة الفرنسية‪ ،‬وإن و ُِجدت‬
‫في اللغات األخرى‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫‪ - 48‬دروع قيل أنها سقطت من السماء على أرض روما في عهد الملك‬
‫نوما‪ ،‬وأن الغلبة سوف تظل دائم ًا لهذه المدينة طالما احتفظ الرومان بها‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪« - 49‬أريكتون» بطل أسطوري قيل أنه انحدر من هيفاستوس ملك‬


‫الحدادين(فولكان عند الرومان)‪ ،‬وإن اآللهة أثينا عنيت به عند والدته‬
‫فوضعته في س ّلة عهدت بها إلى ثالث أخوات‪ ،‬شريطة أال يفتحنه‪،‬‬
‫ولكنهن فعلن‪ ،‬فأصابهن الجنون إما لغضب اآللهة‪ ،‬وإما ألن الطفل كان‬
‫قمة جبل األكروبول‪.‬‬‫إنسان ًا نصف ًا ونصف ًا ثعبان ًا‪ ،‬وألقين بأنفسهن من ّ‬
‫صار الطفل ملك أثينا‪ ،‬فأدخل عبادة اآللهة‪ .‬وإليه ينسب أيض ًا أنه اخترع‬
‫العربات ليخفي نصفه الثعباني‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 50‬يسدي ابن الربيع ‪ -‬ال فُّ َّ‬


‫ض فوه ‪ -‬بهاتين النصيحتين إلى المالك‬
‫في سياسة جمهور الرعية‪ :‬يجتهد في استمالة قلوبهم‪ ،‬وجعل طاعتهم رغبة‬
‫ال رهبة‪ .‬و«ليجعل محبتهم له اعتقاد ًا ديني ًا ال طمع ًا في أغراض الدنيا»‪.‬‬
‫(سلوك المالك في تدبير الممالك‪ ،‬تحقيق ناجي التكريتي‪ ،‬بغداد‪.).18 ،‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 51‬المراد هو يوليوس قيصر‪.‬‬


‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 52‬المراد بالبخل هو ‪-‬بوجه خاص‪ -‬االكتناز بالمعنى الذي َس َّجله‬


‫ماركس‪ ،‬إذ قال في وصف سيكولوجية المكتنز‪«:‬من أجل متعة خيالية ال‬

‫‪89‬‬
‫حدود لها يترك كل متعة في الواقع»‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 53‬القراصنة المشار إليهم كانوا يفدون ‪-‬باألصح‪ -‬ال من صقيلة‪ ،‬بل‬


‫من سيسيليا على ساحل آسيا الصغرى الجنوبي‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪« - 54‬سينيكا» هو الفيلسوف الرواقي المعروف‪ ،‬بوروس كان معلم ًا‬


‫لنيرون‪ ،‬وتراسياس كان عضو ًا بمجلس الشيوخ‪ .‬ثالثتهم اشتغلوا‬
‫مستشارين لنيرون‪ ،‬وثالثتهم ا َّتهمهم نيرون بخداعه والكيد له‪ ،‬فحكم‬
‫على بوروس بالسجن‪ ،‬أما اآلخران فانتحرا‪.‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫محظية نيرون‪ ،‬تزوَّجها‪ ،‬ثم قتلها‪ ،‬ويقال بِ َر ْكلة ق ََدم ‪ -‬عام ‪.65‬‬
‫ّ‬ ‫‪« - 55‬بوبيا»‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 56‬تزوَّجت «أجريبينا» أم نيرون ثالث مرات‪ ،‬وكان آخر أزواجها‬


‫عمها اإلمبراطور كلوديوس‪ .‬جعلته يتب ّنى ولدها نيرون‪ ،‬ثم َس ُّممته حتى‬
‫ّ‬
‫يعتلي نيرون العرش‪ .‬ولكنه ضاق بها‪ ،‬فأمر بقتلها‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 57‬كانت مسالينا(‪)48 - 15‬الزوجة الرابعة لإلمبراطور كلوديوس وأم‬


‫بريتانيكوس وأكتافيا‪ُ .‬ضربت بفجورها األمثال‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 58‬األباطرة «دوميسيان‪ ،‬وكرمودوس‪ ،‬وأنطونان»(الذي عرف باسم‬

‫‪90‬‬
‫كاراكاال)حكموا على الترتيب في السنوات اآلتية ‪ 80‬إلى ‪ 180 ،96‬إلى‬
‫‪ 211 ،192‬إلى ‪.217‬‬

‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪ - 59‬كائن في صورة إنسان له قرون الماعز وأقدامها‪ .‬يُط َلق مجاز ًا على‬
‫الفاجر‪.‬‬

‫‪ - 60‬المراد «بترارك»‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------------‬‬

‫‪« - 61‬آ كلو الشعوب» وصف ورد في اإللياذة عدة مرات خلعه‬
‫هوميروس على بعض الملوك‪.‬‬

‫***‬

‫‪91‬‬
‫صدر يف سلسلة كتاب الدوحة‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫• فتنة الحكاية جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬

‫الطاهر الحداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬


‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬

‫‪92‬‬
93
94

You might also like