You are on page 1of 206

‫اعترافات‬

‫إنسان‬
‫‪68‬‬
‫‪2017‬‬ ‫ص‬ ‫‪1‬‬ ‫د‬ ‫خص‬

‫اعرتافات إنسان‬
‫تأليف‪ :‬محمّ د فريد سيالة‬

‫الناشر‪:‬‬
‫وزارة ّ‬
‫الثقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك)‪:‬‬

‫العمل الفني للغالف‪ :‬مدينة طرابلس الليبية‪ ،‬في الخمسينيات‬


‫ّ‬
‫مجلة الدوحة‬ ‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم الفني ‪-‬‬

‫ّ‬
‫المجلة‪.‬‬ ‫كتابها‪ ،‬وال ُتع ِّبر ‪-‬بالضرورة‪ -‬عن رأي الوزارة أو‬
‫المواد المنشورة في الكتاب ُتع ِّبر عن آراء ّ‬
‫ّ‬
‫محمد فريد سيالة‬

‫اعترافات إنسان‬

‫رواية‬
‫اإلهداء‪:‬‬ ‫ ‬
‫ ‬
‫إليها‪..‬‬ ‫ ‬
‫إىل بطلتها‪....‬‬ ‫ ‬
‫إىل ّ‬
‫كل امرأة‪...‬‬ ‫ ‬
‫فريد‬ ‫ ‬
‫تقديم‬
‫اعرتافات إنسان‪ ..‬الرواية والكاتب‬
‫د‪ .‬أحمد إبراهيم الفقيه‬

‫ينتمـي مؤلِّـف هـذه الروايـة الرائـدة‪ ،‬األسـتاذ محمـد فريـد سـيالة‬


‫(‪ ،)2008-1927‬إىل جيـل مـن املث ّقفين العصاميين من أبنـاء ليبيا‪،‬‬
‫الذيـن تزامـن وصولهم إىل سـ ّن البلـوغ والنضـج‪ ،‬مع انتهـاء املرحلة‬
‫الكولونياليـة‪ ،‬وبـدء اإلرهاصـات بمولـد الدولـة الليبيـة املسـتقلّة‪،‬‬
‫وتأسـيس بنيتهـا التحتيـة‪ ،‬يف مجال ٍّ‬
‫كل مـن التعليم والثّقافـة واإلدارة‬
‫والسـلطة املدنيـة‪ ،‬يف بيئـة مجدبـة قاحلـة‪ ،‬وأرض احالتهـا الحـروب‬
‫إىل حقـول مـن رمـاد‪ ،‬وكان األسـتاذ سـيالة قد وصـل‪ ،‬عشـية انتهاء‬
‫الحـرب العامليـة الثانيـة (‪ ،)1945-1939‬إىل مشـارف العرشيـن من‬
‫عمـره‪ ،‬وانخـرط يف دورة إلعـداد املعلِّمين للمـدارس االبتدائيـة‪ ،‬وهي‬
‫املهنـة التـي بـارش القيام بهـا منـذ عـام ‪ .1948‬وكانت هـذه الدورة‪،‬‬
‫متوسـط يسـتطيع الفتـى‪ ،‬يف طرابلس‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كل مـا كان متاحـا ً مـن تعليم‬
‫ّ‬
‫بـأي نوع مـن أنواعه‪،‬‬‫ّ‬ ‫الحصـول عليـه‪ ،‬فال وجـود للتعليـم الجامعي‪،‬‬
‫ولـم تنشـا الجامعـة يف ليبيـا ّإل بعد هـذا التاريخ بعرشة أعـوام‪ ،‬حتى‬
‫املـدارس الثانويـة ذات املنهـج العربـي لـم تنشـأ إال يف ذلـك التاريخ؛‬

‫‪7‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ولهـذا فالجيـل الـذي انتمى إليـه مؤلِّف هـذه الرواية‪ ،‬جيـل اعتمد عىل‬
‫تحصيلـه الشـخيص‪ ،‬عبر القـراءة واالنتسـاب إىل الدورات الدراسـية‪،‬‬
‫بمـا يف ذلـك االنتسـاب إىل دورات لتعليـم اللغـات األجنبيـة‪ ،‬التي أجاد‬
‫منهـا اإليطاليـة‪ ،‬إجـادة اإليطاليين أنفسـهم‪ ،‬ورشع يف تحرير قاموس‬
‫عربـي إيطـايل يف أواخـر عمره‪ ،‬بـل كتب بهـا مقـاالت‪ ،‬نرشتها صحف‬
‫ناطقـة باإليطاليـة‪ .‬هـذا التكويـن الثّقـايف الـذي حصل عليـه بالجهد‬
‫تمكن مـن تأهيلـه ملمارسـة دوره الريـادي يف عدّة‬ ‫الذاتـي‪ ،‬هـو الـذي َّ‬
‫مجـاالت‪ ،‬لـم يكن املجـال األدبي ّإل واحـدا ً منهـا‪ ،‬ألن لـه دورا ً رياديا ً‬
‫املؤسسين للبنيـة التعليميـة يف‬ ‫ّ‬ ‫يف مجـال التعليـم‪ ،‬كونـه مـن جيـل‬
‫ليبيـا‪ ،‬وهـو رائد يف املجـال النقابي‪ ،‬ألنـه كان وراء تأسـيس أ َّول نقابة‬
‫تـول دورا ً قياديـا ً فيها‪ ،‬وأصدر‪ ،‬باسـمها‪ ،‬مجلّـة‪ ،‬كان هو‬ ‫للمعلِّمين‪ّ ،‬‬
‫رئيـس تحريرهـا‪ ،‬يف مطلـع الخمسـينيات‪ ،‬اسـمها «صـوت املر ّبـي»‪،‬‬
‫أعطـت مسـاحة كبرية للأدب‪ ،‬وك َّرسـت أعـدادا ً ّ‬
‫خاصـة ألنـواع أدبيّة‬
‫لـم تكـن قـد تجـ َّذرت يف تربـة األدب الليبي‪ ،‬مثـل العدد الـذي أصدره‬
‫القصـة القصيرة‪ ،‬واعتمد عليـه الكاتب الراحل بشير الهاشـمي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عـن‬
‫يف كتابـه «خلفيّـات التكويـن القصصي يف ليبيـا»‪ ،‬وهو‪ -‬أيضـاً‪ -‬رائد‬
‫يف مجـال الصحافـة‪ ،‬فعلاو ًة عىل تأسيسـه لـ«صـوت املر ّبي»‪ ،‬اسـهم‬
‫يف إنشـاء مجلّـة «هنـا طرابلـس الغـرب» الحكوميـة‪ ،‬ويف تحريرهـا‪،‬‬
‫وهـي التي نشر بهـا روايته «اعرتافـات إنسـان»‪ ،‬كما نرش بهـا أعماال ً‬
‫القصة‪ ،‬لـم يجمعها يف‬‫ّ‬ ‫أخـرى‪ ،‬مـن بينها أعمـال أدبيّـة تنتمي إىل فـ ّن‬
‫كتـب‪ -‬ر ّبما‪ -‬لعـدم رضائه الكامـل عنها‪ ،‬مثـل «الحيـاة رصاع»‪ ،‬كما‬
‫أن هنـاك‪ ،‬يف سيرته املعتمـدة‪ ،‬ذكـرا ً لروايـات لم تنرش يف كتـب‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫و«الحـب األ َّول»‪ ،‬و«تغيرَّت الحياة»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫«خضراء الدمـن»‪،‬‬
‫‪8‬‬
‫هذه الرواية التي تتحدَّث عنها املراجع املعتمدة لألدب الليبي‪ ،‬باعتبارها‬
‫الرواية األوىل التي ُن ِشت‪ ،‬وصدرت يف كتاب‪ ،‬كانت قد ُن ِشت‪ ،‬عىل حلقات‪،‬‬
‫يف مجلّة «هنا طرابلس الغرب»‪ ،‬عددها (‪ )12‬حلقة‪ ،‬بدءا ً من شهر‬
‫أغسطس عام ‪ ،1959‬إىل شهر مايو ‪ ،1961‬قبل أن تصدر يف كتاب عن‬
‫دار الفرجاني‪ ،‬عام ‪. 1961‬وكان األستاذ سيالة رائدا ً يف مجال التح ُّول‬
‫االجتماعي‪ ،‬إىل َح ّد أن أُطلق عليه اسم قاسم أمني ليبيا‪ ،‬ألنه تبنّى قضية‬
‫املرأة‪ ،‬مطالبا ً بتح ُّررها والدفاع عن ح ِّقها يف السفور‪ ،‬وح ِّقها يف التعليم‪،‬‬
‫وح ِّقها يف العمل‪ ،‬وتح َّم َل أذى املتز ِّمتني الذين كانوا يهاجمونه من فوق منابر‬
‫وص َمد‪ ،‬وكافح‪،‬‬ ‫املساجد‪ ،‬أي تلك التي يسيطر عليها أهل النظرة املنغلقة‪َ ،‬‬
‫وجمع تلك املقاالت التي تدافع عن قضية املرأة‪ ،‬يف كتاب شهري َش َّك َل عالمة‬
‫يف مسرية التح ُّول االجتماعي‪ ،‬هو كتاب «نحو غد مرشق»‪ ،‬الصادر عن‬
‫مكتبة الفرجاني‪ ،‬عام ‪ .1958‬أ ّما دوره الريادي الرابع‪ ،‬فقد كان يف مجال‬
‫ومؤسسا ً أله ّم‬
‫ِّ‬ ‫األنشطة الثّقافيّة‪ ،‬باعتباره صاحب حضور يف هذا املجال‪،‬‬
‫جمعية ثقافيّة عرفتها العاصمة الليبية طرابلس‪ ،‬يف عقدَي الخمسينيّات‬
‫ظل‪ ،‬لفرتة طويلة‪ ،‬أمينها‬ ‫والستينيّات‪ ،‬وهي «جمعية الفكر الليبية»‪ ،‬التي َّ‬
‫مفكرين وشعراء‬ ‫ِّ‬ ‫ومنظم موسم محارضاتها عندما استضافت‬ ‫ِّ‬ ‫العا ّم‪،‬‬
‫وعلماء‪ ،‬عربا ً وأجانب‪ ،‬مثل املسترشق الفرنيس بالشري‪ ،‬والشاعر اللبناني‬
‫واملفكر الجزائري مالك بن نبي‪ ،‬واملؤ ِّرخ التونيس عثمان‬ ‫ِّ‬ ‫سعيد عقل‪،‬‬
‫الحظ بأن أكون حارضا ً محارضات هؤالء األعالم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكعاك‪ ،‬وقد أسعدني‬
‫كما أسعدني بأن أتع َّرف إىل الرائد األدبي الكبري محمد فريد سيالة‪ ،‬عندما‬
‫ساهمت‪ ،‬يف مرحلة الصبا‪ ،‬يف الكتابة للصحيفة التي كان يدير تحريرها‪،‬‬
‫وهي صحيفة «الطليعة»‪ ،‬وكنت أجد منه تشجيعا ً وترحيباً‪ ،‬وأجلس‬
‫أمامه وهو يمسك القلم‪ ،‬ليقوم بتصحيح ما وقعت فيه من أخطاء يف‬

‫‪9‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫النحو‪ ،‬وتقويم ما شاب العبارات من ارتباك‪ ،‬وكان يقول‪ ،‬يل وملن َتصادَف‬
‫وجوده من شباب املح ِّررين املبتدئني‪ ،‬بأن اللّغة العربيّة هي أداة الكاتب‬
‫وإتقان قواعدها رشط‪ ،‬ال يتح َّقق حضور الكاتب وال جدارته ّإل به‪ ،‬وكان‬
‫متبحر يف آدابها وفنونها‪ ،‬كما كان‬‫ِّ‬ ‫هو فقيه يف اللّغة وقواعدها ونحوها‪،‬‬
‫يملك لغة ثانية‪ ،‬هي اللّغة اإليطالية التي صارت له بمثابة اللّغة األ ّم‪ ،‬ولم‬
‫ظل ذلك النظام االنقالبي‬ ‫تكن طبيعته املتم ِّردة الثائرة تقبل بالعمل يف ّ‬
‫العسكري الذي جاء بعد النظام امللكي‪ ،‬أو االنسجام معه‪ ،‬فأعرض عنه‪،‬‬
‫وأبى االحتكاك به‪ ،‬وكنت أ َّتصل به‪ ،‬للمشاركة يف بعض األنشطة الثّقافيّة‪،‬‬
‫كما فعلت مع زمالء من أبناء مرحلته‪ ،‬مثل األستاذ خليفة التلييس‪ ،‬الذي‬
‫استجاب للتعاون‪ ،‬واستعاد مكانته كقائد أدبي ثقايف‪ ،‬ورفض األستاذ‬
‫سيالة رفضا ً قاطعاً‪ ،‬وآثر الصمت ملدّة شارفت عىل أربعة عقود‪ ،‬إىل أن‬
‫رحل عن عالم األحياء‪.‬‬

‫من طرائف ما حدث يل معه‪ ،‬أنه يف‪ ،‬أثناء عمله مديرا ً لتحرير صحيفة‬
‫«الطليعة»‪ ،‬التي كنت أكتب لها بعض الخواطر‪ ،‬وكان يستبقيني‪ -‬أحياناً‪-‬‬
‫ليأخذني معه يف سيارته بعد الفراغ من عمله‪ ،‬لحضور ندوة أو املشاركة‬
‫يف مأدبة‪ ،‬وجدته يأخذني‪ ،‬ذات م ّرة‪ ،‬إىل سوق شعبي هو سوق الثالثاء‪،‬‬
‫ثم يأتي إىل ركن يف السوق‪ ،‬عبارة عن حانوت صغري من الصفيح‪ ،‬يباع‬
‫فيه الخضار والفاكهة‪ ،‬ويخلع سرتته األنيقة‪ ،‬ويرتدي عفريتة زرقاء‪،‬‬
‫فوق بقيّة مالبسه‪ ،‬وينخرط‪ ،‬مع عامل هناك‪ ،‬يف إنزال البضائع من عربة‬
‫يج ّرها صاحبها‪ ،‬وعرفت أنه رشيك يف ُملكية ذلك الحانوت‪ ،‬وأنه يذهب يف‬
‫أوقات فراغه للمناوبة مع رشيكه‪ ،‬من أجل تحسني دخله ورفع املستوى‬
‫قصة كدح‬ ‫قصة أبناء جيله‪ّ ،‬‬‫فقصة حياته‪ ،‬كما هي ّ‬ ‫ّ‬ ‫املعييش ألرسته‪،‬‬
‫‪10‬‬
‫وكفاح‪ ،‬والقيام بمسؤوليات تقتضيها الظروف املعيشية‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫العمل الثّقايف‪ ،‬واالجتماعي اللذين كانا‪ ،‬يف مجملهما‪ ،‬تط ُّوعيَّ ْي‪ ،‬ال يحصل‬
‫أي مقابل‪.‬‬
‫من ورائهما عىل ّ‬

‫لنص روائي‪ ،‬يف األدب الليبي‪،‬‬


‫ونأتي إىل هذه الرواية الرائدة‪ ،‬التي ال وجود ّ‬
‫أدبي‬
‫ّ‬ ‫سابق لصدورها وال متزامن معها‪ ،‬رغم قول ضعيف بوجود عمل‬
‫مجهول‪ ،‬لم يربهن أحد عىل وجوده‪ ،‬ينتمي إىل جنس الرواية‪ .‬و«اعرتافات‬
‫إنسان» رواية تنتمي انتما ًء أصيالً إىل هذا الشكل األدبي‪ ،‬تح َّقق لها‬
‫النضج واالكتمال‪ ،‬وليست مج َّرد إرهاصات أو بدايات شا َبها القصور‪،‬‬
‫إنما هي كتابة إبداعية ّ‬
‫تؤكد حضور األقالم الليبية يف هذا املجال‪ ،‬تنتمي‬
‫إىل لون من ألوان الرواية‪ ،‬كان سائدا ً يف عقد الخمسينيات‪ ،‬هو اللون‬
‫نسب إىل املدرسة الرومانسية‪ ،‬له فرسان يف‬ ‫العاطفي االنفعايل الذي ُي َ‬
‫ساحة األدب العربي‪ ،‬أمثال إحسان عبدالقدوس‪ ،‬ويوسف السباعي‪،‬‬
‫ومحمد عبدالحليم عبد الله‪ ،‬وأمني يوسف غراب‪ ،‬الذي ورد اسمه يف متن‬
‫تأثر املؤلِّف بمثل هذا النوع‪.‬‬
‫الرواية‪ ،‬دليالً عىل ُّ‬

‫وقد حملت الرواية‪ ،‬عند طباعتها عام ‪ ،1961‬توصيفا ً هو ّ‬


‫«قصة ليبية»‪،‬‬
‫ّإل أن تلك الطبعة األوىل‪ ،‬كما يقول املؤلِّف‪ ،‬كانت زاخرة باألخطاء‬
‫املطبعية‪ ،‬إىل َح ّد أنه َت َّم سحبها بعد أ ّيام من نزولها إىل السوق‪ ،‬وإعدام‬
‫النسخ التي ُجمِعت‪ ،‬ولم يعد الكاتب إىل نرشها‪ ،‬يف طبعة ثانية‪ ،‬إال قبل‬
‫وفاته بعام واحد‪ ،‬أي عام ‪ ،2007‬عن دار «مداد» للطباعة والنرش يف‬
‫َّ‬
‫استهل به الرواية‪ ،‬يقول فيه‪« :‬إليها‪ ،‬إىل‬ ‫طرابلس‪ ،‬وكان قد كتب إهدا ًء‬
‫مسجالً الهدف‬‫ِّ‬ ‫كل امرأة‪ ،‬فريد»‪ .‬ويقول‪ ،‬يف تقديمه للرواية‪،‬‬ ‫بطلتها‪ ،‬إىل ّ‬
‫يتوخاه من ق ّراء كتابتها‪ ،‬والقضية التي يدعو إليها عرب كتابته‬ ‫ّ‬ ‫الذي كان‬

‫‪11‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫يحس‬
‫ّ‬ ‫أحس بح ِّر َّيته‪ ،‬وهو لن‬
‫َّ‬ ‫لها‪ ،‬بأن اإلنسان ال يشعر بوجوده إال إذا‬
‫بهذه الح ّر ّية ّإل إذا مارسها‪ ،‬عىل أوسع نطاق‪.‬‬

‫كل سطر من سطور الرواية‪ ،‬أنه لم يستهدف من‬ ‫وكان واضحاً‪ ،‬عرب ّ‬
‫كتابتها ّإل تأكيد هذا املعنى تأكيدا ً عميقاً‪ ،‬واالحتفاء بفعل الح ّر ّية‪،‬‬
‫والتحريض عىل ممارسة هذه الح ّر ّية‪ .‬وإذا كانت كتابة الرواية‪ ،‬باعتبارها‬
‫لونا ً أدبيا ً جديداً‪ ،‬وبابا ً غري مطروق‪ ،‬من قبل‪ ،‬يف البيئة األدبيّة الليبية‪،‬‬
‫يحمل معنى التحدّي ملعطيات هذه البيئة‪ ،‬التي هي بيئة غري مهيَّأة‬
‫وغري مؤ َّهلة‪ ،‬بما يسود فيها من تقاليد وأعراف بدوية‪ ،‬إلنبات هذا اللون‬
‫والتحض‪ ،‬فإن محتوى الرواية‬ ‫ُّ‬ ‫األدبي املرتبط‪ ،‬دائماً‪ ،‬بمجتمعات التمدين‬
‫ورسالتها يتضافران مع هذا املعنى‪ ،‬وتقول‪ ،‬بصوت شديد الوضوح‪ ،‬إنها‬
‫جزء من معركة ض ّد تقاليد االنغالق والتز ُّمت وقمع العواطف وقهرها‪،‬‬
‫تلك التي تظلم اإلنسان وتمنعه من ممارسة ح ِّر َّيته‪ ،‬وأن يعيش إنسانيَّته‪،‬‬
‫وهي قضايا تحيلنا إىل تيّار فكري وفلسفي‪ ،‬كان سائدا ً يف أواخر‬
‫الخمسينيات‪ ،‬وله امتدادات يف اإلنتاج األدبي القادم من عواصم ثقافية‬
‫عربيّة‪ ،‬مثل بريوت والقاهرة‪ ،‬هو التيّار الوجودي الذي يدعو إىل التح ُّقق‬
‫الوجداني والعاطفي‪ ،‬ويدعو إىل التم ُّرد عىل القوالب السائدة‪ ،‬يف التفكري‬
‫والسلوك‪ ،‬التي تمنع اإلنسان من املحافظة عىل جوهره اإلنساني وطمس‬
‫شخصيَّته ومشاعره وتطلُّعاته‪.‬‬

‫تضعنا رواية «اعرتافات إنسان»‪ ،‬مبارش ًة‪ ،‬وسط هذا الرصاع الوجودي‬
‫بني الفرد وسطوة املجتمع‪ ،‬ونلتقي بالسارد للحدث الروائي‪ ،‬الدكتور‬
‫بكل ما يحمله‪ ،‬من بوح‬‫فريد‪ ،‬وأزماته ومعاناته‪ ،‬يرويها بضمري املتكلِّم ّ‬
‫طبيب ناجح‪ ،‬لكنه ليس سعيدا ً بنجاحه‪ ،‬فقد تح َّول النجاح‬
‫ٌ‬ ‫وحميمية‪،‬‬
‫‪12‬‬
‫وازدحام عيادته بالزبائن إىل عبء عليه‪ ،‬ر َّبما ألنه جعل عيادته جزءا ً‬
‫من مق ّر سكناه‪ ،‬فهو أعزب يعيش بمفرده‪ ،‬ال رفيق له ّإل امراة متقدِّمة‬
‫يف الس ّن تخدمه‪ ،‬اسمها زينب‪ ،‬وتشفق عليه ألنه وصل س ّن األربعني ولم‬
‫يتز َّوج‪ ،‬وهو يريد أن يتز َّوج‪ ،‬لكنه ليس راضيا ً وال موافقا ً عىل الزواج‬
‫وفق التقاليد املجحفة التي يفرضها املجتمع‪ ،‬التي تمنع الزوج أن يرى‬
‫املراة التي يريد أن يتز َّوجها‪ ،‬وتمنع املرأة من أن تعرف زوج املستقبل؛‬
‫ولهذا فهو يعاني من شعور بالخواء والفراغ‪ّ ،‬إل أن طرابلس ذات التن ُّوع‬
‫اإلثني والتن ُّوع الثّقايف‪ ،‬ال ترتكه يعاني طويالً‪ ،‬ألنها تتيح له أن يتع َّرف‬
‫بامرأة إيطالية اسمها ماريا‪ ،‬تسكن قريبا ً من بيته‪ ،‬ينشئ عالقة ّ‬
‫حب‬
‫معها‪ ،‬وتالقيه من وراء ظهر زوجها‪ ،‬غري أنها عالقة عابرة طارئة‪ ،‬تنتهي‬
‫بعد فرتة قصرية بسبب رجوع العائلة إىل إيطاليا‪ ،‬فيعود إليه إحساسه‬
‫بالفراغ والخواء‪ ،‬حتى يظهر يف عيادته مريض يعاني من تعب يف الصدر‪،‬‬
‫توثقت عالقته به حتى صار أقرب الناس اليه‪،‬‬ ‫اسمه سليم عبد امللك‪َّ ،‬‬
‫القصة‪ ،‬هي‬ ‫ّ‬ ‫قصة داخل‬‫رفيقا ً ونديما ً يف أوقات السهر‪ ،‬فننتقل معه إىل ّ‬
‫قصة هذا الرجل ابن العائلة الطرابلسية املورسة‪ ،‬الذي يعمل يف وظيفة‬ ‫ّ‬
‫حكومية‪ ،‬ويكتب‪ ،‬يف مرحلة من مراحل عالقته بالدكتور فريد‪ِّ ،‬‬
‫مذكراته‬
‫مذكراته‬ ‫التي تعطي لهذه الرواية اسمها‪ ،‬إذ إن هذا الصديق س ّمى ِّ‬
‫«اعرتافات إنسان»‪ ،‬التي تجعل بطل الرواية األصيل‪ ،‬الدكتور فريد‪،‬‬
‫يتخل عن البطولة‪ ،‬ليصبح السارد ألحدات تحصل لصديقه‪ ،‬من موقف‬ ‫ّ‬
‫التعاطف‪ ،‬بل املشاركة‪ ،‬أحياناً‪ ،‬يف صنع االحدات والدفع بها يف الوجهة‬
‫التي تخدم صديقه‪ ،‬وتنفعه‪ .‬وكان سليم قد رفض‪ ،‬يف البداية‪ ،‬أن يعطي‬
‫هذه االعرتافات إىل صاحبه‪ّ ،‬إل أن عارضا ً مرضيا ً ألَ َّم به‪ ،‬جعله يف خشية‬
‫عىل حياته‪ ،‬واضط ّره إلخراج االعرتافات والدفع بها ايل الدكتور فريد‪،‬‬

‫‪13‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫يأتمنه عليها‪ ،‬ويشرتط عليه ّأل يقرأها ّإل بعد موته‪ّ ،‬إل أنه يشفى من‬
‫مرضه‪ ،‬وتبقى ِّ‬
‫املذكرات يف حوزة صديقه الذي يتح َّرق فضوال ً لقراءتها‪،‬‬
‫ليقينه بأنها سوف تلقى ضوءا ً يعينه عىل إنقاذ سليم من معاناته‬
‫وعذاباته‪.‬‬
‫يف أثناء إجازة‪ ،‬قضاها يف باريس‪ ،‬تحدَّث‪ ،‬عن هذه ِّ‬
‫املذكرات‪ ،‬إىل صديقته‬
‫الفرنسية املس ّماة جانيت‪ .‬واستجابة إللحاحها‪ ،‬بارش بقراءة طرف منها‬
‫عىل هذه الصديقة‪ ،‬يتحدَّث فيها سليم عن محنته‪ ،‬يدور الرصاع حول‬
‫إشكالية التناقض والتعارض بني قيم الكتلة البرشية املس ّماة مجتمعاً‪،‬‬
‫والفرد يف نزوعه إىل التح َّقق واالنطالق والح ّر ّية واالستجابة إىل حاجات‬
‫قلبه ووجدانه‪ ،‬بوصفه فردا ً وإنساناً‪ ،‬وهو‪ ،‬هنا‪ ،‬مجتمع مدينة طرابلس‪،‬‬
‫يف تلك الحقبة التي اكتست فيها التقاليد طابعا ً شديد الرشاسة والقسوة‪،‬‬
‫بسبب عنف التقاليد البدوية والعشائرية وق َّوتها‪ ،‬التي تحكم الحياة يف‬
‫املدن‪ ،‬أيضاً‪ ،‬بتز ُّمتها وانغالقها وافرتاسها لخصوصية الفرد‪ ،‬وطمسها‬
‫لشخصيّته‪.‬‬

‫يحكي سليم‪ ،‬يف اعرتافاته‪ ،‬كيف استجاب للتقاليد‪ ،‬وخطب فتاة اسمها‬
‫مريم‪ ،‬بطريقة تقليدية‪ ،‬اعتمادا ً عىل ما سمعه حول جمالها ومستواها‬
‫الثّقايف‪ ،‬دون أن يراها أو يلتقي بها‪ ،‬ويكتشف‪ ،‬بعد الزواج‪ ،‬أنها امرأة‬
‫تن ّمطت داخل قوالب املجتمع إىل َح ّد اذابت شخصيَّتها‪ ،‬وطمست روحها‪،‬‬
‫وقضت عىل تفردها وخصائص ذاتها وتم ُّيزها؛ ما دفعه إىل أن يقع يف‬
‫حب فتاة اسمها فوزية‪ ،‬وافدة من بلد عربي أكثر تح ُّرراً‪ ،‬هو لبنان‪ ،‬ليقيم‬
‫ّ‬
‫زوجة وأوالداً‪ .‬يعاني سليم من رصاع‬‫ً‬ ‫حب معها عىل حساب أرسته‪،‬‬ ‫عالقة ّ‬
‫مرعب بني واجباته‪ ،‬زوجا ً وأباً»‪ ،‬وقلبه الذي رشد وراء هذه املرأة الفاتنة‬
‫‪14‬‬
‫التي يجد فيه اإلشباع لعواطفه وأفكاره وعقله وجسده‪.‬‬

‫وضاءة‬ ‫«اعرتافات إنسان» رواية جميلة‪ ،‬مكتوبة بأسلوب أنيق ولغة مرشقة ّ‬
‫ج ّذابة‪ ،‬وفيّة ألطروحة الح ّر ّية الفردية التي ُكتِبت دفاعا ً عنها‪ ،‬بصياغة‬
‫فنّيّة متقنة‪ ،‬شابتها بعض الهنات التي تتَّصل بإلحاح عىل املوضوع إىل‬
‫َح ّد التكرار‪ ،‬والحديث عنه بطريقة مرسفة‪ ،‬أحياناً‪ ،‬يف عاطفيَّتها‪ ،‬ولها‬
‫العذر يف ذلك‪ ،‬ألنها رواية تنتمي إىل األدب الرومانيس يف شاعر َّيته ور َّقته‬
‫وشفافيَّته‪ ،‬دون أن تكون بعيدة عن طني الواقع وتعقيداته وأوحاله‪.‬‬

‫كتلة وقطيعاً‪،‬‬
‫ً‬ ‫قصة الفرد‪ ،‬إنسانا ً ووجداناً‪ ،‬يف مواجهة املجتمع‪،‬‬‫إنها ّ‬
‫وجدارا ً صلدا ً جامدا ً كأسوار السجن‪ ،‬كتبها األديب الرائد محمد فريد‬
‫سيالة‪ ،‬بانفعال وصدق وأمانة ونزاهة‪ ،‬صونا ً إلنسانية اإلنسان ورشف‬
‫كل القوى التي تريد مسخ‬ ‫انتمائه لقيَم العرص‪ ،‬ومرافعة أصيلة ض ّد ّ‬
‫عواطف هذا اإلنسان‪ ،‬وتشويه ذاتيَّته‪ ،‬وطمس تم ُّيزه وفرادته وجوهره‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫اعترافات‬
‫إنسان‬
‫كان الفصل شتاءً‪ ...‬والج ّو بارداً‪ ،‬شديد الربودة؛ ما سبَّب انتشار كثري‬
‫من إصابات الناس بشتّى أنواع األمراض التي تسبِّبها مثل هذه الظروف‪،‬‬
‫مكتظة دائما ً بالناس وكأنها قد ُقلبت إىل خليّة نحل‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫فجعل عيادتي‬
‫يكف‪ ...‬حركة‬ ‫ّ‬ ‫تتو َّقف فيها الحركة‪ ،‬وال تهدأ‪ ،‬وال ينقطع الطنني‪ ،‬وال‬
‫مستم ّرة دائمة‪ ...‬مريض داخل‪ ،‬ومريض خارج‪ ،‬وآخر جاء يسأل أو‬
‫يستشري‪ ...‬حركة دائمة مستم ّرة‪ ،‬من أ ّول ساعات النهار إىل أ َّول ساعات‬
‫الليل‪ ...‬االزدحام ال ينقطع‪ ،‬سواء أكنت موجودا ً أم غري موجود؛ فالذين‬
‫ينتظرون ال يعرفون‪ ،‬أو ال يشاؤون أن يعرفوا معنى الكتابة التي تحملها‬
‫تلك اللوحة النحاسية الصفراء الالمعة التي تقول‪ ،‬يف رصاحة ووضوح‪:‬‬
‫«مواعيد العمل من الساعة ‪ 11‬إىل ‪ ،13‬ومن الساعة ‪ 16‬إىل ‪ .»18‬لكن‪ ،‬ماذا‬
‫يفيد قول هذه اللوحة الخرساء؟ إن الزبائن‪ ...‬املرىض ال يعرفون املواعيد‪،‬‬
‫وال يتقيَّدون بالساعات‪ ،‬واملصابون باألمراض ال يصدِّقون (عن عمد) ما‬
‫كتب عىل هذه اللوحة الصامتة‪ ...‬فهم يعتقدون‪ ،‬دائماً‪ ،‬أن مواعيدي غري‬
‫محدَّدة‪ ،‬وغري مضبوطة‪ ،‬وال صلة لها‪ ،‬أبداً‪ ،‬بما ُكتِب عىل هذه الالفتة‬
‫اللعينة‪ ،‬رغم أنني ال أذكر يوما ً واحداً‪ ،‬منذ تخرجي‪ ،‬ومنذ أن فتحت هذه‬
‫العيادة‪ ..‬ال أذكر يوما ً واحدا ً جئت فيه غري أ ّيام املواعيد املحدَّدة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وسيْل املرىض ال ينقطع‪ ،‬وهم يعرفون أنني (أعزب)‪،‬‬ ‫االزدحام مستم ّر‪َ ،‬‬
‫ال زوجة يل وال أبناء‪ ..‬أسكن هذه الش ّقة التي تقع يف الطابع الثالث من‬
‫إحدى عمارات شارع االستقالل‪ ،‬والتي ا َّتخذت منها قسما ً لعيادة املرىض‪،‬‬
‫و‪ -‬ر ّبما‪ -‬هذا هو ما ساعدهم عىل أن يقتحموا عيلَّ الش ّقة‪ ،‬ال يف ساعات‬
‫راحتي‪ ،‬فحسب‪ ،‬بل حتى يف ساعات نومي‪ ،‬أيضاً‪.‬‬

‫كثريا ً ما كنت أتساءل بيني وبني نفيس‪ ،‬عن األسباب التي جعلت عيادتي‬
‫مزدحمة أبداً‪ ،‬طيلة ساعات النهار‪ ،‬وبعضا ً من ساعات الليل‪ ،‬حتى أن‬
‫هذا االزدحام لم يرتك يل قليالً من الوقت أسرتيح فيه‪ ،‬وأر ّوح عن نفيس‬
‫املكدودة املتعبة املحتاجة إىل بعض من الراحة واالستجمام‪.‬‬

‫كثريا ً ما كنت أتساءل‪ :‬ما سبب ذلك؟‪ ...‬ما مبعثه؟‪ ...‬أهو انخفاض‬
‫تسعرية الفحص‪ ،‬أم االسم الطيِّب الذي حصلت عليه‪ ،‬أم تراه ألنني‬
‫خصصت يوما ً يف األسبوع‪ ،‬غري معلوم وال محدَّد‪ ،‬أفحص فيه املرىض‪ّ ،‬‬
‫أي‬ ‫َّ‬
‫باملجان‪ ،‬ودون مقابل؟‬‫مريض‪ّ ،‬‬

‫كل ذلك معاً‪ .‬من‬‫ر ّبما‪ ،‬يكون واحد من ذلك هو السبب‪ ،‬و‪ -‬ر َّبما‪ -‬يكون ّ‬
‫يدري!؟ فللناس فيما يعشقون مذاهب‪ .‬امله ّم أن العيادة مزدحمة أبداً‪،‬‬
‫لدرجة أنك ال تجد فيها مكانا ً خالياً‪ ،‬يمكنك أن تقف فيه‪ ،‬يف أ ّية ساعة من‬
‫ساعات النهار‪.‬‬

‫وكثرة االزدحام هذه كانت تسبِّب يل كثريا ً من الضيق والضجر وامللل‪..‬‬


‫أحس‪ ،‬يف بعض‬‫ّ‬ ‫كانت تصيبني بالعنت والتعب واإلرهاق‪ ،‬لدرجة أنني‬
‫األحيان‪ ،‬باالشمئزاز من هذه املهنة التي اخرتتها بنفيس وبمحض إرادتي‪،‬‬
‫ولم يفرضها عيلَّ أحد من الناس‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫إنني الزلت أذكر‪ ،‬جيِّداً‪ ،‬ذلك اليوم الذي حصلت فيه عىل التوجيهية‪،‬‬
‫أفضل‪ .‬وكان‪ -‬رحمه‬ ‫أي الكلّيّات ِّ‬‫وجلس املرحوم والدي‪ ،‬يسألني عن ّ‬
‫َّ‬
‫أتمكن بعد تخ ُّرجي‪ ،‬من‬ ‫الله‪ -‬يو ّد لو أنني أختار كلّيّة التجارة‪ ،‬حتى‬
‫استالم إدارة تجارته‪ ،‬لكنني رفضت رجاءه‪ ،‬يف لني ولطف‪ ،‬عندما اخرتت‬
‫الطب؛ أمالً يف أن أساعد عباد الله عىل التخلُّص من األمراض التي‬
‫ّ‬ ‫كلّيّة‬
‫تفتك بهم‪ ،‬يوما ً بعد يوم‪ ،‬دون أن يجدوا من يعطف عليهم ويرحمهم من‬
‫الطب وتخ َّرجت فيها‪ ،‬منذ‬‫ّ‬ ‫بني جنسهم ومواطنيهم‪ .‬هكذا‪ ،‬دخلت كلّيّة‬
‫عرشين سنة‪ ،‬وأنا أشعر بأنني أصبحت إنسانا ً آخر‪ ،‬يف استطاعتي أن‬
‫أحب هذه املهنة‪ ،‬وأرى فيها نوعا ً من املشاركة‬
‫أقدم شيئا ً للناس‪ .‬كنت ّ‬
‫كل هذه السنني‪ ،‬أصبحت أكرهها‪...‬‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬لكنني‪ ،‬اليوم‪ ،‬وبعد مرور ّ‬
‫بأي حال‪.‬‬
‫أمقتها‪ ..‬ال أطيقها ّ‬

‫إنني إنسان‪ ...‬برش‪ ،‬مثل غريي من الناس‪ ،‬يف حاجة إىل الراحة‬
‫واالستجمام‪ ،‬ويف حاجة إىل السكينة والهدوء‪ ،‬ويف حاجة إىل أن أر ِّفه عن‬
‫ّ‬
‫سجلت‬ ‫نفيس‪ ،‬بني الحني والحني‪ ....‬إنني موجود‪َ ...‬ح ّي‪ ،‬هكذا تقول‬
‫مصلحة النفوس‪ ،‬وأنا أريد أن أشعر‪ ،‬حقا ً بوجودي‪ ...‬بحياتي‪ ...‬بكياني‪.‬‬

‫كل هذا‪ ،‬وأنا أعيش وسط خليّة‬ ‫لكن‪ ،‬كيف يمكنني أن أح ّقق شيئا ً من ّ‬
‫يغص بها‬
‫ّ‬ ‫النحل هذه‪ ...‬وسط هذه الزحمة‪ ....‬هذه الهياكل اآلدمية التي‬
‫كل شرب من العيادة‪ ...‬هذا السيل الجارف من الناس الذي ال ُيع َرف له‬ ‫ّ‬
‫أ ّول‪ ،‬وال ُيع َرف له آخر؟؟‬

‫حتى يوم الجمعة الذي ُجعِل للصالة والراحة واالستجمام‪ ،‬أكاد ال أسرتيح‬
‫فيه‪ ،‬فإذا لم أسارع‪ ،‬منذ ساعات الفجر األوىل‪ ،‬إىل السيارة والخروج إىل‬
‫ضواحي املدينة‪ ،‬فأنا مع َّرض‪ ،‬دائماً‪ ،‬لالستدعاء‪ ،‬بني لحظة وأخرى‪،‬‬

‫‪21‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫لفحص مريض يف بيته‪.‬‬

‫وكم كانت الخالة (زينب) تقايس من هذا اإلرهاق والتعب! فقد كانت‪ ،‬هي‬
‫األخرى‪ ،‬تأخذ نصيبها منه‪ ،‬برغم أنها امرأة عجوز جاوزت س ّن الخمسني‬
‫بأكثر من ستّ سنوات‪ ،‬وإن كانت هي تقول إنها لم تتجاوز الخامسة‬
‫واألربعني‪ ،‬رغم أنها تذكر عام الوادي‪ ،‬بتفاصيل أحداثه‪.‬‬

‫الحاجة زينب من هذا اإلرهاق‪ ،‬منذ أن بدأت‬


‫ّ‬ ‫كم كانت تقايس الخالة أو‬
‫تقيم معي يف هذه الش ّقة‪ ،‬تعتني بتنظيفها‪ ،‬وتغسل الثياب‪ ،‬وتطهو‬
‫الطعام!؛ فقد كانت املسكينة تضط ّر‪ ،‬دائماً‪ ،‬إلعادة الكنس والتنظيف‪،‬‬
‫م ّرات‪ ،‬وم ّرات‪ ،‬يف اليوم‪.‬‬

‫مللت هذه الحياة‪ ...‬كرهت هذه املهنة‪ ..‬أصبحت أتمنّى لو أنني كنت‬
‫إنسانا ً آخر‪ ...‬إنسانا ً بسيطاً‪ ،‬ولو طبيبا ً يف نوع آخر من األمراض غري‬
‫أمراض الصدر وذات الرئة‪ ،‬التي اخرتتها‪ ،‬أو حتى مج َّرد طبيب غري‬
‫كل هذه الشهرة بني الناس‪ ...‬لو كنت كذلك السرتحت قليالً‪،‬‬ ‫مشهور ّ‬
‫ولَ َخ َّف عني يشء من هذا التعب الذي أعانيه‪.‬‬

‫وحاولت‪ ...‬حاولت كثريا ً أن أتغلَّب عىل هذا امللل‪ ،‬وهذا الضجر‪ ،‬دون‬
‫كل محاوالتي سدًى‪ ...‬لم تج ِد قتيالً‪ ....‬لم يكن يشء يف‬
‫جدوى‪ ....‬ذهبت ّ‬
‫أحس بني‬
‫ّ‬ ‫الوجود يخ ِّفف عني ما أشعر به من ضيق واختناق‪ ،‬ويجعلني‬
‫اآلدمي املفقود‪ ،‬قبل أن‬
‫ّ‬ ‫وقت وآخر‪ ،‬بيشء من الراحة‪ ...‬باسرتجاع كياني‬
‫أتع َّرف إىل (سليم عبد امللك)‪ ،‬سوى وقفتي يف النافذة املطلَّة عىل بيتها‪،‬‬
‫مبارش ًة‪.‬‬

‫كانت ش ّقتي تقع يف الطابق الثالث من تلك العمارة الواقعة يف تقاطع‬


‫‪22‬‬
‫شارع االستقالل‪ ،‬وشارع (‪ ،).......‬وكانت هي تسكن يف الطابق الثالث‪-‬‬
‫أيضاً‪ -‬من العمارة املواجهة‪ ،‬ولم يكن يفصل بيني وبينها سوى شارع‬
‫(‪ .)........‬وهي امرأة إيطالية تسكن مع زوجها يف تلك العمارة‪ ،‬وكنت‬
‫كلَّما وقفت يف النافذة‪ ،‬أراها تقف‪ ،‬دائماً‪ ،‬هناك‪ ،‬وكأنها كانت معي عىل‬
‫موعد‪ ،‬وبحكم الجرية التي بيننا‪ ،‬بدأنا نتبادل االبتسامات‪ ،‬رغم أنها كانت‬
‫يف س ّن الخامسة والعرشين‪ ،‬كما يظهر عليها‪ ،‬وكما تنبئ مالمح وجهها‪،‬‬
‫وأنا يف منتصف الحلقة الرابعة من عمري‪ .‬وبعد االبتسامات‪ ،‬تبادلنا‬
‫التحيّات‪ ،‬أيضاً‪ ،‬إىل أن كان يوم جاءت فيه إىل العيادة تحمل وحيدها‬
‫الصغري‪ ،‬الذي أصيب‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬بأنفلونزا حادّة‪.‬‬

‫ويف العيادة‪ ،‬وقفت إىل جواري تتابع فحص ابنها‪ ،‬والدموع تنهمر من‬
‫عينيها‪ ،‬والهلع والخوف متمثِّالن يف نظراتها‪ ،‬فأشفقت عليها‪ ،‬وأجلستها‬
‫إىل جواري أصف لها الدواء الالزم وكيفية تناوله‪ ،‬هنا‪ ،‬وأنا أنظر إىل‬
‫عينيها‪ ،‬اكتشفت فيها أشياء كثرية‪ ،‬لم أكن أعرفها فيها‪ ،‬اكتشفت أنها‬
‫أجمل م ّما كنت أتص َّور‪ .‬كانت شقراء ذات شعر ذهبي المع مسرتسل عىل‬
‫كتفيها‪ ،‬وعينني زرقاوين كمياه البحر الصافية الش ّفافة‪ ،‬وبرشة بيضاء‬
‫ناصعة ملساء‪ ،‬وقوام بديع الصنع متناسق األجزاء‪ ،‬وكان يف نظرتها يشء‬
‫لم أنتبه إليه‪ ،‬ولم أفهمه‪ ...‬يشء غامض ال تملك حياله ّإل أن تستجيب‬
‫لندائه وإغرائه‪ ،‬مهما كنت راسخا ً يف الورع والتص ُّوف‪ .‬يومها‪ ،‬تحادثنا‬
‫أحاديث كثرية مختلفة متن ِّوعة‪ ،‬كان آخرها موعدا ً بيننا عىل اللقاء يف‬
‫ش َّقتي‪ .‬وتقابلنا ليلتها‪ ،‬وكانت بيننا أشياء‪ ،‬ثم تك َّرر هذا اللقاء‪ ،‬وتعدَّد‬
‫م ّراتٍ متوالية متتابعة‪ ،‬تار ًة يف ش َّقتي‪ ،‬وتار ًة يف ش َّقتها‪ ،‬وطورا ً يف السيّارة‪،‬‬
‫خارج املدينة‪.‬‬

‫أحس بالراحة‪ ،‬وأشعر باالستقرار‪ .‬ويومها‪ ،‬علمت أن نرفزتي‪،‬‬


‫ّ‬ ‫وبدأت‬

‫‪23‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وشعوري بالتعب واإلعياء‪ ،‬لم يكونا نتيجة كثرية العمل وال كثرة املرتدِّدين‬
‫كل ذلك يشء آخر لم أكن أعرفه‪ ،‬ولم أكن‬ ‫عىل العيادة‪ .‬أدركت أن سبب ّ‬
‫أتص ُّوره‪ ،‬إىل أن اكتشفته يف عالقتي مع (ماريا)‪ ،‬فتمنَّيت لو استم َّرت‬
‫تلك العالقة لفرتة أطول‪ ...‬تلك العالقة التي كانت تمدّني‪ ،‬بعد ّ‬
‫كل لقاء‪،‬‬
‫بقدر من تجدُّد النشاط‪ ،‬وبقدر من الحيوية‪ ،‬وبرغبة شديدة يف الحياة‪.‬‬
‫غري أن هذه العالقة لم تدم طويالً‪ ،‬إذ رسعان ما انقطعت وانفصلت‪،‬‬
‫وأُسدِل عليها ستار‪ ،‬بعد أن غادرت (ماريا) البالد مع زوجها الذي أصبح‬
‫وأحس باإلرهاق‪ ،‬وأبحث ع ّما‬
‫ّ‬ ‫غري مرغوب فيه‪ .‬عندها‪ ،‬عدت أشعر بامللل‪،‬‬
‫يخ ِّفف من تعبي‪ ،‬ويجدِّد نشاطي‪.‬‬

‫أحس بكراهية كبرية للمهنة التي اخرتتها بنفيس‪ ...‬أخذت أبحث‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عدت‬
‫بشتّى الطرق‪ ،‬عن وسيلة تزيح عن كاهيل بعضا ً من التعب‪ ،‬وضاعت‬
‫كل محاوالتي‪ ،‬م ّر ًة أخرى‪ ،‬أدراج الرياح‪ ،‬فشعرت بخيبة أمل وبتم ُّزق يف‬ ‫ّ‬
‫كياني الداخيل كلِّه‪ ،‬إىل أن تع َّرفت إىل (سليم عبد امللك)‪ ،‬منذ ثالث سنوات‪،‬‬
‫عندما أصيب بذات الرئة‪ ،‬و ُدعِيت لفحصه ومعالجته‪ .‬وبعد عالج طويل‬
‫وشفِي من مرضه‪ ،‬تماماً‪ ،‬بعد ستّة أشهر فقط‪.‬‬ ‫مرهق‪ ،‬أفاده العالج‪ُ ،‬‬
‫أحسه‪،‬‬
‫كل ألوان العذاب الذي كنت ّ‬ ‫توطدت بيننا صداقة أنستني ّ‬ ‫بعدها َّ‬
‫وأتع َّذب به‪ ...‬صداقة سليم أعادت يل شيئا ً من حيو َّيتي وحبي ملهنتي‪.‬‬
‫أحسه من عناء وضجر وتعب‪.‬‬ ‫صداقة سليم أنستني كثريا ً م ّما كنت ّ‬

‫كانت صداقتي مع سليم صداقة صادقة‪ ،‬أخذت تنمو‪ ،‬مع األ ّيام‪ ،‬برسعة‬
‫ولعل السبب يف ذلك يعود إىل أنني اكتشفت يف سليم أنموذجا ً‬ ‫ّ‬ ‫عجيبة مذهلة‪،‬‬
‫الشاب الذي لم‬
‫ّ‬ ‫من الخلق‪ ،‬كنت أبحث عنه بني الناس؛ فقد ملست فيه‪ ،‬وهو‬
‫يجاوز س ّن الثالثني‪ ،‬إنسانا ً مج ِّربا ً محنَّكاً‪ ،‬عركته األ ّيام‪ ،‬وحنَّ َكته التجارب‪،‬‬
‫صارع األحداث وصارعته‪ ،‬فتعلَّم من هذا الرصاع الكثري‪ ،‬فدفعني ّ‬
‫كل ذلك‬
‫‪24‬‬
‫إىل محاولة تأصيل الصداقة التي بيننا‪ ،‬إىل أن أصبحت أرى فيه‪ ،‬ليس مج َّرد‬
‫صديق‪ ،‬بل أخا ً وزميالً‪ .‬ومن يومها‪ ،‬لم يعد بيننا نحن‪ -‬االثنني‪ -‬يشء اسمه‬
‫بكل يشء يف حياته‪ ،‬وبدأت أصارحه ّ‬
‫بكل‬ ‫خاصة)‪ :‬بدأ يصارحني ّ‬ ‫ّ‬ ‫(أرسار‬
‫كل منا نفسه لآلخر‪ ،‬فأزحنا الفواصل التي تضعها‬ ‫يشء يف حياتي‪ .‬كشف ّ‬
‫التقاليد املجتمعية بني األفراد‪ .‬يشء واحد‪ ،‬لم أعرفه يف حياة سليم‪ ،‬فأخذت‬
‫ِّ‬
‫وتعذبني‪ ،‬لكنها حرية وعذاب من نوع لذيذ‪ .‬ومبعث ل ّذته‬ ‫تحيني‬ ‫معرفته ِّ‬
‫أنك تحاول اكتشاف يشء جديد‪ ،‬يشء لم يكتشفه غريك‪ ،‬فتشعر بل ّذة البحث‬
‫واالكتشاف‪ ،‬يف رصاعك مع الحرية والعذاب‪.‬‬

‫كان رشود سليم‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬وصمته‪ ،‬ونظرته إىل ال يشء‪ ،‬هو ما‬
‫يحيني‪ ،‬هو ما أحاول اكتشافه‪ ،‬اصطحبته معي يف جوالت خارج املدينة‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫أكثر من م ّرة‪ ،‬ودعوته إىل زيارتي يف العيادة م ّرات‪ ،‬ودعاني إىل زيارة‬
‫حجته‪ ،‬يف دعوتي إىل زيارة منزله وتناول الغداء أو‬ ‫منزله مراراً‪ .‬كانت ّ‬
‫العشاء معه‪ ،‬هي أنني أعزب‪ ،‬وليست هناك أ ّية التزامات تربطني بأحد‪،‬‬
‫ثم أنني يف حاجة إىل أكل ما ال يستطيع الرجال طهوه‪ .‬أخذنا نقيض‬
‫سهراتنا معاً‪ ،‬نحن‪ -‬االثنني‪ -‬ال ثالث معنا‪ ،‬إذا كنّا يف ش ّقتي‪ ،‬وتكون‬
‫زوجته ثالثتنا إذا كنّا يف ش َّقته‪ .‬كنت ألبّي دعواته غري املتكلَّفة‪ ،‬وكان يلبّي‬
‫دعواتي غري املتكلَّفة‪ ،‬أيضاً‪.‬‬

‫كثري من سهراتنا كنّا نقضيها يف ش َّقتي‪ ،‬نلعب الورق أو الشطرنج‪ ،‬وكان‬


‫سليم‪ ،‬يف مثل هذه الليايل‪ ،‬يرشب‪ ...‬ويرشب كثريا ً جدّاً‪ ،‬لكنه‪ ،‬رغم كثرة‬
‫ليؤثر فيه‪ ،‬ويخرجه من صمته‪ ،‬ويعيده من‬ ‫رشبه‪ ،‬لم يكن ذلك‪ ،‬أبداً‪ِّ ،‬‬
‫كل ذلك ّإل صمتا ً ورشوداً‪ .‬هذا الصمت‪ ،‬والرشود‪،‬‬ ‫رشوده‪ ،‬إن لم يزده ّ‬
‫وتحيني‪ ،‬وتثريني‬
‫ِّ‬ ‫والنظر البعيد إىل اليشء‪ ...‬هذه األمور كانت تقلقني‬
‫بعض األحيان‪ ،‬لكنها‪ -‬يف الوقت نفسه‪ -‬كانت تزيد من صداقتنا‪ ،‬وتق ّوي‬

‫‪25‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫من ترابطنا‪ ،‬وتزيد متانة تعارفنا‪ ...‬فالحقيقة أن سليما ً هذا كان يتميَّز‪،‬‬
‫ع َّمن يف مثل سنّه‪ ،‬بهذا الصمت والرشود والنظر إىل ال يشء‪ ...‬تلك النظرة‬
‫املستعطفة التي تبعث يف نفسك كثريا ً من الشفقة والحنان عىل صاحبها‪،‬‬
‫تتمكن‪ ،‬من وراء ّ‬
‫كل‬ ‫َّ‬ ‫فال تملك ّإل أن تحبّه‪ ،‬وتصادقه‪ ،‬وتعطف عليه‪ ،‬لعَلّك‬
‫رس الرهيب الذي‬ ‫هذا‪ ،‬أن تصل إىل أغوار نفسه وأعماق روحه‪ ،‬فتكتشف ال ّ‬
‫ينزوي وراء هذه النظرة الشاردة‪.‬‬

‫إنه يحلم دائماً‪ ...‬ينظر إىل‪ ...‬ال يشء‪ ،‬يبحث بعينيه‪ ،‬يف أعماق ماضيه‪ ،‬عن‬
‫أمر‪ ،‬ويسلِّط نظرات عينيه الواسعتني الكبريتني عىل ال يشء‪ ،‬أيضاً‪ .‬كان‬
‫ُيكثر من الرشاب‪ ،‬وكنت أفرح بكثرة رشبه‪ ،‬وأحيص الكؤوس التي تناولها‬
‫بفرحة خبيثة‪ ،‬ظنّا ً مني أن كثرة الرشاب هذه تساعدني عىل معرفة ِّ‬
‫رسه‬
‫الشود‪ ،‬لكن األمر بالعكس‪ ،‬فلم‬ ‫الخفي الذي يكمن يف أعماق هذه النظرة َّ‬
‫ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫يزده الرشب إل صمتا ورشودا‪ ،‬عكس أمثاله من الناس الذين يجعلهم‬
‫َب ود ََّب‪ ،‬بما يريدون وبما ال‬ ‫الرشب يثرثرون ويتحدَّثون‪ ،‬إىل ّ‬
‫كل من ه َّ‬
‫يريدون أن يعرفه الناس عنهم‪.‬‬

‫كانت هذه الحال التي تعرتي سليما ً تزيد من إلحاحي عىل معرفة ّ‬
‫رس‬
‫رشوده وصمته وانطوائه عىل نفسه‪ .‬جعلتني هذه الحال‪ ،‬حال سليم‬
‫املحزنة املؤسفة‪ ،‬أبحث‪ ،‬بجدّ‪ ،‬عن ماضيه‪ ،‬وأتع َّرف بالسؤال عن حياته‬
‫وفكرت يف نفيس‪ :‬ر َّبما يكون سبب ذلك عقدة من زواجه‪ ،‬مثالً!‪،‬‬ ‫الخاصة‪َّ ،‬‬
‫ّ‬
‫فسألت بعض أقاربه ومعارفه القدامى عن كيفية زواجه‪ ،‬فعلمت أنه‬
‫تز َّوج زوجته الحاليّة ذات الجمال املقبول الهادئ‪ ،‬من أرسة محرتمة‪،‬‬
‫ووسط متعلّم‪ ،‬وأن له‪ ،‬من هذه الزوجة‪ ،‬ول َد ْين َ‬
‫ذك َر ْين‪ ،‬اثنَ ْي‪ ،‬وأن هناك‬
‫تقديرا ً واحرتاما ً متبادلَ ْي بينهما‪ ،‬ولم تفدني هذه املعلومات يف يشء‪،‬‬
‫فعدت أبحث وأستقيص‪ ،‬م ّر ًة أخرى‪ ،‬ع ّما يشغله‪ ،‬وكيف يعيش حياته‬
‫‪26‬‬
‫الخاصة‪ ،‬وعن سمعته ومكانته بني الناس‪ ،‬وعن الذي كان يف ماضيه‪،‬‬
‫ّ‬
‫وماذا يوجد يف حارضه!‪.‬‬

‫موظف بالدرجة الخامسة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وجاءتني املعلومات التي كنت أريدها‪ :‬إنه‬
‫ويعيش مع زوجته وولديه يف منزل يملكه‪َ ،‬و َّفر ثمنه من راتبه املحدود‪،‬‬
‫توف والده‪ ،‬بعد زواجه‬ ‫وأنهم يقيمون وحدهم يف هذا املنزل‪ ،‬بعد أن ِّ‬
‫موظف مشكور‬ ‫بأشهر قليلة‪ ،‬فلحق بوالدته التي تو ِّفيت منذ سنوات‪ ،‬وأنه َّ‬
‫محبوب مخلص يف عمله‪ ،‬وأن ماضيه نظيف‪ ،‬لم يحدث‪ ،‬أبداً‪ ،‬أن ُس ِّجل‬
‫فيه ما يشينه‪.‬‬

‫كل هذه األمور علمتها عن سليم‪ ،‬لكنها كلّها لم ُتفدني يف يشء‪ ،‬و لم‬
‫ّ‬
‫تبلغني الغاية التي كنت أبحث عنها‪ ..‬لم توصلني الهدف الذي أرومه‬
‫وأبتغيه‪.‬‬

‫وعدت أفكر‪ ،‬من جديد‪ ،‬يف طريقة أخرى‪ .‬لقد أصبحت حالة سليم تقلقني‬
‫كل ما عداها‪ ،‬وفكرت‪ ...‬فكرت كثرياً‪ ،‬إىل أن‬
‫وتحريني لدرجة أنها أنستني ّ‬
‫اهتديت إىل وسيلة‪ ،‬فسارعت إىل تنفيذها‪.‬‬
‫الب ّد أن يكون‪ ،‬يف حياة سليم املنزلية‪ ،‬ما يتعبه‪ ،‬ويربكه‪ ،‬ويسبِّب له ّ‬
‫كل‬
‫هذا الصمت والرشود والجمود‪ .‬لقد قالوا إنه سعيد‪ ،‬يف بيته‪ ،‬مع زوجته‬
‫والخمس‬
‫َ‬ ‫وأوالده‪ ،‬ولكنني ال أصدِّق مثل هذه األقوال‪ ،‬فلقد عل َّ َمتني الحياة‪،‬‬
‫واألربعون سنة التي عشتها‪ ،‬أن الرجل السعيد يف حياته العا ّمة مع الناس‪،‬‬
‫الخاصة مع زوجته‪ ،‬ويف منزله‪ ،‬والعكس‬ ‫ّ‬ ‫إنما هو ذلك السعيد يف حياته‬
‫يف حالة الشقاء والبؤس؛ ذلك ألن الحياة املنزلية هي التي تعكس ظاللها‬
‫عىل الحياة العا ّمة‪ ،‬فإذا صادفك رجل سعيد يف الشارع‪َّ ،‬‬
‫فتأكد أنه سعيد‬
‫شقي يف‬
‫ّ‬ ‫شقي يف الشارع َّ‬
‫فتأكد أنه‬ ‫ّ‬ ‫يف البيت‪ ،‬أيضاً‪ .‬أ ّما إذا صادفك رجل‬

‫‪27‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫املنزل كذلك‪ ،‬وال يمكن‪ ،‬أبداً‪ ،‬أن يكون السعيد‪ ،‬يف البيت‪ ،‬شقيّا ً يف الشارع‪.‬‬

‫الحاجة زينب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تذكرت هذا بدأت أن ِّفذ فكرتي الجديدة‪ ،‬بإرسال‬ ‫عندما َّ‬
‫تأخر‪ ،‬وم ّر ًة إلعالمه‬
‫بني وقت وآخر‪ ،‬إىل منزل سليم‪ ،‬م ّر ًة للسؤال عنه إذا َّ‬
‫الحاجة زينب إىل منزل‬ ‫ّ‬ ‫أي يشء‪ ،‬ولو كان تافهاً‪ ،‬امله ّم أن تدخل‬ ‫عن يشء‪ّ ،‬‬
‫الحاجة زينب عن قصدي من زياراتها املتك ِّررة إىل منزل‬ ‫ّ‬ ‫سليم‪ .‬لم أخرب‬
‫سليم‪ ،‬إ ّنما تركتها هكذا‪ ،‬عىل طبيعتها العاد ّية‪ ،‬طبيعة النساء‪ ،‬وأنا ِّ‬
‫متأكد‬
‫من أنها الب ّد أن تحمل يل‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬أخبارا ً مه ّمة من منزل سليم‪ ،‬فاملرأة‪،‬‬
‫ال تستطيع عينها ّإل أن تراقب‪ ،‬وال تستطيع أذنها ّإل أن تستمع‪ ،‬وال‬
‫يستطيع لسانها ّإل أن يتكلَّم‪.‬‬
‫ّ‬
‫متأخرة‪ ،‬من منزل سليم‪ ،‬أكثر م ّما‬ ‫الحاجة زينب‪ ،‬ذات يوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وعادت‬
‫تع َّودت‪ ،‬وسألتها‪ ،‬حني دخلت‪ ،‬دون أن ألتفت إليها حتى ال تالحظ اللهفة‬
‫املرتسمة يف نظراتي‪:‬‬

‫حاجة‪ ...‬إن شاء الله خري؟؟‬


‫خريك عطلتي‪ ،‬يا ّ‬

‫‪ -‬خري‪ ،‬يا وليدي‪ ...‬لقيت مريم وحدها‪ .‬راجلها مش موجود‪ ...‬قعدت‬


‫نهدرز معاها شو ّية‪.‬‬

‫وظننت أنني وضعت يدي عىل الخيط الذي كنت أبحث عنه‪ ،‬فالتفتّ إىل‬
‫الحاجة‪ّ ،‬‬
‫بكل جسمي‪ ،‬وسألتها‪:‬‬ ‫ّ‬

‫وكيف حال السيِّدة مريم‪ ،‬هي ووالدها‪ ،‬إن شاء الله طيبني؟‬

‫وتنهدت املرأة العجوز قبل أن تجيب‪:‬‬

‫والله‪ ،‬مريم هذي مسكينة‪ ،‬يا وليدي‪.‬‬


‫‪28‬‬
‫وشعرت بفرحة تغمرني‪ ،‬ال ملسكنة مريم‪ ،‬بل لنجاح َّ‬
‫خطتي‪ ،‬فقلت‪:‬‬

‫حاجة؟‪ ...‬مريضة؟‬
‫وخريها مريم يا ّ‬
‫بعيد ال ّ‬
‫رش عليها من املرض‪ ،‬بس هي مش مرتاحة يف حياتها‪ ...‬مش‬
‫مرتاحة يف بيتها‪.‬‬

‫وتظاهرت باالستغراب وأنا أسألها‪:‬‬

‫حاجة‪ ،‬كنت أظنها أسعد امرأة يف الدنيا‪ .‬سليم راجل طيِّب‪،‬‬


‫ّ‬ ‫غريبة‪ ،‬يا‬
‫حاجة‪ ،‬أنهم (سليم ومريم) يحبّوا‬
‫وعاقل وطبعه هادئ‪ ،‬وزمان قلتِ ‪ ،‬يا ّ‬
‫بعضهم كثري‪ ،‬كيف اليوم تقويل مريم مش مرتاحة يف بيتها؟‪.‬‬

‫‪ -‬إيه‪ ،‬يا وليدي‪ ...‬ما تغ ّركش املظاهر‪ ،‬يا دكتور‪ ...‬ما من مصايب يف‬
‫الدنيا واحنا نجهلها‪.‬‬
‫حاجة؟‪ ...‬ما تخوفينيش من الزواج‪ ...‬أني كنت َّ‬
‫أتفكر نتز َّوج‪،‬‬ ‫‪ -‬كيف يا ّ‬
‫زي الناس‪.‬‬‫ونفتح حوش ّ‬

‫‪ -‬أنِي ما قلتلكش ما تتز ّوجش‪.‬‬

‫حاجة‪ ...‬احكي‬
‫‪ -‬لكن أنتِ خ َّوفتيني‪ ...‬كالمك عىل مريم خ َّوفني‪ ،‬والله يا ّ‬
‫يل شنو الحظتِ ؟‬

‫حاجة بيت الله ثالث م ّرات‪ ،‬وإني عجوزة‪،‬‬


‫ال‪ ،‬يا وليدي‪ ...‬أنت تعرف أني ّ‬
‫لحدْ‪.‬‬
‫ما زال يل عىل القرب شربين‪ ..‬أني حلفت ملريم ما نقولش حكايتها َ‬
‫ّ‬
‫وأفكر‬ ‫الحاجة زينب‪ ،‬فرتكتني أعود إىل حريتي‪ ،‬من جديد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وخرجت‬
‫كل هذا الذي سمعته منها‪ ...‬صحيح أنها لم تقل شيئا ً يمكن‬
‫يف معنى ّ‬

‫‪29‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫أتأكد من أن هناك شيئا ً‬


‫كاف ألن يجعلني َّ‬‫االعتماد عليه‪ ،‬لكن ما مل َّ َحت به ٍ‬
‫يف حياة سليم املنزلية‪ ،‬لم أكتشفه بعد‪ ،‬وهذا اليشء هو ما أورثه ّ‬
‫كل هذا‬
‫الرشود والصمت والجمود‪ .‬كنت أظ ّن أن ال يشء يخ ِّفف من هول همومه‬
‫ومصائبه سوى الساعات التي يقضيها يف بيته‪ ،‬بني زوجته وولديه‪..‬‬
‫زوجته التي قال يل هو نفسه‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬أنها تحبّه كثريا ً وتخلص له‬
‫الحب‪ ،‬وأنه يحرتمها ويقدّرها‪ ،‬ولم يشعر نحوها بكراهية أو نفور‪.‬‬ ‫ّ‬
‫صحيح أنه لم يقل أنه ال يزال يحبّها كما كان أ ّيام زمان‪ ،‬لكن هذا ال‬
‫يغي من األمر شيئاً‪ ،‬وال من نظرتي إليه وتقديري له؛ ألنني أدرك‪ ،‬جيِّداً‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ليحل محلّه التقدير‬
‫ّ‬ ‫الحب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يتبخر منها‬ ‫أن الحياة الزوجية رسعان ما‬
‫واالحرتام املتبادالن بني ّ‬
‫كل زوجني‪.‬‬

‫بالحاجة زينب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وكنت أظنّه سعيدا ً يف بيته‪ ،‬مع زوجته وولديه‪ ،‬وإذا‬
‫تغي‪ ،‬من حيث ال تدري‪ ،‬نظرتي هذه‪ ،‬وتدفعني‪،‬‬ ‫هذه العجوز الشمطاء‪ِّ ،‬‬
‫مرغماً‪ ،‬إلعادة النظر فيما ك َّونته من آراء حول حياة سليم املنزلية؛ إذ‬
‫أفس ما كنت أظنّه‪ ،‬وأجعله ينطبق عىل ما سمعته منها‪ ،‬اآلن من‬ ‫كيف ِّ‬
‫الحاجة زينب؟!!‪.‬‬
‫ّ‬

‫الحاجة زينب لقد ذهبْتُ عدّة م ّرات إىل‬‫ّ‬ ‫عجبت كثريا ً م ّما أخربتني به‬
‫الحب الذي تكنّه مريم‬ ‫ّ‬ ‫كل م ّرة أملس بنفيس مدى‬ ‫منزل سليم‪ ،‬وكنت يف ّ‬
‫الزوج ْي‪ .‬وأنا ال أذكر‪،‬‬
‫َ‬ ‫لزوجها‪ ،‬ومدى التقدير واالحرتام املتبادلَ ْي بني‬
‫م ّرة واحدة‪ ،‬أنني الحظت أو شعرت بما ين ّم عن كراهية أو نفور بينهما‪،‬‬
‫الحاجة زينب اليوم؟‪ ،‬وب َم أعلِّله؟ كيف أصدِّق‬‫ّ‬ ‫أفس ما تنقله يل‬ ‫فكيف ِّ‬
‫كل ما الحظته وشاهدته‬ ‫أن مريم‪ ،‬زوجة سليم‪ ،‬غري سعيدة؟ هل كان ّ‬
‫مجرد شكليّات تفرضها الظروف والنظم االجتماعية؟ هل يبلغ الحدّ‪،‬‬
‫بهذه الظروف والنظم‪ ،‬أن تجرب اإلنسان عىل التزوير يف عواطفه؟ هل‬
‫‪30‬‬
‫لهذه النظم من الق ّوة ما تستطيع أن ُتظ ِهر به اإلنسان عىل غري حقيقته‪،‬‬
‫حتى يف إحساساته؟‪.‬‬

‫أنا ال أكاد أصدِّق ما أسمع‪ ...‬ال أكاد أصدِّق أن سليما ً غري سعيد يف حياته‬
‫الزوجية‪ ...‬ول َم ال يكون سعيداً؟ وكيف؟ وما سبب ذلك؟‬

‫هل ُف ِرضت عليه هذه الزوجة‪ ،‬التي يعا ّيشها ويعارشها‪ ،‬فرضاً‪ ،‬دون‬
‫أشك يف ذلك‪ ،‬ألنني أعرف أنه من ح ّر ّية الرأي‪ ،‬بحيث ال‬‫ّ‬ ‫رغبته؟ إنني‬
‫يفرض عليه يشء رغم إرادته وإذا ُف ِرض أن مريم قد ُف ِرضت عليه فرضاً‪،‬‬
‫وأُجرب عىل الزواج منها أجباراً‪ ،‬فلم ال يتخلَّص منها‪ ،‬بعد أن شعر بعدم‬
‫ميله إليها ورغبته فيها؟ ألم يكن الطالق هو الوسيلة الوحيدة التي‬
‫تنجيهما من هذا العذاب الذي يعيشان فيه‪ ،‬إذا صحَّ أنهما غري سعيدين‬
‫معاً؟‪.‬‬

‫بأي‬
‫حواس‪ ،‬لدرجة أنني لم أعد أشعر ّ‬ ‫ّ‬ ‫واستحوذ هذا التفكري عىل ّ‬
‫كل‬
‫كل يشء‪ :‬االزدحام‪ ...‬خلّيّة النحل‪ ...‬الطنني الذي ال‬
‫يشء عداه‪ ..‬نسيت ّ‬
‫يبق يشء أفكر فيه سوى‬‫ينقطع‪ ...‬كثرة املرىض‪ ....‬ماريا‪ ...‬النافذة لم َ‬
‫رس العميق يف حياة سليم‪.‬‬
‫تمكنني من اكتشاف هذا ال ّ‬ ‫البحث عن وسيلة ِّ‬
‫وأخذت هذه الحال تؤ ِّرقني‪ ،‬وتنتزع النوم من عيني‪ ،‬وتحرمني الراحة‪.‬‬

‫وكنت‪ ،‬يف مثل هذه الليايل الطويلة‪ ،‬أزيد من عدد الكؤوس التي أتناولها‪،‬‬
‫أمالً يف أن تساعدني عىل الوصول إىل حل‪َ ...‬ح ّل لغز سليم‪ ،‬والوصول إىل‬
‫جذور مشكلته‪ .‬لكن‪ ،‬عبثا ً كنت أحاول‪ ،‬فما إن أجرع الكأس الرابعة أو‬
‫وتتبخر معه مشكلة سليم‪ ،‬وال‬‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يتبخر سليم من دماغي‪،‬‬ ‫الخامسة حتى‬
‫أعود ِّ‬
‫أفكر ّإل يف يشء واحد‪ :‬امرأة أقيض معها بقيّة ليلتي‪ ،‬وعندما أعود يف‬
‫كل ه ّمي منصبّا ً يف أخذ قليل من النوم‬
‫الساعات األوىل من الفجر‪ ،‬يكون ّ‬

‫‪31‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫يعيد يل شيئا ً من قواي املنهوكة‪ ،‬وإذا راودتني مشكلة سليم‪ -‬وهي قليالً‬
‫ما تعاودني يف مثل هذه الحال‪ -‬أقول لنفيس‪ :‬ملاذا ال أدع التفكري فيها‬
‫حتى الصباح؟ إنني متعب وال أستطيع التفكري‪ ،‬اآلن‪ ،‬ثم أنام‪ ،‬عىل أمل أن‬
‫ِّ‬
‫أفكر يف إيجاد َح ّل ملشكلة سليم‪ ،‬يف الصباح‪ .‬لكن‪ ،‬متى كان الصباح من‬
‫نصيبي‪ ،‬منذ أن فتحت هذه العيادة؟؟‬

‫الحاجة زينب‪ ،‬حتى يصلني صدى‬ ‫ّ‬ ‫ما إن أستيقظ‪ ،‬يف الصباح‪ ،‬عىل صوت‬
‫الضجيج الذي ينتظرني يف الصالة‪ ،‬صالة االنتظار‪ ...‬ضجيج املرىض‬
‫مبكرين أيضاً‪ ،‬فأنىس‪ ،‬يف د ّوامة تلك‬
‫مبكرين‪ ،‬وحرضوا ِّ‬ ‫الذين استيقظوا ِّ‬
‫الضجة اللعينة الصاخبة سليماً‪ ،‬ومشكلته‪ ،‬وزوجته‪ ،‬وال أعود ِّ‬
‫أفكر ّإل‬ ‫ّ‬
‫يف الساعة التي أنتهي فيها من الفحص وكتابة الروشيتات‪ ،‬فحص ذلك‬
‫ّ‬
‫املصطف الذي ال ُيع َرف له أ َّول‪ ،‬وال ُيع َرف له آخر‪ ،‬فحص ذلك‬ ‫الطابور‬
‫الجيش الذي ينتظرني‪ ،‬يف غري ما رحمة وال شفقة‪.‬‬

‫ثالث سنوات انقضت‪ ،‬وأنا عىل هذه الحال‪ .‬وكلّما حاولت التفكري يف سليم‬
‫ينسيني إ ّياه ويرصفني عنه‪ ،‬ويبعده عن محيط تفكريي‪.‬‬‫انتابني ما ِّ‬

‫ثالث سنوات‪ ،‬بطولها وعرضها‪ ،‬وأنا يف د ّوامة من أمري‪ ،‬ال أسرتيح وال‬
‫أستج ّم‪ ،‬إنما هو العمل كالسلسلة‪ ،‬يأخذ بعضه برقاب بعض‪ .‬ثالث‬
‫ّ‬
‫يستحق االهتمام‪ ،‬إذا استثنيت تلك الحالة‬ ‫سنوات‪ ،‬لم يحدث خاللها ما‬
‫الطارئة التي انتابت سليماً‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬وجعلته يبكي وينوح بني ّ‬
‫يدي كما‬
‫تبكي الثكىل وتنوح‪ .‬وحاولت أن أعرف سبب بكائه‪ ،‬لكنه لم يصارحني‬
‫يلف ويدور كلَّما وجهت إليه سؤاالً‪ ،‬لكنني كنت أجمع أجاباته‬
‫بيشء‪ ..‬كان ّ‬
‫القصرية املقتضبة‪ ،‬حتى استطعت أن أدرك أن هناك شيئا ً ما‪ ،‬كان سليم‬
‫يتعلَّق ويتشبَّث به‪ ،‬أُخِ ذ منه رغم إرادته‪ .‬لكن‪ ،‬ما هو هذا اليشء؟ ما‬
‫‪32‬‬
‫قيمته؟ هل هو امرأة؟ ال أعتقد‪ ،‬فهو متز ِّوج‪ .‬هل هو جاه؟ ال أظ ّن‪ ،‬فسليم‬
‫ليس يف حاجة إىل جاه‪ .‬هل هو مال؟ ال أعتقد‪ ،‬فسليم ال يملك كثريا ً من‬
‫املال‪ ...‬لم أدرك كنه ذلك‪ .‬فلم أُقِم له كبري وزن‪.‬‬

‫ثالث سنوات انقضت‪ ،‬وليس ث ّمة ما يخ ِّفف عني التعب والعذاب‪ ،‬سوى‬
‫التفكري‪ ،‬تار ًة‪ ،‬يف حال سليم‪ ،‬والتفكري‪ ،‬وتارة أخرى‪ ،‬يف حال مرضاي‪،‬‬
‫والتفكري بني هذا وذاك يف امرأة تمنحني الدفء‪.‬‬

‫وفجأ ًة‪ ،‬وجدتني أعود‪ -‬م َّر ًة أخرى‪ ،‬رغم أنفي‪ -‬إىل التفكري يف حال سليم‪،‬‬
‫صحته‪ ،‬وزيادة يف‬‫حل ملشكلة سليم‪ ،‬بعد أن الحظت تدهورا ً كبريا ً يف َّ‬
‫ويف ّ‬
‫رس الغامض الذي يخفيه‬ ‫رشوده‪ ،‬وصمته‪ .‬بدأت أعمل جهدي ملعرفة هذا ال ّ‬
‫عني سليم‪ ،‬والذي خلق منه إنسانا ً صامتا ً رشوداً‪ ،‬وخلق من زوجته أمرأة‬
‫الحاجة زينب)‪ ،‬امرأة شقيّة غري سعيدة يف بيتها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مع َّذبة (كما زعمت‬

‫فكرت يف مشكلة سليم‪،‬‬ ‫أحس بالراحة والهدوء وتجدُّد النشاط‪ ،‬كلّما َّ‬
‫كنت ّ‬
‫صحته‪ :‬لقد اصف َّر‬
‫رس رشوده وصمته‪ ،‬واعتالل ّ‬ ‫وأخذت يف البحث عن ّ‬
‫وجهه‪ ،‬وشحب لونه‪ ،‬ونقص وزنه‪ ،‬وتط َّفلت شعريات بيضاء لتز ِّين شعر‬
‫رأسه وفو َد ْيه‪ .‬وكنت أنىس تعب العمل وأنا أنصت إليه وهو يحادثني‬
‫أحاديث القصرية املقتضبة‪ ،‬و‪ -‬ر َّبما‪ -‬يعود ذلك إىل خوفه من هفوات‬
‫لسانه‪ ،‬ومن أن يفتضح أمره‪ ،‬إذا تحدَّث طويالً‪ ،‬دون ضابط أو رابط‪.‬‬

‫وخالل هذه السنوات التي قضيناها معاً‪ ،‬أنا وسليم عبد امللك‪ ،‬عرفت عنه‬
‫الكثري‪ ..‬الكثري جدّاً‪ ..‬أكثر م ّما يعرف هو عن نفسه‪ .‬كنت أدرسه من‬
‫الخاصة‪ ..‬يف حياته العا ّمة‪ ..‬يف‬
‫ّ‬ ‫جميع الوجوه‪ :‬أدرسه يف عمله‪ ..‬يف حياته‬
‫عالقته بالناس‪ ،..‬يف صالته بزمالئه‪ ..‬عرفت أنه من أرسة محرتمة ذات‬
‫يرس‪ ،‬انتقلت من الريف إىل املدينة ُب َعيْد الحرب مبارش ًة‪ ،‬واعتمد والده‬

‫‪33‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫عىل تجارة يديرها بنفسه‪ ،‬وأن سليما ً هو االبن الذكر الوحيد لوالديه مع‬
‫ست بنات تزوجن جميعه ّن‪ ،‬وقد حصل سليم عىل التوجيهية‪ ،‬ثم َّ‬
‫توظف‬
‫سكرتريا ً إداريا ً بنظارة (‪ )..‬وتز َّوج بعد وفاة أ ّمه‪ ،‬وما إن انقضت بضعة‬
‫أشهر عىل زواجه حتى فارق والده الحياة‪ ،‬فتخلَّص سليم من بقيّة تجارة‬
‫شاب محبوب محرتم من‬ ‫ّ‬ ‫مفضالً عليها الوظيف الحكومية‪ ..‬وهو‬ ‫ِّ‬ ‫والده‬
‫جميع الذين يعرفونه أو تربطهم به أوارص الصداقة‪ ،‬وكذلك هو محبوب‬
‫حتى من الذين يسمعون عنه مج َّرد سماع‪ ،‬ليس غري‪..‬‬

‫وعند نقطة زواجه‪ ،‬توقفت قليالً‪ ،‬أبحث عن الكيفية التي َت َّم بها هذا‬
‫الزواج‪ :‬هل اختار زوجته بنفسه؟ هل اختارها له الغري؟ هل أُرغِم عىل‬
‫الزواج منها إرغاماً؟؟‪.‬‬

‫َّ‬
‫وفضلها عىل غريها‪ .‬لكن‪ ،‬ما‬ ‫وعلمت أنه لم ُير َغم‪ ،‬وأنه اختارها بنفسه‪،‬‬
‫الذي اختاره؟ لقد اختار األرسة والعائلة والسمعة الحسنة‪ ،‬أ ّما الفتاة‬
‫نفسها فهو لم يخرتها‪ ،‬ألنه لم يختلط بها‪ ،‬إنما اختاروها له‪ ،‬شأنه شأن‬
‫غريه من شباب هذا املجتمع‪ ..‬ولم أعلِّق كثريا ً عىل هذه النقطة‪ ،‬وقلت‬
‫الحب الزواج‪ ،‬فكثريا ً ما يكون‬
‫ّ‬ ‫يف نفيس‪« :‬ليس رشطا ً أساسيا ً أن يسبق‬
‫اطلعت عليه‪ّ ،‬إل ّ‬
‫رس‬ ‫وكل ذلك َّ‬ ‫كل ذلك عرفته‪ّ ،‬‬ ‫الحب نتيجة الزواج»‪ّ ..‬‬
‫ّ‬
‫صمت سليم ورشوده الدائ َم ْي‪ ..‬وعندما عجزت عن الوصول إىل أ ّية‬
‫نتيجة حاولت محاولة أخرى‪ ..‬ا َّتجهت ا ِّتجاها ً آخر‪ :‬بدأت أتتبَّع مطالعات‬
‫يفضلها؟ وعلمت أنه يميل إىل‬ ‫سليم‪ ..‬ماذا يقرأ؟ ما لون املطالعات التي ِّ‬
‫الحب يفضلها عىل‬ ‫ّ‬ ‫كتب األدب‪ ،‬وأنه مغرم بالقصص العاطفي‪ ..‬قصص‬
‫القصة الواحدة إىل الساعات األوىل من الفجر‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫غريها‪ ،‬ويسهر عىل‬
‫يدعها قبل أن يفرغ منها‪ ،‬مهما طالت‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫وسألته ذات يوم‪:‬‬
‫ملاذا أنت ِّ‬
‫تفضل هذا اللون من القصص‪ ،‬يا سليم؟‬

‫‪ -‬ألنها تعجنبي‪ ..‬ألنني أجد فيها تعزيتي وتسليتي‪.‬‬


‫ّ‬
‫وتتسل عنه؟‬ ‫‪ -‬هل يف حياتك ما تو ّد أن تتع ّزى به‪،‬‬
‫ّ‬
‫يتسل عنه‪ ،‬وينساه‪.‬‬ ‫‪ -‬يف حياة ّ‬
‫كل إنسان يشء‪ ،‬يو ّد أن‬

‫ومن كلمة (تعزية) هذه‪ ،‬أمسكت بما ظننته موصلني إىل غايتي‪ ..‬بما‬
‫رس‪ ،‬وفكرت أن‪ -‬البدّ‪ -‬يف حياة سليم‬ ‫ُخيِّل إيلّ أنه أ َّول املأساة‪ ..‬مفتاح ال ّ‬
‫أحب أ ّيام زمان‪،‬‬
‫العاطفية نقطة سوداء‪ ..‬جانب مظلم‪ ..‬من يدري؟ ر َّبما َّ‬
‫وفضلت عليه سواه‪..‬‬‫بحب وغراما ً بغرام‪ ،‬ثم هجرته‪ّ ،‬‬ ‫وبادلته فتاته حبّا ً ّ‬
‫الحب القديم‪ ،‬أو ُخيِّل إليه أنه نسيه‪ ،‬وبعد زواجه‪ ،‬عاد إليه‬
‫ّ‬ ‫ونيس هو ذلك‬
‫الغرامي املرشق‪ ..‬من يدري؟؟‬
‫ّ‬ ‫املايض‪ ..‬ماضيه‬
‫ّ‬
‫الوضاء‪ ..‬تلك الفرتة املش ّعة‬ ‫الب ّد أن هناك ما يجثم ما أمامه؛ ذلك املايض‬
‫كل هذا الرشود والوجوم‪ ،‬وبعث يف نفسه هذه الحالة‬ ‫من حياته‪ ،‬فسبَّب له ّ‬
‫من البؤس والشقاء‪.‬‬

‫كل االقتناع‪ ،‬حتى صار‬ ‫وحاولت أن أبحث معه املوضوع الذي اقتنعت به ّ‬
‫حل مشكلة سليم‪ ..‬ودعاني ذات يوم‪ -‬كعادته‪ -‬لتناول‬ ‫محور تفكريي يف ّ‬
‫العشاء يف بيته‪ ،‬وبعد العشاء (وزوجته لم تكن يف البيت)‪ ،‬بدأنا َس َمرنا‬
‫التغي‪ ..‬كان يتحدَّث أكثر من ذي‬‫ُّ‬ ‫املعتاد‪ ،‬فالحظت عىل سيمائه بعض‬
‫قبل‪ ،‬ويبتسم أكثر من عادته‪ ..‬كان مرحاً‪ ،‬فعجبت‪ ،‬بيني وبني نفيس‪،‬‬
‫وقلت‪« :‬الب ّد أن يكون يف األمر يشء»‪ ،‬وبحثت عن طريقة أج ّره بها إىل‬

‫‪35‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الحديث‪ ،‬ألعرف سبب مرحه ورسوره‪ ،‬فسألته‪ ،‬يف عدم اكرتاث‪:‬‬

‫قصة قرأت هذه األ ّيام‪ ،‬يا سليم؟‬


‫أية ّ‬

‫‪ -‬مجموعة قصص «نساء اآلخرين»‪ ،‬لألستاذ (أمني يوسف غراب)‪.‬‬

‫‪ -‬غريبة؟‪ ..‬سبحان مبدِّل األحوال‪.‬‬

‫وجهت إيلَّ هذا السؤال؟؟‬


‫‪ -‬ماذا؟‪ .‬ما الذي الحظته؟‪ ،‬ولم َّ‬

‫‪ -‬الشك يف أن هذه املجموعة القصصيّة قد َّأثرت فيك كثرياً‪َّ ،‬‬


‫فغيت من‬
‫ً‬
‫وبهجة من ذي قبل‪.‬‬ ‫طبعك‪ ...‬إنك أكثر مرحا ً‬

‫‪ -‬من قال هذا؟‪...‬‬

‫‪ -‬أنا‪...‬‬
‫‪ -‬أنت؟ إنك لست طبيبا ً نفسانياً‪ ،‬عىل ّ‬
‫كل حال‪ِّ ...‬‬
‫أؤكد لك أنك واهم‪...‬‬

‫‪ -‬في َم وهمي؟‬

‫التغي الذي تتحدَّث عنه راجعا ً إىل مجموعة القصص‬


‫ُّ‬ ‫‪ -‬لم يكن الفضل يف‬
‫هذه‪ ،‬كما ُخيِّل إليك‪...‬‬

‫تغيا ً يف حالتك قد حدث‪ ،‬وهذا هو ما يه ّمني أنا‪ ...‬أ ّما‬ ‫‪ -‬أنت توافقني أن ُّ‬
‫التغي فهو ال يه ُّمني يف كثري أو قليل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫مبعث هذا‬

‫‪ -‬لكنه يه ّمني أنا‪...‬‬

‫‪ -‬فما هو‪ ،‬إذن؟؟‬


‫‪36‬‬
‫‪ -‬لقد انتهيت البارحة من كتابة اعرتافاتي‪ ..‬لقد أسميتها «اعرتافات‬
‫إنسان»‪.‬‬

‫‪ -‬وهل لك اعرتافات؟‬

‫‪ -‬نعم‪ ...‬ليس هناك من ليس له اعرتافات‪ ،‬يعرتف بها بينه وبني نفسه‪،‬‬
‫ّ‬
‫األقل‪.‬‬ ‫عىل‬

‫أي نوع اعرتافاتك هذه؟ إن لالعرتافات أنواعا ً كثرية‪.‬‬


‫‪ -‬من ّ‬

‫‪ -‬س ِّمها ما شئت‪ .‬امله ّم أنها اعرتافات‪ ،‬وكفى‪.‬‬

‫أي نوع هي‪.‬‬


‫‪ -‬لكن‪ ،‬أنا يه ّمني أن أعرف من ّ‬

‫ملاذا؟‪ ...‬ملاذا يه ّمك أن تعرف نوع اعرتافاتي الشخصية؟؟‬


‫‪ -‬ألن حالتك ته ّمني‪ ...‬ألنني أريد أن أعرف ّ‬
‫كل يشء عنك‪ ،‬حتى أصل إىل‬
‫سبب ما ُخيِّل إيلَّ أنه شقاء تعانيه‪ ،‬وتعاسة تعيش فيها‪.‬‬

‫ولم يجب سليم‪ ،‬فخفت أن تفلت الفرصة مني‪ ،‬فعدت أقول‪:‬‬

‫هذا يشء عظيم‪.‬‬

‫‪ -‬ما هو هذا اليشء العظيم؟‬

‫ويسجل اعرتافاته‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬أن يعرتف اإلنسان‪،‬‬

‫‪ -‬ح ّقاً؟‬
‫‪ -‬غري أن هذه االعرتافات ال تكون لها أ ّية فائدة إذا لم َّ‬
‫يطلع عليها الناس‪...‬‬

‫‪37‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫أي فرق بني أن تبقى هذه االعرتافات يف خزانة كتبك أو يف‬ ‫ليس هناك ّ‬
‫خزانة عقلك‪ .‬ليس امله ّم‪ -‬يا سليم‪ -‬أن يعرتف اإلنسان‪ ،‬بل امله ّم أن يدرك‬
‫رسه‪.‬‬
‫اطلع عىل ِّ‬‫أن هناك من َّ‬

‫‪ -‬ماذا تقصد؟‬
‫‪ -‬أقصد أن يقرأ الناس اعرتافاتك‪ّ ،‬‬
‫وإل فوجودها وعدمها سيّان‪.‬‬

‫تخصني وحدي‪ ...‬إنها من أرساري‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬وملاذا يقرأ الناس اعرتافاتي؟ إنها‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ّ‬

‫أي إنسان‪ ،‬يمكنه أن يعرتف بأعماله‪ ،‬مهما كانت‬


‫‪ -‬ليعرفوا أن اإلنسان‪ّ ...‬‬
‫سخيفة وغري الئقة‪ ...‬يمكنه أن يكشف لغريه عن جوانب الخري وال ّ‬
‫رش يف‬
‫نفسه‪ ...‬وإذا اعرتف اإلنسان برشوره‪ ،‬فمعنى ذلك أنه تاب عن ارتكابها‪.‬‬
‫‪ -‬ومن قال لك إنني تبت عن ارتكاب ال ّ‬
‫رش‪ ،‬إذا جاز تسمية ما ارتكبته‬
‫رشاً؟‬
‫ّ‬

‫‪ -‬إذا اعرتف اإلنسان برشوره‪ ،‬فذلك عنوان توبته‪.‬‬


‫‪ -‬ال‪ ...‬أنت واهم‪ِّ ...‬‬
‫أؤكد لك أنك واهم حني يخيِّل إليك أنني ق َّررت التوبة‬
‫يستحق أن أتوب من أجله‪ّ ...‬‬
‫كل ما‬ ‫ّ‬ ‫ع ّما أفعله‪ ،‬ألنني ال أرى فيما أفعله ما‬
‫َّ‬
‫يتحكم فيه‬ ‫كل إنسان‪ ،‬عرضة ألن‬ ‫يف األمر أنني برش‪ ...‬إنسان‪ ،‬واإلنسان‪ّ ،‬‬
‫قلبه‪ ،‬ويقوده بحسب إرادته‪.‬‬
‫يتحكم قلب اإلنسان باإلنسان‪ ،‬إنما ّ‬
‫كل ما أنكره وال أق ّره هو‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬ال أنكر أن‬
‫رش يف نفوسنا‪ ،‬ويسيطر عىل جانب الخري فيها‪.‬‬ ‫أن يتغلَّب جانب ال ّ‬
‫‪38‬‬
‫‪ -‬الخري وال ّ‬
‫رش‪ ...‬ما هو الخري؟ وما هو الرش؟‪ ...‬هل تستطيع أن تحدِّد‬
‫كلً منهما؟‬
‫يل ّ‬

‫‪ -‬الخري ما قصد به إفادة الغري‪ ،‬وعكسه هو ال ّ‬


‫رش‪.‬‬

‫سطحي‪ ...‬أريد لو تتع َّمق أكثر‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬هذا تحديد مائع مضطرب‪ ...‬تحديد‬
‫‪ -‬لست فيلسوفاً‪ ،‬ولذا ال أستطيع أن أحدِّد بأكثر م ّما حددت‪ .‬الخري وال ّ‬
‫رش‪،‬‬
‫يف نظري‪ ،‬يتو ِّقفان‪ ،‬يف تحديدهما‪ -‬أ ّوالً‪ -‬عىل الشخص الذي يحاول‬
‫التحديد‪ ،‬و‪ -‬ثانياً‪ -‬عىل املجتمع الذي ُي َحدَّدان فيه‪.‬‬

‫‪ -‬اسمع يا دكتور‪ ،‬الخري يف نظري‪ ،‬هو ما قصد به اإلنسان إفادة نفسه‪،‬‬


‫دون اإلساءة إىل غريه‪.‬‬

‫‪ -‬هذه أنانية‪ ...‬أنانية أن تنظر إىل مصلحتك‪ ،‬دون أن تهت ّم بمصلحة‬


‫اآلخرين‪.‬‬

‫‪ -‬األنانية أن تقيم مصلحتك عىل أنقاض مصلحة اآلخرين‪.‬‬


‫‪ -‬كلّها واحدة‪ّ ..‬‬
‫كل عمل ُق ِ‬
‫صد به املنفعة الشخصية‪ ،‬ليس غري‪ ،‬أعتربه‬
‫أنانية وحبّا ً للذات‪.‬‬

‫‪َ -‬س ِّمها ما شئت‪ ...‬أنت ح ّر يف تعريفك وتحديدك‪ ،‬وأنا ح ّر يف تحديدي‬


‫وتعريفي لألشياء‪.‬‬

‫‪-‬أل تزال مص ِّمما ً عىل عمل الخري لنفسك؟‬


‫ّ‬

‫‪ -‬ومن ينكر عيلَّ مثل هذا العمل؟‬

‫‪39‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫‪ -‬ولو كان يف ذلك إساءة للغري؟!‬

‫‪ -‬من قال هذا‪ ،‬أو أشار إليّه؟‪ ..‬إنني أعمل ما فيه خري نفيس‪ ،‬وليس من‬
‫الرضوري أن يكون يف ذلك نفع لغريي‪.‬‬

‫‪ -‬قد يكون‪ ،‬أو ينتج عن ذلك رضر باآلخرين‪ ...‬ولو لم تقصد إليه‪.‬‬

‫رش‪ -‬يا دكتور‪ -‬أمران اعتباريان‪ ،‬مختلفان باختالف الدافع‬‫‪-‬الخري وال ّ‬


‫إليهما‪ ،‬واإلنسان وحده هو الذي يحدِّد معنى الخري‪ ،‬ومعنى ال ّ‬
‫رش‪.‬‬

‫‪ -‬إن للمجتمع يف ذلك دخالً كبرياً‪ ...‬إن املجتمع هو الذي يق ِّرر هذا املعنى‪،‬‬
‫رش‪ ،‬وليس اإلنسان الفرد‪.‬‬‫ويضع الحدود والفواصل بني الخري وال ّ‬

‫‪ -‬وما هو املجتمع؟‪ ...‬وم َّمن يتك َّون؟‪ ...‬أليس مني ومنك ومن اآلخرين؟‬
‫فلماذا أنا وأنت نضع حدودا ً تح ّد من ح ّرياتنا الفردية؟‬

‫‪ -‬إن الذين سبقونا وضعوا هذه الحدود‪.‬‬


‫‪ -‬يجب ّأل نقيم كبري وزن ألحكام لم نضعها‪ ،‬ولم ِّ‬
‫نفكر فيها‪ ،‬ولم‬
‫يسترشنا فيها أحد يوم وضعها‪ ...‬علينا ّأل ِّ‬
‫نفكر يف ذلك‪ ،‬إذا أردنا أن‬
‫نحس بوجودنا‪( .‬فاإلنسان ال يشعر بوجوده‬‫ّ‬ ‫نكون أحراراً‪ ...‬إذا أردنا أن‬
‫أحس بح ِّر َّيته)‪ ،‬وح ّر ّية اإلنسان متعارضة وأحكام املجتمع الجائرة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫إذا‬

‫‪ -‬نحن مضط ّرون‪ -‬شئنا أم لم نشأ‪ -‬للخضوع لهذه األحكام‪ ،‬مهما بلغت‬
‫من الجور والظلم‪.‬‬

‫‪ -‬أنا ال أق ّرها‪ ،‬وال أؤمن بها‪ ،‬و‪-‬من َث َّم‪ -‬ال أخضع لها‪ ،‬ألنني إنسان‪ ...‬فرد‬
‫وترصفاتي‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫غري مقيَّد‪ ...‬إنسان ح ّر يف جميع أعمايل‬
‫‪40‬‬
‫‪ -‬أنت ح ّر‪ ..‬هذا صحيح‪ ،‬وال يناقشك يف ذلك أحد‪ .‬لكن‪...‬‬

‫‪ -‬لكن ماذا؟‬

‫‪ -‬لكن ح ّريتك محدودة بحدود ح ّر ّية اآلخرين‪ ...‬ح ّر ّية الذين يعيشون‬
‫معك يف هذا املجتمع‪.‬‬

‫وترصفاتي ما يلحق رضرا ً باآلخرين؟‬


‫ُّ‬ ‫‪ -‬وإذا لم يكن يف أعمايل‬

‫‪ -‬ذلك ما ال يمنعك منه أحد‪.‬‬

‫‪ -‬إذاً‪ ،‬أستطيع أن أعمل ما أريد داخل هذه الحدود‪.‬‬

‫‪ -‬وماذا تريد أن تعمل؟ هناك اعتبارات مجتمعية‪ ،‬يجب علينا احرتامها‪،‬‬


‫رضينا أم أبينا‪.‬‬

‫‪ -‬هنا نقطة الخالف بيني وبينك‪.‬‬

‫كيف؟‪ ...‬لِ َم الخالف؟؟‬

‫أحب فتاة ما‪ ،‬رغم أنني متز ِّوج ويل‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬أرضب لك مثالً‪ :‬لنفرض أنني‬
‫الحب؟‬
‫ّ‬ ‫ولدان‪ ،‬فما حكم املجتمع يف مثل هذا‬

‫‪ -‬إنه ال يق ّره‪ ،‬طبعاً‪.‬‬

‫‪ -‬وملاذا ال يق ّره؟‬

‫حب ينشأ بني‬ ‫ألن املجتمعات البرشية تواضعت عىل أن يعقب الزواج ّ‬
‫كل ّ‬
‫اثنني‪ ،‬فهل أنت مستع ّد للزواج من فتاتك هذه؟‬

‫‪41‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫‪ -‬ال‪.‬‬

‫‪ -‬ملاذا؟‬

‫‪ -‬ألنني ال استطيع‪.‬‬

‫‪ -‬وملاذا ال تستطيع؟ ما يمنعك من ذلك؟ ألست ح ّرا ً تفعل ما تشاء؟؟‬

‫‪ -‬أرجوك‪ ،‬ال تسألني‪ ...‬كفى‪ ..‬قلت لك ال أستطيع‪.‬‬

‫قال سليم هذا الكالم‪ ،‬ثم عاد إىل الصمت والرشود‪ ،‬م ّرة أخرى‪ ،‬وحاولت‬
‫أن أنتزعه من رشوده وصمته‪ ،‬وأن أعيده إىل حالة املرح واالنرشاح‪ ،‬فلم‬
‫أو َّفق‪ .‬وهنا‪ ،‬قمت عائدا ً إىل بيتي‪ .‬وهناك‪ ،‬يف بيتي‪ ...‬يف ش ّقتي بدأت ِّ‬
‫أفكر‬
‫الحب الذي تكلَّم عنه سليم؟ ما نوعه؟ ما كنهه؟ أهو‬
‫ّ‬ ‫من جديد‪ :‬ما هو هذا‬
‫حب مباح‪ ،‬وهو يحتاج إىل الشجاعة يف اإلعالن عنه؟‬ ‫حب مح َّرم‪ ،‬أم أنه ّ‬
‫ّ‬

‫توصلت إليه‪ ،‬يف املايض‪ ،‬من استنتاجات‪ ،‬لم يكن سوى مج َّرد‬ ‫كل ما َّ‬‫إن ّ‬
‫تخمني‪ ...‬مج َّرد تخ ُّيالت‪ ...‬ليس هناك ما يدعمها من واقع‪ ،‬أو ما يسندها‬
‫من حقيقة‪ ...‬اعتقدت‪ ،‬بادئ ذي بدء‪ ،‬أن يف حياة سليم حبّا ً قديماً‪ ،‬أو‬
‫(الحب األول)‪ ،‬تراكم عليه تراب النسيان‪ ،‬وغاص إىل‬‫ّ‬ ‫ما يطلقون عليه‬
‫يحس به‪ ،‬وفجأ ًة‪ ،‬يطفو عىل‬
‫ّ‬ ‫األعماق السفىل‪ ،‬حتى لم يعد سليم يشعر أو‬
‫السطح‪ ،‬هذه األ ّيام‪ ،‬ويعلن‪ ،‬يف رصاحة‪ ،‬عن وجوده‪ ،‬فيسبِّب لسليم ّ‬
‫كل‬
‫هذا الرشود والصمت والكآبة‪...‬‬
‫تكذبه‪ ...‬وإذا بالواقع يس ِّفهه‪ ...‬إن سليما ً‬
‫اعتقدت ذلك‪ ،‬وإذا بالحقيقة ِّ‬
‫الحب يشء مباح‪...‬‬
‫ّ‬ ‫الحب عيب أو حرام؟‪ .‬ال‪ ...‬أبداً‪ ،‬إن‬
‫ّ‬ ‫يحب اآلن‪ ...‬وهل‬
‫ّ‬
‫إنه اليشء الوحيد الذي ييضء ليالينا‪ ،‬وينعش أ ّيامنا‪ ،‬ويمأل حياتنا‪ ،‬ويبعث‬
‫‪42‬‬
‫الحب هو اليشء الوحيد يف هذه الحياة الذي يشعرنا‬ ‫ّ‬ ‫الدفء يف قلوبنا‪ ...‬إن‬
‫بوجودنا‪ ،‬ويشعرنا بإنسانيتنا‪ ،‬ويجبِّب الحياة إلينا‪ ،‬غري أن سليما ً ّ‬
‫يحب‬
‫حبّا ً يكاد يكون مح َّرما ً عليه‪ ،‬ملاذا؟‪ .‬أَلِ نه متز ِّوج وله ولدان اثنان‪ ،‬وهو ال‬
‫يستطيع أن يرتك زوجته ويتز َّوج غريها‪ ...‬هذه التي يحبّها؟؟ هل هناك‬
‫ما يحول دونه ودون القيام بهذه العملية السهلة البسيطة‪ ،‬يف نظر بعض‬
‫الناس؟ وما هي هذه املوانع؟‪ .‬هل هي موانع ما ّد ّية؟‪ .‬وهل عدم تو ُّفر‬
‫املادّة (الفلوس) هو ما يمنعه من تطليق زوجته والزواج بأخرى؟ وهل‬
‫يمكن لحياة زوجية أن تثمر‪ ...‬أن تستمر إذا كان ال يربطها ّإل خيط‬
‫رقيق رسعان ما ينقطع إذا تع َّرض للواقع‪ ،‬وإذا تو َّفرت املادّة؟ وأ ّية حياة‬
‫زوجية هذه‪ ،‬إذا كان ما يربط أفرادها ال يتعدّى عن عدم توفر املا ّد ّيات؟‬
‫ّ‬
‫وأقل‬ ‫ّ‬
‫أخف منها شقاءً‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الشك يف أن الطالق‬ ‫إن حياة زوجية مثل هذه‪،‬‬
‫تعاسة‪.‬‬

‫ماذا يمنع سليماً‪ ،‬أو يحول دونه ودون تطليق زوجته‪ ،‬والزواج من‬
‫غريها؟ من هذه التي يحبّها؟‪ .‬إن الدين اإلسالمي يبيح له الزواج‪ ،‬ولو‬
‫مئة م ّرة‪ ،‬وغريه كثريون تز َّوجوا‪ ،‬وطلَّقوا لغري ما سبب‪ ،‬أو ألسباب تافهة‬
‫جدّا ً ال معنى لها‪ ...‬فكيف؟ وملاذا هو ال يستطيع؟؟‬

‫يحب زوجته‪ ،‬لدرجة ال يستطيع االستغناء عنها؟‪ ،‬وإذا كان يحب‬ ‫ّ‬ ‫هل‬
‫أح َّب معها غريها؟ هل يمكن لإلنسان أن‬ ‫زوجته لهذه الدرجة‪ ،‬فكيف َ‬
‫يحب اثنني يف آن واحد‪ .‬يف وقت واحد؟‪ ...‬أنا لم أج ِّرب هذا‪ ،‬لكنهم يقولون‬
‫ّ‬
‫يحب ّإل شخصا ً واحداً‪ ...‬وإذا‬
‫ّ‬ ‫يحب ّإل م ّرة واحدة‪ ..‬وال‬
‫ّ‬ ‫إن القلب ال‬
‫كان سليم ال يحب زوجته‪ ،‬فلماذا ال يتخلص منها‪ ...‬يطلِّقها ليسرتيح‬
‫وتسرتيح هي‪ -‬أيضاً‪ -‬بدال ً من هذا الشقاء الذي يعيشان فيه؟؟‬

‫‪43‬‬
‫أسئلة كثرية أخذت ترد إىل ذهني يف ليلتي املط َّولة تلك‪ ،‬التي لم أذق فيها‬
‫ألي منها‪ ...‬لقد كانت‬ ‫طعما ً للنوم والراحة‪ .‬وعبثاً‪ ،‬حاولت أن أجد الجواب ِّ‬
‫أوجهها إىل نفيس‪ ،‬دون أن انتظر منها جواباً‪ ...‬وأخرياً‪ ،‬قلت إنه الب ّد‬
‫أسئلة ِّ‬
‫رس آخر‪ ،‬ال زال يخفيه عني‪ ،‬ولم تساعده كربياؤه‬ ‫أن يكون يف حياة سليم ّ‬
‫عىل البوح يل به‪ ،‬والب ّد أن يكون هذا الرس شيئا ً مقدَّسا ً لديه‪ ،‬فإذا أردت‪،‬‬
‫رس‪ ...‬من رفع الستار‬ ‫فعالً‪ ،‬أن أصل إىل نتيجة‪ ،‬الب ّد يل من كشف هذا ال ّ‬
‫رس‪ ،‬وما ذلك الستار سوى تلك االعرتافات التي قال إنه‬ ‫الذي يخفي هذا ال ّ‬
‫فرغ من كتابتها حديثاً‪ ،‬فواجبي‪ ،‬اآلن‪ ،‬ينحرص يف قراءة االعرتافات‪ ،‬مهما‬
‫رس يكمن وراءها‪ ...‬إنها مفتاح الصندوق املغلق‪...‬‬ ‫كلّف الثمن‪ ...‬إن ال ّ‬
‫إنها الطريق نحو معرفة الحقيقة التي أتعبت نفيس يف الجري وراءها‪،‬‬
‫وأرهقت عقيل يف سبيل إزاحة الستار عنها‪.‬‬

‫ومن يومها‪ ،‬بدأت أحاول جهدي للحصول عىل تلك االعرتافات وقراءتها‪،‬‬
‫للشك‪ ،‬أن أمرا ً ما تخفيه هذه االعرتافات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تأكد عندي‪ ،‬بما ال يدع مجاال ً‬
‫فقد َّ‬
‫وقصة شقاء زوجة سليم‪ ،‬ليس هناك ما يزيل عنهما‬ ‫حب سليم ّ‬ ‫قصة ّ‬ ‫أن ّ‬
‫الستار ويع ِّرضهما للضوء‪ ،‬سوى معرفة ما َخ َّطه سليم يف هذه االعرتافات‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وحاولت أن أحصل عليها‪ ...‬عىل اعرتافات سليم‪ ،‬وأن أقرأها‪ ،‬ولكن‬


‫محاوالتي كلّها ذهبت أدراج الرياح‪ ،‬ولم تأتِني بأية فائدة‪ ،‬عىل اإلطالق‪،‬‬
‫االطالع عليها‪ ،‬وكان حريصا ً‬‫يمكنني من ِّ‬‫فقد كان سليم أحرص من أن ِّ‬
‫عىل هذه االعرتافات‪ ،‬لدرجة أنه كان يضعها تحت وسادته إذا نام‪ ،‬وينقلها‬
‫معه إىل املكتب إذا ذهب إىل املكتب‪ ،‬ويحملها يف محفظته بني املنزل‬
‫أتمكن من الوصول إىل غايتي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫واملكتب‪ .‬وعندما فشلت محاوالتي ولم‬
‫أسلمت أمري لله‪ ،‬ولأل ّيام‪ ،‬معتمدا ً عىل أن األ ّيام وحدها كفيلة بمساعدتي‬
‫حل هذا اإلشكال‪ ،‬لكنني‪ ،‬يف قرارة نفيس‪ ،‬ورغم استسالمي هذا‪ ،‬كنت‬ ‫يف ّ‬
‫أحس بأن شيئا ً ما يف هذه االعرتافات يدعوني‪ ،‬يف إلحاح‪ ،‬إىل اكتشافه‪..‬‬ ‫ّ‬
‫إىل معرفته‪.‬‬

‫الحل الذي لم أنتظره‪ ،‬فقد سقط سليم‪ ،‬ذات يوم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالح ّل‪...‬‬
‫وجاءتني األ ّيام َ‬
‫مريضاً‪ ،‬وكان مرضه عىل درجة كبرية من الخطورة‪ ،‬واس ُتدعيت لعيادته‪.‬‬
‫كل يشء‪،‬‬‫وهناك‪ ،‬فوجئت بأن الحالة تستدعي بقائي إىل جواره‪ ،‬وتركت ّ‬
‫مرضاي وعيادتي وسهراتي ومغامراتي‪ ،‬مالزما ً رسير‬ ‫َ‬ ‫ونسيت ّ‬
‫كل يشء‪:‬‬
‫سليم كثريا ً من ساعات النهار‪ّ ،‬‬
‫وكل ساعات الليل‪ ،‬ال أفارقه ّإل يف الحاالت‬
‫التي ال تتح َّمل التأجيل‪ ...‬واشتدّت عليه الح ّمى ذات ليلة‪ ،‬وارتفعت درجة‬
‫حرارته إىل ما فوق األربعني‪ ،‬وشعرت بخطر املوقف‪ ،‬فاستدعيت له طبيبا ً‬
‫آخر‪ .‬وبعد الفحص‪ ،‬طمأنني عىل نتيجة الدواء الذي وصفه يل‪ ،‬وما إن‬
‫خرج الزميل حتى أخذ سليم يهذي بكالم‪ ،‬لم أستطع تمييزه‪ ...‬حاولت‬
‫ِّ‬
‫متقطعة تتد َّفق من فمه‪ ،‬ال تربط‬ ‫أن أفهمه فلم َّ‬
‫أتمكن؛ كان مج ّرد كلمات‬
‫تمكنت من جمعه‪،‬‬ ‫كل ما َّ‬‫بينها رابطة ما‪ ...‬كلمة من هنا‪ ،‬وكلمة من هنا‪ّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫املتقطعة املتناثرة‪ ،‬هو قوله‪ ..« :‬سامحيني‪ ،‬يا مريم‪..‬‬ ‫من هذه الكلمات‬
‫الوداع يا عبد الكريم‪ ..‬الوداع يا محمود (عبد الكريم ومحمود هما ولداه)‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫أنا راحل‪ ..‬سنلتقي هناك يا‪ »...‬وحاولت أن أفهم هذا االسم الذي يهتف‬
‫أتمكن أيضاً‪.‬‬
‫به‪ ،‬وبعده باللقاء فلم َّ‬

‫ظننت أن هذا االسم الب ّد أن يكون اسم تلك التي قال إنه يحبّها‪ ،‬وال‬
‫يستطيع أن يتز َّوجها‪ ..‬ترى‪ ،‬من تكون؟ أهي قريبته؟‪ .‬أهي من جنسه‪ ،‬أم‬
‫تراها إحدى األجنبيات‪ ،‬تع َّرف إليها‪ ،‬كما تع َّرفت أنا إىل ماريا ذات يوم؟‬

‫ورحت يف د ّوامة من أمر هذه‪ ،‬التي يعدها باللقاء هناك‪ ..‬يف السماء‪ ،‬إىل أن‬
‫كانت الساعة تشري إىل الخامسة والنصف صباحاً‪ ،‬دون أن أشعر بمرور‬
‫التحسن‪ .‬حمدت‬
‫ُّ‬ ‫الوقت‪ ،‬عندما أخذت درجة حرارته يف الهبوط وحالته يف‬
‫الله كثريا ً حني فتح عينيه ووجدني إىل جواره‪ ،‬فطلب مني أن أناوله كأسا ً‬
‫من املاء‪ ،‬ثم سألني قائالً‪:‬‬

‫كم الساعة اآلن؟‪.‬‬


‫‪ -‬الخامسة والنصف‪ ،‬صباحا ً‬

‫‪ -‬أين كنت؟ ومتى جئت؟‬

‫‪ -‬هذا مكاني منذ أ َّول الليل‪ ..‬إىل جوار رسيرك‪.‬‬

‫‪ -‬أنك لم تنم‪ ،‬إذن؟‬

‫‪ -‬أبداً‪ ...‬كانت حالتك يف خطر‪ ...‬ولكن‪ ،‬الحمد لله‪ ،‬لقد زال اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬من قال إن الخطر قد زال؟‬

‫‪ -‬الدكتور الذي زارك أ َّول الليل‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫‪ -‬اسمع‪ ،‬يا دكتور‪ ،‬أنا ّ‬


‫متأكد أن حياتي قد شارفت النهاية‪ ...‬أعرف أن‬
‫ساعة خاليص قد حانت‪ ...‬أعرف‪...‬‬

‫‪ -‬دعك من هذه الوساوس‪ ...‬لقد قال الد‪....‬‬

‫ال تصدِّق ما يقوله األطبّاء‪ ،‬رغم أنك واحد منهم‪ ..‬اإلنسان طبيب نفسه‪،‬‬
‫أشعر أنني عىل أبواب النهاية التي يقولون عنها‪ ،‬وليس يل ما ِّ‬
‫أفكر فيه‬
‫املحب الحنون‪ ،‬بعدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سوى محمود وعبد الكريم فكن لهما األب‬

‫وصمت سليم قليالً‪ ،‬ثم َم ّد يده تحت وسادته‪ ،‬فأخرج ك ّراسا ً يف حجم‬
‫الكراسات املدرسية‪ ،‬ثم ناولني إ ّياه قائالً‪:‬‬

‫هذه هي اعرتافاتي التي قلت لك إنني فرغت من كتابتها منذ أ ّيام قالئل‪،‬‬
‫اقرأها متى شئت‪ ،‬أنا أعرف أنك متلهِّف عليها‪ ،‬وافعل بها بعدي ما تشاء‪:‬‬
‫م ِّزقها‪ ..‬احرقها‪ ..‬احتفظ بها للذكرى‪ ..‬انرشها عىل الناس‪ ،‬ال يه ّمني ما‬
‫تفعله بها بعدي‪ ،‬امله ّم أن تقرأها ليسرتيح ضمريك‪ ،‬وحتى تقف عىل‬
‫حيتك كثرياً‪ ،‬وأتعبتك كثرياً‪ ،‬وأجهدت نفسك وراء الوصول‬ ‫الحقيقة التي َّ‬
‫إليها‪.‬‬

‫الخاصة‪ ،‬إىل‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬من قال لك هذا؟ من قال لك إنني مهت ّم بمعرفة أرسارك‬
‫الحدّ؟؟‪.‬‬
‫هذا َ‬
‫‪ -‬أنا أعرف ّ‬
‫كل يشء‪ ..‬قل يل‪ :‬أين مريم؟‬

‫بتحسن حالتك‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أحست‬
‫‪ -‬ذهبت إىل فراشها منذ قليل‪ ،‬حني َّ‬

‫‪ -‬مسكينة هذه املرأة‪ ،‬لقد كانت ضحيّة مثل غريها من النساء كثريات‪..‬‬
‫ليتها تسامحني‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫صحتك أ ّوالً‪ ،‬ثم ك ِّفر عن‬
‫‪ -‬دعك من التشاؤم‪ ،‬يا رجل‪ ،‬وحاول إن تسرت ّد ّ‬
‫سيِّئاتك‪ ،‬إن كانت لك‪ -‬فعالً‪ -‬سيِّئات‪.‬‬

‫وكانت الساعة تشري إىل الثامنة صباحاً‪ ،‬عندما ودَّعت سليماً‪ ،‬وخرجت‬
‫نئ عليه بعض االطمئنان‪ ،‬فذهبت إىل عيادتي أستقبل‬ ‫من بيته‪ ،‬وأنا مطم ّ‬
‫أحس‬
‫ّ‬ ‫الطابور الذي ينتظرني‪ ،‬منذ ساعة أو أكثر‪ .‬كنت طوال ذلك اليوم‬
‫بالعطش واللهفة إىل قراءة تلك األرسار التي جئت أحملها من سليم‪ ..‬تلك‬
‫األرسار التي أتعبتني وأجهدتني اليشء الكثري‪ ،‬وأسهرتني الليايل الطوال‪..‬‬
‫أحس بلهفة لقراءة اعرتافات سليم عبد امللك التي س ّماها «اعرتافات‬
‫ّ‬ ‫كنت‬
‫إنسان»‪ ،‬لكن كثرة املرىض‪ ..‬االزدحام‪ ..‬طوابري الهياكل اآلدمية التي يأخذ‬
‫بعضها برقاب بعض‪ ،‬حال دوني ودون ما أريد‪ .‬إىل أن كان املساء‪ ،‬عندما‬
‫أغلقت العيادة وخلوت إىل نفيس‪ ،‬وسحبت ذلك الك ّراس املدريس‪ ،‬وهممت‬
‫بفتحه‪ ..‬بل فتحته فعالً‪ ،‬وبدأت أقرأ‪:‬‬

‫‪ 3‬يناير‬
‫لست أدري ملاذا لم‪...‬‬
‫رن جرس‬ ‫وقبل أن أسرتسل يف القراءة‪ ،‬تكلّم ذلك األخرس اللعني‪ّ ..‬‬
‫التليفون ليقطع تسلسل أفكاري‪ ،‬وليحول دوني ودون متابعة القراءة‪..‬‬
‫َّ‬
‫وفكرت يف ّأل أردّ‪ّ ..‬أل أرفع الس ّماعة‪ ،‬لكن الجرس لم يتو َّقف‪ ،‬والرنني‬
‫لم ينقطع‪ ،‬فوجدتني مضط ّرا ً لتناول الس ّماعة‪ ،‬وأنا ألعن (سنسفيل)‬
‫التليفونات‪ ،‬هذه اآلالت الخرساء التي تعودت إزعاجنا بني الحني والحني‪،‬‬
‫ورغم ذلك‪ ،‬نحن ال نستطيع االستغناء عنها بعد أن أدخلتها املدنيّة‬

‫‪49‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الحديثة يف حياتنا‪ ،‬فأضحت شيئا ً رضوريا ً لنا‪ ،‬كاملاء والهواء‪ ،‬سواء‪..‬‬


‫ووضعت الس ّماعة عىل أذني صائحا ً يف غضب‪:‬‬

‫‪ -‬ألو‪..‬‬

‫نسائي يقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وجاءني صوت‬

‫هل هذه هي عيادة الدكتور فريد؟‬

‫‪ -‬نعم‪ّ ..‬‬
‫تفضيل‪ ..‬أ ّية خدمة؟‬

‫وظننت أن مريضا ً جديدا ً أصيب‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬بمرض ما‪ ،‬وخاف عليه ذووه‪،‬‬
‫فلم ينتظروا حتى ترشق الشمس خوفا ً من أن يغادر الحياة قبل أن يحني‬
‫يفكروا يف أوضاعي‬ ‫أجله ببعض ساعات‪ ،‬فأرسعوا يتَّصلون بي دون أن ِّ‬
‫أي وزن لحياتي‬ ‫الخاصة ومشاكيل الشخصية‪ ،‬ومن غري أن يقيموا ّ‬ ‫ّ‬
‫ومتاعبي‪ .‬وتمنَّيت‪ ،‬يف تلك اللحظة‪ ،‬لو لم يكن هذا الجهاز امللعون‪ ..‬هذه‬
‫اآللة الخرساء‪،‬؛ إذن ملا كان هناك من يزعجني يف أوقات راحتي القليلة‪،‬‬
‫التي كنت أرسقها رسقة‪ ،‬وأعتربها غنيمة كلّما جادت عيلَّ السماء بقليل‬
‫منها‪.‬‬
‫كل ذلك‪ ،‬ولم أتص َّور‪ ،‬أبداً‪ ،‬أن يكون الخرب أش ّد من ّ‬
‫كل هذا‬ ‫تص َّورت ّ‬
‫ّ‬
‫تتجل الكآبة يف‬ ‫قسو ًة‪ ،‬وأكثر مرارة‪ ،‬فما لبث ذلك الصوت النسائي‪ ،‬الذي‬
‫نرباته‪ ،‬أن عاد يقول‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مريم‪ ..‬زوجة سليم‪ ،‬يا دكتور‪.‬‬

‫(دشاً) باردا ً قد ُ‬
‫ص َّب عىل أ ّم رأيس‪ ،‬فتلعثمت قبل أن أسألها‪:‬‬ ‫وشعرت كأن ّ‬
‫‪50‬‬
‫‪ -‬خري إن شاء الله‪ ..‬ماذا هناك‪ ،‬يا سيِّدتي؟‪ .‬كيف حال سليم؟؟‬

‫‪ -‬حالته يف خطر يا دكتور‪ ..‬وهو يسأل عنك‪ ..‬يريد أن يراك‪ ..‬أرجوك أن‬
‫ترسع بالحضور إليه‪ ..‬أرجوك‪.‬‬

‫تحجرت الكلمات يف فمها‪ ،‬فرميت‬ ‫َّ‬ ‫وغلَبَها البكاء‪ ،‬فلم تكمل حديثها‪..‬‬
‫السماعة من يدي‪ ،‬وأرسعت أرتدي مالبيس بحركة آليّة‪ ،‬وأُرسع إىل منزل‬
‫سليم‪ ،‬ويف اعتقادي أنه قد مات‪ ،‬أو أنه عىل وشك أن يموت‪ ،‬وكنت منفعالً‬
‫الصبْية‪ ،‬بالسيارة‪ ،‬يف الطريق‪ ،‬لوال‬‫جدّاً‪ ،‬لدرجة أنني كدت أدوس أحد ِّ‬
‫لطف الله‪ ..‬وما إن بلغت املنزل‪ ،‬وضغطت عىل الجرس‪ ،‬حتى فتحت‬
‫مريم وآثار دموع ساخنة ترتسم عىل وجهها‪ ،‬وأشارت بيدها بأن ألتزم‬
‫أحس بأن هناك‬
‫ّ‬ ‫الصمت‪ ،‬فدخلت حجرة سليم عىل أطراف أصابعي‪ ،‬وأنا‬
‫شيئا ً ما ينتظرني‪ ..‬شيئا ً ال أعرفه‪ ..‬مفاجأة من مفاجآت هذه الحياة التي‬
‫بكل جديد طريف‪.‬‬ ‫ما فتئت تداعبنا بها بني الحني والحني‪ ،‬فتمدُّنا ّ‬

‫وجلست عىل مقعد بجوار رسير سليم‪ ،‬أفحص نبضه‪ ،‬بينما جلست مريم‬
‫عىل حا ّفة الرسير الذي يرقد عليه زوجها يف شبه إغفاءة‪ ،‬وبدأت املرأة‬
‫تتكلَّم بصوت ضعيف محزون‪ ،‬فقالت‪:‬‬

‫بمج َّرد أن خرجت من هنا‪ ،‬يا دكتور‪ ،‬عاد إىل نومه‪ ،‬م ّر ًة أخرى‪ ،‬فشعرت‬
‫بيشء من االطمئنان ألن النوم ـ كما يقولون ـ داللة الصحة‪ ،‬وطالت‬
‫نومته تلك‪ ،‬فلم يستيقظ إالّ حوايل السادسة مساءً‪ ،‬وبدأ يبحث عنك‪،‬‬
‫ويسأل إىل أين ذهبت‪ ،‬وملاذا ذهبت‪ .‬حاولت أن أعرف ماذا يريد منك فلم‬
‫أستطع‪ .‬كان يطلب‪ ،‬ويلحّ يف طلب مقابلتك‪ .‬دون أن يبدي يل األسباب‪،‬‬
‫كل ما استطعت أن أفهمه منه‪،‬‬‫ومن غري أن يفصح ع ّما ي ّود أن يقوله لك‪ّ .‬‬
‫رس ما‪.‬‬
‫هو أنه يريد أن يفيض إليك ب ٍّ‬

‫‪51‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫رس الذي يريد سليم أن يقوله‬ ‫وسكتت مريم‪ ،‬فأخذت ِّ‬


‫أفكر يف كنه هذا ال ّ‬
‫يتعجل اإلفصاح عنه؟‪ .‬ملاذا لم ينتظر حتى نلتقي‬ ‫َّ‬ ‫يل‪ ...‬ما هو؟‪ ،‬وملاذا‬
‫م ّر ًة أخرى؟‪ ،‬ألم أكن بجواره منذ ساعات قالئل‪ ،‬فما منعه من أن يبوح يل‬
‫وإل ملا ألحَّ ّ‬
‫كل هذا اإللحاح يف طلبي‪..‬‬ ‫به‪ ،‬آنذاك؟ الب ّد أن األمر ج ّد خطري ّ‬
‫والتفتّ إىل مريم أسألها‪:‬‬

‫لقد الحظت يف صوتك بعض االضطراب‪ ،‬وأنت تخاطبيني يف التليفون‪،‬‬


‫فما سبب ذلك؟ هل زادت حالة سليم سوءاً‪ ،‬ال َقدَّر الله؟؟‬

‫‪ -‬ال أبداً‪ّ ..‬إل أنه قال‪...‬‬


‫كل يشء‪ .‬أنت تعلمني أن سليما ً‬‫‪ -‬تكلَّمي‪ ،‬يا سيّدتي‪ .‬أريد أن أعرف ّ‬
‫كل يشء له مساس بالحالة التي‬ ‫صديقي‪ ،‬ويه ّمني جدّا ً أن َّ‬
‫أطلع عىل ّ‬
‫يعانيها‪ ،‬و ـ ر َّبما ـ كالمك يساعدني عىل ما أريد‪.‬‬

‫‪ -‬عندما ألححت عليه ليخربني بما يرغب أن يفصح لك عنه‪ ،‬أجاب‬


‫بكلمات‪ ،‬لم ترتح لها نفيس‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا قال لك؟‪ ..‬تكلَّمي‪ ..‬ال تخجيل مني‪ .‬يجب أن أعرف ّ‬
‫كل يشء‬
‫بالتفصيل‪.‬‬

‫‪ -‬صارحني بأنه‪...‬‬
‫‪ -‬ملاذا ّ‬
‫كل هذا الخجل؟ اعتربيني يف مقام والدك‪ ،‬إذا كنت أنظر إىل سليم‬
‫كأخ يل وصديق‪ ،‬فإنني أنظر إليك أنت وكأنك ابنتي‪ ،‬ويه ّمني أن أراك‬
‫يحب‬
‫ّ‬ ‫مسرتيحة يف حياتك مع زوجك‪ ..‬ماذا قال لك سليم؟ هل قال إنه‬
‫امرأة أخرى؟‬
‫‪52‬‬
‫لم تتمالك املرأة نفسها‪ ،‬عندما سمعت هذه الكلمة مني‪ ،‬أقولها ّ‬
‫بكل هذه‬
‫الرصاحة والبساطة‪ ،‬فأجهشت بالبكاء‪ ،‬وقامت تغادر الحجرة‪ .‬وبقيت‬
‫وحدي أنظر إىل الرجل املمدَّد عىل الرسير‪ ،‬دون أن أفوه بكلمة ما‪ ،‬ومن‬
‫غري أن يستق ّر فكري عىل ناحية أو نقطة‪ ،‬بالذات‪ .‬و َم ّر ما يقرب من‬
‫نصف ساعة بعد خروج مريم‪ ،‬ثم فتح سليم عينيه‪ ،‬ونظر حوله‪ ،‬كأنه‬
‫ي ِّفتش عن شخص َّ‬
‫معي‪ ،‬وما إن وقع برصه عيلَّ أنا‪ ،‬حتى ابتسم ابتسامة‬
‫صفراء باهتة‪ ،‬ال لون لها‪ ،‬وال معنى‪ ،‬وطلب مني أن أساعده عىل الجلوس‪،‬‬
‫فأجلسته دون أن يجرؤ أحدنا عىل بدء الحديث‪ ،‬وـ أخريا ً ـ قلت‪:‬‬

‫كنت تطلبني؛ فماذا تريد مني؟‬

‫‪ -‬أريد أن أوصيك بزوجتي وأوالدي‪.‬‬

‫توصني بهم‪ ،‬من قبل؟‬


‫‪ -‬ألم ِ‬

‫‪ -‬ويشء مه ّم آخر‪ ،‬أو ّد أن‪...‬‬

‫‪ -‬أذلك الذي صارحت به زوجتك؟‬

‫‪ -‬وبماذا صارحتها؟‬

‫تحب أمرأة غريها؟؟‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬ألم تقل لها إنك‬
‫واصف ّر وجه الرجل‪ ،‬وسال العرق من جبينه غزيراً‪ ،‬وأخذ ِّ‬
‫يفكر برهة‪،‬‬
‫ويده عىل جبهته‪ ،‬فعدت أقول له‪:‬‬

‫هل أرتفعت درجة حرارتك إىل هذا الحدّ؟‬


‫‪ -‬اسمع ـ يا دكتور ـ هذه أشياء يمكنك أن ّ‬
‫تتأكد منها إذا قرأت ذلك‬

‫‪53‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الك ّراس اللعني‪.‬‬

‫‪ -‬إذن‪ ،‬ماذا تريد مني؟‬

‫بأل تقرأ اعرتافاتي ّإل بعد أن أفارق الحياة‪.‬‬


‫‪ -‬أريد إن أوصيك ّ‬

‫‪ -‬سوف لن أقرأها‪ ،‬أبداً‪ ،‬عىل هذا األساس‪ ،‬ألنك سوف لن تفارق الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬دعك من املراوغة‪ .‬أت ُعِدني بذلك؟ هذا ّ‬
‫كل ما أريده منك‪ ،‬يف ساعاتي‬
‫األخرية‪.‬‬

‫تحب‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬حسنا‪ ..‬أعاهدك‪ ،‬وأمري لله‪ ..‬لكن‪ ،‬قل يل‪ :‬ملاذا قلت ملريم إنك‬
‫غريها؟‬

‫ونهض الرجل واقفا كاملارد‪ ،‬وكأنه لم يكن مريضا ً ميؤسا ً منه‪ ،‬وبعد‬
‫برهة قال‪:‬‬
‫ّ‬
‫لتكف عني أسئلتها املتك ِّررة‪.‬‬ ‫قلت لها ذلك‬

‫وعاد إىل الجلوس عىل حافة الرسير‪ ،‬وما إن سمعت كالمه حتى لم أعد‬
‫أتمالك نفيس من الدهشة‪ ،‬فناديت‪( :‬مريم‪ ..‬مريم)‪.‬‬

‫ودخلت املرأة مرسعة‪ ،‬وما إن رأت زوجها جالساً‪ ،‬بكامل ّ‬


‫صحته‪ ،‬حتى‬
‫ارتسمت عىل شفتيها ابتسامة صادقة‪ ،‬وهي تقول‪( :‬أشكرك يا دكتور)‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫بل اشكري سليماً‪.‬‬

‫‪ -‬عال َم تشكرني؟‬
‫‪54‬‬
‫‪ -‬عىل أن ما قلته لها لم يكن سوى وسيلة منك للتخلُّص من أسئلتها‪.‬‬

‫وسألت هي‪:‬‬

‫‪ -‬التخلُّص من ّ‬
‫أي يشء؟‬

‫‪ -‬من أسئلتك‪ ،‬كما يزعم‪.‬‬

‫‪ -‬أنا لم أكن معه لحوحة‪ ،‬أبداً‪.‬‬


‫‪ -‬عىل ّ‬
‫كل حال‪ ،‬فلتطم ّ‬
‫نئ نفسك‪ ،‬ولري َتح ضمريك‪ ،‬يا سيِّدتي‪.‬‬

‫وغادرت منزل سليم‪ ،‬عائدا ً إىل ش َّقتي‪ ..‬إىل مرضاي‪ ..‬إىل أحبابي‪ ،‬رغم‬
‫ما يسبِّبونه يل من إزعاج‪ ،‬ويف نيَّتى ّأل أقرأ اعرتافات سليم ّإل يف إحدى‬
‫حالتني‪ :‬إذا فارق سليم الحياة‪ ،‬أو إذا شعرت بقرب نهايتي أنا‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫ومضت سنة‪ :‬اثنا عرش شهراً‪ ..‬سنة قضيتها فيما تع َّودت أن أقيض فيه‬
‫أفكر يف سليم وال يف اعرتافات سليم‪ ،‬بل كدت أنىس‬ ‫أوقاتي‪ ،‬ولم أعد ّ‬
‫مشكلة سليم‪ ،‬بتاتاً‪ ،‬لوال لقاءاتي به‪ ،‬بني الفينة والفينة‪ ،‬التي كانت تعيد‬
‫إىل ذاكرتي لون ذلك الك ّراس‪ ،‬والجهد الذي بذلته يف الحصول عليه‪ .‬وهنا‪،‬‬
‫آمنت أن سعادة اإلنسان تكمن يف الفرتة التي يجري فيها وراء الحصول‬
‫عىل يشء‪ ،‬فإذا حصل عىل ذلك اليشء زهدت فيه نفسه وقلَّت قيمته يف‬
‫نظره؛ فكم جريت وراء هذه االعرتافات! وكم شقيت! وكم تعبت! وكم‬
‫سهرت! وكم رسمت من خطط‪ ،‬ملج َّرد أن أطلَّع عليها! واآلن‪ ،‬ها هي ذي‬
‫يدي‪ ..‬تحت ترصيف‪ ،‬فما يمنعي من قراءتها؟ هل هو مج َّرد الوعد‬ ‫بني ّ‬
‫الذي قطعته عىل نفيس لسليم؟؟ (طظ) يف الوعود إذا كانت تحول دوني‬
‫خاصة‪ ،‬أن اإلخالل بمثل هذا الوعد البسيط‬ ‫ّ‬ ‫ودون يشء ألهث وراءه‪،‬‬
‫ألي كان‪.‬‬
‫أي رضر ّ‬ ‫اليرت َّتب عليه ّ‬

‫لكن‪ ،‬تلك هي طبيعة اإلنسان‪ ،‬يجري ويتعب ويشقى‪ ،‬للوصول إىل غاية‬
‫تبخرت ل ّذة االنتصار‪.‬‬
‫ما‪ ،‬فإذا وصل إليها‪ ..‬إذا نال بغيته َّ‬

‫أفكر‪ ،‬أبداً‪ ،‬يف اعرتافات سليم‪ ،‬بقدر ما كنت ِّ‬


‫أفكر يف نفيس‪ ..‬يف مرضاي‪..‬‬ ‫لم أعد ِّ‬
‫كل نوع‪ ،‬إىل أن كان صيف سنة ‪.1958‬‬ ‫يف أصدقائي املصابني‪ ،‬من ّ‬

‫‪57‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫كل سنة‪،‬‬ ‫فمنذ إن تخ َّرجت‪ ،‬تع َّودت أن أقيض شهرا ً من أشهر صيف ّ‬
‫يف إحدى بلدان أوروبا‪ ،‬للراحة واالستجمام‪ ،‬والسرتجاع قليل من الق ّوة‬
‫كل سنة‪ ،‬بعيدا ً عن أ ّية مسؤولية‪ ،‬متمتِّع‬
‫والنشاط‪ .‬تع َّودت قضاء شهر‪ّ ،‬‬
‫أحس بأنني إنسان شاعر بوجودي‪ ،‬ألني أتمتَّع ّ‬
‫بكل‬ ‫ّ‬ ‫بكامل حر َّيتي‪..‬‬
‫حر َّيتي‪ ،‬وال أعيش داخل قوقعة مغلقة‪ ،‬يف مجتمع متز ِّمت‪ ،‬ال تدخلها‬
‫الشمس‪ ،‬وال يصلها النور والهواء‪.‬‬

‫كل سنة‪ ،‬أنتقل خالله من زهرة إىل زهرة‪ ،‬وكأنني‬ ‫تع َّودت قضاء شهر من ّ‬
‫تمتص الرحيق‪ ،‬وتتغ ّذى برضاب الزهور‪ ،‬فأشعر‪ ،‬آنذاك‪ ،‬بأنني‬ ‫ّ‬ ‫فراشة‬
‫ح ّر غري مرا َقب من أحد‪ ،‬وال محجوز عىل ح ِّر َّيتي‪ :‬ال يحاسبني أحد ع ّما‬
‫أفعل سوى ضمريي‪ ،‬وال يتتبَّعني أحد من املتط ِّفلني الذين اله َّم لهم ّإل‬
‫املراقبة واملتابعة ملعرفة‪ :‬فالن أين قىض سهرته‪ ،‬وع َّلن أين ذهب بسيارته‪،‬‬
‫ومن هي التي كانت تجلس إىل جواره‪ .‬لكأنهم مكلَّفون بتقديم تقارير عن‬
‫وترصفات عمرو‪ ،‬أو لكأنهم من أفراد بوليس األداب الذين‬ ‫ُّ‬ ‫تح ُّركات زيد‪،‬‬
‫ال يهت ّمون بك إالّ إذا كانت بجوارك امرأة‪ ،‬ولو كانت زوجتك أو أختك‪.‬‬

‫ويف سنة ‪ ،1958‬اخرتت مدينة باريس لقضاء عطلتي الصيفية‪ ،‬ال ألنني‬
‫لم أ َرها من قبل‪ ،‬وال ألنني لم أزرها سابقاً‪ ،‬بل ألن يل فيها (جانيت)‬
‫الشقراء‪ ،‬تنتظرني هذا العام‪ ،‬بحسب وعدي‪ ،‬الذي قطعته عىل نفسيه منذ‬
‫سنتني اثنتني‪.‬‬
‫ّ‬
‫يطل‬ ‫ذهبت إىل باريس‪ ،‬ونزلت الفندق الذي تع َّودت أن أنزل فيه‪ ،‬وهو‬
‫عىل نهر السني العريق‪ ..‬ووجدت (جانيت) يف انتظاري‪ ،‬ويف رشفة الفندق‬
‫والحب‪ ،‬جلست أطالع بعض القصص‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املطلّة عىل مدينة النور والجمال‬
‫‪58‬‬
‫ذات ليلة‪ ،‬وأقرؤها بصوت عا ٍل‪ ،‬حتى تسمعها الفتاة التي تجلس إىل‬
‫جواري‪.‬‬

‫تذكرت أشياء كثرية‪ ..‬كثرية جدّا ً ما كنت ال ذكرها لوال تلك‬


‫يف ذلك اليوم‪َّ ،‬‬
‫القبلة التي بادلتني إياها فتاتي الباريسية الحسناء‪َّ ،‬‬
‫فذكرتني بجارتي‬
‫ماريا وعالقتي بها التي انقطعت‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬كما بدأت فجأة‪ .‬ومن ماريا‬
‫انتقلت بالذكرى إىل أ ّيام سليم عبد امللك وزوجته وولديه‪ ،‬وقفزت إىل‬
‫ذاكرتي ـ أيضا ً ـ اعرتافات سليم التي بدأت قراءتها‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬منذ سنة‬
‫تقريباً‪ ،‬ثم تو َّقفت عن متابعة القراءة‪ ،‬عندما طلب مني سليم عدم قراءة‬
‫اعرتافاته ّإل إذا مات‪ ،‬وق َّررت‪ ،‬يف نفيس‪ّ ،‬أل أقرأها ّإل يف إحدى حالتني‪:‬‬
‫إ ّما يف حالة موت سليم‪ ،‬أو عندي شعوري بقرب نهايتي‪ .‬ورشدت بذهني‬
‫إىل أ ّيام طرابلس‪ ،‬عروس البحر األبيض البيضاء‪ ،‬وسبحت مع أفكاري‬
‫مص ِّوبا ً نظري إىل صفحة السني الراكدة‪ ،‬فيما يشبه الذهول‪ ،‬وشعرت‬
‫جانيت بما اعرتاني يف وجودها‪ ،‬أو ـ قل ـ بني أحضانها‪ ،‬عىل غري عادتي‪،‬‬
‫فسألتني‪:‬‬
‫ما بك؟ فيم ِّ‬
‫تفكر؟‬

‫‪ -‬ال يشء‪...‬‬
‫‪ -‬لعلك ِّ‬
‫تفكر يف فتاة غريي!‬

‫‪ -‬عندما أكون معك تع َّودت ّأل أفكر إالّ فيك أنت‪ ،‬فحسب‪.‬‬

‫‪ -‬إذن‪ ،‬في َم َّ‬


‫تفكر؟؟‬

‫‪59‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫تذكرت أشياء كثرية‪ ،‬تتعلَّق بأصدقائي يف بلدي‪.‬‬


‫‪َّ -‬‬

‫‪ -‬ما هي هذه األشياء؟ ّأل يمكنني سماعها؟؟‬

‫‪ -‬إذا سمعتها ال فلن تهت ّمي بها‪.‬‬


‫‪ -‬ما أدراك؟ إن ما يه ّمك يه ّمني أنا‪ ،‬أيضاً‪ .‬أفصح ع ّما ِّ‬
‫تفكر فيه ّ‬
‫وإل‬
‫ا َّتهمتك بالخيانة‪.‬‬

‫وخفتُ أن تتَّهمني بالخيانة‪ ،‬فعالً‪ ،‬فقصصت عليها طرفا ً مخترصا ً من‬


‫فألحت ـ يف خبث أنثوي‬‫موجز حياة سليم‪ ،‬إىل أن أتيت إىل ذكر اعرتافاته‪َّ ،‬‬
‫تأكدت من وجودها‬ ‫بارييس ـ عىل أن أقرأ عليها هذه االعرتافات‪ ،‬بعد أن َّ‬
‫معي‪ ،‬ولم أجد بدّا ً من أن أقول لها‪:‬‬

‫‪ -‬إنه يس ّميها «اعرتافات إنسان»‪ ،‬وما أظنّكم‪ ،‬هنا‪ ،‬يف باريس‪ ،‬تهت ّمون‬
‫ّ‬
‫اإلفريقيي يف‬ ‫باإلنسانية‪ ،‬يف كثري‪ ،‬أو حتى يف قليل‪ .‬دعي الرشقيّني أو‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الزج بنفسك يف مشاكلهم‬
‫حالهم‪ ،‬وال تحاويل ّ‬

‫ظل للحقيقة‪ ،‬بالنسبة إىل غريي من الفرنسيني‪،‬‬ ‫‪ -‬إن ما تقوله ال يخلو من ّ‬


‫لحة لسماع هذه االعرتافات‪ ..‬أشعر برغبة‬ ‫أحس برغبة ُم ّ‬
‫ّ‬ ‫ولكن رغم ذلك‪،‬‬
‫لحة ملعرفة ما يجول يف خواطركم ـ أ ّيها الرشقيّون ـ عندما ال ِّ‬
‫تفكرون‬ ‫ُم ّ‬
‫تفكرون‬‫تفكرون يف التح ُّرر من ربقة االستعمار‪ ..‬عندما ِّ‬
‫يف االستقالل‪ ،‬وال ِّ‬
‫يف مشاكلكم الفردية‪ ..‬يف عواطفكم‪.‬‬

‫‪ -‬ومن أنبأك أن هذه االعرتافات تتناول العواطف؟‬

‫‪ -‬أعرف ذلك من اعرتافاتنا يف الكنيسة‪ .‬إننا ال نذهب إىل الكنيسة‪ ،‬ونجلس‬


‫‪60‬‬
‫أمام (األب) لالعرتاف‪ّ ،‬إل إذا كان اعرتافنا يتناول عواطفنا وقلوبنا‪ ..‬لكن‪،‬‬
‫كل هذا‪ ،‬وهات ابدأ قراءة اعرتافات صديقك اإلنسان‪.‬‬ ‫اسمع‪ ،‬دعنا من ّ‬

‫بأل اقرأها ّإل إذا مات‪ ،‬ونحن ـ العرب ـ نحافظ عىل وعودنا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد وعدته ّ‬

‫‪ -‬أليس هناك حِ ّل لك من هذا الوعد؟‬

‫‪ -‬إذا شعرت بقرب نهايتي‪.‬‬

‫‪ -‬كيف؟‬

‫بأل اقرأ اعرتافاته ّإل يف حالتني‪ :‬إذا مات هو‪ ،‬أو إذا شعرت‬
‫‪ -‬لقد عاهدته ّ‬
‫بقرب نهايتي أنا‪ ...‬وكالهما لم يحدث بعد‪.‬‬

‫‪ -‬افرض أن صديقك قد مات فعالً‪ ،‬ومازلت أنت ال تشعر بقرب نهايتك!‬

‫‪ -‬حتى لو سلَّمت معك بهذا الفرض‪ ،‬فال أعتقد أن الرشفة مكان صالح‬
‫أفكر يف املوضوع‪.‬‬ ‫َ‬
‫تعال ندخل الحجرة‪ ،‬وهناك يمكنني أن ِّ‬ ‫للقراءة‪..‬‬

‫‪ -‬في َم التفكري؟‬

‫‪ -‬ألم أقل لك أنني وعدت‪ ،‬وال يمكنني أن أخلف وعدي‪ ،‬بسهولة؟ لكن‪،‬‬
‫معك ألف ّ‬
‫حق؛ فأنتم‪ ،‬هنا‪ ،‬ال تعرفون قيمة للوعود والعهود‪.‬‬

‫‪ -‬ال تحاول أن تفلسف أقوالك‪ ..‬دعنا يف ج ِّونا الشاعري الحالم‪ ،‬وافرض‬


‫أن صاحبك قد مات‪ ،‬وهات اقرأ اعرتافاته؛ لعلنا نجد فيها عظة لنا‪ ،‬وعربة‪.‬‬

‫وسحبتني من يدي إىل داخل الحجرة‪ ،‬وبعد أن أغلقت الباب تمدَّدت عىل‬

‫‪61‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الرسير مسندا ً رأيس عىل الحائط‪ ،‬بينما تمدَّدت هي إىل جواري‪ ،‬ووضعت‬
‫رأسها‪ ،‬بشعره الذهبي الالمع‪ ،‬عىل حجري‪ ،‬فتناولت ّ‬
‫الكراس الذي تركته‬
‫ذات يوم منذ سنة‪ ،‬وبدأت أقرأ‪:‬‬

‫‪ 3‬يناير‬

‫لست أدري ملاذا لم أتز َّوج حتى اآلن! إن أكثر أصدقائي وأحبابي قد‬
‫تز َّوجوا منذ سنوات‪ ،‬وهم يقاربونني يف العمر‪ ،‬فمثالً‪ :‬أين أحمد ومحمود‬
‫وخالد وإبراهيم؟ ألم نكن ندرس معاً‪ ،‬يف سنة واحدة؟‪.‬‬
‫أين هم اآلن؟ لقد أصبح ّ‬
‫لكل منهم بيت وأرسة وأوالد‪ ،‬فلماذا ال أتز َّوج أنا‪،‬‬
‫متأكد من أنني لو تز َّوجت لكنت أسعد‪ ،‬يف حياتي الزوجية‪،‬‬ ‫أيضاً؟ إنني ِّ‬
‫كل أصداقائي هؤالء؛ فما أعرفه عن هذه الحياة أكثر م ّما يعرفون‪.‬‬ ‫من ّ‬
‫فألفكر يف الزواج‪ ،‬بصورة ج ّد ّية‪ ،‬وألبحث عن زوجة‪ ،‬زوجة مثالية مثل‬
‫ً‬
‫ومعرفة‬ ‫ً‬
‫ثقافة‬ ‫تلكم الزوجات الالتي أتخيَّله ّن يف عقيل‪ ،‬زوجة تقاربني‬
‫واطالعاً‪ ،‬وتقاربني تم ُّردا ً عىل األوضاع‪ ..‬زوجة تفهمني كما أفهمها‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫وتعرفني كما أعرفها‪ ..‬زوجة تأخذ بيدي إىل الحياة الهانئة التي أريدها؛‬
‫كل زوجني يف‬ ‫حياة متح ِّررة من القيود واألغالل واألوهام التي تكبِّل حياة ّ‬
‫هذا املجتمع‪ ،‬الذي ال يزال يعيش عىل الفضالت‪ ،‬ويحيا وسط د ّوامة من‬
‫الخرافات‪.‬‬

‫وهنا‪ ،‬عادت رفيقتي تسألني‪:‬‬

‫ما هذه القيود التي يتحدَّث عنها صاحبك‪ ،‬ويقول إنها تكبِّل حياتكم‬
‫‪62‬‬
‫الزوجية؟ كنت أعتقد أنه ال يوجد بينكم‪ ،‬يف بالدكم‪ ،‬من يعري مثل هذه‬
‫أي اعتبار‪ .‬كنت أعتقد أن ه َّمكم الوحيد ينحرص يف البحث عن‬ ‫النواحي ّ‬
‫أنثى‪ ..‬مج َّرد أنثى تبيت إىل جواركم فتد ِّفئ فرشكم و‪..‬‬

‫‪ -‬إنك واهمة ـ يا صديقتي ـ يف اعتقادك هذا‪ ..‬إنه اعتقاد خاطئ‪ ،‬لم‬


‫يصلكم ّإل عن طريق ُكتّابكم املغرضني الذين ال َه ّم لهم سوى االفرتاء‬
‫عىل الرشقيني‪.‬‬

‫وابتسمت (جانيت)‪ ،‬يف خبث أنثوي‪ ،‬وقالت متسائلة‪:‬‬

‫واملحظيات‪ ..‬و‪ ..‬الغلمان‪ ،‬أيضاً؟‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬وما قولك يف الجواري‪،‬‬

‫‪ -‬ذلك عهد مىض‪ ،‬ولن يعود‪ .‬إن حياتنا يف تط ُّور مستم ّر‪ ،‬وأنت ال تزالني‬
‫تتحدَّثني عن عهد أبي نواس‪ ،‬رحمه الله‪.‬‬

‫‪ -‬ونب ُّيكم‪ ،‬ألم يجمع يف عصمته ستّ نساء أو سبع‪ ،‬يف وقت واحد؟‬

‫‪ -‬تلك حالة استثنائية َحتَّمتها الظروف التي كان يم ّر بها املجتمع‬


‫اإلسالمي الوليد‪ .‬إن فكرة تكوين اإلمرباطورية اإلسالمية التي كان يجب‬
‫كل أرجاء املعمورة‪ ،‬كانت تستدعي‬ ‫أن يع ّم نورها وسالمها وهدايتها ّ‬
‫الكثري من البذل والكثري من التضحية‪ .‬ومن بني هذه التضحيات اإلنسانية‬
‫النبيلة‪ ،‬الزواج من أرامل الشهداء‪ ،‬حتى ال يبقني عالة عىل املجتمع الناىشء‬
‫الجديد‪.‬‬

‫‪ -‬هذه الفلسفة‪ ،‬ال أفهمها‪.‬‬

‫‪ -‬ألن رأسك محش ّو بالخرافات واالفرتاءات‪ .‬إن ما قام به نب ُّينا هو أسمى‬

‫‪63‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫آيات البذل‪.‬‬

‫‪ -‬دعنا من األنبياء‪ ...‬عد إىل قراءتك؛ إنني ال أفهم يف األديان شيئاً‪.‬‬

‫‪ -‬إنه الخوف من أن يبهركم النور‪.‬‬

‫‪ -‬لم أفهم ماذا تعني!‬

‫‪ -‬دعي الفهم ألصحابه‪.‬‬

‫‪ -‬إذن‪ ،‬عد إىل قراءتك‪.‬‬

‫وعدت أقرأ‪:‬‬

‫‪ 17‬يناير‬

‫أعتقد أن الزواج هو الطريق السليم لالستقرار يف حياتي‪ ..‬هو العمل‬


‫كل أخواتي سوى واحدة‪،‬‬ ‫الوحيد الواجب ا ِّتخاذه بالنسبة إيلّ‪ .‬لقد تز َّوجت ّ‬
‫هي اليوم مخطوبة‪ ،‬وسيت ّم زفافها غداً‪ ،‬وعندها‪ ..‬عندما تتز َّوج أختي لن‬
‫خاصة أن أبي يلحّ‬
‫ّ‬ ‫نجد‪ ،‬أنا وأبي‪َ ،‬م ْن يعولنا يف البيت‪ ..‬فلماذا ال أتز َّوج‪،‬‬
‫عىل زواجي؟ هل أنا م َّمن يخافون الزواج؟ ال أعتقد‪ ،‬بل إنني أدرك أن‬
‫اطلعت عليه كفيل بمساعدتي عىل خلق حياة‬ ‫ما تعلَّمته‪ ،‬وما عرفته وما َّ‬
‫زوجية سعيدة‪.‬‬
‫كل ما يحيط بي‪ّ ..‬‬
‫كل ظروف‬ ‫ليس هناك ما يمنعني من الزواج‪ ،‬بل ّ‬
‫حياتي تسوقني‪ ،‬مجرباً‪ ،‬إىل الزواج‪ ..‬إن الزواج بالنسبة إيلَّ أمر رضوري‬
‫‪64‬‬
‫جدّاً‪ ،‬إنه الطريق الوحيد الذي يمكنني أن أسلكه يف هذه الحياة‪ ،‬فما أنا‬
‫من شباب الليل الذين يملكون السيارات الفخمة‪ ،‬فيشبعون رغباتهم‬
‫وميولهم بواسطتها‪.‬‬

‫‪ 3‬فرباير‬

‫والدي‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬يحثّني عىل الزواج حثًّا‪ ،‬ويرى ـ كما أرى أنا ـ أنه أمر‬
‫رضوري‪ ،‬يل وله‪ ،‬وهو ال يريد أن يفرض رأيه يف مثل هذه املسائل‪.‬‬
‫ّ‬

‫شك ـ تكاليف باهظة‪ ،‬غري أنني‬ ‫بقيت تكاليف نفقات الزواج‪ ،‬فهي ـ ال ّ‬
‫مدخر كفيل بأن يريحني من التفكري يف هذه‬ ‫لدي من مال َّ‬ ‫أعتقد أن ما َّ‬
‫موظف منذ أكثر من أربع سنوات‪ ،‬ومر َّتبي ال بأس به‪،‬‬ ‫الناحية‪ ..‬إنني َّ‬
‫مبذرا ً أو مرسفاً‪ ،‬ولقد وضعت مرشوع‬ ‫وأبي ال يأخذ مني شيئاً‪ ،‬وأنا لست ِّ‬
‫زواجي نصب عيني‪ ،‬منذ أ َّول يوم دخلت فيه التوظيف‪ ،‬فلماذا كنت أتعب‪،‬‬
‫كل متعة‪ ،‬إن لم يكن ذلك من أجل تكوين أرسة‬ ‫وأشقى‪ ،‬وأحرم نفيس من ّ‬
‫وبناء بيت؟ وها‪ ‬هو ذا الوقت قد حان كي أقيم البيت‪ ،‬وأك ِّون األرسة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشك يف أن نفقات الزواج باهظة‪ ،‬وأنا ال أعتمد عىل والدي يف هذه النقطة‪،‬‬
‫َّ‬
‫فألتوكل عىل الله‪.‬‬ ‫لكن هذا ليس مربّرا ً لعدم إتمام زواجي‪...‬‬

‫وهنا‪ ،‬سألتني (جانيت)‪ ،‬م ّرة أخرى‪:‬‬

‫كم تبلغ نفقات الزواج‪ ،‬يف بالدكم‪ ،‬تقريباً؟‬

‫‪ -‬بني السبعمئة‪ ،‬واأللف وخمسمئة جنيه‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫‪ -‬كم تدفع الفتاة من هذا املبلغ؟‬

‫‪ -‬فتياتنا ال يدفعن شيئاً‪ ..‬الرجل‪ ،‬فقط‪ ،‬هو الذي يدفع‪.‬‬

‫الشاب يشرتي الفتاة؟‬


‫ّ‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬ليست العملية عملية بيع ورشاء‪.‬‬

‫‪ -‬ما هي إذن؟‬

‫‪ -‬إنها قضيّة ِد ْين‪ ...‬ديننا يأمرنا بدفع يشء اسمه (املهر)‪.‬‬

‫‪ -‬هل الدين هو الذي حدَّد هذا املبلغ الكبري؟‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬أبداً‪ .‬الدين اإلسالمي أسمى من أن يفعل ذلك‪ ،‬لكنها العادات التي‬
‫نشكو ون ّ‬
‫نئ منها‪.‬‬

‫‪ -‬حسناً‪ ..‬عد إىل قراءتك‪.‬‬

‫‪ -‬برشط ّأل تقاطعيني‪َ ،‬م ّر ًة أخرى‪.‬‬


‫ّ‬
‫كالقطة‪ ،‬أستمع فقط‪.‬‬ ‫‪ -‬لن أقاطعك أبداً‪ ..‬سأكون‬

‫وعدت أقرأ‪:‬‬

‫‪ 15‬فرباير‬

‫حق‪ ،‬حني قال يل‪« :‬يجب عليك ـ يا سليم ـ أن تختار زوجتك‬ ‫أبي عىل ّ‬
‫تخصني‪ ،‬وال يريد أن يتح َّمل‬
‫ّ‬ ‫بنفسك»‪ .‬إنه ال يريد أن يفرض رأيه يف مسألة‬
‫‪66‬‬
‫مسؤولية ما قد يحدث يف املستقبل‪ ،‬وهو ع َّودني عىل تح ُّمل مسؤولية‬
‫أعمايل وأقوايل وأفعايل‪ ..‬منذ الصغر وهو ير ّبيني تربية ديموقراطية‬
‫كل دوره فيها التوجيه واإلرشاد‪ ،‬يحاول‪ ،‬دائماً‪ ،‬أن يشعرني‬‫محضة‪ّ ،‬‬
‫ألحس بوجودي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بح ّر َّيتي‪،‬‬

‫الدور ـ إذن ـ دوري أنا‪ .‬املهمة مه َّمتي أنا‪ ..‬املسؤولية مسئوليَّتي أنا‪،‬‬
‫وال أحد يشاركني يف تح ُّمل املسؤولية‪ .‬أنا الذي يجب أن أختار‪ ،‬وأبحث‬
‫عن الفتاة التي أعتقد أنها ستكون زوجة صالحة يل‪ .‬لكن‪ ،‬ما الطريق إىل‬
‫ذلك؟ كيف أختار زوجتي؟ كيف أعرفها؟ كيف َّ‬
‫أطلع عليها‪ ،‬والعرف‪ ،‬ال‬
‫ّ‬
‫الحق اإلنساني البرشي الوجودي؟؟‪.‬‬ ‫الدين‪ ،‬يمنعني من مزاولة هذا‬

‫إن االختيار عندي أنا ال يعني الشكل واللون واألرسة‪ ،‬فحسب‪ ،‬ففي هذه‬
‫الحالة يهون األمر‪ ،‬لكن االختيار‪ ،‬يف نظري ـ بحسب فلسفتي ـ يتناول‬
‫مسائل أخرى ال ّ‬
‫تقل أه ِّميّة عن مج َّرد الحسب والنسب والجمال‪ :‬إنه‬
‫يعني معرفة امليول والذوق والفكر والعقل واإلدراك‪..‬‬

‫أنا ال أبحث عن مج َّرد الجمال‪ ،‬ألنني من الذين يقنعون بجمال (بني بني)‪،‬‬
‫إن ما أبحث عنه‪ ..‬ما ال أتنازل عنه‪ ..‬ما ال يمكنني االعتماد فيه عىل أحد‪..‬‬
‫اليشء الذي يه ّمني‪ ،‬وال يجوز أن أكون معتمدا ً فيه عىل ذوق غريي وخربة‬
‫سواي‪ ،‬هو أن تكون زوجتي التي ستشاركني أعباء هذه الحياة‪ ،‬مدّة‬
‫الحياة‪ ،‬تحمل من اآلراء مثل ما أحمله‪ ،‬وتعتقد مثل ما أعتقد‪ ،‬وتؤمن بما‬
‫أؤمن أنا به‪.‬‬

‫فأين أجد مثل هذه الفتاة؟‬

‫‪67‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ر ّبما‪ ،‬هناك كثري من الفتيات يحملن مثل هذه القيم واملفاهيم التي‬
‫أحملها‪ .‬لكن‪ ،‬أين هّن؟ أين أجده ّن؟ من يدلُّني عليه ّن؟‬

‫تكلف إحدى‬ ‫إن الطريق الوحيد‪ ،‬الختيار فتاتك يف هذا املجتمع‪ ،‬هو أن ِّ‬
‫قريباتك بالبحث لك عن فتاة تناسبك‪ ،‬فأين هذه القريبة‪ :‬األ ّم أو األخت أو‬
‫الع ّمة أو الخالة التي تفهم الحياة كما أفهمها‪ ،‬وتعيها كما أعيها؟ لو كان‬
‫يحسها كثريون‬ ‫األمر مقترصا ً عىل الجمال‪ ،‬فحسب‪ ،‬ملا كانت هناك مشكلة ّ‬
‫غريي‪ ،‬لكن املشكلة الرئيسية هي مشكلة التفكري‪ ..‬النضج‪ ..‬الوعي‪..‬‬
‫االستجابة للحياة التي نعيشها‪ ..‬الفهم الصحيح للحياة املفروضة علينا‪،‬‬
‫والفهم الصحيح للحياة التي يجب أن نعيشها‪ .‬ليس أمامي ّإل طريق‬
‫الخاصة يف البحث عن زوجة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واحد‪ :‬أن اعتمد عىل نفيس فأستعمل وسائيل‬
‫وليكن‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬ما يكون‪ ،‬سواء أ أخفقت أم ُو ِّفقت‪ ،‬إنني مستع ّد لتح ُّمل‬
‫نتائج اختياري‪.‬‬

‫‪ 27‬فرباير‬
‫ملاذا ال أج ِّرب ّ‬
‫حظي‪ ،‬وأعمل بنصيحة هذا الصديق؟‬

‫إنها من أرسة محرتمة ومتعلَّمة‪ ،‬وما دامت أرستها متعلِّمة فالب ّد أنها‬
‫متح ِّررة من نري العادات وقيود التقاليد‪ ،‬فالتعليم وحده هو ما يح ِّرر‬
‫ّ‬
‫ويفك قيوده‪ ،‬ويبعثه عىل التفكري والتع ُّمق‪ .‬التعليم هو طريق‬ ‫اإلنسان‪،‬‬
‫تح ُّرر املرأة‪ .‬وهل يمكن لفتاة جاهلة أن تكون متح ّررة؟ ال‪ ،‬هذا أمر‬
‫متحررة‪ ،‬فإن تح ُّررها يكون‬ ‫مستحيل‪ ...‬وإذا افرتضنا وكانت الجاهلة ِّ‬
‫‪68‬‬
‫وباال ً عليها‪ ،‬فجاهلة متح ِّررة أقرب إىل الفساد من جاهلة متز ِّمتة‪.‬‬

‫قال صديقي إن أرستها أرسة متح ّررة‪ ،‬وجميع أفرادها متعملِّون‪ ،‬وأمس‬
‫أكدت يل خالتي‪ ‬ـ أيضاً‪ ‬ـ هذا القول‪ ،‬فقد كانت تربطها بأرستها رابطة‬ ‫َّ‬
‫جرية قديمة‪.‬‬

‫‪ 5‬مارس‬

‫بحسب املعلومات التي استقيتها‪ ،‬ال ّبد أن تكون هذه هي الفتاة التي‬
‫ً‬
‫زوجة ورشيكة حياة‪ .‬نعم‪ ،‬إن‬ ‫ُكتبت يل والتي أبحث عنها‪ ،‬والتي تليق بي‬
‫دراستها محدودة قليلة‪ ،‬لم تجاوز السنة االبتدائية السادسة‪ ،‬و‪ ‬ـ فعالً‪ ‬ـ‬
‫يس الئق بزوجتي‪ .‬لكن‪ ،‬أليس للوسط الذي تعيش‬ ‫ليس هذا بمستوى درا ّ‬
‫فيه أثر عىل تفكريها؟‬

‫ثم‪ ،‬أليس يف استطاعتي‪ ،‬عندما تصبح يل زوجة‪ ،‬أن أساعدها عىل زيادة‬
‫معلوماتها؟ فبيشء من الحكمة والصرب وطول الوقت واملعاناة‪ ،‬أستطيع‬
‫أن أخلقها خلقا ً جديداً‪ .‬قالوا إن للفتاة تربيتني‪ :‬تربية يف منزل والديها‪،‬‬
‫وسأوجهها بحسب مشيئتي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وتربية يف منزل زوجها‪ ،‬وأنا سأكون زوجها‪،‬‬
‫فهي‪ ‬ـ كغريها من بنات هذا املجتمع‪ ‬ـ أشبه يشء بالعجينة الليِّنة التي‬
‫أي شكل من النساء تريد‪ .‬وهذه الفتاة ـ‪ ‬بالذات‪ ‬ـ‬ ‫يمكنك أن تصنع منها ّ‬
‫ال تزال صغرية الس ّن‪ ،‬لم تجاوز التاسعة عرش ّإل بقليل‪ ،‬وهذا ـ‪ ‬ال ّ‬
‫شك‪ ‬ـ‬
‫م ّما يزيد يف تفاؤيل عىل مقدرتي عىل خلقها خلقا ً جديداً‪ ،‬كما أريد أنا‪.‬‬
‫ال جدال يف أنها هي الفتاة التي ُكتبت يل زوجة‪ ،‬دون غريها من الفتيات‬

‫‪69‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫األخريات‪ ،‬وإن كنت ـ شخصيّا ً ـ ال أؤمن بحكاية (القسمة والنصيب)‪ ،‬يف‬


‫الحساسة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مثل هذه األمور‬

‫وهنا‪ ،‬كانت الساعة تشري إىل الثانية صباحاً‪ ،‬فالتفتت نحوي جانيت‬
‫الشقراء قائلة‪:‬‬

‫أشعر بحاجتي إىل قليل من النوم‪ .‬هل يمكنك أن تتو َّقف عن القراءة؟‬

‫رس الذي كنت أبحث عنه منذ‬


‫‪ -‬ال يمكنني ذلك قبل أن أصل إىل معرفة ال ّ‬
‫سنوات‪ ،‬حتى أعجزني البحث‪ ،‬وكدت أعود خايل الوفاض‪.‬‬

‫‪ -‬إذن‪ ،‬اجلس عىل األريكة‪ ،‬ودعني أتمدَّد عىل الفراش‪.‬‬

‫‪ -‬منذ صغري‪ ،‬تع َّودت عدم الرقاد يف النور‪.‬‬

‫ولم أجد بدّا ً من الجلوس عىل األريكة‪ ،‬يف الركن الثاني من الحجرة‪ ،‬حتى‬
‫َّ‬
‫أتمكن من متابعة قراءتي‪ ،‬بينما تمدَّدت (شقرائي) عىل الرسير‪ ،‬وأشعلت‬
‫النور األحمر القريب منها‪ ،‬وقبل أن أعود إىل القراءة‪ ،‬عادت تسألني‪:‬‬

‫حب‪ ،‬يا دكتور؟‬


‫‪ -‬هل تتز َّوجون‪ ،‬يف بالدكم‪ ،‬بدون ّ‬

‫الحب ّإل بعد الزواج‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬إن أكثر َّيتنا ال يعرفون‬

‫الحب؟‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬وهل تسعدون يف حيواتكم الزوجية املقامة عىل غري أسس‬

‫‪ -‬أنت تعلمني ـ يا جانيت ـ أنني غري مت ِّزوج؛ لذا فأنا ال استطيع إجابتك‬
‫عن هذا السؤال‪ ،‬لكنني أعلم أن ‪ %90‬من حاالت الزواج يف بالدنا مو َّفقة‪،‬‬
‫ولم يف ِّرق الطالق بني طرفيها‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫‪ -‬هل تعتقد أن الطالق هو (الرتمومرت) الصحيح ملعرفة السعادة يف‬
‫الزواج؟‬
‫ّ‬
‫األقل‪ ،‬فإن من يشقى يف زواجه‪ ،‬يمكنه أن‬ ‫‪ -‬هذا ما يعتقده البعض‪ ،‬عىل‬
‫يتخلَّص من شقائه بالطالق‪.‬‬

‫أؤكد لك أن الطالق وعدمه‪ ،‬ال يدالّن عىل السعادة الزوجية‬ ‫‪ -‬هذا وهم‪ِّ .‬‬
‫ومدى قوى الرتابط بني الزوجني‪ ،‬فلو ُقدِّر لك أن تعرف ما وراء جدران‬
‫بيوتكم‪ ،‬لهالَ َك الواقع الذي تعيشونه‪ .‬إن كثريا ً من غري املطلَّقني من هم‬
‫أشقى وأتعس ألف م ّرة من املطلّقني‪ .‬ولوال اعتبارات أخرى‪ ،‬ألمكنك أن‬
‫تشاهد تهدُّم كثري من البيوت‪ ،‬وت ُ‬
‫رشد كثري من األبناء‪.‬‬

‫‪ -‬لكن‪ ،‬ال تنيس أن الشعور بالشقاء‪ ،‬واإلحساس بعدم القدرة عىل التخلُّص‬
‫منه‪ ،‬أكرب مع ِّول لهدم السعادة اإلنسانية‪.‬‬

‫صحة هذا القول‪ ،‬وأرى أنه يجب عليكم البحث ألنفسكم‬


‫‪ -‬أنا ال أناقشك يف ّ‬
‫عن َح ّل‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحل‪ ،‬يف نظرك‪ ،‬يا فليسوفة باريس؟‬ ‫‪ -‬وما هو‬

‫الحب‪ ،‬قبل الزواج‪ ،‬طريقا ً إىل روابطكم الزوجية‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬أن تجعلوا‬

‫‪ -‬وإذا كنّا ال نستطيع ذلك؟‬

‫حب وتسامح؟‬
‫الحب بني الناس؟ ألم تقل إنه دين ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ملاذا؟ هل دينكم ال يق ّر‬

‫‪ -‬لم تكن القضية قضية دين‪ ،‬إنما هي قضية عادات‪ ،‬يحافظ عليها الناس‬

‫‪71‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫أكثر من محافظتهم عىل دينهم‪.‬‬


‫‪ -‬يجب أن ِّ‬
‫تحطموا هذه العادات‪ ..‬أن تحاربوها‪ ..‬أن تتخلَّصوا منها‪.‬‬

‫بأي سالح نحاربها؟؛ إن هناك من يرعاها ويحافظ عليها‪ ،‬بل يقدّسها‬


‫‪ِّ -‬‬
‫تقديساً‪.‬‬

‫‪ -‬حاربوها بالسالح الذي ترونه مناسبا ً لها‪ ..‬دعوا املرأة ـ مثالً ـ تخرج‬
‫إىل الشارع‪ ..‬تدخل ميادين الحياة‪ ،‬حتى يمكنكم أن تقابلوها وتتع َّرفوا‬
‫بها‪.‬‬

‫‪ -‬هذه طريق إىل الهاوية‪ ..‬إىل الفساد‪ ..‬إىل االنحطاط‪ ..‬فقبل أن نسمح‬
‫للمرأة بالخروج إىل الشارع‪ ،‬علينا أن نسلِّحها بالعلم‪ ..‬باملعرفة‪ ..‬حتى ال‬
‫َّ‬
‫تتمكن من مقاومة‬ ‫تكون فريسة سهلة‪ ،‬تتل َّقفها الذئاب الجائعة‪ ،‬وحتى‬
‫املغريات‪.‬‬

‫‪ -‬لكم أن تتَّبعوا الطريق الذي يساعدكم‪ .‬امله ّم أن تتخلّصوا من الزواج‬


‫العمياني‪.‬‬

‫‪ -‬سوف نتخلَّص منه بالطريقة التي نراها صالحة وممكنة‪ ،‬ال بالطريقة‬
‫التي ترينها أنت‪ .‬إننا نبحث عن حلول ملشاكلنا‪ ،‬بما ينبع من نفوسنا‪،‬‬
‫ومن طبائعنا‪ ،‬ومن أرضنا‪ ،‬وال نقبل أن تأتينا الحلول من الخارج‪ ...‬من‬
‫خارج حدودنا‪.‬‬

‫‪ -‬إنك تيسء فهمي‪ ،‬فقد ح َّولت املناقشة إىل مناقشة سياسيّة‪ ،‬وهذا شأنكم‪،‬‬
‫غربي يف موضوع ما‪ ،‬حتى تح ِّولوا‬
‫ّ‬ ‫دائماً‪ ،‬أ ّيها الرشقيون؛ ما إن يناقشكم‬
‫‪72‬‬
‫النقاش إىل السياسة‪ .‬ال يمكنني أن أستم ّر معك أكثر من هذا‪ ...‬تصبح‬
‫عىل خري‪.‬‬
‫والت َّفتْ إىل الجهة األخرى لتنام‪ ،‬بينما عدت أنا إىل قراءة ّ‬
‫مذكرات سليم‬
‫عبد امللك‪.‬‬

‫‪ 14‬مارس‬

‫ال أزال مرتِّددا ً بني اإلقدام واإلحجام‪ :‬اإلقدام عىل خطوبة مريم‪ ،‬واإلحجام‬
‫عن ذلك‪ ...‬إن أقوال الناس فيها مختلفة متباينة‪ :‬بعضهم يشكر ويمدح‪،‬‬
‫وبعضهم يذ ّم ويقدح‪ ،‬وأنا حائر بني القادحني واملادحني‪ .‬ال أعرف كيف‬
‫بأي الرأين آخذ‪ ،‬وال بأ ّيهما أرمي عرض الحائط‪ .‬إن‬
‫أترصف‪ ،‬وال أعرف ّ‬ ‫َّ‬
‫الناس يختلفون ـ عاد ًة ـ يف آرائهم وأفكارهم‪ ،‬وال يتَّفقون عىل يشء‪،‬‬
‫وأنت تحار إذا أردت االعتماد عىل أقوال الناس‪.‬‬

‫من حيث الجمال‪ ،‬كلّهم متَّفقون عىل أن جمالها وسط (بني بني)؛ ال هي‬
‫منصب ان‬
‫ّ‬ ‫بالجميلة وال هي قبيحة املنظر‪ ،‬لكن التناقض وعدم اال ِّتفاق‬
‫عىل مدى صالحيّتها زوجة يل أنا‪ :‬بعضهم يقول إن تفكريها سليم‪ ،‬وعقلها‬
‫راجح‪ ،‬وبعضهم يزعم العكس‪ ..‬بعضهم يقول إنها متح ِّررة‪ ،‬وبعضهم‬
‫متحجرة‪ .‬قال يل بعض الناس إنها فتاة تحمل عقالً متح ِّررا ً‬ ‫ِّ‬ ‫يزعم أنها‬
‫وفكرا ً ناضجا ً وإدراكا ً واعياً‪ ،‬وهي خري من تصلح زوجة يل ورشيكة‬
‫بالتحجر والجمود والخمول‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫حياة‪ ،‬وبعضهم ينفي عنها ّ‬
‫كل هذا‪ ،‬ليصفها‬

‫أترصف‪ ،‬وال أعرف ماذا أفعل‪ .‬صحيح‬


‫ّ‬ ‫أنا حائر‪ ..‬حائر جدّاً‪ :‬ال أعرف كيف‬

‫‪73‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫أنني ال أبحث عن الجمال املفرط‪ ،‬وأقنع بالجمال والشكل املقبولْني‪ ،‬إنما‬


‫ينصب يف البحث عن عقل‪ ..‬عقل يفهمني وأفهمه‪ ..‬عقل يدرك‬ ‫ّ‬ ‫كل همي‬ ‫ّ‬
‫رسالتي يف هذه الحياة‪ ،‬وفكر يقدِّر أفكاري‪ ،‬ويؤمن بآرائي التي ترتاءى‬
‫لبعضهم آراء متط ّرفة بعيدة عن الواقع‪ .‬إنني أبحث عن زوجة ذات عقل‬
‫متح ِّرر وإرادة منطلقة‪ ،‬تساعدني عىل تحقيق آرائي وأفكاري‪ .‬وتقتنع‬
‫بصوابها‪ ،‬بعد تفكري وت ّر ِو‪ ،‬وال تسلِّم بها لعدم استطاعتها مناقشتها‬
‫أو دحضها‪ .‬أبحث عن زوجة إنسانة‪ ،‬وال أبحث عن مج َّرد أنثى تطبخ‬
‫وتنظف منزيل‪ ،‬وتد ِّفئ فرايش‪ ،‬ثم تنتظر أوامري يف استسالم‬ ‫ّ‬ ‫طعامي‪،‬‬
‫الضعفاء‪ .‬أنا أرى املرأة نصف الرجل‪ ،‬نصف الوجود‪ ،‬الرجل يف حاجة‬
‫إليها‪ ،‬تماماً‪ ،‬كحاجتها هي إليه‪ ،‬ال يمكن ألحدهما أن يستغني عن اآلخر‬
‫وإل فقد االحساس بوجوده‪ ،‬وفقد الشعور بكيانه‪ .‬عىل هذا األساس‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ولفهم املرأة ودور املرأة ومه ّمة املرأة‪ ،‬ك َّونت فكرتي عن الزوجة التي‬
‫أريدها أن تعيش معي هذه الحياة‪.‬‬

‫عىل هذا األساس‪ ،‬بدأت أشعر بحاجتي إىل امرأة‪ ،‬إىل إنسانة تفهمني‬
‫وأفهمها‪ ،‬أكثر من حاجتي إىل أنثى تطفئ ظمأ غريزتي‪ ،‬امرأة ُتشعرني‬
‫بوجودها إىل جواري‪ ،‬بحاجتي إليها‪ ،‬تناقشني بعقلها‪ ،‬عندما تناقشني‪،‬‬
‫وال تجادلني بعقلية جدَّتها ولغة خالتها‪ ،‬امرأة تعيش يف النصف الثاني‬
‫ِّ‬
‫وتفكر بعقليّة النصف الثاني من القرن العرشين‪،‬‬ ‫من القرن العرشين‪،‬‬
‫وتنظر إىل الحياة من خالل منظار النصف الثاني من القرن العرشين‪،‬‬
‫تفكر بعقلية القرن الخامس عرش‪ ،‬وتعيش عىل اجرتار‬ ‫وال أريدها امرأة ّ‬
‫املايض‪ ،‬أ ّيام كانت املرأة ال ترتفع عن مستوى أثاث البيت الذي يشرتيه‬
‫ويتحكم فيه ويف مصريه ويف حياته‪ ،‬يحتفظ به متى شاء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الرجل‪،‬‬
‫‪74‬‬
‫أي‬
‫ويستغني عنه متى أراد‪ .‬أريد امرأة إنسانة‪ ،‬وال أريد أنثى‪ .‬ترى من ِّ‬
‫نوع من النساء تكون مريم؟ أهي إنسانة؟ أم تراها مج َّرد أنثى؟‬

‫بكل هذه‬‫إنني يف حرية‪ ..‬يف قلق‪ ..‬يف خوف‪ ..‬ولوال هذه العادات‪ ،‬ملا شعرت ّ‬
‫املشاعر من الخوف والحرية واالضطراب‪ .‬لوال هذه العادات التي تكبِّلنا‬
‫ّ‬
‫وتشل إراداتنا الستطعت أن اختار زوجتي‪،‬‬ ‫وتغلّنا‪ ،‬وتحجز عىل حر ّياتنا‪،‬‬
‫كما أريدها أنا‪.‬‬

‫‪ 29‬مارس‬

‫حق إنساني رشيف‪ ،‬وهبتنا‬ ‫لست ـ والله ـ أدري‪ :‬ملاذا نمنع من مزاولة ّ‬
‫إياه الحياة؟ ملاذا ُيحال بيننا وبني ما أباحه لنا الدين والعقل واملنطق‬
‫ومتطلَّبات الوجود اإلنساني؟ ملاذا ُنمنَع من التم ُّتع بالح ّر ّية التي هي‬
‫أساس وجودنا‪ ،‬يف هذا الوجود؟ كيف ُيس َمح لنا أن نختار لون ونوع‬
‫القماش الذي سنتَّخذ منه بدلة يمكننا االستغناء عنها يف ّ‬
‫كل وقت‪ ،‬ثم‬
‫حق االختيار‪ ،‬عندما نحاول اختيار زوجاتنا‬ ‫الحق‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ُنمن َع من التم ُتع بهذا‬
‫وعشريات حياتنا؟‬
‫كل يشء يف الوجود‪ّ ..‬‬
‫كل يشء يف الحياة يبيح لنا التع ُّرف إىل اللواتي‬ ‫ّ‬
‫سنتَّخذهن زوجات ورفيقات لنا طوال رحلتنا الحياتية‪.‬‬

‫فأنا‪ ،‬عندما أتز َّوج‪ ،‬ال أتز َّوج ليوم‪ ،‬وال أتز َّوج لسنة‪ ،‬وال أتز َّوج حتى‬
‫لعرش سنوات‪ ،‬فحسب‪ ،‬بل أتز َّوج ملدى العمر‪ ..‬أتز َّوج امرأة سوف لن‬
‫كل هذا‪ ،‬يحرمونني من‬ ‫يفصل بيني وبينها سوى املوت والفناء‪ .‬وبعد ّ‬

‫‪75‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ّ‬
‫حق اختيارها‪ .‬أنا لست من الذين يؤمنون بحكمة الطالق‪ ،‬وال حتى م َّمن‬
‫منحنا إ ّياها الدين‪ ،‬فأساء‬
‫يستيسيغون استعمال هذه الرخصة التي َ‬
‫استعمالها الكثريون من الجهلة واملغ َّفلني‪ .‬إن الطالق رخصة دينية‪،‬‬
‫ال يستعملها اإلنسان العاقل ّإل إذا عجز عن إصالح شأن زواجه‪ ،‬وال‬
‫يستعملها ّإل يف حاالت الرضورة القصوى‪ ،‬فلماذا نحاول التقليل من‬
‫مساوئ الطالق‪ ،‬الذي هو أبغض الحالل إىل الله؟‬

‫إنني من الذين يؤمنون بقدسية الحياة الزوجية‪ ،‬ومن الذين يقدِّسون‬


‫وأي رباط م َّقدس لحياة ال تقوم عىل‬
‫الرباط الزوجي‪ ،‬لكن‪ ،‬أ ّية قدسية‪ّ ،‬‬
‫أي مفهوم من مفاهيم الحياة‪،‬‬
‫املنطق‪ ،‬وال تقوم عىل العقل‪ ،‬وال تقوم عىل ّ‬
‫أي مفهوم من مفاهيم الدين؟‬
‫بل ال تقوم عىل ّ‬

‫لكن‪ ..‬ماذا يفيد هذا الكالم الذي أقوله أنا؟ وماذا تفيد ثورتي أنا وغريي‬
‫من األفراد القليلني؟! إننا ال نستطيع أن نح ِّقق شيئا ً م ّما نؤمن به ونعتنقه‬
‫من املبادئ‪ ،‬ألن املسألة ليست مسألة أفراد؛ إنها مسألة مجتمع‪ ..‬قضية‬
‫فردي لهذه األوضاع ال يأتي بأ ّية نتيجة إيجابية‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫مجموعة‪ّ ،‬‬
‫وكل عالج‬
‫الب ّد من عمل جماعي‪ ..‬الب ّد من ثورة شاملة عا ّمة تطيح بهذه السخافات‬
‫واألوهام واألكاذيب والرتَّهات‪.‬‬

‫وأمام هذا املنطق‪ ..‬أمام هذه الحقائق‪ ،‬أنا ال يمكنني أن أعمل شيئاً‪ ،‬ال‬
‫أغي شيئاً‪ ،‬ال يمكنني أن أقوم بأي عمل إيجابي‪ ،‬كثريا ً كان أم‬
‫يمكنني أن ِّ‬
‫قليالً‪ ،‬ألبدِّل من هذه األوضاع الفاسدة املتع ِّفنة‪.‬‬

‫ليس أمامي ّإل أن أخطب هذه الفتاة‪ .‬إن سعادتي معها‪ ..‬إن تفاهمي‬
‫‪76‬‬
‫معها‪ ،‬قد تكون أضمن من سعادتي وتفاهمي مع أ ّية فتاة سواها‪.‬‬

‫أمس‪ ،‬قال يل والدي‪« :‬اسمع ـ يا سليم ـ أنا ال أريد أن أفرض عليك‬


‫رأيي يف موضوع ال يتعلَّق بأحد كما يتعلَّق بك أنت وحدك‪ .‬ال‪ ‬أريد أن‬
‫أفرض عليك رأيي يف موضوع زواجك‪ .‬لقد أصبحت رجالً تقدِّر مسؤولية‬
‫يضك‪ .‬أنت ح ّر‪،‬‬ ‫وجودك‪ ،‬وتميِّز بني الخري وال ّ‬
‫رش‪ ،‬بني ما ينفعك وما ّ‬
‫تز َّوج َمن شئت‪ّ ،‬‬
‫وكل دوري‪ ،‬يف هذا الشأن‪ ،‬أن أخطب لك الفتاة التي‬
‫الخاصة‪ ،‬فأنت الذي ستعارش هذه‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫التدخل يف شؤونك‬ ‫تختارها‪ .‬ال أريد‬
‫املرأة ال أنا‪ ،‬وعليك أن تختار بنفسك املرأة التي تليق بك‪ ،‬ألنك‪ ،‬وحدك‪،‬‬
‫ستتح َّمل نتيجة اختيارك»‪.‬‬

‫أرأيتم ـ أ ُّيها اآلباء ـ هذه الديموقراطية التي َّ‬


‫نشأني عليها أبي‪ ،‬منذ الصغر‪.‬‬
‫أخص خصوصياتي‪ ،‬وال يريد‬‫ّ‬ ‫إنه ال يريد أن يفرض رأيه يف موضوع يراه من‬
‫الخاصة‪ ،‬ويريدني أن أتح َّمل مسؤولية ما آتي من أفعال‬
‫ّ‬ ‫أن َّ‬
‫يتدخل يف شؤوني‬
‫وأعمال‪ .‬ر َّبما‪ ،‬تقولون إن سبب ذلك (أنني ابنه الوحيد بني سبع بنات)‪ .‬لكن‪،‬‬
‫يتغي أبداً‪ ،‬ولو ُر ِزق عرشين ولدا ً ال‬
‫ثقوا أن طبعه ـ كما عرفته ـ هو هو‪ ،‬لن َّ‬
‫ولدا ًواحداً‪ .‬هكذا عرفته‪ ،‬منذ سنوات طفولتي ّ‬
‫املبكرة‪ :‬يجلسني أمامه‪ ،‬ويقول‬
‫يل يف هدوء‪« :‬إنك ترغب يف عمل كذا‪ ،‬وأنت ح ّر‪ ،‬يمكنك أن تفعل ما تشاء‪،‬‬
‫لكنني ِّ‬
‫أفضل‪ ،‬فقط‪ ،‬لو أنك ال تفعل هذا وتفعل ذاك»‪ .‬بهذه الطريقة‪ .‬كان‬
‫يقنعني بخطأ رأيي وصواب رأيه‪ ،‬دون أن يشعرني بأنه ُيخضعني آلرائه‪ .‬ويف‬
‫كثري من امل ّرات كان يقتنع بصواب رأيي‪ ،‬فيعود ويقول يف هدوئه املعهود‪« :‬إن‬
‫نشأني أبي‪ ،‬فهل َّ‬
‫نشأتم أنتم‬ ‫رأيك صواب‪ ،‬يا سليم‪ ..‬لقد أخطأت أنا»‪ .‬هكذا َّ‬
‫أبناءكم هذه التنشئة‪ ،‬أ ُّيها األباء؟‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫‪ 12‬أبريل‬

‫ما أسخف هذه العقلية التي تسيطر عىل عقول نسائنا؟‬

‫لقد جاءتني إحدى قريباتي‪ ،‬هذا الصباح‪ ،‬وجلست أمامي تقول‪:‬‬

‫اسمع يا سليم‪ :‬إني أعرف مريم من أ ّيام الصغر‪ .‬إنها ليست (وحشة)‪ ،‬بل‬
‫هي جميلة‪ ،‬وهي خري من تصلح لك زوجة‪.‬‬
‫وأردت أن أعابثها َّ‬
‫وأطلع عىل أفكارها‪ ،‬فقلت لها‪:‬‬

‫كيف حكمت أنها جميلة؟ قالوا أنها (وحشة)‪.‬‬

‫‪ -‬كذب‪ ..‬كذبوا عليك‪ .‬إنها جميلة‪ :‬وجهها مستدير‪ ،‬وبرشتها بيضاء‪،‬‬


‫وأنفها دقيق صغري‪ ،‬وعيناها واسعتان‪ ،‬وطولها معتدل‪ ،‬وشعرها أسود‬
‫طويل يكاد يصل إىل ركبتيها‪ .‬ما رأيك يف هذه الصورة؟ أليست جميلة؟؟‬

‫‪ -‬حسن هذا‪ ،‬لكن‪ ،‬كيف حكمت أنها خري من تصلح يل زوجة؟‪.‬‬

‫‪ -‬أنا أعرف أنك تكثر من القراءة‪ ،‬وترغب يف الهدوء‪ ،‬وهي ـ كما أعرفها‪ ‬ـ‬
‫ال‪ ‬تميل إىل الثرثرة‪ .‬إنها صموت عاقلة رصينة‪.‬‬

‫‪ -‬هنا‪ ،‬ال أ َّتفق معك‪.‬‬

‫‪ -‬ملاذا؟ ملاذا ال تتَّفق معي‪ ،‬يا سليم؟ هل أنت رجل طائش‪ ،‬فرتيد امرأة‬
‫طائشة مثلك؟ عهدي بك رجالً عاقالً!‬

‫‪ -‬ليس املوضوع موضوع طيش وعقل‪ ،‬بل ألنني ال أميل إىل املرأة‬
‫‪78‬‬
‫أفضل املرأة التي تتحدَّث كثرياً‪ ،‬فاإلنسان ـ عاد ًة ـ كلما‬
‫الصموت‪ ،‬إنني ِّ‬
‫كثر حديثه كثر نقاشه‪ ،‬ومن كثر نقاشه وَسِ ع أفقه‪ ،‬وغزرت معلوماته‬
‫العا ّمة‪.‬‬

‫‪ -‬يمكنك أن تخلق فيها هذه الصفة عندما تنتقل إليك‪ .‬يا حرستاه عىل‬
‫أ ّيام زمان!! أ ّيام كانوا ِّ‬
‫يفضلون املرأة الصموت التي تجلس إىل جانبك‬
‫يوما ً كامالً فال تسمع منها كلمة واحدة‪.‬‬

‫‪ -‬تلك أ ّيامكم‪ ،‬وأولئك مغفلون‪ ..‬يتز َّوجون من ُد ًمي ال من نساء‪.‬‬


‫‪ -‬عىل ّ‬
‫كل حال‪ ،‬هذا هو رأيي‪ ،‬ولك وحدك الكلمة األخرية‪.‬‬

‫أرأيت بأ ّية عقلية يحكمون عىل الزوجة؟‪ :‬إنهم يريدونها دمية‪ ،‬قطعة من‬
‫أثاث البيت‪ ،‬تجلس إليك يوما ً كامالً ال تحادثك وال تناقشك‪ .‬يا لها من‬
‫عقلية سخيفة هذه التي تسيطر عليهم‪ ،‬وتطبع نظرتهم إىل املرأة!!‬

‫‪ 20‬أبريل ‪1952‬‬

‫وافقت عىل إعالن الخطبة‪ ..‬غدا ً يذهب والدي فيطلب يل يد مريم من‬
‫والدها‪.‬‬

‫‪ 22‬أبريل‬

‫وافق والد مريم‪َ ..‬قبِل طلبنا‪َ ،‬‬


‫وحدَّد يوم ‪ 30‬من هذا الشهر إلعالن الخطبة‬

‫‪79‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫رسمياً‪ .‬الله ّم‪ ،‬اجعلها خطبة مباركة‪ ،‬وخطوة أوىل نحو سعادتي يف هذه‬
‫الحياة‪.‬‬

‫‪ 1‬مايو‬
‫ّ‬
‫والشك يف أن مريم تضع مثلها‬ ‫هأنذا‪ ،‬أضع (دبلة) الخطوبة يف إصبعي‪،‬‬
‫يف إصبعها‪ .‬فالله ّم‪ ،‬اكتب لنا النجاح والتوفيق والسعادة والهناء‪.‬‬

‫لقد ُحدِّد شهر أغسطس املقبل إلتمام الزواج‪ ،‬وإن لم ُي َحدَّد‪ ،‬بعد‪ ،‬يوم‬
‫يشتط يف طلباته ورشوطه‪ ،‬لقد كان‬ ‫ّ‬ ‫الزفاف‪ ،‬بالضبط‪ .‬إن والد مريم لم‬
‫بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني اإلنسانية‪ ،‬فكانت طلباته‬ ‫إنسانا ً ّ‬
‫معقولة مقبولة‪ ،‬وعندما أخربه والدي بأنني سأقيم ومريم يف منزل‬
‫ومستقل‪ ،‬أجاب‪« :‬هذا ال يه ّمني‪ ..‬ال أريد أن أح ِّمل سليما ً فوق طاقته‪،‬‬
‫ّ‬
‫عشة أو زريبة‪ .‬امله ّم أن يكون‬ ‫فليفعل ما يف وسعه‪ ،‬ولو أقام وإ ّياها يف ّ‬
‫سعيدا ً معها‪ ،‬وتكون سعيدة معه»‪ .‬وقد أشار والدي عيلَّ بذلك‪ ،‬ألنه‬
‫كان يؤمن برضورة انفصال االبن عن أرسته‪ ،‬يف السكن‪ ،‬بعد زواجه‪،‬‬
‫منطقي معقول‪ ،‬بل هل أمر‬ ‫ّ‬ ‫فالواقع أن مبدأ االستقالل بعد الزواج‪ ،‬مبدأ‬
‫مفروغ منه‪ ،‬وأنا ـ شخصيّا ً ـ أؤمن به‪ ،‬وأق ّره‪ ،‬وألحّ عليه‪ ،‬أ ّما بالنسبة‬
‫وكل أخواتي‬‫كل ما أريد؛ فوالدتي متو ّفاة‪ّ ،‬‬ ‫إلـي وضعي أنا فسيت ّم يل ّ‬
‫متز ِّوجات‪ ،‬عدا فطومة‪ ،‬وهي مخطوبة‪ ،‬أيضاً‪ ،‬وسيت ّم زواجها قريباً‪ ،‬و ـ‬
‫ر ّبما ـ كان ذلك يف األسبوع نفسه الذي يت ّم فيه زفايف‪ .‬إذن‪ ،‬لم يبق أحد‬
‫نحس بثقله‪ ،‬ولن‬‫ّ‬ ‫يشاركنا البيت‪ ،‬أنا ومريم‪ ،‬سوى والدي‪ ،‬الذي سوف لن‬
‫بأي ضيق أو مضايقة‪.‬‬‫يشعرنا ّ‬
‫‪80‬‬
‫عندما عادت شقيقتي الكربى‪ ،‬أمس‪ ،‬من منزل مريم‪ ،‬قالت يل وهي‬
‫تبتسم‪« :‬مربوك‪ ،‬يا سليم‪ .‬إن مريم فتاة عاقلة كما تراءت يل‪ ،‬ورغم أنها‬
‫ليست جميلة‪ ،‬بإفراط‪ ،‬فهي ليست قبيحة الشكل‪ .‬إنها مقبولة»‪.‬‬
‫كل النساء سواء يف تفكريه ّن؛ ال ِّ‬
‫يفكرن ّإل يف الجمال والقبح!!‬ ‫كلّهن‪ّ ..‬‬
‫من قال له ّن إنني أبحث عن الجمال؟؛ فأنا ال أبحث ّإل عن فتاة تفهمني‬
‫وأفهمها‪ ،‬وتضع يدها يف يدي لنسري معا ً نحو الغاية التي ننشدها‪ .‬أرجو‬
‫أن ُت َح َّقق أحالمي مع مريم‪ ..‬خطيبتي‪.‬‬

‫‪ 11‬مايو‬

‫ال جديد يف املوضوع‪ ،‬إذا استثنيت التحضريات والتجهيزات الرضورية‬


‫إلتمام الزواج؛ زواجي أنا‪ ،‬وزواج فطومة شقيقتي‪ .‬لقد طلب والد مريم‬
‫أن أجهِّز حجرتني اثنتني‪ :‬حجرة نوم‪ ،‬وحجرة أكل‪ ،‬وأراد خطيب فطومة‬
‫أن يت ّم زفافه مع زفايف‪ ،‬يف يوم واحد‪ ،‬واستحسن والدي الفكرة‪ ،‬حيث‬
‫قال‪« :‬إن دخول مريم إىل البيت‪ ،‬سيخ ِّفف من وقع خروج فطومة منه‪،‬‬
‫فإننا نستعدّ‪ ،‬هذه األ ّيام‪ ،‬الستقبال أسبوع الزواج»‪.‬‬

‫‪ 22‬مايو‬

‫لم نحد ِّد يوم الزفاف بعد‪ ،‬وإن كنا قد حدَّدنا الشهر الذي سيت ّم فيه‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬لم يبق عىل ذلك سوى ّ‬
‫أقل من ثالثة أشهر‪ ،‬وأنا انتظر عىل أح ّر من‬

‫‪81‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الجمر‪ ،‬ال ألطفئ غريزتي‪ ،‬لكن ألرى نتيجة امتحاني‪ ،‬نتيجة اختياري‪،‬‬
‫كل آمايل وأحالمي؟ َمن يدري!!‬ ‫فهل تح ِّقق مريم‪ ،‬التي اخرتتها بنفيس‪ّ ،‬‬
‫وكونت لها صورة مرشقة‬ ‫هل ستكون تلك الفتاة التي انتظرتها طويالً‪َّ ،‬‬
‫أفكر يف جمالها‪ ،‬فليس للجمال ذلك القدر من‬ ‫يف خيايل؟ أنا ـ قطعا ً ـ ال َّ‬
‫أي نوع من النساء تكون زوجتي‪ :‬هل ستكون‬ ‫األه ِّميّة عندي‪ ،‬بل أفك ِّر يف ِّ‬
‫من النساء الخامالت الكسوالت املتواكالت‪ ،‬أم امرأة متح ِّررة مدركة عاقلة‬
‫تساير تط ُّور الحياة؟‬

‫لقد حاولت‪ ،‬طوال هذه األ ّيام‪ ،‬أن أراها‪ ،‬ولو من بعيد‪ ..‬ولو خلسة‪ ،‬عىل‬
‫حني غفلة منها‪ ،‬فذهبت محاوالتي أدراج الرياح‪ .‬كم مررت من أمام‬
‫منزلها‪ ..‬من تحت نوافذها؛ لعلّني أملحها ولكن‪ ،‬عبثا حاولت‪ ،‬فأنا لم أ َرها‬
‫تطل عىل الشارع أبداً‪ ،‬وحتى‬ ‫قط‪ ،‬ال خلف الباب وال وراء النافذة‪ ،‬لكنها ال ّ‬
‫ّ‬
‫تطل عىل الشارع‪ ،‬ورأيتها‪ ،‬فكيف يل أن أعرفها‪ ،‬وأن أميِّزها‬ ‫لو أنها كانت ّ‬
‫عن غريها‪ :‬عن شقيقتها الصغرى‪ ،‬مثالً‪ ،‬التي قالوا أنها أكثر منها سمر ًة‪،‬‬
‫وأكثر امتالًء؟ أنا ال أعرف هذه‪ ،‬وال تلك‪ ،‬فكيف أميِّز بينهما؟‪.‬‬

‫‪ 30‬مايو‬
‫أمس‪ ،‬مساءً‪ ،‬تقابلت ـ صدفة ـ مع ابن عمها‪ ،‬يف أحد املقاهي‪ ،‬وهو‬
‫كل ما أصفه به هو أنه مغرور‪ ،‬وتحادثت‬ ‫شاب يف الثالثني من عمره‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫شاب يرى نفسه أكثر من حقيقته‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫معه حديثا طويال‪ ،‬عرفت خالله أنه‬
‫كل أحاديثه ّ‬
‫تدل‬ ‫أناني جاهل‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫إن هذا الشاب املغرتّ لم يعجبني؛ فهو‬
‫عىل جهله وأنانيَّته وغروره‪ ،‬فهو يدَّعي أنه درس يف إحدى الجامعات‬
‫الطب‪ ،‬ثم أوفِد يف بعثة‬
‫ّ‬ ‫املرصية‪ ،‬وتخ َّرج فيها‪ ،‬وحصل عىل بكالوريوس‬
‫‪82‬‬
‫إىل بريطانيا إلتمام دراسته‪ ،‬وظننت أن نتيجة هذه الدراسة واالحتكاك‬
‫غيت الكثري من عقليَّته وتفكريه‬ ‫باملجتمعات األخرى‪ ،‬يف الخارج‪ ،‬قد َّ‬
‫سطحي جدّاً‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ونظرته إىل املرأة‪ ،‬وحكمه عىل الحياة‪ ،‬وإذا بي أكتشف أنه‬
‫متحجرة‪ ،‬وفكره لم يتح َّرر‬
‫ّ‬ ‫معلوماته العا ّمة بسيطة جدّاً‪ ،‬وعقليَته ال تزال‬
‫من رواسب املايض‪ ،‬بعد‪ ،‬و‪ -‬ر َّبماـ هذا ما دفع مريم إىل رفضه‪ ،‬عندما‬
‫تقدَّم إليها قبل سنة‪ ،‬تقريباً‪ ،‬وحاول أن يقنعني بوجهة نظره القائلة‪« :‬إن‬
‫املرأة للبيت» وهي (حريم)‪ .‬وعندما ناقشته يف هذا املوضوع وضح عجزه‬
‫وقصوره أمام جمع من األصدقاء‪ ،‬فلم يجد ما يسند به أقواله وادّعاءاته‪،‬‬
‫وحني أ ُفحِ م بحججي‪ ،‬قال يف عجرفة متناهية‪« :‬هل درست يف الخارج‪ ،‬يا‬
‫كل دراستي لم تتجاوز السنة‬ ‫أستاذ سليم؟» وأجبته‪« :‬ال‪ ،‬والحمد لله‪ ..‬إن ّ‬
‫التوجيهية هنا‪ ،‬يف طرابلس»‪ .‬وأغرق هذا الديك األبيض يف الضحك حتى‬
‫دمعت عيناه‪ ،‬ثم قال‪« :‬أ ّما أنا فخ ِّريج‪ ..‬خ ِّريج جامعة‪ ،‬وأحمل شهادة‪،‬‬
‫ومعلوماتي أوسع وأكثر وأخصب من معلوماتك»‪ .‬وشعرت بق ّوة خفيّة‬
‫تدفعني إىل صفعه‪ ..‬إىل صفع هذا الديك األبيض املنتفخ‪ ،‬وتلقينه درسا ً‬
‫َّ‬
‫املغفل‬ ‫قاسياً‪ ،‬يف احرتام مشاعر غريه‪ ،‬لن ينساه‪ ..‬ماذا يعتقد يف نفسه هذا‬
‫املغرور؟‪ :‬هل يظ ّن أن العلم وقف عليهم وحدهم‪ ،‬هم خ ّريجو الجامعات؟‬
‫الحظ لم تساعدنا الظروف عىل الدراسة يف‬ ‫ّ‬ ‫ونحن ـ الذين لم يسعفنا‬
‫الخارج مثلهم ـ أال نمثّل أمامهم شيئا ً سوى الجهل؟؟‪.‬‬

‫ملحة تدفعني إىل صفعه‪ ،‬لكنني عدت وتمالكت أعصابي‪،‬‬ ‫شعرت برغبة ّ‬
‫فقلت له بربود تشوبه السخرية (ماذا تفيد الشهادة التي تحملها إذا لم‬
‫فك األغالل التي ّ‬
‫تغل عقلك‪ ،‬أو إذابة الثلوج املرتاكمة عىل‬ ‫تساعدك عىل ّ‬
‫تشق أمامك طريق الحياة» وتركته‬ ‫ّ‬ ‫تفكريك؟ «انقع هذه الشهادة إذا لم‬
‫دون أن أزيده كلمة أخرى‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫‪ 10‬يونيو‬

‫ُحدِّد يوم االثنني‪ ،‬املوافق ‪ 5‬أغسطس املقبل‪ ،‬لعقد القران‪ ،‬أ ّما ليلة الدخلة‬
‫فستكون ـ بعون الله ـ ليلة الخميس‪ ،‬الثامن منه‪ ..‬سواء‪ ،‬يف ذلك‪ ،‬أنا‬
‫وفطومة‪ ،‬فستكون دخلتنا يف ليلة واحدة‪.‬‬

‫‪ 19‬يونيو‬

‫كل هذه املعاكسات؟ لقد فاجأني سيادة‬ ‫رب؟ ماذا حدث؟ ملاذا ّ‬‫ما هذا‪ ،‬يا ّ‬
‫املدير‪ ،‬مدير املصلحة التي أعمل بها‪ ،‬بأن أجهِّز نفيس للسفر يف مه ّمة‬
‫رضورية ومستعجلة إىل مرص‪ ،‬تستغرق شهرين‪ .‬قال إن السفر سيكون‬
‫رب؟ هل أرفض السفر‪ ،‬أم أقبله؟ إذا‬ ‫يوم ‪ 5‬يوليو‪ ،‬فلماذا ّ‬
‫كل هذا‪ ،‬يا ّ‬
‫تأخر موعد زواجي‪ ،‬وإذا رفضته ضاعت مني سفرة إىل القاهرة‪،‬‬ ‫قبلته َّ‬
‫أل ّول م ّرة يف حياتي‪ -‬ر َّبما‪ -‬تساعدني عىل معرفة جوانب جديدة يف حياة‬
‫تأخر زواجي بعض‬ ‫الناس‪ .‬إذن‪ ،‬ليس من املناسب الرفض‪َ .‬فألقبلها‪ ،‬ولْيَ َّ‬
‫الوقت‪ ،‬وأمري لله‪.‬‬

‫‪ 23‬يونيو‬

‫والدي‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬يستحسن سفري‪ ،‬فالقيام بمه ّمة أُسندت يل‪ ،‬دون‬
‫غريي من زمالء العمل‪ ،‬فرصة يجب ّأل أضيِّعها‪ .‬وقد ا َّتصل والدي بوالد‬
‫مريم وأطلَعه عىل األمر‪ ،‬فوافق‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬عىل هذه الفكرة‪ ،‬غري أن اليشء‬
‫‪84‬‬
‫يحيني ويقلقني هو موضوع خالد‪ ،‬خطيب فطومة؛ إنه يلحّ عىل‬ ‫الذي ّ‬
‫رضورة إتمام زواجه يف املوعد املحدَّد‪ ،‬وفطومة ترى ّأل يت ّم زواجها وأنا‬
‫يف الخارج‪ ،‬ترى‪ ،‬هل يقبل خالد مبدأ التأجيل؟‬

‫‪ 3‬يوليو‬

‫تأجل سفري إىل القاهرة حتى يوم ‪ 25‬يوليو‪ ،‬وهذا م ّما يزيد يف تعقيد‬
‫َّ‬
‫نتمكن من التغلُّب عليه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫األمور مع خالد‪ ،‬خطيب فطومة‪ .‬أرجو أن‬

‫‪ 14‬أغسطس‬

‫أنا‪ ،‬اآلن‪ ،‬يف القاهرة‪ ،‬وهذه رسالة من والدي استلمتها صباح اليوم‪ ،‬يقول‬
‫فيها‪« :‬خالد يلحّ عىل إتمام زواجه‪ ،‬وحاولت أن أقنع فطومة بذلك فلم‬
‫وأرصت عىل الرفض‪ ،‬حيث أقسمت ّأل يت ّم زواجها يف غيبتك‪،‬‬‫ّ‬ ‫تقتنع‪،‬‬
‫ف األمر‪ ،‬ولو أنها فسخت خطبتها‪ ،‬وقالت أيضاً‪ :‬ليذهب خالد إىل‬
‫مهما كل َّ َ‬
‫أمي وأبي غري‬
‫الجحيم‪ ،‬سوف لن يكون يل عرس وأخي‪ ..‬شقيقي‪ ..‬ابن ّ‬
‫حارض‪ ،‬ولو كان خالد هذا هو الرجل الوحيد يف الدنيا‪ ،‬ولو ُكتب عيلَّ أن‬
‫أعيش عانسا ً مدى الحياة‪ ،‬وحاولت أختك الكربى إقناعها فلم يفد يشء‬
‫معها‪ ،‬وقالت‪ :‬كيف تطلبون مني أن أوافق عىل إتمام زواجي عليه؟ إن‬
‫دون ذلك موتي‪ ..‬أرأيت ـ يا سليم ـ إىل أ ّية درجة تحبّك فطومة أختك‪،‬‬
‫وتع ّزك؟»‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫تفضلني عىل نفسها‪.‬‬‫ِّ‬ ‫أجل‪ ،‬أنا أعرف أن فطومة تحبّني‪ ،‬وأعرف أنها‬
‫إنني ال زلت أذكر يوم جلسنا‪ ،‬أنا وهي‪ ،‬نبحث موضوع زواج إحدى‬
‫صديقاتها‪ ،‬وكان أخوها يف السجن ينتظر كلمة تخرج من أفواه القضاة‬
‫وجهت لومي إىل صديقاتها‪ ،‬وعجبت كيف ترىض أن‬ ‫لتحدد مصريه‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ِّ‬
‫يت ّم زواجها وشقيقها مصريه بني يدي القدر‪ ،‬ويومها قالت فطومة تدافع‬
‫عن صديقتها‪« :‬ال تل ْمها‪ ،‬يا سليم‪ ..‬إنها مسكينة‪ ..‬إنها مجربة‪ ..‬مجربة عىل‬
‫أقل منها علماً‪ّ ،‬‬
‫وأقل‬ ‫زواجها بهذا الرجل الذي هو أبعد الرجال عنها‪ ،‬ألنه ّ‬
‫وأقل منها تفكرياً‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬أُجربت عىل قبوله‪ ،‬شأنها‬ ‫ّ‬ ‫منها مست ًوى‪،‬‬
‫شأن أ َية فتاة أخرى يف هذا املجتمع‪ ،‬وهي مجربة عىل إتمام زواجها يف‬
‫هذا الظرف‪ ..‬ظرفها السيِّئ»‪ .‬ويومها‪ ،‬ظننت أنها‪ ،‬أي فطومة‪ ،‬تحمل‬
‫تكذب ظنّي‪ ،‬إذ ترفض فطومة‬ ‫هي األخرى مثل هذه الفكرة‪ ،‬وإذا باأل ّيام ِّ‬
‫إتمام زواجها ملج َّرد أنني مسافر عن البلد‪ ..‬سامحك الله‪ ،‬يا فطومة‪ ،‬كم‬
‫تمتازين عن غريك من الفتيات!!‬

‫‪ 7‬أكتوبر‬

‫عدت من القاهرة يوم ‪ 3‬أكتوبر الجاري‪ ،‬وحاملا رأتني فطومة ض َّمتني‬


‫إليها‪ ،‬يف شوق ولهفة بال َغ ْي‪ ،‬فشكرتها عىل مشاعرها نحوي‪ ،‬وما أبدته‬
‫من تضحية يف سبييل‪ .‬وأمس‪ ،‬ا َّتفق والدي ووالد مريم وخالد خطيب‬
‫فطومة‪ ،‬عىل أن يت ّم ّ‬
‫كل يشء خالل هذا الشهر‪ :‬عقد القران يوم األحد‪25 :‬‬
‫أكتوبر‪ ،‬والدخلة مساء يوم الخميس الذي يليه‪ 29 :‬أكتوبر‪.‬‬

‫حاولت أن أسرتسل يف القراءة‪ ،‬فلم أستطع‪ .‬كان النوم يغالبني ويضط ّرني‬
‫‪86‬‬
‫عىل الرقاد‪ .‬نظرت إىل الساعة فإذا هي الخامسة والنصف صباحاً‪ ،‬فقمت‪،‬‬
‫مرغماً‪ ،‬إىل الرسير أتمدَّد بجانب جانيت التي كانت مستغرقة يف نوم عميق‪،‬‬
‫وشعرها الذهبي يحيط بوجهها الجميل‪ .‬ثم استغرقت يف نوم عميق لذيذ‪،‬‬
‫بعد القراءة والسهر والجهد واإلعياء‪ ،‬لم أستيقظ منه ّإل بعد منتصف‬
‫اليوم التايل‪ .‬وأ ّول يشء فعلته عندما استيقظت هو البحث عن جانيت التي‬
‫لم أجدها إىل جواري‪ ،‬فظننت أنها قد رحلت عىل‪ ،‬حني غفلة مني‪ ،‬دون أن‬
‫تودّعني‪ ،‬فقد ع َّودتني تجاربي ّأل أثق يف النساء‪ ،‬من أمثالها‪ ،‬أبداً‪ .‬وقبل‬
‫الوردي الش ّفاف‬
‫ّ‬ ‫البحث عنها يف أركان الفندق‪ ،‬لفت نظري قميص نومها‬
‫معلَّقا ً عىل املشجب‪ ،‬يف مكانه املعتاد‪ ،‬فسارعت أرتدي مالبيس يف رسعة‬
‫وشاب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وعجلة‪ ،‬وخرجت أبحث عنها يف الفندق‪ ،‬فوجدتها تجلس مع فتاة‬
‫لم أرهما معها من قبل‪ ،‬حول منضدة‪ ،‬واقرتبت منهم‪ ،‬فما إن رأتني حتى‬
‫وترحب بي‪ ،‬وتقدِّمني إىل صديقيها‪ ،‬بوصفي صديقها‬ ‫ِّ‬ ‫وقفت تستقبلني‬
‫الرشقي الحميم‪ ،‬كما قدَّمتهما يل قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬مس مارجريت وخطيبها املسرت جون‪ ،‬من إنجلرتا‪ ،‬جاءا يقضيان فرتة‬
‫إجازتهما الصيفية يف باريس‪.‬‬

‫رشفنا‪ ..‬أهالً وسهالً‪.‬‬


‫‪ -‬ت َّ‬

‫سحبت مقعدا ً أجلس عليه إىل جوارهم‪ ،‬ودار بيننا‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬حديث ودّي‬
‫(بالفرنسية‪ ،‬طبعاً) ألنني لم أكن أعرف اللّغة اإلنجليزية‪ ،‬إىل أن حان‬
‫رشقي‪ ،‬فعالً‪ ،‬دعوت مارجريت وجون‬‫ّ‬ ‫وقت الغداء‪ .‬ولكي أظهر لهم أنني‬
‫رحبا بأن يكونا ضيفينا‪ ،‬وتناولنا‬ ‫لتناول الغداء معنا‪ ،‬فلم يمانعا‪ ،‬بل َّ‬
‫غداءنا يف مطعم الفندق‪ ،‬وقبل أن ينرصف الضيفان‪ ،‬غمزتني جانيت كي‬

‫‪87‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫أدعوهما لتناول العشاء معنا‪ ،‬أيضاً‪ ،‬ولم أجد بدّا ً من توجيه الدعوة‪ ،‬التي‬
‫بي شاك َر ْين‪ .‬وانرصفنا نحن ـ األربعة ‪ ،-‬عىل موعد اللقاء‬ ‫َقبالها ِّ‬
‫مرح ْ‬
‫يف موعد تناول العشاء‪ .‬ذهبت أنا وجانيت إىل حجرتنا‪ ،‬وبعد اسرتاحة‬
‫قصرية خرجنا يف نزهة عىل شاطئ نهر السني العريق‪ .‬وهناك‪ ،‬جلسنا‬
‫عىل مقعد عتيق تحت شجرة عجوز‪ ،‬نعيد الذكريات‪ ،‬ونرسم خطوط‬
‫املستقبل‪ .‬ولم ندرك كم مىض من الوقت علينا يف جلستنا تلك‪ ،‬إىل أن بدأت‬
‫مصابيح الشوارع تبعث بخيوط أنوارها الباهتة تيضء ما حولنا‪ ،‬وقمنا‬
‫عائدين إىل الفندق‪ ،‬إىل أن كانت الساعة تشري إىل التاسعة‪ ،‬تقريباً‪ .‬وهنا‪،‬‬
‫توجهنا إىل املطعم وما هي ّإل لحظات حتى حرض ضيفانا الكريمان‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وأرسعت جانيت تقرتح أن نتناول طعامنا يف غري هذا الفندق‪ ،‬وسألت‪:‬‬

‫نحن ال نعرف باريس كما تعرفينها أنت‪ ،‬فأي مكان تقرتحني؟‬

‫‪ -‬اتبعوني‪ ،‬وأنا أقودكم إىل أحسن مطعم‪ ،‬يف أحسن َح ّي‪.‬‬

‫وقمنا نسري معها إىل َح ّي (سان جرمان)‪ ،‬ثم دخلنا إىل ما ظننّا أنه‬
‫مطعم‪ ،‬فإذا به صالة رقص‪ ..‬موسيقى صاخبة تنبعث من أحد األركان‪..‬‬
‫الراقصون اثنني اثنني‪ ..‬األضواء خافتة باهتة‪ ..‬سألت جانيت‪:‬‬

‫ما هذا؟ إنه مرقص وليس مطعماً‪ ،‬بل إنه ما‪...‬‬

‫‪ -‬هذا ليس من اختصاصك‪ ..‬إنه مطعم‪ ،‬أيضاً‪.‬‬

‫ويف أحد األركان املظلمة النائية‪ ،‬جلسنا حول مائدة‪ .‬وقبل أن يسألنا‬
‫أحد ماذا نريد‪ ،‬حرض أحد خدم املطعم والتفت إلينا يسألنا ماذا نريد أن‬
‫نأكل‪ ،‬وطلب ّ‬
‫كل واحد منا ما يريد‪ .‬وما إن انتهينا من األكل‪ ،‬حتى شعرنا‬
‫‪88‬‬
‫بأقدامنا تسوقنا‪ ،‬رغما ً عنّا‪ ،‬إىل حلبة الرقص‪ ،‬وبدأنا نرقص‪ ،‬أنا وجانيت‬
‫وجون وخطيبته‪ ،‬ثم أنا وخطيبة جون‪ ،‬وجون مع جانيت‪.‬‬

‫كانت الساعة تشري إىل الثانية والنصف صباحاً‪ ..‬غادرنا ذلك املكان‬
‫عائدين إىل الفندق‪ ،‬بعد أن ودَّعنا ضيفينا‪ ،‬دخلنا حجرتنا ونحن يف حالة‬
‫تغي مالبسها‪،‬‬‫من النشوة واالنرشاح ال توصف‪ .‬وعندما بدأت جانيت ِّ‬
‫التفتت‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬إىل الباب فوجدت رسالة مستعجلة من والدتها تدعوها‬
‫للعودة حاال ً إىل (نيس)‪ ،‬وبأرسع ما يمكنها من االستعجال‪ ،‬فحالتها يف‬
‫خطر‪ ،‬وهي تريد أن ترى ابنتها الوحيدة‪ ،‬قبل أن تفارق الحياة‪ ،‬فأرسعت‬
‫جانيت تجهِّز أمتعتها للسفر يف قطار الساعة الثامنة صباحاً‪ ..‬ولم نشأ‬
‫أن نضيِّع ليلتنا األخرية‪ ،‬هذه السنة‪ ،‬هباءً‪.‬‬

‫وأخرياً‪ ،‬حان موعد الفراق‪ ..‬موعد سفر جانيت‪ ..‬عودتها إىل بلدها (نيس)‪.‬‬
‫ّ‬
‫املحطة ودّعتها‪ ،‬عىل أمل اللقاء‬ ‫رافقتها يف تاكيس إىل محطة القطار‪ ،‬ويف‬
‫يف الصيف القادم‪ ،‬إذا لم تساعدها الظروف عىل العودة رسيعاً‪ ،‬هذه‬
‫السنة‪ .‬لقد ا َّتفقنا عىل اللقاء الرسيع العاجل‪ ،‬بعد يومني‪ ،‬فقط‪ ،‬إذا كانت‬
‫تحسنت‪ ،‬وال تستدعي بقاءها إىل جوارها‪ ،‬إذ ستجدني يف‬ ‫َّ‬ ‫حالة أ ّمها قد‬
‫انتظارها‪ ،‬وكذلك تعود (جانيت) إىل باريس إذا كانت أ ّمها قد فارقت‬
‫الحياة‪ ،‬فبدال ً من أن تعاني الوحدة والوحشة والفراغ تعود إىل باريس‬
‫فتجدني‪ ...‬أ ّما إذا لم تعد خالل اليومني‪ ،‬فعندها أكون يف حِ ّل منها‪ ،‬ومن‬
‫ح ّقي البحث عن فتاة أخرى غريها‪.‬‬
‫ّ‬
‫املحطة‪،‬‬ ‫جاء القطار‪ ،‬وسافرت جانيت‪ ،‬وبقيت وحدي داخل مبنى‬
‫أحملق‪ ،‬تار ًة‪ ،‬يف الخيط الرفيع من الدخان الذي خلَّفه القطار وراءه‪،‬‬

‫‪89‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫يغص بهم املكان‪ ،‬عىل سعته‪ ،‬وهم‬ ‫ّ‬ ‫وتار ًة أخرى‪ ،‬يف وجوه الناس الذين‬
‫بني مسافر وقادم ومستقبل ومودِّع‪ ،‬وتارة ثالثة‪ ،‬أمعن النظر يف االسم‬
‫وأفكر يف شكل صاحبة‬‫ِّ‬ ‫والعنوان املكتوبني عىل القصاصة التي يف يدي‪،‬‬
‫أترصف يف مثل‬
‫َّ‬ ‫هذا االسم‪ ..‬وقبل أن أق ِّرر ماذا يجب أن أفعل‪ ،‬وكيف‬
‫كل جزء من جسمي حتى‬ ‫هذا املوقف‪ ،‬شعرت بما يشبه املخدِّر يرسي يف ّ‬
‫سكة الحديد‪ ،‬وأدركت أنه اإلرهاق‬ ‫محطة ّ‬
‫ّ‬ ‫كدت أجلس عىل أحد مقاعد‬
‫والتعب والسهر‪ .‬لقد تعبت الليلة املاضية والليايل التي قبلها‪ ،‬وها هو ذا‬
‫ر ّد الفعل‪ ،‬فق َّررت‪ ،‬حاالً‪ ،‬العودة إىل الفندق وأخذ قسط من الراحة‪ ،‬قبل‬
‫أق ِّرر مصريي‪.‬‬

‫عدت إىل الفندق وحدي‪ ،‬وأنا أشعر بحاجتي إىل الراحة‪ ،‬وبحاجتي إىل‬
‫النوم‪ ،‬لعلَّني أع ِّوض شيئا ً م َن النشاط الذي فقدته طوال الليايل السابقة‪.‬‬

‫ودخلت الفراش‪ ،‬فإذا بي بارد كالثلج‪ ..‬بارد أكثر م ّما يجب‪ .‬وعندها‪،‬‬
‫أدركت فضل (جانيت)‪ ،‬وقبل أن ِّ‬
‫أفكر يف الفراغ الذي خل َّ َفته جانيت‬
‫وراءها‪ ،‬شعرت بالتخدُّر م َّر ًة أخرى‪ ،‬وغلبني النوم‪ ،‬فاستغرقت يف نوم‬
‫عميق ميلء بالرؤى واألحالم‪.‬‬

‫نمت ذلك اليوم والساعة تشري إىل العارشة صباحاً‪ ،‬وعندم استيقظت‬
‫كانت الساعة تشري إىل الثالثة من مساء اليوم التايل‪ ،‬فأرسعت إىل الحمام‬
‫(دشاً) بارداً‪ ،‬أعاد إيلَّ كثريا ً من النشاط والحيوية‪ ،‬ثم ارتديت مالبيس‪،‬‬
‫آخذ ّ‬
‫وخرجت إىل بهو الفندق أتناول قهوة بدون سكر‪ ،‬ونظر نحوي صاحب‬
‫ُّ‬
‫وظل ابتسام ٍة يرتاقص عىل شفتيه‪،‬‬ ‫البار نظر ًة تحمل كثريا ً من املعاني‪،‬‬
‫ثم سلَّمني برقية‪ ،‬وهو يقول‪« :‬وصلت حوايل الساعة الحادية عرشة‬
‫‪90‬‬
‫صباحاً‪ ،‬وأردت أن أسلِّمها إليك يف حينها‪ ،‬لكنني وجدت حجرتك مغلقة‬
‫من الداخل‪ ،‬وحاولت إيقاظك فلم تستيقظ‪ ،‬فظننت أنك مشغول‪.»........‬‬

‫ولم أر ّد عىل ثرثرته بأ ّية كلمة‪ ،‬بل أخذت ّ‬


‫أفض الربقية يف عجلة‪ ،‬وأنا‬
‫أستغرب كيف وصلت جانيت برسعة‪ ،‬وكيف كتبت يل هذه الربقية‪ .‬أتراها‬
‫تعود‪ ،‬أم أبحث عن غريها؟؟ لكن‪ ،‬رسعان ما خاب ظنّي‪ ،‬فقد كانت الربقية‬
‫من طرابلس‪ ،‬وكانت تقول‪« :‬عد حاالً‪ ..‬السيد عبد املعطي يف خطر»‪.‬‬

‫وهذا (عبد املعطي) الذي شاء أن يقطع إجازتي ويقصف رقبة متعتي‪،‬‬
‫بربقيته املشؤومة‪ ،‬كان أحد رجال األعمال يف طرابلس يدير تجارة واسعة‪،‬‬
‫يف الداخل والخارج‪ ،‬أصيب‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬بداء الرئة‪ ،‬وكنت طبيبه حيث‬
‫تولَّيت عالجه حتى ُشفي‪ ،‬قبل ذهابي إىل باريس بأ ّيام قليلة‪ .‬وزياد ًة يف‬
‫الحيطة‪ ،‬أعطيته عنوان إقامتي يف باريس‪ ،‬قبل سفري‪ ،‬حتى يتَّصل بي‬
‫امللحة‪ ..‬وما دام قد ا َّتصل بي فالب ّد أن حالته يف خطر‪،‬‬
‫يف حالة الرضورة ّ‬
‫وإل ملا تج َّرأ وحاول قطع فرتة راحتي القصرية هذه‪ ،‬والعودة بي‬ ‫فعالً‪ّ ،‬‬
‫إىل ذلك الج ّو الخانق الذي كثريا ً ما ضقت به‪ ،‬وشكوت منه‪.‬‬

‫وكان أ َّول يشء فعلته‪ ،‬أنذاك‪ ،‬أن أبرقت إىل جانيت أخربها بسفري‬
‫املفاجئ‪ ،‬وطلبت من إدارة الفندق أن تحجز يل عىل أ َّول طائرة‪ ،‬يف طريقها‬
‫إىل طرابلس‪.‬‬

‫ما إن وصلت حتى سارعت ألعود السيِّد عبد املعطي‪ ،‬و‪ -‬فعالً‪ -‬وجدته يف‬
‫حالة تكاد تكون ميئوسا ً منها‪ ..‬كانت حالته خطرة جدّاً؛ ما جعلني آمر‪،‬‬
‫حاالً‪ ،‬بنقله إىل املستشفى‪ ،‬وأ َّتصل بمستشفى مطار املالحة العسكري‬
‫أطلب منه حقنا ً غري متو ّفرة ّإل هناك‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ومضت عرشة أ ّيام‪ ،‬وأنا مالزم فيها السيِّد عبد املعطي‪ ،‬ال ّ‬
‫أفكر ّإل يف‬
‫املعجزة املساوية التي قد تساعدني عىل إعادة الحياة إىل هذا العجوز‬
‫املتصابي الخائف من املوت‪ ،‬لكن السماء ال تمطر ذهباً‪ .‬لم تسعفني‬
‫باملعجزة املرج ّوة‪ ،‬فما إن كان اليوم العارش من عودتي إىل طرابلس‪،‬‬
‫حتى كان السيّد عبد‪ ‬املعطي قد أسلم الروح إىل خالقها‪ ،‬وفارق الحياة‪.‬‬
‫ومن يومها‪ ،‬لم تعد يل أ ّية مشكلة تلهيني عن العودة إىل حياتي الروتينية‬
‫ِّ‬
‫ومذكرات‬ ‫وتذكرت سليما ً‬
‫َّ‬ ‫الخاصة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أفكر يف مشاكيل‬ ‫املعهودة‪ ،‬فعدت ّ‬
‫سليم‪ ،‬فشعرت بكثري من تأنيب الضمري ولوم النفس لعدم سؤايل عنه‬
‫وعدم زيارتي له‪ .‬فرغم أنني عدت منذ عرشة أ ّيام‪ّ ،‬إل إنني لم أ َّتصل به‪،‬‬
‫فأنستْني سليم بن‬
‫َ‬ ‫ولم أسأل عنه بعد أخذتني دوامة السيد عبد املعطي‪،‬‬
‫عبد امللك وجعلتني طوال العرشة أ ّيام‪ ،‬ال ّ‬
‫أفكر ّإل يف املعجزة السماوية‬
‫تنجيه من املوت‪ .‬وعندما عجزت عن استنزال هذه املعجزة‪ .‬عدت‬ ‫التي ّ‬
‫أفكر يف سليم‪ ،‬فسارعت أ َّتصل به تلفونياً‪ ،‬وأدعوه للحضور‪ ،‬فوراً‪ ،‬إىل‬
‫ِّ‬
‫ش َّقتي‪ ،‬وعجب الرجل من وجودي يف طرابلس‪ ،‬وكان يظنّني ال أزال يف‬
‫باريس‪ ،‬فسألني‪ ،‬يف استغراب‪:‬‬

‫أين تريدني أن أقابلك؟ يف باريس؟!!‬

‫وقهقهت كثريا ً قبل أن أجيبه‪:‬‬


‫أنا يف طرابلس‪ ..‬إنني ِّ‬
‫أكلمك من بيتي‪ ..‬من ش ّقتي يف املدينة‪ .‬وعاد يسأل‪،‬‬
‫يف دهشة واستغراب‪:‬‬

‫متى عدت؟ أنزلت من السماء‪ ،‬أم نبتَّ من األرض؟‬


‫‪92‬‬
‫وقلت يف برود‪:‬‬

‫أنا هنا منذ عرشة أ ّيام‪.‬‬

‫وقال سليم يف استنكار‪:‬‬

‫منذ عرشة أ ّيام وأنت يف طرابلس‪ ،‬وأنا ال أسمع عنك‪ ،‬وأنت ال تسأل عني‬
‫إن كنت حيّا ً أم ميِّتاً؟؟‬

‫توسل‪:‬‬
‫وقلت يف ّ‬

‫ال تؤاخذني‪ ..‬مشاكل الحياة كثرية‪ ..‬سأرشح لك املوضوع الليلة‪.‬‬

‫وقال سليم‪ ،‬يف استسالم‪:‬‬


‫عىل ّ‬
‫كل حال‪ ،‬ال أريد أن أطيل عليك الحديث‪ ،‬اآلن‪ .‬سنتقابل الليلة عند‬
‫الساعة العارشة‪ .‬انتظرني يف ش ّقتك‪ ،‬وستدفع الثمن غالباً‪ ،‬يا نايس‬
‫أصدقائك‪.‬‬

‫الحاجة زينب أقول‪:‬‬


‫ّ‬ ‫والتفتُّ أنا إىل‬

‫حاجة‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫حضي حجرة الجلوس‪ ،‬يا ّ‬

‫‪ -‬عالش يا دكتور؟ أنت ما قعدتش فيها من يوم ما رجعت‪ ..‬وما درتش‬


‫فيها سهرة أبداً‪ .‬شنو فيه الليلة؟‬

‫‪ -‬صديق جاي يسهر معاي‪.‬‬

‫‪ -‬أشكون هو هذا الصديق؟ أحسن لك‪ ،‬يا دكتور‪ ،‬لو تتج َّوز وترتاح‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫حاجة‪ ..‬شنو ظنّيت؟ والله العظيم ّإل سليم‪.‬‬


‫‪ -‬حرام عليك يا ّ‬

‫‪ -‬أمرك‪ ،‬يا دكتور‪ ..‬حارض‪ ،‬وهذي نصيحة ليك‪ ..‬أنت عمرك فوق األربعني‬
‫عام‪ ،‬ما شاء الله‪ ،‬وما زال ما فكرتش يف الزواج؟‬

‫حاجة‪ ،‬ديمة تنصحي يفَّ بالزواج‪ ،‬عندكش حاجة كو ِّيسة ّ‬


‫تس‪،‬‬ ‫‪ -‬أنت‪ ،‬يا ّ‬
‫تقويل يل عليها؟‬

‫ّ‬
‫بالحق؟‬ ‫‪ -‬ما َّ‬
‫كت ر ّبي غري البنات‪ ..‬أنت نويت تتز َّوج هذه امل ّرة‪،‬‬
‫‪ -‬امل ّرة هذي نبي ِّ‬
‫نفكر بالج ّد ّيات يف الزواج‪.‬‬
‫زي الراديو زمان (نبي ّ‬
‫انفكر)‪ ..‬اسمع‪ ،‬اسمع‬ ‫نفكر!! أنت درت ّ‬‫‪ -‬نبي ّ‬
‫كيف تكمل تفكريك؟ قويل يل‪.‬‬

‫زي ما تعريف أنت‪ ،‬عيني واسعة‪ ،‬شبحت كثري‪،‬‬ ‫حاجة‪ ،‬أني ّ‬


‫‪ -‬اسمعي يا ّ‬
‫وشفت كثري‪ ،‬وعرفت كثري‪ ،‬وتمتَّعت كثري‪ ..‬ونبيّك‪ ،‬ا ّد ّورييل بنت كويسة‪..‬‬
‫بنت ناس و‪...‬‬
‫َ‬
‫تعال يل أني انقولّك عىل البنت اليل تصلح بيك‪.‬‬ ‫‪ -‬اسمع‪ ..‬بعد ما ّ‬
‫تفكر‬

‫الحاجة زينب‪ ،‬وبدأت تجهِّز حجرة الجلوس التي سألتقي فيها‬


‫ّ‬ ‫وتركتني‬
‫مع سليم‪.‬‬

‫وكانت الساعة تشري إىل العارشة‪ ،‬مساء ذلك اليوم‪ ،‬عندما حرض سليم إىل‬
‫الصحة وعن األطفال وعن سري العمل‪ ،‬جلسنا‬
‫ّ‬ ‫ش َّقتي‪ .‬وبعد السؤال عن‬
‫نتحادث ونتبادل الكؤوس املثلَّجة‪ ،‬ونتجاذب أطراف أحاديث‪ ،‬من هنا‬
‫‪94‬‬
‫وهناك‪ .‬وكانت أحاديثنا عابرة ال رابطة بينها‪ ،‬وال هدف لها‪ ،‬إىل أن سألني‬
‫سليم عن رحلتي إىل باريس‪ ،‬وكيف قضيت أ ّيام إجازتي هناك‪ ،‬وملاذا‬
‫بكل هذه الرسعة‪ ،‬عىل خالف عادتي‪ .‬وماذا عملت خالل هذه األ ّيام‬ ‫عدت ّ‬
‫الحب والجمال‬‫ّ‬ ‫القالئل‪ ،‬وكيف قضيت تلك الياليل يف ج ّو باريس‪ ،‬مدينة‬
‫كل أسئلته‪ ،‬إجابات قصرية مقتضبة‪ ،‬دون‬ ‫واإلغراء‪ ..‬وكنت أجيبه‪ ،‬عىل ّ‬
‫أن أتع َّرض إىل ذكر موضوع االعرتافات؛ خوفا ً من أن يتَّهمني بمخالفة‬
‫العهد الذي قطعته له عىل نفيس‪ ،‬واكتفيت بأن ذكرت له كيف كنت أجلس‬
‫ّ‬
‫املطل عىل النهر‪ ،‬اقرأ لها القصص الفرنسية‪،‬‬ ‫مع جانيت يف رشفة الفندق‬
‫وهي تستمع إيلّ بإصغاء‪ ،‬وكيف نقيض ليالينا بعد ذلك‪ ،‬دون أن أتع َّرض‬
‫إىل ذكر االعرتافات‪ ،‬لكنه لم يدعني استم ّر يف تجاهيل للموضوع‪ ،‬فأفرغ‬
‫كأسه الثالثة يف جوفه‪ ،‬ثم عاد يسألني‪:‬‬

‫شك يف أن من بني القصص التي قرأتها عىل مسامع صاحبتك‬ ‫‪ -‬ال ّ‬


‫الفرنسية كانت «اعرتافات إنسان»‪ ،‬اعرتافاتي أنا‪.‬‬

‫ولم أستطع اإلنكار‪ ..‬لم أستطع أن أتمادى يف عدم مواجهة الواقع‪ ،‬فقلت‬
‫له‪:‬‬

‫حب االستطالع‪.‬‬ ‫قرأت لها بعضا ً منها‪ ..‬لم َّ‬


‫أتمكن من مقاومة غريزة ّ‬

‫قال‪ ،‬يف استغراب‪:‬‬

‫ألم تعاهدني عىل أنك لن تقرأها ّإل بعد وفاتي؟‬

‫‪ -‬أجل‪ ،‬لقد وعدتك‪ ،‬لكنك لم تعلم إنني كنت متلهِّفا ً عىل معرفة ّ‬
‫رس‬
‫رس الذي كتبته بقلمك يف هذه الصفحات‬‫هذه االعرتافات‪ ..‬عىل معرفة ال ّ‬

‫‪95‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫أتمكن من مقاومة الشعور الذي يعتمل يف داخيل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الخرساء؛ لذا لم‬
‫ويدفعني‪ ،‬رغم أنفي‪ ،‬إىل قراءة اعرتافاتك‪ .‬أرجو أن تسامحني‪ ،‬يا سليم‪.‬‬

‫‪ -‬حسناً‪ ...‬أنا أعرف ذلك‪ ..‬أعرف أنك ال تستطيع أن تضعها بجوارك‪،‬‬


‫دون أن تطلَّع عليها‪ .‬بل لقد عجبت كثريا ً كيف لم َّ‬
‫تطلع عليها ّإل اآلن؟‬
‫وكيف لم تقرأها من اليوم الذي سلَّمتك إ ّياها؟‬

‫إنني ال ألومك عىل ذلك لو فعلت‪ ..‬ال ألومك أبدا ً عىل إخالفك بالوعد‪ ..‬لكن‪،‬‬
‫قل يل‪ :‬هل انتهيت منها؟؟‬

‫‪ -‬ال‪ ..‬لم أقرأ منها ّإل قليالً‪ .‬كنت كلَّما حاولت االسرتسال يف قراءتها‪،‬‬
‫عاكستني اللعينة (جانيت)‪...‬‬

‫‪ -‬إىل أين وصلت يف قراءتك‪ ،‬إذن؟‬

‫‪ -‬إىل يوم (‪ )7‬أكتوبر‪ ،‬عىل ما أذكر‪.‬‬

‫‪ -‬ماذا أقول يف هذا اليوم؟‬

‫‪ -‬أعتقد أنك قلت‪« :‬إن االتفاق قد َت َّم عىل أن يكون القران يوم ‪ 25‬أكتوبر‪،‬‬
‫و(الدخلة) يوم الخميس‪ 29 ،‬منه»‪.‬‬

‫‪ -‬إذن‪ ،‬فأنت لم تصل‪ ،‬بعد‪ ،‬إىل اليشء الذي كنت تبحث عنه‪ ،‬ولم تعرف‬
‫ماذا َت َّم بعد القران‪ ،‬ولم تعرف ماذا حدث بعد ليلة الدخلة‪ ..‬لم تعرف‬
‫ّ‬
‫ميض سنة واحدة عىل ليلة الدخلة؟؟‬ ‫ماذا حدث بعد‬
‫‪ -‬لم أعرف شيئا ً من ّ‬
‫كل هذا‪ ،‬ألن (جانيت) كانت تمنعني من االسرتسال‬
‫‪96‬‬
‫سأطلع عىل ّ‬
‫كل يشء‪ ..‬يف املستقبل‪.‬‬ ‫يف القراءة‪ ،‬لكنني َّ‬

‫‪ -‬يظهر أنك ال تزال مص َّمما ً عىل االستمرار يف القراءة‪ ..‬قراءة االعرتافات؟‬


‫رس الذي أخفيته عني ّ‬
‫كل هذه املدة‪.‬‬ ‫‪ -‬حتى أعرف ال ّ‬
‫‪ -‬ما رأيك لو قصصت عليك بقيّة االعرتافات بنفيس؟ أنا ِّ‬
‫أفضل ذلك‪.‬‬

‫‪ -‬وأنا أخىش أن تخفي عني بعض الجوانب‪ .‬إن ما يبوح به اإلنسان‬


‫لآلخرين‪ ،‬ليس مثل ما يبوح به لنفسه‪.‬‬
‫سأقص عليك ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫تأكد أنني سوف لن أخفي عليك شيئاً‪ ،‬مهما صغر‪..‬‬ ‫‪َّ -‬‬
‫يشء‪ ،‬بالتفصيل‪ ،‬وكما حدث ّإل ما ضيَّعته الذاكرة‪ ،‬وستجد أن ما ّ‬
‫أقصه‬
‫عليك أكثر د َّقة وصدقا ً م ّما كتبته يف الك ّراس‪.‬‬

‫‪ -‬ر ّبما‪ ،‬كلَّفك ذلك كثريا ً من الوقت والجهد؟‬

‫‪ -‬ال‪ ..‬إن ذلك ال يكلِّفني شيئاً‪ .‬أمامنا عّدة ليا ٍل‪ ،‬قد ال نجد لها حديثا ً أمتع‬
‫من هذا الحديث‪ .‬أنت تدرك أن ليايل طرابلس ليست مليئة كليايل باريس‬
‫القصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الصاخبة‪ ،‬فلنمألها بهذه‬

‫ومنذ تلك الليلة‪ ،‬بدأنا نلتقي‪ ،‬أنا وسليم‪ ،‬يف ش َّقتي‪ ،‬بعد التاسعة من مساء‬
‫ّ‬
‫وبكل د ّقة‪،‬‬ ‫قصته التي أنقلها إليك‪ ،‬هنا‪ّ ،‬‬
‫بكل أمانة‪،‬‬ ‫كل يوم‪ ،‬وبدأ هو ي ّقص ّ‬ ‫ّ‬
‫حتى تقف بنفسك عىل لون من ألوان حياة الناس يف هذا املجتمع‪ ..‬أنقل‬
‫إليك صورة ّحية واقعية لحياة أرسة من هذه األرس الكثرية التي تعيش‬
‫خلف الجدران‪ ..‬جدران البيوت التي ترتاءى لنا‪ ،‬يف كثري من األحيان‪ ،‬أنها‬
‫تعيش يف دعة وأمن وسالم‪ .‬ولو َقدّر لنا أن نخرتق الجدران‪ ..‬أن ندخل‬

‫‪97‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫البيوت من غري أبوابها‪ ..‬من نوافذها‪ ،‬لهالَنا ما نراه‪ ،‬وما نشاهده داخلها‪.‬‬

‫قصته‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫بدأ سليم يروي ّ‬

‫ما إن كان يوم االثنني‪ 25 :‬أكتوبر‪ ،‬سنة ‪ ،1951‬حتى َت َّم عقد قراني‬
‫عىل مريم‪ ..‬عىل الفتاة التي اخرتتها بنفيس‪ ،‬بمحض إرادتي‪ ،‬بالطريقة‬
‫التي تراءت لها أنها طريقة مثىل‪ ..‬سألت عن أرستها‪ ،‬وسألت عن مستوى‬
‫تعليمها‪ ،‬وسألت عن طريقة حياتها‪ ،‬فعرفت عنها اليشء الكثري‪ .‬و ّقدمت‬
‫يل يف طبق من ذهب خالص‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬فخلتها هي الفتاة التي أبحث‬
‫عنها‪ ،‬والتي ال يمكنني أن أسعد يف الحياة مع غريها من النساء‪ ..‬هكذا‪،‬‬
‫أي يوم من األ ّيام‪ ..‬وهكذا‬
‫ص َّورها يل عقيل الذي لم يعرف ما هي املرأة‪ ،‬يف ّ‬
‫ص َّورها يل الذين شكروها أمامي‪.‬‬

‫وجاء يوم الخميس‪ 29 :‬أكتوبر‪ ،1951 ،‬فكانت ليلة (الدخلة)‪ ،‬وليتها‬


‫ما كانت‪ .‬كانت ليلة دخلتي أنا عىل مريم‪ ،‬وليلة دخلة شقيقتي فطومة‪،‬‬
‫كل يشء كما كان يريد والدي‪ ،‬ويرغب‪ .‬خرجت فطومة من‬ ‫أيضاً‪ ،‬فقد َت َّم ّ‬
‫البيت‪ ،‬ودخلته مريم‪ ،‬وكأن شيئا ً لم يحدث‪ .‬كأن أحدا ً لم يخرج‪ ،‬وأحدا ً‬
‫لم يدخل‪ .‬وتمنَّيت‪ ،‬ليلة دخلتي‪ ،‬لو كانت والدتي ّحية‪ ،‬تراني (عريسا ً َق ّد‬
‫الدنيا)‪ ،‬لرتى إبنها‪ ،‬الذكر الوحيد الذي ُرزقت به بعد مجموعة من البنات‪،‬‬
‫عشاً‪ .‬وهذا ما تمنّته أخواتي تلك‬ ‫وهو يبني بيتاً‪ ،‬ويك ِّون أرسة‪ ،‬ويعِّمر ّ‬
‫الليلة‪ ،‬تمنَّني لو كانت والدتنا موجودة حتى ترى وتنظر وتفرح معه ّن‪،‬‬
‫وانقلبت فرحته ّن‪ ،‬تلك الليلة‪ ،‬إىل حزن‪ ،‬بعد أن انخرطن يف بكاء حا ّر‬
‫خاصة فطومة املسكينة التي ُخيِّل إليها أن ذلك لم يكن عرساً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صامت‪،‬‬
‫إنما هو ‪-‬بالنسبة إليها‪ -‬مأتم‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫وم َّرت ليلة (الدخلة) كما تم ّر ّ‬
‫كل ليلة يف حياة الشباب‪ .‬وم َّرت الليايل التي‬
‫تعقب ليلة الدخلة‪ .‬وبعدها‪ ،‬شعرت بيشء من الراحة‪ ،‬وشعرت بيشء من‬
‫الهدوء‪ ،‬وبيشء من االطمئنان‪ ،‬وحمدت الله عىل أن ّ‬
‫كل يشء قد َت َّم كما‬
‫فكرت‪ ،‬وكما َقدَّرت‪ ،‬ولم أدر ماذا كان يخبِّئ يل القدر‪.‬‬‫ّ‬

‫شعرت‪ ،‬يف حرارة أ ّيام وليايل وأشهر الزواج األوىل‪ ،‬بكثري من الراحة‪،‬‬
‫بكل عواطفي‪،‬‬ ‫أحب مريم‪ ..‬أحبّها ّ‬ ‫وبكثري من الطمأنينة‪ ،‬وأحسست بأنني ّ‬
‫حب يف حياتي القاحلة املالحة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بكل حرارة حبّي البكر‪ ،‬ألنها كانت أ ّول ّ‬
‫فأنا لم أج ِّرب حبّا ً قبل حبّها‪ ،‬ولم أعرف فتاة غريها‪ ..‬لم أج ِّرب قبل حبِّها‬
‫حبّا ً عميقا ً متبادالً‪ ،‬باملعنى الصحيح املتعارف عليه للحب املتبادل بني‬
‫كل حبيبني‪ ..‬لم أجرب مثل هذا الحب‪ ،‬وإن كنت قد مررت بتجربتني‪،‬‬ ‫ّ‬
‫قبل ذلك‪ ،‬ال أريد أن أخفيهما عنك يا دكتور‪ ..‬كانت تجربتي األوىل عندما‬
‫أحببت إحدى قريباتي‪ ..‬تع َّرفت إليها بحكم القرابة منذ الصغر‪ ..‬منذ أن‬
‫كنّا نلعب معاً‪ ،‬ونجري معا ً هنا وهناك‪ ،‬دون رقيب‪ ،‬ومن غري مراقبة‪،‬‬
‫حب عميق أخذ يقوى ويشتدّ‪ ،‬شيئا ً فشيئاً‪،‬‬ ‫بحب؛ ّ‬
‫وشعرت يؤمئذ‪ ،‬نحوها‪ّ ،‬‬
‫رغم أنني لم أصارحها به‪ ،‬ألنني يف تلك الفرتة البعيدة‪ ،‬من أ ّيام طفولتي‪ ،‬ما‬
‫(الحب)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كنت أعرف أن هذا الشعور الذي أشعر به نحوها هو ما يس ّمونه‬
‫وتغيت نظرة‬ ‫َّ‬ ‫وتغيت نظرتنا إىل الحياة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وم ّرت‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬فرتة طفولتنا‪،‬‬
‫كل منّا نحو اآلخر؛ بدأت هي تنظر إيلّ عىل أساس أنني رجل‪ ،‬وأنا أنظر‬ ‫ّ‬
‫إليها عىل أساس أنها امرأة‪ ..‬بدأ جسدها يكتنز ويكتسب طابع األنوثة‪..‬‬
‫بالتغي املفاجئ الذي حدث يف مشاعرنا وعواطفنا‪ ،‬فسارعوا‬ ‫ُّ‬ ‫وشعر أهلنا‬
‫كل منا عن اآلخر‪ ..‬حجبوها عني‪ ،‬ولم يعودوا يسمحون لنا‬ ‫إىل إبعاد ّ‬
‫باللقاء أو االجتماع أو اللعب معاً‪ ،‬كما كنّا أ ّيام زمان‪ ،‬فلم تعد تراني ولم‬

‫‪99‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫أعد أراها‪ .‬لم نعد نلتقي وال نلعب معاً‪ ،‬وال تجري هنا وهناك‪ .‬ورغم ذلك‪،‬‬
‫الحب يقوى عىل م ّر األ ّيام والسنني‪ .‬وعندها‬
‫ّ‬ ‫استم ّر حبّي لها‪ ..‬استم ّر هذا‬
‫تحس‬
‫ّ‬ ‫أردت أن أخترب شعورها نحوي‪ :‬هل تبادلني هذا الشعور؟‪ .‬هل‬
‫الحب ال يس ّمى حبّاً‪ ،‬باملعنى الصحيح‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫أحس به؟ فلقد تعلَّمت أن‬
‫ّ‬ ‫بما‬
‫اليكون وسيلة لسعادة الناس‪ّ ،‬إل إذا كان حبّاً‪ ،‬متبادال ً بني الحبيبَ ْي‪ ،‬وأنا‬
‫ال أستطيع أن أحكم عىل نوع حبِّنا هذا‪ ،‬أو‪ -‬باألحرى‪ -‬حبّي هذا؛ إذ إنني‬
‫تحس‬
‫ّ‬ ‫ال أعرف شعورها نحوي‪ ،‬وإن كانت تحبِّني كما أحبّها‪ .‬وإن كانت‬
‫أحس بها كلّما سمعت صوتها‪ ،‬أو الحديث عنها!‬ ‫ّ‬ ‫بمثل تلك الرعشة التي‬
‫كل ذلك‪ ،‬كثريا ً كان أم قليالً‪ ..‬فحاولت أن أ َّتصل‬
‫أنا ال أعرف شيئا ً عن ّ‬
‫بها‪ ..‬أن أسرب غورها‪ ..‬أن أكتب إليها رسالة‪ ،‬وأطلب منها أن ِّ‬
‫تبي يل‬
‫موقفها مني أو موقفها من حبِّي لها‪ ،‬وكدت أفعل‪ ..‬كدت أكتب إليها ّ‬
‫بكل‬
‫شاب‬
‫ّ‬ ‫وأحس‪ ،‬لوال أنني علمت‪ ،‬يف آخر لحظة‪ ،‬أنها تميل إىل‬ ‫ّ‬ ‫ما أشعر به‬
‫عشا ً سعيداً‪،‬‬
‫آخر قريبها هو‪ ،‬أيضاً‪ ،‬وأنها تو ّد لو تتز َّوجه‪ ،‬وأن تبني معه ّ‬
‫غري أنني لم أصدِّق شيئا ً م ّما سمعت‪ ،‬ولم أستطع أن أجزم برأي محدَّد يف‬
‫املوضوع‪ ،‬إىل أن كان يوم‪ ،‬جاءني فيه قريبها هذا يقول‪:‬‬

‫أحب عائشة‪ ،‬وأميل إليها‪ ،‬وآمل أن َّ‬


‫أتمكن من الزواج‬ ‫‪ -‬اسمع‪ ،‬يا سليم‪ :‬أنا ّ‬
‫بها‪ ،‬وقد علمت أنك أنت اآلخر تميل إليها وتحبّها‪ ،‬فهل هذا صحيح؟‬

‫‪ -‬ومن أخربك بذلك؟‬

‫كل انفعاالتك كلّما كلّمتها‪.‬‬


‫بكل يشء‪ ..‬كانت تالحظ ّ‬
‫‪ -‬لقد أخربتني هي ّ‬

‫‪ -‬افرض أن ما تقوله ّ‬
‫حق‪ ،‬فماذا تريد مني؟‬
‫‪100‬‬
‫كل ما يف األمر أنني أطلب منك أن ِّ‬
‫تبي موقفك يف‬ ‫‪ -‬ال أريد منك شيئاً‪ّ ..‬‬
‫رصاحة ورجولة‪ .‬قلت لك إنني أرغب يف الزواج منها‪ ،‬لكنني ال أريد أن‬
‫أقيم حياتي الزوجية عىل أنقاض حياتك أنت‪ ،‬وسعادتك‪ ،‬فإذا كنت ترغب‬
‫فيها‪ ،‬وتحبّها‪ :‬فهي لك‪ ،‬تقدَّم إليها‪ ،‬واطلب يدها‪ ،‬وستجدني يف عونك‪،‬‬
‫ّ‬
‫وإل فدعني أتقدَّم إليها أنا‪.‬‬

‫يحب فتاته‪ ،‬وأنها تحبّه هي األخرى‪ ،‬وأنه مص ِّمم‬ ‫ّ‬ ‫وأدركت أن صاحبي‬
‫عىل طلب يدها‪ ،‬لكنه ق َّرر أن يأخذ رأيي أنا يف املوضوع‪ ،‬أ َّوالً‪ ،‬حتى ال‬
‫يعكر صفو صداقتنا‪ ،‬فقد كنا أصدقاء‪،‬‬ ‫يحدث بيننا‪ ،‬نحن‪ -‬االثنني‪ -‬ما ّ‬
‫َّ‬
‫وتوظفنا يف يوم واحد‪ :‬أنا يف‬ ‫درسنا معاً‪ ،‬سنة بعد سنة‪ ،‬وتخ َّرجنا معاً‪،‬‬
‫نظارة املواصالت‪ ،‬وهو يف نظارة األشغال‪ .‬وما إن سمعت كلمات صديقي‬
‫ويخيني‪،‬‬‫ِّ‬ ‫هذا حتى شعرت‪ ،‬يف قرارة نفيس‪ ،‬بأن الذي يقف أمامي اآلن‪،‬‬
‫ويفضلني عىل نفسه إنما هو إنسان عمالق‪ ..‬إنسان ارتقت به إنسانيَّته‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ً‬
‫(عملقة)‪،‬‬ ‫أقل منه‬‫فأردت أن أثبت له إنسانيَّتي‪ ،‬أنا اآلخر‪ ،‬وال أكون ّ‬
‫فسارعت أجيبه عىل الفور‪:‬‬

‫‪ -‬مربوك‪ ..‬تقدَّم أنت‪ ،‬يا أخي‪ .‬إنك أ َ ْوىل بها مني؛ فأنت تحبّها وهي تبادلك‬
‫الحب‪ ،‬وأنا لن أقف مطلقا ً حجر عثرة يف سبيل سعادتكما‪ ،‬ونم ّو‬ ‫ّ‬ ‫هذا‬
‫كل سعادة‬ ‫حبّكما‪ ..‬أنني أهنِّئك من صميم قلبي‪ ،‬مقدَّماً‪ ،‬وأرجو لكما ّ‬
‫وهناء‪.‬‬

‫حب من‬ ‫ومن يومها لم أعد ّ‬


‫أفكر يف هذه الفتاة‪ ،‬فقد انقلب حبّي لها إىل ّ‬
‫أخوي؛ شعرت بأنها أخت يل‪ ،‬وزوجها أخ كريم يل‪،‬‬‫ّ‬ ‫حب‬
‫نوع آخر‪ ..‬إىل ّ‬
‫كذلك‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫هذه حادثة‪ ،‬أ ّما الحادثة الثانية‪ ،‬فهي أقرب إىل الخيال منها إىل الحقيقة‪،‬‬
‫وقعَتْ عند ما تع َّرفت إىل فتاة‪ ،‬عن طريق الصدفة‪ .‬كنت وقتها أقيم مع‬
‫أرستي يف الريف‪ ،‬وآتي إىل الحارضة‪ ،‬يومياً‪ ،‬بواسطة السيّارة العا ّمة‪،‬‬
‫وكانت هي تعمل مد ِّرسة يف الدورة املسائية يف قريتنا‪ ،‬فكانت الصدف‬
‫تجمعنا‪ ،‬يف السيارة‪ ،‬عند عودتي أنا من العمل‪ ،‬وذهابها هي إىل املدرسة‪.‬‬
‫الحب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وشيئا ً فشيئاً‪ ،‬حدث بيننا قليل من التقارب‪ ،‬انقلب إىل نوع من‬
‫أحس بفراغ قاتل يمأل‬ ‫ّ‬ ‫كل منا نحو اآلخر؛ فقد كنت‪ ،‬وقتذاك‪،‬‬ ‫شعر به ّ‬
‫ّ‬
‫اململ‪ .‬وعندما تع َّرفت‬ ‫جوانبي‪ ،‬وأن عيلَّ أن أبحث ع ّما أمأل به هذا الفراغ‬
‫أفكر يف يشء سوى أنها فتاة تتحدَّث معي‪ ،‬وتكاتبني‪،‬‬ ‫إىل هذه الفتاة‪ ،‬لم ّ‬
‫وتعب يل عن بعض ما تشعر به‪ .‬إذن‪ ،‬فهي تح ُّبني؛ ما يف ذلك من ّ‬
‫شك‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫فاندفعت يف حبِّها من غري وعي أو تفكري‪ ،‬وبادلتها املكاتبات‪ ،‬لكنها‬
‫كانت حاذقة‪ ،‬إذ رسعان ما استغلَّت الظرف املناسب‪ ،‬وأخذت تر ِّوج‪ ،‬بني‬
‫الحب الذي نشأ بيننا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صديقاتها ومعارفها وصويحباتها‪ ،‬أخبار هذا‬
‫القوي‪ .‬وبلغتني‬
‫ّ‬ ‫وتريه ّن رسائيل إليها‪ ،‬وتخربه ّن أن الزواج سيت ِّوج حبَّنا‬
‫أفكر‪ ،‬أبداً‪ ،‬يف يشء اسمه الزواج‬ ‫كل هذه األنباء فدهشت وعجبت‪ ،‬فأنا لم ِّ‬ ‫ّ‬
‫وكل ما كنت‬ ‫من هذه الفتاة؛ لعدّة اعتبارات شخصية‪ ،‬وأخرى عائلية‪ّ .‬‬
‫أحس به إنما هو ميل نحوها يدفعني ملحادثتها ومراسلتها‪ ،‬ال أكثر من‬ ‫ّ‬
‫أقل‪ ..‬كنت أريد أن أشعر نفيس بأنني لست وحيداً‪ ،‬يف هذه الدنيا‪،‬‬ ‫ذلك‪ ،‬وال ّ‬
‫ويحس بإحساساتي‪ ،‬يمكنني‬ ‫ّ‬ ‫وأن هناك شخصا ً آخر يشعر بمشاعري‪،‬‬
‫أن أكتب إليه وأن أبثّه أشجاني‪ ،‬وأن أنتظر‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬ردوده عىل رسائيل‪،‬‬
‫حتى أمأل فراغ حياتي‪ ،‬إىل أن جاءتني شقيقتي فطومة تقول‪:‬‬

‫أنت مجنون‪ ،‬يا سليم؟‪ .‬ضاقت عليك الدنيا؟ مالقيتش غريها؟‬


‫‪102‬‬
‫وسألتها‪ ،‬يومها‪ ،‬يف استغراب‪:‬‬

‫ماذا حدث؟‪ .‬من هي هذه التي تتحدَّثني عنها؟‬

‫‪ -‬مناني‪ ...‬اليل أنت ناوي تتز ّوجها‪.‬‬

‫‪ -‬من قال هذا الكالم؟‬

‫لكل وحدة‪ ...‬الدنيا كلّها سمعت بحكايتكم‪،‬‬ ‫‪ -‬هي‪ ..‬هي تقول فيه ّ‬
‫و ُق ِرئت جواباتكم‪ ..‬قالت‪ :‬سليم يحبّني وبيني وبينه جوابات‪ ،‬ووعدني‬
‫بالزواج‪ .»..‬هو أنت مجنون يا سليم؟ هي هذه امرأة تمأل بيت وتع ّمر‬
‫حوش؟ إذا كنت صحيح ناوي تتز َّوج‪ ،‬قول لنا بس‪ ،‬وأحنا نختار لك‬
‫البنت اليل تعجبك‪ ...‬بنت أكرب كبريها نجيبوها لك‪.‬‬

‫حب وإكبار‪ ،‬قائالً‪:‬‬


‫و َر َّبتُّ عىل كتف شقيقتي يف ّ‬

‫فكرتش يف الزواج حتى اآلن‪ ...‬صحيح بيني‬ ‫اسمعي يا فطومة‪ ،‬أني ما ّ‬


‫وبني مناني جوابات وكتابات‪ ،‬لكن مش معنى هذا أني ناوي نتز ّوجها‪...‬‬
‫وما دامت الحكاية وصلت هذا الحدّ‪ ،‬أني خالص تبت ورجعت‪ ،‬من اليوم‬
‫ما عادش يكون بيني وبينها حتى يشء‪...‬‬

‫وفعالً‪ ،‬أوفيت بوعدي؛ فمن يومها لم يعد يشء بيني وبني هذه الفتاة‪..‬‬
‫قطعت ّ‬
‫كل عالقة يل بها‪ ،‬ولم أعد ّ‬
‫أفكر ّإل يف العثور عىل فتاة أ َّتخذها زوجة‬
‫حب عميق‬‫بحب‪ّ ..‬‬
‫يل ورشيكة حياة‪ ،‬إىل أن تز َّوجت مريم‪ ،‬وشعرت نحوها ّ‬
‫قوي‪ ،‬لم أشعر بمثله من قبل‪ ،‬وأحسست بأن هذه هي الفتاة التي كنت‬ ‫ّ‬
‫كل يشء‬‫أبحث عنها‪ ،‬منذ سنوات‪ ،‬لتمأل فراغ قلبي وفراغ حياتي القاحلة‪ّ .‬‬

‫‪103‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫يف مريم كان يعجبني‪ ،‬ويرضيني‪ ،‬ويجعلني أحمد الله‪ ،‬صباح مساء‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ويعذبني‪،‬‬ ‫عىل إتمام زواجي بها‪ .‬يشء واحد كان يقلقني‪ ،‬من ناحيتها‪،‬‬
‫أي‬
‫ويح ِّيني‪ ..‬هذا اليشء لم أكن أهت ّم به‪ ،‬ولم أكن أحسب له ّ‬ ‫ويؤ ِّرقني‪َ ،‬‬
‫حساب‪ ...‬هذا اليشء هو الذي ما كنت أعتقد أنه يستطيع أن يسيطر عىل‬
‫كل هذا العذاب‪ ،‬و ُيقلق راحتي ّ‬
‫كل‬ ‫كل هذه السيطرة‪ ،‬ويع ّذبني ّ‬ ‫حياتي ّ‬
‫الحدّ‪ ...‬وهذا اليشء‬‫هذا اإلقالق‪ ،‬وينقص من شعوري بالسعادة إىل هذا َ‬
‫أي‬‫أي وزن‪ ،‬وال يعريه ّ‬ ‫أي واحد منّا حساباً‪ ،‬وال يقيم له ّ‬ ‫الذي ال يحسب له ّ‬
‫يفكر يف الزواج‪ ...‬يف ربط حياته بعجلة حياة إنسان آخر‪،‬‬ ‫اهتمام‪ ،‬عندما ِّ‬
‫هو الذي َقلَب حياتي الزوجية املستق ّرة السعيدة رأسا ً عىل عقب‪ ،‬فجأ ًة‪،‬‬
‫ودون سابق إنذار‪ ،‬فح َّولها من نعيم إىل جحيم‪ ،‬ومن سعادة إىل شقاء‪،‬‬
‫ومن راحة إىل عذاب‪ ...‬هذا اليشء هو أن مريم لم تكن متجاوبة معي‪،‬‬
‫فكر ّيا ً وعقليّاً‪ ،‬ووعيا ً وإدراكا ً وتقديرا ً للحياة وظروفها وتط ُّورها‪.‬‬

‫لم تكن أفكارها قريبة من أفكاري‪ ،‬وال آراؤها قريبة من آرائي‪ ،‬وال نظرتها‬
‫إىل الحياة قريبة إىل نظرتي إليها‪ .‬كنت أعيش‪ ،‬بأفكاري‪ ،‬يف وادٍ‪ ،‬وهي‬
‫تعيش‪ ،‬يف وا ٍد آخر‪ ،‬بآرائها وأفكارها‪ ...‬كنت بعيدا ً عنها بقدر ما كانت‬
‫كل ذلك‪ ،‬ويف بداية أ ّيام حياتي الزوجية‪،‬‬‫هي بعيدة عني‪ ،‬كذلك‪ .‬ورغم ّ‬
‫الحب األ َّول‪ ،‬يف دوامة الفرحة بوجود أنثى إىل جواري‪ ،‬تمنحني‬
‫ّ‬ ‫يف غمرة‬
‫ُ‬
‫جسمها وشبابها وأنوثتها‪ ،‬يف تلك الفرتة‪ ،‬لم أقِم كبري وزن للموضوع‪ ،‬وال‬
‫أي قدر من االهتمام‪ ،‬وقلت‪ ،‬يف نفيس‪( ،‬معت ّزا ً بقدرتي ومقدرتي)‬ ‫أعرته ّ‬
‫أن الوقت وحده كفيل بالقضاء عىل هذه الحال‪ ،‬وهو كفيل‪ -‬أيضاً‪ -‬بأن‬
‫يق ِّربها مني بمرور الزمن‪ ،‬وبحكم املعارشة والتأثري‪.‬‬
‫وانقىض الشهر األ َّول‪ ،‬وتبعه الشهر الثاني‪ ،‬عىل زواجنا‪ ،‬ثم ِّ‬
‫توف والدي‬
‫‪104‬‬
‫بالسكتة القلبية‪ .‬ويف غمرة موجة الحزن واألىس التي اجتاحتني بعد‬
‫أحس أو أشعر بيشء م ّما يحيط بي‪ ،‬ولم أفِق من‬ ‫ّ‬ ‫موت والدي‪ ،‬لم أعد‬
‫تلك الصدمة املؤملة التي أصابتني‪ ،‬والتي اختطفت مني والدي وأفقدتني‬
‫إياه‪ ،‬دون أن ترتك يل فرصة محاولة إنقاذه؛ ما زاد يف حزني وأساي‬
‫ولوعتي‪ ،‬يف غمرة موجة الحزن التي ما كنت أتو َّقع حدوثها بمثل تلك‬
‫الرسعة واليرس والسهولة والبساطة‪ ،‬أيضاً؛ إذ لم يكن يخطر يف بايل‪ ،‬أبداً‪،‬‬
‫أن أبي الذي يحبّني وأحبّه‪ ،‬يمكن أن يموت‪ ،‬وأن يتغلَّب عليه القدر‪ ،‬أن‬
‫يقهره األجل‪ ،‬وينتقل من عالم األحياء إىل عالم األموات‪ ،‬يف دقائق‪ ...‬يف‬
‫لحظات‪ ،‬فأنا الزلت‪ ،‬حتى اليوم‪ ،‬أذكر الحادث‪ ،‬وكأنه لم يم ّر عليه سوى‬
‫ساعات قليلة‪ :‬كان أبي‪ ،‬ليلتئذ‪ ،‬قد تناول عشاءه‪ ،‬كاملعتاد‪ ،‬وجلس يرشب‬
‫قهوته‪ ،‬بينما جلست أنا عن يمينه‪ ،‬فوق حشية من الصوف‪ ،‬أطالع إحدى‬
‫القصص الصادرة حديثاً‪ ،‬وجلست مريم قبالتنا‪ ،‬نحن‪ -‬االثنني‪ -‬تط ِّرز‬
‫مفرشا ً للمائدة‪ .‬وفجأ ًة‪ ،‬صاح أبي متألِّماً‪ ،‬وهو يقول يل‪« :‬أعطني كأس‬
‫ماء‪ ،‬يا سليم»‪ ،‬وناولته املاء وأنا أسأله‪« :‬ما بك‪ ،‬يا أبي؟»‪ ،‬فلم يزد عىل‬
‫أن أشار إىل قلبه‪ .‬ووقفت أمامه حائرا ً بما أفعل‪ :‬هل أذهب إىل الدكتور‪،‬‬
‫أناديه؟ وإذا ذهبت‪ ،‬فمن يدري ماذا يحدث بعدذلك؟‪ ...‬أم هل أبقى إىل‬
‫أترصف؟ ولم ينقض وقت طويل عىل حريتي‬ ‫َّ‬ ‫جواره‪ ،‬ريثما يهدأ قليالً‪ ،‬ثم‬
‫تلك‪ ،‬حتى شعرت بأبي يتداعى فوق صدري‪ ،‬وأنفاسه تتباطأ‪ ،‬شيئا ً‬
‫فشيئاً‪ ،‬وما هي ّإل دقائق معدودة‪ ،‬حتى كانت روح أبي يف العالم اآلخر‪.‬‬

‫بكل هذه السهولة واليرس والبساطة‪ ،‬مات أبي! وكأنه لم يعش‬‫هكذا‪ّ ،‬‬
‫معي ما يقرب من الثالثني سنة‪ .‬هكذا‪ ،‬انتقل أبي إىل العالم اآلخر‪،‬‬
‫وفارقني إىل غري رجعة‪ ،‬ليرتكني وحيداً‪ ،‬أصارع الحياة وتصارعني‪ ،‬دون‬

‫‪105‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫سند أو مرشد؛ فقد كنت أعتمد عليه يف كثري من أمور حياتي‪ ،‬وكنت أرى‬
‫فيه قائدي ومرشدي ودلييل‪ .‬وعندما مات‪ ،‬فقدت ّ‬
‫كل ذلك‪ :‬فقدت املرشد‬
‫والقائد والدليل‪ ،‬وتراءت يل الحياة أشبه بالصحراء املرتامية األطراف‪،‬‬
‫ال أ َّول لها وال آخر‪ ،‬وأنا ال يمكنني أن أسري يف طولها وعرضها‪ ،‬إذا لم‬
‫ويوجهني‪ ،‬فكان حزني عليه أش ّد كثريا ً م ّما كنت‬
‫ِّ‬ ‫يكن معي من يرشدني‬
‫أتص َّور‪ ،‬وم ّما كنت أتخيَّل‪ ...‬كان أملي لفراقه أعظم م ّما كنت أظ ّن‪ .‬وبدأت‬
‫أعيش يف حرية‪ ...‬يف أىس‪ ...‬يف حزن‪ ،‬م ّد ًة تزيد عىل الخمسة أشهر‪ ،‬لم‬
‫أحس يف أثنائها بيشء‪ .‬كانت الصدمة قاسية‬ ‫ّ‬ ‫أشعر خاللها بيشء‪ ،‬ولم‬
‫كل مشاعري‪ ،‬وتركتني يف دوامة ال تتو َّقف أبداً‪ .‬وعندما‬
‫مر ّوعة‪ ،‬أفقدتني ّ‬
‫كل يشء يف حياتي‬ ‫أفقت من حالة الذهول التي أُصبت بها‪ .‬فوجئت بأن ّ‬
‫تغي وتبدَّل‪ ...‬شعرت بأنني لم أفقد أبي‪ ،‬فحسب‪ ،‬بل فقدت الكثري من‬
‫قد َّ‬
‫القيم واملعايري واملعاني‪ ،‬ووجدتني يف حرية من أمري‪ ...‬يف دوامة ّ‬
‫تلف بي‬
‫ذات اليمني وذات الشمال‪ ،‬يف عنف وقسوة‪.‬‬

‫وذات يوم‪ ،‬عدت إىل بيتي‪ ،‬أبحث يف جنباته عن قليل من الراحة والهدوء‬
‫واالستقرار‪ .‬دخلت حجرة الجلوس‪ ،‬وارتميت عىل أ ّول مقعد صادفني‪،‬‬
‫وأخذت ِّ‬
‫أفكر يف الحال التي أصبحت فيها‪ ،‬يف الوضع الذي وجدتني فيه‪:‬‬
‫أحس بالشقاء يالحقني؟ ملاذا أشعر‬
‫ّ‬ ‫ملاذا أشعر باأللم يعترصني؟ ملاذا‬
‫بالتعاسة تمأل وجداني؟‬

‫ماذا جنيت يف حياتي حتى أعا َمل ّ‬


‫كل هذه املعاملة القاسية الجا ّفة‪ ،‬وحتى‬
‫أشعر بهذا الشقاء وهذا العذاب؟ هل مج ّرد وفاة أبي ترتك يف نفيس ّ‬
‫كل‬
‫هذا القدر من الحزن واأللم واألىس؟‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫أنا ال أعتقد هذا‪ ...‬ال أصدِّقه‪ ...‬الب ّد أن يكون هناك يشء آخر كامن يف‬
‫وأحسه‪ ،‬وأتج ّرعه‪ ،‬لم تكن وفاة‬
‫ّ‬ ‫نفيس‪ ،‬ويسبِّب يل ّ‬
‫كل هذا الذي أقاسيه‪،‬‬
‫أبي ّإل مج َّرد يد أزاحت الغبار املرتاكم عليه‪ ...‬عىل هذا اليشء‪ ...‬ما وفاة‬
‫أبي ّإل آلة رفعت الستارة التي كانت مسدلة لتحول دوني ودون الشعور‬
‫بالعذاب والشقاء‪ .‬ومن هنا‪ ،‬بعد أن ُمسِ ح الغبار‪ ،‬و ُرفِعت الستارة‪،‬‬
‫أفكر‪ ،‬يومئذ‪ ،‬بمصدر‬ ‫أحس بما هو كامن يف أعماقي‪ ،‬وأخذت ِّ‬ ‫ّ‬ ‫بدأت‬
‫هذا الشقاء الذي أتحدَّث عنه‪ ،‬وال أستطيع تحديد معامله‪ :‬ما أصله؟ ما‬
‫مبعثه؟ كيف نشأ وكرب يف داخيل من غري أن أشعر به قبل زمن؟‪ .‬وقبل‬
‫أن أصل إىل النتيجة التي أبحث عنها‪ ،‬دخلت مريم‪ ،‬وجلست إىل جواري‪،‬‬
‫أي اهتمام‪ ،‬ولم ألتفت إليها‪ ،‬وكأنني ال أشعر بوجودها‪ .‬بدت‬ ‫فلم أُعِرها ّ‬
‫ممض قاتل‪ ،‬فلم تحادثني‪ ...‬وم ّرت فرتة‬ ‫ّ‬ ‫كأنها أدركت ما أعانيه من ألم‬
‫صمت حزين ثقيل‪ ،‬ثم التفتت نحوي‪ ،‬وعوضا ً عن أن تحاول التخفيف‬
‫من شعوري‪ ،‬وتمسح بيدها بعضا ً من أحزاني التي اعتقدت‪ -‬أ ّول األمر‪-‬‬
‫أع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أنها قد الحظتها‪ ...‬عوضا ً عن ّ‬
‫كل ذلك‪ ،‬بدأت معي حديثا فارغا‪ ،‬لم ِ‬
‫متقطعة‪ ،‬ال تتجاوز أن فالنة قد اشرتت فستانا ً جديداً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫منه سوى كلمات‬
‫وهي تريد مني أن أشرتي لها فستانا ً مثله‪ ،‬وأن غدا ً دخلة ابنة جارتنا‪،‬‬
‫وهي ترغب يف الذهاب إىل العرس‪ ،‬وتطلب مني أن أعطيها (الرمو)‪،...‬‬
‫وغري ذلك من األحاديث التافهة‪ ،‬يف نظري‪ ،‬وامله ّمة يف نظرها هي‪ ،‬والتي‬
‫ال تصدر ّإل عن العقول الجوفاء (الفاضية)‪ .‬أصغيت إليها دون أن‬
‫أجيبها بكلمة ما‪ ...‬كنت‪ ،‬فقط‪ ،‬أنظر إليها كاألبله أو كاملعتوه‪ ،‬وأستمع‬
‫فأحس‬
‫ّ‬ ‫إىل حديثها الذي ال يتناسب مع الحالة النفسية التي أعانيها‪،‬‬
‫بالندم‪ ،‬وبخيبة أمل كبرية‪ ...‬هذه املرأة التي تجلس أمامي‪ ...‬هذه التي‬
‫تحدّثني‪ ،‬اآلن‪ ،‬هي زوجتي‪ ...‬عشرية عمري‪ ...‬رشيكة حياتي‪ ...‬رفيقتي‬

‫‪107‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫يف هذه الرحلة حتى آخرها‪ ...‬زوجتي هذه بعيدة عني‪ ...‬بعيدة جدّاً‪...‬‬
‫ُب ْعد السماء عن األرض‪ ...‬هذه الزوجة التي اخرتتها بنفيس‪ ...‬بمحض‬
‫إرادتي‪ ،‬ولم يفرضها أحد عىل حياتي‪ ،‬واعتقدت يومها‪ ،‬يوم اخرتتها‪ ،‬أنها‬
‫أقرب الناس إيل‪ ،‬فإذا بي اآلن‪ ...‬يف هذه الجلسة‪ ،‬ومن خالل هذا الحديث‪،‬‬
‫تتمكن‪ ،‬أبداً‪ ،‬من أن تتواصل‬ ‫َّ‬ ‫أحس‪ ،‬أنها أبعد املخلوقات عني‪ ،‬وهي قد ال‬‫ّ‬
‫معي‪ ،‬مهما حاولت هي‪ ،‬ومهما حاولت أنا‪ ،‬إذا لم تحاول تنظيف عقلها‬
‫تعشش داخله‪ ...‬إنها‪ ،‬اآلن‪ ،‬ال تهت ّم بما أهت ّم به‪ ،‬وال‬ ‫من السخافات التي ِّ‬
‫تقيم وزنا ً لهذه األشياء التي تشغل بايل‪ ،‬وتستويل عىل جميع تفكريي‪ ،‬يف‬
‫كل ساعة من ساعاتي أ ّيامي وليايلّ‪ ...‬هذه األشياء تراها هي أشياء تافهة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ال قيمة لها وال وزن‪ ...‬فهي‪ -‬مثالً‪ -‬ترى أنني أضيِّع وقتي يف القراءة ويف‬
‫املطالعة‪ ،‬وأضيِّع وقتي يف الكتابة‪ ،‬وأضيِّع وقتي يف حضور االجتماعات‬
‫وسماع املحارضات‪ ،‬واملشاركة يف املناقشات‪ ،‬وأرهق نفيس‪ ،‬وأكلِّفها فوق‬
‫طاقتها بهذه الحركة املستم ّرة‪ ،‬التي ال أحصل من ورائها عىل أ ّية مكافأة‬
‫ما ّد ّية‪ ،‬كما أنها تعجب‪ ،‬ويذهب بها العجب مذاهب شتّى‪ ،‬كلّما رأتني‬
‫أحض الجتماع من‬ ‫متأخرة من الليل‪ ،‬أطالع أو أكتب‪ ،‬أو ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫أسهر إىل ساعة‬
‫هذه االجتماعات التي تع َّودت عليها‪.‬‬

‫أشعر‪ ،‬اآلن‪ ،‬شعورا ً حقيقيا ً بأن زوجتي بعيدة عني‪ ..‬بعيدة جدّاً‪ ،‬بعد‬
‫األرض عن السماء‪ ..‬إنها ليست من ذلك الطراز من النساء الذي كنت‬
‫أبحث عنه‪ ،‬والذي اعتقدت إنها منه‪ ،‬أنها تختلف عني كثرياً‪.‬‬

‫أع منه‬
‫وأنهت مريم حديثها معي‪ ،‬ذلك الحديث الذي لم أفه َم‪ ،‬بل لم ِ‬
‫كثريا ً وال قليالً‪ ،‬ثم قامت واقفة لتخرج‪ ،‬فطلبت منها أن تجهِّز يل فنجانا ً‬
‫من القهوة‪ .‬وبينما هي تع ّد القهوة‪ ،‬بقيت أنا وحدي‪ ،‬فعدت إىل املوضوع‬
‫‪108‬‬
‫نفسه أناقش فيه عقيل‪ ،‬وأقارن بني مريم هذه الواقفة أمامي‪ ،‬اآلن‪ ،‬بلحمها‬
‫ودمها‪ ،‬بطولها وعرضها‪ ،‬وبني الصورة الخيالية التي ك َّونتها عنها‪ ،‬قبل‬
‫أن أعرفها وقبل أن أ َّتصل بها؛ تلك الصورة الذهبية التي رسمتها لها يف‬
‫عقيل‪ ...‬رسمتها لزوجتي يف خيايل لقد كانت صورة تش ّع نوراً‪ ،‬وتبعث‬
‫شك‪ -‬الحرمان والكبت والبعد عن‬ ‫عىل األمل والرجاء‪ ،‬صورة أمالها‪ -‬وال ّ‬
‫املرأة‪ ..‬لقد كانت صورة خيالية‪ ،‬أبعد ما تكون عن حقيقة هذه املرأة‬
‫املاثلة أمامي‪ ،‬اآلن‪ .‬هذه هي الحقيقة امل ّرة املؤملة التي تصيح يف وجهي‬
‫معلنة جهيل وغباوتي‪ .‬ويف دوامة هذه الحقيقة القياسية الصارخة‪،‬‬ ‫ً‬
‫غبي‪ ،‬فندمت عىل زواجي‪ ..‬ندمت‬ ‫اكتشفت أنني جاهل‪ ،‬واكتشفت أنني ّ‬
‫رسعي‪ ،‬ودفعني ندمي إىل الثورة‪ ،‬الثورة عىل هذه األوضاع املقلوبة‬ ‫عىل ت ُّ‬
‫التي تسوقنا إىل حياة ال نرغب فيها‪ ،‬وتجربنا عىل أن نمثِّل أدوارا ً ما‬
‫مخيين‪ ،‬الثورة عىل هذه القيود‬ ‫َّ‬ ‫كنّا لنقوم بها‪ ،‬وما كنّا لنأتيها لو كنا‬
‫والسالسل التي تكبِّلنا وتقيِّدنا باسم (القدر واملكتوب)‪ ،‬هذه األسماء التي‬
‫ال ندرك لها معنى‪ ،‬وال نفهم أو نفقه لها هدفا ً وال مدلوالً‪ ،‬فلماذا ُخل ِقت‬
‫نستغل هذه العقول‪ ،‬وال نش ِّغلها وال‬ ‫ّ‬ ‫لنا عقول‪ -‬إذن‪ -‬إذا كتب علينا ّإل‬
‫ِّ‬
‫نحكمها؟ ما فائدتها؟ ما ميزتنا بها؟!!‬

‫أليست هذه القيود هي التي تحجز ح ِّر ّياتنا‪ ،‬وتجعلنا‪ ،‬ال فرق بيننا وبني‬
‫أي حيوان ال يتمتَّع بميزة العقل واإلدراك والتعبري؟‬
‫ّ‬

‫شعرت بأنني أثور‪ ..‬أنقم عىل وجودي‪ ..‬عىل حياتي‪ ،‬لكنني خفت أن‬
‫ضح أمري‪ ،‬عندما تزيد ثورتي‪ ،‬فكبحت جماحي‪ ،‬وعدت ِّ‬
‫أفكر بعقيل‪،‬‬ ‫ُيفتَ َ‬
‫َّ‬
‫فتذكرت أنني‪ ،‬قبل بضعة أشهر‪ ..‬قبل أن يت ّم زواجي بمريم‪ ،‬كنت أتو َّقع‬
‫أن تكون مريم من هذا الطراز النسائي‪ ،‬من الخامات الجامدات‪ ،‬الالئي‬

‫‪109‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ال يتفاعلن مع الحياة التي يعشنها‪ ،‬وال يشعرن بوجودهن‪ ،‬وال يحسسن‬
‫بشخصيّاتهن‪ ،‬فق َّررت‪ ،‬عند ذاك‪ ،‬بيني وبني نفيس‪ ،‬أن أحاول املستحيل‪،‬‬
‫كل ما يف وسعي لرفع مستوى مريم إىل مستواي‪ ..‬أن أجعل‬ ‫أن أعمل ّ‬
‫أفكر‪ ،‬وتحكم عىل الحياة كما‬ ‫تفكر كما ِّ‬
‫منها إنسانة أخرى‪ ..‬أجعلها ِّ‬
‫أحكم عليها‪ ،‬وتنظر إليها باملنظار نفسه الذي أنظر إليها منه‪ .‬لقد ق َّررت‬
‫أن أفعل ذلك‪ ،‬ال ألمحو شخصيَّتها واستقاللها اإلنساني من الوجود‪،‬‬
‫وأجعلها نسخة مني‪ ،‬طبق األصل‪ ،‬بل ألجعل منها إنسانة تتجاوب معي‬
‫تتمكن من وضع يدها يف يدي لنسري معا ً عىل درب‬ ‫َّ‬ ‫وتفهمني‪ ،‬و‪-‬من َث َّم‪-‬‬
‫الحياة حتى النهاية‪ .‬ق َّررت ذلك منذ بضعة أشهر‪ ،‬فقط‪ ،‬فما بايل اليوم‬
‫تنقض سنة واحدة عىل زواجنا‪ ،‬بعد؟‪ ..‬هل فقدت‬ ‫ِ‬ ‫أثور وأنقم عليها‪ ،‬ولم‬
‫قدرتي عىل إصالح أمرها؟ هل قمت بأ ّية محاولة معها وفشلت فيها؟‬
‫ماذا فعلت‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬إلصالح عقلها وتفكريها‪ ،‬وإلصالح نظرتها إىل‬
‫شك‪ -‬لم أفعل شيئا ً من ذلك‪ ،‬حتى اآلن‪،‬‬ ‫الحياة واألحياء؟ إنني‪ -‬بدون ّ‬
‫كل هذه األشهر‬ ‫حظي معها‪ ،‬رغم مرور ّ‬ ‫ولم أقم بأ ّية محاولة‪ ،‬ولم أج ِّرب ّ‬
‫كل هذا اإلهمال‪ ،‬من جانبي‪ ،‬أن ألومها‬ ‫يحق يل‪ ،‬بعد ّ‬
‫عىل زواجنا‪ ،‬فكيف ّ‬
‫أو أ ْيئَس من إصالح أمرها؟ كيف يجوز يل أن أنقم عليها‪ ،‬وأمأل نفيس‬
‫بالثورة عليها؟‬

‫وعادت مريم تحمل فنجان القهوة‪ ،‬ثم وضعته أمامي‪ ،‬دون أن تفوه بكلمة‬
‫واحدة‪ ،‬والتفتت إىل الوراء تبغي الخروج من الحجرة‪ ،‬فأمسكتها من‬
‫يدها مبتسماً‪ ،‬وطلبت منها أن تجلس بجواري ألن يل حديثا ً طويالً معها‪.‬‬
‫وجلست مستسلمة‪ ،‬ويف عينيها نظرة استغراب واستفهام‪ ،‬شحنتها بكل‬
‫التعجب لهذه الدعوة غري املنتظرة مني‪ .‬ورشفت‬
‫ُّ‬ ‫ما يف العالم من عالمات‬
‫‪110‬‬
‫قليالً من فنجان قهوتي‪ ،‬ثم م ّرت فرتة صمت بيننا‪ ،‬دون أن أنبس بكلمة‪،‬‬
‫وكأنني أهيِّئها لسماع ما سأقول لها‪ ،‬ثم اعتدلت يف جلستي‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫هل رأيت ّ‬
‫كل هذه الكتب التي تعمر تلك الخزانة؟‬

‫وه َّزت رأسها‪ ،‬دون أن تجيب بكلمة‪ ..‬أشعلتُ أنا سيجارة‪ ،‬وبدأتُ أنفث‬
‫دخانها‪ ،‬يف هدوء‪ ،‬حلقات فوق رأيس‪ ،‬ثم تابعت كالمي‪:‬‬

‫يقل ثمنه عن خمسني قرشاً‪.‬‬


‫أقل كتاب منها‪ ،‬ال ّ‬
‫‪ -‬إن ّ‬

‫‪ -‬وما دخيل أنا يف ذلك؟ لو سمعت كالمي ملا أتعبت نفسك يف رشاء ّ‬
‫كل هذه‬
‫الكتب‪ ...‬ما فائدتها لك؟‬

‫ولم أجبها عىل سؤالها هذا‪ ،‬بل عدت أقول‪:‬‬


‫سأعقد بيني وبينك صفقة تجارية مربحة لك‪ :‬سأدفع لك جنيها كامالً‬
‫عن ّ‬
‫كل كتاب تقرئينه منها‪.‬‬

‫ولم َت ُفه بكلمة‪ ...‬فوجئَتْ بكالمي هذا‪ ،‬الذي لم تكن تتو َّقعه‪ ،‬فاكتفت‬
‫بالحملقة‪ ،‬تار ًة يف مجموعة الكتب املوضوعة أمامها يف الخزانة‪ ،‬وتار ًة يف‬
‫وجهي‪ ،‬ولم أمهلها‪ ،‬فعدت أقول‪:‬‬

‫ما رأيك؟‪ .‬إنها فكرة جميلة‪ ،‬بل صفقة مربحة‪ ،‬أليس كذلك‪ ،‬يا حبيبتي؟‬
‫ثقي بأنني ال أقول لك هذا الكالم هكذا ملج َّرد تمضية الوقت معك‪ ،‬بل إنني‬
‫سرتحبني بالفكرة‬
‫ِّ‬ ‫أقصد ما أقول‪ ،‬وسأيف لك بوعدي‪ ،‬وأنا عىل يقني أنك‬
‫الجهنَّمية املدهشة التي تفتَّق عنها عقل محبِّك‪ ،‬ألنها ستساعدك‪ -‬دون‬
‫شك‪ -‬عىل تنمية ثقافتك وتوسيع أفق تفكريك‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫سكتُّ ‪ ،‬أنظر وقع كلماتي عليها‪ ،‬بعد أن جعلتها أمام األمر الواقع‪...‬‬
‫وسكتت هي كذلك‪ ،‬ولم تجب‪ ،‬بل اكتفت بالحملقة وبتصويب نظرها إىل‬
‫اليشء‪ .‬ويف رسعة‪ ،‬قمت إىل الخزانة اختار الكتاب الذي أبدأ به محاولتي‬
‫أو تجربتي مع مريم‪ ،‬واخرتت كتابا ً اجتماعياً‪ ،‬عنوانه «كيف تحافظني‬
‫عىل زوجك»‪ ،‬يتحدَّث‪ ،‬بأسلوب سهل مبسط‪ ،‬ممتع أشبه ما يكون بأسلوب‬
‫القصة‪ ،‬عن الطريقة املثىل التي يجب عىل املرأة ا ِّتباعها لالحتفاظ بزوجها‬ ‫ّ‬
‫إىل جانبها‪ ،‬مدى الحياة‪ ،‬دون أن ترتك الفرصة أل ّية امرأة أخرى كي‬
‫تسلبها إ ّياه‪ ..‬وناولتها الكتاب قائالً‪:‬‬
‫‪ -‬اقرئي هذا الكتاب‪ ...‬ابدئي به‪ ...‬إنه ذو فائدة ّ‬
‫لكل زوجة تريد االحتفاظ‬
‫املتوسط‪...‬‬
‫ِّ‬ ‫بزوجها‪ ...‬حجمه صغري ال يزيد عىل (‪ )120‬صفحة من الحجم‬
‫ستنتهني منه رسيعاً‪..‬‬

‫أخذت الكتاب من يدي‪ ،‬ونظرت إىل عنوانه‪ ،‬فتص َّفحت بعض صفحاته‪،‬‬
‫ثم عادت فأقفلته‪ ،‬وأمسكت به يف يدها‪ ،‬والتفتت نحوي تسألني‪ ،‬يف خجل‪:‬‬

‫شك يف أنك تعرف‪ ،‬يا سليم‪ ،‬أن دراستي محدودة‪ ،‬وهي‪ ،‬أبداً‪ ،‬ال‬
‫‪ -‬ال ّ‬
‫تساعدني عىل فهم ّ‬
‫كل ما أقرأ‪.‬‬

‫‪ -‬ليس امله ّم أن تفهمي ما تقرئني‪ ...‬امله ّم‪ ،‬يف املرحلة الحارضة‪ ،‬أن تقرئي‬
‫فحسب‪ ،‬حتى تتعودَّي عىل القراءة‪ ،‬وتصبح لك عادة كعادة األكل والنوم‪.‬‬
‫كل ما يه ّمني أن تملئي أوقات فراغك بالقراءة واملطالعة‪ ،‬حتى تصبح لك‬ ‫ّ‬
‫خاصة محبَّبة‪ ،‬وأنت تعرفني أن هوايتي‬ ‫ّ‬ ‫هواية‪ ...‬إن ّ‬
‫لكل إنسان هواية‬
‫الوحيدة هي املطالعة‪ ،‬فاجعيل هوايتك مثل هوايتي‪ ،‬حتى نلتقي‪ ،‬ولو يف‬
‫منتصف الطريق‪ ،‬أم ترى لك هواية أخرى تميلني إليها؟‬
‫‪112‬‬
‫‪ -‬ال‪ -‬والله‪ -‬ليست يل أ ّية هواية‪ ...‬إنما مشكلتي يف الفهم‪.‬‬

‫تفكري يف مشكلة الفهم‪ .‬إن الطفل عندما يبدأ‬ ‫‪ -‬يا حياتي‪ ،‬يجب ّأل ِّ‬
‫الكالم يقول كلمات‪ ،‬ويردِّد جمالً‪ ،‬هو ال يفهمها‪ ،‬ثم ‪ -‬بالتدريج‪ ...‬خطوة‬
‫خطوة‪ -‬يصبح قادرا ً عىل فهم الكلمات التي يقولها‪ ،‬وبردِّدها‪ .‬يكفي أن‬
‫تفهمي‪ ،‬اآلن‪ )% 50( ،‬م ّما تقرئني‪.‬‬

‫ولم أزد أ ّية كلمة أخرى‪ ...‬اكتفيت بأن ر َّبتُّ عىل ظهر يدها‪ ،‬ثم قبَّلتها‬
‫ِّ‬
‫متأخرة‬ ‫قبلة عىل وجنتها‪ ،‬وخرجت من البيت‪ .‬يومها‪ ،‬لم أعد ّإل يف ساعة‬
‫من الليل‪ ،‬وعندما وجدت نور حجرة النوم ال زال مضاءً‪ ،‬شعرت بالفرح‬
‫يغمرني‪ ،‬فدخلت الحجرة متسلِّالً‪ ،‬وإذا بي أجدها نائمة والكتاب إىل‬
‫جوارها‪ ،‬فتناولته وقرأت رقم الصفحة التي وصلت إليها‪ ،‬فإذا هي‬
‫الصفحة (‪ .)11‬وهنا‪ ،‬شعرت بالرسور‪ ...‬بالفرح‪ ...‬بالسعادة‪ ..‬بنشوة‬
‫االنتصار‪ ..‬لقد ُو ِّفقت يف أ َّول محاولة قمت بها مع مريم‪ ..‬لقد انترصت يف‬
‫معركتي األوىل مع القيود التي تقيّد عقل زوجتي‪ ،‬وتفكريها‪ ..‬ما أغباني!‬
‫أخرني حتى اليوم؟‪.‬‬ ‫ملاذا لم أبدأ هذه املحاولة منذ زمن؟‪ .‬ما الذي َّ‬
‫واقرتبت منها أقبِّلها قبلة خفيفة عىل جبينها‪ ،‬وكأنني أحاول أن أك ّفر عن‬
‫حق مريم‪..‬‬ ‫ذنوبي إزاءها‪ ،‬بقبلتي تلك‪ ..‬عن جريمتي التي ارتكبتها يف ّ‬
‫ولم توقظها القبلة‪ ،‬فتمدَّدتُ عىل الرسير‪ ،‬إىل جوارها وسحبت الغطاء‪.‬‬
‫وأحس بنشوة االنتصار تحيط‬ ‫ّ‬ ‫نمت‪ ،‬وأنا أشعر براحة كبرية تغمرني‪،‬‬
‫بي وتغرقني يف بحورها‪ .‬لقد انترصت‪ ..‬لقد ح َّققت بعض اليشء‪ ..‬لقد‬
‫ً‬
‫صادقة‪ ،‬يف أن‬ ‫بدأت أسري يف الطريق القويم‪ ..‬إن مريم املظلومة ترغب‪،‬‬
‫ترفع من مستواها العقيل والفكري‪ ..‬إنها تريد أن تسمو بتفكريها عن‬
‫تغي من نظرتها إىل الحياة واألحياء‪ ،‬وأن‬ ‫مستوى تفكري األخريات‪ ..‬أن ِّ‬

‫‪113‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫تنظر إليها من خالل منظار آخر غري املنظار الذي ألبستها إ ّياه الحياة‪،‬‬
‫والذي تع َّودت أن تنظر به إليها‪ .‬ح ّقاً‪ ،‬إن للمرأة تربيتَ ْي‪ :‬تربية يف بيت‬
‫كل زوج منّا أن يفعل‬ ‫والديها‪ ،‬وأخرى يف بيت زوجها‪ ،‬فلماذا ال يحاول ّ‬
‫شيئا ً مع زوجته‪ ،‬مادامت قابلة للتفاعل والتط ُّور؟ وحمدت الله‪ ،‬يف ليلتي‬
‫تلك‪ ،‬عىل نصيحة ذلك الصديق الذي دلَّني‪ ،‬ذلك اليوم عىل أرستها‪ ،‬وقلت‬
‫يف نفيس‪ ،‬إنني بقليل من الجهد‪ ..‬بقليل من التوجيه‪ ..‬بقليل من الصرب‪،‬‬
‫أستطيع أن أخلق من مريم أمرأة أخرى‪ ..‬امرأة كما أريدها أنا‪ ،‬وكما‬
‫تحس بإحساساتي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كنت أتص َّورها يف خيايل‪ ..‬امرأة تعيش معي حياتي‪..‬‬
‫وتشعر بمشاعري‪ ..‬تصارع معي الحياة‪ ،‬وتتحدّى معي العادات والتقاليد‬
‫والخرافات‪.‬‬
‫ونمت ليلتي وقلبي مفعم بالنشوة‪ ،‬وكنت‪ ،‬طوال ليلتي‪ ،‬أحلم أحالما ً‬
‫حلوة لذيذة عذبة‪ ،‬فقد رأيتني‪ ،‬أنا ومريم‪ ،‬نسري معا ً يف طريق هوائي‬
‫أيدينا متشابكة‪ ..‬كنا‪ ،‬عندها‪ ،‬ال نسري عىل األرض بأقدامنا‪ ،‬وال نطري يف‬
‫السماء بأجنحة كما تطري بقيّة الطيور التي نعرفها‪ ،‬بل نسري‪ ،‬هكذا‪ ،‬يف‬
‫الهواء‪ ..‬نسري عىل أقدامنا‪ ،‬تماماً‪ ،‬كما نسري عىل األرض‪ ،‬لكن أقدامنا كانت‬
‫ّ‬
‫تحف بنا من جانبَ ْي طريقنا‬ ‫ال تالمس األرض‪ ،‬وكانت الورود واألزهار‬
‫الهوائي‪ ،‬الذي كنا نسري فيه‪.‬‬

‫عيني ألجد‬
‫ّ‬ ‫استيقظت من نومي العذب اللذيذ‪ ،‬فطارت األحالم‪ ،‬وفتحت‬
‫ضوء الصباح وأشعة الشمس تغمر الغرفة‪ ،‬ومريم جالسة عىل حا ّفة‬
‫الرسير‪ ،‬بجواري‪ ،‬تنظر إىل وجهي نظرات ذات معنى‪ ،‬وكأنها ته ّم أن‬
‫تحس‬
‫ّ‬ ‫تقبّلني‪ ،‬لكن شيئا ً ما كامنا ً يف أغوار نفسها‪ ..‬متغلغالً يف روحها‪،‬‬
‫به‪ ،‬يمنعها من أن تبدأني القبالت‪ ..‬فأنا ال أذكر‪ ،‬م ّرة واحدة‪ ،‬منذ أن‬
‫‪114‬‬
‫تم زواجنا‪ ،‬أن مريم بدأتني بالتقبيل‪ ..‬كانت‪ ،‬دائماً‪ ،‬تنتظر أن أبدأ أنا‪،‬‬
‫وحتى بعد أن آخذ منها القبلة األوىل‪ ،‬فهي ال تتج ّرأ‪ ،‬أبداً‪ ،‬عىل مبادلتي‬
‫التقبيل‪ .‬حاولت كثريا ً أن أنتزع من نفسها هذا الشعور بالرهبة والخوف‬
‫والحشمة‪ ،‬التي ال مكان لها بني األزواج‪ ،‬وقلت لها‪ ،‬م ّرات عديدة‪« :‬أنا‬
‫ال أكتفي بأن أرى فيك امرأة واحدة فحسب‪ ،‬لكنني أريد أن أراك نساء‬
‫متعدِّدات‪ ..‬أريد أن أرى فيك الزوجة والصديقة والخليلة‪ ،‬أيضاً‪ ..‬أريد‬
‫أن أراك تتز َّينني لو كما لو أنك ال تزالني يف أ ّيام زواجنا األوىل‪ ..‬كأننا ال‬
‫كل هذا الوقت»‪ ،‬غري أن أقوايل‬ ‫ينقض عىل زواجنا ّ‬‫ِ‬ ‫نزال يف (األربعني)‪ ،‬ولم‬
‫تؤثر فيها أو تهت ّم بها‪.‬‬‫هذه كانت تذهب كلّها أدراج الرياح‪ ،‬دون أن ِّ‬
‫متأكد من أن الذنب‪ ،‬يف ذلك‪ ،‬ليس ذنبها هي‪ ،‬إنما هو ذنب البيئة‪..‬‬ ‫ِّ‬ ‫أنا‬
‫ذنب املحيط‪ ..‬ذنب العقلية التي تسيطر علينا جميعاً‪ ،‬والتي تقول لنا‪ ،‬يف‬
‫سخافة وحمق‪« :‬إذا َت ّم الزواج‪ ..‬إذا انقضت أ ّيامه األربعون األوىل‪ ،‬لم يعد‬
‫ما هناك يجعل أحد الزوجني يتج َّمل لآلخر»‪.‬‬

‫والحظت مريم نظراتي امللتهبة املص َّوبة إليها‪ ،‬فأسبلت عينيها‪ ،‬حتى‬
‫تداري النظرة العطىش التي كانت تنظر بها نحوي‪ ،‬وحاولت أن توهمني‬
‫أنها كانت مج َّرد نظرة عفوية غري مقصودة‪ ،‬ولم أشأ أن أربكها‪ ،‬فلم‬
‫أسألها شيئاً‪ ،‬ولم أناقشها يف يشء‪ ،‬بل اكتفيت بأن أخذت منها قبلة‬
‫الصباح املعتادة‪ ،‬التي طبعتها‪ ،‬يف خ ّفة ولني‪ ،‬عىل جبينها‪ ،‬وقمت مرسعا ً‬
‫إىل الح ّمام‪ ،‬ثم جلست معها نتناول وجبة اإلفطار‪ ،‬عىل صوت املذياع‬
‫الذي كان يرسل أنغام أغنية مرحة خفيفة من أغاني الصباح‪ ،‬جعلتني‬
‫أتابع‪ ،‬باهتمام‪ ،‬كلماتها وموسيقاها‪ .‬وتو َّقعت أن يدور حديث مريم‪،‬‬
‫خاصة أني أعلم أن يف‬
‫ّ‬ ‫ذلك الصباح‪ ،‬حول ما قرأته من مواضيع الكتاب‪،‬‬

‫‪115‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الكتاب أشياء كثرية يمكن أن يدور حولها حديث ونقاش‪ ،‬وأن يف الكتاب‬
‫من الجمل واملفردات ما ال يمكن المرأة مثل مريم أن تفهمها أو تعيها‪..‬‬
‫توجه إيلّ بعض األسئلة يف املواضيع التي لم تفهمها‪،‬‬
‫كنت أنتظر منها أن ّ‬
‫لكنها فاجأتني بأسئلة سخيفة رعناء‪ ،‬ال تصدر ّإل عن عقل جامد‪ ،‬وفكر‬
‫ضحل‪ ،‬ونظرة إىل الحياة ضيِّقة‪ ..‬فاجأتني بأسئلة نسائية ال ّ‬
‫تدل ّإل عىل‬
‫الضحالة والسخف والفراغ‪ ..‬سألتني‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا تريد أن يكون غداؤنا اليوم؟‪.‬‬

‫ولم أجبها بكلمة‪ ..‬اكتفيت بالنظر إليها يف سخرية‪ ،‬قبل أن أقول‪:‬‬

‫منذ متى كنت أقرتح عليك الغداء الذي أريدك أن تجهِّزيه؟‬

‫فعادت تسأل‪:‬‬

‫تنس أن تبلِّغها‬
‫هل ستذهب لزيارة خالتك‪ ،‬اليوم؟ إذا ذهبت إليها فال َ‬
‫سالمي‪.‬‬

‫ولم أجبها هذه امل ّرة‪ ،‬فاستم َّرت يف توجيه أسئلتها (البائخة) التي ما كنت‬
‫أفكر أبدأً‪ ،‬يف سماعها من زوجتي أنا‪ ..‬أنا الرجل الذي كان ال ِّ‬
‫يفكر يف‬ ‫ِّ‬
‫الزواج‪ّ ،‬إل من امرأة تكون عىل طبعه ومن رأيه‪ ..‬تتجاوب معه‪ ،‬وتفهمه‪،‬‬
‫وتسري معه‪ ،‬عرب طريق الحياة الطويل‪ ،‬يف ج ّو من التفاهم وتقارب اآلراء‬
‫كل ذلك‪ ،‬أسمع هذه األسئلة التي ال أريد أن أسمعها من‬ ‫واألفكار‪ ،‬وبعد ّ‬
‫زوجة‪ ،‬ال أنظر إليها عىل أساس أنها أنثى‪ ،‬بقدر ما أنظر إليها عىل أساس‬
‫أنها إنسانة‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫مبكراً‪ ،‬بل أرسلت الخادمة‪،‬‬
‫كان ذلك اليوم يوم جمعة‪ ،‬فلم أغادر البيت ِّ‬
‫فابتاعت يل جريدة الصباح‪ ،‬وجلست أقرؤها يف ركن من حجرة الجلوس‪.‬‬
‫كانت الجريدة تتحدَّث عن أحداث العالم التي تشغل الرأي العام العاملي‪،‬‬
‫يف ذلك الوقت‪ ..‬استغرقت يف القراءة‪ ،‬غري أن مريم لم تشعر باستغراقي‬
‫ذاك‪ ،‬فحاولت أن تستم ّر يف ثرثرتها وحديثها الفارغ التافه‪ ،‬وأسئلتها‬
‫تدل ّإل عىل الفراغ والتفاهة‪ ،‬رغم أنني نصحتها‪ ،‬أكثر‬‫السطحية التي ال ّ‬
‫بأل تحاول قطع مطالعاتي‪ ،‬مهما كانت الحال‪ .‬وانتهيت من‬ ‫من م ّرة‪ّ ،‬‬
‫الجريدة فرميتها جانباً‪ ،‬والتفتّ إىل مريم أسألها وأناقشها‪ ،‬محاوال ً أن‬
‫أرصف تفكريها عن األمور التافهة‪ ،‬واألشياء السخيفة‪ ،‬فقلت‪:‬‬

‫إن العالم عىل ُف َّوهة بركان‪ ،‬إن الحرب الباردة‪ ،‬بني الرشق والغرب‪،‬‬
‫أوشكت عىل االنتهاء‪ ،‬لتعقبها‪ -‬ال َق َّد َر الله‪ -‬حرب ساخنة‪ ،‬ال ُتبقي وال تذر‪.‬‬
‫ونظرت مريم نحوي نظره تساؤل و َبلَه وجمود‪ ،‬وكأنها تسمع كلماتي‬
‫باللّغة العربية التي ال تعرفها‪ ،‬أو كأنها انقلبت إىل أحد حوار ّيي السيِّد‬
‫املسيح‪ ،‬الذين يفغرون أفواههم كلّما سمعوه ينطق بمثل من أمثاله‪ ،‬أو‬
‫يلقي بحكمة من حِ َكمه‪ .‬وبعد فرتة صمت لم تطل‪ ،‬قالت باستغراب‪:‬‬

‫إن الربكان هو جبل النار‪ ..‬أليس كذلك؟؟‬

‫‪ -‬أجل‪ ،‬هو ذاك‪.‬‬

‫‪ -‬وهل يمكن ألحد أن يجلس فوق جبل نار؟‬


‫‪ -‬طبعا ً ال‪ّ ،‬‬
‫وإل احرتق لساعته‪.‬‬

‫‪ -‬إذن‪ ،‬كيف تقول أن (عالِماَ) عىل فوهة بركان؟ كيف ال يحرتق هذا‬

‫‪117‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الرجل املسكني؟‪ .‬وهل العلم يمنع صاحبه من االحرتاق‪ ،‬ولو كان يجلس‬
‫عىل فوهة بركان؟ ثم ما عالقة الحرب بالعلم؟ وهل يمكن أن تكون هناك‬
‫حرب باردة عىل وشك االنتهاء‪ ،‬وحرب ساخنة توشك أن تعقبها؟!! إنني‬
‫ال أكاد أفهم شيئا ً م ّما تقول‪ ،‬يا سليم!!‬

‫وحب‪ ،‬نظرة مواساة ورحمة‪ ..‬مسكينة!‬ ‫ّ‬ ‫ونظرت إليها نظرة عطف وحنان‬
‫إنها ال تفقه معنى الكلمات‪ ،‬وال تعي ما تسمع من جمل وأقوال‪ .‬إن‬
‫تفكريها بعيد جدّا ً عن مستوى ما تسمع‪ .‬إنها إنسانة تعيش يف القرن‬
‫العرشين‪ ،‬لكن عقلها‪ ..‬فهمها‪ ..‬إدراكها‪ ..‬وعيها‪ ،‬كلّها من مخلَّفات القرن‬
‫األ َّول امليالدي‪ .‬شعرت بعطف عليها‪ ،‬وأحسست بأنها إنسانة مغلوبة عىل‬
‫أمرها‪ ،‬وهي يف حاجة إىل من يساعدها ويساندها ويأخذ بيدها‪ ،‬فيسري‬
‫بها عرب الحياة‪ .‬شعرت بفيض من الحنان نحو هذه املخلوقة املسكينة‬
‫التي حكمت عليها األ ّيام بأن تكون ضحيّة لأل ّيام‪ ،‬وامتأل قلبي بالرحمة‬
‫والشفقة‪ ،‬فمددت يدي أمسح بها عىل ظهرها‪ ،‬يف لطف ومواساة‪ ،‬وأنا‬
‫أقول‪:‬‬

‫‪ -‬العالم‪ ،‬يا مريم هو هذه الدنيا‪ ..‬الحياة التي نعيشها‪ ..‬وعندما قلت‬
‫العالم عىل ُف َّوهة بركان‪ ،‬فأنا أقصد أن الدنيا كلّها عىل أبواب حرب عاملية‬
‫ثالثة‪ ،‬ولو ُقدِّر وقامت هذه الحرب‪ ،‬فستكون حرب إبادة‪ ،‬ال رحمة فيها‬
‫وال شفقة‪ ،‬وال تكون نتيجتها غالبا ً ومغلوباً‪ ،‬بل الغالب واملغلوب كالهما‬
‫يف النار‪ ..‬يف الجحيم‪.‬‬

‫‪ -‬عجيب!! يحاولون إشعال نار حرب جديدة؟ ّأل يكفيهم ما قاساه الناس‬
‫من ويالت الحرب املاضية؟‬
‫‪118‬‬
‫‪ -‬إن الساسة الكبار الذي يمسكون بزمام العالم‪ ،‬ال ِّ‬
‫يفكرون يف مصالح‬
‫البرش‪ ،‬لكأنهم ليسوا من طينة البرش‪ ،‬إطالقاً‪.‬‬

‫‪ -‬ومن هم هؤالء املجرمون املج َّردون من جميع القيم اإلنسانية؟‬

‫‪ -‬إنهم كثريون‪ ،‬أمثال (ديجول)‪ ،‬العجوز الذي يحاول أن يسرتد لفرنسا‬


‫شيئا ً من ماء وجهها‪ ،‬وشيئا ً من رشفها الذي ديس تحت أقدام جنود‬
‫(هتلر)‪ ،‬وتحت أقدام جنود (بيان بيان فو)‪ ،‬ويراق‪ ،‬اآلن‪ ،‬تحت أقدام‬
‫أبطال الجزائر العربيّة‪ ،‬يف أرض الجزائر الثائرة‪ .‬هذا الجنرال العجوز‪،‬‬
‫فيفجر القنابل الذ ِّر ّية يف صحراء‪ ،‬ال ناقة له‬
‫ِّ‬ ‫الذي يحاول أن يفعل ذلك‪،‬‬
‫وكل ه ِّمه إدخال الرعب يف قلوب املكافحني يف أرضهم‬ ‫فيها وال جمل‪ّ ،‬‬
‫وح ِّر َّيتهم‪ ،‬دون تفكري يف نتائج أعماله الحمقاء‪ ،‬وسخافاته الرعناء‪ ،‬التي‬
‫ال يقدم عليها ّإل من تج َّر َد من اإلنسانية‪ ،‬وتج َّرد من الضمري‪ ،‬وتج َّرد من‬
‫الرشف‪ ،‬مثله مثل أولئك الالئي يبعن أجسادهن يف سوق الرقيق‪ ،‬حني‬
‫يحاولن صبغ وجوهه ّن بمختلف األلوان‪ ،‬حتى ال تظهر حقيقته ّن‪ ،‬بعد‬
‫والخلُق‪.‬‬
‫أن خرسن الرشف واملكانة ُ‬

‫وهنا‪ ،‬حملقت مريم يف وجهي كالبلهاء‪ ،‬وكأنها تسمع كالما ً أل َّول م ّرة يف‬
‫يؤثر يف عقلها‪ ،‬فقامت تجري‬ ‫حياتها‪ ،‬وإن كان قد َّأثر يف نفسها‪ :‬فهو لم ِّ‬
‫إىل املطبخ لرتاقب الغداء املوضوع عىل النار‪ .‬وتمنَّيت‪ ،‬يف نفيس‪ ،‬لو أنها‬
‫لم تقم‪ ،‬لو أنها جلست معي طوال ذلك اليوم تناقشني وأناقشها‪ ،‬أو‪-‬‬
‫األقل‪ -‬أتحدَّث معها يف غري ما تع ّودت أن تحرص أحاديثها فيه من‬ ‫ّ‬ ‫عىل‬
‫كل يتمنّى املرء يدركه»‪.‬‬ ‫املواضيع‪ ،‬تمنَّيت ذلك‪ ،‬لكن‪ -‬كما ُيقال‪« -‬ما ّ‬

‫واستم ّرت حياتنا تجري وسط هذا البحر‪ ،‬وعىل أمواجه الصاخبة‪ ،‬تار ًة‬

‫‪119‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫تطفو‪ ،‬وتار ًة تغوص‪ ..‬تار ًة ّ‬


‫تهب عليها الريح رخاءً‪ ،‬فتسري يف يرس وسهولة‬
‫واندفاع‪ ،‬وتار ًة تعاكسها الريح فترت َّنح ذات اليمني وذات الشمال‪ ،‬وهي‬
‫تكاد تنقلب‪ ،‬يف بعض األحيان‪ .‬غري أنني‪ ،‬أنا الذي عزمت عىل أن أعمل‬
‫املستحيل لكي أجعل من مريم إنسانا ً جديداً‪ ،‬لم أقف مكتوف األيدي يف‬
‫يوم واحد من األ ّيام‪ ،‬بل كنت أدفع مريم إىل األمام‪ ،‬إذا أصبحنا‪ ،‬وأدفعها‬
‫كل صباح ومساء‪ ،‬لكنني‬ ‫إىل األمام إذا أمسينا‪ ،‬وأدفعها إىل األمام‪ ،‬بني ّ‬
‫كنت كلّما أمسكت بيدها‪ ،‬محاوال ً رفعها إىل فوق‪ ..‬إىل أعىل‪ ،‬أشعر بأن ق ّوة‬
‫خفيّة تجذبها إىل أسفل‪ .‬وكلّما حاولت انتشالها من ه ّوة عقلها وتفكريها‪،‬‬
‫أحسست بأن شيئا ً يغوص بها إىل األعماق‪ ..‬أعماق تلك اله ّوة السحيقة‪.‬‬
‫ميض أكثر من شهر عىل حكاية الكتاب والقراءة‪ ،‬كنا‬ ‫ّ‬ ‫وذات يوم‪ ،‬بعد‬
‫جالس ْي يف البيت‪ ،‬بعد أن تناولنا وجبة الغداء‪ ،‬فسألتها‪:‬‬
‫َ‬

‫شك يف أن لك دينا ً كبريا ً يف عنقي‪..‬‬


‫‪ -‬كم كتابا ً قرأتِ ‪ ،‬حتى اآلن؟‪ ،‬ال َّ‬
‫وابتسمت مريم ابتسامة صفراء‪ ،‬ولم َت ُفه بكلمة‪ ،‬ففهمتُ ‪ ،‬عىل الفور‪،‬‬
‫معنى ابتسامتها تلك‪ ،‬فشعرت بخيبة أمل كبرية تعرص قلبي‪ ،‬وتسحق‬
‫كياني ووجودي‪ ،‬غري أنني تجاهلت واقعي ذاك‪ ..‬تجاهلت موقفي‬
‫املزري‪ ..‬تجاهلت الطعنة النجالء‪ ،‬وخيبة األمل الكبرية التي أحسست بها‪،‬‬
‫وتظاهرت بمظهر الغبي‪ ،‬فعدت إىل القول‪:‬‬

‫ال تبتسمي يا حبيبتي‪ ،‬أنا عىل أت ّم استعداد للدفع‪ .‬لقد وعدتك‪ ،‬وال أريد‬
‫الرتاجع يف عهدي أو نقض وعدي‪ .‬إننا يف نهاية الشهر‪ ،‬وأمس‪ ،‬فقط‪،‬‬
‫قبضت مر َّتبي‪ ،‬ويجب عيلَّ أن أدفع لك‪ ،‬اآلن قبل أن َّ‬
‫يتبخر املر َّتب‪ ،‬ويدخل‬
‫األفواه التي تنتظره عىل أح ّر من الجمر‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫‪ -‬أنا لم أقرأ شيئا ً كثرياً‪ ،‬يا سليم‪ .‬شغلتني مشاغل الحياة عن القراءة‪ .‬أنت‬
‫تعرف أن الحاجة عويشة قد ز َّوجت ابنتها خالل هذا الشهر‪ ،‬وأن خديجة‬
‫أبق كثريا ً‬
‫الورفلية أعلنت خطوبة ابنها‪ ،‬وأن‪ ..‬وأن‪ ...‬وهكذا‪ ،‬تجد أنني لم َ‬
‫يف البيت؛ لذا لم َّ‬
‫أتمكن من القراءة‪.‬‬

‫‪ -‬أنا ال أريد أن أحاسبك اآلن‪ ..‬قويل كم كتابا ً قرأت‪ ،‬وهاك ما تستح ّقني‪.‬‬
‫وفعالً‪ ،‬أدخلت يدي يف جيبي استعدادا ً للدفع‪ ،‬غري أنها سارعت تقول يف‬
‫يشء من الخجل واالرتباك‪:‬‬

‫لم أقرأ سوى كتاب واحد‪ ..‬الكتاب األ َّول‪ ،‬فقط‪ ..‬وحتى هذا‪ ،‬لم أفرغ منه‬
‫بعد‪ ..‬لم أقرأ منه سوى نصفه‪ ،‬فحسب‪.‬‬

‫أقل شيئاً‪ ،‬بل‬


‫نطقت بهذه الكلمات‪ ،‬ثم صمتت‪ ،‬فصمتّ أنا كذلك‪ ..‬لم ّ‬
‫أخذت أفكر‪ :‬ما هو املوقف الواجب عيلَّ ا ِّتخاذه؟‪ .‬هل أثور؟ ال‪ ..‬ألن الثورة‬
‫من شأنها أن تذهب بكل أمل يل يف اإلصالح‪ ..‬إصالح املستقبل الذي ال‬
‫يمكن أن يتو َّقف عىل هذه الحادثة وحدها‪ .‬هل أسكت؟ إن السكوت معناه‬
‫ثورة داخلية جامحة تهدم كيان اإلنسان الداخيل‪ ،‬وتطيح بمعنو ّياته‪ .‬هل‬
‫أرىض بالهزيمة؟ هل أرىض بالفشل؟ إن ّ‬
‫كل األمال والقصور التي أ ّملتها‪،‬‬
‫وتبخرت‪ ،‬بفعل مريم‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وشيّدتها قد تهدَّمت‬

‫ذات يوم‪ ،‬ظننت أنني انترصت عىل جمود عقل مريم‪ ،‬وأنني ح َّققت‬
‫بعض االنتصار‪ ،‬وقطعت أ َّول خطوة يف طريق التقائي بمريم‪ ..‬بزوجتي‪..‬‬
‫برفيقة حياتي‪ ،‬وإذا بي‪ ،‬اآلن‪ ،‬أكتشف أنني كنت واهماً‪ ..‬مخدوعا ً مغ َّررا ً‬
‫بي‪ ،‬وأن مريم هذه أبعد الناس عني بعقلها وتفكريها‪ ،‬وإن كانت ألصقهم‬
‫بي‪ ،‬بجسمها وأنوثتها‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وفجأ ًة‪َّ ،‬‬


‫تذكرت أن يدي ال تزال يف جيبي‪ ،‬تبحث عن ورقة مالية‪ ،‬فأرسعت‬
‫أسحبها بورقة من ذات الجنيه‪ ..‬ناولتها مريم‪ ،‬وأنا أبتسم ابتسامة‬
‫صفراء‪ ،‬ال معنى وال مغزى لها‪ ،‬سوى تغطية شعوري بالخيبة والفشل‪،‬‬
‫وقلت‪:‬‬

‫‪ -‬خذي هذه الورقة‪ ،‬مكافأة عىل نصف الكتاب الذي قرأ به‪ ،‬آمل أن تنهيه‬
‫عاجالً‪ ،‬حتى أشري عليك بغريه‪.‬‬

‫ولم تم ّد يدها لتأخذ الجنيه‪ ،‬بل نظرت إليه‪ ،‬من بعيد‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫‪ -‬احتفظ بالجنيه معك‪ ،‬فأنا أريد أن أشرتي (شال) مثل الذي اشرتته‬
‫الخالة فاطمة زوجة عبد الحميد محمود‪.‬‬

‫وتأججت ثورتي‪ ،‬فنظرت إليها نظرة احتقار‬ ‫َّ‬ ‫وهنا‪ ،‬فاض غضبي‪،‬‬
‫وازدراء‪ ،‬بعد أن شعرت بأنها بدأت‪ -‬فعالً‪ -‬تهوي إىل القاع‪ ..‬بدأت‬
‫طريقها‪ ،‬يف نظري‪ ،‬نحو الهاوية السحيقة التي ابتلعت ومازالت تبتلع‬
‫كل يوم‪ ،‬باملئات‪َ .‬خ َطتْ ‪ ،‬يف نظري‪ ،‬أ َّول خطوة يف‬‫غريها من بنات جنسها‪ّ ،‬‬
‫طريق االبتعاد عني أكثر م ّما هي بعيدة اآلن‪ ،‬وأجبتها‪ ،‬يف تأنيب وتحقري‪:‬‬
‫الحدّ‪ ،‬يا مريم‪ ..‬ظننتك أرقى تفكريا ً‬ ‫يؤسفني أن تكوني سطحية إىل هذا َ‬
‫وإدراكا ً م ّمن مثلك من النساء‪ ،‬وإذا بك وبقولك هذا تثبتني يل أنك ال‬
‫تختلفني عن أ ّية واحدة من مجموعتك ّن الحقرية‪ .‬حقا ً لقد ُخذِلت و ُغ ِّررت‬
‫فيك‪ ،‬بل لقد كنت مغ َّفالً‪ -‬ح ّقاً‪ -‬يوم اعتقدت أنك تمتازين عنه ّن بأ ّية‬
‫ميزة من امليزات اإلنسانية‪ .‬كنت مغ َّفالً يوم ظننت أنني أستطيع انتشالك‬
‫من الهاوية التي ابتلعت غريك من نساء هذا املجتمع املسكني‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫وغادرت البيت‪ ،‬يف ذلك اليوم‪ ،‬ناقما ً ساخطا ً ثائراً‪ ،‬أبحث عن يشء‪ّ ..‬‬
‫أي‬
‫أحس بها تشتعل يف داخيل‪ ،‬وتحرق‬ ‫يشء أخ ّفف به من لهيب النريان التي ّ‬
‫كياني‪ ،‬وتذيب وجودي‪ .‬غادرت البيت‪ ،‬ورست يف الشارع عىل غري هدى‪.‬‬
‫وخ ِبتها‪ ،‬بأشكالها‪ ،‬حتى أصبحت‬ ‫ومن يومها‪ ،‬عرفت الخمرة‪ ،‬بأنواعها‪َ ،‬‬
‫كل ذلك يف سبيل أن أنىس شدّة خيبتي‪،‬‬ ‫(مدمن خمر)‪ ،‬من الدرجة األوىل‪ّ ،‬‬
‫يعذبني‪ .‬ورغم ذلك‪،‬‬‫ومن أجل أن أتخلَّص من الشعور بالفشل‪ ،‬الذي أخذ ِّ‬
‫لم أ ْيئَس من مريم‪ ..‬لم أ ْيئَس من إمكانية إصالح مريم وتنظيف عقلها‬
‫متأخرة من الليل‪ ،‬ودخلت حجرة‬ ‫ِّ‬ ‫وغسل فكرها‪ .‬عدت إىل البيت يف ساعة‬
‫نومي‪ ،‬ألجد مريم نائمة يف فراشها‪ ،‬فأخذت أنظر إليها نظرة فيها كثري‬
‫من االزدراء واالحتقار‪ ،‬وتمدَّدت إىل جوارها‪ ،‬دون أن أشعر بأ ّية حرارة‬
‫مبكراً‪ ،‬قبل أن تستيقظ هي من‬ ‫أو رغبة مني بها‪ .‬ويف الصباح‪ ،‬خرجت ِّ‬
‫أحس‪ ،‬بني الحني‬ ‫ّ‬ ‫نومها‪ ،‬وقضيت يومي يف زحمة العمل‪ ،‬لكنني كنت‬
‫أحس‪ ،‬كلّما خ َّفت عني‬
‫ّ‬ ‫والحني‪ ،‬بيشء يخزني‪ ،‬ب َمثَل وخز اإلبر‪ ،‬وكنت‬
‫زحمة العمل‪ ،‬بمعركة عنيفة تدور يف رأيس؛ معركة بني عقيل وعواطفي‪:‬‬
‫أحس بوجودي‪ ..‬أن أشعر‬ ‫ّ‬ ‫أنا إنسان ومن ح ّقي أن أعيش إنسانيّتي‪ ..‬أن‬
‫أحس أو أشعر بيشء من هذا‪ّ ،‬إل إذا علمت‬ ‫ّ‬ ‫بكياني‪ ،‬وأنا ال يمكنني أن‬
‫وأدركت أنني أعيش إنسانيّتي‪ .‬أنا إنسان يريد‪ ،‬ويف إمكانه أن يح ِّقق‬
‫يفكر ويف إمكانه أن يصل‪ ،‬بتفكريه‪ ،‬إىل نتائج‬ ‫لنفسه ما يريد‪ ..‬إنسان ِّ‬
‫ّ‬
‫إنسان‪،‬وكل إنسان ح ّر‪،‬‬ ‫إيجابية تساعده عىل الحياة‪ .‬عقيل يقول يل‪ :‬إنك‬
‫وال يشء يح ّد من ح ّر ّية اإلنسان ّإل حدود ح ّر ّية اآلخرين‪ ..‬وأنا لم ِّ‬
‫أفكر‪،‬‬
‫أي إنسان آخر‪ ،‬إنما‪ ،‬فقط‪ ،‬أريد أن أعيش يف‬ ‫أبداً‪ ،‬يف االعتداء عىل ح ّر ّية ّ‬
‫حدود ح ِّر َّيتي التي اكتسبتها‪ ،‬بوصفي إنسانا ً يل عقل‪ ،‬ويل إرادة‪ ،‬ويل‬
‫ملكة التفكري والتمييز‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫هذا ما يقوله يل عقيل‪ ،‬لكن واقعي الذي أعيشه غري هذا‪ ،‬وحياتي التي‬
‫كل هذا‪ ،‬فأنا‪ ،‬تماماً‪ ،‬كغريي من أفراد هذا املجتمع‪ ،‬أعيش‬
‫أحياها عكس ّ‬
‫يف قوقعة مغلقة‪ ،‬قوقعة من صنع العادات والتقاليد والسخافات‪ ،‬وقد‬
‫ِّ‬
‫وأحطم تلك التقاليد‪ ،‬وأخرج‬ ‫حاولت‪ ،‬من جهتي‪ ،‬أن أكرس هذه القوقعة‪،‬‬
‫إىل العالم‪ ..‬إىل الحياة اإلنسانية بفضل مساعدة زوجتي يل‪ ،‬وإذا بي‬
‫اكتشف أن زوجتي التي ظننت‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬أنها ستكون عونا ً يل يف التغلُّب‬
‫عىل ما يعرتض طريقي ويحيل حياتي إىل ظالم ووحشة‪ ،‬وبفرض عيلّ‬
‫أن أعيش داخل هذه القوقعة‪ ..‬اكتشفت أن زوجتي هي غطاء القوقعة‪..‬‬
‫هي سدادتها‪.‬‬

‫وعقيل يقول يل إنني إذا أردت أن أعيش حياتي كما أريد أن أعيشها‪ ،‬فمن‬
‫ح ّقي أن أتخلَّص من جميع العراقيل التي تعرتض طريق سريي‪ ،‬وأ َّول‬
‫هذه العراقيل زوجتي‪.‬‬

‫هذا ما يقوله يل عقيل‪ ،‬لكن عواطفي تأبى هذا‪ ،‬وتستنكره بشدّة‪.‬‬

‫زوجتي‪ ،‬ماذا جنت؟ ماذا فعلت؟ ما ذنبها؟‬

‫إنها ضحيّة مثل غريها من الضحايا الكثرية‪ ،‬مثيل أنا‪ ،‬تماماً‪ ،‬فكما ذهبتُ ‪،‬‬
‫ضحية ليشء‪ ،‬ال يد لنا فيه‪ ،‬وال سلطة لنا عليه‪ ،‬فما‬
‫أنا ذهبَتْ ‪ ،‬هي األخرى‪ّ ،‬‬
‫الذي يدفعني للنقمة عليها‪ ،‬ومحاولة التخلُّص منها‪ ،‬بعد إلقاء ّ‬
‫كل العبء‬
‫فك األغالل التي‬ ‫عىل كاهلها؟ ماذا فعلت من أجلها؟ ماذا فعلت يف سبيل ّ‬
‫تكبِّلها وتقيِّد عقلها وتفكريها؟ إنني‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬لم أفعل شيئا ً إيجابيا ً ذا‬
‫أحس معه بأنني أدَّيت واجبي حيال زوجتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أثر‪ ،‬يمكنني أن‬
‫‪124‬‬
‫َّ‬
‫أتمكن معها‬ ‫كانت هذه املعركة تمأل رأيس‪ ،‬وتستويل عىل تفكريي‪ ،‬فلم‬
‫من االستمرار يف العمل‪ ،‬فسارعت يف االنرصاف من املكتب‪ ،‬وكان أ ّول ما‬
‫محل تجاري صادفني‪،‬‬ ‫فعلته‪ ،‬بعد خروجي من العمل‪ ،‬أن ا َّتجهت إىل أ ّول ّ‬
‫وابتعت منه (الشال) الذي أوصتني عليه مريم‪ ،‬مساء يوم أمس‪ ،‬وعدت‬
‫إىل البيت قبل موعدي املعتاد‪ ،‬فسلَّمت (الشال) إىل مريم‪ ،‬دون أن أفوه‪،‬‬
‫ولو بكلمة واحدة‪ ،‬ومن غري أن أناقشها يف املوضوع‪ .‬وكانت يف رأيس فكرة‬
‫جديدة‪ ،‬عزيز عيلّ تنفيذها‪ ،‬مؤ ّمالً أن تساعدني عىل تحقيق ما ص َّممت‬
‫عليه من إعادة محاولة تنظيف عقل مريم وغسل فكرها‪.‬‬

‫فمنذ ذلك اليوم‪ ،‬لم أعد أحادث مريم يف موضوع الكتب واملطالعة‪ ،‬ولم‬
‫أعد ألحّ عليها يف القراءة‪ ،‬بل اكتفيت بأن أُظهر لها شدّة حبّي وشغفي‬
‫كل مكان‪ ،‬وأطالع ّ‬
‫كل‬ ‫كل وقت‪ ،‬وأطالع يف ّ‬
‫باملطالعة‪ .‬وبدأت أطالع يف ّ‬
‫يشء‪ّ ..‬‬
‫كل ما أجده أمامي من يشء مكتوب‪ ،‬أقرؤه‪ ،‬حتى ّ‬
‫مجلت األطفال‬
‫املص َّورة‪ ،‬وحتى يف أوقات األكل‪ ،‬كنت ال أترك الكتاب من يدي‪ ،‬وهديف‬
‫من ذلك هو أن أشعرها بالغرية من الكتاب‪ ،‬وأن أريها أن اإلنسان ال‬
‫يعيش ببطنه فقط‪ ،‬لكنه يعيش بعقله وبفكره‪ ،‬أيضاً‪ ،‬وأن اإلنسان الذي‬
‫يحتاج إلشباع بطنه حتى ال يشعر بالجوع‪ ،‬كذلك يحتاج إلشباع عقله‬
‫يحس بالفراغ‪ .‬وأثمرت هذه الفكرة‪ ،‬فبينما كنت ذات يوم غارقا ً‬
‫ّ‬ ‫حتى ال‬
‫يف مطالعة كتاب من كتب الدكتور (طه حسني)‪ ،‬جاءتني مريم تسألني‪:‬‬

‫ماذا تقرأ‪ ،‬يا سليم؟ ح ّقا ً إنك مدمن مطالعات‪ .‬لست أدري ماذا تستفيد من‬
‫كل هذا الذي تقرؤه؟!!‪ .‬ووجدتها فرصة مناسبة أللقي عليها محارضة يف‬ ‫ّ‬
‫فائدة القراءة‪ ،‬فأجبتها‪:‬‬

‫‪125‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫كل يشء أجده أمامي من الكتب‪ .‬إن املطالعة‪ ،‬يا مريم‪ ،‬هي‬ ‫إنني أطالع ّ‬
‫غذاء القلوب واألرواح واألفكار‪ ،‬فكما تحتاج أجسادنا للغذاء‪ ،‬لتبني‬
‫خالياها وتجدِّدها‪ ،‬تحتاج أرواحنا وأفكارنا للغذاء‪ ،‬لتبني نفسها‪ّ ،‬‬
‫وإل‬
‫أدركها الهرم‪ ،‬وسارعت إليها الشيخوخة‪ .‬ليتك تقدِّرين فائدة املطالعة؟‬

‫وقبل أن تجيبني بكلمة ما‪ ،‬سمعت طرقا ً عىل الباب‪ ،‬فسارعَتْ إليه‪،‬‬
‫أفكر‪ :‬هل يفيد هذا الدرس؟ هل يأتي أ ُ ُكله؟ هل يمكنه‬‫وجلست وحدي ِّ‬
‫يغي من عقليّة مريم وفكرها؟ لكن األ ّيام‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬ك َّذبت ظنوني‪،‬‬
‫أن ِّ‬
‫فقد انرصفت مريم عن مناقشتي يف أه ّميّة الكتب التي أقرؤها‪ ،‬وفائدتها‪،‬‬
‫وبدأت تتَّبع معي طريقة أخرى‪ .‬كانت تجلس إىل جواري كلَّما وجتني‬
‫أطالع كتابا ً ما‪ ،‬وتظهر اهتمامها بما أقرأ‪ ،‬ثم تسألني‪ ،‬يف بعض األحيان‪:‬‬

‫ماذا تقرأ يا سليم؟‪.‬‬

‫قصة (كذا)‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬

‫قصة ممتازة‪.‬‬
‫‪ -‬أسمعنيها‪ ،‬إذ كانت ّ‬

‫وأرفع صوتي حتى تسمعني‪ ،‬وأنا أشعر بفرحة كبرية تغمرني‪ ،‬وأعتقد‪،‬‬
‫بيني وبني نفيس‪ ،‬أنني انترصت شيئا ً ما‪ ،‬وأحاول أن أقرأ لها قراءة هادئة‬
‫تتمكن من متابعتي‪ ،‬بل أحاول أن أقرأه بصوت تمثييل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫رصينة حتى‬
‫زيادة يف ربطها بي‪ ،‬غري أنني‪ ،‬دائماً‪ ،‬كنت ّألحظ عليها عدم االهتمام‬
‫بمتابعة ما أقر‪ ،‬وانرصافها عني‪ ،‬وتفكريها يف أشياء أخرى‪ ،‬فأحاول أن‬
‫أجلب انتباهها‪ ،‬فأسألها‪:‬‬

‫القصة بهذا الكالم؟‬


‫ّ‬ ‫ماذا يقصد بطل‬
‫‪126‬‬
‫أي كالم؟‬
‫‪ّ -‬‬

‫‪ -‬هذا الذي كنت أقرؤه‪ ..‬الفقرة األخرية‪ ،‬بالذات‪.‬‬


‫متأسفة‪ ..‬لم أنتبه إليك‪ .‬كنت ِّ‬
‫أفكر يف أشياء أخرى‪ .‬أ ِع ْد قراءتها‪ ،‬من‬ ‫ِّ‬ ‫‪-‬‬
‫فضلك‪.‬‬

‫وهنا‪ ،‬كنت أدرك أن عقلها ليس معي‪ ،‬وأنها تسبح بعيدة عني‪ ..‬أن مسافة‬
‫شاسعة تفصل بيني وبينها‪ ..‬أنها تعيش يف ج ّو آخر‪ ،‬داخل قوقعة محكمة‬
‫اإلغالق‪ ،‬ال يمكن لصوتي أن يخرتقها ويصل سمعها‪ ،‬وهو إن اخرتقها‬
‫أحس‬‫ّ‬ ‫وأحس بالخيبة‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ووصل سمعها ال يصل‪ ،‬أبداً‪ ،‬إىل عقلها وفكرها‪..‬‬
‫أحس بالندم يأكلني‪ ،‬فألوم نفيس وأصفها بالتغفيل تار ًة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫باليأس‪..‬‬
‫رسع تار ًة أخرى‪ .‬لو أنني تأ َّنيت‪ ..‬لو أنني ترويت‪ ..‬لو تع َّقلت‪ ..‬لو‬
‫وبالت ُّ‬
‫انتظرت قليالً‪ ،‬ملا وقع يل ما وقع اليوم‪ ،‬لكان وضعي وضعا ً آخر‪ ..‬ألخذت‬
‫حياتي وجهة أخرى‪ .‬لكن‪ ،‬ماذا يفيد الندم اآلن‪ ،‬وزوجتي حامل؟ لقد فات‬
‫كل يشء‪ ،‬وليس أمامي سوى أن أحاول‬ ‫الوقت‪ ،‬وانقىض األمر‪ ،‬وانتهى ّ‬
‫وبكل ما يف استطاعتي‪ ،‬أن أزيح قليالً من الرتاب‬ ‫ّ‬ ‫بكل ما يف وسعي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫املرتاكم عىل عقلها وفكرها ونظرتها إىل الحياة‪ .‬ورأيت أن أحسن طريقة‬
‫كل وقت‪،‬‬ ‫كل يشء‪ ،‬ويف ّ‬ ‫لتحقيق ذلك‪ ،‬هو أن أستم ّر يف املطالعة‪ ..‬أطالع ّ‬
‫كل مكان‪ .‬وكانت هي تطلب مني‪ ،‬يف بعض الليايل‪ ،‬التي أطالع يف‬ ‫ويف ّ‬
‫أثنائها وأنا يف الفراش‪ ،‬أن أُسمِعها ما أقرأ‪ ،‬فأرفع صوتي يف هدوء‪ ،‬وأقرأ‬
‫لها جملة جملة‪ ..‬كلمة كلمة‪ ،‬محاوال ً أن أجعل تفكريها مرتبطا ً بما أقرأ‪.‬‬

‫كل مرة‪ ،‬كنت أكتشف أنها غارقة يف نوم‬ ‫كثريا ً ما فعلت ذلك‪ ،‬لكنني‪ ،‬يف ّ‬
‫عميق‪ ،‬قبل أن أنتهي من قراءة الصفحات األوىل‪ ،‬فأنظر إليها‪ ،‬وهي نائمة‪،‬‬

‫‪127‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫نظرة أسف وحرسة‪ ،‬فيها كثري من اليأس وكثري من الرثاء‪ ،‬وفيها‪ -‬أيضاً‪-‬‬
‫كثري من الشفقة‪ ..‬الشفقة عليها هي‪ ،‬عىل هذه املرأة التي تحاول أن تبتعد‬
‫عني‪ ،‬كلّما حاولت أنا االقرتاب منها‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فشلت يف ّ‬
‫كل محاوالتي معها‪.‬‬

‫فشلت يف تحبيب القراءة إليها‪.‬‬

‫فشلت يف أن أجعلها هاوية مطالعة‪.‬‬


‫ّ‬
‫واملجلت‪ :‬املصورة وغري املص َّورة‪ ،‬العربيّة‬ ‫مألت املنزل بالكتب والجرائد‬
‫بحب املطالعة‪ ،‬لكن دون جدوى‪.‬‬‫وغري العربيّة‪ ،‬أمالً يف إغرائها ّ‬

‫وموجهاً‪ ،‬فلم أ ُ َو َّفق يف أداء رسالتي‬


‫ِّ‬ ‫جعلت من نفيس معلِّما ً لها‪ ،‬ومرشداً‪،‬‬
‫متحجرا ً جامداً‪ ،‬لم تفد محاوالتي يف جعل عقلها‬ ‫ِّ‬ ‫هذه حيالها‪ ،‬كان عقلها‬
‫مرنا ً ليِّنا ً قابالً للتفاعل معي ومع الحياة‪ ..‬كنت أحاول أن أنتشلها من‬
‫الهاوية التي أراها مساقة إليها معصوبة العينني‪ ،‬وأنتشلها من الحضيض‬
‫كل محاوالتي‪ ،‬ولم تج ِد أ ّية‬ ‫الذي أراه ُكتب عليها‪ ،‬لكنني فشلت‪ ..‬فشلت يف ّ‬
‫أي خيط من األمل‬ ‫بأي نفع أو فائدة‪ ..‬لم َيلُ ْح يف أفق حياتها ّ‬ ‫محاولة معها ّ‬
‫ُ‬
‫يجعلني أستم ّر يف التش ُّبث به إىل آخر لحظة‪ ،‬لعلَّني أ َو َّفق يف آخر األمر‪.‬‬

‫قد تقول إنني لم أقم بيشء إلصالح عقل مريم وتغيري فكرها‪ ،‬غري محاولتي‬
‫تحبيب املطالعة إليها‪ ،‬وال يشء غري ذلك‪ ،‬وأن الواجب كان ُيلزمني بأن‬
‫أج ِّرب معها طرقا ً كثرية أخرى‪.‬‬

‫تأكد من أني ج َّربت طرقا ً كثرية غري طريقة املطالعة‪ :‬ج َّريت َج ّرها‬
‫لكن‪َّ ،‬‬

‫‪128‬‬
‫للخروج معي يف فسحات صغرية وحضور بعض االجتماعات والندوات‬
‫وج َّربت أن أصحبها معي إىل السينما‬ ‫ِّ‬
‫واملفكرون‪َ ،‬‬ ‫التي يعقدها األصدقاء‬
‫ملشاهدة بعض األفالم املمتازة‪ ..‬ج َّربت أن أجعلها ترتبط بصداقات مع‬
‫وكل ذلك‬ ‫كل ذلك ج َّربته معها‪ّ ،‬‬‫بعض السيِّدات املث ّقفات املتح ِّررات‪ّ ..‬‬
‫فركزت عىل املطالعة والقراءة‪ ،‬ظنّا ً مني أن‬ ‫فشل‪ ،‬ولم يأتِ بنتيجة ما‪َّ ،‬‬
‫سبب فشيل يف النواحي األخرى يعود إىل شعورها بالنقص أمام اآلخرين‪،‬‬
‫فتحاول االنزواء واالبتعاد‪ ،‬واعتقادا ً مني أن املطالعة‪ ،‬وحدها‪ ،‬هي الوسيلة‬
‫العملية لتفتيح ذهنها وتغيري نظرتها إىل الحياة‪ ،‬والناس‪ ،‬والعالم‪ .‬وعندما‬
‫أحس بيشء‪ ..‬بحاجز‪ ..‬بفاصل أخذ يفصل بيني‬ ‫ّ‬ ‫كل ذلك‪ ،‬بدأت‬ ‫فشل ّ‬
‫وبينها‪ ،‬وبياعد ما بيننا‪ ..‬كنت أريدها زوجة مثالية‪ ،‬باملعنى الكبري ملفهوم‬
‫الزوجة‪ ،‬وإذا بي أجدها مج َّرد أنثى يف الفراش وخادمة يف املنزل‪ .‬كنت‬
‫أراها إنسانة لها عقل وروح وإرادة‪ ،‬وإذا بي أجدها مج َّرد جسد تجري‬
‫فيه الحياة‪ ،‬فتمدّه بالشهوة والغريزة‪ .‬كنت أريدها آدمية تشعر بوجودها‬
‫تحس بح ِّر َّيتها‪ ،‬وتعمل عىل إثبات هذا الوجود‪ ،‬عندما تتمتع بح ِّر َّيتها‬
‫ّ‬ ‫ألنها‬
‫اإلنسانية التي وهبتها لها الطبيعة‪ ،‬و َمدَّتها بها الحياة‪ ،‬فاكتشفت أنها‬
‫مج َّرد آلة ص ّماء يف يد ما يس ّمونه العادات والتقاليد‪ ،‬تخضع لها أكثر من‬
‫تحطم‪ ،‬أو‬ ‫ّ‬ ‫ألي يشء آخر يف هذا الوجود‪ ،‬وليس يف إمكانها أن‬ ‫خضوعها ّ‬
‫أي َس ّد من هذه السدود الواهية املتداعية‪.‬‬ ‫حتى تساعد غريها عىل تحطيم ّ‬

‫ورغم ذلك‪ ،‬لم أ ْيئَس‪ ،‬ولم أستسلم‪ ..‬كنت معتدّا ً بنفيس‪ ،‬معتدّا ً بمقدرتي‬
‫عىل خلقها خلقا ً جديداً‪ .‬ولم أشأ أن أعلن استسالمي وعجزي‪ ،‬وهزيمتي‪،‬‬
‫فرتكت حكاية الكتابة وحكاية املطالعة‪ ،‬وا َّتخذت طريقة أخرى‪ ..‬أسلوبا ً‬
‫آخر‪ ..‬أسلوب املناقشات الهادئة البسيطة غري املع َّقدة‪ ،‬فكنت أجلس إليها‬

‫‪129‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ألناقشها مثل هذا النقاش‪:‬‬

‫تأسست يف بنغازي‪،‬‬‫‪ -‬قرأت‪ ،‬يف جريدة اليوم‪ ،‬أن هناك جمعية نسائية قد َّ‬
‫مه ّمتها العمل عىل الرفع من مستوى املرأة الليبية‪ ،‬واألخذ بيدها إىل حياة‬
‫أفضل‪ ،‬فما رأيك لو تك َّونت مثل هذه الجمعية يف طرابلس‪ ،‬أيضاً؟‬

‫‪ -‬وماذا ستعمل هذه الجمعية هنا؟ وما مه َّمتها؟ وهل تعتقد أنها ستقوم‬
‫بأي عمل ذي فائدة؟‬
‫ّ‬

‫‪ -‬يكفي أنها تثبت للمرأة وجودها إىل جانب الرجل‪ ،‬يف مجتمع‪ ،‬يكاد‬
‫ي َّمحي منه وجود املرأة‪ ...‬يكفي أن وجودها ّ‬
‫يدل عىل أنه‪ ،‬بجوار الرجل‪،‬‬
‫تحس بإحساساته نفسها‪ ،‬وتشعر‬ ‫ّ‬ ‫هناك مخلوق آخر اسمه املرأة‪،‬‬
‫بمشاعره نفسها‪.‬‬

‫‪ -‬وكيف تثبت هذه الجمعية وجود املرأة إىل جانب الرجل؟‬

‫‪ -‬بعقد االجتماعات‪ ،‬وإلقاء املحارضات‪ ،‬ومناقشة قضايا املرأة‪ ،‬والعمل‬


‫عىل تثقيف عقلها وتنوير بصريتها‪.‬‬

‫‪ -‬هذا يستدعي خروج املرأة من املنزل‪.‬‬

‫‪ -‬لنفرض ذلك‪ ..‬فما العيب فيه‪ ،‬إذا كان الغرض رشيفا ً والهدف سامياً؟‬

‫إن خروج املرأة إىل معرتك الحياة أصبح شيئا ً رضوريا ً حتى تؤدِّي واجبها‬
‫يف الحياة‪.‬‬

‫‪ -‬املرأة‪ ،‬يا سليم‪ُ ،‬خل ِقت للبيت‪ ،‬ولم ُتخلَق للشارع‪.‬‬


‫‪130‬‬
‫‪ -‬ومن ينكر هذا‪ ،‬يا مريم؟ لكن يجب أن تدركي أن زمن الحريم‪ ...‬زمن‬
‫وضع املرأة يف البيت وإقفاله عليها من الخارج بسبعة مفاتيح‪ ،‬قد ّ‬
‫ول‪،‬‬
‫ولن يعود أبداً‪..‬‬

‫‪ -‬ومن هي هذه املرأة التي تملك الشجاعة الكافية التي تساعدها عىل‬
‫الخروج إىل الشارع؟‪.‬‬

‫وتحس بح ِّر َّيتها‪ ،‬وتنعم بإنسانيَّتها‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬إنها ّ‬
‫كل امرأة تشعر بوجودها‪،‬‬

‫‪ -‬إن مثل هذه املرأة ستصبح مضغة يف األفواه‪ ..‬يف أفواه الناس‪،‬‬
‫يمضغونها حني يصبحون‪ ،‬ويمضغونها حني يمسون‪ ،‬ويمضغونها يف‬
‫األصباح واألمساء‪.‬‬

‫‪ -‬ماذا تقصدين بقولك هذا‪ ،‬يا مريم؟‬

‫‪ -‬لو ُف ِرض أن رزقنا بنتاً‪ ،‬فهل تسمح لها بالخروج سافرة‪ ،‬مثالً؟‬

‫‪ -‬وما يمنعني من ذلك؟ إن الحياة يف تط ُّور‪ ،‬يوما ً بعد يوم‪ ،‬بل ساعة بعد‬
‫وخلَّفتنا‬
‫وإل سارت يف طريقها‪َ ،‬‬ ‫ساعة‪ ،‬وهي تطالبنا بأن نتط َّور معها‪ّ ،‬‬
‫تأكدي أنني مستع ّد الصطحابك أنت‪ -‬أيضاً‪ -‬معي يف الشارع‪.‬‬ ‫وراءها‪َّ .‬‬
‫ولوال أن مثل هذه األمور ال ُتف َرض عىل اإلنسان فرضاً‪ ،‬ألجربتك عىل ذلك‪.‬‬

‫‪ -‬وترىض أن يتق َّول الناس يف ابنتك أو زوجتك؟‬

‫تؤثر يفَّ‪ ،‬وثانياً‪ :‬أقوال الناس هذه‪ ،‬التي‬


‫‪ -‬أ َّوالً‪ :‬أقوال الناس ال ته ّمني وال ِّ‬
‫تهت ّمني بها وتخافينها‪ ،‬سوف لن يكون لها وجود‪ ..‬إن هذه األلسن التي‬
‫تخشينها ستخرس يف ذلك الوقت‪ ..‬وقت سفور ابنتي‪ .‬إن هذه األغالل‬

‫‪131‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫َّ‬
‫ستتحطم وتتالىش‪ ،‬يوم ذاك‪.‬‬ ‫التي تكبلك ّن‪ ،‬اآلن‪،‬‬

‫‪ -‬إن هذا اليوم الذي تتحدَّث عنه‪ ،‬و‪ -‬باألحرى‪ -‬الذي تحلم به‪ ،‬ال يزال‬
‫بعيدا ً جدّاً‪ ،‬فلماذا تتعب نفسك بالتفكري فيه‪ ،‬دعنا منه‪ ،‬اآلن‪.‬‬

‫تتغي من تلقاء نفسها‪ .‬إن‬


‫َّ‬ ‫‪ -‬إنك واهمة‪ ،‬يا مريم‪ ،‬إذا اعتقدتِ أن األ ّيام‬
‫الحياة ال تتقدَّم وال تتط َّور إذا لم نعمل نحن عىل تط ّورها وتقدُّمها‪،‬‬
‫وعلينا‪ -‬نحن الذين نؤمن بهذا‪ -‬أن نعمل‪ ،‬منذ اآلن‪ ،‬لتهيئة العقول‬
‫واألفهام واملدارك عىل تقبّل تط ُّور الحياة الذي ننتظره‪ ،‬علينا أن نساند‬
‫الحياة ونسايرها ّ‬
‫وإل داستنا بأقدامها الصلبة التي ال ترحم‪.‬‬

‫‪ -‬أنت مسكني‪ ،‬يا سليم‪ .‬أنت خيايلّ‪ ..‬تعيش يف وهم‪.‬‬

‫كل حياتي‪ّ ،‬‬


‫وكل ذنبي أنني ذو برص‬ ‫واقعي أعيش ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬بل‪ -‬بالعكس‪ -‬أنا‬
‫ممتدّ‪ ،‬أنظر إىل بعيد‪ ،‬أقدِّر املستقبل‪ ،‬وأحاول أن أساير الحياة‪ ،‬يف خطوها‬
‫ورسعتها‪.‬‬

‫‪ -‬لذلك‪ ،‬فأنت ال تهت ّم بأقوال الناس‪ ،‬وال تقيم وزنا ً ملا يتق َّولون به خلف‬
‫ظهرك‪ ،‬حتى هؤالء القلّة الذين يضحكون يف وجهك‪ ،‬ويوافقونك يف أقوالك‬
‫وآرائك‪ ،‬هم يسخرون منك‪ ،‬بعد ذهابك‪ ،‬ألنهم‪ ،‬يف قرارة أنفسهم‪ ،‬ال‬
‫يتفاعلون معك‪.‬‬

‫‪ -‬ذلك ألنهم مساكني‪ ،‬يعانون من عقدة الخوف الكامنة يف أعماق نفوسهم‪،‬‬


‫وال يستطيعون التخلُّص منها‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫‪ -‬إنهم يخافون ما يقوله الناس عنهم‪ ،‬أ ّما أنت‪ ،‬فتحاول أن تظهر بمظهر‬
‫البطل‪ ،‬الذي ال يهتّم بما يسمعه‪.‬‬

‫‪ -‬إذا اهتممت بما يقوله املغ َّفلون املخ ِّرفون عني‪ ،‬حكمت عىل نفيس‬
‫بالسجن املؤ َّبد‪ ،‬مدى الحياة‪ ،‬يف قوقعة مستحكمة من العادات والخرافات‪،‬‬
‫أحس وأشعر بإنسانيَّتي ووجودي وح ِّر َّيتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأنا إنسان‪ ،‬وأريد أن‬

‫‪ -‬أ ّما أنا‪ ،‬فال تنتظر مني أن أرافقك يف هذا الطريق‪.‬‬

‫‪ -‬كنت أريدك‪ ،‬يا مريم‪ ،‬أن تكوني عوني وسندي‪ ،‬وأن تضعي يدك يف‬
‫يدي‪ ،‬نسري معا ً جنبا ً إىل جنب‪ ،‬نتحدّى العادات‪ ،‬ونهزأ بالتقاليد‪ ،‬وندوس‬
‫عىل الخرافات والسخافات‪ ،‬حتى نح َّقق وجودنا‪ ،‬ونكون قدوة لغرينا‪.‬‬

‫‪ -‬ال‪ .‬ال‪ ..‬يا سليم‪ ،‬ال تتوقع مني هذا‪ ،‬فأنا من هذا املجتمع‪ ،‬وأنا أخاف ما‬
‫يقوله الناس خلفي‪.‬‬

‫‪ -‬إذا طلبت منك أن تعميل شيئاً‪ ،‬واستجبت لطلباتي‪ ،‬فإن الناس ال‬
‫يوجهونه ّإل أنا‪ ،‬ألنهم يدركون أنك‬
‫يوجهون اللوم إليك أنت‪ ،‬بقدر ما ّ‬
‫ّ‬
‫زوجتي‪ّ ،‬‬
‫وكل زوجة خاضعة ألوامر زوجها‪.‬‬

‫وينتهي حديثنا عند هذا الحدّ‪ ،‬دون أن نخطو خطوة واحدة إىل األمام‪،‬‬
‫كل مناقشة‬‫بقدر ما أكتشف بعدها عني مسافة أخرى‪ ،‬يف األراء واألفكار‪ّ .‬‬
‫يتغي‪ ..‬إنها‬
‫َّ‬ ‫بيننا كانت تنتهي بال يشء‪ .‬كان جوابها دائما ً واحداً‪ ،‬ال‬
‫تخاف أقوال الناس عنها‪ ..‬تخاف ما يتق َّول به الناس خلفها‪ ..‬وكنت‪،‬‬
‫أحس ببعدها وانفصالها عني‪ .‬وذات يوم‪ ،‬وبعد أن‬ ‫ّ‬ ‫عقب ّ‬
‫كل مناقشة‪،‬‬

‫‪133‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ظهرت (تقليعة) السينما النسائية‪ ،‬جئتها أقول‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مستع ّد الصطحابك معي إىل السينما‪ ،‬بدال ً من أن أدعك تذهبني إىل‬
‫سينما النساء هذه‪ ،‬التي هي كناية عن منبع لفساد األخالق‪.‬‬

‫وخبطت عىل صدرها بيدها‪ ،‬وشهقت‪ ،‬شهقة‪ ،‬كاد ينفجر لها قلبها‪ ،‬ثم‬
‫قالت يف فزع ما بعده فزع‪:‬‬

‫أنا أذهب معك إىل السينما‪ ..‬إىل سينما الرجال؟‬

‫‪ -‬وما هو العيب يف ذلك؟‬

‫‪ -‬ال أنكر أنه ال عيب يف هذا‪ ،‬ولكن‪..‬‬

‫‪ -‬لكن ماذا؟‬

‫‪ -‬لكن‪ ،‬ماذا يقول الناس عني؟ عندما يعلمون أنني ذهبت معك إىل‬
‫املخصصة للرجال؟‬
‫َّ‬ ‫السينما‬

‫مخصصة‬
‫َّ‬ ‫مخصصة للرجال‪ ،‬ولكن هناك سينما‬‫َّ‬ ‫‪ -‬ليست هناك سينما‬
‫معوجة ملتوية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للنساء‪ ،‬كان الغرض منها تحرير املرأة بوسائل وطرق‬

‫‪ -‬مهما يكن األمر‪ ،‬فال تنتظر مني مرافقتك‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬كانت حياتنا‪ ،‬دائماً‪ ،‬يف رصاع بني عقلني مختلفني‪ :‬عقلية يف‬
‫السماء‪ ،‬وأخرى يف الحضيض‪ .‬رصاع بني فكرتني‪ :‬فكرة متح ِّررة تؤمن‬
‫متحجرة‪ ،‬مص َّفدة يف السالسل‬
‫ِّ‬ ‫بالحياة‪ ،‬وتؤمن باإلنسان‪ ،‬وفكرة جامدة‬

‫‪134‬‬
‫واألغالل‪ .‬رصاع بني نظرتني‪ :‬إحداهما ترى الحياة واسعة رحبة‪ ،‬أثمن من‬
‫أن نضيِّعها وندوس عليها باألقدام‪ ،‬وأخرى ال ترى يف الحياة ّإل وسيلة‬
‫للحصول ع ّما يمأل البطون‪ ،‬ويشبع الشهوات‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫هكذا كانت حياتنا‪ ،‬وهكذا استم ّرت‪ ،‬لكنني‪ -‬رغم ذلك‪ -‬لم أستسلم‪ ،‬ولم‬
‫أق ّر بهزيمتي‪ ..‬كنت أقاوم دائماً‪ ،‬وأقاوم بشدّة وصالبة‪ ،‬وكنت أدافع‪،‬‬
‫وأدافع يف ق ّوة وإرصار‪ ،‬إىل أن انقضت سنة عىل زواجنا‪ ،‬وإذا بي أصدم‬
‫ّ‬
‫ويتبخر آخر‬ ‫صدمة نكراء‪ ،‬ينهار أمامها آخر حصن يف قلعة مقاومتي‪،‬‬
‫ميض سنة عىل زواجنا‪ ..‬عىل زواجي‬‫ّ‬ ‫حلم من أحالم شبابي‪ ..‬كان ذلك بعد‬
‫من مريم‪ ..‬زواجي الذي اعتقدت‪ -‬أ َّول األمر‪ -‬أنه بداية حياتي ونقطة‬
‫تبخر آخر حلم من‬‫انطالق نحو سعادتي ورفاهيّتي يف هذا الوجود‪ .‬أجل‪َّ ..‬‬
‫أحالم شبابي بعد سنة واحدة‪ ،‬فقط‪ ،‬من زواجنا‪ ،‬ففي نهاية هذه السنة‬
‫رزقنا بمولودنا األول‪ ..‬رزقنا بمحمود‪ ،‬وإذا بمريم‪ ..‬زوجتي‪ ..‬عشرية‬
‫حياتي‪ ..‬رشيكة وجودي‪ ،‬تنقلب إىل مريم أخرى‪ ..‬إىل إمرأة أخرى‪ ،‬إىل‬
‫يشء آخر‪ ،‬لم أكن أعرفه‪ ،‬ولم أكن أتو َّقعه‪ ،‬ولم أكن أحلم به حتى مج َّرد‬
‫حلم‪ .‬لقد أصبحت مريم مخلوقا ً آخر‪ ..‬إنسانة أخرى‪ ،‬إذا ثبت أنها إنسانة‬
‫حقاً‪ ..‬مخلوقة غري التي أعرفها‪ ،‬وغري التي عارشتها سنة كاملة‪ ،‬أحاول‬
‫املرتسبة فيه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫األخذ بيدها‪ ،‬وتنظيف عقلها‪ ،‬وغسل دماغها من الرواسب‬
‫لتتغي نظرتها إىل الحياة واألحياء‪ ،‬وأجعلها تنظر إليها من زاوية أخرى‪،‬‬ ‫َّ‬
‫غري التي تع َّودت أن تنظر إليها منها‪ ..‬قضيت سنة كاملة‪ .‬اثني عرش‬
‫شهرا ً مؤ ّمالً إصالحها‪ ،‬ومؤ ِّمالً تنظيف عقلها‪ ،‬ومؤ ّمالً اقتالع الرواسب‬

‫‪137‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫من تفكريها ومؤ ّمالً‪ ،‬بني هذا وذاك‪ ،‬انتصاري عىل سخافة العادات‬
‫والتقاليد‪ ،‬يف انتصاري عليها هي‪.‬‬

‫وتبخر ّ‬
‫كل يشء بعد مولد ابننا محمود؛ فقد‬ ‫َّ‬ ‫تغي ّ‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫لكن‪ ..‬لقد َّ‬
‫انقلبت مريم إىل يشء آخر‪ ،‬حتى أنها أصبحت ال تكتفي‪ ،‬يف أثناء مناقشتي‬
‫لها ومحادثتي معها‪ ،‬باالعرتاف بخطئها‪ ،‬واإلقرار بنقصها‪ ،‬بل أصبحت‬
‫مريم أخرى‪ ..‬مريم جديدة‪ ،‬لها لسان تدفع به‪ ،‬ولها حجج تتذ َّرع بها‪.‬‬
‫حجتها‪ ،‬دائماً‪ ،‬عىل طرف لسانها‪ ،‬ودفاعها‪ ،‬دوماً‪ ،‬يف يدها‪ ،‬تشهره يف ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫كل موقف‪ ،‬وتتَّخذ منه ذريعة إلهمالها ولتقصريها‪.‬‬‫وقت تدافع به عن ّ‬
‫إذا سألتها ملاذا لم تقرأ هذه الصحيفة‪ ،‬قالت إن محمودا ً ال يرتك لها من‬
‫تنظف أو ِّ‬
‫تنظم‬ ‫الوقت ما يمكنها من قراءة الصحيفة‪ ..‬وإذا ملتها ملاذا لم ِّ‬
‫هذا الركن من املنزل‪ ،‬قالت أن محمودا ً لم يدعها تعمل شيئاً‪ ،‬وإذا جلست‬
‫ألناقشها أو حتى أحادثها يف موضوع ما‪ ،‬مهما كانت أه ِّميَّته ومهما كان‬
‫أثره‪ ،‬تتخلص من املناقشة وتتخلَّص من الحديث‪ ،‬بحجة واحدة ال َّ‬
‫تتغي‬
‫أبداً‪ ،‬وال تتبدَّل‪ ،‬هي محمود‪ ..‬فهي‪ ،‬دائماً‪ ،‬تطلب تأجيل النقاش وتأجيل‬
‫الحديث إىل ما بعد أن يذهب محمود إىل فراشه‪ .‬وإذا أشعلت النور‬
‫واستغرقت يف املطالعة ساعة‪ ،‬بعد الوقت املحدَّد لنوم محمود‪ ،‬أخذت‬
‫تتململ‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬و ُتظهر اشمئزازها ونفورها وضيقها‪ ،‬فإذا لم ألتفت‬
‫كل ذلك صارحتني بقولها‪« :‬أطفئ النور‪ ،‬من فضلك‪ ،‬إن محمودا ً ال‬ ‫إىل ّ‬
‫ينام يف النور»‪.‬‬

‫خذتْ منه سالحا ً ضدّي‪،‬‬‫محمود هذا‪ ..‬ابني‪ ..‬ابني أنا‪ ..‬جزء مني‪ ،‬ا َّت َ‬
‫تحاربني به‪ ،‬وتهدّدني به‪ ،‬وتسكتني به‪ ،‬وتتَّخذ منه ذريعة لها‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫محمود ابني أنا‪ ..‬ابني البكر‪ ..‬ثمرة حبّي‪ ،‬أرادت أن تخلق منه عد ّوا ً‬
‫يل‪ ..‬شبحا ً يهدّدني‪ ،‬ويخيفني‪ ..‬شيئا ً أندم عىل مجيئه إىل الحياة‪ ،‬وألعن‬
‫نفيس عىل ساعة النحس التي تسبَّبت فيها بمجيئه إىل هذا العالم لين ِّغص‬
‫حياتي‪ ،‬ويزيد من شقائي‪ ،‬ويشعرني بحرماني‪.‬‬

‫اعتقدت‪ -‬أ َّول األمر أن ابني هذا سيكون سببا ً يف التخفيف من ثقل ما‬
‫أرزح تحته من خيبة أمل‪ ،‬وإذا به‪ -‬بعد أن جعلته سالحا ً يف يدها مشهرا ً‬
‫يف وجهي‪ ،‬مسلَّطا ً عىل رأيس‪ -‬يزيد من شعوري بخيبة أميل‪ ،‬ويزيد من‬
‫كل ذلك كان من جزءا ً من عقلية‬ ‫إحسايس بالثقل الواقع عىل كاهيل‪ّ .‬‬
‫مريم‪ ..‬عقلية زوجتي أنا‪ ،‬التي ُر ِّبيَت عليها‪ ،‬و ُن ِّشئَتْ بها‪ ،‬و ُز ِرعت يف‬
‫تفكريها‪ ،‬منذ الصغر‪ ..‬العقلية السخيفة التي تستويل عىل كثريات من‬
‫(خاصة إذا كان‬
‫ّ‬ ‫أمثالها‪ ،‬وتميل عليه ّن بأن الولد األ َّول‪ ...‬املولود البكر‬
‫يمكن الزوجة من الدفاع عن نفسها وعن‬ ‫ذكراً) هو السالح الفتّاك الذي ِّ‬
‫كيانها وعن وجودها‪ ،‬هو السالح الذي يماثل سالح الزوج‪ ،‬أي (الطالق)‪،‬‬
‫وإل أصبح‬‫تستغل هذا السالح‪ ،‬وكيف تستعمله‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫فعليها أن تعرف كيف‬
‫ضدّها‪ ،‬هو اآلخر‪.‬‬

‫بكل هذا‪ ..‬أحسست بوطأة وجود محمود يف حياتي‪ ،‬وهل‬ ‫أحسست أنا ّ‬
‫خاصة إذا كان ذكراً؟‬
‫ّ‬ ‫يوجد أب يكره ابنه البكر‪،‬‬

‫ال أعتقد أن هناك من يكره ابنه‪ ،‬لكنني أنا شعرت بكراهية نحو ابني‪،‬‬
‫وتمنَّيت لو لم يولد!! صدّقني‪ -‬يا أخي‪ -‬لقد كرهت ابني‪ ..‬فلذة كبدي‪،‬‬
‫ولم يكن الذنب يف ذلك ذنبي أنا‪ ،‬إنما هو ذنبها هي‪ ..‬ذنب مريم‪.‬‬

‫أحسه‪ ،‬وتساءلت‪ :‬ما‬ ‫فكرت كثريا ً بسبب ّ‬


‫كل هذا الشقاء الذي ّ‬ ‫وفكرت‪َّ ..‬‬
‫َّ‬

‫‪139‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫مبعث ّ‬
‫كل هذا اإلحساس بالتعاسة؟ إنها هي‪ ..‬مريم زوجتي‪ ،‬هي سبب‬
‫ّ‬
‫كل ما أنا فيه من شقاء وتعاسة وحرمان‪.‬‬

‫يتغي يف نظري‪ ..‬يف‬


‫َّ‬ ‫كل يشء‬‫وبدأت بذور الثورة تنزرع يف كياني‪ ..‬بدأ ّ‬
‫وتأكدت‬‫َّ‬ ‫يدب يف قلبي نحوها‪،‬‬
‫أحس بالفتور ّ‬ ‫ّ‬ ‫عيني‪ ..‬بدأت‬
‫ّ‬ ‫نفيس‪ ..‬أمام‬
‫أن هذه ليست هي الزوجة التي يجب أن تكون زوجتي أنا‪ ،‬بالذات‪ .‬كان‬
‫ألي رجل آخر‪ ،‬أ ّما أن تكون يل أنا بالذات‪ ،‬فال‪ ..‬كان‬
‫يمكن أن تكون زوجة ّ‬
‫لشاب آخر‪ ،‬ال يحمل يف روحه ودمه الشعور‬ ‫ّ‬ ‫يمكن جدّا ً أن تكون زوجة‬
‫بالقرف والتق ُّزز من هذا املجتمع ونظام الحياة فيه‪ ،‬وال يحمل يف فكره‬
‫وعقله ّإل الرضا بما وجد نفسه عليه‪ ،‬من عادات وتقاليد وسخافات‪ ،‬أ ّما‬
‫بكل هذه القيم واملفاهيم واملعايري‪ ،‬فكيف‬ ‫الشاب الناقم الثائر‪ ،‬الكافر ّ‬
‫ّ‬ ‫أنا‪،‬‬
‫تكون هذه املرأة‪ ..‬هذه الدمية‪ ..‬هذه األلعوبة‪ ،‬زوجة يل؟‬

‫ال‪ ..‬ليست هذه املرأة التي يمكنني أن أضع يدي يف يدها‪ ،‬وأسري بها عرب‬
‫الحياة‪ ،‬أتحدّى وإ ّياها العادات‪ ،‬وأقتحم وإ ّياها التقاليد‪ ،‬ونهدم‪ ،‬معاً‪ ،‬بيد‬
‫عشش فيها البوم‪ ،‬ونعقت‬ ‫كل هذه الخرائب التي َّ‬ ‫واحدة‪ ..‬بمعول واحد‪ّ ،‬‬
‫فيها الغربان‪ .‬هذه الخرائب‪ ،‬وهذه األعشاش التي ال زال ساكنوها‬
‫يعتقدون أنها عمارات‪ ،‬يمكن أن يسكنها آدميون‪ ،‬يف حني أنها ال تصلح‪،‬‬
‫حتى لسكن الحيوانات والجرذان‪.‬‬

‫ال‪ ..‬ليست هذه هي الزوجة املثالية التي كنت أحلم بها‪ ،‬والتي رسمت لها‬
‫فكرت يف خطبتها‪ ..‬إنها جامدة كالصخر‪ ،‬باردة‬ ‫صورة يف خيايل‪ ،‬يوم َّ‬
‫تعب‬
‫متحجرة كالصقيع‪ ،‬حتى عواطفها نحوي ال تعرف كيف ّ‬ ‫ّ‬ ‫كالثلج‪،‬‬
‫عنها؛ فرغم مرور األ ّيام بيننا‪ ،‬وانقضاء سنة كاملة عىل زواجنا‪ ،‬ورغم أن‬
‫‪140‬‬
‫رشفنا‪ ،‬ومعنى ّ‬
‫كل هذا أن (الكلفة) قد زالت بيننا‪ ،‬ولم‬ ‫مولودنا األ َّول قد َّ‬
‫كل ذلك‪ ،‬فهي ال زالت تكبت‬ ‫يعد لها وجود يف ج ّو حياتنا اليومية‪ ..‬رغم ّ‬
‫عواطفها نحوي‪ ،‬وتحبس إحساساتها إزائي‪ ،‬وتئد شعورها‪ ..‬شعور‬
‫األنثى‪ ،‬معي‪.‬‬

‫أنا ال أقول إنها ال تحبّني‪ ،‬أو ال تميل نحوي!‬

‫فترصفاتها وأحاديثها‪ ،‬طوال سنة‪ ،‬كلّها تنفي هذا‬ ‫ُّ‬ ‫أبداً‪ ..‬أنا ال أقول هذا‪،‬‬
‫تكذبه‪ ،‬فما إن أمرض‪ ،‬ولو مرضا ً بسيطاً‪،‬‬ ‫الزعم‪ ،‬وكلّها تدحضه‪ ،‬وكلّها ِّ‬
‫حتى أراها تحوم حويل كالفراشة‪ ،‬تنتظر أ َّول إشارة مني‪ ،‬وتلبّي أ َّول‬
‫طلب يصدر عني‪ .‬وإذا اشت ّد مريض كنت أراها تبكي‪ ،‬وإن كانت تخفي‬
‫بكاءها عني‪ ،‬وإذا عدت إىل البيت‪ ،‬غري رائق املزاج‪ ،‬أو الحظت عىل وجهي‬
‫عالمة انفعال ما‪ ،‬فهي تسارع نحوي تسألني ع ّما بي‪ ،‬وتلحّ يف معرفة ما‬
‫ع ََّكر صفوي‪ ،‬وما َغ َّيَ مزاجي‪ ،‬وما بعثني عىل االنفعال‪ ،‬وهذا ّ‬
‫يدل‪ -‬وال‬
‫شك‪ -‬عىل أنها تحبّني‪ ،‬وعىل أنها تعطف عيلّ‪ّ ،‬إل أنها كانت ال تعرف كيف‬ ‫ّ‬
‫الحب‪ ،‬بطريق غري هذه الطرق‬ ‫ّ‬ ‫تعب عن هذا‬
‫تظهر هذا العطف‪ ،‬وال كيف ِّ‬
‫الساذجة البسيطة التي ُل ِّقنَتْها‪ ،‬منذ الصغر‪.‬‬

‫وإل كنت الحظت عليها بعض النفور أو‬ ‫شك‪ّ ،‬‬ ‫إنها تح ُّبني‪ ،‬ما يف ذلك ّ‬
‫االبتعاد‪ ،‬لكن حبَّها يل كان حبّا ً صامتا ً يعتمل يف نفسها‪ ،‬وتشعر به يف‬
‫تعب عنه؛ فأنا ال أذكر‪ ،‬منذ زواجنا أنني سمعت‬ ‫داخها‪ ،‬ال تعرف كيف ِّ‬
‫منها كلمة غزل ما‪ ،‬حتى كلمة (أحبّك) لم أسمعها منها‪ ،‬بل لم تتج َّرأ‪،‬‬
‫يوماً‪ ،‬وتناديني باسمي املج َّرد‪ّ ،‬إل إذا كنّا وحدنا‪ ،‬فقط‪ ،‬شأنها يف ذلك‬
‫شأن غريها من نساء هذا املجتمع التعس املنكود‪ ،‬الالئي يرين يف مثل هذه‬

‫‪141‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫األمور هبوطا ً بمستوى األخالق‪ ،‬وخروجا ً عن ميحط العادات الحسنة‪،‬‬


‫والتقاليد الحميدة؛ إذ كيف يجوز‪ ،‬يف عرفه ّن‪ ،‬للمرأة‪ ،‬أن تنادي زوجها‬
‫باسمه أمام الناس‪ ،‬أو تبارشه بقبلة أو بكلمة غزل؟ إن املرأة‪ ،‬يف نظره ّن‬
‫ال يجوز لها‪ -‬مطلقاً‪ -‬أن ُتظ ِهر لزوجها حبّها له‪ ،‬وتعلَّقها به‪ ،‬حتى ال‬
‫يهزأ بها‪ ،‬وحتى ال يستغلّها‪ ،‬وألن إظهار الزوجة تعلَّقها بزوجها معناه‬
‫حاجتها إليه‪ ،‬وهذا طريق لالستهانة بها‪ ،‬والستعباده إ ّياها‪ .‬وكانت‬
‫مريم‪ -‬كغريها من نساء هذا املجتمع‪ -‬ال تهت ّم بمظهرها أمامي‪ ،‬وال تهت ّم‬
‫بمالبسها‪ ،‬وال تهت ّم بزينتها ّإل إذا كانت ذاهبة لزيارة إحدى صديقاتها أو‬
‫أغي من رأيها‬ ‫منتظرة زيارة من إحدى صديقاتها‪ ..‬وقد حاولت كثريا ً أن ّ‬
‫يف هذا املوضوع‪ ،‬بالذات‪ ،‬يف هذه الناحية‪ ،‬التي أراها ناحية مه ّمة جدّا ً يف‬
‫الحياة الزوجية ويف تقوية الروابط بني األزواج‪ ..‬حاولت أن ألفت نظرها‬
‫حق الزوج عىل زوجته أن تتز َّين له‪ ،‬وأن تظهر أمامه باملظهر‬ ‫إىل أنه من ّ‬
‫الذي يغريه بها‪ ،‬ويدفعه إليها‪ ،‬ويرصف نظره عن غريها من النساء‪،‬‬
‫حتى ال يضط ّر إىل هجرها‪ ،‬أو يبحث عن سواها من النساء اللوائي يلتقي‬
‫معه ّن يف الشارع‪ ..‬أرشت إليها بذلك مج َّرد إشارة‪ ،‬أ َّول األمر‪ ،‬وحاولت‬
‫أن أفهمها‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬أنه إذا كانت الزوجة تطلب من زوجها أن يكون‪،‬‬
‫دائماً‪ ،‬زهرة يف نظرها‪ ،‬كذلك الزوج يريد‪ ،‬أن تكون زوجته وردة مفتِّحة‬
‫كل وقت من أوقات ليله ونهاره‪ .‬وعندما لم يفد معها التلميح‪ ،‬ولم ُت ْج ِد‬‫يف ّ‬
‫معها اإلشارة‪ ،‬صارحتها مصارحة‪ ،‬يف كثري من امل ّرات‪ ،‬إذ غالبا ً ما كان‬
‫يدور بيننا مثل هذا الحوار‪:‬‬

‫‪ -‬اسمحي يل‪ ،‬يا مريم‪ ،‬أن أصفك باإلهمال‪ ،‬فأنت مهملة يف نفسك‪ ،‬ومهملة‬
‫يف ح ّقك‪ ،‬ومهملة يف ح ِّقي أنا‪ ،‬أيضاً‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫كاف؟‬ ‫‪ -‬كيف ذلك؟ هل ّ‬
‫كل ما أقدِّمه لك غري ٍ‬

‫‪ -‬إنك‪ ،‬يا مريم‪ ،‬ال تهت ّمني بمالبسك‪ ،‬وال تهت ّمني بزينتك‪ ،‬وال تهت ّمني‬
‫بمظهرك ّإل إذا كنت خارجة يف زيارة إحدى صديقاتك‪ ،‬أو إذا كنت منتظرة‬
‫زيارة من إحدى صديقاتك‪ ،‬أ ّما هنا‪ ..‬يف البيت‪ ...‬وأ ّما يل أنا‪ ،‬فأنت‪...‬‬

‫‪ -‬دعك من الخيال الذي تعيش فيه‪ ،‬يا سليم‪.‬‬

‫‪ -‬ال‪ ...‬ليس ما أقوله خياالً‪ ،‬بل إنه الواقع‪ ...‬إن ّ‬


‫أي زوج يريد أن يرى‬
‫زوجته (عروساً) دائماً‪.‬‬

‫‪ -‬املرأة‪ ،‬يا سليم‪ ،‬إذا تز َّوجت‪ ،‬وأصبحت ر ّبة بيت‪ ،‬وأ َّم أوالد‪ ،‬فإن زمن‬
‫اهتمامها بنفسها يكون قد ّ‬
‫ول‪.‬‬

‫كل النساء‪ ...‬أنا ال أصدِّق شيئا ً م ّما تقولني‪.‬‬


‫‪ -‬هذا خطأ‪ ،‬تقع فيه ّ‬

‫‪ -‬إن أ ّية امرأة مثيل‪ ،‬ال تجد الوقت لالهتمام بمظهرها‪ ،‬فمسؤولية البيت‪،‬‬
‫ومسؤولية الولد‪ ،‬ومسؤولية الزوج‪ ،‬تأكل ّ‬
‫كل وقت فراغها‪.‬‬

‫‪ -‬ما بال األجنبيات؟ إن الواحدة منهن ال تكاد تختلف كثرياً‪ ،‬يف مظهرها‪،‬‬
‫عن أ ّيام خطبتها‪.‬‬

‫‪ -‬ال تقار ّني به ّن‪.‬‬

‫‪ -‬ملاذا؟ ألس َن نساءً‪ ،‬مثلك‪ ،‬تماماً؟‪ ،‬وعليه ّن مسؤوليّات مثل املسؤوليّات‬


‫التي عليك أنت؟‬

‫‪ -‬لكن حياته ّن‪ ..‬نظام حياته ّن يخلتف كثريا ً عن نظام حياتنا‪ ،‬نحن‪-‬‬

‫‪143‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫العربيّات‪.‬‬

‫‪ -‬وملاذا ال تكيّفني حياتك‪ ،‬كما يكيِّفن حياته ّن‪ ،‬بما يتالئم ورسالته ّن نحو‬
‫الزوج والولد واملنزل؟‬

‫‪ -‬أنا‪ ...‬بل نحن كلّنا ال نستطيع هذا‪.‬‬

‫‪ -‬وملاذا؟ أنا‪ -‬مثالً‪ -‬أريد أن أرى فيك أنواعا ً متعدّدة من النساء‪ ..‬ال‬
‫أكتفي‪ ،‬أبداً‪ ،‬بأن أراك زوجة فحسب‪ ،‬بل أريدك زوجة وحبيبة وعشيقة‬
‫وخليلة‪ ،‬أيضاً‪ .‬أريدك امرأة وأنثى‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬لست أنا فحسب‪ ،‬بل‬
‫كل األزواج يريدون أن يروا يف نسائهم ّ‬
‫كل نساء العالم‪.‬‬ ‫كل الرجال‪ّ ...‬‬‫ّ‬

‫‪ -‬هذا يشء يجب عليكم ّأل ّ‬


‫تفكروا فيه‪ ،‬أنتم الرجال‪ ،‬ألننا نحن النساء ال‬
‫نستطيعه أبداً‪ ..‬هكذا نشأنا‪ ..‬نشأنا عىل الع ّفة والطهر واألخالق الحميدة‪،‬‬
‫وال يمكننا‪ ،‬أبداً‪ ،‬أن نستهرت‪.‬‬

‫الترصفات تعترب استهتارا ً يف نظرك ّن؟‪ .‬هل إذا طلب‬


‫ُّ‬ ‫‪ -‬وهل مثل هذه‬
‫الزوج من زوجته أن تتز َّين له‪ ،‬يكون استهتاراً؟ هل إذا قبَّلتني تصبحني‬
‫مستهرتة؟ ما هذه العقلية السخيفة؟‬

‫‪ -‬إن أ َّمهاتنا وجدّاتنا لم يفعلن مع آبائنا وأجدادنا ما تطلب مني أن أفعله‬


‫معك‪ ،‬اآلن‪.‬‬

‫‪ -‬وهل يشرتط علينا أن نسري يف الطريق الذي كانت تسري فيه أ ّمك مع أبيك‬
‫أو جدّتك مع جدّك؟ إذا كان هذا رضورياً‪ ،‬حتى ال توصفي باالستهتار‪،‬‬
‫وإذا كان هذا فرضا ً علينا ا ِّتباعه‪ ،‬فعلينا أن نئد شخصيّاتنا وإرادتنا‪ .‬أنا‬
‫‪144‬‬
‫أعرف كثريا ً من األزواج الذين تتحدَّثني عنهم ال يقربون زوجاتهم ّإل يف‬
‫الظالم‪ ،‬فهل يجب علينا أن نفعل كما يفعلون‪ ،‬حتى ال نوصف بالته ُّتك‬
‫وامليوعة واالستهتار؟‬

‫‪ -‬أرجوك‪ ،‬يا سليم‪ ،‬اقفل هذا املوضوع‪ ..‬ال أريد الخوض فيه‪.‬‬

‫وفعالً‪ ،‬أُقفل املوضوع‪ ،‬وأُن ِه َي النقاش‪ ،‬وأنا أشعر بالنقمة عليها وعىل‬
‫املتحجرات‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫أمثالها من النساء الجامدات‬

‫وأحس بالوحشة والوحدة يف بيتي‪ ..‬بيتي الذي كنت‬ ‫ّ‬ ‫بدأت أشعر بامللل‪،‬‬
‫أظنّني قادرا ً عىل أن أخلق منه جنّة وارفة الظالل‪ُ ،‬تظِ لُّني أنا وزوجتي‬
‫وأوالدي‪ ،‬وإذا بي أجده جحيما ً ال يطاق‪ ،‬فهجرته ومن فيه‪ ،‬وما فيه‪ ،‬إىل‬
‫الشارع‪ ..‬رصت أقيض معظم أوقاتي خارج البيت‪ :‬يف املقاهي‪ ..‬يف النوادي‬
‫ِّ‬
‫متأخرة من الليل‪.‬‬ ‫يف السينمات‪ ،‬وال أعود إليه‪ ..‬إىل منزيل ّإل يف ساعة‬

‫أصبح ال يه ّمني البقاء يف بيتي‪ ،‬بل رصت أنظر إليه كما أنظر إىل أي يشء‬
‫كريه‪ ،‬يش متع ِّفن‪ ..‬يشء يبعث عىل القرف واالشمئزاز والتق ُّزز‪.‬‬

‫كل ما حاولت جهدي فيه‪ ،‬هو‬ ‫كل ما اهتممت به‪ّ ..‬‬ ‫كل ما سعيت إليه‪ّ ...‬‬ ‫ّ‬
‫أن أو ِّفر ملريم جميع طلباتها‪ ،‬وأن أو ِّفر لها ّ‬
‫كل ما تحتاج إليه‪ ،‬مهما كان‬
‫تافهاً‪ ..‬ما إن تطلب شيئاً‪ ،‬وبمج َّرد أن تشري إليه مج َّرد إشارة‪ ،‬حتى‬
‫أسارع بإحضاره إليها‪ ،‬يف الحال‪ ،‬دون إبطاء‪.‬‬

‫كل طلب‪ ...‬يشء واحد لم أستطع أن أهبها‬ ‫كل يشء‪ ...‬و َّفرت لها ّ‬ ‫وهبتها ّ‬
‫تجف وتيبس من ناحيتها‪ .‬ال أقول‬ ‫ّ‬ ‫إ ّياه‪ ...‬ذلك هو عواطفي التي أخذت‬
‫إنني بدأت أكرهها‪ ،‬ألنها‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬لم تأت أمرا ً أكرهها من أجله‪ ،‬لكنني‪،‬‬

‫‪145‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وأرق لها‪ ،‬بدال ً من أن أحبّها‪ ،‬ألنني كنت‬


‫ّ‬ ‫فقط‪ ،‬أصبحت أعطف عليها‪،‬‬
‫تحب‬
‫ّ‬ ‫أعلم أنها ضحيّة مثل غريها من النساء‪ ،‬وفرق‪ ...‬فرق كبري بني أن‬
‫إنسانا ً ما ألنه إنسان مثلك‪ ،‬فتهبه عواطفك حا ّرة متَّقدة‪ ،‬وبني أن تعطف‬
‫الحب‪ ،‬وبني أن‬
‫ّ‬ ‫تحب إنسانا ً ملج َّرد‬
‫ّ‬ ‫عليه مج َّرد عطف‪ ..‬فرق كبري بني أن‬
‫وترق لحاله‪ ،‬وتأسف لوضعه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تحبّه ألنك تعطف عليه‬

‫الحب‪ ،‬يف نظري‪ ،‬ال يكون‪ ،‬أبداً‪ ،‬نتيجة شعور بالعطف‪ ،‬إنما العطف‬ ‫ّ‬ ‫إن‬
‫حب‪ ...‬إننا نعطف عىل إنسان ما ألننا نحبّه‪ ،‬وال‬ ‫هو الذي يكون نتيجة ّ‬
‫نحبّه ألننا نعطف عليه‪ .‬إن الشخص الذي تعطف عليه‪ .‬هو يف حاجة إىل‬
‫عطفك‪ ...‬إىل مساعدتك‪ ...‬إىل معونتك‪ ،‬أ ّما من تحبّه فيختلف كثرياً‪ .‬أنا‬
‫أحب أحدا ً ّإل إذا شعرت أنه يف حاجة يل‪ ،‬تماماً‪ ،‬كحاجتي إليه‪،‬‬ ‫‪-‬مثالً‪ -‬ال ّ‬
‫ّ‬
‫وأقل مني يف ثالثة‪ ...‬أنا ال‬ ‫وأنه يساويني يف أشياء‪ ،‬ويفوقني يف أخرى‪،‬‬
‫أي إنسان ّإل إذا اكتشفت فيه أشياء وأمورا ً تحبِّبه إىل قلبي وتق ِّربه‬‫أحب ّ‬
‫ّ‬
‫وأي إنسان ال يكون كذلك‪ ،‬يف‬ ‫مني‪ ،‬وتجعلني أتجاوب معه‪ ،‬ومع عواطفه‪ّ .‬‬
‫نظري‪ّ ،‬إل إذا اكتشفت فيه نواحي التف ُّوق‪ ،‬حيث أشعر‪ ،‬عندها‪ ،‬بحاجتي‬
‫إليه‪ ،‬وأنا مع مريم‪ ،‬لم أعد أشعر بيشء من هذا كلّه‪ ...‬لم أعد أشعر‬
‫بحاجتي إليها‪ ،‬وال بارتباطي بها‪ ،‬ألنني لم أكتشف فيها شيئا ً يميِّزها‬
‫عن اآلخرين‪ .‬لم أكتشف أنها تساويني يف أشياء‪ ،‬وتنقص عني يف أخرى‪،‬‬
‫كل ما اكتشفته فيها‪ّ ،‬‬
‫كل‬ ‫كل ما شعرت به نحوها ّ‬ ‫وتمتاز عني يف ثالثة‪ّ ...‬‬
‫ما عرفته عنها‪ ،‬أنها دائما ً يف حاجة إيلّ‪ ...‬يف حاجة إىل مساعدتي‪ ...‬يف‬
‫حاجة ألن أحملها‪ ،‬دائماً‪ ،‬فوق كتفي‪ .‬ومن هنا‪ ،‬أصبح حبّي لها مج َّرد‬
‫أي مخلوق يصادفك يف الطريق‪.‬‬ ‫عطف‪ ،‬تماماً‪ ،‬كما تعطف أنت عىل ّ‬
‫شعوري نحوها مج َّرد عطف عىل ضعفها واستكانتها ونظرتها املتج ّمدة‬
‫‪146‬‬
‫تحجرها‪ .‬أصبحت أنظر‬‫ُّ‬ ‫تغيها‪ ...‬عطف عىل‬ ‫إىل الحياة التي ال تريد أن ّ‬
‫أي ضحيّة من ضحايا املجتمع‪ ...‬من ضحايا العيد‪...‬‬ ‫إليها كما أنظر إىل ّ‬
‫ضحيّة من واجبي اإلنساني أن أساعدها‪ ،‬ومن واجبي أن أرعاها ومن‬
‫واجبي أن أوفر لها ّ‬
‫كل ما تحتاج إليه‪.‬‬

‫وانتابني القرف والغثيان‪ ،‬ألنني ال أطيق رؤية دموع الدونية‬


‫واالستعطاف‪ .‬ال أطيق رؤية نظرات املسكنة‪ ،‬وال أطيق أن أرى مواقف‬
‫خاصة يف‬‫ّ‬ ‫الضعف واالستكانة‪ .‬ال أطيق أن أرى شيئا ً من ّ‬
‫كل ذلك‪،‬‬
‫املخلوقة التي تز َّوجتها‪ ،‬واعتقدت فيها ال ّقوة والرصامة والجرأة‪ ،‬لتكون‬
‫عوني وساعدي ودافعي إىل األمام‪ ،‬وإذا بي أُصدم يف تقديراتي عندما‬
‫وفكرت؛ عكس ما كنت أتص َّور‪ ،‬عكس ما كنت‬ ‫أجدها عكس ماقدَّرت َّ‬
‫آمل‪ .‬وأدركت‪ ،‬بعد فوات الوقت‪ ،‬أنني تز َّوجت مج َّرد أنثى‪ّ ،‬‬
‫كل ه ّمها يف‬
‫الحياة إشباع معدتي وإشباع غريزتي‪ ،‬من غري أن ِّ‬
‫تفكر‪ ،‬ولو م ّرة واحدة‪،‬‬
‫يف العمل عىل إشباع عقيل وفكري‪ .‬تز َّوجت أنثى ال تنظر نحوي ّإل عىل‬
‫أساس أنني معدة وغريزة‪.‬‬

‫كل ذلك‪ ،‬فكرهت الزواج والزوجات‪ ،‬بعد أن أدركت أنني‪ -‬أنا‬ ‫أسفت عىل ّ‬
‫ابن القرن العرشين‪ -‬قد تز َّوجت كما تز َّوج أبي‪ ،‬وكما تز َّوج ع ّمي‪ ،‬وكما‬
‫تز َّوج جدّي منذ أكثر من ثالثة أرباع القرن‪ ،‬وكما يتز َّوج غري أبي وع ّمي‬
‫وجدّي‪ ،‬من رجال هذا املجتمع‪.‬‬

‫كل رجال وشباب هذا املجتمع وشبابه‪،‬‬‫تز َّوجت كما تز َّوج غالبية‪ ،‬بل ّ‬
‫زواجاً‪ ،‬هو أقرب ما يكون إىل عملية (سعدك بختك)‪ ...‬زواج يانصيب‪ ،‬ال‬
‫أكثر من هذا وال ّ‬
‫أقل‪ ...‬أنا تز َّوجت مثل هذا الزواج املضحك املبكي بعد‬

‫‪147‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫أن كنت‪ ،‬قبل زواجي‪ ،‬أضحك عليهم جميعاً‪ ،‬وأهزأ بهم جميعاً‪ ،‬وبعد أن‬
‫كنت أريد أن يكون زواجي زواجا ً مثالياً‪ ،‬نموذجياً‪ ،‬يمكن ّ‬
‫لكل إنسان أن‬
‫يقتدي به‪ ،‬وأن يسري عىل هداه‪.‬‬

‫اآلن‪ ،‬أدركت أنني ذهبت ضحيّة عىل مذبح األنانية والعادات والتقاليد‪ ،‬كما‬
‫ذهب غريي من الشباب الذين ُنكِبوا يف آمالهم‪ ،‬و ُنكبوا يف أحالمهم‪ ،‬فلو‬
‫لم أكن ضحيّة كغريي من الضحايا‪ ...‬ضحايا هذا املجتمع الذي وجدت‬
‫فيه رغم أنفي ورغم إرادتي‪ ،‬لكان زواجي شيئا ً آخر‪ ،‬و‪ -‬من َث َّم‪ -‬كانت‬
‫حياتي الزوجية لونا ً آخر‪ .‬لو لم أكن ضحيّة الخرتت زوجتي بنفيس‪ ،‬دون‬
‫أي إنسان آخر‬ ‫أن أغرتّ بما أسمع ومن غري أن َّ‬
‫أتأثر بما يقال‪ ،‬كما يختار ّ‬
‫زوجته يف غري هذا املجتمع‪...‬‬

‫أدركت أنني ضحيّة‪ ...‬ضحية التش ُّبث بالعادات والتقاليد التي تفرض‬
‫علينا أن نسلِّم أنفسنا طوعا ً أو كرهاً‪ ،‬ليشء ال وجود له اسمه (القسمة‬
‫والنصيب)‪.‬‬

‫أدركت أنني واحد من عرشات‪ ،‬بل مئات‪ ،‬بل ألوف ذهبوا‪ ،‬ومازالوا يذهبون‪،‬‬
‫كل يوم‪ ،‬قرابني غري مقدَّسة‪ ،‬عىل مذبح هذه السفاسف والخرافات‪.‬‬‫ّ‬

‫أدركت أنني فقدت‪ ،‬إىل األبد سعادتي التي كنت أنشدها يوم تز ّوجت من‬
‫أي أمل يف اسرتجاعها أو الوصول إليها‪ ،‬إىل السعادة‬
‫مريم‪ ،‬ولم يعد يل ّ‬
‫املنشودة من الزواجي‪.‬‬
‫كل ذلك أدركته اآلن‪ .‬لكن‪ ،‬ماذا يفيد إدراكي ّ‬
‫لكل هذه األمور؟ وماذا يفيد‬
‫كل ما حصل بعد فوات األوان؟ هل يمكنني أن أصلح غلطتي؟‬ ‫ندمي عىل ّ‬

‫‪148‬‬
‫وهل‪ -‬ح ّقاً‪ -‬هي غلطتي أنا‪ ،‬أم هي غلطة يقع فيها ّ‬
‫كل الناس‪ ،‬بحكم‬
‫العادة؟‬

‫أنا ال أستطيع أن أصلح شيئاً‪ ..‬أن أصلح هذه الغلطة‪ّ ،‬إل بإحدى طريقتني‬
‫ال ثالثة لهما‪ :‬إ ّما أن أرىض بما أنا فيه‪ ،‬أو ما وجدت نفيس فيه‪ ...‬ومعنى‬
‫ذلك أن أقيض عىل حياتي ووجودي‪ ،‬أو أطلِّق مريم‪.‬‬

‫أطلِّق مريم؟!‬

‫لكن‪ ،‬ما ذنبها؟ ما جريمتها؟ ما جريرتها؟ ألم تكن هي نفسها ضحيّة‬


‫مثيل أنا‪ ،‬تماماً؟ ألم أق ّر بهذا‪ ،‬وأعرتف به أنا نفيس؟‪ ،‬فكيف ألومها عىل‬
‫ذنب لم ترتكبه؟ كيف أح ِّملها مسؤولية يشء لم ُتقدم عليه؟‪ ،‬ثم هل هي‬
‫التي اختارتني‪ ،‬أم أنا الذي اخرتتها بنفيس؟‬

‫هل جاءت تخطبني‪ ،‬أم أنا الذي ذهبت أخطبها؟‬

‫هل كانت هي تعرفني‪ ،‬قبل أن أتقدَّم إليها‪ ،‬وأخطبها من أهلها؟ بل هل‬


‫شك‪ -‬لم تكن تشعر‬ ‫كانت تسمع بي حتى مج َّرد سماع؟ إنها‪ -‬بدون ّ‬
‫بوجودي‪ ،‬حتى مج َّرد شعور‪ .‬وعندما تقدَّمت أخطبها من والدها‪ ،‬ال‬
‫تفكر غريها من البنات‪ ،‬يف رجل‪ ..‬أي رجل‬ ‫تفكر‪ ،‬كما ِّ‬ ‫جدال أنها كانت ِّ‬
‫تفكر يف أن هذا الرجل يحمل مثل ما أحمل‬ ‫يتقدَّم لخطبتها‪ .‬أبداً‪ ،‬لم تكن ِّ‬
‫أنا من آراء وأفكار ومعتقدات‪ ،‬وال ينظر إىل الحياة‪ ،‬وإىل املرأة‪ ،‬بالنظرة‬
‫التي أنظر بها أنا إىل املرأة‪ ،‬وإىل الحياة‪.‬‬

‫تفكر يف الزواج‪ ،‬وتحلم بالزوج‪ ،‬لكنها‪ ،‬أبداً‪ ،‬لم تكن‬


‫شك يف أنها كانت ِّ‬
‫ال ّ‬
‫تفكر يف زوج مثيل أنا‪ ..،‬لم تكن تعتقد أن زوجها سيكون ثائرا ً ناقما ً‬‫ِّ‬

‫‪149‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ساخطاً‪ ،‬ال يرىض بما يجد‪ ،‬إنما يطلب أن يكون ّ‬


‫كل يشء كما يريد هو‪...‬‬
‫وإذن‪ ،‬ما ذنبها؟ ما جريرتها؟ وما جريمتها‪ ،‬إذا رزقتها الطبيعة بزوج‬
‫ثائر ناقم ساخط؟ إنها لم ترتكب جريمة االرتباط بي‪ ،‬ولم ترتكب جريمة‬
‫أي ذنب يجوز أن تعاقب عليه‪ ،‬فكيف يجوز يل‬ ‫الزواج مني‪ ،‬ولم تقرتف ّ‬
‫أن أحاسبها وأحاكمها‪ ،‬أُصدر أحكاما ً ضدّها؟‬

‫أنها بريئة‪ ..‬هذا يشء أعرتف به أمام نفيس‪ ،‬وأمام الله‪ ،‬وأمام سائر الناس‪.‬‬

‫ر َّبما أنا هو املجرم‪ ،‬لكن‪ ،‬كيف أكون مجرماً؟ كيف أكون مخطئاً؟ ما هو‬
‫الجرم أو الخطأ الذي ارتكبته؟ ألم أخرتها اختيارا ً من بني جميع الفتيات‬
‫الالئي ُع ِرضن عيلّ؟‬

‫ألم تصلني عنها أخبار‪ ،‬كلّها تصفها بصالحيّتها لتكون زوجة يل‪ ..‬يل أنا‪،‬‬
‫بالذات؟‬

‫وهل كنت أقبلها لو لم تصلني هذه األخبار التي ص َّورتها زوجة صالحة‬
‫يل؟‬

‫عندما تز َّوجتها‪ .‬عندما قبلت االقرتان بها‪ ،‬لم أستسلم للقسمة والنصيب‪،‬‬
‫بل اجتهدت‪ ،‬وبحثت‪ ،‬وسعيت‪ ،‬فإذا لم أو َّفق يف اختياري فما ذنبي؟ وما‬
‫جريرتي؟ وما جريمتي‪ ،‬حتى أتح َّمل هذا الشقاء وهذه التعاسة؟‬

‫أنا ال ّ‬
‫أشك يف أن املذنب األ َّول‪ ...‬املجرم األول‪ ..‬املسؤول األ َّول‪ ،‬لم يكن‬
‫سوى املجتمع‪ ..‬مجتمعنا هذا‪ ،‬بما يرزح تحته من ثقل العادات والتقاليد‬
‫التي أكل عليها الدهر ورشب‪..‬‬
‫‪150‬‬
‫املتحجرة‪ ،‬التي ال‬
‫ِّ‬ ‫املسؤول األ َّول‪ ،‬يف نظري‪ ،‬هي هذه العقول الجا ّفة‬
‫تتفاعل مع الحياة املتط ِّورة النامية‪..‬‬

‫املتحجرة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فلوال هذا املجتمع‪ ،‬بعاداته املتعفنة‪ ،‬وتقاليده الجامدة‪ ،‬وعقوله‬
‫كل يوم ّ‬
‫وكل ساعة‬ ‫كل هذا العذاب املتجدِّد‪ّ ،‬‬
‫ملا حدث يل ويحدث لغريي ّ‬
‫ّ‬
‫وكل دقيقة‪.‬‬

‫لوال هذه األمور وما شابها‪ ،‬ملا ذهبت أنا ومريم‪ ،‬وذهب‪( ،‬ويذهب) عرشات‬
‫وحب التش ُّبث‬
‫ّ‬ ‫غريي أنا ومريم‪ ،‬ضحايا عىل مذبح األنانية والغطرسة‬
‫باملايض‪.‬‬

‫أفكر يف يشء‪ ،‬أقيض أكثر‬ ‫بكل هذا‪ ،‬فلم أعد أهت ّم بيشء‪ ،‬ولم أعد ِّ‬
‫شعرت ّ‬
‫أوقاتي خارج البيت‪ ،‬بعيدا ً عن الدمية التي امتحنتني بها األ ّيام‪ ،‬وبعيدا ً‬
‫عن ج ّو البيت الذي أصبحت أنفايس تضيق به‪ ،‬وتضيق فيه‪ ،‬وتضيق منه‪.‬‬

‫ويف األوقات القليلة النادرة‪ ،‬التي كنت أقضيها‪ -‬مضط ّراً‪ -‬يف البيت‪ ،‬كنت‬
‫أقضيها يف املطالعة‪ ،‬ال أفرغ من قراءة كتاب‪ ،‬حتى أبدأ يف قراءة غريه‪ ،‬وال‬
‫قصة أخرى‪.‬‬ ‫قصة‪ ،‬حتى أسارع برشاء ّ‬ ‫أنتهي من مطالعة ّ‬

‫كل ما تحتاج إليه‪ ..‬فتحت لها‬ ‫ا َّتخذت هذه الطريقة بعد أن و َّفرت ملريم ّ‬
‫كل إمكاناتي تحت ترصفها‪ ..‬وهبتها جيبي‬ ‫جيبي عىل وسعه‪ ،‬ووضعت ّ‬
‫فأشبعت معدتها‪ ،‬أ ّما عقيل فقد قفلته دونها‪ ،‬بعد أن أدركت أنها ال تهت ّم‬
‫به‪ ..‬وهكذا‪ ،‬أحسست بالفراغ والوحدة‪ ،‬وأن حياتي فارغة‪ ،‬وأن من واجبي‬
‫أن أبحث عن يشء‪ ..‬عن إنسان أمأل به هذا الفراغ يف حياتي‪ ،‬لكنني لم‬
‫أفكر أبدا ً يف الطريقة التي أمأل بها هذا الفراغ القاتل‪ ،‬إىل أن كان يوم‪...‬‬
‫ِّ‬

‫‪151‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫يوم لست أدري كيف كان‪ ،‬لكنه كان نقطة تح ُّول يف مجرى حياتي‪ ..‬كان‬
‫ذلك اليوم يوم شعرت بـ(فوزية) تعيش إىل جواري‪.‬‬

‫و(فوزية) هذه‪ ،‬التي كان لها فضل تغيري حياتي‪ ،‬رأسا ً عىل عقب‪ ،‬ليست‬
‫غريبة عني‪ ..‬ليست طارئا ً جديدا ً يف حياتي‪ ،‬فقد كانت تعيش قريبة‬
‫مني‪ ..‬تعيش معي خالل هذه الفرتة‪ ،‬و‪ -‬بالتحديد‪ -‬منذ أكثر من سنة‪.‬‬

‫كانت ترتدَّد عىل منزلنا أ َّول األمر‪ ،‬ثم عاشت معنا‪ ،‬أنا ومريم‪ .‬إن فوزية‬
‫موظفاً‪ ،‬مع إحدى‬ ‫هذه هي ابنة وحيدة لرجل لبناني األصل‪ ،‬جاء إىل ليبيا َّ‬
‫رشكات البرتول‪ ،‬بحثا ً عن املال والثروة والكسب‪ ،‬شأنه شأن غريه من‬
‫الذين تعجّ بهم بالدنا‪ ،‬عىل مختلف مللهم ون َِحلهم وجنسيّاتهم‪ ،‬بعد أن‬
‫ترك زوجته وابنته الوحيدة (فوزية) يف إحدى مدن لبنان‪ ...‬يف مدينة‬
‫بريوت‪ ،‬بالذات‪ ،‬وبعد أن توفيت والدة فوزية‪ ،‬لحقت بوالدها‪ ،‬حيث لم‬
‫يعد لها هناك من تلتجئ إليه‪ ،‬وكانت صداقة متينة قو ّية تربط بيني‬
‫وبني والد فوزية‪ ،‬منذ تع َّرفت إليه‪ ،‬هنا‪ ،‬يف طرابلس‪ ...‬وعندما لحقت به‬
‫ابنته الوحيدة‪ ،‬شعر بأن ثقالً كبريا ً قد ألقِي عىل كاهله‪ ،‬فهو رجل أعزب‪،‬‬
‫تع َّود أن يعيش بمفرده‪ ،‬منذ مجيئه إىل طرابلس‪ ،‬ال يستق ّر له قرار‪ ،‬وال‬
‫يعرف له مق ّر‪ ،‬فهو متن ّقل‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬مع الرشكة التي يعمل فيها‪:‬‬
‫شهران يقضيهما يف فزان‪ ،‬وخمسة أشهر يف برقة‪ ،‬وأسبوعان يف طرابلس‪،‬‬
‫باإلضافة إىل تن ُّقالته املستم ّرة وسفر ّياته التي ال تنقطع‪ .‬ومن هنا‪ ،‬تع َّود‬
‫الرجل عىل عدم الشعور باملسؤولية‪ ،‬فهو يعيش كما يريد‪ ،‬وكما تحلو‬
‫له الحياة‪ ،‬منذ أن غادر أرسته‪ ،‬وقدم إىل طرابلس وراء املر َّتبات املغرية‪.‬‬

‫تع َّود أن يعيش ح ّرا ً طليقاً‪ ،‬يفعل ما يشاء‪ ،‬ويسهر إىل حيث يشاء‪ ،‬فال‬
‫‪152‬‬
‫تأخر يف عودته‪ ...‬ووجود فوزية‬ ‫يسأله أحد أين قىض سهرته‪ ،‬وال ملاذا َّ‬
‫ابنته‪ ،‬إىل جواره‪ ،‬هكذا‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬أشع َره بمسؤولية جديدة‪ ،‬لم يتح َّملها‬
‫طويالً‪ ،‬ألن هذا الوجود غري املرغوب فيه‪ ...‬وجود فوزية‪ ،‬من شأنه أن‬
‫يعكر عليه صفو حياته‪ ،‬ويح ّد من ح ِّر َّيته‪ ،‬فضالً عن أنه يجربه عىل طلب‬
‫ّ‬
‫بقائه‪ ،‬باستمرار‪ ،‬يف طرابلس‪ ،‬إىل جوار ابنته‪.‬‬

‫تخفف عنه هذا العناء‪ ،‬فهداه‬ ‫فكر طويالً يف طريقة ِّ‬‫و َف َّكر الرجل يف َح ّل‪َّ ..‬‬
‫تفكريه إىل أن يلتجئ إيلَّ أنا‪ ،‬صديقه (الوحيد الحميم)‪ ،‬عىل َح ّد تعبريه‪،‬‬
‫يستعني بي يف التخفيف من هذا الثقل الذي وقع عليه‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬ودون سابق‬
‫إنذار‪ .‬بحث الرجل عن وسيلة يتخلَّص بها من هذا الوزر‪ ،‬فلم يجد سواي‬
‫أنا‪ ،‬فجاءني‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬يعرض عيلَّ الفكرة البسيطة التي اهتدى إليها‪،‬‬
‫قائالً‪:‬‬

‫لقد ماتت زوجتي يف بريوت‪.‬‬

‫‪ -‬لريحمها الله‪ ...‬كلّنا لها‪.‬‬

‫‪ -‬وجاءت ابنتي فوزية لتعيش معي‪ ،‬هنا‪ ،‬يف طرابلس‪.‬‬

‫‪ -‬أهالً وسهالً بها‪َ ..‬م ْن لها غري والدها؟ أنت مالذها األخري‪ ،‬ما دامت لم‬
‫تتز َّوج‪.‬‬

‫‪ -‬لكنك تعرف ظرويف التي ال تسمح يل باستبقائها معي‪ ،‬فأنا دائم التن ُّقل‬
‫أطمئ ألحد من أقاربي هناك‪ ،‬فأستبقيها معه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ال أستق ُّر يف مكان‪ ،‬وأنا ال‬
‫خاصة أنك تعرف ج ّو بريوت‪ ،‬وكذلك ليس يل هنا‪ ،‬يف بالدكم‪َ ،‬م ْن أعهد‬ ‫ّ‬
‫أترصف‪.‬‬
‫َّ‬ ‫إليه بها‪ ...‬إنني حائر‪ ،‬وال أدري كيف‬

‫‪153‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫توصلت إليه؟‬ ‫ّ‬


‫الحل الذي َّ‬ ‫‪ -‬وما هو‬

‫لدي سوى ّ‬
‫حل واحد‪ ،‬لست أدري إن كنت توافق عليه أنت‪ ،‬أم ال‪.‬‬ ‫‪ -‬ليس ّ‬
‫ّ‬
‫الحل الذي تنتظر موافقتي عليه؟‬ ‫‪ -‬وما هو هذا‬

‫‪ -‬أن تأخذ فوزية معك‪ ..‬يف بيتك‪ ..‬تعتربها ابنتك أو أختك‪ .‬هل توافق عىل‬
‫هذا‪ ،‬أم أن السيِّدة مريم تمانع؟‬

‫‪ -‬ال أعتقد أن مريم تمانع يف هذا‪ ،‬لكن‪ -‬ر ّبما‪ -‬فوزية هي التي ال تقبل‬
‫هذا الوضع؟‪.‬‬

‫خاصة أنها ال تعرف أحدا ً سواكما‪ ،‬أنت والسيِّدة‬


‫ّ‬ ‫ترحب به‪،‬‬
‫‪ -‬بل إنها َّ‬
‫مريم‪ ،‬يف هذه البالد‪.‬‬

‫ومن يومها أصبحت فوزية تعيش معنا‪ ...‬يف بيتنا‪..‬‬

‫وفوزية هذه فتاة حلوة‪ ،‬جميلة‪ ،‬يف حوايل الخامسة والعرشين من عمرها‪،‬‬
‫سمراء‪ ،‬ممتلئة بعض اليشء‪ ،‬قصرية القامة نوعا ً ما‪ ،‬أجمل ما فيها نظرتها‬
‫الحاملة‪ ،‬وعيناها الساحرتان‪...‬‬

‫أت َّمت فوزية دراستها الثانوية يف بريوت‪ ،‬قبل مجيئها إىل طرابلس‪ ،‬وأرادت‬
‫أن تلتحق بالجامعة‪ ،‬لكنها التحقت بكلّيّة املعلِّمات هناك‪ ،‬وحصلت عىل‬
‫إجارة التدريس‪ ،‬وكانت‪ -‬أيضاً‪ -‬شغوفة بالقراءة واملطالعة‪ ،‬تمأل ّ‬
‫كل‬
‫خاصة القصص‬
‫ّ‬ ‫أي كتاب تجده أمامها‪..‬‬
‫أوقات فراغها باملطالعة يف ّ‬
‫الحب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العاطفية‪ ،‬قصص‬
‫‪154‬‬
‫وأخالقها كانت ممتازة‪ ،‬ال تسمع منها أ ّية كلمة نابية أو غري مه َّذبة‪ ،‬وال‬
‫أي ترصف خارج حدود األدب واللياقة‪ ،‬وال ترتدي من املالبس‬ ‫تترصف ّ‬
‫َّ‬
‫كل إثارة‪ ،‬وال تضع املساحيق‬ ‫ّإل ما كان يف نطاق الحشمة‪ ،‬البعيد عن ّ‬
‫عىل وجهها‪ ،‬وال تصبغ شفتيها باألحمر الصارخ‪ ،‬وإنما هي طبقة رقيقة‬
‫ش ّفافة من األحمر الفاتح الذي ال يكاد يرى بالعني املج َّردة‪.‬‬

‫عاشت فوزية سنوات حياتها يف رعاية والدتها‪ ،‬بحكم تغ ُّيب والدها‪ ،‬تمرح‬
‫كما تشاء‪ ،‬وتفعل ما تريد‪ ،‬رغم أنه ليس هناك من يحاسبها أو يراقبها أو‬
‫يسألها أين كانت‪ ،‬أو أين قضت يومها أو سهرتها‪ ،‬فوالدها كثري التغ ُّيب‬
‫عن بريوت بحكم عمله‪ ،‬فهو يوما ً هنا‪ ،‬ويوما ً هناك‪ ،‬متن ِّقالً بني بلدان‬
‫أوروبا وبلدان الرشق األوسط‪ ،‬يبحث عن الثروة‪ ،‬وليس هناك من يراعاها‬
‫كل ذلك‪ ،‬لم يثبت عليها‪ ،‬طوال سنواتها‬ ‫ويتعهَّدها سوى والدتها‪ ...‬رغم ّ‬
‫الخمس والعرشين‪ ،‬أنها ارتكبت فعالً‪ ،‬أو قامت بعمل من شأنه أن ييسء‬
‫ترصفا ً‬
‫ُّ‬ ‫ترصفت‬
‫َّ‬ ‫إليها‪ ،‬أو يل ِّوث سمعتها أو ينعتها بنعت غري حميد‪ ،‬أو‬
‫يَسِ مها بميسم ال تقبله األخالق الفاضلة‪ ،‬بل إنها كانت مه َّذبة عاقلة‪،‬‬
‫تعرف أين تضع قدمها مقدَّماً‪ ،‬وال تخطو خطوة واحدة ّإل بعد أن َّ‬
‫تتأكد‬
‫من سالمة تلك الخطوة ؛ وال تقدم عىل عمل من األعمال‪ّ ،‬إل بعد أن تعرف‬
‫ما يرت َّتب عىل ذلك العمل‪.‬‬

‫كان الفضل يف ذلك؛ يف تربية فوزية‪ ،‬يرجع إىل والدتها التي كانت ترشف‬
‫عىل تهذيبها وتنشئتها تنشئة أخالقية صميمة؛ فقد غرست يف روحها‬
‫وحب األخالق‪ ،‬كما غرست يف نفسها كراهية‬
‫ّ‬ ‫وحب الخري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حب الفضيلة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ترصفات طائشة وأعمال ال تليق‬
‫لكل ما تقوم به بنات جنسها من ُّ‬ ‫عميقة ّ‬
‫بفتاة تعيش يف غري باريس‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫كانت هوايتها الوحيدة‪ ...‬اليشء الوحيد املق َّرب إىل نفسها وروحها الش ّفافة‪،‬‬
‫حب املطالعة والشغف بالقراءة‪ .‬وسعيا ً وراء زيادة معلوماتها العا ّمة‪،‬‬ ‫هو ّ‬
‫كانت تقيض ّ‬
‫كل أوقات فراغها يف القراءة ويف التأ ُّمل ويف املطالعة‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫لم تستطع أن تقيم يف بريوت (باريس الرشق) وحدها‪ ،‬دون معني وال‬
‫مرشد‪ ،‬بعد موت والدتها‪ ،‬فأرسعت تلحق بوالدها هنا‪ ،‬يف طرابلس‪،‬‬
‫رغم إلحاح الكثريين من أقارب والدتها عىل بقائها بينهم‪ ،‬تعيش معهم‪،‬‬
‫وتتز َّوج منهم‪.‬‬

‫لحقت بوالدها هنا‪ ،‬فسارع هو‪ -‬بدوره‪ -‬وطلب مني إبقاءها معنا‪ :‬أنا‬
‫كأي فرد من أرستنا الصغرية‪ ...‬وقبلت أنا‬
‫ومريم‪ ،‬يف بيتنا‪ ،‬تعيش معنا ّ‬
‫اطلعت عىل طرف من مايض حياتها‬ ‫إبقاء الفتاة معنا يف البيت‪ ،‬بعد أن َّ‬
‫النظيف‪.‬‬

‫وجاءت الفتاة إىل بيتنا لتقيم معنا‪ ،‬فاستاءت منها مريم‪ ،‬أ َّول األمر‪ ،‬لكنني‬
‫استطعت أن أقنعها بقبولها‪ ،‬بعد أن قصصت عليها طرفا ً م ّما علمته‬
‫عن مايض الفتاة وسلوكها وأخالقها‪ ،‬ورشحت لها الظروف السيِّئة التي‬
‫فرق لها قلب مريم‪ ،‬وقلوب النساء‬ ‫وجدت نفسها تعيشها‪ ،‬رغم أنفها‪َّ ،‬‬
‫ترق وتعطف‪.‬‬ ‫رسعان ما ّ‬

‫فخصصنا لها حجرة‪ ،‬ووضعنا فيها شيئا ً من األثاث‬


‫َّ‬ ‫دخلت فوزية بيتنا‪،‬‬
‫الالئق الذي اشرتاه والدها‪( ،‬رسير – قومودينو – مقعد – خزانة مالبس‬
‫– مشجب‪ ،‬وخزانة صغرية للكتب)‪ ،‬واستقلَّت الفتاة بحجرتها‪ ،‬بعد أن‬
‫مألت خزانة الكتب بما حملته معها من بريوت‪.‬‬

‫كانت فوزية‪ ،‬شغوفة باملطالعة‪ ،‬مولعة بالقراءة‪ ،‬تقيض معظم أوقاتها إ ّما‬
‫‪156‬‬
‫يف مساعدة زوجتي يف شؤون البيت‪ ،‬أو يف القراءة داخل حجرتها وهي‬
‫ممدَّدة عىل الرسير‪ ،‬فتزيد معلوماتها العا ّمة‪ ،‬وتن ّميها‪ ،‬يوما ً بعد يوم‪.‬‬
‫فهي‪ ،‬دائماً‪ ،‬تبحث عن الكتب الجديدة‪ ،‬وهي‪ ،‬دائماً‪ ،‬تشرتي م ّما يعطيها‬
‫أي كتاب يظهر يف السوق‪ ،‬ويروق لها‪.‬‬ ‫والدها‪ ،‬بني الحني والحني‪ّ ،‬‬

‫الحب العميق للقراءة‪،‬‬


‫ّ‬ ‫وعندما ملست فيها هذا الشغف باملطالعة‪ ،‬وهذا‬
‫أردت أن أساعدها من جانبي‪ ،‬وأن آخذ بيدها‪ ،‬فسمحت لها بالدخول إىل‬
‫حجرة مكتبي‪ ،‬سواء أكنت حارضا ً أم كتب غائباً‪ ،‬لتختار الكتاب الذي‬
‫تريده‪ ،‬دون استئذان‪ .‬وبدأت تدخل حجرة املكتب‪ ،‬وتبحث يف عناوين‬
‫الكتب وما إن أعود من العمل‪ ،‬حتى تسارع نحوي قائلة‪ ،‬يف خجل‪:‬‬

‫‪ -‬دخلت حجرة مكتبك‪ ،‬اليوم‪.‬‬

‫‪ -‬هل وجدت فيها ما يعجبك؟‬

‫‪ -‬أجل‪.‬‬

‫أي كتاب هو؟‬


‫‪ّ -‬‬

‫‪ -‬كتاب (‪ .)..‬هل تسمح يل باستعارته وقراءته؟‬

‫ومن غري أن أجيبها‪ ،‬أناولها الكتاب وأنا أشعر بأنني أساعد يف بناء عقلية‬
‫هذه الفتاة اليانعة‪ ،‬وتأخذه هي َف ِرحة به‪ ،‬وتدخل حجرتها بغنيمتها‪،‬‬
‫وتحتضنه بني ذراعيها وكأنها تحتضن الدنيا بأرسها‪ ،‬وأنظر إليها أنا يف‬
‫ىس وحزن‪ ،‬وأعجب للفرق الكبري بينها وبني زوجتي‪ ..‬بينها وبني مريم‬ ‫أ ً‬
‫التي تكره اسم الكتب‪ ،‬وتنفر حتى من النظر إليها‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وم َّرت األ ّيام‪ ،‬وفوزية تعيش بيننا‪ :‬أنا‪ ،‬ومريم‪ ،‬كأنها واحدة منا‪ ،‬ال فرق‬
‫وكل يوم يم ّر‪ ،‬أكتشف فيه شيئا ً جديدا ً تمتاز به فوزية‬
‫بيننا وبينها‪ّ .‬‬
‫حب املطالعة والسعي الحثيث‬ ‫عن مريم‪ :‬اكتشفت فيها‪ -‬باإلضافة إىل ّ‬
‫امللحة يف النقاش‪ ،‬مناقشة ّ‬
‫كل‬ ‫لالستزادة من املعلومات العا ّمة‪ -‬رغبتها ّ‬
‫مشكلة تعرتض حياة البرش‪ ،‬وأكتشفت إىل جانب ذلك تح ُّرر عقلها الذي‬
‫تحكم به عىل األشياء التي تصادفها‪ ،‬وتح ُّرر فكرها الذي ِّ‬
‫تفكر به يف شتّى‬
‫األمور واألوضاع‪ ،‬واكتشفت نظافة آرائها التي تريد أن تن ِّفذها يف قابل‬
‫أ ّيامها‪ ،‬وأن تسري عليها يف رحلتها الحياتية التي كتبت عليها‪.‬‬

‫اكتشفت يف فوزية أشياء كثرية تق ِّربها إيلّ‪ ،‬وتدنيها مني‪ ،‬وتلصقها بي‪..‬‬
‫كل األشياء التي كنت أبحث عنها يف مريم‪ ،‬منذ سنوات‪ ،‬منذ‬ ‫وجدت فيها ّ‬
‫أن تز ّوجتها‪ ،‬بل قبل أن أتز َّوجها‪.‬‬

‫عرفت‪ ،‬مع مرور األ ّيام وتتابعها‪ ،‬أن هذه الفتاة‪ ..‬أن فوزية‪ ،‬فتاة الخامسة‬
‫والعرشين‪ ،‬التي لم تضيِّع سنوات عمرها هبا ًء يف التش ُّبث بالسخافات‪،‬‬
‫والتعلَّق بالرتَّهات‪ ،‬واالعتقاد باألكاذيب‪ ..‬هذه الفتاة التي تعيش معي‪ ..‬يف‬
‫بيتي‪ ،‬وال يفصلها عني سوى جدار صفيق من اآلجر‪ ،‬إنما بعثتها األقدار‬
‫من هناك‪ ،‬من بالدها‪ ،‬لتكون القبس الذي ينري أمامي الطريق املظلم الذي‬
‫أتخبَّط يف دياجريه‪ ،‬عىل غري هدى‪ ،‬من يوم ُو ِجدت يف هذه الحياة‪.‬‬

‫بدأت أشعر فيما بيني وبني نفيس‪ ،‬أن هذه الفتاة السمراء التي تشبه‬
‫زوجتي إىل َح ّد بعيد‪ ،‬وليس هناك من خالف بينهما سوى أن هذه أكثر‬
‫امتال ًء من مريم‪ ،‬ومريم أكثر بياض برشة من فوزية‪ ،‬لدرجة أن كثريات‬
‫ك ّن يسألن زوجتي قائالت‪( :‬هل هذه شقيقتك؟)‪ ..‬بدأت أشعر أن فوزية‬
‫‪158‬‬
‫أقرب إىل عقيل من مريم‪ ،‬وأن فوزية تفهمني‪ ،‬رغم حداثة عهدها بي‪ ،‬أكثر‬
‫م ّما تفهمني مريم التي قضيت معها سنوات‪ ،‬أنجبت خاللها يل ولداً‪ ..‬وأن‬
‫مريم تستسلم يل من غري مقاومة‪ ،‬وتسلِّم بآرائي وأفكاري‪ ،‬دون نقاش‪،‬‬
‫أفكر به‪ ،‬بل رغبة منها‬‫بصحة ما أقول‪ ،‬ال إليمانها بصواب ما ِّ‬ ‫ّ‬ ‫القتناعها‬
‫يف قفل باب النقاش بيني وبينها‪ .‬أ ّما فوزية فيشء آخر يختلف كثريا ً عن‬
‫تحس بح ِّر َّيتها‬
‫ّ‬ ‫مريم‪ ..‬فوزية تشعر بوجودها‪ ،‬أ ّما مريم فال‪ ،‬ألنها لم‬
‫تحس‪ ،‬دائماً‪ ،‬أنها مكبَّلة بأغالل‪ ،‬مقيَّدة بسالسل تجذبها‬ ‫ّ‬ ‫مطلقاً‪ ،‬إنما‬
‫إىل الخلف‪ ،‬كلّما حاولت الزحف إىل األمام‪ .‬واإلنسان ال يشعر بوجودها‬
‫كجزء مه ّم يف هذا الوجود‪ ،‬أ ّما فوزية فتشعر بوجودها‪ ،‬وتعت ّز بهذا‬
‫الوجود الذي تدرك أنه لم يخلق ملج َّرد العبث‪ ،‬لذلك كانت ال تسلِّم بيشء‬
‫أقوله‪ّ ،‬إل بعد أن تناقشني فيه‪ ،‬وبعد أن تحاسبني عليه حسابا ً عسرياً‪،‬‬
‫قد ال يقبله وال يطيقه غريي من الرجال الذين تع َّودوا فرض إراداتهم‬
‫كل يشء‪ ،‬أ ّما أنا فأرحب‬ ‫عىل النساء‪ ،‬والظهور أمامه ّن بمظر الق ّوة يف ّ‬
‫به وأتقبّله بصدر رحب ونفس متفتِّحة‪ ،‬فأنا نفيس ال أريد أن أقتنع أو‬
‫صحته وصوابه‪ ،‬وهذا يشء‬ ‫تأكدي من ّ‬ ‫أحاول إقناع غريي برأي ما‪ّ ،‬إل بعد ُّ‬
‫ال يتأ ّتى ّإل بعد النقاش الدقيق والحساب العسري‪ .‬وقد شعرت فوزية‪،‬‬
‫أو ملست هذه النقطة؛ نقطة الق ّوة أو الضعف يف نفسيَّتي‪ ،‬فأرادت أن‬
‫تستغلَّها‪ ،‬ال لصالحها فحسب‪ ،‬بل لصالحي أنا‪ ،‬أيضاً؛ فقد عرفت هذه‬
‫كل قول أقوله‪ ،‬ويف ّ‬
‫كل‬ ‫أحب من يناقشني ويحاسبني‪ ،‬يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفتاة أنني‬
‫كل فكرة أعرضها‪ ،‬وعرفت‪-‬أيضاً‪ -‬أنني لست من الذين‬ ‫رأي أبديه‪ ،‬ويف ّ‬
‫يته َّربون من اإلقرار بخطئهم واالعرتاف به‪ ،‬إذا أخطأوا‪ ،‬بل أدركت أنني‬
‫أتقبَّل لفت نظري إىل نقطة ضعفي‪ ،‬بيرس وسهولة‪ ،‬فأخذت تجلس معي‬
‫ساعات طويلة‪ ،‬من الليل والنهار‪ ،‬تناقشني وتحادثني يف شتّى املواضيع‪،‬‬

‫‪159‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫خاصة ما كان منها متعلِّقا ً بالنواحي االجتماعية يف البالد‪ ،‬وتحاول أن‬


‫ّ‬
‫تقارن‪ ،‬يف كثري من الحاالت‪ ،‬بني مستوى تفكرينا‪ ،‬هنا يف بالدنا‪ ،‬ومستوى‬
‫تفكريهم‪ ،‬هناك‪ ،‬يف بالدهم‪ .‬ورأيت أنا‪ -‬بدوري‪ -‬أنها فتاة الزالت يف حاجة‬
‫إىل التوجيه‪ ،‬فأخذت عىل عاتقي مه ّمة مساعدتها ومسايرتها‪ ،‬ما دامت‬
‫تتمتَّع بقابلية‪َ ،‬ق َّل أن تجدها يف غريها‪ ،‬فجعلت من نفيس معلِّما ً ومرشدا ً‬
‫وموجها ً لها‪ ،‬يف كثري من املواقف التي تعرتض طريقها‪ ،‬ووجدت فيها‬ ‫ّ‬
‫قابليّة لتح ُّمل آرائي التي يراها بعضهم آراء متط ِّرفة‪ ،‬ال يمكن تطبيقها يف‬
‫هذا املجتمع‪ ،‬أ ّما فوزية فقد كانت‪ ،‬بعد النقاش واالقتناع‪ ،‬تصل معي إىل‬
‫نتيجة‪ ..‬إىل نقطة نتَّفق عندها‪ ،‬وغالبا ً ما تكون هذه النقطة هي املوافقة‬
‫عىل صواب رأيي‪.‬‬

‫أذكر أنها قالت يل‪ ،‬ذات يوم‪« :‬لو كنت من بلدك‪ ،‬يا أستاذ سليم‪ ،‬الستطعت‬
‫أن أتعاون معك عىل تحقيق كثري م ّما تنادي به من آراء وأفكار تقدُّمية‬
‫متح ِّررة‪ ،‬والتي يراها غريك متط ِّرفة مندفعة»‪.‬‬

‫خاصة يوم الجمعة‪ ،‬داخل‬


‫ّ‬ ‫بدأنا‪ :‬أنا‪ ،‬وفوزية‪ ،‬نقيض معظم أوقاتنا‪،‬‬
‫حجرة مكتبي‪ ،‬نتناقش‪ ،‬ونتحادث يف شتّى األمور ومختلف املواضيع‪،‬‬
‫وكانت مريم تجلس معنا تنظر إلينا‪ ،‬وتستمع إىل مناقشاتنا التي تحتدّ‪،‬‬
‫تار ًة‪ ،‬إىل أبعد الحدود‪ ،‬وتهدأ‪ ،‬تار ًة أخرى إىل درجة اال ِّتفاق‪ ،‬فتهزأ بنا‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتستخف بعقولنا‪ ،‬وتأسف عىل أوقاتنا التي نضيِّعها‬ ‫وتضحك علينا‪،‬‬
‫يف نقاش‪ ،‬الفائدة منه وال خري فيه‪ ،‬ثم تقوم وتذهب إىل حجرة نومها‬
‫وترتكنا فيما نحن فيه من (كالم فارغ)‪ ،‬ال يهت ّم به إال الحاملون الخياليون‬
‫أمثالنا‪ ،‬أنا وفوزية‪ ..‬كانت مريم تقول يل‪ ،‬يف بعض امل ّرات‪:‬‬
‫‪160‬‬
‫‪ -‬أنت تحلم‪ ،‬يا سليم‪.‬‬

‫‪ -‬كيف؟‬

‫‪ -‬ألنك تحاول املستحيل؛ إن القوم هنا ال يفهمونك‪ ،‬ولن يتَّبعوك أبداً‪ .‬إنك‬
‫تحاول أن تفرض عليهم آراء لم يجدوا عليها آباءهم وال أجدادهم‪ .‬إنك‬
‫تتعب نفسك‪ ،‬وتسري وراء رساب خادع‪.‬‬

‫‪ -‬ما دمت مؤمنا ً بصواب آرائي‪ ،‬فال ب ّد أن يأتي يوم يقتنع فيه قومي‬
‫بصالحية هذه اآلراء‪.‬‬

‫‪ -‬إن فوزية هذه‪ ،‬تزيد يف خياالتك وأوهامك‪ .‬إنها فتاة من غري هذا البلد‪،‬‬
‫والحياة يف بالدها غريها هنا‪.‬‬

‫‪ -‬بل قويل إن القوم هناك غريهم هنا‪ .‬هناك‪ ،‬يحكمون عىل األشياء‬
‫بعقولهم‪ .‬وهنا‪ ،‬يحكمون عليها بما ورثوه‪.‬‬
‫وهنا‪ ،‬تدعني مريم وشأني‪ ،‬وتذهب يف حال سبيلها‪ ،‬وهي تشعر‪ -‬ال ّ‬
‫شك‪-‬‬
‫باألسف والحرسة عىل هذا الزوج الخيايل الذي اب ُتليت به‪ ،‬هذا الزوج الذي‬
‫ال يقنع بما يجد‪ ،‬إنما يحاول أن يجعل األمور كما يريد‪.‬‬

‫تك َّررت مقابالتي وجلساتي ومناقشاتي مع فوزية‪ .‬ويف كثري من امل ّرات‪،‬‬
‫قصة من القصص فأقرؤها أنا‬ ‫عندما ال تجد ما نتناقش فيه‪ ،‬كنا نتناول ّ‬
‫وتسجل رأيها يف‬
‫ِّ‬ ‫أ َّوالً‪ ،‬وأك ِّون حولها رأيا ً ِّ‬
‫أسجله عىل ورقة‪ ،‬ثم تقرؤها هي‬
‫القصة‪ّ ،‬‬
‫وكل منا ينظر إليها من زاويته‬ ‫ّ‬ ‫ورقة أخرى‪ ،‬ثم نجلس نتناقش يف‬
‫الخاص‪ .‬وشيئا ً فشيئاً‪ ،‬بدأت‬
‫ّ‬ ‫الخاصة‪ ،‬ويصدر عليها حكمه‪ ،‬بحسب رأيه‬ ‫ّ‬

‫‪161‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ّ‬
‫تحتل‬ ‫أُعجب بفوزية‪ .‬بدأت هذه الفتاة تدخل قلبي عن طريق عقيل‪ ،‬بدأت‬
‫مكانها من وجداني‪ ،‬عن طريق تفكريي‪ .‬وهنا‪ ،‬اكتشفت جمالها‪ ،‬جمال‬
‫خلقتها بعد أن اكتشفت جمال عقلها‪ .‬إنها حلوة جميلة‪ ،‬خفيفة الروح‪،‬‬
‫الحجة‪ .‬وعجبت‪ -‬أ َّول األمر‪ -‬كيف‬
‫ّ‬ ‫عذبة الحديث‪ ،‬واسعة التفكري‪ ،‬قو ّية‬
‫بدأت أنظر إىل فوزية من خالل هذه الزاوية!‬

‫ملاذا أنظر إليها من زاوية غري الزاوية التي تع َّودت أن أنظر إليها منها؟‬
‫الحب التي يقولون عنها؟ هل اكتشفت فيها أشياء‬ ‫ّ‬ ‫هل هذه هي مبادئ‬
‫أحب هذه الفتاة؟ وكيف أحبّها وأنا‬‫ّ‬ ‫حبَّبتها إىل قلبي؟ هل يمكنني أن‬
‫أحب زوجتي‪،‬‬‫متز ِّوج ويل ولد‪ ،‬وال أشعر بأ ّية كراهية نحو زوجتي؟ قد ال ّ‬
‫لكن ذلك ال يعني أنني أكرهها وأحاول التخلُّص منها؛ فأنا ال أمقتها‬
‫أحس نحوها بعطف وبشفقة‪ ،‬وشفقتي عليها تبعثني عىل احرتامها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بل‬
‫ومحاولة عدم جرح كربيائها‪ .‬لقد اعرتفت‪ ،‬فيما مىض‪ ،‬بيني وبني نفيس‪،‬‬
‫بأن مريم ضحيّة‪ ..‬تماماً‪ ،‬مثيل أنا‪ ،‬واعرتفت بأنني أعطف عليها‪ ،‬ألنني‬
‫أعطف عىل الضحايا وأشفق لحالهم‪.‬‬

‫أحب هذه الفتاة؛ وأنا أعلم‪ ،‬مقدَّماً‪ ،‬استحالة إمكانية‬ ‫كيف يمكنني أن ّ‬
‫زواجي بها؟! ال يمكنني أن أتز َّوجها‪ ،‬مهما كانت األحوال‪ ،‬ألنني‪ -‬أ َّوالً‪-‬‬
‫ال أستطيع أن أطلّق زوجتي الربيئة التي ال ذنب لها‪ ،‬وألنني‪ -‬ثانياً‪ -‬ال‬
‫أستطيع أن أجمع بني امرأتني‪ ،‬يف وقت واحد‪ ،‬فأنا لست من أنصار الزواج‬
‫بأكثر من واحدة‪.‬‬

‫حب فاشل‪ ،‬ال أمل فيه‬


‫أحب هذه الفتاة؟ وكيف أدفع بها إىل هاوية ّ‬
‫فكيف ّ‬
‫وال رجاء منه؛ وهي بمثابة األمانة التي وضعت يف عنقي‪ ،‬يوم سلَّمها يل‬
‫‪162‬‬
‫والدها وديعة بني يدي؟‬

‫هي يجوز يل أن أخون األمانة‪ ،‬وأنقض العهد؟ إن هذه الفتاة غريبة يف‬
‫هذه الديار‪ ،‬وحيدة‪ ،‬ال سند لها وال ُمعني سوى والدها الذي َسلَّمها يل‬
‫وتركها عندي بمنزلة األخت‪ ،‬وهي يف حاجة إىل من يحميها ويذود عنها‪،‬‬
‫كل هذا‪ ،‬يجوز‬ ‫أحق بهذه امله ّمة سواي‪ ،‬فكيف‪ ،‬بعد ّ‬
‫وليس هناك من أحد ّ‬
‫الترصف فيه؟‬‫ُّ‬ ‫يل أن أحبّها‪ ،‬وأن أُسكِنها قلبي‪ ،‬الذي ليس يل وال لها ّ‬
‫حق‬

‫أحب فوزية‪ ،‬وأنا متز ِّوج من مريم؟ وماذا يكون مصري‬ ‫هل يمكنني أن ّ‬
‫الحب‪ ،‬إذا كان حبّا ً فعالً؟ وما نتيجته؟ ما آخرته؟ ما نهايته؟‪ ..‬أسئلة‬
‫ّ‬ ‫هذا‬
‫أ ْعيَتني اإلجابة عنها‪.‬‬

‫وأحس به نحوها‬‫ّ‬ ‫تحس‪ ،‬وتشعر نحوي بمثل ما أشعر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ثم‪ ،‬هل فوزية‬
‫املتوسلة‪ ،‬بهذه البسمة‬
‫ِّ‬ ‫متأججة؟ وماذا تقصد بهذه النظرة‬ ‫ِّ‬ ‫من عاطفة‬
‫العذبة التي تستقبلني بها‪ ،‬بهذه الجلسات الطويلة واألحاديث املش ِّوقة؟‬
‫رس َب إىل قلبي؟‬
‫رس َب إىل قلبها كما ت َّ‬
‫الحب ت َّ‬
‫ّ‬ ‫هل هو‬

‫هل هذه هي مبادئه؟‬

‫هل هذه هي إشاراته ونداءاته؟‪.‬‬

‫من يدري‪...‬؟‬

‫وانتابتني حرية مريبة‪ ،‬وأصبحت يف د ّوامة من أمري‪ :‬ال أعرف كيف‬


‫رصف‪ ،‬وال أعرف ماذا أفعل‪ ،‬إىل أن اهتديت إىل فكرة‪ ،‬رحت أقنع نفيس‬ ‫أ َت َّ‬
‫بها‪ :‬رحت أقنع نفيس بأن ما بيني وبني فوزية ال يمكن‪ ،‬أبداً‪ ،‬أن يكون حبّاً‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الب ّد أنه يشء آخر أجهله‪ ،‬فأنا أشعر شعورا ً عميقا ً بأنها أخت يل‪ ،‬فالبد أن‬
‫حب وعاطفة‪ ،‬مبعثه شعور األخ ّوة التي جمعت بيننا‪،‬‬ ‫يكون ما بيننا‪ ،‬من ّ‬
‫فهي يتيمة‪ ،‬وأنا مثلها يتيم‪ ،‬وقد جمع بيننا اليتم‪ ،‬وهي غريبة وحيدة يف‬
‫هذه الديار‪ ،‬وأنا‪ -‬أيضاً‪ -‬أشعر بأنني غريب يف هذا املجتمع وبني هؤالء‬
‫القوم الذين ال يفهمونني‪ ،‬وقد جمع بيننا الشعور بالغربة والوحدة‪ ،‬وهي‬
‫تحمل أفكارا ً تقدُّمية تح ُّررية‪ ،‬وأنا أحمل مثل هذه األفكار‪ ،‬وقد جمع بيننا‬
‫ا ِّتحاد الهدف ووحدة الغاية‪.‬‬

‫هذه هي العوامل التي جمعتنا وق َّربتنا؛ و‪ -‬إذن‪ -‬إن ما بيننا؛ أنا وفوزية‬
‫الحب الذي يعرفونه ويتحدَّثون عنه‪ ،‬وإنما هو‬ ‫ّ‬ ‫ال يمكن أن يكون هو‬
‫حب من نوع آخر‪ ،‬منشؤه ا ِّتحاد الهدف‪ ،‬ووحدة الغاية وتقارب اآلراء‬ ‫ّ‬
‫واألفكار‪.‬‬

‫هذا ما أقنعت به نفيس‪ ،‬أو ما حاولت أن أقنع به نفيس حتى ال أقع يف‬
‫املحظور‪ ،‬وال أعرتف بالجريمة‪ .‬وكانت فوزية تحاول أن تقوم بالدور‬
‫(الحب) عن العالقة التي نشأت بيننا‪ ،‬نحن‪-‬االثنني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نفسه؛ أن تنفي صفة‬
‫وتحاول أن تجعلها عالقة عادية أقرب إىل عالقة األخ بأخته‪ ،‬منها إىل‬
‫عالقة الحبيب بحبيبته‪ ،‬فجاءتني ذات يوم تقول‪ ،‬يف إرصار‪:‬‬

‫لدي اقرتاح مه ّم‪ ،‬يا أستاذ سليم‪.‬‬


‫ّ‬

‫‪ -‬ما هو هذا االقرتاح امله ّم‪ ،‬يا فوزية؟‬

‫‪ -‬ما رأيك لو ناديتني بلفظ (أختي فوزية)‪ ،‬وناديتك بلفظ (أخي سليم)؟‬

‫‪ -‬اقرتاح وجيه‪ ،‬ال اعرتاض يل عليه‪.‬‬


‫‪164‬‬
‫تذكرت شيئا ً‬ ‫وصمتت فوزيةبرهة‪ ،‬كأنها ِّ‬
‫تفكر‪ ،‬ثم عادت تقول وكأنها َّ‬
‫نسيته‪:‬‬

‫‪ -‬لقد سحبت اقرتاحي‪.‬‬

‫‪ -‬ملاذا؟‬

‫‪ -‬ألن األخوة يف األُ َس الفرعونية القديمة‪..‬‬

‫وسارعت أنا أت ِّمم الجملة التي لم تكملها‪:‬‬

‫‪ -‬كانوا يتزاوجون فيما بينهم‪.‬‬

‫واصطبغ وجهها بحم َرة قانية محبَّبة‪ ،‬فلم تجب‪ ،‬بل اكتفت ببسمة رقيقة‬
‫لطيفة‪ ،‬فأخذت بيدها دون شعور ومن غري تفكري‪ ،‬وقلت‪:‬‬

‫‪ -‬وأنا عندي اقرتاح آخر‪.‬‬

‫‪ -‬ما هو؟ قله‪..‬‬

‫‪ -‬أن تناديني باسمي‪ ،‬وأناديك باسمك مج َّرد َي ْن‪ :‬تناديني أنت بـ(يا‬
‫سليم)‪ ،‬وأناديك أنا بـ(يا فوزية)‪ ،‬دون حاجة بنا إىل اللقب‪.‬‬

‫‪ -‬ماذا تقصد من هذا االقرتاح؟‪.‬‬

‫‪ -‬أقصد رفع الحواجز بيننا‪ ،‬وعدم الشعور بالحرج يف أحاديثنا‪.‬‬

‫ومن يومها‪ ،‬بدأت تناديني (سليم) وأنا أناديها (فوزية)‪ ،‬ولم تعرتض‬
‫مريم عىل هذا التط ُّور يف عالقتنا‪ ،‬فما كانت تهت ّم بمثل هذه األمور التافهة‪،‬‬

‫‪165‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫كما تزعم‪.‬‬

‫وم ّرة أخرى‪ ،‬دخلت فوزية حجرة مكتبي‪ ،‬وجلست قبالتي‪ ،‬وبعد تفكري‬
‫قصري قالت‪:‬‬

‫لدي سؤال‪.‬‬
‫أستاذ سليم‪َّ ،‬‬

‫وقبل أن تكمل جملتها أجبتها عىل الفور‪:‬‬

‫‪ -‬أ َّوالً‪ ،‬اسحبي كلمة (أستاذ)‪ .‬لقد ا َّتفقنا عىل التخلُّص من األلقاب‪.‬‬

‫لدي سؤال‪ ،‬يا سليم‪ ،‬أو ّد أن ِّ‬


‫أوجهه إليك‪.‬‬ ‫‪ -‬معك ّ‬
‫حق‪ّ ..‬‬

‫يحيك؟‬
‫‪ -‬اسأيل ما بدا لك‪ ،‬يا فوزية‪ ..‬ماذا ِّ‬

‫‪ -‬إنه سؤال بسيط يتعلَّق بإحدى صديقاتي‪ .‬إنها مشكلة فتاة ليبية‬
‫تع َّرفت إليها‪.‬‬

‫‪ -‬وما هي هذه املشكلة؟‬

‫أوجهها إليك مكتوبة‪ ،‬وتجيبني عنها تحرير ّياً‪.‬‬ ‫‪ِّ -‬‬


‫أفضل أن ِّ‬

‫‪ -‬ال أمانع يف ذلك‪..‬‬

‫وناولتني ورقة مطو ّية‪ ،‬وخرجت مرسعة تغادر الحجرة‪ ،‬دون أن تنتظر‬
‫فضها وقراءتها‪ .‬وعندما فضضتها‪ ،‬بدأت أقرأ فيها «أ ُّيهما أفضل‪،‬‬ ‫مني ّ‬
‫تحب شا ّبا ً ليبيّا ً مثلها حبّا ً قو ّيا ً صارماً‪ ،‬وكان هذا‬
‫ّ‬ ‫بحسب رأيك‪ ،‬لفتاة‬
‫الشاب يبادلها املشاعر نفسها‪ ،‬ولكنه‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬سافر إىل الخارج إلتمام‬ ‫ّ‬
‫‪166‬‬
‫دراسته‪ .‬ومنذ سنة‪ ،‬تقريباً‪ ،‬انقطعت أخباره عنها‪ ،‬فتقدَّم إليها ّ‬
‫شاب آخر‬
‫يطلب يدها‪ ..‬فهل توافق عىل إتمام هذه الخطبة‪ ،‬أم تنتظر عودة فتاها‬
‫الغائب؟»‪.‬‬

‫وفكرت يف األمر قليالً‪ ،‬ثم أخذت القلم‪ ،‬وبدأت أكتب لها هذا الردّ‪« :‬يقول‬ ‫َّ‬
‫املثل العا ّم ّي «عصفور يف اليد وال عرشة فوق الشجرة»‪ .‬ومادامت آخبار‬
‫الفتى األ َّول قد انقطعت منذ سنة‪ ،‬فالب ّد أن يكون املانع أحد شيئني‪ :‬إ ّما‬
‫الحب‪ ،‬أو أنه نسيها‪ ،‬ولم يعد يذكرها‪ .‬ويف كال الحالتني‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫أنه ال يبادلها‬
‫الحمق االستمرار يف انتظار عودته إىل ما ال نهاية‪ ،‬ومن يدري ماذا تكون‬
‫تأكدت‬ ‫أفضل لها أن َت ْقبل اليد املمدودة إليها‪ ،‬إذا َّ‬
‫نهاية هذا االنتظار‪ .‬أنا ّ‬
‫من صالحيَّتها»‪.‬‬

‫وناديت فوزية‪ ،‬فسلَّمتها الر ّد داخل مظروف‪ ،‬فوعدتني بأن تسلِّمه إىل‬
‫صاحبته‪ ،‬صباح الغد‪.‬‬

‫وم َّرت األ ّيام‪ ،‬يتبع بعضها بعضاً‪ ،‬وأنا أظ ّن أن ما بيني وبني فوزية‪ ،‬ال‬
‫األخوي‪ ،‬الذي يحدث بني األخ وأخته‪ ،‬لكن األ ّيام‬
‫ّ‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫يتجاوز حدود‬
‫والحب‬
‫ّ‬ ‫الحب‪..‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫فتأكدت أن ما بيننا هو‬ ‫كشفت يل خطأ هذا االعتقاد‪،‬‬
‫الحب الذي ال يرحم اإلنسان‪ ،‬وال يرتكه يشعر بالراحة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العنيف الصارم‪..‬‬
‫يحب‪.‬‬
‫أي يشء يف سبيل من ّ‬ ‫ويدفعه إىل عمل ّ‬

‫بعد مرور عدّة أ ّيام عىل موضوع السؤال والجواب‪ ،‬اكتشفت أشياء جديدة؛‬
‫القوي العاصف‪ ،‬الذي‬
‫ّ‬ ‫الحب‬
‫ّ‬ ‫اكتشفت أن ما بيني وبني فوزية لم يكن ّإل‬
‫أحب فوزية‪ ،‬وأنها‬
‫ال يعرتف بالعقبات‪ ،‬وال يهت ّم بالقيود‪ ..‬تأكدتُ أنني ّ‬
‫الحب‪ ،‬ولم يكن يشء يحول دوننا ودون اإلفصاح عنه‪ّ ،‬إل‬‫ّ‬ ‫تبادلني هذا‬

‫‪167‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫كل منا من اآلخر‪ :‬أنا خائف من أن تكون فوزية ال تشعر نحوي‬ ‫خوف ّ‬
‫بمثل ما أشعر به نحوها‪ .‬وكنا‪ ،‬نحن‪ -‬االثنني‪ ،‬باإلضافة إىل هذا الخوف من‬
‫يحس ويشعر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مشاعرنا‪ ،‬نشعر بنوع آخر من الخوف‪ ..‬كان ّ‬
‫كل واحد منا‬
‫الحب الذي ُولِد وترعرع بني قلبينا؛‬
‫ّ‬ ‫يف قرارة نفسه‪ ،‬يهول وفظاعة هذا‬
‫حب مح َّرم‪ ،‬ال ليشء‬ ‫الحب الذي كنّا نعلم‪ ،‬مقدَّماً‪ ،‬أنه فاشل‪ ،‬بل أنه ّ‬
‫ّ‬ ‫هذا‬
‫سوى ألنني متز ِّوج‪ ،‬ويل ابن‪ ،‬والثاني يف الطريق‪ ،‬وحرام أن أطلِّق زوجتي‬
‫الحب‪ ،‬وألنها‪ -‬أيضاً‪ -‬فتاة ال ترىض‪ ،‬أبداً‪ ،‬أن تكون سببا ً يف‬
‫ّ‬ ‫من أجل هذا‬
‫الحب‪ ..‬إنها‬
‫ّ‬ ‫كل ذلك يف سبيل يشء يس ّمونه‬ ‫خراب بيت‪ ،‬وطالق زوجة‪ّ .‬‬
‫أسمى من أن ترىض بالنزول إىل هذا املستوى الوضيع‪ ..‬وإذا لم يعصمها‬
‫الترصفات الصبيانية‪ ،‬فما‬‫ُّ‬ ‫اطالعها عن مثل هذه‬ ‫علمها وثقافتها وسعة ِّ‬
‫فائدة الوقت الذي أضاعته يف الدرس والتحصيل؟‬

‫تحس‪ ،‬تماماً‪ ،‬كما ّ‬


‫أحس أنا‪ ،‬بأننا وقعنا يف املحظور‪ ،‬وارتكبنا‬ ‫ّ‬ ‫كانت فوزية‬
‫الحب الذي ال يمكننا‪ ،‬اآلن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خطأ ً فاحشا ً جسيماً‪ ،‬يف اندفاعنا مع تيّار هذا‬
‫وبعد فوات الوقت‪ ،‬أن نرتاجع عنه‪.‬‬

‫السوي‪ ،‬وارتكبنا جريمة يف ّ‬


‫حق أنفسنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫نحس بأننا أخطأنا الطريق‬‫ّ‬ ‫كنا‬
‫ترصفاتنا؛ ألننا برش‪ ،‬وألن سائر‬
‫ُّ‬ ‫حق غرينا‪ ..‬صحيح أننا أحرار يف‬ ‫ويف ّ‬
‫ترصفاتهم التي يمارسونها يف حدود ح ِّر ّياتهم‪ ،‬ما لم‬‫ُّ‬ ‫البرش أحرار يف‬
‫تتعارض مع حر ّية اآلخرين‪ ،‬لكن هذه الجريمة التي ارتكبناها‪ :‬هل نحن‬
‫مسؤوالن عنها؟‪ ،‬وكيف نكون مسؤولَ ْي‪ ،‬ونحن لم نرتكبها بمحض‬
‫إرادتنا‪ ،‬ولم نأتها باختيارنا؟‬

‫الحب‪ ،‬إذا صح‬


‫ّ‬ ‫لقد كنّا مدفوعني دفعا ً إىل ارتكاب هذه الجريمة؛ جريمة‬
‫‪168‬‬
‫الحب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الحب ُيعتَرب جريمة‪ ،‬يف بعض الحاالت‪ ،‬فقد كانت محرومة من‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫للحب‪ .‬وهبتني ّ‬
‫كل عواطفها دون أن تدري‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫متعطشا ً مثلها‬
‫ِّ‬ ‫وكنت‬
‫غري أن تشعر بعواقب هبتها‪.‬‬
‫فهل يمكننا‪ ،‬اآلن‪ ،‬أن نرتاجع‪ ،‬بعد أن قطعنا ّ‬
‫كل هذا الشوط الطويل يف‬
‫طريق حبِّنا؟‬
‫ّ‬
‫األقل‪ -‬عند النقطة التي نحن فيها‪ ،‬اآلن؟‬ ‫وهل يمكننا أن نقف‪ -‬عىل‬

‫الحب‪ ،‬إىل آخر الشوط‪ ،‬أم نقف حيث نحن‪،‬‬


‫ّ‬ ‫هل نستم ّر يف اللعبة؛ لعبة‬
‫اآلن؟‬

‫وإذا أردنا أن نقف أو نتو َّقف‪ ،‬فهل نستطيع ذلك؟‬

‫لقد أفلت الزمام من أيدينا‪ ،‬ولم يعد يف مقدورنا الوقوف أو التو ُّقف‪،‬‬
‫وكذلك‪ ،‬ليس يف استطاعتنا االستمرار إىل نهاية املطاف‪ ،‬ألننا ال ندري‬
‫ماذا يمكن أن تكون النهاية‪.‬‬

‫حل واحد‪ :‬أن نستم ّر هكذا‪ ،‬حتى نصل إىل نقطة‬ ‫يبق أمامنا سوى ّ‬ ‫إذن‪ ،‬لم َ‬
‫ما‪ ،‬نتَّفق عىل الوقوف عندها‪ ،‬ألن االستمرار إىل نهاية الشوط معناه ختام‬
‫القصة بإحدى نهايتني‪ :‬إ ّما أن أتز َّوج باثنتني‪ ،‬أو أطلِّق زوجتي‪.‬‬
‫ّ‬

‫أحس بهذه اإلحساسات‪ ،‬وأشعر بهذه املشاعر‪ ،‬لكنني كنت‬ ‫ّ‬ ‫كنت‪ ،‬أحياناً‪،‬‬
‫أدرك‪ -‬يف الوقت نفسه‪ -‬أن املجتمع الذي أعيش فيه‪ ،‬والذي أنا خاضع له‪،‬‬
‫شئت أم لم أشأ‪ ،‬ال يوافقني‪ ،‬أبداً‪ ،‬عىل فكرة الطالق والزواج‪ ،‬من جديد‪،‬‬
‫كما ال يوافقني عىل فكرة الجمع بني زوجتني‪ .‬فنظرياتي ومبادئي تتناىف‬

‫‪169‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫مع الزواج بأكثر من واحدة‪ ،‬وعىل الزواج أكثر من م ّرة واحدة‪...‬‬

‫ثم هناك نقطة أخرى مه ّمة جدّاً؛ هناك مريم التي رضيت‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬أن‬
‫أكون لها زوجا ً مدى الحياة‪ ،‬وقبلت أنا‪ -‬عن طواعية واختيار‪ -‬أن تكون‬
‫زوجتي ورفيقة رحلتي مدى الحياة‪ .‬مريم هذه‪ ،‬ماذنبها؟ ما جريمتها‬
‫التي تس ِّوغ يل تطليقها والتخلُّص منها‪ ،‬هي ومحمود ابني‪ ،‬والولد الثاني‬
‫الذي تحمله يف أحشائها؟‬

‫الحب والحنان والرعاية‬


‫ّ‬ ‫ثم‪ ،‬كيف سيكون مصري ابني؟ ومن سيضمن له‬
‫من زوجة األب‪ ،‬ولو كانت (فوزية)؟ وهل أضمن له أبا ً آخر غريي يكفله‪،‬‬
‫ويرعاه‪ ،‬ويحنو عليه‪ ،‬ويسهر عىل تربيته وتنشئته بعد رحيل والده‬
‫الحقيقي؟‬
‫بسبب ّ‬
‫كل هذا‪ ،‬كتمت حبّي لفوزية‪ ،‬ولم أ ُبح ألحد به‪ ،‬حتى فوزية نفسها‬
‫لم أصارحها بما يعتمل يف قلبي‪.‬‬

‫قوي عاصف‪ ،‬يدفعني تجاه فوزية‪ ،‬وكنت أشعر أن‬ ‫بحب ّ‬


‫ّ‬ ‫أحس‬
‫ّ‬ ‫كنت‬
‫فوزية نفسها تحمل نحوي مثل ما أحمل نحوها‪ ،‬لكن كالنا التزم جانب‬
‫الصمت والكتمان‪ ،‬فلم يفصح عن حبّه‪ ،‬رغم العذاب الذي يقاسيه‪،‬‬
‫ويتج َّرع ويالته‪ ،‬يوما ً بعد يوم‪ .‬إىل أن كان يوم من أ ّيام سنة (لم أعد‬
‫جالس ْي يف حجرة مكتبي‬‫َ‬ ‫أذكرها‪ ،‬اآلن)‪ ،‬عندما كنت‪ ،‬أنا وفوزية‪،‬‬
‫نتحادث حول كتاب صدر حديثا ً ألحد أدبائنا الليبيني‪ ،‬وطال بنا الحديث‬
‫وتش َّعب‪ ،‬وخرج عن نطاق الكتاب والكاتب‪ ،‬وم ّر الوقت دون أن تشعر‬
‫تذكرت موعدا ً بيني وبني‬
‫به‪ .‬وعندما أردت أن أخرج إىل الشارع‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫أحد األصدقاء‪ ،‬قمت أستأذن من فوزية وأم ّد يدي مصافحاً‪ ،‬لكنها ما‬
‫‪170‬‬
‫إن احتوت راحتي بني أصابعها حتى أمسكتها بعنف‪ ،‬وأخذت تضغط‬
‫عليها بشدّة وقسوة‪ ،‬وضغطت أنا‪ -‬أيضاً‪ -‬عىل أصابعها الناعمة‪ ،‬فشعرت‬
‫كل رشيان من رشاييني‪،‬‬ ‫رسب إىل ّ‬
‫بحرارة ترسي من يدها إىل يدي‪ ،‬وتت َّ‬
‫فتلهَّب دمي يف عروقي‪ ،‬وشعرت باللهيب يشمل ّ‬
‫كل ذ ّرة من ذ ّرات كياني‪،‬‬
‫وتمنَّيت لو استم ّرت تلك الفرتة إىل األبد‪ ..‬مدى الحياة‪ ،‬غري أنني سحبت‬
‫يدي برسعة‪ ،‬عندما سمعت صوت مريم يناديني من الداخل‪ ..‬سحبت‬
‫يدي وغادرت املنزل‪ .‬خرجت إىل الشارع ودمائي كلّها تغيل يف عروقي‪..‬‬
‫رشاييني ملتهبة‪ ..‬رأيس يدور‪ ..‬وعجبت كيف يكون‪ ،‬ملج َّرد ملسة يد‪ّ ،‬‬
‫كل‬
‫كل هذا األثر‪ ..‬لقد بدأت أشعر بأنني أصبحت إنسانا ً آخر غري‬
‫رس‪ّ ..‬‬
‫هذا ال ّ‬
‫الذي كنته من قبل‪ .‬صحيح أنها كانت مج َّرد ملسة يد‪ ،‬وضغط أصابع‪،‬‬
‫لكن ما أعقب تلك اللمسة‪ ،‬وما نتج عن ذلك الضغط الخفيف‪ ،‬كان شيئا ً‬
‫آخر‪ ،‬شيئا ً لم أكن أتص َّوره‪ ،‬أو أتص َّور حدوثه‪.‬‬

‫وم َّرت األ ّيام بعد ذلك‪ ،‬وأنا أعيش يف د ّوامة من أمري‪ :‬ال أعرف كيف‬
‫أترصف‪ّ ..‬‬
‫كل ما استطعته هو أنني تحاشيت النظر‬ ‫َّ‬ ‫أترصف‪ ،‬وال أعرف ب َم‬
‫َّ‬
‫إليها يف خلوة‪ ..‬تحاشيت الخلوة مع فوزية‪ ،‬لكنني‪ -‬رغم ذلك‪ -‬كنت أقاوم‬
‫أحس‪ ،‬يف قرارة نفيس‪ ،‬أن هناك ق ّوة‬
‫ّ‬ ‫إحسايس باالنجذاب نحوها‪ ..‬كنت‬
‫خفيّة ال تقا َوم تدفعني إليها‪ ،‬بقدر ما تبعدني عن مريم‪ ،‬غري أنني قاومت‬
‫إىل أن انهارت قواي‪ ،‬ولم يعد يف إمكاني االستمرار يف املقاومة؛ فذات يوم‪،‬‬
‫وبينما كانت مريم يف الحمام‪ ،‬وكنت يف مكتبي‪ ،‬إذا بفوزية تدخل‪ ،‬وكانت‬
‫تحمل يف يدها كتابا ً تقرؤه‪ ،‬فسألتها‪:‬‬

‫‪ -‬ما هذا الكتاب‪ ،‬يا فوزية؟‬

‫‪171‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫قصة ممتازة لألديب (‪)...‬‬


‫‪ -‬إنها ّ‬

‫أسمِعينيها‪ ،‬إذا كانت ممتازة‪ .‬كما تقولني‪.‬‬


‫‪ْ -‬‬

‫يحب‬
‫ّ‬ ‫شاب‬
‫ّ‬ ‫القصة تتحدَّث بلسان‬
‫ّ‬ ‫فأخذت تقرأ بصوت مسموع‪ ،‬وكانت‬
‫فتاة‪ ،‬غري أنه لم يفصح لها عن حبّه‪ ،‬ولم يظهر نحوها عواطفه‪ ،‬ألنه كان‬
‫خائفا ً أال تكون تشعر نحوه بمثل مشاعره‪ .‬وبعد أن قرأت فوزية بضع‬
‫صفحات‪ ،‬بصوتها الساحر‪ ،‬تو َّقفت‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬عن القراءة لتسألني‪:‬‬

‫القصة‪ ،‬يا سليم؟‬


‫ّ‬ ‫ما رأيك يف هذه‬

‫‪ -‬إنها ممتازة ح ّقاً‪ ..‬إنك صاحبة ذوق رفيع‪ ،‬يا فوزية‪.‬‬

‫القصة أو أسلوبها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬أنا ال أسالك من حيث بناء‬

‫‪ -‬إذن‪َ ،‬ع َّم تسألني؟‬

‫‪ -‬ما رأيك يف شخصية بطلها املغوار؟؟ أعتقد أنه جبان رعديد‪..‬‬

‫‪ -‬كيف؟‬

‫يحب فتاته حبّا ً قو ّيا ً عارماً‪ ،‬ثم يخاف أن يصارحها بعواطفه‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬إنه‬
‫نحوها‪ ،‬وتعلُّقه بها‪ ..‬أليس هذا هو الجبن بعينه؟ إنني ال أدري سببا ً ّ‬
‫لكل‬
‫هذا الخوف وهذا الجبن!‬

‫‪ -‬لكنني أرى عكس رأيك‪ ،‬فإن ما يمنعه عن مصارحتها بحبّه‪ ،‬إنما هو‬
‫عدم معرفته لشعورها نحوه‪ ،‬فهو يخاف أن تكون مشاعرها ليست كما‬
‫يريدها هو‪.‬‬
‫‪172‬‬
‫تشجع‪ ،‬ولو م ّرة؟ إن الواجب يفرض عليه ذلك‪ ،‬ألنه هو‬
‫َّ‬ ‫رضه لو‬‫‪ -‬وما ُّ‬
‫الرجل‪ ،‬وهي املرأة‪.‬‬

‫الحب الذي بدأنا‬


‫ّ‬ ‫وخرجت مريم من الح ّمام‪ ،‬فقطعنا حديثنا؛ حديث‬
‫قصته‪ ،‬وأخذنا نخوض يف مواضيع أخرى من األحاديث التي‬ ‫نسطر ّ‬‫ِّ‬
‫تروق ملريم‪ ،‬وتنسجم معها‪ ،‬أحاديث ال عالقة لها بما كنّا فيه غار َق ْي‪.‬‬
‫ويف غضون ساعات قليلة‪ ،‬رحت أكتب إىل فوزية أ َّول رسالة مني‪ ،‬فقلت‪:‬‬

‫«اسمحي يل‪ -‬يا فوزية‪ -‬أن أناديك (ياحبيبتي)‪ ،‬فإن ما حدث بيننا‪،‬‬
‫الحب الذي ربط بني قلبينا‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬ ‫أي تفسري سوى أنه‬ ‫اليوم‪ ،‬لم أجد له ّ‬
‫حب املوت‪،‬‬
‫دفعني هذا إىل مصارحتك بحبّي وعواطفي نحوك‪ ،‬فأنا أحبّك ّ‬
‫وال يمكنني‪ ،‬أبداً‪ ،‬بعد اليوم‪ ،‬االستغناء عنك أو الحياة بدونك‪.‬‬

‫لقد كنت أتمنّى منذ أن عرفتك‪ ،‬أن تأتي الساعة التي أض ّمك فيها‪ .‬وها‬
‫هي ذي أمنيتي قد تح َّققت‪ ،‬فأرجو أال تكوني غاضبة مني‪ .‬لقد كنت‬
‫خاصة وأنت تعلمني أنني متز ِّوج‪،‬‬
‫ّ‬ ‫خائفا ً منك‪ ..‬خائفا ً من طردك إ ّياي‪،‬‬
‫ماشجعني عىل ا ِّتخاذ الخطوة‬
‫َّ‬ ‫وأنني أب‪ ،‬ولكن ما حدث بيننا اليوم‪ ،‬وهو‬
‫األوىل من جانبي (الخطوة األوىل الب ّد أن تكون من جانب الرجل‪ ،‬ألنه هو‬
‫الرجل‪.)...‬‬
‫أنت حبيبتي‪ ،‬يا فوزية‪ ،‬وأنا أحبّك رغم ّ‬
‫كل الظروف التي تحيط بنا‪ ،‬ورغم‬
‫اختالف وض َعيْنا‪ ،‬فهل أنت تبادلينني هذه اإلحساسات؟ هل تشعرين‬
‫نحوي بما أشعر به نحوك؟»‪.‬‬

‫ويف اليوم التايل‪ ،‬بينما كنا نتناول وجبة اإلفطار‪ ،‬أنا وهي ومريم‪ ،‬سلَّمتها‬

‫‪173‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫ففضتها دون إبطاء‪ ،‬وألقت عليها نظرة خاطفة‪ ،‬بينما كنت‬ ‫َّ‬ ‫الرسالة‪،‬‬
‫أحس‪ ،‬يف أثناء‬
‫ّ‬ ‫أتابع ما يعرتي مالمح وجهها من إشارات وأمارات‪ ،‬كنت‬
‫ذلك‪ ،‬أن قلبي يخفق بق ّوة‪ .‬كنت‪ ،‬وقتها‪ ،‬أشبه بالتلميذ الذي ينتظر نتيجة‬
‫االمتحان‪ ،‬أو املتَّهم الذي ينتظر ما تنطق به شفاه القايض‪ .‬وم ّرت فرتة‪،‬‬
‫خلتها أطول من الحياة‪ ،‬ثم رفعت فوزية رأسها وهي تبتسم‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫‪ -‬أنا متَّفقة معك يف هذا الرأي‪.‬‬

‫وقبل أن أجيب أنا‪ ،‬سألتها مريم‪:‬‬

‫أي رأي هذا؟‬


‫‪ّ -‬‬

‫وقبل أن ترتبك فوزية‪ ،‬أرسعت أنا ألقول‪:‬‬

‫قصة صدرت حديثاً‪ ،‬ولم نتَّفق فيها حول رأي‪،‬‬ ‫‪ -‬تناقشنا‪ ،‬أمس‪ ،‬حول ّ‬
‫فق َّررنا أن يكتب ّ‬
‫كل منا رأيه ويقدّمه إىل الثاني‪ ،‬وها أنت ترينها‪ ،‬اليوم‪،‬‬
‫توافق عىل رأيي‪.‬‬

‫ز َّمت مريم شفتيها يف تأ ُّفف‪ ،‬وقامت تغادر الحجرة‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬

‫‪ -‬مساكني‪ ،‬أنت وهي‪ ،‬تقضون أوقاتكم يف مناقشات فارغة‪.‬‬

‫وخرجت مريم من حجرة األكل‪ ،‬لتتَّجه إىل حجرة املكتب‪ .‬وبعد قليل‪،‬‬
‫فشجعني ذلك عىل‬
‫َّ‬ ‫سمعت صوتها تحادث إحدى صديقاتها يف التليفون‪،‬‬
‫توجيه سؤال إىل فوزية‪ ،‬فقلت متسائالً‪:‬‬

‫أي رأي هذا الذي تتَّفقني معي حوله؟‬


‫‪ّ -‬‬
‫‪174‬‬
‫القصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬رأيك يف‬

‫قصة؟‬
‫‪ -‬أ ّية ّ‬

‫القصة التي أخربت بها السيِّدة مريم‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬أشهد‪ ،‬وأق ّر‪ ،‬وأعرتف أنك شيطانة‪ ،‬يا فوزية‪.‬‬

‫ونظرت فوزية نحوي نظرة كلّها نداء وإغراء‪ ...‬ولم نفق من سعادتنا‬
‫تلك إال عندما طرق سمعنا صوت مريم وهي تودِّع صديقتها يف التليفون‪،‬‬
‫فعدنا إىل جلستنا األوىل وكأن شيئا ً لم يحدث بيننا‪ ،‬وإن كنت خائفا ً أن‬
‫يفضحنا االنفعال البادي عىل وجهينا‪ ،‬أمام مريم‪.‬‬

‫وم ّر ذلك اليوم‪ ..‬وم ّرت بعدة أ ّيام‪ ،‬وانقضت أشهر‪ ،‬بل أربع سنوات‬
‫ونحن‪ -‬االثنني‪ -‬نستقي ّ‬
‫كل يوم من معني حبِّنا الذي كنّا ندرك أنه لن‬
‫يدوم طويالً‪ ...‬كنا نتقابل كلّما كانت مريم غري موجودة‪.‬‬

‫كلً منّا ُخل ِق لآلخر‪ ،‬وال‬ ‫وتك َّررت مقابالتنا‪ ،‬وكنّا يف ّ‬


‫كل م ّرة نشعر بأن ّ‬
‫ألي منا أن يعيش بعيدا ً عن اآلخر‪ّ .‬‬
‫كل يوم يم ّر كان يزيد حبّنا ق ّوة‪،‬‬ ‫يمكن ّ‬
‫ويزيدنا ترابطاً‪ ،‬ويزيدنا انسجاماً‪ .‬جاءتني ذات يوم تقول‪:‬‬

‫‪ -‬ما رأيك يف جولة يف ضواحي املدينة‪ ،‬وقضاء فرتة تحت االشجار‪ ،‬بني‬
‫الورود والرياحني؟‬

‫‪ -‬إنها فكرة جميلة‪ ،‬لو تتح َّقق!!‬

‫‪ -‬وما يحول دوننا ودون تحقيقها؟ إن شيئا ً يف الوجود‪ ،‬مهما عظم‪ ،‬ال‬

‫‪175‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫يمكنه أن يقف حائالً دون رغباتنا‪.‬‬

‫‪ -‬إن تنفيذ هذه الفكرة يحتاج لوجود سيّارة‪ ،‬وأنا ال أملك سيّارة كما‬
‫تعلمني‪.‬‬

‫نؤجر (تاكيس) ينقلنا إىل‬


‫‪ -‬السيّارة أمرها أبسط م ّما تتص ّور‪ ..‬يمكننا أن ِّ‬
‫حيث نريد‪ ،‬ويعود بنا يف الوقت الذي نحدِّده‪.‬‬

‫‪ -‬خالص‪ ..‬ا َّتفقنا‪ ..‬وليكن موعدنا يوم الجمعة القادم‪.‬‬

‫وكان يوم الجمعة‪ ،‬فقلت ملريم إنني سأتناول غدائي خارج البيت‪ ،‬وقالت‬
‫فوزية إنها مدع ّوة من إحدى صديقاتها‪ ،‬ثم خرجت أنا‪ -‬أ َّوالً‪ -‬وا َّتجهت‬
‫محطة (تاكسيّات)‪ ،‬ثم‪ ،‬لحقتني فوزية‪ ،‬فركبنا أ ّول سيّارة‬ ‫ّ‬ ‫إىل أقرب‬
‫صادفتنا‪ ،‬وقلت للسائق‪« :‬طريق السواني‪ ..‬كيلو مرت‪ .»9‬وهناك‪ ،‬نزلنا يف‬
‫مزرعة إيطايل‪ ،‬أعرفه منذ زمان‪ ،‬تربطني به رابطة صداقة قديمة‪ ،‬سألني‬
‫صاحب املزرعة‪« :‬من هذه التي معك؟ هل هي زوجتك؟»‪ .‬قلت‪ :‬ال‪ ..‬بل‬
‫للتفسح معها‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫هي لبنانية جاءت تزور ليبيا‪ ،‬فرأيت الواجب يدعوني‬

‫وحمدت الله عىل هذه الكذبة املو َّفقة‪ ،‬فقد كان اإليطايل م ّمن زاروا لبنان‪،‬‬
‫تركنا‬‫بوجه أسئلة إىل رفيقتي عن لبنان‪ ،‬وهي تجيبه يف صدق‪ ،‬ثم َ‬ ‫فأخذ ّ‬
‫بعد أن قال لنا‪« :‬إن املزرعة كلّها عىل حسابكم‪ ،‬وال أحد سيزعجكم‪ ..‬أ ّما‬
‫ألي يشء‪ ،‬فنحن عىل استعداد»‪ ،‬وشكرته قبل أن نبدأ جوالتنا‬ ‫إذا احتجتم ّ‬
‫يف أنحاء املزرعة‪ ،‬تحت ظالل أشجار اللوز وبني الورود والرياحني‪ ،‬كما‬
‫تمنّت فوزية‪ ،‬وتخيَّلت‪ ،‬ثم اخرتنا شجرة زيتون ظليلة جلسنا تحتها‪ ،‬و َم ّر‬
‫الوقت بنا رسيعاً‪ ،‬إذ رسعان ما كانت الساعة تشري إىل الخامسة مساءً‪،‬‬
‫‪176‬‬
‫دون أن نشعر‪ ،‬وجاءت سيّارة األجرة يف الخامسة‪ ،‬بحسب املوعد املتَّفق‬
‫عليه‪ ،‬فقفلنا راجعني‪..‬‬

‫وتك َّررت رحالتنا هذه أكثر من م ّرة‪.‬‬

‫نحس فيها بيشء سوى أنفسنا‪ ،‬وال نشعر‬


‫ّ‬ ‫أ ّيام قضيناها‪ ،‬حلوة ممتعة‪ ،‬ال‬
‫فيها بيشء غري حبِّنا‪ ،‬حتى حينما رزقت بابني الثاني (عبدالكريم)‪ ،‬لم‬
‫أشعر بوطأة َم ْقدمِه‪ ،‬فقد كنت‪ ،‬حينذاك‪ ،‬يف ذروة حبّي‪ ...‬كنت منطلقا ً‬
‫الحب‪ ،‬وكانت فوزية منطلقة معي هي األخرى‪ ...‬لم تخطر‬ ‫ّ‬ ‫أرتع يف دنيا‬
‫يف بالنا فكرة «إال ون َّفذناها»‪.‬‬

‫أي‬
‫كانت فوزية تقول يل‪ ،‬يف كثري من األحيان‪ ،‬عندما تالحظ من جانبي ّ‬
‫تفكر يف يشء‪ ..‬ال تخف عاقبة يشء»‪ .‬وكنت حينما‬ ‫تردُّد أو هروب‪« :‬ال ِّ‬
‫أسمع منها هذه الكلمات‪« ،‬أر ّد قائالً‪« :‬ولكنك‪ -‬يا مالكي‪ -‬فتاة يف انتظار‬
‫أي زوج هذا؟ أنا ال اعرتف بزوج يل سواك أنت‪ ..‬أنت زوجي‬ ‫الزوج»‪ ،‬فرتدّ‪ّ :‬‬
‫أمام الله وأمام نفيس‪ ..‬لقد وهبتك قلبي وروحي وكياني‪.‬‬

‫كل يشء‪ ،‬وأن تستويل عىل‬ ‫بهذه الطريقة‪ ،‬استطاعت فوزية أن تنسيني ّ‬
‫كل ذ ّرة مني‪ ،‬فلم أعد أملك معها شيئا ً من وجودي‪ ..‬سلَّمتها نفيس‬ ‫ّ‬
‫أفكر يف يشء سوى الساعة التي أقضيها معها‪..‬‬ ‫وسلَّمتها قلبي‪ ،‬ولم أعد ِّ‬
‫نحس‬
‫ّ‬ ‫وبهذه الطريقة‪ -‬أيضاً‪ -‬قضينا أربع سنوات‪ ،‬بطولها وعرضها‪ ،‬كنا‬
‫خاللها بوجودنا ألننا كنّا نتمتَّع بح ِّر َّيتنا‪ ..‬أربع سنوات قضيناها يف هذا‬
‫الج ّو املمتع‪ ،‬نشعر‪ ،‬حينما نكون معاً‪ ،‬بأننا زوجان ح ّقاً‪ ،‬ال يشء ينقصنا‬
‫بكل يشء يتعلَّق بحياتي‪ ،‬وكانت هي‬‫أو ينقص حياتنا‪ ،‬وكنت أصارحها ّ‬
‫ف عني شيئاً‪ ،‬كبريا ً كان أم‬ ‫بكل يشء يتعلَّق بحياتها‪ ..‬لم ْ‬
‫تخ ِ‬ ‫تصارحني ّ‬

‫‪177‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫صغرياً‪ ،‬من حياتها املاضية‪.‬‬

‫أربع سنوات‪ ،‬شعرنا فيها بوجودنا‪ ،‬وأحسسنا فيها بح ِّر َّيتنا‪ .‬لم يقف‬
‫يشء يف طريق تم ُّنعنا بح ِّر ّية وجودنا‪.‬‬

‫أكف عن رشب الخمر‪ ،‬ألنها‬ ‫وخالل هذه السنوات األربع‪ ،‬عاهدتها أن ّ‬


‫طلبت مني ذلك‪ ،‬وكنت أشعر‪ ،‬مضط ّرا ً ال مختاراً‪ ،‬أني ألبّي ّ‬
‫كل طلباتها‪.‬‬

‫كانت تقول يل‪:‬‬

‫‪ -‬اسمع‪ ،‬يا سليم‪ ،‬أنا لم أشعر بكياني‪ ،‬ولم أشعر بوجودي وبأه ِّميَّتي يف‬
‫الحياة‪ ،‬بل لم أشعر بحياتي‪ ،‬إطالقاً‪ ،‬إال عندما تع َّرفت إليك أنت‪ ،‬وأحببتك‬
‫أنت‪.‬‬

‫وكنت أر ّد عليها‪:‬‬

‫‪ -‬وأنا‪ ،‬يا فوزية‪ ،‬لم أشعر بوجودي كإنسان إال بعد أن بعثك الله من‬
‫الحب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالدك‪ ،‬ولم أشعر بحياتي إال بعد أن دخلتها أنت من باب‬

‫ذهبي جميل‪ ،‬يف عالم خيايل‬


‫ّ‬ ‫أربع سنوات طوال‪ ،‬ونحن نعيش يف حلم‬
‫ممتع‪ ،‬فوق أرض أخرى غري هذه األرض التي يعيش فوقها غرينا من‬
‫الناس‪ .‬كانت تقول‪ ،‬أحياناً‪:‬‬

‫‪ -‬قبل أن أعرفك‪ ،‬ياسليم‪ ،‬كنت أتمنّى أن يرزقني الله بزوج متح ِّرر‬
‫وأحس بوجودي وح ِّر َّيتي إىل جواره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أستطيع أن أشعر بحياتي معه‪،‬‬
‫ويف حِ ماه‪ .‬وبعد أن عرفتك وعشت معك‪ ،‬تمنَّيت أن يكون زوجي مثلك‬
‫أنت‪ ،‬تماماً‪ ،‬يؤمن بح ّر ّية اآلخرين‪ ،‬حتى أضع يدي يف يده‪ ،‬وأح ِّقق ّ‬
‫كل‬
‫‪178‬‬
‫أحالمي‪ .‬ذلك كان أ ّيام زمان‪ ،‬أ ّما اآلن فإن شيئا ً يف الوجود لم يعد يه ّمني‪،‬‬
‫ولم يعد يشغل بايل‪ ،‬فشكرا ً للسماء‪ ،‬وشكرا ً لله الذي بعثك تيضء أمامي‬
‫ظلمات الحياة‪ ...‬صحيح أن أفكاري واسعة‪ ،‬وأهدايف بعيدة فيما يتعلَّق‬
‫بالحياة واإلنسان‪ ،‬تلك التي أطمع يف تنفيذها‪ ،‬يوما ً ما‪ ،‬وآمل أن تساعدني‬
‫الظروف عىل تنفيذها‪ ..‬لقد أعطيتك‪ ،‬يا سليم‪ ،‬باختياري‪ ،‬ما أريد أن‬
‫وتأكد أنه حتى بعد زواجي‪،‬‬ ‫أعطيك‪ ،‬وأخذت أنت مني ما تريد أن تأخذ‪َّ ،‬‬
‫لو قدِّر يل أن أتز َّوج‪ ،‬يف بالدكم‪ ،‬سأهبك وأعطيك الكثري‪ ..‬الكثري جدّاً‪..‬‬
‫أكثر م ّما كنت تظ ّن وتتص ّور‪ ،‬وأكثر م ّما أعطيك‪ ،‬اآلن‪ ،‬يا مالكي‪...‬‬

‫‪179‬‬
‫وبعد مرور ّ‬
‫كل هذه السنوات األربع‪ ،‬جاءني والد فوزية يقول‪:‬‬

‫‪ -‬أستاذ سليم‪..‬‬

‫‪ -‬نعم؟‬

‫‪ -‬لقد خطبت فوزية‪.‬‬

‫‪ -‬من خطيبها؟‬

‫‪ -‬أحد أبناء عمومتها‪ ،‬يف بريوت‪.‬‬

‫‪ -‬ما مستواه؟‬

‫‪ -‬رغم أنه ليس متعلِّما ً مثلها‪ ،‬حيث إن ظروف حياته لم تساعده حتى عىل‬
‫إتمام دراسته االبتدائية‪ ،‬إال أنه من لحمها ودمها‪ .‬إنه أحد أبناء عمومتها‪.‬‬

‫الشاب؟ ما رأيها فيه؟‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬وهل قبلت فوزية هذا‬

‫تنس أنها عبء ثقيل عىل كاهيل‪ ،‬والب ّد أن‬


‫‪ -‬ال أعتقد أنها تمانع‪ ..‬ثم ال َ‬
‫أز ِّوجها‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫بكل يشء ينهار أمامي‪ ،‬ورأيت النهاية التي كانت أخافها‬ ‫ّ‬ ‫وشعرت‬
‫حقيقة عمالقة تهزأ بي وتسخر مني‪ .‬تبد ََّل‬ ‫ً‬ ‫لناظري‬
‫ّ‬ ‫وأخشاها تتمثَّل‬
‫كل يشء قد ضاع‪ّ ،‬‬
‫كل‬ ‫كل يشء‪ :‬الضياء أصبح ظالماً‪ ،‬والنهار ليالً‪ّ ..‬‬ ‫أمامي ّ‬
‫كل أمل قد تالىش‪ ...‬ماذا بقي يل إن أُخِ ذت فوزية مني؟‬ ‫تبخر‪ّ ..‬‬‫حلم قد َّ‬
‫هل يمكنني أن أعيش من غري وجود فوزية إىل جواري؛ فوزية التي‪،‬‬
‫بفضلها‪ ،‬عرفت الدنيا‪ ،‬وعرفت العالم‪ ،‬وخربت الوجود؟‬

‫وعدت إىل واقعي املؤلم‪ ..‬واقعي املرير‪ .‬لقد كنت يف حلم‪ ..‬يف خيال‪ ،‬وها‬
‫ّ‬
‫ويتبخر الحلم‪ ،‬وينزاح‬ ‫هي ذي الحقيقة تصدمني‪ ،‬والواقع يواجهني‪،‬‬
‫الخيال‪.‬‬

‫ودون أن أدري‪ ،‬انرصفت من أمام الرجل‪ ،‬من غري أن أقول له‪ ،‬ولو عىل‬
‫سبيل املجاملة‪ ،‬كلمة (مربوك)‪ ،‬وأرسعت إىل البيت حيث اختليت بفوزية‪،‬‬
‫نفكر معا ً يف املوضوع‪ ..‬جلست مع فوزية التي ملكت ّ‬
‫كل‬ ‫وجلست معها ّ‬
‫ِّ‬
‫ونفكر فيه‪،‬‬ ‫مشاعري‪ ..‬جلست معها نبحث املوضوع من ّ‬
‫كل جوانبه‪،‬‬
‫وننظر إىل النتائج التي قد ترت َّتب عليه؛ النتائج التي ترت َّتب عىل حالتَي‬
‫الرفض والقبول‪ ،‬إذا رفضت ماذا تكون النتيجة‪ ،‬وهل نتيجة هذا الرفض‪،‬‬
‫يمكننا أن نتزوج؟ هل يجوز لنا أن نك ّون عشا ً زوجياً‪ ،‬نحن‪ -‬االثنني‪-‬‬
‫ترفرف عليه أجنحة السعادة والهناء؟؛ فأنا متزوج‪ ،‬وهذه حقيقة ال‬
‫نستطيع إنكارها‪ ،‬وحقيقة أخرى ال يمكن تناسيها‪ ،‬هي أن زوجتي‬
‫محسنة إيلّ متسامحة معي‪ ،‬قد ال أكون أنا ومريم زوجتي متَّف َق ْي عىل ّ‬
‫كل‬
‫يشء‪ ،‬كنتيجة الختالف نظر ّيتينا للحياة‪ ،‬حيث أنظر إليها أنا من زاوية‪،‬‬
‫وتنظر إليها هي من زاوية أخرى‪ ..‬أنا أرى الحياة شيئا ً ثمينا ً يجب علينا‬
‫أال نضيِّعه وأال نف ِّرط فيه‪ ،‬بل يجب أن نستغلّه لسعادتنا‪ ،‬ونتمتّع به إىل‬
‫‪182‬‬
‫آخر حدود املتعة‪ ،‬بينما تنظر إليها مريم نظرة تشاؤمية سوداء ال تريها‬
‫فيها أكثر من كونها شيئا ً تافها ً جدّاً‪ ،‬يجب عليها أال نفرح بها وال نوليها‬
‫كثري اهتمام‪ ،‬وعىل أساس أنها يشء زائل ال قيمة له وال وزن‪.‬‬

‫كل هذا ال يمكن أن يتَّخذ أساسا ً للتفريق بيننا‪ ،‬وال يجوز‪،‬‬‫ولكن‪ ..‬إن ّ‬
‫وحجة تخ ِّولني تطليقها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مطلقاً‪ ،‬أن يكون سندا ً يل‪،‬‬

‫أي أساس يمكن لفوزية أن ترفض اليد‬ ‫وأمام ّ‬


‫كل هذه االعتبارات‪ ،‬عىل ّ‬
‫منطقي معقول‪ ،‬فأنا ال أطمع يف‬
‫ّ‬ ‫أي أساس‬‫املمدود إليها؟ ليس هناك ّ‬
‫الزواج منها ‪ ،‬وهي ال تنتظر الزواج بي‪.‬‬

‫الرفض‪ ،‬رفض فوزية لليد املمدودة إليها شئ غري معقول وال مقبول‪ .‬عىل‬
‫أساس بحثنا أنا وفوزية موضوع زواجها‪ ،‬لم نجد أمامنا سوى ّ‬
‫حل واحد‪:‬‬
‫الشاب الذي تقدَّم إليها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ليس أمامنا غري موافقة فوزية عىل الزواج من‬
‫مخية‪.‬‬
‫وقبلت به مرغمة غري ِّ‬

‫الحب قبل أن ينضب‪،‬‬


‫ّ‬ ‫وم َّرت أربعة أشهر‪ ..‬كنّا خاللها ننهل من معني‬
‫ّ‬
‫تجف‪.‬‬ ‫ونرتوي من عينه الجارية بني أيدينا قبل أن‬
‫كنّا نلتقي ّ‬
‫كل يوم‪ ،‬ونتقابل‪.‬‬
‫كنت أختلق املعاذير لخروج مريم ومبيتها خارج البيت حتى َّ‬
‫أتمكن من‬
‫االلتقاء بفوزية‪.‬‬

‫كنّا خالل هذه الشهور األربعة كاملحكوم عليه‪ ،‬باإلعدام‪ ،‬الذي يحاول أن‬
‫يمأل عينيه بمناظر الدنيا‪ ،‬قبل أن يفارقها إىل األبد‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وتق َّرر سفرها بعد ثالثة أ ّيام‪ ...‬ثالثة أ ّيام فقط‪ ،‬اختليت بها يف املنزل‪،‬‬
‫حظنا‪ ،‬ونبكي حبّنا الذي كتب له الوأد قبل أن يكرب‬ ‫وجلسنا وحدنا نندب َّ‬
‫ويرتعرع وينمو ويأتي أ ُ ُكله‪ ...‬ويف أثناء حديثنا‪ ،‬يف يومنا التاريخي ذاك‪،‬‬
‫قلت لها‪:‬‬

‫متأكد من استحالة زواجنا‪ ،‬ورغم أنني أعلم أنه اليمكننا أن‬ ‫‪ -‬رغم أنني ّ‬
‫ترصفاتنا‪ ،‬ولسنا أحرارا ً‬
‫نتز َّوج‪ ،‬وأن نك ِّون بيتا ً معاً‪ ،‬ألننا لسنا أحرارا ً يف ُّ‬
‫أي رجل‬ ‫يف أعمالنا‪ ...‬رغم ّ‬
‫كل ذلك فأنا ال أستطيع أن أتص َّورك بني ذراعي ّ‬
‫غريي أنا‪ ،‬إنني أريدك يل‪ ..‬يل وحدي‪...‬‬

‫ونظرت نحوي نظرة كلّها ّ‬


‫حب وإخالص وصدق‪ ،‬ثم قالت من بني‬
‫دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬ال تخف من يشء يا حبيبي‪ ..‬ال تخف من يشء‪ ،‬يا حياتي‪ ..‬يا حبّي‬
‫الكبري‪ ،‬واأل ّول واألخري‪ ..‬سوف لن أهبه شيئا ً أكثر من جسد بارد‪ ..‬عواطف‬
‫ميِّتة‪ ..‬لن أعطية أكثر م ّما يجب عىل الزوجة أن تعطي زوجها‪ ..‬ستصلك‬
‫األخبار عني‪ ..‬ستعلم ّ‬
‫كل يشء‪ ..‬إنها أ ّيام قليلة‪ ،‬فقط‪ ،‬تفصل بيننا‪ ،‬ثم‬
‫نعود لنلتقي‪ ،‬كما كنّا‪ ،‬وأكثر م ّما كنّا‪ ..‬أ ّيام قليلة معدودة‪ ،‬ثم نعود إىل‬
‫سابق عهدنا‪ ،‬وأنا أكثر ح ّر ّية معك وأكثر انطالقاً‪.‬‬

‫وقلت‪ ،‬يف لهفة‪:‬‬

‫‪ -‬كيف‪ ...‬كيف نعود نلتقي كما كنّا‪ ،‬وأنت راحلة إىل بريوت؟‬

‫ابتسمت وهي تقول‪ ،‬يف شبه همس‪:‬‬


‫‪184‬‬
‫لكل يشء‪ ،‬فقد طلبت من والدي أن يبحث لزوجي عن‬ ‫‪ -‬لقد احتطت ّ‬
‫عمل هنا يف بالدكم؛ حتى أكون‪ ،‬دوماً‪ ،‬قريبة منك‪ ،‬أقابلك وأ َّتصل بك يف‬
‫يبشني بأنه قد عثر‬ ‫كل وقت‪ .‬ومنذ أسبوع واحد‪ ،‬فقط‪ ،‬جاءني والدي ِّ‬ ‫ّ‬
‫لزوجي عىل عمل مع إحدى رشكات البرتول‪ ،‬وأن زوجي وافق عىل املجيء‬
‫إىل هنا‪ ،‬بعد مرور بضعة أ ّيام عىل زواجنا‪ ..‬وهكذا ترى أنني سوف لن‬
‫أبتعد عنك سوى أ ّيام قليلة‪ ..‬قليلة جدّاً‪ ..‬إن زواجي‪ -‬كما ترى‪ -‬يشء‬
‫رضوري لنا‪ ،‬نحن‪ -‬االثنني‪ -‬قبل غرينا من الناس‪ .‬إننا‪ ،‬اآلن‪ ،‬مقيَّدون‪ ،‬أما‬
‫ّ‬
‫بعد الزواج فسنكون أحرارا ً طلقاء‪ ،‬نفعل ما نشاء‪ ،‬دون أن نخىش عاقبة‬
‫ما نفعل‪ ..‬فقط‪ ،‬يشء واحد أريد أن تطمئنّي عليه‪ ،‬ذلك أن تعدني بأنك‬
‫كل ما طلبت منها‪ّ ،‬‬
‫وكل ما‬ ‫لن تنساني أبداً‪ ،‬لن تنىس حبيبتك التي وهبتك ّ‬
‫لم تطلبه منها‪ .‬هذا‪ ،‬فقط‪ ،‬هو ّ‬
‫كل ما يه ّمني‪.‬‬

‫وشددت عىل يدها‪ ،‬وأنا أقول‪:‬‬

‫يحق لك حتى مج َّرد التفكري فيه‪ ،‬فأنا ال أستطيع‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬هذا يشء ما كان‬
‫أن أنساك‪ ،‬ولو حاولت ذلك؛ لسبب بسيط‪ ...‬بسيط جدّاً‪ ،‬هو أن شيئا ً‬
‫جديدا ً سوف لن يحدث يف حياتي يمكنه أن ينسيني إ ّياك‪ ،‬بل إنني أقولها‬
‫رصاحة‪ :‬أنا خائف منك‪ ...‬خائف أن تنسيك حياتك الجديدة إ ّياي‪...‬‬ ‫ً‬ ‫لك‬
‫حياتك الجديدة التي يف طريقك إليها اآلن؛ حياة البيت والزوج واألبناء‪.‬‬

‫‪ -‬ال‪ ...‬ال تخف‪ .‬إن شيئا ً يف الوجود‪ ،‬مهما عظم‪ ،‬ال يمكنه أن ينسيني إ ّياك‪،‬‬
‫ألنك أنت وجودي‪ ،‬وأنت كياني‪ ،‬وألن حبّك يرسي يف عروقي‪ ،‬تماماً‪ ،‬كما‬
‫ترسي دمائي‪ ...‬أنت جزء مني‪ ،‬من حياتي‪ ،‬من وجودي‪ ،‬فكيف أستطيع‬
‫االستغناء عنك؟ ماذا تعتقد يف حبيبتك الوفية املخلصة التي وهبتك نفسها‬

‫‪185‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وقلبها وروحها‪ ،‬ومن غري أن يكون لها مطمع فيك؟ هل تعتقد أن أحدا ً‬
‫الشاب نفسه‪ ...‬إنني أعرفه‬
‫ّ‬ ‫يستطيع أن ينسيني إ ّياك؟‪ .‬ال‪ ...‬ال‪ ...‬وال هذا‬
‫أي نوع من الرجال‬‫جيِّداً‪ ..‬أنه ابن أحد عمومتي كما تعلم‪ ،‬وأنا أعرف من ّ‬
‫متحجر ال يعرف شيئا ً‬
‫ِّ‬ ‫هو‪ ..‬إنه إنسان عىل سبيل االستعارة‪ ،‬فهو جامد‬
‫من الحياة‪ ،‬وال يفقه شيئا ً من الوجود‪َّ .‬‬
‫تأكد أن ثقافتي أعىل من ثقافته‪،‬‬
‫اطالعي أكثر من ِّ‬
‫اطالعه‪ ...‬وأنا ما كنت ألقبل الزواج منه وأرضاه‬ ‫وأن ِّ‬
‫لنفيس‪ ،‬لوال أنني أريد أن أعيش معك‪ .‬حياتي الحقيقية ستكون معك أنت‪،‬‬
‫وليست معه هو‪ ...‬إن هذا الرجل لم يكن أبدا ً الفارس الذي كنت أحلم به‬
‫كل هذه السنوات‪ ،‬وإنما هي الظروف كما‬ ‫وأُمنّي نفيس بلقياه‪ ،‬وانتظرته ّ‬
‫ترى‪ -‬أرغمتني عىل قبوله زوجا ً يل‪ ،‬وهكذا فإن حياتنا أنا وهو‪ ،‬سوف ال‬
‫تختلف كثريا ً عن حياتك أنت ومريم‪ .‬ملاذا ال تنصفنا األقدار‪ ،‬فيتز َّوج ابن‬
‫عمي من واحدة مثل مريم‪ ،‬وأتز َّوج أنا من واحد مثلك أنت‪ ،‬حتى يكون‬
‫هناك تكافؤ بني األزواج‪ ،‬وتقارب يف عقليّاتهم وآرائهم؟‬

‫إن ابن عمي هذا‪ ،‬لم أقبله زوجا ً يل‪ّ ،‬إل ألن ظرويف التي ال تخفى عليك‬
‫تجربني عىل قبوله‪ ،‬فأنا‪ -‬كما تعلم‪ -‬ال أستطيع الرفض‪ ،‬وبماذا أتعلَّل‬
‫إذا رفضت؟‪ ،‬ثم ال تنىس أن وفاة والدتي قد زادت من تعقيد موقفي‪ ،‬إذ‬
‫يرحب بزواجي‪ ،‬بل يتهلَّف عليه‪ ..‬فهل تعتقد أن‬
‫أصبح والدي هو اآلخر ِّ‬
‫زيجة‪ ،‬هذه ظروفها ومالبساتها‪ ،‬وأن زوجا ً هذه نظرتي إليه‪ ،‬يستطيعان‬
‫أن ُينسياني إياك؟ ماذا تظ ّن؟‬

‫قلت‪ :‬حسنا ً هذا‪ ...‬كفى‪ ..‬إنني ال أريد أن أسمع أكثر م ّما سمعت‪ ،‬وأرجو‬
‫ّأل تخيِّب األ ّيام ظنّي فيك‪.‬‬
‫‪186‬‬
‫كل يشء‪ ...‬هل تظنّني‬ ‫قالت‪ :‬ال‪ ...‬ال تقاطعني‪ ،‬دعني أتكلَّم‪ ...‬دعني ْ‬
‫أقل ّ‬
‫إنسانة بال قلب؟ أتعتقد أن حبّك جاءني سهالً حتى يذهب مني سهالً‪،‬‬
‫الحب وأتعبني‪ ،‬وسهّرني‬‫ّ‬ ‫فأف ِّرط فيه بسهولة ويرس؟ لقد أشقاني هذا‬
‫أعب لك عنه‪،‬‬ ‫أتشجع وأبوح لك به‪ ...‬وقبل أن ِّ‬‫َّ‬ ‫الليايل الطوال قبل أن‬
‫قضيت أ ّياما ً وليايل وحدي‪ ،‬أبكي ّ‬
‫حظي وأندبه‪ ،‬ألنني لم أتع َّرف بك ّإل‬
‫أعب لك عن حبي‪ ...‬كنت خائفة‪ ،‬منك‪..‬‬ ‫بعد زواجك‪ ،‬وألنني ال أستطيع أن ِّ‬
‫كنت أخاف إن أنا أفصحت لك عن حبّي أن تهزأ بي‪ ،‬وتسقطني من نظرك‬
‫بالحب‪ّ ...‬‬
‫كل كلمة‬ ‫ّ‬ ‫وتعتربني واحدة من بنات الشوارع اللواتي يتاجرون‬
‫تعذبني طوال ليلتي‪.‬‬‫كنت أسمعها منك كانت ِّ‬

‫أكثر من سنة كاملة قضيتها عىل هذه الحال من العذاب‪ ،‬أتع ّذب‪ ،‬وأشقى‪،‬‬
‫أعب لك عن حبّي‪ ،‬ألنني‬‫وأسهر الليل‪ ...‬كنت أحبّك‪ ،‬لكنني ال أستطيع أن ِّ‬
‫بحب هذا الرجل‪،‬‬‫ّ‬ ‫كنت أقول‪ ،‬كلّما خلوت إىل نفيس‪ :‬كيف أسمح لنفيس‬
‫بالذات؟‪ ،‬إنه رجل متز ِّوج‪ ،‬وله ولد‪ ،‬وزوجته محسنة إليه‪ ،‬فكيف أخونها؟‬
‫كيف أرسق منها زوجها ووالد ولدها؟‪ ،‬ثم‪ :‬هل أنا ِّ‬
‫متأكدة من أنه يحبِّني‪،‬‬
‫أحب‬
‫وأنه يبادلني مشاعري وإحساساتي؟ ملاذا أحببته هو‪ ،‬بالذات‪ ،‬ولم ّ‬
‫شاب من الشباب الذين‬ ‫أي ّ‬ ‫أي إنسان آخر سواه؟ ملاذا لم أشعر بميل إىل ّ‬‫ّ‬
‫كانو يرتدَّدون عىل بيتنا يف ّ‬
‫كل وقت‪.‬‬

‫تأكدَّ‪ ،‬يا سليم‪ ،‬أن كثريا ً من الشبّان‪ ،‬من أقاربي‪ ،‬كانوا يرتدَّدون عىل بيتنا‪،‬‬
‫بأي ميل‬‫أي واحد منهم‪ .‬لكن‪ ،‬ثق أنني لم أشعر ّ‬ ‫أحب ّ‬
‫وكان يف إمكاني أن ّ‬
‫ألي واحد من هؤالء‪ ،‬رغم كثرتهم‪ .‬أ ّما أنت‪ ،‬فبمج َّرد أن رأيتك‪ ..‬بمج َّرد‬ ‫ّ‬
‫أن وقع عليك نظري‪ ..‬وبمج َّرد أن عرفتك وحادثتك‪ ،‬شعرت بأنني أحبّك‪،‬‬
‫كل مشاعري‪ ،‬وإحساساتي‪ ،‬وكنت أنتظر الساعة التي‬ ‫وبأنك ملكت ّ‬

‫‪187‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫الحب‪ ..‬لك ّن سنة مضت‪ ،‬قبل أن أعرف نوع مشاعرك‬ ‫ّ‬ ‫أصارحك فيها بهذا‬
‫نحوي‪ ..‬سنة كاملة قضيتها يف عذاب‪ ..‬يف ألم‪ ..‬مليئة بالدموع والسهر‪:‬‬
‫أتع َّذب وحدي‪ ،‬وأسهر وحدي‪ ،‬وأشقى وحدي‪ ،‬وأنت ال تشعر بي‪ ،‬وال‬
‫تحس بوجودي إىل جوارك‪.‬‬
‫ّ‬

‫عندما كنت أسمعك تحادث مريم‪ ،‬أو تضحك معها يف مخدعكما‪ ،‬كنت‬
‫أنقم عىل مريم‪ ،‬وأراها اإلنسان الوحيد الذي يحول دوني ودون سعادتي‪،‬‬
‫توجه إليها أحاديثك وضحكاتك وابتساماتك‪..‬‬ ‫وأتمنّى أن أكون أنا التي ِّ‬
‫كنت أحسدها‪ ..‬أحسد مريم عىل ما أنعم به الله عليها‪ ..‬كنت أتع َّذب كثريا ً‬
‫كلَّما سمعت صوتك يصلني من خلف جدران الحجرة‪ ،‬لكنني ما كنت‬
‫أملك سوى الدموع‪ ،‬أذرفها حتى تبلِّل شعري ووسادتي‪.‬‬

‫هذا هو موجز تاريخ حبّي لك‪ ،‬وهو تاريخ‪ -‬كما تراه‪ -‬حافل بالعذاب‬
‫كل هذا بسهولة‪ ،‬وأفرط فيه بيرس؟‬ ‫واأللم والشقاء‪ ،‬فهل يمكنني أن أنىس ّ‬
‫كل هذا بسهولة‬ ‫هل يمكنني‪ ،‬حتى لو أردت‪ ،‬أن أنىس أ ّيامي معك‪ ..‬أن أنىس ّ‬
‫وأف ِّرط فيه بيرس؟ هل يمكنني أن أنىس جزءا ً من حياتي‪ ،‬وهو الجزء‬
‫املرشق املضئ‪ ،‬الذي لم أشعر بوجودي إال خالله‪ ..‬خالل تلك الحقبة‬
‫املرشقة من حياتي املظلمة؟ ال‪ ..‬ال‪ ..‬يا سليم‪ ،‬إنني سوف لن أنساك‪،‬‬
‫مهما كانت الظروف‪ ،‬ومهما كانت األحوال‪ ..‬سأذكرت دائماً‪ ،‬وسأح ّن إىل‬
‫كل وقت‪ ،‬حتى لو حاولوا منعي عن‬ ‫أ ّيامك دائماً‪ ،‬وسأكون بجوارك يف ّ‬
‫وسأعيد حبّي وأجدّده معك‪ ،‬شاءوا‬ ‫مقابلتك‪ ،‬سأقابلك‪ ،‬سأتحدَّث معك‪ُ ،‬‬
‫أم لم يشاؤوا‪ .‬أ ّيام قليلة فقط‪ ،‬ثم نعود بعدها كما كنّا‪ ،‬وأكثر م ّما كنّا‪.‬‬
‫َّ‬
‫تأكد أنه لو كان يل أمل يف الزواج منك‪ ،‬ولو بعد عرش سنوات‪ ،‬لرفضت‪،‬‬
‫‪188‬‬
‫ِّ‬
‫متأكدة‪ ،‬كما‬ ‫اآلن‪ ،‬أن أتز َّوج‪ ،‬والنتظرتك وتشبَّثت بذلك األمل‪ ،‬لكنني‬
‫أنت ِّ‬
‫متأكد‪ ،‬أن زواجنا غري ممكن‪ ،‬وأننا ال نملك حيلة يف هذا األمر‪ ..‬فإذا‬
‫حل‪ ،‬فقله‪ ،‬وأنا مستعدّة أن أن ّفذ معك ّ‬
‫كل ما‬ ‫أي ّ‬ ‫كانت لديك أ ّية حيلة أو ّ‬
‫أضحي ّ‬
‫بكل يشء‬ ‫ّ‬ ‫تطلبه مني‪ ..‬إنني مستعدّة ألن أنتظر‪ ..‬مستعدّة ألن‬
‫من أجلك‪ .‬قل يل‪ ،‬فقط‪ ،‬انتظري‪ -‬يا فوزية‪ -‬عرشين سنة أخرى‪ ،‬وأنا‬
‫مستعدّة لالنتظار‪ ..‬ارفع إصبعك‪ ،‬فقط‪ ،‬وقل يل‪ :‬اتبعيني‪ ،‬فسوف أتبعك‬
‫إىل آخر الدنيا‪ ،‬فإن أحدا ً لم يبق يل سواك‪ ،‬لقد ماتت والدتي‪ ،‬ووالدي يف‬
‫حكم األموات‪ ،‬بالنسبة إيلّ‪ ،‬أ ّما أنت فإني أعتربك أبي وأمي وأخوتي ّ‬
‫وكل‬
‫كل ما يربطني بهذه الحياة‪.‬‬ ‫أقاربي‪ّ ..‬‬

‫إن شعوري هذا نحوك لم يكن وليد اليوم‪ ،‬إنما هو وليد الساعة التي‬
‫عرفتك فيها‪ ..‬وليد اللحظة‪ ...‬لحظة الضعف‪ ،‬بل لحظات الضعف الكثرية‬
‫التي انتابني بني يديك‪ ،‬وسلَّمت لك فيها نفيس وحياتي تفعل بها ما تشاء‪،‬‬
‫لكنك لم ترتك حتى آثار أصابعك عىل جسمي‪ ،‬ألنك إنسان متكامل‪ ...‬منذ‬
‫تلك الليلة التي دخلت فيها حجرة نومك‪ -‬أل ّول م ّرة‪ -‬عذراء‪ ،‬وخرجت‬
‫منها عذراء‪ ،‬كما دخلت‪ ،‬علمت أنك إنسان عفيف‪.‬‬

‫وسكتت فوزية‪ ،‬وأخذت تج ِّفف الدموع املنسابة عىل خدَّيها‪ ..‬وأردت أن‬
‫أي يشء ردّا ً عىل ما قالته هي‪ ،‬لكنها سارعت تضع يدها‬
‫أتكلَّم‪ ..‬أن أقول ّ‬
‫فوق فمي‪ ،‬وتمنعني من الكالم‪ ،‬وترسم عىل ثغرها ابتسامة‪ ،‬ثم أخذتني‬
‫من يدي‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬

‫‪ -‬ال تضيِّع الوقت يف الكالم‪ ..‬ال تضيِّع الفرصة األخرية يف النحيب‪..‬‬

‫أحس بأنني أودِّع حياتي‪ ..‬أودِّع‬


‫ّ‬ ‫غادرت البيت بعد أن ودَّعتها‪ ،‬وأنا‬

‫‪189‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫وجودي‪ ..‬أودِّع الفرتة املرشقة ّ‬


‫الوضاءة من حياتي‪ .‬وزاد شعوري بالنقمة‬
‫رسع يف الزواج‪ ،‬فاندفعت‬
‫عىل نفيس وعىل الظروف التي دفعتني إىل الت ُّ‬
‫وراء نداء الغريزة‪ ،‬ورضبت بنداء العاطفة عرض الحائط‪ ،‬شأني يف ذلك‬
‫شأن الكثريين من شباب هذا املجتمع املنكود‪.‬‬

‫خرجت من البيت‪ ،‬وأخذت أذرع الشوارع‪ ،‬بعد أن شعرت بأنني أصبحت‬


‫إنسانا ً آخر‪ .‬لم أعد سليما ً األ َّول الذي عرفه الناس‪ ..‬لم أعد أنا‪ ..‬إن شيئا ً‬
‫يف حياتي أخذ مني رغم أنفي ورغم إرادتي‪ ،‬دون أن أملك حتى ّ‬
‫حق‬
‫الدفاع عن نفيس‪ ..‬وأل ّول م ّرة‪ ،‬بعد أن تع َّرفت إىل فوزية‪ ،‬وبعد أن أحببت‬
‫فوزية وبعد أن عاهدتها عىل عدم تناول الخمر‪ ..‬أل َّول م ّرة‪ ،‬بعد مرور‬
‫أربع سنوات عىل ذلك الوعد الذي قطعته عىل نفيس‪ ،‬شعرت بق ّوة خفيّة‬
‫غري منظورة تسوقني‪ -‬رغم مشيئتي‪ -‬إىل خمارة جادّة عمر املختار‪..‬‬
‫دخلتها وأنا كاملن َّوم‪ ،‬دون أن أعي ما أفعل‪ ،‬إىل أن شعرت بثقل يف رأيس‬
‫وتخدُّر يف أعصابي‪ ،‬فنهضت متحامالً عىل نفيس عائدا ً إىل البيت‪.‬‬

‫وكانت الساعة تشري إىل الواحدة صباحاً‪ ،‬عندما دخلت حجرة نومي‪،‬‬
‫وتمدَّدت عىل الفراش بكامل مالبيس‪ ،‬وقبل أن أستغرق يف النوم تماماً‪،‬‬
‫شعرت بيد تمسح عىل جبيني‪ ،‬ففتحت عيني ألجد فوزية تنظر نحوي يف‬
‫تجف‪ ،‬بعد‪ ،‬عىل وجنتيها‪ ..‬ونظرت إليها‬ ‫ّ‬ ‫أسف وحرسة‪ ،‬وآثار دموع لم‬
‫يف بالهة‪ ،‬أ ّول األمر‪ ،‬وكأنني أراها أل َّول م ّرة يف حياتي‪ ،‬ثم جلست وأخذت‬
‫أحملق فيها برهة من الوقت‪ ،‬دون أن أتكلُّم‪ ،‬إىل أن قالت هي‪:‬‬
‫‪ -‬تحب نعملك قهوة يا سليم‪ّ ،‬‬
‫وأل شاهي؟‬

‫وأجبتها‪ ،‬يف انفعال ونرفزة‪:‬‬


‫‪190‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬احتفظي بقهوتك وشاهيك لزوجك اليل أنت متله ّفة عليه‪..‬‬

‫ونظرت نحوي‪ ،‬دون أن تقول شيئاً‪ ،‬ثم اغرورقت عيناها بالدموع‪،‬‬


‫م ّرة أخرى‪ ..‬لكنني لم أهت ّم بها‪ ،‬ولم ألتفت إليها‪ ،‬إنما التفتّ إىل الناحية‬
‫الثانية‪ ،‬وعدت إىل النوم‪ ،‬من جديد‪ ..‬وشعرت بها تنهض من جواري‬
‫وتسارع بخلع (جاكيتتي) وحذائي‪ ،‬ثم تسحب الغطاء فوقي‪ ،‬وتطفئ‬
‫ِّ‬
‫متأخرة‬ ‫النور‪ ،‬وتغادر الحجرة‪ ..‬ولم أستيقظ من نومتي تلك ّإل يف ساعة‬
‫من مساء اليوم التايل‪ ،‬فبدأت استعرض الرشيط الذي م َّر بي يف ليلتي‬
‫حق فوزية‪ .‬وقبل أن أغادر املنزل‪،‬‬ ‫تلك‪ ،‬وألوم نفيس عىل ما صدر مني يف ّ‬
‫خرجت فوزية من حجرتها‪ ،‬وجاءت تجلس إىل جواري وآثار البكاء‬
‫واضحة يف عينيها‪ .‬وبعد فرتة صمت‪ ،‬قالت من خالل دموعها‪ ،‬والعربات‬
‫تخنقها‪:‬‬

‫كل ما حدث لك من‬ ‫‪ -‬أنا أعلم‪ ،‬يا سليم‪ ،‬أنني وحدي السبب املبارش يف ّ‬
‫تعب وشقاء‪ ،‬وما قد يحدث لك مستقبالً؛ فلوالي ملا عرفت أنت شيئا ً من‬
‫شك‪ -‬تلعنني‪،‬‬‫هذا الذي تعانيه وتقاسيه من تعاسة وحرمان‪ ..‬إنك‪ -‬ال ّ‬
‫وتلعن الساعة التي عرفتني فيها‪ ،‬بينك وبني نفسك‪ ،‬وأنا ال ألومك عىل‬
‫يشء من هذا‪ ،‬فليتني‪ ،‬يا سليم لم أظهر يف حياتك‪ ،‬وليتني لم أتع َّرف‬
‫إليك؛ فلوال وجودي أنا ملا عرفتَ أنت الشقاء وملا تج َّرعت املرارة‪ .‬لقد‬
‫خاص ًة بعد‬
‫َّ‬ ‫بدأت أشعر بأن ضمريي يؤ ِّنبني ويو ِّبخني عىل ما سبَّبته لك‪،‬‬
‫عودتك الليلة املاضية‪ ،‬مخموراً‪ .‬لكن‪ ،‬ما باليد حيلة لقد فات أوان التوبة‪،‬‬
‫عمل يشء أو إصالح ما فسد‪.‬‬ ‫وال أستطيع أنا وال أنت َ‬

‫ثم سلَّمتني فوزية رسالة‪ ،‬هذا ّ‬


‫نصها‪:‬‬

‫‪191‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫(وأخرج سليم من جيبه رسالة أخذ يقرؤها)‬

‫«عزيزي‪ ،‬وق ّرة عيني سليم الحبيب‪..‬‬

‫معبتني عن حبّي وإخاليص‬


‫ِّ‬ ‫‪ -‬تحيّ ًة وأشواقا ً حا ّرة أهديهما إليك‪،‬‬
‫وتمنِّياتي لك بالسعادة والهناء‪.‬‬

‫وبعد‪ ..‬كم يؤسفني أن أكتب أ َّول رسالة منّي ِّ‬


‫ألوجه لك فيها لومي‪ ،‬وعذري‬
‫متأسفة أش ّد األسف ملا سبَّبته لك‪ ،‬وما دفعتك إليه دفعاً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يف ذلك أنني‬
‫ترصفك ليلة البارحة‪ ..‬لقد استيقظ ضمريي‪،‬‬ ‫ومتألِّمة‪ ،‬يا حبيبي‪ ،‬لسوء ُّ‬
‫وأخذ يؤ ِّنبني ويو ّبخني‪ ،‬بعد أن رأيتك البارحة يف تلك الحال املؤسفة‬
‫املؤملة‪ ،‬وأنا هنا‪ ،‬أو ّد أن أسألك‪ :‬هل يليق بك أن ترتكب ما ارتكبت؟ هل‬
‫تطاوعك نفسك وإنسانيّتك عىل أن تدخل خ ّمارة‪ ،‬وتتناول الخمر؟‬

‫ال‪ ..‬ال يليق بك مثل هذا املسلك‪ ،‬وال أنا أرضاه لك‪ ،‬عىل اإلطالق‪ ..‬أفهل‬
‫كل الوعود والعهود التي كانت بيننا؟ ألم تعاهدني‪،‬‬‫نسيت‪ ،‬يا حبيبي‪ّ ،‬‬
‫يوم شبكنا أيدينا‪ ،‬وا َّتفقنا عىل ّأل تتناول الخمر‪ ،‬مدى حياتك؟‪ ،‬فكيف‬
‫والتخل عن عهدك‪ ..‬أنا ال أرىض‪ ،‬أبداً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تطاوعك نفسك عىل الحنث بوعدك‬
‫الترصف املشني‪...‬‬
‫ُّ‬ ‫يترصف مثل هذا‬
‫َّ‬ ‫ملن أحببته ووهبته حبّي‪ ،‬أن‬
‫َّ‬
‫تأكد من أنني متأملة أش ّد األلم ملا بدَر منك‪ ،‬لدرجة أنني قضيت ليلتي يف‬
‫بكاء مستم ّر لم يغمض يل جفن‪ ،‬ولم أذق طعم النوم والراحة‪ ..‬لقد بكيت‬
‫والزلت أبكي‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬فهل يرضيك‪ ،‬ياحبيبي‪ ،‬أن تؤلم حبيبتك التي‬
‫أخلصت لك يف حبِّها‪ ،‬ووهبتك قلبها‪ ،‬فرت َّبعت عىل عرشه‪ ،‬دون منازع‪،‬‬
‫ووهبتك روحها وعقلها ّ‬
‫وكل كيانها؟ ال‪ ..‬ال أعتقد أنك ترىض بهذا أو تقبله‪،‬‬
‫‪192‬‬
‫وألنني عهدت فيك الحبيب املخلص الحنون‪ ،‬صاحب القلب الشفوق‪ .‬إنني‬
‫القوي‪ ،‬الذي ترعرع بيننا طوال أربع سنوات‪،‬‬‫ّ‬ ‫أستحلفك بالله‪ ،‬وبحبِّنا‬
‫أي نوع من أنواع الخمر‪ ،‬بعد اليوم‪ ،‬فهل تعدني؟ إنني ال‬ ‫ّأل تتناول ّ‬
‫أرىض‪ ،‬وال أقبل‪ ،‬أبداً‪ ،‬أن أراك أو أسمع عنك ما شاهدته ليلة البارحة‪ ،‬إذ‬
‫كنت ترت َّنح بني الجدران واألشجار‪ .‬وختاماً‪ ،‬أرجو عدم املؤاخذة عىل هذه‬
‫الجرأة يف كالمي هذا‪ ،‬الذي ما كنت أعتقد أنه سيكون أ ّول ما أكتبه إليك‪.‬‬

‫حبيبتك املخلصة (فوزية)‬

‫‪193‬‬
‫وانتهى سليم من قراءة الرسالة‪ ،‬فقبَّلها عدّة م ّرات‪ ،‬قبل أن يعيدها إىل جيبه‪،‬‬
‫من جديد‪ ،‬ليجلس صامتا ً يف جلستنا تلك‪ ،‬التي امتدَّت حتى الساعات األوىل‬
‫قصته وأنا أستمع إليه‪ .‬انتظرت أن يستم ّر سليم يف‬ ‫من الفجر؛ سليم يروي ّ‬
‫قصته‪ ،‬وعندما طال صمته‪ ،‬سألته‪:‬‬ ‫رسد ّ‬

‫‪ -‬ثم ماذا؟‪ ..‬ماذا حدث بينك وبني فوزية؟‬

‫‪ -‬ال يشء‪ ..‬كان هذا آخر املطاف‪.‬‬

‫‪ -‬أقصد‪ :‬هل تز َّوجت ابن عمها؟ هل عادت إليك؟ هل عدتما كما كنتما؟‬
‫إنني أريد أن أعرف ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬تز َّوجت ابن ع ّمها املزعوم‪ ،‬وذهبت إىل بريوت‪ .‬وبعد عرشين يوما ً من‬
‫زواجها‪ ،‬عادت إىل هنا‪ ،‬م ّر ًة أخرى‪ ،‬مع زوجها‪ ،‬وع َّرفتني به‪ ،‬وكان ذلك يوم‬
‫ً‬
‫و‪-‬صدفة‪ -‬كانت عائدة معه من أحد األماكن‪،‬‬ ‫أن مررت من أمام منزلهما‪،‬‬
‫ر َّبما من زيارة‪ ،‬وما إن رأتني حتى هتفت باسمي‪( :‬سليم!!)‪ ،‬والتفت‬
‫زوجها ينظر من هو سليم هذا؟‪ .‬فقدَّمتني إليه عىل أساس أنني صديق‬
‫والدها‪ ،‬وأنها كانت تقيم يف بيتنا عند مجيئها إىل طرابلس‪ ،‬واستقبلني‬
‫الرجل استقباال ً حا ّراً‪ ،‬وأقسم أن أدخل معه إىل منزله‪ ،‬حيث جلست يف‬

‫‪195‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫حجرة الجلوس إىل جانبه‪ ،‬يف مواجهة فوزية‪ ،‬وقد وجدته تماما ً كما وصفته‬
‫يل‪ ،‬كان‪ ،‬فقط‪ ،‬يتقن اللغة (الفرنسية) التي يستعني بها يف حديثه‪ ،‬أ ّما لغته‬
‫األصلية فإن مستواه فيها ال يزيد عىل مستوى تلميذ سنة ثالثة‪ ،‬ابتدائي‪..‬‬
‫وقضيت فرتة من الوقت معهما‪ ،‬تلك الليلة‪ ،‬ثم خرجت مودِّعا ً إ ّياهما‪ ،‬عىل‬
‫أمل اللقاء بهما يف املستقبل‪ ،‬حيث وعدتهما بالزيارة‪ ،‬الفينة بعد الفينة‪،‬‬
‫أتمكن من لقائها‪ .‬ورغم‬ ‫وقصدي من ذلك ربط الصداقة مع زوجها حتى َّ‬
‫توطدت بيني وبينه صداقة من نوع‬ ‫الكراهية التي أحملها لهذا الزوج فقد َّ‬
‫ما‪.‬‬

‫كنت أكرهه ألنني أعتربه خصمي الوحيد الذي سلب مني سعادتي‪ ،‬وحرمني‬
‫أحب إنسانا ً آخر سواها‪ ،‬وإىل‬
‫من اإلنسانة الوحيدة التي أحببتها كما لم ّ‬
‫كل ما حدث‪ ،‬ورغم البعد الذي يفصل بيننا‪ .‬وعن‬ ‫اليوم الزلت أحبّها‪ ،‬رغم ّ‬
‫طريق صداقتي لزوجها‪َّ ،‬‬
‫تمكنت من االلتقاء بها عدّة م ّرات‪ ،‬غري أن تلك‬
‫ُي زوجها‬ ‫اللقاءات لم تستم ّر طويالً‪ ،‬ثم انقطع بيننا ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬بعد أن ع ِّ َ‬
‫رئيسا ً لقسم يف رشكة من رشكات البرتول التي تعمل يف الصحراء‪ ،‬واضط ّر‬
‫أن يصحب زوجته معه لتقيم قريبة منه يف مدينة بنغازي‪..‬‬

‫ومنذ ذلك اليوم‪ ،‬الذي سافرت فيه فوزية مع زوجها‪ ،‬لم أعد أراها‪ ،‬ولم أعد‬
‫ألتقي بها‪ ،‬فرغم أننا نعيش يف بالد واحدة‪ ،‬ورغم أنني زرت بنغازي أكثر‬
‫من م ّرة‪ ،‬فإننا لم نعد نتقابل ولم يعد أحدنا يرى اآلخر أو يحادثه‪ ،‬أو حتى‬
‫يكتب إليه‪ ..‬وقد تسأل‪ :‬كيف ذلك؟‪ ،‬وما يمنعك من زيارتها‪ ،‬ما دمت تذهب‬
‫إىل بنغازي‪ ،‬الحني بعد الحني؟ فأجيبك‪ :‬إن زوجها حال دوني ودونها‪ ،‬منعَها‬
‫عن محادثتي وعن مقابلتي‪ ،‬ال ليشء سوى أنه أراد أن يتأقلم مع املجتمع‬
‫الذي يعيش فيه‪ ،‬ومجتمعنا ال يسمح بمثل هذه الزيارات واملقابالت‪.‬‬
‫‪196‬‬
‫كل ما حدث‪ -‬الزلت أذكرها‪ ،‬وال أزال‬ ‫لكن‪ ،‬ثق‪ ،‬يا دكتور‪ ،‬بأنني‪ -‬رغم ّ‬
‫أذكر األ ّيام السعيدة التي عشتها مع فوزية‪ ،‬لكنني لست أدرى‪ :‬هل ال تزال‬
‫تذكرني هي األخرى‪ ،‬أم أنها نسيتني‪ ،‬واعتربتني مج َّرد سحابة صيف م َّرت‬
‫يف حياتها؟‬

‫وكم م ّرة حاولت فيها أن أرضب صفحا ً عن املايض؛ أن أنساها مثل ما‬
‫نسيتني!‪ .‬لكن‪ ،‬عبثا ً حاولت؛ فإنني‪ -‬أقسم لك بالله‪ -‬الزلت أحلم بها ّ‬
‫كل‬
‫ليلة‪ ،‬وأتمثّلها‪ ،‬دائماً‪ ،‬أمامي‪ ،‬ال يفارقني خيالها‪ ،‬وال يغيب عني طيفها‪..‬‬
‫ذلك ألن شيئا ً جديدا ً يف حياتي لم يحدث حتى ينسيني إ ّياها‪ ،‬أ ّما هي فمن‬
‫غيته فيها حياتها الجديدة‪ ..‬حياة البيت واألوالد والزوج؟‬ ‫يدري ما الذي َّ‬
‫من يدري كم من األوالد عندها‪ ،‬اآلن!‬

‫لك أن تضحك مني‪ ،‬يا دكتور‪ ،‬ما شاء لك الضحك‪ ،‬ولك أن تصفني بالجنون‪،‬‬
‫خاصة إذا علمت أنني‪ ،‬إىل يومنا هذا‪ ،‬ال أزال أحتفظ‬ ‫ّ‬ ‫ما شاء لك الوصف‪،‬‬
‫بتذكا َر ْين منها أهدتهما إيلّ ذات يوم‪ ،‬هما‪ :‬هذا الخاتم الذهبي الذي أحمله‬
‫يف أصبعي‪ ،‬وهذا املشط األخرض الفاقد بعض أسنانه‪ ،‬الذي أحمله يف جيبي‪.‬‬
‫تنس أنني مجنون بحبِّها‪،‬‬
‫إنني مجنون‪ ،‬معتوه‪ ..‬صفني بما تشاء‪ ،‬لكن‪ ،‬ال َ‬
‫وال يمكنني أن أتخلّص من هذا الجنون‪ ،‬رغم علمي باستحالة لقائي بها‬
‫م ّرة أخرى! وما فائدة ذلك اللقاء؟‪ ،‬وماذا أجني من ورائه؟ أنا لست أنانيا ً‬
‫حتى أتمنّى لها العودة إيلّ‪ ،‬م ّرة أخرى‪ ،‬وألنني أدرك أن عودتها إيلّ ال يمكن‬
‫أن تكون ّإل عىل أنقاض سعادتها‪ ،‬وأنا ال أريد لها سوى السعادة والهناء‪.‬‬
‫كل ما أرجوه‪ ،‬وأتمنّاه‪ ،‬هو أن تكون سعيدة يف حياتها‪ ،‬بني زوجها وأوالدها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫خاصة بعد أن‬‫ّ‬ ‫وأن تذكرني‪ ،‬دائماً‪ ،‬كما أذكرها دائماً‪ ،‬هذه هي أمنيتي‪،‬‬
‫رسب إىل شعر رأيس‪ ،‬وأكرب‬ ‫تجاوزت الثالثني من عمري‪ ،‬وبدأ الشيب يت َّ‬
‫أبنائي قارب أن يكون يف مثل طويل‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫متوجها ً إىل بيته وزوجته‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وانتهى سليم عبدامللك من رسد مأساته‪ ،‬فقام‬
‫وحب جديد‪..‬‬
‫ّ‬ ‫شك يف أنه قد عاد إليها بقلب جديد‪ ،‬وشعور جديد‪،‬‬‫التي‪ ،‬ال ّ‬
‫ونمت أنا بقيّة ليلتي‪ ،‬وكأن شيئا ً لم يحدث‪ .‬ويف صباح اليوم التايل‪ ،‬لم‬
‫أ َّتجه إىل عيادتي يف املوعد املحدَّد‪ ،‬إنما جلست استعرض حوادث املأساة‬
‫التي سمعتها والتي حدثت لسليم عبدامللك‪ ،‬ويمكن أت تحدث‪ ،‬يف ّ‬
‫كل وقت‪،‬‬
‫مع غري سليم عبدامللك‪ ،‬فأمثال عبدامللك ومريم كثريون‪ ،‬يعيشون خلف‬
‫جدران البيوت‪ ،‬وال أحد يدري ماذا يحدث بينهم‪ ،‬وال كيف يعيشون‪ ،‬وال‬
‫كيف يتعارشون‪ ..‬ثم أخذت أسائل نفيس‪ :‬ترى‪ ،‬هل ال تزال (فوزية) عىل‬
‫عهدها لسليم؟‪ ..‬هل ال تزال تشعر نحوه بمثل ما يشعر به نحوها؟ هل‬
‫الحب التي قضتها معه؟ هل ال تزال‬ ‫ّ‬ ‫ال تزال تذكر أ ّيامه ولياليه ولحظات‬
‫بالحب والوفاء؟‬
‫ّ‬ ‫تحافظ عىل وعودها وعهودها التي قطعتها له عىل نفسها‬
‫هل ال تزال تذكر شيئا ً من األلفاظ املعسولة التي سكبتها يف أذنيه‪ ،‬ذات‬
‫يوم‪ ،‬عندما قالت له من ّ‬
‫كل قلبها «سأذكرك‪ ،‬يا سليم‪ ،‬وسأحبّك إىل األبد»؟‬
‫هل ال تزال‪ ،‬وهي‪ ،‬اآلن‪ ،‬يف أحضان زوجها‪ ،‬وبني يدي ابن عمها‪ ،‬تذكر ذلك‬
‫الرجل الذي منحته يوماً‪ ،‬عن طيب خاطر‪ ،‬ما تمنحه لزوجها‪ ،‬اآلن؟‬

‫ترى‪ ،‬هل تذكر فوزية الرجل الوحيد الذي أحبَّها‪ ،‬وأخلص لها يف حبِّه‪،‬‬

‫‪199‬‬
‫‪o=p\8!T‬‬

‫بكل يشء‪ ،‬واستهان‬‫وضحى ّ‬ ‫ّ‬ ‫وخان جميع قيمه ومبادئه يف سبيل حبِّها‪،‬‬
‫وحطمت حياته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بكل يشء من أجلها؟ هل تذكر‪ ،‬اآلن بعد أن َّ‬
‫حطمته‪،‬‬ ‫ّ‬
‫و‪ -‬ر َّبما‪ -‬مستقبله‪ ،‬أيضاً‪ ،‬كيف اقتحمت عليه حياته النظيفة املستق ّرة‬
‫الهادئة‪َّ ،‬‬
‫فعكرتها ول َّوثتها‪ ،‬ثم خرجت منها‪ ،‬فجأ ًة‪ ،‬كما دخلتها‪ ،‬لتهدأ‬
‫هي‪ ،‬وتستق ّر وتنعم‪ ،‬بينما يشقى هو ويتع َّذب ويقايس الويالت؟‬

‫كل هذا‪ ،‬أو حتى بعضا ً من هذا‪ ،‬بعد أن تز َّوجت‪،‬‬


‫هل تذكر فوزية ّ‬
‫واستق ّرت‪ ،‬وأنجبت‪ ..‬بعد أن نعمت بالحياة‪ ،‬وسعدت بالزواج؟‬

‫الحاجة زينب التي أقبلت‬


‫ّ‬ ‫تو َّقفت عن طرح هذه األسئلة‪ ،‬وسارعت أنادي‬
‫مرسعة‪ ،‬فقلت لها مبتسماً‪:‬‬

‫تذكري يا حاجة أني قلت لك م ّرة‪ ،‬أني ق ّررت الزواج‪ ،‬وطلبت منك تبحثي‬
‫يل عن زوجة بنت حالل؟‬

‫‪ -‬خالتك الحاجة ما تنساش‪ ،‬وما تهملش‪ ..‬إني اهت ّميت بك‪ ،‬ود ّورت عىل‬
‫بنت الناس اليل تصلح‪.‬‬

‫حاجة‪.‬‬
‫غيت فكرتي‪ ،‬يا ّ‬
‫‪ -‬لكن أني َّ‬

‫‪ -‬اسم الله عليك‪ ..‬عالش يا دكتور؟ عمرك خمسة وأربعني عام‪ ،‬شنو‬
‫مازال تستنّي؟ أندادك أصبحوا جدود‪.‬‬

‫‪ -‬أنت ما فهمتيش قصدي‪ ..‬أني بعد الحكاية التي سمعتها من سليم‪،‬‬


‫ق ّررت الب ّد نختار زوجتي بنفيس‪.‬‬

‫‪ -‬عيب!!‪ ..‬شنو ها الكالم اليل تقول فيه‪ ،‬يا دكتور؟ انت تختار زوجتك‬
‫‪200‬‬
‫انصا َرى؟‪ ..‬زوجتك‪ ،‬يا دكتور‪ ،‬الب ّد تختارها لك واحدة‬
‫بنفسك؟ تحسبنا َ‬
‫قريبتك‪ :‬أ ّمك‪ ،‬أختك‪ ،‬ع ّمتك‪ ،‬أ ّما حكاية تختارها بنفسك‪ ،‬هذا يشء جديد‪..‬‬
‫موضة جديدة‪ ،‬عمرنا ما سمعناها!‪.‬‬

‫حاجة‪ ،‬هي أ ّمي وال أختي اليل بتعيش معها؟ مش أني اليل‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬لكن‪ ،‬يا‬
‫بنتز ّوجها‪ ،‬وبتعيش معاي؟‪ ..‬أنا ما نفهمش شنو فيها لو إني اخرتت‬
‫بنفيس! حرام؟‬

‫‪ -‬إيه يا وليدي‪ ،‬ياريت حرام وبس‪ ،‬لكن الحكاية هذي عيب‪ ..‬عيب كبري‪..‬‬

‫‪ -‬افريض أ ّمي هي اليل تختار يل‪ ،‬كيف بتختارها؟‬

‫‪ -‬هذي ساهلة‪ ..‬تختارها بنت ناس‪ ،‬وعاقلة‪ ،‬عقلها ما يل دماغها تقعد‬


‫من الصبح حتى الليل ما تسمعش منها كلمة‪ ،‬مش كيف بنات اليوم اليل‬
‫حفظوا كلمتني من الراديو‪ ،‬والجريدة‪ .‬بدت الواحدة منهم حاسبة نفسها‬
‫هي وبس‪ ..‬ومع العقل‪ ،‬والثبات تختار ها جميلة‪ ..‬شباب طول وعرض‪،‬‬
‫ها الباب ما يدخلها‪ ،‬بيضة حمرة‪ ،‬تستحي منها الشمس والقمر‪..‬‬

‫حاجة‪ ،‬كيف تمشوا تخطبوا؟‬


‫‪ -‬هي هذي الحاجات التي تختاروا فيها‪ ،‬يا ّ‬

‫‪ -‬وشنو تبي أكثر من هذا كلّه؟‬

‫‪ -‬يعني ما فيش حاجة تانية تبحثوا عنها؟‬

‫‪ -‬ال‪ ..‬هذا هو اليل يبحث عليه الراجل يف املرا‪.‬‬


‫حاجة‪ ..‬شكراً‪ ،‬خليني ّ‬
‫انفكر شو ّية‪ ،‬وبعدين انقول لك‪.‬‬ ‫‪ -‬طيِّب يا ّ‬

‫‪201‬‬
‫صدر من سلسلة كتاب الدوحة‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬


‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫فتنة الحكاية جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬ ‫‪--‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫عن َ‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الفنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة “العصفور الصغري”‬ ‫‪43‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫ُجرجي زيدان‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫د‪.‬عبدالدين حمروش‬ ‫ا ُملعتمدُ بنُ ع َّباد يف سنواته األخرية باألرس‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف َذنّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة ‪ ،‬الخط ‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬
‫د‪ُ .‬محسن املوسوي‬ ‫(تحـ ُّوالت الصـفـوة العارفة يف املجتمع العريب الحديث)‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫محمد محمود الزبريي‬ ‫بني الج ْزر وامل ّد (صفحات يف اللغة واآلداب والفنّ والحضارة)‬ ‫‪56‬‬
‫مي زيادة‬ ‫ظل ال ّذاكرة (حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫ّ‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مجلة الدوحة»‬ ‫الرحلة الفنّية إىل الديار املرصية (‪ )1932‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫اعم األمل ( ُمختارات شِ ْعر ّية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫بر ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫التّوت ا ُمل ّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ملحمة جلجامِش‬ ‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬
‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫مح ّمد فريد سيالة‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
o=p\8!T

i=i=h 74a \d rl px8!eh 1=qh .zE neqem


www.aldohamagazine.compx8!eh,x4hi)lV‘yl}iT

You might also like