Professional Documents
Culture Documents
إنسان
68
2017 ص 1 د خص
اعرتافات إنسان
تأليف :محمّ د فريد سيالة
الناشر:
وزارة ّ
الثقافة والرياضة -دولة قطر
رقم اإليداع بدار الكتب القطرية:
الترقيم الدولي (ردمك):
ّ
المجلة. كتابها ،وال ُتع ِّبر -بالضرورة -عن رأي الوزارة أو
المواد المنشورة في الكتاب ُتع ِّبر عن آراء ّ
ّ
محمد فريد سيالة
اعترافات إنسان
رواية
اإلهداء:
إليها..
إىل بطلتها....
إىل ّ
كل امرأة...
فريد
تقديم
اعرتافات إنسان ..الرواية والكاتب
د .أحمد إبراهيم الفقيه
7
o=p\8!T
ولهـذا فالجيـل الـذي انتمى إليـه مؤلِّف هـذه الرواية ،جيـل اعتمد عىل
تحصيلـه الشـخيص ،عبر القـراءة واالنتسـاب إىل الدورات الدراسـية،
بمـا يف ذلـك االنتسـاب إىل دورات لتعليـم اللغـات األجنبيـة ،التي أجاد
منهـا اإليطاليـة ،إجـادة اإليطاليين أنفسـهم ،ورشع يف تحرير قاموس
عربـي إيطـايل يف أواخـر عمره ،بـل كتب بهـا مقـاالت ،نرشتها صحف
ناطقـة باإليطاليـة .هـذا التكويـن الثّقـايف الـذي حصل عليـه بالجهد
تمكن مـن تأهيلـه ملمارسـة دوره الريـادي يف عدّة الذاتـي ،هـو الـذي َّ
مجـاالت ،لـم يكن املجـال األدبي ّإل واحـدا ً منهـا ،ألن لـه دورا ً رياديا ً
املؤسسين للبنيـة التعليميـة يف ّ يف مجـال التعليـم ،كونـه مـن جيـل
ليبيـا ،وهـو رائد يف املجـال النقابي ،ألنـه كان وراء تأسـيس أ َّول نقابة
تـول دورا ً قياديـا ً فيها ،وأصدر ،باسـمها ،مجلّـة ،كان هو للمعلِّمينّ ،
رئيـس تحريرهـا ،يف مطلـع الخمسـينيات ،اسـمها «صـوت املر ّبـي»،
أعطـت مسـاحة كبرية للأدب ،وك َّرسـت أعـدادا ً ّ
خاصـة ألنـواع أدبيّة
لـم تكـن قـد تجـ َّذرت يف تربـة األدب الليبي ،مثـل العدد الـذي أصدره
القصـة القصيرة ،واعتمد عليـه الكاتب الراحل بشير الهاشـمي، ّ عـن
يف كتابـه «خلفيّـات التكويـن القصصي يف ليبيـا» ،وهو -أيضـاً -رائد
يف مجـال الصحافـة ،فعلاو ًة عىل تأسيسـه لـ«صـوت املر ّبي» ،اسـهم
يف إنشـاء مجلّـة «هنـا طرابلـس الغـرب» الحكوميـة ،ويف تحريرهـا،
وهـي التي نشر بهـا روايته «اعرتافـات إنسـان» ،كما نرش بهـا أعماال ً
القصة ،لـم يجمعها يفّ أخـرى ،مـن بينها أعمـال أدبيّـة تنتمي إىل فـ ّن
كتـب -ر ّبما -لعـدم رضائه الكامـل عنها ،مثـل «الحيـاة رصاع» ،كما
أن هنـاك ،يف سيرته املعتمـدة ،ذكـرا ً لروايـات لم تنرش يف كتـب ،مثل:
و«الحـب األ َّول» ،و«تغيرَّت الحياة».
ّ «خضراء الدمـن»،
8
هذه الرواية التي تتحدَّث عنها املراجع املعتمدة لألدب الليبي ،باعتبارها
الرواية األوىل التي ُن ِشت ،وصدرت يف كتاب ،كانت قد ُن ِشت ،عىل حلقات،
يف مجلّة «هنا طرابلس الغرب» ،عددها ( )12حلقة ،بدءا ً من شهر
أغسطس عام ،1959إىل شهر مايو ،1961قبل أن تصدر يف كتاب عن
دار الفرجاني ،عام . 1961وكان األستاذ سيالة رائدا ً يف مجال التح ُّول
االجتماعي ،إىل َح ّد أن أُطلق عليه اسم قاسم أمني ليبيا ،ألنه تبنّى قضية
املرأة ،مطالبا ً بتح ُّررها والدفاع عن ح ِّقها يف السفور ،وح ِّقها يف التعليم،
وح ِّقها يف العمل ،وتح َّم َل أذى املتز ِّمتني الذين كانوا يهاجمونه من فوق منابر
وص َمد ،وكافح، املساجد ،أي تلك التي يسيطر عليها أهل النظرة املنغلقةَ ،
وجمع تلك املقاالت التي تدافع عن قضية املرأة ،يف كتاب شهري َش َّك َل عالمة
يف مسرية التح ُّول االجتماعي ،هو كتاب «نحو غد مرشق» ،الصادر عن
مكتبة الفرجاني ،عام .1958أ ّما دوره الريادي الرابع ،فقد كان يف مجال
ومؤسسا ً أله ّم
ِّ األنشطة الثّقافيّة ،باعتباره صاحب حضور يف هذا املجال،
جمعية ثقافيّة عرفتها العاصمة الليبية طرابلس ،يف عقدَي الخمسينيّات
ظل ،لفرتة طويلة ،أمينها والستينيّات ،وهي «جمعية الفكر الليبية» ،التي َّ
مفكرين وشعراء ِّ ومنظم موسم محارضاتها عندما استضافت ِّ العا ّم،
وعلماء ،عربا ً وأجانب ،مثل املسترشق الفرنيس بالشري ،والشاعر اللبناني
واملفكر الجزائري مالك بن نبي ،واملؤ ِّرخ التونيس عثمان ِّ سعيد عقل،
الحظ بأن أكون حارضا ً محارضات هؤالء األعالم، ّ الكعاك ،وقد أسعدني
كما أسعدني بأن أتع َّرف إىل الرائد األدبي الكبري محمد فريد سيالة ،عندما
ساهمت ،يف مرحلة الصبا ،يف الكتابة للصحيفة التي كان يدير تحريرها،
وهي صحيفة «الطليعة» ،وكنت أجد منه تشجيعا ً وترحيباً ،وأجلس
أمامه وهو يمسك القلم ،ليقوم بتصحيح ما وقعت فيه من أخطاء يف
9
o=p\8!T
النحو ،وتقويم ما شاب العبارات من ارتباك ،وكان يقول ،يل وملن َتصادَف
وجوده من شباب املح ِّررين املبتدئني ،بأن اللّغة العربيّة هي أداة الكاتب
وإتقان قواعدها رشط ،ال يتح َّقق حضور الكاتب وال جدارته ّإل به ،وكان
متبحر يف آدابها وفنونها ،كما كانِّ هو فقيه يف اللّغة وقواعدها ونحوها،
يملك لغة ثانية ،هي اللّغة اإليطالية التي صارت له بمثابة اللّغة األ ّم ،ولم
ظل ذلك النظام االنقالبي تكن طبيعته املتم ِّردة الثائرة تقبل بالعمل يف ّ
العسكري الذي جاء بعد النظام امللكي ،أو االنسجام معه ،فأعرض عنه،
وأبى االحتكاك به ،وكنت أ َّتصل به ،للمشاركة يف بعض األنشطة الثّقافيّة،
كما فعلت مع زمالء من أبناء مرحلته ،مثل األستاذ خليفة التلييس ،الذي
استجاب للتعاون ،واستعاد مكانته كقائد أدبي ثقايف ،ورفض األستاذ
سيالة رفضا ً قاطعاً ،وآثر الصمت ملدّة شارفت عىل أربعة عقود ،إىل أن
رحل عن عالم األحياء.
من طرائف ما حدث يل معه ،أنه يف ،أثناء عمله مديرا ً لتحرير صحيفة
«الطليعة» ،التي كنت أكتب لها بعض الخواطر ،وكان يستبقيني -أحياناً-
ليأخذني معه يف سيارته بعد الفراغ من عمله ،لحضور ندوة أو املشاركة
يف مأدبة ،وجدته يأخذني ،ذات م ّرة ،إىل سوق شعبي هو سوق الثالثاء،
ثم يأتي إىل ركن يف السوق ،عبارة عن حانوت صغري من الصفيح ،يباع
فيه الخضار والفاكهة ،ويخلع سرتته األنيقة ،ويرتدي عفريتة زرقاء،
فوق بقيّة مالبسه ،وينخرط ،مع عامل هناك ،يف إنزال البضائع من عربة
يج ّرها صاحبها ،وعرفت أنه رشيك يف ُملكية ذلك الحانوت ،وأنه يذهب يف
أوقات فراغه للمناوبة مع رشيكه ،من أجل تحسني دخله ورفع املستوى
قصة كدح قصة أبناء جيلهّ ،فقصة حياته ،كما هي ّ ّ املعييش ألرسته،
10
وكفاح ،والقيام بمسؤوليات تقتضيها الظروف املعيشية ،باإلضافة إىل
العمل الثّقايف ،واالجتماعي اللذين كانا ،يف مجملهما ،تط ُّوعيَّ ْي ،ال يحصل
أي مقابل.
من ورائهما عىل ّ
11
o=p\8!T
يحس
ّ أحس بح ِّر َّيته ،وهو لن
َّ لها ،بأن اإلنسان ال يشعر بوجوده إال إذا
بهذه الح ّر ّية ّإل إذا مارسها ،عىل أوسع نطاق.
كل سطر من سطور الرواية ،أنه لم يستهدف من وكان واضحاً ،عرب ّ
كتابتها ّإل تأكيد هذا املعنى تأكيدا ً عميقاً ،واالحتفاء بفعل الح ّر ّية،
والتحريض عىل ممارسة هذه الح ّر ّية .وإذا كانت كتابة الرواية ،باعتبارها
لونا ً أدبيا ً جديداً ،وبابا ً غري مطروق ،من قبل ،يف البيئة األدبيّة الليبية،
يحمل معنى التحدّي ملعطيات هذه البيئة ،التي هي بيئة غري مهيَّأة
وغري مؤ َّهلة ،بما يسود فيها من تقاليد وأعراف بدوية ،إلنبات هذا اللون
والتحض ،فإن محتوى الرواية ُّ األدبي املرتبط ،دائماً ،بمجتمعات التمدين
ورسالتها يتضافران مع هذا املعنى ،وتقول ،بصوت شديد الوضوح ،إنها
جزء من معركة ض ّد تقاليد االنغالق والتز ُّمت وقمع العواطف وقهرها،
تلك التي تظلم اإلنسان وتمنعه من ممارسة ح ِّر َّيته ،وأن يعيش إنسانيَّته،
وهي قضايا تحيلنا إىل تيّار فكري وفلسفي ،كان سائدا ً يف أواخر
الخمسينيات ،وله امتدادات يف اإلنتاج األدبي القادم من عواصم ثقافية
عربيّة ،مثل بريوت والقاهرة ،هو التيّار الوجودي الذي يدعو إىل التح ُّقق
الوجداني والعاطفي ،ويدعو إىل التم ُّرد عىل القوالب السائدة ،يف التفكري
والسلوك ،التي تمنع اإلنسان من املحافظة عىل جوهره اإلنساني وطمس
شخصيَّته ومشاعره وتطلُّعاته.
تضعنا رواية «اعرتافات إنسان» ،مبارش ًة ،وسط هذا الرصاع الوجودي
بني الفرد وسطوة املجتمع ،ونلتقي بالسارد للحدث الروائي ،الدكتور
بكل ما يحمله ،من بوحفريد ،وأزماته ومعاناته ،يرويها بضمري املتكلِّم ّ
طبيب ناجح ،لكنه ليس سعيدا ً بنجاحه ،فقد تح َّول النجاح
ٌ وحميمية،
12
وازدحام عيادته بالزبائن إىل عبء عليه ،ر َّبما ألنه جعل عيادته جزءا ً
من مق ّر سكناه ،فهو أعزب يعيش بمفرده ،ال رفيق له ّإل امراة متقدِّمة
يف الس ّن تخدمه ،اسمها زينب ،وتشفق عليه ألنه وصل س ّن األربعني ولم
يتز َّوج ،وهو يريد أن يتز َّوج ،لكنه ليس راضيا ً وال موافقا ً عىل الزواج
وفق التقاليد املجحفة التي يفرضها املجتمع ،التي تمنع الزوج أن يرى
املراة التي يريد أن يتز َّوجها ،وتمنع املرأة من أن تعرف زوج املستقبل؛
ولهذا فهو يعاني من شعور بالخواء والفراغّ ،إل أن طرابلس ذات التن ُّوع
اإلثني والتن ُّوع الثّقايف ،ال ترتكه يعاني طويالً ،ألنها تتيح له أن يتع َّرف
بامرأة إيطالية اسمها ماريا ،تسكن قريبا ً من بيته ،ينشئ عالقة ّ
حب
معها ،وتالقيه من وراء ظهر زوجها ،غري أنها عالقة عابرة طارئة ،تنتهي
بعد فرتة قصرية بسبب رجوع العائلة إىل إيطاليا ،فيعود إليه إحساسه
بالفراغ والخواء ،حتى يظهر يف عيادته مريض يعاني من تعب يف الصدر،
توثقت عالقته به حتى صار أقرب الناس اليه، اسمه سليم عبد امللكَّ ،
القصة ،هي ّ قصة داخلرفيقا ً ونديما ً يف أوقات السهر ،فننتقل معه إىل ّ
قصة هذا الرجل ابن العائلة الطرابلسية املورسة ،الذي يعمل يف وظيفة ّ
حكومية ،ويكتب ،يف مرحلة من مراحل عالقته بالدكتور فريدِّ ،
مذكراته
مذكراته التي تعطي لهذه الرواية اسمها ،إذ إن هذا الصديق س ّمى ِّ
«اعرتافات إنسان» ،التي تجعل بطل الرواية األصيل ،الدكتور فريد،
يتخل عن البطولة ،ليصبح السارد ألحدات تحصل لصديقه ،من موقف ّ
التعاطف ،بل املشاركة ،أحياناً ،يف صنع االحدات والدفع بها يف الوجهة
التي تخدم صديقه ،وتنفعه .وكان سليم قد رفض ،يف البداية ،أن يعطي
هذه االعرتافات إىل صاحبهّ ،إل أن عارضا ً مرضيا ً ألَ َّم به ،جعله يف خشية
عىل حياته ،واضط ّره إلخراج االعرتافات والدفع بها ايل الدكتور فريد،
13
o=p\8!T
يأتمنه عليها ،ويشرتط عليه ّأل يقرأها ّإل بعد موتهّ ،إل أنه يشفى من
مرضه ،وتبقى ِّ
املذكرات يف حوزة صديقه الذي يتح َّرق فضوال ً لقراءتها،
ليقينه بأنها سوف تلقى ضوءا ً يعينه عىل إنقاذ سليم من معاناته
وعذاباته.
يف أثناء إجازة ،قضاها يف باريس ،تحدَّث ،عن هذه ِّ
املذكرات ،إىل صديقته
الفرنسية املس ّماة جانيت .واستجابة إللحاحها ،بارش بقراءة طرف منها
عىل هذه الصديقة ،يتحدَّث فيها سليم عن محنته ،يدور الرصاع حول
إشكالية التناقض والتعارض بني قيم الكتلة البرشية املس ّماة مجتمعاً،
والفرد يف نزوعه إىل التح َّقق واالنطالق والح ّر ّية واالستجابة إىل حاجات
قلبه ووجدانه ،بوصفه فردا ً وإنساناً ،وهو ،هنا ،مجتمع مدينة طرابلس،
يف تلك الحقبة التي اكتست فيها التقاليد طابعا ً شديد الرشاسة والقسوة،
بسبب عنف التقاليد البدوية والعشائرية وق َّوتها ،التي تحكم الحياة يف
املدن ،أيضاً ،بتز ُّمتها وانغالقها وافرتاسها لخصوصية الفرد ،وطمسها
لشخصيّته.
يحكي سليم ،يف اعرتافاته ،كيف استجاب للتقاليد ،وخطب فتاة اسمها
مريم ،بطريقة تقليدية ،اعتمادا ً عىل ما سمعه حول جمالها ومستواها
الثّقايف ،دون أن يراها أو يلتقي بها ،ويكتشف ،بعد الزواج ،أنها امرأة
تن ّمطت داخل قوالب املجتمع إىل َح ّد اذابت شخصيَّتها ،وطمست روحها،
وقضت عىل تفردها وخصائص ذاتها وتم ُّيزها؛ ما دفعه إىل أن يقع يف
حب فتاة اسمها فوزية ،وافدة من بلد عربي أكثر تح ُّرراً ،هو لبنان ،ليقيم
ّ
زوجة وأوالداً .يعاني سليم من رصاعً حب معها عىل حساب أرسته، عالقة ّ
مرعب بني واجباته ،زوجا ً وأباً» ،وقلبه الذي رشد وراء هذه املرأة الفاتنة
14
التي يجد فيه اإلشباع لعواطفه وأفكاره وعقله وجسده.
وضاءة «اعرتافات إنسان» رواية جميلة ،مكتوبة بأسلوب أنيق ولغة مرشقة ّ
ج ّذابة ،وفيّة ألطروحة الح ّر ّية الفردية التي ُكتِبت دفاعا ً عنها ،بصياغة
فنّيّة متقنة ،شابتها بعض الهنات التي تتَّصل بإلحاح عىل املوضوع إىل
َح ّد التكرار ،والحديث عنه بطريقة مرسفة ،أحياناً ،يف عاطفيَّتها ،ولها
العذر يف ذلك ،ألنها رواية تنتمي إىل األدب الرومانيس يف شاعر َّيته ور َّقته
وشفافيَّته ،دون أن تكون بعيدة عن طني الواقع وتعقيداته وأوحاله.
كتلة وقطيعاً،
ً قصة الفرد ،إنسانا ً ووجداناً ،يف مواجهة املجتمع،إنها ّ
وجدارا ً صلدا ً جامدا ً كأسوار السجن ،كتبها األديب الرائد محمد فريد
سيالة ،بانفعال وصدق وأمانة ونزاهة ،صونا ً إلنسانية اإلنسان ورشف
كل القوى التي تريد مسخ انتمائه لقيَم العرص ،ومرافعة أصيلة ض ّد ّ
عواطف هذا اإلنسان ،وتشويه ذاتيَّته ،وطمس تم ُّيزه وفرادته وجوهره.
15
اعترافات
إنسان
كان الفصل شتاءً ...والج ّو بارداً ،شديد الربودة؛ ما سبَّب انتشار كثري
من إصابات الناس بشتّى أنواع األمراض التي تسبِّبها مثل هذه الظروف،
مكتظة دائما ً بالناس وكأنها قد ُقلبت إىل خليّة نحل ،ال ّ فجعل عيادتي
يكف ...حركة ّ تتو َّقف فيها الحركة ،وال تهدأ ،وال ينقطع الطنني ،وال
مستم ّرة دائمة ...مريض داخل ،ومريض خارج ،وآخر جاء يسأل أو
يستشري ...حركة دائمة مستم ّرة ،من أ ّول ساعات النهار إىل أ َّول ساعات
الليل ...االزدحام ال ينقطع ،سواء أكنت موجودا ً أم غري موجود؛ فالذين
ينتظرون ال يعرفون ،أو ال يشاؤون أن يعرفوا معنى الكتابة التي تحملها
تلك اللوحة النحاسية الصفراء الالمعة التي تقول ،يف رصاحة ووضوح:
«مواعيد العمل من الساعة 11إىل ،13ومن الساعة 16إىل .»18لكن ،ماذا
يفيد قول هذه اللوحة الخرساء؟ إن الزبائن ...املرىض ال يعرفون املواعيد،
وال يتقيَّدون بالساعات ،واملصابون باألمراض ال يصدِّقون (عن عمد) ما
كتب عىل هذه اللوحة الصامتة ...فهم يعتقدون ،دائماً ،أن مواعيدي غري
محدَّدة ،وغري مضبوطة ،وال صلة لها ،أبداً ،بما ُكتِب عىل هذه الالفتة
اللعينة ،رغم أنني ال أذكر يوما ً واحداً ،منذ تخرجي ،ومنذ أن فتحت هذه
العيادة ..ال أذكر يوما ً واحدا ً جئت فيه غري أ ّيام املواعيد املحدَّدة.
19
o=p\8!T
وسيْل املرىض ال ينقطع ،وهم يعرفون أنني (أعزب)، االزدحام مستم ّرَ ،
ال زوجة يل وال أبناء ..أسكن هذه الش ّقة التي تقع يف الطابع الثالث من
إحدى عمارات شارع االستقالل ،والتي ا َّتخذت منها قسما ً لعيادة املرىض،
و -ر ّبما -هذا هو ما ساعدهم عىل أن يقتحموا عيلَّ الش ّقة ،ال يف ساعات
راحتي ،فحسب ،بل حتى يف ساعات نومي ،أيضاً.
كثريا ً ما كنت أتساءل بيني وبني نفيس ،عن األسباب التي جعلت عيادتي
مزدحمة أبداً ،طيلة ساعات النهار ،وبعضا ً من ساعات الليل ،حتى أن
هذا االزدحام لم يرتك يل قليالً من الوقت أسرتيح فيه ،وأر ّوح عن نفيس
املكدودة املتعبة املحتاجة إىل بعض من الراحة واالستجمام.
كثريا ً ما كنت أتساءل :ما سبب ذلك؟ ...ما مبعثه؟ ...أهو انخفاض
تسعرية الفحص ،أم االسم الطيِّب الذي حصلت عليه ،أم تراه ألنني
خصصت يوما ً يف األسبوع ،غري معلوم وال محدَّد ،أفحص فيه املرىضّ ،
أي َّ
باملجان ،ودون مقابل؟مريضّ ،
كل ذلك معاً .منر ّبما ،يكون واحد من ذلك هو السبب ،و -ر َّبما -يكون ّ
يدري!؟ فللناس فيما يعشقون مذاهب .امله ّم أن العيادة مزدحمة أبداً،
لدرجة أنك ال تجد فيها مكانا ً خالياً ،يمكنك أن تقف فيه ،يف أ ّية ساعة من
ساعات النهار.
إنني إنسان ...برش ،مثل غريي من الناس ،يف حاجة إىل الراحة
واالستجمام ،ويف حاجة إىل السكينة والهدوء ،ويف حاجة إىل أن أر ِّفه عن
ّ
سجلت نفيس ،بني الحني والحني ....إنني موجودَ ...ح ّي ،هكذا تقول
مصلحة النفوس ،وأنا أريد أن أشعر ،حقا ً بوجودي ...بحياتي ...بكياني.
كل هذا ،وأنا أعيش وسط خليّة لكن ،كيف يمكنني أن أح ّقق شيئا ً من ّ
يغص بها
ّ النحل هذه ...وسط هذه الزحمة ....هذه الهياكل اآلدمية التي
كل شرب من العيادة ...هذا السيل الجارف من الناس الذي ال ُيع َرف له ّ
أ ّول ،وال ُيع َرف له آخر؟؟
حتى يوم الجمعة الذي ُجعِل للصالة والراحة واالستجمام ،أكاد ال أسرتيح
فيه ،فإذا لم أسارع ،منذ ساعات الفجر األوىل ،إىل السيارة والخروج إىل
ضواحي املدينة ،فأنا مع َّرض ،دائماً ،لالستدعاء ،بني لحظة وأخرى،
21
o=p\8!T
وكم كانت الخالة (زينب) تقايس من هذا اإلرهاق والتعب! فقد كانت ،هي
األخرى ،تأخذ نصيبها منه ،برغم أنها امرأة عجوز جاوزت س ّن الخمسني
بأكثر من ستّ سنوات ،وإن كانت هي تقول إنها لم تتجاوز الخامسة
واألربعني ،رغم أنها تذكر عام الوادي ،بتفاصيل أحداثه.
مللت هذه الحياة ...كرهت هذه املهنة ..أصبحت أتمنّى لو أنني كنت
إنسانا ً آخر ...إنسانا ً بسيطاً ،ولو طبيبا ً يف نوع آخر من األمراض غري
أمراض الصدر وذات الرئة ،التي اخرتتها ،أو حتى مج َّرد طبيب غري
كل هذه الشهرة بني الناس ...لو كنت كذلك السرتحت قليالً، مشهور ّ
ولَ َخ َّف عني يشء من هذا التعب الذي أعانيه.
وحاولت ...حاولت كثريا ً أن أتغلَّب عىل هذا امللل ،وهذا الضجر ،دون
كل محاوالتي سدًى ...لم تج ِد قتيالً ....لم يكن يشء يف
جدوى ....ذهبت ّ
أحس بني
ّ الوجود يخ ِّفف عني ما أشعر به من ضيق واختناق ،ويجعلني
اآلدمي املفقود ،قبل أن
ّ وقت وآخر ،بيشء من الراحة ...باسرتجاع كياني
أتع َّرف إىل (سليم عبد امللك) ،سوى وقفتي يف النافذة املطلَّة عىل بيتها،
مبارش ًة.
ويف العيادة ،وقفت إىل جواري تتابع فحص ابنها ،والدموع تنهمر من
عينيها ،والهلع والخوف متمثِّالن يف نظراتها ،فأشفقت عليها ،وأجلستها
إىل جواري أصف لها الدواء الالزم وكيفية تناوله ،هنا ،وأنا أنظر إىل
عينيها ،اكتشفت فيها أشياء كثرية ،لم أكن أعرفها فيها ،اكتشفت أنها
أجمل م ّما كنت أتص َّور .كانت شقراء ذات شعر ذهبي المع مسرتسل عىل
كتفيها ،وعينني زرقاوين كمياه البحر الصافية الش ّفافة ،وبرشة بيضاء
ناصعة ملساء ،وقوام بديع الصنع متناسق األجزاء ،وكان يف نظرتها يشء
لم أنتبه إليه ،ولم أفهمه ...يشء غامض ال تملك حياله ّإل أن تستجيب
لندائه وإغرائه ،مهما كنت راسخا ً يف الورع والتص ُّوف .يومها ،تحادثنا
أحاديث كثرية مختلفة متن ِّوعة ،كان آخرها موعدا ً بيننا عىل اللقاء يف
ش َّقتي .وتقابلنا ليلتها ،وكانت بيننا أشياء ،ثم تك َّرر هذا اللقاء ،وتعدَّد
م ّراتٍ متوالية متتابعة ،تار ًة يف ش َّقتي ،وتار ًة يف ش َّقتها ،وطورا ً يف السيّارة،
خارج املدينة.
23
o=p\8!T
وشعوري بالتعب واإلعياء ،لم يكونا نتيجة كثرية العمل وال كثرة املرتدِّدين
كل ذلك يشء آخر لم أكن أعرفه ،ولم أكن عىل العيادة .أدركت أن سبب ّ
أتص ُّوره ،إىل أن اكتشفته يف عالقتي مع (ماريا) ،فتمنَّيت لو استم َّرت
تلك العالقة لفرتة أطول ...تلك العالقة التي كانت تمدّني ،بعد ّ
كل لقاء،
بقدر من تجدُّد النشاط ،وبقدر من الحيوية ،وبرغبة شديدة يف الحياة.
غري أن هذه العالقة لم تدم طويالً ،إذ رسعان ما انقطعت وانفصلت،
وأُسدِل عليها ستار ،بعد أن غادرت (ماريا) البالد مع زوجها الذي أصبح
وأحس باإلرهاق ،وأبحث ع ّما
ّ غري مرغوب فيه .عندها ،عدت أشعر بامللل،
يخ ِّفف من تعبي ،ويجدِّد نشاطي.
أحس بكراهية كبرية للمهنة التي اخرتتها بنفيس ...أخذت أبحث، ّ عدت
بشتّى الطرق ،عن وسيلة تزيح عن كاهيل بعضا ً من التعب ،وضاعت
كل محاوالتي ،م ّر ًة أخرى ،أدراج الرياح ،فشعرت بخيبة أمل وبتم ُّزق يف ّ
كياني الداخيل كلِّه ،إىل أن تع َّرفت إىل (سليم عبد امللك) ،منذ ثالث سنوات،
عندما أصيب بذات الرئة ،و ُدعِيت لفحصه ومعالجته .وبعد عالج طويل
وشفِي من مرضه ،تماماً ،بعد ستّة أشهر فقط. مرهق ،أفاده العالجُ ،
أحسه،
كل ألوان العذاب الذي كنت ّ توطدت بيننا صداقة أنستني ّ بعدها َّ
وأتع َّذب به ...صداقة سليم أعادت يل شيئا ً من حيو َّيتي وحبي ملهنتي.
أحسه من عناء وضجر وتعب. صداقة سليم أنستني كثريا ً م ّما كنت ّ
كانت صداقتي مع سليم صداقة صادقة ،أخذت تنمو ،مع األ ّيام ،برسعة
ولعل السبب يف ذلك يعود إىل أنني اكتشفت يف سليم أنموذجا ً ّ عجيبة مذهلة،
الشاب الذي لم
ّ من الخلق ،كنت أبحث عنه بني الناس؛ فقد ملست فيه ،وهو
يجاوز س ّن الثالثني ،إنسانا ً مج ِّربا ً محنَّكاً ،عركته األ ّيام ،وحنَّ َكته التجارب،
صارع األحداث وصارعته ،فتعلَّم من هذا الرصاع الكثري ،فدفعني ّ
كل ذلك
24
إىل محاولة تأصيل الصداقة التي بيننا ،إىل أن أصبحت أرى فيه ،ليس مج َّرد
صديق ،بل أخا ً وزميالً .ومن يومها ،لم يعد بيننا نحن -االثنني -يشء اسمه
بكل يشء يف حياته ،وبدأت أصارحه ّ
بكل خاصة) :بدأ يصارحني ّ ّ (أرسار
كل منا نفسه لآلخر ،فأزحنا الفواصل التي تضعها يشء يف حياتي .كشف ّ
التقاليد املجتمعية بني األفراد .يشء واحد ،لم أعرفه يف حياة سليم ،فأخذت
ِّ
وتعذبني ،لكنها حرية وعذاب من نوع لذيذ .ومبعث ل ّذته تحيني معرفته ِّ
أنك تحاول اكتشاف يشء جديد ،يشء لم يكتشفه غريك ،فتشعر بل ّذة البحث
واالكتشاف ،يف رصاعك مع الحرية والعذاب.
كان رشود سليم ،يف بعض األحيان ،وصمته ،ونظرته إىل ال يشء ،هو ما
يحيني ،هو ما أحاول اكتشافه ،اصطحبته معي يف جوالت خارج املدينة، ِّ
أكثر من م ّرة ،ودعوته إىل زيارتي يف العيادة م ّرات ،ودعاني إىل زيارة
حجته ،يف دعوتي إىل زيارة منزله وتناول الغداء أو منزله مراراً .كانت ّ
العشاء معه ،هي أنني أعزب ،وليست هناك أ ّية التزامات تربطني بأحد،
ثم أنني يف حاجة إىل أكل ما ال يستطيع الرجال طهوه .أخذنا نقيض
سهراتنا معاً ،نحن -االثنني -ال ثالث معنا ،إذا كنّا يف ش ّقتي ،وتكون
زوجته ثالثتنا إذا كنّا يف ش َّقته .كنت ألبّي دعواته غري املتكلَّفة ،وكان يلبّي
دعواتي غري املتكلَّفة ،أيضاً.
25
o=p\8!T
من ترابطنا ،وتزيد متانة تعارفنا ...فالحقيقة أن سليما ً هذا كان يتميَّز،
ع َّمن يف مثل سنّه ،بهذا الصمت والرشود والنظر إىل ال يشء ...تلك النظرة
املستعطفة التي تبعث يف نفسك كثريا ً من الشفقة والحنان عىل صاحبها،
تتمكن ،من وراء ّ
كل َّ فال تملك ّإل أن تحبّه ،وتصادقه ،وتعطف عليه ،لعَلّك
رس الرهيب الذي هذا ،أن تصل إىل أغوار نفسه وأعماق روحه ،فتكتشف ال ّ
ينزوي وراء هذه النظرة الشاردة.
إنه يحلم دائماً ...ينظر إىل ...ال يشء ،يبحث بعينيه ،يف أعماق ماضيه ،عن
أمر ،ويسلِّط نظرات عينيه الواسعتني الكبريتني عىل ال يشء ،أيضاً .كان
ُيكثر من الرشاب ،وكنت أفرح بكثرة رشبه ،وأحيص الكؤوس التي تناولها
بفرحة خبيثة ،ظنّا ً مني أن كثرة الرشاب هذه تساعدني عىل معرفة ِّ
رسه
الشود ،لكن األمر بالعكس ،فلم الخفي الذي يكمن يف أعماق هذه النظرة َّ
ّ
ً ً ّ
يزده الرشب إل صمتا ورشودا ،عكس أمثاله من الناس الذين يجعلهم
َب ود ََّب ،بما يريدون وبما ال الرشب يثرثرون ويتحدَّثون ،إىل ّ
كل من ه َّ
يريدون أن يعرفه الناس عنهم.
كانت هذه الحال التي تعرتي سليما ً تزيد من إلحاحي عىل معرفة ّ
رس
رشوده وصمته وانطوائه عىل نفسه .جعلتني هذه الحال ،حال سليم
املحزنة املؤسفة ،أبحث ،بجدّ ،عن ماضيه ،وأتع َّرف بالسؤال عن حياته
وفكرت يف نفيس :ر َّبما يكون سبب ذلك عقدة من زواجه ،مثالً!، الخاصةَّ ،
ّ
فسألت بعض أقاربه ومعارفه القدامى عن كيفية زواجه ،فعلمت أنه
تز َّوج زوجته الحاليّة ذات الجمال املقبول الهادئ ،من أرسة محرتمة،
ووسط متعلّم ،وأن له ،من هذه الزوجة ،ول َد ْين َ
ذك َر ْين ،اثنَ ْي ،وأن هناك
تقديرا ً واحرتاما ً متبادلَ ْي بينهما ،ولم تفدني هذه املعلومات يف يشء،
فعدت أبحث وأستقيص ،م ّر ًة أخرى ،ع ّما يشغله ،وكيف يعيش حياته
26
الخاصة ،وعن سمعته ومكانته بني الناس ،وعن الذي كان يف ماضيه،
ّ
وماذا يوجد يف حارضه!.
موظف بالدرجة الخامسة، َّ وجاءتني املعلومات التي كنت أريدها :إنه
ويعيش مع زوجته وولديه يف منزل يملكهَ ،و َّفر ثمنه من راتبه املحدود،
توف والده ،بعد زواجه وأنهم يقيمون وحدهم يف هذا املنزل ،بعد أن ِّ
موظف مشكور بأشهر قليلة ،فلحق بوالدته التي تو ِّفيت منذ سنوات ،وأنه َّ
محبوب مخلص يف عمله ،وأن ماضيه نظيف ،لم يحدث ،أبداً ،أن ُس ِّجل
فيه ما يشينه.
كل هذه األمور علمتها عن سليم ،لكنها كلّها لم ُتفدني يف يشء ،و لم
ّ
تبلغني الغاية التي كنت أبحث عنها ..لم توصلني الهدف الذي أرومه
وأبتغيه.
وعدت أفكر ،من جديد ،يف طريقة أخرى .لقد أصبحت حالة سليم تقلقني
كل ما عداها ،وفكرت ...فكرت كثرياً ،إىل أن
وتحريني لدرجة أنها أنستني ّ
اهتديت إىل وسيلة ،فسارعت إىل تنفيذها.
الب ّد أن يكون ،يف حياة سليم املنزلية ،ما يتعبه ،ويربكه ،ويسبِّب له ّ
كل
هذا الصمت والرشود والجمود .لقد قالوا إنه سعيد ،يف بيته ،مع زوجته
والخمس
َ وأوالده ،ولكنني ال أصدِّق مثل هذه األقوال ،فلقد عل َّ َمتني الحياة،
واألربعون سنة التي عشتها ،أن الرجل السعيد يف حياته العا ّمة مع الناس،
الخاصة مع زوجته ،ويف منزله ،والعكس ّ إنما هو ذلك السعيد يف حياته
يف حالة الشقاء والبؤس؛ ذلك ألن الحياة املنزلية هي التي تعكس ظاللها
عىل الحياة العا ّمة ،فإذا صادفك رجل سعيد يف الشارعَّ ،
فتأكد أنه سعيد
شقي يف
ّ شقي يف الشارع َّ
فتأكد أنه ّ يف البيت ،أيضاً .أ ّما إذا صادفك رجل
27
o=p\8!T
املنزل كذلك ،وال يمكن ،أبداً ،أن يكون السعيد ،يف البيت ،شقيّا ً يف الشارع.
الحاجة زينب، ّ تذكرت هذا بدأت أن ِّفذ فكرتي الجديدة ،بإرسال عندما َّ
تأخر ،وم ّر ًة إلعالمه
بني وقت وآخر ،إىل منزل سليم ،م ّر ًة للسؤال عنه إذا َّ
الحاجة زينب إىل منزل ّ أي يشء ،ولو كان تافهاً ،امله ّم أن تدخل عن يشءّ ،
الحاجة زينب عن قصدي من زياراتها املتك ِّررة إىل منزل ّ سليم .لم أخرب
سليم ،إ ّنما تركتها هكذا ،عىل طبيعتها العاد ّية ،طبيعة النساء ،وأنا ِّ
متأكد
من أنها الب ّد أن تحمل يل ،ذات يوم ،أخبارا ً مه ّمة من منزل سليم ،فاملرأة،
ال تستطيع عينها ّإل أن تراقب ،وال تستطيع أذنها ّإل أن تستمع ،وال
يستطيع لسانها ّإل أن يتكلَّم.
ّ
متأخرة ،من منزل سليم ،أكثر م ّما الحاجة زينب ،ذات يوم،
ّ وعادت
تع َّودت ،وسألتها ،حني دخلت ،دون أن ألتفت إليها حتى ال تالحظ اللهفة
املرتسمة يف نظراتي:
وظننت أنني وضعت يدي عىل الخيط الذي كنت أبحث عنه ،فالتفتّ إىل
الحاجةّ ،
بكل جسمي ،وسألتها: ّ
وكيف حال السيِّدة مريم ،هي ووالدها ،إن شاء الله طيبني؟
حاجة؟ ...مريضة؟
وخريها مريم يا ّ
بعيد ال ّ
رش عليها من املرض ،بس هي مش مرتاحة يف حياتها ...مش
مرتاحة يف بيتها.
-إيه ،يا وليدي ...ما تغ ّركش املظاهر ،يا دكتور ...ما من مصايب يف
الدنيا واحنا نجهلها.
حاجة؟ ...ما تخوفينيش من الزواج ...أني كنت َّ
أتفكر نتز َّوج، -كيف يا ّ
زي الناس.ونفتح حوش ّ
حاجة ...احكي
-لكن أنتِ خ َّوفتيني ...كالمك عىل مريم خ َّوفني ،والله يا ّ
يل شنو الحظتِ ؟
29
o=p\8!T
بالحاجة زينب،
ّ وكنت أظنّه سعيدا ً يف بيته ،مع زوجته وولديه ،وإذا
تغي ،من حيث ال تدري ،نظرتي هذه ،وتدفعني، هذه العجوز الشمطاءِّ ،
مرغماً ،إلعادة النظر فيما ك َّونته من آراء حول حياة سليم املنزلية؛ إذ
أفس ما كنت أظنّه ،وأجعله ينطبق عىل ما سمعته منها ،اآلن من كيف ِّ
الحاجة زينب؟!!.
ّ
الحاجة زينب لقد ذهبْتُ عدّة م ّرات إىلّ عجبت كثريا ً م ّما أخربتني به
الحب الذي تكنّه مريم ّ كل م ّرة أملس بنفيس مدى منزل سليم ،وكنت يف ّ
الزوج ْي .وأنا ال أذكر،
َ لزوجها ،ومدى التقدير واالحرتام املتبادلَ ْي بني
م ّرة واحدة ،أنني الحظت أو شعرت بما ين ّم عن كراهية أو نفور بينهما،
الحاجة زينب اليوم؟ ،وب َم أعلِّله؟ كيف أصدِّقّ أفس ما تنقله يل فكيف ِّ
كل ما الحظته وشاهدته أن مريم ،زوجة سليم ،غري سعيدة؟ هل كان ّ
مجرد شكليّات تفرضها الظروف والنظم االجتماعية؟ هل يبلغ الحدّ،
بهذه الظروف والنظم ،أن تجرب اإلنسان عىل التزوير يف عواطفه؟ هل
30
لهذه النظم من الق ّوة ما تستطيع أن ُتظ ِهر به اإلنسان عىل غري حقيقته،
حتى يف إحساساته؟.
أنا ال أكاد أصدِّق ما أسمع ...ال أكاد أصدِّق أن سليما ً غري سعيد يف حياته
الزوجية ...ول َم ال يكون سعيداً؟ وكيف؟ وما سبب ذلك؟
هل ُف ِرضت عليه هذه الزوجة ،التي يعا ّيشها ويعارشها ،فرضاً ،دون
أشك يف ذلك ،ألنني أعرف أنه من ح ّر ّية الرأي ،بحيث الّ رغبته؟ إنني
يفرض عليه يشء رغم إرادته وإذا ُف ِرض أن مريم قد ُف ِرضت عليه فرضاً،
وأُجرب عىل الزواج منها أجباراً ،فلم ال يتخلَّص منها ،بعد أن شعر بعدم
ميله إليها ورغبته فيها؟ ألم يكن الطالق هو الوسيلة الوحيدة التي
تنجيهما من هذا العذاب الذي يعيشان فيه ،إذا صحَّ أنهما غري سعيدين
معاً؟.
بأي
حواس ،لدرجة أنني لم أعد أشعر ّ ّ واستحوذ هذا التفكري عىل ّ
كل
كل يشء :االزدحام ...خلّيّة النحل ...الطنني الذي ال
يشء عداه ..نسيت ّ
يبق يشء أفكر فيه سوىينقطع ...كثرة املرىض ....ماريا ...النافذة لم َ
رس العميق يف حياة سليم.
تمكنني من اكتشاف هذا ال ّ البحث عن وسيلة ِّ
وأخذت هذه الحال تؤ ِّرقني ،وتنتزع النوم من عيني ،وتحرمني الراحة.
وكنت ،يف مثل هذه الليايل الطويلة ،أزيد من عدد الكؤوس التي أتناولها،
أمالً يف أن تساعدني عىل الوصول إىل حلَ ...ح ّل لغز سليم ،والوصول إىل
جذور مشكلته .لكن ،عبثا ً كنت أحاول ،فما إن أجرع الكأس الرابعة أو
وتتبخر معه مشكلة سليم ،والّ َّ
يتبخر سليم من دماغي، الخامسة حتى
أعود ِّ
أفكر ّإل يف يشء واحد :امرأة أقيض معها بقيّة ليلتي ،وعندما أعود يف
كل ه ّمي منصبّا ً يف أخذ قليل من النوم
الساعات األوىل من الفجر ،يكون ّ
31
o=p\8!T
يعيد يل شيئا ً من قواي املنهوكة ،وإذا راودتني مشكلة سليم -وهي قليالً
ما تعاودني يف مثل هذه الحال -أقول لنفيس :ملاذا ال أدع التفكري فيها
حتى الصباح؟ إنني متعب وال أستطيع التفكري ،اآلن ،ثم أنام ،عىل أمل أن
ِّ
أفكر يف إيجاد َح ّل ملشكلة سليم ،يف الصباح .لكن ،متى كان الصباح من
نصيبي ،منذ أن فتحت هذه العيادة؟؟
الحاجة زينب ،حتى يصلني صدى ّ ما إن أستيقظ ،يف الصباح ،عىل صوت
الضجيج الذي ينتظرني يف الصالة ،صالة االنتظار ...ضجيج املرىض
مبكرين أيضاً ،فأنىس ،يف د ّوامة تلك
مبكرين ،وحرضوا ِّ الذين استيقظوا ِّ
الضجة اللعينة الصاخبة سليماً ،ومشكلته ،وزوجته ،وال أعود ِّ
أفكر ّإل ّ
يف الساعة التي أنتهي فيها من الفحص وكتابة الروشيتات ،فحص ذلك
ّ
املصطف الذي ال ُيع َرف له أ َّول ،وال ُيع َرف له آخر ،فحص ذلك الطابور
الجيش الذي ينتظرني ،يف غري ما رحمة وال شفقة.
ثالث سنوات انقضت ،وأنا عىل هذه الحال .وكلّما حاولت التفكري يف سليم
ينسيني إ ّياه ويرصفني عنه ،ويبعده عن محيط تفكريي.انتابني ما ِّ
ثالث سنوات ،بطولها وعرضها ،وأنا يف د ّوامة من أمري ،ال أسرتيح وال
أستج ّم ،إنما هو العمل كالسلسلة ،يأخذ بعضه برقاب بعض .ثالث
ّ
يستحق االهتمام ،إذا استثنيت تلك الحالة سنوات ،لم يحدث خاللها ما
الطارئة التي انتابت سليماً ،ذات يوم ،وجعلته يبكي وينوح بني ّ
يدي كما
تبكي الثكىل وتنوح .وحاولت أن أعرف سبب بكائه ،لكنه لم يصارحني
يلف ويدور كلَّما وجهت إليه سؤاالً ،لكنني كنت أجمع أجاباته
بيشء ..كان ّ
القصرية املقتضبة ،حتى استطعت أن أدرك أن هناك شيئا ً ما ،كان سليم
يتعلَّق ويتشبَّث به ،أُخِ ذ منه رغم إرادته .لكن ،ما هو هذا اليشء؟ ما
32
قيمته؟ هل هو امرأة؟ ال أعتقد ،فهو متز ِّوج .هل هو جاه؟ ال أظ ّن ،فسليم
ليس يف حاجة إىل جاه .هل هو مال؟ ال أعتقد ،فسليم ال يملك كثريا ً من
املال ...لم أدرك كنه ذلك .فلم أُقِم له كبري وزن.
ثالث سنوات انقضت ،وليس ث ّمة ما يخ ِّفف عني التعب والعذاب ،سوى
التفكري ،تار ًة ،يف حال سليم ،والتفكري ،وتارة أخرى ،يف حال مرضاي،
والتفكري بني هذا وذاك يف امرأة تمنحني الدفء.
وفجأ ًة ،وجدتني أعود -م َّر ًة أخرى ،رغم أنفي -إىل التفكري يف حال سليم،
صحته ،وزيادة يفحل ملشكلة سليم ،بعد أن الحظت تدهورا ً كبريا ً يف َّ
ويف ّ
رس الغامض الذي يخفيه رشوده ،وصمته .بدأت أعمل جهدي ملعرفة هذا ال ّ
عني سليم ،والذي خلق منه إنسانا ً صامتا ً رشوداً ،وخلق من زوجته أمرأة
الحاجة زينب) ،امرأة شقيّة غري سعيدة يف بيتها.
ّ مع َّذبة (كما زعمت
فكرت يف مشكلة سليم، أحس بالراحة والهدوء وتجدُّد النشاط ،كلّما َّ
كنت ّ
صحته :لقد اصف َّر
رس رشوده وصمته ،واعتالل ّ وأخذت يف البحث عن ّ
وجهه ،وشحب لونه ،ونقص وزنه ،وتط َّفلت شعريات بيضاء لتز ِّين شعر
رأسه وفو َد ْيه .وكنت أنىس تعب العمل وأنا أنصت إليه وهو يحادثني
أحاديث القصرية املقتضبة ،و -ر َّبما -يعود ذلك إىل خوفه من هفوات
لسانه ،ومن أن يفتضح أمره ،إذا تحدَّث طويالً ،دون ضابط أو رابط.
وخالل هذه السنوات التي قضيناها معاً ،أنا وسليم عبد امللك ،عرفت عنه
الكثري ..الكثري جدّاً ..أكثر م ّما يعرف هو عن نفسه .كنت أدرسه من
الخاصة ..يف حياته العا ّمة ..يف
ّ جميع الوجوه :أدرسه يف عمله ..يف حياته
عالقته بالناس ،..يف صالته بزمالئه ..عرفت أنه من أرسة محرتمة ذات
يرس ،انتقلت من الريف إىل املدينة ُب َعيْد الحرب مبارش ًة ،واعتمد والده
33
o=p\8!T
عىل تجارة يديرها بنفسه ،وأن سليما ً هو االبن الذكر الوحيد لوالديه مع
ست بنات تزوجن جميعه ّن ،وقد حصل سليم عىل التوجيهية ،ثم َّ
توظف
سكرتريا ً إداريا ً بنظارة ( )..وتز َّوج بعد وفاة أ ّمه ،وما إن انقضت بضعة
أشهر عىل زواجه حتى فارق والده الحياة ،فتخلَّص سليم من بقيّة تجارة
شاب محبوب محرتم من ّ مفضالً عليها الوظيف الحكومية ..وهو ِّ والده
جميع الذين يعرفونه أو تربطهم به أوارص الصداقة ،وكذلك هو محبوب
حتى من الذين يسمعون عنه مج َّرد سماع ،ليس غري..
وعند نقطة زواجه ،توقفت قليالً ،أبحث عن الكيفية التي َت َّم بها هذا
الزواج :هل اختار زوجته بنفسه؟ هل اختارها له الغري؟ هل أُرغِم عىل
الزواج منها إرغاماً؟؟.
َّ
وفضلها عىل غريها .لكن ،ما وعلمت أنه لم ُير َغم ،وأنه اختارها بنفسه،
الذي اختاره؟ لقد اختار األرسة والعائلة والسمعة الحسنة ،أ ّما الفتاة
نفسها فهو لم يخرتها ،ألنه لم يختلط بها ،إنما اختاروها له ،شأنه شأن
غريه من شباب هذا املجتمع ..ولم أعلِّق كثريا ً عىل هذه النقطة ،وقلت
الحب الزواج ،فكثريا ً ما يكون
ّ يف نفيس« :ليس رشطا ً أساسيا ً أن يسبق
اطلعت عليهّ ،إل ّ
رس وكل ذلك َّ كل ذلك عرفتهّ ، الحب نتيجة الزواج»ّ ..
ّ
صمت سليم ورشوده الدائ َم ْي ..وعندما عجزت عن الوصول إىل أ ّية
نتيجة حاولت محاولة أخرى ..ا َّتجهت ا ِّتجاها ً آخر :بدأت أتتبَّع مطالعات
يفضلها؟ وعلمت أنه يميل إىل سليم ..ماذا يقرأ؟ ما لون املطالعات التي ِّ
الحب يفضلها عىل ّ كتب األدب ،وأنه مغرم بالقصص العاطفي ..قصص
القصة الواحدة إىل الساعات األوىل من الفجر ،وال ّ غريها ،ويسهر عىل
يدعها قبل أن يفرغ منها ،مهما طالت.
34
وسألته ذات يوم:
ملاذا أنت ِّ
تفضل هذا اللون من القصص ،يا سليم؟
ومن كلمة (تعزية) هذه ،أمسكت بما ظننته موصلني إىل غايتي ..بما
رس ،وفكرت أن -البدّ -يف حياة سليم ُخيِّل إيلّ أنه أ َّول املأساة ..مفتاح ال ّ
أحب أ ّيام زمان،
العاطفية نقطة سوداء ..جانب مظلم ..من يدري؟ ر َّبما َّ
وفضلت عليه سواه..بحب وغراما ً بغرام ،ثم هجرتهّ ، وبادلته فتاته حبّا ً ّ
الحب القديم ،أو ُخيِّل إليه أنه نسيه ،وبعد زواجه ،عاد إليه
ّ ونيس هو ذلك
الغرامي املرشق ..من يدري؟؟
ّ املايض ..ماضيه
ّ
الوضاء ..تلك الفرتة املش ّعة الب ّد أن هناك ما يجثم ما أمامه؛ ذلك املايض
كل هذا الرشود والوجوم ،وبعث يف نفسه هذه الحالة من حياته ،فسبَّب له ّ
من البؤس والشقاء.
كل االقتناع ،حتى صار وحاولت أن أبحث معه املوضوع الذي اقتنعت به ّ
حل مشكلة سليم ..ودعاني ذات يوم -كعادته -لتناول محور تفكريي يف ّ
العشاء يف بيته ،وبعد العشاء (وزوجته لم تكن يف البيت) ،بدأنا َس َمرنا
التغي ..كان يتحدَّث أكثر من ذيُّ املعتاد ،فالحظت عىل سيمائه بعض
قبل ،ويبتسم أكثر من عادته ..كان مرحاً ،فعجبت ،بيني وبني نفيس،
وقلت« :الب ّد أن يكون يف األمر يشء» ،وبحثت عن طريقة أج ّره بها إىل
35
o=p\8!T
-أنا...
-أنت؟ إنك لست طبيبا ً نفسانياً ،عىل ّ
كل حالِّ ...
أؤكد لك أنك واهم...
-في َم وهمي؟
تغيا ً يف حالتك قد حدث ،وهذا هو ما يه ّمني أنا ...أ ّما -أنت توافقني أن ُّ
التغي فهو ال يه ُّمني يف كثري أو قليل.
ُّ مبعث هذا
-وهل لك اعرتافات؟
-نعم ...ليس هناك من ليس له اعرتافات ،يعرتف بها بينه وبني نفسه،
ّ
األقل. عىل
ويسجل اعرتافاته.
ِّ -أن يعرتف اإلنسان،
-ح ّقاً؟
-غري أن هذه االعرتافات ال تكون لها أ ّية فائدة إذا لم َّ
يطلع عليها الناس...
37
o=p\8!T
أي فرق بني أن تبقى هذه االعرتافات يف خزانة كتبك أو يف ليس هناك ّ
خزانة عقلك .ليس امله ّم -يا سليم -أن يعرتف اإلنسان ،بل امله ّم أن يدرك
رسه.
اطلع عىل ِّأن هناك من َّ
-ماذا تقصد؟
-أقصد أن يقرأ الناس اعرتافاتكّ ،
وإل فوجودها وعدمها سيّان.
39
o=p\8!T
-من قال هذا ،أو أشار إليّه؟ ..إنني أعمل ما فيه خري نفيس ،وليس من
الرضوري أن يكون يف ذلك نفع لغريي.
-قد يكون ،أو ينتج عن ذلك رضر باآلخرين ...ولو لم تقصد إليه.
-إن للمجتمع يف ذلك دخالً كبرياً ...إن املجتمع هو الذي يق ِّرر هذا املعنى،
رش ،وليس اإلنسان الفرد.ويضع الحدود والفواصل بني الخري وال ّ
-وما هو املجتمع؟ ...وم َّمن يتك َّون؟ ...أليس مني ومنك ومن اآلخرين؟
فلماذا أنا وأنت نضع حدودا ً تح ّد من ح ّرياتنا الفردية؟
-نحن مضط ّرون -شئنا أم لم نشأ -للخضوع لهذه األحكام ،مهما بلغت
من الجور والظلم.
-أنا ال أق ّرها ،وال أؤمن بها ،و-من َث َّم -ال أخضع لها ،ألنني إنسان ...فرد
وترصفاتي.
ُّ غري مقيَّد ...إنسان ح ّر يف جميع أعمايل
40
-أنت ح ّر ..هذا صحيح ،وال يناقشك يف ذلك أحد .لكن...
-لكن ماذا؟
-لكن ح ّريتك محدودة بحدود ح ّر ّية اآلخرين ...ح ّر ّية الذين يعيشون
معك يف هذا املجتمع.
-وملاذا ال يق ّره؟
حب ينشأ بني ألن املجتمعات البرشية تواضعت عىل أن يعقب الزواج ّ
كل ّ
اثنني ،فهل أنت مستع ّد للزواج من فتاتك هذه؟
41
o=p\8!T
-ال.
-ملاذا؟
-ألنني ال استطيع.
قال سليم هذا الكالم ،ثم عاد إىل الصمت والرشود ،م ّرة أخرى ،وحاولت
أن أنتزعه من رشوده وصمته ،وأن أعيده إىل حالة املرح واالنرشاح ،فلم
أو َّفق .وهنا ،قمت عائدا ً إىل بيتي .وهناك ،يف بيتي ...يف ش ّقتي بدأت ِّ
أفكر
الحب الذي تكلَّم عنه سليم؟ ما نوعه؟ ما كنهه؟ أهو
ّ من جديد :ما هو هذا
حب مباح ،وهو يحتاج إىل الشجاعة يف اإلعالن عنه؟ حب مح َّرم ،أم أنه ّ
ّ
توصلت إليه ،يف املايض ،من استنتاجات ،لم يكن سوى مج َّرد كل ما َّإن ّ
تخمني ...مج َّرد تخ ُّيالت ...ليس هناك ما يدعمها من واقع ،أو ما يسندها
من حقيقة ...اعتقدت ،بادئ ذي بدء ،أن يف حياة سليم حبّا ً قديماً ،أو
(الحب األول) ،تراكم عليه تراب النسيان ،وغاص إىلّ ما يطلقون عليه
يحس به ،وفجأ ًة ،يطفو عىل
ّ األعماق السفىل ،حتى لم يعد سليم يشعر أو
السطح ،هذه األ ّيام ،ويعلن ،يف رصاحة ،عن وجوده ،فيسبِّب لسليم ّ
كل
هذا الرشود والصمت والكآبة...
تكذبه ...وإذا بالواقع يس ِّفهه ...إن سليما ً
اعتقدت ذلك ،وإذا بالحقيقة ِّ
الحب يشء مباح...
ّ الحب عيب أو حرام؟ .ال ...أبداً ،إن
ّ يحب اآلن ...وهل
ّ
إنه اليشء الوحيد الذي ييضء ليالينا ،وينعش أ ّيامنا ،ويمأل حياتنا ،ويبعث
42
الحب هو اليشء الوحيد يف هذه الحياة الذي يشعرنا ّ الدفء يف قلوبنا ...إن
بوجودنا ،ويشعرنا بإنسانيتنا ،ويجبِّب الحياة إلينا ،غري أن سليما ً ّ
يحب
حبّا ً يكاد يكون مح َّرما ً عليه ،ملاذا؟ .أَلِ نه متز ِّوج وله ولدان اثنان ،وهو ال
يستطيع أن يرتك زوجته ويتز َّوج غريها ...هذه التي يحبّها؟؟ هل هناك
ما يحول دونه ودون القيام بهذه العملية السهلة البسيطة ،يف نظر بعض
الناس؟ وما هي هذه املوانع؟ .هل هي موانع ما ّد ّية؟ .وهل عدم تو ُّفر
املادّة (الفلوس) هو ما يمنعه من تطليق زوجته والزواج بأخرى؟ وهل
يمكن لحياة زوجية أن تثمر ...أن تستمر إذا كان ال يربطها ّإل خيط
رقيق رسعان ما ينقطع إذا تع َّرض للواقع ،وإذا تو َّفرت املادّة؟ وأ ّية حياة
زوجية هذه ،إذا كان ما يربط أفرادها ال يتعدّى عن عدم توفر املا ّد ّيات؟
ّ
وأقل ّ
أخف منها شقاءً، ّ
الشك يف أن الطالق إن حياة زوجية مثل هذه،
تعاسة.
ماذا يمنع سليماً ،أو يحول دونه ودون تطليق زوجته ،والزواج من
غريها؟ من هذه التي يحبّها؟ .إن الدين اإلسالمي يبيح له الزواج ،ولو
مئة م ّرة ،وغريه كثريون تز َّوجوا ،وطلَّقوا لغري ما سبب ،أو ألسباب تافهة
جدّا ً ال معنى لها ...فكيف؟ وملاذا هو ال يستطيع؟؟
يحب زوجته ،لدرجة ال يستطيع االستغناء عنها؟ ،وإذا كان يحب ّ هل
أح َّب معها غريها؟ هل يمكن لإلنسان أن زوجته لهذه الدرجة ،فكيف َ
يحب اثنني يف آن واحد .يف وقت واحد؟ ...أنا لم أج ِّرب هذا ،لكنهم يقولون
ّ
يحب ّإل شخصا ً واحداً ...وإذا
ّ يحب ّإل م ّرة واحدة ..وال
ّ إن القلب ال
كان سليم ال يحب زوجته ،فلماذا ال يتخلص منها ...يطلِّقها ليسرتيح
وتسرتيح هي -أيضاً -بدال ً من هذا الشقاء الذي يعيشان فيه؟؟
43
أسئلة كثرية أخذت ترد إىل ذهني يف ليلتي املط َّولة تلك ،التي لم أذق فيها
ألي منها ...لقد كانت طعما ً للنوم والراحة .وعبثاً ،حاولت أن أجد الجواب ِّ
أوجهها إىل نفيس ،دون أن انتظر منها جواباً ...وأخرياً ،قلت إنه الب ّد
أسئلة ِّ
رس آخر ،ال زال يخفيه عني ،ولم تساعده كربياؤه أن يكون يف حياة سليم ّ
عىل البوح يل به ،والب ّد أن يكون هذا الرس شيئا ً مقدَّسا ً لديه ،فإذا أردت،
رس ...من رفع الستار فعالً ،أن أصل إىل نتيجة ،الب ّد يل من كشف هذا ال ّ
رس ،وما ذلك الستار سوى تلك االعرتافات التي قال إنه الذي يخفي هذا ال ّ
فرغ من كتابتها حديثاً ،فواجبي ،اآلن ،ينحرص يف قراءة االعرتافات ،مهما
رس يكمن وراءها ...إنها مفتاح الصندوق املغلق... كلّف الثمن ...إن ال ّ
إنها الطريق نحو معرفة الحقيقة التي أتعبت نفيس يف الجري وراءها،
وأرهقت عقيل يف سبيل إزاحة الستار عنها.
ومن يومها ،بدأت أحاول جهدي للحصول عىل تلك االعرتافات وقراءتها،
للشك ،أن أمرا ً ما تخفيه هذه االعرتافات.
ّ تأكد عندي ،بما ال يدع مجاال ً
فقد َّ
وقصة شقاء زوجة سليم ،ليس هناك ما يزيل عنهما حب سليم ّ قصة ّ أن ّ
الستار ويع ِّرضهما للضوء ،سوى معرفة ما َخ َّطه سليم يف هذه االعرتافات.
45
o=p\8!T
الحل الذي لم أنتظره ،فقد سقط سليم ،ذات يوم، ّ بالح ّل...
وجاءتني األ ّيام َ
مريضاً ،وكان مرضه عىل درجة كبرية من الخطورة ،واس ُتدعيت لعيادته.
كل يشء،وهناك ،فوجئت بأن الحالة تستدعي بقائي إىل جواره ،وتركت ّ
مرضاي وعيادتي وسهراتي ومغامراتي ،مالزما ً رسير َ ونسيت ّ
كل يشء:
سليم كثريا ً من ساعات النهارّ ،
وكل ساعات الليل ،ال أفارقه ّإل يف الحاالت
التي ال تتح َّمل التأجيل ...واشتدّت عليه الح ّمى ذات ليلة ،وارتفعت درجة
حرارته إىل ما فوق األربعني ،وشعرت بخطر املوقف ،فاستدعيت له طبيبا ً
آخر .وبعد الفحص ،طمأنني عىل نتيجة الدواء الذي وصفه يل ،وما إن
خرج الزميل حتى أخذ سليم يهذي بكالم ،لم أستطع تمييزه ...حاولت
ِّ
متقطعة تتد َّفق من فمه ،ال تربط أن أفهمه فلم َّ
أتمكن؛ كان مج ّرد كلمات
تمكنت من جمعه، كل ما َّبينها رابطة ما ...كلمة من هنا ،وكلمة من هناّ ،
ِّ
املتقطعة املتناثرة ،هو قوله ..« :سامحيني ،يا مريم.. من هذه الكلمات
الوداع يا عبد الكريم ..الوداع يا محمود (عبد الكريم ومحمود هما ولداه).
46
أنا راحل ..سنلتقي هناك يا »...وحاولت أن أفهم هذا االسم الذي يهتف
أتمكن أيضاً.
به ،وبعده باللقاء فلم َّ
ظننت أن هذا االسم الب ّد أن يكون اسم تلك التي قال إنه يحبّها ،وال
يستطيع أن يتز َّوجها ..ترى ،من تكون؟ أهي قريبته؟ .أهي من جنسه ،أم
تراها إحدى األجنبيات ،تع َّرف إليها ،كما تع َّرفت أنا إىل ماريا ذات يوم؟
ورحت يف د ّوامة من أمر هذه ،التي يعدها باللقاء هناك ..يف السماء ،إىل أن
كانت الساعة تشري إىل الخامسة والنصف صباحاً ،دون أن أشعر بمرور
التحسن .حمدت
ُّ الوقت ،عندما أخذت درجة حرارته يف الهبوط وحالته يف
الله كثريا ً حني فتح عينيه ووجدني إىل جواره ،فطلب مني أن أناوله كأسا ً
من املاء ،ثم سألني قائالً:
-أبداً ...كانت حالتك يف خطر ...ولكن ،الحمد لله ،لقد زال اآلن.
47
o=p\8!T
ال تصدِّق ما يقوله األطبّاء ،رغم أنك واحد منهم ..اإلنسان طبيب نفسه،
أشعر أنني عىل أبواب النهاية التي يقولون عنها ،وليس يل ما ِّ
أفكر فيه
املحب الحنون ،بعدي.
ّ سوى محمود وعبد الكريم فكن لهما األب
وصمت سليم قليالً ،ثم َم ّد يده تحت وسادته ،فأخرج ك ّراسا ً يف حجم
الكراسات املدرسية ،ثم ناولني إ ّياه قائالً:
هذه هي اعرتافاتي التي قلت لك إنني فرغت من كتابتها منذ أ ّيام قالئل،
اقرأها متى شئت ،أنا أعرف أنك متلهِّف عليها ،وافعل بها بعدي ما تشاء:
م ِّزقها ..احرقها ..احتفظ بها للذكرى ..انرشها عىل الناس ،ال يه ّمني ما
تفعله بها بعدي ،امله ّم أن تقرأها ليسرتيح ضمريك ،وحتى تقف عىل
حيتك كثرياً ،وأتعبتك كثرياً ،وأجهدت نفسك وراء الوصول الحقيقة التي َّ
إليها.
الخاصة ،إىل
ّ -من قال لك هذا؟ من قال لك إنني مهت ّم بمعرفة أرسارك
الحدّ؟؟.
هذا َ
-أنا أعرف ّ
كل يشء ..قل يل :أين مريم؟
بتحسن حالتك.
ُّ أحست
-ذهبت إىل فراشها منذ قليل ،حني َّ
-مسكينة هذه املرأة ،لقد كانت ضحيّة مثل غريها من النساء كثريات..
ليتها تسامحني.
48
صحتك أ ّوالً ،ثم ك ِّفر عن
-دعك من التشاؤم ،يا رجل ،وحاول إن تسرت ّد ّ
سيِّئاتك ،إن كانت لك -فعالً -سيِّئات.
وكانت الساعة تشري إىل الثامنة صباحاً ،عندما ودَّعت سليماً ،وخرجت
نئ عليه بعض االطمئنان ،فذهبت إىل عيادتي أستقبل من بيته ،وأنا مطم ّ
أحس
ّ الطابور الذي ينتظرني ،منذ ساعة أو أكثر .كنت طوال ذلك اليوم
بالعطش واللهفة إىل قراءة تلك األرسار التي جئت أحملها من سليم ..تلك
األرسار التي أتعبتني وأجهدتني اليشء الكثري ،وأسهرتني الليايل الطوال..
أحس بلهفة لقراءة اعرتافات سليم عبد امللك التي س ّماها «اعرتافات
ّ كنت
إنسان» ،لكن كثرة املرىض ..االزدحام ..طوابري الهياكل اآلدمية التي يأخذ
بعضها برقاب بعض ،حال دوني ودون ما أريد .إىل أن كان املساء ،عندما
أغلقت العيادة وخلوت إىل نفيس ،وسحبت ذلك الك ّراس املدريس ،وهممت
بفتحه ..بل فتحته فعالً ،وبدأت أقرأ:
3يناير
لست أدري ملاذا لم...
رن جرس وقبل أن أسرتسل يف القراءة ،تكلّم ذلك األخرس اللعنيّ ..
التليفون ليقطع تسلسل أفكاري ،وليحول دوني ودون متابعة القراءة..
َّ
وفكرت يف ّأل أردّّ ..أل أرفع الس ّماعة ،لكن الجرس لم يتو َّقف ،والرنني
لم ينقطع ،فوجدتني مضط ّرا ً لتناول الس ّماعة ،وأنا ألعن (سنسفيل)
التليفونات ،هذه اآلالت الخرساء التي تعودت إزعاجنا بني الحني والحني،
ورغم ذلك ،نحن ال نستطيع االستغناء عنها بعد أن أدخلتها املدنيّة
49
o=p\8!T
-ألو..
نسائي يقول:
ّ وجاءني صوت
-نعمّ ..
تفضيل ..أ ّية خدمة؟
وظننت أن مريضا ً جديدا ً أصيب ،فجأ ًة ،بمرض ما ،وخاف عليه ذووه،
فلم ينتظروا حتى ترشق الشمس خوفا ً من أن يغادر الحياة قبل أن يحني
يفكروا يف أوضاعي أجله ببعض ساعات ،فأرسعوا يتَّصلون بي دون أن ِّ
أي وزن لحياتي الخاصة ومشاكيل الشخصية ،ومن غري أن يقيموا ّ ّ
ومتاعبي .وتمنَّيت ،يف تلك اللحظة ،لو لم يكن هذا الجهاز امللعون ..هذه
اآللة الخرساء،؛ إذن ملا كان هناك من يزعجني يف أوقات راحتي القليلة،
التي كنت أرسقها رسقة ،وأعتربها غنيمة كلّما جادت عيلَّ السماء بقليل
منها.
كل ذلك ،ولم أتص َّور ،أبداً ،أن يكون الخرب أش ّد من ّ
كل هذا تص َّورت ّ
ّ
تتجل الكآبة يف قسو ًة ،وأكثر مرارة ،فما لبث ذلك الصوت النسائي ،الذي
نرباته ،أن عاد يقول:
(دشاً) باردا ً قد ُ
ص َّب عىل أ ّم رأيس ،فتلعثمت قبل أن أسألها: وشعرت كأن ّ
50
-خري إن شاء الله ..ماذا هناك ،يا سيِّدتي؟ .كيف حال سليم؟؟
-حالته يف خطر يا دكتور ..وهو يسأل عنك ..يريد أن يراك ..أرجوك أن
ترسع بالحضور إليه ..أرجوك.
تحجرت الكلمات يف فمها ،فرميت َّ وغلَبَها البكاء ،فلم تكمل حديثها..
السماعة من يدي ،وأرسعت أرتدي مالبيس بحركة آليّة ،وأُرسع إىل منزل
سليم ،ويف اعتقادي أنه قد مات ،أو أنه عىل وشك أن يموت ،وكنت منفعالً
الصبْية ،بالسيارة ،يف الطريق ،لوالجدّاً ،لدرجة أنني كدت أدوس أحد ِّ
لطف الله ..وما إن بلغت املنزل ،وضغطت عىل الجرس ،حتى فتحت
مريم وآثار دموع ساخنة ترتسم عىل وجهها ،وأشارت بيدها بأن ألتزم
أحس بأن هناك
ّ الصمت ،فدخلت حجرة سليم عىل أطراف أصابعي ،وأنا
شيئا ً ما ينتظرني ..شيئا ً ال أعرفه ..مفاجأة من مفاجآت هذه الحياة التي
بكل جديد طريف. ما فتئت تداعبنا بها بني الحني والحني ،فتمدُّنا ّ
وجلست عىل مقعد بجوار رسير سليم ،أفحص نبضه ،بينما جلست مريم
عىل حا ّفة الرسير الذي يرقد عليه زوجها يف شبه إغفاءة ،وبدأت املرأة
تتكلَّم بصوت ضعيف محزون ،فقالت:
بمج َّرد أن خرجت من هنا ،يا دكتور ،عاد إىل نومه ،م ّر ًة أخرى ،فشعرت
بيشء من االطمئنان ألن النوم ـ كما يقولون ـ داللة الصحة ،وطالت
نومته تلك ،فلم يستيقظ إالّ حوايل السادسة مساءً ،وبدأ يبحث عنك،
ويسأل إىل أين ذهبت ،وملاذا ذهبت .حاولت أن أعرف ماذا يريد منك فلم
أستطع .كان يطلب ،ويلحّ يف طلب مقابلتك .دون أن يبدي يل األسباب،
كل ما استطعت أن أفهمه منه،ومن غري أن يفصح ع ّما ي ّود أن يقوله لكّ .
رس ما.
هو أنه يريد أن يفيض إليك ب ٍّ
51
o=p\8!T
-صارحني بأنه...
-ملاذا ّ
كل هذا الخجل؟ اعتربيني يف مقام والدك ،إذا كنت أنظر إىل سليم
كأخ يل وصديق ،فإنني أنظر إليك أنت وكأنك ابنتي ،ويه ّمني أن أراك
يحب
ّ مسرتيحة يف حياتك مع زوجك ..ماذا قال لك سليم؟ هل قال إنه
امرأة أخرى؟
52
لم تتمالك املرأة نفسها ،عندما سمعت هذه الكلمة مني ،أقولها ّ
بكل هذه
الرصاحة والبساطة ،فأجهشت بالبكاء ،وقامت تغادر الحجرة .وبقيت
وحدي أنظر إىل الرجل املمدَّد عىل الرسير ،دون أن أفوه بكلمة ما ،ومن
غري أن يستق ّر فكري عىل ناحية أو نقطة ،بالذات .و َم ّر ما يقرب من
نصف ساعة بعد خروج مريم ،ثم فتح سليم عينيه ،ونظر حوله ،كأنه
ي ِّفتش عن شخص َّ
معي ،وما إن وقع برصه عيلَّ أنا ،حتى ابتسم ابتسامة
صفراء باهتة ،ال لون لها ،وال معنى ،وطلب مني أن أساعده عىل الجلوس،
فأجلسته دون أن يجرؤ أحدنا عىل بدء الحديث ،وـ أخريا ً ـ قلت:
-وبماذا صارحتها؟
53
o=p\8!T
-سوف لن أقرأها ،أبداً ،عىل هذا األساس ،ألنك سوف لن تفارق الحياة.
-دعك من املراوغة .أت ُعِدني بذلك؟ هذا ّ
كل ما أريده منك ،يف ساعاتي
األخرية.
تحب
ّ -حسنا ..أعاهدك ،وأمري لله ..لكن ،قل يل :ملاذا قلت ملريم إنك
غريها؟
ونهض الرجل واقفا كاملارد ،وكأنه لم يكن مريضا ً ميؤسا ً منه ،وبعد
برهة قال:
ّ
لتكف عني أسئلتها املتك ِّررة. قلت لها ذلك
وعاد إىل الجلوس عىل حافة الرسير ،وما إن سمعت كالمه حتى لم أعد
أتمالك نفيس من الدهشة ،فناديت( :مريم ..مريم).
-عال َم تشكرني؟
54
-عىل أن ما قلته لها لم يكن سوى وسيلة منك للتخلُّص من أسئلتها.
وسألت هي:
-التخلُّص من ّ
أي يشء؟
وغادرت منزل سليم ،عائدا ً إىل ش َّقتي ..إىل مرضاي ..إىل أحبابي ،رغم
ما يسبِّبونه يل من إزعاج ،ويف نيَّتى ّأل أقرأ اعرتافات سليم ّإل يف إحدى
حالتني :إذا فارق سليم الحياة ،أو إذا شعرت بقرب نهايتي أنا.
55
ومضت سنة :اثنا عرش شهراً ..سنة قضيتها فيما تع َّودت أن أقيض فيه
أفكر يف سليم وال يف اعرتافات سليم ،بل كدت أنىس أوقاتي ،ولم أعد ّ
مشكلة سليم ،بتاتاً ،لوال لقاءاتي به ،بني الفينة والفينة ،التي كانت تعيد
إىل ذاكرتي لون ذلك الك ّراس ،والجهد الذي بذلته يف الحصول عليه .وهنا،
آمنت أن سعادة اإلنسان تكمن يف الفرتة التي يجري فيها وراء الحصول
عىل يشء ،فإذا حصل عىل ذلك اليشء زهدت فيه نفسه وقلَّت قيمته يف
نظره؛ فكم جريت وراء هذه االعرتافات! وكم شقيت! وكم تعبت! وكم
سهرت! وكم رسمت من خطط ،ملج َّرد أن أطلَّع عليها! واآلن ،ها هي ذي
يدي ..تحت ترصيف ،فما يمنعي من قراءتها؟ هل هو مج َّرد الوعد بني ّ
الذي قطعته عىل نفيس لسليم؟؟ (طظ) يف الوعود إذا كانت تحول دوني
خاصة ،أن اإلخالل بمثل هذا الوعد البسيط ّ ودون يشء ألهث وراءه،
ألي كان.
أي رضر ّ اليرت َّتب عليه ّ
لكن ،تلك هي طبيعة اإلنسان ،يجري ويتعب ويشقى ،للوصول إىل غاية
تبخرت ل ّذة االنتصار.
ما ،فإذا وصل إليها ..إذا نال بغيته َّ
57
o=p\8!T
كل سنة، فمنذ إن تخ َّرجت ،تع َّودت أن أقيض شهرا ً من أشهر صيف ّ
يف إحدى بلدان أوروبا ،للراحة واالستجمام ،والسرتجاع قليل من الق ّوة
كل سنة ،بعيدا ً عن أ ّية مسؤولية ،متمتِّع
والنشاط .تع َّودت قضاء شهرّ ،
أحس بأنني إنسان شاعر بوجودي ،ألني أتمتَّع ّ
بكل ّ بكامل حر َّيتي..
حر َّيتي ،وال أعيش داخل قوقعة مغلقة ،يف مجتمع متز ِّمت ،ال تدخلها
الشمس ،وال يصلها النور والهواء.
كل سنة ،أنتقل خالله من زهرة إىل زهرة ،وكأنني تع َّودت قضاء شهر من ّ
تمتص الرحيق ،وتتغ ّذى برضاب الزهور ،فأشعر ،آنذاك ،بأنني ّ فراشة
ح ّر غري مرا َقب من أحد ،وال محجوز عىل ح ِّر َّيتي :ال يحاسبني أحد ع ّما
أفعل سوى ضمريي ،وال يتتبَّعني أحد من املتط ِّفلني الذين اله َّم لهم ّإل
املراقبة واملتابعة ملعرفة :فالن أين قىض سهرته ،وع َّلن أين ذهب بسيارته،
ومن هي التي كانت تجلس إىل جواره .لكأنهم مكلَّفون بتقديم تقارير عن
وترصفات عمرو ،أو لكأنهم من أفراد بوليس األداب الذين ُّ تح ُّركات زيد،
ال يهت ّمون بك إالّ إذا كانت بجوارك امرأة ،ولو كانت زوجتك أو أختك.
ويف سنة ،1958اخرتت مدينة باريس لقضاء عطلتي الصيفية ،ال ألنني
لم أ َرها من قبل ،وال ألنني لم أزرها سابقاً ،بل ألن يل فيها (جانيت)
الشقراء ،تنتظرني هذا العام ،بحسب وعدي ،الذي قطعته عىل نفسيه منذ
سنتني اثنتني.
ّ
يطل ذهبت إىل باريس ،ونزلت الفندق الذي تع َّودت أن أنزل فيه ،وهو
عىل نهر السني العريق ..ووجدت (جانيت) يف انتظاري ،ويف رشفة الفندق
والحب ،جلست أطالع بعض القصص، ّ املطلّة عىل مدينة النور والجمال
58
ذات ليلة ،وأقرؤها بصوت عا ٍل ،حتى تسمعها الفتاة التي تجلس إىل
جواري.
-ال يشء...
-لعلك ِّ
تفكر يف فتاة غريي!
-عندما أكون معك تع َّودت ّأل أفكر إالّ فيك أنت ،فحسب.
59
o=p\8!T
-إنه يس ّميها «اعرتافات إنسان» ،وما أظنّكم ،هنا ،يف باريس ،تهت ّمون
ّ
اإلفريقيي يف باإلنسانية ،يف كثري ،أو حتى يف قليل .دعي الرشقيّني أو
الخاصة.
ّ الزج بنفسك يف مشاكلهم
حالهم ،وال تحاويل ّ
بأل اقرأها ّإل إذا مات ،ونحن ـ العرب ـ نحافظ عىل وعودنا.
-لقد وعدته ّ
-كيف؟
بأل اقرأ اعرتافاته ّإل يف حالتني :إذا مات هو ،أو إذا شعرت
-لقد عاهدته ّ
بقرب نهايتي أنا ...وكالهما لم يحدث بعد.
-حتى لو سلَّمت معك بهذا الفرض ،فال أعتقد أن الرشفة مكان صالح
أفكر يف املوضوع. َ
تعال ندخل الحجرة ،وهناك يمكنني أن ِّ للقراءة..
-في َم التفكري؟
-ألم أقل لك أنني وعدت ،وال يمكنني أن أخلف وعدي ،بسهولة؟ لكن،
معك ألف ّ
حق؛ فأنتم ،هنا ،ال تعرفون قيمة للوعود والعهود.
وسحبتني من يدي إىل داخل الحجرة ،وبعد أن أغلقت الباب تمدَّدت عىل
61
o=p\8!T
الرسير مسندا ً رأيس عىل الحائط ،بينما تمدَّدت هي إىل جواري ،ووضعت
رأسها ،بشعره الذهبي الالمع ،عىل حجري ،فتناولت ّ
الكراس الذي تركته
ذات يوم منذ سنة ،وبدأت أقرأ:
3يناير
لست أدري ملاذا لم أتز َّوج حتى اآلن! إن أكثر أصدقائي وأحبابي قد
تز َّوجوا منذ سنوات ،وهم يقاربونني يف العمر ،فمثالً :أين أحمد ومحمود
وخالد وإبراهيم؟ ألم نكن ندرس معاً ،يف سنة واحدة؟.
أين هم اآلن؟ لقد أصبح ّ
لكل منهم بيت وأرسة وأوالد ،فلماذا ال أتز َّوج أنا،
متأكد من أنني لو تز َّوجت لكنت أسعد ،يف حياتي الزوجية، أيضاً؟ إنني ِّ
كل أصداقائي هؤالء؛ فما أعرفه عن هذه الحياة أكثر م ّما يعرفون. من ّ
فألفكر يف الزواج ،بصورة ج ّد ّية ،وألبحث عن زوجة ،زوجة مثالية مثل
ً
ومعرفة ً
ثقافة تلكم الزوجات الالتي أتخيَّله ّن يف عقيل ،زوجة تقاربني
واطالعاً ،وتقاربني تم ُّردا ً عىل األوضاع ..زوجة تفهمني كما أفهمها، ِّ
وتعرفني كما أعرفها ..زوجة تأخذ بيدي إىل الحياة الهانئة التي أريدها؛
كل زوجني يف حياة متح ِّررة من القيود واألغالل واألوهام التي تكبِّل حياة ّ
هذا املجتمع ،الذي ال يزال يعيش عىل الفضالت ،ويحيا وسط د ّوامة من
الخرافات.
ما هذه القيود التي يتحدَّث عنها صاحبك ،ويقول إنها تكبِّل حياتكم
62
الزوجية؟ كنت أعتقد أنه ال يوجد بينكم ،يف بالدكم ،من يعري مثل هذه
أي اعتبار .كنت أعتقد أن ه َّمكم الوحيد ينحرص يف البحث عن النواحي ّ
أنثى ..مج َّرد أنثى تبيت إىل جواركم فتد ِّفئ فرشكم و..
-ذلك عهد مىض ،ولن يعود .إن حياتنا يف تط ُّور مستم ّر ،وأنت ال تزالني
تتحدَّثني عن عهد أبي نواس ،رحمه الله.
-ونب ُّيكم ،ألم يجمع يف عصمته ستّ نساء أو سبع ،يف وقت واحد؟
63
o=p\8!T
آيات البذل.
وعدت أقرأ:
17يناير
3فرباير
والدي ،هو اآلخر ،يحثّني عىل الزواج حثًّا ،ويرى ـ كما أرى أنا ـ أنه أمر
رضوري ،يل وله ،وهو ال يريد أن يفرض رأيه يف مثل هذه املسائل.
ّ
شك ـ تكاليف باهظة ،غري أنني بقيت تكاليف نفقات الزواج ،فهي ـ ال ّ
مدخر كفيل بأن يريحني من التفكري يف هذه لدي من مال َّ أعتقد أن ما َّ
موظف منذ أكثر من أربع سنوات ،ومر َّتبي ال بأس به، الناحية ..إنني َّ
مبذرا ً أو مرسفاً ،ولقد وضعت مرشوع وأبي ال يأخذ مني شيئاً ،وأنا لست ِّ
زواجي نصب عيني ،منذ أ َّول يوم دخلت فيه التوظيف ،فلماذا كنت أتعب،
كل متعة ،إن لم يكن ذلك من أجل تكوين أرسة وأشقى ،وأحرم نفيس من ّ
وبناء بيت؟ وها هو ذا الوقت قد حان كي أقيم البيت ،وأك ِّون األرسة.
ّ
الشك يف أن نفقات الزواج باهظة ،وأنا ال أعتمد عىل والدي يف هذه النقطة،
َّ
فألتوكل عىل الله. لكن هذا ليس مربّرا ً لعدم إتمام زواجي...
65
o=p\8!T
-ما هي إذن؟
-ال ،أبداً .الدين اإلسالمي أسمى من أن يفعل ذلك ،لكنها العادات التي
نشكو ون ّ
نئ منها.
وعدت أقرأ:
15فرباير
حق ،حني قال يل« :يجب عليك ـ يا سليم ـ أن تختار زوجتك أبي عىل ّ
تخصني ،وال يريد أن يتح َّمل
ّ بنفسك» .إنه ال يريد أن يفرض رأيه يف مسألة
66
مسؤولية ما قد يحدث يف املستقبل ،وهو ع َّودني عىل تح ُّمل مسؤولية
أعمايل وأقوايل وأفعايل ..منذ الصغر وهو ير ّبيني تربية ديموقراطية
كل دوره فيها التوجيه واإلرشاد ،يحاول ،دائماً ،أن يشعرنيمحضةّ ،
ألحس بوجودي.
ّ بح ّر َّيتي،
الدور ـ إذن ـ دوري أنا .املهمة مه َّمتي أنا ..املسؤولية مسئوليَّتي أنا،
وال أحد يشاركني يف تح ُّمل املسؤولية .أنا الذي يجب أن أختار ،وأبحث
عن الفتاة التي أعتقد أنها ستكون زوجة صالحة يل .لكن ،ما الطريق إىل
ذلك؟ كيف أختار زوجتي؟ كيف أعرفها؟ كيف َّ
أطلع عليها ،والعرف ،ال
ّ
الحق اإلنساني البرشي الوجودي؟؟. الدين ،يمنعني من مزاولة هذا
إن االختيار عندي أنا ال يعني الشكل واللون واألرسة ،فحسب ،ففي هذه
الحالة يهون األمر ،لكن االختيار ،يف نظري ـ بحسب فلسفتي ـ يتناول
مسائل أخرى ال ّ
تقل أه ِّميّة عن مج َّرد الحسب والنسب والجمال :إنه
يعني معرفة امليول والذوق والفكر والعقل واإلدراك..
أنا ال أبحث عن مج َّرد الجمال ،ألنني من الذين يقنعون بجمال (بني بني)،
إن ما أبحث عنه ..ما ال أتنازل عنه ..ما ال يمكنني االعتماد فيه عىل أحد..
اليشء الذي يه ّمني ،وال يجوز أن أكون معتمدا ً فيه عىل ذوق غريي وخربة
سواي ،هو أن تكون زوجتي التي ستشاركني أعباء هذه الحياة ،مدّة
الحياة ،تحمل من اآلراء مثل ما أحمله ،وتعتقد مثل ما أعتقد ،وتؤمن بما
أؤمن أنا به.
67
o=p\8!T
ر ّبما ،هناك كثري من الفتيات يحملن مثل هذه القيم واملفاهيم التي
أحملها .لكن ،أين هّن؟ أين أجده ّن؟ من يدلُّني عليه ّن؟
تكلف إحدى إن الطريق الوحيد ،الختيار فتاتك يف هذا املجتمع ،هو أن ِّ
قريباتك بالبحث لك عن فتاة تناسبك ،فأين هذه القريبة :األ ّم أو األخت أو
الع ّمة أو الخالة التي تفهم الحياة كما أفهمها ،وتعيها كما أعيها؟ لو كان
يحسها كثريون األمر مقترصا ً عىل الجمال ،فحسب ،ملا كانت هناك مشكلة ّ
غريي ،لكن املشكلة الرئيسية هي مشكلة التفكري ..النضج ..الوعي..
االستجابة للحياة التي نعيشها ..الفهم الصحيح للحياة املفروضة علينا،
والفهم الصحيح للحياة التي يجب أن نعيشها .ليس أمامي ّإل طريق
الخاصة يف البحث عن زوجة، ّ واحد :أن اعتمد عىل نفيس فأستعمل وسائيل
وليكن ،بعد ذلك ،ما يكون ،سواء أ أخفقت أم ُو ِّفقت ،إنني مستع ّد لتح ُّمل
نتائج اختياري.
27فرباير
ملاذا ال أج ِّرب ّ
حظي ،وأعمل بنصيحة هذا الصديق؟
إنها من أرسة محرتمة ومتعلَّمة ،وما دامت أرستها متعلِّمة فالب ّد أنها
متح ِّررة من نري العادات وقيود التقاليد ،فالتعليم وحده هو ما يح ِّرر
ّ
ويفك قيوده ،ويبعثه عىل التفكري والتع ُّمق .التعليم هو طريق اإلنسان،
تح ُّرر املرأة .وهل يمكن لفتاة جاهلة أن تكون متح ّررة؟ ال ،هذا أمر
متحررة ،فإن تح ُّررها يكون مستحيل ...وإذا افرتضنا وكانت الجاهلة ِّ
68
وباال ً عليها ،فجاهلة متح ِّررة أقرب إىل الفساد من جاهلة متز ِّمتة.
قال صديقي إن أرستها أرسة متح ّررة ،وجميع أفرادها متعملِّون ،وأمس
أكدت يل خالتي ـ أيضاً ـ هذا القول ،فقد كانت تربطها بأرستها رابطة َّ
جرية قديمة.
5مارس
بحسب املعلومات التي استقيتها ،ال ّبد أن تكون هذه هي الفتاة التي
ً
زوجة ورشيكة حياة .نعم ،إن ُكتبت يل والتي أبحث عنها ،والتي تليق بي
دراستها محدودة قليلة ،لم تجاوز السنة االبتدائية السادسة ،و ـ فعالً ـ
يس الئق بزوجتي .لكن ،أليس للوسط الذي تعيش ليس هذا بمستوى درا ّ
فيه أثر عىل تفكريها؟
ثم ،أليس يف استطاعتي ،عندما تصبح يل زوجة ،أن أساعدها عىل زيادة
معلوماتها؟ فبيشء من الحكمة والصرب وطول الوقت واملعاناة ،أستطيع
أن أخلقها خلقا ً جديداً .قالوا إن للفتاة تربيتني :تربية يف منزل والديها،
وسأوجهها بحسب مشيئتي، ِّ وتربية يف منزل زوجها ،وأنا سأكون زوجها،
فهي ـ كغريها من بنات هذا املجتمع ـ أشبه يشء بالعجينة الليِّنة التي
أي شكل من النساء تريد .وهذه الفتاة ـ بالذات ـ يمكنك أن تصنع منها ّ
ال تزال صغرية الس ّن ،لم تجاوز التاسعة عرش ّإل بقليل ،وهذا ـ ال ّ
شك ـ
م ّما يزيد يف تفاؤيل عىل مقدرتي عىل خلقها خلقا ً جديداً ،كما أريد أنا.
ال جدال يف أنها هي الفتاة التي ُكتبت يل زوجة ،دون غريها من الفتيات
69
o=p\8!T
وهنا ،كانت الساعة تشري إىل الثانية صباحاً ،فالتفتت نحوي جانيت
الشقراء قائلة:
أشعر بحاجتي إىل قليل من النوم .هل يمكنك أن تتو َّقف عن القراءة؟
ولم أجد بدّا ً من الجلوس عىل األريكة ،يف الركن الثاني من الحجرة ،حتى
َّ
أتمكن من متابعة قراءتي ،بينما تمدَّدت (شقرائي) عىل الرسير ،وأشعلت
النور األحمر القريب منها ،وقبل أن أعود إىل القراءة ،عادت تسألني:
الحب؟
ّ -وهل تسعدون يف حيواتكم الزوجية املقامة عىل غري أسس
-أنت تعلمني ـ يا جانيت ـ أنني غري مت ِّزوج؛ لذا فأنا ال استطيع إجابتك
عن هذا السؤال ،لكنني أعلم أن %90من حاالت الزواج يف بالدنا مو َّفقة،
ولم يف ِّرق الطالق بني طرفيها.
70
-هل تعتقد أن الطالق هو (الرتمومرت) الصحيح ملعرفة السعادة يف
الزواج؟
ّ
األقل ،فإن من يشقى يف زواجه ،يمكنه أن -هذا ما يعتقده البعض ،عىل
يتخلَّص من شقائه بالطالق.
أؤكد لك أن الطالق وعدمه ،ال يدالّن عىل السعادة الزوجية -هذا وهمِّ .
ومدى قوى الرتابط بني الزوجني ،فلو ُقدِّر لك أن تعرف ما وراء جدران
بيوتكم ،لهالَ َك الواقع الذي تعيشونه .إن كثريا ً من غري املطلَّقني من هم
أشقى وأتعس ألف م ّرة من املطلّقني .ولوال اعتبارات أخرى ،ألمكنك أن
تشاهد تهدُّم كثري من البيوت ،وت ُ
رشد كثري من األبناء.
-لكن ،ال تنيس أن الشعور بالشقاء ،واإلحساس بعدم القدرة عىل التخلُّص
منه ،أكرب مع ِّول لهدم السعادة اإلنسانية.
حب وتسامح؟
الحب بني الناس؟ ألم تقل إنه دين ّ
ّ -ملاذا؟ هل دينكم ال يق ّر
-لم تكن القضية قضية دين ،إنما هي قضية عادات ،يحافظ عليها الناس
71
o=p\8!T
-حاربوها بالسالح الذي ترونه مناسبا ً لها ..دعوا املرأة ـ مثالً ـ تخرج
إىل الشارع ..تدخل ميادين الحياة ،حتى يمكنكم أن تقابلوها وتتع َّرفوا
بها.
-هذه طريق إىل الهاوية ..إىل الفساد ..إىل االنحطاط ..فقبل أن نسمح
للمرأة بالخروج إىل الشارع ،علينا أن نسلِّحها بالعلم ..باملعرفة ..حتى ال
َّ
تتمكن من مقاومة تكون فريسة سهلة ،تتل َّقفها الذئاب الجائعة ،وحتى
املغريات.
-سوف نتخلَّص منه بالطريقة التي نراها صالحة وممكنة ،ال بالطريقة
التي ترينها أنت .إننا نبحث عن حلول ملشاكلنا ،بما ينبع من نفوسنا،
ومن طبائعنا ،ومن أرضنا ،وال نقبل أن تأتينا الحلول من الخارج ...من
خارج حدودنا.
-إنك تيسء فهمي ،فقد ح َّولت املناقشة إىل مناقشة سياسيّة ،وهذا شأنكم،
غربي يف موضوع ما ،حتى تح ِّولوا
ّ دائماً ،أ ّيها الرشقيون؛ ما إن يناقشكم
72
النقاش إىل السياسة .ال يمكنني أن أستم ّر معك أكثر من هذا ...تصبح
عىل خري.
والت َّفتْ إىل الجهة األخرى لتنام ،بينما عدت أنا إىل قراءة ّ
مذكرات سليم
عبد امللك.
14مارس
ال أزال مرتِّددا ً بني اإلقدام واإلحجام :اإلقدام عىل خطوبة مريم ،واإلحجام
عن ذلك ...إن أقوال الناس فيها مختلفة متباينة :بعضهم يشكر ويمدح،
وبعضهم يذ ّم ويقدح ،وأنا حائر بني القادحني واملادحني .ال أعرف كيف
بأي الرأين آخذ ،وال بأ ّيهما أرمي عرض الحائط .إن
أترصف ،وال أعرف ّ َّ
الناس يختلفون ـ عاد ًة ـ يف آرائهم وأفكارهم ،وال يتَّفقون عىل يشء،
وأنت تحار إذا أردت االعتماد عىل أقوال الناس.
من حيث الجمال ،كلّهم متَّفقون عىل أن جمالها وسط (بني بني)؛ ال هي
منصب ان
ّ بالجميلة وال هي قبيحة املنظر ،لكن التناقض وعدم اال ِّتفاق
عىل مدى صالحيّتها زوجة يل أنا :بعضهم يقول إن تفكريها سليم ،وعقلها
راجح ،وبعضهم يزعم العكس ..بعضهم يقول إنها متح ِّررة ،وبعضهم
متحجرة .قال يل بعض الناس إنها فتاة تحمل عقالً متح ِّررا ً ِّ يزعم أنها
وفكرا ً ناضجا ً وإدراكا ً واعياً ،وهي خري من تصلح زوجة يل ورشيكة
بالتحجر والجمود والخمول. ُّ حياة ،وبعضهم ينفي عنها ّ
كل هذا ،ليصفها
73
o=p\8!T
عىل هذا األساس ،بدأت أشعر بحاجتي إىل امرأة ،إىل إنسانة تفهمني
وأفهمها ،أكثر من حاجتي إىل أنثى تطفئ ظمأ غريزتي ،امرأة ُتشعرني
بوجودها إىل جواري ،بحاجتي إليها ،تناقشني بعقلها ،عندما تناقشني،
وال تجادلني بعقلية جدَّتها ولغة خالتها ،امرأة تعيش يف النصف الثاني
ِّ
وتفكر بعقليّة النصف الثاني من القرن العرشين، من القرن العرشين،
وتنظر إىل الحياة من خالل منظار النصف الثاني من القرن العرشين،
تفكر بعقلية القرن الخامس عرش ،وتعيش عىل اجرتار وال أريدها امرأة ّ
املايض ،أ ّيام كانت املرأة ال ترتفع عن مستوى أثاث البيت الذي يشرتيه
ويتحكم فيه ويف مصريه ويف حياته ،يحتفظ به متى شاء، َّ الرجل،
74
أي
ويستغني عنه متى أراد .أريد امرأة إنسانة ،وال أريد أنثى .ترى من ِّ
نوع من النساء تكون مريم؟ أهي إنسانة؟ أم تراها مج َّرد أنثى؟
بكل هذهإنني يف حرية ..يف قلق ..يف خوف ..ولوال هذه العادات ،ملا شعرت ّ
املشاعر من الخوف والحرية واالضطراب .لوال هذه العادات التي تكبِّلنا
ّ
وتشل إراداتنا الستطعت أن اختار زوجتي، وتغلّنا ،وتحجز عىل حر ّياتنا،
كما أريدها أنا.
29مارس
حق إنساني رشيف ،وهبتنا لست ـ والله ـ أدري :ملاذا نمنع من مزاولة ّ
إياه الحياة؟ ملاذا ُيحال بيننا وبني ما أباحه لنا الدين والعقل واملنطق
ومتطلَّبات الوجود اإلنساني؟ ملاذا ُنمنَع من التم ُّتع بالح ّر ّية التي هي
أساس وجودنا ،يف هذا الوجود؟ كيف ُيس َمح لنا أن نختار لون ونوع
القماش الذي سنتَّخذ منه بدلة يمكننا االستغناء عنها يف ّ
كل وقت ،ثم
حق االختيار ،عندما نحاول اختيار زوجاتنا الحقّ ،
ّ ُنمن َع من التم ُتع بهذا
وعشريات حياتنا؟
كل يشء يف الوجودّ ..
كل يشء يف الحياة يبيح لنا التع ُّرف إىل اللواتي ّ
سنتَّخذهن زوجات ورفيقات لنا طوال رحلتنا الحياتية.
فأنا ،عندما أتز َّوج ،ال أتز َّوج ليوم ،وال أتز َّوج لسنة ،وال أتز َّوج حتى
لعرش سنوات ،فحسب ،بل أتز َّوج ملدى العمر ..أتز َّوج امرأة سوف لن
كل هذا ،يحرمونني من يفصل بيني وبينها سوى املوت والفناء .وبعد ّ
75
o=p\8!T
ّ
حق اختيارها .أنا لست من الذين يؤمنون بحكمة الطالق ،وال حتى م َّمن
منحنا إ ّياها الدين ،فأساء
يستيسيغون استعمال هذه الرخصة التي َ
استعمالها الكثريون من الجهلة واملغ َّفلني .إن الطالق رخصة دينية،
ال يستعملها اإلنسان العاقل ّإل إذا عجز عن إصالح شأن زواجه ،وال
يستعملها ّإل يف حاالت الرضورة القصوى ،فلماذا نحاول التقليل من
مساوئ الطالق ،الذي هو أبغض الحالل إىل الله؟
لكن ..ماذا يفيد هذا الكالم الذي أقوله أنا؟ وماذا تفيد ثورتي أنا وغريي
من األفراد القليلني؟! إننا ال نستطيع أن نح ِّقق شيئا ً م ّما نؤمن به ونعتنقه
من املبادئ ،ألن املسألة ليست مسألة أفراد؛ إنها مسألة مجتمع ..قضية
فردي لهذه األوضاع ال يأتي بأ ّية نتيجة إيجابية ،بل
ّ مجموعةّ ،
وكل عالج
الب ّد من عمل جماعي ..الب ّد من ثورة شاملة عا ّمة تطيح بهذه السخافات
واألوهام واألكاذيب والرتَّهات.
وأمام هذا املنطق ..أمام هذه الحقائق ،أنا ال يمكنني أن أعمل شيئاً ،ال
أغي شيئاً ،ال يمكنني أن أقوم بأي عمل إيجابي ،كثريا ً كان أم
يمكنني أن ِّ
قليالً ،ألبدِّل من هذه األوضاع الفاسدة املتع ِّفنة.
ليس أمامي ّإل أن أخطب هذه الفتاة .إن سعادتي معها ..إن تفاهمي
76
معها ،قد تكون أضمن من سعادتي وتفاهمي مع أ ّية فتاة سواها.
77
o=p\8!T
12أبريل
اسمع يا سليم :إني أعرف مريم من أ ّيام الصغر .إنها ليست (وحشة) ،بل
هي جميلة ،وهي خري من تصلح لك زوجة.
وأردت أن أعابثها َّ
وأطلع عىل أفكارها ،فقلت لها:
-أنا أعرف أنك تكثر من القراءة ،وترغب يف الهدوء ،وهي ـ كما أعرفها ـ
ال تميل إىل الثرثرة .إنها صموت عاقلة رصينة.
-ملاذا؟ ملاذا ال تتَّفق معي ،يا سليم؟ هل أنت رجل طائش ،فرتيد امرأة
طائشة مثلك؟ عهدي بك رجالً عاقالً!
-ليس املوضوع موضوع طيش وعقل ،بل ألنني ال أميل إىل املرأة
78
أفضل املرأة التي تتحدَّث كثرياً ،فاإلنسان ـ عاد ًة ـ كلما
الصموت ،إنني ِّ
كثر حديثه كثر نقاشه ،ومن كثر نقاشه وَسِ ع أفقه ،وغزرت معلوماته
العا ّمة.
-يمكنك أن تخلق فيها هذه الصفة عندما تنتقل إليك .يا حرستاه عىل
أ ّيام زمان!! أ ّيام كانوا ِّ
يفضلون املرأة الصموت التي تجلس إىل جانبك
يوما ً كامالً فال تسمع منها كلمة واحدة.
أرأيت بأ ّية عقلية يحكمون عىل الزوجة؟ :إنهم يريدونها دمية ،قطعة من
أثاث البيت ،تجلس إليك يوما ً كامالً ال تحادثك وال تناقشك .يا لها من
عقلية سخيفة هذه التي تسيطر عليهم ،وتطبع نظرتهم إىل املرأة!!
20أبريل 1952
وافقت عىل إعالن الخطبة ..غدا ً يذهب والدي فيطلب يل يد مريم من
والدها.
22أبريل
79
o=p\8!T
رسمياً .الله ّم ،اجعلها خطبة مباركة ،وخطوة أوىل نحو سعادتي يف هذه
الحياة.
1مايو
ّ
والشك يف أن مريم تضع مثلها هأنذا ،أضع (دبلة) الخطوبة يف إصبعي،
يف إصبعها .فالله ّم ،اكتب لنا النجاح والتوفيق والسعادة والهناء.
لقد ُحدِّد شهر أغسطس املقبل إلتمام الزواج ،وإن لم ُي َحدَّد ،بعد ،يوم
يشتط يف طلباته ورشوطه ،لقد كان ّ الزفاف ،بالضبط .إن والد مريم لم
بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني اإلنسانية ،فكانت طلباته إنسانا ً ّ
معقولة مقبولة ،وعندما أخربه والدي بأنني سأقيم ومريم يف منزل
ومستقل ،أجاب« :هذا ال يه ّمني ..ال أريد أن أح ِّمل سليما ً فوق طاقته،
ّ
عشة أو زريبة .امله ّم أن يكون فليفعل ما يف وسعه ،ولو أقام وإ ّياها يف ّ
سعيدا ً معها ،وتكون سعيدة معه» .وقد أشار والدي عيلَّ بذلك ،ألنه
كان يؤمن برضورة انفصال االبن عن أرسته ،يف السكن ،بعد زواجه،
منطقي معقول ،بل هل أمر ّ فالواقع أن مبدأ االستقالل بعد الزواج ،مبدأ
مفروغ منه ،وأنا ـ شخصيّا ً ـ أؤمن به ،وأق ّره ،وألحّ عليه ،أ ّما بالنسبة
وكل أخواتيكل ما أريد؛ فوالدتي متو ّفاةّ ، إلـي وضعي أنا فسيت ّم يل ّ
متز ِّوجات ،عدا فطومة ،وهي مخطوبة ،أيضاً ،وسيت ّم زواجها قريباً ،و ـ
ر ّبما ـ كان ذلك يف األسبوع نفسه الذي يت ّم فيه زفايف .إذن ،لم يبق أحد
نحس بثقله ،ولنّ يشاركنا البيت ،أنا ومريم ،سوى والدي ،الذي سوف لن
بأي ضيق أو مضايقة.يشعرنا ّ
80
عندما عادت شقيقتي الكربى ،أمس ،من منزل مريم ،قالت يل وهي
تبتسم« :مربوك ،يا سليم .إن مريم فتاة عاقلة كما تراءت يل ،ورغم أنها
ليست جميلة ،بإفراط ،فهي ليست قبيحة الشكل .إنها مقبولة».
كل النساء سواء يف تفكريه ّن؛ ال ِّ
يفكرن ّإل يف الجمال والقبح!! كلّهنّ ..
من قال له ّن إنني أبحث عن الجمال؟؛ فأنا ال أبحث ّإل عن فتاة تفهمني
وأفهمها ،وتضع يدها يف يدي لنسري معا ً نحو الغاية التي ننشدها .أرجو
أن ُت َح َّقق أحالمي مع مريم ..خطيبتي.
11مايو
22مايو
لم نحد ِّد يوم الزفاف بعد ،وإن كنا قد حدَّدنا الشهر الذي سيت ّم فيه.
وهكذا ،لم يبق عىل ذلك سوى ّ
أقل من ثالثة أشهر ،وأنا انتظر عىل أح ّر من
81
o=p\8!T
الجمر ،ال ألطفئ غريزتي ،لكن ألرى نتيجة امتحاني ،نتيجة اختياري،
كل آمايل وأحالمي؟ َمن يدري!! فهل تح ِّقق مريم ،التي اخرتتها بنفيسّ ،
وكونت لها صورة مرشقة هل ستكون تلك الفتاة التي انتظرتها طويالًَّ ،
أفكر يف جمالها ،فليس للجمال ذلك القدر من يف خيايل؟ أنا ـ قطعا ً ـ ال َّ
أي نوع من النساء تكون زوجتي :هل ستكون األه ِّميّة عندي ،بل أفك ِّر يف ِّ
من النساء الخامالت الكسوالت املتواكالت ،أم امرأة متح ِّررة مدركة عاقلة
تساير تط ُّور الحياة؟
لقد حاولت ،طوال هذه األ ّيام ،أن أراها ،ولو من بعيد ..ولو خلسة ،عىل
حني غفلة منها ،فذهبت محاوالتي أدراج الرياح .كم مررت من أمام
منزلها ..من تحت نوافذها؛ لعلّني أملحها ولكن ،عبثا حاولت ،فأنا لم أ َرها
تطل عىل الشارع أبداً ،وحتى قط ،ال خلف الباب وال وراء النافذة ،لكنها ال ّ
ّ
تطل عىل الشارع ،ورأيتها ،فكيف يل أن أعرفها ،وأن أميِّزها لو أنها كانت ّ
عن غريها :عن شقيقتها الصغرى ،مثالً ،التي قالوا أنها أكثر منها سمر ًة،
وأكثر امتالًء؟ أنا ال أعرف هذه ،وال تلك ،فكيف أميِّز بينهما؟.
30مايو
أمس ،مساءً ،تقابلت ـ صدفة ـ مع ابن عمها ،يف أحد املقاهي ،وهو
كل ما أصفه به هو أنه مغرور ،وتحادثت شاب يف الثالثني من عمرهّ ،
ّ
شاب يرى نفسه أكثر من حقيقته.
ّ ً ً
معه حديثا طويال ،عرفت خالله أنه
كل أحاديثه ّ
تدل أناني جاهلّ ،
ّ إن هذا الشاب املغرتّ لم يعجبني؛ فهو
عىل جهله وأنانيَّته وغروره ،فهو يدَّعي أنه درس يف إحدى الجامعات
الطب ،ثم أوفِد يف بعثة
ّ املرصية ،وتخ َّرج فيها ،وحصل عىل بكالوريوس
82
إىل بريطانيا إلتمام دراسته ،وظننت أن نتيجة هذه الدراسة واالحتكاك
غيت الكثري من عقليَّته وتفكريه باملجتمعات األخرى ،يف الخارج ،قد َّ
سطحي جدّاً:
ّ ونظرته إىل املرأة ،وحكمه عىل الحياة ،وإذا بي أكتشف أنه
متحجرة ،وفكره لم يتح َّرر
ّ معلوماته العا ّمة بسيطة جدّاً ،وعقليَته ال تزال
من رواسب املايض ،بعد ،و -ر َّبماـ هذا ما دفع مريم إىل رفضه ،عندما
تقدَّم إليها قبل سنة ،تقريباً ،وحاول أن يقنعني بوجهة نظره القائلة« :إن
املرأة للبيت» وهي (حريم) .وعندما ناقشته يف هذا املوضوع وضح عجزه
وقصوره أمام جمع من األصدقاء ،فلم يجد ما يسند به أقواله وادّعاءاته،
وحني أ ُفحِ م بحججي ،قال يف عجرفة متناهية« :هل درست يف الخارج ،يا
كل دراستي لم تتجاوز السنة أستاذ سليم؟» وأجبته« :ال ،والحمد لله ..إن ّ
التوجيهية هنا ،يف طرابلس» .وأغرق هذا الديك األبيض يف الضحك حتى
دمعت عيناه ،ثم قال« :أ ّما أنا فخ ِّريج ..خ ِّريج جامعة ،وأحمل شهادة،
ومعلوماتي أوسع وأكثر وأخصب من معلوماتك» .وشعرت بق ّوة خفيّة
تدفعني إىل صفعه ..إىل صفع هذا الديك األبيض املنتفخ ،وتلقينه درسا ً
َّ
املغفل قاسياً ،يف احرتام مشاعر غريه ،لن ينساه ..ماذا يعتقد يف نفسه هذا
املغرور؟ :هل يظ ّن أن العلم وقف عليهم وحدهم ،هم خ ّريجو الجامعات؟
الحظ لم تساعدنا الظروف عىل الدراسة يف ّ ونحن ـ الذين لم يسعفنا
الخارج مثلهم ـ أال نمثّل أمامهم شيئا ً سوى الجهل؟؟.
ملحة تدفعني إىل صفعه ،لكنني عدت وتمالكت أعصابي، شعرت برغبة ّ
فقلت له بربود تشوبه السخرية (ماذا تفيد الشهادة التي تحملها إذا لم
فك األغالل التي ّ
تغل عقلك ،أو إذابة الثلوج املرتاكمة عىل تساعدك عىل ّ
تشق أمامك طريق الحياة» وتركته ّ تفكريك؟ «انقع هذه الشهادة إذا لم
دون أن أزيده كلمة أخرى.
83
o=p\8!T
10يونيو
ُحدِّد يوم االثنني ،املوافق 5أغسطس املقبل ،لعقد القران ،أ ّما ليلة الدخلة
فستكون ـ بعون الله ـ ليلة الخميس ،الثامن منه ..سواء ،يف ذلك ،أنا
وفطومة ،فستكون دخلتنا يف ليلة واحدة.
19يونيو
كل هذه املعاكسات؟ لقد فاجأني سيادة رب؟ ماذا حدث؟ ملاذا ّما هذا ،يا ّ
املدير ،مدير املصلحة التي أعمل بها ،بأن أجهِّز نفيس للسفر يف مه ّمة
رضورية ومستعجلة إىل مرص ،تستغرق شهرين .قال إن السفر سيكون
رب؟ هل أرفض السفر ،أم أقبله؟ إذا يوم 5يوليو ،فلماذا ّ
كل هذا ،يا ّ
تأخر موعد زواجي ،وإذا رفضته ضاعت مني سفرة إىل القاهرة، قبلته َّ
أل ّول م ّرة يف حياتي -ر َّبما -تساعدني عىل معرفة جوانب جديدة يف حياة
تأخر زواجي بعض الناس .إذن ،ليس من املناسب الرفضَ .فألقبلها ،ولْيَ َّ
الوقت ،وأمري لله.
23يونيو
والدي ،هو اآلخر ،يستحسن سفري ،فالقيام بمه ّمة أُسندت يل ،دون
غريي من زمالء العمل ،فرصة يجب ّأل أضيِّعها .وقد ا َّتصل والدي بوالد
مريم وأطلَعه عىل األمر ،فوافق ،هو اآلخر ،عىل هذه الفكرة ،غري أن اليشء
84
يحيني ويقلقني هو موضوع خالد ،خطيب فطومة؛ إنه يلحّ عىل الذي ّ
رضورة إتمام زواجه يف املوعد املحدَّد ،وفطومة ترى ّأل يت ّم زواجها وأنا
يف الخارج ،ترى ،هل يقبل خالد مبدأ التأجيل؟
3يوليو
تأجل سفري إىل القاهرة حتى يوم 25يوليو ،وهذا م ّما يزيد يف تعقيد
َّ
نتمكن من التغلُّب عليه.
َّ األمور مع خالد ،خطيب فطومة .أرجو أن
14أغسطس
أنا ،اآلن ،يف القاهرة ،وهذه رسالة من والدي استلمتها صباح اليوم ،يقول
فيها« :خالد يلحّ عىل إتمام زواجه ،وحاولت أن أقنع فطومة بذلك فلم
وأرصت عىل الرفض ،حيث أقسمت ّأل يت ّم زواجها يف غيبتك،ّ تقتنع،
ف األمر ،ولو أنها فسخت خطبتها ،وقالت أيضاً :ليذهب خالد إىل
مهما كل َّ َ
أمي وأبي غري
الجحيم ،سوف لن يكون يل عرس وأخي ..شقيقي ..ابن ّ
حارض ،ولو كان خالد هذا هو الرجل الوحيد يف الدنيا ،ولو ُكتب عيلَّ أن
أعيش عانسا ً مدى الحياة ،وحاولت أختك الكربى إقناعها فلم يفد يشء
معها ،وقالت :كيف تطلبون مني أن أوافق عىل إتمام زواجي عليه؟ إن
دون ذلك موتي ..أرأيت ـ يا سليم ـ إىل أ ّية درجة تحبّك فطومة أختك،
وتع ّزك؟».
85
o=p\8!T
تفضلني عىل نفسها.ِّ أجل ،أنا أعرف أن فطومة تحبّني ،وأعرف أنها
إنني ال زلت أذكر يوم جلسنا ،أنا وهي ،نبحث موضوع زواج إحدى
صديقاتها ،وكان أخوها يف السجن ينتظر كلمة تخرج من أفواه القضاة
وجهت لومي إىل صديقاتها ،وعجبت كيف ترىض أن لتحدد مصريه ،وقد َّ ِّ
يت ّم زواجها وشقيقها مصريه بني يدي القدر ،ويومها قالت فطومة تدافع
عن صديقتها« :ال تل ْمها ،يا سليم ..إنها مسكينة ..إنها مجربة ..مجربة عىل
أقل منها علماًّ ،
وأقل زواجها بهذا الرجل الذي هو أبعد الرجال عنها ،ألنه ّ
وأقل منها تفكرياً .ورغم ذلك ،أُجربت عىل قبوله ،شأنها ّ منها مست ًوى،
شأن أ َية فتاة أخرى يف هذا املجتمع ،وهي مجربة عىل إتمام زواجها يف
هذا الظرف ..ظرفها السيِّئ» .ويومها ،ظننت أنها ،أي فطومة ،تحمل
تكذب ظنّي ،إذ ترفض فطومة هي األخرى مثل هذه الفكرة ،وإذا باأل ّيام ِّ
إتمام زواجها ملج َّرد أنني مسافر عن البلد ..سامحك الله ،يا فطومة ،كم
تمتازين عن غريك من الفتيات!!
7أكتوبر
حاولت أن أسرتسل يف القراءة ،فلم أستطع .كان النوم يغالبني ويضط ّرني
86
عىل الرقاد .نظرت إىل الساعة فإذا هي الخامسة والنصف صباحاً ،فقمت،
مرغماً ،إىل الرسير أتمدَّد بجانب جانيت التي كانت مستغرقة يف نوم عميق،
وشعرها الذهبي يحيط بوجهها الجميل .ثم استغرقت يف نوم عميق لذيذ،
بعد القراءة والسهر والجهد واإلعياء ،لم أستيقظ منه ّإل بعد منتصف
اليوم التايل .وأ ّول يشء فعلته عندما استيقظت هو البحث عن جانيت التي
لم أجدها إىل جواري ،فظننت أنها قد رحلت عىل ،حني غفلة مني ،دون أن
تودّعني ،فقد ع َّودتني تجاربي ّأل أثق يف النساء ،من أمثالها ،أبداً .وقبل
الوردي الش ّفاف
ّ البحث عنها يف أركان الفندق ،لفت نظري قميص نومها
معلَّقا ً عىل املشجب ،يف مكانه املعتاد ،فسارعت أرتدي مالبيس يف رسعة
وشاب،
ّ وعجلة ،وخرجت أبحث عنها يف الفندق ،فوجدتها تجلس مع فتاة
لم أرهما معها من قبل ،حول منضدة ،واقرتبت منهم ،فما إن رأتني حتى
وترحب بي ،وتقدِّمني إىل صديقيها ،بوصفي صديقها ِّ وقفت تستقبلني
الرشقي الحميم ،كما قدَّمتهما يل قائلة:
-مس مارجريت وخطيبها املسرت جون ،من إنجلرتا ،جاءا يقضيان فرتة
إجازتهما الصيفية يف باريس.
سحبت مقعدا ً أجلس عليه إىل جوارهم ،ودار بيننا ،بعد ذلك ،حديث ودّي
(بالفرنسية ،طبعاً) ألنني لم أكن أعرف اللّغة اإلنجليزية ،إىل أن حان
رشقي ،فعالً ،دعوت مارجريت وجونّ وقت الغداء .ولكي أظهر لهم أنني
رحبا بأن يكونا ضيفينا ،وتناولنا لتناول الغداء معنا ،فلم يمانعا ،بل َّ
غداءنا يف مطعم الفندق ،وقبل أن ينرصف الضيفان ،غمزتني جانيت كي
87
o=p\8!T
أدعوهما لتناول العشاء معنا ،أيضاً ،ولم أجد بدّا ً من توجيه الدعوة ،التي
بي شاك َر ْين .وانرصفنا نحن ـ األربعة ،-عىل موعد اللقاء َقبالها ِّ
مرح ْ
يف موعد تناول العشاء .ذهبت أنا وجانيت إىل حجرتنا ،وبعد اسرتاحة
قصرية خرجنا يف نزهة عىل شاطئ نهر السني العريق .وهناك ،جلسنا
عىل مقعد عتيق تحت شجرة عجوز ،نعيد الذكريات ،ونرسم خطوط
املستقبل .ولم ندرك كم مىض من الوقت علينا يف جلستنا تلك ،إىل أن بدأت
مصابيح الشوارع تبعث بخيوط أنوارها الباهتة تيضء ما حولنا ،وقمنا
عائدين إىل الفندق ،إىل أن كانت الساعة تشري إىل التاسعة ،تقريباً .وهنا،
توجهنا إىل املطعم وما هي ّإل لحظات حتى حرض ضيفانا الكريمان، َّ
وأرسعت جانيت تقرتح أن نتناول طعامنا يف غري هذا الفندق ،وسألت:
وقمنا نسري معها إىل َح ّي (سان جرمان) ،ثم دخلنا إىل ما ظننّا أنه
مطعم ،فإذا به صالة رقص ..موسيقى صاخبة تنبعث من أحد األركان..
الراقصون اثنني اثنني ..األضواء خافتة باهتة ..سألت جانيت:
ويف أحد األركان املظلمة النائية ،جلسنا حول مائدة .وقبل أن يسألنا
أحد ماذا نريد ،حرض أحد خدم املطعم والتفت إلينا يسألنا ماذا نريد أن
نأكل ،وطلب ّ
كل واحد منا ما يريد .وما إن انتهينا من األكل ،حتى شعرنا
88
بأقدامنا تسوقنا ،رغما ً عنّا ،إىل حلبة الرقص ،وبدأنا نرقص ،أنا وجانيت
وجون وخطيبته ،ثم أنا وخطيبة جون ،وجون مع جانيت.
كانت الساعة تشري إىل الثانية والنصف صباحاً ..غادرنا ذلك املكان
عائدين إىل الفندق ،بعد أن ودَّعنا ضيفينا ،دخلنا حجرتنا ونحن يف حالة
تغي مالبسها،من النشوة واالنرشاح ال توصف .وعندما بدأت جانيت ِّ
التفتت ،فجأ ًة ،إىل الباب فوجدت رسالة مستعجلة من والدتها تدعوها
للعودة حاال ً إىل (نيس) ،وبأرسع ما يمكنها من االستعجال ،فحالتها يف
خطر ،وهي تريد أن ترى ابنتها الوحيدة ،قبل أن تفارق الحياة ،فأرسعت
جانيت تجهِّز أمتعتها للسفر يف قطار الساعة الثامنة صباحاً ..ولم نشأ
أن نضيِّع ليلتنا األخرية ،هذه السنة ،هباءً.
وأخرياً ،حان موعد الفراق ..موعد سفر جانيت ..عودتها إىل بلدها (نيس).
ّ
املحطة ودّعتها ،عىل أمل اللقاء رافقتها يف تاكيس إىل محطة القطار ،ويف
يف الصيف القادم ،إذا لم تساعدها الظروف عىل العودة رسيعاً ،هذه
السنة .لقد ا َّتفقنا عىل اللقاء الرسيع العاجل ،بعد يومني ،فقط ،إذا كانت
تحسنت ،وال تستدعي بقاءها إىل جوارها ،إذ ستجدني يف َّ حالة أ ّمها قد
انتظارها ،وكذلك تعود (جانيت) إىل باريس إذا كانت أ ّمها قد فارقت
الحياة ،فبدال ً من أن تعاني الوحدة والوحشة والفراغ تعود إىل باريس
فتجدني ...أ ّما إذا لم تعد خالل اليومني ،فعندها أكون يف حِ ّل منها ،ومن
ح ّقي البحث عن فتاة أخرى غريها.
ّ
املحطة، جاء القطار ،وسافرت جانيت ،وبقيت وحدي داخل مبنى
أحملق ،تار ًة ،يف الخيط الرفيع من الدخان الذي خلَّفه القطار وراءه،
89
o=p\8!T
يغص بهم املكان ،عىل سعته ،وهم ّ وتار ًة أخرى ،يف وجوه الناس الذين
بني مسافر وقادم ومستقبل ومودِّع ،وتارة ثالثة ،أمعن النظر يف االسم
وأفكر يف شكل صاحبةِّ والعنوان املكتوبني عىل القصاصة التي يف يدي،
أترصف يف مثل
َّ هذا االسم ..وقبل أن أق ِّرر ماذا يجب أن أفعل ،وكيف
كل جزء من جسمي حتى هذا املوقف ،شعرت بما يشبه املخدِّر يرسي يف ّ
سكة الحديد ،وأدركت أنه اإلرهاق محطة ّ
ّ كدت أجلس عىل أحد مقاعد
والتعب والسهر .لقد تعبت الليلة املاضية والليايل التي قبلها ،وها هو ذا
ر ّد الفعل ،فق َّررت ،حاالً ،العودة إىل الفندق وأخذ قسط من الراحة ،قبل
أق ِّرر مصريي.
عدت إىل الفندق وحدي ،وأنا أشعر بحاجتي إىل الراحة ،وبحاجتي إىل
النوم ،لعلَّني أع ِّوض شيئا ً م َن النشاط الذي فقدته طوال الليايل السابقة.
ودخلت الفراش ،فإذا بي بارد كالثلج ..بارد أكثر م ّما يجب .وعندها،
أدركت فضل (جانيت) ،وقبل أن ِّ
أفكر يف الفراغ الذي خل َّ َفته جانيت
وراءها ،شعرت بالتخدُّر م َّر ًة أخرى ،وغلبني النوم ،فاستغرقت يف نوم
عميق ميلء بالرؤى واألحالم.
نمت ذلك اليوم والساعة تشري إىل العارشة صباحاً ،وعندم استيقظت
كانت الساعة تشري إىل الثالثة من مساء اليوم التايل ،فأرسعت إىل الحمام
(دشاً) بارداً ،أعاد إيلَّ كثريا ً من النشاط والحيوية ،ثم ارتديت مالبيس،
آخذ ّ
وخرجت إىل بهو الفندق أتناول قهوة بدون سكر ،ونظر نحوي صاحب
ُّ
وظل ابتسام ٍة يرتاقص عىل شفتيه، البار نظر ًة تحمل كثريا ً من املعاني،
ثم سلَّمني برقية ،وهو يقول« :وصلت حوايل الساعة الحادية عرشة
90
صباحاً ،وأردت أن أسلِّمها إليك يف حينها ،لكنني وجدت حجرتك مغلقة
من الداخل ،وحاولت إيقاظك فلم تستيقظ ،فظننت أنك مشغول.»........
وهذا (عبد املعطي) الذي شاء أن يقطع إجازتي ويقصف رقبة متعتي،
بربقيته املشؤومة ،كان أحد رجال األعمال يف طرابلس يدير تجارة واسعة،
يف الداخل والخارج ،أصيب ،ذات يوم ،بداء الرئة ،وكنت طبيبه حيث
تولَّيت عالجه حتى ُشفي ،قبل ذهابي إىل باريس بأ ّيام قليلة .وزياد ًة يف
الحيطة ،أعطيته عنوان إقامتي يف باريس ،قبل سفري ،حتى يتَّصل بي
امللحة ..وما دام قد ا َّتصل بي فالب ّد أن حالته يف خطر،
يف حالة الرضورة ّ
وإل ملا تج َّرأ وحاول قطع فرتة راحتي القصرية هذه ،والعودة بي فعالًّ ،
إىل ذلك الج ّو الخانق الذي كثريا ً ما ضقت به ،وشكوت منه.
وكان أ َّول يشء فعلته ،أنذاك ،أن أبرقت إىل جانيت أخربها بسفري
املفاجئ ،وطلبت من إدارة الفندق أن تحجز يل عىل أ َّول طائرة ،يف طريقها
إىل طرابلس.
ما إن وصلت حتى سارعت ألعود السيِّد عبد املعطي ،و -فعالً -وجدته يف
حالة تكاد تكون ميئوسا ً منها ..كانت حالته خطرة جدّاً؛ ما جعلني آمر،
حاالً ،بنقله إىل املستشفى ،وأ َّتصل بمستشفى مطار املالحة العسكري
أطلب منه حقنا ً غري متو ّفرة ّإل هناك.
91
o=p\8!T
ومضت عرشة أ ّيام ،وأنا مالزم فيها السيِّد عبد املعطي ،ال ّ
أفكر ّإل يف
املعجزة املساوية التي قد تساعدني عىل إعادة الحياة إىل هذا العجوز
املتصابي الخائف من املوت ،لكن السماء ال تمطر ذهباً .لم تسعفني
باملعجزة املرج ّوة ،فما إن كان اليوم العارش من عودتي إىل طرابلس،
حتى كان السيّد عبد املعطي قد أسلم الروح إىل خالقها ،وفارق الحياة.
ومن يومها ،لم تعد يل أ ّية مشكلة تلهيني عن العودة إىل حياتي الروتينية
ِّ
ومذكرات وتذكرت سليما ً
َّ الخاصة،
ّ أفكر يف مشاكيل املعهودة ،فعدت ّ
سليم ،فشعرت بكثري من تأنيب الضمري ولوم النفس لعدم سؤايل عنه
وعدم زيارتي له .فرغم أنني عدت منذ عرشة أ ّيامّ ،إل إنني لم أ َّتصل به،
فأنستْني سليم بن
َ ولم أسأل عنه بعد أخذتني دوامة السيد عبد املعطي،
عبد امللك وجعلتني طوال العرشة أ ّيام ،ال ّ
أفكر ّإل يف املعجزة السماوية
تنجيه من املوت .وعندما عجزت عن استنزال هذه املعجزة .عدت التي ّ
أفكر يف سليم ،فسارعت أ َّتصل به تلفونياً ،وأدعوه للحضور ،فوراً ،إىل
ِّ
ش َّقتي ،وعجب الرجل من وجودي يف طرابلس ،وكان يظنّني ال أزال يف
باريس ،فسألني ،يف استغراب:
منذ عرشة أ ّيام وأنت يف طرابلس ،وأنا ال أسمع عنك ،وأنت ال تسأل عني
إن كنت حيّا ً أم ميِّتاً؟؟
توسل:
وقلت يف ّ
حاجة. ِّ
حضي حجرة الجلوس ،يا ّ
-أشكون هو هذا الصديق؟ أحسن لك ،يا دكتور ،لو تتج َّوز وترتاح.
93
o=p\8!T
-أمرك ،يا دكتور ..حارض ،وهذي نصيحة ليك ..أنت عمرك فوق األربعني
عام ،ما شاء الله ،وما زال ما فكرتش يف الزواج؟
ّ
بالحق؟ -ما َّ
كت ر ّبي غري البنات ..أنت نويت تتز َّوج هذه امل ّرة،
-امل ّرة هذي نبي ِّ
نفكر بالج ّد ّيات يف الزواج.
زي الراديو زمان (نبي ّ
انفكر) ..اسمع ،اسمع نفكر!! أنت درت ّ -نبي ّ
كيف تكمل تفكريك؟ قويل يل.
وكانت الساعة تشري إىل العارشة ،مساء ذلك اليوم ،عندما حرض سليم إىل
الصحة وعن األطفال وعن سري العمل ،جلسنا
ّ ش َّقتي .وبعد السؤال عن
نتحادث ونتبادل الكؤوس املثلَّجة ،ونتجاذب أطراف أحاديث ،من هنا
94
وهناك .وكانت أحاديثنا عابرة ال رابطة بينها ،وال هدف لها ،إىل أن سألني
سليم عن رحلتي إىل باريس ،وكيف قضيت أ ّيام إجازتي هناك ،وملاذا
بكل هذه الرسعة ،عىل خالف عادتي .وماذا عملت خالل هذه األ ّيام عدت ّ
الحب والجمالّ القالئل ،وكيف قضيت تلك الياليل يف ج ّو باريس ،مدينة
كل أسئلته ،إجابات قصرية مقتضبة ،دون واإلغراء ..وكنت أجيبه ،عىل ّ
أن أتع َّرض إىل ذكر موضوع االعرتافات؛ خوفا ً من أن يتَّهمني بمخالفة
العهد الذي قطعته له عىل نفيس ،واكتفيت بأن ذكرت له كيف كنت أجلس
ّ
املطل عىل النهر ،اقرأ لها القصص الفرنسية، مع جانيت يف رشفة الفندق
وهي تستمع إيلّ بإصغاء ،وكيف نقيض ليالينا بعد ذلك ،دون أن أتع َّرض
إىل ذكر االعرتافات ،لكنه لم يدعني استم ّر يف تجاهيل للموضوع ،فأفرغ
كأسه الثالثة يف جوفه ،ثم عاد يسألني:
ولم أستطع اإلنكار ..لم أستطع أن أتمادى يف عدم مواجهة الواقع ،فقلت
له:
-أجل ،لقد وعدتك ،لكنك لم تعلم إنني كنت متلهِّفا ً عىل معرفة ّ
رس
رس الذي كتبته بقلمك يف هذه الصفحاتهذه االعرتافات ..عىل معرفة ال ّ
95
o=p\8!T
أتمكن من مقاومة الشعور الذي يعتمل يف داخيل، َّ الخرساء؛ لذا لم
ويدفعني ،رغم أنفي ،إىل قراءة اعرتافاتك .أرجو أن تسامحني ،يا سليم.
إنني ال ألومك عىل ذلك لو فعلت ..ال ألومك أبدا ً عىل إخالفك بالوعد ..لكن،
قل يل :هل انتهيت منها؟؟
-ال ..لم أقرأ منها ّإل قليالً .كنت كلَّما حاولت االسرتسال يف قراءتها،
عاكستني اللعينة (جانيت)...
-أعتقد أنك قلت« :إن االتفاق قد َت َّم عىل أن يكون القران يوم 25أكتوبر،
و(الدخلة) يوم الخميس 29 ،منه».
-إذن ،فأنت لم تصل ،بعد ،إىل اليشء الذي كنت تبحث عنه ،ولم تعرف
ماذا َت َّم بعد القران ،ولم تعرف ماذا حدث بعد ليلة الدخلة ..لم تعرف
ّ
ميض سنة واحدة عىل ليلة الدخلة؟؟ ماذا حدث بعد
-لم أعرف شيئا ً من ّ
كل هذا ،ألن (جانيت) كانت تمنعني من االسرتسال
96
سأطلع عىل ّ
كل يشء ..يف املستقبل. يف القراءة ،لكنني َّ
-ال ..إن ذلك ال يكلِّفني شيئاً .أمامنا عّدة ليا ٍل ،قد ال نجد لها حديثا ً أمتع
من هذا الحديث .أنت تدرك أن ليايل طرابلس ليست مليئة كليايل باريس
القصة.
ّ الصاخبة ،فلنمألها بهذه
ومنذ تلك الليلة ،بدأنا نلتقي ،أنا وسليم ،يف ش َّقتي ،بعد التاسعة من مساء
ّ
وبكل د ّقة، قصته التي أنقلها إليك ،هناّ ،
بكل أمانة، كل يوم ،وبدأ هو ي ّقص ّ ّ
حتى تقف بنفسك عىل لون من ألوان حياة الناس يف هذا املجتمع ..أنقل
إليك صورة ّحية واقعية لحياة أرسة من هذه األرس الكثرية التي تعيش
خلف الجدران ..جدران البيوت التي ترتاءى لنا ،يف كثري من األحيان ،أنها
تعيش يف دعة وأمن وسالم .ولو َقدّر لنا أن نخرتق الجدران ..أن ندخل
97
o=p\8!T
البيوت من غري أبوابها ..من نوافذها ،لهالَنا ما نراه ،وما نشاهده داخلها.
قصته ،فقال:
بدأ سليم يروي ّ
ما إن كان يوم االثنني 25 :أكتوبر ،سنة ،1951حتى َت َّم عقد قراني
عىل مريم ..عىل الفتاة التي اخرتتها بنفيس ،بمحض إرادتي ،بالطريقة
التي تراءت لها أنها طريقة مثىل ..سألت عن أرستها ،وسألت عن مستوى
تعليمها ،وسألت عن طريقة حياتها ،فعرفت عنها اليشء الكثري .و ّقدمت
يل يف طبق من ذهب خالص ،كما يقولون ،فخلتها هي الفتاة التي أبحث
عنها ،والتي ال يمكنني أن أسعد يف الحياة مع غريها من النساء ..هكذا،
أي يوم من األ ّيام ..وهكذا
ص َّورها يل عقيل الذي لم يعرف ما هي املرأة ،يف ّ
ص َّورها يل الذين شكروها أمامي.
شعرت ،يف حرارة أ ّيام وليايل وأشهر الزواج األوىل ،بكثري من الراحة،
بكل عواطفي، أحب مريم ..أحبّها ّ وبكثري من الطمأنينة ،وأحسست بأنني ّ
حب يف حياتي القاحلة املالحة، ّ
بكل حرارة حبّي البكر ،ألنها كانت أ ّول ّ
فأنا لم أج ِّرب حبّا ً قبل حبّها ،ولم أعرف فتاة غريها ..لم أج ِّرب قبل حبِّها
حبّا ً عميقا ً متبادالً ،باملعنى الصحيح املتعارف عليه للحب املتبادل بني
كل حبيبني ..لم أجرب مثل هذا الحب ،وإن كنت قد مررت بتجربتني، ّ
قبل ذلك ،ال أريد أن أخفيهما عنك يا دكتور ..كانت تجربتي األوىل عندما
أحببت إحدى قريباتي ..تع َّرفت إليها بحكم القرابة منذ الصغر ..منذ أن
كنّا نلعب معاً ،ونجري معا ً هنا وهناك ،دون رقيب ،ومن غري مراقبة،
حب عميق أخذ يقوى ويشتدّ ،شيئا ً فشيئاً، بحب؛ ّ
وشعرت يؤمئذ ،نحوهاّ ،
رغم أنني لم أصارحها به ،ألنني يف تلك الفرتة البعيدة ،من أ ّيام طفولتي ،ما
(الحب).
ّ كنت أعرف أن هذا الشعور الذي أشعر به نحوها هو ما يس ّمونه
وتغيت نظرة َّ وتغيت نظرتنا إىل الحياة،
َّ وم ّرت ،بعد ذلك ،فرتة طفولتنا،
كل منّا نحو اآلخر؛ بدأت هي تنظر إيلّ عىل أساس أنني رجل ،وأنا أنظر ّ
إليها عىل أساس أنها امرأة ..بدأ جسدها يكتنز ويكتسب طابع األنوثة..
بالتغي املفاجئ الذي حدث يف مشاعرنا وعواطفنا ،فسارعوا ُّ وشعر أهلنا
كل منا عن اآلخر ..حجبوها عني ،ولم يعودوا يسمحون لنا إىل إبعاد ّ
باللقاء أو االجتماع أو اللعب معاً ،كما كنّا أ ّيام زمان ،فلم تعد تراني ولم
99
o=p\8!T
أعد أراها .لم نعد نلتقي وال نلعب معاً ،وال تجري هنا وهناك .ورغم ذلك،
الحب يقوى عىل م ّر األ ّيام والسنني .وعندها
ّ استم ّر حبّي لها ..استم ّر هذا
تحس
ّ أردت أن أخترب شعورها نحوي :هل تبادلني هذا الشعور؟ .هل
الحب ال يس ّمى حبّاً ،باملعنى الصحيح ،أو ّ أحس به؟ فلقد تعلَّمت أن
ّ بما
اليكون وسيلة لسعادة الناسّ ،إل إذا كان حبّاً ،متبادال ً بني الحبيبَ ْي ،وأنا
ال أستطيع أن أحكم عىل نوع حبِّنا هذا ،أو -باألحرى -حبّي هذا؛ إذ إنني
تحس
ّ ال أعرف شعورها نحوي ،وإن كانت تحبِّني كما أحبّها .وإن كانت
أحس بها كلّما سمعت صوتها ،أو الحديث عنها! ّ بمثل تلك الرعشة التي
كل ذلك ،كثريا ً كان أم قليالً ..فحاولت أن أ َّتصل
أنا ال أعرف شيئا ً عن ّ
بها ..أن أسرب غورها ..أن أكتب إليها رسالة ،وأطلب منها أن ِّ
تبي يل
موقفها مني أو موقفها من حبِّي لها ،وكدت أفعل ..كدت أكتب إليها ّ
بكل
شاب
ّ وأحس ،لوال أنني علمت ،يف آخر لحظة ،أنها تميل إىل ّ ما أشعر به
عشا ً سعيداً،
آخر قريبها هو ،أيضاً ،وأنها تو ّد لو تتز َّوجه ،وأن تبني معه ّ
غري أنني لم أصدِّق شيئا ً م ّما سمعت ،ولم أستطع أن أجزم برأي محدَّد يف
املوضوع ،إىل أن كان يوم ،جاءني فيه قريبها هذا يقول:
-افرض أن ما تقوله ّ
حق ،فماذا تريد مني؟
100
كل ما يف األمر أنني أطلب منك أن ِّ
تبي موقفك يف -ال أريد منك شيئاًّ ..
رصاحة ورجولة .قلت لك إنني أرغب يف الزواج منها ،لكنني ال أريد أن
أقيم حياتي الزوجية عىل أنقاض حياتك أنت ،وسعادتك ،فإذا كنت ترغب
فيها ،وتحبّها :فهي لك ،تقدَّم إليها ،واطلب يدها ،وستجدني يف عونك،
ّ
وإل فدعني أتقدَّم إليها أنا.
يحب فتاته ،وأنها تحبّه هي األخرى ،وأنه مص ِّمم ّ وأدركت أن صاحبي
عىل طلب يدها ،لكنه ق َّرر أن يأخذ رأيي أنا يف املوضوع ،أ َّوالً ،حتى ال
يعكر صفو صداقتنا ،فقد كنا أصدقاء، يحدث بيننا ،نحن -االثنني -ما ّ
َّ
وتوظفنا يف يوم واحد :أنا يف درسنا معاً ،سنة بعد سنة ،وتخ َّرجنا معاً،
نظارة املواصالت ،وهو يف نظارة األشغال .وما إن سمعت كلمات صديقي
ويخيني،ِّ هذا حتى شعرت ،يف قرارة نفيس ،بأن الذي يقف أمامي اآلن،
ويفضلني عىل نفسه إنما هو إنسان عمالق ..إنسان ارتقت به إنسانيَّته، ِّ
ً
(عملقة)، أقل منهفأردت أن أثبت له إنسانيَّتي ،أنا اآلخر ،وال أكون ّ
فسارعت أجيبه عىل الفور:
-مربوك ..تقدَّم أنت ،يا أخي .إنك أ َ ْوىل بها مني؛ فأنت تحبّها وهي تبادلك
الحب ،وأنا لن أقف مطلقا ً حجر عثرة يف سبيل سعادتكما ،ونم ّو ّ هذا
كل سعادة حبّكما ..أنني أهنِّئك من صميم قلبي ،مقدَّماً ،وأرجو لكما ّ
وهناء.
101
o=p\8!T
هذه حادثة ،أ ّما الحادثة الثانية ،فهي أقرب إىل الخيال منها إىل الحقيقة،
وقعَتْ عند ما تع َّرفت إىل فتاة ،عن طريق الصدفة .كنت وقتها أقيم مع
أرستي يف الريف ،وآتي إىل الحارضة ،يومياً ،بواسطة السيّارة العا ّمة،
وكانت هي تعمل مد ِّرسة يف الدورة املسائية يف قريتنا ،فكانت الصدف
تجمعنا ،يف السيارة ،عند عودتي أنا من العمل ،وذهابها هي إىل املدرسة.
الحب،
ّ وشيئا ً فشيئاً ،حدث بيننا قليل من التقارب ،انقلب إىل نوع من
أحس بفراغ قاتل يمأل ّ كل منا نحو اآلخر؛ فقد كنت ،وقتذاك، شعر به ّ
ّ
اململ .وعندما تع َّرفت جوانبي ،وأن عيلَّ أن أبحث ع ّما أمأل به هذا الفراغ
أفكر يف يشء سوى أنها فتاة تتحدَّث معي ،وتكاتبني، إىل هذه الفتاة ،لم ّ
وتعب يل عن بعض ما تشعر به .إذن ،فهي تح ُّبني؛ ما يف ذلك من ّ
شك، ِّ
فاندفعت يف حبِّها من غري وعي أو تفكري ،وبادلتها املكاتبات ،لكنها
كانت حاذقة ،إذ رسعان ما استغلَّت الظرف املناسب ،وأخذت تر ِّوج ،بني
الحب الذي نشأ بيننا، ّ صديقاتها ومعارفها وصويحباتها ،أخبار هذا
القوي .وبلغتني
ّ وتريه ّن رسائيل إليها ،وتخربه ّن أن الزواج سيت ِّوج حبَّنا
أفكر ،أبداً ،يف يشء اسمه الزواج كل هذه األنباء فدهشت وعجبت ،فأنا لم ِّ ّ
وكل ما كنت من هذه الفتاة؛ لعدّة اعتبارات شخصية ،وأخرى عائليةّ .
أحس به إنما هو ميل نحوها يدفعني ملحادثتها ومراسلتها ،ال أكثر من ّ
أقل ..كنت أريد أن أشعر نفيس بأنني لست وحيداً ،يف هذه الدنيا، ذلك ،وال ّ
ويحس بإحساساتي ،يمكنني ّ وأن هناك شخصا ً آخر يشعر بمشاعري،
أن أكتب إليه وأن أبثّه أشجاني ،وأن أنتظر ،بعد ذلك ،ردوده عىل رسائيل،
حتى أمأل فراغ حياتي ،إىل أن جاءتني شقيقتي فطومة تقول:
لكل وحدة ...الدنيا كلّها سمعت بحكايتكم، -هي ..هي تقول فيه ّ
و ُق ِرئت جواباتكم ..قالت :سليم يحبّني وبيني وبينه جوابات ،ووعدني
بالزواج .»..هو أنت مجنون يا سليم؟ هي هذه امرأة تمأل بيت وتع ّمر
حوش؟ إذا كنت صحيح ناوي تتز َّوج ،قول لنا بس ،وأحنا نختار لك
البنت اليل تعجبك ...بنت أكرب كبريها نجيبوها لك.
وفعالً ،أوفيت بوعدي؛ فمن يومها لم يعد يشء بيني وبني هذه الفتاة..
قطعت ّ
كل عالقة يل بها ،ولم أعد ّ
أفكر ّإل يف العثور عىل فتاة أ َّتخذها زوجة
حب عميقبحبّ ..
يل ورشيكة حياة ،إىل أن تز َّوجت مريم ،وشعرت نحوها ّ
قوي ،لم أشعر بمثله من قبل ،وأحسست بأن هذه هي الفتاة التي كنت ّ
كل يشءأبحث عنها ،منذ سنوات ،لتمأل فراغ قلبي وفراغ حياتي القاحلةّ .
103
o=p\8!T
يف مريم كان يعجبني ،ويرضيني ،ويجعلني أحمد الله ،صباح مساء،
ِّ
ويعذبني، عىل إتمام زواجي بها .يشء واحد كان يقلقني ،من ناحيتها،
أي
ويح ِّيني ..هذا اليشء لم أكن أهت ّم به ،ولم أكن أحسب له ّ ويؤ ِّرقنيَ ،
حساب ...هذا اليشء هو الذي ما كنت أعتقد أنه يستطيع أن يسيطر عىل
كل هذا العذاب ،و ُيقلق راحتي ّ
كل كل هذه السيطرة ،ويع ّذبني ّ حياتي ّ
الحدّ ...وهذا اليشءهذا اإلقالق ،وينقص من شعوري بالسعادة إىل هذا َ
أيأي وزن ،وال يعريه ّ أي واحد منّا حساباً ،وال يقيم له ّ الذي ال يحسب له ّ
يفكر يف الزواج ...يف ربط حياته بعجلة حياة إنسان آخر، اهتمام ،عندما ِّ
هو الذي َقلَب حياتي الزوجية املستق ّرة السعيدة رأسا ً عىل عقب ،فجأ ًة،
ودون سابق إنذار ،فح َّولها من نعيم إىل جحيم ،ومن سعادة إىل شقاء،
ومن راحة إىل عذاب ...هذا اليشء هو أن مريم لم تكن متجاوبة معي،
فكر ّيا ً وعقليّاً ،ووعيا ً وإدراكا ً وتقديرا ً للحياة وظروفها وتط ُّورها.
لم تكن أفكارها قريبة من أفكاري ،وال آراؤها قريبة من آرائي ،وال نظرتها
إىل الحياة قريبة إىل نظرتي إليها .كنت أعيش ،بأفكاري ،يف وادٍ ،وهي
تعيش ،يف وا ٍد آخر ،بآرائها وأفكارها ...كنت بعيدا ً عنها بقدر ما كانت
كل ذلك ،ويف بداية أ ّيام حياتي الزوجية،هي بعيدة عني ،كذلك .ورغم ّ
الحب األ َّول ،يف دوامة الفرحة بوجود أنثى إىل جواري ،تمنحني
ّ يف غمرة
ُ
جسمها وشبابها وأنوثتها ،يف تلك الفرتة ،لم أقِم كبري وزن للموضوع ،وال
أي قدر من االهتمام ،وقلت ،يف نفيس( ،معت ّزا ً بقدرتي ومقدرتي) أعرته ّ
أن الوقت وحده كفيل بالقضاء عىل هذه الحال ،وهو كفيل -أيضاً -بأن
يق ِّربها مني بمرور الزمن ،وبحكم املعارشة والتأثري.
وانقىض الشهر األ َّول ،وتبعه الشهر الثاني ،عىل زواجنا ،ثم ِّ
توف والدي
104
بالسكتة القلبية .ويف غمرة موجة الحزن واألىس التي اجتاحتني بعد
أحس أو أشعر بيشء م ّما يحيط بي ،ولم أفِق من ّ موت والدي ،لم أعد
تلك الصدمة املؤملة التي أصابتني ،والتي اختطفت مني والدي وأفقدتني
إياه ،دون أن ترتك يل فرصة محاولة إنقاذه؛ ما زاد يف حزني وأساي
ولوعتي ،يف غمرة موجة الحزن التي ما كنت أتو َّقع حدوثها بمثل تلك
الرسعة واليرس والسهولة والبساطة ،أيضاً؛ إذ لم يكن يخطر يف بايل ،أبداً،
أن أبي الذي يحبّني وأحبّه ،يمكن أن يموت ،وأن يتغلَّب عليه القدر ،أن
يقهره األجل ،وينتقل من عالم األحياء إىل عالم األموات ،يف دقائق ...يف
لحظات ،فأنا الزلت ،حتى اليوم ،أذكر الحادث ،وكأنه لم يم ّر عليه سوى
ساعات قليلة :كان أبي ،ليلتئذ ،قد تناول عشاءه ،كاملعتاد ،وجلس يرشب
قهوته ،بينما جلست أنا عن يمينه ،فوق حشية من الصوف ،أطالع إحدى
القصص الصادرة حديثاً ،وجلست مريم قبالتنا ،نحن -االثنني -تط ِّرز
مفرشا ً للمائدة .وفجأ ًة ،صاح أبي متألِّماً ،وهو يقول يل« :أعطني كأس
ماء ،يا سليم» ،وناولته املاء وأنا أسأله« :ما بك ،يا أبي؟» ،فلم يزد عىل
أن أشار إىل قلبه .ووقفت أمامه حائرا ً بما أفعل :هل أذهب إىل الدكتور،
أناديه؟ وإذا ذهبت ،فمن يدري ماذا يحدث بعدذلك؟ ...أم هل أبقى إىل
أترصف؟ ولم ينقض وقت طويل عىل حريتي َّ جواره ،ريثما يهدأ قليالً ،ثم
تلك ،حتى شعرت بأبي يتداعى فوق صدري ،وأنفاسه تتباطأ ،شيئا ً
فشيئاً ،وما هي ّإل دقائق معدودة ،حتى كانت روح أبي يف العالم اآلخر.
بكل هذه السهولة واليرس والبساطة ،مات أبي! وكأنه لم يعشهكذاّ ،
معي ما يقرب من الثالثني سنة .هكذا ،انتقل أبي إىل العالم اآلخر،
وفارقني إىل غري رجعة ،ليرتكني وحيداً ،أصارع الحياة وتصارعني ،دون
105
o=p\8!T
سند أو مرشد؛ فقد كنت أعتمد عليه يف كثري من أمور حياتي ،وكنت أرى
فيه قائدي ومرشدي ودلييل .وعندما مات ،فقدت ّ
كل ذلك :فقدت املرشد
والقائد والدليل ،وتراءت يل الحياة أشبه بالصحراء املرتامية األطراف،
ال أ َّول لها وال آخر ،وأنا ال يمكنني أن أسري يف طولها وعرضها ،إذا لم
ويوجهني ،فكان حزني عليه أش ّد كثريا ً م ّما كنت
ِّ يكن معي من يرشدني
أتص َّور ،وم ّما كنت أتخيَّل ...كان أملي لفراقه أعظم م ّما كنت أظ ّن .وبدأت
أعيش يف حرية ...يف أىس ...يف حزن ،م ّد ًة تزيد عىل الخمسة أشهر ،لم
أحس يف أثنائها بيشء .كانت الصدمة قاسية ّ أشعر خاللها بيشء ،ولم
كل مشاعري ،وتركتني يف دوامة ال تتو َّقف أبداً .وعندما
مر ّوعة ،أفقدتني ّ
كل يشء يف حياتي أفقت من حالة الذهول التي أُصبت بها .فوجئت بأن ّ
تغي وتبدَّل ...شعرت بأنني لم أفقد أبي ،فحسب ،بل فقدت الكثري من
قد َّ
القيم واملعايري واملعاني ،ووجدتني يف حرية من أمري ...يف دوامة ّ
تلف بي
ذات اليمني وذات الشمال ،يف عنف وقسوة.
وذات يوم ،عدت إىل بيتي ،أبحث يف جنباته عن قليل من الراحة والهدوء
واالستقرار .دخلت حجرة الجلوس ،وارتميت عىل أ ّول مقعد صادفني،
وأخذت ِّ
أفكر يف الحال التي أصبحت فيها ،يف الوضع الذي وجدتني فيه:
أحس بالشقاء يالحقني؟ ملاذا أشعر
ّ ملاذا أشعر باأللم يعترصني؟ ملاذا
بالتعاسة تمأل وجداني؟
107
o=p\8!T
يف هذه الرحلة حتى آخرها ...زوجتي هذه بعيدة عني ...بعيدة جدّاً...
ُب ْعد السماء عن األرض ...هذه الزوجة التي اخرتتها بنفيس ...بمحض
إرادتي ،ولم يفرضها أحد عىل حياتي ،واعتقدت يومها ،يوم اخرتتها ،أنها
أقرب الناس إيل ،فإذا بي اآلن ...يف هذه الجلسة ،ومن خالل هذا الحديث،
تتمكن ،أبداً ،من أن تتواصل َّ أحس ،أنها أبعد املخلوقات عني ،وهي قد الّ
معي ،مهما حاولت هي ،ومهما حاولت أنا ،إذا لم تحاول تنظيف عقلها
تعشش داخله ...إنها ،اآلن ،ال تهت ّم بما أهت ّم به ،وال من السخافات التي ِّ
تقيم وزنا ً لهذه األشياء التي تشغل بايل ،وتستويل عىل جميع تفكريي ،يف
كل ساعة من ساعاتي أ ّيامي وليايلّ ...هذه األشياء تراها هي أشياء تافهة، ّ
ال قيمة لها وال وزن ...فهي -مثالً -ترى أنني أضيِّع وقتي يف القراءة ويف
املطالعة ،وأضيِّع وقتي يف الكتابة ،وأضيِّع وقتي يف حضور االجتماعات
وسماع املحارضات ،واملشاركة يف املناقشات ،وأرهق نفيس ،وأكلِّفها فوق
طاقتها بهذه الحركة املستم ّرة ،التي ال أحصل من ورائها عىل أ ّية مكافأة
ما ّد ّية ،كما أنها تعجب ،ويذهب بها العجب مذاهب شتّى ،كلّما رأتني
أحض الجتماع من متأخرة من الليل ،أطالع أو أكتب ،أو ِّ ِّ أسهر إىل ساعة
هذه االجتماعات التي تع َّودت عليها.
أشعر ،اآلن ،شعورا ً حقيقيا ً بأن زوجتي بعيدة عني ..بعيدة جدّاً ،بعد
األرض عن السماء ..إنها ليست من ذلك الطراز من النساء الذي كنت
أبحث عنه ،والذي اعتقدت إنها منه ،أنها تختلف عني كثرياً.
أع منه
وأنهت مريم حديثها معي ،ذلك الحديث الذي لم أفه َم ،بل لم ِ
كثريا ً وال قليالً ،ثم قامت واقفة لتخرج ،فطلبت منها أن تجهِّز يل فنجانا ً
من القهوة .وبينما هي تع ّد القهوة ،بقيت أنا وحدي ،فعدت إىل املوضوع
108
نفسه أناقش فيه عقيل ،وأقارن بني مريم هذه الواقفة أمامي ،اآلن ،بلحمها
ودمها ،بطولها وعرضها ،وبني الصورة الخيالية التي ك َّونتها عنها ،قبل
أن أعرفها وقبل أن أ َّتصل بها؛ تلك الصورة الذهبية التي رسمتها لها يف
عقيل ...رسمتها لزوجتي يف خيايل لقد كانت صورة تش ّع نوراً ،وتبعث
شك -الحرمان والكبت والبعد عن عىل األمل والرجاء ،صورة أمالها -وال ّ
املرأة ..لقد كانت صورة خيالية ،أبعد ما تكون عن حقيقة هذه املرأة
املاثلة أمامي ،اآلن .هذه هي الحقيقة امل ّرة املؤملة التي تصيح يف وجهي
معلنة جهيل وغباوتي .ويف دوامة هذه الحقيقة القياسية الصارخة، ً
غبي ،فندمت عىل زواجي ..ندمت اكتشفت أنني جاهل ،واكتشفت أنني ّ
رسعي ،ودفعني ندمي إىل الثورة ،الثورة عىل هذه األوضاع املقلوبة عىل ت ُّ
التي تسوقنا إىل حياة ال نرغب فيها ،وتجربنا عىل أن نمثِّل أدوارا ً ما
مخيين ،الثورة عىل هذه القيود َّ كنّا لنقوم بها ،وما كنّا لنأتيها لو كنا
والسالسل التي تكبِّلنا وتقيِّدنا باسم (القدر واملكتوب) ،هذه األسماء التي
ال ندرك لها معنى ،وال نفهم أو نفقه لها هدفا ً وال مدلوالً ،فلماذا ُخل ِقت
نستغل هذه العقول ،وال نش ِّغلها وال ّ لنا عقول -إذن -إذا كتب علينا ّإل
ِّ
نحكمها؟ ما فائدتها؟ ما ميزتنا بها؟!!
أليست هذه القيود هي التي تحجز ح ِّر ّياتنا ،وتجعلنا ،ال فرق بيننا وبني
أي حيوان ال يتمتَّع بميزة العقل واإلدراك والتعبري؟
ّ
شعرت بأنني أثور ..أنقم عىل وجودي ..عىل حياتي ،لكنني خفت أن
ضح أمري ،عندما تزيد ثورتي ،فكبحت جماحي ،وعدت ِّ
أفكر بعقيل، ُيفتَ َ
َّ
فتذكرت أنني ،قبل بضعة أشهر ..قبل أن يت ّم زواجي بمريم ،كنت أتو َّقع
أن تكون مريم من هذا الطراز النسائي ،من الخامات الجامدات ،الالئي
109
o=p\8!T
ال يتفاعلن مع الحياة التي يعشنها ،وال يشعرن بوجودهن ،وال يحسسن
بشخصيّاتهن ،فق َّررت ،عند ذاك ،بيني وبني نفيس ،أن أحاول املستحيل،
كل ما يف وسعي لرفع مستوى مريم إىل مستواي ..أن أجعل أن أعمل ّ
أفكر ،وتحكم عىل الحياة كما تفكر كما ِّ
منها إنسانة أخرى ..أجعلها ِّ
أحكم عليها ،وتنظر إليها باملنظار نفسه الذي أنظر إليها منه .لقد ق َّررت
أن أفعل ذلك ،ال ألمحو شخصيَّتها واستقاللها اإلنساني من الوجود،
وأجعلها نسخة مني ،طبق األصل ،بل ألجعل منها إنسانة تتجاوب معي
تتمكن من وضع يدها يف يدي لنسري معا ً عىل درب َّ وتفهمني ،و-من َث َّم-
الحياة حتى النهاية .ق َّررت ذلك منذ بضعة أشهر ،فقط ،فما بايل اليوم
تنقض سنة واحدة عىل زواجنا ،بعد؟ ..هل فقدت ِ أثور وأنقم عليها ،ولم
قدرتي عىل إصالح أمرها؟ هل قمت بأ ّية محاولة معها وفشلت فيها؟
ماذا فعلت ،حتى اآلن ،إلصالح عقلها وتفكريها ،وإلصالح نظرتها إىل
شك -لم أفعل شيئا ً من ذلك ،حتى اآلن، الحياة واألحياء؟ إنني -بدون ّ
كل هذه األشهر حظي معها ،رغم مرور ّ ولم أقم بأ ّية محاولة ،ولم أج ِّرب ّ
كل هذا اإلهمال ،من جانبي ،أن ألومها يحق يل ،بعد ّ
عىل زواجنا ،فكيف ّ
أو أ ْيئَس من إصالح أمرها؟ كيف يجوز يل أن أنقم عليها ،وأمأل نفيس
بالثورة عليها؟
وعادت مريم تحمل فنجان القهوة ،ثم وضعته أمامي ،دون أن تفوه بكلمة
واحدة ،والتفتت إىل الوراء تبغي الخروج من الحجرة ،فأمسكتها من
يدها مبتسماً ،وطلبت منها أن تجلس بجواري ألن يل حديثا ً طويالً معها.
وجلست مستسلمة ،ويف عينيها نظرة استغراب واستفهام ،شحنتها بكل
التعجب لهذه الدعوة غري املنتظرة مني .ورشفت
ُّ ما يف العالم من عالمات
110
قليالً من فنجان قهوتي ،ثم م ّرت فرتة صمت بيننا ،دون أن أنبس بكلمة،
وكأنني أهيِّئها لسماع ما سأقول لها ،ثم اعتدلت يف جلستي ،وقلت:
هل رأيت ّ
كل هذه الكتب التي تعمر تلك الخزانة؟
وه َّزت رأسها ،دون أن تجيب بكلمة ..أشعلتُ أنا سيجارة ،وبدأتُ أنفث
دخانها ،يف هدوء ،حلقات فوق رأيس ،ثم تابعت كالمي:
-وما دخيل أنا يف ذلك؟ لو سمعت كالمي ملا أتعبت نفسك يف رشاء ّ
كل هذه
الكتب ...ما فائدتها لك؟
ولم َت ُفه بكلمة ...فوجئَتْ بكالمي هذا ،الذي لم تكن تتو َّقعه ،فاكتفت
بالحملقة ،تار ًة يف مجموعة الكتب املوضوعة أمامها يف الخزانة ،وتار ًة يف
وجهي ،ولم أمهلها ،فعدت أقول:
ما رأيك؟ .إنها فكرة جميلة ،بل صفقة مربحة ،أليس كذلك ،يا حبيبتي؟
ثقي بأنني ال أقول لك هذا الكالم هكذا ملج َّرد تمضية الوقت معك ،بل إنني
سرتحبني بالفكرة
ِّ أقصد ما أقول ،وسأيف لك بوعدي ،وأنا عىل يقني أنك
الجهنَّمية املدهشة التي تفتَّق عنها عقل محبِّك ،ألنها ستساعدك -دون
شك -عىل تنمية ثقافتك وتوسيع أفق تفكريك.
111
o=p\8!T
سكتُّ ،أنظر وقع كلماتي عليها ،بعد أن جعلتها أمام األمر الواقع...
وسكتت هي كذلك ،ولم تجب ،بل اكتفت بالحملقة وبتصويب نظرها إىل
اليشء .ويف رسعة ،قمت إىل الخزانة اختار الكتاب الذي أبدأ به محاولتي
أو تجربتي مع مريم ،واخرتت كتابا ً اجتماعياً ،عنوانه «كيف تحافظني
عىل زوجك» ،يتحدَّث ،بأسلوب سهل مبسط ،ممتع أشبه ما يكون بأسلوب
القصة ،عن الطريقة املثىل التي يجب عىل املرأة ا ِّتباعها لالحتفاظ بزوجها ّ
إىل جانبها ،مدى الحياة ،دون أن ترتك الفرصة أل ّية امرأة أخرى كي
تسلبها إ ّياه ..وناولتها الكتاب قائالً:
-اقرئي هذا الكتاب ...ابدئي به ...إنه ذو فائدة ّ
لكل زوجة تريد االحتفاظ
املتوسط...
ِّ بزوجها ...حجمه صغري ال يزيد عىل ( )120صفحة من الحجم
ستنتهني منه رسيعاً..
أخذت الكتاب من يدي ،ونظرت إىل عنوانه ،فتص َّفحت بعض صفحاته،
ثم عادت فأقفلته ،وأمسكت به يف يدها ،والتفتت نحوي تسألني ،يف خجل:
شك يف أنك تعرف ،يا سليم ،أن دراستي محدودة ،وهي ،أبداً ،ال
-ال ّ
تساعدني عىل فهم ّ
كل ما أقرأ.
-ليس امله ّم أن تفهمي ما تقرئني ...امله ّم ،يف املرحلة الحارضة ،أن تقرئي
فحسب ،حتى تتعودَّي عىل القراءة ،وتصبح لك عادة كعادة األكل والنوم.
كل ما يه ّمني أن تملئي أوقات فراغك بالقراءة واملطالعة ،حتى تصبح لك ّ
خاصة محبَّبة ،وأنت تعرفني أن هوايتي ّ هواية ...إن ّ
لكل إنسان هواية
الوحيدة هي املطالعة ،فاجعيل هوايتك مثل هوايتي ،حتى نلتقي ،ولو يف
منتصف الطريق ،أم ترى لك هواية أخرى تميلني إليها؟
112
-ال -والله -ليست يل أ ّية هواية ...إنما مشكلتي يف الفهم.
تفكري يف مشكلة الفهم .إن الطفل عندما يبدأ -يا حياتي ،يجب ّأل ِّ
الكالم يقول كلمات ،ويردِّد جمالً ،هو ال يفهمها ،ثم -بالتدريج ...خطوة
خطوة -يصبح قادرا ً عىل فهم الكلمات التي يقولها ،وبردِّدها .يكفي أن
تفهمي ،اآلن )% 50( ،م ّما تقرئني.
ولم أزد أ ّية كلمة أخرى ...اكتفيت بأن ر َّبتُّ عىل ظهر يدها ،ثم قبَّلتها
ِّ
متأخرة قبلة عىل وجنتها ،وخرجت من البيت .يومها ،لم أعد ّإل يف ساعة
من الليل ،وعندما وجدت نور حجرة النوم ال زال مضاءً ،شعرت بالفرح
يغمرني ،فدخلت الحجرة متسلِّالً ،وإذا بي أجدها نائمة والكتاب إىل
جوارها ،فتناولته وقرأت رقم الصفحة التي وصلت إليها ،فإذا هي
الصفحة ( .)11وهنا ،شعرت بالرسور ...بالفرح ...بالسعادة ..بنشوة
االنتصار ..لقد ُو ِّفقت يف أ َّول محاولة قمت بها مع مريم ..لقد انترصت يف
معركتي األوىل مع القيود التي تقيّد عقل زوجتي ،وتفكريها ..ما أغباني!
أخرني حتى اليوم؟. ملاذا لم أبدأ هذه املحاولة منذ زمن؟ .ما الذي َّ
واقرتبت منها أقبِّلها قبلة خفيفة عىل جبينها ،وكأنني أحاول أن أك ّفر عن
حق مريم.. ذنوبي إزاءها ،بقبلتي تلك ..عن جريمتي التي ارتكبتها يف ّ
ولم توقظها القبلة ،فتمدَّدتُ عىل الرسير ،إىل جوارها وسحبت الغطاء.
وأحس بنشوة االنتصار تحيط ّ نمت ،وأنا أشعر براحة كبرية تغمرني،
بي وتغرقني يف بحورها .لقد انترصت ..لقد ح َّققت بعض اليشء ..لقد
ً
صادقة ،يف أن بدأت أسري يف الطريق القويم ..إن مريم املظلومة ترغب،
ترفع من مستواها العقيل والفكري ..إنها تريد أن تسمو بتفكريها عن
تغي من نظرتها إىل الحياة واألحياء ،وأن مستوى تفكري األخريات ..أن ِّ
113
o=p\8!T
تنظر إليها من خالل منظار آخر غري املنظار الذي ألبستها إ ّياه الحياة،
والذي تع َّودت أن تنظر به إليها .ح ّقاً ،إن للمرأة تربيتَ ْي :تربية يف بيت
كل زوج منّا أن يفعل والديها ،وأخرى يف بيت زوجها ،فلماذا ال يحاول ّ
شيئا ً مع زوجته ،مادامت قابلة للتفاعل والتط ُّور؟ وحمدت الله ،يف ليلتي
تلك ،عىل نصيحة ذلك الصديق الذي دلَّني ،ذلك اليوم عىل أرستها ،وقلت
يف نفيس ،إنني بقليل من الجهد ..بقليل من التوجيه ..بقليل من الصرب،
أستطيع أن أخلق من مريم أمرأة أخرى ..امرأة كما أريدها أنا ،وكما
تحس بإحساساتي، ّ كنت أتص َّورها يف خيايل ..امرأة تعيش معي حياتي..
وتشعر بمشاعري ..تصارع معي الحياة ،وتتحدّى معي العادات والتقاليد
والخرافات.
ونمت ليلتي وقلبي مفعم بالنشوة ،وكنت ،طوال ليلتي ،أحلم أحالما ً
حلوة لذيذة عذبة ،فقد رأيتني ،أنا ومريم ،نسري معا ً يف طريق هوائي
أيدينا متشابكة ..كنا ،عندها ،ال نسري عىل األرض بأقدامنا ،وال نطري يف
السماء بأجنحة كما تطري بقيّة الطيور التي نعرفها ،بل نسري ،هكذا ،يف
الهواء ..نسري عىل أقدامنا ،تماماً ،كما نسري عىل األرض ،لكن أقدامنا كانت
ّ
تحف بنا من جانبَ ْي طريقنا ال تالمس األرض ،وكانت الورود واألزهار
الهوائي ،الذي كنا نسري فيه.
عيني ألجد
ّ استيقظت من نومي العذب اللذيذ ،فطارت األحالم ،وفتحت
ضوء الصباح وأشعة الشمس تغمر الغرفة ،ومريم جالسة عىل حا ّفة
الرسير ،بجواري ،تنظر إىل وجهي نظرات ذات معنى ،وكأنها ته ّم أن
تحس
ّ تقبّلني ،لكن شيئا ً ما كامنا ً يف أغوار نفسها ..متغلغالً يف روحها،
به ،يمنعها من أن تبدأني القبالت ..فأنا ال أذكر ،م ّرة واحدة ،منذ أن
114
تم زواجنا ،أن مريم بدأتني بالتقبيل ..كانت ،دائماً ،تنتظر أن أبدأ أنا،
وحتى بعد أن آخذ منها القبلة األوىل ،فهي ال تتج ّرأ ،أبداً ،عىل مبادلتي
التقبيل .حاولت كثريا ً أن أنتزع من نفسها هذا الشعور بالرهبة والخوف
والحشمة ،التي ال مكان لها بني األزواج ،وقلت لها ،م ّرات عديدة« :أنا
ال أكتفي بأن أرى فيك امرأة واحدة فحسب ،لكنني أريد أن أراك نساء
متعدِّدات ..أريد أن أرى فيك الزوجة والصديقة والخليلة ،أيضاً ..أريد
أن أراك تتز َّينني لو كما لو أنك ال تزالني يف أ ّيام زواجنا األوىل ..كأننا ال
كل هذا الوقت» ،غري أن أقوايل ينقض عىل زواجنا ِّ نزال يف (األربعني) ،ولم
تؤثر فيها أو تهت ّم بها.هذه كانت تذهب كلّها أدراج الرياح ،دون أن ِّ
متأكد من أن الذنب ،يف ذلك ،ليس ذنبها هي ،إنما هو ذنب البيئة.. ِّ أنا
ذنب املحيط ..ذنب العقلية التي تسيطر علينا جميعاً ،والتي تقول لنا ،يف
سخافة وحمق« :إذا َت ّم الزواج ..إذا انقضت أ ّيامه األربعون األوىل ،لم يعد
ما هناك يجعل أحد الزوجني يتج َّمل لآلخر».
والحظت مريم نظراتي امللتهبة املص َّوبة إليها ،فأسبلت عينيها ،حتى
تداري النظرة العطىش التي كانت تنظر بها نحوي ،وحاولت أن توهمني
أنها كانت مج َّرد نظرة عفوية غري مقصودة ،ولم أشأ أن أربكها ،فلم
أسألها شيئاً ،ولم أناقشها يف يشء ،بل اكتفيت بأن أخذت منها قبلة
الصباح املعتادة ،التي طبعتها ،يف خ ّفة ولني ،عىل جبينها ،وقمت مرسعا ً
إىل الح ّمام ،ثم جلست معها نتناول وجبة اإلفطار ،عىل صوت املذياع
الذي كان يرسل أنغام أغنية مرحة خفيفة من أغاني الصباح ،جعلتني
أتابع ،باهتمام ،كلماتها وموسيقاها .وتو َّقعت أن يدور حديث مريم،
خاصة أني أعلم أن يف
ّ ذلك الصباح ،حول ما قرأته من مواضيع الكتاب،
115
o=p\8!T
الكتاب أشياء كثرية يمكن أن يدور حولها حديث ونقاش ،وأن يف الكتاب
من الجمل واملفردات ما ال يمكن المرأة مثل مريم أن تفهمها أو تعيها..
توجه إيلّ بعض األسئلة يف املواضيع التي لم تفهمها،
كنت أنتظر منها أن ّ
لكنها فاجأتني بأسئلة سخيفة رعناء ،ال تصدر ّإل عن عقل جامد ،وفكر
ضحل ،ونظرة إىل الحياة ضيِّقة ..فاجأتني بأسئلة نسائية ال ّ
تدل ّإل عىل
الضحالة والسخف والفراغ ..سألتني:
فعادت تسأل:
تنس أن تبلِّغها
هل ستذهب لزيارة خالتك ،اليوم؟ إذا ذهبت إليها فال َ
سالمي.
ولم أجبها هذه امل ّرة ،فاستم َّرت يف توجيه أسئلتها (البائخة) التي ما كنت
أفكر أبدأً ،يف سماعها من زوجتي أنا ..أنا الرجل الذي كان ال ِّ
يفكر يف ِّ
الزواجّ ،إل من امرأة تكون عىل طبعه ومن رأيه ..تتجاوب معه ،وتفهمه،
وتسري معه ،عرب طريق الحياة الطويل ،يف ج ّو من التفاهم وتقارب اآلراء
كل ذلك ،أسمع هذه األسئلة التي ال أريد أن أسمعها من واألفكار ،وبعد ّ
زوجة ،ال أنظر إليها عىل أساس أنها أنثى ،بقدر ما أنظر إليها عىل أساس
أنها إنسانة.
116
مبكراً ،بل أرسلت الخادمة،
كان ذلك اليوم يوم جمعة ،فلم أغادر البيت ِّ
فابتاعت يل جريدة الصباح ،وجلست أقرؤها يف ركن من حجرة الجلوس.
كانت الجريدة تتحدَّث عن أحداث العالم التي تشغل الرأي العام العاملي،
يف ذلك الوقت ..استغرقت يف القراءة ،غري أن مريم لم تشعر باستغراقي
ذاك ،فحاولت أن تستم ّر يف ثرثرتها وحديثها الفارغ التافه ،وأسئلتها
تدل ّإل عىل الفراغ والتفاهة ،رغم أنني نصحتها ،أكثرالسطحية التي ال ّ
بأل تحاول قطع مطالعاتي ،مهما كانت الحال .وانتهيت من من م ّرةّ ،
الجريدة فرميتها جانباً ،والتفتّ إىل مريم أسألها وأناقشها ،محاوال ً أن
أرصف تفكريها عن األمور التافهة ،واألشياء السخيفة ،فقلت:
إن العالم عىل ُف َّوهة بركان ،إن الحرب الباردة ،بني الرشق والغرب،
أوشكت عىل االنتهاء ،لتعقبها -ال َق َّد َر الله -حرب ساخنة ،ال ُتبقي وال تذر.
ونظرت مريم نحوي نظره تساؤل و َبلَه وجمود ،وكأنها تسمع كلماتي
باللّغة العربية التي ال تعرفها ،أو كأنها انقلبت إىل أحد حوار ّيي السيِّد
املسيح ،الذين يفغرون أفواههم كلّما سمعوه ينطق بمثل من أمثاله ،أو
يلقي بحكمة من حِ َكمه .وبعد فرتة صمت لم تطل ،قالت باستغراب:
-إذن ،كيف تقول أن (عالِماَ) عىل فوهة بركان؟ كيف ال يحرتق هذا
117
o=p\8!T
الرجل املسكني؟ .وهل العلم يمنع صاحبه من االحرتاق ،ولو كان يجلس
عىل فوهة بركان؟ ثم ما عالقة الحرب بالعلم؟ وهل يمكن أن تكون هناك
حرب باردة عىل وشك االنتهاء ،وحرب ساخنة توشك أن تعقبها؟!! إنني
ال أكاد أفهم شيئا ً م ّما تقول ،يا سليم!!
وحب ،نظرة مواساة ورحمة ..مسكينة! ّ ونظرت إليها نظرة عطف وحنان
إنها ال تفقه معنى الكلمات ،وال تعي ما تسمع من جمل وأقوال .إن
تفكريها بعيد جدّا ً عن مستوى ما تسمع .إنها إنسانة تعيش يف القرن
العرشين ،لكن عقلها ..فهمها ..إدراكها ..وعيها ،كلّها من مخلَّفات القرن
األ َّول امليالدي .شعرت بعطف عليها ،وأحسست بأنها إنسانة مغلوبة عىل
أمرها ،وهي يف حاجة إىل من يساعدها ويساندها ويأخذ بيدها ،فيسري
بها عرب الحياة .شعرت بفيض من الحنان نحو هذه املخلوقة املسكينة
التي حكمت عليها األ ّيام بأن تكون ضحيّة لأل ّيام ،وامتأل قلبي بالرحمة
والشفقة ،فمددت يدي أمسح بها عىل ظهرها ،يف لطف ومواساة ،وأنا
أقول:
-العالم ،يا مريم هو هذه الدنيا ..الحياة التي نعيشها ..وعندما قلت
العالم عىل ُف َّوهة بركان ،فأنا أقصد أن الدنيا كلّها عىل أبواب حرب عاملية
ثالثة ،ولو ُقدِّر وقامت هذه الحرب ،فستكون حرب إبادة ،ال رحمة فيها
وال شفقة ،وال تكون نتيجتها غالبا ً ومغلوباً ،بل الغالب واملغلوب كالهما
يف النار ..يف الجحيم.
-عجيب!! يحاولون إشعال نار حرب جديدة؟ ّأل يكفيهم ما قاساه الناس
من ويالت الحرب املاضية؟
118
-إن الساسة الكبار الذي يمسكون بزمام العالم ،ال ِّ
يفكرون يف مصالح
البرش ،لكأنهم ليسوا من طينة البرش ،إطالقاً.
وهنا ،حملقت مريم يف وجهي كالبلهاء ،وكأنها تسمع كالما ً أل َّول م ّرة يف
يؤثر يف عقلها ،فقامت تجري حياتها ،وإن كان قد َّأثر يف نفسها :فهو لم ِّ
إىل املطبخ لرتاقب الغداء املوضوع عىل النار .وتمنَّيت ،يف نفيس ،لو أنها
لم تقم ،لو أنها جلست معي طوال ذلك اليوم تناقشني وأناقشها ،أو-
األقل -أتحدَّث معها يف غري ما تع ّودت أن تحرص أحاديثها فيه من ّ عىل
كل يتمنّى املرء يدركه». املواضيع ،تمنَّيت ذلك ،لكن -كما ُيقال« -ما ّ
واستم ّرت حياتنا تجري وسط هذا البحر ،وعىل أمواجه الصاخبة ،تار ًة
119
o=p\8!T
ال تبتسمي يا حبيبتي ،أنا عىل أت ّم استعداد للدفع .لقد وعدتك ،وال أريد
الرتاجع يف عهدي أو نقض وعدي .إننا يف نهاية الشهر ،وأمس ،فقط،
قبضت مر َّتبي ،ويجب عيلَّ أن أدفع لك ،اآلن قبل أن َّ
يتبخر املر َّتب ،ويدخل
األفواه التي تنتظره عىل أح ّر من الجمر.
120
-أنا لم أقرأ شيئا ً كثرياً ،يا سليم .شغلتني مشاغل الحياة عن القراءة .أنت
تعرف أن الحاجة عويشة قد ز َّوجت ابنتها خالل هذا الشهر ،وأن خديجة
أبق كثريا ً
الورفلية أعلنت خطوبة ابنها ،وأن ..وأن ...وهكذا ،تجد أنني لم َ
يف البيت؛ لذا لم َّ
أتمكن من القراءة.
-أنا ال أريد أن أحاسبك اآلن ..قويل كم كتابا ً قرأت ،وهاك ما تستح ّقني.
وفعالً ،أدخلت يدي يف جيبي استعدادا ً للدفع ،غري أنها سارعت تقول يف
يشء من الخجل واالرتباك:
لم أقرأ سوى كتاب واحد ..الكتاب األ َّول ،فقط ..وحتى هذا ،لم أفرغ منه
بعد ..لم أقرأ منه سوى نصفه ،فحسب.
ذات يوم ،ظننت أنني انترصت عىل جمود عقل مريم ،وأنني ح َّققت
بعض االنتصار ،وقطعت أ َّول خطوة يف طريق التقائي بمريم ..بزوجتي..
برفيقة حياتي ،وإذا بي ،اآلن ،أكتشف أنني كنت واهماً ..مخدوعا ً مغ َّررا ً
بي ،وأن مريم هذه أبعد الناس عني بعقلها وتفكريها ،وإن كانت ألصقهم
بي ،بجسمها وأنوثتها.
121
o=p\8!T
-خذي هذه الورقة ،مكافأة عىل نصف الكتاب الذي قرأ به ،آمل أن تنهيه
عاجالً ،حتى أشري عليك بغريه.
ولم تم ّد يدها لتأخذ الجنيه ،بل نظرت إليه ،من بعيد ،وقالت:
-احتفظ بالجنيه معك ،فأنا أريد أن أشرتي (شال) مثل الذي اشرتته
الخالة فاطمة زوجة عبد الحميد محمود.
وتأججت ثورتي ،فنظرت إليها نظرة احتقار َّ وهنا ،فاض غضبي،
وازدراء ،بعد أن شعرت بأنها بدأت -فعالً -تهوي إىل القاع ..بدأت
طريقها ،يف نظري ،نحو الهاوية السحيقة التي ابتلعت ومازالت تبتلع
كل يوم ،باملئاتَ .خ َطتْ ،يف نظري ،أ َّول خطوة يفغريها من بنات جنسهاّ ،
طريق االبتعاد عني أكثر م ّما هي بعيدة اآلن ،وأجبتها ،يف تأنيب وتحقري:
الحدّ ،يا مريم ..ظننتك أرقى تفكريا ً يؤسفني أن تكوني سطحية إىل هذا َ
وإدراكا ً م ّمن مثلك من النساء ،وإذا بك وبقولك هذا تثبتني يل أنك ال
تختلفني عن أ ّية واحدة من مجموعتك ّن الحقرية .حقا ً لقد ُخذِلت و ُغ ِّررت
فيك ،بل لقد كنت مغ َّفالً -ح ّقاً -يوم اعتقدت أنك تمتازين عنه ّن بأ ّية
ميزة من امليزات اإلنسانية .كنت مغ َّفالً يوم ظننت أنني أستطيع انتشالك
من الهاوية التي ابتلعت غريك من نساء هذا املجتمع املسكني.
122
وغادرت البيت ،يف ذلك اليوم ،ناقما ً ساخطا ً ثائراً ،أبحث عن يشءّ ..
أي
أحس بها تشتعل يف داخيل ،وتحرق يشء أخ ّفف به من لهيب النريان التي ّ
كياني ،وتذيب وجودي .غادرت البيت ،ورست يف الشارع عىل غري هدى.
وخ ِبتها ،بأشكالها ،حتى أصبحت ومن يومها ،عرفت الخمرة ،بأنواعهاَ ،
كل ذلك يف سبيل أن أنىس شدّة خيبتي، (مدمن خمر) ،من الدرجة األوىلّ ،
يعذبني .ورغم ذلك،ومن أجل أن أتخلَّص من الشعور بالفشل ،الذي أخذ ِّ
لم أ ْيئَس من مريم ..لم أ ْيئَس من إمكانية إصالح مريم وتنظيف عقلها
متأخرة من الليل ،ودخلت حجرة ِّ وغسل فكرها .عدت إىل البيت يف ساعة
نومي ،ألجد مريم نائمة يف فراشها ،فأخذت أنظر إليها نظرة فيها كثري
من االزدراء واالحتقار ،وتمدَّدت إىل جوارها ،دون أن أشعر بأ ّية حرارة
مبكراً ،قبل أن تستيقظ هي من أو رغبة مني بها .ويف الصباح ،خرجت ِّ
أحس ،بني الحني ّ نومها ،وقضيت يومي يف زحمة العمل ،لكنني كنت
أحس ،كلّما خ َّفت عني
ّ والحني ،بيشء يخزني ،ب َمثَل وخز اإلبر ،وكنت
زحمة العمل ،بمعركة عنيفة تدور يف رأيس؛ معركة بني عقيل وعواطفي:
أحس بوجودي ..أن أشعر ّ أنا إنسان ومن ح ّقي أن أعيش إنسانيّتي ..أن
أحس أو أشعر بيشء من هذاّ ،إل إذا علمت ّ بكياني ،وأنا ال يمكنني أن
وأدركت أنني أعيش إنسانيّتي .أنا إنسان يريد ،ويف إمكانه أن يح ِّقق
يفكر ويف إمكانه أن يصل ،بتفكريه ،إىل نتائج لنفسه ما يريد ..إنسان ِّ
ّ
إنسان،وكل إنسان ح ّر، إيجابية تساعده عىل الحياة .عقيل يقول يل :إنك
وال يشء يح ّد من ح ّر ّية اإلنسان ّإل حدود ح ّر ّية اآلخرين ..وأنا لم ِّ
أفكر،
أي إنسان آخر ،إنما ،فقط ،أريد أن أعيش يف أبداً ،يف االعتداء عىل ح ّر ّية ّ
حدود ح ِّر َّيتي التي اكتسبتها ،بوصفي إنسانا ً يل عقل ،ويل إرادة ،ويل
ملكة التفكري والتمييز.
123
o=p\8!T
هذا ما يقوله يل عقيل ،لكن واقعي الذي أعيشه غري هذا ،وحياتي التي
كل هذا ،فأنا ،تماماً ،كغريي من أفراد هذا املجتمع ،أعيش
أحياها عكس ّ
يف قوقعة مغلقة ،قوقعة من صنع العادات والتقاليد والسخافات ،وقد
ِّ
وأحطم تلك التقاليد ،وأخرج حاولت ،من جهتي ،أن أكرس هذه القوقعة،
إىل العالم ..إىل الحياة اإلنسانية بفضل مساعدة زوجتي يل ،وإذا بي
اكتشف أن زوجتي التي ظننت ،ذات يوم ،أنها ستكون عونا ً يل يف التغلُّب
عىل ما يعرتض طريقي ويحيل حياتي إىل ظالم ووحشة ،وبفرض عيلّ
أن أعيش داخل هذه القوقعة ..اكتشفت أن زوجتي هي غطاء القوقعة..
هي سدادتها.
وعقيل يقول يل إنني إذا أردت أن أعيش حياتي كما أريد أن أعيشها ،فمن
ح ّقي أن أتخلَّص من جميع العراقيل التي تعرتض طريق سريي ،وأ َّول
هذه العراقيل زوجتي.
إنها ضحيّة مثل غريها من الضحايا الكثرية ،مثيل أنا ،تماماً ،فكما ذهبتُ ،
ضحية ليشء ،ال يد لنا فيه ،وال سلطة لنا عليه ،فما
أنا ذهبَتْ ،هي األخرىّ ،
الذي يدفعني للنقمة عليها ،ومحاولة التخلُّص منها ،بعد إلقاء ّ
كل العبء
فك األغالل التي عىل كاهلها؟ ماذا فعلت من أجلها؟ ماذا فعلت يف سبيل ّ
تكبِّلها وتقيِّد عقلها وتفكريها؟ إنني ،حتى اآلن ،لم أفعل شيئا ً إيجابيا ً ذا
أحس معه بأنني أدَّيت واجبي حيال زوجتي.
ّ أثر ،يمكنني أن
124
َّ
أتمكن معها كانت هذه املعركة تمأل رأيس ،وتستويل عىل تفكريي ،فلم
من االستمرار يف العمل ،فسارعت يف االنرصاف من املكتب ،وكان أ ّول ما
محل تجاري صادفني، فعلته ،بعد خروجي من العمل ،أن ا َّتجهت إىل أ ّول ّ
وابتعت منه (الشال) الذي أوصتني عليه مريم ،مساء يوم أمس ،وعدت
إىل البيت قبل موعدي املعتاد ،فسلَّمت (الشال) إىل مريم ،دون أن أفوه،
ولو بكلمة واحدة ،ومن غري أن أناقشها يف املوضوع .وكانت يف رأيس فكرة
جديدة ،عزيز عيلّ تنفيذها ،مؤ ّمالً أن تساعدني عىل تحقيق ما ص َّممت
عليه من إعادة محاولة تنظيف عقل مريم وغسل فكرها.
فمنذ ذلك اليوم ،لم أعد أحادث مريم يف موضوع الكتب واملطالعة ،ولم
أعد ألحّ عليها يف القراءة ،بل اكتفيت بأن أُظهر لها شدّة حبّي وشغفي
كل مكان ،وأطالع ّ
كل كل وقت ،وأطالع يف ّ
باملطالعة .وبدأت أطالع يف ّ
يشءّ ..
كل ما أجده أمامي من يشء مكتوب ،أقرؤه ،حتى ّ
مجلت األطفال
املص َّورة ،وحتى يف أوقات األكل ،كنت ال أترك الكتاب من يدي ،وهديف
من ذلك هو أن أشعرها بالغرية من الكتاب ،وأن أريها أن اإلنسان ال
يعيش ببطنه فقط ،لكنه يعيش بعقله وبفكره ،أيضاً ،وأن اإلنسان الذي
يحتاج إلشباع بطنه حتى ال يشعر بالجوع ،كذلك يحتاج إلشباع عقله
يحس بالفراغ .وأثمرت هذه الفكرة ،فبينما كنت ذات يوم غارقا ً
ّ حتى ال
يف مطالعة كتاب من كتب الدكتور (طه حسني) ،جاءتني مريم تسألني:
ماذا تقرأ ،يا سليم؟ ح ّقا ً إنك مدمن مطالعات .لست أدري ماذا تستفيد من
كل هذا الذي تقرؤه؟!! .ووجدتها فرصة مناسبة أللقي عليها محارضة يف ّ
فائدة القراءة ،فأجبتها:
125
o=p\8!T
كل يشء أجده أمامي من الكتب .إن املطالعة ،يا مريم ،هي إنني أطالع ّ
غذاء القلوب واألرواح واألفكار ،فكما تحتاج أجسادنا للغذاء ،لتبني
خالياها وتجدِّدها ،تحتاج أرواحنا وأفكارنا للغذاء ،لتبني نفسهاّ ،
وإل
أدركها الهرم ،وسارعت إليها الشيخوخة .ليتك تقدِّرين فائدة املطالعة؟
وقبل أن تجيبني بكلمة ما ،سمعت طرقا ً عىل الباب ،فسارعَتْ إليه،
أفكر :هل يفيد هذا الدرس؟ هل يأتي أ ُ ُكله؟ هل يمكنهوجلست وحدي ِّ
يغي من عقليّة مريم وفكرها؟ لكن األ ّيام ،بعد ذلك ،ك َّذبت ظنوني،
أن ِّ
فقد انرصفت مريم عن مناقشتي يف أه ّميّة الكتب التي أقرؤها ،وفائدتها،
وبدأت تتَّبع معي طريقة أخرى .كانت تجلس إىل جواري كلَّما وجتني
أطالع كتابا ً ما ،وتظهر اهتمامها بما أقرأ ،ثم تسألني ،يف بعض األحيان:
قصة (كذا).
ّ -
قصة ممتازة.
-أسمعنيها ،إذ كانت ّ
وأرفع صوتي حتى تسمعني ،وأنا أشعر بفرحة كبرية تغمرني ،وأعتقد،
بيني وبني نفيس ،أنني انترصت شيئا ً ما ،وأحاول أن أقرأ لها قراءة هادئة
تتمكن من متابعتي ،بل أحاول أن أقرأه بصوت تمثييل، َّ رصينة حتى
زيادة يف ربطها بي ،غري أنني ،دائماً ،كنت ّألحظ عليها عدم االهتمام
بمتابعة ما أقر ،وانرصافها عني ،وتفكريها يف أشياء أخرى ،فأحاول أن
أجلب انتباهها ،فأسألها:
وهنا ،كنت أدرك أن عقلها ليس معي ،وأنها تسبح بعيدة عني ..أن مسافة
شاسعة تفصل بيني وبينها ..أنها تعيش يف ج ّو آخر ،داخل قوقعة محكمة
اإلغالق ،ال يمكن لصوتي أن يخرتقها ويصل سمعها ،وهو إن اخرتقها
أحسّ وأحس بالخيبة..
ّ ووصل سمعها ال يصل ،أبداً ،إىل عقلها وفكرها..
أحس بالندم يأكلني ،فألوم نفيس وأصفها بالتغفيل تار ًة، ّ باليأس..
رسع تار ًة أخرى .لو أنني تأ َّنيت ..لو أنني ترويت ..لو تع َّقلت ..لو
وبالت ُّ
انتظرت قليالً ،ملا وقع يل ما وقع اليوم ،لكان وضعي وضعا ً آخر ..ألخذت
حياتي وجهة أخرى .لكن ،ماذا يفيد الندم اآلن ،وزوجتي حامل؟ لقد فات
كل يشء ،وليس أمامي سوى أن أحاول الوقت ،وانقىض األمر ،وانتهى ّ
وبكل ما يف استطاعتي ،أن أزيح قليالً من الرتاب ّ بكل ما يف وسعي، ّ
املرتاكم عىل عقلها وفكرها ونظرتها إىل الحياة .ورأيت أن أحسن طريقة
كل وقت، كل يشء ،ويف ّ لتحقيق ذلك ،هو أن أستم ّر يف املطالعة ..أطالع ّ
كل مكان .وكانت هي تطلب مني ،يف بعض الليايل ،التي أطالع يف ويف ّ
أثنائها وأنا يف الفراش ،أن أُسمِعها ما أقرأ ،فأرفع صوتي يف هدوء ،وأقرأ
لها جملة جملة ..كلمة كلمة ،محاوال ً أن أجعل تفكريها مرتبطا ً بما أقرأ.
كل مرة ،كنت أكتشف أنها غارقة يف نوم كثريا ً ما فعلت ذلك ،لكنني ،يف ّ
عميق ،قبل أن أنتهي من قراءة الصفحات األوىل ،فأنظر إليها ،وهي نائمة،
127
o=p\8!T
نظرة أسف وحرسة ،فيها كثري من اليأس وكثري من الرثاء ،وفيها -أيضاً-
كثري من الشفقة ..الشفقة عليها هي ،عىل هذه املرأة التي تحاول أن تبتعد
عني ،كلّما حاولت أنا االقرتاب منها.
وهكذا ،فشلت يف ّ
كل محاوالتي معها.
قد تقول إنني لم أقم بيشء إلصالح عقل مريم وتغيري فكرها ،غري محاولتي
تحبيب املطالعة إليها ،وال يشء غري ذلك ،وأن الواجب كان ُيلزمني بأن
أج ِّرب معها طرقا ً كثرية أخرى.
تأكد من أني ج َّربت طرقا ً كثرية غري طريقة املطالعة :ج َّريت َج ّرها
لكنَّ ،
128
للخروج معي يف فسحات صغرية وحضور بعض االجتماعات والندوات
وج َّربت أن أصحبها معي إىل السينما ِّ
واملفكرونَ ، التي يعقدها األصدقاء
ملشاهدة بعض األفالم املمتازة ..ج َّربت أن أجعلها ترتبط بصداقات مع
وكل ذلك كل ذلك ج َّربته معهاّ ،بعض السيِّدات املث ّقفات املتح ِّرراتّ ..
فركزت عىل املطالعة والقراءة ،ظنّا ً مني أن فشل ،ولم يأتِ بنتيجة ماَّ ،
سبب فشيل يف النواحي األخرى يعود إىل شعورها بالنقص أمام اآلخرين،
فتحاول االنزواء واالبتعاد ،واعتقادا ً مني أن املطالعة ،وحدها ،هي الوسيلة
العملية لتفتيح ذهنها وتغيري نظرتها إىل الحياة ،والناس ،والعالم .وعندما
أحس بيشء ..بحاجز ..بفاصل أخذ يفصل بيني ّ كل ذلك ،بدأت فشل ّ
وبينها ،وبياعد ما بيننا ..كنت أريدها زوجة مثالية ،باملعنى الكبري ملفهوم
الزوجة ،وإذا بي أجدها مج َّرد أنثى يف الفراش وخادمة يف املنزل .كنت
أراها إنسانة لها عقل وروح وإرادة ،وإذا بي أجدها مج َّرد جسد تجري
فيه الحياة ،فتمدّه بالشهوة والغريزة .كنت أريدها آدمية تشعر بوجودها
تحس بح ِّر َّيتها ،وتعمل عىل إثبات هذا الوجود ،عندما تتمتع بح ِّر َّيتها
ّ ألنها
اإلنسانية التي وهبتها لها الطبيعة ،و َمدَّتها بها الحياة ،فاكتشفت أنها
مج َّرد آلة ص ّماء يف يد ما يس ّمونه العادات والتقاليد ،تخضع لها أكثر من
تحطم ،أو ّ ألي يشء آخر يف هذا الوجود ،وليس يف إمكانها أن خضوعها ّ
أي َس ّد من هذه السدود الواهية املتداعية. حتى تساعد غريها عىل تحطيم ّ
ورغم ذلك ،لم أ ْيئَس ،ولم أستسلم ..كنت معتدّا ً بنفيس ،معتدّا ً بمقدرتي
عىل خلقها خلقا ً جديداً .ولم أشأ أن أعلن استسالمي وعجزي ،وهزيمتي،
فرتكت حكاية الكتابة وحكاية املطالعة ،وا َّتخذت طريقة أخرى ..أسلوبا ً
آخر ..أسلوب املناقشات الهادئة البسيطة غري املع َّقدة ،فكنت أجلس إليها
129
o=p\8!T
تأسست يف بنغازي، -قرأت ،يف جريدة اليوم ،أن هناك جمعية نسائية قد َّ
مه ّمتها العمل عىل الرفع من مستوى املرأة الليبية ،واألخذ بيدها إىل حياة
أفضل ،فما رأيك لو تك َّونت مثل هذه الجمعية يف طرابلس ،أيضاً؟
-وماذا ستعمل هذه الجمعية هنا؟ وما مه َّمتها؟ وهل تعتقد أنها ستقوم
بأي عمل ذي فائدة؟
ّ
-يكفي أنها تثبت للمرأة وجودها إىل جانب الرجل ،يف مجتمع ،يكاد
ي َّمحي منه وجود املرأة ...يكفي أن وجودها ّ
يدل عىل أنه ،بجوار الرجل،
تحس بإحساساته نفسها ،وتشعر ّ هناك مخلوق آخر اسمه املرأة،
بمشاعره نفسها.
-لنفرض ذلك ..فما العيب فيه ،إذا كان الغرض رشيفا ً والهدف سامياً؟
إن خروج املرأة إىل معرتك الحياة أصبح شيئا ً رضوريا ً حتى تؤدِّي واجبها
يف الحياة.
-ومن هي هذه املرأة التي تملك الشجاعة الكافية التي تساعدها عىل
الخروج إىل الشارع؟.
-إن مثل هذه املرأة ستصبح مضغة يف األفواه ..يف أفواه الناس،
يمضغونها حني يصبحون ،ويمضغونها حني يمسون ،ويمضغونها يف
األصباح واألمساء.
-لو ُف ِرض أن رزقنا بنتاً ،فهل تسمح لها بالخروج سافرة ،مثالً؟
-وما يمنعني من ذلك؟ إن الحياة يف تط ُّور ،يوما ً بعد يوم ،بل ساعة بعد
وخلَّفتنا
وإل سارت يف طريقهاَ ، ساعة ،وهي تطالبنا بأن نتط َّور معهاّ ،
تأكدي أنني مستع ّد الصطحابك أنت -أيضاً -معي يف الشارع. وراءهاَّ .
ولوال أن مثل هذه األمور ال ُتف َرض عىل اإلنسان فرضاً ،ألجربتك عىل ذلك.
131
o=p\8!T
َّ
ستتحطم وتتالىش ،يوم ذاك. التي تكبلك ّن ،اآلن،
-إن هذا اليوم الذي تتحدَّث عنه ،و -باألحرى -الذي تحلم به ،ال يزال
بعيدا ً جدّاً ،فلماذا تتعب نفسك بالتفكري فيه ،دعنا منه ،اآلن.
-لذلك ،فأنت ال تهت ّم بأقوال الناس ،وال تقيم وزنا ً ملا يتق َّولون به خلف
ظهرك ،حتى هؤالء القلّة الذين يضحكون يف وجهك ،ويوافقونك يف أقوالك
وآرائك ،هم يسخرون منك ،بعد ذهابك ،ألنهم ،يف قرارة أنفسهم ،ال
يتفاعلون معك.
-إذا اهتممت بما يقوله املغ َّفلون املخ ِّرفون عني ،حكمت عىل نفيس
بالسجن املؤ َّبد ،مدى الحياة ،يف قوقعة مستحكمة من العادات والخرافات،
أحس وأشعر بإنسانيَّتي ووجودي وح ِّر َّيتي.
ّ وأنا إنسان ،وأريد أن
-كنت أريدك ،يا مريم ،أن تكوني عوني وسندي ،وأن تضعي يدك يف
يدي ،نسري معا ً جنبا ً إىل جنب ،نتحدّى العادات ،ونهزأ بالتقاليد ،وندوس
عىل الخرافات والسخافات ،حتى نح َّقق وجودنا ،ونكون قدوة لغرينا.
-ال .ال ..يا سليم ،ال تتوقع مني هذا ،فأنا من هذا املجتمع ،وأنا أخاف ما
يقوله الناس خلفي.
-إذا طلبت منك أن تعميل شيئاً ،واستجبت لطلباتي ،فإن الناس ال
يوجهونه ّإل أنا ،ألنهم يدركون أنك
يوجهون اللوم إليك أنت ،بقدر ما ّ
ّ
زوجتيّ ،
وكل زوجة خاضعة ألوامر زوجها.
وينتهي حديثنا عند هذا الحدّ ،دون أن نخطو خطوة واحدة إىل األمام،
كل مناقشةبقدر ما أكتشف بعدها عني مسافة أخرى ،يف األراء واألفكارّ .
يتغي ..إنها
َّ بيننا كانت تنتهي بال يشء .كان جوابها دائما ً واحداً ،ال
تخاف أقوال الناس عنها ..تخاف ما يتق َّول به الناس خلفها ..وكنت،
أحس ببعدها وانفصالها عني .وذات يوم ،وبعد أن ّ عقب ّ
كل مناقشة،
133
o=p\8!T
-أنا مستع ّد الصطحابك معي إىل السينما ،بدال ً من أن أدعك تذهبني إىل
سينما النساء هذه ،التي هي كناية عن منبع لفساد األخالق.
وخبطت عىل صدرها بيدها ،وشهقت ،شهقة ،كاد ينفجر لها قلبها ،ثم
قالت يف فزع ما بعده فزع:
-لكن ماذا؟
-لكن ،ماذا يقول الناس عني؟ عندما يعلمون أنني ذهبت معك إىل
املخصصة للرجال؟
َّ السينما
مخصصة
َّ مخصصة للرجال ،ولكن هناك سينماَّ -ليست هناك سينما
معوجة ملتوية.
ّ للنساء ،كان الغرض منها تحرير املرأة بوسائل وطرق
هكذا ،كانت حياتنا ،دائماً ،يف رصاع بني عقلني مختلفني :عقلية يف
السماء ،وأخرى يف الحضيض .رصاع بني فكرتني :فكرة متح ِّررة تؤمن
متحجرة ،مص َّفدة يف السالسل
ِّ بالحياة ،وتؤمن باإلنسان ،وفكرة جامدة
134
واألغالل .رصاع بني نظرتني :إحداهما ترى الحياة واسعة رحبة ،أثمن من
أن نضيِّعها وندوس عليها باألقدام ،وأخرى ال ترى يف الحياة ّإل وسيلة
للحصول ع ّما يمأل البطون ،ويشبع الشهوات.
135
هكذا كانت حياتنا ،وهكذا استم ّرت ،لكنني -رغم ذلك -لم أستسلم ،ولم
أق ّر بهزيمتي ..كنت أقاوم دائماً ،وأقاوم بشدّة وصالبة ،وكنت أدافع،
وأدافع يف ق ّوة وإرصار ،إىل أن انقضت سنة عىل زواجنا ،وإذا بي أصدم
ّ
ويتبخر آخر صدمة نكراء ،ينهار أمامها آخر حصن يف قلعة مقاومتي،
ميض سنة عىل زواجنا ..عىل زواجيّ حلم من أحالم شبابي ..كان ذلك بعد
من مريم ..زواجي الذي اعتقدت -أ َّول األمر -أنه بداية حياتي ونقطة
تبخر آخر حلم منانطالق نحو سعادتي ورفاهيّتي يف هذا الوجود .أجلَّ ..
أحالم شبابي بعد سنة واحدة ،فقط ،من زواجنا ،ففي نهاية هذه السنة
رزقنا بمولودنا األول ..رزقنا بمحمود ،وإذا بمريم ..زوجتي ..عشرية
حياتي ..رشيكة وجودي ،تنقلب إىل مريم أخرى ..إىل إمرأة أخرى ،إىل
يشء آخر ،لم أكن أعرفه ،ولم أكن أتو َّقعه ،ولم أكن أحلم به حتى مج َّرد
حلم .لقد أصبحت مريم مخلوقا ً آخر ..إنسانة أخرى ،إذا ثبت أنها إنسانة
حقاً ..مخلوقة غري التي أعرفها ،وغري التي عارشتها سنة كاملة ،أحاول
املرتسبة فيه،
ِّ األخذ بيدها ،وتنظيف عقلها ،وغسل دماغها من الرواسب
لتتغي نظرتها إىل الحياة واألحياء ،وأجعلها تنظر إليها من زاوية أخرى، َّ
غري التي تع َّودت أن تنظر إليها منها ..قضيت سنة كاملة .اثني عرش
شهرا ً مؤ ّمالً إصالحها ،ومؤ ِّمالً تنظيف عقلها ،ومؤ ّمالً اقتالع الرواسب
137
o=p\8!T
من تفكريها ومؤ ّمالً ،بني هذا وذاك ،انتصاري عىل سخافة العادات
والتقاليد ،يف انتصاري عليها هي.
وتبخر ّ
كل يشء بعد مولد ابننا محمود؛ فقد َّ تغي ّ
كل يشء، لكن ..لقد َّ
انقلبت مريم إىل يشء آخر ،حتى أنها أصبحت ال تكتفي ،يف أثناء مناقشتي
لها ومحادثتي معها ،باالعرتاف بخطئها ،واإلقرار بنقصها ،بل أصبحت
مريم أخرى ..مريم جديدة ،لها لسان تدفع به ،ولها حجج تتذ َّرع بها.
حجتها ،دائماً ،عىل طرف لسانها ،ودفاعها ،دوماً ،يف يدها ،تشهره يف ّ
كل ّ
كل موقف ،وتتَّخذ منه ذريعة إلهمالها ولتقصريها.وقت تدافع به عن ّ
إذا سألتها ملاذا لم تقرأ هذه الصحيفة ،قالت إن محمودا ً ال يرتك لها من
تنظف أو ِّ
تنظم الوقت ما يمكنها من قراءة الصحيفة ..وإذا ملتها ملاذا لم ِّ
هذا الركن من املنزل ،قالت أن محمودا ً لم يدعها تعمل شيئاً ،وإذا جلست
ألناقشها أو حتى أحادثها يف موضوع ما ،مهما كانت أه ِّميَّته ومهما كان
أثره ،تتخلص من املناقشة وتتخلَّص من الحديث ،بحجة واحدة ال َّ
تتغي
أبداً ،وال تتبدَّل ،هي محمود ..فهي ،دائماً ،تطلب تأجيل النقاش وتأجيل
الحديث إىل ما بعد أن يذهب محمود إىل فراشه .وإذا أشعلت النور
واستغرقت يف املطالعة ساعة ،بعد الوقت املحدَّد لنوم محمود ،أخذت
تتململ ،هنا وهناك ،و ُتظهر اشمئزازها ونفورها وضيقها ،فإذا لم ألتفت
كل ذلك صارحتني بقولها« :أطفئ النور ،من فضلك ،إن محمودا ً ال إىل ّ
ينام يف النور».
خذتْ منه سالحا ً ضدّي،محمود هذا ..ابني ..ابني أنا ..جزء مني ،ا َّت َ
تحاربني به ،وتهدّدني به ،وتسكتني به ،وتتَّخذ منه ذريعة لها.
138
محمود ابني أنا ..ابني البكر ..ثمرة حبّي ،أرادت أن تخلق منه عد ّوا ً
يل ..شبحا ً يهدّدني ،ويخيفني ..شيئا ً أندم عىل مجيئه إىل الحياة ،وألعن
نفيس عىل ساعة النحس التي تسبَّبت فيها بمجيئه إىل هذا العالم لين ِّغص
حياتي ،ويزيد من شقائي ،ويشعرني بحرماني.
اعتقدت -أ َّول األمر أن ابني هذا سيكون سببا ً يف التخفيف من ثقل ما
أرزح تحته من خيبة أمل ،وإذا به -بعد أن جعلته سالحا ً يف يدها مشهرا ً
يف وجهي ،مسلَّطا ً عىل رأيس -يزيد من شعوري بخيبة أميل ،ويزيد من
كل ذلك كان من جزءا ً من عقلية إحسايس بالثقل الواقع عىل كاهيلّ .
مريم ..عقلية زوجتي أنا ،التي ُر ِّبيَت عليها ،و ُن ِّشئَتْ بها ،و ُز ِرعت يف
تفكريها ،منذ الصغر ..العقلية السخيفة التي تستويل عىل كثريات من
(خاصة إذا كان
ّ أمثالها ،وتميل عليه ّن بأن الولد األ َّول ...املولود البكر
يمكن الزوجة من الدفاع عن نفسها وعن ذكراً) هو السالح الفتّاك الذي ِّ
كيانها وعن وجودها ،هو السالح الذي يماثل سالح الزوج ،أي (الطالق)،
وإل أصبحتستغل هذا السالح ،وكيف تستعملهّ ، ّ فعليها أن تعرف كيف
ضدّها ،هو اآلخر.
بكل هذا ..أحسست بوطأة وجود محمود يف حياتي ،وهل أحسست أنا ّ
خاصة إذا كان ذكراً؟
ّ يوجد أب يكره ابنه البكر،
ال أعتقد أن هناك من يكره ابنه ،لكنني أنا شعرت بكراهية نحو ابني،
وتمنَّيت لو لم يولد!! صدّقني -يا أخي -لقد كرهت ابني ..فلذة كبدي،
ولم يكن الذنب يف ذلك ذنبي أنا ،إنما هو ذنبها هي ..ذنب مريم.
139
o=p\8!T
مبعث ّ
كل هذا اإلحساس بالتعاسة؟ إنها هي ..مريم زوجتي ،هي سبب
ّ
كل ما أنا فيه من شقاء وتعاسة وحرمان.
ال ..ليست هذه املرأة التي يمكنني أن أضع يدي يف يدها ،وأسري بها عرب
الحياة ،أتحدّى وإ ّياها العادات ،وأقتحم وإ ّياها التقاليد ،ونهدم ،معاً ،بيد
عشش فيها البوم ،ونعقت كل هذه الخرائب التي َّ واحدة ..بمعول واحدّ ،
فيها الغربان .هذه الخرائب ،وهذه األعشاش التي ال زال ساكنوها
يعتقدون أنها عمارات ،يمكن أن يسكنها آدميون ،يف حني أنها ال تصلح،
حتى لسكن الحيوانات والجرذان.
ال ..ليست هذه هي الزوجة املثالية التي كنت أحلم بها ،والتي رسمت لها
فكرت يف خطبتها ..إنها جامدة كالصخر ،باردة صورة يف خيايل ،يوم َّ
تعب
متحجرة كالصقيع ،حتى عواطفها نحوي ال تعرف كيف ّ ّ كالثلج،
عنها؛ فرغم مرور األ ّيام بيننا ،وانقضاء سنة كاملة عىل زواجنا ،ورغم أن
140
رشفنا ،ومعنى ّ
كل هذا أن (الكلفة) قد زالت بيننا ،ولم مولودنا األ َّول قد َّ
كل ذلك ،فهي ال زالت تكبت يعد لها وجود يف ج ّو حياتنا اليومية ..رغم ّ
عواطفها نحوي ،وتحبس إحساساتها إزائي ،وتئد شعورها ..شعور
األنثى ،معي.
فترصفاتها وأحاديثها ،طوال سنة ،كلّها تنفي هذا ُّ أبداً ..أنا ال أقول هذا،
تكذبه ،فما إن أمرض ،ولو مرضا ً بسيطاً، الزعم ،وكلّها تدحضه ،وكلّها ِّ
حتى أراها تحوم حويل كالفراشة ،تنتظر أ َّول إشارة مني ،وتلبّي أ َّول
طلب يصدر عني .وإذا اشت ّد مريض كنت أراها تبكي ،وإن كانت تخفي
بكاءها عني ،وإذا عدت إىل البيت ،غري رائق املزاج ،أو الحظت عىل وجهي
عالمة انفعال ما ،فهي تسارع نحوي تسألني ع ّما بي ،وتلحّ يف معرفة ما
ع ََّكر صفوي ،وما َغ َّيَ مزاجي ،وما بعثني عىل االنفعال ،وهذا ّ
يدل -وال
شك -عىل أنها تحبّني ،وعىل أنها تعطف عيلّّ ،إل أنها كانت ال تعرف كيف ّ
الحب ،بطريق غري هذه الطرق ّ تعب عن هذا
تظهر هذا العطف ،وال كيف ِّ
الساذجة البسيطة التي ُل ِّقنَتْها ،منذ الصغر.
وإل كنت الحظت عليها بعض النفور أو شكّ ، إنها تح ُّبني ،ما يف ذلك ّ
االبتعاد ،لكن حبَّها يل كان حبّا ً صامتا ً يعتمل يف نفسها ،وتشعر به يف
تعب عنه؛ فأنا ال أذكر ،منذ زواجنا أنني سمعت داخها ،ال تعرف كيف ِّ
منها كلمة غزل ما ،حتى كلمة (أحبّك) لم أسمعها منها ،بل لم تتج َّرأ،
يوماً ،وتناديني باسمي املج َّردّ ،إل إذا كنّا وحدنا ،فقط ،شأنها يف ذلك
شأن غريها من نساء هذا املجتمع التعس املنكود ،الالئي يرين يف مثل هذه
141
o=p\8!T
-اسمحي يل ،يا مريم ،أن أصفك باإلهمال ،فأنت مهملة يف نفسك ،ومهملة
يف ح ّقك ،ومهملة يف ح ِّقي أنا ،أيضاً.
142
كاف؟ -كيف ذلك؟ هل ّ
كل ما أقدِّمه لك غري ٍ
-إنك ،يا مريم ،ال تهت ّمني بمالبسك ،وال تهت ّمني بزينتك ،وال تهت ّمني
بمظهرك ّإل إذا كنت خارجة يف زيارة إحدى صديقاتك ،أو إذا كنت منتظرة
زيارة من إحدى صديقاتك ،أ ّما هنا ..يف البيت ...وأ ّما يل أنا ،فأنت...
-املرأة ،يا سليم ،إذا تز َّوجت ،وأصبحت ر ّبة بيت ،وأ َّم أوالد ،فإن زمن
اهتمامها بنفسها يكون قد ّ
ول.
-إن أ ّية امرأة مثيل ،ال تجد الوقت لالهتمام بمظهرها ،فمسؤولية البيت،
ومسؤولية الولد ،ومسؤولية الزوج ،تأكل ّ
كل وقت فراغها.
-ما بال األجنبيات؟ إن الواحدة منهن ال تكاد تختلف كثرياً ،يف مظهرها،
عن أ ّيام خطبتها.
-لكن حياته ّن ..نظام حياته ّن يخلتف كثريا ً عن نظام حياتنا ،نحن-
143
o=p\8!T
العربيّات.
-وملاذا ال تكيّفني حياتك ،كما يكيِّفن حياته ّن ،بما يتالئم ورسالته ّن نحو
الزوج والولد واملنزل؟
-وملاذا؟ أنا -مثالً -أريد أن أرى فيك أنواعا ً متعدّدة من النساء ..ال
أكتفي ،أبداً ،بأن أراك زوجة فحسب ،بل أريدك زوجة وحبيبة وعشيقة
وخليلة ،أيضاً .أريدك امرأة وأنثى ،يف الوقت نفسه ،لست أنا فحسب ،بل
كل األزواج يريدون أن يروا يف نسائهم ّ
كل نساء العالم. كل الرجالّ ...ّ
-وهل يشرتط علينا أن نسري يف الطريق الذي كانت تسري فيه أ ّمك مع أبيك
أو جدّتك مع جدّك؟ إذا كان هذا رضورياً ،حتى ال توصفي باالستهتار،
وإذا كان هذا فرضا ً علينا ا ِّتباعه ،فعلينا أن نئد شخصيّاتنا وإرادتنا .أنا
144
أعرف كثريا ً من األزواج الذين تتحدَّثني عنهم ال يقربون زوجاتهم ّإل يف
الظالم ،فهل يجب علينا أن نفعل كما يفعلون ،حتى ال نوصف بالته ُّتك
وامليوعة واالستهتار؟
-أرجوك ،يا سليم ،اقفل هذا املوضوع ..ال أريد الخوض فيه.
وفعالً ،أُقفل املوضوع ،وأُن ِه َي النقاش ،وأنا أشعر بالنقمة عليها وعىل
املتحجرات.
ِّ أمثالها من النساء الجامدات
وأحس بالوحشة والوحدة يف بيتي ..بيتي الذي كنت ّ بدأت أشعر بامللل،
أظنّني قادرا ً عىل أن أخلق منه جنّة وارفة الظاللُ ،تظِ لُّني أنا وزوجتي
وأوالدي ،وإذا بي أجده جحيما ً ال يطاق ،فهجرته ومن فيه ،وما فيه ،إىل
الشارع ..رصت أقيض معظم أوقاتي خارج البيت :يف املقاهي ..يف النوادي
ِّ
متأخرة من الليل. يف السينمات ،وال أعود إليه ..إىل منزيل ّإل يف ساعة
أصبح ال يه ّمني البقاء يف بيتي ،بل رصت أنظر إليه كما أنظر إىل أي يشء
كريه ،يش متع ِّفن ..يشء يبعث عىل القرف واالشمئزاز والتق ُّزز.
كل ما حاولت جهدي فيه ،هو كل ما اهتممت بهّ .. كل ما سعيت إليهّ ... ّ
أن أو ِّفر ملريم جميع طلباتها ،وأن أو ِّفر لها ّ
كل ما تحتاج إليه ،مهما كان
تافهاً ..ما إن تطلب شيئاً ،وبمج َّرد أن تشري إليه مج َّرد إشارة ،حتى
أسارع بإحضاره إليها ،يف الحال ،دون إبطاء.
كل طلب ...يشء واحد لم أستطع أن أهبها كل يشء ...و َّفرت لها ّ وهبتها ّ
تجف وتيبس من ناحيتها .ال أقول ّ إ ّياه ...ذلك هو عواطفي التي أخذت
إنني بدأت أكرهها ،ألنها ،يف الواقع ،لم تأت أمرا ً أكرهها من أجله ،لكنني،
145
o=p\8!T
الحب ،يف نظري ،ال يكون ،أبداً ،نتيجة شعور بالعطف ،إنما العطف ّ إن
حب ...إننا نعطف عىل إنسان ما ألننا نحبّه ،وال هو الذي يكون نتيجة ّ
نحبّه ألننا نعطف عليه .إن الشخص الذي تعطف عليه .هو يف حاجة إىل
عطفك ...إىل مساعدتك ...إىل معونتك ،أ ّما من تحبّه فيختلف كثرياً .أنا
أحب أحدا ً ّإل إذا شعرت أنه يف حاجة يل ،تماماً ،كحاجتي إليه، -مثالً -ال ّ
ّ
وأقل مني يف ثالثة ...أنا ال وأنه يساويني يف أشياء ،ويفوقني يف أخرى،
أي إنسان ّإل إذا اكتشفت فيه أشياء وأمورا ً تحبِّبه إىل قلبي وتق ِّربهأحب ّ
ّ
وأي إنسان ال يكون كذلك ،يف مني ،وتجعلني أتجاوب معه ،ومع عواطفهّ .
نظريّ ،إل إذا اكتشفت فيه نواحي التف ُّوق ،حيث أشعر ،عندها ،بحاجتي
إليه ،وأنا مع مريم ،لم أعد أشعر بيشء من هذا كلّه ...لم أعد أشعر
بحاجتي إليها ،وال بارتباطي بها ،ألنني لم أكتشف فيها شيئا ً يميِّزها
عن اآلخرين .لم أكتشف أنها تساويني يف أشياء ،وتنقص عني يف أخرى،
كل ما اكتشفته فيهاّ ،
كل كل ما شعرت به نحوها ّ وتمتاز عني يف ثالثةّ ...
ما عرفته عنها ،أنها دائما ً يف حاجة إيلّ ...يف حاجة إىل مساعدتي ...يف
حاجة ألن أحملها ،دائماً ،فوق كتفي .ومن هنا ،أصبح حبّي لها مج َّرد
أي مخلوق يصادفك يف الطريق. عطف ،تماماً ،كما تعطف أنت عىل ّ
شعوري نحوها مج َّرد عطف عىل ضعفها واستكانتها ونظرتها املتج ّمدة
146
تحجرها .أصبحت أنظرُّ تغيها ...عطف عىل إىل الحياة التي ال تريد أن ّ
أي ضحيّة من ضحايا املجتمع ...من ضحايا العيد... إليها كما أنظر إىل ّ
ضحيّة من واجبي اإلنساني أن أساعدها ،ومن واجبي أن أرعاها ومن
واجبي أن أوفر لها ّ
كل ما تحتاج إليه.
كل ذلك ،فكرهت الزواج والزوجات ،بعد أن أدركت أنني -أنا أسفت عىل ّ
ابن القرن العرشين -قد تز َّوجت كما تز َّوج أبي ،وكما تز َّوج ع ّمي ،وكما
تز َّوج جدّي منذ أكثر من ثالثة أرباع القرن ،وكما يتز َّوج غري أبي وع ّمي
وجدّي ،من رجال هذا املجتمع.
كل رجال وشباب هذا املجتمع وشبابه،تز َّوجت كما تز َّوج غالبية ،بل ّ
زواجاً ،هو أقرب ما يكون إىل عملية (سعدك بختك) ...زواج يانصيب ،ال
أكثر من هذا وال ّ
أقل ...أنا تز َّوجت مثل هذا الزواج املضحك املبكي بعد
147
o=p\8!T
أن كنت ،قبل زواجي ،أضحك عليهم جميعاً ،وأهزأ بهم جميعاً ،وبعد أن
كنت أريد أن يكون زواجي زواجا ً مثالياً ،نموذجياً ،يمكن ّ
لكل إنسان أن
يقتدي به ،وأن يسري عىل هداه.
اآلن ،أدركت أنني ذهبت ضحيّة عىل مذبح األنانية والعادات والتقاليد ،كما
ذهب غريي من الشباب الذين ُنكِبوا يف آمالهم ،و ُنكبوا يف أحالمهم ،فلو
لم أكن ضحيّة كغريي من الضحايا ...ضحايا هذا املجتمع الذي وجدت
فيه رغم أنفي ورغم إرادتي ،لكان زواجي شيئا ً آخر ،و -من َث َّم -كانت
حياتي الزوجية لونا ً آخر .لو لم أكن ضحيّة الخرتت زوجتي بنفيس ،دون
أي إنسان آخر أن أغرتّ بما أسمع ومن غري أن َّ
أتأثر بما يقال ،كما يختار ّ
زوجته يف غري هذا املجتمع...
أدركت أنني ضحيّة ...ضحية التش ُّبث بالعادات والتقاليد التي تفرض
علينا أن نسلِّم أنفسنا طوعا ً أو كرهاً ،ليشء ال وجود له اسمه (القسمة
والنصيب).
أدركت أنني واحد من عرشات ،بل مئات ،بل ألوف ذهبوا ،ومازالوا يذهبون،
كل يوم ،قرابني غري مقدَّسة ،عىل مذبح هذه السفاسف والخرافات.ّ
أدركت أنني فقدت ،إىل األبد سعادتي التي كنت أنشدها يوم تز ّوجت من
أي أمل يف اسرتجاعها أو الوصول إليها ،إىل السعادة
مريم ،ولم يعد يل ّ
املنشودة من الزواجي.
كل ذلك أدركته اآلن .لكن ،ماذا يفيد إدراكي ّ
لكل هذه األمور؟ وماذا يفيد
كل ما حصل بعد فوات األوان؟ هل يمكنني أن أصلح غلطتي؟ ندمي عىل ّ
148
وهل -ح ّقاً -هي غلطتي أنا ،أم هي غلطة يقع فيها ّ
كل الناس ،بحكم
العادة؟
أنا ال أستطيع أن أصلح شيئاً ..أن أصلح هذه الغلطةّ ،إل بإحدى طريقتني
ال ثالثة لهما :إ ّما أن أرىض بما أنا فيه ،أو ما وجدت نفيس فيه ...ومعنى
ذلك أن أقيض عىل حياتي ووجودي ،أو أطلِّق مريم.
أطلِّق مريم؟!
149
o=p\8!T
أنها بريئة ..هذا يشء أعرتف به أمام نفيس ،وأمام الله ،وأمام سائر الناس.
ر َّبما أنا هو املجرم ،لكن ،كيف أكون مجرماً؟ كيف أكون مخطئاً؟ ما هو
الجرم أو الخطأ الذي ارتكبته؟ ألم أخرتها اختيارا ً من بني جميع الفتيات
الالئي ُع ِرضن عيلّ؟
ألم تصلني عنها أخبار ،كلّها تصفها بصالحيّتها لتكون زوجة يل ..يل أنا،
بالذات؟
وهل كنت أقبلها لو لم تصلني هذه األخبار التي ص َّورتها زوجة صالحة
يل؟
عندما تز َّوجتها .عندما قبلت االقرتان بها ،لم أستسلم للقسمة والنصيب،
بل اجتهدت ،وبحثت ،وسعيت ،فإذا لم أو َّفق يف اختياري فما ذنبي؟ وما
جريرتي؟ وما جريمتي ،حتى أتح َّمل هذا الشقاء وهذه التعاسة؟
أنا ال ّ
أشك يف أن املذنب األ َّول ...املجرم األول ..املسؤول األ َّول ،لم يكن
سوى املجتمع ..مجتمعنا هذا ،بما يرزح تحته من ثقل العادات والتقاليد
التي أكل عليها الدهر ورشب..
150
املتحجرة ،التي ال
ِّ املسؤول األ َّول ،يف نظري ،هي هذه العقول الجا ّفة
تتفاعل مع الحياة املتط ِّورة النامية..
املتحجرة،
ِّ فلوال هذا املجتمع ،بعاداته املتعفنة ،وتقاليده الجامدة ،وعقوله
كل يوم ّ
وكل ساعة كل هذا العذاب املتجدِّدّ ،
ملا حدث يل ويحدث لغريي ّ
ّ
وكل دقيقة.
لوال هذه األمور وما شابها ،ملا ذهبت أنا ومريم ،وذهب( ،ويذهب) عرشات
وحب التش ُّبث
ّ غريي أنا ومريم ،ضحايا عىل مذبح األنانية والغطرسة
باملايض.
أفكر يف يشء ،أقيض أكثر بكل هذا ،فلم أعد أهت ّم بيشء ،ولم أعد ِّ
شعرت ّ
أوقاتي خارج البيت ،بعيدا ً عن الدمية التي امتحنتني بها األ ّيام ،وبعيدا ً
عن ج ّو البيت الذي أصبحت أنفايس تضيق به ،وتضيق فيه ،وتضيق منه.
ويف األوقات القليلة النادرة ،التي كنت أقضيها -مضط ّراً -يف البيت ،كنت
أقضيها يف املطالعة ،ال أفرغ من قراءة كتاب ،حتى أبدأ يف قراءة غريه ،وال
قصة أخرى. قصة ،حتى أسارع برشاء ّ أنتهي من مطالعة ّ
كل ما تحتاج إليه ..فتحت لها ا َّتخذت هذه الطريقة بعد أن و َّفرت ملريم ّ
كل إمكاناتي تحت ترصفها ..وهبتها جيبي جيبي عىل وسعه ،ووضعت ّ
فأشبعت معدتها ،أ ّما عقيل فقد قفلته دونها ،بعد أن أدركت أنها ال تهت ّم
به ..وهكذا ،أحسست بالفراغ والوحدة ،وأن حياتي فارغة ،وأن من واجبي
أن أبحث عن يشء ..عن إنسان أمأل به هذا الفراغ يف حياتي ،لكنني لم
أفكر أبدا ً يف الطريقة التي أمأل بها هذا الفراغ القاتل ،إىل أن كان يوم...
ِّ
151
o=p\8!T
يوم لست أدري كيف كان ،لكنه كان نقطة تح ُّول يف مجرى حياتي ..كان
ذلك اليوم يوم شعرت بـ(فوزية) تعيش إىل جواري.
و(فوزية) هذه ،التي كان لها فضل تغيري حياتي ،رأسا ً عىل عقب ،ليست
غريبة عني ..ليست طارئا ً جديدا ً يف حياتي ،فقد كانت تعيش قريبة
مني ..تعيش معي خالل هذه الفرتة ،و -بالتحديد -منذ أكثر من سنة.
كانت ترتدَّد عىل منزلنا أ َّول األمر ،ثم عاشت معنا ،أنا ومريم .إن فوزية
موظفاً ،مع إحدى هذه هي ابنة وحيدة لرجل لبناني األصل ،جاء إىل ليبيا َّ
رشكات البرتول ،بحثا ً عن املال والثروة والكسب ،شأنه شأن غريه من
الذين تعجّ بهم بالدنا ،عىل مختلف مللهم ون َِحلهم وجنسيّاتهم ،بعد أن
ترك زوجته وابنته الوحيدة (فوزية) يف إحدى مدن لبنان ...يف مدينة
بريوت ،بالذات ،وبعد أن توفيت والدة فوزية ،لحقت بوالدها ،حيث لم
يعد لها هناك من تلتجئ إليه ،وكانت صداقة متينة قو ّية تربط بيني
وبني والد فوزية ،منذ تع َّرفت إليه ،هنا ،يف طرابلس ...وعندما لحقت به
ابنته الوحيدة ،شعر بأن ثقالً كبريا ً قد ألقِي عىل كاهله ،فهو رجل أعزب،
تع َّود أن يعيش بمفرده ،منذ مجيئه إىل طرابلس ،ال يستق ّر له قرار ،وال
يعرف له مق ّر ،فهو متن ّقل ،هنا وهناك ،مع الرشكة التي يعمل فيها:
شهران يقضيهما يف فزان ،وخمسة أشهر يف برقة ،وأسبوعان يف طرابلس،
باإلضافة إىل تن ُّقالته املستم ّرة وسفر ّياته التي ال تنقطع .ومن هنا ،تع َّود
الرجل عىل عدم الشعور باملسؤولية ،فهو يعيش كما يريد ،وكما تحلو
له الحياة ،منذ أن غادر أرسته ،وقدم إىل طرابلس وراء املر َّتبات املغرية.
تع َّود أن يعيش ح ّرا ً طليقاً ،يفعل ما يشاء ،ويسهر إىل حيث يشاء ،فال
152
تأخر يف عودته ...ووجود فوزية يسأله أحد أين قىض سهرته ،وال ملاذا َّ
ابنته ،إىل جواره ،هكذا ،فجأ ًة ،أشع َره بمسؤولية جديدة ،لم يتح َّملها
طويالً ،ألن هذا الوجود غري املرغوب فيه ...وجود فوزية ،من شأنه أن
يعكر عليه صفو حياته ،ويح ّد من ح ِّر َّيته ،فضالً عن أنه يجربه عىل طلب
ّ
بقائه ،باستمرار ،يف طرابلس ،إىل جوار ابنته.
تخفف عنه هذا العناء ،فهداه فكر طويالً يف طريقة ِّو َف َّكر الرجل يف َح ّلَّ ..
تفكريه إىل أن يلتجئ إيلَّ أنا ،صديقه (الوحيد الحميم) ،عىل َح ّد تعبريه،
يستعني بي يف التخفيف من هذا الثقل الذي وقع عليه ،فجأ ًة ،ودون سابق
إنذار .بحث الرجل عن وسيلة يتخلَّص بها من هذا الوزر ،فلم يجد سواي
أنا ،فجاءني ،ذات يوم ،يعرض عيلَّ الفكرة البسيطة التي اهتدى إليها،
قائالً:
-أهالً وسهالً بهاَ ..م ْن لها غري والدها؟ أنت مالذها األخري ،ما دامت لم
تتز َّوج.
-لكنك تعرف ظرويف التي ال تسمح يل باستبقائها معي ،فأنا دائم التن ُّقل
أطمئ ألحد من أقاربي هناك ،فأستبقيها معه، َّ ال أستق ُّر يف مكان ،وأنا ال
خاصة أنك تعرف ج ّو بريوت ،وكذلك ليس يل هنا ،يف بالدكمَ ،م ْن أعهد ّ
أترصف.
َّ إليه بها ...إنني حائر ،وال أدري كيف
153
o=p\8!T
لدي سوى ّ
حل واحد ،لست أدري إن كنت توافق عليه أنت ،أم ال. -ليس ّ
ّ
الحل الذي تنتظر موافقتي عليه؟ -وما هو هذا
-أن تأخذ فوزية معك ..يف بيتك ..تعتربها ابنتك أو أختك .هل توافق عىل
هذا ،أم أن السيِّدة مريم تمانع؟
-ال أعتقد أن مريم تمانع يف هذا ،لكن -ر ّبما -فوزية هي التي ال تقبل
هذا الوضع؟.
وفوزية هذه فتاة حلوة ،جميلة ،يف حوايل الخامسة والعرشين من عمرها،
سمراء ،ممتلئة بعض اليشء ،قصرية القامة نوعا ً ما ،أجمل ما فيها نظرتها
الحاملة ،وعيناها الساحرتان...
أت َّمت فوزية دراستها الثانوية يف بريوت ،قبل مجيئها إىل طرابلس ،وأرادت
أن تلتحق بالجامعة ،لكنها التحقت بكلّيّة املعلِّمات هناك ،وحصلت عىل
إجارة التدريس ،وكانت -أيضاً -شغوفة بالقراءة واملطالعة ،تمأل ّ
كل
خاصة القصص
ّ أي كتاب تجده أمامها..
أوقات فراغها باملطالعة يف ّ
الحب.
ّ العاطفية ،قصص
154
وأخالقها كانت ممتازة ،ال تسمع منها أ ّية كلمة نابية أو غري مه َّذبة ،وال
أي ترصف خارج حدود األدب واللياقة ،وال ترتدي من املالبس تترصف ّ
َّ
كل إثارة ،وال تضع املساحيق ّإل ما كان يف نطاق الحشمة ،البعيد عن ّ
عىل وجهها ،وال تصبغ شفتيها باألحمر الصارخ ،وإنما هي طبقة رقيقة
ش ّفافة من األحمر الفاتح الذي ال يكاد يرى بالعني املج َّردة.
عاشت فوزية سنوات حياتها يف رعاية والدتها ،بحكم تغ ُّيب والدها ،تمرح
كما تشاء ،وتفعل ما تريد ،رغم أنه ليس هناك من يحاسبها أو يراقبها أو
يسألها أين كانت ،أو أين قضت يومها أو سهرتها ،فوالدها كثري التغ ُّيب
عن بريوت بحكم عمله ،فهو يوما ً هنا ،ويوما ً هناك ،متن ِّقالً بني بلدان
أوروبا وبلدان الرشق األوسط ،يبحث عن الثروة ،وليس هناك من يراعاها
كل ذلك ،لم يثبت عليها ،طوال سنواتها ويتعهَّدها سوى والدتها ...رغم ّ
الخمس والعرشين ،أنها ارتكبت فعالً ،أو قامت بعمل من شأنه أن ييسء
ترصفا ً
ُّ ترصفت
َّ إليها ،أو يل ِّوث سمعتها أو ينعتها بنعت غري حميد ،أو
يَسِ مها بميسم ال تقبله األخالق الفاضلة ،بل إنها كانت مه َّذبة عاقلة،
تعرف أين تضع قدمها مقدَّماً ،وال تخطو خطوة واحدة ّإل بعد أن َّ
تتأكد
من سالمة تلك الخطوة ؛ وال تقدم عىل عمل من األعمالّ ،إل بعد أن تعرف
ما يرت َّتب عىل ذلك العمل.
كان الفضل يف ذلك؛ يف تربية فوزية ،يرجع إىل والدتها التي كانت ترشف
عىل تهذيبها وتنشئتها تنشئة أخالقية صميمة؛ فقد غرست يف روحها
وحب األخالق ،كما غرست يف نفسها كراهية
ّ وحب الخري،
ّ حب الفضيلة،
ّ
ترصفات طائشة وأعمال ال تليق
لكل ما تقوم به بنات جنسها من ُّ عميقة ّ
بفتاة تعيش يف غري باريس.
155
o=p\8!T
كانت هوايتها الوحيدة ...اليشء الوحيد املق َّرب إىل نفسها وروحها الش ّفافة،
حب املطالعة والشغف بالقراءة .وسعيا ً وراء زيادة معلوماتها العا ّمة، هو ّ
كانت تقيض ّ
كل أوقات فراغها يف القراءة ويف التأ ُّمل ويف املطالعة .وهكذا،
لم تستطع أن تقيم يف بريوت (باريس الرشق) وحدها ،دون معني وال
مرشد ،بعد موت والدتها ،فأرسعت تلحق بوالدها هنا ،يف طرابلس،
رغم إلحاح الكثريين من أقارب والدتها عىل بقائها بينهم ،تعيش معهم،
وتتز َّوج منهم.
لحقت بوالدها هنا ،فسارع هو -بدوره -وطلب مني إبقاءها معنا :أنا
كأي فرد من أرستنا الصغرية ...وقبلت أنا
ومريم ،يف بيتنا ،تعيش معنا ّ
اطلعت عىل طرف من مايض حياتها إبقاء الفتاة معنا يف البيت ،بعد أن َّ
النظيف.
وجاءت الفتاة إىل بيتنا لتقيم معنا ،فاستاءت منها مريم ،أ َّول األمر ،لكنني
استطعت أن أقنعها بقبولها ،بعد أن قصصت عليها طرفا ً م ّما علمته
عن مايض الفتاة وسلوكها وأخالقها ،ورشحت لها الظروف السيِّئة التي
فرق لها قلب مريم ،وقلوب النساء وجدت نفسها تعيشها ،رغم أنفهاَّ ،
ترق وتعطف. رسعان ما ّ
كانت فوزية ،شغوفة باملطالعة ،مولعة بالقراءة ،تقيض معظم أوقاتها إ ّما
156
يف مساعدة زوجتي يف شؤون البيت ،أو يف القراءة داخل حجرتها وهي
ممدَّدة عىل الرسير ،فتزيد معلوماتها العا ّمة ،وتن ّميها ،يوما ً بعد يوم.
فهي ،دائماً ،تبحث عن الكتب الجديدة ،وهي ،دائماً ،تشرتي م ّما يعطيها
أي كتاب يظهر يف السوق ،ويروق لها. والدها ،بني الحني والحنيّ ،
-أجل.
ومن غري أن أجيبها ،أناولها الكتاب وأنا أشعر بأنني أساعد يف بناء عقلية
هذه الفتاة اليانعة ،وتأخذه هي َف ِرحة به ،وتدخل حجرتها بغنيمتها،
وتحتضنه بني ذراعيها وكأنها تحتضن الدنيا بأرسها ،وأنظر إليها أنا يف
ىس وحزن ،وأعجب للفرق الكبري بينها وبني زوجتي ..بينها وبني مريم أ ً
التي تكره اسم الكتب ،وتنفر حتى من النظر إليها.
157
o=p\8!T
وم َّرت األ ّيام ،وفوزية تعيش بيننا :أنا ،ومريم ،كأنها واحدة منا ،ال فرق
وكل يوم يم ّر ،أكتشف فيه شيئا ً جديدا ً تمتاز به فوزية
بيننا وبينهاّ .
حب املطالعة والسعي الحثيث عن مريم :اكتشفت فيها -باإلضافة إىل ّ
امللحة يف النقاش ،مناقشة ّ
كل لالستزادة من املعلومات العا ّمة -رغبتها ّ
مشكلة تعرتض حياة البرش ،وأكتشفت إىل جانب ذلك تح ُّرر عقلها الذي
تحكم به عىل األشياء التي تصادفها ،وتح ُّرر فكرها الذي ِّ
تفكر به يف شتّى
األمور واألوضاع ،واكتشفت نظافة آرائها التي تريد أن تن ِّفذها يف قابل
أ ّيامها ،وأن تسري عليها يف رحلتها الحياتية التي كتبت عليها.
اكتشفت يف فوزية أشياء كثرية تق ِّربها إيلّ ،وتدنيها مني ،وتلصقها بي..
كل األشياء التي كنت أبحث عنها يف مريم ،منذ سنوات ،منذ وجدت فيها ّ
أن تز ّوجتها ،بل قبل أن أتز َّوجها.
عرفت ،مع مرور األ ّيام وتتابعها ،أن هذه الفتاة ..أن فوزية ،فتاة الخامسة
والعرشين ،التي لم تضيِّع سنوات عمرها هبا ًء يف التش ُّبث بالسخافات،
والتعلَّق بالرتَّهات ،واالعتقاد باألكاذيب ..هذه الفتاة التي تعيش معي ..يف
بيتي ،وال يفصلها عني سوى جدار صفيق من اآلجر ،إنما بعثتها األقدار
من هناك ،من بالدها ،لتكون القبس الذي ينري أمامي الطريق املظلم الذي
أتخبَّط يف دياجريه ،عىل غري هدى ،من يوم ُو ِجدت يف هذه الحياة.
بدأت أشعر فيما بيني وبني نفيس ،أن هذه الفتاة السمراء التي تشبه
زوجتي إىل َح ّد بعيد ،وليس هناك من خالف بينهما سوى أن هذه أكثر
امتال ًء من مريم ،ومريم أكثر بياض برشة من فوزية ،لدرجة أن كثريات
ك ّن يسألن زوجتي قائالت( :هل هذه شقيقتك؟) ..بدأت أشعر أن فوزية
158
أقرب إىل عقيل من مريم ،وأن فوزية تفهمني ،رغم حداثة عهدها بي ،أكثر
م ّما تفهمني مريم التي قضيت معها سنوات ،أنجبت خاللها يل ولداً ..وأن
مريم تستسلم يل من غري مقاومة ،وتسلِّم بآرائي وأفكاري ،دون نقاش،
أفكر به ،بل رغبة منهابصحة ما أقول ،ال إليمانها بصواب ما ِّ ّ القتناعها
يف قفل باب النقاش بيني وبينها .أ ّما فوزية فيشء آخر يختلف كثريا ً عن
تحس بح ِّر َّيتها
ّ مريم ..فوزية تشعر بوجودها ،أ ّما مريم فال ،ألنها لم
تحس ،دائماً ،أنها مكبَّلة بأغالل ،مقيَّدة بسالسل تجذبها ّ مطلقاً ،إنما
إىل الخلف ،كلّما حاولت الزحف إىل األمام .واإلنسان ال يشعر بوجودها
كجزء مه ّم يف هذا الوجود ،أ ّما فوزية فتشعر بوجودها ،وتعت ّز بهذا
الوجود الذي تدرك أنه لم يخلق ملج َّرد العبث ،لذلك كانت ال تسلِّم بيشء
أقولهّ ،إل بعد أن تناقشني فيه ،وبعد أن تحاسبني عليه حسابا ً عسرياً،
قد ال يقبله وال يطيقه غريي من الرجال الذين تع َّودوا فرض إراداتهم
كل يشء ،أ ّما أنا فأرحب عىل النساء ،والظهور أمامه ّن بمظر الق ّوة يف ّ
به وأتقبّله بصدر رحب ونفس متفتِّحة ،فأنا نفيس ال أريد أن أقتنع أو
صحته وصوابه ،وهذا يشء تأكدي من ّ أحاول إقناع غريي برأي ماّ ،إل بعد ُّ
ال يتأ ّتى ّإل بعد النقاش الدقيق والحساب العسري .وقد شعرت فوزية،
أو ملست هذه النقطة؛ نقطة الق ّوة أو الضعف يف نفسيَّتي ،فأرادت أن
تستغلَّها ،ال لصالحها فحسب ،بل لصالحي أنا ،أيضاً؛ فقد عرفت هذه
كل قول أقوله ،ويف ّ
كل أحب من يناقشني ويحاسبني ،يف ّ ّ الفتاة أنني
كل فكرة أعرضها ،وعرفت-أيضاً -أنني لست من الذين رأي أبديه ،ويف ّ
يته َّربون من اإلقرار بخطئهم واالعرتاف به ،إذا أخطأوا ،بل أدركت أنني
أتقبَّل لفت نظري إىل نقطة ضعفي ،بيرس وسهولة ،فأخذت تجلس معي
ساعات طويلة ،من الليل والنهار ،تناقشني وتحادثني يف شتّى املواضيع،
159
o=p\8!T
أذكر أنها قالت يل ،ذات يوم« :لو كنت من بلدك ،يا أستاذ سليم ،الستطعت
أن أتعاون معك عىل تحقيق كثري م ّما تنادي به من آراء وأفكار تقدُّمية
متح ِّررة ،والتي يراها غريك متط ِّرفة مندفعة».
-كيف؟
-ألنك تحاول املستحيل؛ إن القوم هنا ال يفهمونك ،ولن يتَّبعوك أبداً .إنك
تحاول أن تفرض عليهم آراء لم يجدوا عليها آباءهم وال أجدادهم .إنك
تتعب نفسك ،وتسري وراء رساب خادع.
-ما دمت مؤمنا ً بصواب آرائي ،فال ب ّد أن يأتي يوم يقتنع فيه قومي
بصالحية هذه اآلراء.
-إن فوزية هذه ،تزيد يف خياالتك وأوهامك .إنها فتاة من غري هذا البلد،
والحياة يف بالدها غريها هنا.
-بل قويل إن القوم هناك غريهم هنا .هناك ،يحكمون عىل األشياء
بعقولهم .وهنا ،يحكمون عليها بما ورثوه.
وهنا ،تدعني مريم وشأني ،وتذهب يف حال سبيلها ،وهي تشعر -ال ّ
شك-
باألسف والحرسة عىل هذا الزوج الخيايل الذي اب ُتليت به ،هذا الزوج الذي
ال يقنع بما يجد ،إنما يحاول أن يجعل األمور كما يريد.
تك َّررت مقابالتي وجلساتي ومناقشاتي مع فوزية .ويف كثري من امل ّرات،
قصة من القصص فأقرؤها أنا عندما ال تجد ما نتناقش فيه ،كنا نتناول ّ
وتسجل رأيها يف
ِّ أ َّوالً ،وأك ِّون حولها رأيا ً ِّ
أسجله عىل ورقة ،ثم تقرؤها هي
القصةّ ،
وكل منا ينظر إليها من زاويته ّ ورقة أخرى ،ثم نجلس نتناقش يف
الخاص .وشيئا ً فشيئاً ،بدأت
ّ الخاصة ،ويصدر عليها حكمه ،بحسب رأيه ّ
161
o=p\8!T
ّ
تحتل أُعجب بفوزية .بدأت هذه الفتاة تدخل قلبي عن طريق عقيل ،بدأت
مكانها من وجداني ،عن طريق تفكريي .وهنا ،اكتشفت جمالها ،جمال
خلقتها بعد أن اكتشفت جمال عقلها .إنها حلوة جميلة ،خفيفة الروح،
الحجة .وعجبت -أ َّول األمر -كيف
ّ عذبة الحديث ،واسعة التفكري ،قو ّية
بدأت أنظر إىل فوزية من خالل هذه الزاوية!
ملاذا أنظر إليها من زاوية غري الزاوية التي تع َّودت أن أنظر إليها منها؟
الحب التي يقولون عنها؟ هل اكتشفت فيها أشياء ّ هل هذه هي مبادئ
أحب هذه الفتاة؟ وكيف أحبّها وأناّ حبَّبتها إىل قلبي؟ هل يمكنني أن
أحب زوجتي،متز ِّوج ويل ولد ،وال أشعر بأ ّية كراهية نحو زوجتي؟ قد ال ّ
لكن ذلك ال يعني أنني أكرهها وأحاول التخلُّص منها؛ فأنا ال أمقتها
أحس نحوها بعطف وبشفقة ،وشفقتي عليها تبعثني عىل احرتامها، ّ بل
ومحاولة عدم جرح كربيائها .لقد اعرتفت ،فيما مىض ،بيني وبني نفيس،
بأن مريم ضحيّة ..تماماً ،مثيل أنا ،واعرتفت بأنني أعطف عليها ،ألنني
أعطف عىل الضحايا وأشفق لحالهم.
أحب هذه الفتاة؛ وأنا أعلم ،مقدَّماً ،استحالة إمكانية كيف يمكنني أن ّ
زواجي بها؟! ال يمكنني أن أتز َّوجها ،مهما كانت األحوال ،ألنني -أ َّوالً-
ال أستطيع أن أطلّق زوجتي الربيئة التي ال ذنب لها ،وألنني -ثانياً -ال
أستطيع أن أجمع بني امرأتني ،يف وقت واحد ،فأنا لست من أنصار الزواج
بأكثر من واحدة.
هي يجوز يل أن أخون األمانة ،وأنقض العهد؟ إن هذه الفتاة غريبة يف
هذه الديار ،وحيدة ،ال سند لها وال ُمعني سوى والدها الذي َسلَّمها يل
وتركها عندي بمنزلة األخت ،وهي يف حاجة إىل من يحميها ويذود عنها،
كل هذا ،يجوز أحق بهذه امله ّمة سواي ،فكيف ،بعد ّ
وليس هناك من أحد ّ
الترصف فيه؟ُّ يل أن أحبّها ،وأن أُسكِنها قلبي ،الذي ليس يل وال لها ّ
حق
أحب فوزية ،وأنا متز ِّوج من مريم؟ وماذا يكون مصري هل يمكنني أن ّ
الحب ،إذا كان حبّا ً فعالً؟ وما نتيجته؟ ما آخرته؟ ما نهايته؟ ..أسئلة
ّ هذا
أ ْعيَتني اإلجابة عنها.
وأحس به نحوهاّ تحس ،وتشعر نحوي بمثل ما أشعر، ّ ثم ،هل فوزية
املتوسلة ،بهذه البسمة
ِّ متأججة؟ وماذا تقصد بهذه النظرة ِّ من عاطفة
العذبة التي تستقبلني بها ،بهذه الجلسات الطويلة واألحاديث املش ِّوقة؟
رس َب إىل قلبي؟
رس َب إىل قلبها كما ت َّ
الحب ت َّ
ّ هل هو
من يدري...؟
163
o=p\8!T
الب ّد أنه يشء آخر أجهله ،فأنا أشعر شعورا ً عميقا ً بأنها أخت يل ،فالبد أن
حب وعاطفة ،مبعثه شعور األخ ّوة التي جمعت بيننا، يكون ما بيننا ،من ّ
فهي يتيمة ،وأنا مثلها يتيم ،وقد جمع بيننا اليتم ،وهي غريبة وحيدة يف
هذه الديار ،وأنا -أيضاً -أشعر بأنني غريب يف هذا املجتمع وبني هؤالء
القوم الذين ال يفهمونني ،وقد جمع بيننا الشعور بالغربة والوحدة ،وهي
تحمل أفكارا ً تقدُّمية تح ُّررية ،وأنا أحمل مثل هذه األفكار ،وقد جمع بيننا
ا ِّتحاد الهدف ووحدة الغاية.
هذه هي العوامل التي جمعتنا وق َّربتنا؛ و -إذن -إن ما بيننا؛ أنا وفوزية
الحب الذي يعرفونه ويتحدَّثون عنه ،وإنما هو ّ ال يمكن أن يكون هو
حب من نوع آخر ،منشؤه ا ِّتحاد الهدف ،ووحدة الغاية وتقارب اآلراء ّ
واألفكار.
هذا ما أقنعت به نفيس ،أو ما حاولت أن أقنع به نفيس حتى ال أقع يف
املحظور ،وال أعرتف بالجريمة .وكانت فوزية تحاول أن تقوم بالدور
(الحب) عن العالقة التي نشأت بيننا ،نحن-االثنني،
ّ نفسه؛ أن تنفي صفة
وتحاول أن تجعلها عالقة عادية أقرب إىل عالقة األخ بأخته ،منها إىل
عالقة الحبيب بحبيبته ،فجاءتني ذات يوم تقول ،يف إرصار:
-ما رأيك لو ناديتني بلفظ (أختي فوزية) ،وناديتك بلفظ (أخي سليم)؟
-ملاذا؟
واصطبغ وجهها بحم َرة قانية محبَّبة ،فلم تجب ،بل اكتفت ببسمة رقيقة
لطيفة ،فأخذت بيدها دون شعور ومن غري تفكري ،وقلت:
-أن تناديني باسمي ،وأناديك باسمك مج َّرد َي ْن :تناديني أنت بـ(يا
سليم) ،وأناديك أنا بـ(يا فوزية) ،دون حاجة بنا إىل اللقب.
ومن يومها ،بدأت تناديني (سليم) وأنا أناديها (فوزية) ،ولم تعرتض
مريم عىل هذا التط ُّور يف عالقتنا ،فما كانت تهت ّم بمثل هذه األمور التافهة،
165
o=p\8!T
كما تزعم.
وم ّرة أخرى ،دخلت فوزية حجرة مكتبي ،وجلست قبالتي ،وبعد تفكري
قصري قالت:
لدي سؤال.
أستاذ سليمَّ ،
-أ َّوالً ،اسحبي كلمة (أستاذ) .لقد ا َّتفقنا عىل التخلُّص من األلقاب.
يحيك؟
-اسأيل ما بدا لك ،يا فوزية ..ماذا ِّ
-إنه سؤال بسيط يتعلَّق بإحدى صديقاتي .إنها مشكلة فتاة ليبية
تع َّرفت إليها.
وناولتني ورقة مطو ّية ،وخرجت مرسعة تغادر الحجرة ،دون أن تنتظر
فضها وقراءتها .وعندما فضضتها ،بدأت أقرأ فيها «أ ُّيهما أفضل، مني ّ
تحب شا ّبا ً ليبيّا ً مثلها حبّا ً قو ّيا ً صارماً ،وكان هذا
ّ بحسب رأيك ،لفتاة
الشاب يبادلها املشاعر نفسها ،ولكنه ،فجأ ًة ،سافر إىل الخارج إلتمام ّ
166
دراسته .ومنذ سنة ،تقريباً ،انقطعت أخباره عنها ،فتقدَّم إليها ّ
شاب آخر
يطلب يدها ..فهل توافق عىل إتمام هذه الخطبة ،أم تنتظر عودة فتاها
الغائب؟».
وفكرت يف األمر قليالً ،ثم أخذت القلم ،وبدأت أكتب لها هذا الردّ« :يقول َّ
املثل العا ّم ّي «عصفور يف اليد وال عرشة فوق الشجرة» .ومادامت آخبار
الفتى األ َّول قد انقطعت منذ سنة ،فالب ّد أن يكون املانع أحد شيئني :إ ّما
الحب ،أو أنه نسيها ،ولم يعد يذكرها .ويف كال الحالتني ،من ّ أنه ال يبادلها
الحمق االستمرار يف انتظار عودته إىل ما ال نهاية ،ومن يدري ماذا تكون
تأكدت أفضل لها أن َت ْقبل اليد املمدودة إليها ،إذا َّ
نهاية هذا االنتظار .أنا ّ
من صالحيَّتها».
وناديت فوزية ،فسلَّمتها الر ّد داخل مظروف ،فوعدتني بأن تسلِّمه إىل
صاحبته ،صباح الغد.
وم َّرت األ ّيام ،يتبع بعضها بعضاً ،وأنا أظ ّن أن ما بيني وبني فوزية ،ال
األخوي ،الذي يحدث بني األخ وأخته ،لكن األ ّيام
ّ الحب
ّ يتجاوز حدود
والحب
ّ الحب..
ّ َّ
فتأكدت أن ما بيننا هو كشفت يل خطأ هذا االعتقاد،
الحب الذي ال يرحم اإلنسان ،وال يرتكه يشعر بالراحة،
ّ العنيف الصارم..
يحب.
أي يشء يف سبيل من ّ ويدفعه إىل عمل ّ
بعد مرور عدّة أ ّيام عىل موضوع السؤال والجواب ،اكتشفت أشياء جديدة؛
القوي العاصف ،الذي
ّ الحب
ّ اكتشفت أن ما بيني وبني فوزية لم يكن ّإل
أحب فوزية ،وأنها
ال يعرتف بالعقبات ،وال يهت ّم بالقيود ..تأكدتُ أنني ّ
الحب ،ولم يكن يشء يحول دوننا ودون اإلفصاح عنهّ ،إلّ تبادلني هذا
167
o=p\8!T
كل منا من اآلخر :أنا خائف من أن تكون فوزية ال تشعر نحوي خوف ّ
بمثل ما أشعر به نحوها .وكنا ،نحن -االثنني ،باإلضافة إىل هذا الخوف من
يحس ويشعر، ّ مشاعرنا ،نشعر بنوع آخر من الخوف ..كان ّ
كل واحد منا
الحب الذي ُولِد وترعرع بني قلبينا؛
ّ يف قرارة نفسه ،يهول وفظاعة هذا
حب مح َّرم ،ال ليشء الحب الذي كنّا نعلم ،مقدَّماً ،أنه فاشل ،بل أنه ّ
ّ هذا
سوى ألنني متز ِّوج ،ويل ابن ،والثاني يف الطريق ،وحرام أن أطلِّق زوجتي
الحب ،وألنها -أيضاً -فتاة ال ترىض ،أبداً ،أن تكون سببا ً يف
ّ من أجل هذا
الحب ..إنها
ّ كل ذلك يف سبيل يشء يس ّمونه خراب بيت ،وطالق زوجةّ .
أسمى من أن ترىض بالنزول إىل هذا املستوى الوضيع ..وإذا لم يعصمها
الترصفات الصبيانية ،فماُّ اطالعها عن مثل هذه علمها وثقافتها وسعة ِّ
فائدة الوقت الذي أضاعته يف الدرس والتحصيل؟
لقد أفلت الزمام من أيدينا ،ولم يعد يف مقدورنا الوقوف أو التو ُّقف،
وكذلك ،ليس يف استطاعتنا االستمرار إىل نهاية املطاف ،ألننا ال ندري
ماذا يمكن أن تكون النهاية.
حل واحد :أن نستم ّر هكذا ،حتى نصل إىل نقطة يبق أمامنا سوى ّ إذن ،لم َ
ما ،نتَّفق عىل الوقوف عندها ،ألن االستمرار إىل نهاية الشوط معناه ختام
القصة بإحدى نهايتني :إ ّما أن أتز َّوج باثنتني ،أو أطلِّق زوجتي.
ّ
أحس بهذه اإلحساسات ،وأشعر بهذه املشاعر ،لكنني كنت ّ كنت ،أحياناً،
أدرك -يف الوقت نفسه -أن املجتمع الذي أعيش فيه ،والذي أنا خاضع له،
شئت أم لم أشأ ،ال يوافقني ،أبداً ،عىل فكرة الطالق والزواج ،من جديد،
كما ال يوافقني عىل فكرة الجمع بني زوجتني .فنظرياتي ومبادئي تتناىف
169
o=p\8!T
ثم هناك نقطة أخرى مه ّمة جدّاً؛ هناك مريم التي رضيت ،ذات يوم ،أن
أكون لها زوجا ً مدى الحياة ،وقبلت أنا -عن طواعية واختيار -أن تكون
زوجتي ورفيقة رحلتي مدى الحياة .مريم هذه ،ماذنبها؟ ما جريمتها
التي تس ِّوغ يل تطليقها والتخلُّص منها ،هي ومحمود ابني ،والولد الثاني
الذي تحمله يف أحشائها؟
وم َّرت األ ّيام بعد ذلك ،وأنا أعيش يف د ّوامة من أمري :ال أعرف كيف
أترصفّ ..
كل ما استطعته هو أنني تحاشيت النظر َّ أترصف ،وال أعرف ب َم
َّ
إليها يف خلوة ..تحاشيت الخلوة مع فوزية ،لكنني -رغم ذلك -كنت أقاوم
أحس ،يف قرارة نفيس ،أن هناك ق ّوة
ّ إحسايس باالنجذاب نحوها ..كنت
خفيّة ال تقا َوم تدفعني إليها ،بقدر ما تبعدني عن مريم ،غري أنني قاومت
إىل أن انهارت قواي ،ولم يعد يف إمكاني االستمرار يف املقاومة؛ فذات يوم،
وبينما كانت مريم يف الحمام ،وكنت يف مكتبي ،إذا بفوزية تدخل ،وكانت
تحمل يف يدها كتابا ً تقرؤه ،فسألتها:
171
o=p\8!T
يحب
ّ شاب
ّ القصة تتحدَّث بلسان
ّ فأخذت تقرأ بصوت مسموع ،وكانت
فتاة ،غري أنه لم يفصح لها عن حبّه ،ولم يظهر نحوها عواطفه ،ألنه كان
خائفا ً أال تكون تشعر نحوه بمثل مشاعره .وبعد أن قرأت فوزية بضع
صفحات ،بصوتها الساحر ،تو َّقفت ،فجأ ًة ،عن القراءة لتسألني:
القصة أو أسلوبها.
ّ -أنا ال أسالك من حيث بناء
-كيف؟
-لكنني أرى عكس رأيك ،فإن ما يمنعه عن مصارحتها بحبّه ،إنما هو
عدم معرفته لشعورها نحوه ،فهو يخاف أن تكون مشاعرها ليست كما
يريدها هو.
172
تشجع ،ولو م ّرة؟ إن الواجب يفرض عليه ذلك ،ألنه هو
َّ رضه لو -وما ُّ
الرجل ،وهي املرأة.
«اسمحي يل -يا فوزية -أن أناديك (ياحبيبتي) ،فإن ما حدث بيننا،
الحب الذي ربط بني قلبينا ،وقد
ّ أي تفسري سوى أنه اليوم ،لم أجد له ّ
حب املوت،
دفعني هذا إىل مصارحتك بحبّي وعواطفي نحوك ،فأنا أحبّك ّ
وال يمكنني ،أبداً ،بعد اليوم ،االستغناء عنك أو الحياة بدونك.
لقد كنت أتمنّى منذ أن عرفتك ،أن تأتي الساعة التي أض ّمك فيها .وها
هي ذي أمنيتي قد تح َّققت ،فأرجو أال تكوني غاضبة مني .لقد كنت
خاصة وأنت تعلمني أنني متز ِّوج،
ّ خائفا ً منك ..خائفا ً من طردك إ ّياي،
ماشجعني عىل ا ِّتخاذ الخطوة
َّ وأنني أب ،ولكن ما حدث بيننا اليوم ،وهو
األوىل من جانبي (الخطوة األوىل الب ّد أن تكون من جانب الرجل ،ألنه هو
الرجل.)...
أنت حبيبتي ،يا فوزية ،وأنا أحبّك رغم ّ
كل الظروف التي تحيط بنا ،ورغم
اختالف وض َعيْنا ،فهل أنت تبادلينني هذه اإلحساسات؟ هل تشعرين
نحوي بما أشعر به نحوك؟».
ويف اليوم التايل ،بينما كنا نتناول وجبة اإلفطار ،أنا وهي ومريم ،سلَّمتها
173
o=p\8!T
ففضتها دون إبطاء ،وألقت عليها نظرة خاطفة ،بينما كنت َّ الرسالة،
أحس ،يف أثناء
ّ أتابع ما يعرتي مالمح وجهها من إشارات وأمارات ،كنت
ذلك ،أن قلبي يخفق بق ّوة .كنت ،وقتها ،أشبه بالتلميذ الذي ينتظر نتيجة
االمتحان ،أو املتَّهم الذي ينتظر ما تنطق به شفاه القايض .وم ّرت فرتة،
خلتها أطول من الحياة ،ثم رفعت فوزية رأسها وهي تبتسم ،وقالت:
قصة صدرت حديثاً ،ولم نتَّفق فيها حول رأي، -تناقشنا ،أمس ،حول ّ
فق َّررنا أن يكتب ّ
كل منا رأيه ويقدّمه إىل الثاني ،وها أنت ترينها ،اليوم،
توافق عىل رأيي.
وخرجت مريم من حجرة األكل ،لتتَّجه إىل حجرة املكتب .وبعد قليل،
فشجعني ذلك عىل
َّ سمعت صوتها تحادث إحدى صديقاتها يف التليفون،
توجيه سؤال إىل فوزية ،فقلت متسائالً:
قصة؟
-أ ّية ّ
ونظرت فوزية نحوي نظرة كلّها نداء وإغراء ...ولم نفق من سعادتنا
تلك إال عندما طرق سمعنا صوت مريم وهي تودِّع صديقتها يف التليفون،
فعدنا إىل جلستنا األوىل وكأن شيئا ً لم يحدث بيننا ،وإن كنت خائفا ً أن
يفضحنا االنفعال البادي عىل وجهينا ،أمام مريم.
وم ّر ذلك اليوم ..وم ّرت بعدة أ ّيام ،وانقضت أشهر ،بل أربع سنوات
ونحن -االثنني -نستقي ّ
كل يوم من معني حبِّنا الذي كنّا ندرك أنه لن
يدوم طويالً ...كنا نتقابل كلّما كانت مريم غري موجودة.
-ما رأيك يف جولة يف ضواحي املدينة ،وقضاء فرتة تحت االشجار ،بني
الورود والرياحني؟
-وما يحول دوننا ودون تحقيقها؟ إن شيئا ً يف الوجود ،مهما عظم ،ال
175
o=p\8!T
-إن تنفيذ هذه الفكرة يحتاج لوجود سيّارة ،وأنا ال أملك سيّارة كما
تعلمني.
وكان يوم الجمعة ،فقلت ملريم إنني سأتناول غدائي خارج البيت ،وقالت
فوزية إنها مدع ّوة من إحدى صديقاتها ،ثم خرجت أنا -أ َّوالً -وا َّتجهت
محطة (تاكسيّات) ،ثم ،لحقتني فوزية ،فركبنا أ ّول سيّارة ّ إىل أقرب
صادفتنا ،وقلت للسائق« :طريق السواني ..كيلو مرت .»9وهناك ،نزلنا يف
مزرعة إيطايل ،أعرفه منذ زمان ،تربطني به رابطة صداقة قديمة ،سألني
صاحب املزرعة« :من هذه التي معك؟ هل هي زوجتك؟» .قلت :ال ..بل
للتفسح معها. َّ هي لبنانية جاءت تزور ليبيا ،فرأيت الواجب يدعوني
وحمدت الله عىل هذه الكذبة املو َّفقة ،فقد كان اإليطايل م ّمن زاروا لبنان،
تركنابوجه أسئلة إىل رفيقتي عن لبنان ،وهي تجيبه يف صدق ،ثم َ فأخذ ّ
بعد أن قال لنا« :إن املزرعة كلّها عىل حسابكم ،وال أحد سيزعجكم ..أ ّما
ألي يشء ،فنحن عىل استعداد» ،وشكرته قبل أن نبدأ جوالتنا إذا احتجتم ّ
يف أنحاء املزرعة ،تحت ظالل أشجار اللوز وبني الورود والرياحني ،كما
تمنّت فوزية ،وتخيَّلت ،ثم اخرتنا شجرة زيتون ظليلة جلسنا تحتها ،و َم ّر
الوقت بنا رسيعاً ،إذ رسعان ما كانت الساعة تشري إىل الخامسة مساءً،
176
دون أن نشعر ،وجاءت سيّارة األجرة يف الخامسة ،بحسب املوعد املتَّفق
عليه ،فقفلنا راجعني..
أي
كانت فوزية تقول يل ،يف كثري من األحيان ،عندما تالحظ من جانبي ّ
تفكر يف يشء ..ال تخف عاقبة يشء» .وكنت حينما تردُّد أو هروب« :ال ِّ
أسمع منها هذه الكلمات« ،أر ّد قائالً« :ولكنك -يا مالكي -فتاة يف انتظار
أي زوج هذا؟ أنا ال اعرتف بزوج يل سواك أنت ..أنت زوجي الزوج» ،فرتدّّ :
أمام الله وأمام نفيس ..لقد وهبتك قلبي وروحي وكياني.
كل يشء ،وأن تستويل عىل بهذه الطريقة ،استطاعت فوزية أن تنسيني ّ
كل ذ ّرة مني ،فلم أعد أملك معها شيئا ً من وجودي ..سلَّمتها نفيس ّ
أفكر يف يشء سوى الساعة التي أقضيها معها.. وسلَّمتها قلبي ،ولم أعد ِّ
نحس
ّ وبهذه الطريقة -أيضاً -قضينا أربع سنوات ،بطولها وعرضها ،كنا
خاللها بوجودنا ألننا كنّا نتمتَّع بح ِّر َّيتنا ..أربع سنوات قضيناها يف هذا
الج ّو املمتع ،نشعر ،حينما نكون معاً ،بأننا زوجان ح ّقاً ،ال يشء ينقصنا
بكل يشء يتعلَّق بحياتي ،وكانت هيأو ينقص حياتنا ،وكنت أصارحها ّ
ف عني شيئاً ،كبريا ً كان أم بكل يشء يتعلَّق بحياتها ..لم ْ
تخ ِ تصارحني ّ
177
o=p\8!T
أربع سنوات ،شعرنا فيها بوجودنا ،وأحسسنا فيها بح ِّر َّيتنا .لم يقف
يشء يف طريق تم ُّنعنا بح ِّر ّية وجودنا.
-اسمع ،يا سليم ،أنا لم أشعر بكياني ،ولم أشعر بوجودي وبأه ِّميَّتي يف
الحياة ،بل لم أشعر بحياتي ،إطالقاً ،إال عندما تع َّرفت إليك أنت ،وأحببتك
أنت.
وكنت أر ّد عليها:
-وأنا ،يا فوزية ،لم أشعر بوجودي كإنسان إال بعد أن بعثك الله من
الحب.
ّ بالدك ،ولم أشعر بحياتي إال بعد أن دخلتها أنت من باب
-قبل أن أعرفك ،ياسليم ،كنت أتمنّى أن يرزقني الله بزوج متح ِّرر
وأحس بوجودي وح ِّر َّيتي إىل جواره،
ّ أستطيع أن أشعر بحياتي معه،
ويف حِ ماه .وبعد أن عرفتك وعشت معك ،تمنَّيت أن يكون زوجي مثلك
أنت ،تماماً ،يؤمن بح ّر ّية اآلخرين ،حتى أضع يدي يف يده ،وأح ِّقق ّ
كل
178
أحالمي .ذلك كان أ ّيام زمان ،أ ّما اآلن فإن شيئا ً يف الوجود لم يعد يه ّمني،
ولم يعد يشغل بايل ،فشكرا ً للسماء ،وشكرا ً لله الذي بعثك تيضء أمامي
ظلمات الحياة ...صحيح أن أفكاري واسعة ،وأهدايف بعيدة فيما يتعلَّق
بالحياة واإلنسان ،تلك التي أطمع يف تنفيذها ،يوما ً ما ،وآمل أن تساعدني
الظروف عىل تنفيذها ..لقد أعطيتك ،يا سليم ،باختياري ،ما أريد أن
وتأكد أنه حتى بعد زواجي، أعطيك ،وأخذت أنت مني ما تريد أن تأخذَّ ،
لو قدِّر يل أن أتز َّوج ،يف بالدكم ،سأهبك وأعطيك الكثري ..الكثري جدّاً..
أكثر م ّما كنت تظ ّن وتتص ّور ،وأكثر م ّما أعطيك ،اآلن ،يا مالكي...
179
وبعد مرور ّ
كل هذه السنوات األربع ،جاءني والد فوزية يقول:
-أستاذ سليم..
-نعم؟
-من خطيبها؟
-ما مستواه؟
-رغم أنه ليس متعلِّما ً مثلها ،حيث إن ظروف حياته لم تساعده حتى عىل
إتمام دراسته االبتدائية ،إال أنه من لحمها ودمها .إنه أحد أبناء عمومتها.
181
o=p\8!T
بكل يشء ينهار أمامي ،ورأيت النهاية التي كانت أخافها ّ وشعرت
حقيقة عمالقة تهزأ بي وتسخر مني .تبد ََّل ً لناظري
ّ وأخشاها تتمثَّل
كل يشء قد ضاعّ ،
كل كل يشء :الضياء أصبح ظالماً ،والنهار ليالًّ .. أمامي ّ
كل أمل قد تالىش ...ماذا بقي يل إن أُخِ ذت فوزية مني؟ تبخرّ ..حلم قد َّ
هل يمكنني أن أعيش من غري وجود فوزية إىل جواري؛ فوزية التي،
بفضلها ،عرفت الدنيا ،وعرفت العالم ،وخربت الوجود؟
وعدت إىل واقعي املؤلم ..واقعي املرير .لقد كنت يف حلم ..يف خيال ،وها
ّ
ويتبخر الحلم ،وينزاح هي ذي الحقيقة تصدمني ،والواقع يواجهني،
الخيال.
ودون أن أدري ،انرصفت من أمام الرجل ،من غري أن أقول له ،ولو عىل
سبيل املجاملة ،كلمة (مربوك) ،وأرسعت إىل البيت حيث اختليت بفوزية،
نفكر معا ً يف املوضوع ..جلست مع فوزية التي ملكت ّ
كل وجلست معها ّ
ِّ
ونفكر فيه، مشاعري ..جلست معها نبحث املوضوع من ّ
كل جوانبه،
وننظر إىل النتائج التي قد ترت َّتب عليه؛ النتائج التي ترت َّتب عىل حالتَي
الرفض والقبول ،إذا رفضت ماذا تكون النتيجة ،وهل نتيجة هذا الرفض،
يمكننا أن نتزوج؟ هل يجوز لنا أن نك ّون عشا ً زوجياً ،نحن -االثنني-
ترفرف عليه أجنحة السعادة والهناء؟؛ فأنا متزوج ،وهذه حقيقة ال
نستطيع إنكارها ،وحقيقة أخرى ال يمكن تناسيها ،هي أن زوجتي
محسنة إيلّ متسامحة معي ،قد ال أكون أنا ومريم زوجتي متَّف َق ْي عىل ّ
كل
يشء ،كنتيجة الختالف نظر ّيتينا للحياة ،حيث أنظر إليها أنا من زاوية،
وتنظر إليها هي من زاوية أخرى ..أنا أرى الحياة شيئا ً ثمينا ً يجب علينا
أال نضيِّعه وأال نف ِّرط فيه ،بل يجب أن نستغلّه لسعادتنا ،ونتمتّع به إىل
182
آخر حدود املتعة ،بينما تنظر إليها مريم نظرة تشاؤمية سوداء ال تريها
فيها أكثر من كونها شيئا ً تافها ً جدّاً ،يجب عليها أال نفرح بها وال نوليها
كثري اهتمام ،وعىل أساس أنها يشء زائل ال قيمة له وال وزن.
كل هذا ال يمكن أن يتَّخذ أساسا ً للتفريق بيننا ،وال يجوز،ولكن ..إن ّ
وحجة تخ ِّولني تطليقها.
ّ مطلقاً ،أن يكون سندا ً يل،
الرفض ،رفض فوزية لليد املمدودة إليها شئ غري معقول وال مقبول .عىل
أساس بحثنا أنا وفوزية موضوع زواجها ،لم نجد أمامنا سوى ّ
حل واحد:
الشاب الذي تقدَّم إليها،
ّ ليس أمامنا غري موافقة فوزية عىل الزواج من
مخية.
وقبلت به مرغمة غري ِّ
كنّا خالل هذه الشهور األربعة كاملحكوم عليه ،باإلعدام ،الذي يحاول أن
يمأل عينيه بمناظر الدنيا ،قبل أن يفارقها إىل األبد.
183
o=p\8!T
وتق َّرر سفرها بعد ثالثة أ ّيام ...ثالثة أ ّيام فقط ،اختليت بها يف املنزل،
حظنا ،ونبكي حبّنا الذي كتب له الوأد قبل أن يكرب وجلسنا وحدنا نندب َّ
ويرتعرع وينمو ويأتي أ ُ ُكله ...ويف أثناء حديثنا ،يف يومنا التاريخي ذاك،
قلت لها:
متأكد من استحالة زواجنا ،ورغم أنني أعلم أنه اليمكننا أن -رغم أنني ّ
ترصفاتنا ،ولسنا أحرارا ً
نتز َّوج ،وأن نك ِّون بيتا ً معاً ،ألننا لسنا أحرارا ً يف ُّ
أي رجل يف أعمالنا ...رغم ّ
كل ذلك فأنا ال أستطيع أن أتص َّورك بني ذراعي ّ
غريي أنا ،إنني أريدك يل ..يل وحدي...
-ال تخف من يشء يا حبيبي ..ال تخف من يشء ،يا حياتي ..يا حبّي
الكبري ،واأل ّول واألخري ..سوف لن أهبه شيئا ً أكثر من جسد بارد ..عواطف
ميِّتة ..لن أعطية أكثر م ّما يجب عىل الزوجة أن تعطي زوجها ..ستصلك
األخبار عني ..ستعلم ّ
كل يشء ..إنها أ ّيام قليلة ،فقط ،تفصل بيننا ،ثم
نعود لنلتقي ،كما كنّا ،وأكثر م ّما كنّا ..أ ّيام قليلة معدودة ،ثم نعود إىل
سابق عهدنا ،وأنا أكثر ح ّر ّية معك وأكثر انطالقاً.
-كيف ...كيف نعود نلتقي كما كنّا ،وأنت راحلة إىل بريوت؟
يحق لك حتى مج َّرد التفكري فيه ،فأنا ال أستطيع ّ -هذا يشء ما كان
أن أنساك ،ولو حاولت ذلك؛ لسبب بسيط ...بسيط جدّاً ،هو أن شيئا ً
جديدا ً سوف لن يحدث يف حياتي يمكنه أن ينسيني إ ّياك ،بل إنني أقولها
رصاحة :أنا خائف منك ...خائف أن تنسيك حياتك الجديدة إ ّياي... ً لك
حياتك الجديدة التي يف طريقك إليها اآلن؛ حياة البيت والزوج واألبناء.
-ال ...ال تخف .إن شيئا ً يف الوجود ،مهما عظم ،ال يمكنه أن ينسيني إ ّياك،
ألنك أنت وجودي ،وأنت كياني ،وألن حبّك يرسي يف عروقي ،تماماً ،كما
ترسي دمائي ...أنت جزء مني ،من حياتي ،من وجودي ،فكيف أستطيع
االستغناء عنك؟ ماذا تعتقد يف حبيبتك الوفية املخلصة التي وهبتك نفسها
185
o=p\8!T
وقلبها وروحها ،ومن غري أن يكون لها مطمع فيك؟ هل تعتقد أن أحدا ً
الشاب نفسه ...إنني أعرفه
ّ يستطيع أن ينسيني إ ّياك؟ .ال ...ال ...وال هذا
أي نوع من الرجالجيِّداً ..أنه ابن أحد عمومتي كما تعلم ،وأنا أعرف من ّ
متحجر ال يعرف شيئا ً
ِّ هو ..إنه إنسان عىل سبيل االستعارة ،فهو جامد
من الحياة ،وال يفقه شيئا ً من الوجودَّ .
تأكد أن ثقافتي أعىل من ثقافته،
اطالعي أكثر من ِّ
اطالعه ...وأنا ما كنت ألقبل الزواج منه وأرضاه وأن ِّ
لنفيس ،لوال أنني أريد أن أعيش معك .حياتي الحقيقية ستكون معك أنت،
وليست معه هو ...إن هذا الرجل لم يكن أبدا ً الفارس الذي كنت أحلم به
كل هذه السنوات ،وإنما هي الظروف كما وأُمنّي نفيس بلقياه ،وانتظرته ّ
ترى -أرغمتني عىل قبوله زوجا ً يل ،وهكذا فإن حياتنا أنا وهو ،سوف ال
تختلف كثريا ً عن حياتك أنت ومريم .ملاذا ال تنصفنا األقدار ،فيتز َّوج ابن
عمي من واحدة مثل مريم ،وأتز َّوج أنا من واحد مثلك أنت ،حتى يكون
هناك تكافؤ بني األزواج ،وتقارب يف عقليّاتهم وآرائهم؟
إن ابن عمي هذا ،لم أقبله زوجا ً يلّ ،إل ألن ظرويف التي ال تخفى عليك
تجربني عىل قبوله ،فأنا -كما تعلم -ال أستطيع الرفض ،وبماذا أتعلَّل
إذا رفضت؟ ،ثم ال تنىس أن وفاة والدتي قد زادت من تعقيد موقفي ،إذ
يرحب بزواجي ،بل يتهلَّف عليه ..فهل تعتقد أن
أصبح والدي هو اآلخر ِّ
زيجة ،هذه ظروفها ومالبساتها ،وأن زوجا ً هذه نظرتي إليه ،يستطيعان
أن ُينسياني إياك؟ ماذا تظ ّن؟
قلت :حسنا ً هذا ...كفى ..إنني ال أريد أن أسمع أكثر م ّما سمعت ،وأرجو
ّأل تخيِّب األ ّيام ظنّي فيك.
186
كل يشء ...هل تظنّني قالت :ال ...ال تقاطعني ،دعني أتكلَّم ...دعني ْ
أقل ّ
إنسانة بال قلب؟ أتعتقد أن حبّك جاءني سهالً حتى يذهب مني سهالً،
الحب وأتعبني ،وسهّرنيّ فأف ِّرط فيه بسهولة ويرس؟ لقد أشقاني هذا
أعب لك عنه، أتشجع وأبوح لك به ...وقبل أن َِّّ الليايل الطوال قبل أن
قضيت أ ّياما ً وليايل وحدي ،أبكي ّ
حظي وأندبه ،ألنني لم أتع َّرف بك ّإل
أعب لك عن حبي ...كنت خائفة ،منك.. بعد زواجك ،وألنني ال أستطيع أن ِّ
كنت أخاف إن أنا أفصحت لك عن حبّي أن تهزأ بي ،وتسقطني من نظرك
بالحبّ ...
كل كلمة ّ وتعتربني واحدة من بنات الشوارع اللواتي يتاجرون
تعذبني طوال ليلتي.كنت أسمعها منك كانت ِّ
أكثر من سنة كاملة قضيتها عىل هذه الحال من العذاب ،أتع ّذب ،وأشقى،
أعب لك عن حبّي ،ألننيوأسهر الليل ...كنت أحبّك ،لكنني ال أستطيع أن ِّ
بحب هذا الرجل،ّ كنت أقول ،كلّما خلوت إىل نفيس :كيف أسمح لنفيس
بالذات؟ ،إنه رجل متز ِّوج ،وله ولد ،وزوجته محسنة إليه ،فكيف أخونها؟
كيف أرسق منها زوجها ووالد ولدها؟ ،ثم :هل أنا ِّ
متأكدة من أنه يحبِّني،
أحب
وأنه يبادلني مشاعري وإحساساتي؟ ملاذا أحببته هو ،بالذات ،ولم ّ
شاب من الشباب الذين أي ّ أي إنسان آخر سواه؟ ملاذا لم أشعر بميل إىل ّّ
كانو يرتدَّدون عىل بيتنا يف ّ
كل وقت.
تأكدَّ ،يا سليم ،أن كثريا ً من الشبّان ،من أقاربي ،كانوا يرتدَّدون عىل بيتنا،
بأي ميلأي واحد منهم .لكن ،ثق أنني لم أشعر ّ أحب ّ
وكان يف إمكاني أن ّ
ألي واحد من هؤالء ،رغم كثرتهم .أ ّما أنت ،فبمج َّرد أن رأيتك ..بمج َّرد ّ
أن وقع عليك نظري ..وبمج َّرد أن عرفتك وحادثتك ،شعرت بأنني أحبّك،
كل مشاعري ،وإحساساتي ،وكنت أنتظر الساعة التي وبأنك ملكت ّ
187
o=p\8!T
الحب ..لك ّن سنة مضت ،قبل أن أعرف نوع مشاعرك ّ أصارحك فيها بهذا
نحوي ..سنة كاملة قضيتها يف عذاب ..يف ألم ..مليئة بالدموع والسهر:
أتع َّذب وحدي ،وأسهر وحدي ،وأشقى وحدي ،وأنت ال تشعر بي ،وال
تحس بوجودي إىل جوارك.
ّ
عندما كنت أسمعك تحادث مريم ،أو تضحك معها يف مخدعكما ،كنت
أنقم عىل مريم ،وأراها اإلنسان الوحيد الذي يحول دوني ودون سعادتي،
توجه إليها أحاديثك وضحكاتك وابتساماتك.. وأتمنّى أن أكون أنا التي ِّ
كنت أحسدها ..أحسد مريم عىل ما أنعم به الله عليها ..كنت أتع َّذب كثريا ً
كلَّما سمعت صوتك يصلني من خلف جدران الحجرة ،لكنني ما كنت
أملك سوى الدموع ،أذرفها حتى تبلِّل شعري ووسادتي.
هذا هو موجز تاريخ حبّي لك ،وهو تاريخ -كما تراه -حافل بالعذاب
كل هذا بسهولة ،وأفرط فيه بيرس؟ واأللم والشقاء ،فهل يمكنني أن أنىس ّ
كل هذا بسهولة هل يمكنني ،حتى لو أردت ،أن أنىس أ ّيامي معك ..أن أنىس ّ
وأف ِّرط فيه بيرس؟ هل يمكنني أن أنىس جزءا ً من حياتي ،وهو الجزء
املرشق املضئ ،الذي لم أشعر بوجودي إال خالله ..خالل تلك الحقبة
املرشقة من حياتي املظلمة؟ ال ..ال ..يا سليم ،إنني سوف لن أنساك،
مهما كانت الظروف ،ومهما كانت األحوال ..سأذكرت دائماً ،وسأح ّن إىل
كل وقت ،حتى لو حاولوا منعي عن أ ّيامك دائماً ،وسأكون بجوارك يف ّ
وسأعيد حبّي وأجدّده معك ،شاءوا مقابلتك ،سأقابلك ،سأتحدَّث معكُ ،
أم لم يشاؤوا .أ ّيام قليلة فقط ،ثم نعود بعدها كما كنّا ،وأكثر م ّما كنّا.
َّ
تأكد أنه لو كان يل أمل يف الزواج منك ،ولو بعد عرش سنوات ،لرفضت،
188
ِّ
متأكدة ،كما اآلن ،أن أتز َّوج ،والنتظرتك وتشبَّثت بذلك األمل ،لكنني
أنت ِّ
متأكد ،أن زواجنا غري ممكن ،وأننا ال نملك حيلة يف هذا األمر ..فإذا
حل ،فقله ،وأنا مستعدّة أن أن ّفذ معك ّ
كل ما أي ّ كانت لديك أ ّية حيلة أو ّ
أضحي ّ
بكل يشء ّ تطلبه مني ..إنني مستعدّة ألن أنتظر ..مستعدّة ألن
من أجلك .قل يل ،فقط ،انتظري -يا فوزية -عرشين سنة أخرى ،وأنا
مستعدّة لالنتظار ..ارفع إصبعك ،فقط ،وقل يل :اتبعيني ،فسوف أتبعك
إىل آخر الدنيا ،فإن أحدا ً لم يبق يل سواك ،لقد ماتت والدتي ،ووالدي يف
حكم األموات ،بالنسبة إيلّ ،أ ّما أنت فإني أعتربك أبي وأمي وأخوتي ّ
وكل
كل ما يربطني بهذه الحياة. أقاربيّ ..
إن شعوري هذا نحوك لم يكن وليد اليوم ،إنما هو وليد الساعة التي
عرفتك فيها ..وليد اللحظة ...لحظة الضعف ،بل لحظات الضعف الكثرية
التي انتابني بني يديك ،وسلَّمت لك فيها نفيس وحياتي تفعل بها ما تشاء،
لكنك لم ترتك حتى آثار أصابعك عىل جسمي ،ألنك إنسان متكامل ...منذ
تلك الليلة التي دخلت فيها حجرة نومك -أل ّول م ّرة -عذراء ،وخرجت
منها عذراء ،كما دخلت ،علمت أنك إنسان عفيف.
وسكتت فوزية ،وأخذت تج ِّفف الدموع املنسابة عىل خدَّيها ..وأردت أن
أي يشء ردّا ً عىل ما قالته هي ،لكنها سارعت تضع يدها
أتكلَّم ..أن أقول ّ
فوق فمي ،وتمنعني من الكالم ،وترسم عىل ثغرها ابتسامة ،ثم أخذتني
من يدي ،وهي تقول:
189
o=p\8!T
وكانت الساعة تشري إىل الواحدة صباحاً ،عندما دخلت حجرة نومي،
وتمدَّدت عىل الفراش بكامل مالبيس ،وقبل أن أستغرق يف النوم تماماً،
شعرت بيد تمسح عىل جبيني ،ففتحت عيني ألجد فوزية تنظر نحوي يف
تجف ،بعد ،عىل وجنتيها ..ونظرت إليها ّ أسف وحرسة ،وآثار دموع لم
يف بالهة ،أ ّول األمر ،وكأنني أراها أل َّول م ّرة يف حياتي ،ثم جلست وأخذت
أحملق فيها برهة من الوقت ،دون أن أتكلُّم ،إىل أن قالت هي:
-تحب نعملك قهوة يا سليمّ ،
وأل شاهي؟
كل ما حدث لك من -أنا أعلم ،يا سليم ،أنني وحدي السبب املبارش يف ّ
تعب وشقاء ،وما قد يحدث لك مستقبالً؛ فلوالي ملا عرفت أنت شيئا ً من
شك -تلعنني،هذا الذي تعانيه وتقاسيه من تعاسة وحرمان ..إنك -ال ّ
وتلعن الساعة التي عرفتني فيها ،بينك وبني نفسك ،وأنا ال ألومك عىل
يشء من هذا ،فليتني ،يا سليم لم أظهر يف حياتك ،وليتني لم أتع َّرف
إليك؛ فلوال وجودي أنا ملا عرفتَ أنت الشقاء وملا تج َّرعت املرارة .لقد
خاص ًة بعد
َّ بدأت أشعر بأن ضمريي يؤ ِّنبني ويو ِّبخني عىل ما سبَّبته لك،
عودتك الليلة املاضية ،مخموراً .لكن ،ما باليد حيلة لقد فات أوان التوبة،
عمل يشء أو إصالح ما فسد. وال أستطيع أنا وال أنت َ
191
o=p\8!T
ال ..ال يليق بك مثل هذا املسلك ،وال أنا أرضاه لك ،عىل اإلطالق ..أفهل
كل الوعود والعهود التي كانت بيننا؟ ألم تعاهدني،نسيت ،يا حبيبيّ ،
يوم شبكنا أيدينا ،وا َّتفقنا عىل ّأل تتناول الخمر ،مدى حياتك؟ ،فكيف
والتخل عن عهدك ..أنا ال أرىض ،أبداً،
ّ تطاوعك نفسك عىل الحنث بوعدك
الترصف املشني...
ُّ يترصف مثل هذا
َّ ملن أحببته ووهبته حبّي ،أن
َّ
تأكد من أنني متأملة أش ّد األلم ملا بدَر منك ،لدرجة أنني قضيت ليلتي يف
بكاء مستم ّر لم يغمض يل جفن ،ولم أذق طعم النوم والراحة ..لقد بكيت
والزلت أبكي ،حتى اآلن ،فهل يرضيك ،ياحبيبي ،أن تؤلم حبيبتك التي
أخلصت لك يف حبِّها ،ووهبتك قلبها ،فرت َّبعت عىل عرشه ،دون منازع،
ووهبتك روحها وعقلها ّ
وكل كيانها؟ ال ..ال أعتقد أنك ترىض بهذا أو تقبله،
192
وألنني عهدت فيك الحبيب املخلص الحنون ،صاحب القلب الشفوق .إنني
القوي ،الذي ترعرع بيننا طوال أربع سنوات،ّ أستحلفك بالله ،وبحبِّنا
أي نوع من أنواع الخمر ،بعد اليوم ،فهل تعدني؟ إنني ال ّأل تتناول ّ
أرىض ،وال أقبل ،أبداً ،أن أراك أو أسمع عنك ما شاهدته ليلة البارحة ،إذ
كنت ترت َّنح بني الجدران واألشجار .وختاماً ،أرجو عدم املؤاخذة عىل هذه
الجرأة يف كالمي هذا ،الذي ما كنت أعتقد أنه سيكون أ ّول ما أكتبه إليك.
193
وانتهى سليم من قراءة الرسالة ،فقبَّلها عدّة م ّرات ،قبل أن يعيدها إىل جيبه،
من جديد ،ليجلس صامتا ً يف جلستنا تلك ،التي امتدَّت حتى الساعات األوىل
قصته وأنا أستمع إليه .انتظرت أن يستم ّر سليم يف من الفجر؛ سليم يروي ّ
قصته ،وعندما طال صمته ،سألته: رسد ّ
-أقصد :هل تز َّوجت ابن عمها؟ هل عادت إليك؟ هل عدتما كما كنتما؟
إنني أريد أن أعرف ّ
كل يشء.
أجل ،تز َّوجت ابن ع ّمها املزعوم ،وذهبت إىل بريوت .وبعد عرشين يوما ً من
زواجها ،عادت إىل هنا ،م ّر ًة أخرى ،مع زوجها ،وع َّرفتني به ،وكان ذلك يوم
ً
و-صدفة -كانت عائدة معه من أحد األماكن، أن مررت من أمام منزلهما،
ر َّبما من زيارة ،وما إن رأتني حتى هتفت باسمي( :سليم!!) ،والتفت
زوجها ينظر من هو سليم هذا؟ .فقدَّمتني إليه عىل أساس أنني صديق
والدها ،وأنها كانت تقيم يف بيتنا عند مجيئها إىل طرابلس ،واستقبلني
الرجل استقباال ً حا ّراً ،وأقسم أن أدخل معه إىل منزله ،حيث جلست يف
195
o=p\8!T
حجرة الجلوس إىل جانبه ،يف مواجهة فوزية ،وقد وجدته تماما ً كما وصفته
يل ،كان ،فقط ،يتقن اللغة (الفرنسية) التي يستعني بها يف حديثه ،أ ّما لغته
األصلية فإن مستواه فيها ال يزيد عىل مستوى تلميذ سنة ثالثة ،ابتدائي..
وقضيت فرتة من الوقت معهما ،تلك الليلة ،ثم خرجت مودِّعا ً إ ّياهما ،عىل
أمل اللقاء بهما يف املستقبل ،حيث وعدتهما بالزيارة ،الفينة بعد الفينة،
أتمكن من لقائها .ورغم وقصدي من ذلك ربط الصداقة مع زوجها حتى َّ
توطدت بيني وبينه صداقة من نوع الكراهية التي أحملها لهذا الزوج فقد َّ
ما.
كنت أكرهه ألنني أعتربه خصمي الوحيد الذي سلب مني سعادتي ،وحرمني
أحب إنسانا ً آخر سواها ،وإىل
من اإلنسانة الوحيدة التي أحببتها كما لم ّ
كل ما حدث ،ورغم البعد الذي يفصل بيننا .وعن اليوم الزلت أحبّها ،رغم ّ
طريق صداقتي لزوجهاَّ ،
تمكنت من االلتقاء بها عدّة م ّرات ،غري أن تلك
ُي زوجها اللقاءات لم تستم ّر طويالً ،ثم انقطع بيننا ّ
كل يشء ،بعد أن ع ِّ َ
رئيسا ً لقسم يف رشكة من رشكات البرتول التي تعمل يف الصحراء ،واضط ّر
أن يصحب زوجته معه لتقيم قريبة منه يف مدينة بنغازي..
ومنذ ذلك اليوم ،الذي سافرت فيه فوزية مع زوجها ،لم أعد أراها ،ولم أعد
ألتقي بها ،فرغم أننا نعيش يف بالد واحدة ،ورغم أنني زرت بنغازي أكثر
من م ّرة ،فإننا لم نعد نتقابل ولم يعد أحدنا يرى اآلخر أو يحادثه ،أو حتى
يكتب إليه ..وقد تسأل :كيف ذلك؟ ،وما يمنعك من زيارتها ،ما دمت تذهب
إىل بنغازي ،الحني بعد الحني؟ فأجيبك :إن زوجها حال دوني ودونها ،منعَها
عن محادثتي وعن مقابلتي ،ال ليشء سوى أنه أراد أن يتأقلم مع املجتمع
الذي يعيش فيه ،ومجتمعنا ال يسمح بمثل هذه الزيارات واملقابالت.
196
كل ما حدث -الزلت أذكرها ،وال أزال لكن ،ثق ،يا دكتور ،بأنني -رغم ّ
أذكر األ ّيام السعيدة التي عشتها مع فوزية ،لكنني لست أدرى :هل ال تزال
تذكرني هي األخرى ،أم أنها نسيتني ،واعتربتني مج َّرد سحابة صيف م َّرت
يف حياتها؟
وكم م ّرة حاولت فيها أن أرضب صفحا ً عن املايض؛ أن أنساها مثل ما
نسيتني! .لكن ،عبثا ً حاولت؛ فإنني -أقسم لك بالله -الزلت أحلم بها ّ
كل
ليلة ،وأتمثّلها ،دائماً ،أمامي ،ال يفارقني خيالها ،وال يغيب عني طيفها..
ذلك ألن شيئا ً جديدا ً يف حياتي لم يحدث حتى ينسيني إ ّياها ،أ ّما هي فمن
غيته فيها حياتها الجديدة ..حياة البيت واألوالد والزوج؟ يدري ما الذي َّ
من يدري كم من األوالد عندها ،اآلن!
لك أن تضحك مني ،يا دكتور ،ما شاء لك الضحك ،ولك أن تصفني بالجنون،
خاصة إذا علمت أنني ،إىل يومنا هذا ،ال أزال أحتفظ ّ ما شاء لك الوصف،
بتذكا َر ْين منها أهدتهما إيلّ ذات يوم ،هما :هذا الخاتم الذهبي الذي أحمله
يف أصبعي ،وهذا املشط األخرض الفاقد بعض أسنانه ،الذي أحمله يف جيبي.
تنس أنني مجنون بحبِّها،
إنني مجنون ،معتوه ..صفني بما تشاء ،لكن ،ال َ
وال يمكنني أن أتخلّص من هذا الجنون ،رغم علمي باستحالة لقائي بها
م ّرة أخرى! وما فائدة ذلك اللقاء؟ ،وماذا أجني من ورائه؟ أنا لست أنانيا ً
حتى أتمنّى لها العودة إيلّ ،م ّرة أخرى ،وألنني أدرك أن عودتها إيلّ ال يمكن
أن تكون ّإل عىل أنقاض سعادتها ،وأنا ال أريد لها سوى السعادة والهناء.
كل ما أرجوه ،وأتمنّاه ،هو أن تكون سعيدة يف حياتها ،بني زوجها وأوالدها، ّ
خاصة بعد أنّ وأن تذكرني ،دائماً ،كما أذكرها دائماً ،هذه هي أمنيتي،
رسب إىل شعر رأيس ،وأكرب تجاوزت الثالثني من عمري ،وبدأ الشيب يت َّ
أبنائي قارب أن يكون يف مثل طويل.
197
متوجها ً إىل بيته وزوجته،
ِّ وانتهى سليم عبدامللك من رسد مأساته ،فقام
وحب جديد..
ّ شك يف أنه قد عاد إليها بقلب جديد ،وشعور جديد،التي ،ال ّ
ونمت أنا بقيّة ليلتي ،وكأن شيئا ً لم يحدث .ويف صباح اليوم التايل ،لم
أ َّتجه إىل عيادتي يف املوعد املحدَّد ،إنما جلست استعرض حوادث املأساة
التي سمعتها والتي حدثت لسليم عبدامللك ،ويمكن أت تحدث ،يف ّ
كل وقت،
مع غري سليم عبدامللك ،فأمثال عبدامللك ومريم كثريون ،يعيشون خلف
جدران البيوت ،وال أحد يدري ماذا يحدث بينهم ،وال كيف يعيشون ،وال
كيف يتعارشون ..ثم أخذت أسائل نفيس :ترى ،هل ال تزال (فوزية) عىل
عهدها لسليم؟ ..هل ال تزال تشعر نحوه بمثل ما يشعر به نحوها؟ هل
الحب التي قضتها معه؟ هل ال تزال ّ ال تزال تذكر أ ّيامه ولياليه ولحظات
بالحب والوفاء؟
ّ تحافظ عىل وعودها وعهودها التي قطعتها له عىل نفسها
هل ال تزال تذكر شيئا ً من األلفاظ املعسولة التي سكبتها يف أذنيه ،ذات
يوم ،عندما قالت له من ّ
كل قلبها «سأذكرك ،يا سليم ،وسأحبّك إىل األبد»؟
هل ال تزال ،وهي ،اآلن ،يف أحضان زوجها ،وبني يدي ابن عمها ،تذكر ذلك
الرجل الذي منحته يوماً ،عن طيب خاطر ،ما تمنحه لزوجها ،اآلن؟
ترى ،هل تذكر فوزية الرجل الوحيد الذي أحبَّها ،وأخلص لها يف حبِّه،
199
o=p\8!T
بكل يشء ،واستهانوضحى ّ ّ وخان جميع قيمه ومبادئه يف سبيل حبِّها،
وحطمت حياته، َّ بكل يشء من أجلها؟ هل تذكر ،اآلن بعد أن َّ
حطمته، ّ
و -ر َّبما -مستقبله ،أيضاً ،كيف اقتحمت عليه حياته النظيفة املستق ّرة
الهادئةَّ ،
فعكرتها ول َّوثتها ،ثم خرجت منها ،فجأ ًة ،كما دخلتها ،لتهدأ
هي ،وتستق ّر وتنعم ،بينما يشقى هو ويتع َّذب ويقايس الويالت؟
تذكري يا حاجة أني قلت لك م ّرة ،أني ق ّررت الزواج ،وطلبت منك تبحثي
يل عن زوجة بنت حالل؟
-خالتك الحاجة ما تنساش ،وما تهملش ..إني اهت ّميت بك ،ود ّورت عىل
بنت الناس اليل تصلح.
حاجة.
غيت فكرتي ،يا ّ
-لكن أني َّ
-اسم الله عليك ..عالش يا دكتور؟ عمرك خمسة وأربعني عام ،شنو
مازال تستنّي؟ أندادك أصبحوا جدود.
-عيب!! ..شنو ها الكالم اليل تقول فيه ،يا دكتور؟ انت تختار زوجتك
200
انصا َرى؟ ..زوجتك ،يا دكتور ،الب ّد تختارها لك واحدة
بنفسك؟ تحسبنا َ
قريبتك :أ ّمك ،أختك ،ع ّمتك ،أ ّما حكاية تختارها بنفسك ،هذا يشء جديد..
موضة جديدة ،عمرنا ما سمعناها!.
حاجة ،هي أ ّمي وال أختي اليل بتعيش معها؟ مش أني اليل
ّ -لكن ،يا
بنتز ّوجها ،وبتعيش معاي؟ ..أنا ما نفهمش شنو فيها لو إني اخرتت
بنفيس! حرام؟
-إيه يا وليدي ،ياريت حرام وبس ،لكن الحكاية هذي عيب ..عيب كبري..
201
صدر من سلسلة كتاب الدوحة