You are on page 1of 217

‫ﻃﻪ ﺣﺴ‬

‫اﻟﺸﻴﺨﺎن‬

‫ﺗﻘﺪﻳﻢ‪ :‬ﺻﱪي ﺣﺎﻓﻆ‬


‫ال�شيخان‬
‫طه ح�سني‬
‫‪14‬‬
‫يوزع مجانا ً مع العدد ‪ 57‬من مجلة الدوحة يوليو ‪2012‬‬

‫ال�شيخان‬
‫ت�أليف‪ :‬طه ح�سني‬

‫النا�رش ‪:‬‬
‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم الإيداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الرتقيم الدويل (ردمك) ‪:‬‬

‫�إخراج وتنفيذ ‪ :‬الق�سم الفني ‪ -‬جملة الدوحة‬


‫لوحة الغالف ‪ :‬تف�صيل من وفيقة �سلطان ‪ -‬قطر‬
‫ال�شيخان‬
‫طه ح�سني‬

‫تقدمي‪� :‬صربي حافظ‬


‫لوحة الغالف ‪ :‬من وفيقة �سلطان ‪ -‬قطر‬
‫«ال�شيخان»‬
‫بناء دولة احلق والعدل واحلرية‬

‫�صربي حافظ‬
‫هذا الكتاب «ال�شيخان» الذي تهديه «الدوحة» لقرائها يف �شهر رم�ضان‪،‬‬
‫هو �آخر كتب ما يعرف ب�إ�سالميات طه ح�سني (‪ )1973 – 1889‬التي �أثرت‬
‫املكتبة العربية‪ ،‬وفتحت �أمامها باب ًا جديداً للبحث واال�ستق�صاء والت�أمل؛‬
‫و�أن�ش�أت فيها �أ�سلوب ًا غري م�سبوق من الكتابة عن التاريخ العربي وعن‬
‫الإ�سالم‪ ،‬ب�صورة ميتزج فيها �أ�سلوب الأديب ال�رسدي املرهف وح�سا�سيته‬
‫اللغوية الراقية‪ ،‬ب�رصامة امل�ؤرخ املنهجية وعقالنيته ومنطقه‪ .‬وقد �شغلت‬
‫هذه ال�سل�سلة من الكتب التي دارت حول تاريخ الإ�سالم الباكر طه ح�سني‬
‫ملا يقرب من ثالثني عام ًا‪ ،‬وهي الفرتة املمتدة بني ظهور �أول كتب هذا‬
‫امل�رشوع الأدبي التاريخي «على هام�ش ال�سرية» عام ‪ 1933‬وحتى ظهور‬
‫�آخرها (ال�شيخان) عام ‪ ،1960‬مروراً بـ«الوعد احلق» و«الفتنة الكربى‪:‬‬
‫بجزءيه عثمان‪ ،‬وعلي وبنوه» و«مر�آة الإ�سالم» وغريها‪ .‬و�إ�سالميات طه‬
‫ح�سني بالرغم من �أنها م�رشوع كبري ترك ب�صمته على امل�شهد الثقايف‬
‫والفكري‪ ،‬ف�أيده من �أيده‪ ،‬وهاجمه من هاجمه‪ ،‬هي �أحد امل�شاريع الكربى‬
‫يف هذا املجال لأهمية منجزه فيها وتفرد منهجه‪ ،‬ومتيز �أ�سلوبه الأدبي‬
‫الر�صني‪ .‬ولكنها على تعدد كتبها و�أهميتها لي�ست �إال �أحد املحاور البارزة‬
‫يف م�رشوعه الثقايف والفكري ال�ضخم‪ ،‬الذي جند فيه �إىل جانب هذا املحور‬
‫املهم‪ ،‬عدداً �آخر من املحاور‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫م�رشوع �ضخم متعدد املحاور‬

‫م�رشوع طه ح�سني الأدبي‪ /‬الفكري م�رشوع �ضخم متعدد اخليوط‬


‫واملحاور‪ .‬فيه املحور النقدي الذي اهتم بنقد الأدب ومتحي�ص ن�صو�صه‬
‫وحتليلها بعد تعري�ضها ل�ضوء ال�شك العقلي وطرح الأ�سئلة اجلوهرية عليها‪.‬‬
‫وهو حمور �سعى �إىل �إر�ساء منهج نقدي حديث وعلمي ور�صني يف التعامل‬
‫مع الن�صو�ص الأدبية‪ ،‬ومع مبدعيها من �أعالم الأدب العربي القدمي من امرئ‬
‫القي�س وال�شعراء ال�صعاليك �إىل املعري واملتنبي وحتى �أعالم الأدب احلديث‬
‫مثل حافظ و�شوقي وغريهما‪ .‬وفيه �أي�ض ًا املحور الفكري الذي يتخلل كل‬
‫املحاور‪ ،‬والذي بد�أه بر�سالته للدكتوراه عن ابن خلدون‪ ،‬و�سعى فيها �إىل‬
‫رد املنهج العلمي يف الفكر واالجتماع �إليه‪ ،‬و�إىل �إحياء منهج رفاعة رافع‬
‫الطهطاوي يف �إجراء حوار م�ستمر بني املناهج واملنطلقات الغربية احلديثة‬
‫وبني الأ�صول العربية والإ�سالمية القدمية القادرة على احلوار معها‪،‬‬
‫ووا�صله بدرا�ساته املهمة عن املذاهب الأدبية والفكرية املختلفة‪ .‬وهناك‬
‫�أي�ض ًا املحور الإبداعي الذي فتح فيه بكتابه العالمة «الأيام» باب ال�سرية‬
‫الذاتية اخلالقة يف الأدب العربي احلديث‪ ،‬والتي ميتزج فيها ال�رسدي بالذاتي‬
‫بالت�أملي والفكري ب�شكل بالغ العذوبة والت�أثري‪ .‬لأن اجلزء الأول من «الأيام»‬
‫رد طه‬ ‫والذي �صدر عام ‪ 1927‬يعد يف م�ستوى من م�ستويات الت�أويل فيه َّ‬
‫ح�سني املفحم على من هاجموه على كتابه «يف ال�شعر اجلاهلي»‪ ،‬وبرهان ًا‬
‫نا�صع ًا ال نظري له على �أنه بدون العقل وال�شك وطرح الأ�سئلة‪ ،‬ما كان للفتى‬
‫الفقري الذي ذهب اجلهل بنور عينيه �أن ي�صبح ملء ال�سمع والب�رص؛ و�أن‬
‫ُيعمل عقله فريى ما ال يراه الآخرون‪ .‬كما �أجنز يف هذا املحور الإبداعي عدداً‬
‫الب�أ�س به من الن�صو�ص ال�رسدية املهمة يف الرواية والق�صة الق�صرية‪� ،‬أذكر‬
‫منها على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬ف�ض ًال عن «دعاء الكروان» و«�شجرة الب�ؤ�س»‬
‫و«جنة ال�شوك» و«�أحالم �شهرزاد» جمموعته الق�ص�صية املهمة «املعذبون‬
‫يف الأر�ض» لأنها فتحت باب الواقعية الأدبية على م�رصاعيه‪ ،‬فتدفقت‬

‫‪8‬‬
‫منه ن�صو�ص �إبداعية كثرية ان�شغلت بال�رشائح املهم�شة واملعذبة يف الواقع‬
‫امل�رصي والعربي من ورائه‪ ،‬وو�ضعت ق�ضية العدل االجتماعي على خارطة‬
‫اجلدل والإبداع مع ًا‪ ،‬وهي الق�ضية التي مازالت حتى اليوم �شاغل املجتمع‬
‫العربي‪ ،‬و�أحد �شعارات ثورات الربيع العربي الراهنة‪.‬‬
‫وهناك كذلك حمور الفن التمثيلي واليونانيات الذي اهتم فيه بتقدمي‬
‫كال�سيكيات امل�رسح الغربي در�س ًا وترجمة‪ ،‬وبتي�سري �سياقات هذا امل�رسح‬
‫االجتماعية والفل�سفية والت�صورية للقارئ العربي‪ ،‬حتى ي�ستطيع �أن‬
‫ي�ستوعب ن�صو�صه ور�ؤاه‪ ،‬وحتى ميهد الأر�ض مليالد م�رسح م�رصي وعربي‬
‫مل يت�أخر ميالده كثرياً‪ .‬ووا�صل طه ح�سني رفده باملعارف واخللفيات‬
‫عرب تقدميه للكثري من �أعالم امل�رسح الفرن�سي‪ ،‬قدميه وحديثه‪ .‬وهو حمور‬
‫انفتح يف ما بعد ف�شمل �أجنا�س ًا �أدبية غربية كثرية‪ ،‬وا�صل �إثراءه على مد‬
‫م�سريته الثقافية الطويلة يف االهتمام بالرتجمة‪ ،‬وهي م�رشوع م�ستقل‪،‬‬
‫وبتقدمي الرتجمات املختلفة للآداب الغربية‪ ،‬من �ستندال �إىل دو�ستويف�سكي‪،‬‬
‫وكان �أول من قدم للقارئ العربي �أعالم احلداثة الأوروبية الكبار من‬
‫جوي�س وكافكا �إىل ت‪� .‬س‪� .‬إليوت و�أو�سكار وايلد يف جملته املهمة «الكاتب‬
‫امل�رصي» فقد كان طه ح�سني واعي ًا ب�رضورة احلوار اخلالق مع ثقافات‬
‫العامل عامة‪ ،‬والثقافة الأوروبية املتو�سطية خا�صة‪ .‬وكان يعي مقولة جوته‬
‫ال�شهرية‪ ،‬ب�أن الثقافات ترتجم ما تت�شوف �إىل �إبداعه‪� ،‬أو ما هي على م�شارف‬
‫تخليقه‪ ،‬فكان ي�ست�رشف برتجماته ومبا يو�صي تالميذه برتجمته حاجات‬
‫الثقافة العربية الراهنة وم�ستقبلها‪ .‬لأنه يدرك �أن القارئ العربي الذي �أخذت‬
‫ح�سا�سيته الأدبية يف التغري يف حاجة �إىل �أدب جديد‪ ،‬ور�ؤى جديدة‪ ،‬و�أفكار‬
‫مغايرة مل يوفرها له كتابه بعد‪ ،‬ويجد �أطيافها جميع ًا فيما �أجنزته الثقافة‬
‫الأوروبية على مد �ساحتها الوا�سعة من رو�سيا حتى بريطانيا‪ ،‬مروراً ببلده‬
‫الأثري فرن�سا بالطبع‪.‬‬
‫وهناك �أي�ض ًا حمور التنظري الثقايف والفكري الذي يقدم فيه كتابه‪/‬‬
‫تقريره الثقايف حلكومة الوفد «م�ستقبل الثقافة يف م�رص» ‪ 1938‬ر�ؤية‬

‫‪9‬‬
‫ثقافية وفكرية متميزة‪� ،‬أ�صبحت ميثاق العمل الثقايف الوطني امل�رصي‬
‫لعقود‪ .‬تطرح على م�رص م�رشوعها احل�ضاري والنه�ضوي اجلدير بها‪،‬‬
‫وهي ت�ست�رشف ا�ستقاللها احلقيقي عقب توقيع الوفد على معاهدة ‪.1936‬‬
‫ويوا�صل يف كتبه ومقاالته الكثرية الأخرى‪ ،‬من هنا ومن هناك‪ ،‬يف هذا‬
‫املحور ا�ستق�صاءاته ال�شيقة للكثري من ق�ضايا هذا امل�رشوع التي كان �أحد‬
‫ممار�سيها‪ ،‬و�أحد �أبرز العنا�رص الفاعلة يف كثري من �إجنازاتها و�أن�شطتها‪.‬‬
‫فلم يقت�رص ن�شاطه على حرم اجلامعة برغم دوره املهم فيها‪ ،‬حيث �أر�سى‬
‫بها جمموعة من القيم اجلامعية الأ�سا�سية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها �أهمية ا�ستقالل‬
‫اجلامعة‪ ،‬وع�صمة البحث العلمي فيها من اجلهل و�ضيق الأفق‪ .‬لأن طه ح�سني‬
‫«�أ�ستاذ» جامعي بحق‪ ،‬باملعنى الدقيق لهذا امل�صطلح الذي ابتذله الكثريون‪.‬‬
‫�أ�ستاذ ال ي�ساوم على قيم اجلامعة و�سمعتها‪ ،‬وي�ؤثر �أن يفقد وظيفته على �أن‬
‫يكر�س اجلامعة خلدمة م�رشوع �سيا�سي ال �رشعية له‪ ،‬كما حدث يف �أزمته‬
‫مع حكومة �إ�سماعيل �صدقي وحزب ال�شعب‪� .‬أ�ستاذ �صاحب م�رشوع علمي‬
‫وفكري واجتماعي بكل معنى الكلمة‪ .‬يفتح امل�سارات اجلديدة ويحث طالبه‬
‫على طرح الأ�سئلة واكت�شاف الأ�صقاع العلمية والبحثية املجهولة‪.‬‬
‫وقد كان طه ح�سني �صاحب م�رشوع تعليمي طموح‪ ،‬عمل بد�أب على‬
‫حتقيقه على مراحل جعل �شعارها جميع ًا �أن التعليم حق و�رضورة كاملاء‬
‫والهواء‪ .‬بد�أه حينما كان م�ست�شاراً تعليمي ًا حلكومة الوفد بفر�ض اللغة‬
‫العربية كلغة ر�سمية للبالد‪ ،‬و�سن قانون التعليم الإلزامي‪ ،‬وت�أ�سي�س �إدارة‬
‫الرتجمة بوزارة املعارف والتي �صدر عنها م�رشوع الألف كتاب‪ .‬كما‬
‫ا�ست�صدر منها قانون ًا بت�أ�سي�س جامعة الإ�سكندرية عام ‪ ،1942‬و�أ�صبح‬
‫�أول مدير لها‪ .‬ثم تبع هذه اخلطوات بخطوة �أخرى مهمة حينما قرر جمانية‬
‫التعليم الثانوي‪ ،‬عندما �أ�صبح وزيراً للمعارف يف حكومة الوفد عام ‪.1950‬‬
‫لكن م�رشوع طه ح�سني التعليمي الطموح بلغ ذروته اجلامعية حق ًا بت�أ�سي�س‬
‫جامعة الإ�سكندرية كتج�سيد م�ؤ�س�سي مل�رشوعه الفكري واحل�ضاري يف‬
‫«م�ستقبل الثقافة يف م�رص» حينما جعل هذه اجلامعة اجلديدة منارة‬
‫علمية وبحثية للقاء احل�ضاري بني م�رص والعامل املتو�سطي‪ ،‬و�أحالها‪� ،‬إبان‬

‫‪10‬‬
‫�إدارته لها‪ ،‬ويف �سنوات قالئل‪� ،‬إىل واحدة من �أهم جامعات البحر الأبي�ض‬
‫املتو�سط‪ ،‬جتتذب خرية الباحثني ال�شباب من �أوروبا نف�سها‪ ،‬والتي �أ�صبح‬
‫للكثري منهم‪ ،‬وقد عملوا �شبان ًا يف جامعة الإ�سكندرية �أثناء �إدارته لها‪� ،‬ش�أن‬
‫كبري فيما بعد مثل‪ :‬جرميا�س‪ ،‬وروالن بارت‪ ،‬وفوكو‪ ،‬و�إ‪ .‬م‪ .‬فور�سرت وروبرت‬
‫جريفز وجون هيث �ستب�س وغريهم‪ .‬وكان طه ح�سني‪ ،‬ف�ض ًال عن هذا كله‪ ،‬من‬
‫�أهم حمركي العمل الثقايف العام يف م�رص ويف العامل العربي الأو�سع طوال‬
‫حياته‪ .‬عرب م�شاركاته املختلفة يف امل�ؤمترات واملحا�رضات‪ ،‬والأحاديث‬
‫الإذاعية والكتابات ال�صحافية‪.‬‬

‫حتوالت الواقع وجتذر عملية التحديث‬

‫ولي�س هنا جمال تقدمي م�رشوع طه ح�سني الفكري والثقايف ال�ضخم‪،‬‬


‫ناهيك عن تقييمه‪ ،‬فقد كتبت عنه الكثري من الكتب‪ ،‬منذ �أ�صدر كتابه‬
‫العالمة «يف ال�شعر اجلاهلي» عام ‪ ،1926‬فتناوله الكتاب وكتبت عنه‬
‫الكتب‪ ،‬والتزال تكتب عنه الكتب حتى الآن يف العربية ويف اللغات الأوروبية‬
‫املختلفة على ال�سواء‪ .‬فهو م�رشوع كبري له منا�رصوه الذين يحلمون‬
‫با�ستقالل م�رص وتقدمها‪ ،‬وله معار�ضوه من الذين يريدون االنكفاء بها �إىل‬
‫الوراء وتبعيتها وهم كثريون‪ ،‬ولكنه م�رشوع كبري بحق‪ ،‬واليزال يحتاج �إىل‬
‫املزيد من الدر�س والت�أمل‪ .‬ولكن كل ما ت�سعى �إليه هذه املقدمة هي طرح‬
‫جمموعة من الأفكار حول املحور الذي اكتمل بهذا الكتاب‪« :‬ال�شيخان»؛‬
‫وهو حمور الدرا�سات التاريخية الفكرية االجتماعية مع ًا‪ ،‬فهذه ال�صفات‬
‫جمتمعة هي التي متيز كتاباته و�رسدياته املتعددة املعروفة بالإ�سالميات‪.‬‬
‫�أقول �إن هذه املقدمة ت�سعى �إىل طرح جمموعة من الأفكار حول هذا‬
‫املحور‪ ،‬بالرغم من يقينها ب�أن م�رشوع طه ح�سني م�رشوع كبري متكامل‬
‫تتفاعل فيه املحاور مع بع�ضها البع�ض‪ ،‬ويدعم بع�ضها البع�ض‪ ،‬ويرفده‬

‫‪11‬‬
‫باملزيد من الدالالت و�سعة الأفق وبعد النظر‪ .‬ب�صورة ي�صعب معها ف�صل‬
‫حمور عن بقية املحاور‪ ،‬فن�ص طه ح�سني هو ن�ص مت�شابك احللقات‪ ،‬برغم‬
‫تنوع الأجنا�س الأدبية التي تنتمي �إليها ن�صو�صه املختلفة‪ ،‬وريادته‬
‫الأدبية يف الكثري من املجاالت‪.‬‬
‫وحتى ندرك طبيعة �إجناز طه ح�سني يف هذا املحور الذي اكتمل بكتاب‬
‫«ال�شيخان»‪ ،‬البد من و�ضع هذا الإجناز يف �سياقات توليده وتطويره‪ .‬فقد‬
‫كان هذا املحور الذي ا�ستغرق ثالثة عقود من عمله وحياته جزءاً من م�سرية‬
‫ثقافية طويلة تراكمت فيها �إجنازات عملية التحديث العربية يف م�رص‬
‫خا�صة و�أ�صقاع عربية كثرية معها‪ ،‬وتبلورت عربها مالمح خطاب �أدبي‬
‫وفكري يحتفل بالعقل وي�سعى لتحقيق التقدم واال�ستقالل‪ .‬وهي عملية لها‬
‫�صريورتها املتميزة والتي امتدت من رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك‬
‫وحممود �سامي البارودي �إىل جمال الدين الأفغاين وعبداهلل الندمي وحممد‬
‫عبده واحلركة الوطنية العرابية‪ ،‬وا�ستطاعت مب�شاركات كثريين �أن تر�سي‬
‫البنية التحتية لتحول ثقايف واجتماعي كبري ومتوا�صل‪ .‬لكن �إجها�ض‬
‫د�س �أ�س�سه الأوىل �أحد �أكرب‬
‫الثورة العرابية وما تبعه من ا�ستعمار بريطاين ه َن َ‬
‫ال�سا�سة الربيطانيني املعادين لثقافة �شعوب امل�ستعمرات وتعليمهم‪ ،‬وهو‬
‫اللورد كرومر‪� ،‬رضب تلك امل�سرية يف ال�صميم فتعرثت لأكرث من عقدين من‬
‫الزمان‪ .‬ولكنها ا�ستطاعت �أن تلتقط �أنفا�سها من جديد بعد حادث دن�شواي‬
‫ال�شهري عام ‪ 1906‬وما تبعه من �صحوة وطنية‪.‬‬
‫والواقع �أن ما مكن م�رص من العودة �إىل م�سريتها الثقافية والنه�ضوية‬
‫ب�رسعة هو �أن البنية التحتية للتحول الثقايف والتي بد�أت منذ عودة رفاعة‬
‫رافع الطهطاوي من باري�س عام ‪ ،1932‬وتلقت دفعة قوية وم�ؤثرة يف‬
‫�سنوات حكم اخلديوي �إ�سماعيل كان لها دور كبري يف ت�أ�سي�س قواعد تلك‬
‫العودة‪ .‬فلم تنجح �إجراءات امل�ستعمر الربيطاين يف تقلي�ص الإنفاق العام‬
‫و�إغالق املدار�س وال�صحف واجلمعيات الثقافية �إال عرقلة تلك امل�سرية‬
‫لهنيهة‪� ،‬رسعان ما ا�ستعادت بعدها عافيتها‪ .‬لأن عملية التحديث التي بد�أت‬
‫منذ م�رشوع حممد علي النه�ضوي الكبري كانت قد ر�سخت يف �أدمي الواقع‬

‫‪12‬‬
‫بنيتها التحتية وج َّذرتها‪ .‬وا�ستطاعت التغلغل يف �شتى مناحي احلياة‬
‫اليومية للم�رصيني والت�أثري فيها‪ :‬من تخطيط املدينة وتبدل عمرانها وتغري‬
‫نوعية م�ساكنها مبا يرتتب عليها من تبدل طرائق حياتهم‪ ،‬ومن تثوير‬
‫التعليم �إىل تغري «ر�ؤية العامل» باملفهوم ال�شامل لهذا امل�صطلح‪ ،‬ومن تطور‬
‫و�سائل املوا�صالت �إىل �إيقاع احلركة‪.‬‬
‫كانت هذه البنية التحتية قد جتذرت يف الواقع ويف الإن�سان‪ .‬و�أدت �إىل‬
‫النمو املت�سارع للحا�رضتني امل�رصيتني الكبريتني‪ :‬القاهرة والإ�سكندرية‬
‫ب�شكل غري م�سبوق‪ ،‬و�إىل حتولهما �إىل مراكز جذب للكثريين من الأوروبيني‬
‫من اليونان و�إيطاليا خا�صة‪ .‬و�أ�صبحت احلياة احل�رضية واقع ًا �صلب ًا‬
‫و�صريورة انطوت على جمموعة من التحوالت اجلذرية التي انتابت‬
‫بنية احلياة الإجتماعية ذاتها وطقو�سها اليومية‪ .‬فتحررت من الأن�ساق‬
‫االجتماعية الثابتة �إىل الأن�ساق املتحولة‪ .‬و�أ�صبحت املدر�سة وال�صحيفة‬
‫والكتاب وامل�رسح واجلمعية الثقافية من �أدوات احلياة اليومية للإن�سان‬
‫احل�رضي وم�ؤ�س�ساتها التي ال غنى عنها مهما حرمها كرومر من التمويل‪.‬‬
‫و�أ�صبح منط احلياة اجلديد هذا �أداة فاعلة يف تغيري ر�ؤية الإن�سان امل�رصي‬
‫لنف�سه وللعامل من حوله‪ .‬وقد تغلغلت يف حياته اليومية �أدوات احل�ضارة‬
‫احلديثة حتى �أدت �إىل ميالد «ر�ؤية جديدة للعامل»‪ ،‬ت�ستوجب بالتايل خطاب ًا‬
‫جديداً يعرب عنها وي�صوغ �صبواتها ومطاحمها‪.‬‬
‫لذلك ما �إن اندلعت �رشارة حادث دن�شواي و�أيقظت م�رص من كابو�س‬
‫هزمية الثورة العرابية واحتالل الوطن‪ ،‬حتى بد�أت تلك ال�صريورة التحديثية‬
‫من جديد‪ ،‬وبزخم كبري‪ ،‬وك�أنها مل تتعرث قط‪ .‬فما �إن َم َّر عامان بالكاد على‬
‫هذا احلادث الذي و�ضعه م�صطفى كامل بقوة على خريطة الوعي الوطني‬
‫حتى وجدنا �أنه قد مت ت�أ�سي�س خم�سة �أحزاب مرة واحدة عام ‪ ،1908‬وي�ؤ�س�س‬
‫كل منها جريدته‪ .‬ووجدنا كثرياً من الن�صو�ص ال�رسدية الرائدة تتربعم يف‬
‫ال�سنوات القليلة التالية لها من «عذراء دن�شواي» ملحمود طاهر حقي وحتى‬
‫«زينب» ملحمد ح�سني هيكل «والع�رشة الطيبة» ملحمد تيمور‪ .‬وبد�أت الأجنة‬

‫‪13‬‬
‫الأوىل خلطاب جديد ميد جذوره يف �أعمال عبداهلل الندمي الباكرة ور�ؤاه‪،‬‬
‫ويرد للحلم امل�رصي الوطني زخمه من جديد‪ ،‬يف التربعم والنمو‪ .‬فكرثت‬
‫املقاالت والكتابات التي تبلور روا�سي هذا اخلطاب اجلديد العقلية منها‬
‫والوطنية على ال�سواء‪ .‬ب�صورة �رسعان ما جتلت نتائج تراكماتها احلثيثة‬
‫الباهرة بعد عقد من الزمان يف ثورة ‪.1919‬‬

‫حتوالت اخلطاب الثقايف والر�ؤية‬

‫و�إذا كانت الثورة مبا تنطوي عليه من بحث عن هوية وطنية وثقافية‬
‫م�ستقلة بنت تراكمات تلك املتغريات اجلديدة‪ ،‬وبنت اخلطاب الثقايف‬
‫التحديثي‪ ،‬ف�إنها قدمت لهذا اخلطاب دفعة قوية داعمة لأ�س�سه الفكرية‬
‫واملنطلقية‪ .‬و�أحالته �إىل خطاب وطن ب�أكمله ي�سعى للحرية واال�ستقالل‪.‬‬
‫فقد كان هذا اخلطاب ب�أ�س�سه العقلية اجلديدة هو الذي بلور عملية التحول‬
‫من التفكري التقليدي القدمي ب�أفقه امل�سدود واملحدود‪� ،‬إىل تفكري جديد‬
‫ينه�ض على املنطق والعلم وتعدد االحتماالت املفتوحة ولي�س على اجلهل‬
‫واخلرافة‪ .‬و�أحال الواقع االجتماعي من الركود الذي عانى منه لقرون من‬
‫احلكم العثماين و�رصاعات املماليك‪� ،‬إىل واقع متحرك ومتغري نتيجة الوعي‬
‫ب�أن التعليم قد �أ�صبح �آلة للحراك االجتماعي وتبدل امل�صائر التي كانت‬
‫تعاين من الثبات‪ .‬وم َّك َن الإن�سان من احللم مب�ستقبل �أف�ضل ي�ستطيع فيه �أن‬
‫يكون ما يريد‪ ،‬ال �أن يتبع ما يراد له‪ ،‬و�أن يوا�صل ما كان يفعله �أبواه دون‬
‫�أي خيارات بديلة‪.‬‬
‫وهو التحول نف�سه الذي انتقل بالفكر الوطني وال�سيا�سي من ر�ؤية‬
‫م�ستقبل م�رص يف �إطار و�ضعها امل�ألوف يف اخلالفة العثمانية‪� ،‬إىل ر�ؤيته يف‬
‫�إطار الدولة الوطنية احلديثة امل�ستقلة‪ .‬ومن دولة تابعة �سيا�سي ًا واقت�صادي ًا‬
‫�إىل مركز �أجنبي �سواء �أكان يف الأ�ستانة �أو يف لندن بعد ذلك‪� ،‬إىل دولة‬

‫‪14‬‬
‫م�ستقلة لها �أجندتها ال�سيا�سية التي عرب عنها الوفد والثورة‪ .‬و�رسعان ما‬
‫بلور �أ�س�س اقت�صادها الوطني الطامح لال�ستقالل طلعت حرب مب�رشوعاته‬
‫املختلفة‪ .‬وعلى ال�صعيد الأدبي والفكري كان التحول الناجم عن متغريات‬
‫البنية التحتية للتحول الثقايف واالجتماعي هو بزوغ اخلطاب الأدبي‬
‫اجلديد ب�أ�شكاله املختلفة من رواية وق�صة ق�صرية وم�رسحية ونقد �أدبي‬
‫منهجي خالق‪ ،‬وهو جن�س �أدبي مغاير ملا كان �سائداً من قبل من احلوا�شي‬
‫وال�رشوح على املتون واملوازنات‪ .‬ومع هذه الأ�شكال الأدبية اجلديدة تبلورت‬
‫لغة تعبريية جديدة مل يعد مدار اهتمامها هو اللعب بالألفاظ واملح�سنات‬
‫البالغية‪� ،‬إمنا خلق بالغة جديدة تعتمد على املنطق العقلي ودقة التعبري‪،‬‬
‫واالهتمام بقدرة اللغة على نقل متغريات الواقع‪ ،‬واالرتقاء بوعي القارئ‬
‫وتفكريه‪.‬‬
‫وكان هذا اخلطاب الأدبي والثقايف اجلديد‪ ،‬ولغته ذات املنطلقات‬
‫الت�صورية املختلفة‪ ،‬مغايراً بل مناق�ض ًا متام ًا للخطاب الذي �ساد قبله‬
‫لقرون‪ ،‬واعتمد على الك�سل العقلي والتكل�س البالغي والتكرار الببغاوي‬
‫للحوا�شي وال�رشوح‪ .‬وهو خطاب برغم قدمه وركاكته‪ ،‬كان �أن�صاره‬
‫وامل�ستفيدون منه كثريين ومتنفذين مع ًا‪ ،‬يتمتعون كمثقفني باجلاه‬
‫والنفوذ وال�سلطة على القارئ والواقع الثقايف على ال�سواء‪ .‬ومن هنا كان‬
‫ما يعرف باملعارك بني القدمي واجلديد‪ ،‬وقد دارت رحاها وا�شتدت وتنوعت‬
‫ق�ضاياها طوال العقود الثالثة الأوىل من القرن الع�رشين‪ ،‬هي يف واقع الأمر‬
‫معارك على ما يدعوه عامل االجتماع الفرن�سي الكبري بيري بورديو بر�أ�س‬
‫املال الثقايف‪� ،‬أو ر�أ�س املال الرمزي يف املجتمع‪ .‬وهي املعارك التي انتهى‬
‫معظمها �إىل انت�صار �أن�صار اخلطاب اجلديد‪ ،‬وزعزعة مكانة اخلطاب القدمي‬
‫وت�آكل ر�أ�سماله الرمزي‪.‬‬
‫يف �سياق هذا اجلدل �أو ال�رصاع بني اخلطابني وما ميثله كل منهما من‬
‫ر�أ�سمال رمزي كانت كتابات بداية القرن‪ ،‬وخا�صة يف الأعمال الق�ص�صية‬
‫الأوىل لدى جربان خليل جربان (‪ )1931 – 1883‬يف لبنان‪ ،‬وحممود‬

‫‪15‬‬
‫تيمور (‪ )1973 – 1894‬وحممود طاهر ال�شني (‪ )1954 – 1894‬يف‬
‫تعري ملق رجال الدين من �أ�صحاب اخلطاب التقليدي وتك�شف‬ ‫م�رص ّ‬
‫للمجتمع تهافت منطقهم وف�سادهم‪� .‬سواء �أتعلق الأمر برجال الدين امل�سيحي‬
‫عند (جربان) �أو م�شايخ الدين الإ�سالمي عند حممود تيمور وحممود طاهر‬
‫ال�شني‪ ،‬يف حماولة لزعزعة مكانتهم يف املجتمع‪ ،‬و�سحب ب�ساط ال�سلطة‬
‫والدور واملكانة التي احتازوها عرب تراكم تواريخ االنحطاط الثقايف‬
‫والركود‪ .‬ول�ست يف حاجة هنا �إىل تذكري القراء بالهجوم ال�ضاري الذي‬
‫ينطوي عليه كتاب «الديوان» لعبا�س حممود العقاد و�إبراهيم املازين على‬
‫جنوم اخلطاب التقليدي يف الأدب وال�شعر‪ ،‬من �أحمد �شوقي �إىل م�صطفى‬
‫لطفي املنفلوطي‪ ،‬وزعزعة مكانتهم الأدبية وجتريدهم من ر�أ�سمالهم‬
‫الثقايف‪ .‬بل �إن طه ح�سني نف�سه ناله ما ناله من �أ�صحاب اخلطاب القدمي‬
‫عندما ن�رش كتابه العالمة «يف ال�شعر اجلاهلي» فما �أحتدث عنه هو حراك‬
‫جديل و�رصاع ثقايف �شامل �ساد العقود الثالثة الأوىل من القرن الع�رشين‪،‬‬
‫وانتهى ب�سحب الب�ساط كلية من حتت �أقدام جنوم اخلطاب التقليدي القدمي‪،‬‬
‫والإجهاز على الأ�سا�س الذي كانت تنه�ض عليه �شعبيتهم واحرتام القراء‬
‫لهم‪ ،‬و�أهم من هذا كله حلول جنوم اخلطاب اجلديد حملهم‪.‬‬

‫حترير اخلطاب الديني من احتكار التقليد‬

‫يف �سياق هذا ال�رصاع على ر�أ�س املال الثقايف الرمزي طوال العقود‬
‫الأوىل من القرن الع�رشين‪ ،‬ويف �سياق تعزيز مكانة اخلطاب الثقايف اجلديد‪،‬‬
‫و�سحب الب�ساط من حتت �أقدام اخلطاب القدمي ‪ ،‬والك�شف عن عوراته وعطبه‪،‬‬
‫ميكن �أن نفهم الإطار الذي دارت فيه عملية عقلنة اخلطاب الديني وطرح‬
‫الأ�سئلة املنهجية عليه‪ .‬وهي العملية التي كان م�رشوع طه ح�سني يف‬
‫كتابة �إ�سالمياته املتعددة جزءاً �أ�سا�سي ًا منها‪ .‬ففي �سياق هذا ال�رصاع بني‬
‫اخلطابني جنح اخلطاب اجلديد يف زعزعة الأ�س�س التي ينه�ض عليها احتكار‬

‫‪16‬‬
‫املثقف التقليدي للخطاب الديني‪ ،‬ويف الك�شف عن ا�ستغالله ال�سيئ لهذا‬
‫اخلطاب لتحقيق املكا�سب املادية منها واحل�سية‪ ،‬ولي�س ابتغاء مر�ضاة اهلل‪،‬‬
‫كما جند يف الكثري من ق�ص�ص حممود تيمور يف جمموعاته الأوىل والتي‬
‫حملت عناوين دالة مثل «ال�شيخ �سيد العبيط» «ال�شيخ جمعة» «ال�شيخ عفا‬
‫اهلل»‪� ..‬إلخ‪ .‬وقد تلت عملية تعرية ه�ؤالء امل�شايخ الفا�سدين‪ ،‬والك�شف عن عدم‬
‫جدارتهم باالحرتام على امل�ستوى ال�شعبي عرب الق�ص�ص والروايات التي ال‬
‫جند فيها «ال�شيخ» �إال �شخ�صية �سلبية ال ت�ستحق االحرتام‪ ،‬حماوالت جادة‬
‫للمثقف احلديث يف الدخول �إىل تلك ال�ساحة التي كانت حكراً على املثقف‬
‫التقليدي‪ ،‬وجلب خطابه العقالين‪ ،‬ومناهج البحث والتمحي�ص التاريخي‬
‫�إليها‪ .‬ب�صورة �أمكن فيها ت�سكني اخلطاب الديني يف قلب اخلطاب احلداثي‬
‫العقالين اجلديد‪.‬‬
‫وقد بد�أ هذه املحاوالت العقلية الر�صينة واجلادة حممد ح�سني هيكل‬
‫(‪ )1956 – 1888‬بكتابه الرائد يف هذا املجال «حياة حممد» ‪1933‬‬
‫والذي تبعه بكتب عديدة �أخرى هي «يف منزل الوحي» ‪ 1937‬و«الفاروق‬
‫عمر» ‪ ،1944‬و«ال�صديق �أبوبكر» ‪ .1946‬وبالتزامن مع م�رشوع هيكل‪،‬‬
‫زميل طه ح�سني و�صديقه‪ ،‬انطلق م�رشوع طه ح�سني يف �إ�سالمياته يف‬
‫العام نف�سه بكتاب «على هام�ش ال�سرية» ‪ 1933‬وتوا�صل حتى «ال�شيخان»‬
‫‪ .1960‬ويف نف�س الفرتة‪ ،‬عقد الثالثينيات كتب توفيق احلكيم (‪– 1898‬‬
‫‪ )1987‬كتابه احلواري الكبري وال �أقول امل�رسحي «حممد» ‪ ،1936‬لأنه‬
‫مل يكن ممكن ًا �أن يكتب م�رسحية باملعنى امل�ألوف عنه‪ ،‬و�إن كتب يف‬
‫الفرتة نف�سها «�أهل الكهف»‪ ،‬التي ا�ستطاع فيها ا�ستيعاب املو�ضوع الديني‬
‫يف ال�شكل امل�رسحي‪ ،‬برباعة وتوفيق كبريين‪ .‬وبد�أ عبا�س حممود العقاد‬
‫(‪� )1964 – 1889‬سل�سلة كتبه املعروفة با�سم «العبقريات» والتي بد�أها‬
‫عام ‪ 1939‬وتتابعت حلقاتها حتى نهاية الأربعينيات‪ .‬وقد ات�سمت كل تلك‬
‫الأعمال الرائدة با�ستيعاب املو�ضوع الديني داخل بنية اخلطاب اجلديد‪،‬‬
‫و�إخ�ضاع م�رسوداته املتداولة واملعروفة للتمحي�ص وملنطق هذا اخلطاب‬

‫‪17‬‬
‫العقلي والت�صوري‪ ،‬وجتريدها مما حلق به من خرافات‪.‬‬
‫وتوا�صلت م�سرية ا�ستيعاب املو�ضوع الديني يف بنية اخلطاب اجلديد‬
‫يف العقود التالية‪ ،‬حتى اكت�سبت الن�صو�ص وال�رسديات الإ�سالمية اجلديدة‬
‫بعداً عقلي ًا ر�صين ًا وت�أوي ًال فكري ًا مغايراً ومعا�رصاً ي�ضع الإ�سالم يف قلب‬
‫م�رسودات القرن الع�رشين اجلديدة‪ ،‬ومبنطق ح�ضاري وفكري يعي ما يدور‬
‫يف العامل ويتوجه له بخطاب قادر على �إقناعه‪ .‬فوجدنا فتحي ر�ضوان‬
‫(‪ )1988 – 1911‬يكتب «حممد‪ :‬الثائر الأعظم» ‪ 1954‬ويروي فيه ق�صة‬
‫الر�سول (�صلعم) من منظور �أكرث �صحابته راديكالية‪ ،‬و�أ�شد خلفائه عقالنية‬
‫وحر�ص ًا على احلق والعدل واحلرية‪ :‬عمر بن اخلطاب‪ .‬يف نوع من الفال�ش‬
‫باك الذي يدور يف ر�أ�س عمر �ساعة �سماعه خرب موت الر�سول (�صلعم) ‪.‬‬
‫وهي ا�سرتاتيجية �رسدية َم َّكنته حق ًا من تقدمي ق�صة «حممد‪ :‬الثائر الأعظم»‬
‫مبنطق �إن�ساين مقنع ملن ي�ؤمن بر�سالته ومن ال ي�ؤمن بها على ال�سواء‪ .‬وهو‬
‫الدور الذي �أخفق فيه اخلطاب القدمي الذي اكتفى بوعظ امل�ؤمنني‪ ،‬وترك‬
‫الإ�سالم عر�ضة لنقد مرير من �أعدائه امل�سيحيني منهم واليهود‪ .‬فقد �أدرك‬
‫اخلطاب اجلديد �أن انفتاحنا على العامل يتطلب منا �أن نقدم ديننا وق�صة‬
‫ر�سولنا العظيم (�صلعم) ال ملن ي�ؤمنون به فح�سب‪ ،‬ولكن ملن ال ي�ؤمن به كذلك‬
‫ن�صور للعامل اجلانب الثوري باملعنى املعا�رص للدعوة‬ ‫ومبنطق يقنعه‪ .‬و�أن ّ‬
‫الإ�سالمية‪ ،‬و�إبراز جوانب الثورة االجتماعية والفكرية والت�رشيعية التي‬
‫تنطوي عليها باملقارنة بغريها من الثورات الإن�سانية‪ .‬ويف الفرتة نف�سها‬
‫كتب م�صطفى حممود (‪ )2009 – 1921‬كتابة ال�شهري «اهلل والإن�سان» عام‬
‫‪ ،1956‬يهاجم فيه املتاجرة بالدين لأن كل متاجرة به ال ت�ستهدف وجه‬
‫اهلل‪ ،‬وال ت�صب يف م�صلحة الإن�سان‪ .‬ويك�شف فيه �أن الذين يتاجرون باهلل‬
‫والإن�سان يفعلون ذلك ال من �أجل اهلل �أو الإن�سان‪ ،‬و�إمنا من �أجل حتقيق‬
‫املكا�سب والأموال‪ ،‬فهم ال يبتغون وجه اهلل وال يخدمون الإن�سان‪ .‬ويعري‬
‫فيه ملق �رشكة �آرامكو لطباعتها القر�آن الكرمي‪ ،‬طباعة فخمة‪ ،‬وهي ال ت�ؤمن‬
‫مبا جاء فيه‪ ،‬ناهيك عن �أن تعمل به‪ ،‬بل ويف جمل�س �إدارتها عدد من غالة‬
‫امل�سيحيني ال�صهاينة املتطرفني الذين ال ي�ضمرون للم�سلمني �أي خري‪ .‬وهو‬

‫‪18‬‬
‫الكتاب الذي لقي رواج ًا كبرياً وقتها و�إن تراجع م�ؤلفه ال�شيخ عنه يف فرتة‬
‫تالية من حياته ‪ ،‬حينما اكت�شف هو نف�سه كم هي جمزية التجارة بالدين ‪،‬‬
‫وكم توفر من ثراء مل يوفره له نقد املتاجرين به‪.‬‬
‫وبلغت تلك امل�سرية ذروتها يف عقد ال�ستينيات بن�رش عبدالرحمن‬
‫ال�رشقاوي (‪ )1987 - 1920‬كتابه «حممد‪ :‬ر�سول احلرية» ‪ ،1961‬الذي‬
‫وطورها‪ ،‬وك�شف فيه مبنهجية علمية عن‬ ‫وا�صل فيه جتربة فتحي ر�ضوان ّ‬
‫مكونات ال�رصاع االجتماعي والطبقي وال�سيا�سي يف اجلزيرة العربية‪ ،‬وعن‬
‫حترير الر�سول (�صلعم) للإن�سان من ربقة العبودية االجتماعية والروحية‬
‫على ال�سواء‪ ،‬قبل قرون من انطالق �أي دعوة لتحرير العبيد يف الغرب �أو‬
‫يف �أي مكان بالعامل‪ .‬وكيف دافعت دعوته عن امل�ضطهدين واملحرومني‬
‫واملظلومني‪ ،‬قبل كل الثوار االجتماعيني بقرون‪ .‬كما �شهد عقد ال�ستينيات‬
‫�أي�ض ًا حترر اخلطاب الديني عن الإ�سالم من �سطوة امل�ؤ�س�سة الدينية‬
‫التقليدية كلية‪� ،‬إىل احلد الذي وجدنا معه قبطي ًا‪ ،‬وهو نظمي لوقا (‪1923‬‬
‫– ‪ ،)1987‬يكتب ق�صة النبي يف «حممد‪ :‬الر�سالة والر�سول» ‪ .1959‬فتقرر‬
‫وزارة املعارف وقتها طبع الكتاب وتوزيعه على طلبة املدار�س الثانوية‪.‬‬
‫لكن هذه امل�سرية املهمة يف حتديث اخلطاب الديني وو�ضعه و�سط‬
‫اخلطابات التاريخية العقلية املقنعة يف قلب القرن الع�رشين‪ ،‬والتي ا�ستمرت‬
‫لأربعة عقود من بدايات ثالثينيات القرن حتى نهايات �ستينياته‪� ،‬رسعان‬
‫ما انقلبت �صريورتها‪ ،‬وانعك�س اجتاهها يف العقود الأربعة الأخرية‪ .‬فقد‬
‫مت ا�ستغالل النك�سة باعتبارها نهاية امل�رشوع التحديثي العقالين‪ ،‬وبداية‬
‫التحول �صوب اخلطاب املت�أ�سلم �أو املت�أ�سلف‪ ،‬الذي منحه ال�سادات دعمه‬
‫ال�سيا�سي عقب ت�سلمه لل�سلطة و�إعالن �أن دولته هي دولة العلم والإميان‪.‬‬
‫وعاد اخلطاب التقليدي ب�رشا�سة لينتزع الب�ساط من جديد من حتت �أقدام‬
‫اخلطاب احلديث‪ ،‬ويكت�سب ب�سلطة الدولة والإعالم اجلديد والدعم اخلارجي‬
‫غري املحدود‪� ،‬شعبية كبرية‪ ،‬ال بني املتعلمني‪ ،‬و�إمنا بني الأميني الذين توجه‬
‫لهم هذا اخلطاب عرب و�سائل الإعالم املرئية منها وامل�سموعة‪ .‬وجنح اخلطاب‬

‫‪19‬‬
‫القدمي يف فر�ض احلجاب على ر�ؤو�س الن�ساء‪ ،‬و�إ�سداله على عقول الرجال‬
‫مع ًا‪ .‬وو�صلت هذه امل�سرية ذروتها يف فتاوى ا�ستحالل دم جنيب حمفوظ‬
‫واالعتداء الآثم على حياته‪ ،‬ودعوات حترمي الأدب والفن وم�صادرة الكتب‬
‫والروايات‪ .‬لكن درا�سة هذه امل�سرية املقلوبة‪ ،‬والتي انتهت ب�شيطنة الإ�سالم‬
‫يف الغرب وتف�شي (الإ�سالموفوبيا) فيه‪ ،‬بعدما كانت امل�سرية الأوىل قد‬
‫ك�سبت له �أن�صاراً بني مثقفيه‪ ،‬ووجدنا الكثريين من امل�ست�رشقني من �أمثال‬
‫مونتجومري وات يف بريطانيا ومك�سيم رودن�سون يف فرن�سا يدافعون عنه‬
‫بقوة‪ ،‬وميجدون �سرية ر�سوله الكرمي (�صلعم) ‪ ،‬ويكتبون عنه بكل احرتام‬
‫وتقدير‪ ،‬لي�ست مو�ضوع اهتمامنا هنا‪ ،‬و�إن كانت مو�ضوع ًا جديراً بالدرا�سة‬
‫ملعرفة باثولوجيا الراهن امل�رصي والعربي يف الزمن الرديء‪.‬‬

‫طه ح�سني وحتديث اخلطاب التاريخي‪:‬‬

‫فما يهمنا هنا هو مو�ضعة م�رشوع �إ�سالميات طه ح�سني يف �سياقه‬


‫من ناحية‪ ،‬والتقدمي لآخر كتب هذا امل�رشوع «ال�شيخان» من ناحية �أخرى‪.‬‬
‫والواقع �أن مدخل طه ح�سني �إىل �إ�سالمياته تلك كان كما ر�أينا يف �سياقاتها‬
‫ينه�ض على مبد�أين �أ�سا�سيني‪� :‬أولهما �أن يعيد كتابة هذا اخلطاب القدمي‬
‫بلغة حديثة‪ ،‬م�ضاف ًا �إليها م�شاعر من يعرفها يف �أ�صولها القدمية ووعيه‬
‫بت�أثريها الكبري عليه‪ .‬فقد بد�أ طه ح�سني م�رشوع �إ�سالمياته الكبري كما يقول‬
‫يف مقدمته لـ«على هام�ش ال�سرية» بالرغبة يف تقدمي ما ترويه كتب الرتاث‬
‫العربي املهمة عن ال�سرية النبوية �إىل القراء الذين ان�رصفوا عن قراءة تلك‬
‫الكتب‪ ،‬وعن قراءة ال�سرية‪ ،‬وعن قراءة الآداب القدمية‪ ،‬ملا يواجهون فيها‬
‫من �صعوبات‪ .‬ونقل �أهم ما فيها بلغة �سهلة ومنطق �سليم‪ ،‬م�ضاف ًا �إليه‬
‫ما ترتكه يف نف�سه قراءة الأ�صول من م�شاعر و�أحا�سي�س‪« .‬فلي�س يف هذا‬
‫الكتاب �إذن تكلف وال ت�صنع وال حماولة للإجادة‪ ،‬وال اجتناب للتق�صري‪.‬‬
‫و�إمنا هو �صورة ي�سرية طبيعية �صادقة لبع�ض ما �أجد من ال�شعور حني �أقر�أ‬

‫‪20‬‬
‫هذه الكتب التي ال �أعدل بها كتب ًا �أخرى مهما تكن‪ ،‬والتي ال �أم ّل قراءتها‬
‫والأن�س بها‪ ،‬والتي ال ينق�ضي حبي لها‪ ،‬و�إعجابي بها‪ ،‬وحر�صي على �أن‬
‫يقر�أها النا�س‪ .‬ولكن النا�س مع الأ�سف ال يقر�ؤونها؛ لأنهم ال يريدون �أو‬
‫لأنهم ال ي�ستطيعون‪ .‬ف�إذا ا�ستطاع هذا الكتاب �أن يحبب �إىل ال�شباب قراءة‬
‫كتب ال�سرية خا�صة‪ ،‬وكتب الأدب العربي القدمي عامة‪ ،‬والتما�س املتاع‬
‫الفني يف �صحفها اخل�صبة‪ ،‬ف�أنا �سعيد حق ًا‪ ،‬موفق حق ًا لأحب الأ�شياء‬
‫يل‪ ،‬و�آثرها عندي»‪« .‬على هام�ش ال�سرية‪� ،‬ص ط» وطه ح�سني يريد لهذه‬ ‫�إ ّ‬
‫القراءة‪ ،‬وملا يتمخ�ض عنها من معرفة‪� ،‬أن تكون قراءة فاعلة حتث القراء‬
‫على ا�ستلهام تراثهم القدمي يف كتابتهم اجلديدة و�إبداعاتهم املعا�رصة‪ ،‬كما‬
‫ي�ستلهم الغربي تراثه يف �أعماله الأدبية والفكرية املعا�رصة‪ ،‬فيدير احلا�رض‬
‫حواره مع املا�ضي ويغتني به‪.‬‬
‫�أما املبد�أ الثاين فهو �أن يقدم هذه املرحلة بلغة �سهلة ي�سرية الفهم‬
‫واال�ستيعاب �إىل القارئ اجلديد بكل دقة و�أمانة‪ ،‬وب�صورة جتعل الكتاب‬
‫اجلديد بدي ًال موثوق ًا به عن الكتب القدمية الكثرية وال�صعبة يف هذا املجال‪.‬‬
‫لأنه يقدم جوهرها ويدقق يف رواياتها وميح�صها‪ ،‬ويلتزم الأمانة يف‬
‫تعامله معها‪� .‬إذ يقول‪« :‬و�أحب �أن يعلم النا�س �أي�ض ًا �أنني و�سعت على نف�سي‬
‫يف الق�ص�ص‪ ،‬ومنحتها من احلرية يف رواية الأخبار واخرتاع احلديث ما مل‬
‫�أجد به ب�أ�س ًا‪� .‬إال حني تت�صل الأحاديث والأخبار ب�شخ�ص النبي‪� ،‬أو بنحو‬
‫من �أنحاء الدين‪ ،‬ف�إنني مل �أبح لنف�سي يف ذلك حرية وال �سعة‪ .‬و�إمنا التزمت‬
‫ما التزمه املتقدمون من �أ�صحاب ال�سرية واحلديث‪ ،‬ورجال الرواية‪ ،‬وعلماء‬
‫الدين‪ .‬ولن يتعب الذين يريدون �أن يردوا ف�صول هذا الكتاب القدمي يف‬
‫جوهره و�أ�صله‪ ،‬اجلديد يف �صورته و�شكله‪� ،‬إىل م�صادره القدمية التي �أخذ‬
‫منها‪ .‬فهذه امل�صادر قليلة جداً‪ ،‬ال تكاد تتجاوز �سرية ابن ه�شام‪ ،‬وطبقات‬
‫ابن �سعد‪ ،‬وتاريخ الطربي‪ .‬ولي�س يف هذا الكتاب ف�صل �أو نب�أ �أو حديث‬
‫�إال وهو يدور حول خرب من الأخبار ورد يف كتاب من هذه الكتب»‪( .‬على‬
‫هام�ش ال�سرية‪� ،‬ص ك) وي�ؤكد هذا املقتطف �أن لكل ما يف الكتاب �أ�صوله‬

‫‪21‬‬
‫يف ثقات كتب ال�سرية والتاريخ الإ�سالمي‪ .‬و�أن منهج طه ح�سني يف الكتابة‬
‫يلتزم بالدقة وال�صدق والأمانة‪ ،‬وخا�صة حينما يت�صل الأمر ب�شخ�ص النبي‬
‫�أو ب�أمر من �أمور الدين‪ .‬حيث يرجع فيها كل �شيء �إىل م�صادره الأولية‬
‫املوثوق فيها‪ ،‬مع �أنه يتيح لنف�سه يف غري ذلك الت�رصف وفق ما يقت�ضيه‬
‫املنطق والعقل‪ ،‬وما يعزز عملية الإقناع‪.‬‬
‫فتحديث اخلطاب الديني عند طه ح�سني يلتزم باحلقائق امل�ستقرة يف‬
‫الكتب الثقات‪ .‬وهو �أمر يكرره طه ح�سني يف كتابه «الفتنة الكربى» حينما‬
‫ي�ؤكد �أن املنهج الذي اختطه فيه هو منهج التدقيق العلمي يف كتابة التاريخ‪.‬‬
‫�إذ يفتتح اجلزء الأول من «الفتنة الكربى» بـ«هذا حديث �أريد �أن �أخل�صه للحق‬
‫ما و�سعي �إخال�صه للحق وحده‪ .‬و�أن �أحترى فيه ال�صواب ما ا�ستطعت �إىل‬
‫حتري ال�صواب �سبي ًال‪ ،‬و�أن �أحمل نف�سي فيه على الإن�صاف ال �أحيد عنه وال‬
‫�أمالئ فيه حزب ًا من �أحزاب امل�سلمني على حزب‪ ،‬وال �أ�شايع فيه فريق ًا من‬
‫الذين اخت�صموا يف ق�ضية عثمان دون فريق‪ .‬فل�ست عثماين الهوى‪ ،‬ول�ست‬
‫�شيعة لعلي‪ .‬ول�ست �أفكر يف هذه الق�ضية كما كان يفكر فيها الذين عا�رصوا‬
‫عثمان واحتملوا معه ثقلها‪ ،‬وجنوا معه �أو بعده نتائجها» «الفتنة الكربى‪:‬‬
‫عثمان‪� ،‬ص ‪ »4‬فهو ي�ضيف هنا �إىل �رضورة االلتزام باحلقائق التاريخية‬
‫املجردة واملوثقة‪ ،‬احليدة وال�رصامة املنهجية‪ .‬ثم يوا�صل‪« :‬و�أنا �أريد �أن‬
‫�أنظر �إىل هذه الق�ضية نظرة خال�صة جمردة‪ ،‬ال ت�صدر عن عاطفة وال هوى‪،‬‬
‫وال تت�أثر بالإميان وال بالدين‪ ،‬و�إمنا هي نظرة امل�ؤلف الذي يجرد نف�سه‬
‫جتريداً كام ًال من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها‬
‫وم�صادرها وغاياتها»‪( .‬الفتنة الكربى‪ :‬عثمان‪� ،‬ص ‪)5‬‬
‫نحن هنا ب�إزاء كتابة جديدة للتاريخ‪ ،‬مغايرة حل�شد الروايات وجتميعها‬
‫دون منهج وا�ضح‪ ،‬لأنها كتابة ت�أخذ يف اعتبارها مكونات التاريخ‬
‫االجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية والب�رشية على ال�سواء‪ ،‬وتزن دور كل‬
‫مكون من هذه املكونات مبيزان علمي دقيق‪ .‬حتى ال يبدو التاريخ للقارئ‬
‫وك�أنه تراكم من الأحداث دون منطق �أو ع ّلة‪ ،‬و�إمنا على �أنه عملية �صريورة‬

‫‪22‬‬
‫�إن�سانية فكرية واجتماعية مع ًا‪ ،‬ترتبط فيها النتائج بالأ�سباب‪ ،‬والدوافع‬
‫بالظروف والأحداث‪ .‬ف�إذا كانت الكتابة «على هام�ش ال�سرية» كما يقول‬
‫العنوان امل�ستقى من كتب الهوام�ش واحلوا�شي بعد �أن �أحدث فيها بحق ثورة‬
‫�أدبية وتعبريية‪ ،‬ي�سرية ي�سهل متييز التاريخي فيها من امل�ؤول‪� ،‬أو ما �أحيط‬
‫بهاالت من اخلرافة �أو الأ�سطورة‪ .‬وكانت الكتب الثالثة الكربى «�سرية ابن‬
‫ه�شام» و«الطبقات الكربى» البن �سعد‪ ،‬و«تاريخ الطربي» مراجع ثقات‬
‫ميكن الركون �إليها‪ ،‬واالعتماد عليها يف فرز الأ�صيل من الدخيل يف كل تلك‬
‫الروايات التي دارت على هام�شها‪ ،‬وا�ستفاد منها الكاتب يف خلق ال�سياق‬
‫واملناخ والر�ؤية‪ .‬ف�إن الكتابة عن «الفتنة الكربى» كانت ع�سرية‪.‬‬
‫كانت الكتابة عن تلك الفرتة امل�ضطربة يف �صدر الإ�سالم ع�سرية‬
‫بحق‪ ،‬وهذا ما ي�ضفي على كتابته عنها �أهمية م�ضاعفة‪ ،‬لأن كثرياً مما‬
‫دون‬
‫كتب عن وقائع هذه الفتنة و�أحداثها يف املراجع وامل�صادر القدمية ّ‬
‫بعد �سياقات الفتنة و�أحداثها‪ ،‬وحمل الكثري من تر�سبات تلك الأحداث‬
‫وت�أويالتها‪ ،‬وتربيرات الراوين لها ودوافعهم‪ ،‬ومن ت�صورات امل�ؤرخني لها‬
‫ومواقفهم من خالفاتها‪ ،‬وما تركته يف نفو�سهم حولها ح�سب مواقعهم من‬
‫�أحداثها‪ .‬فقد �أطلقت جمريات الأحداث �أل�سنة الرواة املتع�صبني بكذب كثري؛‬
‫وروى كثري من امل�ؤرخني هذه الأكاذيب دون متحي�ص �أو تدقيق �أو تعري�ض‬
‫ل�ضوء املنطق والروايات املغايرة‪ .‬كما �أن كثرياً من تلك الروايات نقلت‬
‫م�شافهة و�صنعت فيها الذاكرة‪ ،‬وهي بطبعها خ�ؤون‪� ،‬صنيعها‪ .‬لذلك حترى‬
‫طه ح�سني يف الكتابة عنها الدقة وال�رصامة املنهجية‪ ،‬ب�صورة جتعل كتابه‬
‫رائداً يف هذا املجال‪ .‬وكاد �أن يخل�ص من درا�سته لها ب�أن بع�ض ما �أدى‬
‫�إليها يعود �إىل ا�صطدام الواقع ب�آليات حراكه ال�سيا�سي واالجتماعي‪ ،‬بعد‬
‫ات�ساع رقعة الدولة الإ�سالمية وتنامي خراجها‪ ،‬باملثال الأخالقي والقيمي‬
‫والديني النادر الذي �أر�سى ال�شيخان‪� ،‬أبو بكر وعمر‪ ،‬قواعده الأوىل على‬
‫�أر�ض اجلزيرة العربية‪ .‬ب�صورة �أ�صبح من الع�سري على من جاء بعدهما �أن‬
‫يطبق هذا املثال النموذجي الذي مل تنجح الب�رشية حتى الآن يف الو�صول‬
‫�إىل مثله �صدق ًا وعد ًال وحرية‪ .‬فقد قال الرواة �إن عمر بن اخلطاب قال «�إن‬

‫‪23‬‬
‫�أبا بكر �أتعب من جاء بعده»‪ ،‬ولي�س من �شك يف �أن «عمر كان �أ�شد من �أبي‬
‫بكر �إتعاب ًا ملن جاء بعده‪ .‬ف�سرية هذين الإمامني قد نهجت للم�سلمني يف‬
‫�سيا�سة احلكم‪ ،‬ويف �إقامة �أمور النا�س على العدل واحلرية وامل�ساواة‪ ،‬نهج ًا‬
‫�شق على اخللفاء وامللوك من بعدهما �أن يتبعوه‪ .‬فكانت نتيجة ق�صورهم‬ ‫ّ‬
‫عنه – طوع ًا �أو كره ًا – هذه الفتنة التي قتل فيها عثمان رحمه اهلل‪ ،‬والتي‬
‫جنمت منها فنت �أخرى قتل فيها علي ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬و�سفكت فيها دماء‬
‫كثرية كره اهلل �أن ت�سفك‪ ،‬وانق�سمت فيها الأمة الإ�سالمية انق�سام ًا مازال‬
‫قائم ًا �إىل الآن»‪« .‬ال�شيخان»‬

‫«ال�شيخان»‪ :‬ذروة م�رشوع الإ�سالميات‪:‬‬

‫وال �أدري �إذا ما كان طه ح�سني قد خطط م�رشوعه من البداية بهذا‬


‫الرتتيب الذي بد�أ بـ«على هام�ش ال�سرية» وانتهى بـ«ال�شيخان» بعدما فرغ‬
‫من «الفتنة الكربى بجز�أيها»‪� ،‬أم �أن الكتب توالدت من بع�ضها البع�ض‬
‫على هذا النحو‪ .‬لكنني �أقر�أ يف م�سارها منطق ًا رائع ًا يجعل «ال�شيخان»‬
‫ذروة امل�رشوع ونهايته الطبيعية التي ج�سدت تلك اليوتوبيا التي حلم بها‬
‫الإن�سان منذ فجر اخلليقة‪ ،‬ومل تتحقق على الأر�ض �إال يف عهد ال�شيخني‬
‫جاعلة الإ�سالم �أ�سمى ما و�صلت �إليه احل�ضارة الإن�سانية من قبل‪ ،‬وما تزال‬
‫ت�صبو �إليه من بعدهما‪ .‬فبعد �أن ر�سم لنا اخلريطة الثقافية واالجتماعية‬
‫للمجتمع العربي قبل الر�سالة‪ ،‬وتتبع تطور الر�سالة املحمدية ور�صد لنا كل‬
‫ما دار على هام�ش �سريتها العطرة من �أحداث و�شخ�صيات‪ .‬ب�صورة جعلتنا‬
‫نعرف هذا الواقع املوغل يف القدم بن�صاعة وحيوية كما يعرف الإن�سان‬
‫حا�رضه وجمتمعه‪ ،‬انتقل �إىل حديث «الفتنة الكربى» وت�صاريف �أحداثها‪،‬‬
‫بتدقيق و�أناة‪.‬‬
‫وتتبع يف جزئي هذا الكتاب كيفية تخلق اخلالف يف �صدر الإ�سالم؛ وتولد‬

‫‪24‬‬
‫ال�رصاع بني املثال املرجتى‪ ،‬والواقع املدعوم ب�ضعف النف�س الإن�سانية‪،‬‬
‫وعدم �صربها على املثاليات الكربى التي �أر�سى الإ�سالم �أ�صولها‪ ،‬وج�سد‬
‫ال�شيخان جمتمعها بعد اكتمال الر�سالة ووفاة الر�سول (�صلعم) ‪ .‬وكيف‬
‫تربعمت الفتنة وتوالدت �أجنة الفرقة بني ال�صحابة على كيفية ت�سيري �أمور‬
‫الدولة الإ�سالمية التي وا�صلت النمو واالت�ساع يف عهد عثمان‪ ،‬بعد �أن كان‬
‫مد نطاقها من اجلزيرة �إىل بالد فار�س‪ ،‬ومن ال�شام �إىل م�رص و�شمال‬‫عمر قد ّ‬
‫�إفريقيا‪ .‬وكيف بد�أ عدم الر�ضا على ت�رصفات اخلليفة وحماباته لأقربائه‬
‫ين�رش �سمومه بني امل�سلمني‪ ،‬بعد �أن كان اخلليفة مثا ًال يحتذى يف ال�سلوك‬
‫واملواقف‪ .‬وكيف انتهت تلك الفرقة �إىل الثورة على عثمان وقتله‪ .‬وكيف‬
‫�أ�صبح الأمر بعده بالغ ال�صعوبة حينما توىل علي اخلالفة‪ ،‬و�أراد العودة بها‬
‫�إىل �سرية عمر و�رصامته النموذجية‪ ،‬فرف�ض من �أف�سدهم الرثاء‪ ،‬مثل معاوية‬
‫‪ ،‬بيعته‪ ،‬و�أعلنوا احلرب عليه بحجج واهية مثل الث�أر لدم عثمان وهو �أمر مل‬
‫يفعله معاوية حتى بعد �أن انتهت �إليه اخلالفة بالغدر واحلرب والدهاء‪ .‬ثم‬
‫تفرق امل�سلمون بعدها �إىل �شيع متناحرة‪ ،‬بل ومتحاربة يف ال�سنوات اخلم�س‬
‫التي حكم فيها علي بن �أبي طالب‪ .‬وهي �سنوات ات�سمت باحلروب امل�أ�ساوية‬
‫علي الناكثني‪ :‬الذين نكثوا‬
‫بني امل�سلمني بع�ضهم البع�ض‪ ،‬حيث بد�أت بحرب ّ‬
‫بيعتهم له‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم طلحة والزبري‪ ،‬وتبعها بحربه للقا�سطني الذين �أبوا‬
‫�أن يبايعوه‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم معاوية وداهيته عمرو بن العا�ص‪.‬‬
‫ويف ظني �أن م�أ�ساوية الفتنة الكربى ووقع �أحداثها الدامي على النف�س‬
‫هو الذي دفع طه ح�سني �إىل العودة �إىل درا�سة ما قام به ال�شيخان من جت�سيد‬
‫لدولة اخلالفة‪ :‬دولة احلق والعدل واحلرية على الأر�ض‪ .‬وخلق النموذج‬
‫الإ�سالمي كيوتوبيا للإن�سانية جمعاء ب�رصف النظر عن دياناتها و�أعراقها‪،‬‬
‫مل يحقق املجتمع الإن�ساين مثي ًال لها حتى اليوم‪ .‬فقد كان وعي طه ح�سني‬
‫ب�أهمية هذا النموذج وندرته و�صعوبته مع ًا يتخلل كتابه «الفتنة الكربى»‪.‬‬
‫حيث يك�شف فيه عن �أن جتربة ال�شيخني كانت �سابقة لزمانها‪ ،‬يف مثاليتها‬
‫وعدلها حني يقول‪« :‬و�أكاد �أعتقد �أن اخلالفة الإ�سالمية كما فهمها �أبو بكر‬
‫وعمر �إمنا كانت جتربة جريئة تو�شك �أن تكون مغامرة‪ ،‬ولكنها مل تنته �إىل‬

‫‪25‬‬
‫غايتها‪ ،‬ومل يكن من املمكن �أن تنتهي �إىل غايتها‪ ،‬لأنها �أجريت يف غري‬
‫الع�رص الذي كان ميكن �أن جتري فيه‪� ،‬سبق بها هذا الع�رص �سبق ًا عظيم ًا‪ .‬وما‬
‫ر�أيك يف �أن الإن�سانية مل ت�ستطع �إىل الآن على ما جربت من جتارب‪ ،‬وبلغت‬
‫من رقي‪ ،‬وعلى ما بلغت من فنون احلكم و�صور احلكومات‪� ،‬أن تن�شئ نظام ًا‬
‫�سيا�سي ًا يتحقق فيه العدل ال�سيا�سي بني النا�س على النحو الذي كان �أبو بكر‬
‫وعمر يريدان �أن يحققاه»‪« .‬الفتنة الكربى‪ :‬عثمان �ص ‪.»6 - 5‬‬
‫فقد «كانت القاعدة الأ�سا�سية التي �أقام عليها �أبوبكر وعمر نظام‬
‫حكمهما هي �أن ي�سريا �سرية النبي يف امل�سلمني ما وجدوا �إىل ذلك �سبي ًال‪.‬‬
‫و�سرية النبي يف امل�سلمني معروفة �إىل �أبعد حد ممكن‪ .‬وكان قوام هذه‬
‫ال�سرية حتقيق العدل اخلال�ص املطلق بني النا�س‪ .‬وما نحتاج فيما نظن‬
‫�أن نقيم على ذلك دلي ًال‪ .‬وح�سبنا �أن نذكر من ال يذكر �أن الإ�سالم �إمنا جاء‪،‬‬
‫قبل كل �شيء بق�ضيتني اثنتني‪� :‬أوالهما التوحيد‪ ،‬وثانيتهما امل�ساواة بني‬
‫النا�س»‪« .‬الفتنة الكربى‪ :‬عثمان �ص ‪ ،»10‬و�إذا كان من الي�سري �أن ي�ؤمن‬
‫النا�س بوحدانية اهلل الذي ال �إله �إال هو‪ ،‬ف�إن حتقيق امل�ساواة بني النا�س‪،‬‬
‫مع ما ُجبل عليه الإن�سان من �ضعف وا�ست�سالم للأهواء‪ ،‬لي�س ي�سرياً ب�أي‬
‫حال من الأحوال‪ .‬وهو �أمر حققه ال�شيخان‪ ،‬و�أخفقت الإن�سانية يف حتقيقه‬
‫بعدهما‪ ،‬بل �أخفقت الأمة الإ�سالمية نف�سها يف اال�ستمرار فيه بعدهما‪ ،‬و�إال‬
‫ملا دبت الفتنة بينهم وملا كربت‪.‬‬
‫وقد يبدو �أمر العدل واحلرية وامل�ساواة بني النا�س منطقي ًا وي�سرياً حينما‬
‫نتحدث عنه‪ ،‬ولكن تطبيقه يف الواقع �أمر بالغ الع�رس‪ ،‬حمفوف باملزالق‬
‫واملخاطر‪ ،‬تنه�ض يف وجهه الكثري من ال�صعوبات‪ ،‬خا�صة حينما نبد�أ يف‬
‫تدبري �أمور جمتمع من املجتمعات‪ ،‬وتوزيع الأدوار فيه بني حاكم وحمكوم‪.‬‬
‫يقول طه ح�سني‪�« :‬إن �أمر اخلالفة كله قام على البيعة‪� ،‬أي على ر�ضا الرعية‪،‬‬
‫ف�أ�صبحت اخلالفة عقداً بني احلاكمني واملحكومني‪ ،‬يعطي اخللفاء على‬
‫�أنف�سهم العهد �أن ي�سو�سوا امل�سلمني باحلق والعدل‪ ،‬و�أن يرعوا م�صاحلهم‪،‬‬
‫و�أن ي�سريوا فيهم �سرية النبي ما و�سعهم ذلك‪ .‬ويعطي امل�سلمون على �أنف�سهم‬

‫‪26‬‬
‫العهد �أن ي�سمعوا ويطيعوا و�أن ين�صحوا ويعينوا»‪«.‬الفتنة الكربى عثمان‪،‬‬
‫�ص ‪ »25‬فنحن هنا ب�إزاء تعاقد اجتماعي حر بني احلاكم واملحكوم‪،‬‬
‫ينه�ض على احلق والعدل وابتغاء مر�ضاة اهلل‪ .‬ويت�أ�س�س على احلرية املطلقة‬
‫ال�صديق يف‬
‫ّ‬ ‫منذ هذا الزمن الباكر‪ .‬فقد كان �أول ما قاله �أول الرا�شدين �أبوبكر‬
‫خطبته التي تروى عنه عقب بيعته‪ ،‬والتي يرد حديثها يف هذا الكتاب الذي‬
‫نقدمه لك‪�« :‬إن �أح�سنت ف�أعينوين‪ ،‬و�إن �أخط�أت فقوموين‪� ...‬أطيعوين ما �أطعت‬
‫اهلل ور�سوله‪ ،‬ف�إذا ع�صيت اهلل ور�سوله فال طاعة يل عليكم»‪.‬‬
‫هكذا يك�شف العهد الأول‪� ،‬أو العقد االجتماعي ال�سيا�سي الأول‪ ،‬الذي‬
‫قامت عليه ال�سلطة الب�رشية الأوىل يف الإ�سالم‪ ،‬بعد موت الر�سول (�صلعم)‬
‫الذي كان يتلقى الوحي عن اهلل ع ّز وجل‪ ،‬عن �أنه عهد بني �أحرار مت�ساوين‬
‫فقوموين»‪.‬‬‫يف احلقوق والواجبات‪�« ،‬إن �أح�سنت ف�أعينوين‪ ،‬و�إن �أخط�أت ّ‬
‫وهو عقد اجتماعي �سيا�سي على �أ�س�س مثالية بالغة الدقة والو�ضوح‪ .‬وقد‬
‫اخلطاب الذي‬
‫ا�ستمر هذا العقد واكت�سب قدراً �أكرب من ال�رصامة مع عمر ابن ّ‬
‫و�ضع �أ�سا�س احلكم يف خطبة تولية احلكم بعد �أن فرغ من دفن �أبي بكر‪،‬‬
‫على م�ستويني‪ :‬الأول هو �أن يقوم هو بنف�سه ب�إحقاق العدل وتوفري احلرية‪.‬‬
‫«ب�أن ما ح�رضه من �أمر امل�سلمني با�رشه بنف�سه‪ ،‬وال يبا�رشه �أحد دونه‪ ،‬وما‬
‫غاب عنه من �أمرهم و ّاله �أهل الأمانة والكفاية‪ ،‬ف�إن �أح�سن ه�ؤالء الوالة‬
‫زادهم �إح�سان ًا ‪ ،‬و�إن �أ�سا�ؤوا ن ّكل بهم‪ .‬فلم يغري طول خالفته من ذلك العهد‬
‫�شيئ ًا» «ال�شيخان»‪ .‬والثاين هو ما يخ�ص الرعية ممن ال ي�ستطيع �أن يبا�رش‬
‫�أمرهم بنف�سه‪ .‬فقد ر�سم لعماله‪� ،‬أي والته على الأم�صار‪� ،‬سبل التعامل مع‬
‫الرعية بو�ضوح وجالء‪� .‬إذ كان عمر «ال ميل من �أن يقول لأهل املدينة‪ ،‬وملن‬
‫ورد عليه من �أهل الأم�صار‪� :‬إين مل �أر�سل عمايل لي�رضبوا �أب�شار النا�س وال‬
‫ليظلموهم‪ ،‬و�إمنا �أر�سلتهم ليعلموا النا�س دينهم و�س ّنة نبيهم‪ ،‬ويق�سموا بينهم‬
‫فيئهم‪ ،‬ويقيموا �أمرهم كله على العدل‪ .‬وكان كثرياً ما يتقدم �إىل عماله‬
‫يف �أال ي�رضبوا امل�سلمني فيذلوهم‪ ،‬وال يحرموهم فيكفروهم‪ ،‬وال ينزلوهم‬
‫الغيا�ض في�ضيعوهم‪ .‬وكان ال يرى �أحداً من بع�ض جيو�شه �إال �س�أله عن �أمره‬
‫كله‪ ،‬وعن �أمر اجلند‪ ،‬وعن �سرية قوادهم فيهم»‪« .‬ال�شيخان»‬

‫‪27‬‬
‫وكان ان�شغال طه ح�سني بالك�شف عن حقيقة هذا التعاقد االجتماعي‬
‫ال�سيا�سي ودوره يف �إر�ساء قواعد دولة احلق والعدل واحلرية هو �شاغله‬
‫الأ�سا�سي يف كتابة كتابه عن «ال�شيخني»‪ ،‬لأنه مل يكن م�شغو ًال كما ي�ؤكد لنا‬
‫يف ت�صدير كتابه بت�صوير ما جرى يف فرتة خالفتهما من �أحداث كبار‪ :‬من‬
‫رد �أبي بكر العرب �إىل الإ�سالم بعد �أن جحدوه‪ ،‬وحاولوا التمل�ص من بع�ض‬
‫�أركانه بقبولهم ال�صالة ورف�ض الزكاة‪ .‬و�إعادة اجلزيرة العربية كاملة‬
‫للإ�سالم والإجهاز على دعاوى املتنبئني الكثريين ال َك َذبة من م�سيلمة يف‬
‫اليمامة‪� ،‬إىل الأ�سود العن�سي يف اليمن‪� ،‬إىل طليحة يف بني �أ�سد‪ ،‬و�سجاح‬
‫يف بني متيم وغريهم‪� .‬أو ب�إخراج عمر الروم من ال�شام واجلزيرة وم�رص‬
‫وبرقة‪ ،‬و�إخراج الفر�س من العراق والق�ضاء على �سلطانهم يف بالدهم‪،‬‬
‫ون�رش الإ�سالم يف كل تلك الربوع التي مل تعرفه من قبل‪ .‬فكل هذه الوقائع‬
‫التاريخية معروفة كتب عنها امل�ؤرخون‪ .‬ولكن ما �شغله بالكتابة عنهما‬
‫هو الك�شف عن دورهما يف ت�أ�سي�س دولة الإ�سالم النموذجية‪ ،‬بل يوتوبيا‬
‫الإن�سان التي ما زال يحلم بت�أ�سي�سها على الأر�ض‪ .‬وحر�ص عمر على‬
‫و�ضع قواعد هذه الدولة على الأ�س�س التي �أقامها عليها الر�سول الكرمي‪.‬‬
‫و�شدته مع والته وحر�صه على العدل و�إن�صاف امل�سلمني‪ ،‬ال من بع�ضهم‬
‫البع�ض فح�سب‪ ،‬و�إمنا من الوالة‪ ،‬بل من اخلليفة نف�سه‪� .‬أو باخت�صار �شديد‪،‬‬
‫كي ال �أف�سد على القارئ اال�ستمتاع بقراءة هذا الكتاب القيم‪ ،‬كان �شاغل‬
‫طه ح�سني الكبري بعدما فرغ من كتابه «الفتنة الكربى» هو ر�سم ال�صورة‬
‫النموذجية لدولة اخلالفة الإ�سالمية التي �أدت القطيعة معها‪ ،‬واالنحراف‬
‫بها عن مبادئها الأ�سا�سية بعد ال�سنوات اخلم�س الأوىل من خالفة عثمان‪،‬‬
‫�إىل اختالف امل�سلمني واحرتابهم حتى اليوم‪.‬‬
‫وال�س�ؤال الذي قد يتبادر �إىل الذهن ونحن نقر�أ هذا الكتاب عن «ال�شيخني»‪:‬‬
‫ملاذا كتب طه ح�سني عنهما يف كتاب واحد‪ ،‬ومل يفرد لكل منهما كتاب ًا‬
‫خا�ص ًا به‪ ،‬كما فعل حممد ح�سني هيكل ثم عبا�س حممود العقاد من‬
‫قبله؟وهو �س�ؤال وجيه بال �شك فكل منهما ي�ستحق كتاب ًا ب�أكمله‪ ،‬ولكن طه‬
‫ح�سني و�ضعهما يف كتاب واحد لأنه ر�أى �أنهما قدما مع ًا م�رشوع ًا واحداً‪،‬‬

‫‪28‬‬
‫متكامل الأركان‪ ،‬مو�صول احللقات‪ ،‬هو م�رشوع اخلالفة يف �أرقى �صورها‬
‫و�أكرثها عد ًال ومثالية‪ .‬و�أن �سنوات خالفتهما االثنتي ع�رشة – فقد ا�ستمرت‬
‫خالفة �أبو بكر ال�صديق لعامني (‪10‬هـ‪13 – 632/‬هـ‪ )634/‬وخالفة‬
‫عمر بن اخلطاب لع�رشة (‪13‬هـ‪23 – 634/‬هـ‪ – )644/‬هي فرتة واحدة‬
‫م�ستمرة ومتكاملة‪ .‬و�أن بداية الفتنة يف املجتمع �أو القطيعة مع م�رشوع‬
‫اخلالفة النموذجي ويوتوبياه الإن�سانية‪ ،‬مل تبد�أ �إال بعد ال�سنوات اخلم�س‬
‫الأوىل من خالفة عثمان بن عفان (‪23‬هـ‪35 – 644/‬هـ‪ )656/‬ثم تعرثت‬
‫بعدها حماوالت علي بن �أبي طالب (‪35‬هـ‪40 – 656/‬هـ‪ )661/‬يف‬
‫العودة بها �إىل جادة ال�صواب‪ .‬فقد قال عمر بن اخلطاب «لو ولوها الأجلح‪،‬‬
‫�أي علي‪ ،‬حلملهم على اجلادة»‪ .‬ولكنهم ولوها له بعد �أن كانت الرفاهية‬
‫املادية الناجمة عن ات�ساع الفتوح قد �أف�سدت النفو�س والعقول على ال�سواء‪،‬‬
‫فلم ي�ستطع �أن يعود بهم �إىل جادة ال�صواب‪.‬‬

‫‪29‬‬
30
‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫‪1‬‬
‫هذا حديث موجز عن ال�شيخني‪� :‬أبي بكر وعمر‪ ،‬رحمهما اهلل‪ .‬وما �أرى‬
‫�أن �سيكون فيه جديد مل �أ�سبق �إليه‪ ،‬فما �أكرث ما كتب القدماء واملحدثون‬
‫جدوا‬‫عنهما!وما �أكرث ما كتب امل�ست�رشقون عنهما �أي�ض ًا! و�أولئك وه�ؤالء ُّ‬
‫يف البحث واال�ستق�صاء ما �أتيحت لهم و�سائل البحث واال�ستق�صاء‪ ،‬و�أولئك‬
‫وه�ؤالء قد قالوا عن ال�شيخني كل ما كان ميكن �أن يقال‪.‬‬
‫ولو �أين �أطعت ما �أعرف من ذلك ملا �أخذت يف �إمالء هذا احلديث الذي‬
‫والرب بهما ما‬
‫ّ‬ ‫يو�شك �أن يكون معاداً‪ ،‬ولكني �أجد يف نف�سي من احلب لهما‬
‫ُيغريني بامل�شاركة يف احلديث عنهما‪ .‬وقد ر�أيتني حتدثت عن النبي �صلى‬
‫اهلل عليه و�سلم يف غري مو�ضع‪ ،‬وحتدثت عن عثمان وعلي رحمهما اهلل‪ ،‬ومل‬
‫�أحتدث عن ال�شيخني حديث ًا خا�ص ًا بهما مق�صوراً عليهما‪.‬‬
‫و�أجد يف نف�سي مع ذلك �شعوراً بالتق�صري يف ذاتيهما‪ ،‬كما �أجد يف �ضمريي‬
‫�شيئ ًا من اللوم الالذع على هذا التق�صري‪.‬‬
‫و�أنا مع ذلك ال �أريد �إىل الثناء عليهما‪ ،‬و�إن كانا للثناء �أه ًال‪ ،‬فقد �أثنى‬
‫عليهما النا�س فيما تعاقب من الأجيال‪ .‬والثناء بعد هذا ال يغني عنهما �شيئ ًا‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫وال يجدي على قارئ هذا احلديث �شيئ ًا‪ .‬وقد كانا ـ ر�ضي اهلل عنهما ـ يكرهان‬
‫الثناء �أ�شد الكره‪ ،‬ي�ضيقان به �أعظم ال�ضيق‪.‬‬
‫أف�صل الأحداث الكثرية الكربى التي حدثت يف �أيامهما‪ ،‬فذلك‬ ‫وما �أريد �أن � ِّ‬
‫مف�صل �أ�شد التف�صيل فيما كتب عنهما القدماء واملحدثون‪.‬‬ ‫�شيء يطول‪ ،‬وهو َّ‬
‫و�أنا بعد ذلك �أ�شك �أعظم ال�شك فيما ُروي عن هذه الأحداث‪ ،‬و�أكاد �أقطع‬
‫ب�أن ما كتب القدماء من تاريخ هذين الإمامني العظيمني‪ ،‬ومن تاريخ الع�رص‬
‫الق�صري الذي و ِّليا فيه �أمور امل�سلمني‪� ،‬أ�شبه بالق�ص�ص منه بت�سجيل حقائق‬
‫الأحداث التي كانت يف �أيامهما‪ ،‬والتي �شقت للإن�سانية طريق ًا �إىل حياة‬
‫جديدة كل اجلدة‪.‬‬
‫فالقدماء قد �أكربوا هذين ال�شيخني اجلليلني �إكباراً يو�شك �أن يكون تقدي�س ًا‬
‫لهما‪ ،‬ثم �أر�سلوا �أنف�سهم على �سجيتها يف مدحهما والثناء عليهما‪.‬‬
‫و�إذا كان من احلق �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم نف�سه قد كذب النا�س عليه‪،‬‬
‫وكان كثري من هذا الكذب م�صدره الإكبار والتقدي�س‪ ،‬فال غرابة يف �أن يكون‬
‫�إكبار �صاحبيه العظيمني وتقدي�سهما م�صدراً من م�صادر الكذب عليهما �أي�ضاً‪.‬‬
‫يق�صون الأحداث الكربى التي كانت يف �أيامهما ك�أنهم قد‬ ‫والقدماء ُّ‬
‫�شهدوها ور�أوها ر�أي العني‪ ،‬مع �أننا نقطع ب�أن �أحداً منهم مل ي�شهدها‪ ،‬و�إمنا‬
‫� َّأرخوا لهذه الأحداث ب�أخرة‪ .‬ولي�س �أ�شد ُع�رساً من الت�أريخ للمواقع احلربية‬
‫وو�صفها و�صف ًا دقيق ًا كل الدقة‪� ،‬صادق ًا كل ال�صدق‪ ،‬بريئ ًا من الإ�رساف‬
‫والتق�صري‪.‬‬
‫والذين ي�شهدون هذه املواقع وي�شاركون فيها ال ي�ستطيعون �أن ي�صفوها‬
‫هذا الو�صف الدقيق ال�صادق‪ ،‬لأنهم مل يروا منها �إال �أق َّلها و�أي�رسها‪ ،‬مل يروا �إال‬
‫ما عملوا هم وما وجدوا‪ ،‬وقد �شغلهم ذلك عما عمل غريهم‪.‬‬
‫وما ظنك باجلندي الذي هو دائم ًا م�شغول بالدفاع عن نف�سه واتقاء ما‬
‫ي�سوقه �إليه خ�صمه من الكيد ؟ �أتراه قادراً على �أن يالحظ ما يحدث حوله‪،‬‬
‫وما يحدث بعيداً عنه من الهجوم والدفاع‪ ،‬ومن الإقدام والإحجام ؟ هيهات!‬
‫ذلك �شيء ال �سبيل �إليه‪.‬‬
‫و�إمنا ي�ستطيع امل�ؤرخون املتقنون �أن يحققوا عواقب املواقع‪ ،‬وما يكون‬

‫‪32‬‬
‫من انت�صار جي�ش على جي�ش‪ ،‬وانهزام جي�ش �أمام جي�ش‪ ،‬وما يكون �أحيان ًا من‬
‫�إبطاء الن�رص �أو �إ�رساعه‪ ،‬ومن طول املواقع �أو ق�رصها‪ ،‬ومن امتحان اجلي�شني‬
‫املحرتبني مبا يكون فيهما �أو يف �أحدهما من كرثة القتلى واجلرحى‪ ،‬ومن‬
‫اخلطط التي يتخذها القواد للهجوم والدفاع‪ ،‬وما يكون لهذه اخلطط من جنح‬
‫�أو �إخفاق‪ .‬ف�أما �إح�صاء القتلى واجلرحى والغرقى ‪� -‬إن ا�ضطر اجلي�ش املنهزم‬
‫�إىل عبور نهر �أو قناة‪ -‬و�إح�صاء املنهزمني‪ ،‬بل �إح�صاء اجليو�ش نف�سها قبل‬
‫�أن تلتقي وحني تلتقي‪ ،‬ف�شيء ال �سبيل �إليه‪ ،‬وال �سيما بالقيا�س �إىل الأحداث‬
‫التي كانت يف الع�صور القدمية‪ ،‬حني مل يكن هناك �إح�صاء دقيق‪ ،‬وحني مل‬
‫يكن للنا�س علم مبناهج البحث واال�ستق�صاء وحتقيق �أحداث التاريخ‪.‬‬
‫وقدماء امل�ؤرخني من العرب مل يعرفوا من �أمر هذه الأحداث الكربى �إال‬
‫الرواة من العرب واملوايل‪ ،‬فهم �إمنا عرفوا تاريخ هذه الأحداث من‬ ‫ما تناقله ُّ‬
‫طريق املنت�رصين وحدهم‪ ،‬بل من طريق الذين مل ي�شهدوا االنت�صار ب�أنف�سهم‪.‬‬
‫و�إمنا نقلت �إليهم �أنبا�ؤه نق ًال �أقل ما ميكن �أن يو�صف به �أنه مل يكن دقيق ًا‪.‬‬
‫وهم مل ي�سمعوا �أنباء هذا االنت�صار من املنهزمني بني فر�س وروم و�أمم �أخرى‬
‫�شاركتهم يف احلرب و�شاركتهم يف الهزمية‪ ،‬فهم �سمعوا �صوت ًا واحداً هو‬
‫ال�صوت العربي‪.‬‬
‫و�أي�رس ما يجب على امل�ؤرخ املحقق �أن ي�سمع �أو يقر�أ ما حتدث به �أو كتبه‬
‫املنهزمون واملنت�رصون جميع ًا‪.‬‬
‫والأحداث الكربى التي كانت �أيام ال�شيخني خطرية يف نف�سها‪ ،‬تبهر الذين‬
‫ي�سمعون �أنباءها �أو يقرءونها‪ ،‬فلي�ست يف حاجة �إىل �أن يتكرث يف روايتها‬
‫املتكرثون‪ ،‬وال �إىل �أن يحيطها الرواة مبا �أحاطوها به من الغلو والإ�رساف‪،‬‬
‫فرد العرب �إىل الإ�سالم بعد �أن جحدوه‪ ،‬و�إخراج الروم من ال�شام واجلزيرة‬ ‫ُّ‬
‫وم�رص وبرقة‪ ،‬و�إخراج الفر�س من العراق والق�ضاء على �سلطانهم يف بالدهم‪،‬‬
‫كل هذه الأحداث ال �سبيل �إىل ال�شك فيها وال يف وقوعها يف هذا الع�رص الق�صري‬
‫�أثناء خالفة ال�شيخني‪ ،‬وهي �أحداث ت�صف نف�سها وتدل على خطورتها‪ ،‬ولي�ست‬
‫حمتاجة �إىل املبالغة يف و�صفها‪ ،‬لأنها فوق كل مبالغة‪ ،‬مع �أنها حقائق ال‬
‫معنى لل�شك فيها‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫من �أجل هذا كله �أعر�ض عن تف�صيل هذه الأحداث كما رواها القدماء‬
‫و�أخذها عنهم املحدثون يف غري بحث وال حتقيق‪.‬‬
‫و�أنا �أعتقد �أن امل�ؤرخ حني يقول‪� :‬إن ع�رص ال�شيخني قد �شهد انت�صار‬
‫امل�سلمني على الروم‪ ،‬وق�ضاء امل�سلمني على دولة الفر�س‪ ،‬قد قال كل �شيء‪،‬‬
‫و�سج َل معجزة مل يعرف التاريخ لها نظرياً‪.‬‬ ‫َّ‬
‫�أنا �إذن ال �أملي هذا احلديث لأثني على ال�شيخني‪ ،‬وال لأف�صل تاريخ الفتوح‬
‫يف ع�رصهما‪ ،‬و�إمنا �أريد �إىل �شيء �آخر خمالف لهذا �أ�شد اخلالف‪� ،‬أريد �أن‬
‫�أعرف و�أن �أبني لقارئ هذا احلديث �شخ�صية �أبي بكر وعمر رحمهما اهلل‪،‬‬
‫كما ي�صورها ما نعرف من �سريتهما‪ ،‬وكما ت�صورها الأحداث التي كانت‬
‫يف ع�رصهما‪ ،‬وكما ي�صورها هذا الطابع الذي طبعت به حياة امل�سلمني من‬
‫بعدهما‪ ،‬والذي كان له �أعظم الأثر فيما خ�ضعت له الأمة العربية من �أطوار‬
‫وما جنم فيها من فنت‪.‬‬
‫ويقول الرواة‪� :‬إن عمر قال عن �أبي بكر‪� :‬إنه �أتعب من بعده‪ .‬ولي�س من �شك‬
‫يف �أن عمر كان �أ�شد من �أبي بكر �إتعاب ًا ملن جاء بعده‪ ،‬ف�سرية هذين الإمامني‬
‫قد نهجت للم�سلمني يف �سيا�سة احلكم‪ ،‬ويف �إقامة �أمور النا�س على العدل‬
‫�شق على اخللفاء وامللوك من بعدهما �أن يتبعوه‪.‬‬ ‫واحلرية وامل�ساواة‪ ،‬نهج ًا ّ‬
‫فكانت نتيجة ق�صورهم عنه ‪ -‬طوع ًا �أوكره ًا‪ -‬هذه الفتنة التي قتل فيها‬
‫عثمان رحمه اهلل‪ ،‬والتي جنمت منها فنت �أخرى قتل فيها علي ر�ضى اهلل عنه‪،‬‬
‫و�سفكت فيها دماء كثرية كره اهلل �أن ت�سفك‪ ،‬وانق�سمت فيها الأمة الإ�سالمية‬
‫انق�سام ًا مازال قائم ًا �إىل الآن‪.‬‬
‫هذا النهج الذي نهجه ال�شيخان‪ ،‬والذي ق�رص عنه بعدهما اخللفاء وامللوك‪،‬‬
‫هو الذي �أريد �أن �أعرفه و�أجلوه لقارئ هذا احلديث‪ ،‬و�أ�ستخل�ص منه بعد ذلك‬
‫�شخ�صية �أبي بكر وعمر رحمهما اهلل‪.‬‬
‫وال �أذكر ُع�رس هذا البحث وال ما �س�أبذل فيه من اجلهد‪ ،‬وما �س�أتعر�ض له‬
‫من امل�شقة‪ ،‬وما �سيعر�ض يل من امل�شكالت‪ ،‬فكل من يحاول مثل هذا البحث‬
‫البد من �أن يوطن نف�سه على كل هذا العناء‪ ،‬ومن �أن ي�ستعني اهلل عليه‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪2‬‬
‫يقول اهلل عز وجل يف �سورة احلجرات‪:‬‬
‫ان‬ ‫ل ُت ْ�ؤ ِم ُنوا َو َل ِكن ُقو ُلوا �أَ ْ�س َل ْم َنا َولمَ َّ ا َي ْد ُخلِ ا ِلإ َ‬
‫مي ُ‬ ‫« َقا َل ِت الأَ ْع َر ُ‬
‫اب � َآم َّنا ُقل َمّ ْ‬
‫ور‬ ‫الل َو َر ُ�سو َل ُه ال َي ِل ْت ُكم ِّم ْن �أَ ْع َما ِل ُك ْم َ�ش ْي ًئا �إِ َّن َهّ َ‬
‫الل َغ ُف ٌ‬ ‫يعوا َهّ َ‬‫فيِ ُق ُلو ِب ُك ْم َو�إِن ُت ِط ُ‬
‫َّر ِح ٌ‬
‫يم»‪.‬‬
‫وكل �شيء يدل على �أن اهلل عز وجل قد اختار نبيه جلواره ومازال‬
‫بعد‪ .‬ر�أوا �سلطان ًا جديداً قد ظهر‬ ‫الأعراب م�سلمني مل يدخل الإميان يف قلوبهم ُ‬
‫يف الأر�ض و�أظل املدينة ومكة والطائف‪ ،‬وطالب النا�س ب�أن يدينوا دينه‪،‬‬
‫وي�شهدوا �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً عبده ور�سوله‪ ،‬وي�ؤدوا ما يفر�ض عليهم‬
‫من الواجبات‪ ،‬ور�أوا هذا ال�سلطان يعلن احلرب على كل عربي يف اجلزيرة‬
‫ي�ستم�سك ب�رشكه وال ُيذعن لهذا الدين اجلديد‪ ،‬ور�أوه يحول بني امل�رشكني‬
‫وبني امل�سجد احلرام مبكة ويعلن �إليهم قول اهلل ع ّز وجل يف �سورة براءة‪:‬‬
‫امهِ ْم َه َذا»‪.‬‬ ‫ون نجَ َ ٌ�س َف َال َي ْق َر ُبواْ المْ َ ْ�سجِ َد الحْ ََر َام َب ْع َد َع ِ‬ ‫نا المْ ُ �شرْ ُِك َ‬‫«‪�ِ ..‬إ َمّ َ‬
‫ور�أوا لهذا ال�سلطان من القوة والب�أ�س‪ ،‬ور�أوا فيه من ال�سعة والإ�سماح‪ ،‬ما‬
‫ورغبهم‪ ،‬ف�أعلنوا �إذعانهم لهذا الدين اجلديد طائعني �أو كارهني‪.‬‬ ‫رهبهم ّ‬ ‫ّ‬
‫ولو قد بقي النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فيهم �أعوام ًا كثرية �أو قليلة لكان‬
‫من املمكن �أن تذعن لهذا الدين قلوبهم كما �أذعنت له �أل�سنتهم‪ ،‬ولكن اهلل �آثر‬

‫‪35‬‬
‫غري‬
‫مر�ضي ًا‪ .‬ور�أى امل�سلمون ُ‬
‫ّ‬ ‫لنبيه رحمته ور�ضوانه ففارق هذه الدنيا را�ضي ًا‬ ‫ّ‬
‫امل�ؤمنني من العرب �أنه رجل كغريه من الرجال يعر�ض له املوت كما يعر�ض‬
‫لغريه من النا�س‪ ،‬و�أن الذي نه�ض بالأمر من بعده لي�س �إال رج ًال يعرفونه‪،‬‬
‫ويقدرون �أنه �أجدر �أن يعر�ض املوت له كما عر�ض للنبي الذي �أنزل عليه‬
‫القر�آن‪ ،‬و�أتيح له ما �أتيح من الظهور على كل من خالفه �أو ناو�أه‪.‬‬
‫هنالك تك�شفت قلوبهم عن دخائلها‪ ،‬و�أظهروا �أنهم قد �أ�سلموا ل�سلطان النبي‬
‫الردة‪ ،‬وجعلوا ي�ساومون يف‬ ‫دون �أن ت�ؤمن به قلوبهم‪ ،‬ف�أظهروا ما �أظهروا من ّ‬
‫الزكاة‪ ،‬وتقول وفودهم لأبي بكر‪ :‬نقيم ال�صالة وال ن�ؤدي الزكاة‪.‬‬
‫أحب �إليهم من الدين‪ ،‬وكانت نفو�سهم �أكرم عليهم من �أن ي�ؤدوا‬ ‫كان املال � َّ‬
‫�رضيبة �إىل رجل ال يوحى �إليه وال ي�أتيه خرب ال�سماء‪.‬‬
‫بل �إن ظاهرة �أخرى دلت على �أن فريق ًا من العرب مل ينتظروا بجحودهم‬
‫الردة قبل‬
‫وردتهم فراق النبي �صلى اهلل عليه و�سلم لهذه الدنيا ف�أظهروا ّ‬
‫وفاته‪ ،‬ال لأنهم �ضاقوا بالزكاة‪� ،‬أو �آثروا املال على الدين‪ ،‬بل لأنهم نف�سوا‬
‫هي�أ لها ما ُهيئ من هذا ال�سلطان مبا‬ ‫على قري�ش �أن تكون فيها النبوة‪ ،‬و�أن ُي َّ‬
‫له من قوة وب�أ�س‪ ،‬ومبا فيه من �سعة و�إ�سماح‪ ،‬فظهر بينهم بدع جديد وهو‬
‫التنب�ؤ‪.‬‬
‫فما ينبغي �أن ت�ست�أثر قري�ش من دونهم بالنبوة‪ ،‬وما ينبغي �أن تخت�ص‬
‫وحدها بهذا ال�سلطان تب�سطه على الأر�ض‪.‬‬
‫وما �أ�رسع ما ظهر التنب�ؤ يف ربيعة‪ -‬ويف بني حنيفة منهم خا�صة ‪-‬‬
‫ف�أعلن ُم�سليمة نبوته يف اليمامة‪ ،‬وجعل يهذي بكالم زعم �أنه كان يوحى‬
‫�إليه‪ ،‬وجعل يقول‪ :‬لنا ن�صف الأر�ض ولقري�ش ن�صفها‪ .‬ولكن قري�ش ًا قوم‬
‫يظلمون‪.‬‬
‫وظهر التنب�ؤ يف اليمن‪ ،‬فثار الأ�سود العن�سي و�أعلن نبوته‪ ،‬وركبه �شيطان‬
‫ال�سجع كما ركب ُم�سيلمة‪.‬‬
‫ومل يكد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ينتقل �إىل الرفيق الأعلى حتى ظهر‬
‫تنب�ؤ �آخر يف بني �أ�سد‪ ،‬ف�أعلن طليحة �أنه نبي وجعل يهذي لقومه كما هذى‬
‫�صاحباه بال�سجع‪ ،‬يزعم �أنه يتنزل عليه من ال�سماء‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫احلد بل تنب�أت امر�أة يف بني متيم ‪ -‬وهي‬ ‫ثم مل يقف الأمر عند هذا ّ‬
‫�سجاح‪ -‬كانت نازلة يف بني تغلب‪ ،‬فلما ا�ست�أثر بها �شيطان ال�سجع �أ�رسعت‬
‫�إىل قومها من متيم ف�أغوت منهم خلق ًا كثرياً‪.‬‬
‫وكذلك نف�ست قحطان على عدنان �أن يكون لها نبي من دونها‪ ،‬فظهر فيها‬
‫الأ�سود العن�سي‪ ،‬ونف�ست ربيعة العدنانية على م�رض �أن ت�ست�أثر من دونها‬
‫بالنبوة‪ ،‬ونف�ست �أ�سد ومتيم امل�رضيتان �أن ت�ست�أثر قري�ش بالنبوة من دون‬
‫�سائر م�رض‪ ،‬فظهر طليحة يف بني �أ�سد وظهرت �سجاح يف بني متيم‪.‬‬
‫وكذلك عادت الأر�ض كافرة بعد �إ�سالمها‪ ،‬وا�شتعلت فيها نار ما �أ�رسع‬
‫وح�رص الإ�سالم يف املدينة‬ ‫ما انت�رش لهبها حتى �شمل جزيرة العرب كلها !‪ُ ،‬‬
‫ومكة والطائف‪.‬‬
‫وكان انت�شار هذا اللهب وارتداد الكرثة الكثرية من العرب حمنة ام ُت ِحن‬
‫بها �أبوبكر‪ ،‬وام ُت ِحن بها معه امل�سلمون بعد وفاة النبي‪ .‬ولي�س �شيء �أ�صدق‬
‫ت�صويراً ل�شخ�صية الرجل من ثباته للمحنة مهما تعظم‪ ،‬ونفوذه من م�شكالتها‬
‫مهما تتعقد‪ ،‬وظهوره على هولها مهما يكن �شديداً‪.‬‬
‫ومل يواجه �أبوبكر يف �أول عهده باخلالفة ردة املانعني للزكاة‪ ،‬وكفر‬
‫التابعني ملن تنب�أ من الكذابني فح�سب‪ ،‬و�إمنا واجه يف الوقت نف�سه ت�أهب‬
‫العرب من ن�صارى ال�شام للمكر به والكيد له والغارة عليه‪.‬‬
‫وقد واجه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حت ُّفز العرب يف ال�شام على حدود‬
‫اجلزيرة العربية‪ ،‬وكانت له معهم خطوب‪ ،‬فلم تكن م�ؤتة وال تبوك �إال حماولة‬
‫لرد ن�صارى العرب يف ال�شام عن اجلزيرة‪ ،‬بل مل يكتف النبي ‪� -‬صلى اهلل‬
‫جهز قبل وفاته جي�ش ًا لغزو ه�ؤالء العرب‪،‬‬ ‫عليه و�سلم‪ -‬مب�ؤتة وتبوك و�إمنا ّ‬
‫و� ّأمر على هذا اجلي�ش �أ�سامة بن زيد بن حارثة‪ ،‬وكان لأ�سامة ث�أر عند ه�ؤالء‬
‫العرب الذين قتلوا �أباه يوم م�ؤتة‪ .‬وع�سى �أن يكون النبي قد الحظ هذا الث�أر‬
‫حني � َّأمر �أ�سامة على حداثة �سنه‪ ،‬وحني جعل يف جي�شه خرية �أ�صحابه‪ ،‬وفيهم‬
‫�أبوبكر وعمر‪.‬‬
‫ولكن النبي مر�ض قبل �إنفاذ هذا اجلي�ش‪ ،‬وملا �أح�س الوفاة �أو�صى ب�إنفاذ‬
‫جي�ش �أ�سامة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫فلما ا�ستخلف �أبوبكر نظر ف�إذا الأر�ض من حوله كافرة‪ ،‬و�إذا �أولو القوة‬
‫والب�أ�س من �أ�صحابه قد ُج ّندوا يف هذا اجلي�ش املهي�أ للغارة على �أطراف‬
‫ال�شام‪ ،‬والذي �أو�صى النبي قبل وفاته ب�إنفاذه �إىل غايته‪.‬‬
‫ف�أبوبكر �إذن �أمام نار ُم�ضطربة يف اجلزيرة العربية كلها‪ ،‬وهو بني‬
‫اثنتني‪� :‬إما �أن ينفذ هذا اجلي�ش فيواجه هذه النار املت�أججة غري قادر على‬
‫�إخمادها‪ ،‬و�إما �أن ي�ؤجل �إنفاذ هذا اجلي�ش حتى يحاول به �إخماد هذه النار‬
‫فيبطئ يف �إنفاذ و�صية النبي‪.‬‬
‫وكذلك �أخذته املحنة من جميع �أقطاره‪ .‬و�سرنى كيف ا�ستطاع �أن يخرج‬
‫منها ظافراً موفوراً‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪3‬‬

‫ومن قبل هذه املحنة واجهته حمنة �أخرى قبل �أن يلي �أمور امل�سلمني‪،‬‬
‫وهي وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬ومل تكن هذه املحنة مق�صورة عليه‪،‬‬
‫بل كانت عامة كادت تفنت امل�سلمني عن دينهم‪ .‬فهم كانوا يقدرون �أن النبي‬
‫�سيبقى فيهم حتى يظهر دين اهلل على الدين كله‪ ،‬وهم يقرءون يف �سورة‬
‫التوبة قول اهلل عز وجل‪:‬‬
‫«ه َو ا َ ّل ِذي �أَ ْر َ�س َل َر ُ�سو َل ُه بِا ْل ُه َدى َو ِدينِ الحْ َ ِ ّق ِل ُي ْظه َِر ُه َع َلى ال ِ ّدينِ ُك ِلّ ِه َو َل ْو‬‫ُ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫َك ِر َه المْ ُ �شرْ ُِك َ‬
‫ويقرءون قوله عز ا�سمه يف �سورة الفتح‪:‬‬
‫«ه َو ا َ ّل ِذي �أَ ْر َ�س َل َر ُ�سو َل ُه بِا ْل ُه َدى َو ِدينِ الحْ َ ِ ّق ِل ُي ْظه َِر ُه َع َلى ال ِ ّدينِ ُك ِلّ ِه َو َكفَى‬
‫ُ‬
‫ِالل َ�شهِي ًداً»‪.‬‬‫ب َ هّ ِ‬
‫وكان النبي قد �أظهر دين احلق على الدين كله يف جزيرة العرب‪ ،‬ولكنه مل‬
‫ُيظهره على الدين كله يف �سائر �أقطار الأر�ض‪ .‬ثم انتق�ضت اليمن مع الأ�سود‬
‫العن�سي‪ ،‬وانتق�ض بنو حنيفة مع م�سيلمة يف حياة النبي‪ ،‬فلم يتم له �إذن �إظهار‬
‫دين احلق على الدين كله‪ ،‬ال يف جزيرة العرب وال يف غريها من �أقطار الأر�ض‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وها هو ذا يفارق الدنيا ويختاره اهلل جلواره‪ .‬فال غرابة يف �أن ي�شك‬
‫ال�صادقون من امل�ؤمنني يف �أنه قد مات‪ ،‬كما �شك عمر رحمه اهلل‪ .‬وال غرابة يف‬
‫�أن يكفر الذين كانوا يعبدون اهلل على حرف‪ ،‬كما كفر الأعراب الذين جحدوا‬
‫الزكاة‪ .‬وال غرابة يف �أن ي�ضطرب �أمر النا�س يف املدينة �أ�شد اال�ضطراب‪.‬‬
‫ف�إذا فكرت يف �أن �أبا بكر كان �أحب النا�س �إىل ر�سول اهلل‪ ،‬وكان ر�سول‬
‫اهلل �أحب النا�س �إليه‪ ،‬عرفت وقع هذه املحنة يف نف�س �أبي بكر‪ .‬ولكنك تعلم‬
‫كيف خرج �أبوبكر من هذه املحنة دون �أن ت�ضطرب لها نف�سه‪ ،‬ودون �أن‬
‫يجد ال�ضعف �أو الريب �إىل نف�سه �سبي ًال‪ .‬وتعرف كذلك كيف ا�ستطاع �أن يرد‬
‫ال�صادقني من امل�ؤمنني �إىل �أنف�سهم‪� ،‬أو يرد �أنف�سهم �إليهم‪ ،‬حني تال عليهم‬
‫هاتني الآيتني الكرميتني‪ .‬وهما قول اهلل عز وجل يف �سورة �آل عمران‪:‬‬
‫ات �أَ ْو ُق ِت َل ان َق َل ْب ُت ْم‬
‫الر ُ�س ُل �أَ َف�إِن َ ّم َ‬
‫م َ ّم ٌد �إِ َالّ َر ُ�سو ٌل َق ْد َخ َل ْت ِمن َق ْب ِل ِه ُ ّ‬
‫«و َما حُ َ‬‫َ‬
‫الل َ�ش ْيئًا َو َ�س َي ْجزِي َ هّ ُ‬
‫الل‬ ‫َ‬
‫َع َلى �أ ْع َقا ِب ُك ْم َو َمن َين َق ِل ْب َع َل َى َع ِق َب ْي ِه َف َلن َي�ضرُ َ ّ َ هّ َ‬
‫ِين»‪.‬‬
‫ال�ش ِاكر َ‬
‫َّ‬
‫وقوله يف �سورة الزمر‪:‬‬
‫«�إنك م ِّي ٌت و�إ َّنهم م ِّي ُتون»‪.‬‬
‫اجلزع والريب عن‬ ‫َ‬ ‫مل يجزع �إذن �أبوبكر ومل َي ْر َت ْب لوفاة النبي‪ ،‬بل ذاد‬
‫نفو�س امل�ؤمنني ال�صادقني حني ذكرهم مبا �أنب�أ اهلل به يف القر�آن من �أن‬
‫النبي معر�ض للموت وللقتل‪ ،‬ومن �أنه ميت كما ميوت غريه من النا�س‪.‬‬
‫ولي�س �إذن ُب ّد من البحث عن م�صدر ما �أتيح لأبي بكر من الثبات للمحن‬
‫وال�صرب عليها‪ ،‬والنفوذ �آخر الأمر من م�شكالتها‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫‪4‬‬

‫ولي�س لهذا كله �إال م�صدر واحد هو الذي يد ل عليه لقبه‪« :‬ال�صديق»‪ .‬ذلك‬
‫�أن �أبا بكر كان رج ًال من قري�ش‪ ،‬ثم رج ًال من العرب‪ ،‬ثم �إن�سان ًا يفرح ملا يفرح‬
‫القر�شي له ويفرق مما يفرق القر�شي منه‪ ،‬وتت�أثر نف�سه مبا تت�أثر به النف�س‬
‫العربية‪ ،‬وتخ�ضع طبيعته ملا تخ�ضع له الطبيعة الإن�سانية من كل ما يعر�ض‬
‫للنا�س من الر�ضى والغ�ضب‪ ،‬ومن ال�رسور واحلزن‪ ،‬ومن اللذة والأمل‪ ،‬ومن‬
‫القوة وال�ضعف‪ .‬ثم كان �أبوبكر ميتاز برقة القلب و�سماحة النف�س والرحمة‬
‫ال�شديدة لكل من ي�صيبه ما يكره‪.‬‬
‫فكيف ا�ستطاعت طبيعته هذه �أن تثبت لهذه املحن ال�شداد‪ ،‬و�أن تنفذ منها‬
‫يف غري م�شقة وال تكلف ؟‪ ،‬وهو الذي �أ�شفقت ابنته عائ�شة ‪ -‬رحمها اهلل ‪� -‬أال‬
‫ي�سمع النا�س �صوته حني تقدم النبي ي�أمره �أن ي�صلي بالنا�س ملا ثقل عليه‬
‫الوجع‪ .‬فقالت‪ :‬يا ر�سول اهلل‪� ،‬إن �أبا بكر رجل �أ�سيف ‪ ،‬و�إذا قام مقامك مل ُي�سمع‬
‫النا�س من البكاء‪.‬‬
‫ثم كيف ا�ستطاع �أن يبلغ من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم هذه املنزلة التي‬
‫بلغها‪ ،‬والتي مل يبلغها عنده �أحد من �أ�صحابه‪ .‬فكان النبي يعلن ذلك‪ ،‬فيجيب‬

‫‪41‬‬
‫عمرو بن العا�ص حني �س�أله‪� :‬أي الرجال �أحب �إليه‪ ،‬ب�أنه �أبوبكر‪.‬‬
‫ويقول يوم ًا على املنرب فيما حتدث الرواة‪ :‬لو كنت متخذاً من �أمتي خلي ًال‬
‫التخذت �أبا بكر خلي ًال‪ .‬ولكن �إخاء و�صحبة حتى يجمعنا اهلل عنده‪ ،‬ويختلف‬
‫�إىل داره مبكة ُم�صبح ًا وممُ �سي ًا من كل يوم‪ ،‬ويخت�صه مب�صاحبته حني هاجر‬
‫من مكة‪ ،‬وي�ؤثره بخا�صة �أمره كله‪.‬‬
‫ال جواب على هذه الأ�سئلة �إال ما ذكرته �آنف ًا من �أنه كان ال�صديق‪ ،‬فهو‬
‫�أول من �أ�سلم من الرجال‪ ،‬وكان �إ�سالمه �صفواً خال�ص ًا‪ ،‬قوامه الت�صديق‬
‫العميق‪ ،‬والإميان اخلال�ص من كل �شائبة‪ ،‬واالطمئنان ال�صادق ال�سمح �إىل‬
‫يحدث به النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ثم �إيثاره النبي على نف�سه يف‬ ‫كل ما ِّ‬
‫جد واحتاج النبي �أو امل�سلمون �إىل هذا‬ ‫كل موطن‪ ،‬ثم البالء احل�سن كلما ّ‬
‫البالء‪.‬‬
‫ُ‬
‫والرواة يتحدثون ب�أن النبي حني �أنب�أ ذات يوم ب�أنه �أ�رسي به من‬ ‫ُّ‬
‫وتردد بع�ض‬ ‫ّ‬ ‫قري�ش‪،‬‬ ‫بته‬ ‫ذ‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫أق�صى‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫امل�سجد‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫احلرام‬ ‫امل�سجد‬ ‫من‬ ‫ليلته‬
‫امل�سلمني يف ت�صديقه‪ ،‬ومل يطمئن لنبئه هذا يف غري �شك وال ارتياب وال‬
‫تردد �إال رجل واحد هو �أبوبكر‪.‬‬
‫ل�صلح‬ ‫ويحدثنا الرواة كذلك �أنه كان الرجل الوحيد الذي �أطم�أنت نف�سه ُ‬
‫النبي مع قري�ش على الهدنة يوم احلديبية‪ ،‬وقد ا�ضطرب النا�س لهذا ال�صلح‬
‫و�ضاقوا به �أول �أمرهم‪ ،‬وثار له عمر بن اخلطاب على ُقربه من النبي و�إيثار‬
‫النبي له‪ ،‬فقال للنبي‪� :‬أل�سنا على احلق؟ قال النبي‪ :‬بلى‪ .‬قال عمر‪� :‬ألي�سوا‬
‫الدنية يف ديننا؟ قال‬ ‫على الباطل؟ قال النبي‪ :‬بلى‪ .‬قال عمر‪َ :‬ف ِلم ُنعطى َّ‬
‫�ضيعني‪.‬‬
‫النبي وقد �أخذه �شيء من الغ�ضب‪� :‬أنا عبداهلل ور�سوله ولن ُي ِّ‬
‫وذهب عمر بعد ذلك �إىل �أبي بكر فحاوره كما حاور النبي‪ .‬فكان جواب‬
‫�أبي بكر نف�س اجلواب الذي �أجاب به النبي‪ ،‬قال لعمر‪� :‬إنه عبداهلل ور�سوله‬
‫ي�ضيعه‪.‬‬
‫ولن ِّ‬
‫ومل يعرف قط �أن �أبا بكر قال �أو �صنع �شيئ ًا ي�ؤذي النبي منذ �أ�سلم �إىل �أن‬
‫مات‪ .‬ذلك �إىل �إيثاره امل�سلمني على نف�سه‪ ،‬و�إنفاق ماله يف معونتهم‪.‬‬
‫فالرواة يتحدثون ب�أنه كان رج ًال تاجراً‪ ،‬وب�أنه �أ�سلم وعنده �أربعون �ألف‬

‫‪42‬‬
‫درهم‪ ،‬فلما هاجر �إىل املدينة مع النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن قد بقي‬
‫له من هذا املال �إال خم�سة �آالف درهم‪� ،‬أنفق �سائر ماله يف موا�ساة النبي‬
‫وامل�سلمني‪ ،‬كان ال يرى رقيق ًا يع َّذب يف الإ�سالم �إال ا�شرتاه و�أعتقه‪.‬‬
‫من �أجل هذا كله مل يكن �أ�سبق الرجال �إىل الإ�سالم فح�سب‪ ،‬بل كان‬
‫�أح�سنهم فيه بالء‪ ،‬و�أثبتهم فيه قدم ًا‪ ،‬و�أ�شدهم له اطمئنان ًا و�إذعان ًا‪.‬‬
‫ومعنى هذا كله �أن �أبا بكر حني �أ�سلم ُخلق خلق ًا جديداً‪ ،‬واكت�سب �شخ�صية‬
‫مل تكن له من قبل‪ ،‬قوامها الإيثار والوفاء واالطمئنان والثبات الذي ال‬
‫يعرف تردداً وال ا�ضطراب ًا‪.‬‬
‫ولأم ٍر ما �آثره النبي ب�صحبته يف الهجرة‪ ،‬وذكره اهلل يف القر�آن ب�أنه كان‬
‫ثاين اثنني يف الغار‪ .‬وكان بع�ض امل�سلمني يقولون �إنه كان ثالث ثالثة‪.‬‬
‫يت�أولون الآية الكرمية من �سورة براءة‪:‬‬
‫َان ا ْث َنينْ ِ �إِ ْذ ُه َما فيِ‬
‫ين َكف َُرواْ ث يِ َ‬ ‫«�إِ َالّ َتن�صرُ ُ و ُه َف َق ْد َن�صرَ َ ُه َ هّ ُ‬
‫الل �إِ ْذ �أَ ْخ َر َج ُه ا َ ّل ِذ َ‬
‫الل َم َع َنا‪.»..‬‬ ‫اح ِب ِه َال تحَ ْ َز ْن �إ َ ِّن َ هّ َ‬
‫ول ِل َ�ص ِ‬ ‫ا ْل َغا ِر �إِ ْذ َي ُق ُ‬
‫فقد كان اهلل مع ر�سوله ومع �أبي بكر يف الغار‪ ،‬وكان �أبو بكر �إذن ثالث‬
‫الثالثة‪.‬‬
‫وزكى نف�سه‪ ،‬وع ّلمه‬ ‫قوى �شخ�صيته ّ‬ ‫وقد �أدبه اهلل يف القر�آن ت�أدب ًا رائع ًا ّ‬
‫كيف يرتفع عن ال�صغائر‪ ،‬وكيف يحمل نف�سه على ما تكره‪ ،‬مادام يف هذا‬
‫الذي تكره من الرب واملعروف والإح�سان ما ير�ضي اهلل عنه ويغفر له الذنوب‪،‬‬
‫وذلك يف ق�صة الإفك حني غ�ضب �أبوبكر على قاذف ابنته عائ�شة رحمها اهلل‪،‬‬
‫وكان هذا القاذف من ذوي قرابة �أبي بكر‪ ،‬وكان �أبوبكر يح�سن �إليه ويعطيه‬
‫ما ُيعينه على �أثقال احلياة‪ .‬فلما اقرتف ما اقرتف من الإثم �أزمع �أبوبكر �أن‬
‫يقب�ض عنه �إح�سانه ومعونته‪ .‬ف�أنزل اهلل يف �سورة النور بعد ق�صة الإفك هذه‬
‫الآية الكرمية‪:‬‬
‫ني‬‫ول ا ْل ُق ْر َبى َوالمْ ََ�س ِاك َ‬ ‫ال�س َع ِة �أَن ُي�ؤْ ُتوا �أُ يِ‬ ‫«وال َي�أْ َتلِ �أُ ْو ُلوا ا ْلف َْ�ضلِ ِمن ُك ْم َو َ ّ‬ ‫َ‬
‫ون �أَن َي ْغ ِف َر َ هّ ُ‬
‫الل َل ُك ْم‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫تحُ ُ ّ َ‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫�‬
‫أ‬ ‫وا‬‫َح‬ ‫ف‬ ‫�ص‬ ‫ي‬
‫ََْْ ََْ ْ ُ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ُوا‬ ‫ف‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫هّ‬
‫الل‬ ‫َ‬ ‫ِيلِ‬
‫ب‬ ‫�س‬
‫َ فيِ َ‬ ‫ِين‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫اج‬ ‫َوالمْ ُ َه‬
‫يم»‪.‬‬
‫ُور َ ّر ِح ٌ‬
‫الل َغف ٌ‬ ‫َو َ هّ ُ‬
‫فلما �سمع �أبوبكر هذه الآية قال‪ -‬فيما يحدث الرواة‪ :-‬بلى واهلل �إين لأحب‬

‫‪43‬‬
‫الرب‬
‫�أن يغفر اهلل يل‪ .‬ثم عفا و�صفح وعاد �إىل ما كان ي�صنع بقاذف ابنته من ّ‬
‫واملعروف والإح�سان‪.‬‬
‫وكذلك �صحب �أبوبكر ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �أ�صدق �صحبة‬
‫و�أبرها و�أ�صفاها‪.‬‬
‫فال غرابة وهو من النبي بهذه املنزلة‪ ،‬وهو �أن�صح امل�سلمني هلل ولر�سوله‬
‫وللإ�سالم‪� ،‬أن يختاره النبي لي�صلي بالنا�س حني ثقل عليه املر�ض‪ ،‬على رغم‬
‫ما حاولت عائ�شة وحف�صة من االعتذار عنه برقة قلبه و�شدة حبه للنبي‪.‬‬
‫وال غرابة يف �أن يجد النبي ذات يوم خفة فيخرج لل�صالة‪ ،‬وقد قام �أبوبكر‬
‫ي�صلي بالنا�س‪ ،‬فلما ر�آه �أبوبكر �أراد �أن يت�أخر‪ ،‬ف�أ�شار النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم �إليه‪� .‬أال تربح‪ .‬ثم جل�س عن ي�ساره‪ .‬فكان �أبوبكر ي�صلى ب�صالة النبي‪،‬‬
‫وكان النا�س ي�صلون ب�صالة �أبي بكر‪.‬‬
‫وكان �أبوبكر �أفهم النا�س عن النبي‪ ،‬لأنه كان �أعرفهم به و�أقربهم �إىل‬
‫قلبه‪ .‬ومن �أجل ذلك فطن ملا �أراد النبي �إليه حني قال ذات يوم على املنرب‪� :‬إن‬
‫عبداَ خيرّ ه اهلل بني ما عنده وبني زهرة الدنيا فاختار ما عند اهلل‪ .‬فقال �أبوبكر‬
‫يف �صوت تقطعه العربة‪ :‬بل نفديك ب�أنف�سنا و�أبنائنا‪ .‬فعجب النا�س ملقالته‪.‬‬
‫وجعل بع�ضهم يقول لبع�ض‪ :‬انظروا �إىل هذا ال�شيخ كيف يقول! ولكن �أبا بكر‬
‫فطن ملا �أراد النبي من �أن هذا العبد الذي �آثر ما عند اهلل على زهرة الدنيا هو‬
‫النبي نف�سه‪ .‬وكان ي�ؤذن النا�س ب�أن انتقاله عنهم �إىل ر�ضوان اهلل قريب‪.‬‬
‫والرواة يتكرثون يف بع�ض احلديث ويختلفون فيما يتكرثون فيه‬
‫باختالف نزعاتهم ال�سيا�سية‪ ،‬فقوم يزعمون �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬
‫طلب �إىل عائ�شة يف مر�ضه الذي ُقب�ض فيه �أن تدعو �أخاها عبدالرحمن ليكتب‬
‫لأبي بكر كتاب ًا ال يختلف النا�س معه عليه‪ ،‬ثم عدل عن ذلك وقال‪ :‬دعيه‪ ،‬فلن‬
‫يختلف النا�س على �أبي بكر‪.‬‬
‫�سم عبدالرحمن‪ ،‬و�إمنا �أراد‬
‫�سم �أبا بكر ومل ُي ّ‬
‫وقوم �آخرون يزعمون �أنه مل ُي ّ‬
‫�أن يكتب لأ�صحابه كتاب ًا ال ي�ضلوا بعده‪ .‬فاختلف من كان عنده ذلك الوقت‬
‫من �أ�صحابه‪� ،‬أراد بع�ضهم �أن يكتب‪ ،‬و�أبى بع�ضهم‪ ،‬وقال‪ -‬وهو عمر فيما‬
‫ُيروى‪� :-‬إن الوجع ا�شتد بر�سول اهلل وعندنا كتاب اهلل‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫بينت يف غري هذا املو�ضع �أين �أ�شك كل ال�شك يف هذا كله‪ ،‬و�أكاد �أقطع‬ ‫وقد َّ‬
‫ب�أنه مما تكلفته الفرق ال�سيا�سية ب�أخرة‪ .‬ولو قد عزم اهلل لر�سوله على �أن‬
‫ُيو�صي لأبي بكر �أو لغريه ملا �رصفه عن ذلك �أحد‪.‬‬
‫ومهما يكن من �شيء فقد قب�ض النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ومل يو�ص لأحد‬
‫ال لأبي بكر وال لغريه‪ .‬ولو قد �أو�صى لأبي بكر ملا كانت �سقيفة بني �ساعدة‪،‬‬
‫لعلي لكان �أبوبكر‬‫وملا خالفه الأن�صار عن و�صية ر�سول اهلل‪ .‬ولو قد �أو�صى ّ‬
‫�أ�رسع النا�س �إىل بيعته‪ ،‬فكيف وقد اجتمع امل�سلمون من املهاجرين والأن�صار‬
‫على بيعة �أبي بكر‪� ،‬إال ما كان من �شذوذ �سعد بن عبادة وامتناعه عن البيعة‪.‬‬
‫علي ‪ -‬رحمه اهلل ‪� -‬أبا بكر‪ ،‬وعمر من بعده وعثمان من بعدهما‪،‬‬ ‫وقد بايع ّ‬
‫ولو قد علم �أن النبي قد �أو�صى له جلاهد يف �إنفاذ �أمر النبي ولآثر املوت على‬
‫خالف هذا الأمر‪.‬‬
‫والواقع ‪ -‬فيما �أرجح ‪� -‬أن الرواة �أ�رسفوا على �أنف�سهم وعلى النا�س‪ ،‬بعد‬
‫انق�سام امل�سلمني فيما �أثري من الفتنة بقتل عثمان رحمه اهلل‪ ،‬فلم يخل�صوا‬
‫�أنف�سهم لل�صدق يف الرواية‪ ،‬ومل يتحرجوا من �أن ي�صوروا �أمر امل�سلمني �إثر‬
‫وفاة النبي كما كان �أمر امل�سلمني يف �أيامهم‪ .‬و�أي�رس النظر يف كتب التاريخ‬
‫القدمية‪ ،‬ويف كتب املتكلمني القدماء‪ ،‬يبني لنا �أن امل�سلمني انق�سموا ب�أخرة‬
‫يف بيعة �أبي بكر‪ ،‬كما انق�سموا يف �أ�شياء كثرية غريها‪ ،‬انق�سام ًا �شديداً‪ ،‬فقد‬
‫وعلي رحمهما اهلل‪ .‬فكان البكريون‬ ‫ّ‬ ‫�أكرث املتكلمون اجلدال يف �أمر �أبي بكر‬
‫يزعمونه �أن �أبا بكر �أف�ضل امل�سلمني و�أحقهم بخالفة النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪ ،‬ويلتم�سون على ذلك �ألوان ًا من احلجج يكرث فيها التكلف والتزيد‪ ،‬وكان‬
‫املت�شيعون لعلي يذهبون مذهب خ�صمهم فيتكلفون ويتزيدون‪.‬‬
‫يقول البكريون مث ًال‪� :‬إن �أبا بكر �أول من �أ�سلم من الرجال‪ ،‬وي�أبى‬
‫علي ًا �أول من �أ�سلم من الرجال‪.‬‬
‫خما�صموهم ذلك فيقولون‪� :‬إن ّ‬
‫ويقول البكريون‪� :‬إن علي ًا قد �أ�سلم ومل يجاوز ال�صبى فلم يكن مكلف ًا‪،‬‬
‫و�أ�سلم �أبوبكر وقد بلغ ال�شيخوخة �أو كاد يبلغها‪ .‬وفرق بني �إ�سالم الرجل الذي‬
‫كملت رجولته و�إ�سالم ال�صبي الذي ملا يبلغ احللم‪.‬‬
‫علي حني ُنبئ النبي‪ :‬يذهب البكريون �إىل �أنه كان‬ ‫ثم يخت�صمون يف �سن ّ‬

‫‪45‬‬
‫ت�سع �سنني‪ .‬ورمبا �أجل�أتهم اخل�صومة �إىل الغلو فزعموا �أن علي ًا �أ�سلم وهو ابن‬
‫�ست �سنني‪.‬‬
‫أو�ضح ما يف هذا من ال�رسف ‪ ،‬فعندما هاجر النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫و� ِّ‬
‫علي ًا مبكة لي�ؤدي �إىل بع�ض النا�س ودائع كانت عند النبي‪.‬‬ ‫�إىل املدينة خلف ّ‬
‫علي ًا �أن ي�شتمل بربدة كانت له و�أن ينام يف فرا�شه‪،‬‬ ‫ويقال �إن النبي �أمر ّ‬
‫الر�صد الذين كانوا يرتب�صون به ليقتلوه �أنه مازال نائم ًا يف بيته‪.‬‬ ‫ليوهم ّ‬
‫علي‪.‬‬
‫فلما �أ�صبحوا تبينوا �أن من كان نائم ًا يف فر�ش النبي �إمنا هو ّ‬
‫علي �أح�سن‬
‫ثم كانت وقعة بدر يف ال�سنة الثانية من الهجرة‪ ،‬ف�أبلى فيها ّ‬
‫علي ًا مل يكن يف �أول ال�صبى حني �أ�سلم‪ ،‬وع�سى‬ ‫البالء‪ ،‬وكل ذلك يدل على �أن ّ‬
‫�أن يكون قريب ًا من �أول ال�شباب‪ .‬و�أكرب الظن �أنه كان قد جاوز الع�رشين حني‬
‫هاجر النبي وخ ّلفه يف مكة لريد على النا�س ودائعهم‪.‬‬
‫و�إذن ف�أبوبكر �أول من �أ�سلم من الرجال الذين جاوزوا ال�شباب وبلغوا‬
‫الكهولة و�أو�شكوا �أن يبلغوا ال�شيخوخة‪ ،‬وهو بعد ذلك مل يكن ذا قرابة قريبة‬
‫من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬و�إمنا كان رج ًال من قري�ش‪ ،‬ف�سبقه �إىل الإ�سالم‬
‫ف�ضيلة تقدمه على الذين �أ�سلموا بعده‪ ،‬ال �شك يف ذلك‪.‬‬
‫علي ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬ربيب النبي‪ ،‬يعي�ش معه يف داره‪� ،‬أخذه النبي من‬ ‫وكان ّ‬
‫عمه �أبي طالب ليخفف عنه م�ؤونته‪ .‬فال غرابة يف �أن ي�سبق �إىل الإ�سالم يف‬
‫�آخر عهده بال�صبي و�أول عهده بال�شباب‪.‬‬
‫فكال الإمامني �سابق �إىل الإ�سالم‪ ،‬لي�س يف ذلك �شك‪� ،‬أ�سلم �أحدهما ملكانه‬
‫من النبي‪ ،‬ولت�أثره ملا كان ي�سمع ويرى يف �أكرث �ساعات النهار‪ .‬وكان الثاين‬
‫�أول من ا�ستجاب للدعوة حني جتاوز النبي بها ع�شريته الأقربني‪.‬‬
‫وال يقف اخت�صام الرواة باخت�صام ال ِفرق عند هذا‪ ،‬ولكن الأحاديث التي‬
‫تروى عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم تكرث وتت�شعب‪ ،‬ال ل�شيء �إال ليظهر �أحد‬
‫الفريقني على �صاحبه‪.‬‬
‫و�صي النبي‪ .‬فيحاول خما�صموهم �أن‬ ‫ّ‬ ‫علي ًا كان‬
‫يقول ال�شيعة مث ًال‪� :‬إن ّ‬
‫هم �أن يو�صي لأبي بكر‪ .‬ثم عدل لأنه وثق ب�أن امل�سلمني لن‬ ‫يزعموا �أن النبي ّ‬
‫يختلفوا عليه‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ويروون �أحاديث �أخرى‪ ،‬يروون ‪ -‬انظر طبقات ابن �سعد ‪� -‬أن �أبابكر قال‬
‫للنبي ذات يوم‪ :‬ما �أزال �أراين �أط�أ يف َع ِذرات((( النا�س‪ .‬قال‪ :‬لتكونن من النا�س‬
‫علي‬
‫كالرقمتني ‪ .‬قال‪� :‬سنتني‪ .‬قال‪ :‬ور�أيت ّ‬
‫(((‬
‫ب�سبيل‪ .‬قال‪ :‬ور�أيت يف �صدري َّ‬
‫ُحلة ِحبرَ ة‪ .‬قال‪ -‬ولد تحُ ْ رب به((( ‪.‬‬
‫ري �أبوبكر هذه الر�ؤيا و� ّأولها النبي ب�أنه �سيلي �أمر النا�س‪ .‬ثم �أُرِي‬ ‫فقد �أُ َ‬
‫�أبوبكر ك�أن يف �صدره رقمتني‪ .‬ف� َّأو َلها له النبي ب�أن واليته �ستت�صل �سنتني‪.‬‬
‫فوا�ضح ما يف هذا احلديث من التكلف‪.‬‬
‫ريها النبي �صلى اهلل عليه و�سلم و� ّأولها له �أبوبكر‪ .‬ويرويها‬ ‫ور�ؤيا �أخرى �أُ َ‬
‫ابن �سعد يف طبقاته �أي�ض ًا‪ .‬قال النبي لأبي بكر‪ :‬يا �أبا بكر‪ ،‬ر�أيت ك�أين ا�ستبقت‬
‫�أنا و�أنت درجة ف�سبق ُتك مبرقاتني ون�صف‪ .‬قال‪ :‬خري يا ر�سول اهلل‪ ،‬يبقيك اهلل‬
‫ويقر عينك‪ .‬ف�أعاد عليه مثل ذلك ثالث مرات‪.‬‬ ‫ي�رسك ُ‬ ‫حتى ترى ما ُّ‬
‫فقال له يف الثالثة‪ :‬يا �أبا بكر‪ .‬ر�أيت ك�أين ا�ستبقت �أنا و�أنت درجة ف�سبقتك‬
‫مبرقاتني ون�صف‪ .‬قال‪ :‬يا ر�سول اهلل‪ .‬يقب�ضك اهلل �إىل رحمته ومغفرته و�أعي�ش‬
‫بعدك �سنتني ون�صف ًا‪.‬‬
‫فقد كان �أبوبكر �إذن يعرف متى تنتهي حياته‪ ،‬وال �سيما بعد وفاة النبي‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬والغريب �أنه انتظر با�ستخالف عمر (رحمه اهلل) مر�ضه‬
‫الذي تويف فيه‪ ،‬وا�سرتد من ابنته عائ�شة ما كان وهب لها من ماله ليجعله‬
‫يف املرياث حني �أ�رشف على املوت‪.‬‬
‫وكل هذا مما تكلفه الرواة ب�أخرة‪ ،‬ولي�س عندي �شك يف �أنه من ال�ضعف‬
‫هم �أن يو�صي له ثم اطم�أن �إىل اجتماع‬ ‫مبنزلة ما رويت �آنف ًا‪ ،‬من �أن النبي ّ‬
‫النا�س على �أبي بكر فعدل عن و�صيته‪ .‬وهذه الأحاديث �إمنا �أريد بها �إىل‬
‫علي ًا هو و�صي النبي‪.‬‬
‫خما�صمة ال�شيعة فيما كانت ترى من �أن ّ‬
‫والذي ال �أ�شك فيه هو �أن القر�آن مل ينظم للم�سلمني �أمر اخلالفة وال توارثها‪،‬‬

‫(‪ )1‬العذرات‪ :‬أفنية الدور‪.‬‬


‫(‪ )2‬الرقمة‪ :‬نقطة سوداء في جسم احليوان‪.‬‬
‫(‪ )3‬حبرة بكسر ففتح‪ ،‬وبفتحني‪ :‬ضرب من برود اليمن‬

‫‪47‬‬
‫و�أن النبي مل يرتك و�صية �أجمع عليها امل�سلمون‪ .‬ولو قد فعلها ملا خالف عن‬
‫و�صيته �أحد من �أ�صحابه‪ ،‬ال من املهاجرين وال من الأن�صار‪.‬‬
‫علي �أظهر‬ ‫وف�ضل �أبي بكر �أظهر من �أن يحتاج �إىل مثل هذا التكلف‪ ،‬وف�ضل ّ‬
‫من �أن يحتاج �إىل التكلف �أي�ض ًا‪ .‬فهو ابن عم النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وهو‬
‫زوج ابنته و�أبو�سبطيه‪ :‬احل�سن واحل�سني‪ ،‬رحمهما اهلل‪ ،‬وبال�ؤه يف الإ�سالم‬
‫ال ي�شك فيه م�سلم‪ ،‬وحب النبي له معروف �أعلنه �صلى اهلل عليه و�سلم غري‬
‫مرة‪ .‬فال حاجة �إذن �إىل �أن ُتخرتع الأحاديث لإثبات ما ال حاجة �إىل �إثباته‪،‬‬
‫كاحلديث الذي يروى من �أن العبا�س عرف املوت يف وجه النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم‪ ،‬وكان يعرف املوت يف وجوه بني عبداملطلب‪..‬‬
‫علي ذات يوم من عند النبي يف مر�ضه الذي تويف فيه‪ ،‬ف�س�أله‬ ‫فخرج ّ‬
‫النا�س عن ر�سول اهلل‪ ،‬فقال‪� :‬أراه بحمد هلل بارئ ًا‪ .‬قال الرواة‪ :‬ف�أخذ العبا�س‬
‫علي فقال‪� :‬أال ترى �أنك بعد ثالث َعبد الع�صا‪ .‬و�إين �أرى ر�سول اهلل �سيتوفى‬ ‫بيد ّ‬
‫يف وجعه هذا‪ ،‬و�إين لأعرف وجوه بني عبداملطلب عند املوت‪ ،‬فاذهب �إىل‬
‫ر�سول اهلل ف�سله فيمن يكون هذا الأمر‪ ،‬ف�إن كان فينا علمنا ذلك‪ ،‬و�إن كان يف‬
‫علي‪ :‬واهلل لئن �س�ألناها ر�سول اهلل فمنعناها ال‬ ‫غرينا �أمر به ف�أو�صى بنا‪ .‬قال ّ‬
‫يعطيناها النا�س �أبداً‪ ،‬واهلل ال �أ�س�ألها ر�سول اهلل �أبداً‪.‬‬
‫والغريب �أن الطربي يروي هذا احلديث من طريقني دون �أن ينكر منه‬
‫علي ًا‬
‫�شيئ ًا‪ .‬مع �أن التكلف فيه ظاهر‪ ،‬وهو �إمنا �أريد به �أن يرد على ال�شيعة ب�أن ّ‬
‫مل يكن يعلم �أنه و�صي النبي‪ ،‬و�أنه كان يرجو �أن ت�ساق اخلالفة �إليه يوم ًا‪،‬‬
‫و�أنه �أ�شفق �إن �س�أل النبي عنها �أن ينبئه النبي ب�أنها لي�ست يف بني ها�شم‪،‬‬
‫فيعلم النا�س بهذا املنع ثم يرونه دين ًا فال ي�سمحون باخلالفة لها�شمي �أبداً‪.‬‬
‫حب ًا لر�سول اهلل من �أن يقول‬ ‫علي ًا كان �أكرم على نف�سه و�أ�شد ّ‬ ‫و�أعتقد �أن ّ‬
‫هذه املقالة �أويفكر هذا التفكري‪ .‬و�إن �صح من هذا احلديث �شيء فهو �أن علي ًا‬
‫كان يعلم �أن النبي كان يف �شغل مبر�ضه‪ ،‬ومبا كان يدبر رغم هذا املر�ض‬
‫من �أمور امل�سلمني‪ ،‬فكره �أن ُي�شق عليه من جهة‪ ،‬وا�ستحيا من جهة �أخرى �أن‬
‫يظهر �أمام النبي مظهر امل�ستغل ملكانته منه الراغب مع ذلك يف ال�سلطان‪.‬‬
‫علي يعرف حب النبي له وب ِّره به و�إكباره لبالئه يف الإ�سالم‪،‬‬ ‫وقد كان ّ‬

‫‪48‬‬
‫ويعلم �أن النبي �إن كان مو�صي ًا له �أو لغريه فلن ي�رصفه عن ذلك �صارف‪ ،‬و�إن‬
‫كان غري مو�ص فلن يحمله على ذلك حامل‪ .‬والنبي �إمنا كان ينطلق عن �أمر‬
‫ال�سماء‪ ،‬فلو قد �أراده اهلل على �أن يو�صي لأو�صى دون �أن ي�س�أله �سائل �أو يرغب‬
‫�إليه راغب‪.‬‬
‫وق�صة �أخرى يرويها امل�ؤرخون وما �أراها �إال متكلفة �أي�ض ًا‪ ،‬فهم يزعمون‬
‫�أن �أبا �سفيان حني ر�أى �أمر البيعة ي�ستقيم لأبي بكر‪ ،‬وهو رجل من تيم لي�س‬
‫من بني عبد مناف وال من بني ق�صي‪� ،‬أخذته الع�صبية اجلاهلية فجعل يربق‬
‫ويرعد ويقول‪ :‬لئن �شئت لأملأن عليه الأر�ض خي ًال‪ .‬ويقول‪ :‬ف�أين بني عبد‬
‫علي ًا والعبا�س مبثل ثورته‪ .‬فجعل يحر�ضهما‬ ‫مناف‪ .‬ثم حاول �أن يغري ّ‬
‫وي�س�أل ‪� :‬أين الأذالن؟ ويتمثل بقول ال�شاعر‪:‬‬
‫وال يــقـيـم على �ضيم يــراد بــه‬
‫(((‬
‫احلي والو َت ُد‬
‫�إال الأذالن َع ُري ّ‬ ‫ ‬
‫(((‬
‫برمته‬‫قو�ص ُ‬
‫هذا على اخلَ ْ�سف َم ْع ٌ‬
‫وذا ُي�شج فما يرثى له �أحـد‬ ‫ ‬
‫علي ًا يزجره قائ ًال له‪ :‬طاملا بغيت‬ ‫علي بيعته‪ .‬ولكن ّ‬ ‫ثم يعر�ض على ّ‬
‫�رشاً فلم َت�ضرِ ْ ه‪ .‬ثم رف�ض ما كان يعر�ض عليه‪.‬‬
‫الإ�سالم ّ‬
‫ولو قد قال �أبو�سفيان هذه املقالة �أو دعا هذه الدعوة لعلم بها �أبوبكر‬
‫وعمر‪ ،‬كما علم بها الرواة‪ ،‬ولعرفا كيف ي�ضعان �أبا �سفيان حيث و�ضعه اهلل‪.‬‬
‫و�إمنا هي ق�صة تك ّلفها املتقربون �إىل بني العبا�س بالت�شنيع على بني‬
‫�أمية‪ ،‬كما تكلفوا كثرياً من �أمثالها‪.‬‬
‫ويزيد بع�ض الرواة يف هذه الق�صة ما يقطع بكذبها‪ ،‬فيزعمون �أن بع�ض‬
‫من �سمع �أبا �سفيان يقول هذه املقالة يف �أبي بكر قال له‪� :‬إن �أبا بكر قد ولىّ‬
‫ابنك‪ .‬هنالك ر�ضي �أبو�سفيان وقال‪ :‬و�صلته رحم‪.‬‬
‫والواقع من �أمر اخلالفة �أنها �أطلقت �أل�سنة بع�ض الرواة املتع�صبني‬

‫(‪ )1‬العير‪ :‬احلمار‪ ،‬وحشيا ً كان أو أهلياً‪.‬‬


‫(‪ )2‬معقوص‪ :‬أي مشدود‪ .‬والرمة‪ :‬بالضم‪ :‬القطعة البالية من احلبل‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫للأحزاب ال�سيا�سية بكذب كثري‪ .‬وروى امل�ؤرخون هذه الأكاذيب ب�أخرة من‬
‫غري حتقيق وال متحي�ص‪ ،‬فاختلطت الأمور على النا�س وذهبوا يف فهمها‬
‫وت�أويلها وا�ستخال�ص احلق منها كل مذهب‪.‬‬
‫علي ًا والعبا�س كانا م�شغولني‬
‫والذي �أرجحه‪ ،‬و�أو�شك �أن �أقطع به‪ ،‬هو �أن ّ‬
‫بتجهيز النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حني ُبويع لأبي بكر‪ .‬فالرواة جممعون‬
‫على �أن الأن�صار ملا عرفوا وفاة النبي بعد �أن �سمعوا مقالة �أبي بكر وما تال‬
‫لل�شا ِّكني وامل�ضطربني �أن النبي قد قب�ض‪ ،‬و�أن من كان يعبد‬
‫من القر�آن ليبني َّ‬
‫حممداً ف�إن حممداً قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد اهلل ف�إن اهلل حي ال ميوت‪ ،‬و�أن‬
‫القر�آن قد �أنب�أ ب�أن النبي رجل يعر�ض له املوت كما يعر�ض لغريه من النا�س‪..‬‬
‫�أقول‪� :‬إن الأن�صار ملا عرفوا وفاة النبي اجتمعوا يف �سقيفة بني �ساعدة‬
‫وت�شاوروا بينهم‪ ،‬فتم ر�أيهم على �أن يكون ال�سلطان فيهم‪ ،‬لأنهم �أهل املدينة‪،‬‬
‫يوحى �إليه‬
‫ولأن غريهم من املهاجرين طارئون عليهم فيها‪ ،‬ولي�س منهم من َ‬
‫كما كان ُيوحى �إىل النبي‪ ،‬فال ينبغي �أن َيلوهم بعد وفاة النبي وانقطاع‬
‫وقدموا �سعد بن عبادة من اخلزرج ليبايعوه‪ .‬وبلغ ذلك عمر‪ .‬ف�أر�سل‬ ‫الوحي‪ّ .‬‬
‫يل‪ .‬ومل ي�ستجب �إليه �أبوبكر بل قال‬ ‫�إىل �أبي بكر يف بيت النبي‪� :‬أن اخرج �إ ّ‬
‫لر�سوله‪ :‬قل له‪� :‬إين م�شتغل‪ .‬ف�أعاد عمر الر�سول �إليه ب�أن �أمراً قد حدث والبد‬
‫من �أن يح�رضه‪.‬‬
‫فخرج �إليه �أبوبكر‪ .‬فلما عرف منه ما �أزمع الأن�صار ذهب معه �إليهم‪ ،‬ولقيا‬
‫يف طريقهما �أبا عبيدة بن اجلراح فانطلق معهما‪ .‬و�أتى ثالثتهم الأن�صار وقد‬
‫هموا ببيعة �سعد‪ ،‬فحاوروهم وحاجوهم يف هذا الأمر‪ ،‬و�أقنعهم �أبوبكر ب�أن‬
‫املهاجرين من قري�ش هم �أوىل بالنبي وب�سلطانه من بعده‪ ،‬لأنهم ع�شريته‬
‫وذوو قرابته‪.‬‬
‫ذكرهم‬ ‫ثم بايع عمر و�أبوعبيدة لأبي بكر و�أقبل الأن�صار فبايعوا بعد �أن ّ‬
‫رجل منهم ‪ -‬هو ب�شري بن �سعد ‪ -‬ب�أنهم مل ي�ؤووا النبي ومل ين�رصوه ابتغاء‬
‫للدنيا‪ ،‬و�إمنا �آووا ون�رصوا ابتغاء مر�ضاة اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وعلي والعبا�س م�شغوالن ب�أمر النبي �صلى اهلل‬
‫ّ‬ ‫وكذلك بد�أت بيعة �أبي بكر‪،‬‬
‫عليه و�سلم‪ ،‬وكان هذا كله يف اليوم نف�سه الذي قب�ض فيه النبي‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ول�ست �أطمئن �إىل �أكرث ما يرويه الرواة من ن�صو�ص احلوار الذي كان بني‬
‫وخ ْزرجهم من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫�أبي بكر و�صاحبيه من جهة‪ ،‬وبني الأن�صار �أَ ْو ِ�سهِ م َ‬
‫فهم يروون هذا احلوار رواية من �شهد اجتماع القوم و�سمع ما كان فيه‬
‫�سج َل ما قيل حرف ًا‬
‫من الأحاديث واخلطب‪ .‬ثم مل يكتف بال�سماع‪ ،‬و�إمنا َّ‬
‫ل�سج َل نربات‬
‫�سج َل حركات القوم و�إ�شاراتهم‪ .‬ولو قد ا�ستطاع َّ‬ ‫حرف ًا‪ ،‬بل َّ‬
‫يدون �إال ب�أخرة‪ ،‬بعد انق�ضاء ع�رص‬ ‫الأ�صوات‪ .‬مع �أن هذا احلوار و�أمثاله مل َّ‬
‫اخللفاء الرا�شدين و�صدر من ملك بني �أمية‪ .‬ومل ينتقل هذا احلوار و�أمثاله �إىل‬
‫ال ُق ّ�صا�ص وامل�ؤرخني مكتوب ًا‪ ،‬و�إمنا نقل �إليهم م�شافهة‪ ،‬و�صنعت فيه الذاكرة‬
‫�صنيعها‪ ،‬وتعر�ض بع�ضه للن�سيان‪ ،‬وبع�ضه لتغيري اللفظ‪ .‬و�صنعت فيه الأهواء‬
‫ال�سيا�سية �صنيعها �أي�ض ًا‪.‬‬
‫فهم يزعمون مث ًال �أن الأو�س تناجت بينها‪ .‬فقال بع�ضها لبع�ض‪ :‬واهلل‬
‫لئن و ّليت اخلزرج ‪ -‬وهم قوم �سعد بن عبادة‪ -‬هذا الأمر لكانت لهم عليكم‬
‫الف�ضيلة �إىل �آخر الدهر‪ .‬ثم تنا�صح القوم �أن يبايعوا لأبي بكر حتى ال ُيتاح‬
‫هذا ال�سبق للخزرج‪.‬‬
‫والذي نعرفه من �سرية الأن�صار ومن �سرية امل�سلمني عامة يدل على �أن‬
‫الإ�سالم قد �ألغى ما كان يف قلوبهم من التناف�س والتباغ�ض‪ ،‬وحما ما كان‬
‫يف �صدورهم من ال�ضغائن اجلاهلية‪ .‬فغريب �أن تعود �إليهم جاهليتهم بكل ما‬
‫كان فيها من احلقد واحل�سد واملوجدة ُفجاءة يف اليوم نف�سه الذي ُقب�ض فيه‬
‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬
‫وما ينبغي �أن نن�سى �أن من الرواة من كانوا من املوايل الذين مل ترب�أ‬
‫ال�ضغن على العرب‪ ،‬لأنهم فتحوا بالدهم و�أزالوا �سلطانهم‪ ،‬ثم‬ ‫قلوبهم من ِّ‬
‫ا�ست�أثروا من دونهم بالأمر �أيام بني �أمية‪ .‬و�إذا كان الكذب قد كرث على ر�سول‬
‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ف�أي غرابة يف �أن يكرث على امل�ؤمنني من �أ�صحابه؟‪.‬‬
‫�صور امل�ؤرخون‪،‬‬ ‫والذي �أ�ستخل�صه �أنا من ق�صة ال�سقيفة �أي�رس جداً مما ّ‬
‫فقد �أ�شفق الأن�صار بعد وفاة النبي من �أن يلي املهاجرون من قري�ش اخلالفة‬
‫في�صري هذا �س ّنة وت�ست�أثر قري�ش بالأمر‪ ،‬ف�إذا ذهب ال�صاحلون من �أ�صحاب‬
‫النبي مل يعرف من ي�أتي بعدهم من قري�ش حق الأن�صار فظلموهم وجاروا‬

‫‪51‬‬
‫أح�سوا قبل �أن ي�أتيهم‬
‫عليهم‪ .‬ف�أراد الأن�صار �إذن يحتاطوا للم�ستقبل‪ ،‬وك�أنهم � ّ‬
‫�أبوبكر و�صاحباه �أن قري�ش ًا لن تر�ضى منهم بهذا الأمر‪ ،‬ف�أزمعوا �أن يعر�ضوا‬
‫على املهاجرين �أن يكون الأمر يف املهاجرين والأن�صار على �سواء‪ ،‬فينه�ض‬
‫ب�أعباء احلكم �أمريان ‪ :‬واحد من �أولئك وواحد من ه�ؤالء‪ ،‬ويكون بذلك توازن‬
‫يف التبعات‪ ،‬ف�إذا بغى �أحدهما َك َّفه الآخر‪.‬‬
‫و�صدق عمر حني رد على الأن�صار ر�أيهم هذا فقال‪ :‬ال يجتمع اثنان يف‬
‫َق َرن((( ‪ ،‬فلو قد مت للأن�صار ما كانوا يريدون ملا ا�ستقامت �أمور احلكم‪ ،‬ولكان‬
‫من اخلالف بني الأمريين ما يف�سد على امل�سلمني حياتهم وي�ضطرهم �إىل‬
‫خ�صومات ال تنتهي‪ ،‬ورمبا ا�ضطرهم �إىل احلرب يف كثري من الأحيان‪.‬‬
‫واملهم �أن �أبا بكر و�صاحبه قد �أقنعوا الأن�صار يف ُي�رس‪ ،‬فلم ين�رصفوا عنهم‬
‫�إال وقد بايعوا لأبي بكر‪ ،‬ولو قد كان الأن�صار حرا�ص ًا على احلكم واال�ستئثار‬
‫بال�سلطان ملا �أتيح لأبي بكر و�صاحبيه �أن يقنعوهم يف �ساعة من نهار‪.‬‬
‫والرواة يتحدثون ب�أن �سعد بن عبادة‪ ،‬الذي ر�شحه الأن�صار للخالفة‪� ،‬أبى‬
‫�أن يبايع لأبي بكر‪ .‬وكان ال ُي�صلي ب�صالة امل�سلمني وال ي�شهد معهم اجلمعة‬
‫وال يفي�ض ب�إفا�ضتهم يف احلج‪ .‬ولكن رواة �آخرين يتحدثون ب�أنه بايع كما‬
‫بايع غريه من النا�س‪.‬‬
‫وهذا عندي �أدنى �إىل ال�صواب‪ .‬وكل ما ميكن �أن يقال �إمنا هو �أن �سعداً‬
‫ت�أخر يف البيعة‪ ،‬لأنه كان مري�ض ًا من جهة‪ ،‬ولأنه رمبا وجد يف نف�سه من‬
‫�إقبال الأن�صار عليه �أوالً‪ ،‬ثم ان�رصافهم عنه ملا �سمعوا من حديث �أبي بكر‬
‫و�صاحبيه‪.‬‬
‫ومي�ضي الرواة الذين ينكرون بيعة �سعد يف غلوهم فيزعمون �أن اجلن‬
‫قتلت �سعداً‪ ،‬وي�ضيفون �إىل اجلن بيتني من ال�شعر وهما‪:‬‬
‫�سـعــد بن ُعبــادة‬
‫َ‬ ‫رج‬ ‫قد قتلنا �سيد اخلز ‬
‫ن ‪ ،‬فلم نخطئ ف�ؤاده‬ ‫ورميناه ب�سهميـ ‬
‫وما �أظن �أننا يف حاجة �إىل �أن نقف عند هذا ال�سخف‪.‬‬

‫(‪ )1‬القرن‪ :‬احلبل يقرن به البعيران‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪5‬‬

‫بقيت م�س�ألتان خ ّلط فيهما الرواة تخليط ًا عظيم ًا‪ ،‬و�أثر فيهما انق�سام‬
‫امل�سلمني ت�أثرياً منكراً‪ .‬ولي�س ُبد من �أن نتبني وجه احلق فيهما‪.‬‬
‫علي لأبي بكر‪ .‬فالرواة يختلفون فيها �أ�شد االختالف‪،‬‬ ‫ف�أما �أوالهما فبيعة ّ‬
‫علي ًا بايع �أبا بكر حني بايعه غريه من امل�سلمني‪ .‬وه�ؤالء‬ ‫يقول قوم‪� :‬إن ّ‬
‫علي ًا كان جال�س ًا يف داره وعليه‬
‫يختلفون فيما بينهم‪ ،‬فيزعم بع�ضهم �أن ّ‬
‫قمي�ص لي�س معه �إزار وال رداء‪ ،‬فجاءه من �أنب�أه ب�أن �أبا بكر قد جل�س للبيعة‪،‬‬
‫علي �إىل امل�سجد و�أعجله ال�رسع عن �أن يتخذ‬ ‫و�أن النا�س يبايعونه‪ .‬ف�أ�رسع ّ‬
‫�إزاره ورداءه‪ ،‬وم�ضى حتى بايع �أبا بكر‪ ،‬ثم جل�س و�أر�سل من جاءه بثوبه‬
‫فتج ّلله‪ .‬ووا�ضح ما يف هذا من ال�رسف‪.‬‬
‫علي ًا تلك�أ عن البيعة وتلك�أ معه الزبري بن العوام‪،‬‬‫و�آخرون يزعمون �أن ّ‬
‫لتبايعان‬
‫ِّ‬ ‫لتبايعان طائعني �أو‬
‫ِّ‬ ‫ف�أر�سل عمر من جاء بهما ثم قال لهما‪ :‬واهلل‬
‫كارهني‪ .‬ووا�ضح كذلك ما يف هذا من الكذب‪.‬‬
‫فما كان �أبوبكر ليخلي بني عمر وبني العنف بعلي �إثر وفاة ر�سول اهلل‪،‬‬
‫وزوجه فاطمة ما زالت حية‪ ،‬و�إمنا هذا اخلرب متكلف �أٌ َ‬
‫ريد به �إىل �إظهار �أن‬
‫علي ًا لو ترك و�ش�أنه ما بايع �أبا بكر‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪53‬‬
‫علي ًا مل يبايع �أبا بكر �إال مت�أخراً‪ ،‬و�أن بني‬
‫وكثري من الرواة يزعمون �أن ّ‬
‫ها�شم �صنعوا �صنيعه فامتنعوا على �أبي بكر وخالفوا جماعة امل�سلمني‪ ،‬وظلوا‬
‫على هذا اخلالف �ستة �أ�شهر‪ ،‬حتى �إذا توفيت فاطمة ‪ -‬رحمها اهلل ‪ -‬بايعوا‪.‬‬
‫علي وبنو ها�شم ليفارقوا‬ ‫ووا�ضح ما يف هذا من الكذب �أي�ض ًا‪ .‬فما كان ّ‬
‫جماعة امل�سلمني وليتلبثوا حتى متوت فاطمة‪ ،‬ثم يكون �إقبالهم على البيعة‬
‫حني ر�أوا �أن النا�س قد ان�رصفوا عنهم بعد موت فاطمة‪.‬‬
‫علي‪ -‬رحمه اهلل‪ -‬ون�صحه للم�سلمني وح�سن بالئه يف‬ ‫و�أي�رس العلم بف�ضل ّ‬
‫الإ�سالم �أيام النبي مينع من قبول هذه الرواية‪ ،‬و�إمنا خلط الرواة بني �أمرين‬
‫علي لأبي بكر‪ ،‬والآخر ما كان من‬ ‫خمتلفني �أ�شد االختالف‪� :‬أحدهما بيعة ّ‬
‫مغا�ضبة فاطمة لأبي بكر يف مرياث النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬فقد طلبت‬
‫فاطمة حقها من مرياث �أبيها يف فدك ويف �سهمه من خيرب‪ .‬فلم يجبها �أبوبكر‬
‫�إىل ما طلبت‪ ،‬لأنه �سمع النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يقول‪ :‬ال نورث‪ ،‬ما تركنا‬
‫�صدقة‪ .‬فهجرته فاطمة ومل تكلمه حتى ماتت‪.‬‬
‫وك�أن علي ًا جفا �أبا بكر لهجران فاطمة له‪ .‬ومن �أجل ذلك مل ي�ؤذن �أبا بكر‬
‫مبوتها بل دفنها لي ًال‪ -‬فيما يزعم الرواة‪ -‬ثم كان �صلح بعد ذلك بني علي‬
‫و�أبي بكر‪.‬‬
‫علي حني بايع النا�س يف غري‬ ‫وهذا �شيء ال �ش�أن له بالبيعة‪ ،‬و�إمنا بايع ّ‬
‫�رسع وال �إكراه‪ .‬ر�أى �أن كلمة املهاجرين والأن�صار قد اجتمعت على �أبي بكر‬
‫هم باخلالف‬ ‫علي �أو ّ‬
‫فلم يخالف عما �أجمع عليه امل�سلمون‪ .‬ولو قد خالف ّ‬
‫ال�ستطاع �أن يحاج �أبا بكر بحجته على الأن�صار يف �سقيفة بني �ساعدة‪ .‬فقد‬
‫احتج �أبوبكر على الأن�صار ب�أن املهاجرين من قري�ش هم �أوىل النا�س بالنبي‬
‫وب�سلطانه من بعده‪ .‬لأنهم ع�شريته وذوو قرابته‪.‬‬
‫علي ًا كان �أقرب �إىل النبي من �أبي بكر وعمر‪ ،‬فهو ابن‬‫ومما ال �شك فيه �أن ّ‬
‫علي ًا مل يفعل على‬
‫عمه وزوج ابنته و�أبو�سبطيه‪ ،‬كما قلت منذ حني‪ .‬ولكن ّ‬
‫رغم ما زعم بع�ض الرواة‪ ،‬وما كان يف حاجة �إىل �أن يفعل‪ ،‬ف�أبوبكر كان‬
‫علي حق املعرفة كما كان يعرفها غريه من امل�سلمني‪ ،‬و�إمنا‬ ‫يعرف قرابة ّ‬
‫نظر النا�س �إىل �سن �أبي بكر وف�ضله وح�سن موا�ساته للنبي �صلى اهلل عليه‬

‫‪54‬‬
‫و�سلم وللم�سلمني‪ ،‬واخت�صا�ص النبي له مب�صاحبته يف هجرته‪ .‬ثم �أمره �أن‬
‫ي�صلي بالنا�س حني ثقل عليه املر�ض‪ ،‬فكان النا�س يقولون‪ :‬اختاره ر�سول‬
‫اهلل لديننا‪ ،‬فلم ال نختاره لأمر دنيانا؟‪.‬‬
‫واملهم �أن �أحداً مل يخالف على �أبي بكر‪ ،‬ال من بني ها�شم وال من غريهم‪.‬‬
‫وكل ما يقال غري هذا �إمنا تكلفه املتكلفون ب�أخرة‪ ،‬حني افرتق امل�سلمون‬
‫�شيع ًا و�أحزاب ًا‪.‬‬
‫علي ًا كان فيما بينه وبني نف�سه يجد على‬‫وال ي�ستطيع �أحد �أن يقطع ب�أن ّ‬
‫�أبي بكر �أو على عمر‪ ،‬لأنهما ا�ست�أثرا باخلالفة من دونه‪ ،‬ذلك ب�أنه مل ينبئنا‬
‫وعلي �أف�ضل يف نف�سه‬
‫ّ‬ ‫ب�شيء من ذلك فيما نطمئن �إليه من �أحاديث الرواة‪.‬‬
‫و�أكرم عند اهلل من �أن يبايع ال�شيخني بل�سانه وي�ضمر يف قلبه غري ما كان‬
‫يظهر‪ .‬ونحن نعلم �أنه ن�صح لل�شيخني �أثناء خالفتهما‪ ،‬و�أن عمر خا�صة قد‬
‫ا�ستعان به يف غري موطن‪ ،‬وا�ست�شاره يف كل ما كان ي�ست�شري فيه �أعالم‬
‫املهاجرين والأن�صار‪.‬‬
‫بي ّنا يف غري هذا احلديث ن�صحه لعثمان حني ا�ستقام له النا�س‬ ‫وقد ّ‬
‫وحني اختلفوا عليه‪ .‬وهذا هو الظن بعلي رحمه اهلل‪ .‬فهو قد كان من امل�ؤمنني‬
‫ال�صادقني الذين �أخل�صوا �رسيرتهم وعالنيتهم هلل عز وجل‪ ،‬ون�صح للم�سلمني‬
‫�أ�صدق الن�صح و�أ�صفاه من ال�شوائب ما امتدت له �أ�سباب احلياة‪ .‬فالذين‬
‫يظنون به �أنه بايع ملن بايع من اخللفاء تقية((( �إمنا يتهمونه مبا ال ينبغي‬
‫�أن يتهم به رجل �أحب اهلل ور�سوله‪ ،‬و�أحبه اهلل ور�سوله‪ ،‬فيما يروى عن النبي‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم حني دفع �إليه الراية يف وقعة خيرب‪.‬‬
‫هذه �إحدى امل�س�ألتني اللتني ذكرتهما يف �أول هذا الف�صل‪ .‬ف�أما امل�س�ألة‬
‫الأخرى فتت�صل مبا ُروي عن عمر رحمه اهلل من �أنه قال �إن بيعة �أبي بكر‬
‫كانت َفلتة وقى اهلل �رشها‪.‬‬
‫فمن النا�س من يتخذ هذه املقالة التي رويت عن عمر ‪ -‬وما �أدري �أَ َّ‬
‫�صح ْت‬
‫بها الرواية �أم مل ت�صح‪ -‬و�سيلة للقول يف خالفة �أبي بكر والت�شكيك يف‬

‫(‪ )1‬التقية‪ :‬االتقاء واحلذر‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫�صحتها‪ .‬وهذا �سخف‪ ،‬فامل�سلمون من املهاجرين والأن�صار وممن بقي مبكة‬
‫�أو بالطائف‪ ،‬وممن تفرق يف قبائل العرب حني وفاة النبي‪ ،‬قد ر�ضوا خالفته‬
‫و�أخل�صوا له الن�صح وائتمروا بكل ما �أمر به‪ ،‬وانتهوا عن كل ما نهى عنه‪ .‬ولوال‬
‫ذلك ملا ا�ستطاع �أبوبكر �أن يثبت للعرب حني ارتدت‪ ،‬و�أن يجند املهاجرين‬
‫والأن�صار والتابعني لهم ب�إح�سان لقتال املرتدين وحملهم على �أن يدخلوا‬
‫فيما خرجوا منه‪ ،‬و�أن ي�ؤدوا من احلق كل ما كانوا ي�ؤدونه �إىل النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم‪ ،‬وملا ا�ستطاع �أن يرمي به�ؤالء املهاجرين والأن�صار والتابعني‬
‫العراق ‪ -‬وكان جزءاً من ملك فار�س وال�شام ‪ -‬وكان جزءاً من ملك الروم‬
‫كما �سرنى‪� .‬إمنا �أراد عمر ‪� -‬إن �صحت املقالة التي رويت عنه ‪� -‬أن بيعة �أبي‬
‫بكر مل تتم يف �أول �أمرها عن ملأ من جماعة امل�سلمني وعن ت�شاور و�إجالة‬
‫للر�أي ‪ ،‬و�إمنا متت فجاءة حني اجتمعت الأن�صار يف �سقيفة بني �ساعدة‪.‬‬
‫وهمت �أن ت� ِّؤمر �سعداً وحني حاورهم �أبوبكر و�صاحباه‪ .‬فهنالك ر�شح �أبوبكر‬
‫للأن�صار عمر �أو �أبا عبيدة‪ ،‬وكره هذان �أن يتقدما عليه ف�أ�رسعا �إىل بيعته‬
‫تتام النا�س على البيعة بعد ذلك‪ .‬ولو مل يجتمع الأن�صار‬ ‫وتبعتهم الأن�صار‪ .‬ثم ّ‬
‫ول ْن َتظر النا�س بها‬
‫ويهموا بت�أمري �سعد جلرى �أمر البيعة غري هذا املجرى‪ ،‬اَ‬ ‫ّ‬
‫ول ْج َتمع �أولو الر�أي من‬
‫حتى يفرغوا من دفن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬اَ‬
‫املهاجرين والأن�صار فتذاكروا �أمرهم و�أمر امل�سلمني‪ ،‬واختاروا من بينهم‬
‫خليفة لر�سول اهلل‪.‬‬
‫من �أجل ذلك كانت بيعة �أبي بكر فلتة فيما روي عن عمر‪ ،‬وقد وقى اهلل‬
‫�رشها‪ ،‬لأن امل�سلمني مل ينكروا هذه البيعة ومل يجادل فيها جمادل منهم وال‬
‫تردد فيها مرتدد‪ ،‬و�إمنا �أقبلوا فبايعوا �أبا بكر را�ضية به نفو�سهم‪ ،‬مطمئنة‬
‫�إليه قلوبهم و�ضمائرهم‪ ،‬ثم ن�صحوا له بعد ذلك ما عا�ش فيهم‪ .‬فلما مر�ض‬
‫مر�ضه الذي تويف فيه �أو�صى لعمر باخلالفة على النحو الذي رواه امل�ؤرخون‪.‬‬
‫�رشع نظام ًا الختيار اخللفاء‪ ،‬و�أن ال�سنة كذلك مل‬‫والواقع �أن القر�آن مل ُي ِّ‬
‫ُت�رش �إىل هذا النظام‪ ،‬و�إمنا تعود امل�سلمون نظام البيعة �أيام النبي �صلى‬
‫اهلل عليه و�سلم‪ ،‬حني كانوا يبايعونه على الإ�سالم مبكة قبل الهجرة‪ ،‬وحني‬
‫بايعه ُنقباء الأن�صار على �أن ي�ؤووه وين�رصوه وي�سمعوا له ويطيعوا‪ ،‬وحني‬

‫‪56‬‬
‫كانوا يبايعونه على مثل ذلك يف املدينة‪ :‬يبايعه الرجل عن نف�سه حني ي�سلم‪،‬‬
‫ويبايعه الوفد عن قومهم حني ي�سلمون‪ .‬ثم حني بايع �أ�صحابه على املوت‬
‫يوم احلديبية‪ ،‬وبايعته قري�ش على الإ�سالم يوم الفتح‪ .‬ثم تتامت مبايعة‬
‫الوفود له من قومهم‪ .‬فا�ستقر يف نفو�س امل�سلمني من �أجل هذا �أن اخلالفة عن‬
‫النبي يجري �أمرها جمرى �سلطان النبي يف حياته‪� ،‬أي تقوم على املبايعة‪.‬‬
‫ونظراً للفرق الوا�ضح بني النبي وغريه من النا�س كان هناك فرق يف‬
‫نفو�س امل�ؤمنني بني مبايعة النبي ومبايعة اخللفاء‪ ،‬فقد كان النبي ُيوحى‬
‫�إليه ومل يكن يبايع عن نف�سه وحدها حني يبايع‪ ،‬و�إمنا كان يبايع عن اهلل‬
‫الذي �أر�سله �أو ًال وعن نف�سه بعد ذلك‪ .‬ومن �أجل هذا قال اهلل عز وجل يف �سورة‬
‫الفتح مبنا�سبة بيعة احلديبية‪:‬‬
‫إنا‬‫فوق �أَ ْي ِديهِم‪ ،‬ف ََم ْن َن َك َث َف� مَّ َ‬‫هلل َ‬‫عون اهلل‪َ ،‬ي ُد ا ِ‬ ‫إنا ُي َب ُاي َ‬ ‫عونك � مَّ َ‬
‫الذين ُي َب ُاي َ‬ ‫َ‬ ‫«�إ ّن‬
‫اه َد عليه اهلل ف�سي�ؤتيه �أجراً عظيم ًا»‪.‬‬ ‫با َع َ‬ ‫ومن � ْأوفَى مِ َ‬ ‫َي ْن ُكث َع َلى َنف ِْ�س ِه‪ْ ،‬‬
‫من �أجل هذا مل يكن ملن يبايع ر�سول اهلل �أن يتحلل من بيعته‪ ،‬ال لأنه �إن‬
‫فعل كان ناكث ًا لعهده مع النبي فح�سب‪ ،‬بل لأنه �إن فعل كان ناكث ًا مع ذلك‬
‫لعهده مع اهلل عز وجل‪ .‬ومل يكن ملن بايع النبي �أن يجادله �أو ُينكر عليه �شيئ ًا‬
‫مما �أنزل اهلل يف القر�آن‪� ،‬أو مما �أنطق نبيه به من الوحي يف تف�صيل ما �أجمل‬
‫القر�آن‪ ،‬ويف تعليم النا�س ما يقيم �أمورهم يف الدين والدنيا‪.‬‬
‫ف�أما �إذا �شاورهم يف �أمر مل ينزل فيه قر�آن‪ ،‬ومل ي�ؤمر النبي فيه ب�أمر من‬
‫هم بفعله‪،‬‬ ‫ال�سماء‪ ،‬فلهم �أن ي�شريوا عليه‪ ،‬و�أن يقرتحوا عليه كذلك غري ما ّ‬
‫كالذي كان حني �أنزل النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أ�صحابه منز ًال يوم بدر‬
‫ف�س�أله احلُباب بن املنذر بن اجلموح‪� :‬أهذا منزل �أنزلكه اهلل عز وجل �أم هو‬
‫الر�أي وامل�شورة؟ فلما قال له النبي‪ :‬بل هو الر�أي وامل�شورة‪� .‬أ�شار عليه مبنزل‬
‫�آخر هو �أ�صلح للم�سلمني‪ .‬فقبل م�شورته‪.‬‬
‫�أما بيعة النا�س للخلفاء فهي عقد بينهم وبني ه�ؤالء اخللفاء‪ ،‬ال يجوز‬
‫خلليفة �أن ينق�ضه‪ ،‬وال يجوز لأحد من الرعية �أن ينق�ضه �أي�ض ًا‪ ،‬لأن اهلل ي�أمر‬
‫بالوفاء بالعهد يف غري مو�ضع من القر�آن‪ .‬فيقول مث ًال يف �سورة النحل‪:‬‬
‫ان َب ْع َد َت ْو ِكي ِد َها َو َق ْد َج َع ْل ُت ُم‬
‫ي َ‬‫دت َو َال َتن ُق ُ�ضواْ الأَ مْ َ‬ ‫«و�أَ ْوفُواْ ب َِع ْه ِد َ هّ ِ‬
‫الل �إِ َذا َع َ‬
‫اه ُ مّ ْ‬ ‫َ‬

‫‪57‬‬
‫ون‪َ .‬و َال َت ُكو ُنو ْا َكا َ ّل ِتي َن َق َ�ض ْت َغ ْز َل َها ِمن‬ ‫الل َي ْع َل ُم َما َتف َْع ُل َ‬ ‫الل َع َل ْي ُك ْم َك ِفي ًال �إ َ ِّن َ هّ َ‬ ‫َ هّ َ‬
‫ون �أُ َ ّم ٌة ِه َي َ�أ ْر َبى ِم ْن �أُ َ ّم ٍة‬‫يا َن ُك ْم َد َخ ًال َب ْي َن ُك ْم �أَن َت ُك َ‬ ‫ون �أَ مْ َ‬ ‫َب ْع ِد ُق َ ّو ٍة �أَن َكا ًثا َت َ ّت ِخ ُذ َ‬
‫ُون»‪.‬‬
‫ام ِة َما ُكن ُت ْم ِفي ِه َت ْخ َت ِلف َ‬ ‫ن َل ُك ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َ‬ ‫الل ِب ِه َو َل ُي َب ِ ّي نَ َ ّ‬ ‫وك ُم َ هّ ُ‬‫ِنا َي ْب ُل ُ‬ ‫�إ َ مّ َ‬
‫ويقول يف �سورة الإ�رساء‪:‬‬
‫ان َم ْ�س ُ�ؤوالً»‪.‬‬ ‫«‪..‬و�أَ ْوفُواْ بِا ْل َع ْه ِد �إ َ ِّن ا ْل َع ْه َد َك َ‬ ‫َ‬
‫الرب التي عددها يف الآية الكرمية‬ ‫ّ‬ ‫خ�صال‬ ‫من‬ ‫خ�صلة‬ ‫بالعهد‬ ‫الوفاء‬ ‫ويجعل‬
‫من �سورة البقرة‪:‬‬
‫وه ُك ْم ِق َب َل المْ َ �شرْ ِِق َوالمْ َْغر ِِب َو َل ِك َ ّن الْبرِ َ ّ َم ْن � َآم َن‬ ‫« َ ّل ْي َ�س الْبرِ َ ّ �أَن ُت َو ُ ّلواْ ُو ُج َ‬
‫َال َع َلى ُح ِ ّب ِه َذوِي‬ ‫ني َو�آ َتى المْ َ‬ ‫اب َوال َ ّن ِب ِ ّي َ‬ ‫ِالل َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر َوالمْ َال ِئ َك ِة َوا ْل ِك َت ِ‬ ‫ب َ هّ ِ‬
‫اب َو�أَ َق َام‬ ‫ني َوفيِ ال ِ ّر َق ِ‬ ‫ال�سا ِئ ِل َ‬
‫ال�سبِيلِ َو َ ّ‬ ‫ني َوا ْب َن َ ّ‬ ‫امى َوالمْ ََ�س ِاك َ‬ ‫ا ْل ُق ْر َبى َوا ْل َي َت َ‬
‫ِين فيِ ا ْل َب ْ�أ َ�ساء‬ ‫ال�صا ِبر َ‬ ‫اه ُدواْ َو َ ّ‬ ‫ُون ب َِع ْه ِد ِه ْم �إِ َذا َع َ‬ ‫ال�صال َة َو�آ َتى ال َزّ َكا َة َوالمْ ُوف َ‬ ‫َّ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ين َ�ص َد ُقوا َو�أو َلئ َك ُه ُم المْ ُ َ ّت ُق َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ني ا ْل َب�أ ِ�س �أ ْو َلئ َك ا َ ّل ِذ َ‬ ‫ِ‬
‫ال�ضّاء َوح َ‬ ‫َو َ رّ َ‬
‫واخلالفة عهد بني اخلليفة ورعيته‪ ،‬قوامه �أن ُيلزم اخلليفة نف�سه �أن يعمل‬
‫بكتاب اهلل و�سنة ر�سوله‪ ،‬و�أن ين�صح للم�سلمني ما ا�ستطاع �إىل ذلك �سبي ًال‪ ،‬و�أن‬
‫يطيع امل�سلمون �أوامر اخلليفة ويجتنبوا ما ينهى عنه يف هذه احلدود‪ ،‬ف�إن‬
‫نكث اخلليفة عهده ف�سار يف امل�سلمني �سرية ينحرف بها عن كتاب اهلل وعن‬
‫�سنة ر�سوله‪ ،‬وعما التزم من الن�صح للم�سلمني فال طاعة له على رعيته‪ ،‬ومن‬
‫حق هذه الرعية �أن تطالبه بالوفاء مبا �أعطى على نف�سه من عهد‪ ،‬ف�إن ا�ستقام‬
‫فذاك و�إال فللم�سلمني �أن يربءوا منه و�أن يلتم�سوا لهم خليفة غريه‪ .‬و�إذا بغي‬
‫بع�ض الرعية فنق�ض عهده الذي �أعطاه للخليفة بال�سمع والطاعة وجب على‬
‫اخلليفة �أن يراجعه يف ذلك‪ ،‬ف�إن فاء �إىل �أمر اهلل و�أوفى بالعهد فذاك‪ ،‬و�إن �أبى‬
‫وجب على اخلليفة �أن يقاتله حتى يفيء �إىل �أمر اهلل‪.‬‬
‫ومن �أجل هذا كله قال �أبوبكر يف خطبته التي ُتروى عنه �إثر بيعته‪�« .‬إن‬
‫فقوموين»‪.‬‬ ‫�أح�سنت ف�أعينوين و�إن �أ�س�أت ِّ‬
‫ثم قال بعد ذلك‪�« :‬أطيعوين ما �أطعت اهلل ور�سوله‪ ،‬ف�إذا ع�صيت اهلل ور�سوله‬
‫فال طاعة يل عليكم»‪.‬‬
‫ولي�س ُبد من �أن تتم البيعة بني اخلليفة واملمثلني للم�سلمني من �أعالم‬

‫‪58‬‬
‫الأمة وقادتها حتى حني ُيو�صي اخلليفة القائم لرجل من بعده‪ ،‬كائن ًا من‬
‫يكون هذا الرجل‪.‬‬
‫وقد ا�ستخلف �أبوبكر عمر يف مر�ضه الذي تويف فيه‪ ،‬ولكنه مل يطمئن‬
‫�إىل و�صيته‪ ،‬حتى ا�ست�شار فيها نفراً من �أ�صحاب ر�سول اهلل‪ ،‬ثم �أمر عثمان‬
‫�أن ي�س�أل جماعة امل�سلمني‪� :‬أتبايعون ملن يف هذا الكتاب؟ فلما قالوا‪ :‬نعم‪،‬‬
‫اطم�أنت نف�س �أبي بكر و�أر�سل �إىل عمر فن�صح له وو�صاه مبا �أراد‪.‬‬
‫وكل هذا مل يلزم امل�سلمني طاعة عمر بعد وفاة �أبي بكر‪ ،‬و�إمنا وجب‬
‫ولين�صحن‬
‫ّ‬ ‫ليعملن بكتاب اهلل و�سنة ر�سوله‬ ‫ّ‬ ‫على اخلليفة �أن يعطيهم العهد‬
‫للم�سلمني ما ا�ستطاع‪ ،‬ووجب على امل�سلمني �أن ُيعطوه العهد على �أنف�سهم‬
‫بال�سمع والطاعة يف احلدود التي التزمها‪.‬‬
‫وملا ُطعن عمر وجعل ال�شورى يف �أولئك ال�ستة من �أ�صحاب ر�سول اهلل‪،‬‬
‫على �أن يختاروا من بينهم رج ًال يكون هو اخلليفة‪ ،‬مل تكن و�صية عمر �إىل‬
‫معفية للخليفة من �أن ُيعطي هذا العهد على نف�سه‪ ،‬و�أن ي�أخذ من‬ ‫ه�ؤالء ال�ستة ُ‬
‫امل�سلمني العهد على �أنف�سهم‪ ،‬على النحو الذي بينته �آنف ًا‪.‬‬
‫فلم يكن ا�ستخالف �أبي بكر لعمر �إال تر�شيح ًا له‪ ،‬ومل يكن ما انتهى �إليه‬
‫�أمر ال�شورى من اختيار عثمان �إال تر�شيح ًا له �أي�ض ًا‪ ،‬وكال الرجلني مل ي�ستطع‬
‫�أن يقوم ب�شيء من �أمور امل�سلمني �إال بعد �أن متت البيعة بينه وبينهم‪.‬‬
‫فالبيعة �إذن هي الركن الأ�سا�سي للخالفة‪ ،‬ومن �أجل هذا كره امل�سلمون‬
‫يف �صدر الإ�سالم �أن تنتقل اخلالفة من الآباء �إىل الأبناء باملرياث على نحو‬
‫ما كان الأكا�رسة ي�صنعون‪.‬‬
‫ومل يكن ُبد من هذا اال�ستطراد امل�رسف يف الطول لأبينِّ �أن ما ُيروى عن‬
‫عمر مل يكن طعن ًا يف خالفة �أبي بكر‪ ،‬وال ميكن �أن يكون و�سيلة �إىل الطعن‬
‫فيها لأن ما مت يف �سقيفة بني �ساعدة من ابتداء البيعة لأبي بكر مل يلزم �سائر‬
‫امل�سلمني‪ ،‬ومل يكن من �ش�أنه �أن يلزمهم حتى يبايعوه عن اختيار ور�ضى‪.‬‬

‫‪59‬‬
60
‫‪6‬‬

‫وقد كان �أبوبكر يف حياة النبي رج ًال من امل�سلمني ال يحتمل تبعة خا�صة‪،‬‬
‫و�إمنا ي�سمع ويطيع لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم كغريه من �أ�صحابه‪ ،‬فلم‬
‫يظهر من خ�صائ�صه وخ�صاله يف حياة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إال ما‬
‫بينت �أنف ًا من حبه للنبي وموا�ساته له بنف�سه وماله‪ ،‬ومن ب ِِّره بامل�سلمني‬
‫وموا�ساته لهم بنف�سه وماله �أي�ض ًَا‪.‬‬
‫وقد �آثره النبي بحبه حتى كان �أحب الرجال �إليه‪ ،‬و�أحبه امل�سلمون �أي�ض ًا‬
‫و�آثروه ‪ ،‬ور�أوا النبي يقدمه على غريه فقدموه على �أنف�سهم‪ .‬ولكنه بعد �أن متت‬
‫طوق عظيم ًا من الأمر ال قوة له عليه �إال مبعونة اهلل‬ ‫له البيعة نظر ف�إذا هو قد ّ‬
‫ومعونة امل�سلمني وخيارهم من �أ�صحاب ر�سول اهلل خا�صة‪ ،‬وقد �أ�شفق �أن‬
‫ينتظر امل�سلمون منه �أو �أن يكلفوه �أن ي�سري فيهم �سرية النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪ ،‬ف�أعلن �إليهم �أنه ال ي�ستطيع ذلك‪ ،‬وطلب �إليهم �أال ينتظروه منه‪ .‬ثم �أعلن‬
‫�إليهم كذلك �أنه لي�س �إال واحداً منهم و�أنه لي�س خريهم‪ ،‬و�س�ألهم �أن يعينوه �إن‬
‫يقوموه �إن �أ�ساء‪ ،‬والتزم �أمامهم بطاعة اهلل ور�سوله فيهم‪ ،‬و�أبر�أهم‬ ‫�أح�سن‪ ،‬و�أن ِّ‬
‫من ال�سمع والطاعة له �إن ع�صا اهلل ور�سوله‪ .‬و�أعطاهم العهد على �أن يكون‬

‫‪61‬‬
‫قوي ًا حتى ي�أخذ له احلق‪ ،‬و�أن يكون القوى عنده �ضعيف ًا حتى‬ ‫ال�ضعيف عنده ّ‬
‫ي�أخذ احلق منه‪ .‬ثم �أنب�أهم ب�أنه متبع ولي�س مببتدع‪ .‬وكان لهاتني الكلمتني‬
‫يف نف�س �أبي بكر حني �ألقاهما �إىل امل�سلمني‪ ،‬وفيما �أتيح له من احلياة بعد‬
‫ذلك‪ ،‬موقع �أي موقع‪ .‬فكان يتحرى جهده ما فعل ر�سول اهلل فيفعله‪ ،‬ويتحرى‬
‫ما ترك ر�سول اهلل فيرتكه‪ .‬وكان يرى �أول واجب عليه �أال يدع من �أمر ر�سول‬
‫اهلل �شيئ ًا �إال �أنفذه مهما تكن الظروف ومهما تكن العواقب‪.‬‬
‫ومن �أجل ذلك كان �أول �شيء �صنعه بعد �أن متت له بيعة امل�سلمني �أن‬
‫�أمر من نادى بني النا�س ب�أنه ُمنفذ جي�ش �أ�سامة �إىل حيث �أمر ر�سول اهلل‬
‫�أن مي�ضي‪ .‬وطلب �إىل كل من كان يف جي�ش �أ�سامة من امل�سلمني �أن يخرج‬
‫�إىل املع�سكر‪ .‬وكانت الظروف �شديدة احلرج بعد وفاة النبي‪ ،‬فلم ي�ضطرب‬
‫املهاجرون والأن�صار وحدهم لفراق النبي لهم‪ ،‬و�إمنا ا�ضطرب العرب كلهم‬
‫لذلك‪ ،‬وكان بني ا�ضطراب املهاجرين والأن�صار وا�ضطراب �سائر العرب و�أهل‬
‫البادية منهم خا�صة فرق �أي فرق‪ ،‬فما �أ�رسع ما ثاب املهاجرون والأن�صار‬
‫�إىل �أنف�سهم‪ ،‬وما �أ�رسع ما عرفوا احلق ف�أذعنت له نفو�سهم واطم�أنت �إليه‬
‫قلوبهم حني تال �أبوبكر عليهم ما تال من القر�آن كما ر�أيت‪ .‬ف�أما �سائر العرب‬
‫فقد كان ا�ضطرابهم �أعظم من ذلك خطراً و�أبعد �أثراً‪ ،‬لأن املهاجرين والأن�صار‬
‫كانوا قد �أ�سلموا و�آمنوا و�صدق �إ�سالمهم هلل و�إميانهم به‪ .‬و�أما �أهل البادية‬
‫من الأعراب فكانت �أل�سنتهم قد �أ�سلمت ومل ت�ؤمن قلوبهم كما قر�أت يف الآية‬
‫الكرمية من �سورة احلجرات �آنف ًا‪.‬‬
‫وكما يقول اهلل يف �سورة براءة‪:‬‬
‫الل َع َلى َر ُ�سو ِل ِه‬ ‫اب �أَ َ�ش ُ ّد ُك ْف ًرا َو ِنفَا ًقا َو�أَ ْج َد ُر �أَ َالّ َي ْع َل ُمواْ ُح ُدو َد َما َ�أن َز َل َ هّ ُ‬
‫«الأَ ْع َر ُ‬
‫اب َمن َي َ ّت ِخ ُذ َما ُين ِف ُق َم ْغ َر ًما َو َي رَ َت َ ّب ُ�ص ِب ُك ُم ال َ ّد َوا ِئ َر‬ ‫يم‪َ .‬و ِم َن الأَ ْع َر ِ‬ ‫يم َح ِك ٌ‬
‫الل َع ِل ٌ‬‫َو َ هّ ُ‬
‫يم»‪.‬‬
‫يع َع ِل ٌ‬ ‫الل َ�س ِم ٌ‬ ‫َع َل ْيه ِْم َدا ِئ َر ُة َ ّ‬
‫ال�س ْو ِء َو َ هّ ُ‬
‫وقد �أنب�أ اهلل بهذا ر�سوله كما ترى‪ ،‬وعلم النبي منه �شيئ ًا كثرياً‪ ،‬ولكن‬
‫ه�ؤالء الأعراب قد ع�صموا من النبي دماءهم و�أموالهم‪ ،‬لأنهم كانوا يقولون‪:‬‬
‫ال �إله �إال اهلل‪ ،‬وكانوا يقيمون �شعائر الإ�سالم وي�ؤدون ما فر�ض اهلل عليهم‬
‫من الزكاة‪ .‬وقد ظهرت بوادر الردة �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فتنب�أ‬

‫‪62‬‬
‫الكذابون‪ :‬تنب�أ الأ�سود العن�سي يف اليمن‪ ،‬وتنب�أ م�سيلمة يف اليمامة‪ ،‬وتنب�أ‬
‫طليحة يف بني �أ�سد‪ ،‬وكان النبي يقاوم ه�ؤالء الكذابني بالر�سل والكتب‪ ،‬ومل‬
‫يكن �شك يف �أنه كان �سيقاومهم بال�سيف‪ ،‬لو مل يخرته اهلل جلواره‪.‬‬
‫فلما نه�ض �أبوبكر بالأمر مل ير �أمامه ه�ؤالء الكذابني فح�سب‪ ،‬و�إمنا‬
‫ر�أى �سائر الأعراب قد �أظهروا ما �أنب�أنا اهلل به من النفاق‪ ،‬وترب�صهم الدوائر‬
‫بامل�سلمني‪ ،‬فلم تكد تبلغهم وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حتى عادت‬
‫كرثتهم الكثرية �إىل اجلاهلية‪ ،‬ولكنهم مع ذلك داوروا مداورة اجلاهلني‬
‫الغافلني‪ .‬ف�أر�سلوا وفودهم �إىل �أبي بكر يطلبون �إليه �أن ُيعفيهم من الزكاة‪،‬‬
‫ويعلنون �إليه �أنهم �سي�ؤدون �سائر الفرائ�ض‪ ،‬في�صلون‪ ،‬وي�صومون‪ ،‬ويحجون‪،‬‬
‫ويقولون دائم ًا كلمة الإ�سالم‪ ،‬في�شهدون �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل‪.‬‬
‫و�أقول �إنهم داوروا جاهلني غافلني لأنهم ظنوا �أن �أبا بكر �سيقبل منهم‬
‫ذلك‪ ،‬ومل يعرفوا �أن الزكاة ركن من �أركان الإ�سالم‪ ،‬و�أن من منعها فلي�س‬
‫من الإ�سالم يف �شيء‪ .‬من �أجل ذلك رف�ض �أبوبكر ما عر�ضوا عليه‪ ،‬و�أعلن �أنه‬
‫�سيقاتلهم على الزكاة حتى ي�ؤدوها‪ ،‬و�أنهم �إن منعوه عقا ًال كان ي�ؤدونه �إىل‬
‫ر�سول اهلل ف�سيقاتلهم عليه‪.‬‬
‫�أعلن العرب �إذن منعهم للزكاة‪ ،‬و�أظهروا الكفر والنفاق‪ ،‬و�صدقوا قول اهلل‬
‫فيهم‪�« :‬إنهم �أجدر �أال يعلموا حدود ما �أنزل اهلل‪ ،‬و�أن منهم من يتخذ ما ينفق‬
‫مغرم ًا ويرتب�ص بامل�سلمني الدوائر»‪.‬‬
‫�أعلنوا ذلك و�أعلن �أبوبكر �أنه �سيقاتلهم‪ ،‬و�أزمع يف الوقت نف�سه �أن ينفذ‬
‫جي�ش �أ�سامة �إىل م�شارف ال�شام كما �أمر ر�سول اهلل‪.‬‬
‫وهنا ظهرت �أوىل امل�شكالت الكربى التي عر�ضت له وللم�سلمني‪ ،‬فهو‬
‫م�صمم على �أن ينفذ جي�ش �أ�سامة لأن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أمر ب�إنفاذه‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫وقد كفرت الأر�ض من حوله و�أ�صبح ال ي�أمن �أن يغري الأعراب عليه وعلى من‬
‫معه يف املدينة‪ ،‬ويف جي�ش �أ�سامة �صفوة من كان عنده من �أويل القوة والب�أ�س‪.‬‬
‫وقد �أح�س وجوه امل�سلمني هذا اخلطر العظيم‪ ،‬ف�أ�شاروا عليه ب�أن ي�ؤجل‬
‫امللحة‪ ،‬ولهذا اخلطر الداهم الذي يو�شك �أن‬ ‫�إنفاذ جي�ش �أ�سامة �أمام ال�رضورة ّ‬
‫ينق�ض على املدينة يف �أي حلظة‪ ،‬ولكنه �أبى و�ألح يف الإباء‪ ،‬فلم يكن �أبغ�ض‬

‫‪63‬‬
‫�إليه من �أن يخالف عن �أمر النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬مهما تكن الظروف‬
‫ومهما تكن العواقب‪.‬‬
‫وقد �ألح عليه �أ�صحابه فلم ي�سمع لإحلاحهم بل قال‪« :‬واهلل لو خفت �أن‬
‫تتخطفني ال�سباع ملا ت�أخرت عن �إنفاذ �أ�سامة وجي�شه»‪.‬‬
‫ثم طلب �إليه الأن�صار الذين كانوا يف اجلي�ش �أن يويل عليهم قائداً �آخر‬
‫أ�سن من �أ�سامة‪ ،‬و�أر�سلوا عمر ليكلم �أبا بكر يف ذلك‪ ،‬فلم يكد عمر يف�ضي �إليه‬ ‫� ّ‬
‫مبا رغب الأن�صار فيه حتى قال له �أبوبكر‪« :‬ثكلتك �أمك يا بن اخلطاب‪ ،‬يوليه‬
‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم و�أعزله �أنا»‪.‬‬
‫فرجع عمر �إىل الأن�صار برد �أبي بكر عليه‪ ،‬فلم يزيدوا على �أن �سمعوا‬
‫و�أطاعوا‪ .‬و�آن لأ�سامة �أن يف�صل بجي�شه‪ ،‬فخرج �أبوبكر م�شيع ًا له مي�شي‬
‫و�أ�سامة راكب‪ .‬وملا �أراده �أ�سامة على �أن يركب �أو ي�أذن له يف النزول �أبى عليه‬
‫�أبوبكر ما �أراد‪ .‬ثم �أو�صاه �أن ينفذ �أمر ر�سول اهلل ال ينق�ص منه �شيئ ًا‪ ،‬ونهاه‬
‫ونهى من معه من اجلند عن قتل الن�ساء والأطفال وال�شيوخ‪ ،‬والذين فرغوا‬
‫�أنف�سهم لعبادة اهلل من ال ُق�س�س والرهبان‪ ،‬وعن الف�ساد يف الأر�ض‪ .‬وا�ست�أذن‬
‫�أ�سامة يف �أن ي�ستبقي عمر معه يف املدينة ي�ستعني به على �أمره‪ ،‬ف�أذن �أ�سامة‬
‫ورجع �أبوبكر �إىل املدينة يدبر �أمره و�أمر امل�سلمني �إن �أغار الأعراب عليهم‪.‬‬
‫ف�أمر الرجال �أن يظلوا جمتمعني يف امل�سجد م�ستعدين للفزع �إن طر�أ عليهم‬
‫طارئ‪ ،‬وحذرهم من الغارة عليهم يف �أي حلظة‪ ،‬ومن �أن ي�ؤخذوا على غرة‪ ،‬ثم‬
‫علي‬‫جعل على منافذ املدينة �إىل البادية رجا ًال من �أ�صحاب ر�سول اهلل فيهم ّ‬
‫علي ًا مل يكن متخلف ًا عن البيعة وال مفارق ًا‬
‫رحمه اهلل‪ ،‬وهذا مما يدل على �أن ّ‬
‫جلماعة امل�سلمني‪ .‬وكلف ه�ؤالء الرجال �أن يكونوا كالربيئة يحر�سون‬
‫(((‬

‫املدينة وينبئون �أبا بكر مبن ميكن �أن يطر�أ عليهم من الأعراب‪.‬‬
‫وكان الأعراب من غطفان ومن تابعها قد علموا مب�ضي �أ�سامة وجنده �إىل‬
‫م�شارف ال�شام‪ ،‬وطمعوا يف �أن يغريوا على املدينة دون �أن يلقوا كيداً‪ .‬ف�أقبلوا‬
‫أح�س رقباء �أبي بكر مقدمهم‪ ،‬ف�أر�سلوا‬
‫ذات ليلة يريدون �أن يبيتوا امل�سلمني‪ ،‬و� ّ‬

‫(‪ )1‬الربيئة‪ :‬الرقيب‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫من �أنب�أه‪ ،‬فخرج �أبوبكر فيمن معه من امل�سلمني حتى لقوا العدو‪ ،‬فهزموهم‬
‫وتبعوهم يريدون �أن يمُ عنوا فيهم‪ .‬ولكن الأعراب كانوا قد جعلوا وراءهم ردءاً‪،‬‬
‫فلما بلغ امل�سلمون قريب ًا من الردء‪ ،‬خرجوا �إليهم ومل يقاتلوهم و�إمنا �أخافوا‬
‫تقر ‪� ،‬إال‬
‫�إبلهم بالأنحاء يدفعونها ب�أرجلهم‪ ،‬فنفرت الإبل بامل�سلمني ومل ّ‬
‫(((‬

‫يف املدينة‪.‬‬
‫على �أن �أبا بكر مل يلبث �أن خرج �إليهم مرة �أخرى‪ ،‬ومعه امل�سلمون مي�شون‪،‬‬
‫حتى �أغار عليهم فهزمهم هزمية منكرة‪ ،‬وتفرق العدو يف الأر�ض هرب ًا من‬
‫املوت والإ�سار‪ .‬واحتل �أبوبكر بالدهم فحماها خليل امل�سلمني‪ ،‬ثم لإبل‬
‫ال�صدقة بعد ذلك‪.‬‬
‫وكان لهذا االنت�صار �أثر عظيم يف نفو�س امل�سلمني‪ ،‬ف�أح�سوا القوة‪ ،‬و�أمنوا‬
‫الغارة على املدينة‪ ،‬و�أقاموا ينتظرون جي�ش �أ�سامة‪ ،‬وقد عاد هذا اجلي�ش‬
‫�سامل ًا غامن ًا بعد �أن �أغار على قبائل العرب يف �أطراف ال�شام‪.‬‬
‫عاد هذا اجلي�ش بعد �شهرين وبع�ض �شهر‪ ،‬ف�أمرهم �أبوبكر �أن ي�سرتيحوا‪.‬‬
‫جم النا�س‪ .‬على �أن �أنت�صار �أبي‬
‫وظل هو قائم ًا ب�أمر الدفاع عن املدينة حتى ّ‬
‫بكر �أغرى القبائل املرتدة البعيدة عن املدينة مبن بقي فيها من امل�سلمني‪،‬‬
‫فجعلت كل قبيلة تقتل من كان عندها منهم‪ ،‬و�أثار ذلك �أبا بكر و�أحفظه‪،‬‬
‫ف�أزمع �أن ين ّكل باملرتدين تنكي ًال يرهبهم ومينعهم من �أن يعودوا �إىل مثل ما‬
‫وليبلغن يف الث�أر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أرن للم�سلمني‬
‫اقرتفوا من الإثم‪ .‬و�أق�سم �أبوبكر ليث� ّ‬
‫ثم تهي�أ حلرب املرتدين يف �سائر �أر�ض اجلزيرة‪ ،‬فخرج بالنا�س �إىل ذي‬
‫ال َق َّ�صة((( ‪ -‬وهو املكان الذي انت�رص فيه على املغريين على املدينة ‪ -‬وهناك‬
‫ج ّند اجلند وعقد الألوية للقواد‪ ،‬وكلف كل قائد منهم طائفة من املرتدين‪.‬‬
‫وكان قواده �أحد ع�رش رج ًال‪:‬‬
‫خالد بن الوليد‪ ،‬و�أمره �أن يقاتل طليحة ومن معه‪ ،‬ف�إذا فرغ منهم ق�صد‬
‫�إىل مالك بن ُنويرة ومن معه من بني متيم‪.‬‬

‫(‪ )1‬األنحاء‪ :‬جمع نحى‪ ،‬بالكسر ‪ ،‬وهو اجلرة‪.‬‬


‫َصة‪ :‬بينه وبني املدينة أربعة وعشرون ميالً‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذو الق ّ‬

‫‪65‬‬
‫والثاين‪ :‬عكرمة بن �أبي جهل‪ .‬و�أمره �أن مي�ضي لقتال م�سيلمة باليمامة‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬املهاجر بن �أبي �أمية‪ ،‬و�أمره بقتال من بقي من �أتباع الأ�سود‬
‫علىالردة بعد قتله‪ .‬ف�إذا فرغ منهم م�ضى �إىل املرتدين من كندة‪.‬‬‫ِّ‬ ‫العن�سي‬
‫والرابع‪ :‬خالد بن �سعيد بن العا�ص‪ .‬و�أر�سله �إىل م�شارف ال�شام‪.‬‬
‫واخلام�س‪ :‬عمرو بن العا�ص‪ .‬و�أمره بقتال ق�ضاعة‪.‬‬
‫وال�ساد�س‪ :‬حذيفة بن حم�صن‪ ،‬و�أمره بقتال‪� ،‬أهل َدبا ‪.‬‬
‫(((‬

‫عرفجة بن َهرِثمة‪ ،‬و�أمره بقتال مهرة‪.‬‬ ‫وال�سابع‪َ :‬‬


‫والثامن‪� :‬شرَ َ حبيل بن َح�سنة‪ ،‬و�أر�سله ُمعين ًا لعكرمة بن �أبي جهل على‬
‫حرب ُم�سيلمة‪ ،‬و�أمره �إن فرغ من ذلك‪� ،‬أن يذهب �إىل ق�ضاعة معين ًا لعمرو بن‬
‫العا�ص‪.‬‬
‫والتا�سع‪َ :‬طريف بن حاجز‪ ،‬و�أمره بقتال ُ�سليم ومن معهم من َهوازن‪.‬‬
‫قرن‪ ،‬و�أمره بقتال القبائل املرتدة يف تهامة اليمن‪.‬‬ ‫والعا�رش‪�ُ :‬سويد بن ُم ِّ‬
‫ووجهه لقتال املرتدين يف البحرين‪.‬‬ ‫العالء بن احل�رضمي‪ّ ،‬‬ ‫واحلادي ع�رش‪َ :‬‬
‫وت�سمية ه�ؤالء القواد‪ ،‬وبيان القبائل التي وجهوا �إليها بجنودهم‪ ،‬ومنازل‬
‫هذه القبائل يبينّ يف جالء �أن اجلزيرة العربية قد كفرت كلها �إال �أفراداً من‬
‫امل�سلمني ظلوا على دينهم‪ ،‬منهم من يفتنهم قومهم‪ ،‬ومنهم من عا�شوا يف‬
‫عافية‪ ،‬ومنهم قوم كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قد �أر�سلهم �إىل القبائل‬
‫ليع ّلموهم الدين‪ ،‬ويقيموا فيهم �أمر اهلل‪ ،‬وي�أخذوا الزكاة من �أغنيائهم لريدوها‬
‫على فقرائهم‪ ،‬وير�سلوا ما ف�ضل منها عن حاجة الفقراء �إىل املدينة‪.‬‬
‫وقد كتب �أبو بكر لقواده ‪ -‬فيما يقول الرواة ‪ -‬عهداً ‪ ،‬ال نطمئن �إىل ن�صه‪،‬‬
‫و�إمنا الذي نثق به هو �أن �أبا بكر قد �أو�صى قواده ب�أن مي�ضي كل واحد منهم‬
‫وجه لقتالها‪ ،‬ف�إذا بلغها دعاها �إىل الإ�سالم‬ ‫حتى ي�صل �إىل القبيلة التي ّ‬
‫والدخول فيما خرجت منه‪ ،‬ف�إن �أجابت قبل منها و�أعطاها ما لها من احلق ‪،‬‬
‫و�أخذ منها ما عليها من احلق �أي�ض ًا‪ ،‬و�إن �أبت قاتلها يف غري هوادة وال رفق‬
‫حتى تفيء �إىل الإ�سالم‪ ،‬ف�إن فاءت فهي �آمنة ت�أخذ حقها و ُتعطي ما عليها‪.‬‬

‫‪ -1‬دبا‪ :‬عاصمة عمان قدميا ً‬

‫‪66‬‬
‫و�أمر �أبو بكر قواده �إذا نزلوا بقبيلة �أن ينتظروا وقت ال�صالة و�أن ي�ؤذنوا‪،‬‬
‫ف�إن �سمعوا �أذان من ب�إزائهم ممن جاءوا حلربهم مل يقاتلوهم حتى ي�س�ألوهم‬
‫عن �إ�سالمهم ما هو‪ ،‬ف�إن عرفوا الإ�سالم كما �أنزله اهلل على ر�سوله فهم �آمنون‪،‬‬
‫لهم ما للم�سلمني وعليهم ما على امل�سلمني‪ ،‬و�إن جحدوا من الإ�سالم �شيئ ًا‬
‫كانوا قد �أعطوه لر�سول اهلل‪ ،‬قاتلهم امل�سلمون حتى يذعنوا ويقبلوا الإ�سالم‬
‫كام ًال غري منقو�ص‪.‬‬
‫ويقول الرواة �إن �أبا بكر كتب كتاب ًا وجعل منه �إحدى ع�رشة ن�سخة‪ ،‬و�أر�سل‬
‫مع كل جي�ش ر�سو ًال يحمل ن�سخة من هذا الكتاب‪ ،‬و�أمر ه�ؤالء الر�سل �أن يقرءوا‬
‫هذا الكتاب على القبائل التي وجهت اجليو�ش لقتالها‪ ،‬ف�إن �أجابوا �إىل مايف‬
‫هذا الكتاب فهم �آمنون‪ ،‬بعد �أن يتحقق قائد اجلي�ش من �صدق ا�ستجابتهم‪ ،‬و�إن‬
‫�أبوا فقتالهم واجب على اجلي�ش حتى يعودوا �إىل الإ�سالم‪.‬‬
‫ي�سجلون ن�ص هذا الكتاب‪ ،‬ول�سنا نطمئن �إىل هذا الن�ص‪ ،‬كما‬ ‫وامل�ؤرخون ّ‬
‫ال نطمئن �إىل ن�ص العهد الذي كتبه �أبو بكر لقواده‪ ،‬و�إمنا نرجح �أن يكون‬
‫معنى هذا الكتاب ‪� -‬إن كان قد كتب ‪ -‬مطابق ًا للعهد الذي كتبه �أبو بكر‬
‫لقواده‪.‬‬
‫أق�ص �أنباءهم وما‬‫وقد م�ضى القواد �إىل غاياتهم‪ ،‬ول�ست �أريد �أن �أتبعهم ل ّ‬
‫�أتيح لهم من الن�رص‪ ،‬وما امتحن لهم من الن�رص‪ ،‬وما امتحن به بع�ضهم من‬
‫الهزمية‪ ،‬كالذي امتحن به ِعكرمة بن �أبي جهل‪ .‬فلي�س هذا مما �أردت �إليه‬
‫مل بعد قليل ب�شيء من مواقف خالد بن الوليد‪ ،‬ملا كان ملواقفه‬ ‫و�إمنا �أريد �أن ‪� ،‬أ ّ‬
‫تلك من �أثر يف حياته ويف حياة امل�سلمني �أي�ض ًا‪ ،‬ولأن احلكم يف مواقفه تلك‬
‫يظهرنا على �شيء من االختالف يف �سيا�سية ال�شيخني‪� :‬أبي بكر وعمر‪ ،‬مع‬
‫قوادهما �أثناء احلرب‪.‬‬
‫�أما الآن ف�إين �أحب �أن �أعود �إىل املدينة‪ ،‬و�أن �أرجع �إىل �أول ما كان من �أمر‬
‫الردة‪ ،‬لأقف وقفة ق�صرية عند �شيء َيرويه الرواة ويكرثون فيه‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫بينت �أن وجوه امل�سلمني �أ�شاروا على �أبي بكر ب�أن ي�ؤجل �إنفاذ جي�ش‬ ‫ّ‬ ‫وقد‬
‫�أ�سامة حتى ي�أمنوا العرب‪ ،‬ف�أبى �أبو بكر �أن يخالف عن �أمر ر�سول اهلل‪� ،‬أو �أن‬
‫ي�ؤخر �إنفاذ هذا الأمر‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ولكن الرواة يزعمون �أن بع�ض وجوه امل�سلمني راجعوا �أبا بكر يف حرب‬
‫املرتدين‪ ،‬وقال له قائلهم ‪ -‬وهو عمر رحمه اهلل ‪ :-‬كيف تقاتلهم وهم يقولون‬
‫ال �إله �إال اهلل؟ وقد قال النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪�« :‬أمرت �أن �أقاتل النا�س حتى‬
‫يقولوا ال �إله �إ ّال اهلل‪ ،‬ف�إذا قالوها ع�صموا مني دماءهم و�أموالهم �إال بحقها‬
‫وح�سابهم على اهلل»؟‪.‬‬
‫فرف�ض �أبوبكر وقال‪« :‬واهلل لو منعوين عقا ًال كانوا ي�ؤدونه �إىل ر�سول‬
‫اهلل لقاتلتهم عليه‪ .‬فهم يفرقون بني ال�صالة والزكاة‪ ،‬واهلل مل يفرق بينهما‪.‬‬
‫والزكاة حق املال‪ ،‬وقد قال ر�سول اهلل �إال بحقها»‪.‬‬
‫ويزعم الرواة �أن عمر قد �رشح اهلل �صدره لقتال املرتدين حني ر�أى �أن اهلل‬
‫قد �رشح لهذا القتال �صدر �أبي بكر‪.‬‬
‫ول�ست �أقبل هذه الق�صة بحال‪ ،‬فوجوه امل�سلمني من �أ�صحاب ر�سول اهلل‬
‫�أعلم بدينهم من �أن يجادلوا �أبا بكر يف الزكاة‪ .‬ومل يكن عمر �أقلهم علم ًا‬
‫بالإ�سالم‪� ،‬إىل ما ُعرف من �شدة عمر يف احلق‪ .‬ومل يكن عمر وال �أبو بكر قد‬
‫عرفا هذا اللون من اجلدل الذي �ألفه الفقهاء واملتكلمون فيما بعد‪.‬‬
‫وكل ما �أرجحه هو �أن وجوه امل�سلمني �إمنا راجعوا �أبا بكر يف �إنفاذ جي�ش‬
‫�أ�سامة‪ ،‬بعد �أن ظهر كفر العرب‪ ،‬حر�ص ًا على �أن ي�ستبقوا قوة امل�سلمني ليقاوموا‬
‫بها املرتدين‪ ،‬بل لي�ست�أنفوا بها حرب العرب على الإ�سالم‪ ،‬كما حاربهم النبي‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم عليه‪.‬‬
‫والذين يروون هذه الرواية ي�سيئون �إىل �أولئك ال�شيوخ من �أ�صحاب ر�سول‬
‫اهلل‪ ،‬حني ي�صورونهم من جهة خائفني م�شفقني �أن يتخطفهم العرب‪ ،‬مع �أنهم‬
‫قد �صحبوا النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أيام الفتنة يف مكة‪ ،‬وعرفوا مقالته لعمه‬
‫�أبي طالب حني كلمه فيما تعر�ض قري�ش ليكف عن دعوته اجلديدة‪ ،‬فقال‪ :‬واهلل‬
‫لو و�ضعوا ال�شم�س يف مييني والقمر يف ي�ساري على �أن �أترك هذا الأمر حتى‬
‫يظهره اهلل �أو �أهلك دونه ما تركته»‪.‬‬
‫وهم كذلك قد �شهدوا مع النبي مواطن الب�أ�س يف بدر و�أحد والأحزاب‬
‫وغريها من امل�شاهد‪ ،‬وكان امل�سلمون قلة وكانت العرب كافرة من حولهم‪،‬‬

‫‪68‬‬
‫فلم يف ّل ذلك من عزمهم ‪ ،‬ومل ي�ضعف من همهم‪ ،‬و�إمنا ثبتوا للب�أ�س والهول‬
‫حتى �أظهرهم اهلل على العرب كلها‪.‬‬
‫�أَ َفترَ اهم قد ن�سوا هذا كله‪ ،‬و�أ�شفقوا من �أن يحاربوا العرب على الإ�سالم بعد‬
‫وفاة النبي‪ ،‬كما حاربوهم عليه يف حياته؟‪.‬‬
‫وقد عرفت موقف عمر من �صلح احلُديبية‪ ،‬واعرتا�ضه على النبي �صلى اهلل‬
‫مل ُنعطى الدنية يف‬ ‫عليه و�سلم يف قبول هذا ال�صلح‪ ،‬وقوله له ولأبي بكر‪َ « :‬‬
‫ديننا؟» فلي�س من املعقول وال من املقبول �أن ين�سى عمر مواقفه كلها لي�شفق‬
‫من حرب العرب و�إن كرثت مع �أبي بكر‪ ،‬كما حاربهم مع النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪ .‬وكل �أ�صحاب ر�سول اهلل كانوا يعرفون‪ ،‬كما كان يعرف �أبو بكر‪� ،‬أن‬
‫اهلل قد قرن الزكاة بال�صالة يف القر�آن غري مرة‪ .‬فال تكاد ال�صالة تذكر يف‬
‫«بني الإ�سالم‬ ‫الكتاب العزيز �إال ومعها الزكاة‪ ،‬وكانوا يعرفون قول النبي‪ُ .:‬‬
‫على خم�س‪� :‬شهادة �أن ال �إله �إال اهلل‪ ،‬و�أن حممداً ر�سول اهلل‪ ،‬و�إقام ال�صالة‪،‬‬
‫و�إيتاء الزكاة و�صيام رم�ضان‪ ،‬وحج البيت من ا�ستطاع �إليه �سبي ًال»‪.‬‬
‫فما كان لهم بعد ذلك �أن يقنعوا من العرب بقولهم ال �إله �إال اهلل وهم‬
‫يجحدون ركن ًا من الأركان اخلم�سة للإ�سالم‪ ،‬في�ؤمنوا ببع�ض احلديث الذي‬
‫حاجوا به �أبا بكر‪ ،‬ويرتكوا بع�ضه حتى ينبههم �أبو بكر �إليه‪.‬‬
‫والرواة يحدثوننا �أن نفراً من امل�سلمني �رشبوا اخلمر يف دم�شق بعد‬
‫فتحها‪ ،‬فكتب فيهم �أبو عبيدة �إىل عمر‪ ،‬فكتب �إليه عمر‪� :‬أن َ�س ْلهم على ر�ؤو�س‬
‫النا�س عن اخلمر‪ ،‬ف�إن ا�ستحلوها فا�رضب �أعناقهم‪ ،‬و�إن عرفوا �أنها حمرمة‬
‫ف�أقم عليهم احلد‪.‬‬
‫فعمر يريد �أن ي�س�أل �أبو عبيدة ه�ؤالء النفر عن ر�أيهم يف اخلمر‪� :‬أحالل هي‬
‫�أم حرام؟ ف�إن ا�ستحلوها �رضبت �أعناقهم لأنهم جحدوا ن�ص ًا من ن�صو�ص‬
‫القر�آن و�أمراً من �أوامر اهلل‪ ،‬و�إن اعرتفوا ب�أنها حمرمة عليهم �أقيم عليهم احلد‪،‬‬
‫لأنهم قارفوا �إثم ًا فا�ستحقوا عليه العقوبة‪.‬‬
‫فعمر الذي يهم ب�رضب �أعناق نفر من امل�سلمني املجاهدين‪� ،‬أن ا�ستحلوا‬
‫اخلمر ال ميكن �أن يجادل �أبا بكر يف حرب العرب على جحود الزكاة‪ ،‬وهي‬
‫�أ�صل من �أ�صول الإ�سالم‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ومهما يكن من �شيء فقد ثبت �أبو بكر وثبت معه املهاجرون والأن�صار‬
‫والتابعون لهم ب�إح�سان النتقا�ض اجلزيرة عليهم‪ ،‬و�أتاح اهلل لهم الن�رص‬
‫كما �أتاحه للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف وقت ق�صري‪ ،‬فقد دخل العرب فيما‬
‫خرجوا منه‪ ،‬و�أدوا الزكاة‪ ،‬وانهزم �أ�صحاب طليحة‪َ ،‬و َف َّر طليحة نف�سه ثم �أ�سلم‬
‫بعد ذلك‪ ،‬و�أبلى يف فتح الفر�س �أح�سن البالء و�أعظمه‪.‬‬
‫وانهزم �أ�صحاب م�سيلمة وعادوا �إىل الإ�سالم بعد خطوب‪ ،‬و ُقتل م�سيلمه‬
‫نف�سه‪ ،‬وعاد جنوب اجلزيرة العربية كله �إىل الإ�سالم طوع ًا �أو كره ًا‪.‬‬
‫كل ذلك مت يف خالفة �أبي بكر على ما نعلم من ق�رصها‪ ،‬وكل ذلك �إن دل‬
‫على �شيء ف�إمنا يدل على �أن �أبا بكر وامل�سلمني قد ثبتوا لهذه املحنة القا�سية‪،‬‬
‫وانت�رصوا عليها ال ل�شيء �إال لأنهم �صدقوا اهلل عهدهم ‪ ،‬و�أخل�صوا له قلوبهم‬
‫ونفو�سهم و�ضمائرهم‪ ،‬و�صدقوا ما وعدهم اهلل يف الآية الكرمية من �سورة �آل‬
‫عمران‪:‬‬
‫ون‪.‬‬‫الل �أَ ْم َوا ًتا َب ْل �أَ ْح َياء ِعن َد َر ِ ّبه ِْم ُي ْر َز ُق َ‬ ‫ين ُق ِت ُلواْ فيِ َ�سبِيلِ َ هّ ِ‬ ‫ب ا َ ّل ِذ َ‬
‫«و َال تحَ ْ َ�س نَ َ ّ‬ ‫َ‬
‫ل َي ْل َح ُقواْ ِبهِم ِ ّم ْن‬ ‫ين مَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ذ‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِا‬
‫ب‬ ‫ون‬ ‫شرِ‬
‫ََ ْ ْ ُ َ‬ ‫�‬‫ب‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫�س‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫َ�ض‬
‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫الل‬ ‫هّ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ُُ‬‫اه‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫�‬
‫آ‬ ‫ا‬ ‫ب‬‫َفر ِِح َ َ‬
‫مِ‬ ‫ني‬
‫ون»‪.‬‬ ‫َخ ْل ِفه ِْم �أَ َالّ َخ ْو ٌف َع َل ْيه ِْم َو َال ُه ْم َي ْح َز ُن َ‬
‫فبذلوا �أنف�سهم لن�رص اهلل �أ�سخياء بها‪ ،‬وقبل اهلل منهم ذلك و�صدقهم وعده‪،‬‬
‫فرزقهم الن�رص كما قال عز وجل يف �سورة حممد‪:‬‬
‫الل َين�صرُ ْ ُك ْم َو ُي َث ِ ّب ْت �أَ ْق َد َام ُك ْم»‪.‬‬ ‫ين � َآم ُنوا �إِن َتن�صرُ ُ وا َ هّ َ‬ ‫«يا �أَ ُ ّي َها ا َ ّل ِذ َ‬‫َ‬
‫الردة‪ ،‬وما كان خليار امل�سلمني فيها من‬ ‫ِّ‬ ‫حروب‬ ‫تف�صيل‬ ‫يقرءون‬ ‫والذين‬
‫البالء‪ ،‬ميلكهم الإعجاب ب�أولئك الأبطال الذين مل يرهبوا �شيئ ًا يف �سبيل ن�رص‬
‫الدين و�إعزازه‪ ،‬و�إعادة اجلزيرة العربية �إىل الإ�سالم كما كانت قبل وفاة النبي‪.‬‬
‫وقد ا�ست�شهد منهم خلق كثري وال�سيما يف حرب م�سيلمة‪ ،‬فقد ثبت‬
‫بنوحنيفة للم�سلمني حتى هزموا عكرمة بن �أبي جهل لأنه تعجل ومل ينتظر‬
‫املدد‪ ،‬وقد ع َّنفه �أبو بكر تعنيف ًا �شديداً‪ ،‬ومل ُيزل عكرمة عن نف�سه عار هذه‬
‫الهزمية �إال حني ا�ست�شهد يف حرب الروم يوم الريموك‪.‬‬
‫وو َّجه �أبو بكر خالداً �إىل م�سيلمة فثبت له بنو حنيفة حتى جال امل�سلمون‬ ‫َ‬
‫جولة‪ ،‬لوال خيار �أ�صحاب ر�سول اهلل �أولئك الذين �أعطوا �أح�سن القدوة‪ ،‬فكانوا‬

‫‪70‬‬
‫يوبخون الفارين‪ ،‬ويعريونهم الفرار من اجلنة‪ ،‬وكان بع�ضهم يقول‪ :‬واهلل ما‬
‫هكذا كنا نقاتل مع ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬
‫وما هي �إال �أن َك َّر امل�سلمون بعد جولتهم وثبتوا لبني حنيفة حتى �أزالوهم‬
‫عن مواقفهم‪ ،‬وقتلوا م�سيلمة‪ ،‬وتبعوا املنهزمني حتى فتحوا عليهم ح�صونهم‪،‬‬
‫و�أخ�ضعوهم ل�سلطان اهلل وهم كارهون‪.‬‬
‫وكان �أبو بكر خري قدوة للم�سلمني ملا �أظهر لهم من ثبات اجل�أ�ش و�ضبط‬
‫النف�س‪ ،‬والثقة املطلقة باهلل‪ ،‬والوفاء العميق لر�سوله‪.‬‬
‫وكل ذلك يف هدوء �أي هدوء ! ك�أنه مل تعر�ض له حمنة‪ ،‬ومل تنتق�ض عليه‬
‫العرب‪ .‬فقد �أظهر �أبو بكر يف هذه املحنة �أخ�ص �صفتني امتاز بهما‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫االطمئنان �إىل ما وعد اهلل يف غري تردد �أو تعر�ض لل�شك �أو الوهن‪ ،‬والثبات‬
‫يف حزم وعزم ملا ُيلم به من املكروه حتى ينفذ منه‪ ،‬ومي�ضي يف �أمر اهلل �إىل‬
‫�أن يبلغ الن�رص‪.‬‬

‫‪71‬‬
72
‫‪7‬‬

‫الردة‪ ،‬ولكنه‬ ‫وموقف �آخر لي�س من اخلطورة مبكان موقف �أبي بكر من ِّ‬
‫أم�ضه و� ّأرق ليله‬
‫كان ع�سرياً �أ�شد الع�رس مع ذلك‪ ،‬ولعله �آذى �أبا بكر يف نف�سه و� َّ‬
‫وقت ًا غري ق�صري‪ ،‬ذلك هو موقفه من فاطمة بنت ر�سول اهلل حني طلبت �إليه‬
‫حقها من مرياث �أبيها فلم يعطها ما طلبت‪ ،‬بل قال لها‪� :‬إنه �سمع ر�سول اهلل‬
‫يقول‪« :‬ال ُنورث‪ .‬ما تركناه �صدقة»‪.‬‬
‫وع�رس هذا املوقف على �أبي بكر ي�أتي من �أنه منذ �أ�سلم كان ي�ؤثر ر�سول‬
‫أبر النا�س به وب�أهل بيته وذوي‬ ‫اهلل على نف�سه يف جميع املواطن‪ ،‬وكان � ّ‬
‫قرابته‪ ،‬وكان �شديد احلر�ص على �أن ُيح�سن ر�ضى ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم عنه‪ ،‬وكان �أبغ�ض �شيء �إليه �أن يح�س اجلفاء من ذي قرابة للنبي‪ ،‬فلما‬
‫طلبت فاطمة‪ -‬رحمها اهلل ‪� -‬إليه ما كانت ترى �أنه حقها من مرياث �أبيها‪،‬‬
‫وجد نف�سه بني �شيئني كالهما ع�سري عليه �أ�شد الع�رس‪ :‬ف�إما �أن يعطي فاطمة‬
‫ما طلبت فيخالف عما �أمر ر�سول اهلل‪ ،‬واملوت �أهون عليه من هذا‪ ،‬و�إما �أن‬
‫مينعها ما طلبت في�ؤذيها‪ ،‬و�أ�شد الأ�شياء كراهة �إليه �أن ي�ؤذيها‪ ،‬فهي بنت �أحب‬
‫النا�س �إليه و�أكرمهم عليه و�آثرهم عنده‪ .‬ومع ذلك فقد غلبت طاعته لر�سول‬

‫‪73‬‬
‫اهلل كل عاطفة �أخرى يف نف�سه‪ ،‬ف�أبى على فاطمة ما طلبت‪ ،‬واعتذر �إليها من‬
‫هذا الإباء‪ ،‬وبكى و�أمعن يف البكاء لأن قرابة ر�سول اهلل �أحب �إليه من قرابته‪،‬‬
‫ولكنه �سمع النبي يقول ما قال‪ ،‬فلم ي�سعه �أن يغ�ضب اهلل ور�سوله لري�ضي‬
‫فاطمة على ب ِّره بها و�إيثاره �إياها‪.‬‬
‫وما �أ�شك يف �أن الأ�شهر ال�ستة التي عا�شتها فاطمة بعد �أبيها �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم قد ملأت نف�س �أبي بكر ك�آبة وحزن ًا‪ ،‬لأن فاطمةهجرته ومل تكلمه‬
‫حتى توفيت‪ ،‬وما �أ�شك يف �أن �أبا بكر مل يمُ تحن ب�شيء كان �أ�شق على نف�سه‬
‫من وفاة فاطمة مغا�ضبة له‪ ،‬ومن دفنها لي ًال على غري علم منه‪ ،‬وحرمانه‬
‫�أن ي�شهد جنازتها‪ ،‬وي�صلي عليها ويربها بعد وفاتها مباكان يجب لها من‬
‫الرب‪ ،‬ولكن اهلل ميح�ص قلوب امل�ؤمنني ال�صادقني بال�شدائد التي ميتحنهم‬
‫بها يف حياتهم العامة واخلا�صة جميع ًا‪ ،‬وقد امتحن �أبا بكر بهذه املحنة‬
‫العامة حني ارتد العرب‪ ،‬وتعر�ض امل�سلمون ملا تعر�ضوا له من اخلطر العظيم‪،‬‬
‫وامتحنه بهذه املحنة اخلا�صة حني ا�ضطره �إىل �أن ير�ضي اهلل ور�سوله‪،‬‬
‫ويغ�ضب فاطمة‪ ،‬مع �أن غ�ضبها عليه ثقيل‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫‪8‬‬

‫و�أعود �إىل موقف �أبي بكر من الردة فهو يجلو خ�صلتني متناق�ضتني �أ�شد‬
‫التناق�ض‪ ،‬من خ�صال �أبي بكر فيما يظهر‪ .‬فقد كان �أبو بكر‪ ،‬منذ �أ�سلم‪ ،‬معروف ًا‬
‫وخلقه هذا هو الذي‬ ‫بلني اجلانب ورقة القلب والرحمة لل�ضعفاء واملكروبني‪ُ ،‬‬
‫حمله على �أن ي�شري على النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بالرفق يف �أمر الأ�رسى‬
‫بعد وقعة بدر‪.‬‬
‫وقد قبل النبي م�شورته و�أعر�ض عن ر�أي عمر الذي كان ي�شري بقتل‬
‫الأ�رسى‪ .‬وكان �أبو بكر يذكر القرابة والرحم‪ ،‬ويرى �أن فيما �سي�ؤديه الأ�رسى‬
‫من الفداء قوة لل�سلمني‪ ،‬وكان عمر يذكر ق�سوة قري�ش على النبي وفتنتهم‬
‫ويقدر �أن قتلهم �سي ُف ّل من عزم قري�ش‪ ،‬ويفرت من همتها‪ ،‬ويثبطها‬ ‫للم�سلمني‪ِّ ،‬‬
‫عن امل�ضي يف حرب النبي والكيد له‪ ،‬ولكن النبي �سمع لأبي بكر وقبل الفداء‬
‫من �أ�رسى قري�ش‪ ،‬و�أنزل اهلل يف ذلك قر�آن ًا‪ ،‬الم فيه النبي وامل�سلمني‪ ،‬لأنهم‬
‫قبلوا الفداء قبل �أن ُي ْثخنوا يف الأر�ض‪ ،‬و�أرادوا َعر�ض الدنيا‪ ،‬واهلل يريد الآخرة‪.‬‬
‫فقال يف �سورة الأنفال‪:‬‬
‫�ض‬ ‫ون َع َر َ‬ ‫�ض ُترِي ُد َ‬ ‫ون َل ُه �أَ�سرْ َ ى َح َ ّتى ُيث ِْخ َن فيِ الأَ ْر ِ‬ ‫ان ِل َنب ٍ ِّي �أَن َي ُك َ‬
‫«ما َك َ‬‫َ‬
‫ِ‬ ‫هّ‬ ‫َ‬
‫اب ّم َن الل َ�س َب َق لمَ َ َّ�س ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‪ّ َ .‬ل ْو َال ك َت ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫هّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫هّ‬ ‫َ‬
‫ال ُ ّد ْن َيا َوالل ُيرِي ُد الآخ َر َة َوالل َعزِيزٌ َحك ٌ‬

‫‪75‬‬
‫ُور‬ ‫ما َغ ِن ْم ُت ْم َحال ًال َط ِ ّي ًبا َوا َ ّت ُقو ْا َ هّ َ‬
‫الل �إ َ ِّن َ هّ َ‬
‫الل َغف ٌ‬ ‫اب َع ِظ ٌ‬
‫يم‪َ .‬ف ُك ُلو ْا مِ َ ّ‬ ‫يما �أَ َخ ْذ مُ ْ‬
‫ت َع َذ ٌ‬ ‫ِف َ‬
‫يم»‪.‬‬ ‫َ ّر ِح ٌ‬
‫و�أنت ترى من هذه الآيات الكرمية �أن اهلل عز وجل قد الم وع َّنف و�أنذر‪ ،‬ثم‬
‫عفا وغفر‪ .‬ولي�س �شك من �أن موقع هذه الآيات يف نف�س النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم ‪ ،‬ويف نف�س �أبي بكر‪ ،‬قد كان �شديداً الذع ًا‪.‬‬
‫وقد ظل �أبو بكر مع ذلك على ُخلقه لين ًا رفيق ًا رحيم ًا‪ ،‬ولكنه حني ويل‬
‫اخلالفة‪ ،‬ور�أى ما كان من كفر العرب حني اتبع فريق منهم الكذابني‪ ،‬وحني‬
‫�أنكر فريق �آخر منهم الزكاة‪ ،‬وحني تنكر �أولئك وه�ؤالء ملن كان فيهم من‬
‫امل�سلمني‪ ،‬فقتلوا منهم من قتلوا‪ ،‬وفتنوا من فتنوا‪ .‬ملا ر�أى �أبو بكر هذا‬
‫الردة‪ ،‬وحمل العرب على �أن‬ ‫بلغت منه احلفيظة �أق�صاها‪ ،‬فلم يكتف مبقاومة َّ‬
‫يدخلوا طوع ًا �أو كره ًا فيما خرجوا منه‪ ،‬بل �أق�سم ليبلغن يف الث�أر ملن قتل من‬
‫امل�سلمني‪ ،‬و�أو�صى قواده �أن يتتبعوا بعد الن�رص �أولئك الذين قتلوا امل�سلمني‪،‬‬
‫و�أن يقتلوهم ويجعلوهم لغريهم نكاالً‪.‬‬
‫وكان �أ�رسع قواده �إىل طاعته يف ذلك بل �إىل الإبالغ يف طاعته خالد بن‬
‫ورد �أتباعه �إىل الإ�سالم‪ ،‬ولكنه جعل‬ ‫الوليد رحمه اهلل‪ .‬فهو قد هزم ُطليحة َّ‬
‫يتتبع من املغلوبني من كان قد قتل امل�سلمني �أو فتنهم‪ ،‬ف�إذا �أخذهم قتلهم‬
‫�أ�شنع قتلة‪ .‬كان يقذف بهم من �أعايل اجلبال‪ ،‬وينكث بع�ضهم يف الآبار‪،‬‬
‫ويحرق بع�ضهم بالنار‪ ،‬وين�صب بع�ضهم هدف ًا للنبال حتي �أخاف النا�س وملأ‬
‫قلوبهم رهب ًا‪ .‬وكان يف طبع خالد رحمه اهلل عنف �شديد وا�ستعداد للإ�رساف‬
‫يف القتل‪.‬‬
‫والذين قرءوا تاريخ فتح مكة يذكرون �أنه خالف عن �أمر النبي‪ ،‬وقتل يف‬
‫�أهل مكة‪ ،‬ف�أ�رسف حتى �أر�سل النبي من َك َّفه عن القتل‪ ،‬ورفع �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم يديه �إىل ال�سماء قائ ًال‪« :‬اللهم �إين �أبر�أ �إليك مما فعل خالد»‪.‬‬
‫وهذا اخللق العنيف من �أخالق خالد هو الذي يف�رس لنا موقف ًا من مواقفه‬
‫�أحفظت عليه عمر (رحمه اهلل) وطائفة من امل�سلمني‪ ،‬وهو موقفه من مالك‬
‫بن ُنويرة‪ .‬فقد عمد بعد فراغه من طليحة و�أتباعه‪ ،‬وبعد ا�ستربائه الأر�ض من‬
‫الذين قتلوا امل�سلمني �أو فتنوهم‪� ،‬إىل مالك بن نويرة وقومه من بني يربوع‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫وكانوا قد وقفوا موقف املرتب�ص‪ ،‬و�أبط�أوا ب�صدقاتهم وجعلوا ينتظرون على‬
‫من تدور الدائرة‪ ،‬و�ش�أنهم يف ذلك �ش�أن كثري من القبائل‪ ،‬فلما ظفر خالد‪،‬‬
‫و�أتيح له الن�رص امل�ؤزر على طليحة و�أ�صحابه‪ ،‬عرف مالك �أ ّال ِق َب َل له بحرب‬
‫امل�سلمني‪ ،‬ف�أمر قومه �أن يتفرقوا يف �أموالهم و�أال ي�ستعدوا حلرب‪ ،‬و�أقبل خالد‬
‫على ديارهم‪ ،‬فلم يجد �أمامه جي�ش ًا يقاتله‪ ،‬ومل ير جمع ًا يتهي�أ للقائه‪ ،‬ف�أقام‬
‫وبث ال�رسايا و�أمرهم ب�أمر �أبي بكر‪ ،‬وهو �أن ي�ؤ ِّذنوا �إذا نزلوا بقوم‪ ،‬ف�إن �أ َّذ َن‬
‫القوم فال يقاتلوهم حتى ي�س�ألوهم عما يعرفون من الإ�سالم‪.‬‬
‫وجاءه بع�ض ال�رسايا بجماعة من بني يربوع فيهم مالك بن نويرة‪ ،‬وهو‬
‫رئي�س القوم‪ ،‬ويقول امل�ؤرخون‪� :‬إن ال�رسية التي جاءت به�ؤالء النفر اختلفت‪،‬‬
‫ف�شهد بع�ضها ب�أن القوم �أ َّذنوا‪ ،‬و�شهد بع�ضها الآخر ب�أنهم مل ي�ؤ ّذنوا‪ ،‬ثم يزعم‬
‫امل�ؤرخون �أن خالداً �أمر بحب�س ه�ؤالء النفر‪ ،‬وكان ذلك يف ليلة �شديدة الربد‪،‬‬
‫يزداد بردها �شدة كلما تقدم الليل‪ ،‬فزعم الرواة �أن خالداً �أمر منادي ًا �أن ينادي‬
‫يف النا�س‪� :‬أن �أدفئوا �أ�رساكم‪ ،‬ففهم من كان عندهم ه�ؤالء النفر �أن هذا �أمر‬
‫بقتلهم‪ ،‬وكان الإدفاء يف لغة كنانة معناه القتل‪ .‬فقتلوا مالك ًا و�أ�صحابه‪،‬‬
‫و�سمع خالد ال�صياح‪ ،‬فلما �أخرب قال‪�« :‬إذا �أراد اهلل �أمراً �أ�صابه»‪.‬‬
‫و�أ�ضح ما يف هذه الرواية من التكلف الذي اليراد به �إال �إبراء خالد من‬
‫قتل �أولئك النفر‪.‬‬
‫و�آخرون من الرواة يزعمون �أن خالداً كان يفاو�ض مالك ًا‪ ،‬فقال له مالك‬
‫يف بع�ض حديثه‪� :‬إن �صاحبكم كان يقول كذا وكذا‪ ،‬يريد النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪ .‬قال خالد حني �سمع من مالك هذه املقالة‪� :‬أولي�س هو لك ب�صاحب؟ ثم‬
‫�أمر بقتله‪.‬‬
‫وال�شيء الذي لي�س يف �شك هو �أن خالداً قتل مالك ًا‪ ،‬وغ�ضب لذلك رجل من‬
‫خرية �أ�صحاب النبي كان يف جي�ش خالد و�شهد ب�أنه �سمع القوم ي�ؤذنون‪ ،‬فلما‬
‫ر�أى َق ْتل مالك و�أ�صحابه فارق اجلي�ش و�أق�سم ال يقاتل مع خالد �أبداً‪ ،‬ورجع‬
‫�إىل املدينة‪ .‬وهذا الرجل هو �أبو قتادة الأن�صاري‪ ،‬وقد كلم �أبو قتادة كبار‬
‫�أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وفيهم عمر‪ ،‬و�أراد �أن يدخل على �أبي‬
‫بكر لي�شكو �إليه خالداً‪ ،‬ف�أبى �أبو بكر لقاءه غ�ضب ًا عليه لأنه ترك اجلي�ش عن‬

‫‪77‬‬
‫غري �إذن من �أمريه‪ .‬وقد دخل عمر على �أبي بكر فك ّلمه يف قتل مالك‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫�إن يف �سيف خالد رهق ًا‪ ،‬فاعزله‪ ،‬فقال �أبو بكر‪ :‬ت� ّأول ف�أخط�أ‪ ،‬وملا �ألح عليه‬
‫عمر يف عزل خالد قال‪� :‬إليك عني يا عمر! ما كنت لأ�شيم((( �سيف ًا َ�س َّله اهلل على‬
‫الكافرين‪.‬‬
‫ثم �أر�سل �أبو بكر �إىل خالد ي�ستدعيه‪ ،‬ف�أقبل خالد �إىل املدينة‪ ،‬ودخل‬
‫امل�سجد‪ ،‬وجماعة من �أ�صحاب النبي‪ ،‬فيهم عمر‪ ،‬جال�سون‪ .‬وكان يف منظر‬
‫العجب‪ ،‬كان عليه قباء((( يظهر فيه �صد�أ احلديد وقد غر�س‬ ‫خالد �شيء من ُ‬
‫يف عمامته �أ�سهم ًا‪ .‬فلما ر�آه عمر قام �إليه فانتزع هذه الأ�سهم من عمامته‬
‫وحطمها‪ ،‬وقال‪ :‬قتلت رج ًال م�سلم ًا ثم نزوت على امر�أته‪ ،‬وكان خالد قد تزوج‬
‫امر�أة مالك �إثر قتله‪.‬‬
‫قال الرواة‪ :‬وكانت العرب تكره مثل هذا الزواج يف احلرب‪ .‬واملحقق �أن‬
‫خالداً تزوج �أم متيم بعد قتل زوجها‪ ،‬وما �أح�سبه تزوجها قبل انق�ضاء عدتها‪،‬‬
‫ال�سبي فا�سترب�أها كما ت�سترب�أ الإماء‪ ،‬ثم �أعتقها‬ ‫�إال �أن يكون اعتربها من ْ‬
‫وتزوجها‪.‬‬
‫ودخل خالد على �أبي بكر فق�ص عليه خربه‪ ،‬فعذره �أبو بكر يف قتل مالك‪،‬‬
‫وعنفه يف تزوج امر�أته‪ ،‬ورده �إىل جي�شه‪.‬‬
‫ويقول الرواة‪� :‬إن خالداً خرج من عند �أبي بكر را�ضي ًا‪ ،‬فلما ر�أى عمر يف‬
‫امل�سجد حتداه‪ ،‬فلم يكلمه عمر‪.‬‬
‫وهذه الق�صة تبني لنا يف و�ضوح ما �أ�رشت �إليه من عنف خالد و�إ�رسافه‬
‫يف القتل‪ ،‬وتظهر عن خلق �آخر وهو ُحبه للتزوج‪ ،‬و�سرنى مظهراً �آخر من‬
‫مظاهر هذا احلب‪ ،‬و ُتظهر لنا خلق ًا ثالث ًا مل يكن مق�صوراً على خالد‪ ،‬و�إمنا‬
‫العجب واخليالء‪.‬‬ ‫كان خلق ًا معروف ًا يف ع�شريته من بني خمزوم‪ ،‬وهو ُ‬
‫ولكن هذا كله ال ينتق�ص من كفاية خالد يف احلرب وال من بالئه يف رد‬
‫العرب �إىل الإ�سالم‪.‬‬

‫‪ -1‬شام السيف‪ :‬هنا أغمده‪.‬‬


‫‪ -2‬القباء بالفتح‪ :‬الثوب جتتمع أطرافه‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫وقد �أ�رشت �آنف ًا �إىل �أن عكرمة بن �أبي جهل قد تعجل حرب م�سيلمة قبل �أن‬
‫ي�أتيه املدد فلم ينجح‪ ،‬بل ا�ضطر �إىل الهزمية‪ ،‬وغ�ضب عليه �أبو بكر يف ذلك‪.‬‬
‫وقد حاول قائد �آخر من قواد �أبي بكر قتال م�سيلمة فلم ينجح �أي�ضاً‪ ،‬وهو‬
‫وجه خالداً �إليه يف جي�شه‬ ‫�شرُ حبيل بن ح�سنة‪ .‬فلما ر�أى �أبو بكر قوة م�سيلمة َّ‬
‫وجعل له الإمرة على جي�ش �شرُ َ حبيل‪ ،‬و�أمده بجمع �صالح من املهاجرين‬
‫والأن�صار‪.‬‬
‫وق�صد خالد ق�صد اليمامة فلقي جماعة من �أهلها‪ ،‬ف�أخذهم على غرة‪ ،‬ثم‬
‫�أمر بقتلهم �إ ّال رج ًال واحداً منهم هو جماعة بن مرارة ا�ستبقاه �أ�سرياً‪ ،‬وو�ضعه‬
‫يف احلديد‪ ،‬وجعله عند زوجه �أم متيم‪ ،‬وهي التي تزوجها بعد �أن قتل زوجها‬
‫مالكاً‪.‬‬
‫قال الرواة‪ :‬فالتقى خالد مب�سيلمة و�أ�صحابه‪ ،‬فا�شتد القتال‪ ،‬وبلغ من‬
‫ال�شدة مامل يعرف العرب يف حروب الردة مثله‪ ،‬وجال امل�سلمون جولة‪ ،‬وتبعهم‬
‫وهموا بقتل �أم متيم‪ ،‬ف�أجارها‬ ‫�أ�صحاب م�سيلمة حتى دخلوا ف�سطاط خالد ُّ‬
‫فكروا على‬ ‫مجُ َّ اعة‪ ،‬وقال نعمت احلرة هي! ثم تنادى امل�سلمون يف �أثناء ذلك‪ُّ ،‬‬
‫القوم‪ ،‬وا�شتد القتال بينهم مرة�أخرى حتى انت�رص امل�سلمون‪ ،‬والتج�أ م�سيلمة‬
‫و�أ�صحابه �إىل حديقة �سماها امل�ؤرخون بحديقة املوت‪ ،‬فتبعهم امل�سلمون‬
‫حتى اقتحموا عليهم احلديقة بعد خطوب‪ ،‬وقتلوهم فيها �رش قتلة‪ ،‬و ُقتل يف‬
‫احلديقة م�سيلمة‪.‬‬
‫ثم عر�ض مجُ اعة بن مرارة‪� ،‬أ�سري خالد‪ ،‬ال�صلح عليه عمن كان يف ح�صون‬
‫اليمامة من قومه‪ ،‬ف�صاحله على مايف اليمامة من ذهب وف�ضة و�سالح‪ ،‬وعلى‬
‫ال�سبي‪ ،‬وعلى حديقة ومزرعة يف كل قرية‪.‬‬ ‫ن�صف َّ‬
‫وملا �أم�ضى ال�صلح قال خالد ملجاعة‪ :‬زوجني ابنتك‪ .‬قال جماعة‪� :‬إنك‬
‫لح ًا‪� :‬أيها‬‫قا�صم ظهري وظهرك عند �صاحبك ‪ -‬يريد �أبابكر ‪ -‬قال خالد ُم ّ‬
‫الرجل‪ ،‬زوجني ابنتك‪ .‬فزوجه ابنته‪ .‬وبلغ الن�رص �أبا بكر‪ ،‬وبلغه �أي�ض ًا �أن‬
‫خالداً تزوج بنت مجُ اعة بن مرارة‪ ،‬فكتب �إليه يعنفه‪ :‬لعمري يابن �أم خالد �إنك‬
‫لفارغ‪ ،‬تنكح الن�ساء وبفنائك �ألف ومئتان من امل�سلمني مل يجف دمهم بعد!‬

‫‪79‬‬
‫قال الرواة‪ :‬فلما نظر خالد يف الكتاب قال‪ :‬هذا عمل الأعي�رس‪ ،‬يريد عمر‪،‬‬
‫وكان �أع�رس(((‪.‬‬
‫و�سرتى من عنف خالد يف القتال و�إ�رسافه يف القتل �شيئ ًا كثرياً‪ ،‬حني يبلغ‬
‫العراق حلرب من فيه من العرب والفر�س جميع ًا‪ .‬ومل �أرد �إىل و�صف �شيء من‬
‫الردة‪ ،‬ومل �أذكر ما ذكرت من حرب م�سيلمة �إال لأبني هذه الناحية من‬ ‫حروب ِّ‬
‫�أخالق خالد رحمه اهلل‪ ،‬ولأبني �أنها كانت م�صدراً خلالف �شديد بني ال�شيخني‪،‬‬
‫ينق�ض بوفاة �أحدهما وهو �أبو بكر رحمه اهلل‪ ،‬و�إمنا ات�صل بعد ذلك حتى‬ ‫ِ‬ ‫مل‬
‫ُعزل خالد و�أبعد عن احلرب‪ ،‬وعا�ش عي�شة ال�سلم حتى �أدركه املوت‪ ،‬فقال يف‬
‫مر�ضه الذي مات فيه‪ :‬واهلل ما �أعرف مو�ضع ًا من ج�سمي �إال و فيه �أثر من‬
‫�سيف �أو رمح �أو �سهم‪ ،‬وه�أنذا اليوم �أموت على فرا�شي‪.‬‬
‫كان �أبو بكر معجب ًا بقوة خالد وب�أ�سه وح�سن بالئه وبراعته الرائعة‬
‫يف احلرب‪ ،‬وكان خالد ي�صدق ظن �أبي بكر يف كل موطن من مواطن ال�شدة‬
‫ورد من بقي من بني حنيفة �إىل الإ�سالم‪،‬‬ ‫والب�أ�س‪ .‬فهو قد ف�ض جمع طليحة‪َّ ،‬‬
‫و�أبلى يف هذين املوطنني �أعظم بالء �أباله �أحد من قواد �أبى بكر يف حرب‬
‫الردة‪ ،‬وهو قد �أتى بالأعاجيب يف فتح العراق كما �سرنى‪ ،‬ولوال �أن �أبا بكر‬
‫لتعجل بع�ض املواقع التي كانت �أيام عمر بني‬ ‫ّ‬ ‫كان يكفكفه عن القتال‬
‫امل�سلمني والفر�س‪ .‬ومن يدري؟ لعله كان ي�سبق �سعد بن �أبي وقا�ص �إىل فتح‬
‫املدائن عا�صمة الأكا�رسة‪.‬‬
‫ولكن �أبا بكر كان يعرف حدته‪ ،‬وكان ي�ؤثر الأناة‪ ،‬فكان ي�شدد على خالد‬
‫وي�ضطره �إىل الوقوف‪ ،‬حني كان امل�ضي يف احلرب �أحب �شيء �إليه لو ملك‬
‫�أمره‪.‬‬
‫حوله �أبو بكر عن العراق ‪ ،‬و�أر�سله �إىل ال�شام منجداً للم�سلمني هناك‪،‬‬‫وقد َّ‬
‫و�أمرياً عليهم ‪ ،‬فيما �أرجح‪ ،‬فكان بال�ؤه يف ال�شام �أبعد �أثراً و�أعظم خطراً من‬
‫ويعر�ض‬ ‫بالئه يف العراق ويف حرب الردة‪ ،‬فال غرابة يف �أن يثق به �أبو بكر ُ‬
‫عن عمر حني �ألح عليه يف عزله‪ .‬ولكن عمر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬كان ينظر �إىل‬

‫‪ -1‬األعسر‪ :‬الذي يعمل بشماله‬

‫‪80‬‬
‫الأمور نظرة �أخرى‪ ،‬كان يريد من القواد �أن ي�سمعوا ويطيعوا‪ ،‬و�أال يجاوزوا‬
‫الق�صد يف �أمر من الأمور‪ ،‬و�أال يعر�ضوا �أنف�سهم للوم جنودهم لهم و�إنكارهم‬
‫عليهم‪ ،‬ف�ض ًال عن لوم امل�سلمني و�إنكارهم‪ .‬وكان يريد �أن يكون القواد حرا�ص ًا‬
‫�أ�شد احلر�ص على العدل وال َّن�صفة‪ ،‬و�أبعد عن ال�رسف واجلور‪ .‬وكان �أمر الدين‬
‫ومثله العليا �آثر عنده من �أمر احلرب وما يكون فيها من انت�صار �أو هزمية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وما يكون فيها ويف �أعقابها من �إخافة للنا�س وترهيب لهم‪.‬‬
‫فلما ر�أى خالداً قتل رج ًال ي�شهد بع�ض امل�سلمني العدول من �أ�صحاب النبي‬
‫ب�أنه كان م�سلم ًا‪ ،‬وملا ر�أى �أن خالداً �أ�رسع بعد قتل هذا الرجل �إىل التزوج من‬
‫امر�أته‪� ،‬ألقى يف روعه �أنه مل يقتله يف ذات اهلل‪ ،‬و�إمنا قتله ا�ستجابة ملا يف‬
‫طبعه من العنف �أوالً‪ ،‬وابتغاء ملتعة من متع الدنيا‪ ،‬ويف اتخاذ امر�أة مالك‬
‫لنف�سه زوج ًا‪ ،‬فثار لذلك �أ�شد ثورة و�أعنفها‪ ،‬و�أ�شار على �أبي بكر بعزل خالد‪.‬‬
‫فلما امتنع �أبو بكر �سمع و�أطاع‪ ،‬وكظم ما يف نف�سه ومل يغري ر�أيه يف وجوب‬
‫عزل خالد‪ ،‬وملا ر�أى �أن جماعة من خيار �أ�صحاب ر�سول اهلل من املهاجرين‬
‫والأن�صار قد قتلوا يف حرب اليمامة‪ ،‬و�أن قتلى امل�سلمني يف تلك احلرب قد‬
‫بلغوا �إحدى ع�رشة �أو اثنتي ع�رشة مئة‪ ،‬ثم ر�أى �أن هذا امل�صاب الفادح مل‬
‫مينع خالداً من �أن يتزوج بنت مجُ اعة مع �أن العهد مل يبعد بتزوجه �أم متيم‬
‫بعد قتل زوجها مالك‪.‬‬
‫ملا ر�أى عمر هذا كله بلغ الغ�ضب منه غايته‪ ،‬وك�أنه راجع �أبا بكر يف �أمر‬
‫خالد‪ .‬فلم يزد �أبو بكر على تعنيف خالد بذلك الكتاب الذي رويناه �آنف ًا‪.‬‬
‫ول�ست �أحاول الف�صل فيما كان من موقف ال�شيخني ب�إزاء خالد‪ ،‬و�إمنا‬
‫�أرى �أن كليهما قد اجتهد ر�أيه‪ ،‬و�أن كليهما �أراد باجتهاده وجه اهلل وم�صلحة‬
‫امل�سلمني‪ .‬نظر �أبو بكر �إىل �أن خالداً رجل حرب‪ ،‬و�إىل �أنه �أبرع قواده‪ ،‬و�إىل‬
‫�أن الإ�رساع �إىل عزل القواد �أثناء احلرب م�ضيع مل�صلحة امل�سلمني‪ ،‬ويو�شك‬
‫�أن يوهن عزائمهم و�أن يف�سد عليهم �أمرهم ب�إزاء العدو‪ .‬ونظر عمر �إىل املثل‬
‫العليا خال�صة من كل �شائبة‪ ،‬ومن هنا �أ�رص �أبو بكر على االنتفاع بقوة خالد‪،‬‬
‫وعلى مالحظته يكفكفه �إذا جتاوز الق�صد يف احلرب‪ ،‬ويعنفه �إذا جتاوز الق�صد‬
‫يف �أمر من �أمور نف�سه‪ ،‬فع َّن َفه حني تزوج امر�أة مالك‪ ،‬وع َّن َفه حني تزوج بنت‬

‫‪81‬‬
‫مجُ ّ اعة بعد وقعة اليمامة‪ ،‬وع َّن َفه مرة �أخرى حني ر�أى خالد �أن اهلل قد �صنع‬
‫له يف فتح العراق‪ .‬ف�أراد �أن يحج‪ ،‬وكره �أن يعلن ذلك �إىل جي�شه‪ ،‬فا�ستخفى‬
‫بحجه ومل ينبئ به �إال خا�صته‪ ،‬و�أظهر للجي�ش �أن يتفقد ال�ساقة(((‪ ،‬ثم �سلك‬
‫طريق ًا ال ي�سلكها احلاج‪ ،‬حتى بلغ مكة ف�أمت حجه‪ ،‬وعاد �إىل جي�شه باحلرية‪.‬‬
‫ومل يعلم �أبو بكر بحج خالد �إال ب�أخرة‪ ،‬فكتب �إىل خالد يعنفه‪ ،‬ويعاقبه فيما‬
‫يقول الرواة هذه املرة‪ ،‬في�أمره بالذهاب �إىل ال�شام لإجناد امل�سلمني هناك‪.‬‬
‫وكان موقفهم حرج ًا‪.‬‬
‫وقراءة كتاب �أبي بكر‪ ،‬كما يرويه الرواة تدل على �أن اخلليفة قد عرف‬
‫خلالد بالءه وبراعته وتقدمه على �سائر قواده‪ ،‬ولكنها تدل �أي�ض ًا على �أنه‬
‫ويعر�ض‬
‫ِّ‬ ‫َح َّذره من �أن يعود ملثل ما فعل فيرتك اجلي�ش ويحج م�ستخفي ًا‪،‬‬
‫اجلند بذلك ملا ميكن �أن يدهمهم من اخلطر وقائدهم منهم بعيد‪ .‬ثم وعظه‬
‫�أبو بكر فنهاه عن �أن ي�أخذ العجب والتيه بح�سن بالئه ونكايته للعدو‪ ،‬ف�إن‬
‫ذلك يف�سد عمله‪ ،‬و�ألح عليه يف �أن يبغي بكل ما يفعل وجه اهلل عز وجل ف�إنه‬
‫يل اجلزاء‪ .‬و�أكرب الظن �أن �أبا بكر �أح�سن من خالد بع�ض هذا العجب‬ ‫وحده و ّ‬
‫والإغراق يف الثقة بالنف�س فرتك اجلي�ش على هذا النحو‪ ،‬واال�ستهانة بالعدو‬
‫تغرير بامل�سلمني‪ ،‬و�إ�رساعه �إىل احلج ي�شعر ب�أنه قد �أراد �أن ينتهز هذه الفر�صة‬
‫ولي ّلم ببع�ض قومه من بني خمزوم‪.‬‬
‫ليظهر يف مكة �أيام املو�سم‪ُ ،‬‬
‫وكان بالء خالد يف العراق خليق ًا �أن يدفع �إىل العجب والتيه‪ ،‬فهو قد‬
‫ا�ستطاع �أن يقهر عرب العراق يف غري موطن‪ ،‬و�أن يقهر من جاء من جموع‬
‫ورد خالد و�أ�صحابه �إىل‬ ‫الفر�س لإجناد العرب من �أهله وا�سرتداد العراق‪ِّ ،‬‬
‫بالدهم‪ .‬فكان خالد يلقى هذه اجلموع فال يلبث �أن يظهر بها‪ .‬وكان ات�صال‬
‫احلرب يف العراق‪ ،‬وا�شتداد الفر�س يف االحتفاظ به‪ ،‬وطول مقاومتهم‬
‫و�إحلاحهم يف هذه املقاومة‪ ،‬كان هذا كله يحفظ خالداً ويثري غ�ضبه‪ ،‬حتى‬
‫ليجد ّن يف قتلهم حتى يجري‬ ‫حلف يف �إحدى املواقع لئن �أظفره اهلل على عدوه َّ‬
‫نهرهم بدمائهم‪ .‬فلما انهزم العدو �أمامه �أمر املنادين‪ ،‬فنادوا يف اجلي�ش ‪� :‬أن‬

‫‪ -1‬الساقة‪ :‬املؤخرة‬

‫‪82‬‬
‫تتبعوا الأ�رسى وال تقتلوا منهم �إال من امتنع عليكم‪ .‬فم�ضى امل�سلمون يف‬
‫تتبع املنهزمني حتى �أخذوا منهم عدداً �ضخم ًا‪ ،‬و�أراد خالد �أن يبرُ ّ ميينه ف�صد‬
‫املاء عن النهر ‪ ،‬وجعل يقدم الأ�رسى في�رضب �أعناقهم يف جمرى النهر‪.‬‬
‫وزعم الرواة �أنه �أقام على ذلك يوم ًا وليلة حتى قال له القعقاع بن عمرو‪،‬‬
‫وهو من �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬و�آخرون معه‪ ،‬وقد راعهم ما‬
‫ر�أوا من الإ�رساف يف قتل الأ�رسى‪� :‬إن الدماء ال جتري‪ ،‬و�إن الأر�ض ال تن�شف‬
‫الدماء‪ ،‬ف�أج ِر املاء ُترب ميينك‪ .‬فلما �أجرى املاء �إىل النهر جرى ذلك النهر دم ًا‪،‬‬
‫ف�سمي نهر الدم‪.‬‬
‫وقد يكون الرواة قد �أ�رسفوا يف املبالغة‪ ،‬ولكن املحقق �أن خالداً �أمعن يف‬
‫القتل حتى �ضاق بذلك القعقاع و�أ�صحابه‪ ،‬ف�رصفوه عن ذلك ب�إجراء املاء‪.‬‬
‫وهذه �صورة �أخرى من �صور العنف يف �أخالق خالد رحمه اهلل‪ .‬وال�شيء‬
‫الذي لي�س فيه �شك هو �أنه ا�ستطاع �أن ي�ستخل�ص العراق العربي من الفر�س‪،‬‬
‫وكان يود لو �أذن له �أبو بكر يف مهاجمة الفر�س يف عقر دارهم ‪ ،‬ولكن �أبا‬
‫بكر مل ي�أذن ا�صطناع ًا للأناة‪ ،‬فكان خالد ي�ضيق مبقامه يف العراق على غري‬
‫حرب‪ ،‬حتى كان ي�سمي �سنته تلك �سنة الن�ساء‪.‬‬
‫فلما �أٌ ِمر بال�سري �إىل ال�شام �ضاق بهذا الأمر‪ ،‬لأنه َف َّو َت عليه فر�صة كان‬
‫يريد انتهازها‪ ،‬وهي امل�ضي يف غزو الفر�س حتى ينزل املدائن عا�صمة‬
‫ملكهم‪ .‬ولكنه مل يجد بداً من ال�سمع والطاعة خلليفة ر�سول اهلل‪ ،‬ف�سار بن�صف‬
‫جي�شه �إىل ال�شام مدداً للم�سلمني هناك‪ .‬وكان �سريه �إىل ال�شام و�إ�رساعه يف‬
‫جندة امل�سلمني عجب ًا من العجب‪.‬‬
‫وكان ع�رص �أبي بكر‪ ،‬والظروف التي �أحاطت بخالفته الق�صرية‪ ،‬كان كل‬
‫ذلك مثرياً للغ�ضب‪ ،‬خمرج ًا لأويل الأحالم عن �أطوارهم‪ ،‬مزعج ًا لذوي القلوب‬
‫املطمئنة والنفو�س الر�ضية‪ ،‬والطبائع ال�سمحة‪ ،‬عما كانوا ي�ألفون من اللني‬
‫والدعة وي�ؤثرون من الرفق والإ�سماح‪.‬‬
‫فقد كان �أبو بكر ومن حوله من �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬
‫مطمئنني �إىل �أن العرب قد دانوا للإ�سالم طائعني �أو كارهني‪ ،‬و�إىل �أنهم قد‬
‫فرغوا من �أهل اجلزيرة العربية و�أو�شكوا �أن ي�أخذوا يف حترير العرب املتفرقني‬

‫‪83‬‬
‫خارج اجلزيرة يف ملك فار�س والروم‪ .‬يرون ذلك ت�أمين ًا حلدود اجلزيرة �أوالً‪،‬‬
‫وا�ستنفاذاً للعرب من حكم الأجنبي‪ .‬وكانوا يرون �أن اهتمام النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم بحدود اجلزيرة مما يلي الروم‪ ،‬حني �أر�سل جي�ش ًا �إىل م�ؤتة‪ ،‬وحني‬
‫�سار بنف�سه يف غزوة تبوك‪ ،‬وحني جهز جي�ش �أ�سامة و�أمر يف مر�ضه ب�إنفاذه‪.‬‬
‫كانوا يرون هذا كله مقدمة ال�ستنفاذ العرب املنت�رشين يف ال�شام من‬
‫�سلطان ق�سطنطينية‪ ،‬وكانوا يقدرون �أن النبي لو بقي فيهم ملا ق�رص يف‬
‫العناية بتحرير العرب املنت�رشين يف العراق من �سلطان الأكا�رسة‪.‬‬
‫وكان �أبو بكر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬يفكر حني ا�ستخلف يف �أن ينفذ اخلطة التي‬
‫كان يعلم �أن ر�سول اهلل �سينفذها لو عا�ش‪ ،‬وهي حترير العرب خارج اجلزيرة‬
‫بعد �أن �أ�سلم العرب داخل اجلزيرة‪ ،‬ولكنه ينظر‪ ،‬ف�إذا الكذابون قد ظهروا قبل‬
‫وفاة النبي وتبعهم كثري من العرب‪ ،‬و�إذا �سائر العرب يف اجلزيرة قد عادوا‬
‫�إىل جاهليتهم‪ ،‬وجعلوا ينظرون �إىل الزكاة التي كانت ت�ؤخذ من �أغنيائهم‬
‫لترُ د على فقرائهم‪ ،‬على �أنها �إتاوة جتبى �إىل ملك يقيم باملدينة‪ .‬وكانوا قد‬
‫اذعنوا بالزكاة ملا �أمر اهلل به من �أداء الزكاة يف حياة النبي دون �أن تطيب‬
‫عنها نفو�سهم‪ .‬قدروا �أن النبي �أقوى من �أن يغلب فدانوا له بالطاعة‪ ،‬فلما ر�أوا‬
‫�أنه قد مات‪ ،‬و�أن الأمر قد انتقل �إىل رجل من �أ�صحابه ال يعدو �أن يكون عربي ًا‬
‫مثلهم‪ ،‬ا�ضطربت نفو�سهم �أوالً‪ ،‬ثم �أنكرت ما عرفت ثاني ًا‪ ،‬ور�أت �أن هذه الزكاة‬
‫�إمنا هي �رضيبة ت�ؤدى لقري�ش‪ ،‬ف�أخذتها العزة بالإثم‪ ،‬وكرهوا �أن ي�ؤدوا �إىل‬
‫قبيلة من القبائل العربية‪ ،‬وهي قري�ش‪ ،‬و�إىل رجل بعينه من هذه القبيلة‪ ،‬هو‬
‫�أبو بكر‪ ،‬ما كانوا ي�ؤدونه �إىل النبي الذي كان ي�أتيه خرب ال�سماء‪ ،‬ف�أرادوا �أن‬
‫ي�صاحلوا قري�ش ًا ورئي�سها �أبا بكر على الإ�سالم كله‪ ،‬ال ي�ستثنون منه �إال الزكاة‬
‫التي مل ي�ألفوها يف جاهليتهم‪ .‬فلما �أبى عليهم ذلك �أبو بكر نق�ضوا طاعته‪،‬‬
‫وا�ستخفوا به ومبن معه لقلتهم وكرثة العرب‪ ،‬حتى قال قائلهم‪:‬‬
‫�أطعنا ر�سول اهلل �إذا كان بيننا فيا لـعـبـاد اهلل مـا لأبي بك ِر‬
‫الظهر‬‫� ُأيــورثها بـكراً �إذا مــات بـعـده وتلك لعمر اهلل قا�صم ُة َّ‬
‫أبوا �أن‬
‫فقد نظر العرب �إىل �أبي بكر على �أنه رجل م َّلكته قري�ش �أمرها‪ ،‬و� ْ‬
‫يدينوا للملوك‪ ،‬وهم بعد ذلك قد عرفوا من �ألفوا من ملوك الغ�سانيني يف ال�شام‪،‬‬

‫‪84‬‬
‫وملوك املناذرة يف العراق‪ ،‬ومل يكن �أولئك امللوك يت�سلطون عليهم ف�ض ًال عن‬
‫�أن يفر�ضوا عليهم ال�رضائب‪ ،‬فما بال هذا القر�شي الذي عرفوه تاجراً كغريه‬
‫من قري�ش يريد �أن يجعل نف�سه عليهم ملك ًا‪ ،‬و�أن يفر�ض عليهم ال�رضائب التي‬
‫مل يجر�ؤ ملوك غ�سان‪ ،‬وال ملوك املناذرة على فر�ضها!‬
‫وقد بلغ من ا�ستخفاف العرب ب�أبي بكر �أن كانوا يهز�ؤون به‪ ،‬ويدعونه‬
‫�أبا الف�صيل‪ ،‬لأن البكر هو الف�صيل‪ .‬وكان الذين ي�ؤثرون العافية من عقالئهم‬
‫وممن بقي على �إ�سالمه يردون عليهم ا�ستخفافهم ذاك‪ ،‬ويقولون لهم‪ :‬لتعرفن‬
‫من �أمره ما يحملكم على �أن تدعوه‪� :‬أبا الفحل الأكرب‪.‬‬
‫فال غرابة يف �أن يثري هذا كله �أبا بكر ومن حوله من �أ�صحاب ر�سول اهلل‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم ‪ .‬والرواة يتحدثون �أن عمرو بن العا�ص عاد من مهمة‬
‫كلفه النبي �أداءها يف ُعمان‪ ،‬فمر يف طريقه �إىل املدينة ب�سيد من �سادات‬
‫هم عمرو �أن‬‫بني عامر ‪ -‬يقال له ُقرة بن ُهبرية ‪ -‬ف�أنزله ُقرة و�أكرمه‪ ،‬فلم َا َّ‬
‫يرحتل خال به ُقرة‪ ،‬وقال له‪ :‬يا هذا! �إن العرب ال تدين لكم بالإتاوة‪.‬‬
‫ثم ات�صل احلديث بينهما حتى تغا�ضبا و�أوعده عمرو‪ .‬وبلغ عمرو املدينة‬
‫مر بهم من العرب‪ ،‬فتحدث بذلك �إىل نفر من �أ�صحاب ر�سول‬ ‫وقد ر�أى كفر من َّ‬
‫اهلل‪ ،‬وريع ه�ؤالء النفر حلديث عمرو‪ ،‬وجعلوا يتحدثون يف ذلك‪ ،‬ف�أقبل عمر بن‬
‫اخلطاب م�سلم ًا على عمرو‪ ،‬فلما ر�آه �أولئك النفر �سكتوا‪.‬‬
‫قال عمر‪� :‬إين �أعلم فيما تتناجون‪ .‬ف�أجابه طلحة بن عبيد اهلل‪� :‬أتريد �أن‬
‫حتدثنا بالغيب يا ابن اخلطاب؟ قال عمر‪ :‬ال يعلم الغيب �إال اهلل‪� ،‬إمنا ظننت‬
‫�أنكم �سمعتم ما �أنب�أ به عمرو من كفر العرب وانتقا�ضهم‪ ،‬فراعكم وجعلتم‬
‫تتناجون فيه‪ .‬قالوا‪� :‬صدقت‪ :‬قال عمر‪ :‬ف�إين واهلل لأخافكم على العرب �أكرث‬
‫مما �أخاف العرب عليكم‪.‬‬
‫ويف هذا احلديث ت�أكيد ملا قلته �آنف ًا من �أن عمر مل يجادل �أبا بكر يف قتال‬
‫املرتدين‪ ،‬كما زعم كثري من الرواة‪ .‬ولكنه ي�صور �إىل �أي حد رجع العرب كفاراً‬
‫بعد �إ�سالمهم‪ ،‬وهموا با�ستئناف احلياة التي كانوا يحيونها يف جاهليتهم‪،‬‬
‫هموا‬
‫لوال �أن عاجلهم �أبو بكر فرد �إليهم ر�شدهم‪� ،‬أو ردهم �إىل الر�شد بعد �أن ُّ‬
‫بالغي‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫فال غرابة �إذن يف �أن يكون هذا كله حمفظ ًا لل�صاحلني من امل�سلمني‪،‬‬
‫وخمرج ًا لرجل ك�أبي بكر عن طوره الذي �ألفه من لني اجلانب‪ ،‬ورقة القلب‪،‬‬
‫و�إيثار الرفق على العنف‪.‬‬
‫ومما ي�صور ا�ستهانة العرب املرتدين بامل�سلمني عامة‪ ،‬وب�أبي بكر‬
‫خا�صة‪ ،‬هذه الق�صة التي ت�صور يف الوقت نف�سه كيف �صار �أبو بكر �إىل ال�شدة‬
‫والعنف‪ ،‬بعد ما �ألف يف حياته كلها من الرقة واللني‪.‬‬
‫جاءه رجل من بني �سليم يعرف بال ُفجاءة‪ ،‬وي�سمى �إيا�س بن عبدياليل‪.‬‬
‫فقال له‪� :‬إين م�سلم‪ ،‬و�أريد �أن �أقاتل املرتدين‪ ،‬فاحملني‪ ،‬و�أعني بال�سالح‪.‬‬
‫الظهر وال�سالح‪ ،‬فلم يكد هذا الرجل يخرج‬ ‫ف�أعطاه �أبو بكر ما احتاج �إليه من َّ‬
‫من املدينة حتى بينَّ عما كان قد �أ�ضمر من الغ�ش واخلداع‪ ،‬فجمع �إليه نفراً‬
‫من �أمثاله‪ ،‬وجعل يتعر�ض النا�س‪ُ :‬م�سلمهم وكافرهم‪ ،‬فيقتلهم وي�أخذ �أموالهم‬
‫وين�رش الف�ساد يف الأر�ض‪.‬‬
‫يجد يف طلب‬ ‫وعرف �أبو بكر ذلك ف�أر�سل �إىل بع�ض عماله ي�أمره �أن َّ‬
‫وجد عامله يف ذلك حتى جاءه بعد‬ ‫ال ُفجاءة‪ ،‬حتى يقتله �أو ي�أتيه به �أ�سرياً‪ّ ،‬‬
‫خطوب بال ُفجاءة‪ ،‬ف�أمر �أبو بكر �أن توقد له نار عظيمة مب�ص َّلى املدينة‪ ،‬وهو‬
‫املكان الذي كان يخرج �إليه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وامل�سلمون ل�صالة‬
‫العيدين‪ ،‬ولل�صالة على اجلنائز‪ ،‬و�أن يلقى فيها‪ ،‬فحرق بالنار عن �أمر �أبي‬
‫بكر‪ .‬ولوال الغ�ضب واحلفيظة خلداع ال ُفجاءة من جهة‪ ،‬والنت�شار الردة من‬
‫جهة �أخرى‪ ،‬لذهب �أبو بكر يف عقاب هذا املجرم الذي حارب اهلل ور�سوله‬
‫مذهب ًا �آخر‪ .‬قد �أمر به يف القر�آن حيث يقول اهلل عز وجل يف �سورة املائدة‪:‬‬
‫�ض ف ََ�سا ًدا �أَن‬ ‫الل َو َر ُ�سو َل ُه َو َي ْ�س َع ْو َن فيِ الأَ ْر ِ‬
‫ون َ هّ َ‬
‫ين ُي َحار ُِب َ‬ ‫ِنا َج َزاء ا َ ّل ِذ َ‬ ‫«�إ َ مّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُي َق َ ّت ُلواْ �أَ ْو ُي َ�ص َلّ ُبواْ �أ ْو ُت َق َ ّط َع �أ ْي ِديه ِْم َو�أ ْر ُج ُل ُهم ِ ّم ْن ِخ ٍ‬
‫الف �أ ْو ُينف َْوا ِم َن الأ ْر ِ‬
‫�ض َذ ِل َك‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يم»‪.‬‬
‫اب َع ِظ ٌ‬ ‫َل ُه ْم ِخ ْز ٌي فيِ ال ُ ّد ْن َيا َو َل ُه ْم فيِ ال ِآخ َر ِة َع َذ ٌ‬
‫ويقول الثقات من الرواة �إن �أبا بكر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬قد ندم على حتريق‬
‫ال ُفجاءة‪ ،‬وحتدث بندمه هذا �إىل بع�ض من عاده من �أ�صحاب ر�سول اهلل يف‬
‫مر�ضه الذي تويف فيه‪.‬‬
‫و�أو�ضح دليل على ندمه �سري ُته فيمن كان ي�ؤتي به من الأ�رسى الذين‬

‫‪86‬‬
‫حر�ضوا على الردة و�أحلوا يف التحري�ض‪ ،‬وقادوا قبائلهم حلرب امل�سلمني‪ ،‬فقد‬
‫كان ك َّلما �أتى ب�أ�سري من ه�ؤالء ع َّنفه‪ ،‬ثم قبل منه التوبة و�أطلقه‪.‬‬
‫وبهذه ال�سرية ع�صم كثرياً من الدماء‪ ،‬و�أعفى قوم ًا �أبلوا بعد وفاته يف‬
‫الفتوح �أح�سن البالء‪.‬‬
‫وقد عاد ُطليحة �إىل الإ�سالم بعد هزميته و�أقام يف ال�شام حين ًا‪ ،‬ثم �أراد‬
‫العمرة فمر باملدينة يف طريقه �إىل مكة‪ ،‬وعرفه من عرفه من امل�سلمني‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فقالوا لأبي بكر‪ :‬هذا طليحة قريب ًا من املدينة يف طريقه �إىل مكة‪ ،‬قال �أبو‬
‫بكر‪ :‬وما �أ�صنع به! دعوه فقد هداه اهلل �إىل الإ�سالم‪.‬‬
‫وما �أعرف �أحداً من املرتدين كان له من ح�سن البالء ما كان لطليحة‪،‬‬
‫يف كل املواقع الكربى التي كانت بني امل�سلمني والفر�س �أيام عمر رحمه اهلل‪.‬‬
‫ومهما يكن من �شيء فقد �أتيح لأبي بكر بف�ضل هذا املزاج املعقول من‬
‫الرفق يف مو�ضع الرفق‪ ،‬والعنف يف موطن العنف‪� ،‬أن يق�ضي على الردة‪،‬‬
‫ويعيد العرب �إىل الإ�سالم طائعني �أو كارهني بعد �أن خرجوا منه‪.‬‬
‫كل ذلك يف العام الأول من خالفته‪ ،‬و�أتيح له بعد ذلك �أن ي�أخذ فيما كان‬
‫يريد �أن يبد�أ به‪ ،‬لو مل تكفر العرب‪ ،‬من حترير العرب يف ال�شام والعراق‪.‬‬

‫‪87‬‬
88
‫‪9‬‬

‫وقد دفعت الظروف دفع ًا �إىل فتح العراق‪ ،‬وما �أرى �أنه كان يريد البدء به‪،‬‬
‫مهد له النبي �صلى اهلل عليه و�سلم من فتح‬ ‫و�إمنا كان �أهم �شيء �إليه �أن يتم ما ّ‬
‫ال�شام‪ ،‬ليحرر العرب املنت�رشين فيه من �سلطان الروم‪ ،‬ولعله �إن ُي�رس له �أمر‬
‫ال�شام �أن يفكر يف �أمر العراق‪ ،‬ولكن الظروف �أرادت غري ذلك‪ ،‬فقد �شغل �أبو‬
‫بكر يف العام الأول بحرب الردة كما ر�أيت‪ ،‬ومل يهم بال�شام‪ ،‬و�إمنا اكتفى ب�أن‬
‫يحمي حدود اجلزيرة حتى ال يغري عليها مغري من ال�شام‪.‬‬
‫وانت�رص جي�ش �أبي بكر على املرتدين من ربيعة يف البحرين‪ ،‬و�إذا رجل‬
‫من بكر بن وائل‪ ،‬ثم من بني �شيبان‪ ،‬ي�ؤثر نف�سه على من تابعه من قومه‬
‫الذين �أقاموا على الإ�سالم ومل يكفروا‪ ،‬و�إذا هو يتتبع مبن معه املرتدين من‬
‫العرب على �ساحل اخلليج الفار�سي‪ ،‬ويتاح له الظفر فيما حاول من ذلك‪،‬‬
‫حتى ي�رشف على العراق وفيه قبائل من العرب قد انت�رشت فيه قبل الإ�سالم‪،‬‬
‫فيتمنى هذا الرجل �أن يتاح له الإمعان يف العراق‪ ،‬و�إخ�ضاعه كله �أو بع�ضه‬
‫ل�سلطان امل�سلمني‪ ،‬ولكنه يف حاجة �إىل �أمر من اخلليفة يبيح له هذه املحاولة‬
‫التي ال تخلو من مغامرة‪ ،‬والتي قد يتعر�ض فيها امل�سلمون لألوان من اخلطر‪،‬‬

‫‪89‬‬
‫فيذهب هذا الرجل ‪ -‬وهو املثنى بن حارثة ال�شيباين ‪� -‬إىل املدينة ويلقى �أبا‬
‫بكر‪ ،‬ويحدثه مبا فعل ومبا كان من حربه للمرتدين من العرب‪ ،‬ومبا لقي من‬
‫كيد الفر�س هناك له‪ ،‬ومكرهم به وت�أليبهم عليه‪ ،‬ويطلب �إىل �أبي بكر �أن ي� َّؤمره‬
‫على قومه‪ ،‬و�أن ي�أذن له يف دخول العراق‪ ،‬وحماربة الفر�س �إن اجتمعوا له‪.‬‬
‫ولي�س من �شك يف �أن املثنى قد زين لأبي بكره فتح العراق وهون عليه‬
‫�أمره‪ ،‬و�أنب�أه ب�أن العرب من قومه بني بكر ومن غريهم منت�رشون يف العراق‪،‬‬
‫و�أن من الي�سري �أن ي�ستجيبوا له و�أن يعينوه �إن احتاج ملعونتهم‪ .‬وقد فكر‬
‫للمثنى‪ ،‬ف�أقبل حتى اقتحم العراق‪ ،‬ولكنه‬ ‫�أبو بكر وا�ست�شار �أ�صحابه ثم �أذن ُ‬
‫مل يمُ عن فيه حتى عرف �أن ب�أ�س الفر�س �شديد‪ ،‬و�أنهم لن يفرطوا يف العراق‪،‬‬
‫ولن يخلوا بني هذا الرجل العربي ومن معه من �أهل البادية وبني جزء من‬
‫ملكهم‪ ،‬يغريون عليه ويقيمون فيه‪ ،‬ثم ينت�رشون بعد ذلك حتى ي�ستخل�صوا‬
‫منهم �أر�ض ًا طال �سلطانهم عليها‪ ،‬وا�ستقر �أمرهم فيها منذ زمن طويل‪ .‬من‬
‫�أجل ذلك جمعوا له وتهي�ؤوا ملقاومته‪.‬‬
‫وعرف اخلليفة كل هذا‪ ،‬و�أزمع �أال يرد املثنى عما �أراد‪ ،‬و�أن ين�رصه وميده‪،‬‬
‫فاختار خالد بن الوليد‪ ،‬وكان قد فرغ من �أمر اليمامة‪ ،‬و�أمره �أن ي�أتي العراق‪،‬‬
‫و�أن يكون هو الأمري و�أن يكون املثنى له تبع ًا‪.‬‬
‫وكان خالد قد �أذن لكثري من جنده بالرجوع‪ ،‬عن �أمر �أبي بكر‪ ،‬بعد �أن لقي‬
‫جي�شه ما لقي من الب�أ�س واجلهد يف اليمامة‪ ،‬فلم يبق معه �إال عدد ي�سري ال‬
‫يكاد يبلغ الألفني‪ ،‬وقد ا�ستمد �أبا بكر ف�أمده بالقعقاع بن عمر‪ ،‬و�أمر خالداً �أن‬
‫ي�ستنفر من العرب من ثبت على �إ�سالمه‪ ،‬و�أال يقبل يف جي�شه منهزم ًا من �أهل‬
‫الردة‪ ،‬و�أال يكره النا�س على االن�ضمام �إليه‪.‬‬
‫دومة اجلندل‪ ،‬و�أمره �أن‬ ‫و�أر�سل �أبو بكر يف الوقت نف�سه عيا�ض بن غنم �إىل ُ‬
‫يق�ضي على الردة فيها‪ ،‬ثم يهبط �إىل العراق قا�صداً �إىل احلرية‪ ،‬ف�إن بلغها قبل‬
‫خالد فهو الأمري وخالد تبع له وقائد من قواده‪ ،‬و�إن بلغها خالد قبله فالإمرة‬
‫خلالد‪ ،‬وعيا�ض تبع له وقائد من قواده‪.‬‬
‫ولكن خالداً كان �سيف ًا من �سيوف الإ�سالم و�سهم ًا نافذاً من �سهام‬
‫امل�سلمني‪ ،‬فلم يكد يبلغ العراق حتى جد يف احلرب و�أبلغ فيها‪ ،‬وظفر بالفر�س‬

‫‪90‬‬
‫والعرب الذين تابعوهم يف غري موطن‪ ،‬وانتهى �إىل احلرية‪ ،‬فا�ضطر �أهلها �إىل‬
‫ال�صلح‪ ،‬وا�ستقام له فتح العراق العربي وقهر الفر�س و�إذاللهم و�إخراجهم من‬
‫العراق يف عدة �أ�شهر‪ ،‬وعيا�ض مقيم على دومة اجلندل ال يبلغ منها �شيئ ًا‬
‫حتى �أعانه خالد‪ ،‬ف�أتيح له الفتح‪ ،‬ومت له من �أمر العراق ما �أراد اخلليفة وما‬
‫�أراده هو‪ ،‬ولقي يف حربه تلك اخلطوب‪ ،‬و�أتيح له من الفوز ما �أ�رشت �إليه فيما‬
‫م�ضى‪.‬‬
‫وكذلك مت لأبي بكر فتح العراق العربي بعد الق�ضاء على الردة‪ ،‬ولكنه �أر�سل‬
‫خالداً �إىل ال�شام مدداً للم�سلمني هناك‪ ،‬فلم يثبت العراق على ما تركه خالد‬
‫عليه من اخل�ضوع ل�سلطان امل�سلمني‪ ،‬و�إمنا كاد الفر�س ومكروا وا�ستعدوا‪ ،‬ثم‬
‫عادوا �إىل العراق وقد انتق�ض �أكرث �أهله‪ .‬ونظر املثنى بن حارثة ف�إذا خالد‬
‫قد فارقه ومعه ن�صف اجلي�ش �إىل ال�شام عن �أمر اخلليفة‪ ،‬و�إذا هو ال ي�ستطيع‬
‫مبن معه من امل�سلمني �أن يقاوم الفر�س والعرب جمتمعني‪ .‬فعاد �إىل املدينة‪،‬‬
‫ولكنه حني بلغها �صادف �أبا بكر مري�ض ًا مر�ضه الذي تويف فيه‪ ،‬وقد ا�ستقبله‬
‫�أبو بكر على ذلك و�سمع منه‪ ،‬و�أو�صى عمر �أن ميده‪ ،‬و�أال يهمل �أمر العراق‪.‬‬
‫وكذلك تورط امل�سلمون يف هذه احلرب التي كان �أولها مي�رساً‪ ،‬والتي �أبلى‬
‫فيها خالد �أح�سن البالء‪ ،‬وكان جديراً �أن يحملها �إىل بالد الفر�س نف�سها‪ ،‬و�أال‬
‫يقلع عن هذه البالد حتى يزيل ملك الأكا�رسة‪.‬‬
‫ولي�س لذلك م�صدر �إال �أن �أبا بكر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬قد عني ب�أمر ال�شام قبل �أن‬
‫يفرغ من �أمر العراق‪� ،‬إنفاذاً ملا كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يريده وميهد‬
‫له من جهة‪ ،‬وتورط ًا يف حرب الروم على غري تعجل منه من جهة �أخرى‪.‬‬
‫ثم قب�ض اهلل �أبا بكر �إىل جواره قبل �أن ي�شهد ما �أتاح اهلل جليو�شه يف‬
‫ال�شام من الن�رص‪ .‬وكان على عمر بن اخلطاب رحمه اهلل �أن ي�سرتد العراق ويتم‬
‫فتح ال�شام كما �سرتى‪.‬‬

‫‪91‬‬
92
‫‪10‬‬

‫ورط �أبا بكر يف حرب ال�شام قبل الفراغ من فتح العراق‪� ،‬أنه‬ ‫وكان الذي ّ‬
‫�أراد �أن يحمى حدود اجلزيرة العربية مما يلي ال�شام‪ ،‬ف�أر�سل خالد بن �سعيد بن‬
‫العا�ص‪ ،‬و�أمره �أن يقيم على تيماء ردءاً ملن وراءه من امل�سلمني‪.‬‬
‫فذهب خالد ومعه جي�شه حتى بلغ الغاية التي وجه �إليها‪ ،‬واجتمعت له‬
‫على حدود ال�شام ب�إزائه قبائل من العرب‪ ،‬ومعهم جنود من الروم‪ ،‬فحمى خالد‬
‫و�أ�صحابه حني ر�أوا هذا العدو ب�إزائهم‪ ،‬فاقتحموا عليهم وانهزموا لهم عدوهم‪،‬‬
‫ف�أطمع انهزامه خالداً يف �أن يظفر يف ال�شام مبثل ما كان يظفر به �سميه ابن‬
‫الوليد يف العراق‪ ،‬ف�أوغل يف �أر�ض العدو‪ ،‬وتركه العرب والروم ميعن يف �أر�ضهم‪،‬‬
‫حتى �إذا بعد ما بينه وما بني اجلزيرة العربية‪ ،‬كروا عليه فح�رصوه وقتلوا ابنه‬
‫�سعيداً‪ ،‬وا�ضطر هو �إىل �أن يفر فيمن ا�ستطاع من �أ�صحابه‪ ،‬و�أمعن على فراره‬
‫حتى جاوز حدود اجلزيرة ودنا من املدينة‪.‬‬
‫وعرف �أبو بكر ذلك فكتب �إليه ي�أمره �أن يقيم مكانه و�أال ي�أتي املدينة‪.‬‬
‫وعلي وغريهما من �أ�صحاب النبي قد نهوا �أبا بكر عن �إر�سال‬ ‫ّ‬ ‫وكان عمر‬
‫خالد �إىل حدود ال�شام وقالوا له‪� :‬إنه رجل فخور مغرور �رسيع الإقدام �رسيع‬

‫‪93‬‬
‫الإحجام‪ ،‬ولكن �أبا بكر مل ي�سمع لهم‪ .‬فلما انهزم خالد عرف �أنهم قد ن�صحوا له‪،‬‬
‫و�أنهم كانوا �أعرف منه بهذا الأموي املقدام املحجام‪.‬‬
‫ومهما يكن من �شيء فقد ا�ضطر �أبو بكر �إىل �أن ميحو �أثر تلك الهزمية‪ ،‬فجند‬
‫جنوداً و�أمر عليها الأمراء‪ ،‬وخ�ص�ص لكل �أمري جزءاً من ال�شام يفتحه ثم يكون‬
‫عام ًال عليه‪.‬‬
‫وه�ؤالء الأمراء هم‪ :‬عمرو بن العا�ص‪ ،‬وجعل �إليه فتح فل�سطني وحكمها‬
‫بعد الفتح‪ ،‬ويزيد بن �أبي �سفيان‪ ،‬وكلفه دم�شق‪ ،‬و�أبو عبيدة بن اجلراح‪ ،‬وكلفه‬
‫حم�ص‪ .‬كلهم يبد�أ بالفتح ثم يقيم والي ًا على ما غلب عليه‪.‬‬
‫وكان عكرمة بن �أبي جهل قد �أر�سل مدداً �إىل خالد بن �سعيد‪ ،‬فلما فر خالد‬
‫داور عكرمة باجلي�ش حتى بعد به عن جموع الروم والعرب‪ ،‬و�أقام على احلدود‬
‫بني اجلزيرة وال�شام‪.‬‬
‫وكان الروم قد ظنوا �أن ما �أ�صاب امل�سلمني من هزمية‪ ،‬وما كان من فرار‬
‫قائدهم خالد بن �سعيد‪ ،‬وارتداد جي�شه �إىل احلدود‪ ،‬قد كفاهم حرب امل�سلمني‪ .‬فلما‬
‫ر�أوا الأمراء يقبلون بجيو�شهم ويتجاوزون احلدود‪ ،‬فيقيم �أبو عبيدة باجلابية(((‪،‬‬
‫ويقيم يزيد بن �أبي �سفيان بالبلقاء(((‪ ،‬ويقيم عمرو بن العا�ص بالعربة(((‪ ،‬ويقيم‬
‫�رشحبيل بن ح�سنة على مرتفع قريب من طربية(((‪ ..‬ملا ر�أى الروم هذا عرفوا‬
‫جد امل�سلمني يف حربهم فتهي�ؤوا لقتالهم‪ ،‬و�أر�سلوا ب�إزاء كل �أمري جي�ش ًا �أكرث من‬
‫جي�شه عدداً و�أعظم قوة‪ .‬ونظر �أمراء امل�سلمني فوجدوا �أن كل واحد منهم �أعجز‬
‫من �أن يثبت للجي�ش الذي وقف ب�إزائه‪ ،‬فتكاتبوا وت�شاوروا‪ ،‬و�أ�شار عليهم عمرو‬
‫بن العا�ص ب�أن يجتمعوا يف �صعيد واحد‪ ،‬لأنهم �إن اجتمعوا مل يغلبوا من قلة‪.‬‬
‫وكانت هذه اجليو�ش كلها التكاد جتاوز ثالثني �ألفاً‪� .‬أما جيو�ش الروم فكانت‬
‫�أكرث من ذلك كثرياً‪ ،‬يزعم الرواة �أنها بلغت �أربعني ومئتي �ألف‪.‬‬

‫‪ -1‬اجلابية‪ :‬قرية من أعمال دمشق‪.‬‬


‫‪ -2‬البلقاء‪ :‬كورة من أعمال دمشق‪.‬‬
‫‪ -3‬العربة‪ :‬موضع بفلسطني‪.‬‬
‫‪ -4‬طبرية‪ :‬مدينة على بحيرة طبرية‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫وملا ر�أت جيو�ش الروم �أن جيو�ش امل�سلمني قد اجتمعت يف �صعيد واحد‪،‬‬
‫�صنعوا �صنيعهم‪ ،‬فتجمعوا ووقفوا ب�إزاء امل�سلمني‪،‬‬
‫و�أنا �أروي هذا كله متحفظاً‪ ،‬فهذه الأعداد جليو�ش امل�سلمني وجيو�ش الروم‬
‫ال تخلو من مبالغة‪ ،‬ول�ست �أدري �إىل �أي حد ميكن �أن نطمئن �إىل حتديد املواقف‬
‫الأوىل للأمراء وجيو�شهم‪ ،‬و�إمنا ال�شيء الذي ن�ستطيع �أن نطمئن �إليه �أن جيو�ش‬
‫امل�سلمني اجتمعت على �أحد �شاطئي الريموك‪ ،‬واجتمعت جيو�ش الروم على‬
‫ال�شاطئ الآخر‪ ،‬ثم عرب امل�سلمون �إىل الروم فوقفوا ب�إزائهم‪ ،‬وقد هاب بع�ض‬
‫القوم بع�ضاً‪ ،‬و�أقاموا على تناو�ش ي�سري ثالثة �أ�شهر ‪ -‬فيما يقول الرواة ‪ -‬ال‬
‫يقدر �أحد اجلي�شني على �صاحبه‪ ،‬بل ال يجر�ؤ على �إن�شاب القتال العام‪ .‬وعرف‬
‫�أبو بكر ذلك ف�ضاق به‪ ،‬ثم �أمر خالد بن الوليد �أن يذهب بن�صف جي�ش العراق‬
‫منجداً جليو�ش امل�سلمني عند الريموك‪.‬‬
‫ني الروم و�ساو�س ال�شيطان بخالد‬ ‫ويزعم الرواة �أن �أبا بكر قال‪ :‬واهلل لأن�س َّ‬
‫بن الوليد‪ .‬واملح َّقق �أن �أبا بكر كان يعرف من خالد الإقدام بل الغلو يف الإقدام‪،‬‬
‫وكان مطمئن ًا �إیل �أن امل�سلمني حني ين�ضم �إليهم خالد مبن معه لن يغلبوا من‬
‫قلة‪� ،‬إذا �أخل�صوا النية ون�صحوا هلل ور�سوله وجاهدوا عدوهم �صادقني‪ .‬وكان �أبو‬
‫بكر واثق ًا بن�رص اهلل للم�سلمني �إن قاتلوا عدوهم كما كانوا يقاتلون مع النبي‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬
‫واهلل يقول لنبيه وللم�ؤمنني‪:‬‬
‫الل َعن ُك ْم َو َع ِل َم �أَ َ ّن ِفي ُك ْم َ�ض ْع ًفا َف�إِن َي ُكن ِ ّمن ُكم ِ ّما َئ ٌة َ�صاب َِر ٌة‬ ‫«ال َآن َخ َف َّف َ هّ ُ‬
‫ين»‪.‬‬ ‫ال�صا ِب ِر َ‬‫الل َم َع َ ّ‬ ‫َيغْ ِل ُبو ْا ِم َئ َتينْ ِ َو�إِن َي ُكن ِ ّمن ُك ْم �أَل ٌْف َيغْ ِل ُبو ْا �أَ ْل َفينْ ِ ِب ِ�إذْنِ َ هّ ِ‬
‫الل َو َ هّ ُ‬
‫فلي�س على امل�سلمني ب�أ�س من كرثة عدوهم �إذا �صدقوا النية و�صربوا نفو�سهم‬
‫على احلرب‪ .‬وقد قال اهلل يف �سورة البقرة فيما كان من حرب طالوت وجالوت‪:‬‬
‫الل َكم ِ ّمن ِف َئ ٍة َق ِلي َل ٍة َغ َل َب ْت ِف َئ ًة َك ِث َري ًة ِب�إِذْنِ‬ ‫ون �أَ َ ّن ُهم ُ ّمالقُوا َ هّ ِ‬
‫ين َي ُظ ُ ّن َ‬ ‫«‪..‬ق َ‬
‫َال ا َ ّل ِذ َ‬
‫ين»‪.‬‬
‫ال�صا ِب ِر َ‬‫الل َم َع َ ّ‬ ‫َ هّ ِ‬
‫الل َو َ هّ ُ‬
‫فال على امل�سلمني �أن يكونوا هم الفئة القليلة‪ ،‬و�أن يكون الروم هم الفئة‬
‫الكثرية‪ ،‬فالكرثة والقلة لي�ستا مدار الن�رص والهزمية و�إمنا مدارهما ال�صرب‬
‫واحلفاظ و�إخال�ص النية‪ .‬وقد و�صل خالد ومن معه فان�ضموا �إىل جيو�ش‬

‫‪95‬‬
‫امل�سلمني‪ ،‬بعد مغامرة خطرية غامرها خالد بجي�شه حني عرب بهم ‪ -‬فيما يزعم‬
‫الرواة ‪� -‬صحراء مهلكة ال ماء فيها‪ ،‬وحني ا�ستعان على هذه ال�صحراء بتظمئ‬
‫الإبل ثم �سقيها علَال بعد نهل(((‪ ،‬ثم �ص((( �آذانها و�شد م�شافرها‪ ،‬واندفع يف‬
‫ال�صحراء وقد ا�ستكرث من املاء ما ا�ستطاع‪ ،‬فكان �إذا ظمئت اخليل واملطايا نحر‬
‫هذه الإبل وا�ستخرج املاء من بطونها ف�سقاها منه‪ ،‬وطعم النا�س من حلومها‪.‬‬
‫وكان بلوغ خالد جيو�ش امل�سلمني بركة عليهم‪ ،‬فهو قد �أ�شار على �أمراء‬
‫اجليو�ش �أن يوحدوا القيادة‪ ،‬و�أن يكون كل واحد منهم �أمرياً على جماعة‬
‫امل�سلمني يوماً‪ ،‬وطلب �إليهم �أن يجعلوا له �أول يوم بعد توحيد القيادة ‪ -‬كذلك‬
‫يقول الرواة ‪ -‬و�أرجح �أنا �أن �أبا بكر �أر�سله �إىل ال�شام �أمرياً على جيو�ش امل�سلمني‬
‫كلها‪ ،‬و�أن �أبا بكر هو الذي وحد قيادة هذه اجليو�ش‪ ،‬على �أال يحرم �أمري من‬
‫الأمراء عمله الذي وعد به‪ .‬فلما بلغ خالد ال�شام وجمعت له جيو�ش امل�سلمني‬
‫ف�أ�صبح قائدها العام مل مياكث العدو‪ ،‬و�إمنا انتظر حتى َج ّم وجم �أ�صحابه‪ ،‬ثم‬
‫عب�أ جيو�ش امل�سلمني تعبئة مل يعرفها العرب من قبل‪ ،‬فجعل اجلي�ش كرادي�س ‪-‬‬
‫�أي كت ًال �ضخمة ‪ -‬ثم قذف بها جي�ش العدو‪ ،‬ف�أتيح له الن�رص بعد خطوب‪.‬‬
‫وكان خالد هو الذي فتح ال�شام يف حقيقة الأمر‪.‬‬
‫ولكن �أبا بكر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬مل ُيتحح له �أن يفرح بهذا الفتح‪ ،‬فقد مر�ض‬
‫وتويف‪ ،‬وا�ستخلف عمر‪ .‬و�أر�سل ر�سوله �إىل جيو�ش امل�سلمني ينبئها بوفاة �أبي‬
‫بكر وا�ستخالفه‪ ،‬ويعزل خالداً عن �إمارة اجليو�ش ويجعل هذه الإمارة لأبي‬
‫عبيدة‪.‬‬
‫ويقول الرواة �إن ر�سول عمر بلغ الع�سكر ليلة املوقعة و�أنب�أ �أبا عبيدة مبهمته‪،‬‬
‫فا�ستكتمه �أبو عبيدة اخلرب‪ ،‬وكتمه هو حتى ال ي ُفل يف �أع�ضاد اجلي�ش‪ ،‬وال ينبئ‬
‫خالداً بعزله‪ .‬ومل يعلم خالد بهذا العزل �إال بعد �أن �أنزل اهلل ن�رصه على امل�سلمني‬
‫وفتح لهم طريق دم�شق‪.‬‬

‫‪ -1‬العلل‪ :‬الشربة الثانية‪ .‬والنهل‪ :‬أول الشرب‪.‬‬


‫‪ -2‬صر‪ :‬شد‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫‪11‬‬

‫وكذلك مل تت�صل خالفة �أبى بكر �إال �سنتني و�أ�شهراً‪ ،‬يختلف الرواة يف‬
‫عددها‪ ،‬ومل يوفق خليفة من خلفاء امل�سلمني يف �أمد ق�صري كهذا الأمد �إىل‬
‫ما وفق �إليه �أبو بكر‪ .‬فقد تويف ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬بعد �أن رد اجلزيرة العربية‬
‫�إىل الإ�سالم كعهدها �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وبعد �أن امتحن يف‬
‫�صربه و�صدق نيته وثباته و�ضبط نف�سه عند املكروه‪ ،‬امتحن معه امل�سلمون‪،‬‬
‫و�أبلت جيو�شه يف قمع الردة �أح�سن البالء و�أعظمه‪ .‬وتويف بعد �أن رمى به�ؤالء‬
‫امل�سلمني ملك الفر�س‪ ،‬فاقتطع منه العراق العربي‪ ،‬ولو قد مد اهلل له يف‬
‫احلياة �شهراً �أو �شهرين ملات مطمئن ًا �إىل �أن جيو�شه يف ال�شام قد ف ّلت جيو�ش‬
‫قي�رص‪ ،‬وفتحت منافذ ال�شام للم�سلمني ين�ساحون منها �إىل �أر�ض ال�شام كلها‬
‫في�ستربئونها من الروم‪ ،‬وي�ستخل�صونها للم�سلمني‪.‬‬
‫ولكن االبتهاج بهذا الفتح‪ ،‬واحتمال ما �سيعقبه من الأثقال واخلطوب‪،‬‬
‫مل ُيتح لأبي بكر‪ ،‬و�إمنا �أتيح ملن ويل خالفة امل�سلمني بعده‪ ،‬وهو عمر بن‬
‫اخلطاب‪.‬‬
‫ومل ن�صف من �سيا�سة �أبي بكر �إىل الآن �إال �سيا�سة احلرب‪ ،‬فقد كانت‬

‫‪97‬‬
‫خالفته كلها خالفة حرب يف اجلزيرة العربية �أوالً‪ ،‬ويف العراق وال�شام بعد‬
‫ذلك‪ .‬ومل يكن لأبي بكر جتديد يف �سيا�سته الداخلية‪� ،‬إن �صح �أن ن�سمي �سريته‬
‫يف املدينة ويف العرب بعد �أن عادوا �إىل الإ�سالم‪� :‬سيا�سة داخلية‪.‬‬
‫وقد اخت�رص �أبو بكر �سيا�سته يف جملة قالها يف �أول خطبة خطبها بعد‬
‫�أن ا�ستخلف‪ ،‬وهي قوله‪�« :‬إمنا �أنا متبع ول�ست مببتدع»‪ .‬فقد �ألزم نف�سه �سرية‬
‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف تدبري احلرب‪ ،‬ويف �إجراء الأحكام يف املدينة‬
‫ويف �سائر اجلزيرة بعد �أن رجعت �إىل الإ�سالم‪.‬‬
‫فكان يبا�رش �أمور املدينة بنف�سه م�ستعين ًا بعمر على الق�ضاء بني النا�س‪،‬‬
‫ويقال �إن عمر كان يق�ضي ال�شهر ال يخت�صم �إليه �أحد‪ ،‬لأن �أبا بكر مل ي�رس‬
‫وحده �سرية النبي‪ ،‬و�إمنا �سار �أهل املدينة كلهم �سرية النبي مل يغريوا �شيئ ًا‪،‬‬
‫فلم يغري اهلل من �أمرهم �شيئ ًا‪.‬‬
‫بال�سنح خارج املدينة من �أعالها يف بيت اتخذه من‬ ‫وكان �أبو بكر يقيم ُّ‬
‫ال�شعر‪ ،‬فلما ا�ستخلف ظل يف هذا البيت �ستة �أ�شهر‪ ،‬يهبط �إىل املدينة كل يوم‪،‬‬
‫فينظر يف �أمور النا�س‪ ،‬ويقيم لهم ال�صالة‪ ،‬ف�إذا �أم�سى عاد �إىل �أهله‪ .‬ويروي‬
‫ابن �سعد ب�إ�سناده‪� ،‬أن �أبا بكر كان قبل وفاة النبي يحلب للحي الذي كان يقيم‬
‫بال�سنح من الأن�صار �إبلهم وغنمهم‪ ،‬فلما ا�ستخلف �سمع جارية تقول‪ :‬الآن‬ ‫فيه ُّ‬
‫ال حتلب لنا منائحنا فقال‪ :‬ال واهلل لأحلنب لكم و�إين لأرجو �أال يغريين ما‬
‫(((‬

‫دخلت فيه عن �شيء كنت �أفعله من قبل‪.‬‬


‫ال�سنح‪ ،‬ونزل �إىل داره التي كان النبي‬ ‫وظل على حاله تلك حتى ترك ُّ‬
‫�أقطعه �إياها يف املدينة‪ ،‬ف�أقام فيها حتى قب�ض‪ .‬وقد هم بعد ا�ستخالفه �أن‬
‫يبا�رش جتارته كما كان يفعل �أيام النبي‪ ،‬ولكن �أمور امل�سلمني‪ ،‬وما كان من‬
‫حرب العرب‪� ،‬شغلته عن جتارته‪ ،‬ففر�ض له امل�سلمون ما يقوته ويقوت �أهله‪.‬‬
‫يقول بع�ض الرواة‪� :‬إنهم فر�ضوا له �ألفي درهم يف العام‪ ،‬فقال‪ :‬زيدوين‪.‬‬
‫فزادوه خم�سمائة درهم‪ .‬ويقول بع�ضهم‪� :‬إنهم فر�ضوا له �ألفني وخم�سمائة‪،‬‬
‫فلما قال‪ :‬زيدوين‪ ،‬بلغوا ثالثة �آالف‪.‬‬

‫‪ -1‬املنائح‪ :‬جمع منيحة‪ ،‬وهي املعارة للنب خاصة‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫على �أنه حني �أح�س املوت رد على امل�سلمني ما ا�ستنفق من مالهم فوهب‬
‫لهم بهذا املال �أر�ض ًا كان ميلكها‪ .‬واتفق الرواة على �أنه كان عنده غالم‬
‫يخدمه‪ ،‬ولقحة((( ي�سقى لبنها وقطيفة قيمتها خم�سة دراهم‪ .‬وكان هذا كله‬
‫من بيت مال امل�سلمني‪ ،‬فلما عرف �أنه ميت يف مر�ضه ذاك �أمر �أن يرد هذا‬
‫كله على اخلليفة من بعده‪ ،‬فلما ُرد هذا على عمر‪ .‬قال وهو يبكي‪ :‬رحم اهلل �أبا‬
‫بكر‪ ،‬لقد �أتعب من بعده‪.‬‬
‫وال نعرف لأبي بكر �شيئ ًا امتاز به عن عمر يف �سيا�سة امل�سلمني الداخلية‬
‫�إال �أمرين اثنني‪� ،‬أحدهما‪� :‬أن الفيء كان ي�أتيه بعد انت�صار قواده يف حروب‬
‫الردة‪ ،‬وكان ي�أتيه بعد انت�صار خالد يف العراق‪.‬‬
‫كان القواد ينفذون يف هذا الفيء �أمر اهلل عز وجل يف الآية الكرمية من‬
‫�سورة الأنفال‪:‬‬
‫َ‬
‫نا َغ ِن ْم ُتم ِ ّمن َ�ش ْي ٍء َف�أ َ ّن للِ َ هّ ِ ُخ ُم َ�س ُه َو ِل َلرّ ُ�سولِ َو ِل ِذي ا ْل ُق ْر َبى‬ ‫َ‬
‫«و ْاع َل ُمواْ �أ َ مّ َ‬
‫َ‬
‫ِالل َو َما �أَن َز ْل َنا َع َلى َع ْب ِد َنا‬
‫ال�سبِيلِ �إِن ُكن ُت ْم � َآمن ُت ْم ب َ هّ ِ‬‫َّ‬ ‫نِ‬ ‫ب‬ ‫ا‬
‫َ ْ‬ ‫و‬ ‫ني‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اك‬ ‫َ�س‬ ‫َوا ْل َي َت َ َ َ‬
‫لمْ‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ى‬ ‫ام‬
‫ير»‪.‬‬
‫الل َع َلى ُك ِ ّل َ�ش ْي ٍء َق ِد ٌ‬ ‫ال ْم َعانِ َو َ هّ ُ‬
‫َي ْو َم ا ْلف ُْر َقانِ َي ْو َم ا ْل َت َقى جْ َ‬
‫فيق�سمون �أربعة �أخما�س الغنيمة على اجلند‪ ،‬ورمبا نفلوا �أ�صحاب البالء‬
‫من اخلم�س‪ ،‬ثم ير�سلون ما بقي منه �إىل �أبي بكر‪ ،‬وكان �أبو بكر يق�سم ما ي�صل‬
‫�إليه بني امل�سلمني ال يفرق بينهم يف الق�سمة‪ ،‬و�إمنا يعطيهم جميع ًا على �سواء‪،‬‬
‫يعطي الرجال والن�ساء والأحرار والرقيق‪.‬‬
‫وملا ُكلِّم يف ال�سابقني �إىل الإ�سالم واملجاهدين مع ر�سول اهلل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫�إن �أجرهم على ذلك عند اهلل‪ ،‬و�إمنا الدنيا بالغ‪ ،‬و�سرنى �أن عمر خالف هذا‬
‫املذهب حني فر�ض الأعطية للنا�س‪.‬‬
‫والأمر الثاين‪� :‬أنه مل يرم الفر�س والروم يف العراق وال�شام �إال مبن ثبت‬
‫على �إ�سالمه بعد وفاة النبي‪ ،‬وكان مينع العائدين من ردتهم �إىل الإ�سالم من‬
‫امل�شاركة يف الفتح‪ ،‬عقوبة لهم من جهة و�إ�شفاق ًا منهم من جهة �أخرى‪.‬‬
‫و�سرنى �أن عمر قد غري هذا احلكم من �أحكام �أبي بكر‪.‬‬

‫‪-1‬اللقحة ‪ :‬الناقة احللوب‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫وكان �أبو بكر فيما عدا ذلك رج ًال من امل�سلمني ال ميتاز منهم يف �شيء‪،‬‬
‫وقد دعاه بع�ض النا�س‪ :‬يا خليفة اهلل! فقال‪ :‬ل�ست خليفة اهلل‪ ،‬و�إمنا �أنا خليفة‬
‫ر�سول اهلل‪.‬‬
‫وكذلك �أنفق �أيام خالفته را�ضي ًا مر�ضي ًا‪ ،‬مل ينكر عليه �أحد من امل�سلمني‬
‫�شيئ ًا‪ ،‬ومل ينكر هو على �أحد من امل�سلمني �شيئ ًا‪ ،‬ولقي اهلل را�ضي ًا عن امل�سلمني‬
‫وامل�سلمون عنه را�ضون‪.‬‬
‫و�أمر �آخر يتفق املحدثون والعلماء بالقر�آن على �إ�ضافته �إىل �أبي بكر عن‬
‫م�شورة عمر‪ ،‬ومل ُيقبل عليه �أبو بكر �إال بعد تردد‪ ،‬لأنه كان كما ر�أيت يتحرج‬
‫من �أن يفعل �شيئ ًا مل يفعله النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وهو جمع القر�آن‪.‬‬
‫فقد قتل من �أ�صحاب ر�سول اهلل يف حرب م�سيلمة مئتان و�ألف من‬
‫امل�سلمني‪ ،‬وكان يف القتلى عدد كثري من القراء الذين جمعوا القر�آن كله �أو‬
‫�أكرثه يف �صدورهم‪ ،‬فلما كرث القتلى من ال ُقراء يف هذه املوقعة �أ�شفق عمر‬
‫�أن يقتل مثلهم �أو �أكرث منهم يف مواطن الب�أ�س‪ ،‬و�أن يذهب كثري من القر�آن‬
‫بقتلهم‪ ،‬ف�أ�شار على �أبي بكر �أن يجمع القر�آن حتى ال يتعر�ض ن�ص من‬
‫ن�صو�صه لل�ضياع بقتل من يقتل من القراء خا�صة ومن �أ�صحاب النبي عامة‪،‬‬
‫وتردد �أبو بكر يف ذلك كما قلت �آنف ًا‪ ،‬ولكن عمر مازال به حتى �أقنعه‪ .‬قال‬
‫املحدثني والعلماء بالقر�آن‪ :‬دعا �أبو بكر زيد بن ثابت رحمه اهلل‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الرواة من‬
‫وكان �شاب ًا جلداً عاق ًال‪ ،‬وكان يكتب الوحي لر�سول اهلل يف املدينة‪ ،‬فكلفه‬
‫�أن يتتبع القر�آن فيجمعه‪ ،‬وتردد زيد كما تردد �أبو بكر‪ ،‬لأن النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم مل يفعل ذلك‪ ،‬ولكن ال�شيخني �أقنعاه مبا يف ذلك من خري للإ�سالم‬
‫وامل�سلمني‪ ،‬فنه�ض زيد بهذه التبعة الثقيلة‪ ،‬وجعل يتتبع القر�آن‪ ،‬يجمعه من‬
‫�صدور الرجال‪ ،‬ال يقبل من رجل ن�ص ًا من ن�صو�صه �إال �إذا وجده عند رجل �آخر‬
‫من �أ�صحاب النبي‪ ،‬ويجمعه من �ألواح احلجارة و�أكتاف الإبل‪ ،‬وع�سب النخل‬
‫التي كانوا يكتبون القر�آن عليها‪ ،‬حتى �أمت ذلك يف عهد �أبي بكر‪� ،‬أو يف �أيام‬
‫عمر‪ ،‬على اختالف يف ذلك‪ ،‬فاجتمع ذلك �أول م�صحف كتب فيه القر�آن‪.‬‬
‫وظل هذا امل�صحف عند �أبي بكر‪� ،‬إن كان قد مت جمعه يف �أيامه‪ ،‬ثم �صار‬
‫بعد ذلك �إىل عمر‪� ،‬أو ظل عند عمر‪� ،‬إن كان قد مت جمعه بعد وفاة �أبي بكر‪ ،‬حتى‬

‫‪100‬‬
‫هم عثمان رحمه اهلل بن�سخ‬ ‫قتل عمر‪ ،‬فكان عند حف�صة �أم امل�ؤمنني‪ ،‬حتى ّ‬
‫امل�صاحف و�إر�سالها �إىل الأم�صار‪ ،‬فطلب هذا امل�صحف من حف�صة فدفعته‬
‫�إليه‪ .‬وكان مما اعتمد عليه الذين ن�سخوا امل�صاحف‪.‬‬
‫ومعنى هذا �أن امل�صحف الذي جمعه زيد بن ثابت عن �أمر �أبي بكر مل يكن‬
‫معرو�ض ًا على النا�س‪ ،‬و�إمنا كان حمفوظ ًا عند ال�شيخني‪� ،‬أو عند عمر وحده ثم‬
‫عند حف�صة‪ ،‬ومل يذع يف النا�س �إال حني ن�سخت امل�صاحف عن �أمر عثمان‪ ،‬يف‬
‫الق�صة التي رويناها يف غري هذا احلديث‪.‬‬
‫وكان زيد بن ثابت من الذين �شاركوا يف ن�سخ هذه امل�صاحف‪ .‬ومن‬
‫النا�س من يظن �أن جمع القر�آن �أيام �أبي بكر �أريد به �إىل منع اختالف النا�س‬
‫وعمر مل يكن مرجع ًا لعامة امل�سلمني‪ ،‬و�إمنا �أريد به �إىل حفظ ن�صو�ص القر�آن‬
‫من �أن تذهب مبوت الذين يحفظونها يف �صدورهم‪� ،‬أو يحتفظون بها عندهم‬
‫مكتوبة‪ ،‬ف�أما امل�صحف الذي �أريد به �إىل جمع النا�س على قراءة ال يختلفون‬
‫فيها‪ ،‬فهو الذي �أر�سله عثمان �إىل الأم�صار‪ ،‬والذي �سمي بامل�صحف الإمام‪.‬‬

‫‪101‬‬
102
‫‪12‬‬

‫ويف �آخر الأ�سبوع الأول من �شهر جمادى الآخرة �سنة ثالث ع�رشة للهجرة‬
‫مر�ض �أبو بكر‪ ،‬وكان قد اغت�سل يف يوم بارد ف�أخذته حمى جعلت تثقل عليه‬
‫حتى �أح�س �أبو بكر �أنه املوت‪ ،‬وقد كُ لم يف دعاء الطبيب‪ ،‬فقال ‪ -‬فيما حتدث‬
‫ابن �سعد ‪ -‬لقد ر�آين فقال‪� :‬إين فعال ملا �أ�شاء‪.‬‬
‫يريد �أن الطبيب الذي ر�آه �إمنا هو اهلل عز وجل‪ .‬ومعنى ذلك �أن �أبا بكر مل‬
‫يرد �أن ي�ست�شري طبيب ًا من النا�س‪ ،‬و�إمنا وكل �أمره �إىل اهلل يف مر�ضه‪ ،‬كما كان‬
‫يكل �أمره كله �إىل اهلل اثناء عافيته‪ .‬ولي�س ي�صح ما يروى من �أن �أبا بكر مات‬
‫�سمه بع�ض اليهود يف طعام �أهداه �إليه‪ ،‬و�أكل معه من هذا الطعام‬ ‫م�سموماً‪َّ ،‬‬
‫طبيب العرب احلارث بن كلدة‪ ،‬فلما �أ�ساغه قال لأبي بكر‪� :‬أرفع يدك يا خليفة‬
‫ر�سول اهلل ف�إن هذا الطعام م�سموم‪ ،‬و�إن �سمه ل�سنة‪ ،‬و�إين �أموت �أنا و�أنت يف يوم‬
‫واحد بعد عام‪.‬‬
‫ال ت�صح هذه الرواية‪ ،‬فلو قد �صحت ملا �أهمل �أبو بكر نف�سه‪� ،‬أو عمر بعده‪،‬‬
‫�أن يدعو من �أهدى �إليه هذا الطعام ويعاقبه‪ ،‬لأنه على �أقل تقدير قد قتل رجلني‬
‫من امل�سلمني‪ ،‬ف�ض ًال عن �أن �أحد هذين الرجلني هو خليفة ر�سول اهلل‪ ،‬وما كان‬
‫عمر ليدع هذه الق�ضية مت�ضي دون �أن يحدث فيها �أمراً‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫قال الرواة‪ :‬وكانت عائ�شة �أم امل�ؤمنني متر�ض �أباها‪ ،‬فتمثلت حني ر�أته‬
‫يحت�رض قول ال�شاعر القدمي‪:‬‬
‫لعمرك ما ُيغنى الرثاء عن الفتى �إذا ح�رشجت يوم ًا و�ضاق بها َّ‬
‫ال�ص ُدر‬

‫فقال لها �أبو بكر‪ :‬لي�س كذلك يا �أم امل�ؤمنني‪ ،‬ولكن قول اهلل عز وجل‪:‬‬
‫« َو َجا َء ْت َ�س ْك َر ُة المْ َ ْو ِت ِبالحْ ِ َّق َذ ِل َك َما ُك َ‬
‫نت ِم ْن ُه تحَ ِ ي ُُد»‪.‬‬
‫ويف مر�ضه هذا طلب �إىل عائ�شة �أن ترد ما ًال كان �أعطاها �إياه ليجعله يف‬
‫مرياثه‪ ،‬حترج ًا من �أن ي�ؤثر �أحد ورثته على غريه‪ ،‬وقال لها فيما قال‪� :‬إمنا هما‬
‫�أخواك و�أختاك‪ .‬قال الرواة‪ :‬فلم تفهم عنه عائ�شة‪ ،‬لأنها كانت تعرف �أخويها‬
‫عبدالرحمن وحممداً‪ ،‬و�أختها �أ�سماء ذات النطاقني‪ ،‬وال تعرف لها �أخت ًا غريها‪.‬‬
‫فقال لها �أبو بكر‪� :‬إمنا هي ذات بطن �أ�سماء بنت ُعمي�س‪ .‬فقد �ألقى يف روعي‬
‫�أنها جارية‪.‬‬
‫وكانت �أ�سماء بنت عمي�س حام ًال فولدت بعد وفاة �أبي بكر جارية‪ ،‬هي �أم‬
‫كلثوم بنت �أبي بكر‪.‬‬
‫ويف هذا املر�ض �أو�صى عائ�شة �أن يكفن يف ثوبني غ�سيلني كان ي�صلي‬
‫فيهما‪ .‬فلما عر�ضت عليه عائ�شة �أن يكفن يف اجلديد‪ ،‬قال‪� :‬إن احلي �أحوج �إىل‬
‫للمهلة((( والرتاب‪.‬‬ ‫اجلديد من امليت‪ ،‬ف�إمنا الكفن ُ‬
‫وقد كفن يف هذين الثوبني‪ ،‬وبع�ض الرواة يزعم �أن قد �أ�ضيف �إليهما ثوب‬
‫جديد‪.‬‬
‫وقد تويف �أبو بكر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬فيما يروي عن عائ�شة‪ ،‬بني املغرب‬
‫والع�شاء‪ ،‬يوم االثنني لثمان بقني من جمادى الآخرة �سنة ثالث ع�رشة للهجرة‪،‬‬
‫وكانت �سنه ‪ -‬فيما جمع عليه الرواة ‪ -‬ثالث ًا و�ستني �سنة‪ ،‬قد ا�ستوفى �سن‬
‫ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬ودفن يف ليلته ‪ -‬على �أ�صح الروايات ‪ -‬ببيت‬
‫عائ�شة �إىل جنب قرب ر�سول اهلل �صلوات اهلل عليه‪ .‬و�صلى عليه عمر يف امل�سجد‬
‫عند املنرب‪.‬‬

‫‪ -1‬املهلة‪ :‬القيح وصديد امليت‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫‪13‬‬

‫ويف هذا املر�ض �أدى �أبو بكر للإ�سالم وامل�سلمني �أجل خدمة �أداها رجل‬
‫بعد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وهي ا�ستخالفه عمر بن اخلطاب‪.‬‬
‫والرواة يكرثون يف �أمر هذا اال�ستخالف‪ ،‬يزعمون �أنه �شاور فيه جماعة‬
‫من �أ�صحاب النبي‪ ،‬ويف مقدمتهم عبدالرحمن بن عوف‪ ،‬وعثمان بن عفان‪،‬‬
‫و�سعيد بن زيد بن نفيل‪ ،‬فكلهم ر�أى ر�أيه‪.‬‬
‫ويقول الرواة �أي�ض ًا‪� :‬إنه �أملى عهده �إىل امل�سلمني على عثمان‪ ،‬فلما �أخذ‬
‫يف الإمالء وبلغ قوله‪�« :‬إين ا�ستلخفت عليكم» �أخذته غ�شية‪ ،‬ف�أ�شفق عثمان �أن‬
‫تكون غ�شية املوت‪ ،‬فكتب من عند نف�سه «عمر بن اخلطاب»‪ .‬و�أفاق �أبو بكر‬
‫علي ما كتبت‪ .‬فلما قر�أ عليه عثمان‪ ،‬و�سمع ا�سم‬
‫من غ�شيته فقال لعثمان‪ :‬اقر�أ ّ‬
‫«عمر بن اخلطاب» كرب �أبو بكر‪ ،‬وقال لعثمان‪ :‬جزاك اهلل عن الإ�سالم خرياً‪:‬‬
‫خفت �أن تذهب نف�سي يف هذه الغ�شية‪ .‬ثم م�ضى يف الإمالء حتى �أمت عهده‪.‬‬
‫وهذا ن�صه كما رواه ابن �سعد عن �شيوخه‪:‬‬
‫«ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‪ .‬هذا ما عهد �أبو بكر بن �أبي قحافة يف �آخر‬
‫عهده بالدنيا خارج ًا منها‪ .‬وعند �أول عهده بالآخرة داخ ًال فيها‪ ،‬حني ي�ؤمن‬

‫‪105‬‬
‫الكافر‪ ،‬ويوقن الفاجر‪ ،‬وي�صدق الكاذب‪� ،‬إين ا�ستخلفت عليكم بعدي عمر بن‬
‫اخلطاب‪ ،‬فا�سمعوا له و�أطيعوا‪ ،‬و�إين مل �آل اهلل ور�سوله ودينه ونف�سي و�إياكم‬
‫خرياً‪ ،‬ف�إن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه‪ ،‬و�إن بدل فلكل امرئ ما اكت�سب من‬
‫الإثم‪ .‬واخلري �أردت‪ ،‬وال �أعلم الغيب‪ ،‬و�سيعلم الذين ظلموا �أي منقلب ينقلبون‪.‬‬
‫وال�سالم عليكم ورحمة اهلل»‪.‬‬
‫ويقول الرواة‪� :‬إن عثمان خرج بهذا العهد خمتوم ًا على جماعة النا�س يف‬
‫امل�سجد‪ .‬فقال لهم‪� :‬إن خليفة ر�سول اهلل ي�س�ألكم‪� :‬أتبايعون ملن يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫علي فيما يروي ‪ : -‬قد عرفناه �إنه عمر‪.‬‬ ‫قالوا‪ :‬نعم‪ .‬وقال بع�ضهم ‪ -‬وهو ّ‬
‫ويقول الرواة كذلك‪� :‬إن جماعة من املهاجرين ملا علموا ب�أن �أبا بكر يريد‬
‫�أن ي�ستخلف عمر دخلوا عليه فقالوا‪ :‬ماذا تقول لربك �إذا ا�ستخلفت علينا عمر‬
‫وهو على ما تعرف من غلظته؟ قال �أبو بكر‪� :‬أجل�سوين‪ ،‬ف�أجل�سوه‪ ،‬فقال‪� :‬أباهلل‬
‫تخوفونني؟ �أقول‪ :‬قد ا�ستخلفت عليهم خري �أهلك‪ .‬ثم ا�ضطجع‪.‬‬
‫ول�ست �أطمئن �إىل �شيء من كل هذه الروايات‪ ،‬فقد كرث الكالم يف ا�ستخالف‬
‫�أبي بكر نف�سه‪ ،‬وال غرابة يف �أن يكرث الكالم يف ا�ستخالف عمر �أي�ض ًا‪ ،‬و�إمنا‬
‫�أقطع ب�شيء واحد‪ ،‬وهو �أن �أبا بكر قد ا�ستخلف عمر يف مر�ضه الذي تويف فيه‪.‬‬
‫وقد قدمت �أن ا�ستخالف �أبي بكر لعمر مل يكن من �ش�أنه �أن يلزم امل�سلمني‪ ،‬لأن‬
‫�أمر اخلالفة لي�س �إىل رجل‪ ،‬و�إن كان هذا الرجل �أبا بكر‪ ،‬و�إمنا هو �إىل جماعة‬
‫امل�سلمني و�إىل �أويل الر�أي منهم خا�صة‪ ،‬وهم املهاجرون والأن�صار يف ذلك‬
‫العهد‪ .‬و�إمنا كان ا�ستخالف �أبي بكر تر�شيح ًا لعمر ون�صح ًا للم�سلمني‪ ،‬وكان‬
‫من حق امل�سلمني و�أوىل ر�أيهم �أن يقبلوا هذا الرت�شيح �أو يعر�ضوا عنه‪ ،‬ف�إذا‬
‫كان امل�سلمون قد قبلوا هذا الرت�شيح ف�إمنا قبلوه لأنهم كان يحبون �أبا بكر‪،‬‬
‫ويثقون به‪ ،‬ويطمئنون �إىل ن�صحه للأمة وللإ�سالم و�إىل ح�سن اختياره‪.‬‬
‫وقد قبلوا تر�شيح �أبي بكر لعمر جممعني على هذا القبول مل يخالف على‬
‫�إجماعهم �أحد‪ .‬وكان اختيار عمر �أجل خدمة �أداها �أبو بكر للم�سلمني‪ .‬فهو قد‬
‫تويف وجيو�ش امل�سلمني يف ال�شام والعراق ب�إزاء الأ�سدين فار�س والروم‪ ،‬كما‬
‫كان ي�سميهما‪ ،‬والعرب حديثو عهد بالردة‪ ،‬فكان امل�سلمون يف حاجة �أ�شد‬
‫حاجة �إىل رجل قوي �شديد يف احلق‪ ،‬ما�ض يف الأمور �إىل غاياتها‪ ،‬حري�ص‬

‫‪106‬‬
‫على الإن�صاف‪ ،‬خمل�ص يف الن�صح هلل ور�سوله وللإ�سالم وامل�سلمني‪ ،‬قادر‬
‫على �أن ينه�ض بهذه الأعباء الثقال التي تركها �أبو بكر‪ ،‬في�ست�صلح العرب بعد‬
‫ردتهم‪ ،‬ويتم ما بد�أ �أبو بكر من الفتح‪ ،‬ويقيم الدول النا�شئة على ما ينبغي �أن‬
‫تقوم عليه من نظام يجمع امل�سلمني‪ ،‬ويرعى م�صالح البالد املفتوحة و�أهلها‪،‬‬
‫وينفذ كتاب اهلل و�سنة نبيه‪ ،‬وي�أخذ اجلماعة اجلديدة بحكم يلتئم من ال�شدة‬
‫واللني‪ ،‬ويقوم على العدل وامل�ساواة والإن�صاف‪ ،‬يف غري هوادة وال �ضعف‪،‬‬
‫ويف غري جربية �أو ظلم‪.‬‬
‫ومل يكن �أقدر على احتمال هذه املهمة اخلطرية من عمر رحمه اهلل كما‬
‫�سرتى‪.‬‬

‫‪107‬‬
108
‫الكتاب الثاين‬

‫‪109‬‬
110
‫‪1‬‬

‫وكان عمر بن اخلطاب يف ال�سنة ال�ساد�سة من مبعث النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم فتى جلداً حديداً من فتيان قري�ش‪ ،‬ثم من بني عدي‪ ،‬وقد ن�ش�أ ن�ش�أة‬
‫القر�شي غري ذي الرثاء‪.‬‬
‫كان �أبوه اخلطاب بن نفيل قليل احلظ من الغنى‪ ،‬عظيم احلظ من الفظاظة‬
‫وغلظة القلب‪ ،‬امتحن ابن �أخيه زيد بن عمرو ف�أ�رسف عليه يف االمتحان‪.‬‬
‫وكان زيد قد خالف عن دين قري�ش فاجتنب عبادة الأوثان و�أنكر على‬
‫يقربون �إليها‪ ،‬واتخذ لنف�سه ‪ -‬فيما يقول الرواة ‪ -‬دين ًا كان ي�سميه‬ ‫الذين ِّ‬
‫دين �إبراهيم‪ ،‬فكان ي�ؤمن باهلل وحده ال ي�رشك به �شيئ ًا‪ ،‬وكان ينكر كثرياً من‬
‫عادات قري�ش و�أطوارها‪ .‬فامتحنه عمه اخلطاب يف هذا الدين وق�سا عليه‪،‬‬
‫و�صرب له زيد فلم ينحرف عن مذهبه ذاك حتى �أخرجه اخلطاب من مكة‬
‫مبعونة قري�ش‪ .‬ويظهر �أن عمر قد امتحن يف �صباه و�أول �شبابه مبا كان يف‬
‫�أبيه من فظاظة وغلظة‪ ،‬وقد حتدث هو بذلك بعد �أن ويل اخلالفة حني مر‬
‫مبكان قريب من مكة يقال له‪�َ :‬ضخنان‪ .‬فقال‪ :‬لقد ر�أيتني يف هذا املكان‬
‫�أرعى على اخلطاب �إب ًال له‪ ،‬وكان ما علمت فظ ًا غليظ القلب‪ ،‬و�أنا الآن لي�س‬

‫‪111‬‬
‫فوقي �أحد �إال اهلل عز وجل‪ .‬ثم متثل‪:‬‬
‫ويودى املال والول ُد‬
‫ال �شيء مما ترى َتبقى ب�شا�ش ُته يبقى الإله ُ‬

‫وال�شيء الذي ال �شك فيه �أن عمر ورث عن �أبيه �شدته وعنفه‪ ،‬و�أنه لو مل‬
‫يهده اهلل �إىل الإ�سالم لعا�ش يف قومه كما عا�ش �أبوه فظ ًا غليظ القلب ي�ستجيب‬
‫للعنف عند كل نب�أة‪.‬‬
‫ولي�س �أدل على ذلك من عنفه بامل�سلمني و�شدته عليهم‪ ،‬وعلى من كان‬
‫يظهر الرقة لهم �أو امليل �إليهم‪.‬‬
‫والرواية التي يتناقلها الرواة عن �إ�سالمه ت�صور ذلك �أ�صدق الت�صوير‬
‫و�أقواه‪ ،‬فهو قد خرج ذات يوم حمفظ ًا ثائراً متقلداً �سيفه‪ ،‬فلقيه رجل من بني‬
‫زهرة‪ ،‬ف�س�أله عن وجهته‪ .‬قال عمر‪� :‬أريد �أن �أقتل حممداً‪.‬‬
‫قال الرجل‪ :‬وكيف ت�أمن يف بني ها�شم وبني زهرة �إن قتلت حممداً؟ قال‬
‫عمر‪ :‬لعلك قد �صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه‪ .‬قال الرجل‪ :‬فهل �أدلك على‬
‫العجب يا عمر؟ �إن خ َتنك و�أختك قد �صبوا وتركا دين �آبائهما‪.‬‬
‫هنالك غيرّ عمر وجهه‪ ،‬وم�ضى �إىل �أخته وقد بلغ الغ�ضب منه �أق�صاه‪ ،‬فلما‬
‫بلغ الدار �سمع ك�أن �أهلها يقر�ؤون‪ ،‬وكان عند �أخت عمر وزوجها رجل من‬
‫خباب ح�س عمر ا�ستخفى‪ ،‬ودخل‬ ‫أرت‪ ،‬فلما �سمع َ‬ ‫امل�سلمني‪ ،‬وهو َخباب بن ال ّ‬
‫عمر على �أخته وزوجها‪ ،‬فقال ما هذه الهينمة التي �سمعتها؟ قالت �أخته‪ :‬ما‬
‫عدا حديث ًا كنا نتحدثه‪ ،‬قال عمر‪ :‬بل لعلكما قد �صبومتا‪ .‬قال ختنه‪ :‬ف�إن كان‬
‫احلق غري ما �أنت عليه يا عمر! هنالك مل ميلك عمر نف�سه‪ ،‬فاندفع �إىل ختنه‬
‫يبط�ش به بط�ش ًا �شديداً‪.‬‬
‫و�أقبلت �أخته تريد �أن حتول بينه وبني زوجها‪ ،‬فلطمها عمر لطمة �أدمت‬
‫وجهها‪ ،‬فقالت �أخته‪� :‬أفئن كان احلق غري ما �أنت عليه! ثم �أعلنت �إليه �إ�سالمها‪،‬‬
‫ف�شهدت �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل‪.‬‬
‫ور�أى عمر الدم على وجه �أخته‪ ،‬فك�أنه رق لها وطلب �إليها �أن تريه‬
‫ال�صحيفة التي كانوا يقر�ؤون فيها‪ .‬فزعم الرواة �أنها قالت له‪� :‬إنك جن�س‬
‫وال مي�سه �إال املطهرون‪ ،‬و�أمرته �أن يتطهر قبل �أن تريه ال�صحيفة‪ ،‬وا�ستجاب‬

‫‪112‬‬
‫لها عمر‪ ،‬فيقول بع�ض الرواة‪� :‬إنه ذهب فاغت�سل‪ ،‬ويقول بع�ضهم‪� :‬إنه ذهب‬
‫فتو�ض�أ‪ ،‬ثم دفعت �أخته �إليه ال�صحيفة فقر�أ فيها الآيات الكرمية الأوىل من‬
‫�سورة طه �إىل قول اهلل عز وجل من هذه ال�سورة‪:‬‬
‫ال�صال َة ِل ِذ ْكرِي»‪.‬‬
‫َاع ُب ْد يِن َو�أَ ِق ِم َ ّ‬ ‫«�إِ َ ّن ِني �أَ َنا َ هّ ُ‬
‫الل ال �إِ َل َه �إِ َالّ �أَ َنا ف ْ‬
‫وك�أن هذه الآيات بلغت �أعماق قلبه‪ ،‬فقال‪ :‬دلوين على حممد‪ .‬و�سمع‬
‫خباب مقالته‪ ،‬فخرج من خمبئه وهو يقول‪� :‬أب�رش يا عمر! ف�إين �أرجو �أن يكون‬ ‫َ‬
‫اهلل قد ا�ستجاب لدعوة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حني قال‪ :‬اللهم �أعز الإ�سالم‬
‫ب�أحب الرجلني �إليك‪ :‬عمر بن اخلطاب �أو عمرو بن ه�شام‪.‬‬
‫قال الرواة‪ :‬فذهب عمر �إىل دار الأرقم التي كان النبي يجل�س فيها‬
‫لأ�صحابه‪ ،‬وكان على باب الدار نفر من �أ�صحاب النبي‪ ،‬فلما ر�أوا عمر مقب ًال‬
‫راعهم مقدمه‪ ،‬وكان فيهم حمزة بن عبد املطلب‪.‬‬
‫فلما ر�أى ارتياع �أ�صحابه قال‪ :‬نعم هذا عمر مقب ًال‪ ،‬ف�إن يكن اهلل يريد به‬
‫اخلري والإ�سالم فذاك‪ ،‬و�إن يكن غري ذلك كان قتله علينا ي�سرياً‪.‬‬
‫قال الرواة‪ :‬وخرج النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ف�أخذ مبجامع ثوب عمر‬
‫وجذبه جذب ًا عنيف ًا‪ .‬وقال‪َ � :‬أما �أنت منتهي ًا يا عمر حتى ينزل اهلل بك من‬
‫اخلزي والنكال ما �أنزل بالوليد بن املغرية! اللهم هذا عمر بن اخلطاب! اللهم‬
‫�أعز الدين بعمر بن اخلطاب!‬
‫فقال عمر‪� :‬أ�شهد �أنك ر�سول اهلل‪ ،‬ف�أ�سلم‪.‬‬
‫و�أنا �أروي هذه الرواية غري واثق بها كل الثقة‪ ،‬و�إمنا �أراها م�صورة ملا‬
‫كان القدماء و�أ�صحاب النبي خا�صة يعرفون من �أخالق عمر قبل �إ�سالمه‪.‬‬
‫وال�شيء الذي لي�س فيه �شك �أن عمر كان �شديد العنف بامل�سلمني‪.‬‬
‫ولعله �أن يكون قد �سمع �آيات من القر�آن فملكت عليه نف�سه وا�ستجاب‬
‫للإ�سالم‪.‬‬
‫وال غرابة يف عنف عمر وال يف �شدته على امل�سلمني‪ ،‬فقد ر�أيت ما كان‬
‫من غلظة �أبيه اخلطاب‪ ،‬وما كان من �إيذائه زيد بن عمرو حني خالف عن‬
‫دين قومه‪ ،‬ف�إذا �أ�ضفت �إىل هذا �أن �أ�شد قري�ش غ�ضب ًا للنبي وفتنة للم�سلمني‪،‬‬
‫وهو عمرو بن ه�شام الذي �سماه النبي وامل�سلمني �أبا جهل‪ ،‬قد كان خال عمر‬

‫‪113‬‬
‫�أو ابن خاله‪ ،‬لأن �أم عمر هي حنتمة بنت ه�شام �أخت �أبي جهل‪ .‬ويقال‪ :‬بنت‬
‫ها�شم‪ ،‬فهي ابنة عم �أبي جهل‪ ،‬ف�شدة عمر على امل�سلمني ت�أتيه مما ورث عن‬
‫�أبيه‪ ،‬ومما كان يرى خاله يفعل بامل�ست�ضعفني من امل�سلمني‪.‬‬
‫وجائز جداً �أن يكون النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قد متنى على اهلل �أن‬
‫ُيعز الإ�سالم بعمر بن اخلطاب‪ ،‬وقد حقق اهلل لنبيه ما متنى‪ ،‬فهدى عمر �إىل‬
‫الإ�سالم‪ ،‬وحتول عنف عمر عن غايته الأوىل �إىل غاية �أخرى م�ضادة لها‬
‫كل امل�ضادة‪ ،‬ف�أ�صبح عنيف ًا بامل�رشكني‪ ،‬و�أ�صبح �أ�شد امل�سلمني يف دينه‬
‫و�أ�رصحهم على �إظهار هذا الدين‪ ،‬و�أ�رسعهم �إىل حتدي قري�ش ومباداتها مبا‬
‫كان من �إ�سالمه‪ .‬واحتمال ما وجه �إليه من الأذى يف ذلك‪ ،‬ال كما يحتمله‬
‫العاجز الذي ال ي�ستطيع دفع ًا عن نف�سه‪ ،‬بل كما يتلقاه الرجل القوي الذي‬
‫يكيل خل�صمه بال�صاع �صاعني‪.‬‬
‫والواقع من �أمر عمر �أنه بد�أ بخاله �أبي جهل فم�ضى حتى طرق عليه بابه‪،‬‬
‫فخرج �إليه �أبو جهل ورحب به حني ر�آه‪ ،‬ولكن عمر فاج�أه ب�إعالن �إ�سالمه‪،‬‬
‫و�شهد �أمامه �أال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل‪� .‬أغلق �أبو جهل الباب يف‬
‫وجهه وهو يقول‪ :‬بئ�س ما جئت به! وم�ضى عمر يلتم�س �أ�رسع قري�ش �إىل‬
‫�إذاعة الأ�رسار و�إف�شائها‪ .‬ف�أ�رس �إليه �أنه قد �أ�سلم‪ ،‬و�أ�رسع الرجل ف�أذاع يف �أندية‬
‫قري�ش‪ .‬مل يرتك حلقة من حلقاتهم يف امل�سجد �إال وقف عليها و�أنب�أها ب�إ�سالم‬
‫ابن اخلطاب‪ ،‬و�أقبل عمر بعد ذلك �إىل امل�سجد فتواثبت �إليه قري�ش ت�رضبه‬
‫وت�ؤذيه‪ ،‬وهو يدافعها عن نف�سه يف جراءة و�رصامة و�إقدام حتى �أجهده القوم‪،‬‬
‫ف�رصعوه وكادوا يبط�شون به‪ ،‬لوال �أن �أقبل العا�ص بن وائل فرد عنه القوم‪،‬‬
‫وذكرهم مبكانه من بني عدي‪ ،‬مبا يف�سد من �أمر قري�ش �إن �أ�صاب عمر مكروه‪.‬‬
‫فتفرق القوم عنه كارهني وقد بلغ منه اجلهد‪.‬‬
‫ثم مل يقف �أمره عند هذا‪ ،‬ف�إليه يرجع الف�ضل يف �إظهار الإ�سالم مبكة‬
‫و�إخراج امل�سلمني من خمابئهم بدينهم‪ ،‬فقد كانوا ي�ستخفون بالإ�سالم وال‬
‫يجر�ؤون على �أن يظهروه مبح�رض قري�ش‪ .‬فمازال عمر يجاهد قومه حتى‬
‫ا�ضطرهم �إىل �أن يكفوا عنه �أوالً‪ ،‬وعن �سائر امل�سلمني بعد ذلك‪ ،‬وا�ستطاع‬
‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم و�أ�صحابه‪ ،‬على اختالف منازلهم من قري�ش‪� ،‬أن‬

‫‪114‬‬
‫ي�صلوا يف امل�سجد معلنني �صالتهم غري م�ستخفني بها‪ ،‬و�أن يتخذوا لأنف�سهم‬
‫جمال�س يف امل�سجد ب�إزاء جمال�س امل�رشكني من قري�ش‪.‬‬
‫فلي�س عجيب ًا �أن يقول ابن م�سعود فيما حتدث عن الرواة‪ :‬كان �إ�سالم عمر‬
‫فتح ًا‪ ،‬وهجرته ن�رصاً‪ ،‬و�إمارته رحمة‪ .‬وكلمة ابن م�سعود هذه على اخت�صارها‬
‫هي �أدق و�صف يخت�رص حياة عمر منذ �أ�سلم �إىل �أن تويف‪ .‬فقد كان �إ�سالمه‬
‫فتح ًا حق ًا‪ ،‬لأنه �أتاح للم�سلمني �أن يعلنوا دينهم‪ ،‬و�أن ي�صلوا �أمام امللأ من‬
‫قري�ش وهم �آمنون‪ ،‬وكانت هجرته ن�رصاً فقد كان �أن�صح �أعوان النبي يف‬
‫املدينة هلل ور�سوله وامل�سلمني‪ ،‬و�أغلظ �أ�صحاب النبي على اليهود واملنافقني‪،‬‬
‫وكانت �إمارته رحمة‪ ،‬فقد �أتاح للم�سلمني �أثناء خالفته لون ًا من احلياة مازالت‬
‫الأمم املتح�رضة الآن يف الغرب مق�رصة عن بلوغه على �شدة ما جتهد وجتاهد‬
‫يف �سبيله‪ ،‬ومازال امل�سلمون يف هذه الأيام يرون هذا اللون من احلياة التي‬
‫�أتاحها عمر للنا�س ُحلم ًا وال يدرون متى ي�صبح حقيقة‪ ،‬علىما �أتيح لهم وما‬
‫يتاح لهم يف كل يوم من الو�سائل التي تعينهم على تي�سري احلياة‪ ،‬ومل يكن‬
‫عمر ميلك من هذه الو�سائل �شيئ ًا‪.‬‬

‫‪115‬‬
116
‫‪2‬‬

‫يقول ابن �سعد‪� :‬إن عمر �أ�سلم و�سنه �ست وع�رشون �سنة‪ ،‬ويتفق الرواة على‬
‫�أنه �أ�سلم يف ال�سنة ال�ساد�سة من مبعث النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فقد �أقام‬
‫عمر �إذن مبكة بعد �إ�سالمه �سبع �سنني يجاهد قري�ش ًا عن دينه وعن دين غريه‬
‫من امل�سلمني‪ ،‬وميتحن يف ذلك ب�ألوان من الأذى وامل�شقة مل تزده �إال ثبات ًا‬
‫على احلق و�إمعان ًا يف اجلهاد‪ .‬ولكن املهم من �أمر عمر‪ ،‬يف هذا الطور من‬
‫�أطوار حياته‪،‬هو �أن عنفه و�شدته كان ميازجهما �شيء من الرقة واللني يظهر‬
‫يف �أحيان قليلة حني يرى �شيئ ًا من �ش�أنه �أن ي�ؤثر يف قلب الرجل احلر الكرمي‪.‬‬
‫وقد ر�أيت ما حتدث به الرواة من بط�شه بختنه حني �أح�س منه الإ�سالم‪ ،‬ومن‬
‫بط�شه ب�أخته حني �أرادت �أن تذوده عن زوجها‪ ،‬ور�أيت يف الوقت نف�سه رقته‬
‫حني ر�أى الدم ي�سيل على وجه �أخته‪.‬‬
‫والرواة يتحدثون �أي�ض ًا ب�أنه كان يرق للذين يهاجرون �إىل �أر�ض احلب�شة‬
‫من امل�سلمني ويظهر هذه الرقة‪ .‬وقد ظل عمر على هذا اخللق الذي ي�أتلف من‬
‫العنف العنيف والرقة البالغة بعد �إ�سالمة‪ ،‬ولكن الإ�سالم �صفى مزاجه فلطف‬
‫من عنفه‪ ،‬وحال بينه وبني الإ�رساع �إىلالبط�ش كما كان يفعل قبل �إ�سالمه‪،‬‬

‫‪117‬‬
‫وزاد من رقة قلبه فجعله ي�رسع �إىل رحمة ال�ضعيف والرب بامللهوف‪ .‬وكان‬
‫الإ�سالم خليق ًا �أن ي�ؤثر يف خلق عمر هذا الت�أثري‪ ،‬فهو يدعو �إىل الق�صد‪ ،‬ويكف‬
‫عن ال�رسف‪ ،‬وال ي�سلط �أحداً من امل�سلمني على �أحد �إال عند ال�رضورة امللجئة‪.‬‬
‫وهو بعد ذلك يرغب يف الرحمة والرب‪ ،‬ويزين الرفق يف القلوب‪ ،‬فكيف �إذا‬
‫�صحب عمر النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ور�أى �إيثاره للي�رس يف كل ما المي�س‬
‫حق ًا من حقوق اهلل �أو حق ًا من حقوق العباد‪.‬‬
‫واملعروف �أن النبي كان ال يخري بني �أمرين �إال اختار �أي�رسهما‪ .‬فلي�س‬
‫غريب ًا �أن يت�أثر عمر ب�سرية النبي‪� ،‬إىل ت�أثره مبا كان ي�سمع ويتلو من القر�آن‬
‫الكرمي‪.‬‬
‫وما نعرف �أنه بكى �أثناء جاهليته يف موطن من املواطن‪ ،‬ولكنا نعرف‬
‫�أنه كان �رسيع ًا �إىل البكاء بعد �أن �أ�سلم‪ ،‬كان كغريه من امل�ؤمنني ميتلئ قلبه‬
‫وجال �إذا ذكر اهلل‪ ،‬كما نقر�أ يف الآية الكرمية من �سورة الأنفال‪:‬‬
‫وب ُه ْم َو�إِ َذا ُت ِل َي ْت َع َل ْيه ِْم � َآيا ُت ُه‬
‫الل َو ِج َل ْت ُق ُل ُ‬‫ين �إِ َذا ُذ ِك َر َ هّ ُ‬‫ون ا َ ّل ِذ َ‬‫ِنا المْ ُ �ؤْ ِم ُن َ‬‫«�إ َ مّ َ‬
‫ون»‪.‬‬
‫ميا ًنا َو َع َلى َر ِ ّبه ِْم َي َت َو َ ّك ُل َ‬ ‫َزا َد ْت ُه ْم �إِ َ‬
‫وكان يبكي كلما قرئت عليه �آيات التخويف والرتهيب من القر�آن �أو كلما‬
‫قر�أها‪ ،‬وكان يبكي حني يرى �شدة عي�ش النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وق�سوة‬
‫احلياة املادية عليه‪ ،‬وكان املعروف من خلقه وال�سيما �أثناء خالفته �أنه ال‬
‫يثبت على الغ�ضب �إذا ذكر باهلل �أو قرئ عنده �شيء من القر�آن‪ ،‬مهما كان‬
‫غ�ضبه �شديداً ومهما يكن مو�ضوع هذا الغ�ضب‪.‬‬
‫وقد كان �أثناء جاهليته يرق قلبه يف بع�ض املواطن‪ ،‬ف�أما بعد �إ�سالمه‬
‫فقد كانت رقة قلبه تبلغ به البكاء بل الن�شيج يف �أكرث الأحيان‪ ،‬ومن �أجل هذا‬
‫كله كان �أثناء خالفته مهيب ًا ك�أعظم ما تكون الهيبة‪ ،‬رقيق ًا ك�أ�شد ما تكون‬
‫الرقة‪ .‬والذين و�صفوا حكمه �أثناء خالفته ب�أنه كان �شدة يف غري عنف‪ ،‬ولين ًا‬
‫يف غري �ضعف‪ ،‬مل يبعدوا‪ ،‬فقد كان عمر �شديداً حتى خافه النا�س جميع ًا‪،‬‬
‫وكان رقيق ًا حتى رجاه النا�س جميع ًا‪.‬‬
‫والغريب من �أمره �أنه كان يعنف بنف�سه �أ�شد العنف و�أق�ساه قبل �أن يعنف‬
‫بغريه من النا�س‪ ،‬وال يعرف �أنه رق لنف�سه �أو رحمها يف يوم من الأيام‪ ،‬على‬

‫‪118‬‬
‫كرثة رقته للنا�س ورحمته لل�ضعفاء واملحتاجني‪ .‬وهذا اخللق الذي ي�أتلف‬
‫من العنف والرقة هو الذي دفع عمر �إىل ال�رصاحة التي مل تعرف ملثله من‬
‫�أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فهو كان جريئ ًا حني يرى الر�أي ويعتقد‬
‫�أنه احلق‪ ،‬ال يرتدد يف �أن يعرت�ض على النبي نف�سه‪ ،‬كما فعل عام احلديبية‬
‫حني �أنكر �صلح النبي مع قري�ش‪ ،‬وقال للنبي يف �رصاحة‪:‬‬
‫مل ُنعط الدنية يف ديننا؟ ورمبا دفعته هذه ال�رصاحة �إىل �أن يدخل يف‬ ‫َ‬
‫�أ�شياء مل يكن يدخل فيها غريه من �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فهو‬
‫يتمنى �أن حترم اخلمر‪ .‬وقد كان فيما زعم الرواة �صاحب خمر يف اجلاهلية‪،‬‬
‫ولكنه بعد �إ�سالمه عرف �رضر اخلمر فتمنى �أن حترم‪ ،‬ومازال يجهر بهذا الذي‬
‫كان يتمناه حتى �إذا نهى اهلل امل�سلمني عن �أن يقربوا ال�صالة وهم �سكارى‬
‫حتى يعلموا ما يقولون ر�ضي عمر �شيئ ًا‪ ،‬ولكن ر�ضاه مل يبلغ الإقناع‪ ،‬فظل‬
‫يتمنى �أن حترم اخلمر حترمي ًا قاطع ًا‪ ،‬ويجهر بهذه الأمنية‪ ،‬وي�س�أل اهلل �أن‬
‫يبني �أمر اخلمر بيان ًا �شافي ًا‪ ،‬فلما �أنزل اهلل قوله الكرمي من �سورة املائدة‪:‬‬
‫الم ر ِْج ٌ�س ِ ّم ْن‬ ‫اب َوالأَ ْز ُ‬ ‫ن�ص ُ‬ ‫ِنا الخْ َْم ُر َوالمْ َ ْي�سرِ ُ َوالأَ َ‬ ‫ين � َآم ُنواْ �إ َ مّ َ‬‫«يا �أَ ُ ّي َها ا َ ّل ِذ َ‬ ‫َ‬
‫ان َ�أن ُيو ِق َع َب ْي َن ُك ُم‬ ‫ط‬ ‫ي‬ ‫ال�ش‬ ‫د‬ ‫ِي‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ِن‬ ‫�‬
‫إ‬
‫ْ َ ُ ُ َ َ َ ّ ُ ْ ُ ْ ُ َ َ مّ َ ُ ُ َ ّ ْ َ ُ‬‫‪.‬‬ ‫ون‬ ‫ح‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫ت‬ ‫َاج‬ ‫ف‬ ‫انِ‬‫ط‬‫َع َملِ َ ّ ْ َ‬
‫ي‬ ‫ال�ش‬
‫ال�صال ِة َف َه ْل‬ ‫الل َو َعنِ َ ّ‬ ‫ا ْل َع َد َاو َة َوا ْل َب ْغ َ�ضاء فيِ الخْ َْم ِر َوالمْ َ ْي�سرِ ِ َو َي ُ�ص َ ّد ُك ْم َعن ِذ ْك ِر َ هّ ِ‬
‫ون»‪.‬‬
‫�أَن ُتم ُ ّمن َت ُه َ‬
‫طابت نف�س عمر‪ .‬وكذلك كان موقفه من احلجاب فيما يت�صل بن�ساء النبي‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬مل يكتف ب�أن يتمنى فيما بينه وبني نف�سه �أن يحتجب‬
‫ن�ساء النبي‪ ،‬بل كلم النبي نف�سه يف ذلك‪ ،‬وا�شتد يف هذا الأمر حتى حتدث‬
‫ل�سودة �أم امل�ؤمنني يف بع�ض طريقها وقال‬ ‫الرواة واملحدثون �أنه تعر�ض مرة ْ‬
‫لها‪ :‬لقد عرفناك يا �سودة‪ .‬ف�أحرجها و�أحفظها‪ ،‬ومل ي�سرتح حتى �أنزل اهلل �آيات‬
‫احلجاب يف �سورة الأحزاب فقال عز ا�سمه‪:‬‬
‫اب ِ�ض ْع َفينْ ِ‬ ‫اع ْف َل َها ا ْل َع َذ ُ‬ ‫«يا ِن َ�ساء ال َ ّنب ِ ِّي َمن َي ْ�أ ِت ِمن ُك َ ّن ِبف ِ‬
‫َاح َ�ش ٍة ُ ّم َب ِ ّي َن ٍة ُي َ�ض َ‬ ‫َ‬
‫الل َي ِ�س ًريا‪َ .‬و َمن َي ْق ُن ْت ِمن ُك َ ّن للِ َ هّ ِ َو َر ُ�سو ِل ِه َو َت ْع َم ْل َ�صالحِ ً ا ُ ّن ْ�ؤ ِت َها‬ ‫ان َذ ِل َك َع َلى َ هّ ِ‬ ‫َو َك َ‬
‫ت َك َ�أ َح ٍد ِ ّم َن ال ِ ّن َ�ساء‬ ‫ميا‪َ .‬يا ِن َ�ساء ال َ ّنب ِ ِّي َل ْ�س نُ َ ّ‬ ‫�أَ ْج َر َها َم َرّ َتينْ ِ َو�أَ ْع َت ْد َنا َل َها ِر ْز ًقا َك ِر ً‬
‫�ض َو ُق ْل َن َق ْوال َ ّم ْع ُرو ًفا‪.‬‬ ‫ت فَال َت ْخ َ�ض ْع َن بِا ْل َق ْولِ ف ََي ْط َم َع ا َ ّل ِذي فيِ َق ْل ِب ِه َم َر ٌ‬ ‫�إِنِ ا َ ّت َق ْي نُ َ ّ‬

‫‪119‬‬
‫ال�صال َة َو�آ ِت َ‬
‫ني‬ ‫ول َو َ�أ ِق ْم َن َ ّ‬‫اه ِل َ ّي ِة ا ُلأ ىَ‬
‫ال ِ‬ ‫َو َق ْر َن فيِ ُب ُيو ِت ُك َ ّن َوال َتبرَ َ ّ ْج َن َتبرَ ُ ّ َج جْ َ‬
‫الل ِل ُي ْذ ِه َب َعن ُك ُم ال ِ ّر ْج َ�س �أَ ْه َل ا ْل َب ْي ِت‬ ‫ِنا ُيرِي ُد َ هّ ُ‬ ‫ال َ ّز َكا َة َو�أَ ِط ْع َن َ هّ َ‬
‫الل َو َر ُ�سو َل ُه �إ َ مّ َ‬
‫الل َوالحْ ِ ْك َم ِة �إ َ ِّن َ هّ َ‬
‫الل‬ ‫َو ُي َط ِ ّه َر ُك ْم َت ْط ِه ًريا‪َ .‬وا ْذ ُك ْر َن َما ُي ْت َلى فيِ ُب ُيو ِت ُك َ ّن ِم ْن � َآي ِ‬
‫ات َ هّ ِ‬
‫ان َل ِطي ًفا َخ ِب ًريا»‪.‬‬ ‫َك َ‬
‫وقوله يف ال�سورة نف�سها‪:‬‬
‫وت ال َ ّنب ِ ِّي �إِ َالّ �أَن ُي�ؤْ َذ َن َل ُك ْم �إ ىَِل َط َع ٍام َغيرْ َ‬ ‫ين � َآم ُنوا ال َت ْد ُخ ُلوا ُب ُي َ‬ ‫«يا �أَ ُ ّي َها ا َ ّل ِذ َ‬
‫َ‬
‫ني‬ ‫ْ‬
‫ِين �إِ َنا ُه َو َل ِك ْن �إِ َذا ُد ِعي ُت ْم فَا ْد ُخ ُلوا َف�إِ َذا َط ِع ْم ُت ْم فَان َت�شرِ ُ وا َوال ُم ْ�س َت�أ ِن ِ�س َ‬ ‫اظر َ‬‫َن ِ‬
‫الل ال َي ْ�س َت ْحيِي ِم َن‬ ‫ان ُي�ؤْ ِذي ال َ ّنب َ ِّي ف ََي ْ�س َت ْحيِي ِمن ُك ْم َو َ هّ ُ‬ ‫يث �إ َ ِّن َذ ِل ُك ْم َك َ‬ ‫لحِ َ ِد ٍ‬
‫اب َذ ِل ُك ْم َ�أ ْط َه ُر ِل ُق ُلو ِب ُك ْم‬ ‫وه َ ّن ِمن َو َراء ِح َج ٍ‬ ‫َا�س�أَ ُل ُ‬
‫اعا ف ْ‬ ‫وه َ ّن َم َت ً‬‫الحْ َ ِ ّق َو�إِ َذا َ�سَ�أ ْل ُت ُم ُ‬
‫اج ُه ِمن َب ْع ِد ِه‬ ‫الل َوال �أَن َتن ِك ُحوا �أَ ْز َو َ‬ ‫ول َ هّ ِ‬ ‫ان َل ُك ْم �أَن ُت ْ�ؤ ُذوا َر ُ�س َ‬ ‫َو ُق ُلو ِبه َ ِّن َو َما َك َ‬
‫ان ِب ُك ِ ّل‬ ‫الل َك َ‬ ‫َ‬
‫الل َع ِظي ًما‪� .‬إِن ُت ْب ُدوا َ�ش ْيئًا �أ ْو ُت ْخفُو ُه َف�إ َ ِّن َ هّ َ‬ ‫ان ِعن َد َ هّ ِ‬ ‫�أَ َب ًدا �إ َ ِّن َذ ِل ُك ْم َك َ‬
‫اح َع َل ْيه َ ِّن فيِ � َآبا ِئه َ ِّن َوال �أَ ْب َنا ِئه َ ِّن َوال �إ ِْخ َوا ِنه َ ِّن َوال �أَ ْب َناء‬ ‫َ�ش ْي ٍء َع ِلي ًما‪ .‬لاّ ُج َن َ‬
‫ني َ هّ َ‬
‫الل �إ َ ِّن‬ ‫يا ُن ُه َ ّن َوا َ ّت ِق َ‬ ‫�إ ِْخ َوا ِنه َ ِّن َوال �أَ ْب َناء �أَ َخ َوا ِته َ ِّن َوال ِن َ�سا ِئه َ ِّن َوال َما َم َل َك ْت �أَ مْ َ‬
‫ان َع َلى ُك ِ ّل َ�ش ْي ٍء َ�شهِي ًدا»‪.‬‬ ‫َ هّ َ‬
‫الل َك َ‬
‫هنالك ر�ضي عمر كل الر�ضا حني و�ضع اهلل بيوت النبي حيث ينبغي‬
‫�أن تو�ضع من الإجالل والكرامة‪ .‬ومل يقف �أمر عمر عند هذا احلد بل راجعته‬
‫امر�أته يف بع�ض �أمره ف�أغ�ضبه ذلك فزجرها‪ ،‬فقالت له امر�أته‪ :‬ويحك! �إنك‬
‫علي �أن �أراجعك‪ ،‬و�إن ابنتك وغريها من �أزواج النبي �صلى اهلل عليه‬ ‫لت�أبى ّ‬
‫و�سلم لرياجعن ر�سول اهلل حتى يغ�ضبنه‪ ،‬ف�أ�رسع عمر �إىل ابنته حف�صة �أم‬
‫امل�ؤمنني ف�س�ألها‪� :‬أيف احلق �إنكن تراجعن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم؟‬
‫قالت‪� :‬أجل واهلل �إنا لرناجعه‪ .‬فوعظها عمر يف ذلك ما ا�ستطاع‪ ،‬ثم ذهب حتى‬
‫ا�ست�أذن على �أم �سلمة �أم امل�ؤمنني وكانت بينه وبينها قرابة من قبل �أمه‪.‬‬
‫ف�س�ألها يف ذلك‪ ،‬فقالت‪ :‬هلل �أنت يا ابن اخلطاب‪ .‬دخلت يف كل �شيء حتى تريد‬
‫�أن تدخل بني النبي و�أزواجه‪ .‬ف�أ�سكتته‪ ،‬وان�رصف عمر خج ًال‪.‬‬
‫ومن قبل ذلك كله وقف عمر موقف ًا طابقه القر�آن عليه‪ ،‬وذلك يف �أعقاب‬
‫غزوة بدر حني �شاور النبي يف �أمر الأ�رسى‪ ،‬ف�أ�شار عمر بقتلهم‪ ،‬و�أ�شار �أبو بكر‬

‫‪120‬‬
‫بالفداء‪ ،‬و�أنزل اهلل يف �سورة الأنفال لومه للنبي وامل�سلمني يف قبول الفداء‬
‫كما رويت ذلك فيما قدمت من حياة �أبي بكر‪.‬‬
‫فلي�س غريب ًا �أن يتحدث الرواة ب�أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قال‪� :‬إن‬
‫احلق على ل�سان عمر ويف قلبه‪ .‬ولي�س غريب ًا �أن يلقب عمر الفاروق‪ ،‬لأنه فرق‬
‫بني احلق والباطل‪� ،‬سواء �أكان الذي لقبه بذلك هو النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬
‫كما يروى عن عائ�شة �أم امل�ؤمنني‪� ،‬أم كان �أهل الكتاب هم الذين لقبوه هذا‬
‫اللقب و�أخذه عنهم امل�سلمون كما يتحدث رواة �آخرون‪.‬‬
‫ومل يكن عمر �أيام �أبي بكر �أقل �رصاحة منه �أيام النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪ .‬فقد ر�أيت مراجعته لأبي بكر يف �أمر خالد بن الوليد‪ ،‬حني قتل مالك بن‬
‫نويرة وتزوج امر�أته‪ ،‬و�إحلاحه عليه يف عزله لأن يف �سيفه رهق ًا‪.‬‬
‫و�سرتى �أنه مل يكد ي�ستخلف حتى عزل خالداً‪ ،‬ور�أيت كذلك كيف راجع �أبا‬
‫بكر يف �إر�سال خالد بن �سعيد بن العا�ص �إىل م�شارف ال�شام‪ .‬حلماية حدود‬
‫علي يف هذا القول‪� :‬إن خالداً يحب الفخر‪،‬‬ ‫اجلزيرة العربية‪ ،‬وقال له‪ ،‬و�شاركه ّ‬
‫وعلي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و�إنه �رسيع �إىل الإقدام‪� ،‬رسيع �إىل الإحكام‪ .‬و�صدقت احلوادث قول عمر‬
‫ف�أقدم خالد و�أحجم وانتهى �أمره �إىل الفرار‪.‬‬
‫ومن �أجل جراءة عمر و�شدته يف احلق‪ ،‬ومطابقة القر�آن لر�أيه يف غري‬
‫موطن‪ ،‬ون�صحه اهلل ور�سوله وامل�سلمني‪ ،‬كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬
‫ي�ؤثره �أ�شد الإيثار‪ ،‬ويظهر له من ذلك ماكان يقر عينه وميلأ قلبه غبطة‬
‫العمرة وقال‪� :‬إين �أريد امل�شي‪ .‬ف�أذن‬‫ور�ضى‪ ،‬حتى لقد ا�ست�أذن النبي مرة يف ُ‬
‫له النبي‪ ،‬فلما ان�رصف دعاه النبي فقال له‪� :‬أ�رشكنا يا �أخي يف �صالح دعائك‬
‫وال تن�سنا‪ .‬فكان عمر يقول‪ :‬لقد قال النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يل كلمة ما‬
‫�أحب �أن تكون يل بها الدنيا وما فيها‪.‬‬
‫وكان عمر �شديد الرفق بالنبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬واحلياطة له‪ ،‬والقيام‬
‫أيت موقفه من حف�صة و�أم‬ ‫دونه‪ ،‬واحلر�ص على �أن يرد عنه ك َّل مكروه‪ .‬وقد ر� َ‬
‫ولكن رفقه بالنبي كان يدعوه �إىل‬ ‫ّ‬ ‫�سلمة حني علم �أن ن�ساء النبي ُيراجعنه‪.‬‬
‫ويظهره م�رسع ًا �إىل البط�ش‪ ،‬لوال �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬ ‫العنف �أحيان ًا‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫كان ُيكفكف من ِحدته ويرده �إىل الرفق والأناة‪ ،‬فلم يكد عبداهلل ابن �أبي �سلول‬

‫‪121‬‬
‫يقول كلمته تلك التي قالها يف غزوة بني امل�صطلق‪ :‬لئن رجعنا �إىل املدينة‬
‫وعمر عنده‪ ،‬حتى‬ ‫ليخرجن الأعز منها الأذل‪ ،‬ومل تكد هذه الكلمة تبلغ النبي‪ُ ،‬‬
‫رده �إىل‬ ‫ثار عمر‪ ،‬و�س�أل النبي �أن ي�أذن له يف قتل هذا املنافق‪ .‬ولكن النبي ّ‬
‫الرفق وقال له‪ :‬ال تتحدث العرب �أن حممداً يقتل �أ�صحابه‪.‬‬
‫وموقفه من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حني مات عبداهلل بن �أبي بن �سلول‬
‫هذا‪ ،‬وجاء ابنه ي�س�أل النبي �أن ي�صلي عليه‪ ،‬ف�أجابه النبي �إىل ما �أراد‪ ،‬و�إذا‬
‫عمر يراجع النبي يف ذلك ويجادله بالقر�آن‪ ،‬فيذكره قول اهلل عز وجل من‬
‫�سورة براءة‪:‬‬
‫ني َم َرّ ًة َف َلن َي ْغ ِف َر َ هّ ُ‬
‫الل‬ ‫«ا�س َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم �أَ ْو َال َت ْ�س َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم �إِن َت ْ�س َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم َ�س ْب ِع َ‬
‫ْ‬
‫ني»‪.‬‬
‫َ‬ ‫ق‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َا�س‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬
‫َ َْ ََْْ ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫د‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ُ‬
‫الل‬‫هّ‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫�س‬ ‫ر‬
‫ََ ُ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫هّ‬
‫ِالل‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫و‬‫َر‬
‫ف‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ن‬ ‫َ‬
‫َل ُه ْم َذ ِل َ َ ّ ُ ْ َ ُ ْ‬
‫�‬
‫أ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ك‬
‫يرده �إىل الأناة ويقول له‪� :‬إن ربي خريين‬ ‫ولكن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ّ‬
‫فاخرتت‪ .‬ثم ي�صلِّي على عبداهلل بن �أبي بن �سلول‪.‬‬
‫ولكن الوحي ال يلبث ‪ -‬فيما حتدث الرواة ‪� -‬أن يطابق ر�أي عمر‪ ،‬فينزل‬
‫اهلل يف ال�سورة نف�سها هذه الآية الكرمية موجهة �إىل النبي‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ات �أَ َب ًدا َو َال َت ُق ْم َع َل َى َقبرْ ِ ِه �إِ َ ّن ُه ْم َكف َُرو ْا ب َ هّ ِ‬
‫ِالل‬ ‫«و َال ُت َ�ص ِ ّل َع َلى �أَ َح ٍد ِ ّم ْن ُهم َ ّم َ‬ ‫َ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َو َر ُ�سوله َو َما ُتواْ َو ُه ْم فَا�س ُق َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ويف موطن �آخر قبل هذا املوطن بعد غزوة حنني ق�سم النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم الفيء‪ ،‬ف�أعطى امل�ؤلفة قلوبهم من قري�ش ومن غريها ف�أجزل يف‬
‫العطاء‪ .‬فقام �إليه رجل فقال‪ :‬اعدل يا حممد‪ ،‬ف�إنك مل تعدل‪ .‬فظهر الغ�ضب يف‬
‫وجه النبي وقال للرجل‪ :‬ويحك! فمن يعدل �إذا مل �أعدل؟ وا�ست�أذن عمر النبي‬
‫يف قتل هذا الرجل‪ ،‬ف�أبى عليه‪.‬‬
‫ف�أنت ترى �أن حياة عمر �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كانت مزاج ًا من‬
‫هذا العنف الذي كان النبي ُيكفكفه‪ ،‬ومن هذه الرحمة التي كان النبي ي�ؤثرها‬
‫وي�شجع عمر عليها بالقول حين ًا وباالبت�سام حين ًا �آخر‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وكذلك كانت حياته �أيام �أبي بكر‪ ،‬كان دائم ًا �شديداً يف احلق �أو فيما يرى‬
‫�أنه احلق‪ ،‬على �أنه كان ُيذعن لنهي النبي حني ينهاه من ال�شدة والعنف‪ ،‬وال‬
‫يفكر يف �أن ي�ست�أنفهما �إن كان الأمر له‪ ،‬لأنه كان ي�ؤمن ب�أن النبي حني ي�أمر‬

‫‪122‬‬
‫�أو ينهي �إمنا كان ي�صدر عن �أمر ال�سماء‪ ،‬وال كذلك �أيام �أبي بكر‪ ،‬فقد كان ي�شري‬
‫عليه عمر بال�شدة يف �أمر خالد بن الوليد مث ًال‪ ،‬ف�إذا �أبى عليه �أبو بكر راجعه‬
‫و�ألح عليه‪ ،‬ف�إذا امتنع �أبو بكر عليه بعد املراجعة والإحلاح �سكت‪ ،‬ولكنه حني‬
‫ا�ستخلف مل يرتدد يف �إنفاذ الر�أي الذي �أ�شار به على �أبي بكر‪ ،‬و�إن كان �أبو بكر‬
‫ال�صديق مل يكن ُي�صدر‬
‫ّ‬ ‫قد خالفه فيه �أ�شد اخلالف‪ ،‬ذلك �أن عمر كان يعلم �أن‬
‫عن �أمر ال�سماء‪ ،‬و�إمنا كان ُي�صدر عن ال�سيا�سة وعن ر�أيه يف الن�صح للم�سلمني‪.‬‬
‫كان �أبو بكر يجتهد ر�أيه‪ ،‬وكان عمر يجتهد ر�أيه �أي�ض ًا‪ ،‬فلي�س عليه ب�أ�س �أن‬
‫يخالف عن مذهب �أبي بكر يف �سيا�سة ال�سلم واحلرب جميع ًا‪ ،‬على حني �أنه‬
‫كان يرى الإثم كل الإثم يف املخالفة عن �أمر النبي �أو نهيه‪.‬‬

‫‪123‬‬
124
‫‪3‬‬

‫على �أن ا�ستخالف عمر ونهو�ضه ب�أعباء احلكم‪ ،‬ومواجهته مل�شكالت ال�سلم‬
‫واحلرب‪ ،‬كل ذلك �أظهر خلق ًا من �أخالق عمر مل تظهره الأحداث قبل ذلك‪ ،‬لأنه‬
‫قبل �أن ي�ستخلف كان �سيف ًا من �سيوف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ي�س ّله �إن‬
‫ويغمده �إن �أحب‪ ،‬وكان �أيام �أبي بكر �سيف ًا من �سيوف اخلليفة �إن �شاء‬ ‫�شاء‪ُ ،‬‬
‫�سله‪ ،‬و�إن �شاء �أغمده‪ .‬كان عليه �أن ي�سمع ويطيع‪ ،‬و�أن ي�شري مبا يرى فيه‬
‫امل�صلحة‪ ،‬ومل يكن له �أن يزيد على ذلك �أو يعدوه‪ .‬فلما �ألقيت عليه �أعباء‬
‫اخلالفة �أح�س ثقل ال َّتبعة كما مل يح�سها خليفة �أو ملك فيما نعلم‪ ،‬فكان‬
‫يحا�سب نف�سه على �صغري الأمر وكبريه‪ ،‬وكان �ضمريه يراقبه يف كل ما ي�أتي‬
‫ويف كل ما يدع‪ ،‬ال يعفيه من هذه املراقبة �ساعة من نهار �أو �ساعة من ليل‪،‬‬
‫ورمبا ذاد النوم عن عينيه‪ ،‬فكلفه من الأرق �ألوان ًا‪ .‬كان قبل كل �شيء يرى‬
‫ي�سخر من نف�سه �أحيان ًا‬ ‫نف�سه �أ�صغر من املهمة التي ُكلف �أداءها‪ ،‬ورمبا كان َ‬
‫فيقول ‪ -‬كما �سمعه بع�ض �أ�صحابه يحدث نف�سه‪ ،‬من وراء جدار ‪ :-‬عمر بن‬
‫اخلطاب �أمري امل�ؤمنني! َب ٍخ َب ٍ ُخ يا ابن اخلطاب‪ ،‬واهلل لتطيعن اهلل �أو ليعذب َّنك‪.‬‬
‫ومل يكن يخاف �شيئ ًا كما كان يخاف �أن يراه اهلل م�ؤثراً لنف�سه ب�شيء من‬

‫‪125‬‬
‫دون عامة امل�سلمني‪ .‬فكان ي�ضع نف�سه ال مو�ضع �أمثاله من كبار �أ�صحاب‬
‫النبي‪ ،‬وال مو�ضع �أو�ساط النا�س‪ ،‬بل مو�ضع الفقراء وذوي احلاجة منهم‪.‬‬
‫وكان ي�أخذ نف�سه ب�أن يعي�ش كما كان ه�ؤالء النا�س يعي�شون‪ ،‬وب�أن يجد‬
‫مثل ما كان ه�ؤالء النا�س يجدون‪ ،‬حني ت�شتد احلياة عليهم وحني تلني احلياة‬
‫لهم‪.‬‬
‫وكان يرى �أن ذلك هو الذي ميكنه من �أن يعرف حاجات النا�س ويقدر‬
‫ر�ضاهم حني ير�ضون‪ ،‬و�سخطهم حني ي�سخطون‪ ،‬و�أملهم حني يجدون الأمل‪،‬‬
‫ولذتهم حني تتاح لهم اللذة‪.‬‬
‫مل يكن فقرياً بل كان �صاحب جتارة‪ ،‬ومل متنعه اخلالفة على ثقل �أعبائها‬
‫من ممار�سة جتارته‪ .‬فكان قادراً على �أن يعي�ش عي�شة ال�سعة‪ ،‬وعلى �أن يي�رس‬
‫لأهله وبنيه حياة لينة‪ .‬ولكنه �أخذ نف�سه بال�شدة ال�شديدة وب�أغلظ مايكون من‬
‫العي�ش‪ ،‬فكان ي�أكل �أكل الفقراء‪ ،‬ويلب�س لبا�س الفقراء‪ ،‬وي�سري يف �أمر نف�سه‬
‫�سرية الفقراء‪ ،‬وكان يراقب �أهله وبنيه �أ�شد املراقبة‪ ،‬ويقول لهم من حني �إىل‬
‫حني‪� :‬إن النا�س ينظرون �إليكم فال �أعلمن �أحداً منكم خالف عما �آمر النا�س به‬
‫�أو �أنهاهم عنه �إال �أ�ضعفت له العقوبة‪.‬‬
‫وكان ي�أمر �أبناءه الذين ي�ستطيعون �أن ي�سعوا يف الرزق �أن يجدوا يف‬
‫ذلك حتى ي�ستغنوا عنه‪ ،‬وحتى ال ي�ضطروه �إىل �أن ينفق عليهم وعلى �أهلهم‬
‫وكان ي�شق على ن�سائه فيفر�ض عليهن حياة قا�سية ال ي�ستحبها الن�ساء‪ ،‬كان‬
‫�شديداً عليهن يف الك�سوة‪ ،‬و�شديداً عليهن يف الرزق‪ ،‬و�شديداً عليهن يف �سريته‬
‫كلها‪ .‬يدخل عليهن عاب�س ًا‪ ،‬ويخرج عنهن عاب�س ًا‪ ،‬كما قالت �إحدى الن�ساء‬
‫وقد خطبها ذات يوم فامتنعت عليه وكرهت عبو�سه وخ�شونة عي�شه‪ ،‬ويقول‬
‫مرق ًا بارداً و�صبت‬
‫الرواة‪� :‬إنه دخل على ابنته حف�صة �أم امل�ؤمنني فقدمت له َ‬
‫عليه �شيئ ًا من زيت‪ .‬فقال‪� :‬أدمان يف �إناء واحد! ال �أذوقه �أبداً‪.‬‬
‫رغب النا�س عن طعامه وترغب‬ ‫وهذه ال�شدة على نف�سه وعلى �أهله كانت ُت ِّ‬
‫عنه من كان ي�أتيه من ُع ّمال الأقاليم‪ .‬كانوا ي�أكون يف بيوتهم لني الطعام‪،‬‬
‫ودعوا �إليه �أعر�ضوا عنه‬ ‫وي�ستمتعون بطيبات احلياة‪ ،‬ف�إذا ح�رضوا طعام عمر ُ‬
‫�أو �أ�صابوا منه كارهني‪ .‬وح�رض بع�ض �أ�صحاب عمر طعامه‪ ،‬فدعاه �إليه‪ ،‬فقال‬

‫‪126‬‬
‫له يف �رصاحة‪� :‬إن طعامك َج ْ�شب(((‪ ،‬و�إين �أوثر �أن �أ�صيب من طعام لني ُ�صنع‬
‫يل‪ .‬فقال له عمر‪ ،‬ما معناه‪� :‬إنه ليعرف طيبات الطعام‪ ،‬ولو �أراد لأ�صاب منها‬
‫ماي�شاء‪ ،‬ولكنه �سمع اهلل يقول لقوم نعموا بحياتهم الدنيا‪:‬‬
‫ا�س َت ْم َت ْع ُتم بِها»‪.‬‬
‫«�أَ ْذ َه ْب ُت ْم َط ِ ّي َبا ِت ُك ْم فيِ َح َيا ِت ُك ُم ال ُ ّد ْن َيا َو ْ‬
‫ي�شدد على نف�سه خمافة �أن ي�ستمتع باحلياة فين ُق�ص‬ ‫فقد كان عمر �إذن ّ‬
‫يدون الديوان ‪ -‬فيما �سرتى ‪ -‬ك ّلف‬ ‫ذلك من ح�سناته عند اهلل‪ .‬وملا �أراد �أن ِّ‬
‫نفراً كتابة النا�س على قبائلهم‪ ،‬فبد�ؤوا ببني ها�شم‪ ،‬رهط النبي �صلى اهلل‬
‫بعدي‪ ،‬رهط عمر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عليه و�سلم‪ ،‬وثنوا بتيم‪ ،‬رهط �أبي بكر‪ ،‬وثلثوا‬
‫فلما نظر عمر يف الديوان‪ ،‬قال للنفر الذين كتبوه‪ :‬وددت واهلل �أنه كذلك‪،‬‬
‫ولكن �ضعوا عمر حيث و�ضعه اهلل وابد�ؤوا بالأقرب فالأقرب من ر�سول اهلل‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬
‫ومعنى ذلك �أنه رد عليهم ما كتبوا‪ ،‬و�أمرهم �أن يعيدوا كتابة الديوان‪ ،‬و�أن‬
‫يرتبوا قري�ش ًا فيه على قرابتها من النبي‪ ،‬حتى �إذا بلغوا مو�ضع بني عدي من‬
‫قرابة النبي و�ضعوهم‪.‬‬
‫عدي ملا عرفوا ذلك �أتوا عمر فكلموه فيه‪،‬‬ ‫ويقال‪� :‬إن قوم عمر من بني ّ‬
‫وقالوا‪� :‬إن �أبا بكر خليفة ر�سول اهلل‪ ،‬و�أنت خليفة �أبي بكر‪ ،‬فهال تركت الديوان‬
‫عدي‪� ،‬أردمت الأكل على‬‫كما كتبه �أولئك النفر‪ .‬فقال لهم عمر‪ :‬بخ بخ يابني ّ‬
‫ظهري و�أن �أذهب ح�سناتي لكم‪ ،‬ال واهلل حتى تبلغكم الدعوة و�إن �أطبق عليكم‬
‫الدفرت‪ .‬يريد‪ :‬حتى ي�صل �إليكم القوم على قرابة من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم في�ضعوكم حيث و�ضعكم اهلل‪.‬‬
‫ومل يكن �إ�شفاق عمر من �أن يذهب طيباته يف حياته الدنيا هو وحده الذي‬
‫كان يفر�ض عليه هذه ال�شدة على نف�سه و�أهله‪ ،‬و�إمنا كان هناك �شيء �آخر مل‬
‫ين�سه عمر قط‪ ،‬و�إمنا كان ي�ستح�رضه دائم ًا‪ ،‬وهو ماقدر للنبي من العي�ش‪،‬‬
‫فقد كانت حياة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �شديدة‪ ،‬وكان �ضيقها رمبا جهد‬
‫النبي وا�ضطره �إىل اجلوع‪ ،‬وكان النبي يلقى هذه احلياة متجم ًال غري �ضيق به‬

‫(‪ )1‬جشب‪ ،‬كشهم وككتف‪ :‬غليظ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫والكاره‪ ،‬ي�أكل حني يتاح الطعام‪ ،‬وي�صوم حني ال يجد ما يطعم‪.‬‬
‫ومل تكن حياة �أبي بكر �أثناء خالفته رقيقة وال لينة‪ ،‬و�إمنا كانت �إىل‬
‫اخل�شونة وال�شظف �أقرب منها �إىل الرقة واللني‪ ،‬وكان عمر ي�ستح�رض هذا دائم ًا‬
‫ويكره �أ�شد الكره �أن ي�أكل �أو يلب�س خرياً مما �أتيح للنبي و�أبي بكر‪.‬‬
‫وكان حني كرث املال‪ ،‬وحني كان يرى مايحمل �إليه من الفيء ومن‬
‫اخلراج يذكر فقر النبي وخليفته‪ ،‬فيبكي حتى تختلف �أ�ضالعه‪ ،‬ورمبا �أبكى‬
‫من حوله من �أ�صحاب النبي‪ .‬وقد رفق به بع�ض �أ�صحابه من املهاجرين‬
‫فكلموا حف�صة �أم امل�ؤمنني يف �أن ت�شري على عمر ب�أن يلني من عي�شه‪ ،‬فقبلت‬
‫منهم حف�صة وكلمت �أباها يف ذلك‪ ،‬فقال لها‪ :‬ن�صحت قومك وغ�ش�شت �أباك‪.‬‬
‫ثم جعل يذ ِّكرها ب�شدة العي�ش و�ضيقه على النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حتى‬
‫�أبكاها‪.‬‬
‫وهذه ال�شدة التي فر�ضها عمر على نف�سه منذ ا�ستخلف‪ ،‬هي التي تف�رس‬
‫الرمادة حني �أ�صاب العرب يف اجلزيرة ما �أ�صابهم من اجلدب‬ ‫لنا موقفه عام َّ‬
‫وال�ضباب من‬‫ِّ‬ ‫حتى ا�ضطروا �إىل �أن ي�أكلوا امليتة‪ ،‬وي�ستخرجوا اجلرذان‬
‫جحورها في�أكلوها‪.‬‬
‫وقد ات�صل هذا اجلدب ت�سعة �أ�شهر‪ ،‬ووقف عمر �أثناء هذه الأ�شهر موقف ًا ال‬
‫يعرف التاريخ له نظرياً‪ .‬فما �أكرث ما �أ�صاب اجلوع بع�ض البالد‪ ،‬وما �أكرث ما‬
‫�شقي النا�س بهذا اجلوع‪ ،‬واجتهد ملوكهم ووالتهم يف �أن يخففوا عنهم هذا‬
‫اجلهد‪ ،‬ولكنا ال نعرف �أحداً من ه�ؤالء امللوك والوالة �شارك النا�س يف اجلوع‪،‬‬
‫وفيما كانوا يجدون من اجلهد‪ ،‬كما �شارك عمر �أهل احلجاز وجند وتهامة يف‬
‫كل ما �أ�صابهم من اجلهد والعناء‪ ،‬ومانعرف �أحداً من امللوك والوالة وا�سى‬
‫النا�س بنف�سه على ما �أ�صابهم‪ ،‬كما كان عمر يوا�سي العرب بنف�سه �أثناء هذه‬
‫الأ�شهر الت�سعة‪.‬‬
‫فقد جاع عمر كما جاع النا�س‪ ،‬وحرم على نف�سه لني العي�ش كله‪ ،‬حتى‬
‫عا�ش على الزيت‪ ،‬وحتى تغري لونه لكرثة ما �أكل الزيت نيئ ًا ومطبوخ ًا‪ ،‬ثم‬
‫كان يحمل �إىل الأعراب داخل املدينة وخارجها طعامهم على ظهره وي�أبى‬
‫�أن يكفيه ذاك �أحد غريه‪ ،‬وكان ال يرتك من يحمل �إليهم الطعام حتى يراهم‬

‫‪128‬‬
‫قد �أكلوا و�أ�صابوا من الطعام حاجتهم‪ ،‬وكان الأعراب حني ا�شتد عليهم اجلهد‬
‫قد نزح منهم كثري من بالدهم و�آووا �إىل املدينة يلتم�سون فيها ما يقيم الأَ َود‪،‬‬
‫فكان عمر ينزلهم املنازل من حول املدينة حتى ال ي�ضيقوا على �أهلها‪ ،‬وكان‬
‫يجد يف ذلك‬ ‫يقوم على �أن يوفر لهم ما يحتاجون �إليه من الطعام والك�سوة‪ّ ،‬‬
‫بنف�سه ما ا�ستطاع اجلد‪ ،‬ثم ال ي�شغله ذلك عن غري ه�ؤالء من الأعراب الذين مل‬
‫ينزحوا عن �أوطانهم‪ ،‬و�إمنا �أقاموا فيها �أ�شقياء باجلدب �صابرين عليه‪ .‬وقد‬
‫كتب عمر �إىل والته على الأقاليم ف�أر�سلوا �إليه الطعام‪ ،‬فكان يوجه الرجال‬
‫�إىل منافذ الأقاليم‪ ،‬وي�أمرهم �أن يتلقوا ما ي�أتي منها‪ ،‬و�أن يطعموا النا�س‬
‫ويك�سوهم ويخ ّلفوا فيهم مايعينهم على احتمال البالء‪.‬‬
‫قرب منه‬ ‫وكذلك �أنفق هذه الأ�شهر الت�سعة معني ًا �أ�شد العناية بالنا�س‪ ،‬من ُ‬
‫ومن بعد عنه‪ ،‬حتى خيف عليه من �شدة ما كان يتكلف يف ذلك من امل�شقة‬
‫والعناء‪ .‬ويقول الرواة‪� :‬إنه حرم على نف�سه يف هذه الأ�شهر الت�سعة كل لذة‪،‬‬
‫وكل راحة‪ ،‬وكل طم�أنينة‪ ،‬ومل يكن ا�شتغاله ب�أمر النا�س وحده هو الذي ي�شقيه‬
‫وهما‬
‫وي�ضنيه‪ ،‬و�إمنا كان �ضمريه احلي اليقظ دائم ًا يزيده �شقاء �إىل �شقاء‪ّ ،‬‬
‫هم‪ ،‬فكان ال يذوق النوم �إال غراراً‪ ،‬وكان ُي�شفق �أ�شد الإ�شفاق �أن يجعل اهلل‬ ‫�إىل ّ‬
‫هالك �أمة حممد �صلى اهلل عليه و�سلم على يديه و�أثناء خالفته‪.‬‬
‫وكان عمر يحب ال�صالة �إذا تقدم الليل يف جميع �أيامه‪ ،‬فلما امتحن العرب‬
‫بهذا اجلدب �أكرث من هذه ال�صالة حني كان يتاح له الفراغ من �أمر النا�س‪.‬‬
‫وقد حرم على نف�سه ‪ -‬كما قلت �آنف ًا ‪ -‬ما كان يتاح لأو�ساط النا�س‬
‫من الطعام يف تلك الأيام‪ ،‬فحرم على نف�سه اللحم �إال حني كان ينحر اجلزر‬
‫ليطعم النا�س‪ ،‬فكان ي�شاركهم يف طعامهم‪ ،‬وحرم على نف�سه ال�سمن فعا�ش‬
‫على الزيت‪ ،‬فلما �آذاه الإدمان عليه ظن �أن طبخه يك�رس من حدته‪ ،‬ف�أمر �أن‬
‫يطبخ له الزيت‪ ،‬فما �أكل منه مطبوخ ًا كان �أ�شد عليه‪ .‬وكان بطنه رمبا قرقر‪،‬‬
‫فكان ي�رضب على بطنه ب�إ�صبعه ويقول‪ :‬قرقر ما تقرقر فلي�س لك �إال الزيت‬
‫حتى يحيا النا�س‪ .‬ثم مل يكن ي�ؤثر نف�سه بهذه ال�شدة يف تلك الأ�شهر‪ ،‬و�إمنا كان‬
‫ويحرج عليهم جهده يف �أن ي�ؤثروا �أنف�سهم‬ ‫ّ‬ ‫يراقب �أهله وبنيه �أ�شد املراقبة‬
‫ب�شيء من اللني والنا�س من حولهم اليجدون ما يطعمون‪ ،‬وكان يقول‪ :‬نطعم‬

‫‪129‬‬
‫ما �أطاق بيت املال �إطعام النا�س‪ ،‬ف�إذا �ضاق بذلك بيت املال �أدخلنا على‬
‫كل �أهل بيت مثلهم فقا�سموهم ما ي�أكلون‪ ،‬ف�إنهم لن يجوعوا على �أن�صاف‬
‫بطونهم‪ ،‬ومعنى ذلك �أنه كان يريد �أن يطعم النا�س على ح�ساب الدولة‪ ،‬ف�إذا مل‬
‫يجد مايقوتهم به يف بيت املال و ّزعهم على بيوت الذين يجدون ما ينفقون‪،‬‬
‫فعا�شوا معهم و�شاركوهم يف طعامهم‪ ،‬فقليل الطعام يقيم الأَ َود‪ .‬وذلك خري‬
‫من اجلوع الذي يعر�ض النا�س للهلكة‪ .‬ومل يكن عمر يقبل �أن ي�شبع فريق من‬
‫النا�س ويجوع �سائرهم‪ ،‬ومع ذلك فقد ا�ستطاع �أن يخفف هذا اجلهد على‬
‫النا�س مبا كان ير�سل �إليه من الأقاليم‪ ،‬و�إن مل ي�ستطع �أن ي�صد املوت عن كثري‬
‫منهم‪ ،‬فقد وقع املوت يف الأعراب الذين �أحاطوا باملدينة‪ ،‬فكان عمر ي�صلي‬
‫على املوتى �أفراداً وجماعات‪ ،‬وكان ي�شهد جنائزهم ويقوم على قبورهم‪.‬‬
‫وت�ستطيع �أنت �أن تقدر حياة عمر يف تلك الأ�شهر بعد �أن ر�أيت ما و�صفت‬
‫لك من يقظة �ضمريه‪ ،‬ومن �إ�شفاقه على النا�س‪ ،‬وعنايته ب�أمرهم‪ ،‬وتكلفه ما‬
‫تكلف من اجلهد يف �إطعامهم‪ .‬فال غرابة يف �أن ي�صبح كئيب ًا ومي�سي كئيب ًا‪،‬‬
‫ويبكي يف غري موطن‪ ،‬ويدعو اهلل �أن يرفع املحل عن النا�س‪ .‬ويقول الرواة‪:‬‬
‫�إنه ا�ست�سقى حني بلغ اجلهد غايته‪ ،‬فلم يزد على �أن دعا اهلل ودعا النا�س معه‪،‬‬
‫و�صلى �صالة اال�ست�سقاء‪ .‬ويزعم الرواة‪� :‬أنه حني ا�ست�سقى �أخذ بيد العبا�س عم‬
‫النبي وتو�سل به �إىل اهلل‪ ،‬و�أنه مل يتم ا�ست�سقاءه حتى �أر�سل اهلل الغيث‪.‬‬
‫ووا�ضح �أن هذا تكلف م�صدره التملق لبني العبا�س �أثناء حكمهم‪ .‬وال�شيء‬
‫الذي لي�س فيه �شك هو �أن عمر ا�ست�سقى كما ا�ست�سقى النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪،‬و�أن اهلل �أر�سل الغيث بعد ا�ست�سقاء عمر بوقت ق�صري �أو طويل‪ .‬وملا �أنزل‬
‫وردهم‪� ،‬إىل‬
‫وجد يف �إخراج الأعراب من املدينة ّ‬ ‫اهلل الغيث �سرُ ِّي عن عمر‪ّ ،‬‬
‫بالدهم لي�ست�أنفوا حياتهم التي كانوا يحيونها قبل �أن ميتحنهم اهلل بهذا‬
‫البالء‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫‪4‬‬

‫وكان عمر �شديداً على نف�سه‪ ،‬و�شديداً على غريه كل ال�شدة �أي�ض ًا يف مال‬
‫امل�سلمني‪ ،‬فكان يحا�سب نف�سه �أ�شد احل�ساب على ما ي�أخذ من مال امل�سلمني‬
‫لنفقته ونفقة �أهله‪ .‬وكان يقول‪� :‬إين �أنزلت نف�سي من هذا املال مبنزلة مال‬
‫اليتيم‪ ،‬ثم يقر�أ قول اهلل عز وجل من �سورة الن�ساء‪:‬‬
‫وف»‪.‬‬
‫ان َف ِق ًريا َف ْل َي�أْ ُك ْل ِبالمْ َْع ُر ِ‬
‫ان َغ ِن ً ّيا َف ْل َي ْ�س َت ْع ِف ْف َو َمن َك َ‬
‫«و َمن َك َ‬
‫َ‬
‫ورمبا قال يف موطن �آخر‪� :‬أنزلت هذا املال من نف�سي منزلة مال اليتيم �إن‬
‫ا�ستغنيت عففت‪ ،‬و�إن افتقرت �أكلت باملعروف‪ .‬وكان ي�شبه نف�سه �أحيان ًا برجل‬
‫�سافر مع جماعة من �أ�صحابه فدفعوا �إليه �أموالهم وكلفوه �أن ينفق عليهم‬
‫منها‪ ،‬فما ينبغي له �أن ي�ؤثر نف�سه من دونهم بقليل �أو كثري من هذا املال‪ .‬وهو‬
‫مع ذلك قد ا�ست�شار �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فيما يحل له من هذا‬
‫علي‬
‫املال‪ .‬فقال له بع�ضهم‪ :‬يحل لك منه ما ي�صلحك وي�صلح �أهلك‪ .‬وقال له ّ‬
‫علي‪ ،‬فكان‬
‫بن �أبي طالب رحمه اهلل‪ :‬يحل لك منه الغداء والع�شاء‪ .‬فقبل ر�أي ّ‬
‫ي�أخذ من بيت املال ما ميكنه من �أن ي�أكل ويطعم �أهله طعام �أو�ساط النا�س‬
‫من قري�ش‪ ،‬وكان ي�ستحل من بيت املال ك�سوة نف�سه‪ُ :‬حلة يف ال�شتاء و�أخرى‬

‫‪131‬‬
‫يف ال�صيف‪ ،‬على �أنه كان ي�شتد يف ذلك فلم يكن يرتك �إزاراً والرداء �إال حني‬
‫يبلغ منه البلى غايته‪ ،‬وكان كثرياً ما يرقع رداءه �أو �إزاره‪ :‬يرقعه غري متحرج‬
‫فيما يرقع به‪ ،‬حتى لقد كان يرقع ثيابه �أحيان ًا بال َأدم‪.‬‬
‫ويقول الرواة �إنه ت�أخر يوم جمعة‪ ،‬فجعل النا�س ينتظرونه يف امل�سجد‬
‫حتى �أبط�أ عليهم‪ ،‬ثم خرج عليهم ف�صعد املنرب واعتذر من �إبطائه‪ ،‬ف�إذا الذي‬
‫�أبط�أ به قمي�صه قد غ�سل فانتظر �أن يجف‪ ،‬ومل يكن عنده قمي�ص غريه‪.‬‬
‫وكان عمر ‪ -‬كما قلت �آنف ًا ‪ -‬ي�ستطيع �أن يو�سع على نف�سه من �صلب‬
‫ماله‪ ،‬ولكنه ‪ -‬فيما يظهر ‪ -‬كان كره �أن يظن النا�س �أنه �إمنا يو�سع على‬
‫نف�سه من مال امل�سلمني‪ ،‬في�ضيق على نف�سه‪ ،‬كما كان ي�شدد على نف�سه �أي�ض ًا‬
‫�إيثاراً للزهد‪ ،‬وخمافة �أن يحيا حياة �ألني من حياة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬
‫وحياة �أبي بكر‪ .‬وكان يقول‪� :‬إن يل �صاحبني �سلكا طريق ًا‪ ،‬و�أخ�شى �إن خالفت‬
‫�سريتهما �أن يخالف بي عن طريقهما‪.‬‬
‫رد ما‬‫ومع ذلك فقد كان ي�ستحل اال�ستقرا�ض من بيت املال‪ ،‬ف�إذا �أي�رس َّ‬
‫اقرت�ض‪ .‬وكان رمبا �أبط�أ يف �أداء ما ا�ستقر�ض‪ ،‬في�أتيه �صاحب بيت املال‬
‫فيلزمه‪ ،‬ويحتال عمر حتى ي�ؤدي �إليه ما ا�ستقر�ض‪ ،‬ورمبا خرج عطا�ؤه ف�أدى‬
‫منه ما كان عليه من دين لبيت املال‪ .‬وملا ُطعن وعرف �أنه املوت‪� ،‬أح�صى ما‬
‫عليه من دين لبيت املال‪ .‬ف�إذا هو نيف وثمانون �ألف درهم‪ .‬فلم ي�سرتح حتى‬
‫�أمر ابنه عبداهلل ف�ضمن هذا املال‪ ،‬وقال له‪� :‬إذا انا مت فانظر يف مايل ومال‬
‫عدي‪ ،‬ف�إن �أعانوك مبا يفي‬ ‫�آل عمر‪ ،‬ف�إن ويف بهذا الدين فذاك‪ ،‬و�إال ف�سل بني ّ‬
‫تعدها‪.‬‬
‫بهذا الدين فذاك‪ ،‬و�إال ف�سل قري�ش ًا وال ُ‬
‫ويقول الرواة �إن الأ�سبوع مل يتم بعد وفاة عمر حتى �أدى عبداهلل دين �أبيه‬
‫�إىل عثمان رحمه اهلل و�أخذ منه الرباءة بالأداء‪.‬‬
‫رد على بيت املال ما �أخذه ل ُقوته وقوت �أهله‪ ،‬واعترب‬ ‫أرجح �أنا �أن عمر قد َّ‬
‫و� َّ‬
‫هذا دين ًا عليه كما فعل �أبو بكر رحمه اهلل‪.‬‬
‫فقد ر�أيت فيما م�ضى �أن �أبابكر وهب لبيت املال �أر�ض ًا كان ميلكها مبا‬
‫ا�ستنفق منه‪ ،‬وكذلك فعل فيما �أرجح‪ .‬ولي�س معنى هذا �أن عمر مل يقرت�ض‬
‫�شيئ ًا من بيت املال‪ ،‬بل معناه �أن عمر �أ�ضاف �إىل ما اقرت�ض ما كان ي�ستحل‬

‫‪132‬‬
‫لنف�سه من بيت املال قوت ًا له ولأهله وك�سوة له يف ال�شتاء وال�صيف‪.‬‬
‫وما �أكرث ما كان يقول‪ :‬وددت لو �أخرج منها ‪ -‬يريد اخلالفة ‪ -‬كفاف ًا‬
‫علي وال يل‪ ،‬فقد خرج منها رحمه اهلل ولي�س عليه منها �شيء وله منها‬ ‫ال ّ‬
‫الكثري مبا �أح�سن �إىل امل�سلمني‪� ،‬أغنيائهم وفقرائهم‪ ،‬ومبا ن�صح للإ�سالم‪ ،‬ومبا‬
‫�أقام من نظم �سيا�سية مل يكن للعرب عهد مبثلها‪ ،‬ومن نظم اجتماعية ال تزال‬
‫الإن�سانية ت�سعى لتحققها دون �أن تبلغ من �سعيها ما تريد‪.‬‬
‫ولي�س على عمر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬من ب�أ�س �إذا كانت نظمه االجتماعية‬
‫مل تبق بعد وفاته‪ ،‬و�إذا كان امل�سلمون قد ق�رصوا عن االحتفاظ بها وعن‬
‫تثبيتها‪ .‬واهلل عز وجل يقول من �سورة النجم‪:‬‬
‫يم ا َ ّل ِذي َو َفّى‪� .‬أَ َالّ َتز ُِر َواز َِر ٌة وِ ْز َر‬
‫و�سى‪َ .‬و ِ�إ ْب َر ِاه َ‬
‫با فيِ ُ�ص ُح ِف ُم َ‬ ‫«�أَ ْم مَ ْ‬
‫ل ُي َن َ ّب�أْ مِ َ‬
‫ِن�سانِ �إِ َالّ َما َ�س َعى‪َ .‬و�أَ َ ّن َ�س ْع َي ُه َ�س ْو َف ُي َرى‪ .‬ث َ ُّم ُي ْج َزا ُه جْ َ‬
‫ال َزا َء‬ ‫�أُ ْخ َرى‪َ .‬و َ�أن َ ّل ْي َ�س ِللإ َ‬
‫الأَ ْوفَى»‪.‬‬
‫فعلى الذين �أ�ضاعوا هذه النظم و�أهملوا �سنة عمر تبعة ما �أ�ضاعوا وما‬
‫�أهملوا‪ ،‬ولعمر اجلزاء الأوفى عند اهلل عز وجل على ما ن�صح للم�سلمني وما هي�أ‬
‫لهم من و�سائل الرقي والعزة يف ظل العدل والأمن وامل�ساواة‪.‬‬
‫وفيما ت�ستقبل من ف�صول هذا احلديث تف�صيل هذا ال�سعي الذي �سعاه عمر‬
‫يف خالفته التي كانت كما قال ابن م�سعود‪ :‬رحمة‪.‬‬

‫‪133‬‬
134
‫‪5‬‬

‫وكانت �أول م�شكلة واجهت عمر حني نه�ض ب�أمور امل�سلمني م�شكلة‬
‫الفتوح‪ ،‬وموقف اجليو�ش التي �أر�سلها �أبو بكر رحمه اهلل �إىل العراق وال�شام‪.‬‬
‫وكان �أبو بكر قد هي�أ حلل م�شكلة اجليو�ش التي �أر�سلها �إىل ال�شام حني‬
‫جمع الروم للم�سلمني جموع ًا كثرية و�أعداداً �ضخمة مل تكن لهم بها طاقة‪.‬‬
‫ف�أر�سل �إليهم خالد بن الوليد ببع�ض من كان معه يف العراق‪ ،‬ولكنه حني‬
‫�أمد جيو�ش امل�سلمني يف ال�شام بخالد وطائفة �صاحلة من جي�شه يف العراق‪،‬‬
‫عر�ض بقية هذا اجلي�ش العراقي خلطر عظيم‪ .‬فقد كان الفر�س قد �أخذوا باجلد‬
‫واحلزم هجوم خالد على العراق‪ ،‬وانت�صاره يف املواطن الكثرية التي انت�رص‬
‫فيها‪ ،‬وغلب على عامة العراق العربي‪ ،‬فلم ي�سعهم �إال �أن ينه�ضوا ملقاومة‬
‫العرب و�إخراجهم من هذه الأر�ض التي كانت خا�ضعة ل�سلطانهم منذ زمن‬
‫ملثنى بن حارثة ال�شيباين ‪ -‬خليفة خالد على اجلي�ش ‪� -‬أن‬ ‫بعيد‪ ،‬و�أح�س ا ُ‬
‫معر�ض خلطر عظيم �أمام هذه اجليو�ش التي عب�أها‬ ‫موقفه وموقف امل�سلمني ّ‬
‫الفر�س للقائهم‪ .‬فا�ستخلف على من بقي معه من اجلي�ش‪ ،‬و�أ�رسع �إىل املدينة‬
‫ليقف �أبا بكر على جلية احلال يف العراق‪ ،‬و�أدرك �أبا بكر يف مر�ضه الذي تويف‬

‫‪135‬‬
‫فيه‪ ،‬فو�صف له �أمر امل�سلمني ومكانهم من اخلطر العظيم الذي يعر�ضهم له‬
‫العدو‪.‬‬
‫فلم ي�ستطع �أبو بكر رحمه اهلل �إال �أن يو�صي عمر باجلد يف جندة امل ُثنى‬
‫و�أ�صحابه و�إمداده بالرجال وال�سالح‪ .‬وقد جد عمر يف ذلك منذ اليوم الأول‬
‫خلالفته‪ ،‬فندب النا�س �إىل العراق‪ ،‬ولكن النا�س �سمعوا منه ومل ي�ستجيبوا‬
‫له‪ ،‬فندبهم ثالثة �أيام والنا�س ي�سمعون منه وال ي�ستجيبون حتى �إذا ندبهم‬
‫للمرة الرابعة قام �إليه �أبو عبيد بن م�سعود الثقفي منتدب ًا‪ ،‬وا�ضطر عمر �إىل‬
‫�أن يلح النا�س ويدفعهم �إىل اجلهاد دفع ًا‪ ،‬حتى �إذا ا�ستطاع �أن يجمع �ألف‬
‫رجل من املهاجرين والأن�صار � ّأمر عليهم �أبا عبيد‪ .‬فكلمه النا�س يف �أن‬
‫ي�ؤمر رج ًال من كبار املهاجرين والأن�صار ف�أبى‪ ،‬لأنهم تقاعدوا عن اجلهاد‬
‫وكرهوا لقاء ال ُفر�س‪ ،‬و�ألح يف �أن ي� َّؤمر �أول من انتدب للحرب‪ ،‬ثم خالف عن‬
‫�سيا�سة �أبي بكر ف�أباح ملن كان ارتد من العرب ثم عاد �إىل ما خرج منه‪� ،‬أن‬
‫ي�شارك يف اجلهاد‪ ،‬ف�أقبل ه�ؤالء م�رسعني‪ ،‬و�أقبلت جموع من اليمن ف�ضمهم‬
‫عمر �إىل اجلي�ش‪ .‬و�سار �أبو عبيد بجي�شه بعد �أن �أو�صاه عمر باحلزم والأناة‬
‫وب�إمعان الروية وح�سن التدبري‪ ،‬وانتهى �أبو عبيد �إىل العراق ومعه املثنى بن‬
‫حارثة تابع ًا له ولي�س �أمرياً‪ ،‬فان�ضم �إىل من كان هناك من امل�سلمني‪ ،‬وتهي�أ‬
‫للقاء الفر�س‪ ،‬وكان �أبو عبيد �شجاع ًا جريئ ًا‪ ،‬وقد غلبت �شجاعته وجراءته‬
‫ر�أيه و�أناته‪ ،‬وغلبت ر�أي الذين �أ�شاروا عليه و�أحلوا يف �أال يعرب الفرات للقاء‬
‫الفر�س و�إمنا يخلي بينهم وبني العبور �إليه‪ ،‬ف�إن اتيح له الن�رص فذاك‪ ،‬و�إن‬
‫كانت الأخرى وجد الأر�ض من ورائه يرجع �إليها متحيزاً لفئة امل�سلمني من‬
‫جزيرة العرب‪ .‬ولكنه ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬كره �أن يكون الفر�س �أجر�أ على املوت من‬
‫امل�سلمني‪ ،‬فعرب بالنا�س النهر ثم قطع اجل�رس من ورائه حتى ال يتحدث �أحد‬
‫من امل�سلمني �إىل نف�سه بالفرار‪ ،‬وكان امل�سلمون يف تلك الأيام اليكرهون‬
‫�شيئ ًا كما يكرهون الفرار‪ ،‬ي�ستح�رضون يف نفو�سهم وقلوبهم هذه الآية‬
‫الكرمية التي كانوا ي�ستح�رضونها يف كل موطن من مواطن احلرب وهي قول‬
‫اهلل عز وجل من �سورة الأنفال‪:‬‬

‫‪136‬‬
‫وه ُم الأَ ْد َب َار‪َ .‬و َمن‬ ‫ين َكف َُرواْ َز ْحف ًا َف َال ُت َو ُ ّل ُ‬ ‫ين � َآم ُنواْ �إِ َذا َل ِقي ُت ُم ا َ ّل ِذ َ‬‫«يا �أَ ُ ّي َها ا َ ّل ِذ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ُي َو ِ ّله ِْم َي ْو َم ِئ ٍذ ُد ُب َر ُه �إِ َالّ ُم َت َح ِ ّرف ًا ِ ّل ِق َتالٍ �أ ْو ُم َت َح ِ ّيزاً �إ ىَِل ِف َئ ٍة َف َق ْد َباء ب َِغ َ�ض ٍب ِ ّم َن‬
‫الل َو َم�أْ َوا ُه َج َه َ ّن ُم َو ِب ْئ َ�س المْ َِ�صريُ»‪.‬‬ ‫َ هّ ِ‬
‫وكان امل�سلمون يف تلك الأيام �إذا انتدبوا للجهاد حر�صوا �أ�شد احلر�ص‬
‫على �أن يظفروا ب�إحدى احل�سنيني‪ :‬الظفر بالعدو‪ ،‬وما �أعد اهلل لهم من الأجر‬
‫يوم القيامة‪� ،‬أو الظفر بال�شهادة وما �ضمن اهلل لهم من حياة ال�شهداء يف جنته‬
‫ور�ضوانه‪ ،‬لأن اهلل يقول‪:‬‬
‫ون‬ ‫ني �أَنف َُ�س ُه ْم َو�أَ ْم َوا َل ُهم ِب َ�أ َ ّن َل ُه ُم جْ َ‬
‫ال َ ّن َة ُي َقا ِت ُل َ‬ ‫ا�ش رَ َتى ِم َن المْ ُ �ؤْ ِم ِن َ‬ ‫الل ْ‬ ‫«�إ َ ِّن َ هّ َ‬
‫ون َو ْع ًدا َع َل ْي ِه َح ً ّقا فيِ ال َ ّت ْو َرا ِة َوالإِجنِ يلِ َوا ْل ُق ْر�آنِ‬ ‫ون َو ُي ْق َت ُل َ‬ ‫فيِ َ�سبِيلِ َ هّ ِ‬
‫الل ف ََي ْق ُت ُل َ‬
‫َا�س َت ْب�شرِ ُ و ْا ب َِب ْي ِع ُك ُم ا َ ّل ِذي َب َاي ْع ُتم ِب ِه َو َذ ِل َك ُه َو ا ْلف َْو ُز‬
‫الل ف ْ‬ ‫َو َم ْن �أَ ْوفَى ب َِع ْه ِد ِه ِم َن َ هّ ِ‬
‫يم» �سورةالتوبة‪.‬‬ ‫ا ْل َع ِظ ُ‬
‫وقد �أقدم امل�سلمون‪ ،‬مدفوعني بهاتني الآيتني الكرميتني وب�آيات كثرية‬
‫غريهما من الكتاب العزيز‪ ،‬فقاتلوا م�ستب�سلني‪ ،‬وكان قائدهم �أبو عبيد �أ�شدهم‬
‫قدموا بني �أيديهم‬ ‫�إقدام ًا و�أعظمهم ا�ستب�ساالً‪ ،‬ولكن الفر�س على كرثتهم كانوا ّ‬
‫�شيئ ًا مل ي�ألفه العرب يف قتالهم من قبل وهي الفيلة‪ ،‬فلما ر�أتها خيل امل�سلمني‬
‫نفرت منها نفاراً �شديداً‪.‬‬
‫وكان يف مقدمة هذه الفيلة فيل عظيم تعر�ض له �أبو عبيد فطعنه‪ .‬فلما‬
‫�أح�س الفيل حر الطعنة ثار فطرح �أبا عبيد يف الأر�ض وقتله‪ .‬وقتل يومئذ‬
‫من امل�سلمني عدد غري قليل بعد �أن �أح�سنوا البالء‪ ،‬وا�ضطروا �آخر الأمر �إىل‬
‫الفرار ف�إذا النهر وراءهم‪ :‬فجعل بع�ضهم ي�ساقط يف النهر فيغرقون‪ ،‬حتى‬
‫�أقبل املثنى بن حارثة ومعه نفر من �أ�صحابه‪ ،‬فوقف على �شاطئ النهر‪،‬‬
‫وجد يف عقد اجل�رس‪ ،‬وانحاز بقية امل�سلمني �إليه فعربوا النهر‪ ،‬وقد بلغ منهم‬ ‫ّ‬
‫اجلهد وكرثت فيهم اجلراحات‪ ،‬وتفرق كثري منهم بعد عبور النهر فعادوا �إىل‬
‫احلجاز‪ ،‬ورجع بع�ضهم �إىل املدينة‪.‬‬
‫وبلغ خرب الهزمية عمر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬فبكى وقال‪ :‬رحم اهلل �أبا عبيد لو‬
‫يل لكنت فئته‪ .‬وكان يكرث من ترديد ذلك‪ ،‬يهدئ به روع املنهزمني‬ ‫انحاز �إ ّ‬
‫ويبني لهم �أنهم مل يفروا و�إمنا انحازوا �إىل فئة‪ ،‬فلم يتعر�ضوا للعقاب ال�شديد‬

‫‪137‬‬
‫الذي �أنذر اهلل به الفارين يف الآية الكرمية من �سورة الأنفال التي �أثبتناها‬
‫�أنف ًا‪.‬‬
‫وقد َحمي عمر جلهاد الفر�س بعد وقعة اجل�رس هذه فتهي�أ للحرب‪ ،‬وخرج‬
‫وهم بامل�سري �إىل العراق على ر�أ�س اجلي�ش‬‫من املدينة فاجتمع �إليه النا�س‪ّ ،‬‬
‫متولي ًا بنف�سه قتال الفر�س‪.‬‬
‫وا�ست�شار النا�س يف ذلك‪ .‬ف�أ�شار عليه قليل منهم ب�أن يتمم على ما �أراد‬
‫ومي�ضي للجهاد‪ ،‬فيكون يف م�ضيه حتري�ض للم�سلمني وت�شجيع لهم‪ ،‬ولكن‬
‫كثرياً من �أ�صحاب النبي �أ�شاروا عليه ب�أال يفعل وب�أن يبقى يف املدينة ركن ًا‬
‫للم�سلمني ميدهم بالعدد والعدة‪ ،‬و�أال يعر�ض نف�سه لأخطار احلرب‪ ،‬ف�إنه �إن‬
‫فت ذلك يف �أع�ضاد امل�سلمني‪ ،‬فلم ينه�ضوا للقتال‪ ،‬وتعر�ضت الأمة‬ ‫�أ�صيب ّ‬
‫خلطر عظيم‪ .‬و�أ�شاروا عليه ب�أن ير�سل رج ًال من كبار �أ�صحاب النبي �صلى اهلل‬
‫و�سموا له �سعد بن �أبي وقا�ص‬
‫عليه و�سلم‪ ،‬و�أ�شدهم ب�أ�س ًا و�أم�ضاهم يف احلرب‪َّ .‬‬
‫رحمه اهلل‪ .‬وكان �سعد غائب ًا عن املدينة يف عمل لعمر‪ ،‬ف�أر�سل �إليه‪ ،‬فا�ستخلف‬
‫على عمله و�أقبل‪ ،‬ف�أمره عمر على اجلي�ش و�أو�صاه �أال يغامر بامل�سلمني‪ ،‬و�أن‬
‫ينزلهم منز ًال بني ح�رض العراق ومدر العرب‪ ،‬و�أن ينتظر الإمداد‪.‬‬
‫وم�ضى �سعد رحمه اهلل بجي�شه ي�ستنفر من مر به من القبائل‪ ،‬وميده عمر‬
‫ما ا�ستطاع �إىل �إمداده �سبي ًال‪ ،‬وكان العرب يكرهون لقاء الفر�س وي�ؤثرون‬
‫رغب بع�ضهم‬ ‫اجلهاد يف ال�شام‪ .‬ولكن عمر كان ي�أبىعليهم �إال العراق‪ ،‬ورمبا ّ‬
‫باملال بعد الفتح‪ .‬و�أقام �سعد كما �أمره عمر يف جي�ش عظيم من امل�سلمني‬
‫قريب ًا من العراق‪ ،‬غري بعيد مع ذلك من بالد العرب‪ .‬و�أقام هناك ينتظر �أمر‬
‫عمر بالتقدم‪ .‬وينتظر قدوم الفر�س عليه‪ .‬وكان عمر قد �أمره �أن يكتب �إليه‬
‫ب�أمر امل�سلمني يوم ًا بيوم‪ ،‬و�أالينزل بهم منز ًال �إال و�صفه لعمر ك�أنه يراه‪ ،‬حتى‬
‫يكون عمر مع امل�سلمني بكتب �سعد يعلم ما ي�أتون وما يدعون‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫‪6‬‬

‫وخالف عمر عن �سيا�سة �أبي بكر يف �أمر ال�شام �أي�ض ًا‪ ،‬فلم يكد ينه�ض‬
‫ب�أعباء اخلالفة حتى كتب �إىلجيو�ش ال�شام ينعى �إليهم �أبا بكر رحمه اهلل‪،‬‬
‫وينبئهم ببيعته‪ ،‬ويعزل خالداً عن �إمارة اجلي�ش‪ ،‬ويجعل هذه الإمارة لأبي‬
‫عبيدة‪ ،‬وي�أمره �إذا فتح اهلل على امل�سلمني �أن يوجه من جاء مع خالد من‬
‫العراق �إىل عراقهم‪ ،‬ليكونوا مدداً ل�سعد ومن معه من امل�سلمني‪ ،‬و�أن يجعل‬
‫عليهم عتبة بن �أبي وقا�ص‪ .‬ويقول الرواة‪� :‬إن كتاب عمر و�صل �إىل �أبي عبيدة‬
‫يف ليلة كان امل�سلمون يتهي�ؤون فيها مل�صادمة الروم من غد‪ ،‬ف�أخفى �أبو‬
‫عبيدة كتاب عمر و�أ�رس ما جاء فيه من عزل خالد وتوليته هو‪.‬‬
‫كره ‪ -‬فيما يقول الرواة ‪� -‬أن يثبط امل�سلمني ويفل من حد خالد‪ ،‬وكانت‬
‫�إليه �إمرة اجلي�ش يف تلك املوقعة‪.‬‬
‫و�أ�صبح امل�سلمون‪ ،‬فا�صطدموا بالروم‪ ،‬فقاتلوهم �أ�شد قتال و�أعنفه‬
‫و�أجر�أه‪ .‬وكانت موقعة مل يعرف امل�سلمون مثلها من قبل يف حربهم للروم‪.‬‬
‫وقد �أنزل اهلل ن�رصه على امل�سلمني‪ ،‬وانهزم الروم هزمية منكرة‪ ،‬وفتحت‬
‫للم�سلمني مناهج ال�شام فق�صدوا ق�صد دم�شق‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ومن الرواة من يزعم �أن وقعة الريموك هذه كانت بعد فتح دم�شق ولكن‬
‫اختالف الرواة يف تاريخ الوقائع وترتيبها كثري‪� ،‬أكرث من �أن يح�صى‪ ،‬و�أع�رس‬
‫من �أن ي�صل الباحث فيه �إىل نظام دقيق‪.‬‬
‫ولي�س هذا مق�صوراً على ال�شام ولكنه يتناول حرب الفر�س �أي�ض ًا‪.‬‬
‫ولي�س من �ش�أين يف هذا احلديث �أن �أف�صل تاريخ الفتوح‪ ،‬وال �أن �أرتب‬
‫تاريخ الوقائع‪ ،‬فذلك �شيء مل �أرد �إليه‪ ،‬وهو على كل حال يطول �أ�شد الطول‬
‫ويع�رس �أ�شد الع�رس‪.‬‬
‫واملحقق �أن امل�سلمني قد حا�رصوا دم�شق و�شددوا عليها احل�صار و�أطالوه‬
‫ولكن خالداً ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬مل يكن ينام وال ينيم‪ ،‬كان متنبه ًا دائم ًا لأمر‬
‫املدينة وما يقع فيها من الأحداث‪ .‬وقد بلغه ذات ليلة ‪ -‬فيما يزعم الرواة ‪-‬‬
‫�أن �سور املدينة ب�إزائه قد خال من ُحرا�سه‪ ،‬لأمر ف�صله امل�ؤرخون وال �أطمئن‬
‫�إليه‪ ،‬فاحتال خالد حتى رقي ال�سور مع نفر من �أ�صحابه‪ ،‬ثم نزل ونزل‬
‫بوابيه وكبرّ وا‪،‬‬‫من معه فابتدروا باب املدينة الذي يلي جي�ش خالد فقتلوا ّ‬
‫فاندفع �إليهم امل�سلمون من هذه الناحية‪ ،‬واندفع خالد على ر�أ�س جي�شه �إىل‬
‫و�سط املدينة‪ .‬قال الرواة‪ :‬وكان �أبو عبيدة قد دخل املدينة من باب �آخر على‬
‫�صلح‪ ،‬فالتقى جي�شان من امل�سلمني يف و�سط املدينة‪ :‬جي�ش يقاتل‪ ،‬وجي�ش‬
‫م�صالح‪ .‬ف�أم�ضى �أبو عبيدة ال�صلح على جي�ش خالد �أي�ض ًا‪ ،‬واعتربت دم�شق‬
‫قد فتحت �صلح ًا‪.‬‬
‫ويقال �إن �أبا عبيدة مل يظهر خالداً على �أمر عمر بعزله �إال بعد فتح دم�شق‪.‬‬
‫ثم كانت للم�سلمني بعد ذلك خطوب‪� ،‬أتاح اهلل لهم فيها الن�رص على الروم يف‬
‫غري موقعة‪ ،‬حتى فتحت فل�سطني كلها وفتح الأردن‪ ،‬ثم فتحت حم�ص و�سائر‬
‫مدن ال�شام‪ .‬وكان هرقل قي�رص ق�سطنطينية مرابط ًا يف �أنطاكية‪ ،‬ميد جيو�شه‬
‫منها‪ ،‬فلما ر�أى ما �أتيح للم�سلمني من الن�رص يف هذه املواطن كلها عاد �إىل‬
‫ق�سطنطينية وودع �سورية وداع ًا ال لقاء بعده‪.‬‬
‫ومع �أن فل�سطني قد فتحت كلها ‪ -‬كما قلت �آنفا ‪ -‬ف�إن مدينة املقد�س قد‬
‫طاولت جند امل�سلمني املحا�رصين لها حتى �إذا قوي امل�سلمون عليها وهموا‬
‫باقتحامها طلب �أهل املدينة ال�صلح‪ .‬وا�شرتطوا �أال يتم هذا ال�صلح �إال مع �أمري‬

‫‪140‬‬
‫امل�ؤمنني نف�سه‪ .‬وقد �أنبئ عمر بذلك ف�أقبل �إىل ال�شام و�أمت ال�صلح مع بيت‬
‫القد�س ودخل مظفراً‪.‬‬
‫والرواة يختلفون يف عدد املرات التي دخل فيها عمر ال�شام يف خالفته‪،‬‬
‫ولكن املحقق عندي �أنه ثالث مرات على الأقل‪ ،‬كانت �أوالها حني �أمت ال�صلح‬
‫مع بيت املقد�س‪ ،‬وكانت الثانية بعد ذلك حني ق�صد �إىل ال�شام‪ ،‬فلما بلغ‬
‫�سرَ ْ غ �أنب�أه الأمراء ب�أن الطاعون قد وقع يف ال�شام‪ ،‬وهو الطاعون الذي‬
‫يعرفه امل�ؤرخون بطاعون َع ُموا�س ‪ -‬فا�ست�شار عمر النا�س‪� ،‬شاور املهاجرين‬
‫�أوال فاختلفوا عليه‪ ،‬قائل يقول‪ :‬خرجت لوجه فيجب �أن مت�ضي �إليه‪ ،‬وقائل‬
‫يقول‪ :‬ال تعر�ض نف�سك و�أ�صحابك للتهلكة‪ .‬و�شاور الأن�صار ف�صنعوا �صنيع‬
‫املهاجرين‪ ،‬و�أبى عليه �أبو عبيدة بن اجلراح �إال �أن مي�ضي لوجهه خماطراً وال‬
‫يفر من قدر اهلل‪ ،‬ف�أجابه عمر‪ :‬لو غريك قالها يا �أبا عبيدة‪� ،‬أفر من قدر اهلل‬
‫�إىل قدر اهلل‪ .‬ثم ا�ست�شار مهاجرة الفتح فلم يختلفوا عليه‪ ،‬و�إمنا �أ�شاروا عليه‬
‫جممعني ب�أن يرجع �إىل املدينة‪.‬‬
‫و�أقبل عبدالرحمن بن عوف ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬وكان غائب ًا حني ا�ست�شار عمر‬
‫النا�س فقال‪ :‬عندي من ذلك علم‪� :‬سمعت ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يقول‪:‬‬
‫«�إذا وقع الطاعون ب�أر�ض و�أنتم فيها فال تخرجوا منها‪ ،‬و�إن مل تكونوا فيها‬
‫فال تدخلوها»‪ .‬فعاد عمر �إىلاملدينة را�ضي ًا مطمئن ًا‪.‬‬
‫ودخل عمر ال�شام للمرة الثالثة بعد �أن ارتفع الوباء‪ .‬وقد �أ�صيبت طائفة‬
‫�ضخمة من امل�سلمني وجماعة من خيار �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬
‫منهم‪� :‬أبو عبيدة �أمري ال�شام‪ .‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬رحمهم اهلل‪ ،‬و�آخرون كثريون‪.‬‬
‫فلما انق�ضى الوباء ظهرت �أمام معاوية بن �أبي �سفيان �أمري ال�شام بعد �أبي‬
‫عبيدة م�شكلة ع�سرية‪ ،‬فقد كرثت �ضحايا الطاعون و�أ�شكلت مواريث من مات‬
‫على من بقي من امل�سلمني‪ ،‬فا�ضطر عمر �إىل �أن ي�سري �إىل ال�شام فيحل هذه‬
‫امل�شكلة ويرد املواريث على �أ�صحابها‪ .‬وكان عمر يفكر كثرياً بعد زيارته هذه‬
‫لل�شام يف �أن يزور �أقاليم الدولة كلها‪ ،‬فيق�ضي يف كل �إقليم �شهرين‪ ،‬يبا�رش‬
‫فيهما بنف�سه ما يعر�ض من امل�شكالت‪ ،‬ويبا�رش فيهما بنف�سه �أي�ض ًا �أمور‬
‫النا�س‪ ،‬فيعلم الوالة ب�سريته كيف يدبرون �سيا�سة الأقاليم والأم�صار‪ .‬وكان‬

‫‪141‬‬
‫عمر �شديد اخلوف دائم ًا من �سرية الوالة‪ ،‬ال ي�أمنهم �أن يجوروا �أو �أن يق�رصوا‪.‬‬
‫ومع �أنه كان يراقبهم �أ�شد املراقبة وير�سل �إليهم من قبله من يفح�ص �أعمالهم‪،‬‬
‫فكثرياً ما كان يقول �إنه ال يخاف �شيئ ًا كما يخاف �أن تكون للنا�س ظالمات‬
‫ال ين�صفهم الوالة برفعها وال يقدرون هم على �أن يرفعوها �إليه‪ .‬فكان يرى يف‬
‫هذه الزيارة التي كان يرجوها �أح�سن عالج لهذه امل�شكالت و�أمثالها‪.‬‬
‫وكان عمر يلقى الوالة يف املو�سم من كل عام‪ ،‬ويلقى معهم احلجيج من‬
‫كل م�رص‪ ،‬في�س�أل الوالة عن الرعية‪ ،‬وي�س�أل احلجيج عن �سرية الوالة فيهم‪،‬‬
‫ولكن هذا كله مل يكن يكفيه‪ ،‬فكان حري�ص ًا على �أن يطمئن بنف�سه على �سرية‬
‫الوالة و�سرية الرعية جميع ًا‪ .‬ومل ُتتح له هذه الزيارات التي كان يزمعها‬
‫ويحر�ص عليها �أ�شد احلر�ص‪� ،‬شغلته الأحداث ومراقبة احلرب يف بالد الفر�س‬
‫حتى اختطفته املنية اختطاف ًا‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫‪7‬‬

‫وكانت حرب الفر�س ع�سرية �أ�شد الع�رس‪ ،‬طويلة �أ�شد الطول‪ ،‬ومع ذلك فقد‬
‫بلغ منها عمر رحمه اهلل ما �أراد و�أكرث جداً مما �أراد‪ ،‬مل يكن يحب امل�ضي‬
‫يف احلرب و�إمنا كان يحر�ص على �أن ي�ؤمن العرب يف جزيرتهم‪ ،‬ويف ال�شام‬
‫والعراق من حكم الأجنبي‪ ،‬و�أن يجمعهم ما ا�ستطاع على الإ�سالم ولكن بع�ض‬
‫احلرب يدعو بع�ضها‪ .‬و�إذا ابتد�أت احلرب فقلما يعرف املنت�رص لها �آخراً‪ .‬وقد‬
‫ا�ستطاع عمر �أن يوقف احلرب يف ال�شام عند حدود الروم‪ ،‬ومينع امل�سلمني‬
‫من �أن يقتحموا على الروم حدودهم يف اجلموع الكثيفة‪ .‬ومازال به عمرو‬
‫بن العا�ص حتى انتزع منه الإذن بفتح م�رص‪ ،‬فلما مت له الفتح وا�ستطاع‬
‫امل�سلمون �أن يتجاوزوا م�رص غرب ًا �إىل برقة وطرابل�س وقفهم عند هذا الذي‬
‫�أتيح لهم‪ .‬وحظر على معاوية �أن يغزو يف البحر‪ ،‬وكان معاوية �شديد احلر�ص‬
‫على �أن يفتتح قرب�ص‪ ،‬ولكن عمر �ألح يف منعه حتى �أنذره �إن خالف عن �أمره‪.‬‬
‫وقد �أقام �سعد يف منزله الذي حدده له عمر قريب ًا من البادية وقريب ًا من‬
‫ح�رض العراق �أي�ض ًا‪ .‬وظل كذلك حتى جاءته الفر�س يف جموع عظيمة فلم يكن‬
‫من قتالها بد‪ ،‬فكانت وقعة القاد�سية التي طالت و�شقت وامتحن امل�سلمون‬

‫‪143‬‬
‫فيها امتحان ًا �شديداً‪ ،‬ولكن اهلل �أنزل عليهم ن�رصه بعد خطوب‪ ،‬فقتل امل�سلمون‬
‫منهم مقتلة عظيمة‪ ،‬ولقوا منهم مع ذلك �رشاً عظيم ًا‪ ،‬ولكن الن�رص �أطمعهم يف‬
‫الن�رص و�أغراهم باتباع الفر�س وغزوهم يف عقر دارهم‪ .‬وقد ا�ستقر يف نف�س‬
‫عمر‪ ،‬ويف نف�س الذين كانوا ي�شريون عليه يف املدينة‪ ،‬ويف نف�س �سعد بن �أبي‬
‫وقا�ص �أي�ض ًا‪� :‬أن امل�سلمني لن يك�رسوا �شوكة الفر�س‪ ،‬ولن يفلوا حدهم �إال‬
‫�إذا غزوهم يف عقر دارهم‪ ،‬و�أخذوا عا�صمتهم املدائن‪ .‬وكانوا يعتقدون �أنهم‬
‫�إن دخلوا العا�صمة و�أزعجوا عنها ك�رسى يزدجر ملك الفر�س �أمنوا جانبهم‬
‫و�أي�أ�سوهم من العراق‪ .‬وقد م�ضى �سعد بجي�شه �إىل املدائن فدخلها مظفراً‬
‫وخرج عنها امللك هارب ًا‪ ،‬و�أتيح للم�سلمني �أن يتخذوا �إيوان ك�رسى م�صلى‪.‬‬
‫ومنذ فتح املدائن كان عمر يود لو وقفت احلرب عند هذا احلد‪ ،‬وكان يقول‬
‫مرة‪ :‬وددت لو �أن بيننا وبينهم جب ًال من نار‪ ،‬ويقول مرة �أخرى‪ :‬وددت لو �أن‬
‫بيننا وبينهم بحراً من نار ال ي�صلون �إلينا وال ن�صل �إليهم‪ .‬ولكن اهلل مل ين�شئ‬
‫لعمر جب ًال من نار وال بحراً من نار‪ ،‬و�إمنا �ألقى يف نفو�س الفر�س الت�صميم‬
‫على �أن ي�سرتدوا ما فقدوا‪ ،‬ويث�أروا من امل�سلمني لهزميتهم‪ ،‬فكانت جموعهم‬
‫ال تف�ض �إال ت�ألفت منهم جموع �أخرى عظيمة الكرثة �شديدة الب�أ�س‪ .‬وكان‬
‫امل�سلمون م�ضطرين �إىل �أن يف�ضوا هذه اجلموع كلما ائتلفت‪ ،‬لي�أمنوا على ما‬
‫يف �أيديهم من جهة ولي�ضيفوا �إليه ما يزيده ويكرثه‪ .‬وكانت جيو�ش امل�سلمني‬
‫ال تنت�رص يف موقعة �إال طمعت يف �أن تنت�رص يف موقعة �أخرى‪.‬‬
‫وكذلك التقوا بالفر�س يف َج ُلوالء وانت�رصوا عليهم‪ ،‬والتقوا بهم يف نهاوند‬
‫هم عمر‬‫وانت�رصوا عليهم‪ ،‬والتقوا بهم يف حلوان وانت�رصوا عليهم �أي�ض ًا‪ .‬وقد ّ‬
‫بعد هذه املواقع الكربى �أن يوقف احلرب‪ ،‬وكان قد م�رص امل�رصين يف العراق‪:‬‬
‫«الكوفة والب�رصة»‪ ،‬و�أراد �أن ينزل فيهما امل�سلمني ليكونوا ردءاً ملن وراءهم‪،‬‬
‫ومدداً ملن بني �أيديهم‪ .‬وكان ملك الفر�س كلما انت�رص امل�سلمون يف موقعة‬
‫�أبعد يف الهرب‪ .‬و�أح�س بع�ض امل�سلمني �أنهم لن يك�رسوا �شوكة الفر�س ولن‬
‫يفلوا حدهم حق ًا ما دام للفر�س ملك قائم يجمعهم ويغريهم باحلرب ويدفعهم‬
‫�إليها‪ .‬ذلك �إىل �أن امل�رصين اجلديدين يف العراق كانا يتناف�سان �أ�شد التناف�س‬
‫يف الفتح ويف ب�سط ما كانا يليانه من الأر�ض الفار�سية‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫وكان حظ الكوفة من �سواد العراق ومما فتح من �أر�ض الفر�س �أعظم من‬
‫حظ الب�رصة‪ .‬فكان �أهل الب�رصة يطمعون يف �أن يو�سعوا رقعتهم ويكرثوا‬
‫من الفتوح ُليتاح لهم من الغنائم و�سعة الفيء‪� ،‬إىل ما كانوا ي�ؤمنون به من‬
‫ف�ضل اجلهاد والغزو يف �سبيل اهلل‪ ،‬حتى قال الأحنف بن قي�س ذات يوم لعمر‪،‬‬
‫وكان عنده يف وفد الب�رصة‪� :‬إن عي�شنا �أ�ضيق من عي�ش �إخواننا يف الكوفة‪،‬‬
‫و�إنا لن ن�أمن الفر�س ولن نفرغ منهم حتى نظفر مبلكهم �أونقتله‪ .‬ومازال‬
‫امل�رصان يلحان على عمر يف �أن ي�أذن للنا�س يف االن�سياح يف الأر�ض حتى‬
‫انتزعوا منه الإذن يف ذلك انتزاع ًا‪ .‬فاندفع �أهل الب�رصة حتى بلغوا من الفتح‬
‫ما �أرادوا‪ ،‬وجعلوا يزعجون امللك عن مدن الفر�س مدينة مدينة‪ ،‬حتى �أزعجوه‬
‫عن خرا�سان كلها و�أجل�أوه �إىل �أن يعرب النهر �إىل الرتك‪ ،‬وقد ا�ستمد َملك الفر�س‬
‫ملك الرتك وا�ستعان به على ا�سرتداد وطنه من امل�سلمني‪ ،‬فا�ستجاب له ملك‬
‫الرتك حتى �أقبل م�ؤازراً له‪ .‬ولكن امل�سلمني ثبتوا للرتك كما ثبتوا للفر�س من‬
‫قبل‪ ،‬ومازالوا بالرتك حتى �أي�أ�سوهم وا�ضطروهم �إىل �أن يرجعوا �إىل بالدهم‪.‬‬
‫وكذلك فتحت على عمر بالد ك�رسى كلها يف هذه املدة الق�صرية التي‬
‫توىل فيها �أمور امل�سلمني يف ع�رش �سنني و�أ�شهر‪.‬‬
‫ومازال يزدجرد م�رشداً حتى قتل يف �أيام عثمان رحمه اهلل‪ ،‬قتله رجل‪،‬‬
‫من مواطنيه‪.‬‬
‫ومل يكتف امل�سلمون مبا فتح اهلل عليهم يف املغرب من ال�شام وفل�سطني‬
‫وم�رص وبرقة‪ ،‬وما فتح اهلل عليهم يف امل�رشق من �أر�ض ك�رسى‪ .‬ولكن‬
‫الظروف ا�ضطرتهم �إىل �أن ي�ؤمنوا ال�شام بفتح اجلزيرة فافتتحوها‪ ،‬ومل يبق‬
‫بينهم وبني الروم �إال هذه احلدود الطبيعية التي اعت�صم الروم من ورائها‬
‫حتى اقتحمها امل�سلمون يف �أيام معاوية حماولني فتح ق�سطنطينية‪ .‬ولكن‬
‫لهذه املحاولة مو�ضع ًا �آخر يف غري هذا احلديث‪.‬‬
‫وقد يخيل �إىل من يت�صور ما �أتيح للم�سلمني من الفتوح �أيام عمر‪،‬‬
‫واالنت�صار امل�ؤزر على الفر�س والروم جميع ًا‪� ،‬أن عمر كان �سعيداً بهذه الفتوح‬
‫العظيمة ومبا كان يتدفق عليه يف املدينة من املال الذي كان امل�سلمون‬
‫يخم�سون له من الغنائم وير�سلونه �إليه من الفيء‪ ،‬ولكن ال�شيء املحقق �أن‬

‫‪145‬‬
‫عمر مل يهن�أ قط بهذه الفتوح‪ ،‬وال مبا �أفاء اهلل عليه من هذه الأموال التي ال‬
‫يكاد الت�صور يحيط بكرثتها‪.‬‬
‫ي�رسه انت�صار امل�سلمني وير�ضيه‪ ،‬وكان ي�رسه �أن ينت�رش نور اهلل يف‬‫كان ّ‬
‫الأر�ض‪ ،‬وتعلو كلمة الإ�سالم‪ ،‬وكان ي�رسه وير�ضيه كذلك �أن ي�سعد امل�سلمون‬
‫مبا كان اهلل يفيء عليهم من املال الذي �أخرجهم من �ضيق العي�ش �إىل ال�سعة‪،‬‬
‫و�أتاح لهم الرخاء بعد ما كانوا فيه من ال�شظف وق�سوة احلياة‪ .‬ولكن عمر على‬
‫ذلك كان �أ�شقى النا�س بالفتوح واملال‪.‬‬
‫كان الفتح يكلفه �أن يدبر �أمر احلرب يف ال�رشق والغرب‪ ،‬و�أن يدبر هذا‬
‫الأمر ك�أنه مع املحاربني يف ال�رشق والغرب جميع ًا‪ ،‬وكان يكلفه �أن يدبر‬
‫�أمر الأر�ض التي تفتح �رشق ًا وغرب ًا‪ ،‬و�أمر الذين يعي�شون فيها من امل�سلمني‬
‫واملعاهدين‪ .‬وكان ي�ضطره �إىل دقة �أي دقة يف اختيار العمال ومراقبتهم بعد‬
‫واليتهم �أق�سى املراقبة و�أبعدها يف ال�شدة‪ .‬وكان املال الذي ير�سل �إليه يكلفه‬
‫عناء �أي عناء‪ ،‬كان ال يرى �شيئ ًا منه �إال �أمعن يف البكاء وجعل ي�س�أل نف�سه‬
‫ملاذا �رصف اهلل هذا كله عن ر�سوله �صلى اهلل عليه و�سلم وعن �أبي بكر و�أتاحه‬
‫للم�سلمني يف �أيامه هو‪� .‬أكان ذلك خرياً �رصفه اهلل عن ر�سوله وعن خليفته‬
‫و�آثره هو به؟ ثم مل يكن يلبث �أن ينكر ذلك �أ�شد الإنكار‪ ،‬ويقول‪ :‬كال واهلل ما‬
‫�أتاح اهلل هذا املال لعمر �إال حمنة له وابتالء‪.‬‬
‫ثم مل يكن عمر يثق بنف�سه وال يطمئن �إليها ال يف �سيا�سة احلرب‪ ،‬وال يف‬
‫�سيا�سة ال�سلم‪ ،‬وال يف �سيا�سة املال‪ .‬كان يخ�شى دائم ًا �أ�شد اخل�شية �أن يكون‬
‫قد جار عن الق�صد يف قول �أو عمل خطري �أو �ضئيل‪ ،‬و�أن يكون هذا اجلور قد‬
‫�سجل عليه يف ذلك الكتاب الذي ال يغادر �صغرية وال كبرية �إال �أح�صاها‪،‬‬
‫و�أنه �سيلقى اهلل بهذا الكتاب يوم القيامة في�س�أله عما فيه من ال�صغري والكبري‬
‫�س�ؤا ًال ال هوادة فيه وال لني‪ .‬وكذلك كان نهاره منغ�ص ًا وليله م�ؤرق ًا‪ ،‬لوال‬
‫�أن �أمور امل�سلمني كانت ت�ستغرق �أكرث نهاره و�شيئ ًا غري قليل من ليله‪ .‬ثم‬
‫كان على ذلك ي�أمتر مبا �أمر به القر�آن الكرمي في�ستعني على خالفته بال�صرب‬
‫وال�صالة‪ ،‬ثم ال مينعه هذا كله من �أن يقول بني حني وحني‪ :‬وددت لو �أين‬
‫يل‪.‬‬
‫علي وال َ‬
‫خرجت منها كفاف ًا ال ّ‬

‫‪146‬‬
‫‪8‬‬

‫وظهرت لعمر م�شكلتان ي�سريتان مل يجد يف النفوذ منهما عناء‪ ،‬وال‬


‫تقا�سان �إىل غريهما من امل�شكالت التي عر�ضت له‪.‬‬
‫ف�أما �أوالهما فلقب اخلليفة‪ ،‬وما �أظن عمر فكر فيه‪� ،‬أو فكر فيه غريه من‬
‫امل�سلمني‪� ،‬إال بعد �أن �سري اجلنود �إىل العراق ودبر �أمر اجلي�ش يف ال�شام‪ ،‬على‬
‫ما كان يحب من عزل خالد وت�أمري �أبي عبيدة‪ ،‬وجعل ينتظر �أنباء جيو�ش‬
‫امل�سلمني يف ال�رشق والغرب‪.‬‬
‫هنالك فكر هو �أو فكر من حوله من �أ�صحابه يف اللقب الذي يدعونه به‪.‬‬
‫كانوا يرون �أن �أبا بكر رحمه اهلل قد قام على �أمرهم بعد وفاة النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم فدعوه خليفة ر�سول اهلل‪ ،‬وكانوا يرون �أن عمر قد قام بالأمر بعد‬
‫�أبي بكر فدعوه خليفة خليفة ر�سول اهلل‪ .‬ولكن عمر مل يلبث �أن فكر يف هذا‬
‫اللقب‪ ،‬ور�أى �أنه طويل‪ ،‬و�أن من جاء بعده �سيدعى خليفة خليفة خليفة ر�سول‬
‫اهلل‪ ،‬ومي�ضي الأمر على هذا النحو فيطول ويع�رس النطق به واحلفظ له‪.‬‬
‫ويقال �إن امل�سلمني هم الذين فكروا يف هذا‪ ،‬و�أن قائ ًال منهم قال‪ :‬نحن‬
‫امل�ؤمنون وعمر �أمرينا‪ .‬فدعي �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬و�صار هذا لقب اخللفاء من‬
‫بعده‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫و�سواء �أكان عمر هو الذي فكر يف هذه امل�شكلة و�أ�صاب حلها‪� ،‬أم كان‬
‫امل�سلمون هم الذين كفوه هذا التفكري‪ ،‬فقد كان عمر �أول من دعي �أمري‬
‫امل�ؤمنني‪ ،‬وما �أكرث الذين دعوا بعده بهذا اال�سم‪ ،‬فا�ستحقه �أقلهم وحمله‬
‫�سائرهم غ�صب ًا له وا�ستبداداً به دون �أن يكون له �أه ًال‪ .‬ف�إمرة امل�سلمني لي�ست‬
‫�شيئ ًا هين ًا ي�ستطيع كل من قام ب�أمر امل�سلمني �أن يتلقب بها‪ ،‬و�إمنا هي ت�صور‬
‫الأعباء الثقال‪ ،‬والعناء املت�صل‪ ،‬واجلهد الذي لي�س فوقه جهد‪ ،‬يف �إقرار العدل‪،‬‬
‫ورفع الظلم‪ ،‬و�إن�صاف ال�ضعفاء من الأقوياء‪ ،‬وحتقيق امل�ساواة بني النا�س‪،‬‬
‫والعناية ب�أمر القريب والبعيد‪ ،‬والرفق بامل�سلمني و�أهل الذمة يف �أوقات‬
‫الي�رس والع�رس‪ ،‬والقيام فيهم باحلزم كل احلزم حتى ال يطمع منهم طامع فيما‬
‫لي�س له بحق‪ ،‬وال يطمح منهم طامح �إىل ما ال ينبغي له �أن يبلغه‪ ،‬و�إن�صاف‬
‫النا�س بعد هذا كله وقبل هذا كله وفوق هذا كله من نف�سه‪ ،‬ك�إن�صافه بع�ضهم‬
‫من بع�ض �أو �أ�شد من �إن�صافه بع�ضهم من بع�ض‪.‬‬
‫وقد كان عمر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬جديراً ب�إمرة امل�ؤمنني حق جدير‪ ،‬وما �أقل‬
‫الذين �شاركوه يف اجلدارة ب�إمرة امل�ؤمنني من اخللفاء و�أ�شباه اخللفاء‪ .‬و�أما‬
‫امل�شكلة الثانية التي عر�ضت لعمر فخرج منها يف ي�رس‪ ،‬فهي م�شكلة التاريخ‪.‬‬
‫كانت الكتب ترد �إليه من عماله وقادته م�ؤرخة بال�شهور التي تكتب فيها‪،‬‬
‫دون �أن ت�ؤرخ بال�سنني‪ ،‬لأن امل�سلمني مل يكونوا قد اتخذوا لأنف�سهم تاريخ ًا‪،‬‬
‫ف�ضاق عمر بذلك‪ ،‬وا�ست�شار �أ�صحاب النبي يف تاريخ ُيجعل للنا�س ي�ؤرخون‬
‫به‪ ،‬ف�أ�شري عليه ب�أن يتخذ العام الذي هاجر فيه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬
‫من مكة �إىل املدينة بدءاً للتاريخ الإ�سالمي‪ .‬وكان اختيار هذا العام موفق ًا كل‬
‫التوفيق‪ ،‬ففيه ن�ش�أت للم�سلمني جماعة منظمة م�ستقلة يقوم النبي على �أمرها‬
‫مبا كان اهلل يوحي �إليه من القر�آن الكرمي‪ ،‬وما كان يلهمه من البيان للقر�آن‬
‫الكرمي‪ ،‬وما كان يجتهد ر�أيه فيه �أو ي�ستعني عليه بر�أي امل�سلمني‪.‬‬
‫وقد ن�ش�أت هذه اجلماعة �ضئيلة قليلة �ضيقة الرقعة حمدودة ال�سلطان‪،‬‬
‫ولكن اهلل كرث هذه اجلماعة بعد قلة‪ ،‬وو�سع رقعتها بعد �ضيق‪ ،‬ون�رش �سلطانها‬
‫بعد انقبا�ض‪ ،‬حتى �أ�صبحت جزيرة العرب كلها م�ستظلة بلواء الإ�سالم �أيام‬
‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ثم زاد اهلل �أر�ض امل�سلمني انب�ساط ًا و�سلطان‬

‫‪148‬‬
‫الإ�سالم انت�شاراً‪ ،‬فنظر عمر ف�إذا هو لي�س �أمري امل�ؤمنني يف املدينة وحدها‪،‬‬
‫وال يف جزيرة العرب وحدها‪ ،‬و�إمنا امتدت �إمرته حتى انب�سطت على ال�شام‬
‫وم�رص وعلى العراق و�أكرث �أر�ض الفر�س‪ ،‬وقد قتل رحمه اهلل ومل يبق من �أر�ض‬
‫الفر�س �إال قليل‪ ،‬فتح يف �أيام عثمان رحمه اهلل‪ .‬وقد دبر عمر �أمر هذا ال�سلطان‬
‫العري�ض �أح�سن تدبري و�أدقه و�أعدله‪ ،‬مل ي�ؤخذ ب�شيء مما فعل ومل ينكر عليه‬
‫�أحد �شيئ ًا مما �أمر به �أو نهى عنه‪ ،‬فكان �أمري امل�ؤمنني ح ّق ًا ال �سبيل �إىل �أن‬
‫ينازع يف ذلك �أو يكون ذلك مو�ضوع ًا للجدال‪ .‬ولو �أن امل�شكالت التي عر�ضت‬
‫لعمر كانت كلها ي�سرية كي�رس هاتني امل�شكلتني ملا ظهرت كفايته رائعة‬
‫نا�صعة منقطعة النظري‪ ،‬ال بالقيا�س �إىل امل�سلمني وحدهم‪ ،‬وال بالقيا�س �إىل‬
‫تاريخهم‪ ،‬بل بالقيا�س �إىل العامل كله و�إىل تاريخه العام‪.‬‬
‫قوي ًا ب�أن اهلل ممتحنه باخلالفة‬ ‫وك�أنه رحمه اهلل كان يح�س �إح�سا�س ًا ّ‬
‫و�أعبائها‪ ،‬ميتحنه برعيته وميتحن رعيته به‪ ،‬وميتحنه وميتحن رعيته معه‬
‫بامل�شكالت املع�ضالت التي �ستعر�ض له ولهم يف �أيام خالفته كلها‪ ،‬من �أول‬
‫يوم فيها �إىل �آخر �ساعة من �ساعات حياته‪ ،‬ك�أنه كان يح�س هذا �إح�سا�س ًا‬
‫قوي ًا حني خطب امل�سلمني بعد �أن فرغ من �أمر �أبي بكر فقال لهم‪�« :‬إن اهلل قد‬ ‫ّ‬
‫ابتالين بكم وابتالكم بي»‪ .‬وكانت خالفته كلها ابتالء له‪ ،‬وابتالء لرعيته‪.‬‬
‫وح�سبك �أنه مل يكد يفرغ من خطبته الق�صرية التي خطب النا�س بها‪ ،‬حتى‬
‫دعا املل�سمني �إىل جهاد الفر�س يف العراق‪ ،‬و�أخذ يف تدبري �أمر ال�شام و�أمر‬
‫اجلي�ش‪ ،‬الذي تركه املثنى بن حارثة قلي ًال �ضئي ًال على حدود العراق‪ ،‬و�أمر‬
‫اجلي�ش الذي جعل ي�ستعد لت�سيريه لي�ؤدب �أهل العراق على انتقا�ضهم ويثبت‬
‫للفر�س فيما �سيكون من املواقع واخلطوب‪.‬‬
‫وقد عر�ضت عليك �آنف ًا ما كان من بالء امل�سلمني يف ال�رشق والغرب‪،‬‬
‫وانت�صارهم على الفر�س والروم وثباتهم ملا لقوا من الأهوال‪ ،‬ومهما يكن هذا‬
‫العر�ض موجزاً فقد كان ت�صويراً موجزاً خاطف ًا لأحداث كثرية خطرية ات�صلت‬
‫منذ نه�ض عمر باخلالفة �إىل �أن تويف رحمه اهلل‪ ،‬ومل يتح لهذه الأحداث �أن‬
‫تنقطع وال �أن تهد�أ �إال بعد �أن حلق ب�صاحبيه يف جوار اهلل عز وجل‪.‬‬

‫‪149‬‬
150
‫‪9‬‬

‫على �أن هذه الأحداث اجل�سام املت�صلة التي كان بع�ضها يكفي ال�ستنفاد‬
‫وقت عمر وجهده كله‪ ،‬مل تكن مت�ضي دون �أن تثري م�شكالت لي�ست �أقل منها‬
‫خطراً‪ .‬وال �أذكر تدبري هذه احلروب التي ات�صلت يف ال�رشق والغرب‪ ،‬ورعاية‬
‫اجليو�ش املحاربة يف كثري من العناية بها‪ ،‬والإ�شفاق عليها‪ ،‬واحلر�ص‬
‫الدائم على �أال يتعر�ض اجلنود ملا ي�شغلهم عن احلرب‪� ،‬أو ملا يجعل احلرب‬
‫عليهم ثق ًال م�ضاعف ًا‪ ،‬و�إمنا �أذكر م�شكالت �أخرى كانت تن�ش�أ عن االنت�صار‬
‫يف امليادين‪ ،‬فقد كانت اجليو�ش املنت�رصة تظفر بالغنائم الهائلة التي ال‬
‫�سبيل �إىل و�صفها �إال من جهة كرثتها وال من جهة قيمتها‪ ،‬حتى حني نقدر‬
‫�أن الرواة قد �أ�رسفوا يف �أمرها‪ .‬وكان �أمر اهلل يف الغنائم ينفذ يف دقة �أي‬
‫دقة‪ ،‬فكانت �أخما�سها الأربعة تق�سم على اجلنود على النظام الذي �رشع‬
‫للم�سلمني �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وكان القادة ينفلون �أ�صحاب‬
‫البالء من اجلنود‪ ،‬وكان خم�س الغنائم ير�سل �إىل عمر‪ .‬ثم يتعقد الأمر بعد‬
‫ذلك‪ ،‬ف�إن اجلنود مل يكونوا يظفرون بالغنائم املنقولة التي ميكن �أن تق�سم‬
‫وير�سل خم�سها �إىل �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬و�إمنا كانوا يظفرون بالأر�ض ويفر�ضون‬
‫أ�رص عمر‬
‫اجلزية على الذين ي�ؤثرون البقاء على دينهم من املغلوبني‪ .‬وقد � ّ‬

‫‪151‬‬
‫�أ ّال تق�سم الأر�ض‪ ،‬و�إمنا ترتك لأهلها يعملون فيها ويعي�شون عليها وي�ؤدون‬
‫عنها اخلراج‪ ،‬فكان عمر �إذن يتلقى �أخما�س الغنائم كلما انت�رص جي�ش من‬
‫جيو�شه‪ ،‬وكان يتلقى اخلراج على الأر�ض التي يعي�ش عليها املعاهدون‪،‬‬
‫وكان يتلقى اجلزية التي فر�ضت على من مل ي�سلم من املغلوبني‪ .‬فكان‬
‫املال الذي يرد عليه �أكرث جداً مما كان يتوقع ومما كان العرب يظنون‬
‫�أنه �سي�ساق �إليهم يف يوم من الأيام‪ .‬وكانت الأخما�س ترد على �أبي بكر ‪-‬‬
‫رحمه اهلل ‪ -‬يف حروب الردة‪ .‬ويف بدء الفتح كانت �سيا�سته فيها �ساذجة‬
‫كل ال�سذاجة ي�سرية كل الي�رس‪ ،‬كان يحفظ منها ما ي�ؤدي به حق اهلل من‬
‫�أخما�س الغنائم‪ ،‬كما بينه اهلل يف الآية الكرمية من �سورة الأنفال‪:‬‬
‫نا َغ ِن ْم ُتم ِ ّمن َ�ش ْي ٍء َف َ�أ َ ّن للِ َ هّ ِ ُخ ُم َ�س ُه َو ِل َلرّ ُ�سولِ َو ِل ِذي ا ْل ُق ْر َبى‬ ‫«و ْاع َل ُمو ْا �أَ َ مّ َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ِالل َو َما �أن َز ْل َنا َع َلى‬‫ِ‬ ‫ال�سبِيلِ �إِن ُكن ُت ْم � َآمن ُت ْم ب َ هّ‬ ‫ني َو ْابنِ َ ّ‬ ‫ِ‬
‫امى َوالمْ َ َ�ساك ِ‬ ‫َوا ْل َي َت َ‬
‫الل َع َلى ُك ِ ّل َ�ش ْي ٍء َق ِديرٌ»‪.‬‬ ‫ال ْم َعانِ َو َ هّ ُ‬ ‫َع ْب ِد َنا َي ْو َم ا ْلف ُْر َقانِ َي ْو َم ا ْل َت َقى جْ َ‬
‫ويق�سم �سائرها على امل�سلمني ق�سمة �سواء‪ ،‬ال يفرق بني النا�س مهما‬
‫تختلف منازلهم‪ .‬وكان ي�سوى يف هذه الق�سمة بني الأحرار والأرقاء‪،‬‬
‫وكانت الأخما�س التي ترد �إىل �أبي بكر ال تكاد تذكر بالقيا�س �إىل ما كان‬
‫يرد �إىل عمر من ال�شام وم�رص ومن العراق و�أر�ض الفر�س‪ .‬وقد ظهرت له‬
‫امل�شكلة خطرية كل اخلطورة حني كرثت الأخما�س من جهة‪ ،‬وحني جاء ما‬
‫كان يجبى من اجلزية واخلراج من جهة �أخرى‪ .‬كان هذا املال �أكرث من �أن‬
‫يق�سم على النا�س‪ ،‬وكان تق�سيمه خطراً‪ ،‬كان نوع ًا من ال�رسف‪ ،‬وكان مغري ًا‬
‫للنا�س بالك�سل واالتكال واالعتماد على حظوظهم من الأخما�س واجلزية‬
‫واخلراج‪ .‬وقد �شغل عمر بهذه امل�شكلة واهتم لها‪ ،‬وال �سيما بعد �أن دخل‬
‫�سعد بن �أبي وقا�ص وجي�شه املدائن عا�صمة الفر�س و�أر�سلوا �إليه خم�س ما‬
‫غنموا يف هذه املدينة‪ ،‬وقد ا�ست�شار عمر �أ�صحاب النبي يف �أمر هذا املال‪،‬‬
‫علي ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬ف�أ�شار عليه ب�أن يق�سم يف كل عام ما يجتمع له‬ ‫ف�أما ّ‬
‫من املال وال مي�سك منه �شيئ ًا‪ .‬ومعنى ذلك �أنه كان يرى �أن ي�سري عمر �سرية‬
‫�أبي بكر فيق�سم كل ما ي�صل �إليه ويرتك بيت املال فارغ ًا‪.‬‬
‫و�أما عثمان ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬فقال‪� :‬أرى ما ًال كثرياً ي�سع النا�س‪ ،‬و�إن مل‬

‫‪152‬‬
‫فيعرف من �أخذ ممن مل ي�أخذ‪ ،‬خ�شيت �أن ينت�رش الأمر‪ .‬ومعنى ذلك‬ ‫يح�صوا ُ‬
‫�أن عثمان �أراد �أن ينظم تق�سيم املال بحيث ال ي�أخذ بع�ض النا�س ويحرم‬
‫بع�ضهم‪ .‬وما �أرى �أن عثمان كان يريد �أن مي�سك عمر يف بيت املال قلي ًال‬
‫�أو كثرياً‪ ،‬و�إمنا كان يريد �أن يق�سم املال بني النا�س على نحو ال يوفر املال‬
‫لبع�ضهم‪ ،‬ويق�رص عن بع�ضهم الآخر‪.‬‬
‫وقد كان يف ر�أي عثمان �شيء من الدقة واجلدة مع ًا‪ ،‬ف�إح�صاء النا�س‬
‫يف نف�سه لون من النظام مل يعرفه العرب من قبل‪ ،‬وهو بعد ذلك جدير �أن‬
‫ميكن �أمري امل�ؤمنني من �أن ي�ضع املال يف حقه ويطمئن �إىل �أنه مل مينعه‬
‫�أحد من النا�س‪.‬‬
‫ولكن رج ًال من قري�ش‪ ،‬ومن ذوي قرابة عمر‪ ،‬وهو الوليد بن ه�شام بن‬
‫املغرية �أ�شار بالر�أي ال�صواب ح ّق ًا‪ ،‬وكان ر�أيه �أول تقليد لغري العرب‪ ،‬فقد‬
‫قال لعمر‪� :‬إين قد جئت ال�شام فر�أيت ملوكه قد دو ّنوا ديوان ًا‪ ،‬وجندوا جنوداً‬
‫فدون ديوان ًا‪ ،‬وجند جنوداً‪ .‬وقد �أخذ عمر بر�أي الوليد بن ه�شام فكلف ثالثة‬ ‫ّ‬
‫من قري�ش هم‪ :‬عقيل بن �أبي طالب‪ ،‬وحمزمة بن نوفل‪ ،‬وجبري بن مطعم‪،‬‬
‫وكانوا من ُن�ساب قري�ش‪� ،‬أن يكتبوا النا�س على قبائلهم‪ ،‬و�أن يبد�أوا ببني‬
‫ها�شم لقرابتهم من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬
‫ومعنى الر�أي الذي �أ�شار �إليه الوليد بن ه�شام �أال يق�سم املال على النا�س‬
‫لغري غر�ض معروف‪ ،‬و�إمنا ينفق لغر�ض جدير �أن ينفق فيه‪ .‬وهذا الغر�ض‬
‫هو جتنيد اجلنود‪ .‬ف�إذا جند اجلنود وجب على �أمري امل�ؤمنني �أن يعطيهم‬
‫�أعطياتهم من هذا املال و�أن يرتك لهم حقهم من الغنيمة بعد ذلك‪ .‬واجلنود‬
‫مل يكونوا يعي�شون قبل جتنيدهم منفردين‪ ،‬و�إمنا كانوا يعي�شون يف �أ�رسهم‪،‬‬
‫لهم �أبنا�ؤهم و�آبا�ؤهم و�إخوتهم‪ ،‬والبد من �أن ميكن ه�ؤالء الذين تركهم‬
‫اجلنود للجهاد يف �سبيل اهلل يف احلياة‪ ،‬فلهم �إذن حقهم يف العطاء‪ .‬ف�إذا‬
‫�أعطي اجلند‪ ،‬و�أعطيت �أ�رسهم‪ ،‬و�أعطي الذين يحتاجون �إىل املال ما يقوم‬
‫بحاجاتهم وبقي بعد ذلك �شيء عند اخلليفة‪ ،‬فيجب عليه �أن مي�سكه يف‬
‫بيت املال ُعدة ملا يحدث من الأحداث‪ ،‬وملا قد يحتاج �إليه امل�سلمون من‬
‫املعونة يف �أوقات ال�شدة وال�ضيق‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫فاقرتاح الوليد بن ه�شام �إذن ال ينظم ق�سمة املال فح�سب‪ ،‬و�إمنا يجعل‬
‫فيه للجند ح ّق ًا �إىل ما يكت�سبون ب�أنف�سهم من الغنائم‪ ،‬ويقوم ب�أمر �أ�رسهم‪،‬‬
‫ويغني من احتاج من امل�سلمني‪ ،‬ويدخر يف بيت املال ما يكون ُعدة‬
‫للأحداث حني حتدث‪ ،‬وللنوائب حني تنوب‪.‬‬
‫وكان تنظيم عمر للعطاء بعد �أن كتب له الديوان ال يخلو من طرافة‪،‬‬
‫ي�سو بني النا�س يف �أعطياتهم و�إمنا جعلهم طبقات‪ ،‬و�أنزل كل طبقة‬ ‫مل ِّ‬
‫منزلتها‪ .‬وقد لوحظ �شيء من هذا فيما �أ�صدر من �أمر �إىل كتاب الديوان‬
‫ب�أن يبد�أوا ببني ها�شم‪ ،‬ثم بالأقرب فالأقرب من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪ .‬وقد ر�أيت �آنف ًا ما فعل حني جعل ُكتاب الديوان بني تيم رهط �أبي بكر‬
‫عدي رهط عمر يف �إثر بني تيم‪ ،‬ف�أبى عمر وقال‬ ‫يف �إثر بني ها�شم‪ ،‬وبني ّ‬
‫�ضعوا عمر حيث و�ضعه اهلل‪.‬‬
‫ومن املحقق فيما �أرى �أنه مل ي�ؤخر نف�سه وقومه فح�سب‪ ،‬و�إمنا �آخر بني‬
‫تيم رهط �أبي بكر �أي�ض ًا �إىل مو�ضعهم من قرابة النبي‪ ،‬على �أنه يف تنظيم‬
‫العطاء نظر �إىل القرابة من ر�سول اهلل بالقيا�س �إىل بع�ض النا�س فف�ضل‬
‫�أقرب النا�س �إىل النبي على �سائر بني ها�شم‪ .‬ثم رتب النا�س يف العطاء‬
‫على قدمهم و�سابقتهم يف الإ�سالم‪ ،‬وعلى بالئهم يف الإ�سالم �أي�ض ًا‪ ،‬وعلى‬
‫قراءتهم للقر�آن‪ ،‬ففر�ض للذين هاجروا قبل فتح مكة ثالثة �آالف لكل واحد‬
‫منهم‪� :‬أحرارهم وعتقائهم‪ ،‬وفر�ض للذين �شهدوا بدراً خم�سة �آالف درهم يف‬
‫العام‪ ،‬وللذين هاجروا �إىل احلب�شة والذين �شهدوا �أُحد �أربعة �آالف‪ ،‬و�شهد‬
‫لأحداث من �أبناء املهاجرين والبدريني ثالثة �آالف �إال احل�سن واحل�سني‬
‫رحمهما اهلل‪ ،‬ففر�ض لهما مثل ما فر�ض لأبيهما خم�سة �آالف لكل واحد‬
‫منهما‪ .‬وف�ضل �أ�سامة بن زيد على �أترابه من �أبناء املهاجرين‪ ،‬ففر�ض له‬
‫�أربعة �آالف‪ .‬وقد كلمه يف ذلك ابنه عبداهلل فقال‪ :‬فر�ضت يل ثالثة �آالف‬
‫ولأ�سامة بن زيد �أربعة �آالف؟ فقال عمر‪ :‬ف�ضلته لأنه كان �أحب �إىل ر�سول‬
‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم منك‪ ،‬ولأن �أباه كان �أحب �إىل ر�سول اهلل من �أبيك‪.‬‬
‫وفر�ض لعمر بن �أبي �سلمة �أربعة �آالف‪ ،‬فعار�ض يف ذلك حممد بن عبداهلل‬

‫‪154‬‬
‫بن جح�ش وقال‪ :‬مل تف�ضل ابن �أبي �سلمة علينا‪ ،‬وقد هاجر �آبا�ؤنا و�شهدوا‬
‫امل�شاهد؟ فقال عمر‪� :‬أف�ضله ملكانه من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فلي�أت‬
‫الذي ي�ستعتب ب�أم مثل �أم �سلمة �أعتبه‪ ،‬وف�ضل العبا�س بن عبداملطلب‪،‬‬
‫ففر�ض له خم�سة �آالف درهم‪ ،‬وف�ضل �أزواج النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‬
‫على النا�س جميع ًا‪ ،‬ففر�ض لكل واحدة منهن اثني ع�رش �ألف درهم‪ .‬ثم‬
‫�أنزل النا�س بعد ذلك منازل‪ ،‬ففر�ض لكثري منهم �ألفني وخم�سمئة‪ ،‬ولآخرين‬
‫�ألفني �ألفني‪.‬‬
‫ثم جعل ينزل النا�س منازلهم حتى كان �آخر عطاء فر�ضه ثلثمئة درهم‪،‬‬
‫مل ينق�ص �أحداً من هذا‪ .‬وفر�ض لكل طفل فطيم مئة درهم‪ ،‬ف�إذا ترعرع زاد‬
‫عطاءه �إىل مئتني ف�إذا بلغ و�ضعه يف منزلة �أمثاله‪ .‬على �أنه غيرّ نظام‬
‫العطاء بالقيا�س �إىل الأطفال حني ر�أى امر�أة تعجل ابنها عن الفطام‪،‬‬
‫فروعه ذلك ترويع ًا �شديداً‪ ،‬حتى �صلى �صالة ال�صبح غداة تلك الليلة التي‬
‫ر�أى فيها هذه املر�أة وطفلها‪ ،‬وما ي�ستبني �صوته من البكاء‪ .‬فلما فرغ من‬
‫�صالته قال‪ :‬يا ب�ؤ�سي لعمر! كم قتل من �أبناء امل�سلمني‪ .‬ثم �أمر املنادين‬
‫فنادوا يف النا�س �أال ال ُتعجلوا �أبناءكم عن الفطام ف�إنا نفر�ض لكل مولود‬
‫يف الإ�سالم‪ .‬وكتب بذلك �إىل عماله يف الأقاليم‪ .‬ومعنى ذلك �أن الطفل كان‬
‫وليه عطاءه منذ يولد وال ينتظر به الفطام‪ .‬وجعل للقيط مئة درهم‪،‬‬ ‫ي�أخذ ُّ‬
‫ي�أخذها وليه ويدخرها له‪ ،‬وجعل ر�ضاعه ورزقه من بيت املال‪ ،‬ي�صيب‬
‫وليه حق ذلك يف كل �شهر‪ .‬ف�إذا ترعرع اللقيط زيد عطا�ؤه‪ ،‬وكان �ش�أنه �ش�أن‬‫ُّ‬
‫�أطفال امل�سلمني‪.‬‬
‫وقد فر�ض عمر لن�ساء �أرامل عطاء‪ ،‬فجعل ل�صفية بنت عبداملطلب‬
‫�ألف درهم‪ ،‬ولأ�سماء بنت عمي�س زوج �أبي بكر �ألف درهم‪ ،‬ولأم عبداهلل بن‬
‫م�سعود �ألف درهم‪.‬‬
‫وكان عمر يعطي النا�س �أعطياتهم بنف�سه يف املدينة‪ ،‬وكان يحمل‬
‫ديوان القبائل القريبة من املدينة والبعيدة عنها قلي ًال في�سعى به �إليها‪،‬‬
‫ويعطي النا�س ويعطي الن�ساء �أعطياتهن يف �أيديهن‪ ،‬وي�أمر عماله �أن يعطوا‬

‫‪155‬‬
‫النا�س على النظام الذي و�ضعه‪ ،‬ال مينع العطاء �إال عن الأرقاء الذين مل‬
‫يعتقوا‪ ،‬و�أي رقيق ُحرر فعطا�ؤه كعطاء مواله‪.‬‬
‫هذا هو النظام الذي فر�ضه عمر للعطاء‪ ،‬رواه الرواة على نحو ما‬
‫�صورناه لك‪ .‬وال �أ�شك يف �أنه يحتاج �إىل بع�ض التحقيق‪ ،‬ولكن الن�صو�ص‬
‫تعوزنا مع الأ�سف ال�شديد‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫‪10‬‬

‫ونظام العطاء هذا كما فر�ضه عمر جديد من جميع نواحيه‪ ،‬ال نعرف �أن‬
‫�أمة من الأمم التي �سبقت العرب �إىل احل�ضارة عرفته �أو عرفت �شيئ ًا قريب ًا منه‪،‬‬
‫و�إمنا نعرف �أن بع�ض الأمم القدمية كانت ت�ست�أجر اجلنود للحرب وال حترمهم‬
‫ن�صيب ًا من الغنائم قلي ًال �أو كثرياً‪ ،‬ونعرف �أن بع�ض احلكومات القدمية كانت‬
‫تقطع اجلنود �أجزاء من الأر�ض �إذا تقدمت بهم ال�سن يعي�شون من غالتها‪ ،‬ف�أما‬
‫�أن تكفل الدولة رزق امل�سلمني جميع ًا على هذا النحو فل�سنا نعرفه يف التاريخ‬
‫القدمي‪ ،‬وما �أظن �أن احل�ضارة احلديثة ُوفقت �إليه‪.‬‬
‫وكل ما و�صلت �إليه احل�ضارة احلديثة يف بع�ض البالد‪ ،‬وو�صلت �إليه‬
‫ب�أخرة‪� ،‬إمنا هو الت�أمني االجتماعي الذي ت�ؤخذ نفقاته من النا�س لرتد عليهم‬
‫بعد ذلك‪ ،‬حني يحتاجون يف بع�ض الأمر �إىل العالج حني مير�ضون‪ ،‬و�إىل‬
‫كفالة احلياة لل�شيوخ وال�ضعفاء والعاجزين عن العمل لك�سب القوت‪ ،‬وت�أمني‬
‫العمال من �أخطار العمل‪ ،‬وت�أمني الذين يخدمون الدولة والهيئة االجتماعية‬
‫على رزقهم حني تنق�ضي خدمتهم‪ ،‬ف�أما �أن يكون لكل فرد من �أفراد الأمة‬
‫ن�صيب مق�سوم من خزانة الدولة ف�شيء مل يعرف �إال منذ عمر رحمه اهلل‪ .‬على‬

‫‪157‬‬
‫�أن �سيا�سة عمر هذه مل تت�صل بعد وفاته �إال �شطراً من حياة عثمان‪ ،‬ثم عدل‬
‫عن هذا النظام حني �أنكر النا�س على عثمان كرثة ما كان يعطي لبع�ض‬
‫النا�س‪ ،‬وقد دفعهم ذلك �إىل �أن يلحوا على عثمان رحمه اهلل يف �إلغاء العطاء‬
‫وق�رصه على اجلند‪ ،‬ومل ي�ستثنوا من ذلك �إال ال�شيوخ من �أ�صحاب النبي �صلى‬
‫اهلل عليه و�سلم‪ .‬وذلك وا�ضح‪ ،‬لأن �أ�صحاب النبي �شهدوا امل�شاهد معه‪ ،‬وقاتلوا‬
‫املرتدين‪ ،‬و�شارك كثري منهم يف الفتوح‪ .‬وقد ا�ضطر عثمان �إىل �أن ي�ستجيب‬
‫للمعار�ضني‪ ،‬ويعلن يف بع�ض خطبه �إلغاء العطاء لغري �أ�صحاب النبي �صلى‬
‫اهلل عليه و�سلم واجلند‪ .‬وكان الذين اعرت�ضوا على عثمان يقولون حني �أحلوا‬
‫عليه‪� :‬إمنا هذا املال ملن قاتل عليه‪ .‬وقد ف�صلنا ذلك يف غري هذا احلديث‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫‪11‬‬

‫على �أن احل�ضارة احلديثة �أتاحت لبع�ض الأمم �أن جتعل الدولة للأطفال‬
‫فيها رزق ًا منذ يولدون‪ ،‬وذلك حني يقل عدد املواليد وتتعر�ض الأمة للنق�صان‬
‫وال�ضعف عن الدفاع �إذا دهمتها اخلطوب‪ .‬فالدولة ال ترزق الأطفال لأن رزقهم‬
‫واجب‪ ،‬و�إمنا ترزقهم وت�شجع النا�س على الإكثار من الولد لأنها حمتاجة‬
‫�إىل ال�شباب الذين ينه�ضون باخلدمة العامة يف فروع احلياة على اختالفها‪،‬‬
‫ويدافعون عن الوطن حني يتعر�ض للخطر‪ ،‬وال كذلك ما فعل عمر رحمه اهلل‪،‬‬
‫�إمنا فر�ض العطاء للأطفال‪ ،‬لأنه كان يرى ذلك ح ّق ًا لهم‪.‬‬
‫ظن �أول الأمر �أن حقهم يبد�أ منذ يفطمون‪ ،‬فلما ر�أى �أن بع�ض النا�س‬
‫يعجلون فطام �أطفالهم �آذاه ذلك �أ�شد الإيذاء‪ ،‬و�أفزعه �أعظم الفزع‪ ،‬ففر�ض‬
‫للأطفال عطاءهم منذ يولدون‪ ،‬كما قدمنا �آنف ًا‪.‬‬
‫ونظام اللقطاء عند عمر طريف �أي�ض ًا‪ ،‬وما �أعرف �أن الدول احلديثة تعنى‬
‫بهم على نحو ما كان يعنى بهم عمر رحمه اهلل‪ ،‬و�إمنا تقوم ب�أمرهم جماعات‬
‫منظمة‪ ،‬بع�ضها دينية‪ ،‬وبع�ضها حرة تعينها الدولة‪ .‬ومل تعرف الدول احلديثة‬
‫املتح�رضة �أن له�ؤالء اللقطاء ح ّق ًا معلوم ًا من خزانة الدولة‪ ،‬ينفق عليهم‬

‫‪159‬‬
‫بع�ضه ويدخر لهم بع�ضه الآخر‪ ،‬حتى �إذا ر�شدوا وجدوا �أمامهم �شيئ ًا يتكئون‬
‫عليه‪ ،‬كما كان عمر يقول ذلك‪� ،‬إىل ما كان يفر�ض لهم من العطاء حني‬
‫ير�شدون‪.‬‬
‫ولذلك ابتكر عمر لون ًا من النظام االجتماعي قوامه ت�أمني النا�س على‬
‫حياتهم من بيت املال‪ ،‬وكان عمر ي�ؤمن �إميان ًا قوي ًا ب�أنه ال يعطي النا�س‬
‫هذه الأعطيات تربع ًا منه لهم �أو تف�ض ًال منه عليهم‪ ،‬و�إمنا كان يرى �أن لهم‬
‫حق ًا من كل ما يجبى �إىل بيت املال‪� ،‬سواء �أقل هذا احلق �أم كرث‪ .‬وكان يقول‪:‬‬
‫والذي نف�سي بيده ما من واحد من امل�سلمني �إال وله يف هذا املال حقه �أعطيه‬
‫�أو ُمنعه‪ .‬وكان يقول كذلك‪ :‬واهلل لئن ع�شت لي�أتني الراعي حقه من هذا املال‬
‫يحمر وجهه يف طلبه‪ .‬يريد �أنه كان حري�ص ًا على �أن ي�صل العطاء �إىل‬ ‫ّ‬ ‫قبل �أن‬
‫�أ�صحابه‪ ،‬ومن قرب منهم ومن بعد‪ ،‬دون �أن ي�سعوا �إليه ليطلبوه‪ ،‬ف�ض ًال عن �أن‬
‫يتكلفوا اجلهد يف هذا ال�سعي‪.‬‬
‫ومن النا�س من ظن �أن عمر حني �أنزل النا�س منازلهم من العطاء ف�أكرث‬
‫عطاء بع�ضهم و�أقل عطاء بع�ضهم الآخر وجعل حقهم يف بيت املال درجات‬
‫بع�ضها فوق بع�ض‪� ،‬أنه كان ي�ؤثر نظام الطبقات‪ .‬وهذا خط�أ كل اخلط�أ‪ ،‬فلم‬
‫يكن عمر ي�ؤثر نظام الطبقات‪ ،‬وال يف�ضل بع�ض النا�س على بع�ض‪ ،‬ولو قد‬
‫فعل خلالف عن نظام الإ�سالم خالف ًا �شنيع ًا‪ ،‬وقد كان عمر �آخر من يجر�ؤ على‬
‫املخالفة عن �أمر اهلل الذي جعل النا�س �سواء ال يتفا�ضلون �إال بالتقوى‪ ،‬والذي‬
‫كان ينت�صف من الغني للفقري‪ ،‬ومن القوي لل�ضعيف‪ ،‬ومن �أقل النا�س خطراً‬
‫من العمال والأمراء‪ ،‬لي�س هو الذي يقال فيه �إنه كان ي�ؤثر نظام الطبقات‪.‬‬
‫ولكن ما كان يرد �إىل بيت املال من اخلراج واجلزية والأخما�س كان �أقل من‬
‫�أن ي�سع امل�سلمني كلهم على �سواء‪ ،‬فكان يف�ضل بع�ضهم على بع�ض بالقدم‬
‫يف الإ�سالم وبال�سابقة وح�سن البالء‪ ،‬وكان يف�ضل قرابة النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم‪ ،‬لأنه كانه ي�ؤمن �إميان ًا عميق ًا ب�أن العرب �إمنا �رشفت بالنبي‪،‬‬
‫وب�أن �أقاربه الأدنني �أحق بالف�ضيلة من غريهم‪ ،‬وكان يقدم الذين �آ�سوا ر�سول‬
‫اهلل ب�أنف�سهم و�شاركوه فيما لقي من ال�شدة واجلهد وال�ضيق‪ ،‬وقاتلوا �أعداءه‬
‫و�أعداء الإ�سالم‪ ،‬على الذين كادوا للنبي وقاتلوه ومل ي�ستجيبوا للإ�سالم �إال‬

‫‪160‬‬
‫كارهني‪ ،‬حني مل يكن لهم من اال�ستجابة بد‪ .‬وكان مع ذلك يقول‪ :‬لئن كرث‬
‫املال لأزيدن النا�س يف العطاء‪ ،‬وكان يقول �أي�ض ًا‪ :‬لئن كرث املال لأحلقن �آخر‬
‫النا�س ب�أولهم‪ .‬وكان يريد �أن يجعل لكل م�سلم �أربعة �آالف درهم‪� ،‬ألف ًا لفر�سه‬
‫وبغله‪ ،‬و�ألف ًا ل�سالحه‪ ،‬و�ألف ًا لأهله‪ ،‬و�ألف ًا لنفقته‪ .‬ولكن املوت �أعجله عن ذلك‪.‬‬
‫عداً‪ ،‬ف�إن �أعياين لأكيل ّنه لهم كي ًال‪ ،‬ف�إن‬
‫أعدنه لهم ّ‬
‫وكان يقول‪ :‬لئن زاد املال ل ّ‬
‫�أعياين لأح�سو ّنه لهم بغري ح�ساب‪.‬‬
‫وما كان لعمر �أن ي�سوي يف العطاء بني من قاتل على الإ�سالم نا�رشاً له‬
‫ومدافع ًا عنه‪ ،‬ومن �أقام هادئ ًا يف عافية ال يقاتل وال يتعر�ض خلطر‪ .‬وما كان‬
‫له �أن ي�سوي بني من عا�رش النبي و�أبلى معه يف �سبيل اهلل وبني من مل يلق‬
‫النبي و�إمنا �أ�سلم ب�أخرة �أو �أ�سلم بعد وفاة النبي‪ ،‬وما كان له كذلك �أن ي�سوي‬
‫بني الذين �أقاموا على �إ�سالمهم مل يخالفوا عنه ومل يخرجوا منه وبني الذين‬
‫�أ�سلموا ثم كفروا ثم عادوا �إىل الإ�سالم بقوة ال�سيف وال�سنان‪.‬‬
‫كل ذلك مل يكن عمر ي�ستطيعه‪ ،‬واملال �أقل من �أن ي�سع النا�س جميع ًا على‬
‫ال�سواء‪ .‬وما �أراه كان يفعله لو كرث املال‪� ،‬إمنا كان يريد �أن يجعل النا�س‬
‫�سواء دون �أن ينزل ب�أ�صحاب ال�سابقة والبالء عن منازلهم‪ .‬كان يرى متييز‬
‫ه�ؤالء حق ًا عليه لأنهم �أتقى النا�س و�أئمتهم ومعلموهم‪ ،‬عنهم ي�ؤخذ الدين‪،‬‬
‫وب�سريتهم يقتدي عامة النا�س‪ .‬وحياة ه�ؤالء الأئمة من �أ�صحاب النبي �صلى‬
‫اهلل عليه و�سلم حمدودة ب�آجالهم‪ ،‬ف�إذا اختارهم اهلل جلواره متت امل�ساواة‬
‫بني النا�س ومل مييز �أحد من �أحد‪ ،‬ومل يف�ضل �إن�سان على �إن�سان‪ .‬ذلك كله‬
‫لو حافظ اخللفاء بعد عمر على �سيا�سته وعلى النظام الذي و�ضعه‪ ،‬فكيف‬
‫ومل ينق�ض على وفاة عمر �إال قليل من الوقت حتى ظهرت الأثرة‪ ،‬وا�ستبق‬
‫النا�س �إىل الغني‪ ،‬وف�ضل بع�ضهم على بع�ض يف منازلهم من اخللفاء‪ ،‬ور�أى‬
‫اخللفاء �أن من حقهم �أن ي�أخذوا من بيت املال ما �شاءوا‪ ،‬ي�ؤثرون به �أنف�سهم‬
‫ويحبون به �أحب النا�س �إليهم‪ .‬وقد �أنكر �شيء من ذلك على عثمان نف�سه رحمه‬
‫اهلل‪� ،‬أعطى مروان بن احلكم مرة ف�أ�رسف‪ ،‬وبلغ ذلك عبدالرحمن بن عوف فلم‬
‫يقره‪ ،‬و�إمنا وثب ف�أخذ هذا املال من مروان وق�سمه بني الفقراء يف املدينة‪.‬‬
‫فلما جاء معاوية ظن �أنه خليفة اهلل يف الأر�ض‪ ،‬و�أن مال اهلل ماله ي�صنع به‬

‫‪161‬‬
‫علي ًا ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬باملال‪ ،‬فكان‬
‫ما ي�شاء‪ ،‬وي�ضعه حيث �أحب وقد حارب ّ‬
‫ي�شرتي بع�ض �أ�صحابه باجلوائز ال�ضخمة‪ .‬ومعاوية لقد لقي النبي و�صحبه‬
‫فكيف مبن جاء بعده من اخللفاء الذين مل يلقوا النبي ومل ي�صحبوه‪� .‬أولئك‬
‫هم الذين ميزوا بع�ض النا�س من بع�ض‪ ،‬وف�ضلوا بع�ض النا�س على بع�ض‪،‬‬
‫وجعلوا النا�س طبقات‪ .‬ف�أما عمر فلم يفكر يف �شيء من ذلك ومل ميل �إليه‪،‬‬
‫كانت طبيعته ت�أبى عليه ذلك لأنه كان �أحر�ص النا�س على االقتداء بالنبي‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم ما ا�ستطاع �إىل االقتداء به �سبي ًال‪ ،‬وكان �أخوف النا�س‬
‫هلل و�أ�شدهم خ�شية حل�سابه‪ .‬وكان من �أجل ذلك يكرث �أن يقول‪ :‬وددت لو �أين‬
‫علي وال يل‪ .‬ف�أخذ �صفو الدنيا وترك كدرها‪ ،‬كما كان‬ ‫خرجت منها كفاف ًا ال ّ‬
‫يقول احل�سن الب�رصي رحمه اهلل‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫‪12‬‬

‫ومل يكتف عمر مبا فر�ض للم�سلمني من العطاء وما �ضمن لهم من الأمن‬
‫على حياتهم‪ .‬ولكن امل�سلمني مل يعرفوا يف ع�رص من ع�صورهم راعي ًا كان‬
‫�أرفق برعيته من عمر‪ ،‬فقد كان حري�ص ًا على �أال يكفل لهم الأمن وحده‪ ،‬و�إمنا‬
‫يكفل لهم مع ذلك الدعة والراحة ما ا�ستطاع �إىل ذلك �سبي ًال‪ .‬كان يعد اخليل‬
‫والإبل ليحمل عليها يف �سبيل اهلل‪ ،‬كان يحمل النا�س �إىل ال�شام و�إىل العراق‬
‫ليلحقوا باجلند‪� ،‬أو ليكت�سبوا حياتهم هناك‪ ،‬وكان يحمل احلاج �إىل مكة‪،‬‬
‫وكان �إذا �أراد �أن يحمل رج ًال على راحلة �أعد له �أداة �سفره‪ ،‬فلم يعطه الراحلة‬
‫وحدها و�إمنا �أعطاه كل ما يحتاج �إليه‪ .‬كان يفعل ذلك مما كان يبقى له‬
‫من �أموال ال�صدقة بعد �أن ُيرد �أكرثها على فقراء العرب‪ ،‬ومما كان يرد �إليه‬
‫من �أخما�س الغنائم‪� ،‬إنفاذاً لآية ال�صدقات من �سورة التوبة ولآية الغنائم من‬
‫�سورة الأنفال‪.‬‬
‫وكان ال يقف عند ذلك‪ ،‬و�إمنا كان يتفقد النا�س يف املدينة وما حولها‪،‬‬
‫ويقوم بحاجة ذوي احلاجات منهم‪ ،‬يفعل ذلك بنف�سه يف النهار ويف الليل‪،‬‬
‫وي�أمر عماله �أن يفعلوا ذلك‪ .‬ويخاف كل اخلوف �أن يق�رص العمال يف �إنفاذ‬

‫‪163‬‬
‫�أمره‪ .‬ومل يكن يخ�شى �شيئ ًا كما كان يخ�شى �أن يكون لأحد من �أهل الأم�صار‬
‫حاجة ال يقوم بها عماله‪ ،‬وال ي�ستطيع �صاحب احلاجة �أن ي�صل �إليه ليقوم‬
‫بها و�أن ي�س�أله اهلل عن ذلك‪ .‬وكان يقول‪ :‬لو �أن جم ًال هلك �ضياع ًا على �شاطئ‬
‫الفرات خل�شيت �أن ي�س�ألني اهلل عنه‪ .‬وكان �إذا �أ�صاب اجلرب بعرياً من �إبل‬
‫ال�صدقة و�ضع يده على مو�ضع الداء منه‪ ،‬وقال‪� :‬إين لأخ�شى �أن ي�س�ألني اهلل‬
‫عما بك‪ .‬وكان يعد �إبل ال�صدقة بنف�سه‪ ،‬ور�آه مرة من ر�آه وقد وقف يف حر‬
‫علي على‬ ‫ال�شم�س يعد هذه الإبل‪ ،‬ومعه علي وعثمان‪ ،‬يقول هو لعلي‪ ،‬وميلي ّ‬
‫عثمان‪ ،‬فيكتب عثمان ما ميلي عليه‪ .‬فقال علي لعثمان‪� :‬إن هذا لكما قالت‬
‫بنت �شعيب لأبيها يف مو�سى‪:‬‬
‫ا�س َت�أْ َج ْر َت ا ْل َقو ُِّي ا َلأ ِم ُ‬
‫ني»‪.‬‬ ‫«‪..‬يا �أَ َب ِت ْ‬
‫ا�س َت�أْجِ ْر ُه ِ�إ َّن َخيرْ َ َمنِ ْ‬ ‫َ‬
‫ع�س يف املدينة لي ًال‪ ،‬فكان �إذا تقدم الليل‬ ‫ويقول الرواة‪� :‬إن عمر �أول من ّ‬
‫فطوف يف املدينة مرة واحدة‪ ،‬ومرة مع �أحد مواليه‪ .‬وله يف هذا الع�س�س‬ ‫خرج ّ‬
‫طرائف تثري االبت�سام وتثري الإعجاب مع ًا‪ ،‬كان يع�س ليلة ف�سمع امر�أة تقول‪:‬‬
‫حجاج‬
‫هل من �سبيل �إىل خمر ف�أ�رشبها �أم هل �سبيل �إىل َن�رص بن ّ‬
‫فلما �أ�صبح �س�أل عن ن�رص بن حجاج ف�أنبئ ب�أنه رجل من �سليم‪ ،‬ف�أمر‬
‫ب�إح�ضاره‪ .‬فلما نظر �إليه ر�أى رج ًال من �أح�سن النا�س وجه ًا و�أجملهم �شعراً‪،‬‬
‫ف�أمره �أن يق�ص �شعره‪ .‬فلما عاد �إليه ر�آه قد ازداد ح�سن ًا‪ ،‬ف�أمره �أن يعتم‪ ،‬فلما‬
‫ر�آه بعد ذلك �إذا العمامة قد زادته جماالً‪ ،‬ف�أق�سم عمر ال ي�ساكنه هذا الرجل‬
‫جندي ًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫�أبداً‪ ،‬ف�أمر له مبا ي�صلحه و�سريه �إىل الب�رصة‬
‫وع�س ليلة �أخرى ف�سمع ن�سوة يتحدثن ويت�ساءلن‪� :‬أي �أهل املدينة �أ�صبح‪.‬‬
‫قالت �إحداهن‪� :‬أبوذئب‪ .‬فلما �أ�صبح �س�أل عن �أبي ذئب هذا‪ ،‬فقيل له‪ :‬رجل من‬
‫�سليم‪ .‬فدعا به‪ ،‬فلما ر�آه‪ ،‬ر�آه رج ًال جمي ًال فقال‪� :‬أنت ذئبهن؟ يعيدها ثالث ًا‪ .‬ثم‬
‫�أمره مبثل ما �أمر به �صاحبه‪ ،‬فلم يزدد �إال ح�سن ًا‪ ،‬ف�أق�سم ال ي�ساكنه يف بلد هو‬
‫به‪ .‬قال الرجل‪ :‬ف�إن كنت م�سريي ف�أحلقني بابن عمي‪ .‬يريد ابن ن�رص حجاج‪،‬‬
‫ف�أمر له مبا ي�صلحه‪ ،‬و�أحلقه بابن عمه يف الب�رصة‪.‬‬
‫وع�س ليلة �أخرى حتى كاد يبلغ ظاهر املدينة‪ ،‬فر�أى رج ًال قد جل�س منفرداً‬ ‫ّ‬
‫�أمام بيت له وبني يديه م�صباح‪ ،‬فا�ست�أذن عمر‪ ،‬ثم دنا من الرجل ف�سلم عليه‪،‬‬

‫‪164‬‬
‫ثم �س�أله‪ :‬ما جلو�سك ها هنا منفرداً وقد تقدم الليل؟ ثم مل يلبث عمر �أن �سمع‬
‫�شكاة داخل البيت‪ ،‬و�أنب�أه الرجل �أن امر�أته قد جاءها املخا�ض‪ ،‬و�أنها وحدها‪،‬‬
‫و�أنه ال يقدر لها على �شيء‪ .‬فان�رصف عمر عن الرجل م�رسع ًا حتى دخل على‬
‫زوجه �أم كلثوم فقال لها‪ :‬هل لك يف خري �ساقه اهلل �إليك؟ قالت‪ :‬وما ذاك؟ قال‪:‬‬
‫امر�أة جاءها املخا�ض ولي�س لها من يعينها‪ .‬ف�أ�رسعت زوجه فخرجت معه‪،‬‬
‫حتى �إذا بلغ ذلك الرجل‪ ،‬دخلت �أم كلثوم على املر�أة‪ ،‬فما زالت تعينها حتى‬
‫و�ضعت غالم ًا‪ .‬قالت �أم كلثوم؟ يا �أمري امل�ؤمنني‪ :‬ب�رش �صاحبك بغالم‪ .‬قال‬
‫مل مل تنبئني ب�أنك �أمري امل�ؤمنني؟ و�أ�صبح عمر ف�أر�سل �إىل‬‫الرجل‪� :‬أ�صلحك اهلل! َ‬
‫هذا الرجل و�أهله ما يعينهم وي�صلحهم‪.‬‬
‫وع�س ليلة �أخرى فر�أى رج ًال من �أهل املدينة جال�س ًا على �رشاب له‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فان�رصف عنه وقد عرفه‪ ،‬فلما �أ�صبح دعاه‪ ،‬فقال له‪� :‬ألي�س قد نهاك اهلل عن‬
‫اخلمر؟ قال الرجل‪ :‬بلى‪ .‬قال عمر‪ :‬فما �رشاب كنت جال�س ًا عليه البارحة؟ قال‬
‫الرجل‪ :‬من �أنب�أك بذلك؟ قال عمر‪� :‬أنا ر�أيتك‪ .‬قال الرجل‪� :‬أمل ينهك اهلل عن‬
‫التج�س�س يا �أمري امل�ؤمنني؟ ف�سكت عمر عنه وا�ستغفر اهلل‪.‬‬
‫ومل يكن عمر رفيق ًا بامل�سلمني يف املدينة وحدها‪ ،‬ولكنه كان رفيق ًا‬
‫بالقريب منه والبعيد عنه‪ ،‬حري�ص ًا على �أن يعرف �أمر امل�سلمني يف الأم�صار‪،‬‬
‫وال يقدم عليه قادم �إال �س�أله عن النا�س ف�أكرث ال�س�ؤال‪ .‬ثم مل يكن يكفيه‬
‫�أن يرفق بامل�سلمني يف حا�رضهم الذي يعي�شون فيه‪ ،‬و�إمنا كان يفكر يف‬
‫م�ستقبل �أيامهم وين�صح لهم يف �أمرهم كله بعد �أن يفارقهم �إىل جوار ربه‪.‬‬
‫قدم عليه يوم ًا خالد بن عرفطة من العراق‪ ،‬ف�س�أله عمن وراءه‪ .‬فقال‪ :‬يا �أمري‬
‫امل�ؤمنني تركت َمن ورائي ي�س�ألون اهلل �أن يزيد يف عمرك من �أعمارهم‪ ،‬ما‬
‫وطئ �أحد القاد�سية �إال عطا�ؤه �ألفان �أو خم�س ع�رشة مئة‪ ،‬وما من مولود يولد‬
‫�إال �أحلق على مئة وجريبني كل �شهر ذكراً كان �أو �أنثى‪ ،‬وما يبلغ لنا ذكر �إال‬
‫�أحلق على خم�سمئة �أو �ستمئة‪ ،‬ف�إذا خرج هذا لأهل بيت منهم من ي�أكل الطعام‬
‫ومنهم من ال ي�أكل الطعام‪ ،‬فما ظنك به‪ ،‬ف�إنه لينفقه فيما ينبغي وفيما ال‬
‫ينبغي‪ .‬قال عمر‪ :‬فاهلل امل�ستعان �إمنا هو حقهم �أعطوه‪ ،‬و�أنا �أ�سعد ب�أدائه �إليهم‬
‫منهم ب�أخذه‪ ،‬فال حتمدين عليه ف�إنه لو كان من مال اخلطاب ما �أعطيتموه‪،‬‬

‫‪165‬‬
‫ولكني قد علمت �أن فيه ف�ض ًال فال ينبغي �أن �أحب�سه عنهم‪ ،‬فلو �أنه �إذا خرج‬
‫عطاء �أحد ه�ؤالء العريب ابتاع منه غنم ًا فجعلها ب�سوادهم ثم �إذا خرج العطاء‬
‫الثانية ابتاع الر�أ�س فجعله فيها‪ ،‬ف�إين ويحك يا خالد بن عرفطة �أخاف عليكم‬
‫�أن يليكم بعدي وال ٌة ال يعد العطاء يف زمانهم ماالً‪ ،‬ف�إن بقي �أحد منهم �أو �أحد‬
‫من ولده كان لهم �شيء قد اعتقدوه فيتكئون عليه‪ ،‬ف�إن ن�صيحتي لك و�أنت‬
‫عندي جال�س كن�صيحتي ملن هو ب�أق�صى ثغر من ثغور امل�سلمني‪ ،‬وذلك ملا‬
‫غا�ش ًا‬
‫طوقني اهلل من �أمرهم‪ .‬قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪« :‬من مات ّ‬
‫لرعيته مل يرح رائحة اجلنة»‪.‬‬
‫وكان رفقه بالقريب والبعيد من امل�سلمني وفاء مبا �أعطى على نف�سه من‬
‫العهد يوم ويل اخلالفة‪ ،‬فقد �أنب�أ يف خطبته التي خطبها بعد �أن فرغ من دفن‬
‫�أبي بكر رحمه اهلل ب�أن ما ح�رضه من �أمر امل�سلمني با�رشه بنف�سه وال يبا�رشه‬
‫�أحد دونه‪ ،‬وما غاب عنه من �أمرهم واله �أهل الأمانة والكفاية‪ ،‬ف�إن �أح�سن‬
‫ه�ؤالء الوالة زادهم �إح�سان ًا و�إن �أ�ساءوا نكل بهم‪ .‬فلم يغري طول خالفته من‬
‫ذلك العهد �شيئ ًا‪.‬‬
‫وكتب يوم ًا �إىل بع�ض عماله‪� :‬أن �أعط النا�س �أعطياتهم‪ .‬فكتب �إليه عامله‬
‫ذاك‪� :‬إنا قد �أعطيناهم وبقي �شيء كثري‪ .‬فكتب �إليه عمر‪� :‬إن هذا الف�ضل الذي‬
‫بقي عندك �إمنا هو فيئهم الذي �أفاء اهلل عليهم لي�س هو لعمر‪ ،‬وال لآل عمر‪،‬‬
‫ف�أق�سمه بينهم‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫‪13‬‬

‫وهذا الرفق‪ ،‬وهذا احلر�ص على �أداء احلق �إىل �أهله‪ ،‬هما اللذان جعاله‬
‫�شديداً كل ال�شدة على والته‪ ،‬فكان ال يويل منهم �أحداً �إال كتب ماله قبل �أن‬
‫يذهب �إىل عمله‪ ،‬ف�إن ر�آه قد زاد على هذا املال قا�سمه هذه الزيادة‪ .‬وقد ر�أيت‬
‫ت�شديده يف ح�ساب خالد بن الوليد بعد عزله‪ .‬وقد قا�سم جماعة من والته‬
‫�أموالهم بعد عزلهم‪ ،‬وكان �شديد املراقبة لهم �أثناء واليتهم‪ .‬ومل تكن ت�أتيه‬
‫�شكوى من �أحد من الرعية �إال حققها‪.‬‬
‫وكان ير�سل بع�ض �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم لتحقيق ما يبلغه‬
‫من �شكاة النا�س‪� ،‬أر�سل حممد بن م�سلمة ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬و�أمره بالتفتي�ش‬
‫الدقيق على عمرو بن العا�ص يف م�رص‪ ،‬و�أر�سله �إىل الكوفة حني بلغه �أن واليها‬
‫�سعد بن �أبي وقا�ص ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬قد اتخذ لدار الإمارة باب ًا‪ ،‬وكان عمر‬
‫بتقدم �إىل عماله دائم ًا يف �أال يتخذوا �أبواب ًا لدورهم متنع النا�س من الدخول‬
‫�إليهم يف حاجاتهم‪ ،‬فلما بلغه �أن �سعداً قد اتخذ لق�رص الإمارة باب ًا يريحه من‬
‫�ضو�ضاء ال�سوق �أر�سل حممد بن م�سلمة‪ ،‬و�أمره �إذا بلغ الكوفة �أن يعمد �إىل هذا‬
‫الباب فيحرقه قبل �أن يكلم �سعداً �أو ي�سمع منه‪ ،‬ففعل ذلك ابن م�سلمة‪ .‬وزعم‬

‫‪167‬‬
‫الرواة �أن �سعداً �أراد �أن يعطي ابن م�سلمة �شيئ ًا من مال ف�أبى عليه‪ ،‬وعاد �إىل‬
‫عمر ف�أنب�أه مبا فعل‪ .‬و�شكا بع�ض النا�س من �سعد وغلوا يف �شكواهم‪ ،‬ف�أر�سل‬
‫حممد بن م�سلمة مرة �أخرى‪ ،‬و�أمره �أن ي�س�أل النا�س م�ستق�صي ًا عن �سرية �سعد‬
‫فيهم‪ .‬فذهب حممد بن م�سلمة �إىل الكوفة ف�س�أل النا�س �أفراداً وجماعات‪ ،‬فلم‬
‫ي�سمع �إال ثناء على �سعد‪� ،‬إال نفراً زعموا �أنه ال يح�سن ي�صلي‪ .‬فعزله عمر‪ .‬فلما‬
‫بلغ املدينة �س�أله عمر‪ :‬كيف كنت ت�صلي؟ قال �سعد‪ :‬كنت �أطيل يف الأوليني‬
‫و�أق�رص يف الأخريني‪ ،‬قال عمر‪ :‬ذلك الظن بك يا �أبا �إ�سحاق‪ .‬وقا�سمه ماله‬
‫مع ذلك‪ .‬فلما ُطعن �أو�صى اخلليفة من بعده �أن يويل �سعداً‪ ،‬ف�إنه مل يعزله عن‬
‫عجز وال عن خيانة‪.‬‬
‫وكان ال ميل من �أن يقول لأهل املدينة وملن ورد عليه من �أهل الأم�صار‪:‬‬
‫�إين مل �أر�سل عمايل لي�رضبوا �أب�شار النا�س وال ليظلموهم‪ ،‬و�إمنا �أر�سلتهم‬
‫ليعلموا النا�س دينهم و�سنة نبيهم‪ ،‬ويق�سموا بينهم فيئهم‪ ،‬ويقيموا �أمرهم‬
‫كله على العدل‪ .‬وكان كثرياً ما يتقدم �إىل عماله يف �أال ي�رضبوا امل�سلمني‬
‫فيذلوهم‪ ،‬وال يحرموهم فيكفروهم‪ ،‬وال ينزلوهم الغيا�ض في�ضيعوهم‪ .‬وكان‬
‫ال يرى �أحداً من بع�ض جيو�شه �إال �س�أله عن �أمره كله‪ ،‬وعن �أمر اجلند وعن‬
‫�سرية قوادهم فيهم‪ .‬وكان يكره �أن يطيل العرب مقامهم فيما يفتح عليهم من‬
‫املدن‪ ،‬خمافة �أن يت�أثروا بهذه احلياة احل�رضية التي مل ي�ألفوها‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫‪14‬‬

‫ور�أى بع�ض �أفراد اجلي�ش الذي فتحت عليه املدائن‪ ،‬فالحظ تغري �ألوانهم‪،‬‬
‫ف�س�ألهم عما غري �ألوانهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬وخامة البالد وطعام مل ن�ألفه‪ .‬فكتب �إىل‬
‫بري ًا‬
‫�سعد‪� :‬إن العرب ال ت�صلح �إال على ما ت�صلح عليه �إبلها‪ ،‬فارتد لهم مكان ًا ّ‬
‫ف�أنزلهم به‪.‬‬
‫فيقول الرواة‪� :‬إن �سعداً �أر�سل من يرتاد له �أر�ضا على ما و�صف عمر‪.‬‬
‫فجاءه رواده وقد اختاروا له املكان الذي بنيت فيه مدينة الكوفة‪.‬‬
‫ومبثل ما �أمر �سعداً �أمر عتبة بن غزوان‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬فاختار له املكان‬
‫الذي بنيت فيه مدينة الب�رصة‪ ،‬و�أنزل جنود امل�سلمني املحاربني للفر�س‬
‫يف هاتني املدينتني‪ ،‬على �أن تكونا مع�سكرين للم�سلمني يقيم كل جند يف‬
‫مع�سكره‪ ،‬وتخرج من هذا املع�سكر بعوث حلرب العدو‪ ،‬ونظم �أمر هذه البعوث‬
‫تنظيم ًا دقيق ًا‪ ،‬فكانت اجلنود ال جتمر‪ ،‬والتجمري‪ ،‬هو �أن يغيب اجلندي عن‬
‫مع�سكره �أكرث من �ستة �أ�شهر‪ .‬وكان هذا هو الذي حمل عمر على �أن ينظم‬
‫الأقاليم �أو الأم�صار بلغة ذلك الع�رص‪ ،‬فجعل دولته �أم�صاراً وهي‪ :‬الكوفة‬
‫والب�رصة وال�شام واجلزيرة واملو�صل وم�رص واليمن والبحرين‪ .‬وكان ير�سل‬

‫‪169‬‬
‫الوايل على كل م�رص ويق�سم الأم�صار الكبرية �إىل الكور فيكون �أمر امل�رص وما‬
‫فيه من الكور �إىل الوايل الذي �أر�سله ويكون �أمر الكور بكل م�رص �إىل واليه‪،‬‬
‫يختار لها العمال م�ستق ًال بذلك �أحيان ًا‪ ،‬وعن �أمر عمر �أحيان ًا �أخرى‪ .‬وكان‬
‫عمال الكور يقيمون الأحكام يف كورهم‪ ،‬ويجبون ما يفر�ض على �أر�ضها من‬
‫خراج‪ ،‬وما يفر�ض على الذميني من جزية‪ .‬وقد نظم عمر �أمر اجلزية تنظيما‬
‫دقيق ًا ال يخرج الوالة والعمال عنه‪ ،‬فجعل على كل غني من الذميني ثمانية‬
‫و�أربعني درهم ًا يف كل عام‪ ،‬وعلى الرجل من �أو�ساط النا�س �أربعة وع�رشين‬
‫درهم ًا‪ ،‬وعلى الفقري اثني ع�رش درهم ًا‪ .‬وقال‪ :‬ال يعجز الرجل منهم درهم يف‬
‫كل �شهر‪.‬‬
‫و�أكرب الظن �أنه �أجرى خراج الأر�ض على مثل ما كان يجري عليه يف عهد‬
‫الفر�س والروم قبل الفتح‪ .‬فكان عمال الكور يجبون هذه الأموال وير�سلونها‬
‫�إىل والة الأم�صار‪ ،‬كان والة الأم�صار يعطون منها النا�س �أعطياتهم‪ ،‬وينفقون‬
‫منها فيما ينوبهم‪ ،‬وير�سلون ما بقي �إىل عمر كما ير�سلون �إليه �أخما�س‬
‫الغنائم‪ ،‬ومن كل ما كان ي�صل �إىل عمر من هذه الأموال‪ ،‬ومما يبقى له من‬
‫�أموال ال�صدقة كان يعطي الأعطيات وينفق فيما ينوبه من �أمور امل�سلمني‪.‬‬
‫وعلى هذا النظام �أقام عمر نظام الدولة التي فتحت عليه‪ .‬وكان يجعل‬
‫�إىل جانب كل وال رج ًال �آخر يتوىل �أمر بيت املال يف امل�رص‪ ،‬فكان له �إذن‬
‫والة يقيمون للنا�س �صالتهم‪ ،‬ويعطونهم �أعطياتهم‪ ،‬ويدبرون لهم �أمورهم‪،‬‬
‫وعمال يقومون على بيت املال يتلقون ما يجبى يف الكور‪ ،‬ويعطون الوايل‬
‫ما ي�ؤدي منه �إىل النا�س �أعطياتهم‪ ،‬وما يحتاج �إليه من نفقة فيما ينوبه‪،‬‬
‫ثم ي�ؤدون �إىل عمر ما بقي من املال وح�ساب ما �أنفق منه‪ .‬فكان عمر �إذن‬
‫عامل ًا مبوارد الدولة وم�صادرها‪ ،‬ال يغيب عنه من �أمر هذا املال �شيء‪ .‬وكان‬
‫�أ�صحاب بيوت الأموال حرا�ص ًا �أ�شد احلر�ص على الدقة كل الدقة يف �أمر ما‬
‫عندهم من الأموال ويف �أداء ح�سابها �إىل �أمري امل�ؤمنني‪ ،‬بحيث ي�ستطيع عمر‬
‫�أن يقف على كل �شيء و�أن يحا�سب الوالة على ما �أنفقوا وعلى ما اكت�سبوا‪،‬‬
‫وكان على ذلك يحج بالنا�س يف كل مو�سم ما عدا ال�سنة الأوىل خلالفته‪ ،‬ف�إنه‬
‫وىل فيها عبدالرحمن بن عوف ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬احلج بالنا�س‪ .‬وكان �إذا خرج‬

‫‪170‬‬
‫للحج تقدم �إىل والته يف �أن يوافوه كل على ر�أ�س من يحج من م�رصه‪ ،‬فكان‬
‫ذلك يتيح لعمر �أن يلقى الوالة ويلقى وفود الرعية‪ ،‬في�س�أل الوالة عن رعيتهم‬
‫يق�ص �أفراد الرعية من الوالة �إذا ظلموهم �أو‬ ‫وي�س�أل الرعية عن والتهم‪ ،‬وكان ّ‬
‫أتق�ص من الوايل‬ ‫م�سوهم ب�أذى‪ .‬وقد كلمه عمرو بن العا�ص يف ذلك‪ .‬وقال له‪ّ � :‬‬
‫�إذا �أدب رج ًال من رعيته؟ قال عمر‪� :‬أجل‪ ،‬وما يل ال �أفعل وقد ر�أيت ر�سول اهلل‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم يق�ص من نف�سه‪.‬‬
‫يل‬
‫وكان كثرياً ما يقول للرعية‪� :‬أميا رجل م�سه عامله ب�أذى فلريفع ذلك �إ ّ‬
‫�أق�ص�صه من واليه‪.‬‬
‫وكذلك �أقام هذا الرجل العربي‪ ،‬الذي مل يعرف احل�ضارات الأجنبية‬
‫معرفة مف�صلة وال دقيقة‪ ،‬نظام الدولة على نحو يكفل منافع النا�س‪ ،‬ويكفل‬
‫لهم العدل والإن�صاف‪ ،‬مالئم ًا بني ما �أتيح له من الر�أي يف �ش�ؤون احلكم‬
‫للبالد الأجنبية املفتوحة وبني �أ�صول الإ�سالم‪ ،‬ال ينحرف عنها قيد �شعرة‪،‬‬
‫وال مي�س م�صالح النا�س قلي ًال وال كثرياً‪ .‬وكان حري�ص ًا �أ�شد احلر�ص و�أقواه‬
‫على �إن�صاف املغلوبني الذين مل يدخلوا يف الإ�سالم �إن�صاف ًا كام ًال‪ ،‬ي�أخذ‬
‫منهم اجلزية واخلراج بالق�سط واملعروف‪ ،‬ثم يلح على والته يف �إن�صافهم‬
‫دائم ًا مذكراً لهم ب�أنهم ذمة اهلل ور�سوله‪ ،‬قد �أعطاهم امل�سلمون عهداً �أن ي�ؤدوا‬
‫�إليهم العدل واحلق كله و�أن يحموهم من كل عاد عليهم �إذا �أدوا ما عليهم من‬
‫احلقوق‪.‬‬
‫واهلل عز وجل ي�أمر امل�سلمني �أن يفوا بالعهود �إذا عاهدوا‪ .‬فقال يف �سورة‬
‫النحل‪:‬‬
‫ان َب ْع َد َت ْو ِكي ِد َها َو َق ْد َج َع ْل ُت ُم‬
‫ي َ‬‫دت َو َال َتن ُق ُ�ضواْ الأَ مْ َ‬ ‫«و�أَ ْوفُواْ ب َِع ْه ِد َ هّ ِ‬
‫الل �إِ َذا َع َ‬
‫اه ُ مّ ْ‬ ‫َ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫الل َع َل ْي ُك ْم َك ِفي ًال �إ َ ِّن َ هّ َ‬
‫الل َي ْع َل ُم َما َتف َْع ُل َ‬ ‫َ هّ َ‬
‫ومل ين�س عمر الذميني حني �أو�صى امل�سلمني بعد �أن �أح�س املوت‪،‬‬
‫ف�أو�صاهم ب�أهل الذمة و�ألح يف و�صيتهم‪.‬‬
‫على �أن عمر مل يجعل �إىل الوالة وحدهم �إجراء العدل بني النا�س‪ ،‬و�إمنا‬
‫�أر�سل الق�ضاة �إىل الأم�صار ليجروا �أحكام اهلل بني النا�س‪ ،‬غري مت�أثرين �إال‬
‫ن�ص ًا اجتهدوا‬ ‫بكتاب اهلل و�سنة ر�سوله‪ ،‬ف�إن مل يجدوا يف الكتاب وال يف ال�سنة ّ‬

‫‪171‬‬
‫ر�أيهم وحتروا العدل ما ا�ستطاعوا �إىل ذلك �سبي ًال‪ .‬ومل يكن الق�ضاة يخ�ضعون‬
‫للوالة يف �شيء‪ .‬و�إمنا كان عمر هو الذي يختارهم‪ ،‬ف�إذا اختارهم وكلفهم �أمر‬
‫الق�ضاء فلي�س لأحد عليهم �سلطان �إال �سلطان اهلل عز وجل‪ ،‬مبقت�ضى ما �أوحى‬
‫�إىل نبيه من الكتاب وما �ألهمه من ال�سنن‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫‪15‬‬

‫و�أقبل عام الرمادة يف �أعقاب �سنة ثماين ع�رشة بعد �أن �صدر النا�س من‬
‫احلج‪ ،‬ف�أ�صاب العرب يف احلجاز وتهامة وجند جدب �شديد‪ ،‬وانقطع عنهم‬
‫الغيث وكان قوام حياتهم‪ ،‬وات�صل ذلك ت�سعة �أ�شهر‪ ،‬فا�سودت الأر�ض حتى‬
‫�صارت كالرماد‪ ،‬ف�سمي العام عام الرمادة من �أجل ذلك‪.‬‬
‫ويف هذه املحنة التي امتحن بها امل�سلمون ظهرت �شخ�صية عمر وا�ضحة‬
‫ك�أو�ضح ما تظهر ال�شخ�صيات‪ ،‬ظهر حزمه وم�ضا�ؤه‪ ،‬وظهر بنوع خا�ص‬
‫�صربه على الكوارث واحتماله لل�شدائد وقيامه على �أمور النا�س يف جد‪ .‬فقد‬
‫اهتم لأمر امل�سلمني ما و�سعه �أن يهتم به‪ ،‬و�شغل نف�سه بهذا الأمر نهاره وليله‪،‬‬
‫فح�رص تفكريه �أو كاد يح�رصه فيه‪.‬‬
‫كان يجد يف �أمر النا�س نهاره‪ ،‬ف�إذا �صلى الع�شاء الآخرة دخل بيته ف�صلى‬
‫ما �شاء اهلل له �أن ي�صلي ثم نام قلي ًال‪ ،‬ثم ا�ستيقظ قبل �آخر الليل‪ ،‬فخرج مي�شي‬
‫حتى ي�أتي منازل الأعراب حول املدينة‪ ،‬فيتفقد �أمر ه�ؤالء الأعراب الذين‬
‫�أقبلوا من كل وجه حني ا�شتد عليهم ال�ضيق فنزلوا حول املدينة يلتم�سون‬
‫الرزق‪.‬‬
‫وكان عمر يطوف يف منازلهم يف �آخر الليل‪ ،‬ف�إن �أح�س من �أهل بيت �شكاة‬

‫‪173‬‬
‫�أو �ضيق ًا باجلوع �أو الظم�أ �أو باحلاجة تعر�ض لهم و�أ�رسع �إىل �إ�صالح ما‬
‫يجدون‪ .‬وكثرياً ما كان يخرج ومعه موىل له وهما يحمالن الدقيق والزيت‪،‬‬
‫ف�إن �أح�س جوع ًا يف �أهل بيت �أعطاهم ما ي�صلحهم‪ ،‬ورمبا �صنع لهم طعامهم‬
‫بنف�سه‪ .‬ثم �إذا ق�ضى من ذلك �أرب ًا عاد ف�صلى �صالة الفجر‪ ،‬ثم جد يف �أمر‬
‫النا�س نهاره‪.‬‬
‫وقد ا�شتد اجلدب على النا�س ف�أر�سل �إىل عماله ي�ستعجلهم �إر�سال الطعام‬
‫والثياب‪ .‬ويقول بع�ض الرواة‪� :‬إنه كتب �إىل عمرو بن العا�ص مب�رص‪ .‬ويروون‬
‫ن�ص كتابه‪:‬‬
‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‪ .‬من عبداهلل عمر �أمري امل�ؤمنني �إىل العا�صي ابن‬
‫العا�صي‪:‬‬
‫�أما بعد‪ :‬فرتاين هالك ًا ومن قبلي وتعي�ش �أنت ومن قبلك‪ ،‬فياغوثاه يا‬
‫غوثاه! يا غوثاه!‬
‫ويروون �أن عمرو بن العا�ص كتب �إليه ي�ستمهله وينبئه ب�أنه �سري�سل �إليه‬
‫عرياً �أولها يف املدينة و�آخرها يف م�رص‪ .‬يريد �أنه �سريل �إليه طعام ًا كثرياً‪.‬‬
‫ولكن رواة �آخرين يقولون‪� :‬إن م�رص مل تكن قد فتحت عام الرمادة‪ ،‬و�إمنا‬
‫فتحت �سنة ع�رشين‪ .‬و�إذن فلم يكتب عمر �إىل ابن العا�ص مب�رص ومل تر�سل‬
‫م�رص �إليه �شيئ ًا‪.‬‬
‫وابن �سعد يكرر يف روايته �أن عمر قد كتب �إىل عمرو بن العا�ص مب�رص‪،‬‬
‫و�أن عمراً �أر�سل �إليه الطعام يف الرب والبحر‪.‬‬
‫ويقول ابن �سعد‪� :‬إن عمر بن اخلطاب كان �أول من حمل الطعام يف البحر‬
‫من م�رص‪ .‬و�أرجح �أنا ما رواه ابن �سعد عن الواقدي و�شيوخه‪.‬‬
‫وال�شيء الذي لي�س فيه �شك �أن والة عمر على الأم�صار قد �أر�سلوا �إليه‬
‫طعام ًا كثرياً‪ ،‬فك ّلف رجا ًال ي�ستقبلون ما ي�أتي من الطعام حني ي�صل �إىل‬
‫جزيرة العرب‪ .‬ثم مييلون به �إىل �أهل البادية فينحرون لهم الإبل ويعطونهم‬
‫الدقيق ويك�سونهم العباء‪ ،‬ي�ؤدون �إىل كل حي منهم بقدر حاجاتهم‪ ،‬وبحيث‬
‫ي�ستطيعون �أن يفعلوا ذلك بكل من مروا بهم من �أهل البادية‪.‬‬
‫وكان عمر ينحر اجلزر يف كل يوم‪ ،‬وير�سل منادين ينادون يف النا�س‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫�أن من �أراد �أن ي�صيب من الطعام فلي�أت‪ .‬ومن �أراد �أن ي�أخذ حاجته وحاجة‬
‫�أهله فليفعل‪.‬‬
‫وكان له رجال يقومون على �إن�ضاج اللحم‪ ،‬ف�إذا �أمتوا ذلك ثردوا للنا�س‬
‫الرثيد وو�ضعوا عليه من الزيت بعد طبخه‪ ،‬فكان ي�أكل من طعام عمر يف كل‬
‫يوم �ألوف كثرية من النا�س‪ ،‬و�آخرون كانوا يحملون منه ما يكفيهم ويكفي‬
‫عيالهم‪.‬‬
‫وكان عمر ال ي�ؤثر نف�سه ب�شيء من اخلري‪ ،‬و�إمنا ي�أكل مع النا�س‪ .‬وقد جاء‬
‫وقت حرم عمر على نف�سه اللحم وال�سمن واللنب‪ ،‬وفر�ض على نف�سه الزيت‬
‫ي�أكله م�صبح ًا ومم�سي ًا‪ ،‬ومعه �شيء من اخلبز‪.‬‬
‫ويقال �إنه �أح�س حر هذا الزيت فقال ملواله‪ :‬اك�رس عني حره بالنار‪ .‬فطبخ‬
‫له الزيت‪ .‬فكان �أ�شد عليه‪ .‬وكان بطنه يتقرقر عنه‪ ،‬فكان ينقر بطنه ب�إ�صبعه‬
‫ويقول‪ :‬تقرقر تقرقرك فلي�س لك عندنا �إال الزيت حتى يحيا النا�س‪.‬‬
‫لتمرنن على الزيت حتى يحيا‬ ‫ّ‬ ‫ورمبا تقرقر بطنه فنقره ب�إ�صبعه وقال‪:‬‬
‫النا�س‪.‬‬
‫وكان �شديداً على �أهل بيته دائم ًا‪ .‬ولكن �شدته عليهم زادت عام الرمادة‪،‬‬
‫فكان ال ي�سمح لأحد منهم ب�أن يو�سع على نف�سه يف طعام �أو �رشاب والنا�س‬
‫من حولهم جياع‪ .‬وكان �شديد الغم ملا �أ�صاب النا�س‪ ،‬حتى كان �أ�صحابه‬
‫يخافون على حياته ل�شدة غمه واهتمامه ب�أمر امل�سلمني‪.‬‬
‫وقد تغري لون عمر فا�سود بعد بيا�ض‪ ،‬لكرثة ما �أكل من الزيت‪ ،‬ولكرثة ما‬
‫�أخذ نف�سه به من اجلوع‪.‬‬
‫وكان كثرياً ما ي�س�أل اهلل يف خوف وجزع �أال يجعل هالك �أمة حممد على‬
‫يديه‪.‬‬
‫ويقال �إنه جل�س ذات يوم على املنرب فوعظ النا�س ودعاهم �إىل �أن يتقوا‬
‫اهلل وي�صلحوا قلوبهم‪ .‬ثم �أنب�أهم ب�أن ما �أ�صابهم من املحل �إمنا هو �آية �سخط‬
‫اهلل! وما يدري �أكان هذا ال�سخط على امل�سلمني من دونه �أم كان عليه هو من‬
‫دون امل�سلمني‪� ،‬أم كان �سخط ًا قد عمهم جميع ًا‪.‬‬
‫وكان كثرياً ما يقول للنا�س‪ :‬ا�ستغفروا ربكم ثم توبوا �إليه‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫ويقول ابن �سعد‪� :‬إن عمر خرج بالنا�س م�ست�سقي ًا‪ .‬ولكن ابن �سعد كغريه من‬
‫الرواة يخلط �أمر هذا اال�ست�سقاء ب�شيئني‪:‬‬
‫�أحدهما ال �أدري �إىل �أي حد ي�صح‪ ،‬وهو �أن رج ًال من �أهل املدينة ذبح‬
‫�شاة لبنية بعد �إحلاح منهم يف ذلك عليه‪ ،‬فلم يجد �إال جلداً وعظم ًا‪ .‬فقال‪:‬‬
‫واحممداه‪ .‬فر�أى فيما يرى النائم �أنه بني يدي النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬
‫و�أن النبي �أمره �أن ي�أتي عمر فيقر�أ عليه ال�سالم ويقول له‪ :‬الكي�س الكي�س‪ .‬فلما‬
‫�أ�صبح الرجل فعل ما �أمره النبي به‪.‬‬
‫فيقول ابن �سعد عن �شيوخه‪� :‬إن عمر خرج وج ًال فجل�س على املنرب و�أقبل‬
‫النا�س عليه ف�س�ألهم‪ :‬هل ي�أخذونه ب�شيء �أم هل ينكرون من عمله �شيئ ًا؟ ‪ .‬قال‬
‫النا�س‪ :‬ال‪ .‬قال عمر‪ :‬ف�إن فالن ًا �أنب�أين بكذا وكذا‪ .‬فقال بع�ض النا�س‪� :‬إمنا �أمرك‬
‫عينه وكتب به �إىل عماله‬ ‫ر�سول اهلل �أن ت�ست�سقي‪ .‬ف�أزمع اال�ست�سقاء يف يوم ّ‬
‫و�أمرهم �أن ي�صنعوا �صنيعه يف هذا اليوم‪.‬‬
‫وال�شيء الثاين �أن عمر خرج يف اليوم الذي اختاره لال�ست�سقاء‪ ،‬وخرج‬
‫النا�س معه �إىل امل�صلى‪ ،‬ف�صلى النا�س �صالة اال�ست�سقاء‪ .‬ثم ا�ستغفر اهلل وعج‬
‫�إليه بالدعاء‪ ،‬وعج النا�س معه‪ ،‬ثم �أخذ بيد العبا�س بن عبداملطلب وقال وهو‬
‫يبكي‪ .‬والنا�س من حوله يبكون‪ :‬اللهم �إنا ن�ست�شفع �إليك بعم نبيك‪.‬‬
‫قال الرواة جميع ًا‪ :‬فما هي �إال �أيام حتى �أر�سل اهلل الغيث‪.‬‬
‫ول�ست �أدري �إىل �أي حد تثبت ق�صة الرجل الذي ر�أى النبي وتلقى عنه‬
‫ر�سالة �أبلغها عمر‪ ،‬ولكني �أقطع ب�أن ق�صة التو�سل بالعبا�س بن عبداملطلب‬
‫تقرب بها الرواة �إىل بني العبا�س‪ ،‬وما كان عمر لي�ست�شفع ب�أحد‪.‬‬ ‫كذبة ّ‬
‫والأمر املحقق �أن عمر قد ا�ست�سقى‪ .‬و�أن اهلل قد �أر�سل الغيث بعد ا�ست�سقائه‬
‫وكل بالأعراب رجا ًال‬ ‫ب�أيام قليلة �أو كثرية‪ ،‬و�أن عمر حني ر�أى النا�س قد �سقوا َ‬
‫يخرجونهم من املدينة‪ ،‬وكان هو ي�شارك يف �إخراجهم �إىل البادية‪ ،‬بعد �أن‬
‫�سقاهم اهلل و�آمنهم من اجلدب‪.‬‬
‫وقد وقف عمر الزكاة عام الرمادة فلم ير�سل ال�سعاة �إىل القبائل‪ ،‬فلما‬
‫كان من قابل �أر�سل ال�سعاة و�أمرهم �أن ي�أخذوا ال�صدقة م�ضاعفة‪ ،‬و�أن يق�سموا‬
‫ن�صفها بني فقراء القبائل وي�أتوه بن�صفها الآخر‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫فكل هذا ي�صور لك عمر يف �أ�صدق �صورة و�أروعها‪ ،‬ي�صور لك �شدة عنايته‬
‫بامل�سلمني واهتمامه لأمرهم‪ ،‬وقيامه من دونهم‪ ،‬يحميهم من اجلوع‪ ،‬وي�صور‬
‫لك �شدته على نف�سه و�أخذها مبا تكره‪ ،‬ال لأنه كان �ضيق اليد‪ ،‬ولكن لأنه كان‬
‫يكره �أن ي�شبع والنا�س جياع‪ .‬و�أن ينعم والنا�س بائ�سون‪ .‬ذلك على ما كان‬
‫قد �أخذ نف�سه به �أيام اخل�صب وال�سعة من الزهد يف الدنيا واالن�رصاف عن‬
‫طيباتها‪.‬‬
‫ويف ذلك العام كان عمر يكرث �أن يقول كلمة ُت�صور �إميانه بالعدل اخلا�ص‬
‫وامل�ساواة الكاملة بني النا�س‪ .‬كان يكرث �أن يقول‪ :‬نطعم ما وجدنا الطعام‪،‬‬
‫ف�إذا مل جند �أدخلنا على كل �أهل بيت عدتهم ف�شاركوهم يف طعامهم ف�إنهم لن‬
‫يهلكوا على �أن�صاف بطونهم‪.‬‬
‫ومعنى ذلك �أنه كان يريد �إذا عجز بيت املال عن �إطعام النا�س‪� ،‬أن يفر�ض‬
‫على الأغنياء �أن يقا�سموا الفقراء ما يجدون من الطعام حتى ال ي�شبع فريق‬
‫من امل�سلمني ويجوع فريق �آخر‪.‬‬
‫وما �أعرف �أن امل�سلمني ر�أوا خليفة �أو ملك ًا �سار فيهم هذه ال�سرية �أو �سرية‬
‫تقاربها‪ ،‬بل ما �أعرف من �أن �أمة من الأمم قدميها وحديثها ر�أت ملك ًا �أو �أمرياً‬
‫ي�سري يف النا�س �سرية عمر فيمن عا�رصه من امل�سلمني والذميني على ال�سواء‪.‬‬

‫‪177‬‬
178
‫‪16‬‬

‫ومل يكن عمر �أثناء خالفته معني ًا ب�ش�ؤون النا�س يدبر لهم �أمر دنياهم‬
‫معني ًا بهم يعلمهم �ش�ؤون دينهم يف املدينة‪ ،‬يخرج بني‬ ‫ّ‬ ‫فح�سب‪ ،‬ولكنه كان‬
‫وقت و�آخر من بيته فيجل�س على املنرب‪ ،‬ويت�سامع النا�س مبجل�سه ذاك يف‬
‫املدينة ما قرب منها وما بعد‪ ،‬في�رسعون �إىل امل�سجد مهتمني لذلك‪ ،‬فيعلمهم‬
‫عمر من �ش�ؤون دينهم ما �شاء اهلل �أن يعلمهم‪.‬‬
‫عملي ًا كما يقال‪ ،‬فلم يكن يعلمهم الدين خال�ص ًا‪،‬‬
‫وكان رج ًال يحب �أن يكون ّ‬
‫و�إمنا كان يعلمهم الدين ويبني لهم كيف يالئمون بينه وبني حياتهم اليومية‪.‬‬
‫وكيف يطابقون بينه وبني ما ي�أتون من الأمر وما يدعون‪ ،‬يف�سرّ لهم �آيات‬
‫من القر�آن الكرمي تت�صل بحياتهم العاملة‪ ،‬ويعظهم يف �أثناء ذلك‪ ،‬ويبني لهم‬
‫كيف ي�ؤدبون نفو�سهم ب�أدب الدين في�ؤثرون يف القول والعمل ما ير�ضي اهلل‪،‬‬
‫يهتدون يف ذلك بهدي القر�آن وبهدي النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪.‬‬
‫وكان ير�سل الأمراء �إىل الأم�صار على �أن يقيموا للنا�س �صالتهم ويعلموهم‬
‫�رشائع دينهم‪ ،‬ومي�ضوا فيهم العدل‪ ،‬وي�سريوا فيهم �سرية �صاحلة مالئمة‬
‫للدين �أ�شد املالءمة و�أدقها‪ .‬ورمبا �أر�سل مع الأمراء رجا ًال من �أ�صحاب النبي‬
‫يقرئون النا�س القر�آن ويعظونهم ويعلمونهم الدين‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ومل يكتف عمر بذلك و�إمنا كان يرعى �ش�ؤون الدين كلها يف دقة كما كان‬
‫يرعى �ش�ؤون الدنيا‪ ،‬ورعايته هذه ل�ش�ؤون الدين قد حملته على �أن يبتكر �أ�شياء‬
‫مل يكن للم�سلمني بها عهد �أيام النبي وال �أيام �أبي بكر‪ .‬فهو الذي �أخذ النا�س‬
‫بقيام رم�ضان بعد �أن ت�صلي الع�شاء‪ .‬ف�سن لهم �صالة الرتاويح‪ ،‬مل يق�رص هذا‬
‫على الرجال وحدهم و�إمنا �سنه للن�ساء �أي�ض ًا‪ .‬وجعل للرجال قارئ ًا ي�صلي بهم‬
‫�صالة الرتاويح هذه‪ ،‬وجعل للن�ساء قارئ ًا ي�صلي بهن هذه ال�صالة‪ .‬وكتب بذلك‬
‫�إىل الآفاق لتكون هذه ال�صالة عامة بني امل�سلمني‪.‬‬
‫وا�شتد يف عقاب الذين ي�رشبون اخلمر‪ ،‬ففر�ض ل�رشب اخلمر حداً مل يكن‬
‫معروف ًا قبله‪ .‬فاهلل حرم اخلمر يف القر�آن الكرمي‪ ،‬ولكنه مل يفر�ض على �شاربها‬
‫عقاب ًا يف الدنيا‪ ،‬و�إمنا ترك ذلك ملا ادخر للمخالفني عن �أمره ونهيه من‬
‫العقاب يوم القيامة‪.‬‬
‫ومل يحاول �أبوبكر رحمه اهلل �أن يزيد على ما كان النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم يفعله‪ ،‬ولكن عمر ر�أى �أن امل�سلمني ين�ساحون يف الأر�ض ومي�ضون يف‬
‫الفتوح‪ ،‬و�أ�شفق �أن يغريهم ُبعدهم عن مركز اخلالفة بالتهاون يف رعاية ما‬
‫�أمر اهلل به واجتناب ما نهى عنه‪.‬‬
‫ور�أى املال يكرث يف املدينة والرزق يت�سع للنا�س‪ ،‬ف�أ�شفق �أن ي�ستجيب‬
‫النا�س لغرائزهم وطبائعهم‪ ،‬و�أن يعود بع�ضهم �إىل ما كانوا فيه قبل الإ�سالم‬
‫من �رشب اخلمر والإدمان عليها‪ ،‬فا�شتد يف ذلك �إىل �أق�صى غايات ال�شدة‪،‬‬
‫و�شاور امل�سلمني فيما يجب �أن يفر�ض على �شارب اخلمر من عقاب‪.‬‬
‫علي ًا �أ�شار عليه ب�أن ي�أخذ �شارب اخلمر بعقوبة القاذف‬
‫فيقول الرواة‪� :‬إن ّ‬
‫حري ًا �أن يفرتى‪.‬‬
‫في�رضبه به ثمانني جلدة‪ .‬لأنه �إذا �رشب �سكر و�إذا �سكر كان ّ‬
‫ف�أخذ عمر بهذا الر�أي و�أنفذه يف املدينة‪ ،‬وكتب �إىل والته ب�إنفاذ هذا الر�أي‬
‫يف الأم�صار‪.‬‬
‫ويتحدث الرواة ب�أن نفراً من امل�سلمني الذين �شاركوا يف فتح ال�شام‪،‬‬
‫ودخلوا دم�شق فيمن دخلها من اجلند مع �أبي عبيدة‪ ،‬قد فتنتهم احلياة يف‬
‫دم�شق ف�رشبوا اخلمر‪ ،‬فكتب فيهم �أبوعبيدة �إىل عمر‪ ،‬فكان جواب عمر �أن كلف‬
‫�أبا عبيدة �س�ؤال ه�ؤالء النفر �أمام جماعة امل�سلمني يف امل�سجد‪� :‬أيرون اخلمر‬

‫‪180‬‬
‫حال ًال �أم حرام ًا! ف�إن ر�أوها حال ًال فلي�رضب �أعناقهم‪ ،‬لأنهم ا�ستحلوا ما حرم‬
‫اهلل‪ ،‬و�إن ر�أوها حرام ًا �أقام عليهم احلد ف�رضب كل واحد منهم ثمانني جلدة‪.‬‬
‫�رساً �أو ي�ستخفى به‪ ،‬و�إمنا كان يقام مب�شهد‬ ‫ومل يكن احلد يقام على النا�س ّ‬
‫من امل�سلمني‪.‬‬
‫فلما �س�أل �أبوعبيدة ه�ؤالء النفر عن اخلمر‪� :‬أيرونها حال ًال �أم حرام ًا؟ قالوا‬
‫نراها حرام ًا‪ .‬ف�أقام عليهم احلد مب�شهد من امل�سلمني‪ .‬وكان يف ه�ؤالء النفر‬
‫رجل من �أ�رشاف قري�ش ومن الذين �أ�سلموا قبل الفتح وفتنوا يف دينهم‪ ،‬وهو‬
‫�أبو جندل بن �سهيل بن عمرو‪ .‬فلما �أقيم عليه احلد انك�رست نف�سه وا�ستخزى‬
‫فجل�س يف داره واحتجب عن النا�س فكتب �أبوعبيدة يف �ش�أنه �إىل عمر‪ ،‬وطلب‬
‫�إليه �أن يكتب �إىل �أبي جندل معزي ًا له عما �أ�صابه وفاحت ًا له باب ًا �إىل الأمل‪.‬‬
‫قال الرواة‪ :‬فكتب �إليه عمر يعزيه ويعظه وينهاه عن القنوط من رحمة‬
‫اهلل‪ ،‬ويذكره قول اهلل عز وجل‪:‬‬
‫الل �إ َ ِّن َ هّ َ‬
‫الل‬ ‫« ُق ْل َيا ِع َبا ِد َي ا َ ّل ِذ َ‬
‫ين �أَ�سرْ َ فُوا َع َلى �أَنف ُِ�سه ِْم ال َت ْق َن ُطوا ِمن َ ّر ْح َم ِة َ هّ ِ‬
‫يم»‪.‬‬ ‫الرّ ِح ُ‬
‫ُور َ‬ ‫وب َج ِم ً‬
‫يعا �إِ َ ّن ُه ُه َو ا ْل َغف ُ‬ ‫َي ْغ ِف ُر ال ُ ّذ ُن َ‬
‫فلما قر�أ �أبوجندل هذا الكتاب �سرُ ى عنه وخرج للنا�س و�شهد جماعة‬
‫امل�سلمني‪.‬‬
‫وق�صة عمر مع ابنه عبدالرحمن الأو�سط �أبي َ�شحمة معروفة رائعة ح ّق ًا‪،‬‬
‫ت�صدق ما كان عمر يو�صف به من �أنه مل يكن يخاف يف اهلل لومة الئم‪ .‬فالرواة‬
‫يتحدثون �أن ابنه هذا كان مب�رص‪ ،‬و�أنه �رشب اخلمر مع �صاحب له‪ ،‬ثم ندما‪،‬‬
‫ف�أقبال �إىل عمرو بن العا�ص يطلبان �إليه �أن يطهرهما ب�إقامة احلد عليهما‪.‬‬
‫وكره عمرو �أن يقيم احلد على ابن �أمري امل�ؤمنني مب�شهد من النا�س ف�رضبه يف‬
‫�صحن داره‪ .‬وبلغ ذلك عمر‪ .‬ومل تكن �أنباء الأمراء تخفى على عمر‪ .‬فكتب �إىل‬
‫عمرو يعنفه �أ�شد التعنيف‪ ،‬وي�أمره �أن ير�سل �إليه ابنه على قتب‪ ،‬ليكون ال�سفر‬
‫�أ�شق عليه‪ .‬ف�أطاع عمرو‪ ،‬وكتب �إىل اخلليفة يعتذر �إليه‪ ،‬وي�ؤكد له �أنه �أقام‬
‫احلد على ابنه حيث يقيم احلدود يف �صحن داره‪ .‬ولكن عمر مل يقبل منه‪ ،‬ومل‬
‫يعتد باحلد الذي �أقامه‪ ،‬و�إمنا انتظر الفتى حتى �إذا بلغ املدينة وجيء به �إليه‬
‫مري�ض ًا مكدوداً‪ ،‬مل يحفل مبر�ضه وال مبا لقي يف �سفره من العناء‪ ،‬و�إمنا �أقام‬

‫‪181‬‬
‫احلد عليه فوراً مبح�رض من جماعة امل�سلمني‪ .‬وقد ا�ستغاثه الفتى فلم يلتفت‬
‫�إليه‪ .‬وقال له الفتى‪� :‬إنك قاتلي‪ .‬فلم يعب�أ مبا قال‪ ،‬و�إمنا م�ضى يف �رضب‬
‫الفتى �رضب ًا مربح ًا‪.‬‬
‫فيقول الرواة‪� :‬إنه حني ر�أى ابنه م�رشف ًا على املوت مل يزد على �أن قال له‪:‬‬
‫�إذا لقيت ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ف�أنبئه �أن �أباك يقيم احلدود‪.‬‬
‫وما ابنه فلم يظهر حزن ًا عليه‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫‪17‬‬

‫ولي�س على عمر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬ب�أ�س مما ابتكر من �صالة الرتاويح يف‬
‫رم�ضان ومن �إقامة احلد على �رشب اخلمر‪ ،‬بل له يف ذلك الف�ضل كل الف�ضل‪،‬‬
‫وما �أ�شك يف �أن اهلل قد ر�ضي عن ذلك وادخر من �أجله لعمر مثوبة عظيمة‪� ،‬إىل‬
‫ما كان قد �أعد له من املثوبة على ح�سن بالئه يف الإ�سالم‪ ،‬وح�سن �صحبته‬
‫للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬و�صدق ن�صحه لأبي بكر رحمه اهلل‪ ،‬ولعنايته‬
‫ب�أمور امل�سلمني وحدبه عليهم ورفقه بهم‪ ،‬وح�سن الرعاية لفقرائهم و�أغنيائهم‬
‫على ال�سواء‪ ،‬وما فتح للم�سلمني من �أبواب لن�رش الإ�سالم يف �آفاق وا�سعة‪ ،‬ومل‬
‫يكن قد بلغها �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم و�أيام �أبي بكر‪.‬‬
‫و�إمنا يكره اهلل من الأئمة �أن يبتدعوا يف �سيا�سة النا�س ما ال يالئم �أ�صول‬
‫الإ�سالم‪ ،‬و�أن يهملوا من �أمور الدين قلي ًال �أو كثرياً‪ ،‬و�أن ينظروا �إىل �أنف�سهم‬
‫�أكرث مما ينظرون �إىل رعايتهم من امل�سلمني واملعاهدين‪.‬‬
‫فكيف بعمر قد وفر للم�سلمني الرخاء‪ ،‬وبلغ �أق�صى الرفق بالذميني‪ ،‬وكان‬
‫�شديد احلر�ص على �أن يحيا �أولئك وه�ؤالء حياة ر�ضية فيها �سعة وي�رس دون‬
‫�أن يكون فيها �رسف �أو خمالفة عما �أمر اهلل‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫واهلل عز وجل قد �أمر نبيه �صلى اهلل عليه و�سلم بقيام الليل‪ .‬فقال يف �سورة‬
‫املزمل‪:‬‬
‫«يا �أَ ُ ّي َها المْ ُ َزّ ِ ّمل‪ُ ُ،‬ق ِم ال َلّ ْي َل �إِ َالّ َق ِليال‪ِ ،‬ن ْ�ص َف ُه �أَوِ ان ُق ْ�ص ِم ْن ُه َق ِليال‪� ،‬أَ ْو ِز ْد َع َل ْي ِه‬
‫َ‬
‫َو َر ِ ّتلِ ا ْل ُق ْر� َآن َت ْر ِتيال»‪.‬‬
‫�سن لهم �صالة الرتاويح يف رم�ضان �إال قليال‬ ‫ي�س ّن للم�سلمني حني ّ‬ ‫فعمر مل ُ‬
‫مما طلب اهلل �إىل ر�سوله‪ .‬فهو �إذن مالئم للقر�آن �أ�شد املالءمة و�أقواها‪.‬‬
‫املحدثون‪� :‬إن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قام ليلة يف امل�سجد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ويقول‬
‫وت�سامع النا�س بذلك‪ ،‬فجعلوا ي�رسعون �إىل امل�سجد لي�شهدوا مع النبي �صالته‬
‫تلك‪ .‬فلما كان من غد قام النبي يف امل�سجد قيامه البارحة فكرث النا�س‪ ،‬ثم ما‬
‫زالوا يكرثون بعد ذلك حتى اكتظ بهم امل�سجد‪ .‬فلما ر�أى النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم منهم ذلك مل يخرج للنا�س يف الليل بعد �صالة الع�شاء واكتفى بالقيام‬
‫يف بيته‪ .‬فلما �س�أله النا�س عن ذلك قال‪« :‬خ�شيت �أن تفر�ض عليكم و�أال تطيقوا‬
‫ذلك»‪.‬‬
‫فعمر �إذن مل يزد على �أن عاد �إىل �شيء �ضئيل من �سنة النبي �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم يف رم�ضان‪ .‬واهلل عز وجل قد حرم اخلمر يف القر�آن وا�شتد يف‬
‫حترميها‪ ،‬وا�ستجاب النا�س هلل والنبي حني ُتلي عليهم ما يف القر�آن من حترمي‬
‫وبعد العهد قلي ًال بهذه الوفاة‪ ،‬جعل بع�ضهم‬ ‫اخلمر‪ .‬ولكنهم بعد وفاة النبي‪ُ ،‬‬
‫ي�ستجيب لغريزته وجعل النا�س يتعللون بالعلل واملعاذير التي ال ت�ستقيم‪ ،‬ف�أي‬
‫ب�أ�س على عمر �أن يقوم دونهم ليمنعهم من مع�صية اهلل واخلالف عن �أمره ما‬
‫ا�ستطاع �إىل ذلك �سبيالً‪ .‬ومن حق الإمام �أن ي�ؤدب الرعية �إذا انحرفت عن الدين‬
‫قلي ًال �أو كثرياً‪ ،‬وعمر مع ذلك مل ي�ستبد بفر�ض هذا احلد‪ ،‬و�إمنا ا�ست�شار فيه‬
‫�أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم من املهاجرين والأن�صار‪ ،‬فلم ينكروا عليه‬
‫علي رحمه اهلل ب�رضب �شارب اخلمر ثمانني‪ ،‬كما ر�أيت �آنفاً‪.‬‬ ‫ذلك‪ ،‬و�أ�شار عليه ّ‬
‫وق�صة �أبي حمجن الثقفي معروفة‪ .‬حني قال �شعراً يذكر فيه اخلمر وحبه‬
‫حي ًا وميت ًا‪ .‬وكان يف هذا ال�شعر‪:‬‬ ‫لها وحر�صه على �أن يذوقها ّ‬
‫�إذا ِمت فادفني �إىل َجنب كرمة ُتر ِّوى عظامي بعد موتي ُعرو ُقها‬
‫وال تدفنـــي بالفــالة ف�إنــني �أخــاف �إذا مــا ِمــت �أالّ �أذوقــهـــا‬

‫‪184‬‬
‫وكان يف القاد�سية حني قال هذا ال�شعر‪ .‬فلما �سمع �سعد بن �أبي وقا�ص‬
‫‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬هذا ال�شعر و�ضع رجليه يف القيد وحب�سه يف الق�رص‪ ،‬ثم‬
‫كانت وقعة �شديدة من وقعات القاد�سية فطلب �أبو حمجن �إىل �سعد �أن يطلقه‬
‫لي�شهد الوقعة‪ ،‬ف�أبى عليه �سعد وزجره‪ ،‬فلما كان بعد قليل طلب �إىل �سلمى‬
‫بنت خ�صفة‪ -‬زوج �سعد ‪� -‬أن ت�ضع عنه قيده وتعريه فر�س ًا ل�سعد‪ -‬ت�سمى‬
‫البلقاء ‪ -‬و�أعطاها عهداً على نف�سه على �أن يعود بعد انتهاء املوقعة �إن �سلم‬
‫في�ضع رجليه يف القيد‪ .‬ف�أبت �سلمى وكرهت �أن تخالف عن �أمر زوجها‪ .‬ف�سكت‬
‫�أبوحمجن �ساعة ثم �أن�شد هذه الأبيات‪:‬‬
‫تر ِدي اخليل بالقنا و�أتــرك م�شـدوداً ّ‬
‫علي وثـاقـيـا‬ ‫كفى حزن ًا �أن ْ‬
‫(((‬

‫�إذا ُقمت عـ ّنــاين احلديد و�أغلقت م�صارع دوين قد ُت�صم املناديا‬


‫وقد كنـت ذا مال كـثـيـر و�إخـوة فقد تركوين واحداً ال �أخـا لـيـا‬
‫وهلل عـهـ ٌد ال �أخـيـ�س((( بـعـهـده لئن فُرّجت �أال �أزور الـحـوانـيـا‬

‫فلما �سمعت هذا ال�شعر �سلمى رقت له وقبلت عهده و�أطلقته‪ ،‬و�أعارته البلقاء‪.‬‬
‫فخرج و�شهد القتال و�أبلى فيه �أح�سن البالء‪.‬‬
‫قال الرواة‪ :‬وكان �سعد يرى فر�سه يف امليدان فيعجب لذلك‪ .‬فلما انتهت‬
‫املوقعة عاد �أبوحمجن فرد الفر�س وو�ضع رجليه يف القيد‪ .‬و�أنب�أت �سلمى بذلك‬
‫�سعداً فعفا عنه‪ .‬و�أعطى �أبو حمجن هلل عهداً �أال يذكر اخلمر يف �شعر بعد‪.‬‬
‫ومل �أذكر هذه الق�صة لأقف عند بطولة �أبي حمجن وح�سن بالئه‪ ،‬فقد كان‬
‫�أمثاله من امل�سلمني كثريين يف تلك احلرب‪ ،‬و�إمنا �أذكرها لأن �سعداً حب�س هذا‬
‫ال�شاعر لذكره اخلمر على ذلك النحو يف �شعره‪.‬‬
‫و�أكرب الظن �أن �أبا حمجن مل ي�رشب خمراً يف تلك املوقعة‪ ،‬و�إمنا ذكر عهده‬
‫يف اجلاهلية ف�أح�س حنين ًا �إىل اخلمر‪ ،‬فقال ما قال‪ :‬وكره ذلك �سعد خمافة �أن‬
‫ي�ؤثر �شعره هذا يف غريه من امل�سلمني يف موقف مل يكن موقف حنني �إىل اخلمر‬

‫(‪ )1‬تردى اخليل‪ :‬تعدو‬


‫(‪ )2‬ال أخيس‪ :‬ال أنقض وال أخون‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫�أو غري اخلمر‪ ،‬و�إمنا كان موقف حرب �أي حرب‪.‬‬
‫فلم يكن بد لعمر �إذن من �أن يعاقب على �رشب اخلمر وعلى بيعها‪ ،‬و�أمري‬
‫امل�ؤمنني بعد ذلك مكلف �أن ي�أمر باملعروف وينهى عن املنكر‪ ،‬ويعمد �إىل‬
‫التعذير �إذا مل يكن من التعذير بد‪.‬‬
‫مل يقف عمر عند ما قدمنا من العناية بالدين والرعاية له‪ ،‬ولكنه جتاوز‬
‫ذلك �إىل �أ�شياء �أخرى‪ .‬فمن عنايته بالدين ورعايته له �أن �أن�ش�أ نظام الق�ضاء‬
‫وعممه يف الأم�صار‪ ،‬ومل يجعل للمدينة قا�ضياً‪ .‬و�إمنا كان هو الذي يق�ضي يف‬
‫�ش�ؤون املخت�صمني‪ .‬وكان �إذا جاءه اخل�صمان برك على ركبتيه وقال‪ :‬اهلل �أعني‬
‫عليهما ف�إن كال منهما يريدين عن ديني‪.‬‬
‫وهو �أي�ض ًا عمم نظام املعلمني ير�سلهم �إىل الأم�صار ليقرئوا النا�س القر�آن‬
‫ويعلموهم �رشائع دينهم‪ .‬ومل يكن عمر يف ذلك مبتكراً‪ ،‬فقد كان النبي �صلى‬
‫اهلل عليه و�سلم ير�سل بع�ض �أ�صحابه �إىل القبائل بعد �إ�سالمها ليقرئوهم‬
‫القر�آن ويعلموهم �أ�صول الدين‪ ،‬ولكن ف�ضل عمر يف �أنه عمم هذا النظام و�أر�سل‬
‫املعلمني �إىل الأم�صار‪ ،‬ليزيدوا امل�سلمني علم ًا بدينهم ويعظوهم ويقرئوهم‬
‫القر�آن‪.‬‬
‫وهدم عمر م�سجد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وو�سع رقعته‪ ،‬ملا كرث النا�س‬
‫يف املدينة‪ ،‬و�ألقى فيه احل�صى ليكون ذلك �أرفق بالنا�س‪ .‬وكان امل�سلمون‬
‫�إذا فرغوا من �صالتهم نف�ضوا �أيديهم و�أزالوا الرتاب عن جباههم‪ ،‬ف�ألقى عمر‬
‫احل�صى يف امل�سجد ليجنبهم ذلك‪.‬‬
‫وهو رد املقام يف امل�سجد احلرام �إىل مكانه الآن‪ .‬وكان قبل ذلك مل�صق ًا‬
‫بالبيت‪ .‬وكان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يريد �أن يفعل ذلك‪ ،‬ولكنه ر�أى �أن‬
‫قري�ش ًا حديثة عهد بالإ�سالم فلم يفعل‪ .‬ف�أمت عمر ما �أراده النبي‪.‬‬
‫وكان عمر �إذا عر�ضت له امل�شكلة نظر يف كتاب اهلل‪ ،‬ف�إن وجد فيه ح ًال‬
‫لهذه امل�شكلة ق�ضى به غري مرتدد‪ ،‬و�إن مل يجد يف كتاب اهلل نظر يف �سنة النبي‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬ف�إن وجد فيها احلل ق�ضى به غري مرتدد �أي�ضاً‪ ،‬و�إن مل‬
‫يجد اجتهد ر�أيه وق�ضى مبا فيه م�صلحة للم�سلمني‪ .‬وكان كثرياً ما ي�ست�شري‬
‫�أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ع�سى �أن يكون عند بع�ضهم حديث من �سنة‬
‫النبي‪� ،‬أو ع�سى �أن ي�شري عليه بع�ضهم بر�أي فيه اخلري والن�صح للم�سلمني‪ .‬وكان‬

‫‪186‬‬
‫ي�أمر الوالة والق�ضاة �أن ي�صنعوا �صنيعه‪ ،‬و�أال يجتهد �أحد منهم ر�أيه �إال بعد �أن‬
‫ي�ستق�صي القر�آن وال�سنة‪ ،‬وال يجد فيهما ما يق�ضي به‪ ،‬هنالك يجتهد وي�ست�شري‪.‬‬
‫وكان عمر يتحرج من رواية احلديث عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ورمبا‬
‫كان عنده بع�ض احلديث ف�أعر�ض عن روايته خمافة �أن يزيد فيه �أو ينق�ص‬
‫منه‪ ،‬وكان �إذا جاءه الرجل باحلديث عن النبي مل يقبله منه �إال �إذا جاءه برجل‬
‫�آخر يروي هذا احلديث كما رواه‪.‬‬
‫ورمبا جاءه الرجل باحلديث ف�أمره �أن ي�أتي برجل �آخر �أو يوجعه �رضباً‪،‬‬
‫وكان يكره �أن يكرث النا�س احلديث عن النبي‪ ،‬وينذر املكرثين بالعقوبة‪ ،‬وقد‬
‫�أنذر �أبا هريرة بال�رضب والنفي �إىل بالده التي جاء منها‪ ،‬لأنه كان يكرث‬
‫احلديث‪ .‬فلما نهاه عمر كف عن رواية احلديث ومل يعد �إليها �إال بعد وفاة عمر‪.‬‬
‫وكان عمر �أول من �أخذ الدرة ي�ؤدب بها النا�س �إن جاروا عن الق�صد قلي ًال �أو‬
‫كثرياً‪ ،‬ال يفرق يف ذلك بني كبار ال�صحابة وغريهم من النا�س‪ .‬وقد �رضب �سعد‬
‫بن �أبي وقا�ص بالدرة حني جل�س يوم ًا يق�سم بني امل�سلمني ماالً‪ .‬و�أقبل �سعد‬
‫وجعل يزاحم النا�س حتى و�صل �إليه فعاله بالدرة وقال‪� :‬إنك �أقبلت ال تهاب‬
‫�سلطان اهلل يف الأر�ض ف�أردت �أن �أعلمك �أن �سلطان اهلل لن يهابك‪.‬‬
‫وكان ي�أخذ الدرة ومي�شي يف املدينة ويف �سوقها خا�صة لريى كيف يبيع‬
‫النا�س وكيف ي�شرتون‪ ،‬ف�إن ر�أى من �أحد �شيئ ًا يكرهه �رضبه بالدرة‪.‬‬
‫ور�أى مرة رج ًال يزحم الطريق ف�رضبه بالدرة وقال‪� :‬أمط عن الطريق‪ ،‬فلما‬
‫حال احلول و�أقبل مو�سم احلج لقي عمر ذلك الرجل فقال له‪ :‬تريد احلج؟ قال‬
‫الرجل‪ :‬نعم يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬ف�أعطاه نفقة حجه‪ ،‬ثم قال له‪� :‬أتدري ملا �أعطيتك‬
‫هذا؟ قال الرجل‪ :‬ال‪ .‬قال عمر‪� :‬إمنا ذلك بال�رضبة التي �رضبتك يف الطريق‪ .‬قال‬
‫الرجل‪ :‬واهلل يا �أمري امل�ؤمنني ما ذكرتها �إال حني ذكرتني بها‪.‬‬
‫وقد هم عمر �أن يكتب ال�سنة فا�ستخار اهلل يف ذلك �شهراً ثم عدل عنه وقال‪:‬‬
‫ذكرت قوم ًا كتبوا كتاب ًا ف�أقبلوا عليه ون�سوا كتاب اهلل‪ .‬و�إذا دل هذا على �شيء‬
‫ف�إمنا يدل بنحو خا�ص على تردد عمر يف رواية احلديث‪ ،‬فكيف بكتابة ما حفظ‬
‫هو‪ ،‬وما حفظ النا�س من حديث النبي‪ .‬وكل هذا ي�صور احتياط عمر للدين و�شدة‬
‫حر�صه على �أال يعر�ضه ل�شيء من ال�شك �أو اخلط�أ‪.‬‬

‫‪187‬‬
188
‫‪18‬‬

‫على �أن خالفة عمر كلها قد قامت على الدين يف �إجمالها وتف�صيلها‪ ،‬فلم‬
‫يعرف امل�سلمون بعد عمر خليفة �أو ملك ًا كان يح�رض نف�سه ذكر اهلل يف كل‬
‫وقت من �أوقات حياته‪ .‬وكان �أول ما يفكر يف �شيء �إمنا يفكر يف مالءمته‬
‫ر�ضى اهلل وبعده عن �سخطه‪ .‬وما �أعرف �أن عمر ق�ضى �ساعة من حياته يقظ ًا‬
‫مل ي�شعر فيها باخلوف من اهلل حني كان يقوم على قول �أو عمل‪ ،‬فلم تكن‬
‫خالفته وحدها قائمة على الدين‪ ،‬و�إمنا كانت حياته اخلا�صة �أي�ض ًا قائمة‬
‫على ذكر اهلل واخلوف من عذابه‪ .‬وقد ر�أيت فيما م�ضى �أنه قال مرة ملن طلب‬
‫�إليه الرفق بنف�سه فيما يطعم �أو يلب�س �سمعت اهلل عز وجل يقول لقوم نعموا‬
‫بحياتهم الدنيا‪:‬‬
‫ا�س َت ْم َت ْع ُتم ِب َها فَا ْل َي ْو َم تجُ ْ َز ْو َن‬‫«‪�..‬أَ ْذ َه ْب ُت ْم َط ِ ّي َبا ِت ُك ْم فيِ َح َيا ِت ُك ُم ال ُ ّد ْن َيا َو ْ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫با ُكن ُت ْم َتف ُْ�س ُق َ‬ ‫ون فيِ الأَ ْر ِ‬
‫�ض ب َِغيرْ ِ الحْ َ ِ ّق َو مِ َ‬ ‫با ُكن ُت ْم َت ْ�س َتكْبرِ ُ َ‬‫اب ا ْل ُهونِ مِ َ‬ ‫َع َذ َ‬
‫وهو من �أجل هذا فر�ض على نف�سه �أ�ضيق احلياة‪ ،‬مع �أنه مل يكن فقرياً‪،‬‬
‫ومع �أن امل�سلمني جعلوه يف حل من �أن ي�أخذ من بيت املال حاجته‪ .‬وهو‬
‫مل يفعل ذلك بخ ًال �أو �ضن ًا على نف�سه مبا كانت تقت�ضيه احلياة الرا�ضية من‬

‫‪189‬‬
‫املال‪ .‬و�إمنا فعله �إيثاراً ملا عند اهلل يف الآخرة على ما يف الدنيا من �ألوان‬
‫املتاع‪.‬‬
‫ومن �أجل ذلك �أي�ض ًا كان ال يوليّ عام ًال من عماله على الأم�صار �إال راعى‬
‫يف توليته ر�ضى اهلل �أوالً‪ ،‬وم�صلحة امل�سلمني بعد ذلك‪.‬‬
‫وكان يختار لوالية الأم�صار �أويل القوة والكفاية‪ ،‬و�إن كانوا من الذين‬
‫�أ�سلموا ب�أخرة‪ ،‬ويرتك الأكابر من �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فلما‬
‫كلم يف ذلك قال‪� :‬أكره �أن �أدن�سهم بالعمل‪.‬‬
‫وهو مل يقل هذا �إال �إيثاراً للرد احل�سن‪ ،‬ف�أما حقيقة الأمر فهو �أنه كان‬
‫يخاف على �أكابر �أ�صحاب النبي من �أن يفتتنوا �أو يفتنوا النا�س‪ .‬ولذلك مل‬
‫يولهم الأم�صار‪� ،‬إذا ا�ستثنينا �سعداً حني و ّاله حرب الفر�س‪ ،‬و�أباعبيدة حني‬
‫واله حرب ال�شام‪.‬‬
‫و�إمنا كان مينعهم �أي�ض ًا من اخلروج �إىل الأم�صار خمافة الفتنة عليهم �أو‬
‫االفتتان بهم‪ ،‬بل كان مينع قري�ش ًا من االنت�شار يف الأر�ض خمافة �أن تفتنهم‬
‫احلياة الدنيا‪.‬‬
‫وقال يوما يف بع�ض خطبه‪� :‬أال و�إن قري�ش ًا يريدون �أن يجعلوا مال اهلل‬
‫حي فال‪� .‬أال و�إين قائم لهم بحرة املدينة ف�أخذ‬ ‫دولة بينهم‪� ،‬أما وابن اخلطاب ّ‬
‫بحجزهم �أن يتهافتوا يف النار‪.‬‬
‫وكان بع�ض �أكابر ال�صحابة ي�ست�أذنونه يف اخلروج للم�شاركة يف اجلهاد‪.‬‬
‫في�أبى عليهم ويقول ملن ي�ست�أذنه يف ذلك‪ :‬قد كان لك من الغزو مع ر�سول‬
‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ما يجزئك‪ .‬ووىل مرة عمار بن يا�رس على الكوفة‪،‬‬
‫ف�شكا �أهل الكوفة منه‪ .‬وكان �أهل الكوفة كثرياً ما ي�شكون من والتهم حتى‬
‫�أتعبوا عمر‪ .‬ولكنهم حني �شكوا من عمار‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬قالوا‪� :‬إنه ال يعرف ما‬
‫يلي‪ .‬فدعاه عمر و�س�أله عما يلي‪ :‬فلم يح�سن اجلواب فعزله‪ ،‬ثم �س�أله ذات‬
‫يوم �أ�ساءك حني عزلتك؟ قال عمار‪� :‬أما �إذا قلت ذلك فقد �ساءين حني وليتني‬
‫و�ساءين حني عزلتني‪ .‬فقال عمر ما معناه‪� :‬أردت �أن �أحقق قول اهلل عز وجل‪:‬‬
‫�ض َونجَ ْ َع َل ُه ْم �أَ ِئ َ ّم ًة َونجَ ْ َع َل ُه ُم‬
‫ا�س ُت ْ�ض ِعفُوا فيِ الأَ ْر ِ‬ ‫«و ُنرِي ُد �أَن َ مّ ُ‬
‫ن َ ّن َع َلى ا َ ّل ِذ َ‬
‫ين ْ‬ ‫َ‬
‫ني»‪.‬‬
‫ا ْل َوا ِر ِث َ‬

‫‪190‬‬
‫ومن �أجل ذكره هلل وخوفه من عذابه ون�صحه للم�سلمني كان يراقب والته‬
‫�أ�شد املراقبة‪ .‬وال يكاد يبلغه �شيء من �أمرهم يثري يف نف�سه �ش ّك ًا‪� ،‬إال �أر�سل من‬
‫فوره من يحقق ما بلغه وي�صلحه �إن كان قد وقع‪ .‬ورمبا دعاه ذلك �إىل عزل‬
‫الوايل‪.‬‬
‫وكان كثرياً ما يردد �أنه يخ�شى �أن يظلم بع�ض والته �أحداً من الرعية وال‬
‫ي�ستطيع املظلوم �أن يرفع �إليه �شكاته‪ .‬وكان ي�ؤمن ب�أن �أي ظلم يقع من والته‬
‫ثم ال يجد هو يف �إ�صالحه فهو الظامل‪.‬‬
‫وكان كثرياً ما يقول للرعية‪� ،‬إذا ر�آهم يف املدينة �أو يف مو�سم احلج‪� :‬إين مل‬
‫�أر�سل عمايل عليكم ليظلموكم �أو ي�رضبوا �أب�شاركم‪ ،‬و�إمنا �أر�سلتهم ليعلموكم‬
‫دينكم ويق�سموا فيئكم بينكم‪ ،‬وكان ال ميل الت�شديد على والته يف �إن�صاف‬
‫الرعية والرفق بالذميني وحمايتهم من كل ما ي�سو�ؤهم‪.‬‬
‫وكان �شديد احلر�ص على �صيانة مال امل�سلمني‪ ،‬ي�صونه من نف�سه �أو ًال‬
‫فال ي�أخذ منه �إال قوته وقوت �أهله وك�سوته‪ُ ،‬حلة يف ال�شتاء وحلة يف القيظ‪.‬‬
‫وي�صونه من عماله فرياقبهم يف �إنفاق املال �أ�شد املراقبة و�أ�ضيقها‪ ،‬وقد‬
‫ر�أيت ما فعله بخالد بن الوليد‪ ،‬والقاعدة التي و�ضعها لنف�سه‪ ،‬فكان ال يويل‬
‫عام ًال �إال كتب ماله قبل �أن يذهب �إىل م�رصه‪ .‬ف�إذا عاد معزو ًال حا�سبه‪ .‬ف�إن‬
‫وجد يف ماله زيادة غري مقبولة قا�سمه ماله‪ .‬وقد ر�أيت �أنه قا�سم �سعد بن‬
‫�أبي وقا�ص حني عزله عن الكوفة‪ .‬وقا�سم �أبا هريرة حني عزله عن البحرين‪،‬‬
‫وقا�سم غريهما من والته الذين مل ير�ض عن ك�سبهم و�سريتهم يف املال‪.‬‬
‫و�إذا كان عمر قد عرف بالعدل و�ضرُ ب به املثل فيه‪ .‬ف�إن هذا العدل لي�س‬
‫�إال مظهراً من مظاهر خوفه من اهلل‪ ،‬و�إح�ضاره نف�سه ح�ساب اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وحترجه من �أن ي�صنع �أ�شياء‪ .‬ال ل�شيء �إال لأنه يكره �أن ي�س�أله اهلل عنها يوم‬
‫القيامة‪ .‬فلم يكن عمر مث ًال يف العدل وحده‪ ،‬و�إمنا كان مث ًال يف رعاية الدين‬
‫يف جميع �أمره �صغريه وكبريه‪.‬‬
‫ومن �أجل هذا هابه النا�س‪ .‬حتى كان يقال بعد وفاته‪ :‬ل ِد ّرة عمر �أهيب‬
‫من �سيفكم‪.‬‬

‫‪191‬‬
192
‫‪19‬‬

‫وقد حج عمر �سنة ثالث وع�رشين‪ ،‬كما كان يفعل خالفته كلها‪� ،‬إال ال�سنة‬
‫التي ا�ستخلف فيها‪ ،‬ف�إنه وىل عبدالرحمن بن عوف �أمر احلج ذلك العام‪.‬‬
‫وقد �أخرج معه للحج �أزواج النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪ .‬ويقال �إنه بعد �أن‬
‫�صدر عن احلج جمع يف مكان خارج مكة كومة من احل�صى ثم ا�ستلقى‬
‫وو�ضع ر�أ�سه على ذلك احل�صى و�شبك بني رجليه وقال‪ :‬اهلل كربت �سني ورق‬
‫عظمي وخ�شيت االنت�شار من رعيتي فاقب�ضني �إليك غري عاجز وال ملوم‪.‬‬
‫فلما بلغ املدينة لقيه ذات يوم غالم �أعجمي للمغرية بن �شعبة‪ .‬يقال‬
‫له‪ :‬فريوز ويكنى ب�أبي ل�ؤل�ؤة‪ ،‬وكان من �سبي نهاوند‪ .‬فقال له الغالم‪� :‬إن‬
‫علي �رضيبة ال �أطيقها‪ .‬قال عمر‪ :‬كم يفر�ض عليك؟‬ ‫�سيدي املغرية يفر�ض ّ‬
‫قال الغالم‪� :‬أربعة دراهم يف كل يوم‪ .‬قال عمر‪ :‬وماذا تعمل؟ قال الغالم‪� :‬أنا‬
‫جنار‪ ،‬حداد‪ ،‬نقا�ش‪ .‬قال عمر‪ :‬ما خراجك بكثري‪.‬‬
‫فان�رصف الغالم مغ�ضب ًا‪ .‬ولقيه عمر مرة �أخرى وهو يف نفر من‬
‫�أ�صحابه‪ ،‬فدعاه وقال له‪ :‬بلغني �أنك تقول‪� :‬إنك ت�ستطيع �أن ت�صنع رحى‬
‫تطحن بالريح‪ .‬قال الغالم‪ :‬نعم‪ .‬قال عمر‪ :‬فاعمل لنا رحى‪ .‬قال الغالم‪:‬‬

‫‪193‬‬
‫لأعملن لك رحى يتحدث بها �أهل الأم�صار‪ .‬فلما ان�رصف الغالم قال عمر‪،‬‬
‫ملن كان معه‪� :‬أوعدين العبد �آنف ًا‪� ،‬أو قال له بع�ض من كان معه‪� :‬أوعدك‬
‫الغالم �آنف ًا يا �أمري امل�ؤمنني‪.‬‬
‫وخرج عمر ذات �صباح حني �أذن ل�صالة الفجر‪ ،‬وكان ال يبد�أ ال�صالة �إال‬
‫بعد �أن ي�أمر النا�س ب�أن ي�سووا �صفوفهم‪ ،‬وكان ينظر يف ال�صف الذي يليه‪.‬‬
‫ف�إن ر�أى رج ًال متقدم ًا م�سه بالدرة لريجع �إىل مكانه من ال�صف‪ .‬فلما فعل‬
‫ذلك وا�ستقبل �صالته طعنه �أبول�ؤل�ؤة ثالث طعنات‪ ،‬وكان خمتبئ ًا يف بع�ض‬
‫زوايا امل�سجد‪.‬‬
‫قال الرواة‪ :‬فلما �أح�س عمر حر الطعنة ب�سط يده وقال‪� :‬أدركوا الكلب‬
‫فقد قتلني‪ .‬ثم �سقط �إىل الأر�ض ودمه ينزف‪ .‬فماج النا�س‪ .‬وجعل الغالم‬
‫يطعن من وليه منهم حتى طعن اثني ع�رش رج ًال غري عمر و�ألقى عليه رجل‬
‫ثوب ًا‪ .‬فلما عرف الغالم �أنه م�أخوذ قتل نف�سه بخنجره‪ ،‬و�أقبل بع�ض النا�س‬
‫فحملوا عمر �إىل داره وهو يقول‪ :‬وكان �أمر اهلل قدراً مقدوراً‪.‬‬
‫ويقول بع�ض الرواة‪� :‬إن عمر حني طعن �أخذ بيد عبدالرحمن بن عوف‬
‫فقدمه لل�صالة‪.‬‬
‫ويقول �آخرون‪� :‬إن النا�س ماجوا �ساعة بعد م�رصع عمر حتى قال قائل‪:‬‬
‫ال�صالة عباد اهلل فقد طلعت ال�شم�س‪ .‬فقدموا عبدالرحمن بن عوف‪ ،‬ف�صلى‬
‫بهم وقر�أ ب�أق�رص �سورتني يف القر�آن (والع�رص) و(�إنا �أعطيناك الكوثر)‪.‬‬
‫قال الرواة‪ :‬و�أخذت عمر غ�شية‪ ،‬فلما طالت قال بع�ض من ح�رضه‪ :‬ف ِّزعوه‬
‫بال�صالة‪ .‬فقالوا‪ :‬ال�صالة يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬ف�أفاق على هذا الدعاء‪ .‬وقال‪:‬‬
‫حظ يف الإ�سالم ملن ترك ال�صالة‪ .‬ثم دعا بو�ضوء‬ ‫ال�صالة‪ ،‬نعم ها اهلل‪ .‬ال َّ‬
‫لي ْثعب دم ًا‪ .‬ثم قال‪ :‬ادعوا يل طبيب ًا‪ .‬فلما جاء‬
‫(((‬
‫فتو�ض�أ و�صلى و�إن ُجرحه َ‬
‫الطبيب �س�أله �أي ال�رشاب �أحب �إليك؟ قال‪ :‬النبيذ‪ .‬ف�سقاه نبيذاً‪ ،‬فخرج من‬
‫بع�ض جرحه‪ ،‬فا�شتبه النا�س فيه وقال بع�ضهم‪ :‬هذا �صديد الدم‪ .‬ف�سقوه‬

‫(‪ )1‬يثعب‪ :‬يجري‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫لبن ًا‪ .‬فخرج اللنب من جرحه مل يتغري لونه‪ .‬فقال الطبيب‪ :‬اعهد يا �أمري‬
‫امل�ؤمنني فما �أراك مت�سي‪.‬‬
‫ويقول الرواة‪� :‬إن عمر �أمر ابن عبا�س �أن يخرج فينظر من قتله‪ .‬فخرج‬
‫ابن عبا�س فجال يف النا�س ثم عاد‪ ،‬فقال‪ :‬قتلك �أبول�ؤل�ؤة غالم املغرية بن‬
‫ُ�شعبة‪ .‬قال عمر‪ :‬احلمد هلل الذي مل يجعل قتلي بيد رجل يحاجني عند اهلل‬
‫ب�سجدة �سجدها له‪ .‬يريد �أن قاتله مل يكن م�سلم ًا‪.‬‬
‫ثم قال عمر البن عبا�س‪ :‬اخرج ف�سل النا�س‪� ،‬أكان هذا عن ملأ منه؟‬
‫فخرج ثم عاد �إليه ف�أنب�أه ب�أن النا�س يقولون‪ :‬واهلل ما علمنا ولوددنا �أن‬
‫اهلل يزيد يف عمره من �أعمارنا‪.‬‬
‫ثم قال عمر البنه عبداهلل‪ :‬اذهب �إىل عائ�شة �أم امل�ؤمنني فقل لها‪� :‬إن‬
‫عمر ي�ست�أذنك يف �أن يدفن مع �صاحبيه‪ ،‬فذهب عبداهلل بن عمر حتى دخل‬
‫على عائ�شة فوجدها قاعدة تبكي‪ .‬فلما �أبلغها ما قال عمر قالت‪ :‬لقد كنت‬
‫اخرتته لنف�سي ولأوثرنه به اليوم‪ ،‬وعاد عبداهلل ف�أبلغ �أباه �أن عائ�شة قد‬
‫يل‪.‬‬
‫�أذنت له فيما �أراد‪ .‬فحمد اهلل عمر وقال‪ :‬لقد كان هذا �أهم �شيء �إ ّ‬
‫ثم �سئل �أن ي�ستخلف فقال‪� :‬إن �أ�ستخلف فقد ا�ستخلف من هو خري مني‪.‬‬
‫و�إن �أترك فقد ترك من هو خري مني‪ .‬يريد �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل‬
‫ي�ستخلف �أحداً‪ ،‬و�أن �أبا بكر رحمه اهلل قد ا�ستخلفه هو‪.‬‬
‫ثم جعل �أمر اخلالفة �شورى بني ه�ؤالء ال�ستة‪ :‬علي‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعبدالرحمن‬
‫بن عوف‪ ،‬و�سعد بن �أبي وقا�ص‪ ،‬والزبري بن العوام‪ ،‬وطلحة بن عبيد اهلل‪،‬‬
‫و�أمر من يدعوهم �إليه‪ .‬فلما جاءوا �أمرهم �أن يجتمعوا ويختاروه من بينهم‬
‫رج ًال‪ .‬و�أمر �أن يح�رضهم ابنه عبداهلل‪ ،‬وابن عمه �سعيد بن زيد بن عمرو‪،‬‬
‫على �أال يكون لهما يف الأمر �شيء‪.‬‬
‫ثم قال لعلي‪ :‬يا علي‪ ،‬قد يعرف النا�س لك �صهرك وقرابتك من ر�سول‬
‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬وما �أتاك اهلل من العلم والفقه‪ ،‬ف�إن وليت من �أمر‬
‫النا�س �شيئ ًا فاتق اهلل‪.‬‬
‫وقال لعثمان‪ :‬قد عرف القوم لك �سنك و�صهرك من ر�سول اهلل �صلى اهلل‬

‫‪195‬‬
‫عليه و�سلم و�رشفك! ف�إن وليت من �أمر النا�س �شيئ ًا فاتق اهلل وال حتملن‬
‫بني �أبي معيط على رقاب النا�س‪.‬‬
‫ثم قال لهم‪ :‬قوموا عني‪ .‬فلما قاموا قال‪ :‬لئن ولوها الأجلح ليحملنهم‬
‫علي ًا‪ .‬فقال له عبداهلل ابنه‪ :‬فما مينعك يا �أمري امل�ؤمنني؟‬‫على الطريق‪ .‬يريد ّ‬
‫حي ًا وميت ًا‪.‬‬
‫فقال‪� :‬أكره �أن �أحملها ّ‬
‫ثم �أمر �أن يدعى له �أبو طلحة الأن�صاري‪ .‬فلما جاء �أمره �أن يكون يف‬
‫ال من الأن�صار‪ ،‬و�أن يجمع ه�ؤالء ال�ستة يف بيت‪ ،‬ويقوم فيمن‬ ‫خم�سني رج ً‬
‫ال منهم‪ ،‬و� ّأجلهم يف هذا ثالث ًا‪.‬‬
‫معه على بابهم حتى يختاروا رج ً‬
‫وزعم بع�ض الرواة �أنه �أمر �أبا طلحة‪� :‬إن �أم�ضوا ثالثة �أيام ومل يختاروا‬
‫منهم خليفة �أن ي�رضب �أعناقهم‪.‬‬
‫وما �أح�سب �أن هذا ي�صح‪ ،‬فقد كان عمر �أحر�ص على دماء امل�سلمني من‬
‫�أن ي�أمر بقتل �ستة من كبار ذوي ال�سابقة من املهاجرين‪ ،‬الذين ب�رشهم‬
‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم باجلنة ومات وهو عنهم را�ض‪.‬‬
‫وقد ف�صلت القول يف ال�شورى يف غري هذا املو�ضع‪.‬‬
‫و�أمر �أن ي�ص ّلي بالنا�س �صهيب �أثناء الأيام الثالثة التي يت�شاور فيها‬
‫ال�ستة‪ .‬ثم �أمر ابنه عبداهلل �أن يح�سب دينه لبيت املال‪ ،‬فح�سبه ف�إذا هو �ستة‬
‫وثمانون �ألف درهم‪ .‬فقال‪� :‬إذا �أنا مت ف�أدها من مال �آل عمر‪ ،‬ف�إن مل يف‬
‫بها ف�سل فيها بني عدي‪ ،‬ف�إن مل جتد عندهم ما يفي بها ف�سل يف قري�ش‬
‫وال تعدها‪ .‬و�أمر عبداهلل �أن ي�ضمن هذا املقدار ف�ضمنه‪.‬‬
‫و�أعتقد �أنا �أن يف هذا الدين كل ما �أخذ عمر لنف�سه من بيت املال لقوته‬
‫وقوت �أهله ولك�سوته ولبع�ض جتارته‪ .‬و�أعتقد ذلك لأن �أبا بكر �أمر يف‬
‫مر�ضه الذي مات فيه �أن ي�ؤدي من ماله �إىل بيت املال كل ما �أخذ منه‬
‫لقوته وك�سوته‪ ،‬و�أعتقد �أن عمر حر�ص كل احلر�ص على �أن ي�صنع �صنيع‬
‫�أبي بكر‪ .‬وهو الذي كان يقول دائم ًا‪ ،‬وال �سيما بعد �أن طعن‪ :‬وددت لو �أخرج‬
‫علي وال يل‪.‬‬
‫منها كفاف ًا ال ّ‬

‫‪196‬‬
‫وقد �أ�شهد ابن عمر على نف�سه بهذا املال و�أداه �إىل عثمان قبل �أن مي�ضي‬
‫الأ�سبوع على دفن �أبيه‪.‬‬
‫وكان بعد �أن فرغ من تدبري �أمور امل�سلمني ال يفكر يف �شيء �إال فيما‬
‫ينتظره من ح�ساب اهلل عز وجل‪ :‬وكان يقول‪ :‬لو �أن عندي ما يف الأر�ض من‬
‫�شيء الفتديت به من هول املطلع‪.‬‬
‫ويقال‪� :‬إنه �أو�صى ابنه �إذا هو �أح�س �أن �أباه قد �شارف املوت �أن يجعل‬
‫ركبتيه يف �صلبه‪ ،‬و�أن ي�ضع يده اليمنى على جبينه ويده الي�رسى على‬
‫ذقنه‪ ،‬ف�إذا مات فليغم�ضه‪ .‬و�أمره بالق�صد يف كفنه‪ ،‬ف�إنه �إن يكن له عند‬
‫اهلل خري �أعطاه ما هو خري منه‪ ،‬و�إن يكن له عند اهلل غري ذلك �سلبه‪ ،‬ف�أ�رسع‬
‫يف �سلبه‪ .‬و�أمره �أال يجعل يف حنوطه م�سك ًا‪ ،‬و�أال تتبعه امر�أة‪ ،‬و�أن ي�رسعوا‬
‫يف امل�شي �إذا حملوه �إىل قربه‪ ،‬ف�إن كان له عند اهلل خري قدموه �إىل ما هو‬
‫خري له‪ ،‬و�إن يكن غري ذلك و�ضعوا عن رقابهم �رشاً كانوا يحملونه‪ .‬و�أمره‬
‫�ضيق‪ .‬ولأنه �إن يكن له عند اهلل خري‬ ‫�أال يو�سعوا يف حفرته لأن بيت عائ�شة ّ‬
‫مد ب�رصه‪ ،‬و�إن يكن غري ذلك �ضيق عليه قربه حتى تختلف‬ ‫و�سع له يف قربه ّ‬
‫يزكوه بعد موته مبا لي�س فيه‪ ،‬ف�إن اهلل هو �أعلم به‪.‬‬‫�أ�ضالعه‪ .‬ونهى ابنه �أن ّ‬
‫ويقول الرواة‪� :‬إن النا�س جعلوا يدخلون عليه �أر�سا ًال فيثنون عليه‪ ،‬فقال‬
‫لهم‪ ،‬حني كرث ذلك منهم‪� :‬أبالإمارة تغبطونني؟ لقد �صحبت ر�سول اهلل �صلى‬
‫اهلل عليه و�سلم فتويف وهو عني را�ض‪ ،‬و�صحبت �أبا بكر رحمه اهلل فكنت‬
‫�سامع ًا مطيع ًا حتى تويف وهو عني را�ض‪ ،‬و�أ�صبحت ال �أخاف �إال �إمارتكم‬
‫هذه‪.‬‬
‫ويقال �إن وفد العراق ‪ -‬وكانت الوفود قد �صحبته بعد احلج �إىل املدينة‬
‫قبل �أن ترجع �إىل الأم�صار‪� -‬س�أله الو�صية‪ .‬ف�أو�صاهم بتقوى اهلل �أو ًال‬
‫وباملهاجرين من �أ�صحاب ر�سول اهلل‪ ،‬ف�إنهم ينق�صون والنا�س يزيدون‪،‬‬
‫وبالأن�صار الذين تبوءوا الدار والإميان‪ ،‬وبالأعراب ف�إنهم مادة الإ�سالم‪،‬‬
‫وباملعاهدين من املغلوبني ف�إن له ذمة اهلل وذمة ر�سوله وذمة امل�سلمني‪.‬‬
‫ثم قال لهم‪ :‬قوموا عني‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫قال الرواة‪ :‬وملا �أح�س عمر �أن املوت منه قريب �أمر ابنه عبداهلل‪ ،‬وكان‬
‫ر�أ�س عمر يف حجره‪� ،‬أن ي�ضع خده على الأر�ض‪ ،‬فقال عبداهلل‪ :‬وهل فخذي‬
‫والأر�ض �إال �سواء‪ .‬ف�أعاد عليه عمر �أمره �أن ي�ضع خده على الأر�ض‪ ،‬ف�أعاد‬
‫عليه عبداهلل جوابه‪ ،‬فقال له يف الثانية �أو يف الثالثة‪� :‬ضع خدي على‬
‫الأر�ض ال �أم لك‪ .‬فلما و�ضع عبداهلل خده على الأر�ض جعل يقول‪ :‬ليتني‬
‫من�سي ًا‪ .‬ثم‬
‫ّ‬ ‫مل �أخلق‪ ،‬ليت �أمي مل تلدين‪ ،‬ليتني مل �أك �شيئ ًا‪ ،‬ليتني كنت ن�سي ًا‬
‫جعل يقول بعد هذه الكلمات‪ .‬ويلي‪ .‬ويل �أمي �إن مل يغفر اهلل يل‪ .‬وما زال‬
‫يكرر هذه الكلمة حتى مات رحمه اهلل‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫‪20‬‬

‫وبوفاة عمر رحمه اهلل‪ ،‬ختم �أروع ف�صل يف تاريخ الإ�سالم وامل�سلمني‪،‬‬
‫منذ وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إىل �آخر الدهر‪ .‬فلم يعرف امل�سلمون‪،‬‬
‫وما �أراهم �سيعرفون يف يوم من الأيام‪ ،‬خليفة ي�شبه عمر من قريب �أو بعيد‪.‬‬
‫فقد ر�أيت �أنه كان ‪ -‬رحمه اهلل ‪� -‬أزهد خلفاء امل�سلمني وملوكهم يف الدنيا‪،‬‬
‫و�أ�شدهم لها ازدراء و�أعظمهم منها نفوراً‪.‬‬
‫ومن احلق �أنه كان يتجر يف خالفته ويثمر ماله‪ ،‬ولكنه مل يفعل ذلك ُح ّب ًا‬
‫يف املال وال �إيثاراً للغنى‪ ،‬و�إمنا فعله �أداء ملا لأهله وولديه عليه من احلق‪.‬‬
‫وقد ر�أيت �أنه مل ينتفع ب�شيء من ماله لنف�سه‪ ،‬و�أنه �أدى منه كل ما �أخذ من‬
‫بيت املال لقوته وك�سوته‪ ،‬فخرج من الدنيا ولي�س يف الأر�ض م�سلم يتعلق‬
‫عليه ب�شيء �أو ينكر من �أمره �شيئ ًا‪ .‬وهو قد �أو�صى �إىل حف�صة �أم امل�ؤمنني‪،‬‬
‫ف�إذا ماتت فللأكابر من ولده‪ .‬ومل يعرف امل�سلمون خليفة �أو ملك ًا �أتاح اهلل له‬
‫مثل ما �أتاح لعمر من الفتح‪.‬‬
‫فقد ر�أيت �أنه فتح بالد الفر�س كلها‪ ،‬وفتح ال�شام واجلزيرة وم�رص وبرقة‪،‬‬
‫ومل ي�ستطع خليفة بعده �أن يزيد على ذلك �إال ما كان من فتح �إفريقية �أيام‬

‫‪199‬‬
‫عثمان رحمه اهلل‪ ،‬ومن امل�ضي يف هذا الفتح �إىل املحيط‪ ،‬ومن فتح الأندل�س‬
‫�أيام بني �أمية‪.‬‬
‫ومل يعرف امل�سلمون خليفة �أو ملك ًا بعد عمر جعل بيت املال ملك ًا للم�سلمني‬
‫ينفق منه على اجليو�ش املحاربة‪ ،‬ويعني منه من احتاج �إىل املعونة‪ ،‬ويوفر‬
‫ما يبقى منه لي�شيعه بني امل�سلمني رجالهم ون�سائهم و�أطفالهم‪ ،‬ي�أخذون‬
‫منه �أعطياتهم يف كل عام‪ ،‬ت�سعى �إليهم هذه الأعطيات دون �أن يتكلفوا م�شقة‬
‫يف طلبها‪� ،‬سواء يف ذلك منهم القريب والبعيد‪ .‬وقد ر�أيت �أنه كان يحمل‬
‫بنف�سه املال �إىل البادية القريبة من املدينة فيعطيه للنا�س يف �أيديهم‪ ،‬وقد‬
‫ر�أيت كذلك �أنه يف عام الرمادة كان يحمل الطعام على ظهره وي�سعى به �إىل‬
‫الأعراب النازلني حول املدينة‪ ،‬ورمبا طبخه لهم بنف�سه‪ ،‬ومل يعرف امل�سلمون‬
‫ملك ًا �أو خليفة بعده عنى بحماية الذميني والرفق بهم يف �أمرهم كله كما‬
‫عنى بهم عمر‪.‬‬
‫ثم مل يعرف امل�سلمون خليفة �أو ملك ًا بعده عنى ب�أمر الدين و�إقامة احلدود‬
‫وت�أديب النا�س يف ال�صغري والكبري من �أعمالهم‪ ،‬وع ّلم امل�سلمني دينهم رفيق ًا‬
‫بهم حري�ص ًا على �أن ت�ستقيم لهم �أمور دنياهم‪ ،‬وعلى �أن يجنبهم ما ي�ؤخذون‬
‫به يف �آخرتهم ما ا�ستطاع �إىل ذلك �سبي ًال‪.‬‬
‫فعل هذا كله حتى بلغ منه ما مل يبلغ اخللفاء وامللوك يف الإ�سالم ويف‬
‫الأر�ض التي مل ت�سلم‪ .‬فل�سنا نعرف اليوم بلداً يوفر فيه الرزق على النا�س‬
‫من بيت املال �أو من خزائن الدولة دون �أن مينعهم ذلك من العمل لأنف�سهم‬
‫وللنا�س‪ ،‬ومن التزيد يف الك�سب والتو�سع يف الغنى‪.‬‬
‫ومل يكن عمر يعرف قانون ًا �إال القر�آن الكرمي وال�سنة ال�رشيفة‪ ،‬ومل تكن‬
‫له �رشطة ي�ستعني بها على حفظ الأمن والنظام‪ ،‬ولكنه �سا�س امل�سلمني على‬
‫نحو جعلهم جميع ًا �رشطة له يف املدينة و�رشطة لوالته يف الأم�صار‪ .‬فلي�س‬
‫غريب ًا وعمر هو الذي فعل هذا كله و�أكرث من هذا كله �أن تكون الفاجعة مبوته‬
‫عظيمة واخلطب له جلي ًال‪ ،‬و�أن يقول رجل مثل �أبي طلحة الأن�صاري رحمه‬
‫اهلل‪:‬‬
‫ما يف العرب بيت �إال دخل عليه النق�ص مبوت عمر‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫ولي�س غريب ًا �أن يقول غريه‪ :‬واهلل �إن بيت ًا من بيوت امل�سلمني مل يدخله‬
‫احلزن ملوت عمر لبيت �سوء‪.‬‬
‫ويقول الرواة‪� :‬إن �سعيد بن زيد بن عمرو ‪ -‬وهو ابن عم عمر‪ -‬بكى حني‬
‫مات عمر فقيل له‪ :‬فيم تبكي قال‪� :‬أبكي على الإ�سالم ف�إنه قد وهى مبوت عمر‪.‬‬
‫ويقال‪� :‬إن حذيفة بن اليمان كان يقول‪� :‬إن الإ�سالم كان ح�صن ًا يدخل‬
‫النا�س فيه وال يخرجون منه‪ .‬فلما تويف عمر انثلم احل�صن فالنا�س يخرجون‬
‫منه وال يدخلون فيه‪.‬‬
‫علي ًا رحمه اهلل ملا �سمع ال�صيحة مبوت عمر دخل‬ ‫وقد �أجمع الرواة على �أن ّ‬
‫عليه فوجده ُ�سجي بثوب‪ .‬فرفع الثوب عن وجهه وقال‪� :‬صلى اهلل عليك‪ :‬واهلل‬
‫ما على الأر�ض �أحد �أحب �إيل �أن �ألقى اهلل مبثل �صحيفته من هذا امل�سجي‪.‬‬
‫وما �أعرف رج ًال من �أ�صحاب النبي من املهاجرين والأن�صار �إال حزن �أ�شد‬
‫احلزن ملوت عمر‪ .‬حتى قال ابن م�سعود رحمه اهلل‪ :‬واهلل �إين لأظن ال ِع�ضاه قد‬
‫َوجدت ملوت عمر‪.‬‬
‫وكان ابن م�سعود �إذا ذكر عمر �أمامه بكى حتى ت�ساقط دموعه على‬
‫احل�صى‪.‬‬
‫وما �أحب �أن �أختم هذا الف�صل ب�شيء �أبلغ من قول عثمان رحمه اهلل‪� :‬إن‬
‫عمر كان مينع رحمه تقرب ًا �إىل اهلل‪ ،‬و�أنا �أ�صل رحمي تقربا �إىل اهلل‪ .‬ومن لنا‬
‫مبثل عمر؟ يقولها ثالث ًا‪.‬‬
‫وما �أعرف �أ�صدق من قول ال�شاعر الذي رثاه‪ ،‬والذي حتدث الرواة �أنه من‬
‫مزرد بن �رضار‪� ،‬أخو ال�شماخ ال�شاعر املعروف‪:‬‬ ‫اجلن‪ ،‬وما �أرى �إال �أنه ّ‬
‫جزى اهلل خرياً من �إمام وباركت يد اهلل يف هذا الأدمي املم َّزق‬
‫ق�ضيت �أموراً ثم غادرت بعدها بوائق يف �أكمامها مل تفتق‬ ‫َ‬
‫فمن يجر �أو يركب َجناحي نعامة ليدرك ما قدمت بالأم�س ي�سبق‬
‫له الأر�ض تهتز الع�ضاه ب�أ�سوق‬ ‫�أبعد قتيل يف املدينة �أظلمت ‬
‫وما كنت �أخ�شى �أن تكون وفاته بكفي �سبنتي �أزرق العني ُمطرق‬
‫(((‬

‫(‪ )1‬السبنتي‪ :‬األسد‪.‬‬

‫‪201‬‬
202
‫‪21‬‬

‫و�صدق ال�شاعر‪ ،‬فقد كان مقتل عمر غريب ًا كل الغرابة‪ :‬غالم �أعجمي من‬
‫�سبي نهاوند‪ ،‬ميلكه املغرية بن �شعبة‪ ،‬ويعي�ش يف املدينة ليعمل فيها نقا�ش ًا‪،‬‬
‫جناراً‪ ،‬حداداً‪� ،‬صانع ًا للأرحية‪ ،‬ي�شكو �إىل عمر ارتفاع �رضيبته‪ .‬ويرى عمر‬
‫�أن �رضيبته ال �إ�رساف فيها‪ .‬في�أمره �أن ي�ؤدي �إىل مواله ما فر�ض عليه‪ .‬ثم‬
‫�رساً �إىل املغرية يتقدم �إليه يف �أن يرفق بغالمه يف ال�رضيبة‪ .‬في�أتي‬ ‫يكتب ّ‬
‫هذا الغالم فيختبئ يف ناحية من نواحي امل�سجد حتى �إذا تقدم عمر لل�صالة‬
‫�أهوى �إليه الغالم فقتله‪.‬‬
‫مل َيرع للم�سجد حرمة لأنه مل يكن م�سلم ًا‪ ،‬ومل يح�سب ح�ساب ًا جلماعة‬
‫امل�سلمني لأنه كان م�صمم ًا على �أن يق�ضي �أمره و�إن مات يف �سبيله‪.‬‬
‫كل هذا ال يخلو من غرابة وال �سيما �إذا فكرنا يف عدل عمر بني امل�سلمني‪،‬‬
‫ورفقه بغري امل�سلمني من الذميني والأ�سارى‪ ،‬ولكن حول قتل عمر �أ�شياء تدعو‬
‫�إىل التفكري‪.‬‬
‫فالرواة يقولون‪� :‬إن هذا الغالم الفار�سي كان �إذا لقي ال�صبيان من �سبي‬
‫الفر�س م�سح على ر�ؤو�سهم وقال‪� :‬إن العرب �أكلت كبدي‪ .‬فلي�س الأمر �إذن‬

‫‪203‬‬
‫�أمر ال�رضيبة الذي فر�ضها املغرية على هذا الغالم‪ .‬و�إمنا هو �أمر فار�سي‬
‫موتور قد فتحت بالده وقتل من قومه الكثريون‪ ،‬فهو ثائر لوطنه وثائر‬
‫له�ؤالء الأ�سارى الذين انت�رشوا يف الأر�ض الإ�سالمية كلها‪ .‬وهو يرى �أن‬
‫العرب قد �أكلت كبده مبا فعلت بوطنه من الأفاعيل‪ .‬وهو مل يكن وحيداً يف‬
‫املدينة‪ ،‬و�إمنا كان معه يف املدينة رجال �آخرون موتورون‪ ،‬منهم الفار�سي‬
‫كالهرمزان الذي كان ملك ًا من ملوك الفر�س‪� ،‬أو كبرياً من كربائهم‪ ،‬والذي جد‬
‫يف مقاومة امل�سلمني ما ا�ستطاع و�أفلت منهم يف غري موطن حتى �أ�رس يف‬
‫�آخر الأمر و�أر�سل �إىل عمر‪ .‬وكان عمر حري�ص ًا على قتله ولكنه خادع عمر‬
‫حتى �أمنه‪� ،‬أمنه عمر �ساعة من نهار‪ .‬فمكر حتى جعله �أمان ًا دائم ًا‪� .‬أظهر‬
‫الظم�أ فدعي له بال�رشاب‪ .‬فقال لعمر‪� :‬إين �أخ�شى �أن تقتلني و�أنا �أ�رشب‪ .‬قال‬
‫له عمر ال ب�أ�س عليك‪ .‬فرد القدح ومل ي�رشب‪ .‬وقال لعمر‪ :‬قد �أمنتني قال عمر‪:‬‬
‫مل �أ�ؤمنك‪ .‬قال من ح�رض من امل�سلمني‪ :‬بل �أمنته يا �أمري امل�ؤمنني‪ .‬فقد قلت‬
‫له‪ :‬ال ب�أ�س عليك‪ .‬فقد انخدع امل�سلمون وانخدع معهم عمر لهذا الفار�سي‪ .‬وال‬
‫غرابة يف ذلك‪ ،‬فاحلر يخدع �أحيان ًا فينخدع‪ ،‬ولي�س �شيء �أ�سهل يف الإ�سالم‬
‫من الأمان ُيعطى لغري امل�سلم‪ .‬يعطيه رجل من عامة امل�سلمني لرجل من‬
‫املحاربني فيجري �أمانه ويلتزمه قائد اجلي�ش كما يلتزمه اخلليفة وجماعة‬
‫امل�سلمني‪.‬‬
‫ويعطيه العبد امل�سلم للمحارب �أو املحاربني‪ ،‬في�صبح �أمانه ملزم ًا‬
‫للجي�ش وقائده وللخليفة وجماعة امل�سلمني‪.‬‬
‫وذلك لقول النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪« :‬امل�ؤمنون تتكاف�أ دما�ؤهم وي�سعى‬
‫بذمتهم �أدناهم»‪ .‬وقد �أ�سلم الهرمزان فع�صم دمه بالإ�سالم‪ .‬ومل يجعل لأحد‬
‫عليه �سبي ًال و�أقام يف املدينة‪.‬‬
‫ورجل �آخر كان يقيم يف املدينة مل يكن فار�سي ًا‪ ،‬و�إمنا كان عربي ًا من‬
‫�أهل احلرية وكان م�سيحي ًا‪ ،‬وكانت بينه وبني �سعد بن �أبي وقا�ص �صلة‪.‬‬
‫يقول ابن �سعد‪� :‬إنها كانت �صلة الظئر((( ‪ .‬ك�أن امر�أة جفينة كانت مر�ضع ًا‬

‫الظئر‪ :‬املرضعة‪.‬‬ ‫‪ 1‬‬

‫‪204‬‬
‫لبع�ض ولد �سعد‪ ،‬وكان �سعد هو الذي جاء به �إىل املدينة حني عزله عمر عن‬
‫الكوفة‪.‬‬
‫ورجل رابع كان يقيم باملدينة‪ ،‬ولكنه كان غريب الأطوار‪ ،‬عرف كيف‬
‫يهودي ًا‬
‫ّ‬ ‫يخدع كثرياً من امل�سلمني ومنهم عمر‪ ،‬وهو كعب الأحبار‪ .‬وكان كعب‬
‫علي �إىل اليمن‬
‫علي ًا رحمه اهلل عن النبي حني ذهب ّ‬ ‫من �أهل اليمن زعم �أنه �س�أل ّ‬
‫مر�س ًال من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم‪ ،‬فلما �أنب�أه علي ب�صفة النبي عرف‬
‫هذه ال�صفة مما كان يجد بزعمه يف التوراة‪ .‬ومل ي�أت املدينة �أيام النبي‪ ،‬و�إمنا‬
‫�أقام على يهوديته يف اليمن‪ ،‬وزعم هو بعد ذلك للم�سلمني �أنه �أ�سلم ودعا �إىل‬
‫الإ�سالم يف اليمن‪ ،‬وقد �أقبل �إىل املدينة �أيام عمر‪ .‬ف�أقام فيها موىل للعبا�س‬
‫بن عبداملطلب رحمه اهلل‪ .‬وكان بارع ًا يف الكذب على امل�سلمني يزعم �أنه‬
‫يجد �صفاتهم يف التوراة‪ .‬ورمبا زعم لهم �أنه يجد �صفاتهم يف الكتب‪ .‬وكان‬
‫امل�سلمون ُيعجبون بذلك ويعجبون له‪ .‬ومل يلبث �أن كذب على عمر نف�سه فزعم‬
‫جتد ا�سم عمر يف التوراة؟ قال‬ ‫له �أنه يجد �صفته يف التوراة‪ .‬فعجب عمر وقال‪ُ :‬‬
‫كعب‪ :‬ال �أجد ا�سمك و�إمنا �أجد �صفتك‪.‬‬
‫وقد �صحب عمر حني �سافر �إىل ال�شام ليتم فتح بيت املقد�س‪ .‬ويقال‪:‬‬
‫�إنه هو الذي دل عمر على مكان ال�صخرة‪ .‬وكانت قد ا�ستخفت لكرثة ما كان‬
‫النا�س يلقون عليها من الكنا�سة‪ .‬ف�أمر عمر ف�أزيل عنها ما كان عليها و�أقام‬
‫امل�سجد‪ .‬و�س�أل �أين ي�ضع القبلة‪ .‬فقال له كعب‪ :‬اجعلها �إىل ال�صخرة‪ ،‬فقال له‬
‫عمر‪� :‬ضاهيت اليهودية يا كعب‪ ،‬وجعل القبلة �إىل امل�سجد احلرام‪.‬‬
‫وعاد �إىل املدينة‪ ،‬يف �صحبة عمر‪ .‬ويف ذات يوم �أنب�أ عمر �أنه �سيموت‬
‫�شهيداً‪ .‬قال عمر‪� :‬أ ّنى يل بال�شهادة و�أنا بني ظهراين جزيرة العرب‪ .‬ولكن كعب ًا‬
‫�أ�رص على ذلك‪ .‬فيقال �إن عمر قال‪ :‬ي�أتي بها اهلل �أ َّنى �شاء‪.‬‬
‫علي فوجدها تبكي‪ ،‬فلما �س�ألها‬ ‫ودخل عمر يوم ًا على زوجه �أم كلثوم بنت ّ‬
‫عن بكائها قالت‪ :‬هذا اليهودي كعب الأحبار يقول‪� :‬إنك يف النار‪ .‬فلما خرج‬
‫هم �أن ي�س�أله‪ ،‬فب�رشه كعب باجلنة‪ .‬فقال عمر‪ :‬ما �شاء اهلل‪ ،‬مرة‬ ‫عمر ور�أى كعب ًا ّ‬
‫علي يا �أمري امل�ؤمنني‪.‬‬
‫يف اجلنة ومرة يف النار‪ .‬ما هذا؟ قال كعب‪ :‬ال تعجل ّ‬

‫‪205‬‬
‫واهلل �إين لأراك يف التوراة‪� ،‬أو قال يف الكتب‪ ،‬قائم ًا على باب جهنم متنع‬
‫امل�سلمني �أن يتهافتوا فيها‪.‬‬
‫وجاءه �آخر الأمر ذات يوم فقال له‪� :‬إنك مقتول بعد ثالث‪ .‬فلم يحفل عمر‬
‫مبا قال‪ :‬فلما كان من الغد‪ .‬قال له‪ :‬ذهب يوم وبقي يومان فلم يلتفت عمر‬
‫�إليه‪ .‬فلما كان من غد جاءه فقال له‪ :‬م�ضى يومان وبقي يوم‪ .‬فلم ي�أبه عمر‬
‫له‪ .‬والغريب �أنه مل ي�س�أله عن م�صدر علمه بذلك‪ ،‬ومل ي�س�أله �أحد من امل�سلمني‬
‫عن م�صدر علمه بذلك بعد مقتل عمر‪ .‬و�أ�شد من ذلك غرابة �أن الرواة يزعمون‬
‫�أنه دخل على عمر بعد �أن طعن‪ .‬فقال له‪:‬‬
‫«الحْ َُّق ِمن َّر ِّب َك َف َال َت ُكن ِّمن المْ ُ ْمترَ َ‬
‫ِين»‪.‬‬
‫�أمل �أقل لك �إنك متوت �شهيداً فكنت تقول �أنى يل ال�شهادة و�أنا بني ظهراين‬
‫جزيرة العرب‪ .‬ف�سكت عنه عمر �أي�ض ًا‪.‬‬
‫و�إذا كان كل ما روي عن كعب ب�ش�أن موت عمر �صحيح ًا‪ ،‬فل�ست �أ�شك يف‬
‫دبر �أبول�ؤل�ؤة‪� ،‬أو مبا دبر الذين ا�شرتكوا مع �أبي ل�ؤل�ؤة‬ ‫�أنه كان على علم مبا ّ‬
‫يف الإعداد لهذه اجلرمية‪.‬‬
‫وقد قال عبدالرحمن بن �أبي بكر ال�صديق‪� :‬إنه ر�أى �أبا ل�ؤل�ؤة والهرمزان‬
‫وجفينة يتناجون‪ .‬فلما ر�أوه قاموا‪ ،‬ف�سقط بينهم خنجر له طرفان ون�صابه‬
‫يف و�سطه‪ .‬ف�س�ألهم عبدالرحمن بن �أبي بكر‪ :‬ما ت�صنعون بهذا احلنجر؟ قالوا‪:‬‬
‫نقطع به اللحم!‬
‫و�سمع عبيد اهلل بن عمر مقالة عبدالرحمن‪ :‬فقال له‪� :‬أنت ر�أيتهم؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ .‬ونظر القوم يف اخلنجر الذي قتل به عمر ف�إذا هو كما و�صف عبدالرحمن‪.‬‬
‫هنالك ثار عبيد اهلل بن عمر ف�أ�رسع �إىل �سيفه فتقلده‪ ،‬وم�ضى ال يلوي على‬
‫فر�س يل‪ .‬فقام الهرمزان‬ ‫�شيء حتى �أتى الهرمزان‪ .‬فقال له‪ :‬قم معي وانظر �إىل ٍ‬
‫وت�أخر عنه عبيد اهلل �شيئ ًا ثم عاله بال�سيف‪.‬‬
‫ويقول الرواة‪� :‬إن الهرمزان حني �أح�س حر ال�سيف قال‪ :‬ال �إله �إال اهلل‪ .‬ول�ست‬
‫�أدري �أي الرواة كان معه حني ذاك‪ .‬وم�ضى عبيد اهلل حتى �أتى جفينة فقتله‪،‬‬
‫وملا �أح�س جفينة حر ال�سيف �ص ّلب بني عينيه‪ .‬فيما زعم الرواة‪ .‬و�أكرب الظن‬

‫‪206‬‬
‫�أنهم رووا ذلك عن عبيد اهلل ب�أخرة‪ .‬وم�ضى عبيد اهلل حتى �أتى بيت �أبي ل�ؤل�ؤة‬
‫فقتل �صبية كانت له تزعم �أنها ُم�سلمة‪.‬‬
‫وكان �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ت�سامعوا ب�أمر عبيد اهلل ف�أر�سلوا‬
‫من جاءهم به‪ ،‬ولوال ذلك ال�ستعر�ض ب�سيفه من كان يف املدينة من الأعاجم‪.‬‬
‫وما زال عمرو بن العا�ص بعبيد اهلل حتى �أخذ منه �سيفه‪ ،‬وقام �إليه �سعد‬
‫بن �أبي وقا�ص‪ ،‬ف�ساوره م�ساورة عنيفة‪ ،‬وفعل مثل ذلك عثمان بن عفان‪.‬‬
‫وكان يقول له‪ :‬قتلت رج ًال ي�صلي ورج ًال له ذمة ر�سول اهلل‪ ،‬ما يف احلق تركك‪.‬‬
‫ويقال‪� :‬إن �أ�صحاب النبي �سجنوا عبيد اهلل فلما ا�ستخلف عثمان ا�ست�شار‬
‫علي يف هذا الذي فتق يف الإ�سالم فتق ًا‪ .‬ف�أ�شار‬ ‫فيه امل�سلمني‪ .‬فقال‪� :‬أ�شريوا ّ‬
‫بع�ضهم بقتله‪ .‬وخالف بع�ضهم وقال‪ :‬لعلكم تريدون �أن تلحقوا بعمر ابنه‪.‬‬
‫فدخل عمرو بن العا�ص يف الأمر وقال لعثمان‪� .‬إن هذا الأمر قد كان قبل �أن‬
‫يكون لك �سلطان على امل�سلمني‪ ،‬فال تعر�ض له‪ .‬فعفا عنه عثمان و�أدى دية‬
‫الرجلني وال�صبية‪ ،‬فيما يقول الرواة‪.‬‬
‫وقد ف�صلنا يف غري هذا املو�ضع ما كان من �أمر عبيداهلل بعد �أن ا�ستخلف‬
‫عثمان‪ ،‬فال نعود �إليه هنا‪ ،‬و�إمنا نذكر �أن العفو عن عبيد اهلل كان مما �أخذ به‬
‫عثمان حني �أنكر النا�س بع�ض �أمره‪.‬‬
‫علي فر عبيداهلل فلحق‬ ‫علي من الذين ر�أوا قتله‪ .‬فلما ا�ستخلف ّ‬ ‫وكان ّ‬
‫مبعاوية وقتل يف موقعة من مواقع �صفني‪ .‬وكذلك تعدى عبيد اهلل حدود‬
‫الإ�سالم حني ث�أر لنف�سه بيده‪ .‬وكان احلق �أن ينتظر حتى �إذا اختار �أهل‬
‫ال�شورى خليفة للم�سلمني عر�ض عليه ق�ضيته و�أتى بالبينة‪ ،‬على �أن الهرمزان‬
‫وجفينة و�صبية �أبي ل�ؤل�ؤة قد �أعدوا لقتل عمر‪ ،‬ف�إن ثبت ذلك عند اخلليفة كان‬
‫من حق اخلليفة �أن يق�صه منهم بالقتل �أو مبا بدا له من العقوبة‪.‬‬
‫ولكن عبيد اهلل �أخذته حمية اجلاهلية الأوىل‪ ،‬فقتل من قتل معتدي ًا غري‬
‫متثبت وال �صادر عن حكم الإمام‪ ،‬فكانت عاقبة ذلك وبا ًال عليه وفرقة بني‬
‫امل�سلمني‪.‬‬

‫‪207‬‬
208
‫‪22‬‬

‫ويزعم الرواة �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ر�أى على عمر قمي�ص ًا فقال له‪:‬‬
‫�أجديد قمي�صك �أم لبي�س؟ قال عمر‪ :‬بل هو لبي�س يا ر�سول اهلل‪ .‬فقال له النبي‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم‪ :‬الب�س جديداً وع�ش حميداً ومت �شهيداً‪ .‬وليعطك اهلل قرة‬
‫عني يف الدنيا والآخرة‪.‬‬
‫فمن �أجل ذلك كان عمر ي�س�أل اهلل �شهادة يف �سبيله ووفاة يف بلد نبيه‪.‬‬
‫فلما �سئل كيف يعطيه اهلل ال�شهادة ومييته يف بلد النبي‪ .‬قال‪ :‬اهلل ي�أتي بها‬
‫�أ ّنى �شاء‪ .‬وقد ا�ستجاب اهلل له فمات �شهيداً يف مدينة النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪ .‬قتله رجل جمو�سي من العجم‪ .‬وقتله يف �أحب الأوقات �إىل اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وهو الوقت الذي ت�ؤدى فيه �صالة الفجر‪ ،‬واهلل عز وجل يقول لنبيه �صلى اهلل‬
‫عليه و�سلم‪ .‬من �سورة الإ�رساء‪:‬‬
‫ال�ش ْم ِ�س �إ ىَِل َغ َ�س ِق ال َلّ ْيلِ َو ُق ْر� َآن ا ْلف َْج ِر �إ َ ِّن ُق ْر� َآن ا ْلف َْج ِر‬
‫وك َ ّ‬ ‫«�أَ ِق ِم َ ّ‬
‫ال�صال َة ِل ُد ُل ِ‬
‫ان َم ْ�ش ُهو ًدا»‪.‬‬
‫َك َ‬
‫وقتله املجو�سى وقد كبرَّ عمر ل�صالة الفجر‪ .‬فال �شك يف �أن اهلل عز وجل قد‬
‫ا�ستجاب لنبيه‪� .‬إن �صح احلديث الذي رويناه �آنف ًا‪ ،‬وا�ستجاب لعمر دعاءه الذي‬

‫‪209‬‬
‫كان يدعو به كما روينا‪ .‬وقد �سقط عمر وهو يقول كلمة من القر�آن‪:‬‬
‫الل َق َد ًرا َ ّم ْق ُدو ًرا»‪.‬‬
‫ان �أَ ْم ُر َ هّ ِ‬
‫«و َك َ‬
‫َ‬
‫وقد �أتيح له �أن يحقق �شيئ ًا كان يهتم له �أ�شد االهتمام‪ .‬وهو �أن يدفن مع‬
‫�أخويه ر�سول اهلل و�أبي بكر‪ .‬وكان قد ا�ست�أذن عائ�شة يف ذلك قبل �أن يطعن‪،‬‬
‫فلما �أو�صى مبا �أو�صى به من �أمر امل�سلمني وفرغ لنف�سه قال البنه عبداهلل‪:‬‬
‫اذهب �إىل عائ�شة �أم امل�ؤمنني وقل لها‪� :‬إن عمر ‪ -‬وال تقل �أمري امل�ؤمنني ف�إين‬
‫ل�ست لهم الآن ب�أمري‪ -‬ي�ست�أذن يف �أن يدفن مع �أخويه‪ .‬وقال البنه‪� :‬إنها كانت‬
‫قد �أذنت قبل ذلك‪ .‬ولكني �أخ�شى �أن يكون ذلك ملكان ال�سلطان‪ .‬فذهب عبداهلل‬
‫وعاد �إليه ب�إذنها‪ ،‬ف�أر�ضاه ذلك كل الر�ضى‪.‬‬
‫وكان عمر �شديد الكره للبكاء عليه‪� .‬سمع حف�صة �أم امل�ؤمنني ُت ْعول‪ .‬فقال‬
‫أحرج‬
‫البنه عبداهلل‪� :‬أجل�سني فلي�س يل �صرب على ما �أ�سمع‪ .‬ثم قال لها‪� :‬إين � ّ‬
‫عليك مبا يل عليك من احلق �أن تندبيني‪،‬ف�أما عينك فلن �أملكها‪ .‬يريد �أنه ال‬
‫مينعها من البكاء لأنه ال ي�ستطيع ذلك‪.‬‬
‫و�سمع �صهيب ًا يعول‪ .‬فقال له �أما �سمعت قول النبي �صلى اهلل عليه و�سلم‪:‬‬
‫�إن امليت يعذب ببكاء �أهله عليه‪.‬‬
‫وكانت عائ�شة رحمها اهلل تنكر هذا احلديث وتقول‪� :‬إن عمر �أخط�أ و�إمنا‬
‫ر�أى النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قوم ًا يبكون على هالك لهم فقال‪� :‬إنهم ليبكون‬
‫و�إن �صاحبهم ليعذب‪ .‬وكان قد اجرتم ما عر�ضه للعذاب‪.‬‬
‫و�أمر عمر �أن يقوم عنه كل من كان يبكي بح�رضته‪.‬‬
‫وزعم الرواة �أنه حني �أح�س املوت‪� .‬أو�صى ابنه عبداهلل فقال له‪ :‬يا بني‪،‬‬
‫أبت؟ قال‪ :‬ال�صوم يف �شدة �أيام‬ ‫عليك بخ�صال الإميان‪ ،‬قال‪ :‬وما هن يا � ِ‬
‫ال�صيف‪ .‬وقتل الأعداء بال�سيف‪ ،‬وال�صرب على امل�صيبة‪ ،‬و�إ�سباغ الو�ضوء يف‬
‫اليوم ال�شاتي‪ ،‬وتعجيل ال�صالة يف يوم الغيم‪ ،‬وترك ردغة اخلبال‪ ،‬قال‪ :‬وما‬
‫ردغة اخلبال؟ قال‪� :‬رشب اخلمر‪.‬‬
‫وتويف رحمه اهلل من غده‪ ،‬فقد طعن يوم الأربعاء وتويف يوم اخلمي�س‬
‫على اختالف من الرواة يف ذلك‪ .‬فمنهم من يقول �إنه تويف بعد ثالث من‬
‫طعنته‪ .‬و�أكرب الظن �أنه تويف من غده‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫و�أنفق �أهل ال�شورى بعد دفنه ثالثة �أيام يت�شاورون‪ .‬وكان عمر قد بلغ من‬
‫ال�سن نحو �ستني عام ًا‪ .‬و�إن اختلف الرواة يف �سنه اختالف ًا كثرياً‪.‬‬
‫مر�ضي ًا عنه من اهلل ور�سوله و�أجيال‬
‫ّ‬ ‫ومهما يكن من �شيء فقد مات عمر‬
‫امل�سلمني على تتابعها واختالفها‪ ،‬ال يختلفون يف حبه والثناء عليه �إال ما‬
‫كان من غالة ال�شيعة‪.‬‬
‫واحلمد هلل الذي �أتاح للإ�سالم عمر مث ًال �أعلى للعدل واال�ستقامة يف احلكم‬
‫والتفوق يف �أمره كله على من جاء ومن يجيء بعده من اخللفاء وامللوك‪.‬‬

‫‪211‬‬
212
‫‪23‬‬

‫ومل يخل موت عمر حني تويف من نفع للم�سلمني ب�إثبات حكم ديني له‬
‫خطره‪ .‬وقد روى الرواة هذا الأمر ملحني ك�أنهم عجبوا له‪ ،‬وك�أنهم �أح�سوا �شيئ ًا‬
‫من غرابته‪ .‬ذلك �أن عمر غ�سل وكفن وكان امل�سلمون يعلمون �أن ال�شهداء ال‬
‫يغ�سلون وال يكفنون و�إمنا يدفنون كهيئتم حني يقتلون‪.‬‬
‫وقد �أبى النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أن يغ�سل �شهداء �أحد‪ ،‬بل قال ب�ش�أن‬
‫حمزة رحمه اهلل‪ :‬لوال �أن جتزع �صفية ‪ -‬وهي �أخت حمزة‪ -‬لرتكته نهب ًا ل�سباع‬
‫الطري‪.‬‬
‫وقد دفن �شهداء �أحد دون �أن ي�سعى لهم يف الكفن‪ :‬لف حمزة رحمه اهلل يف‬
‫برد كان عليه‪ .‬فكان �إن بلغ ر�أ�سه مل يبلغ رجليه‪ ،‬و�إن بلغ رجليه مل يبلغ ر�أ�سه‪.‬‬
‫ف�أمتوا �سرت ج�سمه ب�شيء من ورق ال�شجر‪ .‬وكذلك فعل بعثمان بن مظعون‬
‫رحمه اهلل‪.‬‬
‫ويقول الرواة‪� :‬إن عمار بن يا�رس كان يقول يف �صفني‪ :‬ال تغ�سلوين ف�إين‬
‫خما�صم‪ .‬وقد �سمع امل�سلمون له فلم يغ�سلوه‪ ،‬و�إمنا دفنوه كهيئته �ساعة قتل‪.‬‬
‫ومل يكن غ�سل عمر وتكفينه �إال عن �أمره‪ ،‬فهو قد �أمر بالق�صد يف كفنه‪ ،‬و�أمر‬
‫ب�أال يجعل يف حنوطه م�سك‪ ،‬فدل ذلك على �أن ال�شهداء �إمنا يدفنون على هيئتهم‬
‫�ساعة يقتلون‪� ،‬إذا ا�ست�شهدوا يف ميدان القتال‪ .‬ف�أما �إذا ا�ست�شهد امل�سلم لأن‬
‫عادي ًا �أثيم ًا عدا عليه فقتله‪ ،‬ف�إمنا يجهز كما يجهز غريه من املوتى‪ .‬فيغ�سل‬
‫ويكفن وي�صلى عليه‪ .‬وكذلك كانت حياة عمر وموته م�صدر نفع للم�سلمني‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫فهر�ست الآيات القر�آنية‬

‫ال�صفحة‬ ‫رقم الآية‬ ‫ا�سم ال�سورة‬ ‫الأية‬


‫‪95‬‬ ‫‪66‬‬ ‫الأنفال‬ ‫الآن خفف اهلل عنكم‬
‫‪189-127‬‬ ‫‪20‬‬ ‫الأحقاف‬ ‫�أذهبتم طيباتكم‬
‫‪122‬‬ ‫‪80‬‬ ‫براءة‬ ‫ا�ستغفر لهم �أوال ت�ستغفر‬
‫‪62‬‬ ‫‪97‬‬ ‫براءة‬ ‫الأعراب �أ�شد كفراً‬
‫‪43‬‬ ‫‪40‬‬ ‫براءة‬ ‫�إال تن�رصوه‬
‫‪133‬‬ ‫‪36‬‬ ‫النجم‬ ‫�أم مل ينب�أ مبا يف �صحف مو�سى‬
‫‪137‬‬ ‫‪111‬‬ ‫�إن اهلل ا�شرتى من امل�ؤمنني �أنف�سهم التوبة‬
‫‪57‬‬ ‫‪10‬‬ ‫الفتح‬ ‫�إن الذين يبايعونك‬
‫‪40‬‬ ‫‪30‬‬ ‫الزمر‬ ‫�إنك ميت‬
‫‪86‬‬ ‫‪33‬‬ ‫املائدة‬ ‫�إمنا جزاء الذين‬
‫‪35‬‬ ‫‪28‬‬ ‫براءة‬ ‫�إمنا امل�رشكون جن�س‬
‫‪118‬‬ ‫‪2‬‬ ‫الأنفال‬ ‫�إمنا امل�ؤمنون الذين �إذا ذكر اهلل‬
‫‪113‬‬ ‫‪14‬‬ ‫طه‬ ‫�إنني �أنا اهلل‬
‫‪206‬‬ ‫‪60‬‬ ‫�آل عمران‬ ‫احلق من ربك‬
‫‪35‬‬ ‫‪14‬‬ ‫احلجرات‬ ‫قالت الأعراب‬
‫‪95‬‬ ‫‪240‬‬ ‫البقرة‬ ‫قال الذين يظنون‬
‫‪181‬‬ ‫‪53‬‬ ‫الزمر‬ ‫قل يا عبادي الذين‬
‫‪58‬‬ ‫‪177‬‬ ‫البقرة‬ ‫لي�س الرب‬
‫‪76-75‬‬ ‫‪67‬‬ ‫الأنفال‬ ‫ما كان لنبي‬

‫‪214‬‬
‫‪39‬‬ ‫‪33‬‬ ‫التوبة‬ ‫هوالذي �أر�سل ر�سوله‬
‫‪39‬‬ ‫‪28‬‬ ‫الفتح‬ ‫هوالذي �أر�سل‬
‫‪152 - 99‬‬ ‫‪41‬‬ ‫الأنفال‬ ‫واعلموا �أمنا غنمتم‬
‫‪58‬‬ ‫‪34‬‬ ‫الإ�رساء‬ ‫و�أوفوا بالعهد‬
‫‪177 - 58‬‬ ‫‪91‬‬ ‫النحل‬ ‫و�أوفوا بعهد اهلل‬
‫‪104‬‬ ‫‪19‬‬ ‫ق‬ ‫وجاءت �سكرة املوت‬
‫‪210‬‬ ‫‪38‬‬ ‫الأحزاب‬ ‫وكان �أمر اهلل قدراً مقدوراً‬
‫‪70‬‬ ‫‪196‬‬ ‫�آل عمران‬ ‫وال حت�سنب الذين‬
‫‪122‬‬ ‫‪84‬‬ ‫التوبة‬ ‫وال ت�صل على �أحد‬
‫‪43‬‬ ‫‪22‬‬ ‫النور‬ ‫وال ي�أتل �أولو الف�ضل‬
‫‪40‬‬ ‫‪144‬‬ ‫�آل عمران‬ ‫وما حممد �إالر�سول‬
‫‪131‬‬ ‫‪6‬‬ ‫الن�ساء‬ ‫من كان غني ًا فلي�ستعفف‬
‫‪190‬‬ ‫‪5‬‬ ‫الق�ص�ص‬ ‫ونريد �أن منن على الذين‬
‫‪164‬‬ ‫‪26‬‬ ‫الق�ص�ص‬ ‫يا �أبت ا�ست�أجره‬
‫‪119‬‬ ‫‪30‬‬ ‫الأحزاب‬ ‫يا ن�ساء النبي من ي�أت‬
‫‪70‬‬ ‫‪7‬‬ ‫حممد‬ ‫ي�أيها الذين �أمنوا �إن تن�رصوا‬
‫‪137‬‬ ‫‪15‬‬ ‫الأنفال‬ ‫ي�أيها الذين �أمنوا �إذا لقيتم‬
‫‪119‬‬ ‫‪90‬‬ ‫املائدة‬ ‫ي�أيها الذين �آمنوا �إمنا اخلمر‬
‫‪184‬‬ ‫‪1‬‬ ‫املزمل‬ ‫ي�أيها املزمل‬

‫‪215‬‬
216

You might also like