Professional Documents
Culture Documents
اﻟﺸﻴﺨﺎن
ال�شيخان
ت�أليف :طه ح�سني
النا�رش :
وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر
رقم الإيداع بدار الكتب القطرية :
الرتقيم الدويل (ردمك) :
�صربي حافظ
هذا الكتاب «ال�شيخان» الذي تهديه «الدوحة» لقرائها يف �شهر رم�ضان،
هو �آخر كتب ما يعرف ب�إ�سالميات طه ح�سني ( )1973 – 1889التي �أثرت
املكتبة العربية ،وفتحت �أمامها باب ًا جديداً للبحث واال�ستق�صاء والت�أمل؛
و�أن�ش�أت فيها �أ�سلوب ًا غري م�سبوق من الكتابة عن التاريخ العربي وعن
الإ�سالم ،ب�صورة ميتزج فيها �أ�سلوب الأديب ال�رسدي املرهف وح�سا�سيته
اللغوية الراقية ،ب�رصامة امل�ؤرخ املنهجية وعقالنيته ومنطقه .وقد �شغلت
هذه ال�سل�سلة من الكتب التي دارت حول تاريخ الإ�سالم الباكر طه ح�سني
ملا يقرب من ثالثني عام ًا ،وهي الفرتة املمتدة بني ظهور �أول كتب هذا
امل�رشوع الأدبي التاريخي «على هام�ش ال�سرية» عام 1933وحتى ظهور
�آخرها (ال�شيخان) عام ،1960مروراً بـ«الوعد احلق» و«الفتنة الكربى:
بجزءيه عثمان ،وعلي وبنوه» و«مر�آة الإ�سالم» وغريها .و�إ�سالميات طه
ح�سني بالرغم من �أنها م�رشوع كبري ترك ب�صمته على امل�شهد الثقايف
والفكري ،ف�أيده من �أيده ،وهاجمه من هاجمه ،هي �أحد امل�شاريع الكربى
يف هذا املجال لأهمية منجزه فيها وتفرد منهجه ،ومتيز �أ�سلوبه الأدبي
الر�صني .ولكنها على تعدد كتبها و�أهميتها لي�ست �إال �أحد املحاور البارزة
يف م�رشوعه الثقايف والفكري ال�ضخم ،الذي جند فيه �إىل جانب هذا املحور
املهم ،عدداً �آخر من املحاور.
7
م�رشوع �ضخم متعدد املحاور
8
منه ن�صو�ص �إبداعية كثرية ان�شغلت بال�رشائح املهم�شة واملعذبة يف الواقع
امل�رصي والعربي من ورائه ،وو�ضعت ق�ضية العدل االجتماعي على خارطة
اجلدل والإبداع مع ًا ،وهي الق�ضية التي مازالت حتى اليوم �شاغل املجتمع
العربي ،و�أحد �شعارات ثورات الربيع العربي الراهنة.
وهناك كذلك حمور الفن التمثيلي واليونانيات الذي اهتم فيه بتقدمي
كال�سيكيات امل�رسح الغربي در�س ًا وترجمة ،وبتي�سري �سياقات هذا امل�رسح
االجتماعية والفل�سفية والت�صورية للقارئ العربي ،حتى ي�ستطيع �أن
ي�ستوعب ن�صو�صه ور�ؤاه ،وحتى ميهد الأر�ض مليالد م�رسح م�رصي وعربي
مل يت�أخر ميالده كثرياً .ووا�صل طه ح�سني رفده باملعارف واخللفيات
عرب تقدميه للكثري من �أعالم امل�رسح الفرن�سي ،قدميه وحديثه .وهو حمور
انفتح يف ما بعد ف�شمل �أجنا�س ًا �أدبية غربية كثرية ،وا�صل �إثراءه على مد
م�سريته الثقافية الطويلة يف االهتمام بالرتجمة ،وهي م�رشوع م�ستقل،
وبتقدمي الرتجمات املختلفة للآداب الغربية ،من �ستندال �إىل دو�ستويف�سكي،
وكان �أول من قدم للقارئ العربي �أعالم احلداثة الأوروبية الكبار من
جوي�س وكافكا �إىل ت� .س� .إليوت و�أو�سكار وايلد يف جملته املهمة «الكاتب
امل�رصي» فقد كان طه ح�سني واعي ًا ب�رضورة احلوار اخلالق مع ثقافات
العامل عامة ،والثقافة الأوروبية املتو�سطية خا�صة .وكان يعي مقولة جوته
ال�شهرية ،ب�أن الثقافات ترتجم ما تت�شوف �إىل �إبداعه� ،أو ما هي على م�شارف
تخليقه ،فكان ي�ست�رشف برتجماته ومبا يو�صي تالميذه برتجمته حاجات
الثقافة العربية الراهنة وم�ستقبلها .لأنه يدرك �أن القارئ العربي الذي �أخذت
ح�سا�سيته الأدبية يف التغري يف حاجة �إىل �أدب جديد ،ور�ؤى جديدة ،و�أفكار
مغايرة مل يوفرها له كتابه بعد ،ويجد �أطيافها جميع ًا فيما �أجنزته الثقافة
الأوروبية على مد �ساحتها الوا�سعة من رو�سيا حتى بريطانيا ،مروراً ببلده
الأثري فرن�سا بالطبع.
وهناك �أي�ض ًا حمور التنظري الثقايف والفكري الذي يقدم فيه كتابه/
تقريره الثقايف حلكومة الوفد «م�ستقبل الثقافة يف م�رص» 1938ر�ؤية
9
ثقافية وفكرية متميزة� ،أ�صبحت ميثاق العمل الثقايف الوطني امل�رصي
لعقود .تطرح على م�رص م�رشوعها احل�ضاري والنه�ضوي اجلدير بها،
وهي ت�ست�رشف ا�ستقاللها احلقيقي عقب توقيع الوفد على معاهدة .1936
ويوا�صل يف كتبه ومقاالته الكثرية الأخرى ،من هنا ومن هناك ،يف هذا
املحور ا�ستق�صاءاته ال�شيقة للكثري من ق�ضايا هذا امل�رشوع التي كان �أحد
ممار�سيها ،و�أحد �أبرز العنا�رص الفاعلة يف كثري من �إجنازاتها و�أن�شطتها.
فلم يقت�رص ن�شاطه على حرم اجلامعة برغم دوره املهم فيها ،حيث �أر�سى
بها جمموعة من القيم اجلامعية الأ�سا�سية ،وعلى ر�أ�سها �أهمية ا�ستقالل
اجلامعة ،وع�صمة البحث العلمي فيها من اجلهل و�ضيق الأفق .لأن طه ح�سني
«�أ�ستاذ» جامعي بحق ،باملعنى الدقيق لهذا امل�صطلح الذي ابتذله الكثريون.
�أ�ستاذ ال ي�ساوم على قيم اجلامعة و�سمعتها ،وي�ؤثر �أن يفقد وظيفته على �أن
يكر�س اجلامعة خلدمة م�رشوع �سيا�سي ال �رشعية له ،كما حدث يف �أزمته
مع حكومة �إ�سماعيل �صدقي وحزب ال�شعب� .أ�ستاذ �صاحب م�رشوع علمي
وفكري واجتماعي بكل معنى الكلمة .يفتح امل�سارات اجلديدة ويحث طالبه
على طرح الأ�سئلة واكت�شاف الأ�صقاع العلمية والبحثية املجهولة.
وقد كان طه ح�سني �صاحب م�رشوع تعليمي طموح ،عمل بد�أب على
حتقيقه على مراحل جعل �شعارها جميع ًا �أن التعليم حق و�رضورة كاملاء
والهواء .بد�أه حينما كان م�ست�شاراً تعليمي ًا حلكومة الوفد بفر�ض اللغة
العربية كلغة ر�سمية للبالد ،و�سن قانون التعليم الإلزامي ،وت�أ�سي�س �إدارة
الرتجمة بوزارة املعارف والتي �صدر عنها م�رشوع الألف كتاب .كما
ا�ست�صدر منها قانون ًا بت�أ�سي�س جامعة الإ�سكندرية عام ،1942و�أ�صبح
�أول مدير لها .ثم تبع هذه اخلطوات بخطوة �أخرى مهمة حينما قرر جمانية
التعليم الثانوي ،عندما �أ�صبح وزيراً للمعارف يف حكومة الوفد عام .1950
لكن م�رشوع طه ح�سني التعليمي الطموح بلغ ذروته اجلامعية حق ًا بت�أ�سي�س
جامعة الإ�سكندرية كتج�سيد م�ؤ�س�سي مل�رشوعه الفكري واحل�ضاري يف
«م�ستقبل الثقافة يف م�رص» حينما جعل هذه اجلامعة اجلديدة منارة
علمية وبحثية للقاء احل�ضاري بني م�رص والعامل املتو�سطي ،و�أحالها� ،إبان
10
�إدارته لها ،ويف �سنوات قالئل� ،إىل واحدة من �أهم جامعات البحر الأبي�ض
املتو�سط ،جتتذب خرية الباحثني ال�شباب من �أوروبا نف�سها ،والتي �أ�صبح
للكثري منهم ،وقد عملوا �شبان ًا يف جامعة الإ�سكندرية �أثناء �إدارته لها� ،ش�أن
كبري فيما بعد مثل :جرميا�س ،وروالن بارت ،وفوكو ،و�إ .م .فور�سرت وروبرت
جريفز وجون هيث �ستب�س وغريهم .وكان طه ح�سني ،ف�ض ًال عن هذا كله ،من
�أهم حمركي العمل الثقايف العام يف م�رص ويف العامل العربي الأو�سع طوال
حياته .عرب م�شاركاته املختلفة يف امل�ؤمترات واملحا�رضات ،والأحاديث
الإذاعية والكتابات ال�صحافية.
11
باملزيد من الدالالت و�سعة الأفق وبعد النظر .ب�صورة ي�صعب معها ف�صل
حمور عن بقية املحاور ،فن�ص طه ح�سني هو ن�ص مت�شابك احللقات ،برغم
تنوع الأجنا�س الأدبية التي تنتمي �إليها ن�صو�صه املختلفة ،وريادته
الأدبية يف الكثري من املجاالت.
وحتى ندرك طبيعة �إجناز طه ح�سني يف هذا املحور الذي اكتمل بكتاب
«ال�شيخان» ،البد من و�ضع هذا الإجناز يف �سياقات توليده وتطويره .فقد
كان هذا املحور الذي ا�ستغرق ثالثة عقود من عمله وحياته جزءاً من م�سرية
ثقافية طويلة تراكمت فيها �إجنازات عملية التحديث العربية يف م�رص
خا�صة و�أ�صقاع عربية كثرية معها ،وتبلورت عربها مالمح خطاب �أدبي
وفكري يحتفل بالعقل وي�سعى لتحقيق التقدم واال�ستقالل .وهي عملية لها
�صريورتها املتميزة والتي امتدت من رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك
وحممود �سامي البارودي �إىل جمال الدين الأفغاين وعبداهلل الندمي وحممد
عبده واحلركة الوطنية العرابية ،وا�ستطاعت مب�شاركات كثريين �أن تر�سي
البنية التحتية لتحول ثقايف واجتماعي كبري ومتوا�صل .لكن �إجها�ض
د�س �أ�س�سه الأوىل �أحد �أكرب
الثورة العرابية وما تبعه من ا�ستعمار بريطاين ه َن َ
ال�سا�سة الربيطانيني املعادين لثقافة �شعوب امل�ستعمرات وتعليمهم ،وهو
اللورد كرومر� ،رضب تلك امل�سرية يف ال�صميم فتعرثت لأكرث من عقدين من
الزمان .ولكنها ا�ستطاعت �أن تلتقط �أنفا�سها من جديد بعد حادث دن�شواي
ال�شهري عام 1906وما تبعه من �صحوة وطنية.
والواقع �أن ما مكن م�رص من العودة �إىل م�سريتها الثقافية والنه�ضوية
ب�رسعة هو �أن البنية التحتية للتحول الثقايف والتي بد�أت منذ عودة رفاعة
رافع الطهطاوي من باري�س عام ،1932وتلقت دفعة قوية وم�ؤثرة يف
�سنوات حكم اخلديوي �إ�سماعيل كان لها دور كبري يف ت�أ�سي�س قواعد تلك
العودة .فلم تنجح �إجراءات امل�ستعمر الربيطاين يف تقلي�ص الإنفاق العام
و�إغالق املدار�س وال�صحف واجلمعيات الثقافية �إال عرقلة تلك امل�سرية
لهنيهة� ،رسعان ما ا�ستعادت بعدها عافيتها .لأن عملية التحديث التي بد�أت
منذ م�رشوع حممد علي النه�ضوي الكبري كانت قد ر�سخت يف �أدمي الواقع
12
بنيتها التحتية وج َّذرتها .وا�ستطاعت التغلغل يف �شتى مناحي احلياة
اليومية للم�رصيني والت�أثري فيها :من تخطيط املدينة وتبدل عمرانها وتغري
نوعية م�ساكنها مبا يرتتب عليها من تبدل طرائق حياتهم ،ومن تثوير
التعليم �إىل تغري «ر�ؤية العامل» باملفهوم ال�شامل لهذا امل�صطلح ،ومن تطور
و�سائل املوا�صالت �إىل �إيقاع احلركة.
كانت هذه البنية التحتية قد جتذرت يف الواقع ويف الإن�سان .و�أدت �إىل
النمو املت�سارع للحا�رضتني امل�رصيتني الكبريتني :القاهرة والإ�سكندرية
ب�شكل غري م�سبوق ،و�إىل حتولهما �إىل مراكز جذب للكثريين من الأوروبيني
من اليونان و�إيطاليا خا�صة .و�أ�صبحت احلياة احل�رضية واقع ًا �صلب ًا
و�صريورة انطوت على جمموعة من التحوالت اجلذرية التي انتابت
بنية احلياة الإجتماعية ذاتها وطقو�سها اليومية .فتحررت من الأن�ساق
االجتماعية الثابتة �إىل الأن�ساق املتحولة .و�أ�صبحت املدر�سة وال�صحيفة
والكتاب وامل�رسح واجلمعية الثقافية من �أدوات احلياة اليومية للإن�سان
احل�رضي وم�ؤ�س�ساتها التي ال غنى عنها مهما حرمها كرومر من التمويل.
و�أ�صبح منط احلياة اجلديد هذا �أداة فاعلة يف تغيري ر�ؤية الإن�سان امل�رصي
لنف�سه وللعامل من حوله .وقد تغلغلت يف حياته اليومية �أدوات احل�ضارة
احلديثة حتى �أدت �إىل ميالد «ر�ؤية جديدة للعامل» ،ت�ستوجب بالتايل خطاب ًا
جديداً يعرب عنها وي�صوغ �صبواتها ومطاحمها.
لذلك ما �إن اندلعت �رشارة حادث دن�شواي و�أيقظت م�رص من كابو�س
هزمية الثورة العرابية واحتالل الوطن ،حتى بد�أت تلك ال�صريورة التحديثية
من جديد ،وبزخم كبري ،وك�أنها مل تتعرث قط .فما �إن َم َّر عامان بالكاد على
هذا احلادث الذي و�ضعه م�صطفى كامل بقوة على خريطة الوعي الوطني
حتى وجدنا �أنه قد مت ت�أ�سي�س خم�سة �أحزاب مرة واحدة عام ،1908وي�ؤ�س�س
كل منها جريدته .ووجدنا كثرياً من الن�صو�ص ال�رسدية الرائدة تتربعم يف
ال�سنوات القليلة التالية لها من «عذراء دن�شواي» ملحمود طاهر حقي وحتى
«زينب» ملحمد ح�سني هيكل «والع�رشة الطيبة» ملحمد تيمور .وبد�أت الأجنة
13
الأوىل خلطاب جديد ميد جذوره يف �أعمال عبداهلل الندمي الباكرة ور�ؤاه،
ويرد للحلم امل�رصي الوطني زخمه من جديد ،يف التربعم والنمو .فكرثت
املقاالت والكتابات التي تبلور روا�سي هذا اخلطاب اجلديد العقلية منها
والوطنية على ال�سواء .ب�صورة �رسعان ما جتلت نتائج تراكماتها احلثيثة
الباهرة بعد عقد من الزمان يف ثورة .1919
و�إذا كانت الثورة مبا تنطوي عليه من بحث عن هوية وطنية وثقافية
م�ستقلة بنت تراكمات تلك املتغريات اجلديدة ،وبنت اخلطاب الثقايف
التحديثي ،ف�إنها قدمت لهذا اخلطاب دفعة قوية داعمة لأ�س�سه الفكرية
واملنطلقية .و�أحالته �إىل خطاب وطن ب�أكمله ي�سعى للحرية واال�ستقالل.
فقد كان هذا اخلطاب ب�أ�س�سه العقلية اجلديدة هو الذي بلور عملية التحول
من التفكري التقليدي القدمي ب�أفقه امل�سدود واملحدود� ،إىل تفكري جديد
ينه�ض على املنطق والعلم وتعدد االحتماالت املفتوحة ولي�س على اجلهل
واخلرافة .و�أحال الواقع االجتماعي من الركود الذي عانى منه لقرون من
احلكم العثماين و�رصاعات املماليك� ،إىل واقع متحرك ومتغري نتيجة الوعي
ب�أن التعليم قد �أ�صبح �آلة للحراك االجتماعي وتبدل امل�صائر التي كانت
تعاين من الثبات .وم َّك َن الإن�سان من احللم مب�ستقبل �أف�ضل ي�ستطيع فيه �أن
يكون ما يريد ،ال �أن يتبع ما يراد له ،و�أن يوا�صل ما كان يفعله �أبواه دون
�أي خيارات بديلة.
وهو التحول نف�سه الذي انتقل بالفكر الوطني وال�سيا�سي من ر�ؤية
م�ستقبل م�رص يف �إطار و�ضعها امل�ألوف يف اخلالفة العثمانية� ،إىل ر�ؤيته يف
�إطار الدولة الوطنية احلديثة امل�ستقلة .ومن دولة تابعة �سيا�سي ًا واقت�صادي ًا
�إىل مركز �أجنبي �سواء �أكان يف الأ�ستانة �أو يف لندن بعد ذلك� ،إىل دولة
14
م�ستقلة لها �أجندتها ال�سيا�سية التي عرب عنها الوفد والثورة .و�رسعان ما
بلور �أ�س�س اقت�صادها الوطني الطامح لال�ستقالل طلعت حرب مب�رشوعاته
املختلفة .وعلى ال�صعيد الأدبي والفكري كان التحول الناجم عن متغريات
البنية التحتية للتحول الثقايف واالجتماعي هو بزوغ اخلطاب الأدبي
اجلديد ب�أ�شكاله املختلفة من رواية وق�صة ق�صرية وم�رسحية ونقد �أدبي
منهجي خالق ،وهو جن�س �أدبي مغاير ملا كان �سائداً من قبل من احلوا�شي
وال�رشوح على املتون واملوازنات .ومع هذه الأ�شكال الأدبية اجلديدة تبلورت
لغة تعبريية جديدة مل يعد مدار اهتمامها هو اللعب بالألفاظ واملح�سنات
البالغية� ،إمنا خلق بالغة جديدة تعتمد على املنطق العقلي ودقة التعبري،
واالهتمام بقدرة اللغة على نقل متغريات الواقع ،واالرتقاء بوعي القارئ
وتفكريه.
وكان هذا اخلطاب الأدبي والثقايف اجلديد ،ولغته ذات املنطلقات
الت�صورية املختلفة ،مغايراً بل مناق�ض ًا متام ًا للخطاب الذي �ساد قبله
لقرون ،واعتمد على الك�سل العقلي والتكل�س البالغي والتكرار الببغاوي
للحوا�شي وال�رشوح .وهو خطاب برغم قدمه وركاكته ،كان �أن�صاره
وامل�ستفيدون منه كثريين ومتنفذين مع ًا ،يتمتعون كمثقفني باجلاه
والنفوذ وال�سلطة على القارئ والواقع الثقايف على ال�سواء .ومن هنا كان
ما يعرف باملعارك بني القدمي واجلديد ،وقد دارت رحاها وا�شتدت وتنوعت
ق�ضاياها طوال العقود الثالثة الأوىل من القرن الع�رشين ،هي يف واقع الأمر
معارك على ما يدعوه عامل االجتماع الفرن�سي الكبري بيري بورديو بر�أ�س
املال الثقايف� ،أو ر�أ�س املال الرمزي يف املجتمع .وهي املعارك التي انتهى
معظمها �إىل انت�صار �أن�صار اخلطاب اجلديد ،وزعزعة مكانة اخلطاب القدمي
وت�آكل ر�أ�سماله الرمزي.
يف �سياق هذا اجلدل �أو ال�رصاع بني اخلطابني وما ميثله كل منهما من
ر�أ�سمال رمزي كانت كتابات بداية القرن ،وخا�صة يف الأعمال الق�ص�صية
الأوىل لدى جربان خليل جربان ( )1931 – 1883يف لبنان ،وحممود
15
تيمور ( )1973 – 1894وحممود طاهر ال�شني ( )1954 – 1894يف
تعري ملق رجال الدين من �أ�صحاب اخلطاب التقليدي وتك�شف م�رص ّ
للمجتمع تهافت منطقهم وف�سادهم� .سواء �أتعلق الأمر برجال الدين امل�سيحي
عند (جربان) �أو م�شايخ الدين الإ�سالمي عند حممود تيمور وحممود طاهر
ال�شني ،يف حماولة لزعزعة مكانتهم يف املجتمع ،و�سحب ب�ساط ال�سلطة
والدور واملكانة التي احتازوها عرب تراكم تواريخ االنحطاط الثقايف
والركود .ول�ست يف حاجة هنا �إىل تذكري القراء بالهجوم ال�ضاري الذي
ينطوي عليه كتاب «الديوان» لعبا�س حممود العقاد و�إبراهيم املازين على
جنوم اخلطاب التقليدي يف الأدب وال�شعر ،من �أحمد �شوقي �إىل م�صطفى
لطفي املنفلوطي ،وزعزعة مكانتهم الأدبية وجتريدهم من ر�أ�سمالهم
الثقايف .بل �إن طه ح�سني نف�سه ناله ما ناله من �أ�صحاب اخلطاب القدمي
عندما ن�رش كتابه العالمة «يف ال�شعر اجلاهلي» فما �أحتدث عنه هو حراك
جديل و�رصاع ثقايف �شامل �ساد العقود الثالثة الأوىل من القرن الع�رشين،
وانتهى ب�سحب الب�ساط كلية من حتت �أقدام جنوم اخلطاب التقليدي القدمي،
والإجهاز على الأ�سا�س الذي كانت تنه�ض عليه �شعبيتهم واحرتام القراء
لهم ،و�أهم من هذا كله حلول جنوم اخلطاب اجلديد حملهم.
يف �سياق هذا ال�رصاع على ر�أ�س املال الثقايف الرمزي طوال العقود
الأوىل من القرن الع�رشين ،ويف �سياق تعزيز مكانة اخلطاب الثقايف اجلديد،
و�سحب الب�ساط من حتت �أقدام اخلطاب القدمي ،والك�شف عن عوراته وعطبه،
ميكن �أن نفهم الإطار الذي دارت فيه عملية عقلنة اخلطاب الديني وطرح
الأ�سئلة املنهجية عليه .وهي العملية التي كان م�رشوع طه ح�سني يف
كتابة �إ�سالمياته املتعددة جزءاً �أ�سا�سي ًا منها .ففي �سياق هذا ال�رصاع بني
اخلطابني جنح اخلطاب اجلديد يف زعزعة الأ�س�س التي ينه�ض عليها احتكار
16
املثقف التقليدي للخطاب الديني ،ويف الك�شف عن ا�ستغالله ال�سيئ لهذا
اخلطاب لتحقيق املكا�سب املادية منها واحل�سية ،ولي�س ابتغاء مر�ضاة اهلل،
كما جند يف الكثري من ق�ص�ص حممود تيمور يف جمموعاته الأوىل والتي
حملت عناوين دالة مثل «ال�شيخ �سيد العبيط» «ال�شيخ جمعة» «ال�شيخ عفا
اهلل»� ..إلخ .وقد تلت عملية تعرية ه�ؤالء امل�شايخ الفا�سدين ،والك�شف عن عدم
جدارتهم باالحرتام على امل�ستوى ال�شعبي عرب الق�ص�ص والروايات التي ال
جند فيها «ال�شيخ» �إال �شخ�صية �سلبية ال ت�ستحق االحرتام ،حماوالت جادة
للمثقف احلديث يف الدخول �إىل تلك ال�ساحة التي كانت حكراً على املثقف
التقليدي ،وجلب خطابه العقالين ،ومناهج البحث والتمحي�ص التاريخي
�إليها .ب�صورة �أمكن فيها ت�سكني اخلطاب الديني يف قلب اخلطاب احلداثي
العقالين اجلديد.
وقد بد�أ هذه املحاوالت العقلية الر�صينة واجلادة حممد ح�سني هيكل
( )1956 – 1888بكتابه الرائد يف هذا املجال «حياة حممد» 1933
والذي تبعه بكتب عديدة �أخرى هي «يف منزل الوحي» 1937و«الفاروق
عمر» ،1944و«ال�صديق �أبوبكر» .1946وبالتزامن مع م�رشوع هيكل،
زميل طه ح�سني و�صديقه ،انطلق م�رشوع طه ح�سني يف �إ�سالمياته يف
العام نف�سه بكتاب «على هام�ش ال�سرية» 1933وتوا�صل حتى «ال�شيخان»
.1960ويف نف�س الفرتة ،عقد الثالثينيات كتب توفيق احلكيم (– 1898
)1987كتابه احلواري الكبري وال �أقول امل�رسحي «حممد» ،1936لأنه
مل يكن ممكن ًا �أن يكتب م�رسحية باملعنى امل�ألوف عنه ،و�إن كتب يف
الفرتة نف�سها «�أهل الكهف» ،التي ا�ستطاع فيها ا�ستيعاب املو�ضوع الديني
يف ال�شكل امل�رسحي ،برباعة وتوفيق كبريين .وبد�أ عبا�س حممود العقاد
(� )1964 – 1889سل�سلة كتبه املعروفة با�سم «العبقريات» والتي بد�أها
عام 1939وتتابعت حلقاتها حتى نهاية الأربعينيات .وقد ات�سمت كل تلك
الأعمال الرائدة با�ستيعاب املو�ضوع الديني داخل بنية اخلطاب اجلديد،
و�إخ�ضاع م�رسوداته املتداولة واملعروفة للتمحي�ص وملنطق هذا اخلطاب
17
العقلي والت�صوري ،وجتريدها مما حلق به من خرافات.
وتوا�صلت م�سرية ا�ستيعاب املو�ضوع الديني يف بنية اخلطاب اجلديد
يف العقود التالية ،حتى اكت�سبت الن�صو�ص وال�رسديات الإ�سالمية اجلديدة
بعداً عقلي ًا ر�صين ًا وت�أوي ًال فكري ًا مغايراً ومعا�رصاً ي�ضع الإ�سالم يف قلب
م�رسودات القرن الع�رشين اجلديدة ،ومبنطق ح�ضاري وفكري يعي ما يدور
يف العامل ويتوجه له بخطاب قادر على �إقناعه .فوجدنا فتحي ر�ضوان
( )1988 – 1911يكتب «حممد :الثائر الأعظم» 1954ويروي فيه ق�صة
الر�سول (�صلعم) من منظور �أكرث �صحابته راديكالية ،و�أ�شد خلفائه عقالنية
وحر�ص ًا على احلق والعدل واحلرية :عمر بن اخلطاب .يف نوع من الفال�ش
باك الذي يدور يف ر�أ�س عمر �ساعة �سماعه خرب موت الر�سول (�صلعم) .
وهي ا�سرتاتيجية �رسدية َم َّكنته حق ًا من تقدمي ق�صة «حممد :الثائر الأعظم»
مبنطق �إن�ساين مقنع ملن ي�ؤمن بر�سالته ومن ال ي�ؤمن بها على ال�سواء .وهو
الدور الذي �أخفق فيه اخلطاب القدمي الذي اكتفى بوعظ امل�ؤمنني ،وترك
الإ�سالم عر�ضة لنقد مرير من �أعدائه امل�سيحيني منهم واليهود .فقد �أدرك
اخلطاب اجلديد �أن انفتاحنا على العامل يتطلب منا �أن نقدم ديننا وق�صة
ر�سولنا العظيم (�صلعم) ال ملن ي�ؤمنون به فح�سب ،ولكن ملن ال ي�ؤمن به كذلك
ن�صور للعامل اجلانب الثوري باملعنى املعا�رص للدعوة ومبنطق يقنعه .و�أن ّ
الإ�سالمية ،و�إبراز جوانب الثورة االجتماعية والفكرية والت�رشيعية التي
تنطوي عليها باملقارنة بغريها من الثورات الإن�سانية .ويف الفرتة نف�سها
كتب م�صطفى حممود ( )2009 – 1921كتابة ال�شهري «اهلل والإن�سان» عام
،1956يهاجم فيه املتاجرة بالدين لأن كل متاجرة به ال ت�ستهدف وجه
اهلل ،وال ت�صب يف م�صلحة الإن�سان .ويك�شف فيه �أن الذين يتاجرون باهلل
والإن�سان يفعلون ذلك ال من �أجل اهلل �أو الإن�سان ،و�إمنا من �أجل حتقيق
املكا�سب والأموال ،فهم ال يبتغون وجه اهلل وال يخدمون الإن�سان .ويعري
فيه ملق �رشكة �آرامكو لطباعتها القر�آن الكرمي ،طباعة فخمة ،وهي ال ت�ؤمن
مبا جاء فيه ،ناهيك عن �أن تعمل به ،بل ويف جمل�س �إدارتها عدد من غالة
امل�سيحيني ال�صهاينة املتطرفني الذين ال ي�ضمرون للم�سلمني �أي خري .وهو
18
الكتاب الذي لقي رواج ًا كبرياً وقتها و�إن تراجع م�ؤلفه ال�شيخ عنه يف فرتة
تالية من حياته ،حينما اكت�شف هو نف�سه كم هي جمزية التجارة بالدين ،
وكم توفر من ثراء مل يوفره له نقد املتاجرين به.
وبلغت تلك امل�سرية ذروتها يف عقد ال�ستينيات بن�رش عبدالرحمن
ال�رشقاوي ( )1987 - 1920كتابه «حممد :ر�سول احلرية» ،1961الذي
وطورها ،وك�شف فيه مبنهجية علمية عن وا�صل فيه جتربة فتحي ر�ضوان ّ
مكونات ال�رصاع االجتماعي والطبقي وال�سيا�سي يف اجلزيرة العربية ،وعن
حترير الر�سول (�صلعم) للإن�سان من ربقة العبودية االجتماعية والروحية
على ال�سواء ،قبل قرون من انطالق �أي دعوة لتحرير العبيد يف الغرب �أو
يف �أي مكان بالعامل .وكيف دافعت دعوته عن امل�ضطهدين واملحرومني
واملظلومني ،قبل كل الثوار االجتماعيني بقرون .كما �شهد عقد ال�ستينيات
�أي�ض ًا حترر اخلطاب الديني عن الإ�سالم من �سطوة امل�ؤ�س�سة الدينية
التقليدية كلية� ،إىل احلد الذي وجدنا معه قبطي ًا ،وهو نظمي لوقا (1923
– ،)1987يكتب ق�صة النبي يف «حممد :الر�سالة والر�سول» .1959فتقرر
وزارة املعارف وقتها طبع الكتاب وتوزيعه على طلبة املدار�س الثانوية.
لكن هذه امل�سرية املهمة يف حتديث اخلطاب الديني وو�ضعه و�سط
اخلطابات التاريخية العقلية املقنعة يف قلب القرن الع�رشين ،والتي ا�ستمرت
لأربعة عقود من بدايات ثالثينيات القرن حتى نهايات �ستينياته� ،رسعان
ما انقلبت �صريورتها ،وانعك�س اجتاهها يف العقود الأربعة الأخرية .فقد
مت ا�ستغالل النك�سة باعتبارها نهاية امل�رشوع التحديثي العقالين ،وبداية
التحول �صوب اخلطاب املت�أ�سلم �أو املت�أ�سلف ،الذي منحه ال�سادات دعمه
ال�سيا�سي عقب ت�سلمه لل�سلطة و�إعالن �أن دولته هي دولة العلم والإميان.
وعاد اخلطاب التقليدي ب�رشا�سة لينتزع الب�ساط من جديد من حتت �أقدام
اخلطاب احلديث ،ويكت�سب ب�سلطة الدولة والإعالم اجلديد والدعم اخلارجي
غري املحدود� ،شعبية كبرية ،ال بني املتعلمني ،و�إمنا بني الأميني الذين توجه
لهم هذا اخلطاب عرب و�سائل الإعالم املرئية منها وامل�سموعة .وجنح اخلطاب
19
القدمي يف فر�ض احلجاب على ر�ؤو�س الن�ساء ،و�إ�سداله على عقول الرجال
مع ًا .وو�صلت هذه امل�سرية ذروتها يف فتاوى ا�ستحالل دم جنيب حمفوظ
واالعتداء الآثم على حياته ،ودعوات حترمي الأدب والفن وم�صادرة الكتب
والروايات .لكن درا�سة هذه امل�سرية املقلوبة ،والتي انتهت ب�شيطنة الإ�سالم
يف الغرب وتف�شي (الإ�سالموفوبيا) فيه ،بعدما كانت امل�سرية الأوىل قد
ك�سبت له �أن�صاراً بني مثقفيه ،ووجدنا الكثريين من امل�ست�رشقني من �أمثال
مونتجومري وات يف بريطانيا ومك�سيم رودن�سون يف فرن�سا يدافعون عنه
بقوة ،وميجدون �سرية ر�سوله الكرمي (�صلعم) ،ويكتبون عنه بكل احرتام
وتقدير ،لي�ست مو�ضوع اهتمامنا هنا ،و�إن كانت مو�ضوع ًا جديراً بالدرا�سة
ملعرفة باثولوجيا الراهن امل�رصي والعربي يف الزمن الرديء.
20
هذه الكتب التي ال �أعدل بها كتب ًا �أخرى مهما تكن ،والتي ال �أم ّل قراءتها
والأن�س بها ،والتي ال ينق�ضي حبي لها ،و�إعجابي بها ،وحر�صي على �أن
يقر�أها النا�س .ولكن النا�س مع الأ�سف ال يقر�ؤونها؛ لأنهم ال يريدون �أو
لأنهم ال ي�ستطيعون .ف�إذا ا�ستطاع هذا الكتاب �أن يحبب �إىل ال�شباب قراءة
كتب ال�سرية خا�صة ،وكتب الأدب العربي القدمي عامة ،والتما�س املتاع
الفني يف �صحفها اخل�صبة ،ف�أنا �سعيد حق ًا ،موفق حق ًا لأحب الأ�شياء
يل ،و�آثرها عندي»« .على هام�ش ال�سرية� ،ص ط» وطه ح�سني يريد لهذه �إ ّ
القراءة ،وملا يتمخ�ض عنها من معرفة� ،أن تكون قراءة فاعلة حتث القراء
على ا�ستلهام تراثهم القدمي يف كتابتهم اجلديدة و�إبداعاتهم املعا�رصة ،كما
ي�ستلهم الغربي تراثه يف �أعماله الأدبية والفكرية املعا�رصة ،فيدير احلا�رض
حواره مع املا�ضي ويغتني به.
�أما املبد�أ الثاين فهو �أن يقدم هذه املرحلة بلغة �سهلة ي�سرية الفهم
واال�ستيعاب �إىل القارئ اجلديد بكل دقة و�أمانة ،وب�صورة جتعل الكتاب
اجلديد بدي ًال موثوق ًا به عن الكتب القدمية الكثرية وال�صعبة يف هذا املجال.
لأنه يقدم جوهرها ويدقق يف رواياتها وميح�صها ،ويلتزم الأمانة يف
تعامله معها� .إذ يقول« :و�أحب �أن يعلم النا�س �أي�ض ًا �أنني و�سعت على نف�سي
يف الق�ص�ص ،ومنحتها من احلرية يف رواية الأخبار واخرتاع احلديث ما مل
�أجد به ب�أ�س ًا� .إال حني تت�صل الأحاديث والأخبار ب�شخ�ص النبي� ،أو بنحو
من �أنحاء الدين ،ف�إنني مل �أبح لنف�سي يف ذلك حرية وال �سعة .و�إمنا التزمت
ما التزمه املتقدمون من �أ�صحاب ال�سرية واحلديث ،ورجال الرواية ،وعلماء
الدين .ولن يتعب الذين يريدون �أن يردوا ف�صول هذا الكتاب القدمي يف
جوهره و�أ�صله ،اجلديد يف �صورته و�شكله� ،إىل م�صادره القدمية التي �أخذ
منها .فهذه امل�صادر قليلة جداً ،ال تكاد تتجاوز �سرية ابن ه�شام ،وطبقات
ابن �سعد ،وتاريخ الطربي .ولي�س يف هذا الكتاب ف�صل �أو نب�أ �أو حديث
�إال وهو يدور حول خرب من الأخبار ورد يف كتاب من هذه الكتب»( .على
هام�ش ال�سرية� ،ص ك) وي�ؤكد هذا املقتطف �أن لكل ما يف الكتاب �أ�صوله
21
يف ثقات كتب ال�سرية والتاريخ الإ�سالمي .و�أن منهج طه ح�سني يف الكتابة
يلتزم بالدقة وال�صدق والأمانة ،وخا�صة حينما يت�صل الأمر ب�شخ�ص النبي
�أو ب�أمر من �أمور الدين .حيث يرجع فيها كل �شيء �إىل م�صادره الأولية
املوثوق فيها ،مع �أنه يتيح لنف�سه يف غري ذلك الت�رصف وفق ما يقت�ضيه
املنطق والعقل ،وما يعزز عملية الإقناع.
فتحديث اخلطاب الديني عند طه ح�سني يلتزم باحلقائق امل�ستقرة يف
الكتب الثقات .وهو �أمر يكرره طه ح�سني يف كتابه «الفتنة الكربى» حينما
ي�ؤكد �أن املنهج الذي اختطه فيه هو منهج التدقيق العلمي يف كتابة التاريخ.
�إذ يفتتح اجلزء الأول من «الفتنة الكربى» بـ«هذا حديث �أريد �أن �أخل�صه للحق
ما و�سعي �إخال�صه للحق وحده .و�أن �أحترى فيه ال�صواب ما ا�ستطعت �إىل
حتري ال�صواب �سبي ًال ،و�أن �أحمل نف�سي فيه على الإن�صاف ال �أحيد عنه وال
�أمالئ فيه حزب ًا من �أحزاب امل�سلمني على حزب ،وال �أ�شايع فيه فريق ًا من
الذين اخت�صموا يف ق�ضية عثمان دون فريق .فل�ست عثماين الهوى ،ول�ست
�شيعة لعلي .ول�ست �أفكر يف هذه الق�ضية كما كان يفكر فيها الذين عا�رصوا
عثمان واحتملوا معه ثقلها ،وجنوا معه �أو بعده نتائجها» «الفتنة الكربى:
عثمان� ،ص »4فهو ي�ضيف هنا �إىل �رضورة االلتزام باحلقائق التاريخية
املجردة واملوثقة ،احليدة وال�رصامة املنهجية .ثم يوا�صل« :و�أنا �أريد �أن
�أنظر �إىل هذه الق�ضية نظرة خال�صة جمردة ،ال ت�صدر عن عاطفة وال هوى،
وال تت�أثر بالإميان وال بالدين ،و�إمنا هي نظرة امل�ؤلف الذي يجرد نف�سه
جتريداً كام ًال من النزعات والعواطف والأهواء مهما تختلف مظاهرها
وم�صادرها وغاياتها»( .الفتنة الكربى :عثمان� ،ص )5
نحن هنا ب�إزاء كتابة جديدة للتاريخ ،مغايرة حل�شد الروايات وجتميعها
دون منهج وا�ضح ،لأنها كتابة ت�أخذ يف اعتبارها مكونات التاريخ
االجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية والب�رشية على ال�سواء ،وتزن دور كل
مكون من هذه املكونات مبيزان علمي دقيق .حتى ال يبدو التاريخ للقارئ
وك�أنه تراكم من الأحداث دون منطق �أو ع ّلة ،و�إمنا على �أنه عملية �صريورة
22
�إن�سانية فكرية واجتماعية مع ًا ،ترتبط فيها النتائج بالأ�سباب ،والدوافع
بالظروف والأحداث .ف�إذا كانت الكتابة «على هام�ش ال�سرية» كما يقول
العنوان امل�ستقى من كتب الهوام�ش واحلوا�شي بعد �أن �أحدث فيها بحق ثورة
�أدبية وتعبريية ،ي�سرية ي�سهل متييز التاريخي فيها من امل�ؤول� ،أو ما �أحيط
بهاالت من اخلرافة �أو الأ�سطورة .وكانت الكتب الثالثة الكربى «�سرية ابن
ه�شام» و«الطبقات الكربى» البن �سعد ،و«تاريخ الطربي» مراجع ثقات
ميكن الركون �إليها ،واالعتماد عليها يف فرز الأ�صيل من الدخيل يف كل تلك
الروايات التي دارت على هام�شها ،وا�ستفاد منها الكاتب يف خلق ال�سياق
واملناخ والر�ؤية .ف�إن الكتابة عن «الفتنة الكربى» كانت ع�سرية.
كانت الكتابة عن تلك الفرتة امل�ضطربة يف �صدر الإ�سالم ع�سرية
بحق ،وهذا ما ي�ضفي على كتابته عنها �أهمية م�ضاعفة ،لأن كثرياً مما
دون
كتب عن وقائع هذه الفتنة و�أحداثها يف املراجع وامل�صادر القدمية ّ
بعد �سياقات الفتنة و�أحداثها ،وحمل الكثري من تر�سبات تلك الأحداث
وت�أويالتها ،وتربيرات الراوين لها ودوافعهم ،ومن ت�صورات امل�ؤرخني لها
ومواقفهم من خالفاتها ،وما تركته يف نفو�سهم حولها ح�سب مواقعهم من
�أحداثها .فقد �أطلقت جمريات الأحداث �أل�سنة الرواة املتع�صبني بكذب كثري؛
وروى كثري من امل�ؤرخني هذه الأكاذيب دون متحي�ص �أو تدقيق �أو تعري�ض
ل�ضوء املنطق والروايات املغايرة .كما �أن كثرياً من تلك الروايات نقلت
م�شافهة و�صنعت فيها الذاكرة ،وهي بطبعها خ�ؤون� ،صنيعها .لذلك حترى
طه ح�سني يف الكتابة عنها الدقة وال�رصامة املنهجية ،ب�صورة جتعل كتابه
رائداً يف هذا املجال .وكاد �أن يخل�ص من درا�سته لها ب�أن بع�ض ما �أدى
�إليها يعود �إىل ا�صطدام الواقع ب�آليات حراكه ال�سيا�سي واالجتماعي ،بعد
ات�ساع رقعة الدولة الإ�سالمية وتنامي خراجها ،باملثال الأخالقي والقيمي
والديني النادر الذي �أر�سى ال�شيخان� ،أبو بكر وعمر ،قواعده الأوىل على
�أر�ض اجلزيرة العربية .ب�صورة �أ�صبح من الع�سري على من جاء بعدهما �أن
يطبق هذا املثال النموذجي الذي مل تنجح الب�رشية حتى الآن يف الو�صول
�إىل مثله �صدق ًا وعد ًال وحرية .فقد قال الرواة �إن عمر بن اخلطاب قال «�إن
23
�أبا بكر �أتعب من جاء بعده» ،ولي�س من �شك يف �أن «عمر كان �أ�شد من �أبي
بكر �إتعاب ًا ملن جاء بعده .ف�سرية هذين الإمامني قد نهجت للم�سلمني يف
�سيا�سة احلكم ،ويف �إقامة �أمور النا�س على العدل واحلرية وامل�ساواة ،نهج ًا
�شق على اخللفاء وامللوك من بعدهما �أن يتبعوه .فكانت نتيجة ق�صورهم ّ
عنه – طوع ًا �أو كره ًا – هذه الفتنة التي قتل فيها عثمان رحمه اهلل ،والتي
جنمت منها فنت �أخرى قتل فيها علي ر�ضي اهلل عنه ،و�سفكت فيها دماء
كثرية كره اهلل �أن ت�سفك ،وانق�سمت فيها الأمة الإ�سالمية انق�سام ًا مازال
قائم ًا �إىل الآن»« .ال�شيخان»
24
ال�رصاع بني املثال املرجتى ،والواقع املدعوم ب�ضعف النف�س الإن�سانية،
وعدم �صربها على املثاليات الكربى التي �أر�سى الإ�سالم �أ�صولها ،وج�سد
ال�شيخان جمتمعها بعد اكتمال الر�سالة ووفاة الر�سول (�صلعم) .وكيف
تربعمت الفتنة وتوالدت �أجنة الفرقة بني ال�صحابة على كيفية ت�سيري �أمور
الدولة الإ�سالمية التي وا�صلت النمو واالت�ساع يف عهد عثمان ،بعد �أن كان
مد نطاقها من اجلزيرة �إىل بالد فار�س ،ومن ال�شام �إىل م�رص و�شمالعمر قد ّ
�إفريقيا .وكيف بد�أ عدم الر�ضا على ت�رصفات اخلليفة وحماباته لأقربائه
ين�رش �سمومه بني امل�سلمني ،بعد �أن كان اخلليفة مثا ًال يحتذى يف ال�سلوك
واملواقف .وكيف انتهت تلك الفرقة �إىل الثورة على عثمان وقتله .وكيف
�أ�صبح الأمر بعده بالغ ال�صعوبة حينما توىل علي اخلالفة ،و�أراد العودة بها
�إىل �سرية عمر و�رصامته النموذجية ،فرف�ض من �أف�سدهم الرثاء ،مثل معاوية
،بيعته ،و�أعلنوا احلرب عليه بحجج واهية مثل الث�أر لدم عثمان وهو �أمر مل
يفعله معاوية حتى بعد �أن انتهت �إليه اخلالفة بالغدر واحلرب والدهاء .ثم
تفرق امل�سلمون بعدها �إىل �شيع متناحرة ،بل ومتحاربة يف ال�سنوات اخلم�س
التي حكم فيها علي بن �أبي طالب .وهي �سنوات ات�سمت باحلروب امل�أ�ساوية
علي الناكثني :الذين نكثوا
بني امل�سلمني بع�ضهم البع�ض ،حيث بد�أت بحرب ّ
بيعتهم له ،وعلى ر�أ�سهم طلحة والزبري ،وتبعها بحربه للقا�سطني الذين �أبوا
�أن يبايعوه ،وعلى ر�أ�سهم معاوية وداهيته عمرو بن العا�ص.
ويف ظني �أن م�أ�ساوية الفتنة الكربى ووقع �أحداثها الدامي على النف�س
هو الذي دفع طه ح�سني �إىل العودة �إىل درا�سة ما قام به ال�شيخان من جت�سيد
لدولة اخلالفة :دولة احلق والعدل واحلرية على الأر�ض .وخلق النموذج
الإ�سالمي كيوتوبيا للإن�سانية جمعاء ب�رصف النظر عن دياناتها و�أعراقها،
مل يحقق املجتمع الإن�ساين مثي ًال لها حتى اليوم .فقد كان وعي طه ح�سني
ب�أهمية هذا النموذج وندرته و�صعوبته مع ًا يتخلل كتابه «الفتنة الكربى».
حيث يك�شف فيه عن �أن جتربة ال�شيخني كانت �سابقة لزمانها ،يف مثاليتها
وعدلها حني يقول« :و�أكاد �أعتقد �أن اخلالفة الإ�سالمية كما فهمها �أبو بكر
وعمر �إمنا كانت جتربة جريئة تو�شك �أن تكون مغامرة ،ولكنها مل تنته �إىل
25
غايتها ،ومل يكن من املمكن �أن تنتهي �إىل غايتها ،لأنها �أجريت يف غري
الع�رص الذي كان ميكن �أن جتري فيه� ،سبق بها هذا الع�رص �سبق ًا عظيم ًا .وما
ر�أيك يف �أن الإن�سانية مل ت�ستطع �إىل الآن على ما جربت من جتارب ،وبلغت
من رقي ،وعلى ما بلغت من فنون احلكم و�صور احلكومات� ،أن تن�شئ نظام ًا
�سيا�سي ًا يتحقق فيه العدل ال�سيا�سي بني النا�س على النحو الذي كان �أبو بكر
وعمر يريدان �أن يحققاه»« .الفتنة الكربى :عثمان �ص .»6 - 5
فقد «كانت القاعدة الأ�سا�سية التي �أقام عليها �أبوبكر وعمر نظام
حكمهما هي �أن ي�سريا �سرية النبي يف امل�سلمني ما وجدوا �إىل ذلك �سبي ًال.
و�سرية النبي يف امل�سلمني معروفة �إىل �أبعد حد ممكن .وكان قوام هذه
ال�سرية حتقيق العدل اخلال�ص املطلق بني النا�س .وما نحتاج فيما نظن
�أن نقيم على ذلك دلي ًال .وح�سبنا �أن نذكر من ال يذكر �أن الإ�سالم �إمنا جاء،
قبل كل �شيء بق�ضيتني اثنتني� :أوالهما التوحيد ،وثانيتهما امل�ساواة بني
النا�س»« .الفتنة الكربى :عثمان �ص ،»10و�إذا كان من الي�سري �أن ي�ؤمن
النا�س بوحدانية اهلل الذي ال �إله �إال هو ،ف�إن حتقيق امل�ساواة بني النا�س،
مع ما ُجبل عليه الإن�سان من �ضعف وا�ست�سالم للأهواء ،لي�س ي�سرياً ب�أي
حال من الأحوال .وهو �أمر حققه ال�شيخان ،و�أخفقت الإن�سانية يف حتقيقه
بعدهما ،بل �أخفقت الأمة الإ�سالمية نف�سها يف اال�ستمرار فيه بعدهما ،و�إال
ملا دبت الفتنة بينهم وملا كربت.
وقد يبدو �أمر العدل واحلرية وامل�ساواة بني النا�س منطقي ًا وي�سرياً حينما
نتحدث عنه ،ولكن تطبيقه يف الواقع �أمر بالغ الع�رس ،حمفوف باملزالق
واملخاطر ،تنه�ض يف وجهه الكثري من ال�صعوبات ،خا�صة حينما نبد�أ يف
تدبري �أمور جمتمع من املجتمعات ،وتوزيع الأدوار فيه بني حاكم وحمكوم.
يقول طه ح�سني�« :إن �أمر اخلالفة كله قام على البيعة� ،أي على ر�ضا الرعية،
ف�أ�صبحت اخلالفة عقداً بني احلاكمني واملحكومني ،يعطي اخللفاء على
�أنف�سهم العهد �أن ي�سو�سوا امل�سلمني باحلق والعدل ،و�أن يرعوا م�صاحلهم،
و�أن ي�سريوا فيهم �سرية النبي ما و�سعهم ذلك .ويعطي امل�سلمون على �أنف�سهم
26
العهد �أن ي�سمعوا ويطيعوا و�أن ين�صحوا ويعينوا»«.الفتنة الكربى عثمان،
�ص »25فنحن هنا ب�إزاء تعاقد اجتماعي حر بني احلاكم واملحكوم،
ينه�ض على احلق والعدل وابتغاء مر�ضاة اهلل .ويت�أ�س�س على احلرية املطلقة
ال�صديق يف
ّ منذ هذا الزمن الباكر .فقد كان �أول ما قاله �أول الرا�شدين �أبوبكر
خطبته التي تروى عنه عقب بيعته ،والتي يرد حديثها يف هذا الكتاب الذي
نقدمه لك�« :إن �أح�سنت ف�أعينوين ،و�إن �أخط�أت فقوموين� ...أطيعوين ما �أطعت
اهلل ور�سوله ،ف�إذا ع�صيت اهلل ور�سوله فال طاعة يل عليكم».
هكذا يك�شف العهد الأول� ،أو العقد االجتماعي ال�سيا�سي الأول ،الذي
قامت عليه ال�سلطة الب�رشية الأوىل يف الإ�سالم ،بعد موت الر�سول (�صلعم)
الذي كان يتلقى الوحي عن اهلل ع ّز وجل ،عن �أنه عهد بني �أحرار مت�ساوين
فقوموين».يف احلقوق والواجبات�« ،إن �أح�سنت ف�أعينوين ،و�إن �أخط�أت ّ
وهو عقد اجتماعي �سيا�سي على �أ�س�س مثالية بالغة الدقة والو�ضوح .وقد
اخلطاب الذي
ا�ستمر هذا العقد واكت�سب قدراً �أكرب من ال�رصامة مع عمر ابن ّ
و�ضع �أ�سا�س احلكم يف خطبة تولية احلكم بعد �أن فرغ من دفن �أبي بكر،
على م�ستويني :الأول هو �أن يقوم هو بنف�سه ب�إحقاق العدل وتوفري احلرية.
«ب�أن ما ح�رضه من �أمر امل�سلمني با�رشه بنف�سه ،وال يبا�رشه �أحد دونه ،وما
غاب عنه من �أمرهم و ّاله �أهل الأمانة والكفاية ،ف�إن �أح�سن ه�ؤالء الوالة
زادهم �إح�سان ًا ،و�إن �أ�سا�ؤوا ن ّكل بهم .فلم يغري طول خالفته من ذلك العهد
�شيئ ًا» «ال�شيخان» .والثاين هو ما يخ�ص الرعية ممن ال ي�ستطيع �أن يبا�رش
�أمرهم بنف�سه .فقد ر�سم لعماله� ،أي والته على الأم�صار� ،سبل التعامل مع
الرعية بو�ضوح وجالء� .إذ كان عمر «ال ميل من �أن يقول لأهل املدينة ،وملن
ورد عليه من �أهل الأم�صار� :إين مل �أر�سل عمايل لي�رضبوا �أب�شار النا�س وال
ليظلموهم ،و�إمنا �أر�سلتهم ليعلموا النا�س دينهم و�س ّنة نبيهم ،ويق�سموا بينهم
فيئهم ،ويقيموا �أمرهم كله على العدل .وكان كثرياً ما يتقدم �إىل عماله
يف �أال ي�رضبوا امل�سلمني فيذلوهم ،وال يحرموهم فيكفروهم ،وال ينزلوهم
الغيا�ض في�ضيعوهم .وكان ال يرى �أحداً من بع�ض جيو�شه �إال �س�أله عن �أمره
كله ،وعن �أمر اجلند ،وعن �سرية قوادهم فيهم»« .ال�شيخان»
27
وكان ان�شغال طه ح�سني بالك�شف عن حقيقة هذا التعاقد االجتماعي
ال�سيا�سي ودوره يف �إر�ساء قواعد دولة احلق والعدل واحلرية هو �شاغله
الأ�سا�سي يف كتابة كتابه عن «ال�شيخني» ،لأنه مل يكن م�شغو ًال كما ي�ؤكد لنا
يف ت�صدير كتابه بت�صوير ما جرى يف فرتة خالفتهما من �أحداث كبار :من
رد �أبي بكر العرب �إىل الإ�سالم بعد �أن جحدوه ،وحاولوا التمل�ص من بع�ض
�أركانه بقبولهم ال�صالة ورف�ض الزكاة .و�إعادة اجلزيرة العربية كاملة
للإ�سالم والإجهاز على دعاوى املتنبئني الكثريين ال َك َذبة من م�سيلمة يف
اليمامة� ،إىل الأ�سود العن�سي يف اليمن� ،إىل طليحة يف بني �أ�سد ،و�سجاح
يف بني متيم وغريهم� .أو ب�إخراج عمر الروم من ال�شام واجلزيرة وم�رص
وبرقة ،و�إخراج الفر�س من العراق والق�ضاء على �سلطانهم يف بالدهم،
ون�رش الإ�سالم يف كل تلك الربوع التي مل تعرفه من قبل .فكل هذه الوقائع
التاريخية معروفة كتب عنها امل�ؤرخون .ولكن ما �شغله بالكتابة عنهما
هو الك�شف عن دورهما يف ت�أ�سي�س دولة الإ�سالم النموذجية ،بل يوتوبيا
الإن�سان التي ما زال يحلم بت�أ�سي�سها على الأر�ض .وحر�ص عمر على
و�ضع قواعد هذه الدولة على الأ�س�س التي �أقامها عليها الر�سول الكرمي.
و�شدته مع والته وحر�صه على العدل و�إن�صاف امل�سلمني ،ال من بع�ضهم
البع�ض فح�سب ،و�إمنا من الوالة ،بل من اخلليفة نف�سه� .أو باخت�صار �شديد،
كي ال �أف�سد على القارئ اال�ستمتاع بقراءة هذا الكتاب القيم ،كان �شاغل
طه ح�سني الكبري بعدما فرغ من كتابه «الفتنة الكربى» هو ر�سم ال�صورة
النموذجية لدولة اخلالفة الإ�سالمية التي �أدت القطيعة معها ،واالنحراف
بها عن مبادئها الأ�سا�سية بعد ال�سنوات اخلم�س الأوىل من خالفة عثمان،
�إىل اختالف امل�سلمني واحرتابهم حتى اليوم.
وال�س�ؤال الذي قد يتبادر �إىل الذهن ونحن نقر�أ هذا الكتاب عن «ال�شيخني»:
ملاذا كتب طه ح�سني عنهما يف كتاب واحد ،ومل يفرد لكل منهما كتاب ًا
خا�ص ًا به ،كما فعل حممد ح�سني هيكل ثم عبا�س حممود العقاد من
قبله؟وهو �س�ؤال وجيه بال �شك فكل منهما ي�ستحق كتاب ًا ب�أكمله ،ولكن طه
ح�سني و�ضعهما يف كتاب واحد لأنه ر�أى �أنهما قدما مع ًا م�رشوع ًا واحداً،
28
متكامل الأركان ،مو�صول احللقات ،هو م�رشوع اخلالفة يف �أرقى �صورها
و�أكرثها عد ًال ومثالية .و�أن �سنوات خالفتهما االثنتي ع�رشة – فقد ا�ستمرت
خالفة �أبو بكر ال�صديق لعامني (10هـ13 – 632/هـ )634/وخالفة
عمر بن اخلطاب لع�رشة (13هـ23 – 634/هـ – )644/هي فرتة واحدة
م�ستمرة ومتكاملة .و�أن بداية الفتنة يف املجتمع �أو القطيعة مع م�رشوع
اخلالفة النموذجي ويوتوبياه الإن�سانية ،مل تبد�أ �إال بعد ال�سنوات اخلم�س
الأوىل من خالفة عثمان بن عفان (23هـ35 – 644/هـ )656/ثم تعرثت
بعدها حماوالت علي بن �أبي طالب (35هـ40 – 656/هـ )661/يف
العودة بها �إىل جادة ال�صواب .فقد قال عمر بن اخلطاب «لو ولوها الأجلح،
�أي علي ،حلملهم على اجلادة» .ولكنهم ولوها له بعد �أن كانت الرفاهية
املادية الناجمة عن ات�ساع الفتوح قد �أف�سدت النفو�س والعقول على ال�سواء،
فلم ي�ستطع �أن يعود بهم �إىل جادة ال�صواب.
29
30
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم
1
هذا حديث موجز عن ال�شيخني� :أبي بكر وعمر ،رحمهما اهلل .وما �أرى
�أن �سيكون فيه جديد مل �أ�سبق �إليه ،فما �أكرث ما كتب القدماء واملحدثون
جدواعنهما!وما �أكرث ما كتب امل�ست�رشقون عنهما �أي�ض ًا! و�أولئك وه�ؤالء ُّ
يف البحث واال�ستق�صاء ما �أتيحت لهم و�سائل البحث واال�ستق�صاء ،و�أولئك
وه�ؤالء قد قالوا عن ال�شيخني كل ما كان ميكن �أن يقال.
ولو �أين �أطعت ما �أعرف من ذلك ملا �أخذت يف �إمالء هذا احلديث الذي
والرب بهما ما
ّ يو�شك �أن يكون معاداً ،ولكني �أجد يف نف�سي من احلب لهما
ُيغريني بامل�شاركة يف احلديث عنهما .وقد ر�أيتني حتدثت عن النبي �صلى
اهلل عليه و�سلم يف غري مو�ضع ،وحتدثت عن عثمان وعلي رحمهما اهلل ،ومل
�أحتدث عن ال�شيخني حديث ًا خا�ص ًا بهما مق�صوراً عليهما.
و�أجد يف نف�سي مع ذلك �شعوراً بالتق�صري يف ذاتيهما ،كما �أجد يف �ضمريي
�شيئ ًا من اللوم الالذع على هذا التق�صري.
و�أنا مع ذلك ال �أريد �إىل الثناء عليهما ،و�إن كانا للثناء �أه ًال ،فقد �أثنى
عليهما النا�س فيما تعاقب من الأجيال .والثناء بعد هذا ال يغني عنهما �شيئ ًا،
31
وال يجدي على قارئ هذا احلديث �شيئ ًا .وقد كانا ـ ر�ضي اهلل عنهما ـ يكرهان
الثناء �أ�شد الكره ،ي�ضيقان به �أعظم ال�ضيق.
أف�صل الأحداث الكثرية الكربى التي حدثت يف �أيامهما ،فذلك وما �أريد �أن � ِّ
مف�صل �أ�شد التف�صيل فيما كتب عنهما القدماء واملحدثون. �شيء يطول ،وهو َّ
و�أنا بعد ذلك �أ�شك �أعظم ال�شك فيما ُروي عن هذه الأحداث ،و�أكاد �أقطع
ب�أن ما كتب القدماء من تاريخ هذين الإمامني العظيمني ،ومن تاريخ الع�رص
الق�صري الذي و ِّليا فيه �أمور امل�سلمني� ،أ�شبه بالق�ص�ص منه بت�سجيل حقائق
الأحداث التي كانت يف �أيامهما ،والتي �شقت للإن�سانية طريق ًا �إىل حياة
جديدة كل اجلدة.
فالقدماء قد �أكربوا هذين ال�شيخني اجلليلني �إكباراً يو�شك �أن يكون تقدي�س ًا
لهما ،ثم �أر�سلوا �أنف�سهم على �سجيتها يف مدحهما والثناء عليهما.
و�إذا كان من احلق �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم نف�سه قد كذب النا�س عليه،
وكان كثري من هذا الكذب م�صدره الإكبار والتقدي�س ،فال غرابة يف �أن يكون
�إكبار �صاحبيه العظيمني وتقدي�سهما م�صدراً من م�صادر الكذب عليهما �أي�ضاً.
يق�صون الأحداث الكربى التي كانت يف �أيامهما ك�أنهم قد والقدماء ُّ
�شهدوها ور�أوها ر�أي العني ،مع �أننا نقطع ب�أن �أحداً منهم مل ي�شهدها ،و�إمنا
� َّأرخوا لهذه الأحداث ب�أخرة .ولي�س �أ�شد ُع�رساً من الت�أريخ للمواقع احلربية
وو�صفها و�صف ًا دقيق ًا كل الدقة� ،صادق ًا كل ال�صدق ،بريئ ًا من الإ�رساف
والتق�صري.
والذين ي�شهدون هذه املواقع وي�شاركون فيها ال ي�ستطيعون �أن ي�صفوها
هذا الو�صف الدقيق ال�صادق ،لأنهم مل يروا منها �إال �أق َّلها و�أي�رسها ،مل يروا �إال
ما عملوا هم وما وجدوا ،وقد �شغلهم ذلك عما عمل غريهم.
وما ظنك باجلندي الذي هو دائم ًا م�شغول بالدفاع عن نف�سه واتقاء ما
ي�سوقه �إليه خ�صمه من الكيد ؟ �أتراه قادراً على �أن يالحظ ما يحدث حوله،
وما يحدث بعيداً عنه من الهجوم والدفاع ،ومن الإقدام والإحجام ؟ هيهات!
ذلك �شيء ال �سبيل �إليه.
و�إمنا ي�ستطيع امل�ؤرخون املتقنون �أن يحققوا عواقب املواقع ،وما يكون
32
من انت�صار جي�ش على جي�ش ،وانهزام جي�ش �أمام جي�ش ،وما يكون �أحيان ًا من
�إبطاء الن�رص �أو �إ�رساعه ،ومن طول املواقع �أو ق�رصها ،ومن امتحان اجلي�شني
املحرتبني مبا يكون فيهما �أو يف �أحدهما من كرثة القتلى واجلرحى ،ومن
اخلطط التي يتخذها القواد للهجوم والدفاع ،وما يكون لهذه اخلطط من جنح
�أو �إخفاق .ف�أما �إح�صاء القتلى واجلرحى والغرقى � -إن ا�ضطر اجلي�ش املنهزم
�إىل عبور نهر �أو قناة -و�إح�صاء املنهزمني ،بل �إح�صاء اجليو�ش نف�سها قبل
�أن تلتقي وحني تلتقي ،ف�شيء ال �سبيل �إليه ،وال �سيما بالقيا�س �إىل الأحداث
التي كانت يف الع�صور القدمية ،حني مل يكن هناك �إح�صاء دقيق ،وحني مل
يكن للنا�س علم مبناهج البحث واال�ستق�صاء وحتقيق �أحداث التاريخ.
وقدماء امل�ؤرخني من العرب مل يعرفوا من �أمر هذه الأحداث الكربى �إال
الرواة من العرب واملوايل ،فهم �إمنا عرفوا تاريخ هذه الأحداث من ما تناقله ُّ
طريق املنت�رصين وحدهم ،بل من طريق الذين مل ي�شهدوا االنت�صار ب�أنف�سهم.
و�إمنا نقلت �إليهم �أنبا�ؤه نق ًال �أقل ما ميكن �أن يو�صف به �أنه مل يكن دقيق ًا.
وهم مل ي�سمعوا �أنباء هذا االنت�صار من املنهزمني بني فر�س وروم و�أمم �أخرى
�شاركتهم يف احلرب و�شاركتهم يف الهزمية ،فهم �سمعوا �صوت ًا واحداً هو
ال�صوت العربي.
و�أي�رس ما يجب على امل�ؤرخ املحقق �أن ي�سمع �أو يقر�أ ما حتدث به �أو كتبه
املنهزمون واملنت�رصون جميع ًا.
والأحداث الكربى التي كانت �أيام ال�شيخني خطرية يف نف�سها ،تبهر الذين
ي�سمعون �أنباءها �أو يقرءونها ،فلي�ست يف حاجة �إىل �أن يتكرث يف روايتها
املتكرثون ،وال �إىل �أن يحيطها الرواة مبا �أحاطوها به من الغلو والإ�رساف،
فرد العرب �إىل الإ�سالم بعد �أن جحدوه ،و�إخراج الروم من ال�شام واجلزيرة ُّ
وم�رص وبرقة ،و�إخراج الفر�س من العراق والق�ضاء على �سلطانهم يف بالدهم،
كل هذه الأحداث ال �سبيل �إىل ال�شك فيها وال يف وقوعها يف هذا الع�رص الق�صري
�أثناء خالفة ال�شيخني ،وهي �أحداث ت�صف نف�سها وتدل على خطورتها ،ولي�ست
حمتاجة �إىل املبالغة يف و�صفها ،لأنها فوق كل مبالغة ،مع �أنها حقائق ال
معنى لل�شك فيها.
33
من �أجل هذا كله �أعر�ض عن تف�صيل هذه الأحداث كما رواها القدماء
و�أخذها عنهم املحدثون يف غري بحث وال حتقيق.
و�أنا �أعتقد �أن امل�ؤرخ حني يقول� :إن ع�رص ال�شيخني قد �شهد انت�صار
امل�سلمني على الروم ،وق�ضاء امل�سلمني على دولة الفر�س ،قد قال كل �شيء،
و�سج َل معجزة مل يعرف التاريخ لها نظرياً. َّ
�أنا �إذن ال �أملي هذا احلديث لأثني على ال�شيخني ،وال لأف�صل تاريخ الفتوح
يف ع�رصهما ،و�إمنا �أريد �إىل �شيء �آخر خمالف لهذا �أ�شد اخلالف� ،أريد �أن
�أعرف و�أن �أبني لقارئ هذا احلديث �شخ�صية �أبي بكر وعمر رحمهما اهلل،
كما ي�صورها ما نعرف من �سريتهما ،وكما ت�صورها الأحداث التي كانت
يف ع�رصهما ،وكما ي�صورها هذا الطابع الذي طبعت به حياة امل�سلمني من
بعدهما ،والذي كان له �أعظم الأثر فيما خ�ضعت له الأمة العربية من �أطوار
وما جنم فيها من فنت.
ويقول الرواة� :إن عمر قال عن �أبي بكر� :إنه �أتعب من بعده .ولي�س من �شك
يف �أن عمر كان �أ�شد من �أبي بكر �إتعاب ًا ملن جاء بعده ،ف�سرية هذين الإمامني
قد نهجت للم�سلمني يف �سيا�سة احلكم ،ويف �إقامة �أمور النا�س على العدل
�شق على اخللفاء وامللوك من بعدهما �أن يتبعوه. واحلرية وامل�ساواة ،نهج ًا ّ
فكانت نتيجة ق�صورهم عنه -طوع ًا �أوكره ًا -هذه الفتنة التي قتل فيها
عثمان رحمه اهلل ،والتي جنمت منها فنت �أخرى قتل فيها علي ر�ضى اهلل عنه،
و�سفكت فيها دماء كثرية كره اهلل �أن ت�سفك ،وانق�سمت فيها الأمة الإ�سالمية
انق�سام ًا مازال قائم ًا �إىل الآن.
هذا النهج الذي نهجه ال�شيخان ،والذي ق�رص عنه بعدهما اخللفاء وامللوك،
هو الذي �أريد �أن �أعرفه و�أجلوه لقارئ هذا احلديث ،و�أ�ستخل�ص منه بعد ذلك
�شخ�صية �أبي بكر وعمر رحمهما اهلل.
وال �أذكر ُع�رس هذا البحث وال ما �س�أبذل فيه من اجلهد ،وما �س�أتعر�ض له
من امل�شقة ،وما �سيعر�ض يل من امل�شكالت ،فكل من يحاول مثل هذا البحث
البد من �أن يوطن نف�سه على كل هذا العناء ،ومن �أن ي�ستعني اهلل عليه.
34
2
يقول اهلل عز وجل يف �سورة احلجرات:
ان ل ُت ْ�ؤ ِم ُنوا َو َل ِكن ُقو ُلوا �أَ ْ�س َل ْم َنا َولمَ َّ ا َي ْد ُخلِ ا ِلإ َ
مي ُ « َقا َل ِت الأَ ْع َر ُ
اب � َآم َّنا ُقل َمّ ْ
ور الل َو َر ُ�سو َل ُه ال َي ِل ْت ُكم ِّم ْن �أَ ْع َما ِل ُك ْم َ�ش ْي ًئا �إِ َّن َهّ َ
الل َغ ُف ٌ يعوا َهّ َفيِ ُق ُلو ِب ُك ْم َو�إِن ُت ِط ُ
َّر ِح ٌ
يم».
وكل �شيء يدل على �أن اهلل عز وجل قد اختار نبيه جلواره ومازال
بعد .ر�أوا �سلطان ًا جديداً قد ظهر الأعراب م�سلمني مل يدخل الإميان يف قلوبهم ُ
يف الأر�ض و�أظل املدينة ومكة والطائف ،وطالب النا�س ب�أن يدينوا دينه،
وي�شهدوا �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً عبده ور�سوله ،وي�ؤدوا ما يفر�ض عليهم
من الواجبات ،ور�أوا هذا ال�سلطان يعلن احلرب على كل عربي يف اجلزيرة
ي�ستم�سك ب�رشكه وال ُيذعن لهذا الدين اجلديد ،ور�أوه يحول بني امل�رشكني
وبني امل�سجد احلرام مبكة ويعلن �إليهم قول اهلل ع ّز وجل يف �سورة براءة:
امهِ ْم َه َذا». ون نجَ َ ٌ�س َف َال َي ْق َر ُبواْ المْ َ ْ�سجِ َد الحْ ََر َام َب ْع َد َع ِ نا المْ ُ �شرْ ُِك َ«�ِ ..إ َمّ َ
ور�أوا لهذا ال�سلطان من القوة والب�أ�س ،ور�أوا فيه من ال�سعة والإ�سماح ،ما
ورغبهم ،ف�أعلنوا �إذعانهم لهذا الدين اجلديد طائعني �أو كارهني. رهبهم ّ ّ
ولو قد بقي النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فيهم �أعوام ًا كثرية �أو قليلة لكان
من املمكن �أن تذعن لهذا الدين قلوبهم كما �أذعنت له �أل�سنتهم ،ولكن اهلل �آثر
35
غري
مر�ضي ًا .ور�أى امل�سلمون ُ
ّ لنبيه رحمته ور�ضوانه ففارق هذه الدنيا را�ضي ًا ّ
امل�ؤمنني من العرب �أنه رجل كغريه من الرجال يعر�ض له املوت كما يعر�ض
لغريه من النا�س ،و�أن الذي نه�ض بالأمر من بعده لي�س �إال رج ًال يعرفونه،
ويقدرون �أنه �أجدر �أن يعر�ض املوت له كما عر�ض للنبي الذي �أنزل عليه
القر�آن ،و�أتيح له ما �أتيح من الظهور على كل من خالفه �أو ناو�أه.
هنالك تك�شفت قلوبهم عن دخائلها ،و�أظهروا �أنهم قد �أ�سلموا ل�سلطان النبي
الردة ،وجعلوا ي�ساومون يف دون �أن ت�ؤمن به قلوبهم ،ف�أظهروا ما �أظهروا من ّ
الزكاة ،وتقول وفودهم لأبي بكر :نقيم ال�صالة وال ن�ؤدي الزكاة.
أحب �إليهم من الدين ،وكانت نفو�سهم �أكرم عليهم من �أن ي�ؤدوا كان املال � َّ
�رضيبة �إىل رجل ال يوحى �إليه وال ي�أتيه خرب ال�سماء.
بل �إن ظاهرة �أخرى دلت على �أن فريق ًا من العرب مل ينتظروا بجحودهم
الردة قبل
وردتهم فراق النبي �صلى اهلل عليه و�سلم لهذه الدنيا ف�أظهروا ّ
وفاته ،ال لأنهم �ضاقوا بالزكاة� ،أو �آثروا املال على الدين ،بل لأنهم نف�سوا
هي�أ لها ما ُهيئ من هذا ال�سلطان مبا على قري�ش �أن تكون فيها النبوة ،و�أن ُي َّ
له من قوة وب�أ�س ،ومبا فيه من �سعة و�إ�سماح ،فظهر بينهم بدع جديد وهو
التنب�ؤ.
فما ينبغي �أن ت�ست�أثر قري�ش من دونهم بالنبوة ،وما ينبغي �أن تخت�ص
وحدها بهذا ال�سلطان تب�سطه على الأر�ض.
وما �أ�رسع ما ظهر التنب�ؤ يف ربيعة -ويف بني حنيفة منهم خا�صة -
ف�أعلن ُم�سليمة نبوته يف اليمامة ،وجعل يهذي بكالم زعم �أنه كان يوحى
�إليه ،وجعل يقول :لنا ن�صف الأر�ض ولقري�ش ن�صفها .ولكن قري�ش ًا قوم
يظلمون.
وظهر التنب�ؤ يف اليمن ،فثار الأ�سود العن�سي و�أعلن نبوته ،وركبه �شيطان
ال�سجع كما ركب ُم�سيلمة.
ومل يكد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ينتقل �إىل الرفيق الأعلى حتى ظهر
تنب�ؤ �آخر يف بني �أ�سد ،ف�أعلن طليحة �أنه نبي وجعل يهذي لقومه كما هذى
�صاحباه بال�سجع ،يزعم �أنه يتنزل عليه من ال�سماء.
36
احلد بل تنب�أت امر�أة يف بني متيم -وهي ثم مل يقف الأمر عند هذا ّ
�سجاح -كانت نازلة يف بني تغلب ،فلما ا�ست�أثر بها �شيطان ال�سجع �أ�رسعت
�إىل قومها من متيم ف�أغوت منهم خلق ًا كثرياً.
وكذلك نف�ست قحطان على عدنان �أن يكون لها نبي من دونها ،فظهر فيها
الأ�سود العن�سي ،ونف�ست ربيعة العدنانية على م�رض �أن ت�ست�أثر من دونها
بالنبوة ،ونف�ست �أ�سد ومتيم امل�رضيتان �أن ت�ست�أثر قري�ش بالنبوة من دون
�سائر م�رض ،فظهر طليحة يف بني �أ�سد وظهرت �سجاح يف بني متيم.
وكذلك عادت الأر�ض كافرة بعد �إ�سالمها ،وا�شتعلت فيها نار ما �أ�رسع
وح�رص الإ�سالم يف املدينة ما انت�رش لهبها حتى �شمل جزيرة العرب كلها !ُ ،
ومكة والطائف.
وكان انت�شار هذا اللهب وارتداد الكرثة الكثرية من العرب حمنة ام ُت ِحن
بها �أبوبكر ،وام ُت ِحن بها معه امل�سلمون بعد وفاة النبي .ولي�س �شيء �أ�صدق
ت�صويراً ل�شخ�صية الرجل من ثباته للمحنة مهما تعظم ،ونفوذه من م�شكالتها
مهما تتعقد ،وظهوره على هولها مهما يكن �شديداً.
ومل يواجه �أبوبكر يف �أول عهده باخلالفة ردة املانعني للزكاة ،وكفر
التابعني ملن تنب�أ من الكذابني فح�سب ،و�إمنا واجه يف الوقت نف�سه ت�أهب
العرب من ن�صارى ال�شام للمكر به والكيد له والغارة عليه.
وقد واجه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حت ُّفز العرب يف ال�شام على حدود
اجلزيرة العربية ،وكانت له معهم خطوب ،فلم تكن م�ؤتة وال تبوك �إال حماولة
لرد ن�صارى العرب يف ال�شام عن اجلزيرة ،بل مل يكتف النبي � -صلى اهلل
جهز قبل وفاته جي�ش ًا لغزو ه�ؤالء العرب، عليه و�سلم -مب�ؤتة وتبوك و�إمنا ّ
و� ّأمر على هذا اجلي�ش �أ�سامة بن زيد بن حارثة ،وكان لأ�سامة ث�أر عند ه�ؤالء
العرب الذين قتلوا �أباه يوم م�ؤتة .وع�سى �أن يكون النبي قد الحظ هذا الث�أر
حني � َّأمر �أ�سامة على حداثة �سنه ،وحني جعل يف جي�شه خرية �أ�صحابه ،وفيهم
�أبوبكر وعمر.
ولكن النبي مر�ض قبل �إنفاذ هذا اجلي�ش ،وملا �أح�س الوفاة �أو�صى ب�إنفاذ
جي�ش �أ�سامة.
37
فلما ا�ستخلف �أبوبكر نظر ف�إذا الأر�ض من حوله كافرة ،و�إذا �أولو القوة
والب�أ�س من �أ�صحابه قد ُج ّندوا يف هذا اجلي�ش املهي�أ للغارة على �أطراف
ال�شام ،والذي �أو�صى النبي قبل وفاته ب�إنفاذه �إىل غايته.
ف�أبوبكر �إذن �أمام نار ُم�ضطربة يف اجلزيرة العربية كلها ،وهو بني
اثنتني� :إما �أن ينفذ هذا اجلي�ش فيواجه هذه النار املت�أججة غري قادر على
�إخمادها ،و�إما �أن ي�ؤجل �إنفاذ هذا اجلي�ش حتى يحاول به �إخماد هذه النار
فيبطئ يف �إنفاذ و�صية النبي.
وكذلك �أخذته املحنة من جميع �أقطاره .و�سرنى كيف ا�ستطاع �أن يخرج
منها ظافراً موفوراً.
38
3
ومن قبل هذه املحنة واجهته حمنة �أخرى قبل �أن يلي �أمور امل�سلمني،
وهي وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم .ومل تكن هذه املحنة مق�صورة عليه،
بل كانت عامة كادت تفنت امل�سلمني عن دينهم .فهم كانوا يقدرون �أن النبي
�سيبقى فيهم حتى يظهر دين اهلل على الدين كله ،وهم يقرءون يف �سورة
التوبة قول اهلل عز وجل:
«ه َو ا َ ّل ِذي �أَ ْر َ�س َل َر ُ�سو َل ُه بِا ْل ُه َدى َو ِدينِ الحْ َ ِ ّق ِل ُي ْظه َِر ُه َع َلى ال ِ ّدينِ ُك ِلّ ِه َو َل ْوُ
ون». َك ِر َه المْ ُ �شرْ ُِك َ
ويقرءون قوله عز ا�سمه يف �سورة الفتح:
«ه َو ا َ ّل ِذي �أَ ْر َ�س َل َر ُ�سو َل ُه بِا ْل ُه َدى َو ِدينِ الحْ َ ِ ّق ِل ُي ْظه َِر ُه َع َلى ال ِ ّدينِ ُك ِلّ ِه َو َكفَى
ُ
ِالل َ�شهِي ًداً».ب َ هّ ِ
وكان النبي قد �أظهر دين احلق على الدين كله يف جزيرة العرب ،ولكنه مل
ُيظهره على الدين كله يف �سائر �أقطار الأر�ض .ثم انتق�ضت اليمن مع الأ�سود
العن�سي ،وانتق�ض بنو حنيفة مع م�سيلمة يف حياة النبي ،فلم يتم له �إذن �إظهار
دين احلق على الدين كله ،ال يف جزيرة العرب وال يف غريها من �أقطار الأر�ض.
39
وها هو ذا يفارق الدنيا ويختاره اهلل جلواره .فال غرابة يف �أن ي�شك
ال�صادقون من امل�ؤمنني يف �أنه قد مات ،كما �شك عمر رحمه اهلل .وال غرابة يف
�أن يكفر الذين كانوا يعبدون اهلل على حرف ،كما كفر الأعراب الذين جحدوا
الزكاة .وال غرابة يف �أن ي�ضطرب �أمر النا�س يف املدينة �أ�شد اال�ضطراب.
ف�إذا فكرت يف �أن �أبا بكر كان �أحب النا�س �إىل ر�سول اهلل ،وكان ر�سول
اهلل �أحب النا�س �إليه ،عرفت وقع هذه املحنة يف نف�س �أبي بكر .ولكنك تعلم
كيف خرج �أبوبكر من هذه املحنة دون �أن ت�ضطرب لها نف�سه ،ودون �أن
يجد ال�ضعف �أو الريب �إىل نف�سه �سبي ًال .وتعرف كذلك كيف ا�ستطاع �أن يرد
ال�صادقني من امل�ؤمنني �إىل �أنف�سهم� ،أو يرد �أنف�سهم �إليهم ،حني تال عليهم
هاتني الآيتني الكرميتني .وهما قول اهلل عز وجل يف �سورة �آل عمران:
ات �أَ ْو ُق ِت َل ان َق َل ْب ُت ْم
الر ُ�س ُل �أَ َف�إِن َ ّم َ
م َ ّم ٌد �إِ َالّ َر ُ�سو ٌل َق ْد َخ َل ْت ِمن َق ْب ِل ِه ُ ّ
«و َما حُ ََ
الل َ�ش ْيئًا َو َ�س َي ْجزِي َ هّ ُ
الل َ
َع َلى �أ ْع َقا ِب ُك ْم َو َمن َين َق ِل ْب َع َل َى َع ِق َب ْي ِه َف َلن َي�ضرُ َ ّ َ هّ َ
ِين».
ال�ش ِاكر َ
َّ
وقوله يف �سورة الزمر:
«�إنك م ِّي ٌت و�إ َّنهم م ِّي ُتون».
اجلزع والريب عن َ مل يجزع �إذن �أبوبكر ومل َي ْر َت ْب لوفاة النبي ،بل ذاد
نفو�س امل�ؤمنني ال�صادقني حني ذكرهم مبا �أنب�أ اهلل به يف القر�آن من �أن
النبي معر�ض للموت وللقتل ،ومن �أنه ميت كما ميوت غريه من النا�س.
ولي�س �إذن ُب ّد من البحث عن م�صدر ما �أتيح لأبي بكر من الثبات للمحن
وال�صرب عليها ،والنفوذ �آخر الأمر من م�شكالتها.
40
4
ولي�س لهذا كله �إال م�صدر واحد هو الذي يد ل عليه لقبه« :ال�صديق» .ذلك
�أن �أبا بكر كان رج ًال من قري�ش ،ثم رج ًال من العرب ،ثم �إن�سان ًا يفرح ملا يفرح
القر�شي له ويفرق مما يفرق القر�شي منه ،وتت�أثر نف�سه مبا تت�أثر به النف�س
العربية ،وتخ�ضع طبيعته ملا تخ�ضع له الطبيعة الإن�سانية من كل ما يعر�ض
للنا�س من الر�ضى والغ�ضب ،ومن ال�رسور واحلزن ،ومن اللذة والأمل ،ومن
القوة وال�ضعف .ثم كان �أبوبكر ميتاز برقة القلب و�سماحة النف�س والرحمة
ال�شديدة لكل من ي�صيبه ما يكره.
فكيف ا�ستطاعت طبيعته هذه �أن تثبت لهذه املحن ال�شداد ،و�أن تنفذ منها
يف غري م�شقة وال تكلف ؟ ،وهو الذي �أ�شفقت ابنته عائ�شة -رحمها اهلل � -أال
ي�سمع النا�س �صوته حني تقدم النبي ي�أمره �أن ي�صلي بالنا�س ملا ثقل عليه
الوجع .فقالت :يا ر�سول اهلل� ،إن �أبا بكر رجل �أ�سيف ،و�إذا قام مقامك مل ُي�سمع
النا�س من البكاء.
ثم كيف ا�ستطاع �أن يبلغ من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم هذه املنزلة التي
بلغها ،والتي مل يبلغها عنده �أحد من �أ�صحابه .فكان النبي يعلن ذلك ،فيجيب
41
عمرو بن العا�ص حني �س�أله� :أي الرجال �أحب �إليه ،ب�أنه �أبوبكر.
ويقول يوم ًا على املنرب فيما حتدث الرواة :لو كنت متخذاً من �أمتي خلي ًال
التخذت �أبا بكر خلي ًال .ولكن �إخاء و�صحبة حتى يجمعنا اهلل عنده ،ويختلف
�إىل داره مبكة ُم�صبح ًا وممُ �سي ًا من كل يوم ،ويخت�صه مب�صاحبته حني هاجر
من مكة ،وي�ؤثره بخا�صة �أمره كله.
ال جواب على هذه الأ�سئلة �إال ما ذكرته �آنف ًا من �أنه كان ال�صديق ،فهو
�أول من �أ�سلم من الرجال ،وكان �إ�سالمه �صفواً خال�ص ًا ،قوامه الت�صديق
العميق ،والإميان اخلال�ص من كل �شائبة ،واالطمئنان ال�صادق ال�سمح �إىل
يحدث به النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،ثم �إيثاره النبي على نف�سه يف كل ما ِّ
جد واحتاج النبي �أو امل�سلمون �إىل هذا كل موطن ،ثم البالء احل�سن كلما ّ
البالء.
ُ
والرواة يتحدثون ب�أن النبي حني �أنب�أ ذات يوم ب�أنه �أ�رسي به من ُّ
وتردد بع�ض ّ قري�ش، بته ذ
ّ ك أق�صى. ل ا امل�سجد إىل � احلرام امل�سجد من ليلته
امل�سلمني يف ت�صديقه ،ومل يطمئن لنبئه هذا يف غري �شك وال ارتياب وال
تردد �إال رجل واحد هو �أبوبكر.
ل�صلح ويحدثنا الرواة كذلك �أنه كان الرجل الوحيد الذي �أطم�أنت نف�سه ُ
النبي مع قري�ش على الهدنة يوم احلديبية ،وقد ا�ضطرب النا�س لهذا ال�صلح
و�ضاقوا به �أول �أمرهم ،وثار له عمر بن اخلطاب على ُقربه من النبي و�إيثار
النبي له ،فقال للنبي� :أل�سنا على احلق؟ قال النبي :بلى .قال عمر� :ألي�سوا
الدنية يف ديننا؟ قال على الباطل؟ قال النبي :بلى .قال عمرَ :ف ِلم ُنعطى َّ
�ضيعني.
النبي وقد �أخذه �شيء من الغ�ضب� :أنا عبداهلل ور�سوله ولن ُي ِّ
وذهب عمر بعد ذلك �إىل �أبي بكر فحاوره كما حاور النبي .فكان جواب
�أبي بكر نف�س اجلواب الذي �أجاب به النبي ،قال لعمر� :إنه عبداهلل ور�سوله
ي�ضيعه.
ولن ِّ
ومل يعرف قط �أن �أبا بكر قال �أو �صنع �شيئ ًا ي�ؤذي النبي منذ �أ�سلم �إىل �أن
مات .ذلك �إىل �إيثاره امل�سلمني على نف�سه ،و�إنفاق ماله يف معونتهم.
فالرواة يتحدثون ب�أنه كان رج ًال تاجراً ،وب�أنه �أ�سلم وعنده �أربعون �ألف
42
درهم ،فلما هاجر �إىل املدينة مع النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل يكن قد بقي
له من هذا املال �إال خم�سة �آالف درهم� ،أنفق �سائر ماله يف موا�ساة النبي
وامل�سلمني ،كان ال يرى رقيق ًا يع َّذب يف الإ�سالم �إال ا�شرتاه و�أعتقه.
من �أجل هذا كله مل يكن �أ�سبق الرجال �إىل الإ�سالم فح�سب ،بل كان
�أح�سنهم فيه بالء ،و�أثبتهم فيه قدم ًا ،و�أ�شدهم له اطمئنان ًا و�إذعان ًا.
ومعنى هذا كله �أن �أبا بكر حني �أ�سلم ُخلق خلق ًا جديداً ،واكت�سب �شخ�صية
مل تكن له من قبل ،قوامها الإيثار والوفاء واالطمئنان والثبات الذي ال
يعرف تردداً وال ا�ضطراب ًا.
ولأم ٍر ما �آثره النبي ب�صحبته يف الهجرة ،وذكره اهلل يف القر�آن ب�أنه كان
ثاين اثنني يف الغار .وكان بع�ض امل�سلمني يقولون �إنه كان ثالث ثالثة.
يت�أولون الآية الكرمية من �سورة براءة:
َان ا ْث َنينْ ِ �إِ ْذ ُه َما فيِ
ين َكف َُرواْ ث يِ َ «�إِ َالّ َتن�صرُ ُ و ُه َف َق ْد َن�صرَ َ ُه َ هّ ُ
الل �إِ ْذ �أَ ْخ َر َج ُه ا َ ّل ِذ َ
الل َم َع َنا.».. اح ِب ِه َال تحَ ْ َز ْن �إ َ ِّن َ هّ َ
ول ِل َ�ص ِ ا ْل َغا ِر �إِ ْذ َي ُق ُ
فقد كان اهلل مع ر�سوله ومع �أبي بكر يف الغار ،وكان �أبو بكر �إذن ثالث
الثالثة.
وزكى نف�سه ،وع ّلمه قوى �شخ�صيته ّ وقد �أدبه اهلل يف القر�آن ت�أدب ًا رائع ًا ّ
كيف يرتفع عن ال�صغائر ،وكيف يحمل نف�سه على ما تكره ،مادام يف هذا
الذي تكره من الرب واملعروف والإح�سان ما ير�ضي اهلل عنه ويغفر له الذنوب،
وذلك يف ق�صة الإفك حني غ�ضب �أبوبكر على قاذف ابنته عائ�شة رحمها اهلل،
وكان هذا القاذف من ذوي قرابة �أبي بكر ،وكان �أبوبكر يح�سن �إليه ويعطيه
ما ُيعينه على �أثقال احلياة .فلما اقرتف ما اقرتف من الإثم �أزمع �أبوبكر �أن
يقب�ض عنه �إح�سانه ومعونته .ف�أنزل اهلل يف �سورة النور بعد ق�صة الإفك هذه
الآية الكرمية:
نيول ا ْل ُق ْر َبى َوالمْ ََ�س ِاك َ ال�س َع ِة �أَن ُي�ؤْ ُتوا �أُ يِ «وال َي�أْ َتلِ �أُ ْو ُلوا ا ْلف َْ�ضلِ ِمن ُك ْم َو َ ّ َ
ون �أَن َي ْغ ِف َر َ هّ ُ
الل َل ُك ْم ب ِ
تحُ ُ ّ َ ال َ �
أ واَح ف �ص ي
ََْْ ََْ ْ ُ ل و ُوا ف ع ي ل و ِ هّ
الل َ ِيلِ
ب �س
َ فيِ َ ِين ر ِ
اج َوالمْ ُ َه
يم».
ُور َ ّر ِح ٌ
الل َغف ٌ َو َ هّ ُ
فلما �سمع �أبوبكر هذه الآية قال -فيما يحدث الرواة :-بلى واهلل �إين لأحب
43
الرب
�أن يغفر اهلل يل .ثم عفا و�صفح وعاد �إىل ما كان ي�صنع بقاذف ابنته من ّ
واملعروف والإح�سان.
وكذلك �صحب �أبوبكر ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم �أ�صدق �صحبة
و�أبرها و�أ�صفاها.
فال غرابة وهو من النبي بهذه املنزلة ،وهو �أن�صح امل�سلمني هلل ولر�سوله
وللإ�سالم� ،أن يختاره النبي لي�صلي بالنا�س حني ثقل عليه املر�ض ،على رغم
ما حاولت عائ�شة وحف�صة من االعتذار عنه برقة قلبه و�شدة حبه للنبي.
وال غرابة يف �أن يجد النبي ذات يوم خفة فيخرج لل�صالة ،وقد قام �أبوبكر
ي�صلي بالنا�س ،فلما ر�آه �أبوبكر �أراد �أن يت�أخر ،ف�أ�شار النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم �إليه� .أال تربح .ثم جل�س عن ي�ساره .فكان �أبوبكر ي�صلى ب�صالة النبي،
وكان النا�س ي�صلون ب�صالة �أبي بكر.
وكان �أبوبكر �أفهم النا�س عن النبي ،لأنه كان �أعرفهم به و�أقربهم �إىل
قلبه .ومن �أجل ذلك فطن ملا �أراد النبي �إليه حني قال ذات يوم على املنرب� :إن
عبداَ خيرّ ه اهلل بني ما عنده وبني زهرة الدنيا فاختار ما عند اهلل .فقال �أبوبكر
يف �صوت تقطعه العربة :بل نفديك ب�أنف�سنا و�أبنائنا .فعجب النا�س ملقالته.
وجعل بع�ضهم يقول لبع�ض :انظروا �إىل هذا ال�شيخ كيف يقول! ولكن �أبا بكر
فطن ملا �أراد النبي من �أن هذا العبد الذي �آثر ما عند اهلل على زهرة الدنيا هو
النبي نف�سه .وكان ي�ؤذن النا�س ب�أن انتقاله عنهم �إىل ر�ضوان اهلل قريب.
والرواة يتكرثون يف بع�ض احلديث ويختلفون فيما يتكرثون فيه
باختالف نزعاتهم ال�سيا�سية ،فقوم يزعمون �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم
طلب �إىل عائ�شة يف مر�ضه الذي ُقب�ض فيه �أن تدعو �أخاها عبدالرحمن ليكتب
لأبي بكر كتاب ًا ال يختلف النا�س معه عليه ،ثم عدل عن ذلك وقال :دعيه ،فلن
يختلف النا�س على �أبي بكر.
�سم عبدالرحمن ،و�إمنا �أراد
�سم �أبا بكر ومل ُي ّ
وقوم �آخرون يزعمون �أنه مل ُي ّ
�أن يكتب لأ�صحابه كتاب ًا ال ي�ضلوا بعده .فاختلف من كان عنده ذلك الوقت
من �أ�صحابه� ،أراد بع�ضهم �أن يكتب ،و�أبى بع�ضهم ،وقال -وهو عمر فيما
ُيروى� :-إن الوجع ا�شتد بر�سول اهلل وعندنا كتاب اهلل.
44
بينت يف غري هذا املو�ضع �أين �أ�شك كل ال�شك يف هذا كله ،و�أكاد �أقطع وقد َّ
ب�أنه مما تكلفته الفرق ال�سيا�سية ب�أخرة .ولو قد عزم اهلل لر�سوله على �أن
ُيو�صي لأبي بكر �أو لغريه ملا �رصفه عن ذلك �أحد.
ومهما يكن من �شيء فقد قب�ض النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ومل يو�ص لأحد
ال لأبي بكر وال لغريه .ولو قد �أو�صى لأبي بكر ملا كانت �سقيفة بني �ساعدة،
لعلي لكان �أبوبكروملا خالفه الأن�صار عن و�صية ر�سول اهلل .ولو قد �أو�صى ّ
�أ�رسع النا�س �إىل بيعته ،فكيف وقد اجتمع امل�سلمون من املهاجرين والأن�صار
على بيعة �أبي بكر� ،إال ما كان من �شذوذ �سعد بن عبادة وامتناعه عن البيعة.
علي -رحمه اهلل � -أبا بكر ،وعمر من بعده وعثمان من بعدهما، وقد بايع ّ
ولو قد علم �أن النبي قد �أو�صى له جلاهد يف �إنفاذ �أمر النبي ولآثر املوت على
خالف هذا الأمر.
والواقع -فيما �أرجح � -أن الرواة �أ�رسفوا على �أنف�سهم وعلى النا�س ،بعد
انق�سام امل�سلمني فيما �أثري من الفتنة بقتل عثمان رحمه اهلل ،فلم يخل�صوا
�أنف�سهم لل�صدق يف الرواية ،ومل يتحرجوا من �أن ي�صوروا �أمر امل�سلمني �إثر
وفاة النبي كما كان �أمر امل�سلمني يف �أيامهم .و�أي�رس النظر يف كتب التاريخ
القدمية ،ويف كتب املتكلمني القدماء ،يبني لنا �أن امل�سلمني انق�سموا ب�أخرة
يف بيعة �أبي بكر ،كما انق�سموا يف �أ�شياء كثرية غريها ،انق�سام ًا �شديداً ،فقد
وعلي رحمهما اهلل .فكان البكريون ّ �أكرث املتكلمون اجلدال يف �أمر �أبي بكر
يزعمونه �أن �أبا بكر �أف�ضل امل�سلمني و�أحقهم بخالفة النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم ،ويلتم�سون على ذلك �ألوان ًا من احلجج يكرث فيها التكلف والتزيد ،وكان
املت�شيعون لعلي يذهبون مذهب خ�صمهم فيتكلفون ويتزيدون.
يقول البكريون مث ًال� :إن �أبا بكر �أول من �أ�سلم من الرجال ،وي�أبى
علي ًا �أول من �أ�سلم من الرجال.
خما�صموهم ذلك فيقولون� :إن ّ
ويقول البكريون� :إن علي ًا قد �أ�سلم ومل يجاوز ال�صبى فلم يكن مكلف ًا،
و�أ�سلم �أبوبكر وقد بلغ ال�شيخوخة �أو كاد يبلغها .وفرق بني �إ�سالم الرجل الذي
كملت رجولته و�إ�سالم ال�صبي الذي ملا يبلغ احللم.
علي حني ُنبئ النبي :يذهب البكريون �إىل �أنه كان ثم يخت�صمون يف �سن ّ
45
ت�سع �سنني .ورمبا �أجل�أتهم اخل�صومة �إىل الغلو فزعموا �أن علي ًا �أ�سلم وهو ابن
�ست �سنني.
أو�ضح ما يف هذا من ال�رسف ،فعندما هاجر النبي �صلى اهلل عليه و�سلم و� ِّ
علي ًا مبكة لي�ؤدي �إىل بع�ض النا�س ودائع كانت عند النبي. �إىل املدينة خلف ّ
علي ًا �أن ي�شتمل بربدة كانت له و�أن ينام يف فرا�شه، ويقال �إن النبي �أمر ّ
الر�صد الذين كانوا يرتب�صون به ليقتلوه �أنه مازال نائم ًا يف بيته. ليوهم ّ
علي.
فلما �أ�صبحوا تبينوا �أن من كان نائم ًا يف فر�ش النبي �إمنا هو ّ
علي �أح�سن
ثم كانت وقعة بدر يف ال�سنة الثانية من الهجرة ،ف�أبلى فيها ّ
علي ًا مل يكن يف �أول ال�صبى حني �أ�سلم ،وع�سى البالء ،وكل ذلك يدل على �أن ّ
�أن يكون قريب ًا من �أول ال�شباب .و�أكرب الظن �أنه كان قد جاوز الع�رشين حني
هاجر النبي وخ ّلفه يف مكة لريد على النا�س ودائعهم.
و�إذن ف�أبوبكر �أول من �أ�سلم من الرجال الذين جاوزوا ال�شباب وبلغوا
الكهولة و�أو�شكوا �أن يبلغوا ال�شيخوخة ،وهو بعد ذلك مل يكن ذا قرابة قريبة
من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،و�إمنا كان رج ًال من قري�ش ،ف�سبقه �إىل الإ�سالم
ف�ضيلة تقدمه على الذين �أ�سلموا بعده ،ال �شك يف ذلك.
علي -كما نعلم -ربيب النبي ،يعي�ش معه يف داره� ،أخذه النبي من وكان ّ
عمه �أبي طالب ليخفف عنه م�ؤونته .فال غرابة يف �أن ي�سبق �إىل الإ�سالم يف
�آخر عهده بال�صبي و�أول عهده بال�شباب.
فكال الإمامني �سابق �إىل الإ�سالم ،لي�س يف ذلك �شك� ،أ�سلم �أحدهما ملكانه
من النبي ،ولت�أثره ملا كان ي�سمع ويرى يف �أكرث �ساعات النهار .وكان الثاين
�أول من ا�ستجاب للدعوة حني جتاوز النبي بها ع�شريته الأقربني.
وال يقف اخت�صام الرواة باخت�صام ال ِفرق عند هذا ،ولكن الأحاديث التي
تروى عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم تكرث وتت�شعب ،ال ل�شيء �إال ليظهر �أحد
الفريقني على �صاحبه.
و�صي النبي .فيحاول خما�صموهم �أن ّ علي ًا كان
يقول ال�شيعة مث ًال� :إن ّ
هم �أن يو�صي لأبي بكر .ثم عدل لأنه وثق ب�أن امل�سلمني لن يزعموا �أن النبي ّ
يختلفوا عليه.
46
ويروون �أحاديث �أخرى ،يروون -انظر طبقات ابن �سعد � -أن �أبابكر قال
للنبي ذات يوم :ما �أزال �أراين �أط�أ يف َع ِذرات((( النا�س .قال :لتكونن من النا�س
علي
كالرقمتني .قال� :سنتني .قال :ور�أيت ّ
(((
ب�سبيل .قال :ور�أيت يف �صدري َّ
ُحلة ِحبرَ ة .قال -ولد تحُ ْ رب به((( .
ري �أبوبكر هذه الر�ؤيا و� ّأولها النبي ب�أنه �سيلي �أمر النا�س .ثم �أُرِي فقد �أُ َ
�أبوبكر ك�أن يف �صدره رقمتني .ف� َّأو َلها له النبي ب�أن واليته �ستت�صل �سنتني.
فوا�ضح ما يف هذا احلديث من التكلف.
ريها النبي �صلى اهلل عليه و�سلم و� ّأولها له �أبوبكر .ويرويها ور�ؤيا �أخرى �أُ َ
ابن �سعد يف طبقاته �أي�ض ًا .قال النبي لأبي بكر :يا �أبا بكر ،ر�أيت ك�أين ا�ستبقت
�أنا و�أنت درجة ف�سبق ُتك مبرقاتني ون�صف .قال :خري يا ر�سول اهلل ،يبقيك اهلل
ويقر عينك .ف�أعاد عليه مثل ذلك ثالث مرات. ي�رسك ُ حتى ترى ما ُّ
فقال له يف الثالثة :يا �أبا بكر .ر�أيت ك�أين ا�ستبقت �أنا و�أنت درجة ف�سبقتك
مبرقاتني ون�صف .قال :يا ر�سول اهلل .يقب�ضك اهلل �إىل رحمته ومغفرته و�أعي�ش
بعدك �سنتني ون�صف ًا.
فقد كان �أبوبكر �إذن يعرف متى تنتهي حياته ،وال �سيما بعد وفاة النبي
�صلى اهلل عليه و�سلم .والغريب �أنه انتظر با�ستخالف عمر (رحمه اهلل) مر�ضه
الذي تويف فيه ،وا�سرتد من ابنته عائ�شة ما كان وهب لها من ماله ليجعله
يف املرياث حني �أ�رشف على املوت.
وكل هذا مما تكلفه الرواة ب�أخرة ،ولي�س عندي �شك يف �أنه من ال�ضعف
هم �أن يو�صي له ثم اطم�أن �إىل اجتماع مبنزلة ما رويت �آنف ًا ،من �أن النبي ّ
النا�س على �أبي بكر فعدل عن و�صيته .وهذه الأحاديث �إمنا �أريد بها �إىل
علي ًا هو و�صي النبي.
خما�صمة ال�شيعة فيما كانت ترى من �أن ّ
والذي ال �أ�شك فيه هو �أن القر�آن مل ينظم للم�سلمني �أمر اخلالفة وال توارثها،
47
و�أن النبي مل يرتك و�صية �أجمع عليها امل�سلمون .ولو قد فعلها ملا خالف عن
و�صيته �أحد من �أ�صحابه ،ال من املهاجرين وال من الأن�صار.
علي �أظهر وف�ضل �أبي بكر �أظهر من �أن يحتاج �إىل مثل هذا التكلف ،وف�ضل ّ
من �أن يحتاج �إىل التكلف �أي�ض ًا .فهو ابن عم النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وهو
زوج ابنته و�أبو�سبطيه :احل�سن واحل�سني ،رحمهما اهلل ،وبال�ؤه يف الإ�سالم
ال ي�شك فيه م�سلم ،وحب النبي له معروف �أعلنه �صلى اهلل عليه و�سلم غري
مرة .فال حاجة �إذن �إىل �أن ُتخرتع الأحاديث لإثبات ما ال حاجة �إىل �إثباته،
كاحلديث الذي يروى من �أن العبا�س عرف املوت يف وجه النبي �صلى اهلل
عليه و�سلم ،وكان يعرف املوت يف وجوه بني عبداملطلب..
علي ذات يوم من عند النبي يف مر�ضه الذي تويف فيه ،ف�س�أله فخرج ّ
النا�س عن ر�سول اهلل ،فقال� :أراه بحمد هلل بارئ ًا .قال الرواة :ف�أخذ العبا�س
علي فقال� :أال ترى �أنك بعد ثالث َعبد الع�صا .و�إين �أرى ر�سول اهلل �سيتوفى بيد ّ
يف وجعه هذا ،و�إين لأعرف وجوه بني عبداملطلب عند املوت ،فاذهب �إىل
ر�سول اهلل ف�سله فيمن يكون هذا الأمر ،ف�إن كان فينا علمنا ذلك ،و�إن كان يف
علي :واهلل لئن �س�ألناها ر�سول اهلل فمنعناها ال غرينا �أمر به ف�أو�صى بنا .قال ّ
يعطيناها النا�س �أبداً ،واهلل ال �أ�س�ألها ر�سول اهلل �أبداً.
والغريب �أن الطربي يروي هذا احلديث من طريقني دون �أن ينكر منه
علي ًا
�شيئ ًا .مع �أن التكلف فيه ظاهر ،وهو �إمنا �أريد به �أن يرد على ال�شيعة ب�أن ّ
مل يكن يعلم �أنه و�صي النبي ،و�أنه كان يرجو �أن ت�ساق اخلالفة �إليه يوم ًا،
و�أنه �أ�شفق �إن �س�أل النبي عنها �أن ينبئه النبي ب�أنها لي�ست يف بني ها�شم،
فيعلم النا�س بهذا املنع ثم يرونه دين ًا فال ي�سمحون باخلالفة لها�شمي �أبداً.
حب ًا لر�سول اهلل من �أن يقول علي ًا كان �أكرم على نف�سه و�أ�شد ّ و�أعتقد �أن ّ
هذه املقالة �أويفكر هذا التفكري .و�إن �صح من هذا احلديث �شيء فهو �أن علي ًا
كان يعلم �أن النبي كان يف �شغل مبر�ضه ،ومبا كان يدبر رغم هذا املر�ض
من �أمور امل�سلمني ،فكره �أن ُي�شق عليه من جهة ،وا�ستحيا من جهة �أخرى �أن
يظهر �أمام النبي مظهر امل�ستغل ملكانته منه الراغب مع ذلك يف ال�سلطان.
علي يعرف حب النبي له وب ِّره به و�إكباره لبالئه يف الإ�سالم، وقد كان ّ
48
ويعلم �أن النبي �إن كان مو�صي ًا له �أو لغريه فلن ي�رصفه عن ذلك �صارف ،و�إن
كان غري مو�ص فلن يحمله على ذلك حامل .والنبي �إمنا كان ينطلق عن �أمر
ال�سماء ،فلو قد �أراده اهلل على �أن يو�صي لأو�صى دون �أن ي�س�أله �سائل �أو يرغب
�إليه راغب.
وق�صة �أخرى يرويها امل�ؤرخون وما �أراها �إال متكلفة �أي�ض ًا ،فهم يزعمون
�أن �أبا �سفيان حني ر�أى �أمر البيعة ي�ستقيم لأبي بكر ،وهو رجل من تيم لي�س
من بني عبد مناف وال من بني ق�صي� ،أخذته الع�صبية اجلاهلية فجعل يربق
ويرعد ويقول :لئن �شئت لأملأن عليه الأر�ض خي ًال .ويقول :ف�أين بني عبد
علي ًا والعبا�س مبثل ثورته .فجعل يحر�ضهما مناف .ثم حاول �أن يغري ّ
وي�س�أل � :أين الأذالن؟ ويتمثل بقول ال�شاعر:
وال يــقـيـم على �ضيم يــراد بــه
(((
احلي والو َت ُد
�إال الأذالن َع ُري ّ
(((
برمتهقو�ص ُ
هذا على اخلَ ْ�سف َم ْع ٌ
وذا ُي�شج فما يرثى له �أحـد
علي ًا يزجره قائ ًال له :طاملا بغيت علي بيعته .ولكن ّ ثم يعر�ض على ّ
�رشاً فلم َت�ضرِ ْ ه .ثم رف�ض ما كان يعر�ض عليه.
الإ�سالم ّ
ولو قد قال �أبو�سفيان هذه املقالة �أو دعا هذه الدعوة لعلم بها �أبوبكر
وعمر ،كما علم بها الرواة ،ولعرفا كيف ي�ضعان �أبا �سفيان حيث و�ضعه اهلل.
و�إمنا هي ق�صة تك ّلفها املتقربون �إىل بني العبا�س بالت�شنيع على بني
�أمية ،كما تكلفوا كثرياً من �أمثالها.
ويزيد بع�ض الرواة يف هذه الق�صة ما يقطع بكذبها ،فيزعمون �أن بع�ض
من �سمع �أبا �سفيان يقول هذه املقالة يف �أبي بكر قال له� :إن �أبا بكر قد ولىّ
ابنك .هنالك ر�ضي �أبو�سفيان وقال :و�صلته رحم.
والواقع من �أمر اخلالفة �أنها �أطلقت �أل�سنة بع�ض الرواة املتع�صبني
49
للأحزاب ال�سيا�سية بكذب كثري .وروى امل�ؤرخون هذه الأكاذيب ب�أخرة من
غري حتقيق وال متحي�ص ،فاختلطت الأمور على النا�س وذهبوا يف فهمها
وت�أويلها وا�ستخال�ص احلق منها كل مذهب.
علي ًا والعبا�س كانا م�شغولني
والذي �أرجحه ،و�أو�شك �أن �أقطع به ،هو �أن ّ
بتجهيز النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حني ُبويع لأبي بكر .فالرواة جممعون
على �أن الأن�صار ملا عرفوا وفاة النبي بعد �أن �سمعوا مقالة �أبي بكر وما تال
لل�شا ِّكني وامل�ضطربني �أن النبي قد قب�ض ،و�أن من كان يعبد
من القر�آن ليبني َّ
حممداً ف�إن حممداً قد مات ،ومن كان يعبد اهلل ف�إن اهلل حي ال ميوت ،و�أن
القر�آن قد �أنب�أ ب�أن النبي رجل يعر�ض له املوت كما يعر�ض لغريه من النا�س..
�أقول� :إن الأن�صار ملا عرفوا وفاة النبي اجتمعوا يف �سقيفة بني �ساعدة
وت�شاوروا بينهم ،فتم ر�أيهم على �أن يكون ال�سلطان فيهم ،لأنهم �أهل املدينة،
يوحى �إليه
ولأن غريهم من املهاجرين طارئون عليهم فيها ،ولي�س منهم من َ
كما كان ُيوحى �إىل النبي ،فال ينبغي �أن َيلوهم بعد وفاة النبي وانقطاع
وقدموا �سعد بن عبادة من اخلزرج ليبايعوه .وبلغ ذلك عمر .ف�أر�سل الوحيّ .
يل .ومل ي�ستجب �إليه �أبوبكر بل قال �إىل �أبي بكر يف بيت النبي� :أن اخرج �إ ّ
لر�سوله :قل له� :إين م�شتغل .ف�أعاد عمر الر�سول �إليه ب�أن �أمراً قد حدث والبد
من �أن يح�رضه.
فخرج �إليه �أبوبكر .فلما عرف منه ما �أزمع الأن�صار ذهب معه �إليهم ،ولقيا
يف طريقهما �أبا عبيدة بن اجلراح فانطلق معهما .و�أتى ثالثتهم الأن�صار وقد
هموا ببيعة �سعد ،فحاوروهم وحاجوهم يف هذا الأمر ،و�أقنعهم �أبوبكر ب�أن
املهاجرين من قري�ش هم �أوىل بالنبي وب�سلطانه من بعده ،لأنهم ع�شريته
وذوو قرابته.
ذكرهم ثم بايع عمر و�أبوعبيدة لأبي بكر و�أقبل الأن�صار فبايعوا بعد �أن ّ
رجل منهم -هو ب�شري بن �سعد -ب�أنهم مل ي�ؤووا النبي ومل ين�رصوه ابتغاء
للدنيا ،و�إمنا �آووا ون�رصوا ابتغاء مر�ضاة اهلل عز وجل.
وعلي والعبا�س م�شغوالن ب�أمر النبي �صلى اهلل
ّ وكذلك بد�أت بيعة �أبي بكر،
عليه و�سلم ،وكان هذا كله يف اليوم نف�سه الذي قب�ض فيه النبي.
50
ول�ست �أطمئن �إىل �أكرث ما يرويه الرواة من ن�صو�ص احلوار الذي كان بني
وخ ْزرجهم من جهة �أخرى. �أبي بكر و�صاحبيه من جهة ،وبني الأن�صار �أَ ْو ِ�سهِ م َ
فهم يروون هذا احلوار رواية من �شهد اجتماع القوم و�سمع ما كان فيه
�سج َل ما قيل حرف ًا
من الأحاديث واخلطب .ثم مل يكتف بال�سماع ،و�إمنا َّ
ل�سج َل نربات
�سج َل حركات القوم و�إ�شاراتهم .ولو قد ا�ستطاع َّ حرف ًا ،بل َّ
يدون �إال ب�أخرة ،بعد انق�ضاء ع�رص الأ�صوات .مع �أن هذا احلوار و�أمثاله مل َّ
اخللفاء الرا�شدين و�صدر من ملك بني �أمية .ومل ينتقل هذا احلوار و�أمثاله �إىل
ال ُق ّ�صا�ص وامل�ؤرخني مكتوب ًا ،و�إمنا نقل �إليهم م�شافهة ،و�صنعت فيه الذاكرة
�صنيعها ،وتعر�ض بع�ضه للن�سيان ،وبع�ضه لتغيري اللفظ .و�صنعت فيه الأهواء
ال�سيا�سية �صنيعها �أي�ض ًا.
فهم يزعمون مث ًال �أن الأو�س تناجت بينها .فقال بع�ضها لبع�ض :واهلل
لئن و ّليت اخلزرج -وهم قوم �سعد بن عبادة -هذا الأمر لكانت لهم عليكم
الف�ضيلة �إىل �آخر الدهر .ثم تنا�صح القوم �أن يبايعوا لأبي بكر حتى ال ُيتاح
هذا ال�سبق للخزرج.
والذي نعرفه من �سرية الأن�صار ومن �سرية امل�سلمني عامة يدل على �أن
الإ�سالم قد �ألغى ما كان يف قلوبهم من التناف�س والتباغ�ض ،وحما ما كان
يف �صدورهم من ال�ضغائن اجلاهلية .فغريب �أن تعود �إليهم جاهليتهم بكل ما
كان فيها من احلقد واحل�سد واملوجدة ُفجاءة يف اليوم نف�سه الذي ُقب�ض فيه
النبي �صلى اهلل عليه و�سلم.
وما ينبغي �أن نن�سى �أن من الرواة من كانوا من املوايل الذين مل ترب�أ
ال�ضغن على العرب ،لأنهم فتحوا بالدهم و�أزالوا �سلطانهم ،ثم قلوبهم من ِّ
ا�ست�أثروا من دونهم بالأمر �أيام بني �أمية .و�إذا كان الكذب قد كرث على ر�سول
اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ف�أي غرابة يف �أن يكرث على امل�ؤمنني من �أ�صحابه؟.
�صور امل�ؤرخون، والذي �أ�ستخل�صه �أنا من ق�صة ال�سقيفة �أي�رس جداً مما ّ
فقد �أ�شفق الأن�صار بعد وفاة النبي من �أن يلي املهاجرون من قري�ش اخلالفة
في�صري هذا �س ّنة وت�ست�أثر قري�ش بالأمر ،ف�إذا ذهب ال�صاحلون من �أ�صحاب
النبي مل يعرف من ي�أتي بعدهم من قري�ش حق الأن�صار فظلموهم وجاروا
51
أح�سوا قبل �أن ي�أتيهم
عليهم .ف�أراد الأن�صار �إذن يحتاطوا للم�ستقبل ،وك�أنهم � ّ
�أبوبكر و�صاحباه �أن قري�ش ًا لن تر�ضى منهم بهذا الأمر ،ف�أزمعوا �أن يعر�ضوا
على املهاجرين �أن يكون الأمر يف املهاجرين والأن�صار على �سواء ،فينه�ض
ب�أعباء احلكم �أمريان :واحد من �أولئك وواحد من ه�ؤالء ،ويكون بذلك توازن
يف التبعات ،ف�إذا بغى �أحدهما َك َّفه الآخر.
و�صدق عمر حني رد على الأن�صار ر�أيهم هذا فقال :ال يجتمع اثنان يف
َق َرن((( ،فلو قد مت للأن�صار ما كانوا يريدون ملا ا�ستقامت �أمور احلكم ،ولكان
من اخلالف بني الأمريين ما يف�سد على امل�سلمني حياتهم وي�ضطرهم �إىل
خ�صومات ال تنتهي ،ورمبا ا�ضطرهم �إىل احلرب يف كثري من الأحيان.
واملهم �أن �أبا بكر و�صاحبه قد �أقنعوا الأن�صار يف ُي�رس ،فلم ين�رصفوا عنهم
�إال وقد بايعوا لأبي بكر ،ولو قد كان الأن�صار حرا�ص ًا على احلكم واال�ستئثار
بال�سلطان ملا �أتيح لأبي بكر و�صاحبيه �أن يقنعوهم يف �ساعة من نهار.
والرواة يتحدثون ب�أن �سعد بن عبادة ،الذي ر�شحه الأن�صار للخالفة� ،أبى
�أن يبايع لأبي بكر .وكان ال ُي�صلي ب�صالة امل�سلمني وال ي�شهد معهم اجلمعة
وال يفي�ض ب�إفا�ضتهم يف احلج .ولكن رواة �آخرين يتحدثون ب�أنه بايع كما
بايع غريه من النا�س.
وهذا عندي �أدنى �إىل ال�صواب .وكل ما ميكن �أن يقال �إمنا هو �أن �سعداً
ت�أخر يف البيعة ،لأنه كان مري�ض ًا من جهة ،ولأنه رمبا وجد يف نف�سه من
�إقبال الأن�صار عليه �أوالً ،ثم ان�رصافهم عنه ملا �سمعوا من حديث �أبي بكر
و�صاحبيه.
ومي�ضي الرواة الذين ينكرون بيعة �سعد يف غلوهم فيزعمون �أن اجلن
قتلت �سعداً ،وي�ضيفون �إىل اجلن بيتني من ال�شعر وهما:
�سـعــد بن ُعبــادة
َ رج قد قتلنا �سيد اخلز
ن ،فلم نخطئ ف�ؤاده ورميناه ب�سهميـ
وما �أظن �أننا يف حاجة �إىل �أن نقف عند هذا ال�سخف.
52
5
بقيت م�س�ألتان خ ّلط فيهما الرواة تخليط ًا عظيم ًا ،و�أثر فيهما انق�سام
امل�سلمني ت�أثرياً منكراً .ولي�س ُبد من �أن نتبني وجه احلق فيهما.
علي لأبي بكر .فالرواة يختلفون فيها �أ�شد االختالف، ف�أما �أوالهما فبيعة ّ
علي ًا بايع �أبا بكر حني بايعه غريه من امل�سلمني .وه�ؤالء يقول قوم� :إن ّ
علي ًا كان جال�س ًا يف داره وعليه
يختلفون فيما بينهم ،فيزعم بع�ضهم �أن ّ
قمي�ص لي�س معه �إزار وال رداء ،فجاءه من �أنب�أه ب�أن �أبا بكر قد جل�س للبيعة،
علي �إىل امل�سجد و�أعجله ال�رسع عن �أن يتخذ و�أن النا�س يبايعونه .ف�أ�رسع ّ
�إزاره ورداءه ،وم�ضى حتى بايع �أبا بكر ،ثم جل�س و�أر�سل من جاءه بثوبه
فتج ّلله .ووا�ضح ما يف هذا من ال�رسف.
علي ًا تلك�أ عن البيعة وتلك�أ معه الزبري بن العوام،و�آخرون يزعمون �أن ّ
لتبايعان
ِّ لتبايعان طائعني �أو
ِّ ف�أر�سل عمر من جاء بهما ثم قال لهما :واهلل
كارهني .ووا�ضح كذلك ما يف هذا من الكذب.
فما كان �أبوبكر ليخلي بني عمر وبني العنف بعلي �إثر وفاة ر�سول اهلل،
وزوجه فاطمة ما زالت حية ،و�إمنا هذا اخلرب متكلف �أٌ َ
ريد به �إىل �إظهار �أن
علي ًا لو ترك و�ش�أنه ما بايع �أبا بكر.
ّ
53
علي ًا مل يبايع �أبا بكر �إال مت�أخراً ،و�أن بني
وكثري من الرواة يزعمون �أن ّ
ها�شم �صنعوا �صنيعه فامتنعوا على �أبي بكر وخالفوا جماعة امل�سلمني ،وظلوا
على هذا اخلالف �ستة �أ�شهر ،حتى �إذا توفيت فاطمة -رحمها اهلل -بايعوا.
علي وبنو ها�شم ليفارقوا ووا�ضح ما يف هذا من الكذب �أي�ض ًا .فما كان ّ
جماعة امل�سلمني وليتلبثوا حتى متوت فاطمة ،ثم يكون �إقبالهم على البيعة
حني ر�أوا �أن النا�س قد ان�رصفوا عنهم بعد موت فاطمة.
علي -رحمه اهلل -ون�صحه للم�سلمني وح�سن بالئه يف و�أي�رس العلم بف�ضل ّ
الإ�سالم �أيام النبي مينع من قبول هذه الرواية ،و�إمنا خلط الرواة بني �أمرين
علي لأبي بكر ،والآخر ما كان من خمتلفني �أ�شد االختالف� :أحدهما بيعة ّ
مغا�ضبة فاطمة لأبي بكر يف مرياث النبي �صلى اهلل عليه و�سلم .فقد طلبت
فاطمة حقها من مرياث �أبيها يف فدك ويف �سهمه من خيرب .فلم يجبها �أبوبكر
�إىل ما طلبت ،لأنه �سمع النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يقول :ال نورث ،ما تركنا
�صدقة .فهجرته فاطمة ومل تكلمه حتى ماتت.
وك�أن علي ًا جفا �أبا بكر لهجران فاطمة له .ومن �أجل ذلك مل ي�ؤذن �أبا بكر
مبوتها بل دفنها لي ًال -فيما يزعم الرواة -ثم كان �صلح بعد ذلك بني علي
و�أبي بكر.
علي حني بايع النا�س يف غري وهذا �شيء ال �ش�أن له بالبيعة ،و�إمنا بايع ّ
�رسع وال �إكراه .ر�أى �أن كلمة املهاجرين والأن�صار قد اجتمعت على �أبي بكر
هم باخلالف علي �أو ّ
فلم يخالف عما �أجمع عليه امل�سلمون .ولو قد خالف ّ
ال�ستطاع �أن يحاج �أبا بكر بحجته على الأن�صار يف �سقيفة بني �ساعدة .فقد
احتج �أبوبكر على الأن�صار ب�أن املهاجرين من قري�ش هم �أوىل النا�س بالنبي
وب�سلطانه من بعده .لأنهم ع�شريته وذوو قرابته.
علي ًا كان �أقرب �إىل النبي من �أبي بكر وعمر ،فهو ابنومما ال �شك فيه �أن ّ
علي ًا مل يفعل على
عمه وزوج ابنته و�أبو�سبطيه ،كما قلت منذ حني .ولكن ّ
رغم ما زعم بع�ض الرواة ،وما كان يف حاجة �إىل �أن يفعل ،ف�أبوبكر كان
علي حق املعرفة كما كان يعرفها غريه من امل�سلمني ،و�إمنا يعرف قرابة ّ
نظر النا�س �إىل �سن �أبي بكر وف�ضله وح�سن موا�ساته للنبي �صلى اهلل عليه
54
و�سلم وللم�سلمني ،واخت�صا�ص النبي له مب�صاحبته يف هجرته .ثم �أمره �أن
ي�صلي بالنا�س حني ثقل عليه املر�ض ،فكان النا�س يقولون :اختاره ر�سول
اهلل لديننا ،فلم ال نختاره لأمر دنيانا؟.
واملهم �أن �أحداً مل يخالف على �أبي بكر ،ال من بني ها�شم وال من غريهم.
وكل ما يقال غري هذا �إمنا تكلفه املتكلفون ب�أخرة ،حني افرتق امل�سلمون
�شيع ًا و�أحزاب ًا.
علي ًا كان فيما بينه وبني نف�سه يجد علىوال ي�ستطيع �أحد �أن يقطع ب�أن ّ
�أبي بكر �أو على عمر ،لأنهما ا�ست�أثرا باخلالفة من دونه ،ذلك ب�أنه مل ينبئنا
وعلي �أف�ضل يف نف�سه
ّ ب�شيء من ذلك فيما نطمئن �إليه من �أحاديث الرواة.
و�أكرم عند اهلل من �أن يبايع ال�شيخني بل�سانه وي�ضمر يف قلبه غري ما كان
يظهر .ونحن نعلم �أنه ن�صح لل�شيخني �أثناء خالفتهما ،و�أن عمر خا�صة قد
ا�ستعان به يف غري موطن ،وا�ست�شاره يف كل ما كان ي�ست�شري فيه �أعالم
املهاجرين والأن�صار.
بي ّنا يف غري هذا احلديث ن�صحه لعثمان حني ا�ستقام له النا�س وقد ّ
وحني اختلفوا عليه .وهذا هو الظن بعلي رحمه اهلل .فهو قد كان من امل�ؤمنني
ال�صادقني الذين �أخل�صوا �رسيرتهم وعالنيتهم هلل عز وجل ،ون�صح للم�سلمني
�أ�صدق الن�صح و�أ�صفاه من ال�شوائب ما امتدت له �أ�سباب احلياة .فالذين
يظنون به �أنه بايع ملن بايع من اخللفاء تقية((( �إمنا يتهمونه مبا ال ينبغي
�أن يتهم به رجل �أحب اهلل ور�سوله ،و�أحبه اهلل ور�سوله ،فيما يروى عن النبي
�صلى اهلل عليه و�سلم حني دفع �إليه الراية يف وقعة خيرب.
هذه �إحدى امل�س�ألتني اللتني ذكرتهما يف �أول هذا الف�صل .ف�أما امل�س�ألة
الأخرى فتت�صل مبا ُروي عن عمر رحمه اهلل من �أنه قال �إن بيعة �أبي بكر
كانت َفلتة وقى اهلل �رشها.
فمن النا�س من يتخذ هذه املقالة التي رويت عن عمر -وما �أدري �أَ َّ
�صح ْت
بها الرواية �أم مل ت�صح -و�سيلة للقول يف خالفة �أبي بكر والت�شكيك يف
55
�صحتها .وهذا �سخف ،فامل�سلمون من املهاجرين والأن�صار وممن بقي مبكة
�أو بالطائف ،وممن تفرق يف قبائل العرب حني وفاة النبي ،قد ر�ضوا خالفته
و�أخل�صوا له الن�صح وائتمروا بكل ما �أمر به ،وانتهوا عن كل ما نهى عنه .ولوال
ذلك ملا ا�ستطاع �أبوبكر �أن يثبت للعرب حني ارتدت ،و�أن يجند املهاجرين
والأن�صار والتابعني لهم ب�إح�سان لقتال املرتدين وحملهم على �أن يدخلوا
فيما خرجوا منه ،و�أن ي�ؤدوا من احلق كل ما كانوا ي�ؤدونه �إىل النبي �صلى اهلل
عليه و�سلم ،وملا ا�ستطاع �أن يرمي به�ؤالء املهاجرين والأن�صار والتابعني
العراق -وكان جزءاً من ملك فار�س وال�شام -وكان جزءاً من ملك الروم
كما �سرنى� .إمنا �أراد عمر � -إن �صحت املقالة التي رويت عنه � -أن بيعة �أبي
بكر مل تتم يف �أول �أمرها عن ملأ من جماعة امل�سلمني وعن ت�شاور و�إجالة
للر�أي ،و�إمنا متت فجاءة حني اجتمعت الأن�صار يف �سقيفة بني �ساعدة.
وهمت �أن ت� ِّؤمر �سعداً وحني حاورهم �أبوبكر و�صاحباه .فهنالك ر�شح �أبوبكر
للأن�صار عمر �أو �أبا عبيدة ،وكره هذان �أن يتقدما عليه ف�أ�رسعا �إىل بيعته
تتام النا�س على البيعة بعد ذلك .ولو مل يجتمع الأن�صار وتبعتهم الأن�صار .ثم ّ
ول ْن َتظر النا�س بها
ويهموا بت�أمري �سعد جلرى �أمر البيعة غري هذا املجرى ،اَ ّ
ول ْج َتمع �أولو الر�أي من
حتى يفرغوا من دفن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،اَ
املهاجرين والأن�صار فتذاكروا �أمرهم و�أمر امل�سلمني ،واختاروا من بينهم
خليفة لر�سول اهلل.
من �أجل ذلك كانت بيعة �أبي بكر فلتة فيما روي عن عمر ،وقد وقى اهلل
�رشها ،لأن امل�سلمني مل ينكروا هذه البيعة ومل يجادل فيها جمادل منهم وال
تردد فيها مرتدد ،و�إمنا �أقبلوا فبايعوا �أبا بكر را�ضية به نفو�سهم ،مطمئنة
�إليه قلوبهم و�ضمائرهم ،ثم ن�صحوا له بعد ذلك ما عا�ش فيهم .فلما مر�ض
مر�ضه الذي تويف فيه �أو�صى لعمر باخلالفة على النحو الذي رواه امل�ؤرخون.
�رشع نظام ًا الختيار اخللفاء ،و�أن ال�سنة كذلك ملوالواقع �أن القر�آن مل ُي ِّ
ُت�رش �إىل هذا النظام ،و�إمنا تعود امل�سلمون نظام البيعة �أيام النبي �صلى
اهلل عليه و�سلم ،حني كانوا يبايعونه على الإ�سالم مبكة قبل الهجرة ،وحني
بايعه ُنقباء الأن�صار على �أن ي�ؤووه وين�رصوه وي�سمعوا له ويطيعوا ،وحني
56
كانوا يبايعونه على مثل ذلك يف املدينة :يبايعه الرجل عن نف�سه حني ي�سلم،
ويبايعه الوفد عن قومهم حني ي�سلمون .ثم حني بايع �أ�صحابه على املوت
يوم احلديبية ،وبايعته قري�ش على الإ�سالم يوم الفتح .ثم تتامت مبايعة
الوفود له من قومهم .فا�ستقر يف نفو�س امل�سلمني من �أجل هذا �أن اخلالفة عن
النبي يجري �أمرها جمرى �سلطان النبي يف حياته� ،أي تقوم على املبايعة.
ونظراً للفرق الوا�ضح بني النبي وغريه من النا�س كان هناك فرق يف
نفو�س امل�ؤمنني بني مبايعة النبي ومبايعة اخللفاء ،فقد كان النبي ُيوحى
�إليه ومل يكن يبايع عن نف�سه وحدها حني يبايع ،و�إمنا كان يبايع عن اهلل
الذي �أر�سله �أو ًال وعن نف�سه بعد ذلك .ومن �أجل هذا قال اهلل عز وجل يف �سورة
الفتح مبنا�سبة بيعة احلديبية:
إنافوق �أَ ْي ِديهِم ،ف ََم ْن َن َك َث َف� مَّ َهلل َعون اهللَ ،ي ُد ا ِ إنا ُي َب ُاي َ عونك � مَّ َ
الذين ُي َب ُاي َ َ «�إ ّن
اه َد عليه اهلل ف�سي�ؤتيه �أجراً عظيم ًا». با َع َ ومن � ْأوفَى مِ َ َي ْن ُكث َع َلى َنف ِْ�س ِهْ ،
من �أجل هذا مل يكن ملن يبايع ر�سول اهلل �أن يتحلل من بيعته ،ال لأنه �إن
فعل كان ناكث ًا لعهده مع النبي فح�سب ،بل لأنه �إن فعل كان ناكث ًا مع ذلك
لعهده مع اهلل عز وجل .ومل يكن ملن بايع النبي �أن يجادله �أو ُينكر عليه �شيئ ًا
مما �أنزل اهلل يف القر�آن� ،أو مما �أنطق نبيه به من الوحي يف تف�صيل ما �أجمل
القر�آن ،ويف تعليم النا�س ما يقيم �أمورهم يف الدين والدنيا.
ف�أما �إذا �شاورهم يف �أمر مل ينزل فيه قر�آن ،ومل ي�ؤمر النبي فيه ب�أمر من
هم بفعله، ال�سماء ،فلهم �أن ي�شريوا عليه ،و�أن يقرتحوا عليه كذلك غري ما ّ
كالذي كان حني �أنزل النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أ�صحابه منز ًال يوم بدر
ف�س�أله احلُباب بن املنذر بن اجلموح� :أهذا منزل �أنزلكه اهلل عز وجل �أم هو
الر�أي وامل�شورة؟ فلما قال له النبي :بل هو الر�أي وامل�شورة� .أ�شار عليه مبنزل
�آخر هو �أ�صلح للم�سلمني .فقبل م�شورته.
�أما بيعة النا�س للخلفاء فهي عقد بينهم وبني ه�ؤالء اخللفاء ،ال يجوز
خلليفة �أن ينق�ضه ،وال يجوز لأحد من الرعية �أن ينق�ضه �أي�ض ًا ،لأن اهلل ي�أمر
بالوفاء بالعهد يف غري مو�ضع من القر�آن .فيقول مث ًال يف �سورة النحل:
ان َب ْع َد َت ْو ِكي ِد َها َو َق ْد َج َع ْل ُت ُم
ي َدت َو َال َتن ُق ُ�ضواْ الأَ مْ َ «و�أَ ْوفُواْ ب َِع ْه ِد َ هّ ِ
الل �إِ َذا َع َ
اه ُ مّ ْ َ
57
ونَ .و َال َت ُكو ُنو ْا َكا َ ّل ِتي َن َق َ�ض ْت َغ ْز َل َها ِمن الل َي ْع َل ُم َما َتف َْع ُل َ الل َع َل ْي ُك ْم َك ِفي ًال �إ َ ِّن َ هّ َ َ هّ َ
ون �أُ َ ّم ٌة ِه َي َ�أ ْر َبى ِم ْن �أُ َ ّم ٍةيا َن ُك ْم َد َخ ًال َب ْي َن ُك ْم �أَن َت ُك َ ون �أَ مْ َ َب ْع ِد ُق َ ّو ٍة �أَن َكا ًثا َت َ ّت ِخ ُذ َ
ُون».
ام ِة َما ُكن ُت ْم ِفي ِه َت ْخ َت ِلف َ ن َل ُك ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َ الل ِب ِه َو َل ُي َب ِ ّي نَ َ ّ وك ُم َ هّ ُِنا َي ْب ُل ُ �إ َ مّ َ
ويقول يف �سورة الإ�رساء:
ان َم ْ�س ُ�ؤوالً». «..و�أَ ْوفُواْ بِا ْل َع ْه ِد �إ َ ِّن ا ْل َع ْه َد َك َ َ
الرب التي عددها يف الآية الكرمية ّ خ�صال من خ�صلة بالعهد الوفاء ويجعل
من �سورة البقرة:
وه ُك ْم ِق َب َل المْ َ �شرْ ِِق َوالمْ َْغر ِِب َو َل ِك َ ّن الْبرِ َ ّ َم ْن � َآم َن « َ ّل ْي َ�س الْبرِ َ ّ �أَن ُت َو ُ ّلواْ ُو ُج َ
َال َع َلى ُح ِ ّب ِه َذوِي ني َو�آ َتى المْ َ اب َوال َ ّن ِب ِ ّي َ ِالل َوا ْل َي ْو ِم ال ِآخ ِر َوالمْ َال ِئ َك ِة َوا ْل ِك َت ِ ب َ هّ ِ
اب َو�أَ َق َام ني َوفيِ ال ِ ّر َق ِ ال�سا ِئ ِل َ
ال�سبِيلِ َو َ ّ ني َوا ْب َن َ ّ امى َوالمْ ََ�س ِاك َ ا ْل ُق ْر َبى َوا ْل َي َت َ
ِين فيِ ا ْل َب ْ�أ َ�ساء ال�صا ِبر َ اه ُدواْ َو َ ّ ُون ب َِع ْه ِد ِه ْم �إِ َذا َع َ ال�صال َة َو�آ َتى ال َزّ َكا َة َوالمْ ُوف َ َّ
ون». ِ ُ
ين َ�ص َد ُقوا َو�أو َلئ َك ُه ُم المْ ُ َ ّت ُق َ ِ ُ ْ
ني ا ْل َب�أ ِ�س �أ ْو َلئ َك ا َ ّل ِذ َ ِ
ال�ضّاء َوح َ َو َ رّ َ
واخلالفة عهد بني اخلليفة ورعيته ،قوامه �أن ُيلزم اخلليفة نف�سه �أن يعمل
بكتاب اهلل و�سنة ر�سوله ،و�أن ين�صح للم�سلمني ما ا�ستطاع �إىل ذلك �سبي ًال ،و�أن
يطيع امل�سلمون �أوامر اخلليفة ويجتنبوا ما ينهى عنه يف هذه احلدود ،ف�إن
نكث اخلليفة عهده ف�سار يف امل�سلمني �سرية ينحرف بها عن كتاب اهلل وعن
�سنة ر�سوله ،وعما التزم من الن�صح للم�سلمني فال طاعة له على رعيته ،ومن
حق هذه الرعية �أن تطالبه بالوفاء مبا �أعطى على نف�سه من عهد ،ف�إن ا�ستقام
فذاك و�إال فللم�سلمني �أن يربءوا منه و�أن يلتم�سوا لهم خليفة غريه .و�إذا بغي
بع�ض الرعية فنق�ض عهده الذي �أعطاه للخليفة بال�سمع والطاعة وجب على
اخلليفة �أن يراجعه يف ذلك ،ف�إن فاء �إىل �أمر اهلل و�أوفى بالعهد فذاك ،و�إن �أبى
وجب على اخلليفة �أن يقاتله حتى يفيء �إىل �أمر اهلل.
ومن �أجل هذا كله قال �أبوبكر يف خطبته التي ُتروى عنه �إثر بيعته�« .إن
فقوموين». �أح�سنت ف�أعينوين و�إن �أ�س�أت ِّ
ثم قال بعد ذلك�« :أطيعوين ما �أطعت اهلل ور�سوله ،ف�إذا ع�صيت اهلل ور�سوله
فال طاعة يل عليكم».
ولي�س ُبد من �أن تتم البيعة بني اخلليفة واملمثلني للم�سلمني من �أعالم
58
الأمة وقادتها حتى حني ُيو�صي اخلليفة القائم لرجل من بعده ،كائن ًا من
يكون هذا الرجل.
وقد ا�ستخلف �أبوبكر عمر يف مر�ضه الذي تويف فيه ،ولكنه مل يطمئن
�إىل و�صيته ،حتى ا�ست�شار فيها نفراً من �أ�صحاب ر�سول اهلل ،ثم �أمر عثمان
�أن ي�س�أل جماعة امل�سلمني� :أتبايعون ملن يف هذا الكتاب؟ فلما قالوا :نعم،
اطم�أنت نف�س �أبي بكر و�أر�سل �إىل عمر فن�صح له وو�صاه مبا �أراد.
وكل هذا مل يلزم امل�سلمني طاعة عمر بعد وفاة �أبي بكر ،و�إمنا وجب
ولين�صحن
ّ ليعملن بكتاب اهلل و�سنة ر�سوله ّ على اخلليفة �أن يعطيهم العهد
للم�سلمني ما ا�ستطاع ،ووجب على امل�سلمني �أن ُيعطوه العهد على �أنف�سهم
بال�سمع والطاعة يف احلدود التي التزمها.
وملا ُطعن عمر وجعل ال�شورى يف �أولئك ال�ستة من �أ�صحاب ر�سول اهلل،
على �أن يختاروا من بينهم رج ًال يكون هو اخلليفة ،مل تكن و�صية عمر �إىل
معفية للخليفة من �أن ُيعطي هذا العهد على نف�سه ،و�أن ي�أخذ من ه�ؤالء ال�ستة ُ
امل�سلمني العهد على �أنف�سهم ،على النحو الذي بينته �آنف ًا.
فلم يكن ا�ستخالف �أبي بكر لعمر �إال تر�شيح ًا له ،ومل يكن ما انتهى �إليه
�أمر ال�شورى من اختيار عثمان �إال تر�شيح ًا له �أي�ض ًا ،وكال الرجلني مل ي�ستطع
�أن يقوم ب�شيء من �أمور امل�سلمني �إال بعد �أن متت البيعة بينه وبينهم.
فالبيعة �إذن هي الركن الأ�سا�سي للخالفة ،ومن �أجل هذا كره امل�سلمون
يف �صدر الإ�سالم �أن تنتقل اخلالفة من الآباء �إىل الأبناء باملرياث على نحو
ما كان الأكا�رسة ي�صنعون.
ومل يكن ُبد من هذا اال�ستطراد امل�رسف يف الطول لأبينِّ �أن ما ُيروى عن
عمر مل يكن طعن ًا يف خالفة �أبي بكر ،وال ميكن �أن يكون و�سيلة �إىل الطعن
فيها لأن ما مت يف �سقيفة بني �ساعدة من ابتداء البيعة لأبي بكر مل يلزم �سائر
امل�سلمني ،ومل يكن من �ش�أنه �أن يلزمهم حتى يبايعوه عن اختيار ور�ضى.
59
60
6
وقد كان �أبوبكر يف حياة النبي رج ًال من امل�سلمني ال يحتمل تبعة خا�صة،
و�إمنا ي�سمع ويطيع لر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم كغريه من �أ�صحابه ،فلم
يظهر من خ�صائ�صه وخ�صاله يف حياة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إال ما
بينت �أنف ًا من حبه للنبي وموا�ساته له بنف�سه وماله ،ومن ب ِِّره بامل�سلمني
وموا�ساته لهم بنف�سه وماله �أي�ض ًَا.
وقد �آثره النبي بحبه حتى كان �أحب الرجال �إليه ،و�أحبه امل�سلمون �أي�ض ًا
و�آثروه ،ور�أوا النبي يقدمه على غريه فقدموه على �أنف�سهم .ولكنه بعد �أن متت
طوق عظيم ًا من الأمر ال قوة له عليه �إال مبعونة اهلل له البيعة نظر ف�إذا هو قد ّ
ومعونة امل�سلمني وخيارهم من �أ�صحاب ر�سول اهلل خا�صة ،وقد �أ�شفق �أن
ينتظر امل�سلمون منه �أو �أن يكلفوه �أن ي�سري فيهم �سرية النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم ،ف�أعلن �إليهم �أنه ال ي�ستطيع ذلك ،وطلب �إليهم �أال ينتظروه منه .ثم �أعلن
�إليهم كذلك �أنه لي�س �إال واحداً منهم و�أنه لي�س خريهم ،و�س�ألهم �أن يعينوه �إن
يقوموه �إن �أ�ساء ،والتزم �أمامهم بطاعة اهلل ور�سوله فيهم ،و�أبر�أهم �أح�سن ،و�أن ِّ
من ال�سمع والطاعة له �إن ع�صا اهلل ور�سوله .و�أعطاهم العهد على �أن يكون
61
قوي ًا حتى ي�أخذ له احلق ،و�أن يكون القوى عنده �ضعيف ًا حتى ال�ضعيف عنده ّ
ي�أخذ احلق منه .ثم �أنب�أهم ب�أنه متبع ولي�س مببتدع .وكان لهاتني الكلمتني
يف نف�س �أبي بكر حني �ألقاهما �إىل امل�سلمني ،وفيما �أتيح له من احلياة بعد
ذلك ،موقع �أي موقع .فكان يتحرى جهده ما فعل ر�سول اهلل فيفعله ،ويتحرى
ما ترك ر�سول اهلل فيرتكه .وكان يرى �أول واجب عليه �أال يدع من �أمر ر�سول
اهلل �شيئ ًا �إال �أنفذه مهما تكن الظروف ومهما تكن العواقب.
ومن �أجل ذلك كان �أول �شيء �صنعه بعد �أن متت له بيعة امل�سلمني �أن
�أمر من نادى بني النا�س ب�أنه ُمنفذ جي�ش �أ�سامة �إىل حيث �أمر ر�سول اهلل
�أن مي�ضي .وطلب �إىل كل من كان يف جي�ش �أ�سامة من امل�سلمني �أن يخرج
�إىل املع�سكر .وكانت الظروف �شديدة احلرج بعد وفاة النبي ،فلم ي�ضطرب
املهاجرون والأن�صار وحدهم لفراق النبي لهم ،و�إمنا ا�ضطرب العرب كلهم
لذلك ،وكان بني ا�ضطراب املهاجرين والأن�صار وا�ضطراب �سائر العرب و�أهل
البادية منهم خا�صة فرق �أي فرق ،فما �أ�رسع ما ثاب املهاجرون والأن�صار
�إىل �أنف�سهم ،وما �أ�رسع ما عرفوا احلق ف�أذعنت له نفو�سهم واطم�أنت �إليه
قلوبهم حني تال �أبوبكر عليهم ما تال من القر�آن كما ر�أيت .ف�أما �سائر العرب
فقد كان ا�ضطرابهم �أعظم من ذلك خطراً و�أبعد �أثراً ،لأن املهاجرين والأن�صار
كانوا قد �أ�سلموا و�آمنوا و�صدق �إ�سالمهم هلل و�إميانهم به .و�أما �أهل البادية
من الأعراب فكانت �أل�سنتهم قد �أ�سلمت ومل ت�ؤمن قلوبهم كما قر�أت يف الآية
الكرمية من �سورة احلجرات �آنف ًا.
وكما يقول اهلل يف �سورة براءة:
الل َع َلى َر ُ�سو ِل ِه اب �أَ َ�ش ُ ّد ُك ْف ًرا َو ِنفَا ًقا َو�أَ ْج َد ُر �أَ َالّ َي ْع َل ُمواْ ُح ُدو َد َما َ�أن َز َل َ هّ ُ
«الأَ ْع َر ُ
اب َمن َي َ ّت ِخ ُذ َما ُين ِف ُق َم ْغ َر ًما َو َي رَ َت َ ّب ُ�ص ِب ُك ُم ال َ ّد َوا ِئ َر يمَ .و ِم َن الأَ ْع َر ِ يم َح ِك ٌ
الل َع ِل ٌَو َ هّ ُ
يم».
يع َع ِل ٌ الل َ�س ِم ٌ َع َل ْيه ِْم َدا ِئ َر ُة َ ّ
ال�س ْو ِء َو َ هّ ُ
وقد �أنب�أ اهلل بهذا ر�سوله كما ترى ،وعلم النبي منه �شيئ ًا كثرياً ،ولكن
ه�ؤالء الأعراب قد ع�صموا من النبي دماءهم و�أموالهم ،لأنهم كانوا يقولون:
ال �إله �إال اهلل ،وكانوا يقيمون �شعائر الإ�سالم وي�ؤدون ما فر�ض اهلل عليهم
من الزكاة .وقد ظهرت بوادر الردة �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فتنب�أ
62
الكذابون :تنب�أ الأ�سود العن�سي يف اليمن ،وتنب�أ م�سيلمة يف اليمامة ،وتنب�أ
طليحة يف بني �أ�سد ،وكان النبي يقاوم ه�ؤالء الكذابني بالر�سل والكتب ،ومل
يكن �شك يف �أنه كان �سيقاومهم بال�سيف ،لو مل يخرته اهلل جلواره.
فلما نه�ض �أبوبكر بالأمر مل ير �أمامه ه�ؤالء الكذابني فح�سب ،و�إمنا
ر�أى �سائر الأعراب قد �أظهروا ما �أنب�أنا اهلل به من النفاق ،وترب�صهم الدوائر
بامل�سلمني ،فلم تكد تبلغهم وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حتى عادت
كرثتهم الكثرية �إىل اجلاهلية ،ولكنهم مع ذلك داوروا مداورة اجلاهلني
الغافلني .ف�أر�سلوا وفودهم �إىل �أبي بكر يطلبون �إليه �أن ُيعفيهم من الزكاة،
ويعلنون �إليه �أنهم �سي�ؤدون �سائر الفرائ�ض ،في�صلون ،وي�صومون ،ويحجون،
ويقولون دائم ًا كلمة الإ�سالم ،في�شهدون �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل.
و�أقول �إنهم داوروا جاهلني غافلني لأنهم ظنوا �أن �أبا بكر �سيقبل منهم
ذلك ،ومل يعرفوا �أن الزكاة ركن من �أركان الإ�سالم ،و�أن من منعها فلي�س
من الإ�سالم يف �شيء .من �أجل ذلك رف�ض �أبوبكر ما عر�ضوا عليه ،و�أعلن �أنه
�سيقاتلهم على الزكاة حتى ي�ؤدوها ،و�أنهم �إن منعوه عقا ًال كان ي�ؤدونه �إىل
ر�سول اهلل ف�سيقاتلهم عليه.
�أعلن العرب �إذن منعهم للزكاة ،و�أظهروا الكفر والنفاق ،و�صدقوا قول اهلل
فيهم�« :إنهم �أجدر �أال يعلموا حدود ما �أنزل اهلل ،و�أن منهم من يتخذ ما ينفق
مغرم ًا ويرتب�ص بامل�سلمني الدوائر».
�أعلنوا ذلك و�أعلن �أبوبكر �أنه �سيقاتلهم ،و�أزمع يف الوقت نف�سه �أن ينفذ
جي�ش �أ�سامة �إىل م�شارف ال�شام كما �أمر ر�سول اهلل.
وهنا ظهرت �أوىل امل�شكالت الكربى التي عر�ضت له وللم�سلمني ،فهو
م�صمم على �أن ينفذ جي�ش �أ�سامة لأن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أمر ب�إنفاذه، ِّ
وقد كفرت الأر�ض من حوله و�أ�صبح ال ي�أمن �أن يغري الأعراب عليه وعلى من
معه يف املدينة ،ويف جي�ش �أ�سامة �صفوة من كان عنده من �أويل القوة والب�أ�س.
وقد �أح�س وجوه امل�سلمني هذا اخلطر العظيم ،ف�أ�شاروا عليه ب�أن ي�ؤجل
امللحة ،ولهذا اخلطر الداهم الذي يو�شك �أن �إنفاذ جي�ش �أ�سامة �أمام ال�رضورة ّ
ينق�ض على املدينة يف �أي حلظة ،ولكنه �أبى و�ألح يف الإباء ،فلم يكن �أبغ�ض
63
�إليه من �أن يخالف عن �أمر النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،مهما تكن الظروف
ومهما تكن العواقب.
وقد �ألح عليه �أ�صحابه فلم ي�سمع لإحلاحهم بل قال« :واهلل لو خفت �أن
تتخطفني ال�سباع ملا ت�أخرت عن �إنفاذ �أ�سامة وجي�شه».
ثم طلب �إليه الأن�صار الذين كانوا يف اجلي�ش �أن يويل عليهم قائداً �آخر
أ�سن من �أ�سامة ،و�أر�سلوا عمر ليكلم �أبا بكر يف ذلك ،فلم يكد عمر يف�ضي �إليه � ّ
مبا رغب الأن�صار فيه حتى قال له �أبوبكر« :ثكلتك �أمك يا بن اخلطاب ،يوليه
ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم و�أعزله �أنا».
فرجع عمر �إىل الأن�صار برد �أبي بكر عليه ،فلم يزيدوا على �أن �سمعوا
و�أطاعوا .و�آن لأ�سامة �أن يف�صل بجي�شه ،فخرج �أبوبكر م�شيع ًا له مي�شي
و�أ�سامة راكب .وملا �أراده �أ�سامة على �أن يركب �أو ي�أذن له يف النزول �أبى عليه
�أبوبكر ما �أراد .ثم �أو�صاه �أن ينفذ �أمر ر�سول اهلل ال ينق�ص منه �شيئ ًا ،ونهاه
ونهى من معه من اجلند عن قتل الن�ساء والأطفال وال�شيوخ ،والذين فرغوا
�أنف�سهم لعبادة اهلل من ال ُق�س�س والرهبان ،وعن الف�ساد يف الأر�ض .وا�ست�أذن
�أ�سامة يف �أن ي�ستبقي عمر معه يف املدينة ي�ستعني به على �أمره ،ف�أذن �أ�سامة
ورجع �أبوبكر �إىل املدينة يدبر �أمره و�أمر امل�سلمني �إن �أغار الأعراب عليهم.
ف�أمر الرجال �أن يظلوا جمتمعني يف امل�سجد م�ستعدين للفزع �إن طر�أ عليهم
طارئ ،وحذرهم من الغارة عليهم يف �أي حلظة ،ومن �أن ي�ؤخذوا على غرة ،ثم
عليجعل على منافذ املدينة �إىل البادية رجا ًال من �أ�صحاب ر�سول اهلل فيهم ّ
علي ًا مل يكن متخلف ًا عن البيعة وال مفارق ًا
رحمه اهلل ،وهذا مما يدل على �أن ّ
جلماعة امل�سلمني .وكلف ه�ؤالء الرجال �أن يكونوا كالربيئة يحر�سون
(((
املدينة وينبئون �أبا بكر مبن ميكن �أن يطر�أ عليهم من الأعراب.
وكان الأعراب من غطفان ومن تابعها قد علموا مب�ضي �أ�سامة وجنده �إىل
م�شارف ال�شام ،وطمعوا يف �أن يغريوا على املدينة دون �أن يلقوا كيداً .ف�أقبلوا
أح�س رقباء �أبي بكر مقدمهم ،ف�أر�سلوا
ذات ليلة يريدون �أن يبيتوا امل�سلمني ،و� ّ
64
من �أنب�أه ،فخرج �أبوبكر فيمن معه من امل�سلمني حتى لقوا العدو ،فهزموهم
وتبعوهم يريدون �أن يمُ عنوا فيهم .ولكن الأعراب كانوا قد جعلوا وراءهم ردءاً،
فلما بلغ امل�سلمون قريب ًا من الردء ،خرجوا �إليهم ومل يقاتلوهم و�إمنا �أخافوا
تقر � ،إال
�إبلهم بالأنحاء يدفعونها ب�أرجلهم ،فنفرت الإبل بامل�سلمني ومل ّ
(((
يف املدينة.
على �أن �أبا بكر مل يلبث �أن خرج �إليهم مرة �أخرى ،ومعه امل�سلمون مي�شون،
حتى �أغار عليهم فهزمهم هزمية منكرة ،وتفرق العدو يف الأر�ض هرب ًا من
املوت والإ�سار .واحتل �أبوبكر بالدهم فحماها خليل امل�سلمني ،ثم لإبل
ال�صدقة بعد ذلك.
وكان لهذا االنت�صار �أثر عظيم يف نفو�س امل�سلمني ،ف�أح�سوا القوة ،و�أمنوا
الغارة على املدينة ،و�أقاموا ينتظرون جي�ش �أ�سامة ،وقد عاد هذا اجلي�ش
�سامل ًا غامن ًا بعد �أن �أغار على قبائل العرب يف �أطراف ال�شام.
عاد هذا اجلي�ش بعد �شهرين وبع�ض �شهر ،ف�أمرهم �أبوبكر �أن ي�سرتيحوا.
جم النا�س .على �أن �أنت�صار �أبي
وظل هو قائم ًا ب�أمر الدفاع عن املدينة حتى ّ
بكر �أغرى القبائل املرتدة البعيدة عن املدينة مبن بقي فيها من امل�سلمني،
فجعلت كل قبيلة تقتل من كان عندها منهم ،و�أثار ذلك �أبا بكر و�أحفظه،
ف�أزمع �أن ين ّكل باملرتدين تنكي ًال يرهبهم ومينعهم من �أن يعودوا �إىل مثل ما
وليبلغن يف الث�أر.
ّ أرن للم�سلمني
اقرتفوا من الإثم .و�أق�سم �أبوبكر ليث� ّ
ثم تهي�أ حلرب املرتدين يف �سائر �أر�ض اجلزيرة ،فخرج بالنا�س �إىل ذي
ال َق َّ�صة((( -وهو املكان الذي انت�رص فيه على املغريين على املدينة -وهناك
ج ّند اجلند وعقد الألوية للقواد ،وكلف كل قائد منهم طائفة من املرتدين.
وكان قواده �أحد ع�رش رج ًال:
خالد بن الوليد ،و�أمره �أن يقاتل طليحة ومن معه ،ف�إذا فرغ منهم ق�صد
�إىل مالك بن ُنويرة ومن معه من بني متيم.
65
والثاين :عكرمة بن �أبي جهل .و�أمره �أن مي�ضي لقتال م�سيلمة باليمامة.
والثالث :املهاجر بن �أبي �أمية ،و�أمره بقتال من بقي من �أتباع الأ�سود
علىالردة بعد قتله .ف�إذا فرغ منهم م�ضى �إىل املرتدين من كندة.ِّ العن�سي
والرابع :خالد بن �سعيد بن العا�ص .و�أر�سله �إىل م�شارف ال�شام.
واخلام�س :عمرو بن العا�ص .و�أمره بقتال ق�ضاعة.
وال�ساد�س :حذيفة بن حم�صن ،و�أمره بقتال� ،أهل َدبا .
(((
66
و�أمر �أبو بكر قواده �إذا نزلوا بقبيلة �أن ينتظروا وقت ال�صالة و�أن ي�ؤذنوا،
ف�إن �سمعوا �أذان من ب�إزائهم ممن جاءوا حلربهم مل يقاتلوهم حتى ي�س�ألوهم
عن �إ�سالمهم ما هو ،ف�إن عرفوا الإ�سالم كما �أنزله اهلل على ر�سوله فهم �آمنون،
لهم ما للم�سلمني وعليهم ما على امل�سلمني ،و�إن جحدوا من الإ�سالم �شيئ ًا
كانوا قد �أعطوه لر�سول اهلل ،قاتلهم امل�سلمون حتى يذعنوا ويقبلوا الإ�سالم
كام ًال غري منقو�ص.
ويقول الرواة �إن �أبا بكر كتب كتاب ًا وجعل منه �إحدى ع�رشة ن�سخة ،و�أر�سل
مع كل جي�ش ر�سو ًال يحمل ن�سخة من هذا الكتاب ،و�أمر ه�ؤالء الر�سل �أن يقرءوا
هذا الكتاب على القبائل التي وجهت اجليو�ش لقتالها ،ف�إن �أجابوا �إىل مايف
هذا الكتاب فهم �آمنون ،بعد �أن يتحقق قائد اجلي�ش من �صدق ا�ستجابتهم ،و�إن
�أبوا فقتالهم واجب على اجلي�ش حتى يعودوا �إىل الإ�سالم.
ي�سجلون ن�ص هذا الكتاب ،ول�سنا نطمئن �إىل هذا الن�ص ،كما وامل�ؤرخون ّ
ال نطمئن �إىل ن�ص العهد الذي كتبه �أبو بكر لقواده ،و�إمنا نرجح �أن يكون
معنى هذا الكتاب � -إن كان قد كتب -مطابق ًا للعهد الذي كتبه �أبو بكر
لقواده.
أق�ص �أنباءهم وماوقد م�ضى القواد �إىل غاياتهم ،ول�ست �أريد �أن �أتبعهم ل ّ
�أتيح لهم من الن�رص ،وما امتحن لهم من الن�رص ،وما امتحن به بع�ضهم من
الهزمية ،كالذي امتحن به ِعكرمة بن �أبي جهل .فلي�س هذا مما �أردت �إليه
مل بعد قليل ب�شيء من مواقف خالد بن الوليد ،ملا كان ملواقفه و�إمنا �أريد �أن � ،أ ّ
تلك من �أثر يف حياته ويف حياة امل�سلمني �أي�ض ًا ،ولأن احلكم يف مواقفه تلك
يظهرنا على �شيء من االختالف يف �سيا�سية ال�شيخني� :أبي بكر وعمر ،مع
قوادهما �أثناء احلرب.
�أما الآن ف�إين �أحب �أن �أعود �إىل املدينة ،و�أن �أرجع �إىل �أول ما كان من �أمر
الردة ،لأقف وقفة ق�صرية عند �شيء َيرويه الرواة ويكرثون فيه. ِّ
بينت �أن وجوه امل�سلمني �أ�شاروا على �أبي بكر ب�أن ي�ؤجل �إنفاذ جي�ش ّ وقد
�أ�سامة حتى ي�أمنوا العرب ،ف�أبى �أبو بكر �أن يخالف عن �أمر ر�سول اهلل� ،أو �أن
ي�ؤخر �إنفاذ هذا الأمر.
67
ولكن الرواة يزعمون �أن بع�ض وجوه امل�سلمني راجعوا �أبا بكر يف حرب
املرتدين ،وقال له قائلهم -وهو عمر رحمه اهلل :-كيف تقاتلهم وهم يقولون
ال �إله �إال اهلل؟ وقد قال النبي �صلى اهلل عليه و�سلم�« :أمرت �أن �أقاتل النا�س حتى
يقولوا ال �إله �إ ّال اهلل ،ف�إذا قالوها ع�صموا مني دماءهم و�أموالهم �إال بحقها
وح�سابهم على اهلل»؟.
فرف�ض �أبوبكر وقال« :واهلل لو منعوين عقا ًال كانوا ي�ؤدونه �إىل ر�سول
اهلل لقاتلتهم عليه .فهم يفرقون بني ال�صالة والزكاة ،واهلل مل يفرق بينهما.
والزكاة حق املال ،وقد قال ر�سول اهلل �إال بحقها».
ويزعم الرواة �أن عمر قد �رشح اهلل �صدره لقتال املرتدين حني ر�أى �أن اهلل
قد �رشح لهذا القتال �صدر �أبي بكر.
ول�ست �أقبل هذه الق�صة بحال ،فوجوه امل�سلمني من �أ�صحاب ر�سول اهلل
�أعلم بدينهم من �أن يجادلوا �أبا بكر يف الزكاة .ومل يكن عمر �أقلهم علم ًا
بالإ�سالم� ،إىل ما ُعرف من �شدة عمر يف احلق .ومل يكن عمر وال �أبو بكر قد
عرفا هذا اللون من اجلدل الذي �ألفه الفقهاء واملتكلمون فيما بعد.
وكل ما �أرجحه هو �أن وجوه امل�سلمني �إمنا راجعوا �أبا بكر يف �إنفاذ جي�ش
�أ�سامة ،بعد �أن ظهر كفر العرب ،حر�ص ًا على �أن ي�ستبقوا قوة امل�سلمني ليقاوموا
بها املرتدين ،بل لي�ست�أنفوا بها حرب العرب على الإ�سالم ،كما حاربهم النبي
�صلى اهلل عليه و�سلم عليه.
والذين يروون هذه الرواية ي�سيئون �إىل �أولئك ال�شيوخ من �أ�صحاب ر�سول
اهلل ،حني ي�صورونهم من جهة خائفني م�شفقني �أن يتخطفهم العرب ،مع �أنهم
قد �صحبوا النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أيام الفتنة يف مكة ،وعرفوا مقالته لعمه
�أبي طالب حني كلمه فيما تعر�ض قري�ش ليكف عن دعوته اجلديدة ،فقال :واهلل
لو و�ضعوا ال�شم�س يف مييني والقمر يف ي�ساري على �أن �أترك هذا الأمر حتى
يظهره اهلل �أو �أهلك دونه ما تركته».
وهم كذلك قد �شهدوا مع النبي مواطن الب�أ�س يف بدر و�أحد والأحزاب
وغريها من امل�شاهد ،وكان امل�سلمون قلة وكانت العرب كافرة من حولهم،
68
فلم يف ّل ذلك من عزمهم ،ومل ي�ضعف من همهم ،و�إمنا ثبتوا للب�أ�س والهول
حتى �أظهرهم اهلل على العرب كلها.
�أَ َفترَ اهم قد ن�سوا هذا كله ،و�أ�شفقوا من �أن يحاربوا العرب على الإ�سالم بعد
وفاة النبي ،كما حاربوهم عليه يف حياته؟.
وقد عرفت موقف عمر من �صلح احلُديبية ،واعرتا�ضه على النبي �صلى اهلل
مل ُنعطى الدنية يف عليه و�سلم يف قبول هذا ال�صلح ،وقوله له ولأبي بكرَ « :
ديننا؟» فلي�س من املعقول وال من املقبول �أن ين�سى عمر مواقفه كلها لي�شفق
من حرب العرب و�إن كرثت مع �أبي بكر ،كما حاربهم مع النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم .وكل �أ�صحاب ر�سول اهلل كانوا يعرفون ،كما كان يعرف �أبو بكر� ،أن
اهلل قد قرن الزكاة بال�صالة يف القر�آن غري مرة .فال تكاد ال�صالة تذكر يف
«بني الإ�سالم الكتاب العزيز �إال ومعها الزكاة ،وكانوا يعرفون قول النبيُ .:
على خم�س� :شهادة �أن ال �إله �إال اهلل ،و�أن حممداً ر�سول اهلل ،و�إقام ال�صالة،
و�إيتاء الزكاة و�صيام رم�ضان ،وحج البيت من ا�ستطاع �إليه �سبي ًال».
فما كان لهم بعد ذلك �أن يقنعوا من العرب بقولهم ال �إله �إال اهلل وهم
يجحدون ركن ًا من الأركان اخلم�سة للإ�سالم ،في�ؤمنوا ببع�ض احلديث الذي
حاجوا به �أبا بكر ،ويرتكوا بع�ضه حتى ينبههم �أبو بكر �إليه.
والرواة يحدثوننا �أن نفراً من امل�سلمني �رشبوا اخلمر يف دم�شق بعد
فتحها ،فكتب فيهم �أبو عبيدة �إىل عمر ،فكتب �إليه عمر� :أن َ�س ْلهم على ر�ؤو�س
النا�س عن اخلمر ،ف�إن ا�ستحلوها فا�رضب �أعناقهم ،و�إن عرفوا �أنها حمرمة
ف�أقم عليهم احلد.
فعمر يريد �أن ي�س�أل �أبو عبيدة ه�ؤالء النفر عن ر�أيهم يف اخلمر� :أحالل هي
�أم حرام؟ ف�إن ا�ستحلوها �رضبت �أعناقهم لأنهم جحدوا ن�ص ًا من ن�صو�ص
القر�آن و�أمراً من �أوامر اهلل ،و�إن اعرتفوا ب�أنها حمرمة عليهم �أقيم عليهم احلد،
لأنهم قارفوا �إثم ًا فا�ستحقوا عليه العقوبة.
فعمر الذي يهم ب�رضب �أعناق نفر من امل�سلمني املجاهدين� ،أن ا�ستحلوا
اخلمر ال ميكن �أن يجادل �أبا بكر يف حرب العرب على جحود الزكاة ،وهي
�أ�صل من �أ�صول الإ�سالم.
69
ومهما يكن من �شيء فقد ثبت �أبو بكر وثبت معه املهاجرون والأن�صار
والتابعون لهم ب�إح�سان النتقا�ض اجلزيرة عليهم ،و�أتاح اهلل لهم الن�رص
كما �أتاحه للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف وقت ق�صري ،فقد دخل العرب فيما
خرجوا منه ،و�أدوا الزكاة ،وانهزم �أ�صحاب طليحةَ ،و َف َّر طليحة نف�سه ثم �أ�سلم
بعد ذلك ،و�أبلى يف فتح الفر�س �أح�سن البالء و�أعظمه.
وانهزم �أ�صحاب م�سيلمة وعادوا �إىل الإ�سالم بعد خطوب ،و ُقتل م�سيلمه
نف�سه ،وعاد جنوب اجلزيرة العربية كله �إىل الإ�سالم طوع ًا �أو كره ًا.
كل ذلك مت يف خالفة �أبي بكر على ما نعلم من ق�رصها ،وكل ذلك �إن دل
على �شيء ف�إمنا يدل على �أن �أبا بكر وامل�سلمني قد ثبتوا لهذه املحنة القا�سية،
وانت�رصوا عليها ال ل�شيء �إال لأنهم �صدقوا اهلل عهدهم ،و�أخل�صوا له قلوبهم
ونفو�سهم و�ضمائرهم ،و�صدقوا ما وعدهم اهلل يف الآية الكرمية من �سورة �آل
عمران:
ون.الل �أَ ْم َوا ًتا َب ْل �أَ ْح َياء ِعن َد َر ِ ّبه ِْم ُي ْر َز ُق َ ين ُق ِت ُلواْ فيِ َ�سبِيلِ َ هّ ِ ب ا َ ّل ِذ َ
«و َال تحَ ْ َ�س نَ َ ّ َ
ل َي ْل َح ُقواْ ِبهِم ِ ّم ْن ين مَ ْ َ ِ
ذ ل
ّ َ ِا
ب ون شرِ
ََ ْ ْ ُ َ �ب ت
َ �س ي و هِ ِ
ل َ�ض
ْ ف ن ِ
م ُ
الل هّ َ م
ُُاه تَ �
آ ا بَفر ِِح َ َ
مِ ني
ون». َخ ْل ِفه ِْم �أَ َالّ َخ ْو ٌف َع َل ْيه ِْم َو َال ُه ْم َي ْح َز ُن َ
فبذلوا �أنف�سهم لن�رص اهلل �أ�سخياء بها ،وقبل اهلل منهم ذلك و�صدقهم وعده،
فرزقهم الن�رص كما قال عز وجل يف �سورة حممد:
الل َين�صرُ ْ ُك ْم َو ُي َث ِ ّب ْت �أَ ْق َد َام ُك ْم». ين � َآم ُنوا �إِن َتن�صرُ ُ وا َ هّ َ «يا �أَ ُ ّي َها ا َ ّل ِذ ََ
الردة ،وما كان خليار امل�سلمني فيها من ِّ حروب تف�صيل يقرءون والذين
البالء ،ميلكهم الإعجاب ب�أولئك الأبطال الذين مل يرهبوا �شيئ ًا يف �سبيل ن�رص
الدين و�إعزازه ،و�إعادة اجلزيرة العربية �إىل الإ�سالم كما كانت قبل وفاة النبي.
وقد ا�ست�شهد منهم خلق كثري وال�سيما يف حرب م�سيلمة ،فقد ثبت
بنوحنيفة للم�سلمني حتى هزموا عكرمة بن �أبي جهل لأنه تعجل ومل ينتظر
املدد ،وقد ع َّنفه �أبو بكر تعنيف ًا �شديداً ،ومل ُيزل عكرمة عن نف�سه عار هذه
الهزمية �إال حني ا�ست�شهد يف حرب الروم يوم الريموك.
وو َّجه �أبو بكر خالداً �إىل م�سيلمة فثبت له بنو حنيفة حتى جال امل�سلمون َ
جولة ،لوال خيار �أ�صحاب ر�سول اهلل �أولئك الذين �أعطوا �أح�سن القدوة ،فكانوا
70
يوبخون الفارين ،ويعريونهم الفرار من اجلنة ،وكان بع�ضهم يقول :واهلل ما
هكذا كنا نقاتل مع ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم.
وما هي �إال �أن َك َّر امل�سلمون بعد جولتهم وثبتوا لبني حنيفة حتى �أزالوهم
عن مواقفهم ،وقتلوا م�سيلمة ،وتبعوا املنهزمني حتى فتحوا عليهم ح�صونهم،
و�أخ�ضعوهم ل�سلطان اهلل وهم كارهون.
وكان �أبو بكر خري قدوة للم�سلمني ملا �أظهر لهم من ثبات اجل�أ�ش و�ضبط
النف�س ،والثقة املطلقة باهلل ،والوفاء العميق لر�سوله.
وكل ذلك يف هدوء �أي هدوء ! ك�أنه مل تعر�ض له حمنة ،ومل تنتق�ض عليه
العرب .فقد �أظهر �أبو بكر يف هذه املحنة �أخ�ص �صفتني امتاز بهما ،وهما:
االطمئنان �إىل ما وعد اهلل يف غري تردد �أو تعر�ض لل�شك �أو الوهن ،والثبات
يف حزم وعزم ملا ُيلم به من املكروه حتى ينفذ منه ،ومي�ضي يف �أمر اهلل �إىل
�أن يبلغ الن�رص.
71
72
7
الردة ،ولكنه وموقف �آخر لي�س من اخلطورة مبكان موقف �أبي بكر من ِّ
أم�ضه و� ّأرق ليله
كان ع�سرياً �أ�شد الع�رس مع ذلك ،ولعله �آذى �أبا بكر يف نف�سه و� َّ
وقت ًا غري ق�صري ،ذلك هو موقفه من فاطمة بنت ر�سول اهلل حني طلبت �إليه
حقها من مرياث �أبيها فلم يعطها ما طلبت ،بل قال لها� :إنه �سمع ر�سول اهلل
يقول« :ال ُنورث .ما تركناه �صدقة».
وع�رس هذا املوقف على �أبي بكر ي�أتي من �أنه منذ �أ�سلم كان ي�ؤثر ر�سول
أبر النا�س به وب�أهل بيته وذوي اهلل على نف�سه يف جميع املواطن ،وكان � ّ
قرابته ،وكان �شديد احلر�ص على �أن ُيح�سن ر�ضى ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه
و�سلم عنه ،وكان �أبغ�ض �شيء �إليه �أن يح�س اجلفاء من ذي قرابة للنبي ،فلما
طلبت فاطمة -رحمها اهلل � -إليه ما كانت ترى �أنه حقها من مرياث �أبيها،
وجد نف�سه بني �شيئني كالهما ع�سري عليه �أ�شد الع�رس :ف�إما �أن يعطي فاطمة
ما طلبت فيخالف عما �أمر ر�سول اهلل ،واملوت �أهون عليه من هذا ،و�إما �أن
مينعها ما طلبت في�ؤذيها ،و�أ�شد الأ�شياء كراهة �إليه �أن ي�ؤذيها ،فهي بنت �أحب
النا�س �إليه و�أكرمهم عليه و�آثرهم عنده .ومع ذلك فقد غلبت طاعته لر�سول
73
اهلل كل عاطفة �أخرى يف نف�سه ،ف�أبى على فاطمة ما طلبت ،واعتذر �إليها من
هذا الإباء ،وبكى و�أمعن يف البكاء لأن قرابة ر�سول اهلل �أحب �إليه من قرابته،
ولكنه �سمع النبي يقول ما قال ،فلم ي�سعه �أن يغ�ضب اهلل ور�سوله لري�ضي
فاطمة على ب ِّره بها و�إيثاره �إياها.
وما �أ�شك يف �أن الأ�شهر ال�ستة التي عا�شتها فاطمة بعد �أبيها �صلى اهلل
عليه و�سلم قد ملأت نف�س �أبي بكر ك�آبة وحزن ًا ،لأن فاطمةهجرته ومل تكلمه
حتى توفيت ،وما �أ�شك يف �أن �أبا بكر مل يمُ تحن ب�شيء كان �أ�شق على نف�سه
من وفاة فاطمة مغا�ضبة له ،ومن دفنها لي ًال على غري علم منه ،وحرمانه
�أن ي�شهد جنازتها ،وي�صلي عليها ويربها بعد وفاتها مباكان يجب لها من
الرب ،ولكن اهلل ميح�ص قلوب امل�ؤمنني ال�صادقني بال�شدائد التي ميتحنهم
بها يف حياتهم العامة واخلا�صة جميع ًا ،وقد امتحن �أبا بكر بهذه املحنة
العامة حني ارتد العرب ،وتعر�ض امل�سلمون ملا تعر�ضوا له من اخلطر العظيم،
وامتحنه بهذه املحنة اخلا�صة حني ا�ضطره �إىل �أن ير�ضي اهلل ور�سوله،
ويغ�ضب فاطمة ،مع �أن غ�ضبها عليه ثقيل.
74
8
و�أعود �إىل موقف �أبي بكر من الردة فهو يجلو خ�صلتني متناق�ضتني �أ�شد
التناق�ض ،من خ�صال �أبي بكر فيما يظهر .فقد كان �أبو بكر ،منذ �أ�سلم ،معروف ًا
وخلقه هذا هو الذي بلني اجلانب ورقة القلب والرحمة لل�ضعفاء واملكروبنيُ ،
حمله على �أن ي�شري على النبي �صلى اهلل عليه و�سلم بالرفق يف �أمر الأ�رسى
بعد وقعة بدر.
وقد قبل النبي م�شورته و�أعر�ض عن ر�أي عمر الذي كان ي�شري بقتل
الأ�رسى .وكان �أبو بكر يذكر القرابة والرحم ،ويرى �أن فيما �سي�ؤديه الأ�رسى
من الفداء قوة لل�سلمني ،وكان عمر يذكر ق�سوة قري�ش على النبي وفتنتهم
ويقدر �أن قتلهم �سي ُف ّل من عزم قري�ش ،ويفرت من همتها ،ويثبطها للم�سلمنيِّ ،
عن امل�ضي يف حرب النبي والكيد له ،ولكن النبي �سمع لأبي بكر وقبل الفداء
من �أ�رسى قري�ش ،و�أنزل اهلل يف ذلك قر�آن ًا ،الم فيه النبي وامل�سلمني ،لأنهم
قبلوا الفداء قبل �أن ُي ْثخنوا يف الأر�ض ،و�أرادوا َعر�ض الدنيا ،واهلل يريد الآخرة.
فقال يف �سورة الأنفال:
�ض ون َع َر َ �ض ُترِي ُد َ ون َل ُه �أَ�سرْ َ ى َح َ ّتى ُيث ِْخ َن فيِ الأَ ْر ِ ان ِل َنب ٍ ِّي �أَن َي ُك َ
«ما َك ََ
ِ هّ َ
اب ّم َن الل َ�س َب َق لمَ َ َّ�س ُك ْم ِ ِ
يمّ َ .ل ْو َال ك َت ٌ ِ ُ هّ َ ِ ُ هّ َ
ال ُ ّد ْن َيا َوالل ُيرِي ُد الآخ َر َة َوالل َعزِيزٌ َحك ٌ
75
ُور ما َغ ِن ْم ُت ْم َحال ًال َط ِ ّي ًبا َوا َ ّت ُقو ْا َ هّ َ
الل �إ َ ِّن َ هّ َ
الل َغف ٌ اب َع ِظ ٌ
يمَ .ف ُك ُلو ْا مِ َ ّ يما �أَ َخ ْذ مُ ْ
ت َع َذ ٌ ِف َ
يم». َ ّر ِح ٌ
و�أنت ترى من هذه الآيات الكرمية �أن اهلل عز وجل قد الم وع َّنف و�أنذر ،ثم
عفا وغفر .ولي�س �شك من �أن موقع هذه الآيات يف نف�س النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم ،ويف نف�س �أبي بكر ،قد كان �شديداً الذع ًا.
وقد ظل �أبو بكر مع ذلك على ُخلقه لين ًا رفيق ًا رحيم ًا ،ولكنه حني ويل
اخلالفة ،ور�أى ما كان من كفر العرب حني اتبع فريق منهم الكذابني ،وحني
�أنكر فريق �آخر منهم الزكاة ،وحني تنكر �أولئك وه�ؤالء ملن كان فيهم من
امل�سلمني ،فقتلوا منهم من قتلوا ،وفتنوا من فتنوا .ملا ر�أى �أبو بكر هذا
الردة ،وحمل العرب على �أن بلغت منه احلفيظة �أق�صاها ،فلم يكتف مبقاومة َّ
يدخلوا طوع ًا �أو كره ًا فيما خرجوا منه ،بل �أق�سم ليبلغن يف الث�أر ملن قتل من
امل�سلمني ،و�أو�صى قواده �أن يتتبعوا بعد الن�رص �أولئك الذين قتلوا امل�سلمني،
و�أن يقتلوهم ويجعلوهم لغريهم نكاالً.
وكان �أ�رسع قواده �إىل طاعته يف ذلك بل �إىل الإبالغ يف طاعته خالد بن
ورد �أتباعه �إىل الإ�سالم ،ولكنه جعل الوليد رحمه اهلل .فهو قد هزم ُطليحة َّ
يتتبع من املغلوبني من كان قد قتل امل�سلمني �أو فتنهم ،ف�إذا �أخذهم قتلهم
�أ�شنع قتلة .كان يقذف بهم من �أعايل اجلبال ،وينكث بع�ضهم يف الآبار،
ويحرق بع�ضهم بالنار ،وين�صب بع�ضهم هدف ًا للنبال حتي �أخاف النا�س وملأ
قلوبهم رهب ًا .وكان يف طبع خالد رحمه اهلل عنف �شديد وا�ستعداد للإ�رساف
يف القتل.
والذين قرءوا تاريخ فتح مكة يذكرون �أنه خالف عن �أمر النبي ،وقتل يف
�أهل مكة ،ف�أ�رسف حتى �أر�سل النبي من َك َّفه عن القتل ،ورفع �صلى اهلل عليه
و�سلم يديه �إىل ال�سماء قائ ًال« :اللهم �إين �أبر�أ �إليك مما فعل خالد».
وهذا اخللق العنيف من �أخالق خالد هو الذي يف�رس لنا موقف ًا من مواقفه
�أحفظت عليه عمر (رحمه اهلل) وطائفة من امل�سلمني ،وهو موقفه من مالك
بن ُنويرة .فقد عمد بعد فراغه من طليحة و�أتباعه ،وبعد ا�ستربائه الأر�ض من
الذين قتلوا امل�سلمني �أو فتنوهم� ،إىل مالك بن نويرة وقومه من بني يربوع،
76
وكانوا قد وقفوا موقف املرتب�ص ،و�أبط�أوا ب�صدقاتهم وجعلوا ينتظرون على
من تدور الدائرة ،و�ش�أنهم يف ذلك �ش�أن كثري من القبائل ،فلما ظفر خالد،
و�أتيح له الن�رص امل�ؤزر على طليحة و�أ�صحابه ،عرف مالك �أ ّال ِق َب َل له بحرب
امل�سلمني ،ف�أمر قومه �أن يتفرقوا يف �أموالهم و�أال ي�ستعدوا حلرب ،و�أقبل خالد
على ديارهم ،فلم يجد �أمامه جي�ش ًا يقاتله ،ومل ير جمع ًا يتهي�أ للقائه ،ف�أقام
وبث ال�رسايا و�أمرهم ب�أمر �أبي بكر ،وهو �أن ي�ؤ ِّذنوا �إذا نزلوا بقوم ،ف�إن �أ َّذ َن
القوم فال يقاتلوهم حتى ي�س�ألوهم عما يعرفون من الإ�سالم.
وجاءه بع�ض ال�رسايا بجماعة من بني يربوع فيهم مالك بن نويرة ،وهو
رئي�س القوم ،ويقول امل�ؤرخون� :إن ال�رسية التي جاءت به�ؤالء النفر اختلفت،
ف�شهد بع�ضها ب�أن القوم �أ َّذنوا ،و�شهد بع�ضها الآخر ب�أنهم مل ي�ؤ ّذنوا ،ثم يزعم
امل�ؤرخون �أن خالداً �أمر بحب�س ه�ؤالء النفر ،وكان ذلك يف ليلة �شديدة الربد،
يزداد بردها �شدة كلما تقدم الليل ،فزعم الرواة �أن خالداً �أمر منادي ًا �أن ينادي
يف النا�س� :أن �أدفئوا �أ�رساكم ،ففهم من كان عندهم ه�ؤالء النفر �أن هذا �أمر
بقتلهم ،وكان الإدفاء يف لغة كنانة معناه القتل .فقتلوا مالك ًا و�أ�صحابه،
و�سمع خالد ال�صياح ،فلما �أخرب قال�« :إذا �أراد اهلل �أمراً �أ�صابه».
و�أ�ضح ما يف هذه الرواية من التكلف الذي اليراد به �إال �إبراء خالد من
قتل �أولئك النفر.
و�آخرون من الرواة يزعمون �أن خالداً كان يفاو�ض مالك ًا ،فقال له مالك
يف بع�ض حديثه� :إن �صاحبكم كان يقول كذا وكذا ،يريد النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم .قال خالد حني �سمع من مالك هذه املقالة� :أولي�س هو لك ب�صاحب؟ ثم
�أمر بقتله.
وال�شيء الذي لي�س يف �شك هو �أن خالداً قتل مالك ًا ،وغ�ضب لذلك رجل من
خرية �أ�صحاب النبي كان يف جي�ش خالد و�شهد ب�أنه �سمع القوم ي�ؤذنون ،فلما
ر�أى َق ْتل مالك و�أ�صحابه فارق اجلي�ش و�أق�سم ال يقاتل مع خالد �أبداً ،ورجع
�إىل املدينة .وهذا الرجل هو �أبو قتادة الأن�صاري ،وقد كلم �أبو قتادة كبار
�أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وفيهم عمر ،و�أراد �أن يدخل على �أبي
بكر لي�شكو �إليه خالداً ،ف�أبى �أبو بكر لقاءه غ�ضب ًا عليه لأنه ترك اجلي�ش عن
77
غري �إذن من �أمريه .وقد دخل عمر على �أبي بكر فك ّلمه يف قتل مالك ،وقال له:
�إن يف �سيف خالد رهق ًا ،فاعزله ،فقال �أبو بكر :ت� ّأول ف�أخط�أ ،وملا �ألح عليه
عمر يف عزل خالد قال� :إليك عني يا عمر! ما كنت لأ�شيم((( �سيف ًا َ�س َّله اهلل على
الكافرين.
ثم �أر�سل �أبو بكر �إىل خالد ي�ستدعيه ،ف�أقبل خالد �إىل املدينة ،ودخل
امل�سجد ،وجماعة من �أ�صحاب النبي ،فيهم عمر ،جال�سون .وكان يف منظر
العجب ،كان عليه قباء((( يظهر فيه �صد�أ احلديد وقد غر�س خالد �شيء من ُ
يف عمامته �أ�سهم ًا .فلما ر�آه عمر قام �إليه فانتزع هذه الأ�سهم من عمامته
وحطمها ،وقال :قتلت رج ًال م�سلم ًا ثم نزوت على امر�أته ،وكان خالد قد تزوج
امر�أة مالك �إثر قتله.
قال الرواة :وكانت العرب تكره مثل هذا الزواج يف احلرب .واملحقق �أن
خالداً تزوج �أم متيم بعد قتل زوجها ،وما �أح�سبه تزوجها قبل انق�ضاء عدتها،
ال�سبي فا�سترب�أها كما ت�سترب�أ الإماء ،ثم �أعتقها �إال �أن يكون اعتربها من ْ
وتزوجها.
ودخل خالد على �أبي بكر فق�ص عليه خربه ،فعذره �أبو بكر يف قتل مالك،
وعنفه يف تزوج امر�أته ،ورده �إىل جي�شه.
ويقول الرواة� :إن خالداً خرج من عند �أبي بكر را�ضي ًا ،فلما ر�أى عمر يف
امل�سجد حتداه ،فلم يكلمه عمر.
وهذه الق�صة تبني لنا يف و�ضوح ما �أ�رشت �إليه من عنف خالد و�إ�رسافه
يف القتل ،وتظهر عن خلق �آخر وهو ُحبه للتزوج ،و�سرنى مظهراً �آخر من
مظاهر هذا احلب ،و ُتظهر لنا خلق ًا ثالث ًا مل يكن مق�صوراً على خالد ،و�إمنا
العجب واخليالء. كان خلق ًا معروف ًا يف ع�شريته من بني خمزوم ،وهو ُ
ولكن هذا كله ال ينتق�ص من كفاية خالد يف احلرب وال من بالئه يف رد
العرب �إىل الإ�سالم.
78
وقد �أ�رشت �آنف ًا �إىل �أن عكرمة بن �أبي جهل قد تعجل حرب م�سيلمة قبل �أن
ي�أتيه املدد فلم ينجح ،بل ا�ضطر �إىل الهزمية ،وغ�ضب عليه �أبو بكر يف ذلك.
وقد حاول قائد �آخر من قواد �أبي بكر قتال م�سيلمة فلم ينجح �أي�ضاً ،وهو
وجه خالداً �إليه يف جي�شه �شرُ حبيل بن ح�سنة .فلما ر�أى �أبو بكر قوة م�سيلمة َّ
وجعل له الإمرة على جي�ش �شرُ َ حبيل ،و�أمده بجمع �صالح من املهاجرين
والأن�صار.
وق�صد خالد ق�صد اليمامة فلقي جماعة من �أهلها ،ف�أخذهم على غرة ،ثم
�أمر بقتلهم �إ ّال رج ًال واحداً منهم هو جماعة بن مرارة ا�ستبقاه �أ�سرياً ،وو�ضعه
يف احلديد ،وجعله عند زوجه �أم متيم ،وهي التي تزوجها بعد �أن قتل زوجها
مالكاً.
قال الرواة :فالتقى خالد مب�سيلمة و�أ�صحابه ،فا�شتد القتال ،وبلغ من
ال�شدة مامل يعرف العرب يف حروب الردة مثله ،وجال امل�سلمون جولة ،وتبعهم
وهموا بقتل �أم متيم ،ف�أجارها �أ�صحاب م�سيلمة حتى دخلوا ف�سطاط خالد ُّ
فكروا على مجُ َّ اعة ،وقال نعمت احلرة هي! ثم تنادى امل�سلمون يف �أثناء ذلكُّ ،
القوم ،وا�شتد القتال بينهم مرة�أخرى حتى انت�رص امل�سلمون ،والتج�أ م�سيلمة
و�أ�صحابه �إىل حديقة �سماها امل�ؤرخون بحديقة املوت ،فتبعهم امل�سلمون
حتى اقتحموا عليهم احلديقة بعد خطوب ،وقتلوهم فيها �رش قتلة ،و ُقتل يف
احلديقة م�سيلمة.
ثم عر�ض مجُ اعة بن مرارة� ،أ�سري خالد ،ال�صلح عليه عمن كان يف ح�صون
اليمامة من قومه ،ف�صاحله على مايف اليمامة من ذهب وف�ضة و�سالح ،وعلى
ال�سبي ،وعلى حديقة ومزرعة يف كل قرية. ن�صف َّ
وملا �أم�ضى ال�صلح قال خالد ملجاعة :زوجني ابنتك .قال جماعة� :إنك
لح ًا� :أيهاقا�صم ظهري وظهرك عند �صاحبك -يريد �أبابكر -قال خالد ُم ّ
الرجل ،زوجني ابنتك .فزوجه ابنته .وبلغ الن�رص �أبا بكر ،وبلغه �أي�ض ًا �أن
خالداً تزوج بنت مجُ اعة بن مرارة ،فكتب �إليه يعنفه :لعمري يابن �أم خالد �إنك
لفارغ ،تنكح الن�ساء وبفنائك �ألف ومئتان من امل�سلمني مل يجف دمهم بعد!
79
قال الرواة :فلما نظر خالد يف الكتاب قال :هذا عمل الأعي�رس ،يريد عمر،
وكان �أع�رس(((.
و�سرتى من عنف خالد يف القتال و�إ�رسافه يف القتل �شيئ ًا كثرياً ،حني يبلغ
العراق حلرب من فيه من العرب والفر�س جميع ًا .ومل �أرد �إىل و�صف �شيء من
الردة ،ومل �أذكر ما ذكرت من حرب م�سيلمة �إال لأبني هذه الناحية من حروب ِّ
�أخالق خالد رحمه اهلل ،ولأبني �أنها كانت م�صدراً خلالف �شديد بني ال�شيخني،
ينق�ض بوفاة �أحدهما وهو �أبو بكر رحمه اهلل ،و�إمنا ات�صل بعد ذلك حتى ِ مل
ُعزل خالد و�أبعد عن احلرب ،وعا�ش عي�شة ال�سلم حتى �أدركه املوت ،فقال يف
مر�ضه الذي مات فيه :واهلل ما �أعرف مو�ضع ًا من ج�سمي �إال و فيه �أثر من
�سيف �أو رمح �أو �سهم ،وه�أنذا اليوم �أموت على فرا�شي.
كان �أبو بكر معجب ًا بقوة خالد وب�أ�سه وح�سن بالئه وبراعته الرائعة
يف احلرب ،وكان خالد ي�صدق ظن �أبي بكر يف كل موطن من مواطن ال�شدة
ورد من بقي من بني حنيفة �إىل الإ�سالم، والب�أ�س .فهو قد ف�ض جمع طليحةَّ ،
و�أبلى يف هذين املوطنني �أعظم بالء �أباله �أحد من قواد �أبى بكر يف حرب
الردة ،وهو قد �أتى بالأعاجيب يف فتح العراق كما �سرنى ،ولوال �أن �أبا بكر
لتعجل بع�ض املواقع التي كانت �أيام عمر بني ّ كان يكفكفه عن القتال
امل�سلمني والفر�س .ومن يدري؟ لعله كان ي�سبق �سعد بن �أبي وقا�ص �إىل فتح
املدائن عا�صمة الأكا�رسة.
ولكن �أبا بكر كان يعرف حدته ،وكان ي�ؤثر الأناة ،فكان ي�شدد على خالد
وي�ضطره �إىل الوقوف ،حني كان امل�ضي يف احلرب �أحب �شيء �إليه لو ملك
�أمره.
حوله �أبو بكر عن العراق ،و�أر�سله �إىل ال�شام منجداً للم�سلمني هناك،وقد َّ
و�أمرياً عليهم ،فيما �أرجح ،فكان بال�ؤه يف ال�شام �أبعد �أثراً و�أعظم خطراً من
ويعر�ض بالئه يف العراق ويف حرب الردة ،فال غرابة يف �أن يثق به �أبو بكر ُ
عن عمر حني �ألح عليه يف عزله .ولكن عمر -رحمه اهلل -كان ينظر �إىل
80
الأمور نظرة �أخرى ،كان يريد من القواد �أن ي�سمعوا ويطيعوا ،و�أال يجاوزوا
الق�صد يف �أمر من الأمور ،و�أال يعر�ضوا �أنف�سهم للوم جنودهم لهم و�إنكارهم
عليهم ،ف�ض ًال عن لوم امل�سلمني و�إنكارهم .وكان يريد �أن يكون القواد حرا�ص ًا
�أ�شد احلر�ص على العدل وال َّن�صفة ،و�أبعد عن ال�رسف واجلور .وكان �أمر الدين
ومثله العليا �آثر عنده من �أمر احلرب وما يكون فيها من انت�صار �أو هزمية، ُ
وما يكون فيها ويف �أعقابها من �إخافة للنا�س وترهيب لهم.
فلما ر�أى خالداً قتل رج ًال ي�شهد بع�ض امل�سلمني العدول من �أ�صحاب النبي
ب�أنه كان م�سلم ًا ،وملا ر�أى �أن خالداً �أ�رسع بعد قتل هذا الرجل �إىل التزوج من
امر�أته� ،ألقى يف روعه �أنه مل يقتله يف ذات اهلل ،و�إمنا قتله ا�ستجابة ملا يف
طبعه من العنف �أوالً ،وابتغاء ملتعة من متع الدنيا ،ويف اتخاذ امر�أة مالك
لنف�سه زوج ًا ،فثار لذلك �أ�شد ثورة و�أعنفها ،و�أ�شار على �أبي بكر بعزل خالد.
فلما امتنع �أبو بكر �سمع و�أطاع ،وكظم ما يف نف�سه ومل يغري ر�أيه يف وجوب
عزل خالد ،وملا ر�أى �أن جماعة من خيار �أ�صحاب ر�سول اهلل من املهاجرين
والأن�صار قد قتلوا يف حرب اليمامة ،و�أن قتلى امل�سلمني يف تلك احلرب قد
بلغوا �إحدى ع�رشة �أو اثنتي ع�رشة مئة ،ثم ر�أى �أن هذا امل�صاب الفادح مل
مينع خالداً من �أن يتزوج بنت مجُ اعة مع �أن العهد مل يبعد بتزوجه �أم متيم
بعد قتل زوجها مالك.
ملا ر�أى عمر هذا كله بلغ الغ�ضب منه غايته ،وك�أنه راجع �أبا بكر يف �أمر
خالد .فلم يزد �أبو بكر على تعنيف خالد بذلك الكتاب الذي رويناه �آنف ًا.
ول�ست �أحاول الف�صل فيما كان من موقف ال�شيخني ب�إزاء خالد ،و�إمنا
�أرى �أن كليهما قد اجتهد ر�أيه ،و�أن كليهما �أراد باجتهاده وجه اهلل وم�صلحة
امل�سلمني .نظر �أبو بكر �إىل �أن خالداً رجل حرب ،و�إىل �أنه �أبرع قواده ،و�إىل
�أن الإ�رساع �إىل عزل القواد �أثناء احلرب م�ضيع مل�صلحة امل�سلمني ،ويو�شك
�أن يوهن عزائمهم و�أن يف�سد عليهم �أمرهم ب�إزاء العدو .ونظر عمر �إىل املثل
العليا خال�صة من كل �شائبة ،ومن هنا �أ�رص �أبو بكر على االنتفاع بقوة خالد،
وعلى مالحظته يكفكفه �إذا جتاوز الق�صد يف احلرب ،ويعنفه �إذا جتاوز الق�صد
يف �أمر من �أمور نف�سه ،فع َّن َفه حني تزوج امر�أة مالك ،وع َّن َفه حني تزوج بنت
81
مجُ ّ اعة بعد وقعة اليمامة ،وع َّن َفه مرة �أخرى حني ر�أى خالد �أن اهلل قد �صنع
له يف فتح العراق .ف�أراد �أن يحج ،وكره �أن يعلن ذلك �إىل جي�شه ،فا�ستخفى
بحجه ومل ينبئ به �إال خا�صته ،و�أظهر للجي�ش �أن يتفقد ال�ساقة((( ،ثم �سلك
طريق ًا ال ي�سلكها احلاج ،حتى بلغ مكة ف�أمت حجه ،وعاد �إىل جي�شه باحلرية.
ومل يعلم �أبو بكر بحج خالد �إال ب�أخرة ،فكتب �إىل خالد يعنفه ،ويعاقبه فيما
يقول الرواة هذه املرة ،في�أمره بالذهاب �إىل ال�شام لإجناد امل�سلمني هناك.
وكان موقفهم حرج ًا.
وقراءة كتاب �أبي بكر ،كما يرويه الرواة تدل على �أن اخلليفة قد عرف
خلالد بالءه وبراعته وتقدمه على �سائر قواده ،ولكنها تدل �أي�ض ًا على �أنه
ويعر�ض
ِّ َح َّذره من �أن يعود ملثل ما فعل فيرتك اجلي�ش ويحج م�ستخفي ًا،
اجلند بذلك ملا ميكن �أن يدهمهم من اخلطر وقائدهم منهم بعيد .ثم وعظه
�أبو بكر فنهاه عن �أن ي�أخذ العجب والتيه بح�سن بالئه ونكايته للعدو ،ف�إن
ذلك يف�سد عمله ،و�ألح عليه يف �أن يبغي بكل ما يفعل وجه اهلل عز وجل ف�إنه
يل اجلزاء .و�أكرب الظن �أن �أبا بكر �أح�سن من خالد بع�ض هذا العجب وحده و ّ
والإغراق يف الثقة بالنف�س فرتك اجلي�ش على هذا النحو ،واال�ستهانة بالعدو
تغرير بامل�سلمني ،و�إ�رساعه �إىل احلج ي�شعر ب�أنه قد �أراد �أن ينتهز هذه الفر�صة
ولي ّلم ببع�ض قومه من بني خمزوم.
ليظهر يف مكة �أيام املو�سمُ ،
وكان بالء خالد يف العراق خليق ًا �أن يدفع �إىل العجب والتيه ،فهو قد
ا�ستطاع �أن يقهر عرب العراق يف غري موطن ،و�أن يقهر من جاء من جموع
ورد خالد و�أ�صحابه �إىل الفر�س لإجناد العرب من �أهله وا�سرتداد العراقِّ ،
بالدهم .فكان خالد يلقى هذه اجلموع فال يلبث �أن يظهر بها .وكان ات�صال
احلرب يف العراق ،وا�شتداد الفر�س يف االحتفاظ به ،وطول مقاومتهم
و�إحلاحهم يف هذه املقاومة ،كان هذا كله يحفظ خالداً ويثري غ�ضبه ،حتى
ليجد ّن يف قتلهم حتى يجري حلف يف �إحدى املواقع لئن �أظفره اهلل على عدوه َّ
نهرهم بدمائهم .فلما انهزم العدو �أمامه �أمر املنادين ،فنادوا يف اجلي�ش � :أن
-1الساقة :املؤخرة
82
تتبعوا الأ�رسى وال تقتلوا منهم �إال من امتنع عليكم .فم�ضى امل�سلمون يف
تتبع املنهزمني حتى �أخذوا منهم عدداً �ضخم ًا ،و�أراد خالد �أن يبرُ ّ ميينه ف�صد
املاء عن النهر ،وجعل يقدم الأ�رسى في�رضب �أعناقهم يف جمرى النهر.
وزعم الرواة �أنه �أقام على ذلك يوم ًا وليلة حتى قال له القعقاع بن عمرو،
وهو من �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،و�آخرون معه ،وقد راعهم ما
ر�أوا من الإ�رساف يف قتل الأ�رسى� :إن الدماء ال جتري ،و�إن الأر�ض ال تن�شف
الدماء ،ف�أج ِر املاء ُترب ميينك .فلما �أجرى املاء �إىل النهر جرى ذلك النهر دم ًا،
ف�سمي نهر الدم.
وقد يكون الرواة قد �أ�رسفوا يف املبالغة ،ولكن املحقق �أن خالداً �أمعن يف
القتل حتى �ضاق بذلك القعقاع و�أ�صحابه ،ف�رصفوه عن ذلك ب�إجراء املاء.
وهذه �صورة �أخرى من �صور العنف يف �أخالق خالد رحمه اهلل .وال�شيء
الذي لي�س فيه �شك هو �أنه ا�ستطاع �أن ي�ستخل�ص العراق العربي من الفر�س،
وكان يود لو �أذن له �أبو بكر يف مهاجمة الفر�س يف عقر دارهم ،ولكن �أبا
بكر مل ي�أذن ا�صطناع ًا للأناة ،فكان خالد ي�ضيق مبقامه يف العراق على غري
حرب ،حتى كان ي�سمي �سنته تلك �سنة الن�ساء.
فلما �أٌ ِمر بال�سري �إىل ال�شام �ضاق بهذا الأمر ،لأنه َف َّو َت عليه فر�صة كان
يريد انتهازها ،وهي امل�ضي يف غزو الفر�س حتى ينزل املدائن عا�صمة
ملكهم .ولكنه مل يجد بداً من ال�سمع والطاعة خلليفة ر�سول اهلل ،ف�سار بن�صف
جي�شه �إىل ال�شام مدداً للم�سلمني هناك .وكان �سريه �إىل ال�شام و�إ�رساعه يف
جندة امل�سلمني عجب ًا من العجب.
وكان ع�رص �أبي بكر ،والظروف التي �أحاطت بخالفته الق�صرية ،كان كل
ذلك مثرياً للغ�ضب ،خمرج ًا لأويل الأحالم عن �أطوارهم ،مزعج ًا لذوي القلوب
املطمئنة والنفو�س الر�ضية ،والطبائع ال�سمحة ،عما كانوا ي�ألفون من اللني
والدعة وي�ؤثرون من الرفق والإ�سماح.
فقد كان �أبو بكر ومن حوله من �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم
مطمئنني �إىل �أن العرب قد دانوا للإ�سالم طائعني �أو كارهني ،و�إىل �أنهم قد
فرغوا من �أهل اجلزيرة العربية و�أو�شكوا �أن ي�أخذوا يف حترير العرب املتفرقني
83
خارج اجلزيرة يف ملك فار�س والروم .يرون ذلك ت�أمين ًا حلدود اجلزيرة �أوالً،
وا�ستنفاذاً للعرب من حكم الأجنبي .وكانوا يرون �أن اهتمام النبي �صلى اهلل
عليه و�سلم بحدود اجلزيرة مما يلي الروم ،حني �أر�سل جي�ش ًا �إىل م�ؤتة ،وحني
�سار بنف�سه يف غزوة تبوك ،وحني جهز جي�ش �أ�سامة و�أمر يف مر�ضه ب�إنفاذه.
كانوا يرون هذا كله مقدمة ال�ستنفاذ العرب املنت�رشين يف ال�شام من
�سلطان ق�سطنطينية ،وكانوا يقدرون �أن النبي لو بقي فيهم ملا ق�رص يف
العناية بتحرير العرب املنت�رشين يف العراق من �سلطان الأكا�رسة.
وكان �أبو بكر -رحمه اهلل -يفكر حني ا�ستخلف يف �أن ينفذ اخلطة التي
كان يعلم �أن ر�سول اهلل �سينفذها لو عا�ش ،وهي حترير العرب خارج اجلزيرة
بعد �أن �أ�سلم العرب داخل اجلزيرة ،ولكنه ينظر ،ف�إذا الكذابون قد ظهروا قبل
وفاة النبي وتبعهم كثري من العرب ،و�إذا �سائر العرب يف اجلزيرة قد عادوا
�إىل جاهليتهم ،وجعلوا ينظرون �إىل الزكاة التي كانت ت�ؤخذ من �أغنيائهم
لترُ د على فقرائهم ،على �أنها �إتاوة جتبى �إىل ملك يقيم باملدينة .وكانوا قد
اذعنوا بالزكاة ملا �أمر اهلل به من �أداء الزكاة يف حياة النبي دون �أن تطيب
عنها نفو�سهم .قدروا �أن النبي �أقوى من �أن يغلب فدانوا له بالطاعة ،فلما ر�أوا
�أنه قد مات ،و�أن الأمر قد انتقل �إىل رجل من �أ�صحابه ال يعدو �أن يكون عربي ًا
مثلهم ،ا�ضطربت نفو�سهم �أوالً ،ثم �أنكرت ما عرفت ثاني ًا ،ور�أت �أن هذه الزكاة
�إمنا هي �رضيبة ت�ؤدى لقري�ش ،ف�أخذتها العزة بالإثم ،وكرهوا �أن ي�ؤدوا �إىل
قبيلة من القبائل العربية ،وهي قري�ش ،و�إىل رجل بعينه من هذه القبيلة ،هو
�أبو بكر ،ما كانوا ي�ؤدونه �إىل النبي الذي كان ي�أتيه خرب ال�سماء ،ف�أرادوا �أن
ي�صاحلوا قري�ش ًا ورئي�سها �أبا بكر على الإ�سالم كله ،ال ي�ستثنون منه �إال الزكاة
التي مل ي�ألفوها يف جاهليتهم .فلما �أبى عليهم ذلك �أبو بكر نق�ضوا طاعته،
وا�ستخفوا به ومبن معه لقلتهم وكرثة العرب ،حتى قال قائلهم:
�أطعنا ر�سول اهلل �إذا كان بيننا فيا لـعـبـاد اهلل مـا لأبي بك ِر
الظهر� ُأيــورثها بـكراً �إذا مــات بـعـده وتلك لعمر اهلل قا�صم ُة َّ
أبوا �أن
فقد نظر العرب �إىل �أبي بكر على �أنه رجل م َّلكته قري�ش �أمرها ،و� ْ
يدينوا للملوك ،وهم بعد ذلك قد عرفوا من �ألفوا من ملوك الغ�سانيني يف ال�شام،
84
وملوك املناذرة يف العراق ،ومل يكن �أولئك امللوك يت�سلطون عليهم ف�ض ًال عن
�أن يفر�ضوا عليهم ال�رضائب ،فما بال هذا القر�شي الذي عرفوه تاجراً كغريه
من قري�ش يريد �أن يجعل نف�سه عليهم ملك ًا ،و�أن يفر�ض عليهم ال�رضائب التي
مل يجر�ؤ ملوك غ�سان ،وال ملوك املناذرة على فر�ضها!
وقد بلغ من ا�ستخفاف العرب ب�أبي بكر �أن كانوا يهز�ؤون به ،ويدعونه
�أبا الف�صيل ،لأن البكر هو الف�صيل .وكان الذين ي�ؤثرون العافية من عقالئهم
وممن بقي على �إ�سالمه يردون عليهم ا�ستخفافهم ذاك ،ويقولون لهم :لتعرفن
من �أمره ما يحملكم على �أن تدعوه� :أبا الفحل الأكرب.
فال غرابة يف �أن يثري هذا كله �أبا بكر ومن حوله من �أ�صحاب ر�سول اهلل
�صلى اهلل عليه و�سلم .والرواة يتحدثون �أن عمرو بن العا�ص عاد من مهمة
كلفه النبي �أداءها يف ُعمان ،فمر يف طريقه �إىل املدينة ب�سيد من �سادات
هم عمرو �أنبني عامر -يقال له ُقرة بن ُهبرية -ف�أنزله ُقرة و�أكرمه ،فلم َا َّ
يرحتل خال به ُقرة ،وقال له :يا هذا! �إن العرب ال تدين لكم بالإتاوة.
ثم ات�صل احلديث بينهما حتى تغا�ضبا و�أوعده عمرو .وبلغ عمرو املدينة
مر بهم من العرب ،فتحدث بذلك �إىل نفر من �أ�صحاب ر�سول وقد ر�أى كفر من َّ
اهلل ،وريع ه�ؤالء النفر حلديث عمرو ،وجعلوا يتحدثون يف ذلك ،ف�أقبل عمر بن
اخلطاب م�سلم ًا على عمرو ،فلما ر�آه �أولئك النفر �سكتوا.
قال عمر� :إين �أعلم فيما تتناجون .ف�أجابه طلحة بن عبيد اهلل� :أتريد �أن
حتدثنا بالغيب يا ابن اخلطاب؟ قال عمر :ال يعلم الغيب �إال اهلل� ،إمنا ظننت
�أنكم �سمعتم ما �أنب�أ به عمرو من كفر العرب وانتقا�ضهم ،فراعكم وجعلتم
تتناجون فيه .قالوا� :صدقت :قال عمر :ف�إين واهلل لأخافكم على العرب �أكرث
مما �أخاف العرب عليكم.
ويف هذا احلديث ت�أكيد ملا قلته �آنف ًا من �أن عمر مل يجادل �أبا بكر يف قتال
املرتدين ،كما زعم كثري من الرواة .ولكنه ي�صور �إىل �أي حد رجع العرب كفاراً
بعد �إ�سالمهم ،وهموا با�ستئناف احلياة التي كانوا يحيونها يف جاهليتهم،
هموا
لوال �أن عاجلهم �أبو بكر فرد �إليهم ر�شدهم� ،أو ردهم �إىل الر�شد بعد �أن ُّ
بالغي.
85
فال غرابة �إذن يف �أن يكون هذا كله حمفظ ًا لل�صاحلني من امل�سلمني،
وخمرج ًا لرجل ك�أبي بكر عن طوره الذي �ألفه من لني اجلانب ،ورقة القلب،
و�إيثار الرفق على العنف.
ومما ي�صور ا�ستهانة العرب املرتدين بامل�سلمني عامة ،وب�أبي بكر
خا�صة ،هذه الق�صة التي ت�صور يف الوقت نف�سه كيف �صار �أبو بكر �إىل ال�شدة
والعنف ،بعد ما �ألف يف حياته كلها من الرقة واللني.
جاءه رجل من بني �سليم يعرف بال ُفجاءة ،وي�سمى �إيا�س بن عبدياليل.
فقال له� :إين م�سلم ،و�أريد �أن �أقاتل املرتدين ،فاحملني ،و�أعني بال�سالح.
الظهر وال�سالح ،فلم يكد هذا الرجل يخرج ف�أعطاه �أبو بكر ما احتاج �إليه من َّ
من املدينة حتى بينَّ عما كان قد �أ�ضمر من الغ�ش واخلداع ،فجمع �إليه نفراً
من �أمثاله ،وجعل يتعر�ض النا�سُ :م�سلمهم وكافرهم ،فيقتلهم وي�أخذ �أموالهم
وين�رش الف�ساد يف الأر�ض.
يجد يف طلب وعرف �أبو بكر ذلك ف�أر�سل �إىل بع�ض عماله ي�أمره �أن َّ
وجد عامله يف ذلك حتى جاءه بعد ال ُفجاءة ،حتى يقتله �أو ي�أتيه به �أ�سرياًّ ،
خطوب بال ُفجاءة ،ف�أمر �أبو بكر �أن توقد له نار عظيمة مب�ص َّلى املدينة ،وهو
املكان الذي كان يخرج �إليه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وامل�سلمون ل�صالة
العيدين ،ولل�صالة على اجلنائز ،و�أن يلقى فيها ،فحرق بالنار عن �أمر �أبي
بكر .ولوال الغ�ضب واحلفيظة خلداع ال ُفجاءة من جهة ،والنت�شار الردة من
جهة �أخرى ،لذهب �أبو بكر يف عقاب هذا املجرم الذي حارب اهلل ور�سوله
مذهب ًا �آخر .قد �أمر به يف القر�آن حيث يقول اهلل عز وجل يف �سورة املائدة:
�ض ف ََ�سا ًدا �أَن الل َو َر ُ�سو َل ُه َو َي ْ�س َع ْو َن فيِ الأَ ْر ِ
ون َ هّ َ
ين ُي َحار ُِب َ ِنا َج َزاء ا َ ّل ِذ َ «�إ َ مّ َ
َ َ ُي َق َ ّت ُلواْ �أَ ْو ُي َ�ص َلّ ُبواْ �أ ْو ُت َق َ ّط َع �أ ْي ِديه ِْم َو�أ ْر ُج ُل ُهم ِ ّم ْن ِخ ٍ
الف �أ ْو ُينف َْوا ِم َن الأ ْر ِ
�ض َذ ِل َك َ َ َ
يم».
اب َع ِظ ٌ َل ُه ْم ِخ ْز ٌي فيِ ال ُ ّد ْن َيا َو َل ُه ْم فيِ ال ِآخ َر ِة َع َذ ٌ
ويقول الثقات من الرواة �إن �أبا بكر -رحمه اهلل -قد ندم على حتريق
ال ُفجاءة ،وحتدث بندمه هذا �إىل بع�ض من عاده من �أ�صحاب ر�سول اهلل يف
مر�ضه الذي تويف فيه.
و�أو�ضح دليل على ندمه �سري ُته فيمن كان ي�ؤتي به من الأ�رسى الذين
86
حر�ضوا على الردة و�أحلوا يف التحري�ض ،وقادوا قبائلهم حلرب امل�سلمني ،فقد
كان ك َّلما �أتى ب�أ�سري من ه�ؤالء ع َّنفه ،ثم قبل منه التوبة و�أطلقه.
وبهذه ال�سرية ع�صم كثرياً من الدماء ،و�أعفى قوم ًا �أبلوا بعد وفاته يف
الفتوح �أح�سن البالء.
وقد عاد ُطليحة �إىل الإ�سالم بعد هزميته و�أقام يف ال�شام حين ًا ،ثم �أراد
العمرة فمر باملدينة يف طريقه �إىل مكة ،وعرفه من عرفه من امل�سلمني، ُ
فقالوا لأبي بكر :هذا طليحة قريب ًا من املدينة يف طريقه �إىل مكة ،قال �أبو
بكر :وما �أ�صنع به! دعوه فقد هداه اهلل �إىل الإ�سالم.
وما �أعرف �أحداً من املرتدين كان له من ح�سن البالء ما كان لطليحة،
يف كل املواقع الكربى التي كانت بني امل�سلمني والفر�س �أيام عمر رحمه اهلل.
ومهما يكن من �شيء فقد �أتيح لأبي بكر بف�ضل هذا املزاج املعقول من
الرفق يف مو�ضع الرفق ،والعنف يف موطن العنف� ،أن يق�ضي على الردة،
ويعيد العرب �إىل الإ�سالم طائعني �أو كارهني بعد �أن خرجوا منه.
كل ذلك يف العام الأول من خالفته ،و�أتيح له بعد ذلك �أن ي�أخذ فيما كان
يريد �أن يبد�أ به ،لو مل تكفر العرب ،من حترير العرب يف ال�شام والعراق.
87
88
9
وقد دفعت الظروف دفع ًا �إىل فتح العراق ،وما �أرى �أنه كان يريد البدء به،
مهد له النبي �صلى اهلل عليه و�سلم من فتح و�إمنا كان �أهم �شيء �إليه �أن يتم ما ّ
ال�شام ،ليحرر العرب املنت�رشين فيه من �سلطان الروم ،ولعله �إن ُي�رس له �أمر
ال�شام �أن يفكر يف �أمر العراق ،ولكن الظروف �أرادت غري ذلك ،فقد �شغل �أبو
بكر يف العام الأول بحرب الردة كما ر�أيت ،ومل يهم بال�شام ،و�إمنا اكتفى ب�أن
يحمي حدود اجلزيرة حتى ال يغري عليها مغري من ال�شام.
وانت�رص جي�ش �أبي بكر على املرتدين من ربيعة يف البحرين ،و�إذا رجل
من بكر بن وائل ،ثم من بني �شيبان ،ي�ؤثر نف�سه على من تابعه من قومه
الذين �أقاموا على الإ�سالم ومل يكفروا ،و�إذا هو يتتبع مبن معه املرتدين من
العرب على �ساحل اخلليج الفار�سي ،ويتاح له الظفر فيما حاول من ذلك،
حتى ي�رشف على العراق وفيه قبائل من العرب قد انت�رشت فيه قبل الإ�سالم،
فيتمنى هذا الرجل �أن يتاح له الإمعان يف العراق ،و�إخ�ضاعه كله �أو بع�ضه
ل�سلطان امل�سلمني ،ولكنه يف حاجة �إىل �أمر من اخلليفة يبيح له هذه املحاولة
التي ال تخلو من مغامرة ،والتي قد يتعر�ض فيها امل�سلمون لألوان من اخلطر،
89
فيذهب هذا الرجل -وهو املثنى بن حارثة ال�شيباين � -إىل املدينة ويلقى �أبا
بكر ،ويحدثه مبا فعل ومبا كان من حربه للمرتدين من العرب ،ومبا لقي من
كيد الفر�س هناك له ،ومكرهم به وت�أليبهم عليه ،ويطلب �إىل �أبي بكر �أن ي� َّؤمره
على قومه ،و�أن ي�أذن له يف دخول العراق ،وحماربة الفر�س �إن اجتمعوا له.
ولي�س من �شك يف �أن املثنى قد زين لأبي بكره فتح العراق وهون عليه
�أمره ،و�أنب�أه ب�أن العرب من قومه بني بكر ومن غريهم منت�رشون يف العراق،
و�أن من الي�سري �أن ي�ستجيبوا له و�أن يعينوه �إن احتاج ملعونتهم .وقد فكر
للمثنى ،ف�أقبل حتى اقتحم العراق ،ولكنه �أبو بكر وا�ست�شار �أ�صحابه ثم �أذن ُ
مل يمُ عن فيه حتى عرف �أن ب�أ�س الفر�س �شديد ،و�أنهم لن يفرطوا يف العراق،
ولن يخلوا بني هذا الرجل العربي ومن معه من �أهل البادية وبني جزء من
ملكهم ،يغريون عليه ويقيمون فيه ،ثم ينت�رشون بعد ذلك حتى ي�ستخل�صوا
منهم �أر�ض ًا طال �سلطانهم عليها ،وا�ستقر �أمرهم فيها منذ زمن طويل .من
�أجل ذلك جمعوا له وتهي�ؤوا ملقاومته.
وعرف اخلليفة كل هذا ،و�أزمع �أال يرد املثنى عما �أراد ،و�أن ين�رصه وميده،
فاختار خالد بن الوليد ،وكان قد فرغ من �أمر اليمامة ،و�أمره �أن ي�أتي العراق،
و�أن يكون هو الأمري و�أن يكون املثنى له تبع ًا.
وكان خالد قد �أذن لكثري من جنده بالرجوع ،عن �أمر �أبي بكر ،بعد �أن لقي
جي�شه ما لقي من الب�أ�س واجلهد يف اليمامة ،فلم يبق معه �إال عدد ي�سري ال
يكاد يبلغ الألفني ،وقد ا�ستمد �أبا بكر ف�أمده بالقعقاع بن عمر ،و�أمر خالداً �أن
ي�ستنفر من العرب من ثبت على �إ�سالمه ،و�أال يقبل يف جي�شه منهزم ًا من �أهل
الردة ،و�أال يكره النا�س على االن�ضمام �إليه.
دومة اجلندل ،و�أمره �أن و�أر�سل �أبو بكر يف الوقت نف�سه عيا�ض بن غنم �إىل ُ
يق�ضي على الردة فيها ،ثم يهبط �إىل العراق قا�صداً �إىل احلرية ،ف�إن بلغها قبل
خالد فهو الأمري وخالد تبع له وقائد من قواده ،و�إن بلغها خالد قبله فالإمرة
خلالد ،وعيا�ض تبع له وقائد من قواده.
ولكن خالداً كان �سيف ًا من �سيوف الإ�سالم و�سهم ًا نافذاً من �سهام
امل�سلمني ،فلم يكد يبلغ العراق حتى جد يف احلرب و�أبلغ فيها ،وظفر بالفر�س
90
والعرب الذين تابعوهم يف غري موطن ،وانتهى �إىل احلرية ،فا�ضطر �أهلها �إىل
ال�صلح ،وا�ستقام له فتح العراق العربي وقهر الفر�س و�إذاللهم و�إخراجهم من
العراق يف عدة �أ�شهر ،وعيا�ض مقيم على دومة اجلندل ال يبلغ منها �شيئ ًا
حتى �أعانه خالد ،ف�أتيح له الفتح ،ومت له من �أمر العراق ما �أراد اخلليفة وما
�أراده هو ،ولقي يف حربه تلك اخلطوب ،و�أتيح له من الفوز ما �أ�رشت �إليه فيما
م�ضى.
وكذلك مت لأبي بكر فتح العراق العربي بعد الق�ضاء على الردة ،ولكنه �أر�سل
خالداً �إىل ال�شام مدداً للم�سلمني هناك ،فلم يثبت العراق على ما تركه خالد
عليه من اخل�ضوع ل�سلطان امل�سلمني ،و�إمنا كاد الفر�س ومكروا وا�ستعدوا ،ثم
عادوا �إىل العراق وقد انتق�ض �أكرث �أهله .ونظر املثنى بن حارثة ف�إذا خالد
قد فارقه ومعه ن�صف اجلي�ش �إىل ال�شام عن �أمر اخلليفة ،و�إذا هو ال ي�ستطيع
مبن معه من امل�سلمني �أن يقاوم الفر�س والعرب جمتمعني .فعاد �إىل املدينة،
ولكنه حني بلغها �صادف �أبا بكر مري�ض ًا مر�ضه الذي تويف فيه ،وقد ا�ستقبله
�أبو بكر على ذلك و�سمع منه ،و�أو�صى عمر �أن ميده ،و�أال يهمل �أمر العراق.
وكذلك تورط امل�سلمون يف هذه احلرب التي كان �أولها مي�رساً ،والتي �أبلى
فيها خالد �أح�سن البالء ،وكان جديراً �أن يحملها �إىل بالد الفر�س نف�سها ،و�أال
يقلع عن هذه البالد حتى يزيل ملك الأكا�رسة.
ولي�س لذلك م�صدر �إال �أن �أبا بكر -رحمه اهلل -قد عني ب�أمر ال�شام قبل �أن
يفرغ من �أمر العراق� ،إنفاذاً ملا كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يريده وميهد
له من جهة ،وتورط ًا يف حرب الروم على غري تعجل منه من جهة �أخرى.
ثم قب�ض اهلل �أبا بكر �إىل جواره قبل �أن ي�شهد ما �أتاح اهلل جليو�شه يف
ال�شام من الن�رص .وكان على عمر بن اخلطاب رحمه اهلل �أن ي�سرتد العراق ويتم
فتح ال�شام كما �سرتى.
91
92
10
ورط �أبا بكر يف حرب ال�شام قبل الفراغ من فتح العراق� ،أنه وكان الذي ّ
�أراد �أن يحمى حدود اجلزيرة العربية مما يلي ال�شام ،ف�أر�سل خالد بن �سعيد بن
العا�ص ،و�أمره �أن يقيم على تيماء ردءاً ملن وراءه من امل�سلمني.
فذهب خالد ومعه جي�شه حتى بلغ الغاية التي وجه �إليها ،واجتمعت له
على حدود ال�شام ب�إزائه قبائل من العرب ،ومعهم جنود من الروم ،فحمى خالد
و�أ�صحابه حني ر�أوا هذا العدو ب�إزائهم ،فاقتحموا عليهم وانهزموا لهم عدوهم،
ف�أطمع انهزامه خالداً يف �أن يظفر يف ال�شام مبثل ما كان يظفر به �سميه ابن
الوليد يف العراق ،ف�أوغل يف �أر�ض العدو ،وتركه العرب والروم ميعن يف �أر�ضهم،
حتى �إذا بعد ما بينه وما بني اجلزيرة العربية ،كروا عليه فح�رصوه وقتلوا ابنه
�سعيداً ،وا�ضطر هو �إىل �أن يفر فيمن ا�ستطاع من �أ�صحابه ،و�أمعن على فراره
حتى جاوز حدود اجلزيرة ودنا من املدينة.
وعرف �أبو بكر ذلك فكتب �إليه ي�أمره �أن يقيم مكانه و�أال ي�أتي املدينة.
وعلي وغريهما من �أ�صحاب النبي قد نهوا �أبا بكر عن �إر�سال ّ وكان عمر
خالد �إىل حدود ال�شام وقالوا له� :إنه رجل فخور مغرور �رسيع الإقدام �رسيع
93
الإحجام ،ولكن �أبا بكر مل ي�سمع لهم .فلما انهزم خالد عرف �أنهم قد ن�صحوا له،
و�أنهم كانوا �أعرف منه بهذا الأموي املقدام املحجام.
ومهما يكن من �شيء فقد ا�ضطر �أبو بكر �إىل �أن ميحو �أثر تلك الهزمية ،فجند
جنوداً و�أمر عليها الأمراء ،وخ�ص�ص لكل �أمري جزءاً من ال�شام يفتحه ثم يكون
عام ًال عليه.
وه�ؤالء الأمراء هم :عمرو بن العا�ص ،وجعل �إليه فتح فل�سطني وحكمها
بعد الفتح ،ويزيد بن �أبي �سفيان ،وكلفه دم�شق ،و�أبو عبيدة بن اجلراح ،وكلفه
حم�ص .كلهم يبد�أ بالفتح ثم يقيم والي ًا على ما غلب عليه.
وكان عكرمة بن �أبي جهل قد �أر�سل مدداً �إىل خالد بن �سعيد ،فلما فر خالد
داور عكرمة باجلي�ش حتى بعد به عن جموع الروم والعرب ،و�أقام على احلدود
بني اجلزيرة وال�شام.
وكان الروم قد ظنوا �أن ما �أ�صاب امل�سلمني من هزمية ،وما كان من فرار
قائدهم خالد بن �سعيد ،وارتداد جي�شه �إىل احلدود ،قد كفاهم حرب امل�سلمني .فلما
ر�أوا الأمراء يقبلون بجيو�شهم ويتجاوزون احلدود ،فيقيم �أبو عبيدة باجلابية(((،
ويقيم يزيد بن �أبي �سفيان بالبلقاء((( ،ويقيم عمرو بن العا�ص بالعربة((( ،ويقيم
�رشحبيل بن ح�سنة على مرتفع قريب من طربية((( ..ملا ر�أى الروم هذا عرفوا
جد امل�سلمني يف حربهم فتهي�ؤوا لقتالهم ،و�أر�سلوا ب�إزاء كل �أمري جي�ش ًا �أكرث من
جي�شه عدداً و�أعظم قوة .ونظر �أمراء امل�سلمني فوجدوا �أن كل واحد منهم �أعجز
من �أن يثبت للجي�ش الذي وقف ب�إزائه ،فتكاتبوا وت�شاوروا ،و�أ�شار عليهم عمرو
بن العا�ص ب�أن يجتمعوا يف �صعيد واحد ،لأنهم �إن اجتمعوا مل يغلبوا من قلة.
وكانت هذه اجليو�ش كلها التكاد جتاوز ثالثني �ألفاً� .أما جيو�ش الروم فكانت
�أكرث من ذلك كثرياً ،يزعم الرواة �أنها بلغت �أربعني ومئتي �ألف.
94
وملا ر�أت جيو�ش الروم �أن جيو�ش امل�سلمني قد اجتمعت يف �صعيد واحد،
�صنعوا �صنيعهم ،فتجمعوا ووقفوا ب�إزاء امل�سلمني،
و�أنا �أروي هذا كله متحفظاً ،فهذه الأعداد جليو�ش امل�سلمني وجيو�ش الروم
ال تخلو من مبالغة ،ول�ست �أدري �إىل �أي حد ميكن �أن نطمئن �إىل حتديد املواقف
الأوىل للأمراء وجيو�شهم ،و�إمنا ال�شيء الذي ن�ستطيع �أن نطمئن �إليه �أن جيو�ش
امل�سلمني اجتمعت على �أحد �شاطئي الريموك ،واجتمعت جيو�ش الروم على
ال�شاطئ الآخر ،ثم عرب امل�سلمون �إىل الروم فوقفوا ب�إزائهم ،وقد هاب بع�ض
القوم بع�ضاً ،و�أقاموا على تناو�ش ي�سري ثالثة �أ�شهر -فيما يقول الرواة -ال
يقدر �أحد اجلي�شني على �صاحبه ،بل ال يجر�ؤ على �إن�شاب القتال العام .وعرف
�أبو بكر ذلك ف�ضاق به ،ثم �أمر خالد بن الوليد �أن يذهب بن�صف جي�ش العراق
منجداً جليو�ش امل�سلمني عند الريموك.
ني الروم و�ساو�س ال�شيطان بخالد ويزعم الرواة �أن �أبا بكر قال :واهلل لأن�س َّ
بن الوليد .واملح َّقق �أن �أبا بكر كان يعرف من خالد الإقدام بل الغلو يف الإقدام،
وكان مطمئن ًا �إیل �أن امل�سلمني حني ين�ضم �إليهم خالد مبن معه لن يغلبوا من
قلة� ،إذا �أخل�صوا النية ون�صحوا هلل ور�سوله وجاهدوا عدوهم �صادقني .وكان �أبو
بكر واثق ًا بن�رص اهلل للم�سلمني �إن قاتلوا عدوهم كما كانوا يقاتلون مع النبي
�صلى اهلل عليه و�سلم.
واهلل يقول لنبيه وللم�ؤمنني:
الل َعن ُك ْم َو َع ِل َم �أَ َ ّن ِفي ُك ْم َ�ض ْع ًفا َف�إِن َي ُكن ِ ّمن ُكم ِ ّما َئ ٌة َ�صاب َِر ٌة «ال َآن َخ َف َّف َ هّ ُ
ين». ال�صا ِب ِر َالل َم َع َ ّ َيغْ ِل ُبو ْا ِم َئ َتينْ ِ َو�إِن َي ُكن ِ ّمن ُك ْم �أَل ٌْف َيغْ ِل ُبو ْا �أَ ْل َفينْ ِ ِب ِ�إذْنِ َ هّ ِ
الل َو َ هّ ُ
فلي�س على امل�سلمني ب�أ�س من كرثة عدوهم �إذا �صدقوا النية و�صربوا نفو�سهم
على احلرب .وقد قال اهلل يف �سورة البقرة فيما كان من حرب طالوت وجالوت:
الل َكم ِ ّمن ِف َئ ٍة َق ِلي َل ٍة َغ َل َب ْت ِف َئ ًة َك ِث َري ًة ِب�إِذْنِ ون �أَ َ ّن ُهم ُ ّمالقُوا َ هّ ِ
ين َي ُظ ُ ّن َ «..ق َ
َال ا َ ّل ِذ َ
ين».
ال�صا ِب ِر َالل َم َع َ ّ َ هّ ِ
الل َو َ هّ ُ
فال على امل�سلمني �أن يكونوا هم الفئة القليلة ،و�أن يكون الروم هم الفئة
الكثرية ،فالكرثة والقلة لي�ستا مدار الن�رص والهزمية و�إمنا مدارهما ال�صرب
واحلفاظ و�إخال�ص النية .وقد و�صل خالد ومن معه فان�ضموا �إىل جيو�ش
95
امل�سلمني ،بعد مغامرة خطرية غامرها خالد بجي�شه حني عرب بهم -فيما يزعم
الرواة � -صحراء مهلكة ال ماء فيها ،وحني ا�ستعان على هذه ال�صحراء بتظمئ
الإبل ثم �سقيها علَال بعد نهل((( ،ثم �ص((( �آذانها و�شد م�شافرها ،واندفع يف
ال�صحراء وقد ا�ستكرث من املاء ما ا�ستطاع ،فكان �إذا ظمئت اخليل واملطايا نحر
هذه الإبل وا�ستخرج املاء من بطونها ف�سقاها منه ،وطعم النا�س من حلومها.
وكان بلوغ خالد جيو�ش امل�سلمني بركة عليهم ،فهو قد �أ�شار على �أمراء
اجليو�ش �أن يوحدوا القيادة ،و�أن يكون كل واحد منهم �أمرياً على جماعة
امل�سلمني يوماً ،وطلب �إليهم �أن يجعلوا له �أول يوم بعد توحيد القيادة -كذلك
يقول الرواة -و�أرجح �أنا �أن �أبا بكر �أر�سله �إىل ال�شام �أمرياً على جيو�ش امل�سلمني
كلها ،و�أن �أبا بكر هو الذي وحد قيادة هذه اجليو�ش ،على �أال يحرم �أمري من
الأمراء عمله الذي وعد به .فلما بلغ خالد ال�شام وجمعت له جيو�ش امل�سلمني
ف�أ�صبح قائدها العام مل مياكث العدو ،و�إمنا انتظر حتى َج ّم وجم �أ�صحابه ،ثم
عب�أ جيو�ش امل�سلمني تعبئة مل يعرفها العرب من قبل ،فجعل اجلي�ش كرادي�س -
�أي كت ًال �ضخمة -ثم قذف بها جي�ش العدو ،ف�أتيح له الن�رص بعد خطوب.
وكان خالد هو الذي فتح ال�شام يف حقيقة الأمر.
ولكن �أبا بكر -رحمه اهلل -مل ُيتحح له �أن يفرح بهذا الفتح ،فقد مر�ض
وتويف ،وا�ستخلف عمر .و�أر�سل ر�سوله �إىل جيو�ش امل�سلمني ينبئها بوفاة �أبي
بكر وا�ستخالفه ،ويعزل خالداً عن �إمارة اجليو�ش ويجعل هذه الإمارة لأبي
عبيدة.
ويقول الرواة �إن ر�سول عمر بلغ الع�سكر ليلة املوقعة و�أنب�أ �أبا عبيدة مبهمته،
فا�ستكتمه �أبو عبيدة اخلرب ،وكتمه هو حتى ال ي ُفل يف �أع�ضاد اجلي�ش ،وال ينبئ
خالداً بعزله .ومل يعلم خالد بهذا العزل �إال بعد �أن �أنزل اهلل ن�رصه على امل�سلمني
وفتح لهم طريق دم�شق.
96
11
وكذلك مل تت�صل خالفة �أبى بكر �إال �سنتني و�أ�شهراً ،يختلف الرواة يف
عددها ،ومل يوفق خليفة من خلفاء امل�سلمني يف �أمد ق�صري كهذا الأمد �إىل
ما وفق �إليه �أبو بكر .فقد تويف -رحمه اهلل -بعد �أن رد اجلزيرة العربية
�إىل الإ�سالم كعهدها �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وبعد �أن امتحن يف
�صربه و�صدق نيته وثباته و�ضبط نف�سه عند املكروه ،امتحن معه امل�سلمون،
و�أبلت جيو�شه يف قمع الردة �أح�سن البالء و�أعظمه .وتويف بعد �أن رمى به�ؤالء
امل�سلمني ملك الفر�س ،فاقتطع منه العراق العربي ،ولو قد مد اهلل له يف
احلياة �شهراً �أو �شهرين ملات مطمئن ًا �إىل �أن جيو�شه يف ال�شام قد ف ّلت جيو�ش
قي�رص ،وفتحت منافذ ال�شام للم�سلمني ين�ساحون منها �إىل �أر�ض ال�شام كلها
في�ستربئونها من الروم ،وي�ستخل�صونها للم�سلمني.
ولكن االبتهاج بهذا الفتح ،واحتمال ما �سيعقبه من الأثقال واخلطوب،
مل ُيتح لأبي بكر ،و�إمنا �أتيح ملن ويل خالفة امل�سلمني بعده ،وهو عمر بن
اخلطاب.
ومل ن�صف من �سيا�سة �أبي بكر �إىل الآن �إال �سيا�سة احلرب ،فقد كانت
97
خالفته كلها خالفة حرب يف اجلزيرة العربية �أوالً ،ويف العراق وال�شام بعد
ذلك .ومل يكن لأبي بكر جتديد يف �سيا�سته الداخلية� ،إن �صح �أن ن�سمي �سريته
يف املدينة ويف العرب بعد �أن عادوا �إىل الإ�سالم� :سيا�سة داخلية.
وقد اخت�رص �أبو بكر �سيا�سته يف جملة قالها يف �أول خطبة خطبها بعد
�أن ا�ستخلف ،وهي قوله�« :إمنا �أنا متبع ول�ست مببتدع» .فقد �ألزم نف�سه �سرية
النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يف تدبري احلرب ،ويف �إجراء الأحكام يف املدينة
ويف �سائر اجلزيرة بعد �أن رجعت �إىل الإ�سالم.
فكان يبا�رش �أمور املدينة بنف�سه م�ستعين ًا بعمر على الق�ضاء بني النا�س،
ويقال �إن عمر كان يق�ضي ال�شهر ال يخت�صم �إليه �أحد ،لأن �أبا بكر مل ي�رس
وحده �سرية النبي ،و�إمنا �سار �أهل املدينة كلهم �سرية النبي مل يغريوا �شيئ ًا،
فلم يغري اهلل من �أمرهم �شيئ ًا.
بال�سنح خارج املدينة من �أعالها يف بيت اتخذه من وكان �أبو بكر يقيم ُّ
ال�شعر ،فلما ا�ستخلف ظل يف هذا البيت �ستة �أ�شهر ،يهبط �إىل املدينة كل يوم،
فينظر يف �أمور النا�س ،ويقيم لهم ال�صالة ،ف�إذا �أم�سى عاد �إىل �أهله .ويروي
ابن �سعد ب�إ�سناده� ،أن �أبا بكر كان قبل وفاة النبي يحلب للحي الذي كان يقيم
بال�سنح من الأن�صار �إبلهم وغنمهم ،فلما ا�ستخلف �سمع جارية تقول :الآن فيه ُّ
ال حتلب لنا منائحنا فقال :ال واهلل لأحلنب لكم و�إين لأرجو �أال يغريين ما
(((
98
على �أنه حني �أح�س املوت رد على امل�سلمني ما ا�ستنفق من مالهم فوهب
لهم بهذا املال �أر�ض ًا كان ميلكها .واتفق الرواة على �أنه كان عنده غالم
يخدمه ،ولقحة((( ي�سقى لبنها وقطيفة قيمتها خم�سة دراهم .وكان هذا كله
من بيت مال امل�سلمني ،فلما عرف �أنه ميت يف مر�ضه ذاك �أمر �أن يرد هذا
كله على اخلليفة من بعده ،فلما ُرد هذا على عمر .قال وهو يبكي :رحم اهلل �أبا
بكر ،لقد �أتعب من بعده.
وال نعرف لأبي بكر �شيئ ًا امتاز به عن عمر يف �سيا�سة امل�سلمني الداخلية
�إال �أمرين اثنني� ،أحدهما� :أن الفيء كان ي�أتيه بعد انت�صار قواده يف حروب
الردة ،وكان ي�أتيه بعد انت�صار خالد يف العراق.
كان القواد ينفذون يف هذا الفيء �أمر اهلل عز وجل يف الآية الكرمية من
�سورة الأنفال:
َ
نا َغ ِن ْم ُتم ِ ّمن َ�ش ْي ٍء َف�أ َ ّن للِ َ هّ ِ ُخ ُم َ�س ُه َو ِل َلرّ ُ�سولِ َو ِل ِذي ا ْل ُق ْر َبى َ
«و ْاع َل ُمواْ �أ َ مّ َ
َ
ِالل َو َما �أَن َز ْل َنا َع َلى َع ْب ِد َنا
ال�سبِيلِ �إِن ُكن ُت ْم � َآمن ُت ْم ب َ هّ َِّ نِ ب ا
َ ْ و ني
ِ ِ
اك َ�س َوا ْل َي َت َ َ َ
لمْ او ى ام
ير».
الل َع َلى ُك ِ ّل َ�ش ْي ٍء َق ِد ٌ ال ْم َعانِ َو َ هّ ُ
َي ْو َم ا ْلف ُْر َقانِ َي ْو َم ا ْل َت َقى جْ َ
فيق�سمون �أربعة �أخما�س الغنيمة على اجلند ،ورمبا نفلوا �أ�صحاب البالء
من اخلم�س ،ثم ير�سلون ما بقي منه �إىل �أبي بكر ،وكان �أبو بكر يق�سم ما ي�صل
�إليه بني امل�سلمني ال يفرق بينهم يف الق�سمة ،و�إمنا يعطيهم جميع ًا على �سواء،
يعطي الرجال والن�ساء والأحرار والرقيق.
وملا ُكلِّم يف ال�سابقني �إىل الإ�سالم واملجاهدين مع ر�سول اهلل ،قال:
�إن �أجرهم على ذلك عند اهلل ،و�إمنا الدنيا بالغ ،و�سرنى �أن عمر خالف هذا
املذهب حني فر�ض الأعطية للنا�س.
والأمر الثاين� :أنه مل يرم الفر�س والروم يف العراق وال�شام �إال مبن ثبت
على �إ�سالمه بعد وفاة النبي ،وكان مينع العائدين من ردتهم �إىل الإ�سالم من
امل�شاركة يف الفتح ،عقوبة لهم من جهة و�إ�شفاق ًا منهم من جهة �أخرى.
و�سرنى �أن عمر قد غري هذا احلكم من �أحكام �أبي بكر.
99
وكان �أبو بكر فيما عدا ذلك رج ًال من امل�سلمني ال ميتاز منهم يف �شيء،
وقد دعاه بع�ض النا�س :يا خليفة اهلل! فقال :ل�ست خليفة اهلل ،و�إمنا �أنا خليفة
ر�سول اهلل.
وكذلك �أنفق �أيام خالفته را�ضي ًا مر�ضي ًا ،مل ينكر عليه �أحد من امل�سلمني
�شيئ ًا ،ومل ينكر هو على �أحد من امل�سلمني �شيئ ًا ،ولقي اهلل را�ضي ًا عن امل�سلمني
وامل�سلمون عنه را�ضون.
و�أمر �آخر يتفق املحدثون والعلماء بالقر�آن على �إ�ضافته �إىل �أبي بكر عن
م�شورة عمر ،ومل ُيقبل عليه �أبو بكر �إال بعد تردد ،لأنه كان كما ر�أيت يتحرج
من �أن يفعل �شيئ ًا مل يفعله النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وهو جمع القر�آن.
فقد قتل من �أ�صحاب ر�سول اهلل يف حرب م�سيلمة مئتان و�ألف من
امل�سلمني ،وكان يف القتلى عدد كثري من القراء الذين جمعوا القر�آن كله �أو
�أكرثه يف �صدورهم ،فلما كرث القتلى من ال ُقراء يف هذه املوقعة �أ�شفق عمر
�أن يقتل مثلهم �أو �أكرث منهم يف مواطن الب�أ�س ،و�أن يذهب كثري من القر�آن
بقتلهم ،ف�أ�شار على �أبي بكر �أن يجمع القر�آن حتى ال يتعر�ض ن�ص من
ن�صو�صه لل�ضياع بقتل من يقتل من القراء خا�صة ومن �أ�صحاب النبي عامة،
وتردد �أبو بكر يف ذلك كما قلت �آنف ًا ،ولكن عمر مازال به حتى �أقنعه .قال
املحدثني والعلماء بالقر�آن :دعا �أبو بكر زيد بن ثابت رحمه اهلل. ِّ الرواة من
وكان �شاب ًا جلداً عاق ًال ،وكان يكتب الوحي لر�سول اهلل يف املدينة ،فكلفه
�أن يتتبع القر�آن فيجمعه ،وتردد زيد كما تردد �أبو بكر ،لأن النبي �صلى اهلل
عليه و�سلم مل يفعل ذلك ،ولكن ال�شيخني �أقنعاه مبا يف ذلك من خري للإ�سالم
وامل�سلمني ،فنه�ض زيد بهذه التبعة الثقيلة ،وجعل يتتبع القر�آن ،يجمعه من
�صدور الرجال ،ال يقبل من رجل ن�ص ًا من ن�صو�صه �إال �إذا وجده عند رجل �آخر
من �أ�صحاب النبي ،ويجمعه من �ألواح احلجارة و�أكتاف الإبل ،وع�سب النخل
التي كانوا يكتبون القر�آن عليها ،حتى �أمت ذلك يف عهد �أبي بكر� ،أو يف �أيام
عمر ،على اختالف يف ذلك ،فاجتمع ذلك �أول م�صحف كتب فيه القر�آن.
وظل هذا امل�صحف عند �أبي بكر� ،إن كان قد مت جمعه يف �أيامه ،ثم �صار
بعد ذلك �إىل عمر� ،أو ظل عند عمر� ،إن كان قد مت جمعه بعد وفاة �أبي بكر ،حتى
100
هم عثمان رحمه اهلل بن�سخ قتل عمر ،فكان عند حف�صة �أم امل�ؤمنني ،حتى ّ
امل�صاحف و�إر�سالها �إىل الأم�صار ،فطلب هذا امل�صحف من حف�صة فدفعته
�إليه .وكان مما اعتمد عليه الذين ن�سخوا امل�صاحف.
ومعنى هذا �أن امل�صحف الذي جمعه زيد بن ثابت عن �أمر �أبي بكر مل يكن
معرو�ض ًا على النا�س ،و�إمنا كان حمفوظ ًا عند ال�شيخني� ،أو عند عمر وحده ثم
عند حف�صة ،ومل يذع يف النا�س �إال حني ن�سخت امل�صاحف عن �أمر عثمان ،يف
الق�صة التي رويناها يف غري هذا احلديث.
وكان زيد بن ثابت من الذين �شاركوا يف ن�سخ هذه امل�صاحف .ومن
النا�س من يظن �أن جمع القر�آن �أيام �أبي بكر �أريد به �إىل منع اختالف النا�س
وعمر مل يكن مرجع ًا لعامة امل�سلمني ،و�إمنا �أريد به �إىل حفظ ن�صو�ص القر�آن
من �أن تذهب مبوت الذين يحفظونها يف �صدورهم� ،أو يحتفظون بها عندهم
مكتوبة ،ف�أما امل�صحف الذي �أريد به �إىل جمع النا�س على قراءة ال يختلفون
فيها ،فهو الذي �أر�سله عثمان �إىل الأم�صار ،والذي �سمي بامل�صحف الإمام.
101
102
12
ويف �آخر الأ�سبوع الأول من �شهر جمادى الآخرة �سنة ثالث ع�رشة للهجرة
مر�ض �أبو بكر ،وكان قد اغت�سل يف يوم بارد ف�أخذته حمى جعلت تثقل عليه
حتى �أح�س �أبو بكر �أنه املوت ،وقد كُ لم يف دعاء الطبيب ،فقال -فيما حتدث
ابن �سعد -لقد ر�آين فقال� :إين فعال ملا �أ�شاء.
يريد �أن الطبيب الذي ر�آه �إمنا هو اهلل عز وجل .ومعنى ذلك �أن �أبا بكر مل
يرد �أن ي�ست�شري طبيب ًا من النا�س ،و�إمنا وكل �أمره �إىل اهلل يف مر�ضه ،كما كان
يكل �أمره كله �إىل اهلل اثناء عافيته .ولي�س ي�صح ما يروى من �أن �أبا بكر مات
�سمه بع�ض اليهود يف طعام �أهداه �إليه ،و�أكل معه من هذا الطعام م�سموماًَّ ،
طبيب العرب احلارث بن كلدة ،فلما �أ�ساغه قال لأبي بكر� :أرفع يدك يا خليفة
ر�سول اهلل ف�إن هذا الطعام م�سموم ،و�إن �سمه ل�سنة ،و�إين �أموت �أنا و�أنت يف يوم
واحد بعد عام.
ال ت�صح هذه الرواية ،فلو قد �صحت ملا �أهمل �أبو بكر نف�سه� ،أو عمر بعده،
�أن يدعو من �أهدى �إليه هذا الطعام ويعاقبه ،لأنه على �أقل تقدير قد قتل رجلني
من امل�سلمني ،ف�ض ًال عن �أن �أحد هذين الرجلني هو خليفة ر�سول اهلل ،وما كان
عمر ليدع هذه الق�ضية مت�ضي دون �أن يحدث فيها �أمراً.
103
قال الرواة :وكانت عائ�شة �أم امل�ؤمنني متر�ض �أباها ،فتمثلت حني ر�أته
يحت�رض قول ال�شاعر القدمي:
لعمرك ما ُيغنى الرثاء عن الفتى �إذا ح�رشجت يوم ًا و�ضاق بها َّ
ال�ص ُدر
فقال لها �أبو بكر :لي�س كذلك يا �أم امل�ؤمنني ،ولكن قول اهلل عز وجل:
« َو َجا َء ْت َ�س ْك َر ُة المْ َ ْو ِت ِبالحْ ِ َّق َذ ِل َك َما ُك َ
نت ِم ْن ُه تحَ ِ ي ُُد».
ويف مر�ضه هذا طلب �إىل عائ�شة �أن ترد ما ًال كان �أعطاها �إياه ليجعله يف
مرياثه ،حترج ًا من �أن ي�ؤثر �أحد ورثته على غريه ،وقال لها فيما قال� :إمنا هما
�أخواك و�أختاك .قال الرواة :فلم تفهم عنه عائ�شة ،لأنها كانت تعرف �أخويها
عبدالرحمن وحممداً ،و�أختها �أ�سماء ذات النطاقني ،وال تعرف لها �أخت ًا غريها.
فقال لها �أبو بكر� :إمنا هي ذات بطن �أ�سماء بنت ُعمي�س .فقد �ألقى يف روعي
�أنها جارية.
وكانت �أ�سماء بنت عمي�س حام ًال فولدت بعد وفاة �أبي بكر جارية ،هي �أم
كلثوم بنت �أبي بكر.
ويف هذا املر�ض �أو�صى عائ�شة �أن يكفن يف ثوبني غ�سيلني كان ي�صلي
فيهما .فلما عر�ضت عليه عائ�شة �أن يكفن يف اجلديد ،قال� :إن احلي �أحوج �إىل
للمهلة((( والرتاب. اجلديد من امليت ،ف�إمنا الكفن ُ
وقد كفن يف هذين الثوبني ،وبع�ض الرواة يزعم �أن قد �أ�ضيف �إليهما ثوب
جديد.
وقد تويف �أبو بكر -رحمه اهلل -فيما يروي عن عائ�شة ،بني املغرب
والع�شاء ،يوم االثنني لثمان بقني من جمادى الآخرة �سنة ثالث ع�رشة للهجرة،
وكانت �سنه -فيما جمع عليه الرواة -ثالث ًا و�ستني �سنة ،قد ا�ستوفى �سن
ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم .ودفن يف ليلته -على �أ�صح الروايات -ببيت
عائ�شة �إىل جنب قرب ر�سول اهلل �صلوات اهلل عليه .و�صلى عليه عمر يف امل�سجد
عند املنرب.
104
13
ويف هذا املر�ض �أدى �أبو بكر للإ�سالم وامل�سلمني �أجل خدمة �أداها رجل
بعد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وهي ا�ستخالفه عمر بن اخلطاب.
والرواة يكرثون يف �أمر هذا اال�ستخالف ،يزعمون �أنه �شاور فيه جماعة
من �أ�صحاب النبي ،ويف مقدمتهم عبدالرحمن بن عوف ،وعثمان بن عفان،
و�سعيد بن زيد بن نفيل ،فكلهم ر�أى ر�أيه.
ويقول الرواة �أي�ض ًا� :إنه �أملى عهده �إىل امل�سلمني على عثمان ،فلما �أخذ
يف الإمالء وبلغ قوله�« :إين ا�ستلخفت عليكم» �أخذته غ�شية ،ف�أ�شفق عثمان �أن
تكون غ�شية املوت ،فكتب من عند نف�سه «عمر بن اخلطاب» .و�أفاق �أبو بكر
علي ما كتبت .فلما قر�أ عليه عثمان ،و�سمع ا�سم
من غ�شيته فقال لعثمان :اقر�أ ّ
«عمر بن اخلطاب» كرب �أبو بكر ،وقال لعثمان :جزاك اهلل عن الإ�سالم خرياً:
خفت �أن تذهب نف�سي يف هذه الغ�شية .ثم م�ضى يف الإمالء حتى �أمت عهده.
وهذا ن�صه كما رواه ابن �سعد عن �شيوخه:
«ب�سم اهلل الرحمن الرحيم .هذا ما عهد �أبو بكر بن �أبي قحافة يف �آخر
عهده بالدنيا خارج ًا منها .وعند �أول عهده بالآخرة داخ ًال فيها ،حني ي�ؤمن
105
الكافر ،ويوقن الفاجر ،وي�صدق الكاذب� ،إين ا�ستخلفت عليكم بعدي عمر بن
اخلطاب ،فا�سمعوا له و�أطيعوا ،و�إين مل �آل اهلل ور�سوله ودينه ونف�سي و�إياكم
خرياً ،ف�إن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه ،و�إن بدل فلكل امرئ ما اكت�سب من
الإثم .واخلري �أردت ،وال �أعلم الغيب ،و�سيعلم الذين ظلموا �أي منقلب ينقلبون.
وال�سالم عليكم ورحمة اهلل».
ويقول الرواة� :إن عثمان خرج بهذا العهد خمتوم ًا على جماعة النا�س يف
امل�سجد .فقال لهم� :إن خليفة ر�سول اهلل ي�س�ألكم� :أتبايعون ملن يف هذا الكتاب.
علي فيما يروي : -قد عرفناه �إنه عمر. قالوا :نعم .وقال بع�ضهم -وهو ّ
ويقول الرواة كذلك� :إن جماعة من املهاجرين ملا علموا ب�أن �أبا بكر يريد
�أن ي�ستخلف عمر دخلوا عليه فقالوا :ماذا تقول لربك �إذا ا�ستخلفت علينا عمر
وهو على ما تعرف من غلظته؟ قال �أبو بكر� :أجل�سوين ،ف�أجل�سوه ،فقال� :أباهلل
تخوفونني؟ �أقول :قد ا�ستخلفت عليهم خري �أهلك .ثم ا�ضطجع.
ول�ست �أطمئن �إىل �شيء من كل هذه الروايات ،فقد كرث الكالم يف ا�ستخالف
�أبي بكر نف�سه ،وال غرابة يف �أن يكرث الكالم يف ا�ستخالف عمر �أي�ض ًا ،و�إمنا
�أقطع ب�شيء واحد ،وهو �أن �أبا بكر قد ا�ستخلف عمر يف مر�ضه الذي تويف فيه.
وقد قدمت �أن ا�ستخالف �أبي بكر لعمر مل يكن من �ش�أنه �أن يلزم امل�سلمني ،لأن
�أمر اخلالفة لي�س �إىل رجل ،و�إن كان هذا الرجل �أبا بكر ،و�إمنا هو �إىل جماعة
امل�سلمني و�إىل �أويل الر�أي منهم خا�صة ،وهم املهاجرون والأن�صار يف ذلك
العهد .و�إمنا كان ا�ستخالف �أبي بكر تر�شيح ًا لعمر ون�صح ًا للم�سلمني ،وكان
من حق امل�سلمني و�أوىل ر�أيهم �أن يقبلوا هذا الرت�شيح �أو يعر�ضوا عنه ،ف�إذا
كان امل�سلمون قد قبلوا هذا الرت�شيح ف�إمنا قبلوه لأنهم كان يحبون �أبا بكر،
ويثقون به ،ويطمئنون �إىل ن�صحه للأمة وللإ�سالم و�إىل ح�سن اختياره.
وقد قبلوا تر�شيح �أبي بكر لعمر جممعني على هذا القبول مل يخالف على
�إجماعهم �أحد .وكان اختيار عمر �أجل خدمة �أداها �أبو بكر للم�سلمني .فهو قد
تويف وجيو�ش امل�سلمني يف ال�شام والعراق ب�إزاء الأ�سدين فار�س والروم ،كما
كان ي�سميهما ،والعرب حديثو عهد بالردة ،فكان امل�سلمون يف حاجة �أ�شد
حاجة �إىل رجل قوي �شديد يف احلق ،ما�ض يف الأمور �إىل غاياتها ،حري�ص
106
على الإن�صاف ،خمل�ص يف الن�صح هلل ور�سوله وللإ�سالم وامل�سلمني ،قادر
على �أن ينه�ض بهذه الأعباء الثقال التي تركها �أبو بكر ،في�ست�صلح العرب بعد
ردتهم ،ويتم ما بد�أ �أبو بكر من الفتح ،ويقيم الدول النا�شئة على ما ينبغي �أن
تقوم عليه من نظام يجمع امل�سلمني ،ويرعى م�صالح البالد املفتوحة و�أهلها،
وينفذ كتاب اهلل و�سنة نبيه ،وي�أخذ اجلماعة اجلديدة بحكم يلتئم من ال�شدة
واللني ،ويقوم على العدل وامل�ساواة والإن�صاف ،يف غري هوادة وال �ضعف،
ويف غري جربية �أو ظلم.
ومل يكن �أقدر على احتمال هذه املهمة اخلطرية من عمر رحمه اهلل كما
�سرتى.
107
108
الكتاب الثاين
109
110
1
وكان عمر بن اخلطاب يف ال�سنة ال�ساد�سة من مبعث النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم فتى جلداً حديداً من فتيان قري�ش ،ثم من بني عدي ،وقد ن�ش�أ ن�ش�أة
القر�شي غري ذي الرثاء.
كان �أبوه اخلطاب بن نفيل قليل احلظ من الغنى ،عظيم احلظ من الفظاظة
وغلظة القلب ،امتحن ابن �أخيه زيد بن عمرو ف�أ�رسف عليه يف االمتحان.
وكان زيد قد خالف عن دين قري�ش فاجتنب عبادة الأوثان و�أنكر على
يقربون �إليها ،واتخذ لنف�سه -فيما يقول الرواة -دين ًا كان ي�سميه الذين ِّ
دين �إبراهيم ،فكان ي�ؤمن باهلل وحده ال ي�رشك به �شيئ ًا ،وكان ينكر كثرياً من
عادات قري�ش و�أطوارها .فامتحنه عمه اخلطاب يف هذا الدين وق�سا عليه،
و�صرب له زيد فلم ينحرف عن مذهبه ذاك حتى �أخرجه اخلطاب من مكة
مبعونة قري�ش .ويظهر �أن عمر قد امتحن يف �صباه و�أول �شبابه مبا كان يف
�أبيه من فظاظة وغلظة ،وقد حتدث هو بذلك بعد �أن ويل اخلالفة حني مر
مبكان قريب من مكة يقال له�َ :ضخنان .فقال :لقد ر�أيتني يف هذا املكان
�أرعى على اخلطاب �إب ًال له ،وكان ما علمت فظ ًا غليظ القلب ،و�أنا الآن لي�س
111
فوقي �أحد �إال اهلل عز وجل .ثم متثل:
ويودى املال والول ُد
ال �شيء مما ترى َتبقى ب�شا�ش ُته يبقى الإله ُ
وال�شيء الذي ال �شك فيه �أن عمر ورث عن �أبيه �شدته وعنفه ،و�أنه لو مل
يهده اهلل �إىل الإ�سالم لعا�ش يف قومه كما عا�ش �أبوه فظ ًا غليظ القلب ي�ستجيب
للعنف عند كل نب�أة.
ولي�س �أدل على ذلك من عنفه بامل�سلمني و�شدته عليهم ،وعلى من كان
يظهر الرقة لهم �أو امليل �إليهم.
والرواية التي يتناقلها الرواة عن �إ�سالمه ت�صور ذلك �أ�صدق الت�صوير
و�أقواه ،فهو قد خرج ذات يوم حمفظ ًا ثائراً متقلداً �سيفه ،فلقيه رجل من بني
زهرة ،ف�س�أله عن وجهته .قال عمر� :أريد �أن �أقتل حممداً.
قال الرجل :وكيف ت�أمن يف بني ها�شم وبني زهرة �إن قتلت حممداً؟ قال
عمر :لعلك قد �صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه .قال الرجل :فهل �أدلك على
العجب يا عمر؟ �إن خ َتنك و�أختك قد �صبوا وتركا دين �آبائهما.
هنالك غيرّ عمر وجهه ،وم�ضى �إىل �أخته وقد بلغ الغ�ضب منه �أق�صاه ،فلما
بلغ الدار �سمع ك�أن �أهلها يقر�ؤون ،وكان عند �أخت عمر وزوجها رجل من
خباب ح�س عمر ا�ستخفى ،ودخل أرت ،فلما �سمع َ امل�سلمني ،وهو َخباب بن ال ّ
عمر على �أخته وزوجها ،فقال ما هذه الهينمة التي �سمعتها؟ قالت �أخته :ما
عدا حديث ًا كنا نتحدثه ،قال عمر :بل لعلكما قد �صبومتا .قال ختنه :ف�إن كان
احلق غري ما �أنت عليه يا عمر! هنالك مل ميلك عمر نف�سه ،فاندفع �إىل ختنه
يبط�ش به بط�ش ًا �شديداً.
و�أقبلت �أخته تريد �أن حتول بينه وبني زوجها ،فلطمها عمر لطمة �أدمت
وجهها ،فقالت �أخته� :أفئن كان احلق غري ما �أنت عليه! ثم �أعلنت �إليه �إ�سالمها،
ف�شهدت �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل.
ور�أى عمر الدم على وجه �أخته ،فك�أنه رق لها وطلب �إليها �أن تريه
ال�صحيفة التي كانوا يقر�ؤون فيها .فزعم الرواة �أنها قالت له� :إنك جن�س
وال مي�سه �إال املطهرون ،و�أمرته �أن يتطهر قبل �أن تريه ال�صحيفة ،وا�ستجاب
112
لها عمر ،فيقول بع�ض الرواة� :إنه ذهب فاغت�سل ،ويقول بع�ضهم� :إنه ذهب
فتو�ض�أ ،ثم دفعت �أخته �إليه ال�صحيفة فقر�أ فيها الآيات الكرمية الأوىل من
�سورة طه �إىل قول اهلل عز وجل من هذه ال�سورة:
ال�صال َة ِل ِذ ْكرِي».
َاع ُب ْد يِن َو�أَ ِق ِم َ ّ «�إِ َ ّن ِني �أَ َنا َ هّ ُ
الل ال �إِ َل َه �إِ َالّ �أَ َنا ف ْ
وك�أن هذه الآيات بلغت �أعماق قلبه ،فقال :دلوين على حممد .و�سمع
خباب مقالته ،فخرج من خمبئه وهو يقول� :أب�رش يا عمر! ف�إين �أرجو �أن يكون َ
اهلل قد ا�ستجاب لدعوة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حني قال :اللهم �أعز الإ�سالم
ب�أحب الرجلني �إليك :عمر بن اخلطاب �أو عمرو بن ه�شام.
قال الرواة :فذهب عمر �إىل دار الأرقم التي كان النبي يجل�س فيها
لأ�صحابه ،وكان على باب الدار نفر من �أ�صحاب النبي ،فلما ر�أوا عمر مقب ًال
راعهم مقدمه ،وكان فيهم حمزة بن عبد املطلب.
فلما ر�أى ارتياع �أ�صحابه قال :نعم هذا عمر مقب ًال ،ف�إن يكن اهلل يريد به
اخلري والإ�سالم فذاك ،و�إن يكن غري ذلك كان قتله علينا ي�سرياً.
قال الرواة :وخرج النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ف�أخذ مبجامع ثوب عمر
وجذبه جذب ًا عنيف ًا .وقالَ � :أما �أنت منتهي ًا يا عمر حتى ينزل اهلل بك من
اخلزي والنكال ما �أنزل بالوليد بن املغرية! اللهم هذا عمر بن اخلطاب! اللهم
�أعز الدين بعمر بن اخلطاب!
فقال عمر� :أ�شهد �أنك ر�سول اهلل ،ف�أ�سلم.
و�أنا �أروي هذه الرواية غري واثق بها كل الثقة ،و�إمنا �أراها م�صورة ملا
كان القدماء و�أ�صحاب النبي خا�صة يعرفون من �أخالق عمر قبل �إ�سالمه.
وال�شيء الذي لي�س فيه �شك �أن عمر كان �شديد العنف بامل�سلمني.
ولعله �أن يكون قد �سمع �آيات من القر�آن فملكت عليه نف�سه وا�ستجاب
للإ�سالم.
وال غرابة يف عنف عمر وال يف �شدته على امل�سلمني ،فقد ر�أيت ما كان
من غلظة �أبيه اخلطاب ،وما كان من �إيذائه زيد بن عمرو حني خالف عن
دين قومه ،ف�إذا �أ�ضفت �إىل هذا �أن �أ�شد قري�ش غ�ضب ًا للنبي وفتنة للم�سلمني،
وهو عمرو بن ه�شام الذي �سماه النبي وامل�سلمني �أبا جهل ،قد كان خال عمر
113
�أو ابن خاله ،لأن �أم عمر هي حنتمة بنت ه�شام �أخت �أبي جهل .ويقال :بنت
ها�شم ،فهي ابنة عم �أبي جهل ،ف�شدة عمر على امل�سلمني ت�أتيه مما ورث عن
�أبيه ،ومما كان يرى خاله يفعل بامل�ست�ضعفني من امل�سلمني.
وجائز جداً �أن يكون النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قد متنى على اهلل �أن
ُيعز الإ�سالم بعمر بن اخلطاب ،وقد حقق اهلل لنبيه ما متنى ،فهدى عمر �إىل
الإ�سالم ،وحتول عنف عمر عن غايته الأوىل �إىل غاية �أخرى م�ضادة لها
كل امل�ضادة ،ف�أ�صبح عنيف ًا بامل�رشكني ،و�أ�صبح �أ�شد امل�سلمني يف دينه
و�أ�رصحهم على �إظهار هذا الدين ،و�أ�رسعهم �إىل حتدي قري�ش ومباداتها مبا
كان من �إ�سالمه .واحتمال ما وجه �إليه من الأذى يف ذلك ،ال كما يحتمله
العاجز الذي ال ي�ستطيع دفع ًا عن نف�سه ،بل كما يتلقاه الرجل القوي الذي
يكيل خل�صمه بال�صاع �صاعني.
والواقع من �أمر عمر �أنه بد�أ بخاله �أبي جهل فم�ضى حتى طرق عليه بابه،
فخرج �إليه �أبو جهل ورحب به حني ر�آه ،ولكن عمر فاج�أه ب�إعالن �إ�سالمه،
و�شهد �أمامه �أال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل� .أغلق �أبو جهل الباب يف
وجهه وهو يقول :بئ�س ما جئت به! وم�ضى عمر يلتم�س �أ�رسع قري�ش �إىل
�إذاعة الأ�رسار و�إف�شائها .ف�أ�رس �إليه �أنه قد �أ�سلم ،و�أ�رسع الرجل ف�أذاع يف �أندية
قري�ش .مل يرتك حلقة من حلقاتهم يف امل�سجد �إال وقف عليها و�أنب�أها ب�إ�سالم
ابن اخلطاب ،و�أقبل عمر بعد ذلك �إىل امل�سجد فتواثبت �إليه قري�ش ت�رضبه
وت�ؤذيه ،وهو يدافعها عن نف�سه يف جراءة و�رصامة و�إقدام حتى �أجهده القوم،
ف�رصعوه وكادوا يبط�شون به ،لوال �أن �أقبل العا�ص بن وائل فرد عنه القوم،
وذكرهم مبكانه من بني عدي ،مبا يف�سد من �أمر قري�ش �إن �أ�صاب عمر مكروه.
فتفرق القوم عنه كارهني وقد بلغ منه اجلهد.
ثم مل يقف �أمره عند هذا ،ف�إليه يرجع الف�ضل يف �إظهار الإ�سالم مبكة
و�إخراج امل�سلمني من خمابئهم بدينهم ،فقد كانوا ي�ستخفون بالإ�سالم وال
يجر�ؤون على �أن يظهروه مبح�رض قري�ش .فمازال عمر يجاهد قومه حتى
ا�ضطرهم �إىل �أن يكفوا عنه �أوالً ،وعن �سائر امل�سلمني بعد ذلك ،وا�ستطاع
النبي �صلى اهلل عليه و�سلم و�أ�صحابه ،على اختالف منازلهم من قري�ش� ،أن
114
ي�صلوا يف امل�سجد معلنني �صالتهم غري م�ستخفني بها ،و�أن يتخذوا لأنف�سهم
جمال�س يف امل�سجد ب�إزاء جمال�س امل�رشكني من قري�ش.
فلي�س عجيب ًا �أن يقول ابن م�سعود فيما حتدث عن الرواة :كان �إ�سالم عمر
فتح ًا ،وهجرته ن�رصاً ،و�إمارته رحمة .وكلمة ابن م�سعود هذه على اخت�صارها
هي �أدق و�صف يخت�رص حياة عمر منذ �أ�سلم �إىل �أن تويف .فقد كان �إ�سالمه
فتح ًا حق ًا ،لأنه �أتاح للم�سلمني �أن يعلنوا دينهم ،و�أن ي�صلوا �أمام امللأ من
قري�ش وهم �آمنون ،وكانت هجرته ن�رصاً فقد كان �أن�صح �أعوان النبي يف
املدينة هلل ور�سوله وامل�سلمني ،و�أغلظ �أ�صحاب النبي على اليهود واملنافقني،
وكانت �إمارته رحمة ،فقد �أتاح للم�سلمني �أثناء خالفته لون ًا من احلياة مازالت
الأمم املتح�رضة الآن يف الغرب مق�رصة عن بلوغه على �شدة ما جتهد وجتاهد
يف �سبيله ،ومازال امل�سلمون يف هذه الأيام يرون هذا اللون من احلياة التي
�أتاحها عمر للنا�س ُحلم ًا وال يدرون متى ي�صبح حقيقة ،علىما �أتيح لهم وما
يتاح لهم يف كل يوم من الو�سائل التي تعينهم على تي�سري احلياة ،ومل يكن
عمر ميلك من هذه الو�سائل �شيئ ًا.
115
116
2
يقول ابن �سعد� :إن عمر �أ�سلم و�سنه �ست وع�رشون �سنة ،ويتفق الرواة على
�أنه �أ�سلم يف ال�سنة ال�ساد�سة من مبعث النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فقد �أقام
عمر �إذن مبكة بعد �إ�سالمه �سبع �سنني يجاهد قري�ش ًا عن دينه وعن دين غريه
من امل�سلمني ،وميتحن يف ذلك ب�ألوان من الأذى وامل�شقة مل تزده �إال ثبات ًا
على احلق و�إمعان ًا يف اجلهاد .ولكن املهم من �أمر عمر ،يف هذا الطور من
�أطوار حياته،هو �أن عنفه و�شدته كان ميازجهما �شيء من الرقة واللني يظهر
يف �أحيان قليلة حني يرى �شيئ ًا من �ش�أنه �أن ي�ؤثر يف قلب الرجل احلر الكرمي.
وقد ر�أيت ما حتدث به الرواة من بط�شه بختنه حني �أح�س منه الإ�سالم ،ومن
بط�شه ب�أخته حني �أرادت �أن تذوده عن زوجها ،ور�أيت يف الوقت نف�سه رقته
حني ر�أى الدم ي�سيل على وجه �أخته.
والرواة يتحدثون �أي�ض ًا ب�أنه كان يرق للذين يهاجرون �إىل �أر�ض احلب�شة
من امل�سلمني ويظهر هذه الرقة .وقد ظل عمر على هذا اخللق الذي ي�أتلف من
العنف العنيف والرقة البالغة بعد �إ�سالمة ،ولكن الإ�سالم �صفى مزاجه فلطف
من عنفه ،وحال بينه وبني الإ�رساع �إىلالبط�ش كما كان يفعل قبل �إ�سالمه،
117
وزاد من رقة قلبه فجعله ي�رسع �إىل رحمة ال�ضعيف والرب بامللهوف .وكان
الإ�سالم خليق ًا �أن ي�ؤثر يف خلق عمر هذا الت�أثري ،فهو يدعو �إىل الق�صد ،ويكف
عن ال�رسف ،وال ي�سلط �أحداً من امل�سلمني على �أحد �إال عند ال�رضورة امللجئة.
وهو بعد ذلك يرغب يف الرحمة والرب ،ويزين الرفق يف القلوب ،فكيف �إذا
�صحب عمر النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،ور�أى �إيثاره للي�رس يف كل ما المي�س
حق ًا من حقوق اهلل �أو حق ًا من حقوق العباد.
واملعروف �أن النبي كان ال يخري بني �أمرين �إال اختار �أي�رسهما .فلي�س
غريب ًا �أن يت�أثر عمر ب�سرية النبي� ،إىل ت�أثره مبا كان ي�سمع ويتلو من القر�آن
الكرمي.
وما نعرف �أنه بكى �أثناء جاهليته يف موطن من املواطن ،ولكنا نعرف
�أنه كان �رسيع ًا �إىل البكاء بعد �أن �أ�سلم ،كان كغريه من امل�ؤمنني ميتلئ قلبه
وجال �إذا ذكر اهلل ،كما نقر�أ يف الآية الكرمية من �سورة الأنفال:
وب ُه ْم َو�إِ َذا ُت ِل َي ْت َع َل ْيه ِْم � َآيا ُت ُه
الل َو ِج َل ْت ُق ُل ُين �إِ َذا ُذ ِك َر َ هّ ُون ا َ ّل ِذ َِنا المْ ُ �ؤْ ِم ُن َ«�إ َ مّ َ
ون».
ميا ًنا َو َع َلى َر ِ ّبه ِْم َي َت َو َ ّك ُل َ َزا َد ْت ُه ْم �إِ َ
وكان يبكي كلما قرئت عليه �آيات التخويف والرتهيب من القر�آن �أو كلما
قر�أها ،وكان يبكي حني يرى �شدة عي�ش النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وق�سوة
احلياة املادية عليه ،وكان املعروف من خلقه وال�سيما �أثناء خالفته �أنه ال
يثبت على الغ�ضب �إذا ذكر باهلل �أو قرئ عنده �شيء من القر�آن ،مهما كان
غ�ضبه �شديداً ومهما يكن مو�ضوع هذا الغ�ضب.
وقد كان �أثناء جاهليته يرق قلبه يف بع�ض املواطن ،ف�أما بعد �إ�سالمه
فقد كانت رقة قلبه تبلغ به البكاء بل الن�شيج يف �أكرث الأحيان ،ومن �أجل هذا
كله كان �أثناء خالفته مهيب ًا ك�أعظم ما تكون الهيبة ،رقيق ًا ك�أ�شد ما تكون
الرقة .والذين و�صفوا حكمه �أثناء خالفته ب�أنه كان �شدة يف غري عنف ،ولين ًا
يف غري �ضعف ،مل يبعدوا ،فقد كان عمر �شديداً حتى خافه النا�س جميع ًا،
وكان رقيق ًا حتى رجاه النا�س جميع ًا.
والغريب من �أمره �أنه كان يعنف بنف�سه �أ�شد العنف و�أق�ساه قبل �أن يعنف
بغريه من النا�س ،وال يعرف �أنه رق لنف�سه �أو رحمها يف يوم من الأيام ،على
118
كرثة رقته للنا�س ورحمته لل�ضعفاء واملحتاجني .وهذا اخللق الذي ي�أتلف
من العنف والرقة هو الذي دفع عمر �إىل ال�رصاحة التي مل تعرف ملثله من
�أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فهو كان جريئ ًا حني يرى الر�أي ويعتقد
�أنه احلق ،ال يرتدد يف �أن يعرت�ض على النبي نف�سه ،كما فعل عام احلديبية
حني �أنكر �صلح النبي مع قري�ش ،وقال للنبي يف �رصاحة:
مل ُنعط الدنية يف ديننا؟ ورمبا دفعته هذه ال�رصاحة �إىل �أن يدخل يف َ
�أ�شياء مل يكن يدخل فيها غريه من �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فهو
يتمنى �أن حترم اخلمر .وقد كان فيما زعم الرواة �صاحب خمر يف اجلاهلية،
ولكنه بعد �إ�سالمه عرف �رضر اخلمر فتمنى �أن حترم ،ومازال يجهر بهذا الذي
كان يتمناه حتى �إذا نهى اهلل امل�سلمني عن �أن يقربوا ال�صالة وهم �سكارى
حتى يعلموا ما يقولون ر�ضي عمر �شيئ ًا ،ولكن ر�ضاه مل يبلغ الإقناع ،فظل
يتمنى �أن حترم اخلمر حترمي ًا قاطع ًا ،ويجهر بهذه الأمنية ،وي�س�أل اهلل �أن
يبني �أمر اخلمر بيان ًا �شافي ًا ،فلما �أنزل اهلل قوله الكرمي من �سورة املائدة:
الم ر ِْج ٌ�س ِ ّم ْن اب َوالأَ ْز ُ ن�ص ُ ِنا الخْ َْم ُر َوالمْ َ ْي�سرِ ُ َوالأَ َ ين � َآم ُنواْ �إ َ مّ َ«يا �أَ ُ ّي َها ا َ ّل ِذ َ َ
ان َ�أن ُيو ِق َع َب ْي َن ُك ُم ط ي ال�ش د ِي ر ي ا ِن �
إ
ْ َ ُ ُ َ َ َ ّ ُ ْ ُ ْ ُ َ َ مّ َ ُ ُ َ ّ ْ َ ُ. ون ح ِ
ل ف ت م ك ل ع ل ه و ب ِ
ن ت َاج ف انِطَع َملِ َ ّ ْ َ
ي ال�ش
ال�صال ِة َف َه ْل الل َو َعنِ َ ّ ا ْل َع َد َاو َة َوا ْل َب ْغ َ�ضاء فيِ الخْ َْم ِر َوالمْ َ ْي�سرِ ِ َو َي ُ�ص َ ّد ُك ْم َعن ِذ ْك ِر َ هّ ِ
ون».
�أَن ُتم ُ ّمن َت ُه َ
طابت نف�س عمر .وكذلك كان موقفه من احلجاب فيما يت�صل بن�ساء النبي
�صلى اهلل عليه و�سلم .مل يكتف ب�أن يتمنى فيما بينه وبني نف�سه �أن يحتجب
ن�ساء النبي ،بل كلم النبي نف�سه يف ذلك ،وا�شتد يف هذا الأمر حتى حتدث
ل�سودة �أم امل�ؤمنني يف بع�ض طريقها وقال الرواة واملحدثون �أنه تعر�ض مرة ْ
لها :لقد عرفناك يا �سودة .ف�أحرجها و�أحفظها ،ومل ي�سرتح حتى �أنزل اهلل �آيات
احلجاب يف �سورة الأحزاب فقال عز ا�سمه:
اب ِ�ض ْع َفينْ ِ اع ْف َل َها ا ْل َع َذ ُ «يا ِن َ�ساء ال َ ّنب ِ ِّي َمن َي ْ�أ ِت ِمن ُك َ ّن ِبف ِ
َاح َ�ش ٍة ُ ّم َب ِ ّي َن ٍة ُي َ�ض َ َ
الل َي ِ�س ًرياَ .و َمن َي ْق ُن ْت ِمن ُك َ ّن للِ َ هّ ِ َو َر ُ�سو ِل ِه َو َت ْع َم ْل َ�صالحِ ً ا ُ ّن ْ�ؤ ِت َها ان َذ ِل َك َع َلى َ هّ ِ َو َك َ
ت َك َ�أ َح ٍد ِ ّم َن ال ِ ّن َ�ساء مياَ .يا ِن َ�ساء ال َ ّنب ِ ِّي َل ْ�س نُ َ ّ �أَ ْج َر َها َم َرّ َتينْ ِ َو�أَ ْع َت ْد َنا َل َها ِر ْز ًقا َك ِر ً
�ض َو ُق ْل َن َق ْوال َ ّم ْع ُرو ًفا. ت فَال َت ْخ َ�ض ْع َن بِا ْل َق ْولِ ف ََي ْط َم َع ا َ ّل ِذي فيِ َق ْل ِب ِه َم َر ٌ �إِنِ ا َ ّت َق ْي نُ َ ّ
119
ال�صال َة َو�آ ِت َ
ني ول َو َ�أ ِق ْم َن َ ّاه ِل َ ّي ِة ا ُلأ ىَ
ال ِ َو َق ْر َن فيِ ُب ُيو ِت ُك َ ّن َوال َتبرَ َ ّ ْج َن َتبرَ ُ ّ َج جْ َ
الل ِل ُي ْذ ِه َب َعن ُك ُم ال ِ ّر ْج َ�س �أَ ْه َل ا ْل َب ْي ِت ِنا ُيرِي ُد َ هّ ُ ال َ ّز َكا َة َو�أَ ِط ْع َن َ هّ َ
الل َو َر ُ�سو َل ُه �إ َ مّ َ
الل َوالحْ ِ ْك َم ِة �إ َ ِّن َ هّ َ
الل َو ُي َط ِ ّه َر ُك ْم َت ْط ِه ًرياَ .وا ْذ ُك ْر َن َما ُي ْت َلى فيِ ُب ُيو ِت ُك َ ّن ِم ْن � َآي ِ
ات َ هّ ِ
ان َل ِطي ًفا َخ ِب ًريا». َك َ
وقوله يف ال�سورة نف�سها:
وت ال َ ّنب ِ ِّي �إِ َالّ �أَن ُي�ؤْ َذ َن َل ُك ْم �إ ىَِل َط َع ٍام َغيرْ َ ين � َآم ُنوا ال َت ْد ُخ ُلوا ُب ُي َ «يا �أَ ُ ّي َها ا َ ّل ِذ َ
َ
ني ْ
ِين �إِ َنا ُه َو َل ِك ْن �إِ َذا ُد ِعي ُت ْم فَا ْد ُخ ُلوا َف�إِ َذا َط ِع ْم ُت ْم فَان َت�شرِ ُ وا َوال ُم ْ�س َت�أ ِن ِ�س َ اظر ََن ِ
الل ال َي ْ�س َت ْحيِي ِم َن ان ُي�ؤْ ِذي ال َ ّنب َ ِّي ف ََي ْ�س َت ْحيِي ِمن ُك ْم َو َ هّ ُ يث �إ َ ِّن َذ ِل ُك ْم َك َ لحِ َ ِد ٍ
اب َذ ِل ُك ْم َ�أ ْط َه ُر ِل ُق ُلو ِب ُك ْم وه َ ّن ِمن َو َراء ِح َج ٍ َا�س�أَ ُل ُ
اعا ف ْ وه َ ّن َم َت ًالحْ َ ِ ّق َو�إِ َذا َ�سَ�أ ْل ُت ُم ُ
اج ُه ِمن َب ْع ِد ِه الل َوال �أَن َتن ِك ُحوا �أَ ْز َو َ ول َ هّ ِ ان َل ُك ْم �أَن ُت ْ�ؤ ُذوا َر ُ�س َ َو ُق ُلو ِبه َ ِّن َو َما َك َ
ان ِب ُك ِ ّل الل َك َ َ
الل َع ِظي ًما� .إِن ُت ْب ُدوا َ�ش ْيئًا �أ ْو ُت ْخفُو ُه َف�إ َ ِّن َ هّ َ ان ِعن َد َ هّ ِ �أَ َب ًدا �إ َ ِّن َذ ِل ُك ْم َك َ
اح َع َل ْيه َ ِّن فيِ � َآبا ِئه َ ِّن َوال �أَ ْب َنا ِئه َ ِّن َوال �إ ِْخ َوا ِنه َ ِّن َوال �أَ ْب َناء َ�ش ْي ٍء َع ِلي ًما .لاّ ُج َن َ
ني َ هّ َ
الل �إ َ ِّن يا ُن ُه َ ّن َوا َ ّت ِق َ �إ ِْخ َوا ِنه َ ِّن َوال �أَ ْب َناء �أَ َخ َوا ِته َ ِّن َوال ِن َ�سا ِئه َ ِّن َوال َما َم َل َك ْت �أَ مْ َ
ان َع َلى ُك ِ ّل َ�ش ْي ٍء َ�شهِي ًدا». َ هّ َ
الل َك َ
هنالك ر�ضي عمر كل الر�ضا حني و�ضع اهلل بيوت النبي حيث ينبغي
�أن تو�ضع من الإجالل والكرامة .ومل يقف �أمر عمر عند هذا احلد بل راجعته
امر�أته يف بع�ض �أمره ف�أغ�ضبه ذلك فزجرها ،فقالت له امر�أته :ويحك! �إنك
علي �أن �أراجعك ،و�إن ابنتك وغريها من �أزواج النبي �صلى اهلل عليه لت�أبى ّ
و�سلم لرياجعن ر�سول اهلل حتى يغ�ضبنه ،ف�أ�رسع عمر �إىل ابنته حف�صة �أم
امل�ؤمنني ف�س�ألها� :أيف احلق �إنكن تراجعن ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم؟
قالت� :أجل واهلل �إنا لرناجعه .فوعظها عمر يف ذلك ما ا�ستطاع ،ثم ذهب حتى
ا�ست�أذن على �أم �سلمة �أم امل�ؤمنني وكانت بينه وبينها قرابة من قبل �أمه.
ف�س�ألها يف ذلك ،فقالت :هلل �أنت يا ابن اخلطاب .دخلت يف كل �شيء حتى تريد
�أن تدخل بني النبي و�أزواجه .ف�أ�سكتته ،وان�رصف عمر خج ًال.
ومن قبل ذلك كله وقف عمر موقف ًا طابقه القر�آن عليه ،وذلك يف �أعقاب
غزوة بدر حني �شاور النبي يف �أمر الأ�رسى ،ف�أ�شار عمر بقتلهم ،و�أ�شار �أبو بكر
120
بالفداء ،و�أنزل اهلل يف �سورة الأنفال لومه للنبي وامل�سلمني يف قبول الفداء
كما رويت ذلك فيما قدمت من حياة �أبي بكر.
فلي�س غريب ًا �أن يتحدث الرواة ب�أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قال� :إن
احلق على ل�سان عمر ويف قلبه .ولي�س غريب ًا �أن يلقب عمر الفاروق ،لأنه فرق
بني احلق والباطل� ،سواء �أكان الذي لقبه بذلك هو النبي �صلى اهلل عليه و�سلم،
كما يروى عن عائ�شة �أم امل�ؤمنني� ،أم كان �أهل الكتاب هم الذين لقبوه هذا
اللقب و�أخذه عنهم امل�سلمون كما يتحدث رواة �آخرون.
ومل يكن عمر �أيام �أبي بكر �أقل �رصاحة منه �أيام النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم .فقد ر�أيت مراجعته لأبي بكر يف �أمر خالد بن الوليد ،حني قتل مالك بن
نويرة وتزوج امر�أته ،و�إحلاحه عليه يف عزله لأن يف �سيفه رهق ًا.
و�سرتى �أنه مل يكد ي�ستخلف حتى عزل خالداً ،ور�أيت كذلك كيف راجع �أبا
بكر يف �إر�سال خالد بن �سعيد بن العا�ص �إىل م�شارف ال�شام .حلماية حدود
علي يف هذا القول� :إن خالداً يحب الفخر، اجلزيرة العربية ،وقال له ،و�شاركه ّ
وعلي،
ّ و�إنه �رسيع �إىل الإقدام� ،رسيع �إىل الإحكام .و�صدقت احلوادث قول عمر
ف�أقدم خالد و�أحجم وانتهى �أمره �إىل الفرار.
ومن �أجل جراءة عمر و�شدته يف احلق ،ومطابقة القر�آن لر�أيه يف غري
موطن ،ون�صحه اهلل ور�سوله وامل�سلمني ،كان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم
ي�ؤثره �أ�شد الإيثار ،ويظهر له من ذلك ماكان يقر عينه وميلأ قلبه غبطة
العمرة وقال� :إين �أريد امل�شي .ف�أذنور�ضى ،حتى لقد ا�ست�أذن النبي مرة يف ُ
له النبي ،فلما ان�رصف دعاه النبي فقال له� :أ�رشكنا يا �أخي يف �صالح دعائك
وال تن�سنا .فكان عمر يقول :لقد قال النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يل كلمة ما
�أحب �أن تكون يل بها الدنيا وما فيها.
وكان عمر �شديد الرفق بالنبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،واحلياطة له ،والقيام
أيت موقفه من حف�صة و�أم دونه ،واحلر�ص على �أن يرد عنه ك َّل مكروه .وقد ر� َ
ولكن رفقه بالنبي كان يدعوه �إىل ّ �سلمة حني علم �أن ن�ساء النبي ُيراجعنه.
ويظهره م�رسع ًا �إىل البط�ش ،لوال �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم العنف �أحيان ًاُ ،
ُ
كان ُيكفكف من ِحدته ويرده �إىل الرفق والأناة ،فلم يكد عبداهلل ابن �أبي �سلول
121
يقول كلمته تلك التي قالها يف غزوة بني امل�صطلق :لئن رجعنا �إىل املدينة
وعمر عنده ،حتى ليخرجن الأعز منها الأذل ،ومل تكد هذه الكلمة تبلغ النبيُ ،
رده �إىل ثار عمر ،و�س�أل النبي �أن ي�أذن له يف قتل هذا املنافق .ولكن النبي ّ
الرفق وقال له :ال تتحدث العرب �أن حممداً يقتل �أ�صحابه.
وموقفه من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حني مات عبداهلل بن �أبي بن �سلول
هذا ،وجاء ابنه ي�س�أل النبي �أن ي�صلي عليه ،ف�أجابه النبي �إىل ما �أراد ،و�إذا
عمر يراجع النبي يف ذلك ويجادله بالقر�آن ،فيذكره قول اهلل عز وجل من
�سورة براءة:
ني َم َرّ ًة َف َلن َي ْغ ِف َر َ هّ ُ
الل «ا�س َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم �أَ ْو َال َت ْ�س َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم �إِن َت ْ�س َت ْغ ِف ْر َل ُه ْم َ�س ْب ِع َ
ْ
ني».
َ قِ ِ
َا�س ف ل ا م و ق
َ َْ ََْْ ْ ل ا ي دِ ه ي ال ُ
اللهّ َ و
َ هِ ِ
ل و �س ر
ََ ُ و ِ هّ
ِالل َ ب ا وَر
ف ك م هن َ
َل ُه ْم َذ ِل َ َ ّ ُ ْ َ ُ ْ
�
أ ِ
ب ك
يرده �إىل الأناة ويقول له� :إن ربي خريين ولكن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ّ
فاخرتت .ثم ي�صلِّي على عبداهلل بن �أبي بن �سلول.
ولكن الوحي ال يلبث -فيما حتدث الرواة � -أن يطابق ر�أي عمر ،فينزل
اهلل يف ال�سورة نف�سها هذه الآية الكرمية موجهة �إىل النبي ،وهي:
ات �أَ َب ًدا َو َال َت ُق ْم َع َل َى َقبرْ ِ ِه �إِ َ ّن ُه ْم َكف َُرو ْا ب َ هّ ِ
ِالل «و َال ُت َ�ص ِ ّل َع َلى �أَ َح ٍد ِ ّم ْن ُهم َ ّم َ َ
ون». ِ
َو َر ُ�سوله َو َما ُتواْ َو ُه ْم فَا�س ُق َ ِ ِ
ويف موطن �آخر قبل هذا املوطن بعد غزوة حنني ق�سم النبي �صلى اهلل
عليه و�سلم الفيء ،ف�أعطى امل�ؤلفة قلوبهم من قري�ش ومن غريها ف�أجزل يف
العطاء .فقام �إليه رجل فقال :اعدل يا حممد ،ف�إنك مل تعدل .فظهر الغ�ضب يف
وجه النبي وقال للرجل :ويحك! فمن يعدل �إذا مل �أعدل؟ وا�ست�أذن عمر النبي
يف قتل هذا الرجل ،ف�أبى عليه.
ف�أنت ترى �أن حياة عمر �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم كانت مزاج ًا من
هذا العنف الذي كان النبي ُيكفكفه ،ومن هذه الرحمة التي كان النبي ي�ؤثرها
وي�شجع عمر عليها بالقول حين ًا وباالبت�سام حين ًا �آخر. ِّ
وكذلك كانت حياته �أيام �أبي بكر ،كان دائم ًا �شديداً يف احلق �أو فيما يرى
�أنه احلق ،على �أنه كان ُيذعن لنهي النبي حني ينهاه من ال�شدة والعنف ،وال
يفكر يف �أن ي�ست�أنفهما �إن كان الأمر له ،لأنه كان ي�ؤمن ب�أن النبي حني ي�أمر
122
�أو ينهي �إمنا كان ي�صدر عن �أمر ال�سماء ،وال كذلك �أيام �أبي بكر ،فقد كان ي�شري
عليه عمر بال�شدة يف �أمر خالد بن الوليد مث ًال ،ف�إذا �أبى عليه �أبو بكر راجعه
و�ألح عليه ،ف�إذا امتنع �أبو بكر عليه بعد املراجعة والإحلاح �سكت ،ولكنه حني
ا�ستخلف مل يرتدد يف �إنفاذ الر�أي الذي �أ�شار به على �أبي بكر ،و�إن كان �أبو بكر
ال�صديق مل يكن ُي�صدر
ّ قد خالفه فيه �أ�شد اخلالف ،ذلك �أن عمر كان يعلم �أن
عن �أمر ال�سماء ،و�إمنا كان ُي�صدر عن ال�سيا�سة وعن ر�أيه يف الن�صح للم�سلمني.
كان �أبو بكر يجتهد ر�أيه ،وكان عمر يجتهد ر�أيه �أي�ض ًا ،فلي�س عليه ب�أ�س �أن
يخالف عن مذهب �أبي بكر يف �سيا�سة ال�سلم واحلرب جميع ًا ،على حني �أنه
كان يرى الإثم كل الإثم يف املخالفة عن �أمر النبي �أو نهيه.
123
124
3
على �أن ا�ستخالف عمر ونهو�ضه ب�أعباء احلكم ،ومواجهته مل�شكالت ال�سلم
واحلرب ،كل ذلك �أظهر خلق ًا من �أخالق عمر مل تظهره الأحداث قبل ذلك ،لأنه
قبل �أن ي�ستخلف كان �سيف ًا من �سيوف النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ي�س ّله �إن
ويغمده �إن �أحب ،وكان �أيام �أبي بكر �سيف ًا من �سيوف اخلليفة �إن �شاء �شاءُ ،
�سله ،و�إن �شاء �أغمده .كان عليه �أن ي�سمع ويطيع ،و�أن ي�شري مبا يرى فيه
امل�صلحة ،ومل يكن له �أن يزيد على ذلك �أو يعدوه .فلما �ألقيت عليه �أعباء
اخلالفة �أح�س ثقل ال َّتبعة كما مل يح�سها خليفة �أو ملك فيما نعلم ،فكان
يحا�سب نف�سه على �صغري الأمر وكبريه ،وكان �ضمريه يراقبه يف كل ما ي�أتي
ويف كل ما يدع ،ال يعفيه من هذه املراقبة �ساعة من نهار �أو �ساعة من ليل،
ورمبا ذاد النوم عن عينيه ،فكلفه من الأرق �ألوان ًا .كان قبل كل �شيء يرى
ي�سخر من نف�سه �أحيان ًا نف�سه �أ�صغر من املهمة التي ُكلف �أداءها ،ورمبا كان َ
فيقول -كما �سمعه بع�ض �أ�صحابه يحدث نف�سه ،من وراء جدار :-عمر بن
اخلطاب �أمري امل�ؤمنني! َب ٍخ َب ٍ ُخ يا ابن اخلطاب ،واهلل لتطيعن اهلل �أو ليعذب َّنك.
ومل يكن يخاف �شيئ ًا كما كان يخاف �أن يراه اهلل م�ؤثراً لنف�سه ب�شيء من
125
دون عامة امل�سلمني .فكان ي�ضع نف�سه ال مو�ضع �أمثاله من كبار �أ�صحاب
النبي ،وال مو�ضع �أو�ساط النا�س ،بل مو�ضع الفقراء وذوي احلاجة منهم.
وكان ي�أخذ نف�سه ب�أن يعي�ش كما كان ه�ؤالء النا�س يعي�شون ،وب�أن يجد
مثل ما كان ه�ؤالء النا�س يجدون ،حني ت�شتد احلياة عليهم وحني تلني احلياة
لهم.
وكان يرى �أن ذلك هو الذي ميكنه من �أن يعرف حاجات النا�س ويقدر
ر�ضاهم حني ير�ضون ،و�سخطهم حني ي�سخطون ،و�أملهم حني يجدون الأمل،
ولذتهم حني تتاح لهم اللذة.
مل يكن فقرياً بل كان �صاحب جتارة ،ومل متنعه اخلالفة على ثقل �أعبائها
من ممار�سة جتارته .فكان قادراً على �أن يعي�ش عي�شة ال�سعة ،وعلى �أن يي�رس
لأهله وبنيه حياة لينة .ولكنه �أخذ نف�سه بال�شدة ال�شديدة وب�أغلظ مايكون من
العي�ش ،فكان ي�أكل �أكل الفقراء ،ويلب�س لبا�س الفقراء ،وي�سري يف �أمر نف�سه
�سرية الفقراء ،وكان يراقب �أهله وبنيه �أ�شد املراقبة ،ويقول لهم من حني �إىل
حني� :إن النا�س ينظرون �إليكم فال �أعلمن �أحداً منكم خالف عما �آمر النا�س به
�أو �أنهاهم عنه �إال �أ�ضعفت له العقوبة.
وكان ي�أمر �أبناءه الذين ي�ستطيعون �أن ي�سعوا يف الرزق �أن يجدوا يف
ذلك حتى ي�ستغنوا عنه ،وحتى ال ي�ضطروه �إىل �أن ينفق عليهم وعلى �أهلهم
وكان ي�شق على ن�سائه فيفر�ض عليهن حياة قا�سية ال ي�ستحبها الن�ساء ،كان
�شديداً عليهن يف الك�سوة ،و�شديداً عليهن يف الرزق ،و�شديداً عليهن يف �سريته
كلها .يدخل عليهن عاب�س ًا ،ويخرج عنهن عاب�س ًا ،كما قالت �إحدى الن�ساء
وقد خطبها ذات يوم فامتنعت عليه وكرهت عبو�سه وخ�شونة عي�شه ،ويقول
مرق ًا بارداً و�صبت
الرواة� :إنه دخل على ابنته حف�صة �أم امل�ؤمنني فقدمت له َ
عليه �شيئ ًا من زيت .فقال� :أدمان يف �إناء واحد! ال �أذوقه �أبداً.
رغب النا�س عن طعامه وترغب وهذه ال�شدة على نف�سه وعلى �أهله كانت ُت ِّ
عنه من كان ي�أتيه من ُع ّمال الأقاليم .كانوا ي�أكون يف بيوتهم لني الطعام،
ودعوا �إليه �أعر�ضوا عنه وي�ستمتعون بطيبات احلياة ،ف�إذا ح�رضوا طعام عمر ُ
�أو �أ�صابوا منه كارهني .وح�رض بع�ض �أ�صحاب عمر طعامه ،فدعاه �إليه ،فقال
126
له يف �رصاحة� :إن طعامك َج ْ�شب((( ،و�إين �أوثر �أن �أ�صيب من طعام لني ُ�صنع
يل .فقال له عمر ،ما معناه� :إنه ليعرف طيبات الطعام ،ولو �أراد لأ�صاب منها
ماي�شاء ،ولكنه �سمع اهلل يقول لقوم نعموا بحياتهم الدنيا:
ا�س َت ْم َت ْع ُتم بِها».
«�أَ ْذ َه ْب ُت ْم َط ِ ّي َبا ِت ُك ْم فيِ َح َيا ِت ُك ُم ال ُ ّد ْن َيا َو ْ
ي�شدد على نف�سه خمافة �أن ي�ستمتع باحلياة فين ُق�ص فقد كان عمر �إذن ّ
يدون الديوان -فيما �سرتى -ك ّلف ذلك من ح�سناته عند اهلل .وملا �أراد �أن ِّ
نفراً كتابة النا�س على قبائلهم ،فبد�ؤوا ببني ها�شم ،رهط النبي �صلى اهلل
بعدي ،رهط عمر. ّ عليه و�سلم ،وثنوا بتيم ،رهط �أبي بكر ،وثلثوا
فلما نظر عمر يف الديوان ،قال للنفر الذين كتبوه :وددت واهلل �أنه كذلك،
ولكن �ضعوا عمر حيث و�ضعه اهلل وابد�ؤوا بالأقرب فالأقرب من ر�سول اهلل
�صلى اهلل عليه و�سلم.
ومعنى ذلك �أنه رد عليهم ما كتبوا ،و�أمرهم �أن يعيدوا كتابة الديوان ،و�أن
يرتبوا قري�ش ًا فيه على قرابتها من النبي ،حتى �إذا بلغوا مو�ضع بني عدي من
قرابة النبي و�ضعوهم.
عدي ملا عرفوا ذلك �أتوا عمر فكلموه فيه، ويقال� :إن قوم عمر من بني ّ
وقالوا� :إن �أبا بكر خليفة ر�سول اهلل ،و�أنت خليفة �أبي بكر ،فهال تركت الديوان
عدي� ،أردمت الأكل علىكما كتبه �أولئك النفر .فقال لهم عمر :بخ بخ يابني ّ
ظهري و�أن �أذهب ح�سناتي لكم ،ال واهلل حتى تبلغكم الدعوة و�إن �أطبق عليكم
الدفرت .يريد :حتى ي�صل �إليكم القوم على قرابة من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه
و�سلم في�ضعوكم حيث و�ضعكم اهلل.
ومل يكن �إ�شفاق عمر من �أن يذهب طيباته يف حياته الدنيا هو وحده الذي
كان يفر�ض عليه هذه ال�شدة على نف�سه و�أهله ،و�إمنا كان هناك �شيء �آخر مل
ين�سه عمر قط ،و�إمنا كان ي�ستح�رضه دائم ًا ،وهو ماقدر للنبي من العي�ش،
فقد كانت حياة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �شديدة ،وكان �ضيقها رمبا جهد
النبي وا�ضطره �إىل اجلوع ،وكان النبي يلقى هذه احلياة متجم ًال غري �ضيق به
127
والكاره ،ي�أكل حني يتاح الطعام ،وي�صوم حني ال يجد ما يطعم.
ومل تكن حياة �أبي بكر �أثناء خالفته رقيقة وال لينة ،و�إمنا كانت �إىل
اخل�شونة وال�شظف �أقرب منها �إىل الرقة واللني ،وكان عمر ي�ستح�رض هذا دائم ًا
ويكره �أ�شد الكره �أن ي�أكل �أو يلب�س خرياً مما �أتيح للنبي و�أبي بكر.
وكان حني كرث املال ،وحني كان يرى مايحمل �إليه من الفيء ومن
اخلراج يذكر فقر النبي وخليفته ،فيبكي حتى تختلف �أ�ضالعه ،ورمبا �أبكى
من حوله من �أ�صحاب النبي .وقد رفق به بع�ض �أ�صحابه من املهاجرين
فكلموا حف�صة �أم امل�ؤمنني يف �أن ت�شري على عمر ب�أن يلني من عي�شه ،فقبلت
منهم حف�صة وكلمت �أباها يف ذلك ،فقال لها :ن�صحت قومك وغ�ش�شت �أباك.
ثم جعل يذ ِّكرها ب�شدة العي�ش و�ضيقه على النبي �صلى اهلل عليه و�سلم حتى
�أبكاها.
وهذه ال�شدة التي فر�ضها عمر على نف�سه منذ ا�ستخلف ،هي التي تف�رس
الرمادة حني �أ�صاب العرب يف اجلزيرة ما �أ�صابهم من اجلدب لنا موقفه عام َّ
وال�ضباب منِّ حتى ا�ضطروا �إىل �أن ي�أكلوا امليتة ،وي�ستخرجوا اجلرذان
جحورها في�أكلوها.
وقد ات�صل هذا اجلدب ت�سعة �أ�شهر ،ووقف عمر �أثناء هذه الأ�شهر موقف ًا ال
يعرف التاريخ له نظرياً .فما �أكرث ما �أ�صاب اجلوع بع�ض البالد ،وما �أكرث ما
�شقي النا�س بهذا اجلوع ،واجتهد ملوكهم ووالتهم يف �أن يخففوا عنهم هذا
اجلهد ،ولكنا ال نعرف �أحداً من ه�ؤالء امللوك والوالة �شارك النا�س يف اجلوع،
وفيما كانوا يجدون من اجلهد ،كما �شارك عمر �أهل احلجاز وجند وتهامة يف
كل ما �أ�صابهم من اجلهد والعناء ،ومانعرف �أحداً من امللوك والوالة وا�سى
النا�س بنف�سه على ما �أ�صابهم ،كما كان عمر يوا�سي العرب بنف�سه �أثناء هذه
الأ�شهر الت�سعة.
فقد جاع عمر كما جاع النا�س ،وحرم على نف�سه لني العي�ش كله ،حتى
عا�ش على الزيت ،وحتى تغري لونه لكرثة ما �أكل الزيت نيئ ًا ومطبوخ ًا ،ثم
كان يحمل �إىل الأعراب داخل املدينة وخارجها طعامهم على ظهره وي�أبى
�أن يكفيه ذاك �أحد غريه ،وكان ال يرتك من يحمل �إليهم الطعام حتى يراهم
128
قد �أكلوا و�أ�صابوا من الطعام حاجتهم ،وكان الأعراب حني ا�شتد عليهم اجلهد
قد نزح منهم كثري من بالدهم و�آووا �إىل املدينة يلتم�سون فيها ما يقيم الأَ َود،
فكان عمر ينزلهم املنازل من حول املدينة حتى ال ي�ضيقوا على �أهلها ،وكان
يجد يف ذلك يقوم على �أن يوفر لهم ما يحتاجون �إليه من الطعام والك�سوةّ ،
بنف�سه ما ا�ستطاع اجلد ،ثم ال ي�شغله ذلك عن غري ه�ؤالء من الأعراب الذين مل
ينزحوا عن �أوطانهم ،و�إمنا �أقاموا فيها �أ�شقياء باجلدب �صابرين عليه .وقد
كتب عمر �إىل والته على الأقاليم ف�أر�سلوا �إليه الطعام ،فكان يوجه الرجال
�إىل منافذ الأقاليم ،وي�أمرهم �أن يتلقوا ما ي�أتي منها ،و�أن يطعموا النا�س
ويك�سوهم ويخ ّلفوا فيهم مايعينهم على احتمال البالء.
قرب منه وكذلك �أنفق هذه الأ�شهر الت�سعة معني ًا �أ�شد العناية بالنا�س ،من ُ
ومن بعد عنه ،حتى خيف عليه من �شدة ما كان يتكلف يف ذلك من امل�شقة
والعناء .ويقول الرواة� :إنه حرم على نف�سه يف هذه الأ�شهر الت�سعة كل لذة،
وكل راحة ،وكل طم�أنينة ،ومل يكن ا�شتغاله ب�أمر النا�س وحده هو الذي ي�شقيه
وهما
وي�ضنيه ،و�إمنا كان �ضمريه احلي اليقظ دائم ًا يزيده �شقاء �إىل �شقاءّ ،
هم ،فكان ال يذوق النوم �إال غراراً ،وكان ُي�شفق �أ�شد الإ�شفاق �أن يجعل اهلل �إىل ّ
هالك �أمة حممد �صلى اهلل عليه و�سلم على يديه و�أثناء خالفته.
وكان عمر يحب ال�صالة �إذا تقدم الليل يف جميع �أيامه ،فلما امتحن العرب
بهذا اجلدب �أكرث من هذه ال�صالة حني كان يتاح له الفراغ من �أمر النا�س.
وقد حرم على نف�سه -كما قلت �آنف ًا -ما كان يتاح لأو�ساط النا�س
من الطعام يف تلك الأيام ،فحرم على نف�سه اللحم �إال حني كان ينحر اجلزر
ليطعم النا�س ،فكان ي�شاركهم يف طعامهم ،وحرم على نف�سه ال�سمن فعا�ش
على الزيت ،فلما �آذاه الإدمان عليه ظن �أن طبخه يك�رس من حدته ،ف�أمر �أن
يطبخ له الزيت ،فما �أكل منه مطبوخ ًا كان �أ�شد عليه .وكان بطنه رمبا قرقر،
فكان ي�رضب على بطنه ب�إ�صبعه ويقول :قرقر ما تقرقر فلي�س لك �إال الزيت
حتى يحيا النا�س .ثم مل يكن ي�ؤثر نف�سه بهذه ال�شدة يف تلك الأ�شهر ،و�إمنا كان
ويحرج عليهم جهده يف �أن ي�ؤثروا �أنف�سهم ّ يراقب �أهله وبنيه �أ�شد املراقبة
ب�شيء من اللني والنا�س من حولهم اليجدون ما يطعمون ،وكان يقول :نطعم
129
ما �أطاق بيت املال �إطعام النا�س ،ف�إذا �ضاق بذلك بيت املال �أدخلنا على
كل �أهل بيت مثلهم فقا�سموهم ما ي�أكلون ،ف�إنهم لن يجوعوا على �أن�صاف
بطونهم ،ومعنى ذلك �أنه كان يريد �أن يطعم النا�س على ح�ساب الدولة ،ف�إذا مل
يجد مايقوتهم به يف بيت املال و ّزعهم على بيوت الذين يجدون ما ينفقون،
فعا�شوا معهم و�شاركوهم يف طعامهم ،فقليل الطعام يقيم الأَ َود .وذلك خري
من اجلوع الذي يعر�ض النا�س للهلكة .ومل يكن عمر يقبل �أن ي�شبع فريق من
النا�س ويجوع �سائرهم ،ومع ذلك فقد ا�ستطاع �أن يخفف هذا اجلهد على
النا�س مبا كان ير�سل �إليه من الأقاليم ،و�إن مل ي�ستطع �أن ي�صد املوت عن كثري
منهم ،فقد وقع املوت يف الأعراب الذين �أحاطوا باملدينة ،فكان عمر ي�صلي
على املوتى �أفراداً وجماعات ،وكان ي�شهد جنائزهم ويقوم على قبورهم.
وت�ستطيع �أنت �أن تقدر حياة عمر يف تلك الأ�شهر بعد �أن ر�أيت ما و�صفت
لك من يقظة �ضمريه ،ومن �إ�شفاقه على النا�س ،وعنايته ب�أمرهم ،وتكلفه ما
تكلف من اجلهد يف �إطعامهم .فال غرابة يف �أن ي�صبح كئيب ًا ومي�سي كئيب ًا،
ويبكي يف غري موطن ،ويدعو اهلل �أن يرفع املحل عن النا�س .ويقول الرواة:
�إنه ا�ست�سقى حني بلغ اجلهد غايته ،فلم يزد على �أن دعا اهلل ودعا النا�س معه،
و�صلى �صالة اال�ست�سقاء .ويزعم الرواة� :أنه حني ا�ست�سقى �أخذ بيد العبا�س عم
النبي وتو�سل به �إىل اهلل ،و�أنه مل يتم ا�ست�سقاءه حتى �أر�سل اهلل الغيث.
ووا�ضح �أن هذا تكلف م�صدره التملق لبني العبا�س �أثناء حكمهم .وال�شيء
الذي لي�س فيه �شك هو �أن عمر ا�ست�سقى كما ا�ست�سقى النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم،و�أن اهلل �أر�سل الغيث بعد ا�ست�سقاء عمر بوقت ق�صري �أو طويل .وملا �أنزل
وردهم� ،إىل
وجد يف �إخراج الأعراب من املدينة ّ اهلل الغيث �سرُ ِّي عن عمرّ ،
بالدهم لي�ست�أنفوا حياتهم التي كانوا يحيونها قبل �أن ميتحنهم اهلل بهذا
البالء.
130
4
وكان عمر �شديداً على نف�سه ،و�شديداً على غريه كل ال�شدة �أي�ض ًا يف مال
امل�سلمني ،فكان يحا�سب نف�سه �أ�شد احل�ساب على ما ي�أخذ من مال امل�سلمني
لنفقته ونفقة �أهله .وكان يقول� :إين �أنزلت نف�سي من هذا املال مبنزلة مال
اليتيم ،ثم يقر�أ قول اهلل عز وجل من �سورة الن�ساء:
وف».
ان َف ِق ًريا َف ْل َي�أْ ُك ْل ِبالمْ َْع ُر ِ
ان َغ ِن ً ّيا َف ْل َي ْ�س َت ْع ِف ْف َو َمن َك َ
«و َمن َك َ
َ
ورمبا قال يف موطن �آخر� :أنزلت هذا املال من نف�سي منزلة مال اليتيم �إن
ا�ستغنيت عففت ،و�إن افتقرت �أكلت باملعروف .وكان ي�شبه نف�سه �أحيان ًا برجل
�سافر مع جماعة من �أ�صحابه فدفعوا �إليه �أموالهم وكلفوه �أن ينفق عليهم
منها ،فما ينبغي له �أن ي�ؤثر نف�سه من دونهم بقليل �أو كثري من هذا املال .وهو
مع ذلك قد ا�ست�شار �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فيما يحل له من هذا
علي
املال .فقال له بع�ضهم :يحل لك منه ما ي�صلحك وي�صلح �أهلك .وقال له ّ
علي ،فكان
بن �أبي طالب رحمه اهلل :يحل لك منه الغداء والع�شاء .فقبل ر�أي ّ
ي�أخذ من بيت املال ما ميكنه من �أن ي�أكل ويطعم �أهله طعام �أو�ساط النا�س
من قري�ش ،وكان ي�ستحل من بيت املال ك�سوة نف�سهُ :حلة يف ال�شتاء و�أخرى
131
يف ال�صيف ،على �أنه كان ي�شتد يف ذلك فلم يكن يرتك �إزاراً والرداء �إال حني
يبلغ منه البلى غايته ،وكان كثرياً ما يرقع رداءه �أو �إزاره :يرقعه غري متحرج
فيما يرقع به ،حتى لقد كان يرقع ثيابه �أحيان ًا بال َأدم.
ويقول الرواة �إنه ت�أخر يوم جمعة ،فجعل النا�س ينتظرونه يف امل�سجد
حتى �أبط�أ عليهم ،ثم خرج عليهم ف�صعد املنرب واعتذر من �إبطائه ،ف�إذا الذي
�أبط�أ به قمي�صه قد غ�سل فانتظر �أن يجف ،ومل يكن عنده قمي�ص غريه.
وكان عمر -كما قلت �آنف ًا -ي�ستطيع �أن يو�سع على نف�سه من �صلب
ماله ،ولكنه -فيما يظهر -كان كره �أن يظن النا�س �أنه �إمنا يو�سع على
نف�سه من مال امل�سلمني ،في�ضيق على نف�سه ،كما كان ي�شدد على نف�سه �أي�ض ًا
�إيثاراً للزهد ،وخمافة �أن يحيا حياة �ألني من حياة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم
وحياة �أبي بكر .وكان يقول� :إن يل �صاحبني �سلكا طريق ًا ،و�أخ�شى �إن خالفت
�سريتهما �أن يخالف بي عن طريقهما.
رد ماومع ذلك فقد كان ي�ستحل اال�ستقرا�ض من بيت املال ،ف�إذا �أي�رس َّ
اقرت�ض .وكان رمبا �أبط�أ يف �أداء ما ا�ستقر�ض ،في�أتيه �صاحب بيت املال
فيلزمه ،ويحتال عمر حتى ي�ؤدي �إليه ما ا�ستقر�ض ،ورمبا خرج عطا�ؤه ف�أدى
منه ما كان عليه من دين لبيت املال .وملا ُطعن وعرف �أنه املوت� ،أح�صى ما
عليه من دين لبيت املال .ف�إذا هو نيف وثمانون �ألف درهم .فلم ي�سرتح حتى
�أمر ابنه عبداهلل ف�ضمن هذا املال ،وقال له� :إذا انا مت فانظر يف مايل ومال
عدي ،ف�إن �أعانوك مبا يفي �آل عمر ،ف�إن ويف بهذا الدين فذاك ،و�إال ف�سل بني ّ
تعدها.
بهذا الدين فذاك ،و�إال ف�سل قري�ش ًا وال ُ
ويقول الرواة �إن الأ�سبوع مل يتم بعد وفاة عمر حتى �أدى عبداهلل دين �أبيه
�إىل عثمان رحمه اهلل و�أخذ منه الرباءة بالأداء.
رد على بيت املال ما �أخذه ل ُقوته وقوت �أهله ،واعترب أرجح �أنا �أن عمر قد َّ
و� َّ
هذا دين ًا عليه كما فعل �أبو بكر رحمه اهلل.
فقد ر�أيت فيما م�ضى �أن �أبابكر وهب لبيت املال �أر�ض ًا كان ميلكها مبا
ا�ستنفق منه ،وكذلك فعل فيما �أرجح .ولي�س معنى هذا �أن عمر مل يقرت�ض
�شيئ ًا من بيت املال ،بل معناه �أن عمر �أ�ضاف �إىل ما اقرت�ض ما كان ي�ستحل
132
لنف�سه من بيت املال قوت ًا له ولأهله وك�سوة له يف ال�شتاء وال�صيف.
وما �أكرث ما كان يقول :وددت لو �أخرج منها -يريد اخلالفة -كفاف ًا
علي وال يل ،فقد خرج منها رحمه اهلل ولي�س عليه منها �شيء وله منها ال ّ
الكثري مبا �أح�سن �إىل امل�سلمني� ،أغنيائهم وفقرائهم ،ومبا ن�صح للإ�سالم ،ومبا
�أقام من نظم �سيا�سية مل يكن للعرب عهد مبثلها ،ومن نظم اجتماعية ال تزال
الإن�سانية ت�سعى لتحققها دون �أن تبلغ من �سعيها ما تريد.
ولي�س على عمر -رحمه اهلل -من ب�أ�س �إذا كانت نظمه االجتماعية
مل تبق بعد وفاته ،و�إذا كان امل�سلمون قد ق�رصوا عن االحتفاظ بها وعن
تثبيتها .واهلل عز وجل يقول من �سورة النجم:
يم ا َ ّل ِذي َو َفّى� .أَ َالّ َتز ُِر َواز َِر ٌة وِ ْز َر
و�سىَ .و ِ�إ ْب َر ِاه َ
با فيِ ُ�ص ُح ِف ُم َ «�أَ ْم مَ ْ
ل ُي َن َ ّب�أْ مِ َ
ِن�سانِ �إِ َالّ َما َ�س َعىَ .و�أَ َ ّن َ�س ْع َي ُه َ�س ْو َف ُي َرى .ث َ ُّم ُي ْج َزا ُه جْ َ
ال َزا َء �أُ ْخ َرىَ .و َ�أن َ ّل ْي َ�س ِللإ َ
الأَ ْوفَى».
فعلى الذين �أ�ضاعوا هذه النظم و�أهملوا �سنة عمر تبعة ما �أ�ضاعوا وما
�أهملوا ،ولعمر اجلزاء الأوفى عند اهلل عز وجل على ما ن�صح للم�سلمني وما هي�أ
لهم من و�سائل الرقي والعزة يف ظل العدل والأمن وامل�ساواة.
وفيما ت�ستقبل من ف�صول هذا احلديث تف�صيل هذا ال�سعي الذي �سعاه عمر
يف خالفته التي كانت كما قال ابن م�سعود :رحمة.
133
134
5
وكانت �أول م�شكلة واجهت عمر حني نه�ض ب�أمور امل�سلمني م�شكلة
الفتوح ،وموقف اجليو�ش التي �أر�سلها �أبو بكر رحمه اهلل �إىل العراق وال�شام.
وكان �أبو بكر قد هي�أ حلل م�شكلة اجليو�ش التي �أر�سلها �إىل ال�شام حني
جمع الروم للم�سلمني جموع ًا كثرية و�أعداداً �ضخمة مل تكن لهم بها طاقة.
ف�أر�سل �إليهم خالد بن الوليد ببع�ض من كان معه يف العراق ،ولكنه حني
�أمد جيو�ش امل�سلمني يف ال�شام بخالد وطائفة �صاحلة من جي�شه يف العراق،
عر�ض بقية هذا اجلي�ش العراقي خلطر عظيم .فقد كان الفر�س قد �أخذوا باجلد
واحلزم هجوم خالد على العراق ،وانت�صاره يف املواطن الكثرية التي انت�رص
فيها ،وغلب على عامة العراق العربي ،فلم ي�سعهم �إال �أن ينه�ضوا ملقاومة
العرب و�إخراجهم من هذه الأر�ض التي كانت خا�ضعة ل�سلطانهم منذ زمن
ملثنى بن حارثة ال�شيباين -خليفة خالد على اجلي�ش � -أن بعيد ،و�أح�س ا ُ
معر�ض خلطر عظيم �أمام هذه اجليو�ش التي عب�أها موقفه وموقف امل�سلمني ّ
الفر�س للقائهم .فا�ستخلف على من بقي معه من اجلي�ش ،و�أ�رسع �إىل املدينة
ليقف �أبا بكر على جلية احلال يف العراق ،و�أدرك �أبا بكر يف مر�ضه الذي تويف
135
فيه ،فو�صف له �أمر امل�سلمني ومكانهم من اخلطر العظيم الذي يعر�ضهم له
العدو.
فلم ي�ستطع �أبو بكر رحمه اهلل �إال �أن يو�صي عمر باجلد يف جندة امل ُثنى
و�أ�صحابه و�إمداده بالرجال وال�سالح .وقد جد عمر يف ذلك منذ اليوم الأول
خلالفته ،فندب النا�س �إىل العراق ،ولكن النا�س �سمعوا منه ومل ي�ستجيبوا
له ،فندبهم ثالثة �أيام والنا�س ي�سمعون منه وال ي�ستجيبون حتى �إذا ندبهم
للمرة الرابعة قام �إليه �أبو عبيد بن م�سعود الثقفي منتدب ًا ،وا�ضطر عمر �إىل
�أن يلح النا�س ويدفعهم �إىل اجلهاد دفع ًا ،حتى �إذا ا�ستطاع �أن يجمع �ألف
رجل من املهاجرين والأن�صار � ّأمر عليهم �أبا عبيد .فكلمه النا�س يف �أن
ي�ؤمر رج ًال من كبار املهاجرين والأن�صار ف�أبى ،لأنهم تقاعدوا عن اجلهاد
وكرهوا لقاء ال ُفر�س ،و�ألح يف �أن ي� َّؤمر �أول من انتدب للحرب ،ثم خالف عن
�سيا�سة �أبي بكر ف�أباح ملن كان ارتد من العرب ثم عاد �إىل ما خرج منه� ،أن
ي�شارك يف اجلهاد ،ف�أقبل ه�ؤالء م�رسعني ،و�أقبلت جموع من اليمن ف�ضمهم
عمر �إىل اجلي�ش .و�سار �أبو عبيد بجي�شه بعد �أن �أو�صاه عمر باحلزم والأناة
وب�إمعان الروية وح�سن التدبري ،وانتهى �أبو عبيد �إىل العراق ومعه املثنى بن
حارثة تابع ًا له ولي�س �أمرياً ،فان�ضم �إىل من كان هناك من امل�سلمني ،وتهي�أ
للقاء الفر�س ،وكان �أبو عبيد �شجاع ًا جريئ ًا ،وقد غلبت �شجاعته وجراءته
ر�أيه و�أناته ،وغلبت ر�أي الذين �أ�شاروا عليه و�أحلوا يف �أال يعرب الفرات للقاء
الفر�س و�إمنا يخلي بينهم وبني العبور �إليه ،ف�إن اتيح له الن�رص فذاك ،و�إن
كانت الأخرى وجد الأر�ض من ورائه يرجع �إليها متحيزاً لفئة امل�سلمني من
جزيرة العرب .ولكنه -رحمه اهلل -كره �أن يكون الفر�س �أجر�أ على املوت من
امل�سلمني ،فعرب بالنا�س النهر ثم قطع اجل�رس من ورائه حتى ال يتحدث �أحد
من امل�سلمني �إىل نف�سه بالفرار ،وكان امل�سلمون يف تلك الأيام اليكرهون
�شيئ ًا كما يكرهون الفرار ،ي�ستح�رضون يف نفو�سهم وقلوبهم هذه الآية
الكرمية التي كانوا ي�ستح�رضونها يف كل موطن من مواطن احلرب وهي قول
اهلل عز وجل من �سورة الأنفال:
136
وه ُم الأَ ْد َب َارَ .و َمن ين َكف َُرواْ َز ْحف ًا َف َال ُت َو ُ ّل ُ ين � َآم ُنواْ �إِ َذا َل ِقي ُت ُم ا َ ّل ِذ َ«يا �أَ ُ ّي َها ا َ ّل ِذ َ َ
َ
ُي َو ِ ّله ِْم َي ْو َم ِئ ٍذ ُد ُب َر ُه �إِ َالّ ُم َت َح ِ ّرف ًا ِ ّل ِق َتالٍ �أ ْو ُم َت َح ِ ّيزاً �إ ىَِل ِف َئ ٍة َف َق ْد َباء ب َِغ َ�ض ٍب ِ ّم َن
الل َو َم�أْ َوا ُه َج َه َ ّن ُم َو ِب ْئ َ�س المْ َِ�صريُ». َ هّ ِ
وكان امل�سلمون يف تلك الأيام �إذا انتدبوا للجهاد حر�صوا �أ�شد احلر�ص
على �أن يظفروا ب�إحدى احل�سنيني :الظفر بالعدو ،وما �أعد اهلل لهم من الأجر
يوم القيامة� ،أو الظفر بال�شهادة وما �ضمن اهلل لهم من حياة ال�شهداء يف جنته
ور�ضوانه ،لأن اهلل يقول:
ون ني �أَنف َُ�س ُه ْم َو�أَ ْم َوا َل ُهم ِب َ�أ َ ّن َل ُه ُم جْ َ
ال َ ّن َة ُي َقا ِت ُل َ ا�ش رَ َتى ِم َن المْ ُ �ؤْ ِم ِن َ الل ْ «�إ َ ِّن َ هّ َ
ون َو ْع ًدا َع َل ْي ِه َح ً ّقا فيِ ال َ ّت ْو َرا ِة َوالإِجنِ يلِ َوا ْل ُق ْر�آنِ ون َو ُي ْق َت ُل َ فيِ َ�سبِيلِ َ هّ ِ
الل ف ََي ْق ُت ُل َ
َا�س َت ْب�شرِ ُ و ْا ب َِب ْي ِع ُك ُم ا َ ّل ِذي َب َاي ْع ُتم ِب ِه َو َذ ِل َك ُه َو ا ْلف َْو ُز
الل ف ْ َو َم ْن �أَ ْوفَى ب َِع ْه ِد ِه ِم َن َ هّ ِ
يم» �سورةالتوبة. ا ْل َع ِظ ُ
وقد �أقدم امل�سلمون ،مدفوعني بهاتني الآيتني الكرميتني وب�آيات كثرية
غريهما من الكتاب العزيز ،فقاتلوا م�ستب�سلني ،وكان قائدهم �أبو عبيد �أ�شدهم
قدموا بني �أيديهم �إقدام ًا و�أعظمهم ا�ستب�ساالً ،ولكن الفر�س على كرثتهم كانوا ّ
�شيئ ًا مل ي�ألفه العرب يف قتالهم من قبل وهي الفيلة ،فلما ر�أتها خيل امل�سلمني
نفرت منها نفاراً �شديداً.
وكان يف مقدمة هذه الفيلة فيل عظيم تعر�ض له �أبو عبيد فطعنه .فلما
�أح�س الفيل حر الطعنة ثار فطرح �أبا عبيد يف الأر�ض وقتله .وقتل يومئذ
من امل�سلمني عدد غري قليل بعد �أن �أح�سنوا البالء ،وا�ضطروا �آخر الأمر �إىل
الفرار ف�إذا النهر وراءهم :فجعل بع�ضهم ي�ساقط يف النهر فيغرقون ،حتى
�أقبل املثنى بن حارثة ومعه نفر من �أ�صحابه ،فوقف على �شاطئ النهر،
وجد يف عقد اجل�رس ،وانحاز بقية امل�سلمني �إليه فعربوا النهر ،وقد بلغ منهم ّ
اجلهد وكرثت فيهم اجلراحات ،وتفرق كثري منهم بعد عبور النهر فعادوا �إىل
احلجاز ،ورجع بع�ضهم �إىل املدينة.
وبلغ خرب الهزمية عمر -رحمه اهلل -فبكى وقال :رحم اهلل �أبا عبيد لو
يل لكنت فئته .وكان يكرث من ترديد ذلك ،يهدئ به روع املنهزمني انحاز �إ ّ
ويبني لهم �أنهم مل يفروا و�إمنا انحازوا �إىل فئة ،فلم يتعر�ضوا للعقاب ال�شديد
137
الذي �أنذر اهلل به الفارين يف الآية الكرمية من �سورة الأنفال التي �أثبتناها
�أنف ًا.
وقد َحمي عمر جلهاد الفر�س بعد وقعة اجل�رس هذه فتهي�أ للحرب ،وخرج
وهم بامل�سري �إىل العراق على ر�أ�س اجلي�شمن املدينة فاجتمع �إليه النا�سّ ،
متولي ًا بنف�سه قتال الفر�س.
وا�ست�شار النا�س يف ذلك .ف�أ�شار عليه قليل منهم ب�أن يتمم على ما �أراد
ومي�ضي للجهاد ،فيكون يف م�ضيه حتري�ض للم�سلمني وت�شجيع لهم ،ولكن
كثرياً من �أ�صحاب النبي �أ�شاروا عليه ب�أال يفعل وب�أن يبقى يف املدينة ركن ًا
للم�سلمني ميدهم بالعدد والعدة ،و�أال يعر�ض نف�سه لأخطار احلرب ،ف�إنه �إن
فت ذلك يف �أع�ضاد امل�سلمني ،فلم ينه�ضوا للقتال ،وتعر�ضت الأمة �أ�صيب ّ
خلطر عظيم .و�أ�شاروا عليه ب�أن ير�سل رج ًال من كبار �أ�صحاب النبي �صلى اهلل
و�سموا له �سعد بن �أبي وقا�ص
عليه و�سلم ،و�أ�شدهم ب�أ�س ًا و�أم�ضاهم يف احلربَّ .
رحمه اهلل .وكان �سعد غائب ًا عن املدينة يف عمل لعمر ،ف�أر�سل �إليه ،فا�ستخلف
على عمله و�أقبل ،ف�أمره عمر على اجلي�ش و�أو�صاه �أال يغامر بامل�سلمني ،و�أن
ينزلهم منز ًال بني ح�رض العراق ومدر العرب ،و�أن ينتظر الإمداد.
وم�ضى �سعد رحمه اهلل بجي�شه ي�ستنفر من مر به من القبائل ،وميده عمر
ما ا�ستطاع �إىل �إمداده �سبي ًال ،وكان العرب يكرهون لقاء الفر�س وي�ؤثرون
رغب بع�ضهم اجلهاد يف ال�شام .ولكن عمر كان ي�أبىعليهم �إال العراق ،ورمبا ّ
باملال بعد الفتح .و�أقام �سعد كما �أمره عمر يف جي�ش عظيم من امل�سلمني
قريب ًا من العراق ،غري بعيد مع ذلك من بالد العرب .و�أقام هناك ينتظر �أمر
عمر بالتقدم .وينتظر قدوم الفر�س عليه .وكان عمر قد �أمره �أن يكتب �إليه
ب�أمر امل�سلمني يوم ًا بيوم ،و�أالينزل بهم منز ًال �إال و�صفه لعمر ك�أنه يراه ،حتى
يكون عمر مع امل�سلمني بكتب �سعد يعلم ما ي�أتون وما يدعون.
138
6
وخالف عمر عن �سيا�سة �أبي بكر يف �أمر ال�شام �أي�ض ًا ،فلم يكد ينه�ض
ب�أعباء اخلالفة حتى كتب �إىلجيو�ش ال�شام ينعى �إليهم �أبا بكر رحمه اهلل،
وينبئهم ببيعته ،ويعزل خالداً عن �إمارة اجلي�ش ،ويجعل هذه الإمارة لأبي
عبيدة ،وي�أمره �إذا فتح اهلل على امل�سلمني �أن يوجه من جاء مع خالد من
العراق �إىل عراقهم ،ليكونوا مدداً ل�سعد ومن معه من امل�سلمني ،و�أن يجعل
عليهم عتبة بن �أبي وقا�ص .ويقول الرواة� :إن كتاب عمر و�صل �إىل �أبي عبيدة
يف ليلة كان امل�سلمون يتهي�ؤون فيها مل�صادمة الروم من غد ،ف�أخفى �أبو
عبيدة كتاب عمر و�أ�رس ما جاء فيه من عزل خالد وتوليته هو.
كره -فيما يقول الرواة � -أن يثبط امل�سلمني ويفل من حد خالد ،وكانت
�إليه �إمرة اجلي�ش يف تلك املوقعة.
و�أ�صبح امل�سلمون ،فا�صطدموا بالروم ،فقاتلوهم �أ�شد قتال و�أعنفه
و�أجر�أه .وكانت موقعة مل يعرف امل�سلمون مثلها من قبل يف حربهم للروم.
وقد �أنزل اهلل ن�رصه على امل�سلمني ،وانهزم الروم هزمية منكرة ،وفتحت
للم�سلمني مناهج ال�شام فق�صدوا ق�صد دم�شق.
139
ومن الرواة من يزعم �أن وقعة الريموك هذه كانت بعد فتح دم�شق ولكن
اختالف الرواة يف تاريخ الوقائع وترتيبها كثري� ،أكرث من �أن يح�صى ،و�أع�رس
من �أن ي�صل الباحث فيه �إىل نظام دقيق.
ولي�س هذا مق�صوراً على ال�شام ولكنه يتناول حرب الفر�س �أي�ض ًا.
ولي�س من �ش�أين يف هذا احلديث �أن �أف�صل تاريخ الفتوح ،وال �أن �أرتب
تاريخ الوقائع ،فذلك �شيء مل �أرد �إليه ،وهو على كل حال يطول �أ�شد الطول
ويع�رس �أ�شد الع�رس.
واملحقق �أن امل�سلمني قد حا�رصوا دم�شق و�شددوا عليها احل�صار و�أطالوه
ولكن خالداً -رحمه اهلل -مل يكن ينام وال ينيم ،كان متنبه ًا دائم ًا لأمر
املدينة وما يقع فيها من الأحداث .وقد بلغه ذات ليلة -فيما يزعم الرواة -
�أن �سور املدينة ب�إزائه قد خال من ُحرا�سه ،لأمر ف�صله امل�ؤرخون وال �أطمئن
�إليه ،فاحتال خالد حتى رقي ال�سور مع نفر من �أ�صحابه ،ثم نزل ونزل
بوابيه وكبرّ وا،من معه فابتدروا باب املدينة الذي يلي جي�ش خالد فقتلوا ّ
فاندفع �إليهم امل�سلمون من هذه الناحية ،واندفع خالد على ر�أ�س جي�شه �إىل
و�سط املدينة .قال الرواة :وكان �أبو عبيدة قد دخل املدينة من باب �آخر على
�صلح ،فالتقى جي�شان من امل�سلمني يف و�سط املدينة :جي�ش يقاتل ،وجي�ش
م�صالح .ف�أم�ضى �أبو عبيدة ال�صلح على جي�ش خالد �أي�ض ًا ،واعتربت دم�شق
قد فتحت �صلح ًا.
ويقال �إن �أبا عبيدة مل يظهر خالداً على �أمر عمر بعزله �إال بعد فتح دم�شق.
ثم كانت للم�سلمني بعد ذلك خطوب� ،أتاح اهلل لهم فيها الن�رص على الروم يف
غري موقعة ،حتى فتحت فل�سطني كلها وفتح الأردن ،ثم فتحت حم�ص و�سائر
مدن ال�شام .وكان هرقل قي�رص ق�سطنطينية مرابط ًا يف �أنطاكية ،ميد جيو�شه
منها ،فلما ر�أى ما �أتيح للم�سلمني من الن�رص يف هذه املواطن كلها عاد �إىل
ق�سطنطينية وودع �سورية وداع ًا ال لقاء بعده.
ومع �أن فل�سطني قد فتحت كلها -كما قلت �آنفا -ف�إن مدينة املقد�س قد
طاولت جند امل�سلمني املحا�رصين لها حتى �إذا قوي امل�سلمون عليها وهموا
باقتحامها طلب �أهل املدينة ال�صلح .وا�شرتطوا �أال يتم هذا ال�صلح �إال مع �أمري
140
امل�ؤمنني نف�سه .وقد �أنبئ عمر بذلك ف�أقبل �إىل ال�شام و�أمت ال�صلح مع بيت
القد�س ودخل مظفراً.
والرواة يختلفون يف عدد املرات التي دخل فيها عمر ال�شام يف خالفته،
ولكن املحقق عندي �أنه ثالث مرات على الأقل ،كانت �أوالها حني �أمت ال�صلح
مع بيت املقد�س ،وكانت الثانية بعد ذلك حني ق�صد �إىل ال�شام ،فلما بلغ
�سرَ ْ غ �أنب�أه الأمراء ب�أن الطاعون قد وقع يف ال�شام ،وهو الطاعون الذي
يعرفه امل�ؤرخون بطاعون َع ُموا�س -فا�ست�شار عمر النا�س� ،شاور املهاجرين
�أوال فاختلفوا عليه ،قائل يقول :خرجت لوجه فيجب �أن مت�ضي �إليه ،وقائل
يقول :ال تعر�ض نف�سك و�أ�صحابك للتهلكة .و�شاور الأن�صار ف�صنعوا �صنيع
املهاجرين ،و�أبى عليه �أبو عبيدة بن اجلراح �إال �أن مي�ضي لوجهه خماطراً وال
يفر من قدر اهلل ،ف�أجابه عمر :لو غريك قالها يا �أبا عبيدة� ،أفر من قدر اهلل
�إىل قدر اهلل .ثم ا�ست�شار مهاجرة الفتح فلم يختلفوا عليه ،و�إمنا �أ�شاروا عليه
جممعني ب�أن يرجع �إىل املدينة.
و�أقبل عبدالرحمن بن عوف -رحمه اهلل -وكان غائب ًا حني ا�ست�شار عمر
النا�س فقال :عندي من ذلك علم� :سمعت ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم يقول:
«�إذا وقع الطاعون ب�أر�ض و�أنتم فيها فال تخرجوا منها ،و�إن مل تكونوا فيها
فال تدخلوها» .فعاد عمر �إىلاملدينة را�ضي ًا مطمئن ًا.
ودخل عمر ال�شام للمرة الثالثة بعد �أن ارتفع الوباء .وقد �أ�صيبت طائفة
�ضخمة من امل�سلمني وجماعة من خيار �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم،
منهم� :أبو عبيدة �أمري ال�شام .ومعاذ بن جبل ،رحمهم اهلل ،و�آخرون كثريون.
فلما انق�ضى الوباء ظهرت �أمام معاوية بن �أبي �سفيان �أمري ال�شام بعد �أبي
عبيدة م�شكلة ع�سرية ،فقد كرثت �ضحايا الطاعون و�أ�شكلت مواريث من مات
على من بقي من امل�سلمني ،فا�ضطر عمر �إىل �أن ي�سري �إىل ال�شام فيحل هذه
امل�شكلة ويرد املواريث على �أ�صحابها .وكان عمر يفكر كثرياً بعد زيارته هذه
لل�شام يف �أن يزور �أقاليم الدولة كلها ،فيق�ضي يف كل �إقليم �شهرين ،يبا�رش
فيهما بنف�سه ما يعر�ض من امل�شكالت ،ويبا�رش فيهما بنف�سه �أي�ض ًا �أمور
النا�س ،فيعلم الوالة ب�سريته كيف يدبرون �سيا�سة الأقاليم والأم�صار .وكان
141
عمر �شديد اخلوف دائم ًا من �سرية الوالة ،ال ي�أمنهم �أن يجوروا �أو �أن يق�رصوا.
ومع �أنه كان يراقبهم �أ�شد املراقبة وير�سل �إليهم من قبله من يفح�ص �أعمالهم،
فكثرياً ما كان يقول �إنه ال يخاف �شيئ ًا كما يخاف �أن تكون للنا�س ظالمات
ال ين�صفهم الوالة برفعها وال يقدرون هم على �أن يرفعوها �إليه .فكان يرى يف
هذه الزيارة التي كان يرجوها �أح�سن عالج لهذه امل�شكالت و�أمثالها.
وكان عمر يلقى الوالة يف املو�سم من كل عام ،ويلقى معهم احلجيج من
كل م�رص ،في�س�أل الوالة عن الرعية ،وي�س�أل احلجيج عن �سرية الوالة فيهم،
ولكن هذا كله مل يكن يكفيه ،فكان حري�ص ًا على �أن يطمئن بنف�سه على �سرية
الوالة و�سرية الرعية جميع ًا .ومل ُتتح له هذه الزيارات التي كان يزمعها
ويحر�ص عليها �أ�شد احلر�ص� ،شغلته الأحداث ومراقبة احلرب يف بالد الفر�س
حتى اختطفته املنية اختطاف ًا.
142
7
وكانت حرب الفر�س ع�سرية �أ�شد الع�رس ،طويلة �أ�شد الطول ،ومع ذلك فقد
بلغ منها عمر رحمه اهلل ما �أراد و�أكرث جداً مما �أراد ،مل يكن يحب امل�ضي
يف احلرب و�إمنا كان يحر�ص على �أن ي�ؤمن العرب يف جزيرتهم ،ويف ال�شام
والعراق من حكم الأجنبي ،و�أن يجمعهم ما ا�ستطاع على الإ�سالم ولكن بع�ض
احلرب يدعو بع�ضها .و�إذا ابتد�أت احلرب فقلما يعرف املنت�رص لها �آخراً .وقد
ا�ستطاع عمر �أن يوقف احلرب يف ال�شام عند حدود الروم ،ومينع امل�سلمني
من �أن يقتحموا على الروم حدودهم يف اجلموع الكثيفة .ومازال به عمرو
بن العا�ص حتى انتزع منه الإذن بفتح م�رص ،فلما مت له الفتح وا�ستطاع
امل�سلمون �أن يتجاوزوا م�رص غرب ًا �إىل برقة وطرابل�س وقفهم عند هذا الذي
�أتيح لهم .وحظر على معاوية �أن يغزو يف البحر ،وكان معاوية �شديد احلر�ص
على �أن يفتتح قرب�ص ،ولكن عمر �ألح يف منعه حتى �أنذره �إن خالف عن �أمره.
وقد �أقام �سعد يف منزله الذي حدده له عمر قريب ًا من البادية وقريب ًا من
ح�رض العراق �أي�ض ًا .وظل كذلك حتى جاءته الفر�س يف جموع عظيمة فلم يكن
من قتالها بد ،فكانت وقعة القاد�سية التي طالت و�شقت وامتحن امل�سلمون
143
فيها امتحان ًا �شديداً ،ولكن اهلل �أنزل عليهم ن�رصه بعد خطوب ،فقتل امل�سلمون
منهم مقتلة عظيمة ،ولقوا منهم مع ذلك �رشاً عظيم ًا ،ولكن الن�رص �أطمعهم يف
الن�رص و�أغراهم باتباع الفر�س وغزوهم يف عقر دارهم .وقد ا�ستقر يف نف�س
عمر ،ويف نف�س الذين كانوا ي�شريون عليه يف املدينة ،ويف نف�س �سعد بن �أبي
وقا�ص �أي�ض ًا� :أن امل�سلمني لن يك�رسوا �شوكة الفر�س ،ولن يفلوا حدهم �إال
�إذا غزوهم يف عقر دارهم ،و�أخذوا عا�صمتهم املدائن .وكانوا يعتقدون �أنهم
�إن دخلوا العا�صمة و�أزعجوا عنها ك�رسى يزدجر ملك الفر�س �أمنوا جانبهم
و�أي�أ�سوهم من العراق .وقد م�ضى �سعد بجي�شه �إىل املدائن فدخلها مظفراً
وخرج عنها امللك هارب ًا ،و�أتيح للم�سلمني �أن يتخذوا �إيوان ك�رسى م�صلى.
ومنذ فتح املدائن كان عمر يود لو وقفت احلرب عند هذا احلد ،وكان يقول
مرة :وددت لو �أن بيننا وبينهم جب ًال من نار ،ويقول مرة �أخرى :وددت لو �أن
بيننا وبينهم بحراً من نار ال ي�صلون �إلينا وال ن�صل �إليهم .ولكن اهلل مل ين�شئ
لعمر جب ًال من نار وال بحراً من نار ،و�إمنا �ألقى يف نفو�س الفر�س الت�صميم
على �أن ي�سرتدوا ما فقدوا ،ويث�أروا من امل�سلمني لهزميتهم ،فكانت جموعهم
ال تف�ض �إال ت�ألفت منهم جموع �أخرى عظيمة الكرثة �شديدة الب�أ�س .وكان
امل�سلمون م�ضطرين �إىل �أن يف�ضوا هذه اجلموع كلما ائتلفت ،لي�أمنوا على ما
يف �أيديهم من جهة ولي�ضيفوا �إليه ما يزيده ويكرثه .وكانت جيو�ش امل�سلمني
ال تنت�رص يف موقعة �إال طمعت يف �أن تنت�رص يف موقعة �أخرى.
وكذلك التقوا بالفر�س يف َج ُلوالء وانت�رصوا عليهم ،والتقوا بهم يف نهاوند
هم عمروانت�رصوا عليهم ،والتقوا بهم يف حلوان وانت�رصوا عليهم �أي�ض ًا .وقد ّ
بعد هذه املواقع الكربى �أن يوقف احلرب ،وكان قد م�رص امل�رصين يف العراق:
«الكوفة والب�رصة» ،و�أراد �أن ينزل فيهما امل�سلمني ليكونوا ردءاً ملن وراءهم،
ومدداً ملن بني �أيديهم .وكان ملك الفر�س كلما انت�رص امل�سلمون يف موقعة
�أبعد يف الهرب .و�أح�س بع�ض امل�سلمني �أنهم لن يك�رسوا �شوكة الفر�س ولن
يفلوا حدهم حق ًا ما دام للفر�س ملك قائم يجمعهم ويغريهم باحلرب ويدفعهم
�إليها .ذلك �إىل �أن امل�رصين اجلديدين يف العراق كانا يتناف�سان �أ�شد التناف�س
يف الفتح ويف ب�سط ما كانا يليانه من الأر�ض الفار�سية.
144
وكان حظ الكوفة من �سواد العراق ومما فتح من �أر�ض الفر�س �أعظم من
حظ الب�رصة .فكان �أهل الب�رصة يطمعون يف �أن يو�سعوا رقعتهم ويكرثوا
من الفتوح ُليتاح لهم من الغنائم و�سعة الفيء� ،إىل ما كانوا ي�ؤمنون به من
ف�ضل اجلهاد والغزو يف �سبيل اهلل ،حتى قال الأحنف بن قي�س ذات يوم لعمر،
وكان عنده يف وفد الب�رصة� :إن عي�شنا �أ�ضيق من عي�ش �إخواننا يف الكوفة،
و�إنا لن ن�أمن الفر�س ولن نفرغ منهم حتى نظفر مبلكهم �أونقتله .ومازال
امل�رصان يلحان على عمر يف �أن ي�أذن للنا�س يف االن�سياح يف الأر�ض حتى
انتزعوا منه الإذن يف ذلك انتزاع ًا .فاندفع �أهل الب�رصة حتى بلغوا من الفتح
ما �أرادوا ،وجعلوا يزعجون امللك عن مدن الفر�س مدينة مدينة ،حتى �أزعجوه
عن خرا�سان كلها و�أجل�أوه �إىل �أن يعرب النهر �إىل الرتك ،وقد ا�ستمد َملك الفر�س
ملك الرتك وا�ستعان به على ا�سرتداد وطنه من امل�سلمني ،فا�ستجاب له ملك
الرتك حتى �أقبل م�ؤازراً له .ولكن امل�سلمني ثبتوا للرتك كما ثبتوا للفر�س من
قبل ،ومازالوا بالرتك حتى �أي�أ�سوهم وا�ضطروهم �إىل �أن يرجعوا �إىل بالدهم.
وكذلك فتحت على عمر بالد ك�رسى كلها يف هذه املدة الق�صرية التي
توىل فيها �أمور امل�سلمني يف ع�رش �سنني و�أ�شهر.
ومازال يزدجرد م�رشداً حتى قتل يف �أيام عثمان رحمه اهلل ،قتله رجل،
من مواطنيه.
ومل يكتف امل�سلمون مبا فتح اهلل عليهم يف املغرب من ال�شام وفل�سطني
وم�رص وبرقة ،وما فتح اهلل عليهم يف امل�رشق من �أر�ض ك�رسى .ولكن
الظروف ا�ضطرتهم �إىل �أن ي�ؤمنوا ال�شام بفتح اجلزيرة فافتتحوها ،ومل يبق
بينهم وبني الروم �إال هذه احلدود الطبيعية التي اعت�صم الروم من ورائها
حتى اقتحمها امل�سلمون يف �أيام معاوية حماولني فتح ق�سطنطينية .ولكن
لهذه املحاولة مو�ضع ًا �آخر يف غري هذا احلديث.
وقد يخيل �إىل من يت�صور ما �أتيح للم�سلمني من الفتوح �أيام عمر،
واالنت�صار امل�ؤزر على الفر�س والروم جميع ًا� ،أن عمر كان �سعيداً بهذه الفتوح
العظيمة ومبا كان يتدفق عليه يف املدينة من املال الذي كان امل�سلمون
يخم�سون له من الغنائم وير�سلونه �إليه من الفيء ،ولكن ال�شيء املحقق �أن
145
عمر مل يهن�أ قط بهذه الفتوح ،وال مبا �أفاء اهلل عليه من هذه الأموال التي ال
يكاد الت�صور يحيط بكرثتها.
ي�رسه انت�صار امل�سلمني وير�ضيه ،وكان ي�رسه �أن ينت�رش نور اهلل يفكان ّ
الأر�ض ،وتعلو كلمة الإ�سالم ،وكان ي�رسه وير�ضيه كذلك �أن ي�سعد امل�سلمون
مبا كان اهلل يفيء عليهم من املال الذي �أخرجهم من �ضيق العي�ش �إىل ال�سعة،
و�أتاح لهم الرخاء بعد ما كانوا فيه من ال�شظف وق�سوة احلياة .ولكن عمر على
ذلك كان �أ�شقى النا�س بالفتوح واملال.
كان الفتح يكلفه �أن يدبر �أمر احلرب يف ال�رشق والغرب ،و�أن يدبر هذا
الأمر ك�أنه مع املحاربني يف ال�رشق والغرب جميع ًا ،وكان يكلفه �أن يدبر
�أمر الأر�ض التي تفتح �رشق ًا وغرب ًا ،و�أمر الذين يعي�شون فيها من امل�سلمني
واملعاهدين .وكان ي�ضطره �إىل دقة �أي دقة يف اختيار العمال ومراقبتهم بعد
واليتهم �أق�سى املراقبة و�أبعدها يف ال�شدة .وكان املال الذي ير�سل �إليه يكلفه
عناء �أي عناء ،كان ال يرى �شيئ ًا منه �إال �أمعن يف البكاء وجعل ي�س�أل نف�سه
ملاذا �رصف اهلل هذا كله عن ر�سوله �صلى اهلل عليه و�سلم وعن �أبي بكر و�أتاحه
للم�سلمني يف �أيامه هو� .أكان ذلك خرياً �رصفه اهلل عن ر�سوله وعن خليفته
و�آثره هو به؟ ثم مل يكن يلبث �أن ينكر ذلك �أ�شد الإنكار ،ويقول :كال واهلل ما
�أتاح اهلل هذا املال لعمر �إال حمنة له وابتالء.
ثم مل يكن عمر يثق بنف�سه وال يطمئن �إليها ال يف �سيا�سة احلرب ،وال يف
�سيا�سة ال�سلم ،وال يف �سيا�سة املال .كان يخ�شى دائم ًا �أ�شد اخل�شية �أن يكون
قد جار عن الق�صد يف قول �أو عمل خطري �أو �ضئيل ،و�أن يكون هذا اجلور قد
�سجل عليه يف ذلك الكتاب الذي ال يغادر �صغرية وال كبرية �إال �أح�صاها،
و�أنه �سيلقى اهلل بهذا الكتاب يوم القيامة في�س�أله عما فيه من ال�صغري والكبري
�س�ؤا ًال ال هوادة فيه وال لني .وكذلك كان نهاره منغ�ص ًا وليله م�ؤرق ًا ،لوال
�أن �أمور امل�سلمني كانت ت�ستغرق �أكرث نهاره و�شيئ ًا غري قليل من ليله .ثم
كان على ذلك ي�أمتر مبا �أمر به القر�آن الكرمي في�ستعني على خالفته بال�صرب
وال�صالة ،ثم ال مينعه هذا كله من �أن يقول بني حني وحني :وددت لو �أين
يل.
علي وال َ
خرجت منها كفاف ًا ال ّ
146
8
147
و�سواء �أكان عمر هو الذي فكر يف هذه امل�شكلة و�أ�صاب حلها� ،أم كان
امل�سلمون هم الذين كفوه هذا التفكري ،فقد كان عمر �أول من دعي �أمري
امل�ؤمنني ،وما �أكرث الذين دعوا بعده بهذا اال�سم ،فا�ستحقه �أقلهم وحمله
�سائرهم غ�صب ًا له وا�ستبداداً به دون �أن يكون له �أه ًال .ف�إمرة امل�سلمني لي�ست
�شيئ ًا هين ًا ي�ستطيع كل من قام ب�أمر امل�سلمني �أن يتلقب بها ،و�إمنا هي ت�صور
الأعباء الثقال ،والعناء املت�صل ،واجلهد الذي لي�س فوقه جهد ،يف �إقرار العدل،
ورفع الظلم ،و�إن�صاف ال�ضعفاء من الأقوياء ،وحتقيق امل�ساواة بني النا�س،
والعناية ب�أمر القريب والبعيد ،والرفق بامل�سلمني و�أهل الذمة يف �أوقات
الي�رس والع�رس ،والقيام فيهم باحلزم كل احلزم حتى ال يطمع منهم طامع فيما
لي�س له بحق ،وال يطمح منهم طامح �إىل ما ال ينبغي له �أن يبلغه ،و�إن�صاف
النا�س بعد هذا كله وقبل هذا كله وفوق هذا كله من نف�سه ،ك�إن�صافه بع�ضهم
من بع�ض �أو �أ�شد من �إن�صافه بع�ضهم من بع�ض.
وقد كان عمر -رحمه اهلل -جديراً ب�إمرة امل�ؤمنني حق جدير ،وما �أقل
الذين �شاركوه يف اجلدارة ب�إمرة امل�ؤمنني من اخللفاء و�أ�شباه اخللفاء .و�أما
امل�شكلة الثانية التي عر�ضت لعمر فخرج منها يف ي�رس ،فهي م�شكلة التاريخ.
كانت الكتب ترد �إليه من عماله وقادته م�ؤرخة بال�شهور التي تكتب فيها،
دون �أن ت�ؤرخ بال�سنني ،لأن امل�سلمني مل يكونوا قد اتخذوا لأنف�سهم تاريخ ًا،
ف�ضاق عمر بذلك ،وا�ست�شار �أ�صحاب النبي يف تاريخ ُيجعل للنا�س ي�ؤرخون
به ،ف�أ�شري عليه ب�أن يتخذ العام الذي هاجر فيه النبي �صلى اهلل عليه و�سلم
من مكة �إىل املدينة بدءاً للتاريخ الإ�سالمي .وكان اختيار هذا العام موفق ًا كل
التوفيق ،ففيه ن�ش�أت للم�سلمني جماعة منظمة م�ستقلة يقوم النبي على �أمرها
مبا كان اهلل يوحي �إليه من القر�آن الكرمي ،وما كان يلهمه من البيان للقر�آن
الكرمي ،وما كان يجتهد ر�أيه فيه �أو ي�ستعني عليه بر�أي امل�سلمني.
وقد ن�ش�أت هذه اجلماعة �ضئيلة قليلة �ضيقة الرقعة حمدودة ال�سلطان،
ولكن اهلل كرث هذه اجلماعة بعد قلة ،وو�سع رقعتها بعد �ضيق ،ون�رش �سلطانها
بعد انقبا�ض ،حتى �أ�صبحت جزيرة العرب كلها م�ستظلة بلواء الإ�سالم �أيام
النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،ثم زاد اهلل �أر�ض امل�سلمني انب�ساط ًا و�سلطان
148
الإ�سالم انت�شاراً ،فنظر عمر ف�إذا هو لي�س �أمري امل�ؤمنني يف املدينة وحدها،
وال يف جزيرة العرب وحدها ،و�إمنا امتدت �إمرته حتى انب�سطت على ال�شام
وم�رص وعلى العراق و�أكرث �أر�ض الفر�س ،وقد قتل رحمه اهلل ومل يبق من �أر�ض
الفر�س �إال قليل ،فتح يف �أيام عثمان رحمه اهلل .وقد دبر عمر �أمر هذا ال�سلطان
العري�ض �أح�سن تدبري و�أدقه و�أعدله ،مل ي�ؤخذ ب�شيء مما فعل ومل ينكر عليه
�أحد �شيئ ًا مما �أمر به �أو نهى عنه ،فكان �أمري امل�ؤمنني ح ّق ًا ال �سبيل �إىل �أن
ينازع يف ذلك �أو يكون ذلك مو�ضوع ًا للجدال .ولو �أن امل�شكالت التي عر�ضت
لعمر كانت كلها ي�سرية كي�رس هاتني امل�شكلتني ملا ظهرت كفايته رائعة
نا�صعة منقطعة النظري ،ال بالقيا�س �إىل امل�سلمني وحدهم ،وال بالقيا�س �إىل
تاريخهم ،بل بالقيا�س �إىل العامل كله و�إىل تاريخه العام.
قوي ًا ب�أن اهلل ممتحنه باخلالفة وك�أنه رحمه اهلل كان يح�س �إح�سا�س ًا ّ
و�أعبائها ،ميتحنه برعيته وميتحن رعيته به ،وميتحنه وميتحن رعيته معه
بامل�شكالت املع�ضالت التي �ستعر�ض له ولهم يف �أيام خالفته كلها ،من �أول
يوم فيها �إىل �آخر �ساعة من �ساعات حياته ،ك�أنه كان يح�س هذا �إح�سا�س ًا
قوي ًا حني خطب امل�سلمني بعد �أن فرغ من �أمر �أبي بكر فقال لهم�« :إن اهلل قد ّ
ابتالين بكم وابتالكم بي» .وكانت خالفته كلها ابتالء له ،وابتالء لرعيته.
وح�سبك �أنه مل يكد يفرغ من خطبته الق�صرية التي خطب النا�س بها ،حتى
دعا املل�سمني �إىل جهاد الفر�س يف العراق ،و�أخذ يف تدبري �أمر ال�شام و�أمر
اجلي�ش ،الذي تركه املثنى بن حارثة قلي ًال �ضئي ًال على حدود العراق ،و�أمر
اجلي�ش الذي جعل ي�ستعد لت�سيريه لي�ؤدب �أهل العراق على انتقا�ضهم ويثبت
للفر�س فيما �سيكون من املواقع واخلطوب.
وقد عر�ضت عليك �آنف ًا ما كان من بالء امل�سلمني يف ال�رشق والغرب،
وانت�صارهم على الفر�س والروم وثباتهم ملا لقوا من الأهوال ،ومهما يكن هذا
العر�ض موجزاً فقد كان ت�صويراً موجزاً خاطف ًا لأحداث كثرية خطرية ات�صلت
منذ نه�ض عمر باخلالفة �إىل �أن تويف رحمه اهلل ،ومل يتح لهذه الأحداث �أن
تنقطع وال �أن تهد�أ �إال بعد �أن حلق ب�صاحبيه يف جوار اهلل عز وجل.
149
150
9
على �أن هذه الأحداث اجل�سام املت�صلة التي كان بع�ضها يكفي ال�ستنفاد
وقت عمر وجهده كله ،مل تكن مت�ضي دون �أن تثري م�شكالت لي�ست �أقل منها
خطراً .وال �أذكر تدبري هذه احلروب التي ات�صلت يف ال�رشق والغرب ،ورعاية
اجليو�ش املحاربة يف كثري من العناية بها ،والإ�شفاق عليها ،واحلر�ص
الدائم على �أال يتعر�ض اجلنود ملا ي�شغلهم عن احلرب� ،أو ملا يجعل احلرب
عليهم ثق ًال م�ضاعف ًا ،و�إمنا �أذكر م�شكالت �أخرى كانت تن�ش�أ عن االنت�صار
يف امليادين ،فقد كانت اجليو�ش املنت�رصة تظفر بالغنائم الهائلة التي ال
�سبيل �إىل و�صفها �إال من جهة كرثتها وال من جهة قيمتها ،حتى حني نقدر
�أن الرواة قد �أ�رسفوا يف �أمرها .وكان �أمر اهلل يف الغنائم ينفذ يف دقة �أي
دقة ،فكانت �أخما�سها الأربعة تق�سم على اجلنود على النظام الذي �رشع
للم�سلمني �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،وكان القادة ينفلون �أ�صحاب
البالء من اجلنود ،وكان خم�س الغنائم ير�سل �إىل عمر .ثم يتعقد الأمر بعد
ذلك ،ف�إن اجلنود مل يكونوا يظفرون بالغنائم املنقولة التي ميكن �أن تق�سم
وير�سل خم�سها �إىل �أمري امل�ؤمنني ،و�إمنا كانوا يظفرون بالأر�ض ويفر�ضون
أ�رص عمر
اجلزية على الذين ي�ؤثرون البقاء على دينهم من املغلوبني .وقد � ّ
151
�أ ّال تق�سم الأر�ض ،و�إمنا ترتك لأهلها يعملون فيها ويعي�شون عليها وي�ؤدون
عنها اخلراج ،فكان عمر �إذن يتلقى �أخما�س الغنائم كلما انت�رص جي�ش من
جيو�شه ،وكان يتلقى اخلراج على الأر�ض التي يعي�ش عليها املعاهدون،
وكان يتلقى اجلزية التي فر�ضت على من مل ي�سلم من املغلوبني .فكان
املال الذي يرد عليه �أكرث جداً مما كان يتوقع ومما كان العرب يظنون
�أنه �سي�ساق �إليهم يف يوم من الأيام .وكانت الأخما�س ترد على �أبي بكر -
رحمه اهلل -يف حروب الردة .ويف بدء الفتح كانت �سيا�سته فيها �ساذجة
كل ال�سذاجة ي�سرية كل الي�رس ،كان يحفظ منها ما ي�ؤدي به حق اهلل من
�أخما�س الغنائم ،كما بينه اهلل يف الآية الكرمية من �سورة الأنفال:
نا َغ ِن ْم ُتم ِ ّمن َ�ش ْي ٍء َف َ�أ َ ّن للِ َ هّ ِ ُخ ُم َ�س ُه َو ِل َلرّ ُ�سولِ َو ِل ِذي ا ْل ُق ْر َبى «و ْاع َل ُمو ْا �أَ َ مّ َ
َ
َ
ِالل َو َما �أن َز ْل َنا َع َلىِ ال�سبِيلِ �إِن ُكن ُت ْم � َآمن ُت ْم ب َ هّ ني َو ْابنِ َ ّ ِ
امى َوالمْ َ َ�ساك ِ َوا ْل َي َت َ
الل َع َلى ُك ِ ّل َ�ش ْي ٍء َق ِديرٌ». ال ْم َعانِ َو َ هّ ُ َع ْب ِد َنا َي ْو َم ا ْلف ُْر َقانِ َي ْو َم ا ْل َت َقى جْ َ
ويق�سم �سائرها على امل�سلمني ق�سمة �سواء ،ال يفرق بني النا�س مهما
تختلف منازلهم .وكان ي�سوى يف هذه الق�سمة بني الأحرار والأرقاء،
وكانت الأخما�س التي ترد �إىل �أبي بكر ال تكاد تذكر بالقيا�س �إىل ما كان
يرد �إىل عمر من ال�شام وم�رص ومن العراق و�أر�ض الفر�س .وقد ظهرت له
امل�شكلة خطرية كل اخلطورة حني كرثت الأخما�س من جهة ،وحني جاء ما
كان يجبى من اجلزية واخلراج من جهة �أخرى .كان هذا املال �أكرث من �أن
يق�سم على النا�س ،وكان تق�سيمه خطراً ،كان نوع ًا من ال�رسف ،وكان مغري ًا
للنا�س بالك�سل واالتكال واالعتماد على حظوظهم من الأخما�س واجلزية
واخلراج .وقد �شغل عمر بهذه امل�شكلة واهتم لها ،وال �سيما بعد �أن دخل
�سعد بن �أبي وقا�ص وجي�شه املدائن عا�صمة الفر�س و�أر�سلوا �إليه خم�س ما
غنموا يف هذه املدينة ،وقد ا�ست�شار عمر �أ�صحاب النبي يف �أمر هذا املال،
علي -رحمه اهلل -ف�أ�شار عليه ب�أن يق�سم يف كل عام ما يجتمع له ف�أما ّ
من املال وال مي�سك منه �شيئ ًا .ومعنى ذلك �أنه كان يرى �أن ي�سري عمر �سرية
�أبي بكر فيق�سم كل ما ي�صل �إليه ويرتك بيت املال فارغ ًا.
و�أما عثمان -رحمه اهلل -فقال� :أرى ما ًال كثرياً ي�سع النا�س ،و�إن مل
152
فيعرف من �أخذ ممن مل ي�أخذ ،خ�شيت �أن ينت�رش الأمر .ومعنى ذلك يح�صوا ُ
�أن عثمان �أراد �أن ينظم تق�سيم املال بحيث ال ي�أخذ بع�ض النا�س ويحرم
بع�ضهم .وما �أرى �أن عثمان كان يريد �أن مي�سك عمر يف بيت املال قلي ًال
�أو كثرياً ،و�إمنا كان يريد �أن يق�سم املال بني النا�س على نحو ال يوفر املال
لبع�ضهم ،ويق�رص عن بع�ضهم الآخر.
وقد كان يف ر�أي عثمان �شيء من الدقة واجلدة مع ًا ،ف�إح�صاء النا�س
يف نف�سه لون من النظام مل يعرفه العرب من قبل ،وهو بعد ذلك جدير �أن
ميكن �أمري امل�ؤمنني من �أن ي�ضع املال يف حقه ويطمئن �إىل �أنه مل مينعه
�أحد من النا�س.
ولكن رج ًال من قري�ش ،ومن ذوي قرابة عمر ،وهو الوليد بن ه�شام بن
املغرية �أ�شار بالر�أي ال�صواب ح ّق ًا ،وكان ر�أيه �أول تقليد لغري العرب ،فقد
قال لعمر� :إين قد جئت ال�شام فر�أيت ملوكه قد دو ّنوا ديوان ًا ،وجندوا جنوداً
فدون ديوان ًا ،وجند جنوداً .وقد �أخذ عمر بر�أي الوليد بن ه�شام فكلف ثالثة ّ
من قري�ش هم :عقيل بن �أبي طالب ،وحمزمة بن نوفل ،وجبري بن مطعم،
وكانوا من ُن�ساب قري�ش� ،أن يكتبوا النا�س على قبائلهم ،و�أن يبد�أوا ببني
ها�شم لقرابتهم من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم.
ومعنى الر�أي الذي �أ�شار �إليه الوليد بن ه�شام �أال يق�سم املال على النا�س
لغري غر�ض معروف ،و�إمنا ينفق لغر�ض جدير �أن ينفق فيه .وهذا الغر�ض
هو جتنيد اجلنود .ف�إذا جند اجلنود وجب على �أمري امل�ؤمنني �أن يعطيهم
�أعطياتهم من هذا املال و�أن يرتك لهم حقهم من الغنيمة بعد ذلك .واجلنود
مل يكونوا يعي�شون قبل جتنيدهم منفردين ،و�إمنا كانوا يعي�شون يف �أ�رسهم،
لهم �أبنا�ؤهم و�آبا�ؤهم و�إخوتهم ،والبد من �أن ميكن ه�ؤالء الذين تركهم
اجلنود للجهاد يف �سبيل اهلل يف احلياة ،فلهم �إذن حقهم يف العطاء .ف�إذا
�أعطي اجلند ،و�أعطيت �أ�رسهم ،و�أعطي الذين يحتاجون �إىل املال ما يقوم
بحاجاتهم وبقي بعد ذلك �شيء عند اخلليفة ،فيجب عليه �أن مي�سكه يف
بيت املال ُعدة ملا يحدث من الأحداث ،وملا قد يحتاج �إليه امل�سلمون من
املعونة يف �أوقات ال�شدة وال�ضيق.
153
فاقرتاح الوليد بن ه�شام �إذن ال ينظم ق�سمة املال فح�سب ،و�إمنا يجعل
فيه للجند ح ّق ًا �إىل ما يكت�سبون ب�أنف�سهم من الغنائم ،ويقوم ب�أمر �أ�رسهم،
ويغني من احتاج من امل�سلمني ،ويدخر يف بيت املال ما يكون ُعدة
للأحداث حني حتدث ،وللنوائب حني تنوب.
وكان تنظيم عمر للعطاء بعد �أن كتب له الديوان ال يخلو من طرافة،
ي�سو بني النا�س يف �أعطياتهم و�إمنا جعلهم طبقات ،و�أنزل كل طبقة مل ِّ
منزلتها .وقد لوحظ �شيء من هذا فيما �أ�صدر من �أمر �إىل كتاب الديوان
ب�أن يبد�أوا ببني ها�شم ،ثم بالأقرب فالأقرب من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه
و�سلم .وقد ر�أيت �آنف ًا ما فعل حني جعل ُكتاب الديوان بني تيم رهط �أبي بكر
عدي رهط عمر يف �إثر بني تيم ،ف�أبى عمر وقال يف �إثر بني ها�شم ،وبني ّ
�ضعوا عمر حيث و�ضعه اهلل.
ومن املحقق فيما �أرى �أنه مل ي�ؤخر نف�سه وقومه فح�سب ،و�إمنا �آخر بني
تيم رهط �أبي بكر �أي�ض ًا �إىل مو�ضعهم من قرابة النبي ،على �أنه يف تنظيم
العطاء نظر �إىل القرابة من ر�سول اهلل بالقيا�س �إىل بع�ض النا�س فف�ضل
�أقرب النا�س �إىل النبي على �سائر بني ها�شم .ثم رتب النا�س يف العطاء
على قدمهم و�سابقتهم يف الإ�سالم ،وعلى بالئهم يف الإ�سالم �أي�ض ًا ،وعلى
قراءتهم للقر�آن ،ففر�ض للذين هاجروا قبل فتح مكة ثالثة �آالف لكل واحد
منهم� :أحرارهم وعتقائهم ،وفر�ض للذين �شهدوا بدراً خم�سة �آالف درهم يف
العام ،وللذين هاجروا �إىل احلب�شة والذين �شهدوا �أُحد �أربعة �آالف ،و�شهد
لأحداث من �أبناء املهاجرين والبدريني ثالثة �آالف �إال احل�سن واحل�سني
رحمهما اهلل ،ففر�ض لهما مثل ما فر�ض لأبيهما خم�سة �آالف لكل واحد
منهما .وف�ضل �أ�سامة بن زيد على �أترابه من �أبناء املهاجرين ،ففر�ض له
�أربعة �آالف .وقد كلمه يف ذلك ابنه عبداهلل فقال :فر�ضت يل ثالثة �آالف
ولأ�سامة بن زيد �أربعة �آالف؟ فقال عمر :ف�ضلته لأنه كان �أحب �إىل ر�سول
اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم منك ،ولأن �أباه كان �أحب �إىل ر�سول اهلل من �أبيك.
وفر�ض لعمر بن �أبي �سلمة �أربعة �آالف ،فعار�ض يف ذلك حممد بن عبداهلل
154
بن جح�ش وقال :مل تف�ضل ابن �أبي �سلمة علينا ،وقد هاجر �آبا�ؤنا و�شهدوا
امل�شاهد؟ فقال عمر� :أف�ضله ملكانه من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،فلي�أت
الذي ي�ستعتب ب�أم مثل �أم �سلمة �أعتبه ،وف�ضل العبا�س بن عبداملطلب،
ففر�ض له خم�سة �آالف درهم ،وف�ضل �أزواج النبي �صلى اهلل عليه و�سلم
على النا�س جميع ًا ،ففر�ض لكل واحدة منهن اثني ع�رش �ألف درهم .ثم
�أنزل النا�س بعد ذلك منازل ،ففر�ض لكثري منهم �ألفني وخم�سمئة ،ولآخرين
�ألفني �ألفني.
ثم جعل ينزل النا�س منازلهم حتى كان �آخر عطاء فر�ضه ثلثمئة درهم،
مل ينق�ص �أحداً من هذا .وفر�ض لكل طفل فطيم مئة درهم ،ف�إذا ترعرع زاد
عطاءه �إىل مئتني ف�إذا بلغ و�ضعه يف منزلة �أمثاله .على �أنه غيرّ نظام
العطاء بالقيا�س �إىل الأطفال حني ر�أى امر�أة تعجل ابنها عن الفطام،
فروعه ذلك ترويع ًا �شديداً ،حتى �صلى �صالة ال�صبح غداة تلك الليلة التي
ر�أى فيها هذه املر�أة وطفلها ،وما ي�ستبني �صوته من البكاء .فلما فرغ من
�صالته قال :يا ب�ؤ�سي لعمر! كم قتل من �أبناء امل�سلمني .ثم �أمر املنادين
فنادوا يف النا�س �أال ال ُتعجلوا �أبناءكم عن الفطام ف�إنا نفر�ض لكل مولود
يف الإ�سالم .وكتب بذلك �إىل عماله يف الأقاليم .ومعنى ذلك �أن الطفل كان
وليه عطاءه منذ يولد وال ينتظر به الفطام .وجعل للقيط مئة درهم، ي�أخذ ُّ
ي�أخذها وليه ويدخرها له ،وجعل ر�ضاعه ورزقه من بيت املال ،ي�صيب
وليه حق ذلك يف كل �شهر .ف�إذا ترعرع اللقيط زيد عطا�ؤه ،وكان �ش�أنه �ش�أنُّ
�أطفال امل�سلمني.
وقد فر�ض عمر لن�ساء �أرامل عطاء ،فجعل ل�صفية بنت عبداملطلب
�ألف درهم ،ولأ�سماء بنت عمي�س زوج �أبي بكر �ألف درهم ،ولأم عبداهلل بن
م�سعود �ألف درهم.
وكان عمر يعطي النا�س �أعطياتهم بنف�سه يف املدينة ،وكان يحمل
ديوان القبائل القريبة من املدينة والبعيدة عنها قلي ًال في�سعى به �إليها،
ويعطي النا�س ويعطي الن�ساء �أعطياتهن يف �أيديهن ،وي�أمر عماله �أن يعطوا
155
النا�س على النظام الذي و�ضعه ،ال مينع العطاء �إال عن الأرقاء الذين مل
يعتقوا ،و�أي رقيق ُحرر فعطا�ؤه كعطاء مواله.
هذا هو النظام الذي فر�ضه عمر للعطاء ،رواه الرواة على نحو ما
�صورناه لك .وال �أ�شك يف �أنه يحتاج �إىل بع�ض التحقيق ،ولكن الن�صو�ص
تعوزنا مع الأ�سف ال�شديد.
156
10
ونظام العطاء هذا كما فر�ضه عمر جديد من جميع نواحيه ،ال نعرف �أن
�أمة من الأمم التي �سبقت العرب �إىل احل�ضارة عرفته �أو عرفت �شيئ ًا قريب ًا منه،
و�إمنا نعرف �أن بع�ض الأمم القدمية كانت ت�ست�أجر اجلنود للحرب وال حترمهم
ن�صيب ًا من الغنائم قلي ًال �أو كثرياً ،ونعرف �أن بع�ض احلكومات القدمية كانت
تقطع اجلنود �أجزاء من الأر�ض �إذا تقدمت بهم ال�سن يعي�شون من غالتها ،ف�أما
�أن تكفل الدولة رزق امل�سلمني جميع ًا على هذا النحو فل�سنا نعرفه يف التاريخ
القدمي ،وما �أظن �أن احل�ضارة احلديثة ُوفقت �إليه.
وكل ما و�صلت �إليه احل�ضارة احلديثة يف بع�ض البالد ،وو�صلت �إليه
ب�أخرة� ،إمنا هو الت�أمني االجتماعي الذي ت�ؤخذ نفقاته من النا�س لرتد عليهم
بعد ذلك ،حني يحتاجون يف بع�ض الأمر �إىل العالج حني مير�ضون ،و�إىل
كفالة احلياة لل�شيوخ وال�ضعفاء والعاجزين عن العمل لك�سب القوت ،وت�أمني
العمال من �أخطار العمل ،وت�أمني الذين يخدمون الدولة والهيئة االجتماعية
على رزقهم حني تنق�ضي خدمتهم ،ف�أما �أن يكون لكل فرد من �أفراد الأمة
ن�صيب مق�سوم من خزانة الدولة ف�شيء مل يعرف �إال منذ عمر رحمه اهلل .على
157
�أن �سيا�سة عمر هذه مل تت�صل بعد وفاته �إال �شطراً من حياة عثمان ،ثم عدل
عن هذا النظام حني �أنكر النا�س على عثمان كرثة ما كان يعطي لبع�ض
النا�س ،وقد دفعهم ذلك �إىل �أن يلحوا على عثمان رحمه اهلل يف �إلغاء العطاء
وق�رصه على اجلند ،ومل ي�ستثنوا من ذلك �إال ال�شيوخ من �أ�صحاب النبي �صلى
اهلل عليه و�سلم .وذلك وا�ضح ،لأن �أ�صحاب النبي �شهدوا امل�شاهد معه ،وقاتلوا
املرتدين ،و�شارك كثري منهم يف الفتوح .وقد ا�ضطر عثمان �إىل �أن ي�ستجيب
للمعار�ضني ،ويعلن يف بع�ض خطبه �إلغاء العطاء لغري �أ�صحاب النبي �صلى
اهلل عليه و�سلم واجلند .وكان الذين اعرت�ضوا على عثمان يقولون حني �أحلوا
عليه� :إمنا هذا املال ملن قاتل عليه .وقد ف�صلنا ذلك يف غري هذا احلديث.
158
11
على �أن احل�ضارة احلديثة �أتاحت لبع�ض الأمم �أن جتعل الدولة للأطفال
فيها رزق ًا منذ يولدون ،وذلك حني يقل عدد املواليد وتتعر�ض الأمة للنق�صان
وال�ضعف عن الدفاع �إذا دهمتها اخلطوب .فالدولة ال ترزق الأطفال لأن رزقهم
واجب ،و�إمنا ترزقهم وت�شجع النا�س على الإكثار من الولد لأنها حمتاجة
�إىل ال�شباب الذين ينه�ضون باخلدمة العامة يف فروع احلياة على اختالفها،
ويدافعون عن الوطن حني يتعر�ض للخطر ،وال كذلك ما فعل عمر رحمه اهلل،
�إمنا فر�ض العطاء للأطفال ،لأنه كان يرى ذلك ح ّق ًا لهم.
ظن �أول الأمر �أن حقهم يبد�أ منذ يفطمون ،فلما ر�أى �أن بع�ض النا�س
يعجلون فطام �أطفالهم �آذاه ذلك �أ�شد الإيذاء ،و�أفزعه �أعظم الفزع ،ففر�ض
للأطفال عطاءهم منذ يولدون ،كما قدمنا �آنف ًا.
ونظام اللقطاء عند عمر طريف �أي�ض ًا ،وما �أعرف �أن الدول احلديثة تعنى
بهم على نحو ما كان يعنى بهم عمر رحمه اهلل ،و�إمنا تقوم ب�أمرهم جماعات
منظمة ،بع�ضها دينية ،وبع�ضها حرة تعينها الدولة .ومل تعرف الدول احلديثة
املتح�رضة �أن له�ؤالء اللقطاء ح ّق ًا معلوم ًا من خزانة الدولة ،ينفق عليهم
159
بع�ضه ويدخر لهم بع�ضه الآخر ،حتى �إذا ر�شدوا وجدوا �أمامهم �شيئ ًا يتكئون
عليه ،كما كان عمر يقول ذلك� ،إىل ما كان يفر�ض لهم من العطاء حني
ير�شدون.
ولذلك ابتكر عمر لون ًا من النظام االجتماعي قوامه ت�أمني النا�س على
حياتهم من بيت املال ،وكان عمر ي�ؤمن �إميان ًا قوي ًا ب�أنه ال يعطي النا�س
هذه الأعطيات تربع ًا منه لهم �أو تف�ض ًال منه عليهم ،و�إمنا كان يرى �أن لهم
حق ًا من كل ما يجبى �إىل بيت املال� ،سواء �أقل هذا احلق �أم كرث .وكان يقول:
والذي نف�سي بيده ما من واحد من امل�سلمني �إال وله يف هذا املال حقه �أعطيه
�أو ُمنعه .وكان يقول كذلك :واهلل لئن ع�شت لي�أتني الراعي حقه من هذا املال
يحمر وجهه يف طلبه .يريد �أنه كان حري�ص ًا على �أن ي�صل العطاء �إىل ّ قبل �أن
�أ�صحابه ،ومن قرب منهم ومن بعد ،دون �أن ي�سعوا �إليه ليطلبوه ،ف�ض ًال عن �أن
يتكلفوا اجلهد يف هذا ال�سعي.
ومن النا�س من ظن �أن عمر حني �أنزل النا�س منازلهم من العطاء ف�أكرث
عطاء بع�ضهم و�أقل عطاء بع�ضهم الآخر وجعل حقهم يف بيت املال درجات
بع�ضها فوق بع�ض� ،أنه كان ي�ؤثر نظام الطبقات .وهذا خط�أ كل اخلط�أ ،فلم
يكن عمر ي�ؤثر نظام الطبقات ،وال يف�ضل بع�ض النا�س على بع�ض ،ولو قد
فعل خلالف عن نظام الإ�سالم خالف ًا �شنيع ًا ،وقد كان عمر �آخر من يجر�ؤ على
املخالفة عن �أمر اهلل الذي جعل النا�س �سواء ال يتفا�ضلون �إال بالتقوى ،والذي
كان ينت�صف من الغني للفقري ،ومن القوي لل�ضعيف ،ومن �أقل النا�س خطراً
من العمال والأمراء ،لي�س هو الذي يقال فيه �إنه كان ي�ؤثر نظام الطبقات.
ولكن ما كان يرد �إىل بيت املال من اخلراج واجلزية والأخما�س كان �أقل من
�أن ي�سع امل�سلمني كلهم على �سواء ،فكان يف�ضل بع�ضهم على بع�ض بالقدم
يف الإ�سالم وبال�سابقة وح�سن البالء ،وكان يف�ضل قرابة النبي �صلى اهلل
عليه و�سلم ،لأنه كانه ي�ؤمن �إميان ًا عميق ًا ب�أن العرب �إمنا �رشفت بالنبي،
وب�أن �أقاربه الأدنني �أحق بالف�ضيلة من غريهم ،وكان يقدم الذين �آ�سوا ر�سول
اهلل ب�أنف�سهم و�شاركوه فيما لقي من ال�شدة واجلهد وال�ضيق ،وقاتلوا �أعداءه
و�أعداء الإ�سالم ،على الذين كادوا للنبي وقاتلوه ومل ي�ستجيبوا للإ�سالم �إال
160
كارهني ،حني مل يكن لهم من اال�ستجابة بد .وكان مع ذلك يقول :لئن كرث
املال لأزيدن النا�س يف العطاء ،وكان يقول �أي�ض ًا :لئن كرث املال لأحلقن �آخر
النا�س ب�أولهم .وكان يريد �أن يجعل لكل م�سلم �أربعة �آالف درهم� ،ألف ًا لفر�سه
وبغله ،و�ألف ًا ل�سالحه ،و�ألف ًا لأهله ،و�ألف ًا لنفقته .ولكن املوت �أعجله عن ذلك.
عداً ،ف�إن �أعياين لأكيل ّنه لهم كي ًال ،ف�إن
أعدنه لهم ّ
وكان يقول :لئن زاد املال ل ّ
�أعياين لأح�سو ّنه لهم بغري ح�ساب.
وما كان لعمر �أن ي�سوي يف العطاء بني من قاتل على الإ�سالم نا�رشاً له
ومدافع ًا عنه ،ومن �أقام هادئ ًا يف عافية ال يقاتل وال يتعر�ض خلطر .وما كان
له �أن ي�سوي بني من عا�رش النبي و�أبلى معه يف �سبيل اهلل وبني من مل يلق
النبي و�إمنا �أ�سلم ب�أخرة �أو �أ�سلم بعد وفاة النبي ،وما كان له كذلك �أن ي�سوي
بني الذين �أقاموا على �إ�سالمهم مل يخالفوا عنه ومل يخرجوا منه وبني الذين
�أ�سلموا ثم كفروا ثم عادوا �إىل الإ�سالم بقوة ال�سيف وال�سنان.
كل ذلك مل يكن عمر ي�ستطيعه ،واملال �أقل من �أن ي�سع النا�س جميع ًا على
ال�سواء .وما �أراه كان يفعله لو كرث املال� ،إمنا كان يريد �أن يجعل النا�س
�سواء دون �أن ينزل ب�أ�صحاب ال�سابقة والبالء عن منازلهم .كان يرى متييز
ه�ؤالء حق ًا عليه لأنهم �أتقى النا�س و�أئمتهم ومعلموهم ،عنهم ي�ؤخذ الدين،
وب�سريتهم يقتدي عامة النا�س .وحياة ه�ؤالء الأئمة من �أ�صحاب النبي �صلى
اهلل عليه و�سلم حمدودة ب�آجالهم ،ف�إذا اختارهم اهلل جلواره متت امل�ساواة
بني النا�س ومل مييز �أحد من �أحد ،ومل يف�ضل �إن�سان على �إن�سان .ذلك كله
لو حافظ اخللفاء بعد عمر على �سيا�سته وعلى النظام الذي و�ضعه ،فكيف
ومل ينق�ض على وفاة عمر �إال قليل من الوقت حتى ظهرت الأثرة ،وا�ستبق
النا�س �إىل الغني ،وف�ضل بع�ضهم على بع�ض يف منازلهم من اخللفاء ،ور�أى
اخللفاء �أن من حقهم �أن ي�أخذوا من بيت املال ما �شاءوا ،ي�ؤثرون به �أنف�سهم
ويحبون به �أحب النا�س �إليهم .وقد �أنكر �شيء من ذلك على عثمان نف�سه رحمه
اهلل� ،أعطى مروان بن احلكم مرة ف�أ�رسف ،وبلغ ذلك عبدالرحمن بن عوف فلم
يقره ،و�إمنا وثب ف�أخذ هذا املال من مروان وق�سمه بني الفقراء يف املدينة.
فلما جاء معاوية ظن �أنه خليفة اهلل يف الأر�ض ،و�أن مال اهلل ماله ي�صنع به
161
علي ًا -رحمه اهلل -باملال ،فكان
ما ي�شاء ،وي�ضعه حيث �أحب وقد حارب ّ
ي�شرتي بع�ض �أ�صحابه باجلوائز ال�ضخمة .ومعاوية لقد لقي النبي و�صحبه
فكيف مبن جاء بعده من اخللفاء الذين مل يلقوا النبي ومل ي�صحبوه� .أولئك
هم الذين ميزوا بع�ض النا�س من بع�ض ،وف�ضلوا بع�ض النا�س على بع�ض،
وجعلوا النا�س طبقات .ف�أما عمر فلم يفكر يف �شيء من ذلك ومل ميل �إليه،
كانت طبيعته ت�أبى عليه ذلك لأنه كان �أحر�ص النا�س على االقتداء بالنبي
�صلى اهلل عليه و�سلم ما ا�ستطاع �إىل االقتداء به �سبي ًال ،وكان �أخوف النا�س
هلل و�أ�شدهم خ�شية حل�سابه .وكان من �أجل ذلك يكرث �أن يقول :وددت لو �أين
علي وال يل .ف�أخذ �صفو الدنيا وترك كدرها ،كما كان خرجت منها كفاف ًا ال ّ
يقول احل�سن الب�رصي رحمه اهلل.
162
12
ومل يكتف عمر مبا فر�ض للم�سلمني من العطاء وما �ضمن لهم من الأمن
على حياتهم .ولكن امل�سلمني مل يعرفوا يف ع�رص من ع�صورهم راعي ًا كان
�أرفق برعيته من عمر ،فقد كان حري�ص ًا على �أال يكفل لهم الأمن وحده ،و�إمنا
يكفل لهم مع ذلك الدعة والراحة ما ا�ستطاع �إىل ذلك �سبي ًال .كان يعد اخليل
والإبل ليحمل عليها يف �سبيل اهلل ،كان يحمل النا�س �إىل ال�شام و�إىل العراق
ليلحقوا باجلند� ،أو ليكت�سبوا حياتهم هناك ،وكان يحمل احلاج �إىل مكة،
وكان �إذا �أراد �أن يحمل رج ًال على راحلة �أعد له �أداة �سفره ،فلم يعطه الراحلة
وحدها و�إمنا �أعطاه كل ما يحتاج �إليه .كان يفعل ذلك مما كان يبقى له
من �أموال ال�صدقة بعد �أن ُيرد �أكرثها على فقراء العرب ،ومما كان يرد �إليه
من �أخما�س الغنائم� ،إنفاذاً لآية ال�صدقات من �سورة التوبة ولآية الغنائم من
�سورة الأنفال.
وكان ال يقف عند ذلك ،و�إمنا كان يتفقد النا�س يف املدينة وما حولها،
ويقوم بحاجة ذوي احلاجات منهم ،يفعل ذلك بنف�سه يف النهار ويف الليل،
وي�أمر عماله �أن يفعلوا ذلك .ويخاف كل اخلوف �أن يق�رص العمال يف �إنفاذ
163
�أمره .ومل يكن يخ�شى �شيئ ًا كما كان يخ�شى �أن يكون لأحد من �أهل الأم�صار
حاجة ال يقوم بها عماله ،وال ي�ستطيع �صاحب احلاجة �أن ي�صل �إليه ليقوم
بها و�أن ي�س�أله اهلل عن ذلك .وكان يقول :لو �أن جم ًال هلك �ضياع ًا على �شاطئ
الفرات خل�شيت �أن ي�س�ألني اهلل عنه .وكان �إذا �أ�صاب اجلرب بعرياً من �إبل
ال�صدقة و�ضع يده على مو�ضع الداء منه ،وقال� :إين لأخ�شى �أن ي�س�ألني اهلل
عما بك .وكان يعد �إبل ال�صدقة بنف�سه ،ور�آه مرة من ر�آه وقد وقف يف حر
علي على ال�شم�س يعد هذه الإبل ،ومعه علي وعثمان ،يقول هو لعلي ،وميلي ّ
عثمان ،فيكتب عثمان ما ميلي عليه .فقال علي لعثمان� :إن هذا لكما قالت
بنت �شعيب لأبيها يف مو�سى:
ا�س َت�أْ َج ْر َت ا ْل َقو ُِّي ا َلأ ِم ُ
ني». «..يا �أَ َب ِت ْ
ا�س َت�أْجِ ْر ُه ِ�إ َّن َخيرْ َ َمنِ ْ َ
ع�س يف املدينة لي ًال ،فكان �إذا تقدم الليل ويقول الرواة� :إن عمر �أول من ّ
فطوف يف املدينة مرة واحدة ،ومرة مع �أحد مواليه .وله يف هذا الع�س�س خرج ّ
طرائف تثري االبت�سام وتثري الإعجاب مع ًا ،كان يع�س ليلة ف�سمع امر�أة تقول:
حجاج
هل من �سبيل �إىل خمر ف�أ�رشبها �أم هل �سبيل �إىل َن�رص بن ّ
فلما �أ�صبح �س�أل عن ن�رص بن حجاج ف�أنبئ ب�أنه رجل من �سليم ،ف�أمر
ب�إح�ضاره .فلما نظر �إليه ر�أى رج ًال من �أح�سن النا�س وجه ًا و�أجملهم �شعراً،
ف�أمره �أن يق�ص �شعره .فلما عاد �إليه ر�آه قد ازداد ح�سن ًا ،ف�أمره �أن يعتم ،فلما
ر�آه بعد ذلك �إذا العمامة قد زادته جماالً ،ف�أق�سم عمر ال ي�ساكنه هذا الرجل
جندي ًا.
ّ �أبداً ،ف�أمر له مبا ي�صلحه و�سريه �إىل الب�رصة
وع�س ليلة �أخرى ف�سمع ن�سوة يتحدثن ويت�ساءلن� :أي �أهل املدينة �أ�صبح.
قالت �إحداهن� :أبوذئب .فلما �أ�صبح �س�أل عن �أبي ذئب هذا ،فقيل له :رجل من
�سليم .فدعا به ،فلما ر�آه ،ر�آه رج ًال جمي ًال فقال� :أنت ذئبهن؟ يعيدها ثالث ًا .ثم
�أمره مبثل ما �أمر به �صاحبه ،فلم يزدد �إال ح�سن ًا ،ف�أق�سم ال ي�ساكنه يف بلد هو
به .قال الرجل :ف�إن كنت م�سريي ف�أحلقني بابن عمي .يريد ابن ن�رص حجاج،
ف�أمر له مبا ي�صلحه ،و�أحلقه بابن عمه يف الب�رصة.
وع�س ليلة �أخرى حتى كاد يبلغ ظاهر املدينة ،فر�أى رج ًال قد جل�س منفرداً ّ
�أمام بيت له وبني يديه م�صباح ،فا�ست�أذن عمر ،ثم دنا من الرجل ف�سلم عليه،
164
ثم �س�أله :ما جلو�سك ها هنا منفرداً وقد تقدم الليل؟ ثم مل يلبث عمر �أن �سمع
�شكاة داخل البيت ،و�أنب�أه الرجل �أن امر�أته قد جاءها املخا�ض ،و�أنها وحدها،
و�أنه ال يقدر لها على �شيء .فان�رصف عمر عن الرجل م�رسع ًا حتى دخل على
زوجه �أم كلثوم فقال لها :هل لك يف خري �ساقه اهلل �إليك؟ قالت :وما ذاك؟ قال:
امر�أة جاءها املخا�ض ولي�س لها من يعينها .ف�أ�رسعت زوجه فخرجت معه،
حتى �إذا بلغ ذلك الرجل ،دخلت �أم كلثوم على املر�أة ،فما زالت تعينها حتى
و�ضعت غالم ًا .قالت �أم كلثوم؟ يا �أمري امل�ؤمنني :ب�رش �صاحبك بغالم .قال
مل مل تنبئني ب�أنك �أمري امل�ؤمنني؟ و�أ�صبح عمر ف�أر�سل �إىلالرجل� :أ�صلحك اهلل! َ
هذا الرجل و�أهله ما يعينهم وي�صلحهم.
وع�س ليلة �أخرى فر�أى رج ًال من �أهل املدينة جال�س ًا على �رشاب له، ّ
فان�رصف عنه وقد عرفه ،فلما �أ�صبح دعاه ،فقال له� :ألي�س قد نهاك اهلل عن
اخلمر؟ قال الرجل :بلى .قال عمر :فما �رشاب كنت جال�س ًا عليه البارحة؟ قال
الرجل :من �أنب�أك بذلك؟ قال عمر� :أنا ر�أيتك .قال الرجل� :أمل ينهك اهلل عن
التج�س�س يا �أمري امل�ؤمنني؟ ف�سكت عمر عنه وا�ستغفر اهلل.
ومل يكن عمر رفيق ًا بامل�سلمني يف املدينة وحدها ،ولكنه كان رفيق ًا
بالقريب منه والبعيد عنه ،حري�ص ًا على �أن يعرف �أمر امل�سلمني يف الأم�صار،
وال يقدم عليه قادم �إال �س�أله عن النا�س ف�أكرث ال�س�ؤال .ثم مل يكن يكفيه
�أن يرفق بامل�سلمني يف حا�رضهم الذي يعي�شون فيه ،و�إمنا كان يفكر يف
م�ستقبل �أيامهم وين�صح لهم يف �أمرهم كله بعد �أن يفارقهم �إىل جوار ربه.
قدم عليه يوم ًا خالد بن عرفطة من العراق ،ف�س�أله عمن وراءه .فقال :يا �أمري
امل�ؤمنني تركت َمن ورائي ي�س�ألون اهلل �أن يزيد يف عمرك من �أعمارهم ،ما
وطئ �أحد القاد�سية �إال عطا�ؤه �ألفان �أو خم�س ع�رشة مئة ،وما من مولود يولد
�إال �أحلق على مئة وجريبني كل �شهر ذكراً كان �أو �أنثى ،وما يبلغ لنا ذكر �إال
�أحلق على خم�سمئة �أو �ستمئة ،ف�إذا خرج هذا لأهل بيت منهم من ي�أكل الطعام
ومنهم من ال ي�أكل الطعام ،فما ظنك به ،ف�إنه لينفقه فيما ينبغي وفيما ال
ينبغي .قال عمر :فاهلل امل�ستعان �إمنا هو حقهم �أعطوه ،و�أنا �أ�سعد ب�أدائه �إليهم
منهم ب�أخذه ،فال حتمدين عليه ف�إنه لو كان من مال اخلطاب ما �أعطيتموه،
165
ولكني قد علمت �أن فيه ف�ض ًال فال ينبغي �أن �أحب�سه عنهم ،فلو �أنه �إذا خرج
عطاء �أحد ه�ؤالء العريب ابتاع منه غنم ًا فجعلها ب�سوادهم ثم �إذا خرج العطاء
الثانية ابتاع الر�أ�س فجعله فيها ،ف�إين ويحك يا خالد بن عرفطة �أخاف عليكم
�أن يليكم بعدي وال ٌة ال يعد العطاء يف زمانهم ماالً ،ف�إن بقي �أحد منهم �أو �أحد
من ولده كان لهم �شيء قد اعتقدوه فيتكئون عليه ،ف�إن ن�صيحتي لك و�أنت
عندي جال�س كن�صيحتي ملن هو ب�أق�صى ثغر من ثغور امل�سلمني ،وذلك ملا
غا�ش ًا
طوقني اهلل من �أمرهم .قال ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم« :من مات ّ
لرعيته مل يرح رائحة اجلنة».
وكان رفقه بالقريب والبعيد من امل�سلمني وفاء مبا �أعطى على نف�سه من
العهد يوم ويل اخلالفة ،فقد �أنب�أ يف خطبته التي خطبها بعد �أن فرغ من دفن
�أبي بكر رحمه اهلل ب�أن ما ح�رضه من �أمر امل�سلمني با�رشه بنف�سه وال يبا�رشه
�أحد دونه ،وما غاب عنه من �أمرهم واله �أهل الأمانة والكفاية ،ف�إن �أح�سن
ه�ؤالء الوالة زادهم �إح�سان ًا و�إن �أ�ساءوا نكل بهم .فلم يغري طول خالفته من
ذلك العهد �شيئ ًا.
وكتب يوم ًا �إىل بع�ض عماله� :أن �أعط النا�س �أعطياتهم .فكتب �إليه عامله
ذاك� :إنا قد �أعطيناهم وبقي �شيء كثري .فكتب �إليه عمر� :إن هذا الف�ضل الذي
بقي عندك �إمنا هو فيئهم الذي �أفاء اهلل عليهم لي�س هو لعمر ،وال لآل عمر،
ف�أق�سمه بينهم.
166
13
وهذا الرفق ،وهذا احلر�ص على �أداء احلق �إىل �أهله ،هما اللذان جعاله
�شديداً كل ال�شدة على والته ،فكان ال يويل منهم �أحداً �إال كتب ماله قبل �أن
يذهب �إىل عمله ،ف�إن ر�آه قد زاد على هذا املال قا�سمه هذه الزيادة .وقد ر�أيت
ت�شديده يف ح�ساب خالد بن الوليد بعد عزله .وقد قا�سم جماعة من والته
�أموالهم بعد عزلهم ،وكان �شديد املراقبة لهم �أثناء واليتهم .ومل تكن ت�أتيه
�شكوى من �أحد من الرعية �إال حققها.
وكان ير�سل بع�ض �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم لتحقيق ما يبلغه
من �شكاة النا�س� ،أر�سل حممد بن م�سلمة -رحمه اهلل -و�أمره بالتفتي�ش
الدقيق على عمرو بن العا�ص يف م�رص ،و�أر�سله �إىل الكوفة حني بلغه �أن واليها
�سعد بن �أبي وقا�ص -رحمه اهلل -قد اتخذ لدار الإمارة باب ًا ،وكان عمر
بتقدم �إىل عماله دائم ًا يف �أال يتخذوا �أبواب ًا لدورهم متنع النا�س من الدخول
�إليهم يف حاجاتهم ،فلما بلغه �أن �سعداً قد اتخذ لق�رص الإمارة باب ًا يريحه من
�ضو�ضاء ال�سوق �أر�سل حممد بن م�سلمة ،و�أمره �إذا بلغ الكوفة �أن يعمد �إىل هذا
الباب فيحرقه قبل �أن يكلم �سعداً �أو ي�سمع منه ،ففعل ذلك ابن م�سلمة .وزعم
167
الرواة �أن �سعداً �أراد �أن يعطي ابن م�سلمة �شيئ ًا من مال ف�أبى عليه ،وعاد �إىل
عمر ف�أنب�أه مبا فعل .و�شكا بع�ض النا�س من �سعد وغلوا يف �شكواهم ،ف�أر�سل
حممد بن م�سلمة مرة �أخرى ،و�أمره �أن ي�س�أل النا�س م�ستق�صي ًا عن �سرية �سعد
فيهم .فذهب حممد بن م�سلمة �إىل الكوفة ف�س�أل النا�س �أفراداً وجماعات ،فلم
ي�سمع �إال ثناء على �سعد� ،إال نفراً زعموا �أنه ال يح�سن ي�صلي .فعزله عمر .فلما
بلغ املدينة �س�أله عمر :كيف كنت ت�صلي؟ قال �سعد :كنت �أطيل يف الأوليني
و�أق�رص يف الأخريني ،قال عمر :ذلك الظن بك يا �أبا �إ�سحاق .وقا�سمه ماله
مع ذلك .فلما ُطعن �أو�صى اخلليفة من بعده �أن يويل �سعداً ،ف�إنه مل يعزله عن
عجز وال عن خيانة.
وكان ال ميل من �أن يقول لأهل املدينة وملن ورد عليه من �أهل الأم�صار:
�إين مل �أر�سل عمايل لي�رضبوا �أب�شار النا�س وال ليظلموهم ،و�إمنا �أر�سلتهم
ليعلموا النا�س دينهم و�سنة نبيهم ،ويق�سموا بينهم فيئهم ،ويقيموا �أمرهم
كله على العدل .وكان كثرياً ما يتقدم �إىل عماله يف �أال ي�رضبوا امل�سلمني
فيذلوهم ،وال يحرموهم فيكفروهم ،وال ينزلوهم الغيا�ض في�ضيعوهم .وكان
ال يرى �أحداً من بع�ض جيو�شه �إال �س�أله عن �أمره كله ،وعن �أمر اجلند وعن
�سرية قوادهم فيهم .وكان يكره �أن يطيل العرب مقامهم فيما يفتح عليهم من
املدن ،خمافة �أن يت�أثروا بهذه احلياة احل�رضية التي مل ي�ألفوها.
168
14
ور�أى بع�ض �أفراد اجلي�ش الذي فتحت عليه املدائن ،فالحظ تغري �ألوانهم،
ف�س�ألهم عما غري �ألوانهم ،فقالوا :وخامة البالد وطعام مل ن�ألفه .فكتب �إىل
بري ًا
�سعد� :إن العرب ال ت�صلح �إال على ما ت�صلح عليه �إبلها ،فارتد لهم مكان ًا ّ
ف�أنزلهم به.
فيقول الرواة� :إن �سعداً �أر�سل من يرتاد له �أر�ضا على ما و�صف عمر.
فجاءه رواده وقد اختاروا له املكان الذي بنيت فيه مدينة الكوفة.
ومبثل ما �أمر �سعداً �أمر عتبة بن غزوان -رحمه اهلل -فاختار له املكان
الذي بنيت فيه مدينة الب�رصة ،و�أنزل جنود امل�سلمني املحاربني للفر�س
يف هاتني املدينتني ،على �أن تكونا مع�سكرين للم�سلمني يقيم كل جند يف
مع�سكره ،وتخرج من هذا املع�سكر بعوث حلرب العدو ،ونظم �أمر هذه البعوث
تنظيم ًا دقيق ًا ،فكانت اجلنود ال جتمر ،والتجمري ،هو �أن يغيب اجلندي عن
مع�سكره �أكرث من �ستة �أ�شهر .وكان هذا هو الذي حمل عمر على �أن ينظم
الأقاليم �أو الأم�صار بلغة ذلك الع�رص ،فجعل دولته �أم�صاراً وهي :الكوفة
والب�رصة وال�شام واجلزيرة واملو�صل وم�رص واليمن والبحرين .وكان ير�سل
169
الوايل على كل م�رص ويق�سم الأم�صار الكبرية �إىل الكور فيكون �أمر امل�رص وما
فيه من الكور �إىل الوايل الذي �أر�سله ويكون �أمر الكور بكل م�رص �إىل واليه،
يختار لها العمال م�ستق ًال بذلك �أحيان ًا ،وعن �أمر عمر �أحيان ًا �أخرى .وكان
عمال الكور يقيمون الأحكام يف كورهم ،ويجبون ما يفر�ض على �أر�ضها من
خراج ،وما يفر�ض على الذميني من جزية .وقد نظم عمر �أمر اجلزية تنظيما
دقيق ًا ال يخرج الوالة والعمال عنه ،فجعل على كل غني من الذميني ثمانية
و�أربعني درهم ًا يف كل عام ،وعلى الرجل من �أو�ساط النا�س �أربعة وع�رشين
درهم ًا ،وعلى الفقري اثني ع�رش درهم ًا .وقال :ال يعجز الرجل منهم درهم يف
كل �شهر.
و�أكرب الظن �أنه �أجرى خراج الأر�ض على مثل ما كان يجري عليه يف عهد
الفر�س والروم قبل الفتح .فكان عمال الكور يجبون هذه الأموال وير�سلونها
�إىل والة الأم�صار ،كان والة الأم�صار يعطون منها النا�س �أعطياتهم ،وينفقون
منها فيما ينوبهم ،وير�سلون ما بقي �إىل عمر كما ير�سلون �إليه �أخما�س
الغنائم ،ومن كل ما كان ي�صل �إىل عمر من هذه الأموال ،ومما يبقى له من
�أموال ال�صدقة كان يعطي الأعطيات وينفق فيما ينوبه من �أمور امل�سلمني.
وعلى هذا النظام �أقام عمر نظام الدولة التي فتحت عليه .وكان يجعل
�إىل جانب كل وال رج ًال �آخر يتوىل �أمر بيت املال يف امل�رص ،فكان له �إذن
والة يقيمون للنا�س �صالتهم ،ويعطونهم �أعطياتهم ،ويدبرون لهم �أمورهم،
وعمال يقومون على بيت املال يتلقون ما يجبى يف الكور ،ويعطون الوايل
ما ي�ؤدي منه �إىل النا�س �أعطياتهم ،وما يحتاج �إليه من نفقة فيما ينوبه،
ثم ي�ؤدون �إىل عمر ما بقي من املال وح�ساب ما �أنفق منه .فكان عمر �إذن
عامل ًا مبوارد الدولة وم�صادرها ،ال يغيب عنه من �أمر هذا املال �شيء .وكان
�أ�صحاب بيوت الأموال حرا�ص ًا �أ�شد احلر�ص على الدقة كل الدقة يف �أمر ما
عندهم من الأموال ويف �أداء ح�سابها �إىل �أمري امل�ؤمنني ،بحيث ي�ستطيع عمر
�أن يقف على كل �شيء و�أن يحا�سب الوالة على ما �أنفقوا وعلى ما اكت�سبوا،
وكان على ذلك يحج بالنا�س يف كل مو�سم ما عدا ال�سنة الأوىل خلالفته ،ف�إنه
وىل فيها عبدالرحمن بن عوف -رحمه اهلل -احلج بالنا�س .وكان �إذا خرج
170
للحج تقدم �إىل والته يف �أن يوافوه كل على ر�أ�س من يحج من م�رصه ،فكان
ذلك يتيح لعمر �أن يلقى الوالة ويلقى وفود الرعية ،في�س�أل الوالة عن رعيتهم
يق�ص �أفراد الرعية من الوالة �إذا ظلموهم �أو وي�س�أل الرعية عن والتهم ،وكان ّ
أتق�ص من الوايل م�سوهم ب�أذى .وقد كلمه عمرو بن العا�ص يف ذلك .وقال لهّ � :
�إذا �أدب رج ًال من رعيته؟ قال عمر� :أجل ،وما يل ال �أفعل وقد ر�أيت ر�سول اهلل
�صلى اهلل عليه و�سلم يق�ص من نف�سه.
يل
وكان كثرياً ما يقول للرعية� :أميا رجل م�سه عامله ب�أذى فلريفع ذلك �إ ّ
�أق�ص�صه من واليه.
وكذلك �أقام هذا الرجل العربي ،الذي مل يعرف احل�ضارات الأجنبية
معرفة مف�صلة وال دقيقة ،نظام الدولة على نحو يكفل منافع النا�س ،ويكفل
لهم العدل والإن�صاف ،مالئم ًا بني ما �أتيح له من الر�أي يف �ش�ؤون احلكم
للبالد الأجنبية املفتوحة وبني �أ�صول الإ�سالم ،ال ينحرف عنها قيد �شعرة،
وال مي�س م�صالح النا�س قلي ًال وال كثرياً .وكان حري�ص ًا �أ�شد احلر�ص و�أقواه
على �إن�صاف املغلوبني الذين مل يدخلوا يف الإ�سالم �إن�صاف ًا كام ًال ،ي�أخذ
منهم اجلزية واخلراج بالق�سط واملعروف ،ثم يلح على والته يف �إن�صافهم
دائم ًا مذكراً لهم ب�أنهم ذمة اهلل ور�سوله ،قد �أعطاهم امل�سلمون عهداً �أن ي�ؤدوا
�إليهم العدل واحلق كله و�أن يحموهم من كل عاد عليهم �إذا �أدوا ما عليهم من
احلقوق.
واهلل عز وجل ي�أمر امل�سلمني �أن يفوا بالعهود �إذا عاهدوا .فقال يف �سورة
النحل:
ان َب ْع َد َت ْو ِكي ِد َها َو َق ْد َج َع ْل ُت ُم
ي َدت َو َال َتن ُق ُ�ضواْ الأَ مْ َ «و�أَ ْوفُواْ ب َِع ْه ِد َ هّ ِ
الل �إِ َذا َع َ
اه ُ مّ ْ َ
ون». الل َع َل ْي ُك ْم َك ِفي ًال �إ َ ِّن َ هّ َ
الل َي ْع َل ُم َما َتف َْع ُل َ َ هّ َ
ومل ين�س عمر الذميني حني �أو�صى امل�سلمني بعد �أن �أح�س املوت،
ف�أو�صاهم ب�أهل الذمة و�ألح يف و�صيتهم.
على �أن عمر مل يجعل �إىل الوالة وحدهم �إجراء العدل بني النا�س ،و�إمنا
�أر�سل الق�ضاة �إىل الأم�صار ليجروا �أحكام اهلل بني النا�س ،غري مت�أثرين �إال
ن�ص ًا اجتهدوا بكتاب اهلل و�سنة ر�سوله ،ف�إن مل يجدوا يف الكتاب وال يف ال�سنة ّ
171
ر�أيهم وحتروا العدل ما ا�ستطاعوا �إىل ذلك �سبي ًال .ومل يكن الق�ضاة يخ�ضعون
للوالة يف �شيء .و�إمنا كان عمر هو الذي يختارهم ،ف�إذا اختارهم وكلفهم �أمر
الق�ضاء فلي�س لأحد عليهم �سلطان �إال �سلطان اهلل عز وجل ،مبقت�ضى ما �أوحى
�إىل نبيه من الكتاب وما �ألهمه من ال�سنن.
172
15
و�أقبل عام الرمادة يف �أعقاب �سنة ثماين ع�رشة بعد �أن �صدر النا�س من
احلج ،ف�أ�صاب العرب يف احلجاز وتهامة وجند جدب �شديد ،وانقطع عنهم
الغيث وكان قوام حياتهم ،وات�صل ذلك ت�سعة �أ�شهر ،فا�سودت الأر�ض حتى
�صارت كالرماد ،ف�سمي العام عام الرمادة من �أجل ذلك.
ويف هذه املحنة التي امتحن بها امل�سلمون ظهرت �شخ�صية عمر وا�ضحة
ك�أو�ضح ما تظهر ال�شخ�صيات ،ظهر حزمه وم�ضا�ؤه ،وظهر بنوع خا�ص
�صربه على الكوارث واحتماله لل�شدائد وقيامه على �أمور النا�س يف جد .فقد
اهتم لأمر امل�سلمني ما و�سعه �أن يهتم به ،و�شغل نف�سه بهذا الأمر نهاره وليله،
فح�رص تفكريه �أو كاد يح�رصه فيه.
كان يجد يف �أمر النا�س نهاره ،ف�إذا �صلى الع�شاء الآخرة دخل بيته ف�صلى
ما �شاء اهلل له �أن ي�صلي ثم نام قلي ًال ،ثم ا�ستيقظ قبل �آخر الليل ،فخرج مي�شي
حتى ي�أتي منازل الأعراب حول املدينة ،فيتفقد �أمر ه�ؤالء الأعراب الذين
�أقبلوا من كل وجه حني ا�شتد عليهم ال�ضيق فنزلوا حول املدينة يلتم�سون
الرزق.
وكان عمر يطوف يف منازلهم يف �آخر الليل ،ف�إن �أح�س من �أهل بيت �شكاة
173
�أو �ضيق ًا باجلوع �أو الظم�أ �أو باحلاجة تعر�ض لهم و�أ�رسع �إىل �إ�صالح ما
يجدون .وكثرياً ما كان يخرج ومعه موىل له وهما يحمالن الدقيق والزيت،
ف�إن �أح�س جوع ًا يف �أهل بيت �أعطاهم ما ي�صلحهم ،ورمبا �صنع لهم طعامهم
بنف�سه .ثم �إذا ق�ضى من ذلك �أرب ًا عاد ف�صلى �صالة الفجر ،ثم جد يف �أمر
النا�س نهاره.
وقد ا�شتد اجلدب على النا�س ف�أر�سل �إىل عماله ي�ستعجلهم �إر�سال الطعام
والثياب .ويقول بع�ض الرواة� :إنه كتب �إىل عمرو بن العا�ص مب�رص .ويروون
ن�ص كتابه:
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم .من عبداهلل عمر �أمري امل�ؤمنني �إىل العا�صي ابن
العا�صي:
�أما بعد :فرتاين هالك ًا ومن قبلي وتعي�ش �أنت ومن قبلك ،فياغوثاه يا
غوثاه! يا غوثاه!
ويروون �أن عمرو بن العا�ص كتب �إليه ي�ستمهله وينبئه ب�أنه �سري�سل �إليه
عرياً �أولها يف املدينة و�آخرها يف م�رص .يريد �أنه �سريل �إليه طعام ًا كثرياً.
ولكن رواة �آخرين يقولون� :إن م�رص مل تكن قد فتحت عام الرمادة ،و�إمنا
فتحت �سنة ع�رشين .و�إذن فلم يكتب عمر �إىل ابن العا�ص مب�رص ومل تر�سل
م�رص �إليه �شيئ ًا.
وابن �سعد يكرر يف روايته �أن عمر قد كتب �إىل عمرو بن العا�ص مب�رص،
و�أن عمراً �أر�سل �إليه الطعام يف الرب والبحر.
ويقول ابن �سعد� :إن عمر بن اخلطاب كان �أول من حمل الطعام يف البحر
من م�رص .و�أرجح �أنا ما رواه ابن �سعد عن الواقدي و�شيوخه.
وال�شيء الذي لي�س فيه �شك �أن والة عمر على الأم�صار قد �أر�سلوا �إليه
طعام ًا كثرياً ،فك ّلف رجا ًال ي�ستقبلون ما ي�أتي من الطعام حني ي�صل �إىل
جزيرة العرب .ثم مييلون به �إىل �أهل البادية فينحرون لهم الإبل ويعطونهم
الدقيق ويك�سونهم العباء ،ي�ؤدون �إىل كل حي منهم بقدر حاجاتهم ،وبحيث
ي�ستطيعون �أن يفعلوا ذلك بكل من مروا بهم من �أهل البادية.
وكان عمر ينحر اجلزر يف كل يوم ،وير�سل منادين ينادون يف النا�س:
174
�أن من �أراد �أن ي�صيب من الطعام فلي�أت .ومن �أراد �أن ي�أخذ حاجته وحاجة
�أهله فليفعل.
وكان له رجال يقومون على �إن�ضاج اللحم ،ف�إذا �أمتوا ذلك ثردوا للنا�س
الرثيد وو�ضعوا عليه من الزيت بعد طبخه ،فكان ي�أكل من طعام عمر يف كل
يوم �ألوف كثرية من النا�س ،و�آخرون كانوا يحملون منه ما يكفيهم ويكفي
عيالهم.
وكان عمر ال ي�ؤثر نف�سه ب�شيء من اخلري ،و�إمنا ي�أكل مع النا�س .وقد جاء
وقت حرم عمر على نف�سه اللحم وال�سمن واللنب ،وفر�ض على نف�سه الزيت
ي�أكله م�صبح ًا ومم�سي ًا ،ومعه �شيء من اخلبز.
ويقال �إنه �أح�س حر هذا الزيت فقال ملواله :اك�رس عني حره بالنار .فطبخ
له الزيت .فكان �أ�شد عليه .وكان بطنه يتقرقر عنه ،فكان ينقر بطنه ب�إ�صبعه
ويقول :تقرقر تقرقرك فلي�س لك عندنا �إال الزيت حتى يحيا النا�س.
لتمرنن على الزيت حتى يحيا ّ ورمبا تقرقر بطنه فنقره ب�إ�صبعه وقال:
النا�س.
وكان �شديداً على �أهل بيته دائم ًا .ولكن �شدته عليهم زادت عام الرمادة،
فكان ال ي�سمح لأحد منهم ب�أن يو�سع على نف�سه يف طعام �أو �رشاب والنا�س
من حولهم جياع .وكان �شديد الغم ملا �أ�صاب النا�س ،حتى كان �أ�صحابه
يخافون على حياته ل�شدة غمه واهتمامه ب�أمر امل�سلمني.
وقد تغري لون عمر فا�سود بعد بيا�ض ،لكرثة ما �أكل من الزيت ،ولكرثة ما
�أخذ نف�سه به من اجلوع.
وكان كثرياً ما ي�س�أل اهلل يف خوف وجزع �أال يجعل هالك �أمة حممد على
يديه.
ويقال �إنه جل�س ذات يوم على املنرب فوعظ النا�س ودعاهم �إىل �أن يتقوا
اهلل وي�صلحوا قلوبهم .ثم �أنب�أهم ب�أن ما �أ�صابهم من املحل �إمنا هو �آية �سخط
اهلل! وما يدري �أكان هذا ال�سخط على امل�سلمني من دونه �أم كان عليه هو من
دون امل�سلمني� ،أم كان �سخط ًا قد عمهم جميع ًا.
وكان كثرياً ما يقول للنا�س :ا�ستغفروا ربكم ثم توبوا �إليه.
175
ويقول ابن �سعد� :إن عمر خرج بالنا�س م�ست�سقي ًا .ولكن ابن �سعد كغريه من
الرواة يخلط �أمر هذا اال�ست�سقاء ب�شيئني:
�أحدهما ال �أدري �إىل �أي حد ي�صح ،وهو �أن رج ًال من �أهل املدينة ذبح
�شاة لبنية بعد �إحلاح منهم يف ذلك عليه ،فلم يجد �إال جلداً وعظم ًا .فقال:
واحممداه .فر�أى فيما يرى النائم �أنه بني يدي النبي �صلى اهلل عليه و�سلم،
و�أن النبي �أمره �أن ي�أتي عمر فيقر�أ عليه ال�سالم ويقول له :الكي�س الكي�س .فلما
�أ�صبح الرجل فعل ما �أمره النبي به.
فيقول ابن �سعد عن �شيوخه� :إن عمر خرج وج ًال فجل�س على املنرب و�أقبل
النا�س عليه ف�س�ألهم :هل ي�أخذونه ب�شيء �أم هل ينكرون من عمله �شيئ ًا؟ .قال
النا�س :ال .قال عمر :ف�إن فالن ًا �أنب�أين بكذا وكذا .فقال بع�ض النا�س� :إمنا �أمرك
عينه وكتب به �إىل عماله ر�سول اهلل �أن ت�ست�سقي .ف�أزمع اال�ست�سقاء يف يوم ّ
و�أمرهم �أن ي�صنعوا �صنيعه يف هذا اليوم.
وال�شيء الثاين �أن عمر خرج يف اليوم الذي اختاره لال�ست�سقاء ،وخرج
النا�س معه �إىل امل�صلى ،ف�صلى النا�س �صالة اال�ست�سقاء .ثم ا�ستغفر اهلل وعج
�إليه بالدعاء ،وعج النا�س معه ،ثم �أخذ بيد العبا�س بن عبداملطلب وقال وهو
يبكي .والنا�س من حوله يبكون :اللهم �إنا ن�ست�شفع �إليك بعم نبيك.
قال الرواة جميع ًا :فما هي �إال �أيام حتى �أر�سل اهلل الغيث.
ول�ست �أدري �إىل �أي حد تثبت ق�صة الرجل الذي ر�أى النبي وتلقى عنه
ر�سالة �أبلغها عمر ،ولكني �أقطع ب�أن ق�صة التو�سل بالعبا�س بن عبداملطلب
تقرب بها الرواة �إىل بني العبا�س ،وما كان عمر لي�ست�شفع ب�أحد. كذبة ّ
والأمر املحقق �أن عمر قد ا�ست�سقى .و�أن اهلل قد �أر�سل الغيث بعد ا�ست�سقائه
وكل بالأعراب رجا ًال ب�أيام قليلة �أو كثرية ،و�أن عمر حني ر�أى النا�س قد �سقوا َ
يخرجونهم من املدينة ،وكان هو ي�شارك يف �إخراجهم �إىل البادية ،بعد �أن
�سقاهم اهلل و�آمنهم من اجلدب.
وقد وقف عمر الزكاة عام الرمادة فلم ير�سل ال�سعاة �إىل القبائل ،فلما
كان من قابل �أر�سل ال�سعاة و�أمرهم �أن ي�أخذوا ال�صدقة م�ضاعفة ،و�أن يق�سموا
ن�صفها بني فقراء القبائل وي�أتوه بن�صفها الآخر.
176
فكل هذا ي�صور لك عمر يف �أ�صدق �صورة و�أروعها ،ي�صور لك �شدة عنايته
بامل�سلمني واهتمامه لأمرهم ،وقيامه من دونهم ،يحميهم من اجلوع ،وي�صور
لك �شدته على نف�سه و�أخذها مبا تكره ،ال لأنه كان �ضيق اليد ،ولكن لأنه كان
يكره �أن ي�شبع والنا�س جياع .و�أن ينعم والنا�س بائ�سون .ذلك على ما كان
قد �أخذ نف�سه به �أيام اخل�صب وال�سعة من الزهد يف الدنيا واالن�رصاف عن
طيباتها.
ويف ذلك العام كان عمر يكرث �أن يقول كلمة ُت�صور �إميانه بالعدل اخلا�ص
وامل�ساواة الكاملة بني النا�س .كان يكرث �أن يقول :نطعم ما وجدنا الطعام،
ف�إذا مل جند �أدخلنا على كل �أهل بيت عدتهم ف�شاركوهم يف طعامهم ف�إنهم لن
يهلكوا على �أن�صاف بطونهم.
ومعنى ذلك �أنه كان يريد �إذا عجز بيت املال عن �إطعام النا�س� ،أن يفر�ض
على الأغنياء �أن يقا�سموا الفقراء ما يجدون من الطعام حتى ال ي�شبع فريق
من امل�سلمني ويجوع فريق �آخر.
وما �أعرف �أن امل�سلمني ر�أوا خليفة �أو ملك ًا �سار فيهم هذه ال�سرية �أو �سرية
تقاربها ،بل ما �أعرف من �أن �أمة من الأمم قدميها وحديثها ر�أت ملك ًا �أو �أمرياً
ي�سري يف النا�س �سرية عمر فيمن عا�رصه من امل�سلمني والذميني على ال�سواء.
177
178
16
ومل يكن عمر �أثناء خالفته معني ًا ب�ش�ؤون النا�س يدبر لهم �أمر دنياهم
معني ًا بهم يعلمهم �ش�ؤون دينهم يف املدينة ،يخرج بني ّ فح�سب ،ولكنه كان
وقت و�آخر من بيته فيجل�س على املنرب ،ويت�سامع النا�س مبجل�سه ذاك يف
املدينة ما قرب منها وما بعد ،في�رسعون �إىل امل�سجد مهتمني لذلك ،فيعلمهم
عمر من �ش�ؤون دينهم ما �شاء اهلل �أن يعلمهم.
عملي ًا كما يقال ،فلم يكن يعلمهم الدين خال�ص ًا،
وكان رج ًال يحب �أن يكون ّ
و�إمنا كان يعلمهم الدين ويبني لهم كيف يالئمون بينه وبني حياتهم اليومية.
وكيف يطابقون بينه وبني ما ي�أتون من الأمر وما يدعون ،يف�سرّ لهم �آيات
من القر�آن الكرمي تت�صل بحياتهم العاملة ،ويعظهم يف �أثناء ذلك ،ويبني لهم
كيف ي�ؤدبون نفو�سهم ب�أدب الدين في�ؤثرون يف القول والعمل ما ير�ضي اهلل،
يهتدون يف ذلك بهدي القر�آن وبهدي النبي �صلى اهلل عليه و�سلم.
وكان ير�سل الأمراء �إىل الأم�صار على �أن يقيموا للنا�س �صالتهم ويعلموهم
�رشائع دينهم ،ومي�ضوا فيهم العدل ،وي�سريوا فيهم �سرية �صاحلة مالئمة
للدين �أ�شد املالءمة و�أدقها .ورمبا �أر�سل مع الأمراء رجا ًال من �أ�صحاب النبي
يقرئون النا�س القر�آن ويعظونهم ويعلمونهم الدين.
179
ومل يكتف عمر بذلك و�إمنا كان يرعى �ش�ؤون الدين كلها يف دقة كما كان
يرعى �ش�ؤون الدنيا ،ورعايته هذه ل�ش�ؤون الدين قد حملته على �أن يبتكر �أ�شياء
مل يكن للم�سلمني بها عهد �أيام النبي وال �أيام �أبي بكر .فهو الذي �أخذ النا�س
بقيام رم�ضان بعد �أن ت�صلي الع�شاء .ف�سن لهم �صالة الرتاويح ،مل يق�رص هذا
على الرجال وحدهم و�إمنا �سنه للن�ساء �أي�ض ًا .وجعل للرجال قارئ ًا ي�صلي بهم
�صالة الرتاويح هذه ،وجعل للن�ساء قارئ ًا ي�صلي بهن هذه ال�صالة .وكتب بذلك
�إىل الآفاق لتكون هذه ال�صالة عامة بني امل�سلمني.
وا�شتد يف عقاب الذين ي�رشبون اخلمر ،ففر�ض ل�رشب اخلمر حداً مل يكن
معروف ًا قبله .فاهلل حرم اخلمر يف القر�آن الكرمي ،ولكنه مل يفر�ض على �شاربها
عقاب ًا يف الدنيا ،و�إمنا ترك ذلك ملا ادخر للمخالفني عن �أمره ونهيه من
العقاب يوم القيامة.
ومل يحاول �أبوبكر رحمه اهلل �أن يزيد على ما كان النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم يفعله ،ولكن عمر ر�أى �أن امل�سلمني ين�ساحون يف الأر�ض ومي�ضون يف
الفتوح ،و�أ�شفق �أن يغريهم ُبعدهم عن مركز اخلالفة بالتهاون يف رعاية ما
�أمر اهلل به واجتناب ما نهى عنه.
ور�أى املال يكرث يف املدينة والرزق يت�سع للنا�س ،ف�أ�شفق �أن ي�ستجيب
النا�س لغرائزهم وطبائعهم ،و�أن يعود بع�ضهم �إىل ما كانوا فيه قبل الإ�سالم
من �رشب اخلمر والإدمان عليها ،فا�شتد يف ذلك �إىل �أق�صى غايات ال�شدة،
و�شاور امل�سلمني فيما يجب �أن يفر�ض على �شارب اخلمر من عقاب.
علي ًا �أ�شار عليه ب�أن ي�أخذ �شارب اخلمر بعقوبة القاذف
فيقول الرواة� :إن ّ
حري ًا �أن يفرتى.
في�رضبه به ثمانني جلدة .لأنه �إذا �رشب �سكر و�إذا �سكر كان ّ
ف�أخذ عمر بهذا الر�أي و�أنفذه يف املدينة ،وكتب �إىل والته ب�إنفاذ هذا الر�أي
يف الأم�صار.
ويتحدث الرواة ب�أن نفراً من امل�سلمني الذين �شاركوا يف فتح ال�شام،
ودخلوا دم�شق فيمن دخلها من اجلند مع �أبي عبيدة ،قد فتنتهم احلياة يف
دم�شق ف�رشبوا اخلمر ،فكتب فيهم �أبوعبيدة �إىل عمر ،فكان جواب عمر �أن كلف
�أبا عبيدة �س�ؤال ه�ؤالء النفر �أمام جماعة امل�سلمني يف امل�سجد� :أيرون اخلمر
180
حال ًال �أم حرام ًا! ف�إن ر�أوها حال ًال فلي�رضب �أعناقهم ،لأنهم ا�ستحلوا ما حرم
اهلل ،و�إن ر�أوها حرام ًا �أقام عليهم احلد ف�رضب كل واحد منهم ثمانني جلدة.
�رساً �أو ي�ستخفى به ،و�إمنا كان يقام مب�شهد ومل يكن احلد يقام على النا�س ّ
من امل�سلمني.
فلما �س�أل �أبوعبيدة ه�ؤالء النفر عن اخلمر� :أيرونها حال ًال �أم حرام ًا؟ قالوا
نراها حرام ًا .ف�أقام عليهم احلد مب�شهد من امل�سلمني .وكان يف ه�ؤالء النفر
رجل من �أ�رشاف قري�ش ومن الذين �أ�سلموا قبل الفتح وفتنوا يف دينهم ،وهو
�أبو جندل بن �سهيل بن عمرو .فلما �أقيم عليه احلد انك�رست نف�سه وا�ستخزى
فجل�س يف داره واحتجب عن النا�س فكتب �أبوعبيدة يف �ش�أنه �إىل عمر ،وطلب
�إليه �أن يكتب �إىل �أبي جندل معزي ًا له عما �أ�صابه وفاحت ًا له باب ًا �إىل الأمل.
قال الرواة :فكتب �إليه عمر يعزيه ويعظه وينهاه عن القنوط من رحمة
اهلل ،ويذكره قول اهلل عز وجل:
الل �إ َ ِّن َ هّ َ
الل « ُق ْل َيا ِع َبا ِد َي ا َ ّل ِذ َ
ين �أَ�سرْ َ فُوا َع َلى �أَنف ُِ�سه ِْم ال َت ْق َن ُطوا ِمن َ ّر ْح َم ِة َ هّ ِ
يم». الرّ ِح ُ
ُور َ وب َج ِم ً
يعا �إِ َ ّن ُه ُه َو ا ْل َغف ُ َي ْغ ِف ُر ال ُ ّذ ُن َ
فلما قر�أ �أبوجندل هذا الكتاب �سرُ ى عنه وخرج للنا�س و�شهد جماعة
امل�سلمني.
وق�صة عمر مع ابنه عبدالرحمن الأو�سط �أبي َ�شحمة معروفة رائعة ح ّق ًا،
ت�صدق ما كان عمر يو�صف به من �أنه مل يكن يخاف يف اهلل لومة الئم .فالرواة
يتحدثون �أن ابنه هذا كان مب�رص ،و�أنه �رشب اخلمر مع �صاحب له ،ثم ندما،
ف�أقبال �إىل عمرو بن العا�ص يطلبان �إليه �أن يطهرهما ب�إقامة احلد عليهما.
وكره عمرو �أن يقيم احلد على ابن �أمري امل�ؤمنني مب�شهد من النا�س ف�رضبه يف
�صحن داره .وبلغ ذلك عمر .ومل تكن �أنباء الأمراء تخفى على عمر .فكتب �إىل
عمرو يعنفه �أ�شد التعنيف ،وي�أمره �أن ير�سل �إليه ابنه على قتب ،ليكون ال�سفر
�أ�شق عليه .ف�أطاع عمرو ،وكتب �إىل اخلليفة يعتذر �إليه ،وي�ؤكد له �أنه �أقام
احلد على ابنه حيث يقيم احلدود يف �صحن داره .ولكن عمر مل يقبل منه ،ومل
يعتد باحلد الذي �أقامه ،و�إمنا انتظر الفتى حتى �إذا بلغ املدينة وجيء به �إليه
مري�ض ًا مكدوداً ،مل يحفل مبر�ضه وال مبا لقي يف �سفره من العناء ،و�إمنا �أقام
181
احلد عليه فوراً مبح�رض من جماعة امل�سلمني .وقد ا�ستغاثه الفتى فلم يلتفت
�إليه .وقال له الفتى� :إنك قاتلي .فلم يعب�أ مبا قال ،و�إمنا م�ضى يف �رضب
الفتى �رضب ًا مربح ًا.
فيقول الرواة� :إنه حني ر�أى ابنه م�رشف ًا على املوت مل يزد على �أن قال له:
�إذا لقيت ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ف�أنبئه �أن �أباك يقيم احلدود.
وما ابنه فلم يظهر حزن ًا عليه.
182
17
ولي�س على عمر -رحمه اهلل -ب�أ�س مما ابتكر من �صالة الرتاويح يف
رم�ضان ومن �إقامة احلد على �رشب اخلمر ،بل له يف ذلك الف�ضل كل الف�ضل،
وما �أ�شك يف �أن اهلل قد ر�ضي عن ذلك وادخر من �أجله لعمر مثوبة عظيمة� ،إىل
ما كان قد �أعد له من املثوبة على ح�سن بالئه يف الإ�سالم ،وح�سن �صحبته
للنبي �صلى اهلل عليه و�سلم ،و�صدق ن�صحه لأبي بكر رحمه اهلل ،ولعنايته
ب�أمور امل�سلمني وحدبه عليهم ورفقه بهم ،وح�سن الرعاية لفقرائهم و�أغنيائهم
على ال�سواء ،وما فتح للم�سلمني من �أبواب لن�رش الإ�سالم يف �آفاق وا�سعة ،ومل
يكن قد بلغها �أيام النبي �صلى اهلل عليه و�سلم و�أيام �أبي بكر.
و�إمنا يكره اهلل من الأئمة �أن يبتدعوا يف �سيا�سة النا�س ما ال يالئم �أ�صول
الإ�سالم ،و�أن يهملوا من �أمور الدين قلي ًال �أو كثرياً ،و�أن ينظروا �إىل �أنف�سهم
�أكرث مما ينظرون �إىل رعايتهم من امل�سلمني واملعاهدين.
فكيف بعمر قد وفر للم�سلمني الرخاء ،وبلغ �أق�صى الرفق بالذميني ،وكان
�شديد احلر�ص على �أن يحيا �أولئك وه�ؤالء حياة ر�ضية فيها �سعة وي�رس دون
�أن يكون فيها �رسف �أو خمالفة عما �أمر اهلل.
183
واهلل عز وجل قد �أمر نبيه �صلى اهلل عليه و�سلم بقيام الليل .فقال يف �سورة
املزمل:
«يا �أَ ُ ّي َها المْ ُ َزّ ِ ّملُ ُ،ق ِم ال َلّ ْي َل �إِ َالّ َق ِليالِ ،ن ْ�ص َف ُه �أَوِ ان ُق ْ�ص ِم ْن ُه َق ِليال� ،أَ ْو ِز ْد َع َل ْي ِه
َ
َو َر ِ ّتلِ ا ْل ُق ْر� َآن َت ْر ِتيال».
�سن لهم �صالة الرتاويح يف رم�ضان �إال قليال ي�س ّن للم�سلمني حني ّ فعمر مل ُ
مما طلب اهلل �إىل ر�سوله .فهو �إذن مالئم للقر�آن �أ�شد املالءمة و�أقواها.
املحدثون� :إن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قام ليلة يف امل�سجد، ِّ ويقول
وت�سامع النا�س بذلك ،فجعلوا ي�رسعون �إىل امل�سجد لي�شهدوا مع النبي �صالته
تلك .فلما كان من غد قام النبي يف امل�سجد قيامه البارحة فكرث النا�س ،ثم ما
زالوا يكرثون بعد ذلك حتى اكتظ بهم امل�سجد .فلما ر�أى النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم منهم ذلك مل يخرج للنا�س يف الليل بعد �صالة الع�شاء واكتفى بالقيام
يف بيته .فلما �س�أله النا�س عن ذلك قال« :خ�شيت �أن تفر�ض عليكم و�أال تطيقوا
ذلك».
فعمر �إذن مل يزد على �أن عاد �إىل �شيء �ضئيل من �سنة النبي �صلى اهلل
عليه و�سلم يف رم�ضان .واهلل عز وجل قد حرم اخلمر يف القر�آن وا�شتد يف
حترميها ،وا�ستجاب النا�س هلل والنبي حني ُتلي عليهم ما يف القر�آن من حترمي
وبعد العهد قلي ًال بهذه الوفاة ،جعل بع�ضهم اخلمر .ولكنهم بعد وفاة النبيُ ،
ي�ستجيب لغريزته وجعل النا�س يتعللون بالعلل واملعاذير التي ال ت�ستقيم ،ف�أي
ب�أ�س على عمر �أن يقوم دونهم ليمنعهم من مع�صية اهلل واخلالف عن �أمره ما
ا�ستطاع �إىل ذلك �سبيالً .ومن حق الإمام �أن ي�ؤدب الرعية �إذا انحرفت عن الدين
قلي ًال �أو كثرياً ،وعمر مع ذلك مل ي�ستبد بفر�ض هذا احلد ،و�إمنا ا�ست�شار فيه
�أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم من املهاجرين والأن�صار ،فلم ينكروا عليه
علي رحمه اهلل ب�رضب �شارب اخلمر ثمانني ،كما ر�أيت �آنفاً. ذلك ،و�أ�شار عليه ّ
وق�صة �أبي حمجن الثقفي معروفة .حني قال �شعراً يذكر فيه اخلمر وحبه
حي ًا وميت ًا .وكان يف هذا ال�شعر: لها وحر�صه على �أن يذوقها ّ
�إذا ِمت فادفني �إىل َجنب كرمة ُتر ِّوى عظامي بعد موتي ُعرو ُقها
وال تدفنـــي بالفــالة ف�إنــني �أخــاف �إذا مــا ِمــت �أالّ �أذوقــهـــا
184
وكان يف القاد�سية حني قال هذا ال�شعر .فلما �سمع �سعد بن �أبي وقا�ص
-رحمه اهلل -هذا ال�شعر و�ضع رجليه يف القيد وحب�سه يف الق�رص ،ثم
كانت وقعة �شديدة من وقعات القاد�سية فطلب �أبو حمجن �إىل �سعد �أن يطلقه
لي�شهد الوقعة ،ف�أبى عليه �سعد وزجره ،فلما كان بعد قليل طلب �إىل �سلمى
بنت خ�صفة -زوج �سعد � -أن ت�ضع عنه قيده وتعريه فر�س ًا ل�سعد -ت�سمى
البلقاء -و�أعطاها عهداً على نف�سه على �أن يعود بعد انتهاء املوقعة �إن �سلم
في�ضع رجليه يف القيد .ف�أبت �سلمى وكرهت �أن تخالف عن �أمر زوجها .ف�سكت
�أبوحمجن �ساعة ثم �أن�شد هذه الأبيات:
تر ِدي اخليل بالقنا و�أتــرك م�شـدوداً ّ
علي وثـاقـيـا كفى حزن ًا �أن ْ
(((
فلما �سمعت هذا ال�شعر �سلمى رقت له وقبلت عهده و�أطلقته ،و�أعارته البلقاء.
فخرج و�شهد القتال و�أبلى فيه �أح�سن البالء.
قال الرواة :وكان �سعد يرى فر�سه يف امليدان فيعجب لذلك .فلما انتهت
املوقعة عاد �أبوحمجن فرد الفر�س وو�ضع رجليه يف القيد .و�أنب�أت �سلمى بذلك
�سعداً فعفا عنه .و�أعطى �أبو حمجن هلل عهداً �أال يذكر اخلمر يف �شعر بعد.
ومل �أذكر هذه الق�صة لأقف عند بطولة �أبي حمجن وح�سن بالئه ،فقد كان
�أمثاله من امل�سلمني كثريين يف تلك احلرب ،و�إمنا �أذكرها لأن �سعداً حب�س هذا
ال�شاعر لذكره اخلمر على ذلك النحو يف �شعره.
و�أكرب الظن �أن �أبا حمجن مل ي�رشب خمراً يف تلك املوقعة ،و�إمنا ذكر عهده
يف اجلاهلية ف�أح�س حنين ًا �إىل اخلمر ،فقال ما قال :وكره ذلك �سعد خمافة �أن
ي�ؤثر �شعره هذا يف غريه من امل�سلمني يف موقف مل يكن موقف حنني �إىل اخلمر
185
�أو غري اخلمر ،و�إمنا كان موقف حرب �أي حرب.
فلم يكن بد لعمر �إذن من �أن يعاقب على �رشب اخلمر وعلى بيعها ،و�أمري
امل�ؤمنني بعد ذلك مكلف �أن ي�أمر باملعروف وينهى عن املنكر ،ويعمد �إىل
التعذير �إذا مل يكن من التعذير بد.
مل يقف عمر عند ما قدمنا من العناية بالدين والرعاية له ،ولكنه جتاوز
ذلك �إىل �أ�شياء �أخرى .فمن عنايته بالدين ورعايته له �أن �أن�ش�أ نظام الق�ضاء
وعممه يف الأم�صار ،ومل يجعل للمدينة قا�ضياً .و�إمنا كان هو الذي يق�ضي يف
�ش�ؤون املخت�صمني .وكان �إذا جاءه اخل�صمان برك على ركبتيه وقال :اهلل �أعني
عليهما ف�إن كال منهما يريدين عن ديني.
وهو �أي�ض ًا عمم نظام املعلمني ير�سلهم �إىل الأم�صار ليقرئوا النا�س القر�آن
ويعلموهم �رشائع دينهم .ومل يكن عمر يف ذلك مبتكراً ،فقد كان النبي �صلى
اهلل عليه و�سلم ير�سل بع�ض �أ�صحابه �إىل القبائل بعد �إ�سالمها ليقرئوهم
القر�آن ويعلموهم �أ�صول الدين ،ولكن ف�ضل عمر يف �أنه عمم هذا النظام و�أر�سل
املعلمني �إىل الأم�صار ،ليزيدوا امل�سلمني علم ًا بدينهم ويعظوهم ويقرئوهم
القر�آن.
وهدم عمر م�سجد النبي �صلى اهلل عليه و�سلم وو�سع رقعته ،ملا كرث النا�س
يف املدينة ،و�ألقى فيه احل�صى ليكون ذلك �أرفق بالنا�س .وكان امل�سلمون
�إذا فرغوا من �صالتهم نف�ضوا �أيديهم و�أزالوا الرتاب عن جباههم ،ف�ألقى عمر
احل�صى يف امل�سجد ليجنبهم ذلك.
وهو رد املقام يف امل�سجد احلرام �إىل مكانه الآن .وكان قبل ذلك مل�صق ًا
بالبيت .وكان النبي �صلى اهلل عليه و�سلم يريد �أن يفعل ذلك ،ولكنه ر�أى �أن
قري�ش ًا حديثة عهد بالإ�سالم فلم يفعل .ف�أمت عمر ما �أراده النبي.
وكان عمر �إذا عر�ضت له امل�شكلة نظر يف كتاب اهلل ،ف�إن وجد فيه ح ًال
لهذه امل�شكلة ق�ضى به غري مرتدد ،و�إن مل يجد يف كتاب اهلل نظر يف �سنة النبي
�صلى اهلل عليه و�سلم ،ف�إن وجد فيها احلل ق�ضى به غري مرتدد �أي�ضاً ،و�إن مل
يجد اجتهد ر�أيه وق�ضى مبا فيه م�صلحة للم�سلمني .وكان كثرياً ما ي�ست�شري
�أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ع�سى �أن يكون عند بع�ضهم حديث من �سنة
النبي� ،أو ع�سى �أن ي�شري عليه بع�ضهم بر�أي فيه اخلري والن�صح للم�سلمني .وكان
186
ي�أمر الوالة والق�ضاة �أن ي�صنعوا �صنيعه ،و�أال يجتهد �أحد منهم ر�أيه �إال بعد �أن
ي�ستق�صي القر�آن وال�سنة ،وال يجد فيهما ما يق�ضي به ،هنالك يجتهد وي�ست�شري.
وكان عمر يتحرج من رواية احلديث عن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ورمبا
كان عنده بع�ض احلديث ف�أعر�ض عن روايته خمافة �أن يزيد فيه �أو ينق�ص
منه ،وكان �إذا جاءه الرجل باحلديث عن النبي مل يقبله منه �إال �إذا جاءه برجل
�آخر يروي هذا احلديث كما رواه.
ورمبا جاءه الرجل باحلديث ف�أمره �أن ي�أتي برجل �آخر �أو يوجعه �رضباً،
وكان يكره �أن يكرث النا�س احلديث عن النبي ،وينذر املكرثين بالعقوبة ،وقد
�أنذر �أبا هريرة بال�رضب والنفي �إىل بالده التي جاء منها ،لأنه كان يكرث
احلديث .فلما نهاه عمر كف عن رواية احلديث ومل يعد �إليها �إال بعد وفاة عمر.
وكان عمر �أول من �أخذ الدرة ي�ؤدب بها النا�س �إن جاروا عن الق�صد قلي ًال �أو
كثرياً ،ال يفرق يف ذلك بني كبار ال�صحابة وغريهم من النا�س .وقد �رضب �سعد
بن �أبي وقا�ص بالدرة حني جل�س يوم ًا يق�سم بني امل�سلمني ماالً .و�أقبل �سعد
وجعل يزاحم النا�س حتى و�صل �إليه فعاله بالدرة وقال� :إنك �أقبلت ال تهاب
�سلطان اهلل يف الأر�ض ف�أردت �أن �أعلمك �أن �سلطان اهلل لن يهابك.
وكان ي�أخذ الدرة ومي�شي يف املدينة ويف �سوقها خا�صة لريى كيف يبيع
النا�س وكيف ي�شرتون ،ف�إن ر�أى من �أحد �شيئ ًا يكرهه �رضبه بالدرة.
ور�أى مرة رج ًال يزحم الطريق ف�رضبه بالدرة وقال� :أمط عن الطريق ،فلما
حال احلول و�أقبل مو�سم احلج لقي عمر ذلك الرجل فقال له :تريد احلج؟ قال
الرجل :نعم يا �أمري امل�ؤمنني .ف�أعطاه نفقة حجه ،ثم قال له� :أتدري ملا �أعطيتك
هذا؟ قال الرجل :ال .قال عمر� :إمنا ذلك بال�رضبة التي �رضبتك يف الطريق .قال
الرجل :واهلل يا �أمري امل�ؤمنني ما ذكرتها �إال حني ذكرتني بها.
وقد هم عمر �أن يكتب ال�سنة فا�ستخار اهلل يف ذلك �شهراً ثم عدل عنه وقال:
ذكرت قوم ًا كتبوا كتاب ًا ف�أقبلوا عليه ون�سوا كتاب اهلل .و�إذا دل هذا على �شيء
ف�إمنا يدل بنحو خا�ص على تردد عمر يف رواية احلديث ،فكيف بكتابة ما حفظ
هو ،وما حفظ النا�س من حديث النبي .وكل هذا ي�صور احتياط عمر للدين و�شدة
حر�صه على �أال يعر�ضه ل�شيء من ال�شك �أو اخلط�أ.
187
188
18
على �أن خالفة عمر كلها قد قامت على الدين يف �إجمالها وتف�صيلها ،فلم
يعرف امل�سلمون بعد عمر خليفة �أو ملك ًا كان يح�رض نف�سه ذكر اهلل يف كل
وقت من �أوقات حياته .وكان �أول ما يفكر يف �شيء �إمنا يفكر يف مالءمته
ر�ضى اهلل وبعده عن �سخطه .وما �أعرف �أن عمر ق�ضى �ساعة من حياته يقظ ًا
مل ي�شعر فيها باخلوف من اهلل حني كان يقوم على قول �أو عمل ،فلم تكن
خالفته وحدها قائمة على الدين ،و�إمنا كانت حياته اخلا�صة �أي�ض ًا قائمة
على ذكر اهلل واخلوف من عذابه .وقد ر�أيت فيما م�ضى �أنه قال مرة ملن طلب
�إليه الرفق بنف�سه فيما يطعم �أو يلب�س �سمعت اهلل عز وجل يقول لقوم نعموا
بحياتهم الدنيا:
ا�س َت ْم َت ْع ُتم ِب َها فَا ْل َي ْو َم تجُ ْ َز ْو َن«�..أَ ْذ َه ْب ُت ْم َط ِ ّي َبا ِت ُك ْم فيِ َح َيا ِت ُك ُم ال ُ ّد ْن َيا َو ْ
ون». با ُكن ُت ْم َتف ُْ�س ُق َ ون فيِ الأَ ْر ِ
�ض ب َِغيرْ ِ الحْ َ ِ ّق َو مِ َ با ُكن ُت ْم َت ْ�س َتكْبرِ ُ َاب ا ْل ُهونِ مِ َ َع َذ َ
وهو من �أجل هذا فر�ض على نف�سه �أ�ضيق احلياة ،مع �أنه مل يكن فقرياً،
ومع �أن امل�سلمني جعلوه يف حل من �أن ي�أخذ من بيت املال حاجته .وهو
مل يفعل ذلك بخ ًال �أو �ضن ًا على نف�سه مبا كانت تقت�ضيه احلياة الرا�ضية من
189
املال .و�إمنا فعله �إيثاراً ملا عند اهلل يف الآخرة على ما يف الدنيا من �ألوان
املتاع.
ومن �أجل ذلك �أي�ض ًا كان ال يوليّ عام ًال من عماله على الأم�صار �إال راعى
يف توليته ر�ضى اهلل �أوالً ،وم�صلحة امل�سلمني بعد ذلك.
وكان يختار لوالية الأم�صار �أويل القوة والكفاية ،و�إن كانوا من الذين
�أ�سلموا ب�أخرة ،ويرتك الأكابر من �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم فلما
كلم يف ذلك قال� :أكره �أن �أدن�سهم بالعمل.
وهو مل يقل هذا �إال �إيثاراً للرد احل�سن ،ف�أما حقيقة الأمر فهو �أنه كان
يخاف على �أكابر �أ�صحاب النبي من �أن يفتتنوا �أو يفتنوا النا�س .ولذلك مل
يولهم الأم�صار� ،إذا ا�ستثنينا �سعداً حني و ّاله حرب الفر�س ،و�أباعبيدة حني
واله حرب ال�شام.
و�إمنا كان مينعهم �أي�ض ًا من اخلروج �إىل الأم�صار خمافة الفتنة عليهم �أو
االفتتان بهم ،بل كان مينع قري�ش ًا من االنت�شار يف الأر�ض خمافة �أن تفتنهم
احلياة الدنيا.
وقال يوما يف بع�ض خطبه� :أال و�إن قري�ش ًا يريدون �أن يجعلوا مال اهلل
حي فال� .أال و�إين قائم لهم بحرة املدينة ف�أخذ دولة بينهم� ،أما وابن اخلطاب ّ
بحجزهم �أن يتهافتوا يف النار.
وكان بع�ض �أكابر ال�صحابة ي�ست�أذنونه يف اخلروج للم�شاركة يف اجلهاد.
في�أبى عليهم ويقول ملن ي�ست�أذنه يف ذلك :قد كان لك من الغزو مع ر�سول
اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ما يجزئك .ووىل مرة عمار بن يا�رس على الكوفة،
ف�شكا �أهل الكوفة منه .وكان �أهل الكوفة كثرياً ما ي�شكون من والتهم حتى
�أتعبوا عمر .ولكنهم حني �شكوا من عمار ،رحمه اهلل ،قالوا� :إنه ال يعرف ما
يلي .فدعاه عمر و�س�أله عما يلي :فلم يح�سن اجلواب فعزله ،ثم �س�أله ذات
يوم �أ�ساءك حني عزلتك؟ قال عمار� :أما �إذا قلت ذلك فقد �ساءين حني وليتني
و�ساءين حني عزلتني .فقال عمر ما معناه� :أردت �أن �أحقق قول اهلل عز وجل:
�ض َونجَ ْ َع َل ُه ْم �أَ ِئ َ ّم ًة َونجَ ْ َع َل ُه ُم
ا�س ُت ْ�ض ِعفُوا فيِ الأَ ْر ِ «و ُنرِي ُد �أَن َ مّ ُ
ن َ ّن َع َلى ا َ ّل ِذ َ
ين ْ َ
ني».
ا ْل َوا ِر ِث َ
190
ومن �أجل ذكره هلل وخوفه من عذابه ون�صحه للم�سلمني كان يراقب والته
�أ�شد املراقبة .وال يكاد يبلغه �شيء من �أمرهم يثري يف نف�سه �ش ّك ًا� ،إال �أر�سل من
فوره من يحقق ما بلغه وي�صلحه �إن كان قد وقع .ورمبا دعاه ذلك �إىل عزل
الوايل.
وكان كثرياً ما يردد �أنه يخ�شى �أن يظلم بع�ض والته �أحداً من الرعية وال
ي�ستطيع املظلوم �أن يرفع �إليه �شكاته .وكان ي�ؤمن ب�أن �أي ظلم يقع من والته
ثم ال يجد هو يف �إ�صالحه فهو الظامل.
وكان كثرياً ما يقول للرعية� ،إذا ر�آهم يف املدينة �أو يف مو�سم احلج� :إين مل
�أر�سل عمايل عليكم ليظلموكم �أو ي�رضبوا �أب�شاركم ،و�إمنا �أر�سلتهم ليعلموكم
دينكم ويق�سموا فيئكم بينكم ،وكان ال ميل الت�شديد على والته يف �إن�صاف
الرعية والرفق بالذميني وحمايتهم من كل ما ي�سو�ؤهم.
وكان �شديد احلر�ص على �صيانة مال امل�سلمني ،ي�صونه من نف�سه �أو ًال
فال ي�أخذ منه �إال قوته وقوت �أهله وك�سوتهُ ،حلة يف ال�شتاء وحلة يف القيظ.
وي�صونه من عماله فرياقبهم يف �إنفاق املال �أ�شد املراقبة و�أ�ضيقها ،وقد
ر�أيت ما فعله بخالد بن الوليد ،والقاعدة التي و�ضعها لنف�سه ،فكان ال يويل
عام ًال �إال كتب ماله قبل �أن يذهب �إىل م�رصه .ف�إذا عاد معزو ًال حا�سبه .ف�إن
وجد يف ماله زيادة غري مقبولة قا�سمه ماله .وقد ر�أيت �أنه قا�سم �سعد بن
�أبي وقا�ص حني عزله عن الكوفة .وقا�سم �أبا هريرة حني عزله عن البحرين،
وقا�سم غريهما من والته الذين مل ير�ض عن ك�سبهم و�سريتهم يف املال.
و�إذا كان عمر قد عرف بالعدل و�ضرُ ب به املثل فيه .ف�إن هذا العدل لي�س
�إال مظهراً من مظاهر خوفه من اهلل ،و�إح�ضاره نف�سه ح�ساب اهلل عز وجل.
وحترجه من �أن ي�صنع �أ�شياء .ال ل�شيء �إال لأنه يكره �أن ي�س�أله اهلل عنها يوم
القيامة .فلم يكن عمر مث ًال يف العدل وحده ،و�إمنا كان مث ًال يف رعاية الدين
يف جميع �أمره �صغريه وكبريه.
ومن �أجل هذا هابه النا�س .حتى كان يقال بعد وفاته :ل ِد ّرة عمر �أهيب
من �سيفكم.
191
192
19
وقد حج عمر �سنة ثالث وع�رشين ،كما كان يفعل خالفته كلها� ،إال ال�سنة
التي ا�ستخلف فيها ،ف�إنه وىل عبدالرحمن بن عوف �أمر احلج ذلك العام.
وقد �أخرج معه للحج �أزواج النبي �صلى اهلل عليه و�سلم .ويقال �إنه بعد �أن
�صدر عن احلج جمع يف مكان خارج مكة كومة من احل�صى ثم ا�ستلقى
وو�ضع ر�أ�سه على ذلك احل�صى و�شبك بني رجليه وقال :اهلل كربت �سني ورق
عظمي وخ�شيت االنت�شار من رعيتي فاقب�ضني �إليك غري عاجز وال ملوم.
فلما بلغ املدينة لقيه ذات يوم غالم �أعجمي للمغرية بن �شعبة .يقال
له :فريوز ويكنى ب�أبي ل�ؤل�ؤة ،وكان من �سبي نهاوند .فقال له الغالم� :إن
علي �رضيبة ال �أطيقها .قال عمر :كم يفر�ض عليك؟ �سيدي املغرية يفر�ض ّ
قال الغالم� :أربعة دراهم يف كل يوم .قال عمر :وماذا تعمل؟ قال الغالم� :أنا
جنار ،حداد ،نقا�ش .قال عمر :ما خراجك بكثري.
فان�رصف الغالم مغ�ضب ًا .ولقيه عمر مرة �أخرى وهو يف نفر من
�أ�صحابه ،فدعاه وقال له :بلغني �أنك تقول� :إنك ت�ستطيع �أن ت�صنع رحى
تطحن بالريح .قال الغالم :نعم .قال عمر :فاعمل لنا رحى .قال الغالم:
193
لأعملن لك رحى يتحدث بها �أهل الأم�صار .فلما ان�رصف الغالم قال عمر،
ملن كان معه� :أوعدين العبد �آنف ًا� ،أو قال له بع�ض من كان معه� :أوعدك
الغالم �آنف ًا يا �أمري امل�ؤمنني.
وخرج عمر ذات �صباح حني �أذن ل�صالة الفجر ،وكان ال يبد�أ ال�صالة �إال
بعد �أن ي�أمر النا�س ب�أن ي�سووا �صفوفهم ،وكان ينظر يف ال�صف الذي يليه.
ف�إن ر�أى رج ًال متقدم ًا م�سه بالدرة لريجع �إىل مكانه من ال�صف .فلما فعل
ذلك وا�ستقبل �صالته طعنه �أبول�ؤل�ؤة ثالث طعنات ،وكان خمتبئ ًا يف بع�ض
زوايا امل�سجد.
قال الرواة :فلما �أح�س عمر حر الطعنة ب�سط يده وقال� :أدركوا الكلب
فقد قتلني .ثم �سقط �إىل الأر�ض ودمه ينزف .فماج النا�س .وجعل الغالم
يطعن من وليه منهم حتى طعن اثني ع�رش رج ًال غري عمر و�ألقى عليه رجل
ثوب ًا .فلما عرف الغالم �أنه م�أخوذ قتل نف�سه بخنجره ،و�أقبل بع�ض النا�س
فحملوا عمر �إىل داره وهو يقول :وكان �أمر اهلل قدراً مقدوراً.
ويقول بع�ض الرواة� :إن عمر حني طعن �أخذ بيد عبدالرحمن بن عوف
فقدمه لل�صالة.
ويقول �آخرون� :إن النا�س ماجوا �ساعة بعد م�رصع عمر حتى قال قائل:
ال�صالة عباد اهلل فقد طلعت ال�شم�س .فقدموا عبدالرحمن بن عوف ،ف�صلى
بهم وقر�أ ب�أق�رص �سورتني يف القر�آن (والع�رص) و(�إنا �أعطيناك الكوثر).
قال الرواة :و�أخذت عمر غ�شية ،فلما طالت قال بع�ض من ح�رضه :ف ِّزعوه
بال�صالة .فقالوا :ال�صالة يا �أمري امل�ؤمنني .ف�أفاق على هذا الدعاء .وقال:
حظ يف الإ�سالم ملن ترك ال�صالة .ثم دعا بو�ضوء ال�صالة ،نعم ها اهلل .ال َّ
لي ْثعب دم ًا .ثم قال :ادعوا يل طبيب ًا .فلما جاء
(((
فتو�ض�أ و�صلى و�إن ُجرحه َ
الطبيب �س�أله �أي ال�رشاب �أحب �إليك؟ قال :النبيذ .ف�سقاه نبيذاً ،فخرج من
بع�ض جرحه ،فا�شتبه النا�س فيه وقال بع�ضهم :هذا �صديد الدم .ف�سقوه
194
لبن ًا .فخرج اللنب من جرحه مل يتغري لونه .فقال الطبيب :اعهد يا �أمري
امل�ؤمنني فما �أراك مت�سي.
ويقول الرواة� :إن عمر �أمر ابن عبا�س �أن يخرج فينظر من قتله .فخرج
ابن عبا�س فجال يف النا�س ثم عاد ،فقال :قتلك �أبول�ؤل�ؤة غالم املغرية بن
ُ�شعبة .قال عمر :احلمد هلل الذي مل يجعل قتلي بيد رجل يحاجني عند اهلل
ب�سجدة �سجدها له .يريد �أن قاتله مل يكن م�سلم ًا.
ثم قال عمر البن عبا�س :اخرج ف�سل النا�س� ،أكان هذا عن ملأ منه؟
فخرج ثم عاد �إليه ف�أنب�أه ب�أن النا�س يقولون :واهلل ما علمنا ولوددنا �أن
اهلل يزيد يف عمره من �أعمارنا.
ثم قال عمر البنه عبداهلل :اذهب �إىل عائ�شة �أم امل�ؤمنني فقل لها� :إن
عمر ي�ست�أذنك يف �أن يدفن مع �صاحبيه ،فذهب عبداهلل بن عمر حتى دخل
على عائ�شة فوجدها قاعدة تبكي .فلما �أبلغها ما قال عمر قالت :لقد كنت
اخرتته لنف�سي ولأوثرنه به اليوم ،وعاد عبداهلل ف�أبلغ �أباه �أن عائ�شة قد
يل.
�أذنت له فيما �أراد .فحمد اهلل عمر وقال :لقد كان هذا �أهم �شيء �إ ّ
ثم �سئل �أن ي�ستخلف فقال� :إن �أ�ستخلف فقد ا�ستخلف من هو خري مني.
و�إن �أترك فقد ترك من هو خري مني .يريد �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم مل
ي�ستخلف �أحداً ،و�أن �أبا بكر رحمه اهلل قد ا�ستخلفه هو.
ثم جعل �أمر اخلالفة �شورى بني ه�ؤالء ال�ستة :علي ،وعثمان ،وعبدالرحمن
بن عوف ،و�سعد بن �أبي وقا�ص ،والزبري بن العوام ،وطلحة بن عبيد اهلل،
و�أمر من يدعوهم �إليه .فلما جاءوا �أمرهم �أن يجتمعوا ويختاروه من بينهم
رج ًال .و�أمر �أن يح�رضهم ابنه عبداهلل ،وابن عمه �سعيد بن زيد بن عمرو،
على �أال يكون لهما يف الأمر �شيء.
ثم قال لعلي :يا علي ،قد يعرف النا�س لك �صهرك وقرابتك من ر�سول
اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،وما �أتاك اهلل من العلم والفقه ،ف�إن وليت من �أمر
النا�س �شيئ ًا فاتق اهلل.
وقال لعثمان :قد عرف القوم لك �سنك و�صهرك من ر�سول اهلل �صلى اهلل
195
عليه و�سلم و�رشفك! ف�إن وليت من �أمر النا�س �شيئ ًا فاتق اهلل وال حتملن
بني �أبي معيط على رقاب النا�س.
ثم قال لهم :قوموا عني .فلما قاموا قال :لئن ولوها الأجلح ليحملنهم
علي ًا .فقال له عبداهلل ابنه :فما مينعك يا �أمري امل�ؤمنني؟على الطريق .يريد ّ
حي ًا وميت ًا.
فقال� :أكره �أن �أحملها ّ
ثم �أمر �أن يدعى له �أبو طلحة الأن�صاري .فلما جاء �أمره �أن يكون يف
ال من الأن�صار ،و�أن يجمع ه�ؤالء ال�ستة يف بيت ،ويقوم فيمن خم�سني رج ً
ال منهم ،و� ّأجلهم يف هذا ثالث ًا.
معه على بابهم حتى يختاروا رج ً
وزعم بع�ض الرواة �أنه �أمر �أبا طلحة� :إن �أم�ضوا ثالثة �أيام ومل يختاروا
منهم خليفة �أن ي�رضب �أعناقهم.
وما �أح�سب �أن هذا ي�صح ،فقد كان عمر �أحر�ص على دماء امل�سلمني من
�أن ي�أمر بقتل �ستة من كبار ذوي ال�سابقة من املهاجرين ،الذين ب�رشهم
النبي �صلى اهلل عليه و�سلم باجلنة ومات وهو عنهم را�ض.
وقد ف�صلت القول يف ال�شورى يف غري هذا املو�ضع.
و�أمر �أن ي�ص ّلي بالنا�س �صهيب �أثناء الأيام الثالثة التي يت�شاور فيها
ال�ستة .ثم �أمر ابنه عبداهلل �أن يح�سب دينه لبيت املال ،فح�سبه ف�إذا هو �ستة
وثمانون �ألف درهم .فقال� :إذا �أنا مت ف�أدها من مال �آل عمر ،ف�إن مل يف
بها ف�سل فيها بني عدي ،ف�إن مل جتد عندهم ما يفي بها ف�سل يف قري�ش
وال تعدها .و�أمر عبداهلل �أن ي�ضمن هذا املقدار ف�ضمنه.
و�أعتقد �أنا �أن يف هذا الدين كل ما �أخذ عمر لنف�سه من بيت املال لقوته
وقوت �أهله ولك�سوته ولبع�ض جتارته .و�أعتقد ذلك لأن �أبا بكر �أمر يف
مر�ضه الذي مات فيه �أن ي�ؤدي من ماله �إىل بيت املال كل ما �أخذ منه
لقوته وك�سوته ،و�أعتقد �أن عمر حر�ص كل احلر�ص على �أن ي�صنع �صنيع
�أبي بكر .وهو الذي كان يقول دائم ًا ،وال �سيما بعد �أن طعن :وددت لو �أخرج
علي وال يل.
منها كفاف ًا ال ّ
196
وقد �أ�شهد ابن عمر على نف�سه بهذا املال و�أداه �إىل عثمان قبل �أن مي�ضي
الأ�سبوع على دفن �أبيه.
وكان بعد �أن فرغ من تدبري �أمور امل�سلمني ال يفكر يف �شيء �إال فيما
ينتظره من ح�ساب اهلل عز وجل :وكان يقول :لو �أن عندي ما يف الأر�ض من
�شيء الفتديت به من هول املطلع.
ويقال� :إنه �أو�صى ابنه �إذا هو �أح�س �أن �أباه قد �شارف املوت �أن يجعل
ركبتيه يف �صلبه ،و�أن ي�ضع يده اليمنى على جبينه ويده الي�رسى على
ذقنه ،ف�إذا مات فليغم�ضه .و�أمره بالق�صد يف كفنه ،ف�إنه �إن يكن له عند
اهلل خري �أعطاه ما هو خري منه ،و�إن يكن له عند اهلل غري ذلك �سلبه ،ف�أ�رسع
يف �سلبه .و�أمره �أال يجعل يف حنوطه م�سك ًا ،و�أال تتبعه امر�أة ،و�أن ي�رسعوا
يف امل�شي �إذا حملوه �إىل قربه ،ف�إن كان له عند اهلل خري قدموه �إىل ما هو
خري له ،و�إن يكن غري ذلك و�ضعوا عن رقابهم �رشاً كانوا يحملونه .و�أمره
�ضيق .ولأنه �إن يكن له عند اهلل خري �أال يو�سعوا يف حفرته لأن بيت عائ�شة ّ
مد ب�رصه ،و�إن يكن غري ذلك �ضيق عليه قربه حتى تختلف و�سع له يف قربه ّ
يزكوه بعد موته مبا لي�س فيه ،ف�إن اهلل هو �أعلم به.�أ�ضالعه .ونهى ابنه �أن ّ
ويقول الرواة� :إن النا�س جعلوا يدخلون عليه �أر�سا ًال فيثنون عليه ،فقال
لهم ،حني كرث ذلك منهم� :أبالإمارة تغبطونني؟ لقد �صحبت ر�سول اهلل �صلى
اهلل عليه و�سلم فتويف وهو عني را�ض ،و�صحبت �أبا بكر رحمه اهلل فكنت
�سامع ًا مطيع ًا حتى تويف وهو عني را�ض ،و�أ�صبحت ال �أخاف �إال �إمارتكم
هذه.
ويقال �إن وفد العراق -وكانت الوفود قد �صحبته بعد احلج �إىل املدينة
قبل �أن ترجع �إىل الأم�صار� -س�أله الو�صية .ف�أو�صاهم بتقوى اهلل �أو ًال
وباملهاجرين من �أ�صحاب ر�سول اهلل ،ف�إنهم ينق�صون والنا�س يزيدون،
وبالأن�صار الذين تبوءوا الدار والإميان ،وبالأعراب ف�إنهم مادة الإ�سالم،
وباملعاهدين من املغلوبني ف�إن له ذمة اهلل وذمة ر�سوله وذمة امل�سلمني.
ثم قال لهم :قوموا عني.
197
قال الرواة :وملا �أح�س عمر �أن املوت منه قريب �أمر ابنه عبداهلل ،وكان
ر�أ�س عمر يف حجره� ،أن ي�ضع خده على الأر�ض ،فقال عبداهلل :وهل فخذي
والأر�ض �إال �سواء .ف�أعاد عليه عمر �أمره �أن ي�ضع خده على الأر�ض ،ف�أعاد
عليه عبداهلل جوابه ،فقال له يف الثانية �أو يف الثالثة� :ضع خدي على
الأر�ض ال �أم لك .فلما و�ضع عبداهلل خده على الأر�ض جعل يقول :ليتني
من�سي ًا .ثم
ّ مل �أخلق ،ليت �أمي مل تلدين ،ليتني مل �أك �شيئ ًا ،ليتني كنت ن�سي ًا
جعل يقول بعد هذه الكلمات .ويلي .ويل �أمي �إن مل يغفر اهلل يل .وما زال
يكرر هذه الكلمة حتى مات رحمه اهلل.
198
20
وبوفاة عمر رحمه اهلل ،ختم �أروع ف�صل يف تاريخ الإ�سالم وامل�سلمني،
منذ وفاة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �إىل �آخر الدهر .فلم يعرف امل�سلمون،
وما �أراهم �سيعرفون يف يوم من الأيام ،خليفة ي�شبه عمر من قريب �أو بعيد.
فقد ر�أيت �أنه كان -رحمه اهلل � -أزهد خلفاء امل�سلمني وملوكهم يف الدنيا،
و�أ�شدهم لها ازدراء و�أعظمهم منها نفوراً.
ومن احلق �أنه كان يتجر يف خالفته ويثمر ماله ،ولكنه مل يفعل ذلك ُح ّب ًا
يف املال وال �إيثاراً للغنى ،و�إمنا فعله �أداء ملا لأهله وولديه عليه من احلق.
وقد ر�أيت �أنه مل ينتفع ب�شيء من ماله لنف�سه ،و�أنه �أدى منه كل ما �أخذ من
بيت املال لقوته وك�سوته ،فخرج من الدنيا ولي�س يف الأر�ض م�سلم يتعلق
عليه ب�شيء �أو ينكر من �أمره �شيئ ًا .وهو قد �أو�صى �إىل حف�صة �أم امل�ؤمنني،
ف�إذا ماتت فللأكابر من ولده .ومل يعرف امل�سلمون خليفة �أو ملك ًا �أتاح اهلل له
مثل ما �أتاح لعمر من الفتح.
فقد ر�أيت �أنه فتح بالد الفر�س كلها ،وفتح ال�شام واجلزيرة وم�رص وبرقة،
ومل ي�ستطع خليفة بعده �أن يزيد على ذلك �إال ما كان من فتح �إفريقية �أيام
199
عثمان رحمه اهلل ،ومن امل�ضي يف هذا الفتح �إىل املحيط ،ومن فتح الأندل�س
�أيام بني �أمية.
ومل يعرف امل�سلمون خليفة �أو ملك ًا بعد عمر جعل بيت املال ملك ًا للم�سلمني
ينفق منه على اجليو�ش املحاربة ،ويعني منه من احتاج �إىل املعونة ،ويوفر
ما يبقى منه لي�شيعه بني امل�سلمني رجالهم ون�سائهم و�أطفالهم ،ي�أخذون
منه �أعطياتهم يف كل عام ،ت�سعى �إليهم هذه الأعطيات دون �أن يتكلفوا م�شقة
يف طلبها� ،سواء يف ذلك منهم القريب والبعيد .وقد ر�أيت �أنه كان يحمل
بنف�سه املال �إىل البادية القريبة من املدينة فيعطيه للنا�س يف �أيديهم ،وقد
ر�أيت كذلك �أنه يف عام الرمادة كان يحمل الطعام على ظهره وي�سعى به �إىل
الأعراب النازلني حول املدينة ،ورمبا طبخه لهم بنف�سه ،ومل يعرف امل�سلمون
ملك ًا �أو خليفة بعده عنى بحماية الذميني والرفق بهم يف �أمرهم كله كما
عنى بهم عمر.
ثم مل يعرف امل�سلمون خليفة �أو ملك ًا بعده عنى ب�أمر الدين و�إقامة احلدود
وت�أديب النا�س يف ال�صغري والكبري من �أعمالهم ،وع ّلم امل�سلمني دينهم رفيق ًا
بهم حري�ص ًا على �أن ت�ستقيم لهم �أمور دنياهم ،وعلى �أن يجنبهم ما ي�ؤخذون
به يف �آخرتهم ما ا�ستطاع �إىل ذلك �سبي ًال.
فعل هذا كله حتى بلغ منه ما مل يبلغ اخللفاء وامللوك يف الإ�سالم ويف
الأر�ض التي مل ت�سلم .فل�سنا نعرف اليوم بلداً يوفر فيه الرزق على النا�س
من بيت املال �أو من خزائن الدولة دون �أن مينعهم ذلك من العمل لأنف�سهم
وللنا�س ،ومن التزيد يف الك�سب والتو�سع يف الغنى.
ومل يكن عمر يعرف قانون ًا �إال القر�آن الكرمي وال�سنة ال�رشيفة ،ومل تكن
له �رشطة ي�ستعني بها على حفظ الأمن والنظام ،ولكنه �سا�س امل�سلمني على
نحو جعلهم جميع ًا �رشطة له يف املدينة و�رشطة لوالته يف الأم�صار .فلي�س
غريب ًا وعمر هو الذي فعل هذا كله و�أكرث من هذا كله �أن تكون الفاجعة مبوته
عظيمة واخلطب له جلي ًال ،و�أن يقول رجل مثل �أبي طلحة الأن�صاري رحمه
اهلل:
ما يف العرب بيت �إال دخل عليه النق�ص مبوت عمر.
200
ولي�س غريب ًا �أن يقول غريه :واهلل �إن بيت ًا من بيوت امل�سلمني مل يدخله
احلزن ملوت عمر لبيت �سوء.
ويقول الرواة� :إن �سعيد بن زيد بن عمرو -وهو ابن عم عمر -بكى حني
مات عمر فقيل له :فيم تبكي قال� :أبكي على الإ�سالم ف�إنه قد وهى مبوت عمر.
ويقال� :إن حذيفة بن اليمان كان يقول� :إن الإ�سالم كان ح�صن ًا يدخل
النا�س فيه وال يخرجون منه .فلما تويف عمر انثلم احل�صن فالنا�س يخرجون
منه وال يدخلون فيه.
علي ًا رحمه اهلل ملا �سمع ال�صيحة مبوت عمر دخل وقد �أجمع الرواة على �أن ّ
عليه فوجده ُ�سجي بثوب .فرفع الثوب عن وجهه وقال� :صلى اهلل عليك :واهلل
ما على الأر�ض �أحد �أحب �إيل �أن �ألقى اهلل مبثل �صحيفته من هذا امل�سجي.
وما �أعرف رج ًال من �أ�صحاب النبي من املهاجرين والأن�صار �إال حزن �أ�شد
احلزن ملوت عمر .حتى قال ابن م�سعود رحمه اهلل :واهلل �إين لأظن ال ِع�ضاه قد
َوجدت ملوت عمر.
وكان ابن م�سعود �إذا ذكر عمر �أمامه بكى حتى ت�ساقط دموعه على
احل�صى.
وما �أحب �أن �أختم هذا الف�صل ب�شيء �أبلغ من قول عثمان رحمه اهلل� :إن
عمر كان مينع رحمه تقرب ًا �إىل اهلل ،و�أنا �أ�صل رحمي تقربا �إىل اهلل .ومن لنا
مبثل عمر؟ يقولها ثالث ًا.
وما �أعرف �أ�صدق من قول ال�شاعر الذي رثاه ،والذي حتدث الرواة �أنه من
مزرد بن �رضار� ،أخو ال�شماخ ال�شاعر املعروف: اجلن ،وما �أرى �إال �أنه ّ
جزى اهلل خرياً من �إمام وباركت يد اهلل يف هذا الأدمي املم َّزق
ق�ضيت �أموراً ثم غادرت بعدها بوائق يف �أكمامها مل تفتق َ
فمن يجر �أو يركب َجناحي نعامة ليدرك ما قدمت بالأم�س ي�سبق
له الأر�ض تهتز الع�ضاه ب�أ�سوق �أبعد قتيل يف املدينة �أظلمت
وما كنت �أخ�شى �أن تكون وفاته بكفي �سبنتي �أزرق العني ُمطرق
(((
201
202
21
و�صدق ال�شاعر ،فقد كان مقتل عمر غريب ًا كل الغرابة :غالم �أعجمي من
�سبي نهاوند ،ميلكه املغرية بن �شعبة ،ويعي�ش يف املدينة ليعمل فيها نقا�ش ًا،
جناراً ،حداداً� ،صانع ًا للأرحية ،ي�شكو �إىل عمر ارتفاع �رضيبته .ويرى عمر
�أن �رضيبته ال �إ�رساف فيها .في�أمره �أن ي�ؤدي �إىل مواله ما فر�ض عليه .ثم
�رساً �إىل املغرية يتقدم �إليه يف �أن يرفق بغالمه يف ال�رضيبة .في�أتي يكتب ّ
هذا الغالم فيختبئ يف ناحية من نواحي امل�سجد حتى �إذا تقدم عمر لل�صالة
�أهوى �إليه الغالم فقتله.
مل َيرع للم�سجد حرمة لأنه مل يكن م�سلم ًا ،ومل يح�سب ح�ساب ًا جلماعة
امل�سلمني لأنه كان م�صمم ًا على �أن يق�ضي �أمره و�إن مات يف �سبيله.
كل هذا ال يخلو من غرابة وال �سيما �إذا فكرنا يف عدل عمر بني امل�سلمني،
ورفقه بغري امل�سلمني من الذميني والأ�سارى ،ولكن حول قتل عمر �أ�شياء تدعو
�إىل التفكري.
فالرواة يقولون� :إن هذا الغالم الفار�سي كان �إذا لقي ال�صبيان من �سبي
الفر�س م�سح على ر�ؤو�سهم وقال� :إن العرب �أكلت كبدي .فلي�س الأمر �إذن
203
�أمر ال�رضيبة الذي فر�ضها املغرية على هذا الغالم .و�إمنا هو �أمر فار�سي
موتور قد فتحت بالده وقتل من قومه الكثريون ،فهو ثائر لوطنه وثائر
له�ؤالء الأ�سارى الذين انت�رشوا يف الأر�ض الإ�سالمية كلها .وهو يرى �أن
العرب قد �أكلت كبده مبا فعلت بوطنه من الأفاعيل .وهو مل يكن وحيداً يف
املدينة ،و�إمنا كان معه يف املدينة رجال �آخرون موتورون ،منهم الفار�سي
كالهرمزان الذي كان ملك ًا من ملوك الفر�س� ،أو كبرياً من كربائهم ،والذي جد
يف مقاومة امل�سلمني ما ا�ستطاع و�أفلت منهم يف غري موطن حتى �أ�رس يف
�آخر الأمر و�أر�سل �إىل عمر .وكان عمر حري�ص ًا على قتله ولكنه خادع عمر
حتى �أمنه� ،أمنه عمر �ساعة من نهار .فمكر حتى جعله �أمان ًا دائم ًا� .أظهر
الظم�أ فدعي له بال�رشاب .فقال لعمر� :إين �أخ�شى �أن تقتلني و�أنا �أ�رشب .قال
له عمر ال ب�أ�س عليك .فرد القدح ومل ي�رشب .وقال لعمر :قد �أمنتني قال عمر:
مل �أ�ؤمنك .قال من ح�رض من امل�سلمني :بل �أمنته يا �أمري امل�ؤمنني .فقد قلت
له :ال ب�أ�س عليك .فقد انخدع امل�سلمون وانخدع معهم عمر لهذا الفار�سي .وال
غرابة يف ذلك ،فاحلر يخدع �أحيان ًا فينخدع ،ولي�س �شيء �أ�سهل يف الإ�سالم
من الأمان ُيعطى لغري امل�سلم .يعطيه رجل من عامة امل�سلمني لرجل من
املحاربني فيجري �أمانه ويلتزمه قائد اجلي�ش كما يلتزمه اخلليفة وجماعة
امل�سلمني.
ويعطيه العبد امل�سلم للمحارب �أو املحاربني ،في�صبح �أمانه ملزم ًا
للجي�ش وقائده وللخليفة وجماعة امل�سلمني.
وذلك لقول النبي �صلى اهلل عليه و�سلم« :امل�ؤمنون تتكاف�أ دما�ؤهم وي�سعى
بذمتهم �أدناهم» .وقد �أ�سلم الهرمزان فع�صم دمه بالإ�سالم .ومل يجعل لأحد
عليه �سبي ًال و�أقام يف املدينة.
ورجل �آخر كان يقيم يف املدينة مل يكن فار�سي ًا ،و�إمنا كان عربي ًا من
�أهل احلرية وكان م�سيحي ًا ،وكانت بينه وبني �سعد بن �أبي وقا�ص �صلة.
يقول ابن �سعد� :إنها كانت �صلة الظئر((( .ك�أن امر�أة جفينة كانت مر�ضع ًا
204
لبع�ض ولد �سعد ،وكان �سعد هو الذي جاء به �إىل املدينة حني عزله عمر عن
الكوفة.
ورجل رابع كان يقيم باملدينة ،ولكنه كان غريب الأطوار ،عرف كيف
يهودي ًا
ّ يخدع كثرياً من امل�سلمني ومنهم عمر ،وهو كعب الأحبار .وكان كعب
علي �إىل اليمن
علي ًا رحمه اهلل عن النبي حني ذهب ّ من �أهل اليمن زعم �أنه �س�أل ّ
مر�س ًال من ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ،فلما �أنب�أه علي ب�صفة النبي عرف
هذه ال�صفة مما كان يجد بزعمه يف التوراة .ومل ي�أت املدينة �أيام النبي ،و�إمنا
�أقام على يهوديته يف اليمن ،وزعم هو بعد ذلك للم�سلمني �أنه �أ�سلم ودعا �إىل
الإ�سالم يف اليمن ،وقد �أقبل �إىل املدينة �أيام عمر .ف�أقام فيها موىل للعبا�س
بن عبداملطلب رحمه اهلل .وكان بارع ًا يف الكذب على امل�سلمني يزعم �أنه
يجد �صفاتهم يف التوراة .ورمبا زعم لهم �أنه يجد �صفاتهم يف الكتب .وكان
امل�سلمون ُيعجبون بذلك ويعجبون له .ومل يلبث �أن كذب على عمر نف�سه فزعم
جتد ا�سم عمر يف التوراة؟ قال له �أنه يجد �صفته يف التوراة .فعجب عمر وقالُ :
كعب :ال �أجد ا�سمك و�إمنا �أجد �صفتك.
وقد �صحب عمر حني �سافر �إىل ال�شام ليتم فتح بيت املقد�س .ويقال:
�إنه هو الذي دل عمر على مكان ال�صخرة .وكانت قد ا�ستخفت لكرثة ما كان
النا�س يلقون عليها من الكنا�سة .ف�أمر عمر ف�أزيل عنها ما كان عليها و�أقام
امل�سجد .و�س�أل �أين ي�ضع القبلة .فقال له كعب :اجعلها �إىل ال�صخرة ،فقال له
عمر� :ضاهيت اليهودية يا كعب ،وجعل القبلة �إىل امل�سجد احلرام.
وعاد �إىل املدينة ،يف �صحبة عمر .ويف ذات يوم �أنب�أ عمر �أنه �سيموت
�شهيداً .قال عمر� :أ ّنى يل بال�شهادة و�أنا بني ظهراين جزيرة العرب .ولكن كعب ًا
�أ�رص على ذلك .فيقال �إن عمر قال :ي�أتي بها اهلل �أ َّنى �شاء.
علي فوجدها تبكي ،فلما �س�ألها ودخل عمر يوم ًا على زوجه �أم كلثوم بنت ّ
عن بكائها قالت :هذا اليهودي كعب الأحبار يقول� :إنك يف النار .فلما خرج
هم �أن ي�س�أله ،فب�رشه كعب باجلنة .فقال عمر :ما �شاء اهلل ،مرة عمر ور�أى كعب ًا ّ
علي يا �أمري امل�ؤمنني.
يف اجلنة ومرة يف النار .ما هذا؟ قال كعب :ال تعجل ّ
205
واهلل �إين لأراك يف التوراة� ،أو قال يف الكتب ،قائم ًا على باب جهنم متنع
امل�سلمني �أن يتهافتوا فيها.
وجاءه �آخر الأمر ذات يوم فقال له� :إنك مقتول بعد ثالث .فلم يحفل عمر
مبا قال :فلما كان من الغد .قال له :ذهب يوم وبقي يومان فلم يلتفت عمر
�إليه .فلما كان من غد جاءه فقال له :م�ضى يومان وبقي يوم .فلم ي�أبه عمر
له .والغريب �أنه مل ي�س�أله عن م�صدر علمه بذلك ،ومل ي�س�أله �أحد من امل�سلمني
عن م�صدر علمه بذلك بعد مقتل عمر .و�أ�شد من ذلك غرابة �أن الرواة يزعمون
�أنه دخل على عمر بعد �أن طعن .فقال له:
«الحْ َُّق ِمن َّر ِّب َك َف َال َت ُكن ِّمن المْ ُ ْمترَ َ
ِين».
�أمل �أقل لك �إنك متوت �شهيداً فكنت تقول �أنى يل ال�شهادة و�أنا بني ظهراين
جزيرة العرب .ف�سكت عنه عمر �أي�ض ًا.
و�إذا كان كل ما روي عن كعب ب�ش�أن موت عمر �صحيح ًا ،فل�ست �أ�شك يف
دبر �أبول�ؤل�ؤة� ،أو مبا دبر الذين ا�شرتكوا مع �أبي ل�ؤل�ؤة �أنه كان على علم مبا ّ
يف الإعداد لهذه اجلرمية.
وقد قال عبدالرحمن بن �أبي بكر ال�صديق� :إنه ر�أى �أبا ل�ؤل�ؤة والهرمزان
وجفينة يتناجون .فلما ر�أوه قاموا ،ف�سقط بينهم خنجر له طرفان ون�صابه
يف و�سطه .ف�س�ألهم عبدالرحمن بن �أبي بكر :ما ت�صنعون بهذا احلنجر؟ قالوا:
نقطع به اللحم!
و�سمع عبيد اهلل بن عمر مقالة عبدالرحمن :فقال له� :أنت ر�أيتهم؟ قال:
نعم .ونظر القوم يف اخلنجر الذي قتل به عمر ف�إذا هو كما و�صف عبدالرحمن.
هنالك ثار عبيد اهلل بن عمر ف�أ�رسع �إىل �سيفه فتقلده ،وم�ضى ال يلوي على
فر�س يل .فقام الهرمزان �شيء حتى �أتى الهرمزان .فقال له :قم معي وانظر �إىل ٍ
وت�أخر عنه عبيد اهلل �شيئ ًا ثم عاله بال�سيف.
ويقول الرواة� :إن الهرمزان حني �أح�س حر ال�سيف قال :ال �إله �إال اهلل .ول�ست
�أدري �أي الرواة كان معه حني ذاك .وم�ضى عبيد اهلل حتى �أتى جفينة فقتله،
وملا �أح�س جفينة حر ال�سيف �ص ّلب بني عينيه .فيما زعم الرواة .و�أكرب الظن
206
�أنهم رووا ذلك عن عبيد اهلل ب�أخرة .وم�ضى عبيد اهلل حتى �أتى بيت �أبي ل�ؤل�ؤة
فقتل �صبية كانت له تزعم �أنها ُم�سلمة.
وكان �أ�صحاب النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ت�سامعوا ب�أمر عبيد اهلل ف�أر�سلوا
من جاءهم به ،ولوال ذلك ال�ستعر�ض ب�سيفه من كان يف املدينة من الأعاجم.
وما زال عمرو بن العا�ص بعبيد اهلل حتى �أخذ منه �سيفه ،وقام �إليه �سعد
بن �أبي وقا�ص ،ف�ساوره م�ساورة عنيفة ،وفعل مثل ذلك عثمان بن عفان.
وكان يقول له :قتلت رج ًال ي�صلي ورج ًال له ذمة ر�سول اهلل ،ما يف احلق تركك.
ويقال� :إن �أ�صحاب النبي �سجنوا عبيد اهلل فلما ا�ستخلف عثمان ا�ست�شار
علي يف هذا الذي فتق يف الإ�سالم فتق ًا .ف�أ�شار فيه امل�سلمني .فقال� :أ�شريوا ّ
بع�ضهم بقتله .وخالف بع�ضهم وقال :لعلكم تريدون �أن تلحقوا بعمر ابنه.
فدخل عمرو بن العا�ص يف الأمر وقال لعثمان� .إن هذا الأمر قد كان قبل �أن
يكون لك �سلطان على امل�سلمني ،فال تعر�ض له .فعفا عنه عثمان و�أدى دية
الرجلني وال�صبية ،فيما يقول الرواة.
وقد ف�صلنا يف غري هذا املو�ضع ما كان من �أمر عبيداهلل بعد �أن ا�ستخلف
عثمان ،فال نعود �إليه هنا ،و�إمنا نذكر �أن العفو عن عبيد اهلل كان مما �أخذ به
عثمان حني �أنكر النا�س بع�ض �أمره.
علي فر عبيداهلل فلحق علي من الذين ر�أوا قتله .فلما ا�ستخلف ّ وكان ّ
مبعاوية وقتل يف موقعة من مواقع �صفني .وكذلك تعدى عبيد اهلل حدود
الإ�سالم حني ث�أر لنف�سه بيده .وكان احلق �أن ينتظر حتى �إذا اختار �أهل
ال�شورى خليفة للم�سلمني عر�ض عليه ق�ضيته و�أتى بالبينة ،على �أن الهرمزان
وجفينة و�صبية �أبي ل�ؤل�ؤة قد �أعدوا لقتل عمر ،ف�إن ثبت ذلك عند اخلليفة كان
من حق اخلليفة �أن يق�صه منهم بالقتل �أو مبا بدا له من العقوبة.
ولكن عبيد اهلل �أخذته حمية اجلاهلية الأوىل ،فقتل من قتل معتدي ًا غري
متثبت وال �صادر عن حكم الإمام ،فكانت عاقبة ذلك وبا ًال عليه وفرقة بني
امل�سلمني.
207
208
22
ويزعم الرواة �أن النبي �صلى اهلل عليه و�سلم ر�أى على عمر قمي�ص ًا فقال له:
�أجديد قمي�صك �أم لبي�س؟ قال عمر :بل هو لبي�س يا ر�سول اهلل .فقال له النبي
�صلى اهلل عليه و�سلم :الب�س جديداً وع�ش حميداً ومت �شهيداً .وليعطك اهلل قرة
عني يف الدنيا والآخرة.
فمن �أجل ذلك كان عمر ي�س�أل اهلل �شهادة يف �سبيله ووفاة يف بلد نبيه.
فلما �سئل كيف يعطيه اهلل ال�شهادة ومييته يف بلد النبي .قال :اهلل ي�أتي بها
�أ ّنى �شاء .وقد ا�ستجاب اهلل له فمات �شهيداً يف مدينة النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم .قتله رجل جمو�سي من العجم .وقتله يف �أحب الأوقات �إىل اهلل عز وجل.
وهو الوقت الذي ت�ؤدى فيه �صالة الفجر ،واهلل عز وجل يقول لنبيه �صلى اهلل
عليه و�سلم .من �سورة الإ�رساء:
ال�ش ْم ِ�س �إ ىَِل َغ َ�س ِق ال َلّ ْيلِ َو ُق ْر� َآن ا ْلف َْج ِر �إ َ ِّن ُق ْر� َآن ا ْلف َْج ِر
وك َ ّ «�أَ ِق ِم َ ّ
ال�صال َة ِل ُد ُل ِ
ان َم ْ�ش ُهو ًدا».
َك َ
وقتله املجو�سى وقد كبرَّ عمر ل�صالة الفجر .فال �شك يف �أن اهلل عز وجل قد
ا�ستجاب لنبيه� .إن �صح احلديث الذي رويناه �آنف ًا ،وا�ستجاب لعمر دعاءه الذي
209
كان يدعو به كما روينا .وقد �سقط عمر وهو يقول كلمة من القر�آن:
الل َق َد ًرا َ ّم ْق ُدو ًرا».
ان �أَ ْم ُر َ هّ ِ
«و َك َ
َ
وقد �أتيح له �أن يحقق �شيئ ًا كان يهتم له �أ�شد االهتمام .وهو �أن يدفن مع
�أخويه ر�سول اهلل و�أبي بكر .وكان قد ا�ست�أذن عائ�شة يف ذلك قبل �أن يطعن،
فلما �أو�صى مبا �أو�صى به من �أمر امل�سلمني وفرغ لنف�سه قال البنه عبداهلل:
اذهب �إىل عائ�شة �أم امل�ؤمنني وقل لها� :إن عمر -وال تقل �أمري امل�ؤمنني ف�إين
ل�ست لهم الآن ب�أمري -ي�ست�أذن يف �أن يدفن مع �أخويه .وقال البنه� :إنها كانت
قد �أذنت قبل ذلك .ولكني �أخ�شى �أن يكون ذلك ملكان ال�سلطان .فذهب عبداهلل
وعاد �إليه ب�إذنها ،ف�أر�ضاه ذلك كل الر�ضى.
وكان عمر �شديد الكره للبكاء عليه� .سمع حف�صة �أم امل�ؤمنني ُت ْعول .فقال
أحرج
البنه عبداهلل� :أجل�سني فلي�س يل �صرب على ما �أ�سمع .ثم قال لها� :إين � ّ
عليك مبا يل عليك من احلق �أن تندبيني،ف�أما عينك فلن �أملكها .يريد �أنه ال
مينعها من البكاء لأنه ال ي�ستطيع ذلك.
و�سمع �صهيب ًا يعول .فقال له �أما �سمعت قول النبي �صلى اهلل عليه و�سلم:
�إن امليت يعذب ببكاء �أهله عليه.
وكانت عائ�شة رحمها اهلل تنكر هذا احلديث وتقول� :إن عمر �أخط�أ و�إمنا
ر�أى النبي �صلى اهلل عليه و�سلم قوم ًا يبكون على هالك لهم فقال� :إنهم ليبكون
و�إن �صاحبهم ليعذب .وكان قد اجرتم ما عر�ضه للعذاب.
و�أمر عمر �أن يقوم عنه كل من كان يبكي بح�رضته.
وزعم الرواة �أنه حني �أح�س املوت� .أو�صى ابنه عبداهلل فقال له :يا بني،
أبت؟ قال :ال�صوم يف �شدة �أيام عليك بخ�صال الإميان ،قال :وما هن يا � ِ
ال�صيف .وقتل الأعداء بال�سيف ،وال�صرب على امل�صيبة ،و�إ�سباغ الو�ضوء يف
اليوم ال�شاتي ،وتعجيل ال�صالة يف يوم الغيم ،وترك ردغة اخلبال ،قال :وما
ردغة اخلبال؟ قال� :رشب اخلمر.
وتويف رحمه اهلل من غده ،فقد طعن يوم الأربعاء وتويف يوم اخلمي�س
على اختالف من الرواة يف ذلك .فمنهم من يقول �إنه تويف بعد ثالث من
طعنته .و�أكرب الظن �أنه تويف من غده.
210
و�أنفق �أهل ال�شورى بعد دفنه ثالثة �أيام يت�شاورون .وكان عمر قد بلغ من
ال�سن نحو �ستني عام ًا .و�إن اختلف الرواة يف �سنه اختالف ًا كثرياً.
مر�ضي ًا عنه من اهلل ور�سوله و�أجيال
ّ ومهما يكن من �شيء فقد مات عمر
امل�سلمني على تتابعها واختالفها ،ال يختلفون يف حبه والثناء عليه �إال ما
كان من غالة ال�شيعة.
واحلمد هلل الذي �أتاح للإ�سالم عمر مث ًال �أعلى للعدل واال�ستقامة يف احلكم
والتفوق يف �أمره كله على من جاء ومن يجيء بعده من اخللفاء وامللوك.
211
212
23
ومل يخل موت عمر حني تويف من نفع للم�سلمني ب�إثبات حكم ديني له
خطره .وقد روى الرواة هذا الأمر ملحني ك�أنهم عجبوا له ،وك�أنهم �أح�سوا �شيئ ًا
من غرابته .ذلك �أن عمر غ�سل وكفن وكان امل�سلمون يعلمون �أن ال�شهداء ال
يغ�سلون وال يكفنون و�إمنا يدفنون كهيئتم حني يقتلون.
وقد �أبى النبي �صلى اهلل عليه و�سلم �أن يغ�سل �شهداء �أحد ،بل قال ب�ش�أن
حمزة رحمه اهلل :لوال �أن جتزع �صفية -وهي �أخت حمزة -لرتكته نهب ًا ل�سباع
الطري.
وقد دفن �شهداء �أحد دون �أن ي�سعى لهم يف الكفن :لف حمزة رحمه اهلل يف
برد كان عليه .فكان �إن بلغ ر�أ�سه مل يبلغ رجليه ،و�إن بلغ رجليه مل يبلغ ر�أ�سه.
ف�أمتوا �سرت ج�سمه ب�شيء من ورق ال�شجر .وكذلك فعل بعثمان بن مظعون
رحمه اهلل.
ويقول الرواة� :إن عمار بن يا�رس كان يقول يف �صفني :ال تغ�سلوين ف�إين
خما�صم .وقد �سمع امل�سلمون له فلم يغ�سلوه ،و�إمنا دفنوه كهيئته �ساعة قتل.
ومل يكن غ�سل عمر وتكفينه �إال عن �أمره ،فهو قد �أمر بالق�صد يف كفنه ،و�أمر
ب�أال يجعل يف حنوطه م�سك ،فدل ذلك على �أن ال�شهداء �إمنا يدفنون على هيئتهم
�ساعة يقتلون� ،إذا ا�ست�شهدوا يف ميدان القتال .ف�أما �إذا ا�ست�شهد امل�سلم لأن
عادي ًا �أثيم ًا عدا عليه فقتله ،ف�إمنا يجهز كما يجهز غريه من املوتى .فيغ�سل
ويكفن وي�صلى عليه .وكذلك كانت حياة عمر وموته م�صدر نفع للم�سلمني.
213
فهر�ست الآيات القر�آنية
214
39 33 التوبة هوالذي �أر�سل ر�سوله
39 28 الفتح هوالذي �أر�سل
152 - 99 41 الأنفال واعلموا �أمنا غنمتم
58 34 الإ�رساء و�أوفوا بالعهد
177 - 58 91 النحل و�أوفوا بعهد اهلل
104 19 ق وجاءت �سكرة املوت
210 38 الأحزاب وكان �أمر اهلل قدراً مقدوراً
70 196 �آل عمران وال حت�سنب الذين
122 84 التوبة وال ت�صل على �أحد
43 22 النور وال ي�أتل �أولو الف�ضل
40 144 �آل عمران وما حممد �إالر�سول
131 6 الن�ساء من كان غني ًا فلي�ستعفف
190 5 الق�ص�ص ونريد �أن منن على الذين
164 26 الق�ص�ص يا �أبت ا�ست�أجره
119 30 الأحزاب يا ن�ساء النبي من ي�أت
70 7 حممد ي�أيها الذين �أمنوا �إن تن�رصوا
137 15 الأنفال ي�أيها الذين �أمنوا �إذا لقيتم
119 90 املائدة ي�أيها الذين �آمنوا �إمنا اخلمر
184 1 املزمل ي�أيها املزمل
215
216