Professional Documents
Culture Documents
102
مجان ًا مع العدد ( )145من مج َّلة «الدوحة» -نوفمرب 2019 -
ُي َوزَّع ّ
الجامليات
ّ عنوان الكتاب :يف
املؤلف :إدغار موران -ترجمة :يوسف تيبس
هذا الكتاب:
عب عن آراء مؤ ِّلفه ،وال ُي ِّ
عب -بالرضورة -عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة ُي ِّ
إدغار موران
:ترجمة
يوسف تيبس
(1) E. Morin, Le Cinéma ou l’homme imaginaire, Paris, Éditions de Minuit, 1956 ; Les
Stars, Paris, Le Seuil, 1957, (réédition, Paris, Le Seuil, 1972).
(2) E. Morin, Chronique d’un été, coréalisé avec Jean Rouch, 1961.
5
الـدويل ،ونـال جائـزة ال ُنقَّـاد ،ويف شـأن عالقتـه املعرفيـة بالسـينام يقـول:
«أنتمـي إىل جيـل علَّمتـه الكُ تـب ...والسـينام أيضـاً» ،إنهـا «وسـيلة للدفـاع،
ألنهـا أداة للمعرفـة» وفضـاء مفتـوح على املُشـاهدة والتفاعـل مـن ِقبـل
ذهنيـة ،وضمن
ّ تقدمه وفـق مرجعيـات الجمهـور الـذي يبنـي عالقتـه مـع مـا ِّ
االجتامعـي ،وضمن هذه العالقة املُتشـابكة
ّ مرتكـزات يسـتمدها مـن واقعه
ُتلقـي ،تنفتـح فضـاءات الباحـث الـذي ُيريـد
ّ بين املُن ِتـج (الفيلـم) وبين امل
رس االفتتـان بالضـوء على الشاشـة الكبيرة .ومـن هـذا املنطلـق أن يقـرأ ّ
يتنـاول «إ .مـوران» الفيلم السـيناميئ ،ألنـه ُيبنى عىل أفكار النـاس ،فاألفالم
الحـب والصداقـة
ّ اإلنسـانية مثـل
ّ الروائيـة أفلام واقعيـة تنقـل العواطـف
والصراع ،...كما تخربنـا بالحيـاة اليوميـة املُشتركة والكراهيـة والتضامـن ِّ
واملختلفة للشـعوب ،ألنها تعيش املشـاعر نفسـها ،سـواء كانت جميلة أو
ين.
والتنوع اإلنسـا ّ
ُّ التفـرد
ُّ قبيحـة ،إنهـا ُتثِّـل
أمّـا هـذا الكتـاب «يف الجامليّـات» فيعـرض فيـه «إ .مـوران» مـا جمعـه
يل بصفته عـامل اجتامع مـن مالحظـات عـن الجمال والفَ ّن والشـعور الجما ّ
قدمها عىل شـكل محارضات (موجودة بالجامليـات ،والتي َّ
ّ وفيلسـوف ًا ُم َّ ً
هتما
يف اليوتيـوب) ،فيخربنـا أنـه منـذ طفولتـه كيتيم كان يهرب من قسـوة العامل
بفضـل األعمال الرفيعـة لجميـع الفنـون ،كروايـة الجرميـة والعقـاب ،أو
السـمفونية التاسـعة لبيتهوفـن ،أو أشـعار بودلير ،ألن األعمال الفَ ِّن ّيـة
مجـرد تسـلية ،إنهـا تكشـف لنـا حقائقنـا ومصرينـا وآمالنـا، َّ العظيمـة ليسـت
بفهـم للوضع اإلنسـاين بجميـع حاالته املُتضادة ،مـن خالل األفالم ٍ وتزودنـا
ِّ
خاص باإلنسـان ّ ـنّ الفَ .إن (((
(املسرات) الكوميديـة أو (املـآيس) الرتاجيديـة
مما يعني أن هـذا األخري إذ احتـاج منـذ القـدم إىل التعبير مـن خلال الفَ ّنّ ،
ُشـاهد أو املُسـتمع أو القـارئ فيجـد يف ِ أمـا امل
مل يكـن تسـليةً أو ترفيهـاًّ ،
ـن العظيـم تعقيـد الهـروب مـن الواقع املُبـارش ،حيث نجد واقـع وضعنا الفَ ّ
بشـغف ورحمـة وتفاهـم ،إننـا نهـرب يف الوقـت نفسـه مـن الواقـع الـذي
6
ٍ
مشـهد جميل ،سـواء كان الجامليات شـعور ًا ينتج عن
ّ يغزونـا .يعتبر موران
طبيعـي) .إن العاطفـة
ّ ـي) أو طبيعيـ ًا (جمال منظـر ـاً
ف ِّن ّي (جمال العمـل الفَ ِّن ّ
اإلبداعيـة .يسـتدعي الفَ َّنـان خلال إبداعـه قـوى
ّ الجامليـة مـرآة للعاطفـة
ّ
الجاملية التي
ّ العاطفـة تكـون كام (التعديلات). والوعـي (اإللهـام) الالوعـي
ـي غير عقالنيـة وعقالنيـة يف الوقـت تتملـك كلّ واحـد م ّنـا أمـام العمـل الفَ ِّن ّ
الجامليـات
ّ نفسـه ،ألنهـا ُتعمـل الشـعور والـذَّكاء معـاً .لذلـك ميكننـا إذكاء
الجامليات
ّ والشـعر لنعيـش الواقـع بالكامـل ،مـع الوعـي بقسـوته .ومبـا أن
منفصلـة عـن الديـن والسـحر ،فإنهـا تخلـق البهجـة «يشء مـن الجمال هـو
الجامليـة على اتقـاد مباهـج الوجـود،
ّ فـرح إىل األبـد» ،تسـاعدنا معرفتنـا
تحمـل الفائـض الواقعـي الـذي ال ُيطـاق؛ ومتنحنـا العجائـب التـي ُّ وعلى
نسـتخلصها منـه الطاقـة ملواجهـة قسـوة العـامل.
أثنـاء مشـاركتنا يف األعمال الفَ ِّن ّيـة ،نشـعر بسرو ٍر مبـارش ،بالطبـع،
يل الذي ُيغـذِّ ي حكمنـا وقراراتنا
بـل تبعـث فينـا هذه األعمال الوعي الجما ّ
اليوميـة .يـرى إدغـار مـوران الشـغوف بالشـعر أن معنـى الحيـاة ُيوجـد يف
املشـاركة ،إنـه شـعور ميكـن للمـرء أن يعيشـه مـع الغير أو أمـام منظـر
ـي.
طبيعـي أو حتـى أمـام عمـل ف ّن ّ
ّ
يتأسـف إدغـار مـوران قائلاً « :مل يعـد الجميـل كما كان عليـه» ،فقـد َّ
وأدى اكتشـاف رسـم األشـياء القبيحـة بطريقـة تجـاوزت األصالـة الجميـلَّ ،
ـي ،وليـس يف الواقـع. جميلـة إىل إدراك أن الجمال يوجـد يف العمـل الفَ ِّن ّ
ال يف الدميومـة ،ألنـه يدهشـنا ،يوقف الزمـان ،ويحدث أو ً
يشـاركنا الجميـل ّ
فيـه فتقـاً ،على وجه التحديـدُ .ي ِّجد «إ .مـوران» فكرة االلتزام التي عاشـها
وكمبـدع ،فيذكـر «حالـة نصـف التملُّـك» التـي عاشـها خلال كتابة تفـرج ُ كم ُِّ
املنهـج ،لـذا يعتبر الفَ َّنان «شـامان »)chaman -حديث ًا أو ما بعد شـامان.
يقول يف ذلك« :أعتقد أن ما أطلق عليه يف القرن العرشين «التزام» الكُ َّتاب
ُهمـة التـي تأخـذ بعـد ًا مـا بعـد شـاماين والفَ َّنانين يتوافـق مـع الوعـي بامل َّ
الجامليـات حسـب مـوران يفّ ( )postchamanومـا بعـد النبـوة» .تنـدرج
والتعجـب»
ُّ يزودنـا بالسـعادة مسـتوى الشـعور واإلحسـاس الـذي «عندمـا ِّ
7
«الشـعرية» .ينقل
ّ يغرقنـا يف «الحالـة الثانيـة» أو حالـة النشـوة ،أي الحالة
إلينـا الفَ َّنـان الشـامان نشـوته أكثر مام ينقـل فكـرة «الجامل».
إن األدب والسـينام مادتـان للبحـث ولتمثُّـل األفـكار ،لـذا يدعـو يف
محارضتـه «سـبعة ثقـوب تعليميـة سـوداء»((( ،إىل الربـط بين رضورة إعـادة
تربيـة اإلنسـان على فهـم الغير ،وعـدم تأطيره وحصره يف الصفـات التـي ّ
تلغـي حياتـه ومنظومـة السـينام ُمؤكِّ د ًا عىل دورهـا يف فهم الرشط اإلنسـاين
ـن يرى أن ما يحدث يف قاعة العرض السـيناميئ فيقـول« :هنـاك من الناس َم ْ
ُتفرج وفصلـه عن الواقـع وإفقاده جـزء ًا كبري ًا
اسـتالب ،حيـث يتـم تخديـر امل ِّ
ٌ
ربـا يكـون هـذا صحيحـاً ،لكـن يوجـد مظهـر آخـر يكتسي مـن اسـتقالليتهَّ .
نربتقمص شـخوص الفيلـمِّ ، التقمـص ،فمـن خلال ُُّّ أهميـة بالغـة ،أال وهـو
ِّ
فينـا االنفتـاح على الغري واالنتباه إليه كما هو ،وبالتايل نفهم حتى أنفسـنا».
ص ُـد ُق هـذه املالحظـة على الشـخوص الطيبـة أو املحبوبـة فقـط، ال َت ْ
جسـد القـوة والبـأس والقهـر .فإذاـد ُق حتـى على الشـخوص التي ُت ِّ ص ُ بـل َت ْ
رب
«العـراب» لفرانسـيس فـورد كوبـوال ،وانتبهنـا إىل ِّ
َّ تذكَّ رنـا ،مثلاً ،فيلـم
أدى دوره املُمثِّلان مارلـون برانـدو وآل رب الجامعـة ،الـذي َّ األرسة أو ِّ
باتشـينو ،نجـد أنـه يقـدر عىل ارتـكاب أفعـال بالغة القسـوة والبـأس وعىل
أعصـاب تامـة ،ونكتشـف يف الوقـت نفسـه أنـه يقـدر على ٍ القتـل ببرودة
الحـب والوفـاء واإلخلاص أيضاً ،وأنـه يتألَّم ويبكي كباقي البشر؛ فنفهمه ِّ
يف شـموليته وكلِّيتـه.
ُترشد
يحـدث الشيء نفسـه عندما نشـاهد تشـاريل تشـابلن يف دور امل ِّ
ومبجرد مـا نخرج من قاعة
َّ صدق؛ُتسـكع ،إذ نتعاطـف معـه تعاطف ًا ال ُي َّ
امل ِّ
متشرداً ،نبـدي نفـور ًا منـه وال نبـايل بـه! إننـا ننفـذ إىل
ِّ السـينام ونصـادف
صد ُقالتقمص .والشيء نفسـه َي ُ ُّ أعماق هـذه الشـخوص ونفهمهـا بفضـل
على الشـخوص الروائيـة أو املرسحية.
(1) E. Morin, 2005, «Les sept trous noirs de l’enseignement» traduit par Chen Lichuan, Science
and Technologie in China, août, p. 812-.
8
ـن واألدب ،أي نتعاطف معيـدل مـا سـلف على مفارقـة نعيشـها يف الفَ ّ
الشـخوص ونفهمهـا ،يف حين ننفـر منهـا يف الواقع اليومـي لحياتنا.
أخيراً« ،ينفلـت شـعر الحيـاة باعتبـاره ازدهـار ًا وتشـارك ًا وسـعادة مـن
الحـب الـذي يدمجـه ّ الرتفيـه .إنـه ال ينقذنـا مـن املـوت ،لكـن ُيثِّـل مبعيـة
الحـلّ الحقيقـي الوحيـد للمـوت»« .ال معنـى للحيـاة ،لكـن ويتكامـل معـه َ
تتجلى فائـدة الجمال يف كونـه َّ الشـعر يعطـي معنـى لحياتنـا» .وعليـه،
الرتيـاق الرائـع للخـوف والرعـب والقلـق واملوت .لـذا يعرض مـوران رشوط
بلـوغ هـذه الحالـة التـي متثِّـل عالجـ ًا لحياتنـا القاسـية ،ويلمـح إىل رضورة
ال ما عانت الجامليـات حتـى ال تعـاين الفنون الجديـدة مسـتقب ً ّ الرتبيـة على
الجامليات
ّ منـه السـينام واملسلسلات يف بداياتهـا مـن احتقـا ٍر وازدراء .إن
هم يف الثقافة ويف حياة اإلنسـان ،فإذا كان كلّ يشء خاضع حالي ًا عنرص ُم ٌّ
ٌ
للتخصـص ،فـإن الروايـة هـي املرصـد الوحيد لرؤيـة العامل ،يقـول يف هذا ُّ
الصـدد إميليـان نويـل (« :)Émilien Noëlتصبـح الروايـة مجموعة شـاملة
مل ما ،يف عينة ،أو بعبـارة أصح لحالة عـا ٍ ٍ
لحظـة ُم َّ تقريبـ ًا لحالـة العـامل يف
وخاصـة أوروبا .يف هذا السـياق ،تكـون الرواية ّ هـذه الحالـة العـامل الغريب
أسـلوبي ًا ال جـدال فيه ،ولكن ميكـن أن تكون ّ خياليـاً ،وبالطبـع ،مترين ًا
ّ عملاً
جيوسياسـياً ،وبحثـ ًا يف علم
ّ فلسـفياً ،وتحليلاً
ّ تاريخيـاً ،ومقـا ً
ال ّ أيضـ ًا رسد ًا
االجتماع ...كلّ مـا يجعـل العـامل قابلاً ألن يظهـر فيهـا .يتم الحديـث فيها
عـن علـم النفـس ،والطـب ،والديـن ،واالقتصـاد ،والعمـران ،والعمارة»،
عي ًنـة للروايـة»((( .ومـا ويضيـف« :وبالتـايلُ ،تثِّـل هـذه األعمالُ ذرو ًة ُم َّ
ـة العظيمة.ـد ُق على غريهـا مـن األعمالِ الفَ ِّن ّي ِ ص ُـد ُق على الروايـة َي ْ ص ُ َي ْ
مل ِ
رتجم ا ُ
11
ِ
توطئة
اإلنسـانية يف
ّ نتـاج محـارضات أُلقيـت يف دار العلـوم
ُ هـذا ال ِكتـاب
األول مـن عام .2016عىل الرغم من إعادة صياغتها وتصحيحها،النصـف َّ
ٍ
ّإل أنهـا تحتفـظ بشيء مـن صيغتهـا الشـفهية األوىل ،وتحمـل مشـاعر
الذكريـات.
الجامليـات ،لكننـي
ّ لقـد راكمـت منـذ ثالثين عامـ ًا مالحظـات حـول
جامليـات «ي» التـي كان ميكـن أن تكون الجـزء األخري
ّ تخلّيـت عـن كتابـة
مـن كتـاب املنهـج .م ّثلـت هـذه املُحـارضات فرصـةً لتقديـم جوهـر مـا
أردت قولـه.
ويف الوقـت نفسـه أغرقتنـي هـذه املُحـارضات مـن جديـد يف ثقافتـي
حركـت بعمق مراهقتي واملوسـيقية ،التي َّ
ّ والشـعرية،
ّ األدبية،
ّ األصليـة،
ّ
وأثَّـرت يف عقلي .كان اسـتامعي إىل افتتاحيـة أوبريا السـفينة الشـبح هو
مـا أذىك قـراري باالنضمام إىل املقاومـة .كما قـادين ديـوان موسـم يف
الجحيـم لرامبـو أنـا وصديقـي جـاك فرانسـيس روالنـد ،إىل املغامـرة
13
الرسيـة .ظلّـت املوسـيقى والشـعر واألدب حـارضةً ،ونشـطة ،ومشـعة،
ّ
ومغذّ يـة يل طـوال حيـايت.
اإلنسـانية ،مل
ّ على الرغـم مـن ثقافـة ثانويـة يف الفلسـفة والعلـوم
أتوقَّـف أبـد ًا عـن قـراءة أو إعـادة قـراءة الروايـات والقصائـد وولـوج دور
املوسـيقية واللّوحات
ّ السـينام .مل تتوقَّـف الروايـات والقصائـد واألعامل
جـددة بذلـك سـحرها يف عـن إثـارة مشـاعري والتسـلّل إىل عـرويض ُم ِّ
نفسي.
التحدث َّ
عم نحب. ُّ الجيد دامئ ًا
ِّ ِمن
14
قدمة)
(م ِّ
ُ
عممة الجامليات ا ُ
مل َّ ّ
15
ُرصعـة بالنجـوم وغروب الشـمس يف
مختلفـة .متنحنـا رؤيـة السماء امل َّ
املحيـط ،وصعـود القمر يف الليل ،وقمة ثلجيـة ،وتحليق طائر الخطاف،
الشـعور الجاميلّ.
َ ومتـدد القط،
ُّ
جـداً .ونظـر ًا ألنـه
يل على نطـاقٍ واسـع ّ يتـم تشـارك الشـعور الجما ّ ّ
شـخصية
ّ ٍ
ظـروف ـلّظِ يف رويتطـو
َّ ى يتقـو
َّ فإنـه عميـق، بشـكلٍ ينّ إنسـا
البرشيـة ثنائيـة
ّ عينـة .إن الحيـاة
اجتامعيـة ُم َّ
ّ تاريخيـة ،أو
ّ ثقافيـة ،أو
ّ أو
القطـب بين جزئها النثري -نفعل أشـياء بالضرورة ودون متعـة -وجزئها
الشـعري حيـث ،على العكـس مـن ذلـك ،نزدهـر ونتشـارك(((. ّ
الشعري للحياة.
ّ ِ
ودامج للجانب مندمج
يل هو عنرص َ
كلّ ما هو جام ّ
16
ُحاضة األوىل)
(امل َ
ّ
الجاميل الشعور
17
العرشيـن .صـدق باسـكال ( )Pascalعندمـا قال يف مقـالٍ عن عواطف
الحـب (« :)Discours sur les passions de l’amourإن املوضـة
سـمى بالجمال».
والـدول تضـع قواعـد مـا ُي َّ
معيار مشترك بين جميع أنواع
ٌ نوع مثايل ،أو
قانـون ،أو ٌ
ٌ هـل يوجـد
الجمال؟ هـل هنـاك جامل كـوين داخل أنـواع الجامل املُفـردة؟ أم أنه
خاصـة ،أي يشء
ّ ليـس لـكلّ نـوع مـن الجمال ،الذي ينتمـي إىل ثقافـة
مشترك مع األنـواع األخرى؟
جامليات الطبيعة
ّ
ال ُيثـار الشـعور بالجمال واالنفعـال الجمايلّ بواسـطة األعمال
الفَ ِّن ّيـة فقـط ،إذ يأتياننـا مـن املناظر الطبيعيـة والزهـور وتحليق األوز
البري وتغريـد العندليـب وركـض الخيـول وألـوان الفراشـات.
18
خاصيـة يشء»((( .ميكننـا أن
ّ قائلاً « :الجمال متعـة ندركهـا باعتبارهـا
نقـول أيضـ ًا مـع الكا ِتـب السـويرسي هايرنيـش وولفلين (Heinrich
« :)Wölfflinالجمال يف عين الـرايئ» .هـل نحـن الوحيـدون الذيـن
يـرون الجمال يف قـرون الغـزالن؟ يف ألـوان الفراشـة ويف ريـش
الطـاووس؟
الجاملية
ّ أوليـاً :أال تشـعر الحيوانـات باملتعـة دعونـا نضـع سـؤا ً
ال ّ
والتمدد والقفـز والركض والتحليق؟.
ُّ تقريبـ ًا عنـد تجربة متعة العيش
تنتـج الحيوانـات والنباتـات الجمال لنا فقط ،وليس لهـا؟ أال يوجد يف
ال ألشـكالٍ
تتضمـن يف كلّ نـوع تفضي ً
َّ جامليـات قبليـة،
ّ العـامل بـأرسه
معينة؟
َّ معينة وألـوان
َّ
يتضمـن،
َّ ـن
هـل تـأيت هـذه األشـكال واأللـوان مـن إبـداع يشـبه الفَ ّ
مـن بين جوانب أخـرى ،جاملية ضمنية؟ مييل علامء السـلوك ،الذين
يدرسـون سـلوك الحيوانات ،إىل أن يعزوا الزينة الحيوانية إىل الجذب
الجنسي .لكـن ،إذا ك ّنـا نسـتعمل األلـوان واألغـاين والحلي للجـذب،
أال يعنـي ذلـك اسـتخدام الصفـات الجامليـة لإلغـواء؟ .بالطبـع ،ال
ميكـن للطـاووس أن يـرى ريشـه ي ّتخـذ شـكل العجلـة -ليسـت لديـه
مـرآة ليتمكَّ ـن مـن ذلـك -ولكـن عجلـة هـذا الـدون جـوان ذي الريـش
يتضمـن ترفـ ًا فائض ًا ُيضاف إىل الوظيفة البسـيطة للجاذبية الجنسـية.
َّ
ُيعـزى جامل الزهـور إىل العرض الجنيس ،ولدى بعضها إىل دعوة
للحشرات املُلقِّحـة .لكـن إذا كانـت للزهـور وظيفـة تعزيـز تكاثرهـا
وجـذب الحشرات ،أال يوجـد عنصر جمايل يف متهيدهـا وجاذبيتها؟
تتضمـن هـذه األفعـال بطريقـة غير متاميـزة
َّ الجـذب واالسـتاملة ،أال
(1) George Santayana, Le sens de la beauté, Presses universitaires de Pau, coll. « Quad »,
2002.
19
القبليـة؟
للجامليـة ْ
ّ للجامليـة ،فعلى األقـلّ
ّ انبثاقـاً ،إن مل يكـن
يتوفـر املكيـاج والقالئـد والزينـة وألـوان املالبـس ،يف نظرنا ،عىل
خصـص إلرضاء الغير وإرضاء أنفسـنا .عندما نجعل
عنصر جمايلّ ُم َّ
أنفسـنا جميلين أو جميلات لإلغـواء ،فـإن الرغبـة يف اإلغـواء تفسر
اللجـوء إىل الجمال ،لكـن ال تفسر الجمال يف ذاته.
إذا كان مـن املمكـن تفسير بعـض ألـوان ال ِفراء والريـش والجلود
ُفترس ،فهـل هـذا الغـرض ٍ
كاف لشرح بغـرض متويـه الفريسـة أو امل ِ
خطـوط الحمار الوحيش وبقـع النمر وألـوان ببغاء املقـو والطوقان؟
أال تـأيت األلـوان واألشـكال واملواقـف ّمما أطلـق عليها عـامل الحيوان
أدولـف بورمتـان (« )Adolf Portmannالعـرض الـذايت»؟ أن تكـون
جميلاً مـن أجـل أن تعجـب نفسـك وتعجـب الغير؟ أن تكـون جميلاً
سـمى باللغـة اإليطاليـة تتخـذ هيئـة جميلـة
الكتسـاب التأثير؟ مـا ُي َّ
( .)bella figuraباختصـار ،أال يوجـد خيـال مـا قبـل جمايلّ يف
تكاثـر األلـوان واألشـكال واألغـاين التـي متيـل عقالنياتنـا إىل اختزالـه
مجـرد وظيفـة؟ تشـهد وفـرة األشـكال والحلي واأللـوان يف عـامل
َّ إىل
النباتـات كما يف عـامل الحيوانـات ،يف جميـع األحـوال ،على الوفـرة
اإلبداعيـة للحيـاة.
ّ
التطور الحي
ُّ بحـق
ّ لقـد اعتبر هرني برغسـون ()Henri Bergson
ومتعـدداً :لقـد كانـت الحيـاة ف ِّن ّية وال تـزال كذلك يف
ِّ إبداعـ ًا متواصلاً
الجامليـات أُدرجـت يف هـذا
ّ ملكتهـا االبتكاريـة واإلبداعيـة ،ويبـدو أن
اإلبـداع بطريقـة غير ُمتاميـزة وغير قابلـة للعـزل .هكذا قـد يوجد يف
اإلنسـانية.
ّ الجامليات
ّ عـامل الحيـوان ما قبـل تاريـخ
الجامليـات يف جامعـة السـوربون إتيـان سـوريو
ّ كتـب أسـتاذ
ـن لدى الحيوانات (L’art chez
( )Étienne Souriauيف مقالـه« :الفَ ّ
20
« :(((»)les animauxهنـاك اسـتمرارية يف االرتقـاءات املتواليـة
فـن اإلنسـان» .ميكننـي فـن الحيـوان ،وأخير ًا ّ فـن الطبيعـة ،ثـم ّ
بين ّ
ال وا ِّتصـاالً ،كما هو الحـال دامئ ًا يف مـا يتعلَّق
القـول إن هنـاك انفصـا ً
بالتطـور.
ُّ
21
ُحاضة الثانية)
(امل َ
يل
طبيعة الشعور الجام ّ
الجامليات،
ّ جامليات الطبيعة ،بل عن طبيعة
ّ اآلن ،دعونا ال نتساءل عن
يل إىلوالتعجب ،ينقلنا الشعور الجام ّ
ّ أي عن طريقة منحنها إيانا اللذة
شعرية يف مقابل ،كام سلف الذكر ،الحالة ّ حالة ثانية ،والتي سأدعوها
تعجب.
تخص ما هو بال لذة أو ُّ ّ النرثية التي
ّ
الشـعرية يف املشـاركة ويف الحـب ويف اللعـب
ّ ميكـن أن نجـد الحالـة
يل وتحتضنهويف االحتفـال ،غري أن هذه الوضعيات تتجاوز الشـعور الجام ّ
يف الوقـت ذاتـه ،مـن هنـا تـأيت تعابير الحـب أو يف الحـب« :مـا أجملـك!»
ويف الرياضـة« :مـا أروعهـا مـن متريـرة ،هـدف رائـع!» ويف املشـاركة« :ما
أجمـل اللحظـات التي نعيشـها!».
الشعرية والجاملية مع ًا عندما يستثري
ّ ينقلنا االحتفال إىل الحالتني
ابتهاجه الغامر يف الرقصات وتناول امل ِ
ُخدرات املُب ِهجة من قبيل الكحول،
23
والقنب الهندي ،وحبوب اإلكستازي (.)ecstasy
حد أننـا ننىس أننا
ومسـتقرة إىل ِّ
ّ هويتنا ثابتة
إننـا معتـادون على اعتبـار ّ
جـد ًا عندمـا ننتقـل من حالـة الهـدوء إىل حالة االنفعـال ،ووفقمختلفـون ّ
الحب ،أو االنبهـار ،أو االكتئاب.
ّ االنفعـاالت ،إىل حالـة الغضـب ،أو
يحولنا فيها انفعال ما .والحالة
عرف الحالة الثانية باعتبارها الحالة التي ِّأُ ِّ
الشعرية حالة ثانية ميكن أن نشعر فيها بالحب واإلعجاب واملشاركة ّ
التصوف دون أن
ُّ تحاذي إنها مون.ومله
َ لون ومجم
َّ محمولون وأننا ب والتعج
ُّ
تكون دينية بذلك .إنها تتكثف يف الحامس ( )enthousiasmeهذه الكلمة
الجميلة التي تعني يف األصل «متلك من قبل اإلله».
الشـعرية االنفعـال الجمايلّ ،والتـي ميكـن
ّ تتضمـن الحالـة
َّ غالبـ ًا مـا
أن تكـون خفيفـة كمتعـة صغيرة فتتضخـم حتـى تبلـغ اإلثـارة أو الغبطـة،
حدهـا أقصى إىل الوجـد؛ باعتبـار الوجـد حالـة مـن الخلـط أووتصـل يف ِّ
االنصهـار مـع مـا يثيره.
الرسـم واملوسـيقى واألدب
متنحنـا األعمال الفَ ِّن ّيـة التـي نحبهـا يف َّ
واملسرح والسـينام ،عندمـا نكـون يف ذروة االنفعـال الجمايلّ ،الشـعور
بالجلال وتقودنـا إىل أبـواب الوجـد.
على هـذا النحـو ،انتابتنـي فجـأة حالـة التجميـل وحالـة االضطـراب
وحالـة الوجـد تقريبـ ًا يف الخامسـة عشرة أو السادسـة عشرة مـن عمري،
يف قاعـة غافـو ،بطريقـة مبهـرة ،عنـد بدايـة الحركـة األوىل للسـيمفونية
التاسـعة لبيتهوفـن ،بقيـادة يوجين بيغـوت (.)Eugène Bigot
ٍ
حالة من السـحر واإلثـارة ،ألننا ندخل يف تضعنـا األعمال العظيمة يف
العمـل الـذي يدخلنـا ويتملكنـا .وهكذا ،باختصـار ،يكون الشـعور الجاميل
الشـعرية ،والتـي ميكـن اعتبارهـا طريقـةً أو
ّ مكونـ ًا مـن الحالـة
طريقـةً أو ِّ
مكونـاً مـن الحـاالت الثانيـة التي ميكن أن تتكثف ،كام سنرى ،يف نشـوة أو ِّ
متلـك أو وجـد .هنـاك تواصـل متبـادل وعـدوى متبادلة بين الحالـة الثانية
الشـعرية والشـعور الجاميلّ.
ّ والحالـة
24
َن
سحر الف ّ
ُ
ـن من خالل قدرة اإلنسـان على إبداع األعامل واألشـكال
يتـم إنتـاج الفَ ّ
واأللـوان واألصـوات التـي تحـدث أو يجب أن تحدث االنفعـال الجاميلّ.
تصورهـم
ُّ ال مسـتوحاة ،إن مل يكـن مـن أشـياء وأعما ً
ً ينتـج الفَ َّنانـون
جامليـة. ـن ،وتهـدف إىل تأثيرات تصورهـم للفَ ّ
ُّ للجميـل ،فعلى ا َ
ألقـلّ مـن
ّ
تتضمن بعـد ًا أو صفـةً جاملية .مثلام
َّ ينتـج الحرفيـون أشـياء نفعيـة ،لكنها
فـن الطباعـة. فـن الخـط وأثـار النشر ّ أثـارت ال ِكتابـة ّ
لإلنسـانية ،نالحـظ أننـا
ّ والتاريخـي
ّ عندمـا ننظـر إىل املـايض القديـم
اتيـة معاً :اللوحات
وهوي ّ
ّ ودينية
ّ سـحرية
ّ ال ومواضيع ذات غاية جملنـا أعما ً
َّ
ال عن املوسـيقى والرقص .وكذا والوشـم واألقنعة واألسـاور والقالئـد ،فض ً
العمليـة :الفخـار والكاالبـاش (النبـات القرعـي) والقوارير...
ّ األشـياء
الجامليـة عليهـا بشـكلٍ تعسـفي إذ كانـت
ّ بيـد أننـا مل نقـم بإسـقاط
الدينية ،أو يف شـكلها
ّ السـحرية
ّ هنـاك يف حالـة غير متاميـزة يف طبيعتها
التشـكييل (الفخار) .وباملثل ،إن الرسـوم عىل الوجه أو الوشـم لها وظيفة
هويـة العشيرة أو الجنـس .وجاملهـا غري متاميـزة يف سـيميائيتهم.
تأكيـد ّ
لقـد انتقينـاه وعزلناه وجسـدناه.
مكونـ ًا جامليـ ًا كامنـ ًا أو
ِّ تحـوز هـذه األشـياء واألشـكال والسـلوكيات
املكون رئيسـياً ،بالنسـبة إىل ِّ سـحرية .أصبح هذا
ّ دينيـة مدمجـ ًا يف َّ
مهمـة ّ
العقـول الحديثـة يف بدايـة القـرن العرشيـن .انطالقـ ًا مـن تجميـل «الفَ ّ
ـن
الجامليات.
ّ الزنجـي» .لقـد انحرس السـحر القديـم ،وأصبح كامن ًا ولجـأ إىل
وهو ما ُيشير إليه التعبري« :يا له من سـحر ( .»)C’est magiqueوباملثل،
املتنوعـة للحضـارات ِّ اكتشـفنا وأدمجنـا يف ثقافتنـا األسـاطري الرائعـة
القدميـة .مل نعـد نؤمـن حرفي ًا باألسـاطري اليونانيـة ،لكنها تلهمنـا وننخرط
فيهـا جاملياً.
لقـد انصهـرت ،بالنسـبة إلينا نحـن الحداثيين ،صفة تقديـس اللوحات
25
الجداريـة املسـيحية واللوحـات الفَ ِّن ّيـة مـن العصـور الوسـطى إىل عصر
النهضـة ،مثل لوحـات جيوتو ( )Giottoأو فرا أنجيليكـو (،)Fra Angelico
يتضمـن أيضـ ًا
َّ الجامليـات غير أن هـذا االنفعـال الـذي متنحنـا إيـاه
ّ يف
ُقـدس املُعلَّقين.
التقـوى وامل َّ
الدينية يف أوروبـا الغربية بعد عرص
ّ ـن تدريجيـ ًا عن وظيفته
اسـتقلّ الفَ ُّ
الدينيـة فجعلتهـا
ّ الجامليـات األعمال ذات الغايـة
ّ النهضـة ،إذ اسـتعادت
الخاصة.
ّ لغايتهـا
يحـرره مـن
ّ ين الجمال ومينحـه امتيـاز ًا عندمـا
العلما ّ تصورنـا َ
ُّ يعـزل
السياسـية :إننـا نستحسـن مـن دون إميـان دينـي
ّ الدينيـة أو
ّ املُعتقـدات
نوتـر دام دو بـاري ( ،)Notre-Dame de parisومقطوعـة اإلنجيل حسـب
القديـس م ّتـى لجوهـان سيباسـتيان بـاخ (،)Johann Sebastian Bach
ُقـدس ،وخصوصـ ًا عنـد الشـعور بجاملهـا ـن امل َّ
واألعمال العظمـى للفَ ّ
املوسـيقي.
ّ التصويـري أو
ّ الهنـديس أو
ّ
الرسـم .إن الفَ ّن الذي يعزل لقـد عزلنـا متاما الجمال ،خصوص ًا يف ّ
فن َّ
يل
ـن ،مـن أجـل أن يسـتثري االنفعـال الجما ّنفسـه يصير ف ّنـ ًا مـن أجـل الفَ ّ
ِ
بهالة الغرابة والسـحر. قبـل كلّ يشء آخـر ،لكنـه يحتفـظ يف ذاتـه
الجميل والقبيح
كونيـة.
ّ الغربيـة لزمـنٍ طويـل أن معايريهـا للجمال ّ اعتقـدت حضارتنـا
اإلغريقي الـذي ميثلـه براكسـيتيليس ( )Praxitèleيف ّ لقـد اعتبر الجمال
والرسـم منـوذج كلّ جامل ،وعلى منواله أنتج رسـامو عرص مجـال النحـت َّ
النهضـة ،ثـم العصر الكالسـييكّ أعاملهـم الفَ ِّن ّية.
التصـور الكالسـييكّ للجمال ،املفهوم بهـذه الطريقة،
ُّ لقـد اعتقدنـا أن
ُتضمـن لالنسـجام واإلتقـان ،كـوين .ميكنـه أن يبـدأ يف التعبير عـن
أي امل ِّ
نفسـه بحسـن املظهـر ،ويسـتطيع أن يبلـغ الروعـة ،إذ يسـتبعد الخبـث
26
تضـاد مطلـق
ٌ التصـور الكالسـييكّ
ُّ والتشـوه والقبـح متامـاً .يوجـد يف هـذا
ُّ
بين الجميـل والقبيـح.
مبعنـى مـا ،يبـدو أن تغريـب العـامل ،الـذي حـدث خلال العصر
الكونيـة مـن خلال نشر وتثبيـت وأقلمـة إنتاجاتـه
ّ الكوكبـي ،يؤكـد هـذه
والرسـم واملوسـيقى واألدب يف القـارات األخـرى .لكـنالخاصـة بالجمال َّ
ّ
كونيـ ًا يجعـل املـرء يعجـب بلوحـة
ّ الغربيـة
ّ الجامليـات
ّ إذا كان تعميـم
يلـغ أنـواع الجمال اليابـاين
الجوكانـدا يف طوكيـو ،فـإن هـذا التعميـم مل ِ
فعليـاً.
جعلتنـا عمليـة التعميـم الكوكبـي نفسـها نكتشـف ونعترف بجمال
ـن
أعمال رغـم أن معايير جاملهـا مختلفـة متامـاً :قمنـا بتجميـل الفَ ّ
اإلفريقـي عـن طريـق تجريد األقنعـة والتامثيل مـن غايتها لنعتربهـا أعام ً
ال
ف ِّن ّيـة ،لكننـا اعتربنـا يف الوقـت نفسـه جميلاً مـا كان يعتبر غريبـ ًا وباهـراً،
بـل وحتـى قبيحـاً.
أول مـن أشـار إىل كان فريدريـش شـليغل (َّ )Friedrich Schlegel
خاصـة يف األدب
ّ الجامليات،
ّ مركزيـة يف
ّ مسـألة القبـح باعتبارهـا مشـكلة
والفـردي واملُثري
ّ للتميز
ُّ الحديـث .إذ يقـول« :القبيـح هـو الهيمنة املُطلقـة
لالهتمام وللبحـث الـذي ال ُيشـبع وغري الـكايف دامئ ًا عن الجديد والشـائك
والالفـت للنظر».
الغـريب يف تجاوز النمـوذج الكبري
ّ الرسـم
يف القـرن التاسـع عشر ،بدأ َّ
للجمال :يوحـي غويـا ( )Goyaيف أعاملـه «الرسـوم الزنجيـة Pinturas -
)1823-1819( »negrasبـرؤى الرعـب ،لكنهـا ُتشير ،يف مـا يتعلَّـق
بالجامليـات ،إىل أن الحـدود بين الجميل والقبيح ميكـن أن تتواجه محل ّّياً.
ّ
كما أبـرز انطباعيون مثل فان غوخ ( )Van Goghوسـيزان ()Cézanne
الكالسـيكية ،بعـد ذلـك،
ّ أنواعـ ًا مـن الجمال مختلفـة متامـ ًا عـن املعايير
الرسـم واملوسـيقى على خلـع األشـكال وإظهـار -يف الوقـت ذاتـه- عمـل َّ
حساسـية جديـدة ،ونوعـ ًا جديـد ًا مـن الجمال مـن خلال التنافُر.
27
النرثي :موسـم يف الجحيم (Une
ّ كتب رامبو ( ،)Rimbaudيف ديوانه
ركبتي -فوجدته
ّ « :)saison en enferذات مسـاء ،أجلسـت الجامل عىل
مر ًا -ثم شـتمته».
ّ
هـل ينحـو الجمال الكالسـييكّ إىل االختفـاء مـن الفنـون؟ أو باألحـرى،
الديني ما قبـل الكالسـييكّ ،أو كام يف
ّ أال ُيوجـد كما هـو الحـال يف العـامل
متيز للجامل يفوإن كان بطريقـة جديدة ومختلفة ،عـدم ُّ العـامل القديـمْ ،
تعب عـن رؤيـة وحقيقة ورسـالة معاً؟ األعمال التـي ِّ
يتوقَّـف الجمال والقبـح عـن أن يكونـا متضاديـن إذ نجـد جما ً
ال يف
القبـح ،وقبحـ ًا يف الجمالّ ،
مما يعنـي أن الجمال لـن ُيقىص ،بل سـيدرج
يتضمـن ضـده.
َّ يف مركـب
إن البحـث عـن األصالـة ،إذا جـاز التعبير ،يسـبق البحـث عـن الجامل،
ّ
الجامليـة بالنسـبة إىل املُولعين بها.
ّ مل تكتسـب األصالـة صفـة
لكـن أ ْ
كما يوجـد مـا يتجـاوز الجمال ،باملعنـى الكالسـييكّ للكلمـة ،حيـث
جمـل.
ميكـن أن ينبثـق االنفعـال مـن قـرف ُم َّ
لقـد أدرك أرسـطو أن الرتاجيديـا اليونانيـة ،عندمـا تسـتثري الرعـب
والشـفقة ،تخلـق لـدى املُتفرجين شـعور ًا عميقـ ًا لـه سـمة امل ِّ
ُحـرر ،كان
يسـميه بالتنظيـف ،أو التطهير ( .)catharsisسـنعود إىل هـذه الصفـة
بالجامليـات التـي تسـمح بتحويـل املعانـاة واألمل واملـوت إىل
ّ الخاصـة
ّ
ٍ
انفعـاالت سـعيدة دون القضـاء عليهـا ،بـل على العكس من ذلـك تربزها.
يؤملنـا املسرح اإلليزابيثـي والشكسـبريي ،ومسرح كورنيـل وراسين
الرومانسـية مثل هرناين (،)Hernani
ّ ( ،)Corneille et Racineوالدراما
واألوبـرا ،املأسـاوية بطبيعتهـا ،وأخري ًا أفلام العنف والتعذيـب واملعاناة،
ويدجنـه.
ِّ حـد سـواء ،إذ يغلـف الخير الشر
ويفرحنـا على ٍّ
ِ
لوحـات املعـارك ،لكننـا دخلنـا يف عصر غالبـاً ،مـا ُج ِّملـت الحـرب يف
متكَّ ـن فيـه املقاتلـون من تجميلهـا ،كام هو حـال أبولينير ()Apollinaire
يف هـذه العبـارة الجريئـة« :يـا إلهـي! مـا أجمـل الحـرب» ،يف حين ظهرت
28
خـاص للمقاتلين الذيـن عانوا منهـا مثـل مجموعة مـن االرتياعات.
ّ بشـكلٍ
حد سـواء،جامليـة حـرب بغيضـة ومثيرة لإلعجـاب على ٍّ
ّ خلقـت السـينام
والتـي متنحنـا مشـاعر عظيمـة :ليسـت مشـاعر الفـزع أو الرعـب أو
تحرضنـا أفلام
الشـفقة فقـط ،بـل لـذة أو متعـة جامليـة خالصـة أيضـاًِّ .
تزودنـا بسـح ٍر
الحـرب العظيمـة على بغـض الحـرب ،ويف الوقـت نفسـه ِّ
جمايلّ ،بـدء ًا مـن فيلـم يف الغـرب ال يشء جديـد (À l’Ouest rien de
،)nouveauأربعـة مـن املشـاة ( ،)Quatre de l ‘infanterieالصلبـان
الخشـبية ( ،)The Wood Crossesمـرور ًا بــ :أطول يوم (Le Jour le plus
ال إىل الخـط األحمـر ( )La Ligne rougeالجميـل والرهيـب ،)longووصـو ً
لتريونـس مالـك (.)Terrence Malick
تجـرأ جـان بودريلار ( )Jean Baudrillardعلى التعبير عـن َّ لقـد
البرشية.
ّ جامليـة تدمير برجـي مانهاتن التي أخفيناهـا وراء رعب املجـزرة
ّ
جامليـات هـذه الصـورة التي ال تصـدق التي كُ ّنا نشـاهد
ّ أخفيـت عـن نفسي
على الشاشـات و ُنعيد مشـاهدتها بطريقة اسـتحواذية ،لقـد أخفيتها تحت
األخالقـي ،لكـن الحقيقـة أن هنـاك جامليـة الكارثـة يف مشـاهدة
ّ االنفعـال
هذيـن الربجين العمالقني وهما ُيصدمان ،كام يف حلم ،مـن قبل طائرتني
ظهرتـا فجـأة مـن حيـث ال ندري ،ثـم التهمتهما النيران فانهارتا .تسـتعمل
السـينام جامليـة الكارثـة وتسرف يف اسـتعاملها ،لكـن ضمـن قصـص
واقعيـة ،وليـس يف الواقـع كما كان الحـال يف 11سـبتمرب/أيلول .2001
تطـورت جامليـة املحـارب الـذي يصـارع مـن أجل جمال املعركة َّ كما
قضيـة مـا :سـواء كان يف عواصـف فوالذيـة (Orages ّ وليـس مـن أجـل
)d’acierإلرنيسـت يونغير ( )Ernst Jüngerالـذي يصـف الجاذبيـة التـي
العامليـة األوىل عليـه ،أو كذلـك يف املنبـوذون
ّ مارسـتها تجربـة الحـرب
( )Les Réprouvésإلرنيسـت فـون سـالومون ()Ernst von Salomon
الحـرة يف البلطيق ويعتربهـا ملحمةً ،
ّ الـذي ميجـد حـرب الفيالق األملانيـة
الغـزاة ( )Les Conquérantsألنـدري مالـرو (André أو أخير ًا يف ُ
ـن.
متـذوق للفَ ّ
ِّ ،)Malrauxحيـث يختلـط الثـوري مبغامـر
29
اليونانيـة واملأسـاة اإلليزابيثيـة واألدب ،وأخري ًا
ّ جملـت الرتاجيديـا
لقـد ّ
السـينام الرعـب والفـزع اللذيـن يرعباننـا ح ّقـاً ،لكـن وعينـا بأننـا نشـاهد
عرضـ ًا يجعـل الوجـع أو املـوت غير ضاريـن.
عممة
مل َّ
الجامليات ا ُ
ّ
تتكاثـر ُمسـوخات الجمال ،حيـث ميكن أن نـرى عالمةً عىل وجـود أزمة
ُعممـة ملـا كان يف السـابق
الجامليـات امل َّ
ّ الجمال الكالسـييكّ ،لصالـح
ُيعتبر غير جميل.
تـم تجميـل
مل يعـد الجميـل كما كان ،ويـزداد تجميـل كلّ األشـياءّ .
محطَّ ـات مترو 1900ونافـورات واالس التـي كانـت تبـدو قبيحـة يف عـام
ال منـذ ذلـك الحني .لقـد أصبحت أشـياء وأزياء ،1930فأضحـت أكثر جما ً
تـم رفضهـا يف السـنوات التي سـبقت عـام ،1940 «الزمـن الجميـل» ،التـي ّ
جميلـة .تـم تجميـل القاطـرات البخاريـة القدميـة بشـكلٍ فائـق مـن حيـث
أشـكالها السـوداء الرائعـة وصفريهـا القـوي وأعمـدة دخانها األبيـض .وقد
الصناعيـة ،كالسـيارات امل ِ
ُعـاصة، ّ اجتاحـت هـذه الظاهـرة املواضيـع
يجمـل
ِّ والقطـار الفائـق الرسعـة ،والطائـرات ،والطائـرات النفاثـة.
النفعيـة من خلال تحديثها أو منحها أشـكا ً
ال جديدة. ّ املُصممـون األشـياء
خاصـة بـه.
ّ لقـد خلـق العصر الصناعـي فنونـ ًا
وضواح
ٍ التاريخيـة ،نعيش يف عامل حضري
ّ ومـع ذلـك ،خـارج املراكز
للتلـوث واالزدحـام .تغـزو
ُّ عرضـة
معامريـة رتيبـة وكئيبـةُ ،م َّ
ّ ٍ
هندسـة ذات
الثقافـة األحاديـة امليتة الحقـول ،ويغزونا توحيد املعايير الذي ال يقترص
الصناعيـة ،بـل ميـس الطعـام نفسـه .أليـس التجميـلّ على املنتجـات
الرسـم
مقاومـةً لهـذا القـدر مـن البشـاعة والخـزي؟ ال تـزال هنـاك يف َّ
جامليـة البشـاعة والخزي ،كما لـو أن صورتهم تجلبّ والتصويـر والسـينام
سـحر ًا غريبـ ًا ومخيفـاً.
30
ُعمـم عندمـا ذكر حبـه ألكـواخ املعارض؛ عبر رامبـو عـن التجميـل امل َّ َّ
جملـوا األماكـن التـي كانـت
َّ عندمـا السـورياليون نفسـه النهـج على وسـار
تبـدو يف السـابق عاديـةً مثـل ممـر االسـتعراضات؛ لقـد طالبـوا -تحديـداً-
ـع َرنة الحيـاة ،ضمن تجميـل إرادي للوجود .هكـذا ،نحاول ،بعد بضرورة َش ْ
شـعرياً،
ّ الخاصـة ،أي إعطاءهـا معنـى
ّ تجميـل الطبيعـة ،تجميـل حيواتنـا
وهميـة ،مغامـر ًة «جميلة».
ّ بـل جعـل حيواتنـا ،مهما كانـت
نتقـدم يف زمـنٍ حيـث
َّ كتـب إتيـان سـوريو (« :)Étienne Souriauإننـا
ُقـدس ،الغريـب واملعتـاد ،لـن يصير سـوى الدنيـوي وامل َّ
ّ االختلاف بين
جامليـاً ».
ّ
ُعمـم ،إذ مينحنـا إمكانيـة
بيـد أن هنـاك ازدواجيـةً يف التجميـل امل َّ
مما كان يبـدو عاديـ ًا أو ال يلفـت االنتبـاه ،ويدعـم نزعـة عدميـة
التعجـب ّ
ُّ
الجامليـات .إنـه يخاطـر بإخفـاء البؤس
ّ يف األخلاق تـذوب حيـث لـة، جم
ُم ِّ
ين الـذي تجملـه العديد من الصـور الفوتوغرافية والصور .سـنتناول اإلنسـا ّ
سـنقر بأنـه إذا كان يجـب على الثقافـة أن تحتـوي ّ هـذا املُشـكل عندمـا
الجامليـات الثقافـة.
ّ الجامليـات ،فيجـب أن ال تحتـوي
ّ
31
ُحاضة الثالثة)
(امل َ
توقَّفـت رشوط اإلبـداع الفَ ِّن ّـي لزمنٍ طويل عىل اإلحسـان أو عىل حامية
األقويـاء أو السـادة أو البابـاوات ،ثـم انفصـال الفَ ّن تدريجيـ ًا يف الغرب يف
القرنين التاسـع عشر والعرشيـن .صاحبت هذا االسـتقالل عـن الدين ،ثم
فتحول العمل
َّ السـلطة وبعده عن اإلحسـان ،تبعيـة متنامية للسـوق؛ عـن ُّ
الفَ ِّن ّي إىل سـلعة.
ُتفـرد بشـكلٍ قـوي -يف الغالـب -حضارة املـال التي يعـارض الفَ َّنـان امل ِّ
حريتـه وأصالتـه وإبداعـه يف عـامل غير املُثقَّفين ميجـد ّ
يتوقَّـف عليهـاِّ .
الذيـن يشترون منـه مـع ذلـك أعاملـه الفَ ِّن ّيـة.
ـي الـذي
يتـم ،يف القـرن التاسـع عشر ،عـدم فهـم التجديـد الفَ ِّن ّ
مل ّ
يقطـع مـع املواضعـات واملذاهـب الجامليـة لزمنـه فقـط ،بـل رفضـه
باسـم القوانين التقليديـة للجمال .ذلـك كان مصير االنطباعيين ومـوين
33
تم
العامليـة األوىل ّ
ّ ( )Monetوسـيزان ،ثـم التكعيبيين؛ لكـن بعـد الحرب
ُهم ِ
على العكـس مـن ذلـك تثمين الجديـد ،وهـو ما ُيشير إليـه الكتـاب امل ّ
جـد ًا لهارولـد روزنبيرغ ( ،)Harold Rosenbergتقليـد الجديـد((( .مل ّ
ينتصر اتبـاع الجديـد يف الفَ ّن فقط ،بـل يف املقاوالت والتقنيـة واالقتصاد
ومسـاحيق التصبين والسـيارات واملرشوبـات الغازيـة .يجعـل الجديـد
امل ِ
ُعـاص قدميـاً ،فيصير مرغوبـاً ويحـث على رشائـه.
ـن ،مـن الصعـب الحكـم على مسـتوى األعمال التي يف مـا يتعلَّـق بالفَ ّ
تقطـع مـع املعتـاد ،ونخشى أن نكـون رجعيين يف نقدنـا .لـذا نسـتغرب
أكثر ألن اللوحـة تبـاع بثمـنٍ باهـظ .وأخيراً ،نعترف بـأن اللوحـة باهظـة
جامليـة رائعـة.
ّ الثمـن لهـا قيمـة
ـن التصويـري إىل أن يصبـح أداة يف خدمـة املتالعبين مييـل الفَ ّ
يف السـوق .كما كتبـت عاملـة االجتماع راميونـد مـوالن (Raymonde
« ،)Moulinيصبـح الحكـم الجمايلّ ،يف ظـل جدليـة ملتبسـة ،ذريعـة
حكم جاميلّ».
ٍ التجارية الناجحـة إىل
ّ العمليـة
ّ تتحـول
َّ لعمليـة تجاريـة ،إذ
مل يكـن املُؤلِّـف ،يف زمـن موليير ( )Molièreوراسين ()Racine
وكورنيـل ( ،)Corneilleمبـدع مادتـه ،إذ يسـتقيها من التاريـخ أو من كُ َّتاب
املـايض ،وكان الفونتين ( )La Fontaineيغرفهـا مـن خرافـات إيسـوب
(.)Ésope
يتفـرد إىل أقىص الحـدود ،فيصبح
َّ أمـا املُؤلِّـف الحديـث فيبـدع مواده،ّ
الخـاص (أو يخفـي الكا ِتـب الشـبح الذي يسـتخدمه).
ّ لعملـه ً
ا مطلقـ ً
ا سـيد
ّ
فيتوج
وتكرس حقـوق املُؤلِّف سـيادتهَّ ،
ّ مقدسـاً.
تجعلـه الفـرادة واألصالة َّ
مبصطلـح العبقـري .يعنـي تعبير «العمـل الخالـد» -بينما ،بالطبـع ،كلّ
يسـتمر إىل ما بعد
ّ بشري فـانٍ -أنـه يخـوض معركة ضـد املوت لكي
ٍّ عمـلٍ
املُؤلِّـف وعرصه.
34
سـيلْعن الفَ َّنـان إذا كان أصيلاً للغايـة أو منحرفـ ًا باملقارنة مع املعايري ُ
رسـمياً ،فيطلق اسـمه عىل أحد الشـوارع. ّ به عرتف ي
ُ ثم لعصره، ـة الجاملي
ّ
وربـا إىل الفَ َّنـان
َّ الشـهري، ـان ن
َّ الفَ إىل امللعـون ـان ن
َّ الفَ مـن ننتقـل هكـذا
سمي .
ّ الر
َّ
اإلبداع الفَ ِّن ّي.
ِ هذه املالحظة تقودنا إىل القيود التي تؤثّر عىل
الرسـام على السـوق ،وبالتـايل على التاجـر .فالتاجر هو يعتمـد عمـل َّ
الرسـام وفق ًا ملـا يعتقد أنـه ذوق املُشترين .إذا كان ذا بصرية،
ـن ينتقـي َّ
َم ْ
فسيكتشـف موهبـةً غير معروفة وسـينجح يف جعلها مشـهورةً .وعىل هذا
النحـو ،متكَّ ـن هـواة مسـتبرصون من الحصول على أعمالٍ مجهولة أو غري
معروفـة لسـيزان وفـان غـوخ وبيكاسـو وكاندينسكي وغريهم ممـن انتقلوا
مـن الجهـل إىل املجـد ،ومـن العـوز إىل الرثوة .عىل سـبيل املثـال ،حقق
الرسـام جـان ميشـيل أتلان ( ،)Jean-Michel Atlanالـذي كان صديقـي َّ
يبيـع األقمشـة يف األسـواق من أجـل لقمة العيـش ،نجاح ًا مفاجئ ًا وسـافر
حـول العامل.
وباملثـل ،يعتمـد نشر عمـل الكا ِتـب على النـارش .ال متثـل حالـة
بروسـت التـي رفضتـه دار النشر غاليمار ( )Gallimardحالـةً فريـدة مـن
الصناعي للنشر ،أصبحت
ّ التجـاري
ّ التطـور
ُّ نوعهـا .منـذ ذلـك الحين ،مـع
األول أكرث صدفوية .انطالقـ ًا من نصفوضعيـة الكا ِتـب الذي يقترح عملـه ّ
تـم رشاء العديـد مـن النارشيـن املُسـتقلّني والحرفيين القـرن املـايضّ ،
مـن ِقبـل مجموعـات كبيرة مثـل دار النشر هاشـيت ( .)Hachetteتتـم
قـراءة املخطوطـات بشـكلٍ َأقـلّ فأقـلّ مـن ِقبـل مديريـن مثقَّفين أو
قـراء يحصلـون على الكُ َّتـاب أنفسـهم .يف حين تتزايـد قراءتهـا مـن ِقبـل َّ
يقدمـون تقاريرهـم .بعـد ذلـك ،لـن تحكـم رواتـب منخفضـة ،وهـم الذيـن ِّ
35
األدبيـة فحسـب،
ّ لجنـة القـراءة فقـط ،ولـن تحكـم على أسـاس الجـودة
مبجـرد إمتـام الطباعـة التجريبيـة،
َّ ُحتمـل للمكتبـة.
بـل على النجـاح امل َ
ُراسلات الصحافيـات الجميلات عبر نقـد الصحـف واإلذاعـة سـتثني امل ِ
ومرشـحة ألهـم الجوائز.
َّ والتليفزيـون على األعمال املفرتض أنها موهوبة
لـن ُتبـاع العديـد مـن النسـخ وسـتتلف بيـد الهـاون .
(((
36
يتـوج النجـاح بالضرورة
كما هـو حـال جميـع األمـور يف الحيـاة ،ال ِّ
الشـخصيات املُؤثـرة
ّ االسـتحقاق .يثنـي ال ُنقَّـاد الخاضعـون على ترهـات
ال عبقرية ظلَّـت مخطوطةاملرجـح أن أعما ً
َّ ويعتربونهـا أعما ً
ال رائعـة .مـن
وربا
ومل تجـد لهـا نارشاً .كام يكون النجاح والفشـل عرضيين يف الحياةَّ ،
أكثر مـن ذلـك يف العديـد مـن باقـي أمـور الحيـاة.
هكـذا ،مـن املُؤكَّ ـد أن النظـام يقتـل املواهـب يف مهدهـا ،ولكـن نظـر ًا
إىل التكامـل املُتعـارض بين اإلبـداع والنشر ،ونظر ًا إىل املنافسـة ووجود
نارشيـن صغـار ،فإنـه يسـمح أيضـ ًا بنرش أعمال جميلـة وأحيانـ ًا روائع.
األديب بشـكلٍ فردي ،قبل تقدميـه ألي نارش .ال ميكن
ّ يتـم إبـداع العمل ّ
أن يوجـد الفيلـم ّإل من خالل متويل املنتجني .لقد أنشـأت السـينام نظام ًا
صناعيـ ًا لإلنتـاج -التوزيـع -اإلبـداعِّ ،
يحركـه منـذ البداية البحـث عن الربح ّ
األقصى .تعتبر هوليـوود منشـأ ومـكان تطوير هـذا النظام .مل يعـد العمل
فرديـ ًا متامـاً ،بـل مثـرة تعـاون كُ َّتـاب السـيناريو والحـوارات واملخرجين
ّ
يتمواملُصوريـن واملُحررين واملوسـيقيني ومصممي الديكـور .ال ميكن أن ّ
إخـراج الفيلـم ّإل مبوافقـة املنتج عىل أسـاس سـيناريو ما ،واختيـار ممثِّل
-غالبـاً -مـا يفرضـه املنتج ،واختيـار املخرج.
والتخصـص .لقـد ا ّتخـذ هـذا ُّ يتـم إنتـاج فيلـم حسـب تقسـيم العمـل ّ
مكـرس لتحقيـق َّ ألنـه هوليـوود، نظـام يف الصناعـي
ّ اإلنتـاج حجـم اإلنتـاج
يتـم التأكـد من قـدرة العمـل الفَ ِّن ّي ّ الربح، هـذا أعلى ربـح .للحصـول على
تنوعـاً ،ويتمتـع على إرضـاء كال الجنسين ،وأكثر رشائـح املُشـاهدين ُّ
للممثِّلين املُؤسـطَ رين وشـبه املُؤلهين :النجـوم. بجاذبيـة رائعـة ُ
األصلية التي لها قواعـد ملزمة :رعاة
ّ ينتـج النظـام أفالمـ ًا وفق ًا للنماذج
البقـر واإلثـارة والكوميديـات املوسـيقية والكوميديـا العاطفيـة واألفلام
كونية للـــنهاية
ّ الكوميديـة ،لقـد فرضـت هوليـوود منـذ زمنٍ طويـل سـيادة
شـخصية ثانويـة ،لكنه يفرض
ّ يتضمن موت
َّ السـعيدة .ميكـن لكلّ فيلـم أن
النصر يف النهايـة لألبطـال يف الحـب والنجاح.
37
يوضـع السـؤال الـذي أجبـت عنـه يف كتـايب روح العرص((( :ملاذا سـمح
ٍ
بطريقة ليسـت نادرة هـذا النظـام بإنتـاج روائـع ،لـدى أقلّيـة بالتأكيد ،لكـن
متاماً؟
وإن اسـتجاب إلكراهـات منـاط ذلـك أن اإلنتـاج ينتظـر مـن كلّ فيلـمْ ،
الكالسـيكية لراسين ( )Racineكانـت تخضـع هـي ّ (ونعلـم أن الرتاجيديـا
متفـرد ًا وأصيلاً ،وبالتـايل ينتظـر منـه اإلبداع.
ِّ كذلـك إلكراهـات) ،أن يكـون
ُصـور ومحـرر
إبـداع كاتـب السـيناريو واملخـرج ،وكـذا املوسـيقي وامل ِّ
الفيلـم ...اسـتعانت هوليـوود بكُ َّتـاب سـيناريو مـن أمثـال ويليـام فولكنـار
( )William Faulknerوداشـيل هاميـت ()Dashiell Hammett
وغريهـم كثيرون ،ومبخرجين مـن أمثـال هـوارد هاوكـس (Howard
)Hawksوجـون فـورد ( )John Fordوفريتـز النـغ ( )Fritz Langوبيلي
والـدر ( .)Billy Wilderمتكَّ نـت هوليـوود مـن إنتـاج أعمالٍ عظيمـة يف
فـن السـينام ،لكنهـا كبحـت أيضـ ًا مبدعين أصيلين مثـل إيريـك فـون ّ
ستروهايم ( .)Eric von Stroheimوأفسـدت العديـد مـن األفلام عندمـا
غيرت تحريرهـم ،و أخير ًا أبعدت أورسـن ويلـس ( )Orson Wellesبعدما َّ
عبقرية شـاريل شـابالن
ّ اسـتعملته .بينما مل تسـتطع يف املقابـل أن متنـع
ين.
( )Charlie Chaplinومجـده الكـو ّ
حاليـاً ،تنكمـش اآللـة الهوليووديـة وتفقـد احتكارهـا يف الواليـات
امل َّتحـدة .إنهـا تسـتمر مـن أجـل إنتـاج أفلام ذات ميزانيـة ضخمـة مـن
تطـور التقنية واالنتقال
ُّ قبيـل سلسـلة حـرب النجـوم ( .)Star Warsغري أن
قمـي وإمكانيـة التصويـر خـارج االسـتوديوهات كلّهـا تسـمح
الر ّ
إىل النظـام َّ
للكُ َّتـاب املُسـتقلّني بجمـع األمـوال الالزمـة لتصويـر أفلام املبدعين
مبيزانيـة يف املتنـاول.
واالقتصاديـة الجديـدة إنشـاء أفلام
ّ تدعـم هـذه اإلمكانيـات التقنيـة
38
عـزز أنظمـة التسـبيق مـن اإليـرادات املبدعين .باإلضافـة إىل ذلـكُ ،ت ِّ
اإلبداعـات األصليـة .متكِّ ـن املهرجانـات أفلام املبدعين مـن العثـور عىل
موزعيهـا .ذلـك أن العائـق أمـام نشر األفلام ال يقتصر على نظـام اإلنتـاج
الرأسمايل وال على أساسـه فقـط :إن نظام التوزيـع الذي ال يقلّ رأسمالية
هـو الـذي يسـيطر عىل قاعـات العـرض ،بـل ميتلكهـا ،ويريد توزيـع األفالم
تطـور توزيـع مسـتقلّ وبشـكلٍ هامشي َّ ذات الربـح املضمـون فقـط .كما
ميكِّ ـن ،على املسـتوى الـدويل يف قاعـات عـرض صغيرة ،األعمال
السـينامئية العظيمـة والجميلـة مـن أن يكـون لهـا جمهورهـا العاشـق
ُتنـور.
وامل ِّ
وهكـذا ،يسـتمر نظـام التعـاون املُتعـارض ،ولنقـل تحـاور الحـدود
املُتكاملـة واملُتنازعـة يف اآلن نفسـه لإلبـداع /اإلنتـاج ،يف أشـكالٍ جديـدة
للسـينام.
هـذا التحـاور نفسـه يسري على األغنيـة ،وعلى موسـيقى الـروك،
وعلى املسلسلات التليفزيونيـة ،باختصـار على جميـع الفنـون املُص َّنعة
واإلعالميـة.
ّ
متنام ،يوجـد الفَ ّن يف معركـة -غالباً -ما
ٍ مـن اآلن فصاعـداً ،وعلى نحـ ٍو
يحتـاج فيهـا إىل تعاونٍ مع ضـده :الربح.
39
ُحاضة الرابعة)
(امل َ
اإلبداع
(1) Franck Barron, Creativity and Psychological Health, Van Nostrand, 1963.
41
التخلي عنـه .ك ّنـا عىل خطأ يف ذلك ،يف اعتقادنا ،ألنه ُيثري ما يشـبه نفَ سـاً ِّ
إما العبقرية ّ
ّ أو روحـ ًا تلـج أعماق الفَ َّنان لتهبه القـدرة اإلبداعية .يدلّ لفـظ
وإما على القـدرة التوليديـة للفَ َّنان.
روحيـةّ ،
ّ على كائـنٍ أسـمى ذي طبيعـة
ينطبـق اللّفـظ اإليطـايل إينجينيـو ( ، )ingegnoالـذي اسـتعمله فيكـو
(((*
42
الشامان (الكاهن) والشامانية
43
كان هنـود بويبلـو ( )Pueblosيف املكسـيك يتغـذون فقـط على الذرة،
الخاصـة يف طبخهـا ،مـع لحـاء األشـجار أو ّ وكانـت لـكلّ قريـة طريقتهـا
الحجـر الجيري ،أو غريهـا مـن املنتجات .ربـط علماء األنرثوبولوجيا هذه
السـحرية ،إىل أن أظهر عـامل بيوأنرثوبولوجيا أنه
ّ املامرسـات باملعتقدات
ُكونات املسـاعدة ،فلن يتمكَّ ن أي من هـذه امل ِّ
تـم طهـي الـذرة مـن دون ٍّ
إذا ّ
ُغـذي يف الذرة،البشري من دمج الليسين ( ،)lysineالعنرص امل ِّ ّ الجسـم
((( ِ
باملوت جوعـ ًا .وعليـه ،أعتقد أن الشـامان وسـيحكَ م على هـذه السـاكنة
ُ
هو الذي متكَّ ن ،يف كلّ قرية ،من تعليم الطريقة املُغذِّ ية لطهي الذرة.
ـن رسـم جـدران السـكو ..الشـامان أم الفَ َّنانـون؟ جوايب هو :الشـامان َم ْ
والفَ َّنانـون ،إنهـم ف َّنانون ألنهم شـامان.
كيـف؟ عـن طريـق قـدرة املحـاكاة على خلـق التشـابه مـع الحيوانـات
ٍ
كهف الر ّسـامني ال يضعون املامـوث أمامهم يف دون رؤيـة منوذجهم -ألن َّ
الذهنيـة .إننـا أمـام قـدرة محـاكاة للحالـة
ّ مظلـم ،-وانطالقـ ًا مـن التمثُّلات
النفسـية تفترض حالـة ثانيـة أسـميها «نصـف النشـوة» ،حيـث يتعـاون ّ
الوعـي والالوعـي.
التامثليـة ال تنفصـل عـن عمليـة
ّ الذهنيـة
ّ يجـب أن نالحـظ أن العمليـة
العمليـة
ّ التامثليـة تسـمح باملحـاكاة التـي تجعـل
ّ املُحـاكاة :فالقـدر ُة
التامثليـة ممكنـة.
ّ
44
التقمـص
ُّ املُحـاكاة مـن نسـخ حيـوان بشـكلٍ مثير لإلعجـاب عـن طريـق
النفيس ،وميكننا أن نفرتض
ّ النفسي ،بـل ميكنني القول عن طريق التملُّـك
ّ
الر ّسـامني يف
َّ حـال هـو كما النشـوة، نصـف أو للنشـوة الثانيـة الحالـة أن
واع.
ـم ٍالحضـارات الالحقـة ،تكـون مصحوبـة بتحكُّ ٍ
الر ّسـامني مـا بعـد شـامانيني ،برتكيـزميكننـي القـول مبعنـى مـا :كلّ َّ
قواهـم على ف ّنهـم ،وامتالكهـم ملوهبـة خلـق تعـاون بين حالة نشـوة غري
متشـنجة أو نصـف نشـوة والتنظيـم والتصحيـح اللذيـن يحققهما الوعـي
فطريات من
ّ اليقـظ .كان الشـامان يتناولـون مرشوبـ ًا مهلوسـ ًا أو ميضغـون
قبيـل البيوتـل ( )peyotlللدخـول يف نشـوة .ميكـن للفَ َّنـان تنـاول األدويـة
املختلفـة للحصـول على اإللهـام.
ُخـدرات يف املقهى .اسـتطاع كُ َّتـاب مثل أندريه كان بلـزاك يتعاطـى امل ِ
مالـرو ( )André Malrauxأو روجـي فايان ( )Roger Vaillandأن يتناولوا
الكوكايين ليضعـوا أنفسـهم يف حالـة اإلبـداع على وجـه التحديـد .لفترة
ـس أرتشـفه مينحنـي طويلـة كُ نـت أدخـن أثنـاء الكتابـة ،كما لـو أن كلّ نَفَ ٍ
ٍ
ناحيـة ،واملاريجوانا اإللهـام .إن الفصـل تعسـفي بني الكحـول والتبغ مـن
يـؤدي إىل تهييـج قـوى ناحيـة أخـرى .إن الكحـول مهيـجِّ :ٍ والكوكايين مـن
العقـل الباطن .
(((
حالة ثانيـة من ِ
الغبطة أو ٍ اإلنسـانية العقاقري لبلوغ
ّ لطاملـا اسـتخدمت
اإلثـارة ،ومـن املُثير لالهتمام أن الفَ َّنان ،املُبدع ،يسـتخدم هذه الوسـائل
إلنتـاج أعامله.
نصف النشـو ِة للشـامان بخلق ُ حالة النشـو ِة غري املُتشـ ِّنجة أو
ُ سـمحت
سـحري ،أصبـح بالنسـبة إلينـا تحفـةً ف ِّن ّيـة .مينـح
ّ عمـلٍ رمـزي ذي طابـع
النفسي املوهبـة ،كما رأينـا ،إلعـادة إنتـاج كلّ شـكلٍ ّ التقمـص أو التملُّـك
ُّ
ين على نحـ ٍو مثير لإلعجاب. حيـواين وإنسـا ّ
حد ذاتها من اإلدمان عندما يصبح املرء عبد ًا للحاجة. ((( تكون امل ِ
ُخدرات أقلّ رضر ًا يف ِّ
45
جربتهـا عندمـا التحقت تتواصـل حـاالت نصـف النشـوة والتملُّـك :لقـد َّ
بطائفـة كاندامبلي ( )candombléيف فورتاليـزا ( )Fortalezzaبالربازيل.
سـتمدة مـن ديـن ياروبـا (( )Yaroubasالشـعب َّ إن الكاندامبلي عبـادة ُم
قـداس
ُسـتعبد فيهـا) ،تتكافـل مـع َّ
َ ُرحـل إىل الربازيـل وامل اإلفريقـي امل َّ
عاديـ ًا تقريبـاً؛ خلال
ّ قداسـ ًا
األول مـن الحفـل َّ كاثوليكي .ميثـل الجـزء ّ
العبقريـة يك
ّ سـتدعى األوريشـا ( ،)orishasأي اآللهـة َ الجـزء الثـاينُ ،ت
يتجسـدوا يف املؤمنين .نرقـص ونغنـي باهتيـاج متزايد فتحرض األوريشـا. َّ
شـخص يرقص ،والـذي ُيتلَك فجـأة ،فيفقد صوته ٍ يتجسـد واحـد منهـا يفَّ
ويتحـدث بصـوت األوريشـا.َّ
تحـدث ميشـيل لرييـس ( )Michel Leirisعـن حالـة نصـف متلُّـك يف َّ
سـحرية(((.
ّ دينية وظيفة ذات مرسحيـة أداء أثنـاء إثيوبيـا، يف ِّلين
ث مم فرقـة
متثـل ظواهـر التملُّـك بين اإلثيوبيين يف غونـدار ( )Gondarالذين اسـتولت
عليهـم األرواح املعروفـة باسـم الـزارات ( )zarsصفـات متناقضـة .قد تكون
الكالسـيكية ،لكنهـا تنفتـح أيضـاً ،يف منتصـف الطريـق،ّ مرتبطـة بالشـامانية
العمليـة واللعـب املرسحـي .وفقـ ًا لسـاحرة ّ على حالـة مـا بين الحيـاة
مشـهورة لـدى املُؤلِّـف ،أثنـاء إقامتـه يف إثيوبيا« ،كانـت زاراتها تشـكِّل نوع ًا
الشـخصيات التـي ميكـن أن تأخذهـا وفقـ ًا لضرورات وجودهـا ّ مـن غرفـة
تقـدم لها السـلوكات واملواقـف الجاهزة، شـخصيات ِّّ اليومـي وفرصهـا ،إنهـا
يف منتصـف الطريـق بين الحياة واملسرح» .إن هذا الطابـع األخري هو الذي
خـاص .هـذه الحالـة املختلطـة توضـح ّ لفـت انتبـاه ميشـيل لرييـس بشـكلٍ
ال مـن املُحـاكاة والتملُّـك .إنـه مزيـج من «املسرح املُعـاش» و«املرسح ك ً
ُؤدى»ُ .يشير املُؤلِّف إىل اللحظة التي ينتج فيها امتالك الزار سكيتشـات امل َ
هزليـة حقيقيـة قائلاً « :يتـم تنظيـم كوميديـابتواطـؤ الجميع حول الشـخص
األول ويصبـح نوع ًا مـن صانع األلعاب» .يبـدو أن متلُّك الـذي يعطـي الدافـع ّ
التخصـص يف ُّ الـزار ،عنـد االنتقـال مـن املسرح إىل املدينـة ،ي ّتخـذ طابـع
(1) Michel Leiris, La Possession et ses aspects théâtraux chez les Éthiopiens de Gondar,
Pion, 1958.
46
أهم ّية من املسرح املُعاش.
ُـؤدى يصبـح أكثر ِّ
األخويـات ،وأن املسرح امل َ
النـص األسـايس للرييـس ك ً
ال مـن اال ِّتصـال واالنفصـال بني ّ يحـدد هـذا
ِّ
التملُّـك السـحري الدينـي مـن ِقبـل الـزارات التي «ميكـن ربطها بالشـامانية
ين» للممثِّـل الـذي ،ال ُيشير لرييـس إىل «العلما ّ
َ الكالسـيكية» واللعـب
ّ
ذلـك ،يكـون يف حالـة مـن التمثيـل الصامـت ،أي مملـوك ًا ليـس مـن ِقبـل
يجسـدها.
ِّ الشـخصية التـي
ّ إلـه ،بـل مـن ِقبـل
روح أو ٍ
ٍ
شـاباً ،أنجـزت رسـومات
ّ أدعـي أننـي ف َّنـان ،لكـن عندمـا كنـت
ال ّ
كاريكاتوريـة ملعلِّمـي ورفاقـي ورفيقتـي ،وكانـت هـذه الرسـوم مشـابهةً
متامـاً .يف حني رسـمتها مـن ذهني .إذا نظرت إىل منوذجـي ،وتقصيت أنفه
ليـدي بشـكلٍ نصف
ّ التشـابه ،يف حين إذا أطلقـت العنـان
ُ وعينيـه ،جانبـت
واع ،نجحـت يف رسـمه. ٍ
قادتنـي هـذه املُحاكاة إىل مجالٍ آجر :قلَّدت أصوات بعض األشـخاص،
وخاصـة صوت أسـتاذي جورج فريدمـان ( .)Georges Friedmannأحببت ّ
تقليـده والقيـام بذلـك طـوالِ الوقـت .كنـت بطريقـة أو بأخـرى مسـكوناً،
لكـن املثير يف األمـر أنـه عندمـا قلَّدتـه ،مل أُقلِّـد صوتـه فقـط ،عندمـا
تقمصتـه كما
قلَّـدت صوتـه ،كنـت بداخلـه ،ويف مشـاعره ،إذ فكَّـرت مثلـهَّ .
شـخصية يجـب أن يلعبها ،لكـن يف هذه الحالـة ،كانت هذهّ يتقمـص ممثِّـل
َّ
الشـخصية حقيقيـة.
ّ
النفسـية،
ّ جعلتنـي هـذه التجربـة الصغيرة أفهـم دور املُحـاكاة
املُرتبطـة بالحالـة الثانية ،لـدى املُقلِّد واملُمثِّل معاً .كانـت هذه املُحاكاة
الصغيرة ،التـي دفعتنـي إىل الدخـول إليـه وجعلتـه يدخلنـي ،يف الواقـع
حالـة نصـف نشـوة وشـبه متلُّـك.
متطرفتين ،بل حالتين مألوفتني يف
ِّ ال ُي َع ُّـد التمثيـل والتملُّـك حالتين
اإلبـداع الفَ ِّن ّـي واملشـاركات وإثـارات حيواتنا معاً.
إلهـام ثانيـة ،نوع من
ٍ متغير ًا بين حالـة
ِّ ـي تعاونـ ًا
إبـداع ف ّن ّ
ٍ يتضمـن كلّ
َّ
دون ذلـك فيكتـور النشـوة املُخفَّفـة ،أو نصـف النشـوة ،والحالـة الواعيـةَّ .
47
سيرج ( ،)Victor Sergeوهـو ثـوري وكا ِتـب ،يف دفاتـر مالحظاتـه« :إِ ّن
ٍ
واضحـة ونشـوة(((». ـي عمـلُ إراد ٍة العمـلَ
الفَ ِّن ّ
ميكننـا أن نقـول إن نصـف النشـوة هـي حالـة الفَ َّنـان التـي تسـمح لـه
باسـتخدام -يف الوقـت نفسـه -القـوى الالواعيـة والواعيـة لعقلـه.
الر ّسـام يشـعر بحالة نصف نشـوة ونصفإذا أخذنـا حالـة الصورة ،نجد َّ
متلُّـك مـن ِقبـل الشـخص الـذي ميثله .خلال هـذه الحالـة ،ميكن َّ
للر ّسـام
وسـيعدل.
ِّ أن ينجـز العمـل ،وعـن طريق التحكُّ م الواعي :سـيصحح
يشء ينبـع من أعماق املوجود .شـعر ٍ إنـه تعـاون الوعـي الصـايف مـع
سيرجي أيزنشـتاين ( ،)Sergueï Eisensteinاملُخرج السـيناميئ الكبري،
مجـرد نكـوص ُمصط َنـع ،يف مجـال علم َّ ـن
جيـد وقـال« :أليـس الفَ ّ بشـعو ٍر ّ
النفـس ،إىل أشـكال الفكـر البـدايئ ،بعبـار ٍة أخـرى إنـه ظاهـرة مامثلـة ملـا
خـدر مـا ،أو املرشوبـات الكحوليـة ،أو السـحر ،أو التمذهـب، ٌ يحدثـه ُم
إلـخ؟ اإلجابـة عـن هـذا السـؤال بسـيطة ومثيرة لالهتمام للغايـة .مفادهـا
جـداً .يؤ ِّثر فينا
ـي مبنيـة على «وحـدة ثنائية» غريبـة ّ أن جدليـة العمـل الفَ ِّن ّ
ـي على وجه التحديـد ،ألن فيه يتم إنجـاز عملية ثنائيـة :ارتفاع العمـل الفَ ِّن ّ
غير متناسـب وفق ًا ألعىل مسـتويات الوعـي ،والولوج املتزامـن ،عن طريق
جـد ًا للفكـر الحيس».
الشـكل ،يف الطبقـات الباطنيـة ّ
وأعتقـد أن الحالـة الثانيـة ،املُحـاكاة ،ونصف النشـوة ،ونصـف التملُّك
الر ّسـم والروايـة واملوسـيقى وجميـع الفنون.
حـارضة يف َّ
ٍ
لتحـد يضعـه ميكـن لإلبـداع أن يسـتغلّ الصدفـة ويسـتجيب -غالبـاً-
املُؤلِّـف لنفسـه ،لكنـه يكـون دامئـ ًا مزيجـ ًا مـن نشـاط مـا بعـد شـاماين أو
ويحسـن.
ِّ صحـح ويتحكَّ ـم واع ُي ِّ
شـبه شـاماين ،ونشـاط ٍ
على سـبيل املثـال ،عندمـا كنـت صغيراً ،كتبـت قصائـد .اآلن أدرك
(1) Victor Serge, Carnets ( 19361947-), Agone, coll.« Mémoires sociale», Marseille, 2012.
48
بتصـوري ما بعـد الشـاماين ،أنني كنت
ُّ جيـداً ،بشـكلٍ اسـتذكاري ،مسـتنري ًاّ
سـمى اإللهـام ،يف حالـة نشـوة حلـوة ،وأنـه مـن دون هذه َّ ت
ُ ثانيـة ٍ
حالـة يف
الحالـة الثانيـة ،مل يكـن مبسـتطاعي كتابـة قصائـد .أضيـف إىل ذلـك أن
قيـود القـوايف أو عـدد املقاطـع تزيـد مـن تحفيز اإللهـام والـدور التعاوين
للنشـاط الواعـي معـاً.
علاوة على ذلـك ،يجـب أن أقـول إنـه عندمـا كنـت أكتـب املنهـج (La
،)Méthodeشـعرت أثنـاء الكتابـة بحالـة نصـف امتلاك ومتعـة إنجـاب
ممزوجـة بـاألمل .وهـذا يعنـي أننـي كنـت أدفعـه بقـوة وأتركـه يتولَّـد،
لكنهـا والدة متواصلـة ،يومـ ًا بعـد يـوم .الجـئ يف توسـكانا ()Toscane
البحريـة ،يف قلعـة معزولـة مخربة جزئيـاً ،كاستيغليونسـيلو دي بولغريي
( ،)Castiglioncello di Bolgheriرشعـت يف العمـل بلا كلـل مـن
بنزهـة سير ًا على األقـدام حسـب رغبتـي:ٍ الصبـاح إىل الليـل ،أحيانـ ًا أقـوم
اسـتطعت ح ّقـ ًا الكتابـة يف حالـة ثانيـة تحفِّـزين ،بطبيعـة الحـال ،املناظر
الطبيعيـة الرائعـة وحضـور املحبـوب الـذي جـاء للحفـاظ على االحتراق
يل لإللهـام .مـا اإللهـام؟ إنه
الداخلي لفـرن االنفجـار ،الضروري بالنسـبة إ ّ
يكـن من الضروري أن تكون متملِّـك ًا للرشوعْ مل
مينحنـا النشـوة والتملُّـك .أ ْ
عمـل مل يؤمـن بـه أحـد ،والـذي مل يظـن أحـد أننـي قـادر عليـه ،والـذي يف ٍ
كنـت أعلـم أنـه سـيبقى على هامـش ثقافتنـا؟
ال أرى يف الحـاالت اإلبداعيـة منتجـات ثانويـة للشـامانية ،بـل تـركات
مخفَّفـة .وفَّـرت الشـامانية بشـكلٍ متنـا ٍه وسـيلة الولـوج إىل الالمـريئ ،إىل
العـامل اآلخر ،عامل األرواح بالنسـبة إىل الشـامان ،والـذي صار اليوم عامل
العقـل بالنسـبة إىل الفَ َّنـان أو املُؤلِّـف.
ترسـخت الشـامانية والسحر عىل هذا النحو يف العامل امل ِ
ُعاص .إنهام َّ
والجامليات.
ّ ـن
ّ الفَ يف كبير حـد
ٍّ إىل حارضيـن يـزاالن ال لكنهما َّفـان،
مخف
عندمـا نقـول سـحر الكلمـة ،تعويـذة الشـعر ،فـإن هـذه الكلمات ترتجـم
الخفي للسـحر والشـامانية.
ّ الوجـود
ميكننـا أن نجـد يف هـذه الكلمات -عبقريـة ،إلهـام -إرادة التعبير عـن
49
ٍ
«يشء مـا ال أدري مـا هـو» ( ،)je-ne-sais-quoiالـذي يـأيت مـن قدرة عىل
ٍ
واحـد م ّنـا ،والـذي سـيتمكن مـن محـاكاة نصـف النشـوة الكامـن يف كلّ
ومبدعين. تفعيلـه أولئـك الذيـن يصبحـون ف َّنانين ُ
تسـود الحـاالت الثانيـة ،أي نصـف النشـوة ،ونصـف التملُّـك ،ونصـف
التعجـب والتم ُّتـع ،ومـا قبـل
ُّ املتوسـطة أو شـبه املتوسـطة ،وحـاالت
ـي ،واالنفعـال الجمايلّ.
النشـوة ،داخـل اإلبـداع الفَ ِّن ّ
متفرج هـو دامئ ًا حالة
ِّ يل الـذي نشـعر به كقـارئ أو
إن االنفعـال الجما ّ
ثانيـة مـن التملُّـك اللطيـف ،ومحـاكاة لطيفـة ال ندركهـا يف بعـض األحيـان
البتـة ،على الرغـم من أنهـا موجـودة فينا.
بعبـارة أخـرى ،إن االبتهـاج الـذي ينتابنـا أمـام الطبيعـة وأمـام غـروب
شـعرية
ّ الشـمس الجميـل وتحـت قبـو كنيسـة سيسـتني ،ينقلنا إىل حالة
فتتحـول إىل جاذبية ،ونصف
َّ تتضخـم هذه الحالـة الثانية
َّ ثانيـة .ميكـن أن
وربـا تقودنا يف الـذروة إىل حدود الوجـد ،مثلام حدث يل متلُّـك وإثـارةَّ ،
خلال التنفيذ املُتسـامي لــسيمفونية العـامل الجديـد (la Symphonie
)du Nouveau Mondeمـن ِقبـل كالوديـو أبـادو ()Claudio Abbado
يف أوبـرا بالريمو.
أهـم يشء يف الحيـاة ،بالنسـبة إلينـا ،هـو بالتحديـد مـاّ أعتقـد أن
حـد ذاتهـا التجربـة
تضـم يف ِّ
ّ الشـعرية التـي
ّ أجمعـه تحـت اسـم الحالـة
الجامليـة وتتجاوزهـا.
ّ
همة ال َف َّنان
ُم َّ
إذا كان الشـامان هو الشـخص الذي ميتلك املعرفة األعمق واألصدق،
عم إذا كانت
وإذا كان النبـي هـو الذي يديـن وينبئ ،فبمقدورنا أن نتسـاءل ّ
مهمتهما مل ُتبعـث بشـكلٍ مشترك منـذ عصر التنويـر بشـكلٍ جديـد لـدى َّ
بعض الفَ َّنانين والكُ َّتاب.
50
يشـعر فولتير ( )Voltaireوديـدرو ( )Diderotوروسـو ()Rousseau
وجوته ( )Goetheوتولسـتوي ( )Tolstoïودوستويفسكي ()Dostoïevski
مهمـة تتجـاوز األدب وتتعلَّـق مبصير اإلنسـان .إنهـم بأنهـم منخرطـون يف َّ
تحـول فيكتـور هوغـو ()Victor Hugo ّ االجتامعيـة.
ّ يف حالـة مـن النبـوءة
خلال الشـيخوخة إىل شـاماين .يكشـف مـن خلال شـعره وأعاملـه عـن
البرشيـة جمعـاء :رسـولّ رسـالة ،ليـس بالنسـبة إىل فرنسـا فقـط ،بـل إىل
الحر ّيـة ،يختـار املنفـى يك ال ُيعـاين مـن الطغيـان الـذي يدينـه يف ديوانه: ّ
العقابـات ( .)Les Châtimentsثـم سـيتدخل يف البلديـة ،مـن أجـل
كسـيايس ،بـل باعتباره شـامان ًا
ّ سياسـي ًا ليـس
ّ الجمهوريـة .إنـه يلعـب دور ًا
ومتنبئـ ًا جديـداً .أعتقـد أن مـا أطلـق عليـه يف القـرن العرشيـن ِّ جديـد ًا
ُهمة التي تأخـذ ُبعد ًا ما
«التـزام» الكُ َّتـاب والفَ َّنانين يتوافـق مـع الوعـي بامل َّ
بعـد شـاماين ومـا بعـد النبـوة.
كان إميـل زوال ( )Émile Zolaروائيـ ًا خالصاً .أصبح فجأة من خالل قضية
متحدثـا باسـم الحقيقـة والعدالـة .منـذ بدايـة الحرب
ِّ درايفـوس ()Dreyfus
ندد الكا ِتـب رومان روالنـد (،)Romain Rolland العامليـة األوىل وطوالهـاَّ ،
مؤلِّـف كتاب جان كريسـتوف ( )Jean-Christopheاملنسي للغاية ،بالنزاع
مما أكسـبه لعنـة كال الجانبين ،لكـن جعلـه أيض ًا لسـان حال بين األشـقاءّ ،
الحكمـة العظيـم ملـدة أربع سـنوات مـن جرائم القتـل الهائلة.
عامة
اعتقـد الكثير مـن الفَ َّنانين والكُ َّتـاب ويعتقـدون أن لديهم رسـالة ّ
ـن ،بالنسـبة
عليهـم إعالنهـا مـن دون أن يكونـوا سياسـيني محرتفين .فالفَ ّ
مجـرد متعـة جاملية ،بـل عليـه أن يلعـب دور ًا يف املجتمع.َّ إليهـم ،ليـس
الشـخصية العظيمـة يف املجتمـع القديـم ،القائد،ّ مل يكـن الشـامان،
تكـن لديـه سـلطة على شـعبه ،لكـن كانـت لـه مكانـة أعلى .إن الفَ َّنان ومل ْ
امللتـزم حاليـاً ،علاوة على أنـه مشـهور ومثير لإلعجـاب ،وريث على نحو
وللمتنبـئ التـورايت أيضاً.
ِّ مـا للشـامان،
51
ُحاضة الخامسة)
(امل َ
سحر االزدواجية
ُ
ألهمتنـي كثير ًا فكـرة يف كتـايب عـن املوت وعـن السـينام((( ،مفادها أن
الصـورة واالنعـكاس والصـورة الشـخصية واملناظـر الطبيعيـة املرسـومة،
(1) Edgar Morin, Le Cinéma ou l’homme imaginaire, Essai d’anthropologie, Editions de
Minuit, coll. «Arguments», 1958.
(2) L’Homme et la mort, Seuil, coll. «Points», 1976 et Le Cinéma ou l’homme imaginaire,
op. cit.
53
والحقـاً ،الصـورة والفيلـم يحملـون يف ذاتهـم «يشء مـا ال أدري مـا
توحـد الصـورة أو الصـورة
هـو» ،إنـه بطريقـة مقنعـة سـحر االزدواجيـة .ال ِّ
خاصية الحضور يف الغياب فقط ،بل متتلك سـحر ًا ّ الفوتوغرافيـة يف ذاتهـا
خاصـ ًا بالقريـن أيضـاً .على الرغـم مـن أن التصويـر الفوتوغـرايف ليـس لـه ّ
الخاصة
ّ جسـد ،وليـس لـه مـادة ،وليس له حيـاة ،فإننا نشـعر أن له حياتـه
أحبائنـا .على الرغـم مـن أن
خاصـة عندمـا يتعلَّـق األمـر بصـور ّ ّ وسـحره،
الواقـع غائـب عـن االنعكاس ،وعـن الصـورة ،وعـن الصـورة الفوتوغرافية،
سـحر كامن
ٌ ملحـق إضـايفٌّ حقيقي يف مضاعفـة الواقع،
ٌ فإنـه يوجـد دامئـ ًا
يشءٌ ٍ
أسـميته «سـحر الصـورة» .بعبـارة أخـرى ،يوجـد يف انعـكاس الواقع
«يشء ما ال أدري
ٌ ويشء مـا أكرث من ذلك :هالـة،
ٌ أقـلّ مـن الواقـع املادي،
مـا هـو» عاطفي ،شـعوري.
وخاصة عن تصوير
ّ طـورت الفنون التي نجمت عـن التصوير الفوتوغرايف، َّ
الوثائقي عىل
ّ الفيلـم يحتـوي ال االزدواجية. سـحر كـة،ُتحر
ِّ مل ا الرسـوم أفلام
املعلومـات والتعليـم فقط ،بل يحتوي عىل سـحر الصـورة أيضاً.
َّ
يتجل يف اإلنسـانية القدميـة ،مصحوبـ ًا بقرينـه الذي
ّ كان كلّ فـرد ،يف
ال يف األحلام .عند الوفاة، الطيـف ويف االنعكاس ،ويصبح نشـيط ًا ومسـتق ً
ٍ
وبينما ينهـار الجسـم ،ينفصـل هـذا القريـن كطيـف غير مـادي سـيدوم.
خاصـة باألطيـاف،
ّ ميكنـه أن يبقـى يف الجـوار أو يعـود ،إذا كان يف إقامـة
اسـتمرت الحضارات العظيمـة يف تكريم األجداد َّ بفضـل دعواتنـا ،فنكرمه.
والشـيوخ واألمـوات يف العبـادات العائليـة يف الصين على سـبيل املثال.
كان هـذا االعتقـاد موجـود ًا بالفعـل لـدى اإلغريـق يف العصـور القدميـة
ونجـده حاليـ ًا يف عيـد جميـع القديسين :اليـوم السـنوي الـذي يبعـث فيه
املـوىت بين األحيـاء .يجـب أن نحتفـل بهـم ،ونطـري عليهم.
وخاصة
ّ يتكـرر موضـوع القرين واالنعكاس واملرآة يف األدب والشـعر،
َّ
يوضـح ذلك أوتـو رانـك ( )Otto Rankيف كتابه دون
الرومانسـية ،كما ِّ
ّ يف
جـوان والقرين (.)Don Juan et le Double
والرسـم والنحـت والسـينام،
َّ هنـاك طريقـان يف الفنـون والروايـات
54
واللـذان ميكـن أن يندمجـا مـع بعضهام البعـض ،الطريـق «الواقعية» التي
الشـخصيات واألحداث
ّ تسـعى للتشـبه بالحياة وعكـس الواقع ،مـن خالل
الخياليـة؛ والطريـق الرائـع الـذي يخترع كونـ ًا ينفلـت مـن معايير واقعنـا.
ميكن الجمع بني هذين الطريقني ،ولكن غالب ًا ما يكونان مختلفني.
ذلـك أن طريـق التشـابه وتقليد الحيـاة والنزعتني الواقعيـة والطبيعية،
يتضمـن ،بالنسـبة إلينـا نحـن املُتفرجين أو
َّ الجامليـة عندمـا
ّ يبلـغ صفـة
ـراء ،سـحر ًا ( ،((()charmeأو شـعر ًا أو سـحر القريـن.
ال ُق َّ
القراءة والفرجة
وضع
ٍ املرسحية ومشـاهدة الفيلـم يف
ّ تشترك قـراءة الروايـة والفرجة
قـداس الكنيسـة وحـدة تحتضـن اللـه واملحتفـل مـزدوج متامـاً .يرسـخ َّ
ِ
ُشـاهد ـداس واملؤمنين .يف حين ،تفترض الفرجـة ازدواجيـة بني امل بال ُق َّ
جسـدي ًا يف كرسـيه ،والواعي بوضعـه كمالحظ ،ومن
ّ ٍ
جهـة ،واملغروز مـن
والشـخصيات،
ّ النفسـية الشـديدة يف الحركـة
ّ ٍ
ناحيـة أخـرى ،مشـاركته
وشـدة
ّ للمرسحيـة وللفيلـم .يعتبر هـذا الوضـع األكثر مالءمـة لنشر ّ
الجامليـة .هنـاك ازدواجيـة مامثلة يعيشـها قـارئ الروايـة ،الذي
ّ املشـاعر
القصـة.
ّ حركـة يف عقلـه يشـارك بينما ً،
ا جسـدي
ّ يكـون سـلبي ًا
تأثري الحياة
55
حيـة بالنسـبة إىل املُؤلِّـف كما بالنسـبة إىل
شـخصيات الروايـة ّ
ّ تكـون
القـارئ .إنـه يف الحقيقة «اإللهام» ،أي «النشـوة» اإلبداعية التي متنحهم
الجامليـة للقـارئ هـي التـي ُتعيـد لهـم هـذه الحياة.
ّ الحيـاة ،واملشـاركة
الحيـة
ّ مثلما تضفـي لعبـة الضـوء على الشاشـة شـك ً
ال على الكائنـات
جسـدياً ،فتبعث فيها صورتهـا الحياة .تعطينا املوسـيقى بالذات
ّ الغائبـة
عبقريـة املوسـيقي:
ّ شـعور ًا بحيـاة مكثَّفـة .يقتبـس مونـش عـن روسـو
«حتـى أثنـاء رسـم أهـوال املـوت ُيبعـث يف الـروح ذلـك الشـعور بالحياة
[ ]...الـذي يبلغـه إىل القلـوب ليجعلهـا تشـعر».
غير أن هـذه الحيـاة فريـد ٌة للغايـة :إنهـا الحيـاة وليسـت الحيـاة .إنهـا
حيـاة حقيقيـة ،ولكنهـا ليسـت حيـاة حقيقيـة (ومـن هنـا جـاءت األفـكار
ـن التـي يجـب على العكـس إكاملهـا) .إنهـا املُناقضـة لحقيقـة وكـذب الفَ ّ
الحيـاة مـع األكثر واألقـلّ .األقـلّ هـو غيـاب الواقـع املـادي الحـارض،
يل بالدرجـة األوىل ،أي حيـاة العمـل واألكثر هـو السـحر ،السـحر الجما ّ
ُصـو َرة.
مل َّيتغير شـكل الحيـاة ا ُ
َّ ـي .هكـذا
الفَ ّن ّ
والرواية
الروايئ ِّ
ِّ
وشـخصياته ،وما يجعله
ّ إن الكاتب نصف شـامانُ ،متملَّك جزئي ًا بعمله
ّ
تتضمن رؤية
َّ إذ ً،
ا جـد
ّ ـة مهم
َّ كلمة البصيرة إن البصيرة. صاحـب هـو مرئيـ ًا
عميقـة ،كام لـو كانت متتلكهـا قوة هلوسـة ،غائبة عادة.
وتتوحد،
َّ وتتطـور
َّ تتكـون
َّ الـروايئ وتوحـد شـبه جبلـة خارجية
تفـرز روح ِّ
الـروايئ
وشـخصيات وأحداثـاً .يتحكَّ ـم ِّ
ّ لتصبـح عاملـ ًا يضـم مجتمعـ ًا
الرومانسي يف الحالـة الثانية
ّ بوعـي ،لكنـه ينشـئ كونـه
ٍ ويصحـح ويحـذف
ِّ
مـن النشـوة اللطيفـة.
هكـذا ،أعـاد بلـزاك ( ،)Balzacعلى سـبيل املثـال ،خلـق مجتمـع
بالشـخصيات واألحـداث ،مزيـج مـن الواقـع والخيـال ،حيـث
ّ كامـل يعـج
56
يكـون الخيـال يف خدمـة إحيـاء املجتمـع الحقيقـي لعصره .تعيـش فيـه
الرومانسـية ،وتصبـح شـبه مسـتقلّة ،متلي سـلوكها على
ّ الشـخصيات
ّ
«شـخصيايت تنفلـت منـي،
ّ : قائلاً وايئالـر
ِّ قـر ي
ُ أن الشـائع مـن الكاتـب.
شـخصيايت ممتنعـة السـيطرة عليهـا». ّ وتصبـح
الـروايئ أو الفَ َّنان
الرواية والعمل الفَ ّن ّي نتاج ِّ
علاو ًة على ذلك ،ال تكـون ِّ
ـي ذاتـه بذاتـه مثلما مـا ينتـج الطفـل ذاتـه يف فقـط ،إذ ينتـج العمـل الفَ ّن ّ
بطـن أمـه .تقـوم األم بإطعام الجنني خالل تسـعة أشـهر مـن الحمل ،لكن
يتـم تحريك كلّ عمل بواسـطة الخاصـة وبجيناتـهّ .
ّ سـيتطور بقـواه
َّ الجنين
قـوة إبداعيـة ذاتيـة تتغـذَّ ى بشـكلٍ طبيعـي مـن الكاتـب ،لكـن العمـل هـو
كائـن حـي ،عنـد كتابتهـا ،وأيضـ ًا ٌ فالروايـة
الخـاص .وبذلـك ِّ ّ أيضـ ًا مؤلِّفـه
عنـد قراءتهـا .تكـون جامـدة يف املكتبـة أو خزانـة الكتب ،لكـن تبعث فيها
الحيـاة تحـت عني القـارئ وبواسـطتها.
وخاصة كلّ رواية عظيمة -أستحرض
ّ إن كلَّ رواية واقعية،ميكننا القول َّ
هنـا ديكنـز ( )Dickensوبلـزاك وزوال ( )Zolaوبروسـت ( )Proustوسـيلني
( -)Célineهـي يف الوقـت نفسـه عمـلٌ مـن املعرفـة األنرثوبولوجيـة -
البرشيـة يف مجتمعهم ويف تاريخهم ويفّ االجتامعيـة ،ألننـا نرى الكائنات
خـاص يف ملمـوس ذاتياتهم.ّ عالقاتهـم ويف تفاعالتهـم ،وندركهـم بشـكلٍ
ين الذي
إن املوضـوع الحقيقـي لروايات دوستويفسكي هو التعقيد اإلنسـا ّ
وصفـه تحديد ًا ِّ
برس اإلنسـان.
توجـد هنـا ثـروة معرفيـة تنفلـت مـن علـم النفـس وعلـم االجتماع .ال
يـدرك املُؤلِّـف بالضرورة مـا يحتويـه عمله ،ألن هـذا العمل يـأيت من حالة
ثانيـة يتجـاوز إبداعهـا وعيه.
ومـن هنـا التناقـض املُعتـاد بين شـخص املُؤلِّـف وعملـه .تتجـاوز
مذكـرات مـا وراء القبر ( )les Mémoires d’outre-tombeشـخص
شـاتوبريان ( .)Chateaubriandكما أن مؤلَّفـات سـيلني تتجـاوز شـخصه
بشـكلٍ كبير.
57
حتـى املُؤلِّـف ميكـن أن يخطـئ يف فهم معنـى عمله :لقـد اعتقد بلزاك
إنسـانية ( )Comédie humaineمتكِّ نـه مـن تنوير ال ُق َّراء ّ أن روايتـه ملهـاة
يف شـأن النظـام امللكي والدين ،بينما رأى ماركس بوضـوح أن هذا العمل
كان قبـل كلّ يشء نقـد ًا جذريـ ًا للمجتمع الربجوازي.
الرومانسـية
ّ الروايـة تشـمل
بدايـةً مـن القـرن التاسـع عشر ،أصبحـت ِّ
البرشيـة.
ّ وتتجاوزهـا عـن طريـق الرغبـة يف تنـاول جميـع جوانـب الحيـاة
إنسـانية لبلزاك (تصويـر مجتمـع اإلمرباطوريـة الثانية
ّ بـدأ ذلـك مـع ملهـاة
تضخمـت َّ قصـة عائلـة روغـون مـاكار (.)Rougon-Macquart مـن خلال ّ
فتحولت إىل عملٍ شـامل ،عامل مصغـر ملجتمع وعرص َّ الروايـة بعـد ذلـك
ِّ
مـا ،كما هـو الحـال لـدى روجـر مارتـن جـارد (آل ثيبولـت )les Thibault
و(جـول رومـان ( )Jules Romainsالرجـال ذوو النوايـا الحسـنة les
)Hommes de bonne volontésو(تومـاس مـان )Thomas Mann
(آل بودنربوكـس )Les Buddenbrookو(هريمـان بـروخ املرسمنـون les
مميـزات
)Somnambulesو(روبـرت موزيـل ( )Robert Musilرجـل بلا ِّ
.)l’Homme sans qualités
الروايـةحـد تعبير إميليـان نويـل (« :)Émilien Noëlتصبـح ِّ ِّ على
معينـة ،أو بعبارة أصح ٍ
لحظـة َّ مجموعـة شـاملة تقريبـ ًا لحالة العـامل يف
وخاصـة أوروبـا .يف ّ الغـريب،
ّ لحالـة عـامل مـا ،يف هـذه الحالـة العـامل
أسـلوبي ًا ال
ّ خياليـاً ،وبالطبـع ،مترينـ ًا
ّ الروايـة عملاً
هـذا السـياق ،تكـون ِّ
فلسـفياً،
ّ جـدال فيـه ،ولكـن ميكـن أن تكـون أيضـ ًا رسد ًا تاريخيـاً ،ومقـا ً
ال
جيوسياسـياً ،وبحثـ ًا يف علـم االجتماع ...كلّ مـا يجعـل العـاملّ وتحليلاً
قابلاً ألن يظهـر فيهـا .يتـم الحديـث فيها عن علـم النفس والطـب والدين
واالقتصـاد والعمـران والعمارة» ويضيـف« :وبالتايل ،متثل هـذه األعامل
للروايـة»(((.
معينـة ِّ
َّ ذروة
58
خلال النصـف الثـاين مـن القـرن العرشيـن ،ظهـرت الرواية البوليسـية
الجديـدة ،وهـي روايـة بوليسـية عبـارة عـن بحـث يف األخلاق ووثائقـي
تطـورت يف أعقـاب روايـات داشـيل هاميـت (Dashiell َّ اجتامعـي ،وقـد
ّ
،)Hammettيف جميـع البلـدان تقريبـاً :يف الواليـات امل َّتحـدة مـع
مايـكل كونيلي ( ،)Michael Connellyويف روسـيا مـع الكسـندرا
مارينينـا ( )Alexandra Marininaأو جنكيـز عبـد اللـه (Tchinguiz
،)Abdoullaïevويف الصين مـع هـي جياهونـغ ( ،)He Jiahongويف
الهنـد مـع كيشـوار ديسـاي ( ،)Kishwar Desaiويف السـويد مـع هـاكان
نيسر ( ،)Hakan Nesserويف الجزائـر مع ياسـمينة خرضة ،إلخ .أصبحت
تـردد صـدى الروايـات ال ِغنـى عنهـا لفهـم عاملنـا امل ِ
ُعـاص .إنهـا ِّ هـذه ِّ
جـد ًا إليرنسـتو سـاباتو ( ،)Ernesto Sabatoنقلاً عـن ميالن
عبـارة جميلـة ّ
كونديـرا ( )Milan Kunderaيف السـتار« :يف عرصنـا حيـث يتـم تجـزيء
الروايـة هي املرصـد الوحيدتتخصـص املعـارف ،تعتبر َِّّ كلّ يشء ،وحيـث
الـذي ميكـن للمـرء فيـه محاولـة تنـاول الحيـاة يف مجملهـا».
59
تعبر االسـتعاراتِّ تفقـد الكلمات يف الشـعر معناهـا النفعـي.
إنسـانية معيشـة
ّ واملامثلات ،يف واقعيتهـا ويف الجمايلّ ،عـن حقائـق
ومحسوسـة بشـكلٍ أفضـل مـن النثر اإلشـاري .تتألَّـف الكلمات وفقـ ًا
ٍ
كثير مـن األحيـان ،وبطريقـة موسـيقية تقريبـاً. النجذابـات غريبـة يف
خاصة بالنسـبة إىل ّ كثير مـن األحيـان مصطلـح اإللهـام ٍ لقـد ذكرنـا يف
الشـعرية ،اآللفـة للغـز ،هـي التـي تذكِّ رنـا باالرتقـاء
ّ الشـعر .إن املعرفـة
الشـعري.
ّ الشـاماين؛ إنهـا حالـة التملُّـك األقـرب إىل اإلبـداع
يتضخـم
َّ نـص إداري.
إضافـة إىل ذلـك ،ال تعنـي قـراءة الشـعر قـراءة ٍّ
ويتحـول وتتملَّكـه القصيـدة.
َّ الـراوي
صـوت َّ
يعبر بالكلمات إىل مـا ال تسـتطيع الكلمات قولـه.
يحـاول الشـعر أن ِّ
تشـبه القصيـدة «ترجمـة الصمـت» ،حسـب تعبير جـوي بوسكي (Joë
.)Bousquet
يتقـدم الشـعر إىل حـدود اللُّغـة ،وإىل حـدود مـا ُيقـال ،وإىل حـدود
َّ
الوعـي .إنـه يـرى مـن خلال املـريئ مـا وراء املـريئ ،وهـذا مـا ُيطلـق عليه
رامبـو «االسـتبصار».
لقـد أدرك الرسياليـون أن يف الكتابـة الشـعرية ظاهـر ًة ال تنتمـي إىل
الوعـي الواضـح ،بـل إىل قـوى الالوعـي .لهـذا السـبب قامـوا باستكشـاف
الكتابـة التلقائيـة وقامـوا بوصـف أحالمهـم.
تصـور
ُّ شـعروا بحـق أن هنـاك إلهامـ ًا يتجـاوز الواقـع يف ذواتهـم ،دون
حالـة نشـوة ومتلُّـك مـا بعـد شـامانية .مـن خلال ذلـك ،متكَّ نـوا مـن خلـق
الحالـة الثانيـة يف ذواتهـم ،حالـة تسـتدعي الحيـاة اليوميـة الرائعـة
مهمـة للغايـة ومبتكـرة،
وتتصورهـا .لـذا فـإن مسـاهمة النزعـة الرسياليـة َّ
َّ
ليـس بالنسـبة إىل الشـعر فقـط ،بـل بالنسـبة إىل الوعـي بالحـاالت الثانية
الشـعري مـن حياتنـا.
ّ املناسـبة للجانـب
حقَّقـت لنـا النزعـة الرسياليـة الوعـي بأن الشـعر ال يقترص على الكتابة
والقـراءة فقـط ،بـل أمـر يجب أن ُيعـاش .هكذا أعلنـت رضورة جعل الحياة
60
شـاعرية .لقـد احتفظـت بالرسـالة وأنسـنتها :يجـب أن نضمن شـعر الحياة
فينـا ونحافـظ عليـه ،ونهرب قدر املسـتطاع مـن النرث.
فن الخطابة
ّ
ال ف ّن ّيـ ًا ال ميكـن للمـرء أن يتج َّنب
قبـل أن نتنـاول املسرح ،أعـرض شـك ً
فـن الخطابة.حالة ثانية أو حالة نصف النشـوة :إنه ّ ٍ الحديـث يف شـأنه عـن
السـيايس املوهـوب يف اإلحامء ليبلغ حالـة من اإللهام
ّ يبـدأ الخطيـب
الحقيقـي ،أي حالـة مـن البالغـة الحقيقيـة :ميكننـا القـول إنـه بعـد ذلـك
الخاصة.
ّ الخـاص ومـن ِقبـل أفـكاره
ّ ُيتملَّـك مـن ِقبـل خطابـه
أثنـاء محـارضيت حـول مواضيـع عزيزة عيلَّ ،تـأيت برسعـة اللحظة التي
أتحـدث عنهـا .أتوقَّـف عـن رؤيـة
َّ أشـعر فيهـا بأننـي مسـكون باألفـكار التـي
الجمهـور بشـكلٍ واضـح ،لكـن ينشـأ التخاطـر ،أشـعر يف صمتـه بانتباهـه،
وأعيـش كالمـي بالكامـل ،عنـد انتهـايئ وبعـد التصفيـق ،أجـد نفسي يف
النثر كئيبـاً .يقـول ويلينغتـون (« :)Wellingtonهناك حـزن بعد الهزمية،
وهنـاك حـزن أكبر بعد النصر» .إنهـا تداعيات النثر بعد اإلثـارة والحامس
الشعري.
جيـد ًا عـن متلُّـك الخطابـة .زار الجنرال ديغـول ،عندمـا إليكـم مثـا ً
ال ّ
كان رئيـس الجمهوريـة ،كيبيـك يف وقـت طالـب فيـه االنفصاليـون
ما على عـدم املضي يف هـذا مصم ً
ِّ باسـتقالل كيبيـك .كان ديغـول
املجـال الدبلومـايس ،لكـن بينما كان يقـود سـيارته مـن مدينـة كيبيـك
إىل مونرتيال ،ومرور ًا بقرى بأسماء فرنسـية ،اسـتقبلته حشـود مفعومة
بالحماس.
كنـت ضمـن حشـد ضخـم ،أمـام بلديـة مدينـة مونرتيـال ،أذىك فيـه
وصـول الجنرال الحماس .بعد أن بـدأ ديغـول خطابه تحت ضغـط الرغبة
ُتحمسـة ،مل يسـتطع أن ميتنـع عـن
الهائلـة لـ«نحـن» الكبيرة لكيبيـك امل ِّ
61
الحـرة» ،األمـر الـذي أثـار نشـوة
ّ قـرر ّأل يقولـه« :عاشـت كيبيـك
قـول مـا َّ
الجامعـي.
ّ عاطفيـة مـن الفـرح
ّ
يشء ما من
ٌ مـن الجديـر بالذكـر أنـه يف لحظـة الحماس هـذه ،انفلـت
كلمات ديغـول ،مل يكـن يتوقـع قولـه ،ولكنـه يف الحقيقـة أراد قوله.
يتملَّك الخطاب الخطيب العظيم أكرث َّ
مم ميتلكه.
املرسح واملوت
62
تسـتهلك الكثير مـن الوفيـات الحقيقيـة .كلّ هـذا لتلبيـة حاجـة عميقـة
ودامئـة لطـرد املـوت.
ويحررنـا معـاً .وذلـك يف أفضـل
ِّ يحركنـا بعمـق ِّ يوجـد يشء فينـا
الظـروف ،حيـث يكـون املـوت الـذي يحـدث فـوق خشـبة املسرح ،والذي
نفسـي ًا وهـو جالـس على مقعـده بشـكلٍ مريـح ،غري
ّ ِ
ُشـاهديعـاين منـه امل
ٍ
مـؤذ له.
ظـن أرسـطو
تـؤدي إىل املـوتَّ ، مـن خلال اإلشـارة إىل املشـاعر التـي ِّ
أن املأسـاة تخلصنـا مؤقتـ ًا مـن هـذه املشـاعر عـن طريـق التطهيرَّ .
ربـا
ٍ
شـخص آخـر ُحـول إىل
يكـون مـن الضروري ربـط فكـرة عيـش املـوت امل َّ
غير الـذات بفكـرة تجميـل املـوت التي تسـمح بالتطهير .يذكِّ رنا هـذا بهذه
األبيـات الجميلـة لفيكتـور هوغـو:
املوت والجامل شيئان عميقان
يتضمنان الكثري من الظلِّ والسامء الالزمني قد يقول املرء عنهام
َّ
حد سواء
شقيقان فظيعان وخصبان عىل ٍّ
والرس نفساهام(((.
ُّ لديهام اللُّغ ُز
على عكـس املأسـاة التـي تنتهـي بشـكلٍ سـيئ ،تجعلنـا الكوميديـا
ـن التهريج مصـادر أنرثوبولوجية يف النكتة نضحـك وتنتهي بشـكلٍ ّ
جيد .لفَ ّ
التـي ُمورسـت بالفعـل يف املجتمعـات القدميـة والحـارضة يف جميـع
الحضـارات ،كما أشـار إىل ذلـك مارسـيل مـوس« :إن البـذاءات واألغـاين
السـاخرة واإلهانـات تجـاه النـاس والتمثيلات السـخيفة لبعـض الكائنـات
ُقدسـة هـي يف األصـل كوميديـا ،متامـاً مثلما يغـذِّ ي االحترام الـذي
امل َّ
يظهـره الغنـاء وامللحمـة واملأسـاة للنـاس واآللهـة واألبطـال» .
(((
63
ٍ
ناحيـة ،هنـاك فـن املُمثِّـل بطريقتين مختلفتين .مـن
تصـور ّ
ُّ ميكـن
النسـخة العاديـة مـن املُمثِّـل الـذي يقـول «أنـا أدخـل يف شـخصيتي»،
وميكـن أن يقـول أيضـاً« ،شـخصيتي تدخـل يف» .إنهـا ظاهـرة نصـف متلُّـك
وعـي بتمثيـل ٍّ منوذجيـة ،وهـي نصـف ،ألنهـا تنطـوي على الحفـاظ على
الشـخصية ،ومـن
ّ املرسحيـة ،لكنهـا يف الوقـت نفسـه متلُّـك مـن ِقبـل
ٍ
ناحيـة أخـرى ،هنـاك صيغتـا ديـدرو وبريخـت (.)Brecht
الشـخصية املُمثِّـل بشـكلٍ سـلبي ،إذ
ّ وفقـ ًا لديـدرو ،يجـب ّأل تتملَّـك
يعبر عـن الجيـد ِّ
ّ يجـب عليـه التحكُّ ـم فيهـا والسـيطرة عليهـا .فاملُمثِّـل
مشـاعر ال يشـعر بهـا ،إنـه «يلعـب دوره بـذكاء» ،يف حين أن املُمثِّل الذي
يعب عنهـا ،وال ميكنـه التحكُّ م «يلعـب دوره بـروح» يشـعر بالعاطفـة التـي ِّ
تقمـص يف أدائـه .يريـد برتولـد بريخـت أن يكـون املُمثِّـل راويـاً .ولتج ُّنـب ُّ
التقمـص بالنسـبة إليـه اسـتالب ،يطلـب مـن ُّ للشـخصية ،ألن
ّ ُتفـرج
امل ِّ
يؤدونهـا.
الشـخصية التـي ُّ
ّ املُمثِّلين االبتعـاد عـن
لتصرف املُمثِّـل يف السـينام لـدى
ُّ نجـد هـذا التحييـد النسـبي نفسـه
بريسـون ( ،)Bressonوغيره مـن صانعـي األفلام الذيـن يعتقـدون أنـه
يؤدونهـا،
الشـخصيات التـي ّ
ّ الجيـد أن ال ُيتملَّـك املُمثِّلـون مـن ِقبـل
ّ مـن
معينـة معهـم.َّ ويظهـرون مسـافةً
مـرة أخـرى ،تكـون الحالـة األكثر طبيعيـة ،واألكثر وضوحـاً،لكـن هنـا ّ
الشـخصية التـي تدخلنـي.
ّ هـي ظاهـرة التملُّـك :أنـا أدخـل
السينام
64
الخاصيـة الشـعبية لألفلام األوىل ،كلّهـا عوامـل
ّ تجـاري ،وأخير ًا
ّ فيلـم
والربجوازيـة. الفكريـة ـي للسـينام لـدى النخبـة ً
ّ ّ حجبـت متامـا الطابـع الفَ ّن ّ
لفترة طويلـة اعترب األكادمييون والكُ َّتاب السـينام «تسـلية ألراذل الناس»،
حـد تعبري جـورج دوهاميـل ( .)Georges Duhamelهاجر ماركسـيو على ِّ
مدرسـة فرانكفـورت إىل الواليـات املتحـدة ،مثـل أدورنـو وماركـوز،
واحتقروهـا مـن منطلـق نزعتهـم األرسـتقراطية األكادمييـة املتعاليـة،
ونـددوا باسـتالب سـينام هوليـوود للجامهير الشـعبية. َّ
وطورهـا دون أن يتم االعرتافالحقيقـة أن الفَ ّن السـيناميئ ابتكر نفسـه َّ
بـه على هـذا النحـو .منـذ السـينام الصامتـة ،أنتجـت الكوميديـا التهريجية
ال رائعـة صغيرة ،مبـا يف ذلـك روائـع تشـاريل شـابلن .قـام الهزليـة أعما ً
أفلام طموحـة مثـلٍ ُص َّنـاع األفلام مثـل جريفيـث ( )Griffithبتصويـر
وتعصـب ()Intolérance؛ ُّ والدة أمـة ()Naissance d’une nation
وأنتـج فريتـز النـج ( ،)Fritz Langذلـك العملاق الآللـئ الصامتـة التاليـة:
نيبيلونغـن ( )Nibelungenوميرتوبوليـس (.)Metropolis
األول من السينام
تم االعرتاف بالسـينام كفَ ٍّن ببطء شـديد خالل العقد ّ َّ
رواد السـينام .اكتشـفنا املُؤلِّفين الحقيقيني الذين هم َّ بلقِ مـن ِّمـة
ل املُتك
املُخرجـون ،واعتبرت بعـض األفلام أفالمـاً ف ِّن ّيـةُ .نرشت انتقـادات لألفالم
يف الصحافـة ،السـيام انتقـادات هنري جينسـون ( )Henri Jeansonيف
مجلـة لوكانـار أونشـيني ( .)Le Canard enchaînéكما نشر براسـيالش
( )Brasillachمبعيـة بارديـش ( )Bardècheتاريـخ السـينام ،وقـام
تـم تثمين بعـض األفالم:
بالشيء نفسـه سـادول ( )Sadoulبعـد الحـربَّ .
رصيـف الضبـاب ( )Quai des brumesوأطفـال الجنة (Les Enfants du
)paradisلـكارين ( ،)Carnéوالوهـم الكبير (،)La Grande Illusion
وخاصـة قاعـدة اللعبـة ( )La Règle du jeuلرونـوار ( ،)Renoirوعنـد ّ
نهايـة االحتلال ،أطفـال الجنة.
ازدراء كبير ًا ال يـزال ُيديـن ابتـذال أفلام هوليـوود .أتذكَّ ـر
ً بيـد أن هنـاك
عـرض تقدميـي يف فلورنسـا يف السـتينيات: ٍ أننـي قلـت ذات يـوم ،خلال
65
«أحـب أفلام رعـاة البقـر» ،فقفـز الفيلسـوف املاركسي لوسـيان غولدمان ّ
( )Lucien Goldmannمـن كرسـيه ،وأخـذ امليكروفـون منـي ورصخ «ال
ميكننـا أن نحـب أفلام رعـاة البقـر!» ،مسـتنكر ًا االسـتالب الناجـم عـن هـذا
ُميـز
النـوع .اكتسـب رعـاة البقـر بعـض الكرامـة عندمـا ظهـر األسـلوب امل َّ
وإنسـانية جون فـورد (.)John Ford
ّ لهـوارد هوكـس ()Howard Hawks
تغيرت النماذج األصليـة لرعـاة البقـر ،فأصبـح الهنـود الحمـر، عندئـذ َّ
ال وضحايـا.األعـداء القاسـيون ،أبطـا ً
تـم اإلقـرار بـأن أفلام اإلثـارة ميكـن أن تنتـج روائـع ،وبدأنـا نفهـملقـد َّ
أن كبـار رجـال العصابـات يف السـينام يتابعـون ملـوك وأمـراء شكسـبري
عـروض رائعـة ،حيـث ٍ ( .)Shakespeareكانـت املهرجانـات عبـارة عـن
وكرسـت جوائزهـم أفالمـ ًا باعتبارهـا عملاً ف ِّن ّياً.
ازدهـرت أسـطورة النجـومَّ ،
يف عـام ،1950اكتشـفت مدينـة كان املذهلـة فيلـم السـاموراي مـن خالل
فيلـم راشـومون ( )Rashômonلكوروسـاوا ( )Kurosawaالرائـع.
الروايـة مـن جميـع البلـدان مثـل كاداري ()Kadaré تـم تكريـم مؤلِّفـي ِّ
َّ
تـم تكريم
َّ مثلما (،)Solzhenitsyn وسولزينيتسين ()Andrić وأندريـش
مؤلِّفي األفالم الكبار يف العامل مثل روسـيليني ( )Rosselliniوفيسـكونتي
( )Viscontiوفيلينـي ( )Felliniوبريغمان ( )Bergmanوكوروسـاوا وأوزو
وقـت الحـق إيناريتـو ( )Ozuوميزوغـويش راي ( )Mizogushi Rayويف ٍ
( )Iňárrituوأملودوفـار ( )Almodovarأو تريانـس مالـك (Terrence
كتـب عـن
ٌ .)Malickأُنشـئت مـدارس السـينام يف جميـع القـارات ،وأُلِّفـت
ـن وف َّنـاين الفيلم.الفَ ّ
ـن ،ويف مـن اآلن فصاعـداً ،أصبحـت السـينام معرتفـ ًا بهـا متامـ ًا كفَ ٍّ
قـادر على
ٌ ومتعـد ُد األشـكال،
ِّ متعـد ُد األصـوات
ِّ عظيـم
ٌ فـن
رأيـي إنهـا ٌّ
الروايـة واملسرح حشـد ودمـج يف ذاتـه فضائـل جميـع الفنـون األخـرىِّ ،
والرسـم والزخرفـة والتصويـر الفوتوغـرايف .ال يقتصر األمـر واملوسـيقى َّ
وفـن
ّ فـن زاويـة الرؤيـة ـن املوسـيقي يف الفيلـم ،بـل ّ على مسـاهمة الفَ ّ
وفـن التحريـر أيضاً ،ميكننا القـول إن َم ْن يشـاركون يف إنتاج فيلم ّ الديكـور
66
جامليـات
ّ هامـ ًا للغايـة يف
هـم الحرفيـون والفَ َّنانـون الذيـن يلعبـون دور ًا ّ
فـن شـامل.
الفيلـم .إن السـينام ٌّ
طبقـات عميقـة ،حيـث يفـرز ٍ الروايـة ،مـن
تغـذَّ ت السـينام ،أكثر مـن ِّ
البشري السـحر واألسـطورة .لقد خلقت أسـاطريها عرب رعـاة البقر ّ العقـل
وخاصـة عـن طريـق تأليـه املُمثِّـل أو املُمثِّلـة جزئيـ ًا
ّ والشـخصية،
ّ واإلثـارة
(((
ً
نجما . ليصبح
جامليـة رائعـة تسـمحّ ُشـاهد يف السـينام حالـة ِ إن حالـة امل أخيراًّ ،
تحـدد ظلمـة القاعة تلقي ًا شـبه منـوم للفيلم ،والـذي يع ِّزز ِّ بفهـم اإلنسـان.
للشـخصيات املم ّثلـة
ّ والتقمص-اإلسـقاط
ُّ النفسـية يف الحركـة
ّ املشـاركة
ُحركـة) .إننـا نبتسـم ونضحـك ونسـتمتع ونحـب ُتحركـة (امل ّ يف الصـور امل ِّ
ٍ
بطريقة ممتعـة غريبة. ونعشـق ،لكننـا نبكي ونخـاف أيضاً ،بـل إننا نرتعـب
إننـا ننفصـل عـن أنفسـنا لنكـون حارضيـن يف واقـع الفيلـم .ألن الفيلـم
قويـ ًا للغايـة بالواقـع ،بـل
واقعيـاً ،إحساسـ ًا ّ
ّ خياليـ ًا أو
ّ مينحنـا ،سـواء كان
ٍ
وبطريقـة مغايـرة للمسرح .إنـه يخلـق تعايشـ ًا بني الروايـة بقـو ٍة أكبر مـن ِّ
يل وينقلهما إىل مـا فـوق الواقـع. العـامل الحقيقـي والعـامل الخيـا ّ
لكننـا يف الوقـت نفسـه نعلـم أن هـذا الواقـع خيـايلّ ،إذ ال نفقـد الوعي
أبـد ًا بوجودنـا يف السـينام .إننـا أشـبه بـ«منزوعـي الفتيـل» ،يف الوقـت
شـدة ،أي السـعادة والبـؤس والحـزن .إننـا الـذي نشـعر بأكثر املشـاعر ّ
يتقمـصَّ نفسـياً،
ّ ومتـذوق ،وأنـا نشـط
ِّ جسـدي ًا
ّ منقسـمون بين أنـا سـلبي
الحركـة واملُمثِّلين ،تنقلـه املوسـيقى إىل املتعـة التـي تلعـب دور ًا كبير ًا
يف إغراقنـا يف العاطفـة.
ِ
ُشـاهد الفيلـم بأنهـا نصـف ُنومـة مل
ميكـن اعتبـار الحالـة شـبه امل ِّ
ِ ِ
شـخصيات الفيلم ،وشـبه سـحر من قبل املَشـاهد ّ متلُّـك ،متلـك مـن ِقبـل
املتتاليـة ،لكنـه متلُّـك يكـون فيـه الوعـي متيقِّظـاً .إنهـا حالـة نختبر فيهـا
67
أكثر عواطفنـا املختلفـة فرحـ ًا وسـعادة وحزنـ ًا وأملـ ًا وخوفـاً ،لكننـا نكـون
حينهـا أشـبه مبفصولين عـن األسـوأ ،مبعنـى أننـا نعيشـها ح ّقـاً.
تكمـن املفارقـة يف اإلدراك والشـعور بالقسـوة واملجـازر وأكبر اآلالم
ونحـن هادئـون يف كراسـينا .إننـا نبكي بصـدق ،لكننـا منقسـمون .لذلـك ال
عمليـات القتل
ّ الجامليـة حضـور جميلات وممتعـات فقط ،بـل ّ ُيثير لذتنـا
أو مظاهـر األمل الشـديد أيضـاً .إننـا نعـاين ح ّقـاً ،ويف الوقـت نفسـه لدينـا
جامليـة ُم ْرضية.
ّ عاطفـة
يوجـد يشء مـا يجعلنـا نشـعر بعاطفة شـديدة يف الفيلـم ،لكننا نكون
منفصلين عنه.
األول لإلخـوان لوميير ،دخـول قطار يفتـم تثبيـت الكاميرا يف الفيلـم ّ
محطـة سـيوتات ( ،)L’Entrée d’un train en gare de La Ciotatعلى
لتصـور وصـول القاطـرة .خلال عـرض الفيلـم نهض املشـاهدون ِّ الرصيـف
األوائـل خوفـ ًا عندمـا اقرتبـت العربـة القاطـرة .مل يكونـوا قد اكتسـبوا بعد
الوعـي السـيناميئ املزدوج.
يف كتابـه داعـش والسـينام واملـوت((( ذكـر جـان لويـس كومـويل
( )Jean-Louis Comolliهـذا الغلـو مـن خلال مثـال فيلـم لباستر
كيتـون (« .)Buster Keatonيف فيلـم شيرلوك جونيـور ( ،)1924حيـث
يلعـب باستر كيتـون دور عـارض األفلام يف قاعـة السـينام .يطلـق الفيلـم
وهـو يتثـاءب ،يشـعر بالنـوم ،ثـم ينـام .عندهـا ينفصـل عنـه قرينـه ،فيعرب
مقصـورة العـرض وينظـر مـن خلال النافـذة الصغيرة للمقصـورة إىل مـا
يحـدث أدنـاه يف الغرفـة وعلى الشاشـة .ال يعجبه مـا يراه .تقـاوم البطلة،
وهـي فتـاة سـاحرة كاملعتـاد دامئـ ًا وقلقـة كاملعتـاد ،مـراوداً .يخـرج
القريـن املنفصـل عـن كيتن ،مدفوعـ ًا بشـكلٍ واضـح بالرغبـة يف التدخـل
يف املشـهد املعـروض واالنضمام إليـه ،مـن املقصـورة ويعبر القاعـة
68
ويتقـدم على
َّ السـينامئية ،ثـم يتسـلَّق العتبـات القليلـة لخشـبة املسرح،
املنصة مبظه ٍر حازم ،يدخل الشاشـة نفسـها التي يعرض عليها املشـهد، َّ
ويتدخـل إليقافـه ...يطـرده هذا
َّ فيجـد نفسـه يف حضرة الفتـاة واملـراود،
األخير مـن املشـهد خـارج الشاشـة ،ويدفعـه مبـارش ًة فـوق درج املنـزل
الـذي يجـري فيـه الحـدث؛ األمـر الـذي سـيجعله محـل إهانـات مختلفـة.
يخربنـا هـذا املقطـع (الرائـع) ،بشـكلٍ عـريض ،عـن جوهر ما يحـدث خالل
ِ
ُشـاهد الوصـول إىل املشـهد ،ويريـد أن يكـون فيـه فترة العـرض :يريـد امل
بشـكلٍ خيـايل [.»]...
منـذ ذلـك الحني ،واصلـت السـينام تزويدنا مبشـاهد عنيفـة وعاطفية،
نشـاهدها ونحـن نشـعر بالقلـق الشـديد ،ويف الوقـت نفسـه نكـون هادئني
متاماً.
ِ
شـاهد مـا أطلـق عليـه أرسـطو بالفعـل للم
يحـدث يف هـذه الحالـة ُ
«املُحـاكاة» ،إن هـذا النشـاط املُحـاكايت الذي درسـه رينيه جيرار (René
خـاص بأذهاننـا ،والـذي
ّ )Girardكثيراً ،لكـن يف مجـاالت أخـرى ،نشـاط
والتقمـص ،إذ
ُّ ميكننـا إعطـاءه تعريفـ ًا أكثر تجريـد ًا مبصطلحـي اإلسـقاط
ونتقمصـه .تكـون هذه املحـاكاة نشـطة وقوية
َّ نسـقط أنفسـنا على البطـل
خـاص يف السـينام.
ّ بشـكلٍ
ال نكـون مسـتيقظني يف الحلـم على الرغـم مـن نشـاطنا النفسي،
بينما هنـا ،نكـون يف حالـة أشـبه بالحلـم ،ألن لدينـا وعيـ ًا باليقظـة .إننا يف
البشري.
ّ الحقيقـة منغمسـون يف واحـدة مـن تعقيـدات العقـل
يل الـذي تكشـفهجـد ًا للشـعور الجما ّ َّ
تتجلى الصفـة املُعقَّـدة ّ هكـذا،
جـد ًا ومنفصلة معـاً .لذا ميكن ٍ
السـينام يف عاطفـة ميكـن أن تكـون عميقـة ّ
أن يصاحـب اإلعجـاب واالبتهـاج العـروض األكثر إيالم ًا وقسـوة.
يتبي أن السـينام تيضء بشـكلٍ أقوى موقف ًا نعيشـه يف املرسح هكذا َّ
يل معـاًُ .يعيـد
والروايـة والشـعر ،إذ نسـتطيع تجربـة األمل والتمتـع الجما ّ
ِّ
الجاملية،
ّ ـن هـذا األمل لنـا مـن خالل منحنـا اللـذة والعاطفـة واملتعـة
الفَ ّ
69
الجامليـة األمل فينـا :إنهـا تجعلـه مرئيـاً ،وتجعلـه
ّ دون أن تحـذف املتعـة
محسوساً.
كتـب جياكومـو ليوبـاردي (« :)Giacomo Leopardiتحـوز األعمال
العبقريـة القـدرة على متثيل عدم األشـياء بشـكلٍ خشـن ،و ُتظهـر بوضوح ّ
وأن
الحتميـة ،والتعبير عـن أفظـع أنـواع اليـأسْ ،ّ وتشـعر مبأسـاة الحيـاة
تعبـة ،محرومة مـن األوهام وفريسـة تكـون مـع ذلـك عزاء لـروح سـامية ُم َ
معرضـة ألكثر املشـاق املريـرة واملميتـة. َّ للعـدم وللملـل واإلحبـاط ،أو
[ ]...عنـد اسـتحضارها املـوت ومتثيلـه ُتعيـد إىل الـروح مؤقت ًا هـذه الحياة
املفقـودة :مـا تفكِّ ـر فيـه الـروح يف الواقـع تكمـده وتقتلـه ،مـا َّ
تتأملـه يف
ٍ
بطريقـة مختلفـة حقيقـة أعمال العباقـرة الذيـن يقلِّـدون أو يسـتحرضون
األشـياء ،يبهجهـا ويحييهـا»(((.
فهم اإلنسان
70
عائلتـه ،ولديـه مشـاعر األخوة ومشـاعر الشرف .إنه قادر كذلك عىل أسـوأ
إن تعاطفنـا أقـوى مـن نبذنـا ،ألننـا ال نـرىأفعـال الجبن وأسـوأ الخـدعّ .
إنسـانيته أيضـاً.
ّ الإنسـانيته فحسـب ،بـل
ّ
يقـول هيجـل« :إذا أطلقت اسـم املجـرم عىل َم ْن ارتكـب جرمية ،فإنني
أختـزل شـخصيته كلّهـا يف هـذه الجرميـة الواحدة وأنسى كلَّ يشء آخر».
ذلـك مـا نفعلـه يف الحيـاة العاديـة ،إذ نختـزل الغير يف أحـد جوانبـه ،أي
ـن ال نحبهم ،ويف أفضل جانب بالنسـبة إىل يف أسـوأ جانـب بالنسـبة إىل َم ْ
ـن نحبهم.
َم ْ
نشـاهد يف السـينام املُترشديـن والسـجناء الذيـن ارتكبـوا جنحـ ًا
أو جرائـم ،ومـع ذلـك نتعاطـف معهـم ،ألننـا نشـعر بـأمل املسـجون،
ُتشرد((( الرائـع الـذي يلعـب دوره تشـاريل شـابلن ،بينام
ونتعاطـف مـع امل ِّ
ُترشديـن الحقيقيين يف الشـارع ونتج َّنبهـم.
نغـض البصر عـن امل ِّ
إنسـانية ونحـن يف السـينام ،ونكـون أفضل مما نكونهّ لـذا ،نكـون أكثر
تعـدي هـذه الفكـرة إىل مسرح شكسـبري، ِّ يف الحيـاة العاديـة ،وميكننـي
ـن يدخـل يف مؤلَّفه
أو إىل روايـة دوستويفسكي .يثير هـذا املُؤلِّـف لـدى َم ْ
الشـفقة الالنهائيـة تجـاه املذلولين واملُهانين ،واالشـمئزاز مـن الـذل
واالزدراء .ونشـعر بالرحمـة وحتـى بالحـب تجـاه املُهـان يف فيلـم كان
يـا مـا كان يف الغـرب((( ،كما هـو الحـال مـع جميـع املُهانين يف األفلام.
لكـن خـارج أعمال دوستويفسكي وخـارج السـينام ،نعيـش مـع مذلولين
ومهانين وحولنـا ،أي النازحين واألطفـال واملهاجريـن والهاربين الذيـن
تتجاهلهـم أعيننـا واهتاممنـا.
ونتجرد من
َّ واإلنسـانية والتعقيـد حاملا نغادر السـينام،
ّ ننسى الرحمة
ميد إلينـا الوعاء،
اإلنسـانية مـن جديـد ،فنتج َّنـب املُتسـول العجوز الـذي ُّ
ّ
71
ُترشديـن الذيـن نلتقـي بهـم يف الشـارع ،ونكـره ونحتقـر املُجرمين
وامل ِّ
الذيـن نراهـم يف أخبـار التليفزيـون.
كيـف نجعـل فضائـل الفهـم التـي تو ِّفـر لنا السـينام واملسرح واألدب،
بشـكلٍ رسيـع أو مؤقَّـت ،دامئةً ؟
الرسم
َّ
الجداريـة للكهـوف التـي تعـود إىل ما ّ الرسـم مبناسـبة اللّوحـات
ذكرنـا َّ
قبـل التاريخ ،ومبناسـبة التشـابه الذي يتطلَّـب ف ّن ًا واعي ًا متامـ ًا بالجمع بني
الخطـوط واأللـوان ويف الوقت نفسـه محاكاة مع الحيوان املرسـوم .ميكن
النفسـية
ّ البرشية،
ّ لهـذه املحـاكاة أن تـدرك ،من خالل التعبري يف الصورة
صـور ،كام هـو الحال لدى رامربانـت (.)Rembrandt للم َّالعميقـة ُ
إمـا على الواقـع أو علىالروايـة أو السـينام ،يركِّ ـز ّ
الرسـم ،مثـل ِّ
إن َّ
الخيـال ،كما هـو الحـال مـع جيروم بـوش ( )Jérôme Boschعىل سـبيل
املثـال .يف الحالـة األوىلُ ،يعيد إحياء السـحر الكامن يف االزدواجية التي
مل ُحلمي.
الشـعرية عىل الواقـع ،ويقودنا يف الحالة الثانيـة ،إىل عا ٍ
ّ تصبـغ
َّ
يتجلى إبـداع الفَ َّنـان يف حالة نشـوته النصفية ومـن خاللها فقط ،بل ال
مـن خلال النشـاط الواعـي لعقلـه أيضاً ،الـذي يتدخـل يف التأليـف وزاوية
الرؤيـة :يكمـن الفَ ّن أحيان ًا يف وضع املشـهد األسـايس يف الخلفية أو عىل
الهامـش ،كما هـو الحـال يف فيلـم سـقوط إيـكار ()La Chute d’lcare
تحـول ظهـور يسـوع إىل البرق،
ُّ لبيتر بروغـل ( .)Pieter Bruegelأو يف
كما يف هدايـة القديـس بولـس يف طريقـه إىل دمشـق لكارافاجيـو(((*.
((( * مايكل أنجلو مريييس دا كارافاجيو ( ،)Michel angelo Merisi da Caravaggioبـ الفرنسية كارافاج
ّ
وتوف يف رسام إيطايل ولد يف 29سبتمرب/أيلول 1571يف ميالنو
( )Caravageأو لو كارافاج (ّ ،)le Caravage
18يوليو/متوز 1610يف بورتو إركول[ .املرتجم]
72
جـد ًا يف الصـورّ الغـريب لفتر ٍة طويلـة
ّ الرسـم
متثَّلـت موضوعـات َّ
التاريخيـة ومشـاهد
ّ األسـطورية واملشـاهد
ّ واملشـاهد الدينيـة واملشـاهد
الشـعبية واملناظـر الطبيعيـة .ثم انطالقـ ًا من القرن التاسـع عرش، ّ الحيـاة
الرسـم نفسـه، الرسـم ال يتعلَّـق باملوضوع بقدر ما يتعلَّق بفَ ّن َّ فـن َّ
أضحـى ّ
وتغي التشـكيل مع َّ وخاصـة منـذ سـيزان ()Cézanne؛ ّ منـذ االنطباعيين،
الرسياليـة .ويف الوقت نفسـه
ّ بيكاسـو .كما ظهـر خيـال جديد مـع النزعـة
الجداري الجديد بـدء ًا من دييغو
ّ ازدهـر ،يف مكسـيك مـا بعد الثـورة ،الفَ ّن
ريفيرا ( )Diego Riveraإىل فلادي ( .)Vladyثم اختفى التشـكيل لصالح
األشـكال أو املكعبـات أو األلـوان أو حتـى الخطـوط السـوداء يف لوحـات
هانـس هارتـون ( )Hans Hartungوبيير سـوالج ()Pierre Soulages
على سـبيل املثال.
ٍ
حضـارات أخرى وعصو ٍر انتشر يف القـرن العرشين عرض اللّوحات من
أخـرى يف املتاحـف ،وظهـرت األعمال ما بعـد التشـكيلية يف كلّ قارة؛ ثم
ٍ
لوحـات اسـتوىل اقتصـاد هائـل على األعمال التشـكيلية .أعـرف أن هنـاك
باهظـة الثمـن لديغـا ( )Degasورونوار ( )Renoirمتكـث يف خزائن البنوك
ملوث بتسـليع أصبـح اقتصاداً.
الرسـم َّ
مثـل سـبائك الذهـب .يبدو أن َّ
املوسيقى
عبر املوسـيقى« ،اللُّغـز األسـمى لعلـوم اإلنسـان» ،حسـب ليفـي ُت ِّ
«لغـة الـروح» .
(((
ُ شتراوس ،أفضـل مـن سـواها عـن حياتنـا العاطفيـة .إنها
تقـول إيرين ليوثود ( ،)Irène Léothaudعاملة االجتامع :إن «املوسـيقى
أقـرب مـن الكلمات والصـور من كلّ مـا يهـم ،أي الحياة واملـوت والحب».
كما كتـب تومـاس دي كونينـك (« :)Thomas De Koninckيجـد فيهـا
النفسية .للروح
ّ نتصور الروح ليس كجوهر ،بل كانبثاق للنشاط الدماغي يحمل يف ذاته الحساسية
َّ (((
واقعها ،مثل العقل ،لكن واقعها يعتمد عىل نشاط الدماغ.
73
االحتفـال واالبتهـاج واالبتهـال وممتنـع القـول تعبير ًا ال ميكنهـم العثـور
عليـه يف مـكانٍ آخـر».
تخاطـب هـذه اللُّغـة ،باعتبارهـا أكثر اللُّغـات حميميـة ،العاطفـة
العميقـة وروحنـا ،إنهـا تخاطبنـا دون كالم .إننـا نخـون املوسـيقى عندمـا
ٍ
كلمات ،ألنهـا ال ُتقـال بطبيعتهـا. نرتجمهـا إىل
شـعرية .تجتمـع
ّ ٍ
بكلمات ومـع ذلـك ،ميكـن أن تكـون مصحوبـة
املوسـيقى والشـعر فيعملان على تقويـة مشـاعر بعضهما البعـض (ليـد
« ،»liedأو األوبـرا ،أو األغنيـة) .تؤثـر املوسـيقى بقوتهـا العاطفيـة يف
الكلمات التـي تعطـي بدورهـا للموسـيقى معنـى رصيحـ ًا يحمـل شـعر ًا
خاصـ ًا بـه يف لغتـه الدالليـة أو التامثليـة التـي تعمـل على انبثـاق األلعاب
ّ
بين الكلمات واملوسـيقى واملعـاين الضمنيـة :يبلـل الشـعران بعضهما
الخـاص الـذي ينقلـه إىل املوسـيقى التـي تنقـل
ّ البعـض .للشـعر سـحره
الشـعرية عىل النرث،إليـه سـحرها .تصبغ املوسـيقى ،يف بعض الحـاالتِّ ،
الشعبية لويز لشـاربونتييه ( ،)Charpentierأو يف أغنية
ّ سـواء يف األوبرا
«املطلقـون» مليشـيل ديلبيـش (.)Michel Delpech
نوع أنتـج روائعه إذا فكَّ ر املرء بشـكلٍ
ليسـت األغنيـة نوعـ ًا ثانوياً ،إنهـا ٌ
خـاص يف ترينـي ( )Trenetوبريفري ( )Prévertوكوسما ( )Kosmaوبريل ّ
( )Brelوفريي ( )Ferreوبرانسـنس (.)Brassens
الدقـة يف
جـداً ،إذ يعـرف أقصى درجـات ِّ
إن مجـال املوسـيقى واسـع ّ ّ
تدويـن املوسـيقي مـن أجـل األداء ،ويف الوقـت نفسـه يعـرف ارتجـال
الكالسـيكية دقيقـة للغايـة،
ّ موسـيقى الجـاز .تكـون النوتـة يف املوسـيقى
وتكـون يف الوقت نفسـه مـؤرشات األداء غري واضحة .فاألزمنة املوسـيقية
أليغـرو ( )Allegroوأليغـرو فيفـاس ( )allegro vivaceوأندانتـي
( )andanteوأداجيـو ( )adagioوشيرزو ( )scherzoهـي أزمنـة نفسـية
حر ّيـة التأويـل لقائـد األوركسترا .يسـمح هـذا املزيج مـن الغموض
متنـح ّ
متعـددة للقطعـة املوسـيقية نفسـها.
ِّ والدقـة بتأويلات
ِّ
74
الجامليـة إىل أعلى الدرجـات .إنهـا تحتـوي
ّ تنقـل املوسـيقى املشـاعر
على إيقـاع ولحـن ميكنهـا أن تفصلهما أو تصلهما .تنقلنـا آالت النقـر
ٍ
حالـة ثانية تصبح نشـوة((( ،فعندمـا يتملَّكنا اإليقاع نرقص، واإليقاعـات إىل
حـد الوجـد تقريبـاً.
تحـرك عواطفنـا إىل ِّ
ِّ ميكنهـا أن
إن اسـتمرارية اللَّحـن ،التـي تغلِّـف الـروح وتلجهـا يف الوقـت ذاتـه،
سـاحرة.
يحـوز تكـرار (اإليقـاع ،الجوقـة ،املقطـع املوسـيقي) شـيئ ًا سـاحر ًا
كـرر موسـيقى الـروك ،وحتـى يحـرض على نشـوة الهيجـانُ .ت ِّ
ِّ ومهلوِسـ ًا
ُ
املوسـيقى اإللكرتونيـة اإليقـاع واملوضـوع نفسـيهام بلا كلـل إلثـارة
الجاذبيـة والنشـوة.
مبجـرد أن تتملَّكنا أغنيـة أو لحن ،ال ميكننـا التخلُّص
َّ علاو ًة على ذلـك،
مر ًة أخـرى ،ونغنيها
نود سماعها ّمنهما ،إذ تخالـج ذهننـا لفترة طويلة ،إذ ُّ
يخـف ذلـك ...ثـم تنبثـق
َّ باسـتمرار ،إننـا يف حالـة سـح ٍر تامـة .ننتظـر أن
مجد د اً.
َّ
آه! إليكم ما يخالجني يف كث ٍ
ري من األحيان:
هل تعرف البلد الذي يزهر فيه الربتقال؟
بلد الفاكهة الذهبية والورود القرمزية،
أخف،
ّ حيث يكون النسيم أكرث لطف ًا والطيور
الرحيق،
َ موسم يجمع النحلُ
ٍ حيث يف كلِّ
حيث يشع ويبتسم ،مثل نعمة من الله،
ربيع أبدي تحت سامء دامئ ًا زرقاء!
ٌ
((( انظر املُؤلَّف الرائع لعا ِلم املوسيقى اإلثنية جيلبري روجي:
Gilbert Rouget, La Musique et la Transe, Gallimard, 1980.
75
وا أسفاه! ال أستطيع متابعتك؟
نحو هذا الشاطئ السعيد الذي نفاين عنه القدر!
أود أن أعيش،
هنا! املكان حيث ُّ
أحب وأموت(((!
ّ أحب،
ّ وأن
ويف هذه اللحظة ال ُيفارقني هذا الصوت املوسيقي:
مع الكتا ِئب األربع
التي تدافع عن مدريد
وأفضل ما يناسب إسبانيا
الزهرة األكرث احمرار ًا يف املدينة.
ضجة
ضجةَّ ،
تعالت َّ
أصوات مدفع رشاش
وفرانكو يذهب يف نزهة.
مع الخامس والخامس والخامس،
مع الفوج الخامس
يا أمي إين ذاهب إىل الجبهة
ِ
خطوط النار(((. إىل
كان أيب يغنـي باسـتمرار أغـاين زمانـه ،وكطفـلٍ أحببـت األغـاين
ربـا كنـت يف الرابعـة
خـاص .ذات يـومَّ ،
ّ واملسيرات العسـكرية بشـكلٍ
عشرة مـن عمري ،سـمعت عىل املذياع موسـيقى غمرتني فجأة بسـحرها:
76
اكتشـفت السـمفونية الرعويـة لبيتهوفـن .ثـم ،بعـد فتر ٍة وجيـزة ،أغرقنـي
للمؤلِّف نفسـه يف سـح ٍر جديد .خالل حفلٍ موسـيقي يف كونرشتو الكامن ُ
قاعـة غافـو ( )Gaveauشـعرت بالنشـوة .لقـد جذبتنـي منـذ نوتـات النـداء
للحركـة األوىل وصعقتنـي عندمـا انفجـر فجـأة بعنـف إبداعـي لألوركسترا
بأكملهـا املوضـوع األويل فغمـرين بالكامـل ،وأصبح مصريي ًا بالنسـبة إيلّ.
مبزيـج مـن النشـوة والوجـد.
ٍ عندئـذ غمرتنـي هـذه الحركـة األوىل والتـزال
مؤخـر ًا مقطـع فيديـو لحفـلٍ موسـيقي يف قاعـة الفيالرمونيك شـاهدت َّ
أدتـه أوركسترا الشـباب الفنزويلي ،أطفـال األحيـاء الفقيرة، لربوكسـل َّ
الذين أصبحوا بفضل عازف البيانو خوسـيه أنطونيو أبريو (José Antonio
)Abreuعـازيف أوركسترا .عزفـت هـذه األوركسترا املُؤلَّفـة مـن األوالد
الخاصة
ّ ُترددة املوسـيقية
والبنـات ،مـن بينهـم أطفـال أصغـر مـن آلـة امل ِّ
بهـم ،السـمفونية األوىل ملهلـر ( ،)Mahlerبقيـادة السير سـيمون راتـل
( ،)Simon Rattleالقائـد الرئيـس ألوركسترا الفيالرمونيـك لربلين .مل
التنـوع ،والجمال الـذيُّ تحقِّـق أوركسترا الشـباب الوحـدة والتجانـس يف
اسـتمر خلال جميـع حـركات هـذه السـمفونية الطويلـة فقـط ،بـل علينـا
أن نـرى كيـف ،يف النهايـة ،غمـر الحماس املُتفرجين ،وغمـر راتـل نفسـه
يقبلـون الـذي أصبـح وجهـه منتشـي ًا متامـاً ،واملوسـيقيني الذيـن كانـوا ِّ
ـن فحسـب ،بـل كان تدفُّقـ ًا بعضهـم بعضـاً :مل يكـن هـذا إنجـاز ًا رائعـ ًا للفَ ّ
هائلاً للغبطـة الجامليـة.
الجامليـة ،حيـث تولِّـد اللَّـذة واملعانـاة
ّ تكمـن ذروة يف املفارقـة
والسـعادة والشـقاء بعضهما البعـض ،يف األداجيـو لــخامسية
يعبر عـن بـؤس شـوبرت الذي ال ( )Quintetteشـوبرت ( .)Schubertإنـه ِّ
جامليـة مـن دون إزالـة األمل فقـط ،بل عىل ّ يشـعرنا التعبير عنـه بسـعادة
ٍ
بحـب أيضـاً... العكـس يجعلنـا نشـاركه إيـاه
الشيء نفسـه يسري على مقطوعـة املحكـوم باإلعـدام ملاريـو
أحـب
ّ كارافـادويس ( )Mario Caravadossiالـذي يصيـح يف توسـكا« :مل
الحيـاة أبـد ًا بهـذا القـدر» .هنـاك ذروة للبـؤس الـذي يجلـب لنـا السـعادة
77
الجامليـة عندمـا يجعلنـا نعاين من هذا البؤس ،يقـول يويزك ()Woyzeck ّ
عندمـا قتـل ماري (« :)Marieأنا ،اليشء ،يا ماريـا! وال أحد غريي!»(((* .لقد
ذرفـت دمـوع األمل واملتعة عندما اعتقدت السـيدة باترفالي ()Butterfly
ٍ
سـنوات ،أشـعرين األمـل الالنهايئ أنهـا تـرى الرجـل الذي كانت تنتظره منذ
بيـأس النهايئ ،وكذلك بالشـعور بالجلال يف اللحظة ٍ واملُضلِّـل يف غنائهـا
التـي صاحـت فيهـا« :املـوت ،املـوت مـن الفـرح» .تسري صيغـة بيتهوفن
«الفـرح مـن خلال املعانـاة ( »)Durch Leiden Freudeعلى هـذه
ين يف التكامـل املتنازع للسـعادة املوسـيقى .تكمـن قمـة التعقيـد اإلنسـا ّ
جامليـات املوسـيقى.
ّ والشـقاء يف
تشـبه عمليـة التوليـد الـذايت الحلقـي لسـوناتا ،أو سـيمفونية ،الحيـاة،
التحول.
ُّ إنهـا عمليـة إعـادة البدايـة/
خاصيـة تكرار املوضوع لدى بـاخ ( ،)Bachويف الهروب(((** (la
ّ تخضـع
،)fugueاللحـن الـذي يجـري وراء نفسـه مـن تلقـاء نفسـه لهـذا املنطـق
تتحـرك يف العمق.
َّ باعتـدال ويف الوقـت نفسـه بتقـوى
رومانسـية بيتهوفـن الصاخبـة الشـغوفة ،وفواصلـه العنيفـة أو
ّ تنقلنـي
اللطيفـة ،اندفاعاتـه ،ندمـه وعوداتـه ،دامئـ ًا إىل حالـة متل ٍ
ُّـك ثانية.
الكالسـيكية ،ودعونـا نترك األغنيـة،
ّ دعونـا اآلن نترك املوسـيقى
(((* وردت يف الكتاب العبارة باللغة األملانية كاآليت،»Nicht nicht Marie und nicht anders« :
النص األصيل ملرسحية ّ املقتبسة من أوبرا فويتسك أللبان بريغ ( ،)Alban BERGوهي عبارة ال توجد يف
فويتسك لغورغ بوشنري ( .)Georg Büchnerوعندما أردت التحقّق منها شاهدت ِع ّدة صيغ لهذه األوبرا يف
اليوتيوب فاكتشفت أن العبارة ليست صحيحة إذ يرد الحوار كاآليت:
? MARIE :Was zittert? Was will
! WOZZECK: Ich nicht, Marie ! Und kein andrer auch nicht
ترد فع ً
ال يف األوبرا« :أنا ،اليشء ،يا ماريا! والأحد فأخربت إدغار موران بذلك واتفقنا عىل ترجمة العبارة كام ّ
غريي!»[ .املرتجم]
((( ** الهروب ( )fugueهو شكل من أشكال الكتابة املوسيقية ،ظهر يف القرن السابع عرش ،أُطلق عليه اسم:
«فوغا (( »)fugaالالتينية« :فوجري ( ، »)fugereوبالفرنسية :هرب ( ، )fuirوهو تلحني يستند بالكامل إىل هذه
ٍ
صوت إىل آخر .إنه أحد العملية« :الهروب» ،ألن املستمع يكون لديه االنطباع بأن موضوع «الهروب» يهرب من
أكرث أشكال التلحني تطلّباً ،إذ يستغل موارد الطباق ومبدأ املُحاكاة.
78
الثوريـة :تنقلنـا
ّ الوطنيـة واألغـاين
ّ الوطنـي واألغـاين
ّ لرنكـز على النشـيد
عاطفيـة شـديدة يف الوقـت نفسـه الـذي تدمجنـا يف مجتمـع، ّ إىل حالـة
ين.
ألن الشـعور باالندمـاج يف املجتمـع جـزء شـاعري مـن الوجود اإلنسـا ّ
الفرنسي ،ونشـيد املقاومـة البولـوين ،ونشـيد
ّ الوطنـي
ّ يشـعرين النشـيد
الحـرب املناهضـة للفاشـية «الفوج الخامـس (»)El quinto regimento
بالنشـوة.
ثوريـاً ،ألنـه مل يعـد
ثوريـاً ،أو باألحـرى عندمـا كان ّ
عندمـا يكـون املـرء ّ
يشء مـا مبهـج .هنـا أيضـاً ،نحـن يف حالـة ثانيـة،
ٌ كذلـك ،يكـون لألغـاين
حيـث تؤثـر النشـوة املوسـيقية والكلمات املسـكرة يف بعضهـا البعـض
وتتداخـل ،إنـه شـعر الشـعور باالندمـاج يف مجتمـع هائـل ،واالندفـاع
اإلنسـانية .عندمـا أغنيهـا يف حفلـة ،ينبعث اإلميـان امليت
ّ بتحـرر
ُّ لإلميـان
يف ذايت ويبقـى يف الوقـت ذاتـه ميتـاً ،فـأذرف دموعـ ًا مضاعفـة.
79
الشـخصيات
ّ الرغبـة ،كما هـو الحـال بالنسـبة إىل املسرح ،يف إلبـاس
األسـطورية أو املـايض بأزيـاء ُم ِ
عـاصة ،مـن أجـل التأكيـد على األسـايس ّ
عمليات
ّ أحـب
ّ َّ
يتجلى يف الحركـة واملوسـيقى .أقول مـن جهتي إنني الـذي
األسـطورية كما يف نابوكـو
ّ اإلخـراج املُذهلـة التـي تعيـد بنـاء مصر
( ،)Nabuccoقـد أسـأت فهـم بوريـس غودونـوف ()Boris Godounov
وهـو يرتـدي بذلـةً كاملـة!
الجامليـة الرائعـة لتحليقـات
ّ لـن أذكـر هنـا الرقـص الكالسـييكّ ،اللّغـة
وانحنـاءات الجسـد ،الـذي تحملـه املوسـيقى املأسـاوية لبحيرة البجـع
فـن الرقـصالخـاص .وجـد ّ
ّ الكونيـة ،فتجذبنـا بسـحرها
ّ أو طقـوس الربيـع
عهـد ًا جديـد ًا يف املرسحيـات املوسـيقية التـي ِّ
يؤديهـا فريد أسـتري (Fred
فـن الباليـه
)Astaireوسـيد شـاريس ()Cyd Charisse؛ كما اكتسـب ّ
قصـة الحـي الغـريب (West دفعـةً جديـدة يف هوليـوود ،وبلـغ ذروتـه يف ّ
)Side Storyوحمـى ليلـة السـبت (.)Saturday Night Fever
أتحـدث عـن فنـون الجمبـاز التـي تسـتعمل اإلمكانيـات َّ أخيراً ،لـن
الرياضيـة
ّ وجامعيـاً ،ويف الفنـون
ّ فرديـ ًا
ّ الالنهائيـة للعـب جسـد اإلنسـان،
ّ
والقتاليـة ،ويف مباريـات كرة القـدم أو لعبة الركبي.
ّ ـة والبهلواني
ّ ـة والبحري
ّ
80
ُحاضة السادسة)
(امل َ
موسعة
َّ وجامليات
ّ فنون جديدة
اسـتغرق األمـر ،كما ذكرنـا مـن قبـل ،عقـود ًا حتـى يتـم االعتراف
ـن .منـذ ذلـك الحين ،حدثـت عمليـة مامثلـة بالنسـبة إىلبالسـينام كفَ ٍّ
ُتحركـة واملسلسلات التليفزيونيـة والـراب.الصـورة والرسـوم امل ِّ
83
عمليـات ميكانيكيـة بحتـة،
ّ ـن ،ليـس فقـط ألنـه بـدا نتـاج االعتراف بـه كفَ ٍّ
مخصصـ ًا لالسـتعامالت املوضوعيـة لإلخبـار ولالسـتعامالت َّ بـل ألنـه كان
لألحبـاء أو األعـزاء املُتوفين؛ وألنـه بـدا
ّ الذاتيـة ،أي الحضـور املهـووس
موجهـاً للسـياح الذيـن يقومـون بضغطـة زر ،وإىل املُصطافين الذيـن َّ
يرغبـون يف الحصـول على ذكريـات جميلـة على الشـواطئ مبالبـس
فـن التصويـر الفوتوغرايف مقترص ًا عىل الطبقات الوسـطى، السـباحة .كان ّ
وقـد حصره بورديـو يف هذا الـدور باعتبـاره «ف ّن ًا متوسـطاً» ،غري مـدرك أنه
ٍ
باعتراف عاملي .ومـع ذلك ،وجد بعد تشـخيصه السـابق ألوانه ،سـيحظى
مصـورون ف َّنانـون مثـل روبـرت دواسـنو (.)Robert Doisneau ِّ بالفعـل
فـن ضبـط الصـورة،
ـن التصويـر الفوتوغـرايف ،أي ّ تـم االعتراف بفَ ِّ
ثـم َّ
أدىمما َّ
وفـن الوضـعّ ،
ّ وفـن اللقطـة،
ّ وفـن اإلضـاءة، ّ وفـن زاويـة الرؤيـة،
ّ
مما
تـم الشـعور بسـحر القريـن أكثر ّإىل تكريـم الصـورة تدريجيـاً .لقـد َّ
ـن التصويـر الفوتوغـرايف يف قاعـات العـرض تـم اكتشـافه ،واعترف بفَ ّ َّ
تبين أن الفيلسـوف جـون بودريـار
ومعارضـه ومهرجاناتـه ونقَّـاده؛ كما َّ
مصـور ف َّنـان.
ِّ ()Jean Baudrillard
تحركة الرسوم ا ُ
مل ِّ قيمة ِّ
أنشـأ فرانسـيس الكاسين ( )Francis Lacassinيف عـام 1962نـادي
الجامليـة ،جمـع النـادي كال مـن آالن
ّ ُتحركـة اعرتافـاً بقيمتهـا
الرسـوم امل ِّ
ريسـني ( )Alain Resnaisوكريـس ماركـر ( )Chris Markerوإفيلين
سـولريوت ( )Évelyne Sullerotوأالن روب غرييـت (Alain Robbe-
أول
)Grilletوديلفين سيريغ ( )Delphine Seyrigوأنـا .قـام بتنظيـم َّ
ُتحركـة يف إيطاليـا عـام 1965علاو ًة علىللرسـوم امل ِّ مهرجـان دويل ُّ
معـارض أخـرى مختلفـة .لقد كان األمر يتعلَّق مبسـألة إضفـاء القيمة عىل
رسـوم تانتـان ( )Tintinوأستريكس ( )Astérixاللذيـن قرأوهما عندمـا
ال (وبالنسـبة إيل ،باعتبـاري مـن جيـل أقـدم ،أقـدام مطليـة كانـوا أطفـا ً
84
ووصـف بأنـهمتـت إدانـة هـذا النـادي ُ
بالنيـكل «َّ .)»Les Pieds nickelés
مرتفـع ومخـادع يف مجلـة األزمنـة الحديثـة ()Les Temps modernes
تطـور يف وقـت الحـق
َّ ُتحركـة نتـاج أسـوأ بـذاءة.
الرسـوم امل ِّ
التـي تعتبر ِّ
فـن «راشـد» وأصلي وغنـي مـن خلال ضبـط الصـورة وزوايـا املشـاهدة ّ
كما يف األفلام ،ولقطـات مكبرة ،ولقطـات مقربـة ،ولقطـات مائلـة ،ومـن
والرسـم.جامليـة جديـدة وإبداع مفعم بالحيوية يف السـيناريوهات َّ
ّ خلال
ُتحركـة ببـطء،
الرسـوم امل ِّ
ـن ِّ
تـم االعتراف بفَ ِّ
ومثلما حـدث مـع السـينامَّ ،
وأبر َز
فشـمل املهرجانـات مبا يف ذلك مهرجان أنغوليـم (َ ،)Angoulême
مؤلِّفين مرموقين ،وأثـار اهتمام الصحافـة.
ازدهار املسلسالت
85
سـوبرانو ( ،)Sopranosولعبـة العـروش ( )Game of Thronesوغريهـا
جامليـة على نحـ ٍو متزايـد.
ّ مـن املسلسلات التـي تكتسـب
نـوع جديـد مـن الفنون،
يف الوقـت نفسـه ،مكَّ ـن التليفزيـون مـن خلـق ٍ
خاصـة تكمـن يف مونتـاج ّ بجامليـة
ّ هـو الفيلـم الوثائقـي الـذي ي َّتصـف
الشـهادات املختلفـة واملتناقضة حول الحدث نفسـه ،مثل تلك املُتعلِّقة
بالحـرب يف يوغوسلافيا ،حيـث يتـم اسـتجواب مختلف األنصـار الذين هم
متعـددة من
ِّ الصراع ،وحيـث تتـم محاولـة إعـادة تشـكيل مجموعة أعـداء ِّ
الحقائـق واألكاذيـب املجـزأة يف لغـ ٍز تصويـري.
بالتنوع سـمح
ُّ ُيشـكِّ ل تكاثـر القنـوات التليفزيونيـة واإلذاعيـة نطاق ًا غني ًا
جامليـة تعـرض أفالم ًا كبرى يف تاريـخ السـينام ،أو حفالت ّ بوجـود قنـوات
كالسيكية.
ّ موسـيقية
وهكـذا يظهـر حاليـ ًا على شاشـة التليفزيون سـواء يف الوثائقيـات ذات
ـن
الرومانسي ،الفَ ّ
ّ التاريخـي ،أو يف املسلسلات ذات الطابـع
ّ الطابـع
الجامليـة.
ّ باإلضافـة إىل كلّ رشوط الصفـة
حـوار منطقـي بين التعـاون املتنـازع إنتـاج /إبـداع،
ٌ وعليـه ،يحـدث
ـن ،بالنسـبة إىل التليفزيـون ،كما هـو الحـال بالنسـبة إىل الربـح /الفَ ّ
الجيد
ّ وجامليات؛ مام يجعـل العمل
ّ فـن
الكتـاب ،أو الفيلـم ،أو كلّ مـا هو ّ
جـد ًا يف ظلّ التدفُّـق الهائل للمنتجات االسـتهالكية ذات
ممكنـ ًا لكنـه قليل ّ
التأثير النفسي.
ُشـاهد ليـس يف حالـة استرخاء وانتبـاه، ِ أضـف إىل ذلـك أن امل
ين ملشـاهد السـينام .إنـه ينظر
وبالتـايل ال يكـون يف حالـة الفهـم اإلنسـا ّ
إىل شاشـته على الطاولة ،أو خالل العشـاء ،أو وهو متعـب ،فريتاح أمام
عـرض لعبـة أو برنامـج فرجـوي .بالطبـع ،ميكـن أن يكـون التلفـاز ظاهـرة
ام يكمـن يف البقـاء أمام الشاشـة السـتهالك كلّإدمـان أيضـاً ،بـل وتسـم ً
يشء دون توقُّـف.
86
الفنون التطبيقية
لـن أذكـر هنـا موسـيقى الـراب التـي انطلقـت مـن الضواحـي أو هوامش
املدينـةُ ،ر ِفضـت يف بداياتهـا مـن ِقبـل العـامل املثقَّـف ،ثـم أُكسـبت
ـن مـن ِقبـل منارصيهـا.أوصافهـا الفَ ِّن ّيـة واالعتراف بهـا كفَ ٍّ
ُصورة التـي أصبحت أحيانـ ًا ف ِّن ّية بفضـل املونتاج
ولـن أذكـر األغنيـة امل َّ
غري التقليـدي للصور.
أذكـر بإيجـاز اإلشـهار الـذي كان يف البداية عبارة عن ملصقات وكشـف
أما اليوم،
عبر طوفـان من الرداءة ف َّنانين مثل بول كولين (ّ .)Paul Colin
والريفيـة؛ لقـد
ّ الحرضيـة
ّ الطبيعيـة
ّ تشـوه إعالنـات امللصقـات املناظـر ِّ
الخاصة
ّ ورقمية ،تكتسـح شاشـاتنا وأجهزة الحاسـوب
ّ أصبحـت تليفزيونيـة
بنـا على نحـ ٍو غـا ٍز ووقـح ،وغالب ًا ما تكـون فظيعـة وبذيئة .يوجـد عدد كبري
الجاملية .غير أن تحدث مـن حني آلخر
ّ مـن األعمال التـي تخلـو متام ًا مـن
اكتشـافات ف ِّن ّيـة جميلة.
الشـخصية مـن أجـل االسـتقاللية
ّ امللكيـة
ّ تثير السـيارة ،موضـوع
ُسرع ،املتعـة ،بـل تخلـق إثـارة عدوانيـة أو والقـوة اللتين مينحهما اَمل ِّ
تطـورت ليـس مـن َّ جنـون العظمـة لـدى أصحابهـا أو مسـتخدميها .لقـد
الجامليـات أيضاً .إنه
ّ حيـث الراحـة واآلليـات التحريرية فقـط ،بل من حيث
تقدم من خالل السـيارات ومـن أجلها ُفضـل لإلعالنـات التـي َّ املوضـوع امل َّ
صـور ًا منطيـة للسـعادة .إذا شـاهدنا يف التليفزيـون أو السـينام اإلعالنـات
جمـل ليـس شـكل السـيارة فقط ،بل الوفيرة للسـيارات ،فإننـا نـرى أن مـا ُي ّ
متعـة القيـادة ومتعـة القيـادة بأقصى رسعـة على طريـق جميـل ،وعبر
الحر ّيـة ،والتمتـع بإخضـاع طاقـة هائلـة
ّ منظـ ٍر طبيعـي جميـل ،إنهـا متعـة
ُسرع ،متعـة أن تكـون وحيـد ًا يف بعـض األحيـان كما تريـد بواسـطة امل ِّ
شـخص ثـانٍ يف سـعادة الحـب ،وأحيانـ ًا
ٍ كسـيد لفـرس نـاري ،وأحيانـ ًا مـع
أرسيـة .كلّ هـذا يحجـب ازدحامـات املـرور يف ّ مـع األطفـال يف سـعادة
وتلـوث الهـواء وتفضيـل
ُّ املناطـق الحرضيـة وصعوبـات ركـن السـيارات
87
الجـذب النفسي للسـيارة على أي موضـوع آخـر مـن حضارتنـا.
نتحـدث عن تجميل العـامل الصناعـي ،اآلالت والقطارات
َّ أخيراً ،دعونـا
والطائـرات ،أي األشـياء التـي ُج ِّملـت مـن حيـث شـكلها أو سـبائكها أو
تغليفهـا مـن أجل تحقيـق اإلغراء الجمايل ملوضوع نفعي أو لالسـتهالك.
البرشيـة مظهـران:
ّ يف كلّ حضـارة ،يكـون للعديـد مـن املوضوعـات
يل (العـرض ،الديكـورات واأللـوان) .يف حضارتنـا ،يتحكَّ ـم عملي وجما ّ
ّ
الجامليـات لبيـع منتجاتها بشـكلٍ أفضل .يعـرف كيف يلعبّ ويضـخ الربـح
اإلغـواء عـن طريـق إضافـة جانـب جمايل سـطحي إىل طبيعـة األشـياء
الناتجـة عـن اإلنتـاج الصناعـي أو املُص َّنـع الضخـم (مثـل الطعـام).
أدى تعميـم هـذا التجميـل ،يف الواقـع ،إىل جعـل العـامل الصناعـي َّ
ردة الفعـل لصالح الحـرف اليدوية الجديـدة التي بدأت يف ّ فكانـت ً،
ال مبتـذ
وكـرد فعـل على التنميـط املعيـاريِّ النصـف الثـاين مـن القـرن العرشيـن.
ذوق
تطور منذ السـتينيات ٌ السـائد للعامل الحضري واملنتجات الصناعيةَّ ،
الخاصـة
ّ جاملياتـه
ّ يطـور
ِّ ريفـي جديـد ،متقـادم جديـد ،وطبيعـي جديـد،
والتفـرد والعمـل اليـدوي .تتـم إعـادة تأهيـل اليد يف
ُّ على أسـاس األصالـة
مقابـل اآللـة ،مبـا يف ذلـك أفعالها الخرقـاء وأخطاؤها .يقول إتيان سـوريو
(« :)Étienne Souriauإن املوضـوع املُص َّنـع ميكانيكيـاً ،على الرغـم
مـن كاملـه التـام ،أدىن مـن املوضـوع املصنـوع باليـد ،بسـبب نقصـه».
فـن مـن قريـة غرينويـش ( )Greenwichوحـي سـان جريمـان دو انتشر ّ
بـري ( )Saint-Germain-des-Présعلى نطـاقٍ واسـع يف جميـع أنحـاء
العـامل .ال يتعلَّـق األمـر باألشـياء التـي يتـم فيهـا متييـز الخـام واملـادة
تجمع
فقـط ،بـل باملالبـس والحيل واملجوهـرات والديكـور واألثاث أيضـاًَّ .
جامليـة «بوبـو (.*(((»)bobo
ّ كلّ هـذا مـن خلال إنتـاج
(((* يطلق هذا االسم عىل الشخص املُثقَّف الذي يعيش حالة مادية ميسورة ويدعم اإلبداع والتنمية
املُستدامة ،ويدعو إىل املساواة ويرفض املنافسة وسيادة املال.
88
ُحاضة السابعة)
(امل َ
واللعبي
ّ ّ
والصويف والشعري
ّ ّ
الجاميل التفاعل بني
غالبـ ًا مـا ُتحفِّـز الظـروف الخارجيـة اإلبـداع الفَ ّن ّي الـذي يعتمـد أحيان ًا
للتحـدي .لكنـه يكـون دامئـ ًا مزيجـ ًا مـنِّ على الصدفـة و /أو يسـتجيب
يتضمـن «اإللهـام» ،أيَّ نشـاط «مـا بعـد شـاماين» لعقـل املُؤلِّـف الـذي
واعوإن كانـت مخفَّفـة ،ومـن نشـاط ٍ النشـوة والتملُّـك واملُحـاكاة حتـى ْ
يصحـح ويتحكَّ ـم. ِّ
«عبقريـة» حضـور امليـزة الخارجيـة لشـيطان ()daimôn
ّ تبعـث كلمـة
أسـمى ،مـن خالل التملُّـك ،داخل املُبدع وتكشـف عن ارتقائه األسـطوري.
ُيسـتبطن السـحر ويضمر ،فيصبح شـعور ًا ضمن االنفعال الجاميلّ .إن
الفَ ّن شامانية ُمسـتبطَ نة ُ
ومضمرة.
والتعجـب والنشـوة والتملُّـكات
ُّ تصير الحـاالت الثانيـة ،أي التمتـع
املتوسـطة ومـا قبـل الوجـد ،سـائدة يف ذروة العاطفـة
ِّ والحـاالت شـبه
91
والصوفيـة
ّ واللعبيـة
ّ الشـعرية
ّ الجامليـة .وتكـون حـارضة يف الحـاالت
ُقدسـة الكثيفـة.
وامل َّ
النرثية ،ولها
ّ الشـعرية ليسـت أقـل «طبيعية» من الحـاالت
ّ إن الحاالت
والحب.
ّ تتضمن التعاطف واملشـاركة
َّ صفـة معيارية ،كما
الشـعرية
ّ إن كلّ مـا هـو جمايل ،كما سـبق الذكـر ،جـزء مـن الصفـة
يل
الشـعري .إن الشـعور الجما ّ
ّ الجامليـات دامئـ ًا
ّ تحـدد
ّ البرشيـة.
ّ للحيـاة
الشـعرية.
ّ مظهـر مـن مظاهـر التأمـل أو /واإلعجـاب يف التجربـة
واللعبـي .متامـ ًا مثلما
ّ يل
الشـعري والجما ّ
ّ توجـد عالقـة تناضـح بين
حـد ذاتهـا ،ميثـل اللعـب ،كما كتـب الجامليـة غايتهـا يف ِّ
ّ تجـد العاطفـة
هرني دي مونرثالن (« ،)Henry de Montherlantنشـاط ًا غايته املتعة
التـي يشـعر بهـا املـرء وليـس يف أي يشء خارجهـا» .غالبـ ًا مـا نالحظ أن
مـؤرخ الفَ ّن بيري
ِّ ـن نشـاط لعـب باألشـكال واملـواد ،وهذا ما أشـار إليهالفَ َّ
ـن هـو أسـمى تعبير فرانكاسـتيل ( )Pierre Francastelبقولـه :إن «الفَ ّ
جامليـة صـادرة عـن اللعبـةّ عـن اللعـب»ُ .يولِّـد مشـهد األلعـاب مشـاعر
نفسـها («املبـاراة الجميلـة») ،والتـي تتكثـف أحيانـ ًا يف اللعـب باملـوت
(ألعـاب السيرك الرومانيـة ،مصارعـة الثيران) .إن اإلنسـان اللعـوب
يل يف الوقـت نفسـه. شـاعري وجما ّ
ّ ()Homo ludens
يتجلى يف كونهما غاية َّ واللعبي
ّ يل
يوجـد قاسـم مشترك بين الجما ّ
ودينيـة.
ّ واحتفاليـة
ّ سياسـية
ّ ٍ
ألغـراض ذاتهما ،لكـن ميكـن اسـتخدامهام
دينيـ ًا مـن خلال وضـع ف ّنـه أو سياسـي ًا أو ّ
ّ ميكـن للفَ َّنـان أن يشـيع أو يتنبـأ
ـن أن يندمـج دامئـ ًا يف قضيـة أو عقيـدة؛ وميكـن للفَ ّ ّ موهبتـه يف خدمـة
جامليات
ّ ُقـدس .كانـت هنـاك دامئـاً يل أو إعـادة االندمـاج يف امل َّ االحتفـا ّ
يف االحتفـاالت الكبرى ،ويف تتويـج الفـارس يف العهـد اإلقطاعـي ،ويف
مراسـم فرسـاي يف عهـد لويـس الرابـع عشر ،وآداب االسـتقبال الرئايس
الخاصـة بالسـاحة ّ يف اإلليزيـه ،ومسيرات نورمبرغ يف عهـد هتلـر وتلـك
الحمـراء خلال حكـم سـتالني ،ويف موكبنـا واسـتعراضاتنا يف 14يوليـو.
92
والوطنـي
ّ والدينـي
ّ ُقـدس
متضمـن ومدمـج يف امل َّّ يل
إن البعـد الجما ّ
متضمـن ومدمـج يف الحفلـة ومبـاراة كـرة القـدم
ِّ والسـيايس ،مثلما هـو
ّ
والنقـاش املتلفـز ،ويف األخبـار السـينامئية سـابقاً .لكـن ميكـن تدميره
بسـبب شـجار بني السـكارى ومعـارك بني املشـجعني ،وتدفـق االنفعال
السـيايس الـذي ينـزع الجامليـة عـن العـرض.
ّ
أضف إىل ذلك أن املرسح واملباراة الدولية والسـينام نفسـها تشـمل
يتجلى يف املسرح يف إطفـاء األنـوار والدقـات الثلاث َّ احتفاليـاً.
ّ طقسـ ًا
ورفـع السـتار وتحيـات الفَ َّنانين يف نهايـة العـرض .قللـت السـينام كثير ًا
مـن طقوسـها مـع العـرض الدائـم .ويتمثـل يف املباريـات الدوليـة يف
االسـتامع للنشـيد الوطنـي وإنشـاده بحـرارة واملصافحـة باأليـدي بين
ـد ذاتهـا طقـس اللذويـة للهـدف هـي يف َح ِّ
ّ الفريقين .إن لحظـة الوجـد
للهـداف وعناقـه وتقبيلـه املحمومين لزمالئـه.َّ نشـوة النصر
الجامليـة والحـاالت
ّ يجـب أن نالحـظ أيضـ ًا التناضـح بين الحـاالت
الجامليـة األسـمى ،نصـل إىل ّ الصوفيـة ،إذ عندمـا نصـل إىل العاطفـة
ّ
تجـاوز الـذات مـن خلال الشـعور بالالنهايـة أو املُطلـق الـذي يكـون
صوفيـاً .أشـار هنري برميونـد ( )Henri Brémondإىل العالقـة بين ّ
ُـؤرخ
الصوفيـة والتأمـل الجمايلّ ،إذ يعتربنـا هـذا الكاهـن وامل ِّ ّ الحـاالت
ملهمين؛ إنـه يرى متصوفين وكلّنـا شـعراء وكلّنـا َ
ّ الكبير للديـن جميعـ ًا
اسـتمرارية تصاعديـة بين الشـعر واإلخلاص والوجـد ،ألن الشـعر،
مجمـع ،يدعونـا إىل (السـكينة)»؛ ِّ بالنسـبة إليـه ،يف جوهـره «سـحر
فالفنـون «تجـذب الجميـع ،ولكـن كلّ واحـد مـن خلال السـحر الوسـيط
الصلةبحق ِّ ّ حدد برميـون الخـاص بـه ،إىل االنضمام إىل الصلاة» .هكذا َّ ّ
الجامليات ال
ّ يف أنـه ذلك إىل أضف ف. والتصـو
ُّ ـات والجاملي
ّ الشـعر بين
إما أمام الخـاص ّ
ّ تجـد العاطفـة شـعور ًا باطني ًا يف الدين ،بـل يف تكثيفها
ين ،أو أمـام األعمال الفَ ِّن ّية املوسـيقية عىل الطبيعـي أو اإلنسـا ّ
ّ الجمال
خـاص.
ّ ٍ
وجـه
ُخدرات
تـؤدي الحفلـة عرب إثارتهـا ،بالرقـص واملوسـيقى وامل ِّ
ميكـن أن ِّ
93
والتملُّـكات التامـة (حفلات الهذيـان ،وحفلات موسـيقى الـروك) ،إىل
واللعبـي والصـويفّ ،بـل وحتـى امل َّ
ُقـدس. ّ يل
الخلـط بين الجما ّ
والجاملية :تلخيص
ّ الشعرية
ّ الحاالت
94
)Léothaudبين ثلاث نشـوات :أوالً :النشـوة الشـامانية التـي ميكـن
التقمـص التـي تشـمل حـاالت
ُّ أن تكـون عنيفـة ومتشـنجة؛ ثانيـاً :نشـوة
الدينيـة التي
ّ الصوفيـة
ّ التملـك(((؛ ثالثـاً :نشـوة التعاطـف ،تشـمل الحـاالت
العـريب((( ودويندي يف
ّ الدنيويـة مثـل الطـرب
ّ تـؤدي إىل الوجـد ،والحـاالت
ِّ
ِ
ُشـاهد نشـوة املشـاركة املُكثفـة. الفالمينكـو التـي ميكـن أن متنـح امل
الشدة.
ّ -حالة اإلثارة :يدفع السحر والحامس إىل أعىل درجة من
-حالـة اإللهـام :الشـعور بنفـس إبداعي ينعـش الفَ َّنان مـن خالل حالة
النشوة.
الصوفيـة :حالـة متنـح شـعور ًا بحماس الوحـدة واالنسـجام
ّ -الحالـة
القريـب مـن النشـوة.
الشـعرية على
ّ ُقدسـة :تتحقَّـق عندمـا تنطـوي العاطفـة
-الحالـة امل َّ
احترام النهـايئ وعلى اإلخلاص والتقـوى ،وحتـى على العشـق .يف رأيي،
ومقدسـة كامنـة أو مدمجـة يف كلّ مشـاركة مكثفـة،
َّ صوفيـة
ّ توجـد صفـة
الجامليـة الشـديدة .هكـذا،
ّ ويف كلّ حـب عميـق ،كما يف كلّ املشـاعر
األم ،أو يف ذكرى مـكان الوالدة ،أو يف
ُقـدس يف ذكـرى ّ ميكـن أن يوجـد امل َّ
صـورة املحبـوب الغائـب.
الشـعرية
ّ -حالـة الوجـد :إن الوجـد هـو اإلنجـاز األسـمى للحـاالت
تـؤدي حـاالت الحماس الشـديد إىل الوجـد ،وهـي الحالـة ِّ والجامليـة.
ّ
ُميـزة التـي ال يضعـف فيهـا فصا املـخ اللذان يفصلان األنا عـن العامل،
امل ّ
يتـم كبحهما .إن الوجد هو
واألنـا عـن الغير ،واألنـا عـن النحـن فقـط ،بـل ّ
الحالـة املُتناقضـة ،أيـن يجـد املـرء نفسـه حينما يفقدها ،وعندمـا يحقِّق
املـرء نفسـه مـن خلال نسـيانها .يحقِّـق الوجـد الشـعور باالنصهـار يف
95
ُؤديـة إىل الوجـد كثيرة ،ميكنهـا أن تكـون
املُطلـق أو الـكلّ .إن الطـرق امل ِّ
للسـكر،
الصوفيـة ،أو للحفلة ،أو ُ
ّ الخاصـة بالكثافـة القصوى للنشـوة
ّ تلـك
الخاصـة بالطأمنينـة القصـوى .تصير
ّ أو للعاطفـة ،أو يف املقابـل تلـك
الجامليـة غبطـة وميكـن أن تصير هـي نفسـها وجـداً.
ّ سـعادة العاطفـة
الشـعرية هـي الطمـوح العميق لإلنسـان ،فـإن الوجد
ّ إذا كانـت الحالـة
هـو الطموح األسـمى لهذا الطمـوح .
(((
التوافق مع الواقع
تحمل الكثري
لإلنسانية ُّ
ّ وفق ًا لـ يت .إس .إليوت (« ،)T. S. Eliotال ميكن
مـن الواقـع (.»)Humankind cannot bear very much reality
تحمله.
علينـا أن نتوصـل إىل توافـق مـع الواقـع لنتمكَّ ـن مـن ُّ
ُعمم.
ميكن تحقيق هذا التوافق عن طريق التجميل امل َّ
الدينيـة
ّ ُعمـم يتطابـق مـع تدهـور العقيـدةمبـا أن هـذا التجميـل امل َّ
واملعتقـدات الكبرى ،فقـد يغـذِّ ي نزعـة عدميـة تفضـل التم ُّتـع الجما ّ
يل
ليصبـح الغايـة الوحيـدة للحيـاة.
كما ميكـن تحقيقـه ،على العكـس مـن ذلـك ،مـن خلال العـودة إىل
الديـن إليجـاد سـلوات خارقـة للطبيعـة مـن أجـل الهـروب مـن قلـق الفراغ
العدمـي.
وباملثل ،ميكن أن ُيثري الشـعر والجامل ما أسماه باسـكال الرتفيه الذي
الطبيعي لوضعنا
ّ يصرف انتباهنـا ،عرب املشـاعر التي ينتجهـا« ،عن الشـقاء
جد ًا إىل درجة ال يوجد معها يشء يواسـينا».
الهـش والقاتـل ،والبائسـة ّ
((( قام جيل ليوثود بالتمييز بني النشوة والوجد بوضوح ،يف حني ميكن أن نخلط بينهام ،ألن النشوة القصوى
ميكن أن تصبح وجداً ،فتكتسب عندئذ الغبطة والطأمنينة القصوى والشعور باملُطلق.
96
يـود الكثير مـن الرتفيـه باملعنـى الباسـكايل يف حياتنا ويفاألكيـد أنـه ّ
(«العامـة» أو وسـائل اإلعلام ،بـل و«املُثقَّفين» أيضـاً) التـي تجعلنا
ّ ثقافـة
والرواية الرائعـة والفيلم الرائع
ننسى وضعنـا .لكـن الفَ ّن الرائـع واملأسـاة ِّ
تذكِّ رنـا بوضعنـا وتضعنـا أمـام مصرينـا وموتنـا .حتـى يف املسلسلات
والحـب والغيرة والكراهيـة
ّ التليفزيونيـة الرديئـة ،نجـد مشـاكل حياتنـا
ونفر منهـا يف الوقت
ّ والطمـوح واملـرض والشـقاء والصدفـة؛ نجد أنفسـنا
ذاتـهّ ،إل أننـا نهـرب مـن أنفسـنا ونجدهـا يف الوقـت نفسـه.
ـن الرائـع تعقيـد الهـروب مـن الواقـع املُبـارش إىل حيـث يوجـد يف الفَ ِّ
بشـغف وتعاطـف وفهـم .إنـه بذلـك هـروب مـن الواقـعٍ نجـد واقـع وضعنـا
واجتيـاح مـن ِقبـل الواقـع .مل َ
يـر باسـكال ،وهـو ُمفكِّ ـر التعقيد اإلنسـا ّ
ين،
الوجـه املُعقَّـد للرتفيـه ،ألن هنـاك مقاومـةً للرتفيـه يف الرتفيـه.
الجامليـات والشـعر لنعيـش الواقـع بالكامـل مـع
ّ لذلـك ميكننـا حشـد
الجامليـات عن الديـن والسـحر ،وهي تخلق
ّ وعينـا بقسـوته .منـذ انفصلـت
الفرح ذلك لـ «أن الجامل سـبب الفرح إىل األبد A thing of beauty is a
الجامليات
ّ تعرفنا
،»joy for everكما قـال جون كيتـس (ِّ .)John Keats
تحمـل فائـض الواقـع الـذي ال ُيطاق؛
على نشـوة الوجـود ،وتسـاعدنا على ُّ
متنحنـا العجائـب التـي نسـتقيها منها الطاقـة ملواجهة قسـوة العامل.
أخيراً ،ينفلـت شـعر الحيـاة باعتبـاره انبسـاط ًا ومشـاركةً وسـعاد ًة مـن
الرتفيـه .إنـه ال ينقذنـا مـن املـوت ،لكنـه ميثـل ،مـن خلال الحـب الـذي
يدمـج يف ذاتـه والـذي يدمجـه ،الجـواب الحقيقـي الوحيـد على املـوت.
97
ُحاضة الثامنة)
(امل َ
الجامليات والثقافة
ّ
كلمـة «ثقافـة» مفهـوم حربـايئ ،إذ توجـد ثقافـة راقيـة ،تكمـن يف
املُؤلَّفـات الرائعـة واآلداب واملوسـيقى الرائعة واملسرح ...وتوجد ثقافة
باملعنـى اإلثنوغرايف :إنها ثقافة الشـعب وطقوسـه وعاداتـه ومعتقداته...
فطريـاً ،أي مـا
ّ وهنـاك ثقافـة باملعنـى األنرثوبولوجـي :إنهـا كلّ مـا ليـس
يجـب أن نتعلَّمـه كاللّغـة والتقنيـات والفنـون...
الجامليـات يف كلِّ هـذه التعريفـات للثقافـة .إنهـا حـارضة ّ نجـد
أنرثوبولوجيـاً يف جميـع املجتمعـات .وحـارضة إثنيـ ًا أيضـ ًا يف مـا ُي َّ
سـمى
الشـعبية ،مـن خلال ملذاتهـا وترفيههـا.
ّ الثقافـة
العامـة» ،أو ثقافـة وسـائل اإلعلام التـي
ّ كما أنهـا حـارضة يف «ثقافـة
واملجلات والتليفزيـون ،وحاليـ ًا اإلنرتنـت الـذي
ّ متثلهـا الصحافـة الكبرى
صغـر.
تحولـه إىل عـامل ثقـايف ُم َّ
يسـتقلّ بذاتـه مـن خلال ُّ
99
الجامليـات صفـة جوهريـة للثقافـة الرفيعـة التـي بـدأت ،كما رأينا،
ّ إن
ٍ
تدمـج مـا كانت ترفضه كمنتجـات اسـتهالكية للناس غير املُثقَّفني ،والتي
والرسـوم
ـن ،أعنـي السـينام والتصويـر الفوتوغـرايف ِّ تعترف بهـا اآلن كفَ ٍّ
ُتحركـة واملسلسلات التليفزيونيـة . امل ِّ
الجامليـات ميكـن أن تسـهم بقـوة يف تجديـد وإثـراء ثقافـة
ّ سنرى أن
إنسـانية.
ّ إنسـانيات ال تنفصـل عـن ثقافـة ذات نزعـة
ّ
100
العقليـات والثقافـات األخـرى ،الذي
ّ اإلنسـانية الخارجـي ،أي عـامل
ّ وعـامل
تكشـف عنـه الروايـة والفيلـم أكثر فأكثر .تفتـح عوملـة األدب والسـينام
ـي ِ ٍ
ومتنـوع .هنـاك غنـى ف ّن ّ
ِّ ضخـم
ٍ ـي
حساسـيتنا ومعرفتنـا على تـراث ف ّن ٍّ
وثقـايفّ رائـع يف الكـون ،وميكننـا االسـتمتاع بـه معـاً.
أذهلنـي مـا قالـه الكا ِتـب اليابـاين شـيميزو تاكايـويش (Shimizu
)Takayoshiعـن اكتشـافه العمـل الرائـع لدوستيوفسكي ،والـذي كنـت
سـأقوله« :عندمـا قـرأت روايـة الجرميـة والعقـاب ،تأثرت بهـا إىل درجة مل
تحـدث يل مـن قبـل يف حيـايت .كان األمـر كما لـو أن البرق صعقنـي يف
وسـط الصحـراء ...كانـت مشـاعري عميقـة وورعـة إىل درجـة أنـه كان مـن
ـن وحدهـا» .هنـا تكـون
املسـتحيل ،يف نظـري ،أن متنحنـي إياهـا قـوة الفَ ّ
كونيـة الجمال فاعلـة.
ّ
العربيـة .قبـل سـبعني عامـاً،
ّ لنأخـذ ،على سـبيل املثـال ،املوسـيقى
مـر االعتراف بهـا مبراحـل: كانـت تبـدو هـذه املوسـيقى غريبـة وسـخيفةَّ ،
أوالً ،يف فرنسـا ،بفضـل إنريكـو ماسـياس ( ،)Enrico Maciasفرنسي ّ
توسـعتَّ ثم أغانيه، يف ـة رشقي
ّ إيقاعـات أدخـل الـذي إفريقيـا، شمال مـن
آذان الغربيين مطربين مثـل فريد األطـرش ،والرائعة ُ ثقافتنـا ،واكتشـفت
أم كلثـوم ،ثـم املغنيـة اللبنانيـة فيروز .يوجـد حاليـ ًا ُع َّشـاق املوسـيقى
مغـاريب.
ّ العربيـة يف فرنسـا ليسـوا بالضرورة مـن أصـلٍ
ّ
على املنـوال نفسـه ،قام عـازف السـيتار وامللحن رايف شـانكار (Ravi
)Shankarبنشر املوسـيقى الهنديـة هنـا .وأصبحت املوسـيقى اليابانية،
مبجـرد أن نندمـج فيها.
َّ جداً ،سـاحر ًة
رغـم أنهـا قـد تبـدو رتيبة ّ
الجامليات
ّ كونية
ّ
تعرفنـا الروايـات العظيمـة بالنـاس مـن خلال مشـاعرهم وعالقاتهـم ِّ
اإلنسـانية .إنهـم ال
ّ ٍ
مـع اآلخريـن ومـع العالَـم بطريقـة أغنـى مـن العلـوم
101
تاريخيـ ًا
ّ واجتامعيـ ًا فحسـب ،بـل يحملـون بعـد ًا
ّ نفسـي ًا
ّ يحملـون بعـد ًا
وفلسـفي ًا أيضـاً.
ّ وسياسـي ًا
ّ
الروايـة العديـد مـن األسـاليب التـي يعيـش بهـا النـاس يفتتنـاول ِّ
والعامـة .إن هـذه الجوانـب
ّ الخاصـة
ّ عالقاتهـم ورصاعاتهـم وحياتهـم
اإلنسـانية .نكتشـف أحيانـ ًا
ّ والذاتيـة غير مرئيـة يف العلـوم
ّ الوجوديـة
ّ
التعددية وعدم
ُّ الكـون يف الفـرد ،كما هو الحـال لدى فولكنر ،أو نكتشـف
البرشي ،كما هو الحال لدى دوستويفسكي. ّ االسـتقرار وتناقضـات الكائـن
الروايـة واملسرح والفيلـم أن اإلنسـان العاقل هو يف نفهـم مـن خلال ِّ
الوقـت نفسـه اإلنسـان األحمـق ،وأن اإلنسـان العامـل هـو يف الوقـت ذاته
االقتصـادي هـو اإلنسـان اللعـوب أيضـاً،
ّ األسـطوري ،أن اإلنسـان
ّ اإلنسـان
شـعرية بشـكلٍ رائع .كام
ّ نرثية بشـكلٍ رهيب أو
وأن الحيـاة ميكـن أن تكـون ّ
نـرى عالمـة الوراثـة لـدى األفـراد (عائلـة روغـون مـاكار وعائلـة كارامـازوف
)Rougon-Macquart، Karamazovونـرى فيهـم عالمـة املجتمـع.
إننـا نشـعر بشـكلٍ محسـوس أن األفـراد الفريديـن يحملون شـيئ ًا كوني ًا
اإلنسـانية يف مصير الفرد.
ّ يف ذواتهـم ونكتشـف الحالـة
ـن فريـد ،ناتـج منـذ فتر ٍة طويلـة ونحـن نتسـاءل عـن كيـف ميكـن لفَ ٍّ
عـن ثقافـة فريـدة ،ملجتمـع منقـرض أحيانـ ًا مثل أثينـا يف القـرن الخامس
الجامليـة واإلعجـاب
ّ قبـل امليلاد أو مصر الفرعونيـة ،أن ُيثير العاطفـة
يف حضـارات أخـرى ،مبـا يف ذلـك حضارتنـا ،وخصوصـ ًا حضارتنـا .كان
تبين كارل ماركـس نفسـه يواجـه هـذه املُفارقـة دون أن يفهمهـا .اليـومِّ ،
وثقافي ًا
ّ تاريخيـ ًا
ّ ُحـدد
الثقافيـة باسـتمرار أن العمـل الفريد امل َّ
ّ لنـا العوملـة
الجامليـة ،متام ًا مثل شـخصية الرواية أو ّ عامليـ ًا من الناحية
ّ ميكـن تثمينـه
كونية الوضع ّ األجنبـي ،ألن العمـل الفريـد ميكن أن يحمل يف ذاتـه
ّ الفيلـم
ين .
اإلنسا ّ
ومتنوعـة.
ِّ اإلنسـانية واحـدة
ّ أسـاس هـذه املفارقـة أنرثوبولوجـي ،ألن
التنوع
ُّ تنوع األفـراد والثقافات .لكن هـذا
اإلنسـانية املؤكـدة ُّ
ّ تنتـج الوحـدة
102
والعاطفية لجميـع الناس .ميكن لـكلّ الناس ،أي ًا
ّ العقليـة
ّ ال ينفـي الوحـدة
كان أصلهـم وثقافتهـم ،أن يبتسـموا ويضحكـوا ويبكـوا ،أي أن يسـتمتعوا،
ويكونـوا سـعداء ،ويعانوا.
ِ
وبصفـات الشـعوب باإلنسـانية الكاملـة
ّ ميكننـا ذلـك مـن أن نعترف
األصليـة يف مهارتهـا ومعرفتهـا وأشـكالها الفَ ِّن ّيـة
ّ باألصليـة،
ّ التـي نسـميها
والثقافيـة.
ّ
الهويـة
ّ ين يف الغير الغريـب واملختلـف ،ويـدرك
يـدرك الفهـم اإلنسـا ّ
املشتركة يف إمكانيـة املعانـاة والسـعادة ،ويف الوقت نفسـه اختالفه يف
الرواية
الجامليـة يف ِّ
ّ الصفـة واملعتقـدات واألخلاق .والحال أن املشـاركة
واملسرح والسـينام ،كما سـلف الذكـرُ ،تثير يف الوقـت نفسـه الفهـم
واالعتراف باالختالفـات .إننـا نعيـش متامـاً ملحمـة السـاموراي السـبعة
( ،)Sept Samouraïsالذيـن نتشـبث بهـم كأنهـم إخـوة ،يف الوقـت الـذي
ُننقَ ـل إىل اليابـان اإلقطاعيـة القدميـة .كذلـك حال متسـكنا بامللكـة امليتة
كليوباتـرا وعشـيقها مـارك أنطـوان على الرغـم مـن القـرون واملسـافة
الثقافيـة الهائلـة التـي تفصلنـا عـن مصر البطلميـة.
ّ
إنسـانية
ّ ً
عظيما يف فهـم أفراد الجامليـات دور ًا
ّ هكـذا ،ميكـن أن تلعـب
العصر الكوكبـي لبعضهـم البعـض .لكنهـا ال تلعبـه ّإل يف بعـض األحيـان
ين مـن الرتسـخ .ال
وعبر ومضـات ولُمـع ،فلا يتمكَّ ـن بذلـك الفهـم اإلنسـا ّ
ين((( يف
شـك أنـه سـيكون مـن الضروري إدراج الرتبيـة على الفهـم اإلنسـا ّ
ّ
التعليـم املـدريس والجامعـي يف جميـع البلـدان ،ألنـه يفتقـر إليـه متاماً.
تعبر األعمال العظيمـة األزمنـة والقـارات والبلـدان ،فـإذا تأصلـت
رسـائلها فينـا ،متكَّ نـا مـن فهـم بعضنـا البعـض.
(1) Cf. Edgar Morin, Les Sept Savoirs nécessaires à l’éducation du futur, Seuil, 2000.
103
اإلنسـانية هـو معرفـة اإلنسـان يف تعقيـده((( ،إذ
ّ مـا ينقـص العلـوم
الرواية
أمـا ِّ
التخصصـاتّ .
ُّ اإلنسـان فيهـا على العكـس منقسـم ومجزأ بين
ين.
فتبرز التعقيـد اإلنسـا ّ
إنهـا تظهـر الحيـاة غارقـة يف العالقـات املتبادلـة والتفاعلات ،حيـاة
مغمـورة يف زمـان ومـكان ومجتمـع هنـا اآلن .هـذا بالفعـل مـا تعيـده لنـا
تحدثنـا عنهـا ،مـن بلـزاك إىل موسـيل ()Musil الروايـات العظيمـة التـي َّ
وبروسـت؛ إنهـا كذلـك حيـاة باملعنـى املـادي والبيولوجـي للكلمـة.
الروايـة ،بشـكلٍ ال ميكـن االسـتغناء عنـه ،إىل املعرفـة املبهـورة
تدعونـا ِّ
اإلنسـانية
ّ بالحيـاة والباهـرة للحيـاة .بالطبـع ،هنـاك تكامـل مـع العلـوم
واألنرثوبولوجيـا والتاريـخ وعلـم االجتماع واالقتصـاد وعلـم النفـس،
توحدهـا يف طبيعتها الروايـة ِّ
التخصصـات ،لكـن ِّ
ُّ والتـي تكـون منفصلـةً يف
للتخصصـات.
ُّ ُتمـردة ،إنهـا يف الحقيقـة ذات طبيعـة عابـرة
امل ِّ
بالتأكيـد ،يوجـد هـروب مـن الواقـع املُبـارش يف املشـاركة الجامليـة
مثـل رؤيـة فيلـم ،لكننـا نكتشـف فيـه العـامل الحقيقـي ونتعلَّمه فيـه .ذلك
جـد ًا لفرانتـز ليـزت (« :)Frantz Lisztالفنون
مـا تخربنـا بـه جملـة جميلـة ّ
هـي أضمـن طريقـة للهـروب مـن العـامل ؛ كما أنهـا أضمـن طريقـة للتوحد
معه».
باعتبـاري مراهقـ ًا وحيد ًا ويتي ً
ام تعلَّمت الحيـاة بالهروب إىل الكتب ،إىل
بلزاك وتولسـتوي ( )Tolstoïودوستويفسكي وزوال ،وكذا إىل أفالم بابسـت
( )Pabstوالنغ ( )Langوكلري ( .)Clairاكتشـفت يف دوستويفسكي تعقيد
البشري وبـؤس الـذل وإمكانيـة الخلاص ،واكتشـفت حقائقـي ّ الكائـن
الخاصـة يف الكتـب واألفالم.ّ
الحقيقـة أن املوضـوع الحقيقـي لألنرثوبولوجيـا واإلنسـان ال يوجـد ّإل
ين:
((( انظر يف ما يخص التعقيد اإلنسا ّ
Edgar Morin, Le Paradigme perdu : la nature humaine, Seuil, 1970 et La Méthode, t. 5,
op. cit.
104
اإلنسـانية املجـزأة ،لكنه يكون
ّ بشـكلٍ جـزيئ ومـن جانب واحـد يف العلوم
الفرديـة والذاتيـة والعائليـة
ّ حـارض ًا يف الروايـة العظيمـة ،بـكلّ أبعادهـا
واالقتصادية
ّ والدينية والشـكية
ّ واالجتامعية
ّ والجنسـية والحلمية والهميـة
مقدمة
والتاريخيـة .إن موضـوع الروايـة هـو اإلنسـان والقـراءة هـي أفضـل ِّ
ّ
ملعرفـة أنفسـنا كأناس.
َن
املراهقة والف ّ
للجامليـات والفنـون
ّ املعرفيـة
ّ إن الفترة األكثر مالءمـة للفضائـل
سـن التطلُّعـات والبحـث والثـورات الـذي تختمـر فيـه
ّ هـي املراهقـة .إنـه
التطلعـات ،بين رشنقـة الطفولة واالندمـاج يف عامل الكبـار ،إىل حياة غري
جامعاتية
ّ املفتعلـة .إنـه فترة البحـث عـن حيـا ٍة أخـرى أكثر ّ
حر ّيـة وأكثر
معـاً ،حيـث ميكـن للمـرء أن يحقـق ذاتـه ويندمـج يف األخـوة يف الوقـت
نفسـه .إنـه زمـن البحـث عـن الحقائـق.
عندمـا يبحـث املراهـق عـن حقائقه من خلال السـينام أو الكتاب ،وهو
مـا حصـل يل ،ميكـن أن ينكشـف لـه ما كان يبحـث عنه دون معرفـة ما كان
يبحـث عنـه .سيسـتهويه العمـل الـذي أثـر فيـه مـدى الحيـاة ،وسـيحتفظ
طـوال حياتـه بالكشـف الـذي أذهله خلال قراءاته.
الرومانسي عـن تطلعـات أنرثوبولوجية تخمر
ّ لقـد عبر الشـعر واألدب
يف سـن املراهقـة ثـم تتلاىش بعده.
على عكـس الحضـارة األوروبيـة التـي تهيمـن عليهـا بشـكلٍ متزايـد
النقـود والتكنولوجيـا وروح الغـزو واالسـتحواذ على العـامل ،قـام شـعراء
مراهقـون وشـاعرات يف القـرن التاسـع عشر بالتعبير عـن تطلُّعـات وآالم
اإلنسـانية .يعبر شـييل ( )Shelleyوكيتـس ( )Keatsوبوشنر ّ الـروح
( )Büchnerونوفاليـس ( )Novalisوهولدرلين ( )Hölderlinونريفـال
( )Nervalورامبـو ( )Rimbaudعـن الطموحـات غري املحـدودة للمراهقة
105
وكـذا عـن ثوراتهـا .أردت منـذ فترة طويلـة تأليـف كتـاب صغير عـن رامبـو
كان مـن املمكـن عنونتـه :أرسار املراهقـة ،فدونـت مالحظاتـه ،لكننـي مل
أسـتمر .كنـت قـد اسـتلهمت العنـوان مـن كتـاب جميـل لهانـس كاروسـا
( )Hans Carossaبعنـوان أرسار النضـج((( ألننـي أظـن أن كلّ عصر لـه
عبر رامبـو بطريقة رائعـة عن التطلُّعات والثـورات التي ظهرت
أرساره .لقـد َّ
مجـدداً.
َّ الحقـاً بشـكلٍ جامعـي يف القـرن العرشيـن والتـي سـتظهر
ليـس العباقـرة املراهقـون فقـط الذيـن يكشـفون عـن تطلُّعـات
إنسـانية عميقـة ويخلقـون طريقـة جديـدة للتعبير عـن أنفسـهم بشـكلٍ ّ
متقدمـة مـن
ِّ سـن
ٍّ يف يكونـون الذيـن ً
ا أيضـ انـون ن
الفَ ّ بـل وحميمـي، َّـف
مكث
يتحـررون يف أعاملهـم األخيرة مـن املواضعـات التـي َّ الشـيخوخة أيضـاً،
ويقدمـون لنـا رسـالة اإلبـداع
ِّ كانـوا يخضعـون لهـا يف أعاملهـم الناضجـة،
النهـايئ ،كما هـو حـال لوحـة ترينـر ( )Turnerيف النهايـة ،والرباعيـة
األخيرة لبيتهوفـن ،وآخر أعمال مونيه ( .)Monetتخرج هـذه األعامل عن
السـكة ،وتتألَّـف متجـاوزة املعايير الواضحة ،مـا وراء االنسـجام وما وراء
فتعرفنـا على السـمو. ِّ الجمال،
الجامليـات
ّ نظريـة
ّ متيـز بـه أدورنـو يف كتابـه
أهـم مـا َّ
أخيراً ،أصـل إىل ّ
ـن وسـيلة لدفـع املعانـاة إىل التعبير» .يتعـذَّ ر تنـاول عندمـا قـال« :الفَ ّ
املعانـاة يف الخطـاب العقلاين البـارد ،يف حين متكِّ ـن املوهبـة الفَ ِّن ّيـة
بشـدته ،وتجعلنـا يف الوقت ّ الرفيعـة مـن تجميـل األمل ،أي تجعلنا نشـعر
ذاتـه نسـتمتع بتعبريهـا.
تزعجنـا املعانـاة يف الواقـع نحـن وأقاربنـا ،يف حين نغـض الطـرف عن
معانـاة اآلخريـن ،وننسـاها .نهـرب يف الحياة من كلّ ما هـو معاناة ،والحال
الجامليـات ميكنهـا أن تجعلنـا نعي بليتها وضخامتهـا .ميكننا أن نواجهها
ّ أن
يف السـينام واملسرح والقـراءة ونشـعر بالتعاطـف العميـق .تؤنسـن
(1) Hans Caressa, Les Secrets de la maturité, extrait du journal d’Angermann, Stock, 1941.
106
ٍ
بطريقـة رسيعـة الزوال. ِ
ُشـاهد والقـارئ ،لكـن لسـوء الحـظ
املعانـاة امل
ـن الراقـي املشـاعر الجامليـة التـي
على نطـاق أوسـع ،مينحنـا الفَ ّ
بتحملها
ُّ اإلنسـانية ،ويف الوقـت نفسـه تسـمح لنـا
ّ تجعلنـا نواجـه املأسـاة
ومواجهتهـا.
ـن وسـيلة ملنـح صـوت لبـؤس العـامل» .كان كتـب أدورنـو أيضـاً« :الفَ ّ
سـن الثانيـة عشرة أو
ِّ هـذا الصـوت هـو الـذي اخرتقنـي عندمـا رأيـت يف
الثالثـة عشرة فيلـم بابسـت ( )Pabstوأوبيرا كواتسـو (L’Opéra de
.)quat’sousغير أن أدورنـو مل يكـن يعـرف أن السـينام ميكـن أن تكـون
كاشـف عـن بـؤس العـامل. أقـوى ِ
هنـاك دامئـ ًا ٌ
فكر يف األعمال الفَ ِّن ّية العظيمة .ميكـن صياغة هذا الفكر
الروايـة ،كما يف روايـة جـان بـاروا ( )Jean Baroisمـن تأليـف روجـي يف ِّ
مارتين دو غـارد ( )Roger Martin du Gardواألمـل ( )L’Espoirملالـرو
( ،)Malrauxولعبـة الآللـئ الزجاجيـة أو سـيدهارثا (Le Jeu des perles
)de verre ou Siddhârtaلهريمـان هيـس ()Hermann Hesse؛ وقـد
يكـون معنـى هـذا الفكر ظاهـراً ،كام هو الحـال يف رواية املسـكونون (Les
)Possédésلدوستوفسكي ،أو ضمنيـ ًا كما هـو الحـال يف دون كيشـوت
لرسفانتـس (.)Cervantès
يكـون الفكـر يف بعـض األحيـان ،غري مريئ بشـكلٍ سـطحي ،إذ ال يظهر
ّإل للنظـرة الثاقبـة ،كام هو الحال يف اللّوحات الجدارية العظيمة لكنيسـة
سيستني [.]...
تجرأت عىل إدراج بيتهوفن يف كتايب ،فالسفتي (،)Mes philosophes َّ
مبـارش بواسـطة إشـارة موجـزة عـن معنـى عملـه بشـكلٍ ً
ألنـه عبر أحيانـا
الفَ ّنـي ،مفـاده أن السـيمفونية البطوليـة ()Symphonie héroïque
107
ُحـرر .كما أن معنيـي أوبيرا فيديليـو ( )Fidelioومعنـىمهـداة للبطـل امل ِّ
أول
جـداً ،إذ يبـدو يل أن َّ
ترنيمـة الفـرح ( )l’Hymne à la joieواضحـان ّ
(رباحركة للسـيمفونية التاسـعة تشـبه القياس املوسـيقي لتكون العامل َّ
أنسـب إليـه هـذا املعنـى بشـكلٍ تعسـفي) ويبلغنـا رسـالة إعـادة التوليـد،
كموضـوع أخير للحركـة موضـوع الباعـث األويل .أخيراً ،يحمل
ٍ مـع أخـذه
التدويـن الـذي أرص على إبـرازه بيتهوفـن يف نوتـة الرباعيـة األخيرة معنـى
حـد سـواءMuss es Sein ? es Muss Sein! « : واضحـ ًا وغامضـ ًا على ٍّ
« .»Muss es Seinهـل هـذا العـامل ممكـن؟ هل ميكننا قبـول هذا العامل!
هـل هـو ممكـن» الجواب« ،نعـم ،إذا أردنا تغييره ،فعلينـا أن نقبله» .يجب
أن تكـون كلّ ثـورة ضـد العـامل قامئـة على قبـول العـامل.
ال توجـد األفـكار العظيمـة فقـط ،بـل هنـاك حقائـق بديهيـة أصبحـت
شـدتها خلال أغنية مثل
مبتذلـة وغير مرئيـة ،والتـي تزدهـر من جديـد يف ّ
«دون حـب لسـنا شـيئ ًا عىل اإلطلاق» إلديث بيـاف ( ،)Piafأو القول الدقيق
ال بالـوالدة فهـو مشـغول باملـوت (Heلبـوب ديلان «مـن مل يكـن مشـغو ً
.»)who’s not busy being born is busy dying
هنـاك ،بشـكلٍ أعمـق ،مـا يقولـه باتريـك شـاموازو (Patrick
« :)Chamoiseauيبنـي الفَ َّنانـون العظماء واألعمال العظيمـة دامئـ ًا باب ًا
تصـوره .وهـذا مـا أعتقـد أنـه مهم يف
ُّ مفتوحـ ًا على أفـق دون أفـق ال ميكـن
اإلميـاء الفَ ّن ّـي .ليـس املعنـى املعـروض ،هـذا العـوز الـذي يطمئننـا ،بـل
بابـ ًا يفتـح ح ّقـاً ،ولـن يغلـق أبداً ،وسـينقل إلينـا بلا توقُّف طاقـات املمتنع
تصـوره».
ُّ
فهم اإلنسان
ٍ
جهة ،ألنـه يتـم التعبري عن الجامليـة ،مـن
ّ نكـون أفضـل يف املشـاركة
التعجـب واإلعجاب :أن تكون قـادر ًا عىل اإلعجاب
ُّ أفضـل مـا فينا من خالل
جد ًا للفـرد وللجميع!
والتعجـب أمر مفيـد ّ
ُّ
108
اإلنسـانية
ّ ننشـط هـذه القـدرة ٍ
جهـة أخـرى ،ألننـا ِّ ونكـون أفضـل ،مـن
مجمـدة ،أقصـد الفهـم.
َّ ٍ
كثير مـن األحيـان نامئـة أو التـي تكـون يف
أو ً
ال وقبـل كلّ يشء التعاطـف ،وتتـم إثارة هـذا التعاطف يتطلَّـب الفهـم ّ
يتضمـن
َّ ِ
ُشـاهد يف الفيلـم الـذي وتطويـره بواسـطة عالقـة مشـاركة امل
ِ
ُشـاهدُنوم مل
شـخصياته .ال يشـجع املوقف شـبه امل َّ
ّ تقمص ًا -إسـقاط ًا عىل
ُّ
السـينام على الهـروب فقـط ،بـل على فهـم اإلنسـان على وجـه الخصوص
أيضاً.
شخصيات الفيلم وفيها.
ّ ننىس أنانياتنا ونذاالتنا لنعيش مع
متكّ ننـا األعمال العظيمـة التـي نشـارك فيهـا خلال حالـة شـبه املنوم
مـن الوعـي بأنفسـنا مـن خلال فهـم الغري.
إنسـانية
ّ ـن وأعجوبـة الثقافـة يف كونهـا تجعلنـا أكرث
تكمـن أعجوبـة الفَ ّ
ما وأكثر تعقيـداً .لسـوء الحـظ ،ال تفه ً وأقـلّ انغالقـ ًا َ
وأقـلّ أنانيـة وأكثر ُّ َ
يسـتمر ذلـك سـوى خلال فترة العـرض(((.
تكمـن املُفارقـة يف أنـه على الرغـم مـن إمكانـات الفهـم التـي متنحنـا
األفلام واألفلام الوثائقية والكتـب ،وعىل الرغم من جميـع اال ِّتصاالت عىل
اإلنرتنـت ،نجـد أنـواع سـوء الفهـم واإلغلاق والحجب تسـيطر أكثر فأكرث.
مر ًة أخرى غري عاديني ،بل خاضعني ملعايري.
لقد أصبحنا ّ
نترصف ليك تسـتديم
َّ وعليـه إن إحـدى أكبر مشـاكل الثقافة هـي :كيف
هـذه األنسـنة التي تطبعنـا مؤقَّت ًا يف املرسح والسـينام ويف القراءة؟ كيف
نوحـد؟ كيـف ُنطيـل مكتسـبات هـذه األعمال التـي تجعلنـا أفضـل لبعـض ِّ
الوقـت فقط؟
((( إن الكُ َّتاب والفَ َّنانني ،عىل الرغم من نبل وطيبة أعاملهم ليسوا األفضل ألنهم ،خارج اإللهام اإلبداعي ،ال
تفوق نجاحاتهم،يتطلَّعون إىل الحصول عىل التقدير فحسب ،بل إىل املجد أيضاً ،يحسدون النجاحات التي ُّ
ال جيدة ،لكنه عاملاألديب والفَ ّني أعام ً
ّ ويتنافسون عىل الجوائز األدبية أو االنتخابات األكادميية .ينتج العامل
ّ
ثرثرة ،ينتج أعامل كرم ،لكن يحدث أن يكون تافهاً.
109
والجامليات يف ِش َّ
عرية الحياة ّ َن
يجب أن يسهم الف ّ
رأينـا يف مـا سـبق أن حياتنـا تنقسـم بين النثر والشـعر ،يغطي الشـعر
كلّ مـا هـو جامعـايت واملحبـة واالحتفـال والفـرح ،كما رأينـا أن حـاالت
الجاملية
ّ النشـوة والتملُّك واإللهـام والتهيج والوجد تندرج ضمـن الحاالت
والشـعرية معاً.
ّ
ُتعـددة
والشـخصية امل ِّ
ّ لنكـرر ذلـك مـر ًة أخـرى :إن التملُّـك والوجـد
ِّ
الشـعرية
ّ الطبيعيـة .ال تشـكِّ ل حاالتهـا
ّ العاطفيـة
ّ أشـكالٌ مكثَّفـة لحاالتنـا
والجامليـة على الرغـم مـن أنها حـاالت أنرثوبولوجية سـوى جـزء منهاّ ،إلّ
األساسـية.
ّ الحاجـات مـع يتوافـق الجـزء أن هـذا
يتغـذَّ ى اإلنسـان على الخبـز ،وعلى الشـعر أيضـاً .والحـال أن لديـه
حاجـة متزايـدة إىل شـعر الحيـاة يف ظـلِّ حضـارة الحسـاب والربـح
الهويـة.
ّ والتجـزيء وعـدم الكشـف عـن
يسـميه ميشـيل مافيسـويل (Michelّ تتزايـد حاجـة املجتمـع إىل مـا
الجامليـات ،ولهـذا،
ّ )Maffesoliالقَ َبليـة الجديـدة .وتتزايـد الحاجـة إىل
تكثر ،مـن بين أمـو ٍر أخـرى ،املهرجانـات.
جـد ًا يف املشـاركة ،أي يف االسـتمتاع معـ ًا بحفـلٍ
توجـد متعـةٌ كبيرة ّ
جميـل وبعمـلٍ جميـل .ميكـن للعزلـة أن تضعـف الصفـة الجامليـة
للعاطفـة .ملـاذا متنحنـا مشـاهدة فيلـم جميـل يف قاعـة السـينام لـذ ًة
أكثر مـن مشـاهدته وحدنـا على شاشـة التليفزيـون؟ ألن هنـاك مشـاركة،
إذ نضحـك معـ ًا ونبكي معـ ًا وننفعـل معـاً .إن املشـاركة هـي إحـدى أكبر
الشـعرية أيضـاً.
ّ الجامليـة ،والحيـاة
ّ رشوط الكمال واملتعـة
مـن الواضـح أن القلـق والخـوف وحتى الغضـب تسـتبعد إمكانية وجود
جليـ ًا يعـرف أنـه معجـب ،ووعيـ ًا
ّ الجامليـات التـي تفترض دامئـ ًا وعيـ ًا
ّ
مشـارِك ًا كلّيـاً.
عندئـذ نواجـه املشـكلة الكبرية :كيـف ُنديم مكتسـب الفهم؟ كيـف ُنطيل
110
شـع َرنَة الحياة يف مجتمع
مكتسـب الشـعر؟ كيف ُنلبي الحاجة املتزايدة إىل ْ
الهوية؟
ّ يسـود فيه بشـكلٍ متزايد الحسـاب والتجزيء والربح وإخفـاء
إننـا يف عصر يتيـح أنواع فهم كبيرة يف الوقت الـذي تتنامى فيه حاالت
البشري،
ّ بالوحدة/التنـوع
ُّ سـوء فهـم كبيرة .يتطلَّـب الفهـم وعيـ ًا يعترف
شـعرية،
ّ ـددة ،ويحتاج أيضـ ًا إىل تجربةإنسـانية ُم َج َّ
ّ ووعيـ ًا تغذيـه فلسـفة
الجاملية.
ّ تفهـم وتدمـج التجربـة
الرتبية عليها
ّ الجامليات وإعادة
ّ الرتبية عىل
ّ
ال يكفي تدريس األدب كأدب فقط ،والشـعر كشـعر فقط ،واملوسـيقى
كموسـيقى فقـط .مـن الضروري طبعـ ًا موضعـة األعمال الفَ ِّن ّيـة الجميلـة
ـي ،لجعلهـا معروفـة ومحبوبـة .ميكننـي القـول والرائعـة يف تاريخهـا الفَ ّن ّ
إن هـذه األعمال يجـب أن تـو َّزع مجانـ ًا على الطلاب ،إنهـا أكثر ِّ
أهم ّيـة من
الكتـب املدرسـية .مـن اللازم أن ندفـع األطفـال واملُراهقين إىل حفـظ
مجـدد ًا عن ظهـر قلـب؛ سيسـتظهرونها ويتلونها باعتبارها سـحر ًا َّ القصائـد
متجـدد ًا يف سـن الرشـد وحتـى يف مرحلـة الشـيخوخة.ِّ
لكـن سـيكون مـن الضروري على وجـه الخصـوص تبيـان كيـف متثـل
ين يف
الرواية واملرسح والسـينام والشـعر وسـائل ملعرفة كلّ ما هو إنسـا ّ
اإلنسـانية
ّ مهمة ال ِغنى عنها ،ألن العلوم
ُتنوع ،وهي َّ
تعقيـده األحـادي وامل ِّ
ومقسـمة فحسـب ،بل غير مكتملـة ،ألنها تتجاهـل األجزاء َّ ليسـت مجـ َّزأة
والبيولوجيـة واملادية لإلنسـان.
ّ الذاتيـة
ّ
املسـتمر يف عقـول التالميـذ ،وتثبيت
ّ يجـب تأصيـل األعمال بالتعليـم
هـذا الفهـم بشـكلٍ دائـم ،ألنه فهم ال يسـتمر سـوى خلال فرتة القـراءة أو
سـن املراهقـة لتالميذ
ومما يزيـد مـن سـهولة هـذا التأصيـل هـو ّ
العـرضّ .
املـدارس اإلعداديـة والثانويـة ،فترة البحـث عـن الحقائـق ،التـي تنطبـع
فيهـا بشـكلٍ عميـق بصمـة األعمال التـي ُتنير العقل.
111
الشـعرية للحيـاة يك يشـعر املـرء
ّ أخيراً ،يجـب تعليـم معنـى الصفـة
التعرف عليـه يف أصالته
ُّ ويعـي مـا هو الشـعور الجمايل الذي نادر ًا مـا ّ
يتم
تصـوره يف طبيعتـه
ُّ الشـعرية األخـرى ،ونـادر ًا مـا ّ
يتـم ّ مـن بين املشـاعر
األنرثوبولوجيـة.
اإلنسـانية ليس ترفـ ًا ينبغي اختـزال جزء
ّ يبين هـذا أن تدريـس العلـوم ِّ
ٍ
وشـاف النفعيـة .إنـه أكثر مـن مفيـد ،إنـه رضوري
ّ التعاليـم لصالـح منـه
للحيـاة برمتهـا ،إذ يو ِّفـر قربانـ ًا للمسـاعدة على العيـش ،والعيـش بشـكلٍ
جيد ،وهذا يعني العيش بشـكلٍ واضح وشـاعري. أفضـل ،والعيش بشـكلٍ ّ
إن الشـعور الجمايلّ ،كما سـبق الذكـرُ ،معقَّـد ،ألنه يف الوقت نفسـه
ـي ُمعقَّد
ماديـة .إن اإلبداع الفَ ّن ّ
ّ وسـلبية
ّ مشـاركة وانفصـال ،ونشـاط نفيس
يوحـد حـاالت اإللهـام اآلتيـة مـن أعماق العقـل الالواعـي ومـن أعلى ألنـه ِّ
صفاتـه الواعية.
لقـد اقرتحـت بلا جـدوى منـذ عقديـن إدخـال املعرفـة املُعقَّـدة،
أساسـية ملواجهـة تعقيدات الحيـاة((( ،من بينها:
ّ وعرضـت سـبعة مواضيع
-معرفـة املعرفـة ،الرضوريـة لكلّ بحـث عن الوضوح ،والتـي متكِّن من
الكشـف عـن مصادر األخطـاء واألوهام والوعي برشوط املعرفة املناسـبة.
-فهـم اإلنسـان ،وهـو التعليـم الـذي ميكـن القيـام بـه بالتعـاون مـع
اإلنسـانية املشـار إليهـا أعلاه.
ّ تدريـس العلـوم
ين ،وهـو التعليـم بالـذات الـذي ميكـن القيام
الهويـة والوضـع اإلنسـا ّ
ّ -
اإلنسـانية.
ّ بـه بالتعـاون مـع تدريس العلـوم
تخصصات
ُّ مبـا أن كال مـن هـذه التعاليم تنطوي عىل الربط بين معارف
سـيؤدي ،مبعيـة اإلصلاح العميـق
ِّ متعـددة ،فهـذا يعنـي أن إدخالهـا
ِّ
أساسـية.
ّ تعليميـة
ّ ٍ
والجامليـات ،إىل ثـورة
ّ لتدريـس الفنـون
112
خالصة
115
اإلنسـانية ،مـن أن
ّ لكـن هـذا ال مينـع الحيـاة كذلـك ،وال سـيام حياتنـا
تجعلنـا فضوليين يف شـأن لغزها ،إذ نسـعى إىل أن نعلم ،ونسـعى إىل أن
نعرف.
أعتقد أن الفضول والحب يعطيان معنى لحياتنا.
يل نذاالتنـا
الجامليـة ،إذا تجاوزنـا يف الشـعور الجما ّ
ّ أال تسـتحث هـذه
خاصـة تجعلنـا نفهـم ،وفقـ ًا لقـول دوستويفسكي ،أن ّ وأنانياتنـا ،أخالقـ ًا
الجمال ميكـن أن ينقـذ العامل؟ أضـف إىل ذلك ،وهو قول لدوستويفسكي
أيضـاً ،والطيبـة والتعاطف.
طبيعيـة أو على األقـلّ
ّ الشـعرية للحيـاة
ّ بخلاف ذلـك تكـون الصفـة
واملحبـة.
ّ معياريـة وتدفعنـا إىل املُشـاركة
ّ
أول املعارف وآخرها».
يقول وردسـورث ( :)Wordsworthإن «الشـعر َّ
أول وآخر مهارات حسـن العيش.
أود أن أقـول إنـه َّ
ّ
يسعى التطبيع وتوحيد املعايري حالي ًا إىل السيطرة عىل حياتنا ،إذ إننا
نخضع ،حسـب كورنيليـوس كاسـتورياديس (،)Cornelius Castoriadis
لتنامـي التفاهـة((( .تقـف عقبـات عصيبـة يف طريـق ازدهـار شـعر الحيـاة.
وكلّما هيمنـت علينـا القـوى املجهولة ،ك ّنـا بحاجـة إىل املقاومـة .تتطلَّب
الشـعرية.
ّ املقاومـة واحات الحياة
متسـك بجمال العـامل والحيـاة واإلنسـان ،ويف الوقـتُّ الشـعر
َ إن
نفسـه ،مقاومـةٌ لقسـو ِة العـامل والحيـاة واإلنسـان.
116
الفهرس
5 قدمة املرتجم .............................................
ُم ِّ
11 كلمة شكر ...................................................
13 ِ
توطئة .......................................................
15 ُعممة .................................
الجامليات امل َّ
ّ قدمة:
ُم ِّ
17 يل ..........................
ُحاضة األوىل :الشعور الجام ّ
امل َ
(جامليات الطبيعة)
ّ
23 يل ...................
ُحاضة الثانية :طبيعة الشعور الجام ّ
امل َ
ُعممة)
الجامليات امل َّ
ّ (سحر الفَ ّن -الجميل والقبيح -
33 ُحاضة الثالثة :التفريد والتسويق والتصنيع ...............
امل َ
(اإلبداع واإلنتاج والتوزيع)
41 ُحاضة الرابعة :اإلبداع ...................................
امل َ
مهمة ال َف َّنان؟)
(الشامان «الكاهن» والشامانية -ال َف َّنان باعتباره ما بعد الشامان َّ -
53 ُحاضة الخامسة :نشوات الحياة وفرتات الحياة ...........
امل َ
والرواية -الشـعر،
الروايئ ِّ
(سـحر االزدواجيـة -القـراءة والفرجـة -تأثري الحيـاة ِّ -
فـن الخطابـة -املسرح واملوت -السـينام -فهم اإلنسـان -الرسـم آ ِلـف اللّغـز ّ -
-املوسـيقى -األوبرا :املأسـاة واملوسيقى)
83 موسعة ........
َّ وجامليات
ّ ُحاضة السادسة :فنون جديدة
امل َ
ُتحركـة -ازدهـار
الرسـوم امل ِّ
(فـن التصويـر الفوتوغـرايف -قيمـة ِّ
ّ
التطبيقيـة)
ّ الفنـون - املسلسلات
91 واللعبي ...
ّ والشعري والصو ّ
يف ّ ُحاضة السابعة :التفاعل بني الجام ّ
يل امل َ
والجاملية :تلخيص -التوافق مع الواقع)
ّ الشعرية
ّ (الحاالت
99 الجامليات والثقافة .......................
ّ ُحاضة الثامنة:
امل َ
َـن -
الجامليـات -املراهقـة والف ّ
ّ كونيـة
والجامليـات وسـيلتان للمعرفـة ّ -
ّ َـن
(الف ّ
والجامليات
ّ َـن
الفكـر يف األعمال العظيمـة -فهـم اإلنسـان -يجب أن ُيسـهم الف ّ
الرتبيـة عليهـا)
ّ الجامليـات وإعـادة
ّ الرتبيـة على
ّ يف ِش َّ
ـعرية الحيـاة -
115 ُخالصة ......................................................
صدر يف سلسلة
2011
عبد الرحمن الكواكبي طبائع االستبداد 1
غسان كنفاين برقوق نيسان 2
سليامن فياض األمئة األربعة 3
عمر فاخوري الفصول األربعة 4
عيل عبدالرازق اإلسالم وأصول الحكم -بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم 5
نبي
مالك بن ّ رشوط النهضة 6
محمد بغدادي صالح جاهني -أمري شعراء العامية 7
2012
أبو القاسم الشايب نداء الحياة -مختارات شعرية -الخيال الشعري عند العرب 8
سالمة موىس حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ
ّ 9
ميخائيل نعيمة الغربال 10
الشيخ محمد عبده واملدنية
ّ اإلسالم بني العلم 11
بدر شاكر السياب أصوات الشاعر املرتجم -مختارات من قصائده وترجامته 12
الطاهر حداد امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع 13
طه حسني الشيخان 14
محمود درويش ورد أكرث -مختارات شعرية ونرثية 15
توفيق الحكيم يوميات نائب يف األرياف 16
عباس محمود العقاد عبقرية عمر 17
عباس محمود العقاد الصديق
ّ عبقرية 18
عيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظ رحلتان إىل اليابان 19
2013
ميخائيل الصقال لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية) 20
محمد حسني هيكل ثورة األدب 21
ريجيس دوبريه يف مديح الحدود 22
اإلمام محمد عبده السياسية
ّ الكتابات 23
عبد الكبري الخطيبي نحو فكر مغاير 24
روحي الخالدي تاريخ علم األدب 25
عباس محمود العقاد عبقرية خالد 26
خمسون قصيدة من الشعر العاملي أصوات الضمري 27
يحيى حقي مرايا يحيى حقي 28
عباس محمود العقاد عبقرية محمد 29
حوار أجراه محمد الداهي عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب 30
مجموعة مؤلفني العربية
ّ فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة 31
2014
ترجمة :رشف الدين شكري عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد) 32
خالد النجار عامليني)
ّ ِساج ُّ
الرعاة (حوارات مع كُ تاب 33
ترجمة :مصطفى صفوان مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه) 34
بنسامل ِح ّميش سريت ابن بطوطة وابن خلدون
َ عن 35
ابن طفيل حي بن يقظان -تحقيق :أحمد أمني 36
ميشيل سار اإلصبع الصغرية -ترجمة :د.عبدالرحمن بوعيل 37
محمد إقبال محمد إقبال -مختارات شعرية 38
ترجمة :محمد الجرطي (تأمالت يف الحضارة ،والدميوقراطية ،والغريية)
تزفيتان تودوروف ُّ 39
أحمد رضا حوحو مناذج برشية 40
زيك نجيب محمود الرشق الف ّنان 41
ترجمة :يارس شعبان تشيخوف -رسائل إىل العائلة 42
مختارات شعرية إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري» 43
2015
األمري شكيب أرسالن ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟ 44
عيل املك مختارات من األدب السوداين 45
جرجي زيدان
ُ رحلة إىل أوروبا 46
عبدالدين حمروش عباد يف سنواته األخرية باألرس
بن َّ
ُعتمد ُ
ُ امل 47
سالمة موىس تاريخ الفنون وأشهر الصور 48
إيدوي بلينيل -ترجمة :عبداللطيف القريش من أجل املسلمني 49
يوسف ذَ نّون زِينة املعنى (الكتابة ،الخط ،الزخرفة) 50
أحمد فارس الشدياق الواسطة يف معرفة أحوال مالطة 51
ُمحسن املوسوي النخبة الفكرية واالنشقاق 52
إيزابيل إيربهاردت ياسمينة وقصص أخرى 53
ترجمة وتقديم :بوداود عمري آباي (كتاب األقوال) 54
ترجمة :عبدالسالم الغرياين مأساة واق الواق 55
2016
مي زيادة والفن والحضارة)
ّ واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب
ّ بني الج ْزر 56
(حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة») ظلّ الذّ اكرة 57
قسم التحرير «مجلّة الدوحة» املرصية ( )1932تحقيق :رشيد العفاقي
ّ الرحلة الف ّنية إىل الديار 58
أليكيس شوتان -تعريب :عبد الكريم أبو علو قيرص وكليوبرتا 59
إسامعيل مظهر الصني وفنون اإلسالم 60
ترجمة :مي عاشور (مختارات ِش ْع ّ
رية للكاتب الصيني وانغ جو جن) براعم األمل ُ
ُ 61
محمد العرويس املطوي ال ّتوت امل ُّر 62
غونار إيكليوف درب الغريب 63
أحمد حافظ بك من والد إىل ولده 64
بول ُبورجيه التلــــميذ 65
تقديم وترجمة :طه باقر ِ
جلجامش ملحمة
َ 66
الشيخ مصطفى الغالييني أريج ال ّزهر
ُ 67
2017
محمد فريد سيالة
ّ اعرتافات إنسان 68
الطيب صالح مريود 69
عبدالله كنون املقاالت الصحفية 70
نجيب محفوظ قصص قصرية 71
إبراهيم الخطيب بول بولز -يوميات طنجة 72
سالمة موىس الحياة فن َ ّ 73
خري الدين التونيس ك ِف َم ْع ِر َف ِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ
ك َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ 74
أحمد أمني َ
األخلق كتاب 75
فدوى طوقان ر ِْح َلةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْح َلةٌ َص ْع َبة 76
مجموعة من الكتاب ريةُ ِف قَطَ ر) صةُ ا ْلق ِ
َص َ ارات ِمن َا ْل ِق َّ
(مخ َت َ ِق ْ
ـطاف ُ 77
الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج 1 :جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس 78
جول غابرييل فرين ،ترجمة :يوسف اليان رسكيس الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية .ج2 : 79
2018
إسحق موىس الحسيني مذكرات دجاجة 80
نورمان ج .فينكلستاين -ترجمة :أحمد زراقي ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟ 81
نزار شقرون نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب 82
إس .إس .بيو -ترجمة :يعقوب رصوف -فارس منر والعظَ َم ِء الق َُدماء
ُ ِمن ِس َي ا َ
ألبْطَ ال 83
إغناطيوس كراتشكوفسيك العريب
ّ مقاالت ِف األدب ٌ 84
صوف
صموئيل ساميلز -ترجمةَ :يعقُوب َ ُّ س ال َّن َج ِ
اح ِ ُّ 85
ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور ِم ْن آ َثا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور 86
أحمد الهاشمي الع ْ ِ
ص َّية ات َ اء املُكَ ات ََب ِ
ِنش ُ
إ َ 87
ترجمة :عبدالرحمن الخمييس وآخرين السوفْيي ِّتي
ُّ ِ
ر ع
ْ الش
ِّ ن
َ ِ
م ارات
ٌ ت
َ خْ م
ُ - أكتوبر أجراس 88
اختارها وترجمها :جربا إبراهيم جربا حكايات من الفونتني 89
ألبريطو مانْغيل -ترجمة :إبراهيم الخطيب مع بورخيس 90
لوسيان جولدمان ،ناتايل ساروت ،آالن روب الرواية الجديدة والواقع 91
غرييه ،جينفياف مويلو .ترجمة :رشيد بنحدو
2019