You are on page 1of 126

‫يف الجامل ّيات‬

‫‪102‬‬
‫مجان ًا مع العدد (‪ )145‬من مج َّلة «الدوحة» ‪ -‬نوفمرب ‪2019 -‬‬
‫ُي َوزَّع ّ‬

‫الجامليات‬
‫ّ‬ ‫عنوان الكتاب‪ :‬يف‬
‫املؤلف‪ :‬إدغار موران ‪ -‬ترجمة‪ :‬يوسف تيبس‬

‫النارش‪ :‬وزارة الثّقافة والرياضة ‪ -‬دولة قطر‬


‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية‪2019 / 763 :‬‬
‫الرتقيم الدويل (ردمك)‪ISBN / 978 / 9927 / 135 / 15/ 6 :‬‬

‫الفن ّّي ‪ -‬مج ّلة الدوحة‬


‫اإلخراج والتصميم‪ :‬القسم َ‬
‫الغالف‪)illustration( :‬‬

‫هذا الكتاب‪:‬‬
‫عب عن آراء مؤ ِّلفه‪ ،‬وال ُي ِّ‬
‫عب ‪-‬بالرضورة‪ -‬عن رأي وزارة الثّقافة والرياضة أو مج ّلة الدوحة‬ ‫ُي ِّ‬
‫إدغار موران‬

‫في الجمال ّيات‬

:‫ترجمة‬
‫يوسف تيبس‬

Sur l’esthétique, Edgar Morin


Éditions Robert Laffont, 2016
Éditions de la Maison des sciences de l’homme, 2016
‫مقـدِّ مة املرتجم‬

‫ـد إدغـار مـوران (‪ )Edgar Morin‬مـن املُفكِّريـن والفَ السـفة‬ ‫ُي َع ّ‬


‫ِ‬
‫ُعاصيـن القَ الئـل الذيـن يجمعـون بين صفـة األنرثوبولوجـي وعـامل‬ ‫امل ِ‬
‫(نظريـة التعقيـد) يجمـع‬
‫ّ‬ ‫االجتماع والفيلسـوف‪ ،‬إضافـة إىل كَ ـون مرشوعـه‬
‫بين هـذه العلوم وغريهـا‪ .‬مكَّنته هذه اإلمكانيات من دراسـة مواضيع عديدة‬
‫وتحـوالت املجتمعين الفرنسي والـرويس‬ ‫ُّ‬ ‫ومتنوعـة‪ ،‬كاملـوت والسـينام‬
‫ِّ‬
‫اإلنسـانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحضارة‬ ‫سياسـة‬ ‫مبسـتقبل‬ ‫متنبئ‬ ‫إىل‬ ‫ل‬‫تحو‬
‫َّ‬ ‫بـل‬ ‫األفـكار‪،‬‬ ‫وحيـاة‬
‫كتب «إ‪ .‬موران» يف الخمسـينيات كتاب ًا عن السـينام((( وآخر عن النجوم‪،‬‬
‫مـرات‪ ،‬ويف سـنة ‪ ،1961‬شـارك جـون روش يف إخـراج‬ ‫ـدة ّ‬‫أُعيـد طبعهما ِع ّ‬
‫فيلـم «يوميـات صيفية»((( الذي ق ُِّد َم يف مهرجان كان (‪ )Cannes‬السـيناميئ‬

‫‪(1) E. Morin, Le Cinéma ou l’homme imaginaire, Paris, Éditions de Minuit, 1956 ; Les‬‬
‫‪Stars, Paris, Le Seuil, 1957, (réédition, Paris, Le Seuil, 1972).‬‬
‫‪(2) E. Morin, Chronique d’un été, coréalisé avec Jean Rouch, 1961.‬‬

‫‪5‬‬
‫الـدويل‪ ،‬ونـال جائـزة ال ُنقَّـاد‪ ،‬ويف شـأن عالقتـه املعرفيـة بالسـينام يقـول‪:‬‬
‫«أنتمـي إىل جيـل علَّمتـه الكُ تـب‪ ...‬والسـينام أيضـاً»‪ ،‬إنهـا «وسـيلة للدفـاع‪،‬‬
‫ألنهـا أداة للمعرفـة» وفضـاء مفتـوح على املُشـاهدة والتفاعـل مـن ِقبـل‬
‫ذهنيـة‪ ،‬وضمن‬
‫ّ‬ ‫تقدمه وفـق مرجعيـات‬ ‫الجمهـور الـذي يبنـي عالقتـه مـع مـا ِّ‬
‫االجتامعـي‪ ،‬وضمن هذه العالقة املُتشـابكة‬
‫ّ‬ ‫مرتكـزات يسـتمدها مـن واقعه‬
‫ُتلقـي‪ ،‬تنفتـح فضـاءات الباحـث الـذي ُيريـد‬
‫ّ‬ ‫بين املُن ِتـج (الفيلـم) وبين امل‬
‫رس االفتتـان بالضـوء على الشاشـة الكبيرة‪ .‬ومـن هـذا املنطلـق‬ ‫أن يقـرأ ّ‬
‫يتنـاول «إ‪ .‬مـوران» الفيلم السـيناميئ‪ ،‬ألنـه ُيبنى عىل أفكار النـاس‪ ،‬فاألفالم‬
‫الحـب والصداقـة‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـانية مثـل‬
‫ّ‬ ‫الروائيـة أفلام واقعيـة تنقـل العواطـف‬
‫والصراع‪ ،...‬كما تخربنـا بالحيـاة اليوميـة املُشتركة‬ ‫والكراهيـة والتضامـن ِّ‬
‫واملختلفة للشـعوب‪ ،‬ألنها تعيش املشـاعر نفسـها‪ ،‬سـواء كانت جميلة أو‬
‫ين‪.‬‬
‫والتنوع اإلنسـا ّ‬
‫ُّ‬ ‫التفـرد‬
‫ُّ‬ ‫قبيحـة‪ ،‬إنهـا ُتثِّـل‬
‫أمّـا هـذا الكتـاب «يف الجامليّـات» فيعـرض فيـه «إ‪ .‬مـوران» مـا جمعـه‬
‫يل بصفته عـامل اجتامع‬ ‫مـن مالحظـات عـن الجمال والفَ ّن والشـعور الجما ّ‬
‫قدمها عىل شـكل محارضات (موجودة‬ ‫بالجامليـات‪ ،‬والتي َّ‬
‫ّ‬ ‫وفيلسـوف ًا ُم َّ ً‬
‫هتما‬
‫يف اليوتيـوب)‪ ،‬فيخربنـا أنـه منـذ طفولتـه كيتيم كان يهرب من قسـوة العامل‬
‫بفضـل األعمال الرفيعـة لجميـع الفنـون‪ ،‬كروايـة الجرميـة والعقـاب‪ ،‬أو‬
‫السـمفونية التاسـعة لبيتهوفـن‪ ،‬أو أشـعار بودلير‪ ،‬ألن األعمال الفَ ِّن ّيـة‬
‫مجـرد تسـلية‪ ،‬إنهـا تكشـف لنـا حقائقنـا ومصرينـا وآمالنـا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫العظيمـة ليسـت‬
‫بفهـم للوضع اإلنسـاين بجميـع حاالته املُتضادة‪ ،‬مـن خالل األفالم‬ ‫ٍ‬ ‫وتزودنـا‬
‫ِّ‬
‫خاص باإلنسـان‬ ‫ّ‬ ‫ـن‬‫ّ‬ ‫الفَ‬ ‫‪ .‬إن‬ ‫(((‬
‫(املسرات)‬ ‫الكوميديـة‬ ‫أو‬ ‫(املـآيس)‬ ‫الرتاجيديـة‬
‫مما يعني أن هـذا األخري‬ ‫إذ احتـاج منـذ القـدم إىل التعبير مـن خلال الفَ ّن‪ّ ،‬‬
‫ُشـاهد أو املُسـتمع أو القـارئ فيجـد يف‬ ‫ِ‬ ‫أمـا امل‬
‫مل يكـن تسـليةً أو ترفيهـاً‪ّ ،‬‬
‫ـن العظيـم تعقيـد الهـروب مـن الواقع املُبـارش‪ ،‬حيث نجد واقـع وضعنا‬ ‫الفَ ّ‬
‫بشـغف ورحمـة وتفاهـم‪ ،‬إننـا نهـرب يف الوقـت نفسـه مـن الواقـع الـذي‬

‫‪(1) E. Morin, Sur l’esthétique, Paris, Robert Laffont, 2016.‬‬

‫‪6‬‬
‫ٍ‬
‫مشـهد جميل‪ ،‬سـواء كان‬ ‫الجامليات شـعور ًا ينتج عن‬
‫ّ‬ ‫يغزونـا‪ .‬يعتبر موران‬
‫طبيعـي)‪ .‬إن العاطفـة‬
‫ّ‬ ‫ـي) أو طبيعيـ ًا (جمال منظـر‬ ‫ـاً‬
‫ف ِّن ّي (جمال العمـل الفَ ِّن ّ‬
‫اإلبداعيـة‪ .‬يسـتدعي الفَ َّنـان خلال إبداعـه قـوى‬
‫ّ‬ ‫الجامليـة مـرآة للعاطفـة‬
‫ّ‬
‫الجاملية التي‬
‫ّ‬ ‫العاطفـة‬ ‫تكـون‬ ‫كام‬ ‫(التعديلات)‪.‬‬ ‫والوعـي‬ ‫(اإللهـام)‬ ‫الالوعـي‬
‫ـي غير عقالنيـة وعقالنيـة يف الوقـت‬ ‫تتملـك كلّ واحـد م ّنـا أمـام العمـل الفَ ِّن ّ‬
‫الجامليـات‬
‫ّ‬ ‫نفسـه‪ ،‬ألنهـا ُتعمـل الشـعور والـذَّكاء معـاً‪ .‬لذلـك ميكننـا إذكاء‬
‫الجامليات‬
‫ّ‬ ‫والشـعر لنعيـش الواقـع بالكامـل‪ ،‬مـع الوعـي بقسـوته‪ .‬ومبـا أن‬
‫منفصلـة عـن الديـن والسـحر‪ ،‬فإنهـا تخلـق البهجـة «يشء مـن الجمال هـو‬
‫الجامليـة على اتقـاد مباهـج الوجـود‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فـرح إىل األبـد»‪ ،‬تسـاعدنا معرفتنـا‬
‫تحمـل الفائـض الواقعـي الـذي ال ُيطـاق؛ ومتنحنـا العجائـب التـي‬ ‫ُّ‬ ‫وعلى‬
‫نسـتخلصها منـه الطاقـة ملواجهـة قسـوة العـامل‪.‬‬
‫أثنـاء مشـاركتنا يف األعمال الفَ ِّن ّيـة‪ ،‬نشـعر بسرو ٍر مبـارش‪ ،‬بالطبـع‪،‬‬
‫يل الذي ُيغـذِّ ي حكمنـا وقراراتنا‬
‫بـل تبعـث فينـا هذه األعمال الوعي الجما ّ‬
‫اليوميـة‪ .‬يـرى إدغـار مـوران الشـغوف بالشـعر أن معنـى الحيـاة ُيوجـد يف‬
‫املشـاركة‪ ،‬إنـه شـعور ميكـن للمـرء أن يعيشـه مـع الغير أو أمـام منظـر‬
‫ـي‪.‬‬
‫طبيعـي أو حتـى أمـام عمـل ف ّن ّ‬
‫ّ‬
‫يتأسـف إدغـار مـوران قائلاً ‪« :‬مل يعـد الجميـل كما كان عليـه»‪ ،‬فقـد‬ ‫َّ‬
‫وأدى اكتشـاف رسـم األشـياء القبيحـة بطريقـة‬ ‫تجـاوزت األصالـة الجميـل‪َّ ،‬‬
‫ـي‪ ،‬وليـس يف الواقـع‪.‬‬ ‫جميلـة إىل إدراك أن الجمال يوجـد يف العمـل الفَ ِّن ّ‬
‫ال يف الدميومـة‪ ،‬ألنـه يدهشـنا‪ ،‬يوقف الزمـان‪ ،‬ويحدث‬ ‫أو ً‬
‫يشـاركنا الجميـل ّ‬
‫فيـه فتقـاً‪ ،‬على وجه التحديـد‪ُ .‬ي ِّجد «إ‪ .‬مـوران» فكرة االلتزام التي عاشـها‬
‫وكمبـدع‪ ،‬فيذكـر «حالـة نصـف التملُّـك» التـي عاشـها خلال كتابة‬ ‫تفـرج ُ‬ ‫كم ِّ‬‫ُ‬
‫املنهـج‪ ،‬لـذا يعتبر الفَ َّنان «شـامان ‪ »)chaman -‬حديث ًا أو ما بعد شـامان‪.‬‬
‫يقول يف ذلك‪« :‬أعتقد أن ما أطلق عليه يف القرن العرشين «التزام» الكُ َّتاب‬
‫ُهمـة التـي تأخـذ بعـد ًا مـا بعـد شـاماين‬ ‫والفَ َّنانين يتوافـق مـع الوعـي بامل َّ‬
‫الجامليـات حسـب مـوران يف‬‫ّ‬ ‫(‪ )postchaman‬ومـا بعـد النبـوة»‪ .‬تنـدرج‬
‫والتعجـب»‬
‫ُّ‬ ‫يزودنـا بالسـعادة‬ ‫مسـتوى الشـعور واإلحسـاس الـذي «عندمـا ِّ‬

‫‪7‬‬
‫«الشـعرية»‪ .‬ينقل‬
‫ّ‬ ‫يغرقنـا يف «الحالـة الثانيـة» أو حالـة النشـوة‪ ،‬أي الحالة‬
‫إلينـا الفَ َّنـان الشـامان نشـوته أكثر مام ينقـل فكـرة «الجامل»‪.‬‬
‫إن األدب والسـينام مادتـان للبحـث ولتمثُّـل األفـكار‪ ،‬لـذا يدعـو يف‬
‫محارضتـه «سـبعة ثقـوب تعليميـة سـوداء»(((‪ ،‬إىل الربـط بين رضورة إعـادة‬
‫تربيـة اإلنسـان على فهـم الغير‪ ،‬وعـدم تأطيره وحصره يف الصفـات التـي‬ ‫ّ‬
‫تلغـي حياتـه ومنظومـة السـينام ُمؤكِّ د ًا عىل دورهـا يف فهم الرشط اإلنسـاين‬
‫ـن يرى أن ما يحدث يف قاعة العرض السـيناميئ‬ ‫فيقـول‪« :‬هنـاك من الناس َم ْ‬
‫ُتفرج وفصلـه عن الواقـع وإفقاده جـزء ًا كبري ًا‬
‫اسـتالب‪ ،‬حيـث يتـم تخديـر امل ِّ‬
‫ٌ‬
‫ربـا يكـون هـذا صحيحـاً‪ ،‬لكـن يوجـد مظهـر آخـر يكتسي‬ ‫مـن اسـتقالليته‪َّ .‬‬
‫نرب‬‫تقمص شـخوص الفيلـم‪ِّ ،‬‬ ‫التقمـص‪ ،‬فمـن خلال ُّ‬‫ُّ‬ ‫أهميـة بالغـة‪ ،‬أال وهـو‬
‫ِّ‬
‫فينـا االنفتـاح على الغري واالنتباه إليه كما هو‪ ،‬وبالتايل نفهم حتى أنفسـنا»‪.‬‬
‫ص ُـد ُق هـذه املالحظـة على الشـخوص الطيبـة أو املحبوبـة فقـط‪،‬‬ ‫ال َت ْ‬
‫جسـد القـوة والبـأس والقهـر‪ .‬فإذا‬‫ـد ُق حتـى على الشـخوص التي ُت ِّ‬ ‫ص ُ‬ ‫بـل َت ْ‬
‫رب‬
‫«العـراب» لفرانسـيس فـورد كوبـوال‪ ،‬وانتبهنـا إىل ِّ‬
‫َّ‬ ‫تذكَّ رنـا‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬فيلـم‬
‫أدى دوره املُمثِّلان مارلـون برانـدو وآل‬ ‫رب الجامعـة‪ ،‬الـذي َّ‬ ‫األرسة أو ِّ‬
‫باتشـينو‪ ،‬نجـد أنـه يقـدر عىل ارتـكاب أفعـال بالغة القسـوة والبـأس وعىل‬
‫أعصـاب تامـة‪ ،‬ونكتشـف يف الوقـت نفسـه أنـه يقـدر على‬ ‫ٍ‬ ‫القتـل ببرودة‬
‫الحـب والوفـاء واإلخلاص أيضاً‪ ،‬وأنـه يتألَّم ويبكي كباقي البشر؛ فنفهمه‬ ‫ِّ‬
‫يف شـموليته وكلِّيتـه‪.‬‬
‫ُترشد‬
‫يحـدث الشيء نفسـه عندما نشـاهد تشـاريل تشـابلن يف دور امل ِّ‬
‫ومبجرد مـا نخرج من قاعة‬
‫َّ‬ ‫صدق؛‬‫ُتسـكع‪ ،‬إذ نتعاطـف معـه تعاطف ًا ال ُي َّ‬
‫امل ِّ‬
‫متشرداً‪ ،‬نبـدي نفـور ًا منـه وال نبـايل بـه! إننـا ننفـذ إىل‬
‫ِّ‬ ‫السـينام ونصـادف‬
‫صد ُق‬‫التقمص‪ .‬والشيء نفسـه َي ُ‬ ‫ُّ‬ ‫أعماق هـذه الشـخوص ونفهمهـا بفضـل‬
‫على الشـخوص الروائيـة أو املرسحية‪.‬‬

‫‪(1) E. Morin, 2005, «Les sept trous noirs de l’enseignement» traduit par Chen Lichuan, Science‬‬
‫‪and Technologie in China, août, p. 812-.‬‬

‫‪8‬‬
‫ـن واألدب‪ ،‬أي نتعاطف مع‬‫يـدل مـا سـلف على مفارقـة نعيشـها يف الفَ ّ‬
‫الشـخوص ونفهمهـا‪ ،‬يف حين ننفـر منهـا يف الواقع اليومـي لحياتنا‪.‬‬
‫أخيراً‪« ،‬ينفلـت شـعر الحيـاة باعتبـاره ازدهـار ًا وتشـارك ًا وسـعادة مـن‬
‫الحـب الـذي يدمجـه‬ ‫ّ‬ ‫الرتفيـه‪ .‬إنـه ال ينقذنـا مـن املـوت‪ ،‬لكـن ُيثِّـل مبعيـة‬
‫الحـلّ الحقيقـي الوحيـد للمـوت»‪« .‬ال معنـى للحيـاة‪ ،‬لكـن‬ ‫ويتكامـل معـه َ‬
‫تتجلى فائـدة الجمال يف كونـه‬ ‫َّ‬ ‫الشـعر يعطـي معنـى لحياتنـا»‪ .‬وعليـه‪،‬‬
‫الرتيـاق الرائـع للخـوف والرعـب والقلـق واملوت‪ .‬لـذا يعرض مـوران رشوط‬
‫بلـوغ هـذه الحالـة التـي متثِّـل عالجـ ًا لحياتنـا القاسـية‪ ،‬ويلمـح إىل رضورة‬
‫ال ما عانت‬ ‫الجامليـات حتـى ال تعـاين الفنون الجديـدة مسـتقب ً‬ ‫ّ‬ ‫الرتبيـة على‬
‫الجامليات‬
‫ّ‬ ‫منـه السـينام واملسلسلات يف بداياتهـا مـن احتقـا ٍر وازدراء‪ .‬إن‬
‫هم يف الثقافة ويف حياة اإلنسـان‪ ،‬فإذا كان كلّ يشء خاضع حالي ًا‬ ‫عنرص ُم ٌّ‬
‫ٌ‬
‫للتخصـص‪ ،‬فـإن الروايـة هـي املرصـد الوحيد لرؤيـة العامل‪ ،‬يقـول يف هذا‬ ‫ُّ‬
‫الصـدد إميليـان نويـل (‪« :)Émilien Noël‬تصبـح الروايـة مجموعة شـاملة‬
‫مل ما‪ ،‬يف‬ ‫عينة‪ ،‬أو بعبـارة أصح لحالة عـا ٍ‬ ‫ٍ‬
‫لحظـة ُم َّ‬ ‫تقريبـ ًا لحالـة العـامل يف‬
‫وخاصـة أوروبا‪ .‬يف هذا السـياق‪ ،‬تكـون الرواية‬ ‫ّ‬ ‫هـذه الحالـة العـامل الغريب‬
‫أسـلوبي ًا ال جـدال فيه‪ ،‬ولكن ميكـن أن تكون‬ ‫ّ‬ ‫خياليـاً‪ ،‬وبالطبـع‪ ،‬مترين ًا‬
‫ّ‬ ‫عملاً‬
‫جيوسياسـياً‪ ،‬وبحثـ ًا يف علم‬
‫ّ‬ ‫فلسـفياً‪ ،‬وتحليلاً‬
‫ّ‬ ‫تاريخيـاً‪ ،‬ومقـا ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫أيضـ ًا رسد ًا‬
‫االجتماع‪ ...‬كلّ مـا يجعـل العـامل قابلاً ألن يظهـر فيهـا‪ .‬يتم الحديـث فيها‬
‫عـن علـم النفـس‪ ،‬والطـب‪ ،‬والديـن‪ ،‬واالقتصـاد‪ ،‬والعمـران‪ ،‬والعمارة»‪،‬‬
‫عي ًنـة للروايـة»(((‪ .‬ومـا‬ ‫ويضيـف‪« :‬وبالتـايل‪ُ ،‬تثِّـل هـذه األعمالُ ذرو ًة ُم َّ‬
‫ـة العظيمة‪.‬‬‫ـد ُق على غريهـا مـن األعمالِ الفَ ِّن ّي ِ‬ ‫ص ُ‬‫ـد ُق على الروايـة َي ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫َي ْ‬

‫مل ِ‬
‫رتجم‬ ‫ا ُ‬

‫ُدونة‪« :‬ستالكر (‪.»)Stalker‬‬


‫((( املقال ُمتاح عىل امل َّ‬
‫كلمة ُشكر‬

‫أشـكر مـن أعماقِ قلبـي ميشـيل فيفيـوركا (‪)Michel Wieviorka‬‬ ‫ُ‬


‫وأشـكر‬ ‫تـاب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ال‬ ‫هـذا‬ ‫عنهـا‬ ‫ـض‬ ‫متخ‬
‫َّ‬ ‫التـي‬ ‫ات‬ ‫ُحـاض‬
‫َ‬ ‫مل‬ ‫با‬ ‫لـه‬ ‫ديـن‬‫الـذي أُ‬
‫ُ‬
‫ومؤسسـة‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫بشـغف‪،‬‬ ‫سـارة غنـداين (‪ ،)Sara Guindani‬التـي صاحبتهـا‬
‫حـاضات‪.‬‬ ‫َ‬ ‫للم‬
‫«غولبنكيـان» (‪ ،)Gulbenkian‬التـي وفَّـرت يل قاعتهـا ُ‬
‫أشـكر دورويث كونيو (‪ ،)Dorothée Cunéo‬التي أعادت قراءة مسـوديت‬ ‫ُ‬
‫وجـه الخصـوص‪ -‬صبـاح أبـو‬ ‫ِ‬ ‫أشـكر ‪-‬على‬
‫ُ‬ ‫ً‪،‬‬
‫ا‬ ‫وأخير‬ ‫ثاقـب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وذكاء‬ ‫ٍ‬
‫بدقـة‬
‫سلام (‪ ،)Sabah Abouessalam‬رفيقتـي التي سـاعدتني بشـكلٍ حاسـم‬
‫حـاضايت‪.‬‬
‫َ‬ ‫على تجميـع وتنظيـم نصـوص ُم‬

‫‪11‬‬
‫ِ‬
‫توطئة‬

‫اإلنسـانية يف‬
‫ّ‬ ‫نتـاج محـارضات أُلقيـت يف دار العلـوم‬
‫ُ‬ ‫هـذا ال ِكتـاب‬
‫األول مـن عام ‪ .2016‬عىل الرغم من إعادة صياغتها وتصحيحها‪،‬‬‫النصـف َّ‬
‫ٍ‬
‫ّإل أنهـا تحتفـظ بشيء مـن صيغتهـا الشـفهية األوىل‪ ،‬وتحمـل مشـاعر‬
‫الذكريـات‪.‬‬
‫الجامليـات‪ ،‬لكننـي‬
‫ّ‬ ‫لقـد راكمـت منـذ ثالثين عامـ ًا مالحظـات حـول‬
‫جامليـات «ي» التـي كان ميكـن أن تكون الجـزء األخري‬
‫ّ‬ ‫تخلّيـت عـن كتابـة‬
‫مـن كتـاب املنهـج‪ .‬م ّثلـت هـذه املُحـارضات فرصـةً لتقديـم جوهـر مـا‬
‫أردت قولـه‪.‬‬
‫ويف الوقـت نفسـه أغرقتنـي هـذه املُحـارضات مـن جديـد يف ثقافتـي‬
‫حركـت بعمق مراهقتي‬ ‫واملوسـيقية‪ ،‬التي َّ‬
‫ّ‬ ‫والشـعرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األدبية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األصليـة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأثَّـرت يف عقلي‪ .‬كان اسـتامعي إىل افتتاحيـة أوبريا السـفينة الشـبح هو‬
‫مـا أذىك قـراري باالنضمام إىل املقاومـة‪ .‬كما قـادين ديـوان موسـم يف‬
‫الجحيـم لرامبـو أنـا وصديقـي جـاك فرانسـيس روالنـد‪ ،‬إىل املغامـرة‬

‫‪13‬‬
‫الرسيـة‪ .‬ظلّـت املوسـيقى والشـعر واألدب حـارضةً‪ ،‬ونشـطة‪ ،‬ومشـعة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ومغذّ يـة يل طـوال حيـايت‪.‬‬
‫اإلنسـانية‪ ،‬مل‬
‫ّ‬ ‫على الرغـم مـن ثقافـة ثانويـة يف الفلسـفة والعلـوم‬
‫أتوقَّـف أبـد ًا عـن قـراءة أو إعـادة قـراءة الروايـات والقصائـد وولـوج دور‬
‫املوسـيقية واللّوحات‬
‫ّ‬ ‫السـينام‪ .‬مل تتوقَّـف الروايـات والقصائـد واألعامل‬
‫جـددة بذلـك سـحرها يف‬ ‫عـن إثـارة مشـاعري والتسـلّل إىل عـرويض ُم ِّ‬
‫نفسي‪.‬‬
‫التحدث َّ‬
‫عم نحب‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫الجيد دامئ ًا‬
‫ِّ‬ ‫ِمن‬

‫‪14‬‬
‫قدمة)‬
‫(م ِّ‬
‫ُ‬

‫عممة‬ ‫الجامليات ا ُ‬
‫مل َّ‬ ‫ّ‬

‫الجامليـات (‪ ،)Esthétique‬أو ِعلـم الجمال‪ ،‬قبـل أن تكـون‬


‫ّ‬ ‫ُتثِّـل‬
‫أساسـي ًا مللَكة الحساسـية لدى اإلنسـان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للفـن‪ ،‬معطـى‬
‫املميـزة ّ‬
‫ِّ‬ ‫الصفـة‬
‫ِّ‬
‫أنطلـق مـن الكلمـة اليونانيـة آيسثيسـيس (‪ )aisthesis‬التـي تعنـي‪:‬‬
‫يل انفعـال يأتينـا مـن األشـكال‬ ‫الشـعور الجما ّ‬
‫َ‬ ‫اإلحسـاس والشـعور‪ .‬إن‬
‫واأللـوان واألصـوات‪ ،‬ومـن الرسديـات واملشـاهد والقصائـد واألفـكار‬
‫يتحـول إىل‬ ‫َّ‬ ‫أيضـاً‪ .‬إن اإلحسـاس بالجمال شـعور باللّـذة واإلعجـاب‪،‬‬
‫يشـتد‪ .‬ميكـن إثارته بواسـطة عمـلٍ ف ّن ّي‬
‫ّ‬ ‫تعجـب‪ ،‬بـل وإىل سـعادة عندمـا‬ ‫ُّ‬
‫وجهة‬ ‫طبيعي‪ .‬وميكن إثارته بواسـطة أشـياء أو أعامل ليسـت ُم َّ‬ ‫ّ‬ ‫أو مشـهد‬
‫للجامليـات لكننـا ُن َج ِّملهـا‪.‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫واحد م ّنا يشـعر به يف ظروف‬ ‫إنـه شـعور يصعـب تعريفه‪ .‬ذلك أن كلّ‬

‫‪15‬‬
‫ُرصعـة بالنجـوم وغروب الشـمس يف‬
‫مختلفـة‪ .‬متنحنـا رؤيـة السماء امل َّ‬
‫املحيـط‪ ،‬وصعـود القمر يف الليل‪ ،‬وقمة ثلجيـة‪ ،‬وتحليق طائر الخطاف‪،‬‬
‫الشـعور الجاميلّ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ومتـدد القط‪،‬‬
‫ُّ‬
‫جـداً‪ .‬ونظـر ًا ألنـه‬
‫يل على نطـاقٍ واسـع ّ‬ ‫يتـم تشـارك الشـعور الجما ّ‬ ‫ّ‬
‫شـخصية‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ظـروف‬ ‫ـلّ‬‫ظ‬‫ِ‬ ‫يف‬ ‫ر‬‫ويتطـو‬
‫َّ‬ ‫ى‬ ‫يتقـو‬
‫َّ‬ ‫فإنـه‬ ‫عميـق‪،‬‬ ‫بشـكلٍ‬ ‫ين‬‫ّ‬ ‫إنسـا‬
‫البرشيـة ثنائيـة‬
‫ّ‬ ‫عينـة‪ .‬إن الحيـاة‬
‫اجتامعيـة ُم َّ‬
‫ّ‬ ‫تاريخيـة‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫ثقافيـة‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫أو‬
‫القطـب بين جزئها النثري ‪-‬نفعل أشـياء بالضرورة ودون متعـة‪ -‬وجزئها‬
‫الشـعري حيـث‪ ،‬على العكـس مـن ذلـك‪ ،‬نزدهـر ونتشـارك(((‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الشعري للحياة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ودامج للجانب‬ ‫مندمج‬
‫يل هو عنرص َ‬
‫كلّ ما هو جام ّ‬

‫‪(1) Cf. La Méthode, t. 5. L’Humanité de l’humanité : l’identité humaine, Seuil, 2001.‬‬


‫اإلنسانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪.‬يوسف تيبس‪ ،‬إفريقيا الرشق‪ ،‬الدار‬
‫ّ‬ ‫الهوية‬
‫ّ‬ ‫اإلنسانية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫إنسانية‬
‫ّ‬ ‫انظر املنهج‪ ،‬ج‪،5 .‬‬
‫البيضاء‪.2019 ،‬‬

‫‪16‬‬
‫ُحاضة األوىل)‬
‫(امل َ‬

‫ّ‬
‫الجاميل‬ ‫الشعور‬

‫شـك يف أن االنفعـال الجاميلّ ‪ ،‬الـذي تولَّد منه االنطباع الجاميلّ ‪،‬‬


‫َّ‬ ‫ال‬
‫كوين لدى اإلنسـان‪.‬‬
‫ٌّ‬
‫واحـد مـن الجمال‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫شـكل‬ ‫لكنـه ليـس فريـد ًا مـن نوعـه‪ .‬وال يوجـد‬
‫الجامليـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الـذي ُيثير العاطفـة‬
‫ٍ‬
‫ثقافـات مختلفـة‪ ،‬واللّغة ال‬ ‫مثلما ال تظهـر الثقافـة سـوى من خالل‬
‫تتجسـد يف أنواع‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫لغـات مختلفـة‪ ،‬واملوسـيقى‬ ‫تظهـر سـوى مـن خلال‬
‫املوسـيقى املختلفـة‪ ،‬فـإن الجمال ُيظهـر الشـعور الجمايلّ فقـط‬
‫ٍ‬
‫أفـراد فريديـن‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ثقافـات فريـدة‪ ،‬بـل لـدى‬ ‫بطـرقٍ مختلفـة يف‬
‫ُ‬
‫االعتراف بها على هذا النحـو‪ ،‬تعود كلُّ‬ ‫إن أنـواع الجمال التـي يتـم‬
‫ليتـم تقديـر‬
‫ّ‬ ‫يكـن‬
‫ْ‬ ‫خاصين‪ .‬مل‬
‫ّ‬ ‫واحـدة منهـا إىل معيـار وذوق ثقافيين‬
‫ال بيكاسـو (‪ )Picasso‬وال كاندينسكي (‪ )Kandinsky‬قبـل القـرن‬

‫‪17‬‬
‫العرشيـن‪ .‬صـدق باسـكال (‪ )Pascal‬عندمـا قال يف مقـالٍ عن عواطف‬
‫الحـب (‪« :)Discours sur les passions de l’amour‬إن املوضـة‬
‫سـمى بالجمال»‪.‬‬
‫والـدول تضـع قواعـد مـا ُي َّ‬
‫معيار مشترك بين جميع أنواع‬
‫ٌ‬ ‫نوع مثايل‪ ،‬أو‬
‫قانـون‪ ،‬أو ٌ‬
‫ٌ‬ ‫هـل يوجـد‬
‫الجمال؟ هـل هنـاك جامل كـوين داخل أنـواع الجامل املُفـردة؟ أم أنه‬
‫خاصـة‪ ،‬أي يشء‬
‫ّ‬ ‫ليـس لـكلّ نـوع مـن الجمال‪ ،‬الذي ينتمـي إىل ثقافـة‬
‫مشترك مع األنـواع األخرى؟‬

‫جامليات الطبيعة‬
‫ّ‬
‫ال ُيثـار الشـعور بالجمال واالنفعـال الجمايلّ بواسـطة األعمال‬
‫الفَ ِّن ّيـة فقـط‪ ،‬إذ يأتياننـا مـن املناظر الطبيعيـة والزهـور وتحليق األوز‬
‫البري وتغريـد العندليـب وركـض الخيـول وألـوان الفراشـات‪.‬‬

‫جـداً‪ .‬كما كتـب املُفكِّ ر األميريك رالف‬


‫عـام ّ‬
‫ٌ‬ ‫الشـعور الجمايلّ‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫والـدو إميرسـون (‪« :)Ralph Waldo Emerson‬كلّ رجـل شـاعر مبـا‬
‫يكفـي ليكـون منفتحـ ًا على سـحر الطبيعـة»‪ .‬إن هـذه العبـارة مفيـدة‬
‫للغايـة‪ ،‬ألن االنفعـال الجمايلّ ‪ ،‬على الرغـم مـن أنـه ال يقتصر على‬
‫الحقيقـي للكلمـة‪ ،‬وال على الشـعر‪ ،‬فإنـه‬
‫ّ‬ ‫األعمال الفَ ِّن ّيـة باملعنـى‬
‫شـعرية يف سـحره‪ .‬سنرى الحقـ ًا ِّ‬
‫الصلة‬ ‫ّ‬ ‫يحـوز‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬صفةً‬
‫الجامليـات والشـعر‪ ،‬عندمـا نعطـي كلمـة الشـعر معنـى أوسـع‬
‫ّ‬ ‫بين‬
‫مـن معنـى القصيـدة املكتوبـة‪ .‬إن هذه الجبـال‪ ،‬وهذه البحـار‪ ،‬وهذه‬
‫السماء‪ ،‬وهـذه الزهـور‪ ،‬وهـذه الحيوانـات جميلـة بالنسـبة إلينـا ومن‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫عب عنه الفيلسـوف جورج سـانتايانا بطريقته‬
‫خاللنا‪ .‬ذلك ما َّ‬

‫‪18‬‬
‫خاصيـة يشء»(((‪ .‬ميكننـا أن‬
‫ّ‬ ‫قائلاً ‪« :‬الجمال متعـة ندركهـا باعتبارهـا‬
‫نقـول أيضـ ًا مـع الكا ِتـب السـويرسي هايرنيـش وولفلين (‪Heinrich‬‬
‫‪« :)Wölfflin‬الجمال يف عين الـرايئ»‪ .‬هـل نحـن الوحيـدون الذيـن‬
‫يـرون الجمال يف قـرون الغـزالن؟ يف ألـوان الفراشـة ويف ريـش‬
‫الطـاووس؟‬
‫الجاملية‬
‫ّ‬ ‫أوليـاً‪ :‬أال تشـعر الحيوانـات باملتعـة‬ ‫دعونـا نضـع سـؤا ً‬
‫ال ّ‬
‫والتمدد والقفـز والركض والتحليق؟‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫تقريبـ ًا عنـد تجربة متعة العيش‬
‫تنتـج الحيوانـات والنباتـات الجمال لنا فقط‪ ،‬وليس لهـا؟ أال يوجد يف‬
‫ال ألشـكالٍ‬
‫تتضمـن يف كلّ نـوع تفضي ً‬
‫َّ‬ ‫جامليـات قبليـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العـامل بـأرسه‬
‫معينة؟‬
‫َّ‬ ‫معينة وألـوان‬
‫َّ‬
‫يتضمـن‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ـن‬
‫هـل تـأيت هـذه األشـكال واأللـوان مـن إبـداع يشـبه الفَ ّ‬
‫مـن بين جوانب أخـرى‪ ،‬جاملية ضمنية؟ مييل علامء السـلوك‪ ،‬الذين‬
‫يدرسـون سـلوك الحيوانات‪ ،‬إىل أن يعزوا الزينة الحيوانية إىل الجذب‬
‫الجنسي‪ .‬لكـن‪ ،‬إذا ك ّنـا نسـتعمل األلـوان واألغـاين والحلي للجـذب‪،‬‬
‫أال يعنـي ذلـك اسـتخدام الصفـات الجامليـة لإلغـواء؟‪ .‬بالطبـع‪ ،‬ال‬
‫ميكـن للطـاووس أن يـرى ريشـه ي ّتخـذ شـكل العجلـة ‪-‬ليسـت لديـه‬
‫مـرآة ليتمكَّ ـن مـن ذلـك‪ -‬ولكـن عجلـة هـذا الـدون جـوان ذي الريـش‬
‫يتضمـن ترفـ ًا فائض ًا ُيضاف إىل الوظيفة البسـيطة للجاذبية الجنسـية‪.‬‬
‫َّ‬
‫ُيعـزى جامل الزهـور إىل العرض الجنيس‪ ،‬ولدى بعضها إىل دعوة‬
‫للحشرات املُلقِّحـة‪ .‬لكـن إذا كانـت للزهـور وظيفـة تعزيـز تكاثرهـا‬
‫وجـذب الحشرات‪ ،‬أال يوجـد عنصر جمايل يف متهيدهـا وجاذبيتها؟‬
‫تتضمـن هـذه األفعـال بطريقـة غير متاميـزة‬
‫َّ‬ ‫الجـذب واالسـتاملة‪ ،‬أال‬

‫‪(1) George Santayana, Le sens de la beauté, Presses universitaires de Pau, coll. « Quad »,‬‬
‫‪2002.‬‬

‫‪19‬‬
‫القبليـة؟‬
‫للجامليـة ْ‬
‫ّ‬ ‫للجامليـة‪ ،‬فعلى األقـلّ‬
‫ّ‬ ‫انبثاقـاً‪ ،‬إن مل يكـن‬
‫يتوفـر املكيـاج والقالئـد والزينـة وألـوان املالبـس‪ ،‬يف نظرنا‪ ،‬عىل‬
‫خصـص إلرضاء الغير وإرضاء أنفسـنا‪ .‬عندما نجعل‬
‫عنصر جمايلّ ُم َّ‬
‫أنفسـنا جميلين أو جميلات لإلغـواء‪ ،‬فـإن الرغبـة يف اإلغـواء تفسر‬
‫اللجـوء إىل الجمال‪ ،‬لكـن ال تفسر الجمال يف ذاته‪.‬‬
‫إذا كان مـن املمكـن تفسير بعـض ألـوان ال ِفراء والريـش والجلود‬
‫ُفترس‪ ،‬فهـل هـذا الغـرض ٍ‬
‫كاف لشرح‬ ‫بغـرض متويـه الفريسـة أو امل ِ‬
‫خطـوط الحمار الوحيش وبقـع النمر وألـوان ببغاء املقـو والطوقان؟‬
‫أال تـأيت األلـوان واألشـكال واملواقـف ّمما أطلـق عليها عـامل الحيوان‬
‫أدولـف بورمتـان (‪« )Adolf Portmann‬العـرض الـذايت»؟ أن تكـون‬
‫جميلاً مـن أجـل أن تعجـب نفسـك وتعجـب الغير؟ أن تكـون جميلاً‬
‫سـمى باللغـة اإليطاليـة تتخـذ هيئـة جميلـة‬
‫الكتسـاب التأثير؟ مـا ُي َّ‬
‫(‪ .)bella figura‬باختصـار‪ ،‬أال يوجـد خيـال مـا قبـل جمايلّ يف‬
‫تكاثـر األلـوان واألشـكال واألغـاين التـي متيـل عقالنياتنـا إىل اختزالـه‬
‫مجـرد وظيفـة؟ تشـهد وفـرة األشـكال والحلي واأللـوان يف عـامل‬
‫َّ‬ ‫إىل‬
‫النباتـات كما يف عـامل الحيوانـات‪ ،‬يف جميـع األحـوال‪ ،‬على الوفـرة‬
‫اإلبداعيـة للحيـاة‪.‬‬
‫ّ‬
‫التطور الحي‬
‫ُّ‬ ‫بحـق‬
‫ّ‬ ‫لقـد اعتبر هرني برغسـون (‪)Henri Bergson‬‬
‫ومتعـدداً‪ :‬لقـد كانـت الحيـاة ف ِّن ّية وال تـزال كذلك يف‬
‫ِّ‬ ‫إبداعـ ًا متواصلاً‬
‫الجامليـات أُدرجـت يف هـذا‬
‫ّ‬ ‫ملكتهـا االبتكاريـة واإلبداعيـة‪ ،‬ويبـدو أن‬
‫اإلبـداع بطريقـة غير ُمتاميـزة وغير قابلـة للعـزل‪ .‬هكذا قـد يوجد يف‬
‫اإلنسـانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الجامليات‬
‫ّ‬ ‫عـامل الحيـوان ما قبـل تاريـخ‬
‫الجامليـات يف جامعـة السـوربون إتيـان سـوريو‬
‫ّ‬ ‫كتـب أسـتاذ‬
‫ـن لدى الحيوانات (‪L’art chez‬‬
‫(‪ )Étienne Souriau‬يف مقالـه‪« :‬الفَ ّ‬

‫‪20‬‬
‫‪« :(((»)les animaux‬هنـاك اسـتمرارية يف االرتقـاءات املتواليـة‬
‫فـن اإلنسـان»‪ .‬ميكننـي‬ ‫فـن الحيـوان‪ ،‬وأخير ًا ّ‬ ‫فـن الطبيعـة‪ ،‬ثـم ّ‬
‫بين ّ‬
‫ال وا ِّتصـاالً‪ ،‬كما هو الحـال دامئ ًا يف مـا يتعلَّق‬
‫القـول إن هنـاك انفصـا ً‬
‫بالتطـور‪.‬‬
‫ُّ‬

‫‪(1) Revue d’esthétique, juillet-septembre 1948.‬‬

‫‪21‬‬
‫ُحاضة الثانية)‬
‫(امل َ‬

‫يل‬
‫طبيعة الشعور الجام ّ‬

‫الجامليات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جامليات الطبيعة‪ ،‬بل عن طبيعة‬
‫ّ‬ ‫اآلن‪ ،‬دعونا ال نتساءل عن‬
‫يل إىل‬‫والتعجب‪ ،‬ينقلنا الشعور الجام ّ‬
‫ّ‬ ‫أي عن طريقة منحنها إيانا اللذة‬
‫شعرية يف مقابل‪ ،‬كام سلف الذكر‪ ،‬الحالة‬ ‫ّ‬ ‫حالة ثانية‪ ،‬والتي سأدعوها‬
‫تعجب‪.‬‬
‫تخص ما هو بال لذة أو ُّ‬ ‫ّ‬ ‫النرثية التي‬
‫ّ‬
‫الشـعرية يف املشـاركة ويف الحـب ويف اللعـب‬
‫ّ‬ ‫ميكـن أن نجـد الحالـة‬
‫يل وتحتضنه‬‫ويف االحتفـال‪ ،‬غري أن هذه الوضعيات تتجاوز الشـعور الجام ّ‬
‫يف الوقـت ذاتـه‪ ،‬مـن هنـا تـأيت تعابير الحـب أو يف الحـب‪« :‬مـا أجملـك!»‬
‫ويف الرياضـة‪« :‬مـا أروعهـا مـن متريـرة‪ ،‬هـدف رائـع!» ويف املشـاركة‪« :‬ما‬
‫أجمـل اللحظـات التي نعيشـها!»‪.‬‬
‫الشعرية والجاملية مع ًا عندما يستثري‬
‫ّ‬ ‫ينقلنا االحتفال إىل الحالتني‬
‫ابتهاجه الغامر يف الرقصات وتناول امل ِ‬
‫ُخدرات املُب ِهجة من قبيل الكحول‪،‬‬

‫‪23‬‬
‫والقنب الهندي‪ ،‬وحبوب اإلكستازي (‪.)ecstasy‬‬
‫حد أننـا ننىس أننا‬
‫ومسـتقرة إىل ِّ‬
‫ّ‬ ‫هويتنا ثابتة‬
‫إننـا معتـادون على اعتبـار ّ‬
‫جـد ًا عندمـا ننتقـل من حالـة الهـدوء إىل حالة االنفعـال‪ ،‬ووفق‬‫مختلفـون ّ‬
‫الحب‪ ،‬أو االنبهـار‪ ،‬أو االكتئاب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االنفعـاالت‪ ،‬إىل حالـة الغضـب‪ ،‬أو‬
‫يحولنا فيها انفعال ما‪ .‬والحالة‬
‫عرف الحالة الثانية باعتبارها الحالة التي ِّ‬‫أُ ِّ‬
‫الشعرية حالة ثانية ميكن أن نشعر فيها بالحب واإلعجاب واملشاركة‬ ‫ّ‬
‫التصوف دون أن‬
‫ُّ‬ ‫تحاذي‬ ‫إنها‬ ‫مون‪.‬‬‫ومله‬
‫َ‬ ‫لون‬ ‫ومجم‬
‫َّ‬ ‫محمولون‬ ‫وأننا‬ ‫ب‬ ‫والتعج‬
‫ُّ‬
‫تكون دينية بذلك‪ .‬إنها تتكثف يف الحامس (‪ )enthou­siasme‬هذه الكلمة‬
‫الجميلة التي تعني يف األصل «متلك من قبل اإلله»‪.‬‬
‫الشـعرية االنفعـال الجمايلّ‪ ،‬والتـي ميكـن‬
‫ّ‬ ‫تتضمـن الحالـة‬
‫َّ‬ ‫غالبـ ًا مـا‬
‫أن تكـون خفيفـة كمتعـة صغيرة فتتضخـم حتـى تبلـغ اإلثـارة أو الغبطـة‪،‬‬
‫حدهـا أقصى إىل الوجـد؛ باعتبـار الوجـد حالـة مـن الخلـط أو‬‫وتصـل يف ِّ‬
‫االنصهـار مـع مـا يثيره‪.‬‬
‫الرسـم واملوسـيقى واألدب‬
‫متنحنـا األعمال الفَ ِّن ّيـة التـي نحبهـا يف َّ‬
‫واملسرح والسـينام‪ ،‬عندمـا نكـون يف ذروة االنفعـال الجمايلّ‪ ،‬الشـعور‬
‫بالجلال وتقودنـا إىل أبـواب الوجـد‪.‬‬
‫على هـذا النحـو‪ ،‬انتابتنـي فجـأة حالـة التجميـل وحالـة االضطـراب‬
‫وحالـة الوجـد تقريبـ ًا يف الخامسـة عشرة أو السادسـة عشرة مـن عمري‪،‬‬
‫يف قاعـة غافـو‪ ،‬بطريقـة مبهـرة‪ ،‬عنـد بدايـة الحركـة األوىل للسـيمفونية‬
‫التاسـعة لبيتهوفـن‪ ،‬بقيـادة يوجين بيغـوت (‪.)Eugène Bigot‬‬
‫ٍ‬
‫حالة من السـحر واإلثـارة‪ ،‬ألننا ندخل يف‬ ‫تضعنـا األعمال العظيمة يف‬
‫العمـل الـذي يدخلنـا ويتملكنـا‪ .‬وهكذا‪ ،‬باختصـار‪ ،‬يكون الشـعور الجاميل‬
‫الشـعرية‪ ،‬والتـي ميكـن اعتبارهـا طريقـةً أو‬
‫ّ‬ ‫مكونـ ًا مـن الحالـة‬
‫طريقـةً أو ِّ‬
‫مكونـاً مـن الحـاالت الثانيـة التي ميكن أن تتكثف‪ ،‬كام سنرى‪ ،‬يف نشـوة أو‬ ‫ِّ‬
‫متلـك أو وجـد‪ .‬هنـاك تواصـل متبـادل وعـدوى متبادلة بين الحالـة الثانية‬
‫الشـعرية والشـعور الجاميلّ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والحالـة‬

‫‪24‬‬
‫َن‬
‫سحر الف ّ‬
‫ُ‬
‫ـن من خالل قدرة اإلنسـان على إبداع األعامل واألشـكال‬
‫يتـم إنتـاج الفَ ّ‬
‫واأللـوان واألصـوات التـي تحـدث أو يجب أن تحدث االنفعـال الجاميلّ‪.‬‬
‫تصورهـم‬
‫ُّ‬ ‫ال مسـتوحاة‪ ،‬إن مل يكـن مـن‬ ‫أشـياء وأعما ً‬
‫ً‬ ‫ينتـج الفَ َّنانـون‬
‫جامليـة‪.‬‬ ‫ـن‪ ،‬وتهـدف إىل تأثيرات‬ ‫تصورهـم للفَ ّ‬
‫ُّ‬ ‫للجميـل‪ ،‬فعلى ا َ‬
‫ألقـلّ مـن‬
‫ّ‬
‫تتضمن بعـد ًا أو صفـةً جاملية‪ .‬مثلام‬
‫َّ‬ ‫ينتـج الحرفيـون أشـياء نفعيـة‪ ،‬لكنها‬
‫فـن الطباعـة‪.‬‬ ‫فـن الخـط وأثـار النشر ّ‬ ‫أثـارت ال ِكتابـة ّ‬
‫لإلنسـانية‪ ،‬نالحـظ أننـا‬
‫ّ‬ ‫والتاريخـي‬
‫ّ‬ ‫عندمـا ننظـر إىل املـايض القديـم‬
‫اتيـة معاً‪ :‬اللوحات‬
‫وهوي ّ‬
‫ّ‬ ‫ودينية‬
‫ّ‬ ‫سـحرية‬
‫ّ‬ ‫ال ومواضيع ذات غاية‬ ‫جملنـا أعما ً‬
‫َّ‬
‫ال عن املوسـيقى والرقص‪ .‬وكذا‬ ‫والوشـم واألقنعة واألسـاور والقالئـد‪ ،‬فض ً‬
‫العمليـة‪ :‬الفخـار والكاالبـاش (النبـات القرعـي) والقوارير‪...‬‬
‫ّ‬ ‫األشـياء‬
‫الجامليـة عليهـا بشـكلٍ تعسـفي إذ كانـت‬
‫ّ‬ ‫بيـد أننـا مل نقـم بإسـقاط‬
‫الدينية‪ ،‬أو يف شـكلها‬
‫ّ‬ ‫السـحرية‬
‫ّ‬ ‫هنـاك يف حالـة غير متاميـزة يف طبيعتها‬
‫التشـكييل (الفخار)‪ .‬وباملثل‪ ،‬إن الرسـوم عىل الوجه أو الوشـم لها وظيفة‬
‫هويـة العشيرة أو الجنـس‪ .‬وجاملهـا غري متاميـزة يف سـيميائيتهم‪.‬‬
‫تأكيـد ّ‬
‫لقـد انتقينـاه وعزلناه وجسـدناه‪.‬‬
‫مكونـ ًا جامليـ ًا كامنـ ًا أو‬
‫ِّ‬ ‫تحـوز هـذه األشـياء واألشـكال والسـلوكيات‬
‫املكون رئيسـياً‪ ،‬بالنسـبة إىل‬ ‫ِّ‬ ‫سـحرية‪ .‬أصبح هذا‬
‫ّ‬ ‫دينيـة‬ ‫مدمجـ ًا يف َّ‬
‫مهمـة ّ‬
‫العقـول الحديثـة يف بدايـة القـرن العرشيـن‪ .‬انطالقـ ًا مـن تجميـل «الفَ ّ‬
‫ـن‬
‫الجامليات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الزنجـي»‪ .‬لقـد انحرس السـحر القديـم‪ ،‬وأصبح كامن ًا ولجـأ إىل‬
‫وهو ما ُيشير إليه التعبري‪« :‬يا له من سـحر (‪ .»)C’est magique‬وباملثل‪،‬‬
‫املتنوعـة للحضـارات‬ ‫ِّ‬ ‫اكتشـفنا وأدمجنـا يف ثقافتنـا األسـاطري الرائعـة‬
‫القدميـة‪ .‬مل نعـد نؤمـن حرفي ًا باألسـاطري اليونانيـة‪ ،‬لكنها تلهمنـا وننخرط‬
‫فيهـا جاملياً‪.‬‬
‫لقـد انصهـرت‪ ،‬بالنسـبة إلينا نحـن الحداثيين‪ ،‬صفة تقديـس اللوحات‬

‫‪25‬‬
‫الجداريـة املسـيحية واللوحـات الفَ ِّن ّيـة مـن العصـور الوسـطى إىل عصر‬
‫النهضـة‪ ،‬مثل لوحـات جيوتو (‪ )Giotto‬أو فرا أنجيليكـو (‪،)Fra Angelico‬‬
‫يتضمـن أيضـ ًا‬
‫َّ‬ ‫الجامليـات غير أن هـذا االنفعـال الـذي متنحنـا إيـاه‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫ُقـدس املُعلَّقين‪.‬‬
‫التقـوى وامل َّ‬
‫الدينية يف أوروبـا الغربية بعد عرص‬
‫ّ‬ ‫ـن تدريجيـ ًا عن وظيفته‬
‫اسـتقلّ الفَ ُّ‬
‫الدينيـة فجعلتهـا‬
‫ّ‬ ‫الجامليـات األعمال ذات الغايـة‬
‫ّ‬ ‫النهضـة‪ ،‬إذ اسـتعادت‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لغايتهـا‬
‫يحـرره مـن‬
‫ّ‬ ‫ين الجمال ومينحـه امتيـاز ًا عندمـا‬
‫العلما ّ‬ ‫تصورنـا َ‬
‫ُّ‬ ‫يعـزل‬
‫السياسـية‪ :‬إننـا نستحسـن مـن دون إميـان دينـي‬
‫ّ‬ ‫الدينيـة أو‬
‫ّ‬ ‫املُعتقـدات‬
‫نوتـر دام دو بـاري (‪ ،)Notre-Dame de paris‬ومقطوعـة اإلنجيل حسـب‬
‫القديـس م ّتـى لجوهـان سيباسـتيان بـاخ (‪،)Johann Sebastian Bach‬‬
‫ُقـدس‪ ،‬وخصوصـ ًا عنـد الشـعور بجاملهـا‬ ‫ـن امل َّ‬
‫واألعمال العظمـى للفَ ّ‬
‫املوسـيقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التصويـري أو‬
‫ّ‬ ‫الهنـديس أو‬
‫ّ‬
‫الرسـم‪ .‬إن الفَ ّن الذي يعزل‬ ‫لقـد عزلنـا متاما الجمال‪ ،‬خصوص ًا يف ّ‬
‫فن َّ‬
‫يل‬
‫ـن‪ ،‬مـن أجـل أن يسـتثري االنفعـال الجما ّ‬‫نفسـه يصير ف ّنـ ًا مـن أجـل الفَ ّ‬
‫ِ‬
‫بهالة الغرابة والسـحر‪.‬‬ ‫قبـل كلّ يشء آخـر‪ ،‬لكنـه يحتفـظ يف ذاتـه‬

‫الجميل والقبيح‬

‫كونيـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الغربيـة لزمـنٍ طويـل أن معايريهـا للجمال‬ ‫ّ‬ ‫اعتقـدت حضارتنـا‬
‫اإلغريقي الـذي ميثلـه براكسـيتيليس (‪ )Praxitèle‬يف‬ ‫ّ‬ ‫لقـد اعتبر الجمال‬
‫والرسـم منـوذج كلّ جامل‪ ،‬وعلى منواله أنتج رسـامو عرص‬ ‫مجـال النحـت َّ‬
‫النهضـة‪ ،‬ثـم العصر الكالسـييكّ أعاملهـم الفَ ِّن ّية‪.‬‬
‫التصـور الكالسـييكّ للجمال‪ ،‬املفهوم بهـذه الطريقة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫لقـد اعتقدنـا أن‬
‫ُتضمـن لالنسـجام واإلتقـان‪ ،‬كـوين‪ .‬ميكنـه أن يبـدأ يف التعبير عـن‬
‫أي امل ِّ‬
‫نفسـه بحسـن املظهـر‪ ،‬ويسـتطيع أن يبلـغ الروعـة‪ ،‬إذ يسـتبعد الخبـث‬

‫‪26‬‬
‫تضـاد مطلـق‬
‫ٌ‬ ‫التصـور الكالسـييكّ‬
‫ُّ‬ ‫والتشـوه والقبـح متامـاً‪ .‬يوجـد يف هـذا‬
‫ُّ‬
‫بين الجميـل والقبيـح‪.‬‬
‫مبعنـى مـا‪ ،‬يبـدو أن تغريـب العـامل‪ ،‬الـذي حـدث خلال العصر‬
‫الكونيـة مـن خلال نشر وتثبيـت وأقلمـة إنتاجاتـه‬
‫ّ‬ ‫الكوكبـي‪ ،‬يؤكـد هـذه‬
‫والرسـم واملوسـيقى واألدب يف القـارات األخـرى‪ .‬لكـن‬‫الخاصـة بالجمال َّ‬
‫ّ‬
‫كونيـ ًا يجعـل املـرء يعجـب بلوحـة‬
‫ّ‬ ‫الغربيـة‬
‫ّ‬ ‫الجامليـات‬
‫ّ‬ ‫إذا كان تعميـم‬
‫يلـغ أنـواع الجمال اليابـاين‬
‫الجوكانـدا يف طوكيـو‪ ،‬فـإن هـذا التعميـم مل ِ‬
‫فعليـاً‪.‬‬
‫جعلتنـا عمليـة التعميـم الكوكبـي نفسـها نكتشـف ونعترف بجمال‬
‫ـن‬
‫أعمال رغـم أن معايير جاملهـا مختلفـة متامـاً‪ :‬قمنـا بتجميـل الفَ ّ‬
‫اإلفريقـي عـن طريـق تجريد األقنعـة والتامثيل مـن غايتها لنعتربهـا أعام ً‬
‫ال‬
‫ف ِّن ّيـة‪ ،‬لكننـا اعتربنـا يف الوقـت نفسـه جميلاً مـا كان يعتبر غريبـ ًا وباهـراً‪،‬‬
‫بـل وحتـى قبيحـاً‪.‬‬
‫أول مـن أشـار إىل‬ ‫كان فريدريـش شـليغل (‪َّ )Friedrich Schlegel‬‬
‫خاصـة يف األدب‬
‫ّ‬ ‫الجامليات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مركزيـة يف‬
‫ّ‬ ‫مسـألة القبـح باعتبارهـا مشـكلة‬
‫والفـردي واملُثري‬
‫ّ‬ ‫للتميز‬
‫ُّ‬ ‫الحديـث‪ .‬إذ يقـول‪« :‬القبيـح هـو الهيمنة املُطلقـة‬
‫لالهتمام وللبحـث الـذي ال ُيشـبع وغري الـكايف دامئ ًا عن الجديد والشـائك‬
‫والالفـت للنظر»‪.‬‬
‫الغـريب يف تجاوز النمـوذج الكبري‬
‫ّ‬ ‫الرسـم‬
‫يف القـرن التاسـع عشر‪ ،‬بدأ َّ‬
‫للجمال‪ :‬يوحـي غويـا (‪ )Goya‬يف أعاملـه «الرسـوم الزنجيـة ‪Pinturas -‬‬
‫‪ )1823-1819( »negras‬بـرؤى الرعـب‪ ،‬لكنهـا ُتشير‪ ،‬يف مـا يتعلَّـق‬
‫بالجامليـات‪ ،‬إىل أن الحـدود بين الجميل والقبيح ميكـن أن تتواجه محل ّّياً‪.‬‬
‫ّ‬
‫كما أبـرز انطباعيون مثل فان غوخ (‪ )Van Gogh‬وسـيزان (‪)Cézanne‬‬
‫الكالسـيكية‪ ،‬بعـد ذلـك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أنواعـ ًا مـن الجمال مختلفـة متامـ ًا عـن املعايير‬
‫الرسـم واملوسـيقى على خلـع األشـكال وإظهـار ‪-‬يف الوقـت ذاتـه‪-‬‬ ‫عمـل َّ‬
‫حساسـية جديـدة‪ ،‬ونوعـ ًا جديـد ًا مـن الجمال مـن خلال التنافُر‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫النرثي‪ :‬موسـم يف الجحيم (‪Une‬‬
‫ّ‬ ‫كتب رامبو (‪ ،)Rimbaud‬يف ديوانه‬
‫ركبتي ‪ -‬فوجدته‬
‫ّ‬ ‫‪« :)saison en enfer‬ذات مسـاء‪ ،‬أجلسـت الجامل عىل‬
‫مر ًا ‪ -‬ثم شـتمته»‪.‬‬
‫ّ‬
‫هـل ينحـو الجمال الكالسـييكّ إىل االختفـاء مـن الفنـون؟ أو باألحـرى‪،‬‬
‫الديني ما قبـل الكالسـييكّ ‪ ،‬أو كام يف‬
‫ّ‬ ‫أال ُيوجـد كما هـو الحـال يف العـامل‬
‫متيز للجامل يف‬‫وإن كان بطريقـة جديدة ومختلفة‪ ،‬عـدم ُّ‬ ‫العـامل القديـم‪ْ ،‬‬
‫تعب عـن رؤيـة وحقيقة ورسـالة معاً؟‬ ‫األعمال التـي ِّ‬
‫يتوقَّـف الجمال والقبـح عـن أن يكونـا متضاديـن إذ نجـد جما ً‬
‫ال يف‬
‫القبـح‪ ،‬وقبحـ ًا يف الجمال‪ّ ،‬‬
‫مما يعنـي أن الجمال لـن ُيقىص‪ ،‬بل سـيدرج‬
‫يتضمـن ضـده‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يف مركـب‬
‫إن البحـث عـن األصالـة‪ ،‬إذا جـاز التعبير‪ ،‬يسـبق البحـث عـن الجامل‪،‬‬
‫ّ‬
‫الجامليـة بالنسـبة إىل املُولعين بها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مل تكتسـب األصالـة صفـة‬
‫لكـن أ ْ‬
‫كما يوجـد مـا يتجـاوز الجمال‪ ،‬باملعنـى الكالسـييكّ للكلمـة‪ ،‬حيـث‬
‫جمـل‪.‬‬
‫ميكـن أن ينبثـق االنفعـال مـن قـرف ُم َّ‬
‫لقـد أدرك أرسـطو أن الرتاجيديـا اليونانيـة‪ ،‬عندمـا تسـتثري الرعـب‬
‫والشـفقة‪ ،‬تخلـق لـدى املُتفرجين شـعور ًا عميقـ ًا لـه سـمة امل ِّ‬
‫ُحـرر‪ ،‬كان‬
‫يسـميه بالتنظيـف‪ ،‬أو التطهير (‪ .)catharsis‬سـنعود إىل هـذه الصفـة‬
‫بالجامليـات التـي تسـمح بتحويـل املعانـاة واألمل واملـوت إىل‬
‫ّ‬ ‫الخاصـة‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫انفعـاالت سـعيدة دون القضـاء عليهـا‪ ،‬بـل على العكس من ذلـك تربزها‪.‬‬
‫يؤملنـا املسرح اإلليزابيثـي والشكسـبريي‪ ،‬ومسرح كورنيـل وراسين‬
‫الرومانسـية مثل هرناين (‪،)Hernani‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ ،)Corneille et Racine‬والدراما‬
‫واألوبـرا‪ ،‬املأسـاوية بطبيعتهـا‪ ،‬وأخري ًا أفلام العنف والتعذيـب واملعاناة‪،‬‬
‫ويدجنـه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫حـد سـواء‪ ،‬إذ يغلـف الخير الشر‬
‫ويفرحنـا على ٍّ‬
‫ِ‬
‫لوحـات املعـارك‪ ،‬لكننـا دخلنـا يف عصر‬ ‫غالبـاً‪ ،‬مـا ُج ِّملـت الحـرب يف‬
‫متكَّ ـن فيـه املقاتلـون من تجميلهـا‪ ،‬كام هو حـال أبولينير (‪)Apollinaire‬‬
‫يف هـذه العبـارة الجريئـة‪« :‬يـا إلهـي! مـا أجمـل الحـرب»‪ ،‬يف حين ظهرت‬

‫‪28‬‬
‫خـاص للمقاتلين الذيـن عانوا منهـا مثـل مجموعة مـن االرتياعات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بشـكلٍ‬
‫حد سـواء‪،‬‬‫جامليـة حـرب بغيضـة ومثيرة لإلعجـاب على ٍّ‬
‫ّ‬ ‫خلقـت السـينام‬
‫والتـي متنحنـا مشـاعر عظيمـة‪ :‬ليسـت مشـاعر الفـزع أو الرعـب أو‬
‫تحرضنـا أفلام‬
‫الشـفقة فقـط‪ ،‬بـل لـذة أو متعـة جامليـة خالصـة أيضـاً‪ِّ .‬‬
‫تزودنـا بسـح ٍر‬
‫الحـرب العظيمـة على بغـض الحـرب‪ ،‬ويف الوقـت نفسـه ِّ‬
‫جمايلّ‪ ،‬بـدء ًا مـن فيلـم يف الغـرب ال يشء جديـد (‪À l’Ouest rien de‬‬
‫‪ ،)nouveau‬أربعـة مـن املشـاة (‪ ،)Quatre de l ‘infanterie‬الصلبـان‬
‫الخشـبية (‪ ،)The Wood Crosses‬مـرور ًا بــ‪ :‬أطول يوم (‪Le Jour le plus‬‬
‫ال إىل الخـط األحمـر (‪ )La Ligne rouge‬الجميـل والرهيـب‬ ‫‪ ،)long‬ووصـو ً‬
‫لتريونـس مالـك (‪.)Terrence Malick‬‬
‫تجـرأ جـان بودريلار (‪ )Jean Baudrillard‬على التعبير عـن‬ ‫َّ‬ ‫لقـد‬
‫البرشية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جامليـة تدمير برجـي مانهاتن التي أخفيناهـا وراء رعب املجـزرة‬
‫ّ‬
‫جامليـات هـذه الصـورة التي ال تصـدق التي كُ ّنا نشـاهد‬
‫ّ‬ ‫أخفيـت عـن نفسي‬
‫على الشاشـات و ُنعيد مشـاهدتها بطريقة اسـتحواذية‪ ،‬لقـد أخفيتها تحت‬
‫األخالقـي‪ ،‬لكـن الحقيقـة أن هنـاك جامليـة الكارثـة يف مشـاهدة‬
‫ّ‬ ‫االنفعـال‬
‫هذيـن الربجين العمالقني وهما ُيصدمان‪ ،‬كام يف حلم‪ ،‬مـن قبل طائرتني‬
‫ظهرتـا فجـأة مـن حيـث ال ندري‪ ،‬ثـم التهمتهما النيران فانهارتا‪ .‬تسـتعمل‬
‫السـينام جامليـة الكارثـة وتسرف يف اسـتعاملها‪ ،‬لكـن ضمـن قصـص‬
‫واقعيـة‪ ،‬وليـس يف الواقـع كما كان الحـال يف ‪ 11‬سـبتمرب‪/‬أيلول ‪.2001‬‬
‫تطـورت جامليـة املحـارب الـذي يصـارع مـن أجل جمال املعركة‬ ‫َّ‬ ‫كما‬
‫قضيـة مـا‪ :‬سـواء كان يف عواصـف فوالذيـة (‪Orages‬‬ ‫ّ‬ ‫وليـس مـن أجـل‬
‫‪ )d’acier‬إلرنيسـت يونغير (‪ )Ernst Jünger‬الـذي يصـف الجاذبيـة التـي‬
‫العامليـة األوىل عليـه‪ ،‬أو كذلـك يف املنبـوذون‬
‫ّ‬ ‫مارسـتها تجربـة الحـرب‬
‫(‪ )Les Réprouvés‬إلرنيسـت فـون سـالومون (‪)Ernst von Salomon‬‬
‫الحـرة يف البلطيق ويعتربهـا ملحمةً ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الـذي ميجـد حـرب الفيالق األملانيـة‬
‫الغـزاة (‪ )Les Conquérants‬ألنـدري مالـرو (‪André‬‬ ‫أو أخير ًا يف ُ‬
‫ـن‪.‬‬
‫متـذوق للفَ ّ‬
‫ِّ‬ ‫‪ ،)Malraux‬حيـث يختلـط الثـوري مبغامـر‬

‫‪29‬‬
‫اليونانيـة واملأسـاة اإلليزابيثيـة واألدب‪ ،‬وأخري ًا‬
‫ّ‬ ‫جملـت الرتاجيديـا‬
‫لقـد ّ‬
‫السـينام الرعـب والفـزع اللذيـن يرعباننـا ح ّقـاً‪ ،‬لكـن وعينـا بأننـا نشـاهد‬
‫عرضـ ًا يجعـل الوجـع أو املـوت غير ضاريـن‪.‬‬

‫عممة‬
‫مل َّ‬
‫الجامليات ا ُ‬
‫ّ‬
‫تتكاثـر ُمسـوخات الجمال‪ ،‬حيـث ميكن أن نـرى عالمةً عىل وجـود أزمة‬
‫ُعممـة ملـا كان يف السـابق‬
‫الجامليـات امل َّ‬
‫ّ‬ ‫الجمال الكالسـييكّ ‪ ،‬لصالـح‬
‫ُيعتبر غير جميل‪.‬‬
‫تـم تجميـل‬
‫مل يعـد الجميـل كما كان‪ ،‬ويـزداد تجميـل كلّ األشـياء‪ّ .‬‬
‫محطَّ ـات مترو ‪ 1900‬ونافـورات واالس التـي كانـت تبـدو قبيحـة يف عـام‬
‫ال منـذ ذلـك الحني‪ .‬لقـد أصبحت أشـياء وأزياء‬ ‫‪ ،1930‬فأضحـت أكثر جما ً‬
‫تـم رفضهـا يف السـنوات التي سـبقت عـام ‪،1940‬‬ ‫«الزمـن الجميـل»‪ ،‬التـي ّ‬
‫جميلـة‪ .‬تـم تجميـل القاطـرات البخاريـة القدميـة بشـكلٍ فائـق مـن حيـث‬
‫أشـكالها السـوداء الرائعـة وصفريهـا القـوي وأعمـدة دخانها األبيـض‪ .‬وقد‬
‫الصناعيـة‪ ،‬كالسـيارات امل ِ‬
‫ُعـاصة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اجتاحـت هـذه الظاهـرة املواضيـع‬
‫يجمـل‬
‫ِّ‬ ‫والقطـار الفائـق الرسعـة‪ ،‬والطائـرات‪ ،‬والطائـرات النفاثـة‪.‬‬
‫النفعيـة من خلال تحديثها أو منحها أشـكا ً‬
‫ال جديدة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املُصممـون األشـياء‬
‫خاصـة بـه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لقـد خلـق العصر الصناعـي فنونـ ًا‬
‫وضواح‬
‫ٍ‬ ‫التاريخيـة‪ ،‬نعيش يف عامل حضري‬
‫ّ‬ ‫ومـع ذلـك‪ ،‬خـارج املراكز‬
‫للتلـوث واالزدحـام‪ .‬تغـزو‬
‫ُّ‬ ‫عرضـة‬
‫معامريـة رتيبـة وكئيبـة‪ُ ،‬م َّ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫هندسـة‬ ‫ذات‬
‫الثقافـة األحاديـة امليتة الحقـول‪ ،‬ويغزونا توحيد املعايير الذي ال يقترص‬
‫الصناعيـة‪ ،‬بـل ميـس الطعـام نفسـه‪ .‬أليـس التجميـل‬‫ّ‬ ‫على املنتجـات‬
‫الرسـم‬
‫مقاومـةً لهـذا القـدر مـن البشـاعة والخـزي؟ ال تـزال هنـاك يف َّ‬
‫جامليـة البشـاعة والخزي‪ ،‬كما لـو أن صورتهم تجلب‬‫ّ‬ ‫والتصويـر والسـينام‬
‫سـحر ًا غريبـ ًا ومخيفـاً‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ُعمـم عندمـا ذكر حبـه ألكـواخ املعارض؛‬ ‫عبر رامبـو عـن التجميـل امل َّ‬ ‫َّ‬
‫جملـوا األماكـن التـي كانـت‬
‫َّ‬ ‫عندمـا‬ ‫السـورياليون‬ ‫نفسـه‬ ‫النهـج‬ ‫على‬ ‫وسـار‬
‫تبـدو يف السـابق عاديـةً مثـل ممـر االسـتعراضات؛ لقـد طالبـوا ‪-‬تحديـداً‪-‬‬
‫ـع َرنة الحيـاة‪ ،‬ضمن تجميـل إرادي للوجود‪ .‬هكـذا‪ ،‬نحاول‪ ،‬بعد‬ ‫بضرورة َش ْ‬
‫شـعرياً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الخاصـة‪ ،‬أي إعطاءهـا معنـى‬
‫ّ‬ ‫تجميـل الطبيعـة‪ ،‬تجميـل حيواتنـا‬
‫وهميـة‪ ،‬مغامـر ًة «جميلة»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بـل جعـل حيواتنـا‪ ،‬مهما كانـت‬
‫نتقـدم يف زمـنٍ حيـث‬
‫َّ‬ ‫كتـب إتيـان سـوريو (‪« :)Étienne Souriau‬إننـا‬
‫ُقـدس‪ ،‬الغريـب واملعتـاد‪ ،‬لـن يصير سـوى‬ ‫الدنيـوي وامل َّ‬
‫ّ‬ ‫االختلاف بين‬
‫جامليـاً »‪.‬‬
‫ّ‬
‫ُعمـم‪ ،‬إذ مينحنـا إمكانيـة‬
‫بيـد أن هنـاك ازدواجيـةً يف التجميـل امل َّ‬
‫مما كان يبـدو عاديـ ًا أو ال يلفـت االنتبـاه‪ ،‬ويدعـم نزعـة عدميـة‬
‫التعجـب ّ‬
‫ُّ‬
‫الجامليـات‪ .‬إنـه يخاطـر بإخفـاء البؤس‬
‫ّ‬ ‫يف‬ ‫األخلاق‬ ‫تـذوب‬ ‫حيـث‬ ‫لـة‪،‬‬ ‫جم‬
‫ُم ِّ‬
‫ين الـذي تجملـه العديد من الصـور الفوتوغرافية والصور‪ .‬سـنتناول‬ ‫اإلنسـا ّ‬
‫سـنقر بأنـه إذا كان يجـب على الثقافـة أن تحتـوي‬ ‫ّ‬ ‫هـذا املُشـكل عندمـا‬
‫الجامليـات الثقافـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الجامليـات‪ ،‬فيجـب أن ال تحتـوي‬
‫ّ‬

‫‪31‬‬
‫ُحاضة الثالثة)‬
‫(امل َ‬

‫التفريد والتسويق والتصنيع‬

‫توقَّفـت رشوط اإلبـداع الفَ ِّن ّـي لزمنٍ طويل عىل اإلحسـان أو عىل حامية‬
‫األقويـاء أو السـادة أو البابـاوات‪ ،‬ثـم انفصـال الفَ ّن تدريجيـ ًا يف الغرب يف‬
‫القرنين التاسـع عشر والعرشيـن‪ .‬صاحبت هذا االسـتقالل عـن الدين‪ ،‬ثم‬
‫فتحول العمل‬
‫َّ‬ ‫السـلطة وبعده عن اإلحسـان‪ ،‬تبعيـة متنامية للسـوق؛‬ ‫عـن ُّ‬
‫الفَ ِّن ّي إىل سـلعة‪.‬‬
‫ُتفـرد بشـكلٍ قـوي ‪-‬يف الغالـب‪ -‬حضارة املـال التي‬ ‫يعـارض الفَ َّنـان امل ِّ‬
‫حريتـه وأصالتـه وإبداعـه يف عـامل غير املُثقَّفين‬ ‫ميجـد ّ‬
‫يتوقَّـف عليهـا‪ِّ .‬‬
‫الذيـن يشترون منـه مـع ذلـك أعاملـه الفَ ِّن ّيـة‪.‬‬
‫ـي الـذي‬
‫يتـم‪ ،‬يف القـرن التاسـع عشر‪ ،‬عـدم فهـم التجديـد الفَ ِّن ّ‬
‫مل ّ‬
‫يقطـع مـع املواضعـات واملذاهـب الجامليـة لزمنـه فقـط‪ ،‬بـل رفضـه‬
‫باسـم القوانين التقليديـة للجمال‪ .‬ذلـك كان مصير االنطباعيين ومـوين‬

‫‪33‬‬
‫تم‬
‫العامليـة األوىل ّ‬
‫ّ‬ ‫(‪ )Monet‬وسـيزان‪ ،‬ثـم التكعيبيين؛ لكـن بعـد الحرب‬
‫ُهم‬ ‫ِ‬
‫على العكـس مـن ذلـك تثمين الجديـد‪ ،‬وهـو ما ُيشير إليـه الكتـاب امل ّ‬
‫جـد ًا لهارولـد روزنبيرغ (‪ ،)Harold Rosenberg‬تقليـد الجديـد(((‪ .‬مل‬ ‫ّ‬
‫ينتصر اتبـاع الجديـد يف الفَ ّن فقط‪ ،‬بـل يف املقاوالت والتقنيـة واالقتصاد‬
‫ومسـاحيق التصبين والسـيارات واملرشوبـات الغازيـة‪ .‬يجعـل الجديـد‬
‫امل ِ‬
‫ُعـاص قدميـاً ‪ ،‬فيصير مرغوبـاً ويحـث على رشائـه‪.‬‬
‫ـن‪ ،‬مـن الصعـب الحكـم على مسـتوى األعمال التي‬ ‫يف مـا يتعلَّـق بالفَ ّ‬
‫تقطـع مـع املعتـاد‪ ،‬ونخشى أن نكـون رجعيين يف نقدنـا‪ .‬لـذا نسـتغرب‬
‫أكثر ألن اللوحـة تبـاع بثمـنٍ باهـظ‪ .‬وأخيراً‪ ،‬نعترف بـأن اللوحـة باهظـة‬
‫جامليـة رائعـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الثمـن لهـا قيمـة‬
‫ـن التصويـري إىل أن يصبـح أداة يف خدمـة املتالعبين‬ ‫مييـل الفَ ّ‬
‫يف السـوق‪ .‬كما كتبـت عاملـة االجتماع راميونـد مـوالن (‪Raymonde‬‬
‫‪« ،)Moulin‬يصبـح الحكـم الجمايلّ‪ ،‬يف ظـل جدليـة ملتبسـة‪ ،‬ذريعـة‬
‫حكم جاميلّ»‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫التجارية الناجحـة إىل‬
‫ّ‬ ‫العمليـة‬
‫ّ‬ ‫تتحـول‬
‫َّ‬ ‫لعمليـة تجاريـة‪ ،‬إذ‬
‫مل يكـن املُؤلِّـف‪ ،‬يف زمـن موليير (‪ )Molière‬وراسين (‪)Racine‬‬
‫وكورنيـل (‪ ،)Corneille‬مبـدع مادتـه‪ ،‬إذ يسـتقيها من التاريـخ أو من كُ َّتاب‬
‫املـايض‪ ،‬وكان الفونتين (‪ )La Fontaine‬يغرفهـا مـن خرافـات إيسـوب‬
‫(‪.)Ésope‬‬
‫يتفـرد إىل أقىص الحـدود‪ ،‬فيصبح‬
‫َّ‬ ‫أمـا املُؤلِّـف الحديـث فيبـدع مواده‪،‬‬‫ّ‬
‫الخـاص (أو يخفـي الكا ِتـب الشـبح الذي يسـتخدمه)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لعملـه‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫مطلقـ‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫سـيد‬
‫ّ‬
‫فيتوج‬
‫وتكرس حقـوق املُؤلِّف سـيادته‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫مقدسـاً‪.‬‬
‫تجعلـه الفـرادة واألصالة َّ‬
‫مبصطلـح العبقـري‪ .‬يعنـي تعبير «العمـل الخالـد» ‪-‬بينما‪ ،‬بالطبـع‪ ،‬كلّ‬
‫يسـتمر إىل ما بعد‬
‫ّ‬ ‫بشري فـانٍ ‪ -‬أنـه يخـوض معركة ضـد املوت لكي‬
‫ٍّ‬ ‫عمـلٍ‬
‫املُؤلِّـف وعرصه‪.‬‬

‫‪(1) La Tradition du nouveau, Éditions de Minuit, coll. «Arguments», 1962.‬‬

‫‪34‬‬
‫سـيلْعن الفَ َّنـان إذا كان أصيلاً للغايـة أو منحرفـ ًا باملقارنة مع املعايري‬ ‫ُ‬
‫رسـمياً‪ ،‬فيطلق اسـمه عىل أحد الشـوارع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫به‬ ‫عرتف‬ ‫ي‬
‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫لعصره‪،‬‬ ‫ـة‬ ‫الجاملي‬
‫ّ‬
‫وربـا إىل الفَ َّنـان‬
‫َّ‬ ‫الشـهري‪،‬‬ ‫ـان‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫الفَ‬ ‫إىل‬ ‫امللعـون‬ ‫ـان‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫الفَ‬ ‫مـن‬ ‫ننتقـل‬ ‫هكـذا‬
‫سمي ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الر‬
‫َّ‬
‫اإلبداع الفَ ِّن ّي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫هذه املالحظة تقودنا إىل القيود التي تؤثّر عىل‬

‫اإلبداع واإلنتاج والتوزيع‬

‫الرسـام على السـوق‪ ،‬وبالتـايل على التاجـر‪ .‬فالتاجر هو‬ ‫يعتمـد عمـل َّ‬
‫الرسـام وفق ًا ملـا يعتقد أنـه ذوق املُشترين‪ .‬إذا كان ذا بصرية‪،‬‬
‫ـن ينتقـي َّ‬
‫َم ْ‬
‫فسيكتشـف موهبـةً غير معروفة وسـينجح يف جعلها مشـهورةً‪ .‬وعىل هذا‬
‫النحـو‪ ،‬متكَّ ـن هـواة مسـتبرصون من الحصول على أعمالٍ مجهولة أو غري‬
‫معروفـة لسـيزان وفـان غـوخ وبيكاسـو وكاندينسكي وغريهم ممـن انتقلوا‬
‫مـن الجهـل إىل املجـد‪ ،‬ومـن العـوز إىل الرثوة‪ .‬عىل سـبيل املثـال‪ ،‬حقق‬
‫الرسـام جـان ميشـيل أتلان (‪ ،)Jean-Michel Atlan‬الـذي كان‬ ‫صديقـي َّ‬
‫يبيـع األقمشـة يف األسـواق من أجـل لقمة العيـش‪ ،‬نجاح ًا مفاجئ ًا وسـافر‬
‫حـول العامل‪.‬‬
‫وباملثـل‪ ،‬يعتمـد نشر عمـل الكا ِتـب على النـارش‪ .‬ال متثـل حالـة‬
‫بروسـت التـي رفضتـه دار النشر غاليمار (‪ )Gallimard‬حالـةً فريـدة مـن‬
‫الصناعي للنشر‪ ،‬أصبحت‬
‫ّ‬ ‫التجـاري‬
‫ّ‬ ‫التطـور‬
‫ُّ‬ ‫نوعهـا‪ .‬منـذ ذلـك الحين‪ ،‬مـع‬
‫األول أكرث صدفوية‪ .‬انطالقـ ًا من نصف‬‫وضعيـة الكا ِتـب الذي يقترح عملـه ّ‬
‫تـم رشاء العديـد مـن النارشيـن املُسـتقلّني والحرفيين‬ ‫القـرن املـايض‪ّ ،‬‬
‫مـن ِقبـل مجموعـات كبيرة مثـل دار النشر هاشـيت (‪ .)Hachette‬تتـم‬
‫قـراءة املخطوطـات بشـكلٍ َأقـلّ فأقـلّ مـن ِقبـل مديريـن مثقَّفين أو‬
‫قـراء يحصلـون على‬ ‫الكُ َّتـاب أنفسـهم‪ .‬يف حين تتزايـد قراءتهـا مـن ِقبـل َّ‬
‫يقدمـون تقاريرهـم‪ .‬بعـد ذلـك‪ ،‬لـن تحكـم‬ ‫رواتـب منخفضـة‪ ،‬وهـم الذيـن ِّ‬

‫‪35‬‬
‫األدبيـة فحسـب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لجنـة القـراءة فقـط‪ ،‬ولـن تحكـم على أسـاس الجـودة‬
‫مبجـرد إمتـام الطباعـة التجريبيـة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ُحتمـل للمكتبـة‪.‬‬
‫بـل على النجـاح امل َ‬
‫ُراسلات الصحافيـات الجميلات عبر نقـد الصحـف واإلذاعـة‬ ‫سـتثني امل ِ‬
‫ومرشـحة ألهـم الجوائز‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والتليفزيـون على األعمال املفرتض أنها موهوبة‬
‫لـن ُتبـاع العديـد مـن النسـخ وسـتتلف بيـد الهـاون ‪.‬‬
‫(((‬

‫التجـاري املُفـرط والبريوقراطـي‪ ،‬الـذي أضحـى‬


‫ّ‬ ‫غير أن هـذا النظـام‬
‫مهيمنـاً‪ ،‬يواجـه منافسين ناجعين يتمثلـون يف ازدهـار دور نشر حرفيين‬
‫صغـار ينجحـون يف نشر عمـلٍ ناجـح تجاهلتـه دور النشر الكبيرة‪ .‬ميكـن‬
‫متحمـس‪ ،‬أو عـن جوائـز‬
‫ِّ‬ ‫أن ينجـم النجـاح عـن تواتـ ٍر سـمعي‪ ،‬أو عـن ٍ‬
‫نقـد‬
‫أدبية‪.‬‬
‫ّ‬
‫بيـد أن النارشيـن الصغـار ال يطبعـون األعمال املُربحـة فقـط‪ ،‬وال‬
‫يتمكَّ نـون أحيانـ ًا من معادلـة ميزانيتهم؛ فيضطر بعضهـم للدوران يف فلك‬
‫التطـور‪ ،‬لكن كون أغلبهـم يعتمد يف‬
‫ُّ‬ ‫مجموعـة‪ ،‬وينجـح البعـض اآلخـر يف‬
‫التوزيـع على دور نشر أكثر إلزامية هي نفسـها أبـرز املوزعـات للمكتبات‪.‬‬
‫ناحيـة أخـرى‪ ،‬اختفـت العديـد مـن املكتبات الحرفية بسـبب منافسـة‬ ‫ٍ‬ ‫مـن‬
‫رفـوف مكتبـات املحلات الكربى‪ ،‬وحاليـ ًا الشـبكة العنكبوتيـة‪ّ .‬إل أن عدد ًا‬
‫يحبون استشـارة الكتبـي وطلب‬ ‫معينـاً منهـا يقـاوم ألنـه الزال يوجـد زبائـن ّ‬
‫َّ‬
‫نصيحته ‪.‬‬
‫كما أن نظـام إنتـاج وتوزيـع ال ِكتـاب يسـعى إىل تنميـط األدب وإىل‬
‫جـداً‪ ،‬وإىل مواهب مبدعة‪.‬‬
‫متفـردة ّ‬
‫ِّ‬ ‫ضـده أيضـاً‪ .‬يحتـاج إىل أعمالٍ أصيلة‪،‬‬
‫هكـذا يتوقَّـف مصير الكتـاب على التعـاون املتعـارض بين اإلبداع‪/‬النرش‪/‬‬
‫التوزيـع‪ .‬عندمـا يخنـق النشر اإلبـداع أو يتجاهلـه‪ ،‬تكـون النتيجـة رديئـة‪.‬‬
‫عندمـا يدفـع اإلبـداع دار النشر إىل االعتراف بقيمتـه‪ ،‬يبقـى عليهـا‪ ،‬مـن‬
‫األدبية والتواتر السـمعي‪ ،‬أن تعرتف به وأن ُتشـهِره‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خلال النقـد والجوائـز‬

‫((( آلة خاصة بإتالف األوراق [املرتجم]‬

‫‪36‬‬
‫يتـوج النجـاح بالضرورة‬
‫كما هـو حـال جميـع األمـور يف الحيـاة‪ ،‬ال ِّ‬
‫الشـخصيات املُؤثـرة‬
‫ّ‬ ‫االسـتحقاق‪ .‬يثنـي ال ُنقَّـاد الخاضعـون على ترهـات‬
‫ال عبقرية ظلَّـت مخطوطة‬‫املرجـح أن أعما ً‬
‫َّ‬ ‫ويعتربونهـا أعما ً‬
‫ال رائعـة‪ .‬مـن‬
‫وربا‬
‫ومل تجـد لهـا نارشاً‪ .‬كام يكون النجاح والفشـل عرضيين يف الحياة‪َّ ،‬‬
‫أكثر مـن ذلـك يف العديـد مـن باقـي أمـور الحيـاة‪.‬‬
‫هكـذا‪ ،‬مـن املُؤكَّ ـد أن النظـام يقتـل املواهـب يف مهدهـا‪ ،‬ولكـن نظـر ًا‬
‫إىل التكامـل املُتعـارض بين اإلبـداع والنشر‪ ،‬ونظر ًا إىل املنافسـة ووجود‬
‫نارشيـن صغـار‪ ،‬فإنـه يسـمح أيضـ ًا بنرش أعمال جميلـة وأحيانـ ًا روائع‪.‬‬
‫األديب بشـكلٍ فردي‪ ،‬قبل تقدميـه ألي نارش‪ .‬ال ميكن‬
‫ّ‬ ‫يتـم إبـداع العمل‬ ‫ّ‬
‫أن يوجـد الفيلـم ّإل من خالل متويل املنتجني‪ .‬لقد أنشـأت السـينام نظام ًا‬
‫صناعيـ ًا لإلنتـاج ‪ -‬التوزيـع ‪ -‬اإلبـداع‪ِّ ،‬‬
‫يحركـه منـذ البداية البحـث عن الربح‬ ‫ّ‬
‫األقصى‪ .‬تعتبر هوليـوود منشـأ ومـكان تطوير هـذا النظام‪ .‬مل يعـد العمل‬
‫فرديـ ًا متامـاً‪ ،‬بـل مثـرة تعـاون كُ َّتـاب السـيناريو والحـوارات واملخرجين‬
‫ّ‬
‫يتم‬‫واملُصوريـن واملُحررين واملوسـيقيني ومصممي الديكـور‪ .‬ال ميكن أن ّ‬
‫إخـراج الفيلـم ّإل مبوافقـة املنتج عىل أسـاس سـيناريو ما‪ ،‬واختيـار ممثِّل‬
‫‪-‬غالبـاً‪ -‬مـا يفرضـه املنتج‪ ،‬واختيـار املخرج‪.‬‬
‫والتخصـص‪ .‬لقـد ا ّتخـذ هـذا‬ ‫ُّ‬ ‫يتـم إنتـاج فيلـم حسـب تقسـيم العمـل‬ ‫ّ‬
‫مكـرس لتحقيـق‬ ‫َّ‬ ‫ألنـه‬ ‫هوليـوود‪،‬‬ ‫نظـام‬ ‫يف‬ ‫الصناعـي‬
‫ّ‬ ‫اإلنتـاج‬ ‫حجـم‬ ‫اإلنتـاج‬
‫يتـم التأكـد من قـدرة العمـل الفَ ِّن ّي‬ ‫ّ‬ ‫الربح‪،‬‬ ‫هـذا‬ ‫أعلى ربـح‪ .‬للحصـول على‬
‫تنوعـاً ‪ ،‬ويتمتـع‬ ‫على إرضـاء كال الجنسين‪ ،‬وأكثر رشائـح املُشـاهدين ُّ‬
‫للممثِّلين املُؤسـطَ رين وشـبه املُؤلهين‪ :‬النجـوم‪.‬‬ ‫بجاذبيـة رائعـة ُ‬
‫األصلية التي لها قواعـد ملزمة‪ :‬رعاة‬
‫ّ‬ ‫ينتـج النظـام أفالمـ ًا وفق ًا للنماذج‬
‫البقـر واإلثـارة والكوميديـات املوسـيقية والكوميديـا العاطفيـة واألفلام‬
‫كونية للـــنهاية‬
‫ّ‬ ‫الكوميديـة‪ ،‬لقـد فرضـت هوليـوود منـذ زمنٍ طويـل سـيادة‬
‫شـخصية ثانويـة‪ ،‬لكنه يفرض‬
‫ّ‬ ‫يتضمن موت‬
‫َّ‬ ‫السـعيدة‪ .‬ميكـن لكلّ فيلـم أن‬
‫النصر يف النهايـة لألبطـال يف الحـب والنجاح‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫يوضـع السـؤال الـذي أجبـت عنـه يف كتـايب روح العرص(((‪ :‬ملاذا سـمح‬
‫ٍ‬
‫بطريقة ليسـت نادرة‬ ‫هـذا النظـام بإنتـاج روائـع‪ ،‬لـدى أقلّيـة بالتأكيد‪ ،‬لكـن‬
‫متاماً؟‬
‫وإن اسـتجاب إلكراهـات‬ ‫منـاط ذلـك أن اإلنتـاج ينتظـر مـن كلّ فيلـم‪ْ ،‬‬
‫الكالسـيكية لراسين (‪ )Racine‬كانـت تخضـع هـي‬ ‫ّ‬ ‫(ونعلـم أن الرتاجيديـا‬
‫متفـرد ًا وأصيلاً ‪ ،‬وبالتـايل ينتظـر منـه اإلبداع‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كذلـك إلكراهـات)‪ ،‬أن يكـون‬
‫ُصـور ومحـرر‬
‫إبـداع كاتـب السـيناريو واملخـرج‪ ،‬وكـذا املوسـيقي وامل ِّ‬
‫الفيلـم‪ ...‬اسـتعانت هوليـوود بكُ َّتـاب سـيناريو مـن أمثـال ويليـام فولكنـار‬
‫(‪ )William Faulkner‬وداشـيل هاميـت (‪)Dashiell Hammett‬‬
‫وغريهـم كثيرون‪ ،‬ومبخرجين مـن أمثـال هـوارد هاوكـس (‪Howard‬‬
‫‪ )Hawks‬وجـون فـورد (‪ )John Ford‬وفريتـز النـغ (‪ )Fritz Lang‬وبيلي‬
‫والـدر (‪ .)Billy Wilder‬متكَّ نـت هوليـوود مـن إنتـاج أعمالٍ عظيمـة يف‬
‫فـن السـينام‪ ،‬لكنهـا كبحـت أيضـ ًا مبدعين أصيلين مثـل إيريـك فـون‬ ‫ّ‬
‫ستروهايم (‪ .)Eric von Stroheim‬وأفسـدت العديـد مـن األفلام عندمـا‬
‫غيرت تحريرهـم‪ ،‬و أخير ًا أبعدت أورسـن ويلـس (‪ )Orson Welles‬بعدما‬ ‫َّ‬
‫عبقرية شـاريل شـابالن‬
‫ّ‬ ‫اسـتعملته‪ .‬بينما مل تسـتطع يف املقابـل أن متنـع‬
‫ين‪.‬‬
‫(‪ )Charlie Chaplin‬ومجـده الكـو ّ‬
‫حاليـاً‪ ،‬تنكمـش اآللـة الهوليووديـة وتفقـد احتكارهـا يف الواليـات‬
‫امل َّتحـدة‪ .‬إنهـا تسـتمر مـن أجـل إنتـاج أفلام ذات ميزانيـة ضخمـة مـن‬
‫تطـور التقنية واالنتقال‬
‫ُّ‬ ‫قبيـل سلسـلة حـرب النجـوم (‪ .)Star Wars‬غري أن‬
‫قمـي وإمكانيـة التصويـر خـارج االسـتوديوهات كلّهـا تسـمح‬
‫الر ّ‬
‫إىل النظـام َّ‬
‫للكُ َّتـاب املُسـتقلّني بجمـع األمـوال الالزمـة لتصويـر أفلام املبدعين‬
‫مبيزانيـة يف املتنـاول‪.‬‬
‫واالقتصاديـة الجديـدة إنشـاء أفلام‬
‫ّ‬ ‫تدعـم هـذه اإلمكانيـات التقنيـة‬

‫‪(1) L’Esprit du temps, Réédition Armand Colin, 2008.‬‬

‫‪38‬‬
‫عـزز أنظمـة التسـبيق مـن اإليـرادات‬ ‫املبدعين‪ .‬باإلضافـة إىل ذلـك‪ُ ،‬ت ِّ‬
‫اإلبداعـات األصليـة‪ .‬متكِّ ـن املهرجانـات أفلام املبدعين مـن العثـور عىل‬
‫موزعيهـا‪ .‬ذلـك أن العائـق أمـام نشر األفلام ال يقتصر على نظـام اإلنتـاج‬
‫الرأسمايل وال على أساسـه فقـط‪ :‬إن نظام التوزيـع الذي ال يقلّ رأسمالية‬
‫هـو الـذي يسـيطر عىل قاعـات العـرض‪ ،‬بـل ميتلكهـا‪ ،‬ويريد توزيـع األفالم‬
‫تطـور توزيـع مسـتقلّ وبشـكلٍ هامشي‬ ‫َّ‬ ‫ذات الربـح املضمـون فقـط‪ .‬كما‬
‫ميكِّ ـن‪ ،‬على املسـتوى الـدويل يف قاعـات عـرض صغيرة‪ ،‬األعمال‬
‫السـينامئية العظيمـة والجميلـة مـن أن يكـون لهـا جمهورهـا العاشـق‬
‫ُتنـور‪.‬‬
‫وامل ِّ‬
‫وهكـذا‪ ،‬يسـتمر نظـام التعـاون املُتعـارض‪ ،‬ولنقـل تحـاور الحـدود‬
‫املُتكاملـة واملُتنازعـة يف اآلن نفسـه لإلبـداع‪ /‬اإلنتـاج‪ ،‬يف أشـكالٍ جديـدة‬
‫للسـينام‪.‬‬
‫هـذا التحـاور نفسـه يسري على األغنيـة‪ ،‬وعلى موسـيقى الـروك‪،‬‬
‫وعلى املسلسلات التليفزيونيـة‪ ،‬باختصـار على جميـع الفنـون املُص َّنعة‬
‫واإلعالميـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫متنام‪ ،‬يوجـد الفَ ّن يف معركـة ‪-‬غالباً‪ -‬ما‬
‫ٍ‬ ‫مـن اآلن فصاعـداً‪ ،‬وعلى نحـ ٍو‬
‫يحتـاج فيهـا إىل تعاونٍ مع ضـده‪ :‬الربح‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ُحاضة الرابعة)‬
‫(امل َ‬

‫اإلبداع‬

‫بنـاء‪ ،‬وأحيان ًا‬


‫ً‬ ‫«املُبدعـون أكثر بدائيـةً وأكثر ثقافةً ‪ ،‬أكثر تدمير ًا وأكرث‬
‫(((‬
‫أكثر جنونـاً‪ ،‬لكنهـم قطعـ ًا أكثر ا ِّتزان ًا ِمـن اآلخرين»‬
‫فرانك بارون‬

‫اإلنسـانية‪ ،‬فقـد أبدعـت الحيـاة أشـكا ً‬


‫ال ال ُتحصى‬ ‫ّ‬ ‫مل ينشـأ اإلبـداع مـع‬
‫يتم اإلبـداع البيولوجي خالل عمليتـي التوالد واالنتخاب؛‬ ‫وحيوانيـة‪ُّ .‬‬
‫ّ‬ ‫نباتيـة‬
‫ّ‬
‫ين انطالق ًا مـن عالقة الدمـاغ‪ /‬اليد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـا‬ ‫اإلبـداع‬ ‫ويتـم‬
‫ُّ‬
‫فتـم‬
‫ال ّ‬ ‫تحدثنـا لفتر ٍة طويلـة عـن اإللهـام‪ ،‬إىل أن صـار املُصطلـح مبتـذ ً‬
‫َّ‬

‫‪(1) Franck Barron, Creativity and Psychological Health, Van Nostrand, 1963.‬‬

‫‪41‬‬
‫التخلي عنـه‪ .‬ك ّنـا عىل خطأ يف ذلك‪ ،‬يف اعتقادنا‪ ،‬ألنه ُيثري ما يشـبه نفَ سـاً‬ ‫ِّ‬
‫إما‬ ‫العبقرية ّ‬
‫ّ‬ ‫أو روحـ ًا تلـج أعماق الفَ َّنان لتهبه القـدرة اإلبداعية‪ .‬يدلّ لفـظ‬
‫وإما على القـدرة التوليديـة للفَ َّنان‪.‬‬
‫روحيـة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫على كائـنٍ أسـمى ذي طبيعـة‬
‫ينطبـق اللّفـظ اإليطـايل إينجينيـو (‪ ، )ingegno‬الـذي اسـتعمله فيكـو‬
‫(((*‬

‫خاص عىل‬ ‫ّ‬ ‫البرشي‪ ،‬وبشـكلٍ‬


‫ّ‬ ‫(‪ )Vico‬للداللـة على المَلَكـة املُن ِتجـة للعقل‬
‫اإلبداع الفَ ِّن ّي‪.‬‬
‫كبير‪ ،‬حسـب‬
‫ٌ‬ ‫رس‬
‫العبقريـة‪ٌّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫يكمـن يف اإللهـام‪ ،‬ويف اإلينجينيـو ويف‬
‫يشـك يف ذلك‬
‫ّ‬ ‫بـول كيل (‪ ،)Paul Klee‬الـذي يقـول‪« :‬يتالعب الفَ ّن دون أن‬
‫بالحقائـق املُطلقـة‪ ،‬ومـع ذلـك يبلغ إليهـا‪.(((»...‬‬
‫ٍ‬
‫كثير مـن األحيـان‪ ،‬كام هو الحـال يف الـوالدة‪ ،‬عمله‬ ‫يبـدع املُؤلِّـف يف‬
‫ٍ‬
‫مبزيـج مـن األمل والفرح‪.‬‬
‫ميكـن أن يكـون الفعـل اإلبداعـي للفَ َّنـان محـاكا ًة للواقـع‪ :‬كانـت أوىل‬
‫الر ّسـامني العظماء الذيـن يرسـمون لويـس الرابـع عشر‪ ،‬أو ملـك‬ ‫مهـام َّ‬
‫شـخصية السـيد بأمانة‪ ،‬لكـن ليرتجمـوا يحتاجون إىل‬ ‫ّ‬ ‫إسـبانيا‪ ،‬هـي ترجمة‬
‫خاص إىل‬
‫ّ‬ ‫األلـوان واألدوات‪ ،‬والتأويـل وضبـط الصـورة‪ ،‬ويحتاجـون بشـكلٍ‬
‫موهبـة املُحـاكاة التـي تسـمح لهـم بإبداع التشـابه‪.‬‬

‫اإلنسانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف تيبس‪ ،‬دار إفريقيا الرشق‪ ،‬الدار‬


‫ّ‬ ‫إنسانية‬
‫ّ‬ ‫((( * انظر تعريف هذا املُصطلح يف كتاب‪:‬‬
‫البيضاء ‪ ،2019‬ص‪ ،39 .‬الهامش ‪.2‬‬
‫يعرف أالن بونس (‪« )Alain Pons‬إينجينيو (‪ »)ingegno‬تبع ًا لج‪ .‬فيكو (‪ )G. Vico‬يف تقدميه ورشوحه لـ حياة‬
‫ج‪ .‬فيكو التي كتبها بنفسه ونصوص أخرى (‪Vie de G. Vico écrite par lui-même et autres textes,‬‬
‫‪ ).Paris, Grasset, 1981‬كاآليت‪« :‬يعرف ج‪ .‬فيكو «إينجينيو (‪ »)ingegno‬أو «إينجينيوم (‪ »)ingenium‬يف‬
‫الذهنية التي متكِّ ن من ربط‪ ،‬بطريقة رسيعة ومناسبة وناجحة‪ ،‬أشياء‬
‫ّ‬ ‫«العلة (‪ »)De ratione‬باعتباره «المَلَكة‬
‫متطورة‬
‫ِّ‬ ‫تكون‬ ‫واإلبداع‪.‬‬ ‫باالبتكار‬ ‫تسمح‬ ‫العقيم‪،‬‬ ‫التحليل‬ ‫تقابل‬ ‫ل‪،‬‬‫األو‬
‫منفصلة»‪ ،‬إنها ملكة تركيبية يف املقام ّ‬
‫التقني لدى «املهندسني»‬
‫ّ‬ ‫لالخرتاع‬ ‫وكذا‬ ‫للشعر‬ ‫رضورية‬ ‫إنها‬ ‫الخصوص‪،‬‬ ‫لدى األطفال والشباب عىل وجه‬
‫رتجم بشكلٍ دقيق ُمصطلح‬ ‫ولالكتشاف العلمي والفلسفي‪ .‬بيد أنه ال يوجد يف اللغة الفرنسية اللفظ الذي ُي ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إينجينيوم وإينجينيو»‪[ .‬املرتجم]‬
‫‪(2) Paul Klee, Théorie de l’art moderne, Gallimard, coll. «Folio», 1998.‬‬

‫‪42‬‬
‫الشامان (الكاهن) والشامانية‬

‫سـآخذ كنقطـة انطلاق اللّوحـات الصخريـة ملـا قبـل التاريـخ‪ ،‬على‬


‫سـبيل املثـال تلـك املوجـودة يف كهـف تشـوفيت (‪ ،)Chauvet‬أو تلـك‬
‫نسـخ مذهلـة مـن حيـث التشـابه‬
‫ٌ‬ ‫املوجـودة يف السـكو (‪ .)Lascaux‬إنهـا‬
‫مـع الحيوانـات‪ :‬املامـوث والخيـول والثدييـات الهرانيـة‪.‬‬
‫خاصـة بالصيد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫طقـوس‬ ‫لقـد حاولنـا فهـم وظيفتهـا من خلال افرتاض‬
‫وتسـاءلنا عـن ف ّنـاين مـا قبل التاريـخ‪ .‬يعتقد البعـض أنهم كانوا شـامانيني‬
‫(سـحرة)‪ ،‬لكـن ما هي الشـامانية؟‬
‫كونيـة يف جميـع املجتمعـات القدميـة‪ ،‬سـواء‬
‫ّ‬ ‫خاصيـة‬
‫ّ‬ ‫إن الشـامانية‬
‫وربـا يف أوروبـا‪ ،‬حيـث كان ُيطلـق عليهـم‬
‫يف سـيبرييا أو أميركا أو آسـيا‪َّ ،‬‬
‫اسـم السـحرة أو الكهنـة‪ .‬كان الشـامان موجـود ًا بالتأكيـد يف مجتمعـات‬
‫اإلنسـان العاقـل ملـا قبـل التاريـخ‪.‬‬
‫حالـة مـن النشـوة‪ ،‬يسـهل عليهم ذلك باسـتعامل‬ ‫ٍ‬ ‫يدخـل الشـامان يف‬
‫مما ميكِّ نهـم مـن التواصـل مـع األرواح التـي تحكـم‬
‫مرشوبـات مهلوِسـة‪ّ .‬‬
‫الطبيعـة‪ ،‬وأحيانـ ًا يتواصلـون بشـكلٍ مبـارش مـع عـامل النبـات أو الحيـوان‪.‬‬
‫افترض عامل األنرثوبولوجيا الكنـدي جريميي ناريب (‪)Jeremy Narby‬‬
‫الكونيـة الوحيدة املوجـودة لدى‬
‫ّ‬ ‫أن الشـامان يتواصلـون مـن خلال اللّغـة‬
‫الحية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫البشر والنباتـات والحيوانات وديـدان األرض ولدى جميـع الكائنات‬
‫أي لغـة الحمـض النـووي (‪ ،)ADN‬الذي يحتوي عىل املعرفـة الوراثية لكلّ‬
‫كائـن حي‪.‬‬
‫لإلنسـانية القدميـة‪ .‬كانت‬
‫ّ‬ ‫شـك معلِّمـون‬
‫ّ‬ ‫كان مثـل هـؤالء الشـامان بال‬
‫معرفيـة وكانـوا معالجين غير عاديين‪ .‬إذا فكّ رنـا يف نباتـات‬
‫ّ‬ ‫لديهـم قـوى‬
‫تبين لنـا أنه ال ميكـن أن تكون الصدفـة وحدها‬‫األمـازون املورقـة والوفـرة‪َّ ،‬‬
‫هـي التـي قـادت إىل االختيـار بين النباتـات الصالحـة للأكل والنباتـات‬
‫السامة‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫كان هنـود بويبلـو (‪ )Pueblos‬يف املكسـيك يتغـذون فقـط على الذرة‪،‬‬
‫الخاصـة يف طبخهـا‪ ،‬مـع لحـاء األشـجار أو‬ ‫ّ‬ ‫وكانـت لـكلّ قريـة طريقتهـا‬
‫الحجـر الجيري‪ ،‬أو غريهـا مـن املنتجات‪ .‬ربـط علماء األنرثوبولوجيا هذه‬
‫السـحرية‪ ،‬إىل أن أظهر عـامل بيوأنرثوبولوجيا أنه‬
‫ّ‬ ‫املامرسـات باملعتقدات‬
‫ُكونات املسـاعدة‪ ،‬فلن يتمكَّ ن‬ ‫أي من هـذه امل ِّ‬
‫تـم طهـي الـذرة مـن دون ٍّ‬
‫إذا ّ‬
‫ُغـذي يف الذرة‪،‬‬‫البشري من دمج الليسين (‪ ،)lysine‬العنرص امل ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الجسـم‬
‫(((‬ ‫ِ‬
‫باملوت جوعـ ًا ‪ .‬وعليـه‪ ،‬أعتقد أن الشـامان‬ ‫وسـيحكَ م على هـذه السـاكنة‬
‫ُ‬
‫هو الذي متكَّ ن‪ ،‬يف كلّ قرية‪ ،‬من تعليم الطريقة املُغذِّ ية لطهي الذرة‪.‬‬
‫ـن رسـم جـدران السـكو‪ ..‬الشـامان أم الفَ َّنانـون؟ جوايب هو‪ :‬الشـامان‬ ‫َم ْ‬
‫والفَ َّنانـون‪ ،‬إنهـم ف َّنانون ألنهم شـامان‪.‬‬
‫كيـف؟ عـن طريـق قـدرة املحـاكاة على خلـق التشـابه مـع الحيوانـات‬
‫ٍ‬
‫كهف‬ ‫الر ّسـامني ال يضعون املامـوث أمامهم يف‬ ‫دون رؤيـة منوذجهم ‪-‬ألن َّ‬
‫الذهنيـة‪ .‬إننـا أمـام قـدرة محـاكاة للحالـة‬
‫ّ‬ ‫مظلـم‪ ،-‬وانطالقـ ًا مـن التمثُّلات‬
‫النفسـية تفترض حالـة ثانيـة أسـميها «نصـف النشـوة»‪ ،‬حيـث يتعـاون‬ ‫ّ‬
‫الوعـي والالوعـي‪.‬‬
‫التامثليـة ال تنفصـل عـن عمليـة‬
‫ّ‬ ‫الذهنيـة‬
‫ّ‬ ‫يجـب أن نالحـظ أن العمليـة‬
‫العمليـة‬
‫ّ‬ ‫التامثليـة تسـمح باملحـاكاة التـي تجعـل‬
‫ّ‬ ‫املُحـاكاة‪ :‬فالقـدر ُة‬
‫التامثليـة ممكنـة‪.‬‬
‫ّ‬

‫ال َف َّنان باعتباره ما بعد الشامان‬


‫ٍ‬
‫حالة أخرى‬ ‫يتوفَّـر الفَ َّنـان الشـامان‪ ،‬بامل ِ‬
‫ُخـدرات أو من دونها‪ ،‬لكـن يف‬
‫مـن اإللهـام أو نصـف النشـوة‪ ،‬على طريقـة معرفـة مامثلـة متكِّ ـن قـدرة‬

‫‪(1) S. Katz, « Anthropologie et biologie», in Edgar Morin et Massimo Piatelli-Palmarini‬‬


‫‪(dir.), L’Unité de l’homme, Seuil, 1974.‬‬

‫‪44‬‬
‫التقمـص‬
‫ُّ‬ ‫املُحـاكاة مـن نسـخ حيـوان بشـكلٍ مثير لإلعجـاب عـن طريـق‬
‫النفيس‪ ،‬وميكننا أن نفرتض‬
‫ّ‬ ‫النفسي‪ ،‬بـل ميكنني القول عن طريق التملُّـك‬
‫ّ‬
‫الر ّسـامني يف‬
‫َّ‬ ‫حـال‬ ‫هـو‬ ‫كما‬ ‫النشـوة‪،‬‬ ‫نصـف‬ ‫أو‬ ‫للنشـوة‬ ‫الثانيـة‬ ‫الحالـة‬ ‫أن‬
‫واع‪.‬‬
‫ـم ٍ‬‫الحضـارات الالحقـة‪ ،‬تكـون مصحوبـة بتحكُّ ٍ‬
‫الر ّسـامني مـا بعـد شـامانيني‪ ،‬برتكيـز‬‫ميكننـي القـول مبعنـى مـا‪ :‬كلّ َّ‬
‫قواهـم على ف ّنهـم‪ ،‬وامتالكهـم ملوهبـة خلـق تعـاون بين حالة نشـوة غري‬
‫متشـنجة أو نصـف نشـوة والتنظيـم والتصحيـح اللذيـن يحققهما الوعـي‬
‫فطريات من‬
‫ّ‬ ‫اليقـظ‪ .‬كان الشـامان يتناولـون مرشوبـ ًا مهلوسـ ًا أو ميضغـون‬
‫قبيـل البيوتـل (‪ )peyotl‬للدخـول يف نشـوة‪ .‬ميكـن للفَ َّنـان تنـاول األدويـة‬
‫املختلفـة للحصـول على اإللهـام‪.‬‬
‫ُخـدرات يف املقهى‪ .‬اسـتطاع كُ َّتـاب مثل أندريه‬ ‫كان بلـزاك يتعاطـى امل ِ‬
‫مالـرو (‪ )André Malraux‬أو روجـي فايان (‪ )Roger Vailland‬أن يتناولوا‬
‫الكوكايين ليضعـوا أنفسـهم يف حالـة اإلبـداع على وجـه التحديـد‪ .‬لفترة‬
‫ـس أرتشـفه مينحنـي‬ ‫طويلـة كُ نـت أدخـن أثنـاء الكتابـة‪ ،‬كما لـو أن كلّ نَفَ ٍ‬
‫ٍ‬
‫ناحيـة‪ ،‬واملاريجوانا‬ ‫اإللهـام‪ .‬إن الفصـل تعسـفي بني الكحـول والتبغ مـن‬
‫يـؤدي إىل تهييـج قـوى‬ ‫ناحيـة أخـرى‪ .‬إن الكحـول مهيـج‪ِّ :‬‬‫ٍ‬ ‫والكوكايين مـن‬
‫العقـل الباطن ‪.‬‬
‫(((‬

‫حالة ثانيـة من ِ‬
‫الغبطة أو‬ ‫ٍ‬ ‫اإلنسـانية العقاقري لبلوغ‬
‫ّ‬ ‫لطاملـا اسـتخدمت‬
‫اإلثـارة‪ ،‬ومـن املُثير لالهتمام أن الفَ َّنان‪ ،‬املُبدع‪ ،‬يسـتخدم هذه الوسـائل‬
‫إلنتـاج أعامله‪.‬‬
‫نصف النشـو ِة للشـامان بخلق‬ ‫ُ‬ ‫حالة النشـو ِة غري املُتشـ ِّنجة أو‬
‫ُ‬ ‫سـمحت‬
‫سـحري‪ ،‬أصبـح بالنسـبة إلينـا تحفـةً ف ِّن ّيـة‪ .‬مينـح‬
‫ّ‬ ‫عمـلٍ رمـزي ذي طابـع‬
‫النفسي املوهبـة‪ ،‬كما رأينـا‪ ،‬إلعـادة إنتـاج كلّ شـكلٍ‬ ‫ّ‬ ‫التقمـص أو التملُّـك‬
‫ُّ‬
‫ين على نحـ ٍو مثير لإلعجاب‪.‬‬ ‫حيـواين وإنسـا ّ‬

‫حد ذاتها من اإلدمان عندما يصبح املرء عبد ًا للحاجة‪.‬‬ ‫((( تكون امل ِ‬
‫ُخدرات أقلّ رضر ًا يف ِّ‬

‫‪45‬‬
‫جربتهـا عندمـا التحقت‬ ‫تتواصـل حـاالت نصـف النشـوة والتملُّـك‪ :‬لقـد َّ‬
‫بطائفـة كاندامبلي (‪ )candomblé‬يف فورتاليـزا (‪ )Fortalezza‬بالربازيل‪.‬‬
‫سـتمدة مـن ديـن ياروبـا (‪( )Yaroubas‬الشـعب‬ ‫َّ‬ ‫إن الكاندامبلي عبـادة ُم‬
‫قـداس‬
‫ُسـتعبد فيهـا)‪ ،‬تتكافـل مـع َّ‬
‫َ‬ ‫ُرحـل إىل الربازيـل وامل‬ ‫اإلفريقـي امل َّ‬
‫عاديـ ًا تقريبـاً؛ خلال‬
‫ّ‬ ‫قداسـ ًا‬
‫األول مـن الحفـل َّ‬ ‫كاثوليكي‪ .‬ميثـل الجـزء ّ‬
‫العبقريـة يك‬
‫ّ‬ ‫سـتدعى األوريشـا (‪ ،)orishas‬أي اآللهـة‬ ‫َ‬ ‫الجـزء الثـاين‪ُ ،‬ت‬
‫يتجسـدوا يف املؤمنين‪ .‬نرقـص ونغنـي باهتيـاج متزايد فتحرض األوريشـا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫شـخص يرقص‪ ،‬والـذي ُيتلَك فجـأة‪ ،‬فيفقد صوته‬ ‫ٍ‬ ‫يتجسـد واحـد منهـا يف‬‫َّ‬
‫ويتحـدث بصـوت األوريشـا‪.‬‬‫َّ‬
‫تحـدث ميشـيل لرييـس (‪ )Michel Leiris‬عـن حالـة نصـف متلُّـك يف‬ ‫َّ‬
‫سـحرية(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دينية‬ ‫وظيفة‬ ‫ذات‬ ‫مرسحيـة‬ ‫أداء‬ ‫أثنـاء‬ ‫إثيوبيـا‪،‬‬ ‫يف‬ ‫ِّلين‬
‫ث‬ ‫مم‬ ‫فرقـة‬
‫متثـل ظواهـر التملُّـك بين اإلثيوبيين يف غونـدار (‪ )Gondar‬الذين اسـتولت‬
‫عليهـم األرواح املعروفـة باسـم الـزارات (‪ )zars‬صفـات متناقضـة‪ .‬قد تكون‬
‫الكالسـيكية‪ ،‬لكنهـا تنفتـح أيضـاً‪ ،‬يف منتصـف الطريـق‪،‬‬‫ّ‬ ‫مرتبطـة بالشـامانية‬
‫العمليـة واللعـب املرسحـي‪ .‬وفقـ ًا لسـاحرة‬ ‫ّ‬ ‫على حالـة مـا بين الحيـاة‬
‫مشـهورة لـدى املُؤلِّـف‪ ،‬أثنـاء إقامتـه يف إثيوبيا‪« ،‬كانـت زاراتها تشـكِّل نوع ًا‬
‫الشـخصيات التـي ميكـن أن تأخذهـا وفقـ ًا لضرورات وجودهـا‬ ‫ّ‬ ‫مـن غرفـة‬
‫تقـدم لها السـلوكات واملواقـف الجاهزة‪،‬‬ ‫شـخصيات ِّ‬‫ّ‬ ‫اليومـي وفرصهـا‪ ،‬إنهـا‬
‫يف منتصـف الطريـق بين الحياة واملسرح»‪ .‬إن هذا الطابـع األخري هو الذي‬
‫خـاص‪ .‬هـذه الحالـة املختلطـة توضـح‬ ‫ّ‬ ‫لفـت انتبـاه ميشـيل لرييـس بشـكلٍ‬
‫ال مـن املُحـاكاة والتملُّـك‪ .‬إنـه مزيـج من «املسرح املُعـاش» و«املرسح‬ ‫ك ً‬
‫ُؤدى»‪ُ .‬يشير املُؤلِّف إىل اللحظة التي ينتج فيها امتالك الزار سكيتشـات‬ ‫امل َ‬
‫هزليـة حقيقيـة قائلاً ‪« :‬يتـم تنظيـم كوميديـا​​بتواطـؤ الجميع حول الشـخص‬
‫األول ويصبـح نوع ًا مـن صانع األلعاب»‪ .‬يبـدو أن متلُّك‬ ‫الـذي يعطـي الدافـع ّ‬
‫التخصـص يف‬ ‫ُّ‬ ‫الـزار‪ ،‬عنـد االنتقـال مـن املسرح إىل املدينـة‪ ،‬ي ّتخـذ طابـع‬

‫‪(1) Michel Leiris, La Possession et ses aspects théâtraux chez les Éthiopiens de Gondar,‬‬
‫‪Pion, 1958.‬‬

‫‪46‬‬
‫أهم ّية من املسرح املُعاش‪.‬‬
‫ُـؤدى يصبـح أكثر ِّ‬
‫األخويـات‪ ،‬وأن املسرح امل َ‬
‫النـص األسـايس للرييـس ك ً‬
‫ال مـن اال ِّتصـال واالنفصـال بني‬ ‫ّ‬ ‫يحـدد هـذا‬
‫ِّ‬
‫التملُّـك السـحري الدينـي مـن ِقبـل الـزارات التي «ميكـن ربطها بالشـامانية‬
‫ين» للممثِّـل الـذي‪ ،‬ال ُيشير لرييـس إىل‬ ‫«العلما ّ‬
‫َ‬ ‫الكالسـيكية» واللعـب‬
‫ّ‬
‫ذلـك‪ ،‬يكـون يف حالـة مـن التمثيـل الصامـت‪ ،‬أي مملـوك ًا ليـس مـن ِقبـل‬
‫يجسـدها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الشـخصية التـي‬
‫ّ‬ ‫إلـه‪ ،‬بـل مـن ِقبـل‬
‫روح أو ٍ‬
‫ٍ‬
‫شـاباً‪ ،‬أنجـزت رسـومات‬
‫ّ‬ ‫أدعـي أننـي ف َّنـان‪ ،‬لكـن عندمـا كنـت‬
‫ال ّ‬
‫كاريكاتوريـة ملعلِّمـي ورفاقـي ورفيقتـي‪ ،‬وكانـت هـذه الرسـوم مشـابهةً‬
‫متامـاً ‪ .‬يف حني رسـمتها مـن ذهني‪ .‬إذا نظرت إىل منوذجـي‪ ،‬وتقصيت أنفه‬
‫ليـدي بشـكلٍ نصف‬
‫ّ‬ ‫التشـابه‪ ،‬يف حين إذا أطلقـت العنـان‬
‫ُ‬ ‫وعينيـه‪ ،‬جانبـت‬
‫واع‪ ،‬نجحـت يف رسـمه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قادتنـي هـذه املُحاكاة إىل مجالٍ آجر‪ :‬قلَّدت أصوات بعض األشـخاص‪،‬‬
‫وخاصـة صوت أسـتاذي جورج فريدمـان (‪ .)Georges Friedmann‬أحببت‬ ‫ّ‬
‫تقليـده والقيـام بذلـك طـوالِ الوقـت‪ .‬كنـت بطريقـة أو بأخـرى مسـكوناً‪،‬‬
‫لكـن املثير يف األمـر أنـه عندمـا قلَّدتـه‪ ،‬مل أُقلِّـد صوتـه فقـط‪ ،‬عندمـا‬
‫تقمصتـه كما‬
‫قلَّـدت صوتـه‪ ،‬كنـت بداخلـه‪ ،‬ويف مشـاعره‪ ،‬إذ فكَّـرت مثلـه‪َّ .‬‬
‫شـخصية يجـب أن يلعبها‪ ،‬لكـن يف هذه الحالـة‪ ،‬كانت هذه‬‫ّ‬ ‫يتقمـص ممثِّـل‬
‫َّ‬
‫الشـخصية حقيقيـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫النفسـية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جعلتنـي هـذه التجربـة الصغيرة أفهـم دور املُحـاكاة‬
‫املُرتبطـة بالحالـة الثانية‪ ،‬لـدى املُقلِّد واملُمثِّل معاً‪ .‬كانـت هذه املُحاكاة‬
‫الصغيرة‪ ،‬التـي دفعتنـي إىل الدخـول إليـه وجعلتـه يدخلنـي‪ ،‬يف الواقـع‬
‫حالـة نصـف نشـوة وشـبه متلُّـك‪.‬‬
‫متطرفتين‪ ،‬بل حالتين مألوفتني يف‬
‫ِّ‬ ‫ال ُي َع ُّـد التمثيـل والتملُّـك حالتين‬
‫اإلبـداع الفَ ِّن ّـي واملشـاركات وإثـارات حيواتنا معاً‪.‬‬
‫إلهـام ثانيـة‪ ،‬نوع من‬
‫ٍ‬ ‫متغير ًا بين حالـة‬
‫ِّ‬ ‫ـي تعاونـ ًا‬
‫إبـداع ف ّن ّ‬
‫ٍ‬ ‫يتضمـن كلّ‬
‫َّ‬
‫دون ذلـك فيكتـور‬ ‫النشـوة املُخفَّفـة‪ ،‬أو نصـف النشـوة‪ ،‬والحالـة الواعيـة‪َّ .‬‬

‫‪47‬‬
‫سيرج (‪ ،)Victor Serge‬وهـو ثـوري وكا ِتـب‪ ،‬يف دفاتـر مالحظاتـه‪« :‬إِ ّن‬
‫ٍ‬
‫واضحـة ونشـوة(((»‪.‬‬ ‫ـي عمـلُ إراد ٍة‬ ‫العمـلَ‬
‫الفَ ِّن ّ‬
‫ميكننـا أن نقـول إن نصـف النشـوة هـي حالـة الفَ َّنـان التـي تسـمح لـه‬
‫باسـتخدام ‪-‬يف الوقـت نفسـه‪ -‬القـوى الالواعيـة والواعيـة لعقلـه‪.‬‬
‫الر ّسـام يشـعر بحالة نصف نشـوة ونصف‬‫إذا أخذنـا حالـة الصورة‪ ،‬نجد َّ‬
‫متلُّـك مـن ِقبـل الشـخص الـذي ميثله‪ .‬خلال هـذه الحالـة‪ ،‬ميكن َّ‬
‫للر ّسـام‬
‫وسـيعدل‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫أن ينجـز العمـل‪ ،‬وعـن طريق التحكُّ م الواعي‪ :‬سـيصحح‬
‫يشء ينبـع من أعماق املوجود‪ .‬شـعر‬ ‫ٍ‬ ‫إنـه تعـاون الوعـي الصـايف مـع‬
‫سيرجي أيزنشـتاين (‪ ،)Sergueï Eisenstein‬املُخرج السـيناميئ الكبري‪،‬‬
‫مجـرد نكـوص ُمصط َنـع‪ ،‬يف مجـال علم‬ ‫َّ‬ ‫ـن‬
‫جيـد وقـال‪« :‬أليـس الفَ ّ‬ ‫بشـعو ٍر ّ‬
‫النفـس‪ ،‬إىل أشـكال الفكـر البـدايئ‪ ،‬بعبـار ٍة أخـرى إنـه ظاهـرة مامثلـة ملـا‬
‫خـدر مـا‪ ،‬أو املرشوبـات الكحوليـة‪ ،‬أو السـحر‪ ،‬أو التمذهـب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫يحدثـه ُم‬
‫إلـخ؟ اإلجابـة عـن هـذا السـؤال بسـيطة ومثيرة لالهتمام للغايـة‪ .‬مفادهـا‬
‫جـداً‪ .‬يؤ ِّثر فينا‬
‫ـي مبنيـة على «وحـدة ثنائية» غريبـة ّ‬ ‫أن جدليـة العمـل الفَ ِّن ّ‬
‫ـي على وجه التحديـد‪ ،‬ألن فيه يتم إنجـاز عملية ثنائيـة‪ :‬ارتفاع‬ ‫العمـل الفَ ِّن ّ‬
‫غير متناسـب وفق ًا ألعىل مسـتويات الوعـي‪ ،‬والولوج املتزامـن‪ ،‬عن طريق‬
‫جـد ًا للفكـر الحيس»‪.‬‬
‫الشـكل‪ ،‬يف الطبقـات الباطنيـة ّ‬
‫وأعتقـد أن الحالـة الثانيـة‪ ،‬املُحـاكاة‪ ،‬ونصف النشـوة‪ ،‬ونصـف التملُّك‬
‫الر ّسـم والروايـة واملوسـيقى وجميـع الفنون‪.‬‬
‫حـارضة يف َّ‬
‫ٍ‬
‫لتحـد يضعـه‬ ‫ميكـن لإلبـداع أن يسـتغلّ الصدفـة ويسـتجيب ‪-‬غالبـاً‪-‬‬
‫املُؤلِّـف لنفسـه‪ ،‬لكنـه يكـون دامئـ ًا مزيجـ ًا مـن نشـاط مـا بعـد شـاماين أو‬
‫ويحسـن‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫صحـح ويتحكَّ ـم‬ ‫واع ُي ِّ‬
‫شـبه شـاماين‪ ،‬ونشـاط ٍ‬
‫على سـبيل املثـال‪ ،‬عندمـا كنـت صغيراً‪ ،‬كتبـت قصائـد‪ .‬اآلن أدرك‬

‫‪(1) Victor Serge, Carnets ( 19361947-), Agone, coll.« Mémoires sociale», Marseille, 2012.‬‬

‫‪48‬‬
‫بتصـوري ما بعـد الشـاماين‪ ،‬أنني كنت‬
‫ُّ‬ ‫جيـداً‪ ،‬بشـكلٍ اسـتذكاري‪ ،‬مسـتنري ًا‬‫ّ‬
‫سـمى اإللهـام‪ ،‬يف حالـة نشـوة حلـوة‪ ،‬وأنـه مـن دون هذه‬ ‫َّ‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ثانيـة‬ ‫ٍ‬
‫حالـة‬ ‫يف‬
‫الحالـة الثانيـة‪ ،‬مل يكـن مبسـتطاعي كتابـة قصائـد‪ .‬أضيـف إىل ذلـك أن‬
‫قيـود القـوايف أو عـدد املقاطـع تزيـد مـن تحفيز اإللهـام والـدور التعاوين‬
‫للنشـاط الواعـي معـاً‪.‬‬
‫علاوة على ذلـك‪ ،‬يجـب أن أقـول إنـه عندمـا كنـت أكتـب املنهـج (‪La‬‬
‫‪ ،)Méthode‬شـعرت أثنـاء الكتابـة بحالـة نصـف امتلاك ومتعـة إنجـاب‬
‫ممزوجـة بـاألمل‪ .‬وهـذا يعنـي أننـي كنـت أدفعـه بقـوة وأتركـه يتولَّـد‪،‬‬
‫لكنهـا والدة متواصلـة‪ ،‬يومـ ًا بعـد يـوم‪ .‬الجـئ يف توسـكانا (‪)Toscane‬‬
‫البحريـة‪ ،‬يف قلعـة معزولـة مخربة جزئيـاً‪ ،‬كاستيغليونسـيلو دي بولغريي‬
‫(‪ ،)Castiglioncello di Bolgheri‬رشعـت يف العمـل بلا كلـل مـن‬
‫بنزهـة سير ًا على األقـدام حسـب رغبتـي‪:‬‬‫ٍ‬ ‫الصبـاح إىل الليـل‪ ،‬أحيانـ ًا أقـوم‬
‫اسـتطعت ح ّقـ ًا الكتابـة يف حالـة ثانيـة تحفِّـزين‪ ،‬بطبيعـة الحـال‪ ،‬املناظر‬
‫الطبيعيـة الرائعـة وحضـور املحبـوب الـذي جـاء للحفـاظ على االحتراق‬
‫يل لإللهـام‪ .‬مـا اإللهـام؟ إنه‬
‫الداخلي لفـرن االنفجـار‪ ،‬الضروري بالنسـبة إ ّ‬
‫يكـن من الضروري أن تكون متملِّـك ًا للرشوع‬‫ْ‬ ‫مل‬
‫مينحنـا النشـوة والتملُّـك‪ .‬أ ْ‬
‫عمـل مل يؤمـن بـه أحـد‪ ،‬والـذي مل يظـن أحـد أننـي قـادر عليـه‪ ،‬والـذي‬ ‫يف ٍ‬
‫كنـت أعلـم أنـه سـيبقى على هامـش ثقافتنـا؟‬
‫ال أرى يف الحـاالت اإلبداعيـة منتجـات ثانويـة للشـامانية‪ ،‬بـل تـركات‬
‫مخفَّفـة‪ .‬وفَّـرت الشـامانية بشـكلٍ متنـا ٍه وسـيلة الولـوج إىل الالمـريئ‪ ،‬إىل‬
‫العـامل اآلخر‪ ،‬عامل األرواح بالنسـبة إىل الشـامان‪ ،‬والـذي صار اليوم عامل‬
‫العقـل بالنسـبة إىل الفَ َّنـان أو املُؤلِّـف‪.‬‬
‫ترسـخت الشـامانية والسحر عىل هذا النحو يف العامل امل ِ‬
‫ُعاص‪ .‬إنهام‬ ‫َّ‬
‫والجامليات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـن‬
‫ّ‬ ‫الفَ‬ ‫يف‬ ‫كبير‬ ‫حـد‬
‫ٍّ‬ ‫إىل‬ ‫حارضيـن‬ ‫يـزاالن‬ ‫ال‬ ‫لكنهما‬ ‫َّفـان‪،‬‬
‫مخف‬
‫عندمـا نقـول سـحر الكلمـة‪ ،‬تعويـذة الشـعر‪ ،‬فـإن هـذه الكلمات ترتجـم‬
‫الخفي للسـحر والشـامانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوجـود‬
‫ميكننـا أن نجـد يف هـذه الكلمات ‪-‬عبقريـة‪ ،‬إلهـام‪ -‬إرادة التعبير عـن‬

‫‪49‬‬
‫ٍ‬
‫«يشء مـا ال أدري مـا هـو» (‪ ،)je-ne-sais-quoi‬الـذي يـأيت مـن قدرة عىل‬
‫ٍ‬
‫واحـد م ّنـا‪ ،‬والـذي سـيتمكن مـن‬ ‫محـاكاة نصـف النشـوة الكامـن يف كلّ‬
‫ومبدعين‪.‬‬ ‫تفعيلـه أولئـك الذيـن يصبحـون ف َّنانين ُ‬
‫تسـود الحـاالت الثانيـة‪ ،‬أي نصـف النشـوة‪ ،‬ونصـف التملُّـك‪ ،‬ونصـف‬
‫التعجـب والتم ُّتـع‪ ،‬ومـا قبـل‬
‫ُّ‬ ‫املتوسـطة أو شـبه املتوسـطة‪ ،‬وحـاالت‬
‫ـي‪ ،‬واالنفعـال الجمايلّ‪.‬‬
‫النشـوة‪ ،‬داخـل اإلبـداع الفَ ِّن ّ‬
‫متفرج هـو دامئ ًا حالة‬
‫ِّ‬ ‫يل الـذي نشـعر به كقـارئ أو‬
‫إن االنفعـال الجما ّ‬
‫ثانيـة مـن التملُّـك اللطيـف‪ ،‬ومحـاكاة لطيفـة ال ندركهـا يف بعـض األحيـان‬
‫البتـة‪ ،‬على الرغـم من أنهـا موجـودة فينا‪.‬‬
‫بعبـارة أخـرى‪ ،‬إن االبتهـاج الـذي ينتابنـا أمـام الطبيعـة وأمـام غـروب‬
‫شـعرية‬
‫ّ‬ ‫الشـمس الجميـل وتحـت قبـو كنيسـة سيسـتني‪ ،‬ينقلنا إىل حالة‬
‫فتتحـول إىل جاذبية‪ ،‬ونصف‬
‫َّ‬ ‫تتضخـم هذه الحالـة الثانية‬
‫َّ‬ ‫ثانيـة‪ .‬ميكـن أن‬
‫وربـا تقودنا يف الـذروة إىل حدود الوجـد‪ ،‬مثلام حدث يل‬ ‫متلُّـك وإثـارة‪َّ ،‬‬
‫خلال التنفيذ املُتسـامي لــسيمفونية العـامل الجديـد (‪la Symphonie‬‬
‫‪ )du Nouveau Monde‬مـن ِقبـل كالوديـو أبـادو (‪)Claudio Abbado‬‬
‫يف أوبـرا بالريمو‪.‬‬
‫أهـم يشء يف الحيـاة‪ ،‬بالنسـبة إلينـا‪ ،‬هـو بالتحديـد مـا‬‫ّ‬ ‫أعتقـد أن‬
‫حـد ذاتهـا التجربـة‬
‫تضـم يف ِّ‬
‫ّ‬ ‫الشـعرية التـي‬
‫ّ‬ ‫أجمعـه تحـت اسـم الحالـة‬
‫الجامليـة وتتجاوزهـا‪.‬‬
‫ّ‬

‫همة ال َف َّنان‬
‫ُم َّ‬
‫إذا كان الشـامان هو الشـخص الذي ميتلك املعرفة األعمق واألصدق‪،‬‬
‫عم إذا كانت‬
‫وإذا كان النبـي هـو الذي يديـن وينبئ‪ ،‬فبمقدورنا أن نتسـاءل ّ‬
‫مهمتهما مل ُتبعـث بشـكلٍ مشترك منـذ عصر التنويـر بشـكلٍ جديـد لـدى‬ ‫َّ‬
‫بعض الفَ َّنانين والكُ َّتاب‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫يشـعر فولتير (‪ )Voltaire‬وديـدرو (‪ )Diderot‬وروسـو (‪)Rousseau‬‬
‫وجوته (‪ )Goethe‬وتولسـتوي (‪ )Tolstoï‬ودوستويفسكي (‪)Dostoïevski‬‬
‫مهمـة تتجـاوز األدب وتتعلَّـق مبصير اإلنسـان‪ .‬إنهـم‬ ‫بأنهـم منخرطـون يف َّ‬
‫تحـول فيكتـور هوغـو (‪)Victor Hugo‬‬ ‫ّ‬ ‫االجتامعيـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف حالـة مـن النبـوءة‬
‫خلال الشـيخوخة إىل شـاماين‪ .‬يكشـف مـن خلال شـعره وأعاملـه عـن‬
‫البرشيـة جمعـاء‪ :‬رسـول‬‫ّ‬ ‫رسـالة‪ ،‬ليـس بالنسـبة إىل فرنسـا فقـط‪ ،‬بـل إىل‬
‫الحر ّيـة‪ ،‬يختـار املنفـى يك ال ُيعـاين مـن الطغيـان الـذي يدينـه يف ديوانه‪:‬‬ ‫ّ‬
‫العقابـات (‪ .)Les Châtiments‬ثـم سـيتدخل يف البلديـة‪ ،‬مـن أجـل‬
‫كسـيايس‪ ،‬بـل باعتباره شـامان ًا‬
‫ّ‬ ‫سياسـي ًا ليـس‬
‫ّ‬ ‫الجمهوريـة‪ .‬إنـه يلعـب دور ًا‬
‫ومتنبئـ ًا جديـداً‪ .‬أعتقـد أن مـا أطلـق عليـه يف القـرن العرشيـن‬ ‫ِّ‬ ‫جديـد ًا‬
‫ُهمة التي تأخـذ ُبعد ًا ما‬
‫«التـزام» الكُ َّتـاب والفَ َّنانين يتوافـق مـع الوعـي بامل َّ‬
‫بعـد شـاماين ومـا بعـد النبـوة‪.‬‬
‫كان إميـل زوال (‪ )Émile Zola‬روائيـ ًا خالصاً‪ .‬أصبح فجأة من خالل قضية‬
‫متحدثـا باسـم الحقيقـة والعدالـة‪ .‬منـذ بدايـة الحرب‬
‫ِّ‬ ‫درايفـوس (‪)Dreyfus‬‬
‫ندد الكا ِتـب رومان روالنـد (‪،)Romain Rolland‬‬ ‫العامليـة األوىل وطوالهـا‪َّ ،‬‬
‫مؤلِّـف كتاب جان كريسـتوف (‪ )Jean-Christophe‬املنسي للغاية‪ ،‬بالنزاع‬
‫مما أكسـبه لعنـة كال الجانبين‪ ،‬لكـن جعلـه أيض ًا لسـان حال‬ ‫بين األشـقاء‪ّ ،‬‬
‫الحكمـة العظيـم ملـدة أربع سـنوات مـن جرائم القتـل الهائلة‪.‬‬
‫عامة‬
‫اعتقـد الكثير مـن الفَ َّنانين والكُ َّتـاب ويعتقـدون أن لديهم رسـالة ّ‬
‫ـن‪ ،‬بالنسـبة‬
‫عليهـم إعالنهـا مـن دون أن يكونـوا سياسـيني محرتفين‪ .‬فالفَ ّ‬
‫مجـرد متعـة جاملية‪ ،‬بـل عليـه أن يلعـب دور ًا يف املجتمع‪.‬‬‫َّ‬ ‫إليهـم‪ ،‬ليـس‬
‫الشـخصية العظيمـة يف املجتمـع القديـم‪ ،‬القائد‪،‬‬‫ّ‬ ‫مل يكـن الشـامان‪،‬‬
‫تكـن لديـه سـلطة على شـعبه‪ ،‬لكـن كانـت لـه مكانـة أعلى‪ .‬إن الفَ َّنان‬ ‫ومل ْ‬
‫امللتـزم حاليـاً‪ ،‬علاوة على أنـه مشـهور ومثير لإلعجـاب‪ ،‬وريث على نحو‬
‫وللمتنبـئ التـورايت أيضاً‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫مـا للشـامان‪،‬‬

‫‪51‬‬
‫ُحاضة الخامسة)‬
‫(امل َ‬

‫نشوات الحياة وفرتات الحياة‬

‫الظـلّ والقريـن على شاشـة بيضـاء يف غرفـة‬‫تتوحـد هيبـة ِ‬


‫َّ‬ ‫«عندمـا‬
‫ِ‬
‫ُشـاهد املُنغلـق يف زنزانتـه‪ ،‬كأنـه مونـادا‬‫مظلمـة‪ ،‬بالنسـبة إىل امل‬
‫(‪ )monade‬منغلقـة أمـام كلّ يشء عـدا الشاشـة‪ ،‬ملفوفـة يف املشـيمة‬
‫املزدوجـة ملجتمـع مجهـول وللظالم‪ ،‬عندما تنسـد قنـوات الحركة‪ ،‬تنفتح‬
‫أقفـال األسـطورة والحلـم والسـحر»(((‪.‬‬

‫سحر االزدواجية‬
‫ُ‬
‫ألهمتنـي كثير ًا فكـرة يف كتـايب عـن املوت وعـن السـينام(((‪ ،‬مفادها أن‬
‫الصـورة واالنعـكاس والصـورة الشـخصية واملناظـر الطبيعيـة املرسـومة‪،‬‬

‫‪(1) Edgar Morin, Le Cinéma ou l’homme imaginaire, Essai d’anthropologie, Editions de‬‬
‫‪Minuit, coll. «Arguments», 1958.‬‬
‫‪(2) L’Homme et la mort, Seuil, coll. «Points», 1976 et Le Cinéma ou l’homme imaginaire,‬‬
‫‪op. cit.‬‬

‫‪53‬‬
‫والحقـاً ‪ ،‬الصـورة والفيلـم يحملـون يف ذاتهـم «يشء مـا ال أدري مـا‬
‫توحـد الصـورة أو الصـورة‬
‫هـو»‪ ،‬إنـه بطريقـة مقنعـة سـحر االزدواجيـة‪ .‬ال ِّ‬
‫خاصية الحضور يف الغياب فقط‪ ،‬بل متتلك سـحر ًا‬ ‫ّ‬ ‫الفوتوغرافيـة يف ذاتهـا‬
‫خاصـ ًا بالقريـن أيضـاً‪ .‬على الرغـم مـن أن التصويـر الفوتوغـرايف ليـس لـه‬ ‫ّ‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫جسـد‪ ،‬وليـس لـه مـادة‪ ،‬وليس له حيـاة‪ ،‬فإننا نشـعر أن له حياتـه‬
‫أحبائنـا‪ .‬على الرغـم مـن أن‬
‫خاصـة عندمـا يتعلَّـق األمـر بصـور ّ‬ ‫ّ‬ ‫وسـحره‪،‬‬
‫الواقـع غائـب عـن االنعكاس‪ ،‬وعـن الصـورة‪ ،‬وعـن الصـورة الفوتوغرافية‪،‬‬
‫سـحر كامن‬
‫ٌ‬ ‫ملحـق إضـايفٌّ حقيقي يف مضاعفـة الواقع‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فإنـه يوجـد دامئـ ًا‬
‫يشء‬‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫أسـميته «سـحر الصـورة»‪ .‬بعبـارة أخـرى‪ ،‬يوجـد يف انعـكاس الواقع‬
‫«يشء ما ال أدري‬
‫ٌ‬ ‫ويشء مـا أكرث من ذلك‪ :‬هالـة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أقـلّ مـن الواقـع املادي‪،‬‬
‫مـا هـو» عاطفي‪ ،‬شـعوري‪.‬‬
‫وخاصة عن تصوير‬
‫ّ‬ ‫طـورت الفنون التي نجمت عـن التصوير الفوتوغرايف‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الوثائقي عىل‬
‫ّ‬ ‫الفيلـم‬ ‫يحتـوي‬ ‫ال‬ ‫االزدواجية‪.‬‬ ‫سـحر‬ ‫كـة‪،‬‬‫ُتحر‬
‫ِّ‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫الرسـوم‬ ‫أفلام‬
‫املعلومـات والتعليـم فقط‪ ،‬بل يحتوي عىل سـحر الصـورة أيضاً‪.‬‬
‫َّ‬
‫يتجل يف‬ ‫اإلنسـانية القدميـة‪ ،‬مصحوبـ ًا بقرينـه الذي‬
‫ّ‬ ‫كان كلّ فـرد‪ ،‬يف‬
‫ال يف األحلام‪ .‬عند الوفاة‪،‬‬ ‫الطيـف ويف االنعكاس‪ ،‬ويصبح نشـيط ًا ومسـتق ً‬
‫ٍ‬
‫وبينما ينهـار الجسـم‪ ،‬ينفصـل هـذا القريـن كطيـف غير مـادي سـيدوم‪.‬‬
‫خاصـة باألطيـاف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ميكنـه أن يبقـى يف الجـوار أو يعـود‪ ،‬إذا كان يف إقامـة‬
‫اسـتمرت الحضارات العظيمـة يف تكريم األجداد‬ ‫َّ‬ ‫بفضـل دعواتنـا‪ ،‬فنكرمه‪.‬‬
‫والشـيوخ واألمـوات يف العبـادات العائليـة يف الصين على سـبيل املثال‪.‬‬
‫كان هـذا االعتقـاد موجـود ًا بالفعـل لـدى اإلغريـق يف العصـور القدميـة‬
‫ونجـده حاليـ ًا يف عيـد جميـع القديسين‪ :‬اليـوم السـنوي الـذي يبعـث فيه‬
‫املـوىت بين األحيـاء‪ .‬يجـب أن نحتفـل بهـم‪ ،‬ونطـري عليهم‪.‬‬
‫وخاصة‬
‫ّ‬ ‫يتكـرر موضـوع القرين واالنعكاس واملرآة يف األدب والشـعر‪،‬‬
‫َّ‬
‫يوضـح ذلك أوتـو رانـك (‪ )Otto Rank‬يف كتابه دون‬
‫الرومانسـية‪ ،‬كما ِّ‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫جـوان والقرين (‪.)Don Juan et le Double‬‬
‫والرسـم والنحـت والسـينام‪،‬‬
‫َّ‬ ‫هنـاك طريقـان يف الفنـون والروايـات‬

‫‪54‬‬
‫واللـذان ميكـن أن يندمجـا مـع بعضهام البعـض‪ ،‬الطريـق «الواقعية» التي‬
‫الشـخصيات واألحداث‬
‫ّ‬ ‫تسـعى للتشـبه بالحياة وعكـس الواقع‪ ،‬مـن خالل‬
‫الخياليـة؛ والطريـق الرائـع الـذي يخترع كونـ ًا ينفلـت مـن معايير واقعنـا‪.‬‬
‫ميكن الجمع بني هذين الطريقني‪ ،‬ولكن غالب ًا ما يكونان مختلفني‪.‬‬
‫ذلـك أن طريـق التشـابه وتقليد الحيـاة والنزعتني الواقعيـة والطبيعية‪،‬‬
‫يتضمـن‪ ،‬بالنسـبة إلينـا نحـن املُتفرجين أو‬
‫َّ‬ ‫الجامليـة عندمـا‬
‫ّ‬ ‫يبلـغ صفـة‬
‫ـراء‪ ،‬سـحر ًا (‪ ،((()charme‬أو شـعر ًا أو سـحر القريـن‪.‬‬
‫ال ُق َّ‬

‫القراءة والفرجة‬

‫وضع‬
‫ٍ‬ ‫املرسحية ومشـاهدة الفيلـم يف‬
‫ّ‬ ‫تشترك قـراءة الروايـة والفرجة‬
‫قـداس الكنيسـة وحـدة تحتضـن اللـه واملحتفـل‬ ‫مـزدوج متامـاً‪ .‬يرسـخ َّ‬
‫ِ‬
‫ُشـاهد‬ ‫ـداس واملؤمنين‪ .‬يف حين‪ ،‬تفترض الفرجـة ازدواجيـة بني امل‬ ‫بال ُق َّ‬
‫جسـدي ًا يف كرسـيه‪ ،‬والواعي بوضعـه كمالحظ‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫جهـة‪ ،‬واملغروز‬ ‫مـن‬
‫والشـخصيات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النفسـية الشـديدة يف الحركـة‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ناحيـة أخـرى‪ ،‬مشـاركته‬
‫وشـدة‬
‫ّ‬ ‫للمرسحيـة وللفيلـم‪ .‬يعتبر هـذا الوضـع األكثر مالءمـة لنشر‬ ‫ّ‬
‫الجامليـة‪ .‬هنـاك ازدواجيـة مامثلة يعيشـها قـارئ الروايـة‪ ،‬الذي‬
‫ّ‬ ‫املشـاعر‬
‫القصـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حركـة‬ ‫يف‬ ‫عقلـه‬ ‫يشـارك‬ ‫بينما‬ ‫ً‪،‬‬
‫ا‬ ‫جسـدي‬
‫ّ‬ ‫يكـون سـلبي ًا‬

‫تأثري الحياة‬

‫أبـرز مـارك ماثيـو مونـش (‪ )Marc-Mathieu Münch‬بوضوح «تأثري‬


‫ـي‪ ،‬والـذي يعطيـه إيـاه مؤلِّفـه(((‪.‬‬
‫الحيـاة» الـذي مينحنـا إيـاه العمـل الفَ ّن ّ‬

‫((( من الكلمة الالتينية «كارمن (‪ »)carmen‬التي تعني الشعر والسحر معاً‪.‬‬


‫‪(2) Marc-Mathieu Münch, La Beauté artistique, Honoré Champion éditeur, 2014.‬‬

‫‪55‬‬
‫حيـة بالنسـبة إىل املُؤلِّـف كما بالنسـبة إىل‬
‫شـخصيات الروايـة ّ‬
‫ّ‬ ‫تكـون‬
‫القـارئ‪ .‬إنـه يف الحقيقة «اإللهام»‪ ،‬أي «النشـوة» اإلبداعية التي متنحهم‬
‫الجامليـة للقـارئ هـي التـي ُتعيـد لهـم هـذه الحياة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحيـاة‪ ،‬واملشـاركة‬
‫الحيـة‬
‫ّ‬ ‫مثلما تضفـي لعبـة الضـوء على الشاشـة شـك ً‬
‫ال على الكائنـات‬
‫جسـدياً‪ ،‬فتبعث فيها صورتهـا الحياة‪ .‬تعطينا املوسـيقى بالذات‬
‫ّ‬ ‫الغائبـة‬
‫عبقريـة املوسـيقي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫شـعور ًا بحيـاة مكثَّفـة‪ .‬يقتبـس مونـش عـن روسـو‬
‫«حتـى أثنـاء رسـم أهـوال املـوت ُيبعـث يف الـروح ذلـك الشـعور بالحياة‬
‫[‪ ]...‬الـذي يبلغـه إىل القلـوب ليجعلهـا تشـعر»‪.‬‬
‫غير أن هـذه الحيـاة فريـد ٌة للغايـة‪ :‬إنهـا الحيـاة وليسـت الحيـاة‪ .‬إنهـا‬
‫حيـاة حقيقيـة‪ ،‬ولكنهـا ليسـت حيـاة حقيقيـة (ومـن هنـا جـاءت األفـكار‬
‫ـن التـي يجـب على العكـس إكاملهـا)‪ .‬إنهـا‬ ‫املُناقضـة لحقيقـة وكـذب الفَ ّ‬
‫الحيـاة مـع األكثر واألقـلّ ‪ .‬األقـلّ هـو غيـاب الواقـع املـادي الحـارض‪،‬‬
‫يل بالدرجـة األوىل‪ ،‬أي حيـاة العمـل‬ ‫واألكثر هـو السـحر‪ ،‬السـحر الجما ّ‬
‫ُصـو َرة‪.‬‬
‫مل َّ‬‫يتغير شـكل الحيـاة ا ُ‬
‫َّ‬ ‫ـي‪ .‬هكـذا‬
‫الفَ ّن ّ‬

‫والرواية‬
‫الروايئ ِّ‬
‫ِّ‬
‫وشـخصياته‪ ،‬وما يجعله‬
‫ّ‬ ‫إن الكاتب نصف شـامان‪ُ ،‬متملَّك جزئي ًا بعمله‬
‫ّ‬
‫تتضمن رؤية‬
‫َّ‬ ‫إذ‬ ‫ً‪،‬‬
‫ا‬ ‫جـد‬
‫ّ‬ ‫ـة‬ ‫مهم‬
‫َّ‬ ‫كلمة‬ ‫البصيرة‬ ‫إن‬ ‫البصيرة‪.‬‬ ‫صاحـب‬ ‫هـو‬ ‫مرئيـ ًا‬
‫عميقـة‪ ،‬كام لـو كانت متتلكهـا قوة هلوسـة‪ ،‬غائبة عادة‪.‬‬
‫وتتوحد‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وتتطـور‬
‫َّ‬ ‫تتكـون‬
‫َّ‬ ‫الـروايئ وتوحـد شـبه جبلـة خارجية‬
‫تفـرز روح ِّ‬
‫الـروايئ‬
‫وشـخصيات وأحداثـاً‪ .‬يتحكَّ ـم ِّ‬
‫ّ‬ ‫لتصبـح عاملـ ًا يضـم مجتمعـ ًا‬
‫الرومانسي يف الحالـة الثانية‬
‫ّ‬ ‫بوعـي‪ ،‬لكنـه ينشـئ كونـه‬
‫ٍ‬ ‫ويصحـح ويحـذف‬
‫ِّ‬
‫مـن النشـوة اللطيفـة‪.‬‬
‫هكـذا‪ ،‬أعـاد بلـزاك (‪ ،)Balzac‬على سـبيل املثـال‪ ،‬خلـق مجتمـع‬
‫بالشـخصيات واألحـداث‪ ،‬مزيـج مـن الواقـع والخيـال‪ ،‬حيـث‬
‫ّ‬ ‫كامـل يعـج‬

‫‪56‬‬
‫يكـون الخيـال يف خدمـة إحيـاء املجتمـع الحقيقـي لعصره‪ .‬تعيـش فيـه‬
‫الرومانسـية‪ ،‬وتصبـح شـبه مسـتقلّة‪ ،‬متلي سـلوكها على‬
‫ّ‬ ‫الشـخصيات‬
‫ّ‬
‫«شـخصيايت تنفلـت منـي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪:‬‬ ‫قائلاً‬ ‫وايئ‬‫الـر‬
‫ِّ‬ ‫قـر‬ ‫ي‬
‫ُ‬ ‫أن‬ ‫الشـائع‬ ‫مـن‬ ‫الكاتـب‪.‬‬
‫شـخصيايت ممتنعـة السـيطرة عليهـا»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتصبـح‬
‫الـروايئ أو الفَ َّنان‬
‫الرواية والعمل الفَ ّن ّي نتاج ِّ‬
‫علاو ًة على ذلك‪ ،‬ال تكـون ِّ‬
‫ـي ذاتـه بذاتـه مثلما مـا ينتـج الطفـل ذاتـه يف‬ ‫فقـط‪ ،‬إذ ينتـج العمـل الفَ ّن ّ‬
‫بطـن أمـه‪ .‬تقـوم األم بإطعام الجنني خالل تسـعة أشـهر مـن الحمل‪ ،‬لكن‬
‫يتـم تحريك كلّ عمل بواسـطة‬ ‫الخاصـة وبجيناتـه‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫سـيتطور بقـواه‬
‫َّ‬ ‫الجنين‬
‫قـوة إبداعيـة ذاتيـة تتغـذَّ ى بشـكلٍ طبيعـي مـن الكاتـب‪ ،‬لكـن العمـل هـو‬
‫كائـن حـي‪ ،‬عنـد كتابتهـا‪ ،‬وأيضـ ًا‬ ‫ٌ‬ ‫فالروايـة‬
‫الخـاص‪ .‬وبذلـك ِّ‬ ‫ّ‬ ‫أيضـ ًا مؤلِّفـه‬
‫عنـد قراءتهـا‪ .‬تكـون جامـدة يف املكتبـة أو خزانـة الكتب‪ ،‬لكـن تبعث فيها‬
‫الحيـاة تحـت عني القـارئ وبواسـطتها‪.‬‬
‫وخاصة كلّ رواية عظيمة ‪-‬أستحرض‬
‫ّ‬ ‫إن كلَّ رواية واقعية‪،‬‬‫ميكننا القول َّ‬
‫هنـا ديكنـز (‪ )Dickens‬وبلـزاك وزوال (‪ )Zola‬وبروسـت (‪ )Proust‬وسـيلني‬
‫(‪ -)Céline‬هـي يف الوقـت نفسـه عمـلٌ مـن املعرفـة األنرثوبولوجيـة ‪-‬‬
‫البرشيـة يف مجتمعهم ويف تاريخهم ويف‬‫ّ‬ ‫االجتامعيـة‪ ،‬ألننـا نرى الكائنات‬
‫خـاص يف ملمـوس ذاتياتهم‪.‬‬‫ّ‬ ‫عالقاتهـم ويف تفاعالتهـم‪ ،‬وندركهـم بشـكلٍ‬
‫ين الذي‬
‫إن املوضـوع الحقيقـي لروايات دوستويفسكي هو التعقيد اإلنسـا ّ‬
‫وصفـه تحديد ًا ِّ‬
‫برس اإلنسـان‪.‬‬
‫توجـد هنـا ثـروة معرفيـة تنفلـت مـن علـم النفـس وعلـم االجتماع‪ .‬ال‬
‫يـدرك املُؤلِّـف بالضرورة مـا يحتويـه عمله‪ ،‬ألن هـذا العمل يـأيت من حالة‬
‫ثانيـة يتجـاوز إبداعهـا وعيه‪.‬‬
‫ومـن هنـا التناقـض املُعتـاد بين شـخص املُؤلِّـف وعملـه‪ .‬تتجـاوز‬
‫مذكـرات مـا وراء القبر (‪ )les Mémoires d’outre-tombe‬شـخص‬
‫شـاتوبريان (‪ .)Chateaubriand‬كما أن مؤلَّفـات سـيلني تتجـاوز شـخصه‬
‫بشـكلٍ كبير‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫حتـى املُؤلِّـف ميكـن أن يخطـئ يف فهم معنـى عمله‪ :‬لقـد اعتقد بلزاك‬
‫إنسـانية (‪ )Comédie humaine‬متكِّ نـه مـن تنوير ال ُق َّراء‬ ‫ّ‬ ‫أن روايتـه ملهـاة‬
‫يف شـأن النظـام امللكي والدين‪ ،‬بينما رأى ماركس بوضـوح أن هذا العمل‬
‫كان قبـل كلّ يشء نقـد ًا جذريـ ًا للمجتمع الربجوازي‪.‬‬
‫الرومانسـية‬
‫ّ‬ ‫الروايـة تشـمل‬
‫بدايـةً مـن القـرن التاسـع عشر‪ ،‬أصبحـت ِّ‬
‫البرشيـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتتجاوزهـا عـن طريـق الرغبـة يف تنـاول جميـع جوانـب الحيـاة‬
‫إنسـانية لبلزاك (تصويـر مجتمـع اإلمرباطوريـة الثانية‬
‫ّ‬ ‫بـدأ ذلـك مـع ملهـاة‬
‫تضخمـت‬ ‫َّ‬ ‫قصـة عائلـة روغـون مـاكار (‪.)Rougon-Macquart‬‬ ‫مـن خلال ّ‬
‫فتحولت إىل عملٍ شـامل‪ ،‬عامل مصغـر ملجتمع وعرص‬ ‫َّ‬ ‫الروايـة بعـد ذلـك‬
‫ِّ‬
‫مـا‪ ،‬كما هـو الحـال لـدى روجـر مارتـن جـارد (آل ثيبولـت ‪)les Thibault‬‬
‫و(جـول رومـان ‪( )Jules Romains‬الرجـال ذوو النوايـا الحسـنة ‪les‬‬
‫‪ )Hommes de bonne volontés‬و(تومـاس مـان ‪)Thomas Mann‬‬
‫(آل بودنربوكـس ‪ )Les Buddenbrook‬و(هريمـان بـروخ املرسمنـون ‪les‬‬
‫مميـزات‬
‫‪ )Somnambules‬و(روبـرت موزيـل ‪( )Robert Musil‬رجـل بلا ِّ‬
‫‪.)l’Homme sans qualités‬‬
‫الروايـة‬‫حـد تعبير إميليـان نويـل (‪« :)Émilien Noël‬تصبـح ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫على‬
‫معينـة‪ ،‬أو بعبارة أصح‬ ‫ٍ‬
‫لحظـة َّ‬ ‫مجموعـة شـاملة تقريبـ ًا لحالة العـامل يف‬
‫وخاصـة أوروبـا‪ .‬يف‬ ‫ّ‬ ‫الغـريب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لحالـة عـامل مـا‪ ،‬يف هـذه الحالـة العـامل‬
‫أسـلوبي ًا ال‬
‫ّ‬ ‫خياليـاً‪ ،‬وبالطبـع‪ ،‬مترينـ ًا‬
‫ّ‬ ‫الروايـة عملاً‬
‫هـذا السـياق‪ ،‬تكـون ِّ‬
‫فلسـفياً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جـدال فيـه‪ ،‬ولكـن ميكـن أن تكـون أيضـ ًا رسد ًا تاريخيـاً‪ ،‬ومقـا ً‬
‫ال‬
‫جيوسياسـياً‪ ،‬وبحثـ ًا يف علـم االجتماع‪ ...‬كلّ مـا يجعـل العـامل‬‫ّ‬ ‫وتحليلاً‬
‫قابلاً ألن يظهـر فيهـا‪ .‬يتـم الحديـث فيها عن علـم النفس والطـب والدين‬
‫واالقتصـاد والعمـران والعمارة» ويضيـف‪« :‬وبالتايل‪ ،‬متثل هـذه األعامل‬
‫للروايـة»(((‪.‬‬
‫معينـة ِّ‬
‫َّ‬ ‫ذروة‬

‫((( املقال ُمتاح عىل املدونة‪ « :‬ستالكر (‪.»)Stalker‬‬

‫‪58‬‬
‫خلال النصـف الثـاين مـن القـرن العرشيـن‪ ،‬ظهـرت الرواية البوليسـية‬
‫الجديـدة‪ ،‬وهـي روايـة بوليسـية عبـارة عـن بحـث يف األخلاق ووثائقـي‬
‫تطـورت يف أعقـاب روايـات داشـيل هاميـت (‪Dashiell‬‬ ‫َّ‬ ‫اجتامعـي‪ ،‬وقـد‬
‫ّ‬
‫‪ ،)Hammett‬يف جميـع البلـدان تقريبـاً‪ :‬يف الواليـات امل َّتحـدة مـع‬
‫مايـكل كونيلي (‪ ،)Michael Connelly‬ويف روسـيا مـع الكسـندرا‬
‫مارينينـا (‪ )Alexandra Marinina‬أو جنكيـز عبـد اللـه (‪Tchinguiz‬‬
‫‪ ،)Abdoullaïev‬ويف الصين مـع هـي جياهونـغ (‪ ،)He Jiahong‬ويف‬
‫الهنـد مـع كيشـوار ديسـاي (‪ ،)Kishwar Desai‬ويف السـويد مـع هـاكان‬
‫نيسر (‪ ،)Hakan Nesser‬ويف الجزائـر مع ياسـمينة خرضة‪ ،‬إلخ‪ .‬أصبحت‬
‫تـردد صـدى‬ ‫الروايـات ال ِغنـى عنهـا لفهـم عاملنـا امل ِ‬
‫ُعـاص‪ .‬إنهـا ِّ‬ ‫هـذه ِّ‬
‫جـد ًا إليرنسـتو سـاباتو (‪ ،)Ernesto Sabato‬نقلاً عـن ميالن‬
‫عبـارة جميلـة ّ‬
‫كونديـرا (‪ )Milan Kundera‬يف السـتار‪« :‬يف عرصنـا حيـث يتـم تجـزيء‬
‫الروايـة هي املرصـد الوحيد‬‫تتخصـص املعـارف‪ ،‬تعتبر ِّ‬‫َّ‬ ‫كلّ يشء‪ ،‬وحيـث‬
‫الـذي ميكـن للمـرء فيـه محاولـة تنـاول الحيـاة يف مجملهـا»‪.‬‬

‫الشعر‪ ،‬آ ِلف اللغز‬

‫لغـة إشـارة تسـعى إىل توضيـح وموضعـة األشـياء‬‫ُ‬ ‫النرثيـة‬


‫ّ‬ ‫إن اللُّغـة‬
‫الشـعرية من الذاتيـة وتخاطب‬
‫ّ‬ ‫تتحـدث عنهـا‪ ،‬يف حين تنطلـق اللُّغة‬‫َّ‬ ‫التـي‬
‫وتحـب اللجوء‬
‫ّ‬ ‫الجامليـة لنقل هذه املشـاعر‬
‫ّ‬ ‫الذاتيـة‪ ،‬وتبـدأ مـن العاطفـة‬
‫إىل املامثلـة واالسـتعارة‪.‬‬
‫بـدأ بريكليـس خطابـه بهـذه االسـتعارة املجازيـة القويـة‪« :‬لقـد فقـد‬
‫الشـباب أزهـاره‪ ،‬فقـد العـام ربيعـه»‪ ،‬معلنـ ًا لألثينيني عن خسـارة معركة‪.‬‬
‫كان يفترض أن يقـول بلغـة اإلشـارة‪« :‬لقـد خرسنـا معركة وقُتـل الكثري من‬
‫شـدتها وعمقها العاطفي يف‬ ‫ّ‬ ‫جنودنـا الشـباب»؛ لكن املعلومـات تأخذ كلّ‬
‫االستعارة‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫تعبر االسـتعارات‬‫ِّ‬ ‫تفقـد الكلمات يف الشـعر معناهـا النفعـي‪.‬‬
‫إنسـانية معيشـة‬
‫ّ‬ ‫واملامثلات‪ ،‬يف واقعيتهـا ويف الجمايلّ‪ ،‬عـن حقائـق‬
‫ومحسوسـة بشـكلٍ أفضـل مـن النثر اإلشـاري‪ .‬تتألَّـف الكلمات وفقـ ًا‬
‫ٍ‬
‫كثير مـن األحيـان‪ ،‬وبطريقـة موسـيقية تقريبـاً‪.‬‬ ‫النجذابـات غريبـة يف‬
‫خاصة بالنسـبة إىل‬ ‫ّ‬ ‫كثير مـن األحيـان مصطلـح اإللهـام‬ ‫ٍ‬ ‫لقـد ذكرنـا يف‬
‫الشـعرية‪ ،‬اآللفـة للغـز‪ ،‬هـي التـي تذكِّ رنـا باالرتقـاء‬
‫ّ‬ ‫الشـعر‪ .‬إن املعرفـة‬
‫الشـعري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشـاماين؛ إنهـا حالـة التملُّـك األقـرب إىل اإلبـداع‬
‫يتضخـم‬
‫َّ‬ ‫نـص إداري‪.‬‬
‫إضافـة إىل ذلـك‪ ،‬ال تعنـي قـراءة الشـعر قـراءة ٍّ‬
‫ويتحـول وتتملَّكـه القصيـدة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الـراوي‬
‫صـوت َّ‬
‫يعبر بالكلمات إىل مـا ال تسـتطيع الكلمات قولـه‪.‬‬
‫يحـاول الشـعر أن ِّ‬
‫تشـبه القصيـدة «ترجمـة الصمـت»‪ ،‬حسـب تعبير جـوي بوسكي (‪Joë‬‬
‫‪.)Bousquet‬‬
‫يتقـدم الشـعر إىل حـدود اللُّغـة‪ ،‬وإىل حـدود مـا ُيقـال‪ ،‬وإىل حـدود‬
‫َّ‬
‫الوعـي‪ .‬إنـه يـرى مـن خلال املـريئ مـا وراء املـريئ‪ ،‬وهـذا مـا ُيطلـق عليه‬
‫رامبـو «االسـتبصار»‪.‬‬
‫لقـد أدرك الرسياليـون أن يف الكتابـة الشـعرية ظاهـر ًة ال تنتمـي إىل‬
‫الوعـي الواضـح‪ ،‬بـل إىل قـوى الالوعـي‪ .‬لهـذا السـبب قامـوا باستكشـاف‬
‫الكتابـة التلقائيـة وقامـوا بوصـف أحالمهـم‪.‬‬
‫تصـور‬
‫ُّ‬ ‫شـعروا بحـق أن هنـاك إلهامـ ًا يتجـاوز الواقـع يف ذواتهـم‪ ،‬دون‬
‫حالـة نشـوة ومتلُّـك مـا بعـد شـامانية‪ .‬مـن خلال ذلـك‪ ،‬متكَّ نـوا مـن خلـق‬
‫الحالـة الثانيـة يف ذواتهـم‪ ،‬حالـة تسـتدعي الحيـاة اليوميـة الرائعـة‬
‫مهمـة للغايـة ومبتكـرة‪،‬‬
‫وتتصورهـا‪ .‬لـذا فـإن مسـاهمة النزعـة الرسياليـة َّ‬
‫َّ‬
‫ليـس بالنسـبة إىل الشـعر فقـط‪ ،‬بـل بالنسـبة إىل الوعـي بالحـاالت الثانية‬
‫الشـعري مـن حياتنـا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املناسـبة للجانـب‬
‫حقَّقـت لنـا النزعـة الرسياليـة الوعـي بأن الشـعر ال يقترص على الكتابة‬
‫والقـراءة فقـط‪ ،‬بـل أمـر يجب أن ُيعـاش‪ .‬هكذا أعلنـت رضورة جعل الحياة‬

‫‪60‬‬
‫شـاعرية‪ .‬لقـد احتفظـت بالرسـالة وأنسـنتها‪ :‬يجـب أن نضمن شـعر الحياة‬
‫فينـا ونحافـظ عليـه‪ ،‬ونهرب قدر املسـتطاع مـن النرث‪.‬‬

‫فن الخطابة‬
‫ّ‬
‫ال ف ّن ّيـ ًا ال ميكـن للمـرء أن يتج َّنب‬
‫قبـل أن نتنـاول املسرح‪ ،‬أعـرض شـك ً‬
‫فـن الخطابة‪.‬‬‫حالة ثانية أو حالة نصف النشـوة‪ :‬إنه ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الحديـث يف شـأنه عـن‬
‫السـيايس املوهـوب يف اإلحامء ليبلغ حالـة من اإللهام‬
‫ّ‬ ‫يبـدأ الخطيـب‬
‫الحقيقـي‪ ،‬أي حالـة مـن البالغـة الحقيقيـة‪ :‬ميكننـا القـول إنـه بعـد ذلـك‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الخـاص ومـن ِقبـل أفـكاره‬
‫ّ‬ ‫ُيتملَّـك مـن ِقبـل خطابـه‬
‫أثنـاء محـارضيت حـول مواضيـع عزيزة عيلَّ‪ ،‬تـأيت برسعـة اللحظة التي‬
‫أتحـدث عنهـا‪ .‬أتوقَّـف عـن رؤيـة‬
‫َّ‬ ‫أشـعر فيهـا بأننـي مسـكون باألفـكار التـي‬
‫الجمهـور بشـكلٍ واضـح‪ ،‬لكـن ينشـأ التخاطـر‪ ،‬أشـعر يف صمتـه بانتباهـه‪،‬‬
‫وأعيـش كالمـي بالكامـل‪ ،‬عنـد انتهـايئ وبعـد التصفيـق‪ ،‬أجـد نفسي يف‬
‫النثر كئيبـاً‪ .‬يقـول ويلينغتـون (‪« :)Wellington‬هناك حـزن بعد الهزمية‪،‬‬
‫وهنـاك حـزن أكبر بعد النصر»‪ .‬إنهـا تداعيات النثر بعد اإلثـارة والحامس‬
‫الشعري‪.‬‬
‫جيـد ًا عـن متلُّـك الخطابـة‪ .‬زار الجنرال ديغـول‪ ،‬عندمـا‬ ‫إليكـم مثـا ً‬
‫ال ّ‬
‫كان رئيـس الجمهوريـة‪ ،‬كيبيـك يف وقـت طالـب فيـه االنفصاليـون‬
‫ما على عـدم املضي يف هـذا‬ ‫مصم ً‬
‫ِّ‬ ‫باسـتقالل كيبيـك‪ .‬كان ديغـول‬
‫املجـال الدبلومـايس‪ ،‬لكـن بينما كان يقـود سـيارته مـن مدينـة كيبيـك‬
‫إىل مونرتيال‪ ،‬ومرور ًا بقرى بأسماء فرنسـية‪ ،‬اسـتقبلته حشـود مفعومة‬
‫بالحماس‪.‬‬
‫كنـت ضمـن حشـد ضخـم‪ ،‬أمـام بلديـة مدينـة مونرتيـال‪ ،‬أذىك فيـه‬
‫وصـول الجنرال الحماس‪ .‬بعد أن بـدأ ديغـول خطابه تحت ضغـط الرغبة‬
‫ُتحمسـة‪ ،‬مل يسـتطع أن ميتنـع عـن‬
‫الهائلـة لـ«نحـن» الكبيرة لكيبيـك امل ِّ‬

‫‪61‬‬
‫الحـرة»‪ ،‬األمـر الـذي أثـار نشـوة‬
‫ّ‬ ‫قـرر ّأل يقولـه‪« :‬عاشـت كيبيـك‬
‫قـول مـا َّ‬
‫الجامعـي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عاطفيـة مـن الفـرح‬
‫ّ‬
‫يشء ما من‬
‫ٌ‬ ‫مـن الجديـر بالذكـر أنـه يف لحظـة الحماس هـذه‪ ،‬انفلـت‬
‫كلمات ديغـول‪ ،‬مل يكـن يتوقـع قولـه‪ ،‬ولكنـه يف الحقيقـة أراد قوله‪.‬‬
‫يتملَّك الخطاب الخطيب العظيم أكرث َّ‬
‫مم ميتلكه‪.‬‬

‫املرسح واملوت‬

‫األول وريـث الفَ ّـن االحتفـايلّ‪ :‬املسرح‬


‫إن املسرح هـو يف املقـام ّ‬
‫اليونـاين‪ ،‬واألقنعـة والجوقـات‪ ،‬وكذلـك أرسار القـرون الوسـطى‪ .‬لقـد‬
‫احتفـظ بشيء مـن الطقـوس (تحـدث الدقـات الثلاث وارتفـاع السـتارة‬
‫النثري إىل الواقـع الجمايلّ)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املـرور مـن الواقـع‬
‫كان أصل املرسح يف اليونان هو املأسـاة‪ ،‬حيث يكون يف قتل األبطال‬
‫ُرتسـخ بشـكلٍ‬
‫ين امل ِّ‬
‫يشء من القربان‪ .‬نسـتطيع اإلقرار بأن القربان اإلنسـا ّ‬‫ٌ‬
‫امتـد‪ ،‬يف شـكل العـرض املرسحـي‪ ،‬عرب تاريخ املأسـاة‬ ‫َّ‬ ‫أذهاننـا‬ ‫يف‬ ‫عميـق‬
‫مـن خلال املسرح اإلليزابيثـي وشكسـبري ومأسـاة كورنيـل (‪)Corneille‬‬
‫الرومانسـية ورباعيـة فاغرن (‪.)Wagner‬‬
‫ّ‬ ‫وراسين (‪ )Racine‬والدراما‬
‫يحمـل موضـوع التضحيـة بالبطـل البريء أو الطاهـر يف ذاتـه فكـرة‬
‫رضورتـه الجتـذاب فضـل اآللهـة وتحقيـق والدة أو خصوبـة جديـدة‪ .‬ميكـن‬
‫أن متنحنـا وفـاة البطـل املرسحـي أيضـ ًا شـعور ًا بتحريـر أنفسـنا مؤقتـ ًا من‬
‫موتنـا عـن طريـق نقلـه إليه‪.‬‬
‫كان هنـاك قتـالٌ حتـى املـوت يف ألعـاب السيرك الرومـاين‪ ،‬وهنـاك‬
‫فن مأسـاوي‬ ‫مـوت للثيران وخطـر موت املصـارع يف مصارعـة الثريان‪ ،‬إنه ٌّ‬
‫مسـتمر يف إسـبانيا وفرنسـا‪ .‬نالحـظ أيضـ ًا أن السـينام (رعـاة البقـر واإلثارة‬
‫ُتخيلـة‪ ،‬وأن وسـائل اإلعلام‬‫والحـروب) تسـتهلك الكثير مـن الوفيـات امل َّ‬

‫‪62‬‬
‫تسـتهلك الكثير مـن الوفيـات الحقيقيـة‪ .‬كلّ هـذا لتلبيـة حاجـة عميقـة‬
‫ودامئـة لطـرد املـوت‪.‬‬
‫ويحررنـا معـاً‪ .‬وذلـك يف أفضـل‬
‫ِّ‬ ‫يحركنـا بعمـق‬ ‫ِّ‬ ‫يوجـد يشء فينـا‬
‫الظـروف‪ ،‬حيـث يكـون املـوت الـذي يحـدث فـوق خشـبة املسرح‪ ،‬والذي‬
‫نفسـي ًا وهـو جالـس على مقعـده بشـكلٍ مريـح‪ ،‬غري‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ُشـاهد‬‫يعـاين منـه امل‬
‫ٍ‬
‫مـؤذ له‪.‬‬
‫ظـن أرسـطو‬
‫تـؤدي إىل املـوت‪َّ ،‬‬ ‫مـن خلال اإلشـارة إىل املشـاعر التـي ِّ‬
‫أن املأسـاة تخلصنـا مؤقتـ ًا مـن هـذه املشـاعر عـن طريـق التطهير‪َّ .‬‬
‫ربـا‬
‫ٍ‬
‫شـخص آخـر‬ ‫ُحـول إىل‬
‫يكـون مـن الضروري ربـط فكـرة عيـش املـوت امل َّ‬
‫غير الـذات بفكـرة تجميـل املـوت التي تسـمح بالتطهير‪ .‬يذكِّ رنا هـذا بهذه‬
‫األبيـات الجميلـة لفيكتـور هوغـو‪:‬‬
‫املوت والجامل شيئان عميقان‬
‫يتضمنان الكثري من الظلِّ والسامء الالزمني قد يقول املرء عنهام‬
‫َّ‬
‫حد سواء‬
‫شقيقان فظيعان وخصبان عىل ٍّ‬
‫والرس نفساهام(((‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫لديهام اللُّغ ُز‬
‫على عكـس املأسـاة التـي تنتهـي بشـكلٍ سـيئ‪ ​​ ،‬تجعلنـا الكوميديـا‬
‫ـن التهريج مصـادر أنرثوبولوجية يف النكتة‬ ‫نضحـك وتنتهي بشـكلٍ ّ‬
‫جيد‪ .‬لفَ ّ‬
‫التـي ُمورسـت بالفعـل يف املجتمعـات القدميـة والحـارضة يف جميـع‬
‫الحضـارات‪ ،‬كما أشـار إىل ذلـك مارسـيل مـوس‪« :‬إن البـذاءات واألغـاين‬
‫السـاخرة واإلهانـات تجـاه النـاس والتمثيلات السـخيفة لبعـض الكائنـات‬
‫ُقدسـة هـي يف األصـل كوميديـا‪ ،‬متامـاً مثلما يغـذِّ ي االحترام الـذي‬
‫امل َّ‬
‫يظهـره الغنـاء وامللحمـة واملأسـاة للنـاس واآللهـة واألبطـال» ‪.‬‬
‫(((‬

‫‪(1) « Ave, dea; moriturus te salutat », Toute la lyre, 1872.‬‬


‫‪(2) Parentés à plaisanteries, École pratique des hautes études n° 36, vol. 40, 1926.‬‬

‫‪63‬‬
‫ٍ‬
‫ناحيـة‪ ،‬هنـاك‬ ‫فـن املُمثِّـل بطريقتين مختلفتين‪ .‬مـن‬
‫تصـور ّ‬
‫ُّ‬ ‫ميكـن‬
‫النسـخة العاديـة مـن املُمثِّـل الـذي يقـول «أنـا أدخـل يف شـخصيتي»‪،‬‬
‫وميكـن أن يقـول أيضـاً‪« ،‬شـخصيتي تدخـل يف»‪ .‬إنهـا ظاهـرة نصـف متلُّـك‬
‫وعـي بتمثيـل‬ ‫ٍّ‬ ‫منوذجيـة‪ ،‬وهـي نصـف‪ ،‬ألنهـا تنطـوي على الحفـاظ على‬
‫الشـخصية‪ ،‬ومـن‬
‫ّ‬ ‫املرسحيـة‪ ،‬لكنهـا يف الوقـت نفسـه متلُّـك مـن ِقبـل‬
‫ٍ‬
‫ناحيـة أخـرى‪ ،‬هنـاك صيغتـا ديـدرو وبريخـت (‪.)Brecht‬‬
‫الشـخصية املُمثِّـل بشـكلٍ سـلبي‪ ،‬إذ‬
‫ّ‬ ‫وفقـ ًا لديـدرو‪ ،‬يجـب ّأل تتملَّـك‬
‫يعبر عـن‬ ‫الجيـد ِّ‬
‫ّ‬ ‫يجـب عليـه التحكُّ ـم فيهـا والسـيطرة عليهـا‪ .‬فاملُمثِّـل‬
‫مشـاعر ال يشـعر بهـا‪ ،‬إنـه «يلعـب دوره بـذكاء»‪ ،‬يف حين أن املُمثِّل الذي‬
‫يعب عنهـا‪ ،‬وال ميكنـه التحكُّ م‬ ‫«يلعـب دوره بـروح» يشـعر بالعاطفـة التـي ِّ‬
‫تقمـص‬ ‫يف أدائـه‪ .‬يريـد برتولـد بريخـت أن يكـون املُمثِّـل راويـاً‪ .‬ولتج ُّنـب ُّ‬
‫التقمـص بالنسـبة إليـه اسـتالب‪ ،‬يطلـب مـن‬ ‫ُّ‬ ‫للشـخصية‪ ،‬ألن‬
‫ّ‬ ‫ُتفـرج‬
‫امل ِّ‬
‫يؤدونهـا‪.‬‬
‫الشـخصية التـي ُّ‬
‫ّ‬ ‫املُمثِّلين االبتعـاد عـن‬
‫لتصرف املُمثِّـل يف السـينام لـدى‬
‫ُّ‬ ‫نجـد هـذا التحييـد النسـبي نفسـه‬
‫بريسـون (‪ ،)Bresson‬وغيره مـن صانعـي األفلام الذيـن يعتقـدون أنـه‬
‫يؤدونهـا‪،‬‬
‫الشـخصيات التـي ّ‬
‫ّ‬ ‫الجيـد أن ال ُيتملَّـك املُمثِّلـون مـن ِقبـل‬
‫ّ‬ ‫مـن‬
‫معينـة معهـم‪.‬‬‫َّ‬ ‫ويظهـرون مسـافةً‬
‫مـرة أخـرى‪ ،‬تكـون الحالـة األكثر طبيعيـة‪ ،‬واألكثر وضوحـاً‪،‬‬‫لكـن هنـا ّ‬
‫الشـخصية التـي تدخلنـي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هـي ظاهـرة التملُّـك‪ :‬أنـا أدخـل‬

‫السينام‬

‫وفقـ ًا للفيلسـوف واملخـرج السـيناميئ بنجامـان فونـدان (‪Benjamin‬‬


‫‪ ،)Fondane‬أصبحـت السـينام ف ّنـ ًا «بطريقـة جديـدة متامـاً‪ ،‬أال وهـي‬
‫عرض تجـاري أصبح صناعة‪ .‬فإنتـاج الفيلم‪ ،‬يف‬ ‫ٌ‬ ‫الال َف ّـن»‪ .‬إنهـا يف الحقيقـة‬
‫االقتصـادي والتقنـي وتقسـيم األعمال شـبه الصناعي اللازم إلنتاج‬
‫ّ‬ ‫جانبـه‬

‫‪64‬‬
‫الخاصيـة الشـعبية لألفلام األوىل‪ ،‬كلّهـا عوامـل‬
‫ّ‬ ‫تجـاري‪ ،‬وأخير ًا‬
‫ّ‬ ‫فيلـم‬
‫والربجوازيـة‪.‬‬ ‫الفكريـة‬ ‫ـي للسـينام لـدى النخبـة‬ ‫ً‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حجبـت متامـا الطابـع الفَ ّن ّ‬
‫لفترة طويلـة اعترب األكادمييون والكُ َّتاب السـينام «تسـلية ألراذل الناس»‪،‬‬
‫حـد تعبري جـورج دوهاميـل (‪ .)Georges Duhamel‬هاجر ماركسـيو‬ ‫على ِّ‬
‫مدرسـة فرانكفـورت إىل الواليـات املتحـدة‪ ،‬مثـل أدورنـو وماركـوز‪،‬‬
‫واحتقروهـا مـن منطلـق نزعتهـم األرسـتقراطية األكادمييـة املتعاليـة‪،‬‬
‫ونـددوا باسـتالب سـينام هوليـوود للجامهير الشـعبية‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وطورهـا دون أن يتم االعرتاف‬‫الحقيقـة أن الفَ ّن السـيناميئ ابتكر نفسـه َّ‬
‫بـه على هـذا النحـو‪ .‬منـذ السـينام الصامتـة‪ ،‬أنتجـت الكوميديـا التهريجية‬
‫ال رائعـة صغيرة‪ ،‬مبـا يف ذلـك روائـع تشـاريل شـابلن‪ .‬قـام‬ ‫الهزليـة أعما ً‬
‫أفلام طموحـة مثـل‬‫ٍ‬ ‫ُص َّنـاع األفلام مثـل جريفيـث (‪ )Griffith‬بتصويـر‬
‫وتعصـب (‪)Intolérance‬؛‬ ‫ُّ‬ ‫والدة أمـة (‪)Naissance d’une nation‬‬
‫وأنتـج فريتـز النـج (‪ ،)Fritz Lang‬ذلـك العملاق الآللـئ الصامتـة التاليـة‪:‬‬
‫نيبيلونغـن (‪ )Nibelungen‬وميرتوبوليـس (‪.)Metropolis‬‬
‫األول من السينام‬
‫تم االعرتاف بالسـينام كفَ ٍّن ببطء شـديد خالل العقد ّ‬ ‫َّ‬
‫رواد السـينام‪ .‬اكتشـفنا املُؤلِّفين الحقيقيني الذين هم‬ ‫َّ‬ ‫بل‬‫ق‬‫ِ‬ ‫مـن‬ ‫ِّمـة‬
‫ل‬ ‫املُتك‬
‫املُخرجـون‪ ،‬واعتبرت بعـض األفلام أفالمـاً ف ِّن ّيـة‪ُ .‬نرشت انتقـادات لألفالم‬
‫يف الصحافـة‪ ،‬السـيام انتقـادات هنري جينسـون (‪ )Henri Jeanson‬يف‬
‫مجلـة لوكانـار أونشـيني (‪ .)Le Canard enchaîné‬كما نشر براسـيالش‬
‫(‪ )Brasillach‬مبعيـة بارديـش (‪ )Bardèche‬تاريـخ السـينام‪ ،‬وقـام‬
‫تـم تثمين بعـض األفالم‪:‬‬
‫بالشيء نفسـه سـادول (‪ )Sadoul‬بعـد الحـرب‪َّ .‬‬
‫رصيـف الضبـاب (‪ )Quai des brumes‬وأطفـال الجنة (‪Les Enfants du‬‬
‫‪ )paradis‬لـكارين (‪ ،)Carné‬والوهـم الكبير (‪،)La Grande Illusion‬‬
‫وخاصـة قاعـدة اللعبـة (‪ )La Règle du jeu‬لرونـوار (‪ ،)Renoir‬وعنـد‬ ‫ّ‬
‫نهايـة االحتلال‪ ،‬أطفـال الجنة‪.‬‬
‫ازدراء كبير ًا ال يـزال ُيديـن ابتـذال أفلام هوليـوود‪ .‬أتذكَّ ـر‬
‫ً‬ ‫بيـد أن هنـاك‬
‫عـرض تقدميـي يف فلورنسـا يف السـتينيات‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫أننـي قلـت ذات يـوم‪ ،‬خلال‬

‫‪65‬‬
‫«أحـب أفلام رعـاة البقـر»‪ ،‬فقفـز الفيلسـوف املاركسي لوسـيان غولدمان‬ ‫ّ‬
‫(‪ )Lucien Goldmann‬مـن كرسـيه‪ ،‬وأخـذ امليكروفـون منـي ورصخ «ال‬
‫ميكننـا أن نحـب أفلام رعـاة البقـر!»‪ ،‬مسـتنكر ًا االسـتالب الناجـم عـن هـذا‬
‫ُميـز‬
‫النـوع‪ .‬اكتسـب رعـاة البقـر بعـض الكرامـة عندمـا ظهـر األسـلوب امل َّ‬
‫وإنسـانية جون فـورد (‪.)John Ford‬‬
‫ّ‬ ‫لهـوارد هوكـس (‪)Howard Hawks‬‬
‫تغيرت النماذج األصليـة لرعـاة البقـر‪ ،‬فأصبـح الهنـود الحمـر‪،‬‬ ‫عندئـذ َّ‬
‫ال وضحايـا‪.‬‬‫األعـداء القاسـيون‪ ،‬أبطـا ً‬
‫تـم اإلقـرار بـأن أفلام اإلثـارة ميكـن أن تنتـج روائـع‪ ،‬وبدأنـا نفهـم‬‫لقـد َّ‬
‫أن كبـار رجـال العصابـات يف السـينام يتابعـون ملـوك وأمـراء شكسـبري‬
‫عـروض رائعـة‪ ،‬حيـث‬ ‫ٍ‬ ‫(‪ .)Shakespeare‬كانـت املهرجانـات عبـارة عـن‬
‫وكرسـت جوائزهـم أفالمـ ًا باعتبارهـا عملاً ف ِّن ّياً‪.‬‬
‫ازدهـرت أسـطورة النجـوم‪َّ ،‬‬
‫يف عـام ‪ ،1950‬اكتشـفت مدينـة كان املذهلـة فيلـم السـاموراي مـن خالل‬
‫فيلـم راشـومون (‪ )Rashômon‬لكوروسـاوا (‪ )Kurosawa‬الرائـع‪.‬‬
‫الروايـة مـن جميـع البلـدان مثـل كاداري (‪)Kadaré‬‬ ‫تـم تكريـم مؤلِّفـي ِّ‬
‫َّ‬
‫تـم تكريم‬
‫َّ‬ ‫مثلما‬ ‫(‪،)Solzhenitsyn‬‬ ‫وسولزينيتسين‬ ‫(‪)Andrić‬‬ ‫وأندريـش‬
‫مؤلِّفي األفالم الكبار يف العامل مثل روسـيليني (‪ )Rossellini‬وفيسـكونتي‬
‫(‪ )Visconti‬وفيلينـي (‪ )Fellini‬وبريغمان (‪ )Bergman‬وكوروسـاوا وأوزو‬
‫وقـت الحـق إيناريتـو‬ ‫(‪ )Ozu‬وميزوغـويش راي (‪ )Mizogushi Ray‬ويف ٍ‬
‫(‪ )Iňárritu‬وأملودوفـار (‪ )Almodovar‬أو تريانـس مالـك (‪Terrence‬‬
‫كتـب عـن‬
‫ٌ‬ ‫‪ .)Malick‬أُنشـئت مـدارس السـينام يف جميـع القـارات‪ ،‬وأُلِّفـت‬
‫ـن وف َّنـاين الفيلم‪.‬‬‫الفَ ّ‬
‫ـن‪ ،‬ويف‬ ‫مـن اآلن فصاعـداً‪ ،‬أصبحـت السـينام معرتفـ ًا بهـا متامـ ًا كفَ ٍّ‬
‫قـادر على‬
‫ٌ‬ ‫ومتعـد ُد األشـكال‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫متعـد ُد األصـوات‬
‫ِّ‬ ‫عظيـم‬
‫ٌ‬ ‫فـن‬
‫رأيـي إنهـا ٌّ‬
‫الروايـة واملسرح‬ ‫حشـد ودمـج يف ذاتـه فضائـل جميـع الفنـون األخـرى‪ِّ ،‬‬
‫والرسـم والزخرفـة والتصويـر الفوتوغـرايف‪ .‬ال يقتصر األمـر‬ ‫واملوسـيقى َّ‬
‫وفـن‬
‫ّ‬ ‫فـن زاويـة الرؤيـة‬ ‫ـن املوسـيقي يف الفيلـم‪ ،‬بـل ّ‬ ‫على مسـاهمة الفَ ّ‬
‫وفـن التحريـر أيضاً‪ ،‬ميكننا القـول إن َم ْن يشـاركون يف إنتاج فيلم‬ ‫ّ‬ ‫الديكـور‬

‫‪66‬‬
‫جامليـات‬
‫ّ‬ ‫هامـ ًا للغايـة يف‬
‫هـم الحرفيـون والفَ َّنانـون الذيـن يلعبـون دور ًا ّ‬
‫فـن شـامل‪.‬‬
‫الفيلـم‪ .‬إن السـينام ٌّ‬
‫طبقـات عميقـة‪ ،‬حيـث يفـرز‬ ‫ٍ‬ ‫الروايـة‪ ،‬مـن‬
‫تغـذَّ ت السـينام‪ ،‬أكثر مـن ِّ‬
‫البشري السـحر واألسـطورة‪ .‬لقد خلقت أسـاطريها عرب رعـاة البقر‬ ‫ّ‬ ‫العقـل‬
‫وخاصـة عـن طريـق تأليـه املُمثِّـل أو املُمثِّلـة جزئيـ ًا‬
‫ّ‬ ‫والشـخصية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واإلثـارة‬
‫(((‬
‫ً‬
‫نجما ‪.‬‬ ‫ليصبح‬
‫جامليـة رائعـة تسـمح‬‫ّ‬ ‫ُشـاهد يف السـينام حالـة‬ ‫ِ‬ ‫إن حالـة امل‬ ‫أخيراً‪ّ ،‬‬
‫تحـدد ظلمـة القاعة تلقي ًا شـبه منـوم للفيلم‪ ،‬والـذي يع ِّزز‬ ‫ِّ‬ ‫بفهـم اإلنسـان‪.‬‬
‫للشـخصيات املم ّثلـة‬
‫ّ‬ ‫والتقمص‪-‬اإلسـقاط‬
‫ُّ‬ ‫النفسـية يف الحركـة‬
‫ّ‬ ‫املشـاركة‬
‫ُحركـة)‪ .‬إننـا نبتسـم ونضحـك ونسـتمتع ونحـب‬ ‫ُتحركـة (امل ّ‬ ‫يف الصـور امل ِّ‬
‫ٍ‬
‫بطريقة ممتعـة غريبة‪.‬‬ ‫ونعشـق‪ ،‬لكننـا نبكي ونخـاف أيضاً‪ ،‬بـل إننا نرتعـب‬
‫إننـا ننفصـل عـن أنفسـنا لنكـون حارضيـن يف واقـع الفيلـم‪ .‬ألن الفيلـم‬
‫قويـ ًا للغايـة بالواقـع‪ ،‬بـل‬
‫واقعيـاً‪ ،‬إحساسـ ًا ّ‬
‫ّ‬ ‫خياليـ ًا أو‬
‫ّ‬ ‫مينحنـا‪ ،‬سـواء كان‬
‫ٍ‬
‫وبطريقـة مغايـرة للمسرح‪ .‬إنـه يخلـق تعايشـ ًا بني‬ ‫الروايـة‬ ‫بقـو ٍة أكبر مـن ِّ‬
‫يل وينقلهما إىل مـا فـوق الواقـع‪.‬‬ ‫العـامل الحقيقـي والعـامل الخيـا ّ‬
‫لكننـا يف الوقـت نفسـه نعلـم أن هـذا الواقـع خيـايلّ‪ ،‬إذ ال نفقـد الوعي‬
‫أبـد ًا بوجودنـا يف السـينام‪ .‬إننـا أشـبه بـ«منزوعـي الفتيـل»‪ ،‬يف الوقـت‬
‫شـدة‪ ،‬أي السـعادة والبـؤس والحـزن‪ .‬إننـا‬ ‫الـذي نشـعر بأكثر املشـاعر ّ‬
‫يتقمـص‬‫َّ‬ ‫نفسـياً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ومتـذوق‪ ،‬وأنـا نشـط‬
‫ِّ‬ ‫جسـدي ًا‬
‫ّ‬ ‫منقسـمون بين أنـا سـلبي‬
‫الحركـة واملُمثِّلين‪ ،‬تنقلـه املوسـيقى إىل املتعـة التـي تلعـب دور ًا كبير ًا‬
‫يف إغراقنـا يف العاطفـة‪.‬‬
‫ِ‬
‫ُشـاهد الفيلـم بأنهـا نصـف‬ ‫ُنومـة مل‬
‫ميكـن اعتبـار الحالـة شـبه امل ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫شـخصيات الفيلم‪ ،‬وشـبه سـحر من قبل املَشـاهد‬ ‫ّ‬ ‫متلُّـك‪ ،‬متلـك مـن ِقبـل‬
‫املتتاليـة‪ ،‬لكنـه متلُّـك يكـون فيـه الوعـي متيقِّظـاً‪ .‬إنهـا حالـة نختبر فيهـا‬

‫‪(1) Edgar Morin, Les Stars, Seuil, coll. « Points », 1972.‬‬

‫‪67‬‬
‫أكثر عواطفنـا املختلفـة فرحـ ًا وسـعادة وحزنـ ًا وأملـ ًا وخوفـاً‪ ،‬لكننـا نكـون‬
‫حينهـا أشـبه مبفصولين عـن األسـوأ‪ ،‬مبعنـى أننـا نعيشـها ح ّقـاً‪.‬‬
‫تكمـن املفارقـة يف اإلدراك والشـعور بالقسـوة واملجـازر وأكبر اآلالم‬
‫ونحـن هادئـون يف كراسـينا‪ .‬إننـا نبكي بصـدق‪ ،‬لكننـا منقسـمون‪ .‬لذلـك ال‬
‫عمليـات القتل‬
‫ّ‬ ‫الجامليـة حضـور جميلات وممتعـات فقط‪ ،‬بـل‬ ‫ّ‬ ‫ُيثير لذتنـا‬
‫أو مظاهـر األمل الشـديد أيضـاً‪ .‬إننـا نعـاين ح ّقـاً‪ ،‬ويف الوقـت نفسـه لدينـا‬
‫جامليـة ُم ْرضية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عاطفـة‬
‫يوجـد يشء مـا يجعلنـا نشـعر بعاطفة شـديدة يف الفيلـم‪ ،‬لكننا نكون‬
‫منفصلين عنه‪.‬‬
‫األول لإلخـوان لوميير‪ ،‬دخـول قطار يف‬‫تـم تثبيـت الكاميرا يف الفيلـم ّ‬
‫محطـة سـيوتات (‪ ،)L’Entrée d’un train en gare de La Ciotat‬على‬
‫لتصـور وصـول القاطـرة‪ .‬خلال عـرض الفيلـم نهض املشـاهدون‬ ‫ِّ‬ ‫الرصيـف‬
‫األوائـل خوفـ ًا عندمـا اقرتبـت العربـة القاطـرة‪ .‬مل يكونـوا قد اكتسـبوا بعد‬
‫الوعـي السـيناميئ املزدوج‪.‬‬
‫يف كتابـه داعـش والسـينام واملـوت((( ذكـر جـان لويـس كومـويل‬
‫(‪ )Jean-Louis Comolli‬هـذا الغلـو مـن خلال مثـال فيلـم لباستر‬
‫كيتـون (‪« .)Buster Keaton‬يف فيلـم شيرلوك جونيـور (‪ ،)1924‬حيـث‬
‫يلعـب باستر كيتـون دور عـارض األفلام يف قاعـة السـينام‪ .‬يطلـق الفيلـم‬
‫وهـو يتثـاءب‪ ،‬يشـعر بالنـوم‪ ،‬ثـم ينـام‪ .‬عندهـا ينفصـل عنـه قرينـه‪ ،‬فيعرب‬
‫مقصـورة العـرض وينظـر مـن خلال النافـذة الصغيرة للمقصـورة إىل مـا‬
‫يحـدث أدنـاه يف الغرفـة وعلى الشاشـة‪ .‬ال يعجبه مـا يراه‪ .‬تقـاوم البطلة‪،‬‬
‫وهـي فتـاة سـاحرة كاملعتـاد دامئـ ًا وقلقـة كاملعتـاد‪ ،‬مـراوداً‪ .‬يخـرج‬
‫القريـن املنفصـل عـن كيتن‪ ،‬مدفوعـ ًا بشـكلٍ واضـح بالرغبـة يف التدخـل‬
‫يف املشـهد املعـروض واالنضمام إليـه‪ ،‬مـن املقصـورة ويعبر القاعـة‬

‫‪(1) Daech, le cinéma et la mort, Éditions Verdier, 2016.‬‬

‫‪68‬‬
‫ويتقـدم على‬
‫َّ‬ ‫السـينامئية‪ ،‬ثـم يتسـلَّق العتبـات القليلـة لخشـبة املسرح‪،‬‬
‫املنصة مبظه ٍر حازم‪ ،‬يدخل الشاشـة نفسـها التي يعرض عليها املشـهد‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ويتدخـل إليقافـه‪ ...‬يطـرده هذا‬
‫َّ‬ ‫فيجـد نفسـه يف حضرة الفتـاة واملـراود‪،‬‬
‫األخير مـن املشـهد خـارج الشاشـة‪ ،‬ويدفعـه مبـارش ًة فـوق درج املنـزل‬
‫الـذي يجـري فيـه الحـدث؛ األمـر الـذي سـيجعله محـل إهانـات مختلفـة‪.‬‬
‫يخربنـا هـذا املقطـع (الرائـع)‪ ،‬بشـكلٍ عـريض‪ ،‬عـن جوهر ما يحـدث خالل‬
‫ِ‬
‫ُشـاهد الوصـول إىل املشـهد‪ ،‬ويريـد أن يكـون فيـه‬ ‫فترة العـرض‪ :‬يريـد امل‬
‫بشـكلٍ خيـايل [‪.»]...‬‬
‫منـذ ذلـك الحني‪ ،‬واصلـت السـينام تزويدنا مبشـاهد عنيفـة وعاطفية‪،‬‬
‫نشـاهدها ونحـن نشـعر بالقلـق الشـديد‪ ،‬ويف الوقـت نفسـه نكـون هادئني‬
‫متاماً‪.‬‬
‫ِ‬
‫شـاهد مـا أطلـق عليـه أرسـطو بالفعـل‬ ‫للم‬
‫يحـدث يف هـذه الحالـة ُ‬
‫«املُحـاكاة»‪ ،‬إن هـذا النشـاط املُحـاكايت الذي درسـه رينيه جيرار (‪René‬‬
‫خـاص بأذهاننـا‪ ،‬والـذي‬
‫ّ‬ ‫‪ )Girard‬كثيراً‪ ،‬لكـن يف مجـاالت أخـرى‪ ،‬نشـاط‬
‫والتقمـص‪ ،‬إذ‬
‫ُّ‬ ‫ميكننـا إعطـاءه تعريفـ ًا أكثر تجريـد ًا مبصطلحـي اإلسـقاط‬
‫ونتقمصـه‪ .‬تكـون هذه املحـاكاة نشـطة وقوية‬
‫َّ‬ ‫نسـقط أنفسـنا على البطـل‬
‫خـاص يف السـينام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بشـكلٍ‬
‫ال نكـون مسـتيقظني يف الحلـم على الرغـم مـن نشـاطنا النفسي‪،‬‬
‫بينما هنـا‪ ،‬نكـون يف حالـة أشـبه بالحلـم‪ ،‬ألن لدينـا وعيـ ًا باليقظـة‪ .‬إننا يف‬
‫البشري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحقيقـة منغمسـون يف واحـدة مـن تعقيـدات العقـل‬
‫يل الـذي تكشـفه‬‫جـد ًا للشـعور الجما ّ‬ ‫َّ‬
‫تتجلى الصفـة املُعقَّـدة ّ‬ ‫هكـذا‪،‬‬
‫جـد ًا ومنفصلة معـاً‪ .‬لذا ميكن‬ ‫ٍ‬
‫السـينام يف عاطفـة ميكـن أن تكـون عميقـة ّ‬
‫أن يصاحـب اإلعجـاب واالبتهـاج العـروض األكثر إيالم ًا وقسـوة‪.‬‬
‫يتبي أن السـينام تيضء بشـكلٍ أقوى موقف ًا نعيشـه يف املرسح‬ ‫هكذا َّ‬
‫يل معـاً‪ُ .‬يعيـد‬
‫والروايـة والشـعر‪ ،‬إذ نسـتطيع تجربـة األمل والتمتـع الجما ّ‬
‫ِّ‬
‫الجاملية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ـن هـذا األمل لنـا مـن خالل منحنـا اللـذة والعاطفـة واملتعـة‬
‫الفَ ّ‬

‫‪69‬‬
‫الجامليـة األمل فينـا‪ :‬إنهـا تجعلـه مرئيـاً‪ ،‬وتجعلـه‬
‫ّ‬ ‫دون أن تحـذف املتعـة‬
‫محسوساً‪.‬‬
‫كتـب جياكومـو ليوبـاردي (‪« :)Giacomo Leopardi‬تحـوز األعمال‬
‫العبقريـة القـدرة على متثيل عدم األشـياء بشـكلٍ خشـن‪ ،‬و ُتظهـر بوضوح‬ ‫ّ‬
‫وأن‬
‫الحتميـة‪ ،‬والتعبير عـن أفظـع أنـواع اليـأس‪ْ ،‬‬‫ّ‬ ‫وتشـعر مبأسـاة الحيـاة‬
‫تعبـة‪ ،‬محرومة مـن األوهام وفريسـة‬ ‫تكـون مـع ذلـك عزاء لـروح سـامية ُم َ‬
‫معرضـة ألكثر املشـاق املريـرة واملميتـة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫للعـدم وللملـل واإلحبـاط‪ ،‬أو‬
‫[‪ ]...‬عنـد اسـتحضارها املـوت ومتثيلـه ُتعيـد إىل الـروح مؤقت ًا هـذه الحياة‬
‫املفقـودة‪ :‬مـا تفكِّ ـر فيـه الـروح يف الواقـع تكمـده وتقتلـه‪ ،‬مـا َّ‬
‫تتأملـه يف‬
‫ٍ‬
‫بطريقـة مختلفـة حقيقـة‬ ‫أعمال العباقـرة الذيـن يقلِّـدون أو يسـتحرضون‬
‫األشـياء‪ ،‬يبهجهـا ويحييهـا»(((‪.‬‬

‫فهم اإلنسان‬

‫ُنومة تقريب ًا‬ ‫ِ‬


‫ُشـاهد يكون يف حالة من االسـتالب امل ِّ‬ ‫يرى املُثقَّفون أن امل‬
‫جـزء من الرتفيه والنسـيان لدى‬‫ٌ‬ ‫الجلي‪ .‬يوجد بالتأكيد‬
‫ّ‬ ‫تجعلـه يفقـد وعيـه‬
‫ُشـاهد‪ ،‬لكـن يوجـد لديـه أيضـ ًا ويف الوقـت نفسـه اسـتبصاراً‪ :‬تجعلنـا‬ ‫ِ‬ ‫امل‬
‫الشـخصيات‪ ،‬هـذه العالقـة الرائعـة التـي‬
‫ّ‬ ‫وتقمـص‬
‫ُّ‬ ‫املشـاركة يف السرد‬
‫ما وتعاطفـ ًا يف السـينام مما نكونـه يف‬ ‫تفه ً‬
‫رواد الفيلـم‪ ،‬أكثر ُّ‬ ‫لدينـا مـع َّ‬
‫الحيـاة الطبيعية‪.‬‬
‫ـد دون كارليـون (‪ ،)Don Corleone‬يف فيلـم‬ ‫على سـبيل املثـال‪ُ ،‬ي َع ُّ‬
‫يـؤدي دور البطولـة فيـه مارلـون برانـدو‬
‫العـراب (‪ ،)Le Parrain‬الـذي ِّ‬
‫(((‬

‫(‪ ،)Marlon Brando‬مجرمـاً‪ .‬لكننـا نـدرك يف الوقـت نفسـه أنـه يحـب‬

‫‪(1) Giacomo Leopardi, Zibaldone, Allia, 2003.‬‬


‫((( العراب (‪ )1972‬فيلم أمرييك من ثالثة أجزاء‪ ،‬إخراج فرنسيس فورد كوبوال‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫عائلتـه‪ ،‬ولديـه مشـاعر األخوة ومشـاعر الشرف‪ .‬إنه قادر كذلك عىل أسـوأ‬
‫إن تعاطفنـا أقـوى مـن نبذنـا‪ ،‬ألننـا ال نـرى‬‫أفعـال الجبن وأسـوأ الخـدع‪ّ .‬‬
‫إنسـانيته أيضـاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الإنسـانيته فحسـب‪ ،‬بـل‬
‫ّ‬
‫يقـول هيجـل‪« :‬إذا أطلقت اسـم املجـرم عىل َم ْن ارتكـب جرمية‪ ،‬فإنني‬
‫أختـزل شـخصيته كلّهـا يف هـذه الجرميـة الواحدة وأنسى كلَّ يشء آخر»‪.‬‬
‫ذلـك مـا نفعلـه يف الحيـاة العاديـة‪ ،‬إذ نختـزل الغير يف أحـد جوانبـه‪ ،‬أي‬
‫ـن ال نحبهم‪ ،‬ويف أفضل جانب بالنسـبة إىل‬ ‫يف أسـوأ جانـب بالنسـبة إىل َم ْ‬
‫ـن نحبهم‪.‬‬
‫َم ْ‬
‫نشـاهد يف السـينام املُترشديـن والسـجناء الذيـن ارتكبـوا جنحـ ًا‬
‫أو جرائـم‪ ،‬ومـع ذلـك نتعاطـف معهـم‪ ،‬ألننـا نشـعر بـأمل املسـجون‪،‬‬
‫ُتشرد((( الرائـع الـذي يلعـب دوره تشـاريل شـابلن‪ ،‬بينام‬
‫ونتعاطـف مـع امل ِّ‬
‫ُترشديـن الحقيقيين يف الشـارع ونتج َّنبهـم‪.‬‬
‫نغـض البصر عـن امل ِّ‬
‫إنسـانية ونحـن يف السـينام‪ ،‬ونكـون أفضل مما نكونه‬‫ّ‬ ‫لـذا‪ ،‬نكـون أكثر‬
‫تعـدي هـذه الفكـرة إىل مسرح شكسـبري‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يف الحيـاة العاديـة‪ ،‬وميكننـي‬
‫ـن يدخـل يف مؤلَّفه‬
‫أو إىل روايـة دوستويفسكي‪ .‬يثير هـذا املُؤلِّـف لـدى َم ْ‬
‫الشـفقة الالنهائيـة تجـاه املذلولين واملُهانين‪ ،‬واالشـمئزاز مـن الـذل‬
‫واالزدراء‪ .‬ونشـعر بالرحمـة وحتـى بالحـب تجـاه املُهـان يف فيلـم كان‬
‫يـا مـا كان يف الغـرب(((‪ ،‬كما هـو الحـال مـع جميـع املُهانين يف األفلام‪.‬‬
‫لكـن خـارج أعمال دوستويفسكي وخـارج السـينام‪ ،‬نعيـش مـع مذلولين‬
‫ومهانين وحولنـا‪ ،‬أي النازحين واألطفـال واملهاجريـن والهاربين الذيـن‬
‫تتجاهلهـم أعيننـا واهتاممنـا‪.‬‬
‫ونتجرد من‬
‫َّ‬ ‫واإلنسـانية والتعقيـد حاملا نغادر السـينام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ننسى الرحمة‬
‫ميد إلينـا الوعاء‪،‬‬
‫اإلنسـانية مـن جديـد‪ ،‬فنتج َّنـب املُتسـول العجوز الـذي ُّ‬
‫ّ‬

‫‪(1) Le Vagabond, Charlie Chaplin (1915).‬‬


‫‪(2) Il était une fois dans l ‘Ouest, Sergio Leone (1968).‬‬

‫‪71‬‬
‫ُترشديـن الذيـن نلتقـي بهـم يف الشـارع‪ ،‬ونكـره ونحتقـر املُجرمين‬
‫وامل ِّ‬
‫الذيـن نراهـم يف أخبـار التليفزيـون‪.‬‬
‫كيـف نجعـل فضائـل الفهـم التـي تو ِّفـر لنا السـينام واملسرح واألدب‪،‬‬
‫بشـكلٍ رسيـع أو مؤقَّـت‪ ،‬دامئةً ؟‬

‫الرسم‬
‫َّ‬
‫الجداريـة للكهـوف التـي تعـود إىل ما‬ ‫ّ‬ ‫الرسـم مبناسـبة اللّوحـات‬
‫ذكرنـا َّ‬
‫قبـل التاريخ‪ ،‬ومبناسـبة التشـابه الذي يتطلَّـب ف ّن ًا واعي ًا متامـ ًا بالجمع بني‬
‫الخطـوط واأللـوان ويف الوقت نفسـه محاكاة مع الحيوان املرسـوم‪ .‬ميكن‬
‫النفسـية‬
‫ّ‬ ‫البرشية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لهـذه املحـاكاة أن تـدرك‪ ،‬من خالل التعبري يف الصورة‬
‫صـور‪ ،‬كام هـو الحال لدى رامربانـت (‪.)Rembrandt‬‬ ‫للم َّ‬‫العميقـة ُ‬
‫إمـا على الواقـع أو على‬‫الروايـة أو السـينام‪ ،‬يركِّ ـز ّ‬
‫الرسـم‪ ،‬مثـل ِّ‬
‫إن َّ‬
‫الخيـال‪ ،‬كما هـو الحـال مـع جيروم بـوش (‪ )Jérôme Bosch‬عىل سـبيل‬
‫املثـال‪ .‬يف الحالـة األوىل‪ُ ،‬يعيد إحياء السـحر الكامن يف االزدواجية التي‬
‫مل ُحلمي‪.‬‬
‫الشـعرية عىل الواقـع‪ ،‬ويقودنا يف الحالة الثانيـة‪ ،‬إىل عا ٍ‬
‫ّ‬ ‫تصبـغ‬
‫َّ‬
‫يتجلى إبـداع الفَ َّنـان يف حالة نشـوته النصفية ومـن خاللها فقط‪ ،‬بل‬ ‫ال‬
‫مـن خلال النشـاط الواعـي لعقلـه أيضاً‪ ،‬الـذي يتدخـل يف التأليـف وزاوية‬
‫الرؤيـة‪ :‬يكمـن الفَ ّن أحيان ًا يف وضع املشـهد األسـايس يف الخلفية أو عىل‬
‫الهامـش‪ ،‬كما هـو الحـال يف فيلـم سـقوط إيـكار (‪)La Chute d’lcare‬‬
‫تحـول ظهـور يسـوع إىل البرق‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫لبيتر بروغـل (‪ .)Pieter Bruegel‬أو يف‬
‫كما يف هدايـة القديـس بولـس يف طريقـه إىل دمشـق لكارافاجيـو(((*‪.‬‬

‫((( * مايكل أنجلو مريييس دا كارافاجيو (‪ ،)Michel angelo Merisi da Caravaggio‬بـ الفرنسية كارافاج‬
‫ّ‬
‫وتوف يف‬ ‫رسام إيطايل ولد يف ‪ 29‬سبتمرب‪/‬أيلول ‪ 1571‬يف ميالنو‬
‫(‪ )Caravage‬أو لو كارافاج (‪ّ ،)le Caravage‬‬
‫‪ 18‬يوليو‪/‬متوز ‪ 1610‬يف بورتو إركول‪[ .‬املرتجم]‬

‫‪72‬‬
‫جـد ًا يف الصـور‬‫ّ‬ ‫الغـريب لفتر ٍة طويلـة‬
‫ّ‬ ‫الرسـم‬
‫متثَّلـت موضوعـات َّ‬
‫التاريخيـة ومشـاهد‬
‫ّ‬ ‫األسـطورية واملشـاهد‬
‫ّ‬ ‫واملشـاهد الدينيـة واملشـاهد‬
‫الشـعبية واملناظـر الطبيعيـة‪ .‬ثم انطالقـ ًا من القرن التاسـع عرش‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحيـاة‬
‫الرسـم نفسـه‪،‬‬ ‫الرسـم ال يتعلَّـق باملوضوع بقدر ما يتعلَّق بفَ ّن َّ‬ ‫فـن َّ‬
‫أضحـى ّ‬
‫وتغي التشـكيل مع‬ ‫َّ‬ ‫وخاصـة منـذ سـيزان (‪)Cézanne‬؛‬ ‫ّ‬ ‫منـذ االنطباعيين‪،‬‬
‫الرسياليـة‪ .‬ويف الوقت نفسـه‬
‫ّ‬ ‫بيكاسـو‪ .‬كما ظهـر خيـال جديد مـع النزعـة‬
‫الجداري الجديد بـدء ًا من دييغو‬
‫ّ‬ ‫ازدهـر‪ ،‬يف مكسـيك مـا بعد الثـورة‪ ،‬الفَ ّن‬
‫ريفيرا (‪ )Diego Rivera‬إىل فلادي (‪ .)Vlady‬ثم اختفى التشـكيل لصالح‬
‫األشـكال أو املكعبـات أو األلـوان أو حتـى الخطـوط السـوداء يف لوحـات‬
‫هانـس هارتـون (‪ )Hans Hartung‬وبيير سـوالج (‪)Pierre Soulages‬‬
‫على سـبيل املثال‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حضـارات أخرى وعصو ٍر‬ ‫انتشر يف القـرن العرشين عرض اللّوحات من‬
‫أخـرى يف املتاحـف‪ ،‬وظهـرت األعمال ما بعـد التشـكيلية يف كلّ قارة؛ ثم‬
‫ٍ‬
‫لوحـات‬ ‫اسـتوىل اقتصـاد هائـل على األعمال التشـكيلية‪ .‬أعـرف أن هنـاك‬
‫باهظـة الثمـن لديغـا (‪ )Degas‬ورونوار (‪ )Renoir‬متكـث يف خزائن البنوك‬
‫ملوث بتسـليع أصبـح اقتصاداً‪.‬‬
‫الرسـم َّ‬
‫مثـل سـبائك الذهـب‪ .‬يبدو أن َّ‬

‫املوسيقى‬

‫عبر املوسـيقى‪« ،‬اللُّغـز األسـمى لعلـوم اإلنسـان»‪ ،‬حسـب ليفـي‬ ‫ُت ِّ‬
‫«لغـة الـروح» ‪.‬‬
‫(((‬
‫ُ‬ ‫شتراوس‪ ،‬أفضـل مـن سـواها عـن حياتنـا العاطفيـة‪ .‬إنها‬
‫تقـول إيرين ليوثود (‪ ،)Irène Léothaud‬عاملة االجتامع‪ :‬إن «املوسـيقى‬
‫أقـرب مـن الكلمات والصـور من كلّ مـا يهـم‪ ،‬أي الحياة واملـوت والحب»‪.‬‬
‫كما كتـب تومـاس دي كونينـك (‪« :)Thomas De Koninck‬يجـد فيهـا‬

‫النفسية‪ .‬للروح‬
‫ّ‬ ‫نتصور الروح ليس كجوهر‪ ،‬بل كانبثاق للنشاط الدماغي يحمل يف ذاته الحساسية‬
‫َّ‬ ‫(((‬
‫واقعها‪ ،‬مثل العقل‪ ،‬لكن واقعها يعتمد عىل نشاط الدماغ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫االحتفـال واالبتهـاج واالبتهـال وممتنـع القـول تعبير ًا ال ميكنهـم العثـور‬
‫عليـه يف مـكانٍ آخـر»‪.‬‬
‫تخاطـب هـذه اللُّغـة‪ ،‬باعتبارهـا أكثر اللُّغـات حميميـة‪ ،‬العاطفـة‬
‫العميقـة وروحنـا‪ ،‬إنهـا تخاطبنـا دون كالم‪ .‬إننـا نخـون املوسـيقى عندمـا‬
‫ٍ‬
‫كلمات‪ ،‬ألنهـا ال ُتقـال بطبيعتهـا‪.‬‬ ‫نرتجمهـا إىل‬
‫شـعرية‪ .‬تجتمـع‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بكلمات‬ ‫ومـع ذلـك‪ ،‬ميكـن أن تكـون مصحوبـة‬
‫املوسـيقى والشـعر فيعملان على تقويـة مشـاعر بعضهما البعـض (ليـد‬
‫«‪ ،»lied‬أو األوبـرا‪ ،‬أو األغنيـة)‪ .‬تؤثـر املوسـيقى بقوتهـا العاطفيـة يف‬
‫الكلمات التـي تعطـي بدورهـا للموسـيقى معنـى رصيحـ ًا يحمـل شـعر ًا‬
‫خاصـ ًا بـه يف لغتـه الدالليـة أو التامثليـة التـي تعمـل على انبثـاق األلعاب‬
‫ّ‬
‫بين الكلمات واملوسـيقى واملعـاين الضمنيـة‪ :‬يبلـل الشـعران بعضهما‬
‫الخـاص الـذي ينقلـه إىل املوسـيقى التـي تنقـل‬
‫ّ‬ ‫البعـض‪ .‬للشـعر سـحره‬
‫الشـعرية عىل النرث‪،‬‬‫إليـه سـحرها‪ .‬تصبغ املوسـيقى‪ ،‬يف بعض الحـاالت‪ِّ ،‬‬
‫الشعبية لويز لشـاربونتييه (‪ ،)Charpentier‬أو يف أغنية‬
‫ّ‬ ‫سـواء يف األوبرا‬
‫«املطلقـون» مليشـيل ديلبيـش (‪.)Michel Delpech‬‬
‫نوع أنتـج روائعه إذا فكَّ ر املرء بشـكلٍ‬
‫ليسـت األغنيـة نوعـ ًا ثانوياً‪ ،‬إنهـا ٌ‬
‫خـاص يف ترينـي (‪ )Trenet‬وبريفري (‪ )Prévert‬وكوسما (‪ )Kosma‬وبريل‬ ‫ّ‬
‫(‪ )Brel‬وفريي (‪ )Ferre‬وبرانسـنس (‪.)Brassens‬‬
‫الدقـة يف‬
‫جـداً‪ ،‬إذ يعـرف أقصى درجـات ِّ‬
‫إن مجـال املوسـيقى واسـع ّ‬ ‫ّ‬
‫تدويـن املوسـيقي مـن أجـل األداء‪ ،‬ويف الوقـت نفسـه يعـرف ارتجـال‬
‫الكالسـيكية دقيقـة للغايـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫موسـيقى الجـاز‪ .‬تكـون النوتـة يف املوسـيقى‬
‫وتكـون يف الوقت نفسـه مـؤرشات األداء غري واضحة‪ .‬فاألزمنة املوسـيقية‬
‫أليغـرو (‪ )Allegro‬وأليغـرو فيفـاس (‪ )allegro vivace‬وأندانتـي‬
‫(‪ )andante‬وأداجيـو (‪ )adagio‬وشيرزو (‪ )scherzo‬هـي أزمنـة نفسـية‬
‫حر ّيـة التأويـل لقائـد األوركسترا‪ .‬يسـمح هـذا املزيج مـن الغموض‬
‫متنـح ّ‬
‫متعـددة للقطعـة املوسـيقية نفسـها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫والدقـة بتأويلات‬
‫ِّ‬

‫‪74‬‬
‫الجامليـة إىل أعلى الدرجـات‪ .‬إنهـا تحتـوي‬
‫ّ‬ ‫تنقـل املوسـيقى املشـاعر‬
‫على إيقـاع ولحـن ميكنهـا أن تفصلهما أو تصلهما‪ .‬تنقلنـا آالت النقـر‬
‫ٍ‬
‫حالـة ثانية تصبح نشـوة(((‪ ،‬فعندمـا يتملَّكنا اإليقاع نرقص‪،‬‬ ‫واإليقاعـات إىل‬
‫حـد الوجـد تقريبـاً‪.‬‬
‫تحـرك عواطفنـا إىل ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ميكنهـا أن‬
‫إن اسـتمرارية اللَّحـن‪ ،‬التـي تغلِّـف الـروح وتلجهـا يف الوقـت ذاتـه‪،‬‬
‫سـاحرة‪.‬‬
‫يحـوز تكـرار (اإليقـاع‪ ،‬الجوقـة‪ ،‬املقطـع املوسـيقي) شـيئ ًا سـاحر ًا‬
‫كـرر موسـيقى الـروك‪ ،‬وحتـى‬ ‫يحـرض على نشـوة الهيجـان‪ُ .‬ت ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ومهلوِسـ ًا‬
‫ُ‬
‫املوسـيقى اإللكرتونيـة اإليقـاع واملوضـوع نفسـيهام بلا كلـل إلثـارة‬
‫الجاذبيـة والنشـوة‪.‬‬
‫مبجـرد أن تتملَّكنا أغنيـة أو لحن‪ ،‬ال ميكننـا التخلُّص‬
‫َّ‬ ‫علاو ًة على ذلـك‪،‬‬
‫مر ًة أخـرى‪ ،‬ونغنيها‬
‫نود سماعها ّ‬‫منهما‪ ،‬إذ تخالـج ذهننـا لفترة طويلة‪ ،‬إذ ُّ‬
‫يخـف ذلـك‪ ...‬ثـم تنبثـق‬
‫َّ‬ ‫باسـتمرار‪ ،‬إننـا يف حالـة سـح ٍر تامـة‪ .‬ننتظـر أن‬
‫مجد د اً‪.‬‬
‫َّ‬
‫آه! إليكم ما يخالجني يف كث ٍ‬
‫ري من األحيان‪:‬‬
‫هل تعرف البلد الذي يزهر فيه الربتقال؟‬
‫بلد الفاكهة الذهبية والورود القرمزية‪،‬‬
‫أخف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حيث يكون النسيم أكرث لطف ًا والطيور‬
‫الرحيق‪،‬‬
‫َ‬ ‫موسم يجمع النحلُ‬
‫ٍ‬ ‫حيث يف كلِّ‬
‫حيث يشع ويبتسم‪ ،‬مثل نعمة من الله‪،‬‬
‫ربيع أبدي تحت سامء دامئ ًا زرقاء!‬
‫ٌ‬

‫((( انظر املُؤلَّف الرائع لعا ِلم املوسيقى اإلثنية جيلبري روجي‪:‬‬
‫‪Gilbert Rouget, La Musique et la Transe, Gallimard, 1980.‬‬

‫‪75‬‬
‫وا أسفاه! ال أستطيع متابعتك؟‬
‫نحو هذا الشاطئ السعيد الذي نفاين عنه القدر!‬
‫أود أن أعيش‪،‬‬
‫هنا! املكان حيث ُّ‬
‫أحب وأموت(((!‬
‫ّ‬ ‫أحب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وأن‬
‫ويف هذه اللحظة ال ُيفارقني هذا الصوت املوسيقي‪:‬‬
‫مع الكتا ِئب األربع‬
‫التي تدافع عن مدريد‬
‫وأفضل ما يناسب إسبانيا‬
‫الزهرة األكرث احمرار ًا يف املدينة‪.‬‬
‫ضجة‬
‫ضجة‪َّ ،‬‬
‫تعالت َّ‬
‫أصوات مدفع رشاش‬
‫وفرانكو يذهب يف نزهة‪.‬‬
‫مع الخامس والخامس والخامس‪،‬‬
‫مع الفوج الخامس‬
‫يا أمي إين ذاهب إىل الجبهة‬
‫ِ‬
‫خطوط النار(((‪.‬‬ ‫إىل‬
‫كان أيب يغنـي باسـتمرار أغـاين زمانـه‪ ،‬وكطفـلٍ أحببـت األغـاين‬
‫ربـا كنـت يف الرابعـة‬
‫خـاص‪ .‬ذات يـوم‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫واملسيرات العسـكرية بشـكلٍ‬
‫عشرة مـن عمري‪ ،‬سـمعت عىل املذياع موسـيقى غمرتني فجأة بسـحرها‪:‬‬

‫((( جول باربييه وميشيل كاريه‪ ،‬مؤلِّف كتيب‪ :‬مينيون (‪)Mignon‬‬


‫‪Jules Barbier et Michel Carré, Mignon, opéra d’Ambroise Thomas créé en 1866.‬‬
‫((( أغنية مناهضة للفاشية خالل الحرب املدنية اإلسبانية‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫اكتشـفت السـمفونية الرعويـة لبيتهوفـن‪ .‬ثـم‪ ،‬بعـد فتر ٍة وجيـزة‪ ،‬أغرقنـي‬
‫للمؤلِّف نفسـه يف سـح ٍر جديد‪ .‬خالل حفلٍ موسـيقي يف‬ ‫كونرشتو الكامن ُ‬
‫قاعـة غافـو (‪ )Gaveau‬شـعرت بالنشـوة‪ .‬لقـد جذبتنـي منـذ نوتـات النـداء‬
‫للحركـة األوىل وصعقتنـي عندمـا انفجـر فجـأة بعنـف إبداعـي لألوركسترا‬
‫بأكملهـا املوضـوع األويل فغمـرين بالكامـل‪ ،‬وأصبح مصريي ًا بالنسـبة إيلّ‪.‬‬
‫مبزيـج مـن النشـوة والوجـد‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عندئـذ غمرتنـي هـذه الحركـة األوىل والتـزال‬
‫مؤخـر ًا مقطـع فيديـو لحفـلٍ موسـيقي يف قاعـة الفيالرمونيك‬ ‫شـاهدت َّ‬
‫أدتـه أوركسترا الشـباب الفنزويلي‪ ،‬أطفـال األحيـاء الفقيرة‪،‬‬ ‫لربوكسـل َّ‬
‫الذين أصبحوا بفضل عازف البيانو خوسـيه أنطونيو أبريو (‪José Antonio‬‬
‫‪ )Abreu‬عـازيف أوركسترا‪ .‬عزفـت هـذه األوركسترا املُؤلَّفـة مـن األوالد‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫ُترددة املوسـيقية‬
‫والبنـات‪ ،‬مـن بينهـم أطفـال أصغـر مـن آلـة امل ِّ‬
‫بهـم‪ ،‬السـمفونية األوىل ملهلـر (‪ ،)Mahler‬بقيـادة السير سـيمون راتـل‬
‫(‪ ،)Simon Rattle‬القائـد الرئيـس ألوركسترا الفيالرمونيـك لربلين‪ .‬مل‬
‫التنـوع‪ ،‬والجمال الـذي‬‫ُّ‬ ‫تحقِّـق أوركسترا الشـباب الوحـدة والتجانـس يف‬
‫اسـتمر خلال جميـع حـركات هـذه السـمفونية الطويلـة فقـط‪ ،‬بـل علينـا‬
‫أن نـرى كيـف‪ ،‬يف النهايـة‪ ،‬غمـر الحماس املُتفرجين‪ ،‬وغمـر راتـل نفسـه‬
‫يقبلـون‬ ‫الـذي أصبـح وجهـه منتشـي ًا متامـاً‪ ،‬واملوسـيقيني الذيـن كانـوا ِّ‬
‫ـن فحسـب‪ ،‬بـل كان تدفُّقـ ًا‬ ‫بعضهـم بعضـاً‪ :‬مل يكـن هـذا إنجـاز ًا رائعـ ًا للفَ ّ‬
‫هائلاً للغبطـة الجامليـة‪.‬‬
‫الجامليـة‪ ،‬حيـث تولِّـد اللَّـذة واملعانـاة‬
‫ّ‬ ‫تكمـن ذروة يف املفارقـة‬
‫والسـعادة والشـقاء بعضهما البعـض‪ ،‬يف األداجيـو لــخامسية‬
‫يعبر عـن بـؤس شـوبرت الذي ال‬ ‫(‪ )Quintette‬شـوبرت (‪ .)Schubert‬إنـه ِّ‬
‫جامليـة مـن دون إزالـة األمل فقـط‪ ،‬بل عىل‬ ‫ّ‬ ‫يشـعرنا التعبير عنـه بسـعادة‬
‫ٍ‬
‫بحـب أيضـاً‪...‬‬ ‫العكـس يجعلنـا نشـاركه إيـاه‬
‫الشيء نفسـه يسري على مقطوعـة املحكـوم باإلعـدام ملاريـو‬
‫أحـب‬
‫ّ‬ ‫كارافـادويس (‪ )Mario Caravadossi‬الـذي يصيـح يف توسـكا‪« :‬مل‬
‫الحيـاة أبـد ًا بهـذا القـدر»‪ .‬هنـاك ذروة للبـؤس الـذي يجلـب لنـا السـعادة‬

‫‪77‬‬
‫الجامليـة عندمـا يجعلنـا نعاين من هذا البؤس‪ ،‬يقـول يويزك (‪)Woyzeck‬‬ ‫ّ‬
‫عندمـا قتـل ماري (‪« :)Marie‬أنا‪ ،‬اليشء‪ ،‬يا ماريـا! وال أحد غريي!»(((*‪ .‬لقد‬
‫ذرفـت دمـوع األمل واملتعة عندما اعتقدت السـيدة باترفالي (‪)Butterfly‬‬
‫ٍ‬
‫سـنوات‪ ،‬أشـعرين األمـل الالنهايئ‬ ‫أنهـا تـرى الرجـل الذي كانت تنتظره منذ‬
‫بيـأس النهايئ‪ ،‬وكذلك بالشـعور بالجلال يف اللحظة‬ ‫ٍ‬ ‫واملُضلِّـل يف غنائهـا‬
‫التـي صاحـت فيهـا‪« :‬املـوت‪ ،‬املـوت مـن الفـرح»‪ .‬تسري صيغـة بيتهوفن‬
‫«الفـرح مـن خلال املعانـاة (‪ »)Durch Leiden Freude‬على هـذه‬
‫ين يف التكامـل املتنازع للسـعادة‬ ‫املوسـيقى‪ .‬تكمـن قمـة التعقيـد اإلنسـا ّ‬
‫جامليـات املوسـيقى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والشـقاء يف‬
‫تشـبه عمليـة التوليـد الـذايت الحلقـي لسـوناتا‪ ،‬أو سـيمفونية‪ ،‬الحيـاة‪،‬‬
‫التحول‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫إنهـا عمليـة إعـادة البدايـة‪/‬‬
‫خاصيـة تكرار املوضوع لدى بـاخ (‪ ،)Bach‬ويف الهروب(((** (‪la‬‬
‫ّ‬ ‫تخضـع‬
‫‪ ،)fugue‬اللحـن الـذي يجـري وراء نفسـه مـن تلقـاء نفسـه لهـذا املنطـق‬
‫تتحـرك يف العمق‪.‬‬
‫َّ‬ ‫باعتـدال ويف الوقـت نفسـه بتقـوى‬
‫رومانسـية بيتهوفـن الصاخبـة الشـغوفة‪ ،‬وفواصلـه العنيفـة أو‬
‫ّ‬ ‫تنقلنـي‬
‫اللطيفـة‪ ،‬اندفاعاتـه‪ ،‬ندمـه وعوداتـه‪ ،‬دامئـ ًا إىل حالـة متل ٍ‬
‫ُّـك ثانية‪.‬‬
‫الكالسـيكية‪ ،‬ودعونـا نترك األغنيـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫دعونـا اآلن نترك املوسـيقى‬

‫(((* وردت يف الكتاب العبارة باللغة األملانية كاآليت‪،»Nicht nicht Marie und nicht anders« :‬‬
‫النص األصيل ملرسحية‬ ‫ّ‬ ‫املقتبسة من أوبرا فويتسك أللبان بريغ (‪ ،)Alban BERG‬وهي عبارة ال توجد يف‬
‫فويتسك لغورغ بوشنري (‪ .)Georg Büchner‬وعندما أردت التحقّق منها شاهدت ِع ّدة صيغ لهذه األوبرا يف‬
‫اليوتيوب فاكتشفت أن العبارة ليست صحيحة إذ يرد الحوار كاآليت‪:‬‬
‫?‪ MARIE :Was zittert? Was will‬‬
‫! ‪ WOZZECK: Ich nicht, Marie ! Und kein andrer auch nicht‬‬
‫ترد فع ً‬
‫ال يف األوبرا‪« :‬أنا‪ ،‬اليشء‪ ،‬يا ماريا! والأحد‬ ‫فأخربت إدغار موران بذلك واتفقنا عىل ترجمة العبارة كام ّ‬
‫غريي!»‪[ .‬املرتجم]‬
‫((( ** الهروب (‪ )fugue‬هو شكل من أشكال الكتابة املوسيقية‪ ،‬ظهر يف القرن السابع عرش‪ ،‬أُطلق عليه اسم‪:‬‬
‫«فوغا (‪( »)fuga‬الالتينية‪« :‬فوجري (‪ ، »)fugere‬وبالفرنسية‪ :‬هرب (‪ ، )fuir‬وهو تلحني يستند بالكامل إىل هذه‬
‫ٍ‬
‫صوت إىل آخر‪ .‬إنه أحد‬ ‫العملية‪« :‬الهروب» ‪ ،‬ألن املستمع يكون لديه االنطباع بأن موضوع «الهروب» يهرب من‬
‫أكرث أشكال التلحني تطلّباً‪ ،‬إذ يستغل موارد الطباق ومبدأ املُحاكاة‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫الثوريـة‪ :‬تنقلنـا‬
‫ّ‬ ‫الوطنيـة واألغـاين‬
‫ّ‬ ‫الوطنـي واألغـاين‬
‫ّ‬ ‫لرنكـز على النشـيد‬
‫عاطفيـة شـديدة يف الوقـت نفسـه الـذي تدمجنـا يف مجتمـع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إىل حالـة‬
‫ين‪.‬‬
‫ألن الشـعور باالندمـاج يف املجتمـع جـزء شـاعري مـن الوجود اإلنسـا ّ‬
‫الفرنسي‪ ،‬ونشـيد املقاومـة البولـوين‪ ،‬ونشـيد‬
‫ّ‬ ‫الوطنـي‬
‫ّ‬ ‫يشـعرين النشـيد‬
‫الحـرب املناهضـة للفاشـية «الفوج الخامـس (‪»)El quinto regimento‬‬
‫بالنشـوة‪.‬‬
‫ثوريـاً‪ ،‬ألنـه مل يعـد‬
‫ثوريـاً‪ ،‬أو باألحـرى عندمـا كان ّ‬
‫عندمـا يكـون املـرء ّ‬
‫يشء مـا مبهـج‪ .‬هنـا أيضـاً‪ ،‬نحـن يف حالـة ثانيـة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫كذلـك‪ ،‬يكـون لألغـاين‬
‫حيـث تؤثـر النشـوة املوسـيقية والكلمات املسـكرة يف بعضهـا البعـض‬
‫وتتداخـل‪ ،‬إنـه شـعر الشـعور باالندمـاج يف مجتمـع هائـل‪ ،‬واالندفـاع‬
‫اإلنسـانية‪ .‬عندمـا أغنيهـا يف حفلـة‪ ،‬ينبعث اإلميـان امليت‬
‫ّ‬ ‫بتحـرر‬
‫ُّ‬ ‫لإلميـان‬
‫يف ذايت ويبقـى يف الوقـت ذاتـه ميتـاً‪ ،‬فـأذرف دموعـ ًا مضاعفـة‪.‬‬

‫األوبرا‪ :‬املأساة واملوسيقى‬

‫الجامليـة للأمسـاة واملوسـيقى‪ .‬لـن أُكـرر‬


‫ّ‬ ‫تربـط األوبـرا بين الفضائـل‬
‫الجاملية مجتمعـة يف قوة‬
‫ّ‬ ‫هنـا مـا قلتـه عنهام معـاً‪ .‬غالبـ ًا ما ترتكَّ ـز قوتهـا‬
‫عاطفـة ال ُتضاهـى‪ .‬إن روائـع األوبـرا هـي يف الوقـت نفسـه روائع موسـيقية‬
‫وروائـع مأسـاة مـن قبيـل‪ :‬يوجين أونيجين (‪،)Eugène Onéguine‬‬
‫بوريـس غودونـوف (‪ ،)Boris Godounov‬كارمـن (‪ ،)Carmen‬ال ترافياتـا‬
‫(‪ ،)La Traviata‬بليـاس وميليسـاند (‪ ،)Pelléas et Mélisande‬ال‬
‫فالكيري (‪ ،)La Walkyrie‬سـيغفريد (‪ ،)Siegfried‬تريسـتان وإيزولـد‬
‫(‪ ،)Tristan et Isolde‬مـدام باتـريف (‪ ،)Madame Butterfly‬وويزيـك‬
‫(‪ )Woyzeck‬وغريهـا‪ .‬متتلـك نغامتهـم ذكرياتنـا وكلّ يشء يدفعنـا إىل‬
‫تتجـدد باسـتمرار‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مـرات وبلـذة‬ ‫ـدة َّ‬ ‫رؤيـة األوبـرا نفسـها ِع ّ‬
‫شـخصية املُخـرِج‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫تتجلى فيهـا‬ ‫لـن أتنـاول هنـا املشـكالت التـي‬

‫‪79‬‬
‫الشـخصيات‬
‫ّ‬ ‫الرغبـة‪ ،‬كما هـو الحـال بالنسـبة إىل املسرح‪ ،‬يف إلبـاس‬
‫األسـطورية أو املـايض بأزيـاء ُم ِ‬
‫عـاصة‪ ،‬مـن أجـل التأكيـد على األسـايس‬ ‫ّ‬
‫عمليات‬
‫ّ‬ ‫أحـب‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يتجلى يف الحركـة واملوسـيقى‪ .‬أقول مـن جهتي إنني‬ ‫الـذي‬
‫األسـطورية كما يف نابوكـو‬
‫ّ‬ ‫اإلخـراج املُذهلـة التـي تعيـد بنـاء مصر‬
‫(‪ ،)Nabucco‬قـد أسـأت فهـم بوريـس غودونـوف (‪)Boris Godounov‬‬
‫وهـو يرتـدي بذلـةً كاملـة!‬
‫الجامليـة الرائعـة لتحليقـات‬
‫ّ‬ ‫لـن أذكـر هنـا الرقـص الكالسـييكّ ‪ ،‬اللّغـة‬
‫وانحنـاءات الجسـد‪ ،‬الـذي تحملـه املوسـيقى املأسـاوية لبحيرة البجـع‬
‫فـن الرقـص‬‫الخـاص‪ .‬وجـد ّ‬
‫ّ‬ ‫الكونيـة‪ ،‬فتجذبنـا بسـحرها‬
‫ّ‬ ‫أو طقـوس الربيـع‬
‫عهـد ًا جديـد ًا يف املرسحيـات املوسـيقية التـي ِّ‬
‫يؤديهـا فريد أسـتري (‪Fred‬‬
‫فـن الباليـه‬
‫‪ )Astaire‬وسـيد شـاريس (‪)Cyd Charisse‬؛ كما اكتسـب ّ‬
‫قصـة الحـي الغـريب (‪West‬‬ ‫دفعـةً جديـدة يف هوليـوود‪ ،‬وبلـغ ذروتـه يف ّ‬
‫‪ )Side Story‬وحمـى ليلـة السـبت (‪.)Saturday Night Fever‬‬
‫أتحـدث عـن فنـون الجمبـاز التـي تسـتعمل اإلمكانيـات‬ ‫َّ‬ ‫أخيراً‪ ،‬لـن‬
‫الرياضيـة‬
‫ّ‬ ‫وجامعيـاً‪ ،‬ويف الفنـون‬
‫ّ‬ ‫فرديـ ًا‬
‫ّ‬ ‫الالنهائيـة للعـب جسـد اإلنسـان‪،‬‬
‫ّ‬
‫والقتاليـة‪ ،‬ويف مباريـات كرة القـدم أو لعبة الركبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـة‬ ‫والبهلواني‬
‫ّ‬ ‫ـة‬ ‫والبحري‬
‫ّ‬

‫‪80‬‬
‫ُحاضة السادسة)‬
‫(امل َ‬

‫موسعة‬
‫َّ‬ ‫وجامليات‬
‫ّ‬ ‫فنون جديدة‬

‫اسـتغرق األمـر‪ ،‬كما ذكرنـا مـن قبـل‪ ،‬عقـود ًا حتـى يتـم االعتراف‬
‫ـن‪ .‬منـذ ذلـك الحين‪ ،‬حدثـت عمليـة مامثلـة بالنسـبة إىل‬‫بالسـينام كفَ ٍّ‬
‫ُتحركـة واملسلسلات التليفزيونيـة والـراب‪.‬‬‫الصـورة والرسـوم امل ِّ‬

‫فن التصوير الفوتوغرايف‬


‫ّ‬
‫الشـخصية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫انتقل التصوير الفوتوغرايف من االبتذال الذايت (الذكريات‬
‫واملوضوعيـة (الصـور اإلخباريـة يف الصحافة) إىل‬
‫ّ‬ ‫السـياحية)‬
‫ّ‬ ‫والذكريـات‬
‫االعرتاف بـه كفَ ٍّن‪.‬‬
‫يتـم‬
‫الخاصـة بسـحر القريـن‪ .‬مل ّ‬
‫ّ‬ ‫بجاملياتـه تلـك‬
‫ّ‬ ‫متـت االسـتهانة‬
‫لقـد َّ‬

‫‪83‬‬
‫عمليـات ميكانيكيـة بحتـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ـن‪ ،‬ليـس فقـط ألنـه بـدا نتـاج‬ ‫االعتراف بـه كفَ ٍّ‬
‫مخصصـ ًا لالسـتعامالت املوضوعيـة لإلخبـار ولالسـتعامالت‬ ‫َّ‬ ‫بـل ألنـه كان‬
‫لألحبـاء أو األعـزاء املُتوفين؛ وألنـه بـدا‬
‫ّ‬ ‫الذاتيـة‪ ،‬أي الحضـور املهـووس‬
‫موجهـاً للسـياح الذيـن يقومـون بضغطـة زر‪ ،‬وإىل املُصطافين الذيـن‬ ‫َّ‬
‫يرغبـون يف الحصـول على ذكريـات جميلـة على الشـواطئ مبالبـس‬
‫فـن التصويـر الفوتوغرايف مقترص ًا عىل الطبقات الوسـطى‪،‬‬ ‫السـباحة‪ .‬كان ّ‬
‫وقـد حصره بورديـو يف هذا الـدور باعتبـاره «ف ّن ًا متوسـطاً»‪ ،‬غري مـدرك أنه‬
‫ٍ‬
‫باعتراف عاملي‪ .‬ومـع ذلك‪ ،‬وجد‬ ‫بعد تشـخيصه السـابق ألوانه‪ ،‬سـيحظى‬
‫مصـورون ف َّنانـون مثـل روبـرت دواسـنو (‪.)Robert Doisneau‬‬ ‫ِّ‬ ‫بالفعـل‬
‫فـن ضبـط الصـورة‪،‬‬
‫ـن التصويـر الفوتوغـرايف‪ ،‬أي ّ‬ ‫تـم االعتراف بفَ ِّ‬
‫ثـم َّ‬
‫أدى‬‫مما َّ‬
‫وفـن الوضـع‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وفـن اللقطـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وفـن اإلضـاءة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وفـن زاويـة الرؤيـة‪،‬‬
‫ّ‬
‫مما‬
‫تـم الشـعور بسـحر القريـن أكثر ّ‬‫إىل تكريـم الصـورة تدريجيـاً‪ .‬لقـد َّ‬
‫ـن التصويـر الفوتوغـرايف يف قاعـات العـرض‬ ‫تـم اكتشـافه‪ ،‬واعترف بفَ ّ‬ ‫َّ‬
‫تبين أن الفيلسـوف جـون بودريـار‬
‫ومعارضـه ومهرجاناتـه ونقَّـاده؛ كما َّ‬
‫مصـور ف َّنـان‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫(‪)Jean Baudrillard‬‬

‫تحركة‬ ‫الرسوم ا ُ‬
‫مل ِّ‬ ‫قيمة ِّ‬
‫أنشـأ فرانسـيس الكاسين (‪ )Francis Lacassin‬يف عـام ‪ 1962‬نـادي‬
‫الجامليـة‪ ،‬جمـع النـادي كال مـن آالن‬
‫ّ‬ ‫ُتحركـة اعرتافـاً بقيمتهـا‬
‫الرسـوم امل ِّ‬
‫ريسـني (‪ )Alain Resnais‬وكريـس ماركـر (‪ )Chris Marker‬وإفيلين‬
‫سـولريوت (‪ )Évelyne Sullerot‬وأالن روب غرييـت (‪Alain Robbe-‬‬
‫أول‬
‫‪ )Grillet‬وديلفين سيريغ (‪ )Delphine Seyrig‬وأنـا‪ .‬قـام بتنظيـم َّ‬
‫ُتحركـة يف إيطاليـا عـام ‪ 1965‬علاو ًة على‬‫للرسـوم امل ِّ‬ ‫مهرجـان دويل ُّ‬
‫معـارض أخـرى مختلفـة‪ .‬لقد كان األمر يتعلَّق مبسـألة إضفـاء القيمة عىل‬
‫رسـوم تانتـان (‪ )Tintin‬وأستريكس (‪ )Astérix‬اللذيـن قرأوهما عندمـا‬
‫ال (وبالنسـبة إيل‪ ،‬باعتبـاري مـن جيـل أقـدم‪ ،‬أقـدام مطليـة‬ ‫كانـوا أطفـا ً‬

‫‪84‬‬
‫ووصـف بأنـه‬‫متـت إدانـة هـذا النـادي ُ‬
‫بالنيـكل «‪َّ .)»Les Pieds nickelés‬‬
‫مرتفـع ومخـادع يف مجلـة األزمنـة الحديثـة (‪)Les Temps modernes‬‬
‫تطـور يف وقـت الحـق‬
‫َّ‬ ‫ُتحركـة نتـاج أسـوأ بـذاءة‪.‬‬
‫الرسـوم امل ِّ‬
‫التـي تعتبر ِّ‬
‫فـن «راشـد» وأصلي وغنـي مـن خلال ضبـط الصـورة وزوايـا املشـاهدة‬ ‫ّ‬
‫كما يف األفلام‪ ،‬ولقطـات مكبرة‪ ،‬ولقطـات مقربـة‪ ،‬ولقطـات مائلـة‪ ،‬ومـن‬
‫والرسـم‪.‬‬‫جامليـة جديـدة وإبداع مفعم بالحيوية يف السـيناريوهات َّ‬
‫ّ‬ ‫خلال‬
‫ُتحركـة ببـطء‪،‬‬
‫الرسـوم امل ِّ‬
‫ـن ِّ‬
‫تـم االعتراف بفَ ِّ‬
‫ومثلما حـدث مـع السـينام‪َّ ،‬‬
‫وأبر َز‬
‫فشـمل املهرجانـات مبا يف ذلك مهرجان أنغوليـم (‪َ ،)Angoulême‬‬
‫مؤلِّفين مرموقين‪ ،‬وأثـار اهتمام الصحافـة‪.‬‬

‫ازدهار املسلسالت‬

‫ارتقـت املسلسلات التليفزيونيـة يف اآلونـة األخيرة إىل املسـتوى‬


‫ـي‪ .‬لقـد اُحت ِقـرت متامـ ًا مـن ِقبـل العامل الفكـري واألكادميـي الذي من‬
‫الفَ ّن ّ‬
‫الواضـح أنـه مل يعرفهـا‪.‬‬
‫عـدد قليـل مـن املسلسلات التليفزيونية‬ ‫ٌ‬ ‫غير أنـه ُوجـد لفتر ٍة طويلـة‪،‬‬
‫ذات الجـودة‪ .‬كانـت السلسـلة األمريكيـة داالس (‪ )Dallas‬تشـبه اللّوحـة‬
‫الجداريـة لبلـزاك «العـامل القـايس» الـذي يسـوده املـال وحيـث يريـد‬
‫الحـب أن يعيـش‪ .‬مثَّلـت السلسـلة الربازيليـة الرائعـة دونـا بيجـا (‪Dona‬‬
‫‪ )Beija‬مـع ميـت بروينشـا (‪ )Maitê Proença‬الرائعـة تحفـة حقيقية‪ّ ،‬إل‬
‫أن العـامل الفكـري تجاهلهـا‪ .‬فقد ضحك منـي أصدقـايئ الربازيليون عندما‬
‫أثنيـت على هـذه السلسـلة‪ .‬كنـت أيضـ ًا مـن عشـاق سلسـلة مركـز رشطـة‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫نيويـورك (‪ )NYPD‬التـي تبرز التفاعـل بين حيـاة املهنية والحيـاة‬
‫لرشطـة ومسـاعدي مركـز رشطـة مانهاتـن‪ .‬بـل كنـت متابعـ ًا لسلسـلة‬
‫حد سـواء‪ ،‬سـتار تريـك (‪Star‬‬ ‫الخيـال العلمـي السـاذجة والشـاعرية على ٍّ‬
‫‪ )Trek‬التـي سـبقت العـرض الباهـر لــحرب النجـوم (‪ )Star Wars‬على‬
‫ـي بفضـل سلسـلة آل‬ ‫الشاشـات‪ .‬يف اآلونـة األخيرة فقـط بـدأ البروز الفَ ّن ّ‬

‫‪85‬‬
‫سـوبرانو (‪ ،)Sopranos‬ولعبـة العـروش (‪ )Game of Thrones‬وغريهـا‬
‫جامليـة على نحـ ٍو متزايـد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مـن املسلسلات التـي تكتسـب‬
‫نـوع جديـد مـن الفنون‪،‬‬
‫يف الوقـت نفسـه‪ ،‬مكَّ ـن التليفزيـون مـن خلـق ٍ‬
‫خاصـة تكمـن يف مونتـاج‬ ‫ّ‬ ‫بجامليـة‬
‫ّ‬ ‫هـو الفيلـم الوثائقـي الـذي ي َّتصـف‬
‫الشـهادات املختلفـة واملتناقضة حول الحدث نفسـه‪ ،‬مثل تلك املُتعلِّقة‬
‫بالحـرب يف يوغوسلافيا‪ ،‬حيـث يتـم اسـتجواب مختلف األنصـار الذين هم‬
‫متعـددة من‬
‫ِّ‬ ‫الصراع‪ ،‬وحيـث تتـم محاولـة إعـادة تشـكيل مجموعة‬ ‫أعـداء ِّ‬
‫الحقائـق واألكاذيـب املجـزأة يف لغـ ٍز تصويـري‪.‬‬
‫بالتنوع سـمح‬
‫ُّ‬ ‫ُيشـكِّ ل تكاثـر القنـوات التليفزيونيـة واإلذاعيـة نطاق ًا غني ًا‬
‫جامليـة تعـرض أفالم ًا كبرى يف تاريـخ السـينام‪ ،‬أو حفالت‬ ‫ّ‬ ‫بوجـود قنـوات‬
‫كالسيكية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫موسـيقية‬
‫وهكـذا يظهـر حاليـ ًا على شاشـة التليفزيون سـواء يف الوثائقيـات ذات‬
‫ـن‬
‫الرومانسي‪ ،‬الفَ ّ‬
‫ّ‬ ‫التاريخـي‪ ،‬أو يف املسلسلات ذات الطابـع‬
‫ّ‬ ‫الطابـع‬
‫الجامليـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باإلضافـة إىل كلّ رشوط الصفـة‬
‫حـوار منطقـي بين التعـاون املتنـازع إنتـاج‪ /‬إبـداع‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وعليـه‪ ،‬يحـدث‬
‫ـن‪ ،‬بالنسـبة إىل التليفزيـون‪ ،‬كما هـو الحـال بالنسـبة إىل‬ ‫الربـح‪ /‬الفَ ّ‬
‫الجيد‬
‫ّ‬ ‫وجامليات؛ مام يجعـل العمل‬
‫ّ‬ ‫فـن‬
‫الكتـاب‪ ،‬أو الفيلـم‪ ،‬أو كلّ مـا هو ّ‬
‫جـد ًا يف ظلّ التدفُّـق الهائل للمنتجات االسـتهالكية ذات‬
‫ممكنـ ًا لكنـه قليل ّ‬
‫التأثير النفسي‪.‬‬
‫ُشـاهد ليـس يف حالـة استرخاء وانتبـاه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أضـف إىل ذلـك أن امل‬
‫ين ملشـاهد السـينام‪ .‬إنـه ينظر‬
‫وبالتـايل ال يكـون يف حالـة الفهـم اإلنسـا ّ‬
‫إىل شاشـته على الطاولة‪ ،‬أو خالل العشـاء‪ ،‬أو وهو متعـب‪ ،‬فريتاح أمام‬
‫عـرض لعبـة أو برنامـج فرجـوي‪ .‬بالطبـع‪ ،‬ميكـن أن يكـون التلفـاز ظاهـرة‬
‫ام يكمـن يف البقـاء أمام الشاشـة السـتهالك كلّ‬‫إدمـان أيضـاً‪ ،‬بـل وتسـم ً‬
‫يشء دون توقُّـف‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫الفنون التطبيقية‬

‫لـن أذكـر هنـا موسـيقى الـراب التـي انطلقـت مـن الضواحـي أو هوامش‬
‫املدينـة‪ُ ،‬ر ِفضـت يف بداياتهـا مـن ِقبـل العـامل املثقَّـف‪ ،‬ثـم أُكسـبت‬
‫ـن مـن ِقبـل منارصيهـا‪.‬‬‫أوصافهـا الفَ ِّن ّيـة واالعتراف بهـا كفَ ٍّ‬
‫ُصورة التـي أصبحت أحيانـ ًا ف ِّن ّية بفضـل املونتاج‬
‫ولـن أذكـر األغنيـة امل َّ‬
‫غري التقليـدي للصور‪.‬‬
‫أذكـر بإيجـاز اإلشـهار الـذي كان يف البداية عبارة عن ملصقات وكشـف‬
‫أما اليوم‪،‬‬
‫عبر طوفـان من الرداءة ف َّنانين مثل بول كولين (‪ّ .)Paul Colin‬‬
‫والريفيـة؛ لقـد‬
‫ّ‬ ‫الحرضيـة‬
‫ّ‬ ‫الطبيعيـة‬
‫ّ‬ ‫تشـوه إعالنـات امللصقـات املناظـر‬ ‫ِّ‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫ورقمية‪ ،‬تكتسـح شاشـاتنا وأجهزة الحاسـوب‬
‫ّ‬ ‫أصبحـت تليفزيونيـة‬
‫بنـا على نحـ ٍو غـا ٍز ووقـح‪ ،‬وغالب ًا ما تكـون فظيعـة وبذيئة‪ .‬يوجـد عدد كبري‬
‫الجاملية‪ .‬غير أن تحدث مـن حني آلخر‬
‫ّ‬ ‫مـن األعمال التـي تخلـو متام ًا مـن‬
‫اكتشـافات ف ِّن ّيـة جميلة‪.‬‬
‫الشـخصية مـن أجـل االسـتقاللية‬
‫ّ‬ ‫امللكيـة‬
‫ّ‬ ‫تثير السـيارة‪ ،‬موضـوع‬
‫ُسرع‪ ،‬املتعـة‪ ،‬بـل تخلـق إثـارة عدوانيـة أو‬ ‫والقـوة اللتين مينحهما اَمل ِّ‬
‫تطـورت ليـس مـن‬ ‫َّ‬ ‫جنـون العظمـة لـدى أصحابهـا أو مسـتخدميها‪ .‬لقـد‬
‫الجامليـات أيضاً‪ .‬إنه‬
‫ّ‬ ‫حيـث الراحـة واآلليـات التحريرية فقـط‪ ،‬بل من حيث‬
‫تقدم من خالل السـيارات ومـن أجلها‬ ‫ُفضـل لإلعالنـات التـي َّ‬ ‫املوضـوع امل َّ‬
‫صـور ًا منطيـة للسـعادة‪ .‬إذا شـاهدنا يف التليفزيـون أو السـينام اإلعالنـات‬
‫جمـل ليـس شـكل السـيارة فقط‪ ،‬بل‬ ‫الوفيرة للسـيارات‪ ،‬فإننـا نـرى أن مـا ُي ّ‬
‫متعـة القيـادة ومتعـة القيـادة بأقصى رسعـة على طريـق جميـل‪ ،‬وعبر‬
‫الحر ّيـة‪ ،‬والتمتـع بإخضـاع طاقـة هائلـة‬
‫ّ‬ ‫منظـ ٍر طبيعـي جميـل‪ ،‬إنهـا متعـة‬
‫ُسرع‪ ،‬متعـة أن تكـون وحيـد ًا يف بعـض األحيـان‬ ‫كما تريـد بواسـطة امل ِّ‬
‫شـخص ثـانٍ يف سـعادة الحـب‪ ،‬وأحيانـ ًا‬
‫ٍ‬ ‫كسـيد لفـرس نـاري‪ ،‬وأحيانـ ًا مـع‬
‫أرسيـة‪ .‬كلّ هـذا يحجـب ازدحامـات املـرور يف‬ ‫ّ‬ ‫مـع األطفـال يف سـعادة‬
‫وتلـوث الهـواء وتفضيـل‬
‫ُّ‬ ‫املناطـق الحرضيـة وصعوبـات ركـن السـيارات‬

‫‪87‬‬
‫الجـذب النفسي للسـيارة على أي موضـوع آخـر مـن حضارتنـا‪.‬‬
‫نتحـدث عن تجميل العـامل الصناعـي‪ ،‬اآلالت والقطارات‬
‫َّ‬ ‫أخيراً‪ ،‬دعونـا‬
‫والطائـرات‪ ،‬أي األشـياء التـي ُج ِّملـت مـن حيـث شـكلها أو سـبائكها أو‬
‫تغليفهـا مـن أجل تحقيـق اإلغراء الجمايل ملوضوع نفعي أو لالسـتهالك‪.‬‬
‫البرشيـة مظهـران‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يف كلّ حضـارة‪ ،‬يكـون للعديـد مـن املوضوعـات‬
‫يل (العـرض‪ ،‬الديكـورات واأللـوان)‪ .‬يف حضارتنـا‪ ،‬يتحكَّ ـم‬ ‫عملي وجما ّ‬
‫ّ‬
‫الجامليـات لبيـع منتجاتها بشـكلٍ أفضل‪ .‬يعـرف كيف يلعب‬‫ّ‬ ‫ويضـخ‬ ‫الربـح‬
‫اإلغـواء عـن طريـق إضافـة جانـب جمايل سـطحي إىل طبيعـة األشـياء‬
‫الناتجـة عـن اإلنتـاج الصناعـي أو املُص َّنـع الضخـم (مثـل الطعـام)‪.‬‬
‫أدى تعميـم هـذا التجميـل‪ ،‬يف الواقـع‪ ،‬إىل جعـل العـامل الصناعـي‬ ‫َّ‬
‫ردة الفعـل لصالح الحـرف اليدوية الجديـدة التي بدأت يف‬ ‫ّ‬ ‫فكانـت‬ ‫ً‪،‬‬
‫ال‬ ‫مبتـذ‬
‫وكـرد فعـل على التنميـط املعيـاري‬‫ِّ‬ ‫النصـف الثـاين مـن القـرن العرشيـن‪.‬‬
‫ذوق‬
‫تطور منذ السـتينيات ٌ‬ ‫السـائد للعامل الحضري واملنتجات الصناعية‪َّ ،‬‬
‫الخاصـة‬
‫ّ‬ ‫جاملياتـه‬
‫ّ‬ ‫يطـور‬
‫ِّ‬ ‫ريفـي جديـد‪ ،‬متقـادم جديـد‪ ،‬وطبيعـي جديـد‪،‬‬
‫والتفـرد والعمـل اليـدوي‪ .‬تتـم إعـادة تأهيـل اليد يف‬
‫ُّ‬ ‫على أسـاس األصالـة‬
‫مقابـل اآللـة‪ ،‬مبـا يف ذلـك أفعالها الخرقـاء وأخطاؤها‪ .‬يقول إتيان سـوريو‬
‫(‪« :)Étienne Souriau‬إن املوضـوع املُص َّنـع ميكانيكيـاً ‪ ،‬على الرغـم‬
‫مـن كاملـه التـام‪ ،‬أدىن مـن املوضـوع املصنـوع باليـد‪ ،‬بسـبب نقصـه»‪.‬‬
‫فـن مـن قريـة غرينويـش (‪ )Greenwich‬وحـي سـان جريمـان دو‬ ‫انتشر ّ‬
‫بـري (‪ )Saint-Germain-des-Prés‬على نطـاقٍ واسـع يف جميـع أنحـاء‬
‫العـامل‪ .‬ال يتعلَّـق األمـر باألشـياء التـي يتـم فيهـا متييـز الخـام واملـادة‬
‫تجمع‬
‫فقـط‪ ،‬بـل باملالبـس والحيل واملجوهـرات والديكـور واألثاث أيضـاً‪َّ .‬‬
‫جامليـة «بوبـو (‪.*(((»)bobo‬‬
‫ّ‬ ‫كلّ هـذا مـن خلال إنتـاج‬

‫(((* يطلق هذا االسم عىل الشخص املُثقَّف الذي يعيش حالة مادية ميسورة ويدعم اإلبداع والتنمية‬
‫املُستدامة‪ ،‬ويدعو إىل املساواة ويرفض املنافسة وسيادة املال‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ُحاضة السابعة)‬
‫(امل َ‬

‫واللعبي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والصويف‬ ‫والشعري‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجاميل‬ ‫التفاعل بني‬

‫غالبـ ًا مـا ُتحفِّـز الظـروف الخارجيـة اإلبـداع الفَ ّن ّي الـذي يعتمـد أحيان ًا‬
‫للتحـدي‪ .‬لكنـه يكـون دامئـ ًا مزيجـ ًا مـن‬‫ِّ‬ ‫على الصدفـة و‪ /‬أو يسـتجيب‬
‫يتضمـن «اإللهـام»‪ ،‬أي‬‫َّ‬ ‫نشـاط «مـا بعـد شـاماين» لعقـل املُؤلِّـف الـذي‬
‫واع‬‫وإن كانـت مخفَّفـة‪ ،‬ومـن نشـاط ٍ‬ ‫النشـوة والتملُّـك واملُحـاكاة حتـى ْ‬
‫يصحـح ويتحكَّ ـم‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫«عبقريـة» حضـور امليـزة الخارجيـة لشـيطان (‪)daimôn‬‬
‫ّ‬ ‫تبعـث كلمـة‬
‫أسـمى‪ ،‬مـن خالل التملُّـك‪ ،‬داخل املُبدع وتكشـف عن ارتقائه األسـطوري‪.‬‬
‫ُيسـتبطن السـحر ويضمر‪ ،‬فيصبح شـعور ًا ضمن االنفعال الجاميلّ‪ .‬إن‬
‫الفَ ّن شامانية ُمسـتبطَ نة ُ‬
‫ومضمرة‪.‬‬
‫والتعجـب والنشـوة والتملُّـكات‬
‫ُّ‬ ‫تصير الحـاالت الثانيـة‪ ،‬أي التمتـع‬
‫املتوسـطة ومـا قبـل الوجـد‪ ،‬سـائدة يف ذروة العاطفـة‬
‫ِّ‬ ‫والحـاالت شـبه‬

‫‪91‬‬
‫والصوفيـة‬
‫ّ‬ ‫واللعبيـة‬
‫ّ‬ ‫الشـعرية‬
‫ّ‬ ‫الجامليـة‪ .‬وتكـون حـارضة يف الحـاالت‬
‫ُقدسـة الكثيفـة‪.‬‬
‫وامل َّ‬
‫النرثية‪ ،‬ولها‬
‫ّ‬ ‫الشـعرية ليسـت أقـل «طبيعية» من الحـاالت‬
‫ّ‬ ‫إن الحاالت‬
‫والحب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تتضمن التعاطف واملشـاركة‬
‫َّ‬ ‫صفـة معيارية‪ ،‬كما‬
‫الشـعرية‬
‫ّ‬ ‫إن كلّ مـا هـو جمايل‪ ،‬كما سـبق الذكـر‪ ،‬جـزء مـن الصفـة‬
‫يل‬
‫الشـعري‪ .‬إن الشـعور الجما ّ‬
‫ّ‬ ‫الجامليـات دامئـ ًا‬
‫ّ‬ ‫تحـدد‬
‫ّ‬ ‫البرشيـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫للحيـاة‬
‫الشـعرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مظهـر مـن مظاهـر التأمـل أو‪ /‬واإلعجـاب يف التجربـة‬
‫واللعبـي‪ .‬متامـ ًا مثلما‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫الشـعري والجما ّ‬
‫ّ‬ ‫توجـد عالقـة تناضـح بين‬
‫حـد ذاتهـا‪ ،‬ميثـل اللعـب‪ ،‬كما كتـب‬ ‫الجامليـة غايتهـا يف ِّ‬
‫ّ‬ ‫تجـد العاطفـة‬
‫هرني دي مونرثالن (‪« ،)Henry de Montherlant‬نشـاط ًا غايته املتعة‬
‫التـي يشـعر بهـا املـرء وليـس يف أي يشء خارجهـا»‪ .‬غالبـ ًا مـا نالحظ أن‬
‫مـؤرخ الفَ ّن بيري‬
‫ِّ‬ ‫ـن نشـاط لعـب باألشـكال واملـواد‪ ،‬وهذا ما أشـار إليه‬‫الفَ َّ‬
‫ـن هـو أسـمى تعبير‬ ‫فرانكاسـتيل (‪ )Pierre Francastel‬بقولـه‪ :‬إن «الفَ ّ‬
‫جامليـة صـادرة عـن اللعبـة‬‫ّ‬ ‫عـن اللعـب»‪ُ .‬يولِّـد مشـهد األلعـاب مشـاعر‬
‫نفسـها («املبـاراة الجميلـة»)‪ ،‬والتـي تتكثـف أحيانـ ًا يف اللعـب باملـوت‬
‫(ألعـاب السيرك الرومانيـة‪ ،‬مصارعـة الثيران)‪ .‬إن اإلنسـان اللعـوب‬
‫يل يف الوقـت نفسـه‪.‬‬ ‫شـاعري وجما ّ‬
‫ّ‬ ‫(‪)Homo ludens‬‬
‫يتجلى يف كونهما غاية‬ ‫َّ‬ ‫واللعبي‬
‫ّ‬ ‫يل‬
‫يوجـد قاسـم مشترك بين الجما ّ‬
‫ودينيـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واحتفاليـة‬
‫ّ‬ ‫سياسـية‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫ألغـراض‬ ‫ذاتهما‪ ،‬لكـن ميكـن اسـتخدامهام‬
‫دينيـ ًا مـن خلال وضـع ف ّنـه أو‬ ‫سياسـي ًا أو ّ‬
‫ّ‬ ‫ميكـن للفَ َّنـان أن يشـيع أو يتنبـأ‬
‫ـن أن يندمـج دامئـ ًا يف‬ ‫قضيـة أو عقيـدة؛ وميكـن للفَ ّ‬ ‫ّ‬ ‫موهبتـه يف خدمـة‬
‫جامليات‬
‫ّ‬ ‫ُقـدس‪ .‬كانـت هنـاك دامئـاً‬ ‫يل أو إعـادة االندمـاج يف امل َّ‬ ‫االحتفـا ّ‬
‫يف االحتفـاالت الكبرى‪ ،‬ويف تتويـج الفـارس يف العهـد اإلقطاعـي‪ ،‬ويف‬
‫مراسـم فرسـاي يف عهـد لويـس الرابـع عشر‪ ،‬وآداب االسـتقبال الرئايس‬
‫الخاصـة بالسـاحة‬ ‫ّ‬ ‫يف اإلليزيـه‪ ،‬ومسيرات نورمبرغ يف عهـد هتلـر وتلـك‬
‫الحمـراء خلال حكـم سـتالني‪ ،‬ويف موكبنـا واسـتعراضاتنا يف ‪ 14‬يوليـو‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫والوطنـي‬
‫ّ‬ ‫والدينـي‬
‫ّ‬ ‫ُقـدس‬
‫متضمـن ومدمـج يف امل َّ‬‫ّ‬ ‫يل‬
‫إن البعـد الجما ّ‬
‫متضمـن ومدمـج يف الحفلـة ومبـاراة كـرة القـدم‬
‫ِّ‬ ‫والسـيايس‪ ،‬مثلما هـو‬
‫ّ‬
‫والنقـاش املتلفـز‪ ،‬ويف األخبـار السـينامئية سـابقاً‪ .‬لكـن ميكـن تدميره‬
‫بسـبب شـجار بني السـكارى ومعـارك بني املشـجعني‪ ،‬وتدفـق االنفعال‬
‫السـيايس الـذي ينـزع الجامليـة عـن العـرض‪.‬‬
‫ّ‬
‫أضف إىل ذلك أن املرسح واملباراة الدولية والسـينام نفسـها تشـمل‬
‫يتجلى يف املسرح يف إطفـاء األنـوار والدقـات الثلاث‬ ‫َّ‬ ‫احتفاليـاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫طقسـ ًا‬
‫ورفـع السـتار وتحيـات الفَ َّنانين يف نهايـة العـرض‪ .‬قللـت السـينام كثير ًا‬
‫مـن طقوسـها مـع العـرض الدائـم‪ .‬ويتمثـل يف املباريـات الدوليـة يف‬
‫االسـتامع للنشـيد الوطنـي وإنشـاده بحـرارة واملصافحـة باأليـدي بين‬
‫ـد ذاتهـا طقـس‬ ‫اللذويـة للهـدف هـي يف َح ِّ‬
‫ّ‬ ‫الفريقين‪ .‬إن لحظـة الوجـد‬
‫للهـداف وعناقـه وتقبيلـه املحمومين لزمالئـه‪.‬‬‫َّ‬ ‫نشـوة النصر‬
‫الجامليـة والحـاالت‬
‫ّ‬ ‫يجـب أن نالحـظ أيضـ ًا التناضـح بين الحـاالت‬
‫الجامليـة األسـمى‪ ،‬نصـل إىل‬ ‫ّ‬ ‫الصوفيـة‪ ،‬إذ عندمـا نصـل إىل العاطفـة‬
‫ّ‬
‫تجـاوز الـذات مـن خلال الشـعور بالالنهايـة أو املُطلـق الـذي يكـون‬
‫صوفيـاً‪ .‬أشـار هنري برميونـد (‪ )Henri Brémond‬إىل العالقـة بين‬ ‫ّ‬
‫ُـؤرخ‬
‫الصوفيـة والتأمـل الجمايلّ‪ ،‬إذ يعتربنـا هـذا الكاهـن وامل ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الحـاالت‬
‫ملهمين؛ إنـه يرى‬ ‫متصوفين وكلّنـا شـعراء وكلّنـا َ‬
‫ّ‬ ‫الكبير للديـن جميعـ ًا‬
‫اسـتمرارية تصاعديـة بين الشـعر واإلخلاص والوجـد‪ ،‬ألن الشـعر‪،‬‬
‫مجمـع‪ ،‬يدعونـا إىل (السـكينة)»؛‬ ‫ِّ‬ ‫بالنسـبة إليـه‪ ،‬يف جوهـره «سـحر‬
‫فالفنـون «تجـذب الجميـع‪ ،‬ولكـن كلّ واحـد مـن خلال السـحر الوسـيط‬
‫الصلة‬‫بحق ِّ‬ ‫ّ‬ ‫حدد برميـون‬ ‫الخـاص بـه‪ ،‬إىل االنضمام إىل الصلاة»‪ .‬هكذا َّ‬ ‫ّ‬
‫الجامليات ال‬
‫ّ‬ ‫يف‬ ‫أنـه‬ ‫ذلك‬ ‫إىل‬ ‫أضف‬ ‫ف‪.‬‬ ‫والتصـو‬
‫ُّ‬ ‫ـات‬ ‫والجاملي‬
‫ّ‬ ‫الشـعر‬ ‫بين‬
‫إما أمام‬ ‫الخـاص ّ‬
‫ّ‬ ‫تجـد العاطفـة شـعور ًا باطني ًا يف الدين‪ ،‬بـل يف تكثيفها‬
‫ين‪ ،‬أو أمـام األعمال الفَ ِّن ّية املوسـيقية عىل‬ ‫الطبيعـي أو اإلنسـا ّ‬
‫ّ‬ ‫الجمال‬
‫خـاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وجـه‬
‫ُخدرات‬
‫تـؤدي الحفلـة عرب إثارتهـا‪ ،‬بالرقـص واملوسـيقى وامل ِّ‬
‫ميكـن أن ِّ‬

‫‪93‬‬
‫والتملُّـكات التامـة (حفلات الهذيـان‪ ،‬وحفلات موسـيقى الـروك)‪ ،‬إىل‬
‫واللعبـي والصـويفّ ‪ ،‬بـل وحتـى امل َّ‬
‫ُقـدس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يل‬
‫الخلـط بين الجما ّ‬

‫والجاملية‪ :‬تلخيص‬
‫ّ‬ ‫الشعرية‬
‫ّ‬ ‫الحاالت‬

‫تعبر عـن األشـكال املختلفـة للحـاالت‬


‫نلخـص الكلمات التـي ِّ‬
‫دعونـا ِّ‬
‫الجامليـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشـعرية وتشـمل الحـاالت‬
‫ّ‬
‫‪ -‬الحالـة الثانيـة‪ :‬اسـتخلصت هـذا املصطلـح مـن أصلـه املـريض‪،‬‬
‫الشـعرية واإلبداعـات والعواطف‬
‫ّ‬ ‫خاصـ ًا بالحـاالت‬
‫ّ‬ ‫لجعلـه مصطلحـ ًا عامـ ًا‬
‫الجامليـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشـعرية‪ :‬حالـة من إضعـاف مراكز الفصـل الدماغي بني األنا‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الحالـة‬
‫والالأنـا (أنـت‪ ،‬نحـن‪ ،‬العـامل) يف كلّ ما هو شـعر وحب وتواصل ومشـاركة‬
‫وعاطفـة جامليـة‪ ...‬نكـون يف هـذه الحالـة املفضلـة‪ ،‬يف االنفصـال وعدم‬
‫االنفصـال معاً‪.‬‬
‫محـددة‪ ،‬سـارة أو سـعيدة‪ ،‬يثريها‬
‫َّ‬ ‫شـعرية‬
‫ّ‬ ‫الجامليـة‪ :‬عاطفـة‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الحالـة‬
‫ـي‪.‬‬
‫بشري‪ ،‬أو عمـل ف ّن ّ‬
‫ّ‬ ‫مشـهد الطبيعـة‪ ،‬أو حـدث‪ ،‬أو سـلوك‬
‫الجاملية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التعجب‪ :‬حالة اإلعجاب الكبري‪ ،‬تتكثف يف العاطفة‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬حالة‬
‫جامعي ًا‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬حالة املشـاركة‪ :‬اتفاق وتناغم املشـاعر أو األفكار املشتركة‬
‫يف جامعـة مؤقتة أو دامئة‪.‬‬
‫‪ -‬حالـة التملُّـك‪ :‬الحالـة التي يسـكننا فيها إله أو روح أو وجد أو شـيطان‬
‫أو شـخص آخـر أو شـخصية مرسحيـة (ممثِّـل) أو بطـل أو نجم سـيناميئ أو‬
‫فكـرة أو قوى غير معروفة‪.‬‬
‫َّ‬
‫وتتجلى‬ ‫ـي تحـت اسـم اإللهـام‬
‫‪ -‬حالـة النشـوة‪ :‬تحـدث يف اإلبـداع الفَ ّن ّ‬
‫يف أشـكالٍ مختلفـة منهـا التملُّـك‪ ،‬الكهانـة (‪ ،)Pythie‬والوسـاطة ونشـوة‬
‫مييـز جيـل ليوثـود (‪Gilles‬‬
‫الجماع والحفلـة‪ .‬إنهـا الحالـة الثانيـة‪ِّ .‬‬ ‫ِ‬

‫‪94‬‬
‫‪ )Léothaud‬بين ثلاث نشـوات‪ :‬أوالً‪ :‬النشـوة الشـامانية التـي ميكـن‬
‫التقمـص التـي تشـمل حـاالت‬
‫ُّ‬ ‫أن تكـون عنيفـة ومتشـنجة؛ ثانيـاً‪ :‬نشـوة‬
‫الدينيـة التي‬
‫ّ‬ ‫الصوفيـة‬
‫ّ‬ ‫التملـك(((؛ ثالثـاً‪ :‬نشـوة التعاطـف‪ ،‬تشـمل الحـاالت‬
‫العـريب((( ودويندي يف‬
‫ّ‬ ‫الدنيويـة مثـل الطـرب‬
‫ّ‬ ‫تـؤدي إىل الوجـد‪ ،‬والحـاالت‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫ُشـاهد نشـوة املشـاركة املُكثفـة‪.‬‬ ‫الفالمينكـو التـي ميكـن أن متنـح امل‬
‫الشدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬حالة اإلثارة‪ :‬يدفع السحر والحامس إىل أعىل درجة من‬
‫‪ -‬حالـة اإللهـام‪ :‬الشـعور بنفـس إبداعي ينعـش الفَ َّنان مـن خالل حالة‬
‫النشوة‪.‬‬
‫الصوفيـة‪ :‬حالـة متنـح شـعور ًا بحماس الوحـدة واالنسـجام‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬الحالـة‬
‫القريـب مـن النشـوة‪.‬‬
‫الشـعرية على‬
‫ّ‬ ‫ُقدسـة‪ :‬تتحقَّـق عندمـا تنطـوي العاطفـة‬
‫‪ -‬الحالـة امل َّ‬
‫احترام النهـايئ وعلى اإلخلاص والتقـوى‪ ،‬وحتـى على العشـق‪ .‬يف رأيي‪،‬‬
‫ومقدسـة كامنـة أو مدمجـة يف كلّ مشـاركة مكثفـة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫صوفيـة‬
‫ّ‬ ‫توجـد صفـة‬
‫الجامليـة الشـديدة‪ .‬هكـذا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ويف كلّ حـب عميـق‪ ،‬كما يف كلّ املشـاعر‬
‫األم‪ ،‬أو يف ذكرى مـكان الوالدة‪ ،‬أو يف‬
‫ُقـدس يف ذكـرى ّ‬ ‫ميكـن أن يوجـد امل َّ‬
‫صـورة املحبـوب الغائـب‪.‬‬
‫الشـعرية‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬حالـة الوجـد‪ :‬إن الوجـد هـو اإلنجـاز األسـمى للحـاالت‬
‫تـؤدي حـاالت الحماس الشـديد إىل الوجـد‪ ،‬وهـي الحالـة‬ ‫ِّ‬ ‫والجامليـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ُميـزة التـي ال يضعـف فيهـا فصا املـخ اللذان يفصلان األنا عـن العامل‪،‬‬
‫امل ّ‬
‫يتـم كبحهما‪ .‬إن الوجد هو‬
‫واألنـا عـن الغير‪ ،‬واألنـا عـن النحـن فقـط‪ ،‬بـل ّ‬
‫الحالـة املُتناقضـة‪ ،‬أيـن يجـد املـرء نفسـه حينما يفقدها‪ ،‬وعندمـا يحقِّق‬
‫املـرء نفسـه مـن خلال نسـيانها‪ .‬يحقِّـق الوجـد الشـعور باالنصهـار يف‬

‫الخاصة الفيلم الرائع لجريزي كاوالريوفيتش‬


‫ّ‬ ‫((( ومن ضمنها التملُّك من ِقبل الشيطان الذي يرويه بطريقته‬
‫(‪ :)Jerzy Kawalerowicz‬جان أم املالئكة (‪.)Mère Jeanne des anges‬‬
‫((( ذكر جيل ليوثود أن أحد الخلفاء األمويني يف القرن الثامن قد م َّزق مالبسه تحت تأثري موسيقى مغنٍ كبري‬
‫يف عرصه‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫ُؤديـة إىل الوجـد كثيرة‪ ،‬ميكنهـا أن تكـون‬
‫املُطلـق أو الـكلّ ‪ .‬إن الطـرق امل ِّ‬
‫للسـكر‪،‬‬
‫الصوفيـة‪ ،‬أو للحفلة‪ ،‬أو ُ‬
‫ّ‬ ‫الخاصـة بالكثافـة القصوى للنشـوة‬
‫ّ‬ ‫تلـك‬
‫الخاصـة بالطأمنينـة القصـوى‪ .‬تصير‬
‫ّ‬ ‫أو للعاطفـة‪ ،‬أو يف املقابـل تلـك‬
‫الجامليـة غبطـة وميكـن أن تصير هـي نفسـها وجـداً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سـعادة العاطفـة‬
‫الشـعرية هـي الطمـوح العميق لإلنسـان‪ ،‬فـإن الوجد‬
‫ّ‬ ‫إذا كانـت الحالـة‬
‫هـو الطموح األسـمى لهذا الطمـوح ‪.‬‬
‫(((‬

‫التوافق مع الواقع‬

‫تحمل الكثري‬
‫لإلنسانية ُّ‬
‫ّ‬ ‫وفق ًا لـ يت‪ .‬إس‪ .‬إليوت (‪« ،)T. S. Eliot‬ال ميكن‬
‫مـن الواقـع (‪.»)Humankind cannot bear very much reality‬‬
‫تحمله‪.‬‬
‫علينـا أن نتوصـل إىل توافـق مـع الواقـع لنتمكَّ ـن مـن ُّ‬
‫ُعمم‪.‬‬
‫ميكن تحقيق هذا التوافق عن طريق التجميل امل َّ‬
‫الدينيـة‬
‫ّ‬ ‫ُعمـم يتطابـق مـع تدهـور العقيـدة‬‫مبـا أن هـذا التجميـل امل َّ‬
‫واملعتقـدات الكبرى‪ ،‬فقـد يغـذِّ ي نزعـة عدميـة تفضـل التم ُّتـع الجما ّ‬
‫يل‬
‫ليصبـح الغايـة الوحيـدة للحيـاة‪.‬‬
‫كما ميكـن تحقيقـه‪ ،‬على العكـس مـن ذلـك‪ ،‬مـن خلال العـودة إىل‬
‫الديـن إليجـاد سـلوات خارقـة للطبيعـة مـن أجـل الهـروب مـن قلـق الفراغ‬
‫العدمـي‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬ميكن أن ُيثري الشـعر والجامل ما أسماه باسـكال الرتفيه الذي‬
‫الطبيعي لوضعنا‬
‫ّ‬ ‫يصرف انتباهنـا‪ ،‬عرب املشـاعر التي ينتجهـا‪« ،‬عن الشـقاء‬
‫جد ًا إىل درجة ال يوجد معها يشء يواسـينا»‪.‬‬
‫الهـش والقاتـل‪ ،‬والبائسـة ّ‬

‫((( قام جيل ليوثود بالتمييز بني النشوة والوجد بوضوح‪ ،‬يف حني ميكن أن نخلط بينهام‪ ،‬ألن النشوة القصوى‬
‫ميكن أن تصبح وجداً‪ ،‬فتكتسب عندئذ الغبطة والطأمنينة القصوى والشعور باملُطلق‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫يـود الكثير مـن الرتفيـه باملعنـى الباسـكايل يف حياتنا ويف‬‫األكيـد أنـه ّ‬
‫(«العامـة» أو وسـائل اإلعلام‪ ،‬بـل و«املُثقَّفين» أيضـاً) التـي تجعلنا‬
‫ّ‬ ‫ثقافـة‬
‫والرواية الرائعـة والفيلم الرائع‬
‫ننسى وضعنـا‪ .‬لكـن الفَ ّن الرائـع واملأسـاة ِّ‬
‫تذكِّ رنـا بوضعنـا وتضعنـا أمـام مصرينـا وموتنـا‪ .‬حتـى يف املسلسلات‬
‫والحـب والغيرة والكراهيـة‬
‫ّ‬ ‫التليفزيونيـة الرديئـة‪ ،‬نجـد مشـاكل حياتنـا‬
‫ونفر منهـا يف الوقت‬
‫ّ‬ ‫والطمـوح واملـرض والشـقاء والصدفـة؛ نجد أنفسـنا‬
‫ذاتـه‪ّ ،‬إل أننـا نهـرب مـن أنفسـنا ونجدهـا يف الوقـت نفسـه‪.‬‬
‫ـن الرائـع تعقيـد الهـروب مـن الواقـع املُبـارش إىل حيـث‬ ‫يوجـد يف الفَ ِّ‬
‫بشـغف وتعاطـف وفهـم‪ .‬إنـه بذلـك هـروب مـن الواقـع‬‫ٍ‬ ‫نجـد واقـع وضعنـا‬
‫واجتيـاح مـن ِقبـل الواقـع‪ .‬مل َ‬
‫يـر باسـكال‪ ،‬وهـو ُمفكِّ ـر التعقيد اإلنسـا ّ‬
‫ين‪،‬‬
‫الوجـه املُعقَّـد للرتفيـه‪ ،‬ألن هنـاك مقاومـةً للرتفيـه يف الرتفيـه‪.‬‬
‫الجامليـات والشـعر لنعيـش الواقـع بالكامـل مـع‬
‫ّ‬ ‫لذلـك ميكننـا حشـد‬
‫الجامليـات عن الديـن والسـحر‪ ،‬وهي تخلق‬
‫ّ‬ ‫وعينـا بقسـوته‪ .‬منـذ انفصلـت‬
‫الفرح ذلك لـ «أن الجامل سـبب الفرح إىل األبد ‪A thing of beauty is a‬‬
‫الجامليات‬
‫ّ‬ ‫تعرفنا‬
‫‪ ،»joy for ever‬كما قـال جون كيتـس (‪ِّ .)John Keats‬‬
‫تحمـل فائـض الواقـع الـذي ال ُيطاق؛‬
‫على نشـوة الوجـود‪ ،‬وتسـاعدنا على ُّ‬
‫متنحنـا العجائـب التـي نسـتقيها منها الطاقـة ملواجهة قسـوة العامل‪.‬‬
‫أخيراً‪ ،‬ينفلـت شـعر الحيـاة باعتبـاره انبسـاط ًا ومشـاركةً وسـعاد ًة مـن‬
‫الرتفيـه‪ .‬إنـه ال ينقذنـا مـن املـوت‪ ،‬لكنـه ميثـل‪ ،‬مـن خلال الحـب الـذي‬
‫يدمـج يف ذاتـه والـذي يدمجـه‪ ،‬الجـواب الحقيقـي الوحيـد على املـوت‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫ُحاضة الثامنة)‬
‫(امل َ‬

‫الجامليات والثقافة‬
‫ّ‬

‫كلمـة «ثقافـة» مفهـوم حربـايئ‪ ،‬إذ توجـد ثقافـة راقيـة‪ ،‬تكمـن يف‬
‫املُؤلَّفـات الرائعـة واآلداب واملوسـيقى الرائعة واملسرح‪ ...‬وتوجد ثقافة‬
‫باملعنـى اإلثنوغرايف‪ :‬إنها ثقافة الشـعب وطقوسـه وعاداتـه ومعتقداته‪...‬‬
‫فطريـاً‪ ،‬أي مـا‬
‫ّ‬ ‫وهنـاك ثقافـة باملعنـى األنرثوبولوجـي‪ :‬إنهـا كلّ مـا ليـس‬
‫يجـب أن نتعلَّمـه كاللّغـة والتقنيـات والفنـون‪...‬‬
‫الجامليـات يف كلِّ هـذه التعريفـات للثقافـة‪ .‬إنهـا حـارضة‬ ‫ّ‬ ‫نجـد‬
‫أنرثوبولوجيـاً يف جميـع املجتمعـات‪ .‬وحـارضة إثنيـ ًا أيضـ ًا يف مـا ُي َّ‬
‫سـمى‬
‫الشـعبية‪ ،‬مـن خلال ملذاتهـا وترفيههـا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الثقافـة‬
‫العامـة»‪ ،‬أو ثقافـة وسـائل اإلعلام التـي‬
‫ّ‬ ‫كما أنهـا حـارضة يف «ثقافـة‬
‫واملجلات والتليفزيـون‪ ،‬وحاليـ ًا اإلنرتنـت الـذي‬
‫ّ‬ ‫متثلهـا الصحافـة الكبرى‬
‫صغـر‪.‬‬
‫تحولـه إىل عـامل ثقـايف ُم َّ‬
‫يسـتقلّ بذاتـه مـن خلال ُّ‬

‫‪99‬‬
‫الجامليـات صفـة جوهريـة للثقافـة الرفيعـة التـي بـدأت‪ ،‬كما رأينا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إن‬
‫ٍ‬
‫تدمـج مـا كانت ترفضه كمنتجـات اسـتهالكية للناس غير املُثقَّفني‪ ،‬والتي‬
‫والرسـوم‬
‫ـن‪ ،‬أعنـي السـينام والتصويـر الفوتوغـرايف ِّ‬ ‫تعترف بهـا اآلن كفَ ٍّ‬
‫ُتحركـة واملسلسلات التليفزيونيـة ‪.‬‬ ‫امل ِّ‬
‫الجامليـات ميكـن أن تسـهم بقـوة يف تجديـد وإثـراء ثقافـة‬
‫ّ‬ ‫سنرى أن‬
‫إنسـانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إنسـانيات ال تنفصـل عـن ثقافـة ذات نزعـة‬
‫ّ‬

‫والجامليات وسيلتان للمعرفة‬


‫ّ‬ ‫َن‬
‫الف ّ‬
‫تزودنـا الروايـات والسـينام واملسرح واملوسـيقى بشـعو ٍر جما ّ‬
‫يل‬ ‫ال ِّ‬
‫فقـط‪ ،‬بـل باملعرفـة أيضـاً‪.‬‬
‫تتضمـن‬
‫َّ‬ ‫بين أنطونيـو داماسـيو (‪ )Antonio Damasio‬أن كلّ معرفـة‬‫َّ‬
‫عاطفـة‪ ،‬ويف املقابـل‪ ،‬ينطـوي كلّ شـعور جمايل على معرفـة‪.‬‬
‫تجعلنـا املعرفـة البليـدة غير مبالين‪ ،‬إذ ال ميكن للمـرء التعلُّم ّإل من‬
‫الجيـد ذوق التعلُّـم ولذة‬
‫ّ‬ ‫خلال املتعـة والـذوق والعاطفـة‪ .‬مينـح املعلم‬
‫وفرحـة املعرفـة‪ .‬ميكننـا أن نقـول إن املعرفـة تتغـذَّ ى على العاطفة‪ ،‬وأن‬
‫العاطفـة تتغذَّ ى على املعرفة‪.‬‬
‫الخاصـة‪« :‬إن الفَ ّن هو ما يكشـف للوعي الحقيقة‬
‫ّ‬ ‫قـال هيجـل بطريقتـه‬
‫نتعـرف على‬
‫َّ‬ ‫يف شـكلٍ محسـوس»‪ .‬بفضـل هـذه الحساسـية نكتشـف أو‬
‫أعمـق حقائقنا‪.‬‬
‫الجامليـة ونتعلَّم معرفة العامل‪ ،‬والسـيام‬
‫ّ‬ ‫نكتشـف من خلال العاطفة‬
‫الخاصـة‪ ،‬حيـث ُينسـج الواقـع مـن الخيـال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ين بطبيعتـه‬
‫العـامل اإلنسـا ّ‬
‫والجامليـات‪ ،‬كما رأينـا‪ ،‬يغذِّ يـان‬
‫ّ‬ ‫ـن‬‫وينسـج الخيـال مـن الواقـع‪ .‬ألن الفَ ّ‬‫ُ‬
‫الخيـال بالواقـع ويغذِّ يـان الواقـع بالخيـال‪.‬‬
‫اإلنسـانية الداخلي‪ ،‬أي عـامل ذاتياتنـا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نكتشـف مـن خاللهما عـامل‬

‫‪100‬‬
‫العقليـات والثقافـات األخـرى‪ ،‬الذي‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـانية الخارجـي‪ ،‬أي عـامل‬
‫ّ‬ ‫وعـامل‬
‫تكشـف عنـه الروايـة والفيلـم أكثر فأكثر‪ .‬تفتـح عوملـة األدب والسـينام‬
‫ـي‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ومتنـوع‪ .‬هنـاك غنـى ف ّن ّ‬
‫ِّ‬ ‫ضخـم‬
‫ٍ‬ ‫ـي‬
‫حساسـيتنا ومعرفتنـا على تـراث ف ّن ٍّ‬
‫وثقـايفّ رائـع يف الكـون‪ ،‬وميكننـا االسـتمتاع بـه معـاً‪.‬‬
‫أذهلنـي مـا قالـه الكا ِتـب اليابـاين شـيميزو تاكايـويش (‪Shimizu‬‬
‫‪ )Takayoshi‬عـن اكتشـافه العمـل الرائـع لدوستيوفسكي‪ ،‬والـذي كنـت‬
‫سـأقوله‪« :‬عندمـا قـرأت روايـة الجرميـة والعقـاب‪ ،‬تأثرت بهـا إىل درجة مل‬
‫تحـدث يل مـن قبـل يف حيـايت‪ .‬كان األمـر كما لـو أن البرق صعقنـي يف‬
‫وسـط الصحـراء‪ ...‬كانـت مشـاعري عميقـة وورعـة إىل درجـة أنـه كان مـن‬
‫ـن وحدهـا»‪ .‬هنـا تكـون‬
‫املسـتحيل‪ ،‬يف نظـري‪ ،‬أن متنحنـي إياهـا قـوة الفَ ّ‬
‫كونيـة الجمال فاعلـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫العربيـة‪ .‬قبـل سـبعني عامـاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لنأخـذ‪ ،‬على سـبيل املثـال‪ ،‬املوسـيقى‬
‫مـر االعتراف بهـا مبراحـل‪:‬‬ ‫كانـت تبـدو هـذه املوسـيقى غريبـة وسـخيفة‪َّ ،‬‬
‫أوالً‪ ،‬يف فرنسـا‪ ،‬بفضـل إنريكـو ماسـياس (‪ ،)Enrico Macias‬فرنسي‬ ‫ّ‬
‫توسـعت‬‫َّ‬ ‫ثم‬ ‫أغانيه‪،‬‬ ‫يف‬ ‫ـة‬ ‫رشقي‬
‫ّ‬ ‫إيقاعـات‬ ‫أدخـل‬ ‫الـذي‬ ‫إفريقيـا‪،‬‬ ‫شمال‬ ‫مـن‬
‫آذان الغربيين مطربين مثـل فريد األطـرش‪ ،‬والرائعة‬ ‫ُ‬ ‫ثقافتنـا‪ ،‬واكتشـفت‬
‫أم كلثـوم‪ ،‬ثـم املغنيـة اللبنانيـة فيروز‪ .‬يوجـد حاليـ ًا ُع َّشـاق املوسـيقى‬
‫مغـاريب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العربيـة يف فرنسـا ليسـوا بالضرورة مـن أصـلٍ‬
‫ّ‬
‫على املنـوال نفسـه‪ ،‬قام عـازف السـيتار وامللحن رايف شـانكار (‪Ravi‬‬
‫‪ )Shankar‬بنشر املوسـيقى الهنديـة هنـا‪ .‬وأصبحت املوسـيقى اليابانية‪،‬‬
‫مبجـرد أن نندمـج فيها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫جداً‪ ،‬سـاحر ًة‬
‫رغـم أنهـا قـد تبـدو رتيبة ّ‬

‫الجامليات‬
‫ّ‬ ‫كونية‬
‫ّ‬
‫تعرفنـا الروايـات العظيمـة بالنـاس مـن خلال مشـاعرهم وعالقاتهـم‬ ‫ِّ‬
‫اإلنسـانية‪ .‬إنهـم ال‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫مـع اآلخريـن ومـع العالَـم بطريقـة أغنـى مـن العلـوم‬

‫‪101‬‬
‫تاريخيـ ًا‬
‫ّ‬ ‫واجتامعيـ ًا فحسـب‪ ،‬بـل يحملـون بعـد ًا‬
‫ّ‬ ‫نفسـي ًا‬
‫ّ‬ ‫يحملـون بعـد ًا‬
‫وفلسـفي ًا أيضـاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وسياسـي ًا‬
‫ّ‬
‫الروايـة العديـد مـن األسـاليب التـي يعيـش بهـا النـاس يف‬‫تتنـاول ِّ‬
‫والعامـة‪ .‬إن هـذه الجوانـب‬
‫ّ‬ ‫الخاصـة‬
‫ّ‬ ‫عالقاتهـم ورصاعاتهـم وحياتهـم‬
‫اإلنسـانية‪ .‬نكتشـف أحيانـ ًا‬
‫ّ‬ ‫والذاتيـة غير مرئيـة يف العلـوم‬
‫ّ‬ ‫الوجوديـة‬
‫ّ‬
‫التعددية وعدم‬
‫ُّ‬ ‫الكـون يف الفـرد‪ ،‬كما هو الحـال لدى فولكنر‪ ،‬أو نكتشـف‬
‫البرشي‪ ،‬كما هو الحال لدى دوستويفسكي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫االسـتقرار وتناقضـات الكائـن‬
‫الروايـة واملسرح والفيلـم أن اإلنسـان العاقل هو يف‬ ‫نفهـم مـن خلال ِّ‬
‫الوقـت نفسـه اإلنسـان األحمـق‪ ،‬وأن اإلنسـان العامـل هـو يف الوقـت ذاته‬
‫االقتصـادي هـو اإلنسـان اللعـوب أيضـاً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األسـطوري‪ ،‬أن اإلنسـان‬
‫ّ‬ ‫اإلنسـان‬
‫شـعرية بشـكلٍ رائع‪ .‬كام‬
‫ّ‬ ‫نرثية بشـكلٍ رهيب أو‬
‫وأن الحيـاة ميكـن أن تكـون ّ‬
‫نـرى عالمـة الوراثـة لـدى األفـراد (عائلـة روغـون مـاكار وعائلـة كارامـازوف‬
‫‪ )Rougon-Macquart، Karamazov‬ونـرى فيهـم عالمـة املجتمـع‪.‬‬
‫إننـا نشـعر بشـكلٍ محسـوس أن األفـراد الفريديـن يحملون شـيئ ًا كوني ًا‬
‫اإلنسـانية يف مصير الفرد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف ذواتهـم ونكتشـف الحالـة‬
‫ـن فريـد‪ ،‬ناتـج‬ ‫منـذ فتر ٍة طويلـة ونحـن نتسـاءل عـن كيـف ميكـن لفَ ٍّ‬
‫عـن ثقافـة فريـدة‪ ،‬ملجتمـع منقـرض أحيانـ ًا مثل أثينـا يف القـرن الخامس‬
‫الجامليـة واإلعجـاب‬
‫ّ‬ ‫قبـل امليلاد أو مصر الفرعونيـة‪ ،‬أن ُيثير العاطفـة‬
‫يف حضـارات أخـرى‪ ،‬مبـا يف ذلـك حضارتنـا‪ ،‬وخصوصـ ًا حضارتنـا‪ .‬كان‬
‫تبين‬ ‫كارل ماركـس نفسـه يواجـه هـذه املُفارقـة دون أن يفهمهـا‪ .‬اليـوم‪ِّ ،‬‬
‫وثقافي ًا‬
‫ّ‬ ‫تاريخيـ ًا‬
‫ّ‬ ‫ُحـدد‬
‫الثقافيـة باسـتمرار أن العمـل الفريد امل َّ‬
‫ّ‬ ‫لنـا العوملـة‬
‫الجامليـة‪ ،‬متام ًا مثل شـخصية الرواية أو‬ ‫ّ‬ ‫عامليـ ًا من الناحية‬
‫ّ‬ ‫ميكـن تثمينـه‬
‫كونية الوضع‬ ‫ّ‬ ‫األجنبـي‪ ،‬ألن العمـل الفريـد ميكن أن يحمل يف ذاتـه‬
‫ّ‬ ‫الفيلـم‬
‫ين ‪.‬‬
‫اإلنسا ّ‬
‫ومتنوعـة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫اإلنسـانية واحـدة‬
‫ّ‬ ‫أسـاس هـذه املفارقـة أنرثوبولوجـي‪ ،‬ألن‬
‫التنوع‬
‫ُّ‬ ‫تنوع األفـراد والثقافات‪ .‬لكن هـذا‬
‫اإلنسـانية املؤكـدة ُّ‬
‫ّ‬ ‫تنتـج الوحـدة‬

‫‪102‬‬
‫والعاطفية لجميـع الناس‪ .‬ميكن لـكلّ الناس‪ ،‬أي ًا‬
‫ّ‬ ‫العقليـة‬
‫ّ‬ ‫ال ينفـي الوحـدة‬
‫كان أصلهـم وثقافتهـم‪ ،‬أن يبتسـموا ويضحكـوا ويبكـوا‪ ،‬أي أن يسـتمتعوا‪،‬‬
‫ويكونـوا سـعداء‪ ،‬ويعانوا‪.‬‬
‫ِ‬
‫وبصفـات الشـعوب‬ ‫باإلنسـانية الكاملـة‬
‫ّ‬ ‫ميكننـا ذلـك مـن أن نعترف‬
‫األصليـة يف مهارتهـا ومعرفتهـا وأشـكالها الفَ ِّن ّيـة‬
‫ّ‬ ‫باألصليـة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التـي نسـميها‬
‫والثقافيـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الهويـة‬
‫ّ‬ ‫ين يف الغير الغريـب واملختلـف‪ ،‬ويـدرك‬
‫يـدرك الفهـم اإلنسـا ّ‬
‫املشتركة يف إمكانيـة املعانـاة والسـعادة‪ ،‬ويف الوقت نفسـه اختالفه يف‬
‫الرواية‬
‫الجامليـة يف ِّ‬
‫ّ‬ ‫الصفـة واملعتقـدات واألخلاق‪ .‬والحال أن املشـاركة‬
‫واملسرح والسـينام‪ ،‬كما سـلف الذكـر‪ُ ،‬تثير يف الوقـت نفسـه الفهـم‬
‫واالعتراف باالختالفـات‪ .‬إننـا نعيـش متامـاً ملحمـة السـاموراي السـبعة‬
‫(‪ ،)Sept Samouraïs‬الذيـن نتشـبث بهـم كأنهـم إخـوة‪ ،‬يف الوقـت الـذي‬
‫ُننقَ ـل إىل اليابـان اإلقطاعيـة القدميـة‪ .‬كذلـك حال متسـكنا بامللكـة امليتة‬
‫كليوباتـرا وعشـيقها مـارك أنطـوان على الرغـم مـن القـرون واملسـافة‬
‫الثقافيـة الهائلـة التـي تفصلنـا عـن مصر البطلميـة‪.‬‬
‫ّ‬
‫إنسـانية‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫عظيما يف فهـم أفراد‬ ‫الجامليـات دور ًا‬
‫ّ‬ ‫هكـذا‪ ،‬ميكـن أن تلعـب‬
‫العصر الكوكبـي لبعضهـم البعـض‪ .‬لكنهـا ال تلعبـه ّإل يف بعـض األحيـان‬
‫ين مـن الرتسـخ‪ .‬ال‬
‫وعبر ومضـات ولُمـع‪ ،‬فلا يتمكَّ ـن بذلـك الفهـم اإلنسـا ّ‬
‫ين((( يف‬
‫شـك أنـه سـيكون مـن الضروري إدراج الرتبيـة على الفهـم اإلنسـا ّ‬
‫ّ‬
‫التعليـم املـدريس والجامعـي يف جميـع البلـدان‪ ،‬ألنـه يفتقـر إليـه متاماً‪.‬‬
‫تعبر األعمال العظيمـة األزمنـة والقـارات والبلـدان‪ ،‬فـإذا تأصلـت‬
‫رسـائلها فينـا‪ ،‬متكَّ نـا مـن فهـم بعضنـا البعـض‪.‬‬

‫‪(1) Cf. Edgar Morin, Les Sept Savoirs nécessaires à l’éducation du futur, Seuil, 2000.‬‬

‫‪103‬‬
‫اإلنسـانية هـو معرفـة اإلنسـان يف تعقيـده(((‪ ،‬إذ‬
‫ّ‬ ‫مـا ينقـص العلـوم‬
‫الرواية‬
‫أمـا ِّ‬
‫التخصصـات‪ّ .‬‬
‫ُّ‬ ‫اإلنسـان فيهـا على العكـس منقسـم ومجزأ بين‬
‫ين‪.‬‬
‫فتبرز التعقيـد اإلنسـا ّ‬
‫إنهـا تظهـر الحيـاة غارقـة يف العالقـات املتبادلـة والتفاعلات‪ ،‬حيـاة‬
‫مغمـورة يف زمـان ومـكان ومجتمـع هنـا اآلن‪ .‬هـذا بالفعـل مـا تعيـده لنـا‬
‫تحدثنـا عنهـا‪ ،‬مـن بلـزاك إىل موسـيل (‪)Musil‬‬ ‫الروايـات العظيمـة التـي َّ‬
‫وبروسـت؛ إنهـا كذلـك حيـاة باملعنـى املـادي والبيولوجـي للكلمـة‪.‬‬
‫الروايـة‪ ،‬بشـكلٍ ال ميكـن االسـتغناء عنـه‪ ،‬إىل املعرفـة املبهـورة‬
‫تدعونـا ِّ‬
‫اإلنسـانية‬
‫ّ‬ ‫بالحيـاة والباهـرة للحيـاة‪ .‬بالطبـع‪ ،‬هنـاك تكامـل مـع العلـوم‬
‫واألنرثوبولوجيـا والتاريـخ وعلـم االجتماع واالقتصـاد وعلـم النفـس‪،‬‬
‫توحدهـا يف طبيعتها‬ ‫الروايـة ِّ‬
‫التخصصـات‪ ،‬لكـن ِّ‬
‫ُّ‬ ‫والتـي تكـون منفصلـةً يف‬
‫للتخصصـات‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ُتمـردة‪ ،‬إنهـا يف الحقيقـة ذات طبيعـة عابـرة‬
‫امل ِّ‬
‫بالتأكيـد‪ ،‬يوجـد هـروب مـن الواقـع املُبـارش يف املشـاركة الجامليـة‬
‫مثـل رؤيـة فيلـم‪ ،‬لكننـا نكتشـف فيـه العـامل الحقيقـي ونتعلَّمه فيـه‪ .‬ذلك‬
‫جـد ًا لفرانتـز ليـزت (‪« :)Frantz Liszt‬الفنون‬
‫مـا تخربنـا بـه جملـة جميلـة ّ‬
‫هـي أضمـن طريقـة للهـروب مـن العـامل ؛ كما أنهـا أضمـن طريقـة للتوحد‬
‫معه»‪.‬‬
‫باعتبـاري مراهقـ ًا وحيد ًا ويتي ً‬
‫ام تعلَّمت الحيـاة بالهروب إىل الكتب‪ ،‬إىل‬
‫بلزاك وتولسـتوي (‪ )Tolstoï‬ودوستويفسكي وزوال‪ ،‬وكذا إىل أفالم بابسـت‬
‫(‪ )Pabst‬والنغ (‪ )Lang‬وكلري (‪ .)Clair‬اكتشـفت يف دوستويفسكي تعقيد‬
‫البشري وبـؤس الـذل وإمكانيـة الخلاص‪ ،‬واكتشـفت حقائقـي‬ ‫ّ‬ ‫الكائـن‬
‫الخاصـة يف الكتـب واألفالم‪.‬‬‫ّ‬
‫الحقيقـة أن املوضـوع الحقيقـي لألنرثوبولوجيـا واإلنسـان ال يوجـد ّإل‬

‫ين‪:‬‬
‫((( انظر يف ما يخص التعقيد اإلنسا ّ‬
‫‪Edgar Morin, Le Paradigme perdu : la nature humaine, Seuil, 1970 et La Méthode, t. 5,‬‬
‫‪op. cit.‬‬

‫‪104‬‬
‫اإلنسـانية املجـزأة‪ ،‬لكنه يكون‬
‫ّ‬ ‫بشـكلٍ جـزيئ ومـن جانب واحـد يف العلوم‬
‫الفرديـة والذاتيـة والعائليـة‬
‫ّ‬ ‫حـارض ًا يف الروايـة العظيمـة‪ ،‬بـكلّ أبعادهـا‬
‫واالقتصادية‬
‫ّ‬ ‫والدينية والشـكية‬
‫ّ‬ ‫واالجتامعية‬
‫ّ‬ ‫والجنسـية والحلمية والهميـة‬
‫مقدمة‬
‫والتاريخيـة‪ .‬إن موضـوع الروايـة هـو اإلنسـان والقـراءة هـي أفضـل ِّ‬
‫ّ‬
‫ملعرفـة أنفسـنا كأناس‪.‬‬

‫َن‬
‫املراهقة والف ّ‬
‫للجامليـات والفنـون‬
‫ّ‬ ‫املعرفيـة‬
‫ّ‬ ‫إن الفترة األكثر مالءمـة للفضائـل‬
‫سـن التطلُّعـات والبحـث والثـورات الـذي تختمـر فيـه‬
‫ّ‬ ‫هـي املراهقـة‪ .‬إنـه‬
‫التطلعـات‪ ،‬بين رشنقـة الطفولة واالندمـاج يف عامل الكبـار‪ ،‬إىل حياة غري‬
‫جامعاتية‬
‫ّ‬ ‫املفتعلـة‪ .‬إنـه فترة البحـث عـن حيـا ٍة أخـرى أكثر ّ‬
‫حر ّيـة وأكثر‬
‫معـاً‪ ،‬حيـث ميكـن للمـرء أن يحقـق ذاتـه ويندمـج يف األخـوة يف الوقـت‬
‫نفسـه‪ .‬إنـه زمـن البحـث عـن الحقائـق‪.‬‬
‫عندمـا يبحـث املراهـق عـن حقائقه من خلال السـينام أو الكتاب‪ ،‬وهو‬
‫مـا حصـل يل‪ ،‬ميكـن أن ينكشـف لـه ما كان يبحـث عنه دون معرفـة ما كان‬
‫يبحـث عنـه‪ .‬سيسـتهويه العمـل الـذي أثـر فيـه مـدى الحيـاة‪ ،‬وسـيحتفظ‬
‫طـوال حياتـه بالكشـف الـذي أذهله خلال قراءاته‪.‬‬
‫الرومانسي عـن تطلعـات أنرثوبولوجية تخمر‬
‫ّ‬ ‫لقـد عبر الشـعر واألدب‬
‫يف سـن املراهقـة ثـم تتلاىش بعده‪.‬‬
‫على عكـس الحضـارة األوروبيـة التـي تهيمـن عليهـا بشـكلٍ متزايـد‬
‫النقـود والتكنولوجيـا وروح الغـزو واالسـتحواذ على العـامل‪ ،‬قـام شـعراء‬
‫مراهقـون وشـاعرات يف القـرن التاسـع عشر بالتعبير عـن تطلُّعـات وآالم‬
‫اإلنسـانية‪ .‬يعبر شـييل (‪ )Shelley‬وكيتـس (‪ )Keats‬وبوشنر‬ ‫ّ‬ ‫الـروح‬
‫(‪ )Büchner‬ونوفاليـس (‪ )Novalis‬وهولدرلين (‪ )Hölderlin‬ونريفـال‬
‫(‪ )Nerval‬ورامبـو (‪ )Rimbaud‬عـن الطموحـات غري املحـدودة للمراهقة‬

‫‪105‬‬
‫وكـذا عـن ثوراتهـا‪ .‬أردت منـذ فترة طويلـة تأليـف كتـاب صغير عـن رامبـو‬
‫كان مـن املمكـن عنونتـه‪ :‬أرسار املراهقـة‪ ،‬فدونـت مالحظاتـه‪ ،‬لكننـي مل‬
‫أسـتمر‪ .‬كنـت قـد اسـتلهمت العنـوان مـن كتـاب جميـل لهانـس كاروسـا‬
‫(‪ )Hans Carossa‬بعنـوان أرسار النضـج((( ألننـي أظـن أن كلّ عصر لـه‬
‫عبر رامبـو بطريقة رائعـة عن التطلُّعات والثـورات التي ظهرت‬
‫أرساره‪ .‬لقـد َّ‬
‫مجـدداً‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الحقـاً بشـكلٍ جامعـي يف القـرن العرشيـن والتـي سـتظهر‬
‫ليـس العباقـرة املراهقـون فقـط الذيـن يكشـفون عـن تطلُّعـات‬
‫إنسـانية عميقـة ويخلقـون طريقـة جديـدة للتعبير عـن أنفسـهم بشـكلٍ‬ ‫ّ‬
‫متقدمـة مـن‬
‫ِّ‬ ‫سـن‬
‫ٍّ‬ ‫يف‬ ‫يكونـون‬ ‫الذيـن‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫أيضـ‬ ‫انـون‬ ‫ن‬
‫الفَ ّ‬ ‫بـل‬ ‫وحميمـي‪،‬‬ ‫َّـف‬
‫مكث‬
‫يتحـررون يف أعاملهـم األخيرة مـن املواضعـات التـي‬ ‫َّ‬ ‫الشـيخوخة أيضـاً‪،‬‬
‫ويقدمـون لنـا رسـالة اإلبـداع‬
‫ِّ‬ ‫كانـوا يخضعـون لهـا يف أعاملهـم الناضجـة‪،‬‬
‫النهـايئ‪ ،‬كما هـو حـال لوحـة ترينـر (‪ )Turner‬يف النهايـة‪ ،‬والرباعيـة‬
‫األخيرة لبيتهوفـن‪ ،‬وآخر أعمال مونيه (‪ .)Monet‬تخرج هـذه األعامل عن‬
‫السـكة‪ ،‬وتتألَّـف متجـاوزة املعايير الواضحة‪ ،‬مـا وراء االنسـجام وما وراء‬
‫فتعرفنـا على السـمو‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الجمال‪،‬‬
‫الجامليـات‬
‫ّ‬ ‫نظريـة‬
‫ّ‬ ‫متيـز بـه أدورنـو يف كتابـه‬
‫أهـم مـا َّ‬
‫أخيراً‪ ،‬أصـل إىل ّ‬
‫ـن وسـيلة لدفـع املعانـاة إىل التعبير»‪ .‬يتعـذَّ ر تنـاول‬ ‫عندمـا قـال‪« :‬الفَ ّ‬
‫املعانـاة يف الخطـاب العقلاين البـارد‪ ،‬يف حين متكِّ ـن املوهبـة الفَ ِّن ّيـة‬
‫بشـدته‪ ،‬وتجعلنـا يف الوقت‬ ‫ّ‬ ‫الرفيعـة مـن تجميـل األمل‪ ،‬أي تجعلنا نشـعر‬
‫ذاتـه نسـتمتع بتعبريهـا‪.‬‬
‫تزعجنـا املعانـاة يف الواقـع نحـن وأقاربنـا‪ ،‬يف حين نغـض الطـرف عن‬
‫معانـاة اآلخريـن‪ ،‬وننسـاها‪ .‬نهـرب يف الحياة من كلّ ما هـو معاناة‪ ،‬والحال‬
‫الجامليـات ميكنهـا أن تجعلنـا نعي بليتها وضخامتهـا‪ .‬ميكننا أن نواجهها‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫يف السـينام واملسرح والقـراءة ونشـعر بالتعاطـف العميـق‪ .‬تؤنسـن‬

‫‪(1) Hans Caressa, Les Secrets de la maturité, extrait du journal d’Angermann, Stock, 1941.‬‬

‫‪106‬‬
‫ٍ‬
‫بطريقـة رسيعـة الزوال‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُشـاهد والقـارئ‪ ،‬لكـن لسـوء الحـظ‬
‫املعانـاة امل‬
‫ـن الراقـي املشـاعر الجامليـة التـي‬
‫على نطـاق أوسـع‪ ،‬مينحنـا الفَ ّ‬
‫بتحملها‬
‫ُّ‬ ‫اإلنسـانية‪ ،‬ويف الوقـت نفسـه تسـمح لنـا‬
‫ّ‬ ‫تجعلنـا نواجـه املأسـاة‬
‫ومواجهتهـا‪.‬‬
‫ـن وسـيلة ملنـح صـوت لبـؤس العـامل»‪ .‬كان‬ ‫كتـب أدورنـو أيضـاً‪« :‬الفَ ّ‬
‫سـن الثانيـة عشرة أو‬
‫ِّ‬ ‫هـذا الصـوت هـو الـذي اخرتقنـي عندمـا رأيـت يف‬
‫الثالثـة عشرة فيلـم بابسـت (‪ )Pabst‬وأوبيرا كواتسـو (‪L’Opéra de‬‬
‫‪ .)quat’sous‬غير أن أدورنـو مل يكـن يعـرف أن السـينام ميكـن أن تكـون‬
‫كاشـف عـن بـؤس العـامل‪.‬‬ ‫أقـوى ِ‬

‫الفكر يف األعامل العظيمة‬

‫هنـاك دامئـ ًا ٌ‬
‫فكر يف األعمال الفَ ِّن ّية العظيمة‪ .‬ميكـن صياغة هذا الفكر‬
‫الروايـة‪ ،‬كما يف روايـة جـان بـاروا (‪ )Jean Barois‬مـن تأليـف روجـي‬ ‫يف ِّ‬
‫مارتين دو غـارد (‪ )Roger Martin du Gard‬واألمـل (‪ )L’Espoir‬ملالـرو‬
‫(‪ ،)Malraux‬ولعبـة الآللـئ الزجاجيـة أو سـيدهارثا (‪Le Jeu des perles‬‬
‫‪ )de verre ou Siddhârta‬لهريمـان هيـس (‪)Hermann Hesse‬؛ وقـد‬
‫يكـون معنـى هـذا الفكر ظاهـراً‪ ،‬كام هو الحـال يف رواية املسـكونون (‪Les‬‬
‫‪ )Possédés‬لدوستوفسكي‪ ،‬أو ضمنيـ ًا كما هـو الحـال يف دون كيشـوت‬
‫لرسفانتـس (‪.)Cervantès‬‬
‫يكـون الفكـر يف بعـض األحيـان‪ ،‬غري مريئ بشـكلٍ سـطحي‪ ،‬إذ ال يظهر‬
‫ّإل للنظـرة الثاقبـة‪ ،‬كام هو الحال يف اللّوحات الجدارية العظيمة لكنيسـة‬
‫سيستني [‪.]...‬‬
‫تجرأت عىل إدراج بيتهوفن يف كتايب‪ ،‬فالسفتي (‪،)Mes phi­losophes‬‬ ‫َّ‬
‫مبـارش بواسـطة إشـارة موجـزة عـن معنـى عملـه‬ ‫بشـكلٍ‬ ‫ً‬
‫ألنـه عبر أحيانـا‬
‫الفَ ّنـي‪ ،‬مفـاده أن السـيمفونية البطوليـة (‪)Symphonie héroïque‬‬

‫‪107‬‬
‫ُحـرر‪ .‬كما أن معنيـي أوبيرا فيديليـو (‪ )Fidelio‬ومعنـى‬‫مهـداة للبطـل امل ِّ‬
‫أول‬
‫جـداً‪ ،‬إذ يبـدو يل أن َّ‬
‫ترنيمـة الفـرح (‪ )l’Hymne à la joie‬واضحـان ّ‬
‫(ربا‬‫حركة للسـيمفونية التاسـعة تشـبه القياس املوسـيقي لتكون العامل َّ‬
‫أنسـب إليـه هـذا املعنـى بشـكلٍ تعسـفي) ويبلغنـا رسـالة إعـادة التوليـد‪،‬‬
‫كموضـوع أخير للحركـة موضـوع الباعـث األويل‪ .‬أخيراً‪ ،‬يحمل‬
‫ٍ‬ ‫مـع أخـذه‬
‫التدويـن الـذي أرص على إبـرازه بيتهوفـن يف نوتـة الرباعيـة األخيرة معنـى‬
‫حـد سـواء‪Muss es Sein ? es Muss Sein! « :‬‬ ‫واضحـ ًا وغامضـ ًا على ٍّ‬
‫‪« .»Muss es Sein‬هـل هـذا العـامل ممكـن؟ هل ميكننا قبـول هذا العامل!‬
‫هـل هـو ممكـن» الجواب‪« ،‬نعـم‪ ،‬إذا أردنا تغييره‪ ،‬فعلينـا أن نقبله»‪ .‬يجب‬
‫أن تكـون كلّ ثـورة ضـد العـامل قامئـة على قبـول العـامل‪.‬‬
‫ال توجـد األفـكار العظيمـة فقـط‪ ،‬بـل هنـاك حقائـق بديهيـة أصبحـت‬
‫شـدتها خلال أغنية مثل‬
‫مبتذلـة وغير مرئيـة‪ ،‬والتـي تزدهـر من جديـد يف ّ‬
‫«دون حـب لسـنا شـيئ ًا عىل اإلطلاق» إلديث بيـاف (‪ ،)Piaf‬أو القول الدقيق‬
‫ال بالـوالدة فهـو مشـغول باملـوت (‪He‬‬‫لبـوب ديلان «مـن مل يكـن مشـغو ً‬
‫‪.»)who’s not busy being born is busy dying‬‬
‫هنـاك‪ ،‬بشـكلٍ أعمـق‪ ،‬مـا يقولـه باتريـك شـاموازو (‪Patrick‬‬
‫‪« :)Chamoiseau‬يبنـي الفَ َّنانـون العظماء واألعمال العظيمـة دامئـ ًا باب ًا‬
‫تصـوره‪ .‬وهـذا مـا أعتقـد أنـه مهم يف‬
‫ُّ‬ ‫مفتوحـ ًا على أفـق دون أفـق ال ميكـن‬
‫اإلميـاء الفَ ّن ّـي‪ .‬ليـس املعنـى املعـروض‪ ،‬هـذا العـوز الـذي يطمئننـا‪ ،‬بـل‬
‫بابـ ًا يفتـح ح ّقـاً‪ ،‬ولـن يغلـق أبداً‪ ،‬وسـينقل إلينـا بلا توقُّف طاقـات املمتنع‬
‫تصـوره»‪.‬‬
‫ُّ‬

‫فهم اإلنسان‬
‫ٍ‬
‫جهة‪ ،‬ألنـه يتـم التعبري عن‬ ‫الجامليـة‪ ،‬مـن‬
‫ّ‬ ‫نكـون أفضـل يف املشـاركة‬
‫التعجـب واإلعجاب‪ :‬أن تكون قـادر ًا عىل اإلعجاب‬
‫ُّ‬ ‫أفضـل مـا فينا من خالل‬
‫جد ًا للفـرد وللجميع!‬
‫والتعجـب أمر مفيـد ّ‬
‫ُّ‬

‫‪108‬‬
‫اإلنسـانية‬
‫ّ‬ ‫ننشـط هـذه القـدرة‬ ‫ٍ‬
‫جهـة أخـرى‪ ،‬ألننـا ِّ‬ ‫ونكـون أفضـل‪ ،‬مـن‬
‫مجمـدة‪ ،‬أقصـد الفهـم‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫كثير مـن األحيـان نامئـة أو‬ ‫التـي تكـون يف‬
‫أو ً‬
‫ال وقبـل كلّ يشء التعاطـف‪ ،‬وتتـم إثارة هـذا التعاطف‬ ‫يتطلَّـب الفهـم ّ‬
‫يتضمـن‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ُشـاهد يف الفيلـم الـذي‬ ‫وتطويـره بواسـطة عالقـة مشـاركة امل‬
‫ِ‬
‫ُشـاهد‬‫ُنوم مل‬
‫شـخصياته‪ .‬ال يشـجع املوقف شـبه امل َّ‬
‫ّ‬ ‫تقمص ًا ‪ -‬إسـقاط ًا عىل‬
‫ُّ‬
‫السـينام على الهـروب فقـط‪ ،‬بـل على فهـم اإلنسـان على وجـه الخصوص‬
‫أيضاً‪.‬‬
‫شخصيات الفيلم وفيها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ننىس أنانياتنا ونذاالتنا لنعيش مع‬
‫متكّ ننـا األعمال العظيمـة التـي نشـارك فيهـا خلال حالـة شـبه املنوم‬
‫مـن الوعـي بأنفسـنا مـن خلال فهـم الغري‪.‬‬
‫إنسـانية‬
‫ّ‬ ‫ـن وأعجوبـة الثقافـة يف كونهـا تجعلنـا أكرث‬
‫تكمـن أعجوبـة الفَ ّ‬
‫ما وأكثر تعقيـداً‪ .‬لسـوء الحـظ‪ ،‬ال‬ ‫تفه ً‬ ‫وأقـلّ انغالقـ ًا َ‬
‫وأقـلّ أنانيـة وأكثر ُّ‬ ‫َ‬
‫يسـتمر ذلـك سـوى خلال فترة العـرض(((‪.‬‬
‫تكمـن املُفارقـة يف أنـه على الرغـم مـن إمكانـات الفهـم التـي متنحنـا‬
‫األفلام واألفلام الوثائقية والكتـب‪ ،‬وعىل الرغم من جميـع اال ِّتصاالت عىل‬
‫اإلنرتنـت‪ ،‬نجـد أنـواع سـوء الفهـم واإلغلاق والحجب تسـيطر أكثر فأكرث‪.‬‬
‫مر ًة أخرى غري عاديني‪ ،‬بل خاضعني ملعايري‪.‬‬
‫لقد أصبحنا ّ‬
‫نترصف ليك تسـتديم‬
‫َّ‬ ‫وعليـه إن إحـدى أكبر مشـاكل الثقافة هـي‪ :‬كيف‬
‫هـذه األنسـنة التي تطبعنـا مؤقَّت ًا يف املرسح والسـينام ويف القراءة؟ كيف‬
‫نوحـد؟ كيـف ُنطيـل مكتسـبات هـذه األعمال التـي تجعلنـا أفضـل لبعـض‬ ‫ِّ‬
‫الوقـت فقط؟‬

‫((( إن الكُ َّتاب والفَ َّنانني‪ ،‬عىل الرغم من نبل وطيبة أعاملهم ليسوا األفضل ألنهم‪ ،‬خارج اإللهام اإلبداعي‪ ،‬ال‬
‫تفوق نجاحاتهم‪،‬‬‫يتطلَّعون إىل الحصول عىل التقدير فحسب‪ ،‬بل إىل املجد أيضاً‪ ،‬يحسدون النجاحات التي ُّ‬
‫ال جيدة‪ ،‬لكنه عامل‬‫األديب والفَ ّني أعام ً‬
‫ّ‬ ‫ويتنافسون عىل الجوائز األدبية أو االنتخابات األكادميية‪ .‬ينتج العامل‬
‫ّ‬
‫ثرثرة‪ ،‬ينتج أعامل كرم‪ ،‬لكن يحدث أن يكون تافهاً‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫والجامليات يف ِش َّ‬
‫عرية الحياة‬ ‫ّ‬ ‫َن‬
‫يجب أن يسهم الف ّ‬
‫رأينـا يف مـا سـبق أن حياتنـا تنقسـم بين النثر والشـعر‪ ،‬يغطي الشـعر‬
‫كلّ مـا هـو جامعـايت واملحبـة واالحتفـال والفـرح‪ ،‬كما رأينـا أن حـاالت‬
‫الجاملية‬
‫ّ‬ ‫النشـوة والتملُّك واإللهـام والتهيج والوجد تندرج ضمـن الحاالت‬
‫والشـعرية معاً‪.‬‬
‫ّ‬
‫ُتعـددة‬
‫والشـخصية امل ِّ‬
‫ّ‬ ‫لنكـرر ذلـك مـر ًة أخـرى‪ :‬إن التملُّـك والوجـد‬
‫ِّ‬
‫الشـعرية‬
‫ّ‬ ‫الطبيعيـة‪ .‬ال تشـكِّ ل حاالتهـا‬
‫ّ‬ ‫العاطفيـة‬
‫ّ‬ ‫أشـكالٌ مكثَّفـة لحاالتنـا‬
‫والجامليـة على الرغـم مـن أنها حـاالت أنرثوبولوجية سـوى جـزء منها‪ّ ،‬إل‬‫ّ‬
‫األساسـية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحاجـات‬ ‫مـع‬ ‫يتوافـق‬ ‫الجـزء‬ ‫أن هـذا‬
‫يتغـذَّ ى اإلنسـان على الخبـز‪ ،‬وعلى الشـعر أيضـاً‪ .‬والحـال أن لديـه‬
‫حاجـة متزايـدة إىل شـعر الحيـاة يف ظـلِّ حضـارة الحسـاب والربـح‬
‫الهويـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والتجـزيء وعـدم الكشـف عـن‬
‫يسـميه ميشـيل مافيسـويل (‪Michel‬‬‫ّ‬ ‫تتزايـد حاجـة املجتمـع إىل مـا‬
‫الجامليـات‪ ،‬ولهـذا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ )Maffesoli‬القَ َبليـة الجديـدة‪ .‬وتتزايـد الحاجـة إىل‬
‫تكثر‪ ،‬مـن بين أمـو ٍر أخـرى‪ ،‬املهرجانـات‪.‬‬
‫جـد ًا يف املشـاركة‪ ،‬أي يف االسـتمتاع معـ ًا بحفـلٍ‬
‫توجـد متعـةٌ كبيرة ّ‬
‫جميـل وبعمـلٍ جميـل‪ .‬ميكـن للعزلـة أن تضعـف الصفـة الجامليـة‬
‫للعاطفـة‪ .‬ملـاذا متنحنـا مشـاهدة فيلـم جميـل يف قاعـة السـينام لـذ ًة‬
‫أكثر مـن مشـاهدته وحدنـا على شاشـة التليفزيـون؟ ألن هنـاك مشـاركة‪،‬‬
‫إذ نضحـك معـ ًا ونبكي معـ ًا وننفعـل معـاً‪ .‬إن املشـاركة هـي إحـدى أكبر‬
‫الشـعرية أيضـاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الجامليـة‪ ،‬والحيـاة‬
‫ّ‬ ‫رشوط الكمال واملتعـة‬
‫مـن الواضـح أن القلـق والخـوف وحتى الغضـب تسـتبعد إمكانية وجود‬
‫جليـ ًا يعـرف أنـه معجـب‪ ،‬ووعيـ ًا‬
‫ّ‬ ‫الجامليـات التـي تفترض دامئـ ًا وعيـ ًا‬
‫ّ‬
‫مشـارِك ًا كلّيـاً‪.‬‬
‫عندئـذ نواجـه املشـكلة الكبرية‪ :‬كيـف ُنديم مكتسـب الفهم؟ كيـف ُنطيل‬

‫‪110‬‬
‫شـع َرنَة الحياة يف مجتمع‬
‫مكتسـب الشـعر؟ كيف ُنلبي الحاجة املتزايدة إىل ْ‬
‫الهوية؟‬
‫ّ‬ ‫يسـود فيه بشـكلٍ متزايد الحسـاب والتجزيء والربح وإخفـاء‬
‫إننـا يف عصر يتيـح أنواع فهم كبيرة يف الوقت الـذي تتنامى فيه حاالت‬
‫البشري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالوحدة‪/‬التنـوع‬
‫ُّ‬ ‫سـوء فهـم كبيرة‪ .‬يتطلَّـب الفهـم وعيـ ًا يعترف‬
‫شـعرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ـددة‪ ،‬ويحتاج أيضـ ًا إىل تجربة‬‫إنسـانية ُم َج َّ‬
‫ّ‬ ‫ووعيـ ًا تغذيـه فلسـفة‬
‫الجاملية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تفهـم وتدمـج التجربـة‬

‫الرتبية عليها‬
‫ّ‬ ‫الجامليات وإعادة‬
‫ّ‬ ‫الرتبية عىل‬
‫ّ‬
‫ال يكفي تدريس األدب كأدب فقط‪ ،‬والشـعر كشـعر فقط‪ ،‬واملوسـيقى‬
‫كموسـيقى فقـط‪ .‬مـن الضروري طبعـ ًا موضعـة األعمال الفَ ِّن ّيـة الجميلـة‬
‫ـي‪ ،‬لجعلهـا معروفـة ومحبوبـة‪ .‬ميكننـي القـول‬ ‫والرائعـة يف تاريخهـا الفَ ّن ّ‬
‫إن هـذه األعمال يجـب أن تـو َّزع مجانـ ًا على الطلاب‪ ،‬إنهـا أكثر ِّ‬
‫أهم ّيـة من‬
‫الكتـب املدرسـية‪ .‬مـن اللازم أن ندفـع األطفـال واملُراهقين إىل حفـظ‬
‫مجـدد ًا عن ظهـر قلـب؛ سيسـتظهرونها ويتلونها باعتبارها سـحر ًا‬ ‫َّ‬ ‫القصائـد‬
‫متجـدد ًا يف سـن الرشـد وحتـى يف مرحلـة الشـيخوخة‪.‬‬‫ِّ‬
‫لكـن سـيكون مـن الضروري على وجـه الخصـوص تبيـان كيـف متثـل‬
‫ين يف‬
‫الرواية واملرسح والسـينام والشـعر وسـائل ملعرفة كلّ ما هو إنسـا ّ‬
‫اإلنسـانية‬
‫ّ‬ ‫مهمة ال ِغنى عنها‪ ،‬ألن العلوم‬
‫ُتنوع‪ ،‬وهي َّ‬
‫تعقيـده األحـادي وامل ِّ‬
‫ومقسـمة فحسـب‪ ،‬بل غير مكتملـة‪ ،‬ألنها تتجاهـل األجزاء‬ ‫َّ‬ ‫ليسـت مجـ َّزأة‬
‫والبيولوجيـة واملادية لإلنسـان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الذاتيـة‬
‫ّ‬
‫املسـتمر يف عقـول التالميـذ‪ ،‬وتثبيت‬
‫ّ‬ ‫يجـب تأصيـل األعمال بالتعليـم‬
‫هـذا الفهـم بشـكلٍ دائـم‪ ،‬ألنه فهم ال يسـتمر سـوى خلال فرتة القـراءة أو‬
‫سـن املراهقـة لتالميذ‬
‫ومما يزيـد مـن سـهولة هـذا التأصيـل هـو ّ‬
‫العـرض‪ّ .‬‬
‫املـدارس اإلعداديـة والثانويـة‪ ،‬فترة البحـث عـن الحقائـق‪ ،‬التـي تنطبـع‬
‫فيهـا بشـكلٍ عميـق بصمـة األعمال التـي ُتنير العقل‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الشـعرية للحيـاة يك يشـعر املـرء‬
‫ّ‬ ‫أخيراً‪ ،‬يجـب تعليـم معنـى الصفـة‬
‫التعرف عليـه يف أصالته‬
‫ُّ‬ ‫ويعـي مـا هو الشـعور الجمايل الذي نادر ًا مـا ّ‬
‫يتم‬
‫تصـوره يف طبيعتـه‬
‫ُّ‬ ‫الشـعرية األخـرى‪ ،‬ونـادر ًا مـا ّ‬
‫يتـم‬ ‫ّ‬ ‫مـن بين املشـاعر‬
‫األنرثوبولوجيـة‪.‬‬
‫اإلنسـانية ليس ترفـ ًا ينبغي اختـزال جزء‬
‫ّ‬ ‫يبين هـذا أن تدريـس العلـوم‬ ‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫وشـاف‬ ‫النفعيـة‪ .‬إنـه أكثر مـن مفيـد‪ ،‬إنـه رضوري‬
‫ّ‬ ‫التعاليـم‬ ‫لصالـح‬ ‫منـه‬
‫للحيـاة برمتهـا‪ ،‬إذ يو ِّفـر قربانـ ًا للمسـاعدة على العيـش‪ ،‬والعيـش بشـكلٍ‬
‫جيد‪ ،‬وهذا يعني العيش بشـكلٍ واضح وشـاعري‪.‬‬ ‫أفضـل‪ ،‬والعيش بشـكلٍ ّ‬
‫إن الشـعور الجمايلّ‪ ،‬كما سـبق الذكـر‪ُ ،‬معقَّـد‪ ،‬ألنه يف الوقت نفسـه‬
‫ـي ُمعقَّد‬
‫ماديـة‪ .‬إن اإلبداع الفَ ّن ّ‬
‫ّ‬ ‫وسـلبية‬
‫ّ‬ ‫مشـاركة وانفصـال‪ ،‬ونشـاط نفيس‬
‫يوحـد حـاالت اإللهـام اآلتيـة مـن أعماق العقـل الالواعـي ومـن أعلى‬ ‫ألنـه ِّ‬
‫صفاتـه الواعية‪.‬‬
‫لقـد اقرتحـت بلا جـدوى منـذ عقديـن إدخـال املعرفـة املُعقَّـدة‪،‬‬
‫أساسـية ملواجهـة تعقيدات الحيـاة(((‪ ،‬من بينها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وعرضـت سـبعة مواضيع‬
‫‪ -‬معرفـة املعرفـة‪ ،‬الرضوريـة لكلّ بحـث عن الوضوح‪ ،‬والتـي متكِّن من‬
‫الكشـف عـن مصادر األخطـاء واألوهام والوعي برشوط املعرفة املناسـبة‪.‬‬
‫‪ -‬فهـم اإلنسـان‪ ،‬وهـو التعليـم الـذي ميكـن القيـام بـه بالتعـاون مـع‬
‫اإلنسـانية املشـار إليهـا أعلاه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تدريـس العلـوم‬
‫ين‪ ،‬وهـو التعليـم بالـذات الـذي ميكـن القيام‬
‫الهويـة والوضـع اإلنسـا ّ‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫اإلنسـانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بـه بالتعـاون مـع تدريس العلـوم‬
‫تخصصات‬
‫ُّ‬ ‫مبـا أن كال مـن هـذه التعاليم تنطوي عىل الربط بين معارف‬
‫سـيؤدي‪ ،‬مبعيـة اإلصلاح العميـق‬
‫ِّ‬ ‫متعـددة‪ ،‬فهـذا يعنـي أن إدخالهـا‬
‫ِّ‬
‫أساسـية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تعليميـة‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫والجامليـات‪ ،‬إىل ثـورة‬
‫ّ‬ ‫لتدريـس الفنـون‬

‫‪(1) Les Sept Savoirs nécessaires à l’éducation du futur, op. cit.‬‬

‫‪112‬‬
‫خالصة‬

‫ليس للحياة معنى آخر غري نفسها‪.‬‬


‫ميكـن أن يكـون التعبير‪« :‬الحيـاة مـن أجـل الحيـاة» شـيئ ًا آخـر غير‬
‫تحصيـل حاصـل ُمبتـذَ ل‪ .‬يحـوز التعبير «الحيـاة مـن أجـل الحيـاة» معنـى‬
‫ونتحملهـا‪ ،‬والتـي تسـمح أيضـ ًا‬
‫َّ‬ ‫الشـعرية لحيواتنـا‬
‫ّ‬ ‫عندمـا نـدرك الصفـة‬
‫والحـب وتحقيـق الـذات‪ .‬تشـجعنا الحياة من أجـل الحياة عىل‬‫ّ‬ ‫باملشـاركة‬
‫والجامعيـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشـخصية‬
‫ّ‬ ‫شـعري عـن الحيـاة‬
‫ّ‬ ‫انتخـاب كلّ مـا هـو تعبير‬
‫ال معنـى للحيـاة‪ ،‬لكـن الشـعر يعطـي معنـى لحياتنـا‪ ،‬إذ تتخـذ الحيـاة‬
‫مكـون‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫الشـعرية‪ .‬إن الشـعور الجما ّ‬
‫ّ‬ ‫معنـى بالنسـبة إلينـا يف الحالـة‬
‫الشـعرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تأملي أو‪ /‬وإعجـايب يف الحالـة‬‫ُّ‬
‫الشـعرية املُكثَّفة إىل الغبطـة‪ .‬تصبح الغبطة املُطلقة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تقودنـا الحالة‬
‫بطبيعـة الحـال‪ ،‬وجـد ًا بأشـكاله املختلفـة‪ .‬إننـا نتـوق بعمـقٍ إىل الوجـد‪،‬‬
‫والـذي إذا مـا حالفنـا الحـظ‪ ،‬سـنصله أحياناً‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫اإلنسـانية‪ ،‬مـن أن‬
‫ّ‬ ‫لكـن هـذا ال مينـع الحيـاة كذلـك‪ ،‬وال سـيام حياتنـا‬
‫تجعلنـا فضوليين يف شـأن لغزها‪ ،‬إذ نسـعى إىل أن نعلم‪ ،‬ونسـعى إىل أن‬
‫نعرف‪.‬‬
‫أعتقد أن الفضول والحب يعطيان معنى لحياتنا‪.‬‬
‫يل نذاالتنـا‬
‫الجامليـة‪ ،‬إذا تجاوزنـا يف الشـعور الجما ّ‬
‫ّ‬ ‫أال تسـتحث هـذه‬
‫خاصـة تجعلنـا نفهـم‪ ،‬وفقـ ًا لقـول دوستويفسكي‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬ ‫وأنانياتنـا‪ ،‬أخالقـ ًا‬
‫الجمال ميكـن أن ينقـذ العامل؟ أضـف إىل ذلك‪ ،‬وهو قول لدوستويفسكي‬
‫أيضـاً‪ ،‬والطيبـة والتعاطف‪.‬‬
‫طبيعيـة أو على األقـلّ‬
‫ّ‬ ‫الشـعرية للحيـاة‬
‫ّ‬ ‫بخلاف ذلـك تكـون الصفـة‬
‫واملحبـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معياريـة وتدفعنـا إىل املُشـاركة‬
‫ّ‬
‫أول املعارف وآخرها»‪.‬‬
‫يقول وردسـورث (‪ :)Wordsworth‬إن «الشـعر َّ‬
‫أول وآخر مهارات حسـن العيش‪.‬‬
‫أود أن أقـول إنـه َّ‬
‫ّ‬
‫يسعى التطبيع وتوحيد املعايري حالي ًا إىل السيطرة عىل حياتنا‪ ،‬إذ إننا‬
‫نخضع‪ ،‬حسـب كورنيليـوس كاسـتورياديس (‪،)Cornelius Castoriadis‬‬
‫لتنامـي التفاهـة(((‪ .‬تقـف عقبـات عصيبـة يف طريـق ازدهـار شـعر الحيـاة‪.‬‬
‫وكلّما هيمنـت علينـا القـوى املجهولة‪ ،‬ك ّنـا بحاجـة إىل املقاومـة‪ .‬تتطلَّب‬
‫الشـعرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املقاومـة واحات الحياة‬
‫متسـك بجمال العـامل والحيـاة واإلنسـان‪ ،‬ويف الوقـت‬‫ُّ‬ ‫الشـعر‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫نفسـه‪ ،‬مقاومـةٌ لقسـو ِة العـامل والحيـاة واإلنسـان‪.‬‬

‫‪(1) Cornelius Castoriadis, Les Carrefours du labyrinthe, t. 4, La Montée de l ‘insignifiance,‬‬


‫‪coll. « La couleur des idées», Seuil, 1998.‬‬

‫‪116‬‬
‫الفهرس‬
‫‪5‬‬ ‫قدمة املرتجم ‪.............................................‬‬
‫ُم ِّ‬
‫‪11‬‬ ‫كلمة شكر ‪...................................................‬‬
‫‪13‬‬ ‫ِ‬
‫توطئة ‪.......................................................‬‬
‫‪15‬‬ ‫ُعممة ‪.................................‬‬
‫الجامليات امل َّ‬
‫ّ‬ ‫قدمة‪:‬‬
‫ُم ِّ‬
‫‪17‬‬ ‫يل ‪..........................‬‬
‫ُحاضة األوىل‪ :‬الشعور الجام ّ‬
‫امل َ‬
‫(جامليات الطبيعة)‬
‫ّ‬
‫‪23‬‬ ‫يل ‪...................‬‬
‫ُحاضة الثانية‪ :‬طبيعة الشعور الجام ّ‬
‫امل َ‬
‫ُعممة)‬
‫الجامليات امل َّ‬
‫ّ‬ ‫(سحر الفَ ّن ‪ -‬الجميل والقبيح ‪-‬‬
‫‪33‬‬ ‫ُحاضة الثالثة‪ :‬التفريد والتسويق والتصنيع ‪...............‬‬
‫امل َ‬
‫(اإلبداع واإلنتاج والتوزيع)‬
‫‪41‬‬ ‫ُحاضة الرابعة‪ :‬اإلبداع ‪...................................‬‬
‫امل َ‬
‫مهمة ال َف َّنان؟)‬
‫(الشامان «الكاهن» والشامانية ‪ -‬ال َف َّنان باعتباره ما بعد الشامان ‪َّ -‬‬
‫‪53‬‬ ‫ُحاضة الخامسة‪ :‬نشوات الحياة وفرتات الحياة ‪...........‬‬
‫امل َ‬
‫والرواية ‪ -‬الشـعر‪،‬‬
‫الروايئ ِّ‬
‫(سـحر االزدواجيـة ‪ -‬القـراءة والفرجـة ‪ -‬تأثري الحيـاة ‪ِّ -‬‬
‫فـن الخطابـة ‪ -‬املسرح واملوت ‪ -‬السـينام ‪ -‬فهم اإلنسـان ‪ -‬الرسـم‬ ‫آ ِلـف اللّغـز ‪ّ -‬‬
‫‪ -‬املوسـيقى ‪ -‬األوبرا‪ :‬املأسـاة واملوسيقى)‬
‫‪83‬‬ ‫موسعة ‪........‬‬
‫َّ‬ ‫وجامليات‬
‫ّ‬ ‫ُحاضة السادسة‪ :‬فنون جديدة‬
‫امل َ‬
‫ُتحركـة ‪ -‬ازدهـار‬
‫الرسـوم امل ِّ‬
‫(فـن التصويـر الفوتوغـرايف ‪ -‬قيمـة ِّ‬
‫ّ‬
‫التطبيقيـة)‬
‫ّ‬ ‫الفنـون‬ ‫‪-‬‬ ‫املسلسلات‬
‫‪91‬‬ ‫واللعبي ‪...‬‬
‫ّ‬ ‫والشعري والصو ّ‬
‫يف‬ ‫ّ‬ ‫ُحاضة السابعة‪ :‬التفاعل بني الجام ّ‬
‫يل‬ ‫امل َ‬
‫والجاملية‪ :‬تلخيص ‪ -‬التوافق مع الواقع)‬
‫ّ‬ ‫الشعرية‬
‫ّ‬ ‫(الحاالت‬
‫‪99‬‬ ‫الجامليات والثقافة ‪.......................‬‬
‫ّ‬ ‫ُحاضة الثامنة‪:‬‬
‫امل َ‬
‫َـن ‪-‬‬
‫الجامليـات ‪ -‬املراهقـة والف ّ‬
‫ّ‬ ‫كونيـة‬
‫والجامليـات وسـيلتان للمعرفـة ‪ّ -‬‬
‫ّ‬ ‫َـن‬
‫(الف ّ‬
‫والجامليات‬
‫ّ‬ ‫َـن‬
‫الفكـر يف األعمال العظيمـة ‪ -‬فهـم اإلنسـان ‪ -‬يجب أن ُيسـهم الف ّ‬
‫الرتبيـة عليهـا)‬
‫ّ‬ ‫الجامليـات وإعـادة‬
‫ّ‬ ‫الرتبيـة على‬
‫ّ‬ ‫يف ِش َّ‬
‫ـعرية الحيـاة ‪-‬‬
‫‪115‬‬ ‫ُخالصة ‪......................................................‬‬
‫صدر يف سلسلة‬

‫‪2011‬‬
‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬
‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫‪2012‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬
‫ّ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫واملدنية‬
‫ّ‬ ‫اإلسالم بني العلم‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫الصديق‬
‫ّ‬ ‫عبقرية‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫‪2013‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫السياسية‬
‫ّ‬ ‫الكتابات‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫مجموعة مؤلفني‬ ‫العربية‬
‫ّ‬ ‫فتاوى كبار الك ّتاب واألدباء يف مستقبل اللّغة‬ ‫‪31‬‬
‫‪2014‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫عامليني)‬
‫ّ‬ ‫ِساج ُّ‬
‫الرعاة (حوارات مع كُ تاب‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫بنسامل ِح ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬
‫َ‬ ‫عن‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشيل سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫(تأمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬
‫تزفيتان تودوروف ُّ‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الف ّنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إىل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫مختارات شعرية‬ ‫إلياس أبو شبكة «العصفور الصغري»‬ ‫‪43‬‬
‫‪2015‬‬
‫األمري شكيب أرسالن‬ ‫ملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟‬ ‫‪44‬‬
‫عيل املك‬ ‫مختارات من األدب السوداين‬ ‫‪45‬‬
‫جرجي زيدان‬
‫ُ‬ ‫رحلة إىل أوروبا‬ ‫‪46‬‬
‫عبدالدين حمروش‬ ‫عباد يف سنواته األخرية باألرس‬
‫بن َّ‬
‫ُعتمد ُ‬
‫ُ‬ ‫امل‬ ‫‪47‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫تاريخ الفنون وأشهر الصور‬ ‫‪48‬‬
‫إيدوي بلينيل ‪ -‬ترجمة‪ :‬عبداللطيف القريش‬ ‫من أجل املسلمني‬ ‫‪49‬‬
‫يوسف ذَ نّون‬ ‫زِينة املعنى (الكتابة‪ ،‬الخط‪ ،‬الزخرفة)‬ ‫‪50‬‬
‫أحمد فارس الشدياق‬ ‫الواسطة يف معرفة أحوال مالطة‬ ‫‪51‬‬
‫ُمحسن املوسوي‬ ‫النخبة الفكرية واالنشقاق‬ ‫‪52‬‬
‫إيزابيل إيربهاردت‬ ‫ياسمينة وقصص أخرى‬ ‫‪53‬‬
‫ترجمة وتقديم‪ :‬بوداود عمري‬ ‫آباي (كتاب األقوال)‬ ‫‪54‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم الغرياين‬ ‫مأساة واق الواق‬ ‫‪55‬‬
‫‪2016‬‬
‫مي زيادة‬ ‫والفن والحضارة)‬
‫ّ‬ ‫واملد (صفحات يف اللّغة واآلداب‬
‫ّ‬ ‫بني الج ْزر‬ ‫‪56‬‬
‫(حوارات ونصوص من أرشيف «الدوحة»)‬ ‫ظلّ الذّ اكرة‬ ‫‪57‬‬
‫قسم التحرير «مجلّة الدوحة»‬ ‫املرصية (‪ )1932‬تحقيق‪ :‬رشيد العفاقي‬
‫ّ‬ ‫الرحلة الف ّنية إىل الديار‬ ‫‪58‬‬
‫أليكيس شوتان ‪-‬تعريب‪ :‬عبد الكريم أبو علو‬ ‫قيرص وكليوبرتا‬ ‫‪59‬‬
‫إسامعيل مظهر‬ ‫الصني وفنون اإلسالم‬ ‫‪60‬‬
‫ترجمة‪ :‬مي عاشور‬ ‫(مختارات ِش ْع ّ‬
‫رية للكاتب الصيني وانغ جو جن)‬ ‫براعم األمل ُ‬
‫ُ‬ ‫‪61‬‬
‫محمد العرويس املطوي‬ ‫ال ّتوت امل ُّر‬ ‫‪62‬‬
‫غونار إيكليوف‬ ‫درب الغريب‬ ‫‪63‬‬
‫أحمد حافظ بك‬ ‫من والد إىل ولده‬ ‫‪64‬‬
‫بول ُبورجيه‬ ‫التلــــميذ‬ ‫‪65‬‬
‫تقديم وترجمة‪ :‬طه باقر‬ ‫ِ‬
‫جلجامش‬ ‫ملحمة‬
‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫الشيخ مصطفى الغالييني‬ ‫أريج ال ّزهر‬
‫ُ‬ ‫‪67‬‬
‫‪2017‬‬
‫محمد فريد سيالة‬
‫ّ‬ ‫اعرتافات إنسان‬ ‫‪68‬‬
‫الطيب صالح‬ ‫مريود‬ ‫‪69‬‬
‫عبدالله كنون‬ ‫املقاالت الصحفية‬ ‫‪70‬‬
‫نجيب محفوظ‬ ‫قصص قصرية‬ ‫‪71‬‬
‫إبراهيم الخطيب‬ ‫بول بولز ‪ -‬يوميات طنجة‬ ‫‪72‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫الحياة‬ ‫فن َ‬ ‫ّ‬ ‫‪73‬‬
‫خري الدين التونيس‬ ‫ك ِف َم ْع ِر َف ِة َأ ْح َوالِ ال َْم َم ِل ِ‬
‫ك‬ ‫َأق َْو ُم ال َْم َسا ِل ِ‬ ‫‪74‬‬
‫أحمد أمني‬ ‫َ‬
‫األخلق‬ ‫كتاب‬ ‫‪75‬‬
‫فدوى طوقان‬ ‫ر ِْح َلةٌ َج َب ِل َّيةٌ ر ِْح َلةٌ َص ْع َبة‬ ‫‪76‬‬
‫مجموعة من الكتاب‬ ‫ريةُ ِف قَطَ ر)‬ ‫صةُ ا ْلق ِ‬
‫َص َ‬ ‫ارات ِمن َا ْل ِق َّ‬
‫(مخ َت َ‬ ‫ِق ْ‬
‫ـطاف ُ‬ ‫‪77‬‬
‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية (من رشقي إفريقية إىل غربيها) ج‪ 1 :‬جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫‪78‬‬
‫جول غابرييل فرين‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف اليان رسكيس‬ ‫الرحلة الجوية يف املركبة الهوائية‪ .‬ج‪2 :‬‬ ‫‪79‬‬
‫‪2018‬‬
‫إسحق موىس الحسيني‬ ‫مذكرات دجاجة‬ ‫‪80‬‬
‫نورمان ج‪ .‬فينكلستاين‪ -‬ترجمة‪ :‬أحمد زراقي‬ ‫ماذا يقول غاندي عن الالعنف واملقاومة والشجاعة؟‬ ‫‪81‬‬
‫نزار شقرون‬ ‫نشأة اللوحة املسندية يف الوطن العريب‬ ‫‪82‬‬
‫إس‪ .‬إس‪ .‬بيو ‪ -‬ترجمة‪ :‬يعقوب رصوف ‪ -‬فارس منر‬ ‫والعظَ َم ِء الق َُدماء‬
‫ُ‬ ‫ِمن ِس َي ا َ‬
‫ألبْطَ ال‬ ‫‪83‬‬
‫إغناطيوس كراتشكوفسيك‬ ‫العريب‬
‫ّ‬ ‫مقاالت ِف األدب‬ ‫ٌ‬ ‫‪84‬‬
‫صوف‬
‫صموئيل ساميلز ‪ -‬ترجمة‪َ :‬يعقُوب َ ُّ‬ ‫س ال َّن َج ِ‬
‫اح‬ ‫ِ ُّ‬ ‫‪85‬‬
‫ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور‬ ‫ِم ْن آ َثا ِر ُم َعاو َِية ُم َح َّمد نُور‬ ‫‪86‬‬
‫أحمد الهاشمي‬ ‫الع ْ ِ‬
‫ص َّية‬ ‫ات َ‬ ‫اء املُكَ ات ََب ِ‬
‫ِنش ُ‬
‫إ َ‬ ‫‪87‬‬
‫ترجمة‪ :‬عبدالرحمن الخمييس وآخرين‬ ‫السوفْيي ِّتي‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫الش‬
‫ِّ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ارات‬
‫ٌ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫خ‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫أجراس‬ ‫‪88‬‬
‫اختارها وترجمها‪ :‬جربا إبراهيم جربا‬ ‫حكايات من الفونتني‬ ‫‪89‬‬
‫ألبريطو مانْغيل ‪ -‬ترجمة ‪ :‬إبراهيم الخطيب‬ ‫مع بورخيس‬ ‫‪90‬‬
‫لوسيان جولدمان‪ ،‬ناتايل ساروت‪ ،‬آالن روب‬ ‫الرواية الجديدة والواقع‬ ‫‪91‬‬
‫غرييه‪ ،‬جينفياف مويلو‪ .‬ترجمة‪ :‬رشيد بنحدو‬
‫‪2019‬‬

‫إميل الوست ‪ -‬ترجمة‪ :‬إدريس امللياين‬ ‫أمازيغية)‬


‫َّ‬ ‫شعبية‬
‫َّ‬ ‫(حكايات‬
‫ٌ‬ ‫غزالن الليل‬ ‫‪92‬‬
‫املؤلف‪ :‬جورج النغالن ‪ -‬ترجمة‪ :‬خليفة ه ّزاع‬ ‫الذُّ َب َ‬
‫ابةُ‬ ‫‪93‬‬
‫عبد اللطيف الوراري‬ ‫ترجمة النفس (السرية الذاتية عند العرب)‬ ‫‪94‬‬
‫أحمد الصفريوي ‪ -‬ترجمة‪ :‬رشيد مرون‬ ‫صندوق العجائب‬ ‫‪95‬‬
‫كارلوين وفيلو ‪ -‬ترجمة‪ :‬كيتي سامل‬ ‫النقد األديب‬ ‫‪96‬‬
‫ترجمة‪ :‬خالد الريسوين‬ ‫شعرية)‬
‫ّ‬ ‫خوان مانويل روكا‪َ ..‬صا ِن ُع امل ََر َايا (مختارات‬ ‫‪97‬‬
‫ميشيل بوتور‪-‬ترجمة‪ :‬فريد أنطونيوس‬ ‫الجديدة‬
‫الر َواية َ‬
‫بحوث يف ّ‬ ‫‪98‬‬
‫حسن املودن‬ ‫األدب والتحليل النفيس‬ ‫‪99‬‬
‫تقديم‪ :‬خالد بلقاسم‬ ‫‪ 100‬حكايات السندباد‬
‫روالن بارت ‪ -‬ترجمة‪ :‬انطوان أبوزيد‬ ‫‪ 101‬النقد البنيوي للحكايــة‬
‫من إصدارات سلسلة كتاب الدوحة‬

You might also like