You are on page 1of 25

‫تصدير‬

‫إنسان القرن العشرين‪ ،‬يفهم من "الخطابة" أنها قو ٌل فارق غير مفهوم‪ ،‬لذلك تج ده يس تغرب‬
‫لماذا يريد الفيلسوف أن يُدمِج مجال الحجاج ‪ Argumentation‬والخطاب ة ‪،rhétorique‬‬
‫فآخر مرة درست فيها الخطابة كانت مند قرن في فرنس ا بع د ح ذفت من ال برامج التعليمي ة‬
‫ألنها ال تملك أية قيمت تربوية‪ .‬لكن في بلجيكا كان ت دريس الخطاب ة ض روريا‪ ،‬وفي ك تيب‬
‫صغير لهم يمزجون بين القياس ‪ syllogisme‬واألس اليب الاس تعارية‪ ،‬آن إ ٍذ لم يكن هن اك‬
‫من يعتبر أن الخطاب ة هي ذي قيم ة‪ .‬ح تى في كتاب ات أفالط ون نج ده يه اجم السفس طائيين‬
‫ومعلمي الخطابة‪ ،‬لماذا؟ ألنها تكتفي فقط بإبهار المستمع وليس تلقينه الحقيقة‪ .‬أيضا الخطابة‬
‫غير موجودة أيضا في معجم الالند‪ ،‬مما يفيد أنها ال تنتمي بتاتا للمجال الفلسفي‪.‬‬

‫لكن األبحاث التي قام بها بيرلم ان أوض حت ل ه أهمي ة الخطاب ة في الفك ر المعاص ر‪ .‬فقب ل‬
‫ثالثين سنة في كتابه "في العدالة" بحث في مسألة العدال ة ليس تخرج قاع دة ص ورية للعدال ة‬
‫"الكائنات من نفس الفئة الجوهرية يجب مع املتهم بنفس الطريق ة" لكن كي ف يمكن التفري ق‬
‫بين الجوهرية عن غيره و الذي ه و مهم من غ ير المهم؟ وج د بيرلم ان أن ه ذا التفري ق ال‬
‫يمكن أن يتم إال على أساس أحكام القيمة التي كانت في تلك المرحلة تبدو ل ه عش وائية‪ .‬ه ذا‬
‫في حين الجواب الوضعي بخصوص التفكير في أحكام القيمة لم يُقنع بيرلم ان‪ ،‬مثال طريق ة‬
‫عقلية تمكن من معرفة لم ا نفض ل الخ ير على الش ر‪ ،‬والعدال ة على الظلم‪ .‬ليب دأ في العم ل‬
‫إلنشاء منطق ألحكام القيمة‪.‬‬

‫وهن ا بيرلم ان سيس ير على منهج ‪ ،Gottlob Frege‬ال ذي عم ل على اس تنباط القواع د‬
‫المنطقي ة المس تعمل في المبرهن ات الرياض ة‪ ،‬ه ذا العم ل االستقص ائي ه و ال ذي ج َّد َد من‬
‫المنطق الصوري‪ .‬لكن هل هذه الطريق ستنجح مع أحكام القيمة‪ ،‬في نص وص تفض ل قيم ة‬
‫على قيمة أخرى‪ .‬وبعمل استقصائي طويل مع أولبريخت تيطيكا جعلهم يكتشفون ش يئا غ ير‬
‫منتظر‪ ،‬مع العلم أنه قبل هذا العمل لم يكن هناك منطق ألحكام القيمة‪ .‬فهذا المنسي لعص ور‬
‫عديد هو الذي وجده بيرلمان عند القدماء فهو الخطابة‪ ،‬أي الفن الق ديم في اإلقن اع‪ .‬والع ودة‬
‫هنا عنده كانت للخطابة والطوبيقا‪ ،‬في التقليد اإلغريقي ـ الروم اني‪ ،‬وج د برلم ان في ه ذه‬
‫‪1‬‬
‫العودة للخطابة والطوبيقا أن هذه األصناف ال تسلك مسلك االستنباط الصوري الصحيح في‬
‫تحقيق القبول عند المتلقي‪ ،‬بل لها صنف آخر من االستدالالت‪.‬‬

‫تجلى في القديم أن الخطيب كان في صراع مع الفيلسوف‪ ،‬لذلك ُغيِّبت الخطاب ة من المج ال‬
‫الفكري إلى اآلن‪ ،‬ألن الخطابة القديمة كانت مقصورة فق ط على ش كل وطريق ة اإللق اء‪ ،‬أي‬
‫اهتمت باألسلوب‪ .‬حيث كان الخطيب في ذلك الحين مدعا ًة للس خرية من ط رف الفيلس وف‪،‬‬
‫لكن لِ َم كتب فالسفة كبار ح ول الخطاب ة فق ط لالهتم ام باألس لوب وطريق ة الق ول؟ ال يمكن‬
‫اختزال أعمال أرسطو‪ ،‬شيشرون وكانتيليا في هكذا قول‪.‬‬

‫روالن بارت يرى أن الخطابة متجاوزة لكنه مع ذلك يقول بأن الق ول ب اختزال الخطاب ة في‬
‫األس لوب ه و ق ول مغل ط‪ ،‬وفي نفس الس ياق جوني ط ‪Genette‬وفي مق ال ل ه "الخطاب ة‬
‫الخاصة" يعرض رأيه المخالف ‪ :‬خطابة أرسطو ليست عامة‪ ،‬وأن الذي حصل هو أنه ا في‬
‫العصر الوسيط فقدت توازنها‪ ،‬أي توازن األجناس الثالثة‪ :‬التداولية‪ ،‬القضائية ثم االحتفالية‪،‬‬
‫ذلك راجع لسقوط األنظمة الجمهورية‪ ،‬فسيغيب الجانب التداولي واالحتف الي ويتم االقتص ار‬
‫فقط على طريقة اإللقاء وبديع القول‪.‬‬

‫بول ريكور يرى أن الخطابة لدى أرسطو تقسم لثالثة مجاالت‪ ،‬األولى نظرية في الحجاج‪،‬‬
‫وهي ال تي تجع ل الخطاب ة تنتمي لمج ال المنط ق‪ ،‬ونظري ة في ب ديع الكالم‪ ،‬ثم نظري ة في‬
‫طريقة تجميع الخطاب‪ .‬فرأي جونيط باختزال الخطابة في اإللقاء فقط وهذا التصور ه و من‬
‫قتل الخطابة على مر هذه العصور بجعلها تهتم فقط بكيف وبديع الكالم‪ .‬في حين الخطابة ال‬
‫بد أن تتألف من بديع الكالم أو حسن القول‪ ،‬ومن الحجة ثم من طرق اإلقن اع‪ ،‬والفص ل بين‬
‫هذا الثالثي الذي يشكل أسَّ الخطابة هو ما حصل في الجامعات األمريكي ة من ذ س تين س نة‪.‬‬
‫حيث أن اإلحي اء ال ذي عرفت ه الخطاب ة لم يكن ممكن ا إال على أس اس رب ط العالق ة بين‬
‫تكونا وتش ّكال مع أرسطو‪.‬‬
‫الخطابة والجدل كما ّ‬

‫‪2‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬منطق‪ ،‬جدل‪ ،‬فلسفة وخطابة‬
‫لتحديد الخطابة في صميمها يقول برلمان أنه البد أن ننظر في عالقتها م ع الج دل‪ ،‬أرس طو‬
‫في كتاب ه األورك انون م يز بين طريق تين في االس تدالل‪ ،‬تحليلية وجدلية‪ ،‬حيث خص ص‬
‫لألولى مصنف التحليالت األولى والثانية‪ ،‬لكن المناطق المعاصرين تناسوا أهمية االس تدالل‬
‫الجدلي في مصنف الطوبيق ا‪ ،‬الخطاب ة والتبكيت ات السفس طائية‪ .‬ففي كت اب التحليالت درس‬
‫فيه القياس البره اني‪ :‬بم ا أن "أ" هي "ب" و "ب" هي "ج"‪ ،‬ف إن "أ" هي "ج"‪ ،‬في القي اس‬
‫البرهاني البد من االنطالق من مقدمات صحيحة‪ ،‬فهذا النوع ال يدخل فيه رأي اإلنسان فه و‬
‫غيرـ ذاتي‪ .‬لكن ليس كما مع االستدالل الجدلي فيمكن أن ينطلق من أراء مقب ول عن د أغلب‬
‫الناس أو من طرف الفالسفة‪ ،‬أي من طرف الجميع‪ :‬لكن ليس كل ما هو متعارف علي ه ه و‬
‫دائما صحيح‪ ،‬فقد يشابه الصواب ولكن ه ليس ك ذلك‪ ،‬ق د نخل ط بينه ا وبين م ا ه و محتم ل‪،‬‬
‫فالمحتمل يُعنى بالماضي والمس تقبل‪ ،‬أم ا اآلراء المش هورة هي خارج ة عن ال زمن تط رح‬
‫سؤال هل الكون متناهي أم غير متناهي؟ فالجواب المقبول من عامة الناس هو ال ذي ينطل ق‬
‫منه الجدل‪.‬‬

‫إن االنطالق من أفكار مقبولة يكون ألجل تغيير رأي اآلخ ر المس تمع أو إقن اع الط رف في‬
‫مناظرة‪ ،‬إذن االستدالالت التحليلية ُتعنى بالحقيقة‪ ،‬واالستدالالت الجدلية تتعلق بالرأي‪ ،‬وكل‬
‫منهم له خطابه ونطاق ه‪ .‬في ه ذا الص دد ينتق د برلم ان بي ير دو الغ امي ‪pierre de la‬‬
‫‪ ramée‬ال ذي اخ تزل في ‪ trivium‬أي فن ون الخط اب كله ا تص ب في ظ اهر الخط اب‪،‬‬
‫وصديقه أومير طالون ‪Omer Talon‬الذي أودى بالخطابة للهالك باختزالها في األشكال‬
‫التي يتخذها الخطاب يطلق عليها الخطابة الشكلية ‪.la Rhétorique des figures‬‬

‫المنطق الحديث المتأثر بكانط ال يدرج ضمن نسقه المنطقي الجدل‪ ،‬ف المنطق الص وري في‬
‫نظرهم وكم ا تأس س م ع أرس طو أي القي اس البره اني ال ي دمج في داخل ه القي اس الج دلي‬
‫معتبرين إياه ال ينتمي للمنطق‪ ،‬في حين أرسطو في الحقيقة ال يس تثني الخطاب ة وال الج دل‪،‬‬

‫‪3‬‬
‫فيعتبر أن الخطابة والجدل متشابهان‪ ،‬الجدل يهتم بالحجاج الذي يستعمل في المن اظرات أو‬
‫الحوارات مع محاور واحد‪ ،‬الخطابة تهتم بالتقنيات الخطابية التي تتوج ه لحشد ما ال يمل ك‬
‫أي معرف ة وليس ق ادر على الت دقيق في االس تدالل المق دم أمام ه من ط رف ذل ك الخطيب‪.‬‬
‫فالخطابة الجديدة وفي تعارضها مع القديمة ترى أن هذا الخطاب ممكن أن يوجه لكل الن اس‬
‫عام ًة أو خاص ة‪ ،‬فهي تغطي ج ل مج االت الخط اب ال ذي ي رمي اإلفح ام واإلقن اع‪ ،‬بغض‬
‫النظر على المتلقي والموضوع الذي يتوجه به الخطيب أو الجدلي‪.‬‬

‫من هن ا يمكن إنش اء منط ق قض ائي أو فلس في‪ ،‬بت الي هن ا س نجعل الفلس فة تابع ة للخطاب ة‬
‫الجديدة على عكس ما كانت عليه مند بارمنيد الذي ميز بين ال رأي والحقيق ة‪ .‬فه ذا الص رح‬
‫الميتافيزيقي الكبير للفلس فة تجس د م ع أفالط ون‪ ،‬ديك ارت وكان ط‪ ،‬ال تي جعلت ح اجزا بين‬
‫البحث عن الحقيقة وعمل الخطيب والسفسطائي‪ ،‬ألن بحسبهم أن الخطابة تغلط وتراوغ‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬الحجاج‪ ،‬الخطيب والمس َتمع‬


‫ما الذي يميز الحجاج عن االس تدالل الص وري الصحيح؟ في االس تدالل‪ ،‬الحجج المس تعملة‬
‫تكون خالية من ك ل غم وض‪ ،‬على عكس الحج اج ال ذي يُت داول بلغ ة طبيعي ة ال يخل و من‬
‫غموض‪ ،‬وألن االستدالل يتبع قواعد محددة ومعلنة في االستدالل القائم مستبعدا ك ل تص ور‬
‫قيمي‪ ،‬ليسوا داخل مجال الحقيقة‪ ،‬الذي يُدخل المجال القيمي البد أن يعود للحج اج كم ا ج اء‬
‫في كتاب الطوبيقا‪ .‬الحجاج هنا ليس غرضه استخالص نت ائج المق دمات‪ ،‬ه و يري د تعزي ز‬
‫ال َقبول للمستمع‪ ،‬وال تستثني تواصل العقول بين المحاجج والمستمع‪ ،‬فالحج اج يتوج ه لذات ه‬
‫أيضا بشكل خاص‪.‬‬

‫هذا النوع من الحجاج كان يدرّ س في الدير وفي المجاالت السياسية ـ الدبلوماسية‪ ،‬فه و يعلم‬
‫النقاش مع من هو مخالف معك في الرأي‪ ،‬فإن لم يكن الحجاج‪ ،‬سيلجأ الن اس للعن ف‪ ،‬ل ذلك‬
‫فتغيير أي رأي البد أن يكون بالنقاش‪ ،‬لهذا وجب لقاء وتالقي العقول فيما بينها‪ ،‬فأي غي اب‬
‫للنقاش في الحقل السياسي ينشئ دول لها السيادة المطلقة ‪ ،absolutistes‬وحتى في الدول‬
‫الليبرالية ال تمنح حرية على بياض للحديث في أي حادث‪ ،‬هذا ما أشار له أرسطو‪ :‬ال ينبغي‬

‫‪4‬‬
‫أن نح اور أيً ك ان وتجنب الح ديث عن بعض األم ور‪ ،‬مثل ه في ه ذا مث ل ال ذي يس اءل‬
‫البديهيات "هل الثلج أبيض؟"‪.‬‬

‫الحجاج ال يبتغي فقط اإلقن اع العقلي‪ ،‬ب ل أيض ا يري د تعزي ز القابلي ة واالس تعداد لفع ل م ا‪،‬‬
‫وتغير موقف ما‪ ،‬هذا من شأنه دَرْ أ أضرار الح رب والفتن ال تي ت ودي بالن اس للهالك‪ ،‬إذن‬
‫فمن هو المستمع الذي يوجه ل ه الحج اج بخاص ة؟ الج واب واض ح بذات ه‪ ،‬فالمح امي ال ذي‬
‫يترافع أمام محلفين‪ ،‬والبرلماني يوجه خطابه للوزراء‪ ،‬فليس المهم هن ا ه و تحدي د المس تمع‬
‫ومخاطبه‪ ،‬ألن الخطيب يستثني جزء من مستمعه مثال في حالة كان يدخل معه في تعارض‬
‫سياسي‪ ،‬أو يمثل معارضة برلمانية‪.‬‬

‫إذا كان الخطاب الملقى يعني العالم كله‪ ،‬فالعالم ه و مج زأ ألع داد هائل ة من المس تمعين من‬
‫جميع األصناف‪ ،‬بالنسبة لبعض العقالنيين والفردانيين‪ ،‬الت داول الف ردي يك ون ص ادق‪ ،‬ألن‬
‫في هذا التفكير الحميمي مع النفس ال نخفي فيه شيئا‪ ،‬من هن ا ي أتي التواف ق بين ال ذات م ع‬
‫ذاتها كما قال باسكال‪ ،‬وهو شبيه لما عند ديكارت "أن الشيء ال ذي أق ِن ع ب ه ذاتي س أقنع ب ه‬
‫غيري"‪ .‬شوبنهاور يعتقد تقريبا العكس‪ ،‬بالقول أن العقل يغطي على نفسه األس باب الحقيقي ة‬
‫لفعل ما نريد تبريره‪ ،‬والتي هي العقلية من األساس‪.‬‬

‫هذا الجانب الذي يخفي اإلنسان في تداوله الحميمي مع نفسه يمكن كشف أزالل ه فق ط بتقني ة‬
‫السؤال ـ جواب‪ ،‬وهذا يختلف بدراجات فهن اك المتلقي ة من درج ة دني ا أس ئلته ليس ت بنفس‬
‫الدقة التي يملكها المتخصصين‪ ،‬فأي إغفال منهم ألي جانب من الخطاب والحجاج والموج ه‬
‫لهم‪ ،‬من شأنه أن يزعزع القناعات العلمية‪ ،‬فأمام المختص ين ال يتم اإلقن اع هك ذا بالص دفة‪،‬‬
‫فالخطاب الذي يقنع هو الذي تكون مقدماته كونية‪ ،‬أي مقبول من طرف مستمع كوني‪.‬‬

‫أرسطو يبني الخطابة على المس َتمع‪ ،‬كان متخصصا أم عاديا لذلك يضع ثالثة أجناس للق ول‬
‫الخطابي‪ ،‬هناك الجنس التداولي‪ :‬يقدم فيه الخطيب نصيحة أو نهي والبد أن يك ون قول ه ذا‬
‫ج دوى‪ .‬في الجنس القض ائي‪ :‬الخطيب يتهم أو ي دافع بغي ة س نِّ الص واب‪ .‬في الجنس‬
‫االحتفالي‪ :‬الخطيب يلوم أو يمدح وخطاب ه يتعل ق بالجمي ل والق بيح‪ .‬حيث أن الجنس األول‬
‫أرس طو اس تلهمه من المج ال القض ائي والسياس ي من أج ل ت بين تحدي د الجنس الث اني أي‬
‫‪5‬‬
‫القضائي‪ .‬الجنس االحتفالي هو مركزي ألن دوره يكمن في تعزيز اإلقناع والقبول‪ ،‬يستعمل‬
‫في العزاء والحفل للتحفيز مشاعر تنِم عن ذلك الحدث‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬مقدمات الحجاج‬


‫الخطيب البد وهو يتوجه بخطاب ه لمس تمع م ا أن يتقب ل م ا س يقول ال ذي يح اوره‪ ،‬في م اذا‬
‫يتمثل هذا القبول؟ الخطيب البد له أن ينطلق من مقدمات يقبلها المستمع‪ ،‬ألن هدف الحج اج‬
‫ليس نفسه هدف البرهان‪ ،‬فالقبول أو تعزيز الرأي ال يتم فقط بانسجام المقدمات م ع بعض ها‬
‫أي مقدمات الخطيب والمستمع‪ ،‬ولكن ممكن أن تكون النتائج مخالفة لما يعتقده المستمع‪.‬‬

‫إذن الحجاج البد أن ينطلق من مقدمات مقبولة عند المس تمع‪ ،‬ه ذه المنطلق ات المقبول ة‪ ،‬هي‬
‫إما مقبولة ألنها تتعلق بالواقع أي الحقائق أو االفتراضات‪ ،‬وإم ا من منطلق ات مفض لة وهي‬
‫باألساس تنتمي لمجال هرمي ـ قيمي‪ ،‬فهذه المنطلقات يسندها سلطة إلهية م ا تض ن أحقيته ا‬
‫وصالحيتها وتجعلها تلبس ثوب الحقيقة بحيث ال يمكن التشكيك فيها‪ .‬لكن هذه الثوابت يمكن‬
‫وضعها تحت المسألة وشك ديكارت ال ينفع هن ا‪ ،‬باعتب اره ش كا عقالني ا‪ ،‬فيتغينش تاين أف رد‬
‫لهذا الموضوع بعض الصفحات‪ .‬إذن كيف نمسك بالواقعة والحقيقة؟ الطريقة الناجعة تتمثل‬
‫في عرضهما في مقابل حقيقة أو واقعة أخرى‪ ،‬والذي يص مد نحتف ظ ب ه ول و كلفن ا ذل ك أن‬
‫نتخلى على كومة منها‪ .‬هذه المسألة أحيانا قد ت ؤدي لث ورة فكري ة س واء علمي ة‪ ،‬فلس فية أو‬
‫دينية‪ ،‬هذا الن وع من االس تدالل بالقرين ة ‪ ،présomptions‬س يجعلنا نرتك ز على قناع ات‬
‫معقولية ‪.‬‬

‫الق رائن ق د تجع ل نقط ة االنطالق لالس تدالل‪ ،‬على عكس الق رائن القض ائية تق دم ق رائن‬
‫استداللية مبنية على استدالل قضائي‪ ،‬وتستغل كل حجة لصلحها‪ ،‬وفي األحك ام ال تي ينتظ ر‬
‫منها تقديم ما هو واقع يمكن هنا التمييز بين األحكام التي تع بر تفض يل ‪ préférence‬أي‬
‫الخاضعة للقيم الهرمية‪ ،‬أو أحكام تحدد ما يمكن أن يصبح مفض ال ‪préférable. Louis‬‬
‫‪ Lavelle‬يعتبر أن القيم تغطي كل م ا ل ه عالق ة بنهاي ة الفت ور أو بالمس اواة بين األش ياء‪.‬‬
‫فالقيم قد تحدد كل شيء جيدا كان أو سلبيا بالنسبة للشخص الذي ه و تحت س قف تل ك القيم‪،‬‬

‫‪6‬‬
‫من خاللها يقوم بتفضيالت مسوغها هو القيم‪ ،‬ومنها تبنا تصورات الفرد حول ما ه و جمي ل‬
‫و قبيح‪ ،‬ما هو صحيح وباطل‪ ،‬هنا ك ل الفهم عن الواق ع ال ذي ه و موض وع دراس ة علمي ة‬
‫يصبح غامضا ومشوب‪ ،‬الواقع بالنس بة للبحث العلمي ال يقيم تفاض ال بين الوق ائع‪ ،‬هم على‬
‫تساو تام‪ .‬على غرار مبحثي األونطولوجيا أو الدراسة الفلس فية للواق ع فهم ال‬
‫ٍ‬ ‫ح ٍد سواء وفي‬
‫يتوارون عن إقامة درجات بين الواقع نفس ه‪ ،‬هن ا تم زج أحك ام القيم ة م ع وص ف المعطى‬
‫الموض وعي‪ ،‬أحك ام القيم ة هي في تع ارض فيم ا بينه ا تم اعتباره ا من قِب ل الوض عيين‬
‫كأشياء فارغة من الموضوعية‪ ،‬على عكس أحكام الواقع التي بالتجربة والتح ري ثم التحق ق‬
‫هي مقبولة عند الجميع‪.‬‬

‫أحكام القيمة إذن تحجب عن الباحث الكثير ليراه‪ ،‬لهذا السبب يصير مستحيال الحجاج ب دون‬
‫االتفاق القبلي الموهم عن المبادئ ‪ ،pétition de principe‬أي نتغاضى الطرف عن ما‬
‫هو غير قابل لالستدالل‪ ،‬قيل أن القيم تتصارع وتتضارب فيما بينها لكن أال توجد قيم كوني ة‬
‫مشتركة‪ :‬يقبلها ك ل إنس ان‪ ،‬من قبي ل الحقيق ة‪ ،‬الخ ير‪ ،‬الع دل؟ ه ذه القيم هي في األص ل ال‬
‫خالف حولها فقط ألنها غير مح ددة‪ ،‬ص ورية‪ ،‬حين نح ددها ونض عها في وض عيات معين ة‬
‫وملموسة‪ ،‬تظهر االختالفات وتفرق ات في اآلراء‪ ،‬فبالنس بة ل ‪ Dupréel‬القيم الكوني ة هي‬
‫فقط وسيلة لإلقناع‪ ،‬آلية روحية خارجة عن الموضوع الذي يكون شخص ما بصدد الح ديث‬
‫حوله‪ .‬القيم الكونية تلعب دورا هاما في الحج اج فهي ترف ع االختالف ات الجزئي ة الحاص لة‪،‬‬
‫للتعالي لما هو كوني يؤلف بين األفكار‪ ،‬فالبد أن نقيم التمييز بين القيم المجردة مثل الجم ال‬
‫العدالة‪ ،‬والقيم الملموسة من مثل الكنيسة أو فرنسا‪ ،‬إذن القيم الملموسة هي تل ك ال تي تتعل ق‬
‫بفرد معين وتكون جزئي ة‪ ،‬تخص مجموع ة‪ ،‬تنظيم‪ .‬وهن اك قيم مج ردة ال يمكن أن تفهم إال‬
‫بعالقتها بالقيم الملموسة كالوفاء‪ ،‬التضامن والشرف‪ .‬هذا ال ذي أغفلت ه العقالني ة الكالس يكية‬
‫باعتبارها مثال الخير المطلق الب د أن يك ون كوني ا ال جزئي ا‪ ،‬وتبس ط س لطتها على ك ل ذي‬
‫عقل لذلك هي أمر مطلق مثال عند كانط‪.‬‬

‫أرسطو يرى أنه من األصح جعل القيم المجردة والملموسة تابعة لبعضها‪ :‬جعل قيمة مجردة‬
‫مثال حب الحقيقة يتعل ق بص داقته ألفالط ون ال تي هي قيم ملموس ة‪ Erasme ،‬مثال يق ول‬

‫‪7‬‬
‫بأفضلية السلم الغير العادل (قيم ة ملموس ة)‪ ،‬على العدال ة (قيم ة مج ردة)‪ .‬ال ذي يُجلي ه ذا‬
‫بوضوح هو االستدالالت القائمة حول اإلله‪ ،‬فكل القيم تنهل من فكرة األلوهية‪ ،‬أ ألنه تجسيد‬
‫للحق والخير والعدل؟ االستدالالت المبنية على قيم ملموسة تميز المجتمعات المحافظ ة‪ ،‬لكن‬
‫نجد القيم المجردة موجودة في المجتمعات الثورية (تقدمية)‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬االختيار‪ ،‬المثول والتقديم‬


‫صنع اإلنسان الحواسيب للتدقيق والصرامة في الحسابات لتقوم بدوره دونا ً عن ه‪ ،‬لكن هن اك‬
‫شيء ال يستطيعه الحاسوب‪ ،‬كالحجاج فهو من صميم الفكر اإلنساني‪ ،‬فبحث اإلنس ان أيض ا‬
‫عن إمكانية جعل الحجاج نسقيا وصارما في مباحث هي ليست صورية كالفيزي اء والق انون‪.‬‬
‫هذه المحاوالت كانت عشوائية بمحاولة التوفيق بين صيغ اعتباطية مع حاالت محددة‪ ،‬فه ذه‬
‫المحاوالت كان لها تصور مسبق عن هذه الوضعيات ل ذلك الص يغ ال تي أنزلوه ا على ه ذه‬
‫الوقائع كانت صارمة ولم تتوافق‪ .‬للتوفيق بين النسق والتجربة‪ ،‬لزم تلين الصيغ المس تعملة‪،‬‬
‫أي وجب الرج وع للحج اج‪ ،‬لكي يت واءم النس ق من مجم وع المع ارف والتطلع ات لجعل ه‬
‫انسيابي ومتوافق مع الرؤية العامة‪ ،‬سواء النابعة من الحس المشترك‪ ،‬أو منبثق من الفلسفة‪.‬‬

‫ففي كل حجاج هناك ج زء قبلي س ابق علي ه‪ ،‬انتق اء الوق ائع والقيم‪ ،‬بحيث أن ك ل م ا س يتم‬
‫انتقاؤه‪ ،‬أي اختيار العناصر‪ ،‬اختيار نمط الوصف والتقديم‪ ،‬أحكام القيمة أو األهمية‪ ،‬كل هذه‬
‫االعتبارات هي منتقاة بشكل اعتباطي ‪ ،Parti pris‬هذا فقط يتم حين نضعها مقاب ل أحك ام‬
‫أخرى فيتبين لنا الذاتي من الموضوع‪ ،‬فقط في ظل التعدد يتقوى النقد‪ .‬حتى كان ط ل ه تمي يز‬
‫بين المقن ع ‪ persuasion‬والمفحم ‪ ،conviction‬لت بين األس اس إن ك ان ذاتي ا أو‬
‫موضوعيا‪ ،‬شبيه بخطاب سقراط مع كاليكليس‪ :‬إذا كنا في اختالف مع ش خص مؤه ل أك ثر‬
‫منا في ذلك الموضوع‪ ،‬فيتمكن من تبين الذاتية التي تشوب أراءنا‪ ،‬ألن األحك ام الذاتي ة في‬
‫النهاية ال تتعدى مجاال جغرافيا واسعا ولها زمن صغير تعيش في ظله‪.‬‬

‫المثول ‪ présence‬يحدث في مشاعرنا ما يجعل منا نتخ ذ رأي ا على آخ ر‪ ،‬بموجب ه يمكن‬
‫تحري ك مش اعر هيئ ة القض اة أو المس َت َمع‪ .‬وهن اك أك ثر من ه ذا وهي تقني ات التق ديم‬

‫‪8‬‬
‫‪ présentation‬التي تلوي أي حقيقة وتبدي حقائق بعيدو زمانيا ومكاني ا له ذا ال ينبغي أن‬
‫فهم المثول كما جاء في األول‪ ،‬لكن هو مثول واستحضار للتأثيرات اللغة وق درتها في خل ق‬
‫الفارق في الخطابة باعتباره فنا للقناع‪ ،‬وكتقنيات التعبير األدبي‪ .‬هذه السمة األدبية للحضور‬
‫أو المثول هي ما جعلت الخطاب ة تب دو وتخ تزل فق ط في مس ألة خل ق ه ذا المث ول بتقني ات‬
‫التقديم‪.‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬الداللة وتأويل المعطيات‬


‫في الخطاب يجب أن تك ون ك ل العناص ر المع رض بواس طة لغ ة يفهمه ا المس تمع‪ ،‬ف الفهم‬
‫يختلف من فرد آلخر وهذا ما جاء به بياجي‪ ،‬فالبناء المفه ومي لطف ل ليس كم ا الراش د‪ ،‬أي‬
‫هناك نسبية في التلقي‪ ،‬نسبية بين المعطيات والبنية من وجهة نظر الحجاج‪ ،‬فأحيان ا يح دث‬
‫التوافق وتواطؤ‪ ،‬لنفهم األمر برلمان يأخذ مثال من النسبية ألينشتاين ‪ :‬قط ارين يس يران في‬
‫تقابل‪ ،‬الذي يسير في القطار األول يقول أن القطار الثاني ه و ال ذي يتح رك‪ ،‬ونفس الش يء‬
‫بالنسبة للشخص الذي يسير في القطار الثاني‪ .‬يمكن وصف الظاهرة إال إذا عزلنا معطياتها‪،‬‬
‫ليصبح بالتالي التأويل الناتج عن هذا الوصف يحدثنا عن الواق ع‪ ،‬ليس فق ط ه ذا ب ل تص بح‬
‫ناتجة لداللة وسياق جديد في نظرية فريدة‪.‬‬

‫أي نص يبدو واضحا ومعطى‪ ،‬ويفهم منه شيء واحد‪ ،‬فهو يخل و من ال ّتخي ل والص ور وب ه‬
‫جهل صريح‪ .‬التأوي ل وال دالالت بخص وص أي يوض ع على ش كل إش ارات و األم ارات‪،‬‬
‫تدلنا اإلشارة على ما يريد أن يق ال‪ ،‬على العكس من األم ارات فهي تحي ل على ش يء آخ ر‬
‫بطريقة موضوعية‪ .‬التشوير الطرقي هو إشارة‪ ،‬والشيء ال ذي تترك ه الطري دة في الطري ق‬
‫فه و أم ارة‪ ،‬إذن فالتأوي ل الغل ط لإلش ارة كم ا يجب يعطين ا س وء فهم أي ع دم فهم م رمى‬
‫الرسالة‪ .‬العقالنية القديمة الذي فعلته هو أنه ا همش ت دور الق ارئ والتأوي ل‪ ،‬بجعله ا النص‬
‫قابل للنفاد وواضح‪ ،‬وبالتالي فالذي يعالج هذا األمر هي الخطابة‪ .‬فلهدم اله وة بين المقص ود‬
‫والمفهوم كان لزاما شحن الكلمات ببعض المشاعر ع ّل ذل ك يوص ل المع نى المرج و‪ ،‬وه و‬
‫هدف الشاعر‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬تقنيات الحجاج‬
‫أصحاب النزع الصورية يختزلون كل استدالل استنباطي إلى ما هو برهان‪ ،‬ويكون ص حيح‬
‫إذا اتبع قواعد مع ّد سلفا‪ ،‬إذا لم يتب ع ه ذه القواع د يك ون اس تدالال فاس دا‪ ،‬فك ل اس تدالل يتم‬
‫داخل نسق محدد‪ ،‬في حين الهيئة التي يتخذها الحجاج هي غير محدد سلفا وليست ثابتة كم ا‬
‫هو الحال في النظام الصوري‪ ،‬في حين البرهان يتحدد باعتباره نسقا ً محدد بشكل مض بوط‪،‬‬
‫ألن الحج اج يتأس س على أطروح ة جزئي ة ض منية‪ ،‬لكن البره ان يمكن فق ط النظ ر في‬
‫المقدمات حتى تستخلص النتائج‪ ،‬واستخالص النتائج يكون بطريقة جبرية‪.‬‬

‫وجب أن نحل ل أن واع الحج اج‪ ،‬فهن اك جنس ين كب يرين من بين أن واع الحجج ال تي ق دمها‬
‫برلم ان‪ :‬الحجج القائم ة على الوص ل‪ ،‬والحجج القائم ة على الفص ل‪ ،‬األولى تمكن من نق ل‬
‫القبول الحاصل حول المقدمات النتائج‪ ،‬والثانية تسعى إلى الفصل بين عناص ر ربطت اللغ ة‬
‫أو إحدى التقاليد المعترف بها بينها‪ .‬تنقسم الحجج القائم ة على الفص ل إلى ش به منطقية‪les‬‬
‫‪ ،arguments quasi-logiques‬وحجج مؤسسة على بنية الواقع ‪les arguments‬‬
‫‪ ،fondés sur la structure‬وحجج مؤسس ة لبني ة الواق ع ‪les arguments‬‬
‫‪.fondent la structure du réel‬‬

‫الحجج الش به منطقي ة تك ون قريب ة من الفك ر الص وري ذي الطبيع ة المنطقي ة الرياض ية‪،‬‬
‫تختلف عنه فقط في كونها تفترض دوما القبول بدعاوى ذات طبيعة غير صورية‪.‬‬

‫الحجج المؤسسة على بنية الواقع ترتكز على الربط بين عناصر موجود في الواق ع‪ ،‬وال يهم‬
‫أن يقوم االعتقاد في هذه البنى الموضوعية على حقائق متنوعة‪ ،‬أو عالق ات س ببية‪ ،‬م ا يهم‬
‫هو وجود اتفاق حولها‪ ،‬وتخول للخطيب بناء حجاج انطالقا منها‪.‬‬

‫الحجج المؤسسة لبنية الواقع هي التي تمكن انطالقا من حالة خاصة‪ ،‬من إثبات قاعدة س ابقة‬
‫أو خلق قدوة‪ ،‬هنا في هذا النوع بحث برلمان عن حجج التناسب التي تستعمل ت ارة في بني ة‬
‫حقيقة مجهولة‪ ،‬وفي اتخاذ موقف منها‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫أما فيما يخص الحجج القائمة على الفصل‪ ،‬ه ذا الفص ل ه و العم ل ال ذي يق وم ب ه الفالس فة‬
‫لتبين وفهم شيء ما‪ ،‬وهي تقابل الثنائيات الضدية مثل خير|شر‪.‬‬

‫الفصل السابع‪ :‬الحجج شبه منطقية‬


‫هي حجج تجانب المنطق واالستدالل الصوري‪ ،‬لجعل حجة م ا مل زم وجب تحدي د األلف اظ‬
‫المس تعملة‪ ،‬واجتن اب الغم وض في الكالم وإزال ة أي إمكاني ة لتع دد الت أويالت‪ .‬لكن وجب‬
‫اإلشارة إلى أن الدعاوى التي يقدمها الخطيب ال تتعلق ببرهنة صحيحة أو خاطئة‪ ،‬بل نق ول‬
‫هي حجة قوية بهذا المق دار أو ذاك‪ ،‬أو أنه ا ض عيفة تحت اج إلى االس تعانة بحجج من ن وع‬
‫آخر لتقويتها‪ .‬ويشير برلم ان أن ه ذا الن وع من الحج اج ك ان يس تعمل في الق ديم في الفك ر‬
‫العلمي ذو الط ابع الرياض ي حين ك ان غ ير متط ور‪ ،‬ولت بين ض عفها يكفي عرض ها على‬
‫بيانات صورية‪.‬‬

‫‪ .1‬التناقض والتعارض‬

‫النسق الصوري ال يقبل التناقض‪ ،‬فإذا كان ب ه تن اقض يك ون معط ل غ ير قاب ل لالس تعمال‬
‫فيصبح من المتعذر إثبات الصادق من الكاذب‪ ،‬لكن في اللغة الطبيعي ة ال يص لح ه ذا‪ ،‬حيث‬
‫أن اللغة الطبيعية تعتمد التأويل في األلفاظ‪ ،‬لذلك ففي الحجاج ال نكون أمام تن اقض ب ل أم ام‬
‫تعارض‪ .‬هناك مثلين يقدمهما برلم ان ‪ :‬ذاك ال ذي ي زعم عن نفس ه أن ه لم يقت ل كائن ا حي ا‪،‬‬
‫ولكن يتبين له أنه بعالجه لتقيح فهو قتل الكثير من الميكروبات‪ ،‬فيص بح الف رد في تض ارب‬
‫بين فكرتين‪ ،‬ثم يتحتم عليه التخلي عن االختي ار الث اني و إال سيس قط في المح ال‪ ،‬وبالت الي‬
‫سيصبح صاحبه عرضة للس خرية‪ ،‬فهي س الح في الج دل‪ ،‬فالتق اء الس خرية تتجنب الن اس‬
‫السقوط في التعارض‪.‬‬

‫هن اك ثالث ة مواق ف يعرض ها برلم ان تجنب اإلنس ان من الوق وع في التع ارض‪ :‬الموق ف‬
‫المنطقي ‪ :‬موقف من خالل يمكن العمل على تصورات الوضعيات التي تسقط في التعارض‬
‫وحلها مسبقا‪ .‬والموق ف العلمي‪ :‬موق ف يمكن من خالل ه معالج ة المش اكل ال تي تط رح في‬

‫‪11‬‬
‫ارض‬
‫ٍ‬ ‫حينها وبحسب سياقها‪ .‬الموق ف الدبلوماس ي‪ :‬يب دل م ا في وس عه لع دم التخلي عن تع‬
‫ظهر في خطابه‪.‬‬

‫فالذي يريد رفع تعارض بدل أن يؤجل‪ ،‬عليه التضحية بإحدى القاعدتين المتضاربتين‪.‬‬

‫‪ .2‬المطابقة‪ ،‬التعريف‪ ،‬التحليل‪ ،‬وتحصيل حاصل‬

‫المطابقة تكون بين العناصر المختلفة التي تكون موضوعا للخطاب‪ ،‬فكل اس تعمال للمف اهيم‬
‫أو للتصنيف يستتبع اختزال بعض العناصر في م ا يك ون بينه ا من أم ور متطابق ة أو قابل ة‬
‫للتبادل‪ .‬وهذا االختزال ال يعتبر شبه منطقي إال حين تكون هذه المطابقة اعتباطية أو بديهية‪،‬‬
‫أي حين تم ر للحج اج‪ .‬على العكس من المطابق ة الص ورية ال تي تط رح نفس ها على ش كل‬
‫بداهة‪ ،‬فهي ال تناقش‪ ،‬بالتالي ال تكون موضوع حجاج‪.‬‬

‫التعريف يستعمل حين يكون المع رَّ ف يتط ابق م ع المع رِّ ف‪ ،‬فيص بح من المكن أن يع وض‬
‫الواحد اآلخر‪ ،‬ويمكن التمييز بين أربعة أنواع‪،‬‬

‫التعريف المعياري الذي يفرض طريقة استعمال لفظ ما‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫التعريف الواصف الذي يبيّن االستعمال العادي له‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫التعريف المكثف الذي يعرف العناصر األساسية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫التعريف المركب الذي ينسق عناصر التعريف السابق‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫التعريف ات ال تك ون اعتباطي ة في اللغ ة الطبيعي ة‪ ،‬كم ا ه و األم ر في األنظم ة الص ورية‪،‬‬


‫فالتعريف في اللغة الطبيعية له تصنيفات سابقة ومحددة مس بقا بأحك ام قيم ة‪ ،‬تمنح ه مس بقاً‪،‬‬
‫صبغة عاطفية‪ ،‬إيجابية أو سلبية‪ ،‬بشكل ال يمكن أن نق ول عن ه أن ه تعري ف اعتب اطي‪ .‬ف إذا‬
‫تعلق األمر بتعريف معياري يتعلق بمفهوم تم تقويمه بفضل التعريف كالعدل والديمقراطي ة‪،‬‬
‫فإن القيم التي تمنح للمعرِّ ف تنقل للمعرَّ ف‪ ،‬فهو نقل يحدد م ا يتطلب أن تمنح ه القيم ة‪ ،‬وال‬
‫يمكن أن يكون موضوع قرار اعتباطي‪ ،‬ألنه سيحسم عن طري ق الس لطة ج دال موض وعه‬

‫‪12‬‬
‫هو القيم‪ .‬نفس الش يء بالنس بة للفلس فة فينبغي الت برير بالحج اج التعري ف المق دم لقيم ة هي‬
‫موضوع جدل‪.‬‬

‫التحليل ينتج عن التعريف‪ ،‬فيكمن الطابع الحجاجي للتحليل في أنه يكون توجيهيا دائما‪ ،‬ألنه‬
‫يبتغي جعل عبارات معينة قابلة ألن يعوض بعضها بعض اً‪ ،‬ذل ك لالس تدراج المس ت َمع نح و‬
‫فكرة مطابقة لفكرة الخطيب عنها‪ ،‬إلبعاد كل التأويالت المخالفة عنها‪ .‬التحليل يقود بواس طة‬
‫تقنيات فلسفية مختلفة إلى نفس النتائج الحجاجية للتعريف‪ ،‬فإن التحليل يق دم باعتب اره ب ديهيا‬
‫وضرورياً‪.‬‬

‫التحصيل حاصل في جملة األعمال هي األعمال‪ ،‬هو تحصيل حاصل ظاهري‪ ،‬بإعط اء ك ل‬
‫واحد منهم معنى مختل ف‪ ،‬ومعن اهم ليس مح دد س لفا‪ ،‬وال تك ون العالق ة بينهم ا هي نفس ها‬
‫دائما‪ ،‬فداللتهما تحدد بحسب المقام‪.‬‬

‫الفصل الثامن‪ :‬الحجج المؤسسة على بنية الواقع‬


‫حين تجتمع عناصر من الواقع في عالقة مع ترف به ا‪ ،‬حينه ا من الممكن أن نؤس س عليه ا‬
‫حجاجا يسمح بالمرور من ما هو مقبول إلى ما قد نجعله مقبوال‪ ،‬فهناك نوع ان لبن اء الواق ع‬
‫عبر عالقات التعاقب وهي ربط بين مظاهر من مس توى واح د‪ .‬وحين نرتك ز على عالق ات‬
‫التعايش يتم الربط بين أطراف متفاوتة المستوى من قبيل الجوهر وتجلياته‪.‬‬

‫‪ .1‬عالقات التعاقب‬

‫عالقات التعاقب هي التي تظهر في الحجج المعتمدة لربط ظ اهرة م ا بأس بابها أو بنتائجه ا‪،‬‬
‫وهي ثالثة‪ ،‬حجاج يبحث في أسباب ظاهرة ما‪ ،‬فإذا ك ان األم ر يتعل ق بفع ل بش كل إرادي‪،‬‬
‫يك ون البحث عن األس باب مص حوبا ب البحث عن دوافع ه‪ .‬الحج اج ي رمي إلى تحدي د آث ار‬
‫ظاهرة ما‪ .‬حجاج يتقص د تق ييم ح دث م ا بواس طة نتائج ه‪ .‬عالق ات التع اقب تعتم د الحجج‬
‫النفعية‪ ،‬فهي حجج ناتجة على تقييم إيجابي أو سلبي‪ ،‬وهي معيار الحجة‪ ،‬وال تحتاج لتبرير‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫الحجة النفعية تختزل قيمة السبب في نتائجه‪ ،‬بهذا المع نى فك ل القيم هي في مس توى واح د‪.‬‬
‫هذه الحجة عليها الكثير من االعتراضات أوجهها أن سلسلة النتائج تكون ال محدودة‪.‬‬

‫لنطبق قضية النتائج في نص قانوني مفاده يجب تعويض الضرر الذي أحدث فعل مؤدي ما‪،‬‬
‫فكيف يمكن معرفة النتائج التي نجمت عن الخطأ؟ فهي في سلسلة من توالي للنتائج‪ ،‬تش تغل‬
‫وفق سبب نتيجة‪ .‬وفيما يتعلق باألفع ال المقص ودة فهي تعم ل وف ق وس يلة غاي ة‪ ،‬فالغاي ات‬
‫تتعارض مع النتائج المنتظرة‪ ،‬فبعض األعمال ال ت ؤدي للنت ائج المأمول ة‪ ،‬إال حين تس تعمل‬
‫كوسائل يرجى منها تحقيق غايات‪ .‬العالقة بين الوسيلة والغاية كذاك الذي يبتعد ليق ترب من‬
‫قلوب الناس‪ ،‬فالوس يلة مخ الف للغاي ة‪ ،‬والعالق ة بينهم ا غ ير ثابت ة‪ ،‬فمن الممكن أن تص بح‬
‫الوسائل غايات‪ ،‬كمن يجمع المال فقط من أجل جمعه ال من أجل غاية أخرى‪ ،‬هي تصريفه‪.‬‬

‫العالقة بين الوسيلة والغاية هي مرتكز مجموعة من الحجج‪ ،‬من ضمنها حج ة التبدي د‪ ،‬ف أي‬
‫عمل أخد منا جهدا إلنجازه ال يمكن أن يذهب هبا ًء ب ل يجب إتم ام العم ل في نفس االتج اه‪.‬‬
‫الواع ظ في وعظ ه للن اس فه و يس تعمل حج ة التبدي د‪ ،‬ب دعوة للتوب ة فب اب المغف رة م زال‬
‫مفتوح ا‪ ،‬فهم إن رفض وا فس يبددون فرص ة العف و‪ .‬وكم ا عن د بوس يي ‪ Bossuet‬ب دعوة‬
‫المسيحيين للتوبة لكي ال تضيع تضحية المسيح سداً‪.‬‬

‫وحين تكون هناك مسافة كبيرة تفصل بين مسلمات المست َمع ودع اوى الخطيب‪ ،‬فهن ا نك ون‬
‫أمام حجت االتجاه‪ ،‬التي تقوم أساسا على التحذير من استعمال أسلوب الخطوة خط وة‪« ،‬أ»‬
‫ثم «ب» ثم «ج»‪ ،‬فعرض المستمع عن الخطوة الثانية ألنها ستؤدي به للخط ة الثالث ة ال تي‬
‫ال يتفق معها‪ ،‬فحجة االتجاه يمكن أن تستخدم كلما ق ِّدم هدفٌ ما على أنه مرحلة تمه د للس ير‬
‫في اتجاه ما‪.‬‬

‫وفي مقابل حجة االتجاه هناك التي تحذر من مغبة عمل قد يورطنا في منزلق تخش ى نهايت ه‬
‫ومآله‪ ،‬حج ة التج اوز تلح على ال ذهاب بعي داً في اتج اه م ا‪ ،‬دون انتظ ار نهاي ة أو ح د ل ه‪،‬‬
‫وتكون فيه إعالء لقيمة ما‪ ،‬كما عندما يق ول األس تاذ لتالمذت ه‪ :‬كلم ا اجته دتم ك انت النتيج ة‬
‫أفضل‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪ .2‬عالقات التعايش‬

‫عالقات التعاقب تربط بين عناصر من نفس الطبيعة بواسطة رابط سببي‪ ،‬فعالقات التع ايش‬
‫تجمع واقعتين متفاوتتي المستوى‪ ،‬حيث الواح دة منهم تجلي لألخ رى‪ ،‬أي تط رح إح داهما‬
‫بوصفها تعبيرا أو تجليا لألخرى‪ .‬والنموذج األصلي لهذه العالق ة ه و الص لة الموج ودة بين‬
‫الشخص وتجلياته‪ ،‬ما يصدر عنه من أعمال أو ما يخالفها‪ ،‬فإن كل ما يصدر عن شخص ما‬
‫يجد تبريره في الطريقة التي يظهر بها هذا الشخص‪ ،‬لكن طبعه والنوايا التي نسندها ل ه هي‬
‫التي تعطي معنى وبعدا تفسيريا لتصرفاته‪ .‬الشخص وأعمال ه في تفاع ل مس تمر‪ ،‬ويص عب‬
‫الجزم من يسبق اآلخر‪ ،‬فإذا كانت الفكرة التي نكونها على أعمال الشخص فإنها ت ؤول تبع ا‬
‫للفكرة التي نبنيها عنه‪ ،‬فنحن نفترض الثبات حين نؤول عم ل ش خص م ا‪ ،‬أن ه س يبقى على‬
‫ذلك الحال‪ ،‬فاللغة األخالق والقانون تساهم في األمر‪ ،‬في تقوي ة الثب ات بين التأوي ل وعم ل‬
‫الشخص‪.‬‬

‫الفرد يخرج عن الثبات الذي تمتاز به األشياء الجام دة‪ ،‬فك ل عالق ات التع ايش المبني ة على‬
‫ه ذه النظ رة إلى الش خص‪ ،‬هي ال تي أعطت للعل وم اإلنس انية خصوص يتها‪ ،‬خصوص ا في‬
‫القانون‪ .‬الشخص يتحم ل ع واقب أي فع ل جدي د‪ ،‬ألنن ا نمنح ه الحري ة وق درة على التغ ير‪،‬‬
‫فاألشخاص ال يعرفون إال من خالل تجلياتهم‪ ،‬باستثناء كيانات أخرى تكون ط بيعتهم مح ددة‬
‫سلفا كاهلل والشيطان‪ ،‬فالعقاب ال يتم إال بعد ارتكاب الج رم‪ .‬أي فع ل يص در عن ش خص ال‬
‫يعتبر مؤشرا على طبع قار ثابت‪ ،‬فحتى األفعال السابقة للش خص تس اهم في تك وين س معته‬
‫الطيبة أو السيئة‪ ،‬فالطيبة مثال تصبح عملة تندمج داخ ل كي ان الش خص‪ ،‬ورص يدا يس تعمله‬
‫وقت الحاجة‪ ،‬وتصبح فكرة مسبقة‪ ،‬فالشخص يقدما لنا سياقا نؤول في إط اره أفعال ه‪ ،‬مثال‬
‫لص يسرق من أجل الفقراء‪ ،‬فالنية التي تختبئ وراء األفعال تصبح هي األساس‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫تأثير الشخص في طريقة تلقي اآلخرين ألفعاله‪ ،‬يمارس بواس طة الهيب ة‪ ،‬وهي ال تي تح دث‬
‫عند اآلخرين نزوعا لتقليدهم‪ ،‬ويتبنى آراءهم‪ ،‬من هنا تأتي أهمية حجة السلطة‪ ،‬ه ذه الحج ة‬
‫هي التي تستثمر فيها هيبة الشخص لتدفع المخا َطب إلى تبني دعوى ما‪ ،‬فقد تكون فئ ات من‬
‫الن اس أو علم اء وفالس فة ورج ال ال دين واألنبي اء‪ ،‬أو كي ان ال م ادي كالم ذاهب أو الكتب‬
‫المنزل ة‪ ،‬فال يك ون للحج ة أهمي ة إال في غي اب حج ة مقنع ة‪ ،‬حيث ت أتي هي دعم ا لحجج‬
‫أخرى‪ .‬فيرفع صحابه من قيمة السلطة التي تنسجم م ع دع واه‪ ،‬والض رب في قيم ة الس لطة‬
‫التي عند خصمه‪ ،‬ألنه في الجدال‪ ،‬ليست حجة السلطة هي التي تن اقش ب ل الس لطة المس تند‬
‫عليها‪ ،‬فكل السلطات قابلة للنقاش ما عدا السلطة اإللهية‪ .‬وحين نتوفر على دلي ل غ ير قاب ل‬
‫للنقاش إلثبات حقيقة ما‪ ،‬فال يهم من ينطق بها فال يكون له أي مفعول‪ ،‬إذا أخطأت في شيء‬
‫ما مهما كنت حكيما لن تمنع السخرية التي ستطاله‪ .‬فروابط التعايش هي للرب ط بين أح داث‬
‫الناس‪ ،‬والحقبة التاريخية التي ينتمون إليها‪.‬‬

‫‪ .3‬الروابط الرمزية والتراتبيات المزدوجة واالختالفات في الطبيعة‪:‬‬

‫ـ الروابط الرمزية يمكن إلحاق الرابطة الرمزية برواب ط التع ايش‪ ،‬ه ذه الرواب ط تجم ع بين‬
‫الرمز وما يوحي به في إطار عالقة "مشاركة" مطروحة ضمن منظور أسطوري أو نظري‬
‫لمجموع ينتمي إليه كل من الرمز المرموز إليه‪ .‬في إطار هذا المنظور‪ ،‬يمكن اعتبار وق ائع‬
‫متباعدة في الزمن‪ ،‬متعايشة ضمن تصور ال زمني للت اريخ‪ .‬يص بح أي س لوك تج اه الرم ز‬
‫َي َمسُّ بشكل مباشر بالمرموز إليه‪ ،‬فإحراق علم معين هو إهانة لذلك الشعب‪ .‬الرمز هو الذي‬
‫يخلق العصبة بين الشعب‪ ،‬فال دور للرمز في الحجاج إن لم يرسخ‪.‬‬

‫ـ التراتبيات المزدوجة يمكن تقديمهم إما على روابط التعاقب أو على روابط التعايش‪ .‬فحين‬
‫تعتمد الروابط التعاقب تكون التراتبية المزدوجة كمي ة‪ ،‬مثال االس تدالل ال ذي يس تخلص من‬
‫ك ون ش خص طوي ل من آخ ر أن رجلي ه هم ا أيض ا أط ول‪ ،‬أو تك ون نوعي ة وهي أهم من‬
‫األولى‪ ،‬وهي حجة تستند على تفوق اإلنسان مقارنة بالطيور‪ .‬لكن حجج التراتبية المزدوج ة‬
‫األكثر استعماال‪ ،‬هي التي ترتكز على روابط التع ايش خصوص ا عالق ة الش خص بأعمال ه‪،‬‬
‫من هنا تكون القوانين اإللهية أسمى من القوانين الوضعية‪ .‬وإذا كانت لن ا تراتبي ة للكائن ات‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫فمن سمو اإلنس ان على الحي وان يمكن بس هولة أن نس تمد دروس ا في األخالق‪ :‬ال تتص رف‬
‫كالحيوان‪ ،‬ونجاعة هذه الحجة تبقى مرتبطة بمدى تسليم المس َتمع بالتراتبية‪.‬‬

‫ـ االختالفات في الطبيعة‪ ،‬في الحجج المؤسسة على بنية الواقع‪ ،‬اإلشارة إلى أهمي ة الف وارق‬
‫في طبيعة األشياء مقارنة بالفوارق البسيطة في الدرجة‪ .‬فاألخذ باعتبارات تع ود إلى طبيع ة‬
‫األشياء‪ ،‬يقلل من فوارق الدرجة ويساوي به ذا الق در أو ذاك بين األط راف ال تي ال تختل ف‬
‫فيم ا بينه ا س وى في الح دة‪ ،‬ويض اعف م ا يميزه ا عن أط راف من طبيع ة أخ رى‪ .‬وعلى‬
‫العكس من ذلك‪ ،‬يُحدِث تحوي ُل اختالفات في الطبيعة إلى اختالفات في الدرجة أث را عكس يا ًّ‪:‬‬
‫فهو يقرب بين األطراف التي كانت تبدو مفصولة بحدود يتع ذر تخطيه ا‪ ،‬وي برر المس افات‬
‫الفاصلة بين الدرجات‪.‬‬

‫الفصل التاسع‪ :‬الحجة بالشاهد‪ ،‬بالمثال و القدوة‬


‫‪ .1‬الشاهد‪:‬‬

‫االستدالل بالشاهد يف ترض وج ود انتظ ام لم ا ي وفره الش اهد‪ ،‬س عيا من ه إلى إثب ات قاع دة‪.‬‬
‫فانطالقا من حالة خاصة يبحث عن البني ة أو الق انون ال ذي تكش فها تل ك الحال ة‪ ،‬أي يس عى‬
‫المحاجج فيها إلى المرور من حالة خاصة إلى حالة عامة‪ ،‬هكذا تش كل الحكاي ة ال تي تس رد‬
‫الطريقة التي ارتقى بها شخص في سلم المجتمع‪ ،‬فتعطي درسا في التفاؤل واإليمان‪.‬‬

‫هناك حالة أخرى للحجاج بالشاهد ليس المرور من حالة خاصة إلى قاعدة عامة‪ ،‬بل المرور‬
‫من حالة خاصة إلى حالة خاصة أخرى‪ .‬وهن اك الش اهد الترات بي ال ذي تنطب ق على الن اس‬
‫العظماء فهم مكرمون في كل مكان رغم ما هم عليه من سماجة الخلق وقلة اللباقة‪.‬‬

‫‪ .2‬المثال‬

‫رأينا الشاهد يؤسس لقاعدة مت ا‪ ،‬ف إن المث ال يس تعمل لتوض يح قاع دة معروف ة ومس لم به ا‪،‬‬
‫ليعطينا نوعا ً من الحضور في وعي المستمع‪ .‬فه و يس تهدف المخيل ة‪ ،‬بع د أن تك ون حقيق ة‬
‫الشاهد غير مجادل فيها‪ ،‬فالبد من تسطير القاعدة قبل وضع مثال أو حكاية م ا‪ ،‬فيك ون هن ا‬
‫‪17‬‬
‫دور المثال توضيح القاعدة‪ .‬ويحدث أحيانا ً أن تستخدم الحال ة الخاص ة للتوض يح في ال وقت‬
‫نفسه الذي تذكر فيه القاعدة‪ :‬مثال للمن ظل حيات ه كله ا يخ زن الم ال لكن لم ينفع ه ذل ك في‬
‫النجاة من الموت‪ .‬يستعمل أحيانا للمقارنة بين حالتين تطبيقيتين‪ .‬ويكون أيضا المث ال وص فا‬
‫لح دث ت اريخي‪ ،‬كمث ال اليون انيين باالستش هاد أن القض اة ال يتعين اختي ارهم بالقرع ة أو‬
‫الديمقراطية بمث ال اختي ار مالح بالقرع ة إلعط اء الع برة أن ه س يغرق الس فينة‪ ،‬باالس تعانة‬
‫بالسخرية لتبين قاعدة فاسدة كالديمقراطية‪.‬‬

‫‪ .3‬القدوة والقدوة المضادة‪:‬‬

‫هنا بدل استخدام الحالة الخاصة كشاهد أو مث ال‪ ،‬غ ير أنن ا هن ا ال نقت دي س وى بال ذين لهم‬
‫صِ يت اجتماعي مستند على كفاءتهم‪ ،‬يشبه الحجة بالسلطة‪ ،‬يضمن الفعل المزم ع القي ام ب ه‪،‬‬
‫لذلك يتعين على من يتخذ أن يُنظ ر في أفعال ه وأقوال ه‪ .‬فالش خص الق دوة يس تلهم ه و أيض ا‬
‫يستلهم أفعاله وأقواله من قدوة مقدسة‪ :‬النبي الذي يتبع له الشخص القدوة‪ .‬فإذا ك ان المقت دي‬
‫يتشبه بالقدوة بشكل مبتذل وزائف فإنه يجعل تلك القدوة أقل تمييزاً‪ ،‬كما الذين يقت دون بعلي ة‬
‫الق وم في لباس هم فيجع ل من العم ال مثال يتش بهون برئيس هم‪ ،‬فبت الي هن ا يجب تجدي د ه ذه‬
‫الموض ة ال تي يتخ ذها ال رئيس‪ .‬من هن ا بض بط نم ر من الق دوة إلى الق دوة المض ادة‪ ،‬حين‬
‫يرفض من هو في مرتبة عليا من القوم أن يُشبهه من هو أدناه لمن هو محت َقر‪.‬‬

‫القدوة والقدوة المضادة ي درك دوره ا جي داً‪ ،‬حين نك ون مقتنعين أنن ا وج دنا له ا تجس يدا ال‬
‫يرقى إليه الشك‪ ،‬مثل هللا والشيطان‪ ،‬حين يعمل الرجل الصالح وفق س َن ِن وم ا ي أمر ب ه هللا‪،‬‬
‫والرجل‪ ،‬الحجاج بالقدوة يتجلى في كونه غناه في ما يستخلص منها في كل مرة درس‪.‬‬

‫الفصل العاشر‪ :‬التناسب واالستعارة‬


‫التناسب عند بعض المفكرين مثل أفالطون وتوما اإلكويني فهو استدالل ضروري وخاص‪،‬‬
‫لكن عند بعض المفكرين التجريبيين ينحصر في إثبات مش ابهة ض عيفة‪ ،‬ويص لح في إيج اد‬
‫الفرض يات‪ ،‬وه و مقص ى من ص ياغة نت ائج البحث العلمي‪ .‬أم ا المهتم بالحج اج ف يرى أن‬
‫التناسب أحد مميزات التواصل واالستدالل غير الص وري‪ ،‬وق د يقص ى في آخ ر المط اف‪،‬‬
‫‪18‬‬
‫حين تخ تزل النتيج ة في ص يغة رياض ية‪ ،‬لكن ه في أغلب األحي ان بالخص وص في الفلس فة‬
‫والتعبير عن الفكر الديني‪ ،‬يوجد في مركز رؤية أصيلة سواء للكون أو للروابط بين اإلنسان‬
‫وهللا‪ .‬فحسب بيرلمان للحفاظ على خصوصية التناسب أن يؤول تبعا لمعناه االش تقاقي‪ ،‬ألن‬
‫يتميز عن التناسب الرياضي المحض‪ ،‬بكونه ال يؤكد المعادلة بين عالقتين‪ ،‬بل يثبت مشابهة‬
‫في العالق ة‪ ،‬مثال نثبت أن "أ" بالنس بة إلى "ب" هي مث ل "ج" بالنس بة إلى "د"‪ ،‬أي العالق ة‬
‫بين "أ ـ ب" هي تشبه العالقة بين "ج ـ د" ‪.‬‬

‫ليس كما المعادلة في الرياضيات‪ ،‬بل بعالقة معينة تتم مماثلتها بعالق ة أخ رى‪ ،‬فالثن ائي "أ ـ‬
‫ب" يسميه بيرلمان الثيم ‪ ،thème‬والثنائي "د ـ ج" يسميه الحامل ‪ ،phore‬نثبت مش ابهة‬
‫تهدف إلى إيضاح الثيمة وتقويمها وبنيتها بفضل ما نعرف ه عن الحام ل‪ ،‬ه ذا ه و م ا يرج ع‬
‫التناسب عند بيرلمان إلى نظرية الحجاج وليس األنطولوجيا‪ ،‬ألنه يمكن التخلي عن التناسب‬
‫بعد استخدامه‪ ،‬في المجاالت العلمية‪ ،‬يعتمده الباحث لتوجيه أبحاثه‪ .‬هي أشبه بالرواسي التي‬
‫يعتمدها البناء في خلطة اإلسمنت لش د الس قف‪ ،‬بع د أن يج ف اإلس منت يزيله ا‪ .‬إال أن ه في‬
‫المجاالت التي يتعذر فيها اللجوء إلى المناهج التجريبية‪ ،‬يبقى التناسب غير قابل لإللغاء‪.‬‬

‫في التناسب نكون أمام تشابه عالقة وليس عالقة تشايه‪ ،‬ويؤك د بيرلم ان أن الثيم ة والحام ل‬
‫في التناسب ينبغي أن يكونا من مجالين متباعدين كي يلعب دوره المتمثل في توضيح الثيم ة‬
‫بواسطة الحامل‪ ،‬ورغم هذا التباع د ال يمن ع التفاع ل بين أطرافهم ا‪ .‬ف إن قب ول تناس ب م ا‪،‬‬
‫يعني قبول اختيار ما للمظاهر التي ينبغي إبرازها في وصف ظاهرة معينة‪ ،‬وانتقاد فكرة ما‬
‫هو يقود في الوقت نفسه إلى معارضة التناسب التي يستخدمه صاحبها‪.‬‬

‫االستعارة وكما عرفها أرسطو أن ننقل إلى شيء اسما ً ي دل على ش يء آخ ر‪ ،‬نقال من جنس‬
‫إلى نوع أو من نوع إلى جنس‪ ،‬أو بحسب رابطة التناسب‪ ،‬فبيرلمان ي رى في ه ذا التعري ف‬
‫من قبل أرسطو أنه يعتبر كل مجاز ه اس تعارة‪ ،‬فعن ده االس تعارة م ا هي إال تناس ب مكث ف‬
‫بفضل اتحاد الثيمة والحامل‪ ،‬فانطالقا من خطاطة التناس ب‪" :‬أ" بالنس بة "ب" مث ل "ج" إلى‬
‫"د" س تأخذ االس تعارة ‪" :‬أ" هي "ج" و"ب" هي "د"‪ .‬فيتك ون مض للة ل و اس تعملت‬
‫االس تعارات لوح دها على الش كل "أ هي ج" م ا لم ي َع د بن اء التناس ب بإض افة األط راف‬

‫‪19‬‬
‫المحذوفة‪ .‬وتصير مبتذل ة من ف رط اس تعمالها‪ ،‬فينس ى أص لها االس تعاري‪ .‬وهن اك المج از‬
‫االضطراري كقول رجل الطاولة‪ ،‬ظهر الكرسي‪.‬‬

‫الفصل الحادي عشر‪ :‬فصل المفاهيم‬


‫الفكر حين يسعى لحل التعارضات التي تواجهه بشكل ك افي نظري اً‪ ،‬وإلع ادة االنس جام إلى‬
‫رؤية الواقع‪ ،‬وال يتم التوصل إلى ذلك إال بالفصل بين المف اهيم المس لم به ا في البداي ة‪ .‬يتم‬
‫ه ذا الفص ل ب اللجوء إلى اس تعمال ثنائي ة ظ اهر| واق ع‪ ،‬حيث النظ رة األولى تق ول لن ا أن‬
‫الظاهر هو تجل للواقع‪ ،‬ولكن حين تكون متعارضة مع هو متعارف عليه مسبقا‪ ،‬كما عن دما‬
‫تكون عصا مستقيمة في بركة من الماء تبدو لنا على أنها ملتوية بفع ل انكس ار األش عة على‬
‫الماء مما يجعل تظهر على ذلك الشكل‪ ،‬يصبح من الضروري‪ ،‬تمييز الظواهر ال تي تط ابق‬
‫الواقع عن تلك التي تكون مخادعة‪ .‬من هنا فسيكون للظاهر وضع ملتبس‪ :‬فه و حين ا ً يك ون‬
‫تعبيرا عن الواق ع وت ار ًة مج رد مظه ر خ ادع‪ .‬هن ا ي أتي دور الفص ل‪ ،‬للفص ل بين الش يء‬
‫الظواهر والواقع‪.‬‬

‫الواقع ال يكون معلوما إال بواسطة الظاهر‪ ،‬فمن خالل حد أول ‪ /‬حد ث اني‪ ،‬أي ظ اهر‪/‬واق ع‬
‫يدقق بيرلمان في هذين الحدين بقوله‪ :‬الحد األول يواف ق الظ اهر وم ا يتب ادر لل ذهن للوهل ة‬
‫األولى‪ ،‬وهو يتوافق مع اآلني والمباشر‪ .‬أما الحد الثاني فال يفهم‪ ،‬إال بتميزه عن الح د األول‬
‫وتميزه عنه‪ ،‬ويح دد م ا ه و ص الح من الح د األول‪ ،‬وذل ك بنعت م ا ليس متوافق ا م ع ه ذه‬
‫القاعدة التي تزود ب "الواقع" أنه وهمي‪ ،‬ومغلوط‪ ،‬بالتالي يكون الحد الثاني معيار وتفس يرا‬
‫في نفس اآلن‪ .‬وأثناء الفصل يمكن الرف ع من بعض المظ اهر ال تي يظه ر من خالله ا الح د‬
‫األول أو إقصاءها‪ ،‬سيسمح بالتمييز بين الظاهر والواقع‪.‬‬

‫وهذه النقطة مهمة للحجاج ألن عملي ة الفص ل إلى ح د أول وث اني ترف ع من قيم ة المظ اهر‬
‫الموافقة للحد الثاني‪ ،‬وتح ِّقر المظاهر التي تتعارض معه‪ ،‬من هن ا ف الواقع والقيم ة في الح د‬
‫الث اني وثي َقي االتص ال‪ ،‬يظه ر ه ذا في البن اءات الفكري ة الميتافيزيقي ة‪ ،‬فقياس ا على ثنائي ة‬

‫‪20‬‬
‫ظاهر‪/‬واقع يصل الميتافيزيقيون إلى الفصل بين العالم الحسي ومُعارض ته م ع ع الم المث ل‪،‬‬
‫فهكذا تبلور نسق أفالطون‪ ،‬بهذه الثنائية حسي‪/‬عقلي‪ ،‬رأي‪ /‬علم‪.‬‬

‫الفصل الثاني عشر‪ :‬سعة الحجاج وقوة الحجج‬


‫بعد ـن أنهى بيرلمان دراسته لتقنيات الحجاج وأن واع الحج اج‪ ،‬درس بش كل م ركب ينظ ر‬
‫إلى الخطاب في مجمله‪ ،‬حلل سعة الحجاج وقوة الحجج والعالقة بينها داخل الخطاب‪.‬‬

‫ّ‬
‫محط‬ ‫سعة الحجاج له خاصية مميزة على عكس البرهنة التي إذا أديرت بشكل صحيح تكون‬
‫قبول الجميع إذا تمت بالشكل الصحيح‪ ،‬وبالتالي ال تطرح مسألة السعة فيه‪ ،‬لكن ليس األم ر‬
‫كما في الحجاج‪ :‬فهو ينطلق من مقدمات مقبولة من قِبل المستمع‪ ،‬ينبغي تقوية حضورها في‬
‫ذهن السامعين‪ ،‬إذا تطلب األم ر ل ذلك‪ ،‬وت دقيق معناه ا وأبعاده ا واس تخالص الحجج منه ا‬
‫لصالح الدعوى التي يدا َفع عنها‪ .‬وما دامت الحجج غير ملزمة‪ ،‬بل تساهم كل واحد منها في‬
‫تقوية الحجاج في كليته‪ ،‬فقد يعتقد الناس أن نجاعة الخطاب تكمن في عدد الحجج‪ ،‬وبيرلمان‬
‫هو يعتبر أن هذا االعتقاد خاطئ‪ ،‬ألن الحجة إذا لم تكن غير متالئم ة م ع المس تمع يمكن أن‬
‫تثير ر ّد فعل سلبي‪ ،‬وبالتالي سوف تبدو ضعيفة‪ ،‬وهذا ينعكس مجل الخط اب وح تى إيت وس‬
‫الخطيب‪ ،‬فس يبدو غ ير ج دير بالثق ة‪ .‬فمراكم ة الحجج له ا ض وابط وح دود س يكولوجيا‬
‫واجتماعية‪ ،‬فاإلكثار قد ينفر المست َمع‪ ،‬ألن هن اك ح دود لص بر المس ت َمع‪ ،‬وع داد الحجج في‬
‫الخطاب غير محدد بشكل قبلي‪ .‬لكن تحدد بطريقة حدسية‪ ،‬ف الفكرة ال تي نكونه ا عنه ا تب دو‬
‫حين نحددها‪ ،‬ملتبسة بحث تختل ط فيه ا ص فتان‪ :‬النجاع ة والص حة‪ .‬فس يطرح الس ؤال ه ل‬
‫الحجج القوية هي التي تقنع في الواقع أي تقنع هنا واآلن‪ ،‬أم هي الحجة الص حيحة ال تي من‬
‫المفترض أن ُت َيقن أي كائن عاقل؟‬

‫جواب بيرلمان النجاع ة تس تحيل دون استحض ار وربطه ا بالمس ت َمع ال ذي تع رض أمام ه‪،‬‬
‫تربط صحة الحجة بمستمع كفء‪ ،‬وفي أغلب األحيان بالمس تمع الك وني‪ ،‬ومش روطة أيض ا‬

‫‪21‬‬
‫باعتناق السامعين لمقدمات الحجاج‪ ،‬وتالؤمها للموضوع‪ .‬إذن فق وة الحج ة تتح دد بنجاعتها‬
‫ال بصحتها‪ ،‬أي بقدرتها على الفعل في من تتوجه إليهم‪ ،‬وتظل نسبية مرتبطة بالمالبسات‪.‬‬

‫فما دامت قوة الحجج مرتبطة بالمستمع‪ ،‬فمن العادي أن نلج أ إلى القاع دة الص ورية للع دل‪،‬‬
‫التي تعتبر أنه من العدل التعامل بنفس الطريقة مع وضعيات من نفس الفئة الجوهرية‪ ،‬هكذا‬
‫ف إذا رجحت كف ة حج ة م ا في وس ط م ا‪ ،‬ف إن حج ة "ب األحرى" أو "بالمحاك اة" تمكن من‬
‫تطبيقها بنفس التوفيق على وضعية جدي دة‪ .‬هن اك توجيه ات ومالحظ ات تلقي الض وء على‬
‫مسألة قوة الحجة‪ ،‬وهي كالتالي ‪:‬‬

‫ــ الخطيب له بنزوع طبيعي للمبالغة في تقدير الحجج التي يعرضها وتبخيس حجج خصمه‪،‬‬
‫لذلك الوقوف عند الحجاج وتقليص مداه‪ ،‬تقنية ناجعة ألنها توحي بالثقة‪.‬‬

‫ــ السياق المقدم من قبل الخطيب يقلل أو يزيد قوة الحجج‪ ،‬فمدح الموهب ة الخطابي ة للخص م‬
‫يقلل من قوة حججه‪.‬‬

‫ــ الحجج المتوقعة والمبتذلة أقل قوة من الحجج األصيلة‪ ،‬فالحجة المبتذل ة لم تكن لتغيب عن‬
‫المستمع‪ .‬فهو على علم بها لذلك اختار الدعوى المضادة‪.‬‬

‫ــ كذا الرد السريع وإبراز عنصر المفاجأة‪ ،‬وقلب الحجج ضد صاحبها‪.‬‬

‫ــ يُتهم من كان يقبل بحجة في صالح ويرفض حجة ضده‪ ،‬بسوء النية‪.‬‬

‫ــ تضافر الحجج يحدث إقناعا قوياً‪ ،‬كما عندما تؤدي حجج متغايرة إلى النتيجة ذاتها ف ترتفع‬
‫قيمتها بشكل غير قابل للنقاش‬

‫ــ إذا التقت شهادات متعددة حول الجوهري فإن قيمتها ستتقوى‪.‬‬

‫ــ الذي يترصد كل ما هو في صالح الدعوى التي يدافع عنها‪ ،‬يجع ل من يلح على العناص ر‬
‫المعاكسة للقضية المشتركة باالنهزامي‪ ،‬ألننا سنتساءل هل يريد انتصار الخصم‪.‬‬

‫الفصل الثالث عشر‪ :‬ترتيب الحجج في الخطاب‬


‫‪22‬‬
‫ينتق د بيرلم ان الطريق ة ال تي تم التعام ل به ا م ع ت رتيب الخط اب‪ ،‬حيث تم التمي يز بين‬
‫"االستهالل" ‪ ،l’exorde‬والع رض ‪ ،la narration‬وال دليل ‪ ،la preuve‬والتفني د ‪la‬‬
‫‪ ،réfutation‬واالختتام ‪ ، la péroraison‬فأرس طو الح ظ من قب ل واعت بر أن قس مين‬
‫هما الضروريان‪ :‬عرض القضية والدليل‪.‬‬

‫فعرض الحجج يغير يغير شروط تقبله ا‪ ،‬فالب د من مب دأ التكي ف م ع المس تمع‪ ،‬فه و يتح دد‬
‫بحسب أهداف الخطيب ومالبسات الخط اب‪ .‬فل ه دور وظيفي‪ ،‬فاله دف من االس تهالل كم ا‬
‫يؤكد أرسطو ه و إث ارة عط ف المتلقي واهتمام ه‪ ،‬وتهيئت ه للتعام ل اإليج ابي م ع الخطيب‪،‬‬
‫فينصب االس تهالل على الخطيب أو المس ت َمع أو الموض وع أو الخص م‪ ،‬وإذا ك ان الخطيب‬
‫معروف ا ً فيس تغنى عن ه إذا ك ان ال وقت ض يق‪ .‬فاالس تهالل ال ذي ينص ب على الخطيب أو‬
‫الخصم يسعى إلزالة حكم مسبق قد ال يكون في صالح الخطيب‪ ،‬ألن المستمع ال يك ون على‬
‫استعداد لسماع شخص معادي له أو جدير باالحتقار‪ .‬أما حين نريد مهاجم ة الخص م‪ ،‬فيجب‬
‫أن نرتب الحجج في نهاية الخطاب بشكل يجعل القضاة يتذكرون جيداً ما ج اء في االختت ام‪،‬‬
‫من هنا يمكن أن ن رى أن موق ع الحجج وترتيبه ا عن د أرس طو وظيفي‪ :‬فهي غايته ا تحقي ق‬
‫النجاعة‪.‬‬

‫في المحاكمة يكون عرض األحداث بترتيب ضروريا‪ ،‬فهناك ثالث طرق معروفة‪ ،‬ال ترتيب‬
‫الص اعد‪ ،‬ال ترتيب الن ازل‪ ،‬ف الترتيب النس طوري نس بة إلى ‪ ، nestor‬حيث يك ون الب دء‬
‫واالنتهاء بالحجة القوية وتترك األخرى في الوسط‪ .‬الجانب السلبي للترتيب الص اعد ه و أن‬
‫يب دأ ب الحجج األض عف ينف ر المس تمع‪ ،‬ويبهت ص ورة الخطيب ويحطم الهيب ة‪ .‬في حين‬
‫الترتيب الن ازل فبإنهائ ه الخط اب بالحج ة األض عف يبقي ل دي المس تمع ص ورة س يئة عن‬
‫الخطيب تعلق بذهن ه فق ط أخ ر حج ة استعرض ها الخطيب في أغلب األحي ان‪ ،‬له ذا ف أغلب‬
‫البالغيين القدماء يصحون باتباع الترتيب النسطوري‪.‬‬

‫بيرلمان ينقد هذا التصور ألنه يرتكز على كون الحجج شيء ث ابت‪ ،‬في حين أن ق وة الحج ة‬
‫مسألة نسبية ورهينة بطريقة تلقيها‪ ،‬فإذا ابتدأ الخصم بالحجاج أوال وكان له أث ره قوي ا على‬
‫المس تمع‪ ،‬ف وجب على الخطيب "الملعب الملعب" إذا ص ح التعب ير‪ ،‬قب ل ع رض الحجج‬

‫‪23‬‬
‫الخاصة‪ ،‬وعلى العكس إذا كنا نحن البادئين بالكالم‪ ،‬من المفيد عدم ذك ر حجج الخص م لكي‬
‫ال نعطيه ا وزن ا وحض ورا ال يمكن ل ذكرها المس بق إال أن يقوي ه‪ .‬وينبغي أن نض ع في‬
‫الحسبان أن المت َمم يتغير رأيه مع التقدم في الخطاب‪ ،‬حين يكون هذا األخير فعاال‪.‬‬

‫لهذا كله يرى بيرلمان أن ترتيب الحجج مسألة نس بية‪ ،‬منس وب للمس تمع‪ ،‬ويجب أن يت واءم‬
‫معه‪ .‬فبم ا أن غاي ة الحج اج هي اإلقن اع فالب د من تك ييف الخط اب ابتغ ا ًء لتحقيق ه‪ ،‬فجه د‬
‫التكييف مع المستمع يجب أن يستأنف باستمرار‪ .‬من هنا يأتي نقد بيرلم ان لمن توج ه بحثهم‬
‫فقط للبحث في ترتيب قار ثابت مستقل عن المستمع‪ .‬فإن الخطاب نسبي بحسب المستمع‪.‬‬

‫الفصل الرابع عشر‪ :‬إمبراطورية الخطابة‬


‫تدل هذه التسمية عند بيرلمان لشساعة الحقل الذي تغطيه الخطابة‪ ،‬فهي تشمل جميع أن واع‬
‫الخطابة غير الملزمة والتي ال تعتمد على بداهة ما‪ ،‬قبل توصل ه لهذه الخالص ة ق ام بمس ح‬
‫تاريخي للصراع بين الفلسفة الخطابة‪ ،‬من بارميني دس وقص يدته ال تي دش نت الص راع بين‬
‫البالغيين والفالسفة‪ ،‬حين عارض بين طريق الحقيقة وطريق الرأي‪ ،‬إلى الفترة المعاصرة‪،‬‬
‫مرورا بأفالطون‪ ،‬أرسطو‪ ،‬بيير دوالرامي‪ ،‬وديكارت الذي توقف عنده ط ويال على اعتب ار‬
‫أن فلسفته العقالنية التي هيمنت عدة قرون‪ ،‬وأثرت وس اهمت في م آل الخطاب ة‪ ،‬إلى أن يتم‬
‫إحياءها وإعادة االعتبار لها خالل أواسط القرن الماضي‪ .‬توقف بيرلمان عند ديك ارت ألن ه‬
‫شيد نسقا ً على البداهة‪ ،‬فال يترك بذلك أي مكان للجدل‪ ،‬وهذا ما أقصى الخطاب ة من مج ال‬
‫الفلسفة‪ ،‬فبلورة فلسفة تبني أطاريحها على البداهة أو أشياء م برهن عليه ا بش كل مل زم‪ ،‬من‬
‫شأنه إقصاء أي شكل للحجاج في الفلسفة‪ ،‬كما يقول بيرلمان‪.‬‬

‫ه ذا الط رح ينطل ق من أحك ام قبلي ة كالض مان اإللهي‪ ،‬وأن العلم ه و مكتم ل وليس على‬
‫اإلنسان إال أن يعثر علي ه‪ .‬وي رى بيرلم ان أن ه ذه الخلفي ة الالهوتي ة ليس ت مقص ور على‬
‫ديكارت فحسب‪ ،‬بل نج دها عن د بيك ون‪ ،‬التجري بي‪ ،‬فق د ك ان ينص ح بالتواض ع المس يحي‪،‬‬
‫ومطالبتهم بالقراءة النبيهة للكتاب العظيم للطبيعة‪ ،‬الذي عن واسطته يتكشف الرب‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫أما البداهة المعممة تفضي عملي ا برفض ها لك ل م ا ه و رأي وبالت الي أي لج وء إلى الج دل‬
‫والخطاب ة‪ ،‬إلى الجم ود والمحافظ ة في الق انون‪ ،‬وفي األخالق‪ ،‬وفي السياس ة‪ ،‬وفي ال دين‪.‬‬
‫فبعد أن بين بيرلمان فساد ها الرأي انطلق لبيان تصوره للخطابة وبين أنه ا مبحث ال مج ال‬
‫للتخلي عنه في الفكر اإلنساني‪ ،‬فاستبعاده يجعل أية فكرة إنسانية معرضة للخطأ ألنها ليست‬
‫بديهية وال تحظى بالض مان اإللهي‪ ،‬فه ذا تقريب ا م ا توص ل إلي ه العلم الح ديث أن النظري ة‬
‫العلمية ليست بديهية وال هي معصومة من الخطأ‪ .‬من هنا تظهر أهمية الخطابة والجدل كلما‬
‫انفلتت من قبضت البداهة‪ ،‬حتى أن بيرلمان يقول عن هذه البداهة أنها ليست مضمونة بشكل‬
‫نهائي‪ ،‬إذا إليها كمعطى نفسي خالص ال غير‪ ،‬فأكد أيضا أنها تتالش ى م ا إذا أردن ا إبالغه ا‬
‫بواسطة اللغ ة ال تي ال تف رض نفس ها أب داً‪ ،‬على اعتب ار الف رق الحاص ل بين م ا المقص ود‬
‫والمفهوم من قبل والناس‪ ،‬وأيضا داللة اللفظ ال تتطابق مع ما نعنيه‪.‬‬

‫فمن هن ا يخلص بيرلم ان أن ك ل نش اط فك ري يق ع بين الض رورة واالعتباطي ة‪ ،‬ال يك ون‬


‫معقوال إال في كون مدعوما بحجج‪ ،‬وال بد ل ه من إيض احات‪ .‬ألن تع دد اآلراء هي القاع دة‬
‫في ك ل المج االت من ال دين والفلس فة واألخالق أو الق انون‪ ،‬فك ل ه ذه المج االت ال تأخ ذ‬
‫معقوليته ا إال من الجه از الحج اجي‪ .‬فالحج اج الق انوني مثل ه مث ل الحج اج الفلس في‪ ،‬فهم ا‬
‫يش كالن تطبيق ا لنظري ة عام ة للحج اج يعتبره ا خطاب ة جدي دة‪ .‬فبمج رد ي دخل الت أثير في‬
‫شخص أو مجموعة أشخاص‪ ،‬وتوجيه فك رهم أو فعلهم‪ ،‬وإث ارة ع واطفهم أو ته دئتها‪ ،‬فإن ه‬
‫يدخل في مجال الخطابة‪ .‬حيث من هذا المنظور‪ ،‬تغطي الخطابة الحقل الشاس ع للفك ر غ ير‬
‫ورن‪.‬‬
‫ص َ‬‫ال ُم َ‬

‫‪25‬‬

You might also like