You are on page 1of 29

‫البنيوية الفرنسية‪ :‬ليفي شتراوس‪ ،‬الكان‪ ،‬ألتوسر‪ ،‬فوكو‪ ،‬ديريدا‬

‫تأليف‪ :‬ليونارد جاكسون ‪ -‬ترجمة‪ :‬ثائر ديب‬

‫يبدأ الطور الفرنسي للبنيوية في األربعينيات مع تكييف ليفي شتراوس أعمال جاكوبسون‬
‫بحيث تتوافق مع األنثروبولوجيا‪ ،‬وربما مع تكييف الكان بعض المصطلحات السوسورية في‬
‫الخمسينيات بحيث تتوافق مع طبعته الخاصة من التحليل النفسي‪ .‬وقد بلغ هذا الطور ذروته‬
‫في أوائل الستينيات وكان آنئذ ضربا ً من الجنون الفكري طغى على ك ّل المباحث التي أمكنه أن‬
‫أي مكان آخر)‪ .‬أ ّما‬‫يطالها من التاريخ حتى الرياضيات؛ جنونٌ يصعب إيجازه هنا (أو ربما في ّ‬
‫متفرق من الرطانة (انظر‬
‫ّ‬ ‫العناصر األلسنية في هذا الطور فلم تكن في الغالب أكثر من نثار‬
‫بياجيه ‪ .)1968‬في حين تمثّل الحدث الالفت بالنسبة للنظرية األدبية في محاولة التوليف بين‬
‫النموذج األلسني وفلسفة الذات اإلنسانية التي ع ُِرفَت في فرنسا‪ ،‬حيث ت ّم تفسير العقل‬
‫تصور‬
‫ّ‬ ‫لبنى‪ ،‬ألسني ٍة في الغالب‪ .‬كما شهدت هذه الفترة إعادة‬
‫ً‬ ‫والمجتمع بوصفهما أثرين‬
‫سوسور بوصفه فيلسوفاً‪ .‬وحوالي عام ‪ ،1967‬كان انهيار المشروع البنيوي‪ ،‬بتأثير الكان‪،‬‬
‫وديريدا‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬وبتأثير األحداث السياسية‪ ،‬ليعقب هذا المشروع تشكيلة متنوعة من ما‬
‫بعد البنيويات التي انتشرت في جميع أرجاء أوروبا وأمريكا‪.‬‬

‫‪-1‬البنيوي الفرنسي األول‪ :‬كلود ليفي شتراوس‬


‫‪-1-1‬إلهام األ لسنية البنيوية‬

‫كان كلود ليفي شتراوس واحدا ً من أعضاء الهيئة التعليمية الذين تابعوا محاضرات‬
‫جاكوبسون في نيويورك‪ .‬وكان ليفي شتراوس فيلسوفا ً في السابق‪ ،‬أ ّما في حينها فكان‬
‫مرة أخرى (كما سنرى)‪ .‬والحقيقة أنّ ليفي‬ ‫أنثروبولوجياً‪ ،‬وسوف يعود نوعا ً من الفيلسوف ّ‬
‫شتراوس كان يرتجي من حضوره تلك المحاضرات غايةً عمليةً إلى ح ٍ ّد بعيد‪ ،‬غير أنّ ما تلقّاه‬
‫ب من الرؤيا الفكرية‪:‬‬
‫لم يكن سوى ضر ٍ‬

‫لم أزل مدركا ً بشدّة تلك الصعوبة التي واجهتني‪ ،‬نظرا ً لعدم خبرتي‪،‬طوال ثالث سنين أو أربع‬
‫مرض أس ّجل به لغات وسط البرازيل فمنّيت نفسي بأن أحصل من‬ ‫ٍ‬ ‫لدى محاولتي إيجاد ترميز‬
‫األوليات التي أفتقر إليها‪ .‬غير أنّ ما تلقيته من دروسه كان في الواقع شيئا ً‬‫جاكوبسون على ّ‬
‫مختلفا ً تماماً‪ ،‬وأكاد ال أحتاج أن أقول إنه كان شيئا ً أكثر أهمية بكثير‪ ،‬أال وهو إلهام األلسنية‬
‫رؤى ألهمني‬
‫ً‬ ‫البنيوية‪ ،‬الذي مكّنني الحقا ً من أن أبلور في مجموعة من األفكار المتماسكة‬
‫البرية في مكان قرب حدود اللوكسمبورغ في أوائل أيار عام ‪…1940‬‬ ‫إيّاها تأ ّمل الزهور ّ‬

‫وكذلك بعض المسائل التقنية التي أثارتها معالجة مارسيل غرانيه إلثنوغرافيا الصين القديمة‬
‫م ّما كان يشغله في ذلك الوقت (يضيف ليفي شتراوس في عود ٍة محسوب ٍة إلى التجريبي)‪،‬‬
‫(انظر تقديم ليفي شتراوس لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى‪1976 ،‬؛ ص ص ‪.)ii-xi‬‬

‫إنّ ما يت ّم التشديد عليه هنا هو تلك القوة الملهمة التي تنطوي عليها رؤيا الترتيب والنظام‬
‫أي تطبيق فعلي للنموذج‬‫توفرها األلسنية‪ .‬والحقيقة أنّ هذا اإللهام‪ ،‬وليس ّ‬
‫ّ‬ ‫الفكريين التي‬
‫األلسني أو أيّة نتائج كبرى ناجمة عنه‪ ،‬هو ما شكّل القوة الدافعة األساسية للبنيوية القائمة‬
‫على األلسنية في طورها الثالث؛ طور الطموح الفكري الشامل‪ ،‬وطور الطريقة الدينية في‬
‫الستينيات‪ .‬ومع أنّ هذه الرؤيا كانت في البداية علميّةً‪ ،‬مهما يكن من أمرها‪ ،‬إال أنّ ما بقي‬
‫الحقاً‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬هو الرؤيا وحدها‪ ،‬في حين راح العلم ينكمش‪ ،‬ويتضاءل مفسحا ً المجال‬
‫للشعرية األسطورية كي تتغلّب وتسيطر‪.‬‬

‫لقد كان ليفي شتراوس في هذه المرحلة شديد التأثّر باأللسنية التي تعلّمها من محاضرات‬
‫جاكوبسون ث ّم أتبعها بقراءة مكثّفة‪ .‬وهو يبيّن في تقديمه لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى‬
‫ما أخذه من هذه المحاضرات‪ .‬كما أنّ الفصول األربعة األولى من المجلد األول لكتاب ليفي‬
‫شتراوس األنثروبولوجيا البنيوية هي مقاالت تعود إلى األربعينيات والخمسينيات (وكانت‬
‫البنيوي في األلسنية واألنثروبولوجيا”‪ ،‬قد نشرت من قبل في المجلة‬
‫ّ‬ ‫إحداها‪“ ،‬التحليل‬
‫األلسنية‪ ،word ،‬عام ‪ .)1945‬وتقوم هذه المقاالت بعملية سبر الستخدام النماذج األلسنية‬
‫في األنثروبولوجيا‪ ،‬وتنطوي على تحليل رفيع ومتكلّف يتطلّع إلى ماهو أبعد من مجرد استيراد‬
‫مكونات مصطلحات القرابة‪ ،‬كما يبحث عن نمط من التأثّر أعمق‬
‫التقنيات األلسنية لتحليل ّ‬
‫بكثير‪.‬‬

‫وما أثار اهتمام ليفي شتراوس في األربعينيات وخلّف لديه أثرا ً عميقا ً هو الصرامة العلمية‬
‫التي اتّسمت بها األلسنية ونجاحاتها التفسيرية‪ .‬يقول‪:‬‬

‫إننا نجد أنفسنا نحن األنثروبولوجيين في وضعٍ حرجٍ بإزاء األلسنيين‪ .‬فقد اشتغلنا معهم طوال‬
‫سنوات عديدة‪ ،‬جنبا ً إلى جنب‪ ،‬ثم بدا لنا فجأةً أن األلسنيين أخذوا يتملّصون منا‪ ،‬فرأيناهم‬
‫يتنقلّون إلى الجهة األخرى من الحاجز الذي يفصل العلوم الدقيقة والطبيعية عن العلوم‬
‫اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬والذي اعتقدنا زمانا ً طويالً أن عبوره أمر متعذّر‪ .‬وكما لو أنهم أرادوا‬
‫نكايتنا‪ ،‬فقد راحوا ينكبّون على العمل بتلك الصورة الصارمة الحازمة التي كنّا قد استسلمنا‬
‫ألمر اعتقادنا بأنها من شيم العلوم الطبيعية وحدها‪ .‬فكان أن أل ّم بنا من جهتنا شيء من‬
‫الحزن‪ ،‬كما انتابنا – ولنعترف بذلك‪ -‬كثير من الحسد‪ .‬إننا نريد أن نتعلّم من األلسنيين ّ‬
‫سر‬
‫نجاحهم‪ .‬أال يسعنا نحن أيضا ً أن نطبّق على هذا الحقل المعقّد الذي تدور فيه أبحاثنا ‪-‬القرابة‪،‬‬
‫التنظيم االجتماعي‪ ،‬الدين‪ ،‬الفولكلور‪ ،‬الفن – تلك المناهج الصارمة التي تبرهن األلسنية ك ّل‬
‫يوم عن فعاليتها؟‬

‫(من مقالة مكتوبة‪ 1952‬وتشكّل الفصل الرابع من األنثروبولوجيا البنيوية‪ ،‬انظر ص ‪.)69‬‬

‫ث ّمة مقاطع كثيرة من هذا النمط في أعمال ليفي شتراوس الباكرة‪ ،‬وهي تكشف عن الباعث‬
‫األساسي الذي يقف خلف الحركة البنيوية الفرنسية األصلية‪ .‬وهذا الباعث هو األمل بجعل‬
‫العلوم اإلنسانية علميةً‪ ،‬في عصر كان ال يزال ينظر إلى التقدّم العلمي كواحد من األشياء‬
‫القليلة المرغوبة على نح ٍو ال يطاله الشكّ ‪ .‬ولقد دام هذا األمل‪ ،‬وما صاحبه من تفاؤل شديد‪،‬‬
‫شعور ال يقتصر على‬
‫ٌ‬ ‫حتى الستينيات‪ ،‬لتعقبه بعد ذلك موجة من الشعور المناهض للعلم؛‬
‫استحالة إضفاء الطابع العلمي على العلوم اإلنسانية‪ ،‬بل يتعدّاه إلى عدم الرغبة بأن تكون هذه‬
‫ق أنّ اسم “ما بعد البنيوية” الذي أطلقته الصحافة‪ ،‬ال ينطبق على شيء‬ ‫العلوم علميةً‪ .‬والح ّ‬
‫بقدر ما ينطبق على النتاج الفكري الذي قدّمته هذه الموجة من الشعور المناهض للعلم‪ ،‬بل‬
‫المناهض للعقالنية باعتقادي‪ ،‬والتي ال تزال مستمرةً إلى اليوم‪.‬‬

‫بنيوي‪ ،‬إال ّ أنه انتهى هو أيضا ً إلى التخفّف من‬


‫ّ‬ ‫ومع أنّ ليفي شتراوس لم يكن أبدا ً ما بعد‬
‫مزاعمه العلمية بصورة تكاد أن تكون خفيّة بعض الشيء‪ .‬ففي السبعينيات صار يعتبر أنّ‬
‫ضرب من بناء أسطورة عن األسطورة؛ تماما ً كما تعتبر ما‬ ‫ٌ‬ ‫الدراسة الوصفيّة لألسطورة هي‬
‫ي عن األدب ال مجموعة من التفسيرات‬ ‫بعد البنيوية أنّ “النظرية األدبية” هي بمثابة شكل أدب ّ‬
‫ي‪ .‬والحقيقة أننا نجد في مقدمة المجلد الثاني من‬ ‫التي يكمن إخضاعها لالختبار التجريب ّ‬
‫األنثروبولوجيا البنيوية‪ ،‬والذي نشر بعد خمسة عشر عاما ً على نشر المجلد األول وبعد واحد‬
‫وعشرين عاما ً على نشر المقالة التي اقتطفنا منها منذ قليل‪ ،‬نبرةً مختلفةً تماما ً ع ّما وجدناه‬
‫من قبل‪:‬‬

‫بل ويمكن أن نتساءل ما إذا كان يمكن لمعيار “قابلية النقض” هذا أن ينطبق حقّا ً على العلوم‬
‫اإلنسانية‪ .‬فالمكانة اإلبستمولوجية لهذه العلوم ليست أبدا ً كتلك التي يمكن للعلوم الفيزيقية‬
‫والطبيعية أنّ تدّعيها لنفسها‪ .‬فهذه األخيرة تتّصف بنوع من االنسجام أو التناغم لطالما فرض‬
‫سلطانه في ك ّل وقت بين أولئك الذين يمارسونها على مستوى يُعَ َّد ذا صلة بحالة البحث‬
‫المعاصرة‪ ،‬في حين أن حال العلوم اإلنسانية ليس كهذا الحال أبداً‪ .‬فهنا ال نجد إال القليل من‬
‫النقاش‪ ،‬إن وجدنا‪ ،‬بخصوص شرعيّة هذه الفرضيات أو تلك‪ .‬فالنقاش متركّز بدال ً من ذلك‬
‫مستوى آخر قد يحبّذه‬
‫ً‬ ‫مستوى معين للمرجع الذي تحيل إليه هذه الفرضية‪ ،‬وليس‬ ‫ً‬ ‫على اختيار‬
‫الخصم‪.‬‬

‫إنه لمن االستثنائي بالنسبة لألنثروبولوجيين البنيويين أن يُقَال لهم‪“ :‬إنّ تأويلكم لهذه الظاهرة‬
‫أو هذه المجموعة من الظواهر ليس بالتأويل الذي يحسب حساب الوقائع على أفضل وجه”‪.‬‬
‫وإنّما يُقال لهم بدال ً من ذلك “إنّ الطريقة التي تفككون بها الظواهر ليست بالطريقة التي تثير‬
‫اهتمامنا؛ وإننا لنختار أن نفككها بطريقة أخرى”‪ .‬إنّ موضوع العلوم اإلنسانية هو اإلنسان‪،‬‬
‫إال ّ أنّ اإلنسان الذي يدرس نفسه وهو يمارس العلوم اإلنسانية الب ّد أن يترك ألفضلياته‬
‫يعرف بها نفسه لنفسه‪ .‬وما يثير في اإلنسان ويلفت‬ ‫وتحيّزاته أن تتد ّخل في الطريقة التي ّ‬
‫ي بل ينتج وسيظل ينتج من خيار له ترتيبه الفلسفي في جوهر‬ ‫االنتباه ال يخضع لقرار علم ّ‬
‫األمر‪.‬‬

‫ولذا فإنّ علينا أن ندرك أنّ فرضيات العلوم اإلنسانية ال يمكن نقضها‪ ،‬ال اآلن وال في أي حين‬
‫آخر‪.‬‬

‫(األنثروبولوجيا البنيوية‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،1973 ،‬ص ص ‪.)ix-viii‬‬

‫لقد تخلّى ليفي شتراوس عن الغاية العلمية التي وضعها لنفسه في البداية؛ وهو يسلّم بأنّ‬
‫المشتغلين في العلوم اإلنسانية متّفقون على ذلك إلى ح ّد بعيد‪ .‬وهو بقولـه هذا يلقي ضوءا ً‬
‫ساطعا ً على الشروط واألوضاع الثقافية الفرنسية‪ ،‬التي ال تزال مختلفةً كثيرا ً عن مثيلتها‬
‫تعرض لعدد من االنتقادات الالذعة و ّجهها‬ ‫األنجلو – أميركية‪ .‬والحقيقة أنّ ليفي شتراوس قد ّ‬
‫إليه أنثروبولوجيون إنجليز وأمريكيون لما رأوه لديه من قصور تجريبي وتأويل قائم على‬
‫بنات الخيال‪ .‬وبعض هذه االنتقادات موثّقة في مقالة كتبها نيفين دايسن – هدسن وقدّمها في‬
‫مؤتمر عام ‪ 1966‬وكان لها بعيد األثر في إدخال ما بعد البنيوية إلى الواليات المتحدة (انظر‬
‫ماكزي ودوناتو ‪.)1970‬‬
‫وحتى اليوم‪ ،‬ال يزال هناك عدد وافر من علماء االجتماع الغربيين الذين يعتبرون أنهم‬
‫التقليدي الكامل لهذه الكلمة‪ ،‬وأنّ عليهم أن يقتصروا على فرضيات‬ ‫ّ‬ ‫يمارسون علما ً بالمعنى‬
‫قابلة للنقض وإثبات الزيف في ضوء المعطيات التجريبية‪ .‬وث ّمة نقد رصين لعمل كلود ليفي‬
‫شتراوس‪ ،‬من وجهة النظر هذه‪ ،‬في كتاب مارفن هاريس الضخم “نشوء النظرية‬
‫األنثروبولوجية” (‪ ،)1968‬الذي تناول فيه تاريخ األنثروبولوجيا‪ .‬وهاريس هو واحد من‬
‫أتباع ما يمكن أن ندعوه بالماديّة الثقافية‪ ،‬وهذه األخيرة موقف نظري في األنثروبولوجيا‬
‫ي مثل ريموند وليامز)؛ حيث يتّفق هاريس‬ ‫(وينبغي أال ّ تُخلط مع المادية الثقافية لدى ناقد أدب ّ‬
‫مع الماركسيين التقليديين على أنّ من الممكن تفسير ك ّل منّوعات الثقافات البشرية على‬
‫أساس الضغوط االقتصادية؛ إال أنه يضيف إلى ذلك ضغط السكان والمتغيّرات البيئية‪ ،‬ويرفض‬
‫الديالكتيك الماركسي‪ .‬وهذا ما يوفّر لهاريس أساسا ً ماديا ً علميا ً شامالً وكامالً لنقد المثالية‬
‫التي تتّسم بها مقاربة ليفي شتراوس لموضوعه‪ ،‬واقتصار هذا الموضوع على االهتمام‬
‫بالتمثيالت الذهنية وحدها‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فإنّ هاريس ليس الناقد الوحيد الذي نحا هذا المنحى‪.‬‬

‫‪-1-2‬ليفي شتراوس والفونيم‬

‫يمكن لنا أن نلقي الضوء على موضوع الخالف من خالل النظر إلى تعامل ليفي شتراوس مع‬
‫المادي للّغة‬
‫ّ‬ ‫مفهوم الفونيم والتمييز األساسي الذي يجريه األلسنيون بين المستوى الصوتي أو‬
‫مرة‬
‫ي أو النظامي‪ .‬فكما سبق لنا القول‪ ،‬لقد سمع ليفي شتراوس بهذا ألول ّ‬ ‫ومستواها الفونيم ّ‬
‫من جاكوبسون‪ ،‬الذي عُني بر ّد الفونيمات إلى سمات مميّزة مادية وصلبة نسبياً‪ .‬ومن‬
‫الطبيعي أن يتوقّع المرء من أنثروبولوجي يقيس األنثروبولوجيا على األلسنية ويعمل على‬
‫أساس هذا القياس أن يبدي اهتماما ً شديدا ً بالشروط المادية للحياة االجتماعية وبالبيولوجيا؛‬
‫وخاصةً حين يزعم هذا االنثروبولوجي أنه معن ّ‬
‫ي بك ّل من الماركسية والعلوم الطبيعية‪،‬‬
‫خص‪ .‬بل إنّ المرء قد يتوقّع منه أيضا ً أن يقدّم فكرةً ما عن المستويات‬
‫وبالجيولوجيا على األ ّ‬
‫“الـ…… تيّة” و “الـ‪ ..‬يميّة” للمجتمع (أي عن المستويات المادية بإزاء المستويات ذات‬
‫المعنى االجتماعي)‪ ،‬قياسا ً بالصوتيات والفونيميات‪ .‬وهذا ما قدّمه األلسني األميركي كينيث‬
‫بيك‪ ،‬حين حاول القيام بتعميم أنثروبولوجي لأللسنية (اللغة في عالقتها بنظرية مو ّحدة في‬
‫السلوك البشري‪ .)1964 ،‬أما المصطلحان “…تيّة” و “‪..‬يميّة” فهما لمارفن هاريس‪.‬‬

‫غير أنّ ليفي شتراوس لم ْ‬


‫يسر‪ ،‬لألسف‪ ،‬في هذا االتجاه‪ .‬وما استوقفه هو مبدأ الفونيم؛ مبدأ‬
‫التقابل المحض بين دواليل* ال حصر لها‪ ،‬وإمكانية تحليل هذه الدواليل المتقابلة إلى تقابالت‬
‫ثنائية تشكّل أساسا ً لها وتكون خارج وعي الذات تماماً‪ .‬وقد قام ليفي شتراوس الحقا ً بتطبيق‬
‫هذا المبدأ على األسطورة‪ ،‬مقترحا ً تحليل األساطير إلى وحدات أساسية خالية من المعنى أطلق‬
‫عليها اسم األسطوريمات (انظر تقديم ليفي شتراوس لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى‬
‫مرات كثيرة‪ .‬وهي تشير على الدوام إلى‬ ‫‪ .)1976‬وسوف نصادف هذه الالحقة (‪..‬يمات) ّ‬
‫استعارة قائمة على الفونيم‪ ،‬وتحتاج على الدوام إلى تف ّحص حذر محترس‪.‬‬
‫ونحن ال نغالي في أهمية النقلة التي قام بها ليفي شتراوس؛ إال أنها تستحق أن نذكرها‬
‫بوصفها اللحظة التأسيسية في البنيوية الفرنسية (المثالية)‪ .‬فما يعتقد ليفي شتراوس أنه‬
‫وجده‪ ،‬في الفونيم‪ ،‬هو أن هذا األخير وحدة ال معنى لها بح ّد ذاتها‪ .‬لكنها ما إن تدخل في‬
‫بنى ذات معنى‪ .‬وتقوم هذه البنى في حقيقة‬ ‫عالقة مع وحدة أخرى من النوع ذاته حتى تشكّل ً‬
‫البشري‪ .‬وقد تبنّى الكان في الخمسينيات موقفا ً‬
‫ّ‬ ‫األمر على تقابالت ثنائية نجدها في الالوعي‬
‫يخص الالوعي الفرويدي‪ ،‬على الرغم من اختالف التفاصيل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قريبا ً من هذا الموقف فيما‬

‫ومن الواضح تماما ً أنّ كليهما كانا مخطئين‪ ،‬سواء في نظريتيهما أو في تأويلهما للمصادر‪.‬‬
‫سبت إليه؛ أما جاكوبسون فكان قد‬ ‫فسوسور لم تكن لديه قناعة راسخة بتلك النظرية التي نُ ِ‬
‫انتقدها صراحةً؛ وهي مستحيلة منطقيا ً على ك ّل حال‪ .‬والح ّ‬
‫ق أنّ هذا الخطأ الذي ارتُكب آنئ ٍذ‬
‫مرة بعد أخرى على يد أُناس أق ّل أهمية‪ .‬وهو خطأ ال نزال نجده في أدبيات‬ ‫راح يتكرر ّ‬
‫الثمانينيات والتسعينيات‪.‬‬

‫‪ -1-3‬البنى األولية للقرابة‬

‫غالبا ً ما يعتبر األنثروبولوجيون أنّ أنظمة القرابة هي المؤسسات األساسية في تلك‬


‫األول‪ ،‬البنى األولية للقرابة‬
‫المجتمعات التي يدرسونها‪ .‬وكتاب ليفي شتراوس ّ‬

‫(‪ ،)1949‬كان كتابا ً في هذا الموضوع‪ .‬والتّبصر الذي يلفت االنتباه في هذا الكتاب هو أنّ‬
‫ي على تابو الزنا بالمحارم‪ ،‬أي على تحظير الجنس ضمن العائلة‪ ،‬مما يدفع‬ ‫المجتمع مبن ٌّ‬
‫ً‬
‫الرجال لتبادل النساء‪ ،‬من عائلة إلى أخرى‪ ،‬بغية الزواج‪ .‬وهذا ما يخلق بنية اجتماعية‬
‫إجماليةً أكبر من العائلة النووية (المؤلّفة من أب وأم وأوالدهما)‪.‬‬

‫وتشتمل هذه المجتمعات على ثالثة أشكال أساسية للتبادل‪ ،‬هي التي تجمع المجتمع معا ً‬
‫وتؤ ّمن تماسكه؛ الشكل األول هو تبادل الهبات‪ ،‬الذي يناظر البنية االقتصادية في مجتمع أش ّد‬
‫تعقيداً؛ والثاني هو تبادل النساء‪ ،‬تبعا ً لقواعد بالغة التعقيد والتكلّف تخلق بنيةً قرابية؛ والثالث‬
‫هو تبادل الرسائل الكالمية عبر اللغة‪ ،‬الذي يخلق معظم ثقافة المجتمع‪ ،‬التي هي في أعمال‬
‫ليفي شتراوس الالحقة عبارة عن بنية رمزية‪ ،‬أو نظام دواليل‪.‬‬

‫ويتمثّل مفعول القواعد التي تدفع الزواج ألن يكون من خارج العائلة النووية وضمن‬
‫مجموعات مفروضة في أنّ البنية األولية للقرابة ليست العائلة النووية المؤلّفة من زوج‪،‬‬
‫وزوجة‪ ،‬وأوالد‪ ،‬بل العائلة التي تض ّم الزوج‪ ،‬والزوجة‪ ،‬واألوالد‪ ،‬وأخا الزوجة (الخال) أو‬
‫شخصا ً ذكرا ً موافقا ً له من طرف المرأة‪ ،‬يمارس في األصل سيطرته على هذه المرأة ويقوم‬
‫بالتخلّي عنها‪ .‬وتأخذ هذه البنية أشكاال ً متنّوعة وتترافق مع مواقف متنوعة يتّخذها عضو‬
‫ي لألفراد المعنيين‪ ،‬وال‬
‫بنية قرابية تجاه عضو آخر (وهي مواقف مستقلة عن الطابع الشخص ّ‬
‫تتوقف إال على موقعهم في بنية العائلة)‪ .‬وهكذا فإن الطفل الذكر في بعض المجتمعات يكون‬
‫الدنو منه‪ ،‬في حين تربطه بخاله عالقة حميمية‪ ،‬ناكتة؛ بينما‬
‫ّ‬ ‫له أب شديد‪ ،‬محترم‪ ،‬يصعب‬
‫تكون األمور معكوسة في مجتمعات أخرى‪.‬‬

‫ولقد حاول األنثروبولوجيون تفسير قواعد القرابة ومواقفها هذه؛ ومن بين هذه التفاسير ث ّمة‬
‫التفسير االقتصادي‪ ،‬من النوع الذي يفضلّه ماركس وهاريس‪ ،‬حيث يُرى أنّ لهذه القواعد‬
‫وظيفة اقتصادية جوهرية تمكّن المجتمعات التي تتبنّاها من البقاء‪ .‬وهو تفسير ال يرضي ليفي‬
‫شتراوس بالطبع‪ .‬والتفسير اآلخر هو التفسير التاريخي الذي يرى أن وجود ظواهر معينة‬
‫يعود إلى تطورها التاريخي‪ .‬وهو تفسير يصطدم بإشكاليات كثيرة‪ ،‬ويؤدي في بعض األحيان‬
‫إلى تاريخ قائم على التأمل‪ ،‬لدى تبنّيه من قبل األنثروبولوجيا التي تُعنى أساسا ً بمجتمعات‬
‫أميّة ال تعرف الكتابة ويصعب إزاحة النقاب عن تاريخها‪ .‬أ ّما التفسير البنيوي فيركّز على ما‬
‫يمكن تفسيره باالنطالق من العالقات بين أجزاء البنية القائمة‪ ،‬دون تأ ّمل تاريخي‪ .‬والقياس‬
‫على الدراسة األلسنية التزامنية واض ٌح هنا‪.‬‬

‫ي في األدب واأللسنية أن يحكم على نجاح فرضيات ليفي‬ ‫والحقيقة أنه ليس من شأن اختصاص ّ‬
‫شتراوس في تفسير أنظمة القرابة‪ ،‬أو حتى أن يقدّر مدى منطقيتها‪ .‬فهذا واحد من الميادين‬
‫التقنية في األنثروبولوجيا‪ ،‬ال يجرؤ على أن يطأه سوى االختصاصيين وحدهم‪ .‬كما أنّ‬
‫ي بين ليفي شتراوس ومترجمه‪،‬‬ ‫مصاعب التأويل هنا مخيفة‪ .‬وقد نشب خالف علن ّ‬
‫األنثروبولوجي المعروف روني نيدهام‪ ،‬حول ما يعنيه كتابه فعلياً‪ ،‬وهو خالف موثّق في‬
‫ثان لليفي شتراوس وفي تعليق مرتبك ومذهول لنيدهام على ترجمته‪ .‬إال أنّ شيئا ً‬ ‫تصدير ٍ‬
‫توليدي على األقلّ‪ ،‬وهو أنّ ليفي شتراوس ال‬ ‫ّ‬ ‫كقواعدي‬
‫ّ‬ ‫واحدا ً يظ ّل واضحاً‪ ،‬من وجهة نظري‬
‫ت ذهني ٍة معينة‬‫يبدو مهت ّما ً بالوقائع كما يراها المراقبون من الخارج بقدر ما هو مهت ّم بتمثيال ٍ‬
‫للواقع في عقول المساهمين فيه‪ .‬وهو يحمل وجهة النظر الخاصة هذه إلى عمله الثاني الذي‬
‫يتناول فيه مشكلة الطوطمية (‪ )1962‬القديمة في األنثروبولوجيا‪ ،‬وكذلك إلى كتابه عن الفكر‬
‫ف بأنه توسيع لذلك العمل بحيث يطال مجاال ً جديداً‪.‬‬
‫ي (‪ ،)1962‬الذي ُو ِص َ‬ ‫البر ّ‬
‫ّ‬

‫‪ -1-4‬استقصاء البنى الذهنية‪:‬‬

‫ظم بها العقل‬‫البري هو الطريقة التي ين ّ‬


‫ّ‬ ‫إنّ االهتمام األساسي لك ّل من الطوطمية اليوم‪ ،‬والفكر‬
‫المعطيات‪ .‬فاألنثروبولوجيون األوائل كانوا قد أشاروا‪ ،‬مثالً‪ ،‬إلى أنّ اتّخاذ حيوانات طوطمية‬
‫لتمثيل مجموعات اجتماعية هو إحدى البقايا التاريخية من تلك األيام التي كانت فيها هذه‬
‫حرما ً عليهم)؛ وذلك إلى جانب الكثير الكثير‬ ‫الجماعات تأكل ذلك الحيوان (الذي أصبح اآلن ُم ّ‬
‫َ‬
‫برمتها‪ ،‬كما ُو ِصفت إلى‬‫من التفسيرات األخرى‪ .‬أ ّما ليفي شتراوس فيعتبر مشكلة الطوطمية ّ‬
‫اآلن‪ ،‬ضربا ً من الوهم واالنخداع‪ .‬ويرى بدال ً من ذلك أن ننظر إلى نظام عالقات؛ نظام تقابالت‬
‫بين الحيوانات الطوطمية هو بمثابة طريقة لتنظيم العالم ثقافياً‪ .‬فما يت ّم استقصاؤه هنا هو‬
‫سدها الحيوانات الطوطمية‪ .‬وهذه طريقة في‬ ‫طريقة في التفكير بواسطة نظام من األصناف‪ ،‬تج ّ‬
‫المقاربة تبدي كثيرا ً من نقاط التشابه مع تلك الطريقة التي يستخدمها علماء المعرفة المهتّمين‬
‫باآلثار التي تتركها األنماط البدئية في التفكير‪.‬‬

‫لبنى موجودة‬ ‫ً‬ ‫والحقيقة أنّ أعمال ليفي شتراوس جميعا ً تبدي هذا التو ّجه إلى دراسة تمثيالت‬
‫التوليدي‪ .‬ولكي ندفع هذا التشابه قُ ُد َما ً إلى‬
‫ّ‬ ‫القواعدي‬
‫ّ‬ ‫في العقل‪ ،‬شأنها في ذلك شأن أعمال‬
‫األمام‪ ،‬نقول‪ :‬إنّ كلود ليفي شتراوس كان يطمح دوما ً إلى السير بهذا األمر إلى ح ٍ ّد يتمكّن‬
‫عنده من إزاحة النقاب عن خصائص العقل الكونية الالواعية‪ .‬وبخالف ما قد يبدو ألولئك‬
‫الذين لديهم ألفة باألسلوبين المختلفين تماما ً لدى شومسكي وليفي شتراوس‪ ،‬فإنّ هذين‬
‫قارته‪ ،‬منهمكين في البحث ذاته عن الكليّات الذهنية‪،‬‬ ‫المفكّرين يبدوان‪ ،‬ك ٌّل في فرعه وفي ّ‬
‫طرح أبداً‪ ،‬وعلى الرغم من اعتقاد‬ ‫على الرغم من أن مسألة تأثّر واحدهما باآلخر لم ت ُ َ‬
‫شومسكي بأن عمل ليفي شتراوس هو عمل فارغ‪.‬‬

‫الهوة الواسعة التي تفصل بين التقاليد الفكرية التي‬‫بيد أن أحد الفروق الكبرى بين االثنين هو ّ‬
‫بدأ ك ّل منهما العمل فيها‪ .‬فقد اصطدم شومسكي في أميركا أوائل الخمسينيات بمدرسة سلوكيّة‬
‫ظافرة – تشكّل أعمال عالم النفس السلوكي العظيم ب‪.‬ف‪ .‬سكينر مثاال ً لها – حاولت أن تر ّد‬
‫ي” وأنكرت أية إمكانية لوضع الظواهر الذهنية موضع‬ ‫حتى اللغة البشرية إلى “سلوك كالم ّ‬
‫ي‪ .‬أ ّما الفلسفة المسيطرة فكانت فلسفة تجريبية‪ ،‬وإن تكن أش ّد تكلّفا ً من السلوكيّة؛‬
‫بحث علم ّ‬
‫ولعل كوين‪ ،‬نصير راسل‪ ،‬أن يكون أهم فيلسوف للتجريبية الف ّجة يمكن أن نصادفه؛ غير أنّ‬
‫الفلسفة كانت أق ّل أهمية بالنسبة لأللسنية من سلوكيّة مع ّممة قامت باستقصاء كل شيء حتى‬
‫الدالالت التي يبدو لأللسنيين أنّ االنهماك فيها هو نشاط بعيد عن العلم وال يرمي إلى شيء‪.‬‬

‫وبالمقابل‪ ،‬فقد اصطدم ليفي شتراوس بوجودية سارتر‪ .‬وبالنسبة لهذه الفلسفة‪ ،‬لم يكن‬
‫لوجهات النظر العلمية والموضوعية عن اإلنسان أية أهمية على اإلطالق؛ فهي ته ّم “علم‬
‫الحشرات”‪ .‬أما الوعي ‪-‬أو “الوجود لذاته”‪ -‬فهو نوع من العدم أو االفتقار إلى الكينونة الذي‬
‫يخلق على الرغم من ذلك عالما ً من األشياء أو الموضوعات انطالقا ً من ركام غير متمايز من‬
‫الوجود في ذاته‪ .‬وإذا ما كان هذا الوعي مرتبطا ً بالعالم وبماضيه الخاص بالضرورة‪ ،‬إال ّ أنّه‬
‫حرا ً في اتّخاذ خياراته الراهنة‪ .‬أ ّما إنكار ذلك فليس سوى ضرب من اإليمان الفاسد‪.‬‬
‫يظ ّل ّ‬
‫اإلنسانوي الوجودي يجعل من نفسه ماهو عليه ويجعل نفسه جديدا ً في‬
‫ّ‬ ‫فاإلنسان في المذهب‬
‫حري ٍة ال تقيّدها أغالل البنية االجتماعية‪ ،‬أو الظروف المادية‪ ،‬أو البواعث‬
‫ك ّل لحظة‪ ،‬وذلك في ّ‬
‫ّ‬
‫الالواعية أو بيولوجيا الشخص‪ .‬وهذه هي الفلسفة التي حاول سارتر الحقا ً أن يوفق بينها‬
‫وبين الماركسية‪.‬‬

‫ربما كان هذه العرض جائراً‪ .‬فهو يظلم حذق سارتر ودقّته؛ كما أنّ من الخطأ بال شكّ أن‬
‫نطابق فكر سارتر مع الفلسفة الفرنسية ككلّ‪ .‬غير أنّه من الخطأ القول إنّ الفلسفة الفرنسية‬
‫قد نظرت نظرةً متغطرسة وفوقية في عالقتها بعلوم اإلنسان التجريبية وغالبا ً ما حاولت أن‬
‫تخنقها آن والدتها‪ .‬وهو أمر موثّق بإسهاب لدى واحد من بين قلّة من علماء االجتماع‬
‫الفرنكوفونيين الذين تضاهى منزلتهم الدولية منزلة ليفي شتراوس‪ ،‬أال وهو جان بياجيه‪ ،‬في‬
‫س ِج ّل معركة خاضها بياجيه طوال‬‫صرات الفلسفة وأوهامها (‪ .)1965‬وهذا الكتاب ِ‬‫كتابه تب ّ‬
‫حياته لالعتراف بشرعيّة االستقصاءات التجريبية التي تناولت تطور المقوالت المنطقية في‬
‫عقل الطفل‪ ،‬في مواجهة مؤسسة تعتبر أي استقصاء من هذا النوع مجرد دليل على خطأ‬
‫مواز لتجربة ليفي شتراوس؛ إال أن بياجيه‬
‫ٍ‬ ‫ي واضح تماماً‪ .‬وتجربة بياجيه تسير في ٍ‬
‫خط‬ ‫فلسف ّ‬
‫لم يتخ ّل عن دعاويه التجريبية‪.‬‬

‫‪ -1-5‬فلسفة جديدة عن اإلنسان‪:‬‬

‫ربما كان من المحتوم أن يت ّم تأويل األنثروبولوجيا البنيوية بوصفها فلسفةً بديلة عن اإلنسان‪.‬‬
‫ولع ّل من األص ّح القول إنه كان ث ّمة خيار بين أن تصبح األنثروبولوجيا البنيوية فلسفةً جديدةً‬
‫عن اإلنسان‪ ،‬أو أن يت ّم بناء فلسفة جديدة عن اإلنسان تعمل على تكييف هذه األنثروبولوجيا‬
‫واحتوائها؛ ذلك أن فلسفة سارتر أو غيرها من الفلسفات المنضوية في إطار التقاليد‬
‫الظاهراتية والوجودية لم يكن بوسعها أن تقوم بذلك‪ .‬ولقد عمل ضغط المعركة الفلسفية على‬
‫تصور ليفي شتراوس لألنثروبولوجيا‪ ،‬األمر الذي يشير إليه المقتطف الذي‬ ‫ّ‬ ‫تغيير طبيعة‬
‫أوردناه من قبل من األنثروبولوجيا البنيوية‪ ،‬المجلد الثاني (‪ .)1976‬فحين تقتصر على طرح‬
‫األسئلة الفلسفية وحدها‪ ،‬تكون مدفوعا ً بقوة ألن تصبح فيلسوفاً‪ ،‬لدرجة أنه كان على ليفي‬
‫شتراوس في بعض األحيان أن يذكّر جمهوره بأنّه معن ّ‬
‫ي بالمعطيات اإلثنوغرافية أساسا ً وبأنه‬
‫قام ذات مرةً ببعض العمل الميداني‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فإنّ الفلسفة قد كانت المبحث الذي انطلق منه‬
‫ليفي شتراوس في األصل‪.‬‬

‫والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يمكن للبنيوية أن تقدّمه بوصفها موقفا ً فلسفياً؟ إنه‬
‫تلك النظرة التي ترى المجتمع محدّدا ً بمجموعة من التمثيالت الذهنية الالواعية التي يتقاسمها‬
‫ب هام من جوانبه أن لنظام التمثيالت الذهنية أولوية منطقية على‬ ‫أفراده‪ .‬وهذا يعني في جان ٍ‬
‫ك ّل من المجتمع واألفراد‪ .‬فالذوات الفردية متشكّلة من إدراج الفرد في مثل هذا النظام؛‬
‫والمجتمع متشكّل من خالل الطريقة التي يدير بها مثل هذه النظام الذهني السلوك االجتماعي‬
‫الذي لوال ذلك لكان بال معنى‪ .‬فليس ثمة عالم اجتماعي موضوعي خارج تمثيالته الذهنية؛‬
‫حرة إال وهي ُمشكّلة من خالل هذه التمثيالت‪ .‬وما هذه في جوهرها سوى‬ ‫وليس ثمة ذات ّ‬
‫مثالية كانطية جديدة‪ .‬وقد شكّلت أيضا ً نقطة االنطالق في تفكير الكان‪ ،‬وألتوسر‪ ،‬وفوكو‪.‬‬

‫‪ -1-6‬أسطورة عن األسطورة‪:‬‬

‫كرس ليفي شتراوس كثيرا ً من أعماله الالحقة لتحليل األسطورة؛ حيث نجد تأثير النموذج‬ ‫لقد ّ‬
‫األلسني ال يزال حاضرا ً وعميقاً‪ ،‬إال أنّ ليفي شتراوس يعمل هنا مستخدما ً ضروبا ً من القياس‬
‫والمماثلة مهلهلة ورخوة إلى ح ّد بعيد‪ .‬فهو ينظر إلى األساطير المختلفة‪ ،‬التي تحكيها شعوب‬
‫القارة الواحدة‪ ،‬بوصفها جزءا ً من اللسان الواحد‪ ،‬ودليالً على أصناف أو مقوالت‬ ‫ّ‬ ‫مختلفة في‬
‫وبمعنى ما فإنّ هذه الرؤية مهلهلة ورخوة شأن عمليات السبر التي قام بها يونغ‬ ‫ً‬ ‫كونية‪.‬‬
‫ي‪ ،‬وإن تكن أق ٍ ّل مقروئية منها‪ .‬ووصف ليفي شتراوس عمله بأنه أسطورة عن‬ ‫للوعي الجمع ّ‬
‫األسطورة يبدو صائبا ً إلى ح ٍ ّد بعيد‪.‬‬

‫وعلى الرغم من ضخامة واتّساع أعمال ليفي شتراوس في ميدان األسطورة‪ ،‬إال أنّها تتّبع‬
‫بصورة أساسية مبادئ التحليل التي وردت في مقالته المكتوبة عام ‪“ 1955‬الدراسة البنيوية‬
‫لألسطورة”‪ .‬فقد اهت ّم ليفي شتراوس طوال حياته باألدب واألساطير‪ .‬وتعاون مع جاكوبسون‬
‫بنيوي لألدب‪ ،‬وأشهر مثال على ذلك هو تحليلهما قصيدة بودلير “القطط”‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫في تحليل‬
‫يبدو جاكوبسون شريكا ً مسيطراً‪ ،‬ذلك أنّ التقنية التحليلية المستخدمة شديدة الشبه بتقنيته‬
‫الخاصة التي استخدمها في تقطيع أوصال سونيتة لشكسبير ليكشف ما فيها من تقابالت‬
‫قواعدية وصوتية فضالً عن داللتها المفترضة‪.‬‬

‫أ ّما تقنية ليفي شتراوس الخاصة وشُغل يده فيظهران في تحليله ألسطورة أوديب؛ هذا العمل‬
‫الذي ينتمي إلى أعماله األولى‪ ،‬لكنه يبدي نقاط القوة والضعف في مقاربته عموماً‪ .‬فهو يقوم‬
‫بتقطيع األسطورة إلى أحداث (إبّيسودات) ويرتّبها في شبكة ذات بعدين‪ ،‬ليستخرج التقابالت‬
‫الهامة ذات الداللة التي يفترض باألسطورة أن تدور حولها‪ .‬فأسطورة أوديب من دون هذه‬
‫الشبكة تجري على النحو التالي‪:‬‬

‫قدموس يبحث عن أخته أوروبا التي اختطفها زيوس‪ .‬قدموس يقتل التنين‪ .‬السبارتوي‪،‬‬
‫المولودون من أسنان التنّين يبيدون بعضهم بعضاً‪ .‬البداكوس‪ ،‬والد اليوس‪ ،‬أعرج (؟)‪ .‬أدويب‬
‫يقتل أباه اليوس‪ .‬اليوس يعني أعسر (؟)‪ .‬أوديب يقضي على الهولة‪ .‬أوديب يعني ذا القدم‬
‫المتورمة(؟)‪ .‬أوديب يتزوج أ ّمه جوكاست‪ .‬إيتيوكليس يقتل أخاه بولينيس‪ .‬أنتيجون تدفن‬
‫ّ‬
‫المحرمات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫أخاها بولينيس‪ .‬منتهكة بذلك أحد‬

‫ي إلى ح ّد بعيد‪ ،‬ويستثني كثيرا ً من األحداث‬‫إنّ هذا التقسيم إلى أحداث هو تقسيم اعتباط ّ‬
‫القراء مهماً‪ .‬ومن ث ّم فإنّ ليفي شتراوس يضع‬
‫األخرى الواردة في المصادر األصلية م ّما يراه ّ‬
‫هذه األحداث في أعمدة أربعة‪ ،‬تبعا ً للمعايير التالية‪:‬‬

‫اإلفراط في تقدير صالت القرابة‪( :‬قدموس يبحث عن أوروبا؛ أوديب يتزوج جوكاست؛‬
‫ط من قَدر صالت القرابة‪( :‬السبارتوي يبيدون بعضهم بعضاً؛‬
‫أنتيجون تدفن بولينيس)؛ الح ّ‬
‫أوديب يقتل أباه؛ إيتيوكليس يقتل أخاه)؛ قتل الوحوش‪( :‬قدموس يقتل التنين؛ أوديب يقتل‬
‫الهولة)؛ صعوبة الوقوف بانتصاب‪( :‬البداكوس أعرج؛ اليوس أعسر؛ أوديب ذو قدم‬
‫متورمة)‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهذه المعايير أيضا ً اعتباطيّة إلى ح ٍ ّد بعيد‪.‬‬

‫وبعد ذلك يقوم ليفي شتراوس بتأويل فئتيه األخيرتين ‪-‬قتل الوحوش وعدم القدرة على‬
‫الوقوف بانتصاب – فيرى أنهما تعنيان على التوالي نفي التولّد الذاتي لإلنسان واستمرار‬
‫معنى عالئقي؛ “فاإلفراط في تقدير صالت‬ ‫ً‬ ‫التولّد الذاتي لإلنسان‪ .‬وهكذا يصبح لألسطورة‬
‫الرحم يكون من التفريط أو االستهانة في تقديرها على نحو ما يكون الجهد المبذول في سبيل‬
‫التخلّي عن عقيدة التولّد الذاتي من استحالة تحقيق هذا التخلّي”‪ .‬وتعبّر هذه األسطورة‪ ،‬كما‬
‫يقول ليفي شتراوس‪“ ،‬عن االستحالة التي يقع فيها مجتمع ينادي بتولّد اإلنسان ذاتيا ً… حين‬
‫يريد االنتقال من هذه النظرية إلى االعتراف بأنّ كالًّ منا قد ُو ِل َد في حقيقة األمر من اقتران‬
‫رجل بامرأة”‪.‬‬

‫والب ّد من القول إنني لست أصدّق كلمة واحدة من هذه القصة الطويلة‪ .‬وما لستُ أصدّقه على‬
‫وجه الخصوص هو أن يكون هذا المنهج منهجا ً علميا ً في االستقصاء‪ .‬فاألمور أو النقاط التي‬
‫يمكن للباحث أن يت ّخذ بشأنها قرارات اعتباطية تتعلق بمحتوى األسطورة أو تصنيف وحداتها‪،‬‬
‫ط كثيرة جداً‪ .‬كما يمكن‬‫أمور ونقا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بحيث تثبت النتائج ما يريده لها أن تثبته كائنا ً ما كان‪ ،‬هي‬
‫للباحث أن يطبخ الكتب بقدر ما يريد‪ .‬والحقيقة أنّ ما كتبه ليفي شتراوس عن األسطورة ربما‬
‫كان شيئا ً مطبوخا ً من هذا القبيل‪.‬‬

‫‪ -1-7‬البنية والدالول واللعب في خطاب العلوم اإلنسانية‪:‬‬

‫ي الحديث ‪-‬وربما القارئ أيضا ً‪ -‬لشدّة فجاجتها‪.‬‬ ‫الب ّد لردّة فعلي هنا من أن تصدم المن ّ‬
‫ظر األدب ّ‬
‫فالدافع المناهض للمنهج العلمي‪ ،‬الذي نجده لدى ليفي شتراوس‪ ،‬قد تطور إلى ح ّد بات فيه‬
‫النقّاد الموغلون في ذلك يتكلمون لغة أخرى تماماً‪ .‬وقد جاء التحول الحاسم في عام ‪،1967‬‬
‫مع مقالة ديريدا “البنية والدالول واللعب في خطاب العلوم اإلنسانية”‪ ،‬التي ألقاها في المؤتمر‬
‫ي الذي أشرنا إليه من قبل‪ ،‬إال ّ أنّ هاتين‬
‫ذاته الذي ألقى فيه نيفين دايسن ‪-‬هدسن نقده التجريب ّ‬
‫المقالتين تنتميان إلى عالمين فكريين مختلفين‪ .‬فدايسن ‪-‬هدسن يعتبر أنّ ليفي شتراوس ليس‬
‫تجريبيا ً بما فيه الكفاية ويرى أنّ النكهة التخييلية‪ ،‬واألدبية‪ ،‬والفلسفية التي تنبعث من‬
‫أشخاص أ ّميون في األنثروبولوجيا مثل‬
‫ٌ‬ ‫المداخل والمقدّمات التي يكتبها ألعمال شتراوس‬
‫جورج شتاينر وسوزان سونتاج هي نكهة مريبة تثير الشكوك‪ ،‬كما يرى الرأي ذاته في‬
‫الساللة الفلسفية الطويلة التي يدّعيها شتراوس نفسه‪.‬‬

‫ق في مشكلة هي مشكلة فلسفية في جوهرها‪ ،‬إال أنّه‪،‬‬ ‫أ ّما ديريدا فيرى أنّ ليفي شتراوس عال ٌ‬
‫بمعنى ما‪ ،‬ليس فيلسوفا ً بما يكفي ألن يحلّها‪ .‬فاإلثنولوجيا (واألنثروبولوجيا) علم أوروب ّ‬
‫ي‬
‫يستخدم مفاهيم أوروبية تقليدية (بما في ذلك‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ك ّل المفاهيم التي يستخدمها دايسن –‬
‫هدسن وجميع األنثروبولوجيين التجريبيين)‪ .‬وألن هذا العلم يدرس مجتمعات غير أوروبية‪،‬‬
‫فإنّ عليه أن يقدّم نقدا ً لك ّل مقوالت المركزية اإلثنية‪ ،‬بما في ذلك مفاهيم الع ْلميّة التي قام‬
‫يدي‬
‫يقوض علميّته الخاصة حتى لو كان بين ّ‬ ‫عليها هذا العلم ذاته‪ .‬وإال ّ فإنّ هذا العلم سوف ّ‬
‫يدي تلك التجريبية الف ّجة التي‬‫ممارس بارع ورفيع مثل ليفي شتراوس (فما بالك لو كان بين ّ‬
‫يمثّلها دايسن – هدسن)‪.‬‬

‫ق في محاكمته التقابل الميتافيزيقي التقليدي بين المحسوس‬ ‫ومن هنا فإن ليفي شتراوس مح ٌ‬
‫والمفهوم وفي تعاليه عليه‪ ،‬هذا التقابل الذي أربك العلوم اإلنسانية بأسئلة تتعلق بما إذا كانت‬
‫هذه العلوم تدرس أشيا ًء مادية‪ ،‬وسلوكا ً فيزيقياً‪ ،‬الخ‪ ،‬أم أنها تدرس المعنى؟ إال أنّ ليفي‬
‫شتراوس يجري هذه المحاكمة ويتعالى هذا التعالي عن طريق وضع نفسه‪ ،‬منذ البداية على‬
‫مستوى الدالول‪ ،‬في حين أن مفهوم الدالول ذاته‪ ،‬بوصفه اقترانا ً لدا ّل ومدلول‪ ،‬مشروط‬
‫بالتقابل بين المحسوس والمفهوم‪ ،‬ويتعذّر فهمه من غير هذا التقابل‪ .‬وهكذا فإن اإلثنولوجيا‪،‬‬
‫ي‪ ،‬ال تستطيع أن تقوم بوظيفتها إال عبر مفهوم أساسي من مفاهيم‬ ‫بوصفها نقدا ً للتفكير الغرب ّ‬
‫الميتافيزيقا الغربية‪.‬‬

‫وبالمثل‪ ،‬فإن ليفي شتراوس يميّز تمييزه الشهير بين نمطين من التفكير‪ .‬أولهما هو الذي‬
‫غ فيه مفاهيم جديدة بغية تفسير العالم‪ ،‬على النحو الذي يقوم فيه مهندس بصنع آلة من‬ ‫تُصا ُ‬
‫أجزاء جديدة‪ ،‬حسنة التصميم‪( ،‬ويُف َهم ضمنا ً من ليفي شتراوس أن هذا التفكير هو تفكير‬
‫ظر الحديث)‪ .‬أما الثاني فهو الذي تُستخدم فيه تصنيفات ُمعَدّة مسبقاً‪ ،‬كتلك التي ّ‬
‫تفرق بين‬ ‫المن ّ‬
‫نوع حيواني وآخر‪ ،‬ألغراض معرفية مختلفة تماما ً كالتصنيف االجتماعي للبشر‪ ،‬كما هو‬
‫الحال فيما جرت العادة قبل ليفي شتراوس على تسميته بالطوطمية‪( ،‬ويُفهم أنّ هذا التفكير‬
‫هو تفكير المجتمعات البدائية التي تفكّر بمصطلحات وحدود أسطورية)‪ .‬ويشبه هذه المنهج‬
‫تيسر له من قطع قديمة تبقّت‬‫ّ‬ ‫الفكري عمل ال ُم َحرتِق (‪ )Bricoleur‬الذي يصنع أشياءه مما‬
‫عن عمل آخر‪ .‬غير أن ديريدا يشير إلى أن جميع مفاهيمنا متبقيّة عن عمل آخر‪ .‬وأننا نبدأ‬
‫جميعا ً بمفاهيم جاهزة‪ ،‬أُنتجت في األصل ألغراض أخرى‪ ،‬ونعدّلها لتوافق ما نفعله اآلن‪.‬‬
‫فليس هناك إذا ً نوع خاص وبدائي من التفكير شبيه بالحرتقة (‪ ،)bricolage‬إنّما ك ّل تفكير‬
‫هو حرتقة‪.‬‬

‫وديريدا في غاية السرور ألن األمر كذلك‪ .‬وما يروقه في الحرتقة ليس علميتها‪ ،‬بل قوتها‬
‫األسطورية ‪-‬الشعرية‪ .‬وما يروقه في معالجة ليفي شتراوس ألسطورة من أساطير شعب‬
‫ئ والمطبوخ”‪ ،‬هو غياب أية‬ ‫البورورو‪ ،‬في عمل له متأخر ويحمل عنوانا ً مالئما ً تماماً‪“ ،‬الني ّ‬
‫أي مكان‪ ،‬نظرا ً لغياب أي‬
‫أسطورة مرجعية ذات امتياز‪ ،‬وإمكانية مباشرة التحليل من ّ‬
‫سس يؤخذ كمسلّمة أو بداهة‪ .‬إال ّ أنّ ذلك يقتضي أن تضرب صفحا ً عن‬ ‫“مركز”‪ ،‬أو مبدأ مؤ ّ‬
‫ي؛ فالخطاب البنيوي في األساطير هو خطاب أسطوري الشكل‪ ،‬إنتاج‬ ‫ي أو الفلسف ّ‬
‫الخطاب العلم ّ‬
‫أسطورة عن األسطورة‪.‬‬
‫ستكون لنا عودة الحقا ً إلى هذه المناهضة الميتافيزيقية للميتافيزيقا والتي تشكّل أساس موقف‬
‫ديريدا‪ .‬أ ّما اآلن فيهمنّي تأثيرها‪ .‬فما إن أصبحت صيغة التأويل المناهضة للعلم هذه ذات نفوذ‬
‫في بعض األنحاء‪ ،‬خاصةً األدبية‪ ،‬حتى اختفت تماما ً طروحات ليفي شتراوس األصلية‪ .‬ومن‬
‫األمثلة على ذلك هذا التعليق في عام ‪ 1982‬على معالجة ليفي شتراوس أسطورة أوديب‪:‬‬

‫غير أنّ هذا اإلزاحة وهذا البحث عن محتوى كامن‪ ،‬أو عن “بنية عميقة”‪ ،‬ال يمكنهما أن‬
‫ي‪ .‬وإذا‬‫يفترضا مسبقا ً وجود معنى جوهري إال بقدر ما يمكنهما أن يفترضا وجود معنى حرف ّ‬
‫ما كان ليفي شتراوس قد اكتشف أن أسطورة أوديب تعبّر في النهاية عن التقابل بين التولّد‬
‫الذاتي والتكاثر ثنائي الجنس‪ ،‬فإنّ ذلك ال يعني أنّ من الممكن اختزال األسطورة إلى هذه‬
‫النص السيميائية على‬
‫ّ‬ ‫الداللة المحددة‪ .‬فقيمة التحليل تكمن بالدرجة األولى في تفكيك عالقات‬
‫جميع المستويات‪ ،‬تماما ً كما تكمن أهمية التقابل بين التولّد الذاتي والتكاثر ثنائي الجنس في‬
‫الدور الذي يلعبه هذا التقابل في نظام الشيفرات الثقافية أو السنن الثقافية بأكملها ‪-‬االتصالية‪،‬‬
‫والقانونية‪ ،‬واالقتصادية – حيث يصبح مجرد دا ّل آخر‪.‬‬

‫(ألوين باوم‪ :‬سبانوس وآخرون ‪ ،1982‬ص‪.)91‬‬

‫بأي حال من األحوال‪ ،‬وهو‬ ‫رب قائل يقول إنّ باوم‪ ،‬كاتب هذا المقطع‪ ،‬ليس تفكيكيا ً “جامحا ً” ّ‬ ‫ّ‬
‫يزعم أنّه “يشارك في السعي وراء شعريّة بنيوية‪ ،‬أو نظرية سيميائية بوج ٍه عام”‪ .‬ولكن‬
‫الحظوا كم هي مهلهلة واستعارية هذه النظرية التي يسعى وراءها‪ .‬فهو يستعير مصطلح‬
‫“البنية العميقة” من القواعد التوليدية ‪ ،1965‬التي تستخدمه كمصطلح تقني‪ ،‬إال أنّه يضعه‬
‫ي‪ .‬وما يقلقه أساسا ً ليس تفسير األشياء‪ ،‬بل‬ ‫بين أقواس ليشير أنه ال يستخدمه بمعناه التقن ّ‬
‫ب كهذا سوف يبدو عتيقا ً ومن غير الالئق أن‬ ‫تفادي أن يكون اختزاليا ً إزاءها‪ .‬وفي سياق خطا ٍ‬
‫علم من علوم المجتمع ينبغي أن تقوم على أسس تجريبية‪ ،‬وأن تكون‬ ‫نطالب بأنّ نظريةً في ٍ‬
‫لديها القدرة الكافية على التفسير‪ ،‬وأن تكون اختزالية؛ بمعنى أن تكون أبسط من الوقائع التي‬
‫تزعم تفسيرها؛ وسيبدو سوقيا ً أن نطالب بأال ّ نس ّمي شيئا ً “اكتشافا ً” إال إذا كنّا نعتقد بأنّه‬
‫حقيقي‪.‬‬

‫‪-1-8‬األنثروبولوجيا والقواعد التوليدية‪:‬‬

‫إذاً‪ ،‬لقد حجبت عنّا االفتراضات والمزاعم الحديثة كالً من الطابع الحقيقي للعمل الذي جرى في‬
‫األربعينيات والخمسينيات واإلمكانيات الحقيقية التي ينطوي عليها‪ .‬فقد كان هذا العمل علميا ً‬
‫إلى ح ّد بعيد في طابعه وفي غاياته‪ ،‬على الرغم من الطبيعة اإلنسانوية التقليدية لكثير من‬
‫مادته‪ .‬وكان النجاح بالنسبة له يقوم بالدرجة األولى على تقديم توصيفات بنيوية نظامية‬
‫لعالقات القرابة‪ ،‬واألسطورة‪ ،‬والفولكلور‪ ،‬والشعر‪ ،‬الخ‪ .‬أ ّما على مستوى أعلى‪ ،‬فكان النجاح‬
‫ضرب من‬ ‫ٌ‬ ‫يقوم على اكتشاف مجموعة من المقوالت الكونيّة في اشتغال العقل البشري‪ ،‬وهذا‬
‫كانطية بيولوجية أكثر منه كانطية فلسفية‪( .‬وقد قبل ليفي شتراوس توصيف موقفه بأنه‬
‫“كانطية دون ذات متعالية”)‪.‬‬

‫وثمة تماثل دقيق هنا مع قواعد شومسكي التوليدية‪ ،‬التي بدأ تطورها بعد أكثر من عشر‬
‫سنوات على أنثروبولوجيا ليفي شتراوس‪ .‬وها نحن من جديد أمام وقفة علمية واعية لذاتها‬
‫حقاً؛ وال تمكن مقارنة تف ّحصها لعلميتها بما يقوم به أي علم اجتماعي آخر على هذا الصعيد‪.‬‬
‫ي‪ ،‬على نح ٍو أنجح بكثير من ك ّل ما قدّمته‬ ‫كما أننا أمام ازدهار هائل للتوصيف األلسن ّ‬
‫األنثروبولوجيا‪ ،‬األمر الذي يعود من جهة أولى إلى ما قام به شومسكي من اكتشافات تقنية‬
‫تتعلّق بالبنى الرياضية التي تبديها اللغة‪ ،‬كما يعود من جهة أخرى إلى حقيقة أنّ وصف اللغة‬
‫ت ألسنية هي خصائص‬ ‫أبسط من وصف المجتمعات‪ .‬وها نحن من جديد أمام سعي ٍ وراء كليّا ٍ‬
‫المرة إن بعضا ً من هذه الخصائص قد أضحى معروفاً؛‬ ‫للعقل البشري؛ حيث يمكن القول هذه ّ‬
‫كحقيقة أنّ اللغات ال يمكن أن تنبني على نموذج بسيط من “التسلسل واالختيار” (قواعد‬
‫الحالة المتناهية)‪.‬‬

‫أ ّما ما يميّز القواعد التوليدية عن األنثروبولوجيا البنيوية فهو عالقتها بالتجريبي‪ ،‬فك ٌل من‬
‫هذين الفرعين كان قد رفض الفكرة التجريبية القائلة بأنّ موضوع البحث في العلوم‬
‫ي‪ ،‬واعتبر أنّ هذا الموضوع هو التمثيالت الذهنية‪ .‬وهذا ما‬ ‫االجتماعية هو السلوك الفعل ّ‬
‫عرضهما كليهما إلى هجوم عنيف شنّته المدارس التجريبية القديمة‪ .‬غير أنّ القواعد التوليدية‬ ‫ّ‬
‫أثبتت أنها أقدر بما ال يقاس على تقديم توصيفات للواقع التجريبي شاملة وقابلة لالختبار‪.‬‬
‫وعدد القواعديين التوليديين الذين قاموا بما يكافئ العمل الميداني الواسع (كوصف اللغات‬
‫صالً‪ ،‬على سبيل المثال) هو أكبر بكثير من عدد األنثروبولوجيين البنيويين‬ ‫المختلفة وصفا ً مف ّ‬
‫الذين تصدّوا للعمل الميداني‪ .‬واألنثروبولوجيا البنيوية‪ ،‬على َه ْدي ٍ من زعيمها‪ ،‬لم تتجه صوب‬
‫شرط األلسنية العلمية‪ ،‬بل بقيت أو عادت من جديد موقفا ً فلسفياً‪ .‬ولذا فقد كانت عرضةٌ‬
‫النتقادات ديريدا الفلسفية المحضة‪ ،‬بخالف القواعد التوليدية‪.‬‬

‫والحقيقة أنه كان ينبغي أن أقول إن انتقادات ديريدا تنطبق على القواعد التوليدية كما تنطبق‬
‫على األلسنية البنيوية‪ ،‬بل وتنطبق كما يبدو لي على ك ّل بحث عقالني في الوقائع‪ .‬إال أنّ قوة‬
‫النقد الفلسفي المحض لعلم من العلوم تختلف تماما ً تبعا ً لما إذا كان لدى هذا العلم نتائج‬
‫واسعة يقدّمها أم ال‪.‬‬

‫ي؟ ليس مدهشا ً أن‬‫والسؤال المطروح هو إلى أين يؤدّي علم يعمل بمثل هذا التو ّجه المعرف ّ‬
‫نجد مثل هذا العلم مترافقا ً مع ثالثة أنماط مزدهرة من البحث العلمي الحديث‪ ،‬هي الدراسات‬
‫المعرفيّة في علم النفس‪ ،‬واألبحاث الفيزيولوجية العصبية‪ ،‬والمحاكاة الحاسوبية للسلوك‬
‫البشري في أبحاث الذكاء االصطناعي‪( .‬نظريات شومسكي الباكرة عن اللغة هي أجزاء‬
‫أساسية من النصوص العلمية الحاسوبية)‪ .‬ويبدو لي أن مثل هذا البحث هو من بين أش ّد‬
‫أي اهتمام‬‫ظري األدب عن ّ‬ ‫األبحاث أهمية في العالم كلّه اليوم؛ وما يثير حيرتي هو انصراف من ّ‬
‫ي اهت ّم بعلم النفس الخشن منذ أيام إ‪.‬أ‪.‬ريتشاردز؟)‬ ‫أي من ّ‬
‫ظر أدب ّ‬ ‫به في العادة‪( .‬هل هناك ّ‬
‫واعتقادي‪ ،‬على أي حال‪ ،‬أنّ العلوم المعرفيّة هي الوريث الحقيقي ألهداف البنيوية األولى‪.‬‬

‫غير أنّ السيميائيين المحدثين غالبا ً ما تقلقهم مثل هذه األهداف التي يرونها أهدافا ً وضعيّةً‬
‫ساذجة أو رجعية سياسيا ً وربما متنكّرة للحرية اإلنسانية؛ وتراهم يقدّمون أسبابا ً العتقادهم‬
‫بأن من المستحيل تحقيقها تتّصف بأنها أسباب ميتافيزيقية وغير مقنعة على اإلطالق‪ .‬ولقد‬
‫أضحت أعمال ديريدا كتاب هذه المدرسة المقدّس‪ .‬غير أنّه ما من مجال إلنكار أن البنيويين‬
‫األوائل قد أرادوا أن يأتوا إلى العلوم اإلنسانية بمنهج علمي صلب واعتقدوا أن لديهم نموذجا ً‬
‫مناسبا ً لهذا المنهج هو النموذج الذي قدّمته األلسنية البنيوية‪.‬‬

‫ومقاالت ليفي شتراوس الباكرة حاسمة تماما ً بهذا الشأن‪ .‬إال أن مقاالته الالحقة تمثّل نقلة‬
‫حاسمةً أيضا ً بعيدا ً عن هذه المقاربة العلمية الصارمة باتجاه ما أصبح في النهاية ضربا ً من‬
‫المقاربة األسطورية‪ ،‬كما يعترف هو نفسه‪ .‬وربما كان من العسير أن نحدد ما إذا كان الخالف‬
‫مع سارتر‪ -‬بعدائه الشديد لمقاربة اإلنسان مقاربةً أنثروبولوجية موضوعية‪ -‬هو الذي أدّى‬
‫إلى إعادة طبع المشروع بأكمله بالطابع الفلسفي؛ أو ما إذا كان عمل ليفي شتراوس الباكر في‬
‫ي؛ أو‬‫القرابة لم يصمد أمام التجريب فكان الب ّد من إعادة تأويله تأويالً مثاليا ً بمفعول ارتجاع ّ‬
‫ما إذا كانت هناك قوى عميقة الجذور في الثقافة الفرنسية‪ ،‬أو ربما في الموقع االجتماعي‬
‫المه ّمش للمثقفين األدبيين في أي بلد حديث‪ ،‬هي التي تعادي الدراسات التجريبية التي تدور‬
‫حول اإلنسان‪.‬‬

‫فبصرف النظر عن السبب‪ ،‬كانت النتيجة أنّ البنيوية‪ ،‬في هذه المرحلة الثالثة التي شهدت‬
‫محاوالت طموحة لتنظيم جميع حقول البحث تبعا ً لمبادئ مستمدةً في جوهرها من األلسنية‪ ،‬قد‬
‫انقلبت وتحولت من استراتيجية للبحث في العلوم االجتماعية إلى موقف فلسفي مناهض‬
‫لإلنسانوية عموما ً وللوجودية السارترية على وجه الخصوص‪ ،‬موقف قاصر‪ ،‬ومستهتر‪ ،‬بل‬
‫ي‪ .‬ولهذا الغرض بالذات فإنّ دو سوسور‪ ،‬الذي ينظر‬ ‫مترفّع وازدرائي‪ ،‬في تعامله مع التجريب ّ‬
‫إليه اآلن على أنّه السلف الوحيد لأللسنية البنيوية (ربما ألنه كتب بالفرنسية)‪ ،‬قد خضع لنوعٍ‬
‫من إعادة التأويل جعلت منه فيلسوفاً‪ ،‬معنيا ً أساسا ً بطبيعة التجربة الذاتية‪ ،‬أو حتى بمكانة‬
‫العقل الالواعي‪ .‬وهو دور كان كفيالً بأن يثير دهشته واستغرابه إلى أبعد حدّ‪ ،‬كما يحتاج إلى‬
‫مقطع آخر كي نصفه‪.‬‬

‫سن‬
‫‪-2‬البنيوية الرفيعة‪ :‬نظرية الذات وسوسور الجديد ال ُم َح ّ‬

‫‪-2-1‬المواجهة مع الفلسفة‪:‬‬
‫كانت المغامرة الكبرى التي خاضتها البنيوية في فرنسا هي مواجهتها مع الفلسفة الفرنسية‪،‬‬
‫التي أعني بها بصورة أساسية الفلسفة الظاهراتية والوجودية إضافةً إلى جانب هيغل ّ‬
‫ي يتحدّر‬
‫من المحاضرات التي ألقاها كوجيف قبل الحرب وطبعات فلسفية متكلّفة من ك ّل من ماركس‬
‫وفرويد‪ .‬ولست أريد هنا أن أضفي طابعا ً ملحمياً‪ ،‬أو تاريخيا ً عالمياً‪ ،‬على هذه المعركة‬
‫الفكرية‪ .‬فالقول إنّ الفلسفة الفرنسية في أواخر الخمسينيات قد أنجبت بنيوية روالن بارت هو‬
‫بال ريب كالقول إنّ السفوح قد تمخضت فأنجبت فأراً‪ .‬ذلك أنّ الجبلين الراسيين في خلفية هذا‬
‫القياس أو التشبيه هما هوسرل وهيدغر‪ .‬وهما يبدوان لي فيلسوفين عظيمين أصيلين‪ ،‬أفلحا‬
‫في طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة المعرفة والوجود على التوالي‪ ،‬وبالتالي حول طبيعة‬
‫الفلسفة ذاتها‪ .‬وليس استخفافا ً بسارتر أو حتى بميرلوبونتي أن نقول إن عملهما‪ ،‬على الرغم‬
‫من أهميته وأصالته‪ ،‬لم يتع َّد توطين فلسفة الوجود وعلم الظاهرات في البيئة الفرنسية وفي‬
‫ب فرنسي‪.‬‬
‫إها ٍ‬

‫ي‪.‬‬
‫ولقد بدت البنيوية لهذه الطبعة الوطنية من الوجودية وعلم الظاهرات بمثابة منافس محل ّ‬
‫وبقدر ما يتعلق األمر بالنظرية األدبية‪ ،‬فإنّ روالن بارت هو البنيوي والسيميولوجي الفرنسي‬
‫ق األمر أساسا ً بمثا ٍل للحوار بين الفلسفة والبنيوية‪ ،‬فربما يكون‬ ‫األكثر شهرة‪ .‬أ ّما حين يتعل ّ‬
‫ّ‬
‫على المرء أال يختار بارت كممثل لهذه األخيرة‪ .‬وقد يكون من األفضل أن نختار ليفي‬
‫كرسه لفلسفة‬ ‫البري لميرلوبونتي‪ ،‬وض ّمنه فصالً ختاميا ً ّ‬ ‫شتراوس‪ ،‬الذي أهدى كتابه “الفكر ّ‬
‫سارتر‪ .‬كما يمكن أن نختار الكان‪ ،‬الذي تأثّر تأثّرا ً عميقا ً بهيغل وهيدغر وتأثّرا ً طفيفا ً بليفي‬
‫شتراوس‪ ،‬وقدّم طبعة بنيوية مزعومة من الالوعي الفرويدي وضعها في وجه تنكّر سارتر‬
‫للوعي ورفضه له‪ .‬أو قد يكون الخيار هو لوي ألتوسر‪ ،‬الذي قدّم “ماركسيةً بنيوية” هي‪ ،‬من‬
‫الوجودي على الماركسية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بين أشياء أخرى‪ ،‬ثق ٌل يقابل تنويع سارتر‬

‫ظر‪ ،‬ربما كان األق ّل اهتماما ً بالفلسفة بين‬ ‫أ ّما بارت‪ ،‬كما أرى‪ ،‬فليس من هذه العصبة‪ .‬فهو كمن ّ‬
‫البنيويين الكبار‪ .‬ومن بين عمليه النظريين الرئيسين‪“ ،‬مبادئ السيميولوجيا” و”س‪/‬زد”‪،‬‬
‫نجد أنّ األول‪ ،‬الذي كان له األثر الكبير بين السيميائيين‪ ،‬لم يكن من الناحية الفلسفية أكثر من‬
‫ت لسوسور‪ ،‬في حين كان “س‪/‬زد”‪ ،‬في العديد من النواحي‪ ،‬وكما سأحاول أن‬ ‫تكييف باه ٍ‬
‫ي منه إلى الفلسفة أو العلم‪ .‬كما أنّ تعامل بارت مع النظرية‬ ‫ي حداث ّ‬ ‫أبيّن‪ ،‬أقرب إلى عمل أدب ّ‬
‫ي‪ .‬لقد كانت هذه هي‬ ‫ي يتوق إلى نيل االحترام األكاديم ّ‬‫هو إلى ح ّد كبير تعامل ناقد أدب ّ‬
‫اهتماماته األساسية في وقت من األوقات‪ ،‬غير أنّ من الخطأ أن نرى أنها منجزاتها الكبرى‪.‬‬

‫بيد أنّ البيئة الثقافية الفرنسية في أواخر الخمسينيات وفي الستينيات‪ ،‬كانت تفرض حتى على‬
‫عمل رجل مثل بارت أن يقدّم إطارا ً فلسفيا ً يُظهر ما كان من الواجب االرتكاس ضدّه وإظهار‬
‫ردّة الفعل عليه‪ .‬وبارت لم يكن أبدا ً غير مبا ٍل (كعادة النقّاد اإلنجليز) باألزياء الفلسفية في‬
‫أيامه‪ ،‬أو بما كان االختصاصيون في األنثروبولوجيا‪ ،‬أو التحليل النفسي‪ ،‬أو الفلسفة‬
‫الماركسية يفعلونه بها‪ .‬فقد ألقى ليفي شتراوس‪ ،‬والكان‪ ،‬وألتوسر ظالال ً متعددة األلوان على‬
‫السيميولوجيا والنظرية األدبية بتقديمهم نظريات في الثقافة‪ ،‬والذات‪ ،‬واأليديولوجيا‪ .‬وفي هذه‬
‫ي‪ ،‬بل كفيلسوف‬ ‫سكَ بسوسور وأعيدت قراءته‪ ،‬ال كألسن ّ‬
‫ي علم ّ‬ ‫البيئة الفكرية بالذات كان أن أ ُم ِ‬
‫ي لديه ما يقوله عن الذات بل وعن الالوعي‪.‬‬ ‫سيميولوج ّ‬

‫وما أقصده بـ “الفلسفة الفرنسية” هو شيء أوسع من أعمال ميرلوبونتي وسارتر‪ ،‬وإن كان‬
‫كرسها في الثالثينيات لكتاب هيغل‬‫يشمل هذه األعمال‪ .‬ولع ّل محاضرات ألكسندر كوجيف التي ّ‬
‫“علم ظاهرات الروح” وتركت أثرا ً منقطع النظير هي التي أذّنت بمبادئ هذا التقليد على نح ٍو‬
‫شديد الوضوح‪ .‬وإليكم هذا المقطع من ترجمة الفصل الرابع في كتاب هيغل والتعليق عليه‪،‬‬
‫وهو فصل يدور حول جدلية السيد والعبد‪:‬‬

‫اإلنسان وعي للذات‪ .‬فهو واعٍ لذاته‪ ،‬واعٍ لواقعه اإلنساني وكرامته اإلنسانية؛ وهو بهذا‬
‫يختلف اختالفا ً جوهريا ً عن الحيوان‪ ،‬الذي ال يمضي إلى أبعد من مستوى عاطفة الذات‬
‫البسيطة‪ .‬ويصبح اإلنسان واعيا ً لذاته في اللحظة التي يقول فيها ‪-‬للمرة األولى‪“ -‬أنا”‪.‬‬

‫ت محض تواجه‬ ‫مجرد المعرفة المنفعلة أو السلبية‪ ،‬معرفةُ ذا ٍ‬


‫ّ‬ ‫وما يؤدي إلى ذلك ليس‬
‫موضوعا ً ما‪ .‬فهذه ال تؤدّي إلى وعي الذات؛ وال يمكن أن تؤدي إال ّ إلى ترك الذّات سابحةً‬
‫خارج نفسها‪ ،‬ال تعرف سوى الموضوع‪ .‬ما يؤدّي إلى وعي الذات هو نوع من الرغبة‬
‫اإلنسانية التي تستر ّد الذات إلى نفسها وتدعوها إليها (ولو اقتصرت هذه الرغبة على الرغبة‬
‫باألكل)‪.‬‬

‫يحول الوجود‪ ،‬المتكّشف لذاته بذاته في معرف ٍة حقّة‪ ،‬إلى “موضوع” متكشّف‬ ‫الرغبة هي ما ّ‬
‫ت تختلف عن الموضوع و”تقف قبالته”‪ .‬إنّ اإلنسان ليتشكّل ويتكشّف ‪-‬لنفسه‬ ‫لـ “ذات” بذا ٍ‬
‫ولآلخرين‪ -‬في رغبته وبرغبته – واألص ّح القول‪ ،‬بوصفه رغبته – على أنّه “أنا”‪ ،‬على أنه‬
‫األنا التي تختلف جوهريا ً ع ّما هو ليس أنا وتقف قبالته جذرياً‪ .‬فاألنا “اإلنسانية” هي أنا‬
‫رغبة أو أنا الرغبة‪.‬‬

‫‪-2-2‬الكان وإعادة قراءة فرويد قراءة فلسفية ‪:‬‬

‫كان للهيدغرية والهيغلية نصف الماركسية التي قدّمها كوجيف (سواء أُخ َذت منه بصورة‬
‫مباشرة أو غير مباشرة) تأثيرها الهائل في الفكر الفرنسي في األربعينيات والخمسينيات‪.‬‬
‫وكان جاك الكان‪ ،‬الذي التحق بمحاضرات كوجيف‪ ،‬قد أعاد قراءة كامل أعمال فرويد وأعاد‬
‫التفكير بها على نح ٍو شديد التدقيق‪ ،‬في ضوء مواقف فلسفية مثل هذه‪ ،‬منذ عام ‪ .1936‬وقد‬
‫انطوت إعادة القراءة التي قام بها الكان على اإلطاحة بالجوانب الميكانيكية في مذهب فرويد‪،‬‬
‫وعلى وضع مبدأ الواقع الفرويدي تحت طائلة الشك‪ ،‬وأصبح موضوع هذا العلم هو الواقع‬
‫النفسي وليس الموضوع‪ ،‬وقُ ِص َر موضوع البحث في علم النفس على وقائع تتعلق بالرغبة‪.‬‬

‫والتمييز الذي أقامه الكان بين الذات اإلنسانية واألنا الفرويدية هو‪ ،‬باعتقادي‪ ،‬ثمرة لهذا‬
‫النمط من التحليل‪ .‬ومن المعروف أن الكان قد اتخذ موقفا ً متطرفا ً من األنا الفرويدي‪ .‬ففي‬
‫حين كان فرويد قد أعطى لألنا وظيفة هامة تتمثّل في التفاوض مع الواقع الخارجي‪ ،‬فإنّ الكان‬
‫نظر إلى األنا بوصفه نتاجا ً لسوء التعرف وإلضفاء طابع موضوعي زائف في مرحلة الطفولة‬
‫يمر أثناء نموه في طور أطلق عليه اسم “طور المرآة”(وهو‬ ‫األولى‪ .‬فالطفل‪ ،‬تبعا ً لالكان‪ّ ،‬‬
‫طور لم تُشر إليه آنا فرويد أو ميالني كالين‪ ،‬أو أي طبيب من أطباء األطفال خارج مدرسة‬
‫الكان)‪ .‬وفي هذا الطور يتعلّم الطفل أن يتعرف ذاته‪ ،‬أو أن يتخيلّها على األقل‪ ،‬عبر انعكاسها‪،‬‬
‫ي (الموجود في االستيهام)‬ ‫بوصفها كينونة موحدة‪ .‬وعندئذ ينشأ األنا بوصفه ذلك الكيان الخيال ّ‬
‫الذي يلعب بعد ذلك دور عامل سوء التعرف وإضفاء الطابع الموضوعي الزائف‪ .‬ومن‬
‫الواضح أن الكان يعارض معارضة مباشرة تلك المدارس التحليلية التي ترى أن غاية التحليل‬
‫هي تعزيز األنا وتحسين حالة التكّيف مع الواقع االجتماعي الخارجي وك ّل هذا قبل أن يدخل‬
‫الكان مرحلته “البنيوية”‪.‬‬

‫لقد طرأ على البنيوية تغير جديد تماما ً مع دخولها البيئة الفلسفية الفرنسية‪ ،‬حيث تحولت من‬
‫نظرية عن اللغة‪ ،‬واألدب‪ ،‬والمجتمع وما شابه إلى نظرية في بنية “الذات” التي تختبر تلك‬
‫الموضوعات من لغة‪ ،‬وأدب‪ ،‬ومجتمع وما شابه‪ .‬ولقد أشرنا من قبل إلى ما كان لدى ليفي‬
‫بنى كونية للعقل البشري‪ .‬وقد تبنّى‬ ‫شتراوس من نزعات وميول كانطية‪ ،‬أو دافع إلى اكتشاف ً‬
‫الكان بعض أفكار ليفي شتراوس‪ ،‬بطريقة غائمة بعض الشيء‪ ،‬وجعلها فرويدية‪ .‬فقد بدا‬
‫معقوال ً أن يت ّم ربط المرور عبر المرحلة األوديبية من النمو (مرحلة الرغبة بقتل األب‬
‫والزواج من األم)‪ ،‬التي هي في النظرية الفرويدية بوابة البلوغ اإلنساني‪ ،‬مع تابو الزنا‬
‫بالمحارم عند ليفي شتراوس‪ ،‬الذي يمثّل مصدر الثقافة اإلنسانية‪ .‬فكالهما يفيد في تفريق‬
‫اإلنسان عن الحيوان‪ .‬كما أصبح عالم الثقافة الليفي شتراوسي‪ ،‬الذي يقابل الطبيعة‪ ،‬عالم‬
‫“الرمزي” الالكاني‪ ،‬الذي يبدو لالكان متماديا ً كليا ً أو جزئيا ً مع عالم اللغة‪ .‬فالدخول إلى هذا‬
‫العالم هو ما ينقل العضوية أبعد من المرحلة الحيوانية وينتج الذات اإلنسانية‪.‬‬

‫ق أن ثمة فجوة مفاهيمية هنا‪ ،‬لعلّها لم تكن واضحة لالكان‪ ،‬وهي فجوة أجدها واسعة‬ ‫والح ّ‬
‫وعسيرة‪ .‬فاهتمام الكان بوصفه محلالً نفسانيا ً هو بالكالم‪ .‬وقد أقام في البداية تمييزا ً بين كالم‬
‫ي‪ .‬وهو تمييز‬ ‫ممتلئ ينتمي إلى الذات وكالم فارغ يصدر عن األنا وينتمي إلى مجال الخيال ّ‬
‫يشبه ما أقامه هيدغر بين خطاب يفصح عن “فهم الكينونة‪ -‬في – العالم” و”كالم تافه” ال‬
‫يعدو أن يكون ثرثرة اجتماعية‪ .‬والكالم الفارغ هو شيء يقوم المحلّل بتأويله وليس‬
‫باالستجابة لمحتواه‪ ،‬وظهور الكالم الممتلئ هو أول ما يشير لالّكاني في بدايات الالكانية بأنّ‬
‫المريض قد شُفي‪ .‬وفي حين يحظى هذان التمييزان بأهمية بالغة عند الكان‪ ،‬فإنهما بالنسبة‬
‫أللسني ‪-‬كسوسور أو جاكوبسون‪ -‬ليسا سوى طريقتين في استخدام اللغة ذاتها‪ .‬وهكذا فإنّ‬
‫مفهوم اللغة لدى األلسني ال يقدّم لالكان أية فائدة في الواقع‪ .‬إال ّ أنّ هذا المفهوم هو ما‬
‫نحتاجه لبناء مجال الرمزي بك ّل ما له من أهمية‪ ،‬إذ تتشكّل الذات فيه‪.‬‬

‫والحقيقة أنّ مناقشة مسائل كهذه هي أمر بالغ الصعوبة‪ .‬فكتابات الكان المنشورة هي كتابات‬
‫برقية‪ ،‬مبرمجة‪ ،‬فضالً عن كونها عقائدية جامدة‪ ،‬وتترك انطباعا ً في بعض األحيان بأنها‬
‫ضروب من المحاكاة لعمليات التفكير الالواعية (كانت لالكان صالته بالسرياليين‪ ،‬وظ ّل على‬
‫تعاطفه معهم)‪ .‬وما يالحظه المرء هو أن هذه الصفات التي ميّزت كتابات الكان قد الزمتها منذ‬
‫الخمسينيات وكانت تشتد وتتعمق كلما تقدّم الزمن‪ .‬أ ّما حلقات البحث التي أدارها الكان في‬
‫أي قول واضح عن‬ ‫الخمسينيات فكانت أكثر وضوحاً‪ ،‬غير أن من الصعب أن نجد فيها أيضا ً ّ‬
‫هذه الفرضيات المذكورة منذ قليل أو عن غيرها‪ ،‬فما بالك بأي اعتبار يتعلّق بإثبات هذه‬
‫الفرضيات أو بدحضها‪ .‬وأنا شخصيا ً ال أملك أي دليل أو إثبات على أنّ الكتساب اللغة (مثالً)‬
‫أية عالقة بالمرور في عقدة أوديب‪ ،‬على الرغم من دراستي المكثفة لكليهما‪ .‬ويضاف إلى كل‬
‫ذلك أنّ الصيغ التي يقدمها الكان غامضة جداً‪ ،‬ولذا لم يتضح لي إلى اآلن ما إذا كان لهذا‬
‫أي تأثير على دعاويه ومزاعمه‪ .‬ويبدو أنّ من المستحيل أن نعلم‬ ‫االفتقار إلى األدلة والبراهين ّ‬
‫ما إذا كان لدعاوي الكان المتعلقة بما يدعوه اسم األب وباللغة أية عالقة بالدراسات التي يقوم‬
‫بها نفساني ألسني في موضوع اكتساب اللغة‪ ،‬مع أن من المفترض أن تكون هنالك صلة ما‬
‫إذا ما كان الكان منكبا ً حقا ً على عمل علمي يتعلّق بنمو الطفل وتطوره‪ .‬وغياب هذه الصلة مع‬
‫ي خشن هو شيء ال يزال يقلق كل من يلتحق في التسعينيات بحلقات بحث تتناول‬ ‫علم ألسن ّ‬
‫الكان (لقد التقى شومسكي الكان في أواخر حياته ووصفه بأنّه د ّجال متعمد يقوم بأالعيبه في‬
‫أي ح ّد من السخف يمكنه أن يصل بها) (شومسكي‬ ‫األوساط الثقافية الباريسية ليرى إلى ّ‬
‫‪.)1989‬‬

‫‪-2-3‬النظرية البنيوية في الذات اإلنسانية‬

‫ي‪ ،‬في الخمسينيات‪ ،‬أن يُنظر إلى‬ ‫على الرغم من ك ّل ما سبق‪ ،‬فإنّه لم يكن من غير العقالن ّ‬
‫ليفي شتراوس والكان على أنهما يضعان أساسا ً لعلم جديد عن اإلنسان‪ ،‬علم يُفترض به أن‬
‫يجمع في وقت واحد كالً من الموضوعية وتناول الذاتية اإلنسانية تناوال ً بنيوياً‪ .‬بل كان من‬
‫الممكن أيضا ً أن يُنظر إليهما بوصفهما تجسيدا ً للتناول “العلمي” للطبيعة اإلنسانية‪ ،‬بعكس‬
‫أتباع الوجودية البعيدين عن العلم‪ ،‬على الرغم من أنّ سلوكيا ً أميركيا ً ربما كان سيرى أنّ كال‬
‫طرفي هذه المناظرة الفرنسية مجرد مجانين ‪.‬‬

‫والحقيقة أننا لو بنينا‪ ،‬بأنفسنا وعلى أساس فجّ‪ ،‬نوعا ً من وجهة النظر الوجودية والظاهراتية‬
‫النمطية البدئية‪ ،‬فإن ذلك سيكون أكثر فائدة من الدراسة المدرسية لسارتر وميرلوبونتي في‬
‫تبيان ما كانت البنيوية تعارضه وتقف في وجهه‪ .‬ويشكّل مفهوم الذات اإلنسانية‪ ،‬المتطابق‬
‫أيضا ً مع الوعي ومع النفس‪ ،‬نقطة ارتكاز أساسية في هذا الموقف الف ّج الذي يرى أنّ‬
‫“الذات” ليست مجرد وجهة النظر المنفعلة أو السلبية التي تُعاش منها التجربة الذاتية‪ ،‬بل‬
‫وحرة‬
‫ّ‬ ‫هي المكان الذي تُتخذ منه الخيارات العملية وتصدر عنه أحكام القيمة‪ .‬كما أنها موحدة‬
‫حرة في الفعل في ذلك العالم وهي‬ ‫أيضاً‪ .‬فهي تجد نفسها مقذوفة في عالم لم تبنه؛ غير أنها ّ‬
‫تبني نفسها في سياق هذا الفعل‪ .‬وما من تحديد أو تقييد ال واعٍ لخيارات الذات‪ ،‬فمثل هذه‬
‫المزاعم ال تعدو أن تكون ضربا ً من اإليمان الفاسد‪.‬‬

‫أي فيلسوف محدّد‪ ،‬وإنّما أعتبره‬


‫بيد أنّ هذا الموقف الفلسفي (الذي أكرر أنني ال أنسبه إلى ّ‬
‫ي عام) ليس موقفا ً متماسكاً‪ .‬فمفهوم الذات‪ ،‬الذي يمكن القول‬‫بمثابة تمثيل معقول لمناخ فلسف ّ‬
‫إنه يبرز بوصفه القطب المقابل للقطب الموضوعي في تحليل تجربة ما إلى عالقات ذات –‬
‫موضوع‪ ،‬ال يمكن أن يكون متطابقا ً مع مفهوم الوعي‪ ،‬الذي ينطوي على درجة ما من إدراك‬
‫السيرورات الفكرية‪ ،‬أو مع مفهوم النفس‪ ،‬الذي يشتمل تبعا ً للمحللين النفسانيين على ّ‬
‫مكون ال‬
‫واعٍ عريض‪ .‬وإذا ما كان من المقبول القول إنّ واحدا ً من هذه البناءات ‪-‬الذات‪ -‬هو بناء موحد‬
‫أو أحادي‪ ،‬فإنّ البنائين اآلخرين‪ -‬الوعي والنفس‪ -‬هما بناءان معقدان‪.‬‬

‫لكنّ البنيوية تواصل في العادة هذا الر ّد فترى أن الدليل على تعقيد الوعي‪ ،‬أو النفس‪ ،‬هو‬
‫بمثابة دليل على انعدام وحدة ذلك الشيء الذي يدعى “الذات اإلنسانية”‪ ،‬أو على بنائيته‪ ،‬بل‬
‫وعلى موته‪ .‬فما هو هذا الدليل؟ لقد سبق لسقراط أن أشار في الجمهورية إلى أنّه يكفي القيام‬
‫باستبطان بسيط لكي يظهر لنا أن ث ّمة صراعات ضمن الوعي‪ ،‬كما أنّ المدارس النفسانية‬
‫جميعها متفقة على أنّ النفس بناء معقد تستغرق إقامته كامل حياة المرء‪ .‬فما الجديد الذي‬
‫قدّمته البنيوية؟‬

‫لقد قدّمت البنيوية اعتبارين اثنين‪ ،‬يمكن لك ّل منهما أن يُصاغ صياغة عامةً تماماً‪ ،‬ولكن ربما‬
‫أول هذين‬
‫كان أفضل وجه للتعرف عليهما هو من خالل النظر في اوجه استخدام اللغة‪ .‬ويتعلق ّ‬
‫ي والفعل‪ .‬فلنأخذ النحو الذي يتعامل به المرء مع‬‫االعتبارين بعملية بناء ك ّل من اإلدراك الحس ّ‬
‫دفق من الكالم‪ .‬إنّ من ال يعرفون لغة محددة أيّة معرفة (أي ال يعرفونها وال يعرفون أية لغة‬
‫قريبة منها) يسمعون ذلك التيار من األصوات الصادرة عن ناطق بهذه اللغة على نحو يختلف‬
‫تماما ً عن أولئك الذين يعرفونها‪ .‬فالفريق األول ال يسعهم سماع األصوات المفردة في هذه‬
‫اللغة‪ ،‬ال يسعهم سماع الوقفات أو التقطعات ضمن الكلمات‪ .‬وإدراكاتهم الحسيّة لألصوات‬
‫تكون محكومة ببنية اللغة التي يعرفونها‪.‬‬

‫ي أن تأخذ هذا األمر بحسبانها‪ ،‬وهو أمر وثيق‬ ‫وال ب ّد لك ّل نظرية نفسانية في اإلدراك الحس ّ‬
‫الصلة بالفلسفة الفرنسية دون أن يكون سبب ذلك مقتصرا ً على أنّ فلسفة ميرلوبونتي غالبا ً‬
‫ي‪ .‬فاإلدراك الحسي يتحول عند ميرلوبونتي‬ ‫ما تُعتبر نظرية رصينة وموسعة في اإلدراك الحس ّ‬
‫إلى شيء يعمل بمثابة قاعدة للمعرفة دون أي توسط في حين يشير مثال اللغة إلى أنّ مثل هذا‬
‫أي شيء ليس موجوداً‪ .‬األمر الذي يشكّل نقدا ً جذريا ً لفكرة‬ ‫ي الذي ال يتوسطه ّ‬‫اإلدراك الحس ّ‬
‫اإلدراك الحسي بأكملها‪( .‬ولقد سبق لديريدا أن علّق في مؤتمر بالتيمور عام ‪ 1966‬قائالً‪..“ :‬‬
‫ي وال أعتقد بوجود شيء كهذا”)‪.‬‬‫ال أعلم ما هو اإلدراك الحس ّ‬

‫وإذا ما عدنا إلى اللغة لبدا لنا‪ ،‬في هذه الحالة الخاصة‪ ،‬أنّ قدرا ً كبيرا ً من معرفتنا الوثيقة بلغة‬
‫ما يمكن ر ّده أو اختزاله إلى مجموعة من األنساق البنيوية‪ ،‬وتكون هذه المعرفة‪ ،‬في حالة‬
‫اللغة األولى‪ ،‬معرفة ال واعية في العادة‪ ،‬وتُكتسب في مرحلة باكرة جدا ً من مراحل نمو‬
‫تصور نفس إنسانية ال تمتلك هذا القدر من المعرفة بلغة‬ ‫ّ‬ ‫النفس‪ .‬والحقيقة أنّ من المستحيل‬
‫واحدة على األقل‪ .‬ويمكن القول إنّ النفس في جزء منها مبنية من هذه القطعة أو الجزء من‬
‫ظم إدراكاته الحسيّة األساسية بالعالقة مع هذه القطعة أو الجزء من‬ ‫شيفرة؛ أي أنّ العقل ين ّ‬
‫شيفرة‪.‬‬

‫وإذا ما كان هذا يص ّح على اللغة‪ ،‬فما الذي يمنع من أن يص ّح عموماً؟ ماذا لو كانت جميع‬
‫إدراكاتنا الحسيّة يت ّم التعامل معها بالعالقة مع تشفيرات بنيوية‪ ،‬تُبنى فينا عند الوالدة‪ ،‬أو‬
‫نتعلمها من خالل التشريط االجتماعي؟ ْ‬
‫(إذ يمكن لنا أن نضيف أنّ قدرا ً كبيرا ً من األدلة التي‬
‫ظهرت مؤخرا ً يشير إلى أن األمر على هذا النحو)‪ .‬أال يص ّح أن نقول إن النفس التي تدرك‬
‫أي شيء حسياً‪،‬‬ ‫حسيا ً ليست سوى المح ّل الذي تتموقع فيه جميع هذه الشيفرات؟ فحين ندرك ّ‬
‫فإنّ األنساق ال ُمشفّرة التي تشكّل جزءا ً من تكويننا تتعامل مع التنبيهات التي يت ّم تلقيها من‬
‫الخارج وتحولها إلى إدراكات حسية لموضوع ما‪.‬‬

‫ي يص ّح أيضا ً على الفعل‪ .‬فنحن حين نتكلّم‪ ،‬نتكلّم كلمات‪ ،‬مؤلّفة‬‫وما يص ّح على اإلدراك الحس ّ‬
‫من أصوات نتعرفها لكونها جزءا ً من لغتنا‪ .‬إال أنّ األنساق البنيوية التي بُنيت في أنفسنا ّ‬
‫أول‬
‫تعلّم اللغة هي ما يترجم ذلك إلى أفعال عضلية فعلية تنتج أصواتا ً فيزيقية يمكن لمكبر الصوت‬
‫أن يتلقاها‪ .‬فإذا ما قمنا بتعميم هاتين الحالتين‪ ،‬قد يمكن لنا أن نفترض أنّ جميع إدراكاتنا‬
‫بنى ال نعيها‪ ،‬ولكنها شروط مسبقة للوعي‪.‬‬ ‫الحسية‪ ،‬وجميع أفعالنا‪ ،‬تتوسطها ّ‬

‫وأنا لم أشر حتى اآلن إلى الترميز‪ .‬فقد عُنيت باللغة كمثال وحسب على الطبيعة البنيوية‬
‫ي والفعل اإلنسانيين‪ ،‬أي أننا في عالم البنيوية ولسنا بعد في عالم السيميولوجيا‪.‬‬ ‫لإلدراك الحس ّ‬
‫ونحن نصادف حتى على هذا المستوى أدلة تشير إلى أنّ النفس مبنيّة من بنى‪ ،‬وأنّ هذه البنى‬
‫موجودة في شيفرات اجتماعية قائمة قبل وجود النفس‪ .‬غير أنّ اللغة ليست مجرد شكل بنيوي‬
‫للسلوك والتجربة‪ .‬فهي أيضا ً وسيلة للترميز‪ .‬وأفكارنا يت ّم تمثيلها في اللغة كما لو كانت هذه‬
‫اللغة واسطة لذلك‪ ،‬وال يبدو أنّ ثمة وسيطا ً آخر يمكن عن طريقه تمثيل معظم هذه األفكار‪ْ .‬‬
‫إذ‬
‫كيف يمكن لنا أن نمثّل مفهوما ً كمفهوم “االقتصاد البريطاني” أو “الشعراء الميتافيزيقيين”‬
‫بغير اللغة؟ وحتى لو ُوجدت هذه الواسطة‪ ،‬فإنها ال بد أن تقوم بوظيفتها مثل لغة‪ ،‬فضالً عن‬
‫أنها قد تكون مبنية من بعض النواحي مثل لغة‪ .‬وقد يحصل أن نجد مفهوما ً ليس له تمثيل في‬
‫اللغة‪ ،‬ولكن هل نجد مفهوما ً ليس له أي تمثيل بواسطة هذا الدالول أو ذاك؟ أال يبدو وكأن من‬
‫الممكن أن ندرس ك ّل المفاهيم عن طريقة دراسة أنظمة الدواليل التي تُمثّل فيها هذه المفاهيم؟‬
‫إنّ هذا ما تقوم به السيميولوجيا‪.‬‬

‫لكن المفاهيم جزء جوهري من المحتوى الفعلي للوعي‪ .‬ومصطلح الوعي هذا يغطي ك ّل ما في‬
‫العقل ما عدا اإلدراكات الحسيّة‪ ،‬ودوافع الفعل وما إلى ذلك‪ .‬وفي هذه الحالة ستكون‬
‫السيميولوجيا‪ ،‬التي هي دراسة أنظمة الدواليل‪ ،‬دراسة للمفاهيم الموجودة في العقل‪ ،‬وبذا‬
‫دراسة لتشكل النفس‪ .‬فبقدر ما تمكن رؤية أنظمة الدواليل بوصفها شيفرات مستدخلة أو‬
‫ُمذوتّة‪ ،‬تمكن رؤية العقل بوصفه مش ّكالً في جزء منه من خالل هذه الشيفرات‪.‬‬

‫وقد يرى القارئ أن من السهل استيعاب طبعة حديثة‪ ،‬وضعية‪ ،‬من هذه النظرية في العلوم‬
‫الطبيعية‪ ،‬ال في العلوم اإلنسانية‪ ،‬وهذا ما يراه علماء الحاسوب الذين يعملون على ما يُدعى بـ‬
‫الذكاء االصطناعي‪ .‬فالشيفرات‪ ،‬بالنسبة لهم‪ ،‬هي عمليا ً برامج حاسوبية جارية في الدماغ‪،‬‬
‫الذي يُنظر إليه هنا بوصفه حاسوباً‪ .‬والحقيقة أنّ هذه النظرية تروق لي‪ ،‬وتبدو اختزالية على‬
‫نح ٍو يثير اإلعجاب‪ .‬غير أنّ أحدا ً من بنيويي المرحلة الكالسيكية ما كان ليفكر على هذا النحو‪،‬‬
‫مع أن نظرياتهم تفضي إلى ذلك‪ .‬فقبضة الفلسفة كانت قوية إلى أبعد حدّ‪ .‬والحقيقة أنها ال‬
‫تزال قوية إلى أبعد حدّ‪ ،‬وبما أنّ تلك البنيوية قد ماتت اآلن‪ ،‬فإنّ معظم ما بعد البنيويين‬
‫سيجدونني ساذجا ً على نح ٍو ال شفاء منه ْ‬
‫إذ أقبل مثل هذه النظرة الحاسوبية إلى العقل‪.‬‬

‫ما كان واضحا ً في تلك المرحلة هو الصلة الوثيقة التي تصل أنظمة الدواليل بدراسة االتصال‬
‫التصور السوسوري األصلي القديم للسيميولوجيا‪ .‬والشيء‬
‫ّ‬ ‫في المجتمع‪ .‬وهذا في الحقيقة هو‬
‫األساسي هنا هو أنّ الشيفرات التي تحمل معنى تُكتسب من المجتمع‪ .‬ولذا يمكن القول إن من‬
‫الممكن أن نُح ّل دراسة الشيفرات التي يوفرها المجتمع مح ّل دراسة الوعي الفردي‪.‬‬

‫وهكذا فإنّ الذات اإلنسانية‪ ،‬ذلك الشبح المو ّحد‪ ،‬قد ماتت مرتين بين يدي البنيوية‪ .‬فقد كانت‬
‫ي‪ ،‬التي هي ما يمكّنها من إدراك العالم‬
‫من قبل مح ّل مجموعة من شيفرات اإلدراك الحس ّ‬
‫حسيّاً‪ .‬وها هي تصبح اآلن مح ّل مجموعة من الشيفرات الرمزية‪ ،‬التي تعطيها معرفتها‬
‫وأنظمتها القيمية‪ .‬ولم يعد المجتمع – هذا إن كان في أي يوم من األيام‪ -‬ذلك الترتيب المالئم‬
‫الذي يقيمه جم ٌع من األنفس البشرية المستقلة بذاتها‪ .‬بل على العكس‪ ،‬فإنّ كل ّنفس يُزع ُم‬
‫أنها مستقلة بذاتها هي مشكّلة من شيفرات اجتماعية موجودة مسبقاً‪ .‬وحده الجسد البشري‬
‫الخالي من الطابع االجتماعي يوجد قبل التحديد أو التشريط االجتماعي‪ ،‬أما الشخص فال ‪.‬‬
‫سر سبب إقامة بارت كتابته على الجسد ورغباته حين بدأ باالبتعاد عن‬‫(وهذا ما قد يف ّ‬
‫البنيوية)‪.‬‬

‫ويكتسي هذا التحليل للذات داللة سياسية في عيون البعض‪ .‬فألتوسر‪ ،‬مثالً‪ ،‬يستخدم هذه‬
‫المقاربة (متكئا ً إلى الكان في صياغة نظريته البنيوية عن الذات) في بناء نظرية عن الطريقة‬
‫التي تتشكل بها الذات اإلنسانية الفردية في األيديولوجيا‪ ،‬فتقبل طواعية ما يقدّمه لها المجتمع‬
‫من خيارات‪ ،‬كما لو كانت هذه األخيرة خياراتها الخاصة‪ ،‬مع أنها خيارات قمعية كما يعتقد‬
‫ألتوسر‪ .‬ولقد تحدّر من هذه النظرية األلتوسرية في األيديولوجيا بعض النقد المعاصر بالغ‬
‫األهمية مع أن هذا النقد غالبا ً ما يتنكر ألصوله متطلعا ً بدال ً من ذلك إلى شخص مثل فوكو‪.‬‬

‫وال ب ّد أن أقول إنني لم أستطيع أبدا ً أن أفهم لماذا ت ّم النظر إلى التحليل البنيوي وكأنه هجوم‬
‫على وحدة الذات أو فرديتها‪ .‬فالقول بأنّ شيئا ً ما هو بنية مشكّلة من أجزاء موجودة مسبقا ً ال‬
‫يكافئ القول إن هذا الشيء غير موجود‪ ،‬أو أنه ليس وحدة‪ .‬وهذا ما يظ ّل صحيحا ً حين تكون‬
‫األجزاء شيفرات اجتماعية أو بنى رمزية موجودة مسبقاً‪ .‬ويمكن أن يكون هناك مئات‬
‫الماليين من األنفس الفردية الفريدة ُمشكّلة من األجزاء األساسية التي يوفّرها مجتمع معقد‪.‬‬
‫وفي النهاية‪ ،‬فإنّ لك ّل من على هذه األرض‪ ،‬باستثناء بضعة توائم حقيقية‪ ،‬نسقه الوراثي‬
‫الفريد‪ ،‬مع أن هذه األنساق جميعا ً ُمركبّة من أربع وحدات كيميائية مختلفة ليس إال‪ ،‬فلماذا ال‬
‫ينطبق على العقول ما ينطبق على األجساد؟‬

‫‪-2-4‬إعادة كتابة سوسور بوصفه فيلسوفا ً‪:‬‬

‫وجودي لإلنسان‪ ،‬هو‬


‫ّ‬ ‫ي أو‬
‫بنيوي وتصور ظاهرات ّ‬
‫ّ‬ ‫إنّ سياق هذه المناظرة الفلسفية‪ ،‬بين تصور‬
‫السياق الذي تمتّ فيه تلك العملية الكبرى‪ ،‬عملية إعادة كتابة سوسور بوصفه فيلسوفاً‪.‬‬

‫إنّ سوسور الذي صادفناه إلى اآلن ينتمي بقوة إلى ما يُدعى أحيانا ً ‪-‬وبنيّة سيئة على الدوام‪-‬‬
‫بمدرسة المفكّرين “الوضعيين”‪ .‬إنه سوسور أقسام األلسنية في إنجلترا وأميركا‪ ،‬واح ٌد من‬
‫أعظم فقهاء اللغة (الفيلولوجيين) التاريخيين تمثّل إنجازه في إيجاد ألسنية تزامنية جديدة‪،‬‬
‫وعال ٌم حقق تطورا ً حاسما ً في علمه‪ .‬وهذا السوسور لم يفقد أبدا ً اهتمامه ببراغي دراسة اللغة‬
‫طبع بأحرف‬ ‫وصواميلها‪ ،‬ولذا نجد أنّ جزءا ً أساسيا ً من “محاضرات في األلسنية العامة” قد ُ‬
‫مائلة تشير إلى أمثلة ألسنية‪ ،‬توضح نقاطا ً قواعدية‪ ،‬أو صوتية‪ ،‬أو داللية تاريخية في بعض‬
‫األحيان‪ .‬وكانت السيميولوجيا بالنسبة لهذا السوسور ضربا ً من اإلضافة‪ ،‬و ُهدبا ً ملحقاً‪،‬‬
‫وإمكانية مأمولة‪ ،‬واقتراحا ً على هامش تطورات من المفترض حدوثها‪.‬‬

‫وهذا السوسور يختلف تماما ً عن سوسور التقليد البنيوي‪ ،‬سوسور روالن بارت والدمية التي‬
‫ظر في‬‫شنّ عليها ديريدا هجومه‪ .‬فسوسور هذا التقليد هو سيميولوجي في المقام األول‪ ،‬من ّ‬
‫العلوم االجتماعية‪ ،‬وفيلسوف تستمد منه نظريات بديلة لنظريات سارتر وشركاه حول تشكّل‬
‫النفس‪ .‬وال ب ّد من االعتراف بأن أعمال هذا السوسور الجديد تُقرأ وتُقرأ بكثافة واهتمام‬
‫استثنائيين‪ ،‬بوصفها نموذجا ً لتطوير فروع جديدة من السيميولوجيا غير األلسنية ومن ثم من‬
‫أجل المشاكل الميتافيزيقية التي يُفترض أنها تتكشّف عنها من خالل تناقضاتها الداخلية‪ ،‬كما‬
‫يرى جاك ديريدا أو أمثاله من المعلّقين‪ .‬ولقد ت ّم في هذا السياق أخذ كل تمييز نظري أقامه‬
‫سوسور‪ ،‬والنفخ فيه‪ ،‬وتحليله ونقله إلى سياقات أخرى غالبا ً ما يعني فيها شيئا ً مختلفا ً تماما ً‬
‫ع ّما كان يعنيه‪ .‬أما األمثلة األلسنية التي تثبّت هذه التمييزات النظرية إلى األرض فقد ت ّم‬
‫تجاهلها‪ .‬وهكذا فإن “محاضرات” سوسور تُقرأ‪ ،‬لكن المكتوب بحروف مائلة يغفل ويت ّم القفز‬
‫عنه‪.‬‬

‫كان من الصعب أن يحظى سوسور بمثل هذا النفوذ والتأثير لو لم يكن في عمله عناصر تسند‬
‫مثل هذه القراءات الجذرية‪ .‬غير أنه ليس من السهل على القارئ غير الملتزم أن يضع يده‬
‫على هذه العناصر من خالل قراءة بسيطة للـ “محاضرات”‪ .‬أ ّما في العروض الجذرية لعمل‬
‫سوسور‪ ،‬فهذه العناصر مطمورة في عمق ما تشتمل عليه هذه العروض من افتراضات‬
‫وسجاالت الحقة من نوع سياسي أو مناهض للميتافيزيقا‪ ،‬ولذا يصعب أيضا ً وضع اليد عليها‬
‫أو التقاطها‪ .‬ولعل أوضح عرض لهذه العناصر هو ما نجده في األقسام األخيرة من كتاب‬
‫صغير جدا ً كتبه جوناثان كوللر (‪ ،)1976‬حيث نرى سوسور واحدا ً من األعالم في “سلسلة‬
‫فونتانا لألعالم المعاصرين”‪ .‬ويقدّم هذا الكتاب‪ ،‬على الرغم من اقتضابه‪ ،‬عرضا ً وافيا ً لبعض‬
‫ألسنية سوسور وال يغفل األمثلة األلسنية‪ .‬إال أنه يتبنّى النظرة الفرنسية الالحقة في تناوله‬
‫ألهمية سوسور العامة‪ ،‬األمر الذي نجده في الصفحات ‪ 117-70‬من هذا الكتاب والتي سأستند‬
‫إليها فيما يلي‪.‬‬

‫يبدأ كوللر‪ ،‬شأنه شأن ك ّل العروض التي تناولت جذرية سوسور‪ ،‬بنظرية هذا األخير في‬
‫المعنى‪ .‬ولقد سبق لكثير من المفكّرين‪ ،‬ومن بينهم مفكرون بارزون مثل هيدغر‪ ،‬أن عزوا‬
‫ي وجوهري‬ ‫أهمية خاصة لدراسة أصل الكلمات وتاريخها باعتبارها مرشدا ً إلى معنى ما أصل ّ‬
‫للكلمات التي نستخدمها‪ .‬واعتبروا التغيرات الالحقة التي اعترت هذا المعنى نوعا ً من‬
‫اإلضافات الخارجية التي يمكن نزعها وإزالتها إذا ما دعت الضرورة‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فإنّ من‬
‫أن يرى مثل هذا الرأي‪ ،‬ذلك أنّ كالً من شكل الكلمة ومعناها‬ ‫الصعب على ألسنّي تاريخي ْ‬
‫يتغيران بمرور الوقت‪ ،‬بحيث تصبح كيانا ً جديدا ً في حقيقة األمر‪.‬‬

‫ولقد رفض سوسور ذلك الرأي الذي يقول إنّ سلسلة تاريخية كاملة معينة من األشكال [أشكال‬
‫الكلمة] يكون لها معنى جوهري مشترك معين بحيث يمكن القول إنّ هذه األشكال هي طبعات‬
‫متعاقبة مختلفة من “الكلمة ذاتها”‪ .‬وأدرك سوسور أنّ كالً من الصوت والمعنى يتغيران‪ ،‬وأنّ‬
‫العالقة بين الصوت والمعنى هي عالقة اعتباطية‪ ،‬وأن كالً من الصوت ال ُم َ‬
‫درك والمعنى‬
‫ال ُمدرك تشكّلهما أنساق من التقابل بين األصوات في الحالة األولى وبين األفكار في الحالة‬
‫الثانية‪ .‬ونحن ال نملك مفردة فردية واحدة تقف بح ّد ذاتها‪ ،‬ال في حالة الدالّ‪ ،‬أي الكلمة التي‬
‫نتلفّظ بها‪ ،‬وال في حالة المدلول‪ ،‬أي المفهوم الذي نربطه بهذه الكلمة‪ .‬فك ّل مفردة تستم ّد‬
‫ي‪.‬‬
‫هويتها من موقعها ضمن نظام كل ّ‬

‫وهذا أمر لـه أهميته العظيمة من الناحية المنهجية‪ ،‬لكنّه أمر ينتمي إلى األلسنية الصرفة‬
‫بوصفها حقل دراسة مستقالً بذاته‪ .‬فما الذي يحدث حين يت ّم النظر إليه من طرف فلسفة الذات‬
‫البنيوية الجديدة؟ يمكن لنا أن نقارب ذلك باستخدام إحدى استعارتين‪ .‬فحين ننظر إلى العقل‬
‫بوصفه نوعا ً من الوعاء‪ ،‬يمكن أن نقول إنّ بنى اللغة التي قال بها سوسور متوضّعة داخل‬
‫تعرفه‪ .‬وحين ننظر إلى العقل‬
‫العقل‪ ،‬إلى جانب الشيفرات البنيوية التي تحدد المجتمع أو ّ‬
‫ي من هذه‬ ‫رمزي مبن ّ‬
‫ّ‬ ‫بوصفه وجهة نظر تجاه العالم‪ ،‬فسوف نقول إنه يدخل في عالم‬
‫الشيفرات‪ .‬وهذه االستعارة الثانية هي التي يميل ك ّل من ليفي شتراوس والكان إلى‬
‫استخدامها‪.‬‬

‫والمالحظ في كال الحالين أنّ الشيفرات ليست نتاجا ً لخبرة الذات المعنية إال إلى ح ّد قليل‪ .‬أ ّما‬
‫في جزئها األكبر فهي موجودة من قبل أن تكتسبها الذات‪ ،‬فليس سوسور من ابتدع اللغة‬
‫الفرنسية‪ ،‬وال دوركهايم من ابتدع المجتمع الفرنسي‪ .‬وهذه الشيفرات تبني التجربة التي‬
‫تتمكّن الذات من خوضها‪ .‬فلكي أدرك أنني أمام تعليقات معينة باللغة الفرنسية ال ب ّد لي من ْ‬
‫أن‬
‫ي أن أكون على ألفة ببنية المؤسسات‬ ‫أكون على ألفة ببنية اللغة الفرنسية‪ ،‬كما يتوجب عل ّ‬
‫االجتماعية‪ ،‬كالزواج مثالً‪ ،‬لكي أدرك أنني أمام زواج معين حين أصادف واحداً‪.‬‬

‫وتبعا ً لكوللر‪ ،‬فإن من الممكن مقارنة أهمية سوسور بالنسبة للعلوم اإلنسانية بأهمية‬
‫معاص َريْه‪ ،‬فرويد ودوركهايم‪ ،‬األبوين المؤسسين لعلم النفس الحديث وعلم االجتماع الحديث‬ ‫ِ‬
‫على التوالي‪ .‬وما يجده كوللر محوريا ً في مقاربة هؤالء المفكرين الثالثة معا ً هو شيء كان‬
‫من الممكن لكثير منا أن يقرنوه بفيلسوف مثل هوسرل‪ ،‬حيث يرى كوللر أنهم جميعا ً يضعون‬
‫“الذات” ‪-‬النفس‪ ،‬الـ “أنا”‪َ ،‬م ْن يدرك حسياً‪ ،‬ويفكّر‪ ،‬ويتكّلم‪ -‬في المركز من ميدان تحليلهم‪.‬‬
‫ومن ثم يرى كوللر‪ُ ،‬مقتبسا ً ديريدا خارج السياق الزمني المناسب ومبدال ً قصد هذا األخير‬
‫سرون المعاني تبعا ً‬ ‫قليالً‪ ،‬باعتقادي‪ ،‬يرى أن هؤالء المفكرين “يفككون” الذات‪ .‬أي أنهم يف ّ‬
‫ألنظمة العُرف والتقليد التي ال تسيطر عليها الذات سيطرة واعية‪ .‬وهكذا تتحلّل الذات‪ ،‬أو‬
‫النفس‪ ،‬إلى مكوناتها التي تصبح أنظمة عرفيّة قائمة بين األشخاص‪ .‬كم تنح َل النفس إذ ت ُ َ‬
‫عزى‬
‫وظائفها إلى ُمنَ ّوعٍ من األنظمة التي تفعل فعلها عبر هذه النفس‪.‬‬

‫باختصار‪ ،‬فإنّ من غير الممكن قيام علم االجتماع‪ ،‬أو األلسنية‪ ،‬أو علم النفس التحليلي إال ّ‬
‫حين يت ّم أخذ المعاني المنسوبة إلى الموضوعات واألفعال في المجتمع‪ ،‬والتي تفرق هذه‬
‫الموضوعات واألفعال‪ ،‬بوصفها واقعا ً بدئياً‪ ،‬وبوصفها وقائع ينبغي تفسيرها‪.‬‬

‫وألنّ المعاني نتاج اجتماعي‪ ،‬فإنّ التفسير يجب أن يجري بمصطلحات اجتماعية‪ .‬ويبدو األمر‬
‫وكأنّ سوسور‪ ،‬وفرويد‪ ،‬ودوركهايم قد تساءلوا‪“ :‬ما الذي يجعل التجربة الفردية ممكنة؟ ما‬
‫الذي يمكّن البشر من أن يضطلعوا بموضوعات وأفعال ذات معنى؟ ما الذي يم ّكنّهم من‬
‫االتصال والفعل على نحو له معنى؟” وجوابهم الذي طرحوه هو المؤسسات االجتماعية التي‬
‫هي شرط التجربة مع أن النشاطات والفعاليات البشرية هي التي تشكّلها‪ .‬فلكي نفهم التجربة‬
‫اإلنسانية ال ب ّد من دراسة المعايير االجتماعية التي تجعلها ممكنة‪.‬‬
‫(كوللر ‪ ،1976‬ص‪.)72‬‬
‫يضع كوللر مقاربته هذه مقابل الوضعيّة التجريبية التي تتحدّر من هيوم‪ ،‬والتي تميّز بين‬
‫ي‬
‫ضربين من الواقع‪ :‬واقع الموضوعات واألحداث الفيزيقي الموضوعي‪ ،‬واإلدراك الحس ّ‬
‫الفردي الذاتي للواقع‪ .‬والمجتمع عند هيوم ليس من النوع األول‪ ،‬ولذا ال ب ّد أن يكون مجرد‬
‫نتيجة للنوع الثاني‪ ،‬وربما مجرد قصة خيالية جمعية‪ .‬كما يضع كوللر مقاربته مقابل المثالية‬
‫الهيغلية التي ترى في كل شيء تعبيرا ً عن العقل في سيرورة تطوره‪.‬‬

‫وهكذا ت ّم جمع ك ّل من سوسور وفرويد ودوركهايم معا ً بوصفهم فالسفة‪ ،‬أو ربما فيلسوفا ً‬
‫واحداً‪ ،‬يحلّل طبيعة التجربة اإلنسانية‪ ،‬وليس بوصفهم علماء‪ ،‬يقدّمون معلومات وقائعية‬
‫وتفسيرات نظرية لها‪ .‬كما ينظر كوللر بعين االزدراء إلى الفكرة التي ترى أنّ كالً من هؤالء‬
‫ي‪ ،‬على الرغم من قول فرويد ودوركهايم إنهما كانا كذلك‬ ‫الثالثة قد كان منشغالً بالتفسير السبب ّ‬
‫(فرويد ‪ ،1917-1915‬دوركهايم ‪ .)1895‬وهكذا يتمكن كوللر بعملية قياس وتشبيه واضحة‬
‫– وهي عملية فرنسية مميزة تعود إلى أواخر الخمسينيات – من أن يتدبّر أمر الجمع بين‬
‫ثالثة مفاهيم متباينة إلى ح ّد بعيد‪ :‬فكرة البنية‪ ،‬وفكرة التمثيالت أو المعايير الجمعيّة‪ ،‬وفكرة‬
‫الالوعي‪.‬‬

‫البنيوي األفعال بنظام من المعايير‪ -‬قواعد لغة معينة‪ ،‬التمثيالت الجمعية الخاصة‬‫ّ‬ ‫يربط التفسير‬
‫بمجتمع معين‪ ،‬آليات اقتصاد نفسي معين‪ -‬ومفهوم الالوعي هو طريقة لتفسير الكيفية التي‬
‫تمتلك بها هذه األنظمة قوة تفسيرية‪ .‬فهو طريقة لتفسير الكيفية التي يمكن بها لهذه األنظمة‬
‫أن تكون مجهولةً إنّما حاضرةً على نح ٍو فاع ٍل ومؤثّر في الوقت ذاته‪ .‬وإذا ما كنّا نعتبر‬
‫ي بمثابة تحليل للغّة فذلك ألن النظام ليس شيئا ً “معطى” للوعي مباشرة‬ ‫توصيف النظام األلسن ّ‬
‫ولكنه يُرى مع ذلك على أنه حاضر دوماً‪ ،‬وفاعل دوماً‪ ،‬في السلوك الذي يبنيه ويجعله ممكنا ً‪.‬‬
‫(المصدر السابق‪ ،‬ص‪.)76‬‬

‫وهنا يطلق كوللر زعما ً صاعقا ً تماماً‪ ،‬زعما ً يُظهر مدى الجذرية التي تس ُم إعادة قراءة‬
‫سوسور هذه‪ .‬فسوسور‪ ،‬كما يقول كوللر‪ ،‬يقدّم أدلة على وجود الالوعي أفضل من تلك التي‬
‫يقدّمها فرويد!‬

‫على الرغم من أنّ مفهوم الالوعي قد ظهر في أعمال فرويد‪ ،‬إال أنه مفهوم أساسي بالنسبة‬
‫لنمط من التفسير يسعى وراءه صف كامل من الفروع الحديثة‪ ،‬وال ب ّد أنه كان سيوجد ولو لم‬
‫تكن مساهمة فرويد موجودةً‪ .‬ويمكن القول إن هذا المفهوم يظهر في األلسنية بشكله األوضح‬
‫واألصعب نقضاً‪ .‬فالالوعي هو المفهوم الذي يمكّن المرء من تفسير واقعة ال ريب فيها‪ ،‬أال‬
‫وهي أنه يعرف لغةً (بمعنى أنه يستطيع أن يُطلق منطوقات جديدة مفهومة‪ ،‬وأن يقول ما إذا‬
‫كانت جملة ما من لغته أم ال‪ ،‬إلخ) مع أنه ال يعرف ما يعرفه‪ .‬فهو يعرف لغة معينة لكنه‬
‫ي لكي يشرح لـه بدقة ما الذي يعرفه‪ .‬ومفهوم الالوعي يصل بين هاتين‬ ‫يحتاج إلى ألسن ّ‬
‫الواقعتين ويضفي عليهما معنى ويفسح مجاال ً للشرح والتفسير‪ .‬ولسوف تفسر األلسنية‬
‫أفعالي‪ ،‬شأنها شأن علم النفس وعلم اجتماع التمثيالت الجمعية‪ ،‬عن طريق إظهارها ال ُمفَ ّ‬
‫صل‬
‫للمعرفة الضمنية التي ال أعيها أنا نفسي(المصدر السابق‪ ،‬ص‪.)76‬‬

‫ت متباينة جدا ً عن طريق‬


‫يبدو أن ث ّمة شيئا ً من السحر اللغوي يت ّم من خالله توحيد نظريا ٍ‬
‫إلصاق لصاقة واحدة وحسب عليها جميعاً‪ .‬غير أنّ قواعد لغة ما‪ ،‬ومعايير مجتمع ما‪ ،‬وآليات‬
‫اقتصاد نفسي معيّن‪ ،‬ال تصبح متماثلة بمجرد أن نسميّها “أنظمة معايير”‪ .‬فمفهوم الالوعي‬
‫الفرويدي بوصفه المكبوت‪ -‬والذي يجب تفريقه ع ّما هو قبل الوعي أو غير الملحوظ – يختلف‬
‫تماما ً عن فكرة األلسني الخاصة بامتالك معرفة ضمنية بالقواعد أو فكرته الخاصة بـ “المفردة‬
‫األخرى التي ال نستخدمها في هذه اللحظة من مفردات مجموعة استبدالية معينة”‪ .‬كما يختلف‬
‫ي‪ .‬ومن العسير أن نجمع معا ً هؤالء اآلباء المؤسسين‬ ‫ك ّل هذا عن ال وعي دوركهايم الجمع ّ‬
‫دون أن نتجاهل ك ّل ما هو مميّز والفت لالنتباه في مباحثهم الخاصة‪ .‬حيث ال ب ّد عندئذ من ترك‬
‫التفاصيل األلسنية‪ ،‬واإلحصاءات االجتماعية ‪-‬من بين أشياء أخرى‪ -‬خارج علم االجتماع‪ ،‬وال‬
‫بد من ترك الوضع واإلجراء التحليليين خارج التحليل النفسي‪.‬‬

‫إن جمع ك ّل من سوسور‪ ،‬وفرويد‪ ،‬ودوركهايم على هذا النحو قد يبدو غريباً‪ ،‬غير أنّه يصبح‬
‫مفهوما ً حين نأخذ في الحسبان تلك التقاليد الفكرية الكبرى التي نبعت من ك ّل من هؤالء‬
‫المفكرين الثالثة‪ .‬مع أنّ كالً من هذه التقاليد يحتّل موقع “األقلية” ضمن فرعه‪ ،‬على الرغم‬
‫من األهمية التي قد تكون له‪.‬‬

‫فالتقليد األساسي المتحدّر من سوسور هو‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬علم األلسنية الحديث‪ ،‬أ ّما التقليد‬
‫األقلوي‪ ،‬الذي يثير دهشة معظم األلسنيين‪ ،‬فهو ذلك الذي يرى سوسور بوصفه فيلسوفا ً‬ ‫ّ‬
‫ي‪ ،‬ضمن إطار السيميولوجيا الواسع‪ ،‬بطبيعة التجربة الذاتية‪ ،‬ووضع الخطوط الكبرى‬ ‫عُن َ‬
‫لمفاهيمنا وألسس الوعي الالواعية‪.‬‬

‫والتقليد األساسي المتحدّر من فرويد هو تقليد التحليل النفسي األرثوذكسي‪ ،‬على الرغم من‬
‫األقلوي فهو تقليد جاك الكان‪ ،‬الذي سخر‬‫ّ‬ ‫وجود تباينات انشقاقية ال تُع ّد وال تُحصى‪ .‬أ ّما التقليد‬
‫من العلمية الموضوعية لدى الفرويديين األرثوذكس وزعم أنّ الالوعي مبن ّ‬
‫ي مثل لغة‪ ،‬ألنه‪،‬‬
‫في حقيقة األمر‪ ،‬أثر للغة‪ .‬ومع أنّ ما يعنيه الكان باللغة يبدو مختلفا ً تماما ً ع ّما يمكن أن يكون‬
‫قد عناه ألسني مثل سوسور‪ ،‬إال أنه غالبا ً ما يشير إلى سوسور وكأنه هو المسؤول عن‬
‫تصوراته‪ ،‬وذلك بتلك الطريقة التلميحية وغير المفهومة التي تتعم ّد اإلثارة واإلزعاج‪ .‬وكما‬
‫قال لي دكتور أميركي في الفلسفة بكثير من الوقار والرزانة‪“ :‬ك ّل ذلك موجود لدى سوسور‬
‫كما تعلم”‪.‬‬
‫والتقليد الفكري األساسي المتحدّر من دوركهايم هو تقليد علم االجتماع واألنثروبولوجيا‪.‬‬
‫ألي انثروبولوجي‬
‫ويمثل ليفي شتراوس شخصية كبرى في هذا المجال‪ ،‬شخصية قد ال يمكن ّ‬
‫أن يتجاهلها مع أن قلّة قليلة هم الذين يقبلونه ككلّ‪ .‬وكان ليفي شتراوس في األربعينيات قد‬
‫اتّخذ األلسنية مثاال ً للمنهج وانتهى في الستينيات إلى تعريف األنثروبولوجيا بأنها فرع من‬
‫السيميولوجيا‪ .‬ومن الصعب على المرء أن يرى أن ليفي شتراوس يشغل مكان األقلية ضمن‬
‫األنثروبولوجيا الفرنسية‪ ،‬إال أنه أقلية ضمن األنثروبولوجيا ككلّ‪.‬‬

‫أ ّما حين نعتبر أنّ السيميولوجيا (التي أُعيد تعميدها اليوم باسم السيميائية) والتحليل النفسي‬
‫الالكاني واألنثروبولوجيا الليفي شتراوسية هي التقاليد األساسية المتحدرة من هؤالء‬
‫المفكّرين الثالثة (وهذا ما كانت تتوق إليه الطليعة الفرنسية في أوائل الستينيات وما نجد‬
‫سجاالت فيه إلى اآلن) فال عجب أن نجمع سوسور وفرويد ودوركهايم‪ ،‬ألن هذا الجمع سيكون‬
‫طبيعيا ً على أساس هذا التأويل‪ .‬بل إنّ هنالك اليوم من يرى إمكانية القيام بنوع من التوليف‬
‫الفكري بين هذه الحقول‪ ،‬كالتوليف الذي قام به الكاتبان البريطانيان كوارد وإليس‪ ،‬والذي‬
‫سنعرض له الحقاً‪ ،‬على الرغم من أنهما‪ ،‬شأن معظم الجذريين‪ ،‬يستبدالن ماركس بدوركهايم‬
‫في قراءة ألتوسرية لألول‪ .‬ولقد بدا مثل هذا التوليف واردا ً جدا ً في آخر أيام البنيوية‪ ،‬وقد ختم‬
‫ك ّل ما دارت حوله تلك الضوضاء السائرة على الموضة‪ .‬وليس ثمة سبب من حيث المبدأ ألن‬
‫ق أن تكون هنالك إثارة فكرية عندما يبدو توحي ٌد على مثل هذا‬ ‫نهزأ حتى بالموضة‪ ،‬فمن المح ّ‬
‫المستوى قريبا ً بحيث تمكن رؤيته‪ ،‬حتى لو لم يكن لدينا سوى فكرة ضبابية عما يدور حوله‬
‫أو يعنيه‪ .‬وها هو سوسور ال يزال ينال كثيرا ً من الحظوة بسبب هذا التوحيد الضخم والذي لم‬
‫يتحقق تماما ً قط‪.‬‬

‫ومجمل القول إنّ المشكلة الفلسفية األساسية التي يُزعم أنّ جميع هؤالء المف ّكرين قد أسهموا‬
‫بها هي مشكلة طبيعة النفس‪ ،‬والعقل أو الذات العارفة‪ .‬واإلسهام الذي يقدّمه تقليد البنيوية‬
‫السيميولوجية في هذا الصدد هو تمثيله العقل‪ ،‬أو الذات‪ ،‬بوصفه مجموعة من الشيفرات‬
‫المتشابكة المتواشجة ال بوصفه كيانا ً موحداً‪ .‬وتشكّل هذه الشيفرات األساس الالواعي للوعي‪.‬‬
‫ومن وجهة النظر هذه ال يعود من الصائب القول إنني أعرف لغتي‪ .‬ففي الوقت الذي بدأت فيه‬
‫تعلّمها لم أكن أمتلك نفسا ً متطورة تماماً‪ ،‬أما “األنا” القائمة اآلن فقد أسهمت في تشكّلها اللغة‬
‫التي أعرفها وأفكّر بها‪ ،‬في حين شكّلت بقيتي شيفرات أخرى وبعبارة أكثر تأنقا ً فإنّ “ما ال‬
‫أعيه هو الذي يشكّلني‪ ،‬ولست أنا من يتكّلم‪ ،‬بل اللغة والشيفرات األخرى هي التي تتكلّم‬
‫عبري‪ ،‬إنني أتكلّم من حيث ال أكون”‪.‬‬

‫ومن وجهة النظر هذه‪ ،‬فإنّ “الذات” لم تعد تشغل الموقع المركزي الذي ّ‬
‫بوأها إيّاه التقليد‬
‫الذاتوي‪ ،‬وإنما أضحت “غير متمركزة”‪ .‬وتجربتي المباشرة لم تعد األساس الذي ال‬ ‫ّ‬ ‫الفلسفي‬
‫يُناقش للحقيقة العلمية‪ ،‬كما اعتقد هوسرل وكما يعتقد نقّاد األدب‪ ،‬وإنّما تُعالج عبر الشيفرات‬
‫التي تشكّل جزءا ً مني عن طريق ثقافتي‪ .‬ويمكن أيضا ً ربط ذلك بمفهوم اإليديولوجيا‬
‫الماركسي على نحو يوضحه ويلقي الضوء عليه‪ .‬فاإليديولوجيا‪ ،‬عند ألتوسر‪ ،‬هي أكثر بكثير‬
‫يشوش إدراك‬ ‫من كونها نظاما ً زائفا ً من األفكار التي يصنّعها المجتمع الرأسمالي لكي ّ‬
‫البروليتاريا مصالحها الطبقية‪ .‬إنّ اإليديولوجيا باألحرى هي العنصر الذي نختبر فيه العالم‪،‬‬
‫ي‪ ،‬أو‬
‫الرمزي الالكان ّ‬
‫ّ‬ ‫والعنصر الذي نحيا فيه‪ .‬ويمكن أن نساوي بين اإليديولوجيا وبين مجال‬
‫ي‪ ،‬وما من مجتمع ‪-‬حتى بعد الثورة‪-‬‬ ‫ي الدوركهايم ّ‬‫الثقافة الليفي شتراوسية‪ ،‬أو الوعي الجمع ّ‬
‫يمكن أن يوجد من دونها‪.‬‬

‫قد ال تبدو هذه النظرة ماركسية على وجه الدقة‪ ،‬إال أنها تمكّن المرء من تقديم بعض الحلول‬
‫المثيرة لبعض اإلشكاليات التاريخية في المصطلحات النظرية الماركسية‪ ،‬فالمجتمع‬
‫الرأسمالي‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬يحتاج لديمومته إلى مصدر ال ينضب يواظب على تزويده‬
‫حرة وتلقائية في الظاهر‪ ،‬أثناء‬
‫الحرة في الظاهر‪ ،‬لكي تقوم باتخاذ قرارات ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالذوات اإلنسانية‬
‫الحرة الرأسمالية‪ .‬غير أنّ هذه “الذوات” لم توجد بصورة‬ ‫ّ‬ ‫اضطالعها بأدوارها في األسواق‬
‫تلقائية‪ ،‬بل شكّلتها الشيفرات الرمزية السائدة (أو “الممارسات” كما يفضّل ألتوسر أن يقول‬
‫بوصفه ماديا ً ماركسياً) من خالل سيرورة هي تقريبا ً تلك التي وصفها الكان‪ .‬وهكذا يلتحق‬
‫الصف الطويل من أولئك الذين حاولوا التوليف بين ماركس وفرويد‪ .‬لكن هذه‬ ‫ّ‬ ‫ألتوسر بذلك‬
‫الممارسات هي أيديولوجيا المجتمع‪ ،‬وتبعا ً أللتوسر فيما بعد‪ ،‬فإنّ الدول الرأسمالية لديها‬
‫عمليا ً أجهزة الدولة اإليديولوجية‪ ،‬كالمدارس‪ ،‬التي تنتج هذه الممارسات‪ ،‬وتنتج بالتالي هذه‬
‫“الذوات”‪.‬‬

‫وليس معروفا ً على وجه اليقين ما إذا كان هذا صحيحا ً أم ال‪ ،‬أو حتى ماركسيا ً أم ال‪ ،‬وهو‬
‫يشكّل حجة الفتةً ومثيرة للماركسيين في تركيز جهودهم الثورية على تبديل المناهج في‬
‫المدارس والجامعات‪ .‬ولقد وجد ريتشارد هارالند‬

‫(‪ )1987‬اسما ً موحيا ً لما بعد البنيوية هذه ولجميع ما بعد البنيويات الالحقة‪ ،‬بنزوعاتها‬
‫المثالية المتأصلة‪ .‬لقد دعاها بـ “السوبر بنيوية”‪.‬‬

‫* الدواليل (جمع دالول ‪ )sign‬وهو ماجرت العادة على ترجمته بعالمة أو إشارة‪ .‬غير أنني‬
‫أعتقد أنها ترجمة غير دقيقة على الرغم من شيوعها(م)‪.‬‬
‫مجلة التراث العربي العدد ـ‪ 80‬إتحاد الكتاب العرب دمشق‬

You might also like