Professional Documents
Culture Documents
يبدأ الطور الفرنسي للبنيوية في األربعينيات مع تكييف ليفي شتراوس أعمال جاكوبسون
بحيث تتوافق مع األنثروبولوجيا ،وربما مع تكييف الكان بعض المصطلحات السوسورية في
الخمسينيات بحيث تتوافق مع طبعته الخاصة من التحليل النفسي .وقد بلغ هذا الطور ذروته
في أوائل الستينيات وكان آنئذ ضربا ً من الجنون الفكري طغى على ك ّل المباحث التي أمكنه أن
أي مكان آخر) .أ ّمايطالها من التاريخ حتى الرياضيات؛ جنونٌ يصعب إيجازه هنا (أو ربما في ّ
متفرق من الرطانة (انظر
ّ العناصر األلسنية في هذا الطور فلم تكن في الغالب أكثر من نثار
بياجيه .)1968في حين تمثّل الحدث الالفت بالنسبة للنظرية األدبية في محاولة التوليف بين
النموذج األلسني وفلسفة الذات اإلنسانية التي ع ُِرفَت في فرنسا ،حيث ت ّم تفسير العقل
تصور
ّ لبنى ،ألسني ٍة في الغالب .كما شهدت هذه الفترة إعادة
ً والمجتمع بوصفهما أثرين
سوسور بوصفه فيلسوفاً .وحوالي عام ،1967كان انهيار المشروع البنيوي ،بتأثير الكان،
وديريدا ،وغيرهما ،وبتأثير األحداث السياسية ،ليعقب هذا المشروع تشكيلة متنوعة من ما
بعد البنيويات التي انتشرت في جميع أرجاء أوروبا وأمريكا.
كان كلود ليفي شتراوس واحدا ً من أعضاء الهيئة التعليمية الذين تابعوا محاضرات
جاكوبسون في نيويورك .وكان ليفي شتراوس فيلسوفا ً في السابق ،أ ّما في حينها فكان
مرة أخرى (كما سنرى) .والحقيقة أنّ ليفي أنثروبولوجياً ،وسوف يعود نوعا ً من الفيلسوف ّ
شتراوس كان يرتجي من حضوره تلك المحاضرات غايةً عمليةً إلى ح ٍ ّد بعيد ،غير أنّ ما تلقّاه
ب من الرؤيا الفكرية:
لم يكن سوى ضر ٍ
لم أزل مدركا ً بشدّة تلك الصعوبة التي واجهتني ،نظرا ً لعدم خبرتي،طوال ثالث سنين أو أربع
مرض أس ّجل به لغات وسط البرازيل فمنّيت نفسي بأن أحصل من ٍ لدى محاولتي إيجاد ترميز
األوليات التي أفتقر إليها .غير أنّ ما تلقيته من دروسه كان في الواقع شيئا ًجاكوبسون على ّ
مختلفا ً تماماً ،وأكاد ال أحتاج أن أقول إنه كان شيئا ً أكثر أهمية بكثير ،أال وهو إلهام األلسنية
رؤى ألهمني
ً البنيوية ،الذي مكّنني الحقا ً من أن أبلور في مجموعة من األفكار المتماسكة
البرية في مكان قرب حدود اللوكسمبورغ في أوائل أيار عام …1940 إيّاها تأ ّمل الزهور ّ
وكذلك بعض المسائل التقنية التي أثارتها معالجة مارسيل غرانيه إلثنوغرافيا الصين القديمة
م ّما كان يشغله في ذلك الوقت (يضيف ليفي شتراوس في عود ٍة محسوب ٍة إلى التجريبي)،
(انظر تقديم ليفي شتراوس لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى1976 ،؛ ص ص .)ii-xi
إنّ ما يت ّم التشديد عليه هنا هو تلك القوة الملهمة التي تنطوي عليها رؤيا الترتيب والنظام
أي تطبيق فعلي للنموذجتوفرها األلسنية .والحقيقة أنّ هذا اإللهام ،وليس ّ
ّ الفكريين التي
األلسني أو أيّة نتائج كبرى ناجمة عنه ،هو ما شكّل القوة الدافعة األساسية للبنيوية القائمة
على األلسنية في طورها الثالث؛ طور الطموح الفكري الشامل ،وطور الطريقة الدينية في
الستينيات .ومع أنّ هذه الرؤيا كانت في البداية علميّةً ،مهما يكن من أمرها ،إال أنّ ما بقي
الحقاً ،كما سنرى ،هو الرؤيا وحدها ،في حين راح العلم ينكمش ،ويتضاءل مفسحا ً المجال
للشعرية األسطورية كي تتغلّب وتسيطر.
لقد كان ليفي شتراوس في هذه المرحلة شديد التأثّر باأللسنية التي تعلّمها من محاضرات
جاكوبسون ث ّم أتبعها بقراءة مكثّفة .وهو يبيّن في تقديمه لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى
ما أخذه من هذه المحاضرات .كما أنّ الفصول األربعة األولى من المجلد األول لكتاب ليفي
شتراوس األنثروبولوجيا البنيوية هي مقاالت تعود إلى األربعينيات والخمسينيات (وكانت
البنيوي في األلسنية واألنثروبولوجيا” ،قد نشرت من قبل في المجلة
ّ إحداها“ ،التحليل
األلسنية ،word ،عام .)1945وتقوم هذه المقاالت بعملية سبر الستخدام النماذج األلسنية
في األنثروبولوجيا ،وتنطوي على تحليل رفيع ومتكلّف يتطلّع إلى ماهو أبعد من مجرد استيراد
مكونات مصطلحات القرابة ،كما يبحث عن نمط من التأثّر أعمق
التقنيات األلسنية لتحليل ّ
بكثير.
وما أثار اهتمام ليفي شتراوس في األربعينيات وخلّف لديه أثرا ً عميقا ً هو الصرامة العلمية
التي اتّسمت بها األلسنية ونجاحاتها التفسيرية .يقول:
إننا نجد أنفسنا نحن األنثروبولوجيين في وضعٍ حرجٍ بإزاء األلسنيين .فقد اشتغلنا معهم طوال
سنوات عديدة ،جنبا ً إلى جنب ،ثم بدا لنا فجأةً أن األلسنيين أخذوا يتملّصون منا ،فرأيناهم
يتنقلّون إلى الجهة األخرى من الحاجز الذي يفصل العلوم الدقيقة والطبيعية عن العلوم
اإلنسانية واالجتماعية ،والذي اعتقدنا زمانا ً طويالً أن عبوره أمر متعذّر .وكما لو أنهم أرادوا
نكايتنا ،فقد راحوا ينكبّون على العمل بتلك الصورة الصارمة الحازمة التي كنّا قد استسلمنا
ألمر اعتقادنا بأنها من شيم العلوم الطبيعية وحدها .فكان أن أل ّم بنا من جهتنا شيء من
الحزن ،كما انتابنا – ولنعترف بذلك -كثير من الحسد .إننا نريد أن نتعلّم من األلسنيين ّ
سر
نجاحهم .أال يسعنا نحن أيضا ً أن نطبّق على هذا الحقل المعقّد الذي تدور فيه أبحاثنا -القرابة،
التنظيم االجتماعي ،الدين ،الفولكلور ،الفن – تلك المناهج الصارمة التي تبرهن األلسنية ك ّل
يوم عن فعاليتها؟
(من مقالة مكتوبة 1952وتشكّل الفصل الرابع من األنثروبولوجيا البنيوية ،انظر ص .)69
ث ّمة مقاطع كثيرة من هذا النمط في أعمال ليفي شتراوس الباكرة ،وهي تكشف عن الباعث
األساسي الذي يقف خلف الحركة البنيوية الفرنسية األصلية .وهذا الباعث هو األمل بجعل
العلوم اإلنسانية علميةً ،في عصر كان ال يزال ينظر إلى التقدّم العلمي كواحد من األشياء
القليلة المرغوبة على نح ٍو ال يطاله الشكّ .ولقد دام هذا األمل ،وما صاحبه من تفاؤل شديد،
شعور ال يقتصر على
ٌ حتى الستينيات ،لتعقبه بعد ذلك موجة من الشعور المناهض للعلم؛
استحالة إضفاء الطابع العلمي على العلوم اإلنسانية ،بل يتعدّاه إلى عدم الرغبة بأن تكون هذه
ق أنّ اسم “ما بعد البنيوية” الذي أطلقته الصحافة ،ال ينطبق على شيء العلوم علميةً .والح ّ
بقدر ما ينطبق على النتاج الفكري الذي قدّمته هذه الموجة من الشعور المناهض للعلم ،بل
المناهض للعقالنية باعتقادي ،والتي ال تزال مستمرةً إلى اليوم.
بل ويمكن أن نتساءل ما إذا كان يمكن لمعيار “قابلية النقض” هذا أن ينطبق حقّا ً على العلوم
اإلنسانية .فالمكانة اإلبستمولوجية لهذه العلوم ليست أبدا ً كتلك التي يمكن للعلوم الفيزيقية
والطبيعية أنّ تدّعيها لنفسها .فهذه األخيرة تتّصف بنوع من االنسجام أو التناغم لطالما فرض
سلطانه في ك ّل وقت بين أولئك الذين يمارسونها على مستوى يُعَ َّد ذا صلة بحالة البحث
المعاصرة ،في حين أن حال العلوم اإلنسانية ليس كهذا الحال أبداً .فهنا ال نجد إال القليل من
النقاش ،إن وجدنا ،بخصوص شرعيّة هذه الفرضيات أو تلك .فالنقاش متركّز بدال ً من ذلك
مستوى آخر قد يحبّذه
ً مستوى معين للمرجع الذي تحيل إليه هذه الفرضية ،وليس ً على اختيار
الخصم.
إنه لمن االستثنائي بالنسبة لألنثروبولوجيين البنيويين أن يُقَال لهم“ :إنّ تأويلكم لهذه الظاهرة
أو هذه المجموعة من الظواهر ليس بالتأويل الذي يحسب حساب الوقائع على أفضل وجه”.
وإنّما يُقال لهم بدال ً من ذلك “إنّ الطريقة التي تفككون بها الظواهر ليست بالطريقة التي تثير
اهتمامنا؛ وإننا لنختار أن نفككها بطريقة أخرى” .إنّ موضوع العلوم اإلنسانية هو اإلنسان،
إال ّ أنّ اإلنسان الذي يدرس نفسه وهو يمارس العلوم اإلنسانية الب ّد أن يترك ألفضلياته
يعرف بها نفسه لنفسه .وما يثير في اإلنسان ويلفت وتحيّزاته أن تتد ّخل في الطريقة التي ّ
ي بل ينتج وسيظل ينتج من خيار له ترتيبه الفلسفي في جوهر االنتباه ال يخضع لقرار علم ّ
األمر.
ولذا فإنّ علينا أن ندرك أنّ فرضيات العلوم اإلنسانية ال يمكن نقضها ،ال اآلن وال في أي حين
آخر.
لقد تخلّى ليفي شتراوس عن الغاية العلمية التي وضعها لنفسه في البداية؛ وهو يسلّم بأنّ
المشتغلين في العلوم اإلنسانية متّفقون على ذلك إلى ح ّد بعيد .وهو بقولـه هذا يلقي ضوءا ً
ساطعا ً على الشروط واألوضاع الثقافية الفرنسية ،التي ال تزال مختلفةً كثيرا ً عن مثيلتها
تعرض لعدد من االنتقادات الالذعة و ّجهها األنجلو – أميركية .والحقيقة أنّ ليفي شتراوس قد ّ
إليه أنثروبولوجيون إنجليز وأمريكيون لما رأوه لديه من قصور تجريبي وتأويل قائم على
بنات الخيال .وبعض هذه االنتقادات موثّقة في مقالة كتبها نيفين دايسن – هدسن وقدّمها في
مؤتمر عام 1966وكان لها بعيد األثر في إدخال ما بعد البنيوية إلى الواليات المتحدة (انظر
ماكزي ودوناتو .)1970
وحتى اليوم ،ال يزال هناك عدد وافر من علماء االجتماع الغربيين الذين يعتبرون أنهم
التقليدي الكامل لهذه الكلمة ،وأنّ عليهم أن يقتصروا على فرضيات ّ يمارسون علما ً بالمعنى
قابلة للنقض وإثبات الزيف في ضوء المعطيات التجريبية .وث ّمة نقد رصين لعمل كلود ليفي
شتراوس ،من وجهة النظر هذه ،في كتاب مارفن هاريس الضخم “نشوء النظرية
األنثروبولوجية” ( ،)1968الذي تناول فيه تاريخ األنثروبولوجيا .وهاريس هو واحد من
أتباع ما يمكن أن ندعوه بالماديّة الثقافية ،وهذه األخيرة موقف نظري في األنثروبولوجيا
ي مثل ريموند وليامز)؛ حيث يتّفق هاريس (وينبغي أال ّ تُخلط مع المادية الثقافية لدى ناقد أدب ّ
مع الماركسيين التقليديين على أنّ من الممكن تفسير ك ّل منّوعات الثقافات البشرية على
أساس الضغوط االقتصادية؛ إال أنه يضيف إلى ذلك ضغط السكان والمتغيّرات البيئية ،ويرفض
الديالكتيك الماركسي .وهذا ما يوفّر لهاريس أساسا ً ماديا ً علميا ً شامالً وكامالً لنقد المثالية
التي تتّسم بها مقاربة ليفي شتراوس لموضوعه ،واقتصار هذا الموضوع على االهتمام
بالتمثيالت الذهنية وحدها .وبالطبع ،فإنّ هاريس ليس الناقد الوحيد الذي نحا هذا المنحى.
يمكن لنا أن نلقي الضوء على موضوع الخالف من خالل النظر إلى تعامل ليفي شتراوس مع
المادي للّغة
ّ مفهوم الفونيم والتمييز األساسي الذي يجريه األلسنيون بين المستوى الصوتي أو
مرة
ي أو النظامي .فكما سبق لنا القول ،لقد سمع ليفي شتراوس بهذا ألول ّ ومستواها الفونيم ّ
من جاكوبسون ،الذي عُني بر ّد الفونيمات إلى سمات مميّزة مادية وصلبة نسبياً .ومن
الطبيعي أن يتوقّع المرء من أنثروبولوجي يقيس األنثروبولوجيا على األلسنية ويعمل على
أساس هذا القياس أن يبدي اهتماما ً شديدا ً بالشروط المادية للحياة االجتماعية وبالبيولوجيا؛
وخاصةً حين يزعم هذا االنثروبولوجي أنه معن ّ
ي بك ّل من الماركسية والعلوم الطبيعية،
خص .بل إنّ المرء قد يتوقّع منه أيضا ً أن يقدّم فكرةً ما عن المستويات
وبالجيولوجيا على األ ّ
“الـ…… تيّة” و “الـ ..يميّة” للمجتمع (أي عن المستويات المادية بإزاء المستويات ذات
المعنى االجتماعي) ،قياسا ً بالصوتيات والفونيميات .وهذا ما قدّمه األلسني األميركي كينيث
بيك ،حين حاول القيام بتعميم أنثروبولوجي لأللسنية (اللغة في عالقتها بنظرية مو ّحدة في
السلوك البشري .)1964 ،أما المصطلحان “…تيّة” و “..يميّة” فهما لمارفن هاريس.
ومن الواضح تماما ً أنّ كليهما كانا مخطئين ،سواء في نظريتيهما أو في تأويلهما للمصادر.
سبت إليه؛ أما جاكوبسون فكان قد فسوسور لم تكن لديه قناعة راسخة بتلك النظرية التي نُ ِ
انتقدها صراحةً؛ وهي مستحيلة منطقيا ً على ك ّل حال .والح ّ
ق أنّ هذا الخطأ الذي ارتُكب آنئ ٍذ
مرة بعد أخرى على يد أُناس أق ّل أهمية .وهو خطأ ال نزال نجده في أدبيات راح يتكرر ّ
الثمانينيات والتسعينيات.
( ،)1949كان كتابا ً في هذا الموضوع .والتّبصر الذي يلفت االنتباه في هذا الكتاب هو أنّ
ي على تابو الزنا بالمحارم ،أي على تحظير الجنس ضمن العائلة ،مما يدفع المجتمع مبن ٌّ
ً
الرجال لتبادل النساء ،من عائلة إلى أخرى ،بغية الزواج .وهذا ما يخلق بنية اجتماعية
إجماليةً أكبر من العائلة النووية (المؤلّفة من أب وأم وأوالدهما).
وتشتمل هذه المجتمعات على ثالثة أشكال أساسية للتبادل ،هي التي تجمع المجتمع معا ً
وتؤ ّمن تماسكه؛ الشكل األول هو تبادل الهبات ،الذي يناظر البنية االقتصادية في مجتمع أش ّد
تعقيداً؛ والثاني هو تبادل النساء ،تبعا ً لقواعد بالغة التعقيد والتكلّف تخلق بنيةً قرابية؛ والثالث
هو تبادل الرسائل الكالمية عبر اللغة ،الذي يخلق معظم ثقافة المجتمع ،التي هي في أعمال
ليفي شتراوس الالحقة عبارة عن بنية رمزية ،أو نظام دواليل.
ويتمثّل مفعول القواعد التي تدفع الزواج ألن يكون من خارج العائلة النووية وضمن
مجموعات مفروضة في أنّ البنية األولية للقرابة ليست العائلة النووية المؤلّفة من زوج،
وزوجة ،وأوالد ،بل العائلة التي تض ّم الزوج ،والزوجة ،واألوالد ،وأخا الزوجة (الخال) أو
شخصا ً ذكرا ً موافقا ً له من طرف المرأة ،يمارس في األصل سيطرته على هذه المرأة ويقوم
بالتخلّي عنها .وتأخذ هذه البنية أشكاال ً متنّوعة وتترافق مع مواقف متنوعة يتّخذها عضو
ي لألفراد المعنيين ،وال
بنية قرابية تجاه عضو آخر (وهي مواقف مستقلة عن الطابع الشخص ّ
تتوقف إال على موقعهم في بنية العائلة) .وهكذا فإن الطفل الذكر في بعض المجتمعات يكون
الدنو منه ،في حين تربطه بخاله عالقة حميمية ،ناكتة؛ بينما
ّ له أب شديد ،محترم ،يصعب
تكون األمور معكوسة في مجتمعات أخرى.
ولقد حاول األنثروبولوجيون تفسير قواعد القرابة ومواقفها هذه؛ ومن بين هذه التفاسير ث ّمة
التفسير االقتصادي ،من النوع الذي يفضلّه ماركس وهاريس ،حيث يُرى أنّ لهذه القواعد
وظيفة اقتصادية جوهرية تمكّن المجتمعات التي تتبنّاها من البقاء .وهو تفسير ال يرضي ليفي
شتراوس بالطبع .والتفسير اآلخر هو التفسير التاريخي الذي يرى أن وجود ظواهر معينة
يعود إلى تطورها التاريخي .وهو تفسير يصطدم بإشكاليات كثيرة ،ويؤدي في بعض األحيان
إلى تاريخ قائم على التأمل ،لدى تبنّيه من قبل األنثروبولوجيا التي تُعنى أساسا ً بمجتمعات
أميّة ال تعرف الكتابة ويصعب إزاحة النقاب عن تاريخها .أ ّما التفسير البنيوي فيركّز على ما
يمكن تفسيره باالنطالق من العالقات بين أجزاء البنية القائمة ،دون تأ ّمل تاريخي .والقياس
على الدراسة األلسنية التزامنية واض ٌح هنا.
ي في األدب واأللسنية أن يحكم على نجاح فرضيات ليفي والحقيقة أنه ليس من شأن اختصاص ّ
شتراوس في تفسير أنظمة القرابة ،أو حتى أن يقدّر مدى منطقيتها .فهذا واحد من الميادين
التقنية في األنثروبولوجيا ،ال يجرؤ على أن يطأه سوى االختصاصيين وحدهم .كما أنّ
ي بين ليفي شتراوس ومترجمه، مصاعب التأويل هنا مخيفة .وقد نشب خالف علن ّ
األنثروبولوجي المعروف روني نيدهام ،حول ما يعنيه كتابه فعلياً ،وهو خالف موثّق في
ثان لليفي شتراوس وفي تعليق مرتبك ومذهول لنيدهام على ترجمته .إال أنّ شيئا ً تصدير ٍ
توليدي على األقلّ ،وهو أنّ ليفي شتراوس ال ّ كقواعدي
ّ واحدا ً يظ ّل واضحاً ،من وجهة نظري
ت ذهني ٍة معينةيبدو مهت ّما ً بالوقائع كما يراها المراقبون من الخارج بقدر ما هو مهت ّم بتمثيال ٍ
للواقع في عقول المساهمين فيه .وهو يحمل وجهة النظر الخاصة هذه إلى عمله الثاني الذي
يتناول فيه مشكلة الطوطمية ( )1962القديمة في األنثروبولوجيا ،وكذلك إلى كتابه عن الفكر
ف بأنه توسيع لذلك العمل بحيث يطال مجاال ً جديداً.
ي ( ،)1962الذي ُو ِص َ البر ّ
ّ
لبنى موجودة ً والحقيقة أنّ أعمال ليفي شتراوس جميعا ً تبدي هذا التو ّجه إلى دراسة تمثيالت
التوليدي .ولكي ندفع هذا التشابه قُ ُد َما ً إلى
ّ القواعدي
ّ في العقل ،شأنها في ذلك شأن أعمال
األمام ،نقول :إنّ كلود ليفي شتراوس كان يطمح دوما ً إلى السير بهذا األمر إلى ح ٍ ّد يتمكّن
عنده من إزاحة النقاب عن خصائص العقل الكونية الالواعية .وبخالف ما قد يبدو ألولئك
الذين لديهم ألفة باألسلوبين المختلفين تماما ً لدى شومسكي وليفي شتراوس ،فإنّ هذين
قارته ،منهمكين في البحث ذاته عن الكليّات الذهنية، المفكّرين يبدوان ،ك ٌّل في فرعه وفي ّ
طرح أبداً ،وعلى الرغم من اعتقاد على الرغم من أن مسألة تأثّر واحدهما باآلخر لم ت ُ َ
شومسكي بأن عمل ليفي شتراوس هو عمل فارغ.
الهوة الواسعة التي تفصل بين التقاليد الفكرية التيبيد أن أحد الفروق الكبرى بين االثنين هو ّ
بدأ ك ّل منهما العمل فيها .فقد اصطدم شومسكي في أميركا أوائل الخمسينيات بمدرسة سلوكيّة
ظافرة – تشكّل أعمال عالم النفس السلوكي العظيم ب.ف .سكينر مثاال ً لها – حاولت أن تر ّد
ي” وأنكرت أية إمكانية لوضع الظواهر الذهنية موضع حتى اللغة البشرية إلى “سلوك كالم ّ
ي .أ ّما الفلسفة المسيطرة فكانت فلسفة تجريبية ،وإن تكن أش ّد تكلّفا ً من السلوكيّة؛
بحث علم ّ
ولعل كوين ،نصير راسل ،أن يكون أهم فيلسوف للتجريبية الف ّجة يمكن أن نصادفه؛ غير أنّ
الفلسفة كانت أق ّل أهمية بالنسبة لأللسنية من سلوكيّة مع ّممة قامت باستقصاء كل شيء حتى
الدالالت التي يبدو لأللسنيين أنّ االنهماك فيها هو نشاط بعيد عن العلم وال يرمي إلى شيء.
وبالمقابل ،فقد اصطدم ليفي شتراوس بوجودية سارتر .وبالنسبة لهذه الفلسفة ،لم يكن
لوجهات النظر العلمية والموضوعية عن اإلنسان أية أهمية على اإلطالق؛ فهي ته ّم “علم
الحشرات” .أما الوعي -أو “الوجود لذاته” -فهو نوع من العدم أو االفتقار إلى الكينونة الذي
يخلق على الرغم من ذلك عالما ً من األشياء أو الموضوعات انطالقا ً من ركام غير متمايز من
الوجود في ذاته .وإذا ما كان هذا الوعي مرتبطا ً بالعالم وبماضيه الخاص بالضرورة ،إال ّ أنّه
حرا ً في اتّخاذ خياراته الراهنة .أ ّما إنكار ذلك فليس سوى ضرب من اإليمان الفاسد.
يظ ّل ّ
اإلنسانوي الوجودي يجعل من نفسه ماهو عليه ويجعل نفسه جديدا ً في
ّ فاإلنسان في المذهب
حري ٍة ال تقيّدها أغالل البنية االجتماعية ،أو الظروف المادية ،أو البواعث
ك ّل لحظة ،وذلك في ّ
ّ
الالواعية أو بيولوجيا الشخص .وهذه هي الفلسفة التي حاول سارتر الحقا ً أن يوفق بينها
وبين الماركسية.
ربما كان هذه العرض جائراً .فهو يظلم حذق سارتر ودقّته؛ كما أنّ من الخطأ بال شكّ أن
نطابق فكر سارتر مع الفلسفة الفرنسية ككلّ .غير أنّه من الخطأ القول إنّ الفلسفة الفرنسية
قد نظرت نظرةً متغطرسة وفوقية في عالقتها بعلوم اإلنسان التجريبية وغالبا ً ما حاولت أن
تخنقها آن والدتها .وهو أمر موثّق بإسهاب لدى واحد من بين قلّة من علماء االجتماع
الفرنكوفونيين الذين تضاهى منزلتهم الدولية منزلة ليفي شتراوس ،أال وهو جان بياجيه ،في
س ِج ّل معركة خاضها بياجيه طوالصرات الفلسفة وأوهامها ( .)1965وهذا الكتاب ِكتابه تب ّ
حياته لالعتراف بشرعيّة االستقصاءات التجريبية التي تناولت تطور المقوالت المنطقية في
عقل الطفل ،في مواجهة مؤسسة تعتبر أي استقصاء من هذا النوع مجرد دليل على خطأ
مواز لتجربة ليفي شتراوس؛ إال أن بياجيه
ٍ ي واضح تماماً .وتجربة بياجيه تسير في ٍ
خط فلسف ّ
لم يتخ ّل عن دعاويه التجريبية.
ربما كان من المحتوم أن يت ّم تأويل األنثروبولوجيا البنيوية بوصفها فلسفةً بديلة عن اإلنسان.
ولع ّل من األص ّح القول إنه كان ث ّمة خيار بين أن تصبح األنثروبولوجيا البنيوية فلسفةً جديدةً
عن اإلنسان ،أو أن يت ّم بناء فلسفة جديدة عن اإلنسان تعمل على تكييف هذه األنثروبولوجيا
واحتوائها؛ ذلك أن فلسفة سارتر أو غيرها من الفلسفات المنضوية في إطار التقاليد
الظاهراتية والوجودية لم يكن بوسعها أن تقوم بذلك .ولقد عمل ضغط المعركة الفلسفية على
تصور ليفي شتراوس لألنثروبولوجيا ،األمر الذي يشير إليه المقتطف الذي ّ تغيير طبيعة
أوردناه من قبل من األنثروبولوجيا البنيوية ،المجلد الثاني ( .)1976فحين تقتصر على طرح
األسئلة الفلسفية وحدها ،تكون مدفوعا ً بقوة ألن تصبح فيلسوفاً ،لدرجة أنه كان على ليفي
شتراوس في بعض األحيان أن يذكّر جمهوره بأنّه معن ّ
ي بالمعطيات اإلثنوغرافية أساسا ً وبأنه
قام ذات مرةً ببعض العمل الميداني .وبالطبع ،فإنّ الفلسفة قد كانت المبحث الذي انطلق منه
ليفي شتراوس في األصل.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يمكن للبنيوية أن تقدّمه بوصفها موقفا ً فلسفياً؟ إنه
تلك النظرة التي ترى المجتمع محدّدا ً بمجموعة من التمثيالت الذهنية الالواعية التي يتقاسمها
ب هام من جوانبه أن لنظام التمثيالت الذهنية أولوية منطقية على أفراده .وهذا يعني في جان ٍ
ك ّل من المجتمع واألفراد .فالذوات الفردية متشكّلة من إدراج الفرد في مثل هذا النظام؛
والمجتمع متشكّل من خالل الطريقة التي يدير بها مثل هذه النظام الذهني السلوك االجتماعي
الذي لوال ذلك لكان بال معنى .فليس ثمة عالم اجتماعي موضوعي خارج تمثيالته الذهنية؛
حرة إال وهي ُمشكّلة من خالل هذه التمثيالت .وما هذه في جوهرها سوى وليس ثمة ذات ّ
مثالية كانطية جديدة .وقد شكّلت أيضا ً نقطة االنطالق في تفكير الكان ،وألتوسر ،وفوكو.
-1-6أسطورة عن األسطورة:
كرس ليفي شتراوس كثيرا ً من أعماله الالحقة لتحليل األسطورة؛ حيث نجد تأثير النموذج لقد ّ
األلسني ال يزال حاضرا ً وعميقاً ،إال أنّ ليفي شتراوس يعمل هنا مستخدما ً ضروبا ً من القياس
والمماثلة مهلهلة ورخوة إلى ح ّد بعيد .فهو ينظر إلى األساطير المختلفة ،التي تحكيها شعوب
القارة الواحدة ،بوصفها جزءا ً من اللسان الواحد ،ودليالً على أصناف أو مقوالت ّ مختلفة في
وبمعنى ما فإنّ هذه الرؤية مهلهلة ورخوة شأن عمليات السبر التي قام بها يونغ ً كونية.
ي ،وإن تكن أق ٍ ّل مقروئية منها .ووصف ليفي شتراوس عمله بأنه أسطورة عن للوعي الجمع ّ
األسطورة يبدو صائبا ً إلى ح ٍ ّد بعيد.
وعلى الرغم من ضخامة واتّساع أعمال ليفي شتراوس في ميدان األسطورة ،إال أنّها تتّبع
بصورة أساسية مبادئ التحليل التي وردت في مقالته المكتوبة عام “ 1955الدراسة البنيوية
لألسطورة” .فقد اهت ّم ليفي شتراوس طوال حياته باألدب واألساطير .وتعاون مع جاكوبسون
بنيوي لألدب ،وأشهر مثال على ذلك هو تحليلهما قصيدة بودلير “القطط” ،حيث ّ في تحليل
يبدو جاكوبسون شريكا ً مسيطراً ،ذلك أنّ التقنية التحليلية المستخدمة شديدة الشبه بتقنيته
الخاصة التي استخدمها في تقطيع أوصال سونيتة لشكسبير ليكشف ما فيها من تقابالت
قواعدية وصوتية فضالً عن داللتها المفترضة.
أ ّما تقنية ليفي شتراوس الخاصة وشُغل يده فيظهران في تحليله ألسطورة أوديب؛ هذا العمل
الذي ينتمي إلى أعماله األولى ،لكنه يبدي نقاط القوة والضعف في مقاربته عموماً .فهو يقوم
بتقطيع األسطورة إلى أحداث (إبّيسودات) ويرتّبها في شبكة ذات بعدين ،ليستخرج التقابالت
الهامة ذات الداللة التي يفترض باألسطورة أن تدور حولها .فأسطورة أوديب من دون هذه
الشبكة تجري على النحو التالي:
قدموس يبحث عن أخته أوروبا التي اختطفها زيوس .قدموس يقتل التنين .السبارتوي،
المولودون من أسنان التنّين يبيدون بعضهم بعضاً .البداكوس ،والد اليوس ،أعرج (؟) .أدويب
يقتل أباه اليوس .اليوس يعني أعسر (؟) .أوديب يقضي على الهولة .أوديب يعني ذا القدم
المتورمة(؟) .أوديب يتزوج أ ّمه جوكاست .إيتيوكليس يقتل أخاه بولينيس .أنتيجون تدفن
ّ
المحرمات.
ّ ً
أخاها بولينيس .منتهكة بذلك أحد
ي إلى ح ّد بعيد ،ويستثني كثيرا ً من األحداثإنّ هذا التقسيم إلى أحداث هو تقسيم اعتباط ّ
القراء مهماً .ومن ث ّم فإنّ ليفي شتراوس يضع
األخرى الواردة في المصادر األصلية م ّما يراه ّ
هذه األحداث في أعمدة أربعة ،تبعا ً للمعايير التالية:
اإلفراط في تقدير صالت القرابة( :قدموس يبحث عن أوروبا؛ أوديب يتزوج جوكاست؛
ط من قَدر صالت القرابة( :السبارتوي يبيدون بعضهم بعضاً؛
أنتيجون تدفن بولينيس)؛ الح ّ
أوديب يقتل أباه؛ إيتيوكليس يقتل أخاه)؛ قتل الوحوش( :قدموس يقتل التنين؛ أوديب يقتل
الهولة)؛ صعوبة الوقوف بانتصاب( :البداكوس أعرج؛ اليوس أعسر؛ أوديب ذو قدم
متورمة).
ّ
وهذه المعايير أيضا ً اعتباطيّة إلى ح ٍ ّد بعيد.
وبعد ذلك يقوم ليفي شتراوس بتأويل فئتيه األخيرتين -قتل الوحوش وعدم القدرة على
الوقوف بانتصاب – فيرى أنهما تعنيان على التوالي نفي التولّد الذاتي لإلنسان واستمرار
معنى عالئقي؛ “فاإلفراط في تقدير صالت ً التولّد الذاتي لإلنسان .وهكذا يصبح لألسطورة
الرحم يكون من التفريط أو االستهانة في تقديرها على نحو ما يكون الجهد المبذول في سبيل
التخلّي عن عقيدة التولّد الذاتي من استحالة تحقيق هذا التخلّي” .وتعبّر هذه األسطورة ،كما
يقول ليفي شتراوس“ ،عن االستحالة التي يقع فيها مجتمع ينادي بتولّد اإلنسان ذاتيا ً… حين
يريد االنتقال من هذه النظرية إلى االعتراف بأنّ كالًّ منا قد ُو ِل َد في حقيقة األمر من اقتران
رجل بامرأة”.
والب ّد من القول إنني لست أصدّق كلمة واحدة من هذه القصة الطويلة .وما لستُ أصدّقه على
وجه الخصوص هو أن يكون هذا المنهج منهجا ً علميا ً في االستقصاء .فاألمور أو النقاط التي
يمكن للباحث أن يت ّخذ بشأنها قرارات اعتباطية تتعلق بمحتوى األسطورة أو تصنيف وحداتها،
ط كثيرة جداً .كما يمكنأمور ونقا ٌ
ٌ بحيث تثبت النتائج ما يريده لها أن تثبته كائنا ً ما كان ،هي
للباحث أن يطبخ الكتب بقدر ما يريد .والحقيقة أنّ ما كتبه ليفي شتراوس عن األسطورة ربما
كان شيئا ً مطبوخا ً من هذا القبيل.
ي الحديث -وربما القارئ أيضا ً -لشدّة فجاجتها. الب ّد لردّة فعلي هنا من أن تصدم المن ّ
ظر األدب ّ
فالدافع المناهض للمنهج العلمي ،الذي نجده لدى ليفي شتراوس ،قد تطور إلى ح ّد بات فيه
النقّاد الموغلون في ذلك يتكلمون لغة أخرى تماماً .وقد جاء التحول الحاسم في عام ،1967
مع مقالة ديريدا “البنية والدالول واللعب في خطاب العلوم اإلنسانية” ،التي ألقاها في المؤتمر
ي الذي أشرنا إليه من قبل ،إال ّ أنّ هاتين
ذاته الذي ألقى فيه نيفين دايسن -هدسن نقده التجريب ّ
المقالتين تنتميان إلى عالمين فكريين مختلفين .فدايسن -هدسن يعتبر أنّ ليفي شتراوس ليس
تجريبيا ً بما فيه الكفاية ويرى أنّ النكهة التخييلية ،واألدبية ،والفلسفية التي تنبعث من
أشخاص أ ّميون في األنثروبولوجيا مثل
ٌ المداخل والمقدّمات التي يكتبها ألعمال شتراوس
جورج شتاينر وسوزان سونتاج هي نكهة مريبة تثير الشكوك ،كما يرى الرأي ذاته في
الساللة الفلسفية الطويلة التي يدّعيها شتراوس نفسه.
ق في مشكلة هي مشكلة فلسفية في جوهرها ،إال أنّه، أ ّما ديريدا فيرى أنّ ليفي شتراوس عال ٌ
بمعنى ما ،ليس فيلسوفا ً بما يكفي ألن يحلّها .فاإلثنولوجيا (واألنثروبولوجيا) علم أوروب ّ
ي
يستخدم مفاهيم أوروبية تقليدية (بما في ذلك ،بالطبع ،ك ّل المفاهيم التي يستخدمها دايسن –
هدسن وجميع األنثروبولوجيين التجريبيين) .وألن هذا العلم يدرس مجتمعات غير أوروبية،
فإنّ عليه أن يقدّم نقدا ً لك ّل مقوالت المركزية اإلثنية ،بما في ذلك مفاهيم الع ْلميّة التي قام
يدي
يقوض علميّته الخاصة حتى لو كان بين ّ عليها هذا العلم ذاته .وإال ّ فإنّ هذا العلم سوف ّ
يدي تلك التجريبية الف ّجة التيممارس بارع ورفيع مثل ليفي شتراوس (فما بالك لو كان بين ّ
يمثّلها دايسن – هدسن).
ق في محاكمته التقابل الميتافيزيقي التقليدي بين المحسوس ومن هنا فإن ليفي شتراوس مح ٌ
والمفهوم وفي تعاليه عليه ،هذا التقابل الذي أربك العلوم اإلنسانية بأسئلة تتعلق بما إذا كانت
هذه العلوم تدرس أشيا ًء مادية ،وسلوكا ً فيزيقياً ،الخ ،أم أنها تدرس المعنى؟ إال أنّ ليفي
شتراوس يجري هذه المحاكمة ويتعالى هذا التعالي عن طريق وضع نفسه ،منذ البداية على
مستوى الدالول ،في حين أن مفهوم الدالول ذاته ،بوصفه اقترانا ً لدا ّل ومدلول ،مشروط
بالتقابل بين المحسوس والمفهوم ،ويتعذّر فهمه من غير هذا التقابل .وهكذا فإن اإلثنولوجيا،
ي ،ال تستطيع أن تقوم بوظيفتها إال عبر مفهوم أساسي من مفاهيم بوصفها نقدا ً للتفكير الغرب ّ
الميتافيزيقا الغربية.
وبالمثل ،فإن ليفي شتراوس يميّز تمييزه الشهير بين نمطين من التفكير .أولهما هو الذي
غ فيه مفاهيم جديدة بغية تفسير العالم ،على النحو الذي يقوم فيه مهندس بصنع آلة من تُصا ُ
أجزاء جديدة ،حسنة التصميم( ،ويُف َهم ضمنا ً من ليفي شتراوس أن هذا التفكير هو تفكير
ظر الحديث) .أما الثاني فهو الذي تُستخدم فيه تصنيفات ُمعَدّة مسبقاً ،كتلك التي ّ
تفرق بين المن ّ
نوع حيواني وآخر ،ألغراض معرفية مختلفة تماما ً كالتصنيف االجتماعي للبشر ،كما هو
الحال فيما جرت العادة قبل ليفي شتراوس على تسميته بالطوطمية( ،ويُفهم أنّ هذا التفكير
هو تفكير المجتمعات البدائية التي تفكّر بمصطلحات وحدود أسطورية) .ويشبه هذه المنهج
تيسر له من قطع قديمة تبقّتّ الفكري عمل ال ُم َحرتِق ( )Bricoleurالذي يصنع أشياءه مما
عن عمل آخر .غير أن ديريدا يشير إلى أن جميع مفاهيمنا متبقيّة عن عمل آخر .وأننا نبدأ
جميعا ً بمفاهيم جاهزة ،أُنتجت في األصل ألغراض أخرى ،ونعدّلها لتوافق ما نفعله اآلن.
فليس هناك إذا ً نوع خاص وبدائي من التفكير شبيه بالحرتقة ( ،)bricolageإنّما ك ّل تفكير
هو حرتقة.
وديريدا في غاية السرور ألن األمر كذلك .وما يروقه في الحرتقة ليس علميتها ،بل قوتها
األسطورية -الشعرية .وما يروقه في معالجة ليفي شتراوس ألسطورة من أساطير شعب
ئ والمطبوخ” ،هو غياب أية البورورو ،في عمل له متأخر ويحمل عنوانا ً مالئما ً تماماً“ ،الني ّ
أي مكان ،نظرا ً لغياب أي
أسطورة مرجعية ذات امتياز ،وإمكانية مباشرة التحليل من ّ
سس يؤخذ كمسلّمة أو بداهة .إال ّ أنّ ذلك يقتضي أن تضرب صفحا ً عن “مركز” ،أو مبدأ مؤ ّ
ي؛ فالخطاب البنيوي في األساطير هو خطاب أسطوري الشكل ،إنتاج ي أو الفلسف ّ
الخطاب العلم ّ
أسطورة عن األسطورة.
ستكون لنا عودة الحقا ً إلى هذه المناهضة الميتافيزيقية للميتافيزيقا والتي تشكّل أساس موقف
ديريدا .أ ّما اآلن فيهمنّي تأثيرها .فما إن أصبحت صيغة التأويل المناهضة للعلم هذه ذات نفوذ
في بعض األنحاء ،خاصةً األدبية ،حتى اختفت تماما ً طروحات ليفي شتراوس األصلية .ومن
األمثلة على ذلك هذا التعليق في عام 1982على معالجة ليفي شتراوس أسطورة أوديب:
غير أنّ هذا اإلزاحة وهذا البحث عن محتوى كامن ،أو عن “بنية عميقة” ،ال يمكنهما أن
ي .وإذايفترضا مسبقا ً وجود معنى جوهري إال بقدر ما يمكنهما أن يفترضا وجود معنى حرف ّ
ما كان ليفي شتراوس قد اكتشف أن أسطورة أوديب تعبّر في النهاية عن التقابل بين التولّد
الذاتي والتكاثر ثنائي الجنس ،فإنّ ذلك ال يعني أنّ من الممكن اختزال األسطورة إلى هذه
النص السيميائية على
ّ الداللة المحددة .فقيمة التحليل تكمن بالدرجة األولى في تفكيك عالقات
جميع المستويات ،تماما ً كما تكمن أهمية التقابل بين التولّد الذاتي والتكاثر ثنائي الجنس في
الدور الذي يلعبه هذا التقابل في نظام الشيفرات الثقافية أو السنن الثقافية بأكملها -االتصالية،
والقانونية ،واالقتصادية – حيث يصبح مجرد دا ّل آخر.
بأي حال من األحوال ،وهو رب قائل يقول إنّ باوم ،كاتب هذا المقطع ،ليس تفكيكيا ً “جامحا ً” ّ ّ
يزعم أنّه “يشارك في السعي وراء شعريّة بنيوية ،أو نظرية سيميائية بوج ٍه عام” .ولكن
الحظوا كم هي مهلهلة واستعارية هذه النظرية التي يسعى وراءها .فهو يستعير مصطلح
“البنية العميقة” من القواعد التوليدية ،1965التي تستخدمه كمصطلح تقني ،إال أنّه يضعه
ي .وما يقلقه أساسا ً ليس تفسير األشياء ،بل بين أقواس ليشير أنه ال يستخدمه بمعناه التقن ّ
ب كهذا سوف يبدو عتيقا ً ومن غير الالئق أن تفادي أن يكون اختزاليا ً إزاءها .وفي سياق خطا ٍ
علم من علوم المجتمع ينبغي أن تقوم على أسس تجريبية ،وأن تكون نطالب بأنّ نظريةً في ٍ
لديها القدرة الكافية على التفسير ،وأن تكون اختزالية؛ بمعنى أن تكون أبسط من الوقائع التي
تزعم تفسيرها؛ وسيبدو سوقيا ً أن نطالب بأال ّ نس ّمي شيئا ً “اكتشافا ً” إال إذا كنّا نعتقد بأنّه
حقيقي.
إذاً ،لقد حجبت عنّا االفتراضات والمزاعم الحديثة كالً من الطابع الحقيقي للعمل الذي جرى في
األربعينيات والخمسينيات واإلمكانيات الحقيقية التي ينطوي عليها .فقد كان هذا العمل علميا ً
إلى ح ّد بعيد في طابعه وفي غاياته ،على الرغم من الطبيعة اإلنسانوية التقليدية لكثير من
مادته .وكان النجاح بالنسبة له يقوم بالدرجة األولى على تقديم توصيفات بنيوية نظامية
لعالقات القرابة ،واألسطورة ،والفولكلور ،والشعر ،الخ .أ ّما على مستوى أعلى ،فكان النجاح
ضرب من ٌ يقوم على اكتشاف مجموعة من المقوالت الكونيّة في اشتغال العقل البشري ،وهذا
كانطية بيولوجية أكثر منه كانطية فلسفية( .وقد قبل ليفي شتراوس توصيف موقفه بأنه
“كانطية دون ذات متعالية”).
وثمة تماثل دقيق هنا مع قواعد شومسكي التوليدية ،التي بدأ تطورها بعد أكثر من عشر
سنوات على أنثروبولوجيا ليفي شتراوس .وها نحن من جديد أمام وقفة علمية واعية لذاتها
حقاً؛ وال تمكن مقارنة تف ّحصها لعلميتها بما يقوم به أي علم اجتماعي آخر على هذا الصعيد.
ي ،على نح ٍو أنجح بكثير من ك ّل ما قدّمته كما أننا أمام ازدهار هائل للتوصيف األلسن ّ
األنثروبولوجيا ،األمر الذي يعود من جهة أولى إلى ما قام به شومسكي من اكتشافات تقنية
تتعلّق بالبنى الرياضية التي تبديها اللغة ،كما يعود من جهة أخرى إلى حقيقة أنّ وصف اللغة
ت ألسنية هي خصائص أبسط من وصف المجتمعات .وها نحن من جديد أمام سعي ٍ وراء كليّا ٍ
المرة إن بعضا ً من هذه الخصائص قد أضحى معروفاً؛ للعقل البشري؛ حيث يمكن القول هذه ّ
كحقيقة أنّ اللغات ال يمكن أن تنبني على نموذج بسيط من “التسلسل واالختيار” (قواعد
الحالة المتناهية).
أ ّما ما يميّز القواعد التوليدية عن األنثروبولوجيا البنيوية فهو عالقتها بالتجريبي ،فك ٌل من
هذين الفرعين كان قد رفض الفكرة التجريبية القائلة بأنّ موضوع البحث في العلوم
ي ،واعتبر أنّ هذا الموضوع هو التمثيالت الذهنية .وهذا ما االجتماعية هو السلوك الفعل ّ
عرضهما كليهما إلى هجوم عنيف شنّته المدارس التجريبية القديمة .غير أنّ القواعد التوليدية ّ
أثبتت أنها أقدر بما ال يقاس على تقديم توصيفات للواقع التجريبي شاملة وقابلة لالختبار.
وعدد القواعديين التوليديين الذين قاموا بما يكافئ العمل الميداني الواسع (كوصف اللغات
صالً ،على سبيل المثال) هو أكبر بكثير من عدد األنثروبولوجيين البنيويين المختلفة وصفا ً مف ّ
الذين تصدّوا للعمل الميداني .واألنثروبولوجيا البنيوية ،على َه ْدي ٍ من زعيمها ،لم تتجه صوب
شرط األلسنية العلمية ،بل بقيت أو عادت من جديد موقفا ً فلسفياً .ولذا فقد كانت عرضةٌ
النتقادات ديريدا الفلسفية المحضة ،بخالف القواعد التوليدية.
والحقيقة أنه كان ينبغي أن أقول إن انتقادات ديريدا تنطبق على القواعد التوليدية كما تنطبق
على األلسنية البنيوية ،بل وتنطبق كما يبدو لي على ك ّل بحث عقالني في الوقائع .إال أنّ قوة
النقد الفلسفي المحض لعلم من العلوم تختلف تماما ً تبعا ً لما إذا كان لدى هذا العلم نتائج
واسعة يقدّمها أم ال.
ي؟ ليس مدهشا ً أنوالسؤال المطروح هو إلى أين يؤدّي علم يعمل بمثل هذا التو ّجه المعرف ّ
نجد مثل هذا العلم مترافقا ً مع ثالثة أنماط مزدهرة من البحث العلمي الحديث ،هي الدراسات
المعرفيّة في علم النفس ،واألبحاث الفيزيولوجية العصبية ،والمحاكاة الحاسوبية للسلوك
البشري في أبحاث الذكاء االصطناعي( .نظريات شومسكي الباكرة عن اللغة هي أجزاء
أساسية من النصوص العلمية الحاسوبية) .ويبدو لي أن مثل هذا البحث هو من بين أش ّد
أي اهتمامظري األدب عن ّ األبحاث أهمية في العالم كلّه اليوم؛ وما يثير حيرتي هو انصراف من ّ
ي اهت ّم بعلم النفس الخشن منذ أيام إ.أ.ريتشاردز؟) أي من ّ
ظر أدب ّ به في العادة( .هل هناك ّ
واعتقادي ،على أي حال ،أنّ العلوم المعرفيّة هي الوريث الحقيقي ألهداف البنيوية األولى.
غير أنّ السيميائيين المحدثين غالبا ً ما تقلقهم مثل هذه األهداف التي يرونها أهدافا ً وضعيّةً
ساذجة أو رجعية سياسيا ً وربما متنكّرة للحرية اإلنسانية؛ وتراهم يقدّمون أسبابا ً العتقادهم
بأن من المستحيل تحقيقها تتّصف بأنها أسباب ميتافيزيقية وغير مقنعة على اإلطالق .ولقد
أضحت أعمال ديريدا كتاب هذه المدرسة المقدّس .غير أنّه ما من مجال إلنكار أن البنيويين
األوائل قد أرادوا أن يأتوا إلى العلوم اإلنسانية بمنهج علمي صلب واعتقدوا أن لديهم نموذجا ً
مناسبا ً لهذا المنهج هو النموذج الذي قدّمته األلسنية البنيوية.
ومقاالت ليفي شتراوس الباكرة حاسمة تماما ً بهذا الشأن .إال أن مقاالته الالحقة تمثّل نقلة
حاسمةً أيضا ً بعيدا ً عن هذه المقاربة العلمية الصارمة باتجاه ما أصبح في النهاية ضربا ً من
المقاربة األسطورية ،كما يعترف هو نفسه .وربما كان من العسير أن نحدد ما إذا كان الخالف
مع سارتر -بعدائه الشديد لمقاربة اإلنسان مقاربةً أنثروبولوجية موضوعية -هو الذي أدّى
إلى إعادة طبع المشروع بأكمله بالطابع الفلسفي؛ أو ما إذا كان عمل ليفي شتراوس الباكر في
ي؛ أوالقرابة لم يصمد أمام التجريب فكان الب ّد من إعادة تأويله تأويالً مثاليا ً بمفعول ارتجاع ّ
ما إذا كانت هناك قوى عميقة الجذور في الثقافة الفرنسية ،أو ربما في الموقع االجتماعي
المه ّمش للمثقفين األدبيين في أي بلد حديث ،هي التي تعادي الدراسات التجريبية التي تدور
حول اإلنسان.
فبصرف النظر عن السبب ،كانت النتيجة أنّ البنيوية ،في هذه المرحلة الثالثة التي شهدت
محاوالت طموحة لتنظيم جميع حقول البحث تبعا ً لمبادئ مستمدةً في جوهرها من األلسنية ،قد
انقلبت وتحولت من استراتيجية للبحث في العلوم االجتماعية إلى موقف فلسفي مناهض
لإلنسانوية عموما ً وللوجودية السارترية على وجه الخصوص ،موقف قاصر ،ومستهتر ،بل
ي .ولهذا الغرض بالذات فإنّ دو سوسور ،الذي ينظر مترفّع وازدرائي ،في تعامله مع التجريب ّ
إليه اآلن على أنّه السلف الوحيد لأللسنية البنيوية (ربما ألنه كتب بالفرنسية) ،قد خضع لنوعٍ
من إعادة التأويل جعلت منه فيلسوفاً ،معنيا ً أساسا ً بطبيعة التجربة الذاتية ،أو حتى بمكانة
العقل الالواعي .وهو دور كان كفيالً بأن يثير دهشته واستغرابه إلى أبعد حدّ ،كما يحتاج إلى
مقطع آخر كي نصفه.
سن
-2البنيوية الرفيعة :نظرية الذات وسوسور الجديد ال ُم َح ّ
-2-1المواجهة مع الفلسفة:
كانت المغامرة الكبرى التي خاضتها البنيوية في فرنسا هي مواجهتها مع الفلسفة الفرنسية،
التي أعني بها بصورة أساسية الفلسفة الظاهراتية والوجودية إضافةً إلى جانب هيغل ّ
ي يتحدّر
من المحاضرات التي ألقاها كوجيف قبل الحرب وطبعات فلسفية متكلّفة من ك ّل من ماركس
وفرويد .ولست أريد هنا أن أضفي طابعا ً ملحمياً ،أو تاريخيا ً عالمياً ،على هذه المعركة
الفكرية .فالقول إنّ الفلسفة الفرنسية في أواخر الخمسينيات قد أنجبت بنيوية روالن بارت هو
بال ريب كالقول إنّ السفوح قد تمخضت فأنجبت فأراً .ذلك أنّ الجبلين الراسيين في خلفية هذا
القياس أو التشبيه هما هوسرل وهيدغر .وهما يبدوان لي فيلسوفين عظيمين أصيلين ،أفلحا
في طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة المعرفة والوجود على التوالي ،وبالتالي حول طبيعة
الفلسفة ذاتها .وليس استخفافا ً بسارتر أو حتى بميرلوبونتي أن نقول إن عملهما ،على الرغم
من أهميته وأصالته ،لم يتع َّد توطين فلسفة الوجود وعلم الظاهرات في البيئة الفرنسية وفي
ب فرنسي.
إها ٍ
ي.
ولقد بدت البنيوية لهذه الطبعة الوطنية من الوجودية وعلم الظاهرات بمثابة منافس محل ّ
وبقدر ما يتعلق األمر بالنظرية األدبية ،فإنّ روالن بارت هو البنيوي والسيميولوجي الفرنسي
ق األمر أساسا ً بمثا ٍل للحوار بين الفلسفة والبنيوية ،فربما يكون األكثر شهرة .أ ّما حين يتعل ّ
ّ
على المرء أال يختار بارت كممثل لهذه األخيرة .وقد يكون من األفضل أن نختار ليفي
كرسه لفلسفة البري لميرلوبونتي ،وض ّمنه فصالً ختاميا ً ّ شتراوس ،الذي أهدى كتابه “الفكر ّ
سارتر .كما يمكن أن نختار الكان ،الذي تأثّر تأثّرا ً عميقا ً بهيغل وهيدغر وتأثّرا ً طفيفا ً بليفي
شتراوس ،وقدّم طبعة بنيوية مزعومة من الالوعي الفرويدي وضعها في وجه تنكّر سارتر
للوعي ورفضه له .أو قد يكون الخيار هو لوي ألتوسر ،الذي قدّم “ماركسيةً بنيوية” هي ،من
الوجودي على الماركسية.
ّ بين أشياء أخرى ،ثق ٌل يقابل تنويع سارتر
ظر ،ربما كان األق ّل اهتماما ً بالفلسفة بين أ ّما بارت ،كما أرى ،فليس من هذه العصبة .فهو كمن ّ
البنيويين الكبار .ومن بين عمليه النظريين الرئيسين“ ،مبادئ السيميولوجيا” و”س/زد”،
نجد أنّ األول ،الذي كان له األثر الكبير بين السيميائيين ،لم يكن من الناحية الفلسفية أكثر من
ت لسوسور ،في حين كان “س/زد” ،في العديد من النواحي ،وكما سأحاول أن تكييف باه ٍ
ي منه إلى الفلسفة أو العلم .كما أنّ تعامل بارت مع النظرية ي حداث ّ أبيّن ،أقرب إلى عمل أدب ّ
ي .لقد كانت هذه هي ي يتوق إلى نيل االحترام األكاديم ّهو إلى ح ّد كبير تعامل ناقد أدب ّ
اهتماماته األساسية في وقت من األوقات ،غير أنّ من الخطأ أن نرى أنها منجزاتها الكبرى.
بيد أنّ البيئة الثقافية الفرنسية في أواخر الخمسينيات وفي الستينيات ،كانت تفرض حتى على
عمل رجل مثل بارت أن يقدّم إطارا ً فلسفيا ً يُظهر ما كان من الواجب االرتكاس ضدّه وإظهار
ردّة الفعل عليه .وبارت لم يكن أبدا ً غير مبا ٍل (كعادة النقّاد اإلنجليز) باألزياء الفلسفية في
أيامه ،أو بما كان االختصاصيون في األنثروبولوجيا ،أو التحليل النفسي ،أو الفلسفة
الماركسية يفعلونه بها .فقد ألقى ليفي شتراوس ،والكان ،وألتوسر ظالال ً متعددة األلوان على
السيميولوجيا والنظرية األدبية بتقديمهم نظريات في الثقافة ،والذات ،واأليديولوجيا .وفي هذه
ي ،بل كفيلسوف سكَ بسوسور وأعيدت قراءته ،ال كألسن ّ
ي علم ّ البيئة الفكرية بالذات كان أن أ ُم ِ
ي لديه ما يقوله عن الذات بل وعن الالوعي. سيميولوج ّ
وما أقصده بـ “الفلسفة الفرنسية” هو شيء أوسع من أعمال ميرلوبونتي وسارتر ،وإن كان
كرسها في الثالثينيات لكتاب هيغليشمل هذه األعمال .ولع ّل محاضرات ألكسندر كوجيف التي ّ
“علم ظاهرات الروح” وتركت أثرا ً منقطع النظير هي التي أذّنت بمبادئ هذا التقليد على نح ٍو
شديد الوضوح .وإليكم هذا المقطع من ترجمة الفصل الرابع في كتاب هيغل والتعليق عليه،
وهو فصل يدور حول جدلية السيد والعبد:
اإلنسان وعي للذات .فهو واعٍ لذاته ،واعٍ لواقعه اإلنساني وكرامته اإلنسانية؛ وهو بهذا
يختلف اختالفا ً جوهريا ً عن الحيوان ،الذي ال يمضي إلى أبعد من مستوى عاطفة الذات
البسيطة .ويصبح اإلنسان واعيا ً لذاته في اللحظة التي يقول فيها -للمرة األولى“ -أنا”.
يحول الوجود ،المتكّشف لذاته بذاته في معرف ٍة حقّة ،إلى “موضوع” متكشّف الرغبة هي ما ّ
ت تختلف عن الموضوع و”تقف قبالته” .إنّ اإلنسان ليتشكّل ويتكشّف -لنفسه لـ “ذات” بذا ٍ
ولآلخرين -في رغبته وبرغبته – واألص ّح القول ،بوصفه رغبته – على أنّه “أنا” ،على أنه
األنا التي تختلف جوهريا ً ع ّما هو ليس أنا وتقف قبالته جذرياً .فاألنا “اإلنسانية” هي أنا
رغبة أو أنا الرغبة.
كان للهيدغرية والهيغلية نصف الماركسية التي قدّمها كوجيف (سواء أُخ َذت منه بصورة
مباشرة أو غير مباشرة) تأثيرها الهائل في الفكر الفرنسي في األربعينيات والخمسينيات.
وكان جاك الكان ،الذي التحق بمحاضرات كوجيف ،قد أعاد قراءة كامل أعمال فرويد وأعاد
التفكير بها على نح ٍو شديد التدقيق ،في ضوء مواقف فلسفية مثل هذه ،منذ عام .1936وقد
انطوت إعادة القراءة التي قام بها الكان على اإلطاحة بالجوانب الميكانيكية في مذهب فرويد،
وعلى وضع مبدأ الواقع الفرويدي تحت طائلة الشك ،وأصبح موضوع هذا العلم هو الواقع
النفسي وليس الموضوع ،وقُ ِص َر موضوع البحث في علم النفس على وقائع تتعلق بالرغبة.
والتمييز الذي أقامه الكان بين الذات اإلنسانية واألنا الفرويدية هو ،باعتقادي ،ثمرة لهذا
النمط من التحليل .ومن المعروف أن الكان قد اتخذ موقفا ً متطرفا ً من األنا الفرويدي .ففي
حين كان فرويد قد أعطى لألنا وظيفة هامة تتمثّل في التفاوض مع الواقع الخارجي ،فإنّ الكان
نظر إلى األنا بوصفه نتاجا ً لسوء التعرف وإلضفاء طابع موضوعي زائف في مرحلة الطفولة
يمر أثناء نموه في طور أطلق عليه اسم “طور المرآة”(وهو األولى .فالطفل ،تبعا ً لالكانّ ،
طور لم تُشر إليه آنا فرويد أو ميالني كالين ،أو أي طبيب من أطباء األطفال خارج مدرسة
الكان) .وفي هذا الطور يتعلّم الطفل أن يتعرف ذاته ،أو أن يتخيلّها على األقل ،عبر انعكاسها،
ي (الموجود في االستيهام) بوصفها كينونة موحدة .وعندئذ ينشأ األنا بوصفه ذلك الكيان الخيال ّ
الذي يلعب بعد ذلك دور عامل سوء التعرف وإضفاء الطابع الموضوعي الزائف .ومن
الواضح أن الكان يعارض معارضة مباشرة تلك المدارس التحليلية التي ترى أن غاية التحليل
هي تعزيز األنا وتحسين حالة التكّيف مع الواقع االجتماعي الخارجي وك ّل هذا قبل أن يدخل
الكان مرحلته “البنيوية”.
لقد طرأ على البنيوية تغير جديد تماما ً مع دخولها البيئة الفلسفية الفرنسية ،حيث تحولت من
نظرية عن اللغة ،واألدب ،والمجتمع وما شابه إلى نظرية في بنية “الذات” التي تختبر تلك
الموضوعات من لغة ،وأدب ،ومجتمع وما شابه .ولقد أشرنا من قبل إلى ما كان لدى ليفي
بنى كونية للعقل البشري .وقد تبنّى شتراوس من نزعات وميول كانطية ،أو دافع إلى اكتشاف ً
الكان بعض أفكار ليفي شتراوس ،بطريقة غائمة بعض الشيء ،وجعلها فرويدية .فقد بدا
معقوال ً أن يت ّم ربط المرور عبر المرحلة األوديبية من النمو (مرحلة الرغبة بقتل األب
والزواج من األم) ،التي هي في النظرية الفرويدية بوابة البلوغ اإلنساني ،مع تابو الزنا
بالمحارم عند ليفي شتراوس ،الذي يمثّل مصدر الثقافة اإلنسانية .فكالهما يفيد في تفريق
اإلنسان عن الحيوان .كما أصبح عالم الثقافة الليفي شتراوسي ،الذي يقابل الطبيعة ،عالم
“الرمزي” الالكاني ،الذي يبدو لالكان متماديا ً كليا ً أو جزئيا ً مع عالم اللغة .فالدخول إلى هذا
العالم هو ما ينقل العضوية أبعد من المرحلة الحيوانية وينتج الذات اإلنسانية.
ق أن ثمة فجوة مفاهيمية هنا ،لعلّها لم تكن واضحة لالكان ،وهي فجوة أجدها واسعة والح ّ
وعسيرة .فاهتمام الكان بوصفه محلالً نفسانيا ً هو بالكالم .وقد أقام في البداية تمييزا ً بين كالم
ي .وهو تمييز ممتلئ ينتمي إلى الذات وكالم فارغ يصدر عن األنا وينتمي إلى مجال الخيال ّ
يشبه ما أقامه هيدغر بين خطاب يفصح عن “فهم الكينونة -في – العالم” و”كالم تافه” ال
يعدو أن يكون ثرثرة اجتماعية .والكالم الفارغ هو شيء يقوم المحلّل بتأويله وليس
باالستجابة لمحتواه ،وظهور الكالم الممتلئ هو أول ما يشير لالّكاني في بدايات الالكانية بأنّ
المريض قد شُفي .وفي حين يحظى هذان التمييزان بأهمية بالغة عند الكان ،فإنهما بالنسبة
أللسني -كسوسور أو جاكوبسون -ليسا سوى طريقتين في استخدام اللغة ذاتها .وهكذا فإنّ
مفهوم اللغة لدى األلسني ال يقدّم لالكان أية فائدة في الواقع .إال ّ أنّ هذا المفهوم هو ما
نحتاجه لبناء مجال الرمزي بك ّل ما له من أهمية ،إذ تتشكّل الذات فيه.
والحقيقة أنّ مناقشة مسائل كهذه هي أمر بالغ الصعوبة .فكتابات الكان المنشورة هي كتابات
برقية ،مبرمجة ،فضالً عن كونها عقائدية جامدة ،وتترك انطباعا ً في بعض األحيان بأنها
ضروب من المحاكاة لعمليات التفكير الالواعية (كانت لالكان صالته بالسرياليين ،وظ ّل على
تعاطفه معهم) .وما يالحظه المرء هو أن هذه الصفات التي ميّزت كتابات الكان قد الزمتها منذ
الخمسينيات وكانت تشتد وتتعمق كلما تقدّم الزمن .أ ّما حلقات البحث التي أدارها الكان في
أي قول واضح عن الخمسينيات فكانت أكثر وضوحاً ،غير أن من الصعب أن نجد فيها أيضا ً ّ
هذه الفرضيات المذكورة منذ قليل أو عن غيرها ،فما بالك بأي اعتبار يتعلّق بإثبات هذه
الفرضيات أو بدحضها .وأنا شخصيا ً ال أملك أي دليل أو إثبات على أنّ الكتساب اللغة (مثالً)
أية عالقة بالمرور في عقدة أوديب ،على الرغم من دراستي المكثفة لكليهما .ويضاف إلى كل
ذلك أنّ الصيغ التي يقدمها الكان غامضة جداً ،ولذا لم يتضح لي إلى اآلن ما إذا كان لهذا
أي تأثير على دعاويه ومزاعمه .ويبدو أنّ من المستحيل أن نعلم االفتقار إلى األدلة والبراهين ّ
ما إذا كان لدعاوي الكان المتعلقة بما يدعوه اسم األب وباللغة أية عالقة بالدراسات التي يقوم
بها نفساني ألسني في موضوع اكتساب اللغة ،مع أن من المفترض أن تكون هنالك صلة ما
إذا ما كان الكان منكبا ً حقا ً على عمل علمي يتعلّق بنمو الطفل وتطوره .وغياب هذه الصلة مع
ي خشن هو شيء ال يزال يقلق كل من يلتحق في التسعينيات بحلقات بحث تتناول علم ألسن ّ
الكان (لقد التقى شومسكي الكان في أواخر حياته ووصفه بأنّه د ّجال متعمد يقوم بأالعيبه في
أي ح ّد من السخف يمكنه أن يصل بها) (شومسكي األوساط الثقافية الباريسية ليرى إلى ّ
.)1989
ي ،في الخمسينيات ،أن يُنظر إلى على الرغم من ك ّل ما سبق ،فإنّه لم يكن من غير العقالن ّ
ليفي شتراوس والكان على أنهما يضعان أساسا ً لعلم جديد عن اإلنسان ،علم يُفترض به أن
يجمع في وقت واحد كالً من الموضوعية وتناول الذاتية اإلنسانية تناوال ً بنيوياً .بل كان من
الممكن أيضا ً أن يُنظر إليهما بوصفهما تجسيدا ً للتناول “العلمي” للطبيعة اإلنسانية ،بعكس
أتباع الوجودية البعيدين عن العلم ،على الرغم من أنّ سلوكيا ً أميركيا ً ربما كان سيرى أنّ كال
طرفي هذه المناظرة الفرنسية مجرد مجانين .
والحقيقة أننا لو بنينا ،بأنفسنا وعلى أساس فجّ ،نوعا ً من وجهة النظر الوجودية والظاهراتية
النمطية البدئية ،فإن ذلك سيكون أكثر فائدة من الدراسة المدرسية لسارتر وميرلوبونتي في
تبيان ما كانت البنيوية تعارضه وتقف في وجهه .ويشكّل مفهوم الذات اإلنسانية ،المتطابق
أيضا ً مع الوعي ومع النفس ،نقطة ارتكاز أساسية في هذا الموقف الف ّج الذي يرى أنّ
“الذات” ليست مجرد وجهة النظر المنفعلة أو السلبية التي تُعاش منها التجربة الذاتية ،بل
وحرة
ّ هي المكان الذي تُتخذ منه الخيارات العملية وتصدر عنه أحكام القيمة .كما أنها موحدة
حرة في الفعل في ذلك العالم وهي أيضاً .فهي تجد نفسها مقذوفة في عالم لم تبنه؛ غير أنها ّ
تبني نفسها في سياق هذا الفعل .وما من تحديد أو تقييد ال واعٍ لخيارات الذات ،فمثل هذه
المزاعم ال تعدو أن تكون ضربا ً من اإليمان الفاسد.
لكنّ البنيوية تواصل في العادة هذا الر ّد فترى أن الدليل على تعقيد الوعي ،أو النفس ،هو
بمثابة دليل على انعدام وحدة ذلك الشيء الذي يدعى “الذات اإلنسانية” ،أو على بنائيته ،بل
وعلى موته .فما هو هذا الدليل؟ لقد سبق لسقراط أن أشار في الجمهورية إلى أنّه يكفي القيام
باستبطان بسيط لكي يظهر لنا أن ث ّمة صراعات ضمن الوعي ،كما أنّ المدارس النفسانية
جميعها متفقة على أنّ النفس بناء معقد تستغرق إقامته كامل حياة المرء .فما الجديد الذي
قدّمته البنيوية؟
لقد قدّمت البنيوية اعتبارين اثنين ،يمكن لك ّل منهما أن يُصاغ صياغة عامةً تماماً ،ولكن ربما
أول هذين
كان أفضل وجه للتعرف عليهما هو من خالل النظر في اوجه استخدام اللغة .ويتعلق ّ
ي والفعل .فلنأخذ النحو الذي يتعامل به المرء معاالعتبارين بعملية بناء ك ّل من اإلدراك الحس ّ
دفق من الكالم .إنّ من ال يعرفون لغة محددة أيّة معرفة (أي ال يعرفونها وال يعرفون أية لغة
قريبة منها) يسمعون ذلك التيار من األصوات الصادرة عن ناطق بهذه اللغة على نحو يختلف
تماما ً عن أولئك الذين يعرفونها .فالفريق األول ال يسعهم سماع األصوات المفردة في هذه
اللغة ،ال يسعهم سماع الوقفات أو التقطعات ضمن الكلمات .وإدراكاتهم الحسيّة لألصوات
تكون محكومة ببنية اللغة التي يعرفونها.
ي أن تأخذ هذا األمر بحسبانها ،وهو أمر وثيق وال ب ّد لك ّل نظرية نفسانية في اإلدراك الحس ّ
الصلة بالفلسفة الفرنسية دون أن يكون سبب ذلك مقتصرا ً على أنّ فلسفة ميرلوبونتي غالبا ً
ي .فاإلدراك الحسي يتحول عند ميرلوبونتي ما تُعتبر نظرية رصينة وموسعة في اإلدراك الحس ّ
إلى شيء يعمل بمثابة قاعدة للمعرفة دون أي توسط في حين يشير مثال اللغة إلى أنّ مثل هذا
أي شيء ليس موجوداً .األمر الذي يشكّل نقدا ً جذريا ً لفكرة ي الذي ال يتوسطه ّاإلدراك الحس ّ
اإلدراك الحسي بأكملها( .ولقد سبق لديريدا أن علّق في مؤتمر بالتيمور عام 1966قائالً..“ :
ي وال أعتقد بوجود شيء كهذا”).ال أعلم ما هو اإلدراك الحس ّ
وإذا ما عدنا إلى اللغة لبدا لنا ،في هذه الحالة الخاصة ،أنّ قدرا ً كبيرا ً من معرفتنا الوثيقة بلغة
ما يمكن ر ّده أو اختزاله إلى مجموعة من األنساق البنيوية ،وتكون هذه المعرفة ،في حالة
اللغة األولى ،معرفة ال واعية في العادة ،وتُكتسب في مرحلة باكرة جدا ً من مراحل نمو
تصور نفس إنسانية ال تمتلك هذا القدر من المعرفة بلغة ّ النفس .والحقيقة أنّ من المستحيل
واحدة على األقل .ويمكن القول إنّ النفس في جزء منها مبنية من هذه القطعة أو الجزء من
ظم إدراكاته الحسيّة األساسية بالعالقة مع هذه القطعة أو الجزء من شيفرة؛ أي أنّ العقل ين ّ
شيفرة.
وإذا ما كان هذا يص ّح على اللغة ،فما الذي يمنع من أن يص ّح عموماً؟ ماذا لو كانت جميع
إدراكاتنا الحسيّة يت ّم التعامل معها بالعالقة مع تشفيرات بنيوية ،تُبنى فينا عند الوالدة ،أو
نتعلمها من خالل التشريط االجتماعي؟ ْ
(إذ يمكن لنا أن نضيف أنّ قدرا ً كبيرا ً من األدلة التي
ظهرت مؤخرا ً يشير إلى أن األمر على هذا النحو) .أال يص ّح أن نقول إن النفس التي تدرك
أي شيء حسياً، حسيا ً ليست سوى المح ّل الذي تتموقع فيه جميع هذه الشيفرات؟ فحين ندرك ّ
فإنّ األنساق ال ُمشفّرة التي تشكّل جزءا ً من تكويننا تتعامل مع التنبيهات التي يت ّم تلقيها من
الخارج وتحولها إلى إدراكات حسية لموضوع ما.
ي يص ّح أيضا ً على الفعل .فنحن حين نتكلّم ،نتكلّم كلمات ،مؤلّفةوما يص ّح على اإلدراك الحس ّ
من أصوات نتعرفها لكونها جزءا ً من لغتنا .إال أنّ األنساق البنيوية التي بُنيت في أنفسنا ّ
أول
تعلّم اللغة هي ما يترجم ذلك إلى أفعال عضلية فعلية تنتج أصواتا ً فيزيقية يمكن لمكبر الصوت
أن يتلقاها .فإذا ما قمنا بتعميم هاتين الحالتين ،قد يمكن لنا أن نفترض أنّ جميع إدراكاتنا
بنى ال نعيها ،ولكنها شروط مسبقة للوعي. الحسية ،وجميع أفعالنا ،تتوسطها ّ
وأنا لم أشر حتى اآلن إلى الترميز .فقد عُنيت باللغة كمثال وحسب على الطبيعة البنيوية
ي والفعل اإلنسانيين ،أي أننا في عالم البنيوية ولسنا بعد في عالم السيميولوجيا. لإلدراك الحس ّ
ونحن نصادف حتى على هذا المستوى أدلة تشير إلى أنّ النفس مبنيّة من بنى ،وأنّ هذه البنى
موجودة في شيفرات اجتماعية قائمة قبل وجود النفس .غير أنّ اللغة ليست مجرد شكل بنيوي
للسلوك والتجربة .فهي أيضا ً وسيلة للترميز .وأفكارنا يت ّم تمثيلها في اللغة كما لو كانت هذه
اللغة واسطة لذلك ،وال يبدو أنّ ثمة وسيطا ً آخر يمكن عن طريقه تمثيل معظم هذه األفكارْ .
إذ
كيف يمكن لنا أن نمثّل مفهوما ً كمفهوم “االقتصاد البريطاني” أو “الشعراء الميتافيزيقيين”
بغير اللغة؟ وحتى لو ُوجدت هذه الواسطة ،فإنها ال بد أن تقوم بوظيفتها مثل لغة ،فضالً عن
أنها قد تكون مبنية من بعض النواحي مثل لغة .وقد يحصل أن نجد مفهوما ً ليس له تمثيل في
اللغة ،ولكن هل نجد مفهوما ً ليس له أي تمثيل بواسطة هذا الدالول أو ذاك؟ أال يبدو وكأن من
الممكن أن ندرس ك ّل المفاهيم عن طريقة دراسة أنظمة الدواليل التي تُمثّل فيها هذه المفاهيم؟
إنّ هذا ما تقوم به السيميولوجيا.
لكن المفاهيم جزء جوهري من المحتوى الفعلي للوعي .ومصطلح الوعي هذا يغطي ك ّل ما في
العقل ما عدا اإلدراكات الحسيّة ،ودوافع الفعل وما إلى ذلك .وفي هذه الحالة ستكون
السيميولوجيا ،التي هي دراسة أنظمة الدواليل ،دراسة للمفاهيم الموجودة في العقل ،وبذا
دراسة لتشكل النفس .فبقدر ما تمكن رؤية أنظمة الدواليل بوصفها شيفرات مستدخلة أو
ُمذوتّة ،تمكن رؤية العقل بوصفه مش ّكالً في جزء منه من خالل هذه الشيفرات.
وقد يرى القارئ أن من السهل استيعاب طبعة حديثة ،وضعية ،من هذه النظرية في العلوم
الطبيعية ،ال في العلوم اإلنسانية ،وهذا ما يراه علماء الحاسوب الذين يعملون على ما يُدعى بـ
الذكاء االصطناعي .فالشيفرات ،بالنسبة لهم ،هي عمليا ً برامج حاسوبية جارية في الدماغ،
الذي يُنظر إليه هنا بوصفه حاسوباً .والحقيقة أنّ هذه النظرية تروق لي ،وتبدو اختزالية على
نح ٍو يثير اإلعجاب .غير أنّ أحدا ً من بنيويي المرحلة الكالسيكية ما كان ليفكر على هذا النحو،
مع أن نظرياتهم تفضي إلى ذلك .فقبضة الفلسفة كانت قوية إلى أبعد حدّ .والحقيقة أنها ال
تزال قوية إلى أبعد حدّ ،وبما أنّ تلك البنيوية قد ماتت اآلن ،فإنّ معظم ما بعد البنيويين
سيجدونني ساذجا ً على نح ٍو ال شفاء منه ْ
إذ أقبل مثل هذه النظرة الحاسوبية إلى العقل.
ما كان واضحا ً في تلك المرحلة هو الصلة الوثيقة التي تصل أنظمة الدواليل بدراسة االتصال
التصور السوسوري األصلي القديم للسيميولوجيا .والشيء
ّ في المجتمع .وهذا في الحقيقة هو
األساسي هنا هو أنّ الشيفرات التي تحمل معنى تُكتسب من المجتمع .ولذا يمكن القول إن من
الممكن أن نُح ّل دراسة الشيفرات التي يوفرها المجتمع مح ّل دراسة الوعي الفردي.
وهكذا فإنّ الذات اإلنسانية ،ذلك الشبح المو ّحد ،قد ماتت مرتين بين يدي البنيوية .فقد كانت
ي ،التي هي ما يمكّنها من إدراك العالم
من قبل مح ّل مجموعة من شيفرات اإلدراك الحس ّ
حسيّاً .وها هي تصبح اآلن مح ّل مجموعة من الشيفرات الرمزية ،التي تعطيها معرفتها
وأنظمتها القيمية .ولم يعد المجتمع – هذا إن كان في أي يوم من األيام -ذلك الترتيب المالئم
الذي يقيمه جم ٌع من األنفس البشرية المستقلة بذاتها .بل على العكس ،فإنّ كل ّنفس يُزع ُم
أنها مستقلة بذاتها هي مشكّلة من شيفرات اجتماعية موجودة مسبقاً .وحده الجسد البشري
الخالي من الطابع االجتماعي يوجد قبل التحديد أو التشريط االجتماعي ،أما الشخص فال .
سر سبب إقامة بارت كتابته على الجسد ورغباته حين بدأ باالبتعاد عن(وهذا ما قد يف ّ
البنيوية).
ويكتسي هذا التحليل للذات داللة سياسية في عيون البعض .فألتوسر ،مثالً ،يستخدم هذه
المقاربة (متكئا ً إلى الكان في صياغة نظريته البنيوية عن الذات) في بناء نظرية عن الطريقة
التي تتشكل بها الذات اإلنسانية الفردية في األيديولوجيا ،فتقبل طواعية ما يقدّمه لها المجتمع
من خيارات ،كما لو كانت هذه األخيرة خياراتها الخاصة ،مع أنها خيارات قمعية كما يعتقد
ألتوسر .ولقد تحدّر من هذه النظرية األلتوسرية في األيديولوجيا بعض النقد المعاصر بالغ
األهمية مع أن هذا النقد غالبا ً ما يتنكر ألصوله متطلعا ً بدال ً من ذلك إلى شخص مثل فوكو.
وال ب ّد أن أقول إنني لم أستطيع أبدا ً أن أفهم لماذا ت ّم النظر إلى التحليل البنيوي وكأنه هجوم
على وحدة الذات أو فرديتها .فالقول بأنّ شيئا ً ما هو بنية مشكّلة من أجزاء موجودة مسبقا ً ال
يكافئ القول إن هذا الشيء غير موجود ،أو أنه ليس وحدة .وهذا ما يظ ّل صحيحا ً حين تكون
األجزاء شيفرات اجتماعية أو بنى رمزية موجودة مسبقاً .ويمكن أن يكون هناك مئات
الماليين من األنفس الفردية الفريدة ُمشكّلة من األجزاء األساسية التي يوفّرها مجتمع معقد.
وفي النهاية ،فإنّ لك ّل من على هذه األرض ،باستثناء بضعة توائم حقيقية ،نسقه الوراثي
الفريد ،مع أن هذه األنساق جميعا ً ُمركبّة من أربع وحدات كيميائية مختلفة ليس إال ،فلماذا ال
ينطبق على العقول ما ينطبق على األجساد؟
إنّ سوسور الذي صادفناه إلى اآلن ينتمي بقوة إلى ما يُدعى أحيانا ً -وبنيّة سيئة على الدوام-
بمدرسة المفكّرين “الوضعيين” .إنه سوسور أقسام األلسنية في إنجلترا وأميركا ،واح ٌد من
أعظم فقهاء اللغة (الفيلولوجيين) التاريخيين تمثّل إنجازه في إيجاد ألسنية تزامنية جديدة،
وعال ٌم حقق تطورا ً حاسما ً في علمه .وهذا السوسور لم يفقد أبدا ً اهتمامه ببراغي دراسة اللغة
طبع بأحرف وصواميلها ،ولذا نجد أنّ جزءا ً أساسيا ً من “محاضرات في األلسنية العامة” قد ُ
مائلة تشير إلى أمثلة ألسنية ،توضح نقاطا ً قواعدية ،أو صوتية ،أو داللية تاريخية في بعض
األحيان .وكانت السيميولوجيا بالنسبة لهذا السوسور ضربا ً من اإلضافة ،و ُهدبا ً ملحقاً،
وإمكانية مأمولة ،واقتراحا ً على هامش تطورات من المفترض حدوثها.
وهذا السوسور يختلف تماما ً عن سوسور التقليد البنيوي ،سوسور روالن بارت والدمية التي
ظر فيشنّ عليها ديريدا هجومه .فسوسور هذا التقليد هو سيميولوجي في المقام األول ،من ّ
العلوم االجتماعية ،وفيلسوف تستمد منه نظريات بديلة لنظريات سارتر وشركاه حول تشكّل
النفس .وال ب ّد من االعتراف بأن أعمال هذا السوسور الجديد تُقرأ وتُقرأ بكثافة واهتمام
استثنائيين ،بوصفها نموذجا ً لتطوير فروع جديدة من السيميولوجيا غير األلسنية ومن ثم من
أجل المشاكل الميتافيزيقية التي يُفترض أنها تتكشّف عنها من خالل تناقضاتها الداخلية ،كما
يرى جاك ديريدا أو أمثاله من المعلّقين .ولقد ت ّم في هذا السياق أخذ كل تمييز نظري أقامه
سوسور ،والنفخ فيه ،وتحليله ونقله إلى سياقات أخرى غالبا ً ما يعني فيها شيئا ً مختلفا ً تماما ً
ع ّما كان يعنيه .أما األمثلة األلسنية التي تثبّت هذه التمييزات النظرية إلى األرض فقد ت ّم
تجاهلها .وهكذا فإن “محاضرات” سوسور تُقرأ ،لكن المكتوب بحروف مائلة يغفل ويت ّم القفز
عنه.
كان من الصعب أن يحظى سوسور بمثل هذا النفوذ والتأثير لو لم يكن في عمله عناصر تسند
مثل هذه القراءات الجذرية .غير أنه ليس من السهل على القارئ غير الملتزم أن يضع يده
على هذه العناصر من خالل قراءة بسيطة للـ “محاضرات” .أ ّما في العروض الجذرية لعمل
سوسور ،فهذه العناصر مطمورة في عمق ما تشتمل عليه هذه العروض من افتراضات
وسجاالت الحقة من نوع سياسي أو مناهض للميتافيزيقا ،ولذا يصعب أيضا ً وضع اليد عليها
أو التقاطها .ولعل أوضح عرض لهذه العناصر هو ما نجده في األقسام األخيرة من كتاب
صغير جدا ً كتبه جوناثان كوللر ( ،)1976حيث نرى سوسور واحدا ً من األعالم في “سلسلة
فونتانا لألعالم المعاصرين” .ويقدّم هذا الكتاب ،على الرغم من اقتضابه ،عرضا ً وافيا ً لبعض
ألسنية سوسور وال يغفل األمثلة األلسنية .إال أنه يتبنّى النظرة الفرنسية الالحقة في تناوله
ألهمية سوسور العامة ،األمر الذي نجده في الصفحات 117-70من هذا الكتاب والتي سأستند
إليها فيما يلي.
يبدأ كوللر ،شأنه شأن ك ّل العروض التي تناولت جذرية سوسور ،بنظرية هذا األخير في
المعنى .ولقد سبق لكثير من المفكّرين ،ومن بينهم مفكرون بارزون مثل هيدغر ،أن عزوا
ي وجوهري أهمية خاصة لدراسة أصل الكلمات وتاريخها باعتبارها مرشدا ً إلى معنى ما أصل ّ
للكلمات التي نستخدمها .واعتبروا التغيرات الالحقة التي اعترت هذا المعنى نوعا ً من
اإلضافات الخارجية التي يمكن نزعها وإزالتها إذا ما دعت الضرورة .وبالطبع ،فإنّ من
أن يرى مثل هذا الرأي ،ذلك أنّ كالً من شكل الكلمة ومعناها الصعب على ألسنّي تاريخي ْ
يتغيران بمرور الوقت ،بحيث تصبح كيانا ً جديدا ً في حقيقة األمر.
ولقد رفض سوسور ذلك الرأي الذي يقول إنّ سلسلة تاريخية كاملة معينة من األشكال [أشكال
الكلمة] يكون لها معنى جوهري مشترك معين بحيث يمكن القول إنّ هذه األشكال هي طبعات
متعاقبة مختلفة من “الكلمة ذاتها” .وأدرك سوسور أنّ كالً من الصوت والمعنى يتغيران ،وأنّ
العالقة بين الصوت والمعنى هي عالقة اعتباطية ،وأن كالً من الصوت ال ُم َ
درك والمعنى
ال ُمدرك تشكّلهما أنساق من التقابل بين األصوات في الحالة األولى وبين األفكار في الحالة
الثانية .ونحن ال نملك مفردة فردية واحدة تقف بح ّد ذاتها ،ال في حالة الدالّ ،أي الكلمة التي
نتلفّظ بها ،وال في حالة المدلول ،أي المفهوم الذي نربطه بهذه الكلمة .فك ّل مفردة تستم ّد
ي.
هويتها من موقعها ضمن نظام كل ّ
وهذا أمر لـه أهميته العظيمة من الناحية المنهجية ،لكنّه أمر ينتمي إلى األلسنية الصرفة
بوصفها حقل دراسة مستقالً بذاته .فما الذي يحدث حين يت ّم النظر إليه من طرف فلسفة الذات
البنيوية الجديدة؟ يمكن لنا أن نقارب ذلك باستخدام إحدى استعارتين .فحين ننظر إلى العقل
بوصفه نوعا ً من الوعاء ،يمكن أن نقول إنّ بنى اللغة التي قال بها سوسور متوضّعة داخل
تعرفه .وحين ننظر إلى العقل
العقل ،إلى جانب الشيفرات البنيوية التي تحدد المجتمع أو ّ
ي من هذه رمزي مبن ّ
ّ بوصفه وجهة نظر تجاه العالم ،فسوف نقول إنه يدخل في عالم
الشيفرات .وهذه االستعارة الثانية هي التي يميل ك ّل من ليفي شتراوس والكان إلى
استخدامها.
والمالحظ في كال الحالين أنّ الشيفرات ليست نتاجا ً لخبرة الذات المعنية إال إلى ح ّد قليل .أ ّما
في جزئها األكبر فهي موجودة من قبل أن تكتسبها الذات ،فليس سوسور من ابتدع اللغة
الفرنسية ،وال دوركهايم من ابتدع المجتمع الفرنسي .وهذه الشيفرات تبني التجربة التي
تتمكّن الذات من خوضها .فلكي أدرك أنني أمام تعليقات معينة باللغة الفرنسية ال ب ّد لي من ْ
أن
ي أن أكون على ألفة ببنية المؤسسات أكون على ألفة ببنية اللغة الفرنسية ،كما يتوجب عل ّ
االجتماعية ،كالزواج مثالً ،لكي أدرك أنني أمام زواج معين حين أصادف واحداً.
وتبعا ً لكوللر ،فإن من الممكن مقارنة أهمية سوسور بالنسبة للعلوم اإلنسانية بأهمية
معاص َريْه ،فرويد ودوركهايم ،األبوين المؤسسين لعلم النفس الحديث وعلم االجتماع الحديث ِ
على التوالي .وما يجده كوللر محوريا ً في مقاربة هؤالء المفكرين الثالثة معا ً هو شيء كان
من الممكن لكثير منا أن يقرنوه بفيلسوف مثل هوسرل ،حيث يرى كوللر أنهم جميعا ً يضعون
“الذات” -النفس ،الـ “أنا”َ ،م ْن يدرك حسياً ،ويفكّر ،ويتكّلم -في المركز من ميدان تحليلهم.
ومن ثم يرى كوللرُ ،مقتبسا ً ديريدا خارج السياق الزمني المناسب ومبدال ً قصد هذا األخير
سرون المعاني تبعا ً قليالً ،باعتقادي ،يرى أن هؤالء المفكرين “يفككون” الذات .أي أنهم يف ّ
ألنظمة العُرف والتقليد التي ال تسيطر عليها الذات سيطرة واعية .وهكذا تتحلّل الذات ،أو
النفس ،إلى مكوناتها التي تصبح أنظمة عرفيّة قائمة بين األشخاص .كم تنح َل النفس إذ ت ُ َ
عزى
وظائفها إلى ُمنَ ّوعٍ من األنظمة التي تفعل فعلها عبر هذه النفس.
باختصار ،فإنّ من غير الممكن قيام علم االجتماع ،أو األلسنية ،أو علم النفس التحليلي إال ّ
حين يت ّم أخذ المعاني المنسوبة إلى الموضوعات واألفعال في المجتمع ،والتي تفرق هذه
الموضوعات واألفعال ،بوصفها واقعا ً بدئياً ،وبوصفها وقائع ينبغي تفسيرها.
وألنّ المعاني نتاج اجتماعي ،فإنّ التفسير يجب أن يجري بمصطلحات اجتماعية .ويبدو األمر
وكأنّ سوسور ،وفرويد ،ودوركهايم قد تساءلوا“ :ما الذي يجعل التجربة الفردية ممكنة؟ ما
الذي يمكّن البشر من أن يضطلعوا بموضوعات وأفعال ذات معنى؟ ما الذي يم ّكنّهم من
االتصال والفعل على نحو له معنى؟” وجوابهم الذي طرحوه هو المؤسسات االجتماعية التي
هي شرط التجربة مع أن النشاطات والفعاليات البشرية هي التي تشكّلها .فلكي نفهم التجربة
اإلنسانية ال ب ّد من دراسة المعايير االجتماعية التي تجعلها ممكنة.
(كوللر ،1976ص.)72
يضع كوللر مقاربته هذه مقابل الوضعيّة التجريبية التي تتحدّر من هيوم ،والتي تميّز بين
ي
ضربين من الواقع :واقع الموضوعات واألحداث الفيزيقي الموضوعي ،واإلدراك الحس ّ
الفردي الذاتي للواقع .والمجتمع عند هيوم ليس من النوع األول ،ولذا ال ب ّد أن يكون مجرد
نتيجة للنوع الثاني ،وربما مجرد قصة خيالية جمعية .كما يضع كوللر مقاربته مقابل المثالية
الهيغلية التي ترى في كل شيء تعبيرا ً عن العقل في سيرورة تطوره.
وهكذا ت ّم جمع ك ّل من سوسور وفرويد ودوركهايم معا ً بوصفهم فالسفة ،أو ربما فيلسوفا ً
واحداً ،يحلّل طبيعة التجربة اإلنسانية ،وليس بوصفهم علماء ،يقدّمون معلومات وقائعية
وتفسيرات نظرية لها .كما ينظر كوللر بعين االزدراء إلى الفكرة التي ترى أنّ كالً من هؤالء
ي ،على الرغم من قول فرويد ودوركهايم إنهما كانا كذلك الثالثة قد كان منشغالً بالتفسير السبب ّ
(فرويد ،1917-1915دوركهايم .)1895وهكذا يتمكن كوللر بعملية قياس وتشبيه واضحة
– وهي عملية فرنسية مميزة تعود إلى أواخر الخمسينيات – من أن يتدبّر أمر الجمع بين
ثالثة مفاهيم متباينة إلى ح ّد بعيد :فكرة البنية ،وفكرة التمثيالت أو المعايير الجمعيّة ،وفكرة
الالوعي.
البنيوي األفعال بنظام من المعايير -قواعد لغة معينة ،التمثيالت الجمعية الخاصةّ يربط التفسير
بمجتمع معين ،آليات اقتصاد نفسي معين -ومفهوم الالوعي هو طريقة لتفسير الكيفية التي
تمتلك بها هذه األنظمة قوة تفسيرية .فهو طريقة لتفسير الكيفية التي يمكن بها لهذه األنظمة
أن تكون مجهولةً إنّما حاضرةً على نح ٍو فاع ٍل ومؤثّر في الوقت ذاته .وإذا ما كنّا نعتبر
ي بمثابة تحليل للغّة فذلك ألن النظام ليس شيئا ً “معطى” للوعي مباشرة توصيف النظام األلسن ّ
ولكنه يُرى مع ذلك على أنه حاضر دوماً ،وفاعل دوماً ،في السلوك الذي يبنيه ويجعله ممكنا ً.
(المصدر السابق ،ص.)76
وهنا يطلق كوللر زعما ً صاعقا ً تماماً ،زعما ً يُظهر مدى الجذرية التي تس ُم إعادة قراءة
سوسور هذه .فسوسور ،كما يقول كوللر ،يقدّم أدلة على وجود الالوعي أفضل من تلك التي
يقدّمها فرويد!
على الرغم من أنّ مفهوم الالوعي قد ظهر في أعمال فرويد ،إال أنه مفهوم أساسي بالنسبة
لنمط من التفسير يسعى وراءه صف كامل من الفروع الحديثة ،وال ب ّد أنه كان سيوجد ولو لم
تكن مساهمة فرويد موجودةً .ويمكن القول إن هذا المفهوم يظهر في األلسنية بشكله األوضح
واألصعب نقضاً .فالالوعي هو المفهوم الذي يمكّن المرء من تفسير واقعة ال ريب فيها ،أال
وهي أنه يعرف لغةً (بمعنى أنه يستطيع أن يُطلق منطوقات جديدة مفهومة ،وأن يقول ما إذا
كانت جملة ما من لغته أم ال ،إلخ) مع أنه ال يعرف ما يعرفه .فهو يعرف لغة معينة لكنه
ي لكي يشرح لـه بدقة ما الذي يعرفه .ومفهوم الالوعي يصل بين هاتين يحتاج إلى ألسن ّ
الواقعتين ويضفي عليهما معنى ويفسح مجاال ً للشرح والتفسير .ولسوف تفسر األلسنية
أفعالي ،شأنها شأن علم النفس وعلم اجتماع التمثيالت الجمعية ،عن طريق إظهارها ال ُمفَ ّ
صل
للمعرفة الضمنية التي ال أعيها أنا نفسي(المصدر السابق ،ص.)76
إن جمع ك ّل من سوسور ،وفرويد ،ودوركهايم على هذا النحو قد يبدو غريباً ،غير أنّه يصبح
مفهوما ً حين نأخذ في الحسبان تلك التقاليد الفكرية الكبرى التي نبعت من ك ّل من هؤالء
المفكرين الثالثة .مع أنّ كالً من هذه التقاليد يحتّل موقع “األقلية” ضمن فرعه ،على الرغم
من األهمية التي قد تكون له.
فالتقليد األساسي المتحدّر من سوسور هو ،كما رأينا ،علم األلسنية الحديث ،أ ّما التقليد
األقلوي ،الذي يثير دهشة معظم األلسنيين ،فهو ذلك الذي يرى سوسور بوصفه فيلسوفا ً ّ
ي ،ضمن إطار السيميولوجيا الواسع ،بطبيعة التجربة الذاتية ،ووضع الخطوط الكبرى عُن َ
لمفاهيمنا وألسس الوعي الالواعية.
والتقليد األساسي المتحدّر من فرويد هو تقليد التحليل النفسي األرثوذكسي ،على الرغم من
األقلوي فهو تقليد جاك الكان ،الذي سخرّ وجود تباينات انشقاقية ال تُع ّد وال تُحصى .أ ّما التقليد
من العلمية الموضوعية لدى الفرويديين األرثوذكس وزعم أنّ الالوعي مبن ّ
ي مثل لغة ،ألنه،
في حقيقة األمر ،أثر للغة .ومع أنّ ما يعنيه الكان باللغة يبدو مختلفا ً تماما ً ع ّما يمكن أن يكون
قد عناه ألسني مثل سوسور ،إال أنه غالبا ً ما يشير إلى سوسور وكأنه هو المسؤول عن
تصوراته ،وذلك بتلك الطريقة التلميحية وغير المفهومة التي تتعم ّد اإلثارة واإلزعاج .وكما
قال لي دكتور أميركي في الفلسفة بكثير من الوقار والرزانة“ :ك ّل ذلك موجود لدى سوسور
كما تعلم”.
والتقليد الفكري األساسي المتحدّر من دوركهايم هو تقليد علم االجتماع واألنثروبولوجيا.
ألي انثروبولوجي
ويمثل ليفي شتراوس شخصية كبرى في هذا المجال ،شخصية قد ال يمكن ّ
أن يتجاهلها مع أن قلّة قليلة هم الذين يقبلونه ككلّ .وكان ليفي شتراوس في األربعينيات قد
اتّخذ األلسنية مثاال ً للمنهج وانتهى في الستينيات إلى تعريف األنثروبولوجيا بأنها فرع من
السيميولوجيا .ومن الصعب على المرء أن يرى أن ليفي شتراوس يشغل مكان األقلية ضمن
األنثروبولوجيا الفرنسية ،إال أنه أقلية ضمن األنثروبولوجيا ككلّ.
أ ّما حين نعتبر أنّ السيميولوجيا (التي أُعيد تعميدها اليوم باسم السيميائية) والتحليل النفسي
الالكاني واألنثروبولوجيا الليفي شتراوسية هي التقاليد األساسية المتحدرة من هؤالء
المفكّرين الثالثة (وهذا ما كانت تتوق إليه الطليعة الفرنسية في أوائل الستينيات وما نجد
سجاالت فيه إلى اآلن) فال عجب أن نجمع سوسور وفرويد ودوركهايم ،ألن هذا الجمع سيكون
طبيعيا ً على أساس هذا التأويل .بل إنّ هنالك اليوم من يرى إمكانية القيام بنوع من التوليف
الفكري بين هذه الحقول ،كالتوليف الذي قام به الكاتبان البريطانيان كوارد وإليس ،والذي
سنعرض له الحقاً ،على الرغم من أنهما ،شأن معظم الجذريين ،يستبدالن ماركس بدوركهايم
في قراءة ألتوسرية لألول .ولقد بدا مثل هذا التوليف واردا ً جدا ً في آخر أيام البنيوية ،وقد ختم
ك ّل ما دارت حوله تلك الضوضاء السائرة على الموضة .وليس ثمة سبب من حيث المبدأ ألن
ق أن تكون هنالك إثارة فكرية عندما يبدو توحي ٌد على مثل هذا نهزأ حتى بالموضة ،فمن المح ّ
المستوى قريبا ً بحيث تمكن رؤيته ،حتى لو لم يكن لدينا سوى فكرة ضبابية عما يدور حوله
أو يعنيه .وها هو سوسور ال يزال ينال كثيرا ً من الحظوة بسبب هذا التوحيد الضخم والذي لم
يتحقق تماما ً قط.
ومجمل القول إنّ المشكلة الفلسفية األساسية التي يُزعم أنّ جميع هؤالء المف ّكرين قد أسهموا
بها هي مشكلة طبيعة النفس ،والعقل أو الذات العارفة .واإلسهام الذي يقدّمه تقليد البنيوية
السيميولوجية في هذا الصدد هو تمثيله العقل ،أو الذات ،بوصفه مجموعة من الشيفرات
المتشابكة المتواشجة ال بوصفه كيانا ً موحداً .وتشكّل هذه الشيفرات األساس الالواعي للوعي.
ومن وجهة النظر هذه ال يعود من الصائب القول إنني أعرف لغتي .ففي الوقت الذي بدأت فيه
تعلّمها لم أكن أمتلك نفسا ً متطورة تماماً ،أما “األنا” القائمة اآلن فقد أسهمت في تشكّلها اللغة
التي أعرفها وأفكّر بها ،في حين شكّلت بقيتي شيفرات أخرى وبعبارة أكثر تأنقا ً فإنّ “ما ال
أعيه هو الذي يشكّلني ،ولست أنا من يتكّلم ،بل اللغة والشيفرات األخرى هي التي تتكلّم
عبري ،إنني أتكلّم من حيث ال أكون”.
ومن وجهة النظر هذه ،فإنّ “الذات” لم تعد تشغل الموقع المركزي الذي ّ
بوأها إيّاه التقليد
الذاتوي ،وإنما أضحت “غير متمركزة” .وتجربتي المباشرة لم تعد األساس الذي ال ّ الفلسفي
يُناقش للحقيقة العلمية ،كما اعتقد هوسرل وكما يعتقد نقّاد األدب ،وإنّما تُعالج عبر الشيفرات
التي تشكّل جزءا ً مني عن طريق ثقافتي .ويمكن أيضا ً ربط ذلك بمفهوم اإليديولوجيا
الماركسي على نحو يوضحه ويلقي الضوء عليه .فاإليديولوجيا ،عند ألتوسر ،هي أكثر بكثير
يشوش إدراك من كونها نظاما ً زائفا ً من األفكار التي يصنّعها المجتمع الرأسمالي لكي ّ
البروليتاريا مصالحها الطبقية .إنّ اإليديولوجيا باألحرى هي العنصر الذي نختبر فيه العالم،
ي ،أو
الرمزي الالكان ّ
ّ والعنصر الذي نحيا فيه .ويمكن أن نساوي بين اإليديولوجيا وبين مجال
ي ،وما من مجتمع -حتى بعد الثورة- ي الدوركهايم ّالثقافة الليفي شتراوسية ،أو الوعي الجمع ّ
يمكن أن يوجد من دونها.
قد ال تبدو هذه النظرة ماركسية على وجه الدقة ،إال أنها تمكّن المرء من تقديم بعض الحلول
المثيرة لبعض اإلشكاليات التاريخية في المصطلحات النظرية الماركسية ،فالمجتمع
الرأسمالي ،على سبيل المثال ،يحتاج لديمومته إلى مصدر ال ينضب يواظب على تزويده
حرة وتلقائية في الظاهر ،أثناء
الحرة في الظاهر ،لكي تقوم باتخاذ قرارات ّ ّ بالذوات اإلنسانية
الحرة الرأسمالية .غير أنّ هذه “الذوات” لم توجد بصورة ّ اضطالعها بأدوارها في األسواق
تلقائية ،بل شكّلتها الشيفرات الرمزية السائدة (أو “الممارسات” كما يفضّل ألتوسر أن يقول
بوصفه ماديا ً ماركسياً) من خالل سيرورة هي تقريبا ً تلك التي وصفها الكان .وهكذا يلتحق
الصف الطويل من أولئك الذين حاولوا التوليف بين ماركس وفرويد .لكن هذه ّ ألتوسر بذلك
الممارسات هي أيديولوجيا المجتمع ،وتبعا ً أللتوسر فيما بعد ،فإنّ الدول الرأسمالية لديها
عمليا ً أجهزة الدولة اإليديولوجية ،كالمدارس ،التي تنتج هذه الممارسات ،وتنتج بالتالي هذه
“الذوات”.
وليس معروفا ً على وجه اليقين ما إذا كان هذا صحيحا ً أم ال ،أو حتى ماركسيا ً أم ال ،وهو
يشكّل حجة الفتةً ومثيرة للماركسيين في تركيز جهودهم الثورية على تبديل المناهج في
المدارس والجامعات .ولقد وجد ريتشارد هارالند
( )1987اسما ً موحيا ً لما بعد البنيوية هذه ولجميع ما بعد البنيويات الالحقة ،بنزوعاتها
المثالية المتأصلة .لقد دعاها بـ “السوبر بنيوية”.
* الدواليل (جمع دالول )signوهو ماجرت العادة على ترجمته بعالمة أو إشارة .غير أنني
أعتقد أنها ترجمة غير دقيقة على الرغم من شيوعها(م).
مجلة التراث العربي العدد ـ 80إتحاد الكتاب العرب دمشق