You are on page 1of 11

‫حاول هايدغر في جل أعماله المبكرة أن يعطي للتأويلية طابعا عمليا‪،‬‬

‫فهو ال يتصور الفهم والتأويل في البداية كإمكانات للكشف عن معاني‬


‫النصوص‪ ،‬بل كإنجاز لعالقتنا اليومية والعملية بالعالم‪ ،‬أي انطالقا‬
‫من تعاملنا مع الناس واألشياء من حولنا‪ ،‬وهذا الطابع العملي للفهم‬
‫والتأويل ليس نابعا من فراغ‪ ،‬وانما يجد أساسه في التصور الهايدغري‬
‫الذي ينظر لإلنسان بصفته الكائن الذي ينجز وجوده‪ ،‬بحيث ال يكون‬
‫هنا ببساطة على غرار باقي الكائنات القائمة أمامنا‪ ،‬بل ينجز كونه‬
‫من خالل الفعل والفهم‪ ،‬من هنا اكتسى الفهم خاصة ومن ثم التأويلية‬
‫عموما مع هايدغر في مؤلفه "الكون والزمان" وقبل ذلك طابعا وجوديا‬
‫كجزء من تحليل الدازين الذي يسير بدوره في أفق معاودة صريحة‬
‫لطرح سؤال الكون‪.‬‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو‬


‫الفينومينولوجيا بين هوسرل‬
‫وهايدغر‬
‫خديجة عنيبة‬

‫كوة ‪www.couua.com‬‬
‫شكالن من الفينومينولوجيا‬
‫‪1‬‬

‫خديجة عنيبة‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


‫‪2‬‬
‫أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬

‫خدجية عنيبة – ابحثة يف الفلسفة املعارصة ‪ -‬املغرب‬

‫الحديث عن اهتمام هايدغر بالفينومينولوجيا يجرنا بداية للبحث في كتاباته األولى‪ ،‬خاصة‬
‫"األنطولوجيا‪ ،‬هرمينوطيقا الواقعانية"*‪.1‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Martin Heidegger, Ontologie, Herméneutique de la factivité, traduit par Alain‬‬
‫‪Boutot, Ed. Gallimard 2012.‬‬
‫هذا الكتاب هو في األصل عبارة عن محاضرة ألقاها هايدغر خالل دورة الصيف ‪ 3291‬بجامعة فرايبورغ‬
‫ولم يتم نشرها إال سنة ‪ 3211‬في إطار األعمال الكاملة لهايدغر‪ ،‬لم تتم ترجمته إلى اللغة الفرنسية إال في‬
‫سنة‪ ،9139‬نشير كذلك إلى وجود ترجمة عربية لهاته المحاضرة تحت عنوان "األنطولوجيا‪ ،‬هرمينوطيقا‬
‫الواقعانية"‪ ،‬ترجمة عمارة الناصر‪ ،‬منشورات دار الجمل ‪ .9132‬نشير إلى أننا فضلنا االعتماد على الترجمة‬
‫الفرنسية لنبقى مرتبطين أكثر بمعاني النص األصلي وأيضا ألن هذه الترجمة العربية لم تعتمد على على‬
‫النص األلماني‪ ،‬بل اعتمدت فقط على الترجمة الفرنسية‪.‬‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


‫صحيح أن عنوان هذا الكتاب ال يفصح بشكل مباشر عن وجود نوع من العناية الفلسفية‬
‫بالفينومينولوجيا لدى هايدغر‪ ،‬لكن هذا ال ينفي ذلك الرباط القوي بين الفينومينولوجيا والتأويلية‬
‫من جهة وبينهما وبين األنطولوجيا من جهة أخرى‪ .‬لهذا سيكون هذا القسم األول بمثابة معاودة‬
‫للتأمل في بدايات تشكل المالمح األولى للفينومينولوجيا لدى هايدغر في ارتباطها بكل من‬
‫األنطولوجيا والتأويلية‪ ،‬اعتمادا على كتابات هايدغر ومحاضراته األولى‪ .‬وبما أن اختيارنا كان‬
‫منذ البداية يحوم حول فلسفة هايدغر‪ ،‬فهذا يقتضي منا أن ندفع – على طريقة هايدغر‪-‬‬
‫‪3‬‬
‫باألسئلة إلى األمام‪ ،‬بمعنى أن نعمل على االقتراب من الجواب بمعية استحضار السؤال‪،‬‬
‫السؤال عن مكانة الفينومينولوجيا وأولويتها عند هايدغر من جهة أولى‪ ،‬ثم تبيين الطريقة التي‬
‫يتصور بها هايدغر الفينومينولوجيا‪ ،‬كفينومينولوجيا تأويلية‪ ،‬لتكونان منفذا إلعادة طرح السؤال‬
‫عن نمط كون الدازين من جهة ثانية‪.‬‬

‫ما يلفت انتباه أي قارئ لفلسفة هايدغر هو حرصه الشديد على تفكيك المفاهيم التي تشغله‪،‬‬
‫تفكيك يقوده للنبش في جذور تلك المفاهيم محاوال بذلك إعادة استنطاق تاريخ تشكلها‪ ،‬ليضفي‬
‫عليها فيما بعد لمسته أو تصوره الخاص به‪ .‬هكذا كان طريق هايدغر نحو الفينومينولوجيا‬
‫عبر محاولة تفكيكها بإرجاع كلمة فينومينولوجيا الشتقاقتها في اللغة اليونانية‪ ،‬نظ ار ألن هايدغر‬
‫كان يؤكد باستمرار على قوة الداللة اليونانية‪ .‬لقد عمل هايدغر من خالل كتاباته األولى على‬
‫استخدام كلمتي "فينومين ‪ "phénomène‬أو "فينومينال ‪ "phénoménal‬في سياق بحثه عن‬
‫أساس ألنطولوجية أصيلة تهتم بواقعانية الدازين في كونه كل مرة‪ ،‬أنطولوجيا تتخطى كل تلك‬
‫التصو ارت التي جاءت بعد أرسطو عن الكون‪ ،‬ساعيا منذ البداية إلى البحث عن منهج من‬
‫شأنه أن يكشف له عن ثغرات التراث الغربي ووضعه موضع التساؤل‪.‬‬

‫صحيح أن هايدغر كان قارئا فاحصا لكتابات ايدموند هوسرل ومتابعا للسياق التاريخي‬
‫الذي تشكلت فيه فينومينولوجية أستاذه‪ ،‬لكن هذا لم يمنعه آنذاك من التساؤل عن مدى قدرة‬
‫هاته الفينومينولوجيا على الحفاظ على مبدئها األساس الذي وضعه مؤسس هذا المنهج –‬
‫هوسرل‪ -‬والمتمثل في االتجاه إلى دراسة "األشياء نفسها" كما تتبدى لنا‪ .‬في هذا السياق يقول‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


‫هايدغر‪" :‬يتصرف هنا هوسرل بكيفية غير فينومينولوجية‪ ،‬بمعنى أنه ال يلتزم بالمبدأ‬
‫الفينومينولوجي األساسي الذي يعطي الكلمة لألشياء نفسها‪2".‬ال ننكر أنه بالفعل قدمت‬
‫الفينومينولوجيا مع هوسرل أدوات ومنافذ جديدة لفهم ظواهر العالم من حولنا‪ ،‬إال أن هايدغر‬
‫كانت له رؤية مخالفة للعالم تحمل دالالت لم يتم الكشف عنها من قبل مع هوسرل‪ ،‬من بينها‬
‫أن حقيقة الكون سابقة على كل من الوعي والمعرفة‪ .‬ال ننكر أيضا أن هايدغر قد أخذ الشيء‬
‫الكثير عن هوسرل‪ ،‬غير أن الجديد الذي أتى به هايدغر تجسد في كيفية توظيفه لتلك األدوات‬
‫‪4‬‬
‫الفينومينولوجية في سياق آخر وألغراض مختلفة‪ ،‬لهاته األسباب يبدو من الصعب النظر إلى‬
‫الفينومينولوجيا على أنها منهج أرسى قواعده هوسرل ليستخدمه هايدغر لبلوغ غاية معينة‪ ،‬بل‬
‫على العكس من ذلك كانت لهايدغر رؤيته الخاصة واستعماله النوعي لمفهوم الفينومينولوجيا‬
‫نفسه‪ ،‬إذ عرفت معه الفينومينولوجيا تحوال جذريا‪ ،‬ال من حيث التصور وال من حيث المهام‪.‬‬

‫يتجلى هذا االختالف الذي عرفته الفينومينولوجيا مع هايدغر من خالل اعتباره إياها طريقة‬
‫في البحث عن تأويلية واقعانية للدازين أوال ثم للكون فيما بعد‪ ،‬بحيث نجده قد صرح في جل‬
‫كتاباته المبكرة بأن الفينومينولوجيا ال تزال في حاجة إلى بحث أولي بمقدوره أن يكشف عن‬
‫تلك العالقات الموجودة بين ما نطلق عليه "فينومين" وما نقصده بكلمة "فينومينولوجيا"‪.‬‬

‫في هذا السياق يقول هايدغر‪" :‬نبدأ أوال باعتبار أولي ال غنى عنه‪ ،‬استعملنا سابقا وفي‬
‫كثير من األحيان عبارتي "ظاهرة ‪ "phénomène‬أو أيضا "ظاهراتي ‪ ،"phénoménal‬وفي‬
‫الحقيقة بإصرار خاص‪ .‬يجب أن نقول أكثر من ذلك عن هذين المصطلحين وبالتالي عن‬
‫‪3‬‬
‫الفينومينولوجيا‪ ،‬لكن فقط بالقدر الذي يسمح بأن يخدم ذلك كخيط موجه منهجي‪".‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Martin Heidegger Martin: Prolégomènes à l'histoire du concept du temps, traduit‬‬
‫‪par Alain Boutot, Editions Gallimard 2006. P. 15.‬‬
‫هذا الكتاب "مقدمات لتاريخ مفهوم الزمان" هو في األصل نص المحاضرة التي ألقاها هايدغر بجامعة‬
‫ماربورغ خالل دورة الصيف ‪ ،3292‬ولم تنشر إال سنة ‪ 3292‬في إطار مجموعة أعماله الكاملة‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Martin Heidegger, Ontologie, Herméneutique de la factivité, p. 97.‬‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


‫أما كلمة ظاهرة عند هوسرل فهي تفيد كلمة كل ما يظهر أو ما يتبدى أمام الوعي وبالذات‬
‫من حيث كيفية ظهوره‪ ،‬االنطالق من المباشر مما هو معطى‪ donné‬هو الذي يمكننا من أن‬
‫نفهم كيف ينبني العالم ويتخذ معنى بالنسبة للوعي‪ ،‬لندركه مباشرة دونما حاجة لتوسط شيء‬
‫آخر‪ .‬هذا ما دفع بهايدغر إلى مراجعة االكتشافات األساسية التي جاءت بها فينومينولوجيا‬
‫هوسرل ليذهب به إلى أقصى مدى ممكن‪ ،‬جاعال منها منفذا رئيسيا لطرح سؤال الكون عموما‬
‫وكون الدازين على الوجه الخصوص‪ ،‬وذلك بإرجاعها إلى جذورها األصلية في الفلسفة‬
‫‪5‬‬
‫اليونانية‪ ،‬مقربا إياها أكثر فأكثر من مهمتها األنطولوجية‪.‬‬

‫إن كلمة ظاهرة ‪ Phänomen‬في اللغة األلمانية مشتقة حسب هايدغر من الكلمة اليونانية‬
‫‪ phainomenon‬التي تعني ما يظهر بوصفه ما يتجلى وينكشف من تلقاء ذاته وما ليس في‬
‫حاجة لما يظهره‪ ،‬ومن ثم "فالظاهرة هي الكيفية التي يكون بها شيء ما هنا موضوعيا‪ ،‬وبالذات‬
‫الكيفية المتميزة التي يكون فيها الموضوع حاض ار من تلقاء نفسه‪4".‬مضمون ذلك أن الظاهرة‬
‫في معناها األصلي تفيد أن ما يتبدى هو الشيء المتبدي من تلقاء نفسه دونما حاجة لغيره‪،‬‬
‫بوصفه ما يظهر ‪ ،le manifeste‬ما يتبدى هو نفسه‪ ،‬لكن المشكل المطروح هو أن ما يتبدى‬
‫بإمكانه أن يظهر بشكل مزيف ومخالف لحقيقته‪ .‬سيعمل هايدغر على حل هذا اإلشكال ببراعة‬
‫وبنوع من الحنكة في كتابه "الكون الزمان"‪ ،‬وبالضبط في الفقرة السابعة المخصصة للمنهج‬
‫الفينومينولوجي المعتمد في البحث‪.‬‬

‫بداية يالحظ هايدغر أن مفهوم الظاهرة خرج عن معناه األصلي‪ ،‬إذ أصبحت له وظيفة‬
‫إجرائية في تاريخ العلوم‪ ،‬وبذلك بقي بذلك بعيدا –حسب هايدغر‪ -‬عن اإلمكانيات المالئمة‬
‫لدراسة الدازين‪ ،‬وبالمقابل ظل وفيا لذلك التحديد الذي يربط الكائن بالتجربة المقامة داخل علوم‬
‫الطبيعة‪ ،‬باعتبارها تجربة تجعل الكائن يظهر‪ ،‬دونما اكتراث لخصائصه الالمرئية وال للقوى‬
‫الخفية الخاضع لها‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪Martin Heidegger, Ontologie, Herméneutique de la factivité, p. 98.‬‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


‫بهاته الطريقة نجد أنفسنا أسيري نموذجية علوم القرن التاسع عشر‪ ،‬وما على الفلسفة‬
‫وعلوم الروح إال أن يتخصصا لخدمة نظرية العلم‪ ،‬بمعنى آخر ما على الفلسفة إال أن تكون‬
‫منطقا للعلوم‪ .‬لم يبق من خيار أمام علوم الروح إال الرضوخ لمنهج علوم الطبيعة –خاصة مع‬
‫دلتاي في مرحلته المبكرة‪ -‬طامعة في إعادة تأسيس الحياة الواقعانية على عناصر نهائية‪ ،‬أال‬
‫وهي‪ :‬اإلحساسات ‪ .les sensations‬في ظل هاته الظروف بالذات بدأ يتضح بقوة التأثير‬
‫الخفي للفينومينولوجيا على مجرى األحداث‪ ،‬فمع ظهور كتاب برنتانو "علم النفس من وجهة‬
‫‪6‬‬
‫نظر تجريبية"*‪5‬أصبح من الضروري أن تستخرج الظواهر النفسية من األشياء ذاتها‪" .‬إن‬
‫النظرية التي ينبغي إنشاؤها يجب أن تكون مستمدة من األشياء نفسها‪ ،‬تماما كما هو األمر‬
‫في علوم الطبيعة‪ .‬فتصنيف الكائن النفسي‪ ،‬أي الكيفيات المختلفة للمعيش‪ ،‬ال يحق أن يتم‬
‫من فوق بتركيبات نظرية‪ ،‬أي ال يحق أن يتم اعتمادا على مقوالت علوم الطبيعة‪ ،‬بل ينبغي‬
‫‪6‬‬
‫أن يستخلص من دراسة األشياء نفسها‪ ،‬بالكيفية التي تظهر بها‪".‬‬

‫لقد ظل عمل الفلسفة في العقود األخيرة من القرن التاسع عشر –حسب هايدغر‪ -‬متمرك از‬
‫على ظاهرة الوعي ال أقل وال أكثر‪ ،‬وعليه بقي الحال كما كان عليه في السابق‪ ،‬بمعنى‬
‫استطاعت علوم الطبيعة أن تفرض نجاعة و نموذجية منهجها‪ .‬أمام هاته األوضاع الجامدة‬
‫كان لزاما على هايدغر أن يعيد التفكير في بداية جديدة للفلسفة‪ ،‬في نقطة انطالق مختلفة‬
‫تماما‪ ،‬تجعل الفلسفة متجذرة في الحياة الواقعانية لألفراد‪ .‬فما سبيل هايدغر لتحقيق مطمعه‬
‫هذا؟‬

‫لم يهمل هايدغر أي مرحلة من مراحل بدايات تطور الفينومينولوجيا كمنهج في البحث‪،‬‬
‫إذ لم يتردد لحظة في تقديم انتقاد الذع لفينومينولوجية هوسرل‪ ،‬ذلك للسبب اآلتي‪" :‬إن أسلوب‬
‫البحث الذي يتعلق به األمر ينعت نفسه كفينومينولوجيا‪ ،‬أي كسيكولوجيا وصفية‪ 7".‬وبالتالي‬

‫‪5‬‬
‫‪Franz, Brentano, Psychologie du point de vue empirique, 1874-1911, éd. Vrin,‬‬
‫‪« Bibliothèque desTextes Philosophiques»,2008.‬‬
‫‪6‬‬
‫‪Ibd, p. 100.‬‬
‫‪7‬‬
‫‪Martin Heidegger, Ontologie, Herméneutique de la factivité, p. 100.‬‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


‫فالسؤال الذي يطرح هو بأي معنى يمكن أن نتحدث عن الموضوعية هنا‪ ،‬ما دمنا نعلم أن جل‬
‫المواضيع مستخرجة من المنطق وليس من اهتمامات الفينومينولوجيا نفسها؟‬

‫هكذا أراد هايدغر من خالل كتاباته األولى التي لم يكتب لها أن تنشر إال بعد فترة طويلة‬
‫من صدور مؤلف "الكون والزمان"‪ 8‬أن يبين أن المنهج الفينومينولوجي الذي جاء به أستاذه‬
‫هوسرل ووظفه العديد من الفينومينولوجيين بعده‪ ،‬لم يصل بعد إلى تقديم طريقة جديدة في‬
‫‪7‬‬ ‫البحث الفلسفي‪ ،‬تجعل منه بحثا مستقال بذاته قاد ار على مواكبة اإلشكاالت التي يطرحها عصر‬
‫ما‪ ،‬فإذا كانت الفلسفة بنت عصرها عليها قبل كل شيء أن تبقى متعلقة بقضايا عصر الدازين‬
‫ومنشغلة بها‪ ،‬لهذا السبب كان لزاما على هايدغر أن يبلور تصو ار خاصا به لمهمة البحث‬
‫الفينومينولوجي في كتاباته الالحقة‪ ،‬لتغدو الفينومينولوجيا قادرة على القيام بالمهام المنتظرة‬
‫منها‪ .‬لكن التصور الخاص الذي كان لهايدغر عن الفينومينولوجيا ال ينفي بالطبع تبنيه للمنهج‬
‫الفينومينولوجي لدى هوسرل‪ ،‬فقد صرح هايدغر في العديد من كتاباته أن فهم أستاذه‬
‫للفينومينولوجيا ومهمتها لم يكن جذريا بما فيه الكفاية‪ ،‬معنى ذلك أنه لم يبلغ بمنهجه‬
‫الفينومينولوجي النفاذ إلى جذر األشياء ذاتها‪ ،‬لكونه ظل متمسكا بتلك الفكرة القائلة بأن الوعي‬
‫المحض هو الذي يبني العالم‪ ،‬ولهذا فهو ليس قائما في العالم‪ ،‬كما أنه ليس في حاجة إلى‬
‫شيء آخر وال يتوقف وجوده على كائن آخر‪ ،‬بهذا الشكل بقيت الفينومينولوجيا تتبع أسلوب‬
‫المتفرج المحايد أمام األشياء التي نقابلها في العالم‪ ،‬فالوعي المحض عند هوسرل يشكل التيمة‬
‫األساسية للفينومينولوجيا‪ ،‬لكن بعد ذلك ستعرف الفينومينولوجيا مع هايدغر تحوال كبي ار ال من‬
‫حيث تيمتها األساس وال من حيث طريقة توظيفها كمنهج في البحث‪.‬‬

‫يؤكد هايدغر م ار ار في أعماله األولى على أن تيمة الفينومينولوجيا هي الحياة في واقعانيتها‬


‫وتاريخانيتها‪ ،‬بكل مكوناتها‪ ،‬فعالقتنا بالعالم ال يحكمها في المقام األول ذلك الطابع المعرفي‬
‫الذي أكد عليه هوسرل في أبحاثه‪ ،‬إن عالقتنا بالعالم من وجهة نظر هايدغر هي على خالف‬

‫‪ 8‬صدرت الترجمة العربية لهذا المؤلف تحت عنوان "الكينونة والزمان"‪ ،‬وهي من إنجاز فتحي المسكيني‪،‬‬
‫دار الكتاب الجديد ‪ .9139‬فضلنا االعتماد على الترجمة الفرنسية حتى نحافظ على وحدة المصطلحات في‬
‫هذا الكتاب‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


‫ذلك تماما‪ ،‬إذ ينبغي على البحث الفينومينولوجي أن يالمس طبقات أعمق في عالقتنا بالعالم‬
‫التي ليست في المقام األول عالقة معرفية مبنية على اإلدراك الحسي –كما يرى هوسرل‪ -‬بل‬
‫هي عالقة يطبعها ويحكمها تعاملنا اليومي العملي المنشغل باألشياء الموجودة في العالم‬
‫وبدالال تها التي ننجز من خاللها حياتنا‪ .‬وبالتالي فالموقف المناسب للتعامل مع الحياة ليس‬
‫هو االنعكاس أو التفكر ‪ ،la réflexion‬بل الفهم المؤول لدالالت العالم المحيط‪ ،‬نظ ار ألن‬
‫الفهم المؤول ال يتعامل مع الدالالت المؤولة كموضوعات للتفكر أو لالنعكاس‪ ،‬بل إنه يعيش‬
‫‪8‬‬
‫في انشغاله بتلك الدالالت ويعبر عنها إما على نحو صريح أو ضمني‪ .‬هكذا يخلص هايدغر‬
‫الفينومينولوجيا من سمات فلسفة الوعي المحض الديكارتي ويضفي عليها بعدا تأويليا بعدما‬
‫أنخلص التأويلية من ذلك الطابع المنهجي المرتبط بتحليل وفهم النصوص وكذلك تخليصها‬
‫من تلك الرؤية الميتودولوجية لعلوم الروح التاريخية‪ ،‬وبالتالي فالتأويلية تعني التأويلية نفسها‬
‫‪9‬‬
‫بعيدا عن أي معنى ميتودولوجي‪.‬‬

‫لقد حاول هايدغر في جل أعماله المبكرة أن يعطي للتأويلية طابعا عمليا‪ ،‬فهو ال يتصور‬
‫الفهم والتأويل في البداية كإمكانات للكشف عن معاني النصوص‪ ،‬بل كإنجاز لعالقتنا اليومية‬
‫والعملية بالعالم‪ ،‬أي انطالقا من تعاملنا مع الناس واألشياء من حولنا‪ ،‬وهذا الطابع العملي‬
‫للفهم والتأويل ليس نابعا من فراغ‪ ،‬وانما يجد أساسه في التصور الهايدغري الذي ينظر لإلنسان‬
‫بصفته الكائن الذي ينجز وجوده‪ ،‬بحيث ال يكون هنا ببساطة على غرار باقي الكائنات القائمة‬
‫أمامنا‪ ،‬بل ينجز كونه من خالل الفعل والفهم‪ ،‬من هنا اكتسى الفهم خاصة ومن ثم التأويلية‬
‫عموما مع هايدغر في مؤلفه "الكون والزمان" وقبل ذلك طابعا وجوديا كجزء من تحليل الدازين‬
‫الذي يسير بدوره في أفق معاودة صريحة لطرح سؤال الكون‪.‬‬

‫عموما يتطلب عادة البحث في المفاهيم–كما أشرنا سابقا‪ -‬تتبع تاريخ تطورها‪ ،‬ولم ال‬
‫العودة أل ول ظهور لها‪ ،‬كل هذا دفع بهايدغر إلى العودة مرة أخرى لإلرث اليوناني باعتباره‬

‫‪9‬‬
‫‪Martin Heidegger, D'un entretien de la parole, in: Acheminement vers la parole,‬‬
‫‪traduit par Jean Beaufret, Wolfgang Brokmeier et Françioes Fédier, Ed. Gallimard‬‬
‫‪1976, p. 114.‬‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


‫نموذجا أصيال ال غنى لألبحاث المعاصرة عن االستماع إليه ومحاورته قصد تجاوزه‪.‬‬
‫فالفينومينولوجيا منذ البداية كان ينبغي لها أن تكون طريقة في البحث دون أن تتدخل في عملها‬
‫باقي االتجاهات المعرفية األخرى‪ ،‬اتجاهات أوصدت الطريق أمام الوظيفة الحق‬
‫للفينومينولوجيا‪.‬‬

‫‪9‬‬

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬


10

www.couua.com

contact@couua.com

blogelalaouirachid@gmail.com

/http://rachidelalaoui.blogspot.com

‫شكالن من الفينومينولوجيا أو الفينومينولوجيا بين هوسرل وهايدغر‬

You might also like