Professional Documents
Culture Documents
كوة www.couua.com
شكالن من الفينومينولوجيا
1
خديجة عنيبة
الحديث عن اهتمام هايدغر بالفينومينولوجيا يجرنا بداية للبحث في كتاباته األولى ،خاصة
"األنطولوجيا ،هرمينوطيقا الواقعانية"*.1
1
Martin Heidegger, Ontologie, Herméneutique de la factivité, traduit par Alain
Boutot, Ed. Gallimard 2012.
هذا الكتاب هو في األصل عبارة عن محاضرة ألقاها هايدغر خالل دورة الصيف 3291بجامعة فرايبورغ
ولم يتم نشرها إال سنة 3211في إطار األعمال الكاملة لهايدغر ،لم تتم ترجمته إلى اللغة الفرنسية إال في
سنة ،9139نشير كذلك إلى وجود ترجمة عربية لهاته المحاضرة تحت عنوان "األنطولوجيا ،هرمينوطيقا
الواقعانية" ،ترجمة عمارة الناصر ،منشورات دار الجمل .9132نشير إلى أننا فضلنا االعتماد على الترجمة
الفرنسية لنبقى مرتبطين أكثر بمعاني النص األصلي وأيضا ألن هذه الترجمة العربية لم تعتمد على على
النص األلماني ،بل اعتمدت فقط على الترجمة الفرنسية.
ما يلفت انتباه أي قارئ لفلسفة هايدغر هو حرصه الشديد على تفكيك المفاهيم التي تشغله،
تفكيك يقوده للنبش في جذور تلك المفاهيم محاوال بذلك إعادة استنطاق تاريخ تشكلها ،ليضفي
عليها فيما بعد لمسته أو تصوره الخاص به .هكذا كان طريق هايدغر نحو الفينومينولوجيا
عبر محاولة تفكيكها بإرجاع كلمة فينومينولوجيا الشتقاقتها في اللغة اليونانية ،نظ ار ألن هايدغر
كان يؤكد باستمرار على قوة الداللة اليونانية .لقد عمل هايدغر من خالل كتاباته األولى على
استخدام كلمتي "فينومين "phénomèneأو "فينومينال "phénoménalفي سياق بحثه عن
أساس ألنطولوجية أصيلة تهتم بواقعانية الدازين في كونه كل مرة ،أنطولوجيا تتخطى كل تلك
التصو ارت التي جاءت بعد أرسطو عن الكون ،ساعيا منذ البداية إلى البحث عن منهج من
شأنه أن يكشف له عن ثغرات التراث الغربي ووضعه موضع التساؤل.
صحيح أن هايدغر كان قارئا فاحصا لكتابات ايدموند هوسرل ومتابعا للسياق التاريخي
الذي تشكلت فيه فينومينولوجية أستاذه ،لكن هذا لم يمنعه آنذاك من التساؤل عن مدى قدرة
هاته الفينومينولوجيا على الحفاظ على مبدئها األساس الذي وضعه مؤسس هذا المنهج –
هوسرل -والمتمثل في االتجاه إلى دراسة "األشياء نفسها" كما تتبدى لنا .في هذا السياق يقول
يتجلى هذا االختالف الذي عرفته الفينومينولوجيا مع هايدغر من خالل اعتباره إياها طريقة
في البحث عن تأويلية واقعانية للدازين أوال ثم للكون فيما بعد ،بحيث نجده قد صرح في جل
كتاباته المبكرة بأن الفينومينولوجيا ال تزال في حاجة إلى بحث أولي بمقدوره أن يكشف عن
تلك العالقات الموجودة بين ما نطلق عليه "فينومين" وما نقصده بكلمة "فينومينولوجيا".
في هذا السياق يقول هايدغر" :نبدأ أوال باعتبار أولي ال غنى عنه ،استعملنا سابقا وفي
كثير من األحيان عبارتي "ظاهرة "phénomèneأو أيضا "ظاهراتي ،"phénoménalوفي
الحقيقة بإصرار خاص .يجب أن نقول أكثر من ذلك عن هذين المصطلحين وبالتالي عن
3
الفينومينولوجيا ،لكن فقط بالقدر الذي يسمح بأن يخدم ذلك كخيط موجه منهجي".
2
Martin Heidegger Martin: Prolégomènes à l'histoire du concept du temps, traduit
par Alain Boutot, Editions Gallimard 2006. P. 15.
هذا الكتاب "مقدمات لتاريخ مفهوم الزمان" هو في األصل نص المحاضرة التي ألقاها هايدغر بجامعة
ماربورغ خالل دورة الصيف ،3292ولم تنشر إال سنة 3292في إطار مجموعة أعماله الكاملة.
3
Martin Heidegger, Ontologie, Herméneutique de la factivité, p. 97.
إن كلمة ظاهرة Phänomenفي اللغة األلمانية مشتقة حسب هايدغر من الكلمة اليونانية
phainomenonالتي تعني ما يظهر بوصفه ما يتجلى وينكشف من تلقاء ذاته وما ليس في
حاجة لما يظهره ،ومن ثم "فالظاهرة هي الكيفية التي يكون بها شيء ما هنا موضوعيا ،وبالذات
الكيفية المتميزة التي يكون فيها الموضوع حاض ار من تلقاء نفسه4".مضمون ذلك أن الظاهرة
في معناها األصلي تفيد أن ما يتبدى هو الشيء المتبدي من تلقاء نفسه دونما حاجة لغيره،
بوصفه ما يظهر ،le manifesteما يتبدى هو نفسه ،لكن المشكل المطروح هو أن ما يتبدى
بإمكانه أن يظهر بشكل مزيف ومخالف لحقيقته .سيعمل هايدغر على حل هذا اإلشكال ببراعة
وبنوع من الحنكة في كتابه "الكون الزمان" ،وبالضبط في الفقرة السابعة المخصصة للمنهج
الفينومينولوجي المعتمد في البحث.
بداية يالحظ هايدغر أن مفهوم الظاهرة خرج عن معناه األصلي ،إذ أصبحت له وظيفة
إجرائية في تاريخ العلوم ،وبذلك بقي بذلك بعيدا –حسب هايدغر -عن اإلمكانيات المالئمة
لدراسة الدازين ،وبالمقابل ظل وفيا لذلك التحديد الذي يربط الكائن بالتجربة المقامة داخل علوم
الطبيعة ،باعتبارها تجربة تجعل الكائن يظهر ،دونما اكتراث لخصائصه الالمرئية وال للقوى
الخفية الخاضع لها.
4
Martin Heidegger, Ontologie, Herméneutique de la factivité, p. 98.
لقد ظل عمل الفلسفة في العقود األخيرة من القرن التاسع عشر –حسب هايدغر -متمرك از
على ظاهرة الوعي ال أقل وال أكثر ،وعليه بقي الحال كما كان عليه في السابق ،بمعنى
استطاعت علوم الطبيعة أن تفرض نجاعة و نموذجية منهجها .أمام هاته األوضاع الجامدة
كان لزاما على هايدغر أن يعيد التفكير في بداية جديدة للفلسفة ،في نقطة انطالق مختلفة
تماما ،تجعل الفلسفة متجذرة في الحياة الواقعانية لألفراد .فما سبيل هايدغر لتحقيق مطمعه
هذا؟
لم يهمل هايدغر أي مرحلة من مراحل بدايات تطور الفينومينولوجيا كمنهج في البحث،
إذ لم يتردد لحظة في تقديم انتقاد الذع لفينومينولوجية هوسرل ،ذلك للسبب اآلتي" :إن أسلوب
البحث الذي يتعلق به األمر ينعت نفسه كفينومينولوجيا ،أي كسيكولوجيا وصفية 7".وبالتالي
5
Franz, Brentano, Psychologie du point de vue empirique, 1874-1911, éd. Vrin,
« Bibliothèque desTextes Philosophiques»,2008.
6
Ibd, p. 100.
7
Martin Heidegger, Ontologie, Herméneutique de la factivité, p. 100.
هكذا أراد هايدغر من خالل كتاباته األولى التي لم يكتب لها أن تنشر إال بعد فترة طويلة
من صدور مؤلف "الكون والزمان" 8أن يبين أن المنهج الفينومينولوجي الذي جاء به أستاذه
هوسرل ووظفه العديد من الفينومينولوجيين بعده ،لم يصل بعد إلى تقديم طريقة جديدة في
7 البحث الفلسفي ،تجعل منه بحثا مستقال بذاته قاد ار على مواكبة اإلشكاالت التي يطرحها عصر
ما ،فإذا كانت الفلسفة بنت عصرها عليها قبل كل شيء أن تبقى متعلقة بقضايا عصر الدازين
ومنشغلة بها ،لهذا السبب كان لزاما على هايدغر أن يبلور تصو ار خاصا به لمهمة البحث
الفينومينولوجي في كتاباته الالحقة ،لتغدو الفينومينولوجيا قادرة على القيام بالمهام المنتظرة
منها .لكن التصور الخاص الذي كان لهايدغر عن الفينومينولوجيا ال ينفي بالطبع تبنيه للمنهج
الفينومينولوجي لدى هوسرل ،فقد صرح هايدغر في العديد من كتاباته أن فهم أستاذه
للفينومينولوجيا ومهمتها لم يكن جذريا بما فيه الكفاية ،معنى ذلك أنه لم يبلغ بمنهجه
الفينومينولوجي النفاذ إلى جذر األشياء ذاتها ،لكونه ظل متمسكا بتلك الفكرة القائلة بأن الوعي
المحض هو الذي يبني العالم ،ولهذا فهو ليس قائما في العالم ،كما أنه ليس في حاجة إلى
شيء آخر وال يتوقف وجوده على كائن آخر ،بهذا الشكل بقيت الفينومينولوجيا تتبع أسلوب
المتفرج المحايد أمام األشياء التي نقابلها في العالم ،فالوعي المحض عند هوسرل يشكل التيمة
األساسية للفينومينولوجيا ،لكن بعد ذلك ستعرف الفينومينولوجيا مع هايدغر تحوال كبي ار ال من
حيث تيمتها األساس وال من حيث طريقة توظيفها كمنهج في البحث.
8صدرت الترجمة العربية لهذا المؤلف تحت عنوان "الكينونة والزمان" ،وهي من إنجاز فتحي المسكيني،
دار الكتاب الجديد .9139فضلنا االعتماد على الترجمة الفرنسية حتى نحافظ على وحدة المصطلحات في
هذا الكتاب
لقد حاول هايدغر في جل أعماله المبكرة أن يعطي للتأويلية طابعا عمليا ،فهو ال يتصور
الفهم والتأويل في البداية كإمكانات للكشف عن معاني النصوص ،بل كإنجاز لعالقتنا اليومية
والعملية بالعالم ،أي انطالقا من تعاملنا مع الناس واألشياء من حولنا ،وهذا الطابع العملي
للفهم والتأويل ليس نابعا من فراغ ،وانما يجد أساسه في التصور الهايدغري الذي ينظر لإلنسان
بصفته الكائن الذي ينجز وجوده ،بحيث ال يكون هنا ببساطة على غرار باقي الكائنات القائمة
أمامنا ،بل ينجز كونه من خالل الفعل والفهم ،من هنا اكتسى الفهم خاصة ومن ثم التأويلية
عموما مع هايدغر في مؤلفه "الكون والزمان" وقبل ذلك طابعا وجوديا كجزء من تحليل الدازين
الذي يسير بدوره في أفق معاودة صريحة لطرح سؤال الكون.
عموما يتطلب عادة البحث في المفاهيم–كما أشرنا سابقا -تتبع تاريخ تطورها ،ولم ال
العودة أل ول ظهور لها ،كل هذا دفع بهايدغر إلى العودة مرة أخرى لإلرث اليوناني باعتباره
9
Martin Heidegger, D'un entretien de la parole, in: Acheminement vers la parole,
traduit par Jean Beaufret, Wolfgang Brokmeier et Françioes Fédier, Ed. Gallimard
1976, p. 114.
9
www.couua.com
contact@couua.com
blogelalaouirachid@gmail.com
/http://rachidelalaoui.blogspot.com