You are on page 1of 78

‫جامعة صفاقس‬ ‫الجمهورية التونسية‬

‫كلية اآلدابوالعلوم‬
‫وزارة التعليم العالي والبحث‬
‫اإلنسانية‬
‫العلمي‬
‫قسـم الفلسفة‬

‫مذكرة بحث‬

‫لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة‬

‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوـّهة‬


‫المشوهة‬
‫ّ‬ ‫الصغير‪ :‬أفكار ملتقطة من الحياة‬
‫األدب ّ‬

‫األول"‬
‫"الجزء ّ‬

‫إعداد‪ :‬ســامي عيفـــة‬

‫إشـــــــــــــــراف‬
‫األستـــــــــــــاذ‪ :‬د‪ّ .‬‬
‫معزالمديوني‬

‫السنــــــــــــــــــــة الدراس ّيـــــــــــــة ‪2020/2021 :‬‬


‫االهداء‬

‫الى روح أبي "حسين" الذي علّمني الحرف وعلّمني معه األدب‪.‬‬

‫الى روح أخي "حسنين" ضد النسيان وضد كل أشكال طمس الحقيقة‪.‬‬

‫الى أمي "عجمية" التي ليس لي غير دعائها في هذا الدرب المضني‪.‬‬

‫والى كل أخوتي ‪ :‬حياة‪ ،‬سامية‪ ،‬حسان‪ ،‬علياء وسالف‪.‬‬

‫الى زوجتي "هالة" رفيقة دربي وملهمتي‪.‬‬

‫والى ابنائي قرة عيني ‪ :‬تسنيم وآدم وحسنين‪.‬‬

‫سامي‪...‬‬
‫الشكر‬

‫اتق;;دم بجزي;;ل الش;;كر للجن;;ة المحترم;;ة ال;;تي وافقت على مناقش;;ة ه;;ذا العم;;ل‬
‫المتواضع‪;.‬‬

‫كما أشكر أستاذي الفاضل د‪ .‬معز المديوني الذي أشرف على بحثي وتكبّد عن;;اء‬
‫إصالح أخطاءه‪.‬‬

‫وتحية إكبار ألس;تاذي الفاض;ل د‪ .‬ن;اجي الع;ونلّي على رحاب;ة ص;دره ولنص;حه‬
‫لي‪.‬‬

‫سامي‪...‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫المق ّدمة‬
‫يتعلّق غرضنا في هذا البحث بما عرضه "آدرنو"‪ 1‬في كتابه األدب الصغير من تشخيص‬
‫تلمس ما تثيره هذه األفكار الملتقطة من الحياة‬
‫نقدي‪ ،‬لما ال يمكن أن ُيخاض فيه إال على جهة ّ‬
‫نقدي أدركت معه الفلسفة والدة ونشوء ما‬
‫ّ‬ ‫توجه فلسفي‬
‫المشوهة‪ ،‬من قضايا وإ شكاليات تنهل من ّ‬
‫ُأطل ق علي ه في الخمس ينيات من الق رن العش رين تس مية "مدرس ة فرانكف ورت"‪ .2‬غ ير أن ظه ور‬
‫الرعي ل األول ونعني بذلك أرنست بلوخ وغيورغي‬
‫ه ذه الفلسفة يعود إلى بداية العشرينات م ع ّ‬
‫وأقط اب الفلس فة االجتماعي ة ال تي ض ّمت إلى ج انب "هوركه ايمر"‬ ‫لوك اتش‬
‫وإ ريك فروم وبنيامين‪ ،‬ثيودور فيزنغروند آدرنو‪.‬‬

‫إشكالية بحثنا بالقسم األول من كتاب األدب الصغير‪ ،‬متّخذة من " اإلتيقيا نقدا للحياة‬
‫ّ‬ ‫تتعلّق‬
‫تتقص د إلماما وإ حاطة بما‬
‫ّ‬ ‫المشوهة‪ ،‬عنوانا لها‪ ،‬حيث ينصرف البحث إلى بناء مقاربة فلسفية‪،‬‬
‫ّ‬
‫الفعلي‪ ،‬ولحياة اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫قد تطرحه علينا خطة البحث‪ ،‬من مساءلة نقدية للحياة وللواقع اإلنساني‬
‫تصير األشياء وتسيير العالم‪.‬‬
‫جراء ّ‬
‫المشوهة ولهذا البؤس والمسخ الذي لحق الفلسفة ّ‬
‫ّ‬

‫‪-1‬‬
‫اسمه الكامل هو ‪ :‬ثيودور فيزنغروند آدرنو‪ .‬ولد في فرانكفورت في عام ‪ 1903‬وتوفي في ‪ .1969‬نشأ في‬
‫يهتم باكرا بجماليات الموسيقى‪ .‬كما اكتشف أيضا في وقت مب ّك ر فلسفة كانت في‬
‫عائلة موسيقيين وهو ما جعله ّ‬
‫س ياق اهتمام ه بسوس يولوجيا المعرف ة‪ .‬في عام ‪ 1922‬التقى بم اكس هوركه ايمر ون اقش أطروحة دكت وراه حول‬
‫ثم أع ّد أطروح ة التأهي ل الج امعي ح ول‬
‫تع الي الموض وعاتي والنويم اتيقي في فنومينولوجيا هوس رل (‪ّ . )1924‬‬
‫كيركغارد وبناء اإلستيطيقا (‪ )1929‬اضطر في عام (‪ )1933‬إلى الهجرة إلى الواليات المتحدة األمريكية‪ .‬بعد‬
‫الع ودة من المهج ر ش رع في عمل ه المش ترك م ع "هوركه ايمر" ونش را جديلــة العقــل التنــويري (‪ .)1947‬في (‬
‫ثم أصدر في (‪ )1966‬كتابه الرئيس الذي يمكن أن ُيعتبر‬
‫‪ )1951‬أصدر كتاب األدب الصغير (مينيما موراليا) ّ‬
‫السلبية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الفلسفية ‪ :‬الجدلية‬
‫ّ‬ ‫وصيته‬
‫ّ‬
‫‪ - 2‬تس مية لم ا ع رف الحق ا بمدرس ة فرنكف ورت وال تي ض ّمت مجموع ة من الب احثين األلم ان في الفلس فة وعلم‬
‫اإلجتم اع ال ذين عق دوا لق اء تأسيس يا س نة ‪ 1923‬بمعه د األبح اث االجتماعية ال ذي أسس ه هوركه ايمر بمدين ة‬
‫فرنكفورت‪ .‬دأب المختصون في النظرية النقدية على تقسيم مراحل تطورها إلى ثالث مراحل أساسية‪ :‬المرحلة‬
‫األولى وال تي ض ّمت الرعي ل األول في بداي ة العش رينات من الق رن الس ابق ونع ني ك ارل ك روش وآرنست بل وخ‬
‫وغي ورغي لوك اتش ثم ّ أقط اب الفلس فة االجتماعية النقدي ة‪ ،‬نع ني بهم م اكس هوركه ايمر وثي ودور فيزنغورن د و‬
‫ضمت كلاّ من يورغن هابرماس وكارل أوتوآبل‪ .‬أما المرحلة الثالثة فيمثلها‬
‫إيريك فروم‪ .‬والمرحلة الثانية التي ّ‬
‫أساسي وهو رائد الرعيل الثالث ومدير معهد الدراسات االجتماعية بفرنكفورت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اليوم أكسيل هونيث بشكل‬

‫‪1‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ربم ا ك ان من ش أن ه ذه اإلحال ة على غ رض المبحث‪ ،‬أن يكش ف لن ا أهمي ة ه ذا الكت اب‬


‫ّ‬
‫النقدي عند‬ ‫ٍ‬
‫نظرية استيطيقية معالم المشروع الفلسفي‬ ‫سلبية وكتاب‬
‫جدلية ّ‬‫الذي يعكس مع كتاب ّ‬
‫ّ‬
‫"آدرن و"‪ ،‬كم ا يحملن ا اس تقبال ه ذا الكت اب بغ رض البحث في" النق د اإلتيقي" إلى الوق وف عن د م ا‬
‫تكونت مع "هوركهايمر"‬‫تمت اإلشارة إليه بأنه استنبات للمشكلفي سياقاته النظرية والفلسفية التي ّ‬ ‫ّ‬
‫التوجه الفكري لهذه الفلسفة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حيث ش ّكلت مقالته في " النظرية التقليدية والنظرية النقدية" بمثابة‬

‫وحسبنا هنا‪ ،‬أن نؤ ّكد ما لكتاب جدلية التنوير من أهمية في بلورة ما يشير إليه "آدرنو"‬
‫بالعمل المشترك الذي جمعه بصديقه "هوركهايمر"‪ ،‬فكان اإلهداء من باب اإلثناء عن هذا العمل‪،‬‬
‫وتحديا لكل الظروف و"المالبسات الخارجية" التي أدت إلى انقطاعهما‬
‫ّ‬ ‫واإليفاء بالوعد‪ ،‬مقاومة‬
‫عن الكتابة المشتركة‪.‬‬

‫وربما كان ذلك ما يدفعنا إلى التفكير في هذه اإلشكالية‪ ،‬بوصفها إشكالية حارقة‪ ،‬تفرض‬
‫ّ‬
‫وغدا‪ ،‬أي من حيث هو ش أن‬
‫نفسها على الفكر المعاصر على نحو ما يبدو‪ّ ،‬أنه شأن الفلسفة اليوم ً‬
‫والتو وأفق هذا المستقبل‪ ،‬لذلك فمن كان مطلبه التفلسف ال يمكن أن يغفل عن مشكل‬
‫الراهن ّ‬‫هذا ّ‬
‫تيقي‪ ،‬فيغفل بذلك عن ّإنيته‪.‬‬
‫وتاريخي وإ ّ‬
‫ّ‬ ‫إنساني‬
‫ّ‬ ‫ينهض إلى التفكير في ما هو مطلب‬

‫يشخص عنوانا هو من األصالة والطرافة والفرادة ‪،‬‬


‫وإ ّن ذلك ما يجعل من هذا البحث‪ّ ،‬‬
‫ما يجعل منه عنوانا للذات وعنوان عصرها‪ ،‬الذي يشير إليه "آدرنو" بأنه عصر انحطاط الفرد‬
‫وانحالل ال ذات وتش ّوه الحي اة ومس خ الفلس فة‪ ،‬إن ه ألم ر الفت حقّ ا أن يك ون "آدرن و" معاص را‪-‬‬
‫مثلن ا‪-‬لتش ويه الحي اة‪ ،‬ومؤرخ ا لبداي ة النهاي ة‪ ،‬بم ا هي عن وان فاض ح من عن اوين التالش ي‬
‫للتأوج والكمال‪.‬‬
‫والعطوبية‪ ،‬ال ّ‬
‫ّ‬ ‫واالضمحالل والضمور والتشيئة والهشاشة‬

‫الالإتيقي ة من استبداد‬
‫ّ‬ ‫ثمة إذا في ما يحصل للفرد اليوم في ظ ّل عصر تهيمن عليه " آيات‬
‫ّ‬
‫للص ورة‪ ،‬ما‬
‫وتسيد ّ‬
‫ّ‬ ‫وتوغل للتقنية‬
‫ّ‬ ‫وتوحش للعلم‬
‫ّ‬ ‫سياسي لإلستعباد‪"3‬‬
‫ّ‬ ‫عملي للذاتي المفرط وطغيان‬
‫ّ‬
‫يتقص د نظ را نق ديا إتيقي ا في الحي اة المش وهة‪ ،‬وال ذي يمكن أن‬
‫ّ‬ ‫ي ّبرر اهتمامن ا به ذا البحث ال ذي‬
‫المبررات‪ ،‬من باب‬ ‫ٍ‬
‫بالبربرية"‪ .‬وإ نه لتدفعنا هذه ّ‬
‫ّ‬ ‫إشكال يتعلّق بـ"اقتران العقل‬ ‫نعزو نقديته تلك إلى‬

‫نص تــوبنغن إلى‬


‫‪ -‬ن اجي الع ونلّي‪ ،‬هيجــل األول في ســياقه‪ ،‬في تــاريخ نشــوء المشــكل الهيجلي وتطـ ّـوره من ّ‬
‫‪3‬‬

‫كتاب الفرق‪ ،‬جداول للنشر والترجمة والتوزيع‪ ،‬آيار ‪ /‬مايو ‪ ،2012‬ص‪.7‬‬

‫‪2‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫إن إقبالن ا على التفك ير في "اإلتيق ا نق دا" ه و إقب ال يتلفّت‬


‫راهني ة بحثن ا إلى الق ول ّ‬
‫ّ‬ ‫الح رص على‬
‫صوب "ما استهجنه الناس وعافه قبل الفالسفة "‪ 4‬هاهنا فقط تكون الفلسفة مسؤولة عن عصرها‪،‬‬
‫شاهدة عليه‪.‬‬

‫المشوهة‬
‫ّ‬ ‫رد هذا الوضع المربك الذي تثيره الحياة‬
‫من أجل ذلك قامت فرضية بحثنا على ّ‬
‫"التشوة والمقاومة"‪ ،‬التشوه من حيث هو دليل على عطوبية الذات وهشاشتها وعجزها‬
‫ّ‬ ‫جدلية‬
‫إلى ّ‬
‫والمسؤولية والحرية واإلقتدار‪ .‬ومع ذلك تظل‬
‫ّ‬ ‫الصحة‬
‫ّ‬ ‫ومرضها‪ ،‬والمقاومة بما هي شاهد على‬
‫إن ش أن‬
‫لبية‪ .‬ل ذلك ف ّ‬
‫الجدلي ة الس ّ‬
‫ّ‬ ‫وفي ة للط ابع اإلش كالي للتفك ير الفلس في ول روح‬
‫الجدلي ة ّ‬
‫ّ‬ ‫ه ذه‬
‫حدا " يكاد السؤال [فيه] عن تحقّقية‬
‫المادي" ّ‬
‫ّ‬ ‫الخالص هنا هو شأن" الالهوت الس اّلب والالهوت‬
‫يكترث له"‪.5‬‬
‫ُ‬ ‫الخالص أو عدم تحقّقيته أمرا ال‬

‫عم ا نحاول أن نشتغل عليه بوصفه نقدا إتيقيا للحياة‬


‫التشوه والمقاومة" ترفعُ ّ‬
‫ّ‬ ‫"إن جدلية‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وزعم يفي د الوص ول إلى حقيق ة موجب ة وإ لى إثب ات مطل ق ونه ائي‬ ‫إدع اء‬
‫المش ّوهة‪ ،‬ش بهة ك ّل ّ‬
‫الجدلي ة‪ ،‬بغ رض الفلس فة الق ائم على إبق اء النق د في حال ة تيقظ دائم ة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حيث يفيء التفك ير في هذه‬
‫ولع ّل من فض ائل ه ذا الموق ف أن يجع ل من المقاوم ة ص فة الفك ر النق دي ال ذي يعتص م بالس ؤال‬
‫عية "دي وجين" " ال ذي لم يكن أبله ا وال‬
‫مكافح ة للظلم ة والتعمي ة‪ ،‬فيجع ل من ه ذل ك ش بيها بوض ّ‬
‫يصر على اإلحتفاظ بذبالة‬
‫ّ‬ ‫مجنونا ألنه يتشبث بضوء مصباحه منارا في واضحة النهار بل كان‬
‫النهار جميعه"‪.6‬‬
‫تخصه وحده دون رحابة ّ‬
‫ّ‬ ‫الضوء النحيلة‪ ،‬التي‬

‫نصص نا عليه ا آنف ا‪،‬‬


‫واش تغاال ب الغرض ال ذي أخ ذنا في ص وغه‪،‬وبفرض ية البحث ال تي ّ‬
‫نبين أننا ارتأينا‪ ،‬أن يأخذ تخطيطنا لهذا البحث المعنون "في اإلتيقا نقدا للحياة‬
‫يجدر بنااآلن أن ّ‬
‫تقص وتش خيص ألس باب وأش كال‬‫المش ّوهة"‪ ،‬مأخ ذ الج ّد م ا ق ام علي ه كت اب األدب الصــغير من ّ‬
‫أمن لن ا في فص له‬
‫مم ا يس اعدنا على الوق وف عن د علّ ة ه ذا التخطي ط ال ذي ّ‬
‫تش وه حي اة الف رد ‪ّ ،‬‬

‫‪ -‬هيجل ونهاية الميتافيزيقا‪ ،‬فتحي المسكيني‪ ،‬دار الجنوب للنشر ‪ ،1997‬ص ‪.14‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -5‬األدب الصغير‪ ،‬آدرنو‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬مؤسسة الشرق ‪/‬غرب ديوان المس""ار للنشر ب""يروت ‪2011‬‬
‫ص ‪.403‬‬
‫‪ -6‬مجلّة الفكر العربي المعاصر عـدد ‪ ،102/103‬ص ‪ ،14‬مطاع الص"فدي ‪ ،‬الفكر وح"ده بما يرجع وح"ده س"ؤال‬
‫العتبات‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫المسير فمثّ ل ذلك مناسبة للكشف عن الخلفية‬


‫ّ‬ ‫األول " في اإلتيقا نقدا " كشف وتعرية هذا العالم‬ ‫ّ‬
‫المسير) وعالقته ا ب العنف المس لّط على ال ذات وبالك ذب الذي انب نى‬
‫ّ‬ ‫الس لطوية ال تي تق وده (الع الم‬
‫بان التسيير ينتمي إلى أفق الحداثة‬
‫عليه "منطق" الثقافة والمعرفة السائدة‪ ،‬للتأكيد ‪ -‬تبعا لذلك‪ّ -‬‬
‫نج ز ه ذا العق ل التنويري الذي اتخ ذ من العلم‬
‫وعلمي‪،‬إن ه ُم َ‬
‫ّ‬ ‫والعقالني ة وم ا أدركت ه من تق دم تق ني‬
‫والتقنية إيديولوجيا‪.‬‬

‫إن البحث في "التسيير" هو ما سيقودنا في لحظة ثانية إلى العنوان الثاني من هذا الفصل‬
‫ّ‬
‫والمعن ون "الح افز اإلتيقي" ال ذي س نعمل في س ياقه‪ ،‬على بي ان م ا ه و محم ول على "العلم‬
‫الحزين"االشتغال عليه كشفا وتعرية لما أصبحت تشكو منه الفلسفة من مسخ بسبب ما صار إليه‬
‫اص‪ ،‬وه و م ا يمثّ ل لحظ ة دقيق ة في س ياق ه ذا البحثال ذي س يم ّكننا من الكش ف عن‬
‫مجاله ا الخ ّ‬
‫ق" يس تهدف تعري ة جمي ع‬
‫الح افز اإلتيقي ال ذي يجع ل من العلم الح زين بم ا ه و "علم الحي اة الح ّ‬
‫الرأس مالي‬
‫ني من حيث إدراج ه ض من كلّي المنظوم ة‪ ،‬ونم ط اإلنت اج ّ‬ ‫أش كال قم ع الف ردي العي ّ‬
‫راص دا ب ذلك م ا آلت إلي ه الموض وعية التاريخي ة من انحالل ال ّذات ومن أقنم ة للمجتم ع على‬
‫حساب التجربة الفردية‪.‬‬

‫وإ ّن ذلك هو الذي َن دبنا إلى االشتغال على الفصل الثاني الذي يحمل عنوان " اإلنسانية‬
‫عم ا آلت إلي ه اإلنس انية ج ّراء‬
‫المض طهدة" بغاي ة تفص يله على وجهين‪ :‬وج ه نس تأنف في ه الق ول ّ‬
‫تشوه للحياة" فيقودنا ذلك إلى البحث فيما كشف عنه "آدرنو"‬‫التسيير من "مسخ للفلسفة" و "من ّ‬
‫في الش ذرة ‪ 45‬عن هذاالتص ّير المعت ّل لنكش ف أعراض ه الباثولوجي ة و المرض ية‪ ،‬ونقاربه ا على‬
‫والعقلي‪ ،‬وما‬
‫ّ‬ ‫مستوى ما يحصل للجدلية وللفكر الجدلي‪ ،‬وما يمكن أن نرصده في مفهوم األنا‪،‬‬
‫أم ا الوجه الثاني لهذا الفصل فسنحاول أن نفرد الحديث فيه‬
‫الكلي المهيمن‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫يمكن أن يكشفه هذا‬
‫اإلنسانية المضطهدة ‪ ،‬للبحث في خصائص النقد اإلتيقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عم ا تعاني منه‬
‫على جهة االستئناف‪ّ ،‬‬
‫فنالمس معه عالقته باألدب الصغير‪ ،‬و"باألخالق السلبية" وبما يجعل منه مسلكا ومنهجا إنسانيا‬
‫دغمائيا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال إثباتيا وال‬

‫ام للنظ ر في ه ذا البحث‪ ،‬مقام ا يه دف إلى معالج ة إتيقي ة نقدي ة‬


‫ّإن ه‪ ،‬وإ ن ك ان المق ام الع ّ‬
‫فإنن ا‪ ،‬في م ا يزي د عن ذل ك‪ ،‬ال يمكن أن نخفي‬
‫الحي اة المش وهة من خالل كت اب األدب الصــغير‪ّ ،‬‬

‫‪4‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫الصعوبات التي واجهتنا في هذا البحث ونحن نحاول أن نمسك داخل مغزى هذا البحث‪ ،‬بجملة‬
‫فلسفية غير متقطعة‪ ،‬و ال متناثرة‪ ،‬وبخيط ناظم نستعيد فيه تنظيم هذه الكتابة المتش ّذرة‪ ،‬تلك هي‬
‫العقبة الكؤود التي واجهتنا في تأمين قراءة يمكن ان تستجيب للتخطيط الذي ُرتّبت على أساسه‬
‫المشوهة"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫معالجتنا لعنوان البحث " في اإلتيقا نقدا للحياة‬

‫مما تقوله كالما فتُصفح‬


‫نسقية‪ ،‬وتقول صمتا أكثر ّ‬
‫ولما كانت الكتابة المتشذرة‪ ،‬كتابة غير ّ‬
‫ّ‬
‫عن نفسها في ما هو أبعد من هذا الذي ُيكتب وهذا الذي ُيقرأ‪ ،‬ولعلّ ه ُكتب على شاكلة ما ُي درك‬
‫ومترددة فيكون االنفصال والتقطّ ع‬
‫ّ‬ ‫ستعبر عن نفسها بما هي كتابة قلقة‬
‫ّ‬ ‫فإنها‬
‫صور ومشاهد‪ّ ،‬‬
‫بأنه ُ‬
‫أن االنتقال من شذرة إلى‬
‫والتشذر هو ما يخلق فرضية االبتداء من جديد وبطريقة مختلفة‪ .‬ذلك ّ‬
‫ظم المألوف في الفلسفة‪ ،‬لذلك ستكون جملته الفلسفية‬
‫أخرى هو انتقال يجري مجرى مغايرا للن ْ‬
‫َي ْقطعها صمت الكاتب لحظة هذا االنتقال من شذرة إلى أخرى‪ ،‬فك ّل كتابة يسبقها صمت وهي‬
‫حد ذاتها كتابة‪.‬‬
‫في ّ‬

‫هك ذا إذا يش ّكل أس لوب الكتاب ة ال ذي اعتم ده "آدرن و" أح د ه ذه الص عوبات‪،‬نض يف‬
‫مم ا دفع مترجمه‪ 7‬إلى‬
‫إليهاصعوبة أخرى تتعلّ ق بالغرض الذي يعالجه كتاب ‪ّ Minima Moralia‬‬
‫ليتخي ر عنوان ا مثقال بك ّل ال دالالت ال تي‬
‫ّ‬ ‫التخلي عن تعريب ه ب"األخالق ال دنيا" أو "أدنى األخالق"‬
‫يمكن أن يعطيه ا اللّس ان الع ربي لعب ارة "‪ " Minima Moralia‬فك ّل ه ذه ال دالالت تجعلن ا‬
‫‪.‬ولم ا‬
‫نستحض ر كت اب عب د اهلل ابن المقف ع ال ذي يحم ل عن وان " األدب الص غير واألدب الكب ير" ّ‬
‫كن ا مل زمين‬
‫فإنن ا ّ‬
‫ك ان التع ريج على ه ذه الص عوبة‪ ،‬يعنين ا في منط ق البحث عن إش كاليتنا‪ّ ،‬‬
‫حس ا‬
‫باإلنشداد إلى ما يحاول كتاب األدب الصغير التعبير عنه من خالل هذه الشذرات بوصفه ّ‬
‫إتيقي ا‪ ،‬يكش ف من خالل ه "آدرن و"‪ ،‬عن أفك اره الملتقط ة من الحي اة المش ّوهة‪ .‬ولم ا ك ان من غ ير‬
‫يحملن ا مس ؤولية مض اعفة‪،‬‬
‫ال وارد عن دنا الع ودة إلى اللس ان األلم اني‪ ،‬بس بب جهلن ا ب ه‪ ،‬ف إن ذل ك ّ‬

‫‪ -7‬المترجم‪ :‬نـاجي العـونلي‪ ،‬أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بالجامعة التونسية‪ .‬يشتغل على الفلسفة األلمانية‬
‫الكالس يكية والمعاص رة‪ ،‬متحص ل على ال دكتوراه في فلس فة هيج ل‪ ،‬من مؤلفات ه ‪ :‬هيجــل األول وســؤال الفلســفة‬
‫(ت ونس ‪ )2007‬ومن ترجمات ه‪ :‬فنومينولوجيا الـ ّـروح ‪ 2006‬وكت اب الف رق ‪ 2007‬واإليمــان والمعرفــة لهيجل‬
‫‪ 2008‬ونقد العقل العملي لكنط ‪2007‬‬

‫‪5‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫وه و م ا يوض ح ه ذه الص عوبة‪ ،‬ال تي تع ترض ه ذا البحث‪ ،‬فترب ك ب ذلك خيارات ه المنهجي ة‬
‫والمضمونية التي ال يمكن أن نزعم أنها جاءت خالية من كل ترمرم ولبس‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪6‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫الفصل األ ّول‪:‬‬

‫"في اإلتيقا نقدا"‬

‫‪7‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫‪ -1‬التسيير‬
‫إن إمكان التلفت نحو الحياة هو إمكان للنظر في ما يجعل من صورتها العطوب عنوانا‬
‫ّ‬
‫أن نقديته ستتخذ طابعا مغايرا لما هو‬
‫ألزمة الذات اإلنسانية‪ ،‬وهو بهذا المعنى إمكان نقدي‪ .‬غير ّ‬
‫دارج في الفلسفات الحديثة‪ .‬ويحتاج األمر للولوج لهكذا إمكان نقدي أن يتسلح "المرء بالشضية‬
‫التي في عينه فهي خير عدسة مكبرة"‪ ،8‬كما يشير إلى ذلك" آدرنو" إشارة واضحة لمسار نقدٍ ال‬
‫يمكن أن يكون منطلقا للتفكير من ٍ‬
‫عل ومن خالل منظومات فكرية مجردة وبالتماس "كل أشكال‬
‫التبرير أو التسويغ المتعالي عن الواقع الفعلي والموضوعية التاريخية لحياة اإلنسان المعاصر"‪.9‬‬

‫تلمس إحداثية البداية‬


‫رأس األمر ها هنا فيما نبحث عن اإلمساك به في فلسفة "آدرنو" هو ّ‬
‫لهذا المسار النقدي‪ ،‬من حيث هو مسار يجيب عن سؤال قد يكون من الضروري طرحه لإللمام‬
‫يعين فق ط موض وعه وال طبيعت ه وال‬
‫ب الغرض ال ذي يق ف وراء انتب اه "آدرنو" إلى أن النق د ال ّ‬
‫منهجه وأسلوبه بل يعيّن أيضا بدايته‪ ،‬وهو ما يجعلنا نتساءل ‪ :‬من أين نبدأ حينما نريد لنقدنا أن‬
‫يكون حامال لمشروع فلسفة نقدية اجتماعية تكون بديال ضروريا عن النظرية التقليدية؟‪.‬‬

‫المورط في اإلنسانية ‪ -‬ال يمكن أن تخطئ وهي تلقي‬


‫ّ‬ ‫الشضية التي في عيني اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫أن األزم ة الحقيقي ة‬
‫ببص رها إلى ه ذا المس خ ال ذي آلت إلي ه الحي اة ‪ -‬حجم الكارثة‪ ،‬و أن تعي ّ‬
‫لإلنس ان المعاصر تتمث ل في عودة البص ر خاس ئا وه و حس ير‪ ،‬منقلَب يكش ف حجم الظلم المس لّط‬
‫الحد الذي يمكن أن نستنتج معه أنه "لم يعد ثمة حياة"‪ 10‬فالحياة ال تحيا‪.‬‬
‫على حياة اإلنسان إلى ّ‬

‫هكذا اختار "آدرنو" أن يجد عند هذا الطابع المأساوي للحياة ما يكون استئنافا لما كشف‬
‫عن ه كت اب جدلية التنوير ال ذي ألف ه م ع ص ديقه "هوركه ايمر" من نق د لمش روع التن وير من حيث‬
‫ه و رم ز الحداث ة الغربي ة وم ا يفي د ذل ك من انغ راس للنق د في س ياقه الت اريخي وم ا يقتض يه من‬
‫انشغال على ما هو كائن‪.‬‬

‫‪ - 8‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫‪ -9‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -10‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪8‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫لع ّل ما عاشته المجتمعات الغربية من صعود للنظم السياسية الشمولية كالنازية والفاشية‬
‫والستالينية ومناخات الحرب التي خيمت على أوروبا في هذه اللحظة التاريخية وما صاحبه من‬
‫انهيار مكانة الفرد ما يجعل" آدرنو" و"هوركهايمر" في مقدمة كتابهما جدلية التنوير يؤكدان على‬
‫المتنور ينطوي على بذرة التراجع الذي نعانيه في أيامنا في ك ّل مكان‪."11‬‬
‫ّ‬ ‫أن "مفهوم الفكر‬

‫تحول التنوير من أفق عقالني للتقدم‬


‫إن ما يشغل "آدرنو" في هذا المقام بالذات هو كيف ّ‬ ‫ّ‬
‫إلى أس طورة تخفي الس يطرة والهيمنة؟ وه و م ا يك ون باعث ا على الس ؤال عن ه ذا المنقلب ال ذي‬
‫صارت إليه اإلنسانية "إذ كيف يمكن أن نفسر تدمير العقل التنويري لنفسه؟ "لماذا اقترن تاريخيا‬
‫بالبربرية أو كيف يتسنى للعقل أن يخذل نفسه بنفسه ويدخل تاريخيا في صراع ال بل في تناقض‬
‫صارخ مع نفسه؟‪."12‬‬

‫ينبغي إذا الول وج إلى نق د الحي اة وم ا آلت إلي ه من مس خ وتش ويه من خالل نق د ه ذه‬
‫الواجه ة التنويري ة الفضفاض ة وم ا أفض ت إلي ه من "كس وف العق ل" وت دمير ل ه‪ ،‬إن ه ولوج فاض ح‬
‫يتعل ق النق د في ه "بتس يير" الحي اة ف أي مع نى ك ارثي‪ ،‬ذل ك ال ذي تتخ ذه "دالل ة التس يير" وهي ترس م‬
‫المسيرة؟ وأي منقلب يمكن أن ينتمي إليه تسيير الحياة ؟‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المسير وهذه الحياة‬
‫ّ‬ ‫معالم هذا العالم‬

‫ك أن "آدرنو" ي رى في ه ذا "التس يير" م ا يجع ل من مش روع الحي اة مقترن ا‬


‫م ا من ش ّ‬
‫باألش كال الجدي دة لعقلن ة العم ل والمب ادالت التجاري ة والخ دمات والمعلوم ات ال تي عرفته ا الثقاف ة‬
‫حم اال لمع نى الس يطرة والهيمن ة والتعميم ومس اعي ال دمج التق ني‬
‫المعارض ة ليغ دو ب ذلك التس يير ّ‬
‫واالقتص ادي والثق افي ال تي تتفع ل في مج رى الحي اة فتحوّل الع الم إلى ع الم مس ّير يش كل ادع اء‬
‫التقدم أحد الفتاته األساسية‪.‬‬
‫ّ‬

‫كما يبدو واضحا أيضا أن "آدرنو" يحرص منذ اإلهداء على إيالء التحوالت التي طرأت‬
‫على حياة اإلنسان‪ ،‬العناية الالزمة والضرورية لتفسير الضرورة الفلسفية التي تقف شاهدا على‬
‫ش رعية العلم الح زين من حيث ه و كت اب يجع ل مم ا يح دث لإلنس انية في مرحل ة تاريخي ة دقيق ة‬

‫‪ -11‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر الى اكسل هونيث‪ ،‬د‪ .‬كمال بومنير‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ - 12‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪9‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫تحول قادم ُيفضي‬


‫ومناخات عاصفة نقطة انطالق وارتكاز لتفكير نقدي تاريخي‪ُ ،‬يعلن فيه عن ّ‬
‫إلىتخليص الفلسفة مما يجعل منها" تبريرا للسائد بالموكب المنتصر للتيار الموضوعي‪."13‬‬

‫يع ثر "آدرنو" فيم ا يح دث للحي اة من تح والت عم ا يس تدعي "تفحص ش كلها المغ ترب‬
‫والق وى الموض وعية ال تي تعيّن الوج ود الف ردي ح تى في أدق م ا ه و مخفي"‪ .14‬إن ه ذه المهم ة‬
‫تفس ر ض رورة االنتب اه إلى ه ذه العالق ة ال تي ترب ط الحي اة باإلنت اج من حيث هي عالق ة س لطوية‬
‫تؤمّن النظام وتملي على الجميع كيف يحيون تحت سلطته؟‪.‬‬

‫المعمم ة ال تي ت ؤدي‬
‫ّ‬ ‫إن التس يير ينش أ عن ه ذا المس عى ال ذي يس تهدف الس يطرة والهيمن ة‬
‫ّ‬
‫مسير‪ .‬وهو ما كشف عنه "آدرنو" حينما تحدّث عن "مبدأ الهيمنة اإلنسانية الذي‬
‫إلى ظهور عالم ّ‬
‫تحوّل في انبساطه إلى مبدأ مطلق"‪ ،15‬قد يصبح من الضروري أن نتتبع فعل هذا االنبساط الذي‬
‫ال يمكن أن نحدّ مداه والذي ُيعلن عن سقوط كل شيء في قبضة سلطة تنتهي إلى اإلجهاز على‬
‫الذات ذلك "أن الموضوعية الغالبة لحركة التاريخ في طورها الراهن تقوم رأسا وبشكل ال نظير‬
‫له على انحالل الذات"‪.16‬‬

‫المعممة"ما‬
‫ّ‬ ‫من الواضح ّأن ه يوجد في هذا المشروع السلطوي القائم على مبدأ " الهيمنة‬
‫ألن بنيته األساسية هي التس لّط‬
‫يوجهه يجنح نحو التسلط والسيطرة‪ّ ،‬‬
‫أن العقل الذي ّ‬
‫يكفي للتفطن ب ّ‬
‫وه و م ا ينتب ه إلي ه "آدرن و" من حيث ه و تس لّط ي دخل تحت طائل ة التسيير ال ذاتي للعقل‪ .‬فق د آل‬
‫مش روع التن وير الواع د بالحري ة والتق دم والمبش ر باس تقاللية ال ذات إلى انبس اطٍ للهيمن ة يوازي ه‬
‫انبساط للدمار‪ .‬إن وحدة العقل والهيمنة توجد في بنية العقل ذاته وتكشف عن تحول العقل إلى‬
‫أسطورة واألسطورة إلى عقل وهو تحوّل مفارق‪.‬‬

‫يمكن أن نالح ظ مم ا س بق أن االقب ال على فهم م ا وق ع للحي اة وللع الم ح تى يص ير"عالم ا‬


‫مسيرا" يوشك أن يكون عند "آدرنو" بمثابة المحرّك األساسي للنقد حيث يكون تعرية هذه الظاهرة‬
‫المسلك الوحيد الذي على المرء أن يسلكه حتى ال يقع في "مسلك أولئ ك الكتّ اب الروائيين الذين‬

‫‪ - 13‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.31‬‬


‫‪ - 14‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ -15‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.109‬‬
‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪16‬‬

‫‪10‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫يرص فون ُدماهم بمحاك اة األهواء القديم ة ك أن بزين ة رخيص ة وي تركون الش خوص التي ال تعدو‬
‫ّ‬
‫كونها قطعا من المكنة تفعل كأنه ما زال بوسعها أن تفعل بعامة كذواتٍ وكأن شيئا مازال متعلقا‬
‫بفعلها‪."17‬‬

‫أن " آدرنو" يتصدّى لهذا المسلك ويقف على النقيض منه‬
‫وقد يصبح جليا ههنا أن نستنتج ّ‬
‫ليكش ف حجم المغالط ات واالدع اءات ال تي ق ام عليها‪ ،‬ويح ّذر من أن وض ع ال ذوات في ه يماث ل‬
‫وأن المعيب له ذه ال ذوات ليس فق ط ع دم وعيه ا بأنه ا أص بحت مج رد قط ع من‬
‫وض ع الش خوص ّ‬
‫أن "شيئا ما زال متعلقا بفعلها"‪.‬‬
‫توهُمِ ّ‬
‫المكنة بل ّ‬

‫إذ نرص د دالل ة التس يير ومآالت ه على الحي اة الح ق ال تي ص ارت حي اة مش ّوهة إنم ا‬
‫ّإنن ا ْ‬
‫يدفعنا في الواقع هاجس البحث ههنا إلى فعل تشخيصي نقدي‪ ،‬يستهدف الكشف عما يق ّدر "آدرنو"‬
‫بأنه يمثل شاهدا على ظهور معقولية ظلماء تمثل باعثا على تورط الفكر في انجاز المثال التقني‬
‫واألداتي ال ذي يتخل ل ك ل منظم ات الجمعن ة ومراك ز النف وذ والتس يير وه و األم ر ال ذي يمكن أن‬
‫المزي ف غ ير "المس تنير" عنوان ا‬
‫ّ‬ ‫نستش ف من ه أن التس يير شكّل داخ ل ه ذه الحداث ة والتن وير‬
‫لالمعقولية العقالنية الحديثة‪.‬‬

‫إن سؤال التسيير ما هو؟ وكيف يعمل إلنتاج حياة ال تحيا؟ هو سؤال ينبني على أرضية‬
‫تتقص د الوقوف عند هذا "المستشكل تاريخيا"‪ .‬ذلك أن النظرية التقليدية‪ ،‬إما أنها عاجزة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فلسفية‬
‫أو أنه ا متواطئ ة م ع م ا يح دث للحي اة من تش وه ومسخ‪ ،‬ل ذلك يكش ف ه ذا الس ؤال المس وخات‬
‫يحم ل الفلس فة النقدي ة ض رورة‬
‫والتش ويهات ال تي لحقت الحي اة والفلس فة على ح ّد الس واء‪ ،‬وال ذي ّ‬
‫تنزيل النقد تاريخيا‪ ،‬األمر الذي يقتضي التوقف عند المهمة التي يمكن أن تُوكل لهذا السؤال‪،‬‬
‫بما هي مهمة تعرية وفضحٍ للفلسفة من حيث هي تجريد نظري‪.‬‬

‫ولم ا ك ان من غ ير الممكن تعقب دالل ة" التس يير" من دون فحص لم ا ق امت علي ه الحي اة‬
‫عد نتاج‬
‫معمم يُ ّ‬
‫المسيرة من أفعال هيمنة شاملة وتشيئة‪ ،‬ساهمت في انخراط الحياة في مسار تقني ّ‬
‫ّ‬
‫تحول نتيجة انحرافه عن مهمته الكونية إلى أداة وتقنية‪ ،‬فإنه أصبح من الضرور ي االنتباه‬
‫عقل ّ‬
‫أدى إلى إدماج الحياة الخاصة في سياق المنفعة‪.‬‬‫إلى هذا المسار الذي ّ‬

‫‪ -17‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪11‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫برمت ه"‪ 18‬وه و‬


‫إن ه ذا المس عى الملغ ز كم ا يش ير إلى ذل ك "أدرن و" يبتل ع "مج ال الخ اص ّ‬
‫ّ‬
‫‪19‬‬
‫ويفهم‬
‫المسعى ذاته الذي يقع فيه "التضحية بما هو فردي فيكون ِسعر فرديتنا هو ثمن السلعة" ‪ُ .‬‬
‫التس يير ههن ا على أن ه أثر التش يئة والمكنن ة والعقلن ة لإلنس ان والحي اة معا‪ .‬رأس األمر ههن ا أننا‬
‫أدى إلى تغي ير مج رى الحي اة وإ خض اع ك ل ش يء لمطلب‬
‫نرص د انحراف ا خط يرا وكارثي ا للعق ل ّ‬
‫‪20‬‬
‫ليَكون التسيير بهكذا داللة ما يسمح بالتعامل مع "البشر كأشياء" وما يهيئ‬ ‫"مجاراة ما هو قائم"‬
‫التحول الذي يطرأ على التشيئة والشيآنية التي‬
‫ّ‬ ‫من ا على بال‬
‫المجال الستقبال حياة مش يئة وليكن ّ‬
‫تصبح هي ذاتها أيديولوجيا‪ " .‬لقد تحولت الشيآنية القائمة بين البشر التي من شأنها أن تزيل كل‬
‫تنسيق أيديولوجيبينهم هي نفسها إلى إيديولوجيا"‪.21‬‬

‫المسير‬
‫ّ‬ ‫إن أمرا ما خطيرا وكارثيا ذلك الذي يرافق تسيير العالم ويفضح خطّ ة هذا العالم‬
‫ّ‬
‫وه و أم ر يتعلّ ق بتح ّول وانتق ال س لطوي ع نيف يُحم ل على فهم س يرورة الع الم بم ا ه و نت اج‬
‫س يرورة العقلن ة ال تي تُفهم هاهن ا على أنه ا "عقلن ة من أعلى" تس تهدف إع ادة إنت اج العلم والتقني ة‬
‫على نحو من "يأخذان أهمية إيديولوجية بديلة بالنسبة إلى اإلديولوجيات البرجوازية المنهارة في‬
‫هيئة وعي عام وضعي مشروخ بوصفه وعيا تكنوقراطيا"‪.22‬‬

‫لقد استطاع "آدرنو "أن يكتفي بثنائية العقلنة ويفكك انعزالها ويقف عند ما آلت إليه من‬
‫المسير‪ .‬فالحداثة نفسها تنبثق من خالل سيرورة العقلنة‪ ،‬تلك التي‬
‫ّ‬ ‫هيمنة على محتوى هذا العالم‬
‫تنزع بعنف إلى مآلٍ يصبح فيه كل شيء أيديولوجيا حتى الحياة‪.‬‬

‫نبين أن السؤال عن التسيير في معناه العميق‬


‫الضروري والحال تلك أن ّ‬
‫ّ‬ ‫وقد يكون من‬
‫يضحي مدخال لتعقل مسار هذه العقلنة التي تعني "بداية اتساع المجاالت االجتماعية مع النتيجة‬
‫ال تي مؤداه ا أن مع ايير الفع ل األدائي ال ب ّد أن تنف ذ إلى مج االت أخ رى‪ ،‬إعم ار أس لوب الحي اة‬
‫وإ دخال التقني إلى التبادل والتواصل"‪ .23‬وهو األمر الذي دعا "آدرنو" إلى التنويه بأنه قد وقع كل‬

‫‪ -18‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.40‬‬


‫‪ -19‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.240‬‬
‫‪ -20‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.63‬‬ ‫‪21‬‬

‫‪ -‬العلم والتقنية كإيديولوجيا‪ ،‬يورغن هابرماس‪ ،‬ص‪.85‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪ -23‬العلم والتقنية كإيديولوجيا‪ ،‬ص‪.43‬‬

‫‪12‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫الفن واإلنس انية‬


‫معمم ومشيّء وص ار ك ل ش يء بض اعة بم ا في ذل ك ّ‬
‫ش يء في شِراك اس تهالك ّ‬
‫التوس ع واالحت واء وال دمج‬
‫ّ‬ ‫والثقاف ة والقيم وه ذا أح د أب رز وج وه الع الم المس ّير ال ذي ق ام على‬
‫توج ه‬
‫الع نيف ح تى يمكن الق ول إ ّن" التش يئة دُ ّس ت في بداي ة الشخص ية وتغلغلت فيه ا وراحت ّ‬
‫التفاعل وتقوده"‪.24‬‬

‫المسير" أن نكشف ما يختفي وراء األكمة‬


‫ّ‬ ‫قد يكون من الضروري لفحص داللة " العالم‬
‫وه ذا ال ذي يح اول األدب الصــغير تعيين ه بوص فه م ا تعم ل اإلتيق ا بم ا هي نقد‪ ،‬على استش كاله‬
‫وبلورت ه بوص فه مش كال تاريخي ا يتعلّ ق " بالفع ل والممارسة‪ ".‬فالتس يير يعكس مج رى الع الم‬
‫ومسعاه وسيرورة العقلنة بما هي سيرورة نفي الذات ونفي الحياة‪ ،‬وهو ما يفتحنا على المسار‬
‫ال واقعي لحي اة المجتم ع"‪ 25‬من حيث ه و مس ار مض اد لإلنس ان ال ذي أض حى موض وعا مطلق ا‬
‫فالسؤال عن التسيير إذا هو سؤال عن اإلنسان ؟ وهو سؤال عن التاريخ ؟ وهو بذلك سؤال عن‬
‫الماهية ؟‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المصير ال عن‬

‫ّإن ه س ؤال ت اريخي يالمس مع ه "آدرنو" في الش ذرة ‪ 29‬م ا يمكن أن نس ّميه بم ا "قبلي"‬
‫توجه ه لكن ب النظر إلى‬
‫التس يير أي الخلفي ة األنثروبولوجي ة والس يكولوجية والسوس يولوجية ال تي ّ‬
‫الس يكولوجيا عبر العصور من بروتاغوراس إلى عصر النهضة ليكشف‬‫التطور الذي شهدته ّ‬
‫ّ‬
‫تم إنزال اإلنسان بين األشياء"‪.26‬‬
‫"آدرنو" بذلك كيف ّ‬
‫وقد يكون من الالفت ها هنا أن يدعونا هذا األمر إلى االنتباه إلى منزلة "األنا" داخل‬
‫هذه السيكولوجيا حيث يؤ ّكد "آدرنو" أن األنا الذي هو الفكرة الموجهّة للسيكولوجيا وموضوعها‬
‫‪27‬‬
‫أن " التسيير"‬
‫القبلي تحوّل تحت رايتها وباستمرار إلى شيء غير موجود ‪.‬وليكن مناعلى بال ّ‬
‫هو وليد أزمة أنثروبولوجية وأنطولوجية وتاريخية وهو يش ّكل تراكما لهذا الفكر البشري الذي‬
‫تم منح" المجتمع‬
‫التطور والتقدم بالنسبة إليه إال عنوانا للسيطرة والهيمنة والتش يئة‪ .‬فلقد ّ‬
‫ّ‬ ‫لم يكن‬

‫‪ -‬النظرية النقدية – مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ص ‪.249‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.109‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.109‬‬ ‫‪26‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.109‬‬ ‫‪27‬‬

‫‪13‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫األسلحة التي بها يجعل فعال تلك الذات موضوعا ويظ ّل مسيطرا عليها "‪ 28‬في الوقت نفسه الذي‬
‫بالتقدم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويعد‬
‫بالحرية ُ‬
‫ّ‬ ‫كان فيه التنوير يب ّشر‬

‫ّبين إذا أن مفه وم التس يير يس تدعي من ا معالج ة إتيقي ة تتكثّ ف عن دها ك ل األس ئلة ال تي‬
‫تتعلّ ق بالحي اة واإلنس ان‪ ،‬ل ذلك تُق ّد ك ّل المش كالت اإلتيقي ة منه‪ ،‬لكي يس مح ذل ك للفيلس وف ب أنْ‬
‫تعرض ت ل ه الفلس فة والحي اة في مجم ل س ياقاته الفلس فية واالجتماعي ة‬
‫يع ّري حقيق ة المس خ الذي ّ‬
‫والسياسية والجمالي ة‪ ...‬ل ذلك يمكن القول بأنن ا حينم ا نس أل عن " التسيير" فإنن ا نس أل عن الحي اة‬
‫ّ‬
‫وأي‬
‫وأي حياة تلك التي يحياها اإلنسان ؟ هل هي حياة جديرة بأن تحيا ؟ كما نسأل عن اإلنسان ّ‬
‫إنسان ذاك الذي يحيا هذه الحياة ؟ وما إذا كان باإلمكان التفكير فيه فعال بما هو إنسان ؟ بل إننا‬
‫خضم هذه األسئلة‪ ،‬من األسئلة أصعبها وأكثرها تعقيدا‪ ،‬حينما يرت ّد السؤال عن التسيير‬
‫ّ‬ ‫ندرك في‬
‫وأي فلس فة هي تلك ال تي يمكن له ا أن تجع ل من تفكيرها في "الع الم‬
‫ّ‬ ‫إلى الس ؤال عن الفلس فة ‪:‬‬
‫ومادي ة‬
‫ّ‬ ‫المس ّير" إمكانا جريئ ا إلح داث نقلة نوعية في ت اريخ الفلس فة يجعل منه ا فلسفة اجتماعية‬
‫قادرة على الوقوف عند قوانين الواقع الفعلي فتتم ّكن بذلك من تنزيل الفكر تنزيال تاريخيا ؟‪.‬‬

‫ربم ا ك ان من األج در إذا أن نقلّب أم ر التس يير والع الم المس ّير من خالل ك ل ّ ه ذه‬
‫ّ‬
‫الواجه ات النقدي ة ال تي فتحت الفلس فة على ق ول آخ ر في اإلنس ان وفي الحي اة‪ .‬ل ذلك ال يمكن أن‬
‫ننظر إلى كتاب األدب الصغير بمعزل عن المشروع الفلسفي الذي رفعت لواءه المدرسة النقدية‪.‬‬
‫ينس ل عن نفس المشروع الفلسفي النقدي‬
‫المسير ُ‬
‫ّ‬ ‫وهو ما يؤ ّك د أن البحث في التسيير وفي العالم‬
‫يوج ه الفلسفة للتفكير صوب هذا الذي‬
‫الذي يكون بذلك قد وضع إصبعه على موطن الداء‪ ،‬لكي ّ‬
‫يعني اإلنسان في عالقته بذاته وفي عالقته بالحياة‪.‬‬

‫مسير" أن يكون "مادة تفكير تكشف حقيقة هذا الذي‬


‫يراد إذا من هذا اإلهتمام "بالعالم ال ّ‬
‫ُ‬
‫التقط ه كت اب األدب الصــغير من الحي اة المش ّوهة لكي يك ون س ؤال التس يير والع الم المس ّير‪ ،‬ه و‬
‫مسير هو انخراط يوجب على الفلس فة‬
‫إن االنخراط في مساءلة العالم ال ّ‬
‫سؤال الكارث ة والهول‪ّ .‬‬
‫تغي ر مثال من‬
‫التغير ؟ وما هو مضمونه ؟ هل على الفلسفة أن ّ‬
‫تتغير‪ ،‬ولكن ما هو شكل هذا ّ‬
‫أن ّ‬

‫‪ -28‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.109‬‬

‫‪14‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫تغي ر أيض ا من‬


‫ط رق تفكيره ا االس تنباطية وأدوات نق دها وأس لوب كتابته ا المنطقي ة أم عليه ا أن ّ‬
‫األغراض التي يجدر بالفيلسوف أن يخوض فيها ؟‬

‫ال ن روم من خالل ط رح ه ذه األس ئلة أن نجيب عنه ا بق در م ا يس توقفنا في ه ذا المق ام‬
‫التفطّن إلى هذه العالقة بين ما آل إليه تسيير العالم من تشوه للحياة ومسخ لها‪ ،‬و ما يقتضيه ذلك‬
‫نقدي ة‬
‫نوعي وجذري في الفلسفة فكرا وممارسة‪ ،‬حتى تتأهل لكي تكون فلسفة ّ‬ ‫ّ‬ ‫تغي ر‬
‫من إحداث ّ‬
‫مادية مقاوِمة لك ّل أشكال الهيمنة والتشيئة واالضطهاد‪ ،‬وهو ما يش ّكل شاهدا على أن أمرا ما قد‬
‫ّ‬
‫وأدى به ا إلى ه ذا المنقلب الخط ير من المواجه ة والمقاومة‪ ،‬تع ود أس بابه‬
‫ط را على الفلس فة‪ّ ،‬‬
‫الحد الذي تم فيه "ابتالع المجال‬
‫الحقيقية إلى ما رصده "آدرنو" من تسيير للحياة بلغ ذروته إلى ّ‬
‫اص برمت ه داخ ل مسعى ملغ ز يحم ل جمي ع مع الم النش اط التج اري دون أن يتعلّ ق األم ر في‬
‫الخ ّ‬
‫الواقع بالتجارة"‪.29‬‬

‫وق د يك ون من الض روري والح ال تل ك من مالحق ٍة وس يطرةٍ على اإلنس ان أدت إلى‬
‫نبين أن‬
‫المسير‪ ،‬ولمسار إنتاج حكم عليه بالوحدة واالنعزال‪ ،‬أن ّ‬
‫ّ‬ ‫تحويله إلى امتداد لهذا العالم‬
‫التس يير ال ذي اقتحم "المج ال العم ومي لإلنس ان ومجال ه الخ اص يس تهدف تحوي ل الجمي ع إلى‬
‫نفوذا"‪ 30‬لكي ُيظهر ذلك ما يستبطنه التسيير من تشيئة للعقل تصبح‬ ‫موضوعات بمن فيهم األكثر ُ‬
‫في ه العالق ات بين الن اس فاق دة للمع نى والقيمة‪ ،‬لق د ُأذن له ذه الحي اة المس ّيرة ب أن تقوم بتص فية‬
‫الف ردي وأن تمعن" في انبس اط المب دأ االجتم اعي ح ّدا ال ي ترك مج اال كافي ا للفردن ة "‪ 31‬وه و م ا‬
‫المسيرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يسميه "آدرنو" "بعصر انحطاط الفردي" بالتزامن مع هذه الحياة‬
‫يفسر ظهور ما ّ‬
‫ّ‬

‫المسيرة هي علّ ة التشيّؤ وهي مصدر هذا‬


‫ّ‬ ‫أن الحياة‬
‫ثم ة إذا ما يحملنا على التأكيد على ّ‬
‫ّ‬
‫وعب رت عنها فلسفة التنوير‪ ،‬تلك الفلسفة التي‬
‫العلمية الحديثة ّ‬
‫ّ‬ ‫العقل األداتي الذي أتت به الثورة‬
‫بأنه ا اتخ ذت ص فة " العق ل المتن ّور"‬
‫يق ول "هورك ايمر" و"آدرنو" عنه ا في كتابهم ا جدلية التنــوير ّ‬
‫الذي ألزمته هذه " النزعة الوضعية بأن يختزل دوره ووظيفته في معرفة ما هو معطى بوصفه‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.61‬‬ ‫‪30‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪. 31‬‬ ‫‪31‬‬

‫‪15‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫يتم التحكم فيها"‬


‫التنب ؤ بحدوث الظواهر حتّى ّ‬
‫كذلك ‪ ...‬بقصد الوصول إلى صياغة القوانين ثم ّ‬
‫‪32‬‬
‫ع ّد النموذج األوحد للمعرفة‬
‫فأمكن بذلك وبواسطة الترييض تحويله إلى عقل أداتي (تقني) ُ‬
‫والحقيقة‪.‬‬

‫ولعلّنا نرصد بذلك صعودا للعقل األداتي بالموازاة مع هيمنة الحياة المسيرة وانبساطها‬
‫أن الحياة المسيرة ما‬
‫على المجال الخاص والمجال العمومي لإلنسان‪ ،‬حتى ّأننا يمكن أن نقول ّ‬
‫كان لها أن توجد لوال هذا العقل األداتي الذي ألزم هذه الحياة بمسعى يقوم على "مبدأ إخضاع‬
‫‪33‬‬
‫إن ظهور "الحياة المنمط ة" هو‬
‫تحولت هي نفسها إلى مسار عقلنة" ‪ّ .‬‬
‫ك ّل شيء إلى التقنية التي ّ‬
‫وليد عقل أداتي يقف شاهدا على هذه األزمة التي عرفتها الحضارة الغربية والتي أثبتت زيف‬
‫وعود التنوير‪،‬حيث يؤ ّكد "آدرنو" أنه قام على األساطير التي كان يريد القضاء عليها فغدا أسيرا‬
‫لها‪.‬‬

‫مضاد‬
‫ّ‬ ‫ال يمكن أن نفهم من هذا النقد الذي يوجهه "آدرنو" للعلم والعقل والتنوير بأنه نقد‬
‫موج ه أساسا لالنحراف الذي شهده مسار الحداثة والعقل والتنوير لذلك‬
‫"بالكلّية لها بل هو نقد ّ‬
‫ك ان الس ؤال ال ذي يق ود " آدرنو" ‪ :‬ه و‪ :‬كي ف تح ّول العق ل إلى الالعق ل ؟ وكي ف اق ترن العق ل‬
‫بالبربرية؟‬

‫البربري ة‪ ،‬لذلك‬
‫ّ‬ ‫إن التسيير يقوده عقل أداتي ساهم في إنتاج أساطير كانت سببا في ظهور‬
‫ّ‬
‫المهم ة ال تي أنيطت بعه دة ه ذه‬
‫ّ‬ ‫يك ون البحث في ه ذه العالق ات راف دا من رواف د الكش ف عن‬
‫نؤش ر م ع "آدرنو" له ذه‬
‫الحي اة المس ّيرة‪ ،‬والنت ائج ال تي يمكن أن ت ؤول إليها‪ .‬ههن ا أيض ا يمكن أن ّ‬
‫مرة أخرى‬
‫لكننا نعثر ّ‬ ‫حولت "األلم إلى الجحيم"‪ّ ،‬‬
‫الكارثة التي آل إليها الوضع اإلنساني والتي ّ‬
‫اإلنسانية المضطهدة‬
‫ّ‬ ‫يقدمه " آدرنو" بشأن الكارثة عن مقاومة عنيدة ترفض أن تستسلم‬
‫في ما ّ‬
‫بأن ه ما زال‬
‫ضد هذا المنطق االنهزامي واالستسالمي ّ‬
‫يقر "آدرنو" ّ‬
‫المسير‪ ،‬لذلك ّ‬
‫ّ‬ ‫إلى هذا العالم‬
‫‪34‬‬
‫يهمن ا في ه ذا الموض ع من التحلي ل ه و البحث‬
‫يوج د في ه ذا الجحيم ه واء يتنفّس ‪ .‬ولع ّل م ا ّ‬
‫في بني ة ه ذه الحي اة المس يرة والوق وف عن د منط ق التس يير ال ذي ق ام كم ا أ ّك د على ذل ك‬

‫النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركايمر إلى أكسل هونيث ص ‪.14‬‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.112‬‬ ‫‪33‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪34‬‬

‫‪16‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫"هوركه ايمر" و "آدرنو" في كتابهم ا جدلية التن ــوير على وض ع تك ون في ه "الس لطة والمعرف ة‬
‫مترادفتين"‪.‬‬

‫المسير" والبحث في‬


‫ّ‬ ‫إن التوقف عند هذه الدالالت التي ترافق الحقل الداللي لعبارة "العالم‬
‫تقيمها هذه العبارة مع مفاهيم مثل العلم والعقل والتنوير والسلطة والمعرفة‪،‬‬
‫هذه التقاطعات التي ّ‬
‫ين درج في سياق التأكي د على واقع ة شديدة الخطورة والتعقيد يب دو أن تسيير الحي اة يمض ي إليها‬
‫قدما وبخطى حثيثة فقد بات ُيخشى منذ زمن طويل ما هو " أسوأ من الموت" ‪.35‬‬

‫الوضعيات القصوى التي يمكن أن يعايشها اإلنسان‬


‫ّ‬ ‫المسيرة تُعادل‬
‫ّ‬ ‫هاهنا تصبح الحياة‬
‫ردا‬
‫وضعية قصوى ال يجد لها ّ‬ ‫ّ‬ ‫حولت حياة اإلنسان إلى‬
‫حدا يمكن القول بأن الحياة المسيّرة ّ‬‫ّ‬
‫عبر " أمنية التخفيف من الهوان الالمتناهي للوجود كما من العذاب الالمتناهي لالحتضار‪."36‬‬

‫المسيرة تفيد "الهوان" و"الاحتضار" كما تفيد أيضا ما هو " أسوأ من‬
‫ّ‬ ‫أن الحياة‬
‫ّبين إذا ّ‬
‫الم وت" ل ذلك يعم ل " آدرنو" من خالل النق د ال ذي يوجّه ه إلى الحي اة المس ّيرة‪ ،‬إلى إيق اظ ه ذا‬
‫الحس النق دي واإلتيقي ال ذي يك ون محم وال علي ه أن يتح ّرر من غفلته‪ ،‬وأن ي درك أن ه بوس ع‬
‫ّ‬
‫ضد الهيمنة والسيطرة‪.‬‬
‫الوعي أن يتغلّب على هذه الظلمة وأن يثور ّ‬

‫واآلن وقد أصبح واضحا ما لهذا اإلقبال اإلتيقي الذي يعالج من خالله "آدرنو" تشويهات‬
‫إن األدب الصــغير يض ع بين أي دينا‬
‫الحي اة‪ ،‬من خط ورة وأهمي ة على الفك ر الفلس في يمكن الق ول ّ‬
‫ألن ذل ك من ص ميم انش غاالت‬
‫مش كال إتيقي ا بامتي از‪ ،‬وه و ي دعونا إلى ض رورة الخ وض في ه ّ‬
‫اإلنسان تجاه ذاته وتجاه اآلخر والعالم واألشياء حتى يبلغ أفق ما هو إنساني‪ .‬فلسنا نغالي إن قلنا‬
‫أن كتاب األدب الصغير هو كتاب في اإلنسان من ألفه إلى يائه‪.‬‬
‫ّ‬

‫تاريخي‪ ،‬يمكن أن يعوق مطلب‬ ‫من ٍ‬


‫جز‬ ‫لذلك يمكن أن نعزو هذا االهتمام باإلنسان إلى ك ّل ْ‬
‫ّ‬
‫تحقّق ما هو إنساني فكرا وممارسة‪ .‬لذلك يكون استدعاء ما أشرنا إليه آنفا" بالمشكل اإلتيقي" هو‬
‫إنسانيا يرتقي إلى مرتبة الموضوعات القاهرة بل‬
‫ّ‬ ‫استدعاء لما يمكن أن ُيتداول بوصفه شأنا ال‬

‫‪ -35‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.66‬‬


‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.66‬‬ ‫‪36‬‬

‫‪17‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫يتحم ل مس ؤولية التفك ير فيه ا من حيث هي مس ؤولية‬


‫عيات القص وى ال تي على الفك ر أن ّ‬
‫والوض ّ‬
‫النقدية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إتيقية بالدرجة األولى بل ينبغي أن يتحمل أيضا تبعات مواقفه‬

‫أن انش غال الفلس فة م ع "آدرن و" "بالتس يير" و"بالع الم‬
‫رأس األم ر هاهن ا‪ ،‬ه و التأكي د على ّ‬
‫المسير" هو من صميم انشغالها باإلنسان انشغاال يستهدف ما وقعت صياغته في هذا الفصل تحت‬
‫ّ‬
‫أهميته تنبثق عن وعي‬
‫فإن ما يطرحه "مشكل التسيير" وإ ن كانت ّ‬
‫عنوان "في اإلتيقا نقدا"‪ .‬لذلك ّ‬
‫نقدي بضرورة أن ينخرط الفيلسوف في القضايا التاريخية الراهنة التي تشغل عالمه ‪ ،‬سواء ذاك‬
‫فإن استنطاق‬
‫الخاص للحياة أو ذاك الذي يتعلق بمجاله العمومي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الذي يمكن تنزيله في المجال‬
‫أهميته وخطورته تكمن أيضا في كيفية طرقه فلسفيا وفي األسئلة التي تش ّكل‬
‫أن ّ‬‫هذا المشكل يبدو ّ‬
‫النقدية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫طبيعته‬

‫المسير هو‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫اهتمام تحوم حوله ك ّل القضايا ذات الصلة بالتسيير وبالعالم‬ ‫إن ما يشكل مدار‬
‫ّ‬
‫السؤال عما إذا كانت الحياة قد فقدت بموجب هذا التسيير غير المباشر ك ّل الشروطوالخصائص‬
‫نتوغ ل بيسر في مقاصد هذا السؤال والوجهة التي يمكن أن‬
‫التي تجعل منها حياة تحيا ؟ وحتى ّ‬
‫التقدم‬
‫يحملنا إليها ينبغي أن نعيد طرحه من جديد ولكن بغاية البحث عن هذه العالقة التي تربط ّ‬
‫المسير‪ .‬وهو ما من شأنه أن يقودنا إلى طرح‬
‫ّ‬ ‫ثمة بهذا العالم‬
‫الذي حقّقته البشرية بالتسيير‪ ،‬ومن ّ‬
‫الس ؤال الت الي‪ :‬م ا العالق ة بين التق ّدم العلمي والتق ني وع الم الحي اة؟ لعلّن ا بهك ذا س ؤال يمكن أن‬
‫أن "آدرن و" ي دفع به ا إلى المس اءلة والنق د‬
‫أن علّ ة التس يير تتّص ل به ذه العالق ة ال تي يب دو ّ‬
‫ن درك ّ‬
‫للتقدم‪.‬‬
‫ويطعن في ك ّل الدعاوى التي قامت عليها "فلسفة التنوير" من حيث هي فلسفة تنتصر ّ‬

‫أن كتاب األدب الصغير اتخذ منها‬


‫إن ما ينضاف إذا إلى "مفارقات" هذه الحياة التي يبدو ّ‬
‫ّ‬
‫يسميه "آدرنو" بتشويهات الحياة ومسوخاتها هو‬
‫التقدم فيم ا ّ‬
‫تورط هذا ّ‬
‫موضوعا رئيسيا إلثبات ّ‬
‫التس اؤل كي ف يتح ّول التق ّدم من أداة تحري ر لإلنس ان إلى أداة س يطرة وقم ع؟ وم ا ال ذي يجع ل‬
‫أن مشروع التقدم هو مشروع سيطرة ال على الطبيعة فحسب بل على اإلنسان؟‬ ‫"آدرنو" يدرك ّ‬

‫إن م ا يمكن أن تخ رج ب ه األس ئلة من اس تنتاج‪ ،‬ه و االنتب اه إلى ض رورة أن نض ع التق دم‬
‫ّ‬
‫بين هاللين‪ ،‬وأن يكون التفكير فيه يجري مجرى مضادا لك ّل معرفة تشكو فسادا نظريا كان أو‬
‫يورطه ا في ت برير الوض ع الق ائم واالس تفادة من ه‪ ،‬ولع ّل م ا ح اول تشخيص ه‬
‫عملي ا‪ ،‬يمكن أن ّ‬
‫ّ‬

‫‪18‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫كن ا ق د وض ّحناه س ابقا بأن ه خ روج عن‬


‫"آدرن و" في وض عية المثقّ ف في المهج ر‪ ،‬تكش ف م ا ّ‬
‫يسميه "آدرنو"‪ ،‬في "النظام "وفي" اللعبة"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االستقاللية وانخراط فيما‬

‫إن م ا نعني ه بالتق ّدم س واء ك ان العلمي أو التق ني‪ ،‬ال يمكن أن يخ تزل في منجزات ه أو في‬
‫ّ‬
‫للبشرية‪ ،‬بل يعني لنا ضرورة االنتباه إلى ما هو جوهري‬
‫ّ‬ ‫الكمية التي يمكن أن تحصل‬
‫الزيادة ّ‬
‫إنسانية إتيقية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التقدم ‪ ،‬هذا الذي ال يمكن أن يقاس إال بمعايير‬
‫في هذا ّ‬

‫اإلتيقي ة‪ ،‬يمثّ ل بؤرة انشغال كان "آدرنو" قد كشف‬


‫ّ‬ ‫التقدم‪ ،‬منظورا إليه من هذه الجهة‬
‫إن ّ‬
‫الص ناعة موض ع فحص‬ ‫عن ه في الش ذرة‪ 3‬ال تي ح اول من خالله ا أن يض ع التط ّور ال ذي حققت ه ّ‬
‫مسمى " الكمال التقني" الذي أصبح يمثّ ل‬
‫وتشخيص‪ ،‬أو فيما اصطلح عليه في الشذرة ‪ 33‬تحت ّ‬
‫الفاشية أو فيما يشير إليه" بالنجاعة االقتصادية‪.37‬‬
‫ّ‬ ‫صورة من صور تجلّي‬

‫تلبس بلبوس التطور الصناعي‬


‫التقدم الذي ّ‬
‫لقد ش ّكلت الشذرات إذا محاولة الستنطاق هذا ّ‬
‫أن ما ينبغي التشديد عليه في هذا‬
‫والعلمي والتقني والثقافي لكي يندرج في مجاالت الحياة‪ ،‬غير ّ‬
‫المس توى من التحلي ل‪ ،‬ه و ه ذا "التس يير غ ير المباش ر" ال ذي ك ان نتاج ا لمعقولي ة رفعت التق دم‬
‫من ا على ب ٍ‬
‫ال ه ذه العالق ة ال تي تجم ع العلم والتقني ة‬ ‫للس يطرة‪ .‬وليكن ّ‬
‫ش عارا واتخ ذت من ه وس يلة ّ‬
‫أن التسيير غير المباشر هو من جوهر ما قام عليه هذا‬
‫مما يفيد ّ‬
‫بعقلنة التح ّكم وعقلنة السيطرة‪ّ ،‬‬
‫وتقني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫علمي‬
‫ّ‬ ‫التقدم من حيث هو تقدم‬

‫سطحية ساذجة‬
‫ّ‬ ‫ها هنا يمكن أن نالحظ مع "آدرنو" أن النقد ال يمكن أن يظ ّل سجين نظرة‬
‫التقدم‪.‬‬
‫ذرائعي يقف عند ظاهر اإلنتاج وظاهر الحياة وبالتالي ظاهر ّ‬
‫ّ‬ ‫تصور دغمائي أو‬
‫أو ّ‬
‫مْأس َس ِة التق دم العلمي‬
‫النقدي ة إلى عقلن ة تعم ل على َ‬
‫ّ‬ ‫لق د ص ار التس يير ُيحي ل م ع النظري ة‬
‫والتق ني بقص د اخ تراق يس تهدف النف اذ إلى ك ّل مج االت الحي اة ال تي س تدخل ب دورها تحت طائل ة‬
‫هذه المأسسة‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫يفس ر أن‬
‫"منمطة" تكون خاضعة لمس ارات العقلنة‪ ،‬وهو م ا ّ‬
‫هك ذا إذا يفضي التسيير إلى حياة ّ‬
‫مسارات العقلنة هذه‪ ،‬تدار وفق ما يشير إليه "آدرنو" تحت "هيمنة المؤسسة الرسمية ورقابتها"‪،‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.107‬‬ ‫‪37‬‬

‫‪ -38‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.110‬‬

‫‪19‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫السياسية الثاوية‬
‫ّ‬ ‫أن العقلنة بالمعنى العميق للكلمة هي السيطرة‬
‫وهو ما يدعونا إلى الـتأكيد على ّ‬
‫في ك ّل أشكال و تمظهرات العقل التقني والعلمي‪ .‬هكذا يمكن أن ننتهي إلى المعنى الذي يمكن أن‬
‫تشير إليه عبارة "التسيير غير المباشر" وعالقتها بالسيطرة البيروقراطية وبشكل نجاعة االقتصاد‬
‫تبني الفرضية التالية التي‬
‫الرأسمالي‪ ،‬ولكن بشكل المجتمع البرجوازي أيضا‪ .‬وهذا ما يقودنا إلى ّ‬
‫تقوم على إثبات أن قيام فلسفة نقدية اجتماعية مادية هو رهين اخترا ٍ‬
‫ق تنجزه الفلسفة بغية النفاذ‬
‫العقالني ة‪ ،‬واس تبطانها‬
‫ّ‬ ‫إلى حقيق ة ه ذا ال ذي يج ري ص لب تناقض ات الواق ع إلثب ات زي ف ه ذه‬
‫للسيطرة والهيمنة‪.‬‬

‫المسير" إنما نكون وبصفة‬


‫ّ‬ ‫تقدم أننا حينما نف ّكر في "العالم‬
‫ومع ذلك ندرك اآلن من ك ّل ما ّ‬
‫البربري ة‪ .‬لق د‬
‫ّ‬ ‫ارخ وفاض ٍح ينق ل المجتمع ات من اإلنس انية إلى‬
‫ومنطقي ة أم ام تح ّول ص ٍ‬
‫ّ‬ ‫مباش رة‬
‫بالتقدم‪ .‬في الوقت ذاته كانت‬
‫ّ‬ ‫بالحرية ويعدان‬
‫ّ‬ ‫العقالنية الحديثة والعقل التنويري إذا يب ّشران‬
‫ّ‬ ‫كانت‬
‫لكنه ا بربري ة جدي دة تتغ ذى من‬‫المشوه والممس وخ للحي اة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بربري ة تكشف الوج ه‬
‫ّ‬ ‫انية تعيش‬‫اإلنس ّ‬
‫بربري ة يؤ ّك د‬
‫ّ‬ ‫وبخاصة تلك التي تتعلّق بما يقع ترويجه من قبل ثقافة الجمهور‪ّ .‬إنها‬
‫ّ‬ ‫التقدم‬
‫أسباب ّ‬
‫البربري ة والحداثة‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫حدا يمكن القول معه ّ‬
‫التقدم هي عالقة محايثة ّ‬
‫أن العالقة بينها وبين ّ‬
‫"آدرنو" ّ‬
‫أن‬
‫حد ّ‬
‫وجهان لعملة واحدة "قد صار التقدم والبربرية متالزقان اليوم باعتبارهما ثقافة الجمهور ّ‬
‫وح ده التقش ف ال بربري س يكون بإمكان ه أن يس تعيد من جدي د العنص ر ال بربري ض ّد ه ذه الثقاف ة‬
‫وضد تقدم الوسائل"‪.39‬‬
‫ّ‬

‫التقدم‬
‫يتنزل من ّ‬‫المضي في تعري ف هذا العنصر ال بربري الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫إن م ا ُيلزمن ا‪ -‬بواجب‬
‫ّ‬
‫والمكون البنيوي‪ -‬هو الوقوف عند خصائص "العالم المسير" الستنطاق‬
‫ّ‬ ‫منزلة األساس والجوهر‬
‫توجه ه‪ ،‬والوس ائل ال تي توظفه ا ه ذه العقالني ة من أج ل إل زام البش رية بالخض وع‬
‫العقالني ة ال تي ّ‬
‫المسير ُيقاد بواسطة عقل‬
‫ّ‬ ‫أن العالم‬
‫يوضح ّ‬
‫ّ‬ ‫إلى"ال معقولية النسق" قبوال وامتثاال وهذا ما يمكن أن‬
‫ومتحيل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خبيث‬

‫من أج ل ذل ك‪ ،‬تق وم وس ائل اإلعالم والثقاف ة وك ّل أش كال التق ّدم األخ رى االقتص ادية‬
‫والعلمي ة والتقني ة‪ ،‬مق ام اآللي ات ال تي ته دف إلى إخض اع األف راد لكي ال تخ رج عن نط اق ه ذا‬
‫ّ‬
‫العالم‪ .‬فحتّى العالقات أنشأت كما يشير إلى ذلك "آدرنو" في الشذرة‪ 3‬بصفتها تابعة إلى دائرة‬
‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.88‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪20‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫أي قمع ذاك الذي يمكن أن ندرك‬


‫السوق‪ ،‬تشتغل وفق عقالنية تح ّكم وسيطرة وهيمنة وقمع‪ ،‬لكن ّ‬
‫المسير" بالقمع؟‬
‫ّ‬ ‫من خالله عالقة هذا "العالم‬

‫كن ا ق د أش رنا إلي ه على ّأن ه إخض اع‬


‫قب ل اإلجاب ة عن ه ذا الس ؤال ينبغي أن نن ّوه بم ا ّ‬
‫للمجتم ع إلى سطوة النس ق‪ ،‬حيث يمكن أن نرصد ه دفا من بين األه داف النوعي ة ال تي تق ود ه ذا‬
‫النس ق‪ ،‬وه و إحك ام قبض ته (النس ق) على الجمي ع من أج ل الوص ول إلى نس ق ال يتع اطى م ع‬
‫الذوات بل مع الدمى واألشياء‪:‬‬

‫إن ه نس ق إنس ان "اآلل ة أو الش يء" ال ذي يت وزع على ك ّل المج االت االقتص ادية والعلمي ة‬
‫والتقنية بما في ذلك المجاالت التي تتعلّق بالتواصل‪.‬‬

‫ربم ا ق د‬
‫واآلن ينبغي أن نؤ ّك د أن العالق ة بين الع الم المس ّير والقم ع هي عالق ة مر ّكب ة ّ‬
‫حد‬
‫يكون من الضروري االستعانة بالتحليل النفسي والسوسيولوجي للكشف عن طبيعتها المر ّكبة ّ‬
‫رعية الس يطرة‬
‫أن ش ّ‬
‫الق ول بأنن ا ال يمكن أن نج د أح دهما مس تقال عن اآلخ ر‪ .‬وه و م ا يكش ف ّ‬
‫نسميها بالقمع الناعم أو السيطرة "الملساء"‪ ،40‬وهو قمع‬
‫والقمع‪ ،‬قد اتخذت طبيعة جديدة يمكن أن ّ‬
‫دمى خاضعة ومستسلمة‬
‫يحولهم إلى َ‬
‫يكاد يكون غير مرئي حتّى أنه يختفي من وعي الناس لكي ّ‬
‫لما هو قائم وسائد‪ ،‬وهو أمر يحصل بدقة وتعقيد بالغين ويش ّكل جوهر هذا الوضع المفارق الذي‬
‫صار إليه هذا المجتمع‪.‬‬

‫بأن الكتابة الشذرية التي صاغ بفضلها "آدرنو" أفكاره الملتقطة من‬ ‫من ا على ٍ‬
‫بال ّ‬ ‫وليكن ّ‬
‫أن ما ُيلتقط من الحياة ال يمكن أن ُيكتب إال في‬
‫استمدت وجاهتها من كون ّ‬
‫ّ‬ ‫المشوهة والتي‬
‫ّ‬ ‫الحياة‬
‫َأم ر استكشافه ممتنعا‬
‫الشذرية إذا بوسعها أن تكتب في شأن يكون ْ‬
‫ّ‬ ‫شكل شذرات‪ .‬وحدها الكتابة‬
‫ومستغلقا عن الكتابة وفق التقليد الفلسفي الذي اعتادت الكتابة فيه أنتأخذ مجرى "النثر المنظوم‬
‫في الفلسفة‪."41‬‬

‫المتأم ل في اس تعمال "آدرن و" له ذه " المفارق ات " ال تي بن ا عليه ا معالجت ه اإلتيقي ة‬
‫ّ‬ ‫ولع ّل‬
‫للحي اة بوس عه أن يالح ظ أن توظيفه ا ج اء ليحق ق مقص دا وغرض ا أساس يا‪ ،‬تك ون في ه ه ذه‬

‫‪ -40‬العلم والتقنية كإيديولوجيا‪ ،‬هابرماس‪ ،‬ص ‪.89‬‬


‫‪ -41‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.22‬‬

‫‪21‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ؤمن مس ألة الخ وض في تش ويهات الحي اة ومس وخاتها‪ .‬فلق د خ اض‬


‫"المفارق ات" ق ادرة على أن ت ّ‬
‫"آدرن و" على س بيل المث ال في الش ذرة‪ 2‬في مش كل يتعلّ ق بعالق ة األبن اء باآلب اء‪ ،‬وم ا يمكن أن‬
‫الجوهرية لهذه العالقة‬
‫ّ‬ ‫يترتب عنه من صراع بين األجيال‪ ،‬كاشفا عن العنف الذي يمثّل الخاصية‬
‫ال تي تب دو للفك ر النق دي على ش كل مفارق ة ش ديدة التعقي د وال تركيب تفض ي إلى عقلن ة العن ف‬
‫عامالنـا به"‪.42‬‬
‫يعاملونا العنف الذي َ‬
‫وتبريره " ينسينا العنف الذي َ‬
‫وما يمكن مالحظته في هذا الغرض أن الطبيعة القمعية التي تؤثث عالقات األفراد فيما‬
‫والنس ق‪ ،‬تحق ق ه دفا تواص ليا وبي داغوجيا‪ .‬وفي م ا أبع د من ذل ك‪،‬‬
‫بينهم‪ ،‬وعالق اتهم بالنظ ام ّ‬
‫يواص ل "آدرن و" تفس ير ه ذه المفارق ات على س بيل م ا يمكن إدراك ه بالنس بة إلى الفك ر النق دي‬
‫بغائي ة‬
‫الس ابقة‪ ،‬وينش أ ل ديهم وعي ّ‬
‫بوص فه أم را " فاض حا"‪ ،‬حيث ي تراجع األبن اء عن قناع اتهم ّ‬
‫الس ابق "حتّى طريقتهم ا في عقلن ة األش ياء‪،‬‬
‫الك ذب ووظيفيت ه ال ذي ك ان آب اؤهم يس تخدمونه في ّ‬
‫الخاص ة يظه ران لن ا‬
‫ّ‬ ‫الس ابق نكره ه وكان ا يس تخدمانه لت برير مص لحتهما‬
‫كن ا في ّ‬
‫ك ذبهما ال ذي ّ‬
‫معينا بالحقيقة‪.43‬‬
‫شعورا ّ‬

‫أن دائ رة العالق ات ال تي اتخ ذت من ت برير الك ذب وعقلنت ه‪ ،‬آلي ة ل رْأب‬


‫م ّرة أخ رى يب دو ّ‬
‫الص دع" م ع اآلب اء‪ ،‬تكشف كيف تنش أ الحقيق ة من ه ذا الك ذب؟ وكي ف يك ون الك ذب حقيق ة‬
‫و"ْألم ّ‬
‫األخالقية ؟‬
‫ّ‬ ‫النسق ونواميسه‬
‫تربوية تهدف إلى إخضاع الجميع إلكراهات هذا ّ‬
‫ّ‬ ‫اجتماعية‬

‫المسير‪ ،‬تسييرا غير مباشر‪ ،‬وتكون عالقة القمع‬


‫ّ‬ ‫هكذا إذا يكون القمع من زمام هذا العالم‬
‫تحولت إلى إيديولوجيا‪ ،‬وبما ّأنه ال توجد "حياة صحيحة داخل‬
‫بالكذب شاهدا على هذه الحياة التي ّ‬
‫المسير والتي ما عاد فيها‬
‫ّ‬ ‫توج ه العالم‬
‫المدمرة التي ّ‬
‫ّ‬ ‫حياة كاذبة"‪ 44‬وجب إذا مقاومة هذه اإلرادة‬
‫أي ش يء يتعلّ ق باإلنس ان‪ :‬ال بالعم ل وال بالتقني ة وال بأس لوب إعم ار الحي اة وال بالعالق ات وال‬
‫ّ‬
‫بالتواصل‪.‬‬

‫لق د اخت ار العق ل التن ويري مأسس ة القم ع وتحويل ه إلى واقع ة اجتماعي ة معقلن ة‪ ،‬وه و م ا‬
‫كن ا قد‬
‫حد ذاته شاهدا على ما ّ‬
‫يجعل منه قمعا غير معروف بوصفه قمعا سياسيا‪ ،‬وهذا يمثّ ل في ّ‬

‫‪ -42‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.39‬‬


‫‪ -43‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪ -44‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.69‬‬

‫‪22‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫يفس ر كذلك تلك العبارات التي اعتمدها‬


‫عبرنا عنه بـ"القمع الناعم" أو بـ"السيطرة الملساء" وهو ما ّ‬
‫ّ‬
‫مما بات يش ّكل أحد الشواهد الكبرى‬
‫"آدرنو" من قبيل "المجتمع القمعي" و"الثقافة القامعة" وغيرها ّ‬
‫على أن انخراطا قمعيا "سلسا" قد ِ‬
‫ُأع ّد إلدراج الجميع في دائرة العالقات التي تقع تحت مراقبة‬ ‫ّ‬
‫النظام وسطوة النسق ‪.‬‬

‫الموجه ة إلى‬
‫ّ‬ ‫ولق د أ ّك د "آدرن و" في الش ذرة‪ 1‬ال تي أراده ا أن تك ون بمثاب ة الرس الة‬
‫"مارس يل بروس ت" على جمل ة الض وابط والش روط ال تي ينبغي أن تتوفّر في المثقّ ف حتى يتن اغم‬
‫مع هذا النظام‪ ،‬والتي تبرهن من جديد على أن منطق تسيير العالم هو منطق القمع والكذب الذي‬
‫اآلخر‬
‫َ‬ ‫يحول أعضاء المجتمع إلى " أعضاء مرغمين" على الكذب لذلك " ال يكذب المرء إالّ ُليف ِهم‬
‫ّ‬
‫‪45‬‬
‫سيان عنده ما يف ّكر فيه" ‪.‬‬
‫وأنه ّ‬
‫وانه ال حاجة به إليه ّ‬
‫حد ذاته ّ‬
‫ّانه ال شيء في ّ‬

‫إن ما يستوقفنا في هذه العالقة بين الكذب والقمع‪ ،‬هو ما يحاول "أدرنو" االشتغال عليه‪،‬‬
‫ّ‬
‫تقني ة من تقنيات "الوقاحة التي‬
‫عد من جهة أخرى ّ‬
‫لكن ه ُي ّ‬
‫المسير‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بوصفه آلية اشتغال هذا العالم‬
‫يس تعين به ا ك ّل ف رد لنش ر ال برودة من حول ه ‪ ،‬ال برودة ال تي يحتمي به ا ح تى يتم ّكن من‬
‫‪46‬‬
‫أن التسيير غير المباشر للعالم وللحياة‪ ،‬يش ّكل فضاء تحقق "الذاتية‬
‫االزدهار" ‪ ،‬وهذا ما يكشف ّ‬
‫المش وهة"‪ ،‬وال ذي يم رر ع بر قن ٍ‬
‫وات ووس ائ َل اتص ٍ‬
‫ال " تلعب فيه ا الثقاف ة ووس ائل اإلعالم دورا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫منتجا لك ّل الرداءات و"القاذورات التي خلّفتها الثقافة البربرية في الفرد من مثل ادعاء المعرفة‬
‫الفضة والوقاحة"‪.47‬‬
‫ّ‬ ‫واإلهمال والمعاشرة‬

‫ستعم ُل لمسخ الحياة وتشويهها‪ ،‬في الوقت نفسه الذي‬


‫أن هذه القاذورات تُ ْ‬
‫يعتبر "آدرنو" ّ‬
‫تكون فيه وسائل اإلعالم قد نفذت إلى وعي األفراد‪ ،‬عبر تقنية الكذب التي يبنى عليها ك ّل تفاهم‪.‬‬
‫تتحول كما يشير بذلك "آدرنو" في الشذرة‪ 5‬إلى قاعات‬
‫ولع ّل األدهى من ذلك أن قاعات السينما ّ‬
‫الس ينما اخرج منها وعلى الرغم من‬
‫مرة أدخل فيها قاعة ّ‬‫لصناعة الغباء‪،‬ويا له من غباء " ك ّل ّ‬
‫‪48‬‬
‫إن الثقاف ة ووس ائل اإلعالم ب ل العلم والتقني ة ك ذلك‪،‬‬
‫ك ل تيقّ ظ أك ثر غب اء و أس وأ من ذي قبل ‪ّ .‬‬

‫‪ -45‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.52‬‬


‫‪ -46‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪ -47‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.51‬‬
‫‪ -48‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.45‬‬

‫‪23‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫المسير الذي يعادل فيه التسيير الموضوعية‬


‫ّ‬ ‫جميعها تش ّكل أدوات ووسائل وتقنيات قمع بيد العالم‬
‫الظلماء‪.‬‬

‫المشوهة ‪ ،‬بحيث تتم ّكن من تحويلها‬


‫ّ‬ ‫ال يمكن لهذه الشذرات التي كانت تطارد هذه الحياة‬
‫‪49‬‬
‫بان "هذه السلسلة من الشناعات"‬
‫مرة‪ ،‬بان تذ ّكرنا ّ‬
‫إلى موضوع للنقد اإلتيقي‪ ،‬أن تغفل في ك ّل ّ‬
‫وخالص ة م ا يمكن أن ينتج ه ه ذا‬
‫ال تي أص بحت تس ّمى على س بيل المج از حي اةً‪ ،‬هي ُعص ارة ُ‬
‫المسير ضمن هذا التطور الذي شهده‬
‫ّ‬ ‫المجتمع البرجوازي‪ ،‬األمر الذي يفضي إلى تنزيل العالم‬
‫المادية التي تتخلّله وتقوم بالنسبة إليه مقام األساس والجوهر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هذا المجتمع والتناقضات‬

‫النقدي ة من حيث هي " فلسفة المجتمع"‪ ،‬الفلسفة األقدر‬


‫ّ‬ ‫وعلى هذا األساس تضحى الفلسفة‬
‫المسير لكي يكون "التسيير غير المباشر" من جهة عالمة قدرة‬
‫ّ‬ ‫على تشخيص ما آل إليه العالم‬
‫البربرية الجديدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التقدم وهو من جهة أخرى مظهر من مظاهر‬
‫تدعي ّ‬‫لعقالنية ّ‬
‫ّ‬ ‫واقتدار‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪49‬‬

‫‪24‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫‪ -2‬الحافــزاإلتيقـي‬
‫إذا كان ينبغي علينا أن نعاين في هذا المقام الحافز الذي دفع "آدرنو" إلى الكشف ع ّم ا‬
‫آل إليه تسيير الحياة من تشويهات ومسوخات فإنه يصبح من الضروري أن ندرك في ما يزيد‬
‫حولته‬
‫أن الحرب التي ّ‬
‫على ذلك المعاناة التي عاشها والتي تسببت في نفيه‪ ،‬على أن نفهم أيضا ّ‬
‫‪50‬‬
‫التأمل‪.‬‬
‫ومالحق هي نفسها التي "وفّرت لديه شروط ّ‬
‫إلى مف ّكر مطارد ُ‬

‫ماهية وبنية هذا الحافز يتّصل باإلستهالل الذي استهلّه "آدرنو" بالحديث‬
‫التحري في ّ‬
‫ّ‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫عن "العلم الحزين" و قد يكون من الضروري أن نستقي من هذا العنوان ك ّل الدالالت والرموز‬
‫خفي ا ها هنا ما "لهذه‬
‫التي التقط منها "آدرنو" صفة الحزن لكي يطلقها على هذا العلم‪ .‬وليس ّ‬
‫نص ص عليه ا " آدرنو" في العن وان الف رعي لكتاب ه‬
‫األفك ار الملتقط ة من الحي اة المش وهة" ال تي ّ‬
‫حج ة بالغ ة على المنقلب‬
‫نص االس تهالل‪ .‬وفي ذل ك ّ‬
‫األدب الصــــغير من تص ادٍ بينه ا وبين ّ‬
‫بأن "العلم الحزين" يمثّ ل‬
‫ك ّ‬ ‫الس واء‪ .‬وما من ش ّ‬
‫حد ّ‬‫المأساوي الذي آلت إليه الفلسفة والحياة على ّ‬
‫منسيا"‪ .‬عند هذا‬
‫ّ‬ ‫الخاص للفلسفة" الذي صار "مجاال‬
‫ّ‬ ‫عند "آدرنو" باكورة انهمام وانشغال "بالمجال‬
‫الموضع بالذات يمكن التفكير مع "آدرنو" في هذا الحافز اإلتيقي الذي سيم ّكن من استعادة البحث‬
‫في وض ع الفلس فة وفي عالقته ا بالحي اة‪ :‬هك ذا إذا اخت ار "آدرنو" أن يك ون " العلم الح زين" ال ذي‬
‫أهدى بعضه إلى صديقه "هوركهايمر" فاتحة الستئناف يراد له أن يكون عنوانا لفلسفة أخيرة "‬
‫الخاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تكون بديال نقديا فاضحا لما آل إليه مجال الفلسفة‬

‫رب اس تئناف يفتح إمكان ا جدي دا الخ تراق يس مح ب التلفّت ص وب ه ذا ال ذي ك ان في‬


‫ّ‬
‫الس ابق ي ّدعي في نظ ر الفالس فة حي اة "فص ار" إلى دائ رة الخصوصي‪ ،‬ومن ثم ة إلى دائ رة‬
‫االس تهالك"‪ .51‬ولع ّل ذل ك م ا يجع ل من ه ذا التلفّت م دخال لالرتي اب من تجري داتنا الفكري ة‬
‫ائي‪ .52‬ه ذا التلفّت اس تئنافا‬
‫التوص ل إلى ش يء مغل ق ونه ّ‬
‫ّ‬ ‫والمنظوم ات المغلق ة ال تي ت زعم دائم ا‬
‫األدبالصغير من حيث ه و كت اب في اإلتيق ا من‬
‫ّ‬ ‫للتفك ير في الفلس فة والحي اة هو م ا س يم ّكن كت اب‬

‫‪ -50‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.33‬‬


‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪52‬‬

‫‪25‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫أن يك ون تح ذيرا للنق د إلى الح ّد ال ذي يمكن الق ول مع ه إّن ه "انهم ام إتيقي ص رف ب الواقع الم ادي‬
‫والفعلي لإلنسان"‪.53‬‬

‫وإ ذا ك ان ال من اص في ه ذا االس تئناف‪ ،‬من أن نع رض إلى األس باب ال تي دفعت "آدرنو"‬


‫لنق د ه ذه الش ناعة ال تي لحقت بالحي اة فحولته ا إلى حي اة مش وهة‪ ،‬كم ا يش ير إلى ذل ك العن وان‬
‫أشد من تلك‬
‫الفرعي للكتاب‪ ،‬فإنه من باب أولى وأحرى أن نشير إلى أنه ليس هاهنا من شناعة ّ‬
‫وأن‬
‫ال تي عرفه ا "آدرنو" في منف اه وم ا عايش ه من ه ول ح رب يص فها بأنه ا "عجيب ة وغريب ة" ّ‬
‫بأن ه توج د في التجرب ة‬
‫يفس ر بوض وح ّ‬
‫غرابته ا هائل ة ح تى أك ثر من ك ّل األه وال‪ ،‬األم ر ال ذي ّ‬
‫الذاتي ة ال تي عاش ها "آدرنو" م ا يحمل ه على ه ذا اإلس تئناف ال ذي مثّلت في ه الح رب باعث ا على‬
‫ّ‬
‫األهمي ة ال تي يوليه ا " آدرنو" له ذا العم ل‬
‫ّ‬ ‫من ا على ب ال‬
‫كتاب ة القس م الكب ير من الكت اب‪ ،‬وليكن ّ‬
‫اخلية" التي جمعته بصديقه " "هوركهايمر" وهو عمل‬
‫الد ّ‬‫الذي يمثّل عنده شهادة على "المحاورة ّ‬
‫بأنه "عمل ما كنت أتركه"‪.54‬‬
‫يقول عنه ّ‬

‫كثيرة هي األسئلة التي يمكن أن "تطرح ونحن بصدد الخوض في هذا الحافز اإلتيقي لع ّل‬
‫أهمه ا ذل ك الس ؤال عن مفهوم اإلتيقا‪ .‬وق د ن دفع من أج ل الت دقيق وتعميق النظ ر إلى السؤال‬
‫من ّ‬
‫مهم ة توثيقية وال حتى‬
‫عن لماذا اإلتيقا وليس األخالق ؟ ال تكتسي مهمة تعريف "آدرنو" لإلتيقا ّ‬
‫فيلولوجي ة بحت ة ب ل هي تنبث ق من الح رص على ض رورة اس تدعاء ه ذا الح افز اإلتيقي ال ذي‬
‫تعينت فيه مقاربة "آدرنو" للحياة والفلسفة ‪ ،‬وما يستوجب ذلك من كشف عن األسباب التي تدفع ه‬
‫ّ‬
‫تكف عن أن‬
‫إلى هكذا انشغال وانهمام إتيقي بما آلت إليه الحياة من تسيير وتشويه ‪ .‬فالفلسفة ال ّ‬
‫تك ون راهن ة لكن راهنيّته ا ال تتحقّ ق إال من خالل ه ذا الم دخل اإلتيقي‪ ،‬وه و أم ر الفت من‬
‫ثم ة استعادة‬
‫تأويلية ما يحدث‪ ،‬ومن ّ‬
‫ّ‬ ‫شأنه‪ ،‬أن ُيظهر وجاهة هذا اإلقبال اإلتيقي على الوقوف عند‬
‫تتقص ى البحث والتشخيص في وضعها كما في‬
‫ّ‬ ‫فلسفية مغايرة‬
‫ّ‬ ‫أرضية‬
‫ّ‬ ‫سؤال الفلسفة ولكن على‬
‫إن إرادة‬
‫ثم ة التلفّت لهذا الذي تحاول فلسفة التنوير طمسه وحجبه وتغييبه‪ّ ،‬‬
‫وضع الحياة‪ ،‬ومن ّ‬
‫ه ذا االنش غال واالنهم ام اإلتيقي تج د وجاهته ا في رف ع الحجب وك ل أش كال التض ليل والمغالطة‪،‬‬
‫التي تضمنها خطاب التنوير في الحياة وفي العقل وفي الذات‪.‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪53‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪54‬‬

‫‪26‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫إن اإلقب ال اإلتيقي من حيث هو انشغال بقضايا الحياة الراهنة‪ ،‬هو إقبال من أجل إعادة‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫عنيدة‬ ‫ٍ‬
‫مقاومة‬ ‫إنتاج سؤال الفلسفة عن ذاتها وسؤالها عن الحياة ال من أجل نفيها بل من أجل‬
‫لك ّل محاوالت إعدامها وإ بطالها ‪ ،‬فنحن إذ نسأل هنا عن اإلتيقا في فلسفة "آدرنو" ّإنما نسأل‬
‫عم ا يجع ل من س ؤالنا س ؤاال غ ير متع ال وال مج ّردا وال ه و س ؤال من أج ل اإلثب ات؟ إنما ه و‬
‫يحرر الفكر من ك ّل أشكال العمى والتضليل والخداع واإليهام‪ّ ،‬إن ه سؤال ينتفض على كل‬
‫سؤال ّ‬
‫نحدد منزلة اإلتيقا في فلسفة "آدرنو" من حيث هي‬
‫مجردة ومتعالية‪ ،‬ههنا إذا يمكن أن ّ‬
‫ّ‬ ‫أخالقية‬
‫ّ‬
‫"إتيقا حياة"‪.55‬‬

‫ولع ّل ما يعيد استئناف التفكير في اإلتيقا هو الوضع البائس للحياة والفلسفة واليأس من‬
‫والفلسفية واالقتصادية التي أسقطت الوجود اإلنساني في‬
‫ّ‬ ‫العلمي ة‬
‫ّ‬ ‫الساسة ومن ك ّل دوائر القرار‬
‫إن السؤال عن اإلتيقا عند "آدرنو"‪،‬‬
‫اإلنسانية‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫دائرة التالشي واالنحطاط‪ ،‬وضاعفت من أزمات‬
‫ماهية هذا الذي يعود ؟ قد تحيلنا‬
‫مبررات العودة إلى اإلتيقا ؟ وعن ّ‬
‫وعن معناها وداللتها؟ وعن ّ‬
‫جوهري ة البحث في مفه وم اإلتيق ا عن د " آدرنو" من حيث ه و م ا يك ّون"‬
‫ّ‬ ‫ّأوال إلى التأكيد على‬
‫األهمية‬
‫ّ‬ ‫فرضية البحث التي تعرض على ضوئها فكر "آدرنو"‪ .56‬وهو أمر على غاية من‬ ‫ّ‬ ‫جوهر‬
‫ك االرتباط بينه وبين منظومة األخالق"‬
‫من شأنه أن يقف بنا عند عرك هذا المفهوم بما يسمح بف ّ‬
‫األهمية من التمييز بين كلمة‬
‫ّ‬ ‫كما استقرت "عند كانط وفيشته األول"‪ 57‬و ما يم ّكن بنفس القدر من‬
‫"إتيق ا" في االس تعمال اليون اني ( أيث وس )‪ ،‬وذاك ال ذي يح اول "آدرنو" بلورت ه في كتاب ه األدب‬
‫أن التلفّت ص وب اإلتيق ا عن د‬
‫الص ــغير من حيث ه و م ا يمثّ ل مش روعه الفلس في النق دي‪ .‬غ ير ّ‬
‫"بتاريخي ة الممارس ة والفع ل‬
‫ّ‬ ‫عملي ا بم ا ه و ك ائن‪ ،‬واش تغاال نق ديا‬
‫"آدرنو" يكشف ثانيا انهمام ا ّ‬
‫اإلنساني"‪ 58‬وهذا ما يفتح سؤال اإلتيقا على الراهن والمستقبل ويفتح إمكانا لنقد ما يشهده الواقع‬
‫البشرية وحروب وبؤس شامل ال معنى له‪.59‬‬
‫ّ‬ ‫لقوة العمل والحياة‬
‫من إهدار ّ‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.14‬‬ ‫‪55‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪56‬‬

‫‪ -57‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.6‬‬


‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫‪58‬‬

‫النقدية‪ ،‬ماكس هوركهايمر‪ ،‬ص ‪.18‬‬


‫ّ‬ ‫التقليدية والنظرية‬
‫ّ‬ ‫النظرية‬
‫ّ‬ ‫‪-59‬‬

‫‪27‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫كوني ة لما آلت إليه الحياة كما‬


‫جليا أن سؤال اإلتيقا هو سؤال ينبثق عن أزمة ّ‬
‫واآلن يبدو ّ‬
‫يطرح كبديل عن سؤال األخالق‪ ،‬وما يمكن أن يصاحب تعريفها‬
‫ُ‬ ‫الفلسفة‪ّ ،‬إنه سؤال األزمة الذي‬
‫إن لفظة إتيقا«‪   »Ethos‬التي كانت تعني عند هوميروس‬
‫من معاني الوعظ واألوامر العقلية‪ّ .‬‬
‫عيني ا " داال على الس كن أو الم نزل أو م أوى الحيوان ات" ‪...‬لكي يتّخ ذ اللف ظ الحق ا م ع‬
‫معنى ّ‬
‫"هزيود" معنى نمط الوجود المعتاد ومعنى العرف والطبع"‪.60‬‬

‫وعموما تحمل كلمة ايتوس التي ينحدر منها مفهوم اإلتيقا في استعماله اليوناني" معنى‬
‫والكن والمق ام " حيث يش ير اللف ظ إلى الجه ة المفتوح ة أين يقيم‬
‫ّ‬ ‫اإلقام ة والمكثوموق ع الس كن‬
‫اإلنسان وانفتاح مقامه بين ما يتقدم باتجاه ماهية اإلنسان وفي هذا اإلقبال يقطن بجواره فمقام‬
‫اإلنسان يمثل ويحفظ ما ينتمي إليه اإلنسان ماهويا‪.61‬‬

‫ثم ة‬
‫أن تعريف اإلتيقا يتعلّ ق بالبحث في الشروط األفضل لقيام حياة ممكنة ومن ّ‬
‫ّبين إذا ّ‬
‫بتطور اإلنس ان وبموقف م ا من الوجود ولع ّل م ا يعنين ا من هذا التعري ف ّان ه يتعلّ ق‬
‫ّ‬ ‫فهو يرتبط‬
‫يخص‬
‫ّ‬ ‫بمع نى الحي اة وج دارتها‪ ،‬وه و بمقتض ى ذل ك ال ينس ل من تص ّور أخالقي بق در م ا ه و‬
‫"الحي اة اإلتيقي ة الدال ة على جمل ة الس نن والقيم والع ادات واألفك ار والق وانين والممارس ات ال تي‬
‫التاريخي"‪.62‬‬
‫ّ‬ ‫تطورها‬
‫تخص شعبا ما أو أ ّمة ما في واقعها الفعلي والموضوعي أي في ّ‬
‫ّ‬

‫يعرفه ا "اللنــد" بأنه ا‬


‫أن اإلتيقا بهك ذا تعري ف تنفص ل عن األخالق ال تي ّ‬
‫رأس األم ر هن ا ّ‬
‫"مجم وع األوام ر المس لم به ا في عص ر وفي مجتم ع مح ّددين م ع جه د االل تزام به ذه األوام ر و‬
‫الحث على إتباعه ا"‪ ،63‬ل ذلك تنعطي اإلتيق ا عن د "آدرنو" كاس تدعاء للبحث في م ا ه و ك ائن‪،‬‬
‫ّ‬
‫والثقافي ة‬
‫ّ‬ ‫المعرفي ة والسياس ّية‬
‫ّ‬ ‫وعية ‪:‬‬
‫إس تدعاءً يقتض ى التفك ير في "مختل ف تش ّكالته الموض ّ‬
‫واالقتصادية"‪.64‬‬

‫‪ -60‬إتيقا الموت والسعادة‪،‬ـ عبد العزيز العيادي‪ ،‬ص ‪.25‬‬


‫‪ -61‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪62‬‬

‫‪ -‬إتيقا الموت والسعادة‪ ،‬عبد العزيز العيادي‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪63‬‬

‫‪ -64‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي ‪ ،‬ص ‪.6‬‬

‫‪28‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫تعين الوجود الفردي‬


‫الموضوعية التي ّ‬
‫ّ‬ ‫تفحص شكل الحياة المغترب والقوى‬
‫ثمة ّ‬
‫ومن ّ‬
‫خفي‪ .65‬لع ّل اس تئناف التفك ير اإلتيقي عن د "آدرنو" يعكس حرص ا ش ديدا على‬
‫في أدق م ا ه و ّ‬
‫مهم هو التساؤل عن "كرامة الشخص الفرد وهو تساؤل‬ ‫مهم حقّ ا"‪ .‬وما هو ّ‬‫البحث في "ما هو ّ‬
‫‪66‬‬
‫وبالحرية‬
‫ّ‬ ‫الحق في الحي اة‬
‫حقوقي ا وه و تس اؤل يتعل ق ب ّ‬
‫ّ‬ ‫إتيقي ب دءًا وليس تس اؤال انطولوجي ا أو‬
‫ويتص ّدى ب ذلك لك ّل أش كال التش ّوه ال تي لحقت بالحي اة ولحقت بال ذات‪ .‬ل ذلك يبحث "آدرنو" في‬
‫‪67‬‬
‫نص عليه ا‬
‫نص االس تهالل ع ّما يس ّميه "بنظ ام يحف ظ كرام ة اإلنس ان" وعن "الحي اة الح ق" كم ا ّ‬
‫ّ‬
‫فأي عالقة تلك التي تربط بين اإلتيقا وكل ضروب المعاناة التي يحياها‬
‫الخاص للفلسفة ّ‬
‫ّ‬ ‫المجال‬
‫ال تحيا ؟‬ ‫اإلنسان في حياة‬

‫يوج ه "آدرنو" ال يمكن أن يص رفه عن مقاوم ة المعان اة‪ ،‬والبحث‬


‫إن الح افز اإلتيقي ال ذي ّ‬
‫في إمكان ات اح ترام الحي اة ورعايتها‪ .‬ل ذلك ال يمكن أن يفهم " اإلتيقي" عن ده إال بم ا ه و تفك ير‬
‫"يظ ّل" في ص ميمه نق ديا‪ 68‬فه و إمك ان للنق د وإ مك ان للمواجه ة والمقاوم ة ال تي أض حت الخاص ية‬
‫الجوهري ة لك ّل فع ل إتيقي‪ .‬فم اذا عس اها أن تك ون اإلتيق ا عن د "آدرنو" غ ير البحث عن األجوب ة‬
‫وقطعي ة لكي ال‬
‫ّ‬ ‫نهائي ة‬
‫بالتوص ل إلى أجوبة ّ‬
‫ّ‬ ‫الممكنة لمشكالت الحياة اإلتيقية دون الزعم واإلدعاء‬
‫"التشوه نفسه والعوز نفسه"‪.69‬‬
‫ّ‬ ‫يطالها هي نفسها‬

‫نظراني ة منفص لة عن‬


‫ّ‬ ‫ودغمائية‬
‫ّ‬ ‫وثوقي ة زائف ة‬
‫ّ‬ ‫ّبين إذا أنن ا أم ام مق ام متح ّرر من ك ّل‬
‫إن "اإلتيقي" عن د "آدرنو" ال يش غله غير المواجه ة والمقاوم ة وح تى تحق ق الخالص من‬
‫المجتمع‪ّ .‬‬
‫يكترث له"‪.70‬‬
‫ُ‬ ‫عدمه يصبح " أمر ال‬

‫‪ -65‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬صص‪.27-26‬‬


‫‪ -66‬إتيقا الموت والسعادة‪،‬ـ عبد العزيز العيادي‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ -67‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ -68‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪ -69‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.403‬‬
‫‪ -70‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.403‬‬

‫‪29‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫اإلتيقي ة ب الخالص كغاي ة قص وى ومطلب أقص ى يس عى الفيلس وف إلى‬


‫ّ‬ ‫ال تتعلّ ق األفك ار‬
‫إدراك ه وتحص يله‪ ،‬بق در م ا تتعلّ ق بتش خيص نق دي "تتح ّول الفلس ّفية [ في ه] وبش كل ج ذري إلى‬
‫الهوت سالب أو إن شئت الهوت مادي"‪.71‬‬

‫ويص عب أن يك ون الفيلس وف متف ائال إزاءه وه و يع اين بجالء ووض وح تش ويهات الحي اة‬
‫حدة الفعل والتأثير "بؤس الفلسفة" ومسوخاتها‪ .‬األمر الذي‬
‫ومسوخاتها التي يوازيها من حيث ّ‬
‫"األشد تشاؤما من بين المنظرين النقديين وبأنه ال يجد‬
‫ّ‬ ‫أدى إلى وصف "آدرنو" بأنه الفيلسوف‬
‫ّ‬
‫‪72‬‬
‫أي شيء ذو قيمة في العالم الحديث"‬
‫ّ‬

‫صرفت في إنتاج آليات تدمير العقل ذاته‬


‫ولع ّل "آدرنو" قد تفطّن إلى أن معقولية الحداثة ُ‬
‫التشاؤمية التي توغلت بعمق‬
‫ّ‬ ‫يفس ر بوضوح هذه النزاعة‬
‫فغدا بذلك بمثابة الالعقل‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫وأن ه لم يع د‬
‫في نق د م ا آلت إلي ه الحي اة ‪ -‬كم ا ال وعي‪ -‬من تش ّوه ي درك ّان ه ق د بل غ أقص اه ّ‬
‫للعقالني ة الحديثة في ثناياها كما‬
‫ّ‬ ‫المدمرة‬
‫ّ‬ ‫تتقص ى منابت هذه اآللة‬
‫ّ‬ ‫للفيلسوف غير المواجهة التي‬
‫في خطابها وفي مقاصدها ومسعاها‪.‬‬

‫التوج ه نح و البحث في طبيع ة ه ذا الح افز اإلتيقي ال ذي أدرك من خالل ه "آدرنو"‬


‫ّ‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫تهدد هذه الحياة وتصيبها في مقتل‪ ،‬يقتضي وقوفا عند هذا الذي‬
‫جذرية " الهول" والكارثة التي ّ‬
‫ّ‬
‫ثم ة إلى نقد‪ .‬ف الحزن وإ ن ك ان‬
‫يريد" آدرن و" أن يس تهدفه من وراء تحوي ل الح زن إلى علم ومن ّ‬
‫أن‬
‫يظل داخل فلسفة "آدرنو" على أنه الخاصية الجوهرية التي تش ّكل الوضع البائس للفلسفة إال ّ‬
‫يغي ر فيها العالم‬
‫"آدرنو" يجعل منه مقاما للنقد تكون فيه المعرفة قادرة على إرساء "منظوريات ّ‬
‫محلّه ويكون طرفا غريبا ويظهر صدوعه وشقوقه"‪.73‬‬

‫إن " الح زن" ال يق ُّدم في كت اب األدب الصــغير على أن ه تس ليم بوض ع وحال ة من الع وز‬
‫ّ‬
‫والي أس ال تي تص يب ال ذات ب الوهن وتفق دها ك ّل أس باب الق درة واإلرادة‪ ،‬ل ذلك نالح ظ على‬
‫تحول إلى عالمة وأمارة قدرة واقتدار تكشف حرص "آدرنو"‬
‫بأن "الحزن" ّ‬
‫العكس من ذلك تماما ّ‬

‫‪ -71‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.19‬‬


‫النقدية‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ص ‪.8‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -72‬النظرية‬
‫‪ - 73‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.402‬‬

‫‪30‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫اضطرته‬
‫ّ‬ ‫يسميه "العلم الحزين" رغم ما يورده من عوائق وعراقيل‬
‫على مواصلة الكتابة في ما ّ‬
‫‪74‬‬
‫خارجية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أن ينقطع عن العمل المشترك مع صديقه "هوركهايمر" " تحت وطأة مالبسات‬

‫وهو يعتبر المواصلة في الكتابة بهذا الشكل محاولة إلصالح بعض الظلم الذي يتمثّل كما‬
‫يستمر بمفرده في العمل على ما ال يمكن أن ننجزه إال‬
‫ّ‬ ‫أن " أحدنا قد‬
‫جاء على لسان "آدرنو" في ّ‬
‫‪75‬‬
‫ننوه ب أ ّن "العلم الحزين" أراد له‬
‫معا نحن اإلثنين" ‪ .‬ال ريب والحال تلك من الوفاء وااللتزام أن ّ‬
‫صاحبه أن يكون ترجمة لعمل نضالي‪ ،‬مقاوم لك ّل أشكال التشوه والمسخ التي لحقت الفلسفة كما‬
‫الحياة‪.‬‬

‫إن "العلم الح زين" ه و العلم ال رافض للتش ّوه والع وز ال ذي يمكن أن يط ال ك ّل فك ر‬
‫ّ‬
‫إم ا بضرب من االستدالل واالستنباط والتسويغ واإلدراج أو بضرب‬
‫مقطوع ومتعال عن العالم ّ‬
‫من الس قوط في ت برير الس ائد وتزيي ف ال وعي‪ .‬ل ذلك يق وم العلم الح زين من النظري ة النقدي ة التي‬
‫خاص ة‪ ،‬مق ام الج وهر واألس اس ال ذي‬
‫ّ‬ ‫تبل ورت في المدرس ة النقدي ة عموم ا وم ع "آدرنو" بص فة‬
‫تعينه ا في ص لب‬
‫يعكس مش روعا فلس فيا يؤ ّك د على ض رورة "التوس يط" بم ا ه و مايحقّق للفلس فة ّ‬
‫مج رى الت اريخ ال خارجه‪ ،‬ويجع ل منه ا فلس فة نقدي ة ب الجوهر‪ .‬هك ذا يتبل ور "العلم الح زين" من‬
‫حيث هو المنقلب الذي ينبغي أن تنخرط فيه الفلسفة بما هو منقلب للمواجهة والصراع ‪ ،‬صراع‬
‫التناقضات الذي يتولد من ضمور هذه الحياة ومن مسوخاتها‪ .‬لذلك يؤكد "آدرنو" أن العلم الحزين‬
‫هو علم من أجل إنسانية تواجه مصيرا تاريخيا ومأساويا‪ ،‬ولكأنها تقف في انتظار الكارثة التي‬
‫توش ك أن تق ع‪ ،‬إن العلم الح زين يمثّ ل إذا إيم ان "آدرنو" بح ق اإلنس انية في مواجه ة ك ّل أش كال‬
‫تحولت‬
‫الحس اإلتيقي الذي يسكن هذه الفلسفة النقدية التي ّ‬
‫ّ‬ ‫يعب ر عن هذا‬
‫تشويهات الحياة ‪ ،‬إنه ّ‬
‫اإلنساني"‪.76‬‬
‫ّ‬ ‫إلى "رغبة في الممكن‬

‫المشوه ال يمكن أن يتحقق إالّ بالتلفّت صوب هذا‬


‫ّ‬ ‫لقد وعى "آدرنو" أن مواجهة هذا الك ّل‬
‫وتفحص‬
‫"تحولت إلى مج ّرد منهج ابستيمولوجي في دراس ة المعرف ة ّ‬ ‫ال ذي عملت الفلس فة من ذ أن ّ‬

‫‪ -74‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.33‬‬


‫‪ -75‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.403‬‬ ‫‪76‬‬

‫‪31‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫قض اياها "‪ 77‬إلى إهمال ه ونس يانه‪ .‬به ذا المع نى تحدي دا‪ ،‬يص بح من الض روري تعقّب ه ذا المس خ‬
‫التحول الذي انخرطت فيه‪ ،‬إذ يوجد في ما اتخذت منه الفلسفة‬ ‫ّ‬ ‫الذي اعترى الفلسفة بموجب هذا‬
‫موض وعا رئيس يا له ا م ا ش كل س هم حجب وتعمي ة له ذا ال ذي يج در على الفلس فة أن تجع ل من ه‬
‫مهمتها‪.‬‬
‫غرضا أساسيا للتفلسف‪ ،‬وموضع سؤال يم ّكنها من تحديد ّ‬

‫نقدي‪ ،‬طلبا للوقوف عند علله‪،‬‬‫ّ‬ ‫"التحول " موضع تشخيص‬


‫ّ‬ ‫أن "آدرنو" يضع هذا‬
‫ّبين إذا ّ‬
‫التخص ص ال ّدارج ال ذي ك انت الفلس فة‬
‫ًّ‬ ‫ادا له ذا‬
‫في مغ اير يج ري مج رى مض ّ‬
‫وتأسيس ا لق ول فلس ّ‬
‫التحول تكمن في كونه يد ّل على انحراف خطير انخرطت‬
‫ّ‬ ‫إن علّ ة هذا‬
‫تتداوله في ذلك العصر‪ّ .‬‬
‫ينصب اهتمامه‬
‫ّ‬ ‫فيه الفلسفة يهدف إلى صرف النظر عما يجدر التفكير فيه‪ ،‬باتجاه نظر فلسفي‬
‫تعرض إليه‬
‫وتشوه ّ‬
‫ّ‬ ‫التحول سيرورة مسخ‬
‫ّ‬ ‫تفحص قضاياها لكي يش ّكل هذا‬
‫على دراسة المعرفة و ّ‬
‫توج ه فلسفي يكون بديال‬
‫تاريخ الفلسفة‪ ،‬ال قبل للفيلسوف في مواجهته ومعارضته إال ّ بتأسيس ّ‬
‫والمشوه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التحول الممسوخ‬
‫ّ‬ ‫لهذا‬

‫توج ه فلس في‬


‫هاهن ا ن درك م ا له ذا التش كيك في ه ذا التح ّول من أهمي ة تكمن في بل ورة ّ‬
‫نقدي ة في الفلس فة" تأخ ذ مأخ ذ الج ّد‬
‫تنتق ل في ه الفلس فة إلى نظ ر نق دي أفض ى إلى نش وء "نظري ة ّ‬
‫ابستيمولوجية‪ ،‬وما يمكن‬
‫ّ‬ ‫التحول الذي انتهى بالفلسفة إلى دراسة المعرفة دراسة‬
‫ّ‬ ‫الطعن في هذا‬
‫اص‪ .‬ولع ّل انص راف "آدرن و" للتفك ير في ه ذا‬
‫أن يس تتبع ذل ك من إهم ال ونس يان لمجاله ا الخ ّ‬
‫تعرض ت إلي ه الفلس فة ي ّنزه فك ره في س ياق الفلس فة االجتماعي ة النقدي ة ال ذي ك ان‬
‫المس خ ال ذي ّ‬
‫التقليدي ة‬
‫ّ‬ ‫النظري ة‬
‫ّ‬ ‫"هوركه ايمر" ق د ص اغ في س ياقها مقاالت ه الخمس وال س ّيما المقال ة ال تي في‬
‫فلسفي جديد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫توجه‬
‫النقدية‪ .‬لكي يعلن عن ّ‬
‫ّ‬ ‫والنظرية‬

‫التوج ه من ك ّل م ا يجع ل من برنامج ه الفلس في يفهم على ّأن ه‬


‫ّ‬ ‫وق د ب دا واض حا خل ّو ه ذا‬
‫األلماني ة" ‪ ،‬بقدر ما‬
‫ّ‬ ‫المثالي ات‬
‫ّ‬ ‫"أدبي ات‬
‫امتداد لإلرث الفلسفي التقليدي أو أن يحتكم العمل فيه وفق ّ‬
‫النقــدي الق ائم على "التط ّور‬
‫ّ‬ ‫توج ه الفلس فة نح و ه ذا النظــر‬
‫ك ان برنامج ا فلس ّفيا ُيعلن في ه عن ّ‬
‫‪78‬‬
‫الفعلي لإلنسان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فعلي للواقع‬
‫التاريخي للتناقضات" علّها تصبح بذلك سهم تغيير ّ‬

‫‪ -77‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.27‬‬


‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬النظرية التقليدية والنظرية‬ ‫‪78‬‬

‫‪32‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫توج ه للفلس فة بس بب إعراض ها عن‬


‫إن م ا يمكن استخالص ه من ه ذه االعتراض ات ال تي ّ‬
‫ّ‬
‫يوض ح طبيعة هذه االعتراضات‬‫ّ‬ ‫وتحولها إلى نظر تقليدي‪ ،‬والذي يمكن أن‬ ‫ّ‬ ‫األصلي‬
‫ّ‬ ‫موضوعها‬
‫أن النظر التقليدي يشكو فسادا‬
‫والمعرفية‪ ،‬هو ما أشار إليه "هوركهايمر" حينما أ ّكد على ّ‬
‫ّ‬ ‫المنهجية‬
‫ّ‬
‫والماهي ة‪ .‬وهذا ما‬
‫ّ‬ ‫غمائي ة"‪ 79‬التي تقوم منه مقام الجوهر‬
‫والد ّ‬‫وعمليا "هما فسادي المطابقة ّ‬
‫ّ‬ ‫نظريا‬
‫النقدي ة ال تأخ ذ "بالتّط ابق المزع وم بين ال ّذاتي والموض وع"‪ 80‬و"ال تج اري من‬
‫يؤ ّك د أن النظري ة ّ‬
‫‪81‬‬
‫إن ذل ك‬
‫النظ ري ف ّ‬
‫ثم ة تل ك األقنم ة المثالي ة لللّوغ وس "‪ .‬وهي إذ تع ارض ه ذا المنهج والمس لك ّ‬
‫ّ‬
‫تأملي ا قائم ا على االس تنباط‬
‫أن الفلس فة ال يمكن أن تك ون فك را مج ّردا ّ‬
‫دي منه ا ب ّ‬
‫يح دث ب وعي نق ّ‬
‫والمادي والفكري للبشر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التاريخي‬
‫ّ‬ ‫واالشتقاق بل هي في ما يتحقّق في مجرى‬

‫فحوله ا إلى "مج ّرد منهج‬


‫ولع ّل نق د "آدرن و" له ذا التح ّول ال ذي ص ارت إلي ه الفلس فة ّ‬
‫إبس تيمولوجي في دراس ة المعرف ة" يتس اوق م ع م ا أش ار إلي ه "هوركه ايمر" بفس ادي المطابق ة‬
‫التقليدي ة ال تي يمكن تعريفه ا من جه ة مفهومه ا‬
‫ّ‬ ‫النظري ة‬
‫ّ‬ ‫أدي ا إلى نش أة ه ذه‬
‫والدغمائي ة الل ذين ّ‬
‫ّ‬
‫وغرضها على ّأنها "منظومة منغلقة تترابط فيما بينها ( ترابطا يتّخذ شكل االستنباطواالستدالل‬
‫‪82‬‬
‫العلمية"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثمة تخضع إلى مبدأ التخصًّص ووهم االستقاللية‬
‫الموحدين)‪ ،‬ومن ّ‬
‫ّ‬

‫المتخصص ة هي أزم ة مر ّكب ة ومعقّ دة‪ ،‬ألنه ا تتّص ل بمنهجه ا‬


‫ّ‬ ‫إن أزم ة ه ذه المعرف ة‬
‫ّ‬
‫التام ة"‬
‫ومسلكها وبمغزاها النظري الذي ال ينتهي إلى شيء غير هذه" الوحدة الصماء" و"الشميلة ّ‬
‫ورط في النظ ام‬
‫علميته ا‪ ،‬لكنه ا س رعان م ا تنتهي إلى الت ّ‬
‫ال تي ت ّدعي حي اد مقوالته ا‪ ،‬لكي تثبت ّ‬
‫تفحص قضاياها‪ ،‬غير مبالية‬
‫تخصصا ينبني على ّ‬
‫ّ‬ ‫تدعي‬
‫القائم‪ .‬لكن إذا كانت هذه المعرفة التي ّ‬
‫فإن ذلك يصدر عن عزمها المشبوه على‬
‫نظري ة نقدية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بما يجدر أن تكون عليه الفلسفة بما هي‬
‫إرغ ام التفك ير الفلس في ب أن ينتج معرف ة تك ون في مس توى المع ارف ال تي تنتجه ا العل وم‬
‫السائد‪.‬‬
‫المتخصصة بهدف التعمية وتأبيد النظام ّ‬
‫ّ‬

‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.10‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬النظرية التقليدية والنظرية‬ ‫‪79‬‬

‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.13‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -‬النظرية التقليدية والنظرية‬ ‫‪80‬‬

‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.9‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -81‬النظرية التقليدية والنظرية‬
‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 82‬النظرية التقليدية والنظرية‬

‫‪33‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫تتبنى الفلسفة نهجا‬


‫ضد هذا النهج والمسلك النظري يقوم النظر النقدي على ضرورة أن ّ‬
‫ّ‬
‫‪83‬‬
‫إن ما ينبغي التأكيد‬
‫التطور التاريخي للصراعات والتناقضات االجتماعية" ‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫جدليا ينخرط في "‬
‫كنا نتداوله بشان ضرورة أن تخرج الفلسفة عن هذا النهج النظري التقليدي‬
‫عليه بالموازاة مع ما ّ‬
‫أن هذا التوجه النقدي ال ذي‬
‫طن إلى ّ‬
‫لكي تكون "نظرية نقدية" و "فلسفة مجتمع" هو ضرورة أن نتف ّ‬
‫أعلن عنه "هوركهايمر" ينشأ عن محاورة نقدية تحقّقت في "سياق التماسف النظري بإزاء نزعتين‬
‫ادوية" ك ان ق د رس خها كرون برغ‬
‫نظري ة "إقتص ّ‬
‫ّ‬ ‫البحثي ة وقتئ ذ‪ ،‬نزع ة‬
‫ّ‬ ‫األدبي ات‬
‫ّ‬ ‫ط اغيتين على‬
‫وثوقي ة ك انت تطغى على‬
‫ّ‬ ‫ظراني ة "‬
‫( عن دما ت ولّى تس يير معه د المب احث االجتماعي ة)‪ ،‬ونزع ة "ن ْ‬
‫الجامعة األلمانية (من جهة اإلرث المثالي الذي كانت ترزح تحت وطأته)" ‪.84‬‬

‫بأن ه‬
‫النقدي ة وه ذا التماس ف النظ ري ّ‬
‫ّ‬ ‫غ ير ّأن ه ال يمكن أن ُيس تنتج من ه ذه المح اورة‬
‫إعراض بالكلّية على ما أ ّكدته هاتان النزعتان ‪ ،‬بل هو يجري على جهة التحويل والتغيير‪ ،‬حيث‬
‫النقدي ة التي تجعل منه عامال رئيسا لنشأة هذه الفلسفة االجتماعية‬
‫ّ‬ ‫يمكن القول بأهمية الماركسية‬
‫الماركسية النقدية هي من مهّدت لنشوء فكرة "هوركه ايمر"في‬
‫ّ‬ ‫بان‬
‫حدا يمكن اإلقرار معه ّ‬
‫المادية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ذرات مف ردة‪ ،‬ب ل من‬
‫مجرد ّ‬
‫نقدي ة تقوم على النظ ر إلى "البشر ال من حيث هم ّ‬
‫فلس فة اجتماعي ة ّ‬
‫عملي ا س هم كش ف ومكافح ة لم ا يش ّوه حي اة‬
‫حيث هم يكون ون جماع ة أو فئ ة أو طبق ة‪،‬وأن تك ون ّ‬
‫البشر ويحول دون تحقّق إنسانيتهم"‪.85‬‬

‫متخصص ة علمي ا‪ ،‬ب ل بم ا هي‬


‫ّ‬ ‫لق د ب ات من اآلك د أن تس عى الفلس فة‪ ،‬ال بم ا هي معرف ة‬
‫ثم ة البحث‬
‫مادي للعقل‪ ،‬وتطوير مفهومها للجدلية المادية‪ ،‬و من ّ‬
‫ّ‬ ‫نقدية على تطوير مفهوم‬
‫نظرة ّ‬
‫المادي ة بم ا يم ّكنه ا من "تنظيم عالق ات اإلنت اج ومراجع ة مض مون مفه وم‬
‫ّ‬ ‫في التناقض ات‬
‫‪86‬‬
‫وجه ه "آدرن و" إلى الفلس فة ال تي تح ولت بمقتض ى‬
‫الجمعن ة" ‪ّ .‬إنن ا إذ ن درك م ا له ذا النق د‪ ،‬ال ذي ّ‬
‫أن‬
‫فإنن ا نؤ ّك د م ع ذل ك ّ‬
‫أهمي ة‪ّ ،‬‬
‫المتخصص ة إلى مس خ‪ ،‬من ّ‬
‫ّ‬ ‫العلمي ة‬
‫ّ‬ ‫ان دراجها في س ياق المع ارف‬

‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.17‬‬


‫ّ‬ ‫‪ - 83‬النظرية التقليدية والنظرية‬
‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -84‬النظرية التقليدية والنظرية‬
‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫ّ‬ ‫‪ - 85‬النظرية التقليدية والنظرية‬
‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -86‬النظرية التقليدية والنظرية‬

‫‪34‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫المثالي ة"‪ ،87‬وتدش ينا لنهج‬


‫ّ‬ ‫"دغمائي ة المنظوم ة‬
‫ّ‬ ‫النقدي ة تت ّنزل في س ياق مقاوم ة ومكافح ة‬
‫ّ‬ ‫النظري ة‬
‫ّ‬
‫التشوه والعوز التي تحول دون تحقّق ما هو إنساني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فكري يضطلع فيه النقد بمقاومة ك ّل أشكال‬
‫ّ‬

‫إن التلفّت تج اه م ا ص ارت إلي ه الفلس فة من مس خ يؤ ّك د منس وب العن ف ال ذي ُووج ه ب ه‬


‫ّ‬
‫مجالها الخاص أي مجال تعليم "الحياة الحق"‪ ،‬وهو عنف يمكن أن يتجلّى في العداء العرقي الذي‬
‫ثم ة إذا في لوثة الحرب ما‬
‫المطولة ‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫تعد من أجله المباحث‬
‫يقر "آدرنو" بأنه يمثّ ل مشغال رئيسا ّ‬
‫ّ‬
‫تحول إلى أداة سلب وقمع وهيمنة‪.‬‬
‫يعري فضيحة هذا العقل األداتي الذي ّ‬‫ّ‬

‫لم يكن "آدرنو" لي ترك الكتاب ة في ه ذا "العلم الح زين"وه و ي رى ح ال اإلنس انية " وق د‬
‫حقيقي ة"‪ .88‬لهذا‬
‫ّ‬ ‫البربري ة بدل أن تصل إلى حالة "إنسانية‬
‫ّ‬ ‫أصبحت تخوض في حالة جديدة من‬
‫دبر ه ذا الحص اد الك ارثي ال ذي جنت ه اإلنس انية من حقب ة‬
‫ك ان لزام ا على الفلس فة أن تت ّ‬
‫األربعينيات‪ ،‬وليس من العسير والحال تلك أن نفهم ما حاول "آدرنو" تدشينه منذ فاتحة الكتاب‬
‫اإلنسانية آلت كما كشف عن ذلك‬
‫ّ‬ ‫تمر بها‬
‫ونص استهالله ‪ -‬بوصفه تقييما وتشخيصا لمرحلة ّ‬
‫ّ‬
‫نص اإلس تهالل‬
‫اص للفلس فة‪ .‬هاهن ا يص بح ّ‬
‫"آدرنو" إلى اس تهداف ع نيف وبرب ري للمج ال الخ ّ‬
‫توج ه يعلن‬
‫وكأن ه بهك ذا ّ‬
‫بمثاب ة البي ان ال ذي يعلن بمناس بته "آدرنو" عن ظه ور "العلم الح زين" ّ‬
‫نص‬
‫ك في أن ّ‬
‫الح رب بال ه وادة على ك ل أش كال نفي الحي اة ومح اوالت مس خها‪ .‬م ا من ش ّ‬
‫أن كتاب األدب الصغير يمثّل امتدادا طبيعيا للمشروع النقدي الذي انخرط‬
‫اإلستهالل جاء ليؤ ّكد ّ‬
‫يفس ر هذه العالقة التي ال تكاد‬
‫مزي ف هو األمر الذي ّ‬
‫فيه "آدرنو" تحريرا للفكر من ك ّل تنوير ّ‬
‫خي ر "آدرنو" أن تكون صفة هذا العلم وبين ما تعانيه الحياة‬
‫تخطئها عين بين صفة الحزن التي ّ‬
‫أن م ا يحم ل "آدرنو" على وص ف ه ذا "العلم‬
‫والفلس فة من مس خ وتش ّوه‪ .‬وعلي ه يمكن الق ول ب ّ‬
‫بالحزين" هو ما عاينه من مسخ أصاب الحياة لكي تصير بمقتضى ذلك إلى دائرة الخصوصي‬
‫تجر‬
‫ثمة أيضا إلى دائرة االستهالك التي أضحت باعتبارها الحقة للسيرورة المادية لإلنتاج ّ‬
‫ومن ّ‬
‫خاص‪.89‬‬
‫ّ‬ ‫من دون استقاللية ومن دون جوهر‬

‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.14‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -87‬النظرية التقليدية والنظرية‬
‫النقدية‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -88‬النظرية التقليدية والنظرية‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪89‬‬

‫‪35‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ال شيء إذا يجمع كما يؤ ّك د ذلك "آدرنو" بين ما كان يدعى حياة في نظر الفلسفة وما‬
‫إن األم ر يتعلّ ق بس لب ع نيف لج وهر الحي اة واس تفراغها من ك ل مع نى إنس اني‪،‬‬
‫آلت إلي ه الي وم‪ّ .‬‬
‫اإلتيقي ة لكي تخ تزل في بع دها الم ادي‬
‫ّ‬ ‫َيج ري اآلن إذا تحوي ل الحي اة وس لبها من أبعاده ا‬
‫ثمة دائرة االستهالك وهذا ما يعني‬
‫واالستهالكي‪ .‬فالحياة جُّيرت لصالح دائرة الخصوصي ومن ّ‬
‫أن اإلنت اج ران على حرك ة الت اريخ كم ا أرغمت ال ذات ال تي لم تع د ذاته ا على التخلّي عن‬
‫استقالليتها‪.‬‬

‫إن المس عى إلى التش خيص النق دي ال ذي أخذ ط ابع النق د الس الب ه و مس عى يري د "آدرنو"‬
‫ّ‬
‫أن المشكل الذي يطرحه العلم‬
‫الروائيين" ليؤ ّك د بذلك ّ‬
‫منه أن يكون مخالفا "لمسلك أولئك الكتاب ّ‬
‫وبكيفي ة التعاطي م ع‬
‫ّ‬ ‫المشوهة ومسوخاتها بل‬
‫ّ‬ ‫الحزين ال يتعلّ ق فقط بالتفطن إلى تصايير الحياة‬
‫هذه المسوخات أيضا‪ .‬ألجل ذلك يخوض "آدرنو" بال هوادة في نقد هذه العالقة التي تربط الحياة‬
‫باإلنتاج نقدا هو في الجوهر إتيقي‪ .‬ها هنا يظهر بوضوح هذا الحافز اإلتيقي الذي يفرض على‬
‫ثم ة مواجه ة ه ذا‬
‫وكما فيها‪ ،‬ومن ّ‬
‫نوع ا ًّ‬
‫تغي ر ً‬
‫الفيلس وف اس تعادة س ؤال الحي اة باتج اه البحث عم ا ّ‬
‫أن الحياة انقلبت‬
‫التشوه والمسخ الذي أصابها‪ .‬وليس صعبا أن نفهم من هذا التشخيص النقدي ّ‬
‫ك‬
‫مدمرة قائمة على الخداع‪ .‬وما من ش ّ‬
‫تحولت إلى إيديولوجيا ّ‬
‫إنساني حينما ّ‬
‫ّ‬ ‫إلى منقلب غير‬
‫في أن اس تهداف الحي اة ه و اس تهداف لل ذوات‪ ،‬وتفقير لها‪ ،‬وتحوي ل للبش ر إلى قط ع من‬
‫بقوة معارضة اإلنتاج وحدها‬
‫ك أيضا أن إنقاذها يتعلّ ق كما يشير "آدرنو" ّ‬‫"المكنة"‪ ،‬وما من ش ّ‬
‫ومن حيث ال يستغرقهم النظام" ‪.90‬‬

‫إن م ا يج در اإلنتب اه إلي ه ه و ش كل الحي اة المغ ترب " وتحويله ا إلى ظ اهر" ‪.‬‬
‫وإ جم اال ف ّ‬
‫هكذا إذا يراد لهذه الحياة أن تستبطن في ذاتها كل أشكال وأدوات نفيها‪ .‬غير أن "آدرنو" ال يقف‬
‫أن ص فة‬
‫فق ط على ه ذا المس خ ال ذي ط ال الحي اة ب ل يؤ ّك د بواس طة اآللي ات النقدي ة ذاته ا على ّ‬
‫مجرد منهج ابستيمولوجي‬
‫بتحولها " إلى ّ‬
‫"الحزن" اقترنت أيضا بمسخ الفلسفة مادام األمر يتعلّق ّ‬
‫وتفحص قضاياها "‪.91‬‬
‫في دراسة المعرفة ّ‬

‫‪ -90‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.27‬‬


‫‪ -91‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪36‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫التعرف‬
‫ذلك ما يستدعي هذا التشخيص النقدي الراديكالي الذي سيم ّكن العلم الحزين من ّ‬
‫واستبد بأطروحاته‪ .‬ههنا‬
‫ّ‬ ‫على علّ ة هذا المسخ الذي ران على طبيع ة الفكر الفلسفي المعاصر‬
‫يقف "آدرنو" على مفارقة عجيبة وغريبة تكشف هذا المآل الذي انتهت إليه "خطّ ة الفلسفة بشأن‬
‫الذات التي نظرت إليها على أنها " وعي ذاتي قائم برأسه" فإذا بها تعرف مصير االنحالل‪ ،‬بل‬
‫إن حركة التاريخ في طورها الراهن قامت " رأسا وبشكل ال نظير له على انحالل الذات‪.92‬‬
‫ّ‬

‫تغي ر في ما يتعلّ ق بالذات ب ل ظلت الذات القديمة الموضوع األساسي‬


‫ال شيء جدي د قد ّ‬
‫عملية نقدها" فلسفة‬
‫إن هذا األمر يكشف أننا أمام سياق بائس "لفلسفة أولى " تتطلّب ّ‬
‫للتأمل ال ّذاتي‪ّ ،‬‬
‫وعية الغالب ة لحرك ة الت اريخ‬
‫بين ا آنف ا إلى الموض ّ‬
‫أن ب ؤس الفلس فة يع ود كم ا ّ‬
‫ق ّ‬‫أخ يرة" والح ّ‬
‫"ل ذلك يمكن التع اطي مع ه على ّأن ه ب ؤس ع ارض أو مج ّرد ح ال من األح وال‬ ‫ال ّراهن‪.‬‬
‫الطارئة‪ ،‬بقدر ما ينبغي النظر إليه وصفه ما يشي بوضع تاريخي موضوعي تحياه الفلسفة‪ ،‬وقد‬
‫تحوله ا إلى منهج ابس تيمولوجي‪ .‬ال ش يء إذا يحص ل بالصّدفة أو يمكن‬
‫تح ّولت إلى مسخ‪ ،‬نتيج ة ّ‬
‫اعتب اره ح الا عارض ا ب ل ه و نت اج منطقي لتح ّول وتغي ير ط رأ على الفلس فة أل زم موض وعاتها‬
‫وحولها إلى معرفة ال مشروطة متعالية عن الحياة‪.‬‬
‫الحق" ّ‬
‫ّ‬ ‫بالخروج عن " تعليم الحياة‬

‫‪ -92‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.29‬‬

‫‪37‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫الفصل الثاني ‪:‬‬

‫اإلنسانيّة المضطهدة‬

‫‪38‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫‪ -3‬التص ّير – اعتالال‬


‫ال مش احة في الق ول ب أن اإلنس انية المض طهدة "تش كل عنوان ا مفص ليا وحاس ما لمساءلة‬
‫ورط "آدرنو" فعال وبال موارب ة و"ال إدع اء في اإلنس انية والع الم"‪ .93‬ولعل ه‬
‫إتيقي ة للحي اة تكش ف ت ّ‬
‫أدى إلى‬
‫أن الوق وف عن د علّ ة ه ذا األم ر ال ذي ّ‬
‫ننب ه أيض ا إلى ّ‬
‫من الض روري والح ال تل ك أن ّ‬
‫المش وهة ذل ك أن م ا ينبغي‬
‫اض طهاد اإلنس انية يش كل عن د "آدرنو" الرافع ة األساس ية لنق د الحي اة ّ‬
‫معاينت ه في هذا التش ويه األن ثروبولوجي الذي لح ق باإلنس انية هو أن ه يمثّ ل ثمن التح ّرر الزائ ف‬
‫بأن ه‬
‫الذي دفعته اإلنسانية والتي كانت ضحية ما ارتكب في األثناء تحت رايتها‪ .‬لذلك يؤ ّكد آدرنو ّ‬
‫ال حيلة لإلنسانية لتجاوز هذا التشويه إال بإلغاء مفترضاته‪.‬‬

‫إن الخ وض في مس اءلة اتيقية كه ذه ‪،‬اقتض ت من "آدرنو" تش ريحالمفهوم "اإلنس انية‬


‫ّ‬
‫فربم ا ك ان من الض روري أم ام م ا أص اب‬
‫المض طهدة " ووقوف ا عن د "آفات ه وعلل ه وأمراض ه" ّ‬
‫عدة نقدية مغايرة لما هو دارج ومألوف فحصا‬
‫اإلنسانية من تشويه وما يفترضه ذلك من تملّ ك ّ‬
‫ويتوغ ل في ه النق د بعي دا حيث تنفتح أوس اعه على التحلي ل‬
‫ّ‬ ‫وتشخيص ا يلتقي في ه الفلس في ب الطبي‬
‫االجتماعي واألنثروبولوجي لكي "يتعلّق بالسيكولوجيا واالستيطيقا والعلم في عالقته بالذات"‪.94‬‬

‫وهك ذا تج د المساءلة النقدي ة م ع "آدرنو" نفس ها في مقاوم ة" ه ذه اإلنس انية المض طهدة‪" ،‬‬
‫التي يُظهر تجاهها سخطه وإ ن كان ال يخفي مع ذلك التزامه بمقاومة عتيدة لكل أشكال االغ تراب‬
‫تردت فيها‪.‬‬
‫التي ّ‬

‫لمعنَى ودالل ة" لإلنس انية"‬


‫إن م ا يش غل "آدرنو" في ه ذا المس توى من النق د ه و الول وج ْ‬
‫ّ‬
‫المزي ف حتى صارت إلى ما صارت إليه من تشويه‬
‫ّ‬ ‫مغايرا لذلك الذي جاءت به دعاوى التنوير‬
‫حد بعيد"‪.95‬‬
‫متصير معتال إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫واضطهاد أضحى معه "كل‬

‫‪ -93‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.24‬‬


‫‪ -94‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪ -95‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪( .122‬عنوان الشذرة‪)45‬‬

‫‪39‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫بطم طميمه كعنوان فاضح إلنسانية "معتلّة" و"مريض ة" تدّعي‬


‫التصير ّ‬
‫ّ‬ ‫عند هذا المقام يط ّل‬
‫الصحة والسالمة لكنها "الصحة الموكولة إلى الموت"‪.96‬‬

‫فال من اص لفحص وتش خيص ه ذا ال ذي أص بح بحكم "المتص ّير المعت ّل"‪ ،‬أن نرص د م ع‬
‫يتصير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التصير مقاما في هذا الك ّل الذي يعت ّل حالما‬
‫ّ‬ ‫"أدرنو" كيف يجد‬

‫حينما نجد في زمان "آرنو" ما يجعلنا نقف على مستوى الشذرة‪ 33‬على مصطلح" ما بعد‬
‫فإننا نكون وال ريب وجها لوجه أمام مصطلح آخر هو‬
‫نهاية العالم" الذي جاء به سياق الحرب ّ‬
‫المشوه‪ .‬وقد يكون من‬
‫ّ‬ ‫مصطلح "ما بعد اإلنساني" الذي يأخذ هنا معنى الالإنساني أو اإلنساني‬
‫الممكن آن ذاك تعق ل م ا انتبهت إلي ه الحداث ة من "ديك ارت" إلى "كن ط" وم ا بع د الحداث ة "م ع هيغ ل‬
‫ثم ة إع ادة إنتاجه ا بط رق وبأش كال‬
‫وشيلنغ" من اش تغال على خطّ ة ال ذات الفلس ّفية نفس ها ومن ّ‬
‫أخ رى‪ .‬فم ازالت ال ذات التأسيس ّية ال تي تتمثّ ل ذاته ا على أنها ذات عارف ة أو مف ّك رة تح ّل‬
‫الذاتي ة حتى في‬
‫ّ‬ ‫األساسية التي يقع فيها "تصريف‬
‫ّ‬ ‫المادة‬
‫محاللمركز وتحت ّل من هذه الفلسفة محل ّ‬
‫‪97‬‬
‫يهمنا أمر ضبطه وإ حضاره في هذا الس ياق‪ ،‬ليس محاولة تنسيق‬
‫أن ما ّ‬
‫التأمل الذاتي"‪ .‬إالّ ّ‬
‫شكل ّ‬
‫المف اهيم ‪" :‬م ا بع د نهاي ة الع الم" " م ا بع د اإلنس اني" " م ا بع د الحداث ة"‪ ،‬على‬ ‫ه ذه‬
‫ردها إلى فلسفة "آدرنو" وإ ثبات أنها تنحدر من صميم مقاربة اتيقية للحياة بقدر‬
‫أهميتها ومحاولة ّ‬
‫تصيرا شكلت‬
‫"التصير المعت ّل " الذي آل إليه العالم واإلنسانية بل والفلسفة أيضا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ما يشغلنا هذا‬
‫مادت ه األساس ية ففي ك ّل ش ذرة نج د أن "آدرنو" يتعقّب على س بيل ال ذكر ال الحص ر‬
‫الش ذرات ّ‬
‫التشرد بل يغوص "آدرنو" في‬
‫ّ‬ ‫الخاص والمجال العمومي أو ظاهرة الجنون أو‬
‫ّ‬ ‫ظواهر كالمجال‬
‫التقليدية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الناس‬
‫أدق من ذلك مثاال وهو ما صارت إليه مساكن ّ‬
‫ّ‬

‫إن م ا ه و مش ترك بين جمي ع ه ذه الموض وعات ه و تص ّيرها المعت ّل ولعلّن ا نالح ظ في‬
‫ّ‬
‫التصير منزلة المشكل ال الح ّل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نفس الوقت الذي يقع فيه تنزيل‬

‫قررته‬
‫التصير وهو األمر الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسانية المضطهدة تمثّل عنوانا فاضحا وبارزا لهذا‬
‫ّ‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫بد أن يقترن التفكير النقدي فيه‬
‫النظرية النقدية عموما من خالل اشتغالها على التجربة اشتغاال ال ّ‬
‫ّ‬

‫‪ -96‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪( .100‬عنوان الشذرة ‪)26‬‬
‫‪ -97‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.29‬‬

‫‪40‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫بالتجربة‪ .98‬وقد يكون من أوكد ما يلقى على مسؤولية التفكير النقدي في هذا المقام الذي يفصح‬
‫عن بني ان اجتم اعي متص ّدع ه و "االنخ راط في التط ّور الت اريخي للص راعات والتناقض ات‬
‫االجتماعية"‪.99‬‬

‫التصير باإلنسانية وبالحياة التي تقوم مقام‬


‫ّ‬ ‫ههنا إذا يمكن أن نفهم هذه العالقة التي تربط‬
‫‪100‬‬
‫أصبح‬ ‫الحجة‪ .‬على أن المنهج النقدي الذي غدا يعاف االستداللواالستنباط والتسويغ واإلدراج‬
‫ّ‬
‫مادي ة وأص بح محم وال علي ه االنخ راط الفعلي في الفع ل‬
‫ُيش اهد في ش كل فلس فة اجتماعية ّ‬
‫والممارسة‪.‬‬

‫رأس األم ر هن ا ّأنن ا أم ام "ك ّل اجتم اعي "يش كو انفص اما ش امال وه ذا م ا يوض ح ه ذا‬
‫ببية‬
‫أن العالق ة بين الع الم والتص ّير هي عالق ة س ّ‬
‫االعتالل ال ذي ص ارت إلي ه اإلنس انية‪ .‬وحيث ّ‬
‫التصير " ليس صفة تطرأ من الخارج على العالم بل‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫فإن ه يصبح التأكيد مع ذلك ّ‬
‫وتشارطية ّ‬
‫ّ‬
‫بنيوي ة‬
‫التصير المعت ّل هو ظاهرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتتكون به‪ .‬وهذا أمر يجعلنا نكتشف أن‬
‫ّ‬ ‫تكون العالم‬
‫هي صفة ّ‬
‫وأن "التحوي ل" و"التغي ير" هم ا آليت ان تكش فان م ا له ذا‬
‫وتاريخي ة ّ‬
‫ّ‬ ‫وعية‬
‫بق در م ا ه و ظ اهرة موض ّ‬
‫المضي بعيدا في مسخ وتشويه كلّ من الحياة والفلسفة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التصير من قدرة على‬
‫ّ‬

‫وأي م آل‬
‫ديا ينبغي أن يب ذل لفهم ‪ :‬كي ف يش تغل التص ّير؟ وأين يتح ّرك؟ ّ‬
‫إن مجه ودا نق ّ‬
‫ّ‬
‫انية؟ وح دها األس ئلة إذًا م ا تُش ّكل الم داخل‬
‫يمكن أن ي ؤول إلي ه في عالقت ه بالع الم وباإلنس ّ‬
‫وان "آدرن و" ال يص ِرفُ فك ره بعي دا‬
‫خاص ة ّ‬
‫ّ‬ ‫الض رورية لتعقّب "التص ّير" وه و بص دد اإلش تغال ‪،‬‬
‫تمد منهم ا وجاه ة ه ذا االنهم ام بالمقب ل ال ذي يج د في " التص ّير"‬
‫عن الممارس ة والفع ل ب ل يس ّ‬
‫موضوعا له‪.‬‬

‫توج ه فلسفي‬
‫التأملي الذي يعمل على عرقلة ك ّل ّ‬
‫ضد النظر ّ‬
‫التصير" ّ‬
‫ّ‬ ‫يقوم التفكير في "‬
‫"التصير‬
‫ّ‬ ‫نقدي يخوض في تصايير العالم واألشياء‪ ،‬وفي ذلك إشارة بليغة إلى أن ما يكتب بشأن‬
‫هو شأن يجري مجرى مكافحة ومضادة لك ّل المنظومات الفلسفية التي ندبت للتفكير من َع ٍل في‬

‫النقدية‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫ّ‬ ‫‪-98‬النظرية التقليدية والنظرية‬
‫النقدية‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -99‬النظرية التقليدية والنظرية‬
‫نظرية استطيقية ‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫ّ‬ ‫‪-100‬‬

‫‪41‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ك ّل أش كال التسويغ المتعالي عن الواق ع الموض وعي وانتهت إلى تأسيس معرفة تس تجيب لخدمة‬
‫مسبقا"‪.101‬‬
‫واقع معطى ّ‬

‫"تصير"‬
‫ّ‬ ‫أن صفة االعتالل التي ينسبها "أدرنو" لك ّل‬
‫وهو ذات األمر الذي يجعلنا ننتبه إلى ّ‬
‫النقدية تكمن في مقاومة ك ّل نزعة امتثالية وتبريرية تقودها‬
‫ّ‬ ‫النظرية‬
‫ّ‬ ‫مهمة‬
‫أن ّ‬‫تمثّل شاهدا على ّ‬
‫جدلي ة تنتهي إلى حاص ل إيج ابي ه و عب ارة عن ش ميلة أو‬
‫الس ائد وإ رس اء ّ‬
‫رغب ة االنتص ار إلى ّ‬
‫ف‬
‫"وح دة ص ّماء"‪ .‬ولع ّل م ا يس تهدفه "آدرنو" من وراء الخ وض بال ه وادة في "التص ّير " ه و الك ّ‬
‫واإلنسانية بواسطة فكر جدلي ال تستنفره تصايير العالم واألشياء بل يكون‬
‫ّ‬ ‫عن النظر إلى العالم‬
‫س جينا لفك ر لي برالي ولنظري ة اقتص ادية ت نزع إلى تفق ير ال ذات وتش يئتها‪ ،‬وق د ُيمثّ ل ه ذا المس لك‬
‫يوض ح ذل ك "أدرنو" إنهمام ا "إتيقي ا" بك ل م ا يرب ط مس ألة "‬
‫النق دي المس ار ال ذي سيكش ف كما س ّ‬
‫التصير "بامتداداتها االجتماعية واألنتروبولوجية بل والسيكولوجية أيضا‪.‬‬
‫ّ‬

‫وههن ا يص بح التص ّير "فك را" ذهاني ا يش تري الحكم المطل ق على حس اب تجرب ة الش يء‬
‫فتتعلق به معتقدات وهمية يفقد معها القدرة على االتصال بالواقع فيرى ماال يراه غيره‪ ،‬ويسمع‬
‫التحص ن بالمرض مالذا لهذا الفكر الذي ُيبقي على البؤس جاعال‬
‫ّ‬ ‫ما ال يسمعه غيره لكي يصبح‬
‫‪102‬‬
‫وهو "المزية الوحيدة" لفكر أقصى ما يمكن أن يفعله هو "ت ْب ِرير ما هو قائم‬ ‫منه "غير مرئي"‬

‫وي ؤثِر المحدودي ة والمعان دة وي نزع إلى ّ‬


‫رد‬ ‫وس ائد‪ ،‬فكرا ال يق در على التح ّرر من ال دغمائيات ُ‬
‫الحس السليم ولكن المعاند"‪.103‬‬
‫ّ‬ ‫األشياء إلى "منظوريّته الصحيحة أي‬

‫أن نق د " آدرنو" "للتص ّير" ليس نق دا للص يرورة والتن اقض والجدلي ة ال تي‬
‫هك ذا إذا نت ّبين ّ‬
‫لتصير‬
‫ّ‬ ‫تحتل داخل مشروعه الفلسفي‪ ،‬األرضية النقدية التي تنبني عليها فلسفته النقدية بل هو نقد"‬
‫والداء " الذي أصاب اإلنسانيةـ وهو بهذه المساءلة‬
‫تصيرا يحمل على معنى وداللة "اآلفة ّ‬
‫معت ّل"‪ّ ،‬‬
‫حوله التنوير غير المستنير إلى "أقنوم" فانبرى إلى تقويض ذاته حتى‬ ‫يصوب سهام نقده إلى عقل ّ‬‫ّ‬
‫أض حى راعي ا لمش اريع المجتم ع ال برجوازي القائم ة على ت برير الهيمن ة والس يطرة‪ .‬ولع ّل م ا‬
‫يح ّرك حفيظ ة "آدرنو" ض ّد ه ذا الفك ر ال ذهاني وه ذا "العق ل األقن وم" ال يمكن أن يفهم على ّأن ه‬

‫النقدية‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫ّ‬ ‫‪-101‬النظرية التقليدية والنظرية‬
‫‪ -102‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ -103‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.122‬‬

‫‪42‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫طعن وإ بطال للعقل بل هو دعوة لتنزيل العقل تنزيال تاريخيا‪" ،‬لكي يتسنى له تجاوز كل أشكال‬
‫التفك ير ال تي س اقها جنوحه ا إلى التجري د والت بريرإ لى تص وير التش ويهات على أنه ا "بهج ة وتفتح‬
‫التصير المعتل عند هذه الطغمة البورجوازية وأدواتها سهم‬
‫ّ‬ ‫للفكر ومؤانسة" ‪ .104‬هكذا أصبح هذا‬
‫خالص مس موم إلنس انية مش ّوهة‪ ،‬م ا ك ان "آدرنو" لكي ي ترك دعاويه ا المض للة دون نق د وفض ح‬
‫وأن ُيشكل ذلك عنده عامال رئيسا لمقاومته ومعارضته‪.‬‬

‫التصير المعتل يكشف تشويهات هذه اإلنسانية التي يرصدها "آدرنو" من موقع المحلّ ل‬
‫ّ‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫النفسي على أنها تحدث في األطوار الباكرة لنمو الطفل بما هي مصدر العصابات النفسية‪ ،‬هي‬
‫إذا لحظ ة فارق ة ُيكثّ ف "آدرنو" حوله ا األم راض الناش ئة عن ه ذا التص ّير من حيث هي أم راض‬
‫الحض ارة المعاص رة وق د يحت اج تأوي ل ه ذه العص ابات على "األنا" وعلى "اإلنس انية " بش كل ع ام‬
‫إلى التوقف عند أثرها الذي يبدو في شكل "بثور" و"طفح"يصيب جلد اإلنسانية‪ ،‬وقد يكون محزنا‬
‫فعال أن ن رى اإلنس انية جميع ا أس وياء وغ ير أس وياء يتقاس مون كارث ة يتق اطع فيه ا ال ذاتي‬
‫بالموضوعي‪.‬‬

‫إن م ا ي دعونا إلى تقص ي ه ذا " التص ّير المعت ل "ه و ذات األم ر ال ذي أدرك "أدرنو" من‬
‫ّ‬
‫خالل ه أهمي ة تعقب م ا يكتب ه فروي د كخب ير بالس يكولوجيا عن التع ارض الحاص ل بين االجتم اعي‬
‫واإلنساني" لكن دون قدرة على تحليل وتأويل "فعل المجتمع القمعي" الذي يضع أهداف المجتمع‬
‫في مرتبة أعلى من األهداف الجنسية التي تظ ل في األساس أنانية"‪ .105‬ويكشف "آدرنو" على أن‬
‫غياب هذه القدرة وإ حجام فرويد عن الخوض في أصل هذا التعارض هو ناشئ عن الوقوع في‬
‫عب ر بوض وح عن التن اقض ال ذي ت ؤول إلي ه س يكولوجيا‬
‫ردد ال يجادل ه ق درة على تج اوزه ألن ه ُي ّ‬
‫ت ّ‬
‫"فروي د" ‪ :‬فه ل ي رفض إذ ُيع دم نظري ة محكم ة [في ه ذا الغ رض] ويواف ق االبتس ارات الدارج ة‪،‬‬
‫يتوجب عليه أن يثني عليه باعتباره إعالءٌ‬
‫ّ‬ ‫التنازل عن الغريزة باعتبارها كبتا مضادا للواقع أو‬
‫تعجل الثقافة به"‬
‫ّ‬

‫‪ -104‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.101‬‬


‫‪ -105‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.101‬‬

‫‪43‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫إن المشكل يكمن في أن "فرويد" يظل ههنا رافدا من روافد التفكير غير المستنير [الذي]‬
‫يعطي "األس بقية للجنس ية البرجوازي ة"‪ .106‬إن ه تمظه ر لعق ل ماكر يس تحوذ على الل ّذة وه و م ا ال‬
‫يعكس بني ة المجتم ع القمعي وحس ب‪ ،‬ب ل أيض ا بني ة العق ل القمعي ال ذي يؤ ّك د "آدرن و" على أن‬
‫مجرد بنية فوقية"‪.107‬‬
‫"فرويد" جعل منه ّ‬
‫فس ر من خالله ا "آدرنو" معاض دة‬
‫إن م ا ه و الفت فعال ب ل وم اكر أيض ا الق درة ال تي ّ‬
‫السيكولوجيا لمبدأ الهيمنة اإلنسانية الذي يستبطن تحقيق غرضين‪ :‬صعود الفرد البرجوازي من‬
‫جه ة وتحوي ل ال ذات إلى موض وع في مجتم ع التب ادل من جه ة أخ رى ‪ .‬فال ذات لم تع د ذات ا في‬
‫مجتم ع التب ادل"‪ .108‬وه ذا األم ر ت ّم بفض ل الس يكولوجيا ال تي تلتقي تمام ا م ع أه داف الس يكولوجيا‬
‫يؤسس ان‬
‫التقنية‪ .‬ل ذلك ال ي رى "آدرن و" تعارض ا بين الس يكولوجيا التقني ة والس يكولوجيا‪ .‬فكالهم ا ّ‬
‫مزيفة تقوم على القمع والسيطرة والهيمنة‪.‬‬
‫لحداثة ّ‬

‫إن ارتياب "آدرنو" من علم النفس التحليلي هو ارتياب من استدالالته التي يقول عنها إنها‬
‫ّ‬
‫ضد التحليل الفرويدي الذي يمارس سلطة‬
‫"تثبت لإلنسان عدمه"‪ .‬فهو بذلك يظهر نقده وغضبه ّ‬
‫على األف راد وينتص ب م دافعا عن الطبق ة البرجوازي ة وعن رهاناته ا ال تي تق وم على إخض اع‬
‫اإلنسان آللية العقلنة وحثّه على "مجاراة ما هو قائم"‪.‬‬

‫التصير " ليعاين من خالله وض عا كارثيا ومأساويا آلت إليه‬


‫ّ‬ ‫لقد اجترح "آدرنو" مفهوم "‬
‫حد بعيد"‬
‫معتال إال ّ‬
‫متصيرا ْ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسانية وهو ما أكسب المفهوم حمولته النقدية بعد "أن أصبح كلّا‬
‫وبع د أن د ّل المفه وم على مع نى " ال داء واآلف ة" ال تي أص ابت الفك ر والعق ل واألن ا والمجتم ع‬
‫الجدلي ة من‬
‫ّ‬ ‫انية بش كل ع ام وه و م ا م ّكن ه من مح اورة الفك ر الج دلي وم ا ص ارت إلي ه‬
‫واإلنس ّ‬
‫(المتج ّرد) والج زئي ال ذي ال يتحقّ ق إال من جه ة " المفه وم‬ ‫الكلي‬
‫ّ‬ ‫مؤالف ة بين‬
‫رب مؤالف ة تح ول الحي اة إلى إي ديولوجيا‬
‫ّ‬ ‫المج ّرد والمتج ّرد من الف ردي"‪.109‬‬
‫وتتورط في تصفية الفردي‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ -106‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.104‬‬


‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫‪107‬‬

‫‪ -108‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.105‬‬


‫‪ - 109‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.123‬‬

‫‪44‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫من هن ا يمكن أن نفهم ص راع "آدرنو" ض ّد "هيغ ل" ال ذي يمكن الوق وف على داللت ه‬
‫ضد مقولة "هيغل" التي تقول "رأيت نابليون‬
‫ومعانيه في الشعار المضاد له "ألن الك ّل هو الالحق" ّ‬
‫على الحصان" ورأيت العقل على حصان‪.‬‬

‫ملم بآالم هذه اإلنسانية خبيرا وعارفا بمعاناتها‬


‫رد ّ‬‫ألنه ّ‬
‫رد "آدرنو" يأتي دائما مزلزال ّ‬
‫إن ّ‬
‫ّ‬
‫ل ذلك يق ول ‪ " :‬لق د رأيت روح الع الم ال على ج واد ب ل على أجنح ة الص واريخ ومن دون رأس‪.‬‬
‫ضحى بالفردن ة من أجل‬
‫وهذا يفّن د في نفس الوقت فلسفة "هيغل" في التاريخ " فإذا كان "هيغل" ّ‬
‫سياسية موحشة‬
‫ّ‬ ‫فإن "آدرنو" ينتصر للفرد بمالحظته وجود "داللة‬
‫اتساق الكلّي وتناغمه وانسجامه ّ‬
‫المعد مسبقا هو‬
‫ّ‬ ‫إن انسجامها‬
‫لتلك العالقة أحادية البعد بين الجزء والك ّل‪ّ ،‬‬ ‫وكئيبة‬
‫الفن البرجوازية العظيمة‪ ،‬وصمت القبور ال ذي‬
‫"هزء" كما ينبغي المجاهدة من أجله في أعمال ّ‬
‫تفرضه الدكتاتورية في ألمانيا"‪.110‬‬

‫ييئية وك ّل أش كال اإلغ واء‬


‫طية والتش ّ‬
‫ثم ة في ه ذا الح رص على فض ح الممارس ات التس لّ ّ‬
‫المزيف ة" وم ا يفض ح وهم أص الة الفردانية كم ا تتجلّى في‬
‫ّ‬ ‫والقه ر ال دعائي "م ا يع ّري هذه الجدلي ة‬
‫ف عن الدعاي ة له ا واإلعالن عنه ا بأش ّد م ا يك ون الص راخ والض جيج‪.111‬‬
‫مجتمع ات ال تك ّ‬
‫أن "آدرنو" ي رفض ال دفاع عن أولوي ة الكلّي بالنس بة إلى الج زئي ويكش ف الطّ ابع‬
‫والواض ح ّ‬
‫التصورات والمشاريع التي تغرس إسفينا في جسد إنسانية مضطهدة‪ .‬وهي وإ ن‬
‫ّ‬ ‫الالإنساني لهذه‬
‫لكن ذلك ال يقع بقصد‬
‫يطوق المجتمع كك ّل ّ‬
‫قوة اإلرادة والتسليع "الذي ّ‬
‫بلغت تقدما على مستوى ّ‬
‫الفعلي ة بل بقصد التالعب بتلك الطاقة والسيطرة عليها وحثها‬
‫ّ‬ ‫إفساح المجال أمام طاقاته النقدية‬
‫باتجاه تعزيز الوضع القائم"‪.112‬‬

‫هك ذا إذا ي ؤول األم ر إلى بس ط الكلّي "المهيمن" والكلّي "غ ير الحقيقي" تناس باته على‬
‫"تصير" أصاب أطرافه "بالذهان"‬
‫ّ‬ ‫العقل‪ ،‬وتتأكد الحاجة إلى تعميق النظر في ما يشهده الفكر من‬
‫"واإلسقاط المرضي"‪.‬‬

‫‪-‬جدلية التنوير‪ ،‬ص ‪.3‬‬ ‫‪110‬‬

‫‪ -‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬ص ‪.157‬‬ ‫‪111‬‬

‫‪ -112‬النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت‪ ،‬ص‪.71‬‬

‫‪45‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ولع ّل النفاذ إلى حقيقية ما يجري للعقل والفكر من أوضاع مرضية من شأنه أن يفضح‬
‫حقيقة هذا العقل الذي ال يمكن أن يتعافى من علله وأمراضه إالّ إذا ما عمل صاحب الجدلية على‬
‫اص"‪ .113‬ذل ك وض ع وإ ن ب دا‬
‫معاضدة "حقيق ة المجن ون تل ك ح تى تخلص إلى ال وعي بعقله ا الخ ّ‬
‫س رياليا إالّ ّأن ه يكش ف من خالله "آدرنو" انقالب ا م دويا لمف اهيم الم رض والص ّحة والمجن ون‬
‫مما يدفع باإلنسانية إلى االنصياع " المحتوم للهاوية"‪.‬‬
‫والعاقل ّ‬
‫يفس ر هذا المنقلب الكارثي الذي آلت إليه الحياة‪ ،‬أبلغ وأعمق‬
‫ما من شيء من شأنه أن ّ‬
‫التص ير من أثر في اإلنسانية التي أضحت إنسانية مريضة ومعتلّ ة‪ ،‬والواقع‬
‫ّ‬ ‫من معاينة ما يتركه‬
‫أن اس تجالء ه ذا التص ّير فك را وواقع ا وتاريخ ا يس توجب على س بيل الفهم واإلحاط ة بالعالق ة‬
‫ّ‬
‫ال تي تجمع ه بظ اهرة نفي الحي اة‪ ،‬الكش ف عن جمل ة التقاطع ات ال تي يلتقي فيه ا " التص ّير" م ع‬
‫مفاهيم من مثل المرض والجنون والهيستيريا والذهان والالعقل‪.‬‬

‫"التصير" – وكما ّبينت الشذرة ‪ 45‬ذلك – إلى توسيع معنى‬


‫ّ‬ ‫ههنا فحسب يحملنا مفهوم‬
‫يجرنا إلى البحث في ما يمكن أن يعانيه الفكر حينما يكون مصابا "بالعناد‬
‫االعتالل على نحو ّ‬
‫التصير المعت ّل"‬
‫ّ‬ ‫األعمى" و"بدغمائية ساذجة" و "بالالموس وطية‪ .‬هكذا أراد "آدرنو" أن يبحث في "‬
‫لكن من خالل "الفك ر الج دلي " فك ان ب ذلك المنطل ق والم دخل لمعاض دة مجه وده النق دي في‬
‫تش خيص ظاهرة "الحي اة ال تحيا" ولع ّل ما يوجهه "آدرنو" من نقد للجدلية كم ا صارت إليه في‬
‫"البراغماتي ة المستبس لة ل ديوي" يش ّكل بمثاب ة المس ار‬
‫ّ‬ ‫"المدرس ة الهيغلي ة" وتل ك ال تي ص احبت‬
‫التصير المعت ّل"‪ .‬وقد يكون من‬
‫ّ‬ ‫والتوج ه الذي ينبغي أن تتجه إليه النظرية النقدية لفضح هذا "‬
‫ّ‬
‫الضروري للكشف عن حقيقة ما يجري في هذه الجدلية‪ ،‬الدفع بالنقد إلى أقصاه‪ ،‬سبرا لألسباب‬
‫"التصير المعتل"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العميقة التي بوسعها الوقوف عند علّة هذا‬

‫يحرر الجدلية من ك ّل فكر جدلي يستحوذ فيه الكلّي‬


‫ها هنا كان لزاما على "آدرنو" أن ّ‬
‫على الف ردي وي رفض في ه كم ا يش ير إلى ذل ك " آدرنو" إثب ات ط رف ف ردي ض من فرادت ه‬
‫‪114‬‬
‫مزيفة"‬
‫وانفراده" ‪ .‬وهو ما يمكن أن نستخلص منه هذا التمييز بين نوعين من الجدلية ‪" :‬جدلية ّ‬
‫مهم ة مس خ ه ذه الجدلي ة وتحويله ا إلى‬
‫هي في حقيق ة األم ر نت اج لعق ل تن ويري أُوكلت ل ه ّ‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.125‬‬ ‫‪113‬‬

‫‪ -114‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.122‬‬

‫‪46‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫مجردة ووهمية‪ ،‬و"جدلية نقدية" (سلبية) تمثل استئنافا للتفكير في ما‬


‫إيديولوجيا قائمة على مؤالفة ّ‬
‫أخف ق في ه المس عى الهيغلي لكنه ا ت أتي أيض ا كنتيج ة الخ تراق وخ رق للس نن الفلس فية الدارجة‪.‬‬
‫‪115‬‬
‫حيث وضع العنوان الفلسفة‬ ‫وهو األمر الذي سيوضحه "آدرنو" الحقا في كتابه جدلية سلبية‬
‫إم ا في الص ياغة النك رة ال تي ورد على‬
‫على فلس فة نقدي ة جدي دة ومغ ايرة كم ا سيتوض ح ذل ك ّ‬
‫نحوه ا العن وان أو في ه ذا الجم ع بين "جدلي ة وسلبية" وليس لن ا هن ا من ب ّد للكش ف عن ه ذه‬
‫الجدلي ة إال برده ا إلى م ا يح اول "آدرنو" محاورت ه نق ديا في كتاب ه األدب الصــغير من حيث ه و‬
‫"ل ذلك يقودن ا ه ذا التع ريج على عالق ة كتابجدليــة ســلبية‬ ‫كت اب في األخالق السلبية‪.‬‬
‫أن النق د عن د "آدرنو" يأخ ذ مج رى مض ادا ومغ ايرا لك ل‬
‫بـ"األخالق الس لبية" إلى االنتب اه إلى ّ‬
‫اتية التي تنتهي إلى اإلثبات إثباتا ينبثق على جملة من الحدود والتناسبات‬
‫الجدلية اإلثب ّ‬
‫ّ‬ ‫المنظومات‬
‫ال تي تتحق ق على حس اب األش ياء ومج رى الع الم‪ .‬وه و م ا يؤ ّك د الحاج ة إلى فهم الجدلي ة في‬
‫الهوي ة والتطابق والتناقض‬
‫ّ‬ ‫صيغتها المنكورة على أنها " جدلية سلبية" تخرج جذريا عن فلك‬
‫على نحو ما وقع تعيينه في المثالية المطلقة" لهيغل" وهو ذات السبب الذي انتبه إليه "آدرنو"‬
‫رد "هيغل" على"غوته" بتلك الصياغة الماكرة وبأسلوب يشبه المدح الخبيث" والذي يكش ف‬
‫في ّ‬
‫بتلع داخ ل مؤالف ة أو ش ميلة تنتهي إلى‬
‫أن "روح التن اقص" ُيس تعمل في جدلي ة "هيغل" لكي يُ َ‬
‫اإلثب ات‪ .‬ل ذلك يؤ ّك د "آدرنو" أن الجدلي ة الس لبية "تخ رج بص فتها "س البية" على منط ق التق ديم‬
‫يعرفه ا "آدرنو" بأنه ا " ال وعي النس يق‬
‫والت أخير ب ل عن إض افة الرئاس ة والخدم ة أص ال" ل ذلك ّ‬
‫بالالّتطابق"‪.‬‬

‫إن م ا ه و الفت في ه ذه الجدلي ة النقدي ة الس لبية أنه ا ج اءت لتح ذر من أن يص بح الفك ر‬
‫التصير المعت ّل" تنحدر من‬
‫ّ‬ ‫أن واقعة "‬
‫خادما "لسوق النظريات"‪ .‬لذلك كان لزاما أن يؤ ّكد "آدرنو" ّ‬
‫ك ل الج دليات ال تي انخ رطت في ه ذا ال وعي الس ّيء وعملت على ت برير الس ائد ووض عت نفس ها‬
‫أن‬
‫ضروري التأكيد عليه في هذا السياق ّ‬
‫ّ‬ ‫في خدمة الفكر الليبرالي والبرجوازي ولع ّل ما هو‬
‫الطعن في مثل هذه الجدليات هو طعن على الفلسفة التي يؤ ّك د "آدرنو" الحقا بأنها "نكثت الوعد"‬
‫وادعت بأنه بإمكانها إدراج الجزئي أيا كان ضمن كلّ ّي عقلي تنسله الفلسفة من صلبها‪.‬‬

‫‪ -115‬جدلية سلبية‪ ،‬أصدره "آدرنو" سنة ‪ 1966‬وهو يمثل كتابه الرئيس الذي يمكن أن يعتبر وصيته الفلسفية‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫إن ما يعمل "آدرنو" على توضحه وبيانه في الشذرة ‪ 45‬هو التأكيد على ضرورة تحرير‬
‫ّ‬
‫مجرد منظور‬
‫الجدلية من سجن النظريات والرؤى ومن سطوة المنهج ومن النظر إليه بوصفها ّ‬
‫أو منظورية‪.‬‬

‫ّإن ه يمث ل جه دا نق ديا ال نظ ير ل ه يض ع الفك ر الج دلي موض ع تش خيص ونق د ج ذري‬
‫وراديك الي يمكّن فتح ثقب في ه ذا الفك ر ال ذي لطالم ا ادعى أنه ا يحم ل لواء التن وير ويحق ق‬
‫والتطور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التقدم‬
‫لإلنسانية أملها في تحقيق ّ‬

‫أن ما يبقى موضوع متابعة للتفكير في نفس الشذرة ‪ 45‬هو الوقوف عند "اإلعتالل‬
‫غير ّ‬
‫النوعي ة ال تي يلحِقه ا "آدرنو" بك ل‬
‫ّ‬ ‫من حيث ه و مظه ر من مظ اهر ه ذا التص ّير أو ه و الص فة‬
‫ثم ة إذا م ا يمكن مالحظت ه باعتب اره ظ اهرة خط يرة يمكن أن تح ّل بالع الم وه و تأكي د‬
‫متص ّير‪ّ .‬‬
‫الكم والنوع مداه‪.‬‬
‫"آدرنو" على أننا في الدرجة القصوى من االعتالل‪ ،‬فاالعتالل يبلغ من حيث ّ‬
‫نص ت الش ذرة ‪ 45‬على عب ارة إلى ح ّد بعي د " ال تي تكش ف من جه ة أنن ا أم ام واقع ة‬
‫ل ذلك ّ‬
‫أي ش يء‪ .‬فالتص ّير المعت ّل يس ود الع الم و يهيمن‬
‫ومتفش ية ال يك اد يفلت من قبض تها ّ‬
‫ّ‬ ‫مس تفحلة‬
‫على ه ذا "الك ّل المتص ّير"‪ ،‬ههن ا يب دو من الض روري أن نبحث في ه ذه العالق ة ال تي ترب ط‬
‫التص ّير ب اإلغتراب وبالتش يئة بقص د فهم كي ف يظه ر التص ّير ؟ وم ا هي النتيج ة التييمكن أن‬
‫أشدها؟‬
‫يؤول إليها على مستوى عالقة اإلنسان بتصايير العالم واألشياء التي بلغت مناالعتالل ّ‬

‫انية المعاص رة وه و إن ش ئنا‬


‫أن اإلغ تراب ه و نت اج الحض ارة اإلنس ّ‬
‫يعت بر "آدرنو" ّ‬
‫أن " آدرنو" يعي د اس تئناف‬
‫لمنطقي ة له ذا الك ّل المتص ّير وه ذا م ا ي دفعنا إلى الق ول ب ّ‬
‫ّ‬ ‫النتيج ة ا‬
‫التفك ير نق ديا في مفه وم االغ تراب لكي ال يك ون ح بيس التص ور الماركس ي وحتّى يع اد‬
‫المشوهة"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تشخيصه ونقده اتيقيا في سياق ما يطلق عليه "آدرنو" بمصطلح "الحياة‬

‫برده ا إلى مفه وم " التص ّير‬


‫هن اك إذا م ا اس تدعى مراجع ة دالل ة االغ تراب وذل ك ّ‬
‫الفردي ة ويكثّ ف‬
‫ّ‬ ‫الملكي ة‬
‫ّ‬ ‫المعت ّل"‪ .‬ف إن ك ان م اركس يعزواالغ تراب إلى المجتم ع الطبقي وإ لى‬
‫يوس ع من دالالت‬
‫إن "آدرنو" ّ‬
‫حض وره في المج ال االقتص ادي من دون غ يره من المج االت‪ ،‬ف ّ‬
‫مفه وم االغ تراب ويفتح ه على ك ّل الس ياقات الفلس فية والسياس ّية واالجتماعي ة واإلس تيطيقة‬
‫وغيرها‪ .‬ويب دو أن اكتس اح التقني ة والعلم ك ل مج االت الحي اة ه و م ا س ينتج ق وال جدي دا في‬

‫‪48‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫االغ تراب يمكن من خالله متابع ة ك ل الظواهر المعتل ة التي ش كلت ناف ذة جدي دة لتش خيص نقدي‬
‫كان هوركاهايمر و"آدرنو" قد اتخذا منه قاعدة للتفكير في مشكل االغتراب ولكن من جهة عالقته‬
‫بع ّدة مفهوميّ ة من مثل ‪ :‬أف ول العق ل‪ ،‬تق ويض العق ل لذات ه‪ ،‬الموض وعية الظلم اء‪ ،‬ص ناعة‬
‫ُ‬
‫الثقافة ‪،‬ثقافة الجماهير أو خداع الثقافة‪.‬‬

‫إن قرارا فلسفيا قد أتُخذ يتعلق بفحص شكل الحياة المغترب للكشف عن حقيقة ما يحدث‬
‫في هذه الحياة وهو ما يدعو إلى البحث في ما إذا كان بمقدور الفرد تأمين حاجياته من دون أن‬
‫مجرد عنصر أو جزء ضئيل من جهاز اإلنتاج ؟‬
‫حريته ومن دون أن يتحول إلى ّ‬
‫يخسر ّ‬
‫يس توقفنا مث ل ه ذا الس ؤال وغيره ا من األس ئلة ال تي يمكن أن تض عنا أم ام ص ورة م ا‬
‫يحص ل فعال من "تص ّير" تك اد تك ون في ه ال ّذوات أش به بـ"ال دمى" ج ّراء م ا يص يبها من تش يء‬
‫النظر‬
‫وسلعنة‪ ،‬إلى إعادة طرح السؤال عن الفرد وعن المجتمع وما يقتضيه ذلك من ضرورة ّ‬
‫موحد بل بما هي كيان ينجم‬ ‫إلى الذوات في هذه المكنة وهذا النظام اإلنتاجي ال على أنها كيان ّ‬
‫النظام االجتم اعي‪ ،‬وهو وض ع مثير ك ان "آدرنو" ق د لفت إليه اإلنتب اه في عب ارة "‬
‫ض رورة عن ّ‬
‫الحياة ال تحيا"‪.‬‬

‫يقت من حيث ال ت دري‬


‫إن البحث في "التص ّير" إذا ه و بحث في ه ذه ال ّذات ال تي س ْ‬
‫ّ‬
‫بتصير هذا‬
‫ّ‬ ‫التنب ؤ معها‬
‫وبضرب من االمتثالية إلى حالة من االغتراب والتشيئة نكاد ال نستطيع ّ‬
‫"المتص ّير" وال به ذا ال ذي يمكن أن يص ير إلي ه اعتالل ه وه و الم ر ال ذي أش ار إلي ه "آدرن و" في‬
‫تصير هذا‬
‫حد بعيد"‪ .‬فنحن ال نعلم على وجه الدقّة ما يمكن أن يؤول إليه ّ‬
‫الشذرة ‪ 45‬بعبارة "إلى ّ‬
‫والمشوه من هذه الحياة‪ .‬ولع ّل أسوأ ما‬
‫ّ‬ ‫كن ا نعلم يقينا ما بات يش ّكل الوجه الممسوخ‬
‫"الكل" وإ ن ّ‬
‫متصير هو االغ تراب ال ذي ينجم عن تشويه‬
‫ّ‬ ‫يتول د عن ه ذا "االعتالل" الذي يرافق ك ّل‬
‫يمكن أن ّ‬
‫تشوه ومسخ الذات التي أضحت تعيش‬ ‫ومسخ للحياة أصبح باعثا ومصدرا بهذا "العلم الحزين" و ّ‬
‫حدا يؤ ّك د فيه "آدرنو" في معرض انشغاله " بالعالقة بين األجيال" ‪،‬‬
‫في عصر "انحطاط الفرد" ّ‬
‫أدى إلى إنت اج‬
‫على مس توى الش ذرة‪ 21‬م ا انتهى إلي ه النظ ام االجتم اعي من عن ف وقم ع ّ‬
‫"كاريكاتور نظام بال طبقات"‪.116‬‬

‫‪ -116‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.40‬‬

‫‪49‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫انية ه و م ا يمكن ان‬


‫إن ه ذا المنح نى الق بيح والمأس اوي ال ذي يمكن أن ت ؤول إلي ه اإلنس ّ‬
‫ّ‬
‫‪117‬‬
‫ضد ذلك العالم القبيح" الذي كانوا يحيونه مع األبوين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نعاينه في دفاع األبناء "باسم عالم أقبح‬
‫كن ا نح اول تعقّب ه وتشخيص ه‪ ،‬في م ا يمكن أن يحص ل له ذا‬
‫إنم ا ه و في الم يزان من وراء م ا ّ‬
‫"التص ّير" من إعتالل‪ ،‬ه و ه ذا االق تران ال وظيفي بين كوكب ة من المف اهيم من مث ل "التص ّير"‬
‫واالغتراب والتشيئة التي ال يجد لها "آدرنو" من ح ّل لمواجهتها غير هذه الكتابة المتش ّذرة التي‬
‫انتهت إلى" كتابة الهاوية"‪.‬‬

‫ربم ا ك ان يحت اج تشخيص ا‬


‫التوغ ل بعي دا بواس طة ه ذه الكتاب ة في ه ذه الحي اة المعتلّ ة ّ‬
‫ّ‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫أن األمر يتعلّ ق بتلك األسئلة التي يدفع‬
‫مجرد تأويل للواقع‪ .‬بل ّ‬
‫وتصفية هي أبعد من أن تكون ّ‬
‫به ا "آدرن و" إلى أقص اها لكي يفحص عالق ة الف رد ب المجتمع وعالقت ه بذات ه ‪ ،‬لكن على س بيل‬
‫الثنائي ات وال على سبيل البحث عن شميلة ينح ّل فيها التناقض وال هو أخيرا‬
‫ّ‬ ‫استعادة التفكير في‬
‫المزي ف وق د أص بح خادم ا لم ا يق ع تداول ه ض من‬
‫ّ‬ ‫على س بيل م ا يمكن أن يحقّق ه الفك ر الج دلي‬
‫"دورات السوق" وما يمكن ان يفضي إليه ذلك من تشيئة وسلعنة‪.‬‬

‫هك ذا إذا يحملن ا "آدرن و" إلى التع ّرف على االغ تراب والتش يئة ك آليتين تتموض عان داخ ل‬
‫ه ذا النظ ام اإلنت اجي اللي برالي والرأس مالي ليجع ل من اإلنس ان غريب ا عن ذات ه وعن المجتم ع‬
‫تعب ر عن ذاته‪ ،‬ولكي تجعل منه مغتربا عن ذاته وعن المنتوج الذي ينتجه‬
‫وليجعل من أفعاله ال ّ‬
‫لكن م ا ه و الفت في ه ذا التش خيص ال ذي يض ع في ه "آدرن و" "‬
‫وعن الع الم ال ذي يعيش في ه‪ّ .‬‬
‫االغ تراب والتش يئة" موض ع نق د ومس اءلة ه و م ا ص ارت الرأس مالية إلي ه بع د أن ق امت بتقس يم‬
‫التوس ع الذي‬
‫ّ‬ ‫العم ل وتفتيت ه وإ عادة إنتاجه على ش اكلة العم ل اإلنس اني المغترب‪ ،‬حيث م ّكن هذا‬
‫آلت إلي ه الرأس مالية في المجتمع ات الحديث ة والمعاص رة إلى الكش ف عن حقيق ة ه ذا المجتم ع‬
‫تتربص بها الباليا" ‪ .118‬ويمضي "آدرنو"‬
‫البرجوازي الذي بات فيه" البرجوازيون مثل أشباح ّ‬
‫في تفص يل ذل ك في الش ذرة‪ 14‬ال تي يخت ار له ا "عن وان ال برجوازي العائ د" مس لطا الض وء على‬
‫تتعين داللتها في العالقة التي تربط البرجوازي بالنظام من جهة‬
‫أشكال الوجود البرجوازي التي ّ‬
‫وبمص لحته الشخص ية من جه ة أخ رى ذاك ال ذي يس ميه "آدرن و" بأناني ة المص لحة‪ .‬ض من ه ذا‬

‫‪ -117‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.40‬‬


‫‪ -118‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.61‬‬

‫‪50‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫مرة أخرى أننا‬


‫تحج ر قلوب البرجوازيين وسوء طباعهم التي تكشف ّ‬
‫الس ياق يمكن أن نالحظ ّ‬
‫ّ‬
‫أم ام توس يع لمفه ومي االغ تراب والتش يئة‪ ،‬ينبغي مع ه فهم ه ذا "التص ّير المعت ل" على ّأن ه نت اج‬
‫مؤسسات الدولة‬
‫والخاص ولتغلغل ّ‬
‫ّ‬ ‫لجهاز القمع والسيطرة الذي اخترق مجال اإلنسان العمومي‬
‫في التنظيم االجتم اعي وفي بني ة المجتم ع‪ ،‬وه و األم ر ال ذي ب دا واض حا في م ا أص بحت تعني ه‬
‫يتم به ا إدراك‬
‫كلم ة "إي ديولوجيا" من مع نى ودالل ة يفض يان إلى تعريفه ا على أنه ا "الكيفي ة ال تي ّ‬
‫الحوادث في العالم اليومي"‪.‬‬

‫ثم ة إذا م ا ينبغي للنق د أن يالمس ه‪ ،‬وه و يع اين م ا أص بحت علي ه الحي اة من اعتالل ال‬
‫ّ‬
‫يمكن تفسيره إال من جهة كونه شاهدا على هذا اإلغتراب والتشيئة‪ .‬ولع ّل ما صار إليه المرء‪،‬‬
‫‪119‬‬
‫نتيج ة اخ تراق أجه زة الدول ة‬ ‫ال ذي لم يع د بإمكان ه أن يتّخ ذ س كنا ب المعنى ال دقيق للكلم ة‬
‫ومؤسس اتها للحي اة الخاص ة ُيلزمن ا بض رورة الوق وف عن د عالق ة وس ائل اإلعالم بالدول ة‪ ،‬وه ذا‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫ومغترب وأن يحيا في ظل‬ ‫ٍ‬
‫ومتلف‬ ‫يتحول اإلنسان إلى كائن مفّ ٍ‬
‫قر‬ ‫المجهود الذي يبذل من أجل أن ّ‬
‫التش يئة‪ .‬فالحداث ة ال تي رفعت ش عار التن وير والتق دم إنم ا تكمن في مكنن ة العم ل والمجتم ع‬
‫يكيف وا أنفس هم م ع‬
‫معمم ة يس عى الن اس في ظله ا‪ ،‬إلى أن ّ‬
‫وإ خض اعهما ألنظم ة بيروقراطي ة ّ‬
‫إكراهاته ا ومطالبه ا ب ل ويض طرون من أج ل ذل ك إلى قم ع ط بيعتهم من دون أن يش عروا ب القمع‬
‫الذي يمارس عليهم‪.‬‬

‫"التصير المعتل"‬
‫ّ‬ ‫لقد بدا واضحا "آلدرنو" أن نقد اإلغتراب والتشيئة الذي شكل حقيقة هذا‬
‫الفوقي ة"‪ .‬فلقد بات واضحا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الماركسية بـ"البنية‬
‫ّ‬ ‫النظري ة‬
‫ّ‬ ‫يسمى في‬
‫ومادته ‪ ،‬ينبغي أن يستهدف ما ّ‬
‫ّ‬
‫الحتمي بس بب م ا تق وم ب ه‬
‫ّ‬ ‫أن وس ائل اإلعالم الجماهيري ة ق د ح الت دون أن يتّخ ذ الت اريخ مج راه‬
‫ّ‬
‫الس وق " وبرعاي ة "رأس الم ال االحتكاري‪ ،" 120‬وبتعزيز‬ ‫من إفساد عقول الجم اهير في "مجتم ع ّ‬
‫تمتد قبضتها إلى الجميع‪ ،‬فال أحد يمكن أن يفلت من سيطرتها حتى‬
‫دور "هذه الثقافة القامعة التي ّ‬
‫يتحولون بسهولة إلى أنصارها األكثر‬
‫"أولئك الذين لم تتركهم الثقافة القامعة يقتربون منها [ ف] ّ‬

‫‪ -119‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.66‬‬


‫‪ -120‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.78‬‬

‫‪51‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫فيتحولون إلى بضاعة ويظلون كما يشير إلى ذلك "آدرنو" "غرباء عن‬
‫ّ‬ ‫تعص با‪ 121.‬أما المشاهير‬
‫ّ‬
‫حيةً ألنفسهم كاألموات"‪.122‬‬
‫أنفسهم ال يفهمون عنها شيئا ويظلون باعتبارهم صورا ّ‬

‫‪ -121‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.91‬‬


‫‪ -122‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.167‬‬

‫‪52‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫‪ -4‬في ال ّنقد االتيقي أدبا صغيرا‬


‫إذا كان ما يشغل اهتمامنا في هذا المستوى من التحليل هو الوقوف على ما يضطلع به‬
‫‪123‬‬
‫االتيقي يشكّل‬ ‫أن هذا النقد‬
‫النقد عند "آدرنو" من مهمة اتيقية‪ ،‬فإنه ال نستطيع أن نغفل مع ذلك ّ‬
‫األس اس ال ذي نهض علي ه كت اب األدب الص غير من ال دفاع عن "األخالق الس لبية" ض د فك رة‬
‫يتحول إلى مشغل أخالقي‬
‫"األخالق الكلية"‪ ،‬فما يشغل "آدرنو" في هذا الكتاب هو أعمق من أن ّ‬
‫"بالمعنى الفلسفي والنسقي الدارج لألخالقية في الفلسفة الحديثة"‪.124‬‬
‫يتعين النق د االتيقي بم ا ه و إقب ال فلس في مغ اير يخت ار "آدرن و" أن‬
‫في ه ذا المق ام بال ذات ّ‬
‫جردة‪ ،‬ودعاويها الكاذبة‪،‬‬
‫يتّخذ منه مسلكا ومنهجا لفضح وتعرية خواء المنظومات األخالقية الم ّ‬
‫التي قُ ّدت على مقاس أولوية القانون األخالقي‪ ،‬والتي فشلت في بلورة منظوريةٍ اتيقية ق ادرة على‬
‫نق د تش وهات الحي اة ومس وخها وإ بط ال ك ل المش اريع األخالقي ة التنويري ة ال تي تح ّولت إلى س هام‬
‫حجب وخداع وتعمية وتأبيد للظلمة‪.‬‬
‫إن ربط النقد باالتيقا يجد عند "آدرنو" مشروعيته ووجاهته في تنزيل النقد تنزيال تاريخيا‬
‫ّ‬
‫التحرر من ك ّل أشكال النقد التنويري الذي لم يصرف لغاي ات‬
‫ّ‬ ‫يبعث على الفعل ويكون قادرا على‬
‫حريت ه ومص درا لش قائه وس بيال لعقلن ة‬
‫تنويري ة حقّ ة ب ل ك ان عنوان ا للخ داع وأداة لس لب اإلنس ان ّ‬
‫الهيمنة واالستغالل والخضوع‪.‬‬
‫تتحول الفلسفة إلى فلسفة اجتماعية ومن‬
‫إن ربط النقد باالتيقا هو ربط ُينجز من أجل أن ّ‬ ‫ّ‬
‫أج ل أن يك ون النق د االجتم اعي ليس نق د مثالي ا وال إثباتي ا ب ل مس لكا ومنهج ا إنس انيا يتخ ذ من‬
‫الضروري أن يُفهم ه ذا النقد االتيقي على ّأن ه انخراط في‬
‫ّ‬ ‫المجتم ع موضوعا له‪ .‬وقد يكون من‬
‫التطور التاريخي للتناقضات‪.‬‬
‫ّ‬

‫ب على الحاض ر في ك ل ج وانب نقص ه‬ ‫يقدم ه "آدرن و" يحت وي على ج انبين ‪ّ :‬أولهم ا نق د ينص ّ‬
‫‪ -‬النق د ال ذي ّ‬
‫‪123‬‬

‫تأم ل ذاتي للفكر أو عودة الفكر إلى ذاته‪ .‬فما يريده "آدرنو" في كتابه األدب‬
‫وتقدمه‪ ،‬وثانيهما نقد هو بالضرورة ّ‬
‫ّ‬
‫التشيء والقمع – هو محاولة إنقاذ الحقائق النسبية من تحت‬
‫ّ‬ ‫يشخص فيه كل أشكال‬
‫– الذي ّ‬ ‫الصغير‬
‫أنقاض الغايات الزائفة‪ ،‬والكتاب بهذا المعنى هو عامل تصحيح للتاريخ فهو ليس علما أساسيا بقدر ما هو مقاوم ة‬
‫الخضوع واإلستسالم‪.‬‬
‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.21‬‬ ‫‪124‬‬

‫‪53‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫يعم ل "آدرن و" من ذ نص االس تهالل على بل ورة مع الم ه ذا النق د االتيقي ال ذي يب دو أن‬
‫وضد ك ّل أشكال العدمي ة التي لحقت الوضع التاريخي‬
‫ّ‬ ‫بوصلته قد صُ ّوبت تجاه الحياة والذوات‬
‫لل ذات وم ا آل إلي ه مص يرها نتيج ة جمعن ة المجتم ع‪ ،‬و"أقنمت ه" على حس اب التجرب ة الفردي ة‬
‫وتضييق الخناق على "الفردنة"‪.‬‬
‫يقرر "آدرنو"‬
‫إ ّن مقام الذات هو المقام الذي سيكثّف حوله أدرنو هذا النقد االتيقي والذي ّ‬
‫وأن يع اين مح اوالت تص فية‬
‫التوغ ل في "المض مون المح ايث لألم ر" ّ‬
‫ّ‬ ‫يتقص د‬
‫ّ‬ ‫ّأن ه ينبغي أن‬
‫الفردي‪ .‬لهذا السبب ال يمكن فهم النقد إال باستدعاء كل أشكال التحليل االجتماعي والسيكولوجي‬
‫واالستطيقي التي تعتمد كسهام كشف وتعرية لعصر يشار إليه بوص فه عصر انحط اط الفرد‪،‬‬
‫إن‬
‫بمجرد معاينة الوضع الذي أصبح عليه المثقف في المهجر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ويمكن تعقب أثر هذا االنحطاط‬
‫جدا" يكشف بوضوح معاناة‬
‫بأن ه "مجال خاص ّ‬
‫هذا المجال الذي يشير إليه "آدرنو" منذ اإلهداء ّ‬
‫المهج ر ال تي ستش كل موض وعا للبحث في اس تقاللية المثق ف وخاص ة عالقت ه بالس لطة‬
‫ّ‬ ‫المثق ف‬
‫أن الم ال‬
‫القائمة‪ .‬لق د "ك ان آدرن و" واض حا من ذ "الش ذرة‪ "1‬ال تي خصّص ها "لمارس ال بروست" ّ‬
‫ك هذا الدور المشبوه الذي يمكن‬
‫يعري بال ش ّ‬
‫والتورط في عالقة مشبوهة ومريبة بالسلطة القائمة ّ‬
‫ّ‬
‫أن يضطلع به هؤالء المثقف ون من أجل كسب المال‪ .‬لكن هذا المال الذي صار إليه هذا المثقف‬
‫مادي ا ومن‬
‫الذي يطلق عليه "آدرنو" نعت "المحترف" ال يمكن أن يحجب وضعية من هو مستقل ّ‬
‫آث ر أن يك ون في منزل ة اله اوي على أن يك ون مثقّف ا وظيفي ا‪ ،‬مرن ا‪،‬مطيع ا و خادم ا لك ّل أش كال‬
‫تقسيم العمل‪.‬‬
‫هكذا يتبلور النقد االتيقي بما هو انخراط داخل الحياة التي يحياها اإلنسان وقد حرم من‬
‫أن األمر‬
‫ك ّل ما يمكنه من أن يكون مثقفا مستقال وملتزما بقضايا الحياة الحقيقية ال الزائفة‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫إم ا ب إلزام‬
‫يتعلّ ق بم داورة تص نعها حلق ات النظ ام وه و إخض اع الجم ع لمص لحة "النظ ام الق ائم" ّ‬
‫بأن يلعبوا "اللعبة" أو بإلقاء البعض خارج "اللعبة"‪.‬‬
‫بعضهم طوعا أو كرها ّ‬
‫إن النق د االتيقي يكش ف عن نفس ه في كت اب األدب الص غير‪ ،‬بم ا ه و رص د ومعاين ة‬
‫ّ‬
‫وتش خيص وتعقّب له ذا المج ال الخ اص ال ذي يمكن أن تَروي ه وض عية المثق ف من جه ة‪ ،‬وه و‬
‫بأن ه "انفت اح على‬
‫يعب ر عنه "آدرنو" ّ‬
‫فض ال عن ذل ك رص د وتش خيص لمج ال ع ام "تتجلى في ه ما ّ‬

‫‪54‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫‪125‬‬
‫هك ذا هي إذا معماري ة ه ذا الكت اب في نق دها للحي اة‬ ‫امت داد اجتم اعي وان تروبولوجي أوس ع"‬
‫المش ّوهة ال تي اخت ار "آدرن و" أن تع دل فيه ا الكتاب ة "العدس ة" فتفض ح ب ذلك تش ويهات الحي اة لكي‬
‫تخلُص من حيث "الغرض إلى الفلسفة"‪.126‬‬
‫حد عبارة "فرديناند كورنبرغر" التي‬
‫الرحال إلى هذه الحياة التي "ال تحيا" على ّ‬
‫شد ّ‬‫إن ّ‬
‫ّ‬
‫اختارها "آدرنو" لكي تكون عنوانا للجزء األول من كتابه األدب الصغير ترسم لنا خارج الكتابة‬
‫الفلس فية التقليدي ة والنمطي ة المش هدية الحي اة اليومي ة وعالقته ا بال ذات ال تي س تُجلي حقيق ة ه ذه‬
‫المزّي ف غ ير المس تنير‪ ،‬ب ل وحقيق ة عقلن ة حديث ة تق وم على‬
‫"الموض وعية الظلم اء" وه ذا التن وير ّ‬
‫السيطرة والهيمنة وتبحث عن شرعية فعالية االستحواذ على المجتمع بواسطة تقنية متطورة تقوم‬
‫على تقسيم العمل‪.‬‬
‫ولعلنا ال نجانب الحقيقة إذا ما قلنا أن األمر يقع كما وصف ذلك فيبر على "اتجاهين‬
‫عقلن ة من أس فل وعقلن ة من أعلى"‪ .127‬غ ير ّأنن ا ال نتع ّرض ه ا هن ا إلى ه ذا الت دقيق في الفع ل‬
‫ال ذي تمارس ه العقلن ة بغاي ة االنتب اه إلى التط ّورات ال تي لحقت المجتم ع في عص ر تغ ّولت في ه‬
‫الدافع الذي يجعل من هذا النقد اتيقيا بالمعنى الذي يقطع‬
‫التقنية‪ ،‬بل بغرض االنكباب على هذا ّ‬
‫ورط فعال في اإلنس انية المض طهدة وفي‬
‫في ه م ع أي ش كل من أش كال األخالقي ة المتعالي ة‪ ،‬ب ل ويت ّ‬
‫مسير‪.‬‬
‫بأنه عالم ّ‬
‫األول ّ‬
‫كنا قد أشرنا في الفصل ّ‬
‫عالم ّ‬
‫رب تركيب وتعقيد وتلبيس للحياة يمثل عند "آدرنو" نكتة النقد االتيقي عنده لذلك يمكن‬
‫ّ‬
‫"وي ؤثّر عن قناع ٍة وعن ال تزام بقض ايا‬
‫أن نؤ ّك د أن "آدرن و" ق د حس م في ك ّل نق د ي أتي من ع ٍل ُ‬
‫اإلنسانية الحقيقية‪ ،‬أن يكون النقد محايثا للحياة وأن يكون غرضه القبض على هذا التشويه‪ ،‬وهو‬
‫بص دد الفع ل والممارس ة‪ ،‬فال يك ون ب ذلك من ب ّد إزاء م ا يج ري س وى "الث ورة ض ّد" ه ذا العمى‬
‫يجمد القلوب"‪.‬‬
‫وضد التأمل الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫والظلمة والتعتيم‬
‫ليس من مهم ة له ذا النق د االتيقي غ ير الول وج في خض ّم ه ذه الحي اة لفض ح تش ويهاتها‬
‫والمجرد بل على سبيل النقد العملي الذي يجعل‬
‫ّ‬ ‫ومسوخاتها ال على سبيل النقد النظري المتعالي‬
‫من الفلس فة‪ ،‬كم ا يش ير إلى ذل ك "آدرن و"‪ ،‬فلس فةً "أخ يرةً" "لعلّه ا تك ون ب ذلك "فلس فة المجتم ع" كم ا‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.33‬‬ ‫‪125‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.33‬‬ ‫‪126‬‬

‫‪ -‬العلم والتقنية كإيديولوجيا‪ ،‬ص‪.64‬‬ ‫‪127‬‬

‫‪55‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ن ادت ب ذلك المدرس ة النقدي ة ال تي اتخ ذت لنق دها إط ارا مرجعي ا اق ترن بكت اب النظريــة التقليديــة‬
‫سيما مقالت ه التي اتخ ذت عنوان "في النظري ة‬
‫والنظرية النقدية لهوركه ايمر بمقاالت ه الخمس وال ّ‬
‫لتوج ه فكري حادث لم يعد‬
‫التقليدية والنظرية النقدية" والتي كانت بمثابة البيان الفلسفي والعلمي ّ‬
‫النظ ري في العلم ب ل أخ ذ يض ع‬
‫نن"الدوكس ية" الدارج ة في الفك ر وال بعمى التخص ص ّ‬
‫ّ‬ ‫يس لم بالس‬
‫حد ذاتها ومن حيث صلتها بالممارسة االجتماعية‪ ،‬موضع سؤال"‪.128‬‬
‫فكرة الفلسفة في ّ‬
‫تعين موقعه من‬
‫والخاصية الجوهرية التي ّ‬
‫ّ‬ ‫السمة‬
‫تعد االتيقا في سياقه ّ‬
‫ّإنه نقد مغاير إذا‪ّ ،‬‬
‫المهم ة التي ُأنيطت بعهدته والمسلك والمنهج الذي سيتّخذه‪ ،‬بل وتكشف عالقته‬
‫ّ‬ ‫الحياة‪ ،‬وتضبط‬
‫أن معاين ة ه ذا النق د‬
‫اص‪ .‬ويب دو مم ا أس لفنا ذك ره ّ‬
‫ب الفكر النق دي عموم ا وبالماركس ية بش كل خ ّ‬
‫النظرية‬
‫توجها جديدا في الفلسفة هو معاينة للفلسفة ذاتها‪ ،‬وقد خلعت عنها مظلة ّ‬
‫االتيقي بوصفه ّ‬
‫المزيفة والمظلّلة‪ .‬وقد اختار كتاب األدب الصغير أن يخترق بواسطة هذا النقد‬
‫ّ‬ ‫التقليدية وعناوينها‬
‫االتيقي أزم ة "كري زيس" هي من االتس اع واالمت داد م ا يجع ل منه ا عنوان ا فاض حا لبربري ة‪ ،‬هي‬
‫مشوهة‪.‬‬
‫فتحولها إلى إنسانية مضطهدة وإ لى حياة ّ‬
‫األشد ظلمة‪ ،‬تط ّل على اإلنسانية وعلى الحياة ّ‬
‫ّ‬
‫هكذا هو حال الحياة في هذه الموضوعية الظلماء وهو األمر الذي يجعل من كتاب األدب الصغير‬
‫تشخيصا فلسفيا نقديا "لما هو كائن بالفعل بكل تشويهاته ومسوخاته ومعاودة إنتاجه التاريخي"‪.129‬‬

‫ّإنه امتحان وتمرين نقدي للوقوف على جهوزية الفكر واقتداراته على"مواجهة ما هو قائم وتعرية‬
‫‪130‬‬
‫أشكال تأييد سلطته""‪.‬‬
‫إن النقد االتيقي هو من صميم الفعل والممارسة وهذا األمر يرفع عن صاحبه شبهة ّأن ه‬
‫ّ‬
‫يعيش في "برجه العاجي" بل ويرفع عن النقد ذاته شبهة التعالي والتجريد ويجعل النقد يجري في‬
‫عب رت عنه ا‬
‫ف عن أن تك ون عاكس ة لمعان اة ه ذه اإلنس انية ال تي ّ‬
‫ص يرورات الحي اة ال تي ال تك ّ‬
‫المنافي والمعتقالت‪ .‬ولقد عاين "آدرنو" هذه المعاناة في الشذرة ‪ 33‬التي تمكنت من الوقوف عند‬
‫وتم اختزاله ا في دائ رة "كس ب األم وال"‬
‫أه وال الح رب ال تي تح ّولت إلى مس ألة "أم وال وأعم ال" ّ‬
‫أن النقد عن د‬
‫إن ما ينبغي االنتباه إليه ّ‬
‫"ثمة تدميرها"‪ّ .‬‬
‫والترويج آلليات االستحواذ على الحياة ومن ّ‬

‫‪ -128‬النظرية التقليدية والنظرية النقدية‪ ،‬ص‪.6‬‬


‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.16‬‬ ‫‪129‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.16‬‬ ‫‪130‬‬

‫‪56‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ليمتد إلى ما يحاك من قبل السياسيين والعسكريين‪،‬‬


‫"آدرنو" نقد شامل وجذري ُيفتح على أوساعه‪ّ ،‬‬
‫ب التواطؤ م ع أص حاب الم ال واألعم ال‪ ،‬ض ّد اإلنس انية على مس توى ك وني وع المي‪ ،‬ب ذلك يمت ّد‬
‫المدمرة العالم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جغرافيا إلى ك ّل أنحاء العالم راصدا كيف تجتاح آلية الحرب‬
‫أن مايظهر هاهنا بوصفه مشغال نقديا اتيقيا هو التساؤل ‪ :‬كيف تمثّل الكتابة الفلسفية‬
‫غير ّ‬
‫في الح رب لحظ ة فارق ة للكتاب ة في اله ول والكارث ة؟ وكي ف نجع ل من الح رب س ردية فلس فية‬
‫أن أكثر‬
‫تنتمي إلى س رديات الحي اة المش ّوهة وتدرك على أساس ها ته افت دع اوة التنوير؟ غ ير ّ‬
‫األس ئلة إرباكا بالنس بة إلى ه ذا الفك ر النّق دي ه و كي ف يمكن أن يك ون زمن السّرد متس اوقا م ع‬
‫زمن موض وعه أي زمن الح رب ؟ وما إذا ك ان النّق د ق ادرا فعال على تحقي ق مقص ده وغرضه‬
‫االتيقي ؟‬

‫ولعلّنا نالحظ أيضا كيف اختار "آدرنو" أن يذيل هذه الشذرة وأن يربطها بزمن كتابتها‪،‬‬
‫وهو خريف ‪ ،1944‬بطريقة تذ ّكرنا بكتابة الم ّذكرات‪ ،‬حيث تحتاج الكتابة في الحرب‪ ،‬توثيقا يجد‬
‫فيه الفيلسوف مدخال لس ردية فلسفية نقدية‪ ،‬تواجه س رديات الخطاب اإلشهاري ووسائل اإلعالم‬
‫الجماهيري التي تلتقي أهدافها مع "لعبة الغباء المبرمج"‪ .‬ساعتها يمكن أن ندرك أن خريف وسنة‬
‫يعب ر عن وضع إنساني صعب يقع اختباره على‬
‫التواريخ المثقلة بالرموز‪ ،‬إذ ّ‬
‫‪1944‬هوأحد أهمّ ّ‬
‫تقد‬
‫قاعدة "الحياة التحيا" لذلك تش ّكل إحداثية ‪ "1944‬و إحداثية "الحياة ال تحيا" معا استنباتا إلتيقا ّ‬
‫من الحياة الراهنة وتحدث على وقع آلة الحرب العمياء بواسطة" طائرات نادرا ما ال تذكر أسماء‬
‫‪131‬‬
‫وهي تمثّ ل في نفس ال وقت "آلي ات مع اودة إنت اج الحي اة واالس تحواذ عليه ا‬ ‫مص انعها"‬
‫وتدميرها هي هي"‪.132‬‬

‫ها هنا يجد النقد تعبيراته القصوى‪ ،‬فال وجود لما هو أقسى على الفكر النقدي من معالجة‬
‫ماشوهته مكنة الحرب‪ ،‬وماأصبح البحث فيه يعادل هذا الذي هو " فوق التجربة مثلما تسير اآللة‬
‫ّ‬
‫فوق حركات الجسم الذي ال يشبهها إال حين يصاب بالمرض"‪ .133‬إن نقدا يالمس مأساة اإلنسانية‬
‫ب‪،‬ويع اين في فلكه ا‬
‫ُ‬ ‫المض طهدة ال تي تع اني ك ل أش كال القت ل والتهجير والنفي‪،‬وك ل ج رائم الح ر‬

‫‪ -131‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.93‬‬


‫‪ -132‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ -133‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.94‬‬

‫‪57‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫مايحدث في "أوشفيتز" من إبادة عرقيه‪ ،‬بوسعه أن يستوعب ماهو ليس واردا التفكير فيه من قبل‬
‫هذه العقالنية الغربية التي تدفع اإلنسانية إلى العدمية والبربرية‪ .‬اليمكن إذا فهم هذا النقد إاّل على‬
‫ض وء م ايمكن أن يقدّم ه األدب الص غير من حيث ه و علم ح زين فيك ون ب ذلك نق دا س لبيا غرض ا‬
‫ومسلكا ومنهجا‪.‬‬
‫أن م ا يروي ه من أه وال الح رب يوش ك أن يك ون من ص ميم النق د ب ل‬
‫ي درك إذا "آدرن و" ّ‬
‫ومن أنبل مهامه إذ ال يمكن أن يتعاطى الفيلسوف مع الحرب على جهة الالمباالة أو على سبيل‬
‫تزيي ف الحقائق واالنخ راط في مغالط ة اإلنس انية والترويج للح رب على أنها إعادة إعم ار العالم‬
‫ألن الواقع الفعلي ال يترك للنقد‬
‫واإلنسانية‪ .‬وقد يكون من الصعب الكتابة في هذا الغرض نظرا ّ‬
‫فرص ة اس تجالء األم ر وفهم ه‪ ،‬ونظ را لع دم وج ود س ابقة زمني ة تفص ل الكتاب ة عن زمن وق وع‬
‫الح رب لكن "آدرن و" يخت ار أن يرص د وق ع ه ذه الح رب على الحي اة وهي بص دد االش تغال‪ .‬فلق د‬
‫تحولت الحياة إلى "سلسلة غير زمنية من الصدمات تتخللها فجوات متسعة وفواصل شاسعة"‪.134‬‬
‫ّ‬
‫لذلك يعتبر "آدرنو" أن اإلنسانية تُقبِ ل على مستقبل هو من الهول ما يجعل منه يتصادى‬
‫مع ما كتبه "كارل كراوس" بعنوان "األيام األخيرة لإلنسانية"‪ .135‬تلك هي مسحة أخرى من هذا‬
‫المقبل‪ ،‬إلى شيء ما‬
‫يتوغ ل في حاضر اإلنسانية فاتحا المجال للنظر إلى هذا ُ‬
‫النقد االتيقي الذي ّ‬
‫مس تقبلي‪ ،‬تس قط في ه ك ل ش عارات اإلنس انية لفائدة "مكن ة الت دمير والتض ليل والخ داع"‪ّ .‬بين إذا أن‬
‫النق د االتيقي ه و نق د تق دمي لكنبش رط أن نفهم التق ّدم ال ذي تعيش ه اإلنس انية في عص ر انحط اط‬
‫تتهدد في كل لحظ عين بأن تحدث"‪،‬‬
‫تقدم إلى االنحطاط والتالشي والكارثة التي " ّ‬
‫الفرد على ّأنه ّ‬
‫تتفع ل في مج رى‬
‫والتي ُتستوعب داخل ما تشير إليه الفلسفة النقدية بوصفه "موضوعية ظلماء"‪ّ ،‬‬
‫التاريخ فتك ون ب ذلك فاع ل تش ويه ومس خ للحي اة‪ .‬فالكارثي إذا‪ ،‬ينتمي إلى واق ع ح ال ه و واق ع‬
‫الموضوعية الظلماء‪.‬‬

‫وليكن من على بال ما لهذا النقد االتيقي من طرافة وف رادة تجعل منه س ردية نقدية لهذه‬
‫الموض وعية الظلم اء‪ ،‬ال تي تُ درك على أنها الج انب المظلم في اإلنس انية ‪،‬ال ذي تع ّد البربري ة‬
‫خاص يته األساس ية‪ ،‬الكامن ة في م اتزعم معقولي ة التقدّم واألن وار‪ ،‬بأن ه إنس اني وحق وقي ل ذلك‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.94‬‬ ‫‪134‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.94‬‬ ‫‪135‬‬

‫‪58‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫يس تهدف النق د االتيقي بم ا ه و أدب ص غير ه ذا العق ل الحام ل للكارث ة مس تهدفا ب ذلك أقنعت ه‪ ،‬فق د‬
‫أن الكارثي عند " آدرنو"‬
‫تحول إلى فاعل تشويه وتصفية للحياة‪ .‬لذلك يمكن أن نذهب إلى اعتبار ّ‬
‫إن النقد‬
‫هو من قبيل تلك الموضوعية الظلماء التي تجعل من التشاؤم سمة هذا التفكير النقدي‪ّ .‬‬
‫إذا يفض ح ه ذا المص ير ال ذي ال يبعث على التف اؤل ب ل يف رض على الفكر أن يكون متشائما إلى‬
‫الحد الذي يمكن أن نرصد معه ال فقط ما حدث للعالم بل هذا الذي يحدث اآلن ّإن ه "ما بعد نهاية‬
‫ّ‬
‫العالم"‪.136‬‬

‫يع رض لهذه الحياة‬


‫منكب ة عما ْ‬
‫تلك هي إذا بعض أغراض النقد التي تبدو بوضوح أنها ّ‬
‫من إش كاالت ش تى من التش ّوه والعج ز‪ .‬ولع ّل واق ع الح رب ال ذي يمث ل الوض عية القص وى له ذه‬
‫الحي اة المش ّوهة‪ ،‬يش ّكل بال ريب م رآة فاض حة لعق ل ح داثي س لطوي ملطّخ بال ّدماء‪ ،‬وبأش الء‬
‫الجثث‪ ،‬وبآث ار ال دمار ال ذي تخلّف ه ال دبابات والط ائرات والص واريخ‪ ،‬ويبحث من خالله ا أرب اب‬
‫وعرابوها عن التالعب "بالرأي العام"‪ .‬ولعله لهذا السبب ال يمكن أن يتخلّى المثقف عن‬
‫الحرب ّ‬
‫عما ينبغي فعله‪ .‬لذلك‬
‫دوره وعن مسؤوليته‪ .‬فال يمكن أن يكون مستقال "عما يحدث وال مستقيال" ّ‬
‫يكون من مهمة النقد األساسية فضح هذه التجربة التي يصفها "أدرنو" بالتجربة "المجفّفة والفراغ‬
‫الحاصل بين البشر وقدرهم المحتوم‪ ،‬أعني الفراغ الذي يظل فيه القدر بالداللة الدقيقة للكلمة أمرا‬
‫قائم ا"‪ .137‬وال يج د "آدرن و" للبش ر وص فا أبل غ من تص ويرهم على أنهم يظه رون وك أنهم "يمثل ون‬
‫في فيلم وث ائقي م رعب لم يع د ثم ة من يش اهده ألن ه يتحتّم على آخ رهم أن يش ارك على‬
‫الشاشة"‪.138‬‬
‫جلي والح ال تل ك أن ي ؤول ه ذا النق د االتيقي عن د "آدرن و" إلى الخ وض في ه ذه الحي اة‬
‫ّ‬
‫مكب رة لم ا يج ري له ذه‬
‫الش ذرية ال تي تتح ول إلى عدس ة ّ‬‫المش ّوهة‪ ،‬لكن وف ق مقتض يات الكتاب ة ّ‬
‫اإلنس انية‪ .‬إن الكتاب ة والحي اة س ّيان‪ ،‬ش يء واح د ال ينفص ل وال يج وز أن نقيم بينهم ا الفواص ل‬
‫والمسافات‪ .‬لذلك يكشف هذا النقد كل الجهات التي تقف وراء هذه "الحرب العجيبة" "التي مثلت‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.94‬‬ ‫‪136‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.94‬‬ ‫‪137‬‬

‫‪ -138‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.95‬‬

‫‪59‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫مجرد "دعاية"‬
‫بوق دعاية للفاشية" التي تح اول إنك ار واق ع الجرائم المرتكبة واص فة ّإياها بأنه ا ّ‬
‫أي معارضة"‪.139‬‬
‫تهدف إلى القيام بتلك ال ّشناعات من دون ّ‬
‫ورط في ش بهة‬
‫إن النق د االتيقي ه و إذا نق د ت اريخي وليس تأريخاني ا‪ .‬فه و نق د ال يت ّ‬
‫ّ‬
‫البلي ة" وليس ل ه أن يص ّور ه ذه الح رب على أنه ا تحم ل تن ويرا مقبال وتع د‬
‫المس اهمة في "وق وع ّ‬
‫يفن د" آدرن و" فلس فة "هيغ ل" وعبارت ه الش هيرة ال تي قاله ا في‬
‫بانتص ار العق ل اإلنس اني ل ذلك ّ‬
‫"بون ابرت" في معارض ة بليغ ة وعميق ة "لق د رأيت روح الع الم ال على ج واد ب ل على أجنح ة‬
‫الصواريخ ومن دون رأس"‪.140‬‬
‫هكذا هو األمر حينما يتعلّ ق بنقد الحرب ونقد خلفياتها الفكرية والفلسفية الفاشيستية‪ .‬فال‬
‫تربوا في مدارس فلسفية تقوم على تبرير ما هو قائم وعقلنة ما‬
‫يمكن أن يقوى على هذا النقد من ّ‬
‫إن ك ّل األسئلة التي تلقى على هذه الحرب حتى تلك‬
‫ألن ه يمثّ ل الإلنساني‪ّ .‬‬
‫هو ممتنع عن العقلنة ّ‬
‫أن "ما بعد الحرب " لن يكون لصالح الثقافة وال لبنائها‪ّ ،‬إن ه‬
‫التي تبحث في مستقبل الثقافة تكشف ّ‬
‫تحوال بخطى حثيثة إلى البربرية"‪.‬‬
‫يمثّل ّ‬
‫تحول إلى كارثة تكون فيها جميع األمم " ذاتا بال ذاتية"‪ 141.‬ها هنا يؤ ّك د "آدرنو"‬ ‫ّإنه المقبل وقد ّ‬
‫مدم ِرين"‪.142‬‬
‫مدمر بقدر ما يكون الناس الذين ينضجونه ّ‬
‫أن "منطق التاريخ ّ‬
‫إن النقد االتيقي يش ّكل إذا عند" آدرنو"‪ ،‬تجربة في هذا الذي حطّمته الحرب وهو محاولة‬
‫ّ‬
‫‪143‬‬
‫يعد ه ذا السؤال ش اهدا على هذا‬
‫اإلجاب ة عن سؤال ماذا ينبغي أن تفع ل بألماني ا المهزومة ؟ ‪ّ .‬‬
‫النقد االتيقي الذي ال يجري خارج نطاق صاحبه‪ ،‬إن النقد وصاحبه واقعة واحدة لذلك نقف عند‬
‫إن معرك ة النق د‬
‫هم وم" آدرن و" النقدي ة في بع دها الشخص ي والمحلي (ألماني ا) والك وني (الع الم) ّ‬
‫ليست إذا على شاكلة المعارك التي تثار من أجل الترف الفكري بل هي معركة وجود ومصير‬
‫وهي معرك ة ال ذات ال تي لم تع د "ذات ا" و"الحي اة ال تي ال تحي ا"‪ .‬فهي ب ذلك معرك ة يق ع عركه ا من‬
‫تجربة ذاتية منفتحة على العالم بأسره‪ ،‬فهي تجربة يتضايف فيها المجال الخاص بالمجال العام‪،‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.95‬‬ ‫‪139‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬صص‪.96-95‬‬ ‫‪140‬‬

‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.96‬‬ ‫‪141‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.97‬‬ ‫‪142‬‬

‫‪143‬‬

‫‪60‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫الش ميلة ال تي تؤلّ ف بين‬


‫ويتق اطع فيه ا الف ردي بالجم اعي‪ ،‬تقاطع ا ال يمكن أن يك ون على ش اكلة ّ‬
‫الجزئي والكلّي لكي تستحوذ على الفردي‪.‬‬
‫والفن‪ ،‬ولع ّل أغراضه وموضوعاته تأبى‬
‫ّ‬ ‫إن النقد االتيقي هو نقد للثقافة والفكر والفلسفة‬
‫ّ‬
‫تدار على أساسها معركة‬
‫أن تختزل في منتج ومنجز واحد للعقل‪ ،‬لكي ترسم شبكة العالقات التي ُ‬
‫إم ا على ش اكلة الثقاف ة الرائج ة ال تي تتح الف م ع النازي ة أو على س بيل أي ديولوجيا ثقافي ة‬
‫الثقاف ة ّ‬
‫إن شبكة العالقات هذه تفضح المسار الذي قطعته الثقاف ة‬
‫تسعى إلى فرض هيمنتها على المجتمع‪ّ .‬‬
‫يصرح "آدرنو" بال مواربة في الشذرة‪35‬‬ ‫ّ‬ ‫تتحول إلى أيديولوجيا قمع وهيمنة وتبرير‪ ،‬لذلك‬‫لكي ّ‬
‫النازي ة"‪ .‬فال ّشخص يات الملتبس ة من مث ل "ف االدا" ك انت تق ول‬
‫مطبع ة م ع ّ‬
‫بوج ود "فاش ية ثقافي ة " ّ‬
‫الحقيق ة تحت راي ة هتل ر أك ثر من الشخص يات المرموق ة والواض حة ال تي أفلحت في اس تثمار‬
‫الخطوة التي كانت تتمتّع بها"‪ .144‬لكن "آدرنو" ال يكتفي بهذا النقد بل يوغل فيه بعيدا أين تتهافت‬
‫دمره ا‬
‫أن مه اجمتهم للثقاف ة األلماني ة ال تي ّ‬
‫دع اوى معارض ي هتل ر ال ذين يؤ ّك د "آدرن و" على ّ‬
‫هتل ر"ليس ت إالّ حيل ة دعائي ة يس تخدمها أولئ ك ال ذين يري دون إع ادة بن اء تل ك الثقاف ة بواس طة‬
‫هواتفهم"‪.145‬‬
‫ولعلّ ه على س بيل اإلمس اك به ذا النق د االتيقي يمكن أن نالح ظ "آدرن و" يخ ترق التص ّور‬
‫تحول فيه النقد إلى أداة تبرير للقمع واالضطهاد‪ ،‬بل واستُعمل كوسيلة‬
‫التنويري والحداثي‪ ،‬الذي ّ‬
‫أن "آدرنو" يراهن على اختراق وخرق هذا‬‫لتشويه الحياة واضطهاد اإلنسانية‪ .‬إن ما هو واضح ّ‬
‫ألن ه‬
‫النقد خرقا لسننه الدارجة والمألوفة‪ ،‬وتَْعِر َي ة لزيف بنائه النظري التقليدي‪ ،‬وفضحا لدعاويه ّ‬
‫ٍ‬
‫عالقة بنقد أوهام التنوير والحداثة والعقالنية الغربية‬ ‫نقديا ما‪ ،‬ينبغي أن ُينجز في‬
‫أن عمال ّ‬
‫يدرك ّ‬
‫ضد ما يحدث للحياة من تشويه ومسخ من دون أن يلتمس بذلك‬
‫وبتمكين الفكر من تجريب النقد ّ‬
‫الوص ول إلى ش يء مغلق ونه ائي‪ .‬ب ذلك فقط يق ال على "آدرنو" "إنه سقراط الذي سيكون كتب‬
‫في اإلنسانية والحياة"‪.146‬‬
‫ّإنن ا نع اين إذا نق دا غ ير مس بوق‪ .‬ولعلّ ه نق د يمكن أن ن درك مع ه م ا يمكن أن ينتظ ر‬
‫أشد إيالما‪،‬‬
‫اإلنسانية من أهوال هي أهوال الحاضر والمستقبل‪ ،‬الذي يشي بما هو أخطر وما هو ّ‬

‫‪ -144‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.100‬‬


‫‪ -145‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.99‬‬
‫‪ -146‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.9‬‬

‫‪61‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫بأن نخوض التجربة ‪ :‬تجربة ما تعانيه‬


‫وتوغال في معاناة هذه اإلنسانية‪ ،‬ولقد أمكن مع "آدرنو" ّ‬
‫ّ‬
‫مرة لكي‬
‫تشوه ومسخ عبر هذه الشذرات التي تنتقل في ك ّل ّ‬
‫اإلنسانية من اضطهاد‪ ،‬والحياة من ّ‬
‫تستهدف دعاوى االتساق الظاهر للفكر‪ ،‬ولكي تنتفض على السذاجة وتثور على ك ّل إرادة تحاول‬
‫تركيع الفكر وإ لزامه بأن "يخدم ك ّل قبيح"‪.147‬‬
‫لقد أراد "آدرنو" أن يكشف على مستوى ال ّشذرة‪ 36‬هذه المعارك الوهمية‪ ،‬التي يدفع إليها‬
‫الفك ر لكي يبقى بعي دا عن م ا يج ري فعال للحي اة ولكي ال ينفُ َذ داخ ل ه ذا الت وتّر ال ذي يعم ل في‬
‫"بالس البية"‬
‫والتشوه وال يقدر على التس لّح ّ‬
‫ّ‬ ‫"التحوالت التاريخية"‪ 148‬فيصيبه العجز والوهن‬
‫ّ‬ ‫صلب‬
‫لخوض معارك النقد الحقيقية‪ .‬فالنقد االتيقي ال يتحقق إال خارج فلك مبدأ الهوية والتطابق‪ّ ،‬إن ه‬
‫"والمهم ة التي‬
‫ّ‬ ‫نقد ُندرك من خالله ما يعنيه "آدرنو" من عنوان ال ّشذرة ‪" 36‬من أجل أخالق الفكر‬
‫يستحث إليها الفكر" لكي يحمل بذلك واجب البحث في الجدلية السلبية كما هو الحال في "األخالق‬
‫التوغ ل بعيدا في هذه التناقضات الموضوعية‪ .‬من أجل ذلك كانت‬
‫ّ‬ ‫السلبية" ولكي يتم ّكن النقد من‬
‫تورطه داخل األخالق الكلية واإلثباتية‪ ،‬وهو‬
‫"السلبية" عنوانا جريئا يدفع عن هذا النقد كل شبهة ّ‬
‫أن‬
‫يمثّ ل فض ال عن ذل ك محاول ة إلع دام ك ل "هوي ة متماس كة ومكين ة"‪ .‬ل ذلك يمكن أن نؤ ّك د ّ‬
‫المكون األساس لهذا النقد إلى جانب العقل والتوسيط‪ ،‬تفعل فعلها الفاضح‬
‫ّ‬ ‫"الس البية" التي تش ّكل‬
‫ّ‬
‫لهذا العقل التنويري من دون أن تصاب باليأس من العقل الذي يمثّ ل عند "آدرنو" "سهم خالص‬
‫وتح ّرر ش ريطة أال ينظ ر إلي ه في نط اق ذل ك اإلثب ات األعمى للعق ل كقيم ة تنويري ة مطلق ة"‪.149‬‬
‫هاهن ا فق ط يص بح النق د االتيقي أدب ا ص غيرا وعنوان ا ألخالق س لبية تتج ّرأ على التفك ير خ ارج‬
‫وتفض ل الوق وف عن د م ا يج ري تحويل ه في تص ايير الع الم واألش ياء"‬
‫ّ‬ ‫س ياقات "الفلس فة األولى"‬
‫وعندما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة من حيث هي فلسفة أخيرة‪.‬‬
‫ويحول ما أعدمته النظرية التقليدية وما أرادت حجبه‬
‫ّ‬ ‫إن النقد االتيقي عند "آدرنو" يرفع‬
‫ّ‬
‫جدي وفعلي في التاريخ وفي ك ّل ما يمكن أن‬
‫بمنطق عقل تبريري‪ ،‬وهو نقد ينبثق عن انخراط ّ‬
‫يعرض لإلنسانية وهي تصارع هذه التناقض ات التي تش ّكل السمة الجوهرية لهذا التاريخ ولهذا‬
‫المنقلب الذي آلت إليه اإلنسانية المضطهدة‪.‬‬

‫‪ -147‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.126‬‬


‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.10‬‬ ‫‪148‬‬

‫‪ -‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.9‬‬ ‫‪149‬‬

‫‪62‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫من ا على ب ال أن كت اب األدب الصــغير من حيث ّأن ه كت اب في النق د‪ ،‬ال يمكن أن‬
‫وليكن ّ‬
‫تنس ل من‬
‫يك ون إالّ فع ل مواجه ة ومقارع ة لك ّل مح اوالت تحوي ل الحي اة إلى إي ديولوجيا‪ُ ،‬‬
‫والمتجرد‬
‫ّ‬ ‫المجرد‬
‫ّ‬ ‫المحاوالت التي تعمل على تحقيق مؤالفة بين الكلّي والجزئي لصالح المفهوم‬
‫‪150‬‬
‫ثم ة ي أتي تأكي د "آدرن و" على "التوس يط" وعلى إيالء األهمي ة ال تي تجع ل من ه‬
‫من الف رد" ‪ .‬ومن ّ‬
‫الزمة من لوازم التفكير الرافض للتعامل مع العالم واألشياء بشكل أرعن ومباشر‪.151‬‬
‫ويب دو والح ال تل ك من امتن اع للتفك ير في الحي اة دون التس لّح بنق د يق ع تفعيل ه من خالل‬
‫أن "آدرن و" ي دفع بالنق د إلى أقص اه الس تجالء ج دليات التن اقض‬
‫"والتوس ط" "والعق ل"‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫"الس البية"‬
‫ّ‬
‫تتفعل في صلب مجرى الحياة"‪.152‬‬
‫المفتوح التي ّ‬
‫ذل ك أم ر م ا ك ان ل ه أن يتحقّ ق من دون نق د للفك ر وفض ح "وهم المثالي ة" ال تي "ت ؤقنم‬
‫المفاهيم"‪ ،153‬التي تتمادى في اإلقرار بأولوية الكلي بالنسبة إلى الجزئي وهو في حقيقة األمر نقد‬
‫يضع في صلب مهامه البحث في عالقة الفردي بالكلي لكن ال على سبيل اإلدراج‪.‬‬
‫األول ال ذي اخت ار ل ه "آدرن و" عب ارة‬
‫إن التص ادي ال ذي نع اين أث ره بين عن وان الج زء ّ‬
‫ّ‬
‫"الحياة ال تحيا" وبين شذراته الخمسين‪ ،‬تقف بنا عند حقيقة هذه الفلسفة النقدية الني جاءت على‬
‫تشوه وعوز‪،‬‬ ‫شكل شذرات من األلم والغضب والعلم الحزين‪ :‬ألما يعكس ما آلت إليه الحياة من ّ‬
‫وغض با من أج ل ه ذه ال ذات "ال تي لم تع د ذات ا" وعلم ا حزين ا يح اول "آدرن و" بفض له التلفّت له ذا‬
‫كارثي صار إليه "مجالها الخاص"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أي منقلب‬
‫الذي على الفلسفة أن تقوم به وهي تالحظ ّ‬
‫وإ ن ك ان مق ام النظ ر في النق د االتيقي‪ ،‬مقام ا ينش أ عن ض رورة فلس فية وأنثروبولوجي ة‬
‫تصير مجنون هو‬
‫تتعلق باألولي فيه بالسؤال عما يمكن أن تحتفظ به الفلسفة لنفسها ولذاتها‪ ،‬في ّ‬
‫في الحقيق ة تص ّير الفلس فة ذاته ا‪ ،‬حينم ا يص ير ك ل ش يء معتالّ‪ .‬في حين تنش أ الثاني ة عن تص ّير‬
‫يجري في صلب التاريخ مجرى الطامة التي يرفع القلم فيها عن الكتابة‪ ،‬فيغدو الباحث في هذا‬
‫يتلمس إقباال فلسفيا داخل هذا الحطام الذي صار إليه اإلنسان والحياة والفلسفة‪.‬‬
‫الباب كمن ّ‬

‫‪ -‬نظرية استطيقية‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.9‬‬ ‫‪150‬‬

‫‪ -151‬نظرية استطيقية‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.9‬‬


‫‪-152‬م‪.‬ن‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫‪ -153‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص‪.12‬‬

‫‪63‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ربم ا ك ان اإلقب ال على عالم ات اإلن ذار‪ -‬تل ك ال تي تق ع من الفك ر موق ع الموض وعية‬
‫التصير من باب اإلمعان في تعطيل قدرة الذات على التفكير وان بلغة‬
‫ّ‬ ‫الظلماء التي يكون فيها‬
‫‪154‬‬
‫‪ -‬ما يدفع كتاب األدب الصغير‬ ‫متلعثمة‪ ،‬وتقع من الحياة موقع "العذاب الالمتناهي لالحتضار"‬
‫من أن يكون" نقدا اتيقيا"‪.‬‬

‫راهني يأخذ ما‬


‫ّ‬ ‫إن غاية المرام من هكذا نقد هو أن يد ّشن الفكر ما يكون شاهدا على فكر‬
‫يص ير للفلس فة وللع الم واإلنس ان مأخ ذ الج د‪ ،‬ويح وز ب ذلك س بق التفك ير في الواقع ة المعاص رة‬
‫األكثر إرباكا في حياة اإلنسان‪ ،‬ومن أجل تشخيص النهاية بل وما بعد النهاية‪.‬‬

‫إن النقد االتيقي يالمس إذا ما لم يتجرأ عليه التفكير‪ ،‬من حيث هو تفكير يقع وفق التقليد‬
‫ّ‬
‫الدارجة ويرسم أفقا للكتابة من أجل قول نقدي إتيقي يتعلم في سياقه الفكر كيف‬
‫والسنن ّ‬
‫الفلسفي ّ‬
‫تجتث عالقته بالحياة ؟‬
‫ّ‬ ‫يقرأ ؟ وكيف ينصت لما تحاول المعرفة التقليدية أن تخرس صوته وأن‬
‫وكيف تكون المقاومة نقدا إتيقيا ؟‬

‫الراهني ة ال تي تفهم هاهن ا ‪ ،‬من جه ة كونه ا م ا يحم ُل‬


‫ّ‬ ‫إن المس ألة إذا‪ ،‬تتعلّ ق بض رب من‬
‫ّ‬
‫على النظ ر فيم ا ُيف ترض ان ه في حكم "المهم ل المتص ّير"‪ ،‬وفي م ا آلت إلي ه "الفلس فة راهن ا" بع د‬
‫اهني ة‪ ،‬ه و أن نجع ل من النق د اإلتيقي كني ة‬
‫الر ّ‬‫تص ّير الع الم وتس يير الحي اة‪ .‬رأس األم ر في ه ذه ّ‬
‫السابق يدعى في نظر الفالسفة حياة‪ ،‬وفي هذا الذي يكون فيه اإلقبال من‬
‫الناظر في ما كان في ّ‬
‫باب تصريف النقد على نحو يكون فيه سالبا‪ .‬هكذا إذا يكون النقد اإلتيقي الزمة من لوازم األدب‬
‫إم ا أنه‬
‫الصغير‪ ،‬من حيث هو شأن هذه األخالقية السلبية‪ ،‬التي تكاد تكون منكورة في عصر‪ّ ،‬‬
‫إثباتية‪.‬‬
‫يجحدها على جهة التعريض بها أو أنه يزعم وصال بأخالق كلّية ّ‬

‫إن هذا الضرب من اإلبصار خارج سياقات النظر التقليدي ال يتحقّ ق إال بخرق واختراق‬
‫ّ‬
‫"التأملي هو نفسه الوجه األصيل‬
‫ّ‬ ‫التأمل الفلسفي حيث يصير‬
‫"األخالقية الحاقّة" على نحو من ّ‬
‫ّ‬ ‫هذه‬
‫الميتافيزيقي"‪.155‬‬
‫ّ‬ ‫من‬

‫‪ -154‬األدب الصغير‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.66‬‬


‫‪ -155‬هيجل ونهاية الميتافيزيقا‪ ،‬فتحي المسكيني‪ ،‬ص ‪.16‬‬

‫‪64‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫وإ ن ك ان رأس األم ر في ه ذا اإلبص ار‪ ،‬ه و اس تعادة م ا تدرك ه الفلس فة باعتب اره مس خا‬
‫وتش ويها وع وزا ونقص ا‪ ،‬أي البحث عن ه ذا ال ذي يك ون في ه أم ر الع ودة إلي ه‪ ،‬من خص ائص‬
‫سلبية ؟ وكيف يتش ّكل هذا النقد‬
‫النقدية‪ :‬فما الذي نعود إليه حينما نريد للنقد أن يكون إتيقا ّ‬
‫ّ‬ ‫الفلسفة‬
‫بض رب من المن اظرة والمعارض ة‪ ،‬رفع ا وتغي يرا لم ا ه و س ائد في م دارس النق د الحديث ة‬
‫والمعاصرة ؟‬
‫هك ذا إذا تك ون خط ة البحث في النق د اإلتيقي‪ ،‬ال ذي انص رف إلى تفص يله كت اب األدب‬
‫الصــغير‪ ،‬ه و من ب اب الع زم على م ا يجع ل من النق د اإلتيقي ذا طبيع ة مر ّكب ة‪ ،‬تق وم على ع رك‬
‫نظراني ة ودغمائية مطلقة‪ ،‬بل ومن أجل اختراق ماكر‬
‫ّ‬ ‫المفاهيم من أجل تحريرها من كل وثوقية‬
‫التقليدي ة وفي حدود ما يقتضيه‬
‫ّ‬ ‫يعي ُن مسلكه النقدي‪ ،‬في سياق ما تفضي إليه نقد النظرية‬
‫ومارق ّ‬
‫التماسف النقدي‪.‬‬
‫وأن ه ب ذلك ال‬
‫يجب م ا قبل ه‪ّ ،‬‬
‫أن النق د اإلتيقي ال ّ‬
‫إن م ا ينبغي إدراك ه من ه ذا اإلق رار‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫التقليدي ة وه و األم ر ال ذي يجعلن ا يعي د النظ ر في م ا يطل ق‬
‫ّ‬ ‫يس تهدف تحطيم ا وتقويض ا للنظري ة‬
‫البعديُّ"‪ ،156‬أو ما‬
‫القبلي و َ‬
‫ّ‬ ‫عليه "كنط" صفة النقد‪ ،‬من حيث هو ما يضطلع "بتصريف الفرق بين‬
‫دلي‬
‫يس ّميه "هيغ ل" " بالنق د األص يل" ومن حيث ه و من ص ميم المطل ق وبم ا ه و " التحري ر الج ّ‬
‫لمض امين الميتافيزيق ا "‪ ،157‬أو م ا خاض ت في ه الماركس ّية النقدي ة به دف إيالء النق د م ا يجعل ه‬
‫يتعين في‬
‫ماس ة ّ‬
‫ماديا‪ .‬وهذا ما يدعونا إلى اإلقرار بأنه توجد حاجة ّ‬
‫جديرا بأن يكون نقدا جدليا ّ‬
‫س ياقها النق د اإلي تيقي بوص فه المس ار والمس لك ال ذي علين ا أن نس لكه وذاك م ا يجع ل من ه س هم‬
‫تاريخي يستهدف "إرساء وضع عادل بين البشر"‪.158‬‬
‫ّ‬ ‫خالص وتغيير‬
‫يختار النقد اإليتيقي إذا مسلكه ومنهجه في سياق هذا الجهد الذي يكون االنخراط فيه من‬
‫زم ام االنخ راط النظ ري والعملي " نهج فك ري إنس اني"‪ .159‬إن غاي ة البحث في ه ذه المس ألة أن‬
‫نكشف هذا الذي يعود إليه النقد اإليتيقي جاعال منه نقدا وجيها ومقبوال وحاسما يتولّ د من خالله‬

‫‪ -156‬هيجل ونهاية الميتافيزيقا ‪ ،‬فتحي المسكيني‪ ،‬ص‪.21‬‬


‫‪ -‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪157‬‬

‫النقدية والنظرية التقليدية‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.21‬‬


‫ّ‬ ‫‪ -158‬النظرية‬
‫‪ -159‬م‪.‬ن‪ ،.‬ص‪.22‬‬

‫‪65‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫وتعين األفك ار واألعم ال ح تى في تل ك‬ ‫ص ورة مس ٍ‬


‫تقبل "تتولّ د بالفع ل عن فهم عمي ق للحاض ر ّ‬
‫الفترات التي يبدو فيها مجرى األشياء على أنه ينأى عن المستقبل"‪.160‬‬

‫الخاتمة‬
‫إن ما ُنريد أن نظفر به من هذا العلم الحزين‪ ،‬من باب التشديد على هذا الحافز اإلتيقي‬
‫يسوغ ظهور‬‫الذي دفع "آدرنو" إلى اإليغال بعي دا في علة تس يير العالم ومآالته‪ .‬وفي هذا الذي ّ‬
‫معقولي ة ظلم اء‪ ،‬ال يمكن أن يك ون اإلقب ال علي ه‪ ،‬س جين م ا ص اغه "آدرن و" في كتاب ه "األدب‬
‫الص غير" من حيث ه و س هم كش ف وتعري ة لـ"آي ات الالإيتيقي ة" ال تي ص ار إليه ا الع الم‪ ،‬ب ل ينبغي‬
‫تقليب األسئلة فيه على وجه يأخذ تغلغل تصادي العلم الحزين في الفكر الفلسفي مأخذا نستعيد فيه‬
‫ممتد من القدامى إلى‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫لعصر‬ ‫مؤرخا‬
‫جوابا لآلفاق‪ّ ،‬‬
‫قراءته على سبيل العلّ ة التي تجعل منه كتابا ّ‬
‫وربما كان ذلك ما "حمل بتر سلوتردايك" على البحث في كتاب العلم الحزين عند"‬‫المعاصرين‪ّ ،‬‬
‫"أو ال ُيوجد وابل من أوجه‬
‫هيدغر" وعند "ديوجين"‪ ،‬فيتساءل فيما يخص عالقة "آدرنو" بـ"هيدغر" َ‬
‫الشبه والتماثل بين "آدرنو" و"هيدغر" ؟ ما هي العلل التي تطغى اآلن على بعض التواصل بينهم ا‬
‫ومن الذي سيجرؤ على قول " أيهما قد صاغ العلم الحزين؟"‪.161‬‬

‫يتم اس تدعاء" ديوجين"‬ ‫وقد يكون األمر الفت ا إلى ٍّ‬


‫حد يص بح فيه مدعاة للس خرية‪ ،‬حينما ّ‬
‫فيحاض ر في ن دوة ح ول "هيغ ل"‪ ،‬وم ؤتمرات ح ول اإلس تراتيجية النووي ة وف ائض ض ريبة‬
‫طي ات‬
‫"المهج ر" غير "أن يصوغ إيمائيا بعض "علم حزين" في ّ‬
‫ّ‬ ‫االستهالك‪ ،‬فال يجد هذا الكونيقي‬
‫وأذه انهم (على منوال األدب الصغير ) وهو جالس على قمام ة في بعض س كر‪،‬‬ ‫أنفس البشر‬
‫ٍ‬
‫استدعاء ذاك‪،‬‬ ‫أي‬ ‫‪162‬‬
‫وجودي يعي" ‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫مس من الجنون‪ ،‬عن فرط مكر‬
‫متهكما‪ ،‬متفقّها كمن أصابه ّ‬
‫ال ذي يجع ل من العلم الح زين يس تنهض "دي وجين" على العودة إلى الحي اة في ه ذا الش كل الم اكر‪،‬‬

‫‪ - 160‬هيجل ونهاية الميتافيزيقا‪ ،‬فتحي المسكيني‪ ،‬ص ‪.19‬‬


‫‪ -161‬نقد العقل الكلبي‪ ،‬بتر سلوتردايك‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬منشورات الجمل بيروت‪ ،‬بغداد‪2019 ،‬‬
‫ص ‪.302‬‬
‫‪ -162‬نقد العقل الكلبي‪ ،‬بتر سلوتردايك‪ ،‬ترجمة وتقديم ناجي العونلي‪ ،‬ص ‪.9‬‬

‫‪66‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫بل وكيف يصبح استدعاء "هيدغر " شبيها بهذا النزاع الذي يمكن أن يحصل بينه وبين "آدرنو"‬
‫أحقية هذا العلم " العلم الحزين"‪.‬‬
‫على ّ‬

‫أعجب م ا يمكن أن يتع رض ل ه الب احث في فك ر "آدرن و"النق دي‪ ،‬وفي المش كل‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫غ ير ّ‬
‫والحض ر من‬
‫ْ‬ ‫قاب ل به ذا التص ّدي واإلع راض‬
‫رض إلي ه في ه ذا البحث‪ ،‬ه و أن ُي َ‬
‫اإلتيقي ال ذي نع ُ‬
‫تم طردهم من‬
‫الفرنسي رغم أن ج ّل أعالم المدرسة النقدية قد عمل في باريس بعد أن ّ‬
‫ّ‬ ‫قبل الفكر‬
‫مرتين لفرنسا سنة ‪ 1958‬إللقاء‬
‫أن "آدرنو" نفسه ُدعي ّ‬
‫األلمانية من قبل النازية ورغم ّ‬
‫ّ‬ ‫الجامعات‬
‫محاض رة في جامع ة الس وربون ‪ ،‬وم ّرة ثاني ة ليحاض ر في الك وليج دي ف رانس س نة ‪ 1961‬وق د‬
‫ترجمت له بعض كتبه بالفرنسية من قبيل كتاب ه الموسيقى الجديدة ومقال ه عن "ف اغنر" في الف ترة‬
‫لكن فكره لم يبدأ في الظهور إال بعد موته سنة ‪ ، 1969‬وتحديدا‬
‫الممتدة من ‪ 1960‬إلى ‪ّ ،1962‬‬
‫الص يت الذي لقيه كتاب جدلية التنوير الذي ألفه صحبة صديقه "ماكس‬
‫سنة ‪ 1973‬خاصة بعد ّ‬
‫هوركهايمر"‪ ،‬ولكي يكون موضوع احتفاء من قبل "ميشال فوكو" و"جاك داريدا‪".‬‬

‫أن هن اك هجوم ا على أفك ار المدرس ة النقدي ة ‪،‬‬


‫إن المش تغلين به ذا األم ر يس ّجلون‪ ،‬ب ّ‬
‫ّ‬
‫أن مدرسة فرانكفورت لم تكن معروفة في‬
‫مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ويعود إلى سببين ‪ :‬األول‪ ،‬لكون ّ‬
‫فرنسا‪ ،‬والثاني ُيعزى عادة إلى رفض هذا الفكر من قبل "كهنة الماركسية الجامعية"‪ .163‬ذلك أن‬
‫المعترض ين على مدرس ة فرانكف ورت ي رون في فالس فة ه ذه المدرس ة "مج ّرد منظّ رين سياس يين‬
‫توجهات الماركسية األلتوسيرية‬
‫مارق" عن " ّ‬
‫ٌ‬ ‫مرجعية ماركسية وهو نظر ُوصف بأنه ""نقد‬
‫ّ‬ ‫ذوي‬
‫وينم من‬
‫ينم عن جه ل واض ح بأفك ار النظري ة النقدي ة من جه ة‪ّ ،‬‬‫المهيمن ة حينه ا"‪ .‬وه و موق ف ّ‬
‫ظر إلنتاجات مدرسة فرانكفورت‪ ،‬تجلّى في سياق التشويه والوصم‪.‬‬
‫جهة أخرى عن ح ْ‬

‫ولعلنا ال نفهم إلى اآلن على وجه الدقة الالزمة والضرورية‪ ،‬لماذا ُيكتشف"آدرنو" وكل‬
‫طى أس وار" الماركس ية‬
‫وأن مروق ه تخ ّ‬
‫من انتمى إلى مدرس ة فرانكف ورت بأن ه ش خص م ارق ّ‬
‫ولربم ا تخطى أيض ا أس وار اللياق ة األكاديمي ة ال تي تنض بط له ا أدبي ات "الفلس فة‬
‫األلتوس يرية" ّ‬
‫الفرنسية"؟‬

‫‪ -163‬أورده خلدون النبواني في مقالة له بعنوان " فكر ثيودور آدرنو" عن "‪Gerard Roulet‬‬
‫‪La philosophie Allemande Depuis 1945 , Armand colin 2006, paris,295.‬‬

‫‪67‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ٍ‬
‫اعتراف بهذا الموقف الالعقالني واألرعن‪،‬‬ ‫وبعض‬ ‫شيء من الجواب عن هذا السؤال‪،‬‬
‫ُ‬
‫الذي قوبل به هذا الفكر النقدي‪ ،‬يعلن عنه "فوكو" و إن كان بصفة الحقة ومحتشمة‪ ،‬وهذا جوهر‬
‫تم‬
‫ان العديد من ممثليها [ مدرسة فرانكفورت ] كانوا قد عملوا في باريس بعد أن ّ‬
‫المشكل‪" ،‬رغم ّ‬
‫تم تجاهلها في فرنسا‬
‫أن مدرسة فرانكفورت قد ّ‬
‫طردهم من الجامعات األلمانية من قبل النازية إال ّ‬
‫وقتا طويال"‪.164‬‬

‫أن تجاهل "فوكو" للنظرية‬


‫فهل ينجح فوكو في تبرئة نفسه من تهمة هذا التجاهل؟ وهل ّ‬
‫صد؟‬
‫تجاهل من يرى فيها مروقا وخرقا ماكرا ينبغي أن ُي ّ‬
‫ُ‬ ‫النقدية و"آلدرنو" هو‬

‫نتبين أن الفكر الفرنسي قد‬


‫إن ما يثير الحيرة من هكذا اعتراف مشبوه وغير مفهوم‪ ،‬أن ّ‬
‫ّ‬
‫فتح األب واب على مص راعيها من ذ الثالثين ات من الق رن الماض ي الس تقبال" بعض تي ارات الفك ر‬
‫التي ارات الفكري ة‬
‫األلم اني الح ديث والمعاصر‪.‬إالأن أبواب ه ظلت مغلق ة ومحص نة أم ام بعض ّ‬
‫األخرى مثل التيار الذي كانت تمثله مدرسة فرانكفورت"‪ ،‬ماذا يحصل إذا للفكر الفرنسي حتى‬
‫آن في تض ييق الخن اق على إنت اج مدرس ة‬ ‫ومورط ا في ٍ‬
‫ّ‬ ‫يع ترف الحق ا بأن ه ك ان مخطئ ا‬
‫ان م ا ك ان يع ُّده فالس فة فرنس ا أس ئلتهم وأس ئلة حاض رهم م ا هي إال أس ئلة‬
‫فرانكف ورت‪ ،‬وب ّ‬
‫ماض يهم ‪ ،‬تل ك ال تي ك ان "آدرن و" ورفاق ه من مدرس ة فراكف ورت ‪ ،‬يص وبون تجاهه ا نظ ريتهم‬
‫حد استفزاز هذا العقل الفرنسي أن" الفلسفة الفرنسية " تجد‬
‫أن ما يبعث على الحيرة ّ‬
‫النقدية ؟ بل ّ‬
‫نفسها في وضعية متناقضة حيث أن فكرها يمضي عن غير وعي‪ ،‬إلى مغزى نظرية كان قد‬
‫رفض ها‪،‬ب دعوى مروقه ا وخروجه ا عن أدبي ات التفك ير الفلس في الفرنس ي‪ ،‬وك برى مرجعيات ه‬
‫ونقصد "ألتوسار"‪ ،‬وهذا ما يحملنا إلى السؤال التالي‪ :‬أيعق ُل أن ترفض الفلسفة فكرا بحجة متهافتة‬
‫حدا من الدغمائية‪ ،‬يجعلهما غير قادرين على‬
‫كهذه؟ وبعبارة أوضح كيف لفوكو وداريدا أن يبلغا ّ‬
‫سمتا فلسفيا كان دارجا وشائعا في فرنسا آنذاك؟‬
‫استيعاب وهضم فلسفة تخالف ْ‬

‫لس نا نح اول به ذا الس ؤال أن نقيم الحج ة على فالس فة فرنس ا وخاص ة األلمعين منهم مث ل‬
‫يلوح به للتفكير‪ -‬ليس إال‪ -‬علّنا نجد في سياقه تعليال لهذا الذي‬
‫"فوكو" و"داريدا"‪ ،‬ولكنه سؤال ّ‬

‫‪ -164‬أورده خل دون النب واني في مقال ة ل ه بعن وان " فك ر ثي ودور آدرن و" عن‪Michel Foucault Dits et‬‬
‫‪.Ecrits , IV 1980-1 1988 , Gallimard,1994, page 72‬‬

‫‪68‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫ي دعو "فوك و" و"داري دا" إلى اإلدالء به ش هادة للت اريخ في ح ق ه ذه المدرس ة ورواده ا ‪ ،‬بأس لوب‬
‫يش به االع تراف الحس ير ال ذي يوش ك أن يك ون اع تراف الم ذنب بذنب ه حيث يص ّرح" فوك و" على‬
‫جهة الفيلسوف الناظر نقديا في فلسفته‪ ،‬القائم على نقدها ‪ ،‬المتأمل في ما يمكن أو ما ال يمكن أن‬
‫عرفت جدارة فالسفة‬
‫ُ‬ ‫تؤول إليه لو أخذت بالحسبان ما كتبته مدرسة فرانكفورت‪ ،‬يقول‪" :‬عندما‬
‫مدرس ة فرانكف ورت كنت ق د فعلت ه ذا ب ذلك ال وعي ِ‬
‫التعس ال ذي ك ان علي ه أن يق رأهم قب ل ذل ك‬
‫كمي ة كب يرة من‬
‫بكث ير‪ ،‬وأن يفهم بش كل أبك ر‪،‬ل و ان ه كنت ق د ق رأت ه ذه األعم ال لك انت هن اك ّ‬
‫ربم ا ل و‬
‫أتجنب األخط اء‪ّ ،‬‬
‫األش ياء ال تي يمكن أال أك ون بحاج ة إلى قوله ا‪ ،‬وك ان يمكن لي أن ّ‬
‫عرفت فالسفة تلك المدرسة عندما كنت شابا لكنت مفتونا بهم تماما‪ ،‬ولما كنت فعلت شيئا آخر‬
‫سوى التعليق عليهم"‪.165‬‬

‫ولعل ه اع تراف تم تزج في ه الح يرة بالحس رة على م ا يك ون ق د أض اعه الفك ر‪ ،‬بس بب ال‬
‫نقدر أنه يعودفحسب إلى التجاهل‪،‬خاصة ونحن بإزاء معاينة هذا التصادي‬
‫يمكن إلى اآلن‪ ،‬أن ّ‬
‫ان ما خاض فيه باعتباره‬
‫يقر "فوكو" ّ‬
‫بين ما كتبه "آدرنو" وبين ما كتبه "فوكو و داريدا" حيث ّ‬
‫شأنا نقديا أركيولوجيا يتنزل في ذات النهج النقدي الذي مارسه "آدرنو" ‪ ،‬بل وبنفس التمشي الذي‬
‫والفني‪.‬‬
‫كان سببا في اعتماده على التحليل النفسي واالجتماعي واألدبي ّ‬

‫نص ا طويال يفهم منه أنه محاولة‬


‫في عام ‪ 2001‬وبمناسبة جائزة "آدرنو" يكتب "داريدا" ّ‬
‫الذمة لما قد اقترفه بسبب تجاهله "لآلدرنو" وربما كان لنا أن نسجله على ّانه اعتراف آخر‬
‫لتبرئة ّ‬
‫وأحب "آدرنو" ذاك الذي لم يتوقف عن التردد من‬
‫ّ‬ ‫أقدر‬
‫يضاهي اعتراف "فوكو"‪ .‬يقول "داريدا"‪ّ " :‬‬
‫ال الفيلس وف و"نعم ه ذا أحيان ا" ال تي يقوله ا الش اعر‪ ،‬والك اتب‪ ،‬وك اتب المق االت والموس يقي‪،‬‬
‫‪166‬‬
‫بأن ما كتبه في "اللذة " يوافق ما كتبه "أدرنو"‬
‫ويواصل هذا االعتراف باإلقرار ّ‬ ‫والرسام‪"...‬‬
‫في كتابه " ‪ " Minima Moralia‬في الشذرة ‪ 37‬المعنونة " بما بعد مبدأ اللذة"‪.‬‬

‫إن أعجب ما يمكن إذا أن يعاينه الباحث في فكر "آدرنو" هو التناقض المبهم الذي يجعل‬
‫ّ‬
‫اد" للفلس فة الفرنس ية وط ورا بوص فه ملهم ا لفكره ا‪،‬‬
‫من العلم الح زين ت ارة ينظ ر إلي ه بأن ه "مض ّ‬
‫‪ -165‬أورده خل دون النب واني في مقال ة ل ه بعن وان " فك ر ثي ودور آدرن و" عن ‪Michel Foucault,Dits et‬‬
‫‪Ecrits , IV .1980-1 1988 , Gallimard,1994, page 74‬‬
‫‪ -166‬أورده خلدون النبوي في نفس المقالة عن ‪Jacque –Darrida ,Fichus, Gallilé, 2002-17p13-14‬‬

‫‪69‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫الحس اإلتيقي‪ ،‬الذي حاول بحثنا استنطاقه واستشكاله وبيان علله‪،‬‬


‫ّ‬ ‫يشق العلم الحزين بهذا‬
‫فكيف ّ‬
‫مس ار الفلس فة وتاريخه ا من ألفه ا إلى يائه ا ؟ إذ كي ف يس تعيد العلم الح زين مص باح" دي وجين‬
‫الكل بي "وس خريته وينف ذ بعي دا في ت اريخ الفلس فة أين فنومنولوجيــا الــروح لهيغ ل " ونص وص‬
‫"هاي درغر" في الكينون ــة والزم ــان الموص ومة بوص م النازي ة و"اركيولوجي ا "فوك و" وتفكيكي ة‬
‫"داريدا"؟‪.‬‬

‫يحص ل ك ّل ذل ك‪ ،‬والفلس فة م ا زالت إلى اآلن تبحث عن الحلم الح زين‪ ،‬عن د فيلس وف‬
‫يوص ى به في سفر هذا "الالهوت السالب‬
‫َ‬ ‫يخرج كـ"المهدي" أو كـ"عيسى" على نهج ما يمكن أن‬
‫الكلبي ة في بورصات‬
‫ّ‬ ‫تتجول فيه‬
‫كلبي ّ‬
‫ّ‬ ‫والمادي" ليكتب علما حزينا بشأن حياة مشوهة في عصر‬
‫البيولوجية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أمريكا وفي أفق العولمة والحروب‬

‫نقر بان الخاتمة ليست إالّ ابتداء واستئنافا‪ ،‬وهذا اقصى ما‬
‫لعلّنا ال نجانب الصواب حينما ّ‬
‫التشوه والمسخ الذي يستعاد هوله‬
‫ّ‬ ‫يمكن أن يصل إليه الفكر الفلسفي ولعله يكون أقساه في زمن‬
‫في ك ّل حين‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫في الإتيقا نقدا للحياة المشوّهة‬

‫‪71‬‬
‫الفهرست‬

‫اإلهداء‬

‫الشكر‬

‫المق ّدمة ‪1.............................................................................................................................‬‬

‫نقدا" ‪6............................................................................................‬‬ ‫الفصل األوّل‪" :‬في اإلتيقا‬

‫التسيير ‪7........................................................................................................................‬‬ ‫‪-1‬‬

‫الحافــزاإلتيقـي; ‪24...........................................................................................................‬‬ ‫‪-2‬‬

‫المضطهدة ‪37..................................................................................‬‬ ‫الفصل الثاني ‪ :‬اإلنسانيّة‬

‫اعتالال ‪38.......................................................................................................‬‬ ‫‪ -3‬التصيّر –‬

‫صغيرا ‪51..........................................................................................‬‬ ‫‪ -4‬في النّقد االتيقي أدبا‬

‫الخاتمة ‪64...........................................................................................................................‬‬

‫بيبليوغرافيا‬
‫بيبليوغرافيا‬

‫المصادر‬

‫المصادر بالعربية‬
‫محم د الهاللي‪ ،‬دار توبق ال للنش ر ال ّدار‬
‫وبربريتها‪ ،‬ترجم ة ّ‬
‫ّ‬ ‫‪)1‬إدغ ار م وران‪ ،‬ثقافــة أوروبــا‬
‫البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى ‪.2007‬‬
‫العي ادي ومن ير كشوـ‬
‫‪)2‬ب ول ريك ور‪ ،‬العــــادل‪ ،‬الج زء الث اني‪ ،‬تع ريب عب د العزي ز ّ‬
‫المجم ع التونس ي للعل وم واآلداب والفن ون " بيت الحكم ة"‬
‫ّ‬ ‫تنس يق فتحي ال تريكي‪،‬‬
‫‪.2003‬‬
‫‪)3‬جورج لوكاش‪ ،‬تحطيم العقل‪ ،‬ترجمة إلياس مرقص‪ ،‬دار الحقيقة للنشر سنة ‪.1980‬‬
‫‪)4‬بتر سلوتردايك‪ ،‬نقد العقل الكلبي‪ ،‬منشورات" الجمل‪ ،‬عام ‪.2020‬‬
‫‪)5‬فري ديريك هيغ ل ‪ ،‬موسوعة العلـوم الفلسـفية‪ ،‬المجل د االول‪ ،‬ترجم ة د‪ .‬ام ام عب د الفت اح‪،‬‬
‫دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪.2005 ،‬‬
‫‪)6‬ك ارل م اركس‪ ،‬رأس الم ــال‪ ،1867 ،‬ترجم ة ال دكتور راش د ال براوي ‪ ،‬مكتب ة النهض ة‬
‫المصرية للنشر سنة ‪.1974‬‬
‫‪)7‬م اكس هوركه ايمر‪ ،‬النظريــة التقليديــة والنظريــة النقدية‪ ،‬ترجم ة وتق ديم ن اجي الع ونلي‪،‬‬
‫منشورات الجمل‪ ،‬بغداد بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪.2015‬‬
‫‪)8‬ماكس هوركهايمر‪ ،‬كسوف العقل‪ ،‬دار النشر جامعة اكسفورد‪.1947 ،‬‬
‫محم د س بيال وعب د اله ادي مفت اح‪،‬‬
‫‪)9‬م ارتن هاي دغر‪ ،‬التقنيــة – الحقيقــة – الوجـود‪ ،‬ترجم ة ّ‬
‫المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت – لبنان‪.1995 ،‬‬
‫‪)10‬هربرت ماركوز‪ ،‬الماركسية السوفياتية‪.1958 ،‬‬
‫‪)11‬هربرت ماركوز‪ ،‬اإلنسان ذو البعد الواحد‪ ،‬ترجمة جورج طرابيشي‪.1964 ،‬‬
‫‪)12‬وال تر بني امين‪ ،‬أطروح ــات ح ــول فلس ــفة الت ــاريخ‪ ،‬وتس ّمى أيض ا على فلس فة الت اريخ‪،‬‬
‫(باريس في عام ‪.)1940‬‬
‫‪)13‬والتر بنيامين‪ ،‬شارع ذو اتجاه واحد‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬مؤسسة شرق غرب ديوان‬
‫المنار للنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت – لبنان‪.2012 ،‬‬
‫‪)14‬يورغن هابرماس‪ ،‬المعرفة والمصلحة‪ ،‬ترجمة حسن صقر‪ ،‬مراجعة ابراهيم الحيدري‪،‬‬
‫منش ورات الجم ل‪ ،‬الطبع ة األولى‪ ،‬كولوني ا – ألماني ا ‪ ، 2001‬نش ر بالتع اون م ع‬
‫المجلس األعلى للثقافة – مصر‪.‬‬
‫‪)15‬ي ورغن هابرم اس‪ ،‬العلم والتقنيـ ــة كإيـ ــديولوجيا‪ ،‬منش ورات الجم ل‪ ،‬الطبع ة األولى‬
‫كولونيا المانيا‪.2003 ،‬‬

‫المصادر بالفرنسية‬

‫‪1) Max Horkheimer, Theodore W. Adorno : La dialectique de la‬‬


‫‪raison, Fragment philosophiques, première parution en 1947,‬‬
‫‪Traduit de l’Allemand Eliane Kaubholz.‬‬
‫)‪2‬‬ ‫‪Max Horkheimer, Theodore W. Adorno, Dialectique de la‬‬
‫‪raison, New York, 1972.‬‬
‫‪3) Theodore W. Adorno : Minima Moralia : Réflexions sur la vie‬‬
‫‪Mutilée, Payot, 1951.‬‬
‫‪4) Theodore W. Adorno : Théorie esthétique, traduit de l’allemand‬‬
‫‪par Marc Jimenez et Eliane Kaufholz nouvelle tradition, paris‬‬
‫‪KLINCKSIECK, 1989.‬‬
‫‪5) Theodore W. Adorno : Dialectique négative, Payot, 1978.‬‬
‫المراجع‬

‫المراجع بالعربية‬

‫‪ )1‬آلن ه او‪ ،‬النظريـــــة النقديـــــة مدرســـــة فرانكفـــــورت‪ ،‬ترجم ة ث ائر ديب ‪،1984‬‬
‫المركز القومي للترجمة‪2010 ،‬‬
‫الجامعي ة‬
‫ّ‬ ‫‪ )2‬ب ول ل وران آس ون‪ ،‬مدرس ــة فرانكف ــورت‪ ،‬ترجم ة س عاد ح رب‪ ،‬المؤسس ة‬
‫للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪.1990 ،‬‬
‫‪ )3‬د‪.‬كم ال من ير‪ " ،‬النظرية النقدية لمدرسة فرنكفــورت من مــاكس هوركهــايمر إلى أكســل‬
‫هونيث‪ ،‬منشورات اإلختالف الدار العربية للعلوم ناشرون‪ ،‬الطبعة األولى ‪.2010‬‬
‫العي ادي ‪،‬إتيقــا المــوت والســعادة‪ ،‬ص امد للنش ر والتوزي ع‪ ،‬الطبع ة األولى‪،‬‬
‫‪ )4‬عب د العزي ز ّ‬
‫أفريل ‪.2005‬‬
‫‪ )5‬فتحي المسكيني‪ ،‬هيغل ونهاية الميتافيزيقا ‪ ،‬دار الجنوب للنشر‪ -‬تونس‪.1997‬‬
‫‪ )6‬ن اجي الع ونلي‪ ،‬هيغــل األول في ســياقه‪،‬في تــاريخ نشــوء المشــكل الهيغلي وتطـ ّـوره من‬
‫نص ت ــوبنغن إلى كت ــاب الفـــرق‪ ،‬ج داول للنش ر والترجم ة والتوزي ع‪ ،‬الطبع ة األولى‬
‫ّ‬
‫أيار‪/‬مايو‪.2012‬‬

‫المراجع بالفرنسية‬
‫‪Adorno et l’école de Francfort colloque 5-6 Décembre 2003 )1‬‬
‫‪.sous la direction de Malika Ouelbani imprimé en Tunisie 2004‬‬

You might also like