You are on page 1of 17

‫مدخل إلى الفينومينولوجيا‬

‫محمد شوقي الزين ‪2019-05-26‬‬

‫عدد القراءات « ‪» 684‬‬

‫مدخل إلى الفينومينولوجيا[‪)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn1( ]1‬‬

‫‪ ‬‬

‫فرانسواز داستور‬

‫ترجمة وتعليق‪ :‬محمد شوقي الزين*‬

‫* كاتب وباحث من الجزائر‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫تمّثل الفينومينولوجيا أحد التّي ارات الرئيسية في الفلسفة المعاصرة‪ ،‬تأّس ست في ألمانيا بداية القرن العشرين مع إدموند هسيرل وتطّو رت مع مارتن هايدغر‬
‫في إطار الفلسفة الوجودية‪ ،‬وواصلت التأثير في المفّكرين األوروبيين (أوجين فينك‪ ،‬يان باتوكا)‪ ،‬واألمريكيين (هربرت ماركوز‪ ،‬حنه أرندت‪ ،‬هانس يوناس)‪،‬‬
‫وفي غير األوروبيين (مدرسة كيوتو في اليابان) طيلة القرن‪ ،‬وخصوصًا في الفالسفة الفرنسيين‪ ،‬حيث كان األبرز منهم ينتمي إلى «الحركة الفينومينولوجية»‪:‬‬
‫سارتر‪ ،‬ميرولوبونتي‪ ،‬لفيناس‪ ،‬ريكور‪ ،‬دريدا‪ ،‬إذا ذكرنا األشهر منهم‪.‬‬

‫أّو ًال‪ :‬مؤّس سا الحركة الفينومينولوجية‪ :‬هسيرل وهايدغر‬

‫لقد ظهرت الفينومينولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬وهو قرن شهد من وجهة نظر فلسفية انهيار النسق الفلسفي األكثر طموحًا‪ ،‬وهو نسق هيغل (‪-1770‬‬
‫‪ ،)1831‬فيلسوف ألماني توفي سنة ‪ ،1831‬والذي كان يتمّي ز بإرادة الكشف عن شمولية التاريخ البشري انطالقًا من مفهوم الروح‪.‬‬

‫طال هذا االنهيار التصّو ر المثالي للعالم حيث ابتدأت نقطة االنطالق مع بداية القرن الرابع قبل المسيح من طرف أفالطون (‪ 347-427‬ق‪ .‬م) الذي كان يعتبر‬
‫أّن العالم الحقيقي ليس هو العالم الحّس ي الذي ندركه بالحواس‪ ،‬ولكن عالم األفكار الذي ال يدركه سوى الفكر‪.‬‬

‫كان هيغل أيضًا ممّثل تصّو ر جديد حول اإلنسان ظهر في نهاية القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية التي أحدث قطيعة أساسية في التاريخ‪ .‬المفّكر الكبير‬
‫في هذه الفترة كان الفيلسوف األلماني إيمانويل كانط‪ ،‬الذي كان معجبًا بروسو وبالثورة الفرنسية‪ ،‬والذي حّد د تلك الفترة المسّم اة بـ«األنوار» على أّنها الفترة‬
‫التي يرتقي فيها اإلنسان بالفعل إلى رشده [العقلي]‪ .‬بينما كان في السابق تحت وصاية األمراء والكنيسة‪ ،‬فإّنه على ما يشرح كانط وبفضل الثورة الفرنسية‬
‫استرجع حريته واستطاع أن يفرض حقوقه بشكل عالمي‪ .‬لقد كانت فرنسا في قلب الثورة السارية آنذاك والتي ساهمت في ميالد صورة جديدة لإلنسان‪ .‬قبل‬
‫ذلك‪ ،‬في القرن السادس عشر‪ ،‬وضّد الرؤية الوسيطية [العصر الوسيط] لإلنسان الذي كانت تعتبره كائنًا خاضعًا للتراث ويحّد ده االعتقاد الديني‪ ،‬أثبت‬
‫الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت بمقولته الشهيرة «أنا أفّكر إذن أنا موجود» أّن الوعي الفردي هو األساس الوحيد لكل يقين ولكل حقيقة‪.‬‬

‫بعدما استرجع حريته الجّو انية‪ ،‬فإّن اإلنسان سينطلق نحو استرجاع حريته السياسية بمساعدة الفالسفة الفرنسيين الذين‪ ،‬على غرار فولتير أو روسو أو ديدرو‪،‬‬
‫كانوا الملهمين الحقيقيين للثّو ار‪.‬‬

‫إّن الشيء الذين كان ساري المفعول من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر هو عملية تحّر ر اإلنسان بشكل نهائي وال رجعة فيه‪ .‬لكن معكوس هذا‬
‫التطّو ر‪ ،‬وكما يمكن توّقع ذلك‪ ،‬هو التمركز المفرط لإلنسان على ذاته‪ ،‬والذي قاده بعد ذلك إلى أن يتصّو ر نفسه سّي د األحداث بال منازع‪ ،‬وأّنه يريد السيطرة‬
‫التاّم ة على الطبيعة‪.‬‬
‫ففي القرن التاسع عشر تطّو رت قوى اإلنسان الغربي عبر التوّس عات االستعمارية وتقّد م العلوم والتصنيع وتوّس ع الديمقراطية‪ .‬لكن خالل القرن نفسه تّم‬
‫إعادة النظر بشكل جذري في الفكرة المثلى التي كان يحوكها اإلنسان الحديث حول ذاته‪ .‬هناك ثالثة مفّكرين على وجه الخصوص قاموا بإرساء قواعد‬
‫التفكير المعاصر بنقدهم للصورة المثالية التي كان ينسجها اإلنسان حول ذاته‪ ،‬والتي وجدت تعبيرها األقصى عند هيغل‪ :‬يتعّلق األمر بماركس ونيتشه‬
‫وفرويد‪ .‬ففي ألمانيا وليس فرنسا تواصل في القرن التاسع عشر تطّو ر الصورة الحديثة لإلنسان‪.‬‬

‫لقد أخذ ماركس (‪ )1883-1818‬على عاتقه‪ ،‬في «األيديولوجيا األلمانية» الذي كتبه مع إنجلز سنة ‪ ،46-1845‬مهّم ة تبيان أّنه خالفًا لما يثبته الفالسفة‬
‫المثاليون‪ ،‬ليس الوعي أو الروح هي التي تحّد د كائن اإلنسان‪ ،‬ولكن على العكس إّنها الشروط الماّد ية لحياته التي تحّد د وعيه‪َ .‬ينُت ج عن هذه الرؤية الماّد ية‬
‫للعالم التشديد على الشروط االقتصادية وليس فقط السياسية لحياة البشر‪ ،‬وتهدف إلى التحّر ر الكامل‪ ،‬وليس فقط التحّر ر الروحي لإلنسان الذي يجد نفسه‬
‫بفعل تطّو ر الثورة الصناعية خاضعًا كعامٍل إلى العبودية الجديدة‪ .‬لكن يفترض التحّر ر الكامل لإلنسان أن يتوّص ل إلى أن يتخّلص من األوهام التي يرعاها حول‬
‫ذاته‪ ،‬وأن يغادر االغتراب‪ ،‬بمعنى أن يتوّقف عن كونه غريبًا عن ذاته‪ ،‬على ما هو عليه في الواقع‪ .‬بالنسبة لماركس‪ ،‬االغتراب الخطير الواجب مكافحته هو‬
‫االغتراب الديني الذي من خالله يخضع اإلنسان إلى قّو ة عليا هي مجّرد فبركة من دماغه‪.‬‬

‫في العقود القليلة الالحقة‪ ،‬سيستعيد نيتشه (‪ )1900-1844‬مشعل النقد بإعالنه بصوت عاٍل موت اإلله‪ .‬سيهاجم هو اآلخر بشكل حاسم الفلسفة المثالية‬
‫ويشّد د على ما يمّي ز اإلنسان في العمق حسب نظره‪ ،‬ليس الروح ولكن ما يسّم يه «إرادة القّو ة»‪.‬‬

‫مع نيتشه‪ ،‬ومع ماركس قبله‪ ،‬ستتقّلص المسافة التي تفصل اإلنسان عن الحيوان‪ .‬ال ينبغي نسيان التأثير على األذهان الذي مارسته اكتشافات داروين‬
‫(‪ )1882-1809‬الذي بّي ن في «أصل األنواع» (كتاب نشره سنة ‪ )1859‬أّن التطّو ر البيولوجي للكائنات الحّي ة هو سليل االنتقاء الطبيعي الناتج عن «الصراع من‬
‫أجل الحياة» الذي يجعل كل الكائنات الحّي ة في تنافس بينها‪ ،‬بما في ذلك اإلنسان نفسه‪ .‬ال يكتفي نيتشه بإعالن إلحاده‪ ،‬بل يباشر أيضًا في تقويض أسس‬
‫األخالق ذاتها‪ .‬في «جنيالوجيا األخالق» (كتاب نشره سنة ‪ُ ،)1887‬يبرز أّن األخالق هي من ابتكار نمط معّي ن من اإلنسان‪ ،‬إنسان مريض وُم ذعن‪ ،‬الذي تخّي ل‬
‫وهم الذات المسؤولة والوعي البائس ليضفي المعنى على آالمه‪ .‬إّن األخالق التي تدعو إلى نكران الذات والتضحية بحّب الذات ليست سوى اختالق‬
‫تاريخي‪« ،‬مثالية مالئمة» تكمن بالنسبة للضعفاء في الفضيلة الضرورية وفي تحويل عجزهم الحقيقي إلى تصّر ف متسامي‪ .‬خالفًا لما هو شائع‪ ،‬لم يكن غرض‬
‫نيتشه هو انتقاص اإلنسان إلى مستوى البهيمة‪-‬الفريسة‪ ،‬بل يطمح هو اآلخر إلى تحرير اإلنسان‪ ،‬ويعني بذلك قلب جدول القيم القديم وتأسيس قيم جديدة‬
‫تتيح تطّو ر إنسانية فائقة‪ ،‬قادرة على التصالح مع شرطها المتناهي وإيجاد «معنى األرض»‪.‬‬

‫يمّثل فرويد (‪ )1939-1856‬في بداية القرن العشرين الذروة المتقّد مة لهذا النقد في الصورة المثالية لإلنسان التي كانت نتيجة التراث الفلسفي الغربي في‬
‫رّم ته‪ .‬يفّس ر فرويد أّنه كانت هنالك ثالثة جروح كبرى أصابت في الصميم أنانية اإلنسان الغربي‪ :‬اكتشاف كوبرنيكوس أّن األرض ليست مركز الكون؛ اكتشاف‬
‫داروين أّن اإلنسان ينحدر عن القرد؛ وأخيرًا اكتشاف الالشعور من طرف فرويد نفسه‪ .‬ما يقّد مه التحليل النفسي كشيء مقلق في العمق‪ ،‬هو الفكرة القائلة‬
‫بأّن اإلنسان ليس سّي د نفسه‪ ،‬بل تحكمه ُخفيًة عنه نزوات ال يسيطر عليها ومن بينها ما يتباهى بها أكثر‪ ،‬وعنيُت قدرته التفكيرية وحريته في االختيار‪ ،‬التي‬
‫هي في الحقيقة مجّرد أوهام‪ .‬لم يكن فرويد عدمًّي ا‪ ،‬ليس أكثر من نيتشه‪ ،‬وعلى غرار هذا األخير‪ ،‬كان يحاول كمعالج شفاء اإلنسان من أوهامه‪ .‬يهدف العالج‬
‫في التحليل النفسي إلى أن يعيد للوعي‪ ،‬لألنا‪ ،‬السيطرة على القوى غير العقالنية التي تحُكم األفعال البشرية‪.‬‬

‫‪ -1‬مفهوم الظاهرة‬

‫سيرث الفالسفة في القرن العشرين هذا النقد الثالثي لألوهام التي يحملها اإلنسان بشأنه‪ :‬الماّد ية‪ ،‬اإللحاد‪ ،‬نظرية الالشعور‪ ،‬تلكم هي المذاهب التي‬
‫ستطغى على تأّم الت المفّكرين البارزين من القرن العشرين‪ ،‬والذين سيحّد دون بعمق الصورة التي يشّكلها اإلنسان عن ذاته خالل هذا القرن حيث سيعرف‬
‫هيجان النزوات المهّد مة لإلنسان الذروة‪.‬‬

‫لكن في سياق بداية القرن العشرين الذي هيمنت عليه الوضعية ورفض الميتافيزيقا‪ ،‬سيظهر تّي ار فكري وهو الفينومينولوجيا‪ .‬مفردة الفينومينولوجيا كانت‬
‫ظهرت في القرن الثامن عشر في كتابات الفيلسوف األلماني‪ ،‬يوهان هاينريش المبير (‪ ،)1777-1728‬أحد مراسلي كانط؛ لكن لم تظهر المفردة سوى بشكل‬
‫عابر عند المبير‪ ،‬وال تظهر من جديد ككلمة فلسفية سوى في «فينومينولوجيا الروح» مع هيغل سنة ‪ ،1807‬أي أربعون سنة الحقًا‪ ،‬لتختفي من جديد وتظهر‬
‫ثانيًة بقّو ة عند هسيرل كما سنرى ذلك‪.‬‬

‫تتشّكل هذه المفردة من كلمتين إغريقيتين «فاينومينون» (‪ )phainomenon‬و«لوغوس» (‪« .)logos‬فاينومينون»‪ ،‬وبالجمع «تا فاينومينا» (‪ta‬‬
‫‪ ،)phainomena‬تنحدر من الفعل «فاينو» (‪ )phainô‬ويعني أنار‪ ،‬ألمع‪ ،‬أظهر‪ ،‬أرى‪ ،‬حيث الكلمة «فاوس‪-‬فوس» (‪ ،)phaos-phôs‬النور‪ ،‬تأتي من الجذر‬
‫نفسه‪ :‬الظرف «فاينومينوس» (‪ )phainomenôs‬معناه‪ :‬بوضوح أو بجالء‪ .‬فالظاهرة هي إذن ما يتبّد ى‪ ،‬ما يتجّلى‪ ،‬ما يظهر‪َ .‬بْي د أّن «الفعل» التأسيسي لما‬
‫يسّم يه أفالطون «فيلوسوفيا» (‪ )philosophia‬هو التمييز الموجود سلفًا عند بارمنيدس بين ما هو موجود على الدوام‪ ،‬الوجود‪ ،‬الذي ال يتبّد ى للعيان؛ وبين‬
‫ما يتجّلى بشكل متعّد د‪ ،‬وهو الظواهر‪.‬‬

‫إّن البحث الفلسفي هو قبل كل شيء مسألة الوجود‪ ،‬أي حول الحقيقة‪ ،‬كما ُيبرزه «سيناريو» قصيدة بارمنيدس يحكي فيها سفر المفّكر الذي ال يمكنه اختيار‬
‫السبيل القويم‪ ،‬وهو الوجود‪ ،‬وعزل ُطُر ق التيه في العدم وفي المظاهر سوى بمعونة إلهة يكون اسمها صامتًا‪ ،‬والتي يمكن أن تكون اإللهة أليثيا‪ ،‬الحقيقة‪.‬‬
‫التفكير هو إذن التخّلص من المظاهر وتجاوزها نحو ما يؤّس سها ويظل مختفيًا‪.‬‬

‫لقد ورث أفالطون هذا التمييز البارمنيدي بين الوجود والمظهر‪ ،‬بين ما هو ثابت وما هو متغّي ر على الدوام‪ ،‬ومتعّد د بالتالي‪ .‬ها نحن أمام األفالطونية‪ ،‬أي‬
‫المذهب الذي ُينتَس ب إلى أفالطون‪ ،‬والذي ال يمكن خلطه مع الفكر الحقيقي لهذا األخير‪ ،‬وهو فكر دقيق‪ ،‬وإلى نظرية التمييز بين عالمين‪ ،‬العالم الحّس ي‬
‫والعالم العقلي‪ ،‬التي ستكون بمثابة اإلطار العام للفكر الميتافيزيقي كما تعّي ن انطالقًا من العصر الوسيط‪ ،‬ألّنه يهدف إلى معرفة ما وراء الطبيعي وما ال ُتدركه‬
‫الحواس‪ .‬سنجد هذا التمييز عند إيمانويل كانط الذي يقابل بشكل أفالطوني بين الظاهرة‪ ،‬أي الشيء كما هو بالنسبة إلينا ككائنات متناهية وتتمّت ع بجسم‬
‫وبحواس‪ ،‬و«الشيء في ذاته»‪ ،‬الشيء كما هو بالنسبة لكائن ال متناٍه ‪ ،‬وهو الله‪ .‬ويمّي ز كانط أيضًا بين الظاهرة والمظهر‪ .‬الظواهر هي الموضوعات كما تتبّد ى‬
‫للحواس‪ ،‬األشياء كما هي بالنسبة إلينا‪ ،‬والتي توجد بالفعل‪ .‬بينما المظاهر ال حقيقة لها‪ ،‬فهي نتاج الخيال وال تمتلك أّية حقيقة وليست سوى أوهام تصُد ر‬
‫عن الفكر البشري‪.‬‬

‫ينبغي فهم أّن ما يعنيه كانط بالظاهرة هو الشيء كما ُيدركه البشر‪ ،‬خالفًا للشيء كما هو بالنسبة لرؤية غير بشرية‪ ،‬مثل الرؤية اإللهية‪ .‬فالشيء في ذاته‬
‫بالنسبة إلينا كبشر ال سبيل لنا إليه وال يمكن التعبير عنه‪.‬‬

‫كرّد فعل على هذه الثنائية بين نظام الظواهر ونظام الشيء في ذاته التي احتفظ بها كانط‪ ،‬ظهرت عند هيغل فكرة أّن الكائن الذي ال يظهر هو مجّرد عبث‪.‬‬
‫لقد كان [هيغل] األّو ل من خرج على األفالطونية ليبّي ن أّنه يمكن خالل تطّو ر الوعي البشري إدراك الحقيقة ومعرفة الكائن‪ .‬لهذا السبب يعطي لكلمة‬
‫الفينومينولوجيا داللة إيجابية وهي القسم األّو ل من الفلسفة‪ .‬باستناده إلى المسيحية وإلى مذهبها في التجسيد الذي يعتبر أّن الله يتحّو ل إلى إنسان ويفقد‬
‫بالتالي من تعاليه‪ ،‬يعتقد هيغل أّن «الشيء في ذاته» ينبغي أن يظهر ويتجّلى للبشر إذا أراد أن يكون شيئًا آخر غير الوهم‪ .‬نجد عنده‪ ،‬وقبل نيتشه‪ ،‬نقد‬
‫نظرية العالمين‪.‬‬

‫عمد نيتشه‪ ،‬في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬إلى «قلب األفالطونية»‪ ،‬أي إعادة االعتبار إلى عالم الحواس والمظاهر‪ ،‬وتبيان أّن العالم العقلي هو‬
‫اختالق من الفكر البشري‪ .‬حسب نظره‪ ،‬ال شيء وراء المظاهر‪ ،‬وال وجود لعالم خلفي هو بمثابة الحقيقة‪.‬‬

‫هسيرل‪ ،‬الذي كان رياضًّي ا‪ ،‬لم يقرأ نيتشه وال هيغل‪ ،‬ولكن يقع في الوجهة نفسها التي َتعتبر أّن ما ُيدركه اإلنسان بحواسه ال يخلو من حقيقة‪ .‬لهذا السبب‬
‫سيختار هو اآلخر مصطلح «الفينومينولوجيا» ليشير إلى ما يقصده بالفلسفة‪ .‬يتعّلق األمر بالنسبة إليه بدراسة ما يتبّد ى للوعي والذي يبقى الشيء الوحيد‬
‫الذي نحن منه على يقين‪ .‬فهو يرفض أيضًا التمييز الكانطي بين الظاهرة والشيء في ذاته‪ .‬ال ُيدرك اإلله األشياء أفضل مّن ا‪ ،‬إذ لو كان األمر كذلك لكّن ا نتعامل‬
‫مع صور ناقصة لألشياء وأّن إدراكنا لها يفتقر إلى الحقيقة‪ .‬لكن هذا مجّرد عبث في نظر هسيرل‪ ،‬ألّن كل ما هو موجود ال بّد أن يظهر‪ ،‬وكل ما يظهر ال ُيبرز‬
‫الشيء بأكمله‪ ،‬ولكن تدريجًّي ا عبر سلسلة من الوجوه أو الجوانب المختلفة‪.‬‬

‫ينجّر عن ذلك نتائج هاّم ة بالنسبة لمفهوم الفينومينولوجيا ذاته كما يوّض ح ذلك هايدغر‪ .‬ال يتعّلق األمر بأّن هذا الفرع الفلسفي ال يعالج سوى «المظاهر»‪ ،‬وال‬
‫الظواهر بالمعنى الكانطي‪ ،‬والتي تتمّي ز عن الشيء في ذاته‪ .‬ال تحيل ظواهر الفينومينولوجيا إلى أّي كائن من شأنه أن يكون في جوهره خفًّي ا ومجهوًال‪ .‬لكن‬
‫بوجود فرع معرفي يسّم ى الفينومينولوجيا‪ ،‬أي خطاب حول الظواهر أو علم الظواهر‪ ،‬فهذا يقتضي أاَّل نزعم أّن كل واحد مّن ا‪ ،‬تبعًا لتجربته العادية‪ ،‬يعرف‬
‫الظواهر مسبقًا‪ .‬إّننا في غالب األحيان مستغرقون في شؤوننا اليومية بحيث ال نرى األشياء وال ندرك منها سوى كونها نافعة لنا‪ .‬لكي ندرك جّي دًا المظهر‬
‫الخالص للشيء‪ ،‬ينبغي أن نتجاهل فائدته المباشرة‪ ،‬وهو ما يفعله بالضبط الفّن ان أو الشاعر أو الفينومينولوجي‪.‬‬

‫لقد شّد د هسيرل على التماثل بين مواقفهم تجاه العالم‪ ،‬وذلك بـ«وضع بين قوسين» عالقتنا المعتادة بالعالم لنترك األشياء تتعّر ض بذاتها‪ .‬لكي تكون‬
‫فينومينولوجًّي ا ال يكفي فتح األعين‪ ،‬ولكن يجب ممارسة نوع من الُّز هد‪ ،‬وهو كلمة تعني في اإلغريقية «التدريب»‪ .‬ينبغي أن ندّر ب نظرنا‪ ،‬أن نجعله حاًّد ا أو‬
‫بصيرًا‪ ،‬أن نجعل بين قوسين انشغاالتنا الراهنة لكي ُنبرز األشياء في حقيقتها القصوى‪ .‬هذا ما يقوم به الرّس ام والشاعر والموسيقار الذين يرون ويسمعون‬
‫ويدركون ما ال يسمعه أو يراه اإلنسان العادي‪.‬‬
‫نفهم لماذا قال أحد كبار الفينومينولوجيين في فرنسا‪ ،‬وهو ميرولوبونتي‪ ،‬الذي اهتّم كثيرًا بالفّن ‪ ،‬بأّنك إذا أردت أن تكون فينومينولوجًّي ا‪ ،‬عليك أن «تتعّلم‬
‫كيف ترى العالم»‪ .‬ليس الفينومينولوجي هو الميتافيزيقي‪ ،‬بمعنى الشخص الذي يفترض وجود كائن مجهول يختفي وراء المظاهر‪ .‬على العكس‪ ،‬هو‬
‫[الشخص] الذي يثق في حواسه ويعتقد بأّن الكائن أو الوجود هو معروف بالضرورة‪ .‬لكنه يعترف بالمقابل أّن الظواهر التي ال تتمّي ز عن األشياء ذاتها يمكنها أن‬
‫تكون متعّذ رة اإلدراك بشكل مباشر‪ ،‬وأّنه يتوّج ب اّتخاذ طريقة أو منهج‪ ،‬أي إجراء في الوصول‪ ،‬أو درب[‪http://kalema.net/home/admin/rg.php?( ]2‬‬
‫‪.)act=art&cmd=add#_ftn2‬‬

‫وهو ما سّم اه هسيرل بمنهج «اإلرجاع»‪ ،‬والذي يدّل على تعليق اهتمامنا باألشياء لندعها تتجّلى كما هي‪ .‬ينبغي أخذ مصطلح اإلرجاع بالمعنى الحقيقي‪« :‬رو‪-‬‬
‫دوكيري» (‪ ،)re-ducere‬ال يعني في الالتينية فقط «اختزال» بمعنى الطرح‪ ،‬ولكن يدّل أيضًا على «إعادة القيادة» (‪ .)re-conduire‬وهنا يتبّد ى طموح‬
‫الفينومينولوجيا‪ :‬فهي تريد أن تقودنا من جديد نحو حقيقة األشياء‪ ،‬وتريد إرجاعنا إلى هذا العالم الذي نحيا فيه‪ ،‬وليس الفرار نحو عالم آخر‪ ،‬متعالي‪.‬‬

‫‪ -2‬هسيرل‪ :‬تصّو ر جديد للوعي وللعالقة باآلخر‬

‫ُو لد إدموند هسيرل في الثامن من أبريل سنة ‪ 1859‬في مورافيا (?‪Moravie)[3] (http://kalema.net/home/admin/rg.php‬‬
‫‪ ،)act=art&cmd=add#_ftn3‬وهي منطقة كانت تشّكل تشيكوسلوفاكيا وكانت وقتئٍذ نمساوية‪ ،‬في عائلة يهودية بورجوازية‪ .‬درس علم الفلك والرياضيات‬
‫والفيزياء‪ ،‬ثم الفلسفة‪ ،‬واعتنق سنة ‪ 1886‬الديانة البروتستانتية‪ ،‬خّص ص أول أعماله لفلسفة الرياضيات‪ ،‬وفي سنة ‪ 1900‬و‪ 1901‬ظهرت «أبحاث منطقية»‬
‫حيث يرد فيها مصطلح «الفينومينولوجيا» ليمّي ز الفرع الفلسفي الذي ينوي الترويج له‪.‬‬

‫لقد بدأ تأثير فكر هسيرل في االنتشار‪ ،‬وشهدت بداية القرن ميالد «الحركة الفينومينولوجية» التي كانت تجمع فالسفة شباب ينتمون إليه‪ُ .‬ع ّي ن سنة ‪1916‬‬
‫كأستاذ في جامعة فريبورغ‪ .‬في العشرينيات من القرن العشرين‪ ،‬كان هسيرل ُيعّد من بين أشهر الفالسفة في ألمانيا‪ :‬كان الطلبة من كل األصول يتسارعون‬
‫لحضور دروسه‪ ،‬ومن بينهم ليس فقط األلمان‪ ،‬ولكن أيضًا اليابانيين واألمريكيين‪ .‬أحد أهّم معاونيه هو مارتن هايدغر الذي أصبح مساعده سنة ‪ .1919‬إّن‬
‫التعاون بين هسيرل ومساعديه كان حاسمًا لمواصلة أبحاثه‪ ،‬ألّنهم كانوا يعيدون تسجيل مخطوطاته المكتوبة على طريقة الخط المجموع[‪]4‬‬
‫(‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn4‬ويهّي ئونها للنشر‪.‬‬

‫اقترح هسيرل اسم هايدغر ليخلفه بعد تقاعده سنة ‪ .1928‬وقّد م آخر محاضراته سنة ‪ ،1929‬ومن بين آخر طلبته نجد هربرت ماركوز وإيمانويل لفيناس‪.‬‬
‫خالل العشر سنوات األخيرة‪ ،‬تفّر غ هسيرل كليًة ألبحاثه‪ .‬لكن بعد سنة ‪ ،1933‬ستتكّثف عزلته‪ .‬إذا كان مشهورًا ومكَّر مًا في الخارج‪ ،‬ففي بلده تّم ت «إحالته‬
‫على اإلجازة» ثّم منعه من التدريس بسبب أصوله اليهودية‪ .‬توفي وهو مستغرق في العمل يوم ‪ 27‬أبريل ‪ 1938‬في السّن ‪ .79‬شهور قليلة بعد وفاته‪ ،‬قام‬
‫الشاّب الفرانسيسكاني[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn5( ]5‬البلجيكي‪ ،‬هرمان ليو فان بريدا‪ ،‬بنقل سرًّيا‬
‫معظم مخطوطات هسيرل (حوالي ‪ 45000‬صفحة مكتوبة بالخط المجموع) إلى جامعة لوفان حيث قام بتأسيس «أرشيفات هسيرل»‪ .‬لم ينشر هسيرل في‬
‫حياته سوى النزر اليسير‪ ،‬لكن ابتداًء من سنة ‪ 1950‬قامت أرشيفات هسيرل في لوفان برقن مخطوطاته ونشرها بمساعدة اليونيسكو والـ«هسيرليات»‬
‫(‪ )Husserliana‬وهي األعمال الكاملة لهسيرل التي ال تزال تظهر والتي تشتمل على أكثر من أربعين مجّلدًا‪ ،‬ولكن لم َتنُش ر سوى ُثلث مخطوطات هسيرل‪.‬‬
‫ألّن هسيرل لم يتوّص ل إلى إعطاء صورة نهائية ومنسجمة لفكره [الفلسفي]‪ .‬والدليل على ذلك ما كتبه وعمره ‪ 71‬سنة في نص مخَّص ص للنشرة اإلنجليزية‬
‫لـ«أفكار رئيسية من أجل الفينومينولوجيا»‪ .‬لقد أعلن باستحضاره للمثال الفلسفي الذي كان يحّركه دائمًا‪ ،‬وهو العلم بدون افتراض‪« :‬لقد تأّك َد ت قناعات‬
‫الكاتب باستمرار خالل إعداد أعماله‪ ،‬أمام بداهة النتائج التي تتأّس س تدريجًّي ا الواحدة على األخرى‪ .‬إذا كان عليه إرجاع جالل طموحاته الفلسفية إلى أن‬
‫يكون المبتدئ الحقيقي‪ ،‬فلقد توّص ل في سّن الُّن ضج‪ ،‬على األقل بالنسبة لما يخّص ه‪ ،‬إلى القناعة الكاملة بأّنه يستحّق اسم المبتدئ الحقيقي‪ .‬إذا ُم نح له ُع مر‬
‫ماتوشالح[‪ ،)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn6( ]6‬فال يترّد د في أن يستشّف إمكانية أن يكون فيلسوفًا [‪] ...‬‬
‫يرى الكاتب أّن إقليم الفلسفة الحقيقية يتمّد د أمامه‪« ،‬األرض الموعودة» التي ال يشهد في حياته عملية حرثها»‪.‬‬

‫نرى إذًا أّن هسيرل لم يسَع إلى فرض مذهبه‪ ،‬ولكن فتح سبيًال في التساؤل‪ .‬ينبغي اإلشارة إلى أّنه لم يكن زعيم مدرسة فكرية‪ ،‬ولم يلّق ن أّي مبدأ يلتزم به‬
‫تابعوه‪ ،‬لكن كان مصدر الحركة التي كان يمكن (بل ويجب) أن يشارك فيها اآلخرون غيره؛ وبُح كم أّنه كان علمًّي ا‪ ،‬كان َيعتبر أّن العمل الفلسفي هو عمل‬
‫جماعي‪ .‬إّن الدافع نحو الدرب الذي افتتحه هو التصّو ر الجديد للوعي الذي ينفصل عن الطابع العقالني المحض والمجّرد للفلسفة الكالسيكية‪ .‬يمكن تعريف‬
‫الفينومينولوجيا انطالقًا من القول المأثور حول العودة إلى األشياء ذاتها الذي نعت به هسيرل أبحاثه‪ ،‬لكن شريطة أن نشير إلى أّن تلك األشياء المعنية ليست‬
‫هي الحقائق الخارجة عن الذات‪ ،‬ولكن معيش هذه الذات (‪ )les vécus‬الذي ينبغي دراسته قبل كل شيء‪.‬‬
‫ما يعيب عليه هسيرل في النمط الكالسيكي للفكر هو أّنه يكتفي بالكلمات دون األخذ بعين االعتبار المعيش الذي تنطبق عليه تلك الكلمات‪ .‬يلّح هسيرل‬
‫بقّو ة إلى صعوبة التحليل الفينومينولوجي الذي يستدعي من الفينومينولوجي أن يتبّن ى الموقف غير الطبيعي للتفكير الذي به يحّو ل المعيش إلى موضوعات‬
‫للبحث‪ .‬لكن إذا كانت العودة إلى األشياء ذاتها هي في الواقع عودة انعكاسية [تأّم لية] نحو المعيش‪ ،‬فمن الضروري إيضاح مفهوم المعيش‪ .‬وينبغي التمييز‬
‫بين ما ينتمي إلى المعيش وما ينتمي إلى الموضوع نفسه‪.‬‬

‫لنأخذ مثال اللون‪ :‬غالبًا ما نخلط بين إحساس اللون الذي هو معيش الوعي واللون الخاص بالشيء الموضوعي‪ .‬ليس الموضوع في حّد ذاته «داخل» الوعي‪،‬‬
‫ولكن ينطبق في المعيش مع لونه الموضوعي جزء من هذا األخير وهو اإلحساس باللون‪.‬‬

‫يلّح هسيرل على أّن هذا االختالف بين مضمون الوعي والموضوع الخارجي ليس مجّرد اختالف في وجهة النظر التي َتعتبر أّن الظاهرة عينها ُتدَرك تارًة في‬
‫صيغتها الذاتية (كما ُيدركها األنا) وتارًة في صيغتها الموضوعية (بالمقارنة مع الشيء نفسه)‪ .‬يتعّلق األمر باألحرى بغموض في استعمال مصطلح الظاهرة الذي‬
‫يدّل تارًة على معيش البادي من الشيء‪ ،‬وتارًة أخرى الموضوع كما يتبّد ى على ما هو عليه‪.‬‬

‫يقوم التحليل الفينومينولوجي بتبديد هذا الغموض بإرسائه الختالف في الجوهر بين ما ينتمي إلى الوعي وما ينتمي إلى العالم الخارجي‪ ،‬بين المحايث‬
‫والمتعالي‪ .‬ليست الظاهرة بالمعنى الهسيرلي هي الظاهرة بالمعنى الشائع‪ ،‬أي الشيء المتعالي الموضوعي‪ ،‬وال الظاهرة بالمعنى الفلسفي التقليدي‪ ،‬أي‬
‫المظهر في تمّي زه عن الكائن الخفّي للشيء‪ ،‬ولكنها البادي الخالص من الشيء للوعي‪ ،‬معيش الموضوع‪.‬‬

‫إّن هذا اإليضاح في داللة المعيش يؤول إلى تصّو ر جديد للوعي ال يرى في هذا األخير الحاوي‪ ،‬بمثابة علبة تأوي إليها األشياء المنمنمة‪ ،‬ولكن ينطوي على‬
‫فعل الوعي بوصفه قصدية (‪ .)intentionnalité‬يأخذ هسيرل هذا المصطلح عن أستاذه الفيلسوف برنتانو من فيينا‪ ،‬الذي بدوره يعتمد في «السيكولوجيا‬
‫من وجهة نظر تجريبية» على أرسطو‪ ،‬ولكن بتعديل المعنى‪ .‬يتعّلق األمر بالنسبة إليه في التفكير في معيش الوعي كقصد‪ ،‬استهداف الموضوع الذي يبقى‬
‫متعاليًا على الوعي‪ ،‬وهو ما لم تتوّص ل الفلسفة الحديثة إلى القيام به‪ .‬ال يوجد بالتالي شيئان‪ ،‬أحدهما متعاٍل (الموضوع الواقعي)‪ ،‬واآلخر محايث للوعي‬
‫(الموضوع «الذهني»)‪ ،‬ولكن الشيء نفسه‪ ،‬أي الموضوع كما يقصده الوعي‪ .‬فمن الضروري إذن تطهير اللغة المستعَم لة لحّد اآلن‪ :‬ال نتحّد ث عن موضوع‬
‫ذهني أو عقلي‪ ،‬ولكن عن موضوع قصدي‪ ،‬ألّن هذه العبارة األخيرة لها الفضل في القطع مع ما يسّم يه سارتر «وهم المحايثة»‪ ،‬بمعنى التصّو ر الذي َيعتبر أّننا‬
‫نتمّثل الوعي كما لو كان مكانًا تقُطنه األطياف الوهمية لألشياء[‪.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn7( ]7‬‬

‫بهذا التصّو ر للوعي‪ ،‬يكون هسيرل قد أفلح في تحديد المبحث الخاّص بالفينومينولوجيا وهو التضايف بين الذات والموضوع‪ ،‬أو أيضًا وحسب مصطلح‬
‫رئيسي في فكر هسيرل‪ ،‬تأسيس (‪ )constitution‬الموضوع في الذات‪.‬‬

‫لكن ال يمكن لهذا التصّو ر في الوعي أن يكون مخَّص صًا للذات في فرادتها‪ ،‬بل يقتضي اإلحالة إلى تعّد دية في الذوات‪ ،‬وهو ما يسّم يه هسيرل «التذاُو ت»‬
‫(‪ .)intersubjectivité‬غالبًا ما كان لدينا االنطباع في فرنسا‪ ،‬حيث النّص األول المترَج م لهسيرل هو «تأّم الت ديكارتية»‪ ،‬وهو مجموعة من المحاضرات‬
‫ألقاها هسيرل في باريس سنة ‪ ،1929‬بأّن الفينومينولوجيا هي ذات إلهام ديكارتي فحسب‪ ،‬وأّنها ال تأتي سوى في شكل «اإليغولوجيا» (‪ )égologie‬أي خطاب‬
‫حول األنا أو الذات‪ ،‬حيث يضحى مشكل تأسيس الغير هو مشكل حاسم وغير قابل للحل‪.‬‬

‫لكن إذا أخذنا بعين االعتبار المسار الحقيقي لهسيرل‪ ،‬وليس فقط ما ترسمه سلسلة أعماله المنشورة في حياته‪ ،‬فإّننا نكتشف أّن مشكل تأسيس الغير ُيطرح‬
‫في الوقت الذي تصّو ر فيه هسيرل فكرة المنهج الفينومينولوجي‪ ،‬أي في اللحظة التي تخّلى فيها سنة ‪ 1905‬عن األبحاث الرياضية والمنطقية ليؤّس س‬
‫الفينومينولوجيا كفلسفة قائمة بذاتها‪.‬‬

‫في «التأّم الت الديكارتية»‪ ،‬كان يتعّلق األمر بالنسبة لهسيرل االنطالق‪ ،‬على غرار ديكارت‪ ،‬من الطابع البديهي لـ«أنا أفّكر‪ ،‬إذن أنا موجود»‪ ،‬ولكن كان من‬
‫الضروري تجذير الديكارتية‪ .‬حسب هسيرل‪ ،‬لقد خان ديكارت المنطلق الخاص الذي اعتمد عليه عندما جعل من الكوجيتو الحلقة األولى لسلسلة استنباطية‬
‫تذهب من اكتشاف الذات كشيء مفّكر إلى اكتشاف وجود الله والحقيقة اإللهية‪ ،‬ليصل إلى إعادة التوكيد على ما قام التشكيك فيه منذ البداية‪ ،‬عنيُت‬
‫وجود العالم الخارجي‪.‬‬

‫ال يحتفظ هسيرل من ديكارت سوى بعنصر من التفكير أال وهو الكوجيتو‪ ،‬ويدع جانبًا العنصر اآلخر وهو الله‪ .‬حسب هسيرل‪ ،‬ال يدرك اإلله أشياء العالم أفضل‬
‫مّن ا‪ .‬ال يمكننا أبدًا أن ندركها في كلّي تها‪ ،‬ولكن دائمًا بشكل جزئي‪ .‬يأخذ هسيرل مثال المكّع ب الذي ال ندرك منه سوى ثالث جهات دفعًة واحدة‪ .‬إذا افترضنا‬
‫أّن اإلله يدرك األوجه السّت ة للمكّع ب‪ ،‬هذا يعني أّن إدراكنا البشري ال يتيح لنا الوصول إلى حقيقة ما هو موجود‪ .‬فلم ندرك بالتالي سوى مظاهر خالصة‪ ،‬واإلله‬
‫وحده هو القادر على إدراك «الشيء في ذاته»‪.‬‬
‫يؤّكد هسيرل بالعكس أّن إدراك األشياء يستلزم مبدئًّي ا عدم المالءمة‪ ،‬وأّنه «ال يمكن لإلله أن يغّي ر أي شيء من ذلك‪ ،‬وال يمكنه أن يمنع كون ‪ 2+1‬ال تساوي‬
‫‪ ،3‬أو أّن أّي حقيقة جوهرية أخرى ال يمكنها أن تدوم»[‪ .)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn8( ]8‬بالنسبة إليه‪،‬‬
‫ليس اإلله أساس الحقيقة‪ ،‬ولكن مجمل البشر الذين يحملون بأنفسهم مسؤولية تشكيل العالم‪ .‬كما يشير بول ريكور بحّق «بينما عمل ديكارت على تسامي‬
‫الكوجيتو باإلله‪ ،‬قام هسيرل بتسامي األنا (‪ )ego‬باألنا اآلخر (‪ :)alter ego‬كان يبحث في فلسفة التذاُو ت عن األساس األعلى للموضوعية التي كان ديكارت‬
‫يبحث عنها في الصدق اإللهي»[‪.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn9( ]9‬‬

‫نقّد ر في الوقت نفسه الصعوبة التي واجهها هسيرل في هذا المضمار‪ :‬كيف التحّق ق من غيرية اآلخر انطالقًا من األنا‪ ،‬وكيف تشكيل أنا آخر في األنا؟‬

‫يتعّلق األمر إذن بإيجاد في األنا الحوافز التي بها يتجاوز نطاقه الخاص نحو الغير‪ .‬كان هسيرل يسعى باألحرى إلى تبيان أّن «اإليغولوجيا» [علم األنا‪ ،‬علم‬
‫الذات] هي جوهرًّيا منفتحة على الغيرية‪ ،‬وأّن هذا الفائض‪ ،‬الغير‪ ،‬ينخرط كإمكان في تشكيل القصدية ذاتها‪ .‬يتعّلق األمر في تحليل تجربة الغيرية بتبيان أّن‬
‫بنية األنا تفتحه أصلًّي ا على الغيرية‪ .‬ألّنه إذا كانت القصدية في حّد ذاتها بنية تفتح الوعي على ما هو خارج عنه‪ ،‬يمكن فهم أّن اإليغولوجيا ال تتعارض مع‬
‫االعتراف بغيرية الغير‪ .‬في تجربة الغير‪ ،‬يتبّد ى «بلحمه وعظمه» لألنا‪ ،‬دون أن أخلطه بأّي شيء من العالم‪َ .‬بْي د أّن ما يشّكل كينونته الخاّص ة غير معطى لي‬
‫في األصل‪ ،‬وإّال أمكنني أن أحيا معيش الغير‪ ،‬وأن تمتّد حياتي الخاّص ة‪ ،‬ويكون هو بالتالي أنا بالذات‪.‬‬

‫إّن هذه القصدية غير المباشرة للغير يسّم يها هسيرل «الحضور غير المباشر» (‪ ،)apprésentation‬ولكي يوّض ح ما يعنيه بذلك‪ ،‬فهو يقوم بالموازاة بين تجربة‬
‫الموضوع وتجربة الغير‪ .‬هناك أيضًا في التجربة الموضوعية نوع من الحضور غير المباشر‪ ،‬بمعنى الحضور غير المباشر للخفّي من طرف الجلّي ‪ ،‬مثًال الوجه‬
‫الباطن للمكّع ب من طرف الوجه الظاهر‪ .‬يمكن لهذا الحضور غير المباشر أن يتحّو ل إلى حضور [مباشر]‪ ،‬وللباطن أن يصبح الظاهر عندما أقوم مثًال بتكوير‬
‫المكّع ب؛ بينما في حالة الغير‪ ،‬فنحن إزاء باطن مبدئي ال يمكنه أبدًا أن يتحّو ل إلى ظاهر‪ .‬لكن لكي يصبح الحضور غير المباشر لآلخر ممكنًا‪ ،‬ينبغي أن َيحُض ر‬
‫أمامي شيء منه‪ :‬مثال جسد الغير الذي يمكن إدراكه مباشرة كبنية عضوية مشابهة لبنيتي‪ .‬إّن األمر الذي يؤّس س العالقة بالغير هو التماثل الجسدي بيني‬
‫وبينه على قاعدته يمكنني التعّر ف إلى الغير كأنا آخر‪ .‬إّن اإليغولوجيا‪ ،‬شريطة عدم فصلها كلّي ًة عن التجربة الحياتية ومن بينها تجربة التجسيد‪ ،‬ليست إذن‬
‫العائق في إنشاء عالم مشترك بُح كم أّن القصدية هي قادرة على تجاوز ما هو خاّص بي وبلوغ الشيء ذاته‪ ،‬الوجود الحقيقي‪ ،‬الذي هو بالتعريف ال يكون فقط‬
‫بالنسبة إلّي ‪ ،‬ألّن ما يخّص ني بالذات هو ذو بنية غير واقعية أو خيالية أو مظهرية‪ .‬بما أنه يمكنني أن أشّكل في ذاتي أنا آخر‪ ،‬يمكنني أيضًا أن آخذ بعين‬
‫االعتبار العالم في رّم ته والمعطى لتجربتي الخاّص ة كعالم موضوعي يصُلح لكل الذوات‪ .‬فال وجود لموضوع حقيقي إّال بوجود أنا متعّد د‪ ،‬ومعنى ذلك أّن‬
‫التعّد دية في الذوات تشّكل القاعدة لفلسفة واقعية حقيقية‪.‬‬

‫‪ -3‬هايدغر‪ :‬تصّو ر جديد لإلنسان وللوجدانية‬

‫ولد مارتن هايدغر في ‪ 26‬سبتمبر ‪ 1889‬بميسكيرش‪ ،‬بلدة كاثوليكية تقع شمال بحيرة كونستانس‪ ،‬في عائلة متواضعة الدخل (كان أبوه صانع البراميل وخادم‬
‫الكنيسة)‪ .‬لقد كان تلميذًا موهوبًا وواصل دراساته الثانوية في كونستانس ثم في فريبورغ ‪-‬أن‪ -‬بريسغو بفضل الحصول على ِم نح عديدة‪ .‬درس أّو ًال علم‬
‫الالهوت (الثيولوجيا) ثم الرياضيات والفيزياء‪ ،‬وقّر ر أخيرًا التفّر غ لدراسة الفلسفة‪.‬‬

‫من ‪ 1915‬إلى ‪ ،1923‬كان هايدغر أستاذًا مساعدًا في جامعة فريبورغ‪ .‬وخالل هذه الفترة‪ ،‬سنة ‪ ،1917‬تزّو ج من إلفريدي بيتري من أصل بروتستانتي‪ ،‬ولم يكن‬
‫هذا الزواج غريبًا عن ابتعاده التدريجي عن الكاثوليكية‪ُ .‬ع ّي ن سنة ‪ 1922‬كأستاذ غير رسمي في جامعة ماربورغ‪ .‬في هذه الفترة بدأ هايدغر كتابة «الوجود‬
‫والزمان»‪ ،‬وكتبه في معظمه في تودنوبيرغ‪ ،‬قرية من الغابة السوداء حيث قام هايدغر ببناء بيت خشبي الذي أصبح المكان المفّض ل للعمل‪ .‬صدر الكتاب‬
‫الذي أهداه لهسيرل في فبراير ‪ ،1927‬وفي السنة الموالية شغل كرسي في جامعة فريبورغ خلفًا لهسيرل‪ .‬إّنها بداية شهرة كبيرة لهايدغر الذي ظهر وقتها‬
‫كشخصية نافذة في الفلسفة األلمانية‪ ،‬لكن عالقته بهسيرل أصبحت شائكة‪ ،‬وباإلضافة إلى االختالف الفلسفي جاء الخالف السياسي عندما َقِب ل هايدغر‬
‫بتوّلي عمادة جامعة فريبورغ في أبريل ‪.1933‬‬

‫إّن فترة االلتزام السياسي لهايدغر في النازية كانت قصيرة‪ ،‬ألّنه سيستقيل من منصبه كعميد الجامعة في نهاية فبراير ‪ ،1934‬لكنه لم يكن قرارًا انتهازًّيا‪ ،‬كما‬
‫تشهد على ذلك النصوص السياسية لفترة ‪.1934-1933‬‬

‫خالل حكم هتلر‪ ،‬كّر س هايدغر كامل وقته للتدريس‪ .‬في سنة ‪ ،1945‬أصدرت سلطات االحتالل الفرنسية ضّد ه مرسومًا يعّلق وظيفته كأستاذ بسبب التزامه‬
‫السابق‪ .‬وهي الفترة التي بدأ تأثيره يتنامى في فرنسا حيث سادت الفلسفة الوجودية‪ .‬في سنة ‪ 1946‬التقى بجون بوفريه وأهدى له سنة ‪« 1947‬رسالة في‬
‫اإلنسانية»‪ .‬تّم أعيد إدماجه سنة ‪ 1951‬إلى وظيفته كأستاذ وسُي دّر س إلى غاية ‪ 1957‬كأستاذ شرفي‪ .‬في ندوة سيريزي[‪]10‬‬
‫(‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn10‬سنة ‪ 1955‬التي ألقى فيها محاضرته الشهيرة «ما هي الفلسفة؟»‪ ،‬التقى‬
‫بالعديد من الفالسفة الفرنسيين‪ ،‬وفي مروره عبر باريس تعّر ف إلى الشاعر رونيه شار الذي دعاه إلى الفوكلوز[‪]11‬‬
‫(‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn11‬حيث سيقيم فيه لعّد ة مّر ات وينّظم محاضرات مع أصدقائه الفرنسيين‪.‬‬
‫دفعه السجال حول ماضيه السياسي[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn12( ]12‬إلى اإلدالء بحوار مع [صحيفة]‬
‫«شبيغل» (‪ )Spiegel‬في سبتمبر ‪ ،1966‬لكن شريطة أن ُينَش ر الحوار بعد موته‪.‬‬

‫لقد خّص ص السنوات األخيرة من حياته في إعداد الطبعة الكاملة ألعماله حيث سيشهد صدور األعداد األولى منها قبل وفاته في فريبورغ في ‪ 26‬مايو ‪.1976‬‬
‫تشتمل الطبعة الكاملة ألعمال هايدغر التي سيدوم صدورها العشرات من السنوات على أكثر من ‪ 80‬مجّلدًا‪ ،‬حيث ‪ 45‬منها هي عبارة عن محاضرات‪ .‬أيام‬
‫قليلة قبل وفاته‪ ،‬أبرز هايدغر في الطبعة الكاملة ألعماله القول المأثور التالي‪« :‬مسارات‪ ،‬ال أعمال»‪ .‬كان يشير بذلك إلى قّر ائه في المستقبل أّن فكره ال ُيختَز ل‬
‫في مجموعة من األطروحات‪ ،‬وأّنه كان يحتفظ في ُبعده التساؤلي على طابعه كمسار غير مكتمل‪.‬‬

‫لقد كان هايدغر أستاذًا قبل أن يكون صاحب كتاب أساسي‪« ،‬الوجود والزمان»‪ ،‬المنشور سنة ‪ ،1927‬والذي نعته إيمانويل لفيناس‪ ،‬الذي كان طالبًا في‬
‫ستراسبورغ منذ ‪ 1923‬وشهد محاضراته في سنة ‪ 1929-1928‬في فريبورغ‪ ،‬على أّنه أهّم كتاب إلى جانب «فينومينولوجيا الروح» لهيغل‪ .‬لقد طّو ر هايدغر‬
‫في دروسه في ماربورغ التي حضرتها حنه أرندت تصّو ره حول كائن اإلنسان‪ .‬لقد رفض بذلك أن يستعمل اللغة السارية المفعول في الفلسفة الحديثة‬
‫ومصطلحات الذات أو الوعي التي بدت له غير مالئمة لوصف اإلنسان وانتقد فيها أيضًا التعريف التقليدي لإلنسان كحيوان ناطق‪ .‬تعيين اإلنسان كـ«ذات»‬
‫هو افتراض وجود قوام ثابت أو نواة صلبة‪ ،‬بينما ما يمّي ز اإلنسان عند هايدغر هو بالضبط أّنه زماني من جانب إلى جانب‪ .‬التفكير في اإلنسان انطالقًا من‬
‫الوعي هو إدراك فقط الُق درات العقلية وعدم األخذ بعين االعتبار ما يسّم يه هايدغر «الوجود المحايث» (‪ )facticité‬والذي ال ينطوي فقط على الجسدية‬
‫(‪ )corporéité‬ولكن أيضًا التحديدات التاريخية والجغرافية‪.‬‬

‫وتعريف اإلنسان على أّنه حيوان ناطق‪ ،‬معناه تقسيمه إلى جزأين حيث نتساءل كيف يمكنهما أاَّل يجتمعا على اإلطالق‪ .‬ينبغي استحضار الصعوبات التي‬
‫واجهها ديكارت الذي انطلق من تصّو ر ثنائي لإلنسان وتخّي ل أّنه يمكن تفسير كيف أّن الجسم يتأّثر بالعواطف مثله مثل النفس‪ ،‬وأّن مقّر النفس هو الغّد ة‬
‫الصنوبرية التي توجد في الدماغ‪ .‬أراد هايدغر القطع مع هذه التعريفات التقليدية وإعداد تصّو ر لإلنسان في رّم ته‪ .‬لهذا السبب يدع جانبًا مفاهيم الجسم‬
‫والنفس لصالح الوجود‪ ،‬والمسّم ى في األلمانية «إكسيستنز» (‪ .)Existenz‬لكن يأخذ هذه المفردة في اشتقاقها اللغوي بمعنى الخروج (‪ )ex‬من العطالة ومن‬
‫الفعل (‪ )sistere‬الذي يعني أْو َقف‪َ ،‬قَب ض؛ والفعل (‪ )exsistere‬في الالتينية معناه برز‪َ ،‬خَر ج من األرض‪َ ،‬ظَه ر‪ ،‬قبل أن يكتسب داللة َو َج َد ‪.‬‬

‫ما يوّس عه في «الوجود والزمان» هو تحليل الوجود حيث المعنى العميق هو الزمانية (‪ .)temporalité‬ما يمّي ز الموجود ليس تمركزه حول ذاته‪ ،‬ولكن بالعكس‬
‫انفتاحه على العالم‪ ،‬على اآلخرين وعلى ذاته‪ .‬لهذا السبب يحّد ده هايدغر ككائن في العالم بالمعنى الذي ال ينفّك فيه عن عالقته بالعالم المجاور (‪)Umwelt‬‬
‫تمامًا مثل الكائنات الحّي ة‪ .‬لكن خالفًا للحيوان الذي يمتلك طبيعة ثابتة نسبًّي ا وسلوك تقوده الغريزة‪ ،‬فإّن اإلنسان هو كائٌن مجّرد من الطبيعة‪ ،‬ومعنى ذلك أّنه‬
‫كائٌن حّر ‪.‬‬

‫إّن نقد فكرة «الطبيعة البشرية» حظي بشعبية في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية مع سارتر الذي أشاع في كتابه «الوجود والعدم» المنشور سنة ‪1943‬‬
‫أفكار هايدغر المعروضة سنة ‪ 1927‬تحت اسم «الوجودية»‪ ،‬وهي مفردة لم يخترعها سارتر نفسه‪ ،‬وإّنما استحدثها الصحافيون الحريصون على إعطاء شعار‬
‫لنمط جديد من التفكير‪.‬‬

‫َقِب ل سارتر باستعادة هذه المقولة لصالحه من أجل نعت فلسفته‪ .‬ليست مفردة الوجود بالنسبة إليه كما بالنسبة لهايدغر مفهومًا عاًّم ا يمكن تطبيقه على أّي‬
‫شيء للداللة على أّنه موجود وحيث يكون المقابل هو مفهوم الجوهر ليدل على ما هو الشيء بطبعه؛ ولكن على العكس‪ ،‬المفردة هي اسم يدّل على نمط وجود‬
‫اإلنسان‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬فقط اإلنسان يوجد‪ ،‬وال توجد األحجار واألشجار‪ ،‬فهي هي فقط‪ ،‬ألّن الوجود معناه عقد عالقة باآلخر غير الذات‪ ،‬والقدرة على الخروج‬
‫‪-‬من‪ -‬الذات‪ ،‬الظهور (‪ )ex-istere‬بالمعنى الحرفي‪.‬‬

‫يستعمل سارتر مصطلح الوجود بالداللة نفسها التي استعملها هايدغر‪ ،‬ولكن يسعى فضًال عن ذلك إلى الكشف بشكل دقيق عن موقفه الفلسفي كوجودي‪ .‬ما‬
‫يقصده بالوجودية هو موقف فلسفي يتعارض مع موقف الفلسفة الكالسيكية‪ ،‬العريقة والحديثة‪ ،‬التي يمكن نعتها بأّنها فلسفة جوهرانية أو ماهوية‬
‫(‪ .)essentialisme‬بالنسبة للفيلسوف الماهوي‪ ،‬الماهية سابقة على الوجود‪ ،‬وتحديد الشيء يسبق الشيء ذاته‪ .‬بالنسبة إليه‪ ،‬كل شيء يمكن تشبيهه‬
‫بالمنتوج المنَج ز‪ ،‬بما في ذلك اإلنسان نفسه‪ .‬إذا تبّن ينا التصّو ر التقني للعالم‪ ،‬إذا اعتبرنا كل ما هو كائن كنتيجة لسيرورة اإلنتاج‪ ،‬ينبغي أن نعترف أّن هذه‬
‫السيرورة غير ممكنة سوى على أساس نموذج وُح سن‪-‬األداء وفكرة معّي نة عن الغائية التي نسير ُو فقها‪ .‬كل هذا يدخل في إطار ما يسّم ى على نحو تقليدي‬
‫«الماهية»‪ .‬بالنسبة لطاولة أو كرسي‪ ،‬ال بّد للماهية أن تسبق الوجود‪ ،‬وأّن فكرة ما ينبغي إنتاُج ه تسبق اإلنتاج ذاته‪ .‬األمر نفسه يتعّلق بالكائنات البشرية‬
‫حسب الماهويين‪ .‬فهم يعتبرون اإلنسان كخليقة‪ ،‬أي أّنه مخلوق من طرف هذا التقني األكبر وهو الله‪.‬‬
‫الماهويون هم ألوهيون (‪ )théistes‬على غرار ديكارت الذي يعتبر أّن وجود الله وحده يمكنه أن يدرك كينونة اإلنسان‪ .‬مفهوم الطبيعة البشرية غير صالح‬
‫سوى في إطار نظرية الخلق‪ .‬إذا رفضنا هذه النظرية في خلق العالم من طرف الله‪ ،‬فإّنه يتوّج ب علينا أيضًا رفض فكرة الطبيعة البشرية‪ .‬وهو ما يفعله الملحد‬
‫الوجودي‪ ،‬موقف فلسفي تبّن اه سارتر لذاته‪ .‬حسب نظره‪ ،‬يوجد اإلنسان قبل تحديده التصّو ري‪ .‬فهو الكائن الوحيد الخالي من الطبيعة‪ ،‬ألّنه ذاتية محضة‪،‬‬
‫بمعنى مشروع خالص في الذات أو ألجل الذات تبعًا للمصطلح الذي يستعمله في «الوجود والزمان»‪« :‬فهو ليس شيئًا آخر سوى ما يفعله بنفسه»‪ .‬ذلكم هو‬
‫المبدأ األّو ل للوجودية حسب سارتر‪ :‬يمكننا انطالقًا من العدم أن نخلق وجودنا الخاص‪ ،‬وأن نبتكر كل يوم في حياتنا‪.‬‬

‫فلسفة سارتر هي إذن فلسفة في الحرية‪ ،‬مثلها مثل فلسفة هايدغر‪ .‬لكن بالنسبة لهايدغر‪ ،‬ال يكفي أن تعلن أنك «وجودي»‪ ،‬وهو ما سيرفضه في الوقت الذي‬
‫أصبح فيه سارتر مشهورًا؛ بل ينبغي تبيان بشكل واقعي ما هي البنيات األساسية للوجود‪.‬‬

‫تأتي هذه البنيات حسب هايدغر من الطابع الزمني للوجود البشري الذي هو منفتح مبدئًّي ا على المستقبل وعلى اإلبداع‪ ،‬عكس الحياة الحيوانية التي هي‬
‫تكرار‪ .‬اإلنسان هو‪ ،‬من هذه الوجهة في النظر‪ ،‬عبارة عن كائن غير مكتمل هيكلًّي ا‪ ،‬بينما يتوّص ل الحيوان إلى إنجاز كينونته بحكم أّنه يخضع إلى صوت‬
‫الطبيعة‪ .‬لكن‪ ،‬من جانب آخر‪ ،‬إذا كان [اإلنسان] يفتقر إلى «الطبيعة» التي تظل نفسها أًّيا كان المجتمع أو العصر الذي يحيا فيه‪ ،‬فهو يرث فضًال عن ذلك‬
‫بعض التحديدات التي ال يختارها‪ .‬إّن هذه التحديدات‪ ،‬الجنس‪ ،‬الصفات الجسدية‪ ،‬الثقافية‪ ،‬التاريخية‪ ،‬هي التي يصطلح عليها هايدغر اسم «الوجود‬
‫المحايث» والذي يحيل إلى ماٍض يتوّج ب االضطالع به‪ ،‬حتى وإن كان بغرض الثوران عليه أو االنفصال عنه‪ .‬فالكائن البشري هو‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬مفتوح‬
‫على المستقبل وفي صيرورة دائمة بوصفه كائَن مشروٍع يرتبط بماٍض يتحّم له وبصفته «ملقى في العالم»‪.‬‬

‫يتعّلق األمر بالنسبة لهايدغر بإنتاج تأويل أصلي لإلنسان يختلف عن التأويل الفلسفي التقليدي الذي يرى فيه مرّكب من مادة جسمية ومن صورة روحية‪.‬‬
‫ينبغي تحديد كائن اإلنسان باسم واحد وهو «الهّم » (‪ ،)souci‬ليس بالمعنى االعتيادي لهذه المفردة‪ ،‬ولكن بمعنى أّن الشيء الذي يمّي ز اإلنسان بشكل أساسي‬
‫هو العالقة غير العقلية في االنشغال والعناية التي يرعاها مع ذاته ومع اآلخرين ومع األشياء‪.‬‬

‫لم يكن هذا الخيار المعجمي اعتباطًّي ا‪ ،‬ألّن هايدغر يستند هنا إلى المعنى المزدوج للمفردة الالتينية «كورا» (‪ )cura‬التي تعني في الوقت نفسه العناية والهّم‬
‫(الحظ ذلك في اإلنجليزية‪ )care :‬تمامًا مثل األلمانية (‪ .)Sorge‬يستند هايدغر في ذلك إلى حكاية لشاعر التيني من القرن األول‪ ،‬هايغن (‪ ،)Hygin‬أثارت‬
‫انتباه غوته (‪ )Goethe‬والتي تشهد قبل كل تحليل فلسفي على وجود تصّو ر قبل‪-‬فلسفي حول اإلنسان بوصفه كائنًا يمكن تحديده كهّم ‪.‬‬

‫يبقى فقط أن نحّد د إلى أّي مدى يمكن لهذا التعريف لإلنسان أن يكون واقعًّي ا‪ .‬يرفض هايدغر أن يحّد د اإلنسان تبعًا لُقُد راته العقلية‪ ،‬بل يفّض ل تبيان أّن‬
‫اإلنسان يقع على المستوى العملي‪.‬‬

‫هذه األهمية التي كان يوليها للممارسة شّد ت انتباه معاصريه إلى درجة أّن هربرت ماركوز‪ ،‬الذي كان طالبه والذي سيصبح بعد هجرته إلى أمريكا مفّكر‬
‫الستينيات [من القرن العشرين] بفضل كتابه «اإلنسان األحادي الُب عد»[‪http://kalema.net/home/admin/rg.php?( ]13‬‬
‫‪ ،)act=art&cmd=add#_ftn13‬اعتبر أّنه باإلمكان جعل «الوجود والزمن» في عالقة مع فكر ماركس‪ ،‬وعلى الخصوص ماركس الشاب حيث سيتّم اكتشاف‬
‫المخطوطات الباريسية سنة ‪ 1844‬ونشرها عام ‪ 1932‬من طرف الندسهوت‪ ،‬أحد طلبة هايدغر‪ .‬عالوة على رّد االعتبار إلى الممارسة‪ ،‬هناك أيضًا رّد االعتبار‬
‫للوجدانية (‪ )affectivité‬عند هايدغر‪ .‬لقد اُّتِف ق في إطار العقالنية الحديثة أن يظل الموقف النظري خالصًا من كل اختالط بمجال العواطف‪ .‬لم يكن األمر‬
‫كذلك في زمن ميالد الفلسفة التي ظّلت تحت تبعية هذا اإلجراء العاطفي في شكل الـ«توماتزاين» (‪ )thaumazein‬أي الدهشة التي أشار إليها هايدغر في‬
‫محاضرته بسوريزي تحت عنوان «ما هي الفلسفة؟» واعتبرها [الدهشة] الـ«أركي» (‪ )arkhè‬أي في الوقت نفسه أصل التفلسف والمبدأ الذي يدّبره في رّم ته‪.‬‬

‫يبقى مع ذلك أّن تعريف اإلنسان كحيوان عاقل أساس التصّو ر العريق والحديث لكينونة اإلنسان بوصفه كائنًا مرّك بًا من جزأين مختلفين‪ ،‬أحدهما يتقاسمه مع‬
‫الحيوان‪ ،‬واآلخر ينفرد به‪ ،‬يدفع إلى وضع المجال العاطفي برّم ته في جهة ما ينتمي إلى حيوانية اإلنسان‪.‬‬

‫الجديد في التصّو ر الهايدغري لإلنسان هو الدور الذي يوليه إلى مجال النبرات واالستعدادات العاطفية‪ ،‬وعنيُت بذلك الكشف األصلي للعالم بُح كم أّن‬
‫اكتشاف أّي شيء ال يتأّس س على الحساسية الخالصة وال على المشاهدة المحضة‪ ،‬ولكن في الُق درة على الوعي بأّنه [اإلنسان] معنٌّي بما َيمُثل أمامه‪ .‬فنحن‬
‫نقع في العالم ومشاعرنا هي انعكاس لهذه الوضعية‪ .‬فليست هذه المشاعر شيئًا جّو انًّي ا وخاًّص ا بالذاتية‪ ،‬ولكن يمكنها أن تنتشر نحو الخارج كبيئة أو كنبرة‪.‬‬
‫فالنبرات العاطفية هي تواصلية كما نعرف‪ :‬كل شيء يصبح مبتهجًا حول المِرح‪ ،‬وحول كل كئيب هناك الكآبة‪ .‬بفضل اإلحساس أتواصل بالعالم الذي أعيش‬
‫فيه ويشّكل جوهرًّيا هذه العالقة التي ال يمكن تعليقها‪.‬‬
‫لقد افترضنا بأّن تبّن ي موقف نظري خالص‪ ،‬عند الفيلسوف أو العالم‪ ،‬يقتضي كبت كل إحساس عاطفي‪ .‬في الواقع‪ ،‬يتعّلق األمر بتفضيل حالة معّي نة من‬
‫اإلحساس في شكل الالمباالة غير الكاملة التي تأتي من كون أّننا عندما نفّكر ال يمكننا أن ننشغل بالضروريات المباشرة للحياة‪ ،‬وال يعني هذا األمر أّننا نقمع‬
‫كل شعور في أعماقنا‪.‬‬

‫ينبغي التذكير في هذا الصدد أّن الفلسفة نشأت عن الـ«سكوليه» (‪ )scholè‬أي الترفيه الذي أجازته الوضعية التي كانت تجعل من العبيد في المدينة‬
‫اإلغريقية يتفّر غون للنشاطات الحيوية‪ ،‬تاركين للمواطنين الوقت للنقاش في الـ«األغورا» (‪ )agora‬أي السوق‪ .‬بدًال من التمييز بين المظهر العقلي والمظهر‬
‫الحّس ي للعالقة باألشياء وعوض منح ألحدهما أو لآلخر دورًا تأسيسًّي ا بتبّن ي وجهة النظر الواقعية أو وجهة النظر المثالية‪ ،‬يتعّلق األمر بالنسبة لهايدغر‬
‫بالتفكير في أصليتهما المشتركة (‪ )co-originarité‬وتشابكهما بحيث ال تكون هنالك نظرية (‪ )theôria‬تنفك عن العاطفة وال العاطفة الفّظة خالية من‬
‫التفكير‪ .‬ما يهدف إليه هايدغر هو تقديم تعريف لإلنسان ال يتأّس س على تأويل ثنائي لكينونته‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬تطّو ر الفينومينولوجيا في فرنسا‬

‫لقد رأينا أّن الواقعة األساسية للحداثة هي تحرير اإلنسان‪ ،‬وهو الحدث الذي كان أصل «األنوار» التي مّي زت نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا‪ .‬بدًال من أن‬
‫يعتمد اإلنسان على اآلخرين‪ ،‬على األمراء أو اإلله‪ ،‬في تدبير وجوده‪ ،‬فهو يتحّكم في مصيره ويرتقي إلى الشعور بكرامته الشخصية‪ ،‬في الوقت الذي تختفي‬
‫فيه‪ ،‬على األقل في األنظمة الديمقراطية‪ ،‬العالقات التراتبية التي كانت تنّظم في السابق الروابط بين البشر‪ ،‬وكانت المصدر في التصّو ر الذي كان الفرد‬
‫يصوغه حول ذاته‪ ،‬كفرد «أعلى» أو «أدنى»‪.‬‬

‫الحرية والمساواة ‪-‬بوصفها عبارات جمهورية‪ -‬هي أساس الصورة الحديثة لإلنسان الذي يتشّي د باستمرار بفضل تطّو ر العلم بوصفه «سّي د الطبيعة ومالكها»‬
‫تبعًا لمقولة ديكارت‪ .‬يختفي الُب عد الترنسندنتالي تدريجًّي ا بمقدار ما تنحسر المعتقدات الدينية ويتقّد م اإللحاد‪ ،‬ويتوّج ه إنسان القرن العشرين نحو التمركز‬
‫حول ذاته‪ .‬هكذا منذ نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬تزايد االهتمام بعلوم اإلنسان وعلم النفس على وجه التحديد‪ .‬إذ تأخذ الحياة الباطنية لإلنسان وعالقة الفرد‬
‫بذاته قدرًا كبيرًا من األهمية وتتفّو ق على ما عداها من االعتبارات‪ .‬لقد اّتجه التفكير الفلسفي نحو التركيز على اإلنسان وحده وأصبحت الفلسفة خطابًا حول‬
‫اإلنسان وحول الثقافة اإلنسانية‪ .‬وبالتالي فإّن الُب عد المسّم ى «الميتافيزيقا»‪ ،‬الذي كان يرتبط باألسئلة الجوهرية حول أصل اإلنسان ومصيره‪َ ،‬فَق د من قيمته‪.‬‬

‫وكرّد فعل على هذا التوّج ه النفساني الذي تعّز ز باألهمية التي اكتسبها التحليل النفسي في النصف الثاني من القرن العشرين‪ ،‬قام الفالسفة المشهورون في‬
‫القرن العشرين‪ ،‬مثل سارتر وميرلوبونتي في فرنسا‪ ،‬بتطوير فلسفة في الحرية التي اصُطلح عليها‪ ،‬مباشرة بعد الحرب‪ ،‬باسم «الوجودية»‪ .‬إذ‪ ،‬في نظر‬
‫الوجودية‪ ،‬ال يكتفي اإلنسان بالعيش كما تفعله الحيوانات‪ ،‬بل هو يوجد بالمعنى الذي يصبح فيه مفتوحًا على العالم‪ ،‬بوصفه كائنًا ‪-‬في‪ -‬العالم‪ ،‬وليس بوصفه‬
‫ذات ُتحّد دها حياته الباطنية‪ ،‬بمجّرد تفكيره كما أراد ديكارت‪.‬‬

‫في محاضرة شهيرة ألقاها سارتر سنة ‪ ،1946‬عمد إلى تبيان أّن الوجودية ليست مجّرد فلسفة رهينة الموضة‪ ،‬تمّج د الفردانية وتحرير كامل لكل المحظورات‬
‫ولكل الممنوعات االجتماعية والدينية‪ ،‬بل هي أيضًا نزعة إنسانية (‪ )humanisme‬تشّد د على الحرية البشرية وقدرة اإلنسان على االختيار بالمقارنة مع‬
‫الكائنات األخرى‪.‬‬

‫َيعتبر الفكر الكالسيكي أّن اإلنسان مخلوق من طرف هذا الصانع األكبر للكون وهو اإلله‪ .‬يذهب سارتر عكس هذا الجزم‪ :‬ال وجود لإلله‪ ،‬ويخرج بنتائج أهّم ها‪:‬‬
‫ال وجود لطبيعة بشرية خاّص ة‪ .‬ال يمكن تحديد اإلنسان بفكرة مسبقة ألّنه ال وجود إلله يمكن أن يفّكر فيه قبل أن يخلقه‪ .‬ليس اإلنسان «سوى ما يحدث»‪.‬‬
‫ذلكم هو المبدأ األّو ل للوجودية‪ :‬اإلنسان هو صانع وجوده وليس اإلله‪ .‬وهو ما يشّكل كرامته‪ .‬ليس اإلنسان سوى المشروع الحّر الذي يشّكله حول ذاته‪ ،‬فال‬
‫وجود ألزل‪« :‬ال شيء مكتوب في سماء العقل»‪ .‬إذا اختار اإلنسان بمحض إرادته نمط حياته‪ ،‬فمعناه أّنه المسؤول الوحيد عن ذاته وال يمكنه أن يّت هم اإلله أو‬
‫القدر حول المآسي التي تصيبه‪.‬‬

‫يذهب سارتر إلى أبعد من ذلك‪ :‬فهو يؤّكد أّن اإلنسان مسؤول ليس على ذاته فحسب‪ ،‬بل وعلى جميع البشر‪ .‬كل إنسان يلتزم بقراراته [إشراك] البشر‬
‫جميعهم‪ ،‬ألّنني إذا أثبُّت لذاتي هذا الشيء أو ذاك‪ ،‬فإّنني أقّر ر ما هو جّي د في المطلق وليس فقط بالنسبة إلّي ‪« :‬باختيار ذاتي أختار اإلنسان‪ .‬وكأّن البشرية‬
‫كلها ترصد ما يفعله كل إنسان وتنتظم حسب ما يفعله»‪.‬‬

‫سارتر الذي يعترض بقّو ة على التحليل الفرويدي‪ ،‬يذهب إلى حّد التوكيد على أّننا مسؤولون عن عواطفنا الخاّص ة‪ ،‬ألّن استحضار العاطفة كظرف مخّف ف‬
‫معناه إيجاد ذريعة كاذبة‪ .‬يقوم سارتر بتطوير تصّو ر حول اإلنسان يطال نتائجه القصوى‪ ،‬مفاده أّن اإلنسان هو كائن حّر ‪ .‬في المقابل‪ ،‬قاد نجاح التحليل‬
‫النفسي إلى صورة مغايرة لإلنسان ككائن منقسم بين العقل والالعقل‪ ،‬بين الوعي والالوعي‪ .‬فاألحداث التراجيدية التي مّي زت تاريخ القرن العشرين من حروب‬
‫وإبادة وعنف يبدو أّنها تعطي الحّق ألولئك الذين يعترفون في اإلنسان عن جانب معتم من الالمعقول واإليديولوجيات التي تسّي ره (النازية‪ ،‬الفاشية‪،‬‬
‫الشيوعية) ُتبرز حدود فلسفٍة في الحرية‪.‬‬

‫‪ -1‬سارتر (‪ :)1980-1905‬سؤال الخيال والفّن‬

‫عندما شرعُت في دراسة الفلسفة في بداية الستينيات [من القرن العشرين]‪ ،‬كان سارتر في أوّج شهرته‪ .‬إذ في تلك الفترة‪ ،‬سنة ‪ 1964‬بالضبط‪ُ ،‬م نحت له‬
‫جائزة نوبل في األدب‪ .‬لكنه رفض الجائزة كما تعلمون‪ .‬لم يكن يبحث عن اعتراف رسمي‪ ،‬لقد كان مشهورًا في العالم كّله‪ .‬بُح كم أّنه كان يعارض مبدئًّي ا كل‬
‫مكافأة شعبية‪ ،‬فهو رفض تلك الجائزة‪ .‬كان يرغب دائمًا في أن يكون حًّر ا كفرد‪ .‬إذا كان مشهورًا وقتئذ‪ ،‬ليس فقط لكونه فيلسوفًا‪ ،‬ولكن ألّنه كان أيضًا كاتبًا‪،‬‬
‫روائًّي ا‪ ،‬أديبًا درامًّي ا‪ ،‬وكاتب مقاالت‪ .‬غالبًا ما كان ُيقاَر ن في فرنسا بفولتير‪ ،‬أكبر فيلسوف في عصر األنوار‪ ،‬والذي كان أيضًا فيلسوفًا وأديبًا درامًّي ا وكاتب‬
‫مقاالت شهير‪ .‬ال شّك في أّن البعض منكم قرأ الرواية التي عّر فت الجمهور بسارتر‪ ،‬وعنيُت بها «الغثيان» (‪ ،)La nausée‬الصادرة سنة ‪1938‬؛ أو سمع‬
‫بمسرحياته‪« :‬أبواب مغلقة» (‪ )1944‬أو «األيادي القذرة» (‪ )1948‬أو أيضًا «الذباب» (‪ .)1943‬رغم ذلك‪ ،‬كان في األصل فيلسوفًا ولم يختر وسيط األدب سوى‬
‫إليصال أفكاره الفلسفية ألكبر عدد ممكن من األشخاص‪ ،‬وأوّد اإلشارة إلى أّنـه مسعى فرنسي نموذجي‪ ،‬بالمعنى الذي تكون فيه األفكار في فرنسا أهّم في‬
‫األدب من األحاسيس‪ ،‬وأّنه من السهل رّبما الجمع بين الفلسفة واألدب أكثر من أّي مكان آخر‪ .‬لقد كان سارتر تجسيدًا لما سّم يناه نحن الفرنسيون بالمثقف‪.‬‬

‫ولد [سارتر] سنة ‪ 1905‬وتوفي في ‪ 15‬أبريل ‪ 1980‬عن عمر يناهز الخامسة والسبعين‪ُ .‬د فن في أكبر مقبرة في باريس‪ ،‬مقبرة مونبارناس‪ ،‬ليس بعيدًا عن‬
‫المكان الذي كان يسكن فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية‪ .‬في نهاية حياته‪ ،‬كان مريضًا وضريرًا بشكل شبه كامل وانقطع عن الكتابة‪ .‬آخر كتاباته‬
‫«فلوبير‪ ،‬أبله العائلة»‪ ،‬وهو مشروع ضخم في شكل سيرة حياة «كاملة» للروائي الفرنسي الشهير‪ ،‬حيث صدرت األجزاء الثالثة (حوالي ثالثة آالف صفحة) سنة‬
‫‪ 1971‬و‪ 1972‬وبقيت غير مكتملة‪ .‬اعترف بأّنه ال يمكنه تدوين الجزء الرابع‪ .‬في إحدى مقابالته األخيرة‪ ،‬سنة ‪ ،1975‬أعلن سارتر بأّنه يشعر نفسه «قد فاته‬
‫الزمن»[‪.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn14( ]14‬‬

‫صحيح أّن بعد مايو ‪ ،1968‬عندما قّر ر أن يساند نوعًا ما اليساريين‪ ،‬بدأ يفقد تدريجًّي ا من شعبيته في الرأي العام للجيل الشاب الجديد الذي توّج ه وقتها نحو‬
‫االهتمام بمفّكرين آخرين أمثال ليفي ستروس‪ ،‬الكان‪ ،‬فوكو‪ ،‬دلوز‪ ،‬بارت‪ ،‬دريدا‪ ،‬إذا استشهدُت باألسماء الرائجة آنذاك‪ .‬لكن منذ وفاته‪ ،‬تغّي رت األمور في‬
‫فرنسا وكانت الحاجة إلعادة قراءة سارتر‪ ،‬رّبما ألّن بعد فترة طويلة شهدت هيمنة اإليديولوجيات المتعّد دة‪ :‬الماركسية‪ ،‬البنيوية‪ ،‬النفسانية التحليلية؛ جاء‬
‫الوقت إلعادة اكتشاف فلسفة هي فلسفة في الحرية بامتياز‪.‬‬

‫أعلن سارتر سنة ‪ 1968‬في الوقت الذي نعيد فيه قراءة مؤّلفاته‪ ،‬فإننا نكتشف أّنه لم يتغّي ر بتاتًا وأّنه ظل فوضو ًّيا على الدوام‪ .‬فوضوٌّي نعم‪ ،‬لكن ليس بالمعنى‬
‫السياسي للكلمة (لم يكن لسارتر من اّتصال بالحركة الفوضوية)‪ ،‬بل بالمعنى الحرفي للمقولة (تعني الفوضوية غياب السلطة)‪ ،‬بُح كم أّنه عارض دائمًا كل‬
‫أشكال الهيمنة والسلطة‪ ،‬سواء تعّلق األمر بهيمنة اإلله على البشر (سارتر هو ملحد مجاهر)‪ ،‬أو هيمنة الطبيعة على الكائنات البشرية (يعّر ف سارتر نفسه على‬
‫أّنه وجودي‪ ،‬ويقتضي ذلك نفي «طبيعة» ثابتة عند اإلنسان)‪ ،‬أو هيمنة اإلنسان على اإلنسان (كان سارتر على يقين بأّن الماركسية ونظريتها في صراع‬
‫الطبقات كانت تشّكل «األفق الذي يتعّذ ر مجاوزته في زمننا الراهن»‪ ،‬رغم أّنه لم ينخرط أبدًا في الحزب الشيوعي الفرنسي وأصبح بعد ‪ 1968‬ناقدًا الذعًا‬
‫للماركسية السوفييتية)‪.‬‬

‫يمكننا أن نجد هذه الفلسفة في الحرية في المؤّلفات األولى لسارتر والتي سأعطي عنها اآلن لمحة مقتضبة‪ .‬درس سارتر الفلسفة في مدرسة األساتذة‬
‫العليا[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn15( ]15‬المرموقة في شارع أولم (‪ )rued’ Ulm‬في باريس‪ ،‬وتحّص ل‬
‫على إجازة في تدريس الفلسفة سنة ‪ .1929‬التقى سيمون دي بوفوار في تلك الفترة‪ ،‬والتي أصبحت رفيقته حتى وفاته (وعاشت حتى سنة ‪ ،)1987‬كما أّنه‬
‫التقى العديد من الفالسفة الشباب الذين سيصبحون مشهورين أمثال ريمون آرون‪ ،‬وموريس ميرلوبونتي‪ ،‬وكلود ليفي ستروس (الوحيد من بينهم الذي ال‬
‫يزال على قيد الحياة)[‪.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn16( ]16‬‬

‫يمكن تشكيل فكرة دقيقة حول ما كانت عليه األجواء الفكرية في تلك الفترة وذلك بقراءة مذّك رات سيمون دي بوفوار‪ ،‬خصوصًا «مذّك رات فتاة مهَّذ بة» و«قّو ة‬
‫الُع مر»‪ .‬بعد اإلجازة‪ ،‬دّر س سارتر الفلسفة في ثانوية في [مدينة] هافر (‪ )Le Havre‬وفي سنة ‪ 1934-1933‬قضى سنة في برلين لدراسة الفلسفة األلمانية‪ .‬كان‬
‫سارتر يتكّلم بطالقة اللغة األلمانية؛ ألّنه عندما َفَق د والده في الِص َغ ر‪ ،‬كان تحت رعاية عائلة والدته من أصل ألزاسي[‪]17‬‬
‫(‪ .)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn17‬كان عّم ه كارل شفايتزر متخّص صًا جرمانًّي ا معروفًا‪ ،‬أستاذ األلمانية في‬
‫السوربون‪ ،‬وألبير شفايتزر‪ ،‬موسيقار وطبيب في إفريقيا شهير‪ ،‬كان العّم األكبر لسارتر‪ .‬يحكي سارتر هذه الطفولة في كتاب هو تحفته الشهيرة‪« ،‬الكلمات»‪،‬‬
‫قّص ة طفل دميم يحّو ل عينيه‪ ،‬والذي كان يكتب القصص في «الكلمات» بالذات‪ ،‬البتغاء حّب اآلخرين‪ .‬سنة ‪ ،1934‬كان من بين أوائل المثقفين الفرنسيين‬
‫في اكتشاف أعمال هسيرل وهايدغر في ألمانيا‪.‬‬
‫صحيح أّن هسيرل كان معروفًا في فرنسا حيث ألقى سنة ‪ 1929‬سلسلة من المحاضرات في السوربون وفي جامعة ستراسبورغ‪ ،‬والمجموعة في الـ«تأّم الت‬
‫ديكارتية» التي ترجمها إلى الفرنسية في العام الموالي فيلسوف شاّب وهو إيمانويل لفيناس‪ .‬لكن لم تكن أعماله السابقة معروفة وال شيء منها مترجمًا‪.‬‬

‫أما هايدغر‪ ،‬الذي كان مشهورًا في ألمانيا انطالقًا من ‪ 1927‬بفضل كتابه «الوجود والزمان»‪ ،‬لم يكن في هذه الفترة معروفًا في فرنسا‪ .‬قضى سارتر السنة كلها‬
‫في ألمانيا في قراءة هسيرل وهايدغر‪ ،‬وغير عابئ باألحداث السياسية الحاسمة التي وقعت في ألمانيا – ال هاّم ة منها سوى وصول هتلر إلى سّد ة الُح كم –‬
‫وهو ما جعل منه أّو ل فينومينولوجي فرنسي‪.‬‬

‫كما رأينا سابقًا‪ ،‬المفهوم الرئيسي في الفينومينولوجيا هو القصدية‪ .‬أن نقول‪ :‬إّن الوعي هو قصدي‪ ،‬وإّنه وعي بشيء ما‪ ،‬معناه أّنه يتوّج ه نحو الخارج وال ينفك‬
‫عنه كدائرة باطنية مغلقة‪ ،‬وأّنه يتعالى‪ ،‬أي يتجاوز الحدود الباطنية لالنفتاح على العالم الخارجي‪.‬‬

‫لهذا السبب كان أّو ل كتاب أصدره سارتر سنة ‪ 1934‬هو «تعالي األنا» (‪ .)La transcendance de l’ego‬الكتابان المواليان اللذان قام بكتابتهما وهما‬
‫«الخيال» (‪ )L’imagination‬الصادر سنة ‪ ،1936‬و«المخيال» (‪ )L’imaginaire‬الصادر عام ‪1940‬؛ هما كتابان من إيحاء هسيرلي بوصفهما تطويرًا لنظرية‬
‫هسيرل في الخيال‪ .‬يقع سارتر الشاب –الذي كان عمره ‪ 34‬سنة عام ‪ -1939‬داخل حركة الفينومينولوجيا الهسيرلية وإذا كان اهتمامه قد انصّب خصوصًا‬
‫على الخيال‪ ،‬فألّن هسيرل منح لهذه المَلكة أهمية بالغة‪ُ .‬يعلن هسيرل في كتابه األول «أفكار توجيهية من أجل الفينومينولوجيا» الصادر سنة ‪( 1913‬نص‬
‫سيقرؤه سارتر باهتمام في برلين) من حيث إّن «الخيال هو ُع نصر جوهري في الفينومينولوجيا»‪ .‬ألّن في الوعي الخيالي تتبّد ى لنا بشكل جلّي البنية القصدية‬
‫للوعي‪ .‬فالموضوع المتخَّي ل (كان هسيرل يأخذ في الغالب مثال القنطور)[‪http://kalema.net/home/admin/rg.php?( ]18‬‬
‫‪ )act=art&cmd=add#_ftn18‬ليس حاضرًا مثل الموضوع المدَرك‪ ،‬وليس ماضيًا على غرار الموضوع الذي نستذكره‪ ،‬فهو ببساطة غير موجود‪« ،‬مختَر ع»‪.‬‬
‫ففي الخيال يتجّلى أّن الوعي يتوّج ه نحو شيء ال يوجد في أّي مكان آخر‪ ،‬شيٌء هو عبارة عن عدم‪ ،‬غير واقعي بالمّرة‪ .‬نفهم إذن لماذا اهتّم سارتر بظاهرة‬
‫الخيال؟ وال يغيب عن بالنا الطفل الصغير في «الكلمات» الذي توّص ل إلى التخُّلص من الواقع القاسي‪ ،‬من قباحته [الجسدية]‪ ،‬باعتزاله نحو عالم خياله‪.‬‬

‫لقد رأى سارتر في سلطة الخيال البرهان األّو ل على حرية اإلنسان‪ :‬فالكائن القادر على التخُّي ل‪ ،‬أي خلُق شيٍء انطالقًا من ال شيء‪ ،‬هو كائن ال يخضع للواقع‪،‬‬
‫وليس مجبرًا على البقاء تحت سيطرة ما هو معطى له في اإلدراك‪ .‬الخيال هو ما يسّم يه سارتر «الوظيفة الالواقعية للوعي»‪ ،‬الوظيفة التي تتيح للوعي‬
‫االنشقاق عن الواقع‪ .‬فاإلنسان بالنسبة إليه هو الكائن الذي له الُق درة على نفي الواقع ورفضه لحل شيء آخر محّله‪ ،‬ذلك الشيء غير الموجود الذي نسّم يه‬
‫«الصورة»‪ .‬الكائن القادر على الخيال هو كائن ُح ّر ‪ ،‬ومتحّر ر من إكراهات الواقع التي يظل الحيوان أسيرًا فيها‪ ،‬وال يعرف سوى الحاضر‪ ،‬ال يمكنه استحضار‬
‫الماضي البعيد‪ ،‬وال َس ْب ق المستقبل غير المباشر‪.‬‬

‫إذا كان الخيال ُيبرهن على حرية اإلنسان‪ ،‬فهو يتيح أيضًا فهم أّن الفّن هو نشاط بشري أساسي‪ .‬ألّن األثر الفّن ي ليس شيئًا واقعًّي ا‪ ،‬ولكنه شيٌء ال واقعي‪ ،‬صورٌة‬
‫لها فقط الدعامة الماّد ية‪ ،‬مثًال نسيج الكّت ان فيما يخّص التصوير الزيتي‪ ،‬الورقة المطبوعة بشأن األدب واألنغام كما هو الحال مع الموسيقى‪ .‬عندما نتأّم ل‬
‫لوحة أو نقرأ رواية أو نسمع لحنًا موسيقًّي ا فإننا نتواصل مباشرة مع الذاتية األخرى بواسطة الدعامة الماّد ية‪ .‬إذا بقيت اللوحة بمعزل عن تأّم ل شخص يتعّر ف‬
‫فيها على داللة معّي نة‪ ،‬فهي تضحى مجّرد شيء ماّد ي وليس أثرًا فنًّي ا‪ .‬فالمشاهد أو السامع أو القارئ‪ ،‬حسب سارتر‪ ،‬له أهمية كبيرة في تشكيل األثر الفّن ي‬
‫مثله مثل الفّن ان‪ .‬يتساوى حّس ه الجمالي في الخلق والتلّق ي [مع حّس الفّن ان]‪.‬‬

‫هذه الفكرة في مشاركة القارئ في [خلق] أثر األديب طرحها سارتر في محاولته الشهيرة «ما األدب؟» التي تعالج ضرورة أن يلتزم الكاتب من خالل أثره‪ .‬ألّن‬
‫األثر األدبي هو دعوة إلى حرية القارئ و«التزام» ومسؤولية من لدن الكاتب‪ ،‬ألّن الكاتب يعرف أّن كتابته تنتج مفعوًال في ذوات أخرى غير ذاتيته‪ .‬كما أشرُت‬
‫من قبل‪ ،‬كان سارتر‪ ،‬وأيضًا كامو الذي كان صديقه‪ ،‬في الوقت نفسه كاتبًا وفيلسوفًا‪ .‬لقد فّكر كثيرًا في األدب‪ ،‬وكتب العديد من النصوص حول بعض األثار‬
‫األدبية وحول بعض األدباء الذين كان معجبًا بهم‪ ،‬على غرار جون جونيه‪ ،‬كاتب مرموق في فرنسا كان يعرفه‪ ،‬بسبب موهبته الشعرية واألدبية والمسرحية‬
‫وبسبب شخصيته‪ :‬كان [جونيه] طفًال مهمًال‪ ،‬تّم تبّن يه من طرف عائالت عّد ة؛ أصبح سارقًا في مراهقته‪ ،‬وفي السجن كتب بعض أعماله‪ .‬خّص ص سارتر كتابًا‬
‫كبيرًا لهذا الكاتب «سان جونيه‪ ،‬كوميدًّيا وشهيدًا» (‪ .)1952‬وأشرُت إلى أّنه كتب في القسم األول من حياته أكثر من ثالثة آالف صفحة حول غوستاف فلوبير‬
‫بإعادة بناء عالمه الخاص قصد فهم أثره [األدبي]‪.‬‬

‫ففي ‪ 1963‬وعمره ‪ 58‬سنة‪ ،‬بدأ سارتر كتابة مذّك راته «الكلمات»‪ ،‬ودراسة عنوانها «ما األدب؟»‪ .‬كتب سارتر هذا النص ليجيب أولئك الذين اتهموه بقتل‬
‫األدب بُح كم أّنه كان كاتبًا ملتزمًا‪ .‬أراد سارتر إجابة منتقديه بإعادة طرح األسئلة‪« :‬ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ لمن؟ يبدو أّنه ال أحد تساءل عن ذلك»‪ .‬بعدما‬
‫دافع عن فكرة أدب ملتزم‪ ،‬أي فكرة أدب مؤَّس س على األفكار‪ ،‬أدٌب له رسالة يقّد مها وليس مجّرد تمرين أسلوبي‪ ،‬حاول سارتر اإلجابة عن السؤال «لماذا‬
‫نكتب؟»‪ .‬يذهب من المالحظة التي مفادها أّن الكائن البشري له الُق درة على الكشف عن األشياء‪« :‬اإلنسان هو الوسيلة التي تتجّلى عبره األشياء»‪ .‬يستخلص‬
‫من ذلك أّن أحد البواعث في االبتكار الفّن ي هو الحاجة في أن نشعر ذواتنا جوهريين‪ .‬عندما أبتكر فإّنني أخلق نظامًا أو داللة فيما أصفه بالكلمات أو األلوان‪.‬‬
‫إنني «أنتجها» بالمعنى الذي أكشف عنها بقّو ة ال تتمّت ع بها في الواقع‪ .‬لكن الشيء المبتَكر يفلت مّن ي‪ :‬يبدو أّنه يمكن تحسينه وال يكتمل سوى عندما يكون‬
‫لدّي االنطباع بأّن شخصًا آخر صنعه‪ ،‬وهو ما ال يحدث كما ينّب ه سارتر‪ .‬كلما كان لنا الوعي بأننا مبتكرون أو منتجون‪ ،‬كلما كان الشيء منتجًا تحت سيطرتنا‪.‬‬
‫عندما نصنع أشياء نستعملها‪ ،‬مثل الفخار أو الهياكل‪ ،‬فإنها ال تتحّد ث عّن ا‪ ،‬ألنها مصنوعة حسب قواعد ليست لنا‪ ،‬ولكن هي ِم لك للجميع‪ .‬لكن عندما ننتج‬
‫أثرًا فنًّي ا وليس شيئًا يدو ًّيا‪ ،‬نجد دائمًا أنفسنا في األثر الذي ابتكرناه وال يّت خذ هذا األثر بالنسبة إلينا صيغة شيء‪ ،‬فال يمكننا إدراكه‪ ،‬ألّنه بمثابة جزء مّن ا‪.‬‬
‫ننسى أنفسنا في اإلدراك‪ ،‬ونحن مستغرقون في األشياء التي نراها‪ .‬فالذات ليست أساسية في اإلدراك‪ ،‬بل الشيء المدَرك‪ .‬أما في الخلق أو االبتكار‪ ،‬فالذات‬
‫هي أساسية‪ ،‬ويصبح الشيء غير أساسي‪.‬‬

‫انطالقًا من هذه األفكار‪ ،‬حاول سارتر إفهامنا داللة األثر األدبي‪ .‬فهو ُيثبت أّن هذا األثر ال يوجد بشكل موضوعي [أو شيئي] على غرار الرسم الزيتي‪ .‬فهو ال‬
‫يوجد سوى بالقراءة وال يدوم سوى بزمن القراءة‪ .‬يتجّلى هنا االختالف الجوهري بين الكاتب والِح رفيين‪ ،‬اإلسكافي أو المهندس المعماري‪ ،‬الذين يقومون‬
‫بآثار نافعة‪ .‬ال يمكن للكاتب أن يقرأ‪ ،‬ال يمكنه أن يقرأ ذاته‪ ،‬حسب سارتر‪ .‬لماذا؟ ألّن القراءة تقتضي التوّج ه نحو المستقبل‪ ،‬الَّس ْب ق‪ .‬إنه شيء يشابه اإلدراك‪:‬‬
‫إلدراك الشيء ينبغي االستباق أو التوّقع واستحضار كل أشكاله التي هي غير معطاة مباشرة في اإلدراك‪.‬‬

‫بينما الشخص الذي يكتب ال يمكنه االستباق عندما يقرأ‪ ،‬ألّنه صاحب النص ويعرف جّي دًا ما سيحُص ل‪ .‬هناك إذن اختالف كبير بين َس ْب ق القارئ ومشروع‬
‫الكاتب‪ .‬يقال‪ :‬إّن الكاتب ينتظر اإللهام‪ ،‬لكن ال يأتيه هذا اإللهام من الخارج‪ :‬فهو ينتظره في ذاته‪ .‬فالمستقبل هو بالنسبة إليه عبارة عن صفحة بيضاء‪ ،‬بينما‬
‫عند قارئه‪ ،‬المستقبل هو الصفحات المتبّق ية التي سيقرؤها‪ .‬ال يخرج الكاتب من ذاته‪ ،‬من الذاتية‪ ،‬وال يمكنه الذهاب إلى الموضوع األدبي‪ .‬فال يمكنه أن‬
‫يشعر بما يكتبه‪ .‬ال يمكنه ذلك سوى إذا نسي لحظة بأّنه صاحب النص الذي كتبه‪ .‬فالنتيجة هي واضحة بالنسبة لسارتر‪ :‬ال نكتب أبدًا لذواتنا‪ .‬إذا كان‬
‫الكاتب وحيدًا في العالم‪ ،‬ال يمكن ألثره أن يكون موضوعًّي ا‪ .‬ينبغي لذلك أن ُيقرأ من طرف شخص آخر‪ .‬فعملية الكتابة هي في حّد ذاتها غير كاملة‪ :‬فهي‬
‫تقتضي متضايفها أو ما يكّم لها وهو القراءة‪ .‬يتطّلب األدب إذن كاتبًا وقارئًا‪ .‬ويشّكل هذا األخير األثر مثله مثل الكاتب‪ .‬يستنتج سارتر‪« :‬ال فّن سوى باآلخر‬
‫ومن أجله»‪.‬‬

‫‪ -2‬ميرلوبونتي‪ :‬سؤال اإلدراك والجسد‬

‫ولد موريس ميرلوبونتي سنة ‪ ،1908‬وهو أصغر سًّن ا من سارتر بثالث سنوات‪ ،‬ودرس مثله في مدرسة األساتذة العليا في شارع أولم‪ ،‬وأّس س بُص حبته مجّلة‬
‫«األزمنة الحديثة» (‪ )Les temps modernes‬سنة ‪ .1945‬في السنة نفسها‪ ،‬قام بنشر أطروحته [في الدكتوراه] تحت عنوان «فينومينولوجيا اإلدراك»‪ .‬أصبح‬
‫بعدها أستاذًا في علم النفس في جامعة ليون‪ ،‬ثم في السوربون‪ ،‬وتّم انتخاُبه أستاذًا في الكوليج دو فرانس (‪ )Collège de France‬سنة ‪ .1952‬قطع صلته‬
‫بالماركسية سنة ‪ 1955‬بعد اكتشاف الجوالج[‪ .)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn19( ]19‬وتزامن ذلك مع‬
‫قطيعته مع سارتر الذي كان يعتقد دائمًا بأّن «الماركسية هي األفق الذي يتعّذ ر مجاوزته في زمننا الراهن»؛ ولم يبتعد عن الحزب الشيوعي الفرنسي سوى‬
‫عام ‪ 1956‬بعد أحداث هنغاريا‪.‬‬

‫توفي موريس ميرلوبونتي بغتة سنة ‪ 1951‬وعمره ‪ 53‬سنة‪ ،‬حيث ترك عمًال هاًّم ا غير مكتمل عنوانه «المرئي والخفّي »‪ .‬سارتر الذي توفي عام ‪ ،1980‬عاش‬
‫بعده قرابة العشرين سنة‪ .‬تعّر ض بعد وفاته للنسيان مع جيل الستينيات وهو جيل «البنيوية»‪ ،‬حركة فكرية كان لها دور هام في إرجاع الكائن اإلنساني إلى‬
‫مجموعة من العالمات االجتماعية التي ترّكب الثقافات في مجملها‪ ،‬وهي حركة انخرط فيها كل من الكان وفوكو وبارت وليفي ستروس‪ .‬لكن أصبحت أعماله‬
‫محّط اهتمام مع األجيال الجديدة منذ التسعينيات [من القرن العشرين]‪.‬‬

‫لقد اهتّم ميرلوبونتي بفكر هسيرل انطالقًا من ‪ ،1929‬عندما حل هذا األخير ضيفًا على باريس ليدلي بمحاضراته «تأّم الت ديكارتية»‪ .‬لقد قرأها بُع مق أفضل‬
‫مما فعله سارتر وحاول تطويرها ببقائه على منوال «فينومينولوجيا اإلدراك»‪ .‬لماذا االهتمام باإلدراك؟ ألّن اإلدراك بالنسبة لميرلوبونتي هو التجربة األساسية‬
‫التي بموجبها يرتبط اإلنسان بالعالم‪.‬‬

‫كانت الفلسفة التقليدية َتعتبر أّن اإلدراك هو عملية ذهنية تجمع بين اإلحساسات البصرية واللمسية والسمعية وأيضًا الشّم ية‪ .‬وهو ما فّس ره ديكارت في‬
‫فقرة شهيرة من «تأّم الته» (التأّم ل الثاني) عندما أخذ بمثال الشمع الذي تّم استخالصه من خلية النحل ويتبّد ى كجسم صلب له لون وشكل خاص‪ .‬لكن‬
‫عندما ُنقّر به من النار‪ ،‬فإّنه يذوب‪ ،‬وتختفي رائحته ويتغّي ر لونه‪ .‬فما هو األمر الذي يدفعني إلى القول بأّنه الشمع نفسه في كلتا الحالتين‪ ،‬يتساءل ديكارت؟‬
‫فاألمر المشترك في كلتا الحالتين‪ ،‬هو أنني إزاء جسم ممتّد في المكان وأّنه يّت خذ أشكاًال مختلفة إذا تعّر ض للتسخين أو ال‪ .‬لكن فقط عقلي في ذاتي هو الذي‬
‫يسمح لي بالتفكير في ذلك‪ ،‬ألّن ال شيء في تجربتي الحّس ية يمكنه إقناعي بأنني أمام الجسم نفسه‪ .‬والنتيجة بالتالي هي‪ :‬اإلدراك هو الُح كم أو العملية‬
‫الذهنية للفكر الذي يمكنه التمييز بين الوحدة والكثرة في المظاهر‪.‬‬
‫أمام هذا التعريف الكالسيكي لإلدراك‪ُ ،‬يبّي ن ميرلوبونتي أنني ال أدرك فقط بفكري‪ ،‬ولكن بكينونتي في رّم تها‪ ،‬وبجسدي أيضًا‪ .‬لكي أدرك‪ ،‬ال بّد قبل كل شيء‬
‫أن أقع في العالم وأكون في عالقة مع مجموعة من األشياء المعطاة أمامي حسب منظورات مختلفة بالمقارنة مع وضعيتي‪ .‬فلسُت فكرًا خالصًا له رؤية شاملة‬
‫وفوقية على العالم‪ ،‬كوضعية الطائر‪ ،‬لكنني باألحرى وسط األشياء وأقع في العالم بجسدي الذي هو كما يشير هسيرل شيء خاص ال يفارقني أبدًا وال يمكنني‬
‫االبتعاد عنه أو اإلحاطة به‪ .‬على العكس من أشياء العالم‪ ،‬ليس جسدي معطى للمالحظة الكاملة‪ :‬ال أرى وجهي الذي هو المنطقة العارية من جسدي والذي‬
‫أعرضه على رؤية اآلخرين وال أتحّكم في إيماءاته أو تعبيراته‪ ،‬وال أرى أيضًا قفا عنقي وال ظهري‪ .‬فينبغي االعتراف‪ ،‬كما يقول ميرلوبونتي‪ ،‬بأّن «وجودي كذاتية‬
‫هو متوّح د بوجودي كجسد»[‪.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn20( ]20‬‬

‫يجد ميرلوبونتي عند هسيرل مبادئ تحليله الخاص لجسدية اإلنسان والتي ستشّكل لّب إسهاماته في الفلسفة المعاصرة‪ .‬ما ُيبرزه هسيرل هو أّن مجمل عالم‬
‫الثقافة هو نتيجة كل تأسيس يعتمل في التجربة المعيشة التي هي دومًا الوعي المتجّس د‪ .‬لكي يكون هنالك شيء أمام األنا‪ ،‬شيء يتعارض مع الذات‪ ،‬فال بّد‬
‫أن يكون قبالة ذاتية متجّس دة وأمام جسد قادر بأن يحّس بذاته‪ ،‬دون أن نكون مجبرين على تحديد هذه المَلكة في اإلحساس في مبدأ نفسي محايد كما فعل‬
‫التراث [الفلسفي]‪ .‬لتبيان هذه العالقة بين اإلحساس والجسد‪ ،‬يستحضر هسيرل التجربة الشهيرة حول اإلحساس المزدوج عندما تقوم اليّد اليمنى بمّس اليّد‬
‫الُي سرى‪ ،‬وهي تجربة ُتفيد بأّننا على وعي بأّن جسدنا هو «موضوعي» و«ذاتي»‪ ،‬ألّن الملموس الذي يصطدم بالالمس وينقلب إليه‪ ،‬معناه أّن الجسد يحّس‬
‫«ذاته» بذاته‪ .‬بهذه التجربة البسيطة‪ ،‬يتبّد ى أّن الجسد هو في الوقت نفسه الالمس والملموس‪ ،‬أي ذات وموضوع‪ ،‬ولهذا السبب ُيشّكل كما ُيثبت هسيرل‬
‫الدرجة الصفر للتوجيه‪ ،‬الـ«هنا» المطلق الذي تتوّز ع بالمقارنة معه كل األمكنة األخرى‪ ،‬رغم كونه جزء من المكان ويأخذ مساحة في هذا المكان‪.‬‬

‫يقوم ميرلوبونتي بتطوير هذا التحليل في الجسد الخاص باعتماده على التحديد الجديد لكينونة اإلنسان الذي يقترحه هايدغر ومفاده أّن اإلنسان ليس وعيًا‬
‫خالصًا على طريقة ديكارت‪ ،‬ولكنه «كائن في العالم»‪ ،‬أي «وجود»‪َ .‬بْي د أّن تجربة جسدي ليست هي التجربة التي يمنحها لي العلم أو علم التشريح أو‬
‫الفيزيولوجيا‪ .‬ليس جسدي تركيبة من األعضاء المتجاورة في المكان‪ ،‬لكن أمتلكه كمجموعة ممكنة من الوضعيات التي يمكن أن أتبّن اها في الظروف‬
‫المختلفة‪ .‬يسّم ي النفسانيون هذا األمر «المخّطط الجسدي» ويعنون بذلك الصورة الدينامية التي لكل شخص حول جسده‪ .‬المثال الذي يورده ميرلوبونتي‬
‫بهذا الشأن هو حاسم‪« :‬إذا كنت واقفًا وماسكًا على غليوني‪ ،‬فإّن وضعية يدي ليست محّد دة بالزاوية التي تجعلها مع ساعدي‪ ،‬وساعدي مع ذراعي‪ ،‬وذراعي‬
‫مع ساقي‪ ،‬وساقي مع سطح األرض‪ .‬أعرف جّي دًا أين يوجد غليوني معرفة مطلقة‪ ،‬ومن هنا أعرف أين هي يدّي وأين هو جسدي‪ ،‬على غرار البدائي في الصحراء‬
‫الذي يتوّج ه في كل لحظة دون أن يتذّكر في الجمع بين المسافات المقطوعة وزوايا العروج منذ نقطة االنطالق»[‪]21‬‬
‫(‪.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn21‬‬

‫إذا كان الجسد مخّططًا دينامًّي ا وليس جزءًا من الفضاء‪ ،‬فألّنه مستقَطب بالمهاّم التي يؤّد يها‪ ،‬وبالتالي ليس المخّطط الجسدي سوى طريقة في التعبير عن‬
‫كينونة الجسد في العالم‪ .‬يشّد د ميرلوبونتي على أّننا نتواجد في فضاء أو مكان موَّج ه‪ ،‬له أعلى وأسفل‪ ،‬ويمين ويسار‪ .‬يتّم التواصل بالمكان عبر الجسد‬
‫ويستلزم هذا األمر أّن «جسدي ليس مجّرد جزء من المكان‪ ،‬وال وجود لمكان إذا لم يكن لدّي جسد»[‪http://kalema.net/home/admin/rg.php?( ]22‬‬
‫‪ .)act=art&cmd=add#_ftn22‬يمكن فهم العالقة بين الجسد والمكان بالنظر إلى الجسد في الحركة‪.‬‬

‫لقد اهتّم ميرلوبونتي بمشكلة األمراض النفسية وخصوصًا االضطراب المسّم ى «العمى النفسي»‪ ،‬مفاده أّن المريض الذي تعّر ض إلى نوبة عصبية ال يمكنه‬
‫إجراء بعض الحركات بشكل واٍع أو تسمية األشياء لالستعمال اليومي‪ .‬ليس باستطاعته التحّرك بقيادة ذراعيه وساقيه‪ ،‬وال يمكنه نعت جهة من جسده‬
‫بأصبعه‪ ،‬مثًال أنفه أو أذنيه‪ .‬لكن لديه القدرة على تنفيذ الحركات الضرورية للحياة‪ ،‬مثل أخذ المنديل من الجيب ليتمّخ ط‪ ،‬ويمكنه أن يواصل إجراء عمله‬
‫اليدوي بشكل معتاد‪ُ .‬يبرز ميرلوبونتي أّن هذا ألمر يأتي من كون أّن هذه العمليات ال تتّم سوى في المكان العملي للحياة الجارية وليس في المكان‬
‫الموضوعي‪ ،‬ويتواقت هذا األمر مع شعور المريض الذي يؤّكد أّنه يحّس بالحركات التي ينّف ذها نتيجة للحالة [التي يتواجد فيها]‪ ،‬وله شبه وعي بمبادرته‬
‫اإلرادية‪ .‬تضحى مهّم ة التنفيذ في هذا السياق حاسمة وتمارس «جاذبية عن ُبعد» على الجسد الذي هو مجّرد ُع نصر في منظومة ُتشّكلها الذات وعالمها[‪]23‬‬
‫(‪ .)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn23‬لكن عندما نطلب منه‪ ،‬بمعزل عن كل نشاط عملي‪ ،‬بأن يدّل على أذنيه‪،‬‬
‫فإّن الذات [المريض] تخفق في ذلك‪ ،‬رغم أّنها تفهم األمر الذي ُأعطي لها‪ .‬تأتي هذه المسألة من كون أّن األمر الذي ُيعطى لها له بالنسبة إليها داللة ذهنية‬
‫وليس داللة حركية‪ .‬نفهم إذن االختالف بين النمطين من الحركة‪ .‬تتّم الحركة التجريدية في فضاء اعتباري أو افتراضي يترّكب مع الفضاء الحّس ي‪ ،‬وفي هذا‬
‫الفضاء االفتراضي تّت خذ عالمة اليّد داللة في الصداقة مثًال‪ .‬يتعّلق األمر بفضاء تتبادل فيه العالمات وهذا الفضاء هو خالء تبسطه الذات‪ ،‬بينما الحركة‬
‫الواقعية تتوّس ع في الفضاء الحّس ي أو الفيزيائي‪ .‬األمر السوّي هو القدرة على التعاطي مع االفتراضي بينما المريض هو مسجون في الواقعي‪ .‬هكذا يتّم خلق‬
‫منظومة من الدالالت تعّب ر في الخارج عن نشاط الذات القادرة على إبراز الحدود وخطوط القوى والعالمات المتعّد دة في العالم والتي تقود الفعل «مثل‬
‫الالفتات في المتحف التي توّج ه الزائر» كما يقول ميرلوبونتي[‪.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn24( ]24‬‬
‫ال يوجد العالم بالنسبة للمرضى المصابين بالعمى النفسي سوى كعالم معطى ُد فعًة أو ثابت‪ ،‬بينما بالنسبة للذات السو ّية هو عبارة عن فضاء تنخرط فيه‬
‫المشاريع‪ .‬نرى بوضوح كيف أّن الجسد هو الُع ضو الذي يتمّد د عبره الوجود‪ .‬لكن في تجربة الجسد بوصفه جسدًا مجَّن سًا (‪ )sexué‬يمكن اكتشاف بسهولة‬
‫التداخل بين الجسد والوجود‪ .‬إذ على المستوى الوجداني والغرامي لوجود يّت خذ معناه وحقيقته عند كائن مفرد يعيشه‪ ،‬يمكننا تجريب نمط من الوعي ال‬
‫يمكن اختزاله إلى مجّرد تمّثل ذهني‪ ،‬ولكن يمّر عبر الجسد‪ .‬ال تشّكل الجنسانية شيئًا متمّي زًا عن باقي الوجود وال تحيل إلى وظائف جسدية محضة‪ ،‬وهذا ما‬
‫يوحي باستحالة تفسير اإلنسان بالبنيات الجنسية التحتية التي قادت التحليل النفسي إلى وضعها في ُص لب الوصف الخاص بالدوافع السيكولوجية‪.‬‬

‫يذّكر ميرلوبونتي بأّن فرويد نفسه مّي ز بوضوح بين الجنسي والتناسلي‪ ،‬وبين الشهواني والغريزي وأّنه عّر ف الجنسانية بشكل واسع للغاية بوصفها مصدر‬
‫السلوكيات البشرية كّلها‪ .‬يسعى ميرلوبونتي جاهدًا لمنح تأويل «وجودي» للفرويدية و َيعتبر أّن الجنسانية ليست طبقة ُس فلى من الوجود يمكن تجاوزها أو‬
‫«تهذيبها» كما يقول فرويد أو أّنها تشّكل مركز هذا الوجود‪ ،‬لكن هناك باألحرى «تناُض ح» بين الجنسانية والوجود‪ ،‬ومعنى ذلك استحالة االّطالع على الدافع‬
‫الجنساني من أجل قرار أو فعل ُم عطى وعلى كل الدوافع األخرى‪ .‬نرى بوضوح كيف أّن ميرلوبونتي أراد‪ ،‬عبر تحليله للجسد الخاص‪ ،‬تبيان أّن القصدية‪ ،‬بتعبير‬
‫هسيرل‪ ،‬ليست مسألة نفسانية أو وعي‪ ،‬ولكن مسألة الوجود الجسدي في رّم ته‪ ،‬جاعًال من الفينومينولوجيا فلسفة في منتهى الواقعية‪.‬‬

‫‪ -3‬ريكور‪ :‬سؤال الذات والتاريخ‬

‫ُو لد بول ريكور سنة ‪ 1913‬وكان يتيمًا من والديه‪ .‬زاول الدراسة في [مدينة] رين (‪ )Rennes‬ثم في السوربون‪ ،‬وليس في مدرسة األساتذة الُع ليا في شارع أولم‪.‬‬
‫كان أسير حرب من ‪ 1940‬إلى ‪ 1945‬واغتنم الفرصة لقراءة هسيرل وترجمته‪ .‬دّر س بعد ذلك في جامعة ستراسبورغ ثّم في السوربون ثم في نانتير حيث شغل‬
‫وظيفة عميد الكلية بعد أحداث ‪ .1968‬استقال من منصبه سنة بعد تقّلده المنصب بسبب خالفه مع اليساريين؛ ثم دّر س بعدها في لوفان في بلجيكا‪ ،‬ثم‬
‫في شيكاغو مع االحتفاظ على منصبه في نانتير بنصف الوقت‪ .‬توفي في مايو ‪ 2005‬وعمره ‪ 92‬سنة‪ .‬كان من معتقد بروتستانتي ولكنه حاول دائمًا الفصل بين‬
‫الفلسفة والدين وبين الكتابات التي خّص صها للتفسير اإلنجيلي واألعمال الفلسفية‪ .‬نشر العديد من الكتب‪ ،‬لكن سأرّكز هنا على اثنين منها «الزمان‬
‫والسرد»[‪ ،)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn25( ]25‬مؤَّلف هائل في ثالثة أجزاء نشره عام ‪ 1983‬و‪ ،1985‬ويحّلل‬
‫فيه موقع اإلنسان في التاريخ بوصفه سردًا‪ .‬باستلهامه من فينومينولوجيا هسيرل وفكر ميرلوبونتي‪ ،‬اقترح ريكور في بداية عمله تطوير نظرية واقعية حول‬
‫الذات يكون فيها للجسدية مكانًا‪ .‬لهذا السبب كان عمله األّو ل مخَّص صًا لـ«فلسفة اإلرادة» (‪ ،)1960-1950‬ألّن اإلرادة تقتضي االنتقال إلى الفعل أي تدّخل‬
‫الجسد‪ .‬وفي كتاب آخر‪« ،‬الذات بوصفها اآلخر»[‪ ،)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn26( ]26‬الصادر سنة‬
‫‪ ،1990‬يعود ريكور إلى مسألة الذات ويوّس ع فكرة أّن الذات اإلنسانية‪ ،‬خالفًا لما ذهب إليه ديكارت وأيضًا سارتر بشكل خاص‪ ،‬ليست ناصعة لذاتها وال‬
‫تتحّكم بشكل كامل في ملكاتها‪ ،‬ولكن هناك شيء آخر يقبع فيها‪ ،‬جسُد ها أو اآلخر‪ ،‬بدونه ال يمكنها أن تتشّكل كذات مستقّلة‪ .‬انطالقًا من هذا التفكير في‬
‫وضعية الذات‪ ،‬قام ريكور بتطوير الفكرة التي َتعتبر أّن هوية األنا ليست معطاة‪ ،‬ولكن ينبغي تشكيلها‪ ،‬وال يتأّتى ذلك إال بالسرد الذي يؤّس سه كائن حول‬
‫تاريخه الخاص؛ ويخُلص إلى فكرة «الهوية السردية»‪.‬‬

‫في «الزمان والسرد»‪ ،‬أّكد ريكور أّن اإلجابة عن سؤال «من أنا؟» يقتضي حكاية تاريخ حياته‪ .‬فعل السرد هو الفعل الذي بمقتضاه تتشّكل معرفتنا حول‬
‫الماضي‪ ،‬وكما يوّض ح ريكور‪ ،‬يتعّلق األمر أساسًا بـ«وضع الحبكة أو الدسيسة» (‪ )mise en intrigue‬التي ُتدمج األحداث المبعثرة في الوحدة المتوافقة‬
‫للتاريخ‪ .‬والسرد الناتج عن ذلك له مفعول على الذات نفسها بسبب تلّق يه من طرف اآلخرين ويشارك هكذا في تأسيس تلك الذات‪ .‬نجد على هذا المستوى‬
‫مشكل السيرة الذاتية‪ ،‬ليس كجنس أدبي‪ ،‬ولكن كنمط وجود‪ ،‬بُح كم أّن الوجود بالنسبة للكائن البشري هو أن يبحث عن اّتساق أو أن يّت خذ معنى للحياة‪ .‬فال‬
‫وجود ممكن بالمعنى القّو ي للكلمة دون ذاكرة شاملة حول الذات‪ .‬ال يقتضي العيش بالنسبة للكائن البشري أن يمنح لما يقع له سيرورة تاريخية‪ ،‬ولكن‬
‫يتطّلب ذلك أن يفهم ذاته في كل مرحلة بشكل مغاير وأن يعطي لوجوده شكًال مختلفًا‪ .‬ال يعني هذا التصّو ر في السرد كتأسيس ذاتي أّن الذات تخلق نفسها‬
‫انطالقًا من عدم‪ ،‬ألّنها ليست لها السيطرة الكلية على تاريخها الخاص الذي يضحى متشابكًا ال محالة بتواريخ الذوات األخرى‪.‬‬

‫ينبغي كما يفعل ريكور االعتراف بالطابع المتقّلب للهوية السردية المهَّد دة بالتصّد ع‪ .‬لقد اهتّم األطباء النفسانيون بهذا المفهوم حول الهوية السردية ألّن‬
‫عبر هذا المفهوم يمكن فهم الُّذ هان أو الهواس الذي يبدو كاستحالة في الوجود حسب نمط سردي‪ .‬فال عجب إذًا إذا كانت أفكار ريكور وجدت تطبيقًا لها‬
‫في األمراض النفسية‪ ،‬ألّنه اهتّم هو اآلخر بالعلوم اإلنسانية وبعلم النفس‪ ،‬ونشر عام ‪ 1965‬كتابًا أصبح حدثًا تاريخًّي ا آنذاك عنوانه «في التأويل‪ :‬محاولة حول‬
‫فرويد»[‪ ،)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn27( ]27‬عمل فيه على إعطاء تأويل فينومينولوجي للتحليل النفسي‪.‬‬

‫أن تكون الهوية في أزمة‪ ،‬ال يشّكل ذلك حالة شاّذة‪ ،‬ولكن تشّكل باألولى نظامًا عادًّيا للذات التي ال تضحى هويتها جوهرًا ثابتًا يدوم عبر التحّو ل ومعطى‬
‫بالكامل ُد فعًة واحدة‪ ،‬ولكن كوفاء للذات‪ .‬وكما أشار إليه ريكور‪ ،‬يمّي ز هذا الوفاء للذات الشخص ويتيح استمرار الوعد أو النظام أو القانون عبر الزمن كما‬
‫تّت خذه الذات وتخضع إليه رغم اإلكراهات الممكنة‪ .‬إّن جوهر هذا الدوام أن يكون مهّد دًا باالنحالل‪ ،‬ويمكن القول بأّن النظام السوّي للذات يكمن في تدعيم‬
‫هذا الخطر‪ .‬الثبات عبر األحداث الطارئة في شكل هذا الوفاء للذات والذي هو أيضًا ذاكرة الذات‪ ،‬ذلكم هو النشاط الذي تفرضه الذات على نفسها بانفتاحها‬
‫على ما يأتي نحوها بدًال من أن تنغلق في وحدة جوهرية مقفلة‪ .‬فال يمكن صيانة الذات أو الوفاء للذات سوى بقبول هشاشتها بُح كم أّن الكائن هو معَّر ض‬
‫لمصادفات الدهر والمصير‪ ،‬أي الحدث‪ .‬وبهذا المفهوم األساسي للحدث نتوّص ل إلى فكرة الهوية السردية‪ .‬فما يطرأ على صعيد الوجود يقتضي وضع الحبكة‬
‫أو التشّكل بالسرد الذي ُيدمج التنافر في وحدة تاريخ معّي ن‪ .‬بوجود هذا الطارئ يصبح من الضروري بعد ذلك تشكيله في نمط سردي‪ .‬الحدث هو شرط إمكان‬
‫وشرط استحالة السرد وهذا األمر يستلزمه ويهّد ده‪ .‬فال يمكن أن يكون هنالك رواية‪ ،‬أي تشكيل سردي‪ ،‬إذا تّم البقاء تحت صدمة الحدث الطارئ‪ ،‬كما هو‬
‫الحال مع الُع صاب الجريح‪ ،‬ألّن السرد يهدف إلى جمع الشتات و ُيمّكن الذات من التعّر ف إلى نفسها في ما يقع لها‪ .‬وال يمكن إجراء تشكيل سردي في‬
‫الُس ويداء أو الميالنكوليا إذا كان المراد من هذا التشكيل السردي هو انطواء استراتيجي للذات على هوية من نمط جوهري أمام ما ال تحتمله من مخاطر‬
‫الحوادث التي تمّس ها‪.‬‬

‫إذا كانت العوارض غير المقبولة في الُع صاب الجريح تتكّر ر باستمرار‪ ،‬فإّن تلك العوارض في الشكوى السويدائية يتّم تفاديها‪ ،‬وأحيانًا‪ ،‬كما هو الحال مع‬
‫االنتحار السويدائي‪ ،‬رفضها بقّو ة‪ .‬ما يبدو مستحيًال‪ ،‬في كلتا الحالتين‪ ،‬هو تلك السردية القادرة على إدراك الحدث والتي ال يمكن التعبير بها إال بعد زوال‬
‫الباعث وفي صيغة «لقد وقع لي»‪ ،‬حيث تشهد بأّن الذات ليست في وضعية السيطرة ولكن يقع لها هذا األمر أو ذاك‪ .‬إّن التشكيل السردي الذي يتيح‬
‫استيعاب الطارئ ال يمكن الحديث به سوى في صيغة الماضي ويقتضي بالنسبة للذات المضاف إليه المنصوب (‪ )datif‬لُي برز تحويل الهوية على نمط األنا‬
‫المغلق على نفسه إلى ذاتية بوصفها بنية وقدرة على االستقبال‪ .‬بهذا التحّو ل الذي ينقل الذات من المرفوع إلى المنصوب يمكن فهم ما يسّم يه «الهوية‬
‫السردية» التي ُتبّي ن أّن هوية التاريخ تصنع هوية من يعيش فيه‪ .‬إذا كانت هذه الهوية في العيش وفي الرواية ُع رضة للمنع أو النفي في الُع صاب الجريح وفي‬
‫السويداء‪ ،‬فيبدو أّنها ُع رضة للتشكيك في الفصام وفي فقدان البداهة الطبيعية وفقدان العالم المجَّر ب‪ .‬ففي الفصام تبلغ استحالة الوجود في الصيغة‬
‫السردية أوجها‪ ،‬ألّن غياب التشكيل عبر الرواية يتواقت مع استحالة إعادة تشكيل الذات عبر الوقائع‪ ،‬أي توّقف التأسيس الذاتي‪ .‬نعرف منذ السابق أّن‬
‫المرحلة النهائية في الفصام هي الجامود‪ ،‬بمعنى جمود كامل في الجسد ُيظهر انهيار في إرادة الذات وسقوطها في وضعية الشيء المحض‪ .‬لهذه الفكرة‬
‫نتائج حول الحالة الممكن إيعازها للتاريخ كعلم إنساني‪ .‬ال يمكن اعتبار الزمن كطاقة في النسيان‪ ،‬طاقة في التهديم‪ ،‬على غرار ما فّكرت فيه الميثولوجيا‬
‫عندما صّو رته في شكل كرونوس يلتهم أبناءه‪ .‬يمكن أن نرى فيه كمبدأ في االستمرارية هو أصل الذاكرة وكل ما يمنح شكًال متوّح دًا لمختلف األحداث‬
‫المتمّي زة‪ .‬ألّن ما يمّي ز التاريخ‪ ،‬على الخالف من الشكل المتكّر ر للطبيعة‪ ،‬هو أّنه يتيح المحافظة والمجاوزة لكل ما ُيحتَف ظ به وال ُيكَّر ر بشكل آلي‪ .‬كما يشير‬
‫إليه ريكور‪ ،‬ال ينبغي الخلط بين الزمن الفيزيائي الذي يعتبر أّن كل لحظة هي مستقّلة عن سابقاتها وعن الحقتها في الزمن البشري‪ ،‬والذي ُيقحم االنفصال‬
‫في األحداث في نسيج واحد‪ .‬ثمة في التاريخ لحظة في اإلبداع تقطع صلتها بالماضي ولكن أيضًا لحظة في االحتفاظ بالماضي الذي يضمن االّتصال في مجمل‬
‫تاريخ شعب أو أّم ة من األمم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref1( ]1‬محاضرة ألقيت في إطار «آرتي فيلوسوفيا» (‪،)Artefilosofia‬‬


‫مدينة كان (‪ ،)Cannes‬أبريل ‪.2007‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref2( ]2‬نحّب ذ استعمال الدرب (‪ )chemin‬لنبقى في الشبكة المفهومية‬


‫نفسها للتدريب أو التمرين بالمعنى الذي تطرحه داستور‪ .‬وهناك مصطلح آخر ال يختلف في اإلجراء حتى وإن اختلف في الدرجة‪ ،‬ونقصد به مفهوم‬
‫«الرياضة» في المذهب العرفاني (الصوفي)‪ ،‬الذي هو مذهب فينومينولوجي بامتياز (المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref3( ]3‬مورافيا هي اليوم الجمهورية التشيكية (المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref4( ]4‬الخط المجموع (‪ ،)sténographie‬يدل على الخط المرّكب من‬


‫عّد ة عالمات ُيستخدم للكتابة بسرعة وقت التلقين الشفهي (المترجم)‪.‬‬
‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref5( ]5‬الفرانسيسكان (‪ )Franciscains‬هم من المذهب الكاثوليكي الذي‬
‫ظهر في إيطاليا في القرن الثالث عشر حيث المؤّس س هو فرانسوا داسيز (‪ ،)François d’Assise‬ومعظم الفالسفة في العصر الوسيط ألهموا هذا المذهب على‬
‫غرار دانس سكوت وغيوم أوكام وروجيه بيكون (المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref6( ]6‬ماتوشالح (‪ )Mathusalem héb. Matushela’h‬كلمة عبرية‬


‫وتعني الشخص األكثر إعمارًا في العهد القديم (التوراة)؛ ويقول النص المقّد س بأّن عمره بلغ ‪ 969‬سنة‪ .‬ويقال في اللغة «شائخ مثل ماتوشالح» للداللة على‬
‫الشخص الهرم والمتقّد م في السّن (المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref7( ]7‬جون بول سارتر‪ ،‬المخيال‪ ،‬باريس‪ ،‬غاليمار‪ ،1940 ،‬ص‪.15 .‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref8( ]8‬إدموند هسيرل‪ ،‬أفكار رئيسية من أجل الفينومينولوجيا‪ ،‬باريس‪،‬‬


‫غاليمار‪ ،1950 ،‬فقرة ‪ ،44‬ص‪.142 .‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref9( ]9‬بول ريكور‪ ،‬في مدرسة الفينومينولوجيا‪ ،‬باريس‪ ،‬فران‪ ،1987 ،‬ص‪.‬‬
‫‪.163‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref10( ]10‬سيريزي (‪ )Cerisy‬هو قصر عريق فيه المركز الثقافي النورمندي‬
‫(مقاطعة شمال فرنسا)‪ ،‬وتقام فيه الندوات الدولية في الفلسفة والعلوم اإلنسانية (المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref11( ]11‬الفوكلوز (‪ )Vaucluse‬هي مقاطعة إدارية في جنوب فرنسا‪ ،‬في‬


‫منطقة بروفونس (المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref12( ]12‬طالع بهذا الشأن نصي‪« :‬حول االلتزام السياسي لمارتن هايدغر»‪،‬‬
‫في‪ :‬هايدغر بالدالئل القو ّية‪ ،‬باريس‪ ،‬فايار‪ ،2006 ،‬ص‪.458-441 .‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref13( ]13‬الترجمة العربية من إعداد جورج طرابيشي تحت عنوان‬


‫«اإلنسان ذو الُب عد الواحد»‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات دار اآلداب‪ ،‬ط‪( 1988 ،3‬المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref14( ]14‬الصيغة هي باإلنجليزية‪« :‬لقد كان» (‪ ،)has been‬وتقال في‬


‫اللغة الشائعة عن شخص تجاوزه الزمن؛ وخصوصًا شخصية مشهورة منسية أو خطت عتبة االبتعاد عن األضواء والشهرة ولم يصبح لها صيت ذائع (المترجم)‪.‬‬

‫[‪« )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref15( ]15‬مدرسة األساتذة العليا» (‪ )École Normale Supérieure‬هي‬


‫مؤسسة الدولة الفرنسية في التعليم العالي وتخّر جت منها خيرة النخبة في فرنسا في شّت ى العلوم والفنون واآلداب‪ ،‬ألّن نظامها مبني على مسابقة الدخول‬
‫المتحان معارف المترّش حين في تخّص صهم ومزاولتهم الدراسة لمدة أربع سنوات (المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref16( ]16‬في الوقت الذي ألقت فيه فرانسواز داستور هذه المحاضرة سنة‬
‫‪ ،2007‬كان ليفي ستروس حًّي ا‪ .‬توفي في باريس في ‪ 30‬أكتوبر ‪( 2009‬المترجم)‪.‬‬

‫[‪« )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref17( ]17‬األلزاس» (‪ )Alsace‬هي منطقة إدارية في أقصى شمال شرق‬


‫فرنسا‪ ،‬وعاصمتها ستراسبورغ‪ ،‬ولها روابط بالجرمانية لغو ًّيا وثقافًّي ا (المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref18( ]18‬كان هسيرل يهوى كثيرًا لوحات أرنولد بوكلين (‪)1901-1827‬‬
‫التي استحسنها في متحف بال‪ ،‬حيث يصّو ر فيها مشاهد أسطورية ومنها لوحات تمّثل القناطير‪.‬‬

‫[‪« )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref19( ]19‬الجوالج» (‪ )Goulag‬هو أكبر معتقل في روسيا ما بعد الثورة‬


‫البلشفية بقيادة لينين‪ .‬أصبح في عهد ستالين عبارة عن معسكرات للعمل اإلجباري يتعّر ض فيه المقيمون من بين المعارضين وغيرهم إلى القمع والتعذيب‪.‬‬
‫راح ضحيته الماليين من البشر خالل فترة تواجده (المترجم)‪.‬‬
‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref20( ]20‬ميرلوبونتي‪ ،‬فينومينولوجيا اإلدراك‪ ،‬باريس‪ ،‬غاليمار‪،1945 ،‬‬
‫ص‪467 .‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref21( ]21‬المرجع نفسه‪.177-116 ،‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref22( ]22‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.119 .‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref23( ]23‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.124 .‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref24( ]24‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.130 .‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref25( ]25‬صدرت الترجمة العربية‪« :‬الزمان والسرد (‪ :)1‬الحبكة والسرد‬


‫التاريخي»‪ ،‬ترجمة سعيد الغانمي وفالح رحيم‪ ،‬مراجعة جورج زيناتي‪ ،‬دار الكتاب الجديد‪2006 ،‬؛ «الزمان والسرد (‪ :)2‬التصوير في السرد القصصي»‪ ،‬ترجمة‬
‫فالح رحيم‪ ،‬مراجعة جورج زيناتي‪ ،‬دار الكتاب الجديد‪( 2006 ،‬المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref26( ]26‬الترجمة العربية تحت عنوان «الذات عينها كآخر»‪ ،‬ترجمة‬
‫وتقديم وتعليق جورج زيناتي‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪( 2005 ،‬المترجم)‪.‬‬

‫[‪ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref27( ]27‬الترجمة العربية تحت عنوان «في التفسير‪ :‬محاولة في فرويد»‪،‬‬
‫ترجمة وجيه أسعد‪ ،‬دمشق‪ ،‬أطلس للنشر والتوزيع‪( 2003 ،‬المترجم)‪.‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة © مجلمة كلمة ‪


  2022 - 2003‬‬
‫‪)/Powered by Majallah (http://www.hostingangle.com‬‬

You might also like