Professional Documents
Culture Documents
فرانسواز داستور
تمّثل الفينومينولوجيا أحد التّي ارات الرئيسية في الفلسفة المعاصرة ،تأّس ست في ألمانيا بداية القرن العشرين مع إدموند هسيرل وتطّو رت مع مارتن هايدغر
في إطار الفلسفة الوجودية ،وواصلت التأثير في المفّكرين األوروبيين (أوجين فينك ،يان باتوكا) ،واألمريكيين (هربرت ماركوز ،حنه أرندت ،هانس يوناس)،
وفي غير األوروبيين (مدرسة كيوتو في اليابان) طيلة القرن ،وخصوصًا في الفالسفة الفرنسيين ،حيث كان األبرز منهم ينتمي إلى «الحركة الفينومينولوجية»:
سارتر ،ميرولوبونتي ،لفيناس ،ريكور ،دريدا ،إذا ذكرنا األشهر منهم.
لقد ظهرت الفينومينولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر ،وهو قرن شهد من وجهة نظر فلسفية انهيار النسق الفلسفي األكثر طموحًا ،وهو نسق هيغل (-1770
،)1831فيلسوف ألماني توفي سنة ،1831والذي كان يتمّي ز بإرادة الكشف عن شمولية التاريخ البشري انطالقًا من مفهوم الروح.
طال هذا االنهيار التصّو ر المثالي للعالم حيث ابتدأت نقطة االنطالق مع بداية القرن الرابع قبل المسيح من طرف أفالطون ( 347-427ق .م) الذي كان يعتبر
أّن العالم الحقيقي ليس هو العالم الحّس ي الذي ندركه بالحواس ،ولكن عالم األفكار الذي ال يدركه سوى الفكر.
كان هيغل أيضًا ممّثل تصّو ر جديد حول اإلنسان ظهر في نهاية القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية التي أحدث قطيعة أساسية في التاريخ .المفّكر الكبير
في هذه الفترة كان الفيلسوف األلماني إيمانويل كانط ،الذي كان معجبًا بروسو وبالثورة الفرنسية ،والذي حّد د تلك الفترة المسّم اة بـ«األنوار» على أّنها الفترة
التي يرتقي فيها اإلنسان بالفعل إلى رشده [العقلي] .بينما كان في السابق تحت وصاية األمراء والكنيسة ،فإّنه على ما يشرح كانط وبفضل الثورة الفرنسية
استرجع حريته واستطاع أن يفرض حقوقه بشكل عالمي .لقد كانت فرنسا في قلب الثورة السارية آنذاك والتي ساهمت في ميالد صورة جديدة لإلنسان .قبل
ذلك ،في القرن السادس عشر ،وضّد الرؤية الوسيطية [العصر الوسيط] لإلنسان الذي كانت تعتبره كائنًا خاضعًا للتراث ويحّد ده االعتقاد الديني ،أثبت
الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت بمقولته الشهيرة «أنا أفّكر إذن أنا موجود» أّن الوعي الفردي هو األساس الوحيد لكل يقين ولكل حقيقة.
بعدما استرجع حريته الجّو انية ،فإّن اإلنسان سينطلق نحو استرجاع حريته السياسية بمساعدة الفالسفة الفرنسيين الذين ،على غرار فولتير أو روسو أو ديدرو،
كانوا الملهمين الحقيقيين للثّو ار.
إّن الشيء الذين كان ساري المفعول من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر هو عملية تحّر ر اإلنسان بشكل نهائي وال رجعة فيه .لكن معكوس هذا
التطّو ر ،وكما يمكن توّقع ذلك ،هو التمركز المفرط لإلنسان على ذاته ،والذي قاده بعد ذلك إلى أن يتصّو ر نفسه سّي د األحداث بال منازع ،وأّنه يريد السيطرة
التاّم ة على الطبيعة.
ففي القرن التاسع عشر تطّو رت قوى اإلنسان الغربي عبر التوّس عات االستعمارية وتقّد م العلوم والتصنيع وتوّس ع الديمقراطية .لكن خالل القرن نفسه تّم
إعادة النظر بشكل جذري في الفكرة المثلى التي كان يحوكها اإلنسان الحديث حول ذاته .هناك ثالثة مفّكرين على وجه الخصوص قاموا بإرساء قواعد
التفكير المعاصر بنقدهم للصورة المثالية التي كان ينسجها اإلنسان حول ذاته ،والتي وجدت تعبيرها األقصى عند هيغل :يتعّلق األمر بماركس ونيتشه
وفرويد .ففي ألمانيا وليس فرنسا تواصل في القرن التاسع عشر تطّو ر الصورة الحديثة لإلنسان.
لقد أخذ ماركس ( )1883-1818على عاتقه ،في «األيديولوجيا األلمانية» الذي كتبه مع إنجلز سنة ،46-1845مهّم ة تبيان أّنه خالفًا لما يثبته الفالسفة
المثاليون ،ليس الوعي أو الروح هي التي تحّد د كائن اإلنسان ،ولكن على العكس إّنها الشروط الماّد ية لحياته التي تحّد د وعيهَ .ينُت ج عن هذه الرؤية الماّد ية
للعالم التشديد على الشروط االقتصادية وليس فقط السياسية لحياة البشر ،وتهدف إلى التحّر ر الكامل ،وليس فقط التحّر ر الروحي لإلنسان الذي يجد نفسه
بفعل تطّو ر الثورة الصناعية خاضعًا كعامٍل إلى العبودية الجديدة .لكن يفترض التحّر ر الكامل لإلنسان أن يتوّص ل إلى أن يتخّلص من األوهام التي يرعاها حول
ذاته ،وأن يغادر االغتراب ،بمعنى أن يتوّقف عن كونه غريبًا عن ذاته ،على ما هو عليه في الواقع .بالنسبة لماركس ،االغتراب الخطير الواجب مكافحته هو
االغتراب الديني الذي من خالله يخضع اإلنسان إلى قّو ة عليا هي مجّرد فبركة من دماغه.
في العقود القليلة الالحقة ،سيستعيد نيتشه ( )1900-1844مشعل النقد بإعالنه بصوت عاٍل موت اإلله .سيهاجم هو اآلخر بشكل حاسم الفلسفة المثالية
ويشّد د على ما يمّي ز اإلنسان في العمق حسب نظره ،ليس الروح ولكن ما يسّم يه «إرادة القّو ة».
مع نيتشه ،ومع ماركس قبله ،ستتقّلص المسافة التي تفصل اإلنسان عن الحيوان .ال ينبغي نسيان التأثير على األذهان الذي مارسته اكتشافات داروين
( )1882-1809الذي بّي ن في «أصل األنواع» (كتاب نشره سنة )1859أّن التطّو ر البيولوجي للكائنات الحّي ة هو سليل االنتقاء الطبيعي الناتج عن «الصراع من
أجل الحياة» الذي يجعل كل الكائنات الحّي ة في تنافس بينها ،بما في ذلك اإلنسان نفسه .ال يكتفي نيتشه بإعالن إلحاده ،بل يباشر أيضًا في تقويض أسس
األخالق ذاتها .في «جنيالوجيا األخالق» (كتاب نشره سنة ُ ،)1887يبرز أّن األخالق هي من ابتكار نمط معّي ن من اإلنسان ،إنسان مريض وُم ذعن ،الذي تخّي ل
وهم الذات المسؤولة والوعي البائس ليضفي المعنى على آالمه .إّن األخالق التي تدعو إلى نكران الذات والتضحية بحّب الذات ليست سوى اختالق
تاريخي« ،مثالية مالئمة» تكمن بالنسبة للضعفاء في الفضيلة الضرورية وفي تحويل عجزهم الحقيقي إلى تصّر ف متسامي .خالفًا لما هو شائع ،لم يكن غرض
نيتشه هو انتقاص اإلنسان إلى مستوى البهيمة-الفريسة ،بل يطمح هو اآلخر إلى تحرير اإلنسان ،ويعني بذلك قلب جدول القيم القديم وتأسيس قيم جديدة
تتيح تطّو ر إنسانية فائقة ،قادرة على التصالح مع شرطها المتناهي وإيجاد «معنى األرض».
يمّثل فرويد ( )1939-1856في بداية القرن العشرين الذروة المتقّد مة لهذا النقد في الصورة المثالية لإلنسان التي كانت نتيجة التراث الفلسفي الغربي في
رّم ته .يفّس ر فرويد أّنه كانت هنالك ثالثة جروح كبرى أصابت في الصميم أنانية اإلنسان الغربي :اكتشاف كوبرنيكوس أّن األرض ليست مركز الكون؛ اكتشاف
داروين أّن اإلنسان ينحدر عن القرد؛ وأخيرًا اكتشاف الالشعور من طرف فرويد نفسه .ما يقّد مه التحليل النفسي كشيء مقلق في العمق ،هو الفكرة القائلة
بأّن اإلنسان ليس سّي د نفسه ،بل تحكمه ُخفيًة عنه نزوات ال يسيطر عليها ومن بينها ما يتباهى بها أكثر ،وعنيُت قدرته التفكيرية وحريته في االختيار ،التي
هي في الحقيقة مجّرد أوهام .لم يكن فرويد عدمًّي ا ،ليس أكثر من نيتشه ،وعلى غرار هذا األخير ،كان يحاول كمعالج شفاء اإلنسان من أوهامه .يهدف العالج
في التحليل النفسي إلى أن يعيد للوعي ،لألنا ،السيطرة على القوى غير العقالنية التي تحُكم األفعال البشرية.
-1مفهوم الظاهرة
سيرث الفالسفة في القرن العشرين هذا النقد الثالثي لألوهام التي يحملها اإلنسان بشأنه :الماّد ية ،اإللحاد ،نظرية الالشعور ،تلكم هي المذاهب التي
ستطغى على تأّم الت المفّكرين البارزين من القرن العشرين ،والذين سيحّد دون بعمق الصورة التي يشّكلها اإلنسان عن ذاته خالل هذا القرن حيث سيعرف
هيجان النزوات المهّد مة لإلنسان الذروة.
لكن في سياق بداية القرن العشرين الذي هيمنت عليه الوضعية ورفض الميتافيزيقا ،سيظهر تّي ار فكري وهو الفينومينولوجيا .مفردة الفينومينولوجيا كانت
ظهرت في القرن الثامن عشر في كتابات الفيلسوف األلماني ،يوهان هاينريش المبير ( ،)1777-1728أحد مراسلي كانط؛ لكن لم تظهر المفردة سوى بشكل
عابر عند المبير ،وال تظهر من جديد ككلمة فلسفية سوى في «فينومينولوجيا الروح» مع هيغل سنة ،1807أي أربعون سنة الحقًا ،لتختفي من جديد وتظهر
ثانيًة بقّو ة عند هسيرل كما سنرى ذلك.
تتشّكل هذه المفردة من كلمتين إغريقيتين «فاينومينون» ( )phainomenonو«لوغوس» (« .)logosفاينومينون» ،وبالجمع «تا فاينومينا» (ta
،)phainomenaتنحدر من الفعل «فاينو» ( )phainôويعني أنار ،ألمع ،أظهر ،أرى ،حيث الكلمة «فاوس-فوس» ( ،)phaos-phôsالنور ،تأتي من الجذر
نفسه :الظرف «فاينومينوس» ( )phainomenôsمعناه :بوضوح أو بجالء .فالظاهرة هي إذن ما يتبّد ى ،ما يتجّلى ،ما يظهرَ .بْي د أّن «الفعل» التأسيسي لما
يسّم يه أفالطون «فيلوسوفيا» ( )philosophiaهو التمييز الموجود سلفًا عند بارمنيدس بين ما هو موجود على الدوام ،الوجود ،الذي ال يتبّد ى للعيان؛ وبين
ما يتجّلى بشكل متعّد د ،وهو الظواهر.
إّن البحث الفلسفي هو قبل كل شيء مسألة الوجود ،أي حول الحقيقة ،كما ُيبرزه «سيناريو» قصيدة بارمنيدس يحكي فيها سفر المفّكر الذي ال يمكنه اختيار
السبيل القويم ،وهو الوجود ،وعزل ُطُر ق التيه في العدم وفي المظاهر سوى بمعونة إلهة يكون اسمها صامتًا ،والتي يمكن أن تكون اإللهة أليثيا ،الحقيقة.
التفكير هو إذن التخّلص من المظاهر وتجاوزها نحو ما يؤّس سها ويظل مختفيًا.
لقد ورث أفالطون هذا التمييز البارمنيدي بين الوجود والمظهر ،بين ما هو ثابت وما هو متغّي ر على الدوام ،ومتعّد د بالتالي .ها نحن أمام األفالطونية ،أي
المذهب الذي ُينتَس ب إلى أفالطون ،والذي ال يمكن خلطه مع الفكر الحقيقي لهذا األخير ،وهو فكر دقيق ،وإلى نظرية التمييز بين عالمين ،العالم الحّس ي
والعالم العقلي ،التي ستكون بمثابة اإلطار العام للفكر الميتافيزيقي كما تعّي ن انطالقًا من العصر الوسيط ،ألّنه يهدف إلى معرفة ما وراء الطبيعي وما ال ُتدركه
الحواس .سنجد هذا التمييز عند إيمانويل كانط الذي يقابل بشكل أفالطوني بين الظاهرة ،أي الشيء كما هو بالنسبة إلينا ككائنات متناهية وتتمّت ع بجسم
وبحواس ،و«الشيء في ذاته» ،الشيء كما هو بالنسبة لكائن ال متناٍه ،وهو الله .ويمّي ز كانط أيضًا بين الظاهرة والمظهر .الظواهر هي الموضوعات كما تتبّد ى
للحواس ،األشياء كما هي بالنسبة إلينا ،والتي توجد بالفعل .بينما المظاهر ال حقيقة لها ،فهي نتاج الخيال وال تمتلك أّية حقيقة وليست سوى أوهام تصُد ر
عن الفكر البشري.
ينبغي فهم أّن ما يعنيه كانط بالظاهرة هو الشيء كما ُيدركه البشر ،خالفًا للشيء كما هو بالنسبة لرؤية غير بشرية ،مثل الرؤية اإللهية .فالشيء في ذاته
بالنسبة إلينا كبشر ال سبيل لنا إليه وال يمكن التعبير عنه.
كرّد فعل على هذه الثنائية بين نظام الظواهر ونظام الشيء في ذاته التي احتفظ بها كانط ،ظهرت عند هيغل فكرة أّن الكائن الذي ال يظهر هو مجّرد عبث.
لقد كان [هيغل] األّو ل من خرج على األفالطونية ليبّي ن أّنه يمكن خالل تطّو ر الوعي البشري إدراك الحقيقة ومعرفة الكائن .لهذا السبب يعطي لكلمة
الفينومينولوجيا داللة إيجابية وهي القسم األّو ل من الفلسفة .باستناده إلى المسيحية وإلى مذهبها في التجسيد الذي يعتبر أّن الله يتحّو ل إلى إنسان ويفقد
بالتالي من تعاليه ،يعتقد هيغل أّن «الشيء في ذاته» ينبغي أن يظهر ويتجّلى للبشر إذا أراد أن يكون شيئًا آخر غير الوهم .نجد عنده ،وقبل نيتشه ،نقد
نظرية العالمين.
عمد نيتشه ،في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،إلى «قلب األفالطونية» ،أي إعادة االعتبار إلى عالم الحواس والمظاهر ،وتبيان أّن العالم العقلي هو
اختالق من الفكر البشري .حسب نظره ،ال شيء وراء المظاهر ،وال وجود لعالم خلفي هو بمثابة الحقيقة.
هسيرل ،الذي كان رياضًّي ا ،لم يقرأ نيتشه وال هيغل ،ولكن يقع في الوجهة نفسها التي َتعتبر أّن ما ُيدركه اإلنسان بحواسه ال يخلو من حقيقة .لهذا السبب
سيختار هو اآلخر مصطلح «الفينومينولوجيا» ليشير إلى ما يقصده بالفلسفة .يتعّلق األمر بالنسبة إليه بدراسة ما يتبّد ى للوعي والذي يبقى الشيء الوحيد
الذي نحن منه على يقين .فهو يرفض أيضًا التمييز الكانطي بين الظاهرة والشيء في ذاته .ال ُيدرك اإلله األشياء أفضل مّن ا ،إذ لو كان األمر كذلك لكّن ا نتعامل
مع صور ناقصة لألشياء وأّن إدراكنا لها يفتقر إلى الحقيقة .لكن هذا مجّرد عبث في نظر هسيرل ،ألّن كل ما هو موجود ال بّد أن يظهر ،وكل ما يظهر ال ُيبرز
الشيء بأكمله ،ولكن تدريجًّي ا عبر سلسلة من الوجوه أو الجوانب المختلفة.
ينجّر عن ذلك نتائج هاّم ة بالنسبة لمفهوم الفينومينولوجيا ذاته كما يوّض ح ذلك هايدغر .ال يتعّلق األمر بأّن هذا الفرع الفلسفي ال يعالج سوى «المظاهر» ،وال
الظواهر بالمعنى الكانطي ،والتي تتمّي ز عن الشيء في ذاته .ال تحيل ظواهر الفينومينولوجيا إلى أّي كائن من شأنه أن يكون في جوهره خفًّي ا ومجهوًال .لكن
بوجود فرع معرفي يسّم ى الفينومينولوجيا ،أي خطاب حول الظواهر أو علم الظواهر ،فهذا يقتضي أاَّل نزعم أّن كل واحد مّن ا ،تبعًا لتجربته العادية ،يعرف
الظواهر مسبقًا .إّننا في غالب األحيان مستغرقون في شؤوننا اليومية بحيث ال نرى األشياء وال ندرك منها سوى كونها نافعة لنا .لكي ندرك جّي دًا المظهر
الخالص للشيء ،ينبغي أن نتجاهل فائدته المباشرة ،وهو ما يفعله بالضبط الفّن ان أو الشاعر أو الفينومينولوجي.
لقد شّد د هسيرل على التماثل بين مواقفهم تجاه العالم ،وذلك بـ«وضع بين قوسين» عالقتنا المعتادة بالعالم لنترك األشياء تتعّر ض بذاتها .لكي تكون
فينومينولوجًّي ا ال يكفي فتح األعين ،ولكن يجب ممارسة نوع من الُّز هد ،وهو كلمة تعني في اإلغريقية «التدريب» .ينبغي أن ندّر ب نظرنا ،أن نجعله حاًّد ا أو
بصيرًا ،أن نجعل بين قوسين انشغاالتنا الراهنة لكي ُنبرز األشياء في حقيقتها القصوى .هذا ما يقوم به الرّس ام والشاعر والموسيقار الذين يرون ويسمعون
ويدركون ما ال يسمعه أو يراه اإلنسان العادي.
نفهم لماذا قال أحد كبار الفينومينولوجيين في فرنسا ،وهو ميرولوبونتي ،الذي اهتّم كثيرًا بالفّن ،بأّنك إذا أردت أن تكون فينومينولوجًّي ا ،عليك أن «تتعّلم
كيف ترى العالم» .ليس الفينومينولوجي هو الميتافيزيقي ،بمعنى الشخص الذي يفترض وجود كائن مجهول يختفي وراء المظاهر .على العكس ،هو
[الشخص] الذي يثق في حواسه ويعتقد بأّن الكائن أو الوجود هو معروف بالضرورة .لكنه يعترف بالمقابل أّن الظواهر التي ال تتمّي ز عن األشياء ذاتها يمكنها أن
تكون متعّذ رة اإلدراك بشكل مباشر ،وأّنه يتوّج ب اّتخاذ طريقة أو منهج ،أي إجراء في الوصول ،أو درب[http://kalema.net/home/admin/rg.php?( ]2
.)act=art&cmd=add#_ftn2
وهو ما سّم اه هسيرل بمنهج «اإلرجاع» ،والذي يدّل على تعليق اهتمامنا باألشياء لندعها تتجّلى كما هي .ينبغي أخذ مصطلح اإلرجاع بالمعنى الحقيقي« :رو-
دوكيري» ( ،)re-ducereال يعني في الالتينية فقط «اختزال» بمعنى الطرح ،ولكن يدّل أيضًا على «إعادة القيادة» ( .)re-conduireوهنا يتبّد ى طموح
الفينومينولوجيا :فهي تريد أن تقودنا من جديد نحو حقيقة األشياء ،وتريد إرجاعنا إلى هذا العالم الذي نحيا فيه ،وليس الفرار نحو عالم آخر ،متعالي.
ُو لد إدموند هسيرل في الثامن من أبريل سنة 1859في مورافيا (?Moravie)[3] (http://kalema.net/home/admin/rg.php
،)act=art&cmd=add#_ftn3وهي منطقة كانت تشّكل تشيكوسلوفاكيا وكانت وقتئٍذ نمساوية ،في عائلة يهودية بورجوازية .درس علم الفلك والرياضيات
والفيزياء ،ثم الفلسفة ،واعتنق سنة 1886الديانة البروتستانتية ،خّص ص أول أعماله لفلسفة الرياضيات ،وفي سنة 1900و 1901ظهرت «أبحاث منطقية»
حيث يرد فيها مصطلح «الفينومينولوجيا» ليمّي ز الفرع الفلسفي الذي ينوي الترويج له.
لقد بدأ تأثير فكر هسيرل في االنتشار ،وشهدت بداية القرن ميالد «الحركة الفينومينولوجية» التي كانت تجمع فالسفة شباب ينتمون إليهُ .ع ّي ن سنة 1916
كأستاذ في جامعة فريبورغ .في العشرينيات من القرن العشرين ،كان هسيرل ُيعّد من بين أشهر الفالسفة في ألمانيا :كان الطلبة من كل األصول يتسارعون
لحضور دروسه ،ومن بينهم ليس فقط األلمان ،ولكن أيضًا اليابانيين واألمريكيين .أحد أهّم معاونيه هو مارتن هايدغر الذي أصبح مساعده سنة .1919إّن
التعاون بين هسيرل ومساعديه كان حاسمًا لمواصلة أبحاثه ،ألّنهم كانوا يعيدون تسجيل مخطوطاته المكتوبة على طريقة الخط المجموع[]4
( )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn4ويهّي ئونها للنشر.
اقترح هسيرل اسم هايدغر ليخلفه بعد تقاعده سنة .1928وقّد م آخر محاضراته سنة ،1929ومن بين آخر طلبته نجد هربرت ماركوز وإيمانويل لفيناس.
خالل العشر سنوات األخيرة ،تفّر غ هسيرل كليًة ألبحاثه .لكن بعد سنة ،1933ستتكّثف عزلته .إذا كان مشهورًا ومكَّر مًا في الخارج ،ففي بلده تّم ت «إحالته
على اإلجازة» ثّم منعه من التدريس بسبب أصوله اليهودية .توفي وهو مستغرق في العمل يوم 27أبريل 1938في السّن .79شهور قليلة بعد وفاته ،قام
الشاّب الفرانسيسكاني[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn5( ]5البلجيكي ،هرمان ليو فان بريدا ،بنقل سرًّيا
معظم مخطوطات هسيرل (حوالي 45000صفحة مكتوبة بالخط المجموع) إلى جامعة لوفان حيث قام بتأسيس «أرشيفات هسيرل» .لم ينشر هسيرل في
حياته سوى النزر اليسير ،لكن ابتداًء من سنة 1950قامت أرشيفات هسيرل في لوفان برقن مخطوطاته ونشرها بمساعدة اليونيسكو والـ«هسيرليات»
( )Husserlianaوهي األعمال الكاملة لهسيرل التي ال تزال تظهر والتي تشتمل على أكثر من أربعين مجّلدًا ،ولكن لم َتنُش ر سوى ُثلث مخطوطات هسيرل.
ألّن هسيرل لم يتوّص ل إلى إعطاء صورة نهائية ومنسجمة لفكره [الفلسفي] .والدليل على ذلك ما كتبه وعمره 71سنة في نص مخَّص ص للنشرة اإلنجليزية
لـ«أفكار رئيسية من أجل الفينومينولوجيا» .لقد أعلن باستحضاره للمثال الفلسفي الذي كان يحّركه دائمًا ،وهو العلم بدون افتراض« :لقد تأّك َد ت قناعات
الكاتب باستمرار خالل إعداد أعماله ،أمام بداهة النتائج التي تتأّس س تدريجًّي ا الواحدة على األخرى .إذا كان عليه إرجاع جالل طموحاته الفلسفية إلى أن
يكون المبتدئ الحقيقي ،فلقد توّص ل في سّن الُّن ضج ،على األقل بالنسبة لما يخّص ه ،إلى القناعة الكاملة بأّنه يستحّق اسم المبتدئ الحقيقي .إذا ُم نح له ُع مر
ماتوشالح[ ،)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn6( ]6فال يترّد د في أن يستشّف إمكانية أن يكون فيلسوفًا [] ...
يرى الكاتب أّن إقليم الفلسفة الحقيقية يتمّد د أمامه« ،األرض الموعودة» التي ال يشهد في حياته عملية حرثها».
نرى إذًا أّن هسيرل لم يسَع إلى فرض مذهبه ،ولكن فتح سبيًال في التساؤل .ينبغي اإلشارة إلى أّنه لم يكن زعيم مدرسة فكرية ،ولم يلّق ن أّي مبدأ يلتزم به
تابعوه ،لكن كان مصدر الحركة التي كان يمكن (بل ويجب) أن يشارك فيها اآلخرون غيره؛ وبُح كم أّنه كان علمًّي ا ،كان َيعتبر أّن العمل الفلسفي هو عمل
جماعي .إّن الدافع نحو الدرب الذي افتتحه هو التصّو ر الجديد للوعي الذي ينفصل عن الطابع العقالني المحض والمجّرد للفلسفة الكالسيكية .يمكن تعريف
الفينومينولوجيا انطالقًا من القول المأثور حول العودة إلى األشياء ذاتها الذي نعت به هسيرل أبحاثه ،لكن شريطة أن نشير إلى أّن تلك األشياء المعنية ليست
هي الحقائق الخارجة عن الذات ،ولكن معيش هذه الذات ( )les vécusالذي ينبغي دراسته قبل كل شيء.
ما يعيب عليه هسيرل في النمط الكالسيكي للفكر هو أّنه يكتفي بالكلمات دون األخذ بعين االعتبار المعيش الذي تنطبق عليه تلك الكلمات .يلّح هسيرل
بقّو ة إلى صعوبة التحليل الفينومينولوجي الذي يستدعي من الفينومينولوجي أن يتبّن ى الموقف غير الطبيعي للتفكير الذي به يحّو ل المعيش إلى موضوعات
للبحث .لكن إذا كانت العودة إلى األشياء ذاتها هي في الواقع عودة انعكاسية [تأّم لية] نحو المعيش ،فمن الضروري إيضاح مفهوم المعيش .وينبغي التمييز
بين ما ينتمي إلى المعيش وما ينتمي إلى الموضوع نفسه.
لنأخذ مثال اللون :غالبًا ما نخلط بين إحساس اللون الذي هو معيش الوعي واللون الخاص بالشيء الموضوعي .ليس الموضوع في حّد ذاته «داخل» الوعي،
ولكن ينطبق في المعيش مع لونه الموضوعي جزء من هذا األخير وهو اإلحساس باللون.
يلّح هسيرل على أّن هذا االختالف بين مضمون الوعي والموضوع الخارجي ليس مجّرد اختالف في وجهة النظر التي َتعتبر أّن الظاهرة عينها ُتدَرك تارًة في
صيغتها الذاتية (كما ُيدركها األنا) وتارًة في صيغتها الموضوعية (بالمقارنة مع الشيء نفسه) .يتعّلق األمر باألحرى بغموض في استعمال مصطلح الظاهرة الذي
يدّل تارًة على معيش البادي من الشيء ،وتارًة أخرى الموضوع كما يتبّد ى على ما هو عليه.
يقوم التحليل الفينومينولوجي بتبديد هذا الغموض بإرسائه الختالف في الجوهر بين ما ينتمي إلى الوعي وما ينتمي إلى العالم الخارجي ،بين المحايث
والمتعالي .ليست الظاهرة بالمعنى الهسيرلي هي الظاهرة بالمعنى الشائع ،أي الشيء المتعالي الموضوعي ،وال الظاهرة بالمعنى الفلسفي التقليدي ،أي
المظهر في تمّي زه عن الكائن الخفّي للشيء ،ولكنها البادي الخالص من الشيء للوعي ،معيش الموضوع.
إّن هذا اإليضاح في داللة المعيش يؤول إلى تصّو ر جديد للوعي ال يرى في هذا األخير الحاوي ،بمثابة علبة تأوي إليها األشياء المنمنمة ،ولكن ينطوي على
فعل الوعي بوصفه قصدية ( .)intentionnalitéيأخذ هسيرل هذا المصطلح عن أستاذه الفيلسوف برنتانو من فيينا ،الذي بدوره يعتمد في «السيكولوجيا
من وجهة نظر تجريبية» على أرسطو ،ولكن بتعديل المعنى .يتعّلق األمر بالنسبة إليه في التفكير في معيش الوعي كقصد ،استهداف الموضوع الذي يبقى
متعاليًا على الوعي ،وهو ما لم تتوّص ل الفلسفة الحديثة إلى القيام به .ال يوجد بالتالي شيئان ،أحدهما متعاٍل (الموضوع الواقعي) ،واآلخر محايث للوعي
(الموضوع «الذهني») ،ولكن الشيء نفسه ،أي الموضوع كما يقصده الوعي .فمن الضروري إذن تطهير اللغة المستعَم لة لحّد اآلن :ال نتحّد ث عن موضوع
ذهني أو عقلي ،ولكن عن موضوع قصدي ،ألّن هذه العبارة األخيرة لها الفضل في القطع مع ما يسّم يه سارتر «وهم المحايثة» ،بمعنى التصّو ر الذي َيعتبر أّننا
نتمّثل الوعي كما لو كان مكانًا تقُطنه األطياف الوهمية لألشياء[.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn7( ]7
بهذا التصّو ر للوعي ،يكون هسيرل قد أفلح في تحديد المبحث الخاّص بالفينومينولوجيا وهو التضايف بين الذات والموضوع ،أو أيضًا وحسب مصطلح
رئيسي في فكر هسيرل ،تأسيس ( )constitutionالموضوع في الذات.
لكن ال يمكن لهذا التصّو ر في الوعي أن يكون مخَّص صًا للذات في فرادتها ،بل يقتضي اإلحالة إلى تعّد دية في الذوات ،وهو ما يسّم يه هسيرل «التذاُو ت»
( .)intersubjectivitéغالبًا ما كان لدينا االنطباع في فرنسا ،حيث النّص األول المترَج م لهسيرل هو «تأّم الت ديكارتية» ،وهو مجموعة من المحاضرات
ألقاها هسيرل في باريس سنة ،1929بأّن الفينومينولوجيا هي ذات إلهام ديكارتي فحسب ،وأّنها ال تأتي سوى في شكل «اإليغولوجيا» ( )égologieأي خطاب
حول األنا أو الذات ،حيث يضحى مشكل تأسيس الغير هو مشكل حاسم وغير قابل للحل.
لكن إذا أخذنا بعين االعتبار المسار الحقيقي لهسيرل ،وليس فقط ما ترسمه سلسلة أعماله المنشورة في حياته ،فإّننا نكتشف أّن مشكل تأسيس الغير ُيطرح
في الوقت الذي تصّو ر فيه هسيرل فكرة المنهج الفينومينولوجي ،أي في اللحظة التي تخّلى فيها سنة 1905عن األبحاث الرياضية والمنطقية ليؤّس س
الفينومينولوجيا كفلسفة قائمة بذاتها.
في «التأّم الت الديكارتية» ،كان يتعّلق األمر بالنسبة لهسيرل االنطالق ،على غرار ديكارت ،من الطابع البديهي لـ«أنا أفّكر ،إذن أنا موجود» ،ولكن كان من
الضروري تجذير الديكارتية .حسب هسيرل ،لقد خان ديكارت المنطلق الخاص الذي اعتمد عليه عندما جعل من الكوجيتو الحلقة األولى لسلسلة استنباطية
تذهب من اكتشاف الذات كشيء مفّكر إلى اكتشاف وجود الله والحقيقة اإللهية ،ليصل إلى إعادة التوكيد على ما قام التشكيك فيه منذ البداية ،عنيُت
وجود العالم الخارجي.
ال يحتفظ هسيرل من ديكارت سوى بعنصر من التفكير أال وهو الكوجيتو ،ويدع جانبًا العنصر اآلخر وهو الله .حسب هسيرل ،ال يدرك اإلله أشياء العالم أفضل
مّن ا .ال يمكننا أبدًا أن ندركها في كلّي تها ،ولكن دائمًا بشكل جزئي .يأخذ هسيرل مثال المكّع ب الذي ال ندرك منه سوى ثالث جهات دفعًة واحدة .إذا افترضنا
أّن اإلله يدرك األوجه السّت ة للمكّع ب ،هذا يعني أّن إدراكنا البشري ال يتيح لنا الوصول إلى حقيقة ما هو موجود .فلم ندرك بالتالي سوى مظاهر خالصة ،واإلله
وحده هو القادر على إدراك «الشيء في ذاته».
يؤّكد هسيرل بالعكس أّن إدراك األشياء يستلزم مبدئًّي ا عدم المالءمة ،وأّنه «ال يمكن لإلله أن يغّي ر أي شيء من ذلك ،وال يمكنه أن يمنع كون 2+1ال تساوي
،3أو أّن أّي حقيقة جوهرية أخرى ال يمكنها أن تدوم»[ .)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn8( ]8بالنسبة إليه،
ليس اإلله أساس الحقيقة ،ولكن مجمل البشر الذين يحملون بأنفسهم مسؤولية تشكيل العالم .كما يشير بول ريكور بحّق «بينما عمل ديكارت على تسامي
الكوجيتو باإلله ،قام هسيرل بتسامي األنا ( )egoباألنا اآلخر ( :)alter egoكان يبحث في فلسفة التذاُو ت عن األساس األعلى للموضوعية التي كان ديكارت
يبحث عنها في الصدق اإللهي»[.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn9( ]9
نقّد ر في الوقت نفسه الصعوبة التي واجهها هسيرل في هذا المضمار :كيف التحّق ق من غيرية اآلخر انطالقًا من األنا ،وكيف تشكيل أنا آخر في األنا؟
يتعّلق األمر إذن بإيجاد في األنا الحوافز التي بها يتجاوز نطاقه الخاص نحو الغير .كان هسيرل يسعى باألحرى إلى تبيان أّن «اإليغولوجيا» [علم األنا ،علم
الذات] هي جوهرًّيا منفتحة على الغيرية ،وأّن هذا الفائض ،الغير ،ينخرط كإمكان في تشكيل القصدية ذاتها .يتعّلق األمر في تحليل تجربة الغيرية بتبيان أّن
بنية األنا تفتحه أصلًّي ا على الغيرية .ألّنه إذا كانت القصدية في حّد ذاتها بنية تفتح الوعي على ما هو خارج عنه ،يمكن فهم أّن اإليغولوجيا ال تتعارض مع
االعتراف بغيرية الغير .في تجربة الغير ،يتبّد ى «بلحمه وعظمه» لألنا ،دون أن أخلطه بأّي شيء من العالمَ .بْي د أّن ما يشّكل كينونته الخاّص ة غير معطى لي
في األصل ،وإّال أمكنني أن أحيا معيش الغير ،وأن تمتّد حياتي الخاّص ة ،ويكون هو بالتالي أنا بالذات.
إّن هذه القصدية غير المباشرة للغير يسّم يها هسيرل «الحضور غير المباشر» ( ،)apprésentationولكي يوّض ح ما يعنيه بذلك ،فهو يقوم بالموازاة بين تجربة
الموضوع وتجربة الغير .هناك أيضًا في التجربة الموضوعية نوع من الحضور غير المباشر ،بمعنى الحضور غير المباشر للخفّي من طرف الجلّي ،مثًال الوجه
الباطن للمكّع ب من طرف الوجه الظاهر .يمكن لهذا الحضور غير المباشر أن يتحّو ل إلى حضور [مباشر] ،وللباطن أن يصبح الظاهر عندما أقوم مثًال بتكوير
المكّع ب؛ بينما في حالة الغير ،فنحن إزاء باطن مبدئي ال يمكنه أبدًا أن يتحّو ل إلى ظاهر .لكن لكي يصبح الحضور غير المباشر لآلخر ممكنًا ،ينبغي أن َيحُض ر
أمامي شيء منه :مثال جسد الغير الذي يمكن إدراكه مباشرة كبنية عضوية مشابهة لبنيتي .إّن األمر الذي يؤّس س العالقة بالغير هو التماثل الجسدي بيني
وبينه على قاعدته يمكنني التعّر ف إلى الغير كأنا آخر .إّن اإليغولوجيا ،شريطة عدم فصلها كلّي ًة عن التجربة الحياتية ومن بينها تجربة التجسيد ،ليست إذن
العائق في إنشاء عالم مشترك بُح كم أّن القصدية هي قادرة على تجاوز ما هو خاّص بي وبلوغ الشيء ذاته ،الوجود الحقيقي ،الذي هو بالتعريف ال يكون فقط
بالنسبة إلّي ،ألّن ما يخّص ني بالذات هو ذو بنية غير واقعية أو خيالية أو مظهرية .بما أنه يمكنني أن أشّكل في ذاتي أنا آخر ،يمكنني أيضًا أن آخذ بعين
االعتبار العالم في رّم ته والمعطى لتجربتي الخاّص ة كعالم موضوعي يصُلح لكل الذوات .فال وجود لموضوع حقيقي إّال بوجود أنا متعّد د ،ومعنى ذلك أّن
التعّد دية في الذوات تشّكل القاعدة لفلسفة واقعية حقيقية.
ولد مارتن هايدغر في 26سبتمبر 1889بميسكيرش ،بلدة كاثوليكية تقع شمال بحيرة كونستانس ،في عائلة متواضعة الدخل (كان أبوه صانع البراميل وخادم
الكنيسة) .لقد كان تلميذًا موهوبًا وواصل دراساته الثانوية في كونستانس ثم في فريبورغ -أن -بريسغو بفضل الحصول على ِم نح عديدة .درس أّو ًال علم
الالهوت (الثيولوجيا) ثم الرياضيات والفيزياء ،وقّر ر أخيرًا التفّر غ لدراسة الفلسفة.
من 1915إلى ،1923كان هايدغر أستاذًا مساعدًا في جامعة فريبورغ .وخالل هذه الفترة ،سنة ،1917تزّو ج من إلفريدي بيتري من أصل بروتستانتي ،ولم يكن
هذا الزواج غريبًا عن ابتعاده التدريجي عن الكاثوليكيةُ .ع ّي ن سنة 1922كأستاذ غير رسمي في جامعة ماربورغ .في هذه الفترة بدأ هايدغر كتابة «الوجود
والزمان» ،وكتبه في معظمه في تودنوبيرغ ،قرية من الغابة السوداء حيث قام هايدغر ببناء بيت خشبي الذي أصبح المكان المفّض ل للعمل .صدر الكتاب
الذي أهداه لهسيرل في فبراير ،1927وفي السنة الموالية شغل كرسي في جامعة فريبورغ خلفًا لهسيرل .إّنها بداية شهرة كبيرة لهايدغر الذي ظهر وقتها
كشخصية نافذة في الفلسفة األلمانية ،لكن عالقته بهسيرل أصبحت شائكة ،وباإلضافة إلى االختالف الفلسفي جاء الخالف السياسي عندما َقِب ل هايدغر
بتوّلي عمادة جامعة فريبورغ في أبريل .1933
إّن فترة االلتزام السياسي لهايدغر في النازية كانت قصيرة ،ألّنه سيستقيل من منصبه كعميد الجامعة في نهاية فبراير ،1934لكنه لم يكن قرارًا انتهازًّيا ،كما
تشهد على ذلك النصوص السياسية لفترة .1934-1933
خالل حكم هتلر ،كّر س هايدغر كامل وقته للتدريس .في سنة ،1945أصدرت سلطات االحتالل الفرنسية ضّد ه مرسومًا يعّلق وظيفته كأستاذ بسبب التزامه
السابق .وهي الفترة التي بدأ تأثيره يتنامى في فرنسا حيث سادت الفلسفة الوجودية .في سنة 1946التقى بجون بوفريه وأهدى له سنة « 1947رسالة في
اإلنسانية» .تّم أعيد إدماجه سنة 1951إلى وظيفته كأستاذ وسُي دّر س إلى غاية 1957كأستاذ شرفي .في ندوة سيريزي[]10
( )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn10سنة 1955التي ألقى فيها محاضرته الشهيرة «ما هي الفلسفة؟» ،التقى
بالعديد من الفالسفة الفرنسيين ،وفي مروره عبر باريس تعّر ف إلى الشاعر رونيه شار الذي دعاه إلى الفوكلوز[]11
( )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn11حيث سيقيم فيه لعّد ة مّر ات وينّظم محاضرات مع أصدقائه الفرنسيين.
دفعه السجال حول ماضيه السياسي[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn12( ]12إلى اإلدالء بحوار مع [صحيفة]
«شبيغل» ( )Spiegelفي سبتمبر ،1966لكن شريطة أن ُينَش ر الحوار بعد موته.
لقد خّص ص السنوات األخيرة من حياته في إعداد الطبعة الكاملة ألعماله حيث سيشهد صدور األعداد األولى منها قبل وفاته في فريبورغ في 26مايو .1976
تشتمل الطبعة الكاملة ألعمال هايدغر التي سيدوم صدورها العشرات من السنوات على أكثر من 80مجّلدًا ،حيث 45منها هي عبارة عن محاضرات .أيام
قليلة قبل وفاته ،أبرز هايدغر في الطبعة الكاملة ألعماله القول المأثور التالي« :مسارات ،ال أعمال» .كان يشير بذلك إلى قّر ائه في المستقبل أّن فكره ال ُيختَز ل
في مجموعة من األطروحات ،وأّنه كان يحتفظ في ُبعده التساؤلي على طابعه كمسار غير مكتمل.
لقد كان هايدغر أستاذًا قبل أن يكون صاحب كتاب أساسي« ،الوجود والزمان» ،المنشور سنة ،1927والذي نعته إيمانويل لفيناس ،الذي كان طالبًا في
ستراسبورغ منذ 1923وشهد محاضراته في سنة 1929-1928في فريبورغ ،على أّنه أهّم كتاب إلى جانب «فينومينولوجيا الروح» لهيغل .لقد طّو ر هايدغر
في دروسه في ماربورغ التي حضرتها حنه أرندت تصّو ره حول كائن اإلنسان .لقد رفض بذلك أن يستعمل اللغة السارية المفعول في الفلسفة الحديثة
ومصطلحات الذات أو الوعي التي بدت له غير مالئمة لوصف اإلنسان وانتقد فيها أيضًا التعريف التقليدي لإلنسان كحيوان ناطق .تعيين اإلنسان كـ«ذات»
هو افتراض وجود قوام ثابت أو نواة صلبة ،بينما ما يمّي ز اإلنسان عند هايدغر هو بالضبط أّنه زماني من جانب إلى جانب .التفكير في اإلنسان انطالقًا من
الوعي هو إدراك فقط الُق درات العقلية وعدم األخذ بعين االعتبار ما يسّم يه هايدغر «الوجود المحايث» ( )facticitéوالذي ال ينطوي فقط على الجسدية
( )corporéitéولكن أيضًا التحديدات التاريخية والجغرافية.
وتعريف اإلنسان على أّنه حيوان ناطق ،معناه تقسيمه إلى جزأين حيث نتساءل كيف يمكنهما أاَّل يجتمعا على اإلطالق .ينبغي استحضار الصعوبات التي
واجهها ديكارت الذي انطلق من تصّو ر ثنائي لإلنسان وتخّي ل أّنه يمكن تفسير كيف أّن الجسم يتأّثر بالعواطف مثله مثل النفس ،وأّن مقّر النفس هو الغّد ة
الصنوبرية التي توجد في الدماغ .أراد هايدغر القطع مع هذه التعريفات التقليدية وإعداد تصّو ر لإلنسان في رّم ته .لهذا السبب يدع جانبًا مفاهيم الجسم
والنفس لصالح الوجود ،والمسّم ى في األلمانية «إكسيستنز» ( .)Existenzلكن يأخذ هذه المفردة في اشتقاقها اللغوي بمعنى الخروج ( )exمن العطالة ومن
الفعل ( )sistereالذي يعني أْو َقفَ ،قَب ض؛ والفعل ( )exsistereفي الالتينية معناه برزَ ،خَر ج من األرضَ ،ظَه ر ،قبل أن يكتسب داللة َو َج َد .
ما يوّس عه في «الوجود والزمان» هو تحليل الوجود حيث المعنى العميق هو الزمانية ( .)temporalitéما يمّي ز الموجود ليس تمركزه حول ذاته ،ولكن بالعكس
انفتاحه على العالم ،على اآلخرين وعلى ذاته .لهذا السبب يحّد ده هايدغر ككائن في العالم بالمعنى الذي ال ينفّك فيه عن عالقته بالعالم المجاور ()Umwelt
تمامًا مثل الكائنات الحّي ة .لكن خالفًا للحيوان الذي يمتلك طبيعة ثابتة نسبًّي ا وسلوك تقوده الغريزة ،فإّن اإلنسان هو كائٌن مجّرد من الطبيعة ،ومعنى ذلك أّنه
كائٌن حّر .
إّن نقد فكرة «الطبيعة البشرية» حظي بشعبية في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية مع سارتر الذي أشاع في كتابه «الوجود والعدم» المنشور سنة 1943
أفكار هايدغر المعروضة سنة 1927تحت اسم «الوجودية» ،وهي مفردة لم يخترعها سارتر نفسه ،وإّنما استحدثها الصحافيون الحريصون على إعطاء شعار
لنمط جديد من التفكير.
َقِب ل سارتر باستعادة هذه المقولة لصالحه من أجل نعت فلسفته .ليست مفردة الوجود بالنسبة إليه كما بالنسبة لهايدغر مفهومًا عاًّم ا يمكن تطبيقه على أّي
شيء للداللة على أّنه موجود وحيث يكون المقابل هو مفهوم الجوهر ليدل على ما هو الشيء بطبعه؛ ولكن على العكس ،المفردة هي اسم يدّل على نمط وجود
اإلنسان .بهذا المعنى ،فقط اإلنسان يوجد ،وال توجد األحجار واألشجار ،فهي هي فقط ،ألّن الوجود معناه عقد عالقة باآلخر غير الذات ،والقدرة على الخروج
-من -الذات ،الظهور ( )ex-istereبالمعنى الحرفي.
يستعمل سارتر مصطلح الوجود بالداللة نفسها التي استعملها هايدغر ،ولكن يسعى فضًال عن ذلك إلى الكشف بشكل دقيق عن موقفه الفلسفي كوجودي .ما
يقصده بالوجودية هو موقف فلسفي يتعارض مع موقف الفلسفة الكالسيكية ،العريقة والحديثة ،التي يمكن نعتها بأّنها فلسفة جوهرانية أو ماهوية
( .)essentialismeبالنسبة للفيلسوف الماهوي ،الماهية سابقة على الوجود ،وتحديد الشيء يسبق الشيء ذاته .بالنسبة إليه ،كل شيء يمكن تشبيهه
بالمنتوج المنَج ز ،بما في ذلك اإلنسان نفسه .إذا تبّن ينا التصّو ر التقني للعالم ،إذا اعتبرنا كل ما هو كائن كنتيجة لسيرورة اإلنتاج ،ينبغي أن نعترف أّن هذه
السيرورة غير ممكنة سوى على أساس نموذج وُح سن-األداء وفكرة معّي نة عن الغائية التي نسير ُو فقها .كل هذا يدخل في إطار ما يسّم ى على نحو تقليدي
«الماهية» .بالنسبة لطاولة أو كرسي ،ال بّد للماهية أن تسبق الوجود ،وأّن فكرة ما ينبغي إنتاُج ه تسبق اإلنتاج ذاته .األمر نفسه يتعّلق بالكائنات البشرية
حسب الماهويين .فهم يعتبرون اإلنسان كخليقة ،أي أّنه مخلوق من طرف هذا التقني األكبر وهو الله.
الماهويون هم ألوهيون ( )théistesعلى غرار ديكارت الذي يعتبر أّن وجود الله وحده يمكنه أن يدرك كينونة اإلنسان .مفهوم الطبيعة البشرية غير صالح
سوى في إطار نظرية الخلق .إذا رفضنا هذه النظرية في خلق العالم من طرف الله ،فإّنه يتوّج ب علينا أيضًا رفض فكرة الطبيعة البشرية .وهو ما يفعله الملحد
الوجودي ،موقف فلسفي تبّن اه سارتر لذاته .حسب نظره ،يوجد اإلنسان قبل تحديده التصّو ري .فهو الكائن الوحيد الخالي من الطبيعة ،ألّنه ذاتية محضة،
بمعنى مشروع خالص في الذات أو ألجل الذات تبعًا للمصطلح الذي يستعمله في «الوجود والزمان»« :فهو ليس شيئًا آخر سوى ما يفعله بنفسه» .ذلكم هو
المبدأ األّو ل للوجودية حسب سارتر :يمكننا انطالقًا من العدم أن نخلق وجودنا الخاص ،وأن نبتكر كل يوم في حياتنا.
فلسفة سارتر هي إذن فلسفة في الحرية ،مثلها مثل فلسفة هايدغر .لكن بالنسبة لهايدغر ،ال يكفي أن تعلن أنك «وجودي» ،وهو ما سيرفضه في الوقت الذي
أصبح فيه سارتر مشهورًا؛ بل ينبغي تبيان بشكل واقعي ما هي البنيات األساسية للوجود.
تأتي هذه البنيات حسب هايدغر من الطابع الزمني للوجود البشري الذي هو منفتح مبدئًّي ا على المستقبل وعلى اإلبداع ،عكس الحياة الحيوانية التي هي
تكرار .اإلنسان هو ،من هذه الوجهة في النظر ،عبارة عن كائن غير مكتمل هيكلًّي ا ،بينما يتوّص ل الحيوان إلى إنجاز كينونته بحكم أّنه يخضع إلى صوت
الطبيعة .لكن ،من جانب آخر ،إذا كان [اإلنسان] يفتقر إلى «الطبيعة» التي تظل نفسها أًّيا كان المجتمع أو العصر الذي يحيا فيه ،فهو يرث فضًال عن ذلك
بعض التحديدات التي ال يختارها .إّن هذه التحديدات ،الجنس ،الصفات الجسدية ،الثقافية ،التاريخية ،هي التي يصطلح عليها هايدغر اسم «الوجود
المحايث» والذي يحيل إلى ماٍض يتوّج ب االضطالع به ،حتى وإن كان بغرض الثوران عليه أو االنفصال عنه .فالكائن البشري هو ،في الوقت نفسه ،مفتوح
على المستقبل وفي صيرورة دائمة بوصفه كائَن مشروٍع يرتبط بماٍض يتحّم له وبصفته «ملقى في العالم».
يتعّلق األمر بالنسبة لهايدغر بإنتاج تأويل أصلي لإلنسان يختلف عن التأويل الفلسفي التقليدي الذي يرى فيه مرّكب من مادة جسمية ومن صورة روحية.
ينبغي تحديد كائن اإلنسان باسم واحد وهو «الهّم » ( ،)souciليس بالمعنى االعتيادي لهذه المفردة ،ولكن بمعنى أّن الشيء الذي يمّي ز اإلنسان بشكل أساسي
هو العالقة غير العقلية في االنشغال والعناية التي يرعاها مع ذاته ومع اآلخرين ومع األشياء.
لم يكن هذا الخيار المعجمي اعتباطًّي ا ،ألّن هايدغر يستند هنا إلى المعنى المزدوج للمفردة الالتينية «كورا» ( )curaالتي تعني في الوقت نفسه العناية والهّم
(الحظ ذلك في اإلنجليزية )care :تمامًا مثل األلمانية ( .)Sorgeيستند هايدغر في ذلك إلى حكاية لشاعر التيني من القرن األول ،هايغن ( ،)Hyginأثارت
انتباه غوته ( )Goetheوالتي تشهد قبل كل تحليل فلسفي على وجود تصّو ر قبل-فلسفي حول اإلنسان بوصفه كائنًا يمكن تحديده كهّم .
يبقى فقط أن نحّد د إلى أّي مدى يمكن لهذا التعريف لإلنسان أن يكون واقعًّي ا .يرفض هايدغر أن يحّد د اإلنسان تبعًا لُقُد راته العقلية ،بل يفّض ل تبيان أّن
اإلنسان يقع على المستوى العملي.
هذه األهمية التي كان يوليها للممارسة شّد ت انتباه معاصريه إلى درجة أّن هربرت ماركوز ،الذي كان طالبه والذي سيصبح بعد هجرته إلى أمريكا مفّكر
الستينيات [من القرن العشرين] بفضل كتابه «اإلنسان األحادي الُب عد»[http://kalema.net/home/admin/rg.php?( ]13
،)act=art&cmd=add#_ftn13اعتبر أّنه باإلمكان جعل «الوجود والزمن» في عالقة مع فكر ماركس ،وعلى الخصوص ماركس الشاب حيث سيتّم اكتشاف
المخطوطات الباريسية سنة 1844ونشرها عام 1932من طرف الندسهوت ،أحد طلبة هايدغر .عالوة على رّد االعتبار إلى الممارسة ،هناك أيضًا رّد االعتبار
للوجدانية ( )affectivitéعند هايدغر .لقد اُّتِف ق في إطار العقالنية الحديثة أن يظل الموقف النظري خالصًا من كل اختالط بمجال العواطف .لم يكن األمر
كذلك في زمن ميالد الفلسفة التي ظّلت تحت تبعية هذا اإلجراء العاطفي في شكل الـ«توماتزاين» ( )thaumazeinأي الدهشة التي أشار إليها هايدغر في
محاضرته بسوريزي تحت عنوان «ما هي الفلسفة؟» واعتبرها [الدهشة] الـ«أركي» ( )arkhèأي في الوقت نفسه أصل التفلسف والمبدأ الذي يدّبره في رّم ته.
يبقى مع ذلك أّن تعريف اإلنسان كحيوان عاقل أساس التصّو ر العريق والحديث لكينونة اإلنسان بوصفه كائنًا مرّك بًا من جزأين مختلفين ،أحدهما يتقاسمه مع
الحيوان ،واآلخر ينفرد به ،يدفع إلى وضع المجال العاطفي برّم ته في جهة ما ينتمي إلى حيوانية اإلنسان.
الجديد في التصّو ر الهايدغري لإلنسان هو الدور الذي يوليه إلى مجال النبرات واالستعدادات العاطفية ،وعنيُت بذلك الكشف األصلي للعالم بُح كم أّن
اكتشاف أّي شيء ال يتأّس س على الحساسية الخالصة وال على المشاهدة المحضة ،ولكن في الُق درة على الوعي بأّنه [اإلنسان] معنٌّي بما َيمُثل أمامه .فنحن
نقع في العالم ومشاعرنا هي انعكاس لهذه الوضعية .فليست هذه المشاعر شيئًا جّو انًّي ا وخاًّص ا بالذاتية ،ولكن يمكنها أن تنتشر نحو الخارج كبيئة أو كنبرة.
فالنبرات العاطفية هي تواصلية كما نعرف :كل شيء يصبح مبتهجًا حول المِرح ،وحول كل كئيب هناك الكآبة .بفضل اإلحساس أتواصل بالعالم الذي أعيش
فيه ويشّكل جوهرًّيا هذه العالقة التي ال يمكن تعليقها.
لقد افترضنا بأّن تبّن ي موقف نظري خالص ،عند الفيلسوف أو العالم ،يقتضي كبت كل إحساس عاطفي .في الواقع ،يتعّلق األمر بتفضيل حالة معّي نة من
اإلحساس في شكل الالمباالة غير الكاملة التي تأتي من كون أّننا عندما نفّكر ال يمكننا أن ننشغل بالضروريات المباشرة للحياة ،وال يعني هذا األمر أّننا نقمع
كل شعور في أعماقنا.
ينبغي التذكير في هذا الصدد أّن الفلسفة نشأت عن الـ«سكوليه» ( )scholèأي الترفيه الذي أجازته الوضعية التي كانت تجعل من العبيد في المدينة
اإلغريقية يتفّر غون للنشاطات الحيوية ،تاركين للمواطنين الوقت للنقاش في الـ«األغورا» ( )agoraأي السوق .بدًال من التمييز بين المظهر العقلي والمظهر
الحّس ي للعالقة باألشياء وعوض منح ألحدهما أو لآلخر دورًا تأسيسًّي ا بتبّن ي وجهة النظر الواقعية أو وجهة النظر المثالية ،يتعّلق األمر بالنسبة لهايدغر
بالتفكير في أصليتهما المشتركة ( )co-originaritéوتشابكهما بحيث ال تكون هنالك نظرية ( )theôriaتنفك عن العاطفة وال العاطفة الفّظة خالية من
التفكير .ما يهدف إليه هايدغر هو تقديم تعريف لإلنسان ال يتأّس س على تأويل ثنائي لكينونته.
لقد رأينا أّن الواقعة األساسية للحداثة هي تحرير اإلنسان ،وهو الحدث الذي كان أصل «األنوار» التي مّي زت نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا .بدًال من أن
يعتمد اإلنسان على اآلخرين ،على األمراء أو اإلله ،في تدبير وجوده ،فهو يتحّكم في مصيره ويرتقي إلى الشعور بكرامته الشخصية ،في الوقت الذي تختفي
فيه ،على األقل في األنظمة الديمقراطية ،العالقات التراتبية التي كانت تنّظم في السابق الروابط بين البشر ،وكانت المصدر في التصّو ر الذي كان الفرد
يصوغه حول ذاته ،كفرد «أعلى» أو «أدنى».
الحرية والمساواة -بوصفها عبارات جمهورية -هي أساس الصورة الحديثة لإلنسان الذي يتشّي د باستمرار بفضل تطّو ر العلم بوصفه «سّي د الطبيعة ومالكها»
تبعًا لمقولة ديكارت .يختفي الُب عد الترنسندنتالي تدريجًّي ا بمقدار ما تنحسر المعتقدات الدينية ويتقّد م اإللحاد ،ويتوّج ه إنسان القرن العشرين نحو التمركز
حول ذاته .هكذا منذ نهاية القرن التاسع عشر ،تزايد االهتمام بعلوم اإلنسان وعلم النفس على وجه التحديد .إذ تأخذ الحياة الباطنية لإلنسان وعالقة الفرد
بذاته قدرًا كبيرًا من األهمية وتتفّو ق على ما عداها من االعتبارات .لقد اّتجه التفكير الفلسفي نحو التركيز على اإلنسان وحده وأصبحت الفلسفة خطابًا حول
اإلنسان وحول الثقافة اإلنسانية .وبالتالي فإّن الُب عد المسّم ى «الميتافيزيقا» ،الذي كان يرتبط باألسئلة الجوهرية حول أصل اإلنسان ومصيرهَ ،فَق د من قيمته.
وكرّد فعل على هذا التوّج ه النفساني الذي تعّز ز باألهمية التي اكتسبها التحليل النفسي في النصف الثاني من القرن العشرين ،قام الفالسفة المشهورون في
القرن العشرين ،مثل سارتر وميرلوبونتي في فرنسا ،بتطوير فلسفة في الحرية التي اصُطلح عليها ،مباشرة بعد الحرب ،باسم «الوجودية» .إذ ،في نظر
الوجودية ،ال يكتفي اإلنسان بالعيش كما تفعله الحيوانات ،بل هو يوجد بالمعنى الذي يصبح فيه مفتوحًا على العالم ،بوصفه كائنًا -في -العالم ،وليس بوصفه
ذات ُتحّد دها حياته الباطنية ،بمجّرد تفكيره كما أراد ديكارت.
في محاضرة شهيرة ألقاها سارتر سنة ،1946عمد إلى تبيان أّن الوجودية ليست مجّرد فلسفة رهينة الموضة ،تمّج د الفردانية وتحرير كامل لكل المحظورات
ولكل الممنوعات االجتماعية والدينية ،بل هي أيضًا نزعة إنسانية ( )humanismeتشّد د على الحرية البشرية وقدرة اإلنسان على االختيار بالمقارنة مع
الكائنات األخرى.
َيعتبر الفكر الكالسيكي أّن اإلنسان مخلوق من طرف هذا الصانع األكبر للكون وهو اإلله .يذهب سارتر عكس هذا الجزم :ال وجود لإلله ،ويخرج بنتائج أهّم ها:
ال وجود لطبيعة بشرية خاّص ة .ال يمكن تحديد اإلنسان بفكرة مسبقة ألّنه ال وجود إلله يمكن أن يفّكر فيه قبل أن يخلقه .ليس اإلنسان «سوى ما يحدث».
ذلكم هو المبدأ األّو ل للوجودية :اإلنسان هو صانع وجوده وليس اإلله .وهو ما يشّكل كرامته .ليس اإلنسان سوى المشروع الحّر الذي يشّكله حول ذاته ،فال
وجود ألزل« :ال شيء مكتوب في سماء العقل» .إذا اختار اإلنسان بمحض إرادته نمط حياته ،فمعناه أّنه المسؤول الوحيد عن ذاته وال يمكنه أن يّت هم اإلله أو
القدر حول المآسي التي تصيبه.
يذهب سارتر إلى أبعد من ذلك :فهو يؤّكد أّن اإلنسان مسؤول ليس على ذاته فحسب ،بل وعلى جميع البشر .كل إنسان يلتزم بقراراته [إشراك] البشر
جميعهم ،ألّنني إذا أثبُّت لذاتي هذا الشيء أو ذاك ،فإّنني أقّر ر ما هو جّي د في المطلق وليس فقط بالنسبة إلّي « :باختيار ذاتي أختار اإلنسان .وكأّن البشرية
كلها ترصد ما يفعله كل إنسان وتنتظم حسب ما يفعله».
سارتر الذي يعترض بقّو ة على التحليل الفرويدي ،يذهب إلى حّد التوكيد على أّننا مسؤولون عن عواطفنا الخاّص ة ،ألّن استحضار العاطفة كظرف مخّف ف
معناه إيجاد ذريعة كاذبة .يقوم سارتر بتطوير تصّو ر حول اإلنسان يطال نتائجه القصوى ،مفاده أّن اإلنسان هو كائن حّر .في المقابل ،قاد نجاح التحليل
النفسي إلى صورة مغايرة لإلنسان ككائن منقسم بين العقل والالعقل ،بين الوعي والالوعي .فاألحداث التراجيدية التي مّي زت تاريخ القرن العشرين من حروب
وإبادة وعنف يبدو أّنها تعطي الحّق ألولئك الذين يعترفون في اإلنسان عن جانب معتم من الالمعقول واإليديولوجيات التي تسّي ره (النازية ،الفاشية،
الشيوعية) ُتبرز حدود فلسفٍة في الحرية.
عندما شرعُت في دراسة الفلسفة في بداية الستينيات [من القرن العشرين] ،كان سارتر في أوّج شهرته .إذ في تلك الفترة ،سنة 1964بالضبطُ ،م نحت له
جائزة نوبل في األدب .لكنه رفض الجائزة كما تعلمون .لم يكن يبحث عن اعتراف رسمي ،لقد كان مشهورًا في العالم كّله .بُح كم أّنه كان يعارض مبدئًّي ا كل
مكافأة شعبية ،فهو رفض تلك الجائزة .كان يرغب دائمًا في أن يكون حًّر ا كفرد .إذا كان مشهورًا وقتئذ ،ليس فقط لكونه فيلسوفًا ،ولكن ألّنه كان أيضًا كاتبًا،
روائًّي ا ،أديبًا درامًّي ا ،وكاتب مقاالت .غالبًا ما كان ُيقاَر ن في فرنسا بفولتير ،أكبر فيلسوف في عصر األنوار ،والذي كان أيضًا فيلسوفًا وأديبًا درامًّي ا وكاتب
مقاالت شهير .ال شّك في أّن البعض منكم قرأ الرواية التي عّر فت الجمهور بسارتر ،وعنيُت بها «الغثيان» ( ،)La nauséeالصادرة سنة 1938؛ أو سمع
بمسرحياته« :أبواب مغلقة» ( )1944أو «األيادي القذرة» ( )1948أو أيضًا «الذباب» ( .)1943رغم ذلك ،كان في األصل فيلسوفًا ولم يختر وسيط األدب سوى
إليصال أفكاره الفلسفية ألكبر عدد ممكن من األشخاص ،وأوّد اإلشارة إلى أّنـه مسعى فرنسي نموذجي ،بالمعنى الذي تكون فيه األفكار في فرنسا أهّم في
األدب من األحاسيس ،وأّنه من السهل رّبما الجمع بين الفلسفة واألدب أكثر من أّي مكان آخر .لقد كان سارتر تجسيدًا لما سّم يناه نحن الفرنسيون بالمثقف.
ولد [سارتر] سنة 1905وتوفي في 15أبريل 1980عن عمر يناهز الخامسة والسبعينُ .د فن في أكبر مقبرة في باريس ،مقبرة مونبارناس ،ليس بعيدًا عن
المكان الذي كان يسكن فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .في نهاية حياته ،كان مريضًا وضريرًا بشكل شبه كامل وانقطع عن الكتابة .آخر كتاباته
«فلوبير ،أبله العائلة» ،وهو مشروع ضخم في شكل سيرة حياة «كاملة» للروائي الفرنسي الشهير ،حيث صدرت األجزاء الثالثة (حوالي ثالثة آالف صفحة) سنة
1971و 1972وبقيت غير مكتملة .اعترف بأّنه ال يمكنه تدوين الجزء الرابع .في إحدى مقابالته األخيرة ،سنة ،1975أعلن سارتر بأّنه يشعر نفسه «قد فاته
الزمن»[.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn14( ]14
صحيح أّن بعد مايو ،1968عندما قّر ر أن يساند نوعًا ما اليساريين ،بدأ يفقد تدريجًّي ا من شعبيته في الرأي العام للجيل الشاب الجديد الذي توّج ه وقتها نحو
االهتمام بمفّكرين آخرين أمثال ليفي ستروس ،الكان ،فوكو ،دلوز ،بارت ،دريدا ،إذا استشهدُت باألسماء الرائجة آنذاك .لكن منذ وفاته ،تغّي رت األمور في
فرنسا وكانت الحاجة إلعادة قراءة سارتر ،رّبما ألّن بعد فترة طويلة شهدت هيمنة اإليديولوجيات المتعّد دة :الماركسية ،البنيوية ،النفسانية التحليلية؛ جاء
الوقت إلعادة اكتشاف فلسفة هي فلسفة في الحرية بامتياز.
أعلن سارتر سنة 1968في الوقت الذي نعيد فيه قراءة مؤّلفاته ،فإننا نكتشف أّنه لم يتغّي ر بتاتًا وأّنه ظل فوضو ًّيا على الدوام .فوضوٌّي نعم ،لكن ليس بالمعنى
السياسي للكلمة (لم يكن لسارتر من اّتصال بالحركة الفوضوية) ،بل بالمعنى الحرفي للمقولة (تعني الفوضوية غياب السلطة) ،بُح كم أّنه عارض دائمًا كل
أشكال الهيمنة والسلطة ،سواء تعّلق األمر بهيمنة اإلله على البشر (سارتر هو ملحد مجاهر) ،أو هيمنة الطبيعة على الكائنات البشرية (يعّر ف سارتر نفسه على
أّنه وجودي ،ويقتضي ذلك نفي «طبيعة» ثابتة عند اإلنسان) ،أو هيمنة اإلنسان على اإلنسان (كان سارتر على يقين بأّن الماركسية ونظريتها في صراع
الطبقات كانت تشّكل «األفق الذي يتعّذ ر مجاوزته في زمننا الراهن» ،رغم أّنه لم ينخرط أبدًا في الحزب الشيوعي الفرنسي وأصبح بعد 1968ناقدًا الذعًا
للماركسية السوفييتية).
يمكننا أن نجد هذه الفلسفة في الحرية في المؤّلفات األولى لسارتر والتي سأعطي عنها اآلن لمحة مقتضبة .درس سارتر الفلسفة في مدرسة األساتذة
العليا[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn15( ]15المرموقة في شارع أولم ( )rued’ Ulmفي باريس ،وتحّص ل
على إجازة في تدريس الفلسفة سنة .1929التقى سيمون دي بوفوار في تلك الفترة ،والتي أصبحت رفيقته حتى وفاته (وعاشت حتى سنة ،)1987كما أّنه
التقى العديد من الفالسفة الشباب الذين سيصبحون مشهورين أمثال ريمون آرون ،وموريس ميرلوبونتي ،وكلود ليفي ستروس (الوحيد من بينهم الذي ال
يزال على قيد الحياة)[.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn16( ]16
يمكن تشكيل فكرة دقيقة حول ما كانت عليه األجواء الفكرية في تلك الفترة وذلك بقراءة مذّك رات سيمون دي بوفوار ،خصوصًا «مذّك رات فتاة مهَّذ بة» و«قّو ة
الُع مر» .بعد اإلجازة ،دّر س سارتر الفلسفة في ثانوية في [مدينة] هافر ( )Le Havreوفي سنة 1934-1933قضى سنة في برلين لدراسة الفلسفة األلمانية .كان
سارتر يتكّلم بطالقة اللغة األلمانية؛ ألّنه عندما َفَق د والده في الِص َغ ر ،كان تحت رعاية عائلة والدته من أصل ألزاسي[]17
( .)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn17كان عّم ه كارل شفايتزر متخّص صًا جرمانًّي ا معروفًا ،أستاذ األلمانية في
السوربون ،وألبير شفايتزر ،موسيقار وطبيب في إفريقيا شهير ،كان العّم األكبر لسارتر .يحكي سارتر هذه الطفولة في كتاب هو تحفته الشهيرة« ،الكلمات»،
قّص ة طفل دميم يحّو ل عينيه ،والذي كان يكتب القصص في «الكلمات» بالذات ،البتغاء حّب اآلخرين .سنة ،1934كان من بين أوائل المثقفين الفرنسيين
في اكتشاف أعمال هسيرل وهايدغر في ألمانيا.
صحيح أّن هسيرل كان معروفًا في فرنسا حيث ألقى سنة 1929سلسلة من المحاضرات في السوربون وفي جامعة ستراسبورغ ،والمجموعة في الـ«تأّم الت
ديكارتية» التي ترجمها إلى الفرنسية في العام الموالي فيلسوف شاّب وهو إيمانويل لفيناس .لكن لم تكن أعماله السابقة معروفة وال شيء منها مترجمًا.
أما هايدغر ،الذي كان مشهورًا في ألمانيا انطالقًا من 1927بفضل كتابه «الوجود والزمان» ،لم يكن في هذه الفترة معروفًا في فرنسا .قضى سارتر السنة كلها
في ألمانيا في قراءة هسيرل وهايدغر ،وغير عابئ باألحداث السياسية الحاسمة التي وقعت في ألمانيا – ال هاّم ة منها سوى وصول هتلر إلى سّد ة الُح كم –
وهو ما جعل منه أّو ل فينومينولوجي فرنسي.
كما رأينا سابقًا ،المفهوم الرئيسي في الفينومينولوجيا هو القصدية .أن نقول :إّن الوعي هو قصدي ،وإّنه وعي بشيء ما ،معناه أّنه يتوّج ه نحو الخارج وال ينفك
عنه كدائرة باطنية مغلقة ،وأّنه يتعالى ،أي يتجاوز الحدود الباطنية لالنفتاح على العالم الخارجي.
لهذا السبب كان أّو ل كتاب أصدره سارتر سنة 1934هو «تعالي األنا» ( .)La transcendance de l’egoالكتابان المواليان اللذان قام بكتابتهما وهما
«الخيال» ( )L’imaginationالصادر سنة ،1936و«المخيال» ( )L’imaginaireالصادر عام 1940؛ هما كتابان من إيحاء هسيرلي بوصفهما تطويرًا لنظرية
هسيرل في الخيال .يقع سارتر الشاب –الذي كان عمره 34سنة عام -1939داخل حركة الفينومينولوجيا الهسيرلية وإذا كان اهتمامه قد انصّب خصوصًا
على الخيال ،فألّن هسيرل منح لهذه المَلكة أهمية بالغةُ .يعلن هسيرل في كتابه األول «أفكار توجيهية من أجل الفينومينولوجيا» الصادر سنة ( 1913نص
سيقرؤه سارتر باهتمام في برلين) من حيث إّن «الخيال هو ُع نصر جوهري في الفينومينولوجيا» .ألّن في الوعي الخيالي تتبّد ى لنا بشكل جلّي البنية القصدية
للوعي .فالموضوع المتخَّي ل (كان هسيرل يأخذ في الغالب مثال القنطور)[http://kalema.net/home/admin/rg.php?( ]18
)act=art&cmd=add#_ftn18ليس حاضرًا مثل الموضوع المدَرك ،وليس ماضيًا على غرار الموضوع الذي نستذكره ،فهو ببساطة غير موجود« ،مختَر ع».
ففي الخيال يتجّلى أّن الوعي يتوّج ه نحو شيء ال يوجد في أّي مكان آخر ،شيٌء هو عبارة عن عدم ،غير واقعي بالمّرة .نفهم إذن لماذا اهتّم سارتر بظاهرة
الخيال؟ وال يغيب عن بالنا الطفل الصغير في «الكلمات» الذي توّص ل إلى التخُّلص من الواقع القاسي ،من قباحته [الجسدية] ،باعتزاله نحو عالم خياله.
لقد رأى سارتر في سلطة الخيال البرهان األّو ل على حرية اإلنسان :فالكائن القادر على التخُّي ل ،أي خلُق شيٍء انطالقًا من ال شيء ،هو كائن ال يخضع للواقع،
وليس مجبرًا على البقاء تحت سيطرة ما هو معطى له في اإلدراك .الخيال هو ما يسّم يه سارتر «الوظيفة الالواقعية للوعي» ،الوظيفة التي تتيح للوعي
االنشقاق عن الواقع .فاإلنسان بالنسبة إليه هو الكائن الذي له الُق درة على نفي الواقع ورفضه لحل شيء آخر محّله ،ذلك الشيء غير الموجود الذي نسّم يه
«الصورة» .الكائن القادر على الخيال هو كائن ُح ّر ،ومتحّر ر من إكراهات الواقع التي يظل الحيوان أسيرًا فيها ،وال يعرف سوى الحاضر ،ال يمكنه استحضار
الماضي البعيد ،وال َس ْب ق المستقبل غير المباشر.
إذا كان الخيال ُيبرهن على حرية اإلنسان ،فهو يتيح أيضًا فهم أّن الفّن هو نشاط بشري أساسي .ألّن األثر الفّن ي ليس شيئًا واقعًّي ا ،ولكنه شيٌء ال واقعي ،صورٌة
لها فقط الدعامة الماّد ية ،مثًال نسيج الكّت ان فيما يخّص التصوير الزيتي ،الورقة المطبوعة بشأن األدب واألنغام كما هو الحال مع الموسيقى .عندما نتأّم ل
لوحة أو نقرأ رواية أو نسمع لحنًا موسيقًّي ا فإننا نتواصل مباشرة مع الذاتية األخرى بواسطة الدعامة الماّد ية .إذا بقيت اللوحة بمعزل عن تأّم ل شخص يتعّر ف
فيها على داللة معّي نة ،فهي تضحى مجّرد شيء ماّد ي وليس أثرًا فنًّي ا .فالمشاهد أو السامع أو القارئ ،حسب سارتر ،له أهمية كبيرة في تشكيل األثر الفّن ي
مثله مثل الفّن ان .يتساوى حّس ه الجمالي في الخلق والتلّق ي [مع حّس الفّن ان].
هذه الفكرة في مشاركة القارئ في [خلق] أثر األديب طرحها سارتر في محاولته الشهيرة «ما األدب؟» التي تعالج ضرورة أن يلتزم الكاتب من خالل أثره .ألّن
األثر األدبي هو دعوة إلى حرية القارئ و«التزام» ومسؤولية من لدن الكاتب ،ألّن الكاتب يعرف أّن كتابته تنتج مفعوًال في ذوات أخرى غير ذاتيته .كما أشرُت
من قبل ،كان سارتر ،وأيضًا كامو الذي كان صديقه ،في الوقت نفسه كاتبًا وفيلسوفًا .لقد فّكر كثيرًا في األدب ،وكتب العديد من النصوص حول بعض األثار
األدبية وحول بعض األدباء الذين كان معجبًا بهم ،على غرار جون جونيه ،كاتب مرموق في فرنسا كان يعرفه ،بسبب موهبته الشعرية واألدبية والمسرحية
وبسبب شخصيته :كان [جونيه] طفًال مهمًال ،تّم تبّن يه من طرف عائالت عّد ة؛ أصبح سارقًا في مراهقته ،وفي السجن كتب بعض أعماله .خّص ص سارتر كتابًا
كبيرًا لهذا الكاتب «سان جونيه ،كوميدًّيا وشهيدًا» ( .)1952وأشرُت إلى أّنه كتب في القسم األول من حياته أكثر من ثالثة آالف صفحة حول غوستاف فلوبير
بإعادة بناء عالمه الخاص قصد فهم أثره [األدبي].
ففي 1963وعمره 58سنة ،بدأ سارتر كتابة مذّك راته «الكلمات» ،ودراسة عنوانها «ما األدب؟» .كتب سارتر هذا النص ليجيب أولئك الذين اتهموه بقتل
األدب بُح كم أّنه كان كاتبًا ملتزمًا .أراد سارتر إجابة منتقديه بإعادة طرح األسئلة« :ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ لمن؟ يبدو أّنه ال أحد تساءل عن ذلك» .بعدما
دافع عن فكرة أدب ملتزم ،أي فكرة أدب مؤَّس س على األفكار ،أدٌب له رسالة يقّد مها وليس مجّرد تمرين أسلوبي ،حاول سارتر اإلجابة عن السؤال «لماذا
نكتب؟» .يذهب من المالحظة التي مفادها أّن الكائن البشري له الُق درة على الكشف عن األشياء« :اإلنسان هو الوسيلة التي تتجّلى عبره األشياء» .يستخلص
من ذلك أّن أحد البواعث في االبتكار الفّن ي هو الحاجة في أن نشعر ذواتنا جوهريين .عندما أبتكر فإّنني أخلق نظامًا أو داللة فيما أصفه بالكلمات أو األلوان.
إنني «أنتجها» بالمعنى الذي أكشف عنها بقّو ة ال تتمّت ع بها في الواقع .لكن الشيء المبتَكر يفلت مّن ي :يبدو أّنه يمكن تحسينه وال يكتمل سوى عندما يكون
لدّي االنطباع بأّن شخصًا آخر صنعه ،وهو ما ال يحدث كما ينّب ه سارتر .كلما كان لنا الوعي بأننا مبتكرون أو منتجون ،كلما كان الشيء منتجًا تحت سيطرتنا.
عندما نصنع أشياء نستعملها ،مثل الفخار أو الهياكل ،فإنها ال تتحّد ث عّن ا ،ألنها مصنوعة حسب قواعد ليست لنا ،ولكن هي ِم لك للجميع .لكن عندما ننتج
أثرًا فنًّي ا وليس شيئًا يدو ًّيا ،نجد دائمًا أنفسنا في األثر الذي ابتكرناه وال يّت خذ هذا األثر بالنسبة إلينا صيغة شيء ،فال يمكننا إدراكه ،ألّنه بمثابة جزء مّن ا.
ننسى أنفسنا في اإلدراك ،ونحن مستغرقون في األشياء التي نراها .فالذات ليست أساسية في اإلدراك ،بل الشيء المدَرك .أما في الخلق أو االبتكار ،فالذات
هي أساسية ،ويصبح الشيء غير أساسي.
انطالقًا من هذه األفكار ،حاول سارتر إفهامنا داللة األثر األدبي .فهو ُيثبت أّن هذا األثر ال يوجد بشكل موضوعي [أو شيئي] على غرار الرسم الزيتي .فهو ال
يوجد سوى بالقراءة وال يدوم سوى بزمن القراءة .يتجّلى هنا االختالف الجوهري بين الكاتب والِح رفيين ،اإلسكافي أو المهندس المعماري ،الذين يقومون
بآثار نافعة .ال يمكن للكاتب أن يقرأ ،ال يمكنه أن يقرأ ذاته ،حسب سارتر .لماذا؟ ألّن القراءة تقتضي التوّج ه نحو المستقبل ،الَّس ْب ق .إنه شيء يشابه اإلدراك:
إلدراك الشيء ينبغي االستباق أو التوّقع واستحضار كل أشكاله التي هي غير معطاة مباشرة في اإلدراك.
بينما الشخص الذي يكتب ال يمكنه االستباق عندما يقرأ ،ألّنه صاحب النص ويعرف جّي دًا ما سيحُص ل .هناك إذن اختالف كبير بين َس ْب ق القارئ ومشروع
الكاتب .يقال :إّن الكاتب ينتظر اإللهام ،لكن ال يأتيه هذا اإللهام من الخارج :فهو ينتظره في ذاته .فالمستقبل هو بالنسبة إليه عبارة عن صفحة بيضاء ،بينما
عند قارئه ،المستقبل هو الصفحات المتبّق ية التي سيقرؤها .ال يخرج الكاتب من ذاته ،من الذاتية ،وال يمكنه الذهاب إلى الموضوع األدبي .فال يمكنه أن
يشعر بما يكتبه .ال يمكنه ذلك سوى إذا نسي لحظة بأّنه صاحب النص الذي كتبه .فالنتيجة هي واضحة بالنسبة لسارتر :ال نكتب أبدًا لذواتنا .إذا كان
الكاتب وحيدًا في العالم ،ال يمكن ألثره أن يكون موضوعًّي ا .ينبغي لذلك أن ُيقرأ من طرف شخص آخر .فعملية الكتابة هي في حّد ذاتها غير كاملة :فهي
تقتضي متضايفها أو ما يكّم لها وهو القراءة .يتطّلب األدب إذن كاتبًا وقارئًا .ويشّكل هذا األخير األثر مثله مثل الكاتب .يستنتج سارتر« :ال فّن سوى باآلخر
ومن أجله».
ولد موريس ميرلوبونتي سنة ،1908وهو أصغر سًّن ا من سارتر بثالث سنوات ،ودرس مثله في مدرسة األساتذة العليا في شارع أولم ،وأّس س بُص حبته مجّلة
«األزمنة الحديثة» ( )Les temps modernesسنة .1945في السنة نفسها ،قام بنشر أطروحته [في الدكتوراه] تحت عنوان «فينومينولوجيا اإلدراك» .أصبح
بعدها أستاذًا في علم النفس في جامعة ليون ،ثم في السوربون ،وتّم انتخاُبه أستاذًا في الكوليج دو فرانس ( )Collège de Franceسنة .1952قطع صلته
بالماركسية سنة 1955بعد اكتشاف الجوالج[ .)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn19( ]19وتزامن ذلك مع
قطيعته مع سارتر الذي كان يعتقد دائمًا بأّن «الماركسية هي األفق الذي يتعّذ ر مجاوزته في زمننا الراهن»؛ ولم يبتعد عن الحزب الشيوعي الفرنسي سوى
عام 1956بعد أحداث هنغاريا.
توفي موريس ميرلوبونتي بغتة سنة 1951وعمره 53سنة ،حيث ترك عمًال هاًّم ا غير مكتمل عنوانه «المرئي والخفّي » .سارتر الذي توفي عام ،1980عاش
بعده قرابة العشرين سنة .تعّر ض بعد وفاته للنسيان مع جيل الستينيات وهو جيل «البنيوية» ،حركة فكرية كان لها دور هام في إرجاع الكائن اإلنساني إلى
مجموعة من العالمات االجتماعية التي ترّكب الثقافات في مجملها ،وهي حركة انخرط فيها كل من الكان وفوكو وبارت وليفي ستروس .لكن أصبحت أعماله
محّط اهتمام مع األجيال الجديدة منذ التسعينيات [من القرن العشرين].
لقد اهتّم ميرلوبونتي بفكر هسيرل انطالقًا من ،1929عندما حل هذا األخير ضيفًا على باريس ليدلي بمحاضراته «تأّم الت ديكارتية» .لقد قرأها بُع مق أفضل
مما فعله سارتر وحاول تطويرها ببقائه على منوال «فينومينولوجيا اإلدراك» .لماذا االهتمام باإلدراك؟ ألّن اإلدراك بالنسبة لميرلوبونتي هو التجربة األساسية
التي بموجبها يرتبط اإلنسان بالعالم.
كانت الفلسفة التقليدية َتعتبر أّن اإلدراك هو عملية ذهنية تجمع بين اإلحساسات البصرية واللمسية والسمعية وأيضًا الشّم ية .وهو ما فّس ره ديكارت في
فقرة شهيرة من «تأّم الته» (التأّم ل الثاني) عندما أخذ بمثال الشمع الذي تّم استخالصه من خلية النحل ويتبّد ى كجسم صلب له لون وشكل خاص .لكن
عندما ُنقّر به من النار ،فإّنه يذوب ،وتختفي رائحته ويتغّي ر لونه .فما هو األمر الذي يدفعني إلى القول بأّنه الشمع نفسه في كلتا الحالتين ،يتساءل ديكارت؟
فاألمر المشترك في كلتا الحالتين ،هو أنني إزاء جسم ممتّد في المكان وأّنه يّت خذ أشكاًال مختلفة إذا تعّر ض للتسخين أو ال .لكن فقط عقلي في ذاتي هو الذي
يسمح لي بالتفكير في ذلك ،ألّن ال شيء في تجربتي الحّس ية يمكنه إقناعي بأنني أمام الجسم نفسه .والنتيجة بالتالي هي :اإلدراك هو الُح كم أو العملية
الذهنية للفكر الذي يمكنه التمييز بين الوحدة والكثرة في المظاهر.
أمام هذا التعريف الكالسيكي لإلدراكُ ،يبّي ن ميرلوبونتي أنني ال أدرك فقط بفكري ،ولكن بكينونتي في رّم تها ،وبجسدي أيضًا .لكي أدرك ،ال بّد قبل كل شيء
أن أقع في العالم وأكون في عالقة مع مجموعة من األشياء المعطاة أمامي حسب منظورات مختلفة بالمقارنة مع وضعيتي .فلسُت فكرًا خالصًا له رؤية شاملة
وفوقية على العالم ،كوضعية الطائر ،لكنني باألحرى وسط األشياء وأقع في العالم بجسدي الذي هو كما يشير هسيرل شيء خاص ال يفارقني أبدًا وال يمكنني
االبتعاد عنه أو اإلحاطة به .على العكس من أشياء العالم ،ليس جسدي معطى للمالحظة الكاملة :ال أرى وجهي الذي هو المنطقة العارية من جسدي والذي
أعرضه على رؤية اآلخرين وال أتحّكم في إيماءاته أو تعبيراته ،وال أرى أيضًا قفا عنقي وال ظهري .فينبغي االعتراف ،كما يقول ميرلوبونتي ،بأّن «وجودي كذاتية
هو متوّح د بوجودي كجسد»[.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn20( ]20
يجد ميرلوبونتي عند هسيرل مبادئ تحليله الخاص لجسدية اإلنسان والتي ستشّكل لّب إسهاماته في الفلسفة المعاصرة .ما ُيبرزه هسيرل هو أّن مجمل عالم
الثقافة هو نتيجة كل تأسيس يعتمل في التجربة المعيشة التي هي دومًا الوعي المتجّس د .لكي يكون هنالك شيء أمام األنا ،شيء يتعارض مع الذات ،فال بّد
أن يكون قبالة ذاتية متجّس دة وأمام جسد قادر بأن يحّس بذاته ،دون أن نكون مجبرين على تحديد هذه المَلكة في اإلحساس في مبدأ نفسي محايد كما فعل
التراث [الفلسفي] .لتبيان هذه العالقة بين اإلحساس والجسد ،يستحضر هسيرل التجربة الشهيرة حول اإلحساس المزدوج عندما تقوم اليّد اليمنى بمّس اليّد
الُي سرى ،وهي تجربة ُتفيد بأّننا على وعي بأّن جسدنا هو «موضوعي» و«ذاتي» ،ألّن الملموس الذي يصطدم بالالمس وينقلب إليه ،معناه أّن الجسد يحّس
«ذاته» بذاته .بهذه التجربة البسيطة ،يتبّد ى أّن الجسد هو في الوقت نفسه الالمس والملموس ،أي ذات وموضوع ،ولهذا السبب ُيشّكل كما ُيثبت هسيرل
الدرجة الصفر للتوجيه ،الـ«هنا» المطلق الذي تتوّز ع بالمقارنة معه كل األمكنة األخرى ،رغم كونه جزء من المكان ويأخذ مساحة في هذا المكان.
يقوم ميرلوبونتي بتطوير هذا التحليل في الجسد الخاص باعتماده على التحديد الجديد لكينونة اإلنسان الذي يقترحه هايدغر ومفاده أّن اإلنسان ليس وعيًا
خالصًا على طريقة ديكارت ،ولكنه «كائن في العالم» ،أي «وجود»َ .بْي د أّن تجربة جسدي ليست هي التجربة التي يمنحها لي العلم أو علم التشريح أو
الفيزيولوجيا .ليس جسدي تركيبة من األعضاء المتجاورة في المكان ،لكن أمتلكه كمجموعة ممكنة من الوضعيات التي يمكن أن أتبّن اها في الظروف
المختلفة .يسّم ي النفسانيون هذا األمر «المخّطط الجسدي» ويعنون بذلك الصورة الدينامية التي لكل شخص حول جسده .المثال الذي يورده ميرلوبونتي
بهذا الشأن هو حاسم« :إذا كنت واقفًا وماسكًا على غليوني ،فإّن وضعية يدي ليست محّد دة بالزاوية التي تجعلها مع ساعدي ،وساعدي مع ذراعي ،وذراعي
مع ساقي ،وساقي مع سطح األرض .أعرف جّي دًا أين يوجد غليوني معرفة مطلقة ،ومن هنا أعرف أين هي يدّي وأين هو جسدي ،على غرار البدائي في الصحراء
الذي يتوّج ه في كل لحظة دون أن يتذّكر في الجمع بين المسافات المقطوعة وزوايا العروج منذ نقطة االنطالق»[]21
(.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn21
إذا كان الجسد مخّططًا دينامًّي ا وليس جزءًا من الفضاء ،فألّنه مستقَطب بالمهاّم التي يؤّد يها ،وبالتالي ليس المخّطط الجسدي سوى طريقة في التعبير عن
كينونة الجسد في العالم .يشّد د ميرلوبونتي على أّننا نتواجد في فضاء أو مكان موَّج ه ،له أعلى وأسفل ،ويمين ويسار .يتّم التواصل بالمكان عبر الجسد
ويستلزم هذا األمر أّن «جسدي ليس مجّرد جزء من المكان ،وال وجود لمكان إذا لم يكن لدّي جسد»[http://kalema.net/home/admin/rg.php?( ]22
.)act=art&cmd=add#_ftn22يمكن فهم العالقة بين الجسد والمكان بالنظر إلى الجسد في الحركة.
لقد اهتّم ميرلوبونتي بمشكلة األمراض النفسية وخصوصًا االضطراب المسّم ى «العمى النفسي» ،مفاده أّن المريض الذي تعّر ض إلى نوبة عصبية ال يمكنه
إجراء بعض الحركات بشكل واٍع أو تسمية األشياء لالستعمال اليومي .ليس باستطاعته التحّرك بقيادة ذراعيه وساقيه ،وال يمكنه نعت جهة من جسده
بأصبعه ،مثًال أنفه أو أذنيه .لكن لديه القدرة على تنفيذ الحركات الضرورية للحياة ،مثل أخذ المنديل من الجيب ليتمّخ ط ،ويمكنه أن يواصل إجراء عمله
اليدوي بشكل معتادُ .يبرز ميرلوبونتي أّن هذا ألمر يأتي من كون أّن هذه العمليات ال تتّم سوى في المكان العملي للحياة الجارية وليس في المكان
الموضوعي ،ويتواقت هذا األمر مع شعور المريض الذي يؤّكد أّنه يحّس بالحركات التي ينّف ذها نتيجة للحالة [التي يتواجد فيها] ،وله شبه وعي بمبادرته
اإلرادية .تضحى مهّم ة التنفيذ في هذا السياق حاسمة وتمارس «جاذبية عن ُبعد» على الجسد الذي هو مجّرد ُع نصر في منظومة ُتشّكلها الذات وعالمها[]23
( .)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn23لكن عندما نطلب منه ،بمعزل عن كل نشاط عملي ،بأن يدّل على أذنيه،
فإّن الذات [المريض] تخفق في ذلك ،رغم أّنها تفهم األمر الذي ُأعطي لها .تأتي هذه المسألة من كون أّن األمر الذي ُيعطى لها له بالنسبة إليها داللة ذهنية
وليس داللة حركية .نفهم إذن االختالف بين النمطين من الحركة .تتّم الحركة التجريدية في فضاء اعتباري أو افتراضي يترّكب مع الفضاء الحّس ي ،وفي هذا
الفضاء االفتراضي تّت خذ عالمة اليّد داللة في الصداقة مثًال .يتعّلق األمر بفضاء تتبادل فيه العالمات وهذا الفضاء هو خالء تبسطه الذات ،بينما الحركة
الواقعية تتوّس ع في الفضاء الحّس ي أو الفيزيائي .األمر السوّي هو القدرة على التعاطي مع االفتراضي بينما المريض هو مسجون في الواقعي .هكذا يتّم خلق
منظومة من الدالالت تعّب ر في الخارج عن نشاط الذات القادرة على إبراز الحدود وخطوط القوى والعالمات المتعّد دة في العالم والتي تقود الفعل «مثل
الالفتات في المتحف التي توّج ه الزائر» كما يقول ميرلوبونتي[.)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn24( ]24
ال يوجد العالم بالنسبة للمرضى المصابين بالعمى النفسي سوى كعالم معطى ُد فعًة أو ثابت ،بينما بالنسبة للذات السو ّية هو عبارة عن فضاء تنخرط فيه
المشاريع .نرى بوضوح كيف أّن الجسد هو الُع ضو الذي يتمّد د عبره الوجود .لكن في تجربة الجسد بوصفه جسدًا مجَّن سًا ( )sexuéيمكن اكتشاف بسهولة
التداخل بين الجسد والوجود .إذ على المستوى الوجداني والغرامي لوجود يّت خذ معناه وحقيقته عند كائن مفرد يعيشه ،يمكننا تجريب نمط من الوعي ال
يمكن اختزاله إلى مجّرد تمّثل ذهني ،ولكن يمّر عبر الجسد .ال تشّكل الجنسانية شيئًا متمّي زًا عن باقي الوجود وال تحيل إلى وظائف جسدية محضة ،وهذا ما
يوحي باستحالة تفسير اإلنسان بالبنيات الجنسية التحتية التي قادت التحليل النفسي إلى وضعها في ُص لب الوصف الخاص بالدوافع السيكولوجية.
يذّكر ميرلوبونتي بأّن فرويد نفسه مّي ز بوضوح بين الجنسي والتناسلي ،وبين الشهواني والغريزي وأّنه عّر ف الجنسانية بشكل واسع للغاية بوصفها مصدر
السلوكيات البشرية كّلها .يسعى ميرلوبونتي جاهدًا لمنح تأويل «وجودي» للفرويدية و َيعتبر أّن الجنسانية ليست طبقة ُس فلى من الوجود يمكن تجاوزها أو
«تهذيبها» كما يقول فرويد أو أّنها تشّكل مركز هذا الوجود ،لكن هناك باألحرى «تناُض ح» بين الجنسانية والوجود ،ومعنى ذلك استحالة االّطالع على الدافع
الجنساني من أجل قرار أو فعل ُم عطى وعلى كل الدوافع األخرى .نرى بوضوح كيف أّن ميرلوبونتي أراد ،عبر تحليله للجسد الخاص ،تبيان أّن القصدية ،بتعبير
هسيرل ،ليست مسألة نفسانية أو وعي ،ولكن مسألة الوجود الجسدي في رّم ته ،جاعًال من الفينومينولوجيا فلسفة في منتهى الواقعية.
ُو لد بول ريكور سنة 1913وكان يتيمًا من والديه .زاول الدراسة في [مدينة] رين ( )Rennesثم في السوربون ،وليس في مدرسة األساتذة الُع ليا في شارع أولم.
كان أسير حرب من 1940إلى 1945واغتنم الفرصة لقراءة هسيرل وترجمته .دّر س بعد ذلك في جامعة ستراسبورغ ثّم في السوربون ثم في نانتير حيث شغل
وظيفة عميد الكلية بعد أحداث .1968استقال من منصبه سنة بعد تقّلده المنصب بسبب خالفه مع اليساريين؛ ثم دّر س بعدها في لوفان في بلجيكا ،ثم
في شيكاغو مع االحتفاظ على منصبه في نانتير بنصف الوقت .توفي في مايو 2005وعمره 92سنة .كان من معتقد بروتستانتي ولكنه حاول دائمًا الفصل بين
الفلسفة والدين وبين الكتابات التي خّص صها للتفسير اإلنجيلي واألعمال الفلسفية .نشر العديد من الكتب ،لكن سأرّكز هنا على اثنين منها «الزمان
والسرد»[ ،)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn25( ]25مؤَّلف هائل في ثالثة أجزاء نشره عام 1983و ،1985ويحّلل
فيه موقع اإلنسان في التاريخ بوصفه سردًا .باستلهامه من فينومينولوجيا هسيرل وفكر ميرلوبونتي ،اقترح ريكور في بداية عمله تطوير نظرية واقعية حول
الذات يكون فيها للجسدية مكانًا .لهذا السبب كان عمله األّو ل مخَّص صًا لـ«فلسفة اإلرادة» ( ،)1960-1950ألّن اإلرادة تقتضي االنتقال إلى الفعل أي تدّخل
الجسد .وفي كتاب آخر« ،الذات بوصفها اآلخر»[ ،)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn26( ]26الصادر سنة
،1990يعود ريكور إلى مسألة الذات ويوّس ع فكرة أّن الذات اإلنسانية ،خالفًا لما ذهب إليه ديكارت وأيضًا سارتر بشكل خاص ،ليست ناصعة لذاتها وال
تتحّكم بشكل كامل في ملكاتها ،ولكن هناك شيء آخر يقبع فيها ،جسُد ها أو اآلخر ،بدونه ال يمكنها أن تتشّكل كذات مستقّلة .انطالقًا من هذا التفكير في
وضعية الذات ،قام ريكور بتطوير الفكرة التي َتعتبر أّن هوية األنا ليست معطاة ،ولكن ينبغي تشكيلها ،وال يتأّتى ذلك إال بالسرد الذي يؤّس سه كائن حول
تاريخه الخاص؛ ويخُلص إلى فكرة «الهوية السردية».
في «الزمان والسرد» ،أّكد ريكور أّن اإلجابة عن سؤال «من أنا؟» يقتضي حكاية تاريخ حياته .فعل السرد هو الفعل الذي بمقتضاه تتشّكل معرفتنا حول
الماضي ،وكما يوّض ح ريكور ،يتعّلق األمر أساسًا بـ«وضع الحبكة أو الدسيسة» ( )mise en intrigueالتي ُتدمج األحداث المبعثرة في الوحدة المتوافقة
للتاريخ .والسرد الناتج عن ذلك له مفعول على الذات نفسها بسبب تلّق يه من طرف اآلخرين ويشارك هكذا في تأسيس تلك الذات .نجد على هذا المستوى
مشكل السيرة الذاتية ،ليس كجنس أدبي ،ولكن كنمط وجود ،بُح كم أّن الوجود بالنسبة للكائن البشري هو أن يبحث عن اّتساق أو أن يّت خذ معنى للحياة .فال
وجود ممكن بالمعنى القّو ي للكلمة دون ذاكرة شاملة حول الذات .ال يقتضي العيش بالنسبة للكائن البشري أن يمنح لما يقع له سيرورة تاريخية ،ولكن
يتطّلب ذلك أن يفهم ذاته في كل مرحلة بشكل مغاير وأن يعطي لوجوده شكًال مختلفًا .ال يعني هذا التصّو ر في السرد كتأسيس ذاتي أّن الذات تخلق نفسها
انطالقًا من عدم ،ألّنها ليست لها السيطرة الكلية على تاريخها الخاص الذي يضحى متشابكًا ال محالة بتواريخ الذوات األخرى.
ينبغي كما يفعل ريكور االعتراف بالطابع المتقّلب للهوية السردية المهَّد دة بالتصّد ع .لقد اهتّم األطباء النفسانيون بهذا المفهوم حول الهوية السردية ألّن
عبر هذا المفهوم يمكن فهم الُّذ هان أو الهواس الذي يبدو كاستحالة في الوجود حسب نمط سردي .فال عجب إذًا إذا كانت أفكار ريكور وجدت تطبيقًا لها
في األمراض النفسية ،ألّنه اهتّم هو اآلخر بالعلوم اإلنسانية وبعلم النفس ،ونشر عام 1965كتابًا أصبح حدثًا تاريخًّي ا آنذاك عنوانه «في التأويل :محاولة حول
فرويد»[ ،)http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftn27( ]27عمل فيه على إعطاء تأويل فينومينولوجي للتحليل النفسي.
أن تكون الهوية في أزمة ،ال يشّكل ذلك حالة شاّذة ،ولكن تشّكل باألولى نظامًا عادًّيا للذات التي ال تضحى هويتها جوهرًا ثابتًا يدوم عبر التحّو ل ومعطى
بالكامل ُد فعًة واحدة ،ولكن كوفاء للذات .وكما أشار إليه ريكور ،يمّي ز هذا الوفاء للذات الشخص ويتيح استمرار الوعد أو النظام أو القانون عبر الزمن كما
تّت خذه الذات وتخضع إليه رغم اإلكراهات الممكنة .إّن جوهر هذا الدوام أن يكون مهّد دًا باالنحالل ،ويمكن القول بأّن النظام السوّي للذات يكمن في تدعيم
هذا الخطر .الثبات عبر األحداث الطارئة في شكل هذا الوفاء للذات والذي هو أيضًا ذاكرة الذات ،ذلكم هو النشاط الذي تفرضه الذات على نفسها بانفتاحها
على ما يأتي نحوها بدًال من أن تنغلق في وحدة جوهرية مقفلة .فال يمكن صيانة الذات أو الوفاء للذات سوى بقبول هشاشتها بُح كم أّن الكائن هو معَّر ض
لمصادفات الدهر والمصير ،أي الحدث .وبهذا المفهوم األساسي للحدث نتوّص ل إلى فكرة الهوية السردية .فما يطرأ على صعيد الوجود يقتضي وضع الحبكة
أو التشّكل بالسرد الذي ُيدمج التنافر في وحدة تاريخ معّي ن .بوجود هذا الطارئ يصبح من الضروري بعد ذلك تشكيله في نمط سردي .الحدث هو شرط إمكان
وشرط استحالة السرد وهذا األمر يستلزمه ويهّد ده .فال يمكن أن يكون هنالك رواية ،أي تشكيل سردي ،إذا تّم البقاء تحت صدمة الحدث الطارئ ،كما هو
الحال مع الُع صاب الجريح ،ألّن السرد يهدف إلى جمع الشتات و ُيمّكن الذات من التعّر ف إلى نفسها في ما يقع لها .وال يمكن إجراء تشكيل سردي في
الُس ويداء أو الميالنكوليا إذا كان المراد من هذا التشكيل السردي هو انطواء استراتيجي للذات على هوية من نمط جوهري أمام ما ال تحتمله من مخاطر
الحوادث التي تمّس ها.
إذا كانت العوارض غير المقبولة في الُع صاب الجريح تتكّر ر باستمرار ،فإّن تلك العوارض في الشكوى السويدائية يتّم تفاديها ،وأحيانًا ،كما هو الحال مع
االنتحار السويدائي ،رفضها بقّو ة .ما يبدو مستحيًال ،في كلتا الحالتين ،هو تلك السردية القادرة على إدراك الحدث والتي ال يمكن التعبير بها إال بعد زوال
الباعث وفي صيغة «لقد وقع لي» ،حيث تشهد بأّن الذات ليست في وضعية السيطرة ولكن يقع لها هذا األمر أو ذاك .إّن التشكيل السردي الذي يتيح
استيعاب الطارئ ال يمكن الحديث به سوى في صيغة الماضي ويقتضي بالنسبة للذات المضاف إليه المنصوب ( )datifلُي برز تحويل الهوية على نمط األنا
المغلق على نفسه إلى ذاتية بوصفها بنية وقدرة على االستقبال .بهذا التحّو ل الذي ينقل الذات من المرفوع إلى المنصوب يمكن فهم ما يسّم يه «الهوية
السردية» التي ُتبّي ن أّن هوية التاريخ تصنع هوية من يعيش فيه .إذا كانت هذه الهوية في العيش وفي الرواية ُع رضة للمنع أو النفي في الُع صاب الجريح وفي
السويداء ،فيبدو أّنها ُع رضة للتشكيك في الفصام وفي فقدان البداهة الطبيعية وفقدان العالم المجَّر ب .ففي الفصام تبلغ استحالة الوجود في الصيغة
السردية أوجها ،ألّن غياب التشكيل عبر الرواية يتواقت مع استحالة إعادة تشكيل الذات عبر الوقائع ،أي توّقف التأسيس الذاتي .نعرف منذ السابق أّن
المرحلة النهائية في الفصام هي الجامود ،بمعنى جمود كامل في الجسد ُيظهر انهيار في إرادة الذات وسقوطها في وضعية الشيء المحض .لهذه الفكرة
نتائج حول الحالة الممكن إيعازها للتاريخ كعلم إنساني .ال يمكن اعتبار الزمن كطاقة في النسيان ،طاقة في التهديم ،على غرار ما فّكرت فيه الميثولوجيا
عندما صّو رته في شكل كرونوس يلتهم أبناءه .يمكن أن نرى فيه كمبدأ في االستمرارية هو أصل الذاكرة وكل ما يمنح شكًال متوّح دًا لمختلف األحداث
المتمّي زة .ألّن ما يمّي ز التاريخ ،على الخالف من الشكل المتكّر ر للطبيعة ،هو أّنه يتيح المحافظة والمجاوزة لكل ما ُيحتَف ظ به وال ُيكَّر ر بشكل آلي .كما يشير
إليه ريكور ،ال ينبغي الخلط بين الزمن الفيزيائي الذي يعتبر أّن كل لحظة هي مستقّلة عن سابقاتها وعن الحقتها في الزمن البشري ،والذي ُيقحم االنفصال
في األحداث في نسيج واحد .ثمة في التاريخ لحظة في اإلبداع تقطع صلتها بالماضي ولكن أيضًا لحظة في االحتفاظ بالماضي الذي يضمن االّتصال في مجمل
تاريخ شعب أو أّم ة من األمم.
[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref7( ]7جون بول سارتر ،المخيال ،باريس ،غاليمار ،1940 ،ص.15 .
[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref9( ]9بول ريكور ،في مدرسة الفينومينولوجيا ،باريس ،فران ،1987 ،ص.
.163
[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref10( ]10سيريزي ( )Cerisyهو قصر عريق فيه المركز الثقافي النورمندي
(مقاطعة شمال فرنسا) ،وتقام فيه الندوات الدولية في الفلسفة والعلوم اإلنسانية (المترجم).
[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref12( ]12طالع بهذا الشأن نصي« :حول االلتزام السياسي لمارتن هايدغر»،
في :هايدغر بالدالئل القو ّية ،باريس ،فايار ،2006 ،ص.458-441 .
[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref16( ]16في الوقت الذي ألقت فيه فرانسواز داستور هذه المحاضرة سنة
،2007كان ليفي ستروس حًّي ا .توفي في باريس في 30أكتوبر ( 2009المترجم).
[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref18( ]18كان هسيرل يهوى كثيرًا لوحات أرنولد بوكلين ()1901-1827
التي استحسنها في متحف بال ،حيث يصّو ر فيها مشاهد أسطورية ومنها لوحات تمّثل القناطير.
[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref26( ]26الترجمة العربية تحت عنوان «الذات عينها كآخر» ،ترجمة
وتقديم وتعليق جورج زيناتي ،المنظمة العربية للترجمة( 2005 ،المترجم).
[ )http://kalema.net/home/admin/rg.php?act=art&cmd=add#_ftnref27( ]27الترجمة العربية تحت عنوان «في التفسير :محاولة في فرويد»،
ترجمة وجيه أسعد ،دمشق ،أطلس للنشر والتوزيع( 2003 ،المترجم).