You are on page 1of 72

‫مرجعيات الفلسفة الغربية‬

‫نتطرق من خالل هذه السلسلة (‪ 28‬مقاال) الستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في‬
‫تعاملها مع مسألة حقوق اإلنسان التي برزت بشكل يزداد ثقال وعمقا منذ الربع األخير من القرن العشرين‪ ،‬والتي تحمل في‬
‫ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل االحتماالت‪.‬‬

‫إن االعتبارات النقدية الواردة في هذه المقاالت ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة‪ ،‬وال من باب التحامل المبني‬
‫على اآلراء الجاهزة واالندفاعات العشوائية المتطرفة‪ ،‬وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي‬
‫الذي تتغذى عليه منظومة حقوق اإلنسان المعاصرة‪.‬‬

‫د‪.‬الطيب بوتبقالت‬

‫*أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم اإلعالم واالتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة‪ -‬طنجة‬
‫‪tayebboutbouqalt@yahoo.fr‬‬

‫هسبريس‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. - 1 -‬مسؤولية رفع المشعل الحضاري‬


‫‪ - 1/28‬مسؤولية رفع المشعل الحضاري‬

‫اكتسحت الحضارة الغربية بآلياتها الفكرية‪ ،‬ومعاييرها الثقافية وقيمها األخالقية‪ ،‬وأساليبها المادية‪ ،‬مختلف المجتمعات‬
‫البشرية المعاصرة‪ .‬فلقد أصبحت نظرتها إلى العالم أساسا لمنهجية التعامل والتواصل على المستوى الدولي بدون منازع‪،‬‬
‫وجدير باإلشارة إلى أنه لم يسبق ألي حضارة في تاريخ اإلنسانية على اإلطالق أن حققت هذا االنتشار المجالي الواسع‬
‫النطاق‪ ،‬إذ ال يوجد حاليا متر مربع واحد على وجه الكرة األرضية إال وفيه أثر معين إلفرازات هذه الحضارة‪ ،‬حتى وإن كان‬
‫هذا األثر متجسدا في تلوث الماء والهواء والتربة فحسب‪ .‬ولم يسلم الغالف الجوي الخارجي من ذلك األثر‪ ،‬حيث أضحى يعج‬
‫باألقمار الصناعية المتزاحمة في مدارات متعددة‪ ،‬ناهيك عما تفرزه هذه األقمار نفسها من شظايا متناثرة تسبح بسرعة هائلة‬
‫في اتجاهات فضائية ال متناهي ة‪ .‬ال بل إن البصمات المادية للحضارة الغربية طالت كواكب "بعيدة" مثل القمر والمريخ‪ ..‬وأما‬
‫تحكمها في العنصر الزماني واختزالها للمسافات الفيزيائية‪ ،‬فإن حضارات اإلنس السابقة لم تسجل قطعا ما يضاهي هذا‬
‫اإلنجاز‪.‬‬

‫ترى ما هي المسافات أو األزمنة التي قطعتها هذه الحضارة الغربية في عوالم الفكر اإلنساني وإدراكاته؟ سؤال عريض‬
‫وعويص ال يسع المرء إال أن يطرحه مع اإلحساس المسبق بحسرة عدم الوصول إلى جواب شاف وشفاف‪.‬‬

‫اإلرث الحضاري‬

‫تعتبر الحضارة الغربية الوريث الشرعي لكل من الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية‪ ،‬وقد حظي أقطاب الفكر الفلسفي‬
‫اليوناني وجهابذة القانون الروماني بكل تقدير واعتزاز على مدى مراحل تطور العالم الغربي إلى يومنا هذا‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫المسيحية اندمجت عمليا في النظام القانوني الروماني منذ اعتناق اإلمبراطور قسطنطين الدين المسيحي عام ‪313‬م‪ .‬وهذه هي‬
‫المشارب الرئيسية للحضارة الغربية التي نتحدث عنها‪.‬‬

‫وإذا كان التركيز هنا على الفكر الفلسفي الغربي وعالقاته ببلورة وإنضاج مفهوم حقوق اإلنسان‪ ،‬فإن ذلك ال يعني أن الغرب‬
‫يحتكر ملكة التفكير وكفاءة التعبير في هذا المجال‪ ،‬وكل ما هنالك هو أن الزمن اليوم زمن غربي في شتى أبعاده المادية‬
‫والرمزية‪ ،‬وبالتالي فالمسألة تكمن في تداول الحضارات الذي يعنى ضمنا وصراحة التواصل بين الثقافات منذ فجر التاريخ‬
‫اإلنساني‪ .‬فمن البديهي أن الفكر الغربي لم ينطلق من فراغ‪ ،‬ولم يتطور بكل تأكيد بناء على نظرة ذاتية انطوائية‪ ،‬وإنما تغذي‬
‫من موارد فكرية وتأثيرات غير ت لك التي ميزت معطياته المركزية‪ .‬وهذه بدون شك من العوامل التي جعلت إشعاع الحضارة‬
‫الغربية يصل إلى مختلف أصقاع المعمورة ويتكيف مع ظرفيات وإشكاالت محلية صرفه‪ .‬فالتغيير من سمات التداول‬
‫الحضاري‪ ،‬وعنه تترتب المسؤوليات تحديدا‪ .‬إن التواصل اإلنساني عموما يبقى حتمية ثابتة على مدى تتابع حقب التاريخ‬
‫البشري‪ ،‬وأما القطيعة المطلقة التي تعني عدم التواصل فإنها مستحيلة لكونها تتناقض مع مبدأ الحياة‪.‬‬
‫وعلى أي حال‪ ،‬من ذا الذي يمكنه االستخفاف وعدم االكتراث بمقولة "ال يحق للقوي أن يؤدي الضعيف"‪ ،‬وهو الشعار الذي‬
‫رفعه حمو رابي‪ ،‬حوالي ‪ 1800‬سنة قبل الميالد‪ ،‬ليكون عنوانا للتشريعات التي وضعها لمملكة بابل بأرض العراق؟ ومن ذا‬
‫الذي ال يتوقف ولو لحظة سريعة عند تجربة فرعون في الحكم متأمال "أنا ربكم األعلى"؟ ومن ذا الذي يجحد تأثير األفكار‬
‫البوذية النيرفانية‪ ،‬وأراء كونفوشيوس االجتماعية‪ ،‬وتعاليم الديانات السماوية الرامية إلى التسامح والتعايش السلمي‪ ،‬ناهيك‬
‫عن البصمات التي تركتها تلك التأثيرات في مسيرة الفكر عند أبناء البشر عامة؟ فهذا السيد المسيح عليه السالم يتساءل‬
‫"ماذا يفيد اإلنسان لو أنه ربح العالم كله وخسر نفسه"‪ .‬وهذا خاتم األنبياء والمرسلين عليه الصالة والسالم يدعو إلى‬
‫المساواة بين الناس‪" :‬ال فضل لعربي على عجمي وال لعجمي على عربي (…) إال بالتقوى"‪.‬‬

‫وكيف ال يثار التساؤل الملح حول مدى التشابه إلى حد النقل الحرفي‪ ،‬بين مقولة الخليفة عمر بن الخطاب رضي هللا عنه‪:‬‬
‫"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أح رارا"‪ ،‬والمادة األولى من اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان‪" :‬يولد جميع الناس‬
‫أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق‪ ،‬وقد وهبوا عقال وضميرا‪ ،‬وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح اإلخاء"؟‬

‫هذه مجرد تساؤالت تطغى عليها المقاربة الديداكتيكية‪ ،‬وهي فعال ترمي إلى تبيان مدى أهمية تالقح األفكار والنظريات بغض‬
‫النظر عن التموقع الحضاري أكان شرقا أم غربا‪ ...‬ولكن رغم كل ذلك‪ ،‬هناك من يتخندق وراء تيارات فكرية عنصرية تدعى‬
‫تفوق وأحقية هذا الصنف من الجنس البشري على األصناف األخرى‪ ،‬وتعتبر تبعا لذلك أن الشرق شرق والغرب غرب‪ ،‬وهي‬
‫مقولة رددها كيبلين‪ ،‬صاحب جائزة نوبل لسنة ‪ ، 1907‬والمعروف بتمجيده األعمى لإلمبريالية األنكلوسكسونية‪ .‬وكان أرسطو‬
‫قبل ذلك بقرون عديدة قد اعتبر أن األسيويين عبيد بطبيعتهم‪ ،‬وأن ذلك ما جعلهم يخضعون من تلقاء أنفسهم وبكل استسالم‬
‫وخنوع لحكامهم المستبدين‪ .‬كما أن مونتيسكيو ال يرى غض اضة في اعتبار االستبداد نظاما طبيعيا بالنسبة للشرق‪ ،‬ولكنه غير‬
‫صالح وخطير على الغرب‪...‬‬

‫عن أي إنسان نتحدث؟‬

‫وغنى عن البيان أن أصداء هذه األفكار بل وامتداداتها الفاعلة مازالت حية إلى اآلن‪ ،‬وما أكثر من يعملون على إغنائها‬
‫وتحيينها‪ ،‬إذ ليست األنظمة الفاشية والناز ية والتوتاليتارية إال من بنات تفريعاتها ومجرد تطبيقات لنظرة غالتها المتطرفين‪،‬‬
‫علما بأن هؤالء كانوا يدعون وبكل جدية أنهم من المدافعين عن "حقوق اإلنسان" بمفهومهم الخاص لتلك الحقوق‪ .‬ألم يقم‬
‫االستعمار الغربي على مبدأ نشر "الرسالة الحضارية"؟ أليس مبدأ احترام حقوق اإلنسان اليوم أسلوبا "حضاريا" ذا‬
‫مصداقيته؟ ولكن عن أي إنسان يتحدثون؟ سؤال في الحقيقة لم تجب عنه حتى أكثر المواثيق الدولية‪-‬الغربية وضوحا في هذا‬
‫المجال‪ ،‬إذ أنها ال تكشف عن النوايا والخلفيات االستراتيجية التي كانت الدافع الحقيقي وراء ظهورها‪ ،‬ويكفي للدليل على ذلك‬
‫مدى قابلية التبني المطلق أو التنفيذ الفعلي لبنود تلك المواثيق‪ .‬وإذا كان فقهاء القانون عموما يجدون دائما مخرجا تكتيكيا أو‬
‫منطقيا لهذه الحالة أو تلك‪ ،‬متسلحين في ذلك بمناهج الفكر القانوني الحصيف وثمرات االجتهادات القضائية المتراكمة‪ ،‬فإن‬
‫األمر هنا يتعدى بكثير الدراسات الحقوقية الوضعية واالمتثال لإلشكاليات المسطرية‪ .‬إنه يتعلق بمفهوم شمولي للدالالت‬
‫واألبعاد التي تؤطر منظومة حقوق اإلنسان‪ ،‬تماما كما بلورها وطورها النظام الحضاري الغربي الذي فرض نفسه كمرجعية‬
‫أحادية ووحيدة لحرية وكرامة اإلنسان‪ .‬إن واقع األمر يو حي بأن الخيار الراهن هو خيار ال ثاني له‪ ،‬فإما مواكبة الركب‬
‫الحضاري الغربي بإمالءاته الصارمة وإما مغادرة التاريخ‪ .‬وهذا يعني أن تعريف اإلنسان بات محصورا على التصورات‬
‫الغربية التي تحدد كيف يجب على العالم بأسره اإلقرار النهائي والفعلي بسيادة قيم معينة‪ .‬وأما الذي تسول له نفسه عدم‬
‫اإلقرار بها فقد يرمي بنفسه إلى التهلكة!‬

‫إن مسؤولية رفع المشعل الحضاري التي تقع اليوم بكل ثقلها على عاتق الغرب‪ ،‬جعلت هذا األخير يوظف تطلعاته لمستقبل‬
‫البشرية بناء على أسسه الحضارية‪ ،‬وينتهزها فرصة سانحة ليضع نصب عينيه إضعاف وإقصاء الروافد الحضارية األخرى‬
‫غير الغربية التي كان إلى أمد قريب يتغذى على إمداداتها الفكرية‪ .‬وهو في ذلك يعلن الوفاء عمليا لينابيعه ومرجعياته‬
‫التأسيسية‪ ،‬ويتفادى الوقوف عند نواقصها الصارخة ‪-‬ربما‪ -‬مخافة أن تحيله تلك النواقص على الضرورة الملحة لمراجعة‬
‫ذاته الحضارية في عز نش وتها االنتصارية‪ ...‬فإذا كانت مثال إصالحات صولون للنظم القانونية والسياسية لفائدة المجتمع‬
‫األثيني في القرن السادس قبل الميالد تشكل محطة بارزة في إرساء دعائم الحكم الديمقراطي التي اعتمدها الغرب كإرث‬
‫حضاري مرجعي‪ ،‬فإنه وجب علينا التذكير بأن ثلث سكان أثينا آنذاك كان من المستعبدين الذين ال يحق لهم التمتع بالحقوق‬
‫المقررة لصالح "المواطنين" األثينيين‪ .‬وإذا كان الرومان قد أفلحوا بالفعل في صياغة القوانين انطالقا من قواعد علمية متينة‬
‫واعتبارات عملية وجيهة‪ ،‬فإنه طبقا للقانون الروماني كان بإمكان "المواطنين" الرومان وحدهم حق إبرام العقود والمقاضاة‬
‫للحصول على التعويضات وتملك األموال‪ ،‬وهم في ذلك يخضعون للقانون المدني بينما كانت المستعمرات الرومانية تخضع لما‬
‫سمي حينها بقانون الشعوب‪ .‬وواضح من هذه األمثلة أن اإلنسان "المواطن" ابن الحضارة السائدة ليس هو اإلنسان‬
‫بالمفهوم المطلق‪ ،‬وهو نفس المشهد الذي تكرر إبان فترة االستعمار الغربي المعاصر‪ .‬والسؤال المطروح اآلن هو‪ :‬هل نحن‬
‫بصدد إعادة اكتشاف العجلة أم أننا أمام بداية لقفزة نوعية في فضاء مجهول؟‬

‫واالتجاه الذي يمكن ترجيحه بكل وضوح هو أن السياق التاريخي الذي اندرجت فيه مسألة حقوق اإلنسان‪ ،‬تحت ردائها‬
‫الفلسفي‪-‬القانوني‪ -‬السياسي هو ببساطة مجرد إفراز للهيمنة الشمولية للغرب الذي استطاع فعال أن يفرض عولمة هذه‬
‫الحقوق بمفاهيم إرادية تعسفية تحت ستار من الدعاية الخادعة‪ .‬وال يعنيه في ذلك وجود أو عدم وجود معايير مزدوجة على‬
‫المستوين النظري والتطبيقي‪ ،‬وكل من لم يقتنع برجحان هذا االتجاه‪ ،‬لسبب من األسباب‪ ،‬فما عليه إال أن يراجع تطورات‬
‫وتفاعالت مجمل القضايا الراهنة التي للغرب فيها مصالح حيوية هامة وذات أهداف استراتيجية وازنة ليتبين له مدى هشاشة‬
‫المسوغات‪ ،‬وضعف الحجج‪ ،‬واستفحال أساليب الغطرسة‪ ،‬وصمت عموم النخب الغربية المثقفة‪ .‬ولينظر مثال بعين فاحصة‬
‫وبكل موضوعية إلى اإلشكاليات التي تطرحها القضية الفلسطينية بموازاة مع جوهر ثقافة حقوق اإلنسان المعبر عنها في‬
‫المحافل الدولية وفي المراكز الغربية للقرار السياسي‪.‬‬

‫عندها يتضح بدون التباس الغياب التام لحماية دولية عادلة وشاملة لحقوق اإلنسان في بعدها الكوني‪ ،‬أي تلك الحقوق التي‬
‫توفر ضمانات لحريات اإلنسان وتحفظ كرامته‪ ،‬بغض النظر عن هويته العرقية‪ ،‬والدينية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬وغير ذلك من مميزاته‬
‫الذاتية واالجتماعية‪ ،‬وبدون التدخل السافر في اإلطار السياسي والنظام االقتصادي الذي يختاره بمحض إرادته‪ ،‬وفقا‬
‫لتصوراته للعالم من حوله‪ ،‬وليس بناء على تصنيفات غربية إلزامية للحقوق والحريات‪.‬‬

‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن االهتمام هنا سينصب أساسا على تطور الفكر الفلسفي الغربي في مساره التاريخي ومدى انعكاس‬
‫ذلك على منظومة حقوق اإلنسان المتعارف عليها عالميا‪ .‬هذا مع العلم أن هناك دائما مسافة تفصل بين حيثيات ومالبسات‬
‫الفعل السياسي والمنحى اإليديولوجي بصفة عامة وتمظهرات الفكر الفلسفي على وجه الخصوص‪ .‬حتى وإن كانت عمليات‬
‫التفاعل القائمة بين هذه العناصر تأتي متأخرة أو بشكل مغاير في الزمان والمكان‪ .‬وما اإلشارات الواردة آنفا إال على سبيل‬
‫التذكير بصدد هذا التفاعل ذي األبعاد المختلفة والمتشعبة‪.‬‬

‫إن موضوع حقوق اإلنسان كان في الواقع وسيظل مهما طال الزمن موضوعا فلسفيا بامتياز‪ ،‬وكل من يعتبر الفكر الفلسفي‬
‫من قبيل تأمالت من فوق أبراج عاجية ال شك أنه سقط ضحية لدياجير ظالم الجهل وعمى البصيرة‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. - 2 -‬ميالد مذاهب ونظريات العقالنية‬

‫‪ - 2/28‬ميالد العقالنية‬

‫منذ أمد بعيد انكب رجال الفكر على إيجاد عالقة بين تصورات اإلنسان لمحيطه الطبيعي وواقعه االجتماعي‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫تعامله مع قوى الطبيعة من جهة‪ ،‬وعبر األنظمة والضوابط االجتماعية التي يؤسسها هو نفسه من جهة ثانية‪.‬‬

‫ويرى ألبير بريمو‪ ،‬أستاذ فلسفة القانون بجامعة باريس‪ ،‬أن المذاهب العقالنية تشمل كل النظريات التي تتخذ من العقل‬
‫محورا لعناصر أطروحاتها‪ ،‬معتبرة إياه كسلطة بيد اإلنسان تمكنه من التنظيم الممنهج لمعارفه وسلوكياته‪ ،‬وتساعده في نفس‬
‫الوقت على بناء عالقة رشيدة مع الطبيعة‪.‬‬
‫بمعنى آخر‪ ،‬تؤكد هذه المذاهب على أن البشرية قد وصلت إلى مستوى من الوعي واإلدراك انبثقت عنه نظرة خاصة إلى‬
‫اإلنسان‪ ،‬ذلك المخلوق الذي يتميز عن الحيوان بالعقل‪ .‬وهذه الخاصية هي التي تؤهله الكتشاف قوانين الطبيعة بهدف تلبية‬
‫حب استطالعه الغريزي وتسخير تلك القوانين لفائدته‪.‬‬

‫وبالطبع لم تقف المسألة عند حد المالحظة المجردة التي قد تبدو بسيطة وربما سطحية‪ ،‬وإنما تمخضت عنها تأويالت تكاد‬
‫تكون متضاربة وفي بعض األحيان غامضة‪ ،‬حتى وإن بقيت العقالنية قاسمها المشترك‪.‬‬

‫فبعض المذاهب تعتبر العقل بمثابة نسق من المبادئ يتحرك بموجبها وعي اإلنسان بنفسه في عالقته مع العالم‪ ،‬وتشكل لديه‬
‫نموذجا معرفيا شامال‪ .‬بينما ترى مذاهب أخرى أن العقل نظام متكامل يتولد عن طبيعة اإلنسان‪ ،‬وهو الذي يمكنه من الوصول‬
‫إلى معرفة الحقيقة ويساعده على التمييز بين الخير والشر‪.‬‬

‫وبالتالي يدفعه إلى تنظيم المجتمع بصفة إرادية وليس عن طريق الصدفة التلقائية‪ .‬وهناك من يرى أن العقل هو القدرة على‬
‫التفكير حسب قوانين تهدف إلى تكييف السلوك اإلنساني‪ .‬وفيها يبرز العقل في إشكاليته اإلدراكية بين ما هو ضروري وما هو‬
‫كلي‪ ،‬أي أنه عبارة عن قوانين فكرية ضرورية وكلية‪ ،‬البعض منها مكتسب وناتج عن التجربة‪ ،‬والبعض اآلخر متأصل في‬
‫العقل بشكل طبيعي ومستقل عن العالم المادي‪.‬‬

‫ويطلق أرسطو مصطلح «النفس الناطقة» على العقل‪ ،‬باعتباره موجها ومنظما لقوى الذات البشرية‪ .‬وهذه النظرة المتسامية‬
‫للعقل هي التي تطفو على السطح عند إيمانويل كانط حين يقول‪ « :‬كل معرفتنا تبدأ من الحواس‪ ،‬ومن ثم تنتقل إلى الذهن‪،‬‬
‫وتنتهي في العقل‪ .‬وليس فينا ما هو أسمى من العقل لمعالجة مادة العيان أو الحدس وردها إلى الوحدة العليا للفكر»‪.‬‬

‫إال أن اإلشكالية تزداد تعقيدا عندما يستعمل مفهوم العقل ومفهوم الطبيعة بشكل يلفه الغموض‪ .‬فتارة الطبيعة تعني االستسالم‬
‫للغائية التي تتحكم في صيرورة الكون‪ ،‬وتارة أخرى الطبيعة تعني مبدأ لكل األحكام المعيارية‪ ،‬وتلجأ للتعبير عن نفسها من‬
‫خالل حقائق يتوصل إليها العقل الطبيعي الذي يكشف‪ ،‬حسب أفالطون‪ ،‬عن االنطباعات الذهنية وخصوصياتها‪.‬‬

‫وقد يشار إلى الطبيعة على أساس كونها حتمية تفرضها قوى مادية‪ .‬وتزداد هذه اإلشكالية تعقيدا عندما نستحضر النظرية‬
‫القائلة بموافقة مفهوم الطبيعة للحالة الطبيعية التي ال تشكل األخالق والقوانين اإلنسانية بالنسبة لها سوى تقليد منقوص‪.‬‬
‫ولذلك على اإلنسان وفقا لهذا المنظور الرجوع إلى الحالة الطبيعية ليسترد ما ضاع من إنسانيته الحقة‪.‬‬

‫العقالنية ما قبل سقراط‬

‫لم تكن الساحة الفلسفية اليونانية خالية قبل سقراط‪ ،‬بل عرفت زخما من األفكار يرجع إليها الفضل في إعطاء دفعة قوية‬
‫للفكر اليوناني في مجاالت متعددة‪ ،‬وخاصة منها تلك التي اهتمت بالمنهاج العلمي والتوظيف اإلمبريقي أو التجريبي للمالحظة‬
‫األولية‪.‬‬

‫فبعض المصطلحات مثل الطبيعة (فيزيس) والنظام الطبيعي (كوسموس) والقانون الطبيعي (نوموس) تم استعمالها قبل‬
‫سقراط‪ ،‬وكانت بحق آليات ضرورية ساهمت في إعطاء اال نطالقة الفعلية لبلورة الفكر الفلسفي والنظريات العلمية في بداياتها‬
‫التقعيدية‪.‬‬

‫لكن النسق األسطوري سيظل قائما لردح من الزمن‪ ،‬وهكذا في مرحلة سماها عالم االجتماع األلماني ماكس فيبر بالمرحلة‬
‫الكاريزمية‪ ،‬لم يعمد المفكرون خاللها إلى تصور نظام لشرح العالم أو تبرير وجود السلطة‪ ،‬ألنهم بكل بساطة وجدوا ذلك‬
‫التصور في الميثولوجيا القديمة‪ .‬لقد كانت المؤسسات االجتماعية تسعى إلى التماهي مع األنساق الطبيعية‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬فإن الملك‪-‬الكاهن كان يجسد مبدأ اندماج األنشطة االجتماعية في المواسم الطبيعية المتعاقبة‪ ،‬بحيث كان مفهوم‬
‫المجتمع ال يتميز عن مفهوم الطبيعة‪ .‬ويبقى السؤال مطروحا‪ :‬متى حدث ذلك التحول العميق وتلك النقلة النوعية التي ظهرت‬
‫العقالنية على إثرها إلى الوجود؟‬

‫يبدو أن أحد عناصر هذا التحول يكمن في بروز ما سمي ب «حضارة المدن»‪ ،‬ومرد ذلك إلى أنه عندما دخل المجتمع‬
‫اليوناني عهد «الدولة‪-‬المدينة» بدأت الطقوس الملكية في التراجع‪ ،‬وبدأ النظام السياسي يتطور تدريجيا على حساب النظام‬
‫الطبيعي‪ .‬ومما نتج عن هذا التحول‪ ،‬قطيعة فكرية تمثلت في فك االرتباط بين الميثولوجيا والطبيعة‪ .‬وبالتالي في فصل وظيفة‬
‫الملك العمومية والقانونية عن النظام الطبيعي‪.‬‬

‫وهكذا جاء الفكر الفلسفي الجديد لقطع الحبل السري الذي كان يربط الطبيعة بالسياسة‪ ،‬لتصبح المدينة بعد ذلك مثارا‬
‫لمناقشات وجداالت دائمة ومتجددة‪ .‬وترتب عن ذلك أن أصبحت الكوزمولوجيا ترجمة للطبيعة‪ ،‬ولم يعد تاريخ الكون ينحصر‬
‫في أسطورة إله الميثولوجيا المسمى كرونوس‪ .‬وحتى آلهة الميثولوجيا نفسها أصبحت موضوعا لتصور مغاير تماما لما كان‬
‫سائدا‪ ،‬وبدأ التفكير فيها ينحو منحى ما وراء الطبيعة‪ ،‬وهذه األخيرة كانت تعتبر حركة وهي بالتالي تعنى بالضرورة وجود‬
‫محرك أول لها‪.‬‬

‫وكان كل من بارمينيد وبروتاكوراس في القرن الخامس قبل الميالد قد عبرا عن هذا االتجاه الجديد‪ .‬فاألول يرى أن الكون‬
‫أبدى‪ ،‬في حالة استقرار‪ ،‬ومتصل‪ .‬وأما الثاني‪ ،‬فإنه يعتبر األحاسيس مصدرا لكل معارف اإلنسان‪ .‬وفي ذلك إشارة واضحة‬
‫للصراع بين الفكر العقالني والفكر الخرافي‪.‬‬

‫ولم يعد مفهوم المدنية مالزما للمفهوم الكوني البدائي‪ ،‬وذلك راجع لكون المدينة فضاء من صنع اإلنسان في المقام األول‪،‬‬
‫وثانيا ألنه كان يبدو جليا أن في داخل هذا الفضاء يتحقق مصير هذا اإلنسان نفسه‪ .‬ومما ساعد على بلورة هذا االتجاه‬
‫النقاشات الواسعة والمثمرة التي كانت تطبع االنشغاالت الفكرية آنذاك‪ ،‬فهي التي أدت إلى إحداث إصالحات قام بها كليستان‬
‫في أواخر القرن السادس قبل الميالد‪ ،‬وكلسيتان هذا يعتبر المؤسس األول للديمقراطية األثينية‪.‬‬

‫لقد أعطت إصالحات كليستان االنطالقة العلمية لمفهوم جديد تحددت في إطاره عالقة اإلنسان بالمدينة‪ .‬ولقد أدى تالزم فكرتي‬
‫العقل والطبيعة إلى ثنائية الوجود‪ ،‬بمعنى أن اإلنسان هو صورة للكون تتركب من عنصر غير مادي هو العقل‪ ،‬وآخر مادي هو‬
‫الجسد‪ .‬وأن اإلنسان يسير جسده‪ ،‬كما يسير هللا الطبيعة‪ .‬وتبقى وحدة الكينونة متجلية في العقل‪ :‬هكذا ظهر الفكر التجريدي‪.‬‬
‫وعلى شاكلة النظام الكوني‪ ،‬فإن النظام السياسي كان يخضع في آن واحد لقوالب الفكر التجريدي النظري والستخالصات الفكر‬
‫المادي العلمي‪.‬‬

‫ومن نتائج تلك التحوالت الفكرية أنه تم تعريف اإلنسان باالستناد إلى "مواطنته" في المقام األول‪ ،‬وليس بالنظر إلى نسبه‪.‬‬
‫وهوما يعني أن الروابط السياسية واالجتماعية أصبحت من ذلك الزمن فصاعدا مبنية على مبدأ المساواة القانونية‪ ،‬وهكذا‬
‫اقتحم الفكر العقالني مجال القانون المؤسسي‪ ،‬وهو إعالن صريح لبداية تراجع الفكر الغيبي الخرافي‪.‬‬

‫حدث ذلك قبل مجيء سقراط‪ ،‬ومما يعاب على الفكر الفلسفي الذي ساد قبله هو كونه أدى إلى ظهور مادية مبنية على‬
‫التماهي بين الواقع والمحسوسا ت‪ .‬ويرجع الفضل إلى سقراط وأفالطون ومن تتلمذ على أيديهما في توسيع دائرة الفكر‬
‫العقالني ليشمل األبعاد المثالية‪ ،‬وقد تزامنت هذه المرحلة مع فترة زاهرة من النمو االقتصادي والفني والفكري عرفتها بالد‬
‫اليونان مباشرة بعد انتصار قواتها في معركة سالمين عام ‪ 480‬قبل الميالد‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. - 3 -‬العدالة والسياسة في فكر أفالطون‬

‫‪ - 3/28‬العدالة والسياسة في مثالية أفالطون‬

‫لم يترك سقراط أثرا مكتوبا‪ ،‬لكنه ترك أفكارا خالدة طورها وعمقها كل من أفالطون وأرسطو‪ .‬والنسق السقراطي يعتمد على‬
‫الصياغة المحكمة للسؤال إلى حد االستفزاز‪ ،‬وربما لهذا السبب بالذات تم إعدامه سنة ‪ 399‬قبل الميالد‪ .‬كان سقراط متمسكا‬
‫بنهجه الفكري الحكيم واثقا من نفسه ال يهاب الموت‪ .‬فلقد قال أثناء محاكمته أقواال ظلت عنوانا لنهجه الذي تربى عليه تلميذه‬
‫وزميله أفالطون‪ ،‬وهذه بعض منها ‪":‬لو أنكم ا قترحتم إخالء سبيلي بشرط أن أتخلى عن بحث الحقيقة لقلت لكم ‪ :‬إني أشكركم‬
‫أيها األثينيون‪ ،‬ولكني أوثر أن استجيب لطاعة هللا الذي اعتقد أنه هيأني ألداء هذه الرسالة على أن انصاع لرأيكم‪ ،‬وما دام بين‬
‫جنبي نفس يتردد‪ ،‬وقوة أشعر بدبيبها في كياني فلن أتوقف عن مزاولة التفلسف ومواصلة التحدث إلى من التقى به من الناس‬
‫وتكرار القول له ‪:‬أال تشعر بالضعة و الخجل حين تتعلق بالغنى و الثروة‪ ،‬وال تحرص على الحكمة وال تعبأ بالحق وال تعمل‬
‫على ترقية نفسك؟ إني ال أعرف ماذا يكون الموت‪ ،‬وربما كان أمرا طيبا‪ ،‬فأنا ال أخافه وال أخشاه‪ ،‬ولكني واثق من أن توقف‬
‫المرء عن أداء وظيفته شر ال محالة‪ ،‬فأنا أوثر ما يحتمل أن يكون طيبا على ما أعرف أنه شر"‪.‬‬

‫وخالفا لبعض التأويالت الرومنسية فإنه عندما نتحدث عن المثالية األفالطونية فإن ذلك ال يعني الخروج عن دائرة الفكر‬
‫العقالني‪ ،‬ويمكن القول إلى حد ما بأن األفالطو نية هي التي وضعت األسس األولى للفلسفة والميتافيزيقا‪ ،‬لقد عمدت من أجل‬
‫ذلك إلى رسم إطار عام تبلورت بداخله المنظومة الفكرية المتوسطية عموما والنظريات المسيحية للقرون الوسطى خصوصا‪.‬‬
‫ففي أحضان هذه األفكار نشأ وترعرع نظام جديد للقيم التي طبعت أعماق الفكر الغربي‪ ،‬وأما تعريف هذا اإلطار العام فيتجلى‬
‫في العقالنية المثالية التي يطفح بها كتاب "محاورات " ألفالطون‪ .‬أسس أفالطون مدرسة كانت تسمى األكاديمية سنة ‪387‬‬
‫قبل الميالد‪ .‬وكانت عبارة "ال أحد يدخل هنا إذا لم يكن ملما بالعلوم الرياضية" منقوشة على مدخلها حسب مصادر تاريخية‬
‫متأخرة ومشكوك في صحتها‪ ،‬وعلى ما يبدو فإنها مقولة مأخوذة من أقواله المأثورة إشارة منه إلى ضرورة تنمية الفكر‬
‫التجريدي والحاسة النقدية عند الطالب من أجل التخلص من "كهف" ظالل الجهل‪ ،‬وليس تبجحا باالنتماء الحصري إلى طبقة‬
‫األقلية من "فقهاء" عصره‪...‬‬

‫مبدأ اإلنصاف والطريق إلى العدالة‬


‫إن العقل عند أفالطون وأتباعه يعني ما هو رباني عند اإلنسان‪ ،‬وأما الطبيعة فهي القوة التي كانت مصدر وجود هذه الطبيعة‬
‫نفسها‪ ،‬فبموجبها تطورت العناصر الطبيعية حسب قوانين غائية‪ ،‬هذه القوة هي المحرك للواقع المادي‪ .‬وتتجلى عبقرية‬
‫أفالطون الفلسفي ة في كونه ربط ما بين المشروعية العقالنية والمشروعية الطبيعية‪ ،‬بحيث لم يعد اإلنسان ذلك الحيوان‬
‫المغمور في الطبيعة وإنما أصبح كائنا واعيا بوجوده أمام الطبيعة‪ ،‬والعقل ليس ما يميز اإلنسان عن الحيوان فحسب‪ ،‬بل هو‬
‫كذلك معيار وأداة إلصدار األحكام قصد تحديد ما هو ك ائن وما يجب أن يكون‪ .‬لقد فتح الفكر األفالطوني المجال واسعا لظهور‬
‫مفاهيم جديدة‪ ،‬ومنها‪ :‬الكليات بخلفيتها التعميمية الشمولية والوحدة االمتثالية والعدالة التوزيعية‪ .‬كما برزت مفاهيم أخرى‬
‫انضافت بدورها إلى عناصر البناء النظري العقالني‪ ،‬مثل‪ :‬القانون الطبيعي ومبدأ اإلنصاف المطلق‪ .‬وجاءت فكرة "العدالة‬
‫الموضوعية " التي تتعدى نطاق القانون الوضعي‪ ،‬وفكرة "الحرية الذاتية" ليتم ربطهما بالمفهوم األفالطوني للعقل‪ ،‬وهو‬
‫المفهوم الذي يكرس تغليب الروحانية على المادية‪ .‬وبذلك تكون األفالطونية قد وضعت األسس ليس فقط للميتافيزيقا أو ما‬
‫وراء الطبيعة بل كذلك لعلم الكينونة أو األنطولوجيا التي ميزت مذهب القانون الطبيعي في الفكر الغربي للقرون الوسطى‪.‬‬

‫إن منطلق الفلسفة األفالطونية هو عالم الجواهر‪ ،‬بمعنى أن اإلنسان كائن تميزه خاصية المبدأ اإللهي‪ ،‬وبناء على ذلك فإن‬
‫بإمكانه الولوج النسبي إلى عال م الجواهر‪ ،‬وإذا كان مآل جسده الهالك‪ ،‬فإن له روحا جوهرها رباني‪ ،‬وهذه الصلة النسبية باهلل‬
‫هي التي تمنح الحرية لإلنسان‪ ،‬ويعبر أفالطون عن ذلك بقوله‪" :‬إن هللا ال يحكمنا مباشرة‪ ،‬بل بواسطة العقل الذي وهبنا‪،‬‬
‫فالقوانين التي يقررها العقل تحاكي العناية اإللهية"‪ .‬وأما األفكار المتعلقة بالجمال والخير والعدل فهي من قبيل المحسوسات‬
‫التي ليس في متناول الكائن البشري أن يدركها على حقيقتها الجوهرية‪ .‬ومن هنا برزت فكرة المبدأ الموضوعي‪ ،‬والجمال‬
‫الموضوعي‪ ،‬والعدل الموضوعي‪ .‬وهذا يعني أن هناك ترابطا بنيويا ما بين نظام ذي طبيعة إنسانية ونظام ذي صبغة ربانية‪،‬‬
‫وهو نفس الترابط الموجود بالنسبة للعدل اإلنساني‪ .‬وفي "الجمهورية " و " القوانين " ألفالطون تفنيد ألطروحة‬
‫السفسطائيين التي مفادها أن مبدأ اإلنصاف متغير حسب أهواء وإرادة الطرف األقوى‪ ،‬والمقصود من وراء هذا التفنيد هو أن‬
‫هناك نماذج مثالية يمكن التعرف على طبيعتها المطلقة بالتدريج‪ .‬فمثال بالنسبة للجمال يمكن أن ننطلق من مالحظة سطحية‬
‫تتوقف عند جمال األجسام‪ ،‬لكن بعد التفكير واإلمعان نرقى إلى فكرة مؤداها أن الجمال هو جمال معنوي بالطبع وليس ماديا‪،‬‬
‫وهو جمال النفوس‪.‬‬

‫وبعد تأمل أكثر تعمقا يمكن الوصول إلى إدراك وجود جمال أزلي ال يعتريه فساد‪ ،‬ويرى أفالطون أن هذا الجمال األزلي ليس‬
‫فيه "ال زيادة وال نقصان‪ ،‬كما أنه ليس جماال في جزء منه وقبحا في جزء آخر‪ ،‬وال جمال من وجه وقبحا من وجه آخر‪ ،‬وال‬
‫جماال في نظر قوم وقبحا في نظر قوم آخرين‪ .‬ولن يتصور هذا الجمال في هيئة وجه أو يدين أو أي عضو آخر من أعضاء‬
‫الجسم‪ ،‬وال على هيئة قول أو علم أو أي شيء يوجد في شيء آخر سواء أكان كائنا حيا أم أرضا أم سماء أو ما شئت من‬
‫الموجودات‪ .‬بل يتصور جماال في ذاته وبذاته‪ ،‬فريدا‪ ،‬أزليا‪ ،‬وكل شيء جميل آخر يشارك فيه‪ ،‬ألن هذه األشياء الجميلة تزدهر‬
‫وتذبل‪ .‬أما الجمال بالذات‪ ،‬فال يكون أكثر وأقل بل يظل هو بغير زيادة وال نقصان وال تغيير"‪.‬‬

‫وقد حدد أفالطون المحاور الرئيسية للقانون الطبيعي الكالسيكي كالتالي‪ :‬الكلية والموضوعية ونسبية األحكام اإلنسانية مع‬
‫ضرورة االرتقاء تدريجيا من الواقع الملموس إلى مستوى المعقوالت‪ .‬ويعتبر أفالطون العدالة أسمى فضيلة‪ ،‬تشتمل عناصرها‬
‫على التوازن والنظام والوئام‪ ،‬وأما الطريق إليها فيمر وجوبا عبر الحكمة روحا وعقال‪ ،‬ومصدر هذه الحكمة هو التعليم أو‬
‫التربية التي هي نفسها مصدر للخير العام بمفهومه السياسي‪ .‬وتعتمد العدالة في مؤسسة الدولة على نفس المبادئ التي يعتمد‬
‫عليها النظام‪ ،‬وهي نظرة مثالية نابعة من ضرورة تنظيم هذه المؤسسة على نموذج الخير العام‪ ،‬المستمد هو اآلخر من‬
‫منظور العودة إلى الطبيعة واالعتدال وبساطة الحياة االجتماعية والعيش في سالم‪ .‬وال يفوته التساؤل‪ :‬لماذا لم يتحقق هذا‬
‫النموذ ج المثالي؟ فيجيب أفالطون بأن السبب في ذلك راجع إلى جشع اإلنسان وميله إلى الكسب اإلضافي حتى وإن كان على‬
‫حساب الغير‪ ،‬وكنتيجة لذلك ساد األسلوب العدواني في العالقات اإلنسانية واستفحلت المنافسة على الموارد المادية‪ ،‬ظهرت‬
‫على إثرها الفوارق بين شرائح المجتمع‪ ،‬وكان طبيعيا أن تنشب النزاعات والحروب كحتمية لتلك االختالالت‪.‬‬

‫ويستعرض أفالطون أنظمة الحكم من أرستقراطية نخبوية‪ ،‬وأوليغارشية أقلية‪ ،‬وديمقراطية عددية‪ .‬ويقر بأن هذا النظام‬
‫األخير هو الذي يعطي للشعب أكبر قدر من المساواة والحرية والمساهمة في ممارسة السلطة‪ .‬ويستدرك موضحا أن مصيبة‬
‫الديمقراطية تبدو كامنة في المبالغة في الديمقراطية نفسها‪ ،‬حيث يمكن أن يتحول هذا النظام من جراء تطبيق مبدأ المساواة‬
‫مثال إلى حكومة الدهماء والغوغائية‪ ،‬ذلك ألن الشعب غالبا ما ينقصه التكوين الكافي والتعليم الالزم حتى يكون في مأمن من‬
‫حكام متالعبين بمصالحه‪ ،‬وبالتالي تنقلب الديمقراطية إلى حكم استبدادي أو أوتوقراطي‪ .‬وال يثق أفالطون في سالمة اختيار‬
‫الشعب للمسؤولين السياسيين ألن هؤالء قد يصلون إلى المناصب العامة ليس بفضل كفاءتهم ونزاهتهم‪ ،‬وإنما عن طريق‬
‫المكر والخداع‪ ،‬وقد يكونون مجرد أشباح تحركهم أيادي المال والثروة‪ .‬أما أفضل الرجال وأحكمهم في إدارة شؤون البالد في‬
‫نظره فهو اإلنسان الفيلسوف الذي استطاع أن يدرك أن كل ما يحدث إنما يحدث بالضرورة عن علة‪ ،‬وأن العالم حادث ومتغير‪،‬‬
‫أي أن له علة صنعته‪ ،‬وهذه العلة هي هللا‪.‬‬

‫ومن هنا فإن سلطة الحاكم الفيلسوف ستكون بالض رورة صادرة عن مشيئة هللا‪ .‬بمعنى أن النظام يجب أن يرتكز على قانون‬
‫معبر عن اإلرادة اإللهية‪ ،‬ولهذا فاحترام القانون كما ورد في كتابه " القوانين " هو امتثال للنموذج الرباني الذي بني النظام‬
‫الكوني طبقا له‪ .‬وتبقى الغاية المطلقة لمؤسسة الدولة هي تحقيق الخير العام‪ ،‬وهي نفس الغاية النهائية للروح اإلنسانية‪.‬‬
‫ولكن عندما تتأكد ضرورة الدولة يتحول اإلنسان من مستواه الفردي إلى مجرد تجريد ال غير‪ .‬ومن أجل تحقيق الخير العام‬
‫وإرساء العدالة البد من إدارة شؤون مؤسسة الدولة بناء على العقل‪ .‬ومما يؤاخذ على أفالطون إفراطه في تعظيم النظام‬
‫وتقزيمه لقيمة الفرد‪ ،‬هذا مع العلم أنه كان يعترف بأن تحقيق الدولة المثالية التي رسم نموذجا لها هدف صعب إن لم يكن‬
‫مستحيال‪ .‬ولكنه يدفع العقل اإلنساني دائما إلى تصور أفضل لعالم أفضل‪ ،‬وهكذا ظلت فكرة المدينة الفاضلة تشغل بال أجيال‬
‫المفكرين والمهتمين بالفلسفة السياسية التأملية‪.‬‬

‫رجعيات الفلسفة الغربية ‪ ..- 4 -‬األخالق أساس بناء أرسطو للدولة‬

‫‪ - 4/28‬البناء األرسطي للدولة‬


‫يعد أرسطو من نوابغ الفكر اليوناني‪ ،‬أو من أعالم الفكر اإلنساني بمطلقه‪ .‬صحيح أنه كان قبل كل شيء تلميذا ألفالطون‪،‬‬
‫لكنه تلميذ مجدد وليس مقلدا ألستاذه‪ ،‬وله مقولة مشهورة في هذا الباب‪ :‬أفالطون صديق عزيز لكن الحقيقة أعز‪.‬‬

‫ولم يكن لقبه "المعلم األول" مجرد صدفة أو مجاملة‪ ،‬فهو الذي ابتكر علم األخالق ووضع المنطق الصوري على أسس‬
‫متينة ظلت مرجعا ال يستغنى عنه عند الدارسين المختصين لقرون عديدة‪ .‬لقد أفلح في الخروج من ظالل كهف المثالية‬
‫األفالطونية إلى واقع الساحة العامة اإلغريقية بما لها وما عليها‪ ،‬ويرتكز منهجه في البحث عن الحقيقة على معرفة العلل‬
‫األساسية التي قسمها إلى أربع‪ :‬الفاعلية والغائية والمادية والصورية‪ .‬تأثر أرسطو بالتصور الالهوتي األفالطوني الذي يعتمد‬
‫على وحدانية هللا وعلوه‪ ،‬وأضاف إليه تصوره للميتافيزيقا كعلم كلي بالموجود‪.‬‬

‫وفي هذا الصدد ينفي أرسطو الوجود بالعرض ألنه في نظره غير خاضع للمعرفة العلمية‪ ،‬كما أنه ينفي فكرة الوجود بمعنى‬
‫الحق ألن ذلك في واقع األمر مجرد تعديل للفكر‪.‬‬

‫وأما مسألة الجوهر فإنها موضوعه المركزي في الحقل الميتافيزيقي وفيه ينشغل بعاملي القوة والفعل كعنصرين في عالقة‬
‫متبادلة‪ ،‬إن هللا عند أرسطو علة غائية‪ ،‬وكل الموجودات تنجذب بشكل أو بآخر نحو هذه العلة الغائية‪ ،‬وأما كون اإلنسان هو‬
‫المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يتأمل هللا‪ ،‬فألنه يت ميز عن سائر الكائنات بوجود جزء إلهي فيه‪ ،‬ويقصد العقل‪ .‬وفي المنطق‬
‫األرسطي يأتي الفعل قبل القوة‪ ،‬والفعل هنا بمعنى كمال اإلنجاز‪.‬‬

‫وأما التعليل في ذلك فينطلق من عدم استطاعة العقل أن يقيم ما هو بالقوة إال باالستناد إلى ما هو بالفعل‪ ،‬غير أن هذا مجرد‬
‫تعليل داخل نط اق السببية التقليدية‪ .‬لكنه في إطار العالقة التبادلية بين العنصرين يحدث االنتقال من القوة إلى الفعل‪ ،‬مما يحول‬
‫دون الوقوع في تناقص منطقي‪ .‬ويبقى السؤال معلقا‪ :‬ما هو السر في هذا االنتقال أو التغيير الموجه؟ إنها العلة الغائية أو‬
‫المحرك األول يقول أرسطو‪ ،‬ويعني ب ذلك هللا بذاته والثابت بحكم الضرورة‪ .‬إذ ال داعي لجعل هللا موضوعا للعلم‪ ،‬ألن العلم‬
‫اإللهي كامن في ذاته‪ ،‬وما على اإلنسان إال أن يبحث في هذا العالم عن معرفة تؤسس لعلمه اإلنساني‪.‬‬

‫وهذا الطرح هو في حد ذاته إنجاز فكري من األهمية بمكان‪ ،‬بحيث أن الخروج من مجال الخوارق والالمعقول إلى مجال‬
‫العقل والتفكير النظري الخالص هو فعال نقلة نوعية ذات دالالت عميقة‪ ،‬أدت إلى إخصاب الفكر اإلنساني في تقاطعاته‬
‫الحضارية‪ .‬وقد تحقق هذا التحول مع االحتفاظ بنظرة عدم التعارض بين الفلسفة والعلم‪ .‬ولم تعد المثل العليا منفكة عن واقع‬
‫العالم الم لموس‪ ،‬فالنظرة الفلسفية للسماء أصبحت موجهة بطريقة منطقية وعلمية إلى إشكاالت يتم رصدها على األرض‬
‫بمعطيات موضوعية‪.‬‬

‫وقد يختلط األمر فيما يتعلق بالتعدد الظاهري للمبادئ عند أرسطو‪ ،‬ويأتي ابن رشد ليشرح ذلك بقوله‪" :‬إذا كانت المبادئ‬
‫األولى للعالم مبادئ مختلفة فالموج ودات التي هاهنا ال يمكن أن توجد فيها خير سياسة‪ ،‬وال نظام يشبه نظام السياسة وخيره‪،‬‬
‫كما أنه إذا كانت الرئاسات كثيرة لم يوجد للسياسة نظام وال استقامة واعتدال‪ ،‬ولذلك قال أرسطو‪ :‬ال خير في كثرة الرؤساء‪،‬‬
‫بل الرئيس الوحيد"‪.‬‬

‫إن الدولة عند أرسطو تقوم على األخالق‪ ،‬لكن منطلقها ليس هو منطلق المنهج األفالطوني الذي ينظر إلى مؤسسة الدولة‬
‫كما يجب أن تكون‪ ،‬غاضا الطرف عن راهنية واقعها‪ .‬فالمنهج األرسطي منهج علمي تحليلي ومبني على المقارنة والتنصيف‪،‬‬
‫قد يكون ذلك راجعا إلى تكوينه الطبي‪ .‬لكنه في نفس الوقت يلتقي مع أفالطون عندما يرى أن الغاية من مؤسسة الدولة‬
‫(المدينة) هي تحقيق الخير العام‪.‬‬

‫ويضيف أرسطو مطالبة هذه المؤسسة بالتمييز بين العدل والظلم وبالمحافظة على القيم العليا‪ .‬بيد أن نظريته السياسية تتخذ‬
‫من األسرة مرتكزها الرئيسي وليس الفرد كما فعل أفالطون‪ ،‬فهو القائل بأن اإلنسان حيوان اجتماعي بطبعه‪ ،‬بمعنى أن كل‬
‫تصور لإلنسان معزول عن طبعه االجتماعي يبقى مجرد فكرة تجريدية‪ .‬فالدولة إذن هي كائن عضوي تتكون خالياه من األسر‬
‫المنتمية إليه‪ ،‬مما يعفي الفرد من أية صلة تجعل الدولة في وضع يخنق حرياته ويحد من استقالليته‪ ،‬وهذه النظرية بطبيعة‬
‫الحال ال تعني النفي المطلق لكل صلة‪ ،‬بل تنسجم تماما مع النهج األرسطي الواقعي‪.‬‬

‫المعطى االجتماعي ضرورة طبيعية الرتقاء اإلنسان‬


‫ليس بإمكان اإلنسان تحقيق الخير إال بالعيش في كنف المجتمع‪ ،‬هذا هو محور كتاب "السياسة" ألرسطو‪ ،‬كما أن الفكر‬
‫العقالني غير ممكن خارج الدولة (المدينة)‪ ،‬وبالتالي ال يمكن تحقيق ما هو معقول بمعزل عن الحياة االجتماعية‪ ،‬وإذا كانت‬
‫السياسة علما أساسيا فألن مصلحة الدولة أسمى من المصلحة الفردية‪ ،‬وهي ضرورية الرتقاء اإلنسان وتحقيق سعادته‪،‬‬
‫سيما وأن السعادة المالئمة لطبيعة اإلنسان تفترض وجود المجتمع الذي يضمن له وضعه البشري‪ ،‬ويسبغ عليه صفة‬
‫المواطن‪ ،‬ويجعله فاعال منتجا‪ .‬فالدولة كتكتل اجتماعي تجعل من اإلنسان كائنا مكتمال ألنها وفرت له شروط هذا اإلنجاز‪ ،‬وهي‬
‫شروط حددها أرسطو في عناصر أربعة‪ :‬النظام والسكينة والسالم والعدل‪.‬‬

‫وبذلك تكون الدولة هي الوسط الطبيعي الذي ي وفر ظروف تحقيق الذات اإلنسانية‪ .‬إنه منظور يستوجب قيام نظام للسلطة‬
‫يكون مبنيا ليس على التعاقد أو على قرار آمر‪ ،‬وإنما على قانون موضوعي‪ ،‬بمعنى مجموعة من القواعد التي تشكل نظاما‬
‫موازيا للنظام العقالني‪ ،‬يلتزم الجميع بموجبه‪ ،‬حكاما ومحكومين‪ .‬وفي ذلك إشارة إلى القانون الطبيعي بطريقة ال تخلو من‬
‫غموض‪.‬‬

‫وعلى أي حال‪ ،‬فبناء األسس الموضوعية للدولة يستدعي المشاركة الفعلية للمحكومين في إدارة شؤون دولتهم مهما كانت‬
‫طبيعة السلطة القائمة أو الحكومات المتعاقبة‪ .‬وهذا هو الشرط الرئيسي للتوافق بين نظام السلطة وحرية الفرد‪ .‬ولكن فيما‬
‫يخص طبيعة المشاركة يبقى على كل فرد أن يساهم ويستفيد حسب مؤهالته واستحقاقاته‪ ،‬ولمزاولة العمل السياسي أو‬
‫ممارسة السلطة في شكلها الهيكلي قدمت النظرية األرسطية ثالثة نماذج حظيت باهتمام رجال السياسة وفقهاء القانون في‬
‫الغرب إلى حدود القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫وهذه النماذج هي‪:‬‬

‫‪ ) 1‬النظام الملكي الذي يرتكز على سلطة زعيم حنكته التجارب‪ ،‬وتكون ممارسة الحكم فيه مبنية على مبدأ المصلحة العامة‪،‬‬
‫وفساد النظام الملكي يعني انقالبه إلى نظام استبدادي تعسفي‪ ،‬بحيث تصبح السلطة وسيلة لتحقيق المصلحة الخاصة وتعبيرا‬
‫لنزوات الزعيم‪.‬‬

‫‪ )2‬النظام ال ذي يرتكز على سلطة نخبة تكونت أصال بهدف تسيير شؤون الحكم‪ ،‬وفساد هذه النخبة يعني تحويلها إلى نظام‬
‫أقلية أوليغارشية يصبح معها الصالح العام في خبر كان‪.‬‬

‫‪ ) 3‬النظام الجمهوري ويعني حكومة الشعب من أجل الحرية‪ ،‬وإذا فسد فإنه ينقلب إلى نظام ديمقراطي بمفهومه الغوغائي‪،‬‬
‫أي ذلك النظام الذي يجعل سلطة الشعب بيد الشعب على حساب طبقة شعبية تم تهميشها (هنا يمكن مقارنة هذا الطرح‬
‫بالمفهوم الشيوعي لديكتاتورية البروليتاريا)‪.‬‬

‫والواضح أن أرسطو ال يعتبر الشعب كال متكامال يخضع جميع أفراده بدون استثناء لمبدأ المساواة‪ ،‬وهو بذلك متأثر بدون‬
‫شك بظروف المجتمع األثيني الذي كان مجتمعا عبوديا حينذاك‪ ،‬تتمتع فيه الطبقة الحاكمة بحريات واسعة‪ .‬لهذا فإن أرسطو ال‬
‫يخفي ميله إلى شكل الحكم األرستقراطي الذي يعطي في نظره أكبر مردودية‪ ،‬ألن من شأن النخبة التي تكونت أصال بهدف‬
‫مزاولة السلطة أن تلقن الشعب أن الحرية ليس معناها الفوضى والتسيب‪ ،‬كما أن احترام القانون ال يعني الخضوع واإلكراه‪.‬‬

‫ولكي تتماسك هذه العناصر على هذا النحو‪ ،‬طور أرسطو نظرية للتوازن بين ما هو فردي وما هو اجتماعي‪ ،‬وأعطى للسعادة‬
‫مفهوم االعتدال وعدم اإلفراط في كل شيء‪ ،‬وهو منهج وسطي‪ .‬ولكي تتحقق مصلحة الفرد ومصلحة الدولة في آن واحد يجب‬
‫مراعاة عنصرين اثنين‪ :‬العدالة واإلنصاف‪ ،‬أما العدالة فتشمل جميع أنماط القوانين المنبثقة عن القانون الطبيعي المبني على‬
‫العقل‪ ،‬ويميز أرسطو بين العدالة التوزيعية األفقية التي تعتمد على مبدأ المساواة في األشياء و الخدمات المتبادلة‪ ،‬والعدالة‬
‫التوزيعية العمودية التي تعتمد على قيم األشخاص المستفيدين من عمليات التبادل‪.‬‬

‫بمعنى أن العدالة ليست منظورا مبنيا فقط على المساواة‪ ،‬ولكنها كذلك تقدير مبني على اإلنصاف‪ .‬وما هو اإلنصاف؟ بالنسبة‬
‫ألرسطو يعد اإلنصاف بمثابة الدرجة العليا للعدالة‪ .‬وأساسه المحبة التي تأخذ بالحسنى والتسامح تجاه الغير‪ .‬واإلنصاف‬
‫عنصر ضروري مكمل ومصحح للعدالة القانونية ألنه يسد ثغرات القانون ويعطيه مرونة وقابلية للتكيف مع أوضاع التطور‬
‫االجتماعي‪.‬‬
‫وتبقى النقطة السوداء في المنهج األرسطي هي أن تعريفه لإلنسان كفاعل سياسي يقتصر تحديدا على اإلنسان الحر األثيني‪،‬‬
‫فالعبيد بالنسبة له ال ينطبق عليهم ال العدالة وال اإلنصاف‪ ،‬ألنهم برابرة متوحشون ينتمون إلى أجناس بشرية منحطة‪،‬‬
‫وخضوعهم للشعب األثيني المعروف بذكائه وشجاعته خضوع طبيعي‪ .‬وفي آخر المطاف يرى أرسطو أن العبيد في الواقع‬
‫مجرد أشياء متحركة ليس لها عقل‪ ،‬وأنهم أداة ضرورية إلسعاد العائلة األثينية وتطوير مستواها االقتصادي‪...‬‬

‫وإجماال يمكن القول إن الفكر األرسطي فتح آفاقا معرفية مثمرة ألنها انكبت على دراسة الواقع من خالل مقاربات محكمة‪،‬‬
‫لكن الواقع السياسي األثيني الذي ارتوى أرسطو من أرستقراطيته دفعه بكل تأكيد إلى تعزيز النظام القائم بخصوصياته السلبية‬
‫واإليجابية على حد سواء‪ .‬إنه لم يرق في هذا المنحى إلى مستوى مثالية أستاذه أفالطون التي كانت سموا فوق المركزية‬
‫األثينية الراضية عن نفسها‪ .‬ماعدا ذلك فإن مكانة أرسطو ستظل بارزة على مسار تطور الفكر اإلنساني قاطبة‬

‫جعيات الفلسفة الغربية ‪ ..- 5 -‬تأثير الرواقية على قانون الرومان‬

‫‪ - 5/28‬الرواقية وتأثيراتها على القانون الروماني‬

‫الكتابات حول الرواقية في مراحلها األولى غير مضبوطة على وجه الدقة‪ ،‬وكل ما هو معروف عن المذهب الرواقي في‬
‫بداياته يعود إلى مصادر غير مباشرة تتسم إما بانتقائيتها وإما بمعارضتها لهذا التيار‪ .‬هذا‪ ،‬وقد نشأت الفلسفة الرواقية مع‬
‫نهاية القرن الرابع وبداية القرن الثالث قبل الميالد‪ ،‬واستمرت تعاليمها في االنتشار إلى حدود القرن السادس الميالدي‪.‬‬
‫وخالفا للمدارس الفلسفية اليونانية األخرى المعاصرة لها‪ ،‬والتي كانت في مجملها سجينة لدائرة الفكر الهيليني‪ ،‬فإن المدرسة‬
‫الرواقية فتحت الباب على مصراعيه أمام تأثيرات خارجية ومنها تأثيرات الديانات الشرقية‪ .‬وبفضلها ارتقى الفكر اليوناني من‬
‫مجاله المتوسطي الضيق إلى مستوى العالمية‪ ،‬ولم تعد مسألة المواطنة مرتبطة بالمدينة وإنما بالعالم‪ .‬لقد أكد زينون‪ ،‬واضع‬
‫أصول الرواقية ومؤسسها األول‪ ،‬على أن البشر ال يجوز لهم أن يتفرقوا إلى مدن‪ ،‬لكل منها قوانينها الخاصة‪ ،‬فالبشر جميعا‬
‫أبناء وطن واحد‪ ،‬إذ أن حياتهم واحدة والكون الذي يعيشون فيه واحد‪ ،‬مثلهم مثل قطيع األغنام الذي يوحده انقياده لقانون‬
‫واحد‪ .‬فاألرض وطن للجميع والخير يجب أن يكون الغاية المنشودة للجميع‪ .‬ومعظم أقطاب المدرسة الرواقية هم من غير‬
‫اليونانيين‪ ،‬بدءا بمؤسسها الفينيقي زينون‪ .‬لهذا ال يمكن اعتبار الرواقية مجرد امتداد للمدارس السقراطية‪ ،‬حتى وإن كانت‬
‫تجمعها بها بعض الخصائص الم شتركة في الشكل والمنهج‪ .‬إنها منطلق جديد لنسق فكري عقالني أخالقي‪ .‬بمعنى أن الفعل‬
‫األخالقي هو ما يصدر عن العقل وبملء إرادة اإلنسان‪ ،‬والفضيلة كل ال يتجزأ ولكن له جوانب متعددة‪ ،‬مثال‪ :‬الشجاعة هي‬
‫الحكمة فيما يجب احتماله‪ ،‬والعدالة هي الحكمة في توزيع الحقوق‪ ،‬والعفة هي الحكمة في اختيار األشياء‪ .‬ومن أقوال زينون‪:‬‬
‫"إن العالم كل عضوي‪ ،‬تتخلله قوة هللا الفاعلة‪ ،‬وإن رأس الحكمة معرفة هذا الكل‪ ،‬مع التأكيد أن اإلنسان‪ ،‬ال يستطيع أن‬
‫يلتمس هذه المعرفة‪ ،‬إالّ إذا كبح جماح عواطفه‪ ،‬وتحرر من االنفعال"‪.‬‬

‫وأما االهتداء إلى قواعد السلوك والوصول إلى السعادة‪ ،‬فإنه يمر وجوبا عبر تصور عقالني للكون‪ ،‬مفاده أن الحياة‬
‫اإلنسانية تحاكي الطبيعة‪ ،‬وهذا هو منطلق المعرفة عند الرواقيين‪.‬‬
‫أسس الفلسفة الرواقية‬

‫الطبيعة بالمفهوم الرواقي تعني "اللغوس" أي ذلك العقل الكوني الذي يعد العقل اإلنساني جزءا منه‪ ،‬وكل ما يحدث هو‬
‫بالضرورة ناتج عن هذا العقل‪ .‬ويبدو أن منهاج التربية الرواقية قد نال ارتياح األثينيين‪ ،‬والدليل على ذلك أنه جاء في‬
‫مرسومين منحهما الشعب األثيني مكافأة لزينون‪" :‬علم زينون الفلسفة لسنين عديدة في مدينتنا‪ ،‬وكان رجال صالحا‪ ،‬دعا‬
‫الفتيان الذين يترددون عليه إلى الفضيلة والعفة‪ ،‬وأخد بأيديهم إلى جادة الصواب‪ ،‬وكانت القدوة التي أعطاها للجميع هي‬
‫حياته بالذات‪ ،‬وكانت مطابقة للنظريات التي شرحها لهم"‪ .‬وتعريف الفلسفة عند الرواقيين يعني "علم األشياء اإللهية‬
‫والبشرية"‪.‬‬

‫إال أن هللا عندهم ليس هو إله األساطير الشعبية‪ ،‬وال ذلك الخير المطلق األفالطوني أو العقل المطلق األرسطي‪ ،‬بل هو إله‬
‫موثوق الصلة بالبشر‪ ،‬إنه صانع الكون الذي تتجلى قوته في كل شيء‪ .‬وعلى الحكيم الرواقي أن يقبل بطبائع األشياء وينسجم‬
‫مع إرادة صانعها بكل ما أوتي من قوة في الفهم واإلدراك‪.‬‬

‫أما المنطق الرواقي فينبني ع لى الصورة النفسية المستمدة من الواقع بعد تصديق إرادي غير مغلوط‪ ،‬وهذا ما يطلق عليه‬
‫الرواقيون مصطلح "التمثل المحيط"‪ ،‬أي القدرة على إنتاج الحكم الصحيح‪ .‬وتعريف زينون للتمثل المحيط هو كالتالي‪" :‬تمثل‬
‫منطبع في النفس‪ ،‬منبثق عن موضوع واقعي‪ ،‬ومطابق لهذا الموضوع‪ ،‬بحيث ما كان ليكون له وجود لوال صدوره عن‬
‫موضوع واقعي"‪ .‬بمعنى آخر أن التمثل هو عبارة عن شروط موضوعية مستقاة من الواقع بهدف إنتاج إدراك صحيح‪.‬‬
‫والتركيز هنا على الوظيفة وليس على الماهية‪ .‬فالتمثل المحيط إذن هو بداية اليقين التي يتساوى فيها الحكيم بالجاهل‪ ،‬ولكن‬
‫التف اوت بينهما يتضح حتما بزيادة هذا اليقين ليصبح علما عند الحكيم‪ ،‬أي بمثابة "اإلدراك الصلب والثابت والراسخ بقوة‬
‫العقل"‪ .‬ونستنتج من ذلك أن التمثل المحيط إطار عام غير مضبوط ولكن من شأنه أن يدفع للتصديق‪ ،‬والتصديق لإلدراك‪،‬‬
‫واإلدراك للعلم‪ .‬والجدل الرواقي ليس جدال ب جوهر األشياء وإنما بمنطوقاتها‪ ،‬إما كاذبة وإما صادقة‪ .‬وهذا ناتج عن نظرة‬
‫عقالنية مبنية في األساس على ترابط الوقائع الكونية وعلى كمال الكون نفسه‪ .‬فكل شيء موجود في هذا الكون يشغل مكانا‬
‫معينا في النظام الكلي‪ ،‬بما في ذلك الزمان والحركة التي هي فعل وليست انتقاال إلى الفعل‪.‬‬

‫وحتى ال تقع في تناقض تؤاخذ عليه‪ ،‬أفرزت الرواقية مبدأ "المزيج الكامل" أو االنصهار التام بين جسمين دون فقدانهما‬
‫لخواصهما‪ ،‬كرائحة البخور التي يحملها الهواء عند استنشاقنا لها مثال‪ ،‬أو كالقهوة التي نشربها وهي متحللة في كتلة الماء‬
‫الممزوج بها‪ .‬وهكذا ي مكن سريان العقل عبر المادة دون اإلخالل بمكونات أو خصائص عناصرها‪ .‬ومن هذا المنظور‪ ،‬فإن‬
‫الرواقية تجنح إلى مزيج من المادية والروحانية‪ ،‬وهي نظرة كوسمولوجية تفيد إعادة األشياء إلى نقطة بدايتها بصفة ال‬
‫متناهية في التكرار‪ .‬وعليه فالرواقيون يعتقدون أن العالم سينتهي باحتراق كلي‪ ،‬وينصهر كل شيء في الجوهر اإللهي ثم‬
‫ينطلق من جديد إلى ما كان عليه من قبل‪ ،‬وهكذا دواليك إلى ما ال نهاية‪.‬‬

‫فالعالم إذن نظام إلهي‪ ،‬وإذا كانت أجزاؤه غير كاملة‪ ،‬فألنها على صلة بالكل وال وجود لها في حد ذاتها‪ .‬وأما قانون الوجود‬
‫فحتمي‪ ،‬يستحيل معه أن يق ع أي حدث خارج الكيفية التي وقع بها فعال‪ .‬وما يسمى بالقدر هو في الواقع رابطة بين العلل‬
‫وليس ترابطا بين العلل والمعلوالت‪ ،‬بمعنى أنه بداية لكل تطور جزئي مهما كان‪ .‬ورغم هذا الطرح المغالي في الحتمية‪ ،‬فإن‬
‫الرواقيين ال يقولون باإلذعان واالنسياق وإنما يحثون على المسايرة اإليجابية بقولهم‪" :‬يجب أن نوفق إرادتنا مع األحداث‬
‫بحيث يأتي ما يطرأ منها موافقا لمشيئتنا"‪.‬‬

‫وتتم هذه المسايرة وفقا لما تميله الطبيعة‪ ،‬لكن هذا ال يعني انعدام حرية الفرد كمعيار للميول التي زودته الطبيعة بها‪ ،‬لذلك‬
‫تبرز الخصوصيات الفردية كطبيعة ثانية مرتبطة بالطبيعة الكلية ومنسجمة معها‪ ،‬وتاركة في نفس الوقت هامشا من الحرية‬
‫إلرادة اإلنسان‪ ،‬وفي ذلك قولهم‪" :‬ال ريب في أنه يتعين علينا أال نأتي شيئا مخالفا للطبيعة الكلية‪ ،‬ولكن يبقى لزاما علينا‪ ،‬بعد‬
‫امتثالنا للطبيعة الكلية‪ ،‬أن نتبع طبيعتنا الخاصة‪ ،‬وحتى لو وقعنا لدى غيرنا على ما هو أفضل‪ ،‬فحتما علينا أن نقيس إرادتنا‬
‫بضبطها وفق طبيعتنا الخاصة"‪ .‬وهذا هو التعبير عن الحرية الرواقية المرتبطة بالشعور الديني والخاضعة لسلطة العقل‪،‬‬
‫بحيث أن العالقة باهلل يميزها االلتزام بما قرره هللا‪ ،‬والمتجلي في كل شيء‪ ،‬وليس الطاعة من أجل الطاعة‪ .‬وخالصة ذلك هو‬
‫أن الرواقية عمل بمبادئ أخالقية مستوحاة من ثالوث هو‪ :‬هللا‪ ،‬الطبيعة‪ ،‬العقل‪.‬‬

‫القانون الروماني والرواقية‬


‫اشتملت تأليف شيشرون الروماني المتأثرة بالمذهب الرواقي على كثير من اإلحاالت والنصوص الرواقية في قضايا متعددة‪،‬‬
‫وخاصة تلك المتعلقة بالقانو ن الطبيعي‪ ،‬يقول شيشرون في أحد مؤلفاته بهذا الصدد‪" :‬هناك قانون حق‪ ،‬إنه العقل المستقيم‬
‫الذي تصدر عنه أوامر مطابقة لهذا القانون الحق‪ ،‬والتي تدفعنا بإلحاح إلى القيام بواجباتنا‪ ،‬وتمنعها من اللجوء إلى الغش‬
‫وتصرف أنظارنا عنه‪ ...‬إن هذا القانون الصادر عن العقل في مرتبة أعلى من السلطة"‪ .‬كما أن الفقيه الروماني المشهور‬
‫أولمبيان‪ ،‬والذي يعود له الفضل في جمع نصوص القانون الروماني لتكون أساسا لمدونة جستينيان‪ ،‬لم يتردد في اعتماد‬
‫التعريف الرواقي للعدالة‪ ،‬وهو‪" :‬الرغبة الدائمة والثابتة في إعطاء كل ذي حق حقه"‪ .‬إال أن هناك من مؤرخي القانون‬
‫الروماني من ينكرون أي تأثير للفلسفة الرواقية على الفكر القانوني الروماني‪ ،‬اعتقادا منهم بأن هذا القانون تبلور عمليا في‬
‫استقاللية شبه تامة عن الدين واألخالق‪ ،‬وحتى بالنسبة لسيادة الدولة يبدو أن أسس القانون الروماني كانت تتميز‬
‫باستقالليتها عنها‪ .‬وه ناك من يرى أن فكرة القانون الطبيعي نفسها‪ ،‬كما تطورت في العصر الروماني كان مصدرها رومانيا‬
‫محضا‪ .‬والواقع أن هذه مجرد إشكاالت مدرسية‪ ،‬ألن الرواقية تسربت بالفعل إلى أصناف كثيرة من الفكر النظري والعلمي‬
‫على حد سواء‪ ،‬وكانت بحق مصدرا بادر الرومان إلى امتتاح تعاليمه ولو نسبيا‪ .‬لقد كانت نظاما أخالقيا تربويا وفلسفيا‬
‫متكامال‪ ،‬هدفها مكافحة الرذائل وفعل الخير مهما صعبت ظروف الحياة‪ ،‬يجسد ذلك قول التاجر الذي اعتنق الرواقية عندما‬
‫أفلس‪ ،‬مصرحا‪" :‬اآلن وقد أصبحت بدون عمل‪ ،‬فإني سأهتم بعمل الخير"‪ .‬وفي نظر الرواقيين أن المجتمعات البشرية ال‬
‫تمتاز عن المجتمعات الحيوانية بروابط العقل واللغة فقط‪ ،‬بل كذلك بمقاومة اللذة‪ .‬ومن النصائح الرواقية في تهذيب النفس‬
‫والسمو بها إلى عالم الفضيلة‪ ،‬مساءلة المرء نفسه كل مساء قبل النوم‪" :‬أي داء شفيت اليوم؟ أي رذيلة قاومت؟ بما أنا‬
‫اليوم أفضل مني باألمس؟" إنها أسئلة موجهة لإلنسانية في كل العصور‪...‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ ..- 6 -‬األخالق في التعاليم األبيقورية‬


‫‪ - 6/28‬األخالق األبيقورية‬

‫في عام ‪ 306‬قبل الميالد فتح أبيقور بأثينا مدرسة أصبحت فيما بعد تعرف باألبيقورية نسبة إلى تعاليم مؤسسها‪ ،‬وكانت‬
‫عبارة عن بستان يجتمع فيه األستاذ بتالمذته وفيه تناقش قضايا فلسفية وأخالقية في جو من الود والحميمية‪ .‬والمعلومات‬
‫حول األبيقورية تعاني من الشح التوثيقي‪ .‬لقد ترك أبيقور مؤلفات كثيرة لكنها ضاعت تقريبا بكاملها‪ ،‬وما وصل منها إلى‬
‫األجيال الالحقة هو عبارة عن رسائل ووثائق تحمل األفكار الرئيسية للمذهب األبيقوري تم العثور على البعض منها سنة‬
‫‪ . 1888‬أما المنبع األصلي لهذا التيار فهو فلسفة ديمقريط الذي عاش في القرن الخامس قبل الميالد والذي كان فكره يدور‬
‫حول محورين‪ :‬األول يخص الكينونة التي يعتبرها مجموعة المتناهية من الذرات‪ ،‬والثاني يبحث في األخالق المؤدية للسعادة‬
‫انطالقا من االعتدال في الرغائب‪.‬‬

‫ولكن بينما كان ديمقريط يعتبر الطبيعة كتلة من الذرات المادية التي تخضع في حركتها لحتمية دقيقة وصارمة‪ ،‬كان أبيقور‬
‫على العكس من ذلك يعتبر الصدفة المطلقة هي األساس لهذه الحركة‪ .‬وبالمقارنة مع الرواقيين فإن األبيقوريين ال يعتمدون‬
‫على النظرية القائمة على وحدانية الكون والتجاذب بين أجزائه‪ ،‬وال على العناية اإللهية أو القدر‪ ،‬وإنما كانوا يعتمدون على‬
‫تصور ألنماط من البداهة واالنفعال واإلحساس والرؤية الذهنية الخاطفة‪ .‬لذا فاألبيقورية ال تهتم اهتماما كبيرا بالعلوم الطبيعية‬
‫في منهجها‪ ،‬بحيث ال يستهويها ال الرياضيات وال علوم الفلك‪ .‬ويرى أبيقور أن الهدف من الطبيعيات كامن في الطبيعيات‬
‫نفسها‪ ،‬ويربط ذلك بانفعاالت النفس اإلنسانية قائال‪" :‬لوال فزعنا من الظواهر الجوية وخوفنا من أن يعني الموت لنا شيئا‪،‬‬
‫وكذلك لو ال جهلنا بحدود اآلالم والرغائب‪ ،‬وهوما يضيق علينا حياتنا‪ ،‬لما كانت بنا الحاجة البتة إلى الطبيعيات"‪ .‬ويجعل‬
‫أبيقور من اإلحساس معيارا للتعرف على الحقيقة‪ ،‬إذ أنه ال يشك في المعلومات التي تزوده بها اإلحساسات‪" :‬القول بأن‬
‫إحساسا ما كذب يعادل القول بأنه ال يمكن لشي ء أن يقع تحت اإلدراك الحسي"‪ .‬بمعنى آخر أن الخطأ ليس ناجما عن اإلدراك‬
‫الحسي‪ ،‬وإنما نتيجة لما أضافه العقل‪ .‬ويضرب المثل بالبرج البعيد الذي نراه مستديرا ولكنه عن قرب يبدو لنا مربعا‪ ،‬ومرد‬
‫هذا التناقص ال يكمن في التناقض الحاصل بين اإلدراكات الحسية‪ ،‬بل فيما أضافه العقل إليها‪ .‬وشعار النظرية األبيقورية يمكن‬
‫اختزاله في‪ :‬الثقة في البداهة المباشرة والشك في اإلضافة العقلية‪ .‬وأما منزلة اإلدراك الحسي من العقل‪ ،‬فاألبيقورية ال تعطي‬
‫جوابا يشفي الغليل‪.‬‬

‫وعلى عكس المدارس الفلسفية األخرى التي تتبنى فكرة البقاء الكلي‪ ،‬بحيث ال شيء يتولد من ال شيء‪ ،‬أو بقاء العالم كوحدة‬
‫ذاتية مكتملة ومتكاملة‪ ،‬إضافة إلى نظرية االحتراق الكلي الرواقية‪ ،‬ترى األبيقورية أن العالم جزء من كل ال متناه من الذرات‬
‫السوابح في خالء ال متناه‪ ،‬مع احتفاظه المظهري المؤقت بشيء من النظام‪ .‬ويترتب عن الكثرة الالمتناهية من الذرات كثرة‬
‫المتناهية من العوالم‪ ،‬مما يعني النفي الواضح لفكرة وحدة العالم‪ .‬وإذا كان هذا الطرح غامضا بعض الشيء فألن األبيقورية‬
‫تنفي وجود أية علة غائية‪ ،‬وتطلق العنان للصدفة والبغتة‪" :‬إن العناصر الكثيرة التعداد يلتئم شملها بألف صورة وصورة‪،‬‬
‫منذ آماد المتناهية‪ ،‬بدافع من الصدمات التي تتلقاها ومن وزنها الذاتي‪ ،‬إنها تجرب كل التراكيب التي في مستطاعها أن تشكلها‬
‫فيما بينها‪ ،‬وبحكم امتحانها لمختلف أنواع االتحاد والحركة تتوصل إلى االجتماع بصورة مباغتة في مجموعات تؤلف أصل‬
‫تلك الكتل الكبرى‪ ،‬كاألرض والبحر والسماء والكائنات الحية"‪ .‬هذا االستسالم إلى قانون الصدفة يؤشر بقصور نظري‪.‬‬
‫وعلى أي حال‪ ،‬لقد أفضى هذا التأويل بالمذهب األبيقوري إلى نفي وحدة الكون واستقالليته الذاتية من جهة‪ ،‬وإلى نفي العلة‬
‫اإللهية من جهة ثانية‪ ،‬مما يعني نوعا من اإللحاد بمعايير ذلك الزمان أو حتى بمعايير العصر الراهن‪ .‬إذ ال ترى األبيقورية في‬
‫الكون إال نجاحا فريدا بعد ألف تجربة فاشلة‪ ،‬لكنها في نفس الوقت تبقى عاجزة عن إعطاء تفسير مقنع ومنسجم مع‬
‫مسلماتها‪ ،‬خاصة إذا قورنت بالتطور التدريجي الذي تعرفه عناصر الموجودات‪ ،‬وكما قال شيشرون‪" :‬كثيرة هي أقوال أبيقور‬
‫الباهرة‪ ،‬ولكن ال يظهر فيها على الدوام تماسك منطقه"‪.‬‬

‫وعلى الرغم من ذلك فإن األبيقورية كان لها تأثير على مسار الفكر الغربي استمر لعدة قرون‪ ،‬وال شك أن مثلها األخالقية‬
‫لعبت دورا ما في هذه االستمرارية‪.‬‬

‫أخالق اللذة األبيقورية‬

‫تنقسم األخالق في التعاليم األبيقورية إلى قسمين من السهل استيعابهما نظريا‪ ،‬لكن من العسير تحقيق التوافق بينهما عمليا‪:‬‬
‫القسم األول يهتم باللذة كغاية في حد ذاتها‪ ،‬يستوي فيها اإلنسان والحيوان اللذان يطلبانها بصفة غريزية تلقائية وطبيعية منذ‬
‫الوالدة‪ ،‬والقسم الثاني يهتم بتحرير اإلنسان من السلوكيات المترتبة عن إشباع اللذة التي تتسبب في إرهاق الحياة العادية‬
‫الهادئة‪ ،‬والحكيم في نظر المذهب األبيقوري هو الذي يسمو إلى هدوء النفس وضياء الفكر والطمأنينة الروحية‪.‬‬

‫وعكس ما ذهبت إليه بعض التأويالت الخاطئة‪ ،‬فإن مفهوم اللذة عند األبيقوريين ال يعني بتاتا االنغماس في الشهوات وما إلى‬
‫ذلك من مظاهر البذخ واالستهالك البهيمي المنحط‪ ،‬وأبيقور نفسه يعرف اللذة كما يلي‪" :‬ليست بهجة الحياة ال في الشراب وال‬
‫في لذة النساء وال في الموائد الفاخرة‪ ،‬وإنما في الفكر الزاهد الذي يميط اللثام عن أسباب كل شهوة وكل نفور ويطرد الظنون‬
‫واألحكام الخاطئة التي تعكر صفو النفوس"‪ .‬وردا على خصومه الذين نعتوا أتباع مذهبه بأنهم جماعة من الفاسقين ال‬
‫يردعهم رادع عن االنغماس في عالم اللهو والفجور‪ ،‬أكد أبيقور بشدة على ما تعنيه اللذة بالنسبة لمذهبه‪" :‬عندما نقول إن‬
‫اللذة هي الغاية‪ ،‬ال نقصد الكالم عن لذة الفساق والماجنين"‪ .‬وبطبيعة الحال ليس هذا نفيا للذة التي تناقض األلم وتعادل‬
‫الخير‪ ،‬وفي ذلك يقول أبيقور‪" :‬ال أستطيع أن أتصور الخير إذا حذفت لذات الذوق ولذات األصوات ولذات األشكال‬
‫المنظورة"‪ .‬وتشكل الصداقة في هذا السياق نوعا من اللذة الحسية التي تؤدي إلى السعادة‪" :‬إن حيازة الصداقة هي الوسيلة‬
‫األهم بما ال يقاس من سائر الوسائل التي تمدنا بها الحكمة للفوز بالسعادة على مدى الحياة"‪.‬‬

‫وبمعنى أشمل وأعمق تعتبر اللذة األبيقورية كسلوك غايته القصوى حذف األلم وإزالته نهائيا‪ ،‬ومتى تم القضاء على األلم‬
‫أمكن للذة أن تتنوع ولكن بدون إسراف وال زيادة‪ .‬فالقناعة مناعة واإلسراف إتالف‪ .‬والحكيم األبيقوري ال يطلب أكثر من‬
‫حاجته‪ ،‬وذلك بعد ضبطه لرغبته في حدها األدنى وقضائه على كل ميوله الرامية إلى الجشع واإلساءة للغير‪ ،‬وكل هذا يتأتى‬
‫بمحاسبة الذات‪ .‬عندها تبرز العدالة كثمرة من أعظم الثمار التي نضجت بفضل طمأنينة النفس‪ ،‬وإذا كانت العدالة عبارة عن‬
‫مواضعات ملزمة بحيث تفرض على أفراد مجتمع معين أن ال يلحقوا الضرر ببعضهم البعض‪ ،‬فإنهم ال بد في مقابل ذلك أن‬
‫يحترموا القوانين التي تضمن لهم الحماية من الوقوع في شباك الظلم‪.‬‬

‫واألبيقورية تدافع عن نظام حكم قوي ولكن شريطة أن يكون هذا النظام ضامنا لحقوق وحريات الفرد‪ .‬وأما القانون الطبيعي‬
‫من وجهة نظرها فإنه ال يعدو كونه تعبيرا عن نية أبناء البشر في عدم إلحاق األذى وممارسة الطغيان فيما بينهم‪ .‬وتعمد‬
‫األبيقورية فيما يخص العمل السياسي إلى نوع من "االنزواء" مبتغية من وراء ذلك تحقيق حرمة النفس وصيانتها‪ ،‬وهو ما‬
‫تعتبره غاية تسمو فوق كل االعتبارات مهما عظمت قيمتها‪ ،‬على أن هذا المنحى ال ينم بتاتا عن أي سلوك مصدره الخوف‪،‬‬
‫الطمع أو التقوقع‪ .‬ففي المذهب األبيقوري "هللا ال يرهب‪ ،‬والموت ال يخيف‪ ،‬والخير سهل االقتناء‪ ،‬والخطر يسير التحمل"‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. - 7 -‬القيم المسيحية تصطدم بالعقالنية‬

‫‪ - 7/28‬بداية الحضارة الغربية تحت ردائها المسيحي‬

‫ظهور المسيحية في بيئة غير يونانية ودخولها معترك األفكار والمذاهب التي ميزت إقالع الحضارة الغربية تحت الزعامة‬
‫الرومانية‪ ،‬ال شك أنه كان حدثا تاريخيا بكل المفاهيم والمقاييس‪ ،‬بل يمكن القول إن انقالبا حضاريا طرأ على مسيرة الفكر‬
‫الغربي الذي بدأت أسسه العقالنية تتراجع أمام تنامي قيم روحية تختلف شكال ومضمونا مع المرجعية الهيلينية بشتى‬
‫مكوناتها وتبايناتها‪ .‬والسؤال الوجيه هو‪ :‬ما مدى االنعك اسات الفعلية لهذا التحول في مسيرة الفكر هذه؟ موضوع من هذا‬
‫الحجم البد وأن تكون مناقشته قد تمت على أكثر من صعيد‪ ،‬ولكن بدون استخالص لنتائج نهائية وحاسمة‪ ،‬نظرا لطبيعته‬
‫البالغة التعقيد من جهة‪ ،‬ولكونه ربما ال يستدعي الحسم النهائي في مجال تكمن حيويته في انفتاحه المتواصل على مبدأ‬
‫التساؤالت المتجددة‪.‬‬

‫وعلى أي حال‪ ،‬فإن األجوبة عن السؤال المطروح تعددت حسب خلفيات الجهات التي تقدمت بها‪ .‬فهناك من يرى أنه ال أهمية‬
‫لهذا الحدث على اإلطالق‪ ،‬لكن سرعان ما يتبين أن هذا الرد هو عبارة عن استراتيجية مبنية على احتمالين متعارضين‪ :‬إما‬
‫حفاظا على نقاوة المسيحية اإلنجيلية وتعزيزا لفكرة الخالص عن طريق المسيح‪ ،‬وإما ضمانا الستقاللية النزعة العقالنية‬
‫وتثبيتا لمشروعية استمراريتها‪ .‬فاالحتمال األول كان مطابقا لوجهة نظر المؤرخين البروتستانت األوائل الذين كانوا يرون أن‬
‫ما أضيف في القرون الخمسة األ ولى على اإلنجيل والقديس بول في مجال أصول العقيدة هو في الواقع مجرد إقحام‪ ،‬بل‬
‫وإضافة خطيرة للعقالنية اليونانية‪ .‬ويتجلى ذلك على وجه الخصوص في طبيعة "الكلمة" و"الثالوث"‪ .‬وأما االحتمال الثاني‬
‫فهو الذي قال به أصحاب نظرية التقدم التي تبلورت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميالدي‪ ،‬ومفاده أن الفكر‬
‫اإلنساني كان بالفعل دائما مرتبطا بالعلوم العقلية اليونانية بدون تأثير من المسيحية‪ ،‬ومنذ رياضيات بطولومى في القرن‬
‫الثاني الميالدي إلى الثورة الكوبرنيكية في القرن الخامس عشر تمت هذه المسيرة العقالنية بمعزل عن الفكر المسيحي‪ ،‬وإذا‬
‫كان هذا األخير قد تدخل أكثر من مرة فإن ذلك لم يكن بهدف الدعم والمساندة وإنما بهدف العرقلة ليس إال‪.‬‬

‫وهناك من يرى أن المسيحية كانت بمثابة تصور جديد للكون وللعالقات االجتماعية‪ ،‬ومساهمة حقيقية في الفكر اإلنساني‪.‬‬
‫وتتجلى أصالتها في جانب ال يقبل االخت زال من الوجود‪ ،‬ويقصد بهذا الجانب كل ما يتعلق بالذات والقلب والعاطفة والوجدان‪.‬‬
‫ويذهب هيجل على سبيل المثال إلى اإلقرار بأن المثالية التي جعلت من الطبيعة الحميمة للذات مبدأ تطور لكل واقع ووجود ما‬
‫كان لها أن تتطور لوال الحضارة المسيحية‪ .‬وهذا ال يمنع من استدراك اإلشارة إلى أن المسيحية في بداياتها لم تكن تأملية‬
‫بتاتا‪ ،‬بل كانت تعبيرا عن مجهود تآزري وروحي أبان عنه معتنقوها بشكل مستميت طيلة أحقاب من االضطهادات‬
‫واالنشقاقات‪.‬‬

‫وأما البعد التأملي المتأخر‪ ،‬فلقد انضاف إليها نتيجة الحتكاكها بالفكر اليوناني‪ .‬السيما إذا علمنا بأن "الخطيئة" في منحاها‬
‫التأملي كانت تبدو حاضرة بشكل من األشكال في التصور اإلغريقي قبل انتصار المسيحية وتطوير منهجها الفكري‪ .‬وعلى‬
‫مستوى آخر يبدو أن تيار العقالنية الهيلينية هو الذي أثر سلبا على انتشار المسيحية في القرون األولى‪ .‬فمثال المذهب‬
‫البيالجي االنش قاقي كان متأثرا بالمدرسة الرواقية التي ترى أن أخطاء واستحقاقات اإلنسان منوطة به هو نفسه وليس بغيره‪،‬‬
‫لذلك كان بالجيوس‪ ،‬مؤسس المذهب‪ ،‬يقول‪" :‬لو كانت خطيئة اَدم تضر حتى بأولئك الذين ال يقارفون الخطيئة‪ ،‬لتحتم أن يفيد‬
‫عدل المسيح حتى أولئك الذين ال يؤمنون"‪ .‬ويوضح قائال‪" :‬ال نستطيع أن نسلم بحال من األحوال بأن هللا الذي يغفر لنا‬
‫خطايانا‪ ،‬يسند إلينا خطايا غيرنا"‪.‬‬

‫مواجهة بين المسيحية والفلسفة‬

‫يستنتج مؤرخ الفلسفة‪ ،‬ايميل برييى‪ ،‬من تناوله لهذا الموضوع أن تطور الفكر الفلسفي لم يكن متأثرا بالمسيحية‪ ،‬ويذهب‬
‫إلى أكثر من ذلك ح يث يقول بعدم وجود فلسفة مسيحية‪ .‬وهناك من المفكرين المسيحيين من يشددون على استحالة التوافق‬
‫بين المسيحية والفلسفة اليونانية‪ ،‬ويتجلى التناقض بين هذين االتجاهين على الخصوص في تعيينهما لأللوهية نفس المنزلة‬
‫التي تقتضي تراتب الوجود والموجودات‪.‬‬

‫وللتذكير‪ ،‬فإنه بالن سبة ألفالطون والرواقيين تشمل الماهية اإللهية ليس هللا فقط بل حتى النفوس والعالم والكواكب باعتبارها‬
‫كلها موجودات إلهية‪ ،‬بينما األلوهية المسيحية تقتصر تحديدا على الثالوث األقدس وفي بعض األحيان كانت المواجهة بين‬
‫الفلسفة والدين تصل إلى حد اإلنكار التام ألية عال قة‪ .‬وكان ترتيليان‪ ،‬وهو من زعماء الكنيسة في الشمال اإلفريقي الروماني‬
‫في القرن الثالث الميالدي‪ ،‬ممن تحامل على الفكر الفلسفي اليوناني قاطبة‪ ،‬وال يرى في اعتقاده أي ترابط ممكن بين أثينا‬
‫وأورشليم‪ ،‬وكتب معبرا عن معارضته بلهجة ال تخلو من مبالغة‪" :‬إننا بريؤون من الذين ابتدعوا مسيحية رواقية أو‬
‫أفالطونية أو جدلية‪ ،‬بعد المسيح واإلنجيل لسنا بحاجة إلى أي شيء"‪ .‬وهاجم الفالسفة في أخالقهم مدعيا أن خير ما في‬
‫مذاهبهم يعود إلى التوراة‪ ،‬وأن البدع المسيحية والتيارات االنشقاقية سببها الوحيد هو الفلسفة عدوة الدين‪ ،‬وينعت أرسطو‬
‫بـ" الشقي"‪ .‬ويعيب ترتيليان على كل من اتخذ من الفكر الفلسفي منهجا‪ .‬وابتكر هو شخصيا منهجا جديدا أسماه "استنطاق‬
‫النفس"‪ ،‬وبالطبع يقصد النفس بمفهومها المسيحي التي تميل من صميمها إلى الدين وخاصة في أوقات الشدة‪ ،‬وهو منهج‬
‫صار عليه كثير من المفكرين المسيحيين من بعده‪.‬‬
‫واختصارا لكل هذا الجدال نطرح هذا السؤال‪ :‬هل كانت المسيحية وباال على تقدم الحضارة الغربية في نزعتها العقالنية‪،‬‬
‫وبالتالي كارثة فكرية أجلت تقدم اإلنسانية لقرون عديدة‪ ،‬أم على العكس من ذلك كانت بمثابة إضافة ثمينة إلى الزخم الفكري‬
‫والتالقح المنهجي الذي بفضله انقش عت أجزاء كبيرة من غيوم الجهل التي كانت تلف قطاعات واسعة من المجتمعات البشرية؟‬
‫الواقع أنه سؤال مركب تصعب اإلجابة عنه بأسلوب اليقين‪.‬‬

‫فمن الناحية التاريخية أكيد أن المسيحية أصبحت تدريجيا عنصر هوية لمجتمعات عريضة شرقا وغربا‪ ،‬تتقاسم االنتماء إلى‬
‫قيم روحية مشترك ة وتؤلف عالما مسيحيا بمده وجزره‪ ،‬مما شكل فرصا جديدة للتقارب والتفاعل بين مجتمعات هذا العالم‬
‫الجديد وبقية المجتمعات غير المسيحية‪ .‬أما من الناحية الثقافية والمعرفية فلقد تم ترسيخ مفهوم الدين كعقيدة ترتكز دائما‬
‫على اإليمان في مقابل مفهوم الفلسفة كمنهج عقلي ير كن غالبا إلى البرهان‪ .‬وبالفعل جاءت عمليات األخذ والرد بين‬
‫المفهومين لتفتح آفاقا جديدة إلخصاب الفكر اإلنساني عامة‪ .‬وما كان لمسألة التركيز على العقل واإليمان أن تعرف تطورا‬
‫ملحوظا لوال تلك النزعات والتساؤالت التي واكبت ظهور الفكر المسيحي في نمطه الحضاري الغربي‪ ،‬ومن البديهي أن ذلك‬
‫من شأنه أن ينعكس سلبا أو إيجابا على مفهوم وممارسة حقوق اإلنسان‪ ،‬فكلما حدث تغيير في مرجعية معينة إال ونتج عنه‬
‫بالضرورة إما تعديل جزئي وإما تحول كلي لمدلوالتها المفاهيمية وإجراءاتها العملية‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. -8-‬األوغسطنية وتالحم المطلق بالنسبي‬

‫‪ - 8/28‬األوغسطنية وتالحم المطلق بالنسبي‬

‫ولد القديس أوسطين بطاجستا النوميدية (المعروفة اليوم بسوق أهراس بالجزائر) عام ‪354‬م وتوفي عام ‪430‬م‪ .‬اعتنق‬
‫المسيحية وهو في سن الثالثة والثالثين من عمره‪ ،‬وعاصر غزو القوط ألثينا وسقوط روما التي كانت عصرئذ معقال‬
‫للمسيحية‪ .‬فكان من الطبيعي أن يتأثر بأحداث عصره على المستويين الفكري والروحي‪ .‬ويعد أوغسطين بالنسبة للحضارة‬
‫الغربية طيلة العصر الوسيط معلمها ومثقفها األول بدون منازع‪ ،‬وهي فترة تبتدئ بانهيار اإلمبراطورية الرومانية في القرن‬
‫السادس الميالدي وتنتهي بقيام اإلصالح الديني في القرن الخامس عشر‪ ،‬مع العلم أن أوغسطين ال يزال حتى يوم الناس هذا‬
‫يحظى باهتمام وتقدير الكنيسة الكاثوليكية باعتباره علما من أعالم الفكر المسيحي المرموقين‪.‬‬

‫ارتوى أوغسطين من أمهات الفكر الفلسفي اليوناني ومن روائع اآلداب الالتينية قبل أن يجد ضالته في الدين المسيحي‪،‬‬
‫ليحقق بذلك انصهارا منهجيا وامتدادا ثقافيا بين منظومة الفكر اليوناني والتعاليم المسيحية في حلتها الغربية‪ .‬ولم يبدأ الكتابة‬
‫إال بعد اطالعه على إنتاجات المدرسة األفالطونية‪ .‬وهكذا عالج مسألة اليقين معتبرا إياها أم المسائل‪ ،‬وخصص لها كتابه‬
‫"الرد على األكاديميين"‪ ،‬كما قام بتدوين كتاب في "الحياة السعيدة" وآخر في "خلود النفس" وفيه تناول مسألة اإليمان من‬
‫وجهة نظر عقالنية‪ ،‬وألف كتبا عديدة أخرى ومنها "االعترافات" الذي نال شهرة كبيرة على الساحة األدبية الغربية‪ .‬وعلى‬
‫إثر سقوط روما سنة ‪ 410‬م‪ ،‬استولي على العالم آنذاك ذهول لم يسبق له مثيل‪ ،‬والسبب في ذلك كان راجعا إلى االعتقاد السائد‬
‫حينها بأن روما ال تقهر‪ .‬وكانت تأويالت الوثنيين بهذا الصدد كلها تصب في اتجاه واحد‪ ،‬وهو غضب اآللهة على المدينة‪،‬‬
‫الشيء الذي جعلهم يتخلون عنها‪ ،‬أل نها حسب هذا االعتقاد تهاونت في مقاومة انتشار المسيحية في أرجاء اإلمبراطورية ولم‬
‫تعد تعتني بالشعائر الوثنية‪ ،‬وكان هذا الحدث التاريخي هو الذي دفع القديس أوغسطين إلى تأليف أهم كتبه وأكثرها انتشارا‬
‫تحت عنوان "مدينة هللا" الذي استغرق إنجازه حوالي ثالث عشرة سنة‪ ،‬أضاف إليه قبيل وفاته بثالث سنوات مؤلفا بعنوان‬
‫"االستدراكات"‪ .‬وهذا الكتاب األخير كان في الواقع نقطة فاصلة بينه وبين التيار األفالطوني الجديد الذي كان يتزعمه‬
‫أفلوطين في القرن الثالث الميالدي‪ ،‬والذي عرف تطورا متواصال فيما بعد‪ .‬يقول أوغسطين في كتابه "الرد على األكاديميين"‬
‫بصدد هذا التيار‪" :‬إن أفلوطين شديد الشبه بأفالطون حتى ليمكن االعتقاد بأن أفالطون بُعث في أفلوطين"‪ .‬ولقد كان ينعت‬
‫أصحاب هذا التيار بالكفار‪ ،‬لكنه مع ذلك لم يعلن صراحة القطيعة مع المذهب األفالطوني عموما‪ ،‬ربما ألنه كان ينظر إلى‬
‫مستقبل المسيحية عل ى أساس كونه رهينا بتالزم الفلسفة للدين وتالزم الدين للفلسفة؟ مما يحيلنا على مقولة مشهورة‪ :‬قليل‬
‫من الفلسفة يبعدنا عن هللا وكثير منها يرجعنا إليه‪.‬‬

‫التحليل االجتماعي األوغسطيني‬

‫ال يمكن لهذا التحليل إال أن يكون مسيحيا في مقاربته ومسلماته‪ .‬لقد شكل سقوط روما وما تاله من تعاليق متضاربة في‬
‫األوساط الوثنية والمسيحية على السواء نقطة استفهام كبيرة عند أوغسطين‪ :‬ما هي أسباب هذا السقوط؟‬

‫سؤال كرس له أوغسطين عصارة تفكيره المفعم بالروح المسيحية‪ ،‬وكانت الحصيلة هي ما ورد في كتابه "مدينة هللا" من‬
‫تحليالت وشروحات تدور كلها حول فكرة محورية غير معبر عنها بصريح العبارة‪ ،‬وهي ضرورة تحقيق التالحم والترابط بين‬
‫الواقع الدنيوي والمقتضيات األخروية المستقاة من صميم النهج المسيحي‪.‬‬

‫ينطلق أوغسطين من أن مصدر الشر على وجه األرض سببه معصية آدم لربه‪ .‬نعم‪ ،‬لقد تفرقت الناس إلى جماعات وطوائف‬
‫تربط بي نهم المحبة في إطار المدينة (الدولة)‪ ،‬لكن هذه المحبة محبتان‪ :‬محبة الذات إلى حد امتهان هللا ومحبة هللا إلى حد‬
‫احتقار الذات‪ .‬حصل إذن اختالل ترتب عنه وجود مدينتين‪ :‬واحدة أرضية والثانية سماوية‪ .‬األولى تعمل على نصرة الظلم وقد‬
‫بلغت أوج عظمتها في اإلمبراطورية الرو مانية‪ ،‬والثانية تجاهد في سبيل العدالة ويعني بها الجماعات المسحية‪ .‬ولكن رغم‬
‫هذا التقسيم ظلت العالقة قائمة بين المدينتين‪ ،‬ولما جاء المسيح حددها في هذه القاعدة‪ :‬أَع ِْط ما لقيصر وما هلل هلل‪ .‬لهذا‬
‫فاالنتماء إلى إحدى المدينتين يكون بمحض إرادة اإلنسان‪ ،‬لكن حرية اإلرادة مشروطة بخضوعها للقانون‪ ،‬واإلرادة من‬
‫جهتها تخضع لحواس العقل‪ ،‬والعقل يخضع هلل‪ ،‬وهللا هو «المعلم الباطن"‪ .‬مما يعني استناد أوغسطين إلى شهادة‬
‫"الوجدان"‪.‬‬

‫لم يبقى هذا الطرح مجرد فكرة غامضة تحاول جاهدة أن تحقق مالءمة الشعور الديني المسيحي مع واقع دنيوي قد يهدد‬
‫مصير المسيحية كنظام شامل‪ ،‬بل أثار اهتماما بالغا لدى السلطة الزمنية‪ ،‬وهكذا لما أقام شرلمان إمبراطوريته في نهاية القرن‬
‫الثامن تم منحه لقب "اإلمبراطور المتوج بفضل هللا"‪ .‬وكان البابا ليو هو الذي وضع التاج على رأسه مباشرة بعد اختتام‬
‫الصالة بكنيسة القديس بطرس يوم ‪ 25‬دجنبر ‪ 800‬م‪ .‬ومنذ ذلك اليوم أصبح هذا الحدث في الفكر الغربي رمزا لتحقيق التالحم‬
‫بين المدينتين السماوية واألرضية‪ ،‬أي بين المطلق والنسبي‪ ،‬وهو ما سعى فالسفة المسيحية وفقهاؤها من أجل تبريره‬
‫وتعزيزه آنذاك‪.‬‬

‫وأعطى القديس أوغسطين مفهوما جديدا للقانون الطبيعي مخافة تعارضه مع الديانة المسيحية‪ ،‬فجاء تركيزه على بناء‬
‫الحياة االجتماعية انطالقا من القانون الطبيعي بوصفه مجموعة من القواعد يكتشفها الناس عن طريق العقل ويحترمونها تبعا‬
‫لذلك‪ .‬على أن أوغسطين يؤكد على مبدأين رئيسيين‪ :‬األول هو أال يصنع المرء باآلخرين ما ال يريد أن يصنع به‪ ،‬والثاني‬
‫إعطاء لكل ذي حق حقه‪ .‬ونظرا لكون آدم عصى ربه فها هو اآلن يعيش انحطاطا كعقوبة إلهية على عصيانه‪ ،‬لكن في نفس‬
‫الوقت انحطت معه ذريته‪ ،‬ويرى أوغسطين أن اختالل طبيعة اإلنسان هو الذي جعل من القانون الوضعي وجزاءاته تقريرا‬
‫حتميا‪ ،‬وتطبيق هذا الق انون يكون بالقوة إن اقتضى الحال ألن في ذلك طمأنينة لألخيار حسب تعبير أوغسطين‪ ،‬وبالتالي‬
‫فالسلطة الزمنية نظام طبيعي ألن هذا النظام وجد بهدف تصحيح االختالالت الطبيعية اإلنسانية الخاطئة‪.‬‬

‫ال شك أن األوضاع المتردية التي كانت تعيشها المسيحية زمن أوغسطين هي التي دفعته إلى تمجيد الوضع القائم بإضفاء‬
‫المشروعة "الطبيعية" عليه‪ .‬ومهما يكن من أمر فإن كل هذه العناصر الجديدة في جوهرها حملتها المسيحية إلى الفكر‬
‫الغربي لترسم له مسارا حضاريا جديدا‪.‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. -9-‬السياسة واإلنسان في فكر األكويني‬


‫‪ - 9/28‬السياسة واإلنسان في فكر طوما األكويني‬

‫ينتمي طوما األكويني (‪ ) 1273/1225‬إلى عائلة أرستقراطية من جنوب إيطاليا‪ .‬تلقى تعليمه في كل من جامعة نابولي‬
‫وجامعة باريس التي زوال بها مهنة التدريس لعدة سنوات‪ .‬لقد كان ابن القرن الثالث عشر الميالدي‪ ،‬ذلك القرن الذي ازدهرت‬
‫ف يه النظريات الرشدية في األوساط الغربية حتى أنها ضايقته في معارفه وفي إيمانه‪ ،‬فرد عليها بكتاب تحت عنوان‪" :‬في‬
‫وحدة العقل للرد على الرشدية"‪ .‬علما بأنه كان في جانب كبير من دراساته يعتمد على آراء ابن رشد والغزالي وابن سينا‪.‬‬
‫وكان شغله الشاغل هو إيجاد قاعدة توفيق ية بين الفلسفة والدين‪ .‬لهذا اعتبرته الكنيسة معلمها البارز ومرجعها المتين في‬
‫الالهوت والفلسفة السكوالستيكية (المدرسية)‪ ،‬بحيث لم تكن دراساته لألرسطية واألوغسطنية واألفالطونية الجديدة‬
‫والرشدية‪ ،‬إال بهدف الدفاع عن المسيحية‪ .‬ولكونه من أتباع التنظيم الرهباني الدومينكاني فلقد كتب مؤلفا تبشيريا بعنوان‬
‫"الرد على الخوارج" ويعني به الخارجين عن المسيحية‪ .‬وبالفعل لقد جعله وثيقة مرجعية لدى مبشري تنظيمه الرهباني في‬
‫كل من األندلس والمغرب حينذاك‪.‬‬

‫والكتاب المشار إليه كان عبارة عن دعاية تبشيرية كتبت بأسلوب فلسفي‪ ،‬وفيه يتطرق كاتبه لوجود هللا وصفاته‪ ،‬والجواهر‬
‫العقلية وقدم العالم‪ ،‬واإلنسان وغاية األشياء‪ ،‬والخوارق والعناية اإللهية‪ ،‬وما إلى ذلك من المفاهيم المعروضة بخلفية‬
‫مسيحية‪ .‬وأولى طوما األكويني أهمية خاصة لفلسفة أرسطو وشروحاتها الرشدية‪ ،‬لكنه شوهها من خالل تأويله لما لم يكن‬
‫متف قا معه من األفكار والنظريات التي تحملها‪ ،‬وكذا إقرار زيادات ال يرى أنها تتنافى معها أو أنها قد تكون مكملة لها‪ .‬وواضح‬
‫أن غرضه كان من وراء ذلك هو تقديم أرسطو وكأنه مسيحي في فكره وفلسفته‪ ،‬لذلك فهو يعتبر مؤسسا لتيار األرسطية‬
‫المسيحية‪.‬‬

‫وبصفة إجمالية فإن المذهب الطومي يتميز بكونه روحانية مبنية على المركزية الربوبية الراديكالية‪ ،‬وهذا معناه أن هللا هو‬
‫مصدر كل شيء‪ ،‬وهو الماسك لكل شيء‪ ،‬وإليه يرجع كل شيء‪ .‬ولم يتزحزح قيد أنملة عن هذا الخط الذي رسمه لنفسه قصد‬
‫التعبير عن نهجه‪ .‬ففي أهم وأكبر مؤلفاته المعروف بما أسماه "المجموعة الالهوتية" استهل طوما األكويني كالمه بتقديم‬
‫الطريقة المنهجية التي اعتمدها في ترتيب ودراسة الالهوت‪" :‬لما كان الغرض المقصود بالذات في هذا التعليم الالهوتي هو‬
‫تعريف هللا في ذاته‪ ،‬ومن حيث هو مبدأ األشياء‪ ،‬ومن حيث هو غايتها‪ .‬فسنبحث في هللا أوال‪ ،‬وفي حركة الخليقة الناطقة إليه‬
‫ثانيا‪ ،‬وفي المسيح الذي هو الطريق إليه ثالثا"‪.‬‬

‫هذا ولم يكن من السهل على طوما األكويني تحقيق ما كان يصبو إليه من انتصار للفكر الالهوتي المسيحي‪ ،‬فمن جهة كان‬
‫اإلسالم في أعز مظاهر قواه الحضارية والثقافية الفاعلة‪ ،‬بحيث كان من الصعب التصدي له والنيل منه‪ ،‬خاصة بعد فشل‬
‫الحمالت الصليبية آنذاك‪ .‬ومن جهة أخرى كانت الكنيسة تعتمد على نظام إقطاعي متشرذم‪ ،‬وكان ذلك نتيجة لتفتيت السلطة‬
‫الزمنية الممثلة في اإلمبراطورية الرومانية المتهالكة‪ .‬وينضاف إلى ذلك ظهور الحركة العلمانية التي كانت الجامعات منطلقها‬
‫األو ل‪ .‬ولهذا سعى طوما األكويني إلى بناء فكره على نهج عقالني بطابع مسيحي يرجى منه الصمود على جميع الجبهات‪.‬‬

‫اإلنسان بالعقل واإليمان‬


‫في التحليل الطومي يأتي اإلنسان في المرتبة الثانية من مراتب الخليقة بعد المالئكة وقبل العجماوات‪ .‬وهذا الترتيب يعتبر‬
‫ترتيبا طبيعيا ل لوجود‪ ،‬وبالطبع يطرح عدة تساؤالت حول مبدأ األشياء‪ ،‬وأول سؤال هو‪ :‬هل هللا موجود؟ والحل المنهجي الذي‬
‫اعتمده طوما كان حال مبنيا على العقل واإليمان في نفس الوقت‪ .‬والعقل هنا ال يسمو فوق اإليمان وإنما يظل دائما تابعا له‪،‬‬
‫وبه يمكن الوصول إلى معرفة الوجود‪ .‬والقاعدة تفترض االنطالق من المالحظة األولية للموجودات الطبيعية مع إسناد ذلك‬
‫إلى مبدأ العلية‪ ،‬بحيث توجد علل لكل المعلوالت الموجودة في العالم‪ ،‬وال يمكن للعقل أن يدلنا على التسلسل الالمتناهي للعلل‪،‬‬
‫إذ ال بد له أن يقف عند علة أولى‪ ،‬وهذه العلة األولي هي هللا‪ .‬وهذا كل ما يستطيع العقل القيام به‪ ،‬حيث أنه من المستحيل على‬
‫عقل اإلنسان أن يتخطى فكرة وجود هللا ليأتي ببرهان على هذا الوجود إال باإليمان‪ ،‬وما اإلنسان إال موجود من الموجودات‪.‬‬
‫وهكذا برز عنصر اإليمان كسالح يدافع به طوما عن تماسك نظريته‪ ،‬فمثال مسألة قدم العالم أو حدوثه التي شغلت الفالسفة‬
‫تطرق إليها من زاوية النفي لمشروعية طرحها‪ ،‬بحيث يرى أن العالم ال هو قديم قدم هللا وال هو مخلوق في الزمان أو حادث‪.‬‬
‫لماذا؟ ألن هللا ال يريد بالضرورة إال ذاته‪ ،‬ويريد ما دون ذلك باالختيار‪.‬‬

‫بمعنى أوضح أنه ال سلطة على مشيئة هللا الذي قد يريد العالم قديما وقد يريده حادثا‪ ،‬وأما اختيار هذا الرأي دون اآلخر‬
‫فيعتمد أساسا على اإليمان‪ ،‬مما يفيد أن اإليمان هو الذي يعلمنا بأن العالم حادث أو قديم‪ .‬بعد هذا فقط يمكن للعقل أن يتدخل‬
‫للبحث عن البرهان فيما هو موجود‪ .‬وأما اإلرادة فهي من المكونات العقلية لإلنسان‪ .‬بعبارة وجيزة‪ :‬اإلنسان يريد إذن فهو‬
‫عاقل‪.‬‬

‫وطبيعة نشاط العقل تتجلى في إدراكه للكليات من خالل الحواس التي تنقل إليه الجزئيات‪ ،‬وارتباط اإلرادة به هو ارتباط‬
‫غائي‪ ،‬يستهدف الخير الكلي الذي هو هللا‪ .‬وهكذا يخلص طوما األكويني إلى أن العقل إشراق إلهي يساعد اإلنسان على إدراك‬
‫وجود هللا باإليمان ثم االستدالل عليه‪.‬‬

‫وحدة القرار السياسي‬

‫تؤكد الطومية على أن الجماعات البشرية مبنية على العقل واإلرادة‪ ،‬لذلك فهي قائمة على قاعدة تعاقدية‪ .‬لقد قدم شيشرون‬
‫تعريفا مفاده أن الجماعة "كثرة منظمة خاضعة لقانون عادل يرتضيه الفرد ابتغاء منفعة مشتركة"‪ .‬وجاء من بعده أوغسطين‬
‫منتقدا هذا التعريف ومعتبرا أن العدالة الكاملة مستحيلة خارج المسيحية‪ ،‬وأعطى تعريفا يقضي بأن الجماعة "اتحاد أفراد‬
‫عاقلين لالستمتاع معا بما يحبون"‪ .‬وهو تعريف غير مضبوط طالما أن هؤالء األفراد قد يحبون أشياء كثيرة‪ ،‬منها الثروة‬
‫وح تى الحروب‪ .‬لذلك كان طوما األكويني يميل إلى تعريف شيشرون‪ ،‬سيما وأن هذا األخير يقر بمبدأ القانون الطبيعي‪ ،‬وهذا‬
‫في نظر طوما يحيل وجوبا على القانون األزلي‪.‬‬

‫ومن وجهة نظر الطومية لقد أوجد هللا اإلنسان مدنيا بطبعه ومياال بالبديهية إلى الحق والخير‪ ،‬لذلك كان هللا مصدرا لكل‬
‫سلطة‪ .‬وأما الغاية من الحياة االجتماعية فليست هي االستمتاع وإنما هي كامنة في استكمال الفرد لطبيعته اإلنسانية‪ .‬وفيما‬
‫يخص الدولة فإن مهمتها تقتصر على مساعدة الفرد من أجل استكمال إنسانيته الناقصة‪ ،‬وتبقى األخالق والدين من مهام‬
‫الكنيسة‪ .‬وبما أن الغاية ا لزمنية خاضعة للغاية األبدية فإن على الدولة أن تخضع للكنيسة‪ .‬وفي معرضها ألنظمة الحكم ترى‬
‫الطومية أن أفضل هذه األنظمة هو النظام الذي يعتمد على سلطة الملك أو الفرد الفاضل‪ ،‬ألن هذا النمط مطابق للطبيعة‪ ،‬حيث‬
‫أن األشياء على مستوى التدبير قائمة على مبدأ الوحدة‪ ،‬فاهلل وحده يدبر العالم‪ ،‬لكن الطومية تضيف ضرورة االنتخاب فيما‬
‫يخص الملك‪ .‬وما دامت األنظمة في طبيعتها مهددة بالفساد‪ ،‬ألن اإلنسان لم يستكمل إنسانيته بعد‪ ،‬فإنه يتضح من الناحية‬
‫العملية ضرورة اعتماد نظام وسطي يتمثل في ملكية يساندها مجلس من أخيار الناس يتولى الشعب انتخابهم‪ .‬وهو النظام‬
‫الذي سنه هللا لموسى‪ :‬حيث كان موسى يمارس الحكم بمساعدة اثنين وسبعين من الحكماء الذين اختارهم الشعب‪ ،‬بينما كان‬
‫اختيار الملك (الموحى إليه) من هللا‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ـ ‪ .. - 10‬المذهب اإلسمي وفصل الدين‬

‫‪ - 10/28‬المذهب اإلسمي وفصل الدين عن الفلسفة‬

‫خالفا للمذهب الطومي الذي كان يبحث جاهدا عن التوفيق بين الفلسفة والتعاليم الدينية المسيحية‪ ،‬جاء المذهب اإلسمي‬
‫بزعامة كيوم أوف أوكام (‪ ) 1349/1295‬ليعطي انطالقة لمنظور يتسم بعلمانية غير مقصودة لذاتها‪ ،‬وإنما هو اتجاه يتسم قبل‬
‫كل شيء بنقده للفلسفة وإعالنه عن ضرورة فصلها عن الدين‪ ،‬وهذا بالتالي يقود إلى فصل الدين عن الدولة‪ ،‬وكان أوكام‪ ،‬إلى‬
‫جانب ثلة من زمالئه األساتذة بجامعة أكسفورد‪ ،‬من واضعي أسس العلم التجريبي الحديث‪.‬‬

‫النظرية اإلسمية‬

‫تنقسم المعرفة عند أوكام إلى حدسية وأساسها اإلحساس‪ ،‬وإلى حدسية تجريدية وأساسها العقل‪ ،‬وكال القسمين مطابق‬
‫للواقع‪.‬‬

‫ونظرا لكون المعاني مجردة والعالقات فيما بين المعاني مجردة هي األخرى‪ ،‬فإن هذه المعاني ال تعدو كونها في الحقيقة‬
‫مجرد إدراكات ناقصة ومبهمة‪ .‬والمثال على ذلك معنى اإلنسان‪ ،‬ذلك المعنى الذي ينشأ في العقل عندما يقع البصر على زيد أو‬
‫عمرو‪ ،‬ولكن دون التحقق من الفرق بينهما على وجه الدقة‪ ،‬وهكذا هو الشأن بالنسبة لمختلف األشياء كاألشجار والعظام‬
‫مثال‪ .‬ولكن إذا تبين بوضوح كامل أن اإلنسان الذي وقع عليه البصر هو زيد وليس عمرا‪ ،‬عندها يمكن تسميته باسمه‪ ،‬إال أن‬
‫هذا اإلسم ال يدل بتاتا على معنى كاسم إنسان‪ ،‬وإنما على تصور جزئي لموجود معلوم بغموض‪ .‬بعبارة أخرى‪ :‬المعاني‬
‫المجردة التي تتشكل في العقل هي مجرد إدراكات يلفها كثير من اإلبهام‪ ،‬ألنها ليست في الواقع إال تصورا فسيفسائيا لعموم‬
‫الجزئيات دون خصوصيتها‪ ،‬ومن هنا ي توصل أوكام إلى أن الكليات ال وجود لها خارج العقل وإنما هي أسماء فقط‪ ،‬لذلك أطلق‬
‫على منهجه الفلسفي مصطلح «اإلسمية»‪.‬‬

‫فاإلسم إذن هو موضوع العلم ألنه رمز وإشارة إلى الجزئيات‪ ،‬وأما المعنى فيبقى مجرد تصور من قبيل تحصيل الحاصل‪،‬‬
‫لكنه مع ذلك مفهوم عقلي وليس «صوت في الهواء» حسب تعبير روسالن في القرن الحادي عشر‪ ،‬وال هو بالصورة الخيالية‬
‫كما أشار إلى ذلك المذهب الحسي الحديث‪ .‬ومن تطبيقات النظرية اإلسمية استحالة إدراك وجود هللا بالحس‪ ،‬ذلك ألن هللا ليس‬
‫موضوع حس وإنما هو موضوع إيمان ال غير‪ .‬وفي نفس السياق تبقى النفس اإلنساني ة غامضة‪ ،‬والسبب هو أنه إذا كان‬
‫بإمكان الحس إدراك الظواهر‪ ،‬فإنه على العكس من ذلك يبقى عاجزا عن إدراك ما وراء هذه الظواهر‪ .‬ويستخلص من هذا كله‬
‫أن التجربة ال تقع إال على األعراض‪ ،‬فما يعرف عن النار مثال هو حرارتها فقط‪.‬‬

‫وبصفة عامة معرفة الشيء تؤخذ من الشيء نفسه‪ ،‬بحيث ال يوجد ما يضمن موضوعية العالقات بين المعاني التي وضعها‬
‫العقل‪ ،‬وهذا ما يفيد انعدام جدوى التمييز بين الماهية والوجود ألنهما سيان‪ ،‬وتمييزهما يرجع إلى تمييز المعاني فحسب‪ ،‬وفي‬
‫آخر المطاف ال يتم البرهان إال بالبرهان اللمي‪ ،‬أي ذلك الذي يتجلى في مطابقة الشيء لنفسه‪ .‬وهكذا تم تأسيس النظرية‬
‫اإلسمية بناء على مقاربات استنباطية لمنهج تجريبي يرمي إلى اإلقرار النهائي بصحة أو عدم صحة المعرفة‪ ،‬إذ ليس هناك‬
‫من حجة تبرهن على ضرورة علة معينة خارج نطاق الدليل التجريبي‪ .‬ويسوق أوكام مثال المعرفة عن طريق التجربة‬
‫بإشارته إلى ق وة التسخين الكامنة في النار ولكن معرفة ذلك الشيء الذي يقتضي التسخين في النار تبقى غير ممكنة‪.‬‬

‫نسبية األخالق اإلنسانية‬

‫يتطرق أوكام لألخالق اإلنسانية فيرى أنها ليست ضرورية‪ ،‬والسبب في ذلك هو أنها مجرد تراكيب ذهنية وتأليفات لمعان‬
‫متناثرة وغامضة‪ ،‬تماما كالمعاني المرتبطة بالماهية والقانون والعلة والغاية‪ .‬والنتيجة هي أن ليس هناك وجود موضوعي‬
‫للخير أو الشر‪ .‬أما مصدر تلك األخالق بخيرها وشرها فإنه يعزى إلى قواعد تبدو قائمة على إرادة إلهية وصلت إلى اإلنسان‬
‫عن طريق الوحي‪ .‬فمثال لو قرر هللا قواعد معارضة تماما للقواعد األخالقية التي يدعي الناس أنهم تواضعوا عليها بمحض‬
‫إرادتهم‪ ،‬ألصبحت قواعد نافذة ألن هللا أرادها‪ ،‬عندها قد تصبح الكراهية من األفعال الممدوحة والتي يثاب عليها‪ .‬وهذا الطرح‬
‫الذي تشتم منه رائحة التهكم والذي يبدو غريبا‪ ،‬هو في الواقع منسجم مع فلسفة المذهب اإلسمي التي ال تقر للمعنى ماهية‬
‫ثابتة‪ ،‬أي أن كل شيء يوجد على حال معين بإمكانه أن يكون على خالف ذلك الحال‪ .‬وعلى كل حال‪ ،‬إن تجريد المعنى من‬
‫قيمته الموضوعية في هذا المذهب لم يكن مصدر انزعاج فلسفي وبلبلة جدلية فحسب‪ ،‬بل تسبب بالخصوص في بعض‬
‫المغالطات واألخطاء المنهجية كان من نتائجها تضييق مجال الفلسفة من خالل فصلها فصال تاما عن الدين‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫تحويل المسائل الميتافيزيقية إلى يقين يكون مصدره الوحي‪ .‬ورغم ذلك يجب االعتراف بأن أوكام شق الطريق للعلم الحديث‬
‫بنقده للعلم الطبيعي األرسطي‪ ،‬معتمدا على تصور جديد للمعرفة العلمية كصياغة للتجربة المبنية على قواعد الرياضيات‪.‬‬

‫لقد اكتسحت اإلسمية األوساط الجامعية في كل من أكسفورد وكامبريدج‪ ،‬لكنها ازدهرت على الخصوص في باريس حيث‬
‫تكاثر أنصارها‪ ،‬ومنهم نيكوال دورتكور الذي أدانه البابا سنة ‪ 1346‬في خمس وستين قضية مستخرجة من كتبه‪ ،‬وكان الحكم‬
‫يقضي بإحراق كتبه وتجريده من لقب األستاذية‪ ،‬فهو الذي قال‪« :‬ليس في طبيعيات أرسطو وال فيما بعد الطبيعة قضيتان‬
‫يقينيتان‪ ،‬بل قد ال يوجد فيهما قضية واحدة يقينية»‪ .‬وهذا معناه أنه كان ينادى بترك المسائل التي ال تقبل الحل إال إذا كانت‬
‫عن طريق التجربة‪ ،‬حتى وإن كانت هذه الت جربة ال تؤدي إلى تحصيل معارف كثيرة‪ ،‬ألنها على األقل معارف محققة «ويمكن‬
‫اكتسابها في وقت قصير لو وجه الناس عقولهم إلى األشياء ال إلى فهم أرسطو وابن رشد‪ ،‬ومن العجب أنهم ينفقون العمر كله‬
‫في دراسة ذلك المنطق طارحين جانبا المسائل الخلقية والعناية بالخير العام‪ ،‬حتى إذا قام محب للحق ونفخ في البوق كي‬
‫يوقظهم من سباتهم اغتاظوا ولجأوا إلى السالح ليحاربوه "‪.‬‬

‫كانت كل هذه المبادئ اإلسمية من بين المنطلقات التأسيسية لتطور الفكر الغربي في عصر النهضة‪ ،‬وبصفة خاصة عند‬
‫روني ديكارت‪ ،‬وهو تحول كبير كانت له انعكاسات عميقة في مجاالت عدة‪ ،‬ومنها المجال المتعلق بالعدالة وحقوق اإلنسان‪،‬‬
‫حيث ظهرت معايير جديدة تزكيها توجهات مادية صارخة ومبنية على الفعل اإلرادي‪.‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. - 11 -‬التيارات اإلرادية ومفهوم القانون‬

‫‪ - 11/28‬التيارات اإلرادية ومفهوم القانون‬

‫اإلرادية هي نظرية تعتبر الحكم عمال فكريا يتم تحقيقه بتدخل إرادي حسب ديكارت‪ ،‬وأما نيتش فيعرفها بالمذهب الذي يقر‬
‫هيمنة الفعل على الفكر‪ ،‬واإلرادية مشتقة من اإلرادة بمعناها الرامي إلى القدرة التقريرية على القيام بالفعل تنفيذا أو إحجاما‪،‬‬
‫وبديهيا أنها شغلت الفكر الفلسفي منذ عهود قديمة‪ ،‬وكل المدارس الفلسفية ساهمت بشكل أو بآخر في توسيع دائرة‬
‫التساؤالت وتعميق مجاالت التأويل بصدد هذه المسألة بالذات‪ ،‬ونتناولها هنا في عالقتها بالقانون ومفاهيمه ومدى انعكاس‬
‫تلك العالقة على إشكالية حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫جذور اإلرادية الحقوقية‬

‫هناك شبه إجماع لدى ال مختصين بأن المبادئ األولى للتيارات اإلرادية في مجال الحقوق كانت واردة عند االسميين‪ ،‬وخاصة‬
‫منهم دان سكوت وأوكام‪ ،‬اللذين بتأكيدهما على مبدأ استقالل اإلرادة عن العقل مهدا السبيل لظهور النظرية اإلرادية‪.‬‬

‫وفعال كان أوكام يميز بين القواعد السلوكية العامة المطلقة التي يمليها المذهب الطبيعي‪ ،‬والقواعد العقالنية االجتماعية‪،‬‬
‫والقواعد القانونية الوضعية‪ .‬ومن هنا حدث ارتباط تلقائي بين التيارات الوضعية والتيارات اإلرادية‪ .‬وهكذا بالنسبة لإلرادية‬
‫فإن الظاهرة القانونية تنبثق من تصرفات إرادة الحكام‪ ،‬وقيمة القوانين منوطة بإرادة من يضعها على حد تعبير سواريز‪.‬‬
‫وبالمفهوم الوضعي يعني ذلك أن القانون موضوع وفقا إلرادة محدودة في الزمان والمكان‪ ،‬وصادرة إما عن حاكم بمفرده‬
‫وإما بإجماع آراء الذين شاركوا في الصياغة الفعلية للقانون‪ .‬وقد جاء في كتاب "قانون الحرب والسلم" للفقيه الهولندي‬
‫كروسيوس‪ ،‬الصادر عام ‪ ،1625‬أن القانون هو القدرة على الفعل واالمتالك الناتجة عن سلطة اإلنسان على نفسه ‪-‬ويقصد‬
‫بها الحرية‪ -‬وعن سلطته على غيره من الناس وكذلك عن سلطته على األشياء‪ .‬وكان هذا الطرح بمثابة ثورة فكرية على‬
‫مستوى المعالجة التقنية للظاهرة القانونية بالمقارنة مع األطروحات الفلسفية للقرون الوسطى‪ .‬ومن ثم فإن اإلشكالية‬
‫القانونية لم تعد مجرد ظاهرة أنطولوجية‪ ،‬وإنما أصبحت وسيلة يوظفها اإلنسان العاقل في تنظيم المجتمع ويستعملها للسيطرة‬
‫على الطبيعة وفقا لحاجياته‪ ،‬مع التأكيد على أن هذا اإلنسان ليس عاقال فقط بل يتمتع بكامل حريته‪ .‬وانسجاما مع الفكر الجديد‬
‫لم يعد القانون مظهرا من مظاهر المعقول لذاته كما دأبت على ذلك النظريات القديمة‪ ،‬بل أصبح نتاجا إلرادة اإلنسان‪ .‬وترتب‬
‫عن ذلك مبدأ حرية التوافق اإلرادي وظهور قاعدة عامة تحت صياغة "العقد شريعة المتعاقدين" التي تم اعتمادها كأساس‬
‫للعالقات القانونية واالجتماعية على الصعيدين الوطني والدولي‪.‬‬

‫هذا ولم ينكر كروسيوس وجود القانون الطبيعي لكنه أضفى عليه صبغة علمانية التي ال تتنافى مع المشيئة اإللهية‪ .‬وكان‬
‫واضحا من هذا المنحى الرامي إلى علمنة القانون الطبيعي أنه سيؤدي حتما إلى الفصل بين القانون والالهوت‪ ،‬تماما كما أدت‬
‫الماكيافلية إلى فصل السياسة عن األخالق‪ .‬ويستفاد من هذا التحول أن جوهر العالقات القانونية أصبح يتشكل من حرية‬
‫وإرادة اإلنسان‪ ،‬وأن مفهوم القانون لم يعد مرادفا لمفهوم المعقول في عالقته بالواقع‪ ،‬وإنما هو حصيلة ألفعال إرادة اإلنسان‬
‫ا لحرة‪ .‬بمعنى أن االتجاه الذي كان سائدا منذ قرون في الفكر القانوني الغربي‪ ،‬والقاضي بالبحث عن "العدل الطبيعي"‪ ،‬فقد‬
‫جدواه حتى وإن لم يتم نفيه نفيا نظريا قاطعا‪.‬‬

‫اإلرادوية واالستبداد‬

‫وهكذا فالقوانين البشرية التي كانت تعتبر مجرد وسائل لتنفيذ القوانين اإللهية أصبح ينظر إليها على أساس كونها مرحلة من‬
‫مراحل تطور الفكر القانوني الغربي ال غير‪ .‬هذا مع اإلشارة إلى أن األرسطية والطومية كانتا تقران بأن القانون الوضعي ال‬
‫يستمد سلطته إال من اإلرادة البشرية ولكن بخلفية عودة أمور الموجودات بصفة عامة في آخر المطاف إلى هللا‪ .‬وأما تأكيد‬
‫هوبز‪ ،‬المؤسس للتيار اإلرادي الحديث‪ ،‬على أن هناك اتساقا للقانون الوضعي مع القانون الطبيعي فقد جاء بهدف التشديد‬
‫على أن القانون في نظره ال يصبح قانونا إال بموجب أمر من السلطات‪ .‬ولم تكن وجهة نظر بنتهام التي تضمنها مؤلفه "في‬
‫القوانين بوجه عام" لتختلف عن هذا المنظور‪ ،‬لكون بنتهام يعتبر القانون أمرا مؤيدا بسلطة الدولة‪ .‬وأما أوستين‪ ،‬المعروف‬
‫بدراساته التحليلية للقانون اإلنجليزي‪ ،‬فإنه عزز نفس المنهاج‪ .‬وكان تعريفه للقانون كالتالي‪" :‬قاعدة وضعت لحكم كائن‬
‫عاقل بواسطة كائن عاقل يملك سلطة الحكم"‪ .‬والقانون الطبيعي يعني في منظور هوبز احترام العقود والمحافظة على الحياة‪،‬‬
‫وهو قانون ال يأمر بالشيء وإنما يشير إلى مالحظة األمر بالشيء‪ ،‬وشتان بينه وبين القانون الوضعي المعبر عن إرادة الدولة‬
‫القوية‪ .‬وفي هذا الباب يبقى مبدأ القانون الروماني المعروف" إن ما يرضى الحاكم يتمتع بحكم القانون" محتفظا بمغزاه‬
‫الوضعي الواضح‪.‬‬

‫وبناء على ما تقدم فإن التيار اإلرادي يعطي التعريف لمفهوم القانون بالنظر إلى وظيفته التقريرية اآلمرة وليس بالنظر إلى‬
‫التقييم األخالقي لمحتوى األوامر التي بتراكمها تتشكل الترسانة القانونية‪ .‬وبعبارة وجيزة يمكن القول بأن القانون هو األمر‬
‫المقرر وأن السلطة تسهر على وضع القوانين ال العدالة‪ ،‬مما ال يدع مجاال للشك بأن هناك التباسا حقيقيا بين المذهب اإلرادي‬
‫و المذهب االستبدادي‪ ،‬حتى وإن كان هوبز ينفي االرتباط بينهما ‪ ،‬فعندما يقول‪ " :‬إن القانون بصورة عامة‪ ،‬ليس سوى إرادة‬
‫سلطة عليا تف رض بموجبها على الخاضعين لها وجوب التصرف وفقا لما تمليه عليهم"‪ ،‬ال شك أن فكرة االستبداد قد خطرت‬
‫بباله‪ ،‬سيما و أن فرض العقوبات عن طريق اإلكراه تعد من السمات البارزة للتيار اإلرادي‪ ،‬والقانون في هذا السياق هو‬
‫مجموعة من القواعد المنظمة بشكل مفروض بالقوة من طرف سلطة خارجية عليا ‪ ،‬خالفا لألخالق النابعة من سلطة معنوية‬
‫ذاتية على سبيل المقارنة‪ .‬وهذا معناه أن استعمال القوة يبقى من المميزات األساسية لتدخل الدولة في سعيها لتطبيق القانون‬
‫باالستناد إلى محض إرادتها‪ ،‬وهي في ذلك قد تجنح ال محالة إلى الخروقات والتجاوزات واإلفراط في استعمال القوة بحجة‬
‫تنفيذ القانون‪ .‬وعليه فإن مفهوم القانون سرعان ما ينقلب إلى مجرد تعبير عن إرادة الدولة‪ ،‬وبالتالي يعم االستبداد‪ .‬وعندما‬
‫يقول هيجل بأن الدولة ال تتفوق على القانون وإنما تعبر عنه‪ ،‬فإن ذلك ال يعارض في جوهره النزعة االستبدادية والميول‬
‫ال شططية من حيث ال ينفى بتاتا أنه سيظل تعبيرا إراديا للسلطة الحاكمة المعلومة بالضرورة‪ .‬لكن هذا االتجاه استبعده‬
‫اإلرادويون تحت تأثير أطروحة العقد االجتماعي لجون جاك روسو‪ ،‬والقائمة على تفسير للقانون باعتباره تعبيرا لإلرادة‬
‫العامة بمفهومها الديمقراطي الحديث‪ ،‬وال يسعنا إال أن نتوقف بإمعان عند مقولة يرينج‪ ،‬الفقيه األلماني البارز‪ ،‬حين أعلن‪ :‬إن‬
‫القانون هو ثمرة القتال‪ ،‬وإن القاعدة القانونية هي سياسة القوة‪...‬‬
‫والواضح من تجربة اإلدراك اإلنساني عبر العصور هو أن المفاهيم مطاطية وقابلة لكل االحتماالت‪ ،‬وينسحب ذلك بشكل‬
‫خطير ومصيري على المفاهيم القانونية زمانيا ومكانيا عند هذا المجتمع أو ذاك‪ .‬ومن الواضح كذلك أن قانون القوة وقوة‬
‫القانون سيظالن إلى األبد وجهين لعملة واحدة مهما اختلفت المقاربات‪...‬‬

‫تحوالت النهضة ومحاكمة "جاليليو‬


‫"مرجعيات الفلسفة الغربية ‪12-‬ـ ‪ّ ..‬‬
‫‪ - 12/28‬تحوالت عصر النهضة‬

‫شهد القرنان الخامس عشر والسادس عشر الميالديان تغييرات عميقة طالت مختلف ميادين الفكر واإلبداع والسياسة‬
‫واالقتصاد في أوربا‪ ،‬وتعرف هذه الفترة الزمنية في التحقيب التاريخي بعصر النهضة داللة على تفاعالت تلك األحداث‬
‫والتحوالت التي ميزت مسيرة العالم الغربي نحو آفاق حضارية جديدة‪.‬‬

‫إنها فترة انبعاث وتجديد بمفهوم ثوري شمولي‪ ،‬لكنها مع ذلك ليست فترة قطيعة ابستمولوجية مع تراكمات الماضي‪ ،‬فال‬
‫شيء يحدث انطالقا من ال شيء‪ ،‬وعصر النهضة هو نفسه الذي مهد الطريق لعصر األنوار مع التحفظ في كل ما يتعلق‬
‫بعشوائية التحقيب‪ .‬وليس معنى هذا بمثابة إعالن عن استسالم أولي لمنطق السببية الذي يحدد مسيرة التاريخ في اتجاه‬
‫واحد‪ ،‬وإنما هو وعي بعلة الترابط المنهجي الضرورية‪ .‬ومن البديهي أن غليان الماء ال يحدث إال إذا وصلت حرارته إلى‬
‫درجة مئوية ثابتة علميا‪ .‬إن ما يس توقفنا هنا هو تلك التحوالت الفكرية على وجه الخصوص التي ميزت عصر النهضة‪،‬‬
‫اعتقادا منا أنه كان لها انعكاسات مؤكدة على مستوى بلورة وتطور حقوق اإلنسان في بيئتها الغربية‪ ،‬وهي نظرة نابعة من‬
‫تفاعالت اإلنسان الغربي مع العالم من حوله وما ترتب عنها من أفعال وردود أفعال كان هو محركها‪ .‬إنها إطاللة أكثر منها‬
‫إطالة‪...‬‬

‫نـــهــاية السـكـــوالســتيــك‬

‫مع بداية القرن الخامس عشر تالشت بصفة عميقة آثار المذهب السكوالستيكي الذي ميز الجداالت الفلسفية والالهوتية في‬
‫العصر الوسيط وكانت اإلشكالية المحورية لهذا التيار المدرسي تتجلى فيما سمى بالكليات‪ ،‬وتجدر اإلشارة إلى هيمنة‬
‫األوغسطنية واألرسطية على مناهج الفلسفة السكوالستيكية طيلة زهاء أربعة قرون‪ ،‬من القرن التاسع إلى القرن الثاني‬
‫عشر‪ .‬وكانت هذه المرحلة مرحلة بناء وتطوير للمناهج في الجدال والتدريس الالهوتيين‪ ،‬تلتها مرحلة ثانية سجل فيها‬
‫ا لقديس طوما األكويني‪ ،‬في القرن الثالث عشر‪ ،‬أوج ما وصل إليه هذا التيار المدرسي من نضج وعطاء‪ .‬بعد ذلك بدأت فترة‬
‫انحدار ال هوادة فيها‪ ،‬انصرف خاللها أنصار الفلسفة السكوالستيكية إلى االنهماك في الجداالت الصورية‪ ،‬وقد تعاطى البعض‬
‫منهم إلى التصوف‪ ،‬بينما انشغل البعض اآلخر بالعلوم الطبيعية‪ .‬وكانت بوادر هذا التفكك كامنة في التعارض الحاصل منذ‬
‫البداية بين المذهب الواقعي والمذهب االسمي‪ .‬واتضح مما ال يدع مجاال للشك أن االتجاه العلمي تفوق على االتجاه الالهوتي‪،‬‬
‫ولم تكن االختراعات الجديدة كالبوصلة والبارود والطباعة إال لتعطي دفعة حاسمة للعناية بالعقل أكثر من أي وقت مضى‪.‬‬

‫وانعكس ذلك إيجابا على تطور العلوم التجريبية‪ .‬وأدت االكتشافات الجغرافية ألصقاع بعيدة أو غير معروفة‪ ،‬كاكتشاف‬
‫أمريكا‪ ،‬إلى وعى أوروبا بدورها الفاعل في انتشار نفوذها على المستوى العالمي‪ ،‬مما نتج عنه مشروع استعماري يحمل في‬
‫طياته إيديولوجية تزعم تفوق اإلنسان األبيض األوروبي على باقي األجناس البشرية‪ ،‬وعلى أساس أن نظرته للعالم من ذلك‬
‫التاريخ فصاعدا هي النظرة الصائبة والفاعلة بدون منازع‪.‬‬
‫وكان طبيعيا أن تضطرب األوضاع االجتماعية وتنهار بنيات المجتمع الغربي التي ميزت القرون الوسطى‪ ،‬لتظهر بنيات‬
‫جديدة تواكب هذا التطور الجديد‪ ،‬وهكذا تهاوى النظام اإلقطاعي ليترك المجال لبروز طبقة بورجوازية اتخذت من األوساط‬
‫التجارية في المدن نواتها الصلبة‪ .‬ولم يعد العالم اإلسالمي ليشكل ندا حضاريا منافسا للغرب‪.‬‬

‫لقد سقطت القسطنطينية وانسحب المغاربة م ن األندلس وعم االنحطاط أرجاء الرقعة اإلسالمية‪ ،‬وبات من المؤكد أن الغرب‬
‫هو سيد الميدان الحضاري وصاحب المشعل في مسيرة إنسانية لم تتضح معالمها بكل دقة‪.‬‬

‫وكان إلحياء اآلداب اليونانية القديمة‪ ،‬وارتفاع حدة المواجهات الجدالية بين رجال الكنيسة‪ ،‬وتزايد أتباع المذهب العقالني‬
‫الجديد في كل مظاهره‪ ،‬أن وقع انشقاق ديني أدى إلى ظهور البروتستانتية بزعامة مارتن لوثر كنتيجة لصراع مرير مع‬
‫الكاثوليكية التي كانت سائدة لمدة قرون عديدة‪ .‬ودعت البروتستانتية إلى دراسة الكتاب المقدس دراسة عقلية لتشكل بذلك‬
‫قطيعة مع المنهج الالهوتي الشائع‪.‬‬

‫وكانت الثورة التي أحدثها عالم الفلك البولندي‪ ،‬كوبرنيك‪ ،‬بأن برهن على دوران الكرة األرضية حول نفسها وحول الشمس‪،‬‬
‫إيذانا بالفصل النهائي والذي ال رجعة فيه بين العلم والدين‪ .‬وها هو العالم اإليطالي‪ ،‬جاليليو‪ ،‬جاء ليعزز الثورة الكوبرنيكية‬
‫فكانت مواجهته التاريخية مع سلطة الكنيسة‪.‬‬

‫محاكمة جاليليو التاريخية‬

‫الثورة التي أحدثها كوبرنيك في علم الفلك والتي سميت باسمه‪ ،‬كانت رفضا للنظرية الشائعة آنذاك والقائلة بأن األجرام كلها‬
‫تدور حول األرض‪ .‬لقد أنجز كوبرنيك أبحاثا فلكية دقيقة وضمنها في كتاب بعنوان "في الحركات السماوية" مستخلصا أن‬
‫األرض هي التي تدور‪ ،‬ولم تنشر نتائج دراساته إال في آخر حياته خوفا من ردود فعل الكنيسة التي كانت ترى دائما عكس‬
‫ذلك‪ .‬ولما أعلن جاليلو تزكيته لنظرية كوبرنيك أثار ذلك حفيظة بعض الرهبان‪ ،‬وبادر ديوان التفتيش للتحقيق معه تحت‬
‫التهديد‪ .‬فجاء الحكم ليؤرخ لم حطة عهد جديد في مسار الفكر الغربي‪" :‬يا جاليلو‪ ،‬لقد أدانتك هذه المحكمة المقدسة سنة‬
‫‪ 1615‬العتقادك بصحة نظرية كاذبة نادى بها كثيرون وهي أن الشمس ثابتة وأن األرض هي التي تتحرك يوميا‪ ،‬وألنك لقنت‬
‫نفس هذه النظرية لتالميذك‪ ،‬وألنك تبعث بنفس هذه اآلراء لبعض الرياضيين األلمان‪ ،‬وألنك نشرت بعض الرسائل عن كلف‬
‫الشمس تحدثت فيها عن نفس هذه النظرية على أنها عقيدة صادقة‪ ،‬ألنك أجبت عن االعتراضات التي كانت تقتبس باستمرار‬
‫من الكتب المقدسة بأن فسرت هذه النصوص وفق المعنى الذي تريد‪ ،‬وحيث أنه قد ظهرت وقتئذ نسخة من مكتوب صادر منك‬
‫صرا حة إلى شخص كان فيما مضى أحد تالميذك‪ ،‬وفيه بعض القضايا التي تتعارض ومعنى الكتب المقدسة‪ ،‬هذا فضال عن‬
‫تأييدك لنظرية كوبرنيك‪ ،‬فإن المحكمة المقدسة رغبة منها في القضاء على الشر الذي كان وقتئذ قد بدأ واستفحل وأضر‬
‫بالعقيدة المقدسة‪ ،‬ونزوال عند رغبة صاحب القداسة وأصحاب النيافة مطارنة هذه المحكمة العليا السامية‪ ،‬قد انتهى‬
‫األخصائيون من قبلنا إلى صياغة نظريتي ثبوت الشمس وحركة األرض على الوجه اآلتي‪:‬‬

‫‪ - 1‬القول بأن الشمس مركز العالم وأنها ال تتحرك قول سخيف‪ ،‬كاذب من الوجهة الفلسفية كافر من الوجهة الدينية‪ ،‬ألنه‬
‫يتعارض صراحة مع تعاليم الكتاب المقدس‪.‬‬

‫‪ -2‬القول بأن األرض ليست مركز الكون الثابت‪ ،‬وأنها تتحرك يوميا‪ ،‬هو أيضا قول سخيف‪ ،‬كاذب من الوجهة الفلسفية‪،‬‬
‫وتجديف على العقيدة من الوجهة الدينية‪.‬‬

‫وحيث إنك قد عوملت برحمة في ذلك الحين وقام نيافة المطران بلرمين بتحذيرك في رفق‪ ،‬وأمرك مأمور الضبط بالمحكمة‬
‫أمام المسجل والشهود بأن تتنصل تماما من هذه العقيدة الكاذبة‪ ،‬وأن تمتنع مستقبال عن الدفاع عنها أو تعليمها على أية‬
‫صورة‪ ،‬شفاهية أو تحريرا‪ ،‬وأطلق صراحك بعد تعهدك بالطاعة‪.‬‬

‫وحيث إن مؤلفا قد صدر بعد ذلك منشورا في فلورنسا في العام الماضي‪ ،‬وينبئ عنوانه "محاورات جاليليو جليلي عن‬
‫النظامين الرئيسيين للعالم ‪-‬نظام بطليموس ونظام كوبرنيك‪ -‬بأنك صاحبه‪ ،‬وحيث إن المجمع المقدس قد علم بأن فكرة حركة‬
‫األرض وثبوت الشمس قد أخذت في االنتشار بسبب طبع هذا المؤلف‪ ،‬لذلك قررنا ما هو آت‪ :‬يا جاليليو جليلي‪ ،‬لقد جعلت‬
‫نفسك موضع الشك الشديد من هذه المحكمة المقدسة بأنك كافر إليمانك ‪-‬رغم ما في هذا اإليمان من تعارض مع الكتب‬
‫المقدسة‪ -‬بأن الشمس مركز العالم‪ ،‬وأن األرض هي التي تدور‪ ،‬وأنها ليست مركز العالم‪ ،‬ومن أجل ذلك أمرنا بمصادرة كتاب‬
‫"محاورات جليلو جليلي" بمرسوم عام‪ ،‬و حكمنا عليك بالسجن الرسمي‪ ،‬وأمرناك على سبيل الكفارة أن تقرأ أثناء السنوات‬
‫الثالث القادمة صلوات الندم السبع مرة كل أسبوع "‪.‬‬

‫وما كان من جاليليو إال أن يحترم ما جاء في الحكم‪ ،‬ويقال إنه بعد إذعانه لمقتضيات الحكم ضرب األرض برجله قائال‪" :‬ومع‬
‫ذلك فهي تدور"‪ ...‬إن هذه القضية كانت بحق نهاية عهد وبداية عهد جديد‪ .‬إنه عهد المركزية األوربية التي تبنت مفاهيم‬
‫جديدة لإلرادة والحرية كان لها انعكاس مباشر في مجال السياسة‪ ،‬حيث الحت في األفق نظريات العقد االجتماعي ومبدأ فصل‬
‫السلط‪ ،‬ولم يسلم االقتصاد من هذه التحوالت الجذرية حيث بزغ فجر الرأسمالية بوعدها ووعيدها‪.‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. -13-‬بيكون وأسس المدنية الحديثة‬

‫‪ -13/28‬فرنسيس بيكون وبناء أسس المدنية الحديثة‬

‫يجب علينا المراهنة بانتصار العلم على قوى الطبيعة‪ ،‬وحتى ال تذهب الجهود المبذولة أدراج الرياح يجب علينا إحداث ثورة‬
‫في وسائل البحث والتفكير بهدف تأسيس نظام علمي يدعمه منطق جديد أفضل من منطق أرسطو‪ ،‬منطق يالئم معطيات العصر‬
‫وينخرط في مناخ اآلفاق الرحبة التي يفتحها هذا العالم أمام أذهاننا‪ .‬هذه باختصار شديد عناصر المشروع الفكري للفيلسوف‬
‫اإلنجليزي فرنسيس بيكون (‪ ،)1561-1626‬وال شك أنه كان لتحوالت عصر النهضة أثر بالغ في تكوين شخصية هذا‬
‫الفيلسوف ورجل السياسة المنتمي للمذهب التجريبي البراغماتي‪.‬‬

‫ومن جملة هذه التحوالت هناك على الخصوص انتقال الحركة التجارية من المجال المتوسطي إلى المجال األطلنطي كنتيجة‬
‫الكتشاف أمريكا‪ ،‬ترتب عنها احتالل ا لشعوب األطلنطية األوربية مركز الصدارة في كل من إسبانيا وفرنسيا وهولندا وإنجلترا‪،‬‬
‫فيما تراجع النفوذ التجاري اإليطالي االحتكاري‪ ،‬وانتقلت مظاهر النهضة األوربية ونشاطها من فلورنسا وروما وميالنو‬
‫والبندقية إلى مدريد وأمستردام ولندن وباريس‪ .‬وكان سقوط القسطنطينية في دوامة األزمات الداخلية السبب الرئيسي في‬
‫تكريس انحطاط العالم اإلسالمي الذي كانت اإلمبراطورية العثمانية حاملة لمشعله الحضاري في مواجهة الغرب المستيقظ من‬
‫سبات القرون الوسطى‪ .‬وعلى صعيد آخر كان لتدمير األسطول الحربي اإلسباني ‪-‬الرمادا‪ -‬سنة ‪ 1588‬الوقع الحاسم بالنسبة‬
‫لتوسيع النشاط التجاري اإلنجليزي على الصعيد العالمي‪ .‬ومما ال شك فيه كذلك أنه كان النتماء فرنسيس بيكون إلى أسرة‬
‫لندنية عريقة لها عالقة وثيقة بالبالط‪ ،‬أثر على تشكيل شخصيته وانفتاحه على التوجهات السياسية العالمية‪ ،‬سيما وأنه‬
‫اكتشف جوانب عملية من هذه السي اسة وهو ما زال يافعا‪ ،‬حيث التحق بالسفارة البريطانية في باريس ليعمل إلى جانب سفير‬
‫بالده‪ .‬إنه حدث ترك بصمات عميقة في فكره السياسي و الفلسفي‪ ،‬وقد جاءت إشارات واضحة بهذا الصدد في كتابه "تفسير‬
‫الطبيعة" حيث قال في المقدمة ‪ " :‬لقد اعتقدت بأنني ولدت لخدمة الناس‪ ،‬وقدرت أهمية الخير العام بأن أكرس نفسي لخدمة‬
‫الواجبات والحقوق العامة‪ ،‬التي يجب أن يتساوى فيها الجميع كمساواتهم في استنشاق الهواء والحصول على الماء‪ ،‬لذلك لقد‬
‫سألت نفسي عن أكثر األمور نفعا للناس‪ ،‬وماهي المهمات التي أعدتني الطبيعة ألدائها‪ ،‬أو ما هي المهمات التي تتناسب مع‬
‫مؤهالتي الطبيعية‪ ،‬وبعد البحث لم أجد عمال يستحق التقدير أكثر من اكتشاف الفنون واالختراعات وتطويرها للرقي بحياة‬
‫اإلنسان"‪ .‬إن أهمية المبادئ عند بيكون تكمن أساسا في نتائجها العملية‪ ،‬وتمجيده للعقل ال غبار عليه‪ ،‬والعقل عنده هو‬
‫اإلنسان‪ ،‬والمعرفة هي العقل‪ ،‬وليس اإلنسان إال ما يعرف‪.‬‬

‫الــبنــاء العــظيــم‬

‫إن ما كانت تؤكد عليه فلسفة بيكون وتعمل على تجسيده على أرض الواقع الملموس هو ضرورة قيام العلم على معايير‬
‫تجريبية بهدف تحقيق نتائج معينة ترمي إلى إسعاد البشرية‪ .‬وهذا المشروع الطموح الذي يرتكز على قاعدة عملية أكثر منها‬
‫نظرية هو ما دفعه ليسميه "البناء العظيم"‪ ،‬معتبرا المعرفة كقوة حقيقية وليست نقاشات جوفاء أو أفكارا تجريدية قد يلجأ‬
‫إليها اإلنسان لتبرير مواقفه أو للتبجح والحذلقة المعرفية العقيمة‪ ،‬ويعلل ذلك بقوله‪ ":‬أنا اآلن أعمل لوضع أساس ال لمذهب‬
‫أو مبدأ‪ ،‬ولكن ل فائدة قوة فاعلة‪ .‬إن قصدي أن أحيط بالمعرفة‪ ،‬وأالحظ األجزاء المهملة والمغفلة التي تخلى عنها اإلنسان ولم‬
‫يتناولها بالتهذيب‪ .‬وأن أعمل بتخطيط صادق على حفز النشاط بين األشخاص الذين يعملون في المجاالت الخاصة والعامة‬
‫لتحسين المجاالت المهجورة أو المتروكة"‪ .‬من أجل ذلك اعتمد بيكون منهجا جديدا في االستقراء‪ ،‬ووضع برنامجا في ثماني‬
‫نقاط‪:‬‬

‫‪ -1‬تصنيف شامل للعلوم المتداولة والمعروفة‪،‬‬

‫‪ -2‬اعتماد مبادئ أساسية يقوم عليها تفسير للطبيعة‪،‬‬

‫‪-3‬جرد لحصيلة المعطيات التجريبية المبنية على المالحظة‪،‬‬

‫‪ -4‬القيام باختبارات تجريبية‪،‬‬

‫‪ -5‬اعتماد نهج االستقراء بمفهومه الجديد قصد التحصيل المعرفي‪،‬‬

‫‪-6‬العمل على تعزيز هذا المنهج العلمي الجديد وتوفير الشواهد لبيان نجاحه‪،‬‬

‫‪ -7‬إثبات التعميمات التي يمكن استقراؤها من الظواهر الطبيعية‪،‬‬

‫‪ -8‬وضع أسس ومرتكزات لفلسفة شاملة في الطبيعة‪.‬‬


‫كان بيكون على بينة تامة من طموح م شروعه‪ ،‬بحيث لم يستطع إنجاز إال الجزء المتواضع مما سطره‪ ،‬لكن هدفه في الواقع‬
‫كان قبل كل شيء هو وضع أسس جديدة لبناء الفكر العلمي‪ ،‬وهو في ذلك يقول‪" :‬حسبي أن أكون قد ركبت اآللة‪ ،‬وما علي‬
‫إذا كنت لم أشغلها"‪.‬‬

‫وككل مشروع جديد فإن نظرية بيكون تضع بينها وبين النظريات السابقة خطا فاصال‪ ،‬معتبرة أن خطأ الفلسفة اليونانية‬
‫الفادح هو كونها اقتصرت على الجانب النظري وأهملت بشكل كبير فوائد المالحظة وانعكاساتها على تطور البحث العلمي‪،‬‬
‫بمعنى أن الفكر يجب أن يكون مساعدا للمالحظة وليس بديال لها‪ .‬وهكذا بعد ألفي سنة من اجترار المنطق األرسطي من غير‬
‫تعديله وإغنائه بإسهامات جوهرية سقطت الفلسفة إلى درجة لم تعد فيها تحظى باحترام وتقدير الناس‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يجب‬
‫القذف بعيدا بنظريات الماضي من خالل تطهير العقل من األوهام والترسبات الخرافية التي بقيت عالقة به لمدة قرون‪ .‬وهذه‬
‫األوهام هي بمثابة معب ودات وثنية رسم لها بيكون خطة من أربعة محاور للقضاء عليها قبل الشروع في العمل وفقا للنهج‬
‫أالستنتاجي التجريبي الذي يقترحه‪ .‬والمحاور هي‪:‬‬

‫‪ -‬أوهام أو خرافات القبيلة‪ ،‬ويعني بها الطبيعة البشرية القاضية باالعتقاد أن الحواس تعطى معرفة صحيحة ومباشرة عن‬
‫الواقع‪ ،‬بينما العكس هو الصحيح ألن إدراكات اإلنسان العقلية والحسية هي قبل كل شيء تصوير لنفسه وليس تصويرا‬
‫للكون‪ ،‬وعلى أي حال فالمعرفة الحسية نسبية بكل تأكيد وكثيرا ما تشوه المعطيات الخارجية‪ .‬ويرى بيكون أن من أخطاء‬
‫العقل اإلنساني أنه إذا آمن برأي واستقر عليه يتمادى في الد فاع عن هذا الرأي ويحشر كل األشياء لتأييد وإثبات ذلك الرأي‪،‬‬
‫وال ينفع معه وجود أدلة كثيرة قاطعة منافية له‪ .‬ويسوق بيكون كمثال لذلك قصة رجل دخل إلى معبد وعرضت أمامه لوحات‬
‫كثيرة‪ ،‬علقها الذين نجوا من خطر الغرق في البحر بعد أن تحطمت السفينة التي كانوا على متنها‪ ،‬وكان ذلك بمثابة استجابة‬
‫لنذورهم التي تقربوا بها إلى اآللهة‪ .‬بعد هذا العرض طلب من الرجل الزائر للمعبد أن يعترف بقوة اآللهة وفائدة النذور‪ ،‬فكان‬
‫جوابه‪ :‬ولكن أين لوحات الذين غرقوا وماتوا في البحر على الرغم من نذورهم وإيمانهم وتضرعهم؟‬

‫‪ -‬والمحور الثاني يعرض بيكو ن لما أسماه ب "أوهام الكهف"‪ ،‬ويستفاد منه أن لكل إنسان كهفا خاصا به‪ ،‬على شاكلة‬
‫أسطورة الكهف األفالطونية المشهورة‪ ،‬مما يعني طغيان الذاتية على الموضوعية‪.‬‬

‫‪ -‬وأما المحور الثالث من أخطاء العقل فهي "أوهام السوق" التي تتعلق أساسا باللغة واستعمال األلفاظ في إطار العالقات‬
‫االجتماعية‪ ،‬بمعنى أن الظروف "السوقية" لنشأة اللغة تجعل األلفاظ المتداولة محشوة بالتأويالت المضللة للعقل‪ ،‬ومعانيها‬
‫تمويهية ومبهمة وكأنما وضعت بهدف االستغناء عن الوقائع وإخفائها‪.‬‬

‫‪ -‬و أما المحور األخير فقد سماه "أوهام المسرح" ويقصد بها جميع األنظمة الفلسفية المتوارثة‪ ،‬والتي ليست إال مسرحيات‬
‫تمثل عالما خلقه الفالسفة ألنفسهم بطريقة روائية مسرحية‪ ،‬وال يخفى بيكون تحامله على أفالطون وأرسطو‪ ،‬داعيا إلى خلق‬
‫أساليب جديدة للتفكير‪ ،‬ووسائل جديدة للفهم واإلدراك بعدما تخلى العقل عن كل هذه الخرافات واألوهام‪ ،‬وأصبح كاللوح‬
‫المصقول أو الصفحة البيضاء الستقبال نهجه االستقرائي الذي يعتمد على قيمة التجارب أكثر من اعتماده على كميتها ‪،‬‬
‫ويدعو إلى إصالح شامل للعلوم بأسلوب معرفي ال يترك مجاال للصدفة والتالعبات اللفظية‪ ،‬فالصدفة اسم لشيء غير موجود‪.‬‬
‫وفي مجال علم النفس االجتماعي يؤكد بيكون بقوله‪" :‬يجب على الفالسفة أن يبحثوا عن قوى وطاقات العرف‪ ،‬والمادة‪،‬‬
‫والتعليم‪ ،‬والمثل‪ ،‬والتقاليد‪ ،‬والمناقشة‪ ،‬والشراكة‪ ،‬والصداقة‪ ،‬والمدح‪ ،‬والتبكيت‪ ،‬والنصح‪ ،‬والحض‪ ،‬واإلنذار والسمعة‬
‫والقوانين والكتب والدراسة إلى آخر ما هنالك‪ .‬ألن هذه األشياء تتحكم في أخالق الناس وتشكل العقل وتخضعه"‪.‬‬

‫يحث بيكون على أن المطلوب األول في النجاح هو المعرفة‪ .‬وفعال‪ ،‬لقد نجح هذا الفيلسوف في المجال السياسي رغم كون‬
‫معرفته لم تكن كافية لتقيه شر مزالق السياسة وأهوائها‪ ،‬لكنه بكل تأكيد نجح في وضع اللبنات األولى لمنهجية فلسفية يعتد‬
‫بها إلى اليوم في مقاربات العلوم التجريبية‪.‬‬

‫لقد توفي بيكون بينما كان منهمكا في إجراء تجميد لدجاجة قصد معرفة مدى حاجته من الوقت لحفظ اللحم من التعفن‪ ،‬مات‬
‫كموت موليير على خشبة المسرح‪ ،‬وكانت وصيته‪ " :‬أترك روحي إلى هللا‪ ،‬ودفن جسدي بغموض واسمي لألجيال القادمة‬
‫واألمم األجنبية "‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ -15-‬نظرية "روح القوانين" لمونتيسكيو‬

‫‪ -16/28‬روح القوانين لمونتيسكيو‬

‫يقترن اسم مونتيسكيو‪ ،‬الكاتب الفرنسي‪ ،‬بنظرية فصل السلط التي جاءت تفاصيلها في مؤلفه المشهور "روح القوانين"‪.‬‬
‫وقد كان تأثير هذه النظرية واضحا على اإلصالحات الدستورية التي قامت بها الجمعية التأسيسية إبان الثورة الفرنسية‪.‬‬
‫واليوم يعد مبدأ فصل السلط بمثابة حجر الزاوية في بناء صرح الديمقراطية‪ ،‬بحيث أصبح يشكل المؤشر الرئيسي في لوحة‬
‫القيادة ألي حكم ديمقراطي في التاريخ المعاصر‪ .‬وهناك عالقة متالزمة بين وضع حقوق اإلنسان ومدى احترام مبدأ فصل‬
‫السلط في هذا البلد أو ذلك‪ .‬وقد سبق للفيلسوف اإلنجليزي جون لوك أن تطرق لنظرية فصل السلط‪ ،‬ومن المعلوم أن‬
‫مونتيسكيو كان متأثرا بآراء جون لوك الليبرالية‪.‬‬

‫تـقــديم الكــتــاب‬

‫استغرق تأليف هذا الكتاب عشرين عاما‪ ،‬وكاد صاحبه أن يفقد كل قواه لكثرة ما أنفق من جهود مضنية في إنجازه‪ .‬وهكذا لما‬
‫انتهى من تأليفه قال‪ " :‬إنني أستطيع القول بأنني استغرقت فيه حياتي كلها‪ ،‬إذ عندما انتهيت من دراساتي القانونية وضعته‬
‫وسط مؤلفات القانون فبدأت أبحث في تلك المؤلفات عن روح القانون‪ ،‬فأجهدت نفسي ولم أصنع شيئا ذا قيمة‪ ،‬ومنذ عشرين‬
‫عاما اكتشفت مبادئ جد بسيطة‪ ،‬ولو أن مؤلفا غيري قام بنفس الجهد لخرج بنتائج أفضل ولكنني أعترف أن العمل في هذا‬
‫الكتاب كاد يقتلني‪ ،‬إنني أريد أن أستريح ولن أعمل شيئا بعد ذلك"‪ .‬وفعال‪ ،‬كاد مونتيسكيو أن ينهار كليا‪ ،‬وضعف بصره مما‬
‫اضطره إلى إ مالء األجزاء األخيرة من مؤلفه الذي ظهر ألول مرة بجنيف سنة ‪ ،1748‬وكان عنوانه األصلي أكثر وضوحا‬
‫بحيث يعطي للقارئ ملخصا لمحتواه‪ " :‬في روح القوانين‪ ،‬أو في الصلة التي يجب أن تربط القوانين بنظام الحكم في كل أمة‪،‬‬
‫وبتقاليدها الخ‪ ".‬وهذا العنوان لوحده يبين مدى تشعب المحتوى ويطرح التساؤل حول كفاءة المؤلف في معالجته‪ ،‬لذلك توسل‬
‫مونتيسكيو في تصدير الكتاب إلى القارئ‪" :‬إن لي رجاء أخشى أال يتحقق‪ ،‬وهو أال يحكم قارئ عابر على عمل استغرق‬
‫عشرين عاما‪ ،‬وأن يقبل القارئ هذا المؤلف أو يرفضه جملة وال يقتصر على قبول أو رفض عدة جمل منه‪ ،‬ألن اإلنسان إذا‬
‫أراد أن يفهم فكرة المؤلف فلن يستطيع الوصول إليها إال إذا فهم فكرة الكتاب"‪.‬‬
‫لقد اعتمد مونتيسكيو على قاعدة توثيقية عريضة‪ ،‬شملت مصادر عديدة من الفكر اليوناني وآراء ونظريات القرن الثامن‬
‫عشر‪ ،‬ويبقى وجه الشبه لجانب من كتاب "روح القوانين" مع "مقدمة" ابن خلدون يثير أكثر من تساؤل‪ ،‬خاصة فيما يتعلق‬
‫بتأثير المناخ على الشعوب مزاجا وتنظيما‪ .‬وحتى في المنهج هناك تشابه بين المؤلفين مع تفوق البن خلدون‪ .‬لقد وزع‬
‫مونتيسكيو مادة مؤلفه على واحد وثالثين جزءا‪ ،‬منها قسم نظري عام وآخر ذو طابع عملي‪ .‬ويذكر المؤلف كيف كانت‬
‫مقاربته للموضوع‪ ":‬لقد خبرت الناس أوال ووجدت في هذه األشكال المتباينة بشكل ال نهاية له‪ ،‬من العادات والقوانين أن‬
‫الناس ليسوا مساقين بمحض أهوائهم‪ .‬فوضعت المبادئ العامة لسلوك الناس ووجدت الحاالت الفردية تخضع لها في يسر‪،‬‬
‫كما وجدت أن تاريخ جميع األمم ليست إال نتائج لتلك المبادئ العامة وأن كل قانون خاص مرتبط بقانون آخر أو يعتمد على‬
‫قانون آخر أعم منه ‪ ،‬ولما اتجهت لدراسة العصور القديمة بذلت الجهد في استخالص روح مبادئها حتى ال يستعصي علي أمر‬
‫فهمها‪ .‬إنني أعتبر من قبيل المتشابهات حاالت تختلف عن بعضها البعض‪ ،‬وحتى ال تغيب عنها الفوارق الفاصلة بين حاالت قد‬
‫تبدو متشابهة فإنني لم أستخلص مبادئ قط من أحداث ظنية وإنما من طبيعة األشياء"‪ .‬ولما ظهر الكتاب أحدث ضجة في‬
‫األوساط الدينية والمثقفة‪ ،‬ووضعته السلطات الدينية ضمن الالئحة السوداء سنة ‪ ،1751‬وهاجمه فولتير بقوله‪" :‬إذا أردت‬
‫أن تحقق ما ذكره مونتيسكيو من نصوص فإنك لن تجد منها أربعة نصوص صحيحة"‪ .‬وقال عنه الفيلسوف هلفيسيوس إنه‬
‫تحجير وتثبيت لعيوب المجتمعات اإلنسانية ووصف جامد للوضع القائم‪ ،‬وأيده في ذلك الفيلسوف كوندورسي‪.‬‬

‫عــالقـة الـقــــوانـيــن بـالــحـريـة والسـيــاسـة‬

‫ليست القوانين في نظر مونتيسكيو إال عالقات قوى متفاعلة ومتأثرة ببعضها البعض‪ ،‬ويجب أن ينظر إليها بمنظور‬
‫شمولي‪ ":‬إن القوانين في أوسع معانيها عبارة عن عالقات ضرورية تشتق من طبيعة األشياء‪ ،‬ولكل الموجودات قوانينها‬
‫بهذا المعنى‪ ،‬ولآللهة قوانينها وللعالم المادي قوانينه وللعقول المتعالية على اإلنسان والحيوانات قوانينها ولإلنسان قوانينه‬
‫"‪ .‬خصص مونتيسكيو لعالقة القوان ين بالحرية والسياسة ثالثة أبواب كاملة‪ .‬والحرية في نظره ال تعني أن يفعل الفرد كل ما‬
‫يريده ألن في مجتمع تسوده قوانين ال يمكن أن تعني الحرية إال القدرة على عمل ما يجب أن يريده الفرد‪ ،‬وعدم إلزامه بفعل‬
‫ما ال ينبغي أن يفعله‪ .‬وأكبر ضمانة للحرية السياسية تكمن في فصل السلط إلى ثالث سلطات‪ :‬تشريعية وتنفيذية وقضائية‪.‬‬
‫واستقالل كل سلطة ال يعني عدم التعاون بين السلط وإنما هي مسألة توازن بين السلط ال غير‪ .‬لذلك وجب تقييد الحرية‬
‫السياسية في حدود القوانين السائدة والجاري بها العمل تحت لواء فصل السلط‪ ،‬ويعلل مونتيسكيو ذلك بقوله‪" :‬ألننا لو أبحنا‬
‫لكل مواطن أن يفعل ما يريد أو ما تحرمه القوانين فإنه لن يكون حرا‪ ،‬ألن األفراد اآلخرين ستكون عندهم نفس السلطة "‪.‬‬
‫ويرى مونتيسكيو أن الحرية على العموم شيء نسبي جدا‪ ،‬وأن حرية الشعب في ظل نظام معين إنما هي مرتبطة بشكل الحكم‪،‬‬
‫وقد تنعدم تماما ألس باب يبدو أن الشعب يتفهمها‪ ":‬بل إن الحرية لتبدو في بعض الشعوب التي ال تستطيع تحملها والتي لم‬
‫تتعود على التمتع بها‪ ،‬كالهواء النقي إذ يضر أحيانا بمن كانوا يعيشون في أماكن تكسوها المستنقعات"‪ .‬قد يستشف من هذا‬
‫الطرح ميول مونتيسكيو االستعمارية‪ ،‬لكن بغض النظر عن ذ لك يبقى السؤال‪ :‬ما هو السبيل إلى ضمان بقاء الحرية ّإذا ما‬
‫تحققت؟ يجيب مونتيسكيو بإثارة االنتباه إلى أن التجربة دلت على أن ثمة ميال لدى كل رجل سلطة إلى سوء استعمال هذه‬
‫السلطة‪ ،‬وأن أنظمة الحكم كيفما كانت ليست في منأى عن الفساد‪ ،‬ومن المستحيل إذن إيجاد نظام سياسي ال يتسرب إليه‬
‫الفساد‪ .‬وعليه فالسبيل الوحيد لضمان استقرار الحرية هو توزيع السلطات على عدة قوى تتوازن فيما بينها‪ ،‬حيث بات جليا‬
‫أنه ال يوقف السلطة إال سلطة أخرى‪ ":‬لكيال يستطيع أي ذي سلطة سوء استغالل سلطته البد من ترتيب األمور بحيث توقف‬
‫سلطته سلطة أخرى تعا دلها"‪ .‬وهذه النقطة بالضبط في كتاب "روح القوانين" هي التي حظيت باهتمام األجيال نظرا لحدة‬
‫استبصارها‪ ،‬مما بوأها مكانة بارزة في هندسة األنظمة السياسية الديموقراطية المعاصرة‪ .‬ويحث مونتيسكيو على عمل‬
‫السلطات في انسجام مع احترام االختصاصات‪" :‬للحصول على حكومة معتدلة البد من ربط القوى بعضها ببعض والحد من‬
‫غلوائها وتوجيهها للعمل على تنظيمها‪ ،‬أي أنها تقوم بعمل يشبه عمل الرافعة في العالم المادي‪ ،‬حيث نجد قوة في جانب‬
‫تعادلها مقاومة في جانب آخر "‪ .‬وال يخفي مونتيسكيو اعتقاده في مدى أهمية الدين واألخالق في المساهمة في ترسيخ‬
‫الحرية إلى جانب القوانين المدنية والجنائية التي تضمن ألي كان ما له وما عليه‪.‬‬

‫ومما يؤاخذ على مونتيسكيو أطروحته العنصرية وفكرته االستعمارية التي تضمنها كتابه "روح القوانين"‪ .‬إذا ال يعارض في‬
‫استرقاق األفارقة ألنه بكل بساطة كان يرى في ذلك ضرورة ملحة إلنجاز المشاريع الكبرى التي كان االقتصاد األوربي‬
‫يتطلبها‪ ،‬بل إنه ذهب إلى حد االدعاء أن السالالت السمراء ال تتمتع بنفوس خيرة‪ " :‬فال نستطيع أن نفهم أن هللا الذي هو‬
‫خبير حكيم قد ركب نفسا خيرة في جسم أسمر"‪ .‬ويدعي مونتيسكيو أن الشعوب السمراء ليست في مستوى المجتمعات‬
‫اإلنسا نية‪ ":‬إننا ال نستطيع أن نفترض أن أفراد هذه الشعوب أناسا‪ ،‬وإال لبدأنا نعتقد أننا لسنا مسيحيين "‪ ...‬وما من شك أنه‬
‫كان متأثرا بتيار إيديولوجي استعماري بدأ يخترق عصره بشكل متصاعد‪ ،‬لكن هذا ال يشفع له كمفكر ذي اطالع واسع ونظرة‬
‫اجتماعية تتسم باالنفتاح النسبي على االختالف‪.‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. -16-‬مدرسة "الكانطـية" ونقد العقل‬


‫‪-15/28‬الكــانطــية ونــقــد العــقـل‬

‫يحتل الفيلسوف األلماني إيمانويل كانط (‪ )1724-1804‬في األوساط األكاديمية الغربية وعند المثقفين بصفة عامة مكانة‬
‫بارزة‪ ،‬إلى درجة أن هناك من يؤرخ للفكر الفلسفي بمختلف تياراته انطالقا من تقسيمه إلى مرحلتين من التطور‪ :‬ما قبل كانط‬
‫وما بعد كانط‪ .‬ربما أن هناك شيئا من المبالغة في هذا التقسيم‪ ،‬ولكن رغم ذلك هذا ال يعني االنتقاص أو االستخفاف بالمركز‬
‫الوازن الذي يحتله كانط عن جدارة وتميز في ميدان الفكر الحديث‪ ،‬بحيث تعد الكانطية مدرسة قائمة الذات‪ ،‬وكثيرة هي اآلراء‬
‫والنظريات المؤطرة لحقول معرفية مختلفة التي ما كان لها أن تتطور بشكل واضح لوال اعتمادها على الكانطية نهجا‬
‫ومضمونا‪ ،‬مما يعني صعوبة حصر تأثيرات الكانطية في مجالها الفلسفي الضيق‪ .‬ويشكل كتاب " نقد العقل الخالص" لكانط‬
‫تحوال ثوريا في مسار الفكر الفلسفي إلى حد أن الفيلسوف شوبنهاور اعتبره كأعظم وأهم اإلنتاجات الفكرية األلمانية وأن‬
‫اإلنسان يبقى طفال في معرفته إلى أن يفهم كانط‪.‬‬

‫وهناك قناعة راسخة لدى المختصين بأن دراسة كانط تتطلب بذل مجهودات غير عادية‪ ،‬وبدونها ال يتيسر استيعاب الفكر‬
‫الكانطي‪ ،‬والسبب في ذلك راجع إلى تعقيدات وغموض أسلوب الكتابة الكانطية‪ ،‬وهي مالحظات وجهت لكانط نفسه فرد بقوله‬
‫موضحا أنه يكتب للفالسفة المحترفين الذين ليسوا بحاجة إلى الشرح والتوضيح‪ .‬ويذكر ويال ديورانت في كتابه "قصة‬
‫ا لفلسفة" أن كانط بعث بنسخة من مؤلفه "نقد العقل الخالص" إلى أحد أصدقائه من ذوي سعة االطالع قصد إبداء الرأي‬
‫والمالحظة‪ ،‬لكن صديقه أعاده إليه ولم يقرأ منه إال حوالي النصف‪ ،‬وكان عذره في ذلك أنه يخشى على نفسه من الجنون لو‬
‫واصل قراءة الكتاب بكامله!‬

‫نـــقــد الــعقــل الــخــالـص‬

‫ينتمي إيمانويل كانط للمذهب النقدي‪ ،‬بل إنه هو الذي وضع أسسه وقواعده‪ .‬ويبدو أن صعوبة الكانطية راجعة لكونها نقدا‬
‫داخل النقد ومن منطلق جذور نظرية المعرفة‪ ،‬لقد فرغ كانط من كتابة "نقد العقل الخالص" سنة ‪ 1781‬بعد فترة من البحث‬
‫والتمحيص والتنقيح دام ت خمسة عشر عاما‪ ،‬أضاف إليه مؤلفا ثانيا بعنوان "نقد العقل العلمي" سنة ‪ ،1788‬ومؤلفا ثالثا‬
‫حول "الدين في حدود العقل الخالص" سنة ‪ .1793‬وفي هذه المؤلفات الثالثة يستشف تطور تأثير كانط بكتابات ليبنتس‬
‫وبالمذهب التجريبي اإلنجليزي‪ ،‬قبل تربعه على عرش الفلسفة النقدية‪ .‬والمقصود من نقد العقل الخالص هو التحليل النقدي‬
‫الذي يؤدي إلى تنقية المعرفة من شوائب اإلدراكات الحسية‪ .‬إن الهدف عند كانط هو البحث في مدى وجود عقل خالص ال‬
‫يعتمد في معرفته على ما تزوده به الحواس‪ .‬إنه بحث في معرفة مستقلة عن كل أنواع التجربة وعن كافة الحواس‪ .‬كانت‬
‫المدرسة اإلنجليزية وعلى رأسها لوك تقول بأن المعرفة مستمدة كلها من الحواس‪ ،‬وذهب الفيلسوف هيوم إلى إنكار النفس‬
‫والعلم المذكورين عند ديكارت‪ ،‬معتبرا أن العقل ليس سوى أفكار متتابعة ومتعاقبة‪ ،‬وأنه ال يجوز القطع برأي يقين‪ ،‬فاآلراء‬
‫اليقينية ليست سوى احتماالت م عرضة دائما للنقد والنفي‪ ،‬ورد كانط على هذه األقوال بأن نتائجها باطلة نظرا لبطالن مقدمتها‬
‫المفترضة‪ .‬فعندما زعم هيوم أن كل معرفة اإلنسان تأتي عن طريق اإلدراكات الحسية المختلفة والمنفصلة‪ ،‬لم يكن قادرا على‬
‫إثبات أن سلسلة األحاسيس تشكل تتابعا ضروريا أو سياقا قارا على يقين دائم‪ .‬ويقر كانط أن اليقين المطلق للمعرفة أمر‬
‫مستحيل‪ ،‬لكن من يدلنا على وجود أو عدم وجود معرفة غير مستمدة من التجربة الحسية‪ ،‬بتعبير آخر‪ :‬هل الحقيقة المطلقة‬
‫والعلم ممكنان بدون استقبال العقل إلحساس واحد من العالم الخارجي؟ وهل هناك معرفة مطلقة ال تعتمد على الحواس‬
‫والتجربة؟ يوضح كانط قائال‪ :‬إن سؤالي هو ماذا نرجو أن نبلغ بالعقل‪ ،‬إذا أبعدنا كل مساعدة للتجربة الحسية؟ وهكذا انطلق‬
‫كانط في بحثه وتحليله المفصل ألصل األفكار‪ ،‬مختبرا أصل النظريات وتطورها وتشكيل العقل الموروث‪ .‬وفي ذلك قوله‪" :‬إن‬
‫التجربة ليست الميد ان الوحيد الذي يحدد فهمنا‪ ،‬لذلك فهي ال تقدم لنا إطالقا حقائق عامة‪ ،‬إنها تثير عقلنا المهتم بهذا النوع‬
‫من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه‪ .‬لذلك البد أن تكون الحقائق العامة التي تحمل طابع الضرورة الداخلية مستقلة عن‬
‫التجربة‪ ،‬واضحة ومؤكدة في نفسها‪ .‬إذ البد أن تكون حقيقية بغض النظر عن تجربتنا األخيرة‪ ،‬وحقيقية حتى قبل التجربة"‪.‬‬
‫ويؤكد كانط كثيرا على المعرفة الرياضية التي من شأنها في نظره أن تجعل اإلنسان مستقال عن كل أنواع التجربة‪ ،‬وال يرى ما‬
‫يمكن أن ينقضها في المستقبل‪ ،‬ويعطي مثال على ذلك باإلشارة إلى أننا قد نعتقد أن الشمس قد تشرق غدا من الغرب‪ ،‬أو أن‬
‫النار سوف ال تحرق العصا الخشبية في عالم ال تحترق فيه األشياء‪ ،‬ولكننا لن نعتقد أو نصدق طيلة حياتنا أن اثنين زائد اثنين‬
‫يمكن أن يسفر عن عدد غير األربعة‪ .‬إن مثل هذه الحقائق حقيقية قبل التجربة‪ .‬ويبقى السؤال هو‪ :‬من أين نحصل على هذه‬
‫الحقائق المطلقة؟ يجيب كانط على أن هذه الحقائق تستمد نوعها الضروري من التركيب الفطري للعقل‪ ،‬أي من الطريقة‬
‫الطبيعية الحتمية التي بموجبها يعمل العقل‪ .‬ومما يثير االنتباه الثقة التي أبان عنها كانط في الطرح والتحليل إلى مستوى قد‬
‫يصل إلى الغرور‪ ،‬فهو يقول‪ ":‬لق د استهدفت الكمال في هذا الكتاب وأنا أجرؤ على القول بأنك لن تجد قضية واحدة من قضايا‬
‫الميتافيزيقا إال ألفيت حال لها أو على األقل وجدت مفتاحا تستعين به على حلها"‪ .‬ال شك في أن فلسفة كانط أثارت مسائل‬
‫كثيرة بناء على تحليل ممنهج لمعايير فكرية من الصعب تكسير حلقات ها‪ .‬إن تمييزه لمظهر األشياء عن جوهر األشياء نفسها‬
‫يكفي لوحده لبناء صرح لتيار فلسفي عميق ومستقل‪ ،‬ناهيك عما جاء في الكانطية من عناصر النقد والتركيز التي تختبر‬
‫قدرات العقل اإلنساني في ذاته ومحيطه‪ ،‬فيما هو كائن وفيما يجب أن يكون‪...‬‬

‫األمر المطـلـق الكانـطـي‬

‫تكو ن اإلرادة صالحة من وجهة نظر كانطية متى كانت تعمل بمقتضى "الواجب" دون ابتغاء الحصول على منفعة أو االندفاع‬
‫تحت ضغط رغبة معينة‪ .‬في هذه الحالة يعتبر الواجب أمرا مطلقا‪ ،‬واألمر المطلق يكون دائما كليا بالضرورة ألنه قانون‪ ،‬وألن‬
‫الكلية هي خاصية القانون‪ .‬لقد أخذت الصياغة الكانطية لألمر المطلق شكال ثالثي األبعاد‪:‬‬

‫‪ -1‬اعمل كما لو كنت تريد أن تقيم الحكم الصادر عن فعلك قانونا كليا للطبيعة‪ ،‬مما يفيد إمكانية تعميم الفعل األخالقي‪.‬‬

‫‪ -2‬اعمل بحيث تعامل اإلنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر كغاية ال كوسيلة‪ ،‬مما يعني أن الفعل األخالقي غاية في حد‬
‫ذاته‪.‬‬

‫‪ -3‬اعمل كما لو كنت مشرع القانون‪ ،‬وهذا معناه استقالل اإلرادة وبالتالي حريتها‪.‬‬

‫غير أن تقرير الحرية يفضي إلى إمكانية انتماء اإلنسان إلى عالم غير حسي‪ ،‬بمعنى عالم معقول‪ ،‬ألن الحرية ليست متوافرة‬
‫في العالم الحسي ما دام مبدأ العلية يتحكم في الظوا هر‪ .‬والسؤال‪ :‬هل هناك من مبرر الفتراض هذا العالم المعقول؟ جواب‬
‫كانط‪ :‬إنه إثبات وجود هللا وخلود الروح‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. -17-‬سخرية فولتير ومواجهة الكنيسة‬
‫‪ -17/28‬سخرية فولتير‬

‫إذا أردت أال تنتحر فأوجد لنفسك عمال‪ ،‬فمن ال يعمل ال قيمة لحياته‪ ،‬كل الناس أحرار إال الكسالى‪ ،‬ال شيء يقضي على‬
‫العبودية كالتعليم‪ ،‬الحقيقة ليست اسما يطلق على حزب‪ ،‬أحفظني يا ربي من أصدقائي وسأحافظ على نفسي من أعدائي‪،‬‬
‫تجارتي أن أقول ما اعتقد‪ ...‬ليست هذه إال نتفات من أقوال فولتير األدبية الحكيمة والثورية التي ال تحصى‪ .‬إن فولتير لم يكن‬
‫أديبا مبدعا بقدر ما كان أديبا فيلسوفا ومفكرا جريئا وداعية للحرية والتخلص من الخرافات والتقاليد البالية‪ .‬لقد عانى من‬
‫النفي والسجن كما تعرضت كتبه للمصادرة‪ ،‬لكنه ظل صامدا في مواجهة الشدائد على اختالف تلويناتها‪ .‬قال عنه فكتور هيجو‬
‫إن اسم فولتير وحده يكفي لوصف القرن الثامن عشر بكامله‪ ،‬وقال المارتين‪" :‬إذا كنا سنحكم على الرجال بأفعالهم عندها‬
‫يكون فولتير أعظم كاتب في أوربا الحديثة‪ ،‬لقد وهبه هللا أربعا وثمانين سنة من العمر حتى يتمكن من تحليل العصر الفاسد‪،‬‬
‫وكان لديه الزمن ليحارب الزمن‪ ".‬ويضيف نيتش قائال‪ :‬لقد جاء فولتير فأذل الطغاة بسخريته‪.‬‬

‫ويعرف فولتير بغزارة إنتاجاته الموسوعية‪ ،‬فلقد ألف ما يزيد عن تسعين كتابا‪ ،‬وكان متقنا للكلمة الحلوة العذبة ومتمكنا من‬
‫فن الخطابة في أبهى صورها‪ .‬كان حادا في امتالكه بناصية ضروب المناقشات الجدالية‪ ،‬وسليط اللسان وناقدا الذعا عند‬
‫االقتضاء‪ .‬كان أعداؤه كثيرين وأصحاب نفوذ لكنهم لم يصمدوا أمام عبقريته‪ ،‬وبالطبع كان المعجبون بشخصيته وآرائه أكثر‬
‫من أعدائه‪ .‬لقد أصبح قبلة للزوار من كل مكان تقريبا‪ ،‬وكان يقابلهم بالترحاب والكلمات اللطيفة‪ .‬وذات يوم سأل فولتير أحد‬
‫الزوار ‪ :‬من أرسلك؟ فأجابه الزائر‪ :‬لقد أرسلني إليك السيد هللر‪ .‬ورد عليه فولتير‪ :‬إنه لرجل عظيم‪ ،‬وعبقري عالمي‪ .‬لكن‬
‫الزائر قال له‪ :‬إن ما تقوله يا سيدي هو أعظم التقدير للرجل ولكنه ال يقدرك كما تقدره‪ .‬فما كان من فولتير إال أن يقول على‬
‫الفور‪ :‬آه‪ ،‬ربما نكون كالنا مخطئا‪.‬‬

‫اسحقوا العار‬

‫لم يكن فولتير لينفي أطروحة ديدرو القائلة بأن اإليمان باهلل مرتبط بالتسليم بحكم الفرد أو الحكم المطلق وكالهما ينهضان‬
‫ويسقطان معا‪ ،‬وأن الناس لم يتحرروا إطالقا حتى يشنق آخر ملك بمصارين (أمعاء) آخر قسيس‪ .‬لقد انتقل فولتير تدريجيا من‬
‫السخرية الهزلية إلى المواجهة الصريحة والجادة مع الكنيسة‪ .‬وكانت هذه األخيرة تتمتع بسلطة مطلقة‪ ،‬خاصة في مدينة‬
‫تولوز حيث كان على لفولتير أن يتدخل لمواساة عائلة لجأت إليه خوفا من اضطهاد الكنيسة وتعصبها األعمى للمذهب‬
‫الكاثوليكي في صراعه مع البروتستانتية‪ .‬ولما عبر الفيلسوف دالمبير عن استيائه من الدولة والكنيسة معلنا أنه سيسخر من‬
‫كل شيء‪ ،‬أجابه فولتير بأن لم يعد هناك وقت للتهكم والسخرية وأن الفطنة والسخرية ال تنسجمان مع القمع والمجازر‪ .‬كما أن‬
‫األوضاع لم تعد لتسمح بالعروض الهزلية والتنكيت الساخر‪ ،‬وقال فولتير‪" :‬لقد أفلتت مني كل ابتسامة رغم إرادتي"‪ .‬ومن‬
‫هنا تبنى شعاره المعروف "اسحقوا العار"‪ ،‬وأعلنها حربا شعواء على الكنيسة‪ .‬ووجه دعوات إلى أصدقائه والمعجبين به‬
‫داعيا إياهم إلى المعركة‪" :‬وحدوا أنفسكم واقهروا التعصب واألوغاد‪ ،‬واقضوا على الخطب المضللة والسفسطة المخزية‬
‫والتاريخ الكاذب‪ ،‬ال تتركوا الجهل يسيطر على العلم‪ ،‬فالجيل الجديد سيدين لنا بعقله وحريته"‪.‬‬

‫ونظرا لسلطته المعنوية النافذة‪ ،‬فلقد قامت الكنيسة بإغرائه وشراء ذمته‪ ،‬وعرضت عليه قبعة كاردينال محاولة منها لتكميم‬
‫فيه‪ .‬رفض فولتير هذا العرض ولكنه بادر إلى إيقاف حملته تحت شعار "اسحقوا العار" وأصبح ينادي بالتسامح الديني‪،‬‬
‫معتبرا أنه لو تمسك رجال الدين بإقامة الشعائر وتسامحوا مع من يختلف معهم الستحقوا كل تقديره واحترامه‪" :‬إن اإلنسان‬
‫الذي كان يقول لي اَمن كما أومن وإال فان هللا سيعاقبك‪ ،‬يقول لي اآلن اَمن كما أومن وإال فإني سأقتلك"‪.‬‬

‫واضح أن فولتي ر لم يكن ضد الدين لكونه دينا وإنما ضد التعصب الديني‪ ،‬وراح يدعو إلى تسامح الناس فيما بينهم‪ ،‬وكانت‬
‫حملته التسامحية أوسع نطاق من حملته "اسحقوا العار"‪ ،‬بحيث أصدر العديد من المنشورات التاريخية‪ ،‬والمحاورات‬
‫والرسائل والتعاليم الدينية‪ ،‬والخطب التشهيرية‪ ،‬والهجو‪ ،‬والتقريع‪ ،‬والشعر‪ ،‬والحكايات‪ ،‬والقصص‪ ،‬والمقاالت التي كانت‬
‫تحمل اسمه أو أسماء مستعارة‪.‬‬

‫يرى فولتير أن كل الشعوب القديمة كانت ضحية الخرافات واألساطير التي صنعها وابتكرها القساوسة والكهنة‪ ،‬وقال‪" :‬لقد‬
‫كان أول كاهن أول محتال يقابل أول أحمق"‪ ،‬علما بأنه لم ينسب الدين إلى القساوسة ولكن حملهم مسؤولية علم الالهوت‪.‬‬
‫وقال إن الكهنة هم الذين يوحون بالتعصب المذموم للشعب‪ ،‬ويعيشون على كده وتعبه‪ ،‬يتنافسون على شراء الذمم بهدف‬
‫تمكنهم من السيادة على الشعب والسيطرة عليه‪.‬‬
‫وأما نشر هؤالء الكهنة للخرافات واألساطير ‪-‬في نظره‪ -‬فإنه ليس بدافع مخافة هللا‪ ،‬وإنما هي فقط وسيلة ترهيبية لنشر‬
‫نفوذهم وبسط سلطتهم على الشعب‪ .‬ولمقاومة الحملة الفولتيرية الملتهبة روجت األوساط المستهدفة إلشاعة مفادها أن‬
‫فولتير من كبار المالحدة‪ ،‬وهو ما كذبه تكذيبا باتا‪ .‬فقد قال في كتاب له بعنوان "الفيلسوف الجاهل" أنه قرأ آراء سبينوزا‬
‫حول وحدة الكون ولكنه ابتعد عنها لكونها آراء ملحدة‪ ،‬ثم إنه كتب إلى ديدرو قائال‪" :‬أعترف بأنني ال أوافق ساندرسون الذي‬
‫أنكر هللا ألنه ولد فاقد البصر‪ ،‬وقد أكون على خطأ ولكني لو كنت في مكانه العترفت بوجود عقل كبير عوضني الكثير عن‬
‫فقدان بصري كالعقل واإلدراك والتأمل والعالقات العجيبة التي تربط جميع األشياء"‪.‬‬

‫الواقع أن آراء فولتير أقوى من أن تخضع لتفسير ثابت‪ ،‬فقد كان ينكر مبدأ حرية اإلرادة‪ ،‬ويقول في النفس إن قراءة أربعة‬
‫آالف كتاب عن الميتافيزيقا سوف لن تعينه على معرفة ماهي النفس‪ .‬ويتساءل لماذا يمدح الناس أنفسهم باعتقاد الخلود‬
‫واألبدية فيهم فقط؟ ويجيب‪" :‬ربما يعود هذا إلى اإلفراط في زهوهم والتطرف في غرورهم‪ .‬أنا على يقين تام من أن الطاووس‬
‫لو استطاع أن يتكلم لرفع صوته متفاخرا بروحه وقال إنها موجودة في ذيله البديع"‪.‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ -18-‬الشعب ومبادئ الثورة الفرنسية‬

‫‪ -18/28‬مبادئ الثورة الفرنسية‬

‫أعفى نظام االمتيازات طبقة األشراف ورجال الدين وذوي الصلة بالبالط من جزء كبير من الضرائب‪ ،‬لقد استفحل االستبداد‪،‬‬
‫وتمردت طبقة البورجوازية الصاعدة‪ ،‬وتراجع نضام اإلقطاع‪ ،‬وتهلهل االقتصاد‪ ،‬وانتشرت أفكار فلسفية تدعو إلى اإلصالح‪،‬‬
‫واتسعت هوة الفوارق االجتماعية‪ ...‬ومع هذا كله كيف ال تحدث ثروة في البالد؟‬

‫لكن هناك ثورة وثورة‪ ،‬وما العناصر المشار إليها أعاله إال نظرة خاطفة على الجزء العائم من الجبل الثلجي‪ ،‬لقد كتب البير‬
‫ماتيي‪ ،‬وهو من المؤرخين للثورة الفرنسية‪ ،‬مال حظات وجيهة بهذا الصدد‪ ":‬إن الثورات الحقيقية‪ ،‬وأعني بها تلك التي ال‬
‫تقتصر على تغيير أشكال الحكم والمسؤولين الحكوميين بل تتعداها إلى تحويل المؤسسات وإعادة توزيع الملكية هي ثورات‬
‫تزحف ببطء تحت غطاء الزمان قبل أن تنفجر في واضحة النهار بتأثير من ظروف طارئة‪ .‬والثورة الفرنسية التي باغتت‬
‫المستفيدين منها وضحاياها على حد السواء‪ ،‬بشكل استحالت مقاومته‪ ،‬ظهرت إلى الوجود بعد قرن ونيف من الزمان وكان‬
‫اختمارها بتأن‪ .‬لقد كانت نتيجة لقطيعة تدريجية بين الوقائع والقوانين‪ ،‬بين المؤسسات والتقاليد‪ ،‬بين المنطوق ومدلوله"‪.‬‬

‫وهكذا تتميز الثورة الفرنسية التي اندلعت سنة ‪ 1789‬عن غيرها من الثورات بأنها كانت تعبيرا صارخا عن إرادة الشعب في‬
‫مواجهة نظام المؤسسات القائمة بأكمله‪ ،‬فهي لم تكن انقالبا عسكريا أو تغييرا للسلطة التنفيذية وبنيات نظام الحكم‪ ،‬بل تغييرا‬
‫طال كافة أشكال الكيان الداخلي لمؤسسة الدولة‪ ،‬وأرسى األسس لثقافة ثورية مبنية على جيل لم يسبق له مثيل من الحقوق‬
‫والحريات‪ ،‬ترتب عنه مفهوم جديد لإلنسان وانقلبت على إثره مفاهيم السيادة والسلطة السياسة رأسا على عقب‪ .‬فإذا كان‬
‫الملك لويس الرابع عشر يردد زمانه في عجرفة وغرور‪ :‬الدولة هي أنا‪ ،‬فإن الشعب الفرنسي ‪-‬وانطالقا من سنة ‪1789‬‬
‫بالتحديد‪-‬أصبح يردد في نشوة عارمة‪ :‬السيادة هي أنا!‬

‫الحرية‪ ،‬المساواة‪ ،‬اإلخاء‬

‫لم تكن مبادئ الحرية والمساواة واإلخاء إال تجسيدا لمفهوم سيادة الشعب‪ ،‬ولم يكن هذا شعارا أجوف وأسلوبا دعائيا تعبويا‪،‬‬
‫بل كان عنوانا للوفاء لروح الثروة‪ ،‬وضمانة إرادية للحفاظ على مكتسباتها‪ ،‬وعزما أكيدا على مواصلة بناء المجتمع وفقا‬
‫لمرتكزات الثورة ودعاماتها‪ .‬لقد أثمرت آراء فلسفة األنوار وتحقق ما تنبأ به فولتير بسنوات قبل اشتعال فتيل الثورة حين‬
‫قال‪" :‬كل شيء أراه ينبئ عن بذور ثورة ال مفر من وقوعها في يوم من ا أليام‪ ،‬والتي لن أسعد برؤيتها‪ .‬إن الفرنسيين يأتون‬
‫دائما متأخرين جدا‪ ،‬ولكنهم يأتون في النهاية‪ ،‬إن الضوء يمتد من الجيران إلى الجيران‪ ،‬وسيحدث انفجار ثوري عظيم في أول‬
‫فرصة‪ ،‬وعقبه هياج نادر‪ ،‬يا لسعادة الشباب ألنهم سيشاهدون أشياء بديعية وجميلة"‪ .‬وأشار كوندورسي إلى أن التقدم قد‬
‫يسير بخطى بطيئة أو حثيثة‪ ،‬لكنه في الحالتين حقيقة أكيدة‪ .‬وكان يعني بذلك حتمية تراجع عدم المساواة بين الناس‪ ،‬وأضاف‬
‫بنبرة تفاؤلية أن إفريقيا ستدخل طور حضارة تعتمد على الزراعة المستقرة‪ ،‬وأن الشرق سيشهد تشريعات حرة‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫شمس الحرية ما تلبث أن تشرق على الناس في كل مكان‪ ،‬إال أن الفاييت كان أكثر واقعية عندما ربط الحرية باإلرادة‪ ،‬موضحا‬
‫أن األمة إذا كانت تتطلع إلى الحرية فعليها أن تريدها وتصمم على نيلها‪.‬‬

‫وتراجع نفوذ سفاسطة السلطة في مواجهة فالسفة التجديد‪ ،‬لقد أوجز جاك روسو احتجاجه على االستبداد بقوله في مقدمة‬
‫"العقد االجتماعي"‪ :‬ولد اإلنسان حرا ومع ذلك فهو مقيد باألغالل من كل جانب‪ .‬لقد كانت األفكار تزخر بالنار‪ ،‬وهذا‬
‫طوماسبين يصيح مجاهدا في سبيل الحق‪" :‬حيث ال حرية فذاك وطني"‪ ،‬وهو شعار كان يعني به الدفاع عن استقالل الشعوب‬
‫ضد القهر والطغيان‪ .‬وفي رده ع لى إدمون بيرك الذي هاجم الثورة الفرنسية وانتقص من شأنها‪ ،‬دافع طوماسبين بقوة عن‬
‫حرية إرادة الشعب حتى ولو ارتضى هذا الشعب لنفسه أن يبقى سجينا للعبودية‪ .‬وقال في معرض تطرقه لنتائج الثورة‬
‫اإلنجليزية لسنة ‪ ،1688‬إن الذين ارتضوا أن ينزلقوا عن حقوقهم خضوعا للملك وليام وورثته كان من حقهم وهم أحياء أن‬
‫يختاروا حتى أن يكونوا عبيدا‪ ،‬لكن هذا ال ينقص من حق أبنائهم مثقال ذرة في أن يكونوا أحرارا‪ ،‬معبرا عن ذلك بقوله البليغ‪:‬‬
‫"ليس للخطأ ساللة شرعية"‪...‬‬

‫ارتقت مبادئ الحرية والمساواة واإلخاء إلى أهداف حقيقية‪ ،‬لكن تحقيق مثل هذه األهداف يصعب على العقل إنجازه‪ ،‬وهي‬
‫أهداف يستعصي تحديدها على وجه الدقة‪ .‬لقد أراد توركو وكوندروسي وميرابو وغيرهم من أتباع فولتير القيام بثورة سلمية‪،‬‬
‫لكنها لم تحظ بقبول المقهورين الذين كانوا يطالبون بالمساواة أكثر من مطالبتهم بالحرية‪ ،‬وهو شيء صعب المنال‪ " :‬أولئك‬
‫الذين ينادون بالمساواة بين الناس يقولون صدقا لوعنوا بقولهم مساواة الناس في الحرية والفرصة وامتالك األشياء وحماية‬
‫القانون‪ ،‬ولكن المساواة أكثر األشياء طبيعية وأكثرها خياال ووهما في الوقت ذاته‪ ،‬فهي طبيعية إذا اقتصرت على الحقوق‬
‫وغير طبيعية إذا حاولت مساواة الناس في الحكم والسلطة واألمالك والمتاع‪ ،‬ألن المواطنين ليسوا جميعهم على قدم المساواة‬
‫في القوة‪ ،‬ولكن يمكن مساواتهم في الحرية‪ ،‬هذه المساواة هي التي فاز بها الشعب اإلنجليزي‪ .‬وكونك حرا يعني أال تكون‬
‫خاضعا لشيء سوى القانون"‪ .‬وهكذا اتسع وتشعب نطاق هذه المفاهيم مع تطور مراحل الثورة نفسها‪ ،‬ففي البداية مثال كانت‬
‫الحرية تعني تحقيق أمن الفرد في وجه سلطات الدولة‪ ،‬وكان معنى المساواة هو المساواة بين أفراد المجتمع أمام القانون‬
‫وإلغاء االمتيازات‪ ،‬وأما األخوة فقد كانت تعني تآخي أفراد األمة بهدف إعادة توحيد العناصر االجتماعية التي بعثرتها‬
‫االضطرابات‪ .‬والسبب في عدم استقرار هذه المفاهيم واالنزالقات الخطيرة التي أدت إليها‪ ،‬بما في ذلك اللجوء المفرط إلى‬
‫المقصلة‪ ،‬يكمن على ما يبدو في تضارب القوة المحركة للثورة وما ينتج عن ديناميتها من مد وجزر‪ .‬وفي ذلك يقول المؤرخ‬
‫جورج لفيفر‪" :‬إن ال ثورة الفرنسية تمثل أربع حركات ثورية متمايزة‪ :‬ثورة أرستقراطية وثورة بورجوازية وثورة الفالحين‬
‫وثورة أهل المدن من موظفين وغيرهم من أصحاب المهن الحرة‪ .‬وقد كان تالقي هذه القوى األربع هو الذي خلق الثورة‬
‫الكبرى‪ ،‬كما أن افتراق هذه القوى أو حلولها في أوقات مختلفة هو الذي كان يعرقل سير الثورة أو يطيل أمدها"‪ .‬ويبقى من‬
‫المؤكد أن هذه المبادئ بالرغم من ضبابية مفاهيمها واإلشكاليات التي تطرحها‪ ،‬قد وضعت األسس الصلبة لدولة الحق‬
‫والقانون‪ ،‬وليس من قبيل الصدفة أن يقول مورا‪" :‬أساس كل حكومة حرة هو عدم خضوع أي شعب ألي شعب آخر قانونا‪،‬‬
‫وال ألي قانون عدا القانون الذي اختاره هو لنفسه‪ ،‬والتمتع بالسيادة التامة في بالده واالستقالل التام من أية سلطة بشرية‬
‫مفروضة عليه"‪.‬‬

‫حقوق اإلنسان والمواطن‬

‫في صباح ‪ 27‬غشت ‪ 1789‬وبعد ليلة من النقاشات الحادة في الجمعية الوطنية‪ ،‬أعلن الماركيز الفاييت البيان العام لحقوق‬
‫اإلنسان والمواطن الذي يجب أن يتخذ كقاعدة للدستور‪ ،‬وجاء في مقدمته االعتبارات التالية‪ " :‬إن ممثلي الشعب الفرنسي‬
‫المكونين للجمعية الوطنية يعتبرون جهل حقوق اإلنسان أو نسيانها أو ازدراءها هي األسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد‬
‫الحكومات‪ ،‬لذا فإنهم عقدوا العزم على عرض حقوق اإلنسان الطبيعية المقدسة التي ال يمكن التنازل عنها‪ ،‬ضمن إعالن‬
‫رسمي حتى يبقى هذا اإلعالن حاضرا وبصورة دائمة أمام أفراد المجتمع مذكرا إياهم باستمرار حقوقهم وواجباتهم‪ ،‬ولكي‬
‫تكون أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية‪ ،‬وبمقارنتها في كل لح ظة مع هدف كل مؤسسة سياسية‪ ،‬أكثر احتراما لها‪ ،‬وذلك‬
‫من أجل أن ترتكز مطالب المواطنين‪ ،‬من اآلن فصاعدا‪ ،‬على مبادئ بسيطة وغير متنازع بشأنها‪ ،‬تتمحور دائما حول الحفاظ‬
‫على الدستور وسعادة الجميع"‪ .‬وبالمقارنة مع الثورة اإلنجليزية فإن إعالن الحقوق في البرلمان اإلنجليزي كان مقتصرا على‬
‫التعبير عن حقوق اإلنسان اإلنجليزي القانونية والتاريخية ضد العرش‪ ،‬وكأنه عبارة عن جملة من المطالب النقابية‪ ،‬بينما‬
‫اإلعالن الفرنسي لحقوق اإلنسان كان قائما على مبادئ عامة من السهل تعميمها على سائر شعوب العالم‪.‬‬

‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإن الثورة الفر نسية أضحت نقطة تحول عميق في التاريخ السياسي للعالم الحديث‪ ،‬ولم تؤثر على شكل‬
‫ومحتوى األنظمة السياسية المعاصرة فحسب‪ ،‬بل أحدثت تغييرا جوهريا في تشكيل ثقافة اإلنسان الغربي‪ ،‬وكان لها الفضل في‬
‫إعطاء الدفعة الحاسمة لظهور سلطة من نوع جديد‪ :‬إنها سلطة الرأي العام‪ .‬لقد سجلت الثورة الفرنسية بحق منعطفا من‬
‫األهمية بمكان في مسيرة الفكر اإلنساني قاطبة‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. -19-‬نظرية العقد االجتماعي لروسو‬

‫ا‬
‫‪ -19/28‬نـظــرية الـعقـد االجـتمــاعي لـروسـو‬

‫ساهمت كتابات جون جاك لروسو‪ ،‬وبصفة خاصة مؤلفه" العقد االجتماعي" في إذكاء نار الثورة الفرنسية‪ .‬وتجلى تأثيرها‬
‫بشكل واضح على دكتاتورية اليعاقبة‪ ،‬إلى درجة أن روبسبيير كان يعتبر روسو المرجعية التي ما بعدها مرجعية‪ ،‬فهو بالنسبة‬
‫إليه " الصديق الحقيقي للجنس البشري" و" عبقري الحرية"‪.‬‬

‫وقد كان تأكيد أطروحات روسو ل مبدأ سيادة اإلرادة الشعبية السبب الرئيسي في هذا التأثير‪ ،‬كما كان لنقده الالذع بصدد‬
‫الالمساواة الوقع الحاسم لدى الفاعلين السياسيين الثوريين الذين اعتبروا أنفسهم المدافعين الحقيقيين عن الطبقات‬
‫المحرومة‪ ،‬بحيث أن تأثير روسو لم يتوقف عند مجرد أفكار سياسية واجتم اعية مذهبية‪ ،‬بل كان ينعكس كذلك على مستوى‬
‫القرارات والمراسيم التي كانت تصدر عن حكومة اليعاقبة بزعامة روبسبيير " النزيه " كما كان سكان باريس يلقبونه إلى أن‬
‫تم إعدامه سنة ‪.1794‬‬

‫وهكذا فقد أخذ اليعاقبة عن روسو اآلراء التي تبرر مبدأ المصادقة على القوانين باالقتراع الشعبي‪ ،‬وانتخاب الحكام والوالة‪،‬‬
‫والدكتاتورية الثورية‪ .‬كما وجدوا في النظرية الروسية المؤيدة لحق الدولة األسمى في أمالك المواطنين تبريرا لمكافحة‬
‫االحتكار والمضاربة‪ ،‬وتحديد األسعار من قبل الدولة‪ ،‬وإحداث القروض القسرية‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة على أن أهمية فلس فة روسو االجتماعية ال تكمن في الدور الذي لعبته خالل الثورة الفرنسية فحسب‪ ،‬بل‬
‫اتسعت دائرة تأثيراتها لتطال تيارات الفكر االجتماعي والسياسي التي ميزت نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن الموالي‪،‬‬
‫وكثيرا ما يثار الفكر الروسي اليوم بخلفيته اإلصالحية حتى وإن كانت الرومنسية هي سمته الطاغية‪.‬‬

‫الحـنيــن إلى الـحـــالـة الطبيعيــة األولـى‬

‫صدر كتاب " العقد االجتماعي " لروسو سنة ‪ ،1762‬وقبله بعشر سنوات تقريبا نشر روسو كتابا تحت عنوان " مقالة في‬
‫أصل الالمساواة بين البشر" الذي كان بمثابة الحجر األساسي في بناء نظرية فلسفته االجتماعية‪ ،‬تلك النظرية التي اتخذت‬
‫من "الحالة الطبيعية" فرضيتها العامة‪ .‬وال يعتبر روسو هذه الحالة الطبيعية من قبيل الحقائق التاريخية‪ ،‬بل يشك في‬
‫وجودها أصال‪ ،‬وما هي في نظره إال فرضية يعتبرها مالئمة لتقييم وضع المجتمع البشري في القرن الثامن عشر‪.‬‬
‫ويقول بهذا الصدد ‪ ":‬يتضح لنا من قراءة الكتاب المقدس أن اإلنسان األول‪ ،‬الذي تلقى على الفور من هللا العلم واألخالق‪ ،‬لم‬
‫يعرف تلك الحالة إطالقا‪ ،‬وإذا ما صدقنا كتابات موسى ‪ ،‬وهذا أمر واجب على كل فيلسوف مسيحي‪ ،‬تحتم علينا أن ننفي أن‬
‫يكون البشر قد وجدوا أنفسهم في الحالة الطبيعي ة الخالصة حتى قبل الطوفان‪ ،‬إن الدين يأمر باإليمان بأن هللا هو الذي أخرج‬
‫البشر من حالة طبيعتهم األولى‪ ،‬فإذا جاءوا غير متساوين فألنه شاء ذلك‪ ،‬لكنه ال يمنعنا من إطالق التخمينات‪ ،‬المستوحاة من‬
‫طبيعة اإلنسان والكائنات التي تحيط به حول ما كان سيؤول إليه الجنس البشري فيما لو ترك أمره لنفسه"‪ .‬لعل تحفظات‬
‫روسو كانت تمليها االنتقادات المحتملة لعلماء الالهوت‪ ،‬ألنه فيما يخص الدين المسيحي تحديدا لم تكن له مواقف من شأن‬
‫الكنيسة أن ترتاح إليها هذه األخيرة‪ ،‬فلقد جاء في فصل من فصول "العقد االجتماعي" االعتماد على دوافع دينية لضمان‬
‫استمرارية الدولة‪ ،‬والقوة التي تستمدها القوانين من ذاتها غير كافية طالما لم تدعمها قوة الدين‪ .‬ويؤكد روسو أنه "ما من‬
‫دولة قامت إال وكان الدين أساسها "‪ .‬لكنه يضيف أن المسيحية ليس في وسعها أن تكون ذلك الدين‪ ،‬ألنها في نظره تضر‬
‫بالنظام الدستوري لكونها تفرض ع لى البشر واجبات متناقضة تجاه سلطتين واحدة روحية واألخرى زمنية‪ .‬وهذا في نظره ما‬
‫يسبب في تحطيم الوحدة االجتماعية‪ ،‬وأما الروح االجتماعية فإنها تتعارض كذلك مع ما يسمى بالمسيحية اإلنجيلية الصافية‪،‬‬
‫وفي ذلك قوله‪ ":‬إن المجتمع المكون من مسيحيين حقيقيين لن يكون مجتمعا بشريا"‪ .‬وطن اإلنسان المسيحي ليس في نظره‬
‫على هذه األرض‪ ،‬وبالتالي فإن "الجمهورية المسيحية" من مستحيالت األمور‪ .‬وعوض المسيحية يتحدث روسو عن‬
‫ضرورة اعتماد "دين مدني" أو "دين طبيعي" تحظى عقائده باهتمام الدولة نظرا لما له من عالقة بأخالق المواطنين‬
‫وواجباتهم‪ ،‬و هي عقائد بسيطة يلخصها روسو في وجود األلوهية الكلية القديرة‪ ،‬الذكية‪ ،‬الحكيمة‪ ،‬البصيرة‪ ،‬والحياة اآلخرة‪،‬‬
‫والسعادة للمقسطين‪ ،‬والعقاب لألشرار‪ ،‬وقدسية العقد االجتماعي والقوانين‪ .‬ويبقى من صالحيات الدولة أن تنفي خارجها كل‬
‫مواطن ال يلتزم بهذه التعاليم ال لكونه كافر ا وإنما لكونه ال يصلح للحياة االجتماعية‪ .‬ولكن المواطن الذي يعلن صراحة إيمانه‬
‫بهذه التعاليم وبعد ذلك يتصرف كالملحد‪ ،‬فإن للدولة الحق في إعدامه ألنه كذب أمام القانون‪.‬‬

‫وبالرجوع إلى فرضية "الحالة الطبيعية" فإن روسو يرى أن هناك مبدأين يسبقان ظهور العقل عند اإلنسان الطبيعي‪ ،‬هما‬
‫غريزة البقاء والرأفة‪ :‬غريزة البقاء تحتم على اإلنسان االهتمام بوسائل عيشه وتحسينها في الوقت الذي تدفعه غريزة الرأفة‬
‫إلى اإلحساس بفظاعة آالم الموت للكائنات الحية وخاصة البشرية منها‪ .‬وعلى هذين المبدأين تتأسس قواعد القانون الطبيعي‪.‬‬
‫لهذا فإن الب شر في الحالة الطبيعية ليسوا بالصالحين وال باألشرار حيث ال تجمع بينهم أية عالقات أخالقية أو واجبات‬
‫مشتركة‪ ،‬وهنا يتعارض روسو مع هوبز الذي يعتبر اإلنسان البدائي شريرا وفاسدا‪ .‬ويرى روسو أن الرأفة التي سبقت‬
‫محاوالت التفكير األولى كانت تلعب في الحالة الطبيعية دو ر القوانين‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والفضيلة‪ .‬وهي بذلك كانت تخفف من حدة‬
‫نزوات األنانية اإلنسانية‪ ،‬فالمشاجرات بصدد المجال الطبيعي أو االستحواذ على األنثى كانت نادرة للغاية عند المتوحشين‬
‫الذين يعتبرهم روسو سعداء على مرور تعاقب أجيالهم‪ ،‬ألنهم كانوا يجهلون الحياة االجتماعية‪ ،‬والملكية‪ ،‬واألسرة‪ .‬كانوا‬
‫ينعمون باالستقرار الدائم وكادت الالمساواة تنعدم فيما بينهم‪ ،‬إال أن تظافر علل وظروف خارجية هو الذي أدى إلى خروج‬
‫اإلنسان من الحياة الطبيعية في نظره‪.‬‬

‫ظـــهــور المــجتمــع المــدنـي‬

‫اكتشف اإلنسان النار بمجرد الصدفة‪ ،‬مما ساعد على شحذ حس المالحظة عنده‪ ،‬وأخذت مداركه تتكون تدريجيا‪ ،‬فظهرت‬
‫اللغة‪ ،‬وبدأ العقل البشري في تحسين أدائه في تعامله مع الطبيعة‪ ،‬وطور الفأس الحجرية‪ ،‬وبنى مسكنه األول‪ ،‬وظهرت‬
‫األسرة ومعها عناصر الملكية األولى‪ ،‬وتوفرت إذن العوامل الموضوعية لبناء الحياة االجتماعية‪ .‬وهنا يبدي روسو تشاؤمه‬
‫بالنسبة لمستقبل اإلنسانية‪ ":‬إن أوجه التقدم الالحق‪ ،‬التي بدت في ظاهرها وكأنها خطوات على طريق كمال الفرد‪ ،‬لم تكن في‬
‫الواقع إال خطوات على طريق انحطاط النوع"‪ .‬إنها مصادفة مشؤومة في نظره ما كان لها أن تقع‪ ،‬فالظروف الخارجية كان‬
‫من الممكن أن تكون وأ ال تكون في هذه الحقبة من الزمان أو تلك‪ .‬و اآلن و قد انخرط اإلنسان في بناء نظامه االجتماعي إلى‬
‫حد أن هذا االنخراط أضحى من مقومات طبيعته البشرية‪ ،‬ها هو عصر البؤس والشقاء قد بدأ‪ ":‬لقد عاش البشر أحرارا‪،‬‬
‫وأصحاء‪ ،‬وصالحين‪ ،‬وسعداء طالما قنعوا بكوخهم البسيط‪ ،‬واكتفوا بلبس الجلود ثيابا وبالريش واألصداف زينة‪ ،‬وانصرفوا‬
‫إلى تجويد أقواسهم ونبالهم‪ ،‬وإلى تشذيب األشجار باألحجار القاطعة لصنع زوارق للصيد‪ ،‬وبفنون ال يستوجب مشاركة كثرة‬
‫من األيدي‪ ،‬لكن ما إن راودت اإلنسان حاجة إلى أن يؤازره آخر‪ ،‬وما إن أدرك الفرد الواحد فوائد جمع المؤن إلثنين‪ ،‬حتى‬
‫اختفت المساواة‪ ،‬وظهرت الملكية‪ ،‬وغدا العمل ضروريا‪ ،‬وتحولت الغابات الشاسعة إلى حقول غناء كان على اإلنسان أن‬
‫يرويها بعرقه ّ‪ ،‬وسرعان ما نبتت فيها العبودية والشقاء والبؤس جنبا إلى جنب مع المحاصيل الزراعية "‪.‬‬
‫ويعتبر روسو الملكية العقارية كالخطوة األولى التي قطعها الجنس البشري نحو االنحطاط والدمار‪" :‬إن أول من سيج أرضا‬
‫وقال هذا ملك لي‪ ،‬ووجد أناسا سذجا بما فيه الكفاية ليصدقوا قوله‪ ،‬هو المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني‪ .‬وكم من جرائم‪،‬‬
‫وحروب‪ ،‬واغتياالت‪ ،‬ومصائب‪ ،‬وفظائع كان سيوفرها على الجنس البشري ذلك الذي كان عليه أن يقوم بنزع األوتاد أو ردم‬
‫الهوة الفاصلة بين أرض وأخرى‪ ،‬صارخا في وجه أقرانه بقوله‪ :‬حذار من اإلصغاء إلى هذا المحتال‪ ،‬فلسوف يكون مآلكم إلى‬
‫الهالك إن نسيتم أن الثمار للجميع وأن األرض ليست ألحد "‪ .‬وليس في نظرية روسو ما يوحي بميله إلى اعتبار الملكية‬
‫كعنصر ضمن عناصر القانون الطبيعي‪ ،‬بل كانت في نظره مؤسسة تاريخية وعامال سلبيا في تاريخ البشرية‪ ،‬ألنها مصدر‬
‫لصراع المصالح والالمساواة والشقاء والعبودية‪ ،‬بيد أنه كان يميز بين الالمساواة الطبيعية الناتجة عن الوالدة‪ ،‬والالمساواة‬
‫االجتماعية التي أقامها البشر أنفس هم والتي نجمت عنها عالقات السيطرة واالستعباد‪ ،‬والعنف والنهب‪ .‬وما دام من شيم‬
‫اإلنسان التضحية بسعادة فعلية ولو في سبيل سالم وهمي‪ ،‬فإن تأسيس ملكية األرض هو الذي قاده إلى اعتماد ميثاق‬
‫اجتماعي‪ ،‬وإنشاء سلطة عامة ووضع قوانين‪ ،‬مما أضفى في النهاية صفة القدسية على الملكية‪ ،‬وأفضى بالتالي إلى ترسيخ‬
‫مبدأ اإلرادة الشعبية كأساس الختيار من ينوب عن الشعب في تدبير الشأن العام‪ ،‬وكل استبداد هو تحريف للعقد االجتماعي‪،‬‬
‫لذلك يقول روسو‪ " :‬إن الشعوب قد نصبت عليها قادة ليدافعوا عن حريتها ال ليستعبدوها "‪ .‬وهكذا حال تشكيل المجتمع‬
‫المدن ي دون هالك البشرية‪ ،‬فما خسره اإلنسان هو حريته الطبيعية وما ربحه هو حريته المدنية‪ ،‬ويمكن تلخيص جوهر" العقد‬
‫االجتماعي" في هذه العبارة‪ " :‬يضع كل واحد منا شخصه وكامل طاقته تحت اإلمرة العليا لإلرادة العامة‪ ،‬ويعامل كل عضو‬
‫على أنه جزء ال يتجزأ من الكل"‪ .‬واإلرادة العامة في النظرية الروسية مستقيمة على الدوام وتهدف بطبيعتها إلى المصلحة‬
‫العامة‪.‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. -20-‬السالم في القرن ‪ 18‬األوروبي‬

‫‪ -20/28‬ثقافة السالم في القرن الثامن عشر األوروبي‬


‫قبل الثورة الفرنسية كانت الحروب تجري على نطاق ضيق‪ ،‬وال تتم تعبئة كل طاقات البلدان المعنية من أجل الخوض فيها‪،‬‬
‫وأما اإلعالن عنها فإن البالطات األوربية كانت تنفرد به دون استشارة مسبقة لشعوبها‪ ،‬وفي حالة تشكيل تحالفات بين الدول‬
‫فإنها سرعان ما تتفسخ بشكل فجائي‪ .‬وكانت الجيوش مكونة في غالبيتها من عناصر مرتزقة‪ ،‬مغامرين وصعاليك‪ .‬وإلى عهد‬
‫الثورة الفرنسية لم يكن الجيش يحظى بأي تقدير‪ ،‬إلى درجة أ ن عددا من المباني العامة كان مكتوبا على واجهاتها شعار‪ :‬ال‬
‫كالب‪ ،‬وال عمالء‪ ،‬وال عساكر‪.‬‬

‫لقد وصف الكونت دوسانجرمان‪ ،‬المعروف بإصالحاته العسكرية الجريئة‪ ،‬الجيش وصفا يعكس صورة سلبية تماما‪" :‬إننا‬
‫نتطلع إلى تشكيل جيش مكون من رجال يحظون بالثقة‪ ،‬يتم اختيارهم من بين العناصر الممتازة‪ ،‬ولكن هل يجب أن نهدم‬
‫الوطن من أجل تشكيل الجيش من عناصر ممتازة؟‬

‫في الظروف الراهنة ال يمكن تشكيل الجيوش إال من حثالة المجتمع ومن عناصره غير النافعة‪ ،‬بعد ذلك سيكون على النظام‬
‫التأديبي العسكري أن يتولى تطهير هذه الكتلة الفاسدة بهدف استخراج شيء نافع من هذا العجين"‪ .‬وعموما لم تكن الحروب‬
‫تخلف أعدادا ضخمة من القتلى والمعطوبين‪ ،‬كما أنها لم تكن تحدث دمارا ماديا واسع االنتشار‪ .‬لهذا لم يكن الناس يعتبرونها‬
‫بمثابة كوارث‪.‬‬

‫مشروع التوازن األوربي‬

‫عقد عدد من المفكرين آماال عريضة على حكمة الملوك وعلى مبدأ احترام العقود كعاملين أساسيين يحوالن دون اشتعال‬
‫الحروب ويدعمان إقامة سالم دائم بين الدول‪ .‬لكن هذا التيار السلمي لم يكن ترجمة لشعور شعبي عام ومتجذر‪ ،‬سيما وأن‬
‫الرأي العام بمفهومه المعاصر لم يتطور بعد‪ ،‬والمجتمعات األوربية كانت في واقع أمرها مسيرة من طرف نخب أرستقراطية‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى يبدو أن آراء بعض المفكرين حول السالم كانت مقتصرة على المجال األوربي دون غيره‪ ،‬وهكذا لم يتردد‬
‫الفيلسوف ليبنتس في توجيه النصيحة إلى الملك لويس الرابع عشر وحثه على غزو بالد الشرق ومصر على وجه الخصوص‪.‬‬

‫وفي سنة ‪ 1693‬أصدر وليامبين كتابه "دراسة في السالم األوربي اآلني والمستقبلي"‪ .‬وكان يدعو فيه إلى عدم اللجوء إلى‬
‫استعمال القوة كمبدأ يجب على المسيحيين التمسك به‪ ،‬كما حث على تقليص حجم األسلحة الموجودة آنذاك‪ ،‬وكانت مجمل‬
‫أرائه قريبة من أفكار الفيلسوف سبينوزا الذي قال‪" :‬السالم ليس هو غياب الحرب ولكنه فضيلة نابعة من قوة الروح"‪ .‬وفي‬
‫سنة ‪ 1713‬أصدر دوسانبيير كتابه "مشروع من أجل إحالل سالم دائم في أوربا"‪.‬‬

‫ولم يكن صدور هذا المشروع بدافع من اعتبارات دينية عامة أو مذهبية عقائدية خاصة‪ ،‬وإنما كان بإيحاء من الملك هنري‬
‫الرابع الذي كان يخطط لتحقيق توازن أوربي‪ ،‬وذلك عبر إحداث نوع من "التحالف المقدس" بين ملوك أوربا‪ ،‬تكون الغاية‬
‫منه هي الحفاظ على الوضع القائم فيما يتعلق بالحدود اإلقليمية‪ .‬وكان هذا المشروع عبارة عن نظرة إصالحية تميزها روح‬
‫اإلنسية النفعية‪.‬‬

‫البحث عن السالم الدائم‬

‫وانكب عدد آخر من المفكرين على البحث عن وسائل قمينة بإلغاء الحروب وإقامة سالم دائم بين الشعوب‪ ،‬فكتب روسو‬
‫مقالة بعنوان "السالم الدائم" يدعو فيها إلى أخوة أوربية تستهدف تحقيق ذلك السالم‪ ،‬وتقي الناس شر الحروب‪ .‬وطلب من‬
‫مل وك أوربا أن يؤلفوا حلفا أخويا قويا‪ ،‬يلتزم بموجبه كل األعضاء بالوقوف إلى جانب من كان منهم عرضة لغارة على حقوقه‬
‫وأراضيه‪.‬‬

‫وكان روسو في "العقد االجتماعي" قد حث على احترام االختالف‪ .‬فالحرية والمساواة هما بالنسبة له المبدآن الموجهان‬
‫للتشريع الصالح‪ ،‬إال أن ذلك ال يعني أن يفرض هذا البلد أو ذاك تشريعاته على اآلخر‪ ،‬ألن القوانين يجب أن تتكيف مع‬
‫الظروف المحلية وخصائص سكان كل بلد على حدة‪ ،‬وإذا كانت هناك مبادئ عامة مشتركة بين الجميع‪ ،‬فإن كل نظام تشريعي‬
‫ينطوي على مجموعة من الضوابط والمعايير الخاصة بهذا الشعب وال تصلح لغيره‪ .‬ويعطي روسو أمثلة على سبيل المقارنة‬
‫مقتفيا أثر مونتيسكيو‪ ،‬حيث بدا له أن تشريع العبرانيين والعرب كان يتميز بتركيزه على الدين‪ ،‬في حين أن تشريع قرطاجة‬
‫كان يتمحور حول التجارة‪ ،‬وتشريع روما حول الفضيلة‪ .‬لقد كانت آراء روسو في السالم تدور أساسا حول واقع المجتمعات‬
‫األوربية دون غيرها‪.‬‬
‫وكتب كانط عام ‪" 1795‬المشروع الفلسفي للسالم الدائم" وأظهر فيه استخفافه بالتوازن األوربي الوارد في وثيقة‬
‫دوسانبيير‪ ،‬وعبر كانط بكل وضوح عن فكرة مؤداها أن السالم ليس قضية ملوك وإنما هو قضية شعوب‪ ،‬واعتبر الحرب‬
‫كتدخل غير مقبول في شؤون بلد م ستقل‪ .‬لقد اتخذ كانط موقفا معارضا للتجنيد اإلجباري‪ ،‬وأكد على أن إعالن الحرب ال يجب‬
‫أن يتم إال بموافقة الشعب‪ .‬ومن أجل وضع حد للحروب اقترح كانط خطة من ثالث نقاط‪:‬‬

‫‪ – 1‬العمل على تنمية التجارة‪ ،‬مما يدفع الشعوب لالنخراط إن عاجال أم آجال في تطوير هذه الحركة المنافية بطبيعتها‬
‫للحرب‪ .‬وتجدر اإلشارة إلى أن هذه الفكرة بالضبط تبنتها البورجوازية الليبرالية في القرن التاسع عشر‪ ،‬ولكن كوسيلة لتطوير‬
‫الرأسمالية أكثر منها كهدف إليقاف الحروب والنزاعات الدموية‪.‬‬

‫‪ -2‬نشر األخالق الديمقراطية ‪ :‬يعتقد كانط أن السالم فضيلة أخالقية ولكنها فضيلة الشعوب وليست فضيلة الملوك‪ ،‬بمعنى أن‬
‫األنظمة الملكية في نظره تشكل خطرا على السالم‪.‬‬

‫‪ -3‬العالنية أو ما نسميه اليوم بالشفافية ‪ :‬يعلل كانط تأكيده على إدراج هذه النقطة في خطته المقترحة بأن سرية المفاوضات‬
‫هي من العوامل المشجعة على اندالع الحروب‪ ،‬ويرى أن سياسة األنظمة الديمقراطية المعتمدة على الوضوح والمنافية‬
‫للتعتيم اإلعالمي هي سياسة ال شك في كونها تدعم السالم‪.‬‬

‫لقد أبان كانط عن جرأة نادرة ووضوح في منتهى الصراحة‪ ،‬فلم يرفع صوته من أجل وقف السباق نحو التسلح فحسب‪ ،‬بل‬
‫نادى بتصفية الجيوش وإلغائها‪ ،‬وربط هذا المشر وع بتحضير الشعوب بمفهومه الصحيح‪ ،‬وأنحى بالالئمة على الحكام قائال‪:‬‬
‫"إن حكامنا ال يملكون المال لإلنفاق على تعليم الشعب وتثقيفه ألنهم حولوا كل مواردهم المالية في االستعداد للحرب‬
‫القادمة"‪.‬‬

‫ويرى كانط أن هذه النزعة العسكرية المتنامية سببها التوسع األوربي في أمريكا وإفريقيا وأسيا‪ ،‬ذلك التوسع الذي ال يغديه‬
‫في الحقيقة سوى اللصوصية األوربية وما يترتب عنها من صراعات السلب والنهب‪ .‬وإنه سباق من أجل الحصول على المزيد‬
‫من الغنائم ونشر المزيد من الظلم والفساد واستباحة دماء األبرياء‪ ،‬وفي ذلك يقول‪ " :‬إن سلوك هذه الدول المشين والبعيد‬
‫عن اإلنسانية‪ ،‬وأخص بالذكر الدول التجارية في قارتنا األوربية والمظالم التي ترتكبها في حق شعوب البلدان األجنبية‪ ،‬يمأل‬
‫نفوسنا بالرعب‪.‬‬

‫إن مجرد زيارة هذه الدول لتلك الشعوب تعتبر كافية لغزوها‪ .‬فقد اعتبرت الدول األوربية االستعمارية البالد التي اكتشفتها‬
‫كأ مريكا وبلدان الزنوج وجزر التوابل‪ ،‬ورأس الرجاء الصالح وغيرها من البلدان مباحة ال تخص أحدا‪ .‬ولم تقم وزنا لسكانها‬
‫األصليين‪ .‬وقد وقع هذا كله من أمم مألت العالم ضجيجا ولغطا بتقواها وورعها‪.‬‬

‫وفي الوقت الذي تسقى فيه هذه األمم الظلم كالماء‪ ،‬تعتبر نفسها صفوة الدين وشعب هللا المختار"‪ .‬ومن هنا كان كانط يشدد‬
‫على أال تعلن الحرب إال باستفتاء جميع المواطنين "إننا – كما يقول كانط – إذا خيرنا الذين تقع عليهم أعباء الحرب ويكتوون‬
‫بنارها بين السلم والحرب‪ ،‬فإنهم سيختارون السلم حتما‪ ،‬وبذلك لن يعود التاريخ يسطر بالدماء"‪.‬‬

‫إنها بحق صرخة العقل من إيمانويل كانط‪...‬‬

‫وعموما‪ ،‬لم تكن فكرة مجتمع أممي أو دولي قد تبلورت بعد‪ ،‬وربما مرد ذلك إلى ضبابية مفهوم "األمة" نفسه‪ .‬فال كتاب‬
‫"روح القوانين" لمنتيسكيو‪ ،‬وال "المعجم الفلسفي" لفولتير‪ ،‬وال مراجع أخرى كانت تحتوي على تعريف لكلمة "أمة " كما‬
‫جاءت في المعجم السياسي الحالي‪ .‬هذا مع العلم أن الثورة الفرنسية قدمت تعريفا لكلمة "وطن" على لسان أحد مؤسسي تيار‬
‫اليعاقبة كان يدعى سياييس‪ :‬الوطن هو ذلك القانون المشترك وتلك التمثيلية المشتركة‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ - 21 -‬رسالة سبينوزا والهرطقة واللعنة‬

‫‪ -21/28‬الرسالة السياسية لسبينوزا‬

‫تأثرت فلسفة سبينوزا بالروافد اليهودية للثقافة األندلسية المتمثلة في مؤلفات موسى بن ميمون وابن جبرول والتي كانت‬
‫بدورها متأثرة بالفلسفة اإلسالمية‪ ،‬غير أن تأثير الديكارتية عليها كان أكبر‪ ،‬إال أن سبينوزا بدأ تفكيره الفلسفي من حيث‬
‫انتهى ديكارت‪.‬‬

‫فبينما تبدأ فلسفة ديكارت بالعقل في الذات الفردية وتنطلق من العبارة المشهورة "أنا أفكر إذن أنا موجود" لتصل إلى فكرة‬
‫هللا‪ ،‬فإن فلسفة سبينوزا على عكس ذلك تنطلق من فكرة هللا‪ ،‬وهذه النقطة بالضبط هي التي عبر عنها سبينوزا كمؤاخذة على‬
‫كل الفالسفة الذين لم يعملوا بنهجه‪ ،‬وقال‪ " :‬إنهم لم يتبعوا الترتيب المطلوب من أجل التفلسف‪.‬‬

‫لقد اعتقدوا أن الطبيعة اإللهية تعرف في اَخر األمر‪ ،‬وأن األمور المحسوسة تأتي في أول األمر مع أنه كان ينبغي عليهم أن‬
‫يبدؤوا بتأمل الطبيعة اإللهية قبل غيرها ألنها هي األولى سواء من وجهة نظر المعرفة أو من حيث الطبيعة‪ .‬ثم إنهم لما‬
‫اعتقدوا بهذه الطبيعة اإللهية كان من المستحيل عليهم أن يفكروا في األوهام األولى التي أقاموا عليها معرفة األمور الطبيعية‬
‫ألنها كانت بغير فائدة لمعرفة الطبيعة اإللهية"‪.‬‬

‫ليست البداية إذن من الكوجيتو الديكارتية وإنما من هللا أو الجوهر بتعبير سبينوزا‪" :‬الجوهر ما هو في ذاته ويدرك بذاته‬
‫وأعني بذلك أن تصوره ال يتوقف عند تصور شيء اَخر يتكون منه بالضرورة"‪ .‬وهللا والطبيعة شيء واحد في فلسفة سبينوزا‬
‫مهما قد يوحي ذلك بميله إلى المادية المحضة‪.‬‬

‫ويعتبر سبينوزا وجود العالم جبر يا وليس مقصودا أو له غرض معين‪ ،‬فالعالم مسير بطريقة حتمية‪ ،‬ونظرا ألن اإلنسان‬
‫يتصرف وفق غايات واعية لذلك تراه يفترض أن جميع األحداث لها مثل هذه الغايات ومتصلة بحاجاته كإنسان‪ ،‬وهذا ما‬
‫اعتبره سبينوزا مجرد وهم‪ .‬وأما الخير والشر أو القبح والجمال فهما أمران اعتباريان يعودان إلى أذواق البشر‪ ،‬وليست لهما‬
‫حقيقة ثابتة‪ ،‬وهو يقول في ذلك‪" :‬إنني ال أعزو إلى الطبيعة جماال أو قبحا وال نظاما أو اضطرابا‪ ،‬واألشياء توصف بالجمال‬
‫أو القبح والنظام أو عدمه بالنسبة إلى مداركنا وتصورنا فقط"‪.‬‬

‫والتساؤالت التي يطرحها سبينوزا من أجل الوصو ل إلى حقيقة معرفية هي‪ :‬كيف أعرف أن معرفتي هي المعرفة الحقة؟ وهل‬
‫من الممكن الوثوق بحواسي فيما تنقل إلى ذهني من المحسوسات؟ وهل من الممكن االعتماد على عقلي بالنتائج التي‬
‫يستمدها من األحاسيس التي تقدمها له الحواس؟ أليس من الواجب أن أبذل ما في وسعي إلصالحها؟‬

‫الهرطقة واللعنة‬

‫ينحدر سبينوزا من أصول يهودية استقرت في هولندا‪ ،‬ولما سطع نجمه الفلسفي ظهر أن استقالله الفكري كان ينأى به عن‬
‫تعاليم اليهودية‪ ،‬فاستهدفته الرقابة واستهدفه االضطهاد‪ ،‬بحيث لم يتم نشر كتابه األساسي "األخالق" إال بعد موته سنة‬
‫‪ .1677‬وأما الكتب األخرى التي نشرها وهو على قيد الحياة فكانت هي " مبادئ الفلسفة الديكارتية" و "رسالة في الدين"‬
‫التي ما إن ظهرت سنة ‪ 1670‬حتى وضعت فورا في القائمة السوداء وحظرت الحكومة بيعها لكن تم تداولها تحت عناوين‬
‫مختلفة تضليال للرقابة‪ ،‬وقد سبق لرجال الكنيس اليهودي أن استدعوا سبينوزا عام ‪ 1695‬متهمين إياه بالهرطقة‪ ،‬وجاء قرار‬
‫أعضاء المجلس اليهودي بإنزال اللعنة والحرمان بالمدعو سبينوزا وفصله عن شعب إسرائيل ‪ ":‬وليكن مغضوبا وملعونا‪،‬‬
‫ليال ونهارا‪ ،‬وفي نومه وصبحه‪ ،‬ملعونا في ذهابه وإيابه‪ ،‬وخروجه ودخوله‪ ،‬ونرجو هللا أن ال يشمله بعفوه أبدا‪ ،‬وأن ينزل‬
‫عليه غضب هللا وسخطه دائما‪ ،‬ويحمله جميع اللعنات المدونة في سفر التشريع‪ .‬ونسأل هللا أن يخلص أولى الطاعة منكم‬
‫وينقذكم‪ .‬وأال يعيش أحد معه تحت سقف واحد‪ ،‬وأال يقترب أحد منه على مسافة أربعة أذرع‪ .‬وأال يقرأ أحد شيئا جرى به قلمه‬
‫أو أمال ه لسانه"‪.‬‬

‫لم يكن سبينوزا يفرق بين التوراة واإلنجيل‪ ،‬فبالنسبة إليه اليهودية والمسيحية دين واحد‪ ،‬ويستغرب كيف استولى الحقد‬
‫وعمت البغضاء صفوف اليهود والمسيحيين‪ ،‬في وقت تدعو فيه المسيحية مثال إلى السعادة واالعتدال واإلحسان إلى جميع‬
‫الناس‪ .‬ويرى من وجهة نظر أخرى أن سر احتفاظ اليه ود ببقائهم يكمن إلى حد كبير في مدى كراهية المسحيين لهم‪ ،‬وأن‬
‫االضطهاد الذي تعرضوا له كان دافعا إلى وحدتهم وتماسكهم‪ ،‬وال يرى مانعا في دمج اليهود مع الشعوب األوربية بعد إزالة‬
‫هذه الخالفات العقائدية‪ ،‬خاصة منها تلك المتعلقة بطبعة المسيح‪ ،‬إنه ال يعترف بتأليه المسيح‪.‬‬

‫كما يرى سبينوزا أن الكتاب المقدس ال يستهدف مخاطبة العقل وإقناعه‪ ،‬وإنما يرمى إلى إثارة الخيال وجذبه والسيطرة‬
‫عليه‪ ،‬لذلك يتعدد فيه ذكر المعجزات‪ ،‬مما يستهوي عقلية الجماهير ويتناسب معها‪ .‬وهذا بالطبع يتنافى مع المفهوم‬
‫السبينوزي للعقل الذي يؤكد أن العقل ليس وكالة للبيع تتجر باألفكار‪ ،‬لكنه هو األفكار نفسها في سيرها وتسلسلها‪ .‬وكان من‬
‫الواضح أن فلسفة سبينوزا السياسية تنطلق من حياة اإلنسان البدائية قبل ظهور المجتمعات‪ ،‬حين كان الناس يعيشون في‬
‫فوضى بغير قانون أو نظام اجتماعي‪ ،‬وكانت لديهم مفاهيم الصواب والخطأ أو ال عدل والظلم منعدمة تماما‪ ،‬بينما كانت القوة‬
‫هي الحق‪ .‬وكان الفكر السياسي اَخر ما انصرفت إليه كتابات سبينوزا‪.‬‬

‫الهدف من الدولة هو إقرار الحرية‬

‫يؤيد سبينوزا النظام الديمقراطي ويعتقد أن الناس لم يولدوا مواطنين اجتماعيين‪ ،‬لذلك وجب تدريبهم و إعدادهم إلقامة‬
‫مجتمع يت اح فيه تبادل المساعدات وضمان األمن‪ ،‬واإلنسان ليس خيرا وصالحا كما عبر عن ذلك روسو في "العقد‬
‫االجتماعي" وإنما كان مجبرا على التنازل عن أعمال العنف مقابل تنازل اآلخرين عن أعمال العنف‪ ،‬لهذا فالقانون ضروري‬
‫للحد من أهواء الناس وكبح عواطفهم األنانية‪ ،‬وإقامة النظام بين الناس يجب أن تكون مستندة إلى العقل وليس إلى الرغبات‪،‬‬
‫وهنا تتدخل الدول بقوة اإلكراه‪ ،‬لكن ليس هدفها هو تقليص قوة مواطنيها‪ ،‬اللهم إال إذا كانت هذه القوة تلحق الضرر بأفراد‬
‫المجتمع‪ .‬وتبقى وظيفة الدولة في توسيع الحريات وليس في تضييفها‪ ،‬إذ الغاية هي تحرير اإلنسان من الخوف وتمكينه من‬
‫العيش في وئام مع جيرانه‪ .‬ويوضح سبينوزا هذا بقوله‪" :‬إنني أكرر القول بأن الغاية من الدولة ليست تحويل الناس إلى‬
‫وحوش كاسرة واَالت صماء‪ ،‬ولكن الغاية منها هي تمكين أجسامهم وعقولهم من العمل في أمن واطمئنان‪ ،‬وأن ترشدهم إلى‬
‫حياة تسودها حرية الفكر والعقل‪ ،‬كيال يبددوا قواهم في الكراهية والغضب والغدر بحيث ال يظلم بعضهم بعضا"‪.‬‬

‫لكن ماذا يفعل الناس في حالة القوانين الجائزة التي تخنق الحريات؟ وما هو موقف الشعب إذا كانت الدولة مسخرة لمصلحة‬
‫الطبقة الحاكمة‪ ،‬بحيث يسعى الحكام إلى االستئثار بالمناصب العليا وال يفسحون المجال لغيرهم للوصول إلى الحكم؟ كان‬
‫جواب سبينوزا جوابا محافظا بتأكيده على طاعة القوانين حتى ولو كانت جائرة وظالمة‪ ،‬لكن شريطة أال تمنع الحكومة الناس‬
‫من حرية التعبير واالحتجاج للوصول إلى تغيير األوضاع بالطرق السلمية‪ .‬فمن شأن حرية الكالم والنقد أن يؤدي في النهاية‬
‫إلى تغيير الفساد‪ ،‬ويعترف سبينوزا بالمساوئ الناجمة عن حرية التعبير‪ ،‬ولكنه يقر في نفس الوقت أن الناس غير معصومين‬
‫من األخطاء‪ ،‬وأنه كيفما كان الحال فإن القوانين المقيدة لحرية التعبير والفكر تفسد كل قوانين الدولة‪ ،‬وغالبا ما يؤدي هذا‬
‫الوضع إلى ثورة‪ ،‬وكلما صعدت الحكومة من وتيرة مواجهتها لحرية التعبير كلما زاد عناد الشعب واشتدت مقاومته لها‪ .‬إن‬
‫الناس بوجه عام ال يطيقون كبت آرائهم وال يعتبرون أنفسهم ملزمين باحترام القوانين في حالة كبت حرية التعبير‪ .‬ونظرا‬
‫لكون الناس يختلفون في تفكيرهم فإن صوت األ كثرية هو القانون‪ .‬وإذا كان يفهم من هذا الطرح تغليب النظام الديمقراطي‬
‫على سائر أشكال أنظمة الحكم األخرى فإن سبينوزا ال يستبعد‪ ،‬في حالة فساد الديمقراطية‪ ،‬تفضيل الناس لحكم الطاغية على‬
‫الفوضى في نهاية المطاف‪.‬‬

‫"مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ .. -22-‬االقتصاد عند "الفيزيوقراطيين‬


‫‪ 22/28‬ـ المنظور االقتصادي عند الفيزيوقراطيين‬

‫يعد فرانسوا كيسناي المؤسس للمذهب الفيزيوقراطي‪ ،‬ومازال كتابه "الجدول االقتصادي" الصادر عام ‪ 1758‬يشكل محطة‬
‫هامة في تطور الفكر االقتصادي‪ .‬وينطلق كيسناي من اعتبارات فلسفية وتحليالت اقتصادية فالحية تؤلف نظريته االجتماعية‬
‫التي أثارت اهتمام عدد من أنصاره فأغنوها بأفكارهم وتجاربهم اإلصالحية‪ ،‬ويرى كيسناي أنه يجب على النظام االقتصادي أن‬
‫يخضع للقانون الطبيعي‪ ،‬وما على المشرع إال االمتثال ألحكام هذا القانون السرمدي‪ ،‬وكل تدخل للسلطة من أجل التأثير على‬
‫اإلنتاج والتوزيع يعد تعسفا‪ ،‬وكان تعبير الفيزيوقراطيين بهذا الصدد يترجمه بكل وضوح شعارهم المعروف‪ :‬دعه يعمل‪ ،‬دعه‬
‫يمر‪ .‬ومصدر الثورة عندهم هو األرض التي تعطي "ناتجا صافيا " يوزع على طبقات المجتمع الثالث‪ :‬طبقة أصحاب األمالك‬
‫العقارية‪ ،‬وطبقة المزارعين ال مستأجرين لألراضي الفالحية‪ ،‬وطبقة غير منتجة تتكون من صناع وتجار‪ .‬بمعنى أن طبقة‬
‫المزارعين هي وحدها الطبقة المنتجة‪ ،‬وأما الطبقتان األخريان فتكتفيان بتحويل عناصر الثروة دون زيادة حجمها‪.‬‬

‫المذهب الفيزيوقراطي هو في الواقع عبارة عن مزيج من الليبرالية االقتصادية أو ما يسمى في هذا المذهب باالستبداد‬
‫المستنير‪ .‬ويتمحور الفكر الفيزيوقراطي حول أربع نقاط هي‪ :‬الطبيعة‪ ،‬الحرية‪ ،‬األرض‪ ،‬ومفهوم استبداد القوانين‪ .‬وفيما‬
‫يخص هذا المفهوم‪ ،‬فإن الفيزيوقراطيين ينطلقون من موقف المؤيد للملكية المطلقة‪ ،‬ويعتبرون أن دور الملك في هذا النظام‬
‫هو من البساطة بمكان ‪ ،‬بحيث يكفيه أن يترك األمور للقوانين‪ ،‬وأن ال يتدخل إال نادرا‪ ،‬وتعتبر نظريتهم السياسية نظرية‬
‫مناهضة لمبدأ المساواة ‪ ،‬كما أنها ال تعترف بأي دور للهيئات المؤطرة للمجتمع المدني‪.‬‬

‫ويرى كيسناي أن سيادة الملك يجب أن تكون هي السيادة الوحيدة التي يخضع لها جميع أفراد المجتمع وكل المصالح‬
‫الخاصة‪ ،‬وتذهب النظرية الفيزيوقراطية إلى اعتبار أن الملكية العقارية هي الشكل الحقيقي للملكية‪ ،‬وعليه فإن أصحاب العقار‬
‫هم المؤهلون إلدارة شؤون البالد بحكم امتالكهم لألرض‪.‬‬

‫وأما الحرية فهي موجودة أصال في القانون الطبيعي‪ ،‬وليس أمام المشرع سوى االنصياع لمقتضيات هذا القانون‪ .‬ومن‬
‫الناحية التنظيمية المتعلقة بإصالح الملكية العقارية‪ ،‬طالب كيسناي بجمع األراضي المخصصة لزراعة الحبوب في إطار‬
‫مزارع كبرى يستثمرها فالحون أغنياء‪ ،‬قائال‪" :‬ينبغي أن يكون سكان المملكة من المزارعين األغنياء"‪ ،‬ويرى أن كثرة‬
‫المزارعين الصغار تلحق الضرر بالشعب‪ ،‬كما دعا إلى توظيف الرساميل بكثافة في العالم القروي‪ ،‬ولكن ليس بهدف إيجاد أو‬
‫تكريس توازن ديموغرافي معين‪ ،‬أو بقصد القضاء على الفقر‪ ،‬وإنما كان همه في إغناء األغنياء‪ .‬وقال‪" :‬المطلوب هو‬
‫اجتذاب الثروات إلى األرياف‪ ،‬ال الرجال "‪.‬‬

‫القانون الطبيعي الفيزيوقراطي‬


‫ال يبحث كيسناي‪ ،‬على غرار لوك وهوبز‪ ،‬في الحالة التي يفترض فيها أن اإلنسان كان عليها قبل ظهور المجتمع‪ ،‬بل إنه‬
‫يلقى نظرة على اإلنسان كما هو‪ ،‬ويالحظ أن كل ما تقوم به الكائنات البشرية من حركات طبيعية هو قبل كل شيء رهين‬
‫باحترام حياة وممتلكات بعضها البعض‪ ،‬وهذا هو في نظره أساس القانون الطبيعي الذي ال عالقة له إطالقا باألخالق‪ ،‬إذ‬
‫يقول‪ ":‬ما أعنيه بالحقوق الطبيعية هو تلك الحقوق التي مكنتنا الطبيعة منها‪ ،‬كالحق في النور لكل إنسان منحته الطبيعة‬
‫عيون"‪ .‬فالحق في الطبيعة من هذا ا لمنظور هو حق التمتع بالحياة وحق ممارسة اإلنسان لكل ملكاته وكفاءاته‪ ،‬وهو كذلك‬
‫يعني حق الملكية‪.‬‬

‫وقد تطورت هذه الفكرة عند كيسناي على مرحلتين‪ ،‬ففي سنة ‪ 1747‬كان يرى أن حق الملكية مرتبط أساسا بفكرة الحفاظ‬
‫على الحياة البشرية التي تفترض مبدأ توزيع الملكية‪ ،‬دون أن يشير ال من قريب وال من بعيد إلى مفهوم العمل‪ ،‬حتى وإن‬
‫كانت فكرة لوك وإرادة عنده‪ ،‬ومؤداها أن األرض كانت ستبقى غير مزروعة لوال الملكية‪.‬‬

‫ويقول كيسناي‪" :‬كل الناس لهم الحق في كل شيء بدون تمييز‪ ،‬لكن النظام يحتم على كل إنسان أن يتنازل عن حقه العام‬
‫غير المحدود ألن حقه الفعلي تحدده الطبيعة بكمية الحاجات الضرورية لضمان بقائه‪ .‬لذلك كان على الناس إما أن يختاروا‬
‫نمط عيش الحيوانات‪ ،‬وفي هذه الحالة يستحوذ كل إنسان يوميا على الكمية التي يحتاجها‪ ،‬وإما أن يتواضعوا على طريقة‬
‫للتوزيع تضمن لكل منهم كمية معينة"‪.‬‬

‫وبعد مرور عشرين سن ة على هذا الطرح‪ ،‬راجع كيسناي نفس الفكرة مدافعا عن حق الملكية‪ ،‬ولكن أصبحت هذه المرة‬
‫مقترنة عنده بالعمل‪" :‬إن الحق الطبيعي لكل إنسان يقتصر في الواقع على الكمية التي يمكنه الحصول عليها عن طريق‬
‫العمل"‪.‬‬

‫وال يرى كيسناي ضرورة تحديد الملكية‪ ،‬وبالنسبة له تعد الالمساواة في الثروات مقبولة وبدون تقييد‪ ،‬وذلك وفقا للقانون‬
‫الطبيعي‪" :‬إن هناك عددا ال يحصى من العوامل الطبيعية التي تعزز الالمساواة بشكل ضروري ال مفر منه‪.‬‬

‫وهذه العوامل ال تخضع بتاتا لنظام األخالق‪ ،‬وإنما تندرج في نسق عام وشمولي وتعمل على ضمان البقاء بالمفهوم الكلي‪،‬‬
‫وتفاعالتها تحدث بناء على منظور وتصميم القوة الخارقة التي خلقت الكون‪ ،‬كما أن أبناء البشر أنفسهم يساهمون في إفراز‬
‫هذه الالمساواة‪ ،‬وهم ليسوا مسؤولين عن التعويض المتبادل للخسائر فيما بينهم‪ ،‬خاصة إذا كانت هذه الخسائر ناجمة عن‬
‫سوء التصرف لحريتهم "‪.‬‬

‫وهكذا يخلص كيسناي إلى أن اإلنسان كان مجبرا على ترك الحالة الطبيعية‪ ،‬حيث كانت الملكية محصورة في ثمار العمل‪،‬‬
‫ودخول الحياة االجتماعية التي ال تضع أي تقييد للملكية‪ ،‬وهذا هو منبع الشعار الذي رفعته المدرسة الفيزيوقراطية "دعه‬
‫يعمل‪ ،‬دعه يمر"‪.‬‬

‫مفهوم رأس المال‬

‫أول ما الحظه كيسناي هو دور رأس المال في تنمية الدخل القومي‪ ،‬واتضحت له مدى األهمية التي تكتسيها القدرة التمويلية‬
‫فيما يخص اقتناء وسائل اإلنتاج‪ ،‬وهذه الوسائل بالنسبة له تتجسد قبل كل شيء في الثيران والخيول التي تجر المحاريث‬
‫وتنتج السماد إلخصاب األرض‪ ،‬مما يمكن من رفع المرد ودية‪ ،‬كما تبين لكيسناي أنه كلما تمت زراعة األرض بعناية اعتمادا‬
‫على رأس مال مهم‪ ،‬كلما وفرت لمالكها دخال أهم‪.‬‬

‫وكان يعتقد أن في الصناعة والتجارة ال يوجد دخل يمكن مقارنته بالدخل الذي تتيحه مردودية الملكية العقارية في المجال‬
‫الفالحي‪ ،‬بمعنى أن التجارة والصناعة ك انتا تشكالن في نظره قطاعا عقيما‪ ،‬وكان هذا هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه كيسناي‬
‫ومعه بقية الفيزيوقراطيين‪ .‬إذ لم يكن قادرا على تحليل الدخل الذي يحققه صاحب العقار ليرى أن هذا الدخل ما هو في الحقيقة‬
‫إال اقتطاع من األرباح التي حققها مستأجر المزرعة‪ ،‬وأن األرباح ليست محصورة في القطاع الفالحي‪ ،‬بل يمكن تحقيقها كذلك‬
‫في الصناعة والتجارة‪.‬‬

‫بيد أن كيسناي نظر فعال إلى القطاع الصناعي فوجده آنذاك عبارة عن قطاع للصناعة التقليدية‪ ،‬واألرباح فيه ضعيفة جدا‬
‫حتى أنها ال تكاد تتميز عن أجرة عمل الصانع التقليدي‪ ،‬هذا فضال عن موقف كيسناي المعارض أصال للمركانتيلية التي ظهرت‬
‫على أنقاض النظام اإلقطاعي‪ ،‬ونادت بتدعيم ثروة الدولة من خالل تنمية التجارة وتكديس المعادن الثمينة كالذهب‪ .‬وقد كتب‬
‫كيسناي في هذا السياق‪ ":‬إن ثروة البالد ال يمكن أن تتجلى في الكتلة النقدية وال يمكن معرفة إيجابية التجارة وال الوضع‬
‫االقتصادي لبلد ما من خالل ميزانه التجاري"‪.‬‬

‫صحيح أن كيسناي لم يكن يجهل الفرق الحاصل بين فائدة األشياء المرتبطة بعناصرها المادية من جهة‪ ،‬وقيمتها التبادلية‬
‫التي هي من إنتاج المجتمع من جهة أخرى‪ .‬لكنه لم يفهم أن وحدها القيمة التبادلية كانت موضوع االقتصاد السياسي‪،‬‬
‫وبالتالي فإنه لم يخصص تحليال مستفيضا لمسألة القيمة‪ .‬الفيزيوقراطيون بصفة عامة لم يطوروا تصورا لرأس المال أبعد من‬
‫عناصره المادية كالمعدات والمواد األولية وأجرة العامل الفالحي‪ ،‬متأثرين في ذلك بآراء مؤسس المذهب‪ .‬لقد قال كيسناي‪:‬‬
‫"تجولوا في المزارع و الورشات وانظروا سوف تجدون مباني وبهائم‪ ،‬وبذور ومواد أولية‪ ،‬ومعدات من جميع األشكال‬
‫واألنواع "‪.‬‬

‫لم يكن إذن رأس المال في النظرية الفيزيوقراطية مفهوما على أساس عالقته االجتماعية التي تتحدد بموجبها األنماط‬
‫االقتصادية‪ ،‬إال أن تعريفها للرأسمالية بمصطلحات مادية وتقنية كان على كل حال خطوة إلى األمام بالنسبة ألسالفهم‬
‫المركنتيليين الذين لم يكونوا يميزون بين رأس المال والمال‪ ،‬وأما الحقوق االقتصادية للمواطن فلم تكن واردة بتاتا عند‬
‫المذهبين حتى في صفتها التلميحية‪.‬‬

‫وقد استفادت النظرية الماركسية من تجربة الفيزيوقراطيين‪ ،‬وفي ذلك قول ماركس‪" :‬كان كيسناي شخصيا‪ ،‬وكذلك تالمذته‬
‫المقربون‪ ،‬يؤمنون بيافطاتهم اإلقطاعية‪ ،‬بيد أن مذهب الفيزيوقراطيين يشكل في الواقع أول تصور منهجي لإلنتاج‬
‫الرأسمالي"‪ .‬وهكذا بالرغم من طابعها الالتاريخي‪ ،‬نظرا الرتكازها على القانون الطبيعي‪ ،‬فإن النظرية الفيزيوقراطية مهدت‬
‫الطريق على األقل أمام ظهور التيار االقتصادي السياسي الكالسيكي بزعامة آدم سميث‪.‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ -23-‬آدم اسميث وتطور الفكر االقتصادي‬


‫‪-23/28‬إسهامات اَدم سميث في تطور الفكر االقتصادي‬

‫اعتمد الفيزيوقراطيون في فرنسا خالل النصف الثاني من القرن التاسع عشر على النظرية الرأسمالية الزراعية وكانت‬
‫آثارها محدودة وجد نسبية‪ ،‬وفي نفس الفترة تقريبا دخلت إنجلترا مرحلة بناء الرأسمالية الصناعية‪ ،‬وفي هذا السياق‬
‫التاريخي تبلور فكر عالم االقتصاد اإلسكوتلندي اَدم سميث وجاءت عناصر نظريته على شكل دراسة وصفية تحليلية لنمط‬
‫اإلنتاج الرأسمالي‪ .‬ازداد اَدم سميث سنة‪ ، 1723‬واهتم خالل فترة تكوينية بدراسة الالهوت‪ ،‬ومارس مهنة التدريس بجامعتي‬
‫كالسكو وأدنبره‪ ،‬حيث كان يلقي محاضرات في المنطق‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والقانون‪ ،‬واالقتصاد السياسي‪ .‬وفي سنة ‪ 1759‬نشر‬
‫كتابا في األخالق بعنوان " نظرية المشاعر األخالقية" سرعان ما القى نجاحا ساهم في شهرة مؤلفه‪ .‬وفي الفترة الممتدة ما‬
‫بين ‪1764‬و‪ 1766‬تنقل اَدم سميث بين تولوز وجنيف وباريس‪ ،‬حيث كانت له لقاءات مع الفيزيوقراطي كيسناي وأتباعه‪.‬‬
‫وفي سنة ‪ 1776‬نشر كتابه المعروف‪" :‬دراسة في طبيعة ثروة األمم وأسبابها"‪ ،‬عرف فيما بعد اختصارا تحت عنوان "ثروة‬
‫األمم"‪ .‬بعد ذلك استقر اَدم سميث في لندن‪ ،‬ثم عمل مفوضا للجمارك بأدنبره حيث توفي عام ‪.1790‬‬

‫هذا ويعتبر اَدم سميث المؤسس لعلم االقتصاد الحديث ورائد المدرسة اإلنجليزية الكالسيكية في هذا الميدان‪ .‬ولم تكن دراساته‬
‫مجرد تحل يالت اقتصادية تقنية جافة‪ ،‬بل كانت مفعمة بروح الفلسفة الليبرالية التقليدية مع نوع من التجديد على مستوى‬
‫المنهج‪.‬‬

‫مرتكزات الليبرالية االقتصادية‬

‫بالمقارنة مع النظرية الفيزيوقراطية‪ ،‬كان فكر اَدم سميث أكثر عمقا وتماسكا‪ .‬لقد جاء كتاب "ثروة األمم" مقسما تقسيما‬
‫منهج يا إلى عدة محاور تصب كلها في اتجاه الظاهرة االقتصادية قصد محاولة فهم مختلف مكوناتها‪ .‬وهكذا تناول الكتاب‬
‫تقسيم العمل‪ ،‬التبادل‪ ،‬النقود‪ ،‬رأس المال وكيفية تشكيله‪ ،‬نظرية الربح ونظرية األجور والدخل‪ ،‬باإلضافة إلى دراسة نقدية‬
‫موجهة آلراء الفيزيوقراطيين والمركنتليين‪ ،‬إلى جانب دراسة في المالية العامة وضع اَدم سميث ضمنها المبادئ الضريبية‪.‬‬
‫والكتاب في مجمله هو في الواقع عبارة عن مرافعة للدفاع عن الحرية االقتصادية شبه المطلقة وعن النظام الرأسمالي بصفة‬
‫عامة‪ ،‬ووجه المبالغة فيه هو كونه يعتبر تلك الحرية االقتصادية كشرط ضروري وكاف لتحقيق التقدم االقتصادي في كل‬
‫األزمان‪.‬‬

‫وقد تطرق اَدم سميث في البداية لداعمتين من الدعامات الرئيسية في العلوم االقتصادية الحديثة‪ ،‬وهما اإلنتاج والتوزيع‪.‬‬
‫وكان تركيزه على اإلنتاج تركيزا واضحا عندما قال‪" :‬إن ثروة األمم ال تنمو كما ادعى المركنتليون تبعا لزيادة الذهب والفضة‬
‫وإنما يحدث هذا النمو بسبب زيادة اإلنتاج"‪ .‬واإلنتاج عند اَدم سميث هو خلق للمنفعة‪ ،‬وليس خلقا لمادة جديدة كما ذهب إلى‬
‫ذلك التيار الطبيعي‪ .‬وعندما كان اَدم سميث يؤيد الحرية االقتصادية‪ ،‬فإنه يعزز رأيه بعدم تدخل الدولة في شؤون االقتصاد‪،‬‬
‫معتبرا أن هذا التد خل يضر بالمصلحة العامة التي يضمنها القانون الطبيعي‪ ،‬ولكنه أشار إلى بعض االستثناءات التي تمكن‬
‫الدولة من التدخل في مجاالت كالتعليم والمالحة واإلصدارات النقدية‪ .‬وحصر واجبات السلطة في ثالث مهام‪:‬‬
‫‪ -‬الدفاع عن البالد ضد االعتداءات الخارجية‪،‬‬

‫‪ -‬السهر على ضمان حسن سير العدالة‪،‬‬

‫‪ -‬إنجاز المشاريع االقتصادية التي يعجز األفراد أو يمتنعون عن القيام بها‪ ،‬كأن تكون غير مربحة أو تفوق قدراتهم المالية‬
‫على سبيل المثال‪.‬‬

‫وبتدقيق أكثر‪ ،‬كانت الليبرالية التي نادى بها اَدم سميث تخص الدولة بوظائف محددة‪ ،‬وهي‪ :‬تسهيل اإلنتاج‪ ،‬والحفاظ على‬
‫األمن‪ ،‬واحترام القانون‪ ،‬وحماية الملكية‪ .‬وقد كانت إسهاماته تسلط الضوء ليس فقط على تاريخ الفكر االقتصادي وضرورة‬
‫عقلنته الليبرالية‪ ،‬بل كذلك على تاريخ الفكر السياسي ومعالجته معالجة جد محافظة‪ .‬والواقع أن اَدم سميث لم يكن يعبر عن‬
‫اَمال وتطلعات الطبقة ا لبورجوازية بقدر ما كان يعبر عن دينامية الشعب البريطاني دون اإلخالل بتركيبته االجتماعية‪ .‬لقد‬
‫تطرق لموضوع المصلحة الفردية وخلص إلى التقاء المصالح العامة والشخصية في النظام الرأسمالي الحر تحت تأثير ما‬
‫أسماه ب "اليد الخفية"‪ .‬ويقول بهذا الصدد‪" :‬المنتج ال يتطلع إال إلى ربحه الخاص‪ ،‬ولكن يدا خفية تدفعه دفعا من حيث ال‬
‫يدري إلى الهدف األسمى الذي يتالءم والمصلحة العامة"‪ .‬ومن هنا كان دفاعه عن أطروحة التجانس األساسي بين المصلحة‬
‫الفردية والمصلحة العامة‪ ،‬كما دافع عن مزايا المنافسة وحث على االدخار‪ ،‬وكان يعتقد اعتقادا راسخا باستمرارية التقدم‬
‫االقتصادي‪ ،‬وبأن الثروة الحقيقية لألمة هي العمل الوطني‪.‬‬

‫العمل مصدر لكل ثروة‬

‫اعتبر اَدم سميث العمل بشتى أشكاله ومراحله مصدر القيمة األساسي لثروة األمم‪ ،‬وهو أول من نادى بضرورة "تقسيم‬
‫العمل" ألن ذلك يؤدي إلى رفع المردودية‪ ،‬وبالتالي إلى رفع مستوى اإلنتاج الذي يؤدي بدوره إلى تنمية ثروة األمة‪ .‬وفي‬
‫محاولة منه لمعالجة القيمة االقتصادية لعنصر العمل في الدورة اإلنتاجية‪ ،‬طرح اَدم سميث مبدأ معادلة الثمن الطبيعي للبضائع‬
‫المنتجة بالنظر لما تتطلبه تلك البضائع من عمل يستهدف إنتاجها‪ ،‬ويوضح ذلك بقوله‪" :‬يكون الثمن الذي يتقاضاه اإلنسان‬
‫العامل طبيعيا إذا كان هذا الثمن كافيا لضمان عيشه خالل فترة العمل‪ ،‬وكافيا لسد النفقات المترتبة عن تعليمه وتكوينه‪ ،‬وكافيا‬
‫لتعويض األخطار المحدقة بحياته أو تلك التي تهدد نجاحه في عمله‪ .‬وإذا حصل ذلك فإنه سيكون حافزا مشجعا بالنسبة‬
‫للعامل‪ ،‬وبالتالي سيكون إنتاج البضاعة في مستوى تلبية وإشباع الطلب"‪ .‬وفعال‪ ،‬اتخذ اَدم سميث كقاعدة تحليلية توضيحية‬
‫مبدأ ربط الثمن الطبيعي بالمدة الزمنية الضرورية للقيام بالعمل من أجل إنتاج البضاعة‪.‬‬

‫ورغم إقراره بكون العمل مصدرا للثروة‪ ،‬فإن ذلك لم يمنعه من مالحظة عدم تناسبية الثروات والمداخيل مع العمل الذي تم‬
‫إنجازه من طرف هذا العامل أو ذاك إلنتاج تلك الثروات أو تحقيق تلك المداخيل‪ ،‬موضحا‪" :‬في مجتمع متحضر هناك طبعا‬
‫تقسيم للعمل ولكنه ليس تقسيما متساويا‪ ،‬فقد يوجد عدد من الناس الذين ال يقومون بأي عمل‪ ،‬كما أن تقسيم الثروات ال‬
‫يتناسب مع تقسيم العمل‪ .‬إن دخل صاحب المتجر مثال يتعدى مداخيل أجرائه مجتمعين‪ ،‬علما بأنه يعمل أقل منهم‪ ،‬وهؤالء‬
‫بدورهم يتقاضون أجرا يفوق ست مرات أجر نفس العدد من الحرفيين الذين يعملون أكثر منهم‪ .‬كما يتقاضى الحرفي الذي‬
‫يعمل مرتاحا في بيته أجرا يفوق أجر العامل المياوم المسكين‪ ،‬مما يوضح أن أعباء المجتمع الثقيلة يتحملها أولئك الذين‬
‫يحصلون على أضعف االمتيازات"‪.‬‬

‫وهذه النظرة الواقعية لم تكن كافية لتدفع اَدم سميث للبحث عن األسباب الحقيقية التي كانت كامنة وراء عدم اإلنصاف في‬
‫توزيع الدخل القومي أو الوطني‪ ،‬ولم يكن هذا إذعانا لألمر الواقع على ما يبدو‪ ،‬وإنما هو نهج متكامل الحلقات تم وضعه بكل‬
‫وعي‪.‬‬

‫وهكذا فتشبث اَدم سميث بالليبرالية االقتصادية شبه المطلقة ال غبار عليه‪ ،‬ومطالبته للدولة بعدم التدخل كانت تعني قبل كل‬
‫شيء موافقة آرائه لتوزيع الثروة طبقا لواقع المجتمع اإلنجليزي‪ ،‬دون أية محاولة لتصحيح اختالالته الطبقية وال حتى مجرد‬
‫انتقاد لهذا الواقع‪ ،‬بل على العكس من ذلك تماما كان اَدم سميث يبدي تمسكه الشديد بالتفاوتات االجتماعية وإبقائها على‬
‫ماهي عليه‪ ،‬حيث يقول ‪ ":‬إن المس بمصالح طبقة أخرى‪ ،‬يعد منافيا للعدالة‪ ،‬وحتى للمساواة في الحماية التي يجب على‬
‫الملك توفيرها لكل رعاياه من كل الطبقات االجتماعية"‪.‬‬

‫وهذا الموقف راجع على األرجح إلى تأثيره النسبي بالمذهب الفيزيوقراطي الذي تبنى شعار "دعه يعمل‪ ،‬دعه يمر"‪ ،‬والذي‬
‫طور نظريته بخلفية االستناد إلى القانون الطبيعي وما ترتب عن ذلك من حتمية في الدخل والتوزيع‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن اَدم سميث ندد بكل قوة بحاالت الظلم والخروقات السائدة في المستعمرات‪ ،‬ونادى بإلغاء االحتكار التجاري مع‬
‫هذه المستعمرات‪ ،‬وكان توقعه لمستقبل حقوق الشعوب مبنيا على نظرة واقعية تجسدها القوة‪ ،‬كما أشار إلى ذلك‪" :‬ربما في‬
‫وقت الحق ستكون أهالي هذه البلدان أقوى وأهالي أوربا أضعف‪ ،‬بحيث يصبح سكان مختلف بلدان العالم في وضع تتساوى‬
‫فيه قواهم وشجاعتهم‪ ،‬بعد ذلك سيدفعهم الخوف المتبادل إلى نوع من االحترام لحقوق بعضهم البعض"‪ .‬لقد كانت إسهامات‬
‫اَدم سميث في حقل العلوم االقتصادية رائدة ومتميزة بالنظر إلى الظروف التاريخية التي تبلورت فيها‪ ،‬فأعطت بذلك دفعة‬
‫نوعية لمسيرة الفكر الغربي بصفة عامة‪.‬‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ -24-‬فكر برودون االجتماعي واالقتصادي‬

‫*د‪.‬الطيب بوتبقالت‬
‫األربعاء ‪ 29‬ماي ‪03:00 - 2019‬‬
‫‪ -24/28‬فوضوية برودون‬

‫تبلور فكر بيير جوزيف برودون (‪ ) 1809-1865‬في فترة كانت فيها فرنسا بلدا زراعيا وكانت الصناعة الفرنسية ما تزال في‬
‫بداياتها‪ ،‬ورغم كونه يميل إلى االشتراكية أكثر من ميله إلى الرأسمالية‪ ،‬فإنه يبقى مفكرا لعهد ما قبل الرأسمالية‪ ،‬وال عالقة له‬
‫بالفكر الماركسي المناهض للنظام الرأسمالي‪ .‬ويع رف برودون ببعض المقوالت المثيرة للجدل‪ ،‬ومنها "الملكية هي السرقة"‬
‫و "هللا هو الشر"‪ .‬لقد كانت له كتابات عديدة متناقضة مع بعضها البعض‪ ،‬فما أن ينتهي مثال من مهاترة ضد حق الملكية‬
‫حتى يتناول العقار القروي بالتمجيد‪ .‬وقد حاول أتباعه الدفاع عنه قائلين إنه لم يكن ضد الملكية التي ليست لها منفعة‬
‫اجتماعية‪ ،‬ولكن ها هو من ناحية أخرى يعلنها حربا ال هوادة فيها ضد العقائد الدينية باسم العلم واألخالق‪ ،‬وما يلبث أن يسبغ‬
‫المديح على الدين‪ ،‬وإذا بالدين يشرف العمل‪ ،‬ويخفف من اآلالم‪ ،‬ويصيب كبرياء األغنياء باإلذالل‪ ،‬ويرفع من شأن الفقراء‬
‫ويعزز كرامتهم‪ .‬ثم ها هو يمجد الحرب قائال‪" :‬تحياتي أيتها الحرب! أنت التي جعلت اإلنسان يقف على رجليه بشهامة‬
‫وإجالل‪ ،‬وقد خرج لتوه من رحم الطين"‪ .‬وال يبالي بعد ذلك في وصف الحرب بالعنصر البهيمي الذي يثير في النفوس إحساسا‬
‫مشروعا بالتقزز واالشمئزاز‪...‬‬

‫ورغم كون ها مذهبا ذا أقلية منذ بداياتها في األربعينيات من القرن التاسع عشر‪ ،‬فإن البرودونية لم تندثر تماما‪ ،‬بحيث ظهر‬
‫لها أنصار في تيارات اليمين المتطرف الفرنسي في القرن العشرين‪ ،‬كتنظيم "العمل الفرنسي" المناهض للديمقراطية الذي‬
‫كان يخص برودون باإلكبار والتعظيم‪ ،‬معتبرا إياه "أستاذ الثورة المضادة" وخصم الديمقراطية العنيد‪ .‬وهكذا على غرار‬
‫تناقضات أفكار مؤسس المذهب التي دعمت وجهات نظر معارضيه‪ ،‬فلقد كان له أنصار كذلك على الضفة األخرى‪ ،‬بحيث‬
‫تنامى تيار يساري كان يعتبر برودون ذلك الزعيم الذي كان من المفروض أن يقود االشتراكية الفرنسية لوال الماركسية التي‬
‫أطاحت به واعتبرته عنصرا رجعيا‪ .‬وتجدر اإلشارة إلى القطيعة التي حدثت بين برودون وماركس عام ‪ 1846‬على إثر نشر‬
‫األول لكتابه "بؤس الفلسفة" ورد الثاني عليه بكتابه "فلسفة البؤس"‪ .‬ومن الصعب هنا مقاومة المقارنة لهذه الواقعة مع‬
‫سابقتها في ا لفكر اإلسالمي عندما كتب الغزالي (تهافت الفالسفة) ورد عليه ابن رشد ب "تهافت التهافت" ولكن ليس هذا هو‬
‫موضوعنا في هذه السلسلة‪...‬‬

‫مشروع برودون االجتماعي‪-‬االقتصادي‬

‫على غرار موقف مفكرين اشتراكيين فرنسيين‪ ،‬وهما سان سيمون وفورييي‪ ،‬كان برودون يعتبر أن حل المشاكل االجتماعية‬
‫ليس شأنا سياسيا‪ ،‬معلال ذلك بعبارة وجيزة‪" :‬السياسية اليوم هي االقتصاد السياسي"‪ .‬ولهذا نادى سنة‪ 1848‬بإنشاء بنك‬
‫للشعب قصد "حل المشكل االجتماعي"‪ ،‬ولم يعد يثق في الديمقراطية البرلمانية رغم انتمائه بصفته عضوا في الجمعية‬
‫الوطنية الفرنسية‪ .‬وبهذا الصدد كتب سنة ‪" :1851‬الديمقراطية لفظ وهمي يعني حب الشعب‪ ،‬وحب األطفال‪ ،‬ولكن ال يعني‬
‫بتاتا حكم الشعب"‪ .‬وأعطي تعريفا جديدا للديمقراطية بوصفها "ديموبيدية" وتعني تربية الشعب‪ ،‬فكان طبيعيا أن ينتقد مبدأ‬
‫االنتخابات العامة‪ ،‬وقال‪" :‬إن كل ما أفرزته صناديق االقتراع هو استبدال العلم بالفظاعة والنفور‪ ،‬واستبدال االرتيابية‬
‫بالكراهية"‪ .‬وقد كان لهذا الموقف المتشكك في قدرات الديمقراطية على تدبير المصلحة العامة تأثيره على الحركات النقابية‬
‫الفرنسية‪ ،‬حيث كانت هذه األخيرة تعتبر العمل النقابي عمال ثوريا حقيقيا في حين ال ترى في العمل السياسي سوى عمل تهدده‬
‫االنتهازية‪.‬‬

‫وإذا كانت أفكار برودون تتعارض مع الديمقراطية فإن معارضتها للدولة وصلت إلى حد المطالبة بإلغاء هذه المؤسسة‬
‫واستبدالها بنظام تعاوني اختياري بين األفراد‪ ،‬ناهيك عن المركزية والبيروقراطية التي ال يطيقها برودون على اإلطالق‪.‬‬

‫وكان انتقاد ه موجها لروسو الذي لو طبقت أفكاره الواردة في "العقد االجتماعي" ألسفرت في نظره عن استبداد اإلرادة‬
‫العامة‪ ،‬وعزز انتقاده لروسو قائال‪" :‬إن برنامجه ينحصر في الحقوق السياسية وال يتحدث عن الحقوق االقتصادية"‪.‬‬

‫الواقع أن برودون كان يرمي إلى قيام نظام اجتماعي فوضوي‪ ،‬ليس بمعنى الفوضى المتداول وإنما بمعنى استبدال السلطة‬
‫السياسية بائتالفات عمالية تطوعية‪ .‬لهذا فهو ضد كل سلطة سواء تعلق األمر بالدولة أو الكنيسة‪ ،‬فمن هذا المنطلق عارض‬
‫بشدة النظريات االشتراكية التي كانت تدعو إلى تدخل الدولة وسيطرتها على وسائل اإلنتاج‪ .‬وفي المجال المالي مثال اقترح‬
‫برودون إلغاء الفوائد البنكية وتأسيس بنك للتبادل تكمن مهمته في إصدار األوراق النقدية بال قيود‪ ،‬ومنح كافة العمال االئتمان‬
‫الضروري إلقامة مشاريعهم دون أن يطالبوا بأداء الفوائد الناجمة عن هذه القروض‪ .‬ويرى برودون أن اإلبقاء على ملكية‬
‫اإلنتا ج ضرورية‪ ،‬ألن للفرد حق االستمتاع بثمار عمله‪ ،‬لكن ليس على شكل ريع أو فائدة أو ربح‪ .‬ومعارضته لحق الحصول‬
‫على عائد غير مكتسب من العمل معارضة واضحة‪ .‬ويعتبر برودون من قبيل الخطأ الحد من القوى االقتصادية القائمة في‬
‫المجتمع أو هدمها واستبدالها بأخرى جديدة‪ ،‬فهو ينا دي فقط بالموازنة بين القوى المتواجدة مع اعتباره للحرية بمثابة‬
‫المحرك الرئيسي للنشاط االقتصادي‪ .‬وواضح من منظوره العام أنه لم يأت بمشروع اجتماعي اقتصادي ثوري ومندمج‪ ،‬حتى‬
‫وإن كان مذاهبه مذهبا ثوريا‪ ،‬إال أنه مذهب ال يستقر في جوهره على حال‪ ،‬حيث يميل تارة ذات اليمين وتارة أخرى ذات‬
‫الشمال‪ ،‬لقد كان برودون "يقذف" في كل االتجاهات وبفوضوية واعية‪...‬‬
‫الحرية والتضامن‬

‫يحث برودون على مبدأين أساسيين‪ ،‬وهما الحرية المساواة‪ ،‬ويقول في ذلك‪" :‬إن مبدأ المجتمعات هو إتاحة الفرص أمام‬
‫الجميع باتخاذ المساواة كقاعدة‪ ،‬واعتماد تضامن الجمي ع كقانون لتطبيق تلك القاعدة"‪ .‬إنه ال يهدف من وراء ذلك التضحية‬
‫بالمساواة في سبيل الحرية‪ ،‬أو التضحية بالحرية في سبيل المساواة‪ ،‬ويرى أن التوازن بينهما ال يمكن أن يتحقق إال بواسطة‬
‫تآزر إخائي‪ ،‬مما يحيل على المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية‪ .‬وكان برودون يعقد مقارنة بين حرية اإلنسان‬
‫المتحضر الذي ال يعرف إال األنانية والفردانية المفرطة‪ ،‬مع حرية مركبة يقول عنها إنها حرية مندمجة مع التضامن‪ ،‬بحيث‬
‫يصعب التمييز بينهما‪ ،‬ويقول‪" :‬إن الحرية والتضامن من وجهة نظر اجتماعية لفظان مرادفان‪ ،‬بمعنى أن حرية البعض لم‬
‫تعد تصطدم بحدود حرية البعض اآلخر‪ ،‬بل على العكس من ذلك ستجد فيها عامال مساعدا لها على االمتداد‪ ،‬وهكذا يصبح‬
‫الفرد متمتعا بحرية تتوسع بقدر توسيع العالقات التي تربطها مع األفراد اآلخرين"‪.‬‬

‫ورغم طبيعة فكر برودون المتضاربة‪ ،‬فإن الفضل يرجع له في إثارة االنتباه بشكل حاد إلى مسألة التوافق الضروري بين‬
‫العدالة االجتماعية ‪-‬التي اعتبرها من أسمى ما يصبو إليه اإلنسان‪ -‬مع الحفاظ في نفس الوقت على الحرية الفردية‪ .‬بيد أن‬
‫مقترحاته العملية كانت دون مستوى طموحات مشروعه اإلصالحي‪ .‬لقد كان يعتقد أنه من الممكن تغيير المجتمع باالعتماد‬
‫على إجراء ات قانونية ومالية خاصة‪ ،‬وغابت عنه النظرة الشمولية للمجتمع وما يفترض ذلك من تداخل العناصر‪ .‬لهذا كان‬
‫اختالفه مع التيار الماركسي اختالفا راديكاليا‪ ،‬سيما وأنه كان يعتبر أن التناقضات يجب تحملها وليس حلها‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ -25-‬كارل ماركس يسعى إلى تغيير العالم‬

‫*د‪.‬الطيب بوتبقالت‬
‫الجمعة ‪ 31‬ماي ‪02:10 - 2019‬‬
‫‪ -25/28‬النظرية الماركسية‬

‫منذ انهيار االتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة لم تعد الدراسات الماركسية تستهوي الباحثين‪ .‬لقد اختفى العديد من‬
‫المجالت والصحف الماركسية أو المتمركسة المتخصصة‪ ،‬وأصبحت الكتابات الماركسية بصفة عامة تعرض ضمن أكوام‬
‫الكتب المستعملة وال من يشتريها‪ .‬وبعبارة أوضح لقد دخلت النظرية الماركسية طي تاريخ الفكر الغربي‪ ،‬ولم تعد وعاء دعائيا‬
‫تغرف منه األنظمة االشتراكية أو الشيوعية في سياق مواجهتها اإليديولوجية مع الرأسمالية الليبرالية‪ .‬ليس هذا إيذانا بـ‬
‫"نهاية التاريخ " وإنما هو تحول تاريخي ما في ذلك من شك‪.‬‬

‫وعموما‪ ،‬ليس من السهل عرض وتحليل النظرية الماركسية بكل ما تحتاجه من مناقشة لمنهجيتها الفلسفية وتدقيق آللياتها‬
‫المفاهيمية‪ ،‬لكن ليس من الصعب الكشف عن مدلول محاورها الرئيسية‪ .‬والبداية تحددها شخصية مؤسس النظرية والظروف‬
‫التاريخية التي تبلورت فيها‪ .‬ازداد كارل ماركس في مدينة تريف بألمانيا سنة ‪ ،1818‬وكان ينتمي إلى عائلة يهودية اعتنقت‬
‫البروتستانتية‪.‬‬

‫درس القانون والتاريخ في جامعتي بون وبرلين وحصل على درجة الدكتوراه سنة ‪ .1841‬كان يرغب في بداية حياته العملية‬
‫في ممارسة التدريس الجامعي‪ ،‬لكن آراءه الثورية دفعت السلطات األلمانية إلى عرقلة نشاطه الجامعي فلجأ إلى الحقل‬
‫الصحافي وعمل رئيسا لتحرير "صحيفة الراين" سنة ‪ ،1842‬لكن الخط اإلعالمي لهذه الصحيفة لم يكن موافقا للسياسة‬
‫الرسمية فتم إغالقها‪ .‬وهكذا انتقل ماركس إلى باريس سنة ‪ 1843‬حيث أشرف على إصدار صحيفة "إلى األمام"‪ ،‬وفي‬
‫باريس التقى ببرودون وبعدد من المفكرين االشتراكيين ومنهم لويس بالن‪ .‬على أن لقاءه مع فريدريش إنجلز في بروكسل‬
‫سنة ‪ 1844‬ظل من أهم اللقاءات المثمرة التي ساهمت بشكل فعال في التعريف بالفكر الماركسي وتعزيزه‪ .‬شارك االثنان في‬
‫اجتماع عقدته العصبة الشيوعية بلندن سنة ‪ ، 1847‬وتعاونا معا على صياغة "البيان الشيوعي" المشهور‪ ،‬الذي كان عبارة‬
‫عن إعالن لهذه الجمعية عن آراءها في قيادة الحركة الثورية التي اندلعت في فرنسا سنة ‪ .1848‬وقد جاء في نهاية البيان‬
‫الشيوعي شعار كثيرا ما رفعته التيارات الماركسية بمختلف توجهاتها منذ ذلك الحين‪ ،‬وهو‪ " :‬يا عمال جميع بلدان العالم‬
‫اتحدوا"‪ .‬وهو تعبير تعبوي يحث كل أفراد الطبقة البروليتارية على أنهم إذا اتحدوا لن يفقدوا سوى أغاللهم ويبقى أمامهم‬
‫عالم سيكسبونه‪ .‬غير أن ثورة ‪ 1848‬منيت بالفشل‪ .‬بعد ذلك استقر كارل ماركس في لندن ليقضي فيه بقية حياته‪ ،‬وفي سنة‬
‫‪ 1867‬نشر الجزء األول من كتابه "رأس المال" وأما الجزءان الثاني والثالث فقد نشرهما صديقه إنجلز على التوالي في‬
‫عامي ‪ 1885‬و‪ ،1895‬أي بعد وفاته سنة ‪ .1883‬ويعد كارل ماركس من المؤسسين لألممية العالمية األولى التي انشقت عام‬
‫‪ 1873‬إلى تيار فوضوي بزعامة باكونين وتيار اشتراكي ماركسي‪.‬‬

‫الديالكتيك‬

‫كان ماركس وإنجلز من األتباع اليساريين لفلسفة هيجل‪ ،‬لكنهما كانا مختلفين مع أستاذهما هيجل فيما يخص نظرية "المادية‬
‫الجدلية" والمعروفة في الجدل ا لهيجلي على أساس كونها عالقة الطريحة بنقيضتها‪ ،‬وهي عالقة جدلية تعطي حصيلة بمثابة‬
‫طريحة جديدة‪ ،‬وكل طريحة البد لها من نقيضتها وهكذا دواليك‪.‬‬

‫أراد ماركس أن يطبق هذا الديالكتيك الهيجلي لمعرفة أسباب المتناقضات االجتماعية فخلص إلى نتيجة مقبولة شكال‬
‫ومرفوضة مضمونا‪ .‬والديالكتيك يفيد أن كل فكرة تنطوي على نقيضها‪ ،‬وهذا التناقض يدفع الفكرة ونقيضها إلى فكرة ثالثة‬
‫تؤلف بينهما‪ ،‬وهو شيء مقبول حسب ماركس‪ ،‬لكن الديالكتيك الهيجلي له مضمون روحي ألنه يجعل من الروح أصال‬
‫والتطور انعكاسا‪ ،‬وهذا ما رفضه ماركس قائال‪ ":‬إن الديالكتيك الهي جلي مقلوب رأسا على عقب ويجب أن نقبله من جديد "‪.‬‬
‫ويقصد بذلك أن المادة هي الموجود الحقيقي‪ ،‬وهذه المادة في حركة متواصلة وخاضعة لقوانين الديالكتيك في شكلها‪ .‬وهكذا‬
‫نشأ منهج " المادية الجدلية" عند ماركس محاولة منه لفهم قوانين تطور المجتمعات البشرية‪.‬‬

‫كانت فرضية م اركس شبيهة إلى حد ما بتلك التي قال بها عدد من المفكرين الذين سبقوه ومنهم روسو‪ ،‬ومفادها أن المجتمع‬
‫البدائي كانت تسوده المساواة ويميزه نوع من التعاون الذي كان يفرضه الصراع ضد قوى الطبيعة‪ ،‬وبفضل هذا الصراع‬
‫نشأت األنظمة االجتماعية‪ ،‬لكن سرعان ما تفجر الصراع بين أفراد المجتمع حول الثروة والسلطة‪ ،‬فتشكلت طبقات اجتماعية‬
‫متباينة المصالح‪ ،‬ومن هنا كان تاريخ البشرية مجرد تاريخ للصراع بين طبقات المجتمع البشري‪ .‬ويحلل ماركس هذا التطور‬
‫مؤكدا أن المجتمع البدائي تعرض الضطرابات كانت ناتجة عن استعمال أساليب جديدة لإلنتاج‪ ،‬مما أفقده توازنه األصلي‪ .‬ومن‬
‫هنا بدأ استخدام وتطوير األسلحة والمعدات اآللية التي شكلت ابتكارات واختراعات بالنسبة لزمنها‪ ،‬غير أن نظام التفكير‬
‫والسلوكيات األخالقية والمعايير القانونية على بساطتها لم تعد قادرة على مواكبة التطور المادي ومالءمة ما يفرضه االحتكاك‬
‫بال بيئة الطبيعية من تقدم على مستوى الفكر التجريدي‪ .‬ومن هنا استخلص ماركس أن النظام االجتماعي هو الذي يخلق الفكر‬
‫وليس العكس كما هو وارد في المثالية الهيجلية‪ .‬ويرى ماركس أنه من قبيل المنطق السليم قيام بنيات فوقية تمثلها األفكار‬
‫والقيم انطالقا من واقع اجتماعي جدي د‪ ،‬وهي عملية ال يمكن أن تمر بهدوء ألن المستفيدين من الوضع القديم ال بد أن يقاوموا‬
‫كل تحديث من شأنه أن يضر بمصالحهم الطبقية‪ ،‬وبالمقابل فإن ضحايا النظام القديم الذين كانوا يعانون من عبء المتناقضات‬
‫الناجمة عن أساليب اإلنتاج السائدة البد أن يدخلوا في صراع مع المستفيدين من الوضع القديم‪ ،‬وهكذا عندما يبلغ الصراع‬
‫الطبقي نقطته الحرجة يتولد عنه نظام اجتماعي جديد‪ ،‬و ليس ذلك من الناحية النظرية إال تطبيقا لمفهوم المادية الجدلية‪.‬‬

‫تغــيـيــر العــــالــم‬

‫يرى ماركس أن بداية تاريخ المجتمع اإلنساني كانت شيوعية‪ ،‬بمعنى أن المجتمع لم يكن يشتمل على طبقات اجتماعية‬
‫متعارضة المصالح‪ ،‬ولم تظهر الطبقات إال بعد أن برزت ظاهرة تقسيم العمل‪ ،‬فتحول المجتمع الشيوعي إلى مجتمع عبودي‪.‬‬
‫وبالطبع كان الصراع وقتئذ بين السادة والعبيد‪ ،‬وهذا الصراع هو الذي أدى بدوره إلى قيام نظام جديد هو النظام اإلقطاعي‬
‫الذي يمتاز عن سابقه بظهور العمال المزارعين‪ .‬عندئذ كان الصراع قائما بين اإلقطاعيين والفالحين‪ ،‬وتولد عن هذا الصراع‬
‫ظهور طبقة جديدة هي طبقة أصحاب الحرف اليدوية‪ .‬وتحت ظروف الثورة الصناعية وما أفرزته من أساليب آلية جديدة في‬
‫مجال اإلنتاج برزت طبقة الرأسماليين‪ .‬وتجسد الصراع في مواجهة بين الرأسماليين وطبقة البروليتارية المتكونة من مجموع‬
‫العمال الذين وقعوا تحت قبضة استغالل الرأسماليين‪ .‬وكان ماركس يرى أن الرأسماليين قد استنفدوا دورهم التاريخي‪ ،‬لقد‬
‫استحدثوا أساليب متطورة وأكثر فاعلية على مستوى تقسيم العمل والتجارة واإلنتاج‪ ،‬لهذا كانت مقاومة الطبقة اإلقطاعية لهم‬
‫في البداية مقاومة شديدة‪ ،‬ولكن حتمية المادية الجدلية حتمية من المستحيل مقاومتها‪.‬‬
‫وكل ما راكمته الرأسمالية من أساليب إنتاجية وما استحدثته من قوانين تدعم مصالحها لم يعد مستحمال من طرف الطبقة‬
‫العمالية التي لجأت بدو رها إلى تشديد أساليب نضاالتها في مواجهة استغالل الرأسماليين لها‪ .‬والخروج من هذا الوضع حسب‬
‫ماركس يستلزم القضاء على البنيات التحتية بكاملها من مصانع وتجهيزات وكافة آليات اإلنتاج الرأسمالية‪ ،‬وهو ما يستوجب‬
‫في نفس الوقت تحطيم كل البنيات الفوقية من النظم القانونية والسياسية التي كانت تؤطرها من الناحية اإليديولوجية بهدف‬
‫لتكريس ودعم نمط االقتصاد الرأسمالي المبني جوهريا على استغالل الطبقة الكادحة واستالبها‪ .‬لذلك وجب في نظره تحطيم‬
‫البنيات األفقية القديمة قصد مسايرة الواقع االجتماعي الذي ستفرضه الثورة البروليتارية التي بانتصارها سيتم االنتقال إلى‬
‫النظام االشتراكي‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬ويلخص كارل ماركس محددات الصراع الطبقي في عنصرين أساسيين‪ ،‬وهما " قوى اإلنتاج" و"عالقات اإلنتاج"‪.‬‬
‫وبينما يعني العنصر األول كل الموارد الطبيعية والمعدات اآللية والعمل‪ ،‬يفيد العنصر الثاني أن تحديد العالقات االجتماعية إنما‬
‫يكون على أساس إنتاجي‪ ،‬أي أن قوى اإلنتاج هي التي تحسم في تشكيل البنيات الفوقية من قيم أخالقية وقواعد قانونية‬
‫وغيرها‪ .‬وهذا معناه أن كل تغيير يحصل على مستوى قوى اإلنتاج يؤدي حتما إلى تغيير القيم‪ ،‬ومن يسيطر على قوى اإلنتاج‬
‫يمكنه التحكم في هذه ال قيم‪ .‬وهكذا ال يمكن إرجاع التاريخ إلى الروح كما تصور هيجل‪ ،‬وإنما هو من صنع البشر‪ .‬وتخضع‬
‫حركية التاريخ لظروف اقتصادية ضرورية ولكنها مع ذلك تبقى غير كافية إلنجاح المد الثوري‪ ،‬لماذا؟ يجيب ماركس بأن عدم‬
‫كفاية الظروف االقتصادية راجع إلى لزوم توافر عنصر آخر حاسم‪ ،‬وهو الوعي الطبقي‪ ،‬فمن غير هذا الوعي سيظل من‬
‫الممكن تغيير النظام االجتماعي تغييرا جذريا‪ .‬وهذا التحليل يتفق تماما مع الشعار الذي رفعه ماركس معتبرا أن الفلسفة الحقة‬
‫هي التي ينبغي أن تهدف إلى تغيير العالم وليس إلى فهمه أو تفسيره‪ .‬لقد أنجبت المدرسة الماركسية عددا ال يحصى من النقاد‬
‫والمفكرين عبر العالم‪ ،‬وستبقى في تاريخ الفكر اإلنساني تجربة في غاية األهمية رغم فشل تنبؤاتها‬

‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ -26-‬طبيعة ومناهج البحث السوسيولوجي‬


‫*د‪.‬الطيب بوتبقالت‬
‫السبت ‪ 01‬يونيو ‪03:21 - 2019‬‬
‫‪ -26/28‬النظرية السوسيولوجية‬

‫تطورت السوسيولوجيا (علم االجتماع) منذ الحرب العالمية الثانية بشكل الفت للنظر وبخطوات الهثة كتعبير عن احتياجات‬
‫ملحة لإلنسان الغربي المعاصر‪ ،‬فتجندت أجهزت البحث العلمي من معاهد وجامعات ومراكز في القطاعين العام والخاص‪،‬‬
‫قصد االنكباب على دراسة المجتمع دراسة نظرية وتطبيقية طالت جميع الميادين بدون استثناء‪.‬‬

‫وكان لتطور المجتمع االستهالكي وقع خاص على رفع وتيرة تقدم هذا العلم الحديث‪ ،‬فتعددت النظريات والمقاربات المنهجية‬
‫وتشكلت التيارات المذهبية‪ .‬وهكذا أصبحت السوسيولوجيا إلى جانب كونها أداة معرفية للوصف والتحليل الدقيق للظواهر‬
‫االجتماعية سالحا منهجيا لتأجيج نار الصراع اإليديولوجي الملتهبة بين الشرق والغرب إبان الحرب الباردة‪ ،‬حيث كانت‬
‫تستخدم إما دفاعا عن قيم المجتمع الليبرالي االستهالكي‪ ،‬وإما تعزيزا ألطروحة نظام الماركسية اللينينية‪ .‬وفي كلتا الحالتين‬
‫كان علم ا الجتماع يلعب دور كلب الحراسة لألنظمة القائمة‪ ،‬ولم تضف إليه وسائل تكنولوجية االتصال الحديثة إال دعما‬
‫متسارعا لتطوير مناهجه ومرونة متزايدة في تطبيقاته الميدانية‪ ،‬من استطالعات لآلراء وتنظيم للحمالت االنتخابية‬
‫والتسويقية وغيرها‪ .‬وهكذا كلما اتسعت دائرة األنشطة البشرية وتوفرت الظروف المساعدة لتنمية الثقافة الجماهرية‪ ،‬كلما‬
‫كان ذلك حافزا على تطوير النظرية السوسيولوجية كما وكيفا‪ .‬إن المعرفة السوسيولوجية اليوم تلعب دور المحرار بالنسبة‬
‫للتطور الحضاري في شتى تجلياته المادية ومن منظور مختلف مذاهبه الفلسفية‪.‬‬

‫طبيعة البحث السوسيولوجي ومناهجه‬

‫قدمت النظريات السوسيولوجية المختلفة عدة تفسيرات متضاربة‪ ،‬ويكاد األمر يدور في حلقة مفرغة‪ ،‬حيث يتم تعريف علم‬
‫االجتماع بأنه علم المجتمع في الوقت الذي ينتظر فيه تعريف المجتمع بواسطة علم االجتماع‪ ..‬والتعريف اإلجرائي يشير إلى‬
‫دراسة بني البشر في وجودهم الذي يقوم على االعتماد المتبادل‪.‬‬

‫بمعنى أن وحدة الدراسة السوسيولوجية ال يمكن أن تكون فردا واحدا‪ ،‬وإنما تتمثل على األقل في فردين تربطهما عالقة‬
‫معينة‪ .‬وعليه فالنظرية السوسيولوجية هي منهج مفاهيمي لدراسة الخصائص العامة لكل أصناف الظواهر االجتماعية‪ ،‬بما‬
‫فيها العالقات المتبادلة بين تلك الظواهر نفسها‪.‬‬

‫وبديهي أن تطور النظرية السوسيولوجية ينطلق من خلفية تصنيف مسبق للعلوم إلى نوعين رئيسيين من ضروب المعرفة‪،‬‬
‫منها ما يتعلق بالطبيعة وتسمى علوما طبيعية ومنها ما يتعلق باإلنسان بصفته حيوانا اجتماعيا حسب تعبير أرسطو‪ ،‬وتسمى‬
‫علوما اجتماعية‪.‬‬
‫فالعلوم الطبيعية تنكب على دراسة الطبيعة ومكونات العالم المادي‪ ،‬بينما تعنى العلوم االجتماعية بدراسة اإلنسان في محيطه‬
‫االجتماعي وظروف عيشه وتعايشه داخل مجموعات بشرية لها خلفية ثقافية مشتركة‪ ،‬وتربطها شبكات من االهتمامات‬
‫والعالقات المت بادلة‪ .‬وكلما اجتمعت هذه العناصر زمانيا ومكانيا‪ ،‬تحت ظروف معينة تزكى تفاعالتها‪ ،‬كلما توفرت الشروط‬
‫الموضوعية لظهور مجتمع بشري له مميزاته وضوابطه‪.‬‬

‫والعلوم االجتماعية عموما هي تخصصات معرفية تشكل األنشطة البشرية وما تفرزه من عالقات تفاعلية قاسمها المشترك‪.‬‬
‫وقد س اهمت الدراسات األكاديمية بقسط وافر في إحداث تخصصات رئيسية وأخرى فرعية في كل مجاالت النشاط اإلنساني وما‬
‫يتمخض عنه من سلوكيات اجتماعية مختلفة‪ .‬وهكذا كلما تطور المجتمع وتراكمت المعارف وكثرت اإلشكاليات بصدد ظواهر‬
‫أو وقائع جديدة‪ ،‬كلما كان ذلك دافعا قويا للباحثين من أجل استكشاف آفاق معرفية جديدة تمكنهم من دراسة وفهم التطورات‬
‫االجتماعية المستحدثة‪.‬‬

‫ويبدو جليا أن تطور العلوم بصفة عامة رهين بطريقة وضع األسئلة المناسبة التي تستهدف جوهر المشاكل المطروحة‪ .‬إذ‬
‫أنه ال خالف في ذلك بين العلوم الطبيعية والعلوم االجتماعية رغم تباين الموضوعات التي ينصب كل صنف من هذه العلوم‬
‫على دراستها‪.‬‬

‫إن طريقة صياغة السؤال تساهم إلى حد بعيد في بلورة عناصر الجواب‪ .‬وتشكل الظاهرة االجتماعية كيفما كانت طبيعتها‬
‫مرتعا خصبا ومجاال فسيحا تستثمر فيه نظريات ومناهج السوسيولوجيا‪ .‬وتعد كل عملية تفاعل بين شخصين أو أكثر بمثابة‬
‫ظاهرة اجتماعية‪ ،‬وبالتالي تشكل وحدة للتحليل السوسيولوجي‪.‬‬

‫وهذا هو بيت القصيد إذ أن التفاعل هو الذي يجعل من األفراد أطرافا في عالقة اجتماعية معينة‪ ،‬وعلى إثر ذلك تتشكل‬
‫الجماعات االجتماعية ويتحدد تطورها وفقا لطبيعة تلك العالقات واستمراريتها‪ .‬ويبقى الهدف الوظيفي لتلك الجماعات هو‬
‫إشباع الحاجات اإلنسانية في إطار من القواعد والمعايير السلوكية التي تحدد األدوار التي يقوم بها أفراد الجماعة‪ ،‬على أن‬
‫هذه األدوار االجتماعية يشترط فيها القبول الصريح والضمني من طرف الجماعة المنتسب إليها‪.‬‬

‫وبعد ظهور المار كسية‪ ،‬كان من الطبيعي أن تظهر نظريات سوسيولوجية تبحث عن الظواهر االجتماعية من منظور‬
‫ماركسي‪ .‬وهكذا فعلم االجتماع الماركسي يهدف إلى تفسير المجتمعات تفسيرا دقيقا من منطلق التطور التاريخي لنماذجها‬
‫االجتماعية‪ ،‬ويرمي بالتالي إلى اكتشاف القوانين األساسية لهذا التطور على خلفية الصراع الطبقي‪.‬‬

‫لقد دأب علماء االجتماع في زمن االتحاد السوفياتي على ربط أساس البناء االجتماعي بقوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج‪ ،‬بمعنى‬
‫أن النظرية السوسيولوجية بالمفهوم الماركسي نظرية تركيبية تحاول فهم المجتمع في شموليته وليس في جزئياته الوظيفية‪.‬‬

‫لهذ ا فإن علم االجتماع الماركسي وعلم االجتماع الليبيرالي الرأسمالي يقعان على طرفي نقيض‪ ،‬حيث أن هذا األخير يؤسس‬
‫قواعده على الدراسات اإلمبريقية التحليلية‪ ،‬ويتجه إلى بحث المواقف الجزئية في الحياة االجتماعية‪ ،‬ويرتكز على سلوكيات‬
‫األفراد والجماعات في سياقات مختلفة م عاصرة‪ .‬وبعد انهيار االتحاد السوفياتي تغلبت سوسيولوجية االتجاه التحليلي الميداني‬
‫الليبيرالي وتراجع االتجاه التركيبي التاريخي الماركسي‪.‬‬

‫هذا وتجدر اإلشارة إلى أن مصطلحات العلوم االجتماعية‪ ،‬ومن ضمنها السوسيولوجيا‪ ،‬وعلوم إنسانية‪ ،‬وعلوم اإلنسان‪ ،‬هي‬
‫مجرد انعكاس ال رتباك أكاديمي أمام تشعب وتعقيد دراسة الظواهر االجتماعية رصدا وتحليال‪ ،‬وهي بالتالي تشير إلى نفس‬
‫المدلول المعرفي على اختالف تلويناته وتعدد منهاجياته البحثية‪.‬‬

‫ابن خلدون وأوجيست كونت‬

‫إذا كان الفكر الغربي يعتبر أوجيست كونت هو مؤسس علم االجتماع‪ ،‬فإنه للحقيقة والتاريخ ال يسع المرء إال أن يؤكد أن‬
‫المؤسس األول الحقيقي لهذا العلم هو عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون الحضرمي الذي كان له الفضل دون غيره في وضع‬
‫اللبنات األولى لهذا النشاط الفكري بمنهجه المستقل وأسلوبه العلمي المتميز‪ ،‬حين أطلق عليه اسم "العمران البشري‬
‫واالجتماع اإلنساني"‪.‬‬
‫ولقد كان ابن خلدون على بينة تامة من كونه وضع األسس األولى لعلم جديد تماما بحيث حدد موضوعه ومسائله قائال‪:‬‬
‫"وكان هذا علم مستقل بنفسه‪ ،‬فإنه ذو موضوع‪ .‬وهو العمران البشري واالجتماع اإلنساني‪ ،‬وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه‬
‫من العوارض واألحوال لذاته واحدة بعد أخرى‪ .‬وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا "‪.‬‬

‫ويضيف ابن خلدون في "المقدمة" توضيحات تتسم بأمانة علمية وكفاءة تحليلية نادرة‪ " :‬وكأنه علم مستنبط النشأة‪،‬‬
‫ولعمري لم أقف على الكالم في منحاه ألحد من الخليقة‪ .‬ما أدرى‪ ،‬ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم‪ ،‬أو لعلهم كتبوا في هذا‬
‫الغرض واستوفوه‪ ،‬ولم يصل إلينا‪ ،‬فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع اإلنساني متعددون‪ ،‬وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر‬
‫مما وصل "‪.‬‬

‫وهكذا على حد قوله‪ ،‬ألهمه هللا إلى ذلك إلهاما‪ ،‬هداه إلى علم جعله سن بكره وجهينة جبره‪ ،‬فوضع له قواعد منهجية أصيلة‬
‫وطرق بحثية مبتكرة‪ ،‬وفي ذلك تأكيده‪ " :‬وأعلم أن الكالم في هذا الغرض مستحدث الصنعة‪ ،‬غريب النزعة‪ ،‬عزيز الفائدة "‪.‬‬

‫وعن هذا العمران البشري واالجتماع اإلنساني الذي رأى النور قبل خمسة قرون على ظهور نظرية أوجيست كونت‪ ،‬يقول‬
‫ابن خلدون‪" :‬واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا طريقة مبتدعة‪ ،‬وأسلوبا "‪ ،‬ويشير إلى أن هذا العلم الجديد هو في‬
‫الواقع باطن علم التاريخ‪ ،‬ومعلوم مدى ارتباط التاريخ بالسوسيولوجيا‪ " :‬وفيه نظر وتحقيق‪ ،‬وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق‪،‬‬
‫وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق‪ ،‬فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق‪ ،‬وجدير بأن يعد في علومها وخليق"‪ .‬وتتلخص‬
‫المنهجية الخلدونية في علم االجتماع في ستة محاور رئيسية‪ ،‬وهي‪ :‬الشك والتمحيص‪ ،‬والواقعية االجتماعية المتشخصة‬
‫بموادها‪ ،‬وتحكيم أصول العادة وطبيعة العمران‪ ،‬والقياس بالشاهد والغائب‪ ،‬والسبر والتقسيم‪ ،‬والحيطة عند التعميم‪.‬‬

‫ومهم ا يكن من أمر‪ ،‬فإن اإلشارة إلى ابن خلدون تبقى مشروعة من باب األمانة التاريخية فحسب‪ ،‬وال تنتقص إطالقا من‬
‫أهمية وجدية النظرية السوسيولوجية الغربية التي أعطى انطالقتها عالم االجتماع الفرنسي أوجيست كونت في أواسط القرن‬
‫التاسع عشر‪ .‬ويبدو أن دوافع الحفاظ على استقرار األوضاع االجتماعية بفرنسا غداة الثورة كانت من بين األسباب الرئيسية‬
‫في انتشار النزعة الوضعية التي دعا إليها أوجيست كونت‪.‬‬

‫هذه النزعة تقرر التطور ولكن بدون استنادها إلى الصراع الطبقي كما هو الشأن بالنسبة للنظرية الماركسية‪ .‬وبإلحاح‬
‫أوجيست كونت على فكرة النظ ام يكون قد استبدل فكرة الثورة بفكرة اإلصالح‪ ،‬داعيا إلى ضرورة الحفاظ على مكتسبات‬
‫الطبقة البرجوازية‪ .‬وهو من أجل ذلك يدافع عن مفهوم الواجب ويترك جانبا مفهوم الحق‪ ،‬بمعنى أن كل فرد عليه واجبات‬
‫إزاء المجتمع وليس له حقوق إزاء أحد‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬فإن أصحاب رؤوس األموال في نظره هم أخيار‪ ،‬شريطة أن تكون معرفتهم لواجبهم وتأديتهم له مستندة إلى معايير‬
‫أخالقية‪ .‬وهكذا يجعل أوجيست كونت من األخالق العامل المطلق الذي بمقتضاه يتأسس المجتمع‪ .‬ويلخص أوجيست كونت‬
‫تطور الفكر البشري في ثالث مراحل هي‪ :‬المرحلة الالهوتية‪ ،‬والمرحلة الميتافيزيقية أو التجريدية والمرحلة العلمية أو‬
‫الوضعية‪.‬‬

‫وبالطبع‪ ،‬كان تأكيد فلسفته الوضعية على المرحلة الثالثة‪ .‬وفي هذا الصدد‪ ،‬يقول ‪ " :‬عندما يعترف الفكر البشري باستحالة‬
‫الحصول على مفاهيم مطلقة‪ ،‬فإنه يتخلى في الحالة الوضعية عن البحث عن أصل الكون ومصيره كما يعزف عن معرفة‬
‫األسباب الخفية للظواهر كي ينصرف إلى الكشف عن قوانينها الفعلية‪ ،‬وأعني العالقات الثابتة التي تتعاقب بموجب الظواهر‬
‫وتتشابه‪ ،‬وذلك باعتماد البرهان العقلي إلى جانب المالحظة والمزج بينهما‪ ،‬حينئذ يكون تفسير الوقائع قد رد إلى مكوناته‬
‫الحقيقية فال يعود إلى مجرد ربط بين مختلف الظواهر الجزئية وبين بعض الوقائع العامة التي يسعى تقدم العلم إلى اختزال‬
‫عددها شيئا فشيئا "‪.‬‬

‫لقد سارت على نهج كونت المدرسة السوسيولوجية الفرنسية بزعامة إميل دوركايم وليفي بريل‪ .‬لكنها ظلت تؤاخذه على‬
‫خروجه النسبي عن الفلسفة الوضعية بسبب دعوته إلى م طلق األخالق‪ ،‬ذلك ألن الوضعية هي قبل كل شيء منهجية فكرية‬
‫تكتفي ببحث ما هو كائن وترفض الخوض فيما ينبغي أن يكون‪ .‬كما تأثرت المدرسة األنجلوسكسونية نسبيا بالتيارات‬
‫المؤسسة لعلم االجتماع بفرنسا‪ ،‬وأما المدرسة األلمانية بزعامة ماكس فيبر فإنها قدمت هي األخرى اجتهادات متميزة بالنسبة‬
‫لتطور الفكر السيوسيولوجي عموما‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪ -27-‬المنفعة الشخصية مقياس للحقيقة‬

‫*د‪.‬الطيب بوتبقالت‬
‫األحد ‪ 02‬يونيو ‪03:15 - 2019‬‬
‫‪ -27/28‬البراغماتية لوليام جيمس‬

‫يشكل وليام جيمس بالنسبة لألمريكيين ما يشكله ديكارت بالنسبة للفرنسيين‪ ،‬إنه رمز هوية فكرية ومصدر فخر وطني‪.‬‬
‫وبالفعل يعد جيمس رائدا بارزا في المجال الفلسفي األمريكي‪ ،‬ويمكن اعتبار فلسفته بمثابة ميالد اتجاه فكري أمريكي قلبا‬
‫وقالبا‪ .‬وهو حدث ثقافي تاريخي ال يقل أهمية عن إعالن الواليات المتحدة األمريكية استقاللها عن االستعمار البريطاني في‬
‫القرن الثامن عشر‪ .‬نعم‪ ،‬لم تكن البراغماتية التي جاء بها جيمس قطيعة تامة مع الفكر األوربي‪ ،‬السيما وأن مؤسسها ارتوى‬
‫من الفلسفة األوربية‪ ،‬وكان يتقن اللغتين الفرنسية واأللمانية‪ ،‬باإلضافة إلى لغته اإلنجليزية‪ .‬لم تكن البراغماتية قطيعة وإنما‬
‫كانت عملية انصهار لمكونات الهوية الثقافية األمريكية بمنظور أمريكي خالص دونما تنكر لألصول األوربية‪ .‬ازداد وليام‬
‫جيمس بنيويورك سنة ‪ ،1842‬وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد سنة ‪ ،1870‬وزاول مهنة التدريس بنفس‬
‫الجامعة إلى أن وافته المنية سنة ‪ .1910‬وأول مؤلف ص در له كان تحت عنوان "أصول علم النفس" المنشور عام ‪،1890‬‬
‫تاله كتاب "إرادة اإليمان" عام ‪ ،1897‬وكتاب "أنواع التجربة الدينية" عام ‪ .1902‬وأما أشهر كتبه فهو كتاب‬
‫"البراغماتية" الصادر عام‪ ،1907‬وكتابان بعنوان "الكون المتعدد" و"معنى الحقيقة "‪ ،‬صدرا سنة‪.1909‬ويمتاز جيمس‬
‫في كتاباته بالقدرة الهائلة على التحليل وباعتماده األسلوب الواضح المبسط‪.‬‬

‫المنفعة مقياس للحقيقة‬

‫يفيد األصل اللغوي لكلمة "البراغماتية" معنى "ما هو عملي"‪ .‬واضع هذا المصطلح ليس وليام جيمس بل فيلسوف أمريكي‬
‫آخر هو ساندرس بيرس الذي عاصر وليام جيمس‪ .‬ونقطة البداية هي أن كل ما هو عملي يجب اعتباره تجريبيا بالضرورة‪.‬‬
‫والواقع أن البراغماتية هي مجموعة أفكار لفالسفة أوربيين في حلة أمريكية‪ :‬إنها تنهل من "العقل العلمي" لكانط‪ ،‬ومن‬
‫مفهوم اإلرادة عند شوبنهاور‪ ،‬وتأخذ من نظرية داروين فكرة البقاء لألصلح‪ ،‬ومن بنتهام مذهبه النفعي‪ .‬هذا مع العلم بأن‬
‫وليام جيمس نفسه لم يسبق له أبدا أن ادعى أنه أتى بجديد‪ ،‬لقد أكد أن فلسفته البراغماتية اسم جديد لوسائل فكرية قديمة‪.‬‬

‫وفي مجملها تبدو البراغماتية كفلسفة مادية نفعية‪ ،‬واعتبارها للحقيقة يكون دائما مقترنا باالختبار التجريبي‪ .‬والمنفعة‬
‫الشخصية هي المقياس واالختبار لثبوت الحقيقة من عدمه‪ ،‬والعمل مقياس للحقيقة‪ ،‬والفكرة تعتبر صادقة عندما تكون مفيدة‪،‬‬
‫بمعنى أن المنفعة والضرر هما اللذان يحددان األخذ بفكرة ما أو رفضها‪ .‬وعن هذا الطرح تترتب إشكالية مفادها أنه إذا كان‬
‫منظور العمل قاصرا على مبدأ المنفعة والضرر‪ ،‬فهو بالتالي فاقد لموضوعيته‪ ،‬بحيث يصبح مجرد مقياس ذاتي‪.‬‬

‫والذاتية هنا تعني التباين في الخبرات‪ ،‬والتباين ال يصلح لتحقيق إدراك الوحدة‪ ،‬ألنه ليس مقياسا موضوعيا‪ .‬والحصيلة هي‬
‫أن البراغماتية ترفض فكرة المطلق‪" ،‬ملعون هذا المطلق" حسب تعبير جيمس نفسه‪ .‬وبإنكارها للمطلق فإن البرغماتية‬
‫تتعامل مع الكون وهو في حالة تمزق وانشطارات جزئية ال متناهية يستحيل إدماجها في إطار كلي‪ .‬ويرى جيمس أن االعتقاد‬
‫بوحدانية الكون هو المرض الذي يصاب به الفالسفة‪ ،‬وعلى عكس ذلك فهو يعتقد بتعدد الكون وعدم اكتمال صنعه وعدم‬
‫إمكانية إدراكه مرة واحد ة‪ ،‬وفكرة العالم الواحد فكرة ميتة‪ ،‬وإنما هناك قوى متصارعة وتيارات متعارضة االتجاهات‪ .‬وأمام‬
‫هذا الوضع‪ ،‬فإن اإلنسان يجد نفسه حرا في استعمال الطريقة التي تستهوي رغباته‪ .‬وهنا تبرز البرغماتية كتعبير صارخ عن‬
‫روح الرأسمالية المتوحشة في بداية مشوارها اإلمبريالي‪ .‬وهي بالتالي تعبير حماسي لتمجيد الفردانية شبه المطلقة‪ ،‬إذ ال‬
‫قيمة إال للفرد وحده‪ .‬وواجب الدولة ينحصر أساسا في خدمة الفرد والسهر على مصالحه‪ .‬إنها رسالة فردانية مفتوحة على‬
‫مخاطرات ومغامرات‪ ،‬وليست خطة مرسومة ومحبوكة من أجل تحقيق انضباط معين‪ .‬ال داعي للتفكير في الموت‪ ،‬وقيمة‬
‫األمور تكمن في مالءمتها إلرشاد اإلنسان وتحسين أوضاع حياته‪.‬‬

‫وهكذا فالبراغماتيون عندما يتحدثون عن الحقيقة ال يعنون سوى الجانب العملي منها‪ ،‬بينما يركز خصومهم على‬
‫الموضوعات التي تدل عليها تلك الحقيقة‪ .‬فمن هذا المنظور ال تبدو البراغماتية فكرة تجريدية‪ ،‬وإنما هي تركيز عملي على‬
‫الجانب النفعي بالنسبة للواقع المادي لألشياء‪ ،‬وعلى االنعكاسات النفعية بالنسبة لآلراء والمعتقدات سواء كانت دينية أو‬
‫سياسية أو غيرها‪ .‬ومعنى ذلك أن األفكار تكون نافعة ألنها حقيقية‪ ،‬وحقيقية ألنها نافعة‪.‬‬

‫مسألة المادة والروح‬

‫إن قيمة الن ظرية أو الفكرة تبقى مرتبطة منهجيا بتطبيقها تطبيقا مباشرا على الوقائع الخاضعة للمالحظة‪ ،‬والقاعدة‬
‫البراغماتية تقتضي تطبيق هذا المنهج على التجربة اإلنسانية‪ .‬إال أن هناك إشكالية عويصة طالما حيرت عقول الفالسفة‪،‬‬
‫وهي تلك المتمثلة في النزاع المرير بين المادية والر وحية‪ .‬والسؤال هو‪ :‬هل هذا العالم ثمرة التقاء ذرات في الزمان والمكان‪،‬‬
‫أو أن ثمة خالق لجميع ظواهر العالم وهو عقل خالص يشكل األحداث بمشيئته ويحرك الظواهر بإرادته؟ هذه اإلشكالية تم‬
‫اختصارها براغماتيا على الشكل التالي‪ :‬ما هو الفرق بين اختيار هذه الفرضية أو تلك على ضوء التجربة العملية؟ والجواب‬
‫البراغماتي هو أنه ال يبدو أن هناك فرقا بين الفرضيتين‪ .‬فالحقيقة التي ال مراء فيها هي أن العالم موجود على كل حال‪،‬‬
‫وسواء أكان ثمرة التقاء ذرات أو من صنع خالق عظيم جبار‪ ،‬فذلك ال يغير من الواقع شيئا‪ .‬وإذا تضاربت النظريات بهذا‬
‫الص دد فإن تضاربها ال يغير العالم الذي يمتزج فيه الخير بالشر‪ .‬وافتراض العالم وليد لقاءات ذرات أو كونه مخلوقا ال يعني‬
‫بتاتا أي انعكاس على مسألة الخير والشر‪ ،‬لذلك فإن الروحية والمادية من وجهة نظر البراغماتية التاريخية تتساويان وال‬
‫فضل لهذه على تلك‪ .‬وبغض النظر عن تفسير التطور التاريخي لهذه اإلشكالية بمنهجية براغماتية محضة‪ ،‬فإن المشكلة‬
‫الحقيقية تكمن في التطور المستقبلي لتداخل هذين العنصرين‪ .‬فمن جهة تعتبر البراغماتية أن العالم تتحكم فيه المادة بحيث‬
‫تجعله رهينة لتصرفات قوى عمياء‪ ،‬مما ينفي قطعا إمكانية االستقرار على خير أو شر‪ ،‬ومن جهة ثانية تتدخل الروحية باسم‬
‫قوة عاقلة ذات أهداف أخالقية سامية لتنقذ الحياة اإلنسانية من الهالك‪ .‬وكل من ينفي أهمية تأثير الروحية ال شك أنه يغفل‪،‬‬
‫في نظر وليام جيمس‪ ،‬أن الطبيعة البشرية كانت دائما منشغلة بمسألة القضاء والقدر‪ ،‬وبنهاية العالم ومصير اإلنسان‪ .‬وما من‬
‫كائن بشري إال وله تصور يؤثر بال شك على سلوك الفرد ويحدد موقفه من مجرى األحداث‪ .‬وعليه فالتناقض بين المادية‬
‫والروحية تناقض يشق أعماق الوعي اإلنساني‪ .‬ففي الروحية تبرير للوجود وتماسكك‪ ،‬وفي المادية إنكار وتشتت‪ .‬والحل‬
‫الذي تقترحه البراغماتية لل خروج من هذا الجدل هو حل ينفي أي حل بعينيه‪ ،‬ويترك المجال مفتوحا الحتماالت كثيرة مختلفة‪.‬‬
‫بمعنى أنها تدع كل إنسان يختار الجانب الذي يحقق المنفعة والسعادة‪ .‬وأما الحكم على موقفه بالصواب أو الخطأ فهو شيء‬
‫متروك للمستقبل‪ ،‬وعلى أي حال هذا ال يعني البراغماتية في شيء‪ ،‬ألن مهمتها تبدو محصورة في تبسيط اإلشكالية‬
‫وتوضيحها من أجل الوقوف عند مضامينها الواقعية ومعانيها العملية‪ ،‬وأما الحكم النهائي فهو أمر شخصي وليس من طبيعة‬
‫البراغماتية أن تبت فيه‪.‬‬

‫وهكذا يبدو جليا أن الفلسفة البراغماتية مذهب فكري لصيق بالتجربة المرتبطة بالواقع‪ ،‬وال تهمها األفكار السامية التي‬
‫تتخطى حدود التجربة‪ ،‬فاإلنسان البراغماتي ال يعيش ليفكر‪ ،‬إنما يفكر ليعيش‪ ،‬لذلك فالمعيار الوحيد للحقيقة هو اختبار صحة‬
‫أو عدم صحة أية فكرة بالنظر إلى ما تحققه عند تطبيقها في حل المشاكل المطروحة‪ ،‬إنها صادقة أو كاذبة حسب صالحيتها أو‬
‫عدم صالحيتها لتحقيق النتيجة المرغوبة‪ .‬ال قيمة ألية حقيقة ما لم تؤثر في الواقع‪.‬‬
‫مرجعيات الفلسفة الغربية ‪" -28-‬نيتش" ومفهوم اإلنسان األقوى‬

‫د‪.‬الطيب بوتبقالت‬

‫االثنين ‪ 03‬يونيو ‪02:50 - 2019‬‬

‫‪ -28/28‬نيتش ومفهوم اإلنسان األقوى‬

‫تأثر فريدريك نيتش بكتابات داروين التطورية وبسياسة بسمارك القومية‪ .‬وكل ما استخلصه من مقولة البقاء لألصلح هو أن‬
‫القوة هي العامل الحاسم وبالتالي فهي الفضيلة األساسية‪ ،‬بينما النقيصة الوحيدة هي الضعف‪ .‬وإذا كانت فلسفة نيتش تميل‬
‫في شكلها إلى نوع من الرومانسية فإن جوهرها ينطلق من إرادة القوة إلى حدودها العدمية‪ ،‬مرورا بعرقية جرمانية يطبعها‬
‫التعالي وتستهويها القيم األرستقراطية المفرطة‪.‬‬

‫ومن هذا المنطلق فإن فريدريك نيتش ينتقد بشدة صارمة وسخرية نادرة كل السلوكات األخالقية التي أفرزتها الديانة‬
‫المسيحية والتي تشبعت بها الحضارة الغربية‪ ،‬ويؤاخذ على مجموعة من التيارات الفلسفية األوربية مدى ضعفها في مواجهة‬
‫المسيحية‪ ،‬وكان األحرى بها أن تعمل على اقتالعها‪ .‬وفي ذلك قوله‪" :‬لم يختلف المفكرون الفرنسيون من فولتير إلى‬
‫أوجيست كونت عن المثل العليا للديانة المسيحية‪ ،‬بل عززوها‪.‬‬

‫فقد ذهب أوجيست ك ونت إلى الدعوة إلى محبة اآلخرين‪ ،‬وتكريس الحياة من أجل مساعدتهم‪ .‬كما دعا شوبنهاور في ألمانيا‬
‫وجون ستيوارت مل في إنجلترا إلى نظرية الشفقة ومساعدة اآلخرين‪ ،‬واعتبروها المبدأ األساسي في العمل‪ .‬كما وضع‬
‫االشتراكيون جميعهم أفكارهم على أساس هذه المبادئ التي تحض على الشفقة والرحمة ومساعدة الغير"‪.‬‬

‫إن ما يحتاجه اإلنسان في هذه الحياة‪ ،‬حسب رأي نيتش‪ ،‬هو القوة وليس الطيبوبة‪ ،‬والكبرياء وليس الخضوع‪ ،‬والذكاء‬
‫الحازم وليس حب الغير ومساعدة الناس‪ .‬لقد كان نيتش من المتطرفين التطورين‪ ،‬فعنده المساواة والديمقراطية تتناقضان‬
‫تناقضا صار خا مع نظرية االنتقاء الطبيعي ومبدأ البقاء لألصلح‪ .‬هذا المبدأ الذي يستهدف تطور اإلنسان العبقري ال اإلنسان‬
‫العادي‪.‬‬
‫لهذا فإن نقطة الحسم في كل النزاعات وفي جميع الحاالت هي القوة وال شيء غير القوة‪ .‬وهذا الطرح ينسجم تمام االنسجام‬
‫مع السياسة الدولية التي كان بسما رك في زمن نيتش قد تبناها‪ ،‬حيث قال‪" :‬إنه ال محبة للغير بين األمم وأن القضايا الحديثة‬
‫بين الدول ال ينبغي أن تقررها أصوات الناخبين‪ ،‬وال بالغة الخطب‪ ،‬ولكن الذي يقررها هو الدم والحديد"‪.‬‬

‫وفعال‪ ،‬لقد تمكن بسمارك من دمج الدويالت األلمانية تحت لواء اإلمبراطورية البروسية القوية‪ ،‬واستطاع أن يبسط نفوذ‬
‫السيادة األلمانية على النمسا‪ ،‬وهزم فرنسا في ظرف وجيز‪ ،‬وكان بذلك يشكل رمزا للقوة الجبارة في نظر نيتش‪ .‬وأصبح‬
‫بسمارك المعبر المثالي لعظمة ألمانيا ولروح سطوتها العسكرية المتنامية التي ميزتها خالل القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫لقد اهتزت مش اعر نيتش عند رؤيته لموكب عسكري متوجه إلى ساحة القتال حين قال‪" :‬لقد شعرت للمرة األولى أن أقوى‬
‫وأسمى إرادة للحياة ال تجد تعبيرا لها في الصراع البائس من أجل البقاء‪ ،‬ولكن في إرادة القوة‪ ،‬إرادة السيادة!"‬

‫هكذا تكلم زرادشت‬

‫ازداد فريدريك نيتش سنة‪ 1844‬في بلدة روكن ببروسيا‪ ،‬بدأ حياته العملية كأستاذ لمادة فقه اللغة بجامعة بال سنة ‪،1869‬‬
‫ونشر أول كتاب له تحت عنوان "مولد المأساة من روح الموسيقى" سنة ‪.1872‬‬

‫كان نيتش يدعو إلى إعادة بناء األخالق والدين على أسس نظرية التطور لداروين‪ ،‬ألن طبيعة الحياة في نظره ال تعمل على‬
‫تحسين أحوال األكثرية من الشعب‪ ،‬بل ترمي إلى خلق العناصر العبقرية مستخدمة الشعب كحقل تجارب الكتشاف النوابغ من‬
‫الرجال‪ .‬وكانت ميوله فنية في بداية إنتاجه الفكري‪ ،‬وأبدى شديد اإلعجاب بالموسيقار رتشارد فاجنر الذي وصفه بباعث الفن‬
‫الحقيقي وبالفنان الموهوب الذي ال يعرف للخوف معنى‪.‬‬

‫لكن سرعان ما اتضح له أن الفن يتناقض مع الخشونة ويبتعد عن لغة القوة بمفهومها الدموي‪ ،‬ولم يعد يركز على اهتماماته‬
‫الفنية‪ .‬وفي سنة ‪ 1879‬أصيب نيتش بمرض كاد أن يلم بحياته حتى أنه أوصى أخته بما يجب القيام به إذا ما حلت به المنية‪:‬‬
‫"عديني إذا مت أال يقف حول جثماني إال األصدقاء‪ ،‬وأال يد خل علي الفضوليون من الناس‪.‬‬

‫وال تدعي قسيسا ينطق باألباطيل واألكاذيب على قبري في وقت ال أستطيع فيه الدفاع عن نفسي‪ ،‬أريد أن أدفن في قبري‬
‫وثنيا شريفا"‪ .‬لكنه تعافى ونهض من فراش المرض وكأنه انتصر على الموت‪ ،‬فأصدر كتابين وهما "فجر اليوم" في عام‬
‫‪ ،1881‬و"ابتهاج المعرفة" في عام ‪.1882‬‬

‫وفي السنة الموالية ألف أهم كتبه‪" :‬هكذا تكلم زرادشت" الذي كان آية إبداعه وجوهر عمق تفكيره‪ ،‬حيث يعتبره بعض‬
‫الباحثين من أعظم الكتب التي أنتجها القرن التاسع عشر‪ ،‬مع العلم أن هذا الكتاب لم يحقق أي نجاح تجاري يذكر‪ ،‬وهو عبارة‬
‫عن آراء نيتش الفلسفية التي جاءت على لسان شخصية زرادشت‪ :‬إنها شخصية تنادي بحياة البطولة والمخاطرة بقولها‪:‬‬
‫"عش في خطر‪ ،‬وشيد مدنك قرب بركان فيزوف‪ ،‬وأرسل سفنك الكتشاف البحار المجهولة‪ ،‬وعش في حرب دائمة"‪.‬‬

‫التقي زرادشت في الغابة بناسك مسن الذي أخذ يحدثه عن هللا‪ ،‬لكن زرادشت لم يعر هذا الحديث أية مصداقية‪ ،‬وأدار وجهه‬
‫عن الناسك ليناجي نفسه في هذا الحوار الداخلي الصامت‪" :‬هل يمكن أن يكون ما قاله الناسك حقا؟‬

‫يبدو أن هذا الناسك المسن لم يسمع بعد وهو في غابته أن هللا قد مات!"‪ ...‬إنها مناجاة طافحة باإللحاد الجامح‪ ،‬ويتساءل‬
‫زرادشت عما إذا كان هناك إنسان أشد كفرا وإلحادا منه لكي يقصده فيمتع نفسه بتعاليمه! لكن موت اإلله المعلن عنه بنوع‬
‫من النشوة والتشفي واكبه في نفس الوقت اإلعالن عن ميالد مرتقب لإلنسان األسمى أو األقوى‪ ،‬أي السوبرمان‪ ،‬ذلك اإلنسان‬
‫الذي سوف لن يهاب المو ت أبدا‪ .‬إنه إنسان متسام ومستهين بالحياة‪ ،‬سيضحي من أجل هذه األرض وليس من أجل ما وراء‬
‫النجوم‪ .‬إنها فلسفة الحديد والدم‪ ،‬النار والرماد‪ ،‬الحرب والدمار‪ .‬لقد سمع زرادشت صوتا يناديه‪" :‬ما بك يا زرادشت؟ قل‬
‫كلمتك وحطم نفسك إلى شظايا"!‬

‫أخالق البطولة‬
‫بعد كتاب "هكذا تكلم زرادشت" ألف نيتش كتابين‪ ،‬األول بعنوان "ما فوق الخير والشر" عام ‪ ،1886‬والثاني حول "تاريخ‬
‫تسلسل األخالق" عام ‪ . 1887‬والكتابان معا موجهان ضد األخالق القديمة ويمهدان الطريق ألخالق اإلنسان األقوى‪ .‬وهكذا‬
‫يرى نيتش أن هناك نوعين من األخالق‪ ،‬وهما أخالق السادة وأخالق العامة‪ ،‬ويعطي مثالين على ذلك‪ :‬األول يخص اإلنسان‬
‫الروماني الذي كانت الفضيلة بالنسبة له تعني الرجولة‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬والجرأة‪.‬‬

‫والمثال الثاني يخص اليهود أيام خضوعهم السياسي‪ .‬ويالحظ نيتش أن الخضوع يولد الذل كما أن العجز يؤدي إلى طلب‬
‫المساعدة من الغير‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن أخالق الطبقات الضعيفة أخالق السالم واألمن‪ ،‬بينما أخالق األسياد هي أخالق حب المخاطرة‬
‫والقوة‪ .‬وراح نيتش يثنى على الثأر في مقابل الغدر‪ ،‬والقوة في مقابل المكر‪ ،‬والكبرياء والشرف في مقابل صوت الضمير‪.‬‬

‫وأما الشفقة فما هي في نظره سوى ضرب من الشلل العقلي‪ .‬فاألخالق النيتشية إذن هي تعبير عن إرادة القوة‪ ،‬وأما الحب‬
‫في حد ذاته ما هو إال رغبة في التملك‪ ،‬وحتى حب الحقيقة ليس إال رغبة في امتالكها‪ ،‬واإلدراك العقلي هو مجرد عملية‬
‫ثانوية ليست ضرورية‪ ،‬إنه منطق "أنا أريد" فحسب‪!...‬‬

‫ويعتقد نيتش أن الذي أفسد األخالق والفضائل األرستقراطية التي يدافع عنها‪ ،‬هو ذيوع وانتشار األخالق اليهودية المسيحية‬
‫الديمقراطية‪ .‬ويرى أن اإلنسان في الواقع من أشد الحيوانات قسوة وأكثرها حبا في ارتكاب أعمال البطش‪ ،‬وهذا بالذات ما‬
‫يجب أن يتحلى به اإلنسان األقوى من أخالق‪ .‬وأما اإلنسان الضعيف الفاتر الهمة فلم يبقى أمامه إال أن يقول‪ :‬إن الحياة ال‬
‫تساوي شيئا‪...‬‬

‫وكان جديرا به أن يعترف أنه هو شخصيا ال يساوي شيئا‪ ...‬لذلك وجب على اإلنسانية أال تهتم بالرفع من مستوى الجماهير‬
‫وإنما عليها أن تسعى إلى توفير الشروط الالزمة لظهور اإلنسان األقوى‪" :‬وأن يكون هدف اإلنسانية هو اإلنسان األقوى‬
‫وليس الجنس البشري بأسره"‪ .‬فالغاية إذن هي تحسين النوع وليست سعادة الجماهير‪ ،‬وما المجتمع إال أداة إلبراز قوة الفرد‬
‫ودعم شخصيته‪.‬‬

‫وبناء على ذلك‪ ،‬فإنه ال يجوز ألفذاذ الرجال الزواج عن طريق الحب‪ ،‬ألن هذا قد يؤدي إلى زواج األبطال من الخادمات‪،‬‬
‫والعباقرة من الخياطات وعارضات األزياء الفاجرات‪ .‬إن الحب يعمي البصيرة ويفقد الحكمة‪ ،‬ويجب تركه لحثالة الرجال ألن‬
‫االنسياق للعواطف والغرائز مجرد ضعف‪ .‬ويبقى على خير الرجال أن يتزوجوا من خير النساء‪.‬‬

‫ال يؤمن نيتش بنظرية العقد االجتماعي‪ ،‬والذي كان وراء تأسيس الدول في نظره هم جبابرة من الغزاة والسادة األقوياء‬
‫الذين أفنوا حياتهم في البحث عن الموت‪ .‬لذلك يرى نيتش أن الحرب هي أفضل عالج للشعوب التي دب فيها الضعف والراحة‬
‫والخسة‪.‬‬

‫هذه المبالغة في قلب القيم‪ ،‬وتمجيد العنف‪ ،‬وتقديس القوة‪ ،‬ومدح القسوة التي ال تعرف للرحمة معنى كانت بدون شك منبع‬
‫تأثير ومصدر إلهام بالنسبة لخرافة تفوق الجنس اآلري‪ ،‬وهي في الوقت ذاته تعطي الدليل أن الفلسفات المتطرفة المجنونة‬
‫غالبا ما تجد من ينساق ألطروحاتها العبثية‪ .‬إن النفي القاطع لحقوق اإلنسان عند نيتش كان نابعا من إيمانه األعمى ب‬
‫"سلطة القوة" في أبشع تجلياتها وإلى أقصى حدودها الالإنسانية‪...‬‬

‫وفعال‪ ،‬لقد قال فريدريك نيتش كلمته وحطم نفسه إلى شظايا‪ ،‬ذلك أنه أصيب بالجنون منذ ‪ 1889‬وبقي على هذه الحال إلى أن‬
‫وافته المنية سنة ‪.1900‬‬

You might also like