Professional Documents
Culture Documents
نتطرق من خالل هذه السلسلة ( 28مقاال) الستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في
تعاملها مع مسألة حقوق اإلنسان التي برزت بشكل يزداد ثقال وعمقا منذ الربع األخير من القرن العشرين ،والتي تحمل في
ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل االحتماالت.
إن االعتبارات النقدية الواردة في هذه المقاالت ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة ،وال من باب التحامل المبني
على اآلراء الجاهزة واالندفاعات العشوائية المتطرفة ،وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي
الذي تتغذى عليه منظومة حقوق اإلنسان المعاصرة.
د.الطيب بوتبقالت
*أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم اإلعالم واالتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة -طنجة
tayebboutbouqalt@yahoo.fr
هسبريس
اكتسحت الحضارة الغربية بآلياتها الفكرية ،ومعاييرها الثقافية وقيمها األخالقية ،وأساليبها المادية ،مختلف المجتمعات
البشرية المعاصرة .فلقد أصبحت نظرتها إلى العالم أساسا لمنهجية التعامل والتواصل على المستوى الدولي بدون منازع،
وجدير باإلشارة إلى أنه لم يسبق ألي حضارة في تاريخ اإلنسانية على اإلطالق أن حققت هذا االنتشار المجالي الواسع
النطاق ،إذ ال يوجد حاليا متر مربع واحد على وجه الكرة األرضية إال وفيه أثر معين إلفرازات هذه الحضارة ،حتى وإن كان
هذا األثر متجسدا في تلوث الماء والهواء والتربة فحسب .ولم يسلم الغالف الجوي الخارجي من ذلك األثر ،حيث أضحى يعج
باألقمار الصناعية المتزاحمة في مدارات متعددة ،ناهيك عما تفرزه هذه األقمار نفسها من شظايا متناثرة تسبح بسرعة هائلة
في اتجاهات فضائية ال متناهي ة .ال بل إن البصمات المادية للحضارة الغربية طالت كواكب "بعيدة" مثل القمر والمريخ ..وأما
تحكمها في العنصر الزماني واختزالها للمسافات الفيزيائية ،فإن حضارات اإلنس السابقة لم تسجل قطعا ما يضاهي هذا
اإلنجاز.
ترى ما هي المسافات أو األزمنة التي قطعتها هذه الحضارة الغربية في عوالم الفكر اإلنساني وإدراكاته؟ سؤال عريض
وعويص ال يسع المرء إال أن يطرحه مع اإلحساس المسبق بحسرة عدم الوصول إلى جواب شاف وشفاف.
اإلرث الحضاري
تعتبر الحضارة الغربية الوريث الشرعي لكل من الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية ،وقد حظي أقطاب الفكر الفلسفي
اليوناني وجهابذة القانون الروماني بكل تقدير واعتزاز على مدى مراحل تطور العالم الغربي إلى يومنا هذا ،ومعلوم أن
المسيحية اندمجت عمليا في النظام القانوني الروماني منذ اعتناق اإلمبراطور قسطنطين الدين المسيحي عام 313م .وهذه هي
المشارب الرئيسية للحضارة الغربية التي نتحدث عنها.
وإذا كان التركيز هنا على الفكر الفلسفي الغربي وعالقاته ببلورة وإنضاج مفهوم حقوق اإلنسان ،فإن ذلك ال يعني أن الغرب
يحتكر ملكة التفكير وكفاءة التعبير في هذا المجال ،وكل ما هنالك هو أن الزمن اليوم زمن غربي في شتى أبعاده المادية
والرمزية ،وبالتالي فالمسألة تكمن في تداول الحضارات الذي يعنى ضمنا وصراحة التواصل بين الثقافات منذ فجر التاريخ
اإلنساني .فمن البديهي أن الفكر الغربي لم ينطلق من فراغ ،ولم يتطور بكل تأكيد بناء على نظرة ذاتية انطوائية ،وإنما تغذي
من موارد فكرية وتأثيرات غير ت لك التي ميزت معطياته المركزية .وهذه بدون شك من العوامل التي جعلت إشعاع الحضارة
الغربية يصل إلى مختلف أصقاع المعمورة ويتكيف مع ظرفيات وإشكاالت محلية صرفه .فالتغيير من سمات التداول
الحضاري ،وعنه تترتب المسؤوليات تحديدا .إن التواصل اإلنساني عموما يبقى حتمية ثابتة على مدى تتابع حقب التاريخ
البشري ،وأما القطيعة المطلقة التي تعني عدم التواصل فإنها مستحيلة لكونها تتناقض مع مبدأ الحياة.
وعلى أي حال ،من ذا الذي يمكنه االستخفاف وعدم االكتراث بمقولة "ال يحق للقوي أن يؤدي الضعيف" ،وهو الشعار الذي
رفعه حمو رابي ،حوالي 1800سنة قبل الميالد ،ليكون عنوانا للتشريعات التي وضعها لمملكة بابل بأرض العراق؟ ومن ذا
الذي ال يتوقف ولو لحظة سريعة عند تجربة فرعون في الحكم متأمال "أنا ربكم األعلى"؟ ومن ذا الذي يجحد تأثير األفكار
البوذية النيرفانية ،وأراء كونفوشيوس االجتماعية ،وتعاليم الديانات السماوية الرامية إلى التسامح والتعايش السلمي ،ناهيك
عن البصمات التي تركتها تلك التأثيرات في مسيرة الفكر عند أبناء البشر عامة؟ فهذا السيد المسيح عليه السالم يتساءل
"ماذا يفيد اإلنسان لو أنه ربح العالم كله وخسر نفسه" .وهذا خاتم األنبياء والمرسلين عليه الصالة والسالم يدعو إلى
المساواة بين الناس" :ال فضل لعربي على عجمي وال لعجمي على عربي (…) إال بالتقوى".
وكيف ال يثار التساؤل الملح حول مدى التشابه إلى حد النقل الحرفي ،بين مقولة الخليفة عمر بن الخطاب رضي هللا عنه:
"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أح رارا" ،والمادة األولى من اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان" :يولد جميع الناس
أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق ،وقد وهبوا عقال وضميرا ،وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح اإلخاء"؟
هذه مجرد تساؤالت تطغى عليها المقاربة الديداكتيكية ،وهي فعال ترمي إلى تبيان مدى أهمية تالقح األفكار والنظريات بغض
النظر عن التموقع الحضاري أكان شرقا أم غربا ...ولكن رغم كل ذلك ،هناك من يتخندق وراء تيارات فكرية عنصرية تدعى
تفوق وأحقية هذا الصنف من الجنس البشري على األصناف األخرى ،وتعتبر تبعا لذلك أن الشرق شرق والغرب غرب ،وهي
مقولة رددها كيبلين ،صاحب جائزة نوبل لسنة ، 1907والمعروف بتمجيده األعمى لإلمبريالية األنكلوسكسونية .وكان أرسطو
قبل ذلك بقرون عديدة قد اعتبر أن األسيويين عبيد بطبيعتهم ،وأن ذلك ما جعلهم يخضعون من تلقاء أنفسهم وبكل استسالم
وخنوع لحكامهم المستبدين .كما أن مونتيسكيو ال يرى غض اضة في اعتبار االستبداد نظاما طبيعيا بالنسبة للشرق ،ولكنه غير
صالح وخطير على الغرب...
وغنى عن البيان أن أصداء هذه األفكار بل وامتداداتها الفاعلة مازالت حية إلى اآلن ،وما أكثر من يعملون على إغنائها
وتحيينها ،إذ ليست األنظمة الفاشية والناز ية والتوتاليتارية إال من بنات تفريعاتها ومجرد تطبيقات لنظرة غالتها المتطرفين،
علما بأن هؤالء كانوا يدعون وبكل جدية أنهم من المدافعين عن "حقوق اإلنسان" بمفهومهم الخاص لتلك الحقوق .ألم يقم
االستعمار الغربي على مبدأ نشر "الرسالة الحضارية"؟ أليس مبدأ احترام حقوق اإلنسان اليوم أسلوبا "حضاريا" ذا
مصداقيته؟ ولكن عن أي إنسان يتحدثون؟ سؤال في الحقيقة لم تجب عنه حتى أكثر المواثيق الدولية-الغربية وضوحا في هذا
المجال ،إذ أنها ال تكشف عن النوايا والخلفيات االستراتيجية التي كانت الدافع الحقيقي وراء ظهورها ،ويكفي للدليل على ذلك
مدى قابلية التبني المطلق أو التنفيذ الفعلي لبنود تلك المواثيق .وإذا كان فقهاء القانون عموما يجدون دائما مخرجا تكتيكيا أو
منطقيا لهذه الحالة أو تلك ،متسلحين في ذلك بمناهج الفكر القانوني الحصيف وثمرات االجتهادات القضائية المتراكمة ،فإن
األمر هنا يتعدى بكثير الدراسات الحقوقية الوضعية واالمتثال لإلشكاليات المسطرية .إنه يتعلق بمفهوم شمولي للدالالت
واألبعاد التي تؤطر منظومة حقوق اإلنسان ،تماما كما بلورها وطورها النظام الحضاري الغربي الذي فرض نفسه كمرجعية
أحادية ووحيدة لحرية وكرامة اإلنسان .إن واقع األمر يو حي بأن الخيار الراهن هو خيار ال ثاني له ،فإما مواكبة الركب
الحضاري الغربي بإمالءاته الصارمة وإما مغادرة التاريخ .وهذا يعني أن تعريف اإلنسان بات محصورا على التصورات
الغربية التي تحدد كيف يجب على العالم بأسره اإلقرار النهائي والفعلي بسيادة قيم معينة .وأما الذي تسول له نفسه عدم
اإلقرار بها فقد يرمي بنفسه إلى التهلكة!
إن مسؤولية رفع المشعل الحضاري التي تقع اليوم بكل ثقلها على عاتق الغرب ،جعلت هذا األخير يوظف تطلعاته لمستقبل
البشرية بناء على أسسه الحضارية ،وينتهزها فرصة سانحة ليضع نصب عينيه إضعاف وإقصاء الروافد الحضارية األخرى
غير الغربية التي كان إلى أمد قريب يتغذى على إمداداتها الفكرية .وهو في ذلك يعلن الوفاء عمليا لينابيعه ومرجعياته
التأسيسية ،ويتفادى الوقوف عند نواقصها الصارخة -ربما -مخافة أن تحيله تلك النواقص على الضرورة الملحة لمراجعة
ذاته الحضارية في عز نش وتها االنتصارية ...فإذا كانت مثال إصالحات صولون للنظم القانونية والسياسية لفائدة المجتمع
األثيني في القرن السادس قبل الميالد تشكل محطة بارزة في إرساء دعائم الحكم الديمقراطي التي اعتمدها الغرب كإرث
حضاري مرجعي ،فإنه وجب علينا التذكير بأن ثلث سكان أثينا آنذاك كان من المستعبدين الذين ال يحق لهم التمتع بالحقوق
المقررة لصالح "المواطنين" األثينيين .وإذا كان الرومان قد أفلحوا بالفعل في صياغة القوانين انطالقا من قواعد علمية متينة
واعتبارات عملية وجيهة ،فإنه طبقا للقانون الروماني كان بإمكان "المواطنين" الرومان وحدهم حق إبرام العقود والمقاضاة
للحصول على التعويضات وتملك األموال ،وهم في ذلك يخضعون للقانون المدني بينما كانت المستعمرات الرومانية تخضع لما
سمي حينها بقانون الشعوب .وواضح من هذه األمثلة أن اإلنسان "المواطن" ابن الحضارة السائدة ليس هو اإلنسان
بالمفهوم المطلق ،وهو نفس المشهد الذي تكرر إبان فترة االستعمار الغربي المعاصر .والسؤال المطروح اآلن هو :هل نحن
بصدد إعادة اكتشاف العجلة أم أننا أمام بداية لقفزة نوعية في فضاء مجهول؟
واالتجاه الذي يمكن ترجيحه بكل وضوح هو أن السياق التاريخي الذي اندرجت فيه مسألة حقوق اإلنسان ،تحت ردائها
الفلسفي-القانوني -السياسي هو ببساطة مجرد إفراز للهيمنة الشمولية للغرب الذي استطاع فعال أن يفرض عولمة هذه
الحقوق بمفاهيم إرادية تعسفية تحت ستار من الدعاية الخادعة .وال يعنيه في ذلك وجود أو عدم وجود معايير مزدوجة على
المستوين النظري والتطبيقي ،وكل من لم يقتنع برجحان هذا االتجاه ،لسبب من األسباب ،فما عليه إال أن يراجع تطورات
وتفاعالت مجمل القضايا الراهنة التي للغرب فيها مصالح حيوية هامة وذات أهداف استراتيجية وازنة ليتبين له مدى هشاشة
المسوغات ،وضعف الحجج ،واستفحال أساليب الغطرسة ،وصمت عموم النخب الغربية المثقفة .ولينظر مثال بعين فاحصة
وبكل موضوعية إلى اإلشكاليات التي تطرحها القضية الفلسطينية بموازاة مع جوهر ثقافة حقوق اإلنسان المعبر عنها في
المحافل الدولية وفي المراكز الغربية للقرار السياسي.
عندها يتضح بدون التباس الغياب التام لحماية دولية عادلة وشاملة لحقوق اإلنسان في بعدها الكوني ،أي تلك الحقوق التي
توفر ضمانات لحريات اإلنسان وتحفظ كرامته ،بغض النظر عن هويته العرقية ،والدينية ،والثقافية ،وغير ذلك من مميزاته
الذاتية واالجتماعية ،وبدون التدخل السافر في اإلطار السياسي والنظام االقتصادي الذي يختاره بمحض إرادته ،وفقا
لتصوراته للعالم من حوله ،وليس بناء على تصنيفات غربية إلزامية للحقوق والحريات.
ومهما يكن من أمر ،فإن االهتمام هنا سينصب أساسا على تطور الفكر الفلسفي الغربي في مساره التاريخي ومدى انعكاس
ذلك على منظومة حقوق اإلنسان المتعارف عليها عالميا .هذا مع العلم أن هناك دائما مسافة تفصل بين حيثيات ومالبسات
الفعل السياسي والمنحى اإليديولوجي بصفة عامة وتمظهرات الفكر الفلسفي على وجه الخصوص .حتى وإن كانت عمليات
التفاعل القائمة بين هذه العناصر تأتي متأخرة أو بشكل مغاير في الزمان والمكان .وما اإلشارات الواردة آنفا إال على سبيل
التذكير بصدد هذا التفاعل ذي األبعاد المختلفة والمتشعبة.
إن موضوع حقوق اإلنسان كان في الواقع وسيظل مهما طال الزمن موضوعا فلسفيا بامتياز ،وكل من يعتبر الفكر الفلسفي
من قبيل تأمالت من فوق أبراج عاجية ال شك أنه سقط ضحية لدياجير ظالم الجهل وعمى البصيرة.
مرجعيات الفلسفة الغربية .. - 2 -ميالد مذاهب ونظريات العقالنية
- 2/28ميالد العقالنية
منذ أمد بعيد انكب رجال الفكر على إيجاد عالقة بين تصورات اإلنسان لمحيطه الطبيعي وواقعه االجتماعي ،وذلك من خالل
تعامله مع قوى الطبيعة من جهة ،وعبر األنظمة والضوابط االجتماعية التي يؤسسها هو نفسه من جهة ثانية.
ويرى ألبير بريمو ،أستاذ فلسفة القانون بجامعة باريس ،أن المذاهب العقالنية تشمل كل النظريات التي تتخذ من العقل
محورا لعناصر أطروحاتها ،معتبرة إياه كسلطة بيد اإلنسان تمكنه من التنظيم الممنهج لمعارفه وسلوكياته ،وتساعده في نفس
الوقت على بناء عالقة رشيدة مع الطبيعة.
بمعنى آخر ،تؤكد هذه المذاهب على أن البشرية قد وصلت إلى مستوى من الوعي واإلدراك انبثقت عنه نظرة خاصة إلى
اإلنسان ،ذلك المخلوق الذي يتميز عن الحيوان بالعقل .وهذه الخاصية هي التي تؤهله الكتشاف قوانين الطبيعة بهدف تلبية
حب استطالعه الغريزي وتسخير تلك القوانين لفائدته.
وبالطبع لم تقف المسألة عند حد المالحظة المجردة التي قد تبدو بسيطة وربما سطحية ،وإنما تمخضت عنها تأويالت تكاد
تكون متضاربة وفي بعض األحيان غامضة ،حتى وإن بقيت العقالنية قاسمها المشترك.
فبعض المذاهب تعتبر العقل بمثابة نسق من المبادئ يتحرك بموجبها وعي اإلنسان بنفسه في عالقته مع العالم ،وتشكل لديه
نموذجا معرفيا شامال .بينما ترى مذاهب أخرى أن العقل نظام متكامل يتولد عن طبيعة اإلنسان ،وهو الذي يمكنه من الوصول
إلى معرفة الحقيقة ويساعده على التمييز بين الخير والشر.
وبالتالي يدفعه إلى تنظيم المجتمع بصفة إرادية وليس عن طريق الصدفة التلقائية .وهناك من يرى أن العقل هو القدرة على
التفكير حسب قوانين تهدف إلى تكييف السلوك اإلنساني .وفيها يبرز العقل في إشكاليته اإلدراكية بين ما هو ضروري وما هو
كلي ،أي أنه عبارة عن قوانين فكرية ضرورية وكلية ،البعض منها مكتسب وناتج عن التجربة ،والبعض اآلخر متأصل في
العقل بشكل طبيعي ومستقل عن العالم المادي.
ويطلق أرسطو مصطلح «النفس الناطقة» على العقل ،باعتباره موجها ومنظما لقوى الذات البشرية .وهذه النظرة المتسامية
للعقل هي التي تطفو على السطح عند إيمانويل كانط حين يقول « :كل معرفتنا تبدأ من الحواس ،ومن ثم تنتقل إلى الذهن،
وتنتهي في العقل .وليس فينا ما هو أسمى من العقل لمعالجة مادة العيان أو الحدس وردها إلى الوحدة العليا للفكر».
إال أن اإلشكالية تزداد تعقيدا عندما يستعمل مفهوم العقل ومفهوم الطبيعة بشكل يلفه الغموض .فتارة الطبيعة تعني االستسالم
للغائية التي تتحكم في صيرورة الكون ،وتارة أخرى الطبيعة تعني مبدأ لكل األحكام المعيارية ،وتلجأ للتعبير عن نفسها من
خالل حقائق يتوصل إليها العقل الطبيعي الذي يكشف ،حسب أفالطون ،عن االنطباعات الذهنية وخصوصياتها.
وقد يشار إلى الطبيعة على أساس كونها حتمية تفرضها قوى مادية .وتزداد هذه اإلشكالية تعقيدا عندما نستحضر النظرية
القائلة بموافقة مفهوم الطبيعة للحالة الطبيعية التي ال تشكل األخالق والقوانين اإلنسانية بالنسبة لها سوى تقليد منقوص.
ولذلك على اإلنسان وفقا لهذا المنظور الرجوع إلى الحالة الطبيعية ليسترد ما ضاع من إنسانيته الحقة.
لم تكن الساحة الفلسفية اليونانية خالية قبل سقراط ،بل عرفت زخما من األفكار يرجع إليها الفضل في إعطاء دفعة قوية
للفكر اليوناني في مجاالت متعددة ،وخاصة منها تلك التي اهتمت بالمنهاج العلمي والتوظيف اإلمبريقي أو التجريبي للمالحظة
األولية.
فبعض المصطلحات مثل الطبيعة (فيزيس) والنظام الطبيعي (كوسموس) والقانون الطبيعي (نوموس) تم استعمالها قبل
سقراط ،وكانت بحق آليات ضرورية ساهمت في إعطاء اال نطالقة الفعلية لبلورة الفكر الفلسفي والنظريات العلمية في بداياتها
التقعيدية.
لكن النسق األسطوري سيظل قائما لردح من الزمن ،وهكذا في مرحلة سماها عالم االجتماع األلماني ماكس فيبر بالمرحلة
الكاريزمية ،لم يعمد المفكرون خاللها إلى تصور نظام لشرح العالم أو تبرير وجود السلطة ،ألنهم بكل بساطة وجدوا ذلك
التصور في الميثولوجيا القديمة .لقد كانت المؤسسات االجتماعية تسعى إلى التماهي مع األنساق الطبيعية.
وعليه ،فإن الملك-الكاهن كان يجسد مبدأ اندماج األنشطة االجتماعية في المواسم الطبيعية المتعاقبة ،بحيث كان مفهوم
المجتمع ال يتميز عن مفهوم الطبيعة .ويبقى السؤال مطروحا :متى حدث ذلك التحول العميق وتلك النقلة النوعية التي ظهرت
العقالنية على إثرها إلى الوجود؟
يبدو أن أحد عناصر هذا التحول يكمن في بروز ما سمي ب «حضارة المدن» ،ومرد ذلك إلى أنه عندما دخل المجتمع
اليوناني عهد «الدولة-المدينة» بدأت الطقوس الملكية في التراجع ،وبدأ النظام السياسي يتطور تدريجيا على حساب النظام
الطبيعي .ومما نتج عن هذا التحول ،قطيعة فكرية تمثلت في فك االرتباط بين الميثولوجيا والطبيعة .وبالتالي في فصل وظيفة
الملك العمومية والقانونية عن النظام الطبيعي.
وهكذا جاء الفكر الفلسفي الجديد لقطع الحبل السري الذي كان يربط الطبيعة بالسياسة ،لتصبح المدينة بعد ذلك مثارا
لمناقشات وجداالت دائمة ومتجددة .وترتب عن ذلك أن أصبحت الكوزمولوجيا ترجمة للطبيعة ،ولم يعد تاريخ الكون ينحصر
في أسطورة إله الميثولوجيا المسمى كرونوس .وحتى آلهة الميثولوجيا نفسها أصبحت موضوعا لتصور مغاير تماما لما كان
سائدا ،وبدأ التفكير فيها ينحو منحى ما وراء الطبيعة ،وهذه األخيرة كانت تعتبر حركة وهي بالتالي تعنى بالضرورة وجود
محرك أول لها.
وكان كل من بارمينيد وبروتاكوراس في القرن الخامس قبل الميالد قد عبرا عن هذا االتجاه الجديد .فاألول يرى أن الكون
أبدى ،في حالة استقرار ،ومتصل .وأما الثاني ،فإنه يعتبر األحاسيس مصدرا لكل معارف اإلنسان .وفي ذلك إشارة واضحة
للصراع بين الفكر العقالني والفكر الخرافي.
ولم يعد مفهوم المدنية مالزما للمفهوم الكوني البدائي ،وذلك راجع لكون المدينة فضاء من صنع اإلنسان في المقام األول،
وثانيا ألنه كان يبدو جليا أن في داخل هذا الفضاء يتحقق مصير هذا اإلنسان نفسه .ومما ساعد على بلورة هذا االتجاه
النقاشات الواسعة والمثمرة التي كانت تطبع االنشغاالت الفكرية آنذاك ،فهي التي أدت إلى إحداث إصالحات قام بها كليستان
في أواخر القرن السادس قبل الميالد ،وكلسيتان هذا يعتبر المؤسس األول للديمقراطية األثينية.
لقد أعطت إصالحات كليستان االنطالقة العلمية لمفهوم جديد تحددت في إطاره عالقة اإلنسان بالمدينة .ولقد أدى تالزم فكرتي
العقل والطبيعة إلى ثنائية الوجود ،بمعنى أن اإلنسان هو صورة للكون تتركب من عنصر غير مادي هو العقل ،وآخر مادي هو
الجسد .وأن اإلنسان يسير جسده ،كما يسير هللا الطبيعة .وتبقى وحدة الكينونة متجلية في العقل :هكذا ظهر الفكر التجريدي.
وعلى شاكلة النظام الكوني ،فإن النظام السياسي كان يخضع في آن واحد لقوالب الفكر التجريدي النظري والستخالصات الفكر
المادي العلمي.
ومن نتائج تلك التحوالت الفكرية أنه تم تعريف اإلنسان باالستناد إلى "مواطنته" في المقام األول ،وليس بالنظر إلى نسبه.
وهوما يعني أن الروابط السياسية واالجتماعية أصبحت من ذلك الزمن فصاعدا مبنية على مبدأ المساواة القانونية ،وهكذا
اقتحم الفكر العقالني مجال القانون المؤسسي ،وهو إعالن صريح لبداية تراجع الفكر الغيبي الخرافي.
حدث ذلك قبل مجيء سقراط ،ومما يعاب على الفكر الفلسفي الذي ساد قبله هو كونه أدى إلى ظهور مادية مبنية على
التماهي بين الواقع والمحسوسا ت .ويرجع الفضل إلى سقراط وأفالطون ومن تتلمذ على أيديهما في توسيع دائرة الفكر
العقالني ليشمل األبعاد المثالية ،وقد تزامنت هذه المرحلة مع فترة زاهرة من النمو االقتصادي والفني والفكري عرفتها بالد
اليونان مباشرة بعد انتصار قواتها في معركة سالمين عام 480قبل الميالد.
مرجعيات الفلسفة الغربية .. - 3 -العدالة والسياسة في فكر أفالطون
لم يترك سقراط أثرا مكتوبا ،لكنه ترك أفكارا خالدة طورها وعمقها كل من أفالطون وأرسطو .والنسق السقراطي يعتمد على
الصياغة المحكمة للسؤال إلى حد االستفزاز ،وربما لهذا السبب بالذات تم إعدامه سنة 399قبل الميالد .كان سقراط متمسكا
بنهجه الفكري الحكيم واثقا من نفسه ال يهاب الموت .فلقد قال أثناء محاكمته أقواال ظلت عنوانا لنهجه الذي تربى عليه تلميذه
وزميله أفالطون ،وهذه بعض منها ":لو أنكم ا قترحتم إخالء سبيلي بشرط أن أتخلى عن بحث الحقيقة لقلت لكم :إني أشكركم
أيها األثينيون ،ولكني أوثر أن استجيب لطاعة هللا الذي اعتقد أنه هيأني ألداء هذه الرسالة على أن انصاع لرأيكم ،وما دام بين
جنبي نفس يتردد ،وقوة أشعر بدبيبها في كياني فلن أتوقف عن مزاولة التفلسف ومواصلة التحدث إلى من التقى به من الناس
وتكرار القول له :أال تشعر بالضعة و الخجل حين تتعلق بالغنى و الثروة ،وال تحرص على الحكمة وال تعبأ بالحق وال تعمل
على ترقية نفسك؟ إني ال أعرف ماذا يكون الموت ،وربما كان أمرا طيبا ،فأنا ال أخافه وال أخشاه ،ولكني واثق من أن توقف
المرء عن أداء وظيفته شر ال محالة ،فأنا أوثر ما يحتمل أن يكون طيبا على ما أعرف أنه شر".
وخالفا لبعض التأويالت الرومنسية فإنه عندما نتحدث عن المثالية األفالطونية فإن ذلك ال يعني الخروج عن دائرة الفكر
العقالني ،ويمكن القول إلى حد ما بأن األفالطو نية هي التي وضعت األسس األولى للفلسفة والميتافيزيقا ،لقد عمدت من أجل
ذلك إلى رسم إطار عام تبلورت بداخله المنظومة الفكرية المتوسطية عموما والنظريات المسيحية للقرون الوسطى خصوصا.
ففي أحضان هذه األفكار نشأ وترعرع نظام جديد للقيم التي طبعت أعماق الفكر الغربي ،وأما تعريف هذا اإلطار العام فيتجلى
في العقالنية المثالية التي يطفح بها كتاب "محاورات " ألفالطون .أسس أفالطون مدرسة كانت تسمى األكاديمية سنة 387
قبل الميالد .وكانت عبارة "ال أحد يدخل هنا إذا لم يكن ملما بالعلوم الرياضية" منقوشة على مدخلها حسب مصادر تاريخية
متأخرة ومشكوك في صحتها ،وعلى ما يبدو فإنها مقولة مأخوذة من أقواله المأثورة إشارة منه إلى ضرورة تنمية الفكر
التجريدي والحاسة النقدية عند الطالب من أجل التخلص من "كهف" ظالل الجهل ،وليس تبجحا باالنتماء الحصري إلى طبقة
األقلية من "فقهاء" عصره...
إن منطلق الفلسفة األفالطونية هو عالم الجواهر ،بمعنى أن اإلنسان كائن تميزه خاصية المبدأ اإللهي ،وبناء على ذلك فإن
بإمكانه الولوج النسبي إلى عال م الجواهر ،وإذا كان مآل جسده الهالك ،فإن له روحا جوهرها رباني ،وهذه الصلة النسبية باهلل
هي التي تمنح الحرية لإلنسان ،ويعبر أفالطون عن ذلك بقوله" :إن هللا ال يحكمنا مباشرة ،بل بواسطة العقل الذي وهبنا،
فالقوانين التي يقررها العقل تحاكي العناية اإللهية" .وأما األفكار المتعلقة بالجمال والخير والعدل فهي من قبيل المحسوسات
التي ليس في متناول الكائن البشري أن يدركها على حقيقتها الجوهرية .ومن هنا برزت فكرة المبدأ الموضوعي ،والجمال
الموضوعي ،والعدل الموضوعي .وهذا يعني أن هناك ترابطا بنيويا ما بين نظام ذي طبيعة إنسانية ونظام ذي صبغة ربانية،
وهو نفس الترابط الموجود بالنسبة للعدل اإلنساني .وفي "الجمهورية " و " القوانين " ألفالطون تفنيد ألطروحة
السفسطائيين التي مفادها أن مبدأ اإلنصاف متغير حسب أهواء وإرادة الطرف األقوى ،والمقصود من وراء هذا التفنيد هو أن
هناك نماذج مثالية يمكن التعرف على طبيعتها المطلقة بالتدريج .فمثال بالنسبة للجمال يمكن أن ننطلق من مالحظة سطحية
تتوقف عند جمال األجسام ،لكن بعد التفكير واإلمعان نرقى إلى فكرة مؤداها أن الجمال هو جمال معنوي بالطبع وليس ماديا،
وهو جمال النفوس.
وبعد تأمل أكثر تعمقا يمكن الوصول إلى إدراك وجود جمال أزلي ال يعتريه فساد ،ويرى أفالطون أن هذا الجمال األزلي ليس
فيه "ال زيادة وال نقصان ،كما أنه ليس جماال في جزء منه وقبحا في جزء آخر ،وال جمال من وجه وقبحا من وجه آخر ،وال
جماال في نظر قوم وقبحا في نظر قوم آخرين .ولن يتصور هذا الجمال في هيئة وجه أو يدين أو أي عضو آخر من أعضاء
الجسم ،وال على هيئة قول أو علم أو أي شيء يوجد في شيء آخر سواء أكان كائنا حيا أم أرضا أم سماء أو ما شئت من
الموجودات .بل يتصور جماال في ذاته وبذاته ،فريدا ،أزليا ،وكل شيء جميل آخر يشارك فيه ،ألن هذه األشياء الجميلة تزدهر
وتذبل .أما الجمال بالذات ،فال يكون أكثر وأقل بل يظل هو بغير زيادة وال نقصان وال تغيير".
وقد حدد أفالطون المحاور الرئيسية للقانون الطبيعي الكالسيكي كالتالي :الكلية والموضوعية ونسبية األحكام اإلنسانية مع
ضرورة االرتقاء تدريجيا من الواقع الملموس إلى مستوى المعقوالت .ويعتبر أفالطون العدالة أسمى فضيلة ،تشتمل عناصرها
على التوازن والنظام والوئام ،وأما الطريق إليها فيمر وجوبا عبر الحكمة روحا وعقال ،ومصدر هذه الحكمة هو التعليم أو
التربية التي هي نفسها مصدر للخير العام بمفهومه السياسي .وتعتمد العدالة في مؤسسة الدولة على نفس المبادئ التي يعتمد
عليها النظام ،وهي نظرة مثالية نابعة من ضرورة تنظيم هذه المؤسسة على نموذج الخير العام ،المستمد هو اآلخر من
منظور العودة إلى الطبيعة واالعتدال وبساطة الحياة االجتماعية والعيش في سالم .وال يفوته التساؤل :لماذا لم يتحقق هذا
النموذ ج المثالي؟ فيجيب أفالطون بأن السبب في ذلك راجع إلى جشع اإلنسان وميله إلى الكسب اإلضافي حتى وإن كان على
حساب الغير ،وكنتيجة لذلك ساد األسلوب العدواني في العالقات اإلنسانية واستفحلت المنافسة على الموارد المادية ،ظهرت
على إثرها الفوارق بين شرائح المجتمع ،وكان طبيعيا أن تنشب النزاعات والحروب كحتمية لتلك االختالالت.
ويستعرض أفالطون أنظمة الحكم من أرستقراطية نخبوية ،وأوليغارشية أقلية ،وديمقراطية عددية .ويقر بأن هذا النظام
األخير هو الذي يعطي للشعب أكبر قدر من المساواة والحرية والمساهمة في ممارسة السلطة .ويستدرك موضحا أن مصيبة
الديمقراطية تبدو كامنة في المبالغة في الديمقراطية نفسها ،حيث يمكن أن يتحول هذا النظام من جراء تطبيق مبدأ المساواة
مثال إلى حكومة الدهماء والغوغائية ،ذلك ألن الشعب غالبا ما ينقصه التكوين الكافي والتعليم الالزم حتى يكون في مأمن من
حكام متالعبين بمصالحه ،وبالتالي تنقلب الديمقراطية إلى حكم استبدادي أو أوتوقراطي .وال يثق أفالطون في سالمة اختيار
الشعب للمسؤولين السياسيين ألن هؤالء قد يصلون إلى المناصب العامة ليس بفضل كفاءتهم ونزاهتهم ،وإنما عن طريق
المكر والخداع ،وقد يكونون مجرد أشباح تحركهم أيادي المال والثروة .أما أفضل الرجال وأحكمهم في إدارة شؤون البالد في
نظره فهو اإلنسان الفيلسوف الذي استطاع أن يدرك أن كل ما يحدث إنما يحدث بالضرورة عن علة ،وأن العالم حادث ومتغير،
أي أن له علة صنعته ،وهذه العلة هي هللا.
ومن هنا فإن سلطة الحاكم الفيلسوف ستكون بالض رورة صادرة عن مشيئة هللا .بمعنى أن النظام يجب أن يرتكز على قانون
معبر عن اإلرادة اإللهية ،ولهذا فاحترام القانون كما ورد في كتابه " القوانين " هو امتثال للنموذج الرباني الذي بني النظام
الكوني طبقا له .وتبقى الغاية المطلقة لمؤسسة الدولة هي تحقيق الخير العام ،وهي نفس الغاية النهائية للروح اإلنسانية.
ولكن عندما تتأكد ضرورة الدولة يتحول اإلنسان من مستواه الفردي إلى مجرد تجريد ال غير .ومن أجل تحقيق الخير العام
وإرساء العدالة البد من إدارة شؤون مؤسسة الدولة بناء على العقل .ومما يؤاخذ على أفالطون إفراطه في تعظيم النظام
وتقزيمه لقيمة الفرد ،هذا مع العلم أنه كان يعترف بأن تحقيق الدولة المثالية التي رسم نموذجا لها هدف صعب إن لم يكن
مستحيال .ولكنه يدفع العقل اإلنساني دائما إلى تصور أفضل لعالم أفضل ،وهكذا ظلت فكرة المدينة الفاضلة تشغل بال أجيال
المفكرين والمهتمين بالفلسفة السياسية التأملية.
ولم يكن لقبه "المعلم األول" مجرد صدفة أو مجاملة ،فهو الذي ابتكر علم األخالق ووضع المنطق الصوري على أسس
متينة ظلت مرجعا ال يستغنى عنه عند الدارسين المختصين لقرون عديدة .لقد أفلح في الخروج من ظالل كهف المثالية
األفالطونية إلى واقع الساحة العامة اإلغريقية بما لها وما عليها ،ويرتكز منهجه في البحث عن الحقيقة على معرفة العلل
األساسية التي قسمها إلى أربع :الفاعلية والغائية والمادية والصورية .تأثر أرسطو بالتصور الالهوتي األفالطوني الذي يعتمد
على وحدانية هللا وعلوه ،وأضاف إليه تصوره للميتافيزيقا كعلم كلي بالموجود.
وفي هذا الصدد ينفي أرسطو الوجود بالعرض ألنه في نظره غير خاضع للمعرفة العلمية ،كما أنه ينفي فكرة الوجود بمعنى
الحق ألن ذلك في واقع األمر مجرد تعديل للفكر.
وأما مسألة الجوهر فإنها موضوعه المركزي في الحقل الميتافيزيقي وفيه ينشغل بعاملي القوة والفعل كعنصرين في عالقة
متبادلة ،إن هللا عند أرسطو علة غائية ،وكل الموجودات تنجذب بشكل أو بآخر نحو هذه العلة الغائية ،وأما كون اإلنسان هو
المخلوق الوحيد الذي يستطيع أن يتأمل هللا ،فألنه يت ميز عن سائر الكائنات بوجود جزء إلهي فيه ،ويقصد العقل .وفي المنطق
األرسطي يأتي الفعل قبل القوة ،والفعل هنا بمعنى كمال اإلنجاز.
وأما التعليل في ذلك فينطلق من عدم استطاعة العقل أن يقيم ما هو بالقوة إال باالستناد إلى ما هو بالفعل ،غير أن هذا مجرد
تعليل داخل نط اق السببية التقليدية .لكنه في إطار العالقة التبادلية بين العنصرين يحدث االنتقال من القوة إلى الفعل ،مما يحول
دون الوقوع في تناقص منطقي .ويبقى السؤال معلقا :ما هو السر في هذا االنتقال أو التغيير الموجه؟ إنها العلة الغائية أو
المحرك األول يقول أرسطو ،ويعني ب ذلك هللا بذاته والثابت بحكم الضرورة .إذ ال داعي لجعل هللا موضوعا للعلم ،ألن العلم
اإللهي كامن في ذاته ،وما على اإلنسان إال أن يبحث في هذا العالم عن معرفة تؤسس لعلمه اإلنساني.
وهذا الطرح هو في حد ذاته إنجاز فكري من األهمية بمكان ،بحيث أن الخروج من مجال الخوارق والالمعقول إلى مجال
العقل والتفكير النظري الخالص هو فعال نقلة نوعية ذات دالالت عميقة ،أدت إلى إخصاب الفكر اإلنساني في تقاطعاته
الحضارية .وقد تحقق هذا التحول مع االحتفاظ بنظرة عدم التعارض بين الفلسفة والعلم .ولم تعد المثل العليا منفكة عن واقع
العالم الم لموس ،فالنظرة الفلسفية للسماء أصبحت موجهة بطريقة منطقية وعلمية إلى إشكاالت يتم رصدها على األرض
بمعطيات موضوعية.
وقد يختلط األمر فيما يتعلق بالتعدد الظاهري للمبادئ عند أرسطو ،ويأتي ابن رشد ليشرح ذلك بقوله" :إذا كانت المبادئ
األولى للعالم مبادئ مختلفة فالموج ودات التي هاهنا ال يمكن أن توجد فيها خير سياسة ،وال نظام يشبه نظام السياسة وخيره،
كما أنه إذا كانت الرئاسات كثيرة لم يوجد للسياسة نظام وال استقامة واعتدال ،ولذلك قال أرسطو :ال خير في كثرة الرؤساء،
بل الرئيس الوحيد".
إن الدولة عند أرسطو تقوم على األخالق ،لكن منطلقها ليس هو منطلق المنهج األفالطوني الذي ينظر إلى مؤسسة الدولة
كما يجب أن تكون ،غاضا الطرف عن راهنية واقعها .فالمنهج األرسطي منهج علمي تحليلي ومبني على المقارنة والتنصيف،
قد يكون ذلك راجعا إلى تكوينه الطبي .لكنه في نفس الوقت يلتقي مع أفالطون عندما يرى أن الغاية من مؤسسة الدولة
(المدينة) هي تحقيق الخير العام.
ويضيف أرسطو مطالبة هذه المؤسسة بالتمييز بين العدل والظلم وبالمحافظة على القيم العليا .بيد أن نظريته السياسية تتخذ
من األسرة مرتكزها الرئيسي وليس الفرد كما فعل أفالطون ،فهو القائل بأن اإلنسان حيوان اجتماعي بطبعه ،بمعنى أن كل
تصور لإلنسان معزول عن طبعه االجتماعي يبقى مجرد فكرة تجريدية .فالدولة إذن هي كائن عضوي تتكون خالياه من األسر
المنتمية إليه ،مما يعفي الفرد من أية صلة تجعل الدولة في وضع يخنق حرياته ويحد من استقالليته ،وهذه النظرية بطبيعة
الحال ال تعني النفي المطلق لكل صلة ،بل تنسجم تماما مع النهج األرسطي الواقعي.
وبذلك تكون الدولة هي الوسط الطبيعي الذي ي وفر ظروف تحقيق الذات اإلنسانية .إنه منظور يستوجب قيام نظام للسلطة
يكون مبنيا ليس على التعاقد أو على قرار آمر ،وإنما على قانون موضوعي ،بمعنى مجموعة من القواعد التي تشكل نظاما
موازيا للنظام العقالني ،يلتزم الجميع بموجبه ،حكاما ومحكومين .وفي ذلك إشارة إلى القانون الطبيعي بطريقة ال تخلو من
غموض.
وعلى أي حال ،فبناء األسس الموضوعية للدولة يستدعي المشاركة الفعلية للمحكومين في إدارة شؤون دولتهم مهما كانت
طبيعة السلطة القائمة أو الحكومات المتعاقبة .وهذا هو الشرط الرئيسي للتوافق بين نظام السلطة وحرية الفرد .ولكن فيما
يخص طبيعة المشاركة يبقى على كل فرد أن يساهم ويستفيد حسب مؤهالته واستحقاقاته ،ولمزاولة العمل السياسي أو
ممارسة السلطة في شكلها الهيكلي قدمت النظرية األرسطية ثالثة نماذج حظيت باهتمام رجال السياسة وفقهاء القانون في
الغرب إلى حدود القرن التاسع عشر.
) 1النظام الملكي الذي يرتكز على سلطة زعيم حنكته التجارب ،وتكون ممارسة الحكم فيه مبنية على مبدأ المصلحة العامة،
وفساد النظام الملكي يعني انقالبه إلى نظام استبدادي تعسفي ،بحيث تصبح السلطة وسيلة لتحقيق المصلحة الخاصة وتعبيرا
لنزوات الزعيم.
)2النظام ال ذي يرتكز على سلطة نخبة تكونت أصال بهدف تسيير شؤون الحكم ،وفساد هذه النخبة يعني تحويلها إلى نظام
أقلية أوليغارشية يصبح معها الصالح العام في خبر كان.
) 3النظام الجمهوري ويعني حكومة الشعب من أجل الحرية ،وإذا فسد فإنه ينقلب إلى نظام ديمقراطي بمفهومه الغوغائي،
أي ذلك النظام الذي يجعل سلطة الشعب بيد الشعب على حساب طبقة شعبية تم تهميشها (هنا يمكن مقارنة هذا الطرح
بالمفهوم الشيوعي لديكتاتورية البروليتاريا).
والواضح أن أرسطو ال يعتبر الشعب كال متكامال يخضع جميع أفراده بدون استثناء لمبدأ المساواة ،وهو بذلك متأثر بدون
شك بظروف المجتمع األثيني الذي كان مجتمعا عبوديا حينذاك ،تتمتع فيه الطبقة الحاكمة بحريات واسعة .لهذا فإن أرسطو ال
يخفي ميله إلى شكل الحكم األرستقراطي الذي يعطي في نظره أكبر مردودية ،ألن من شأن النخبة التي تكونت أصال بهدف
مزاولة السلطة أن تلقن الشعب أن الحرية ليس معناها الفوضى والتسيب ،كما أن احترام القانون ال يعني الخضوع واإلكراه.
ولكي تتماسك هذه العناصر على هذا النحو ،طور أرسطو نظرية للتوازن بين ما هو فردي وما هو اجتماعي ،وأعطى للسعادة
مفهوم االعتدال وعدم اإلفراط في كل شيء ،وهو منهج وسطي .ولكي تتحقق مصلحة الفرد ومصلحة الدولة في آن واحد يجب
مراعاة عنصرين اثنين :العدالة واإلنصاف ،أما العدالة فتشمل جميع أنماط القوانين المنبثقة عن القانون الطبيعي المبني على
العقل ،ويميز أرسطو بين العدالة التوزيعية األفقية التي تعتمد على مبدأ المساواة في األشياء و الخدمات المتبادلة ،والعدالة
التوزيعية العمودية التي تعتمد على قيم األشخاص المستفيدين من عمليات التبادل.
بمعنى أن العدالة ليست منظورا مبنيا فقط على المساواة ،ولكنها كذلك تقدير مبني على اإلنصاف .وما هو اإلنصاف؟ بالنسبة
ألرسطو يعد اإلنصاف بمثابة الدرجة العليا للعدالة .وأساسه المحبة التي تأخذ بالحسنى والتسامح تجاه الغير .واإلنصاف
عنصر ضروري مكمل ومصحح للعدالة القانونية ألنه يسد ثغرات القانون ويعطيه مرونة وقابلية للتكيف مع أوضاع التطور
االجتماعي.
وتبقى النقطة السوداء في المنهج األرسطي هي أن تعريفه لإلنسان كفاعل سياسي يقتصر تحديدا على اإلنسان الحر األثيني،
فالعبيد بالنسبة له ال ينطبق عليهم ال العدالة وال اإلنصاف ،ألنهم برابرة متوحشون ينتمون إلى أجناس بشرية منحطة،
وخضوعهم للشعب األثيني المعروف بذكائه وشجاعته خضوع طبيعي .وفي آخر المطاف يرى أرسطو أن العبيد في الواقع
مجرد أشياء متحركة ليس لها عقل ،وأنهم أداة ضرورية إلسعاد العائلة األثينية وتطوير مستواها االقتصادي...
وإجماال يمكن القول إن الفكر األرسطي فتح آفاقا معرفية مثمرة ألنها انكبت على دراسة الواقع من خالل مقاربات محكمة،
لكن الواقع السياسي األثيني الذي ارتوى أرسطو من أرستقراطيته دفعه بكل تأكيد إلى تعزيز النظام القائم بخصوصياته السلبية
واإليجابية على حد سواء .إنه لم يرق في هذا المنحى إلى مستوى مثالية أستاذه أفالطون التي كانت سموا فوق المركزية
األثينية الراضية عن نفسها .ماعدا ذلك فإن مكانة أرسطو ستظل بارزة على مسار تطور الفكر اإلنساني قاطبة
الكتابات حول الرواقية في مراحلها األولى غير مضبوطة على وجه الدقة ،وكل ما هو معروف عن المذهب الرواقي في
بداياته يعود إلى مصادر غير مباشرة تتسم إما بانتقائيتها وإما بمعارضتها لهذا التيار .هذا ،وقد نشأت الفلسفة الرواقية مع
نهاية القرن الرابع وبداية القرن الثالث قبل الميالد ،واستمرت تعاليمها في االنتشار إلى حدود القرن السادس الميالدي.
وخالفا للمدارس الفلسفية اليونانية األخرى المعاصرة لها ،والتي كانت في مجملها سجينة لدائرة الفكر الهيليني ،فإن المدرسة
الرواقية فتحت الباب على مصراعيه أمام تأثيرات خارجية ومنها تأثيرات الديانات الشرقية .وبفضلها ارتقى الفكر اليوناني من
مجاله المتوسطي الضيق إلى مستوى العالمية ،ولم تعد مسألة المواطنة مرتبطة بالمدينة وإنما بالعالم .لقد أكد زينون ،واضع
أصول الرواقية ومؤسسها األول ،على أن البشر ال يجوز لهم أن يتفرقوا إلى مدن ،لكل منها قوانينها الخاصة ،فالبشر جميعا
أبناء وطن واحد ،إذ أن حياتهم واحدة والكون الذي يعيشون فيه واحد ،مثلهم مثل قطيع األغنام الذي يوحده انقياده لقانون
واحد .فاألرض وطن للجميع والخير يجب أن يكون الغاية المنشودة للجميع .ومعظم أقطاب المدرسة الرواقية هم من غير
اليونانيين ،بدءا بمؤسسها الفينيقي زينون .لهذا ال يمكن اعتبار الرواقية مجرد امتداد للمدارس السقراطية ،حتى وإن كانت
تجمعها بها بعض الخصائص الم شتركة في الشكل والمنهج .إنها منطلق جديد لنسق فكري عقالني أخالقي .بمعنى أن الفعل
األخالقي هو ما يصدر عن العقل وبملء إرادة اإلنسان ،والفضيلة كل ال يتجزأ ولكن له جوانب متعددة ،مثال :الشجاعة هي
الحكمة فيما يجب احتماله ،والعدالة هي الحكمة في توزيع الحقوق ،والعفة هي الحكمة في اختيار األشياء .ومن أقوال زينون:
"إن العالم كل عضوي ،تتخلله قوة هللا الفاعلة ،وإن رأس الحكمة معرفة هذا الكل ،مع التأكيد أن اإلنسان ،ال يستطيع أن
يلتمس هذه المعرفة ،إالّ إذا كبح جماح عواطفه ،وتحرر من االنفعال".
وأما االهتداء إلى قواعد السلوك والوصول إلى السعادة ،فإنه يمر وجوبا عبر تصور عقالني للكون ،مفاده أن الحياة
اإلنسانية تحاكي الطبيعة ،وهذا هو منطلق المعرفة عند الرواقيين.
أسس الفلسفة الرواقية
الطبيعة بالمفهوم الرواقي تعني "اللغوس" أي ذلك العقل الكوني الذي يعد العقل اإلنساني جزءا منه ،وكل ما يحدث هو
بالضرورة ناتج عن هذا العقل .ويبدو أن منهاج التربية الرواقية قد نال ارتياح األثينيين ،والدليل على ذلك أنه جاء في
مرسومين منحهما الشعب األثيني مكافأة لزينون" :علم زينون الفلسفة لسنين عديدة في مدينتنا ،وكان رجال صالحا ،دعا
الفتيان الذين يترددون عليه إلى الفضيلة والعفة ،وأخد بأيديهم إلى جادة الصواب ،وكانت القدوة التي أعطاها للجميع هي
حياته بالذات ،وكانت مطابقة للنظريات التي شرحها لهم" .وتعريف الفلسفة عند الرواقيين يعني "علم األشياء اإللهية
والبشرية".
إال أن هللا عندهم ليس هو إله األساطير الشعبية ،وال ذلك الخير المطلق األفالطوني أو العقل المطلق األرسطي ،بل هو إله
موثوق الصلة بالبشر ،إنه صانع الكون الذي تتجلى قوته في كل شيء .وعلى الحكيم الرواقي أن يقبل بطبائع األشياء وينسجم
مع إرادة صانعها بكل ما أوتي من قوة في الفهم واإلدراك.
أما المنطق الرواقي فينبني ع لى الصورة النفسية المستمدة من الواقع بعد تصديق إرادي غير مغلوط ،وهذا ما يطلق عليه
الرواقيون مصطلح "التمثل المحيط" ،أي القدرة على إنتاج الحكم الصحيح .وتعريف زينون للتمثل المحيط هو كالتالي" :تمثل
منطبع في النفس ،منبثق عن موضوع واقعي ،ومطابق لهذا الموضوع ،بحيث ما كان ليكون له وجود لوال صدوره عن
موضوع واقعي" .بمعنى آخر أن التمثل هو عبارة عن شروط موضوعية مستقاة من الواقع بهدف إنتاج إدراك صحيح.
والتركيز هنا على الوظيفة وليس على الماهية .فالتمثل المحيط إذن هو بداية اليقين التي يتساوى فيها الحكيم بالجاهل ،ولكن
التف اوت بينهما يتضح حتما بزيادة هذا اليقين ليصبح علما عند الحكيم ،أي بمثابة "اإلدراك الصلب والثابت والراسخ بقوة
العقل" .ونستنتج من ذلك أن التمثل المحيط إطار عام غير مضبوط ولكن من شأنه أن يدفع للتصديق ،والتصديق لإلدراك،
واإلدراك للعلم .والجدل الرواقي ليس جدال ب جوهر األشياء وإنما بمنطوقاتها ،إما كاذبة وإما صادقة .وهذا ناتج عن نظرة
عقالنية مبنية في األساس على ترابط الوقائع الكونية وعلى كمال الكون نفسه .فكل شيء موجود في هذا الكون يشغل مكانا
معينا في النظام الكلي ،بما في ذلك الزمان والحركة التي هي فعل وليست انتقاال إلى الفعل.
وحتى ال تقع في تناقض تؤاخذ عليه ،أفرزت الرواقية مبدأ "المزيج الكامل" أو االنصهار التام بين جسمين دون فقدانهما
لخواصهما ،كرائحة البخور التي يحملها الهواء عند استنشاقنا لها مثال ،أو كالقهوة التي نشربها وهي متحللة في كتلة الماء
الممزوج بها .وهكذا ي مكن سريان العقل عبر المادة دون اإلخالل بمكونات أو خصائص عناصرها .ومن هذا المنظور ،فإن
الرواقية تجنح إلى مزيج من المادية والروحانية ،وهي نظرة كوسمولوجية تفيد إعادة األشياء إلى نقطة بدايتها بصفة ال
متناهية في التكرار .وعليه فالرواقيون يعتقدون أن العالم سينتهي باحتراق كلي ،وينصهر كل شيء في الجوهر اإللهي ثم
ينطلق من جديد إلى ما كان عليه من قبل ،وهكذا دواليك إلى ما ال نهاية.
فالعالم إذن نظام إلهي ،وإذا كانت أجزاؤه غير كاملة ،فألنها على صلة بالكل وال وجود لها في حد ذاتها .وأما قانون الوجود
فحتمي ،يستحيل معه أن يق ع أي حدث خارج الكيفية التي وقع بها فعال .وما يسمى بالقدر هو في الواقع رابطة بين العلل
وليس ترابطا بين العلل والمعلوالت ،بمعنى أنه بداية لكل تطور جزئي مهما كان .ورغم هذا الطرح المغالي في الحتمية ،فإن
الرواقيين ال يقولون باإلذعان واالنسياق وإنما يحثون على المسايرة اإليجابية بقولهم" :يجب أن نوفق إرادتنا مع األحداث
بحيث يأتي ما يطرأ منها موافقا لمشيئتنا".
وتتم هذه المسايرة وفقا لما تميله الطبيعة ،لكن هذا ال يعني انعدام حرية الفرد كمعيار للميول التي زودته الطبيعة بها ،لذلك
تبرز الخصوصيات الفردية كطبيعة ثانية مرتبطة بالطبيعة الكلية ومنسجمة معها ،وتاركة في نفس الوقت هامشا من الحرية
إلرادة اإلنسان ،وفي ذلك قولهم" :ال ريب في أنه يتعين علينا أال نأتي شيئا مخالفا للطبيعة الكلية ،ولكن يبقى لزاما علينا ،بعد
امتثالنا للطبيعة الكلية ،أن نتبع طبيعتنا الخاصة ،وحتى لو وقعنا لدى غيرنا على ما هو أفضل ،فحتما علينا أن نقيس إرادتنا
بضبطها وفق طبيعتنا الخاصة" .وهذا هو التعبير عن الحرية الرواقية المرتبطة بالشعور الديني والخاضعة لسلطة العقل،
بحيث أن العالقة باهلل يميزها االلتزام بما قرره هللا ،والمتجلي في كل شيء ،وليس الطاعة من أجل الطاعة .وخالصة ذلك هو
أن الرواقية عمل بمبادئ أخالقية مستوحاة من ثالوث هو :هللا ،الطبيعة ،العقل.
في عام 306قبل الميالد فتح أبيقور بأثينا مدرسة أصبحت فيما بعد تعرف باألبيقورية نسبة إلى تعاليم مؤسسها ،وكانت
عبارة عن بستان يجتمع فيه األستاذ بتالمذته وفيه تناقش قضايا فلسفية وأخالقية في جو من الود والحميمية .والمعلومات
حول األبيقورية تعاني من الشح التوثيقي .لقد ترك أبيقور مؤلفات كثيرة لكنها ضاعت تقريبا بكاملها ،وما وصل منها إلى
األجيال الالحقة هو عبارة عن رسائل ووثائق تحمل األفكار الرئيسية للمذهب األبيقوري تم العثور على البعض منها سنة
. 1888أما المنبع األصلي لهذا التيار فهو فلسفة ديمقريط الذي عاش في القرن الخامس قبل الميالد والذي كان فكره يدور
حول محورين :األول يخص الكينونة التي يعتبرها مجموعة المتناهية من الذرات ،والثاني يبحث في األخالق المؤدية للسعادة
انطالقا من االعتدال في الرغائب.
ولكن بينما كان ديمقريط يعتبر الطبيعة كتلة من الذرات المادية التي تخضع في حركتها لحتمية دقيقة وصارمة ،كان أبيقور
على العكس من ذلك يعتبر الصدفة المطلقة هي األساس لهذه الحركة .وبالمقارنة مع الرواقيين فإن األبيقوريين ال يعتمدون
على النظرية القائمة على وحدانية الكون والتجاذب بين أجزائه ،وال على العناية اإللهية أو القدر ،وإنما كانوا يعتمدون على
تصور ألنماط من البداهة واالنفعال واإلحساس والرؤية الذهنية الخاطفة .لذا فاألبيقورية ال تهتم اهتماما كبيرا بالعلوم الطبيعية
في منهجها ،بحيث ال يستهويها ال الرياضيات وال علوم الفلك .ويرى أبيقور أن الهدف من الطبيعيات كامن في الطبيعيات
نفسها ،ويربط ذلك بانفعاالت النفس اإلنسانية قائال" :لوال فزعنا من الظواهر الجوية وخوفنا من أن يعني الموت لنا شيئا،
وكذلك لو ال جهلنا بحدود اآلالم والرغائب ،وهوما يضيق علينا حياتنا ،لما كانت بنا الحاجة البتة إلى الطبيعيات" .ويجعل
أبيقور من اإلحساس معيارا للتعرف على الحقيقة ،إذ أنه ال يشك في المعلومات التي تزوده بها اإلحساسات" :القول بأن
إحساسا ما كذب يعادل القول بأنه ال يمكن لشي ء أن يقع تحت اإلدراك الحسي" .بمعنى آخر أن الخطأ ليس ناجما عن اإلدراك
الحسي ،وإنما نتيجة لما أضافه العقل .ويضرب المثل بالبرج البعيد الذي نراه مستديرا ولكنه عن قرب يبدو لنا مربعا ،ومرد
هذا التناقص ال يكمن في التناقض الحاصل بين اإلدراكات الحسية ،بل فيما أضافه العقل إليها .وشعار النظرية األبيقورية يمكن
اختزاله في :الثقة في البداهة المباشرة والشك في اإلضافة العقلية .وأما منزلة اإلدراك الحسي من العقل ،فاألبيقورية ال تعطي
جوابا يشفي الغليل.
وعلى عكس المدارس الفلسفية األخرى التي تتبنى فكرة البقاء الكلي ،بحيث ال شيء يتولد من ال شيء ،أو بقاء العالم كوحدة
ذاتية مكتملة ومتكاملة ،إضافة إلى نظرية االحتراق الكلي الرواقية ،ترى األبيقورية أن العالم جزء من كل ال متناه من الذرات
السوابح في خالء ال متناه ،مع احتفاظه المظهري المؤقت بشيء من النظام .ويترتب عن الكثرة الالمتناهية من الذرات كثرة
المتناهية من العوالم ،مما يعني النفي الواضح لفكرة وحدة العالم .وإذا كان هذا الطرح غامضا بعض الشيء فألن األبيقورية
تنفي وجود أية علة غائية ،وتطلق العنان للصدفة والبغتة" :إن العناصر الكثيرة التعداد يلتئم شملها بألف صورة وصورة،
منذ آماد المتناهية ،بدافع من الصدمات التي تتلقاها ومن وزنها الذاتي ،إنها تجرب كل التراكيب التي في مستطاعها أن تشكلها
فيما بينها ،وبحكم امتحانها لمختلف أنواع االتحاد والحركة تتوصل إلى االجتماع بصورة مباغتة في مجموعات تؤلف أصل
تلك الكتل الكبرى ،كاألرض والبحر والسماء والكائنات الحية" .هذا االستسالم إلى قانون الصدفة يؤشر بقصور نظري.
وعلى أي حال ،لقد أفضى هذا التأويل بالمذهب األبيقوري إلى نفي وحدة الكون واستقالليته الذاتية من جهة ،وإلى نفي العلة
اإللهية من جهة ثانية ،مما يعني نوعا من اإللحاد بمعايير ذلك الزمان أو حتى بمعايير العصر الراهن .إذ ال ترى األبيقورية في
الكون إال نجاحا فريدا بعد ألف تجربة فاشلة ،لكنها في نفس الوقت تبقى عاجزة عن إعطاء تفسير مقنع ومنسجم مع
مسلماتها ،خاصة إذا قورنت بالتطور التدريجي الذي تعرفه عناصر الموجودات ،وكما قال شيشرون" :كثيرة هي أقوال أبيقور
الباهرة ،ولكن ال يظهر فيها على الدوام تماسك منطقه".
وعلى الرغم من ذلك فإن األبيقورية كان لها تأثير على مسار الفكر الغربي استمر لعدة قرون ،وال شك أن مثلها األخالقية
لعبت دورا ما في هذه االستمرارية.
تنقسم األخالق في التعاليم األبيقورية إلى قسمين من السهل استيعابهما نظريا ،لكن من العسير تحقيق التوافق بينهما عمليا:
القسم األول يهتم باللذة كغاية في حد ذاتها ،يستوي فيها اإلنسان والحيوان اللذان يطلبانها بصفة غريزية تلقائية وطبيعية منذ
الوالدة ،والقسم الثاني يهتم بتحرير اإلنسان من السلوكيات المترتبة عن إشباع اللذة التي تتسبب في إرهاق الحياة العادية
الهادئة ،والحكيم في نظر المذهب األبيقوري هو الذي يسمو إلى هدوء النفس وضياء الفكر والطمأنينة الروحية.
وعكس ما ذهبت إليه بعض التأويالت الخاطئة ،فإن مفهوم اللذة عند األبيقوريين ال يعني بتاتا االنغماس في الشهوات وما إلى
ذلك من مظاهر البذخ واالستهالك البهيمي المنحط ،وأبيقور نفسه يعرف اللذة كما يلي" :ليست بهجة الحياة ال في الشراب وال
في لذة النساء وال في الموائد الفاخرة ،وإنما في الفكر الزاهد الذي يميط اللثام عن أسباب كل شهوة وكل نفور ويطرد الظنون
واألحكام الخاطئة التي تعكر صفو النفوس" .وردا على خصومه الذين نعتوا أتباع مذهبه بأنهم جماعة من الفاسقين ال
يردعهم رادع عن االنغماس في عالم اللهو والفجور ،أكد أبيقور بشدة على ما تعنيه اللذة بالنسبة لمذهبه" :عندما نقول إن
اللذة هي الغاية ،ال نقصد الكالم عن لذة الفساق والماجنين" .وبطبيعة الحال ليس هذا نفيا للذة التي تناقض األلم وتعادل
الخير ،وفي ذلك يقول أبيقور" :ال أستطيع أن أتصور الخير إذا حذفت لذات الذوق ولذات األصوات ولذات األشكال
المنظورة" .وتشكل الصداقة في هذا السياق نوعا من اللذة الحسية التي تؤدي إلى السعادة" :إن حيازة الصداقة هي الوسيلة
األهم بما ال يقاس من سائر الوسائل التي تمدنا بها الحكمة للفوز بالسعادة على مدى الحياة".
وبمعنى أشمل وأعمق تعتبر اللذة األبيقورية كسلوك غايته القصوى حذف األلم وإزالته نهائيا ،ومتى تم القضاء على األلم
أمكن للذة أن تتنوع ولكن بدون إسراف وال زيادة .فالقناعة مناعة واإلسراف إتالف .والحكيم األبيقوري ال يطلب أكثر من
حاجته ،وذلك بعد ضبطه لرغبته في حدها األدنى وقضائه على كل ميوله الرامية إلى الجشع واإلساءة للغير ،وكل هذا يتأتى
بمحاسبة الذات .عندها تبرز العدالة كثمرة من أعظم الثمار التي نضجت بفضل طمأنينة النفس ،وإذا كانت العدالة عبارة عن
مواضعات ملزمة بحيث تفرض على أفراد مجتمع معين أن ال يلحقوا الضرر ببعضهم البعض ،فإنهم ال بد في مقابل ذلك أن
يحترموا القوانين التي تضمن لهم الحماية من الوقوع في شباك الظلم.
واألبيقورية تدافع عن نظام حكم قوي ولكن شريطة أن يكون هذا النظام ضامنا لحقوق وحريات الفرد .وأما القانون الطبيعي
من وجهة نظرها فإنه ال يعدو كونه تعبيرا عن نية أبناء البشر في عدم إلحاق األذى وممارسة الطغيان فيما بينهم .وتعمد
األبيقورية فيما يخص العمل السياسي إلى نوع من "االنزواء" مبتغية من وراء ذلك تحقيق حرمة النفس وصيانتها ،وهو ما
تعتبره غاية تسمو فوق كل االعتبارات مهما عظمت قيمتها ،على أن هذا المنحى ال ينم بتاتا عن أي سلوك مصدره الخوف،
الطمع أو التقوقع .ففي المذهب األبيقوري "هللا ال يرهب ،والموت ال يخيف ،والخير سهل االقتناء ،والخطر يسير التحمل".
مرجعيات الفلسفة الغربية .. - 7 -القيم المسيحية تصطدم بالعقالنية
ظهور المسيحية في بيئة غير يونانية ودخولها معترك األفكار والمذاهب التي ميزت إقالع الحضارة الغربية تحت الزعامة
الرومانية ،ال شك أنه كان حدثا تاريخيا بكل المفاهيم والمقاييس ،بل يمكن القول إن انقالبا حضاريا طرأ على مسيرة الفكر
الغربي الذي بدأت أسسه العقالنية تتراجع أمام تنامي قيم روحية تختلف شكال ومضمونا مع المرجعية الهيلينية بشتى
مكوناتها وتبايناتها .والسؤال الوجيه هو :ما مدى االنعك اسات الفعلية لهذا التحول في مسيرة الفكر هذه؟ موضوع من هذا
الحجم البد وأن تكون مناقشته قد تمت على أكثر من صعيد ،ولكن بدون استخالص لنتائج نهائية وحاسمة ،نظرا لطبيعته
البالغة التعقيد من جهة ،ولكونه ربما ال يستدعي الحسم النهائي في مجال تكمن حيويته في انفتاحه المتواصل على مبدأ
التساؤالت المتجددة.
وعلى أي حال ،فإن األجوبة عن السؤال المطروح تعددت حسب خلفيات الجهات التي تقدمت بها .فهناك من يرى أنه ال أهمية
لهذا الحدث على اإلطالق ،لكن سرعان ما يتبين أن هذا الرد هو عبارة عن استراتيجية مبنية على احتمالين متعارضين :إما
حفاظا على نقاوة المسيحية اإلنجيلية وتعزيزا لفكرة الخالص عن طريق المسيح ،وإما ضمانا الستقاللية النزعة العقالنية
وتثبيتا لمشروعية استمراريتها .فاالحتمال األول كان مطابقا لوجهة نظر المؤرخين البروتستانت األوائل الذين كانوا يرون أن
ما أضيف في القرون الخمسة األ ولى على اإلنجيل والقديس بول في مجال أصول العقيدة هو في الواقع مجرد إقحام ،بل
وإضافة خطيرة للعقالنية اليونانية .ويتجلى ذلك على وجه الخصوص في طبيعة "الكلمة" و"الثالوث" .وأما االحتمال الثاني
فهو الذي قال به أصحاب نظرية التقدم التي تبلورت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميالدي ،ومفاده أن الفكر
اإلنساني كان بالفعل دائما مرتبطا بالعلوم العقلية اليونانية بدون تأثير من المسيحية ،ومنذ رياضيات بطولومى في القرن
الثاني الميالدي إلى الثورة الكوبرنيكية في القرن الخامس عشر تمت هذه المسيرة العقالنية بمعزل عن الفكر المسيحي ،وإذا
كان هذا األخير قد تدخل أكثر من مرة فإن ذلك لم يكن بهدف الدعم والمساندة وإنما بهدف العرقلة ليس إال.
وهناك من يرى أن المسيحية كانت بمثابة تصور جديد للكون وللعالقات االجتماعية ،ومساهمة حقيقية في الفكر اإلنساني.
وتتجلى أصالتها في جانب ال يقبل االخت زال من الوجود ،ويقصد بهذا الجانب كل ما يتعلق بالذات والقلب والعاطفة والوجدان.
ويذهب هيجل على سبيل المثال إلى اإلقرار بأن المثالية التي جعلت من الطبيعة الحميمة للذات مبدأ تطور لكل واقع ووجود ما
كان لها أن تتطور لوال الحضارة المسيحية .وهذا ال يمنع من استدراك اإلشارة إلى أن المسيحية في بداياتها لم تكن تأملية
بتاتا ،بل كانت تعبيرا عن مجهود تآزري وروحي أبان عنه معتنقوها بشكل مستميت طيلة أحقاب من االضطهادات
واالنشقاقات.
وأما البعد التأملي المتأخر ،فلقد انضاف إليها نتيجة الحتكاكها بالفكر اليوناني .السيما إذا علمنا بأن "الخطيئة" في منحاها
التأملي كانت تبدو حاضرة بشكل من األشكال في التصور اإلغريقي قبل انتصار المسيحية وتطوير منهجها الفكري .وعلى
مستوى آخر يبدو أن تيار العقالنية الهيلينية هو الذي أثر سلبا على انتشار المسيحية في القرون األولى .فمثال المذهب
البيالجي االنش قاقي كان متأثرا بالمدرسة الرواقية التي ترى أن أخطاء واستحقاقات اإلنسان منوطة به هو نفسه وليس بغيره،
لذلك كان بالجيوس ،مؤسس المذهب ،يقول" :لو كانت خطيئة اَدم تضر حتى بأولئك الذين ال يقارفون الخطيئة ،لتحتم أن يفيد
عدل المسيح حتى أولئك الذين ال يؤمنون" .ويوضح قائال" :ال نستطيع أن نسلم بحال من األحوال بأن هللا الذي يغفر لنا
خطايانا ،يسند إلينا خطايا غيرنا".
يستنتج مؤرخ الفلسفة ،ايميل برييى ،من تناوله لهذا الموضوع أن تطور الفكر الفلسفي لم يكن متأثرا بالمسيحية ،ويذهب
إلى أكثر من ذلك ح يث يقول بعدم وجود فلسفة مسيحية .وهناك من المفكرين المسيحيين من يشددون على استحالة التوافق
بين المسيحية والفلسفة اليونانية ،ويتجلى التناقض بين هذين االتجاهين على الخصوص في تعيينهما لأللوهية نفس المنزلة
التي تقتضي تراتب الوجود والموجودات.
وللتذكير ،فإنه بالن سبة ألفالطون والرواقيين تشمل الماهية اإللهية ليس هللا فقط بل حتى النفوس والعالم والكواكب باعتبارها
كلها موجودات إلهية ،بينما األلوهية المسيحية تقتصر تحديدا على الثالوث األقدس وفي بعض األحيان كانت المواجهة بين
الفلسفة والدين تصل إلى حد اإلنكار التام ألية عال قة .وكان ترتيليان ،وهو من زعماء الكنيسة في الشمال اإلفريقي الروماني
في القرن الثالث الميالدي ،ممن تحامل على الفكر الفلسفي اليوناني قاطبة ،وال يرى في اعتقاده أي ترابط ممكن بين أثينا
وأورشليم ،وكتب معبرا عن معارضته بلهجة ال تخلو من مبالغة" :إننا بريؤون من الذين ابتدعوا مسيحية رواقية أو
أفالطونية أو جدلية ،بعد المسيح واإلنجيل لسنا بحاجة إلى أي شيء" .وهاجم الفالسفة في أخالقهم مدعيا أن خير ما في
مذاهبهم يعود إلى التوراة ،وأن البدع المسيحية والتيارات االنشقاقية سببها الوحيد هو الفلسفة عدوة الدين ،وينعت أرسطو
بـ" الشقي" .ويعيب ترتيليان على كل من اتخذ من الفكر الفلسفي منهجا .وابتكر هو شخصيا منهجا جديدا أسماه "استنطاق
النفس" ،وبالطبع يقصد النفس بمفهومها المسيحي التي تميل من صميمها إلى الدين وخاصة في أوقات الشدة ،وهو منهج
صار عليه كثير من المفكرين المسيحيين من بعده.
واختصارا لكل هذا الجدال نطرح هذا السؤال :هل كانت المسيحية وباال على تقدم الحضارة الغربية في نزعتها العقالنية،
وبالتالي كارثة فكرية أجلت تقدم اإلنسانية لقرون عديدة ،أم على العكس من ذلك كانت بمثابة إضافة ثمينة إلى الزخم الفكري
والتالقح المنهجي الذي بفضله انقش عت أجزاء كبيرة من غيوم الجهل التي كانت تلف قطاعات واسعة من المجتمعات البشرية؟
الواقع أنه سؤال مركب تصعب اإلجابة عنه بأسلوب اليقين.
فمن الناحية التاريخية أكيد أن المسيحية أصبحت تدريجيا عنصر هوية لمجتمعات عريضة شرقا وغربا ،تتقاسم االنتماء إلى
قيم روحية مشترك ة وتؤلف عالما مسيحيا بمده وجزره ،مما شكل فرصا جديدة للتقارب والتفاعل بين مجتمعات هذا العالم
الجديد وبقية المجتمعات غير المسيحية .أما من الناحية الثقافية والمعرفية فلقد تم ترسيخ مفهوم الدين كعقيدة ترتكز دائما
على اإليمان في مقابل مفهوم الفلسفة كمنهج عقلي ير كن غالبا إلى البرهان .وبالفعل جاءت عمليات األخذ والرد بين
المفهومين لتفتح آفاقا جديدة إلخصاب الفكر اإلنساني عامة .وما كان لمسألة التركيز على العقل واإليمان أن تعرف تطورا
ملحوظا لوال تلك النزعات والتساؤالت التي واكبت ظهور الفكر المسيحي في نمطه الحضاري الغربي ،ومن البديهي أن ذلك
من شأنه أن ينعكس سلبا أو إيجابا على مفهوم وممارسة حقوق اإلنسان ،فكلما حدث تغيير في مرجعية معينة إال ونتج عنه
بالضرورة إما تعديل جزئي وإما تحول كلي لمدلوالتها المفاهيمية وإجراءاتها العملية.
مرجعيات الفلسفة الغربية .. -8-األوغسطنية وتالحم المطلق بالنسبي
ولد القديس أوسطين بطاجستا النوميدية (المعروفة اليوم بسوق أهراس بالجزائر) عام 354م وتوفي عام 430م .اعتنق
المسيحية وهو في سن الثالثة والثالثين من عمره ،وعاصر غزو القوط ألثينا وسقوط روما التي كانت عصرئذ معقال
للمسيحية .فكان من الطبيعي أن يتأثر بأحداث عصره على المستويين الفكري والروحي .ويعد أوغسطين بالنسبة للحضارة
الغربية طيلة العصر الوسيط معلمها ومثقفها األول بدون منازع ،وهي فترة تبتدئ بانهيار اإلمبراطورية الرومانية في القرن
السادس الميالدي وتنتهي بقيام اإلصالح الديني في القرن الخامس عشر ،مع العلم أن أوغسطين ال يزال حتى يوم الناس هذا
يحظى باهتمام وتقدير الكنيسة الكاثوليكية باعتباره علما من أعالم الفكر المسيحي المرموقين.
ارتوى أوغسطين من أمهات الفكر الفلسفي اليوناني ومن روائع اآلداب الالتينية قبل أن يجد ضالته في الدين المسيحي،
ليحقق بذلك انصهارا منهجيا وامتدادا ثقافيا بين منظومة الفكر اليوناني والتعاليم المسيحية في حلتها الغربية .ولم يبدأ الكتابة
إال بعد اطالعه على إنتاجات المدرسة األفالطونية .وهكذا عالج مسألة اليقين معتبرا إياها أم المسائل ،وخصص لها كتابه
"الرد على األكاديميين" ،كما قام بتدوين كتاب في "الحياة السعيدة" وآخر في "خلود النفس" وفيه تناول مسألة اإليمان من
وجهة نظر عقالنية ،وألف كتبا عديدة أخرى ومنها "االعترافات" الذي نال شهرة كبيرة على الساحة األدبية الغربية .وعلى
إثر سقوط روما سنة 410م ،استولي على العالم آنذاك ذهول لم يسبق له مثيل ،والسبب في ذلك كان راجعا إلى االعتقاد السائد
حينها بأن روما ال تقهر .وكانت تأويالت الوثنيين بهذا الصدد كلها تصب في اتجاه واحد ،وهو غضب اآللهة على المدينة،
الشيء الذي جعلهم يتخلون عنها ،أل نها حسب هذا االعتقاد تهاونت في مقاومة انتشار المسيحية في أرجاء اإلمبراطورية ولم
تعد تعتني بالشعائر الوثنية ،وكان هذا الحدث التاريخي هو الذي دفع القديس أوغسطين إلى تأليف أهم كتبه وأكثرها انتشارا
تحت عنوان "مدينة هللا" الذي استغرق إنجازه حوالي ثالث عشرة سنة ،أضاف إليه قبيل وفاته بثالث سنوات مؤلفا بعنوان
"االستدراكات" .وهذا الكتاب األخير كان في الواقع نقطة فاصلة بينه وبين التيار األفالطوني الجديد الذي كان يتزعمه
أفلوطين في القرن الثالث الميالدي ،والذي عرف تطورا متواصال فيما بعد .يقول أوغسطين في كتابه "الرد على األكاديميين"
بصدد هذا التيار" :إن أفلوطين شديد الشبه بأفالطون حتى ليمكن االعتقاد بأن أفالطون بُعث في أفلوطين" .ولقد كان ينعت
أصحاب هذا التيار بالكفار ،لكنه مع ذلك لم يعلن صراحة القطيعة مع المذهب األفالطوني عموما ،ربما ألنه كان ينظر إلى
مستقبل المسيحية عل ى أساس كونه رهينا بتالزم الفلسفة للدين وتالزم الدين للفلسفة؟ مما يحيلنا على مقولة مشهورة :قليل
من الفلسفة يبعدنا عن هللا وكثير منها يرجعنا إليه.
ال يمكن لهذا التحليل إال أن يكون مسيحيا في مقاربته ومسلماته .لقد شكل سقوط روما وما تاله من تعاليق متضاربة في
األوساط الوثنية والمسيحية على السواء نقطة استفهام كبيرة عند أوغسطين :ما هي أسباب هذا السقوط؟
سؤال كرس له أوغسطين عصارة تفكيره المفعم بالروح المسيحية ،وكانت الحصيلة هي ما ورد في كتابه "مدينة هللا" من
تحليالت وشروحات تدور كلها حول فكرة محورية غير معبر عنها بصريح العبارة ،وهي ضرورة تحقيق التالحم والترابط بين
الواقع الدنيوي والمقتضيات األخروية المستقاة من صميم النهج المسيحي.
ينطلق أوغسطين من أن مصدر الشر على وجه األرض سببه معصية آدم لربه .نعم ،لقد تفرقت الناس إلى جماعات وطوائف
تربط بي نهم المحبة في إطار المدينة (الدولة) ،لكن هذه المحبة محبتان :محبة الذات إلى حد امتهان هللا ومحبة هللا إلى حد
احتقار الذات .حصل إذن اختالل ترتب عنه وجود مدينتين :واحدة أرضية والثانية سماوية .األولى تعمل على نصرة الظلم وقد
بلغت أوج عظمتها في اإلمبراطورية الرو مانية ،والثانية تجاهد في سبيل العدالة ويعني بها الجماعات المسحية .ولكن رغم
هذا التقسيم ظلت العالقة قائمة بين المدينتين ،ولما جاء المسيح حددها في هذه القاعدة :أَع ِْط ما لقيصر وما هلل هلل .لهذا
فاالنتماء إلى إحدى المدينتين يكون بمحض إرادة اإلنسان ،لكن حرية اإلرادة مشروطة بخضوعها للقانون ،واإلرادة من
جهتها تخضع لحواس العقل ،والعقل يخضع هلل ،وهللا هو «المعلم الباطن" .مما يعني استناد أوغسطين إلى شهادة
"الوجدان".
لم يبقى هذا الطرح مجرد فكرة غامضة تحاول جاهدة أن تحقق مالءمة الشعور الديني المسيحي مع واقع دنيوي قد يهدد
مصير المسيحية كنظام شامل ،بل أثار اهتماما بالغا لدى السلطة الزمنية ،وهكذا لما أقام شرلمان إمبراطوريته في نهاية القرن
الثامن تم منحه لقب "اإلمبراطور المتوج بفضل هللا" .وكان البابا ليو هو الذي وضع التاج على رأسه مباشرة بعد اختتام
الصالة بكنيسة القديس بطرس يوم 25دجنبر 800م .ومنذ ذلك اليوم أصبح هذا الحدث في الفكر الغربي رمزا لتحقيق التالحم
بين المدينتين السماوية واألرضية ،أي بين المطلق والنسبي ،وهو ما سعى فالسفة المسيحية وفقهاؤها من أجل تبريره
وتعزيزه آنذاك.
وأعطى القديس أوغسطين مفهوما جديدا للقانون الطبيعي مخافة تعارضه مع الديانة المسيحية ،فجاء تركيزه على بناء
الحياة االجتماعية انطالقا من القانون الطبيعي بوصفه مجموعة من القواعد يكتشفها الناس عن طريق العقل ويحترمونها تبعا
لذلك .على أن أوغسطين يؤكد على مبدأين رئيسيين :األول هو أال يصنع المرء باآلخرين ما ال يريد أن يصنع به ،والثاني
إعطاء لكل ذي حق حقه .ونظرا لكون آدم عصى ربه فها هو اآلن يعيش انحطاطا كعقوبة إلهية على عصيانه ،لكن في نفس
الوقت انحطت معه ذريته ،ويرى أوغسطين أن اختالل طبيعة اإلنسان هو الذي جعل من القانون الوضعي وجزاءاته تقريرا
حتميا ،وتطبيق هذا الق انون يكون بالقوة إن اقتضى الحال ألن في ذلك طمأنينة لألخيار حسب تعبير أوغسطين ،وبالتالي
فالسلطة الزمنية نظام طبيعي ألن هذا النظام وجد بهدف تصحيح االختالالت الطبيعية اإلنسانية الخاطئة.
ال شك أن األوضاع المتردية التي كانت تعيشها المسيحية زمن أوغسطين هي التي دفعته إلى تمجيد الوضع القائم بإضفاء
المشروعة "الطبيعية" عليه .ومهما يكن من أمر فإن كل هذه العناصر الجديدة في جوهرها حملتها المسيحية إلى الفكر
الغربي لترسم له مسارا حضاريا جديدا.
ينتمي طوما األكويني ( ) 1273/1225إلى عائلة أرستقراطية من جنوب إيطاليا .تلقى تعليمه في كل من جامعة نابولي
وجامعة باريس التي زوال بها مهنة التدريس لعدة سنوات .لقد كان ابن القرن الثالث عشر الميالدي ،ذلك القرن الذي ازدهرت
ف يه النظريات الرشدية في األوساط الغربية حتى أنها ضايقته في معارفه وفي إيمانه ،فرد عليها بكتاب تحت عنوان" :في
وحدة العقل للرد على الرشدية" .علما بأنه كان في جانب كبير من دراساته يعتمد على آراء ابن رشد والغزالي وابن سينا.
وكان شغله الشاغل هو إيجاد قاعدة توفيق ية بين الفلسفة والدين .لهذا اعتبرته الكنيسة معلمها البارز ومرجعها المتين في
الالهوت والفلسفة السكوالستيكية (المدرسية) ،بحيث لم تكن دراساته لألرسطية واألوغسطنية واألفالطونية الجديدة
والرشدية ،إال بهدف الدفاع عن المسيحية .ولكونه من أتباع التنظيم الرهباني الدومينكاني فلقد كتب مؤلفا تبشيريا بعنوان
"الرد على الخوارج" ويعني به الخارجين عن المسيحية .وبالفعل لقد جعله وثيقة مرجعية لدى مبشري تنظيمه الرهباني في
كل من األندلس والمغرب حينذاك.
والكتاب المشار إليه كان عبارة عن دعاية تبشيرية كتبت بأسلوب فلسفي ،وفيه يتطرق كاتبه لوجود هللا وصفاته ،والجواهر
العقلية وقدم العالم ،واإلنسان وغاية األشياء ،والخوارق والعناية اإللهية ،وما إلى ذلك من المفاهيم المعروضة بخلفية
مسيحية .وأولى طوما األكويني أهمية خاصة لفلسفة أرسطو وشروحاتها الرشدية ،لكنه شوهها من خالل تأويله لما لم يكن
متف قا معه من األفكار والنظريات التي تحملها ،وكذا إقرار زيادات ال يرى أنها تتنافى معها أو أنها قد تكون مكملة لها .وواضح
أن غرضه كان من وراء ذلك هو تقديم أرسطو وكأنه مسيحي في فكره وفلسفته ،لذلك فهو يعتبر مؤسسا لتيار األرسطية
المسيحية.
وبصفة إجمالية فإن المذهب الطومي يتميز بكونه روحانية مبنية على المركزية الربوبية الراديكالية ،وهذا معناه أن هللا هو
مصدر كل شيء ،وهو الماسك لكل شيء ،وإليه يرجع كل شيء .ولم يتزحزح قيد أنملة عن هذا الخط الذي رسمه لنفسه قصد
التعبير عن نهجه .ففي أهم وأكبر مؤلفاته المعروف بما أسماه "المجموعة الالهوتية" استهل طوما األكويني كالمه بتقديم
الطريقة المنهجية التي اعتمدها في ترتيب ودراسة الالهوت" :لما كان الغرض المقصود بالذات في هذا التعليم الالهوتي هو
تعريف هللا في ذاته ،ومن حيث هو مبدأ األشياء ،ومن حيث هو غايتها .فسنبحث في هللا أوال ،وفي حركة الخليقة الناطقة إليه
ثانيا ،وفي المسيح الذي هو الطريق إليه ثالثا".
هذا ولم يكن من السهل على طوما األكويني تحقيق ما كان يصبو إليه من انتصار للفكر الالهوتي المسيحي ،فمن جهة كان
اإلسالم في أعز مظاهر قواه الحضارية والثقافية الفاعلة ،بحيث كان من الصعب التصدي له والنيل منه ،خاصة بعد فشل
الحمالت الصليبية آنذاك .ومن جهة أخرى كانت الكنيسة تعتمد على نظام إقطاعي متشرذم ،وكان ذلك نتيجة لتفتيت السلطة
الزمنية الممثلة في اإلمبراطورية الرومانية المتهالكة .وينضاف إلى ذلك ظهور الحركة العلمانية التي كانت الجامعات منطلقها
األو ل .ولهذا سعى طوما األكويني إلى بناء فكره على نهج عقالني بطابع مسيحي يرجى منه الصمود على جميع الجبهات.
بمعنى أوضح أنه ال سلطة على مشيئة هللا الذي قد يريد العالم قديما وقد يريده حادثا ،وأما اختيار هذا الرأي دون اآلخر
فيعتمد أساسا على اإليمان ،مما يفيد أن اإليمان هو الذي يعلمنا بأن العالم حادث أو قديم .بعد هذا فقط يمكن للعقل أن يتدخل
للبحث عن البرهان فيما هو موجود .وأما اإلرادة فهي من المكونات العقلية لإلنسان .بعبارة وجيزة :اإلنسان يريد إذن فهو
عاقل.
وطبيعة نشاط العقل تتجلى في إدراكه للكليات من خالل الحواس التي تنقل إليه الجزئيات ،وارتباط اإلرادة به هو ارتباط
غائي ،يستهدف الخير الكلي الذي هو هللا .وهكذا يخلص طوما األكويني إلى أن العقل إشراق إلهي يساعد اإلنسان على إدراك
وجود هللا باإليمان ثم االستدالل عليه.
تؤكد الطومية على أن الجماعات البشرية مبنية على العقل واإلرادة ،لذلك فهي قائمة على قاعدة تعاقدية .لقد قدم شيشرون
تعريفا مفاده أن الجماعة "كثرة منظمة خاضعة لقانون عادل يرتضيه الفرد ابتغاء منفعة مشتركة" .وجاء من بعده أوغسطين
منتقدا هذا التعريف ومعتبرا أن العدالة الكاملة مستحيلة خارج المسيحية ،وأعطى تعريفا يقضي بأن الجماعة "اتحاد أفراد
عاقلين لالستمتاع معا بما يحبون" .وهو تعريف غير مضبوط طالما أن هؤالء األفراد قد يحبون أشياء كثيرة ،منها الثروة
وح تى الحروب .لذلك كان طوما األكويني يميل إلى تعريف شيشرون ،سيما وأن هذا األخير يقر بمبدأ القانون الطبيعي ،وهذا
في نظر طوما يحيل وجوبا على القانون األزلي.
ومن وجهة نظر الطومية لقد أوجد هللا اإلنسان مدنيا بطبعه ومياال بالبديهية إلى الحق والخير ،لذلك كان هللا مصدرا لكل
سلطة .وأما الغاية من الحياة االجتماعية فليست هي االستمتاع وإنما هي كامنة في استكمال الفرد لطبيعته اإلنسانية .وفيما
يخص الدولة فإن مهمتها تقتصر على مساعدة الفرد من أجل استكمال إنسانيته الناقصة ،وتبقى األخالق والدين من مهام
الكنيسة .وبما أن الغاية ا لزمنية خاضعة للغاية األبدية فإن على الدولة أن تخضع للكنيسة .وفي معرضها ألنظمة الحكم ترى
الطومية أن أفضل هذه األنظمة هو النظام الذي يعتمد على سلطة الملك أو الفرد الفاضل ،ألن هذا النمط مطابق للطبيعة ،حيث
أن األشياء على مستوى التدبير قائمة على مبدأ الوحدة ،فاهلل وحده يدبر العالم ،لكن الطومية تضيف ضرورة االنتخاب فيما
يخص الملك .وما دامت األنظمة في طبيعتها مهددة بالفساد ،ألن اإلنسان لم يستكمل إنسانيته بعد ،فإنه يتضح من الناحية
العملية ضرورة اعتماد نظام وسطي يتمثل في ملكية يساندها مجلس من أخيار الناس يتولى الشعب انتخابهم .وهو النظام
الذي سنه هللا لموسى :حيث كان موسى يمارس الحكم بمساعدة اثنين وسبعين من الحكماء الذين اختارهم الشعب ،بينما كان
اختيار الملك (الموحى إليه) من هللا.
مرجعيات الفلسفة الغربية ـ .. - 10المذهب اإلسمي وفصل الدين
خالفا للمذهب الطومي الذي كان يبحث جاهدا عن التوفيق بين الفلسفة والتعاليم الدينية المسيحية ،جاء المذهب اإلسمي
بزعامة كيوم أوف أوكام ( ) 1349/1295ليعطي انطالقة لمنظور يتسم بعلمانية غير مقصودة لذاتها ،وإنما هو اتجاه يتسم قبل
كل شيء بنقده للفلسفة وإعالنه عن ضرورة فصلها عن الدين ،وهذا بالتالي يقود إلى فصل الدين عن الدولة ،وكان أوكام ،إلى
جانب ثلة من زمالئه األساتذة بجامعة أكسفورد ،من واضعي أسس العلم التجريبي الحديث.
النظرية اإلسمية
تنقسم المعرفة عند أوكام إلى حدسية وأساسها اإلحساس ،وإلى حدسية تجريدية وأساسها العقل ،وكال القسمين مطابق
للواقع.
ونظرا لكون المعاني مجردة والعالقات فيما بين المعاني مجردة هي األخرى ،فإن هذه المعاني ال تعدو كونها في الحقيقة
مجرد إدراكات ناقصة ومبهمة .والمثال على ذلك معنى اإلنسان ،ذلك المعنى الذي ينشأ في العقل عندما يقع البصر على زيد أو
عمرو ،ولكن دون التحقق من الفرق بينهما على وجه الدقة ،وهكذا هو الشأن بالنسبة لمختلف األشياء كاألشجار والعظام
مثال .ولكن إذا تبين بوضوح كامل أن اإلنسان الذي وقع عليه البصر هو زيد وليس عمرا ،عندها يمكن تسميته باسمه ،إال أن
هذا اإلسم ال يدل بتاتا على معنى كاسم إنسان ،وإنما على تصور جزئي لموجود معلوم بغموض .بعبارة أخرى :المعاني
المجردة التي تتشكل في العقل هي مجرد إدراكات يلفها كثير من اإلبهام ،ألنها ليست في الواقع إال تصورا فسيفسائيا لعموم
الجزئيات دون خصوصيتها ،ومن هنا ي توصل أوكام إلى أن الكليات ال وجود لها خارج العقل وإنما هي أسماء فقط ،لذلك أطلق
على منهجه الفلسفي مصطلح «اإلسمية».
فاإلسم إذن هو موضوع العلم ألنه رمز وإشارة إلى الجزئيات ،وأما المعنى فيبقى مجرد تصور من قبيل تحصيل الحاصل،
لكنه مع ذلك مفهوم عقلي وليس «صوت في الهواء» حسب تعبير روسالن في القرن الحادي عشر ،وال هو بالصورة الخيالية
كما أشار إلى ذلك المذهب الحسي الحديث .ومن تطبيقات النظرية اإلسمية استحالة إدراك وجود هللا بالحس ،ذلك ألن هللا ليس
موضوع حس وإنما هو موضوع إيمان ال غير .وفي نفس السياق تبقى النفس اإلنساني ة غامضة ،والسبب هو أنه إذا كان
بإمكان الحس إدراك الظواهر ،فإنه على العكس من ذلك يبقى عاجزا عن إدراك ما وراء هذه الظواهر .ويستخلص من هذا كله
أن التجربة ال تقع إال على األعراض ،فما يعرف عن النار مثال هو حرارتها فقط.
وبصفة عامة معرفة الشيء تؤخذ من الشيء نفسه ،بحيث ال يوجد ما يضمن موضوعية العالقات بين المعاني التي وضعها
العقل ،وهذا ما يفيد انعدام جدوى التمييز بين الماهية والوجود ألنهما سيان ،وتمييزهما يرجع إلى تمييز المعاني فحسب ،وفي
آخر المطاف ال يتم البرهان إال بالبرهان اللمي ،أي ذلك الذي يتجلى في مطابقة الشيء لنفسه .وهكذا تم تأسيس النظرية
اإلسمية بناء على مقاربات استنباطية لمنهج تجريبي يرمي إلى اإلقرار النهائي بصحة أو عدم صحة المعرفة ،إذ ليس هناك
من حجة تبرهن على ضرورة علة معينة خارج نطاق الدليل التجريبي .ويسوق أوكام مثال المعرفة عن طريق التجربة
بإشارته إلى ق وة التسخين الكامنة في النار ولكن معرفة ذلك الشيء الذي يقتضي التسخين في النار تبقى غير ممكنة.
يتطرق أوكام لألخالق اإلنسانية فيرى أنها ليست ضرورية ،والسبب في ذلك هو أنها مجرد تراكيب ذهنية وتأليفات لمعان
متناثرة وغامضة ،تماما كالمعاني المرتبطة بالماهية والقانون والعلة والغاية .والنتيجة هي أن ليس هناك وجود موضوعي
للخير أو الشر .أما مصدر تلك األخالق بخيرها وشرها فإنه يعزى إلى قواعد تبدو قائمة على إرادة إلهية وصلت إلى اإلنسان
عن طريق الوحي .فمثال لو قرر هللا قواعد معارضة تماما للقواعد األخالقية التي يدعي الناس أنهم تواضعوا عليها بمحض
إرادتهم ،ألصبحت قواعد نافذة ألن هللا أرادها ،عندها قد تصبح الكراهية من األفعال الممدوحة والتي يثاب عليها .وهذا الطرح
الذي تشتم منه رائحة التهكم والذي يبدو غريبا ،هو في الواقع منسجم مع فلسفة المذهب اإلسمي التي ال تقر للمعنى ماهية
ثابتة ،أي أن كل شيء يوجد على حال معين بإمكانه أن يكون على خالف ذلك الحال .وعلى كل حال ،إن تجريد المعنى من
قيمته الموضوعية في هذا المذهب لم يكن مصدر انزعاج فلسفي وبلبلة جدلية فحسب ،بل تسبب بالخصوص في بعض
المغالطات واألخطاء المنهجية كان من نتائجها تضييق مجال الفلسفة من خالل فصلها فصال تاما عن الدين ،باإلضافة إلى
تحويل المسائل الميتافيزيقية إلى يقين يكون مصدره الوحي .ورغم ذلك يجب االعتراف بأن أوكام شق الطريق للعلم الحديث
بنقده للعلم الطبيعي األرسطي ،معتمدا على تصور جديد للمعرفة العلمية كصياغة للتجربة المبنية على قواعد الرياضيات.
لقد اكتسحت اإلسمية األوساط الجامعية في كل من أكسفورد وكامبريدج ،لكنها ازدهرت على الخصوص في باريس حيث
تكاثر أنصارها ،ومنهم نيكوال دورتكور الذي أدانه البابا سنة 1346في خمس وستين قضية مستخرجة من كتبه ،وكان الحكم
يقضي بإحراق كتبه وتجريده من لقب األستاذية ،فهو الذي قال« :ليس في طبيعيات أرسطو وال فيما بعد الطبيعة قضيتان
يقينيتان ،بل قد ال يوجد فيهما قضية واحدة يقينية» .وهذا معناه أنه كان ينادى بترك المسائل التي ال تقبل الحل إال إذا كانت
عن طريق التجربة ،حتى وإن كانت هذه الت جربة ال تؤدي إلى تحصيل معارف كثيرة ،ألنها على األقل معارف محققة «ويمكن
اكتسابها في وقت قصير لو وجه الناس عقولهم إلى األشياء ال إلى فهم أرسطو وابن رشد ،ومن العجب أنهم ينفقون العمر كله
في دراسة ذلك المنطق طارحين جانبا المسائل الخلقية والعناية بالخير العام ،حتى إذا قام محب للحق ونفخ في البوق كي
يوقظهم من سباتهم اغتاظوا ولجأوا إلى السالح ليحاربوه ".
كانت كل هذه المبادئ اإلسمية من بين المنطلقات التأسيسية لتطور الفكر الغربي في عصر النهضة ،وبصفة خاصة عند
روني ديكارت ،وهو تحول كبير كانت له انعكاسات عميقة في مجاالت عدة ،ومنها المجال المتعلق بالعدالة وحقوق اإلنسان،
حيث ظهرت معايير جديدة تزكيها توجهات مادية صارخة ومبنية على الفعل اإلرادي.
اإلرادية هي نظرية تعتبر الحكم عمال فكريا يتم تحقيقه بتدخل إرادي حسب ديكارت ،وأما نيتش فيعرفها بالمذهب الذي يقر
هيمنة الفعل على الفكر ،واإلرادية مشتقة من اإلرادة بمعناها الرامي إلى القدرة التقريرية على القيام بالفعل تنفيذا أو إحجاما،
وبديهيا أنها شغلت الفكر الفلسفي منذ عهود قديمة ،وكل المدارس الفلسفية ساهمت بشكل أو بآخر في توسيع دائرة
التساؤالت وتعميق مجاالت التأويل بصدد هذه المسألة بالذات ،ونتناولها هنا في عالقتها بالقانون ومفاهيمه ومدى انعكاس
تلك العالقة على إشكالية حقوق اإلنسان.
هناك شبه إجماع لدى ال مختصين بأن المبادئ األولى للتيارات اإلرادية في مجال الحقوق كانت واردة عند االسميين ،وخاصة
منهم دان سكوت وأوكام ،اللذين بتأكيدهما على مبدأ استقالل اإلرادة عن العقل مهدا السبيل لظهور النظرية اإلرادية.
وفعال كان أوكام يميز بين القواعد السلوكية العامة المطلقة التي يمليها المذهب الطبيعي ،والقواعد العقالنية االجتماعية،
والقواعد القانونية الوضعية .ومن هنا حدث ارتباط تلقائي بين التيارات الوضعية والتيارات اإلرادية .وهكذا بالنسبة لإلرادية
فإن الظاهرة القانونية تنبثق من تصرفات إرادة الحكام ،وقيمة القوانين منوطة بإرادة من يضعها على حد تعبير سواريز.
وبالمفهوم الوضعي يعني ذلك أن القانون موضوع وفقا إلرادة محدودة في الزمان والمكان ،وصادرة إما عن حاكم بمفرده
وإما بإجماع آراء الذين شاركوا في الصياغة الفعلية للقانون .وقد جاء في كتاب "قانون الحرب والسلم" للفقيه الهولندي
كروسيوس ،الصادر عام ،1625أن القانون هو القدرة على الفعل واالمتالك الناتجة عن سلطة اإلنسان على نفسه -ويقصد
بها الحرية -وعن سلطته على غيره من الناس وكذلك عن سلطته على األشياء .وكان هذا الطرح بمثابة ثورة فكرية على
مستوى المعالجة التقنية للظاهرة القانونية بالمقارنة مع األطروحات الفلسفية للقرون الوسطى .ومن ثم فإن اإلشكالية
القانونية لم تعد مجرد ظاهرة أنطولوجية ،وإنما أصبحت وسيلة يوظفها اإلنسان العاقل في تنظيم المجتمع ويستعملها للسيطرة
على الطبيعة وفقا لحاجياته ،مع التأكيد على أن هذا اإلنسان ليس عاقال فقط بل يتمتع بكامل حريته .وانسجاما مع الفكر الجديد
لم يعد القانون مظهرا من مظاهر المعقول لذاته كما دأبت على ذلك النظريات القديمة ،بل أصبح نتاجا إلرادة اإلنسان .وترتب
عن ذلك مبدأ حرية التوافق اإلرادي وظهور قاعدة عامة تحت صياغة "العقد شريعة المتعاقدين" التي تم اعتمادها كأساس
للعالقات القانونية واالجتماعية على الصعيدين الوطني والدولي.
هذا ولم ينكر كروسيوس وجود القانون الطبيعي لكنه أضفى عليه صبغة علمانية التي ال تتنافى مع المشيئة اإللهية .وكان
واضحا من هذا المنحى الرامي إلى علمنة القانون الطبيعي أنه سيؤدي حتما إلى الفصل بين القانون والالهوت ،تماما كما أدت
الماكيافلية إلى فصل السياسة عن األخالق .ويستفاد من هذا التحول أن جوهر العالقات القانونية أصبح يتشكل من حرية
وإرادة اإلنسان ،وأن مفهوم القانون لم يعد مرادفا لمفهوم المعقول في عالقته بالواقع ،وإنما هو حصيلة ألفعال إرادة اإلنسان
ا لحرة .بمعنى أن االتجاه الذي كان سائدا منذ قرون في الفكر القانوني الغربي ،والقاضي بالبحث عن "العدل الطبيعي" ،فقد
جدواه حتى وإن لم يتم نفيه نفيا نظريا قاطعا.
اإلرادوية واالستبداد
وهكذا فالقوانين البشرية التي كانت تعتبر مجرد وسائل لتنفيذ القوانين اإللهية أصبح ينظر إليها على أساس كونها مرحلة من
مراحل تطور الفكر القانوني الغربي ال غير .هذا مع اإلشارة إلى أن األرسطية والطومية كانتا تقران بأن القانون الوضعي ال
يستمد سلطته إال من اإلرادة البشرية ولكن بخلفية عودة أمور الموجودات بصفة عامة في آخر المطاف إلى هللا .وأما تأكيد
هوبز ،المؤسس للتيار اإلرادي الحديث ،على أن هناك اتساقا للقانون الوضعي مع القانون الطبيعي فقد جاء بهدف التشديد
على أن القانون في نظره ال يصبح قانونا إال بموجب أمر من السلطات .ولم تكن وجهة نظر بنتهام التي تضمنها مؤلفه "في
القوانين بوجه عام" لتختلف عن هذا المنظور ،لكون بنتهام يعتبر القانون أمرا مؤيدا بسلطة الدولة .وأما أوستين ،المعروف
بدراساته التحليلية للقانون اإلنجليزي ،فإنه عزز نفس المنهاج .وكان تعريفه للقانون كالتالي" :قاعدة وضعت لحكم كائن
عاقل بواسطة كائن عاقل يملك سلطة الحكم" .والقانون الطبيعي يعني في منظور هوبز احترام العقود والمحافظة على الحياة،
وهو قانون ال يأمر بالشيء وإنما يشير إلى مالحظة األمر بالشيء ،وشتان بينه وبين القانون الوضعي المعبر عن إرادة الدولة
القوية .وفي هذا الباب يبقى مبدأ القانون الروماني المعروف" إن ما يرضى الحاكم يتمتع بحكم القانون" محتفظا بمغزاه
الوضعي الواضح.
وبناء على ما تقدم فإن التيار اإلرادي يعطي التعريف لمفهوم القانون بالنظر إلى وظيفته التقريرية اآلمرة وليس بالنظر إلى
التقييم األخالقي لمحتوى األوامر التي بتراكمها تتشكل الترسانة القانونية .وبعبارة وجيزة يمكن القول بأن القانون هو األمر
المقرر وأن السلطة تسهر على وضع القوانين ال العدالة ،مما ال يدع مجاال للشك بأن هناك التباسا حقيقيا بين المذهب اإلرادي
و المذهب االستبدادي ،حتى وإن كان هوبز ينفي االرتباط بينهما ،فعندما يقول " :إن القانون بصورة عامة ،ليس سوى إرادة
سلطة عليا تف رض بموجبها على الخاضعين لها وجوب التصرف وفقا لما تمليه عليهم" ،ال شك أن فكرة االستبداد قد خطرت
بباله ،سيما و أن فرض العقوبات عن طريق اإلكراه تعد من السمات البارزة للتيار اإلرادي ،والقانون في هذا السياق هو
مجموعة من القواعد المنظمة بشكل مفروض بالقوة من طرف سلطة خارجية عليا ،خالفا لألخالق النابعة من سلطة معنوية
ذاتية على سبيل المقارنة .وهذا معناه أن استعمال القوة يبقى من المميزات األساسية لتدخل الدولة في سعيها لتطبيق القانون
باالستناد إلى محض إرادتها ،وهي في ذلك قد تجنح ال محالة إلى الخروقات والتجاوزات واإلفراط في استعمال القوة بحجة
تنفيذ القانون .وعليه فإن مفهوم القانون سرعان ما ينقلب إلى مجرد تعبير عن إرادة الدولة ،وبالتالي يعم االستبداد .وعندما
يقول هيجل بأن الدولة ال تتفوق على القانون وإنما تعبر عنه ،فإن ذلك ال يعارض في جوهره النزعة االستبدادية والميول
ال شططية من حيث ال ينفى بتاتا أنه سيظل تعبيرا إراديا للسلطة الحاكمة المعلومة بالضرورة .لكن هذا االتجاه استبعده
اإلرادويون تحت تأثير أطروحة العقد االجتماعي لجون جاك روسو ،والقائمة على تفسير للقانون باعتباره تعبيرا لإلرادة
العامة بمفهومها الديمقراطي الحديث ،وال يسعنا إال أن نتوقف بإمعان عند مقولة يرينج ،الفقيه األلماني البارز ،حين أعلن :إن
القانون هو ثمرة القتال ،وإن القاعدة القانونية هي سياسة القوة...
والواضح من تجربة اإلدراك اإلنساني عبر العصور هو أن المفاهيم مطاطية وقابلة لكل االحتماالت ،وينسحب ذلك بشكل
خطير ومصيري على المفاهيم القانونية زمانيا ومكانيا عند هذا المجتمع أو ذاك .ومن الواضح كذلك أن قانون القوة وقوة
القانون سيظالن إلى األبد وجهين لعملة واحدة مهما اختلفت المقاربات...
شهد القرنان الخامس عشر والسادس عشر الميالديان تغييرات عميقة طالت مختلف ميادين الفكر واإلبداع والسياسة
واالقتصاد في أوربا ،وتعرف هذه الفترة الزمنية في التحقيب التاريخي بعصر النهضة داللة على تفاعالت تلك األحداث
والتحوالت التي ميزت مسيرة العالم الغربي نحو آفاق حضارية جديدة.
إنها فترة انبعاث وتجديد بمفهوم ثوري شمولي ،لكنها مع ذلك ليست فترة قطيعة ابستمولوجية مع تراكمات الماضي ،فال
شيء يحدث انطالقا من ال شيء ،وعصر النهضة هو نفسه الذي مهد الطريق لعصر األنوار مع التحفظ في كل ما يتعلق
بعشوائية التحقيب .وليس معنى هذا بمثابة إعالن عن استسالم أولي لمنطق السببية الذي يحدد مسيرة التاريخ في اتجاه
واحد ،وإنما هو وعي بعلة الترابط المنهجي الضرورية .ومن البديهي أن غليان الماء ال يحدث إال إذا وصلت حرارته إلى
درجة مئوية ثابتة علميا .إن ما يس توقفنا هنا هو تلك التحوالت الفكرية على وجه الخصوص التي ميزت عصر النهضة،
اعتقادا منا أنه كان لها انعكاسات مؤكدة على مستوى بلورة وتطور حقوق اإلنسان في بيئتها الغربية ،وهي نظرة نابعة من
تفاعالت اإلنسان الغربي مع العالم من حوله وما ترتب عنها من أفعال وردود أفعال كان هو محركها .إنها إطاللة أكثر منها
إطالة...
نـــهــاية السـكـــوالســتيــك
مع بداية القرن الخامس عشر تالشت بصفة عميقة آثار المذهب السكوالستيكي الذي ميز الجداالت الفلسفية والالهوتية في
العصر الوسيط وكانت اإلشكالية المحورية لهذا التيار المدرسي تتجلى فيما سمى بالكليات ،وتجدر اإلشارة إلى هيمنة
األوغسطنية واألرسطية على مناهج الفلسفة السكوالستيكية طيلة زهاء أربعة قرون ،من القرن التاسع إلى القرن الثاني
عشر .وكانت هذه المرحلة مرحلة بناء وتطوير للمناهج في الجدال والتدريس الالهوتيين ،تلتها مرحلة ثانية سجل فيها
ا لقديس طوما األكويني ،في القرن الثالث عشر ،أوج ما وصل إليه هذا التيار المدرسي من نضج وعطاء .بعد ذلك بدأت فترة
انحدار ال هوادة فيها ،انصرف خاللها أنصار الفلسفة السكوالستيكية إلى االنهماك في الجداالت الصورية ،وقد تعاطى البعض
منهم إلى التصوف ،بينما انشغل البعض اآلخر بالعلوم الطبيعية .وكانت بوادر هذا التفكك كامنة في التعارض الحاصل منذ
البداية بين المذهب الواقعي والمذهب االسمي .واتضح مما ال يدع مجاال للشك أن االتجاه العلمي تفوق على االتجاه الالهوتي،
ولم تكن االختراعات الجديدة كالبوصلة والبارود والطباعة إال لتعطي دفعة حاسمة للعناية بالعقل أكثر من أي وقت مضى.
وانعكس ذلك إيجابا على تطور العلوم التجريبية .وأدت االكتشافات الجغرافية ألصقاع بعيدة أو غير معروفة ،كاكتشاف
أمريكا ،إلى وعى أوروبا بدورها الفاعل في انتشار نفوذها على المستوى العالمي ،مما نتج عنه مشروع استعماري يحمل في
طياته إيديولوجية تزعم تفوق اإلنسان األبيض األوروبي على باقي األجناس البشرية ،وعلى أساس أن نظرته للعالم من ذلك
التاريخ فصاعدا هي النظرة الصائبة والفاعلة بدون منازع.
وكان طبيعيا أن تضطرب األوضاع االجتماعية وتنهار بنيات المجتمع الغربي التي ميزت القرون الوسطى ،لتظهر بنيات
جديدة تواكب هذا التطور الجديد ،وهكذا تهاوى النظام اإلقطاعي ليترك المجال لبروز طبقة بورجوازية اتخذت من األوساط
التجارية في المدن نواتها الصلبة .ولم يعد العالم اإلسالمي ليشكل ندا حضاريا منافسا للغرب.
لقد سقطت القسطنطينية وانسحب المغاربة م ن األندلس وعم االنحطاط أرجاء الرقعة اإلسالمية ،وبات من المؤكد أن الغرب
هو سيد الميدان الحضاري وصاحب المشعل في مسيرة إنسانية لم تتضح معالمها بكل دقة.
وكان إلحياء اآلداب اليونانية القديمة ،وارتفاع حدة المواجهات الجدالية بين رجال الكنيسة ،وتزايد أتباع المذهب العقالني
الجديد في كل مظاهره ،أن وقع انشقاق ديني أدى إلى ظهور البروتستانتية بزعامة مارتن لوثر كنتيجة لصراع مرير مع
الكاثوليكية التي كانت سائدة لمدة قرون عديدة .ودعت البروتستانتية إلى دراسة الكتاب المقدس دراسة عقلية لتشكل بذلك
قطيعة مع المنهج الالهوتي الشائع.
وكانت الثورة التي أحدثها عالم الفلك البولندي ،كوبرنيك ،بأن برهن على دوران الكرة األرضية حول نفسها وحول الشمس،
إيذانا بالفصل النهائي والذي ال رجعة فيه بين العلم والدين .وها هو العالم اإليطالي ،جاليليو ،جاء ليعزز الثورة الكوبرنيكية
فكانت مواجهته التاريخية مع سلطة الكنيسة.
الثورة التي أحدثها كوبرنيك في علم الفلك والتي سميت باسمه ،كانت رفضا للنظرية الشائعة آنذاك والقائلة بأن األجرام كلها
تدور حول األرض .لقد أنجز كوبرنيك أبحاثا فلكية دقيقة وضمنها في كتاب بعنوان "في الحركات السماوية" مستخلصا أن
األرض هي التي تدور ،ولم تنشر نتائج دراساته إال في آخر حياته خوفا من ردود فعل الكنيسة التي كانت ترى دائما عكس
ذلك .ولما أعلن جاليلو تزكيته لنظرية كوبرنيك أثار ذلك حفيظة بعض الرهبان ،وبادر ديوان التفتيش للتحقيق معه تحت
التهديد .فجاء الحكم ليؤرخ لم حطة عهد جديد في مسار الفكر الغربي" :يا جاليلو ،لقد أدانتك هذه المحكمة المقدسة سنة
1615العتقادك بصحة نظرية كاذبة نادى بها كثيرون وهي أن الشمس ثابتة وأن األرض هي التي تتحرك يوميا ،وألنك لقنت
نفس هذه النظرية لتالميذك ،وألنك تبعث بنفس هذه اآلراء لبعض الرياضيين األلمان ،وألنك نشرت بعض الرسائل عن كلف
الشمس تحدثت فيها عن نفس هذه النظرية على أنها عقيدة صادقة ،ألنك أجبت عن االعتراضات التي كانت تقتبس باستمرار
من الكتب المقدسة بأن فسرت هذه النصوص وفق المعنى الذي تريد ،وحيث أنه قد ظهرت وقتئذ نسخة من مكتوب صادر منك
صرا حة إلى شخص كان فيما مضى أحد تالميذك ،وفيه بعض القضايا التي تتعارض ومعنى الكتب المقدسة ،هذا فضال عن
تأييدك لنظرية كوبرنيك ،فإن المحكمة المقدسة رغبة منها في القضاء على الشر الذي كان وقتئذ قد بدأ واستفحل وأضر
بالعقيدة المقدسة ،ونزوال عند رغبة صاحب القداسة وأصحاب النيافة مطارنة هذه المحكمة العليا السامية ،قد انتهى
األخصائيون من قبلنا إلى صياغة نظريتي ثبوت الشمس وحركة األرض على الوجه اآلتي:
- 1القول بأن الشمس مركز العالم وأنها ال تتحرك قول سخيف ،كاذب من الوجهة الفلسفية كافر من الوجهة الدينية ،ألنه
يتعارض صراحة مع تعاليم الكتاب المقدس.
-2القول بأن األرض ليست مركز الكون الثابت ،وأنها تتحرك يوميا ،هو أيضا قول سخيف ،كاذب من الوجهة الفلسفية،
وتجديف على العقيدة من الوجهة الدينية.
وحيث إنك قد عوملت برحمة في ذلك الحين وقام نيافة المطران بلرمين بتحذيرك في رفق ،وأمرك مأمور الضبط بالمحكمة
أمام المسجل والشهود بأن تتنصل تماما من هذه العقيدة الكاذبة ،وأن تمتنع مستقبال عن الدفاع عنها أو تعليمها على أية
صورة ،شفاهية أو تحريرا ،وأطلق صراحك بعد تعهدك بالطاعة.
وحيث إن مؤلفا قد صدر بعد ذلك منشورا في فلورنسا في العام الماضي ،وينبئ عنوانه "محاورات جاليليو جليلي عن
النظامين الرئيسيين للعالم -نظام بطليموس ونظام كوبرنيك -بأنك صاحبه ،وحيث إن المجمع المقدس قد علم بأن فكرة حركة
األرض وثبوت الشمس قد أخذت في االنتشار بسبب طبع هذا المؤلف ،لذلك قررنا ما هو آت :يا جاليليو جليلي ،لقد جعلت
نفسك موضع الشك الشديد من هذه المحكمة المقدسة بأنك كافر إليمانك -رغم ما في هذا اإليمان من تعارض مع الكتب
المقدسة -بأن الشمس مركز العالم ،وأن األرض هي التي تدور ،وأنها ليست مركز العالم ،ومن أجل ذلك أمرنا بمصادرة كتاب
"محاورات جليلو جليلي" بمرسوم عام ،و حكمنا عليك بالسجن الرسمي ،وأمرناك على سبيل الكفارة أن تقرأ أثناء السنوات
الثالث القادمة صلوات الندم السبع مرة كل أسبوع ".
وما كان من جاليليو إال أن يحترم ما جاء في الحكم ،ويقال إنه بعد إذعانه لمقتضيات الحكم ضرب األرض برجله قائال" :ومع
ذلك فهي تدور" ...إن هذه القضية كانت بحق نهاية عهد وبداية عهد جديد .إنه عهد المركزية األوربية التي تبنت مفاهيم
جديدة لإلرادة والحرية كان لها انعكاس مباشر في مجال السياسة ،حيث الحت في األفق نظريات العقد االجتماعي ومبدأ فصل
السلط ،ولم يسلم االقتصاد من هذه التحوالت الجذرية حيث بزغ فجر الرأسمالية بوعدها ووعيدها.
يجب علينا المراهنة بانتصار العلم على قوى الطبيعة ،وحتى ال تذهب الجهود المبذولة أدراج الرياح يجب علينا إحداث ثورة
في وسائل البحث والتفكير بهدف تأسيس نظام علمي يدعمه منطق جديد أفضل من منطق أرسطو ،منطق يالئم معطيات العصر
وينخرط في مناخ اآلفاق الرحبة التي يفتحها هذا العالم أمام أذهاننا .هذه باختصار شديد عناصر المشروع الفكري للفيلسوف
اإلنجليزي فرنسيس بيكون ( ،)1561-1626وال شك أنه كان لتحوالت عصر النهضة أثر بالغ في تكوين شخصية هذا
الفيلسوف ورجل السياسة المنتمي للمذهب التجريبي البراغماتي.
ومن جملة هذه التحوالت هناك على الخصوص انتقال الحركة التجارية من المجال المتوسطي إلى المجال األطلنطي كنتيجة
الكتشاف أمريكا ،ترتب عنها احتالل ا لشعوب األطلنطية األوربية مركز الصدارة في كل من إسبانيا وفرنسيا وهولندا وإنجلترا،
فيما تراجع النفوذ التجاري اإليطالي االحتكاري ،وانتقلت مظاهر النهضة األوربية ونشاطها من فلورنسا وروما وميالنو
والبندقية إلى مدريد وأمستردام ولندن وباريس .وكان سقوط القسطنطينية في دوامة األزمات الداخلية السبب الرئيسي في
تكريس انحطاط العالم اإلسالمي الذي كانت اإلمبراطورية العثمانية حاملة لمشعله الحضاري في مواجهة الغرب المستيقظ من
سبات القرون الوسطى .وعلى صعيد آخر كان لتدمير األسطول الحربي اإلسباني -الرمادا -سنة 1588الوقع الحاسم بالنسبة
لتوسيع النشاط التجاري اإلنجليزي على الصعيد العالمي .ومما ال شك فيه كذلك أنه كان النتماء فرنسيس بيكون إلى أسرة
لندنية عريقة لها عالقة وثيقة بالبالط ،أثر على تشكيل شخصيته وانفتاحه على التوجهات السياسية العالمية ،سيما وأنه
اكتشف جوانب عملية من هذه السي اسة وهو ما زال يافعا ،حيث التحق بالسفارة البريطانية في باريس ليعمل إلى جانب سفير
بالده .إنه حدث ترك بصمات عميقة في فكره السياسي و الفلسفي ،وقد جاءت إشارات واضحة بهذا الصدد في كتابه "تفسير
الطبيعة" حيث قال في المقدمة " :لقد اعتقدت بأنني ولدت لخدمة الناس ،وقدرت أهمية الخير العام بأن أكرس نفسي لخدمة
الواجبات والحقوق العامة ،التي يجب أن يتساوى فيها الجميع كمساواتهم في استنشاق الهواء والحصول على الماء ،لذلك لقد
سألت نفسي عن أكثر األمور نفعا للناس ،وماهي المهمات التي أعدتني الطبيعة ألدائها ،أو ما هي المهمات التي تتناسب مع
مؤهالتي الطبيعية ،وبعد البحث لم أجد عمال يستحق التقدير أكثر من اكتشاف الفنون واالختراعات وتطويرها للرقي بحياة
اإلنسان" .إن أهمية المبادئ عند بيكون تكمن أساسا في نتائجها العملية ،وتمجيده للعقل ال غبار عليه ،والعقل عنده هو
اإلنسان ،والمعرفة هي العقل ،وليس اإلنسان إال ما يعرف.
الــبنــاء العــظيــم
إن ما كانت تؤكد عليه فلسفة بيكون وتعمل على تجسيده على أرض الواقع الملموس هو ضرورة قيام العلم على معايير
تجريبية بهدف تحقيق نتائج معينة ترمي إلى إسعاد البشرية .وهذا المشروع الطموح الذي يرتكز على قاعدة عملية أكثر منها
نظرية هو ما دفعه ليسميه "البناء العظيم" ،معتبرا المعرفة كقوة حقيقية وليست نقاشات جوفاء أو أفكارا تجريدية قد يلجأ
إليها اإلنسان لتبرير مواقفه أو للتبجح والحذلقة المعرفية العقيمة ،ويعلل ذلك بقوله ":أنا اآلن أعمل لوضع أساس ال لمذهب
أو مبدأ ،ولكن ل فائدة قوة فاعلة .إن قصدي أن أحيط بالمعرفة ،وأالحظ األجزاء المهملة والمغفلة التي تخلى عنها اإلنسان ولم
يتناولها بالتهذيب .وأن أعمل بتخطيط صادق على حفز النشاط بين األشخاص الذين يعملون في المجاالت الخاصة والعامة
لتحسين المجاالت المهجورة أو المتروكة" .من أجل ذلك اعتمد بيكون منهجا جديدا في االستقراء ،ووضع برنامجا في ثماني
نقاط:
-6العمل على تعزيز هذا المنهج العلمي الجديد وتوفير الشواهد لبيان نجاحه،
وككل مشروع جديد فإن نظرية بيكون تضع بينها وبين النظريات السابقة خطا فاصال ،معتبرة أن خطأ الفلسفة اليونانية
الفادح هو كونها اقتصرت على الجانب النظري وأهملت بشكل كبير فوائد المالحظة وانعكاساتها على تطور البحث العلمي،
بمعنى أن الفكر يجب أن يكون مساعدا للمالحظة وليس بديال لها .وهكذا بعد ألفي سنة من اجترار المنطق األرسطي من غير
تعديله وإغنائه بإسهامات جوهرية سقطت الفلسفة إلى درجة لم تعد فيها تحظى باحترام وتقدير الناس .بعبارة أخرى ،يجب
القذف بعيدا بنظريات الماضي من خالل تطهير العقل من األوهام والترسبات الخرافية التي بقيت عالقة به لمدة قرون .وهذه
األوهام هي بمثابة معب ودات وثنية رسم لها بيكون خطة من أربعة محاور للقضاء عليها قبل الشروع في العمل وفقا للنهج
أالستنتاجي التجريبي الذي يقترحه .والمحاور هي:
-أوهام أو خرافات القبيلة ،ويعني بها الطبيعة البشرية القاضية باالعتقاد أن الحواس تعطى معرفة صحيحة ومباشرة عن
الواقع ،بينما العكس هو الصحيح ألن إدراكات اإلنسان العقلية والحسية هي قبل كل شيء تصوير لنفسه وليس تصويرا
للكون ،وعلى أي حال فالمعرفة الحسية نسبية بكل تأكيد وكثيرا ما تشوه المعطيات الخارجية .ويرى بيكون أن من أخطاء
العقل اإلنساني أنه إذا آمن برأي واستقر عليه يتمادى في الد فاع عن هذا الرأي ويحشر كل األشياء لتأييد وإثبات ذلك الرأي،
وال ينفع معه وجود أدلة كثيرة قاطعة منافية له .ويسوق بيكون كمثال لذلك قصة رجل دخل إلى معبد وعرضت أمامه لوحات
كثيرة ،علقها الذين نجوا من خطر الغرق في البحر بعد أن تحطمت السفينة التي كانوا على متنها ،وكان ذلك بمثابة استجابة
لنذورهم التي تقربوا بها إلى اآللهة .بعد هذا العرض طلب من الرجل الزائر للمعبد أن يعترف بقوة اآللهة وفائدة النذور ،فكان
جوابه :ولكن أين لوحات الذين غرقوا وماتوا في البحر على الرغم من نذورهم وإيمانهم وتضرعهم؟
-والمحور الثاني يعرض بيكو ن لما أسماه ب "أوهام الكهف" ،ويستفاد منه أن لكل إنسان كهفا خاصا به ،على شاكلة
أسطورة الكهف األفالطونية المشهورة ،مما يعني طغيان الذاتية على الموضوعية.
-وأما المحور الثالث من أخطاء العقل فهي "أوهام السوق" التي تتعلق أساسا باللغة واستعمال األلفاظ في إطار العالقات
االجتماعية ،بمعنى أن الظروف "السوقية" لنشأة اللغة تجعل األلفاظ المتداولة محشوة بالتأويالت المضللة للعقل ،ومعانيها
تمويهية ومبهمة وكأنما وضعت بهدف االستغناء عن الوقائع وإخفائها.
-و أما المحور األخير فقد سماه "أوهام المسرح" ويقصد بها جميع األنظمة الفلسفية المتوارثة ،والتي ليست إال مسرحيات
تمثل عالما خلقه الفالسفة ألنفسهم بطريقة روائية مسرحية ،وال يخفى بيكون تحامله على أفالطون وأرسطو ،داعيا إلى خلق
أساليب جديدة للتفكير ،ووسائل جديدة للفهم واإلدراك بعدما تخلى العقل عن كل هذه الخرافات واألوهام ،وأصبح كاللوح
المصقول أو الصفحة البيضاء الستقبال نهجه االستقرائي الذي يعتمد على قيمة التجارب أكثر من اعتماده على كميتها ،
ويدعو إلى إصالح شامل للعلوم بأسلوب معرفي ال يترك مجاال للصدفة والتالعبات اللفظية ،فالصدفة اسم لشيء غير موجود.
وفي مجال علم النفس االجتماعي يؤكد بيكون بقوله" :يجب على الفالسفة أن يبحثوا عن قوى وطاقات العرف ،والمادة،
والتعليم ،والمثل ،والتقاليد ،والمناقشة ،والشراكة ،والصداقة ،والمدح ،والتبكيت ،والنصح ،والحض ،واإلنذار والسمعة
والقوانين والكتب والدراسة إلى آخر ما هنالك .ألن هذه األشياء تتحكم في أخالق الناس وتشكل العقل وتخضعه".
يحث بيكون على أن المطلوب األول في النجاح هو المعرفة .وفعال ،لقد نجح هذا الفيلسوف في المجال السياسي رغم كون
معرفته لم تكن كافية لتقيه شر مزالق السياسة وأهوائها ،لكنه بكل تأكيد نجح في وضع اللبنات األولى لمنهجية فلسفية يعتد
بها إلى اليوم في مقاربات العلوم التجريبية.
لقد توفي بيكون بينما كان منهمكا في إجراء تجميد لدجاجة قصد معرفة مدى حاجته من الوقت لحفظ اللحم من التعفن ،مات
كموت موليير على خشبة المسرح ،وكانت وصيته " :أترك روحي إلى هللا ،ودفن جسدي بغموض واسمي لألجيال القادمة
واألمم األجنبية ".
مرجعيات الفلسفة الغربية -15-نظرية "روح القوانين" لمونتيسكيو
يقترن اسم مونتيسكيو ،الكاتب الفرنسي ،بنظرية فصل السلط التي جاءت تفاصيلها في مؤلفه المشهور "روح القوانين".
وقد كان تأثير هذه النظرية واضحا على اإلصالحات الدستورية التي قامت بها الجمعية التأسيسية إبان الثورة الفرنسية.
واليوم يعد مبدأ فصل السلط بمثابة حجر الزاوية في بناء صرح الديمقراطية ،بحيث أصبح يشكل المؤشر الرئيسي في لوحة
القيادة ألي حكم ديمقراطي في التاريخ المعاصر .وهناك عالقة متالزمة بين وضع حقوق اإلنسان ومدى احترام مبدأ فصل
السلط في هذا البلد أو ذلك .وقد سبق للفيلسوف اإلنجليزي جون لوك أن تطرق لنظرية فصل السلط ،ومن المعلوم أن
مونتيسكيو كان متأثرا بآراء جون لوك الليبرالية.
تـقــديم الكــتــاب
استغرق تأليف هذا الكتاب عشرين عاما ،وكاد صاحبه أن يفقد كل قواه لكثرة ما أنفق من جهود مضنية في إنجازه .وهكذا لما
انتهى من تأليفه قال " :إنني أستطيع القول بأنني استغرقت فيه حياتي كلها ،إذ عندما انتهيت من دراساتي القانونية وضعته
وسط مؤلفات القانون فبدأت أبحث في تلك المؤلفات عن روح القانون ،فأجهدت نفسي ولم أصنع شيئا ذا قيمة ،ومنذ عشرين
عاما اكتشفت مبادئ جد بسيطة ،ولو أن مؤلفا غيري قام بنفس الجهد لخرج بنتائج أفضل ولكنني أعترف أن العمل في هذا
الكتاب كاد يقتلني ،إنني أريد أن أستريح ولن أعمل شيئا بعد ذلك" .وفعال ،كاد مونتيسكيو أن ينهار كليا ،وضعف بصره مما
اضطره إلى إ مالء األجزاء األخيرة من مؤلفه الذي ظهر ألول مرة بجنيف سنة ،1748وكان عنوانه األصلي أكثر وضوحا
بحيث يعطي للقارئ ملخصا لمحتواه " :في روح القوانين ،أو في الصلة التي يجب أن تربط القوانين بنظام الحكم في كل أمة،
وبتقاليدها الخ ".وهذا العنوان لوحده يبين مدى تشعب المحتوى ويطرح التساؤل حول كفاءة المؤلف في معالجته ،لذلك توسل
مونتيسكيو في تصدير الكتاب إلى القارئ" :إن لي رجاء أخشى أال يتحقق ،وهو أال يحكم قارئ عابر على عمل استغرق
عشرين عاما ،وأن يقبل القارئ هذا المؤلف أو يرفضه جملة وال يقتصر على قبول أو رفض عدة جمل منه ،ألن اإلنسان إذا
أراد أن يفهم فكرة المؤلف فلن يستطيع الوصول إليها إال إذا فهم فكرة الكتاب".
لقد اعتمد مونتيسكيو على قاعدة توثيقية عريضة ،شملت مصادر عديدة من الفكر اليوناني وآراء ونظريات القرن الثامن
عشر ،ويبقى وجه الشبه لجانب من كتاب "روح القوانين" مع "مقدمة" ابن خلدون يثير أكثر من تساؤل ،خاصة فيما يتعلق
بتأثير المناخ على الشعوب مزاجا وتنظيما .وحتى في المنهج هناك تشابه بين المؤلفين مع تفوق البن خلدون .لقد وزع
مونتيسكيو مادة مؤلفه على واحد وثالثين جزءا ،منها قسم نظري عام وآخر ذو طابع عملي .ويذكر المؤلف كيف كانت
مقاربته للموضوع ":لقد خبرت الناس أوال ووجدت في هذه األشكال المتباينة بشكل ال نهاية له ،من العادات والقوانين أن
الناس ليسوا مساقين بمحض أهوائهم .فوضعت المبادئ العامة لسلوك الناس ووجدت الحاالت الفردية تخضع لها في يسر،
كما وجدت أن تاريخ جميع األمم ليست إال نتائج لتلك المبادئ العامة وأن كل قانون خاص مرتبط بقانون آخر أو يعتمد على
قانون آخر أعم منه ،ولما اتجهت لدراسة العصور القديمة بذلت الجهد في استخالص روح مبادئها حتى ال يستعصي علي أمر
فهمها .إنني أعتبر من قبيل المتشابهات حاالت تختلف عن بعضها البعض ،وحتى ال تغيب عنها الفوارق الفاصلة بين حاالت قد
تبدو متشابهة فإنني لم أستخلص مبادئ قط من أحداث ظنية وإنما من طبيعة األشياء" .ولما ظهر الكتاب أحدث ضجة في
األوساط الدينية والمثقفة ،ووضعته السلطات الدينية ضمن الالئحة السوداء سنة ،1751وهاجمه فولتير بقوله" :إذا أردت
أن تحقق ما ذكره مونتيسكيو من نصوص فإنك لن تجد منها أربعة نصوص صحيحة" .وقال عنه الفيلسوف هلفيسيوس إنه
تحجير وتثبيت لعيوب المجتمعات اإلنسانية ووصف جامد للوضع القائم ،وأيده في ذلك الفيلسوف كوندورسي.
ليست القوانين في نظر مونتيسكيو إال عالقات قوى متفاعلة ومتأثرة ببعضها البعض ،ويجب أن ينظر إليها بمنظور
شمولي ":إن القوانين في أوسع معانيها عبارة عن عالقات ضرورية تشتق من طبيعة األشياء ،ولكل الموجودات قوانينها
بهذا المعنى ،ولآللهة قوانينها وللعالم المادي قوانينه وللعقول المتعالية على اإلنسان والحيوانات قوانينها ولإلنسان قوانينه
" .خصص مونتيسكيو لعالقة القوان ين بالحرية والسياسة ثالثة أبواب كاملة .والحرية في نظره ال تعني أن يفعل الفرد كل ما
يريده ألن في مجتمع تسوده قوانين ال يمكن أن تعني الحرية إال القدرة على عمل ما يجب أن يريده الفرد ،وعدم إلزامه بفعل
ما ال ينبغي أن يفعله .وأكبر ضمانة للحرية السياسية تكمن في فصل السلط إلى ثالث سلطات :تشريعية وتنفيذية وقضائية.
واستقالل كل سلطة ال يعني عدم التعاون بين السلط وإنما هي مسألة توازن بين السلط ال غير .لذلك وجب تقييد الحرية
السياسية في حدود القوانين السائدة والجاري بها العمل تحت لواء فصل السلط ،ويعلل مونتيسكيو ذلك بقوله" :ألننا لو أبحنا
لكل مواطن أن يفعل ما يريد أو ما تحرمه القوانين فإنه لن يكون حرا ،ألن األفراد اآلخرين ستكون عندهم نفس السلطة ".
ويرى مونتيسكيو أن الحرية على العموم شيء نسبي جدا ،وأن حرية الشعب في ظل نظام معين إنما هي مرتبطة بشكل الحكم،
وقد تنعدم تماما ألس باب يبدو أن الشعب يتفهمها ":بل إن الحرية لتبدو في بعض الشعوب التي ال تستطيع تحملها والتي لم
تتعود على التمتع بها ،كالهواء النقي إذ يضر أحيانا بمن كانوا يعيشون في أماكن تكسوها المستنقعات" .قد يستشف من هذا
الطرح ميول مونتيسكيو االستعمارية ،لكن بغض النظر عن ذ لك يبقى السؤال :ما هو السبيل إلى ضمان بقاء الحرية ّإذا ما
تحققت؟ يجيب مونتيسكيو بإثارة االنتباه إلى أن التجربة دلت على أن ثمة ميال لدى كل رجل سلطة إلى سوء استعمال هذه
السلطة ،وأن أنظمة الحكم كيفما كانت ليست في منأى عن الفساد ،ومن المستحيل إذن إيجاد نظام سياسي ال يتسرب إليه
الفساد .وعليه فالسبيل الوحيد لضمان استقرار الحرية هو توزيع السلطات على عدة قوى تتوازن فيما بينها ،حيث بات جليا
أنه ال يوقف السلطة إال سلطة أخرى ":لكيال يستطيع أي ذي سلطة سوء استغالل سلطته البد من ترتيب األمور بحيث توقف
سلطته سلطة أخرى تعا دلها" .وهذه النقطة بالضبط في كتاب "روح القوانين" هي التي حظيت باهتمام األجيال نظرا لحدة
استبصارها ،مما بوأها مكانة بارزة في هندسة األنظمة السياسية الديموقراطية المعاصرة .ويحث مونتيسكيو على عمل
السلطات في انسجام مع احترام االختصاصات" :للحصول على حكومة معتدلة البد من ربط القوى بعضها ببعض والحد من
غلوائها وتوجيهها للعمل على تنظيمها ،أي أنها تقوم بعمل يشبه عمل الرافعة في العالم المادي ،حيث نجد قوة في جانب
تعادلها مقاومة في جانب آخر " .وال يخفي مونتيسكيو اعتقاده في مدى أهمية الدين واألخالق في المساهمة في ترسيخ
الحرية إلى جانب القوانين المدنية والجنائية التي تضمن ألي كان ما له وما عليه.
ومما يؤاخذ على مونتيسكيو أطروحته العنصرية وفكرته االستعمارية التي تضمنها كتابه "روح القوانين" .إذا ال يعارض في
استرقاق األفارقة ألنه بكل بساطة كان يرى في ذلك ضرورة ملحة إلنجاز المشاريع الكبرى التي كان االقتصاد األوربي
يتطلبها ،بل إنه ذهب إلى حد االدعاء أن السالالت السمراء ال تتمتع بنفوس خيرة " :فال نستطيع أن نفهم أن هللا الذي هو
خبير حكيم قد ركب نفسا خيرة في جسم أسمر" .ويدعي مونتيسكيو أن الشعوب السمراء ليست في مستوى المجتمعات
اإلنسا نية ":إننا ال نستطيع أن نفترض أن أفراد هذه الشعوب أناسا ،وإال لبدأنا نعتقد أننا لسنا مسيحيين " ...وما من شك أنه
كان متأثرا بتيار إيديولوجي استعماري بدأ يخترق عصره بشكل متصاعد ،لكن هذا ال يشفع له كمفكر ذي اطالع واسع ونظرة
اجتماعية تتسم باالنفتاح النسبي على االختالف.
يحتل الفيلسوف األلماني إيمانويل كانط ( )1724-1804في األوساط األكاديمية الغربية وعند المثقفين بصفة عامة مكانة
بارزة ،إلى درجة أن هناك من يؤرخ للفكر الفلسفي بمختلف تياراته انطالقا من تقسيمه إلى مرحلتين من التطور :ما قبل كانط
وما بعد كانط .ربما أن هناك شيئا من المبالغة في هذا التقسيم ،ولكن رغم ذلك هذا ال يعني االنتقاص أو االستخفاف بالمركز
الوازن الذي يحتله كانط عن جدارة وتميز في ميدان الفكر الحديث ،بحيث تعد الكانطية مدرسة قائمة الذات ،وكثيرة هي اآلراء
والنظريات المؤطرة لحقول معرفية مختلفة التي ما كان لها أن تتطور بشكل واضح لوال اعتمادها على الكانطية نهجا
ومضمونا ،مما يعني صعوبة حصر تأثيرات الكانطية في مجالها الفلسفي الضيق .ويشكل كتاب " نقد العقل الخالص" لكانط
تحوال ثوريا في مسار الفكر الفلسفي إلى حد أن الفيلسوف شوبنهاور اعتبره كأعظم وأهم اإلنتاجات الفكرية األلمانية وأن
اإلنسان يبقى طفال في معرفته إلى أن يفهم كانط.
وهناك قناعة راسخة لدى المختصين بأن دراسة كانط تتطلب بذل مجهودات غير عادية ،وبدونها ال يتيسر استيعاب الفكر
الكانطي ،والسبب في ذلك راجع إلى تعقيدات وغموض أسلوب الكتابة الكانطية ،وهي مالحظات وجهت لكانط نفسه فرد بقوله
موضحا أنه يكتب للفالسفة المحترفين الذين ليسوا بحاجة إلى الشرح والتوضيح .ويذكر ويال ديورانت في كتابه "قصة
ا لفلسفة" أن كانط بعث بنسخة من مؤلفه "نقد العقل الخالص" إلى أحد أصدقائه من ذوي سعة االطالع قصد إبداء الرأي
والمالحظة ،لكن صديقه أعاده إليه ولم يقرأ منه إال حوالي النصف ،وكان عذره في ذلك أنه يخشى على نفسه من الجنون لو
واصل قراءة الكتاب بكامله!
ينتمي إيمانويل كانط للمذهب النقدي ،بل إنه هو الذي وضع أسسه وقواعده .ويبدو أن صعوبة الكانطية راجعة لكونها نقدا
داخل النقد ومن منطلق جذور نظرية المعرفة ،لقد فرغ كانط من كتابة "نقد العقل الخالص" سنة 1781بعد فترة من البحث
والتمحيص والتنقيح دام ت خمسة عشر عاما ،أضاف إليه مؤلفا ثانيا بعنوان "نقد العقل العلمي" سنة ،1788ومؤلفا ثالثا
حول "الدين في حدود العقل الخالص" سنة .1793وفي هذه المؤلفات الثالثة يستشف تطور تأثير كانط بكتابات ليبنتس
وبالمذهب التجريبي اإلنجليزي ،قبل تربعه على عرش الفلسفة النقدية .والمقصود من نقد العقل الخالص هو التحليل النقدي
الذي يؤدي إلى تنقية المعرفة من شوائب اإلدراكات الحسية .إن الهدف عند كانط هو البحث في مدى وجود عقل خالص ال
يعتمد في معرفته على ما تزوده به الحواس .إنه بحث في معرفة مستقلة عن كل أنواع التجربة وعن كافة الحواس .كانت
المدرسة اإلنجليزية وعلى رأسها لوك تقول بأن المعرفة مستمدة كلها من الحواس ،وذهب الفيلسوف هيوم إلى إنكار النفس
والعلم المذكورين عند ديكارت ،معتبرا أن العقل ليس سوى أفكار متتابعة ومتعاقبة ،وأنه ال يجوز القطع برأي يقين ،فاآلراء
اليقينية ليست سوى احتماالت م عرضة دائما للنقد والنفي ،ورد كانط على هذه األقوال بأن نتائجها باطلة نظرا لبطالن مقدمتها
المفترضة .فعندما زعم هيوم أن كل معرفة اإلنسان تأتي عن طريق اإلدراكات الحسية المختلفة والمنفصلة ،لم يكن قادرا على
إثبات أن سلسلة األحاسيس تشكل تتابعا ضروريا أو سياقا قارا على يقين دائم .ويقر كانط أن اليقين المطلق للمعرفة أمر
مستحيل ،لكن من يدلنا على وجود أو عدم وجود معرفة غير مستمدة من التجربة الحسية ،بتعبير آخر :هل الحقيقة المطلقة
والعلم ممكنان بدون استقبال العقل إلحساس واحد من العالم الخارجي؟ وهل هناك معرفة مطلقة ال تعتمد على الحواس
والتجربة؟ يوضح كانط قائال :إن سؤالي هو ماذا نرجو أن نبلغ بالعقل ،إذا أبعدنا كل مساعدة للتجربة الحسية؟ وهكذا انطلق
كانط في بحثه وتحليله المفصل ألصل األفكار ،مختبرا أصل النظريات وتطورها وتشكيل العقل الموروث .وفي ذلك قوله" :إن
التجربة ليست الميد ان الوحيد الذي يحدد فهمنا ،لذلك فهي ال تقدم لنا إطالقا حقائق عامة ،إنها تثير عقلنا المهتم بهذا النوع
من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه .لذلك البد أن تكون الحقائق العامة التي تحمل طابع الضرورة الداخلية مستقلة عن
التجربة ،واضحة ومؤكدة في نفسها .إذ البد أن تكون حقيقية بغض النظر عن تجربتنا األخيرة ،وحقيقية حتى قبل التجربة".
ويؤكد كانط كثيرا على المعرفة الرياضية التي من شأنها في نظره أن تجعل اإلنسان مستقال عن كل أنواع التجربة ،وال يرى ما
يمكن أن ينقضها في المستقبل ،ويعطي مثال على ذلك باإلشارة إلى أننا قد نعتقد أن الشمس قد تشرق غدا من الغرب ،أو أن
النار سوف ال تحرق العصا الخشبية في عالم ال تحترق فيه األشياء ،ولكننا لن نعتقد أو نصدق طيلة حياتنا أن اثنين زائد اثنين
يمكن أن يسفر عن عدد غير األربعة .إن مثل هذه الحقائق حقيقية قبل التجربة .ويبقى السؤال هو :من أين نحصل على هذه
الحقائق المطلقة؟ يجيب كانط على أن هذه الحقائق تستمد نوعها الضروري من التركيب الفطري للعقل ،أي من الطريقة
الطبيعية الحتمية التي بموجبها يعمل العقل .ومما يثير االنتباه الثقة التي أبان عنها كانط في الطرح والتحليل إلى مستوى قد
يصل إلى الغرور ،فهو يقول ":لق د استهدفت الكمال في هذا الكتاب وأنا أجرؤ على القول بأنك لن تجد قضية واحدة من قضايا
الميتافيزيقا إال ألفيت حال لها أو على األقل وجدت مفتاحا تستعين به على حلها" .ال شك في أن فلسفة كانط أثارت مسائل
كثيرة بناء على تحليل ممنهج لمعايير فكرية من الصعب تكسير حلقات ها .إن تمييزه لمظهر األشياء عن جوهر األشياء نفسها
يكفي لوحده لبناء صرح لتيار فلسفي عميق ومستقل ،ناهيك عما جاء في الكانطية من عناصر النقد والتركيز التي تختبر
قدرات العقل اإلنساني في ذاته ومحيطه ،فيما هو كائن وفيما يجب أن يكون...
تكو ن اإلرادة صالحة من وجهة نظر كانطية متى كانت تعمل بمقتضى "الواجب" دون ابتغاء الحصول على منفعة أو االندفاع
تحت ضغط رغبة معينة .في هذه الحالة يعتبر الواجب أمرا مطلقا ،واألمر المطلق يكون دائما كليا بالضرورة ألنه قانون ،وألن
الكلية هي خاصية القانون .لقد أخذت الصياغة الكانطية لألمر المطلق شكال ثالثي األبعاد:
-1اعمل كما لو كنت تريد أن تقيم الحكم الصادر عن فعلك قانونا كليا للطبيعة ،مما يفيد إمكانية تعميم الفعل األخالقي.
-2اعمل بحيث تعامل اإلنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر كغاية ال كوسيلة ،مما يعني أن الفعل األخالقي غاية في حد
ذاته.
-3اعمل كما لو كنت مشرع القانون ،وهذا معناه استقالل اإلرادة وبالتالي حريتها.
غير أن تقرير الحرية يفضي إلى إمكانية انتماء اإلنسان إلى عالم غير حسي ،بمعنى عالم معقول ،ألن الحرية ليست متوافرة
في العالم الحسي ما دام مبدأ العلية يتحكم في الظوا هر .والسؤال :هل هناك من مبرر الفتراض هذا العالم المعقول؟ جواب
كانط :إنه إثبات وجود هللا وخلود الروح.
مرجعيات الفلسفة الغربية .. -17-سخرية فولتير ومواجهة الكنيسة
-17/28سخرية فولتير
إذا أردت أال تنتحر فأوجد لنفسك عمال ،فمن ال يعمل ال قيمة لحياته ،كل الناس أحرار إال الكسالى ،ال شيء يقضي على
العبودية كالتعليم ،الحقيقة ليست اسما يطلق على حزب ،أحفظني يا ربي من أصدقائي وسأحافظ على نفسي من أعدائي،
تجارتي أن أقول ما اعتقد ...ليست هذه إال نتفات من أقوال فولتير األدبية الحكيمة والثورية التي ال تحصى .إن فولتير لم يكن
أديبا مبدعا بقدر ما كان أديبا فيلسوفا ومفكرا جريئا وداعية للحرية والتخلص من الخرافات والتقاليد البالية .لقد عانى من
النفي والسجن كما تعرضت كتبه للمصادرة ،لكنه ظل صامدا في مواجهة الشدائد على اختالف تلويناتها .قال عنه فكتور هيجو
إن اسم فولتير وحده يكفي لوصف القرن الثامن عشر بكامله ،وقال المارتين" :إذا كنا سنحكم على الرجال بأفعالهم عندها
يكون فولتير أعظم كاتب في أوربا الحديثة ،لقد وهبه هللا أربعا وثمانين سنة من العمر حتى يتمكن من تحليل العصر الفاسد،
وكان لديه الزمن ليحارب الزمن ".ويضيف نيتش قائال :لقد جاء فولتير فأذل الطغاة بسخريته.
ويعرف فولتير بغزارة إنتاجاته الموسوعية ،فلقد ألف ما يزيد عن تسعين كتابا ،وكان متقنا للكلمة الحلوة العذبة ومتمكنا من
فن الخطابة في أبهى صورها .كان حادا في امتالكه بناصية ضروب المناقشات الجدالية ،وسليط اللسان وناقدا الذعا عند
االقتضاء .كان أعداؤه كثيرين وأصحاب نفوذ لكنهم لم يصمدوا أمام عبقريته ،وبالطبع كان المعجبون بشخصيته وآرائه أكثر
من أعدائه .لقد أصبح قبلة للزوار من كل مكان تقريبا ،وكان يقابلهم بالترحاب والكلمات اللطيفة .وذات يوم سأل فولتير أحد
الزوار :من أرسلك؟ فأجابه الزائر :لقد أرسلني إليك السيد هللر .ورد عليه فولتير :إنه لرجل عظيم ،وعبقري عالمي .لكن
الزائر قال له :إن ما تقوله يا سيدي هو أعظم التقدير للرجل ولكنه ال يقدرك كما تقدره .فما كان من فولتير إال أن يقول على
الفور :آه ،ربما نكون كالنا مخطئا.
اسحقوا العار
لم يكن فولتير لينفي أطروحة ديدرو القائلة بأن اإليمان باهلل مرتبط بالتسليم بحكم الفرد أو الحكم المطلق وكالهما ينهضان
ويسقطان معا ،وأن الناس لم يتحرروا إطالقا حتى يشنق آخر ملك بمصارين (أمعاء) آخر قسيس .لقد انتقل فولتير تدريجيا من
السخرية الهزلية إلى المواجهة الصريحة والجادة مع الكنيسة .وكانت هذه األخيرة تتمتع بسلطة مطلقة ،خاصة في مدينة
تولوز حيث كان على لفولتير أن يتدخل لمواساة عائلة لجأت إليه خوفا من اضطهاد الكنيسة وتعصبها األعمى للمذهب
الكاثوليكي في صراعه مع البروتستانتية .ولما عبر الفيلسوف دالمبير عن استيائه من الدولة والكنيسة معلنا أنه سيسخر من
كل شيء ،أجابه فولتير بأن لم يعد هناك وقت للتهكم والسخرية وأن الفطنة والسخرية ال تنسجمان مع القمع والمجازر .كما أن
األوضاع لم تعد لتسمح بالعروض الهزلية والتنكيت الساخر ،وقال فولتير" :لقد أفلتت مني كل ابتسامة رغم إرادتي" .ومن
هنا تبنى شعاره المعروف "اسحقوا العار" ،وأعلنها حربا شعواء على الكنيسة .ووجه دعوات إلى أصدقائه والمعجبين به
داعيا إياهم إلى المعركة" :وحدوا أنفسكم واقهروا التعصب واألوغاد ،واقضوا على الخطب المضللة والسفسطة المخزية
والتاريخ الكاذب ،ال تتركوا الجهل يسيطر على العلم ،فالجيل الجديد سيدين لنا بعقله وحريته".
ونظرا لسلطته المعنوية النافذة ،فلقد قامت الكنيسة بإغرائه وشراء ذمته ،وعرضت عليه قبعة كاردينال محاولة منها لتكميم
فيه .رفض فولتير هذا العرض ولكنه بادر إلى إيقاف حملته تحت شعار "اسحقوا العار" وأصبح ينادي بالتسامح الديني،
معتبرا أنه لو تمسك رجال الدين بإقامة الشعائر وتسامحوا مع من يختلف معهم الستحقوا كل تقديره واحترامه" :إن اإلنسان
الذي كان يقول لي اَمن كما أومن وإال فان هللا سيعاقبك ،يقول لي اآلن اَمن كما أومن وإال فإني سأقتلك".
واضح أن فولتي ر لم يكن ضد الدين لكونه دينا وإنما ضد التعصب الديني ،وراح يدعو إلى تسامح الناس فيما بينهم ،وكانت
حملته التسامحية أوسع نطاق من حملته "اسحقوا العار" ،بحيث أصدر العديد من المنشورات التاريخية ،والمحاورات
والرسائل والتعاليم الدينية ،والخطب التشهيرية ،والهجو ،والتقريع ،والشعر ،والحكايات ،والقصص ،والمقاالت التي كانت
تحمل اسمه أو أسماء مستعارة.
يرى فولتير أن كل الشعوب القديمة كانت ضحية الخرافات واألساطير التي صنعها وابتكرها القساوسة والكهنة ،وقال" :لقد
كان أول كاهن أول محتال يقابل أول أحمق" ،علما بأنه لم ينسب الدين إلى القساوسة ولكن حملهم مسؤولية علم الالهوت.
وقال إن الكهنة هم الذين يوحون بالتعصب المذموم للشعب ،ويعيشون على كده وتعبه ،يتنافسون على شراء الذمم بهدف
تمكنهم من السيادة على الشعب والسيطرة عليه.
وأما نشر هؤالء الكهنة للخرافات واألساطير -في نظره -فإنه ليس بدافع مخافة هللا ،وإنما هي فقط وسيلة ترهيبية لنشر
نفوذهم وبسط سلطتهم على الشعب .ولمقاومة الحملة الفولتيرية الملتهبة روجت األوساط المستهدفة إلشاعة مفادها أن
فولتير من كبار المالحدة ،وهو ما كذبه تكذيبا باتا .فقد قال في كتاب له بعنوان "الفيلسوف الجاهل" أنه قرأ آراء سبينوزا
حول وحدة الكون ولكنه ابتعد عنها لكونها آراء ملحدة ،ثم إنه كتب إلى ديدرو قائال" :أعترف بأنني ال أوافق ساندرسون الذي
أنكر هللا ألنه ولد فاقد البصر ،وقد أكون على خطأ ولكني لو كنت في مكانه العترفت بوجود عقل كبير عوضني الكثير عن
فقدان بصري كالعقل واإلدراك والتأمل والعالقات العجيبة التي تربط جميع األشياء".
الواقع أن آراء فولتير أقوى من أن تخضع لتفسير ثابت ،فقد كان ينكر مبدأ حرية اإلرادة ،ويقول في النفس إن قراءة أربعة
آالف كتاب عن الميتافيزيقا سوف لن تعينه على معرفة ماهي النفس .ويتساءل لماذا يمدح الناس أنفسهم باعتقاد الخلود
واألبدية فيهم فقط؟ ويجيب" :ربما يعود هذا إلى اإلفراط في زهوهم والتطرف في غرورهم .أنا على يقين تام من أن الطاووس
لو استطاع أن يتكلم لرفع صوته متفاخرا بروحه وقال إنها موجودة في ذيله البديع".
أعفى نظام االمتيازات طبقة األشراف ورجال الدين وذوي الصلة بالبالط من جزء كبير من الضرائب ،لقد استفحل االستبداد،
وتمردت طبقة البورجوازية الصاعدة ،وتراجع نضام اإلقطاع ،وتهلهل االقتصاد ،وانتشرت أفكار فلسفية تدعو إلى اإلصالح،
واتسعت هوة الفوارق االجتماعية ...ومع هذا كله كيف ال تحدث ثروة في البالد؟
لكن هناك ثورة وثورة ،وما العناصر المشار إليها أعاله إال نظرة خاطفة على الجزء العائم من الجبل الثلجي ،لقد كتب البير
ماتيي ،وهو من المؤرخين للثورة الفرنسية ،مال حظات وجيهة بهذا الصدد ":إن الثورات الحقيقية ،وأعني بها تلك التي ال
تقتصر على تغيير أشكال الحكم والمسؤولين الحكوميين بل تتعداها إلى تحويل المؤسسات وإعادة توزيع الملكية هي ثورات
تزحف ببطء تحت غطاء الزمان قبل أن تنفجر في واضحة النهار بتأثير من ظروف طارئة .والثورة الفرنسية التي باغتت
المستفيدين منها وضحاياها على حد السواء ،بشكل استحالت مقاومته ،ظهرت إلى الوجود بعد قرن ونيف من الزمان وكان
اختمارها بتأن .لقد كانت نتيجة لقطيعة تدريجية بين الوقائع والقوانين ،بين المؤسسات والتقاليد ،بين المنطوق ومدلوله".
وهكذا تتميز الثورة الفرنسية التي اندلعت سنة 1789عن غيرها من الثورات بأنها كانت تعبيرا صارخا عن إرادة الشعب في
مواجهة نظام المؤسسات القائمة بأكمله ،فهي لم تكن انقالبا عسكريا أو تغييرا للسلطة التنفيذية وبنيات نظام الحكم ،بل تغييرا
طال كافة أشكال الكيان الداخلي لمؤسسة الدولة ،وأرسى األسس لثقافة ثورية مبنية على جيل لم يسبق له مثيل من الحقوق
والحريات ،ترتب عنه مفهوم جديد لإلنسان وانقلبت على إثره مفاهيم السيادة والسلطة السياسة رأسا على عقب .فإذا كان
الملك لويس الرابع عشر يردد زمانه في عجرفة وغرور :الدولة هي أنا ،فإن الشعب الفرنسي -وانطالقا من سنة 1789
بالتحديد-أصبح يردد في نشوة عارمة :السيادة هي أنا!
لم تكن مبادئ الحرية والمساواة واإلخاء إال تجسيدا لمفهوم سيادة الشعب ،ولم يكن هذا شعارا أجوف وأسلوبا دعائيا تعبويا،
بل كان عنوانا للوفاء لروح الثروة ،وضمانة إرادية للحفاظ على مكتسباتها ،وعزما أكيدا على مواصلة بناء المجتمع وفقا
لمرتكزات الثورة ودعاماتها .لقد أثمرت آراء فلسفة األنوار وتحقق ما تنبأ به فولتير بسنوات قبل اشتعال فتيل الثورة حين
قال" :كل شيء أراه ينبئ عن بذور ثورة ال مفر من وقوعها في يوم من ا أليام ،والتي لن أسعد برؤيتها .إن الفرنسيين يأتون
دائما متأخرين جدا ،ولكنهم يأتون في النهاية ،إن الضوء يمتد من الجيران إلى الجيران ،وسيحدث انفجار ثوري عظيم في أول
فرصة ،وعقبه هياج نادر ،يا لسعادة الشباب ألنهم سيشاهدون أشياء بديعية وجميلة" .وأشار كوندورسي إلى أن التقدم قد
يسير بخطى بطيئة أو حثيثة ،لكنه في الحالتين حقيقة أكيدة .وكان يعني بذلك حتمية تراجع عدم المساواة بين الناس ،وأضاف
بنبرة تفاؤلية أن إفريقيا ستدخل طور حضارة تعتمد على الزراعة المستقرة ،وأن الشرق سيشهد تشريعات حرة ،ومن ثم فإن
شمس الحرية ما تلبث أن تشرق على الناس في كل مكان ،إال أن الفاييت كان أكثر واقعية عندما ربط الحرية باإلرادة ،موضحا
أن األمة إذا كانت تتطلع إلى الحرية فعليها أن تريدها وتصمم على نيلها.
وتراجع نفوذ سفاسطة السلطة في مواجهة فالسفة التجديد ،لقد أوجز جاك روسو احتجاجه على االستبداد بقوله في مقدمة
"العقد االجتماعي" :ولد اإلنسان حرا ومع ذلك فهو مقيد باألغالل من كل جانب .لقد كانت األفكار تزخر بالنار ،وهذا
طوماسبين يصيح مجاهدا في سبيل الحق" :حيث ال حرية فذاك وطني" ،وهو شعار كان يعني به الدفاع عن استقالل الشعوب
ضد القهر والطغيان .وفي رده ع لى إدمون بيرك الذي هاجم الثورة الفرنسية وانتقص من شأنها ،دافع طوماسبين بقوة عن
حرية إرادة الشعب حتى ولو ارتضى هذا الشعب لنفسه أن يبقى سجينا للعبودية .وقال في معرض تطرقه لنتائج الثورة
اإلنجليزية لسنة ،1688إن الذين ارتضوا أن ينزلقوا عن حقوقهم خضوعا للملك وليام وورثته كان من حقهم وهم أحياء أن
يختاروا حتى أن يكونوا عبيدا ،لكن هذا ال ينقص من حق أبنائهم مثقال ذرة في أن يكونوا أحرارا ،معبرا عن ذلك بقوله البليغ:
"ليس للخطأ ساللة شرعية"...
ارتقت مبادئ الحرية والمساواة واإلخاء إلى أهداف حقيقية ،لكن تحقيق مثل هذه األهداف يصعب على العقل إنجازه ،وهي
أهداف يستعصي تحديدها على وجه الدقة .لقد أراد توركو وكوندروسي وميرابو وغيرهم من أتباع فولتير القيام بثورة سلمية،
لكنها لم تحظ بقبول المقهورين الذين كانوا يطالبون بالمساواة أكثر من مطالبتهم بالحرية ،وهو شيء صعب المنال " :أولئك
الذين ينادون بالمساواة بين الناس يقولون صدقا لوعنوا بقولهم مساواة الناس في الحرية والفرصة وامتالك األشياء وحماية
القانون ،ولكن المساواة أكثر األشياء طبيعية وأكثرها خياال ووهما في الوقت ذاته ،فهي طبيعية إذا اقتصرت على الحقوق
وغير طبيعية إذا حاولت مساواة الناس في الحكم والسلطة واألمالك والمتاع ،ألن المواطنين ليسوا جميعهم على قدم المساواة
في القوة ،ولكن يمكن مساواتهم في الحرية ،هذه المساواة هي التي فاز بها الشعب اإلنجليزي .وكونك حرا يعني أال تكون
خاضعا لشيء سوى القانون" .وهكذا اتسع وتشعب نطاق هذه المفاهيم مع تطور مراحل الثورة نفسها ،ففي البداية مثال كانت
الحرية تعني تحقيق أمن الفرد في وجه سلطات الدولة ،وكان معنى المساواة هو المساواة بين أفراد المجتمع أمام القانون
وإلغاء االمتيازات ،وأما األخوة فقد كانت تعني تآخي أفراد األمة بهدف إعادة توحيد العناصر االجتماعية التي بعثرتها
االضطرابات .والسبب في عدم استقرار هذه المفاهيم واالنزالقات الخطيرة التي أدت إليها ،بما في ذلك اللجوء المفرط إلى
المقصلة ،يكمن على ما يبدو في تضارب القوة المحركة للثورة وما ينتج عن ديناميتها من مد وجزر .وفي ذلك يقول المؤرخ
جورج لفيفر" :إن ال ثورة الفرنسية تمثل أربع حركات ثورية متمايزة :ثورة أرستقراطية وثورة بورجوازية وثورة الفالحين
وثورة أهل المدن من موظفين وغيرهم من أصحاب المهن الحرة .وقد كان تالقي هذه القوى األربع هو الذي خلق الثورة
الكبرى ،كما أن افتراق هذه القوى أو حلولها في أوقات مختلفة هو الذي كان يعرقل سير الثورة أو يطيل أمدها" .ويبقى من
المؤكد أن هذه المبادئ بالرغم من ضبابية مفاهيمها واإلشكاليات التي تطرحها ،قد وضعت األسس الصلبة لدولة الحق
والقانون ،وليس من قبيل الصدفة أن يقول مورا" :أساس كل حكومة حرة هو عدم خضوع أي شعب ألي شعب آخر قانونا،
وال ألي قانون عدا القانون الذي اختاره هو لنفسه ،والتمتع بالسيادة التامة في بالده واالستقالل التام من أية سلطة بشرية
مفروضة عليه".
في صباح 27غشت 1789وبعد ليلة من النقاشات الحادة في الجمعية الوطنية ،أعلن الماركيز الفاييت البيان العام لحقوق
اإلنسان والمواطن الذي يجب أن يتخذ كقاعدة للدستور ،وجاء في مقدمته االعتبارات التالية " :إن ممثلي الشعب الفرنسي
المكونين للجمعية الوطنية يعتبرون جهل حقوق اإلنسان أو نسيانها أو ازدراءها هي األسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد
الحكومات ،لذا فإنهم عقدوا العزم على عرض حقوق اإلنسان الطبيعية المقدسة التي ال يمكن التنازل عنها ،ضمن إعالن
رسمي حتى يبقى هذا اإلعالن حاضرا وبصورة دائمة أمام أفراد المجتمع مذكرا إياهم باستمرار حقوقهم وواجباتهم ،ولكي
تكون أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية ،وبمقارنتها في كل لح ظة مع هدف كل مؤسسة سياسية ،أكثر احتراما لها ،وذلك
من أجل أن ترتكز مطالب المواطنين ،من اآلن فصاعدا ،على مبادئ بسيطة وغير متنازع بشأنها ،تتمحور دائما حول الحفاظ
على الدستور وسعادة الجميع" .وبالمقارنة مع الثورة اإلنجليزية فإن إعالن الحقوق في البرلمان اإلنجليزي كان مقتصرا على
التعبير عن حقوق اإلنسان اإلنجليزي القانونية والتاريخية ضد العرش ،وكأنه عبارة عن جملة من المطالب النقابية ،بينما
اإلعالن الفرنسي لحقوق اإلنسان كان قائما على مبادئ عامة من السهل تعميمها على سائر شعوب العالم.
ومهما يكن من أمر ،فإن الثورة الفر نسية أضحت نقطة تحول عميق في التاريخ السياسي للعالم الحديث ،ولم تؤثر على شكل
ومحتوى األنظمة السياسية المعاصرة فحسب ،بل أحدثت تغييرا جوهريا في تشكيل ثقافة اإلنسان الغربي ،وكان لها الفضل في
إعطاء الدفعة الحاسمة لظهور سلطة من نوع جديد :إنها سلطة الرأي العام .لقد سجلت الثورة الفرنسية بحق منعطفا من
األهمية بمكان في مسيرة الفكر اإلنساني قاطبة.
مرجعيات الفلسفة الغربية .. -19-نظرية العقد االجتماعي لروسو
ا
-19/28نـظــرية الـعقـد االجـتمــاعي لـروسـو
ساهمت كتابات جون جاك لروسو ،وبصفة خاصة مؤلفه" العقد االجتماعي" في إذكاء نار الثورة الفرنسية .وتجلى تأثيرها
بشكل واضح على دكتاتورية اليعاقبة ،إلى درجة أن روبسبيير كان يعتبر روسو المرجعية التي ما بعدها مرجعية ،فهو بالنسبة
إليه " الصديق الحقيقي للجنس البشري" و" عبقري الحرية".
وقد كان تأكيد أطروحات روسو ل مبدأ سيادة اإلرادة الشعبية السبب الرئيسي في هذا التأثير ،كما كان لنقده الالذع بصدد
الالمساواة الوقع الحاسم لدى الفاعلين السياسيين الثوريين الذين اعتبروا أنفسهم المدافعين الحقيقيين عن الطبقات
المحرومة ،بحيث أن تأثير روسو لم يتوقف عند مجرد أفكار سياسية واجتم اعية مذهبية ،بل كان ينعكس كذلك على مستوى
القرارات والمراسيم التي كانت تصدر عن حكومة اليعاقبة بزعامة روبسبيير " النزيه " كما كان سكان باريس يلقبونه إلى أن
تم إعدامه سنة .1794
وهكذا فقد أخذ اليعاقبة عن روسو اآلراء التي تبرر مبدأ المصادقة على القوانين باالقتراع الشعبي ،وانتخاب الحكام والوالة،
والدكتاتورية الثورية .كما وجدوا في النظرية الروسية المؤيدة لحق الدولة األسمى في أمالك المواطنين تبريرا لمكافحة
االحتكار والمضاربة ،وتحديد األسعار من قبل الدولة ،وإحداث القروض القسرية.
وتجدر اإلشارة على أن أهمية فلس فة روسو االجتماعية ال تكمن في الدور الذي لعبته خالل الثورة الفرنسية فحسب ،بل
اتسعت دائرة تأثيراتها لتطال تيارات الفكر االجتماعي والسياسي التي ميزت نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن الموالي،
وكثيرا ما يثار الفكر الروسي اليوم بخلفيته اإلصالحية حتى وإن كانت الرومنسية هي سمته الطاغية.
صدر كتاب " العقد االجتماعي " لروسو سنة ،1762وقبله بعشر سنوات تقريبا نشر روسو كتابا تحت عنوان " مقالة في
أصل الالمساواة بين البشر" الذي كان بمثابة الحجر األساسي في بناء نظرية فلسفته االجتماعية ،تلك النظرية التي اتخذت
من "الحالة الطبيعية" فرضيتها العامة .وال يعتبر روسو هذه الحالة الطبيعية من قبيل الحقائق التاريخية ،بل يشك في
وجودها أصال ،وما هي في نظره إال فرضية يعتبرها مالئمة لتقييم وضع المجتمع البشري في القرن الثامن عشر.
ويقول بهذا الصدد ":يتضح لنا من قراءة الكتاب المقدس أن اإلنسان األول ،الذي تلقى على الفور من هللا العلم واألخالق ،لم
يعرف تلك الحالة إطالقا ،وإذا ما صدقنا كتابات موسى ،وهذا أمر واجب على كل فيلسوف مسيحي ،تحتم علينا أن ننفي أن
يكون البشر قد وجدوا أنفسهم في الحالة الطبيعي ة الخالصة حتى قبل الطوفان ،إن الدين يأمر باإليمان بأن هللا هو الذي أخرج
البشر من حالة طبيعتهم األولى ،فإذا جاءوا غير متساوين فألنه شاء ذلك ،لكنه ال يمنعنا من إطالق التخمينات ،المستوحاة من
طبيعة اإلنسان والكائنات التي تحيط به حول ما كان سيؤول إليه الجنس البشري فيما لو ترك أمره لنفسه" .لعل تحفظات
روسو كانت تمليها االنتقادات المحتملة لعلماء الالهوت ،ألنه فيما يخص الدين المسيحي تحديدا لم تكن له مواقف من شأن
الكنيسة أن ترتاح إليها هذه األخيرة ،فلقد جاء في فصل من فصول "العقد االجتماعي" االعتماد على دوافع دينية لضمان
استمرارية الدولة ،والقوة التي تستمدها القوانين من ذاتها غير كافية طالما لم تدعمها قوة الدين .ويؤكد روسو أنه "ما من
دولة قامت إال وكان الدين أساسها " .لكنه يضيف أن المسيحية ليس في وسعها أن تكون ذلك الدين ،ألنها في نظره تضر
بالنظام الدستوري لكونها تفرض ع لى البشر واجبات متناقضة تجاه سلطتين واحدة روحية واألخرى زمنية .وهذا في نظره ما
يسبب في تحطيم الوحدة االجتماعية ،وأما الروح االجتماعية فإنها تتعارض كذلك مع ما يسمى بالمسيحية اإلنجيلية الصافية،
وفي ذلك قوله ":إن المجتمع المكون من مسيحيين حقيقيين لن يكون مجتمعا بشريا" .وطن اإلنسان المسيحي ليس في نظره
على هذه األرض ،وبالتالي فإن "الجمهورية المسيحية" من مستحيالت األمور .وعوض المسيحية يتحدث روسو عن
ضرورة اعتماد "دين مدني" أو "دين طبيعي" تحظى عقائده باهتمام الدولة نظرا لما له من عالقة بأخالق المواطنين
وواجباتهم ،و هي عقائد بسيطة يلخصها روسو في وجود األلوهية الكلية القديرة ،الذكية ،الحكيمة ،البصيرة ،والحياة اآلخرة،
والسعادة للمقسطين ،والعقاب لألشرار ،وقدسية العقد االجتماعي والقوانين .ويبقى من صالحيات الدولة أن تنفي خارجها كل
مواطن ال يلتزم بهذه التعاليم ال لكونه كافر ا وإنما لكونه ال يصلح للحياة االجتماعية .ولكن المواطن الذي يعلن صراحة إيمانه
بهذه التعاليم وبعد ذلك يتصرف كالملحد ،فإن للدولة الحق في إعدامه ألنه كذب أمام القانون.
وبالرجوع إلى فرضية "الحالة الطبيعية" فإن روسو يرى أن هناك مبدأين يسبقان ظهور العقل عند اإلنسان الطبيعي ،هما
غريزة البقاء والرأفة :غريزة البقاء تحتم على اإلنسان االهتمام بوسائل عيشه وتحسينها في الوقت الذي تدفعه غريزة الرأفة
إلى اإلحساس بفظاعة آالم الموت للكائنات الحية وخاصة البشرية منها .وعلى هذين المبدأين تتأسس قواعد القانون الطبيعي.
لهذا فإن الب شر في الحالة الطبيعية ليسوا بالصالحين وال باألشرار حيث ال تجمع بينهم أية عالقات أخالقية أو واجبات
مشتركة ،وهنا يتعارض روسو مع هوبز الذي يعتبر اإلنسان البدائي شريرا وفاسدا .ويرى روسو أن الرأفة التي سبقت
محاوالت التفكير األولى كانت تلعب في الحالة الطبيعية دو ر القوانين ،واألخالق ،والفضيلة .وهي بذلك كانت تخفف من حدة
نزوات األنانية اإلنسانية ،فالمشاجرات بصدد المجال الطبيعي أو االستحواذ على األنثى كانت نادرة للغاية عند المتوحشين
الذين يعتبرهم روسو سعداء على مرور تعاقب أجيالهم ،ألنهم كانوا يجهلون الحياة االجتماعية ،والملكية ،واألسرة .كانوا
ينعمون باالستقرار الدائم وكادت الالمساواة تنعدم فيما بينهم ،إال أن تظافر علل وظروف خارجية هو الذي أدى إلى خروج
اإلنسان من الحياة الطبيعية في نظره.
اكتشف اإلنسان النار بمجرد الصدفة ،مما ساعد على شحذ حس المالحظة عنده ،وأخذت مداركه تتكون تدريجيا ،فظهرت
اللغة ،وبدأ العقل البشري في تحسين أدائه في تعامله مع الطبيعة ،وطور الفأس الحجرية ،وبنى مسكنه األول ،وظهرت
األسرة ومعها عناصر الملكية األولى ،وتوفرت إذن العوامل الموضوعية لبناء الحياة االجتماعية .وهنا يبدي روسو تشاؤمه
بالنسبة لمستقبل اإلنسانية ":إن أوجه التقدم الالحق ،التي بدت في ظاهرها وكأنها خطوات على طريق كمال الفرد ،لم تكن في
الواقع إال خطوات على طريق انحطاط النوع" .إنها مصادفة مشؤومة في نظره ما كان لها أن تقع ،فالظروف الخارجية كان
من الممكن أن تكون وأ ال تكون في هذه الحقبة من الزمان أو تلك .و اآلن و قد انخرط اإلنسان في بناء نظامه االجتماعي إلى
حد أن هذا االنخراط أضحى من مقومات طبيعته البشرية ،ها هو عصر البؤس والشقاء قد بدأ ":لقد عاش البشر أحرارا،
وأصحاء ،وصالحين ،وسعداء طالما قنعوا بكوخهم البسيط ،واكتفوا بلبس الجلود ثيابا وبالريش واألصداف زينة ،وانصرفوا
إلى تجويد أقواسهم ونبالهم ،وإلى تشذيب األشجار باألحجار القاطعة لصنع زوارق للصيد ،وبفنون ال يستوجب مشاركة كثرة
من األيدي ،لكن ما إن راودت اإلنسان حاجة إلى أن يؤازره آخر ،وما إن أدرك الفرد الواحد فوائد جمع المؤن إلثنين ،حتى
اختفت المساواة ،وظهرت الملكية ،وغدا العمل ضروريا ،وتحولت الغابات الشاسعة إلى حقول غناء كان على اإلنسان أن
يرويها بعرقه ّ ،وسرعان ما نبتت فيها العبودية والشقاء والبؤس جنبا إلى جنب مع المحاصيل الزراعية ".
ويعتبر روسو الملكية العقارية كالخطوة األولى التي قطعها الجنس البشري نحو االنحطاط والدمار" :إن أول من سيج أرضا
وقال هذا ملك لي ،ووجد أناسا سذجا بما فيه الكفاية ليصدقوا قوله ،هو المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني .وكم من جرائم،
وحروب ،واغتياالت ،ومصائب ،وفظائع كان سيوفرها على الجنس البشري ذلك الذي كان عليه أن يقوم بنزع األوتاد أو ردم
الهوة الفاصلة بين أرض وأخرى ،صارخا في وجه أقرانه بقوله :حذار من اإلصغاء إلى هذا المحتال ،فلسوف يكون مآلكم إلى
الهالك إن نسيتم أن الثمار للجميع وأن األرض ليست ألحد " .وليس في نظرية روسو ما يوحي بميله إلى اعتبار الملكية
كعنصر ضمن عناصر القانون الطبيعي ،بل كانت في نظره مؤسسة تاريخية وعامال سلبيا في تاريخ البشرية ،ألنها مصدر
لصراع المصالح والالمساواة والشقاء والعبودية ،بيد أنه كان يميز بين الالمساواة الطبيعية الناتجة عن الوالدة ،والالمساواة
االجتماعية التي أقامها البشر أنفس هم والتي نجمت عنها عالقات السيطرة واالستعباد ،والعنف والنهب .وما دام من شيم
اإلنسان التضحية بسعادة فعلية ولو في سبيل سالم وهمي ،فإن تأسيس ملكية األرض هو الذي قاده إلى اعتماد ميثاق
اجتماعي ،وإنشاء سلطة عامة ووضع قوانين ،مما أضفى في النهاية صفة القدسية على الملكية ،وأفضى بالتالي إلى ترسيخ
مبدأ اإلرادة الشعبية كأساس الختيار من ينوب عن الشعب في تدبير الشأن العام ،وكل استبداد هو تحريف للعقد االجتماعي،
لذلك يقول روسو " :إن الشعوب قد نصبت عليها قادة ليدافعوا عن حريتها ال ليستعبدوها " .وهكذا حال تشكيل المجتمع
المدن ي دون هالك البشرية ،فما خسره اإلنسان هو حريته الطبيعية وما ربحه هو حريته المدنية ،ويمكن تلخيص جوهر" العقد
االجتماعي" في هذه العبارة " :يضع كل واحد منا شخصه وكامل طاقته تحت اإلمرة العليا لإلرادة العامة ،ويعامل كل عضو
على أنه جزء ال يتجزأ من الكل" .واإلرادة العامة في النظرية الروسية مستقيمة على الدوام وتهدف بطبيعتها إلى المصلحة
العامة.
لقد وصف الكونت دوسانجرمان ،المعروف بإصالحاته العسكرية الجريئة ،الجيش وصفا يعكس صورة سلبية تماما" :إننا
نتطلع إلى تشكيل جيش مكون من رجال يحظون بالثقة ،يتم اختيارهم من بين العناصر الممتازة ،ولكن هل يجب أن نهدم
الوطن من أجل تشكيل الجيش من عناصر ممتازة؟
في الظروف الراهنة ال يمكن تشكيل الجيوش إال من حثالة المجتمع ومن عناصره غير النافعة ،بعد ذلك سيكون على النظام
التأديبي العسكري أن يتولى تطهير هذه الكتلة الفاسدة بهدف استخراج شيء نافع من هذا العجين" .وعموما لم تكن الحروب
تخلف أعدادا ضخمة من القتلى والمعطوبين ،كما أنها لم تكن تحدث دمارا ماديا واسع االنتشار .لهذا لم يكن الناس يعتبرونها
بمثابة كوارث.
عقد عدد من المفكرين آماال عريضة على حكمة الملوك وعلى مبدأ احترام العقود كعاملين أساسيين يحوالن دون اشتعال
الحروب ويدعمان إقامة سالم دائم بين الدول .لكن هذا التيار السلمي لم يكن ترجمة لشعور شعبي عام ومتجذر ،سيما وأن
الرأي العام بمفهومه المعاصر لم يتطور بعد ،والمجتمعات األوربية كانت في واقع أمرها مسيرة من طرف نخب أرستقراطية.
ومن ناحية أخرى يبدو أن آراء بعض المفكرين حول السالم كانت مقتصرة على المجال األوربي دون غيره ،وهكذا لم يتردد
الفيلسوف ليبنتس في توجيه النصيحة إلى الملك لويس الرابع عشر وحثه على غزو بالد الشرق ومصر على وجه الخصوص.
وفي سنة 1693أصدر وليامبين كتابه "دراسة في السالم األوربي اآلني والمستقبلي" .وكان يدعو فيه إلى عدم اللجوء إلى
استعمال القوة كمبدأ يجب على المسيحيين التمسك به ،كما حث على تقليص حجم األسلحة الموجودة آنذاك ،وكانت مجمل
أرائه قريبة من أفكار الفيلسوف سبينوزا الذي قال" :السالم ليس هو غياب الحرب ولكنه فضيلة نابعة من قوة الروح" .وفي
سنة 1713أصدر دوسانبيير كتابه "مشروع من أجل إحالل سالم دائم في أوربا".
ولم يكن صدور هذا المشروع بدافع من اعتبارات دينية عامة أو مذهبية عقائدية خاصة ،وإنما كان بإيحاء من الملك هنري
الرابع الذي كان يخطط لتحقيق توازن أوربي ،وذلك عبر إحداث نوع من "التحالف المقدس" بين ملوك أوربا ،تكون الغاية
منه هي الحفاظ على الوضع القائم فيما يتعلق بالحدود اإلقليمية .وكان هذا المشروع عبارة عن نظرة إصالحية تميزها روح
اإلنسية النفعية.
وانكب عدد آخر من المفكرين على البحث عن وسائل قمينة بإلغاء الحروب وإقامة سالم دائم بين الشعوب ،فكتب روسو
مقالة بعنوان "السالم الدائم" يدعو فيها إلى أخوة أوربية تستهدف تحقيق ذلك السالم ،وتقي الناس شر الحروب .وطلب من
مل وك أوربا أن يؤلفوا حلفا أخويا قويا ،يلتزم بموجبه كل األعضاء بالوقوف إلى جانب من كان منهم عرضة لغارة على حقوقه
وأراضيه.
وكان روسو في "العقد االجتماعي" قد حث على احترام االختالف .فالحرية والمساواة هما بالنسبة له المبدآن الموجهان
للتشريع الصالح ،إال أن ذلك ال يعني أن يفرض هذا البلد أو ذاك تشريعاته على اآلخر ،ألن القوانين يجب أن تتكيف مع
الظروف المحلية وخصائص سكان كل بلد على حدة ،وإذا كانت هناك مبادئ عامة مشتركة بين الجميع ،فإن كل نظام تشريعي
ينطوي على مجموعة من الضوابط والمعايير الخاصة بهذا الشعب وال تصلح لغيره .ويعطي روسو أمثلة على سبيل المقارنة
مقتفيا أثر مونتيسكيو ،حيث بدا له أن تشريع العبرانيين والعرب كان يتميز بتركيزه على الدين ،في حين أن تشريع قرطاجة
كان يتمحور حول التجارة ،وتشريع روما حول الفضيلة .لقد كانت آراء روسو في السالم تدور أساسا حول واقع المجتمعات
األوربية دون غيرها.
وكتب كانط عام " 1795المشروع الفلسفي للسالم الدائم" وأظهر فيه استخفافه بالتوازن األوربي الوارد في وثيقة
دوسانبيير ،وعبر كانط بكل وضوح عن فكرة مؤداها أن السالم ليس قضية ملوك وإنما هو قضية شعوب ،واعتبر الحرب
كتدخل غير مقبول في شؤون بلد م ستقل .لقد اتخذ كانط موقفا معارضا للتجنيد اإلجباري ،وأكد على أن إعالن الحرب ال يجب
أن يتم إال بموافقة الشعب .ومن أجل وضع حد للحروب اقترح كانط خطة من ثالث نقاط:
– 1العمل على تنمية التجارة ،مما يدفع الشعوب لالنخراط إن عاجال أم آجال في تطوير هذه الحركة المنافية بطبيعتها
للحرب .وتجدر اإلشارة إلى أن هذه الفكرة بالضبط تبنتها البورجوازية الليبرالية في القرن التاسع عشر ،ولكن كوسيلة لتطوير
الرأسمالية أكثر منها كهدف إليقاف الحروب والنزاعات الدموية.
-2نشر األخالق الديمقراطية :يعتقد كانط أن السالم فضيلة أخالقية ولكنها فضيلة الشعوب وليست فضيلة الملوك ،بمعنى أن
األنظمة الملكية في نظره تشكل خطرا على السالم.
-3العالنية أو ما نسميه اليوم بالشفافية :يعلل كانط تأكيده على إدراج هذه النقطة في خطته المقترحة بأن سرية المفاوضات
هي من العوامل المشجعة على اندالع الحروب ،ويرى أن سياسة األنظمة الديمقراطية المعتمدة على الوضوح والمنافية
للتعتيم اإلعالمي هي سياسة ال شك في كونها تدعم السالم.
لقد أبان كانط عن جرأة نادرة ووضوح في منتهى الصراحة ،فلم يرفع صوته من أجل وقف السباق نحو التسلح فحسب ،بل
نادى بتصفية الجيوش وإلغائها ،وربط هذا المشر وع بتحضير الشعوب بمفهومه الصحيح ،وأنحى بالالئمة على الحكام قائال:
"إن حكامنا ال يملكون المال لإلنفاق على تعليم الشعب وتثقيفه ألنهم حولوا كل مواردهم المالية في االستعداد للحرب
القادمة".
ويرى كانط أن هذه النزعة العسكرية المتنامية سببها التوسع األوربي في أمريكا وإفريقيا وأسيا ،ذلك التوسع الذي ال يغديه
في الحقيقة سوى اللصوصية األوربية وما يترتب عنها من صراعات السلب والنهب .وإنه سباق من أجل الحصول على المزيد
من الغنائم ونشر المزيد من الظلم والفساد واستباحة دماء األبرياء ،وفي ذلك يقول " :إن سلوك هذه الدول المشين والبعيد
عن اإلنسانية ،وأخص بالذكر الدول التجارية في قارتنا األوربية والمظالم التي ترتكبها في حق شعوب البلدان األجنبية ،يمأل
نفوسنا بالرعب.
إن مجرد زيارة هذه الدول لتلك الشعوب تعتبر كافية لغزوها .فقد اعتبرت الدول األوربية االستعمارية البالد التي اكتشفتها
كأ مريكا وبلدان الزنوج وجزر التوابل ،ورأس الرجاء الصالح وغيرها من البلدان مباحة ال تخص أحدا .ولم تقم وزنا لسكانها
األصليين .وقد وقع هذا كله من أمم مألت العالم ضجيجا ولغطا بتقواها وورعها.
وفي الوقت الذي تسقى فيه هذه األمم الظلم كالماء ،تعتبر نفسها صفوة الدين وشعب هللا المختار" .ومن هنا كان كانط يشدد
على أال تعلن الحرب إال باستفتاء جميع المواطنين "إننا – كما يقول كانط – إذا خيرنا الذين تقع عليهم أعباء الحرب ويكتوون
بنارها بين السلم والحرب ،فإنهم سيختارون السلم حتما ،وبذلك لن يعود التاريخ يسطر بالدماء".
وعموما ،لم تكن فكرة مجتمع أممي أو دولي قد تبلورت بعد ،وربما مرد ذلك إلى ضبابية مفهوم "األمة" نفسه .فال كتاب
"روح القوانين" لمنتيسكيو ،وال "المعجم الفلسفي" لفولتير ،وال مراجع أخرى كانت تحتوي على تعريف لكلمة "أمة " كما
جاءت في المعجم السياسي الحالي .هذا مع العلم أن الثورة الفرنسية قدمت تعريفا لكلمة "وطن" على لسان أحد مؤسسي تيار
اليعاقبة كان يدعى سياييس :الوطن هو ذلك القانون المشترك وتلك التمثيلية المشتركة.
مرجعيات الفلسفة الغربية - 21 -رسالة سبينوزا والهرطقة واللعنة
تأثرت فلسفة سبينوزا بالروافد اليهودية للثقافة األندلسية المتمثلة في مؤلفات موسى بن ميمون وابن جبرول والتي كانت
بدورها متأثرة بالفلسفة اإلسالمية ،غير أن تأثير الديكارتية عليها كان أكبر ،إال أن سبينوزا بدأ تفكيره الفلسفي من حيث
انتهى ديكارت.
فبينما تبدأ فلسفة ديكارت بالعقل في الذات الفردية وتنطلق من العبارة المشهورة "أنا أفكر إذن أنا موجود" لتصل إلى فكرة
هللا ،فإن فلسفة سبينوزا على عكس ذلك تنطلق من فكرة هللا ،وهذه النقطة بالضبط هي التي عبر عنها سبينوزا كمؤاخذة على
كل الفالسفة الذين لم يعملوا بنهجه ،وقال " :إنهم لم يتبعوا الترتيب المطلوب من أجل التفلسف.
لقد اعتقدوا أن الطبيعة اإللهية تعرف في اَخر األمر ،وأن األمور المحسوسة تأتي في أول األمر مع أنه كان ينبغي عليهم أن
يبدؤوا بتأمل الطبيعة اإللهية قبل غيرها ألنها هي األولى سواء من وجهة نظر المعرفة أو من حيث الطبيعة .ثم إنهم لما
اعتقدوا بهذه الطبيعة اإللهية كان من المستحيل عليهم أن يفكروا في األوهام األولى التي أقاموا عليها معرفة األمور الطبيعية
ألنها كانت بغير فائدة لمعرفة الطبيعة اإللهية".
ليست البداية إذن من الكوجيتو الديكارتية وإنما من هللا أو الجوهر بتعبير سبينوزا" :الجوهر ما هو في ذاته ويدرك بذاته
وأعني بذلك أن تصوره ال يتوقف عند تصور شيء اَخر يتكون منه بالضرورة" .وهللا والطبيعة شيء واحد في فلسفة سبينوزا
مهما قد يوحي ذلك بميله إلى المادية المحضة.
ويعتبر سبينوزا وجود العالم جبر يا وليس مقصودا أو له غرض معين ،فالعالم مسير بطريقة حتمية ،ونظرا ألن اإلنسان
يتصرف وفق غايات واعية لذلك تراه يفترض أن جميع األحداث لها مثل هذه الغايات ومتصلة بحاجاته كإنسان ،وهذا ما
اعتبره سبينوزا مجرد وهم .وأما الخير والشر أو القبح والجمال فهما أمران اعتباريان يعودان إلى أذواق البشر ،وليست لهما
حقيقة ثابتة ،وهو يقول في ذلك" :إنني ال أعزو إلى الطبيعة جماال أو قبحا وال نظاما أو اضطرابا ،واألشياء توصف بالجمال
أو القبح والنظام أو عدمه بالنسبة إلى مداركنا وتصورنا فقط".
والتساؤالت التي يطرحها سبينوزا من أجل الوصو ل إلى حقيقة معرفية هي :كيف أعرف أن معرفتي هي المعرفة الحقة؟ وهل
من الممكن الوثوق بحواسي فيما تنقل إلى ذهني من المحسوسات؟ وهل من الممكن االعتماد على عقلي بالنتائج التي
يستمدها من األحاسيس التي تقدمها له الحواس؟ أليس من الواجب أن أبذل ما في وسعي إلصالحها؟
الهرطقة واللعنة
ينحدر سبينوزا من أصول يهودية استقرت في هولندا ،ولما سطع نجمه الفلسفي ظهر أن استقالله الفكري كان ينأى به عن
تعاليم اليهودية ،فاستهدفته الرقابة واستهدفه االضطهاد ،بحيث لم يتم نشر كتابه األساسي "األخالق" إال بعد موته سنة
.1677وأما الكتب األخرى التي نشرها وهو على قيد الحياة فكانت هي " مبادئ الفلسفة الديكارتية" و "رسالة في الدين"
التي ما إن ظهرت سنة 1670حتى وضعت فورا في القائمة السوداء وحظرت الحكومة بيعها لكن تم تداولها تحت عناوين
مختلفة تضليال للرقابة ،وقد سبق لرجال الكنيس اليهودي أن استدعوا سبينوزا عام 1695متهمين إياه بالهرطقة ،وجاء قرار
أعضاء المجلس اليهودي بإنزال اللعنة والحرمان بالمدعو سبينوزا وفصله عن شعب إسرائيل ":وليكن مغضوبا وملعونا،
ليال ونهارا ،وفي نومه وصبحه ،ملعونا في ذهابه وإيابه ،وخروجه ودخوله ،ونرجو هللا أن ال يشمله بعفوه أبدا ،وأن ينزل
عليه غضب هللا وسخطه دائما ،ويحمله جميع اللعنات المدونة في سفر التشريع .ونسأل هللا أن يخلص أولى الطاعة منكم
وينقذكم .وأال يعيش أحد معه تحت سقف واحد ،وأال يقترب أحد منه على مسافة أربعة أذرع .وأال يقرأ أحد شيئا جرى به قلمه
أو أمال ه لسانه".
لم يكن سبينوزا يفرق بين التوراة واإلنجيل ،فبالنسبة إليه اليهودية والمسيحية دين واحد ،ويستغرب كيف استولى الحقد
وعمت البغضاء صفوف اليهود والمسيحيين ،في وقت تدعو فيه المسيحية مثال إلى السعادة واالعتدال واإلحسان إلى جميع
الناس .ويرى من وجهة نظر أخرى أن سر احتفاظ اليه ود ببقائهم يكمن إلى حد كبير في مدى كراهية المسحيين لهم ،وأن
االضطهاد الذي تعرضوا له كان دافعا إلى وحدتهم وتماسكهم ،وال يرى مانعا في دمج اليهود مع الشعوب األوربية بعد إزالة
هذه الخالفات العقائدية ،خاصة منها تلك المتعلقة بطبعة المسيح ،إنه ال يعترف بتأليه المسيح.
كما يرى سبينوزا أن الكتاب المقدس ال يستهدف مخاطبة العقل وإقناعه ،وإنما يرمى إلى إثارة الخيال وجذبه والسيطرة
عليه ،لذلك يتعدد فيه ذكر المعجزات ،مما يستهوي عقلية الجماهير ويتناسب معها .وهذا بالطبع يتنافى مع المفهوم
السبينوزي للعقل الذي يؤكد أن العقل ليس وكالة للبيع تتجر باألفكار ،لكنه هو األفكار نفسها في سيرها وتسلسلها .وكان من
الواضح أن فلسفة سبينوزا السياسية تنطلق من حياة اإلنسان البدائية قبل ظهور المجتمعات ،حين كان الناس يعيشون في
فوضى بغير قانون أو نظام اجتماعي ،وكانت لديهم مفاهيم الصواب والخطأ أو ال عدل والظلم منعدمة تماما ،بينما كانت القوة
هي الحق .وكان الفكر السياسي اَخر ما انصرفت إليه كتابات سبينوزا.
يؤيد سبينوزا النظام الديمقراطي ويعتقد أن الناس لم يولدوا مواطنين اجتماعيين ،لذلك وجب تدريبهم و إعدادهم إلقامة
مجتمع يت اح فيه تبادل المساعدات وضمان األمن ،واإلنسان ليس خيرا وصالحا كما عبر عن ذلك روسو في "العقد
االجتماعي" وإنما كان مجبرا على التنازل عن أعمال العنف مقابل تنازل اآلخرين عن أعمال العنف ،لهذا فالقانون ضروري
للحد من أهواء الناس وكبح عواطفهم األنانية ،وإقامة النظام بين الناس يجب أن تكون مستندة إلى العقل وليس إلى الرغبات،
وهنا تتدخل الدول بقوة اإلكراه ،لكن ليس هدفها هو تقليص قوة مواطنيها ،اللهم إال إذا كانت هذه القوة تلحق الضرر بأفراد
المجتمع .وتبقى وظيفة الدولة في توسيع الحريات وليس في تضييفها ،إذ الغاية هي تحرير اإلنسان من الخوف وتمكينه من
العيش في وئام مع جيرانه .ويوضح سبينوزا هذا بقوله" :إنني أكرر القول بأن الغاية من الدولة ليست تحويل الناس إلى
وحوش كاسرة واَالت صماء ،ولكن الغاية منها هي تمكين أجسامهم وعقولهم من العمل في أمن واطمئنان ،وأن ترشدهم إلى
حياة تسودها حرية الفكر والعقل ،كيال يبددوا قواهم في الكراهية والغضب والغدر بحيث ال يظلم بعضهم بعضا".
لكن ماذا يفعل الناس في حالة القوانين الجائزة التي تخنق الحريات؟ وما هو موقف الشعب إذا كانت الدولة مسخرة لمصلحة
الطبقة الحاكمة ،بحيث يسعى الحكام إلى االستئثار بالمناصب العليا وال يفسحون المجال لغيرهم للوصول إلى الحكم؟ كان
جواب سبينوزا جوابا محافظا بتأكيده على طاعة القوانين حتى ولو كانت جائرة وظالمة ،لكن شريطة أال تمنع الحكومة الناس
من حرية التعبير واالحتجاج للوصول إلى تغيير األوضاع بالطرق السلمية .فمن شأن حرية الكالم والنقد أن يؤدي في النهاية
إلى تغيير الفساد ،ويعترف سبينوزا بالمساوئ الناجمة عن حرية التعبير ،ولكنه يقر في نفس الوقت أن الناس غير معصومين
من األخطاء ،وأنه كيفما كان الحال فإن القوانين المقيدة لحرية التعبير والفكر تفسد كل قوانين الدولة ،وغالبا ما يؤدي هذا
الوضع إلى ثورة ،وكلما صعدت الحكومة من وتيرة مواجهتها لحرية التعبير كلما زاد عناد الشعب واشتدت مقاومته لها .إن
الناس بوجه عام ال يطيقون كبت آرائهم وال يعتبرون أنفسهم ملزمين باحترام القوانين في حالة كبت حرية التعبير .ونظرا
لكون الناس يختلفون في تفكيرهم فإن صوت األ كثرية هو القانون .وإذا كان يفهم من هذا الطرح تغليب النظام الديمقراطي
على سائر أشكال أنظمة الحكم األخرى فإن سبينوزا ال يستبعد ،في حالة فساد الديمقراطية ،تفضيل الناس لحكم الطاغية على
الفوضى في نهاية المطاف.
يعد فرانسوا كيسناي المؤسس للمذهب الفيزيوقراطي ،ومازال كتابه "الجدول االقتصادي" الصادر عام 1758يشكل محطة
هامة في تطور الفكر االقتصادي .وينطلق كيسناي من اعتبارات فلسفية وتحليالت اقتصادية فالحية تؤلف نظريته االجتماعية
التي أثارت اهتمام عدد من أنصاره فأغنوها بأفكارهم وتجاربهم اإلصالحية ،ويرى كيسناي أنه يجب على النظام االقتصادي أن
يخضع للقانون الطبيعي ،وما على المشرع إال االمتثال ألحكام هذا القانون السرمدي ،وكل تدخل للسلطة من أجل التأثير على
اإلنتاج والتوزيع يعد تعسفا ،وكان تعبير الفيزيوقراطيين بهذا الصدد يترجمه بكل وضوح شعارهم المعروف :دعه يعمل ،دعه
يمر .ومصدر الثورة عندهم هو األرض التي تعطي "ناتجا صافيا " يوزع على طبقات المجتمع الثالث :طبقة أصحاب األمالك
العقارية ،وطبقة المزارعين ال مستأجرين لألراضي الفالحية ،وطبقة غير منتجة تتكون من صناع وتجار .بمعنى أن طبقة
المزارعين هي وحدها الطبقة المنتجة ،وأما الطبقتان األخريان فتكتفيان بتحويل عناصر الثروة دون زيادة حجمها.
المذهب الفيزيوقراطي هو في الواقع عبارة عن مزيج من الليبرالية االقتصادية أو ما يسمى في هذا المذهب باالستبداد
المستنير .ويتمحور الفكر الفيزيوقراطي حول أربع نقاط هي :الطبيعة ،الحرية ،األرض ،ومفهوم استبداد القوانين .وفيما
يخص هذا المفهوم ،فإن الفيزيوقراطيين ينطلقون من موقف المؤيد للملكية المطلقة ،ويعتبرون أن دور الملك في هذا النظام
هو من البساطة بمكان ،بحيث يكفيه أن يترك األمور للقوانين ،وأن ال يتدخل إال نادرا ،وتعتبر نظريتهم السياسية نظرية
مناهضة لمبدأ المساواة ،كما أنها ال تعترف بأي دور للهيئات المؤطرة للمجتمع المدني.
ويرى كيسناي أن سيادة الملك يجب أن تكون هي السيادة الوحيدة التي يخضع لها جميع أفراد المجتمع وكل المصالح
الخاصة ،وتذهب النظرية الفيزيوقراطية إلى اعتبار أن الملكية العقارية هي الشكل الحقيقي للملكية ،وعليه فإن أصحاب العقار
هم المؤهلون إلدارة شؤون البالد بحكم امتالكهم لألرض.
وأما الحرية فهي موجودة أصال في القانون الطبيعي ،وليس أمام المشرع سوى االنصياع لمقتضيات هذا القانون .ومن
الناحية التنظيمية المتعلقة بإصالح الملكية العقارية ،طالب كيسناي بجمع األراضي المخصصة لزراعة الحبوب في إطار
مزارع كبرى يستثمرها فالحون أغنياء ،قائال" :ينبغي أن يكون سكان المملكة من المزارعين األغنياء" ،ويرى أن كثرة
المزارعين الصغار تلحق الضرر بالشعب ،كما دعا إلى توظيف الرساميل بكثافة في العالم القروي ،ولكن ليس بهدف إيجاد أو
تكريس توازن ديموغرافي معين ،أو بقصد القضاء على الفقر ،وإنما كان همه في إغناء األغنياء .وقال" :المطلوب هو
اجتذاب الثروات إلى األرياف ،ال الرجال ".
وقد تطورت هذه الفكرة عند كيسناي على مرحلتين ،ففي سنة 1747كان يرى أن حق الملكية مرتبط أساسا بفكرة الحفاظ
على الحياة البشرية التي تفترض مبدأ توزيع الملكية ،دون أن يشير ال من قريب وال من بعيد إلى مفهوم العمل ،حتى وإن
كانت فكرة لوك وإرادة عنده ،ومؤداها أن األرض كانت ستبقى غير مزروعة لوال الملكية.
ويقول كيسناي" :كل الناس لهم الحق في كل شيء بدون تمييز ،لكن النظام يحتم على كل إنسان أن يتنازل عن حقه العام
غير المحدود ألن حقه الفعلي تحدده الطبيعة بكمية الحاجات الضرورية لضمان بقائه .لذلك كان على الناس إما أن يختاروا
نمط عيش الحيوانات ،وفي هذه الحالة يستحوذ كل إنسان يوميا على الكمية التي يحتاجها ،وإما أن يتواضعوا على طريقة
للتوزيع تضمن لكل منهم كمية معينة".
وبعد مرور عشرين سن ة على هذا الطرح ،راجع كيسناي نفس الفكرة مدافعا عن حق الملكية ،ولكن أصبحت هذه المرة
مقترنة عنده بالعمل" :إن الحق الطبيعي لكل إنسان يقتصر في الواقع على الكمية التي يمكنه الحصول عليها عن طريق
العمل".
وال يرى كيسناي ضرورة تحديد الملكية ،وبالنسبة له تعد الالمساواة في الثروات مقبولة وبدون تقييد ،وذلك وفقا للقانون
الطبيعي" :إن هناك عددا ال يحصى من العوامل الطبيعية التي تعزز الالمساواة بشكل ضروري ال مفر منه.
وهذه العوامل ال تخضع بتاتا لنظام األخالق ،وإنما تندرج في نسق عام وشمولي وتعمل على ضمان البقاء بالمفهوم الكلي،
وتفاعالتها تحدث بناء على منظور وتصميم القوة الخارقة التي خلقت الكون ،كما أن أبناء البشر أنفسهم يساهمون في إفراز
هذه الالمساواة ،وهم ليسوا مسؤولين عن التعويض المتبادل للخسائر فيما بينهم ،خاصة إذا كانت هذه الخسائر ناجمة عن
سوء التصرف لحريتهم ".
وهكذا يخلص كيسناي إلى أن اإلنسان كان مجبرا على ترك الحالة الطبيعية ،حيث كانت الملكية محصورة في ثمار العمل،
ودخول الحياة االجتماعية التي ال تضع أي تقييد للملكية ،وهذا هو منبع الشعار الذي رفعته المدرسة الفيزيوقراطية "دعه
يعمل ،دعه يمر".
أول ما الحظه كيسناي هو دور رأس المال في تنمية الدخل القومي ،واتضحت له مدى األهمية التي تكتسيها القدرة التمويلية
فيما يخص اقتناء وسائل اإلنتاج ،وهذه الوسائل بالنسبة له تتجسد قبل كل شيء في الثيران والخيول التي تجر المحاريث
وتنتج السماد إلخصاب األرض ،مما يمكن من رفع المرد ودية ،كما تبين لكيسناي أنه كلما تمت زراعة األرض بعناية اعتمادا
على رأس مال مهم ،كلما وفرت لمالكها دخال أهم.
وكان يعتقد أن في الصناعة والتجارة ال يوجد دخل يمكن مقارنته بالدخل الذي تتيحه مردودية الملكية العقارية في المجال
الفالحي ،بمعنى أن التجارة والصناعة ك انتا تشكالن في نظره قطاعا عقيما ،وكان هذا هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه كيسناي
ومعه بقية الفيزيوقراطيين .إذ لم يكن قادرا على تحليل الدخل الذي يحققه صاحب العقار ليرى أن هذا الدخل ما هو في الحقيقة
إال اقتطاع من األرباح التي حققها مستأجر المزرعة ،وأن األرباح ليست محصورة في القطاع الفالحي ،بل يمكن تحقيقها كذلك
في الصناعة والتجارة.
بيد أن كيسناي نظر فعال إلى القطاع الصناعي فوجده آنذاك عبارة عن قطاع للصناعة التقليدية ،واألرباح فيه ضعيفة جدا
حتى أنها ال تكاد تتميز عن أجرة عمل الصانع التقليدي ،هذا فضال عن موقف كيسناي المعارض أصال للمركانتيلية التي ظهرت
على أنقاض النظام اإلقطاعي ،ونادت بتدعيم ثروة الدولة من خالل تنمية التجارة وتكديس المعادن الثمينة كالذهب .وقد كتب
كيسناي في هذا السياق ":إن ثروة البالد ال يمكن أن تتجلى في الكتلة النقدية وال يمكن معرفة إيجابية التجارة وال الوضع
االقتصادي لبلد ما من خالل ميزانه التجاري".
صحيح أن كيسناي لم يكن يجهل الفرق الحاصل بين فائدة األشياء المرتبطة بعناصرها المادية من جهة ،وقيمتها التبادلية
التي هي من إنتاج المجتمع من جهة أخرى .لكنه لم يفهم أن وحدها القيمة التبادلية كانت موضوع االقتصاد السياسي،
وبالتالي فإنه لم يخصص تحليال مستفيضا لمسألة القيمة .الفيزيوقراطيون بصفة عامة لم يطوروا تصورا لرأس المال أبعد من
عناصره المادية كالمعدات والمواد األولية وأجرة العامل الفالحي ،متأثرين في ذلك بآراء مؤسس المذهب .لقد قال كيسناي:
"تجولوا في المزارع و الورشات وانظروا سوف تجدون مباني وبهائم ،وبذور ومواد أولية ،ومعدات من جميع األشكال
واألنواع ".
لم يكن إذن رأس المال في النظرية الفيزيوقراطية مفهوما على أساس عالقته االجتماعية التي تتحدد بموجبها األنماط
االقتصادية ،إال أن تعريفها للرأسمالية بمصطلحات مادية وتقنية كان على كل حال خطوة إلى األمام بالنسبة ألسالفهم
المركنتيليين الذين لم يكونوا يميزون بين رأس المال والمال ،وأما الحقوق االقتصادية للمواطن فلم تكن واردة بتاتا عند
المذهبين حتى في صفتها التلميحية.
وقد استفادت النظرية الماركسية من تجربة الفيزيوقراطيين ،وفي ذلك قول ماركس" :كان كيسناي شخصيا ،وكذلك تالمذته
المقربون ،يؤمنون بيافطاتهم اإلقطاعية ،بيد أن مذهب الفيزيوقراطيين يشكل في الواقع أول تصور منهجي لإلنتاج
الرأسمالي" .وهكذا بالرغم من طابعها الالتاريخي ،نظرا الرتكازها على القانون الطبيعي ،فإن النظرية الفيزيوقراطية مهدت
الطريق على األقل أمام ظهور التيار االقتصادي السياسي الكالسيكي بزعامة آدم سميث.
اعتمد الفيزيوقراطيون في فرنسا خالل النصف الثاني من القرن التاسع عشر على النظرية الرأسمالية الزراعية وكانت
آثارها محدودة وجد نسبية ،وفي نفس الفترة تقريبا دخلت إنجلترا مرحلة بناء الرأسمالية الصناعية ،وفي هذا السياق
التاريخي تبلور فكر عالم االقتصاد اإلسكوتلندي اَدم سميث وجاءت عناصر نظريته على شكل دراسة وصفية تحليلية لنمط
اإلنتاج الرأسمالي .ازداد اَدم سميث سنة ، 1723واهتم خالل فترة تكوينية بدراسة الالهوت ،ومارس مهنة التدريس بجامعتي
كالسكو وأدنبره ،حيث كان يلقي محاضرات في المنطق ،واألخالق ،والقانون ،واالقتصاد السياسي .وفي سنة 1759نشر
كتابا في األخالق بعنوان " نظرية المشاعر األخالقية" سرعان ما القى نجاحا ساهم في شهرة مؤلفه .وفي الفترة الممتدة ما
بين 1764و 1766تنقل اَدم سميث بين تولوز وجنيف وباريس ،حيث كانت له لقاءات مع الفيزيوقراطي كيسناي وأتباعه.
وفي سنة 1776نشر كتابه المعروف" :دراسة في طبيعة ثروة األمم وأسبابها" ،عرف فيما بعد اختصارا تحت عنوان "ثروة
األمم" .بعد ذلك استقر اَدم سميث في لندن ،ثم عمل مفوضا للجمارك بأدنبره حيث توفي عام .1790
هذا ويعتبر اَدم سميث المؤسس لعلم االقتصاد الحديث ورائد المدرسة اإلنجليزية الكالسيكية في هذا الميدان .ولم تكن دراساته
مجرد تحل يالت اقتصادية تقنية جافة ،بل كانت مفعمة بروح الفلسفة الليبرالية التقليدية مع نوع من التجديد على مستوى
المنهج.
بالمقارنة مع النظرية الفيزيوقراطية ،كان فكر اَدم سميث أكثر عمقا وتماسكا .لقد جاء كتاب "ثروة األمم" مقسما تقسيما
منهج يا إلى عدة محاور تصب كلها في اتجاه الظاهرة االقتصادية قصد محاولة فهم مختلف مكوناتها .وهكذا تناول الكتاب
تقسيم العمل ،التبادل ،النقود ،رأس المال وكيفية تشكيله ،نظرية الربح ونظرية األجور والدخل ،باإلضافة إلى دراسة نقدية
موجهة آلراء الفيزيوقراطيين والمركنتليين ،إلى جانب دراسة في المالية العامة وضع اَدم سميث ضمنها المبادئ الضريبية.
والكتاب في مجمله هو في الواقع عبارة عن مرافعة للدفاع عن الحرية االقتصادية شبه المطلقة وعن النظام الرأسمالي بصفة
عامة ،ووجه المبالغة فيه هو كونه يعتبر تلك الحرية االقتصادية كشرط ضروري وكاف لتحقيق التقدم االقتصادي في كل
األزمان.
وقد تطرق اَدم سميث في البداية لداعمتين من الدعامات الرئيسية في العلوم االقتصادية الحديثة ،وهما اإلنتاج والتوزيع.
وكان تركيزه على اإلنتاج تركيزا واضحا عندما قال" :إن ثروة األمم ال تنمو كما ادعى المركنتليون تبعا لزيادة الذهب والفضة
وإنما يحدث هذا النمو بسبب زيادة اإلنتاج" .واإلنتاج عند اَدم سميث هو خلق للمنفعة ،وليس خلقا لمادة جديدة كما ذهب إلى
ذلك التيار الطبيعي .وعندما كان اَدم سميث يؤيد الحرية االقتصادية ،فإنه يعزز رأيه بعدم تدخل الدولة في شؤون االقتصاد،
معتبرا أن هذا التد خل يضر بالمصلحة العامة التي يضمنها القانون الطبيعي ،ولكنه أشار إلى بعض االستثناءات التي تمكن
الدولة من التدخل في مجاالت كالتعليم والمالحة واإلصدارات النقدية .وحصر واجبات السلطة في ثالث مهام:
-الدفاع عن البالد ضد االعتداءات الخارجية،
-إنجاز المشاريع االقتصادية التي يعجز األفراد أو يمتنعون عن القيام بها ،كأن تكون غير مربحة أو تفوق قدراتهم المالية
على سبيل المثال.
وبتدقيق أكثر ،كانت الليبرالية التي نادى بها اَدم سميث تخص الدولة بوظائف محددة ،وهي :تسهيل اإلنتاج ،والحفاظ على
األمن ،واحترام القانون ،وحماية الملكية .وقد كانت إسهاماته تسلط الضوء ليس فقط على تاريخ الفكر االقتصادي وضرورة
عقلنته الليبرالية ،بل كذلك على تاريخ الفكر السياسي ومعالجته معالجة جد محافظة .والواقع أن اَدم سميث لم يكن يعبر عن
اَمال وتطلعات الطبقة ا لبورجوازية بقدر ما كان يعبر عن دينامية الشعب البريطاني دون اإلخالل بتركيبته االجتماعية .لقد
تطرق لموضوع المصلحة الفردية وخلص إلى التقاء المصالح العامة والشخصية في النظام الرأسمالي الحر تحت تأثير ما
أسماه ب "اليد الخفية" .ويقول بهذا الصدد" :المنتج ال يتطلع إال إلى ربحه الخاص ،ولكن يدا خفية تدفعه دفعا من حيث ال
يدري إلى الهدف األسمى الذي يتالءم والمصلحة العامة" .ومن هنا كان دفاعه عن أطروحة التجانس األساسي بين المصلحة
الفردية والمصلحة العامة ،كما دافع عن مزايا المنافسة وحث على االدخار ،وكان يعتقد اعتقادا راسخا باستمرارية التقدم
االقتصادي ،وبأن الثروة الحقيقية لألمة هي العمل الوطني.
اعتبر اَدم سميث العمل بشتى أشكاله ومراحله مصدر القيمة األساسي لثروة األمم ،وهو أول من نادى بضرورة "تقسيم
العمل" ألن ذلك يؤدي إلى رفع المردودية ،وبالتالي إلى رفع مستوى اإلنتاج الذي يؤدي بدوره إلى تنمية ثروة األمة .وفي
محاولة منه لمعالجة القيمة االقتصادية لعنصر العمل في الدورة اإلنتاجية ،طرح اَدم سميث مبدأ معادلة الثمن الطبيعي للبضائع
المنتجة بالنظر لما تتطلبه تلك البضائع من عمل يستهدف إنتاجها ،ويوضح ذلك بقوله" :يكون الثمن الذي يتقاضاه اإلنسان
العامل طبيعيا إذا كان هذا الثمن كافيا لضمان عيشه خالل فترة العمل ،وكافيا لسد النفقات المترتبة عن تعليمه وتكوينه ،وكافيا
لتعويض األخطار المحدقة بحياته أو تلك التي تهدد نجاحه في عمله .وإذا حصل ذلك فإنه سيكون حافزا مشجعا بالنسبة
للعامل ،وبالتالي سيكون إنتاج البضاعة في مستوى تلبية وإشباع الطلب" .وفعال ،اتخذ اَدم سميث كقاعدة تحليلية توضيحية
مبدأ ربط الثمن الطبيعي بالمدة الزمنية الضرورية للقيام بالعمل من أجل إنتاج البضاعة.
ورغم إقراره بكون العمل مصدرا للثروة ،فإن ذلك لم يمنعه من مالحظة عدم تناسبية الثروات والمداخيل مع العمل الذي تم
إنجازه من طرف هذا العامل أو ذاك إلنتاج تلك الثروات أو تحقيق تلك المداخيل ،موضحا" :في مجتمع متحضر هناك طبعا
تقسيم للعمل ولكنه ليس تقسيما متساويا ،فقد يوجد عدد من الناس الذين ال يقومون بأي عمل ،كما أن تقسيم الثروات ال
يتناسب مع تقسيم العمل .إن دخل صاحب المتجر مثال يتعدى مداخيل أجرائه مجتمعين ،علما بأنه يعمل أقل منهم ،وهؤالء
بدورهم يتقاضون أجرا يفوق ست مرات أجر نفس العدد من الحرفيين الذين يعملون أكثر منهم .كما يتقاضى الحرفي الذي
يعمل مرتاحا في بيته أجرا يفوق أجر العامل المياوم المسكين ،مما يوضح أن أعباء المجتمع الثقيلة يتحملها أولئك الذين
يحصلون على أضعف االمتيازات".
وهذه النظرة الواقعية لم تكن كافية لتدفع اَدم سميث للبحث عن األسباب الحقيقية التي كانت كامنة وراء عدم اإلنصاف في
توزيع الدخل القومي أو الوطني ،ولم يكن هذا إذعانا لألمر الواقع على ما يبدو ،وإنما هو نهج متكامل الحلقات تم وضعه بكل
وعي.
وهكذا فتشبث اَدم سميث بالليبرالية االقتصادية شبه المطلقة ال غبار عليه ،ومطالبته للدولة بعدم التدخل كانت تعني قبل كل
شيء موافقة آرائه لتوزيع الثروة طبقا لواقع المجتمع اإلنجليزي ،دون أية محاولة لتصحيح اختالالته الطبقية وال حتى مجرد
انتقاد لهذا الواقع ،بل على العكس من ذلك تماما كان اَدم سميث يبدي تمسكه الشديد بالتفاوتات االجتماعية وإبقائها على
ماهي عليه ،حيث يقول ":إن المس بمصالح طبقة أخرى ،يعد منافيا للعدالة ،وحتى للمساواة في الحماية التي يجب على
الملك توفيرها لكل رعاياه من كل الطبقات االجتماعية".
وهذا الموقف راجع على األرجح إلى تأثيره النسبي بالمذهب الفيزيوقراطي الذي تبنى شعار "دعه يعمل ،دعه يمر" ،والذي
طور نظريته بخلفية االستناد إلى القانون الطبيعي وما ترتب عن ذلك من حتمية في الدخل والتوزيع.
ومع ذلك فإن اَدم سميث ندد بكل قوة بحاالت الظلم والخروقات السائدة في المستعمرات ،ونادى بإلغاء االحتكار التجاري مع
هذه المستعمرات ،وكان توقعه لمستقبل حقوق الشعوب مبنيا على نظرة واقعية تجسدها القوة ،كما أشار إلى ذلك" :ربما في
وقت الحق ستكون أهالي هذه البلدان أقوى وأهالي أوربا أضعف ،بحيث يصبح سكان مختلف بلدان العالم في وضع تتساوى
فيه قواهم وشجاعتهم ،بعد ذلك سيدفعهم الخوف المتبادل إلى نوع من االحترام لحقوق بعضهم البعض" .لقد كانت إسهامات
اَدم سميث في حقل العلوم االقتصادية رائدة ومتميزة بالنظر إلى الظروف التاريخية التي تبلورت فيها ،فأعطت بذلك دفعة
نوعية لمسيرة الفكر الغربي بصفة عامة.
*د.الطيب بوتبقالت
األربعاء 29ماي 03:00 - 2019
-24/28فوضوية برودون
تبلور فكر بيير جوزيف برودون ( ) 1809-1865في فترة كانت فيها فرنسا بلدا زراعيا وكانت الصناعة الفرنسية ما تزال في
بداياتها ،ورغم كونه يميل إلى االشتراكية أكثر من ميله إلى الرأسمالية ،فإنه يبقى مفكرا لعهد ما قبل الرأسمالية ،وال عالقة له
بالفكر الماركسي المناهض للنظام الرأسمالي .ويع رف برودون ببعض المقوالت المثيرة للجدل ،ومنها "الملكية هي السرقة"
و "هللا هو الشر" .لقد كانت له كتابات عديدة متناقضة مع بعضها البعض ،فما أن ينتهي مثال من مهاترة ضد حق الملكية
حتى يتناول العقار القروي بالتمجيد .وقد حاول أتباعه الدفاع عنه قائلين إنه لم يكن ضد الملكية التي ليست لها منفعة
اجتماعية ،ولكن ها هو من ناحية أخرى يعلنها حربا ال هوادة فيها ضد العقائد الدينية باسم العلم واألخالق ،وما يلبث أن يسبغ
المديح على الدين ،وإذا بالدين يشرف العمل ،ويخفف من اآلالم ،ويصيب كبرياء األغنياء باإلذالل ،ويرفع من شأن الفقراء
ويعزز كرامتهم .ثم ها هو يمجد الحرب قائال" :تحياتي أيتها الحرب! أنت التي جعلت اإلنسان يقف على رجليه بشهامة
وإجالل ،وقد خرج لتوه من رحم الطين" .وال يبالي بعد ذلك في وصف الحرب بالعنصر البهيمي الذي يثير في النفوس إحساسا
مشروعا بالتقزز واالشمئزاز...
ورغم كون ها مذهبا ذا أقلية منذ بداياتها في األربعينيات من القرن التاسع عشر ،فإن البرودونية لم تندثر تماما ،بحيث ظهر
لها أنصار في تيارات اليمين المتطرف الفرنسي في القرن العشرين ،كتنظيم "العمل الفرنسي" المناهض للديمقراطية الذي
كان يخص برودون باإلكبار والتعظيم ،معتبرا إياه "أستاذ الثورة المضادة" وخصم الديمقراطية العنيد .وهكذا على غرار
تناقضات أفكار مؤسس المذهب التي دعمت وجهات نظر معارضيه ،فلقد كان له أنصار كذلك على الضفة األخرى ،بحيث
تنامى تيار يساري كان يعتبر برودون ذلك الزعيم الذي كان من المفروض أن يقود االشتراكية الفرنسية لوال الماركسية التي
أطاحت به واعتبرته عنصرا رجعيا .وتجدر اإلشارة إلى القطيعة التي حدثت بين برودون وماركس عام 1846على إثر نشر
األول لكتابه "بؤس الفلسفة" ورد الثاني عليه بكتابه "فلسفة البؤس" .ومن الصعب هنا مقاومة المقارنة لهذه الواقعة مع
سابقتها في ا لفكر اإلسالمي عندما كتب الغزالي (تهافت الفالسفة) ورد عليه ابن رشد ب "تهافت التهافت" ولكن ليس هذا هو
موضوعنا في هذه السلسلة...
على غرار موقف مفكرين اشتراكيين فرنسيين ،وهما سان سيمون وفورييي ،كان برودون يعتبر أن حل المشاكل االجتماعية
ليس شأنا سياسيا ،معلال ذلك بعبارة وجيزة" :السياسية اليوم هي االقتصاد السياسي" .ولهذا نادى سنة 1848بإنشاء بنك
للشعب قصد "حل المشكل االجتماعي" ،ولم يعد يثق في الديمقراطية البرلمانية رغم انتمائه بصفته عضوا في الجمعية
الوطنية الفرنسية .وبهذا الصدد كتب سنة " :1851الديمقراطية لفظ وهمي يعني حب الشعب ،وحب األطفال ،ولكن ال يعني
بتاتا حكم الشعب" .وأعطي تعريفا جديدا للديمقراطية بوصفها "ديموبيدية" وتعني تربية الشعب ،فكان طبيعيا أن ينتقد مبدأ
االنتخابات العامة ،وقال" :إن كل ما أفرزته صناديق االقتراع هو استبدال العلم بالفظاعة والنفور ،واستبدال االرتيابية
بالكراهية" .وقد كان لهذا الموقف المتشكك في قدرات الديمقراطية على تدبير المصلحة العامة تأثيره على الحركات النقابية
الفرنسية ،حيث كانت هذه األخيرة تعتبر العمل النقابي عمال ثوريا حقيقيا في حين ال ترى في العمل السياسي سوى عمل تهدده
االنتهازية.
وإذا كانت أفكار برودون تتعارض مع الديمقراطية فإن معارضتها للدولة وصلت إلى حد المطالبة بإلغاء هذه المؤسسة
واستبدالها بنظام تعاوني اختياري بين األفراد ،ناهيك عن المركزية والبيروقراطية التي ال يطيقها برودون على اإلطالق.
وكان انتقاد ه موجها لروسو الذي لو طبقت أفكاره الواردة في "العقد االجتماعي" ألسفرت في نظره عن استبداد اإلرادة
العامة ،وعزز انتقاده لروسو قائال" :إن برنامجه ينحصر في الحقوق السياسية وال يتحدث عن الحقوق االقتصادية".
الواقع أن برودون كان يرمي إلى قيام نظام اجتماعي فوضوي ،ليس بمعنى الفوضى المتداول وإنما بمعنى استبدال السلطة
السياسية بائتالفات عمالية تطوعية .لهذا فهو ضد كل سلطة سواء تعلق األمر بالدولة أو الكنيسة ،فمن هذا المنطلق عارض
بشدة النظريات االشتراكية التي كانت تدعو إلى تدخل الدولة وسيطرتها على وسائل اإلنتاج .وفي المجال المالي مثال اقترح
برودون إلغاء الفوائد البنكية وتأسيس بنك للتبادل تكمن مهمته في إصدار األوراق النقدية بال قيود ،ومنح كافة العمال االئتمان
الضروري إلقامة مشاريعهم دون أن يطالبوا بأداء الفوائد الناجمة عن هذه القروض .ويرى برودون أن اإلبقاء على ملكية
اإلنتا ج ضرورية ،ألن للفرد حق االستمتاع بثمار عمله ،لكن ليس على شكل ريع أو فائدة أو ربح .ومعارضته لحق الحصول
على عائد غير مكتسب من العمل معارضة واضحة .ويعتبر برودون من قبيل الخطأ الحد من القوى االقتصادية القائمة في
المجتمع أو هدمها واستبدالها بأخرى جديدة ،فهو ينا دي فقط بالموازنة بين القوى المتواجدة مع اعتباره للحرية بمثابة
المحرك الرئيسي للنشاط االقتصادي .وواضح من منظوره العام أنه لم يأت بمشروع اجتماعي اقتصادي ثوري ومندمج ،حتى
وإن كان مذاهبه مذهبا ثوريا ،إال أنه مذهب ال يستقر في جوهره على حال ،حيث يميل تارة ذات اليمين وتارة أخرى ذات
الشمال ،لقد كان برودون "يقذف" في كل االتجاهات وبفوضوية واعية...
الحرية والتضامن
يحث برودون على مبدأين أساسيين ،وهما الحرية المساواة ،ويقول في ذلك" :إن مبدأ المجتمعات هو إتاحة الفرص أمام
الجميع باتخاذ المساواة كقاعدة ،واعتماد تضامن الجمي ع كقانون لتطبيق تلك القاعدة" .إنه ال يهدف من وراء ذلك التضحية
بالمساواة في سبيل الحرية ،أو التضحية بالحرية في سبيل المساواة ،ويرى أن التوازن بينهما ال يمكن أن يتحقق إال بواسطة
تآزر إخائي ،مما يحيل على المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية .وكان برودون يعقد مقارنة بين حرية اإلنسان
المتحضر الذي ال يعرف إال األنانية والفردانية المفرطة ،مع حرية مركبة يقول عنها إنها حرية مندمجة مع التضامن ،بحيث
يصعب التمييز بينهما ،ويقول" :إن الحرية والتضامن من وجهة نظر اجتماعية لفظان مرادفان ،بمعنى أن حرية البعض لم
تعد تصطدم بحدود حرية البعض اآلخر ،بل على العكس من ذلك ستجد فيها عامال مساعدا لها على االمتداد ،وهكذا يصبح
الفرد متمتعا بحرية تتوسع بقدر توسيع العالقات التي تربطها مع األفراد اآلخرين".
ورغم طبيعة فكر برودون المتضاربة ،فإن الفضل يرجع له في إثارة االنتباه بشكل حاد إلى مسألة التوافق الضروري بين
العدالة االجتماعية -التي اعتبرها من أسمى ما يصبو إليه اإلنسان -مع الحفاظ في نفس الوقت على الحرية الفردية .بيد أن
مقترحاته العملية كانت دون مستوى طموحات مشروعه اإلصالحي .لقد كان يعتقد أنه من الممكن تغيير المجتمع باالعتماد
على إجراء ات قانونية ومالية خاصة ،وغابت عنه النظرة الشمولية للمجتمع وما يفترض ذلك من تداخل العناصر .لهذا كان
اختالفه مع التيار الماركسي اختالفا راديكاليا ،سيما وأنه كان يعتبر أن التناقضات يجب تحملها وليس حلها.
مرجعيات الفلسفة الغربية -25-كارل ماركس يسعى إلى تغيير العالم
*د.الطيب بوتبقالت
الجمعة 31ماي 02:10 - 2019
-25/28النظرية الماركسية
منذ انهيار االتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة لم تعد الدراسات الماركسية تستهوي الباحثين .لقد اختفى العديد من
المجالت والصحف الماركسية أو المتمركسة المتخصصة ،وأصبحت الكتابات الماركسية بصفة عامة تعرض ضمن أكوام
الكتب المستعملة وال من يشتريها .وبعبارة أوضح لقد دخلت النظرية الماركسية طي تاريخ الفكر الغربي ،ولم تعد وعاء دعائيا
تغرف منه األنظمة االشتراكية أو الشيوعية في سياق مواجهتها اإليديولوجية مع الرأسمالية الليبرالية .ليس هذا إيذانا بـ
"نهاية التاريخ " وإنما هو تحول تاريخي ما في ذلك من شك.
وعموما ،ليس من السهل عرض وتحليل النظرية الماركسية بكل ما تحتاجه من مناقشة لمنهجيتها الفلسفية وتدقيق آللياتها
المفاهيمية ،لكن ليس من الصعب الكشف عن مدلول محاورها الرئيسية .والبداية تحددها شخصية مؤسس النظرية والظروف
التاريخية التي تبلورت فيها .ازداد كارل ماركس في مدينة تريف بألمانيا سنة ،1818وكان ينتمي إلى عائلة يهودية اعتنقت
البروتستانتية.
درس القانون والتاريخ في جامعتي بون وبرلين وحصل على درجة الدكتوراه سنة .1841كان يرغب في بداية حياته العملية
في ممارسة التدريس الجامعي ،لكن آراءه الثورية دفعت السلطات األلمانية إلى عرقلة نشاطه الجامعي فلجأ إلى الحقل
الصحافي وعمل رئيسا لتحرير "صحيفة الراين" سنة ،1842لكن الخط اإلعالمي لهذه الصحيفة لم يكن موافقا للسياسة
الرسمية فتم إغالقها .وهكذا انتقل ماركس إلى باريس سنة 1843حيث أشرف على إصدار صحيفة "إلى األمام" ،وفي
باريس التقى ببرودون وبعدد من المفكرين االشتراكيين ومنهم لويس بالن .على أن لقاءه مع فريدريش إنجلز في بروكسل
سنة 1844ظل من أهم اللقاءات المثمرة التي ساهمت بشكل فعال في التعريف بالفكر الماركسي وتعزيزه .شارك االثنان في
اجتماع عقدته العصبة الشيوعية بلندن سنة ، 1847وتعاونا معا على صياغة "البيان الشيوعي" المشهور ،الذي كان عبارة
عن إعالن لهذه الجمعية عن آراءها في قيادة الحركة الثورية التي اندلعت في فرنسا سنة .1848وقد جاء في نهاية البيان
الشيوعي شعار كثيرا ما رفعته التيارات الماركسية بمختلف توجهاتها منذ ذلك الحين ،وهو " :يا عمال جميع بلدان العالم
اتحدوا" .وهو تعبير تعبوي يحث كل أفراد الطبقة البروليتارية على أنهم إذا اتحدوا لن يفقدوا سوى أغاللهم ويبقى أمامهم
عالم سيكسبونه .غير أن ثورة 1848منيت بالفشل .بعد ذلك استقر كارل ماركس في لندن ليقضي فيه بقية حياته ،وفي سنة
1867نشر الجزء األول من كتابه "رأس المال" وأما الجزءان الثاني والثالث فقد نشرهما صديقه إنجلز على التوالي في
عامي 1885و ،1895أي بعد وفاته سنة .1883ويعد كارل ماركس من المؤسسين لألممية العالمية األولى التي انشقت عام
1873إلى تيار فوضوي بزعامة باكونين وتيار اشتراكي ماركسي.
الديالكتيك
كان ماركس وإنجلز من األتباع اليساريين لفلسفة هيجل ،لكنهما كانا مختلفين مع أستاذهما هيجل فيما يخص نظرية "المادية
الجدلية" والمعروفة في الجدل ا لهيجلي على أساس كونها عالقة الطريحة بنقيضتها ،وهي عالقة جدلية تعطي حصيلة بمثابة
طريحة جديدة ،وكل طريحة البد لها من نقيضتها وهكذا دواليك.
أراد ماركس أن يطبق هذا الديالكتيك الهيجلي لمعرفة أسباب المتناقضات االجتماعية فخلص إلى نتيجة مقبولة شكال
ومرفوضة مضمونا .والديالكتيك يفيد أن كل فكرة تنطوي على نقيضها ،وهذا التناقض يدفع الفكرة ونقيضها إلى فكرة ثالثة
تؤلف بينهما ،وهو شيء مقبول حسب ماركس ،لكن الديالكتيك الهيجلي له مضمون روحي ألنه يجعل من الروح أصال
والتطور انعكاسا ،وهذا ما رفضه ماركس قائال ":إن الديالكتيك الهي جلي مقلوب رأسا على عقب ويجب أن نقبله من جديد ".
ويقصد بذلك أن المادة هي الموجود الحقيقي ،وهذه المادة في حركة متواصلة وخاضعة لقوانين الديالكتيك في شكلها .وهكذا
نشأ منهج " المادية الجدلية" عند ماركس محاولة منه لفهم قوانين تطور المجتمعات البشرية.
كانت فرضية م اركس شبيهة إلى حد ما بتلك التي قال بها عدد من المفكرين الذين سبقوه ومنهم روسو ،ومفادها أن المجتمع
البدائي كانت تسوده المساواة ويميزه نوع من التعاون الذي كان يفرضه الصراع ضد قوى الطبيعة ،وبفضل هذا الصراع
نشأت األنظمة االجتماعية ،لكن سرعان ما تفجر الصراع بين أفراد المجتمع حول الثروة والسلطة ،فتشكلت طبقات اجتماعية
متباينة المصالح ،ومن هنا كان تاريخ البشرية مجرد تاريخ للصراع بين طبقات المجتمع البشري .ويحلل ماركس هذا التطور
مؤكدا أن المجتمع البدائي تعرض الضطرابات كانت ناتجة عن استعمال أساليب جديدة لإلنتاج ،مما أفقده توازنه األصلي .ومن
هنا بدأ استخدام وتطوير األسلحة والمعدات اآللية التي شكلت ابتكارات واختراعات بالنسبة لزمنها ،غير أن نظام التفكير
والسلوكيات األخالقية والمعايير القانونية على بساطتها لم تعد قادرة على مواكبة التطور المادي ومالءمة ما يفرضه االحتكاك
بال بيئة الطبيعية من تقدم على مستوى الفكر التجريدي .ومن هنا استخلص ماركس أن النظام االجتماعي هو الذي يخلق الفكر
وليس العكس كما هو وارد في المثالية الهيجلية .ويرى ماركس أنه من قبيل المنطق السليم قيام بنيات فوقية تمثلها األفكار
والقيم انطالقا من واقع اجتماعي جدي د ،وهي عملية ال يمكن أن تمر بهدوء ألن المستفيدين من الوضع القديم ال بد أن يقاوموا
كل تحديث من شأنه أن يضر بمصالحهم الطبقية ،وبالمقابل فإن ضحايا النظام القديم الذين كانوا يعانون من عبء المتناقضات
الناجمة عن أساليب اإلنتاج السائدة البد أن يدخلوا في صراع مع المستفيدين من الوضع القديم ،وهكذا عندما يبلغ الصراع
الطبقي نقطته الحرجة يتولد عنه نظام اجتماعي جديد ،و ليس ذلك من الناحية النظرية إال تطبيقا لمفهوم المادية الجدلية.
تغــيـيــر العــــالــم
يرى ماركس أن بداية تاريخ المجتمع اإلنساني كانت شيوعية ،بمعنى أن المجتمع لم يكن يشتمل على طبقات اجتماعية
متعارضة المصالح ،ولم تظهر الطبقات إال بعد أن برزت ظاهرة تقسيم العمل ،فتحول المجتمع الشيوعي إلى مجتمع عبودي.
وبالطبع كان الصراع وقتئذ بين السادة والعبيد ،وهذا الصراع هو الذي أدى بدوره إلى قيام نظام جديد هو النظام اإلقطاعي
الذي يمتاز عن سابقه بظهور العمال المزارعين .عندئذ كان الصراع قائما بين اإلقطاعيين والفالحين ،وتولد عن هذا الصراع
ظهور طبقة جديدة هي طبقة أصحاب الحرف اليدوية .وتحت ظروف الثورة الصناعية وما أفرزته من أساليب آلية جديدة في
مجال اإلنتاج برزت طبقة الرأسماليين .وتجسد الصراع في مواجهة بين الرأسماليين وطبقة البروليتارية المتكونة من مجموع
العمال الذين وقعوا تحت قبضة استغالل الرأسماليين .وكان ماركس يرى أن الرأسماليين قد استنفدوا دورهم التاريخي ،لقد
استحدثوا أساليب متطورة وأكثر فاعلية على مستوى تقسيم العمل والتجارة واإلنتاج ،لهذا كانت مقاومة الطبقة اإلقطاعية لهم
في البداية مقاومة شديدة ،ولكن حتمية المادية الجدلية حتمية من المستحيل مقاومتها.
وكل ما راكمته الرأسمالية من أساليب إنتاجية وما استحدثته من قوانين تدعم مصالحها لم يعد مستحمال من طرف الطبقة
العمالية التي لجأت بدو رها إلى تشديد أساليب نضاالتها في مواجهة استغالل الرأسماليين لها .والخروج من هذا الوضع حسب
ماركس يستلزم القضاء على البنيات التحتية بكاملها من مصانع وتجهيزات وكافة آليات اإلنتاج الرأسمالية ،وهو ما يستوجب
في نفس الوقت تحطيم كل البنيات الفوقية من النظم القانونية والسياسية التي كانت تؤطرها من الناحية اإليديولوجية بهدف
لتكريس ودعم نمط االقتصاد الرأسمالي المبني جوهريا على استغالل الطبقة الكادحة واستالبها .لذلك وجب في نظره تحطيم
البنيات األفقية القديمة قصد مسايرة الواقع االجتماعي الذي ستفرضه الثورة البروليتارية التي بانتصارها سيتم االنتقال إلى
النظام االشتراكي.
هذا ،ويلخص كارل ماركس محددات الصراع الطبقي في عنصرين أساسيين ،وهما " قوى اإلنتاج" و"عالقات اإلنتاج".
وبينما يعني العنصر األول كل الموارد الطبيعية والمعدات اآللية والعمل ،يفيد العنصر الثاني أن تحديد العالقات االجتماعية إنما
يكون على أساس إنتاجي ،أي أن قوى اإلنتاج هي التي تحسم في تشكيل البنيات الفوقية من قيم أخالقية وقواعد قانونية
وغيرها .وهذا معناه أن كل تغيير يحصل على مستوى قوى اإلنتاج يؤدي حتما إلى تغيير القيم ،ومن يسيطر على قوى اإلنتاج
يمكنه التحكم في هذه ال قيم .وهكذا ال يمكن إرجاع التاريخ إلى الروح كما تصور هيجل ،وإنما هو من صنع البشر .وتخضع
حركية التاريخ لظروف اقتصادية ضرورية ولكنها مع ذلك تبقى غير كافية إلنجاح المد الثوري ،لماذا؟ يجيب ماركس بأن عدم
كفاية الظروف االقتصادية راجع إلى لزوم توافر عنصر آخر حاسم ،وهو الوعي الطبقي ،فمن غير هذا الوعي سيظل من
الممكن تغيير النظام االجتماعي تغييرا جذريا .وهذا التحليل يتفق تماما مع الشعار الذي رفعه ماركس معتبرا أن الفلسفة الحقة
هي التي ينبغي أن تهدف إلى تغيير العالم وليس إلى فهمه أو تفسيره .لقد أنجبت المدرسة الماركسية عددا ال يحصى من النقاد
والمفكرين عبر العالم ،وستبقى في تاريخ الفكر اإلنساني تجربة في غاية األهمية رغم فشل تنبؤاتها
تطورت السوسيولوجيا (علم االجتماع) منذ الحرب العالمية الثانية بشكل الفت للنظر وبخطوات الهثة كتعبير عن احتياجات
ملحة لإلنسان الغربي المعاصر ،فتجندت أجهزت البحث العلمي من معاهد وجامعات ومراكز في القطاعين العام والخاص،
قصد االنكباب على دراسة المجتمع دراسة نظرية وتطبيقية طالت جميع الميادين بدون استثناء.
وكان لتطور المجتمع االستهالكي وقع خاص على رفع وتيرة تقدم هذا العلم الحديث ،فتعددت النظريات والمقاربات المنهجية
وتشكلت التيارات المذهبية .وهكذا أصبحت السوسيولوجيا إلى جانب كونها أداة معرفية للوصف والتحليل الدقيق للظواهر
االجتماعية سالحا منهجيا لتأجيج نار الصراع اإليديولوجي الملتهبة بين الشرق والغرب إبان الحرب الباردة ،حيث كانت
تستخدم إما دفاعا عن قيم المجتمع الليبرالي االستهالكي ،وإما تعزيزا ألطروحة نظام الماركسية اللينينية .وفي كلتا الحالتين
كان علم ا الجتماع يلعب دور كلب الحراسة لألنظمة القائمة ،ولم تضف إليه وسائل تكنولوجية االتصال الحديثة إال دعما
متسارعا لتطوير مناهجه ومرونة متزايدة في تطبيقاته الميدانية ،من استطالعات لآلراء وتنظيم للحمالت االنتخابية
والتسويقية وغيرها .وهكذا كلما اتسعت دائرة األنشطة البشرية وتوفرت الظروف المساعدة لتنمية الثقافة الجماهرية ،كلما
كان ذلك حافزا على تطوير النظرية السوسيولوجية كما وكيفا .إن المعرفة السوسيولوجية اليوم تلعب دور المحرار بالنسبة
للتطور الحضاري في شتى تجلياته المادية ومن منظور مختلف مذاهبه الفلسفية.
قدمت النظريات السوسيولوجية المختلفة عدة تفسيرات متضاربة ،ويكاد األمر يدور في حلقة مفرغة ،حيث يتم تعريف علم
االجتماع بأنه علم المجتمع في الوقت الذي ينتظر فيه تعريف المجتمع بواسطة علم االجتماع ..والتعريف اإلجرائي يشير إلى
دراسة بني البشر في وجودهم الذي يقوم على االعتماد المتبادل.
بمعنى أن وحدة الدراسة السوسيولوجية ال يمكن أن تكون فردا واحدا ،وإنما تتمثل على األقل في فردين تربطهما عالقة
معينة .وعليه فالنظرية السوسيولوجية هي منهج مفاهيمي لدراسة الخصائص العامة لكل أصناف الظواهر االجتماعية ،بما
فيها العالقات المتبادلة بين تلك الظواهر نفسها.
وبديهي أن تطور النظرية السوسيولوجية ينطلق من خلفية تصنيف مسبق للعلوم إلى نوعين رئيسيين من ضروب المعرفة،
منها ما يتعلق بالطبيعة وتسمى علوما طبيعية ومنها ما يتعلق باإلنسان بصفته حيوانا اجتماعيا حسب تعبير أرسطو ،وتسمى
علوما اجتماعية.
فالعلوم الطبيعية تنكب على دراسة الطبيعة ومكونات العالم المادي ،بينما تعنى العلوم االجتماعية بدراسة اإلنسان في محيطه
االجتماعي وظروف عيشه وتعايشه داخل مجموعات بشرية لها خلفية ثقافية مشتركة ،وتربطها شبكات من االهتمامات
والعالقات المت بادلة .وكلما اجتمعت هذه العناصر زمانيا ومكانيا ،تحت ظروف معينة تزكى تفاعالتها ،كلما توفرت الشروط
الموضوعية لظهور مجتمع بشري له مميزاته وضوابطه.
والعلوم االجتماعية عموما هي تخصصات معرفية تشكل األنشطة البشرية وما تفرزه من عالقات تفاعلية قاسمها المشترك.
وقد س اهمت الدراسات األكاديمية بقسط وافر في إحداث تخصصات رئيسية وأخرى فرعية في كل مجاالت النشاط اإلنساني وما
يتمخض عنه من سلوكيات اجتماعية مختلفة .وهكذا كلما تطور المجتمع وتراكمت المعارف وكثرت اإلشكاليات بصدد ظواهر
أو وقائع جديدة ،كلما كان ذلك دافعا قويا للباحثين من أجل استكشاف آفاق معرفية جديدة تمكنهم من دراسة وفهم التطورات
االجتماعية المستحدثة.
ويبدو جليا أن تطور العلوم بصفة عامة رهين بطريقة وضع األسئلة المناسبة التي تستهدف جوهر المشاكل المطروحة .إذ
أنه ال خالف في ذلك بين العلوم الطبيعية والعلوم االجتماعية رغم تباين الموضوعات التي ينصب كل صنف من هذه العلوم
على دراستها.
إن طريقة صياغة السؤال تساهم إلى حد بعيد في بلورة عناصر الجواب .وتشكل الظاهرة االجتماعية كيفما كانت طبيعتها
مرتعا خصبا ومجاال فسيحا تستثمر فيه نظريات ومناهج السوسيولوجيا .وتعد كل عملية تفاعل بين شخصين أو أكثر بمثابة
ظاهرة اجتماعية ،وبالتالي تشكل وحدة للتحليل السوسيولوجي.
وهذا هو بيت القصيد إذ أن التفاعل هو الذي يجعل من األفراد أطرافا في عالقة اجتماعية معينة ،وعلى إثر ذلك تتشكل
الجماعات االجتماعية ويتحدد تطورها وفقا لطبيعة تلك العالقات واستمراريتها .ويبقى الهدف الوظيفي لتلك الجماعات هو
إشباع الحاجات اإلنسانية في إطار من القواعد والمعايير السلوكية التي تحدد األدوار التي يقوم بها أفراد الجماعة ،على أن
هذه األدوار االجتماعية يشترط فيها القبول الصريح والضمني من طرف الجماعة المنتسب إليها.
وبعد ظهور المار كسية ،كان من الطبيعي أن تظهر نظريات سوسيولوجية تبحث عن الظواهر االجتماعية من منظور
ماركسي .وهكذا فعلم االجتماع الماركسي يهدف إلى تفسير المجتمعات تفسيرا دقيقا من منطلق التطور التاريخي لنماذجها
االجتماعية ،ويرمي بالتالي إلى اكتشاف القوانين األساسية لهذا التطور على خلفية الصراع الطبقي.
لقد دأب علماء االجتماع في زمن االتحاد السوفياتي على ربط أساس البناء االجتماعي بقوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج ،بمعنى
أن النظرية السوسيولوجية بالمفهوم الماركسي نظرية تركيبية تحاول فهم المجتمع في شموليته وليس في جزئياته الوظيفية.
لهذ ا فإن علم االجتماع الماركسي وعلم االجتماع الليبيرالي الرأسمالي يقعان على طرفي نقيض ،حيث أن هذا األخير يؤسس
قواعده على الدراسات اإلمبريقية التحليلية ،ويتجه إلى بحث المواقف الجزئية في الحياة االجتماعية ،ويرتكز على سلوكيات
األفراد والجماعات في سياقات مختلفة م عاصرة .وبعد انهيار االتحاد السوفياتي تغلبت سوسيولوجية االتجاه التحليلي الميداني
الليبيرالي وتراجع االتجاه التركيبي التاريخي الماركسي.
هذا وتجدر اإلشارة إلى أن مصطلحات العلوم االجتماعية ،ومن ضمنها السوسيولوجيا ،وعلوم إنسانية ،وعلوم اإلنسان ،هي
مجرد انعكاس ال رتباك أكاديمي أمام تشعب وتعقيد دراسة الظواهر االجتماعية رصدا وتحليال ،وهي بالتالي تشير إلى نفس
المدلول المعرفي على اختالف تلويناته وتعدد منهاجياته البحثية.
إذا كان الفكر الغربي يعتبر أوجيست كونت هو مؤسس علم االجتماع ،فإنه للحقيقة والتاريخ ال يسع المرء إال أن يؤكد أن
المؤسس األول الحقيقي لهذا العلم هو عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون الحضرمي الذي كان له الفضل دون غيره في وضع
اللبنات األولى لهذا النشاط الفكري بمنهجه المستقل وأسلوبه العلمي المتميز ،حين أطلق عليه اسم "العمران البشري
واالجتماع اإلنساني".
ولقد كان ابن خلدون على بينة تامة من كونه وضع األسس األولى لعلم جديد تماما بحيث حدد موضوعه ومسائله قائال:
"وكان هذا علم مستقل بنفسه ،فإنه ذو موضوع .وهو العمران البشري واالجتماع اإلنساني ،وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه
من العوارض واألحوال لذاته واحدة بعد أخرى .وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا ".
ويضيف ابن خلدون في "المقدمة" توضيحات تتسم بأمانة علمية وكفاءة تحليلية نادرة " :وكأنه علم مستنبط النشأة،
ولعمري لم أقف على الكالم في منحاه ألحد من الخليقة .ما أدرى ،ألغفلتهم عن ذلك؟ وليس الظن بهم ،أو لعلهم كتبوا في هذا
الغرض واستوفوه ،ولم يصل إلينا ،فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع اإلنساني متعددون ،وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر
مما وصل ".
وهكذا على حد قوله ،ألهمه هللا إلى ذلك إلهاما ،هداه إلى علم جعله سن بكره وجهينة جبره ،فوضع له قواعد منهجية أصيلة
وطرق بحثية مبتكرة ،وفي ذلك تأكيده " :وأعلم أن الكالم في هذا الغرض مستحدث الصنعة ،غريب النزعة ،عزيز الفائدة ".
وعن هذا العمران البشري واالجتماع اإلنساني الذي رأى النور قبل خمسة قرون على ظهور نظرية أوجيست كونت ،يقول
ابن خلدون" :واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا طريقة مبتدعة ،وأسلوبا " ،ويشير إلى أن هذا العلم الجديد هو في
الواقع باطن علم التاريخ ،ومعلوم مدى ارتباط التاريخ بالسوسيولوجيا " :وفيه نظر وتحقيق ،وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق،
وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ،فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق ،وجدير بأن يعد في علومها وخليق" .وتتلخص
المنهجية الخلدونية في علم االجتماع في ستة محاور رئيسية ،وهي :الشك والتمحيص ،والواقعية االجتماعية المتشخصة
بموادها ،وتحكيم أصول العادة وطبيعة العمران ،والقياس بالشاهد والغائب ،والسبر والتقسيم ،والحيطة عند التعميم.
ومهم ا يكن من أمر ،فإن اإلشارة إلى ابن خلدون تبقى مشروعة من باب األمانة التاريخية فحسب ،وال تنتقص إطالقا من
أهمية وجدية النظرية السوسيولوجية الغربية التي أعطى انطالقتها عالم االجتماع الفرنسي أوجيست كونت في أواسط القرن
التاسع عشر .ويبدو أن دوافع الحفاظ على استقرار األوضاع االجتماعية بفرنسا غداة الثورة كانت من بين األسباب الرئيسية
في انتشار النزعة الوضعية التي دعا إليها أوجيست كونت.
هذه النزعة تقرر التطور ولكن بدون استنادها إلى الصراع الطبقي كما هو الشأن بالنسبة للنظرية الماركسية .وبإلحاح
أوجيست كونت على فكرة النظ ام يكون قد استبدل فكرة الثورة بفكرة اإلصالح ،داعيا إلى ضرورة الحفاظ على مكتسبات
الطبقة البرجوازية .وهو من أجل ذلك يدافع عن مفهوم الواجب ويترك جانبا مفهوم الحق ،بمعنى أن كل فرد عليه واجبات
إزاء المجتمع وليس له حقوق إزاء أحد.
وعليه ،فإن أصحاب رؤوس األموال في نظره هم أخيار ،شريطة أن تكون معرفتهم لواجبهم وتأديتهم له مستندة إلى معايير
أخالقية .وهكذا يجعل أوجيست كونت من األخالق العامل المطلق الذي بمقتضاه يتأسس المجتمع .ويلخص أوجيست كونت
تطور الفكر البشري في ثالث مراحل هي :المرحلة الالهوتية ،والمرحلة الميتافيزيقية أو التجريدية والمرحلة العلمية أو
الوضعية.
وبالطبع ،كان تأكيد فلسفته الوضعية على المرحلة الثالثة .وفي هذا الصدد ،يقول " :عندما يعترف الفكر البشري باستحالة
الحصول على مفاهيم مطلقة ،فإنه يتخلى في الحالة الوضعية عن البحث عن أصل الكون ومصيره كما يعزف عن معرفة
األسباب الخفية للظواهر كي ينصرف إلى الكشف عن قوانينها الفعلية ،وأعني العالقات الثابتة التي تتعاقب بموجب الظواهر
وتتشابه ،وذلك باعتماد البرهان العقلي إلى جانب المالحظة والمزج بينهما ،حينئذ يكون تفسير الوقائع قد رد إلى مكوناته
الحقيقية فال يعود إلى مجرد ربط بين مختلف الظواهر الجزئية وبين بعض الوقائع العامة التي يسعى تقدم العلم إلى اختزال
عددها شيئا فشيئا ".
لقد سارت على نهج كونت المدرسة السوسيولوجية الفرنسية بزعامة إميل دوركايم وليفي بريل .لكنها ظلت تؤاخذه على
خروجه النسبي عن الفلسفة الوضعية بسبب دعوته إلى م طلق األخالق ،ذلك ألن الوضعية هي قبل كل شيء منهجية فكرية
تكتفي ببحث ما هو كائن وترفض الخوض فيما ينبغي أن يكون .كما تأثرت المدرسة األنجلوسكسونية نسبيا بالتيارات
المؤسسة لعلم االجتماع بفرنسا ،وأما المدرسة األلمانية بزعامة ماكس فيبر فإنها قدمت هي األخرى اجتهادات متميزة بالنسبة
لتطور الفكر السيوسيولوجي عموما.
مرجعيات الفلسفة الغربية -27-المنفعة الشخصية مقياس للحقيقة
*د.الطيب بوتبقالت
األحد 02يونيو 03:15 - 2019
-27/28البراغماتية لوليام جيمس
يشكل وليام جيمس بالنسبة لألمريكيين ما يشكله ديكارت بالنسبة للفرنسيين ،إنه رمز هوية فكرية ومصدر فخر وطني.
وبالفعل يعد جيمس رائدا بارزا في المجال الفلسفي األمريكي ،ويمكن اعتبار فلسفته بمثابة ميالد اتجاه فكري أمريكي قلبا
وقالبا .وهو حدث ثقافي تاريخي ال يقل أهمية عن إعالن الواليات المتحدة األمريكية استقاللها عن االستعمار البريطاني في
القرن الثامن عشر .نعم ،لم تكن البراغماتية التي جاء بها جيمس قطيعة تامة مع الفكر األوربي ،السيما وأن مؤسسها ارتوى
من الفلسفة األوربية ،وكان يتقن اللغتين الفرنسية واأللمانية ،باإلضافة إلى لغته اإلنجليزية .لم تكن البراغماتية قطيعة وإنما
كانت عملية انصهار لمكونات الهوية الثقافية األمريكية بمنظور أمريكي خالص دونما تنكر لألصول األوربية .ازداد وليام
جيمس بنيويورك سنة ،1842وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد سنة ،1870وزاول مهنة التدريس بنفس
الجامعة إلى أن وافته المنية سنة .1910وأول مؤلف ص در له كان تحت عنوان "أصول علم النفس" المنشور عام ،1890
تاله كتاب "إرادة اإليمان" عام ،1897وكتاب "أنواع التجربة الدينية" عام .1902وأما أشهر كتبه فهو كتاب
"البراغماتية" الصادر عام ،1907وكتابان بعنوان "الكون المتعدد" و"معنى الحقيقة " ،صدرا سنة.1909ويمتاز جيمس
في كتاباته بالقدرة الهائلة على التحليل وباعتماده األسلوب الواضح المبسط.
يفيد األصل اللغوي لكلمة "البراغماتية" معنى "ما هو عملي" .واضع هذا المصطلح ليس وليام جيمس بل فيلسوف أمريكي
آخر هو ساندرس بيرس الذي عاصر وليام جيمس .ونقطة البداية هي أن كل ما هو عملي يجب اعتباره تجريبيا بالضرورة.
والواقع أن البراغماتية هي مجموعة أفكار لفالسفة أوربيين في حلة أمريكية :إنها تنهل من "العقل العلمي" لكانط ،ومن
مفهوم اإلرادة عند شوبنهاور ،وتأخذ من نظرية داروين فكرة البقاء لألصلح ،ومن بنتهام مذهبه النفعي .هذا مع العلم بأن
وليام جيمس نفسه لم يسبق له أبدا أن ادعى أنه أتى بجديد ،لقد أكد أن فلسفته البراغماتية اسم جديد لوسائل فكرية قديمة.
وفي مجملها تبدو البراغماتية كفلسفة مادية نفعية ،واعتبارها للحقيقة يكون دائما مقترنا باالختبار التجريبي .والمنفعة
الشخصية هي المقياس واالختبار لثبوت الحقيقة من عدمه ،والعمل مقياس للحقيقة ،والفكرة تعتبر صادقة عندما تكون مفيدة،
بمعنى أن المنفعة والضرر هما اللذان يحددان األخذ بفكرة ما أو رفضها .وعن هذا الطرح تترتب إشكالية مفادها أنه إذا كان
منظور العمل قاصرا على مبدأ المنفعة والضرر ،فهو بالتالي فاقد لموضوعيته ،بحيث يصبح مجرد مقياس ذاتي.
والذاتية هنا تعني التباين في الخبرات ،والتباين ال يصلح لتحقيق إدراك الوحدة ،ألنه ليس مقياسا موضوعيا .والحصيلة هي
أن البراغماتية ترفض فكرة المطلق" ،ملعون هذا المطلق" حسب تعبير جيمس نفسه .وبإنكارها للمطلق فإن البرغماتية
تتعامل مع الكون وهو في حالة تمزق وانشطارات جزئية ال متناهية يستحيل إدماجها في إطار كلي .ويرى جيمس أن االعتقاد
بوحدانية الكون هو المرض الذي يصاب به الفالسفة ،وعلى عكس ذلك فهو يعتقد بتعدد الكون وعدم اكتمال صنعه وعدم
إمكانية إدراكه مرة واحد ة ،وفكرة العالم الواحد فكرة ميتة ،وإنما هناك قوى متصارعة وتيارات متعارضة االتجاهات .وأمام
هذا الوضع ،فإن اإلنسان يجد نفسه حرا في استعمال الطريقة التي تستهوي رغباته .وهنا تبرز البرغماتية كتعبير صارخ عن
روح الرأسمالية المتوحشة في بداية مشوارها اإلمبريالي .وهي بالتالي تعبير حماسي لتمجيد الفردانية شبه المطلقة ،إذ ال
قيمة إال للفرد وحده .وواجب الدولة ينحصر أساسا في خدمة الفرد والسهر على مصالحه .إنها رسالة فردانية مفتوحة على
مخاطرات ومغامرات ،وليست خطة مرسومة ومحبوكة من أجل تحقيق انضباط معين .ال داعي للتفكير في الموت ،وقيمة
األمور تكمن في مالءمتها إلرشاد اإلنسان وتحسين أوضاع حياته.
وهكذا فالبراغماتيون عندما يتحدثون عن الحقيقة ال يعنون سوى الجانب العملي منها ،بينما يركز خصومهم على
الموضوعات التي تدل عليها تلك الحقيقة .فمن هذا المنظور ال تبدو البراغماتية فكرة تجريدية ،وإنما هي تركيز عملي على
الجانب النفعي بالنسبة للواقع المادي لألشياء ،وعلى االنعكاسات النفعية بالنسبة لآلراء والمعتقدات سواء كانت دينية أو
سياسية أو غيرها .ومعنى ذلك أن األفكار تكون نافعة ألنها حقيقية ،وحقيقية ألنها نافعة.
إن قيمة الن ظرية أو الفكرة تبقى مرتبطة منهجيا بتطبيقها تطبيقا مباشرا على الوقائع الخاضعة للمالحظة ،والقاعدة
البراغماتية تقتضي تطبيق هذا المنهج على التجربة اإلنسانية .إال أن هناك إشكالية عويصة طالما حيرت عقول الفالسفة،
وهي تلك المتمثلة في النزاع المرير بين المادية والر وحية .والسؤال هو :هل هذا العالم ثمرة التقاء ذرات في الزمان والمكان،
أو أن ثمة خالق لجميع ظواهر العالم وهو عقل خالص يشكل األحداث بمشيئته ويحرك الظواهر بإرادته؟ هذه اإلشكالية تم
اختصارها براغماتيا على الشكل التالي :ما هو الفرق بين اختيار هذه الفرضية أو تلك على ضوء التجربة العملية؟ والجواب
البراغماتي هو أنه ال يبدو أن هناك فرقا بين الفرضيتين .فالحقيقة التي ال مراء فيها هي أن العالم موجود على كل حال،
وسواء أكان ثمرة التقاء ذرات أو من صنع خالق عظيم جبار ،فذلك ال يغير من الواقع شيئا .وإذا تضاربت النظريات بهذا
الص دد فإن تضاربها ال يغير العالم الذي يمتزج فيه الخير بالشر .وافتراض العالم وليد لقاءات ذرات أو كونه مخلوقا ال يعني
بتاتا أي انعكاس على مسألة الخير والشر ،لذلك فإن الروحية والمادية من وجهة نظر البراغماتية التاريخية تتساويان وال
فضل لهذه على تلك .وبغض النظر عن تفسير التطور التاريخي لهذه اإلشكالية بمنهجية براغماتية محضة ،فإن المشكلة
الحقيقية تكمن في التطور المستقبلي لتداخل هذين العنصرين .فمن جهة تعتبر البراغماتية أن العالم تتحكم فيه المادة بحيث
تجعله رهينة لتصرفات قوى عمياء ،مما ينفي قطعا إمكانية االستقرار على خير أو شر ،ومن جهة ثانية تتدخل الروحية باسم
قوة عاقلة ذات أهداف أخالقية سامية لتنقذ الحياة اإلنسانية من الهالك .وكل من ينفي أهمية تأثير الروحية ال شك أنه يغفل،
في نظر وليام جيمس ،أن الطبيعة البشرية كانت دائما منشغلة بمسألة القضاء والقدر ،وبنهاية العالم ومصير اإلنسان .وما من
كائن بشري إال وله تصور يؤثر بال شك على سلوك الفرد ويحدد موقفه من مجرى األحداث .وعليه فالتناقض بين المادية
والروحية تناقض يشق أعماق الوعي اإلنساني .ففي الروحية تبرير للوجود وتماسكك ،وفي المادية إنكار وتشتت .والحل
الذي تقترحه البراغماتية لل خروج من هذا الجدل هو حل ينفي أي حل بعينيه ،ويترك المجال مفتوحا الحتماالت كثيرة مختلفة.
بمعنى أنها تدع كل إنسان يختار الجانب الذي يحقق المنفعة والسعادة .وأما الحكم على موقفه بالصواب أو الخطأ فهو شيء
متروك للمستقبل ،وعلى أي حال هذا ال يعني البراغماتية في شيء ،ألن مهمتها تبدو محصورة في تبسيط اإلشكالية
وتوضيحها من أجل الوقوف عند مضامينها الواقعية ومعانيها العملية ،وأما الحكم النهائي فهو أمر شخصي وليس من طبيعة
البراغماتية أن تبت فيه.
وهكذا يبدو جليا أن الفلسفة البراغماتية مذهب فكري لصيق بالتجربة المرتبطة بالواقع ،وال تهمها األفكار السامية التي
تتخطى حدود التجربة ،فاإلنسان البراغماتي ال يعيش ليفكر ،إنما يفكر ليعيش ،لذلك فالمعيار الوحيد للحقيقة هو اختبار صحة
أو عدم صحة أية فكرة بالنظر إلى ما تحققه عند تطبيقها في حل المشاكل المطروحة ،إنها صادقة أو كاذبة حسب صالحيتها أو
عدم صالحيتها لتحقيق النتيجة المرغوبة .ال قيمة ألية حقيقة ما لم تؤثر في الواقع.
مرجعيات الفلسفة الغربية " -28-نيتش" ومفهوم اإلنسان األقوى
د.الطيب بوتبقالت
تأثر فريدريك نيتش بكتابات داروين التطورية وبسياسة بسمارك القومية .وكل ما استخلصه من مقولة البقاء لألصلح هو أن
القوة هي العامل الحاسم وبالتالي فهي الفضيلة األساسية ،بينما النقيصة الوحيدة هي الضعف .وإذا كانت فلسفة نيتش تميل
في شكلها إلى نوع من الرومانسية فإن جوهرها ينطلق من إرادة القوة إلى حدودها العدمية ،مرورا بعرقية جرمانية يطبعها
التعالي وتستهويها القيم األرستقراطية المفرطة.
ومن هذا المنطلق فإن فريدريك نيتش ينتقد بشدة صارمة وسخرية نادرة كل السلوكات األخالقية التي أفرزتها الديانة
المسيحية والتي تشبعت بها الحضارة الغربية ،ويؤاخذ على مجموعة من التيارات الفلسفية األوربية مدى ضعفها في مواجهة
المسيحية ،وكان األحرى بها أن تعمل على اقتالعها .وفي ذلك قوله" :لم يختلف المفكرون الفرنسيون من فولتير إلى
أوجيست كونت عن المثل العليا للديانة المسيحية ،بل عززوها.
فقد ذهب أوجيست ك ونت إلى الدعوة إلى محبة اآلخرين ،وتكريس الحياة من أجل مساعدتهم .كما دعا شوبنهاور في ألمانيا
وجون ستيوارت مل في إنجلترا إلى نظرية الشفقة ومساعدة اآلخرين ،واعتبروها المبدأ األساسي في العمل .كما وضع
االشتراكيون جميعهم أفكارهم على أساس هذه المبادئ التي تحض على الشفقة والرحمة ومساعدة الغير".
إن ما يحتاجه اإلنسان في هذه الحياة ،حسب رأي نيتش ،هو القوة وليس الطيبوبة ،والكبرياء وليس الخضوع ،والذكاء
الحازم وليس حب الغير ومساعدة الناس .لقد كان نيتش من المتطرفين التطورين ،فعنده المساواة والديمقراطية تتناقضان
تناقضا صار خا مع نظرية االنتقاء الطبيعي ومبدأ البقاء لألصلح .هذا المبدأ الذي يستهدف تطور اإلنسان العبقري ال اإلنسان
العادي.
لهذا فإن نقطة الحسم في كل النزاعات وفي جميع الحاالت هي القوة وال شيء غير القوة .وهذا الطرح ينسجم تمام االنسجام
مع السياسة الدولية التي كان بسما رك في زمن نيتش قد تبناها ،حيث قال" :إنه ال محبة للغير بين األمم وأن القضايا الحديثة
بين الدول ال ينبغي أن تقررها أصوات الناخبين ،وال بالغة الخطب ،ولكن الذي يقررها هو الدم والحديد".
وفعال ،لقد تمكن بسمارك من دمج الدويالت األلمانية تحت لواء اإلمبراطورية البروسية القوية ،واستطاع أن يبسط نفوذ
السيادة األلمانية على النمسا ،وهزم فرنسا في ظرف وجيز ،وكان بذلك يشكل رمزا للقوة الجبارة في نظر نيتش .وأصبح
بسمارك المعبر المثالي لعظمة ألمانيا ولروح سطوتها العسكرية المتنامية التي ميزتها خالل القرن التاسع عشر.
لقد اهتزت مش اعر نيتش عند رؤيته لموكب عسكري متوجه إلى ساحة القتال حين قال" :لقد شعرت للمرة األولى أن أقوى
وأسمى إرادة للحياة ال تجد تعبيرا لها في الصراع البائس من أجل البقاء ،ولكن في إرادة القوة ،إرادة السيادة!"
ازداد فريدريك نيتش سنة 1844في بلدة روكن ببروسيا ،بدأ حياته العملية كأستاذ لمادة فقه اللغة بجامعة بال سنة ،1869
ونشر أول كتاب له تحت عنوان "مولد المأساة من روح الموسيقى" سنة .1872
كان نيتش يدعو إلى إعادة بناء األخالق والدين على أسس نظرية التطور لداروين ،ألن طبيعة الحياة في نظره ال تعمل على
تحسين أحوال األكثرية من الشعب ،بل ترمي إلى خلق العناصر العبقرية مستخدمة الشعب كحقل تجارب الكتشاف النوابغ من
الرجال .وكانت ميوله فنية في بداية إنتاجه الفكري ،وأبدى شديد اإلعجاب بالموسيقار رتشارد فاجنر الذي وصفه بباعث الفن
الحقيقي وبالفنان الموهوب الذي ال يعرف للخوف معنى.
لكن سرعان ما اتضح له أن الفن يتناقض مع الخشونة ويبتعد عن لغة القوة بمفهومها الدموي ،ولم يعد يركز على اهتماماته
الفنية .وفي سنة 1879أصيب نيتش بمرض كاد أن يلم بحياته حتى أنه أوصى أخته بما يجب القيام به إذا ما حلت به المنية:
"عديني إذا مت أال يقف حول جثماني إال األصدقاء ،وأال يد خل علي الفضوليون من الناس.
وال تدعي قسيسا ينطق باألباطيل واألكاذيب على قبري في وقت ال أستطيع فيه الدفاع عن نفسي ،أريد أن أدفن في قبري
وثنيا شريفا" .لكنه تعافى ونهض من فراش المرض وكأنه انتصر على الموت ،فأصدر كتابين وهما "فجر اليوم" في عام
،1881و"ابتهاج المعرفة" في عام .1882
وفي السنة الموالية ألف أهم كتبه" :هكذا تكلم زرادشت" الذي كان آية إبداعه وجوهر عمق تفكيره ،حيث يعتبره بعض
الباحثين من أعظم الكتب التي أنتجها القرن التاسع عشر ،مع العلم أن هذا الكتاب لم يحقق أي نجاح تجاري يذكر ،وهو عبارة
عن آراء نيتش الفلسفية التي جاءت على لسان شخصية زرادشت :إنها شخصية تنادي بحياة البطولة والمخاطرة بقولها:
"عش في خطر ،وشيد مدنك قرب بركان فيزوف ،وأرسل سفنك الكتشاف البحار المجهولة ،وعش في حرب دائمة".
التقي زرادشت في الغابة بناسك مسن الذي أخذ يحدثه عن هللا ،لكن زرادشت لم يعر هذا الحديث أية مصداقية ،وأدار وجهه
عن الناسك ليناجي نفسه في هذا الحوار الداخلي الصامت" :هل يمكن أن يكون ما قاله الناسك حقا؟
يبدو أن هذا الناسك المسن لم يسمع بعد وهو في غابته أن هللا قد مات!" ...إنها مناجاة طافحة باإللحاد الجامح ،ويتساءل
زرادشت عما إذا كان هناك إنسان أشد كفرا وإلحادا منه لكي يقصده فيمتع نفسه بتعاليمه! لكن موت اإلله المعلن عنه بنوع
من النشوة والتشفي واكبه في نفس الوقت اإلعالن عن ميالد مرتقب لإلنسان األسمى أو األقوى ،أي السوبرمان ،ذلك اإلنسان
الذي سوف لن يهاب المو ت أبدا .إنه إنسان متسام ومستهين بالحياة ،سيضحي من أجل هذه األرض وليس من أجل ما وراء
النجوم .إنها فلسفة الحديد والدم ،النار والرماد ،الحرب والدمار .لقد سمع زرادشت صوتا يناديه" :ما بك يا زرادشت؟ قل
كلمتك وحطم نفسك إلى شظايا"!
أخالق البطولة
بعد كتاب "هكذا تكلم زرادشت" ألف نيتش كتابين ،األول بعنوان "ما فوق الخير والشر" عام ،1886والثاني حول "تاريخ
تسلسل األخالق" عام . 1887والكتابان معا موجهان ضد األخالق القديمة ويمهدان الطريق ألخالق اإلنسان األقوى .وهكذا
يرى نيتش أن هناك نوعين من األخالق ،وهما أخالق السادة وأخالق العامة ،ويعطي مثالين على ذلك :األول يخص اإلنسان
الروماني الذي كانت الفضيلة بالنسبة له تعني الرجولة ،والشجاعة ،والجرأة.
والمثال الثاني يخص اليهود أيام خضوعهم السياسي .ويالحظ نيتش أن الخضوع يولد الذل كما أن العجز يؤدي إلى طلب
المساعدة من الغير .وعليه ،فإن أخالق الطبقات الضعيفة أخالق السالم واألمن ،بينما أخالق األسياد هي أخالق حب المخاطرة
والقوة .وراح نيتش يثنى على الثأر في مقابل الغدر ،والقوة في مقابل المكر ،والكبرياء والشرف في مقابل صوت الضمير.
وأما الشفقة فما هي في نظره سوى ضرب من الشلل العقلي .فاألخالق النيتشية إذن هي تعبير عن إرادة القوة ،وأما الحب
في حد ذاته ما هو إال رغبة في التملك ،وحتى حب الحقيقة ليس إال رغبة في امتالكها ،واإلدراك العقلي هو مجرد عملية
ثانوية ليست ضرورية ،إنه منطق "أنا أريد" فحسب!...
ويعتقد نيتش أن الذي أفسد األخالق والفضائل األرستقراطية التي يدافع عنها ،هو ذيوع وانتشار األخالق اليهودية المسيحية
الديمقراطية .ويرى أن اإلنسان في الواقع من أشد الحيوانات قسوة وأكثرها حبا في ارتكاب أعمال البطش ،وهذا بالذات ما
يجب أن يتحلى به اإلنسان األقوى من أخالق .وأما اإلنسان الضعيف الفاتر الهمة فلم يبقى أمامه إال أن يقول :إن الحياة ال
تساوي شيئا...
وكان جديرا به أن يعترف أنه هو شخصيا ال يساوي شيئا ...لذلك وجب على اإلنسانية أال تهتم بالرفع من مستوى الجماهير
وإنما عليها أن تسعى إلى توفير الشروط الالزمة لظهور اإلنسان األقوى" :وأن يكون هدف اإلنسانية هو اإلنسان األقوى
وليس الجنس البشري بأسره" .فالغاية إذن هي تحسين النوع وليست سعادة الجماهير ،وما المجتمع إال أداة إلبراز قوة الفرد
ودعم شخصيته.
وبناء على ذلك ،فإنه ال يجوز ألفذاذ الرجال الزواج عن طريق الحب ،ألن هذا قد يؤدي إلى زواج األبطال من الخادمات،
والعباقرة من الخياطات وعارضات األزياء الفاجرات .إن الحب يعمي البصيرة ويفقد الحكمة ،ويجب تركه لحثالة الرجال ألن
االنسياق للعواطف والغرائز مجرد ضعف .ويبقى على خير الرجال أن يتزوجوا من خير النساء.
ال يؤمن نيتش بنظرية العقد االجتماعي ،والذي كان وراء تأسيس الدول في نظره هم جبابرة من الغزاة والسادة األقوياء
الذين أفنوا حياتهم في البحث عن الموت .لذلك يرى نيتش أن الحرب هي أفضل عالج للشعوب التي دب فيها الضعف والراحة
والخسة.
هذه المبالغة في قلب القيم ،وتمجيد العنف ،وتقديس القوة ،ومدح القسوة التي ال تعرف للرحمة معنى كانت بدون شك منبع
تأثير ومصدر إلهام بالنسبة لخرافة تفوق الجنس اآلري ،وهي في الوقت ذاته تعطي الدليل أن الفلسفات المتطرفة المجنونة
غالبا ما تجد من ينساق ألطروحاتها العبثية .إن النفي القاطع لحقوق اإلنسان عند نيتش كان نابعا من إيمانه األعمى ب
"سلطة القوة" في أبشع تجلياتها وإلى أقصى حدودها الالإنسانية...
وفعال ،لقد قال فريدريك نيتش كلمته وحطم نفسه إلى شظايا ،ذلك أنه أصيب بالجنون منذ 1889وبقي على هذه الحال إلى أن
وافته المنية سنة .1900