You are on page 1of 4

‫الفكر النسوي يسائل المنظومات الفكرية السائدة‬

‫ناهد بدوية‬
‫السبت‪ 30 ,‬كانون ثان ‪22:36 2010‬‬

‫منذ أوائل الثمانينات بلغ الفكر النسوي مستويات من النضج لم تعد تعنى بتحرر المرأة فحسب‪ ،‬وإنما فرضت نفسها على العلماء والفلسفة‬
‫والمفكرين‪،‬‬

‫ودفعتهم إلى إعادة النظر في الكثير من المسلمات الفكرية السابقة‪ ،‬إذ بات الفكر النسوي اليوم من أبرز تيارات الفكر الغربي الراهن والفلسفة‬
‫المعاصرة‪.‬‬

‫وفي سياق الحفر والبحث عن تأثير الرجل في إنتاجه الفكري والعلمي‪ ،‬بحثت المفكرات النسويات عميقًا في أثر الذات في التجربة‪ ،‬وتفاعل‬
‫هذه الذات مع النتائج وتأثيرها فيها‪ .‬وتجلى النضج الفكري في محاولة زعزعة استقرار النظام الثنائي‪ ،‬الكامن في ثنائية الذكر‪/‬‬
‫والنثى من دون الوقوع في محاولة قلب الوضع‪ ،‬بحيث تصبح النثى متميزة عن الذكر‪ ،‬كما حاولت الحركة النسوية السابقة‪ .‬بل‬
‫كشفت الغطاء عن الَعَور الذي تعيشه البشرية‪ ،‬ل نتيجة تهميش المرأة فحسب‪ ،‬بل نتيجة تهميش الجانب النثوي من الرجل أيضًا‪،‬‬
‫وسيادة ثقافة الحط من قدر الصفات النثوية وسيطرة الصورة النمطية للنسان‪/‬الرجل‪.‬‬

‫ل أنثى وذكر مختلفان‪ ،‬أم هناك إنسان وحسب؟ والسؤال الهم من ذلك‪ ،‬لماذا كان باستطاعة الرجل تهميش‬
‫وهنا نطرح سؤاًل‪ :‬هل هناك فع ً‬
‫المرأة؟ ولماذا ل نعتبر أن السائد هو نتيجة منطقية لهذه الختلفات‪ ،‬وهو سائد بحكم المنطق والوجوب‪ ،‬كما تفترض الكثير من‬
‫المعتقدات والفكار السائدة؟‬

‫إن أول الفروق الجنسية الواضحة هي الفروق في القوة العضلية‪ ،‬وأفترض أن الزمان الطويلة ما قبل المدنية‪ ،‬والتي تقدر بمليين السنين‪،‬‬
‫التي مرت على البشرية‪ ،‬والتي تحتاج السيادة فيها إلى القوة العضلية‪ ،‬هي السباب الرئيسة التي أدت إلى سيادة الذكور وأكسبتهم‬
‫القدرة على تهميش الناث وإبعادهن عن مراكز القرار‪ .‬وتعاقب الجيال المتتالية التي تربت على وجود جنس سائد أدى إلى تكريس‬
‫قوالب نمطية شائعة لسمات أنثوية وذكورية ليست فطرية‪ ،‬وإنما هي نتاج للتكيف الثقافي في المجتمعات التي انتظمت بحيث تحدد‬
‫الدوار المنتظرة من الذكور والناث‪ ،‬وتحدد‪ ،‬من ثم‪ ،‬القدرات والميول التي سيجري تطويرها لدى الطفال من الجنسين المختلفين‪.‬‬

‫وفي عصرنا الحاضر‪ ،‬تستطيع شريحة الكترونية صغيرة جدًا التحكم بجيش كامل من العضلت المفتولة‪ .‬في هذا العصر‪ ،‬الذي ل تنفع فيه‬
‫العضلت في شيء سوى دهنها بالزيوت واستعراضها لمعة ومتللئة أمام شاشات التلفزة‪ ،‬تغدو السيطرة الذكورية ناتئة وتحتاج‬
‫إلى تلك المحاولت التي نلمسها جميعًا‪ ،‬لتأكيدها وضمان استمرارها‪ ،‬لنها فقدت مشروعيتها منذ زمن بعيد‪.‬‬

‫سمات أنثوية وسمات ذكورية‬

‫بعيدًا عن الكتب الرائجة اليوم‪ ،‬والتي تؤكد الفوارق الشاسعة بين المرأة والرجل‪ ،‬إلى حد اعتبارهما ينتميان إلى كوكبين مختلفين‪ ،‬سألقي‬
‫الضوء هنا على كتاب علمي رصين‪ ،‬يبحث في الفروق الجنسية‪ .‬وهو كتاب "جنوسة الدماغ" للكاتبة ميليسا هاينز‪ .‬فهي تقول‪ :‬إن‬
‫أكبر الفروق الجنسية السيكولوجية بين البشر هي تلك التي تحدث في هوية الجنوسة المركزية‪ ،‬أي شعور الفرد بنفسه ذكرًا أو‬
‫أنثى‪ ،‬ويعرف هذا الشعور بهوية الجنوسة المركزية‪ .‬وكذلك في الميول الجنسية‪ ،‬إذ لدى أغلب الناس هوية جنوسة مركزية متوافقة‬
‫مع جنسهم الوراثي‪ ،‬وميول جنسية تجاه الجنس الخر المخالف‪.‬‬

‫أما أغلب الفروق الجنسية الخرى فإنها تصنف من الفروق الصغيرة والمتوسطة‪ ،‬فمثل تعتبر الفروق الجنسية المتعلقة بالعنف الجسدي‪ ،‬من‬
‫المستوى المتوسط‪ ،‬فقد اتضح أن الولد والرجال أكثر عدوانية من الفتيات والنساء‪ .‬بما في ذلك الخيال العدواني‪ ،‬والهانات‬
‫اللفظية‪ ،‬والقدرة على تعريض الخرين للذى واللم‪ .‬واقترح العلماء أن هذه الفروق الجنسية من المستوى المتوسط‪ .‬وهناك قدر‬
‫كبير من المعلومات حول الفروق الجنسية في القدرات الذهنية‪ ،‬فثمة فروق جنسية صغيرة لمصلحة الناث في فئة التشفير والرموز‬
‫الرقمية‪ ،‬وفروق جنسية أخرى لمصلحة الذكور في فئات المعلومات والتصميم باستخدام المكعبات والقدرات البصرية المكانية‬
‫والتحليل الُبعدي‪ .‬فيما تظهر الناث تفوقًا في وظائف اللغة والكلم المختلفة‪.‬‬

‫تجادل هاينز بأنه قد تكون بعض السمات‪ ،‬مثل القدرات البصرية المكانية أو القدرات اللغوية أو انخفاض العدوانية‪ ،‬محبذه عن سواها‪ .‬ولكن‬
‫ليس من الواضح‪ ،‬ما إذا كان السلوك التقليدي للذكر أو نمط السلوك التقليدي للنثى هو الفضل‪ .‬إضافة إلى أن النمط النموذجي‬
‫للذكر أو النمط النموذجي للنثى نادر الوجود إذ التباين ضمن الجنس الواحد كبير جدًا‪ ،‬فهناك نساء قدراتهن البصرية المكانية عند‬
‫أعلى المستويات‪ ،‬وهناك رجال قدراتهم اللغوية عند المستويات العالية نفسها‪ .‬في الواقع‪ ،‬على الرغم من أن معظمنا يبدو بوضوح‬
‫ل منا هو فسيفساء معقدة من السمات الذكرية والنثوية‪.‬‬‫إما ذكرًا وإما أنثى‪ ،‬فإن ك ً‬

‫"إن الفراد من الرجال والنساء بمنزلة فسيفساء معقدة من الصفات المرتبطة بالجنس‪ ،‬عوضًا عن أن يكونوا نسخًا مكررة من الرجل‬
‫)النموذجي( والمرأة النموذجية‪".‬‬
‫تؤثر الهرمونات في التمايز الجنسي أكثر من المعلومات الوراثية المتناقلة عبر الخليا‪ ،‬وهي التي تكمن وراء السمات النثوية أو الذكرية‬
‫بصورة أساسية‪ .‬لكن البحاث العلمية أكدت أنها تعتبر من المصادر البيئية‪ ،‬من خلل استجابتها الكبيرة للمتغيرات في البيئة‪ .‬تناقش‬
‫الكاتبة هاينز أنه ل يمكننا فصل العمليات البيولوجية عن العمليات الجتماعية والثقافية‪ ،‬واعتبارها ساحات مستقلة بعضها عن‬
‫بعضها الخر‪ ،‬وبأن كل الكتشافات العلمية والدراسات الجتماعية تسير في التجاه التبادلي‪ ،‬التفاعلي‪ ،‬بين منظومة متكاملة من‬
‫المؤثرات والعوامل المختلفة‪ .‬أي إن لجميع سماتنا السيكولوجية والسلوكية أساس بيولوجي في دماغنا‪ ،‬بغض النظر عما إذا كانت‬
‫الهرمونات أو عوامل أخرى‪ ،‬بما فيها العوامل الجتماعية والثقافية والتربوية‪ ،‬هي التي تدفعنا إلى النمو بطريقة معينة‪ .‬لذا فإن‬
‫التمييز بين السباب البيولوجية والجتماعية هو تمييز زائف‪.‬‬

‫هذه الكتشافات العلمية الحديثة تشير إلى أن النتيجة الطبيعية لضطهاد المرأة وتأكيد التسيد الجنساني الذي تنامى عبر التاريخ من قبل الذكر‪،‬‬
‫ل من الجنسين اضطَهد جانبًا منه ونما الجانب الخر‬
‫أدى إلى تبجيل السمات الذكرية وتبخيس السمات النثوية‪ .‬وأدى من ثم إلى أن ك ً‬
‫على حسابه‪.‬‬

‫المقصود هنا بالسمات النثوية‪ :‬الذكاء الداخلي‪ ،‬الحدس‪ ،‬الرعاية‪ ،‬المشاعر والحاسيس والنفعالت‪ ،‬عدم الوضوح‪ ،‬النحياز العاطفي‪ ،‬التكيف‬
‫مع المكان والشخاص‪ ،‬التواصل‪ .‬أما السمات الذكرية فهي‪ :‬الذكاء الرياضي‪ ،‬الوضوح‪ ،‬القدرة على التجريد‪ ،‬عدم التكيف والغزو‬
‫باتجاه الخارج‪ ،‬الموضوعية‪ ،‬العقل الخالص‪ ،‬العنف‪ ،‬التنافس‪ ،‬القتال‪ ،‬النفصال‪.‬‬

‫إن التعامل مع الموضوع على أنه سمات معينة مقموعة يؤكد أن ل مكان للخضوع للحتمية البيولوجية الرهيبة‪ ،‬والتي كانت تخاف منها‬
‫الناشطات النسويات السابقات‪ ،‬حين تطرفن في تأكيد التشابه التام بين الجنسين‪ ،‬كي ل تكون الفوارق الجنسية قدرًا ل مفر منه‬
‫ومصدرًا للضطهاد الزلي‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬الضطهاد البدي‪ .‬أي إن إعادة بناء قيم بديلة وتربية متوازنة بإعادة العتبار للسمات النثوية‪،‬‬
‫يمكن أن يتراجع الختلل الكبير الحالي ويؤدي إلى أن تسير البشرية مشية متوازنة بدًل من حالة العرج المزمنة التي تعاني منها‬
‫حاليًا‪ .‬باعتمادها على الساق الذكورية وضمور الساق النثوية‪.‬‬

‫لماذا الفكر النسوي الن؟‬

‫فقط في النصف الثاني من القرن العشرين أتيح التعليم واللتحاق بالمؤسسات التعليمية والعلمية لعداد كبيرة من النساء‪ .‬ومع التعليم‬
‫الرسمي يتلقى الرجال والنساء الجراءات نفسها واللغة نفسها‪ ،‬لذلك يمكنهم التواصل مع المعارف والمشاركة فيها‪ .‬ومن ثم إجراء‬
‫الحوار الكبير‪ ،‬الذي من الممكن أن يؤدي إلى حلول للكثير من مشكلت عالمنا الراهنة‪ ،‬وبدء الحوار يفترض مسائلة الفكر السائد‪،‬‬
‫في كل مجتمع على حدة‪ ،‬والفكر السائد على الصعيد الكوني‪ ،‬وهو هنا الفكر الغربي تحديدًا‪ ،‬والعمل المشترك لعادة إنتاج متوازنة‬
‫للثقافة والفكر والعلوم المختلفة‪.‬‬

‫الفكرالنسوي و البستيميولوجيا‬

‫وضعت فيلسوفات الحركة النسوية البستيميولوجيا الموضوعانية )الساسانية( تحت المسائلة وبحثن في تأثيرها العميق في الفلسفة‬
‫الغربية‪ .‬وسعين إلى صوغ نظرية تأنيث البستيميولوجيا‪.‬‬

‫ابتدأ العصر الذهبي للبستيميولوجيا الموضوعانية‪ ،‬التي وجدت بداية تكوينها في واقعية أفلطون‪ ،‬مع ديكارت وفلسفته العقلية الخالصة‪.‬‬
‫وامتد تاثيرها إلى الفلسفة الغربية‪ ،‬والفكر الغربي‪ ،‬حتى عصرنا الحاضر‪ .‬وقد حمل الفكر التجريبي لواء هذه البستيميولوجيا التي‬
‫بلغت نضجها على أيدي فلسفة الوضعية في القرنين الخيرين‪ .‬واستفادت الفلسفة النسوية الجديدة من الضربات القوية التي تلقتها‬
‫البستيميولوجيا الموضوعانية من قبل فلسفة ما بعد الحداثة من أمثال فوكو ودريدا‪ ،‬ومن قبل أصحاب النظرية النقدية وعلى‬
‫رأسهم هوركهايمر وهابرماس‪ .‬ولكن فلسفة الحركة النسوية دفعن بالجدل الدائر حول مسلمات هذه البستيميولوجيا إلى مستويات‬
‫جديدة ووضعن هذه المسلمات أمام تحد ل تزال تواجهه حتى اللحظة الحاضرة‪.‬‬

‫بحثت الفلسفة النسوية في أسئلة البستيميولوجيا الساسية‪ ،‬أي في شروط المعرفة ومصادرها ومعاييرها ومناهجها‪ ،‬وموقف العارف وتأثير‬
‫الذات العارفة في العملية المعرفية‪ ،‬وأضافت إليها بناء على ذلك تأثير الجنوسة أو دورها في عملية المعرفة‪ .‬وجادلت في مواجهة‬
‫الفتراض الساسي للبستيميولوجيا الموضوعانية القائل بأن هناك مملكة للوقائع موجودة باستقلل تام عنا‪ .‬وأن الدور الذي نقوم‬
‫به كذوات عارفة ل يتخطى محاولة القبض على هذا العالم ذاته‪ ،‬كما هو‪ .‬إننا ل نسهم في تكوين موضوع المعرفة ل سببيًا ول نظريًا‪.‬‬
‫إن الذات العارفة هي الذات الديكارتية التي تعمل في فراغ تام‪ .‬إنها ذات ساكنة ل متحركة‪ ،‬منفعلة ل فاعلة‪ ،‬متقبلة ل معطية‪.‬‬
‫واعتمدت الفلسفة النسوية في جدلها هذا على تحولت ما بعد الحداثة في النظر إلى الذات العارفة من حيث أن لها الدور المحوري‬
‫في عملية المعرفة‪ ،‬وعملت‪ ،‬عن طريق المناهج التفكيكية على تفكيك الدور الحقيقي للذاتية في الفلسفة الغربية التقليدية‪ .‬وأوضحت‬
‫جوانا هودج أن الذاتية – الذكورية كامنة في فصل ديكارت للوعي العقلني عن الجسد ليرتبط الول بالذكر والثاني بالنثى‪.‬‬

‫أي إن الموضوعية الغربية كانت مزيفة إلى حد ما‪ ،‬لن سيرورة إنتاج المعرفة تخضع للشروط الجتماعية التي تشكل الوسيط بين الذات‬
‫والموضوع‪ ،‬وبما أن الجنس مقولة اجتماعية‪ ،‬ل مجرد مقولة بيولوجية فقط‪ ،‬فان جنس الذات العارفة جزء ل يتجزأ من منظورها‬
‫الجتماعي‪ ،‬أي إن عملية إنتاج المعرفة عند الذكور ل يمكن فهم شروطها ومقتضياتها إل من ضمن كونها ممارسات للذكور‬
‫باعتبارهم يمثلون فئة اجتماعية لها منظورها الخاص‪.‬‬
‫من هنا كان أحد المعالم البارزة للفلسفة النسوية ميلد البستيميولوجيا النسوية الصريحة كما عبرت عنها الفيلسوفة النسوية لورين كود في‬
‫مقالتها في مجلة ما وراء الفلسفة ‪ ،1981‬إذ أطلقت سؤالها‪ :‬هل جنس العارف مهم من الناحية البستيميولوجية؟ وكانت الجابة‬
‫التقليدية دائمًا‪ ،‬هي النفي القاطع‪ .‬وقد بذلت الفيلسوفة السترالية جنفييف للويد جهدًا نظريًا عظيمًا للجابة عن هذا السؤال في‬
‫كتابها "الذكر والنثى في الفلسفة الغربية‪ ،"1984-‬إذ تتبعت مفهوم العقل‪ ،‬منذ أرسطو حتى يومنا‪ ،‬لتبين التغيرات التي لحقت‬
‫بالمفهوم‪ ،‬فقد ظل محكومًا بالنحياز الذكوري‪ .‬وأبانت جنفييف كيف قام العقل على أسس مناقضة لكل ما هو نسوي ولسائر‬
‫التوجهات النثوية‪ ،‬وكيف عملت الفلسفة منذ عهدها الغريقي على البحث عن مبدأ ميتافيزيقي يفصل الذكورة اليجابية عن النوثة‬
‫السلبية‪.‬‬

‫ل يلعب فيه الشعور دورًا أكبر‪ .‬وبّين أن الشعور‬ ‫قدمت هؤلء الفيلسوفات النسويات تصورًا جديدًا للعقل ينقد التصور الديكارتي‪ ،‬وقدمن عق ً‬
‫مصدر من مصادر الفهم‪ ،‬ونتيجة من نتائجه‪ ،‬وكيف انه منخرط في العملية المعرفية من ألفها إلى يائها‪.‬‬

‫الفكر النسوي والعلم‬

‫منذ عام ‪ ،1905‬أي منذ ما سمي آنذاك بأزمة الفيزياء‪ ،‬تدخلت أدوات التجربة في نتائج التجربة‪ ،‬عندما ذهل العلماء باكتشافهم أنهم ل‬
‫يستطيعون قياس سرعة الجسيم الصغير وكتلته في تجربة واحدة‪ ،‬وأنهم يحتاجون إلى شروط وأدوات تجربة محددة لقياس كتلة‬
‫الجسيم‪ ،‬ثم يحتاجون إلى شروط أخرى وأدوات تجربة أخرى لقياس سرعته‪ .‬كانت تلك الضربة الولى التي تلقتها الفيزياء‬
‫الميكانيكية الباردة التي تعتمد على الحتمية والوضوح وانفصال الذات والدوات عن نتائج التجربة‪.‬‬

‫كما كانت الضربة الولى للعتبار السائد من قبل كثير من الفلسفة وعلماء النفس‪ ،‬بأن الوصول إلى النا المنفصلة هو قمة التطور النساني‪.‬‬
‫هذا النفصال الذي أدى إلى فصم النسانية الغربية عن الطبيعة‪ ،‬لكي تؤسس الهوية المنفصلة‪ .‬لقد كان لهذا النفصال مشروعيته في‬
‫مرحلة ضرورية من مراحل الرتقاء‪ ،‬يحتاج فيها العقل إلى أن ينأى عن الجسد وعن المادة لكي ينظر إليهما من خارجهما للدراسة‪.‬‬
‫ولكن هذا النفصال يفقد مشروعيته حين يستمر إلى المدى ما بعد الضروري في سياق الرتقاء السيكولوجي للفرد والثقافة‪.‬‬

‫انعكس الوعي الذكوري على العلم‪ ،‬فالعلم مؤسسة اجتماعية‪ ،‬أو طريقة لكتساب المعرفة‪ ،‬تأثرت بحقيقة أن الغالبية العظمى من العقول‬
‫المسؤولة عن تشييد عمارة العلم كانت من الذكور‪ .‬وواصلت هذه المؤسسة دأبها على حجب الجانب النثوي منه‪ .‬واستبعاد المرأة‬
‫يعكس استبعادا للنثوية وبخسًا لقيمتها‪ .‬مؤسسة العلم حكمتها الحادية وحددتها بالقيم الذكورية‪.‬‬

‫اعتمد العلم على الملحظة والقياس والتفكير‪ ،‬مستخدمًا مقاييس موضوعية‪ ،‬ورفض الشعور والحدس‪ ،‬يصنف هذان العنصران عادة على‬
‫أنهما أنثويان‪ .‬وفي الوقت الراهن ومع صور الموت المحتمل لكوكبنا نوويًا أو بيئيًا تكون مهمتنا الن أن نستحضرهما في علقة مع‬
‫الوعي النساني‪ ،‬مهمتنا الن هي الدخول مع العلم في علقة جديدة مع عناصر جرى كبتها وتهميشها‪ ،‬أي مع العناصر النثوية التي‬
‫يصبح إهمالهما غير علمي وفاقدًا المشروعية‪ .‬وذلك من خلل اعتماد المقاربات النثوية‪ ،‬مقاربات العتماد المتبادل والحميمية‬
‫والرعاية والتفكير السياقي‪.‬‬

‫إذا كانت الموضوعية الصارمة‪ ،‬من سمات البحث العلمي الذكوري‪ ،‬وإذا كانت النظريات العلمية الحديثة‪ ،‬كنظرية الكوانتم في الفيزياء‪ ،‬التي‬
‫تعتمد على مبدأ الليقين‪ ،‬ونظرية الشواش‪ ،‬في الرياضيات تطرحان عددًا من القيود النظرية والعملية للموضوعية‪ ،‬لمصلحة‬
‫ل‪،‬‬
‫المختلف والمتعين فإن هذا كله يدعم المنظور النثوي‪ .‬ونلحظ أن ذلك كله من الصفات النثوية التي همشت واستبعدت زمنًا طوي ً‬
‫واعتبرت منافية للحقائق العلمية الواضحة‪ .‬جاء العلم ليقول إن هذه الصفات هي من صفات الطبيعة ذاتها وجاء الفكر النسوي‬
‫والعالمات النسويات ليستفدن من آخر ما توصل له العلم لعادة العتبار للجانب النثوي فينا‪.‬‬

‫تخلص ليندا جين شيفرد في كتابها‪ ،‬انثوية العلم‪ ،‬إلى أننا نستطيع تغيير سمة الجفاف من العلم‪ ،‬والخروج من مشاكله‪ ،‬وتجنب اندلع الشر‬
‫فيه‪ ،‬بأن "نتحمل المسؤولية عن الظلل المعتمة فينا"‪ ،‬وتقول "ل احسب أن فرض المزيد من الرواسب البيروقراطية سوف يحل‬
‫مشكلت العلم‪ .‬أرى المر كتحد أمام الفراد جميعا لكي يفتحوا عقولهم على الممكنات المستحدثة‪ ،‬لكي يتفكروا بعمق‪ ،‬لكي يعيدوا‬
‫فحص قيمنا‪ ،‬لكي نقترب من معرفة أنفسنا‪ ،‬لتطوير شعورنا وحدسنا حتى يكتمل تفكيرنا وإحساسنا‪ ،‬حتى تتكامل النثوية‪ ،‬لكي نغدو‬
‫بشرا أقرب إلى الكل المتكامل‪ .‬حينئذ يستطيع كل منا أن يغرس العلم في قلبه وفي حنايا جسده"‪.‬‬

‫الفكر النسوي والخلق‬

‫قام الفكر النسوي بإعادة النظر في فلسفة الخلق السائدة ونقد فلسفة الخلق الكانطية التي تعتمد على الذات المتجردة المتعالية‪ .‬وبني‬
‫التصور النسوي على فلسفة للخلق تقوم على تصور ترابطي للشخاص‪ ،‬بدًل من تصور الفراد المستقلين والمكتفين ذاتيا‪،‬‬
‫فالنظريات السائدة استوردت إلى النظرية الخلقية تصورًا عن الفرد طور أساسًا لمصلحة النظرية الليبرالية السياسية والقتصادية‪،‬‬
‫إذ ينظر إلى الشخص على أنه فاعل عاقل بذاته‪ ،‬أو فرد يهتم بذاته‪ .‬على عكس نظرية الخلق النسوية التي ترى أن الشخاص‬
‫ل يعتمد على هؤلء الذين‬ ‫مترابطون ويعتمدون بينيًا بعضهم على بعض أخلقيا وإبستيميولوجيًا إذ يبتدئ كل شخص حياته طف ً‬
‫يقدمون له العناية‪ ،‬ونبقى معتمدين بينيًا على الخرين بطرق أساسية تمامًا طول حياتنا‪ .‬والقول إنه باستطاعتنا أن نفكر ونفعل كأننا‬
‫مستقلون يعتمد على شبكة من العلقات الجتماعية تجعل ممارسة هذا النوع من السلوك ممكنًا‪ .‬وعلقاتنا هي جزء من الشيء الذي‬
‫يشكل هويتنا‪ .‬هذا ل يعني أننا ل نستطيع أن نصبح مستقلين ذاتيًا‪ ،‬بل على العكس يقدم الفكر النسوي تصورًا نسويًا للحكم الذاتي‬
‫الحر‪ ،‬يبنى على حساب التصور الليبرالي‪ ،‬لكنه يعتمد على رفض إعادة تأسيس العلقات على أي شكل من أشكال الضطهاد‪ .‬وكما‬
‫توضح فيرجينيا هيلد في كتابها‪" ،‬أخلق العناية"‪" ،‬أن بناء النظرية الخلقية كأننا ربنسون كروزو‪ ،‬أو كأننا نباتات فطر وفق‬
‫صورة هوبز من ل مكان‪ ،‬فإن هذه المحاولة مضللة‪".‬‬

‫استفادت فلسفة الخلق النسوية من أسلفها فلسفة الحس الخلقي هاتشسون وشافتسبري وهيوم‪ .‬هيوم يعطي الحاسيس والنفعالت‬
‫والعواطف أهمية أساسية في فلسفة الخلق بينما يرى كانط أن ميدان الخلق ل يمكن أن يكون ميدانًا لتحليل العواطف البشرية‪.‬‬

‫إن أهم إنجاز للفكر النسوي الحديث هو تأكيده أهمية تجربة النساء والستفادة منها فلسفيًا إلى جانب تجربة الرجال‪ ،‬وأن النظريات الخلقية‬
‫السائدة تعتمد على تجربة الرجال في الحياة العامة والسواق‪ ،‬أما خبرة النساء العتنائية تؤدي إلى اعتبار الحساسية المفعمة بالحب‬
‫والعمل المعتمد على الستجابة للحاجات وتلبيتها‪ ،‬أقرب إلى المفهوم الخلقي من القواعد المجردة والحسابات العقلية للمنافع التي‬
‫تعتمد عليها النظريات الخلقية السائدة‪.‬‬

‫على كل الحوال ليس هناك نظرية أخلقية نسوية واحدة وإنما عدد من البدائل‪ ،‬وعدد من التجاهات تشترك في شيء أساسي هو الوعد‬
‫ومحاولة التخلص من النحياز الجنسي في التنظير الخلقي وغيره‪.‬‬

‫بمثابة خاتمة‬

‫لم أكن نسوية يومًا‪ ،‬وكان هاجسي سياسيًا‪ ،‬ينطلق من إيماني بأن التغيير السياسي سوف يؤدي إلى تحرر المرأة والرجل معًا‪ .‬ولكن في‬
‫سياق النشاط السياسي أدركت أن ل شيء يأتي دفعة واحدة‪ ،‬وكانت المعاناة تشير إلى أن القوى السياسية‪ ،‬في غياب نشاط نسوي‬
‫فاعل‪ ،‬سوف تعيد إنتاج السيطرة الذكورية‪ ،‬لنها تمارسها مسبقًا في أحزابها‪ .‬كما أن الفكر النسوي لمس عندي بعضًا من الميول‬
‫الثورية لنه فكر ثوري بامتياز يهدف إلى قلب أقوى هرم سلطة محصن‪ ،‬وهو هرم الجنس‪ ،‬يهدف إلى قلبه ل ليحل محله بل‬
‫لتقويض كل أشكال التراتب الهرمي أساسًا‪ .‬لنه بطبيعته ضد كل هرمية وضد كل سلطة‪.‬‬

‫ولكن الهم من ذلك هو زيادة قناعتي‪ ،‬من خلل ملحظاتي‪ ،‬بتأثير الذات الباحثة في النتائج في مجالت عديدة‪ ،‬وسوف أحاول أن أبحث فيها‬
‫ل‪ ،‬رصدي لرأي النساء المتزوجات المتدينات من حولي في قضية تعدد الزوجات‪ ،‬إذ ترى هؤلء‬ ‫تباعًا‪ ،‬وسأذكر منها الن مث ً‬
‫النسوة دائما أسبابًا موجبة لمنعه أو تحديده وتقييده بشدة على عكس الرجال الذين يدافعون عنه بل تحفظ وبل قيد أو شرط‪ .‬وهكذا‬
‫صرت مع وجود فقه ديني نسوي وعلم نسوي ورياضة نسوية وهندسة نسوية ‪ ...‬الخ ومع كل شأن نسوي بسلبه وإيجابه كي يوازن‬
‫قليل التاريخ الطويل من النتاج الفكري والفلسفي والعلمي والعملي من الذات المذكرة بكل إيجابياتها وسلبياتها‪ .‬حان الوقت للبشرية‬
‫أن تسير بتوازن قبل أن يفوت الوان وتستمر "بفركشتها" إلى أن ترتطم بحائط النقراض الذي بات يهددها جديًا‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬

‫جنوسة الدماغ‪ -‬ميليسا هاينز‪ -‬عالم المعرفة‬ ‫‪-1‬‬

‫مقال عادل ضاهر في قضايا المراة العربية‬ ‫‪-2‬‬

‫أخلق العناية‪ -‬فيرجينيا هيلد‪ -‬عالم المعرفة‬ ‫‪-3‬‬

‫مقال يمنى طريف الخولي‪-‬عالم الفكر‬ ‫‪-4‬‬

‫انثوية العلم‪ -‬ليندا جين شيفرد‪ -‬عالم المعرفة‬ ‫‪-5‬‬

‫اسس ميتافيزيقا الخلق‪ -‬ايمانويل كانط‬ ‫‪-6‬‬

‫الفكر النسوي يسائل المنظومات الفكرية السائدة‪ -‬ناهد بدوية‬

You might also like