You are on page 1of 45

1

‫إلى الذين ربياني في الصغر و علماني في الكبر‬


‫‪ ،‬إلى كل من جاف النوم مقلتاها ليال و ما ضجرت ‪ ،‬إلى من رقدت كل الناس و استيقظت ‪ ،‬واشتكى الناس و ما هنت‬

‫‪.‬إلى أمي فاطمة‬

‫‪.‬والى وأبي عبد السالم‬

‫‪.‬حفظهما هللا واطال في عمرهما‬

‫إلى جميع إخواني كبيرا و صغيرا‬ ‫‪.‬‬

‫‪.‬زهور‪ .‬إدريس‪ .‬حسنية‪ .‬منار‬

‫والى رفيقة العمر "اسماء" التي تجمع بين سعادتي وحزني‬

‫‪.‬الى استاذي الموقر‪:‬الدكتور ابراهيم عبد هللا البورشاشن‬

‫إلى كل األصدقاء‪.‬‬
‫‪.‬الى كل زمالئي وأصدقائي األعزاء‬

‫عبد الحي‪ .‬محمد‪ .‬كريم‪ .‬طارق‪ .‬عبد الحق‪ .‬محسن‬

‫‪.‬إلى كل مربي فاضل قدم لي ما أحتاجه من علم وحسن رعاية وتوجيه‬

‫‪.‬الى كل من يخوض في بحر العلم‬

‫أهدي ثمرة سهري وجهدي‬ ‫‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫فليطل لســــانك بالشـــــــــــكر‬ ‫إذا عجزت يداك عن اإلسداء‬

‫و أنا ال أملك سوى تقديم عباراة الشكر و اإلمتنان إلى فضيلة األستاذ الجليل الدكتور إبراهيم عبد هللا‬
‫البورشاشن الذي أشرف على إنجاز هذا العمل المتواضع و نبهنا أحسن تنبيه ووفانا بنصائحه النيرة و‬
‫توجيهاته الرشيدة ‪.‬‬

‫فإليه الشكر الجزيل و التحية العالية مع التقدير البالغ و أرجو من هللا أن يجعله للطلبة و الباحثين خير‬

‫‪ .‬مرشد و معين بتوصياته الجادة في مجال البحث العلمي‬

‫"واتقدم بالشكرالى رفيقة درب حياتي" اسماء الزرعي‬

‫‪.‬واتقدم بشكري وامتناني الى كل اساتذتي الذين تعلمت على ايديهم الشيء الكثير‬

‫كما اتقدم بالشكر والتقديرالى كل األصدقاء و الزمالء األساتذة املتدربين‬

‫‪3‬‬
‫مقدمة‬
‫عرفت الفلسفة السياسية منذ اليونان مسألة متعلقة بمعرفة من ه و الح اكم الش رعي؟ من ال ذي يس تحق‬
‫السلطة شرعا ؟‪ .‬وقد أدت المسافة المؤدية إلى جون جاك روسو إلى ظهور ج واب له ذا التس اؤل‪ :‬وم ا إن‬
‫تمت بلورة هذا الجواب (من خالل مصطلحات من قبيل س يادة الش عب)‪ ،‬وم ا إن نجحت الفلس فة السياس ية‬
‫في مشروعها‪ ،‬حتى فسحت المجال لزحزحة أسئلتها‪ ،‬فتم التساؤل عن طبيعة العالقات ال تي ينبغي أن تق وم‬
‫بين الدولة والمجتمع (الشعب)‪ ،‬وفي هذا السياق ومع بداية السبعينيات برز"جون راولز‪ " jon rowls‬في‬
‫الفلسفة السياسية معطيا لها نفسا جديدا‪ ،‬من خالل كتابه "نظرية في العدالة " الذي نشره سنة ‪ 1971‬م‪.‬‬

‫يعتبر"ج‪.‬راولز" من أهم المنظ رين للفلس فة السياس ية ومن خالله ا للعدال ة كنظري ة ومفه وم‪ ،‬لق د‬
‫كانت الفلسفة األنجلوسكسونية إلى حدود عام ‪ ،1971‬خاضعة للفكر التحليلي مكرسة بذلك للمنطق الفلسفي‬
‫اإلبستمولوجي‪ ،‬أما الفلسفة السياسة فكانت غير م ؤثرة بش كل عمي ق في التقلي د األنجلوسكس وني حيث بقي‬
‫المذهب النفعي المؤثر من الناحية األخالقي ة والسياس ية‪ ،‬إال أن ه م ع بداي ة نظري ة راول ز للعدال ة‪ ،‬ع رفت‬
‫الفلسفة السياسية إنتعاشة واضحة وهذا ما سيحاول هذا البحث رصده من خالل قضيتي الوض ع األص لي و‬
‫مبدأي العدالة عند راولز‪ ،‬ودورهما في تحريك ودينامية الفلسفة عموما‪ ،‬ومدى إمكانية نجاحهما في تحقي ق‬
‫مجتمع ديمقراطي وعادل‪.‬‬

‫يتقاطع مفهوم "الوضع األصلي" في نظرية العدالة مع "الحالة الطبيعية" في النظرية التقليدية للعق د‬
‫اإلجتماعي ذلك أن النظريات التعاقدي ة تف ترض حال ة الفوض ى‪ ،‬الح رب واإلض طراب ال تي ك ان يعيش ها‬
‫األفراد في حالة الطبيعة‪ ،‬إلى هنا يب دو الوض ع مم اثال لمفه وم الوض ع األص لي‪ ،‬لكن راول ز يط رح بع دا‬
‫جديدا في نظريته إنه "حج اب الجهل ‪ "  la voile d’ignorance‬إال أن األش خاص المتفاوض ين ال ذين‬
‫تصورهم راولز قد إجتمعوا ليتوصلوا إلى مبادئ للعدل الذي س يوجه نش اطهم مس تقبال‪ ،‬يجهل ون في نفس‬
‫الوقت كل شيئ عن نفسهم‪ .‬إن ما توخاه راول ز من إض افة ه ذا البع د الجدي د (حج اب الجه ل) ه و أن تتم‬
‫عملية التفويض في جوّ محايد تماما‪ ،‬ويحول دون أن يتميز أحد من المتفاوضين بأوضاعه الخاصة‪ ،‬وبه ذا‬
‫المعنى يمكن القول أن إختيارهم لمب ادئ العدال ة خل ف ه ذا الحج اب‪ ،‬طالم ا أن ك ل المتفاوض ين يجهل ون‬
‫أوضاعهم الخاصة فإن ه ال خ وف من ش خص يط رح مب ادئ غ ير موض وعية تخ دم مص الح البعض على‬
‫حساب مصالح األخرين‪ ،‬هذا هو ما يسميه راولز "الوضع األصلي ‪ " la position originelle‬في هذا‬
‫الموقف تكون هناك مجموعة متفاوضين‪ ،‬كل فرد فيها يتميز بالحكمة العام ة والجه ل الخ اص وك ل واح د‬

‫‪4‬‬
‫منهم يس عى إلى تحقي ق مص لحته الشخص ية‪ ،‬لكن ه يج د نفس ه ع اجزا على التمي يز بين مالمح ه ومالمح‬
‫األخرين‪ ،‬وفي ظل هذا الوضع ال بد لهم من أن يحاولوا بلوغ مبدأي العدال ة‪ ،‬بحيث تنتفي فيهم ا المفاض لة‬
‫بين األشخاص إلى أن يستفيد أيا كان‪ ،‬بنفس الطريقة وبنفس الفرص‪ ،‬ذلك أن أهمية نظرية العدالة ال تحقق‬
‫إال حينما تأخذ مصلحة الفئة األقل حرمانا واألكثر ض عفا‪ ،‬فاإلنس ان تبع ا له ذين المب دأين ال يمكن ه القب ول‬
‫بمذهب يمكن أن يهدد أمن ه اإلجتم اعي‪ ،‬ويعرض ه للقه ر في ي وم من األي ام من أج ل المص لحة العام ة أو‬
‫غيرها‪ ،‬طالما أن هذا اإلنسان هو شخص عقالني وهدفه هو تحقيق مصلحته الخاصة‪ ،‬مثلما هو ح ال ب اقي‬
‫اطراف الوضع األصلي‪ ،‬إال أن هذين المبدأين جاء بعد أخذ و رد في إنتقائهم من بين عدة مبادئ ال تي ق د‬
‫تسمح بإمكانية قيام نوع من التفاوت بين الناس تدخل فيه مجموعة من اإلعتب ارات‪ ،‬كاألص ول اإلجتماعي ة‬
‫والعرقية أو الجنسية وغيرها‪ ،‬طبقية أو س لطوية مؤك دا ب ذلك على ض رورة التوزي ع المنص ف لل ثروات‪،‬‬
‫بمعنى أنه يجوز أن تكون فئة مستفيدة بإحدى الطرق السابقة‪،‬‬

‫واضح أن راولز استقى مفهوم العدالة التوزيعية من فلسفة أرسطو‪ ،‬حيث تلتقي في كتابه الشهير(نظرية في‬
‫العدال ة) ع دة أطي اف فكري ة قاري ة وأنجلوساكس ونية‪ ،‬وإس تفاد من كان ط "مف اهيم اإلس تقاللية والكوني ة‪،‬‬
‫واإلستعمال العمومي للعقل" كما يستحضر راولز نظرية العقد اإلجتماعي عند ج‪ .‬ج‪ .‬روس و وإن ك ان ق د‬
‫إعتبر نظريته على قدر كبير من التجريد‪.‬‬

‫هذا ما ساعده على تجاوز كل البنيات الفلسفية وبلورة نظرية جديدة للعدالة التي سيطرح من خالله ا‬
‫مشروعا نظريا لتجديد الليبرالية وإعادة التفكير في مستقبل الديمقراطية‪ ،‬وهذا ما جعل خوض غمار البحث‬
‫في الفلسفة السياسية عموما‪ ،‬ومفهوم "الوضع األصلي" و"مب دأي العدال ة" لهم ا أهمي ة كب يرة لم ا تطرح ه‬
‫مس ألة الالمس اواة الي وم من ظه ور ألش كال عدي دة من التفاوت ات اإلجتماعي ة واإلقتص ادية والديني ة‬
‫والعرقية‪...‬التي كانت وراء العديد من الصراعات اإلقليمي ة و الدولي ة‪ .‬وفي ظ ل تعاض م األناني ة وتض خم‬
‫الفردانية وإنتشارالالمباالة السياسية‪.‬‬

‫إن تعدد المشارب التي نهلت منها نظرية راولز دفعته إلى إعتماد خطة منهجية يراعى فيها الكشف‬
‫عن مصادر نظريته وأهميتها وذلك وفق التصميم التالي‪:‬‬

‫الفصل األول يضم الجذور الفلسفية لنظرية العدالة عند راولز من خالل مبحثين‪:‬‬

‫األول يح دد كيفي ة تن اول أرس طو لمس ألة الخ ير والعلم السياس ي ومن خالل العلم السياس ي للعدال ة‬
‫التوزيعية‪ .‬الثاني أخذ من فالسفة العقد اإلجتماعي‪ ،‬روسو وكانط الذي يعد مجاال خصبا لظرية راولز ال تي‬
‫نهلت منهما بشكل واضح‪ ،‬كما إعترف راولز نفسه بذلك من خالل كتابه "نظرية في العدالة"‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫أما الفصل الثاني يبرز فكرتين متك املتين يص عب ع زل الواح دة عن األخ رى‪ ،‬هم ا فك رة الوض ع‬
‫األصلي ومبدأي العدالة‪ ،‬يشكالن على التوالي فكرتين متكاملين‪:‬‬

‫األول يتلخص في فكرة الوضع األصلي وتعني حالة الجمود األولى التي تتض من عدال ة التواف ق األساس ية‬
‫التي يمكن التوصل إليها في مبدأي العدالة‪.‬‬

‫والثاني يتحدد في مبدأي العدالة اللذان يشكالن صلب نظرية راولز السياسية‪.‬‬

‫وهذا ال يعني أن راولز أقبر التفاوتات من خالل نظريت ه‪ ،‬ب ل أق ر شخص يا بأن ه من الط بيعي أن تنتج‬
‫عن هذا النسق الموسع للحريات فوارق إجتماعية وإقتصادية بين الناس شريطة أن تنظم بالكيفية التالية‪:‬‬

‫‪ -‬أن تكون في مصلحة األكثر حرمانا‪.‬‬

‫‪ -‬أن تكون نابعة من مبدأ تكافؤ الفرص في الوظائف‪.‬‬

‫من هنا يتضح أن هدفنا ه و محاول ة اإلجاب ة عن األش كاالت المتعلق ة بإمكاني ة تحقي ق مجتم ع ع ادل‬
‫يضمن ألف راده الحري ة والمس اواة‪ ،‬بحيث تك ون الح دود المنص فة للتع اون موض ع تواف ق بين المواط نين‬
‫أنفسهم‪ ،‬ما دام الدخول لمجتمع التعاون يفترض المرور بمرحلة الوض ع األص لي ك إجراء لع رض نظري ة‬
‫العدالة كإنصاف‪ ،‬من ثم لمبدأي العدالة اللذين على أساسهما سيكون التوزيع منصفا بين أف راد المجتم ع‪ ،‬ثم‬
‫سنتطرق الى الفيلسوف "مايكل ساندل" الذي وجه نقده الى راولز في كتابة "الليبيرالية وحدود العدالة"‪.‬‬

‫في األخير‪ ،‬سنخلص إلى بعض النت ائج‪ ،‬م ع الت ذكير بأهمي ة البحث في الفلس فة السياس ية والحاج ة‬
‫الملحة للمجتمعات والشعوب لتج اوز ه ذا الوض ع (الفوض ى‪ )...‬وذل ك لض مان الح د األدنى من المس اواة‬
‫وتكافؤ الفرص‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫الفصل األول‬
‫األسس الفلسفيــــــــة لنظريـــة العدالـــــــــة‬

‫عند جون راولـــــز(‪.)2002-1921‬‬

‫تــــــــــقديم ‪:‬‬

‫تعد نظرية راولز من أحدث النظريات الفلسفية المعاصرة التي اهتمت بمجال الفلسفة السياسية‪ ،‬ما‬
‫اعطاها ص البة وأص الة ه و إطالع ص احبها على مجم ل ال تراث الغ ربي في الموض وع‪ ،‬من المرحل ة‬
‫اليونانية‪ ،‬أرسطو تحديدا‪ ،‬إلى فالسفة العقد االجتماعي‪.‬‬

‫في كتابه "نظري ة في العدال ة" خص ص ج‪ .‬راول ز ج زء هام ا للح ديث عن المب دأ األرس طي (‪le‬‬
‫‪ ،)principearistotélicien‬كم ا خص ص الح ديث عن التأوي ل الك انطي للعدال ة كإنص اف (‬
‫‪ ، )l’interprétation kantienne de la justice comme équité‬باإلضافة إلى الحضور القوي‬
‫لجون جاك روسو في مختلف فصول الكتاب‪ .‬وإن كنت توقفت عن د أرب ع فالس فة فق ط ف ذلك ال يع ني أن‬
‫رولز لم يطلع على أغلب ما كتب في مجال الفلسفة السياسية في التراث الغربي‪.‬‬

‫ينطلق التصور األرسطي من أن السلوك األخالقي ال ي رمي إلى مج رد ض بط العالق ات اإلنس انية‬
‫فحسب أو يضمن لهم العدل والتكافؤ‪ ،‬ب ل يه دف إلى غاي ة أس مى هي تحقي ق رغب ة اإلنس ان الطبيعي ة في‬
‫العيش السعيد والحياة الفاضلة‪ .‬وهذا هو حال نظرية شاملة للخير في نظر راولز‪ ،‬فلتحقيق الس عادة ‪ ،‬يتج ه‬
‫أرسطو نحو البحث في العالقات اإلنسانية أو ما يسميه بالحس المشترك‪ ،‬وجعل من السياس ة العلم األس مى‬
‫الذي من خالله يمكن البحث في كيفية تأمين النظام للمجتمع وخاصة النظام في المعامالت البشرية والبحث‬
‫في األخالق وبالتالي البحث في الفضيلة بما هي إعراض عن الرذائل واتخاذ موقف وسط‪.‬‬

‫أم ا التص ور الك انطي فسيس تبدل (أخالق الس عادة) ب أخالق ال واجب والتص ور الغ ائي للس لوك‬
‫األخالقي بالتص ور اإلج رائي ل ه‪ .‬ألن كان ط ي رفض تأس يس األخالق على مفه وم الس عادة باعتب اره من‬

‫‪7‬‬
‫األفكار المجردة التي ال مضمون محدد لها ‪ ،‬كما أنه يتماها مع الل ذة ال تي هي موض وع ذاتي ونفعي‪ .‬ل ذا‬
‫فإن المبدأ المؤسس لألخالق ه و اإلرادة الح رة ال تي منحن ا ال وعي ب الواجب األخالقي ال ذي يحررن ا من‬
‫النوازع النفعية والميوالت األنانية ويضمن لنا التصرف كأفراد مس تقلين‪ .‬ه ذا التص ور األخالقي‪ ،‬بم ا ه و‬
‫تعبير عن الحرية إجرائيا في قوانين كلية‪ ،‬مفه وم ح ديث لألخالق ال يخص كان ط وح ده ب ل نج د ج ذوره‬
‫ممتدة من نظريات العقد االجتماعي ‪ ،‬وبخاصة نظرية ج‪ .‬ج‪ .‬روسو‪.‬‬

‫لقد كان الشغل الشاغل لروسو‪ ،‬كما لب اقي الفالس فة ك ل حس ب س ياقه وعص ره‪ ،‬ه و إقام ة نظ ام‬
‫اجتماعي سياسي على مبدأ المساواة بين البشر‪ ،‬حيث تختفي تخوم التفاوت وم ا يتبع ه من ظلم و نزاع ات‪.‬‬
‫ألن اإلنسان‪ ،‬حسب روسو‪ ،‬ولد حرا –اإلنسان الفرد حر طبيعي ا – وه و في األغالل في ك ل مك ان‪ ،‬فه ذه‬
‫الحرية هي طاعة القانون الذي يضعه لنفسه وال يفرض عليه من الخارج‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫أرسطو ‪ 384-322‬ق م‬

‫‪-1‬الخير غاية لكل الناس‬

‫إذا كانت لجميع أعمالنا غرض نهائي نريد بلوغه لـذاته‪ ،‬ومن أجلــه كن ا نطلب كــل البقيــة وإذا‬
‫كنا من جهة أخرى‪ ،‬ال نستطيع في تصميماتنا أن نرقى دائما إلى سبب جديد‪ ،‬وذلك مما يضيع به المرء في‬
‫الالنهاية ويجعل جميع رغباتنا عقيمة تماما وفارغة‪ ،‬فمن الواضح أن يكون الغرض العام لجميع أمالن ا ه و‬
‫الخير والخير األعلى‪" :‬أن الخير يتبع العلم األعلى بل العلم األساس ي‪ ،‬أك ثر من جمي ع العل وم‬
‫وه ذا علــى التحقي ق علــم السياس ة فإن ه في الواق ع ه و ال ذي يـعين م ا هي العلـــوم‬
‫‪1‬‬
‫الضرورية لــحياة المـمالك وما هي التي يجب على أهل الوطن أن يتعلموها‪".‬‬

‫يمكن القول إن غرض السياسة في مفهومها األرسطي ه و الخ ير الحقيقي الخ ير األعلى لإلنس ان‬
‫وهكذا يكون الخير متماثال بالنسبة للفرد وبالنسبة للجماعة‪ ،‬فإذا كان علم األخالق يبحث فـي خـــير وسعادة‬
‫الفرد فإن علم السياسة يهتم بسعادة وخــــير الجماع ة ولــهذا يعت بر أش رف العـــلوم‪ .‬وي رى أرس طوأن‬
‫اإلنسان مدني بالطبع ويميل للعيش في الجماع ة م ع أف راد من جنس ه ونــوعه‪ ،‬ال بس بب تحص يل ال رزق‬
‫وحسب بل ليتمتع كذلك بما يوفره القانون والعـدالة وتمثل الدولة (المدينة ) في هذا المجتمع الشكل األمث ل‪،‬‬
‫وال غاية خاصة لها سوى رعاية القــانــون والسهر على تنفيذه من أجل تحقيق الهدف األسمى الذي يس عى‬
‫إليه كل فرد وهو تحقيق الخير وتحصيل السعادة والعيش حياة اجتماعية كاملة سليمة يحــقق كل فـرد فيــها‬
‫لــذته و سعادته‪.‬‬

‫وألن الغاي ة من ك ل علم أوفن هي خ ير ما‪" ،‬فالغاي ة في أس مى العل وم والفن ون كله ا هي‬
‫أعظم خير وأقصاه و أسمى العلوم و الفنون هي السياسة"‪ .2‬والخير السياس ي حس ب أرس طو ه و‬
‫العدل والمنفعة العامة‪ ،‬والعدل يبدو للجميع مساواة وما ال يجب أن نغفل عنه في أي األمور تكون المس اواة‬
‫وفي أيها يكون التفاوت‪ ،‬ألن المسألة ال تخلوا من خطورة وفيها تكمن الحكمة السياسة‪ ،‬ألن الحق واالمتياز‬
‫يختلفان من شخص ألخر‪ .‬لكن إن صح هذا القول وجبت األسبقية للحق وق السياس ية‪ ،‬يق ر أرس طو ض منيا‬
‫بالالمساواة وهو يسعى من خالل كتابيه "األخالق إلى نيقوماخوس" و "في السياسة" إلى معالجة ظ اهرة‬
‫‪- 1‬أرسطو‪ :‬علم األخالق إلى نيقوماخوس ‪ ،‬دراسة بارتلمي سانتهلر‪ ،‬ترجمة أحمد لطفي السيد‪ ،‬باريس‪ ،‬دار بيبليون‪، 2008 ،‬ص‪. 171:‬‬

‫‪- 2‬أرسطو‪:‬في السياسة ‪ ،‬ترجمه و علق عليه و قدم له األب أوغسطين برباره البولسي‪ ،‬بيروت‪ ،‬اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع‪ ،‬ط‪،1980، 2 ،‬‬
‫‪،‬ص‪. 150:‬‬

‫‪9‬‬
‫الالمساواة هذه‪ .‬وهو األمر نفسه الذي عمل عليه جل الفالسفة ومن بينهم ج ون راولز ال ذي يقرأيض ا‪ ،‬أن‬
‫بحثه هو بــحث فـي الـالمساواة‪ ،‬ولهذا سيتحدث في المبدأ الثاني عن الالمس اواة المعقول ة‪ .‬وينتق د أرس طو‬
‫ك ون أن ه لم يتخلص من قض ية العبي د وال رق في عص ره‪ ،‬يق ول أرس طو بخص وص مس ألة المس اواة‬
‫واإلنصاف ‪" :‬فالذين يلتمسون الرئاسة بسبب غناهم قد يبدون غير منصفين البتة‪ ،‬وكذلك الذين‬
‫يلتمسونها بسبب عراق ة أص لهم"‪ .3‬ويض يف أن الف وارق أو الح دود السياس ية ال تي يعتم دون عليه ا‬
‫إلدعاء الحكم لذواتهم وإخضاع كل الطبقات األخرى لس لطتهم‪ ،‬هي بجملته ا ف وارق فاس دة – ه ذه النقط ة‬
‫سيتم تجاوزها مع فالسفة العقد االجتماعي‪ ،‬فإخضاع الطبقات سيتم عن طري ق قب ول األط راف المش اركة‬
‫في العقد بالتنازل عن جزء من حريتها لصالح شخص يعينونه هم أنفسهم‪ ،‬هذا ما سيس ميه راول ز بالطاع ة‬
‫الطبيعية – وهذا ال يمنع في نظر أرسطو الجمهور أن يكون أفض ل أحيان ا من األقلي ة‪ .‬ويقص د ب الجمهور‬
‫المواطن عموما الذي يشترك في السلطة والطاعة ويسهر دائم ا علـــى منفع ة الدول ة بأس رها ويس عى إلى‬
‫خير عموم المواطنــــين‪ .‬للوصول إلى هذا النوع من المواطنين‪ ،‬يتطرق أرس طو إلى العالق ة بين الس عادة‬
‫والنشاط (‪ )activité‬واإلرضاء (‪ )satisfaction‬في األخالق‪ .‬يقول راولز في ه ذا الص دد ‪":‬علينا أن‬
‫نت ذكر أن المب دأ األرس طي بالطريق ة التالي ة‪ :‬جمي ع األش ياء متس اوية من قب ل الكائن ات‬
‫اإلنسانية‪ ،‬تريد أو تحب ممارسة مواهبها "‪ .4‬وليؤكد راولز على هذه العالق ة‪ ،‬فيع ود بن ا إلى كت اب‬
‫األخالق إلى نيقوماخوس* ولفصول بعينها ومضمونها هو أنه إذا كان للمعامالت اإلنسانية جميعا ه دف‪ ،‬فه و‬
‫الخير ‪ le bien‬من المعاملة ‪ ،‬وإذا كان له ا أك ثر من ه دف يك ون له ا أك ثر من خ يرلتمنح اإلنس ان الكفاي ة‬
‫الالزمة‪ ،‬وعلى الخير األسمى المتوخى من المعاملة حتى ال يكون وسيلة للوصول إلى خير أخر أعلى من ه‪ ،‬ل ذا‬
‫على اإلنسان الفرد الذي ح دد الس عادة ه دفا ل ه أن ال يس عى إلقام ة بن اء مع زول عن محيط ه الط بيعي‪ ،‬عن‬
‫الجماعة اإلنسانية‪ ،‬و يجعله جوهرا منفصال‪ ،‬بل على اإلنسان "الطبيعي" حسب أرسطو وال ذي ه و إنس ان م دني‬
‫بالطبع أن يستند إلى جماعة البشر المحيطين به وأن يسعى لمصلحة عائلته وأصدقائه ومواطنيه ذلك أن‬
‫اإلنسان بطبعه حيوان مدني‪ .‬وإن لم يكن مدنيا ال اتفاقا ولكن بالطبع‪ ،‬له ذا ‪":‬أن دور المبدأ األرس طي‬
‫داخل نظرية الخ ير تش مل على توطي د الوق ائع النفس ية المهم ة ال تي تلتحم م ع الوق ائع‬
‫العامة ومع أفكار المشروع العقالني "‪.5‬‬

‫‪- 3‬المصدرنفسه ‪ ،‬ص ‪. 153:‬‬


‫‪4‬‬
‫‪-Rawls , John : « théorie de la justice »,tr,français par .Cathrine Audard. Paris. Seuil. 1987. P :466.‬‬
‫‪5‬‬
‫‪-ibid, p :472.‬‬
‫‪* le terme de « principe aristotélicien » me semble approprié à cause de ce qu’Aristote dit des relations entre‬‬
‫‪bonheur, activité et satisfaction dans l’éthique à Nicomaque, livre 7, chap. 2-16, et livre 10, chap. 1 -7. ( ibid,‬‬
‫‪p :493.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪ -2‬العلم السياسي كأساس للحرية والمساواة‬

‫يعتبرالعلم السياسي علم المعامالت اإلنس انية بش كل ع ام‪ ،‬ف المرء يخض ع لمعطي ات المؤسس ات‬
‫والمحيط الذي يعيش فيه‪ .‬ترتبط داللة العلم السياس ي بالحق ل الخ اص ب‪-‬التش ريع‪ -‬وه ذا م ا س ينتبه إلي ه‬
‫فالسفة العقد االجتماعي‪ ،‬روسو على وجه التحديد‪ ،‬وكذلك راولز – وعلي ه يجب أن يفي دنا ه ذا العلم عن‬
‫النظام المؤسساتي الذي يجب أن يخضع ل ه المجتم ع‪ .‬ل ذلك ش كل انتق اال من البحث في الفض ائل إلى العلم‬
‫القانوني أي علم السياسة‪ ،‬وسبب ذلك هو الحاجة الى وض ع نظري ة للمجتم ع‪ .‬ف العلم النظ ري فيم ا يخص‬
‫المــعاملة الجيدة والبراهيــن والبحوث في السعادة والفضائل‪ ،‬ال يكفي لتشكيل اإلنسان الجيد‪ .‬فمعظم الن اس‬
‫حســب أرسطو تتحكم بهم عواطفهم ال عقولهم‪ ،‬وطبيعة الناس العاطفية ال تخضع لق وة ال براهين اإلقناعي ة‬
‫بل للعنف‪ ،‬فمن الضرورة أن يعاد تشكيل اإلنسان الجيد ليكون مواطنا جيدا‪ ،‬وهذا ال يتم إال في مجتمع جيد‬
‫وفي ظل قوانينه‪ .‬يق ول أرس طو ‪" :‬متى أراد المرء إص الح الن اس بالعناي ة ال تي يؤتونه ا س واء‬
‫ك انوا كثــيري الع دد أم قليلـين وجب عليه ب ديا أن ي رمي إلى أن يك ون ش ارعا م ا دام أن‬
‫اإلنسانية ال تصلح إال بالقوانين"‪ .6‬من هذا المنطلق الذي رس م ب وادره أرس طو‪ ،‬س يعمل الحق وه على‬
‫حماي ة األف راد والجماع ات عن طري ق الق وانين‪ ،‬لض مان حري ة ومس اواة األف راد على األق ل من الناحي ة‬
‫السياسية واالجتماعية‪ .‬ويسمي أرسطو إنسان ما عادال‪ ،‬اذا كان يطيع القــوانين ويالح ظ م ع الغ ير قواع د‬
‫المساواة وحينئذ يكون العمل العادل هو الذي يطابـق القـــانون والمساواة (فكرة الطاع ة ه ذه س نجدها عن د‬
‫كل من روسو وكانط وراولز)‪.‬أما العمل الظالم هو الالقانوني‪ ،‬غيرالمطابق للمس اواة‪ ،‬حس ب أرس طو أن‬
‫جميع األمور القانونية هي أمور عادلة‪" ،‬غرض القوانين في نصوصها ه و إم ا حماي ة المص لحة‬
‫العامة‪ ،‬وإما حماية مصلحة كبائرهم بل قد يكون أيضا حماية المصلحة الخاصة لهؤالء الذين‬
‫هم س ادة المملك ة س واء بفض لهم أم ب أي عن وان آخر"‪ .7‬ينتج عن ذل ك أن ه يمكنن ا أن نق ول عن‬
‫القوانين بوجه ما إنها عادلة متى كانت تسعى نحو سعادة االجتماع السياسي أو تحميه‪ ،‬بل قد يذهب القانون‬
‫إلى أبعد من ذلك‪ ،‬ليبسط سلطته على جميع الفضائل والرذائل األخ رى‪ ،‬إذ ي أمر بأفع ال بعينه ا وينهي عن‬
‫أخرى‪،‬لتحقيق العدل والمساواة عبر طاعة القوانين‪ ،‬مما دفع ج‪.‬ج‪ .‬روسو عن أن اإلنس ان ول د ح را‪ ،‬لكن ه‬
‫مقيد باألغالل في كل مكان‪ ،‬ويتساءل عن ماذا حدث؟ وكيف ذلك؟‪.‬‬

‫‪ -6‬أرسطو‪":‬األخالق إلى نيقوماخوس"‪،‬ص‪.373 :‬‬


‫‪- 7‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.59 :‬‬

‫‪11‬‬
‫فالسفــة العقــد اإلجتماعــي‬

‫‪ -1‬جون جاك روســــــو (‪)1788-1712‬‬

‫يعد ج‪.‬ج‪.‬روسو من أبرز فالسفة العقد االجتماعي‪ ،‬إلى جانب ك ل من توم اس ه وبز وج ون‬
‫لوك خالل القرنين ‪17‬و‪ ،18‬الذين دافعو عن حرية اإلنس ان (الف رد)‪ .‬يق ول روسو‪":‬ولد اإلنس ان ح را‬
‫طليقا‪ ،‬ومع ذلك فهو مثقل بالقيود في كـل مكـان ولرب رجل يتوهم أن ه س يد اآلخ رين‪ ،‬وه و‬
‫اليني يرسف في أغالل من العبودية‪ ،‬هي أثقل من أغاللهم كيف تم ه ذا التب دل من ح ال إلى‬
‫حال؟ إني ألجهل ذل ك‪ ،‬وم ا ال ذي يس تطيع أن يجع ل ه ذا التب دل مش روعا ؟ أظن أن ه في‬
‫استطاعتي أن أحل هذه المسألة"‪.8‬‬

‫لق د ص ارت فلس فة روس و ش عارا للعدي د من الفالس فة فيم ا بع د‪ .‬لق د تخلى اإلنس ان عن حريت ه‬
‫الطبيعية‪ ،‬بمجرد إعطائه طوع ا عالم ة بأن ه راغب في ذل ك‪ ،‬فالح ل ال ذي ابتدع ه رواد العق د االجتم اعي‬
‫اساسه في مفهوم "القبول الضمني"‪ ،‬هذا القبول قد يرد تلك الحكومات الفاسدة حكوم ات ذات ش رعية‪ ،‬لكن‬
‫قبل الدخول إلى نشأة وتاس يس الدول ة‪ ،‬هن ا يص ف روس و كي ف دخ ل اإلنس ان حال ة المجتم ع الن الحال ة‬
‫الطبيعية لم يكن فيها طاعة ولم يكن فيها مجتمعا بالمعنى الحديث‪ ،‬تبعا لروسو فإن أول من س يج قطع ة من‬
‫األرض وفكر في أن يقول هذه لي كان هو المؤسس الحقيقي للمجتم ع الم دني بحيث س يعتبر أن ه ذا ال ذي‬
‫سيج قطعة من األرض كان وراء العديد من الجرائم والحروب والقتل كنا سنتفاداها لو أن أحدا اقتلع أعم دة‬
‫الحاجز المحيط بقطعة األرض وح ذر الن اس من اإلص غاء ل ذاك المخ ادع‪ ،‬ألن ثم ار األرض ليس ت ملك ا‬
‫ألح د‪ .‬يق ول‪" :‬إن أول من ســـور أرضــا وتج رأ أن يق ول "ه ذا لي" فوج د أناس ا لهم من‬
‫السذاجة ما يكفي لكي يصدقوه‪ ،‬كان المؤسس الحقيقي للمجتمع الم دني"‪ ،9‬إن ه ذه الحال ة ال تي‬
‫أص بح عليه ا اإلنس ان بع د أن أص غى لـــهذا المخ ادع‪ ،‬فرض ت علي ه التغي ير‪ ،‬فاخـــتالف األراض ي‬
‫والفــصــول والمساحات‪ ،‬اضطرهم إلى تبديل طريق ة عيش هم‪ ،‬ف اخترعوا ألنفس هم الص نارة على ض فاف‬
‫ال وادي والبح ار‪ ،‬كم ا ص نعوا قوس ا ونب اال وأص بحوا قناص ين ومح اربين‪ ،‬وفي األق اليم الب اردة غط وا‬
‫أجسامهم بجلود الوحوش التي كانوا يقتلونها وهكذا‪...‬‬

‫هذه األنوار الجديدة التي حصلها اإلنسان من هـذا السمو أكدت تفوق ه على ب اقي الكائن ات ومنحت ه‬
‫التقنيات الالزمة لطبع وجوده بطابعه الخاص‪ .‬حيث‪" ،‬أنها زادت في تفوقه على سائر الحيوان ات إذ‬

‫‪ - 8‬جون جاك روسو‪:‬العقد االجتماعي ‪،‬ترجمة‪ ،‬بولس غانم‪ ،‬بيروت‪ ،‬اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع‪ ،1972 ،‬ص‪.11 :‬‬
‫‪- 9‬روسو‪ :‬خطاب في أصل التفاوت و في أسسه بين البشر‪ ،‬ترجمة‪ ،‬بولس غانم‪ ،‬بيروت‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،2009 ،‬ص‪.117 :‬‬

‫‪12‬‬
‫كشفت له عن هذا التفوق وتمرن على نص ب الفخ اخ للحيوان ات‪ ،‬وخ داعها‪ ...‬إلى أن ص ار‬
‫على مر الزمن سيدا على البعض منها‪ ،‬وهكذا بعثت في اإلنسان أول نظرة ألقاها على نفسه‬
‫أول حركة من حركات الكبرياء"‪.10‬‬

‫أدى هذا الكبرياء باالنسان إلى جع ل اإلنس ان ينتق ل من نص ب الكم ائن للحيوان ات وخ داعها إلى‬
‫خداع بعضه البعض‪ ،‬وأصبح الجنس البشري أكثر تقدما نحو كمــال الف رد والن وع بأكمل ه‪".‬فقد عاش وا‬
‫أحرار أصحاء محبين للخير سعداء ما اس تطاعوا بط بيعتهم‪ ،‬واس تمروا يتمتع ون فيم ا بينهم‬
‫بنعيم معاشرة تقوم على االستقالل‪...‬ولكن ما إن احتاج إنس ان لمعون ة إنس ان أخ ر‪ ،‬وم ا أن‬
‫تبين أنه من النافع لشخص واحد أن يكون شخصين اثنين حتى اضمحلت المساواة وتس ربت‬
‫الملكية بينهم"‪.11‬‬

‫اتجه اإلنسان بأنظاره انطالقا من هذه المرحل ة إلى المس تقبل‪ ،‬وهن ا س يبرز التف اوت س واء من ه‬
‫الطبيعي‪ ،‬كالذكاء القوي والصحة الجيدة عند البعض‪ ،‬وستطرح إش كالية إمكاني ة المس اواة الطبيعي ة‪ ،‬وه و‬
‫المشكل الذي امتد للفلسفة السياس ية المعاص رة تحدي دا م ع ج ون راول ز في مب دأه الث اني حيث تح دث عن‬
‫الالمساواة المعقولة‪ ،‬أي المقبولة طبيعيا‪ ،‬كم ا ه و الح ال م ع روس والذي يبحث عن المس اواة في التف اوت‬
‫األخالقي والسياسي وهو النوع الثاني بعد التفاوت الطبيعي‪." ،‬‬

‫ولهذا فضل الفالسفة الذين تولوا البحث في أسس المجتمع ضرورة االرت داد إلى الحال ة الطبيعي ة‬
‫لتفادي تعقيدات الحياة الناجمة عن التفاوتات السياسية‪ ،‬وبعضهم األخ ر اق ترح ص يغا وحل وال لت أطير ه ذه‬
‫التفاوتات والقضاء عليها‪ .‬يقترح روسو عالجا سياسيا لهذا التفاوت‪ ،‬في كتابه"اعتراف ات"(‪ ،)1743‬حيث‬
‫صرح بأن كل شيء مرتبط بصورة أساسية بالسياسة‪ ،‬ومن هذا المنطلق بلور تصورا جدي دا للس لطة يق وم‬
‫على اإلرادة التي يجب أن تكون مطلقة وعامة‪ ،‬فال س بيل لخالص الن اس من ش ر التف اوت إال ق وة اإلرادة‬
‫العام ة المطلق ة‪ ،‬ألن اإلرادة الجزئي ة (حس ب روس و) منس جمة م ع اإلرادة العام ة‪.‬واس تبدال الغري زة في‬
‫الس لوك بالعدال ة وإض فاء الش رعية األخالقي ة والسياس ية الالزم ة على أفعال ه‪ ،‬وكس به اإلنس ان الحري ة‬
‫األخالقية والمدنية‪ ،‬ومنه تكون الحرية هي الصفة اإلنسانية ذاتها حسب روسو‪ .‬ولإلشارة فإن فكرة الحري ة‬
‫هذه وفكرة اإلرادة العامة همـــا أهم فكرتين تأثر بهما راولز‪ ،‬ولــذلك فــتخلي المرء عن حـريته‪ ،‬إنم ا ه و‬
‫تخل عن صفته كإنسان‪ ،‬وعن حقوق اإلنسانية وحتى عن واجباته‪.‬‬

‫‪- 10‬المصدرنفسه‪ ،‬ص‪.119 :‬‬


‫‪ - 11‬المصدرنفسه‪،‬ص‪.127:‬‬

‫‪13‬‬
‫إن األولوية التي تحتلها الحرية في فلسفة روس و‪ ،‬ومن بع ده كان ط و راول ز‪ .‬وهن ا يتجلى الوج ه‬
‫الحداثي الالمع‪ ،‬لذلك كانت اإلرادة العامة ال تي تنجم عن مقتض يات العق د االجتمــاعي والموجه ة للس لطة‬
‫التي تسمى س يادة‪ ،‬إرادة ثابت ة لمجم وع أف راد الدول ة‪ ،‬فعبره ا يص بحون أح رارا‪ .‬وهم يع برون عن ه ذه‬
‫الحرية من خالل القوانين لذلك جعل روسو السلطة التشريعية في يد الشعب دون غيره‪ ،‬وكل قانون ال يقره‬
‫الشعب هو قانون الغ‪ .‬ولهذا السبب كان التشريع هو الذي ينتج الحركية الديمقراطية في فكر روسو‪ ،‬وه ذا‬
‫ما يميز ديمقراطية الهيئة السياس ية عن ده‪ ،‬حيث مص طلح المـواطن يجم ع بين مـفهوم الطــاعة والس لطة‬
‫التشريعية ألن جوهر الهيئة السياسية هو في التوافق بين الطاعة والحرية‪ .‬وأن كلمة رعية وسيادة إنما هما‬
‫كلمت ان متالزمت ان لهم ا نفس المع نى‪ ،‬تلخص ان في كلم ة م واطن‪" ،‬فاالنتماء لإلرادة العام ة انتم اء‬
‫لسيادة الشعب السياسية‪ ،‬وهي سيادة غير قابلة للتجزؤ وال يمكن أن يتأثر بها شخص واح د‪،‬‬
‫ألن ماهية اإلرادة العامة للشعب تكون عمومية و كلية"‪.12‬‬

‫إن األساس الذي يوجه الفكر السياسي لدى روسو هو إقامة وضع سياسي جديد تتحقق فيه الحري ة‬
‫والمساواة – وهو مس عى أرس طو من قب ل وإن ك ان يعت بر مس ألة العبي د مس ألة طبيعي ة فهم من مكون ات‬
‫األسرة‪ ،‬المسألة ذاتها سنجدها مع كانط و راولز فيما بعد – وهذه الغاي ة يمكن اس تنباطها من الكيفي ة ال تي‬
‫عالج بها مشكلة الملكية وإن كان يعتبر حق التملك حقا مقدسا‪ ،‬فإن فهمه ل ه جع ل من ه حق ا مح دودا بكمي ة‬
‫الملكي ة الكافي ة لتلبي ة حاج ة الف رد إلى األمن الم ادي واالس تقالل العقلي لتحري را المواط نين من التبعي ة‬
‫االقتصادية‪ ،‬إذ بذلك يتم ضمان إمكانية أن يطور المرء (المواطن) آراءه و يعبر عنها‪ ،‬ويظل حرا كما كان‬
‫من قبل‪ .‬هذه هي المشكلة الجوهرية التي يقدم العقد االجتماعي حال لها‪ ،‬أو على األق ل إمكاني ة الح ل‪ ،‬وإذا‬
‫حذفنا من العقد ما ليس من جوهره فإننا سنختزله في الكلمات التالية ‪ " :‬كل واحد من ا يض ع شخص ه وك ل‬
‫قوته في المشاركة تحت التوجيه األعلى لإلرادة العامة‪ ،‬أي يص بح ك ل عض و ج زءا ال يتج زأ من الك ل"‪.‬‬
‫(هذا الشخص العام المشكل من إتحاد جميع األشخاص اآلخ رين اتخ ذ م ع اليون ان اس م المدين ة الفاض لة‪،‬‬
‫وحاليا يتخذ اسم الجمهورية أو الجسم السياسي )‪ .‬فإذا كان روسو ق د ص رح ب أن جمي ع أش كال ومظ اهر‬
‫الالمساواة لها أصل واحد هو التفاوت بين البشر واقترح عالجا سياسيا‪ ،‬فإن راول ز أيض ا يع ترف بوج ود‬
‫نفس السبب ويعتبر أن مشكل الالمساواة همه األول‪ ،‬وكما اقترح روسو حال سياسيا فإن رول ز س يعتبر أن‬
‫أفضل فهم للعدالة الليبرالية هو الفهم السياسي‪ ،‬فهما معا يقترحان نفس األمر ومن قبلهم أرسطو كما رأين ا‪،‬‬
‫وكذلك كانط كما سنرى‪ ،‬فالواجب األخــالقي عنده هو واجب سياسي بالدرجة األولــى والق انون األخالقي‬
‫الذي وظيفته جعل حرية الفرد على انسجام مع حرية األفراد‪.‬‬

‫‪ - 12‬منصف عبد الحق‪ ،‬األخالق و السياسة ‪ :‬كانط في مواجهة الحداثة بين الشرعية األخالقية و الشرعية السياسية‪ ،‬الدار البيضاء ‪ :‬أفريقيا الشرق‪،‬‬
‫ص‪.109 :‬‬

‫‪14‬‬
‫‪ -2‬إيمـــانويـل كانــــــــط (‪)1804-1724‬‬

‫يعتبر كانط من رواد العقد االجتماعي والسبب هو أنه ال يبتعد كثيرا عن الس ياق أو الطري ق ال ذي‬
‫رس مه ج‪.‬ج‪.‬روس و‪ ،‬ألن ه حديث ه عن التش ريع ال ذاتي األخالقي ليس إال تعميم ا لكالم روس و‪ ،‬في العق د‬
‫االجتماعي‪ ،‬عن الحرية الذاتية التش ريعية لتش مل األخالق‪ .‬ويجب أن نوض ح بداي ة‪ ،‬أن ال واجب األخالقي‬
‫لكانط هو نوع من جنس السياسة‪ ،‬فالواجب األخالقي هو واجب سياس ي من ن وع خ اص‪ ،‬ويت بين ذل ك في‬
‫ك ون األم ر األخالقي مث ل األم ر السياس ي يقض ي بالطاع ة والخض وع‪ ،‬وليس ت الحري ة هن ا س وى ه ذا‬
‫الخضوع اإلرادي للقوانين‪ ،‬اإلنسان حر بقدر خضوعه للقانون الذي يضعه ه و لنفس ه‪ - ،‬ه ذه فك رة س بقه‬
‫إليها ج‪.‬ج‪.‬روسو‪ -‬ومنه ك انت فك رة الحري ة ال تي اس تمدها من العق ل‪ ،‬انطالق ا من ه ذه الفكــرة س يعتبر‬
‫راولز أن نظرة كانط لهذه المبادئ تتسم بالتبــعية والخـنوع وتبقى مج ردة وغ ير قابل ة للتط بيق الفعلي بين‬
‫الناس‪.‬‬

‫يق ول كان ط‪" :‬كل شيء في الطبيع ة يخض ع لق وانين‪ ،‬الك ائن العاق ل وح ده ه و ال ذي يمل ك‬
‫المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين"‪ .13‬من هن ا يت بين كي ف يؤك د على االس تقالل ال ذاتي‬
‫لإلنسان وعلى القوانين التي يخضع لها كل من في الطبيعة‪ ،‬بمعنى هو الكائن ال ذي يمل ك اإلرادة‪ .‬واإلرادة‬
‫ملكة اختيار الفعل وحده‪ ،‬الذي به يعرف العقل على أنه مستقال عن الميول والنوازع‪ .‬لكي أكون أنا‪ ،‬حسب‬
‫كان ط‪ ،‬بمع نى أخالق ال واجب يجب أن أك ون ذات ا هويته ا معطى مس تقل عن األش ياء ال تي بح وزتي‪ ،‬أي‬
‫مس تقال عن مص الحي وغاي اتي وعالق اتي ب اآلخرين‪ ،‬وبالفع ل ف إن تس جيل خلفي ة الحض ور الك انطي في‬
‫مجرى النقاش الذي يجريه راولز دائم‪" ،‬يفترض كان ط أن ه ذا التش ريع األخالقي يجب أن يك ون‬
‫موض وع تواف ق في ظ ل الش روط المح ددة لألش خاص باعتب ارهم كائن ات عقالني ة ح رة‬
‫ومتساوية فيما بينها"‪ .14‬يمكن القول أن التصور الكانطي حاضر في فكر راولــز‪ ،‬باعتراف هذا األخير‬
‫في أكثر من مناسبة‪ ،‬وأكثر ما أثار راولزهو حديث كان ط عن األمـر القطعي واالس تقاللية‪ ،‬ال ذي يؤك د علي ه‬
‫راولز بفكرة أشخاص أحرار و أنداد‪ .‬والح ال أن األم ر القطعي للق انون األخالقي في التش ريع عن د كان ط‬
‫واضح‪ " ،‬ال تفعل الفعل إال بما يتفق مع المسلمة التي تمكنك في نفس الوقت من أن تريد لها‬
‫أن تصبح قانونا عاما" أي"افعل كما لو كان على مسلمة فعلك أن ترتفع عن طريق إرادتك إلى‬
‫قانون طبيعي عام"‪ ،15‬وهذا يبرر وجود واجبات نحو أنفسنا وواجبات نحو غيرنا من الناس‪ ،‬إلى واجبات‬
‫كاملة وأخرى غير كاملة وهذه المسألة تأتي من الموافقة التي يقره ا كان ط بين المب دأين العمل يين الت اليين‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫‪ -‬كانط ‪:‬تأسيس ميتافيزيقا األخالق‪ ،‬ترجمة‪ ،‬عبد الغفار مكاوي‪ ،‬كولونيا‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬ط ‪ ،2002 ،1‬ص‪.77 :‬‬
‫‪14‬‬
‫‪- Rawls, J. : « théorie de la justice », op.cit.p : 288.‬‬
‫‪15‬‬
‫‪-‬كانط‪ :‬تأسيس ميتافيزيقا األخالق‪،‬ص‪.93-94:‬‬

‫‪15‬‬
‫أساس المبدأ الثاني "توجد الطبيعة العاقلة كغاية في ذاتها "‪ ،‬وبالتالي يغدو األم ر العملي على النح و الت الي‬
‫"افعل الفعل حيث تعامل اإلنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوص فها دائم ا‬
‫وفي نفس الوقت غاية في ذاتهـــــا وال تعاملها أبدا كما لو كانت مج رد وس يلة"‪ .16‬في ش رحه‬
‫لهذا المبدأ يعطي كانط مثاال بفكرة الشخص الذي يفكر في االنتح ار‪ ،‬سيس أل نفس ه إن ك ان من الممكن أن‬
‫يتفق مسلكه مع فكرة اإلنسانية بوصفها هدفا في ذاته‪ ...‬أما حاصل المبدأ العملي الثالث فهو يلخص ويجم ع‬
‫المبدأين السابقين معا في المعنى الذي يفيد أن من الخ ير دائم ا أن يس ير اإلنس ان فـــي حكم ه األخـــالقي‬
‫على حســـب منـهج محـكم‪ ،‬فإذا أردنا أن نحبب القانون األخالقي للنفوس حسب كانط فإن مما يفيد في ذلك‬
‫كل الفائ دة‪ ،‬أن نم رر الفع ل الواح د نفس ه من خالل التص ورات الم ذكورة‪ ،‬وأن نقرب ه ب ذلك م ا أمكن من‬
‫العيان‪.‬‬

‫ذل ك ه و ق انون االس تقاللية في صــوره الثالث‪" :‬الشـــخصية والجمــــاعية والعــالمية‪،‬‬


‫وتظل الصورية قائمة في كامل الثالثي ة تس هم في مجمله ا في إعط اء أخالق كان ط ص بغتها‬
‫التشريعية الموسومة بمبدأ االكتفاء الذاتي لألخالقية"‪ ،17‬ومهما تكن هذه الص ورية حس ب ص احب‬
‫المقال أو توسع مجالها الكلي‪ ،‬فإنه مما ال شك فيه أن تقرير هذا الق انون على مقتض ى قاع دة الكلي ة‪ ،‬يب دو‬
‫تبعا لهذا المبدأ وكما أشرت سابقا وكأنه تطبيق للفكرة التي دافع عنها جون جاك روسو في االس تدالل على‬
‫مبدأ العدالة في العقد االجتماعي‪ ،‬وذلك بالمعنى ال ذي تك ون في ه الحري ة هي نفس ها‪ ،‬طاع ة الق انون ال ذي‬
‫يعني ه اإلنس ان لنفس ه‪ ،‬وتك ون دالل ة التعاق د بمثاب ة إعالن عن تخلي مجموع ة من األف راد عن حريته ا‬
‫الخارجية‪ ،‬لتسترجعها في الوقت بالمشاركة في الجماعة‪.‬‬

‫كون مبدأ االستقالل ال ذاتي ه و المب دأ األوح د لألخالق‪ ،‬فه ذا األم ر يمكن توض يحه حس ب كان ط‬
‫بالتحليل البسيط لتصورات األخالق‪ ،‬إذ سيتبين من خالل ذلك‪ ،‬كيف أن مبدأ األخالق ال ب د أن يك ون أم را‬
‫أخالقيا‪ ،‬وأن هذا األمر ال يأمر بشيء يقل أو يزيد عن هذا االس تقالل نفس ه‪ .‬ه ذا ص حيح من وجه ة نظ ر‬
‫راول ز ولكن فق ط على مس توى التص ور المج رد لألخالق‪ ،‬كم ا رس مه كان ط‪ ،‬أم ا في لحظ ة التشريــــع‬
‫لمقتضيــات مبـادئ الـــواقع المجتمـعي والسياسي للمؤسسات‪ ،‬فإنه يصير في ه ذا األخ ير‪ ،‬حس ب راول ز‪،‬‬
‫إلى أن نتقدم خطوة أخرى أكثر إنصافا إلى النزول بالعدال ة إلى مس توى اإلج راء التعاق دي‪ ،‬وه و مس توى‬
‫أكثر ارتباطا باإلرث الفلسفي األن واري لكت اب نظري ة العق د االجتم اعي‪ ،‬كان ط وروس و بالتحدي د‪ .‬لكن ال‬
‫كمظهر فلسفي‪ ،‬يطمح إلى تأسيس العدالة على األخالق‪ ،‬بل كإعادة طامحة ألن تفسح المجال لتكييف عدت ه‬
‫النظرية والنقدية للدفع على حد تعبير راولز بفرضية العقد االجتماعي والنظرية التقليدية للعقد إلـى أعلـى‬
‫‪- 16‬المصدرنفسه‪ ،‬ص ص‪.109-108 :‬‬
‫‪ - 17‬مصطفى حنفي‪":‬من كانط إلى جون راولز‪ :‬جدل األخالقي و السياسي في نظرية العدالة"‪ ،‬فلسفة الحق كانط و الفلسفة المعاصرة‪ ،‬سلسلة‬
‫ندوات ومناظرات رقم ‪ ،143‬منشورات كلية األداب و العلوم اإلنسانية الرباط‪ ،‬مطبعة النجاح البيضاء‪ ،‬ط ‪ ،2007 ، 1‬ص‪.33:‬‬

‫‪16‬‬
‫درجة مـن التــعميم و التجريد‪" .‬إنه المستوى المؤسساتي الذي تنتظم في دائرته الفكرة الليبرالية‬
‫عن مقام العدالة عند راولز"‪ .18‬ونضيف بأن انتباه راولز إلى البعد األخالقي للعدالة قد جره حتما إلى‬
‫االنخراط الضمني في فلسفة القرن الثامن عشر وإلى الذهاب باألمر القطعي الك انطي ك إجراء ق انوني إلى‬
‫أقصى مداه‪ ،‬أي الكشف عن م ا ك ان مض مرا في س ؤال التأس يس لنظري ة التعاق د وك ان يتم التعام ل مع ه‬
‫بصورة ميتافيزيقية وليس سياسيا‪ .‬ونعني بذلك االنتقال به من المس توى ال ذي طرح ه التقلي د التعاق دي إلى‬
‫المستوى الذي سيرتفع به راولز بالعمل على تجاوزه بمد الجس ور بين المب دأ األول ألخالق كانط "والذي‬
‫بمقتضاه يكون القانون هو القاعدة التي يمكن أن تمنحها إرادة حرة لنفسها‪ ،‬وقد تخلص ت من‬
‫مــيول الرغبـات والمتع ة‪ ،‬وبين واقعي ة ومس ار اإلج راء التعاق دي في بن اء مجتم ع الح ق‬
‫والعدالة عند روسو الذي تتنازل بموجبه مجموعة من األفراد عن حريتها"‪ ،19‬الذي ينطبق على‬
‫الفرد في حقيقة طبيعته‪ ،‬باعتباره كائنا حرا ومساويا لآلخرين‪ .‬والهدف األساس ي لكان ط ‪" :‬هو تعمي ق و‬
‫تبرير فكرة أن الحرية هي فعل التصرف حسب القانون الذي نضعه ألنفسنا‪ ،‬وه ذا ال ي ؤدي‬
‫بنا إلى أخالق تقوم على السلطة أو حكمة قويم ة ب ل إلى أخالق االح ترام المتب ادل واعتب ار‬
‫ال ذات ل ذاتها يمكن إذن أن نعت بر الوض ع األص لي كتأوي ل إج رائي للتص ور الك انطي‬
‫لالســـتقالل الـــذاتي ولألمر المقولي في إطار النظرية اإلمبيريقية"‪.20‬‬

‫فإذا كان جون لوك مثال يقيم حجته في العقد األص لي على ق انون هللا والطبيع ة‪ ،‬ف إن كان ط يقيمه ا‬
‫على مبدأ حق معطى مسبقا ال بحكم الطبيعة وإنما بحكم العقل الخالص‪ ،‬من هذا المنطل ق‪ ،‬يب دو كان ط‬
‫هو األقرب إلى راولز في هذا السياق‪ ،‬ذلك أن التصور الكانطي هو ال ذي يس مح ل ه بتف ادي‬
‫اشتقاق الح ق من الخ ير‪ .21‬أراد راول ز إع ادة االعتب ار للتص ورات اإلجرائي ة للقيم دون اللج وء إلى‬
‫مقوماتها الميتافيزيقية‪ ،‬ولذلك ال يقدم نظرية العدالة كفلسفة أخالقية‪ ،‬بل يعتبرها نظرية سياسية كما أشرت‬
‫س ابقا‪ ،‬ال تطمح إلى بل ورة أس س جوهري ة للفع ل األخالقي‪ ،‬وإنم ا تكتفي بالكش ف عن المب ادئ الناظم ة‬
‫للـعدالة‪ ،‬داخ ل مجتم ع تع ددي متش ابك حس ن التنظـــيم تتص ارع فيــه وتـتعـايش مختلـــف األفكـــــار‬
‫والتصــورات والعقليات‪ ،‬وهذا ال يعني أن كانط لم يتناول المش كل التش ريعي السياس ي‪ ،‬ب ل كم ا أس لفنا ال‬

‫‪- 18‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.35 : ‬‬


‫‪- 19‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.37 :‬‬
‫‪20‬‬
‫‪- Rawls, J. : « théorie de la justice », op.cit.p. 293. « le but principal de Kant est d’approfondir et de justfier‬‬
‫‪l’idée de rousseau que la liberté est le fait d’agir selon une loi que nous nous donnons à nous-méme. Et ceci ne‬‬
‫‪conduit pas à une morale basée sur le commandement strict , nous à une éthique de respect mutuel et de‬‬
‫‪l’éstime pour soi-meme.‬‬
‫‪On peut alors considérer la position originelle comme une interprétation procédurale de la conception,‬‬
‫»‪kantienne de l’autonomie et de l’impératif catégorique,dans le cadre d’une théorie empirique ‬‬
‫‪ -21‬مايكل ساندل‪ ،‬ص‪.205 :‬‬

‫‪17‬‬
‫يميز بينهما‪ ،‬أكثر من ذلك إن ه يتن اول الموض وع الق انوني من منطلق ات أخالقي ة باعتب ار أن الق انون ه و‬
‫تجسيد عملي للضوابط األخالقية‪ ،‬بقدر ما أن هذه الضوابط قوانين إجرائي ة وليس ت مع ايير قيمي ة مطلق ة‪،‬‬
‫وهكذا تفضي التصورات الكانطية إلى نتيجتين لهم ا أث ر واض ح في الفك ر الق انوني والسياس ي الح ديث و‬
‫المعاصر‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ إزاحة الفاعلية األخالقية عن طريق الق وانين ال تي أص بحت له ا اس تقالليتها عن دائ رة الحكم‪،‬‬
‫ومن هنا جاءت فكرة استقاللية السلطة القضائية في جهاز الدولة الحديث ة‪ .‬ف القوانين من ه ذا المنظ ور هي‬
‫مدونات إجرائية تعبر عن الجانب القيمي المتعلق بالمجال العام‪ ،‬إنها أكثر من تشريعات‪ ،‬ب ل تتس ع لتش مل‬
‫جوانب مختلفة ومتنوعة من الحياة األخالقية لألفراد‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ بناء الشرعية السياسية على المقوم األخالقي بمفهومه الحديث أي الحري ة بص فتها إرادة ذاتي ة‬
‫تنزع للكونية من خالل إقامة مؤسسات كلية‪.‬‬

‫وفي نفس السياق أي تناولنا لكانط من الجانب السياسي نجد صالح مصباح يضيف أن الحري ة عن د‬
‫كانط إنما هي مصدر كل حق‪ ،‬وهو ما يجعل الحرية قريبة جدا من مقص د الرؤي ة الليبرالي ة‪ .‬وتتجلى ه ذه‬
‫الفكرة أكثر في إلغاءه لمطلب السعادة العمومية‪ ،‬ألنه ا ال يمكن أن تص بح كلي ة‪ ،‬وتعويض ها بخ ير عقالني‬
‫هو الحفاظ على الهيئة السياسية‪ ،‬وهذا األمر يقربنا من تأويل ليبرالي معاصر هو تأويل جون راولز لفلسفة‬
‫كانط العملية‪.‬‬

‫إن هذا البرنامج الليبرالي للحداثة‪ ،‬إن صح التعبير‪ ،‬ليس ه و البرن امج الوحي د‪ ،‬كم ا أن ه ليس ق در‬
‫اإلنسان األوحد‪ ،‬بل سيعمل جون راولز على إعادة النظر فيه في كتابه لســنة ‪ . 1971‬والض جة الك برى‬
‫التي خلفها لخير دليل على منعطف جديد في الفلسفة السياسية‪ .‬هو مدار بحثنا في الفصل القادم ‪.‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫‪18‬‬
‫الوضـــــع األصـــــــلي و مبدأي العدالــــــة‬

‫عنـــد ج‪.‬راولــــــز‬

‫في ف ترة الخمس ينات ظ ّل المش تغلون بالفلس فة يت ابعون إنج ازات ‪ ‬ج ون راول ز‪ ‬وتط ويره لنظري ة‬
‫العدالة‪ ،‬لقد اثار ج ون راول ز في الوالي ات المتح دة وخارجه ا ج دال كب يرا ال زال إلى يومن ا ه ذا‪ ،‬ح ول‬
‫"نظرية العدالة"‪ .‬والنقد الموجه لها من طرف فالسفة اخرين ك"مايكل س اندل" من خالل كتاب ه "الليبرالي ة‬
‫وحدود العدالة "‪ ،‬من دون شك أنه أكبر دليل على الحراك ال ذي خلفت ه الفك رة ال تي داف ع عنه ا راول ز في‬
‫نظريته‪.‬‬

‫إنطالقا من هذه الفكرة ومن خالل كتابه نظرية في العدال ة‪ ،‬ي بين راول ز بوض وح أن هدف ه تق ديم‬
‫تصور للعدالة‪ ،‬يعمم ويرفع إلى أعلى مستوى تجريد من نظرية العقد اإلجتماعي المعروفة كما نجدها عند‬
‫هوبز ولوك وروسو وكانط وغيرهم‪ .‬والمقصود هن ا ه و البحث عن تأس يس أص لي لقيم العدال ة من خالل‬
‫الرجوع لفكرة "الوضع األصلي"‪ ،‬ي رى راول ز أن م يزة النم وذج التعاق دي تكمن في أن ه يس مح بتص ور‬
‫مبادئ العدال ة بص فتها(مب ادئ من ش أن البش ر الع اقلين أن يختاروه ا)‪ ،‬كم ا يس مح في األن نفس ه بش رح‬
‫وتبرير تصورات العدالة‪.‬‬

‫ينطلق راولز في نظريته من تعريف المجتمع حسن التنظيم بصفته نسق التعاون االجتماعي القائم‬
‫على اإلنصاف‪ ،‬ولفكرة التعاون هذه خصائص‪ ،‬هــي أنــــها نم ط من التــرابط واالش تباك ال ذي تـحكمه‬
‫قـــواعد وإجراءات دقيقة يقبله ا الجمي ع وتض من اإلنص اف بين المش اركين بم ا يق وم علي ه من تك افؤ في‬
‫الحقوق والفوائد والخيرات‪ ،‬ويتضمن فكرة الفائدة العقالنية التي تختلف عن المن افع الفردي ة الض يقة‪ .‬ومن‬
‫هنا يصبح هدف نظرية العدالة هو تحدي د ص يغ التع اون اإلجتم اعي الض امنة لإلنص اف من خالل تع يين‬
‫الحقوق والواجبات التــي تضعهـــا بنية المؤسسات السياسيــة واإلجتماعية‪ ،‬مع تحديد نمط وضوابط تقس يم‬
‫المنافع المترتبة على التعاون اإلجتماعي‪ .‬والس ؤال المط روح هن ا ه و‪ :‬م ا ه و التص ور السياس ي للعدال ة‬
‫األكثر قبوال لتحديد الصيغ المنصفة للتعاون بين مواطنين يعتبرون أحرار ومتساوين وعقالنيين؟‪.‬‬

‫لإلجابة عن السؤال يقترح راولز نظرية محكم ة تتلخص في فك رة الوض ع األص لي‪ ،‬ويع ني به ا‬
‫الحالة الصفر‪ ،‬التي تتضمن عدال ة التواف ق األساس ية ال تي يمكن التوص ل إليه ا الحق ا‪ .‬فيمكن تق ويم م دى‬
‫عقالنية ومالءمة نظرية ما للعدالة‪ ،‬إذا كانت مبادئها قد إنتقاها أش خاص عقالني ون من بين مب ادئ أخ رى‪،‬‬
‫في الوضع األصلي‪ ،‬ومن خالل الفكرة األخيرة سيتحدث عن ما يسميه بحجاب الجهل‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫من خالل هذه الفكرة‪ ،‬فكرة الوضع األصلي وصل راولز إلى ص ياغة المب دأين الرئيس يين للعدال ة‬
‫اللذان هما زبدة نظريته كلها وهما‪:‬‬

‫‪ -‬المبدأ األول‪ :‬يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو لغ يره‪ ،‬ض من أوس ع نط اق من الحري ات‬
‫األساسية‪.‬‬

‫‪ -‬المبدأ الثاني ‪ :‬يجب تنظيم أشكال التفاوت اإلجتماعي واإلقتصادي بطريقة تضمن في أن واحد‪:‬‬
‫أن نتوقع عقليا أن تكون في مصلحة كل واحد وأن تكون متعلقة بمواقع ووضائف مفتوحة للجميع‪.‬‬

‫لإلشارة لقد أعاد راولز صياغة المبدأين في مراجعته لهذه النظرية في س نة ‪ ،2001‬س وف أع ود‬
‫لهذه الصياغة‪ ،‬أثناء مناقشتي لمبدأي العدالة في هذا الفص ل‪ .‬يطل ق راول ز على المب دأ األول مب دأ الحري ة‬
‫وه ذه فك رة متج ذرة في الثقاف ة األخالقي ة والسياس ية والفلس فية الغربي ة كم ا نج دها عن د روس و(والدتن ا‬
‫أحرار‪ ،)...‬وعند كانط في فكرة ( الفرد المستقل الحر)‪ ،‬نجد راولزأخدها ووضفها لتصير مبدأه األول‪ ،‬في‬
‫مفهومه للعدالة كإنصاف‪ ،‬والذي له األولوية على المبدأ الثاني‪.‬‬

‫يطلق على المبدأ الثاني مبدا اإلختالف أو الالمساواة‪ ،‬وهو الهم الذي شغل الفالسفة من ذ أرس طو‪،‬‬
‫ويؤكد راولز على تراتبية األولويات بين المبدأين فألولهما بالضرورة األولوية على الثاني‪ ،‬كما أن التك افؤ‬
‫في الفرص داخل المبدأ الثاني له األولوية على مبدأ الفرق أو كما يس ميه البعض بمعي ار التف اوت الق انوني‬
‫أو الشرعي‪ .‬وإقراره بهذه األولوية لمبدأ العدالة األول يقتضي ض منيا وض ع ح دود تض بط ش روط قب ول‬
‫صيغ الحياة المعروفة للجميع‪ ،‬والتي تجعل للمؤسسات العادلة قيمها السياسية المالئمة لها‪ ،‬التي هي أس اس‬
‫والء المواطنين لها‪ ،‬وهذا إستمرار وتطوير إلى أقصى حد من التجريد‪ ،‬لنظرية العقد السابقة عليه‪.‬‬

‫الوضع األصلي‬

‫‪1‬ـ تعريف الوضع األصلي وأهميته‬

‫‪20‬‬
‫الوضع األصلي هو الذي يتم فيه العقد اإلجتماعي وهو فكرة مخترعة إفتراض ية‪ ،‬قص د منه ا بي ان‬
‫سبب إختيارنا كعقالء‪ ،‬لو كنا في ذلك الوضع لمب دأي العدال ة ومن ثم لنطمئن إلى س لطة الدول ة الليبيرالي ة‬
‫التي تفرضهما ‪.‬‬

‫يصف راول ز الوض ع األص لي بقول ه إن ه الوض ع ال ذ ي تتواج د في ه األط راف وراء م ا يس ميه‬
‫بحجاب الجهل ويحدده بما يلي ‪" :‬ال يعرف أي واحد منها موقع ه في المجت ع‪ ،‬طبقت ه أو وض عيته‬
‫اإلجتماعية‪ ،‬وال حظّه من توزيع اإلمكانات والقدرات الطبيعية‪ ،‬وال مبلغ ذكائه ومق دار قوت ه‬
‫وماشابه‪ ،‬وال يعرف أي واحد منا تصوره للخ ير وتفاص يل خطت ه العقلي ة وال ح تى المالمح‬
‫الخاصة لنفسيته مثل كراهيته للمخاطر او تعرضه للتفاؤل أو التشائم‪.22"...،‬‬

‫زي ادة على ذل ك‪ ،‬ال تع رف األط راف الظ روف الخاص ة لمجتمعاته ا‪ ،‬أي أن ك ل واح د منه ا ال‬
‫يعرف وضعه اإلقتصادي أو السياسي أو مستواه الحضاري والثقافي‪ ،‬واألطراف في الوضع األص لي ليس‬
‫ليها معلومات عن األجيال التي تنتمي إليها‪ ،‬وعليها أن ال تعرف ظروف تقابلها‪ ،‬وعليه ا أن تخت ار مب ادئ‬
‫تكون مستعدة للعيش مع نتائجها مهما كان الجيل الذي ينتمي إليه كل واحد منها‪ ،‬لهذا الس بب يفظ ل راول ز‬
‫اإلستعاضة والهروب عن حال ة الطبيع ة‪ ،‬ويق ترح م ا يس ميه "بالوض ع األص لي" ه ذا المفه وم ه و حج ر‬
‫الزاوية في نظريته‪ ،‬باإلضافة إلى ذل ك تتجلى أهميت ه أيض ا في أن ه على األق ل نض من المس اواة‪ ،‬في ه ذا‬
‫الوضع الكل يسعى بعقالنية وجدي ة لتعزي ز مص الحه الفردي ة‪ ،‬وبم ا ان ه يتجاه ل وض عه الحقيقي‪ ،‬س وف‬
‫يضطر إلى تبني وجهة نظر محايدة وعالمية‪ ،‬في الوضع األص لي للس عي وراء تحقي ق المص لحة العام ة‪،‬‬
‫في هذا الوضع يهدف راولز من وراء هذا الكالم إلى وضع معايير الحد األدنى من العدالة تسمح في س ياق‬
‫األخالقية والتعددية‪ ،‬والتعايش المتن اغم لألف راد والجمـــــاعات م ع القيـــم والمث ل العلي ا للحي اة‪".‬ويمكن‬
‫القول إن سر الوضع األصلي‪ ،‬ال يكمن فيما تقوم به األطراف هنالك‪ ،‬بل فيما تدركه‪ ،‬م ا يهم‬
‫فيه ليس ما تختاره هذه األطراف‪ ،‬وإنما ما تراه وليس ما تقرره بل ما تكتشفه‪ ،‬على أي حال‬
‫فإن ما يجري في الوضع األصلي ليس عقدا‪ ،‬بل هو بروز وعي بالذات لدى الكائن من حيث‬
‫عالقاته بغيره"‪.23‬‬

‫والمقصود بأنه ليس عقد بمعنى العقد الذي الحضناه مع روسو مثال‪ ،‬ألنه مجرد عقد إفتراضي‪.‬‬

‫يعتبر راولز الوضع األصلي ذلك الذي يمكننا من النظر إلى غرضنا عن بعد‪ ،‬لكن ليس عن ذلك‬
‫البعد الذي يضعنا في عالم مفارق‪ ،‬كما هو الحال مع كان ط ‪" ،‬فالوضع األص لي ه و رد راول ز على‬
‫‪ - 22‬جون راولز‪ : ‬العدالة كإنصاف ‪ ،‬إعادة صياغة‪ ،‬ترجمة‪ ،‬حاج حيدر إسماعيل‪ ،‬بيروت‪ :‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬ط ‪،1،2009‬ص‪.38:‬‬
‫‪ - 23‬مايكل ساندل‪ ،‬مصدر سبق ذكره‪ ،‬ص‪.224 :‬‬

‫‪21‬‬
‫كانط في كتابه نقد العقل الخالص‪ ،‬ومفتاح الحل الذي يقترحه لتخطي الصعوبات"‪ ،24‬فالوض ع‬
‫األصلي يستهدف وصف حالة إبتدائية لإلنصاف وتعريف تلك المبادئ التي تتف ق األط راف العقالني ة على‬
‫إخضاعها لشروطها‪.‬‬

‫إن الشروط المنصفة في التعاون اإلجتماعي‪ ،‬هي حاصل إتفاق بين أولئك المنخرطين فيه‪ ،‬والس بب‬
‫هو حصول ذلك‪ ،‬هو أن المواطنين إستنادا إلى فرضية‪ ،‬وجود تعددي ة معقول ة اليتمكن ون من اإلتف اق على‬
‫أي ة س لطة أخالقي ة‪ ،‬مثال نص مق دس‪" ،‬وال يمكنهم اإلتفاق على نظ ام من القيم األخالقي ة‪ ،‬أو م ا‬
‫يأمر به قانون طبيعي وف ق م ا ي راه البعض"‪ ،25‬أع د ه ذا الوض ع حس ب راول ز دائم ا‪ ،‬كموق ف‬
‫منص ف لألط راف بإعتباره ا ح رة ومتس اوية وبإعتباره ا وعقالني ة‪ ،‬وبالت الي يك ون أي إتف اق تق وم ب ه‬
‫األطراف‪ ،‬هو إتفاق منصف‪ ،‬إن الوضع األصلي كما أشرت يعمم الفكرة المألوفة‪ ،‬فك رة العق د اإلجتم اعي‬
‫إال أن هذا الوضع أكثر تجريدا وإفتراضيا‪ ،‬فهو إفتراضي‪ ،‬ألننا نسأل األطراف عما يمكنها اإلتفاق‬
‫أو تريد من اإلتفاق‪ ،‬وليس عما إتفقت عليه‪ ،‬ويضيف راول ز ق ائال‪":‬وهو ليس تاريخي ا‪ ،‬ألنن ا ال‬
‫نفترض أن اإلتفاق قد وقع أو يمكن أن يقع في وقت ما"‪ ،26‬وح تى ل و حص ل ذل ك‪ ،‬فلن يغ ير في‬
‫الوضع شيئا‪.‬‬

‫تعني الفكرة الثانية حسب راولز أن المبادئ التي يتفق عليها األط راف يجب أن تق رر عن طري ق‬
‫التحليل‪ ،‬ونصف الوضع األصلي بش روط مختلف ة‪ ،‬ح تى إس تنباط م ا يمكن اإلتف اق علي ه‪ ،‬والتوص ل إلي ه‬
‫باإلستدالل من وضع األطراف لجهة كيفيته وص فاته‪ ،‬والب دائل المفتوح ة أمامه ا‪ ،‬ومم ا تحس به األط راف‬
‫أسبابا عقلية‪.‬‬

‫‪1‬ـ األسباب وراء إختيار الوضع والبرهان على ذلك‬

‫أ‪-‬األسباب وراء هذا اإلختيار‬

‫فكرة الوضع األصلي تم اللجوء إليها من طرف راولز‪ ،‬للكشف عن التصورات التقليدية للعدالة‪،‬‬
‫ليحدد المبادئ التي تمثل أساس تحقيق الحرية والمساواة‪ ،‬كنظام للتع اون بين أش خاص أح رار ومتس اوين‪،‬‬
‫على أساس هذه الخلفية المفترضة لوضع منصف‪ ،‬يجعل بإمكان إض فاء المش روعية على العدال ة ك إجراء‬

‫‪ - 24‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.70:‬‬


‫‪- 25‬جون راولز‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬مصدر سبق ذكره‪،‬ص ‪.106:‬‬
‫‪- 26‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.109 :‬‬

‫‪22‬‬
‫تعاقدي و لنرى بعد قراءتنا لهذا الهدف الذي رسمه راولز وجعله يلجأ لفكرة الوضع األصلي‪ ،‬وكيف قامت‬
‫هذه الفكرة ؟‬

‫لنعد الى لفكرة التعاون اإلجتماعي المنصف‪ ،‬ولنتسائل كيف يجب أن تتعين حدوده المنص فة‪ ،‬ه ل‬
‫ينبغي أن تملى بك ل بس اطة من ط رف س لطة خارجي ة‪ ،‬متم يزة عن األش خاص المنخ رطين داخ ل ه ذا‬
‫التعاون‪ ،‬من طرف ق انون إالهي مثال ؟‪ .‬أم يل زم أن يق ر ه ؤالء األش خاص ذاتهم بإنص افها باإلس تناد إلى‬
‫معرفتهم بنظام أخالقي سابق ومستقل؟‪ .‬هل هذه الحدود ض رورية حس ب ق انون ط بيعي أم تبع ا لع الم من‬
‫القيم تمت معرفته بطريقة حدسية؟ أم ينبغي أن توضع هذه الحدود من طرف ه ؤالء األش خاص ذاتهم على‬
‫ضوء ما ينظرون إليه كمصلحتهم المشتركة ؟‪.‬‬

‫في هذا الص دد يوض ح راول ز بعض القي ود ال تي تع ترض األس باب العقلية‪" :‬إذا كنا معقولين‬
‫فسيكون أحد معتقداتنا المعبرة أن ال تكون واقعة كوننا نش غل موقع ا إجتماعي ا‪ ،‬س ببا لقب ول‬
‫مفهوم العدالة لمصلحتنا أو التوقع من أخرين أن يقبل وه‪ .‬وإذا كن ا أثري اء أو فق راء‪ ،‬فنحن ال‬
‫نتوقع من كل إنسان أخ ر أن يقب ل بني ة أساس ية لمص لحة األثري اء أو الفق راء لمج رد ذل ك‬
‫‪27‬‬
‫السبب"‪.‬‬

‫وبإعتبار أن نظرية العدالة‪ ،‬أعادت لتبني مذهب العقد اإلجتماعي‪ ،‬إذ سينظر إلى الحدود المنص فة‬
‫للتعاون اإلجتماعي بإعتباره‪ .‬ما يتم التوافق علي ه من ط رف المش اركين‪ ،‬أي من ط رف أش خاص أح رار‬
‫وأنداد من جهة أنهم مواطنون ولدوا في نفس المجتمع الذي يعيشون في ه‪ ،‬غ ير أن ت وافقهم كم ا ه و الح ال‬
‫بالنسبة ألي توافق س ليم‪ ،‬يجب أن يتحق ق داخ ل ش روط مالئم ة‪ ،‬وعلى الخص وص يل زم أن تتعام ل ه ذه‬
‫األخيرة مع هؤالء األشخاص األحرار واألن داد بإنص اف‪ ،‬وينبغي من جه ة أخ رى إقص اء إس تعمال الق وة‬
‫واإلكراه‪" .‬إن هذه اإلعتبارات جد مألوفة في الواقع اليومي‪ ،‬بيد أن توافقات الحياة اليومي ة تتم‬
‫داخل وضعية محددة بشكل واضح تقريبا‪ ،‬وذلك لتجذرها داخل المؤسس ات المحيط ة بالبني ة‬
‫األساسية غير أن مهمتن ا هي أن نس حب فك رة التواف ق ه ذه على اإلط ار المحي ط ذات ه"‪.28‬‬
‫بإختص ار نق ول‪ ،‬إن الوض ع األص لي يجب فهم ه على أن ه وس يلة تمث ل‪ ،‬وبإعتب اره ك ذلك‪ ،‬ه و ص ياغة‬
‫لمعتقداتنا كأشخاص معقولين بصورة منصفة وأنها ستصل إلى إتفاق خاضع لقيود مناسبة وعامة نابع ة من‬
‫مب ادئ العدال ة السياس ية "وهكذا فإن مس اواة المواط نين في الوض ع األص لي تص اغ بمس اواة‬

‫‪ - 27‬ج راولز‪ :‬العدالة كإنصاف ‪،‬ص ‪.111:‬‬


‫‪ - 28‬محمد هاشمي‪" :‬نظرية العدالة كإنصاف بين السياسة و الميتافيزيقا "‪،‬مجلة الجمعية الفلسفية المغربية (مدارات فلسفية)‪ ،‬العدد‪،10،2004 ،‬ص ‪:‬‬
‫‪.107‬‬

‫‪23‬‬
‫ممثليهم"‪ ،29‬أي أن ه ؤالء الممثلين متموض عون بص ورة تناظري ة في ذل ك الوض ع‪ ،‬ويتمتع ون بحق وق‬
‫متساوية في إجراءاته الهادفة للوصول إلى إتفاق‪.‬‬

‫يمكن الق ول إلى ح دود األن أن فك رة من قبي ل الوض ع األص لي ق د تم إستحض ارها من ط رف‬
‫راولز‪ ،‬بسبب إنعدام أي وسيلة أفضل إلعداد تص ور سياس ي‪ ،‬ح ول البني ة األساس ية للمجتم ع إنطالق ا من‬
‫الحدس المركزي للمجتمع كنظام منصف للتعاون بين المواطنين‪ ،‬أي بين أشخاص أحرار وأن داد‪ ،‬لكن م ع‬
‫ذلك تظل هناك مجازفات فالوضع األصلي يمكن أن يبدو تجريديا بعض الشيئ كما أشرت سابقا‪ .‬مما جعله‬
‫موضوعا لسوء الفهم‪ ،‬وذلك ألن وصف الشركاء قد يظهر كأنما يفترض تصورا ميتافيزقيا معينا للشخص‪،‬‬
‫كك ون طبيع ة األش خاص مثال مس تقلين عن خصائص هم العرض ية وس ابقة عنهم‪ ،‬بم ا في ذل ك غاي اتهم‬
‫القصوى وروابطهم بالغير‪ ،‬وبالتالي أسبقيتها على طبعهم منظورا إليه كك ل‪ .‬لكن األم ر ال يع دو أن يك ون‬
‫تهيئوا ناتجا عن نسياننا بأن الوضع األصلي هو مجرد إج راء ولكي نض رب مثال بخاص ية مهم ة للوض ع‬
‫األصلي‪ .‬نقول بأن حجاب الجهل ال يحتوي على أي تضمين ميتافيزيقي متعل ق بطبيع ة األن ا‪ ،‬حيث أن ه ال‬
‫يفترض بأن األنا سابقا أنطلوجي ا عن الوق ائع ب األفراد وال تي ال يح ق لهم معرفته ا‪ ،‬بإمكانن ا تبع ا لراول ز‬
‫إعتماد هذا الوضع بمجرد شروعنا في التفكير بهدف إيجاد مبادئ العدالة‪ .‬وهذا هو الس بب ال ذي يجعل ه ال‬
‫يتغافل عن هدفه أي "إظهار كيفية بناء فك رة مجتم ع يك ون عب ارة عن نظ ام منص ف للتع اون‪.‬‬
‫وذلك ألجل تحديد المبادئ األكثر صالحية لتحقيق مؤسسات للحرية والمس اواة‪ ،‬حيث يعت بر‬
‫المواطنون أشخاصا أحرار وأنداد"‪.30‬‬

‫لق د أش رت أن فك رة الوض ع األص لي‪ ،‬يمكنه ا ال دفع بن ا لإلعتق اد ب أن هن اك إف تراض لم ذهب‬


‫ميتافيزيقي‪ ،‬وإنكار وجود مثل هذا اإلفتراض ال يعد كافيا لنفي ذلك‪ ،‬له ذا لج أ راول ز في القس م الث الث من‬
‫كتابه العدالة كإنصاف‪ ،‬للبرهنة على ذلك‪.‬‬

‫ب – البرهان من الوضع األصلي‬

‫يجب أن ال ننسى أن الوضع األصلي يخدم أهدافا أخرى غير األهداف الميتافيزيقية‪ ،‬ولهذا س يقارن‬
‫راول ز م ا بين البره ان من الوض ع األص لي‪ ،‬وال براهين ال تي نحص ل عليه ا في االقتص اد والنظري ة‬
‫اإلجتماعية‪" :‬وبالرغم من التشابه بين ب راهين اإلقتص اد والنظري ة اإلجتماعي ة والبره ان من‬
‫الوضع األصلي‪ ،‬إال أن هناك فروقا أساسيسة‪ ،‬و أحد هذه الفروق هو أن ه دفنا ليس وص ف‬
‫كيف يسلك الناس فعليا في مواقف معينة ولشرح ذلك‪ ،‬أو كيف تعمل المؤسسات واقعيا‪ ،‬إنما‬
‫‪29‬‬
‫‪-‬ج راولز‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬ص ‪.144:‬‬
‫‪30‬‬
‫‪ -‬محمد هاشمي‪ :‬نظرية العدالة بين السياسة و الميتافيزيقا‪ ،‬ص‪.109:‬‬

‫‪24‬‬
‫هدفنا هو الكشف عن أساس عام لمفه وم سياس ي للعدال ة‪ .‬ومث ل ه ذا العم ل يخص الفلس فة‬
‫السياسية ال النظرية اإلجتماعية"‪.31‬‬

‫وله ذا فأثن اء وص ف راول ز لألط راف ال يك ون بص دد وص ف األش خاص كم ا نلق اهم‪ ،‬ب ل إن‬
‫األط راف توص ف وفق ا للص ورة ال تي نري د أن نص وغها عن الممثلين العقالن يين للمواط نين األح رار‬
‫والمتساوين‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬يفرض راولز على األطراف شروطا معقولة معينة كما في تناظر مواقفهم‬
‫واحدهم إزاء األخر وفي محدودية معرفتهم (أي حجاب الجهل )‪ .‬ويضيف قائال ‪":‬نود أن يكون البرهان‬
‫من الوضع األصلي‪ ،‬وبقدر ما يكون ذلك ممكن ا برهان ا إس تدالليا ‪ ...‬وس بب إس تهدافنا ه ذا‬
‫يتمثل في أننا ال نريد أن تعتمد األطراف التي تقبل المبدأين على فرضيات نفس ية أو ح االت‬
‫إجتماعية غير واردة في وصف الوضع األصلي "‪.32‬‬

‫لذلك فإن األطراف تبع ا لراول ز أش خاص مص طنعون‪ ،‬والح ال ه و أنهم ليس وا إال مقيمين في م ا‬
‫يسميه بأداة التمثيل التي صنعها هو ال أقل وال أكثر‪ ،‬وبتعبير أخر هم شخص يات ت ؤدي أدوارا في تجرب ة‬
‫راولز الفكرية‪ .‬لذلك فالوضع هو وسيلة إنتقاء من الئحة تشمل على أهم مفاهيم العدالة السياسية‪ ،‬الموج ودة‬
‫في تراث وتقاليد الفلسفة السياسية‪ ،‬وواجب األطراف هو أن تواف ق على خي ار واح د مم ا ه و موج ود في‬
‫الألئحة‪ ،‬لكن إذا ك ان األم ر على ه ذا الح ال أين هي أهمي ة فك رة الوض ع األص لي له ذا يع ترض راول ز‬
‫قائال ‪":‬إن مبادئ معينة لم توضع في الالئحة‪ ،‬كاإلرادة الفردية الحرة المطلقة"‪.33‬ألنه يريد رسم‬
‫مفهوما سياسيا للعدالة يمكنه أن يعين أساس ا أخالقي ا مالئم ا للمؤسس ات الديمقراطي ة ويص مد إزاء الب دائل‬
‫الموجودة‪ ،‬فظروف العدالة هذه تعكس حسب راولز صورة الظروف التاريخية ال تي توج د في المجتمع ات‬
‫الديمقراطي ة الحديث ة‪ .‬ه ذه الظ روف ال تي تعكس ص ورة الواق ع ال ذي يك ون في ه المواط نين في مجتم ع‬
‫ديمقراطي يؤكدون على تعددية العقائد وإختالفها‪ ،‬وإن كانت في الواقع غير متوافق ة‪ ،‬ه ذه حقيق ة التعددي ة‬
‫المعقولة التي تطرق لها راولز‪ ،‬في المبدأ الث اني ‪ -‬من مب دآي العدال ة – ه ذا ال يب دو واض حا بش كل جي د‬
‫حسب راولز في تاريخ الدول الديمقراطية وإن كانت هذه التعددية طبقا له (راولز) صفة ب ارزة وثابت ة من‬
‫صفات المجتمع الديمقراطي‪ .‬وهذا هو على وجه الخصوص احد أدوار الفلسفة السياس ية "ه و مس اعدتنا‬
‫على الوصول إلى إتفاق على مفهوم سياسي للعدالة‪ ،‬لكنها ال تتمكن من أن تبين لنا وبوضوح‬
‫كاف يمكننا من الحصول على إتفاق حر وعام‪ ،‬أن أي عقيدة شاملة معقولة بمفهومه ا للخ ير‬

‫‪ - 31‬ج راولز‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬ص ‪.209:‬‬


‫‪ - 32‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.211 :‬‬
‫‪ - 33‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.212:‬‬

‫‪25‬‬
‫هي األعلى"‪ .34‬فراولز يبحث من خالل هذا عن مفهوم للعدالة السياسية ي دخل تعددي ة المب دأ الث اني في‬
‫الحسبان كمعطى من المعطيات وبهذا المعنى حسب راولز‪ ،‬أو بهذه الطريقة وحدها يمكننا أن نحق ق المب دأ‬
‫الليبرالي‪ ،‬الذي تمارس فيه السلطة السياسية‪ ،‬بإعتبارها سلطة مواط نين أح رار ومتس اوين‪ ،‬بط رق يواف ق‬
‫عليها جمي ع المواط نين في ض وء عقلهم اإلنس اني الع ام‪ ،‬فالوح دة اإلجتماعي ة تق ام على قب ول المواط نين‬
‫لمفهوم سياسي للعدالة‪.‬‬

‫وبما أن األطراف في الوض ع األص لي تت ألف من ممثلين لمواط نين أح رار ومتس اوين يمارس ون‬
‫كأوصياء لذا يجب عليهم بعد م وافقتهم على مب ادئ العدال ة أن يعمل وا على ت أمين المص الح األساس ية لمن‬
‫يمثلون‪ ،‬وهذا ال يعني أن األطراف ذات المنافع الذاتية‪ ،‬ستكون أقل أناننية‪ .‬ولهذا فمن حق األط راف أن ال‬
‫تهتم مباشرة بمصالح أشخاص تمثلهم أطراف أخ رى غ ير أن ه س واء ك ان الن اس ذات يي المن افع‪ ،‬أو ح تى‬
‫أن انيين ف ذلك يتوق ف على محت وى غاي اتهم األخ يرة‪ ،‬وعلى م ا إذا ك انت المن افع في ث رواتهم الخاص ة‬
‫ومرك زهم‪ ،‬وفي س لطتهم الخاص ة ومق امهم‪ ،‬ففي ممارس تهم المس ؤولية كأمن اء‪ ،‬ه دفهم ت أمين من افع‬
‫األشخاص األساسية في حريتهم ومساواتهم‪.‬‬

‫إن الق ول ب أن األط راف ال تع نى مباش رة بمن افع أولئ ك ال ذين تمثلهم أط راف أخ رى‪" :‬يعكس‬
‫صورة عن ناحية جوهرية تتعلق بكيف يتحرك المواطنون بما يناسب عندما تنش أ مس ائل في‬
‫العدالة السياسية مختصة بالبنية األساس ية‪ ،‬فالنزاع ات الديني ة واألخالقي ة العميق ة توص ف‬
‫الظروف الذاتية للعدالة"‪ .35‬ويضيف راول ز أن ه ال ش ك من أن المنخ رطين في ه ذه النزاع ات ليس وا‬
‫ذاتيي المنفعة‪ ،‬عموم ا‪ ،‬ب ل ي رون أنفس هم م دافعين عن حق وقهم األساس ية وحري اتهم ال تي ت ؤمن من افعهم‬
‫المشروعة واألساسية‪.‬‬

‫لهذا في إطار إستدالله تطرق لحجاب الجهل مرة أخرى‪ ،‬وبما أن هذا األخير يمن ع األط راف من‬
‫معرفة العقائد (الشاملة) ومفاهيم الخير عند األشخاص الذين تمثلهم‪ ،‬فال بد من أن تكون ح ائزة على أس س‬
‫أخرى لكي تقر أي مب ادئ تنتفي في الوض ع األص لي‪ ،‬وهن ا يواج ه راول ز مش كلة عويص ة‪ ،‬وهي ‪ :‬إذ لم‬
‫يتمكن من تشكيل الوضع األصلي بحيث تستطيع األطراف أن تتفق على مبادئ للعدالة على أسس مالئم ة‪،‬‬
‫فإن العدالة كإنصاف ال يمكن الحديث عنها وإنجازها‪.‬‬

‫لحل ه ذه المش كلة ق دم راول ز فك رة المن افع األولي ة وهي كم ا يق ول ‪":‬األشياء التي يحتاجها‬
‫األش خاص كمواط نين وليس كبش ر بعي دا عن أي مفه وم معي اري‪ .‬وهن ا‪ ،‬يس اعد المفه وم‬

‫‪34‬‬
‫‪ -‬المصدر نفسه ‪،‬ص ‪.213:‬‬
‫‪35‬‬
‫‪-‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.215:‬‬

‫‪26‬‬
‫السياسي ال العقيدة األخالقية الشاملة على تعيين هذه الحاج ات والتطلب ات"‪ .36‬وفي خت ام ه ذا‬
‫الفصل ال بد من اإلشارة إلى التقسيم الذي وض عه راول ز للبره ان من الوض ع األص لي‪ ،‬حيث يقس مه إلى‬
‫جزئين‪:‬‬

‫الجزء األول‪ :‬إن األطراف ذاتها ال تلعب بها الح االت النفس ية الخاص ة كم ا أش رت س ابقة‪ ،‬وإن‬
‫تفكيرها المنطقي يستهدف إنتقاء مبادئ العدالة ال تي يك ون تأمينه ا لخ ير ه ؤالء األش خاص ه و األفض ل‪،‬‬
‫نعني مصالحهم األساسية‪ ،‬متجاهلة تبعا لراولز أي نوازع قد تصدر عن الحس أو عن إنحراف خاص نحو‬
‫حالة من اإلحتيار و ما شابه‪.‬‬

‫الجزء الث اني‪ :‬وه و ال ذي يع ني ب األطراف ال تي تنظ ر في بس يكولوجيا الم واطن في المجتم ع‬
‫الحسن التنظيم ذي العدالة كإنصاف أي ‪ :‬بسيكولوجيا الناس الذين يترعرعون ويحيون في مجتم ع‬
‫ينظم فيه مبدءا العدالة ( المبدأين اللذين إختارتهما األطراف) البنية األساسية بكفاءة‪ ،‬وتك ون‬
‫فيه هذه الحقيقة مدركة بصورة علنية‪ .37‬والسؤال الذي يطرح في هذا القسم حول ما إذا ك انت البني ة‬
‫األساسية تولد في المواطنين درجة من الحقد والحسد المبررين‪ ،‬أو تولد إرادة للسيطرة‪ ،‬وما شابه‪ ،‬وإذا م ا‬
‫حصل هذا كما يؤكد راولز فإن حس العدالة عند المواطنين يضعف‪ ،‬وبالتالي غالب ا م ا إنتهكت المؤسس ات‬
‫العادلة وأخفقت مبادئ العدالة وبالتالي المجتمع الحسن التنظيم المرافق ليس مستقرا‪ ،‬لذا على األطراف أن‬
‫تعيد النظر في المبادئ التي تم اإلتفاق عليها‪.‬‬

‫تبعا لما سبق ما يميز اإلنصاف في المقام األول هو إجرائي ة المداول ة ال تي يف ترض أن تق ود إلى‬
‫إختيار المبادئ التي سوف تقترحها األطراف المشاركة في العقد‪ .‬س تار أو حج اب الجه ل يتم في إط اره و‬
‫موضعه األصلي ترتيب العالقة بين المنهج و النتائج‪ :‬بين التوزيع المنص ف للحق وق والواجب ات من جه ة‬
‫والتقاسم العادل للمكاسب وال ثروات من جه ة أخ رى‪ .‬وتل ك في الحقيق ة هي الغاي ة األساس ية ال تي ي رمي‬
‫حجاب الجهل إلى تحقيقها في وضع إفتراض ي ال ت ارخي يمكن من إعط اء س مة خاص ة لفرض ية مجتم ع‬
‫يتصور أعضاءه كمنظومة كبرى لتوزيع المنافع والخيرات‪ ،‬والمبتغى هو أن تكون المعادلة بين كل عض و‬
‫في المجتم ع معادل ة منص فة‪ ،‬ولكن يع ني موض وع العدال ة داخ ل ه ذا اإلط ار س وى الفض يلة الك برى‬
‫للمؤسسات في عال قتها بقواعد التوزيع‪ ،‬والفضيلة هنا تختلف طبعا عن الفضيلة عن د أرس طو‪ .‬أم ا غايته ا‬
‫فهي صياغة المبادئ العملية لما يكون حق ا‪ ،‬أي منص فا في كيفي ة إقتس ام مكاس ب التع اون اإلجتم اعي من‬
‫الناحية القانونية‪.‬‬

‫‪ - 36‬المصدرنفسه‪ ،‬ص‪.219 :‬‬


‫‪- 37‬المصدرنفسه‪ ،‬ص‪.220:‬‬

‫‪27‬‬
‫وهك ذا يكمن مع نى التفك ير في العدال ة بالتحدي د في إجرائت ه التعاقدي ة في العق ل أو في المتخي ل‬
‫السياس ي لراول ز عن (حج اب الجه ل)‪ ،‬أي المب ادئ األك ثر تمثيلي ة وتعب يرا عن الفك رة السياس ية للعدال ة‬
‫اإلجتماعية وأي المعايير يصح إعتمادها في تنظيم البنية األساسية للمجتمع وليس التقويم األخالقي لألفع ال‬
‫والمسائل الفردية‪ .‬والمالحظ إلى ح دود األن ه و أن م ا تقترح ه نظري ة العدال ة هي مجموع ة من المب ادئ‬
‫وليس مجموعة من المؤسسات‪ ،‬فمبادئ العدالة هي التي تسهر على إقامة المؤسسات العادل ة م ع العلم أنه ا‬
‫نفسها ليست هذه المؤسسات‪.‬‬

‫المالحظ ة الثاني ة هي أن النت ائج ال تي أفض ى إليه ا الوض ع األص لي ومنهج راول ز عموم ا في‬
‫موضوع العدالة السياسية أدى إلى نتيجتان جوهريتان يحصرهما راولز في مبدأين إثنين على الش كل ال ذي‬
‫سنراه‪.‬‬

‫مبدأي العدالة‬

‫‪-1‬المبدأ األول‬

‫يتعين على المشاركين في الوضع األصلي‪ ،‬كما أنهم ال يعرفون سلفا ما سيكون مشروع حياتهم‬
‫الشخصي‪ ،‬أنهم يريدون الحد األقصى من الحرية لض مان متابع ة المش اريع المحتمل ة ثم أنهم يرغب ون في‬
‫حماية أكبر‪ ،‬للتعامل مع أقل المناصب فائدة‪ ،‬مثل تلك التي تنتمي إلى أسرة فقيرة‪ ،‬فإنه ا ال تري د أن تخت ار‬

‫‪28‬‬
‫مبادئ النفعية لتفادي خطورة إجبارهم على التضحية من اجل خ ير قلي ل‪ ،‬وفق ا لراول ز وبع د ف ترة طويل ة‬
‫ومداوالت صارمة وصل المشاركين إلى إتفاق عقالني إلى مبدأي العدالة‪.‬‬

‫أهم الحريات التي منحت للجميع في المبدأ األول تتكون كم ا يلي‪ :‬الحري ات السياس ية (الح ق في‬
‫التص ويت و الح ق في تقل د المناص ب العام ة ‪،‬حري ات التعب ير والتفك ير‪ ،‬وحماي ة س المة الش خص ض د‬
‫اإلعتقال التعسفي)‪ .‬إن الفك رة هن ا هي توظي ف إعتقاداتن ا ح ول المجتم ع ال ديمقراطي من حيث ه و نظ ام‬
‫تع اوني منص ف بين مواط نين أح رار ومتس اوين (كم ا في الض ع األص لي)‪ ،‬لكي ن رى إذا ك ان التأكي د‬
‫المش ترك لتل ك اإلعتق ادات سيس اعدنا على تحدي د مب دأ مالئم للبني ة األساس ية بظواهره ا اإلقتص ادية‬
‫واإلجتماعية الالمتساوية في نظرات الحياة العام ة للمواط نين‪ ،‬وبهم ا أي مب دأي العدال ة رف ع الغط اء عن‬
‫واقع الفكر األخالقي والسياسي في الثقافة الغربية؟‪ ،‬بدونها حسب راولز ال يكون للبني ة األساس ية للمجتم ع‬
‫أي معنى‪ ،‬فال سبيل لتحقيق العدال ة كإنص اف إال بس بب التس وية بالتف اوض‪ ،‬أن ذاك يمكن الق ول بم ا يمكن‬
‫نسميته المساواة الالمتساوية‪ ،‬يقول راولز بخصوص هذين المبدأين‪ " :‬إن هذين المبدأين (كم ا أش رت‬
‫سابقا) يجب ترتيبهم ا بنظ ام تسلس لي بحيث يس بق المب دأ األول المب دأ الث اني‪،"...‬ومن جه ة‬
‫أخرى يق ول‪ ":‬في إعتقادي ال يوج د واجب سياس ي ب المعنى ال دقيق‪ ،‬للمواط نين عموم ا "‪،38‬‬
‫معنى ذلك أن الكالم عن واجب سياس ي للمواط نين كالم لغ و إذ ال عالق ة ل ه في مفه وم الدول ة الليبرالي ة‪.‬‬
‫المعنى الوحيد للواجب السياسي الذي يقبله راولز هو المتعلق ببعض المواطنين‪ ،‬يعني أولئ ك األعض اء في‬
‫المجتمع ذوي الوضعية األفضل واألقدر على كسب المراكز السياسية واإلس تفادة من الف رص ال تي يق دمها‬
‫لهم النظام الدستوري‪ ،‬أما بقية أفراد المجتمع فخالف ذل ك إن عالقتهم بالدول ة تبع ا لراول ز واجب ط بيعي‬
‫من الطاعة‪ .‬وفي مايلي الصيغة األولى التي ج اء به ا راول ز يق ول‪ ":‬كل شخص يجب أن ين ال حق ا‬
‫متساويا في الحرية األساسية بأوسع (معناها) يكون متفقا مع حرية مماثلة لألخ رين "‪ .39‬أم ا‬
‫الصيغة المعدلة فهي على الشكل التالي‪ ،‬يقول‪" :‬لك ل ش خص الح ق ذات ه وال ذي يمكن إلغ اؤه في‬
‫ترسيمة من الحريات األساسية المتساوية الكافية‪ ،‬وهذه الترسيمة متسقة م ع نظ ام الحري ات‬
‫‪40‬‬
‫ومن بين األس باب ال تي جعلت ه يعي د النظ ر في المب دا األول‪ ،‬أن الحري ات األساس ية‬ ‫للجمي ع ذاته"‪.‬‬
‫المتساوية في المبدأ محددة بقائمة كما يلي‪ " :‬حرية التفكير وحرية الض مير‪ ،‬والحري ات األساس ية‬
‫(على سبيل المثال‪ ،‬حق التصويت‪ ،‬والمشاركة في السياس ة) وح ق إنش اء الجمعي ات ك ذلك‬

‫‪ - 38‬ج‪.‬راولز‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬مصدر سبق ذكره‪ ،‬ص‪.39:‬‬


‫‪39‬‬
‫‪- Rawls, J. : « théorie de la justice », op.cit.p.91. «  En premier leiu : chaque personne doit avoir un droit égal au‬‬
‫‪systéme le plus etendu de libertés de base égales pour tous qui soit compatible avec le meme systéme pour les‬‬
‫‪autres ».‬‬
‫‪ - 40‬ج‪.‬راولز‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬ص‪.148:‬‬

‫‪29‬‬
‫الحقوق والحريات المح ددة بحري ة وكرام ة الش خص الجس دية والنفس ية‪ ،‬وأخ يرا الحق وق‬
‫والحريات التي يعطيها حكم القانون"‪.41‬‬

‫هذه المراجعة تظهر أن ليس للحرية أولوية خاصة كما أن ممارسة شيئ إسمه "حري ة" ل ه الغاي ة‬
‫األساسية هذا إن لم تكن الوحيدة للعدالة السياس ية واإلجتماعي ة‪ ،‬في ظ ل واق ع التعددي ة ال ذي يع ترف به ا‬
‫راولز أكثر من مرة كان من الضروري إن صح القول أن يعطي األولوي ة للمب دأ األول على المب دأ الث اني‬
‫ألن هذا األخير يحقق دائما متطلب ات األول ويض يف مؤك دا على ه ذه األس بقية‪" :‬قد أعطيت األولوي ة‬
‫للمبدأ بالنظر إلى الطبيعة الجوهرية للحقوق والحريات األساسية ‪ ...‬وتعني هذه األولوي ة أن‬
‫المبدأ الثاني يطبق دائما ضمن مجموعة مؤسسات خلفي ة تحق ق متطلب ات المب دأ األول وهي‬
‫المؤسس ات ال تي تق وم ب ذلك في مجتم ع حس ن التنظيم"‪ ،42‬تع ني ه ذه األولوي ة إح ترام وإلغ اء‬
‫اإلختالط والتب ادل بين الحق وق األساس ية والحري ات ال تي يض منها المب دأ األول والمن افع اإلجتماعي ة‬
‫واإلقتصادية التي ينضمها ويضمها مبدأ الفرق‪ ،‬فال يمكن مثال حرمان جماعات م ا من الحري ات السياس ية‬
‫المتس اوية حس ب راول ز على أس اس أن حص ولهم على ه ذه الحري ات ق د يمكنهم من أن يعطل وا خطط ا‬
‫يحتاجه ا النم و اإلقتص ادي‪" ،‬ف الليبراليون ال ذين ين ادون بالمس اواة ي رون أن العدال ة هي ال تي‬
‫تتطلب المعاملة المتساوية‪ ،‬فهذه المساواة في المعاملة تعد تعبيرا عن الحقوق المتساوية التي‬
‫يحق لمواطني الدول الليبرالية الحصول عليها"‪ ،43‬وهذا بالذات ما يوض حه راول ز في ه ذا المب دأ‪،‬‬
‫مساواة مطلقة تخص الجميع‪ ،‬والغرض من مبدأي العدالة هو تحقيق ما يسميه راولز ‪" :‬مقاصد التعاون‬
‫اإلجتماعي المنصف عبر الزمن‪...‬وأيضا لجعل ظواهر الالمساواة اإلقتص ادية واإلجتماعي ة‬
‫تس هم بطريق ة فعال ة في الخ ير الع ام أو بص ورة أدق في منفع ة أعض اء المجتم ع األق ل‬
‫إمتيازات"‪ .44‬تبعا لذلك فالمجتمع مع راولز مخطط عدالة منصفة طبقا للمبدأ األول ال تتوقف عبر ال زمن‬
‫من دون بداية محددة أو نهاية‪.‬‬

‫سبق وأن أشرت إلى أن كالمه عن الوضع األصلي ومبدأي العدالة‪ ،‬واللذين يشكالن ركيزة بحثن ا‬
‫ه ذا‪ ،‬هم ا الس بيل لتحقي ق المس اواة‪ ،‬لكن دون أن أش ير بالت دقيق إلى منهم ال ذين يع انون من الحي ف‬
‫والالمساواة‪ ،‬يش خص راول ز الم رض (الالمس اواة) عن د حديث ه عن فك رة المن افع األولي ة وهي الح االت‬
‫‪41‬‬
‫‪- Rawls, J. : « théorie de la justice », op.cit.p.92. « la liberté d’expression, de réunion, la liberté de pensée et de‬‬
‫‪conscience ; la liberté de la personne qui comporte la protection à l’égard de l’oppressiopn psychologique et de‬‬
‫‪l’agression physique…définis par le concept de l’autorité de la lio ».‬‬
‫‪ - 42‬ج‪.‬راولز‪ ،‬العدالة كإنصاف‪ ،‬ص‪.154:‬‬
‫‪- 43‬بريان‪ ،‬باري‪ :‬الثقافة و المساواة‪،‬نق د مس اواتي للتعددي ة الثقافية‪ ،‬ترجم ة كم ال المص ري‪ ،‬الك ويت‪:‬منش ورات المجلس الوط ني للثاقف ة و الفن ون‬
‫واألداب‪ ،‬ط ‪،1،2011‬ج ‪ ،1‬ص‪.123:‬‬
‫‪- 44‬ج‪.‬راولز‪ ،‬العدالة كإنصاف‪ ،‬ص‪.163:‬‬

‫‪30‬‬
‫اإلجتماعية المختلفة والوس ائل المس تهدفة الض رورية لتمكين المواط نين من التط ور بم ا في ه الكفاي ة ومن‬
‫الممارسة الكاملة لقوتهم األخالقتين‪ ،‬ومواصلة للسعي لتحقيق مف اهيم مح ددة عن الخ ير يم يز راول ز بين‬
‫خمسة أنواع من هذه المنافع هي ‪:‬‬

‫‪ -‬الحقوق والحريات األساسية ‪ :‬حرية التفكير وحرية الضمير‪.‬‬


‫‪ -‬حري ة الحرك ة وإختي ار الوظيف ة م ا بين ف رص متنوع ة تس مح‬
‫بالنضال لغايات مختلفة‪.‬‬
‫‪ -‬قوى و إمتيازات ووظائف و مراكز السلطة والمسؤولية ‪.‬‬
‫‪ -‬المدخول والثروة‪ ،‬من حيث هما وسائل تستعمل لكل األهداف‪.‬‬

‫‪ -‬األس س اإلجتماعي ة إلح ترام ال ذات والمفهوم ة على أنه ا تل ك‬


‫النواحي للمؤسسات األساسية التي تكون في العادة جوهرية‪...45‬‬

‫تبعا لهذه المنافع األولية يعمالن مبدءا العدالة وذل ك بتنظيم حص ص المواط نين من ه ذه المن افع‪،‬‬
‫هذه األخيرة حسب راولز تعطى بالرجوع إلى الظروف الموضوعية اإلجتماعي ة للمواط نين‪ ،‬أي حري اتهم‬
‫المؤسساتية المؤمنة في المبدأ األول وفرصهم المنص فة ال تي يمكن الحص ول عليه ا‪ ،‬وتوقع اتهم لم دخولهم‬
‫وثروتهم منظورا إليهما من موقعهم اإلجتماعي‪ ،‬هذه الحاالت الالمتساوية‪ ،‬هي التي يعمل مبدأ الف رق على‬
‫معالجتها كما سنرى‪ .‬و هذا اليجب أن ينسينا الحضور الكانطي الذي ال يتأتى للعقل السياسي الراول زي إال‬
‫أن ينظر في هذا المبدأ(األول) من مبادئ العدال ة‪ ،‬وال ي تردد في أن يجع ل نظريت ه للعدال ة عموم ا ومب دأه‬
‫األول خصوصا ينتظم ان في دائ رة اإلمت داد الك انطي وإعالن ه الص ريح في الع ودة إلى "أس س ميتافيزق ا‬
‫األخالق "‪ ،‬وتحديدا إلى مبدأي اإلستقاللية والكلية( اإلرادة العامة) اللذين أخذهما كانط بدوره عن روسو‪.‬‬

‫وإذا علمنا أن مب دأ الكلي ة الك انطي ه ذا‪ ،‬متض منا بطريق ة م ا في الص يغة األولى لألم ر القطعي‬
‫"إفعل فقط طبقا للقاعدة التي تجعل في إمكانك أن تريد لها في عين ال وقت أن تغ دوا قانون ا كلي ا‪" ،‬أدركنا‬
‫كي ف أن ه ذه القاع دة تحي ل إلى ذاتي ة الش خص‪ ،‬وإلى اإلش راطات ال تي توج ه أفع ال‬
‫أألش خاص ليس ت ص ادرة عن مص الحهم الخاص ة‪ ،‬أي عن ذاتيتهم‪ ،‬ولكن عن إس تعدادهم‬
‫لتبني وجهة نظر كلية"‪ ،46‬ويض يف ص احب المق ال أن ه إذا ك ان المب دأ األول في نظري ة العدال ة عن د‬
‫راولز ينهض بوضيفة تعميم المساواة في الحقوق‪ ،‬وكانت أولوية ه ذا المب دأ على الث اني هي ال تي تض من‬
‫عدم التناقض‪ ،‬فسيكون حينئذ بمقدورنا أن نتخيل‪ ،‬وق د إنقلب المب دأ الث اني إلى األول وظه ور الحاج ة إلى‬
‫‪ - 45‬المصدر نفسه‪،‬ص ‪.173:‬‬
‫‪ -- 46‬مصطفى حنفي‪ :‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.44:‬‬

‫‪31‬‬
‫خرق مبدأ المساواة في الحق لضمان بل وغ رف ع القس ط األدنى إلى األقص ى في وض ع تنع دم الالمس اواة‪،‬‬
‫يقودنا هذا الكالم األخير إلى التساؤل عن المبدأ الثاني‪ ،‬مبدأ الالمساواة كما يسميه راولز والذي بالض رورة‬
‫يأتي بعد المبدأ األول مبدأ المساواة كيف ذلك ؟‬

‫‪ -2‬المبدأ الثاني‬

‫أن المبدأ الثاني مبدأ الالمساواة يعمل من خالله راولز على تدارك التفاوت ات القائم ة دون أن نعل ل‬
‫ذلك‪ ،‬والسبب في هذه التسمية (مبدأ الالمساواة) يعود إلى أنه على الص عيد اإلقتص ادي ال يك ون المجم وع‬
‫الع ام ال ذي س يقع إقتس امه مح ددا من ذ البداي ة وإنم ا يظ ل مش روطا بطريق ة إقتس امه فتت أثر الف روق بين‬
‫مستويات اإلنتاجية بالطريقة التي تم بها التوزيع‪" ،‬ففي نظام يعتمد المساواة المطلق ة يمكن أن تبل غ‬
‫اإلنتاجية مستويات متدنية إلى حد يتضرر فيه حتى الش خص األق ل‪ ،‬إذ توج د درج ة تص بح‬
‫عندها إعادة توزيع المداخيل ذات نتائج عكسية"‪ ،47‬من هنا ي دخل المب دأ الث اني‪ ،‬فيعم ل في ج زءه‬
‫األول على وضع الحدود التي يجب أن ال تتخطاها هذه األشكال من الالمساواة حتى تعد أفض ل من أش كال‬
‫أخرى أكبر منها‪ .‬كما يعمل هذا المبدأ في جزءه الثاني بقدر اإلمكان على إلغاء أشكال التفاوت الناجم ة عن‬
‫اإلختالف في السلطة والمسؤولية‪.‬‬

‫أم ا في م ا يخص الص يغة األولى ال تي ج اء عليه ا ه ذا المب دا‪" :‬المق ادير اإلجتماعي ة‬
‫واإلقتصادية غير المتساوية يجب أن تنظم بشكل تكون (أ) متوقعة على نحو معق ول‪ ،‬لتك ون‬
‫لمصلحة كل واحد في المجتمع و(ب) متصلة بمراكز ووظائف مفتوحة للجميع"‪.48‬‬

‫أما الصيغة المعدلة لهذا المبدأ جاءت على الشكل التالي‪" :‬يجب أن تتحقق ظواهر الالمساواة‬
‫اإلجتماعية وشرطين‪ :‬أولهما يفي د أن الالمس اواة يجب أن تتعل ق بالوظ ائف والمراك ز ال تي‬
‫تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص‪ ،‬وثانيهما يقتضي أن تكون ظ واهر‬

‫‪- 47‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.44:‬‬


‫‪48‬‬
‫‪- Rawls, J. : « théorie de la justice », op.cit.p.91. « En second lieu :les inégalités sociales et économiques doivent‬‬
‫‪etre organisées de façon, à ce que ,à la fois (a) l’on puisse raisonnablement s’attendre à ce qu’elles soient à‬‬
‫‪l’avantage, de chacun et (b) qu’elles soient attachées à des positions et a des fonctions overtes à tous ».‬‬

‫‪32‬‬
‫الالمساواة محققة أك بر مص لحة ألعض اء المجتم ع ال ذين هم األق ل مرك زا وه ذا ه و مب دأ‬
‫الفرق"‪.49‬‬

‫التغييرات التي أدخلت على مبدأ الثاني‪" :‬أنها تتعلق باألسلوب فقط"‪ ،50‬وما يهمنا أكثر ه و أن ه‬
‫إذا كنا قد أكدنا كما أكد على ذلك راولز على أولوية المبدأ األول الذي ينص كما رأين ا على المس اواة‪ ،‬ف إن‬
‫المبدأ الثاني يهدف هو أيضا "إلى تأسيس العدالة اإلجتماعية لكنه ي راعي حقيق ة أن ه في مجتم ع‬
‫ذي مساواة مطلقة تتعرض اإلنتاجية لخطر اإلنخف اض كث يرا إلى ح د يتض رر مع ه الجمي ع‬
‫حتى األكثر حرمانا"‪ ،51‬وبهذا يكون راول ز أك د م رة أخ رى على أن التفاوت ات اإلجتماعي ة اإلقص ادية‬
‫عادلة فقط إذا كانت منتجة لمزايا تعويضية لألفراد األكثر حرمانا (مبدأ الفرق)‪.‬‬

‫أ – مبدأ تكافؤ الفرص‬

‫يعتق د ج‪.‬راول ز أن ه ال يوج د تف اوت في حقيق ة أن ع ددا قليال يتحص ل على إمتي ازات أعلى من‬
‫المتوسط في وقت تتحسن فيه وضعية المحرومين بهذا الفعل (حسب مبدأ اإلختالف)‪.‬‬

‫إضافة إلى ذلك ينبغي أن يستفيد كل شخص من الفرص نفسها في الوصول إلى مختل ف الوظ ائف‬
‫والوضعيات اإلجتماعية التي يستفيد غريمه التقليدي(مبدأ تساوي الفرص) منه ا‪ .‬له ذا المب دأ األس بقية على‬
‫مبدأ الفرق ذلك أنه ليس لنا أن نضيق مجال تساوي الفرص لصالح تحسين ظروف معيشة كل فرد‪.‬‬

‫إن المساواة المنصفة أو تكافئ الفرص طبقا لهذا المبدأ تعني عند راولز المساواة الليبرالية ولتحقيق‬
‫مبتغاها من الضروري فرض متطلبات معينة على البنية األساسية‪ ،‬تفوق متطلبات نظام الحري ة الطبيعي ة‪،‬‬
‫وهذا يؤدي مع راولز إلى إلزامية إقامة سوق حر في إطار مؤسس ات سياس ية وقانوني ة تكي ف اإلتجاه ات‬
‫البعيدة المدى للقوى اإلقتصادية تكييفا يمنع ظواهر التمركز المتطرف للملكية والثروة‪ ،‬خاصة تلك التي ق د‬
‫ت ؤدي إلى الهيمن ة السياس ية‪"،‬وأيض ا يجب على المجتمع أن يقيم‪ ،‬من بين أش ياء أخ رى ف رص‬
‫متساوية للجميع بغض النظر عن الدخل العائلي"‪ .52‬فهذه المساواة الليبرالي ة تس عى إلى تع ويض ال‬
‫عدالة الحرية الطبيعية بتجاوز المساواة الصورية للفرص‪ ،‬وتصحيح ما أمكن ع واقب التف اوت اإلجتم اعي‬
‫والثقافي‪ ،‬والهدف هو نوع من "اإلستحقاق المنص ف" ال ذي يس مح بتخفي ف ح االت التفاوت ات اإلجتماعي ة‬

‫‪ - 49‬ج‪.‬راولز‪ ،‬العدالة كإنصاف‪ ،‬ص‪.148 :‬‬


‫‪- 50‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.149:‬‬
‫تيارتها‬ ‫‪- 51‬جاك لوكومت‪ "،‬الحرية و المساواة عن كتاب جون راولس‪:‬نظرية العدالة"‪ ،‬فلسفات عصرنا‪:‬الفلسفة الغربية المعاصرة‪،‬‬
‫مذاهبها و أعالمها و قضاياها ‪ ،‬مجلة العلوم اإلنسانية‪ ،‬ترجمة‪ ،‬إبراهيم الصحراوي‪ ،‬منشورات اإلختالف‪،‬ص‪.209 :‬‬
‫‪- 52‬المصدر نفسه‪،‬ص‪.150:‬‬

‫‪33‬‬
‫والثقافية بفضل التساوي في فرص التعليم مثال وبعض سياسيات إعادة التوزيع وغير ذلك من اإلص الحات‬
‫اإلجتماعية‪،‬‬

‫ب – مبدأ الفرق أو مبدأ اإلختالف‬

‫تتمثل مهمة هذا المبدأ في التحديد بطريقة عادلة ومنصفة لتوزيع الخيرات األولي ة بين أعضاء‬
‫المجتمع‪ ،‬وفقا لهذا المبدأ يمكننا أن نفترض عدم المساواة في توزيع الخيرات األولية ولكن في ظل ظروف‬
‫معينة‪ ،‬شريطة أن تهم هذه التفاوتات الجميع‪ ،‬بحيث يكون للفئات المحرومة النص يب األوف ر من اإلس تفادة‬
‫من هذه الخيرات‪.‬‬
‫لإلشارة‪ ،‬فإن ألولوية مبدأ تكافؤ الفرص على مبدأ الفرق أهمية وضرورة كبرى‪ ،‬ف إذا ك ان لن ا أن‬
‫نقبل بأن هناك مناصب ووظائف مفضلة من حيث الدخل والسلطة‪ ،‬فينبغي له ذه المناص ب من حيث المب دأ‬
‫أن تكون أيضا في متناول الجميع‪ ،‬ال ينبغي أن تكون مخصصة ألفراد ينتمون إلى فئة معينة نظرا لمكانتها‬
‫اإلجتماعية أو الدينية‪ .‬بل من حق كل من لدي ه الرغب ة والق درة على أن يحص ل على تل ك المناصب‪" :‬في‬
‫جميع قطاعات المجتمع يجب أن يك ون هن اك أف اق على ق دم المس اواة من الثقاف ة‪ ،‬وتحقي ق‬
‫لدوافع كل تلك الهدايا بشكل مماثل "‪.53‬‬
‫وهناك خاصية مميزة إضافية لمبدأ الفرق‪ ،‬وهي أنه ال يتطلب نموا إقتصاديا مستمرا عبر األجيال‪،‬‬
‫للتص عيد الالمح دود لتوقع ات األق ل إنتفاع ا‪ ،‬وم ا يتطلب ه ه و أن تك ون الفروق ات في الم دخول وال ثروة‬
‫المكتسبين من إنتاج الناتج اإلجتماعي‪ ،‬خالل فترة من الزمن مالئمة‪ .‬بحيث إذا كانت التوقع ات المش روعة‬
‫لألكثر إنتفاعا هي أقل‪ ،‬فإن توقعات األقل إنتفاعا تكون هي أيضا أقل‪" :‬ما يتطلبه مبدأ الف رق إذا‪ ،‬ه و‬
‫أن تك ون ح االت الالمس اواة القائم ة تحقيق ا لش رط إنتف اع األخ رين وأنفس نا‪ ،‬مهم ا عظم‬
‫المستوى العام للثروة وسواء كان عاليا أو منخفضا وهذا الشرط يبين أن مبدأ الف رق ه و في‬
‫الجوهر مبدأ مبادلة حتى لو كان يستعمل فكرة تصعيد توقعات األقل إنتفاعا"‪.54‬‬
‫أعاد راولز النظر في مبدأ الفرق‪ ،‬واعتبر أن مبدأ الفرق يعمل بالترادف مع المبدأين السابقين له‬
‫وأنه "ليس مبدأ مساواة الجمي ع ب ذلك المع نى ألن ه يق ر بالحاج ة إلى ح االت ال مس اواة في‬
‫التنظيم اإلجتماعي واإلقتصادي"‪ ،55‬وفي هذا اإلطار يعطي راول ز ع دة أمثل ة مض ادة لي بين أن مب دأ‬
‫الفرق يحتاج إلى تنقيح‪ ،‬كمثال الهنود و البريط انيين بم ا أن أعض اء الجم اعتين يمكن أن يكون ا مس اهمين‬

‫‪53‬‬
‫‪- Rawls, J. : « théorie de la justice », op.cit.p.104. « Dans tous les secteurs de la société il devrait y avoir des‬‬
‫‪perspectives , à peu prés égales de culture et réalisation pour tous … ».‬‬
‫‪- 54‬ج‪.‬راولز‪ ،‬العدالة كإنصاف‪،‬ص ‪.182:‬‬
‫‪- 55‬ج‪.‬راولز‪،‬ص ‪.189:‬‬

‫‪34‬‬
‫بكفاءة في المجتمع‪ ،‬فطبعا‪ ،‬إن ما يمكن أن يحدث فعليا حسب راولز‪ ،‬هو أنه عندما تتحقق المبادئ الس ابقة‬
‫الخاصة‪ ،‬بالحريات المتس اوية والمس اواة المنص فة‪ ،‬ف إن بعض الهن ود س يكونون في ع داد ال ذين تحس نت‬
‫حالهم وبعضهم األخر في عداد من ساءت حالهم‪ ،‬ومثل ذلك قد يكون مع البريطانيين‪ ،‬هذا ما يعني أن مبدأ‬
‫الفرق ال يتوجه إلى المنفعة الذاتية ألي كان‪ ،‬وهو في هذه الحالة يوجه أيضا أمثلته هذه ضد النفع يين‪" :‬أن‬
‫مبدأ الفرق ال يتوجه إلى المنفعة الذاتي ة له ؤالء األش خاص أو الجماع ات المعين ة بأس مائهم‬
‫الخاصة التي هي في واقع األمر‪ ،‬األقل إنتفاعا في ظروف الترتيبات القائمة فالمبدأ هو مب دأ‬
‫عدالة"‪ .56‬بهذا يعبر مبدأ الفرق‪ ،‬مثلما أي من مبادئ العدالة السياسية عن إهتم ام بجمي ع أف راد المجتم ع‪،‬‬
‫وبهذا يكون ج‪.‬راولز قد تجاوز تصور النظرة النفعية لألش خاص وال تي ك انت من أهم النق ط ال تي إنتق دها‬
‫بشدة في مشروعه السياسي يقول "أن مبدأ الفرق هو مبدأ عدال ة وليس مب دأ اللج وء إلى المنفع ة‬
‫الذاتية ألي جماعة خاصة"‪.57‬‬
‫في نظرية العدالة في صيغتها األولى يعلن راول ز أن مب دأ الف رق يمث ل إتفاق ا على إعتب ار توزي ع‬
‫المعطيات الطبيعية شيئا نافعا وعاما‪ ،‬هذا القول يعلق به راول ز على م ا تض منه إتف اق األط راف في مب دأ‬
‫الفرق‪ ،‬أعني أنه بالموافقة على ذلك المبدأ‪ ،‬يالحظ راول ز في الص يغة المعدل ة لس نة ‪ ،2001‬أن م ايعتبره‬
‫شيئا نافعا وهاما هو توزيع المعطيات الطبيعية وليس مواهبنا الطبيعية في حد ذاتها‪ ،‬فليس األمر كما ل و أن‬
‫المجتمع ملك مواهب األفراد‪ ،‬ن اظرا إلى األف راد واح دا واح دا‪ " :‬فمسألة ملكيتن ا لمواهبن ا لم تنش أ‪،‬‬
‫وفي ح ال نش وئها إفتراض ا‪ ،‬ف إن األش خاص أنفس هم هم ال ذين يملك ون م واهبهم‪ :‬الس المة‬
‫السيكولوجية والفزيائية لألشخاص تضمنها الحقوق والحريات األساس ية ال واردة في المب دأ‬
‫األول للعدالة"‪.58‬‬
‫وبالت الي م ا يجب إعتب اره ش يئا نافع ا وعام ا ه و توزي ع المعطي ات الطبيعي ة‪ ،‬أي الف روق بين‬
‫األشخاص‪ ،‬وال توجد هذه الفروق فقط في إختالف الم واهب من الن وع ذات ه (ك إختالف في ال ذكاء والق وة‬
‫والخيال وغيرهم) وإنما في اإلختالف في المواهب من أنواع مختلفة‪".‬ويمكن إعتبار ه ذا الن وع ش يئا‬
‫نافعا وعاما ألنه توجد ح االت تكام ل عدي دة ممكن ة في م ابين الم واهب عن دما تنظم بط رق‬
‫مالئمة بغية اإلستفادة من هذه الفروق"‪ ،59‬ويضيف لننظر في كيف تنظم هذه الم واهب‪ ،‬أليس ممكن ا‬
‫لألشخاص األحرار والمتساوين أن يرو أنه من الظلم أن يتمتع البعض بمواهب طبيعية أفضل من األخرين‬
‫(لقد رأينا هذه المسألة مع روسو‪ ،‬ونفسها تطرق إليها هجيل في كتابه "مبادئ فلسفة الحق") وهل يوجد أي‬

‫‪- 56‬المصدر نفسه‪،‬ص ‪.193:‬‬


‫‪- 57‬المصدر نفسه‪،‬ص ‪.194:‬‬
‫‪- 58‬المصدر نفسه‪،‬ص ‪.200:‬‬
‫‪- 59‬المصدرنفسه‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫مبدأ سياسي ذي قبول مش ترك من المواط نين األح رار والمتس اوين لترش يد المجتم ع في مس ألة إس تعماله‬
‫لتوزيع المعطيات الطبيعية ؟ وهل يمكن إقامة تسوية بين األكثر إنتفاعا واألقل إنتفاعا فيتوافق ون على مب دأ‬
‫عام‪.‬‬
‫لحل هذه المسألة إلتجأ راولز إلى ما سماه بالوضع األصلي كما رأين ا من قب ل‪ ،‬وه و وجه ة نظ ر‬
‫يتفق من خاللها ممثلوا المواطنين األحرار و المتســـاوين علـــى مبدأ الفــرق وبص ياغتنا لمث ل ه ذا المب دأ‬
‫(الف رق)‪" :‬فإن العدال ة كإنص اف س تؤدي دور الفلس فة السياس ية كح ل ت وفيقي‪ ،‬وهن ا يك ون‬
‫إشتمال مبدأ الفرق على فكرة المبادلة أمرا في غاية األهمية"‪ ،60‬فكرة المبادلة هذه فك رة أخالقي ة‬
‫تتموضع بين فكرة عدم اإلنحياز الغيرية من جهة وفكرة المنفعة التبادلية من جهة اخرى‪ ،‬ولكي تكون فكرة‬
‫المبادلة مرضية حسب راول ز يجب أن ال تك ون ممكن ة النج اح وملبي ة حاج ات المفه وم السياس ي للعدال ة‬
‫فحسب بل أيضا ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬أن تجيز ح االت الالمس اواة اإلجتماعي ة واإلقتص ادية الض رورية أو ذات كف اءة عالي ة في‬
‫إدارة اإلقتصاد الصناعي في دولة حديثة‬
‫ب‪ -‬يجب أن تعبر عن مبدأ المبادلة (ألن المجتم ع ه و نظ ام منص ف من التع اون من جي ل إلى‬
‫الجيل الذي يعقبه‪ ،‬تعاون بين مواطنين أحرار ومتساوين)‬
‫ج – يجب أن تعالج وبطريقة مالئمة أخطر حاالت الالمس اواة من منطل ق العدال ة السياس ية أي‬
‫حسب راولز دائما حاالت عدم المساواة في توقع ات المواط نين كم ا تب دو في توقع اتهم المعقول ة في حي اة‬
‫كاملة وحاالت الالمساواة هذه هي تلك التي قد تنشأ بين مستويات للمدخول مختلفة في المجتمع ألنه ا تت أثر‬
‫بالمركز اإلجتماعي الذي يولد فيه األفراد‪...‬كما أنها تتأثر بم وقعهم في مج ال توزي ع المعطي ات الطبيعي ة‪،‬‬
‫وما يعنينا هو األثار الباقية لهذه الطوارئ مع عواقب الحادث والحظ ع بر الحي اة ( العدال ة كإنص اف ص‬
‫‪ ،) 203‬وأفضل ما يمكن أن نختم به ق ول لي بري ان ب اري ‪ ":‬إن راولز يق ول بالفع ل إن المجتم ع‬
‫الذي يطبق مبدأيه للعدالة يكون قد قام بكل ما عليه القيام به لض مان التوزي ع المالئم لألس س‬
‫اإلجتماعية إلحترام الذات"‪ ،61‬إن المبدأ الذي وض عه راول ز لتوزي ع الم وارد اإلقتص ادية‪ ،‬وه و مب دأ‬
‫الفرق أو اإلختالف يمكن في ظل بعض الظروف أن يكون متوافقا مع درجة معينة من عدم المس اواة ال تي‬
‫قد تفسد إحتماالت وجود "أسس إجتماعية إلحترام الذات بالنسبة للجميع"‪.‬‬

‫‪- 60‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.201 :‬‬


‫‪ - 61‬بريان باري‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.189:‬‬

‫‪36‬‬
‫● مايكل ساندل‪ :‬نقد فكرة اللعدالة عند راولز‬

‫يوجه "مايكل ساندل" إلى راولزإعتراض مهم‪ ،‬وهو بما أن إتف اق األط راف في الوض ع األص لي‬
‫ليس ملزما‪ ،‬سيبدوا هذا األخير عديم األهمي ة‪ ،‬يق ول س اندل في ه ذا الص دد‪":‬يذكرنا رولز (هن ا) ب أن‬
‫الوضع األصلي ليس موقعا للتوزيع وإنما طريقة في التفكير"‪ ،62‬يرد ساندل أن ه ح تى وإن ك انت‬
‫هذه األطراف تفكر من باب التدبر بالطريقة التي يفترض راولز أنه ا تفك ر به ا‪ ،‬ال يتض ح لن ا مباش رة في‬
‫غياب مزاعم إجتماعية مسبقة‪.‬‬

‫فاألطراف في الوضع األصلي تبعا لراولز‪ ،‬أن المواطنين متساوين في جميع النواحي عندما تك ون‬
‫المسائل مختصة بالعدالة السياسية أي إنهم يكونـــون حائزين على قدر كاف من القوى المطلوبة التي لهـــا‬
‫عالقة بشخصيتهم األخالقيــة وعلى شتى الق درات األخ رى ال تي ق د تخ ولهم تعاون ا طبيعي ا ومكتمال على‬
‫‪ - 62‬مايكل ساندل‪ ،‬ص‪.11:‬‬

‫‪37‬‬
‫مدى الحياة‪ ،‬يقول ساندل في هذا الصدد‪" :‬إن الحل الذي يقترحه راولز‪ ،‬ه و ح ل متض من أساس ا‬
‫في فكرة الوضع األصلي‪ ،‬هو تصور األنا كذات ح ائزة‪ ،‬ألن الحي ازة هي ال تي تس مح لألن ا‬
‫بالتجرد من غاياته من دون أن يكون منفصال عنها تماما"‪ ،63‬في أخالق ال واجب عن د راول ز تبع ا‬
‫لفكرة الحيازة‪ ،‬يكون األنا سابقا على الغايات التي هي من وصفه‪ ،‬تفسير هذه األسبقية يطرح تحديا خاصا‪،‬‬
‫ما دام مشروعه (راولز) يلغي من اإلعتبار أن يحقق أولويته في عالم مفارق‪ ،‬أو نوميني‪ ،‬فكل تفسير لألن ا‬
‫وللغايات ينبغي‪ ،‬حسب راولز أن يوضح لنا مسألتين‪ ،‬أوال كيف يتم التمييز بين األن ا وغايات ه ؟ وكي ف يتم‬
‫الربط بين األنا وهذه الغايات؟ وعلى ذكر أخالق الواجب عند راولز‪ ،‬يذكرهذا بكانط‪" .‬بالنسبة لكانط‪ ،‬ال‬
‫يمكن إثبات أولوية الحق أو سيادة القانون األخالقي ووحدة األنا أو الوحدة المتعالية لإلدراك‬
‫إال عن طريق اإلستنباط المتعالي أو الق ول بع الم نومي ني أو ع الم معق والت كش رط مس بق‬
‫ضروري لقدرتنا على أن نك ون أح رار ونع رف أنواتنا"‪ ،64‬يعت برراولز أن ه ذا الكالم الك انطي‬
‫ميتافيزيقا‪ ،‬ولهذا يرفضها‪ ،‬إال أنه يعتقد أنه من الممكن اإلحتفاظ بقوتها األخالقية في سياق نظرية تجريبي ة‬
‫ذل ك ه و دور الوض ع األص لي عن ده‪ ،‬وفي ه ذا اإلط ار يق ول س اندل‪" :‬التفسير الذي يعطيه راول ز‬
‫للوضع األصلي‪ ،‬وهو تفسير تجريبي صريح يدعونا هو ذاته إليه ال يمكن أن يؤيد م ا تدعي ه‬
‫أخالق الواجب "‪ ،65‬برهن م‪.‬ساندل مرة أخ رى عن فك رة الوض ع األص لي هات ه‪ ،‬ل ديها ج ذور عميق ة‬
‫خصوصا عندما يتعلق األمر بفكرة الحرية والمساواة وهكذا وطبقا لمبدا المساواة الصورية يجب أن يعام ل‬
‫هؤالء المتساوون من جميع النواحي معامل ة متس اوية أي يجب أن يك ون ممثل وا المواط نين موج ودين في‬
‫مناطق مختلفة ومتناضرة في الوضع األصلي‪ ،‬وبخالف هذه الحالة أو الصيغة ال نرى ذلك الوضع منص فا‬
‫للمواطنين األحرار والمتس اوين‪ .‬ي رد س اندل ق ائال " أن النقطة األساس ية هي أن ه على ال رغم من‬
‫الطابع الفرداني للعدال ة كإنص اف‪ ،‬ف إن مب دأي العدال ة ليس ا مره ونين برغب ات أو ش روط‬

‫‪ - 63‬مايكل ساندل‪ ،‬مصدر سبق ذكره‪ ،‬ص‪.111:‬‬


‫*فكرة البنية األساسية هي فكرة مهمة عند راولز لمجتمع حسن التنظيم‪ ،‬وتؤلف البنية األساسية للمجتمع الطريقة التي تتالئم بحسبها المؤسسات ‪-‬‬
‫‪ -‬السياسية و اإلجتماعية الرئيسية فتدخل في نظام تعاون إجتماعي‪ ،‬وطريقة تعيينها الحقوق والواجبات األساسية‪ ،‬وتنظيمها لتقسيم الفوائ د ال تي تنتج‬
‫من التعاون اإلجتماعي عبر الزمن‪ .‬وتشمل البنية األساس ية الق انون األساس ي ذا القض اء المس تقل‪ ،‬وص ورا من الملكي ة مع ترف به ا قانوني ا‪ ،‬وبني ة‬
‫االقتصاد‪ ،‬وأيضا األسرة في صور من الصور‪ ،‬فتكون البنية األساسية اإلطار االجتماعي الخلفي الذي تجري في داخله نشاطات الجمعيات واألف راد‪.‬‬
‫والبنية األساسية العادلة تؤمن ما يمكن أن ندعوه العدالة الخلفية ( جون راولز‪ ،‬العدالة كإنصاف‪ ،‬ص‪).99:‬‬

‫*‪ -‬الحيازة دائما مشروطة بصفة الفاعل و قدرته على التحكم في الذات‪ ،‬زوال الحيازة من وجهة نظر كانط و راول ز يمكن فهم ه كض رب من فق دان‬
‫القدرة‪ ،‬عندما تزول حيازتي لشيئ ما إما بسبب إفالته من يدي أو ألن مناله من الصعوبة بمكان يجعل ه يس تولي علي و يجعل ني من دون ق درة أمام ه‬
‫فإن وضعي حيال هذا الشيئ يناله الضعف هو أيضا‪ .‬فكل واحدة من هاتين الفكرتين المختلفتين حول هذا الوضع تتضمن بدورها طابعا مختلفا للعالقة‬
‫بين األنا و غاياته‪ ،‬و عليه يمكننا أن نعتبر الجانبين في صفة الفاعل طريقتين مختلف تين إلص الح اإلنح راف في إتج اه فق دان الحي ازة‪ ،‬و يمكن تمي يز‬
‫بعضهما عن بعض من حيث الصيغة التي تعمل به ا ك ل واح دة منهم ا إلس تعادة ن وع من الش عور ب التحكم في ال ذات‪ ( .‬س اندل‪ ،‬الليبرالي ة و ح دود‬
‫العدالة‪،‬ص ‪).115:‬‬

‫‪ - 64‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.70 :‬‬


‫‪ - 65‬المصدرنفسه‪ ،‬ص‪.76 :‬‬

‫‪38‬‬
‫إجتماعية سائدة"‪ .66‬في هذا اإلطار فإن العدالة كإنصاف يمكن القول أنها تتشكل كما ه و الح ال في ك ل‬
‫عقد‪ ،‬من قسمين ‪:‬‬

‫* قسم يفسر الحالة اإلبتدائية‪.‬‬

‫* قسم أخر يخص مبدأي العدالة‪ ،‬اللذين نف ترض حس ب راول ز أنهم ا س يكونان مح ل إتف اق‪ ،‬ف إن‬
‫الثاني يوفر المؤسسات الخلفية للعدالة اإلجتماعية واإلقتصادية بأنسب صورة للمواطنين المعت برين أح رار‬
‫ومتساوين‪.‬‬

‫بالنس بة إلى مب دأ المس اواة الليبرالي ة ه ذا‪.‬يق ول س اندل‪" :‬أن اله دف الم أمول من ه ه و‬
‫تمكينالجميع من المساواة في اإلنطالق لكي يتمكن من لهم نفس المواهب والقدرات الفطرية‪،‬‬
‫ونفس اإلرادة في إستغالل حيازتهم هذه من أن تكون فرص النج اح نفس ها‪ ،‬بص رف النظ ر‬
‫عن مكانتهم األصلية في النظام اإلجتماعي"‪ ،67‬أي مهما وصلت فئة الدخل التي ولدو في كنفه ا‪ ،‬في‬
‫ش تى قطاع ات المجتم ع‪ ،‬من ال واجب أن يك ون هن اك ح د من التس اوي في الف رص في مج ال الثقاف ة‬
‫واإلنجازات لكل من كانت له نفس اإلرادة والمؤهالت‪ .‬وعلي ه‪ ،‬توقع ات من لهم نفس الق درات والتطلع ات‬
‫ينبغي أال تتأثر بالطبقة اإلجتماعية التي ينتمون إليها‪.‬‬

‫تبعا لمبدأ الفرق‪ ،‬ال يمكننا حسب راولز تحمل أوجه ع دم المس اواة في األج ور مثال‪ ،‬يمكن ت برير‬
‫الرواتب العالية لألطباء بدعوى تشجيع األفراد الموهوبين‪ ،‬إلجراء الدراسات‪ ،‬فنفس األمر يجب أن ينطب ق‬
‫على عدم المساواة في األجور األخرى‪ ،‬على تحفيز طموح األفراد األكثر موهبة لتحقيق أعم الهم وإف ادتهم‬
‫للجسم اإلجتماعي برمته‪.‬‬

‫في هذا اإلطار يع ترض س اندل على مب دأ الف رق‪ ،‬حيث يعت بر أن المواط نين في أخالق ال واجب‬
‫ليسوا أنانيين‪ ،‬لهذا تجد العدال ة مناس بتها في كونن ا ال نس تطيع أن نع رف بعض نا بعض ا أو نع رف غاياتن ا‬
‫بالقدر الذي يسمح لنا بحكم أنفسنا وفق الخير العام وحده‪ ،‬ومن المحتمل أن مثل هذا الوض ع لن ي زول كل ه‬
‫أبدا‪ ،‬وما دام قائما فإن العدالة ستظل أمرا ضروريا ومع ذلك‪ ،‬ليس هناك ما يضمن دوام هذا الوض ع‪ ،‬وم ا‬
‫دام األمر كذلك فستظل الجماعة ممكنة‪" :‬يناقض مبدأ الفرق التطلع التح رري في مش روع أخالق‬
‫الواجب وعليه يستحيل علينا‪ ،‬أن نكون أشخاصا يعت برون العدال ة أولي ة ثم نك ون أشخاص ا‬
‫ي رون مب دأ الف رق مب دأ العدالة"‪ .68‬ألن في الوض ع األص لي يس تهدف وص ف حال ة إبتدائي ة‬

‫‪- 66‬مايكل‪ ،‬ساندل‪ ،‬ص‪.174:‬‬


‫‪- 67‬مايكل ساندل‪،‬ص‪.133 :‬‬
‫‪ - 68‬مايكل ساندل‪ ،‬ص‪.290:‬‬

‫‪39‬‬
‫لإلنصاف وتعريف تلك المبادئ التي تتفق األطراف العقالنية على إخضاعها لش روطها‪.‬ل ذلك‬
‫يعت بر س اندل أن راول ز أراد إع ادة االعتب ار للتص ورات اإلجرائي ة للقيم دون اللج وء إلى‬
‫مقوماتها الميتافيزيقي ة‪ ،‬ول ذلك ال يق دم نظري ة العدال ة كفلس فة أخالقي ة‪ ،‬ب ل يعتبره ا نظري ة‬
‫سياسية كما أشرت س ابقا‪ ،‬ال تطمح إلى بل ورة أس س جوهري ة للفع ل األخالقي‪ ،‬وإنم ا تكتفي‬
‫بالكشف عن المبادئ الناظمة للـــعدالة‪ ،‬داخل مجتمع تع ددي حس ن التنظـــيم تتص ارع فيــه‬
‫وتـتعـايش مختلـف األفكـار والتصــورات والعقليات‪.‬‬

‫خاتمة‬
‫يتض ح من خالل م ا تم تقديم ه في بحثن ا نخلص الى الق ول ان نظري ة راول ز تتلخص في ق درة‬
‫إكتشاف أفضل مبادئ العدالة‪ ،‬إذا تخيلنا وجود عدد من الممثلين في ما يسميه بالوضع األصلي يسعون بجد‬
‫للتوصل إلى إتفاق فيما بينهم لتحقيق مصالح الناس الذين يمثلونهم بأفضل السبل‪ ،‬حيث يك ون ه ؤالء ال ذين‬
‫يعمل الممثلون على تمثيلهم هم أفراد المجتمع العادل بش كله المث الي ال ذي يتجس د على أرض الواق ع طبق ا‬
‫لمبدأي العدالة‪ ،‬مثلما سبق أن رأينا ‪.‬‬
‫من خالل ه ذا العم ل توص لنا إلى إس تنتاجين مهمين األول يمكن إستخالص ه من نظري ة العدال ة‬
‫بإعتبارها إنصافا إذا ما حصرت ولخصت شروط التعاون اإلجتماعي التي تشكل المبدأين األساسين للعدالة‬
‫اإلجتماعية في مجم ع ع ادل وهي الش روط ال تي تتواف ق عليه ا األط راف في الوض ع األص لي في النق ط‬
‫التالية‪:‬‬
‫كل إنسان لديه حق مماثل لحق غيره ضمن مشروع يكفل الحرية للجميع‬ ‫‪-‬‬
‫يكون الغرض من حاالت التفاوت اإلجتماعي واإلقتصادي تبرير حالتين‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪40‬‬
‫** أوال يجب أن ترتبط تلك الحاالت بالمناصب والمواقع المتاحة للجميع على حد سواء؛ ثانيا‬
‫يجب أن يكون هدفها تحقيق أكبر منفعة لألفراد الذين يحصلون على أقل المكاسب في المجتمع‪.‬‬
‫** الثاني تتوافق عليه األطراف في الوضع األصلي‪ ،‬باإلضافة إلى إتفاقها على مبدأي العدالة‪،‬‬
‫تسعى إلختيار بين تركيبات أساسية بديلة‪( ،‬وهما مبدأ الحريات األساسية وتكافؤ الفرص) فهي سوف تتف ق‬
‫على ضرورة أن تكون لدى أفراد المجتمع العادل مزايا محددة‪ ،‬أوال تريد األطراف من أفراد هذا المجتم ع‬
‫أن يكون لديهم إحس اس فع ال بالعدال ة ويع ني ذل ك أنهم يرغب ون أن يص بح أوالئ ك األف راد ق ادرين على‬
‫إستيعاب وتطبيق‪ ،‬والتصرف وفقا لمبدأي العدالة اإلجتماعية‪ ،‬والمجتمع حسن التنظيم‪ ،‬ومن أجل أن يوافقو‬
‫أفراده على شروط التعاون اإلجتماعي التي يخضعون لحكمها‪ ،‬بعبارة أخرى كل ف رد في المجتم ع ي رغب‬
‫في أن تتطور لدى األخرين القدرة على تكوين‪ ،‬ومراجعة‪ ،‬ومتابعة تطوير تصور عقالني عن الخير‪ ،‬وهو‬
‫تصور من شأنه أن يشكل األساس لخطة الفرد في الحياة‪ ،‬يسمي راولز هذه المزايا بق درتين أخالقي تين"من‬
‫المرتبة العليا"‪ ،‬ألنهما من المزايا التي يعتق د أن األط راف في الوض ع األص لي ت رغب من المواط نين في‬
‫مجتمع عادل تماما تطويرها بشكل أفضل من غيرها‪.‬‬
‫يترابط هذان االستنتاجان األساسيان أحدهما مع األخر‪.‬على سبيل المثال‪ ،‬فإن الحريات ال تي ينبغي‬
‫أن تحظى بالحماية من خالل مبدأ الحريات األساس ية هي وفق ا ل رأي راول ز‪ ،‬فق ط تل ك الحري ات الالزم ة‬
‫لتطوير القدرات األخالقية لألشخاص‪ .‬وهذا اليعني أن راولز يح اول أن يعطين ا قائم ة كامل ة تض م أن واع‬
‫الحريات‪ ،‬ولكنه يذكر من بين أشياء أخرى‪ ،‬حرية الفكر‪ ،‬وحرية الضمير‪ ،‬والحريات الشخصية مثل حرية‬
‫عدم التعرض االعتقال التعسفي‪ ،‬وحقوق التقيد بشرعية القانون والمحاكمة العادلة‪ ،‬ومن الحريات السياس ية‬
‫حق التصويت وحرية الص حافة‪ .‬ي ولي راول ز إهتمام ا خاص ا بالحري ات السياس ية‪ ،‬ويؤك د على أن أف راد‬
‫المجتمع العادل يجب أن يحصلوا على قدر وقيمة منصفة من هذه الحري ات‪ ،‬أي أن يك ون لك ل ف رد الح ق‬
‫نفسه كما لباقي األفراد في أن يكون في وضع يؤهله لممارسة هذا الدور المؤثر في اتخاذ القرارت العامة‪.‬‬
‫يمكن أن نفهم كيف أن العدالة بالمعنى القانوني بإمكانها أن تك ون غ ير عادل ة‪ .‬ألن اإلنس انية تبع ا‬
‫لكانط غير قادرة أن تتطابق كليا مع ماهيتها األخالقية‪ ،‬وهن ا يص بح الح ق‪ ،‬فك رة أو لنق ل قيم ة إن ه فك رة‬
‫يجب تحقيقه ا في اف ق غ ير مح دد‪ .‬لكنه ا فك رة اليجب التخلي عنه ا أب دا ليس ألنن ا نعيش الي وم تح والت‬
‫سياسية وثقافية وفلسفية‪ .‬بل ألنه من واجبنا أخالقيا أن نتقدم إليها بهدوء وتأن‪ .‬ألن الح ق يوج د أمامن ا وال‬
‫يجب أن نعتقد في يوم من األيام أننا بلغناه وإمتلكناه‪ ،‬وهذا ما لحظن اه م ع راول ز أثن اء إعتب اره الالمس اواة‬
‫شيئ طبيعي شرط أن تكون في صالح األق ل حظ ا وفق را في المجتم ع‪ ،‬ففي ك ل دول ة يس ود فيه ا الق انون‬
‫العادل‪ ،‬يقوم نظام للحقوق والحريات وما يقابله من واجبات ومسؤوليات‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫األمر الذي تفتقده جل الدول اليوم والواق ع ش اهد على ذل ك‪ ،‬ل ذا من ال واجب ومن األهمي ة بمك ان‬
‫إعادة اإلعتب ار للبحث في الفلس فة السياس ية‪ ،‬لم ا ت وفره ه ذه األخ يرة من ترب ة خص بة لض مان الحري ات‬
‫األساسية لألفراد والجماعات‪ ،‬وتكافؤ الفرص والتوزيع العادل للخيرات‪.‬‬
‫يعتبرهذا العمل مقدمة لمشروع البحث في الفلسفية السياسية متوخيا من ورائه على األق ل إمكاني ة‬
‫طرح السؤال حول إمكانية اإلستفادة‪ ،‬ولما ال األخذ بمثل هذه النظري ات العظمى ك التي طرحه ا راول ز أو‬
‫تطويرها وفقا للظروف الحالية‪ ،‬في مجتمع يتخذ من وحدة المذهب‪ -‬العقي دة أساس ا ل ه رافض ا ك ل إمكاني ة‬
‫لقب ول فك ر التع دد واإلختالف على أرض الواق ع اللهم اإلكتف اء برف ع ش عارات الديمقراطي ة والحري ة‬
‫المساواة‪ ...‬شعارات يفندها الواقع‪ ،‬الحياة اليومية‪.‬‬
‫هل يمكن أن نتكلم يوما من األيام عن مبادئ العدالة ك التي ص اغها اللي برالي راول ز داخ ل البني ة‬
‫األساسية لمجتمعاتنا؟‪.‬‬

‫البيبلوغرافيا‬
‫‪ -‬المراجع‬
‫‪ Rawls , John : « théorie de la justice »,tr,français par .Cathrine Audard.‬‬
‫‪Paris. Seuil. 1987.‬‬
‫راولز‪ ،‬جون‪ :‬العدالة كإنصاف‪ ،‬إعادة ص ياغة‪ ،‬ترجم ة‪ ،‬ح اج حي در إس ماعيل‪ ،‬المنظم ة العربي ة‬ ‫‪‬‬
‫للترجمة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.1،2009‬‬
‫ارسطو‪ :‬علم األخالق إلى نيقوماخوس‪ ،‬دراسة بارتلمي سانتهلر‪ ،‬ترجم ة‪ ،‬احم د لطفي الس يد‪ ،‬دار‬ ‫‪‬‬
‫بيبليون‪ ،‬باريس‪.2008،‬‬

‫‪42‬‬
‫ارسطو‪ :‬في السياسة‪ ،‬ترجمه من اليونانية إلى العربية‪ ،‬األب أوغيس طين برب اره البولس ي‪ ،‬اللجن ة‬ ‫‪‬‬
‫اللبنانية لترجمة الروائع‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.2،1980‬‬
‫هوبز‪ ،‬توماس‪ :‬اللفيتان‪ ،‬األصول الطبيعية و السياس ية لس لطة الدول ة‪ ،‬ترجم ة ديان ا ح بيب ح رب‬ ‫‪‬‬
‫وبشرى صعب‪ ،‬هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث‪ ،‬أبو ظبي‪ ،‬ط ‪.2011 ،1‬‬
‫ج‪.‬ج‪.‬روس و‪:‬العق د اإلجتم اعي‪،‬ترجم ة‪ ،‬ب ولس غ انم‪،‬اللجن ة اللبناني ة لترجم ة الروائ ع‪ ،‬ب يروت‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫‪.1972‬‬
‫ج‪.‬ج‪.‬روس و‪ :‬خط اب في أص ل التف اوت وفي أسس ه بين البش ر‪ ،‬ترجم ة‪ ،‬ب ولس غ انم‪ ،‬المنظم ة‬ ‫‪‬‬
‫العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط ‪.2009 ،1‬‬
‫ج‪.‬ج‪.‬روسو‪ :‬اإلعترافات‪ ،‬ترجم ة‪ ،‬حلمي م راد‪ ،‬دار البش ير للطباع ة والنش ر والتوزي ع‪ ،‬دمش ق‪-‬‬ ‫‪‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫كانط‪ ،‬إيمانويل‪ :‬تأسيس ميتافيزق ا األخالق‪ ،‬ترجم ة‪ ،‬عب د الغف ار مك اوي‪ ،‬كولوني ا‪ ،‬ألماني ا‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪‬‬
‫‪.2002‬‬
‫ساندل‪ ،‬مايكل‪ :‬الليبرالية وحدود العدالة‪ ،‬ترجمة‪ ،‬محمد هناد‪ ،‬المنظمة العربي ة للترجم ة‪ ،‬ب يروت‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫ط ‪.2009 ،1‬‬
‫منصف‪،‬عبدالحق‪ :‬األخالق والسياسة‪ -‬كانط في مواجهة الحداثة بين الشرعية األخالقية‪ ،‬والشرعية‬ ‫‪‬‬
‫السياسية‪ -‬أفريقيا الشرق‪ ،‬الدار البيضاء‪.‬‬
‫مصباح‪ ،‬صالح‪ :‬فلسفة الحداثة‪ -‬الليبرالية من هوبز إلى كانط‪ ،‬جداول للنشر والتوزيع‪ ،‬ب يروت‪ ،‬ط‬ ‫‪‬‬
‫‪.2011 ،1‬‬
‫باري‪ ،‬بريان‪ :‬الثقافة والمساواة‪ ،‬نقد مساواتي للتعددية الثقافية‪ ،‬ترجمة‪ ،‬كمال المصري‪ ،‬منشورات‬ ‫‪‬‬
‫المجلس الوطني للثقافة والفنون‪ ،‬الكويت‪ ،‬ج ‪-1‬ج‪ ،2‬ط ‪1،2011‬‬

‫فهرس البحث‬

‫مقدمة ‪4............................................................................................................‬‬

‫األول‪ :‬األسس الفلسفية لنظرية العدالة عند جون راولز‪7.................................‬‬ ‫الفصل‬

‫تقديم‪7.............................................................................................................‬‬

‫●أرسطو ‪9..........................................................................................‬‬

‫‪ – 1‬الخير غاية لكل الناس‪9.............................................................‬‬


‫‪43‬‬
‫‪ – 2‬العلم السياسي كإجراء واقعي لتحقيق الحرية والمساواة‪11....................‬‬

‫●فالسفة العقد اإلجتماعي ‪12...................................................................‬‬

‫‪ - 1‬جون جاك روسو‪12..................................................................‬‬

‫‪ - 2‬إمانويل كانط‪15......................................................................‬‬

‫الثاني‪ :‬الوضع األصلي ومبدأي العدالة عند جون راولـز‪19............................‬‬ ‫الفصل‬

‫تقديم ‪19.....................................................................................................‬‬

‫●الوضع األصلي ‪21............................................................................‬‬

‫‪ -1‬تعريف الوضع األصلي و أهميته‪21..............................................‬‬

‫‪ -2‬األسباب وراء إختيار هذا الوضع والبرهان على ذلك‪23........................‬‬

‫أ ‪ -‬األ سباب وراء هذا اإلختيار‪23...........................................‬‬

‫ب‪ -‬البرهان من الوضع األصلي‪25..........................................‬‬

‫●مبدأي العدالة ‪29............................................................................‬‬

‫‪ 1‬المبدأ األول‪29.......................................................................‬‬

‫‪ 2‬المبدأ الثاني‪32.......................................................................‬‬

‫أ‪ -‬مبدأ تكافؤ الفرص‪33....................................................‬‬


‫ب‪ -‬مبدأ الفرق أو مبدأ اإلختالف‪34.......................................‬‬

‫مايكل ساندل‪ :‬نقد فكرة العدالة لدى راولز‪.....................................‬‬ ‫●‬


‫‪38‬‬

‫‪41..............................................................................................‬‬ ‫خاتمة‬
‫البيبلوغرافيا‪.....................................................................................................‬‬
‫‪43‬‬

‫‪44‬‬
‫فهرس البحث‪44...................................................................................................‬‬

‫‪45‬‬

You might also like