Professional Documents
Culture Documents
من القضايا التي شكلت خالف وجدل بين الباحثين في علم السياسة تلك املتعلقة بجوهر الدراسات السياسية وكيفية التعامل
مع هذه الظواهر ،وهنا انقسم الباحثين إلى فريقين األول يرى بأن علم السياسة يتعامل مع يجب أن يكون بمعنى التركيز على البعد
املعياري ملختلف الظواهر السياسية ،وفريق يؤكد على أن تطبيق املنهجية العلمية في الحقل السياس ي تعني التركيز على ما هو كائن
أي التعامل مع الواقع كما هو ومحاولة تفسيره والبحث في األسباب التي أدت إلى حدوث هذه الظواهر من خالل املنهج االمبريقي،
والحياد في دراسة الظواهر السياسية املختلفة وهو ما يميز العلم املوضوعي عن التخمين والفلسفة السياسية التي تبحث في ما يجب
أن يكون فكثير من الظواهر التي سعى إلى دراستها فالسفة ومفكرون على مر التاريخ مثل سعي أفالطون إلى دراسة ومعرفة خصائص
الحكم الجيد هو نفسه الهدف الذي يسعى إليه الباحثين املعاصرون أي تحديد خصائص األنظمة الحاكمة عوامل قيامها وأثارها مع
ترك األحكام األخالقية عن الخير والشر جانبا فال يمكن ألي جانب أن يصبح علما طاملا ظل يبحث في الجوانب املعيارية وفقط.
إذن ومن خالل ما سبق يمكن القول أن تطور علم السياسية ارتبط في واقع األمر بهذا االنقسام وهذا الخالف حيث عرف علم
السياسة مرحلتين من الدراسات التي جعلت هذا العلم ينفصل عن الفلسفة ليصبح حقال مستقال بذاته.
املعياريون هم أولئك الذين يبحثون في دراستهم عن القيم الخير والشر الجيد والسيئ دون إعطاء أهمية للواقع التجريبي
والبحوث التجريبية التي تهتم بما هو كائن أي دراسة الواقع واالنطالق من الحقائق واملالحظة وليس االكتفاء بالقيم واملعايير وعلى
هذا األساس يعتقد روبرت دال أن وصف علوم سياسة من وجهة نظر وضعية مناسبة فقط للفترة التي ظهرت فيها املدرسة واالتجاه
السلوكي أي بعد 1950وهو بذلك يعتقد أن ما قبل ذلك من إسهامات ال يكن وصفه بالعلم ألنه يركز على الجانب املعياري أكثر من
الجانب التجريبي حيث يتعامل علماء السياسة التجريبيون مع ما هو كائن وليس ما يجب أن يكون وهنا يقر بصعوبة التعامل وتحمل
العبء التاريخي للفيلسوف السياس ي الذي حاول أن يصف و يوظف األخالق والقيم في تقييم مختلف األعمال والنشاطات واألنظمة
الحاكمة .
وعلى الرغم من محاولة البعض الجمع بين املنهجية االمبريقية واملعيارية يعتقد دال أنه لم تفلح محاوالت الجمع بين املجالين فكل
مجال مستقل بذاته وهو نفس الطرح إلي ذهب إليه هارولد السويل الذي يرى أن النظرية السياسية تتكون من عنصرين متميزين
هما املقترحات التجريبية لعلم السياسة واألحكام القيمية للمذهب السياس ي.
اإلسهامات املثالية الفلسفية -1
وبذلك تعتبر الدراسات الفلسفية أول إسهام في تطور علم السياسة ،باعتبار أن الفلسفة كانت تحتوي على جميع املعارف حيث
كان ينظر إلى السياسة على طول العصور املتقدمة على أنها حقل معياري أخالفي وبالتالي الدراسات السياسية هي جزء من الفلسفة
األخالقية ومن التعاليم الدينة حيث كان يجري البحث عن مبرر للنظام والسلطة الحاكمة التي تعتبر صالحة أو سيئة كما أن املنهج
املتبع انحصر بشكل عام في املنهج الوصفي واملنهج القياس ي الذي يرتكز على مبادئ ومسلمات بدل املالحظة الدقيقة للواقع من ذلك
ما نجده في إسهامات الكثير من الفالسفة اليونانيين أبرزهم أفالطون 348- 428 ( platoق م) من خالله أعماله املوسومة ب رجل
الدولة القوانين والجمهورية حيث كرس وقته وجهده لدراسة العديد من القيم كالفضيلة والعدالة ويعرض في كتابه الجمهورية
نظامه املثالي القائم على املعرفة والحقيقة وبالتالي يعتمد أفالطون في تصنيفه لنموذج الحكم مثالي على أساس معيار الفضيلة ومن
تم الحكم على بقية األنظمة في ترتيب تنازلي لهذه القيمة وهي:
ورغم ما تأثير أفالطون في البيئة الفكرية اليونانية إال أن هناك من املفكرين من حاول الفصل بين القيم األخالقية والتحليل
املوضوعي من بينهم نجد أرسطو الذي حاول هو األخر تصنيف الحكومات إلى 6أصناف في كتابه السياسة وهي :نظام امللكية
الطغيان األرستقراطية األوليغارشية الديمقراطية والحكومة الديماغوجية أو الغوغاء ،ورغم أن البعض يحدد العديد من
االختالفات بين أرسطو وأفالطون من بينها أن أرسطو ومن خالل كتابه السياسة كأعظم إسهام في املجال السياس ي أعطى هذا املجال
منهجية ولغة علمية حيث ينطلق من الواقع واألحداث ويحاول االستقراء انطالقا من واقع معين.
هنا يمكن القول أن هذا التغيير الحاصل سببه حسب البعض مكوث أرسطو 20سنة من حياته في أكاديمية أفالطون قبل أن
يتوجه لجمع الدساتير التي يبدو أن جميع تفسيراته وتحليالته بنيت على أساس هذه البيانات املقارنة.
أيضا على عكس املذهب املثالي امليتافيزقي ألفالطون نجد أن أرسطو تجريبي واقعي حيث يتضح ذلك في دراسته للواقع السياس ي
انطالقا من مهنته كطبيب حتى أن البعض يرى ان كتابه السياسة جاء متأثرا بالنزعة الطبية في تشخيص املرض ووصف الدواء.
وبهذا جاء تصنيفه لألنظمة ليس بناء على األحكام القيمية وإنما كمحصلة لدراسة األنظمة والحكومات والدساتير اليونانية وما
جاورها من بلدان بعد أن قام بتوجيه معاونيه لجمع 158دستور ( لم يبقى منها سوى دستور أثينا ) اطلع عليها وحاول تحليلها
ليخلص إلى أفضل نظام وأفضل حكومة .وبذلك يتبين لنا أنه رغم تعمق أرسطو وتغييره للمنهج املتبع من املنهج القياس ي إلى املنهج
االستقرائي إال أن اهتمامه ظل محصورا كسلفه أفالطون في البحث عن الحكومة والدولة الفاضلة التي تستطيع تحقيق سعادة
املجتمع ورفاهيته أي ما يجب أن يكون.
وهي تلك الدراسات التي تركز على املنهج التاريخي وعلى فترة تاريخية معينة محددة في الزمان أو على تسلسل األحداث في إطار
زمني معين ،حيث يعتقد أصحاب هذا املنهج إمكانية تفسير كافة النظريات السياسية كنتيجة لألزمات السياسية واالقتصادية
واالجتماعية والتي بدورها أثرت على أصحابها من فالسفة ومفكرين.
وفي هذا السياق أثرت الظروف االجتماعية واالقتصادية على كل من أرسطو وأفالطون الذي رفض الديمقراطية ألنها قادت إلى
إعدام سقراط أيضا أثرت االضطرابات التي عاشتها انجلترا خالل القرن 17في فكر كل من جون لوك وهوبز 1679-1588الذي دعا
في كتابه التنين أو الطاغية Leviathanإلى الحكم امللكي املطلق حتى يتحقق االستقرار النجلترا التي كانت تعيش حالة من الفوض ى
والالستقرار والحروب األهلية.
وبالتالي يعتقد هوبز إلى ضرورة وجود سلطة قوية في املجتمع تفرض الطاعة وااللتزام على أفراد هذا املجتمع الذي يتميز بعدم
االنضباط والعنف وهو ما يبرر حسب اعتقاده أن أفضل أشكال الحكم هو امللك ية املطلقة واملقيدة في نفس الوقت بالتزام الحاكم
لتوفير األمن للرعية بدوره قدم واهتم ميكيافيلي بتاريخ الرومان كنموذج حتى يدفع ايطاليا التي كانت تعاني من االنقسام للوحدة
والتشبه بأسالفهم وقد اشتهرت كتابات ميكيافيلي بالواقعية املتجردة من املعتقدات الدينية واألخالقية وبذلك شكلت كتاباته بداية
االنسالخ من الفكر الكنس ي والعودة لالهتمام باملعرفة الواقعية .
ورغم أن ميكيافيلي طور منهج املالحظة الذي أوجده أرسطو من خالل استنباط مجموعة من القواعد السياسية استنادا إلى
مالحظة الواقع السياس ي في ايطاليا من ذلك مثال أن اإلن سان شرير بطبعه وأن سلوكه يتميز بالخبث واألنانية وأنه يتمسك باملصالح
املادية أكثر من تمسكه بحياته الخاصة ويعبر عن ذلك في كتاب األمير بقوله ":أن الناس ناكرون للجميل متقلبون شديدو الطمع
وهم إلى جانبك طاملا أنك تفيدهم طاملا أن الحاجة بعيدة نائية ولكنها عندما تدنو يثورون ومصير األمير الذي يركن إلى وعودهم دون
اتخاذ أي استعدادات إلى الدمار "...
وهنا يدعو رجل السياسة إلى أخد هذا الواقع باالعتبار وجعل هذه الحقيقة موضع اهتمامه عندما يحكم فالحاكم العاقل هو
من يقيم سياسته على أساس أن اإلنسان شرير بطبعه وإذا كان اإلنسان فاسد بطبعه فإنه بحاجة إلى سلطة قوية تضع حدا
لفساده وللفوض ى الناتجة عن األنانية وإلى قوانين تحد من امليل للنزاع والتملك والسلطة.
رغم ذلك نالحظ أن إسهامات ميكيافيلي ركزت على تحليل ومراجعة التاريخ الروماني ،مما جعل موريس دوفرجيه يعتبره رائد
املنهج التاريخي املقارن في علم السياسة وذلك بهدف خلق ايطاليا قوية وموحدة تحاكي روما القديمة.
من األمثلة أيضا نجد اسهامات جون بودان 1596-1529 Jean Bodinصاحب نظرية السيادة ومذهب الحكم املطلق كحل لحالة
عدم االستقرار والثورات التي بدأت تنتشر في أوروبا وتقوم فكرة السيادة عند بودان انطالقا من توظيف الواقعية واملنهج التاريخي،
حيث يعتقد أن الحكومات املختلطة القديمة كروما والبندقية لم تكن قوية سوى ألنها كانت تعتمد على سلطة مركزية أو مركزية
السلطة أي خضوع الهيئة التشريعية والتنفيذية في يد واحدة تسمى بالسلطة املركزية .
رغم بداية استقالل علم السياسة خالل القرن 19م إال أن التاريخ اعتبر أحد املصادر الرئيسية للتحليل السياس ي فالسياسة هي
تاريخ الحاضر وهنا يرجع جورج سابين George Sabineأحد علماء السياسة التقليديين ضرورة إدراج مثل هذه املواضيع التي
تناولتها الفلسفة السياسية والفالسفة عموما في هذا الحقل ألنه من خالل هذه اإلسهامات يمكن التأكد من صحة النظريات التي
أسسوا لها ألنهم تعاملوا مع األساسيات الجوهرية لعلم السياسة الدولة السلطة الحكومة العدالة بما ان النظرية تدور حول ثالث
مكونات هي الواقع السبب والقيمة فجميع هذه العناصر تلعب دورا أساسيا ومحوريا ألنها ظهرت خالل فترة شهدت توترات وأزمات .
كما أن هذه النظريات تسعى إلى خلق إيديولوجيات سياسية من خالل مثال أعمال أرسطو وأفالطون وكذلك أعمال هوبز ولوك
أو نظرية العقد االجتماعي فهي لم تظهر نتيجة أزمة وفقط بل أيضا كرد فعل للوضع والظروف املحيطة باملفكرين ،وبالتالي من املهم
أن نفهم الزمان واملكان الذي ظهرت فيه مختلف هذه النظريات التي يمكن حسب سابين أن تنتمي إلى عالم األفكار املجردة ويمكن أن
تأثر على املعتقدات التي تصبح أسباب في ارض الواقع ،والتي بدورها تتحول إلى أحداث تاريخية.
رغم أهمية املنهج التاريخي في معالجة األحداث السياسية يرى جيمس برايس Jaems Bryceأن الفكر التاريخي يمكن أن يكون
مضلال ،أما أرنست باركر فيعتقد أن املنهج التاريخي قد يقتصر على حالة تاريخية واحدة ليست نتائجها بالضرورة صالحة لحاالت
أخرى ،وبالتالي ال يمكن تغطية كافة جوانب الظواهر السياسية باالعتماد فقط على هذا املنهج.
التي يرجع تاريخها إلى القرن 19أين ساد االعتقاد بضرورة اكتفاء دارس ي املجال السياس ي خصوصا في بريطانيا و الواليات املتحدة
األمريكية بوصف القوانين الحكومية وكيفية توزيع السلطة داخل نظام الحكم وأن ذلك من شأنه أن يعطينا فهما واضح حول
كيفية عمل املؤسسات السياسية وعليه افترض علم السياسة وجود تناسب بين ما تتضمنه الدساتير والقوانين وبين الحقوق
واالمتيازات التي يحصل عليها املوظفين في هذا املجال وأيضا الطريقة التي يعملون بها ويؤدون بها مختلف وظائفهم السياسية
والحكومية ،وبذلك ظلت العلوم السياسية إلى أواخر القرن 19محصورة في دراسة املؤسسات الرسمية للدولة والدستور الذي
يحكم عملها.
وبذلك ظهرت هذه الدراسات كرد فعل على االقتراب التاريخي أين أصبح التركيز ينصب على دراسة الحقائق السياسية
كاملؤسسات التشريعية والتنفيذية واملحاكم ودراسة اللجان النيابية والهيئات اإلدارية الوظائف الخاصة بمهام رئيس الجمهورية
ونظام االنتخابات والبيروقراطيات ،حيث يقوم هذا االقتراب على شرح وتفصيل وصفي لعمل املؤسسات محاوال اإلجابة على العديد
من األسئلة التي تتعلق بكيفية تكوين هذه العناصر كمؤسسات ،وما هو الهدف من وجودها ومراحل تطور املؤسسة والوسائل التي
من خاللها تستطيع أن تحافظ على بقائها ،وما هي الطريقة التي يتم من خاللها تجنيد األفراد في املؤسسة .
طبعا من بين االنتقادات التي وجهت لهذه املدرسة حسب املوند و باول هو:
استعمالها ملفهوم النظام السياس ي بمعنى الدولة ،وليس باملعنى الذي أشار إليه ايستون فيما بعد، -
كذلك اقتصارها على دراسة الجانب الرسمي واملؤسسات املوجودة فعال في أوروبا الغربية بصورة تغفل دراسة -
املجتمعات األخرى،
غلبة الطابع الوصفي املؤسس ي ،إضافة إلى افتقاد الجانب النظري ،حيث لم يكن يهم كثيرا بناء نظرية امبريقية ،في ظل -
وجود نظريات معيارية ،وأخيرا افتقاد املنهج املالئم للظواهر السياسية.