You are on page 1of 77

books4arab.

com
‫ع�صام وا�صل‬

‫دراسات سيميائية‬

‫دار التنوير ‪ /‬اجلزائر‬


‫يف حتليل اخلطاب الشعري دراسات سيميائية‬ ‫العنوان‪ :‬‬
‫ع�صام حفظ اهلل وا�صل‬ ‫عصام واصل‬ ‫المؤلف‪ :‬‬
‫‪21 / 13‬‬ ‫حجم الكتاب‪ :‬‬
‫‪146‬‬ ‫عدد الصفحات‪ :‬‬
‫‪2013‬‬ ‫سنة النرش‪ :‬‬
‫يف حتليل اخلطاب ال�شعري‬ ‫دار التنوير ‪ /‬اجلزائر‬ ‫النارش‪ :‬‬
‫دراسات سيميائية‬ ‫‪2010 / 4025‬‬ ‫اإليداع القانوين‪ :‬‬
‫‪978 - 9947 - 946 - 07 - 7‬‬ ‫ر د م ك‪ :‬‬

‫يتحمل الكاتب وحده امل�سئولية (اجلنائية والأدبية والعلمية)‬


‫كاملة؛ على كل الآراء والأفكار الواردة يف هذا الكتاب‪،‬‬
‫جتاه كل ما من �ش�أنه �أن يلحق �ضررا بحق قائم‪.‬‬
‫الآراء والأفكار التي يت�ضمنها هذا الكتاب‬
‫ال تعرب بال�ضرورة عن وجهة نظر الدار‬

‫الطبعة الأويل‬
‫كل احلقوق حمفوظة‬
‫دار التنوير‪ /‬اجلزائر‬
‫جوال ‪+213 661 41 00 89 :‬‬

‫‪www.dartanouir-dz.com‬‬
‫ال يسمح بطبع هذا الكتاب أو جزء منه أو نقله بأي شكل أو واسطة‬
‫من وسائط نقل املعلومات بام يف ذلك التصوير أو النسخ‬
‫أو التسجيل أو التخزين دون إذن خطي من النارش‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫اإلهداء‬

‫إىل أصدقائي الطيبني!!‬

‫‪5‬‬
‫مقدمة‬

‫ي�سع��ى هذا الكتاب �إىل تطبيق �أح��د �أعتا املناهج النقدية‬


‫املعا�ص��رة‪ ،‬وه��و املنه��ج ال�سيميائ��ي الذي تقرتح��ه مدر�سة‬
‫باري���س‪ ،‬وقد انتخبنا جمموعة م��ن الن�صو�ص ال�شعرية جماال‬
‫لذل��ك بغية ت�أكيد مدى �صالحية تطبي��ق �آليات وم�ستويات‬
‫هذا املنهج يف درا�سة ال�شعر‪ ،‬خ�صو�صا و�أن جل ما مت اجنازه فيه‬
‫نظريا وتطبيقيا ظل متمحورا حول ال�سرد ب�شكل عام وال�سرد‬
‫اخلرايف وال�شعب��ي منه ب�شكل خا�ص‪ ،‬كم��ا يظهر ذلك جليا‬
‫عند رواده وم�ؤ�س�سيه يف الفكر الفرن�سي كجرميا�س وكورتي�س‬
‫وغريهم��ا‪� ،‬أو يف الفكر العربي كما هو عند عبد احلميد بورايو‬
‫وحممد النا�صر العجيمي ونادية بو�شفرة وغريهم‪.‬‬
‫وقد عمدنا �إىل تطبيق ج��ل �آليات وم�ستويات هذه املنهج‬
‫�أوال على ن�ص �شعري كامل �سطحا وعمقا وهو ن�ص «الق�صيدة‬
‫الثالث��ة» من دي��وان «كت��اب الأم» للمعالج‪ ،‬ث��م ا�ستعنا ثانياً‬
‫ببع�ض هذه الآليات فيما تبقى من ن�صو�ص يف اجلوانب التي‬
‫اقت�ضت ذلك؛ خمتربين �صحة الفر�ضية ال�سابقة من عدمها‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫فر�أينا بعد الدرا�سة املت�أنية �صالحية منهج هذه املدر�سة لتحليل‬
‫أو ً‬
‫ال ‪:‬‬ ‫الن�ص الإبداع��ي (الفني) عموما‪� ،‬شع��راً و�سرداً‪ ،‬كمنهج يف‬
‫«القصيدة الثالثة» من كتاب‬ ‫ن���ص �أو منت متكامل �أو ك�آلي��ة �إجرائية م�ساعدة بجوار �آليات‬
‫األم قراءة سيميائية سردية‬ ‫(((‬
‫ومقرتحات مناهج �أو نظريات �أخرى كالتنا�ص والن�سوية‪.‬‬
‫ولعله من املهم هنا التنويه ب�أن الهدف العام لهذه الدرا�سات‬
‫يتمثل يف نزعتها التطبيقية‪ ،‬التي �سعينا �إليها ومت�سكنا بها بعد‬
‫مدخل‪:‬‬ ‫�أن وجدنا افتقارا كبريا يف ذلك على م�ستوى الدر�س النقدي‬
‫يج��د القارئ للمنجز ال�شعري لل�شاع��ر عبد العزيز املقالح‬ ‫العرب��ي؛�إذ ي�أتي جله تنظريا مهمال اجلانب التطبيقي‪ .‬وختاماً‬
‫نزوعه املكثف نحو الت�شكيل ال�س��ردي‪ ،‬ب�شكل الفت للنظر‬
‫�سيميائي��ا‪ ،‬ومع �أن ه��ذه التيمة مهيمنة يف امل�تن كله �إال �أنها‬ ‫ن�س���أل اهلل �أن نك��ون قد وفقن��ا �إىل ذلك و�أفدن��ا‪ ،‬و�إن مل ف�إمنا‬
‫تتمف�ص��ل يف دي��وان كت��اب الأم ب�شكل �أكرث ج�لاء و�أكرث‬ ‫ح�سبنا �أن اجتهدنا‪ ..‬وهلل الكمال من قبل ومن بعد‪.‬‬
‫اختالف��ا وهند�سة‪ ،‬وه��ي خ�صي�صة تدعو الق��ارئ �إىل الت�أمل‬
‫و�إعادة النظر والتفكيك‪ ،‬ومن ثم الرتكيب‪ ،‬بحثا عن جماليات‬
‫هذا الت�شكيل وغايات��ه �إن تركيبيا �أو �سيميائيا‪ ،‬وبطريقة تن�أى‬
‫ع��ن طرائق التفكيك ال�س��ردي اخلال�ص واملعل��وم م�سبقاً يف‬
‫املدون��ة النقدية العربية‪ ،‬وتتخذ م��ن املنهج ال�سيميائي طريقة‬
‫و�آلية؛ لأنه من وجه��ة نظرنا �أكرث فاعلية يف هذه املنت بالذات‬
‫لأمور �سنتبينها الحقا‪.‬‬
‫ولأن الدرا�سات ال�سيميائية ت�شهد غيابا ملحوظا يف ف�ضاءات‬
‫النق��د العربي املعا�صر‪ ،‬لأ�سباب متعددة‪ ،‬م��ن بني �أهمها ندرة‬
‫((( عب��د العزيز املقال��ح‪ ،‬كت��اب الأم‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬الهيئة العام��ة ال�سورية للكتاب‪،‬‬
‫دم�شق‪ ،‬ط‪2008 ،1 :‬م‪.‬‬

‫‪9‬‬ ‫‪8‬‬
‫اخلطاب ال�شعري‪ ،‬وكذا ن�صو�ص �أدبية �أخرى؛ لأن رهاننا الأول‬ ‫امل�ص��ادر واملراجع املتخ�ص�صة (باللغ��ة العربية)‪ ،‬واكتفاء معظم‬
‫يقوم على جملة من الت�س��ا�ؤالت اجلوهرية املختزلة فيما يلي‪:‬‬ ‫الدار�سات ‪ -‬على قلتها ‪ -‬بالتنظري و�إهمال اجلانب التطبيقي‪ ،‬ف�إن‬
‫ه��ل يف الإمكان ق��راءة ن�ص ما ‪� -‬أي ن���ص ‪ -‬بغ�ض النظر عن‬ ‫هذه القراءة �ست�سعى �إىل املزاوجة بني النظرية والتطبيق‪ ،‬و�ستميل‬
‫نوع��ه الأدبي وفقا ملعطيات هذه النظرية امل�سماة بـ «ال�سيميائية‬ ‫�إىل اجلانب التطبيقي �أكرث عرب تطبيق �آليات و�أفكار واحدة من‬
‫ال�سردي��ة»؟‪ ،‬ه��ل ب�إمكانها �أن تكون نظري��ة عامة لتحليل كافة‬ ‫�أهم املدار�س ال�سيميائية التي مازالت بع�ض �إجراءاتها حمدودة‬
‫الأنواع الأدبية‪ ،‬وفك �شفرات الن�صو�ص‪ ،‬وحتديد �أ�شكال معانيها‬ ‫لدى القارئ العربي بالرغم م��ن �أهميتها‪ ،‬وهي مدر�سة باري�س‬
‫دون متييز بني ن�ص و�آخر؟‪ ،‬ومبعنى �أكرث دقة هل ب�إمكان القارئ �أن‬ ‫«‪ »sémiotique de l’école de paris‬الت��ي �أر�س��ى �أ�س�سه��ا املفكر‬
‫يتناول ن�صو�صا غري �سردية حم�ضة وفقا لهذه النظرية؟‪ ،‬خ�صو�صا‬ ‫الفرن�سي �أ‪.‬ج جرميا�س‪ ،‬وو�ضح �أفكارها الكثريون من بعده‪ ،‬وعلى‬
‫و�أن معظم التطبيقات التي اعتمدتها هذه النظرية منذ بداياتها‬ ‫ر�أ�سهم تلميذه ج‪ .‬كورتي���س‪ ،‬وفريق انرتوفرن‪ ،‬وال يعد اعتماد‬
‫كانت على ن�صو�ص �سردية ب�سيطة غري مركبة(*)؟!‪.‬‬ ‫ه��ذه املدر�سة �إق�صاء للمدار�س الأخرى‪� ،‬أو تع�صبا ملدر�سة دون‬
‫�إن هذا الأمر ي�شكل رهانا �أكرث تعقيدا‪ ،‬ويدعو �إىل املغامرة‬ ‫غريها‪ ،‬و�إمنا وجدنا �أنها �صاحلة ال�ستثمار �شكل املعنى املتمف�صل‬
‫من جهة‪ ،‬واال�شتغال على التجريب واملجازفة من جهة ثانية‪.‬‬ ‫يف الن���ص قيد الدرا�سة‪ ،‬وهو ن���ص «الق�صيدة الثالثة من كتاب‬
‫وثم��ة رهانات �أخرى ال تقل �أهمية ع��ن هذه‪ ،‬وتتمثل يف‬ ‫الأم» لل�شاعر عبد العزي��ز املقالح‪ ،‬كنموذج لديوانه كتاب الأم‬
‫�ض��رورة �إعادة النظر يف كيفيات تطبيق هذه النظرية يف الفكر‬ ‫برمت��ه‪ ،‬وهذا الن�ص هو ال��ذي ا�ستدعى هذا املنهج ال�سيميائي‬
‫العربي ‪-‬على قلتها‪-‬؛ �إذ �إننا جند معظم التطبيقات قد عمدت‬ ‫و�آلياته‪ ،‬ولعل �أول مظهر �سيميائي جعله ي�ستدعي هذا املنهج �أنه‬
‫�إىل اال�شتغ��ال (التقني) على الن�صو���ص‪ ،‬فتحولت النظرية‬ ‫ن�ص هجني‪ ،‬ب�إمكاننا �أن نطلق عليه‪ :‬الن�ص (�شعر‪�/‬سردي)‪ ،‬ففيه‬
‫تبعا لذل��ك �إىل �آليات جمردة‪ ،‬جامدة غ�ير متحركة‪ ،‬ت�سعى‬ ‫من ال�شعر بقدر ما فيه من ال�سرد‪ ،‬مل يفارق �شعريته �إىل �سرديته‬
‫(*) املالح��ظ �أن �أكرث من ا�شتغل على ه��ذه النظرية كان يطبقها على ن�صو�ص �سردية‬
‫(((‬
‫ومل يفعل العك�س‪ ،‬بل حافظ على كل ميزة من الأخرى‪.‬‬
‫ق�صرية جدا �أو ي�شتغ��ل على ن�صو�ص خرافية وهو ما فعله جرميا�س وكورتي�س وجماعة‬ ‫كم��ا �أن الدافع املحوري لنا يف ذلك يكمن يف الرغبة امللحة‬
‫انرتوفرن يف الطرف الآخر‪ ،‬وما فعله العجيمي ونادية بو�شفرة وغريهما �إذ �إنهما قد طبقا‬
‫عل��ى ن�صو�ص من كتاب «كليلة ودمن��ة»‪� ،‬أو كما ي�صنع عبد احلميد بورايو يف تطبيقاته‬ ‫لتطبي��ق �آليات ور�ؤى هذه املدر�سة التي كانت معظم تطبيقاتها‬
‫على الكثري من ن�صو�ص الأدب ال�شفوي �أو ن�صو�ص �ألف ليلة وليلة‪.‬‬ ‫على ال�سرد‪ ،‬وهدفنا الت�أكد من جدوى تطبيق هذه النظرية على‬
‫‪11‬‬ ‫‪10‬‬
‫‪ -‬الإرث ال�سو�سريي‪.‬‬ ‫�إىل قولب��ة الن�صو�ص‪ ،‬وتعتمد عل��ى ح�شو التطبيقات بالكثري‬
‫‪ -‬مدر�سة براغ‪.‬‬ ‫م��ن الرم��وز‪ ،‬والرت�سيمات واجل��داول‪ ،‬يف �أماك��ن ت�ستدعي‬
‫‪� -‬أعمال (برونديل وهلم�سليف)‪.‬‬ ‫ذلك �أو ال ت�ستدعي��ه‪ ،‬وبطرق ع�شوائية‪ ،‬ناهيك عن �أنها تقوم‬
‫بتفكيك الن�صو�ص ولكن ال�صعوبة بعد ذلك تكمن يف كيفية‬
‫‪� -‬إرث املدر�س��ة ال�شكالنية وعلى ر�أ�سها �أعمال (فالدميري‬ ‫الرتكي��ب‪ ،‬ومبعنى �أكرث دقة �إن الآلي��ات الإجرائية تكون هي‬
‫بروب)‪.‬‬ ‫غاي��ة يف ح��د ذاتها فيتم –مث�لا‪ -‬حتديد البن��ى العاملية‪� ،‬أو‬
‫‪ -‬الإرث الفرن�سي (تنيري و�سوريو)‪.‬‬ ‫ال�ص��ور‪� ،‬أو احلاالت‪ ،‬والتحوالت‪ ،‬ولكن البحث عن الداللة‬
‫بالإ�ضاف��ة �إىل �أنها تتطلب حتليال مركبا‪ -(/‬حمايثا ‪ -‬بنيويا‬ ‫مهم�ش��ا ومق�صى‪ ،‬وهو مكمن اخللل‪ ،‬وي�شكل‬ ‫فيما بعد يظل َّ‬
‫‪ -‬خطابيا)‪:‬‬ ‫رهان��ا �آخ��ر يقف �أم��ام الدار�سني‪� ..‬أ�ض��ف �إىل ذلك �ضرورة‬
‫‪« -‬حمايث��ا»‪ :‬لأنها تهتم ب��الأدب‪ /‬الن�ص من حيث هو‪،‬‬ ‫توحيد م�صطلحاتها التي يعمه��ا الغمو�ض والفو�ضى ب�شكل‬
‫وتبحث يف �أ�شكاله الداخلية‪ ،‬وتق�صي املحيل اخلارجي‬ ‫ميثل عائقا لدى القارئ العربي؛ �إذ جند بع�ض امل�صطلحات لها‬
‫بحث��ا عن �شكل املعن��ى الناجت ع��ن ت�سل�سل احلاالت‬ ‫�أكرث من ترجمة‪ ،‬و�أكرث من ت�أويل‪ ،‬و�أكرث من تطبيق‪.‬‬
‫والتحوالت‪ ،‬والعالقات الرابطة بني العنا�صر الن�صية‪.‬‬ ‫و�إذا كان��ت املدار���س ال�سيميائية ‪ -‬على تعدده��ا ‪ -‬جُ ْت ِم ُع‬
‫‪« -‬بنيويا»‪ :‬من حيث �إن املعنى ال يوجد �إال باالختالف‪،‬‬ ‫ب���أن ال�سيميائيات تهدف �إىل درا�سة العالمات و�أنظمتها‪ ،‬ف�إن‬
‫وال ميك��ن لعنا�صر الن�ص �أن تك��ون مفيدة �إال مبوجب‬ ‫مدر�سة باري�س تتميز عنها بدرا�سة وحتديد �شكل املعنى يف ن�ص‬
‫عالقاته��ا فيم��ا بينه��ا‪ ،‬فهي ت�ش��كل وح��دة ع�ضوية‬ ‫معطى‪ ،‬فهي ال تبحث يف الن�ص عن املعنى‪ ،‬وال عن الرتكيب‪،‬‬
‫متالحم��ة ال ميكن الف�صل بينه��ا �أو جتزئتها‪ ،‬فال وجود‬ ‫�أو عن غاياته ولكن عن كيفية قوله ملا قال‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل تعدد‬
‫للعنا�صر جمز�أة وال وجود لعن�صر خارجها‪.‬‬ ‫وات�س��اع جهازها امل�صطلحي‪ ،‬وتعدد مرجعياتها و�أ�صولها التي‬
‫‪« -‬خطابيا»‪ :‬لأنها تهتم ببناء �إنتاج اخلطابات‪ ،‬على عك�س‬ ‫ا�ستمد منها (جرميا�س) �أفكارها و�أ�س�سها ومبادئها‪ ،‬ومنها(((‪:‬‬
‫الل�سانيات التي تهتم باجلمل واملفردات‪ ،‬فال�سيميائيات‬ ‫((( ينظ��ر‪� :‬سعيد بنك��راد‪ ،‬مدخ��ل �إىل ال�سيميائية ال�سردية‪ ،‬من�ش��ورات االختالف‪،‬‬
‫تهدف �إىل التنظيم اخلطابي‪.‬‬ ‫اجلزائر‪ ،‬ط‪2003 ،2 :‬م‪.28 :‬‬

‫‪13‬‬ ‫‪12‬‬
‫م�ؤخرا املفكر الفرن�سي «جريار جيني��ت» ‪ ،Gerard Genette‬يف‬ ‫�إىل جانب حتديدها للم�ستويات التي يتم من خاللها قراءة‬
‫كتابه عتبات‪ ،‬الذي ق�سمها فيه �إىل ق�سمني‪ُ ،‬ع ِن َي الأول منهما‬ ‫الن�صو���ص‪ ،‬و�آليات كل م�ستوى على حدة‪ ،‬ابتداء من البنية‬
‫بالعتبات الفوقية‪ ،‬بينما ُع ِن َي الثاين بالعتبات املحيطة‪ ،‬وما يهم‬ ‫ال�سطحية‪ ،‬ومكونيها ال�سردي واخلطابي‪ ،‬وما بينهما‪ ،‬وو�صوال‬
‫هنا هو جزء من العتبات املحيطة الداخلية للن�ص‪ ،‬وهي اجلملتان‬ ‫�إىل البني��ة العميقة(*) مبكونيها املتمثلني يف تفكيك الوحدات‬
‫البدئي��ة واخلتامية‪ ،‬واملواقف التي يت�ضمنه��ا كل منهما‪ ،‬وكذا‬ ‫الداللية ال�صغرى‪ ،‬واملربع ال�سيميائي(**)‪.‬‬
‫بنياتهما العاملية التي تت�ضمنهما‪� ،‬أي �أننا �سنتناول هذه العتبات‬
‫من وجهة نظ��ر مدر�سة باري�س ال�سيميائية مع اال�ستعانة ببع�ض‬ ‫ت�سعى هذه القراءة �إىل البحث عن �أ�شكال املعنى يف الن�ص‬
‫�آراء جينيت التي �سي�ستدعيها الن�ص وال�سياق‪ ،‬وينبغي الإ�شارة‬ ‫‪ -‬قيد القراءة ‪ ،-‬وفق البنيتني ال�سطحية والعميقة‪ ،‬و�ست�سبقها‬
‫هنا �إىل �أن جينيت مل يهتم باجلمل االختتامية‪ ،‬ومل يتناولها‪� ،‬أو‬ ‫بتحدي��د اخل�صائ���ص ال�سيميائي��ة جلملتي الب��دء واالختتام‬
‫يدرجها �ضمن العتبات الن�صية؛ لأنه على ما يبدو كان من�شغال‬ ‫بو�صفهم��ا ُم�شَ ِّكلني للم�س��ارات التي ت�سع��ى �إىل فتح كوى‬
‫بكل ما ميهد للدخول يف الن�ص‪.‬‬ ‫للتفاعل بني القارئ والن�ص‪ ،‬من حيث �إنهما يثريان لديه جملة‬
‫من التوقعات واالحتماالت الداللية كما �سرنى فيهما‪.‬‬
‫أ‪ .‬اخلصائص السيميائية للجملة البدئية‪:‬‬
‫اخلصائص السيميائية جلمليت البدء واالختتام‬
‫متثل اجلمل البدئية مفاتيح �سيميائية يف الن�ص‪ ،‬ال تقل �أهمية‬ ‫يف النص‪:‬‬
‫عن بقية العتبات الن�صية التي ت�سهل عملية تلقيه‪ ،‬و(قد) ت�سهم‬ ‫اهتم��ت الدرا�س��ات ال�سيميائية على اخت�لاف مدار�سها‬
‫يف تفكيك �شفراته‪ ،‬وحتديد �أ�شكال معناه‪ ،‬ومن ثم ا�ستكناه بناه‬
‫وتوجهاتها يف الآونة الأخرية اهتماما ملحوظا بالعتبات الن�صية‬
‫وم�ضامين��ه ال�سيميائية التي ينبني عليها‪ ،‬وتب��د�أ منذ �أول نقطة‬
‫‪ ،seuils‬مل��ا لها من مق��درة على توجيه املقروئي��ة وحتديد �آلياتها‬
‫مف�ضية �إىل التخييل‪ ،‬وتنتهي عند �أول حتول وانتقال من و�ضعية‬
‫(يف معظ��م الأحي��ان)‪ ،‬وقد بلوره��ا و�أر�سى مبادئه��ا وقواعدها‬
‫�إىل �أخ��رى �إن داللي��ا �أو تركيبي��ا‪� ،‬إال �أن اجلم��ل البدئية وكذا‬
‫اخلتامية – عموما ‪ -‬ال ت�شبه اجلمل النحوية من حيث تراكيبها‪،‬‬ ‫(*) هناك من يرتجمها بالبنية العميقة والبنية املحايثة وبنية اخلفاء‪� ...‬إلخ‪.‬‬
‫فاجلملة النحوية لها �أركانها كما هو معروف يف القواعد النحوية‪،‬‬ ‫(**) يرتجمه البع�ض باملربع الداليل‪ ،‬واملربع العالمي‪ ،‬ومربع جرميا�س‪...‬‬

‫‪15‬‬ ‫‪14‬‬
‫كيف؟‬ ‫وال جمال للخو�ض فيها هنا‪ ،‬فاجلمل البدئية يف الن�صو�ص جمل‬
‫من �أي نافذة �سقط املوت»(((‪.‬‬ ‫ن�صية ولي�ست بال�ضرورة جمال نحوية؛ لأنها قد تتكون من جملة‬
‫نحوي��ة �أو فقرة �أو �أكرث من ذلك‪ ،‬وم��ن وظائفها �أنها تقدم فكرة‬
‫�إن اختيار هذا امللفوظ جملة بدئية مل ي�أت عبثا‪� ،‬أو اعتباطا‪ ،‬بل‬
‫م�صغرة عن الن�ص‪ ،‬و‪�/‬أو تختزل م�ضامينه وتثري فكر القارئ متهيدا‬
‫هو ناجت عن اختبار ومالحظة نظريا ومنهجيا‪ ،‬و�أول م�ؤ�شر منهجي‬
‫جعلها �صاحلة لذلك هو �أنها قدمت حالة الذات وو�ضعها الفكري‬ ‫لإدخال��ه يف عملية قراءة الن�ص ‪-‬كما هو حا�صل مع الن�ص قيد‬
‫واالجتماعي القائم ب�شكل خمتزل‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل تقدمي الف�ضاء‬ ‫القراءة‪ ،-‬وتقدم ر�ؤية كلية عنه‪ ،‬وجملة من الرتقبات‪ ،‬والتوقعات‬
‫املحيط بها جامدا خميما عليه ال�سكون والرتابة واجلمود؛ لي�شحن‬ ‫ملا �سي�أتي من بنى ن�صية درامية جت�سد الأحداث و�أبعادها‪.‬‬
‫احلالة الفكرية للذات دالليا‪ ،‬وتقدم ‪�-‬إ�ضافة �إىل ذلك‪ -‬امللفوظ‬ ‫ولكي يدرك املتلقي هذه الوظائف �أو غريها يف جملة بدئية‬
‫املحوري الذي يعد ب�ؤرة التحول واملثري املركزي يف الن�ص‪« :‬من‬ ‫م��ا ف�إن ذلك يحتم علي��ه تفكيكها �إىل �أ�صغ��ر وحدة خطابية‬
‫�أي ناف��ذة �سقط املوت»‪ ..‬يف بدايته��ا‪ ،‬وعند نهايتها تعلن انتهاء‬ ‫فيها‪ ،‬ومن ثم تركيبها وفقا للمعطيات والآليات التي تقرتحها‬
‫االختزال الكامن فيها‪� ،‬إيذانا بتف�صيل ما �أجمل بعدها وتو�ضيح‬ ‫النظرية وي�ستوعبها املنهج امل�شتغل عليهما‪ ،‬ويوحي بها الن�ص‬
‫�أ�سباب االختزال‪ ،‬وحيثيات قلق ال��ذات وكذا �أ�سباب جمود‬ ‫وما يفر�ضه من ر�ؤى وعالمات‪.‬‬
‫املكان وخلوه و�سيطرة ال�شتاء عليه والربودة الكامنة فيه‪ ،‬ونوافذه‬ ‫يقرتح الن�ص بعد القراءة واملالحظة العميقتني‪� ،‬أن اجلملة‬
‫املغلقة‪ ،‬ب�إع�لان الذات املتلفظة عن تف�صيل ما �أُ ْجمِ ل يف بداية‬
‫البدئية تتمثل يف امللفوظ التايل‪:‬‬
‫هذه اجلملة عرب ا�شتغال الذاكرة (اال�سرتجاع)‪:‬‬
‫«كنت وحيدا �أمام ال�رسير‬ ‫«يف ال�سماء‪،‬‬
‫الذي بد�أ املوت ينزع عنه احلياة‪،‬‬ ‫على الأر�ض‪،‬‬
‫و�أمي تقاوم‬ ‫ما كان �إال ال�شتاء‪.‬‬
‫تلهث»(((‪.‬‬ ‫النوافذ مغلقة‬
‫((( عبد العزيز املقالح‪ ،‬كتاب الأم‪.19 :‬‬ ‫وال�شوارع خالية‬
‫((( امل�صدر نف�سه‪.19 :‬‬

‫‪17‬‬ ‫‪16‬‬
‫وتنطل��ق هذه اجلمل��ة البدئية م��ن حلظة قلق وارتب��اك وهدوء‬ ‫وانطالقا من ذلك ف�إن اجلملة البدئية تتمف�صل يف مقطعني‬
‫حزين‪ ،‬وخلو ي�سيطر على ال�شوارع التي ميثل ال�شتاء حمورها وبطلها‬ ‫قائمني على التوازي الرتكيبي والداليل هكذا‪:‬‬
‫الرئي�سي الذي يهيمن على كل �شيء فيها‪� ،‬إنها خالية �إال منه‪..‬‬ ‫يف ال�سماء‬
‫وتقدم هذه اجلملة حالة ذات مت�سائلة عن كيفية ال�صمت‬ ‫ما كان �إال ال�شتاء‬ ‫ ‬
‫ب�شكل معلن وعن �أ�سبابه ب�شكل �ضمني‪ .‬وتتميز هذه الذات‬ ‫على الأر�ض‬
‫بعالم��ة مائزة وهي االفتقار املتمث��ل يف عدم االمتالك ملعرفة‬ ‫من �أي نافذة‬ ‫ ‬
‫و‪:‬‬
‫حتركات املوت؛ بو�صف املعرفة �إحدى �آليات مو�ضوع اجلهة؛‬ ‫�سقط املوت‬
‫الذي ميثل مو�ضوعا «يك��ون اكت�سابه �ضروريا لت�أ�سي�س كفاءة‬ ‫النوافذ مغلقة‬
‫فاع��ل منفذ من �أج��ل حتول رئي�س��ي»(((‪ ،‬وه��ي عالمة تزج‬ ‫كيف‬ ‫ ‬
‫بالقارئ يف عم��ق الت�سا�ؤل وت�سمه ‪ -‬كنتيجة لذلك ‪ -‬بنف�س‬ ‫ال�شوارع خالية‬
‫ال�سم��ة فيبدو فاقدا للمعرفة �أي�ضا‪ ،‬ف�إذا كانت الذات ال�ساردة‬
‫متتل��ك معرف��ة الأح��داث ال�سابق��ة ل�سقوط امل��وت‪ ،‬وفاقدة‬ ‫�إن امللف��وظ اال�ستفهام��ي الب�سي��ط (كيف) ي�أت��ي ختاما‬
‫ملعرف��ة الأح��داث التالية ل�سقوطه ف�إنها ت�سع��ى �إىل االت�صال‬ ‫له��ذه اجلمل��ة‪ ،‬وبداية ممه��دة لال�ستفهام املرك��ب الذي يليه‬
‫به��ا ‪ conjonction‬ع�بر املمار�سة‪ ،‬واالقرتاب م��ن الأ�سباب‪،‬‬ ‫‪(-‬م��ن �أي نافذة �سقط املوت)‪ -‬الذي ميثل بدوره بداية ممهدة‬
‫وا�ستك�شافها معاين ًة عرب املحكي‪ ،‬ف�إن القارئ �سيكت�شفها من‬ ‫ال�شتغ��ال الذاكرة ال�سردية‪ ،‬وجعل الق��ارئ متلقيا حموريا ملا‬
‫الن�ص على عك�س الذات‪� ،‬أي �أن م�صدر املعرفة خمتلف عند‬ ‫�سي�أت��ي بعدها م��ن ا�شتغال �سردي حلكاية امل��وت‪ ،‬و�أ�سرارها‬
‫كل منهم��ا‪ ،‬فالذات ال�ساردة ت�ستقيها م��ن الواقع والتجريب‬ ‫التي تك�شف عن حالة الذات‪ ،‬وعالقتها مبو�ضوعها الرئي�سي‬
‫والبح��ث عنه يف الواقع املحيط‪ ،‬بينما الذات القارئة ت�ستقيها‬ ‫(حياة الأم‪/‬بقائها)‪ ،‬وكذا عن حالة الأم التي تذوي دون �أن‬
‫من الن�ص‪� ،‬إن الذات�ين متيزهما عالمة االنف�صال عن املعرفة‪،‬‬ ‫ي�ستطيع االبن �أن يقدم لها �أ ّية م�ساعدة‪ ،‬فهو ذات حالة فاقدة‬
‫وتختلفان يف كيفية وم�صدر احل�صول عليها‪.‬‬ ‫للق��درة ‪-‬و�إن كانت ممتلكة للإرادة فه��ي �إرادة معطلة‪ -‬تقف‬
‫((( فري��ق انرتوف��رن‪ ،‬التحليل ال�سيميائ��ي للن�صو�ص‪ ،‬مقدمة ‪ /‬نظري��ة ‪ -‬تطبيق‪ ،‬تـ ‪:‬‬ ‫يف مواجهة ذات فعل ممتلك��ة ملوا�ضيع اجلهة املتمثلة يف القوة‬
‫حبيبة جرير‪ ،‬دار نينوى للدرا�سات والن�شر والتوزيع‪ ،‬دم�شق‪ ،‬ط ‪2012 ،1‬م ‪.4:‬‬ ‫والإرادة ومعرفة الفعل ووجوبه‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫‪18‬‬
‫اجلهة‪ ،‬ينخ��رط من خالله يف عملية الك�ش��ف والقراءة‪ ،‬ف�إن‬ ‫وق��د انتظمت اجلملة البدئي��ة وفق بني��ة عاملية ت�شكلت‬
‫اجلملة اخلتامية تقدم ما ي�شبه الإجابات التي ت�ضمرها اجلملة‬ ‫من‪:‬‬
‫االفتتاحية‪ ،‬وتتحدد ب�أول حلظ��ة ينتهي فيها ال�صراع والت�أزم‪،‬‬ ‫املر�س��ل (الطم�أنين��ة) ← مو�ضوع القيم��ة (اال�ستقرار)‬
‫ويت��م االنتق��ال فيه��ا �إىل ما ي�شب��ه و�ضعية اال�ستق��رار‪� ،‬أو ما‬ ‫← املر�سل �إليه (الذات)االبن‪.‬‬
‫يوحي باال�ستقرار‪ ،‬وي�شي ب�أن ما �سي�أتي هو خامتة‪� ،‬أو تلخي�ص‪،‬‬ ‫امل�ساع��د (اله��دوء) ← الذات(االب��ن) → املعار�ض‬
‫واختزال ملا �سبق منذ اجلملة البدئية حتى �آخر فقرات الن�ص‬ ‫(�سقوط املوت فج�أة)‪.‬‬
‫حي��ث اال�ستقرار النهائ��ي ن�صيا على الأق��ل‪ ،‬وتقوم بوظيفة‬
‫متثل الطم�أنينة مر�سال باعثا على اال�ستقرار الذي ميثل فيه‬
‫رئي�سي��ة تتمثل يف اختزال م��ا ُف ِّ�ص َل يف الن���ص‪� ،‬إنه اختزال‬ ‫الذات مت�صال مبو�ضوعه‪ ،‬وميثل الهدوء وخلو ال�شوارع م�ساعدا‬
‫خمتل��ف ع��ن االختزال الذي تق��وم به اجلمل��ة االفتتاحية‪،‬‬ ‫على هذا اال�ستقرار‪ ،‬وعلى ات�صال الذات‪/‬االبن بهذه القيمة‬
‫فالأوىل جتمل قبل التف�صيل‪ ،‬والثانية تختزل بعده‪.‬‬ ‫االيجابي��ة‪ ،‬غري �أن ثمة معار�ضا يربز عل��ى م�سرح الأحداث‪،‬‬
‫ويقرتح الن�ص جملته اخلتامية بـ‪:‬‬ ‫فيحدث حتويال لهذه القيمة‪ ،‬التي ال يتم الك�شف عن �أبعادها‬
‫«يا �أيها املوت رفقا‬ ‫و�أهدافها وات�ساعها �إىل بنية التحول املحورية يف الن�ص فتحول‬
‫قيمة اال�ستق��رار �إىل قيمة عدم اال�ستقرار فيبد�أ املوت ب�سلبها‬
‫بهذا الكيان الرقيق‪.‬‬
‫ومن ثم ي�سعى �إىل �سلب قيمة حياة الأم‪.‬‬
‫مل يعد ج�سدا‬
‫�صار طيفا‬ ‫ب‪ .‬اخلصائص السيميائية للجملة اخلتامية‪:‬‬
‫ولكنها الروح‬ ‫ف�إذا كان��ت اجلملة البدئية عادة تق��وم بوظيفة رئي�سية هي‬
‫اخت��زال الن�ص‪ ،‬وتقدميه ب�شكل مكث��ف‪ ،‬وتعمل على �إغراء‬
‫�ساكنة الظل‬
‫القارئ بتفكي��ك املنت‪ ،‬بحثا عن م�ضم��رات اجلملة البدئية‪،‬‬
‫حني يجف ت�ضيء‬ ‫وم�ضمرات الن�ص التي اختزلتها هذه اجلملة‪ ،‬ومن ثم ت�أ�سي�س‬
‫وال ت�س�أل البيت‬ ‫الق��ارئ كفاعل يف برنامج االت�صال باملعرفة‪ ،‬وامتالك مو�ضوع‬
‫‪21‬‬ ‫‪20‬‬
‫‪ -‬احلالة اخلتامية= الذات‪ :‬مت�صلة باملعرفة‪ ،‬مقتنعة‪ ،‬را�ضية‪،‬‬ ‫تخ�شى الفراق‬
‫م�ست�سلمة‪..‬‬ ‫وت�أبى النزوح‬
‫وهاتان احلالتان جت�سدان بال�ضرورة كيفية التحول املحوري‬ ‫ك�أين بها تتعذب حزنا عليه‬
‫يف الن���ص املتمث��ل يف االنتقال والتح��ول املحوريني يف حياة‬
‫و�شوقا �إىل عامل ال�ضوء‬
‫االب��ن‪ ،..‬وحياة الأم و(�صراعها مع املوت) وانتقالها �إىل حالة‬
‫املوت واالنف�صال عن احلياة‪ ،‬وامتالكها حلياة �أخرى‪.‬‬ ‫وال�صحوة الأبدية‪.(((».‬‬
‫ف�إذا كانت اجلمل��ة االفتتاحية يف الن�ص تقدم حالة خمتزلة‬ ‫�إنها ‪-‬عرب اختزالها‪ -‬تقدم اخلال�صة النهائية التي تو�صلت‬
‫وخطوطاً مقت�ضبة عن �أمر ال يتم الك�شف عنه �إال بعد االنخراط‬ ‫�إليه��ا الذات م��ن ات�ص��ال وانف�صال عن مو�ضوعه��ا‪ ،‬وتقدم‬
‫يف تفا�صيل الن�ص ف�إن اجلملة االختتامية تقدم خال�صة للن�ص‬ ‫�شحن��ة معرفية للمتلقي‪ ،‬فالذات يف اجلملة البدئية تتدرج يف‬
‫وما �آلت �إليه ذات احلالة من ف�صلة مبو�ضوعها وامتالكها للمعرفة‪،‬‬ ‫التح��ول والفقدان‪ ،‬بينما يف امللف��وظ اخلتامي تعي�ش التحول‬
‫وا�ست�سالمه��ا ملا �آل �إليه الو�ضع ت�سليما مطلقا‪ ،‬وا�ستبدال حالة‬ ‫اجلذري‪ ،‬وبداية ا�ستعادة اال�ستقرار امل�شروط بانتقال الأم �إىل‬
‫اخل��وف واالرتباك الت��ي يف مفا�صل الن���ص �إىل حالة �أمنيات‬ ‫ع��امل ال�ضوء‪ ..‬ف�إذا كانت الذات يف اجلمل��ة البدئية مت�سائلة‬
‫يتمناها الذات من املوت‪� ،‬أو يطلب منه الرفق بالأم‪.‬‬ ‫قلق��ة ف�إنها يف اجلملة اخلتامية م�ست�سلم��ة منك�سرة‪� ،‬إنها تقدم‬
‫كم��ا �أنها تقدم حال��ة ذاتني؛ ذات احلال��ة‪ /‬االبن ال�سارد‬ ‫�إجاب��ات ع��ن الت�س��ا�ؤالت املطروحة يف اجلمل��ة االفتتاحية‪،‬‬
‫يف حلظة ا�ست�سالم‪ ،‬ومن خالله��ا تتقدم حالة ذات مت�ضمنة‬ ‫وتعيد الذات القارئة وال�ساردة �إىل حالة امتالك ملو�ضوع اجلهة‬
‫ه��ي حالة الأم التي �أ�صبح كيانها طيفا ومل يعد ج�سدا‪ ،‬لأنها‬ ‫املتمث��ل يف املعرفة‪ ،‬وبذلك تدخل يف ت�ض��اد مع احلالة التي‬
‫�أ�صبحت �ساكن��ة تخ�شى الفراق‪ ،‬ويف نف���س الوقت حتن �إىل‬ ‫متثل انف�صاال عن املعرفة‪ ،‬مع احلالة اخلتامية التي متثل ات�صاال‬
‫ع��امل ال�ضوء‪� ،‬إنها بني �أمري��ن؛ �إذ �إنها �ستدخل يف ُف ْ�ص َل ٍة عن‬ ‫باملعرفة وفقا للرت�سيمة التالية‪:‬‬
‫ع��امل الدنيا املو�ص��وف �ضمنيا بعامل الظ�لام‪ ،‬و ُو�صلة بعامل‬ ‫‪ -‬احلال��ة البدئي��ة= ال��ذات‪ :‬مت�صلة بعدم املعرف��ة‪ ،‬قلقة‪،‬‬
‫الآخرة املو�صوف علنا بعامل ال�ضوء‪.‬‬ ‫م�ضطربة‪ ،‬مت�سائلة‪.‬‬
‫وبذلك تتمثل البنية العاملية للجملة اخلتامية يف‪:‬‬ ‫((( عبد العزيز املقالح‪ ،‬كتاب الأم‪.22 ،21 :‬‬

‫‪23‬‬ ‫‪22‬‬
‫ميك��ن �أن ن�ستنتج من بنيت��ي االختتام �أن االب��ن (الذات)‬ ‫املر�سل‪( :‬االبن) ← املو�ضوع‪( :‬الي�أ�س) ← املر�سل �إليه‪( :‬املوت)‪.‬‬
‫‪ /‬ال�شاع��ر (املقالح) يف معظم ن�صو�ص��ه �صويف يف ر�ؤيته للموت‬ ‫↑‬
‫امل�ساعد‪( :‬الت�سليم بالواقع) ← الذات‪( :‬االبن) → املعار�ض‪( :‬املوت)‪.‬‬
‫بو�صفه بوابة احلياة الأبدية‪ ،‬وو�سيلة عبور �إىل االحتاد �أو اللقاء مع‬ ‫بالإ�ضافة �إىل‪:‬‬
‫الذات الإلهية‪� ،‬إال �أنه حينما تعلق الأمر ب�أمه حتول الأمر نوعا ما‪،‬‬ ‫املر�سل‪( :‬الق�ضاء) ← املو�ضوع‪( :‬حياة الأم) ← املر�سل �إليه‪( :‬االبن)‬
‫ف�أ�صبحت ر�ؤيته �إلي��ه طبيعية (دنيوية) فنلمح مفاج�أة باملوت يف‬ ‫↑‬
‫امل�ساعد‪( :‬قرب الأجل) ← الذات‪ :‬املوت → املعار�ض‪( :‬املوت)‬
‫البدء وا�ضطرابه وت�سا�ؤله عن مكان وزمان جميء املوت‪ ،‬ما جعل‬
‫ر�ؤيته ال�صوفية تلك تغيب يف املفتتح لكانها تعود فيي االختتام‪،‬‬ ‫فثم��ة بنيتان يظه��ر فيمها االبن مانحا متن��ازال يف الأوىل‪،‬‬
‫وم��ا بني البنيتني يتواتر ال�صراع ب�ين الر�ؤيتني حادا يف االت�ساع‬ ‫ويظهر املوت مهيمنا يف الثانية‪ ،‬يف الأوىل يكون الذات (االبن)‬
‫والتال�شي لي�ستقر فيي الأخري حيث تت�سع �آفاق االنتقال الذاتي‬ ‫منف�صال عن القيمة االيجابية (حياة الأم) ممتلكا للي�أ�س الناجت‬
‫(النف�سي للذات) واملو�ضوعي (الأم) �إىل عامل ال�ضوء‪.‬‬ ‫عن هيمنة املوت وم�ساعدة الت�سليم بالواقع املحتوم‪ ،‬ف�إذا كان‬
‫املر�س��ل هو «الذي يدفع «ال��ذات» لالت�صال بـ «املو�ضوع»(((‪،‬‬
‫ف���إن االبن بذلك يقوم بهذا الدور كما ر�أينا‪� ،‬إ ْذ �إنه يتحول يف‬
‫البنية السردية‬ ‫�آخر املطاف �إىل مر�سل وب�شكل �أكرث دقة �إىل ما ي�شبه الواهب‬
‫‪ .1‬البنية السطحية‪.‬‬
‫الذي يتن��ازل عن مو�ضوع��ه ب�شكل �أو ب�آخ��ر ويكون بذلك‬
‫تتقدم الن�صو�ص كنتيجة جلهاز مبني من القواعد‪ ،‬والعالقات‬ ‫م�ساعدا له على االت�صال مبو�ضوعه‪.‬‬
‫التي ت�سهم يف تنظيم البنى التي يخ�ضع لها �شكل املعنى‪ ،‬وت�أتي‬
‫وف��ق م�ستويني مرتاتبني‪ ،‬هما امل�ست��وى ال�سطحي‪ ،‬وهو القابل‬ ‫بينم��ا يف الرت�سيمة الثاني��ة يكون املر�س��ل الق�ضاء الذي‬
‫للمالحظ��ة‪ ،‬والذي ينظم املحتويات الق��ادرة على التمظهر يف‬ ‫ي�ساع��د على ات�صال املوت باملو�ضوع امل�ستهدف (حياة الأم)‬
‫�شكل خطابي‪ ،‬وامل�ستوى العميق وهو الذي تفرزه هذه البنيات‬ ‫مب�ساعدة قرب الأجل ومنح االب��ن وتخليه عن مو�ضوعه بناء‬
‫ال�سطحي��ة‪ ،‬وتكون و�سيلة �إىل النفاذ �إليه‪ ،‬فال�شكليات ال�صورية‬ ‫على قوى غيبية تلزمه ال �شعوريا بالت�سليم بها‪.‬‬
‫(*) ينبغ��ي التفريق �أوال يف البنية ال�سردية ماب�ين املحكي‪(/‬الن�ص)‪ ،‬وبني ال�سردية‪/‬‬ ‫((( جريال��د برن�س‪ ،‬قامو�س ال�سردي��ات‪ ،‬تـ‪ :‬ال�سيد �إمام‪ ،‬مريي��ت للن�شر واملعلومات‪،‬‬
‫(وهي �سل�سلة احلاالت والتحوالت)‪.‬‬ ‫القاهرة‪ ،‬ط‪2003 ،1 :‬م‪.10 :‬‬

‫‪25‬‬ ‫‪24‬‬
‫م�سارات متعددة‪ ،‬وتتكون من نوعني من امللفوظات‪� ،‬إما �أن تكون‬ ‫يف امل�ست��وى ال�سطحي تتبن��ى عالقات التناق�ض��ات والت�ضاد‬
‫ملفوظات حالة‪� ،‬أو ملفوظات فعل‪ ،‬فملفوظات احلالة تتحدد بعالقة‬ ‫والت�ضمن املنظمة يف امل�ستوى العميق‪.‬‬
‫الذات باملو�ضوع‪ ،‬بينما تتحدد ملفوظات الفعل بناء على الفعل‬ ‫ويوجد يف امل�ستوى ال�سطحي مكونان رئي�سيان ي�ضبطان عالقاته‬
‫التحويلي الذي ي�ؤديه فاعل الفعل‪/‬املعار�ض‪ ،‬ويتم بوا�سطة حتول‬ ‫وعنا�صره املحوري��ة‪ ،‬وهما املكون ال�س��ردي(*) واملكون اخلطابي‪،‬‬
‫رئي�سي بني الذات ومو�ضوع��ه امل�ستهدف‪ ،‬فيحدث اختالال ما‪،‬‬ ‫ي�أتي املكون ال�سردي ك�آلية �إجرائية ت�ضبط وحتدد �سل�سلة الربامج‬
‫ت�سعى الذات بعده �إىل �إعادة التوازن ومن ثم االمتالك‪.‬‬ ‫ال�سردي��ة‪ ،‬واحلاالت والتحوالت‪ ،‬بينما ي�ضب��ط املك ِّون اخلطابي‬
‫�إن التحويل بناء على ذلك �إما �أن يكون حتويال ُف ْ�ص ِل َّياً تكون‬ ‫ت�سل�سل ال�صور و�آثار املعنى الناجتة عن احلاالت والتحوالت‪.‬‬
‫الذات منف�صلة عن مو�ضوعه��ا‪� ،‬أو حتويال ُو ْ�ص ِل َّياً تكون فيه‬
‫فيه ُ‬
‫ال��ذات مت�صلة مبو�ضوعه��ا‪ ..‬وال ميكن حتديد ذل��ك ما مل يتم‬ ‫ُ‬ ‫أ‪ .‬املكون السردي‪:‬‬
‫حتديد العوامل ‪ ،‬والقوى املت�صارعة يف الن�ص‪ ،‬والقيم املت�صارع‬
‫(*)‬ ‫يتقدم املكون ال�سردي يف �أي ن�ص بو�صفه �سل�سلة من احلاالت‬
‫عليه��ا‪ ،‬و�أهدافها‪ ،‬وغايات كل عامل م��ن جهة‪ ،‬وحتديد م�ساره‬ ‫والتحوالت القائمة بني الذوات وموا�ضيعها‪ ،‬وترتجم هذه احلاالت‬
‫من جه��ة �أخرى‪ .‬و«ال ميكن االعرتاف بال��ذوات كذوات إ� َّال‬ ‫والتح��والت يف عدد من الربام��ج ال�سردية التي ي�ضمها م�سار �أو‬
‫من خالل تعالقه��ا مع مو�ضوعات القيمة‪ ،‬ومو�ضوعات القيمة‬ ‫(*) ق��د ال تك��ون العوامل �شيئا حمدداً‪�/‬أ�شخا�صا مثال‪ ،‬ولكنه��ا قد تكون �إ�شارات �أو‬
‫�أف��كارا �أو عنا�صر غري فيزيائي��ة‪� ..‬إلخ‪ ،‬فالعوامل «هم الكائن��ات �أو الأ�شياء التي مهما‬
‫ال ميك��ن االعرتاف بها كموا�ضيع قيمة �إال �إذا كانت م�ستهدفة‬ ‫كان��ت �صفتها و�أ�سلوبها‪ ،‬حتى و�إن كانت جمرد ممثلني‪ ،‬وح�سب الطريقة الأكرث �سلبية‪،‬‬
‫من الذوات‪ ،‬وبتعبري �آخر ال يوجد حتديد للذوات �إال من خالل‬ ‫ت�ساه��م يف الق�ضية»‪[ ،‬جوزيف كورتي�س‪ ،‬الأ�ش��كال ال�سردية‪ ،‬تـ‪ :‬عبد احلميد بورايو‪،‬‬
‫ارتباطها وو�ضعها يف عالقة مع املو�ضوع والعك�س»(((‪.‬‬ ‫�ضم��ن كتاب‪ :‬الك�ش��ف عن املعنى يف الن���ص ال�سردي‪( ،‬ال�سردي��ات ال�سيميائية)‪،‬‬
‫ج‪ ،3 :‬دار ال�سبي��ل للن�شر والتوزيع‪ ،‬اجلزائ��ر‪2009 ،‬م‪ ،].56 :‬ومييز جرميا�س بني نوعني‬
‫وحتى تكون الذوات قادرة على الإجناز ينبغي �أن تكون م�ؤهلة‬ ‫م��ن العوامل‪� ،‬أولها عوامل التبليغ‪« :‬الراوي واملروي ل��ه‪ ،»...‬وثانيهما عوامل ال�سرد‪:‬‬
‫«املر�س��ل واملر�سل �إلي��ه‪ ،»...‬ويقوم النموذج العاملي على ثالث��ة �أزواج من العوامل‪،‬‬
‫للقيام بذلك‪ ،‬ويعني هذا �أن تكون ممتلكة ملوا�ضيع اجلهة‪« :‬جهات‬ ‫«املر�سل‪/‬املر�سل �إليه‪ ،‬الفاعل‪/‬املو�ضوع‪ ،‬امل�ساعد‪/‬املعار�ض»‬
‫َ‬ ‫تتكامل فيما بينها‪ ،‬هي‪:‬‬
‫وتتحدد هذه الأزواج من خالل حماور ثالثة‪ ،‬هي‪:‬‬
‫((( جوزي��ف كورتي���س‪ ،‬مدخ��ل �إىل ال�سيميائية ال�سردي��ة واخلطابية‪ ،‬ت��ـ‪ :‬د‪ .‬جمال‬ ‫‪ - 1‬حمور الرغبة‪ :‬وهو الذي تربط الذات باملو�ضوع‪.‬‬
‫ح�ض��ري‪ ،‬الدار العربية للعلوم نا�شرون‪ ،‬ب�يروت‪ ،‬ومن�شورات االختالف‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪:‬‬ ‫‪ - 2‬حمور الإبالغ‪ :‬وهو الرابط بني املر�سل واملر�سل �إليه‪.‬‬
‫‪2007 ،1‬م‪.27 :‬‬ ‫‪ - 3‬حمور ال�صراع‪ :‬ويجمع املعار�ض بامل�ساعد‪.‬‬

‫‪27‬‬ ‫‪26‬‬
‫عن�صر االتزان الذي ي�شتمل على عن�صرين هو الآخر‪� ،‬أولهما‬ ‫الإ�ضمار‪ :‬وجوب الفعل‪/‬و�إرادة الفعل‪ ،‬وجهات التحيني‪ :‬قدرة‬
‫التح��ول واالنتقال من حلظة االرتب��اك والت�شتت �إىل حماولة‬ ‫الفعل ومعرفة الفع��ل»‪ ،‬وحتى يكون الفاعل‪/‬ذات احلالة �أي�ضا‬
‫القي��ام بربنامج �س��ردي و�سي��ط‪ ،‬ي�سعى من خالل��ه الفاعل‬ ‫ق��ادرا على التحويل‪ ،‬و�إعادة الت��وازن‪ ،‬ينبغي له �أن يكون ممتلكا‬
‫�إىل خل��ق م�ش��روع حتويل يه��دف �إىل طرد امل��وت عن الأم‪،‬‬ ‫ملوا�ضيع اجلهة بو�صفها م�ؤهالت �أ�سا�سية ينبغي توفرها فيه حتى‬
‫والإبقاء على حياتها‪� ،‬أما العن�صر الثاين فهو احلل‪ ،‬ويتمثل يف‬ ‫يعيد االمتالك ويتحول من حال��ة االفتقار �إىل حالة االمتالك؛‬
‫«اال�ستقرار» الذي ه��و «و�ضعية نهائية» ويظهر فيها ‪/‬الفاعل‪/‬‬ ‫لأن «مو�ض��وع اجلهة هو املو�ضوع ال��ذي يكون اكت�سابه �ضروريا‬
‫الذات‪:‬‬ ‫لت�أ�سي�س كفاءة فاعل منفذ من �أجل حتول رئي�سي»(((‪.‬‬
‫‪ -‬م�ست�سلما للق�ضاء والقدر‪.‬‬ ‫يتجلى بعد هذه املنطلقات املنهجية املختزلة والب�سيطة‪/‬نوعا‬
‫ما‪� /‬أن املكون ال�سردي يف الن�ص ي�أتي م�شتمال على عن�صرين‬
‫‪ -‬ملح��ا على رغبة الإبقاء على الأم‪ ،‬ومع ذلك يرغب يف‬
‫رئي�سي�ين يدي��ران دفت��ي الن�ص وبن��اه وهم��ا‪ :‬اال�ضطراب‪،‬‬
‫ذهابها �إىل عامل ال�ضوء بو�صفه عامل اال�ستقرار النهائي‬
‫والتوازن‪ ،‬وي�شتمل عن�صر اال�ضطراب على و�ضعيتني‪ ،‬الأوىل‬
‫له��ا‪ ،‬وهو ما يجعل��ه يتنازل ع��ن �إحلاحه عل��ى بقائها‪،‬‬
‫تتمث��ل يف و�ضعية الت�شت��ت واالرتباك‪ ،‬والثاني��ة يف و�ضعية‬
‫فاالنتقال م�شروع امتالك الأم لقيمة ايجابية تتمثل يف‬
‫االفتق��ار (الذات تفتقر �إىل املعرفة منف�صلة عن مو�ضوع اجلهة‬
‫احلياة الأبدية يف عامل �أف�ضل‪.‬‬
‫ومو�ضوع القيمة(*)‪/‬الإبقاء على حياة الأم)‪.‬‬
‫ ‪ -‬يتق��دم يف حالة تذبذب بني بقاء الأم وذهابها‪ ،‬وذلك عرب‬ ‫و�إذا كان االفتق��ار عادة ما ي�ؤول �إىل رغبة يف القيام مب�شروع‬
‫�ص��ورة الأم املتذبذب��ة بني الأمرين‪ ،‬وه��و بذلك ال يقدم‬ ‫نقي�ض‪ ،‬تتحول الذات مبقت�ضاه من ذات حالة �إىل ذات فعل‪،‬‬
‫�إن �أجنز هذا امل�شروع و�أف�ضى �إىل جزاء ايجابي يتحقق مو�ضوع‬
‫قيمت��ه‪ ،‬فالأم يف هذا الن�ص ‪-‬مثال‪ -‬هي املو�ضوع‪ ،‬وحياتها وبقا�ؤها‪ ..‬هي القيم املت�صارع‬
‫عليها يف الن�ص من قبل الفاعل والفاعل امل�ضاد‪[ .‬ينظر‪ :‬اجلرياد�س جوليان غرميا�س‪ ،‬يف‬ ‫القيم��ة ويزول االفتق��ار ويكون االمت�لاك‪ ،‬و�إال ظل االفتقار‬
‫املعنى‪« ،‬درا�سات �سيميائية»‪ ،‬تعريب‪ :‬جنيب غزاوي‪ ،‬مطبعة احلداد‪ ،‬الالذقية‪].83 - 68 :‬‬ ‫قائم��ا وظل الإحباط(((‪ ،‬ف�إنه يدع��و �إىل �إن�شاء عن�صر ثان‪ ،‬وهو‬
‫وي�ؤكد جرميا�س بـ«�أن ال�شيء املرغوب ال ي�شكل �سوى ذريعة‪� ،‬سوى حي ٍز لتوظيف القيم‪،‬‬
‫�إنه املكان الو�سيط بني الذات ونف�سها»‪[ ،‬ينظر‪ :‬املرجع نف�سه‪.]71 :‬‬ ‫((( فريق انرتوفرن‪ ،‬التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص‪.64 :‬‬
‫((( ينظر‪ :‬حممد النا�صر العجيمي‪ ،‬يف اخلطاب ال�سردي‪ ،‬نظرية جرميا�س (‪،)Greimas‬‬ ‫(*) يخل��ط الكثري من الباحثني بني املو�ضوع والقيمة‪ ،‬يف حني �إن املو�ضوع خمتلف عن‬
‫�سل�سلة م�ساءالت‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬املغرب‪ ،‬د‪ .‬ط‪1993 ،‬م‪.120 :‬‬ ‫قيمته‪ ،‬فاملو�ضوع هو احليز الذي تتحرك فيه القيم‪� ،‬إن املو�ضوع هو ال�شيء‪ ،‬وما يراد منه هو‬

‫‪29‬‬ ‫‪28‬‬
‫بينم��ا ينطلق الن���ص فيزيائيا من مرحل��ة الـ(�أثناء)‪ ،‬وهي‬ ‫رغبتها الفعلية يف التذبذب ب�ين البقاء والذهاب بقدر ما‬
‫مرحل��ة التحول الت��ي يعلن امل��وت فيها ولوج��ه �إىل م�سرح‬ ‫يق��دم حالته الكامنة وتذبذبها بني بقاء الأم �إىل جواره‬
‫الأحداث كفاع��ل م�ضاد‪ ،‬يقوم ب�إح��داث ف�صلة بني الذات‬ ‫وانتقاله��ا �إىل م��كان �آخر (ع��امل ال�ض��وء)‪� ،‬إن �صورة‬
‫واملو�ض��وع‪ ،‬ويخلق ب�ؤرة التح ّول املركزية‪ ،‬ويبدو ذلك يف قول‬ ‫تذبذبه تتخفى خلف �صورة تذبذب الأم‪.‬‬
‫الراوي‪« :‬من �أي نافذة �سقط املوت»‪.‬‬ ‫وتنتظ��م ‪-‬بعد ذلك‪ -‬عالقات الن�ص والذوات يف الربامج‬
‫ف��دال (ال�سق��وط) وحده كفي��ل بتو�ضيح م��دى الفزع‪،‬‬ ‫ال�سردي��ة وفق م�سار �سردي خط��ي‪ ،‬يقوم على ثالث مراحل‬
‫واملفاج���أة‪ ،‬واملباغتة التي �أحدثها املوت‪ ،‬وكذا مقدار التحول‬ ‫زمنية‪ ،‬تتخللها وظائف معينة(((‪:‬‬
‫الذي قام به مابني زمنني وو�ضع�ين‪� ،‬إنه ملفوظ يتكفل ب�إبراز‬ ‫�أ‪ .‬ما قبل‪.‬‬
‫حدين زمنيني فا�صلني‪( ،‬قبل‪/‬بعد)‪.‬‬
‫ب‪� .‬أثناء‪.‬‬
‫ومتث��ل مرحل��ة التحول (ما بع��د) حالة ت��وازن مع فقدان‬
‫م�ضمر‪� ،‬أي �أن الذات تعلن عن ت�سليمها بالفعل‪ ،‬واالنف�صال‬ ‫ج‪ .‬ما بعد‪.‬‬
‫‪ Disjonction‬عن مو�ضوعها‪ ،‬ولكنها ال تظهر فعل غياب الأم‪،‬‬ ‫ينطلق الن���ص قيد القراءة –عمليا‪ -‬م��ن املرحلة الثانية‪:‬‬
‫ب��ل جتعله م�ضمرا‪ ،‬ولع��ل ما جعلها ت�ضمره م��ع �إمكان حتققه‬ ‫(الأثن��اء)‪ ،‬وي�ضمر مرحل��ة الـ(ما قبل)‪ ،‬وينته��ي مبرحلة (ما‬
‫هو حماول��ة تخفيف الفاجعة وتهوين وقوعه��ا عليه‪� ،‬إنه برغم‬ ‫بعد)‪ ،‬فم��ا قبل هو املرحل��ة امل�ضمرة وميثل مرحل��ة التوازن؛‬
‫ت�سليم��ه الظاه��ر مل يزل يبطن يف النف�س ت��رددا م�ضمرا ناجتا‬ ‫حيث الفاعل ممتلك ملو�ضوعه‪ ،‬والهدوء م�سيطر على الأ�شياء‪،‬‬
‫عن قوة الفاجعة‪.‬‬ ‫وعل��ى الذوات والع��امل‪ ،‬ولعل الذات ال�س��اردة تعمل على‬
‫�إ�ضمار هذه املرحل��ة عنوة؛ لأن فكر الفاعل كان من�صبا على‬
‫من هنا تتجل��ى حركة الن�ص الدائرية‪ ،‬الت��ي تبد�أ بغياب‬ ‫ف�ترة التحول التي �أحدث��ت خلال وافتق��ارا هامني يف حياته‬
‫وتنتهي بغياب �آخر‪ ،‬تبد�أ بغياب حالة التوازن و�إ�ضمار مرحلة‬ ‫وحياة الأم ويف العامل �أي�ضا‪.‬‬
‫الـ(ما قب��ل)‪ ،‬وتنتهي بحالة الغياب امل�ضم��ر للأم‪ ،‬واالفتقار‬
‫للمو�ضوع‪.‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬عبد احلميد بورايو‪ ،‬امل�سار ال�سردي وتنظيم املحتوى‪ ،‬درا�سات �سيميائية لنماذج‬
‫من �ألف ليلة وليلة‪ ،‬دار ال�سبيل للن�شر والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪2008 ،‬م‪.24 ،23 :‬‬

‫‪31‬‬ ‫‪30‬‬
‫به‪ ،‬وهو ما يجعله يعل��ن ا�ست�سالمه بعد ذلك‪ ،‬ور�ضاه وتخليه‬ ‫يت�أ�س�س ملف��وظ الـ(�أثناء) على عودة الراوي �إىل ما قبل‪/‬‬
‫ع��ن مو�ضوعه‪ ،‬غري �أن��ه يرمي �إىل و�ضع عق��د ائتماين يطلب‬ ‫املا�ضي‪:‬‬
‫في��ه الرف��ق مبو�ضوعه (الأم) الت��ي �أ�صبحت فاق��دة لقيمتي‬ ‫«كنت وحيدا �أمام ال�رسير‬
‫ال�شباب‪/‬والقوة‪ .‬ويطلب �أخذها برفق‪.‬‬
‫الذي بد�أ املوت ينزع عنه احلياة‬
‫فيظهر من خ�لال هذه الو�ضعيات ووظائفها �أن ثمة ثالث‬
‫ذوات تتداخ��ل يف �صراع مبا�شر وغري مبا�شر هما الأم واملوت‬ ‫و�أمي تقاوم‬
‫من جه��ة‪ ،‬واالبن واملوت من جهة ثاني��ة‪� ،‬إنه �صراع م�صريي‬ ‫تلهث‪»...‬‬
‫قائم عل��ى جدلية البقاء والفناء‪� ،‬إنه حماولة بقاء بالفعل (وهو‬ ‫�إنه��ا حلظ��ة زمنية مت��ت فيها الأح��داث قبل زم��ن تلفظ‬
‫ب�شري حمدود القوة) وفناء بالفعل وبالقوة وهما كامال الأهلية‬ ‫ال��راوي‪ ،‬يج�سد فيها ال��راوي ذات احلالة مبلفوظ حالة ُف ْ�ص ِل ٍّي‬
‫ومكوناتها �سيميائيا‪.‬‬ ‫املوت ذات فعل‬ ‫(الذات منف�صلة عن مو�ضوعها)‪ ،‬وميثل فيها ُ‬
‫لذلك تتحقق البنية العاملية للن�ص وفقا للرت�سيمة التالية‪:‬‬ ‫مبلفوظ فعل ُو ْ�ص ِل ٍّي‪ ،‬فهو فاعل حالة مت�صل بالفعل واملو�ضوع‪،‬‬
‫املر�س��ل (املوت‪/‬معرفة) ← مو�ضوع القيمة (حياة الأم) ← املر�سل �إليه‬ ‫يق��وم بف�صل ذات احلالة عن مو�ضوع��ه‪ ،‬ويت�شكل ذلك عرب‬
‫(الأم)‪/‬عجز‬ ‫ذات احلالة �إىل الدخول يف‬ ‫برنامج �س��ردي ي�سعى من خالله ُ‬
‫امل�ساعد (�إيعاز‪/‬قرب الأجل) ← الذات (االبن‪/‬ال معرفة) → املعار�ض‬ ‫و�صل��ة مبو�ضوعه و�إعادة اال�ستق��رار‪� ،‬إال �أن الربنامج ال�سردي‬
‫(املوت)‪/‬قدرة‬ ‫امل�ضاد يعيقه عن ذلك‪ ،‬فتت�سع حينئذ دائرة ال�صراع‪ ،‬وتدخل‬
‫تبد�أ الو�ضعية من �إر�سال �إ�ش��ارات من املوت‪ ،‬تنذر ب�أخذ‬ ‫ال��ذات يف الف�صلة عن املو�ض��وع القيمي‪ ،‬كم��ا تت�سع دائرة‬
‫حياة الأم (مو�ضوع القيمة)‪� ،‬إىل الأم التي ال متلك �شيئا �سوى‬ ‫التلفظ‪ ،‬وتتقدم الأحداث‪ ،‬وتتنا�سل الربامج ال�سردية‪ ،‬وي�أخذ‬
‫املقاوم��ة غري املجدية‪ ،‬واللهاث اليائ�س‪ ،‬وامل�ساعد على �إر�سال‬ ‫مو�ض��وع القيم��ة �شكله النهائ��ي (الغياب امل�سك��وت عنه)‪،‬‬
‫تل��ك الإ�شارات هو الإيعاز الناجت ع��ن قرب الأجل املحتوم‪،‬‬ ‫ويغ��دو فاعل احلالة فاقدا لكل موا�ضي��ع اجلهة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬
‫وتربط الذات‪/‬االبن باملو�ضوع‪/‬حياة الأم عالقة الرغبة التي‬ ‫فقدان��ه للمو�ضوع وقيمه امل�ستهدفة معا‪ ،‬م��ن حيث �إنه ْيظهر‬
‫يعمل املعار�ض‪ /‬املوت على عدم حتقيقها �أو �إبقائها‪.‬‬ ‫غري قادر عل��ى �إحداث حت��ول‪ ،‬وت�أ�سي�س م�ش��روع لالت�صال‬
‫‪33‬‬ ‫‪32‬‬
‫باجناز برنامج �سردي و�سيط ينتقل بوا�سطته �إىل حتقيق الربنامج‬ ‫وترب��ط املر�سل‪/‬امل��وت باملر�سل �إليه عالق��ة (قوة‪/‬عجز)‬
‫الرئي�س��ي‪ ،‬ي�سعى من خ�لال الربنامج الو�سي��ط �إىل امتالك‬ ‫يت�س��م املر�س��ل بالقوة‪ ،‬بينم��ا يت�سم املر�سل �إلي��ه بالعجز من‬
‫املعرفة وامل�ؤهالت حتى ي�ستطيع الإبقاء على حياة الأم وطرد‬ ‫جهة‪ .‬وتربط املر�سل باملو�ضوع عالقة رغبة االنتزاع واالمتالك‬
‫املوت الذي ميثل الربنامج الرئي�سي‪ ،‬وهو ما مل يتحقق‪.‬‬ ‫من جهة �أخرى‪.‬‬
‫وميكن �أن نحدد كيفيات قيام العالقة مابني الذوات ب�شكل‬ ‫بينم��ا تربط الذات مبو�ضوعه عالق��ة رغبة من جهة وتربطه‬
‫مف�صل بالرت�سيمة التالية‪:‬‬ ‫عالق��ة �صراع م��ع املعار�ض من جهة �أخ��رى‪ ،‬ويت�سم املر�سل‬
‫باملعرف��ة والق��درة بينما يت�س��م الذات بفق��دان املعرفة وعدم‬
‫القدرة‪:‬‬
‫(ما الذي يفعل ابنك يا �أجمل الأمهات؟)‬
‫تبدو عالقة االبن‪/‬الذات باملو�ض��وع‪/‬الأم عالقة مبا�شرة‬
‫تتج�س��د يف الر�ؤية واحل���س‪ ،‬وتقوم عالقته بامل��وت بينه وبني‬ ‫(�أماه هل �أفتح الباب كي يخرج املوت؟)‬
‫املوت عل��ى الوهم‪/‬التخييل‪ ،‬وتقوم عالق��ة الفاعل امل�ضاد‪/‬‬ ‫ت�ؤول العالقة بني ال��ذات واملو�ضوع �إىل عالقة فقدان من‬
‫امل��وت بالفاع��ل على الهيمن��ة‪ ،‬وتقوم عالقته م��ع الأم على‬ ‫جهة‪ ،‬بينما ت�ؤول بينها وبني املعار�ض �إىل ت�سليم ورجاء للرفق‬
‫احل�س �أي�ضا‪ ،‬يف حني تقوم عالقة الأم به على التخييل وعدم‬ ‫بالأم من جهة �أخرى‪.‬‬
‫الر�ؤي��ة‪ ،‬وتقوم عالقته ب��الأم عالقة الفاع��ل املنجز بال�ضحية‬ ‫�إن ال��ذات من خالل ما تقدم تدخ��ل يف �صراع �إ�شكايل‬
‫(القيمة امل�ستهدفة)‪.‬‬ ‫يف غاية التعقيد م��ع الفاعل (املنجز‪ /‬امل�ضاد)‪ ،‬فكيف ينت�صر‬
‫�إن لكل ذات م��ن هذه الذوات الفاعل��ة وظيفتها كذات‬ ‫يف �صراعه مع فاعل نوراين روحي غري فيزيائي وغري ُم ْد َر ٍك ال‬
‫حموري��ة يف البني��ة العاملي��ة‪ ،‬وم�سارها ال�س��ردي‪ ،‬وبرناجمها‬ ‫ُيرى!! وهو فاق��د للم�ؤهالت الأ�سا�سية التي جتعله قادرا على‬
‫الرام��ي �إىل تنفي��ذ م�شروع ما ع�بر وظيفة حم��ددة‪ .‬فوظيفة‬ ‫اجن��از م�شروع م��ا‪ ،‬ومع افتقاره ملوا�ضي��ع اجلهة هذه يدخل يف‬
‫الذات‪/‬االب��ن تتمث��ل �أوال يف نق��ل ال�سرد‪/‬احلكاي��ة التي‬ ‫مرحلة االرتباك النهائية‪ ،‬ويبقى وجوده كفاعل غري م�ؤهل‪� ،‬إن‬
‫وقع��ت‪ ،‬و�إي�صالها �إىل القارئ‪ ،‬فهو را ٍو م�شارك فيها‪� .‬أما وظيفة‬ ‫الذات ملزم حتى يكون ق��ادرا على اجناز التحول واالمتالك‬
‫‪35‬‬ ‫‪34‬‬
‫تاريخ ميالده‬ ‫الأم ف�إنها قائمة عل��ى ال�صراع املبا�شر مع املوت وال�صراع بني‬
‫�سنوات ال�صبا‬ ‫تنفي��ذ م�شروع التحول واالنتقال �إىل ع��امل ال�ضوء‪� ،‬أو البقاء‬
‫والكهولة»(((‪.‬‬ ‫يف عامل الظالم‪ ،‬وكذا االت�ص��ال باالبن‪ .‬وتقوم وظيفة املوت‬
‫�إن ال�ص��راع ب�ين الفاعل والفاعل امل�ض��اد �صراع حم�سوم‬ ‫على اال�شتغال على تيمات الو�صل والف�صل‪ ،‬ف�صل الأم عن‬
‫النتيج��ة �سلف��ا فالفاع��ل ال ي�ستطيع �إيقاف م�ش��روع الفاعل‬ ‫العامل امل�شتم��ل للأهل وال�سكن وو�صلها بعامل �آخر‪ ،‬وف�صل‬
‫امل�ضاد‪ ،‬وال ميلك �سوى الت�سليم فقط‪.‬‬ ‫االبن عنها وو�صله بغيابها‪.‬‬
‫�إن ه��ذه القوى تت�ص��ارع حول مو�ضوع قيم��ة واحد وهو‬
‫ب‪ .‬املكوِّن اخلطابي‪:‬‬
‫احلياة‪ /‬البقاء‪ ..‬فالفاعل ممتلك لوجود الأم‪ ،‬والفاعل امل�ضاد‪/‬‬
‫يف�ض��ي املكون ال�سردي الب�سيط ع��ادة �إىل املكون الأكرث‬ ‫امل��وت ي�سعى �إىل َف ْ�ص ِل ِه عنه وامتالك��ه بدال عنه‪ ،‬وهو بذلك‬
‫تعقي��دا‪ ،‬وهو املك��ون اخلطاب��ي‪� ،‬إذ يتم االنتق��ال من حتليل‬ ‫ين�ص ُب��ه فاعال مف َّو�ضَ اً‪ ،‬يخول له‬
‫ميار���س م�شروعا �شرعيا مطلقا ِّ‬
‫الن���ص باعتباره �سل�سلة م��ن احلاالت والتح��والت كعنا�صر‬ ‫انت��زاع املو�ضوع بطريقة غري قابلة للرتاجع‪ ،‬لأنه ميتلك تفوي�ضا‬
‫�ضابط��ة ملجموعة م��ن الأدوار العاملية ب�صفته��ا –هنا‪ -‬بنية‬ ‫مطلق��ا‪ ،‬وتوجيها �سماويا ال ميكن التخل��ي عنه‪ ،‬وهو ما جعل‬
‫�سردي��ة ‪� Structure narrative‬إىل «املك��ون اخلطابي كا�ستثمار‬ ‫ال��ذات مت�سائلة عرب �شبكة م��ن الأ�سئلة عن كيفية الت�صرف‬
‫داليل له��ذه البنية»(((‪ ،‬وميث��ل املكون اخلطاب��ي حلقة و�صل‬ ‫لإيقاف امل�شروع امل�ضاد‪ ،‬واملهدد له‪ ،‬لي�ستقر الأمر يف الو�ضعية‬
‫ب�ين البنية ال�سطحي��ة والبنية العميقة‪ ،‬من حي��ث �إنه يحدد‬ ‫اخلتامية �إىل الت�سليم املطلق والر�ضاء‪:‬‬
‫الداللة الأولي��ة للن�ص‪ ،‬ويتم عرب هذا املك��ون درا�سة ال�صور‬ ‫«ولكن نهرا كبريا‬
‫املحورية املتمف�صلة يف الن�ص‪ ،‬و�ضب��ط م�ساراتها التي تندمج‬ ‫ينابيعه �صدر �أمي‬
‫فيها وت�ؤ�س���س للت�شاكالت اخلطابية‪ ،‬ومن ث��م حتديد الأدوار‬ ‫يظل غزير احلنان‬
‫املو�ضوعاتية للممثلني‪.‬‬ ‫ملاذا يريد له املوت �أن يتوارى‬
‫((( عبد العزيز املقالح‪ ،‬كتاب الأم‪.21 :‬‬ ‫وان تبلع الأر�ض �أ�سماء ُه‬
‫((( �سعيد بنكراد‪ ،‬مدخل �إىل ال�سيميائية ال�سردية‪.78 :‬‬ ‫وخالياه‬
‫‪37‬‬ ‫‪36‬‬
‫وم��ن املفيد ذكره هن��ا �أن الن�ص كله �شبك��ة مت�ضامة من‬ ‫أ‪ .‬التجمعات الصورية‪:‬‬
‫ال�ص��ور‪ ،‬ولذل��ك ينبغ��ي عن��د التحلي��ل االكتف��اء ب�أكرثها‬ ‫ي�س��وق جرميا�س مثاال داال على ه��ذا النوع من الت�شكيل‬
‫متي��زا‪ ،‬وال بد من جتميعها وتعديلها م��ن �أجل �إعطائها �صياغة‬ ‫ال�ص��وري‪ ،‬وه��و �أن ال�شم�س تنتظ��م يف م�سارها جمموعة من‬
‫�سيميائية متجان�سة جلعلها �أكرث مطابقة ملتطلبات نحو �سردي(((‪.‬‬ ‫ال�صور‪ ،‬مثل الأ�شعة‪ ،‬والإ�شراق‪ ،‬واحلرارة‪� ..‬إلخ(((‪ ،‬وهذا يعني‬
‫وعليه ميكن �أن مني��ز بني �صورتني حموريتني ينبني الن�ص قيد‬ ‫�أن ال�ص��ورة اللفظية(*) تنمو منها احتم��االت داللية متعددة‪،‬‬
‫الدرا�س��ة منهما‪ ،‬وت�شكل ال�صور الباقية لواحق لها‪ ،‬وهوام�ش‬ ‫متعلق��ة بها‪ ،‬ناجتة عن بعدين اثنني‪� ،‬أولهما من خمزون املفردة‬
‫عليه��ا‪ ،‬تعززها وجتليها من جهة‪ ،‬وت�ضفي عليها عمقا من جهة‬ ‫املعجمي‪ ،‬الذي ن�ستطي��ع �أن جنده يف �أي معجم‪ ،‬والثاين ناجت‬
‫�أخ��رى‪ ،‬وهاتان ال�صورتان هما (ال�شتاء واملوت)‪ ،‬ي�ضم ال�شتاء‬ ‫عن الذاك��رة الثقافية‪ ،‬والبعد الت�أويلي للمفردة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬
‫�صورة الف�صول الأخرى‪ ،‬لنقرتح الأقرب �إليه منها وهو الربيع‬ ‫ال�سياق واال�ستعمال‪.‬‬
‫مثال‪ ،‬بينما ي�ضم املوت �صورة احلياة كذلك‪.‬‬
‫وال�صورة‪ /‬اللك�سيم تت�شكل من ثالث قواعد رئي�سية‪:‬‬
‫ت�برز �صورة ال�شتاء منذ جملت��ه االفتتاحية‪ ،‬ومتثل مفتاحا‬ ‫‪� -‬أولها‪� :‬شكل ال�صورة يف حد ذاتها‪.‬‬
‫دالليا حموري��ا للن�ص برمته؛ لأنه��ا ذات حمموالت متعددة‬ ‫‪ -‬والث��اين‪ :‬جذرها الن��ووي‪ ،‬وهو مادة ال�ص��ورة‪ ،‬ونواتها‬
‫مت�شظية‪ ،‬ف�إذا كانت ال�صورة حتتوي «على م�ضمون ثابت يحلل‬ ‫امل�ضمونية‪� ،‬إنه حمتواها الثابت‪.‬‬
‫دال على‬‫�إىل عنا�صره الأولية»((( فال�شتاء يف بنيته اللك�سيمية ٌّ‬ ‫‪� -‬أم��ا الثال��ث‪ :‬في�ش��كل م�ساراتها ال�صوري��ة التي متثل‬
‫الوقت‪ ،‬وتدل �صورت��ه النواتية‪/‬مادته على ف�صل من ف�صول‬ ‫وظيفته��ا وتوظيفها امل��ادي‪ ،‬فـ«ال�صورة وح��دة داللية‬
‫ال�سنة‪ ،‬بينما ت��زدوج املعاين يف م�ساراته ال�صورية‪ ،‬وتتمف�صل‬ ‫ذات م�ضم��ون ثابت‪ ،‬تعرف بنواته��ا الدائمة‪ ،‬وتتحقق‬
‫�إىل معان حقيقية ومع��ان جمازية‪ ،‬فاملعاين احلقيقية ت�شي ب�أنه‬ ‫�إ�ضماراتها ب�شكل خمتلف ح�سب ال�سياقات»(((‪.‬‬
‫((( ينظ��ر‪� :‬أ‪.‬ج غرميا���س‪ ،‬الفواعل‪ -‬املمثلون‪ -‬ال�صور‪ ،‬تـ‪ :‬عب��د احلميد بورايو‪� ،‬ضمن‬
‫كت��اب الك�ش��ف عن املعنى يف الن���ص ال�سردي‪ ،‬النظري��ة ال�سيميائي��ة ال�سردية‪ ،‬دار‬ ‫((( ينظر‪ :‬حممد النا�صر العجيمي‪ ،‬يف اخلطاب ال�سردي‪.80:،‬‬
‫ال�سبيل للن�شر والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ج‪ ،2 :‬ط‪2009 ،1 :‬م‪.46 :‬‬ ‫(*) وتعني‪ :‬املفردة املعجمية‪ ،‬وهناك من يرتجمها بال�صورة (اللك�سيمية)‪� ،‬أو اللك�سيم‬
‫((( ر�شي��د بن مال��ك‪ ،‬قامو�س م�صطلح��ات التحليل ال�سيميائ��ي للن�صو�ص‪ ،‬عربي‪-‬‬ ‫‪ ،lexem‬وكذا اللفظيم‪.‬‬
‫اجنليزي‪-‬فرن�سي‪ ،‬دار احلكمة‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪ .‬ط‪2000 ،‬م‪74 :‬‬ ‫((( فريق انرتوفرن‪ ،‬التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص‪.128 :‬‬

‫‪39‬‬ ‫‪38‬‬
‫وهو دال على اجلفاف واليبا�س وغياب الدفء‪:‬‬ ‫ف�صل م��ن ف�صول ال�سنة‪ ،‬بارد‪ ،‬ينقطع فيه املطر‪« /‬يف اليمن»‪،‬‬
‫«م�سكينة يف ال�شتاء ال�شوارع‬ ‫بينم��ا يظهر من املع��اين املجازية الذب��ول‪ ،‬واالنطفاء‪ ،‬وموت‬
‫ياب�سة من يدثرها‬ ‫الطبيعة‪ ،‬والغياب‪ ،‬وتف�صيل ذلك تبينه الرت�سيمة التالية‪:‬‬
‫من يج�س يديها‬ ‫ال�شتاء‬ ‫اللك�سيم (املفردة املعجمية) ‬
‫ف�صل‪/‬وقت‬
‫ويرخي عليها �ستار النهار‬ ‫ال�صورة النواتية (مادة ال�صورة) ‬
‫جتف البحريات‬
‫حني يجيء ال�شتاء»(((‪.‬‬ ‫معنى جمازي‬ ‫ ‬
‫م�سارات �صورية معنى حقيقي‬
‫فال�شت��اء يف معظم البل��دان –ومنها اليم��ن‪ -‬يحمل داللة‬
‫اجلدب‪ ،‬وموت الطبيعة امل�ؤقت‪ ،‬الناجت عن انقطاع املطر‪ ،‬وينتهي‬ ‫ذبول انطفاء موت‬ ‫ف�صل‪/‬وقت برد انقطاع املطر‬ ‫ ‬
‫موتها بذهابه تدريجيا لتع��ود �إىل زهوها وحياتها من جديد‪ ،‬من‬ ‫(غياب‪/‬كلي)‬ ‫(ح�ضور‪/‬جزئي)‬
‫هنا حتمل �صورة ال�شتاء �شحنة داللية مركبة فهي موظفة يف �سياق‬ ‫فاملكون ال�ص��ريف والنح��وي لل�صورة يف�ض��ي �إىل مادتها‪،‬‬
‫موت الأم‪ ،‬وذلك ي�شي بوع��ي �سيميائي عميق لهذه ال�صورة‪،‬‬ ‫الت��ي تف�ضي بدوره��ا �إىل طبقاتها العميق��ة الكامنة فيها‪ ،‬غري‬
‫ودالالتها اجلوهرية الت��ي ال ت�س ِّلم بوقوع �أمر املوت املطلق‪ ،‬و�إمنا‬ ‫�أنه��ا تكت�سب من �سياقها اجلديد وا�ستعمالها يف الن�ص معنى‬
‫ت�سلم باملوت امل�ؤقت ال��ذي ينتهي بانتهاء ف�صل جمدب لتعود‬ ‫جمازيا خمتلفا‪ ،‬فهي دالة على م�سارات �صورية خمتلفة �إ�ضافية‬
‫دورة الطبيع��ة وحتيا من جديد‪ ،‬وهو ما تلح عليه الذات ال�ساردة‬ ‫منها‪( :‬الوح�شة‪ ،‬الفراغ‪ ،‬انقطاع احلركة‪ ،‬الغياب)‪ ،‬من حيث‬
‫عرب ت�أكيدها يف احلالة اخلتامية‪ ،‬التي ال تنتهي مبوت الأم‪ ،‬بل �إنها‬ ‫�إن ال�شت��اء يف الن�ص يقوم بدور مو�ضوعاتي يتمثل يف هيمنته‬
‫ت�ضم��ر موتها وتعلن عن رغبة الأم يف االنتقال من عامل الظالم‬ ‫على اجلهات والأماكن بوجوده يف ال�سماء وعلى الأر�ض‪:‬‬
‫�إىل عامل ال�ضوء برغم حزنها لفراقها البيت والأهل‪ ،‬وك�أن املوت‬ ‫«يف ال�سماء‪،‬‬
‫ي�شبه حالة ال�شتاء الذي يبلغه ف�صل اخل�صب عند االنتقال �إىل‬ ‫على الأر�ض‪،‬‬
‫عامل ال�ضوء بعد املوت‪.‬‬ ‫(((‬
‫ما كان �إال ال�شتاء‪».‬‬
‫‪20‬‬ ‫((( امل�صدر نف�سه‪:‬‬ ‫((( عبد العزيز املقالح‪ ،‬كتاب الأم‪.20 :‬‬

‫‪41‬‬ ‫‪40‬‬
‫ذل��ك‪ -‬دالالت حافة‪ ،‬تتعدد بتعدد �سياق��ات وا�ستعماالت‬ ‫وميث��ل املوت يف الن���ص ال�صورة املحوري��ة الثانية‪ ،‬وتعرف‬
‫املفردة‪ ،‬وخمزونها الثقايف يف الذاكرة �إذ توحي بـ‪:‬‬ ‫بنواتها الثابتة‪ ،‬املتمثل��ة يف الإخافة‪ ،‬واالحتجاب عن الر�ؤية‪،‬‬
‫مقربة‪ -‬قرب‪ -‬جنازة‪ -‬ت�شييع‪ -‬حداد‪ -‬بكاء‪ -‬خوف‪ -‬رثاء‪-‬‬ ‫واالنقطاع عن العامل‪ ،‬واحلزن‪ ،‬وال�صمت‪ ،‬بينما يتمثل املعنى‬
‫غياب‪.‬‬ ‫املج��ازي للموت يف اجلمود‪ ،‬والغياب‪ ،‬والقوة‪ ،‬واالنتزاع‪ ،‬غري‬
‫�أنها تقدم يف الن�ص معنى خمتلفا من خالل الوظيفة املحورية‬
‫بالإ�ضاف��ة �إىل �أنها قد اكت�سب��ت يف الن�ص معنى املراوغة‪،‬‬ ‫املتمثل��ة يف انتزاع مو�ضوع القيم��ة امل�ستهدف من قبل االبن‬
‫فامل��وت يقوم بدور غر�ضي وظيفته التحوي��ل‪� ،‬إذ يحول م�سار‬ ‫ويتمث��ل يف حي��اة الأم‪ ،‬وف�ص��ل االب��ن عنه‪ ،‬وو�صل��ه بقيمة‬
‫ال��ذات من امت�لاك لوج��ود الأم �إىل فقدان له��ذا الوجود‪،‬‬ ‫اليتم‪.‬‬
‫وحتويل االبن �إىل عامل اليتم من جهة‪ ،‬ونقل الأم من حالة �إىل‬ ‫وبالإ�ضافة �إىل هذه الوظيفة ف�إن معجم «املفردات يف غريب‬
‫�أخرى من حالة ال�صحوة امل�ؤقتة �إىل عامل ال�صحوة الأبدية‪.‬‬ ‫القر�آن» يحدد �أن��واع املوت بح�سب �أنواع احلياة‪ ،‬وي�صنفها يف‬
‫�إن هاتني ال�صورتني ‪-‬كما �أ�شرنا‪ -‬متثالن حمورين رئي�سيني‪،‬‬ ‫خم�سة �أنواع(((‪:‬‬
‫يت�ضام��ان‪ ،‬ويتداخ�لان من جه��ات �شتى‪ ،‬فال�شت��اء غياب‪،‬‬ ‫‪ -‬فالأول‪ :‬ما هو ب���إزاء القوة النامية املوجودة يف الإن�سان‬
‫وامل��وت غياب‪ ،‬وكالهما جمود وحتول م��ن حالة �إىل �أخرى‪،‬‬ ‫واحليوان والنبات‪..‬‬
‫وبذلك تغدو �صور الن�ص �شبكة واحدة‪.‬‬ ‫‪ -‬والثاين‪ :‬زوال القوة احلا�سة‪.‬‬
‫وتكمن وظيفة ال�صورتني ال�سياقي��ة والوظيفية يف تكثيف‬ ‫‪ -‬والثالث‪ :‬زوال القوة العاقلة‪.‬‬
‫حالة الفق��دان‪ ،‬وهيمنة م�س��اري الغياب واجلم��ود‪ ،‬ومن ثم‬ ‫‪ -‬والرابع‪ :‬احلزن املكدر للحياة‪.‬‬
‫تقدمي حالة الذات املرتبك��ة يف حزنها‪ ،‬ووجعها‪ ،‬الناجتني عن‬ ‫‪ -‬واخلام�س‪ :‬املنام‪.‬‬
‫انتزاع املوت ملو�ضوعها‪.‬‬ ‫�إن ه��ذا التع��دد املعجم��ي يف م�س��ار ال�ص��ورة يدل على‬
‫خ�صبها الداليل وعل��ى �سعتها التداولية‪ ،‬ولها ‪-‬بالإ�ضافة �إىل‬
‫ب‪ .‬املسارات الصورية‪:‬‬
‫((( ينظ��ر‪� :‬أبو القا�سم احل�سني بن حممد املع��روف بالراغب الأ�صفهاين‪ ،‬املفردات يف‬
‫متثل امل�سارات ال�صورية جمموعة من املتواليات اخلطابية‪/‬‬ ‫غري��ب الق��ر�آن‪ ،‬حتقيق و�ضبط‪� :‬سيد كي�لاين‪ ،‬دار املعرفة للطباع��ة والن�شر والتوزيع‪،‬‬
‫ال�صوري��ة املت�شابك��ة التي يف�ضي بع�ضه��ا �إىل بع�ض‪ ،‬ويحيل‬ ‫د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪.477 ،476 :‬‬

‫‪43‬‬ ‫‪42‬‬
‫ومعنى هذا �أن ال�صور ل�صيقة باملفردات وخزائنها املعجمية‬ ‫بع�ضه��ا �إىل بع���ض‪ ،‬وينتج بع�ضه��ا عن بع���ض‪ ،‬ويجمع بينها‬
‫والداللي��ة والثقافية‪ ..‬بينما امل�س��ارات ال�صورية متعلقة ببنى‬ ‫خي��ط رفيع و�أوجه �شب��ه متعددة‪ ،‬لتندرج حت��ت حمور واحد‬
‫اخلط��اب وا�ستعماالتها فيه‪ ،‬وعالقاته��ا مع غريها‪ ،‬ووفقا لهذه‬ ‫ميك��ن ت�سميته حق�لا دالليا‪ ،‬ويعرفه جرميا���س ب�أنه «جمموعة‬
‫املنطلقات املنهجية جند �أن الن�ص ينتظم وفق م�سارين �صوريني‪،‬‬ ‫�ص��ور متالحم��ة ي�شد بع�ضه��ا بع�ضا‪ ،‬ويحي��ل بع�ضها [�إىل]‬
‫الأول تتمف�صل فيه جمموعة من ال�صور من �أهمها‪:‬‬ ‫بع���ض‪ .‬فال�سي��ارة والقط��ار واحلافل��ة والطائرة ت�ؤل��ف م�سارا‬
‫�صوري��ا يحمل عن��وان «و�سائل نق��ل»(((‪ ،‬وقد ال جن��د م�سارا‬
‫«م��ا كان �إال ال�شتاء‪ -‬ال�شوارع خالي��ة‪ -‬كنت وحيدا �أمام‬ ‫�صوريا واحدا يف الن�صو�ص بل تتعدد امل�سارات ال�صورية فيها‬
‫ال�سري��ر‪ -‬هل �أفتح الب��اب‪ -‬ال �أحد يف النواف��ذ‪ -‬ياب�سة من‬ ‫لتجتم��ع يف نقاط و�أوجه م�شرتكة بينهما‪ ،‬ترد يف �شكل «جتمع‬
‫يدثره��ا‪ -‬جتف البح�يرات‪ -‬تبل��ع الأر�ض �أ�سم��اءه‪� -‬ساكنة‬ ‫خطاب��ي» ‪ Configuration Discurisive‬ماثل بالقوة يف اخلطاب‬
‫الظل»‪.‬‬ ‫املعط��ى»(((‪ ،‬ومعنى هذا �أن الوح��دات اللك�سيمية املعجمية‬
‫كل ه��ذه امل�س��ارات ال�صورية تت�آزر فيما بينه��ا‪ ،‬ومتثل �أفقا‬ ‫للم�س��ارات ال�صورية قد ال تت�شابه �أو تتطابق متاما‪ ،‬لكن يجمع‬
‫متناميا للن�ص‪ ،‬تت�سع دالالته بات�ساع م�ساراته ال�صورية‪ ،‬فخلو‬ ‫بينه��ا وج��ه �شبه ما‪ ،‬وتنتظ��م كلها وفق ن�سق واح��د‪ ،‬وت�ؤدي‬
‫ال�ش��وارع �إال من ال�شتاء‪ ،‬والوحدة‪ ،‬وف��راغ النوافذ‪ ،‬وجفاف‬ ‫حمورا فكريا واح��دا‪ ،‬وت�سمى الب�ؤرة اجلامعة لهذه الوحدات‬
‫البح�يرات‪ ،‬و�سكون الظ��ل»‪ ،‬كله��ا م�سارات تر�س��م امل�سار‬ ‫املعجمية بال��ـ «جتمعات اخلطابية» وهي على عك�س امل�سارات‬
‫املتنامي للن�ص‪ ،‬ووحداته املكثفة وتعرب عن اجلمود من جهة‪،‬‬ ‫ال�صورية املحققة تبعا لظهورها للعيان تبدو «جمردة نطلع عليها‬
‫وعن الف��راغ من جهة �أخرى‪ ،‬واجلم��ود والفراغ هذين وهما‬ ‫من خالل جت�سيدنا �إياها باالقرتاب من الفكرة العامة املقولبة‬
‫التجم��ع اخلطاب��ي الأويل له��ذه امل�سارات يق��ودان �إىل قيمة‬ ‫للخط��اب‪ ،‬والتي تعد الهيكل الأ�سا�س ل��ه حتى يت�سنى لنا‬
‫الوح�ش��ة الناجتة ع��ن املوت بو�صفه فاعال م�ض��ادا والتي تقع‬ ‫الإم�ساك بال�شكل املنظم للمحتوى»(((‪.‬‬
‫حت��ت �ضغطها الذات‪ ،‬ومتث��ل الوح�شة هن��ا التجمع اخلطابي‬ ‫((( حممد النا�صر العجيمي‪ ،‬يف اخلطاب ال�سردي‪.79 :‬‬
‫الث��اين لهذه امل�سارات‪ ،‬فالتجمع اخلطاب��ي الأول يف�ضي �إىل‬ ‫((( نادية بو �شفرة‪ ،‬مباحث يف ال�سيميائية ال�سردية‪ ،‬دار الأمل للطباعة والن�شر والتوزيع‬
‫جتمع خطابي ثان‪ ،‬ويتمثل ذلك وفق الرت�سيمة التالية‪:‬‬ ‫تيزي وزو‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪.83 :‬‬
‫((( املرجع نف�سه‪.84 :‬‬

‫‪45‬‬ ‫‪44‬‬
‫تتنامى ه��ذه ال�صور‪ ،‬وي�ؤدي كل منه��ا �إىل ما يليها‪ ،‬فتعرب‬ ‫ما كان �إال ال�شتاء‪ -‬ال�شوارع خالية‪ -‬كنت وحيدا‪ -‬ال �أحد يف النوافذ‪...‬‬
‫الأوىل عن فقدان املاء بو�صفه حمتواها وجوهرها‪ ،‬وتعرب الثانية‬
‫عن فقدان الذات ملو�ضوع قيمتها (النهر الذي م�صدره �صدر‬ ‫التجمع اخلطابي (�أ)‪:‬‬
‫الأم) (احلنان احلب ال��دفء‪ ،)..‬وكذلك م�سار تبلع الأر�ض‬ ‫اجلمود‪/‬الفراغ‪.‬‬
‫�أ�سم��اءه الذي يعرب ع��ن فقدان للأ�سم��اء بو�صفها هوية دالة‬
‫وو�سم��ا‪ ..‬و�صورة الكهول��ة التي تدل على فق��دان ال�شباب‬ ‫التجمع اخلطابي (ب)‪:‬‬
‫بو�صفه القوة التي ت��زرع الن�شاط واحليوية يف الروح واجل�سد‪،‬‬ ‫الوح�شة‪/‬اخلوف‪.‬‬
‫بل ه��و جوهرهما مع��ا‪ ،‬وتدعمها �ص��ورة «مل يع��د ج�سدا»‪،‬‬ ‫�إمن��ا ينظم ويجمع ه��ذه امل�سارات ال�صوري��ة �أنها دالة على‬
‫وبذلك يكون التجمع اخلطاب��ي الذي ي�صل بني هذه ال�صور‬ ‫اجلم��ود والفراغ‪ ،‬فه��ي ‪-‬وفقا لذلك‪ -‬ت�ش��كل عائلة واحدة‬
‫ويخلق م�سارها املوحد هو «الفقد»‪.‬‬ ‫للوح�شة واخلوف‪.‬‬
‫ويجم��ع هذين امل�سارين ال�صوريني جام��ع واحد‪ ،‬وهو �أنهما‬ ‫نخل���ص م��ن �شكل ه��ذه الرت�سيم��ة وحمتوياته��ا �إىل �أن‬
‫يدعمان التجمعات ال�صورية‪ ،‬ويحيالن �إليها‪ ،‬وبذلك ف�إن عالقة‬ ‫امل�سارات ال�صورية هي م��ن متنحنا عنوان جتمعها اخلطابي‪� ،‬أو‬
‫الت�شارك والف�صل والو�صل والتحويل هي اجلامع بني التجمعات‬ ‫مبعنى �آخر �شكل اجلامع امل�شرتك فيما بينها‪.‬‬
‫اخلطابية وامل�سارات وال�صور‪ ،‬ف�إذا كان ال�شتاء ميثل فاعال منجزا‬
‫يقوم بوظيفة حتويل ُف ْ�ص ِلي �أي َف ْ�صل الطبيعة عن حياتها وو�صلها‬ ‫�أم��ا امل�سار ال�ص��وري الآخ��ر يف الن�ص ف�إن��ه يت�شكل من‬
‫باجلدب‪/‬موتها‪ ،‬ف�إن امل��وت ميثل فاعال منجزا كذلك‪ ،‬ومهمته‬ ‫جمموع��ة ال�ص��ور املتعددة احلم��والت الداللية‪ ،‬غ�ير �أن ما‬
‫القيام بتحويل ُف ْ�ص ِل ٍّي يتمثل يف ف�صل الفاعل‪/‬الذات‪ /‬االبن‬ ‫يهيمن على دالالتها هو ان�صبابها يف حمور ي�ؤازر املكون العام‬
‫عن مو�ضوعها (وجود الأم)‪ ،‬وو�صلها مبو�ضوع م�ضاد‪ ،‬وهو اليتم‪،‬‬ ‫للن�ص م��ن جهة ومكون م�سارها املقرتح م��ن جهة ثانية ومن‬
‫وك��ذا ف�صل الأم ع��ن حياتها الدنيوية وو�صله��ا بحياة �أخرى‪،‬‬ ‫�أهم هذه امل�سارات ال�صورية‪:‬‬
‫ويجم��ع هاتني ال�صورت�ين �أنهما ميثالن دوري��ن غر�ضيني‪ ،‬من‬ ‫«جت��ف البحريات‪ /‬نهرا كبريا‪ ..‬يريد له املوت �أن يتوارى‪/‬‬
‫حيث �إنهما يقومان بت�أدية �أفعال حتويل‪ ..‬م�ؤقتة ولي�ست نهائية؛‬ ‫تبلع الأر�ض �أ�سماءه‪ /..‬الكهولة‪ /‬مل يعد ج�سدا‪»..‬‬
‫‪47‬‬ ‫‪46‬‬
‫القلب‪ ...‬البنيات العميقة ه��ي �أكرث ابتعادا عن املو�ضوعات‬ ‫فال�شت��اء يعقبه حتول‪ ،‬وات�صال بف�صول �أخرى‪ ،‬وبذلك ت�ستعيد‬
‫املو�صوفة‪� ،‬أكرث عموم َّية‪ .‬فالأمر يتع َّلق هنا مب�ستوى حتتي‪ ،‬يوافق‬ ‫الطبيعة دورتها وحياتها‪ ،‬واملوت يعقبه فعل حياة �أبدية فت�ستعيد‬
‫تقديرا �إدراكا جممال لعامل داليل حمدد‪.(((».‬‬ ‫الأم بعد ذلك حياتها‪..‬‬
‫يه��دف امل�ست��وى العمي��ق �إذن �إىل «�إ�ضف��اء متثيل منظم‬
‫ومنطقي على �شكل امل�ضمون»(((‪ .‬يعاد من خالله بناء ال�سنن‬ ‫‪ .2‬البنية العميقة‪:‬‬
‫الذي يحك��م وميف�صل وينظم ما �أُ َّ‬
‫ع��د يف البنى ال�سطحية(((‪.‬‬ ‫�إذا كان��ت وظيفة البنية ال�سطحي��ة تتمثل يف الك�شف عن‬
‫ويت��م تن��اول الن�صو���ص يف البنية العميق��ة بوا�سط��ة �آليتي‬ ‫�أ�ش��كال املعنى عرب البن��ى املتمظه��رة (‪/‬املتجلية‪/‬امللمو�سة)‪،‬‬
‫«الوحدات الداللية ال�صغ��رى» وكذا «املربع ال�سيميائي» وما‬ ‫بوا�سطة الربامج وامل�سارات ال�سردية‪ ،‬وما يحدث فيها من حاالت‬
‫وحتوالت ب�ين العوامل‪ ،‬وموا�ضيعها‪ ،‬وم�ؤهالتها‪ ،‬وقدراتها على‬
‫بينهما من �آليات تابعة لهما‪.‬‬
‫االجناز؛ ف���إن البنى العميقة تهتم بالك�شف عن �أ�شكال املعنى‬
‫أ‪ .‬الوحدات الداللية الصغرى‪:‬‬ ‫يف بنياته املحايثة‪ ،‬عرب مف�صلة للوحدات املحورية يف الن�ص‪ ،‬وما‬
‫ال وج��ود لألفاظ م�ستقل��ة مبفردها‪ ،‬وال ت�شتغ��ل الألفاظ‬ ‫ينتج عنها من تخالفات‪ ،‬ومتاثالت‪ ،‬وت�ضادات‪� ...‬إلخ‪.‬‬
‫وحي��دة مبعزل عن بقية الألفاظ‪� ،‬إ ْذ البد من عالقة رابطة بني‬ ‫�إن بني��ة ال�سطح تعود «�إىل املجال القابل للمالحظة وتعترب‬
‫لفظ و�آخر‪ ،‬وهذا يعني �أن ثمة لفظني متزامنني‪ ،‬و�أن ثمة عالقة‬ ‫مقدرة يف امللفوظ‪ .‬يالحظ مع ذلك �أن‬ ‫[‪ ...‬البنية العميق��ة] َّ‬
‫بني هذين اللفظني(((‪« ،‬فال�صور ‪-‬يف �أي لغة ما‪ -‬تقيم عالقات‬ ‫م�صطل��ح العمق حامل لإيح��اءات �أيديولوجية بفعل �إحالته‬
‫فيما بينه��ا‪ ،‬وترتبط‪ ،‬وتتجم��ع‪� ،‬أو تتقاب��ل‪� ،‬أو تق�صي بع�ضها‬ ‫�إىل �سيكولوجية الأعماق‪ ،‬ولأن معناه يقرتب دائما من معنى‬
‫الأ�صالة»(((‪.‬‬
‫((( جوزيف كورتي�س‪ ،‬الأ�شكال ال�سردية‪ ،‬تـ‪ :‬عبد احلميد بورايو‪.189 ،188 :‬‬
‫ويو�صف هذا امل�ستوى بالعمق لأنه « ُي ْد َر ُك بو�صفه م�ضمرا‬
‫((( ج��ان كلود جريو‪ ،‬ول��وي بانينيه‪ ،‬ال�سيميائي��ة نظرية لتحليل اخلط��اب‪ ،‬تـ‪ :‬ر�شيد‬
‫ب��ن مالك‪ ،‬مراجعة وتقدمي‪ :‬عز الدين املنا�صرة‪� ،‬ضم��ن كتاب‪ :‬ال�سيميائيات �أ�صولها‬
‫يف اخلط��اب املحل��ل‪ ،‬وهو فيه مبثاب��ة اخلال�ص��ة‪� ،‬أو بالأحرى‬
‫وقواعدها‪ ،‬من�شورات االختالف‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪2002 ،‬م‪.120 :‬‬
‫((( �أ‪.‬ج‪ .‬غرميا�س‪ ،‬و ج‪ .‬كورتي�س‪ ،‬تعريفات ا�صطالحية‪ ،‬تـ‪ :‬عبد احلميد بورايو‪� ،‬ضمن‬
‫((( ينظر‪ :‬فريق انرتوفرن‪ ،‬التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص ‪.155 :‬‬ ‫كت��اب الك�ش��ف عن املعنى يف الن���ص ال�سردي‪ ،‬النظري��ة ال�سيميائي��ة ال�سردية‪ ،‬دار‬
‫((( ينظر‪ :‬املرجع نف�سه‪.171 :‬‬ ‫ال�سبيل للن�شر والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ج‪ ،2 :‬ط‪2009 ،1 :‬م‪.7 :‬‬

‫‪49‬‬ ‫‪48‬‬
‫ينابيعه �صدر �أمي‬ ‫البع���ض بف�ضل �سياقاته��ا امل�شرتكة‪� ،‬أو املختلف��ة»(((‪ ،‬وتكون‬
‫يظل غزير احلنان»(((‪.‬‬ ‫البن��ى العالئقية بني كل لفظ‪�/‬ص��ورة و�آخر متعددة‪ ،‬وال يتم‬
‫�إدراك بع�ضه��ا �إال من خالل هذه العالق��ات التي تكون �إما‬
‫تتجل��ى ال�ص��ور ال�سابقة متمف�صل��ة يف ملفوظات اخلطاب‬
‫عالقات تقابل �أو اختالف‪:‬‬
‫الذي ينبني على �صورتني حموريتني‪ ،‬متمف�صلتني فيه ب�شكل‬
‫رئي�س��ي‪ ،‬يجمعهم��ا قا�سم م�ش�ترك واحد‪ ،‬وتف�ص��ل بينهما‬ ‫موت‪/‬عك�س‪/‬حياة‬
‫قوا�سم �أخ��رى‪ ،‬فالبحريات يف �أب�س��ط تعريفاتها �أنها جتمعات‬ ‫بحرية‪/‬عك�س‪/‬جفاف‬
‫مائية راكدة‪� ،‬أو تتحرك ببطء‪� ،‬أما النهر فهو جمرى مائي يت�سم‬ ‫�شباب‪/‬عك�س‪/‬كهولة‬
‫بال�سيولة‪ ،‬واحلركة‪ ،‬وعدم الثبات‪...‬‬
‫ح�ضور‪/‬عك�س‪ /‬غياب‬
‫وم��ن خالل هذين التعريفني الب�سيط�ين لكال ال�صورتني‬
‫�إن العالقة بني املوت واحلياة عالقة عك�سية‪ ،‬وهذه العالقة‬
‫ن�ستطي��ع تفكيكهما �إىل وحداتهم��ا الداللية بوا�سطة امليزات‬
‫تنت��ج عالقة داللي��ة رابطة بينهما‪ ،‬تقت�ض��ي وجودها وت�سمى‬
‫الت��ي يحتويه��ا كل منهم��ا يف ذات��ه‪� ،‬أو الت��ي يكت�سبها من‬
‫بـ «املح��ور الداليل» ‪ ،axe sémantique‬وه��و هنا املحور الرابط‬
‫ال�سياقات التي وردت فيها‪:‬‬
‫بني امل��وت واحلياة ه��و الوجود‪/‬ال�صراع بني البق��اء والفناء‪،‬‬
‫‪ .1‬طبيعيات‪/‬ن�سبة �إىل الطبيعة‪.‬‬ ‫وه��و ناجت عن عالق��ة تراتبية تف�ضي حالته��ا الأولية �إىل التي‬
‫‪ .2‬من نف�س املواد املكونة‪.‬‬ ‫تليه��ا بال�ضرورة‪ ،‬وكذا تق��وم العالقة ب�ين البحرية واجلفاف‬
‫‪ .3‬يحمالن معاين اخل�صب والتدفق‪.‬‬ ‫على العالق��ة العك�سية‪ ،‬ويربط بينهما حمور داليل واحد‪ ،‬هو‬
‫ومع احت��واء هاتني ال�صورتني له��ذه املوا�صفات املت�شابهة‬ ‫اخل�صب واجلدب‪ ،‬ومثلها البقية‪:‬‬
‫املت�شاكلة �إال �أنهما حتمالن قيما خالفية تفرتقان فيها‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫«جتف البحريات‬
‫‪ -‬النه��ر‪ :‬جار‪ -‬ال يج��ف‪ -‬ا�ستمرار‪ -‬عذوب��ة‪ -‬حركة‪-‬‬ ‫حني يجيء ال�شتاء‬
‫ات�صال‪.‬‬
‫ولكن نهرا كبريا‬
‫((( عبد العزيز املقالح‪ ،‬كتاب الأم‪.21 ،20 :‬‬ ‫((( املرجع نف�سه‪.157 :‬‬

‫‪51‬‬ ‫‪50‬‬
‫ميث��ل املحور الداليل العنا�صر امل�شرتكة بني ال�صور‪ ،‬وميكن‬ ‫‪ -‬البحرية‪ :‬راكدة‪ -‬قد جتف‪ -‬ق��د تكون ماحلة‪َ -‬ت َو ُقف‪-‬‬
‫�إدراك العنا�ص��ر امل�شرتكة هنا طبقا للتقابل بني هذه العنا�صر‪،‬‬ ‫(�أو حركة ن�سبية)‪/‬انقطاع‪.‬‬
‫وطبق��ا للتمف�صل القائم بينهما‪ ،‬فاملح��ور الداليل بينهما طبقا‬ ‫وال ت�ستق��ر هاتان ال�صورتان على موا�صفاتهما القارة فيهما‬
‫للتقابل الناجت عن طريق الوحدات املعجمية ال�سياقية هو‪:‬‬ ‫فقط‪ ،‬بل تكت�سبان �أخرى من ال�سياقات‪:‬‬
‫‪� -‬أن البح�يرات طبيعي��ة (يحولها ال�شت��اء �إىل اجلدب‪/‬‬ ‫‪ -‬البحريات‪ :‬مو�صوفة بالكرثة‪ ،‬جافة‪ ،‬م�صدرها الطبيعة‪،‬‬
‫املوت)‪.‬‬ ‫�سبب جفافها طبيعي‪(/‬جميء ال�شتاء)‪.‬‬
‫‪� -‬أن النه��ر ب�شري (فينابيعه �ص��در �أمي‪/‬احلنان‪/‬احلب‪/‬‬ ‫‪ -‬النه��ر‪ :‬واحد‪ ،‬ال ج��اف‪ ،‬م�صدره �ص��در الأم‪� ،‬سبب‬
‫الدفء‪ /‬الذي يقابل الق�سوة الناجتة عن فعل املوت)‪.‬‬ ‫جفاف��ه املفرت�ض (مالئكي‪/‬اله��ي) املوت‪ ،‬وهو ب�شري‬
‫فالتقاب��ل ب�ين النه��ر واجلفاف يت��م �إدراكه عل��ى املحور‬ ‫عك�س طبيعي‪.‬‬
‫الداليل‪/‬تقلب��ات الطبيعة‪ ،‬فالطبيع��ة ذات حالة‪/‬البحريات‬ ‫�إن ه��ذه الوح��دات ال�سياقية املعجمي��ة ال تقف عند هذا‬
‫وال�شت��اء ذات فع��ل حم ِّول للبح�يرات من حال��ة االت�صال‬ ‫احلد بل متتد لتتجلى يف م�سارات متعددة‪:‬‬
‫(وجود املاء)‪� ،‬إىل حالة االنف�صال (اجلفاف)‪ ،‬وهذه يف �شكلها‬ ‫‪ -‬البحريات‪ :‬فيزيائية‪ -‬مائية‪ -‬ح�سية‪/‬الطبيعة‪.‬‬
‫الأويل متعلقة بالطبيعة‪..‬‬
‫‪ -‬النهر‪ :‬ج�سدي‪ -‬ب�شري‪ -‬عاطفي‪/‬حنان الأم‪/‬م�شاعر‪.‬‬
‫ويت��م �إدراك التقاب��ل بني «حن��ان» و«ق�س��وة» على املحور‬
‫الداليل للعواطف‪ ،‬وهي متعلقة بالأم‪.‬‬ ‫وثم��ة جامع م�شرتك ميي��ز ال�صورة الأوىل ع��ن الثانية وهو‬
‫�أنها �إن�سانية عك�س طبيعية‪�/‬ش��يء وي�سمى هذا اجلامع املميز‬
‫ميكن توافقها على حمور داليل �آخر وهو الفناء (اجلفاف)‪،‬‬ ‫لكليهما بالنظري(*) الداليل‪.‬‬
‫فالبح�يرات والنهر م�صريهما يف الن���ص التحول‪ ،‬وهو بالطبع‬
‫حت��ول �آين يتم بع��ده اال�ستع��ادة‪ ،‬واالت�ص��ال باملو�ضوع من‬ ‫املحور الداليل لهاتني ال�صورتني‪:‬‬
‫جدي��د‪ ،‬وال�شتاء هو الفاعل القائم مب�ش��روع حتويل البحريات‬ ‫(*) هن��اك من يرتجمه بالقطب‪ ،‬والنظري‪ :‬هو تكرار �سمات �صغرى يف ن�ص ما‪ ،‬ت�ضمن‬
‫ان�سجامه ومتا�سك��ه‪ ،‬وينق�سم النظري �إىل نظري داليل ونظ�ير �سيميائي‪ ،‬فالنظري الداليل‬
‫وو�صلها باجلفاف‪ ،‬يف ح�ين �أن املوت هو الفاعل الذي ي�صل‬ ‫ه��و الناجت عن تك��رار وحدات �سياقية‪ ،‬بينم��ا النظري ال�سيميائي ه��و تكرار ال�سيمات‬
‫النهر باجلفاف �أي�ضا‪.‬‬ ‫النواتية‪.‬‬

‫‪53‬‬ ‫‪52‬‬
‫�إذا كان��ت العالق��ات فيما �سب��ق قائمة عل��ى مالب�سات‬ ‫اكتفينا يف حتليلنا بهاتني ال�صورتني من جملة �صور متعددة؛‬
‫االخت�لاف القائمة ب�ين ميزتني �أ�سا�سيتني فق��ط؛ ف�إن املربع‬ ‫لأنهما مركبتان‪ ،‬حتمالن موا�صفاتهم��ا وبال�ضرورة موا�صفات‬
‫ال�سيميائي «ميثل العالقات الرئي�سية التي تخ�ضع لها بال�ضرورة‬ ‫�صورت�ين تت�ضمنانهما وتت�ص�لان بهما ات�ص��اال مبا�شرا هما‪:‬‬
‫وح��دات املدلولية حتى تتمكن م��ن توليد ف�ضاء داليل قادر‬ ‫احلي��اة مقاب��ل املوت‪ ،‬وال�شت��اء بو�صفه ف�صل ج��دب مقابل‬
‫عل��ى التجل��ي»(((‪ ،‬وال يتم ذلك �إال عرب مف�صل��ة امللفوظات‪،‬‬ ‫الف�صول الأخرى‪.‬‬
‫والوحدات اخلطابية‪ ،‬بغية حتديد �أ�شكال املعاين‪ ،‬عرب املرور من‬
‫ب‪ .‬املربع السيميائي‪:‬‬
‫بن��ى التجلي يف ال�سطح �إىل البني املحايثة يف الن�ص‪ ،‬بوا�سطة‬
‫ميثل املرب��ع ال�سيميائي جت�سي��دا حيا للقي��م واملو�ضوعات‬
‫�إعادة بناء العالقات ومف�صلته��ا؛ لأن املدلولية ال تتحقق �إال‬
‫املتمف�صل��ة يف الن�ص‪ ،‬فهو يعيد مف�صلته��ا وتفكيكها تفكيكا‬
‫على �أ�سا�س االختالف‪ ،‬وال ي�ستوعب املعنى �إال �إذا متف�صل‪،‬‬
‫منطقي��ا‪�« ،‬إن املربع منا�سب لتمثيل تداخ��ل العالقات مابني‬
‫�إن العالق��ات تتع��دد وتت�سع عند ا�ستثم��ار املربع ال�سيميائي‬
‫الوظائف‪ ...‬وبني الأ�شياء واملو�ضوعات»(((‪ ،‬ومن هنا ف�إن عملية‬
‫ووظائفه التي ت�ساعد على ا�ستثمار طاقات ال�سيمات ومن ثم‬
‫اختي��ار ال�صور وو�ضعها يف حم��اور املرب��ع ال�سيميائي لي�ست‬
‫تنفيذها على املربع ال�سيميائ��ي؛ لأنه هو الذي ي�ساعد «على‬
‫عملي��ة ع�شوائي��ة‪ ،‬وال ارجتالي��ة‪ ،‬ولكن لأنها متث��ل �أوال �صورا‬
‫متثي��ل العالقات التي تعق��د بني هذه الوح��دات بغية �إنتاج‬
‫املدلوالت التي مينحها الن�ص لقرائه»(((‪.‬‬ ‫حموري��ة ومهيمن��ة يف الن�ص‪ ،‬وكذا قيم��اً �أو مو�ضوعات مهمة‬
‫في��ه‪ ،‬كما �أنها قد متث��ل عوامل محُ َ ِّركة للبن��ى الن�صية برمتها‪،‬‬
‫ميكن مف�صلة ال�سيمات‪/‬ال�صور املحورية يف الن�ص وعالقاتها‬ ‫فـ«املرب��ع ال�سيميائي هو من��وذج تق�سيمي ي�سمح بتمثيل ن�سق‬
‫القائمة فيما بينها على املربع ال�سيميائي حتى يتم التو�صل �إىل‬ ‫من القيم‪ ،‬الذي ينظم العامل الداليل الأدنى‪ ،‬والذي هو مم�سرد‬
‫عالقاتها املحورية �أوال‪ ،‬و�إىل �أ�شكال معانيها ثانيا‪ ،‬و�أول العالقات‬ ‫ال�سردي»(((‪.‬‬
‫التي ميكن حتديدها يف الن�ص هي العالقة القائمة بني الوحدات‬ ‫يف امل�ستوى امل�ؤن�سن تبعا ل�ضرورات الرتكيب ّ‬
‫ال�صغرى (احلياة‪/‬املوت) باعتبارهما حموري الن�ص الرئي�سيني‪،‬‬
‫((( داني��ال باط‪ ،‬املربع ال�سيميائ��ي والرتكيب ال�سردي‪ ،‬تـ‪ :‬عبد احلميد بورايو‪� ،‬ضمن‬
‫‪.174‬‬ ‫((( فريق انرتوفرن‪ ،‬التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص‪:‬‬ ‫كتاب الك�شف عن املعنى يف الن�ص ال�سردي‪ ،‬النظرية ال�سيميائية ال�سردية‪152 :‬‬

‫((( املرجع نف�سه‪174 :‬‬ ‫((( دانيال باط‪ ،‬املربع ال�سيميائي والرتكيب ال�سردي‪151 :‬‬

‫‪55‬‬ ‫‪54‬‬
‫فال وج��ود لأحدهما م��ع الآخر متزامن�ين �إطالقا‪� ،‬إن‬ ‫وباعتب��ار �أحدهما مو�ضوع قيمة �إيجاب��ي والآخر مو�ضوع قيمة‬
‫وجود �أحدهما يعني غياب الآخر بال�ضرورة‪.‬‬ ‫�سلبي‪� ،‬أو مو�صل �إىل مو�ضوع قيمة �سلبي‪:‬‬
‫‪ -‬وتربز (عالقة الت�ضاد) بني حياة وموت‪ ،‬فاحلياة �ضد املوت‪،‬‬ ‫موت‬ ‫حياة‬
‫والعك�س‪ ،‬غري �أن وجود املوت يفر�ض وجود احلياة‪� ،‬أي �أن‬
‫ذكر �أحدهما يفر�ض وجود الآخر‪ ،‬بالرغم من �أنهما غري‬
‫متوافقني ويقومان على الت�ضاد الذي ي�ستعمل «للداللة‬ ‫ال موت‬ ‫ال حياة‬
‫عل��ى عالقة الت�ضمن املتبادل��ة‪ ،‬واملوجودة بني عن�صري‬
‫املح��ور الداليل؛ ين�ش���أ الت�ضاد عندم��ا يت�ضمن ح�ضور‬ ‫تنتظ��م العالق��ات بني ه��ذه الوح��دات وفق��ا للرتاتب‪،‬‬
‫عن�صر ح�ض��ور عن�صر �آخر‪ ،‬والعك���س �صحيح‪ ،‬وعندما‬ ‫والت�ضمن‪ ،‬والتناق�ض‪ ،‬والت�ضاد‪.‬‬
‫يت�ضمن غياب عن�صر غياب عن�صر �آخر»(((‪.‬‬
‫‪ -‬فـ(عالق��ة الرتات��ب) تكمن ب�ين احلياة وامل��وت طبقا‬
‫‪ -‬وجتم��ع بني (ال موت) و(ال حياة) (عالقة �شبه ت�ضاد)‪،‬‬ ‫للمح��ور الداليل ال��ذي يجمع بينهما‪ ،‬وه��و الوجود‪/‬‬
‫�إنها عالقة الباطل –كما ت�سمى‪� -‬إذ �إنهما قد يجتمعان‬ ‫ال�صراع بني قيمتي البقاء والفناء‪ ،‬وكذلك العالقة بني‬
‫معا يف م��كان‪ ،‬قد تكون فيه �إحدى الذوات بني املوت‬ ‫ال حياة وال موت‪.‬‬
‫واحلي��اة؛ وهو ما متثله الأم يف الن�ص قيد الدرا�سة‪ ،‬فهي‬
‫‪� -‬أما (عالقة التناق�ض) فت�أتي بني حموري حياة وال موت‪،‬‬
‫تلهث وتنزع فال هي حية وال هي ميتة‪ ..‬وكذلك النهر‬
‫و«يفهم من التناق�ض العالقة التي تقوم على �أثر الفعل‬
‫والبحرية ال هي فارغة وال هي ممتلئة‪� ..‬إلخ‪.‬‬
‫الإدراك��ي للنفي بني عن�صرين‪ ،‬حي��ث يكون العن�صر‬
‫‪ -‬ويوجد ب�ين (ال موت) وبني (م��وت) وبني (ال حياة)‬ ‫الأول مطروح��ا فيق�ص��ى بوا�سطة ه��ذه العملية ليحل‬
‫و(حي��اة) (عالقة افرتا���ض)‪ ،‬وت�سم��ى و�ضعية اللفظ‬ ‫حمله العن�صر الثاين [فهو] عن�صر يت�ضمن غياب عن�صر‬
‫ال�سلبي‪ ،‬فب�إلغاء �أحدهما يثبت الآخر‪.‬‬ ‫�آخر»(((‪ .‬فوجود املوت ينفي معه وجود احلياة‪ ،‬والعك�س‪،‬‬
‫‪45‬‬ ‫((( املرجع نف�سه‪:‬‬ ‫‪45‬‬ ‫((( ر�شيد بن مالك‪ ،‬قامو�س م�صطلحات التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص‪:‬‬

‫‪57‬‬ ‫‪56‬‬
‫وامتالك فقدان‪ ،‬وبذلك تتحول الأم من حالة احلياة �إىل حالة‬ ‫ميث��ل حمور احلياة نقط��ة البداية يف الن���ص حيث ي�شكل‬
‫امل��وت ‪/‬احلياة الأخرى فهي ممتلكة للحياة ومفتقدة لها يف �آن‬ ‫حالة اله��دوء واال�ستقرار وال�سك��ون واالمتالك‪ ،‬حتى تظهر‬
‫معا‪ ،‬وتنتقل من هنا �إىل هناك (ح�ضور‪ /‬غياب)‪ ،‬فهي �ستفتقد‬ ‫حلظة التناق�ض والت�ض��اد‪� ،‬إنها حلظة التحول اجلذري (�سقوط‬
‫لقيم‪ ،‬ومتل��ك باملقابل قيما جديدة‪ ،‬وتقوم العالقة بني الذات‬ ‫امل��وت من نافذة ما) الذي ميثل فاع�لا محُ َ ِّوال ُي ْد ِخل الذات‬
‫والآخر عل��ى جدلية (قوة‪�/‬ضعف)‪ ،‬وهو م��ا يجعلهما قابلني‬ ‫يف ف�صلة‪ ،‬ويتحول االمتالك �إىل فقدان‪ ،‬وتقدم مقدرة الذات‬
‫للتمف�صل‪ ،‬وحتديدهما على �أبعاد املربع ال�سيميائي‪:‬‬ ‫بق��درة الفاعل ال�ضديد‪ ،‬با�صطراع احلي��اة مع املوت‪ ،‬وحلول‬
‫�ضعف‬ ‫قوة‬
‫�أحدهما حمل الآخر‪ ،‬وبذلك يف�ضي هذا املربع �إىل مربع �آخر‬
‫بال�ضرورة‪ ،‬وهو القائم على �صور االمتالك والفقد‪ ،‬و�أدوارهما‬
‫كما يف الرت�سيمة التالية‪:‬‬
‫فقدان‬ ‫امتالك‬
‫ال �ضعف‬ ‫ال قوة‬

‫ففاع��ل احلالة ميثل –باملقابل للموت‪ -‬عامل �ضعف مهما‬


‫بلع من قوة؛ فمو�ضوع اجله��ة الذي ي�ستمد منه قواه مو�ضوع‬ ‫ال فقدان‬ ‫ال امتالك‬
‫ذات��ي بدرجة �أ�سا�س فهو فردي وخا���ص؛ لأن مو�ضوع اجلهة‬
‫الذي ميار�سه الفاع��ل امل�ضاد‪/‬املوت ي�ستمده من فعل ممتلك‬ ‫وهذا املربع بدوره يحتوي على الذات وخرباتها‪ ،‬وكذا الفاعل‬
‫لكل امل�ؤهالت امل�ستمدة من جهة �شرعية خمطط لها م�سبقا‪،‬‬ ‫وخربات��ه‪ ،‬وتربز حينئذ حال��ة الالتكاف�ؤ بينهم��ا‪ ،‬فاملوت ميتلك‬
‫وي�سري وفق م�سار دقيق وحمدد ومتزن‪ ،‬ذلك �أنها موا�ضيع جهة‬ ‫الكف��اءة والق��درة‪ ،‬وينطلق من وجوب الفع��ل و�إرادته والقدرة‬
‫م�ستمدة من ذات عليا‪/‬ال�سم��اء‪ .‬وبذلك ف�إن القوة مالئكية‬ ‫علي��ه‪� ...‬إلخ‪ ،‬وكذا يتجلى �أن برنامج الفقدان مل يتم اجنازه دفعة‬
‫�سماوية مقابل �ضعف �إن�ساين ب�شري‪.‬‬ ‫واحدة‪ ،‬ومل يتم تنفيذ التحول �إال على مراحل تراتبية‪.‬‬
‫وحمور املوت الذي تتنا�سل منه املحاور الأخرى ميثل املهيمن‬ ‫تف�ضي عالقات ال�صراع بني الفقدان واالمتالك �إىل ف�صل‬
‫يف الف�ض��اء الن�صي والعامل‪ ،‬يفرز معه ق��وة تت�سلط على فاعل‬ ‫وحتوي��ل للذات‪/‬فاعل احلالة‪ ،‬من حالة ات�ص��ال �إىل انف�صال‬
‫‪59‬‬ ‫‪58‬‬
‫ويدخل��ه يف ف�صلة نهائية بقيم �سلبية هي (غياب الأم‪ ،‬وغياب‬ ‫احلال��ة مقابل (نقي�ض �ضد) احلنان ال��ذي ي�ستلهمه من �صدر‬
‫حنانها)‪ ،‬ومن ثم امتالك املو�ضوع الأكرث �سلبية وهو (اليتم)‪:‬‬ ‫�أمه‪ ،‬وي�ستمر معه يف خ�صب ودفء وحياة‪� ،‬إنه احلياة واخل�صب‬
‫يتم‬ ‫�أم‬ ‫مقابل اجلفاف‪ ،‬وهو ما يتمثل بنا�ؤه على املربع التايل‪:‬‬
‫ق�سوة‬ ‫حنان‬

‫ال يتم‬ ‫ال �أم‬

‫تظهر العالقة ب�ين الأم وال �أم‪ ،‬وبني اليتم عالقات غياب‬ ‫ال ق�سوة‬ ‫ال حنان‬
‫وبقاء‪ ،‬فالأم نقي�ض لليتم‪ ،‬ووجودها دليل على غياب الآخر‪/‬‬
‫اليتم فعليا ووجوده ب�شكل غري فاعل‪ ،‬فكل منهما يلغي وجود‬ ‫ي�برز احلنان باعتباره القيمة الأوىل التي تبث الطم�أنينة يف‬
‫الآخر‪ ،‬ويق�صي��ه‪ ،‬ويعطل عمله متاما‪ ،‬بحي��ث �إذا مت االت�صال‬ ‫ال��ذات‪ ،‬وبظهور حم��ور النقي�ض (املوت) ال��ذي ميثل انتقاال‬
‫فعلي��ا ب�أحدهما ي�ستحيل االت�ص��ال الفعلي بالآخر؛ �إن اليتم‬ ‫قا�سيا‪ ،‬وخ�برة عنيفة مرت بها ال��ذات‪ ،‬يدخل يف �صراع مع‬
‫ميثل القيمة النهائية التي ميتلكها فاعل احلالة يف الن�ص‪ ،‬وهي‬ ‫قيم �إ�ضافية كثرية �أخرى غري فقدان حياة الأم‪.‬‬
‫قيم��ة م�ضمرة يف الن�ص‪ ،‬مل تنجز بعد‪ .‬وبذلك تكتمل �صورة‬ ‫وترتاك��م امل�س��ارات الداللي��ة يف ه��ذه املح��اور وترتاكم‬
‫املرب��ع الذي ميف�صل القيم والعوام��ل املت�صارعة‪ ،‬وتف�ضي �إىل‬ ‫املربع��ات‪ ،‬وكل حمور يف�ض��ي �إىل �آخر‪ ،‬وتندرج حماور الن�ص‬
‫�شكله��ا النهائي‪ ،‬املتعلق بالذوات و�إجن��از كل منها وامتالكه‬ ‫بطريقة تراتبية زمنية تنتقل ب�شكل ب�سيط‪ ،‬فكل فقدان يف�ضي‬
‫ملوا�ضيع القيم (�إيجابية و�سلبية)‪:‬‬ ‫�إىل فق��دان مماث��ل‪ ،‬ومقابل يف الداللة‪ ،‬خمتل��ف يف الأدوات‪،‬‬
‫موت‬ ‫ابن‬ ‫والآلي��ات‪ ،‬والنتائج‪ ،‬وهذا ال�صراع ما بني حنان‪/‬ق�سوة يف�ضي‬
‫�إىل �ص��راع نهائي ميثل هرم ال�صراع‪ ،‬ونهايته الدرامية؛ �إ ْذ يتوج‬
‫امل��وت ب�إجن��از م�شرعه‪ ،‬ويكم��ل بذلك مرحل��ة ف�صل الذات‬
‫ال موت‬ ‫ال ابن‬ ‫عن موا�ضيع القيم االيجابية (حي��اة الأم‪ /‬وجودها‪ /‬حنانها)‬

‫‪61‬‬ ‫‪60‬‬
‫مل��ا تكت�سبه �آليات املربع ال�سيميائ��ي من جدوى يف الك�شف‬ ‫فوج��ود املوت يف حياة الأم يق�صي مع��ه وجود االبن من‬
‫عن الت�ضادات‪ ،‬والتناق�ضات‪ ،‬والتعالقات فيما بينها‪...‬‬ ‫حياتها بال�ضرورة‪ ،‬ويعمل على َف ْ�ص ِل ِه عنها بالفعل وبالقوة‪� ،‬إن‬
‫وجود �أحدهما يلغي وجود الآخر بال�ضرورة‪ ،‬ويحل حمله‪� ،‬إنه‬
‫نتائج‪:‬‬ ‫ال ميكن اجتماعهما معا‪.‬‬
‫وميكن القول‪� :‬إن الن�ص مل يزل بحاجة �إىل قراءة من زاوية‬ ‫وخال�صة ملا تقدم‪ ،‬ف�إن الن�ص ي�سري وفق م�سارين �سرديني‪،‬‬
‫نظر �أخرى‪ ،‬فهذه القراءة ال تزعم �أنها قد �أحاطت بكل ظواهره‬
‫وم�س��ار �سردي م�ض��اد‪ ،‬وم�سار �س��ردي واقع بينهم��ا‪ ،‬امل�سار‬
‫ومظاه��ره ال�سيميائية‪ ،‬و�إمنا الم�ست منه��ا ما اقت�ضته ال�ضرورة‬
‫املرج��وة‪ ،‬ووفقا لآليات و�إجراءات املنهج املتبع‪ ،‬وقد تبني من‬ ‫ال�س��ردي ي�شتغل في��ه الفاعل‪/‬االب��ن‪ ،‬وي�شتغ��ل يف امل�سار‬
‫خالل القراءة ال�سابقة �أن‪:‬‬ ‫ال�س��ردي امل�ضاد فاعل الفعل‪/‬امل��وت‪ ،‬بينما ت�شتغل الأم يف‬
‫امل�سار ال�سردي الواق��ع بينهما‪ ،‬ويت�صاعد ال�صراع والت�أزم بني‬
‫‪ -‬املنهج ال�سيميائي اخلا�ص ب��ـ «مدر�سة باري�س” ٌ‬
‫�صالح‬ ‫ال��ذوات‪ :‬االب��ن واملوت من جه��ة‪ ،‬والأم وامل��وت من جهة‬
‫لتحليل الن�صو�ص (�أي��ة ن�صو�ص �إبداعية)‪ ،‬وال يقت�صر‬ ‫�أخ��رى‪ ،‬ليف�ضي ه��ذا ال�ص��راع �إىل فقدان الفاع��ل لوجود‬
‫على درا�سة الن�صو�ص ال�سردية املح�ضة فقط‪.‬‬
‫الأم‪ ،‬وك��ذا فقدان الأم حلياتها الدنيوية‪ ،‬وكبديل لهما ميتلك‬
‫‪� -‬أن الره��ان املذكور يف املقدمة ما ي��زال مفتوحا و�أ�س�سه‬ ‫الفاعل ملو�ضوع قيمة �سلبي (الفقدان)‪ ،‬ومتتلك الأم مو�ضوع‬
‫قائمة؛ وال نزعم �أننا قد جنحنا يف متثله كلياً هنا‪.‬‬ ‫قيمة �إيجابي‪ ،‬بينما يتوج الفاع��ل امل�ضاد فاعال منجزا يحقق‬
‫‪ -‬علينا جتاوز القوالب اجلامدة �أوال‪ ،‬والرموز والرت�سيمات‬ ‫و�صلته باملو�ضوع امل�ستهدف‪ ،‬وامتالكه له‪ ،‬وف�صل –من ثم‪-‬‬
‫املُ َق ِْو ِل َب�� ُة للن�صو�ص واملختزلة للنظري��ة و�آلياتها ب�شكل‬ ‫الذوات الأخرى عنه‪.‬‬
‫خم��ل ثانيا‪ ،‬ومنح الآليات حرية �أكرث مما هي عليه ثالثا‪.‬‬ ‫وجت�س��د ال�صور وامل�س��ارات ال�صورية يف الن���ص بنى فنية‪،‬‬
‫ونح��ن �إذ نو�صي بالتخلي الت��ام عن الرموز (ف ‪ U‬م‪..‬‬ ‫ت�سه��م يف �إي�ضاح وحتدي��د الأدوار والوظائ��ف واملو�ضوعات‬
‫وم��ا �شابهها) وا�ستبدالها بتفا�صيله��ا الل�سانية (الفاعل‬ ‫الت��ي مته��د لالنتق��ال �إىل البنى العميق��ة‪ ،‬وجت�سي��د الأدوار‬
‫منف�صل ع��ن املو�ض��وع‪ ...‬وما �شابهه��ا) حتى ت�سهل‬ ‫واملو�ضوعات التي تك�شف عن �شكل املعنى عن طريق حتديد‬
‫عمليات التداول والقراءة بدون �إعنات �أو مراوغة‪ ،‬ف�إننا‬ ‫القيم والعوامل الرئي�سية‪ ،‬وكيفية ال�صراعات فيما بينها‪ ،‬وفقا‬
‫‪63‬‬ ‫‪62‬‬
‫نص القصيدة احملللة‬ ‫نو�صي بالتخلي اجلزئي ع��ن الرت�سيمات‪ ،‬والإتيان بها‬
‫عن��د االقت�ضاء وال�ض��رورة �إما لإي�ض��اح فكرة غام�ضة‬
‫القصيدة الثالثة من كتاب األم‬ ‫لن تت�ض��ح �إال بها‪� ،‬أو الختزال فك��رة طويلة �ست�شتت‬
‫الأفكار �إن مت التف�صيل فيها‪.‬‬
‫يف ال�سماء‪،‬‬
‫على الأر�ض‪،‬‬
‫ما كان �إال ال�شتاء‪.‬‬
‫النوافذ مغلقة‬
‫وال�شوارع خالية‬
‫كيف؟‬
‫من �أي نافذة �سقط املوت‬
‫كنت وحيدا �أمام ال�رسير‬
‫الذي بد�أ املوت ينزع عنه احلياة‪،‬‬
‫و�أمي تقاوم‬
‫تلهث‬
‫كانت دموعي تقول لها‬
‫‪ -‬ما لذي يفعل ابنك يا �أجمل‬
‫الأمهات؟‬

‫‪65‬‬ ‫‪64‬‬
‫يظل غزير احلنان‬ ‫‪ -‬وال �صوت‬
‫ملاذا يريد له املوت �أن يتوارى‬ ‫�أماه هل افتح الباب‬
‫و�أن تبلع الأر�ض �أ�سماء ُه‬ ‫كي يخرج املوت‬
‫وخالياه‬ ‫‪ -‬ال‪ ..‬رمبا يدخل املوت‬
‫تاريخ ميالده‬ ‫كل البيوت التي حولنا تتثاءب‬
‫�سنوات ال�صبا‬ ‫ال �أحد يف النوافذ‬
‫والكهولة‬ ‫خوفا من الربد‬
‫يا �أيها املوت رفقا‬ ‫خوفا من املوت‪.‬‬
‫بهذا الكيان الرقيق‪.‬‬ ‫م�سكينة يف ال�شتاء ال�شوارع‬
‫مل يعد ج�سدا‬ ‫ياب�سة من يدثرها‬
‫�صار طيفا‬ ‫من يج�س يديها‬
‫ولكنها الروح‬ ‫ويرخي عليها �ستار النهار‬
‫�ساكنة الظل‬
‫حني يجف ت�ضيء‬ ‫جتف البحريات‬
‫وال ت�س�أل البيت‬ ‫حني يجيء ال�شتاء‬
‫تخ�شى الفراق‬ ‫ولكن نهرا كبريا‬
‫وت�أبى النزوح‬ ‫ينابيعه �صدر �أمي‬

‫‪67‬‬ ‫‪66‬‬
‫ك�أين بها تتعذب حزنا عليه‬
‫و�شوقا �إىل عامل ال�ضوء‬
‫ثانيا‪:‬‬
‫وال�صحوة الأبدية‪.‬‬
‫اخلطاب الصويف‬
‫(((‬
‫يف ديوان «أجبدية الروح»‬ ‫عبد العزيز املقالح‬
‫كتاب األم‪.22 - 19 :‬‬

‫‪ .1‬توطئة‪:‬‬
‫يرتبط الت�صوف بجملة من الدالالت‪ ،‬جتتمع كلها عند نقطة‬
‫واحدة هي نزوع املت�صوف نح��و نبذ العامل املادي وا�ستبداله‬
‫بالزهد‪ ،‬و�صراعه م��ع كل ما ُيف�صله عن كل ما هو روحي‪� ،‬إنه‬
‫ع��ودة �إىل داخل الذات (الروح) ال��دال على النقاء كبديل‬
‫للخارج املدن�س (اجل�سد)‪ ،‬من �أجل الو�صول �إىل الكمال‪.‬‬
‫جن��د مالمح �صوفية كثرية يف اخلطاب الإبداعي العربي منذ‬
‫الق��دمي وحتى يومنا هذا‪ ،‬وهي مالمح ت�سم الأعمال الإبداعية‬
‫بالروحانية وال�سمو وتك�شف ع��ن احلالة االجتماعية والفكرية‬
‫لكل م�شتغل عليها يف تلك الن�صو�ص‪ ،‬ومع �أن التجربة ال�صوفية‬
‫يف الأدب العربي قد نمُ َِّطت فيما م�ضى بعد �أن حاول الكثريون‬
‫تقعيده��ا وقولبتها وح�صرها يف الغزل واحل��ب الإلهي بوا�سطة‬
‫الرتميز برموز �أ�شبه ما تكون بعيدة كل البعد عن ال�صوفية كجوهر‬
‫نقاء وقدا�سة منها اخلمرة وت�أنيث املع�شوق املذكر والعك�س‪ ،‬حتى‬
‫(((عبد العزيز املقالح‪� ،‬أبجدية الروح‪ ،‬الهيئة العامة للكتاب‪� ،‬صنعاء‪ ،‬د‪ .‬ط‪1998 ،‬م‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫احلي��اة‪ ،‬وف�صلت املجتم��ع عن الفرد والفرد ع��ن املجتمع‪ ،‬ويف‬ ‫كادت معظم الدرا�سات للتجرب��ة ال�صوفية يف ال�شعر والإبداع‬
‫�صيغ��ة مكا�شفة ت�سع��ى �إىل �إعادة النظ��ر يف كل ما ي�سعى �إىل‬ ‫ب�شكل عام تنح�ص��ر يف هذه الرموز والأمناط‪ ،‬وهو ما يتنافى مع‬
‫تهديد الإن�سانية وي�صيبها يف ذاتها ويخد�ش جمالياتها‪.‬‬ ‫جوهرها كتجربة �أكرث ات�ساعا ومتددا و�إيهاما من ذلك ‪ -‬خ�صو�صا‬
‫وجدت هذه القراءة بعد ت�أمل �أن املهيمن على الديوان يف‬ ‫يف ال�شعر املعا�صر حتديدا‪-‬؛ لأن الأدب ب�شكل عام وال�شعر منه‬
‫خطابه ال�صويف تيمات ثالث هي‪ :‬الر�ؤى ال�صوفية على �صعيد‬ ‫ب�ش��كل خا�ص ي�ستدعي التجربة ال�صوفي��ة بو�صفها �أداة خللق‬
‫العنون��ة و�إيغاله��ا يف التخييل‪ ،‬وكذا ال�ص��راع الإن�ساين بني‬ ‫توازن بني عاملي ال��روح واملادة كما نلمح يف �شعر «املقالح» منذ‬
‫الذات وعاملها املادي‪ ،‬وامل��وت كمخل�ص‪ ،‬وا�ستح�ضار الرموز‬ ‫بداياته الأوىل غري �أن ذلك يغدو ومهيمنا يف كل مفا�صل ديوانه‬
‫ال�صوفي��ة (�شخ�صي��ات و�أمكنة ومفاهيم)‪ .‬وه��و ما �ست�ضطلع‬ ‫املو�س��وم بـ «�أبجدية الروح» ال��ذي ي�شتغل على الت�صوف منذ‬
‫الدرا�س��ة بالك�شف ع��ن كيفيات ت�شكالت��ه و�أبعاد دالالته‪.‬‬ ‫عنوانه اخلارجي الذي ي�سمه بالأبجدية الروحية مرورا بعناوينه‬
‫الداخلية واملنت الذي ميثل لوحة �صوفية مكتملة‪.‬‬
‫‪ .2‬العنونة كفضاءات للتخييل الصويف‪:‬‬ ‫�إنه ي�سع��ى يف جمموع �إبداع��ه �إىل �إعادة النظ��ر يف الذات‬
‫يعد العنوان يف هذا الديوان �أول نافذة تفتح �آفاق التخييل‬ ‫وعالقتها بالعامل انطالقا من ا�ستح�ضاره للفكر ال�صويف وا�شتغاله‬
‫وت�شرع��ه على ع��وامل �صوفية تت��وق �إىل الدمج ب�ين املعريف‬ ‫على قاعدته املنهجية والروحية‪ ،‬ويعيد النظر يف فكرة الت�صوف‬
‫(�أبجدي��ة) والعرفاين (ال��روح)‪ ،‬وهو ت��وق ال�صويف‪/‬ال�شاعر‬ ‫ذاته��ا التي ارتبطت بالكثري من �أقط��اب ال�صوفية كو�سيلة جناة‬
‫�إىل ابت��كار �أبجدية ثانية ت�سع��ى �إىل التفلت من الواقع املثقل‬ ‫فردي��ة للقطب ذاته؛ لتغ��دو لدى املقالح و�سيل��ة جناة جماعية‬
‫بالوح�شة واخلراب واالنف�صال عن موا�ضيع القيمة‪ ،‬واالنتقال‬ ‫للمجتمع ككل‪ ،‬وت�صبح يف ديوان��ه املو�سوم بـ «�أبجدية الروح»‬
‫م��ن اللغة املعهودة كلغة �صم��اء ال توفر امل�أمول من وجهة نظر‬ ‫ت�صوف��ا ذا عالقة و�شيجة بق�ضيته التي يعاجلها؛ �إ ْذ ُي ْلب ُِ�س ُه لبو�ساً‬
‫ال�ص��ويف؛ لأن اللغ��ة امل�ألوفة التي ي�صفها �ضمني��ا بـ(�أبجدية‬ ‫خا�ضع��ة ملا تع��اين منه ال��ذات املتمف�صلة يف البن��ى ال�شعرية‬
‫اجل�سد)‪ ،‬بالزاميتها و�سطوتها وحمدوديتها وانغالقها؛ ال ميكن‬ ‫ويعي�شه جمتم ُعها ككل‪ ،‬فال جند ظاهرة التغني بالرموز ال�صوفية‬
‫اخلال�ص من �سطوتها �سوى باال�ستغراق ال�صويف واال�ستبدال‬ ‫اجلاه��زة واملتع��ارف عليه��ا يف التجربة ال�شعري��ة الكال�سيكية‬
‫واالنزياح عن كينونتها‪ ،‬وهذا ما يجعل البحث عن �أبجدية ثانية‬ ‫كاخلمرة والغزل املعكو���س‪� ...‬إلخ‪ ،‬بل جندها تتجلى يف �صيغة‬
‫هاج�سا م�شروعا كان قد خربه وعانى منه املت�صوفة وا�صطدموا‬ ‫�ص��راع مع التحوالت التي م�س��ت املفاهيم وكثفت تعقيدات‬
‫‪71‬‬ ‫‪70‬‬
‫مفاتي��ح �إىل ث ُُك َن ِات الروح‪ ،‬يف الطري��ق �إىل يفر�س‪ ،‬من مواقف‬ ‫ب��ه(((‪ ،‬وقد حاول املقالح االنزياح بها من لغة للج�سد (دنيوية)‬
‫�سفي��ان ال�صنعاين‪ ،‬موق��ف ال�ضحك‪ ،‬موقف الب��كاء‪ ،‬موقف‬ ‫�إىل لغ��ة للروح كو�سيلة معرفة ت�سع��ى �إىل بلوغ الغاية والنفاذ‬
‫اجل�س��د‪ ،‬موقف ال��روح‪ ،‬ذهول‪ ،‬يف يفر�س‪ ،‬اكتم��االت �أحمد‪،‬‬ ‫�إىل جوهر الأ�شياء والعامل‪.‬‬
‫�أغنية للروح‪ ،‬بالقرب من نخلة اهلل‪� ،‬أ�سئلة‪ ،‬مرايا ال�ضوء‪� ،»...‬إنها‬ ‫�إن مما ال �شك فيه –واحلال تلك‪� -‬أن املنت برمته �سيتنا�سل‬
‫ت�شكل م�سارا �صوريا يتعدد يف البدء (لغويا) ليتحد يف املنتهى‬ ‫من هذي��ن الدالني (املعريف والعرافن��ي)‪ ،‬ولي�ست مبالغة �إن‬
‫(�سيميائي��ا) وهو الت�أمل واملناجاة والوج��د واالرتقاء‪ ،‬والرحيل‬ ‫قلن��ا �إن املنت كله يقوم على هذين املحورين كحقلني دالليني‬
‫نح��و املقد���س‪� ،‬أو �إىل �أماك��ن و�شخ�صي��ات �صوفي��ة ارتبطت‬ ‫يعم��دان �إىل ت�شكيل املنت بنائي��ا وفنيا‪ ،‬وهما من جهة �أخرى‬
‫روحي��ا به (يفر���س‪� ،‬سفيان ال�صنع��اين)‪� ،‬أو ا�ستح�ضار النفري‬ ‫يعك�س��ان مفه��وم ال�صوفية مبا هي �أداة لهت��ك �أ�ستار احلجب‬
‫�إيحائيا بوا�سطة ا�ستح�ضار ما عرف به يف م�سريته ال�صوفية كلها‬ ‫وحماولة التعرف على اجلانب اخلفي من العامل والبحث عن‬
‫(املواق��ف) والتخل�ص من غواية اجل�س��د‪ ،‬والبحث عن ما ينري‬ ‫املعنى الكلي للعامل ومل�سمى عالقة الذات به وباهلل والآخر‪.‬‬
‫ظلمات الروح‪ ،‬والك�شف‪ ،‬والقلق‪ ،‬والت�سا�ؤل‪ ،‬وهي كلها جتتمع‬ ‫كم��ا �أن هذا العنوان ميهد لت�شكي��ل العنونة الداخلية بنائيا‬
‫يف حمور واحد هو الت�صوف كبحث عن اخلال�ص‪.‬‬ ‫و�سيميائي��ا‪ ،‬ونلمح ذلك من ال�سمة البارزة يف ت�شكيل معظمها‬
‫�إن العنون��ة بن��اء عل��ى ذل��ك ج��زء ال يتجز�أ م��ن الر�ؤية‬ ‫وهي دورانها يف الفلك ال�صويف كحقل داليل تتحرك فيه الأبعاد‬
‫الداللية بطريقة تع�ضد الر�ؤية الفنية التي ير�سمها املنت‪ ،‬وت�شكل‬
‫العام��ة التي يقدمها امل�تن وينبني عليه��ا ر�ؤي��ة و�أداة ور�ؤيا‪،‬‬ ‫خط��ا �صوفيا واحدا تتوالد منه وعربه جملة من الر�ؤى العرفانية‬
‫كم��ا �أنها متهد للدخول يف عوامله ال�صوفي��ة وخباياه الداللية‪.‬‬ ‫التي ت�أخذ �ش��كل املعادل املو�ضوعي للتناق�ض��ات واملفارقات‬
‫املولدة لدورة احلياة يف م�ستوييها‪ :‬التجريدي والتجريبي(((‪ ،‬على‬
‫‪ .3‬الصراع بني الذات وعاملها املادي‪:‬‬
‫نحو‪« :‬فاحتة‪ ،‬ابتهاالت‪ ،‬ر�ؤيا‪ ،‬ق�صيدة حب لل�سماء‪ ،‬ا�شتعاالت‪،‬‬
‫ُت ْع�� َر ُف ال�صوفية بنزوعها �صوب نب��ذ النزعة العقلية ال�صرفة‬
‫الت��ي جتعل م��ن العامل كونا عملي��ا بحتا يفتق��د �إىل الوجدان‪،‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬خالد بلقا�سم‪� ،‬أدوني�س واخلطاب ال�صويف‪ ،‬دار توبقال للن�شر‪ ،‬الدار البي�ضاء‪،‬‬
‫ط‪2000 ،1 :‬م‪.130 :‬‬
‫وك��ذا باقرتابها من العامل الروحي انطالقا من التم�سك ب�شعور‬ ‫((( ينظ��ر‪ :‬عثمان بدري‪ ،‬وظيفة العنوان يف ال�شعر العرب��ي احلديث‪ -‬قراءة ت�أويلية يف‬
‫القل��ب واحلد�س العرفاين والوجداين من �أجل و�صول العارف‬ ‫مناذج منتخبة‪ ،‬املجلة العربية للعلوم الإن�سانية‪ ،‬ال�سنة احلادية والع�شرون‪ ،‬العدد احلادي‬
‫�أو املت�ص��وف �إىل غاياته‪ ،‬وه��ي نزعة تقوم ‪-‬يف دي��وان «�أبجدية‬ ‫والثمانون‪� ،‬شتاء ‪2003‬م‪.24 :‬‬

‫‪73‬‬ ‫‪72‬‬
‫واعتزلت الزحا َم‬
‫ُ‬ ‫الروح»‪ -‬على االتكاء على النقاء‪ ،‬والب�ساطة مقابل التعقيد الذي‬
‫خلعت حذا َء الهزمية وال�صرب‬ ‫ُ‬ ‫تفر�ضه �سلطة الأ�شي��اء املادية‪ ،‬وكذا حت�س�س العامل بالروح بدال‬
‫�أثمن ما ادخرتْه ال�سنون العجاف‬ ‫ع��ن حوا�س اجل�سد‪ ،‬وتتجلى هذه النزعة منذ العنوان اخلارجي‬
‫ارتفعت‪� ...‬أنا‬
‫للدي��وان‪ ،‬ال��ذي يحدد ال�سم��ة الأوىل للمنت وهويت��ه النهائية‬
‫ُ‬
‫ك�صراع بني الروح واجل�سد ينفي ثانيهما (اجل�سد) انت�صارا للأول‬
‫ثم واريتها‪،‬‬
‫(الروح)‪ ،‬مع �أن دال الروح يبطن دال اجل�سد لأنهما متالزمان يف‬
‫ارتعا�ش العظام»(((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وملحت بقايا �رشارتِها يف‬‫ُ‬ ‫الفكر ال�صويف‪ ،‬فال يكاد يظهر �أحدهما مبعزل عن الآخر ف�إذا ُذ ِك َر‬
‫تبدو ذروة ال�صراع يف حماول��ة الذات الق�ضاء على جوهر‬ ‫�أحدهما يذكر معه الآخر ك�ضد؛ ليج�سد ال�صراع الذي يعي�شه‬
‫اجل�سد ودافعه املحوري (النف���س)‪ ،‬بو�صفها املحرك الرئي�سي‬ ‫ال�ص��ويف بني عامله الطيني املدن�س‪ ،‬وعامله الروحي املقد�س؛ فهو‬
‫للج�س��د‪ ،‬فلوالها ملا كان للج�سد �أي معنى وال �أي وظيفة‪� ،‬إن‬ ‫ينت�صر بالأوىل عل��ى الأخرى؛ لذلك ف�إن الديوان يج�سد حالة‬
‫النف�س كما يقول املت�صوف��ة «ظلمانية» �سيئة املعاملة‪ ،‬وروحها‬ ‫االنت�ص��ار على اجل�سد بعزله عن داله الآخر‪ ،‬ويعمد �إىل دفن ما‬
‫يف الأ�ص��ل نورانية‪ ،‬وال تزداد �صالحا �إال مبخالفة العبد هواها‬ ‫يهيج اجل�سد ومينحه ج�سديته (النف�س)‪:‬‬
‫والإعرا���ض عنها وقهرها؛ لأنها تدخ��ل يف ال�صدر بو�سو�ستها‬ ‫«كنت �أب�رصها‬‫ُ‬
‫و�أباطيل �أمانيها ابتال ًء(((‪.‬‬
‫نف�سي مكتظ ًة باخلطايا‬ ‫َ‬ ‫كنت �أب�رص‬ ‫ُ‬
‫يتم��دد ال�صراع مع اجل�سد ومكونات��ه ليكت�سب بعداً �آخر‬
‫بذباب من الإثم‬ ‫ٍ‬ ‫حما�رص ًة‬
‫يف ن���ص «ابتهاالت» املليء باملناجاة‪ ،‬حينم��ا ي�سعى �إىل نفي‬
‫اجل�سد وو�سائلها التي ي�ستعني بها وي�ستبدلها بالروح‪:‬‬ ‫باخلروج من اجل�س ِم‬
‫ِ‬ ‫حاولت �إغرائها‬
‫ُ‬
‫«�إلهي‬ ‫�أم َع ْن ُت يف �صدها‬
‫�أنا �شاعر‬ ‫فا�ستفزت بقايا الأفاعي ب�صدري‬ ‫ْ‬
‫‪......‬‬
‫((( �أبجدية الروح‪.116 - 114 :‬‬
‫((( ينظ��ر‪ :‬رفي��ق العج��م‪ ،‬مو�سوعة م�صطلح��ات الت�صوف الإ�سالم��ي‪ ،‬مكتبة لبنان‬ ‫�آه ما كان �أبعد ما بيننا‬
‫نا�شرون‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.970 : 1999 ،1 :‬‬ ‫اعتذرت لها‬
‫ُ‬ ‫غري �أين‬
‫‪75‬‬ ‫‪74‬‬
‫�أق�صت عن الأر�ض نور ال�سموات‬ ‫يتح�س�س بالروح عامله‬
‫واحتكرت ملكوت اجلحيم»(((‪.‬‬ ‫يكره اللم�س‬
‫�إن �ص��راع الذات مع العامل املل��يء بالتناق�ضات والكثافة‬ ‫عيناه مقفلتان»)((((‪.‬‬
‫املادية (احل��رب) يدفعها �إىل اللوذ بال�شكوى واملناجاة للذات‬ ‫�إن فع��ل تحَ َ ُّ�س���س عامل ال��ذات ين�سجم مع ع��امل الروح‬
‫الإلهي��ة‪ ،‬واال�ستنج��اد بها بو�صفه��ا مخُ َ ِّل َ�صاً بع��د �أن فر�ضت‬ ‫ال��ذي ميثل هنا �أداة التح�س�س‪ ،‬و�إقفال العينني ين�سجم وواقع‬
‫امل��اد ُة القطيع َة بني الأر���ض وال�سم��اء وا�ستبدلتها باجلحيم‪.‬‬ ‫االنف�صال عن العامل وحا�سة اللم�س‪ ،‬وك�أنه التوق العميق �إىل‬
‫االنكف��اء على الروح كعامل لل�س�لام‪ ،‬واالنف�صال عن الواقع‬
‫‪ .4‬املوت كوسيلة لاللتقاء باهلل‪:‬‬ ‫اخلارجي كعامل حرب ودمار بو�صفهما �آلة ف�صل للإن�سان عن‬
‫ينظ��ر ال�ص��ويف �إىل املوت على اعتبار �أن��ه طريق �إىل احلياة‬ ‫�سياقه الروحي والزج به يف ظلمات �شئون دنيوية ال طائل منها‬
‫الأبدي��ة‪ ،‬وو�سيلة عب��ور لاللتقاء بالذات الإلهي��ة‪� ،‬إنه و�سيلة‬ ‫�سوى ات�س��اع دائرة التيه‪ ،‬فاحلرب و�سيلة لف�صل الإن�سان عن‬
‫لالنتق��ال من العامل الف��اين الذي تنف�صل في��ه الذات عن‬ ‫الروح��ي‪ ،‬وف�صل احلياة عن العامل النوراين‪� ،‬إنه رف�ض للعامل‬
‫اخلال��ق �إىل العامل «الالفاين» الذي تلتقي فيه الذات بالإ ْل ِف‬ ‫املادي الفاقد لقيم الإميان‪:‬‬
‫وال تبتع��د عن��ه‪ .‬وبعبارة �أخ��رى �إنه �إطالقٌ م��ن قيد اجل�سد‬ ‫«كرهتني احلروب‬
‫والأك��وان واالندراج يف املطل��ق والرحمن‪ ،‬وطريق �إىل احلق‪،‬‬ ‫لأين باحل�رسات وباخلوف �أثقلت كاهلها‬
‫وو�سيل��ة تفري��ق بني الروح واجل�س��د(((‪ ،‬وهو ما يع�بر عنه وبه‬
‫وجنحت بتحري�ض كل الزهور‬
‫املقالح يف ن�ص «ف�صول من كتاب املوت»‪:‬‬
‫املوت ال يجم ُع اهللَ‬ ‫وكل الع�صافري‬
‫والنا�س‬
‫َ‬ ‫«و�سوى ِ‬
‫�أن تكره احلرب‬
‫يف �رشف ٍة واحدة»(((‪.‬‬
‫�أن ترف�ض املوت ي�أتي به مو�سم للح�صاد الرهيب‬
‫((( �أبجدية الروح‪.22 ،21 :‬‬ ‫ولكنها احلرب يا �سيدي �أطف�أتني‬
‫((( ينظ��ر‪� :‬سعاد احلكيم‪ ،‬املعجم ال�صويف‪ -‬احلكم��ة يف حدود الكلمة‪ ،‬دندرة للطباعة‬ ‫و�أطف�أت اللوحات املدالة يف الأفق‬
‫والن�شر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1981 ،1 :‬م‪.1028 :‬‬
‫((( �أبجدية الروح‪.79 ،78 :‬‬ ‫((( �أبجدية الروح‪.21 :‬‬

‫‪77‬‬ ‫‪76‬‬
‫َ‬
‫�صوتك‪،‬‬ ‫�سمعت‬
‫ُ‬ ‫وهي القاعدة التي تتجلى يف ن�ص «اكتماالت �أحمد» حينما‬
‫�شبابات وادي الزعفرانِ‬
‫ِ‬ ‫الراعيات‪ ،‬وعرب‬
‫ِ‬ ‫حديث‬
‫ِ‬ ‫يف‬ ‫تلتق��ي الذات حمور الن�ص (�أحم��د) باهلل عن طريق املوت‪� ،‬أو‬
‫َ‬
‫ا�ستقبلوك وقد متاهى وجدهم بال�شوق‬ ‫قر� ُأت �أ�شعاراً ملوت��ى‬ ‫حينما تتوق �إىل لقائه الذات املتلفظة داخل الن�ص �أي�ضا‪ ،‬حيث‬
‫نحو اهلل‬ ‫تتجلى بنية التح��ول ال�شكلي واجلوهري للذات حمور الن�ص‪،‬‬
‫فاكتملت ق�صائ ُد ُه ْم‬
‫ْ‬
‫فيكتم��ل باملوت‪ ،‬وي�صري �إن�سانا بهي��ا‪ ،‬ويخرج الكون ومكوناته‬
‫َ‬
‫من بني حدقاته تارة ومن بني �أكفانه تارة �أخرى‪:‬‬
‫اكتمل الفتى»(((‪.‬‬ ‫كما‬
‫ُ‬
‫يكتمل الفتى وي�ص ُري �إن�سانا بهياً‬ ‫«باملوت‬
‫ِ‬
‫وحينم��ا ي�شت��د توق��ه للموت‪/‬املخل���ص يطل��ب من��ه‬
‫حتوي��ط الأكوان بالأكف��ان وغ�سله��ا بريحان البداي��ة‪ ،‬ابتغاء‬ ‫احلدائق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تنداح من حدقاته‬‫حاملاً ُ‬
‫الع��ودة �إىل اجل��ذور وال�براءة والع��ودة �إىل حي��ث نقط��ة‬ ‫الفاتنات‬
‫ُ‬ ‫واله�ضاب‬
‫ُ‬
‫الب��دء املتمثل��ة مبا قب��ل اخللق وما قب��ل اخل��روج �إىل احلياة‪.‬‬ ‫�سحب و�أ�رشع ٌة‬
‫ٌ‬ ‫تطل من �أكفانه‬
‫الرايات»(((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وبحر � ُ‬
‫أزرق‬ ‫ٌ‬
‫‪ .5‬الرموز الصوفية كمعادل موضوعي‪:‬‬ ‫ويظ��ل الت��وق لدى ال��ذات املتلفظ��ة (ال��ذات ال�شاعرة‪/‬‬
‫تعد الرم��وز ال�صوفية م��ن �أهم و�سائ��ل التخ�صيب الن�صي‬ ‫ال�س��اردة) يف الن�ص متتابعا؛ �إذ تت��وق �إىل التحول واالنف�صال‬
‫واالنفتاح عل��ى العامل يف املدونة ال�شعري��ة العربية‪ ،‬وت�أتي على‬ ‫عن احلياة واالت�صال باملوت ابتغاء االكتمال‪ ،‬ويتجلى ذلك عرب‬
‫�أ�ش��كال متعددة منها رموز الأماك��ن ورموز ال�شخ�صيات ورموز‬ ‫ملف��وظ مناجاة مع املوت ينم عن �ش��وق كبري من قبل الذات‬
‫املف��ردات (امل�صطلح��ات واملفاهي��م ال�صوفي��ة)‪ ...‬وق��د جتلى‬ ‫الت��ي تظل تلح عل��ى فكرة التحول نحو االكتم��ال وهو جوهر‬
‫ذلك يف دي��وان �أبجدية الروح عرب جمموع��ة من ال�شخ�صيات‬ ‫ال�صويف؛ �إذ باملوت يتم االكتمال واالت�صال‪ ،‬على عك�س جوهر‬
‫والأماكن‪ ،‬والعبارات واملفاهيم (هذه الأخرية لن نتناولها هنا)‪،‬‬ ‫الدنيوي الذي يرى يف املوت انف�صاال عن احلياة‪ ..‬فنجد‪:‬‬
‫فمن ال�شخ�صيات‪« :‬فريد الدين العطار»‪ ،‬و«�سفيان ال�صنعاين»‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اجلميل‬ ‫املوت‬
‫«يا �أيها ُ‬
‫و«غيالن الدم�شقي»‪ ،‬ومن الرموز املكانية املهيمنة‪« :‬يفر�س»‪...‬‬ ‫ال�ضباب‬
‫ِ‬ ‫الهاربات من‬
‫ِ‬ ‫خلف التاللِ‬ ‫َ‬
‫وجهك نا�صعاً َ‬ ‫ملحت‬
‫ُ‬
‫((( �أبجدية الروح‪.147 :‬‬ ‫((( �أبجدية الروح‪.146 ،145 :‬‬

‫‪79‬‬ ‫‪78‬‬
‫للطبقات الن�صية التي يتح��ول فيها الذات من حالته الأوىل‬ ‫أ‪ .‬رموز الشخصيات‪/‬الرمز قناعا‪:‬‬
‫املتمثلة يف الفق��دان‪� ،‬إىل حالته الثاني��ة املتمثلة يف االمتالك‬ ‫�سنكتف��ي هنا با�ستك�شاف الرمز املقن��ع يف ن�ص «مقامات‬
‫للـ»احلقيقة» «� َّ‬
‫إبتل �شخ�صي مب��اء احلقيقة»((( بعد �أن يتم دفن‬ ‫�سفي��ان ال�صنع��اين»‪ ،‬ال��ذي يتخذ في��ه ال�شاعر م��ن الزاهد‬
‫النف�س (اجل�سد) واالنت�صار عليها يف �آخر مراحل ال�صراع‪:‬‬ ‫«�سفي��ان الث��وري»((( قناعا‪ ،‬يتماهى فيه ويع�بر به عن حاالته‬
‫«ارتفعت‪� ..‬أنا‬
‫ُ‬ ‫ومواجي��ده ال�صوفية‪ ،‬ورحلته �إىل اهلل وارتقائه �إليه وتطهره من‬
‫ثم واريتُها‪،‬‬ ‫النف�س‪/‬اجل�س��د‪ ،‬عرب مقاطع ن�صية �أ�سماه��ا باملواقف‪ ،‬تتدرج‬
‫ارتعا�ش العظام»(((‪.‬‬
‫ِ‬ ‫وملحت بقايا �رشاراتِها يف‬
‫ُ‬ ‫ويرتا�ص��ف بع�ضها فوق بع�ض وي�ؤدي كل منها �إىل الذي يليه‬
‫بو�صول��ه �إىل موق��ف ال��روح ي�ص��ل �إىل احلقيق��ة الت��ي‬ ‫فني��ا ودالليا من جه��ة‪ ،‬وخروجا من حال��ة اجل�سد �إىل الروح‬
‫تتك�شف ل��ه فيها خطاي��اه و�آثامه‪ ،‬وال ينته��ي �إىل اال�ستقرار‬ ‫والتطه��ر باحل��ب الإلهي واالق�تراب من املعرف��ة واكت�شاف‬
‫النهائ��ي برغ��م امت�لاك احلقيق��ة ب��ل «تباغت��ه همهم��ات‬ ‫احلقيق��ة من جهة ثانية‪ ،‬يبتدئها ب��ـ «موقف ال�ضحك»‪ ،‬الدال‬
‫ال�س���ؤال»(((‪ ،‬وهو ع��دم اال�ستقرار الذي يظ��ل هاج�سا لدى‬ ‫عل��ى اللهو والعبث والف��رح املجاين املف�ض��ي �إىل عقوبة من‬
‫املت�صوف��ة م��ا دام��وا يف عل��ى مبعدة ع��ن ال��ذات الإلهية‪.‬‬ ‫اهلل‪ ،‬يلي��ه موقف البكاء ككفارة عن خطيئة ال�ضحك‪ ،‬وهو ما‬
‫يجع��ل اهلل يكافئه بال�سفر �إلي��ه؛ ال�سفر الذي ي�ستك�شف فيه‬
‫ب‪ .‬الرمز املكاني‪/‬املكان مالذا‪:‬‬ ‫الكثري من العوامل الروحاني��ة‪ ،‬ويتلو ذلك بـ»موقف اجل�سد»‬
‫ال ن�ستطيع �أن ندرك الأبعاد الروحية والفنية للمكان يف ديوان‬ ‫ال��ذي تت�صارع فيه الذات م��ع �شهوتها الفاني��ة وتتجرد منها‬
‫«�أبجدية ال��روح» �إال �إذا �أدركنا خلفياته املعرفية‪ ،‬وتاريخه املتعلق‬ ‫وترف�ضه��ا بعناء و�ش��دة وجماه��دة‪ ،‬ك�إحال��ة �إىل املجاهدات‬
‫بتحوله م��ن واقعه كمكان طبيعي �إىل واقعه اال�ستثنائي كمكان‬ ‫والعن��اء الذي يكابده ال�صويف من �أجل التطهر والو�صول �إىل‬
‫�صويف‪ ،‬فقد انتقى املنت �أماكن ارتبطت برموز من �أقطاب ال�صوفية‬ ‫مو�ضوع القيمة امل�سته��دف‪ ،‬ويلي ذلك «مقام الروح» كخامتة‬
‫الذين تركوا �أثرا كبريا يف امل�شهد ال�صويف اليمني يف زمانهم‪ ،‬وظل‬
‫((( ه��و �أب��و عبد اهلل �سفيان ب��ن �سعيد بن م�سروق الث��وري (‪778 - 716‬م)‪ ،‬كان عاملا‪،‬‬
‫((( �أبجدية الروح‪.116 :‬‬ ‫وفقيه��ا‪ ،‬وله م�ؤلف��ات يف الفرائ�ض واحلديث‪ ،‬وكان يلقب ب�أم�ير امل�ؤمنني يف احلديث‪،‬‬
‫ولد ون�ش�أ يف الكوفة ومات م�ستخفيا يف الب�صرة‪ .‬ينظر‪ :‬خري الدين الزركلي‪ ،‬الأعالم‪-‬‬
‫((( امل�صدر نف�سه‪.116 :‬‬ ‫قامو���س تراجم لأ�شهر الرجال والن�ساء م��ن العرب وامل�ستعربني وامل�ست�شرقني‪ ،‬ج‪،3 :‬‬
‫((( �أبجدية الروح‪.118 :‬‬ ‫دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1980 ،5 :‬م‪.104 :‬‬

‫‪81‬‬ ‫‪80‬‬
‫كم��ا �أنه يتمظه��ر ب�صفات روحية وروحاني��ة متعددة تكاد‬ ‫�أثره��م ماثال �إىل اللحظة يف تلك الأماكن‪ ،‬فال يكاد يذكر مكان‬
‫تك��ون «عجائبي��ة» �أو لها �صف��ات العجائبي ال��ذي ال جند له‬ ‫ما من تلك الأماكن �إال ويذكر معها املت�صوفة الذين ارتبطوا بها‪،‬‬
‫م�سوغ��ا �إال من خالل البعد ال�صويف‪ ،‬حت��ى الذات املتلفظة‬ ‫كم��ا هو يف ق�صيد َتي «يف الطريق �إىل يفر���س»((( و«يف يفر�س»(((‪،‬‬
‫يف الن���ص تبدو منده�شة من كل ال�صفاته واملظاهر التي حتف‬ ‫و«يفر�س» هو مكان‪/‬مقام املت�صوف اليمني العارف باهلل «�أحمد‬
‫ب��ه‪ ،‬فنجدها ال تعرف على وجه التحديد �أ «قرية تلك‪� ،‬أم هي‬ ‫ب��ن علوان»‪ ،‬وهما متالزمان �أبداً ح�ضوراً وغياباً‪ ،‬فبح�ضور يفر�س‬
‫�سجادة لل�ص�لاة» «قرية هي‪� ،‬أم باحة القلب» «قرية تلك‪� ،‬أم‬ ‫يح�ضر اب��ن علوان والعك���س‪ ،‬وبانتفاء ح�ض��ور �أحدهما ينتفي‬
‫واحة تتهجى حروف املحبة»‪.‬‬ ‫ح�ضور الآخر‪� ،‬إنهما عالمتان ثقافيتان متالزمتان فنيا وفكريا‪.‬‬
‫ول�شدة احل�ضور الروحي يف هذا املكان‪/‬القرية ف�إن الذات‬ ‫تتخذ الذات يف الن�ص من هذا املكان مهربا من تغول املدينة‬
‫يتمنى �أن ي�سافر (املكان) �إىل النا�س‪ ،‬ك�إحالة على �شدة انقطاع‬ ‫املليئة بالوح�شة‪ ،‬و�آليات احل�ضارة ب�ضجيجها وغربة الروح واغرتابها‬
‫النا�س يف لهوهم عن روح احلياة وان�شغالهم مبظاهرها وبهرجها‬ ‫فيها‪ ،‬نتيج��ة انقطاعها عن العامل الروح��ي‪ ،‬وهيمنة الزيف على‬
‫وب�صناعة كوارثهم وحروبهم وموتهم‪ ،‬ففي حني تكون الذات‬ ‫جوهرها‪ ،‬وهو ما جعل «يفر�س‪/‬القرية» تتجلى يف الن�ص كمعادل‬
‫راحل��ة �إىل هذا املكان‪/‬يفر�س كما يظه��ر يف العنوان‪ ،‬يتمنى‬ ‫مو�ضوعي مزدوج للروح مقاب��ل اجل�سد‪ ،‬وللمدينة مقابل القرية‪،‬‬
‫وملكونات احل�ضارة مقابل مكونات الطبيعة‪� ،‬إنه ي�ستثمره «للتعبري‬
‫ال��ذات لو يق��وم املكان بفعل الرحي��ل �إىل النا�س؛ لأنهم يف‬ ‫به عن مدى احلياة الواقعية الراهنة‪ ،‬التي افتقد فيها ال�شعور باملعنى‬
‫ح��ال ابتعادهم عنه غارقون يف ثاراتهم و�صراعاتهم وخطاياهم‬ ‫والقيم و«االت�صال» و«التوا�صل»‪ ،‬ومن ثم باحلياة التي تال�شى فيها‬
‫الدنيوي��ة‪ ،‬لذلك يدرك �أنه املكان الوحي��د ‪-‬ما دامت �صفاته‬ ‫ال�شعور بـ «االنتماء»‪ ،‬وبالهوي��ة املعنوية‪ ،‬والروحية املتجذرة التي‬
‫تل��ك‪ -‬الذي �سيتطه��رون فيه وبه من خطاياه��م‪� ،‬إنه يقرتحه‬ ‫جتعله ي�ست�شعر ويح�س ويدرك كينونته الذاتية واجلماعية الغارقة يف‬
‫كحل �أخري ل�سقيا الروح والنقاء والوئام النف�سي والروحي‪.‬‬ ‫�سلطة ح�ضارة الأ�شياء املادية التي بقدر ما �أفادت الإن�سان املعا�صر‪،‬‬
‫وقد جاء املكان تبعا لذلك منفتحا رحبا متحركا غري ثابت‬ ‫�صادرت هويته‪ ،‬و�أفقدته ال�شعور مبعنى الكرامة الإن�سانية»(((‪.‬‬
‫فب�إمكانه االنتقال لي�لا �إىل ال�شام وال�صالة يف مكة واجللو�س‬
‫�ساع��ات يف ح�ض��رة �أه��ل الع�ش��ق ال�صويف‪ ،‬كم��ا �أنه ميتلك‬ ‫((( امل�صدر نف�سه‪.103 :‬‬
‫�صف��ات ترتفع به عن امل��كان العادي فيغدو مكان��ا ا�ستثنائيا‬ ‫((( امل�صدر نف�سه‪.137 :‬‬
‫يزدح��م بال�ض��وء والده�ش��ة والبيا�ض وكلها �صف��ات روحية‬ ‫((( عثمان بدري‪ ،‬وظيفة العنوان‪.29 :...‬‬

‫‪83‬‬ ‫‪82‬‬
‫تكثف النزعة ال�صوفية له م��ن جهة وللمنت والذات املتلفظة‬
‫فيه من جهة �أخرى‪.‬‬
‫ثالث ًا ‪:‬‬ ‫ميكن الق��ول �إن اخلطاب ال�صويف يهيم��ن على املنت �أفقيا‬
‫شعرية التناص يف نص‪:‬‬ ‫وعمودي��ا‪ ،‬وينطلق م��ن العن��وان اخلارجي م��رورا بالعناوين‬
‫«أي َّ‬
‫فزاعة تطر ُد الي َ‬
‫ُتم عين!»‬
‫(((‬ ‫الداخلي��ة‪ ،‬وا�ستق��رارا يف الن�صو���ص‪ ،‬وه��و ما مينحه��ا بعدا‬
‫�شفيفا يقف عل��ى عتبات الروح‪ ،‬لي�شع��ل فيها رغبة البحث‬
‫واال�ستك�شاف الن�صيني‪ ،‬ويدفعها �إىل العودة �صوب الداخل‬
‫‪ .1‬توطئة‪:‬‬
‫بو�صف��ه مقام ا�ستق��رار وطم�أنينة‪ ،‬والتفلت م��ن �إ�سار اخلارج‬
‫تع��د الق�صيدة الكال�سيكية ق�صي��دة �شعرية‪ ،‬يف حني تعد‬ ‫بو�صفه مقام قلق و�شك وتيه واغرتاب طويل‪.‬‬
‫الق�صي��دة املعا�صرة �شعرية ق�صيدة بامتي��از‪ .‬ت�ؤكد هذه املقولة‬
‫التح��ول العميق يف امل�صطلح والر�ؤي��ة واال�شتغال ونتائج كل‬
‫ذلك مع��ا‪ ،‬على �صعيد الأن��واع الأدبية عام��ة وعلى �صعيد‬
‫ال�شع��ر خا�صة‪ ،‬فلم نعد جند نوعا �أدبي��ا‪� ،‬أو نظرية فكرية قا ّر ًين‬
‫على ح��ال ما‪ ،‬بل جند حت��ركا م�ستمرا وبوت�يرة مت�سارعة‪ ،‬يف‬
‫الإبداع ويف النظريات واملناهج ويف تطبيقاتهما‪.‬‬
‫من��ذ �أن ج��اءت النظرية ال�شعري��ة وهي متحرك��ة نتيجة‬
‫خللفي��ات وفل�سف��ة كل مفكر وم�شتغ��ل عليها وبه��ا؛ فنجد‬
‫�شعرية ياكب�سون‪ ،‬وتودوروف‪ ،‬وكم��ال �أبي ديب‪ ...‬وغريهم‪،‬‬
‫ولعل النقطة اجلامعة بني �أفكار ه�ؤالء وغريهم هي �أن املفهوم‬
‫الأويل لل�شعري��ة ي�أتي ك�إجابة عل��ى ال�س�ؤال‪ :‬ما الذي يجعل‬
‫م��ن الأدب �أدب��ا من جه��ة‪� ،‬أو ب�أنه��ا متثل جمم��وع الطرائق‬
‫((( لل�شاعر عبد املجيد الرتكي‪.‬‬

‫‪85‬‬ ‫‪84‬‬
‫فق��رة كبرية �أو �أكرث وال يحي��ل �إىل م�صدرها وم�ؤلفها‬ ‫الت��ي يتخذها الأدي��ب لبناء �أعماله من جه��ة �أخرى‪ ،‬وعلى‬
‫وين�سب العمل لنف�سه‪.‬‬ ‫تقارب هذه الأفكار والر�ؤى –ن�سبيا‪ -‬حول ال�شعرية‪ ،‬جند �أن‬
‫ج‪ -‬الإيحاء‪ :‬وهو �أك�ثر �ضمنية وخفاء‪ ،‬ويتم عربه حتويل‬ ‫طروحات جريار جينيت تختلف عن ه�ؤالء جميعا؛ فهو يرى‬
‫الن�ص و�إخفاء تراكيبه وقل��ب دالالته‪� ،‬أو �إبقائها بعد‬ ‫�أن �شعري��ة الن�ص تكمن يف «العالقات ع�بر الن�صية»(*) التي‬
‫دجمها يف �سياقات الن�ص اجلديد‪....‬‬ ‫متثل جمم��وع ما يربط ن�صا ما بن�ص �آخ��ر ويجعله ينفتح على‬
‫‪ - 2‬املنا�ص‪ :‬وميث��ل كل ما يحيط باملنت �أو الن�ص ويجعل‬ ‫ما ال يح�صى من الن�صو�ص ويحدد عالقته بالعامل‪ ،‬ويق�سمها‬
‫منه متنا‪/‬ن�ص��ا‪ ،‬ويق�سمه جينيت �إىل ق�سمني‪ :‬الأول‬ ‫�إىل خم�سة �أمناط يف�ضي كل منها �إىل ما يليه جتريدا وت�ضمينا‪،‬‬
‫الن�ص املحيط‪ ،‬والثاين الن�ص الفوقي‪ ،‬ويعني بالأول‬ ‫ب�شكل تراتبي‪ ،‬وهي بح�سبه(((‪:‬‬
‫كل م��ا يحي��ط باملنت ويك��ون قريب��ا من��ه كالعنوان‬ ‫‪ - 1‬التنا���ص‪ :‬وهو الوجود الفعلي لن���ص يف �آخر ب�شكل‬
‫الرئي�سي‪ ،‬والفرعي‪ ،‬والعناوين اخلارجية‪ ،‬والداخلية‪،‬‬ ‫معلن �أو خفي‪ ،‬وي�أتي هذا الوجود الن�صي وفق ثالث‬
‫واملقدمات‪ ،‬والإه��داءات‪� ...‬إلخ‪ ،‬ويعني بالثاين كل‬ ‫�آليات(**) هي‪:‬‬
‫م��ا يحيط باملنت ويكون عل��ى م�سافة �أبعد من �سابقه‪،‬‬ ‫�أ ‪ -‬االقتبا�س‪ :‬وهو تكرار وح��دة خطابية من خطاب يف‬
‫كاملرا�سالت واحلوارات ال�صحفية وغريها‪...‬‬ ‫خطاب �آخر‪ ،‬وميثل �أكرث وجوه التنا�ص جالء وحرفية‬
‫‪ -3‬امليتان���ص‪ :‬وهو العالقة التي تربط ن�صا ب�آخر يتحدث‬ ‫وح�ضورا‪.‬‬
‫عنه دون �أن يذكره مبا�شرة‪ ،‬ويتمثل يف عالقة ال�شرح‬ ‫ب‪ -‬ال�سرق��ة‪ :‬وهي اقتبا�س �صريح ولكنه غري معلن ومي�س‬
‫والتف�صيل‪� ،‬إنه عالقة النقد بامتياز‪.‬‬ ‫امللكية الفكرية للآخرين‪� ،‬سيما حني يكون املتنا�ص‬
‫‪ -4‬الن�ص اجلامع‪ :‬وهو العالقة التي تربط الن�ص بجن�سه‪،‬‬ ‫(*) هنالك من يرتجمها خط�أ بـ«املتعاليات الن�صية»‪.‬‬
‫وه��ي �أكرث �ضمنية وجتريدا‪ ،‬وتهيئ �أفق القارئ لتقبل‬ ‫((( ينظ��ر عن ذلك‪ :‬ناتايل بييق��ي غرو�س‪ ،‬مدخل �إىل التنا���ص‪ ،‬ترجمة عبد احلميد‬
‫عمل ما وفق م�ؤ�شره التجني�سي‪.‬‬ ‫بورايو‪ ،‬دار نينوى للدرا�سات والن�شر والتوزيع‪ ،‬دم�شق‪ ،‬د‪ .‬ط‪.20 - 17 : 2012 ،‬‬
‫(**) هن��اك وت�ضي��ق نات��ايل غرو�س �إليها �آلي��ة رابعة هي الإحالة؛ الت��ي ينفي الن�ص‬
‫‪ -5‬التعل��ق الن�صي‪ :‬ويتمثل يف عالق��ة اال�شتقاق التي‬ ‫بوا�سطته��ا معظ��م دوال الن�ص ال�سابق‪ /‬ويبق��ي على �شيء ي�سري منه��ا فقط‪ .‬ينظر ‪:‬‬
‫تربط بني ن�صني �سابق والحق‪ ،‬فالن�ص الالحق ينبني‬ ‫مدخل �إىل التنا�ص ‪.64 :‬‬

‫‪87‬‬ ‫‪86‬‬
‫الرتكي)‪ ،‬من بع�ض �إج��راءات املنهج ال�سيميائي (الباري�سي)‬ ‫وج��وده من ال�سابق‪ ،‬حني ي�شتق بنياته ودالالته وفق‬
‫�سبيال ملقاربة التنا�ص‪ ،‬وكيفيات انبنائه يف الن�ص‪ ،‬بغية الو�صول‬ ‫طريق��ة ما من �سابقه‪ ،‬ويعني ذلك �أن الن�ص (ب) هو‬
‫�إىل الدالالت العامة التي يتغياها‪ ،‬وكيفية ت�شكالتها‪ ،‬من خالل‬ ‫الن���ص الالحق الذي ي�شتق وج��وده من الن�ص (�أ)‬
‫درا�سة املنا�ص متمثال يف عتبة العنونة �أوال‪ ،‬ومن ثم التنا�ص مع‬ ‫وهو ال�سابق عليه يف الوجود‪ ،‬ويتم اال�شتقاق الن�صي‬
‫القر�آن الكرمي بو�صفه مهيمنا �سيميائيا يف الن�ص ثانيا‪.‬‬ ‫هذا وف��ق طريقتي املحاكاة والتحوي��ل ولكل منهما‬
‫�آلياته املحددة‪( ،‬لي���س هذا مقام ذكرها‪ ،‬وتف�صيلها)‪،‬‬
‫‪ .2‬املناص يف النص‪:‬‬ ‫ويعد هذا النمط �أهم الأمناط من حيث �إنه عام تندرج‬
‫ينتم��ي العنوان �إىل الن���ص املحيط ‪-‬كما ذكرن��ا �سابقا‪،-‬‬ ‫حتته بقية الأمناط الأخرى‪.‬‬
‫وميث��ل مفتاح��ا �إجرائي��ا يلج من خالل��ه الق��ارئ �إىل �أعماق‬ ‫ويح��دد ج�يرار جينيت ل��كل ق�سم م��ن ه��ذه الأق�سام‬
‫الن�ص‪ ،‬ويقدم �صورة ا�ستباقي��ة مل�ضامينه وعوامله‪ ،‬واملت�أمل يف‬ ‫�آليات��ه‪ ،‬و�إجراءات��ه اال�شتغالية التي يتغيا م��ن خاللها قراءة‬
‫عنوان ه��ذا الن�ص �سيج��ده عنوانا ملفوظ��ا‪� ،‬أي �أنه جزء من‬ ‫الن���ص‪ ،‬واكتناه تعالقاته مع ذاته والعامل‪ ،‬وانبناءاته ال�سطحية‬
‫املنت‪ ،‬منتزع من بناه الرتكيبي��ة‪ ،‬فهو يتكرر يف ال�سطر العا�شر‬ ‫والعميقة‪� ..‬إلخ‪ ،‬وطرح��ه جينيث هذا قد يجعل القارئ يظن‬
‫حرفيا وداللياً‪�“ :‬أي فزاعة تطرد اليتم عني”‪.‬‬ ‫للوهلة الأوىل �أنه يلغي البنيوية واحلقيقة �أنه ال ينفيها نفياً قاطعا‬
‫والف َّزاعة معجميا م�شتقة من ال َف َزع والتخويف‪ ،‬وهي عبارة عن‬ ‫بل يطورها ليجعلها بنيوية مفتوحة‪ ،‬ويركز على الأدب يف ذاته‪،‬‬
‫دمية (�شخ�ص‪/‬حار�س افرتا�ضي)‪ ،‬ي�صنعها الفالحون وي�ضعونها‬ ‫ويق�ص��ي �إطاره اخلارجي املقحم علي��ه �إقحاما من اخلارج‪ ،‬بل‬
‫يف حقولهم كحار�س وهمي ي�شتغل على الإيهام بدرجة �أ�سا�س؛‬ ‫يجع��ل الن�ص هو الذي يحي��ل �إىل خارجه املتمثل يف العامل‬
‫ليمنع الطيور والع�صافري من �أكل احلبوب والثمار الزراعية‪ ،‬وهذه‬ ‫ومكوناته كمرجعية‪ ،‬وي�ستبعد امل�ؤلف من دائرة اهتمامه(((‪.‬‬
‫ال�ص��ورة املنتزعة من الواقع حمملة ب�شحنات �أنرثبولوجية ممتدة‬ ‫تتغي��ا هذه القراءة ا�ستكناه �شعري��ة التنا�ص و�سيميائيته يف‬
‫يف الذاكرة مرتبطة مب�شاهد الطبيعة واحلقول منها ب�شكل خا�ص‪،‬‬ ‫ن���ص (�أي فزاعة تطرد اليتم عني) لل�شاعر اليمني (عبد املجيد‬
‫وال�شاعر حينما يتنا�ص معها ال ي�ستدعيها �إىل ن�صه مبحموالتها‬
‫((( ينظ��ر ‪ :‬ع�ص��ام وا�صل ‪ :‬التنا�ص الرتاث��ي يف ال�شعر العربي املعا�ص��ر‪ ،‬دار غيداء للن�شر‬
‫القارة فيها‪ ،‬و�إمنا يعمد �إىل قلب �صورتها النمطية‪ ،‬فيك�سر بذلك‬ ‫والتوزيع‪ ،‬الأردن‪ ،‬ط ‪2011 ،1‬م ‪.15 :‬‬

‫‪89‬‬ ‫‪88‬‬
‫ف��دال اليتم ي�ستدعي داللة املوت ذل��ك �أنه ال ُي ْت َم بدون‬ ‫�أفق التوقع لدى القارئ حني يجعل من الفزاعة �أُمنية يتغيا من‬
‫م��وت �أحد قطب��ي الأ�س��رة “الأب �أو الأم”‪ ،‬كما �أن اليتيم‬ ‫خاللها طرد اليتم الناجت ع��ن موت الأب‪/‬ال�شخ�صية املحورية‬
‫ي�ستدع��ي معه م ِّيتاً ما؛ �إما �أن يك��ون الأب �أو الأم �أو كليهما‬ ‫الت��ي تخاطبها الذات املتلفظ��ة يف الن�ص منذ بنيته االفتتاحية‬
‫دال بال�ضرورة ي�ستدعي مع��ه داال �ضمنيا يت�ضاد‬ ‫معا‪ ،‬ف��كل ٍّ‬ ‫حتى بنيته اخلتامية‪ ،‬و�إذا كان الن�ص ‪�-‬أي ن�ص‪ -‬حني ي�ستدعي‬
‫مع��ه �أو يت�ضمنه وينتج عن��ه؛ �أي �أن حدوث �أحدهما مرتتب‬ ‫ن�صا �آخر يعمل بدرجة �أ�سا�س على قلب دالالته وتغيري �سياقاته‬
‫على حدوث الآخر‪.‬‬ ‫ب�ش��كل متفاوت؛ ف���إن الن�ص الالحق هنا يح��ول الفزاعة من‬
‫�إن هذا العنوان يقدم حالة ذات تتغيا �إقامة و�صلة بـ«ف َّزاعة»‬ ‫حقله��ا �إىل حقل متخيل غري متحقق نابع م��ن �إميان املبدع ب�أنه‬
‫مفرت�ضة‪ ،‬تف�صل��ه عن قيمة اليتم بو�صف��ه حالة غربة روحية‪،‬‬ ‫لي�س ثمة ما يبعد املوت مهما يكن‪..‬‬
‫وفق��دان امتالك ينتج عنه يف العادة انقطاع عن م�صادر الرغد‬ ‫العن��وان يح�شد يف ذه��ن املتلقي هذه ال�ص��ور امل�ستدعاة‬
‫والعي�ش‪ ،‬والطفولة الآمن��ة‪ ،‬وا�ستغالل الآخرين لليتيم �سيما‬ ‫من الواق��ع فتجعله يت�أه��ب للدخول يف ع��امل الن�ص دراميا‬
‫يف �صغره‪..‬‬ ‫من حي��ث انبنائه على احلركة وال�ص��راع اللذين يوحي بهما‬
‫ويفر�ضهم��ا عل��ى الذاكرة؛ �سيم��ا يف دايل “ف َّزاع��ة ويتم”‪،‬‬
‫‪ .3‬التناص يف النص‪:‬‬ ‫فدال ف َّزاعة يحمل كل معاين اخلوف والرتهيب‪ ،‬وبذلك ف�إن‬
‫ويتنا�ص هذا الن�ص مع القران الكرمي‪ ،‬ومع �صور �أنرثبولوجية‬ ‫الف َّزاع��ة متثل عامال معيقا مينع م��ن االت�صال مبو�ضوع القيمة‪،‬‬
‫‪-‬كم��ا ر�أين��ا يف العنوان‪� ،-‬أو �صور منتزعة م��ن احلياة اليومية‬ ‫وعام�لا م�ساعدا لوا�ضعه‪/‬الفالح م��ن حيث �إنها حتافظ على‬
‫والطبيعة ك�صورتي الف َّزاعة واخل َّبازة التي حتمل خبزها وتبيعه‬ ‫حما�صيل��ه‪� ،‬أم��ا دال اليتم ف�إنه يحم��ل معه �ص��ورة م�أ�ساوية‬
‫للم��ارة‪� ،‬إال �أن هذه ال�ص��ور يف الن�ص ت�أتي ب�شكل جزئي غري‬ ‫درامية حتمل يف ب�ؤرتها معنى املوت واالغرتاب من حيث �إنها‬
‫مهيمن‪ ،‬يف حني ي�أتي التنا�ص مع القر�آن الكرمي مهيمنا يف كل‬ ‫بال�ضرورة ت�ستدعي معه��ا �أحد قطبي الداللة الغائبة‪ ،‬فاليتيم‬
‫بنى الن�ص‪ ،‬ولذلك �ستكتفي به القراءة ‪-‬هنا‪ -‬دون غريه‪.‬‬ ‫واليتم لديهما قطبان غائبان‪:‬‬
‫ويعني التنا�ص مع القر�آن الكرمي ا�ستدعاء دواله ومدلوالته‪،‬‬ ‫يتم ← موت‪.‬‬
‫والتفاع��ل معها‪ ،‬و�إع��ادة حتويلها يف ن�ص معط��ى‪ ،‬حتى تغدو‬ ‫يتيم ← ميت‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫‪90‬‬
‫�أن ثم��ة فجوات داللية وتركيبية‪ ،‬ي�ترك الن�ص مهمة �إكمالها‬ ‫جزءا من مكوناته و�شبكته الداللية والنحوية‪ ،‬فتكتمل حينئذ‬
‫للقارئ املفرت�ض؛ لأنه يفرت�ض �أن هذه الرتاكيب والدالالت‬ ‫الداللة بني الن�صني ويغدوان ن�صا واحدا‪.‬‬
‫قارة يف ذاكرته‪..‬‬ ‫ي�أت��ي التنا�ص م��ع القران الكرمي له��ذا الن�ص منذ اجلملة‬
‫وفاحتة الن�ص حينما ت�ستدعي ذلك تقر منذ البداية �أن ثمة‬ ‫البدئية للن�ص وحتديدا يف‪:‬‬
‫ف�صلة كبرية بني الأب وقيامه بت�أويل الر�ؤيا‪ ،‬وبينه وبني االبن‪،‬‬ ‫أبت‬ ‫من يُ�ؤَ ِّو ُل ر� َ‬
‫ؤياي يا � ِ‬
‫و�أن ثم��ة غربة ووحدة وفقداناً ملو�ض��ع نتج عنه انغالق املعرفة‬
‫وفقدان مو�ضوع اجلهة املتمث��ل يف املعرفة وت�أويل هذه الر�ؤيا‪،‬‬ ‫�إ ْذ �إن هذه اجلملة البدئية ت�ستنفر ذاكرة القارئ وتعود بها �إىل‬
‫وذل��ك ناجت ع��ن حالة اليت��م‪ ..‬التي نتج عنه��ا الفراغ الذي‬ ‫�آف��اق الن�ص القر�آين عامة‪ ،‬و�إىل الق�ص�ص منه خا�صة‪ ،‬وب�شكل‬
‫يج�سده امللفوظ الالحق للملفوظ االفتتاحي القائل‪:‬‬ ‫�أخ���ص �إىل ق�صة �سيدن��ا يو�سف عليه ال�س�لام ور�ؤاه املتعددة‪،‬‬
‫وينتقي منه��ا ر�ؤياه التي نتج عنها توج���س الأب وخوفه مما قد‬
‫فالفراغ مليء ب�أحالمنا‪..‬‬ ‫يحل بيو�سف‪ ،‬وحتذيره من مغبة ذلك‪ ،‬كما يخربنا قوله تعاىل‪:‬‬
‫��ر َكو َك ً‬ ‫َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫{ ِإ ْذ َق َ‬
‫�إن الفراغ ع��دم‪ ،‬وهو �أمر طبيعي بعد فقدان الأب‪� ،‬إال �أن‬ ‫با‬ ‫د ع ََش َ ْ‬ ‫��ت أ َح َ‬ ‫ب��ت ِإني َرأي ْ‬
‫ي��ه يَا أ ِ‬ ‫��ف أِل ِب ِ‬ ‫��ال ي ُوسُ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫ه��ذا الفراغ مليء ب�أحالم الذات‪ ،‬واحلل��م هو فراغ �أي�ضا و�إن‬ ‫دينَ {‪َ }4‬ق َ‬
‫��ال يَ��ا بُ� يَ َّ‬
‫َن�‬ ‫��اج ِ‬
‫ُ��م لِ��ي َس ِ‬ ‫��ر َرأيْتُه ْ‬ ‫��م َس َوال ْ َق َم َ‬ ‫َوا َّلش ْ‬
‫كان انزياحاً عن واقع خللق واقع مغاير غري متحقق يف الغالب؛‬ ‫��ك َكيْ��داً ِإ َّن ا َّلش��يْ َطا َن‬ ‫ي��دوا ْ ل َ َ‬ ‫��اك عَلَ��ى ِإ ْخ َو ِت َ‬
‫��ك فَ َي ِك ُ‬ ‫��ص ُر ْؤي َ َ‬‫الَ تَ ْقصُ ْ‬
‫يك َربَُّ��ك َوي ُ َعل ُم َك ِمن‬ ‫ذلِ َك جَيْ َتب َ‬ ‫َد ٌّو ُّمب ٌ�ين{‪َ }5‬و َك َ‬
‫لأن احللم يبقى جمرد ر�ؤى و�أفكار من ال�صعوبة جت�سيدها على‬ ‫ِ‬ ‫��ان ع ُ ِ‬ ‫إل َنس ِ‬ ‫لِ ِ‬
‫ُ َ ِّ مَ ََّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الواق��ع يف هذا الن�ص‪ ،‬والن�ص مل يذك��ر ماهية الأحالم ومل‬ ‫��م نِ ْع َم َت�� ُه عَلَيْ َك َوعَلَ��ى ِآل ي َ ْعقوبَ ك َم��ا أت َها‬ ‫ي��ث َوي ُ ِت ُّ‬
‫ي��ل األ َحادِ ِ‬ ‫تَأ ِو ِ‬
‫َ‬
‫يحدد نوعها‪ ،‬ولكن القارئ يلمحها من خالل دالالت احلزن‬ ‫يم َح ِكيمٌ{‪}6‬‬ ‫اق ِإ َّن َرب َّ َك َع ِل ٌ‬ ‫��ح َ‬ ‫يم َو ِإ ْس َ‬‫عَلَ��ى أب َ َوي ْ َك ِمن َق ْب ُل ِإب ْ َر ِاه َ‬
‫الق��ارة يف الن�ص‪ ،‬والناجتة عن امل��وت واليتم‪ ،‬وهذه الأحالم‬ ‫[يو�سف‪]6 - 5 - 4 :‬‬
‫تتمثل يف عودة الأب وت�أويل الأحالم واال�ستقرار‪� ..‬إلخ‪..‬‬ ‫والن�ص �إ ْذ يحيل �إىل ذلك ال يذكره مبا�شرة‪ ،‬و�إمنا ي�ستبطنه‬
‫فت�أوي��ل الر�ؤيا مرتبط يف اخلط��اب القر�آين بيو�سف بدرجة‬ ‫ويحيل �إليه ب�شكل خمتزل مكثف‪ ،‬ويداعب احلدث الكامن‬
‫�أ�سا�س ومن ثم بالأب الذي ف�سر �أول ر�ؤيا ر�آها يو�سف‪ ،‬فالأب‬ ‫يف ذاك��رة القارئ الذي يرتك له مهم��ة ا�ستكمال ذلك؛ �أي‬
‫‪93‬‬ ‫‪92‬‬
‫أْ ُ‬ ‫ذهَ��ا َولاَ خَ َت ْ‬ ‫��ال ُخ ْ‬
‫َق َ‬
‫يدهَا ِس�يرَ تَ َها الول{‪}21‬‬ ‫��ف َس�� ُن ِع ُ‬ ‫ي���ؤل ر�ؤيا يو�س��ف �أوال‪ ،‬ومن ثم ي�ؤل يو�س��ف ر�ؤيا ال�سجينني‬
‫��ك خَتْ ُ‬
‫��ر ْج بَيْ َض��اء ِم�� ْن َغيرْ ِ سُ ��و ٍء آي َ ًة‬ ‫َاح َ‬ ‫��د َك ِإلىَ َجن ِ‬ ‫��م ي َ َ‬
‫اض ُم ْ‬‫َو ْ‬ ‫وامللك‪ ،‬ويف اخلطاب ال�شع��ري مبوت الأب مل يجد يو�سف‪/‬‬
‫َ��ب ِإلىَ‬ ‫ُ‬ ‫��رى{‪ }22‬لِ ُن ِري َ َ‬ ‫ُ‬
‫ْب�ى{‪ْ }23‬اذه ْ‬ ‫��ك ِم�� ْن آيَا ِتنَ��ا الْك� رْ َ‬ ‫أ ْخ َ‬ ‫الن�ص من ي�ؤل ر�ؤياه‪ ،‬فيعمد امللفوظ ال�شعري �إىل حتويل كبري‬
‫ِف ْر َع ْو َن ِإن َّ ُه َط َغى{‪[ .}24‬طه‪]24 - 17 :‬‬ ‫يف اخلط��اب املتنا�ص‪ ،‬فالأب هناك مل مي��ت و�إمنا عا�ش حزينا‬
‫�إنال�شاعربا�ستدعائهلهذهال�شخ�صياتي�أتيبهاليمنحق�ضيته‬ ‫على ف��راق ابنه‪ ،‬وهنا يحدث العك���س فاالبن هو من يعي�ش‬
‫وحالت��ه ال�شعورية قيمة روحية‪ ،‬ويوح��ي بفداحة فقدان الأب‬ ‫حزينا لفراق �أبيه ويعي�ش يف غربة عن العامل‪.‬‬
‫م��ن جهة‪ ،‬وبقيمته ومكانته الت��ي كان يتبو�ؤها يف الأ�سرة ويف‬ ‫كم��ا �أن الن�ص يرتقي ب��الأب �إىل م�ص��اف روحانية حني‬
‫نف�سية املبدع‪ ،‬ومبدى الفراغ الذي تركه فيها من جهة �أخرى‪،‬‬ ‫يجعل��ه «يو�سفه��م» و«�سليمانهم» و«مو�ساه��م» (�ضمنيا)‪ ..‬يف‬
‫وت�ستدعي هذه ال�شخ�صيات معها �سماتها و�صفاتها‪ ،‬وت�سندها‬ ‫امللفوظ القائل‪:‬‬
‫�إىل الأب الذي �أ�صبح بذلك حامال لها‪ ،‬فغدا جميال وطاهرا‬ ‫فالفراغ ملي ٌء ب�أحالمِنا‬
‫ونقيا و�أمينا‪ ،‬وهو ما حتيل �إليه ال�صفات امل�ستعارة من �شخ�صية‬ ‫كنت يو�سفنا و�سليماننا‬‫َ‬
‫يو�س��ف عليه ال�سالم‪ ،‬وعارفا وعاملا و�أوتي من موا�ضيع القيمة‬ ‫ته�ش على �أمل ٍ‬
‫ع�صاك ُّ‬‫َ‬ ‫ما تزال‬
‫وموا�ضي��ع اجلهة ال�ش��يء الكثري‪ ،‬وهو ما توح��ي به �شخ�صية‬ ‫كل و�سائدنا‪.‬‬ ‫يتوطن َّ‬
‫ُ‬
‫�سليمان عليه ال�سالم‪ ،‬كما �أنه قد �أوتي الكثري من اخل�صائ�ص‬ ‫وه��ذا امللفوظ ي�ستدعي يف ال�سطري��ن الأولني �شخ�صيتي‬
‫الداللية امل�ستعارة من �شخ�صية مو�سى عليه ال�سالم‪.‬‬ ‫يو�س��ف و�سليم��ان ويف ال�سط��ر الثالث ي�ستدع��ي �شخ�صية‬
‫و�إذا كان املتلف��ظ يف الن�ص يوح��ي ب�شكل غري معلن عرب‬ ‫مو�س��ى عليه ال�سالم �إال �أن��ه مل يذكرها و�إمنا ذكر الع�صا وهي‬
‫�ضم�ير املتكلم ب�أنه يو�سف ف�إن��ه ي�سند ذلك يف امللفوظ الذي‬ ‫قيمة تختزل كل �سم��ات وخ�صائ�ص ال�شخ�صية الدال عليها‬
‫يلي��ه ب�شكل معلن و�صريح للأب الذي كان مبثابة يو�سف‪� ،‬إن‬ ‫قوله تعاىل‪:‬‬
‫َ ُ‬
‫�شخ�صي��ة يو�سف حتتمل داللتني اثنت�ين الأوىل امل�سندة �إىل‬ ‫ال ِه َي ع ََصايَ أتَ َو َّكأ‬
‫ُوسى{‪َ }17‬ق َ‬ ‫{ َو َما ِتل ْ َك ِب َي ِم ِين َك يَا م َ‬
‫ال��ذات املتلفظة يف البنية االفتتاحي��ة للن�ص وهي االغرتاب‬ ‫آربُ أُ ْخ َرى{‪َ }18‬ق َ‬
‫ال‬
‫َ‬
‫عَلَيْ َها َوأ ُه ُّش ِب َها عَلَى َغن َِمي َولِ َي ِفي َها َم ِ‬
‫َ‬
‫التي ترتب عليها اخلروج من العامل �إىل اجلب �أوال ومن اجلب‬ ‫ُوس��ى{‪ }19‬فَ َأل ْ َقاهَا فَ ِإ َذا ِه َي َح َّي ٌة تَ ْس�� َعى{‪}20‬‬ ‫أل ْ ِق َها يَا م َ‬

‫‪95‬‬ ‫‪94‬‬
‫َ‬
‫دين َِة امْ َرأة ُ ال ْ َع ِز ِيز ت ُ َر ِاو ُد فَ َتاهَا عَن ن َّ ْف ِس ِ��ه‬ ‫ال نِ ْس�� َو ٌة يِف مْال َ ِ‬
‫{ َو َق َ‬ ‫�إىل العامل ثانيا‪ ،‬والداللة الثانية م�سندة �إىل الأب وهي �صفات‬
‫ني}[يو�سف‪.]30 :‬‬ ‫ال ٍل ُّم ِب ٍ‬ ‫َراهَا ف َض َ‬
‫يِ‬ ‫د َش َغ َف َها حُ ّب ًا ِإنَّا لَن َ‬ ‫َق ْ‬ ‫اجلمال والروحانية‪� ...‬إلخ‪.‬‬
‫وي�شتغل الن�ص على حتوي��ل يف عوامل ال�سرد؛ �أي ا�ستبدال‬ ‫ويعم��ل الن�ص على قلب داللة الآي��ة ال�سابقة فحني كان‬
‫القائم�ين بالفع��ل �سيميائي��ا‪ ،‬في�ستبدل ام��ر�أة العزي��ز باخلبازة‪،‬‬ ‫مو�س��ى يه�ش بع�صاه على غنمه كان الأب يه�ش بها على �أمل‬
‫وي�ستبدل القائم باملراودة من امر�أة العزيز �أي�ضا �إىل الطيور‪ ،‬ويحول‬ ‫يتوطن كل و�سائد الذوات املفرت�ضة �إىل جوار املتلفظ‪:‬‬
‫املُ َرا َود من يو�سف �إىل �أحالم اخلبازة‪ ،‬ليخدم �سياقات الن�ص وفق‬ ‫ته�ش على �أمل ٍ‬
‫ما تزال ع�صاك ُّ‬
‫ر�ؤيته للعامل النابعة من التجربة الواقع حتت �ضغطها‪ ..‬ويعمق حالة‬ ‫يتو َّطن َّ‬
‫كل و�سائدنا‬
‫االغرتاب والفقد التي ت�ستمر يف مفا�صل الن�ص ومتتد �إىل قوله‪:‬‬
‫ويبق��ى التنا�ص م��ع تيمات ق�ص��ة يو�سف علي��ه ال�سالم‬
‫تم عني‬
‫� ُّأي ف َّزاعة تطرد اليـ ُ َ‬ ‫متمف�صال يف الن�ص‪ ،‬وحميال �إىل الفراغ واالغرتاب‪ ،‬وحماولة‬
‫فال كنز حتت اجلدار‬ ‫اخلروج من االغرتاب واللحاق بالأب‪ ،‬يف �صورة مركبة مدورة‬
‫�سوى وج ٍع لي�س يُقنى‪.‬‬ ‫تف�ضي حماورها الأوىل �إىل التي تليها‪:‬‬
‫فه��ذا امللف��وظ يعمق داللة الفق��د والفراغ وق�س��وة اليتم‬ ‫اخلوف فاكهتي‬ ‫ُ‬ ‫�سوف �آتي وقد نخر‬
‫وي�ستدعي �إىل الذاكرة قوله تعاىل‪:‬‬ ‫و�س�أم�سح يف عتبات بهائك حزين‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اس َ��ت ْط َع َما أهْلَ َها فَ َأب َ ْوا أن‬
‫ِّ {فَا َنطلَ َقا َح َّتى ِإ َذا أتَ َيا أه َْل َق ْري َ ٍة ْ‬ ‫بت �أحمله مثل خبَّاز ٍة‬
‫الذي ُّ‬
‫نق َّض فَ َأ َقا َم ُه َق َ‬
‫ال‬ ‫يد أَ ْن ي َ َ‬
‫داراً ي ُِر ُ‬ ‫دا ِفي َها ِج َ‬ ‫ي َُضي ُفو ُه َما فَ َو َج َ‬ ‫ال طيور تراود �أحالمها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ل َ ْو ِشئْ َت لاَ خَّ َت ْ‬
‫ذ َت عَلَيْ ِه أ ْجراً }‪[.‬الكهف‪]77 :‬‬ ‫فال�شاعر يقرر �أنه �سوف ي�أتي ومي�سح على عتبات بهاء الأب‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫دين َِة َو َكا َن‬ ‫يِف مْال َ ِ‬ ‫دا ُر فَكا َن لِ ُغلاَ َمينْ ِ ي َ ِت َ‬
‫يم ِ�‬
‫ْي�نْ‬ ‫ال َ‬ ‫جْ‬
‫{ َوأ َّم��ا ِ‬ ‫حزنه‪/‬الذات ال��ذي يحمله كخبازة ال طي��ور تراود �أحالمها‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫حَتْ َت�� ُه َك ٌ ُ‬
‫��ك أ ْن ي َ ْبلُ َغا‬ ‫ال ًا فَ��أ َرا َد َرب ُّ‬ ‫ن��ز هَّل َم��ا َوكا َن أب ُو ُه َما َص حِ‬ ‫ف��دال تراود يحيل �إىل ق�صة يو�سف مع امر�أة العزيز وما ترتب‬
‫د ُه َما َوي َ ْس َ��ت ْخ ِر َجا َك َ‬ ‫َ‬
‫ح ًة من َّرب َك َو َما فَ َعلْتُ ُه َع ْن‬ ‫نز ُه َما َر مْ َ‬ ‫أ ُش َّ‬ ‫عليها من غربة وانقطاع ع��ن العامل بدخوله ال�سجن وبالتايل‬
‫ِّ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫أمْ ِري َذلِ َك تَأ ِو ُيل َما مَل ْ تَ ْس ِطع عَّلَيْ ِه َصبرْ اً}‪[.‬الكهف‪.]82 :‬‬ ‫اكت�شاف براءته‪� ..‬إلخ‪ ،‬كما يقول تعاىل‪:‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪96‬‬
‫�إن دال (كنت) يوحي ِبف ُْ�ص َل ٍة بني [قبل وبعد]‪ ،‬وانتقال من‬ ‫ف���إذا كان امللف��وظ القر�آين يخرب يف دالالت��ه ب�أن ثمة كنزا‬
‫كائن كان ف َّع��اال �إىل كينونة غري فاعلة‪ ،‬ففي القبل كان الأب‬ ‫ليتيم�ين ف���إن امللفوظ ال�شع��ري يخرب ب�أن اجل��دار ال يحتوي‬
‫موجودا ميار�س طقو�س القراءة على جرح االبن‪ ،‬يف زمن مليء‬ ‫ذلك الكنز ليعمق داللة الفقر والوحدة‪ ،‬وبالتايل ف�إن امللفوظ‬
‫بالبهج��ة واالمتالك‪ ،‬ويف املابعد �أ�صبح الأب مفقودا‪ ،‬و�أ�صبح‬ ‫ال�شع��ري يتماثل مع الن�ص الق��ر�آين ويتخالف معه من جهة‬
‫الزم��ن مفرغا من البهج��ة وممتلئا بالتعا�س��ة واحلزن‪ ..‬ولذلك‬ ‫�أخرى؛ يتماثل معه من حي��ث �إن هناك ُي ْتما‪ ،‬ويتخالف معه‬
‫ي�ستغي��ث ال�شاع��ر بالزمن‪/‬ال�سعيد املمتلئ بالبه��اء قبل �أن‬ ‫م��ن حيث وجود الكن��ز واختفائه‪ ..‬لتت�س��ع دوائر االغرتاب‬
‫يداهمه الليل وي�أكل نق��اءه وطهارته‪ ..‬ويخرب عن حالته التي‬ ‫والوح�شة التي نتج عنها مناجاة ال�شاعر لأبيه يف قوله‪:‬‬
‫يود الهرب منها �إليه �إ ْذ يقول‪:‬‬ ‫�أبي‪:‬‬
‫�إن دمعي ُ‬
‫ي�سيل على ما يرا ُم‬
‫�أنا رئ ٌة‬
‫وحرف الق�صيدة ُم ٌّر كقيء املري�ض‬
‫أردت انتحاراً‬
‫لو � ُ‬ ‫ولكن عافية املوت �أو�س ُع‬
‫الق�ش‬
‫جبال من ِّ‬ ‫حلالت ٌ‬
‫ْ‬ ‫من غائالت احلياة‪.‬‬
‫بيني وبني املياه‪.‬‬ ‫ثمة �أمنية يف املوت والهرب من غائالت احلياة‪� ،‬إىل ات�ساع‬
‫عافية املوت‪ ،‬ويتنا�ص ال�شاع��ر �أثناء مناجاته لأبيه مع طقو�س‬
‫وهو بذل��ك ي�ستدعي �إىل الذاكرة ق�صة الطوفان‪ ،‬وع�صيان‬ ‫دينية تتمثل يف قراءة الفاحتة على املري�ض‪:‬‬
‫بن نوح‪ ،‬وغرقه‪ ،‬الدال عليها قوله تعاىل‪:‬‬
‫كنت تقر�أ فاحتة فوق جرحي‬
‫م‬ ‫َاص َ‬ ‫��ال الَ ع ِ‬
‫��آوي ِإلىَ َج َب�� ٍل ي َ ْع ِص ُم ِم��نَ مْالَاء َق َ‬
‫نيِ‬ ‫��ال َس ِ‬‫{ َق َ‬
‫ومت�سح بال�ضوء روحي‬
‫َ‬ ‫هّ‬ ‫َ‬
‫��ال بَيْ َنه َُم��ا مْالَ�� ْو ُج فَ��كا َن ِم��نَ‬ ‫الل ِإالَّ َم��ن َّر ِح َ‬
‫��م َو َح َ‬ ‫ال ْ َي�� ْو َم ِم�� ْن أمْ ِ‬
‫��ر ِ‬ ‫ؤمن بيديك‬
‫�أنا الآن �أكرث من �أي وقت م�ضى م� ٌ‬
‫ني}‪[.‬هود‪.]43 :‬‬ ‫مْال ُ ْغ َر ِق َ‬ ‫�أغثني �أبي‬
‫وهو ح�ين ي�ستدعيه��ا ي�ستدعيها ب�شكل مغاي��ر ل�سياقها‬ ‫الليل وجهي‬
‫قبل �أن ي�أكل ُ‬
‫التاريخ��ي متاما‪ ،‬في�صب��ح االبن رئة‪ ،‬وهو ال��ذي يود االنتحار‬ ‫وخارطتي‬
‫واملوت بغية اللحاق بالأب‪ ،‬ولكنه يف�صح �أن ثمة معيقا يعيقه‬ ‫وبقايا بيا�ضي‪.‬‬

‫‪99‬‬ ‫‪98‬‬
‫نص القصيدة احملللة‪:‬‬ ‫ع��ن �أمنيته هذه‪ ،‬واملعيق برغ��م �إعاقته له �ضعيف‪/‬جبال من‬
‫الق�ش‪ ،‬فالق�ش على �ضعفه مينعه من االت�صال ب�أمنيته يف حني‬
‫كان يف امللف��وظ القر�آين نداء م��ن الأب ويف الن�ص ال�شعري‬
‫تم عني ؟؟‬
‫الي َ‬
‫� ُّأي ف َّزاع ٍة تطر ُد ُ‬ ‫نداء من االبن للأب‪ ،‬ومتاثل يف �أن االبنني الأول غرق والآخر‬
‫يود الغرق‪ ،‬والأول عا�ص والآخر بار بابيه‪.‬‬
‫أبت‬
‫ؤياي يا � ِ‬ ‫من يُ�ؤَ ِّو ُل ر� َ‬ ‫وخال�صة ما ميكن قوله يف هذه القراءة �أن ن�ص عبد املجيد‬
‫فالفراغ ملي ٌء ب�أحالمنا‬ ‫ُ‬ ‫الرتك��ي يتنا�ص مع �آي��ات القران الك��رمي الدالة على احلزن‪،‬‬
‫كنت يو�سفنا و�سليماننا‬ ‫وعل��ى املكيدة واالغ�تراب بالفعل وبالق��وة‪ ،‬وحينما يتنا�ص‬
‫ته�ش على �أمل ٍ‬ ‫ع�صاك ُّ‬ ‫َ‬ ‫ما ُ‬
‫تزال‬ ‫معها يعمل عل��ى قلب دالالتها وم�ضامينه��ا‪ ،‬ويفرغها دالليا‬
‫كل و�سائدنا‬ ‫يتو َّط ُن َّ‬ ‫ليحمله��ا �أبعاد جتربته ور�ؤيته للع��امل وللحياة وفق فل�سفته من‬
‫اخلوف فاكهتي‬ ‫ُ‬ ‫�سوف �آتي وقد نخر‬ ‫الأ�شي��اء‪ ،‬ويعم��ل على حتويل و�إ�ضاف��ة‪� ،‬أو حتويل وحذف يف‬
‫بهائك حزين‬ ‫َ‬ ‫عتبات‬ ‫أم�سح يف‬ ‫القي��م املتمف�صلة يف الآيات القر�آنية التي تنا�ص معها يف ن�ص‬
‫ِ‬ ‫و�س� ُ‬
‫مثل خبـَّاز ٍة‬ ‫بت �أحمله َ‬
‫«�أي فزاعة تطرد اليتم عني»‪.‬‬
‫الذي ُّ‬
‫ال طيو َر تراو ُد �أحال َمها‬
‫تم عني‬ ‫� ُّأي ف َّزاع ٍة تطرد اليـ ُ َ‬
‫فال كنز حتت اجلدا ِر‬
‫�سوى وج ٍع لي�س يُقنى‪..‬‬
‫�أبي ‪:‬‬
‫ي�سيل على ما يرا ُم‬ ‫�إن دمعي ُ‬
‫املري�ض‬
‫ِ‬ ‫وحرف الق�صيدة ُم ٌّر كقي ِء‬

‫‪101‬‬ ‫‪100‬‬
‫ولكن عافي َة ِ‬
‫املوت �أو�س ُع‬ ‫َّ‬
‫رابع ًا ‪:‬‬ ‫غائالت احلياة ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫من‬

‫توظيف القرآن الكريم‬


‫كنت تقر�أُ فاحت ًة فوق جرحي‬ ‫َ‬
‫(*)‬
‫يف ديوان «اإلغارة»‬ ‫ومت�سح بال�ضو ِء روحي‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫بيديك‬ ‫وقت م�ضى م�ؤم ٌن‬ ‫�أنا الآن �أكرث من � ِّأي ٍ‬
‫‪ - 1‬توطئة‪:‬‬
‫�أغثني �أبي‬
‫يعد ال�تراث الإن�ساين �أحد الرواف��د الروحية التي ينفتح‬
‫عليها ال�شاعر ليعيد �إنتاجها‪ ،‬وتوظيفها يف ن�صو�صه‪ ،‬وفق طرائق‬ ‫الليل وجهي‬ ‫قبل �أن ي�أكل ُ‬
‫متع��ددة‪ ،‬و�أ�ساليب �شتى‪ ،‬ت�ستثري يف ذاكرة القارئ الع�شرات‬ ‫وخارطتي‬
‫جماع من‬‫م��ن الن�صو���ص التي يكتظ به��ا العامل‪ ،‬فال��ذات ّ‬ ‫وبقايا بيا�ضي‬
‫الن�صو���ص ت�ستمدها من العامل‪ ،‬وكذا م��ن اخلربات القرائية‬ ‫�أنا رئ ٌة‬
‫املرتاكمة عرب م�سريتها الفكرية والعلمية‪.‬‬ ‫أردت انتحاراً‬ ‫لو � ُ‬
‫لقد عاد ال�شاع��ر العربي �إىل الرتاث ‪-‬ب�شكل عام‪ -‬جلملة من‬ ‫َ�ش‬
‫جبال من الق ِّ‬ ‫حلالت ٌ‬
‫الأ�سباب والعوامل‪ ،‬منها ما هو فني‪ ،‬ومنها ما هو �سيا�سي واجتماعي‪،‬‬ ‫بيني وبني امليا ْه‪.‬‬
‫ومنه��ا ما هو قومي ونف�سي(((‪� ...،‬إلخ‪ ،‬وهو ما �أ�ضفى على ن�صو�صه‬
‫لل�شاعر‪ :‬عبد املجيد الرتكي‬
‫نوعا من املو�ضوعية‪ ،‬و�أبعدها عن الذاتية والغنائية املبا�شرة‪ ،‬وجعلها‬
‫تالم�س وجدان املتلقي؛ لأنها تخاطب جزءا من دواخله الروحية‪،‬‬
‫(*) �ألقيت ه��ذه الورقة يف «ملتقى ال�شعر الف�صيح» الذي نظمته مديرية الثقافة لوالية‬
‫(وادي �سوف) يف اجلمهورية اجلزائرية (‪ 9 - 7‬مار�س ‪2009‬م)‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬د‪ .‬علي ع�شري زايد‪ ،‬ا�ستدعاء ال�شخ�صيات الرتاثية يف ال�شعر العربي املعا�صر‪،‬‬
‫من�شورات ال�شركة العامة للن�شر والتوزيع والإعالن‪ ،‬طرابل�س‪ ،‬ط‪1978 ،1‬م‪.57 - 17 :‬‬

‫‪103‬‬ ‫‪102‬‬
‫‪ .2‬حوافز التوظيف القرآني ‪:‬‬ ‫وتر�س��خ يف كينونته �شيئا من هويته‪� ،‬سيما حني يكون هذا الرتاث‬
‫�إن املطلع على ديوان ال�شعر اجلزائري لواجد فيه �أن الرتاث‬ ‫�أقرب اىل الهوية الروحية والإن�سانية‪ ،‬كالرتاث الديني مثال؛ «لأن‬
‫الديني ب�ش��كل عام‪ ،‬والقر�آين منه ب�شكل خا�ص هو املهيمن‬ ‫�صل��ة ال�شاعر برتاثه الدين��ي �صلة عقيدة‪ ،‬وخ�صو�ص��ا مع القر�آن‬
‫عل��ى غريه من الرتاث‪ ،‬ولعل ذلك ن��اجت عن قناعات ال�شاعر‬
‫(((‬
‫الك��رمي‪ ،‬الكتاب الر�س��ايل املعجز‪ ،‬والت�شريع الإله��ي املحكم»‬
‫ب�أنه هو احلل‪� ،‬سيما عند معاجلت��ه لق�ضايا وطنية وقومية ت�شي‬ ‫الذي غري طرائق التلقي والتفكري و�أدوات التعبري‪ ،‬منذ زمن بعيد‪،‬‬
‫برف���ض الزحف واملد الأجنبي‪/‬غ�ير امل�سلم‪ ،‬وا�ستيالئه على‬ ‫فظل ال�شاعر يحلم به‪ ،‬ويجاريه‪ ،‬وي�ستلهمه يف كتاباته‪.‬‬
‫(((‬
‫موا�ضيع قيمة عربية مركزية‪ ،‬وهو ما �سرناه يف منت (الإغارة)‬ ‫ولع��ل من املفي��د الإ�شارة هن��ا �إىل �أن طرائ��ق العودة �إىل‬
‫لل�شاعر اجلزائري «بوزيد حرز اهلل» كنموذج على ذلك‪.‬‬ ‫ال�تراث والتقاط��ع معه ق��د تدرجت‪ ،‬وم��رت مبراحل �شتى‪،‬‬
‫ي�أت��ي توظيف القران الكرمي يف دي��وان «الإغارة» منذ الن�ص‬ ‫منذ الإحيائي��ة وحتى اللحظة‪� ،‬إذ اختلفت هذه املراحل وفقا‬
‫الأول فيه‪ ،‬ولذلك داللت��ه اجلمالية‪ ،‬فالن�ص الأول ميثل الفاحتة‬ ‫الختالف الر�ؤي��ة والأداة‪ ،‬ونتج عنها ما ي�سميه الدكتور علي‬
‫الن�صي��ة التي ت�ؤطر املنت ككل‪ ،‬وه��و �أول ما يواجه املتلقي منه‪،‬‬ ‫ع�شري زايد((( بالتعبري عن الرتاث �أو التعبري به‪..‬‬
‫وذلك ي�ستث�ير ذاكرته وذائقته اجلمالية؛ لأن��ه يعيدها �إىل املنت‬ ‫ولعل �أقرب �أن��واع الرتاث �إىل املب��دع العربي هو الرتاث‬
‫الق��ر�آين‪ ،‬و�إىل وقائعه و�ص��وره و�أزمنته و�أمكنت��ه‪ ،‬ولأن ال�شاعر‬ ‫الديني‪ ،‬والقر�آين منه ب�شكل �أكرث؛ لأنه �أُ ُّ�س املرجعية الروحية‬
‫«ينطل��ق من امل��وروث الديني على �أ�سا�س فاعلي��ة التوا�صل مع‬ ‫والفكرية‪ ،‬وهو املركز الذي تتمف�صل حوله وفيه وبه جملة من‬
‫الذاكرة اجلمعية»(((‪ ،‬التي ي�شكل القر�آن �أكرب م�ساحة منها‪..‬‬ ‫القي��م والقوان�ين‪ ،‬واملفاهيم املتعالية على الآن��ات والأمكنة‪،‬‬
‫وي�أت��ي اجتاه «بوزيد» �إىل توظي��ف القر�آن الكرمي ‪-‬كما يتجلى‬ ‫وم��ع �أنه ال ينبغي �أن يعد الق��ر�آن الكرمي تراثا لذاته ويف ذاته‪،‬‬
‫يف املنت الكل��ي للديوان‪ -‬مرتبطا ب�أحد جانب�ين �أو كليهما معا‪،‬‬ ‫ف�إنه يعد كذلك لوجوده الزمني‪ ،‬املرتبط ببعثة الر�سول الكرمي‬
‫�أولهم��ا اله��م اجلمعي املرتب��ط بامل�صري القوم��ي للوطن العربي‬ ‫علية ال�صالة وال�سالم فقط‪.‬‬
‫((( خديج��ة ح�س�ين �أحم��د املغنج‪ ،‬ا�ستله��ام الرتاث يف �شع��ر عبد العزي��ز املقالح‪،‬‬
‫((( بوزيد حرز اهلل‪ ،‬الإغارة‪ ،‬من�شورات‪ ،ANEP :‬اجلزائز‪ ،‬ط‪2003 ،1‬م‪.‬‬ ‫اجلمهورية اليمنية‪ ،‬وزارة الثقافة وال�سياحة‪� ،‬صنعاء‪ ،‬د‪.‬ط‪2004 ،‬م‪47 :‬‬

‫((( خديجة املغنج‪ ،‬ا�ستلهام الرتاث يف �شعر عبد العزيز املقالح‪.46 :‬‬ ‫((( ينظر علي ع�شري زايد‪ ،‬ا�ستدعاء ال�شخ�صيات الرتاثية‪80 :‬‬

‫‪105‬‬ ‫‪104‬‬
‫�سرياه بالفعل مهيمنا يف كل مفا�صل الن�ص‪ ،‬وانفتاحاته على‬ ‫وهويت��ه‪ ،‬يف ظل امل��د ال�صهيوين وغريه‪ ،‬وثانيهم��ا مرتبط بتعرية‬
‫امل��وروث القر�آين يف ذاته‪� ،‬أو ال��ذي ي�ستدعي معه بنى تراثية‬ ‫اخلن��وع ال�سيا�س��ي العرب��ي املتقوقع على ذات��ه‪ ،‬واملنكفئ على‬
‫�أخرى كما �سرنى الحقا‪.‬‬ ‫هزائمه فقط‪.‬‬
‫وقد �أتى توظيف الدوال القر�آنية عن طريق القافية التي متثل‬ ‫يتجلى اجلان��ب الأول يف الن�ص الأول م��ن املنت «ترنيمة‬
‫ذروة الإيقاع املو�سيقى‪ ،‬يف الن�ص ال�شعري‪ ،‬كما هو يف قوله‪:‬‬ ‫لعر�س اجلنوب» الذي يهدي��ه «�إىل انت�صار �إخواننا يف جنوب‬
‫«هو ذا اجلنوب منزل تنزيال‬ ‫لبن��ان»‪ ،‬وهو بذلك يف�صح عن الق�ضي��ة التي ي�شتغل عليها‪،‬‬
‫واملتمف�صل��ة يف الن�ص منذ عنوانه الذي ميثل مفتاحه الأويل‪،‬‬
‫ومرتل يف �صوتنا ترتيال»(((()‪.‬‬ ‫وعتبت��ه البنيوي��ة الت��ي ت�ؤ�شر امل�تن‪ ،‬وتعطي ملح��ة �أولية عنه‬
‫الذي ي�ستدعي �إىل الذاكرة قوله تعاىل‪:‬‬ ‫للمتلقي‪ ،‬وت�شري �إىل جن���س الن�ص (االفرتا�ضي)‪ ،‬من حيث‬
‫َ‬
‫ي�لا{‪ }2‬نِ ْص َف ُه أ ِو‬ ‫��ل ِإلاَّ َق ِل ً‬‫��م اللَّيْ َ‬‫��ل{‪ }1‬قُ ِ‬ ‫{يَ��ا أَي ُّ َه��ا مْال ُ َّزم ُ‬ ‫ه��و‪« :‬ترنيم��ة»‪ ،‬والرتنيمة م�شتقة معجميا م��ن الرتمن‪ ،‬والرتمن‬
‫ِّ َ‬
‫يال{‪ِ }4‬إنَّا‬ ‫��رآ َن تَ ْر ِت ً‬ ‫يال{‪ }3‬أ ْو ِز ْد عَلَيْ ِه َو َرت ِل ال ْ ُق ْ‬ ‫ص ِمنْ�� ُه َق ِل ً‬ ‫ا ُنق ْ‬ ‫ترجي��ع ال�صوت طربا من ف��رح ما‪ ،‬ويبني الن���ص �سبب هذه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َس�� ُنل ْ ِقي عَلَيْ َك َق ْوالً ث َ ِق ً‬
‫د َو ْطءاً َوأقْ َومُ‬‫اش َئ َة اللَّيْ ِل ِه َي أ َش ُّ‬
‫يال{‪ِ }5‬إ َّن ن َ ِ‬
‫الرتنيمة‪/‬الط��رب‪ ،‬واملتمث��ل يف االنت�ص��ار‪ ،‬ولأن االنت�ص��ار‬
‫يال{‪.(((}7‬‬ ‫حا َط ِو ً‬ ‫يال{‪ }6‬إ َّن ل َ َك ف اَل َّن َهار َسب ً‬ ‫ِق ً‬ ‫ي�ستل��زم عر�سا‪ ،‬فقد كان ذلك هو ال�س��ر الكامن وراء احتفاء‬
‫ِ ْ‬ ‫يِ‬ ‫ِ‬
‫الذات بالإيقاع‪ ،‬الناجت عن توظيف الدوال القر�آنية يف القافية‬
‫فف��ي اخلطاب القر�آين احتفاء بال�سجع‪ ،‬وجتان�س الكلمات يف‬ ‫‪-‬كم��ا �سرنى‪ ،-‬لذا مل ت�أت هذه الدوال يف القافية جزافا‪� ،‬أو‬
‫�آخر كل �آية‪(/‬قليال‪ ،‬ترتيال‪ ،‬ثقيال‪ ،‬قيال‪� ...‬إلخ)‪ ،‬و�إتيانها كفوا�صل‬ ‫ح�شوا ميكن اال�ستغناء عنه‪.‬‬
‫تكتم��ل بها كل �آية بنائيا و�إيقاعيا‪ ،‬وهو ما يتماثل معه ال�شاعر يف‬
‫خطابه‪ ،‬عرب كل وحدة داللية‪� ،‬أو ما ي�سمى بالبيت ال�شعري الذي‬ ‫يت�أ�س���س الن�ص الأول م��ن املنت على تنا���ص �إيقاعي مع‬
‫الق��ر�آن الك��رمي‪ ،‬وخ�صو�صا م��ع �سورة املزمل‪ ،‬وه��و ما يعمل‬
‫يتماثل �صوتيا مع اخلطاب القر�آين على نحو معني‪ ،‬فتقابل القافي ُة‬ ‫عل��ى �إ�ضفاء القدمي على الن���ص واملت ّلفظ به وناطقه لتقريبهما‬
‫َ‬
‫الفوا�صل يف اخلطاب القر�آين‪..‬‬ ‫يف اخلطاب ال�شعري‬ ‫م��ن املتلقي بع��د �إثارة البني��ة الإيقاعية الكامن��ة يف ذاكرته‪،‬‬
‫‪9‬‬ ‫((( بوزيد حرز اهلل‪ ،‬الإغارة‪:‬‬ ‫فيظل مت�أجج��ا �إيقاعيا يتوق��ع ال�شعوريا �أن البني��ة الإيقاعية‬
‫((( املزمل‪� ،‬آية‪7 - 1 :‬‬
‫امل�ستم��دة من الذاكرة هي املهيمنة عل��ى بنية الن�ص‪ ،‬وهو ما‬
‫‪107‬‬ ‫‪106‬‬
‫ع��ن انت�صار معط��ى �إىل ِّ‬
‫م�صاف كتاب مقد���س‪ ،‬يتنزل على‬ ‫ف�إذا كان القر�آن الكرمي هو الأكرث قربا للروح‪ ،‬والأكرث ح�ضوراً‬
‫املتلقي‪ ،‬فريتله ترتيال‪:‬‬ ‫يف الذاك��رة اجلمعية‪ ،‬ف�إن توظيفه يف الن�ص يجعله مثريا‪ ،‬معجبا‬
‫«هو ذا اجلنوب منزل تنزيال‬ ‫يف جمالياته الناجتة عن التماهي بني خطابني يف خطاب واحد‪،‬‬
‫(((‬
‫ومرتل يف �صوتنا ترتيال»‬
‫لكل منهما خ�صائ�صه ومميزاته التي تندغم يف قالب واحد‪ ،‬ومن‬
‫هن��ا يت�شكل االنزياح عن املعياري��ة القارة يف كل منهما‪ ،‬وعلى‬
‫وهو ما يتوطد �أكرث يف قوله‪:‬‬ ‫الرغم م��ن توظيف ال�شاعر للدوال القر�آني��ة على النحو الذي‬
‫«لبنان كم ظل ال�رساب يلفنا‬ ‫ر�أين��ا‪ ،‬ف�إنه ي�شتغل عل��ى حتويل مع��ريف داليل‪ ،‬يرتبط بالوعي‬
‫حتى �أتيت بوحيها جربيال‬ ‫الأيديولوج��ي‪� ،‬أي �أنه ‪-‬يف ح�ين‪ -‬يتماثل �إيقاعيا مع اخلطاب‬
‫فتعانق القر�آن والإجنيل يف‬ ‫القر�آين من جهة‪ ،‬يغايره داللي��ا من جهة �أخرى‪ ،‬حني يناق�ش‬
‫�آيات حق ترف�ض الت�أويال‬ ‫ق�ضية قومية‪ ،‬متمثلة يف الق�ضية اللبنانية املعروفة بت�شعباتها‪.‬‬
‫�أورا�س حن لعر�سه و�شموخه‬ ‫وق��د جاء الن���ص احتفاء خا�ص��ا بهذه الق�ضي��ة والعر�س‬
‫ملا رميت حجارة �سجيال‬ ‫القومي�ين‪ ،‬بطريقة املب��دع‪ ،‬وطريقة الن�ص املزدح��م بالدوال‬
‫حلقت يف «جزين» طريا جارحا‬ ‫القر�آني��ة التي عاد �إليه��ا لي�ضفي على متن��ه وق�ضيته قدا�سة‬
‫روحية؛ لأن الق��ر�آن الكرمي ميثل ذروة القدا�سة لدى الإن�سان‬
‫(((‬
‫ودفعت �إبرهة‪ ..‬دفعت الفيال»‬ ‫امل�سل��م‪ ،‬فحيثما ُوجِ َد هذا القر�آن �أو �ش��يء منه فثمة قدا�سة‪،‬‬
‫فثمة قد�سية نابعة من العودة اىل جذور التاريخ الإ�سالمي‪،‬‬ ‫لأن القدا�س��ة تتج�سد يف امل�صادر الدينية‪ ،‬وي�صبح توظيف ما‬
‫وتيمت��ه الإن�سانية‪ ،‬والقومية الأوىل‪ ،‬فنت��ج عن الن�صر توحيد‬ ‫حتتوي��ه تلك امل�ص��ادر �سببا يف �إ�ضفاء القد�سي��ة على الق�ضية‬
‫ب�ين الأديان‪ ،‬وتعانق بني القر�آن والإجنيل‪ ،‬و�أ�صبحت الأديان‬ ‫مو�ضوع التناول(((‪ ،‬وخ�صو�صا �إذا كانت الق�ضية ذات ارتباط‬
‫حا�سم��ة جازمة‪ ،‬ال تقبل �أي ت�أوي��ل‪ ،‬كح�سم الن�صر الذي ال‬ ‫مبا�شر بالواقع‪ ،‬وامل�صري القومي والإن�ساين والروحي‪ ،‬لذا فقد‬
‫يقبل الت�أويل �أي�ضا‪.‬‬ ‫ارتفع الن�ص ال�شعري بجن��وب لبنان يف حلظة الإبداع الناجتة‬
‫‪9‬‬ ‫((( بوزيد حرز اهلل‪ ،‬الإغارة‪:‬‬ ‫((( ينظ��ر‪� :‬صادق عي�سى اخل�ض��ور‪ ،‬التوا�صل بالرتاث يف �شعر عز الدين املنا�صرة‪ ،‬دار‬
‫((( امل�صدر نف�سه‪10 :‬‬ ‫جمدالوي للن�شر والتوزيع‪ ،‬االردن‪ ،‬ط‪2007 ،1‬م‪54 :‬‬

‫‪109‬‬ ‫‪108‬‬
‫�إن توظي��ف َد ْاليَّ «حجارة و�سجي��ل» يف الن�ص ال�شعري قد‬ ‫وهذا الن�صر ي�ستثمر يف الذاكرة خزينها القومي‪ ،‬الوطني‪،‬‬
‫يكتف بذلك‬‫ا�ستدع��ى معه ال�سورة التي وردا فيها كاملة‪ ،‬ومل ِ‬ ‫ح�ين ي�ستعيد بهذا العر���س الفرائحي العر�س ال��ذي �أقامته‬
‫فق��ط بل ا�ستدعى معه��ا �سياقها التاريخ��ي وق�صتها وحوافزها‪،‬‬ ‫جب��ال الأورا�س منذ زمن‪ ،‬فت�سلل م��ن الذاكرة بكل خزينه‬
‫لأن ا�ستدعاء �شيء م��ن الرتاث ي�ستدعي معه بال�ضرورة �سياقا‬ ‫الن�ضايل ور�صيده اجلمعي يف الذاكرة‪ ،‬عرب قوله‪:‬‬
‫ح�ضاريا كامال(((‪ ،‬و�إن مل يذكره الن�ص ب�شكل مبا�شر و�صريح‪.‬‬ ‫«�أورا�س حن لعر�سه و�شموخه‬
‫ملا رميت حجارة‪� ...‬سجيال»‬
‫‪ .3‬القضية وأبعاد الرتميز ‪:‬‬
‫ولأن الن���ص يحتفي �إيقاعي��ا بالعر�س الفرائحي الناجت عن‬ ‫دال يحمل ر�صي��دا �أيديولوجيا‪ ،‬وقوميا وثوريا يف‬ ‫ف�أورا�س ٌّ‬
‫الن�ص��ر ‪-‬كما �أ�شرنا‪ -‬ف�إنه ي�ستدع��ي �شخ�صية الفنانة اللبنانية‬ ‫الذاكرة العربي��ة ب�شكل عام‪ ،‬ويف الذاك��رة اجلزائرية ب�شكل‬
‫(فريوز)؛ التي قا�سم��ت لبنان بكاءها وفرحها‪ ،‬وحملت معها‬ ‫خا�ص‪ ،‬فم��ن جبال الأورا���س كان املنا�ضل��ون ينطلقون �إىل‬
‫معاناتها حتى ارتبطت به��ا ‪-‬فنيا‪ ،-‬وال ي�أتي بهذه ال�شخ�صية‬ ‫�ساح��ات اجلهاد‪ ،‬والدفاع عن احلري��ة والكرامة �إنه رمز للثورة‬
‫ك�صورة طبق الأ�صل لها‪ ،‬بل ي�سمو بها فيمنحها �صورة قر�آنية‪،‬‬ ‫واالنت�صار معاً‪...‬‬
‫و�ص��ورة �أ�سطورية‪ ،‬م�ستوحاتني من ق�صة العذراء‪/‬مرمي البتول‬ ‫ويزيد ق�ضيته قدا�سة حني يقارن بني لبنان والطيور التي ق�ضت‬
‫عليه��ا ال�سالم‪ ،‬فيجعلها رمزا قوميا للعفة‪ ،‬وللمر�أة التي حتمل‬ ‫على �إبرهة وجنده‪ ،‬ويجع��ل الطرف الآخر مياثل �إبرهة وجنده‪،‬‬
‫ق�ضية وتت�شبث بها‪ ،‬وال تفرط فيها‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫ف�إذا كانت احلجر رمزا للدفاع �ضد الزحف الذي ا�ستهدف رمز‬
‫ِرتاب اجلنوب» ت�ضمخي‬ ‫«فريوز «ب ِ‬ ‫القدا�سة الإ�سالمية‪/‬الكعبة؛ ف�إن الق�ضية اللبنانية ت�سمو لدى‬
‫ومتايلي �صف�صافة ونخيال‬ ‫ال�شاعر يف ن�صه لتكت�سب فيه قدا�سة من مماثلها التاريخي‪ ،‬الذي‬
‫وا�ساقطي رطبا جنيا �إنني‬
‫َّ‬
‫ميثل معادال مو�ضوعيا لها‪ ،‬وي�ستدعي قوله تعاىل‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫{أَ مَل ْتَ َر َكيْ َ‬
‫(((‬
‫من بع�ض طهرك قد �صنعت بتوال»‬ ‫د ُه ْ‬
‫م‬ ‫اب ال ْ ِف ِيل{‪ }1‬أ مَل ْ جَيْ َع ْل َكيْ َ‬
‫ف فَ َع َل َرب ُّ َك ِبأصْ َح ِ‬
‫ي��ل{‪ }3‬تَ ْر ِمي ِه��م‬ ‫��م َط�ْي�رْ اً أَبَا ِب َ‬ ‫ف تَ ْض ِلي�� ٍل{‪َ }2‬وأَ ْر َس َ‬
‫��ل عَلَيْ ِه ْ‬ ‫يِ‬
‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫((( ينظر‪ :‬د‪ .‬رحاب اخلطيب‪ ،‬معراج ال�شاعر‪ ،‬مقاربة �أ�سلوبية ل�شعر طاهر ريا�ض‪،‬‬ ‫حِ ِب َجا َرة ٍ من ِسجي ٍل{‪ }4‬فَ َج َعله ُْم ك َع ْص ٍف َّمأكو ٍل{‪. }}5‬‬
‫(((‬
‫امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2005 ،1‬م‪.144 :‬‬ ‫ِّ ِّ‬
‫((( بوزيد حرز اهلل‪ ،‬الإغارة‪.11 :‬‬ ‫((( الفيل‪� ،‬آية‪5 - 1 :‬‬

‫‪111‬‬ ‫‪110‬‬
‫«الزال يف اجلوالن وعد بيننا‬ ‫�إ ْذ يعيد توظيف قوله تعاىل‪:‬‬
‫فلتوقدي بذرى ال�ش�آم فتيال‬ ‫��ك ر َُط ً‬
‫ب��ا‬ ‫��ذ ِع الن َّْخلَ ِ��ة ت ُ َس��ا ِق ْط عَلَيْ ِ‬
‫��ك جِ ِب ْ‬
‫{ َو ُه��زي ِإلَيْ ِ‬
‫ولتطلقي بف�ضاء «غزة» �صيحة‬ ‫َج ِنيّ ًا} ِّ(((‪.‬‬
‫ولتن�شدي ما بدلوا تبديال‬ ‫�إنه بتوظيف ه��ذه ال�شخ�صية يف هذا ال�سياق مينحها الهالة‬
‫فالقد�س كل القد�س معراج وقد‬ ‫القد�سي��ة والروحاني��ة الدينية ال لذاتها ويف ذاته��ا‪ ،‬بل لأنها‬
‫عرب الفرات براقنا والنيال»(((‪.‬‬ ‫مرتبط��ة بالق�ضي��ة التي يتحدث عنه��ا‪� ،‬أي لأنها حتمل ق�ضية‬
‫�إنه احلنني لعر���س جديد‪ ،‬بعد عر�س جنوب لبنان‪ ،‬و�أمنية‬ ‫�شع��ب ووط��ن يف فنها و�إبداعاته��ا‪ ..‬وهو �إ ْذ يعم��د �إىل ذلك‬
‫يف «ت��رمن» جديد متعلق بتحرير الأر���ض الفل�سطينية املحتلة‪،‬‬ ‫يطلب من ف�يروز �أن تتحول �إىل نخلة‪ ،‬ف���إذا كانت النخلة قد‬
‫فيح�ش��د ال�شاعر لذلك جملة من التوظيفات القر�آنية‪ ،‬وي�ؤكد‬ ‫ارتبطت يف الذاكرة اجلمعية بالعزة والكرامة‪ ،‬وم�صدر الرزق‪،‬‬
‫قيمة الأرا�ضي املقد�سة‪ ،‬و�أنها الأر�ض التي مت منها العروج �إىل‬ ‫حت��ى �أ�صبحت رم��زا للقومي��ة العربية‪ ،‬وارتبط��ت يف ذاكرة‬
‫ال�سماوات‪ ،‬كما ي�ؤكد �صرب الإن�سان املنا�ضل فيها‪ ،‬بقوله‪:‬‬ ‫املتلق��ي �أي�ضا بالع��ذراء عليها ال�سالم عن��د و�ضعها جلنينها‪،‬‬
‫«ولتطلقي بف�ضاء «غزة» �صيحة‬ ‫فكان��ت النخل��ة م�صدر رزقه��ا بعد ال��والدة‪ ،‬وبذلك حتولت‬
‫فريوز‪ ،‬وفارقت الن�ص الق��ر�آين دالليا‪ ،‬ف�أ�صبحت هي النخلة‬
‫ولتن�شدي ما بدلوا تبديال»‬ ‫ذاتها‪ ،‬وهي التي تتمايل فتت�ساقط رطبا جنيا‪.‬‬
‫الدال عليه قوله تعاىل‪:‬‬ ‫و�إذا كان��ت ق�ضية جنوب لبنان هي الب���ؤرة املحورية التي‬
‫هَّ َ‬
‫َدوا الل عَلَيْ ِه فَ ِم ْنهُم‬
‫دقُوا َما عَاه ُ‬ ‫ال َص َ‬ ‫ني ِر َج ٌ‬‫{ ِمنَ مْال ُ ْؤ ِم ِن َ‬ ‫يتناولها الن�ص ف�إن ال�شاعر ال يتوقف عندها فقط‪ ،‬بل يتجاوزها‬
‫يال}(((‪.‬‬ ‫د ً‬ ‫دلُوا تَ ْب ِ‬ ‫َّمن َق َضى حَنْ َب ُه َو ِم ْنهُم َّمن ي َ َ‬
‫نت ِظ ُر َو َما ب َ َّ‬ ‫�إىل ق�ضي��ة حتمل م�أ�ساة �أكرب منها‪ ،‬وه��ي ق�ضية فل�سطني‪ ،‬وما‬
‫ويبقى توظيف القر�آن الكرمي املرتبط بالهم القومي املتعلق‬ ‫ي�ستدعي هذا الق�ضية هو املجاورة بني فريوز وق�ضيتها اللبنانية‬
‫بالقد���س ّ‬
‫مت�شظياً يف جملة م��ن الن�صو�ص منها ن�ص «معزوفة‬ ‫املوازي��ة للق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬وه��ي الق�ضية التي ارتبطت بها‬
‫ب�شكل مبا�شر منذ بداياتها‪ ،‬يقول ال�شاعر‪:‬‬
‫‪12‬‬ ‫((( بوزيد حرز اهلل‪ ،‬الإغارة‪:‬‬
‫((( الأحزاب‪� ،‬آية‪23 :‬‬ ‫‪25‬‬ ‫((( مرمي‪� ،‬آية‪:‬‬

‫‪113‬‬ ‫‪112‬‬
‫امل�شرك��ون؛ ف���إن الن���ص ال�شعري يتن��اول �شخ�صي��ة مغايرة‬ ‫ال�سي��د الأ�صم» الذي يهديه اىل «وق��ع احلجارة»‪ ،‬وحتديدا يف‬
‫ليعريها ويك�شف انهزامها‪ ،‬و�صممها املرتتب عليه عدم �سماع‬ ‫املقطع ال�سابع منه‪� ،‬إ ْذ يقول‪:‬‬
‫النداءات املر�سلة �إليه من القد�س‪.‬‬ ‫«وارتقى �سدرة املنتهى‬
‫وا�شتهى حلظة للو�صال‬
‫‪ .4‬االستخدام العكسي لداللة املرجع ‪:‬‬
‫ظلت القد�س ترنو له‬
‫وي�أتي اجلانب الآخر من تعامل ال�شاعر مع اخلطاب القر�آين‬
‫‪-‬وه��و ارتباط��ه مع الق�ضي��ة ال�سيا�سي��ة‪ -‬يف �إطار م��ا ي�سمى‬ ‫(�أن تعال)‪.‬‬
‫باال�ستخدام العك�سي ملالمح الرتاث‪ ،‬ويتمثل هذا الأ�سلوب‬ ‫فا�ستوى حجرا وبكى‬
‫يف ا�ستخ��دام املالم��ح القر�آنية يف التعبري ع��ن معان تناق�ض‬ ‫وكفى (امل�ؤمنني) الرجال‬
‫املدلول للآيات القر�آنية‪ ،‬ويهدف ال�شاعر من ا�ستخدامه لهذا‬ ‫(((‬
‫�رش ما يف القتال»‪.‬‬
‫الأ�سل��وب يف الغالب �إىل توليد نوع م��ن الإح�سا�س العميق‬ ‫�إن هذا امللفوظ يوحي مبدى التخاذل املخزي الذي ي�صور‬
‫باملفارق��ة بني املدلول الرتاث��ي للقر�آن والبع��د املعا�صر الذي‬ ‫أ�صم‪ ،‬ترنوا �إليه القد���س باملجيء لتخلي�صها من قب�ضة‬
‫ي�ستخدم��ه يف التعبري عنه(((‪ ،‬على نحو ما يجد القارئ يف قول‬ ‫�سيدا � َّ‬
‫املحت��ل‪ ،‬فيتح��ول �إىل حجر ويبك��ي‪ ،‬بعد �أن ارتق��ى �سدرة‬
‫ال�شاعر من ن�ص «مرثية واغتيال ع�ش ال�سفر املغناج»(((‪:‬‬ ‫املنته��ى‪ ،‬وظل يحلم بلحظة للو�ص��ال‪� ،‬إن دال «ارتقى �سدرة‬
‫«كان يروي لنا‪:‬‬ ‫املنتهى» ي�ستدعي �إىل الذاكرة قوله تعاىل‪:‬‬
‫�أنه واحد يغفر الذنب‬ ‫َ َْ ً ُ‬
‫ن��د ِس ْ‬
‫��د َر ِة‬ ‫��ة أ ْخ َ‬
‫��رى{‪ِ }13‬ع َ‬ ‫{ َول َ َق ْ‬
‫��د َرآه ُ نزل‬
‫�أو ي�سرت العيب‪� ،‬أو‪...‬‬ ‫مْالُن َْت َهى{‪.(((}}14‬‬
‫ثم ها هو ذا يرتاجع‪،‬‬ ‫ف�إذا كان��ت الآية حتكي عن ذات مقد�س��ة وهي �شخ�صية‬
‫يرتك �سلطته‬ ‫الر�س��ول الك��رمي‪ ،‬وتربئه��ا من تق��والت �شتى �أ�سنده��ا �إليه‬
‫‪255‬‬ ‫((( ينظر علي ع�شري زايد ا�ستدعاء ال�شخ�صيات الرتاثية يف ال�شعر العربي‪:‬‬ ‫‪28‬‬ ‫((( بوزيد حرز اهلل‪ :‬الإغارة‪:‬‬
‫((( بوزيد حرز اهلل‪ /‬الإغارة‪39 :‬‬ ‫((( النجم‪� :‬آية‪14 ،13 :‬‬

‫‪115‬‬ ‫‪114‬‬
‫في�ستدعي قوله تعاىل‪:‬‬ ‫للذي فاج�أ الأر�ض والعر�ض‬
‫ُ‬
‫يم }(((‪.‬‬ ‫ح ُن ا َّ‬
‫لر ِح ُ‬ ‫د الَّ ِإلَهَ ِإالَّ ُه َو ا َّ‬
‫لر مْ َ‬ ‫م ِإلَهٌ َو ِاح ٌ‬
‫{ َو ِإلَـهُك ْ‬ ‫وال�شهداء‪»..‬‬
‫(((‬

‫لي�ش��ي مبدى قب��ح ت�أليه هذه ال�سلط��ة الب�شرية‪ ،‬الناجت عن‬ ‫فهو ي�ستدعي �إىل الذاكرة الأ�سماء احل�سنى‪ ،‬التي ت�ستدعي‬
‫ت�ضخيم نف�سها لدى ال�شعب‪ ،‬بالفعل وبالقوة من جهة‪ ،‬وي�شي‬ ‫معه��ا �سلطة ال��ذات العليا‪ ،‬ولكنه ي�ستخدمه��ا عك�سيا ليبني‬
‫مبدى فراغ هذه ال�سلطة الب�شرية عندما حتني �ساعة جد ما من‬ ‫املفارقة بني �سلطتني اثنتني؛ ال�سلطة الإلهية القادرة على كل‬
‫جهة �أخرى‪.‬‬ ‫�شيء‪ ،‬وبني ال�سلط��ة الب�شرية الفاقدة ملوا�ضيع القيمة املتمثلة‬
‫ويف ن�ص «�ص��ورة للبحر‪ ..‬و�سورة للأحزان»((( ثمة توظيف‬ ‫يف الإقدام واحلزم‪� ...‬إلخ‪ ،‬وتزداد املفارقة حدة حني يكت�شف‬
‫للق��ر�آن الكرمي يتجل��ى من العنوان وحتدي��دا يف دال «�سورة»‬ ‫القارئ �أن الذات املت�سلطة الب�شرية تفر حينما يداهم الأر�ض‬
‫املحم��ل بتاريخه املتعل��ق بالقر�آن‪ ،‬فحني ي�سم��ع املتلقي دال‬ ‫والعر���ض كائن م��ا‪ ،‬كعادة الزعماء الذين يف��رون بعد توريط‬
‫َّ‬
‫«�س��ورة» ي�سمع معه دالالت قر�آنية‪ ،‬وحينم��ا يقر�أ هذا الدال‬ ‫�شعوبه��م‪ ،‬وتركهم وحده��م يف �أر�ض املعرك��ة‪ .‬وي�صور مدى‬
‫يقر�أ معه دالالت قر�آنية ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬وي�أتي يف املقطع الرابع‬ ‫تخاذله يف حلظات اجلد‪ ،‬وحتايله على �شعبه‪� ،‬إ ْذ يقول‪:‬‬
‫توظي��ف مللفوظ قر�آين فيه �سخرية م��ن ال�سلطة‪(/‬الكبار)‪� ،‬إ ْذ‬ ‫«كان يروي لنا‪،‬‬
‫يقول‪:‬‬ ‫�أنه واحد‬
‫«هل �أتاك حديث الكبار؟‬ ‫و�سوا�سية ه�ؤالء العباد‬
‫را�سمي الليل يف ق�سمات النهار‪.‬‬ ‫ثم هاهو يجمع �شلته‬
‫ويهدد ‪�-‬سبحانها من �شفافية‪-‬‬
‫مبدعي كل �شيء‬
‫ويفرق‬
‫�سوى �أن يظل ال�صفاء يف عيون ال�صغار‪.‬‬
‫واختارنا لل�سواد»(((‪.‬‬
‫‪.163‬‬ ‫((( البقرة‪� ،‬آية‪:‬‬ ‫‪.40‬‬ ‫((( امل�صدر نف�سه‪:‬‬
‫((( بوزيد حرز اهلل‪ ،‬الإغارة‪.83 :‬‬ ‫((( امل�صدر نف�سه‪.42 :‬‬

‫‪117‬‬ ‫‪116‬‬
‫ف�إنه��ا يف امللفوظ ال�شع��ري تك�سر �أفق املتلقي بع��د �أن تهيئه‬ ‫عد �إىل �صمتك الآن‬
‫ل�سماع �أخبار «الكبار» لفظا‪ ،‬ال�صغار معنى‪ ،‬فهم «را�سمو الليل‬ ‫ال تنتظر‪.‬‬
‫يف ق�سم��ات النهار»‪ ،‬ف�إذا كان اللي��ل رمزا للرجعية والتخلف‬ ‫عانق البحر واقر�أ عذابك‬
‫وامل��وت وال�سكون وانعدام الر�ؤية‪ ،‬عل��ى عك�س النهار الذي‬ ‫(((‬
‫يف كل ما يحتوي من �صور‪».‬‬
‫يرم��ز �إىل احلرية واالنطالق و�شدة و�ض��وح الر�ؤية‪ ،‬ف�إن ه�ؤالء‬
‫ف���إذا كان الن�ص ينفتح على م��ا ال يح�صى من الن�صو�ص‬
‫الكبار ير�سمونه يف ق�سمات النهار وبذلك يطم�سون به احلرية‪،‬‬
‫ف���إن (هل �أتاك حدي��ث‪ )..‬ينفتح على �آي��ات �شتى من �سور‬
‫ويحلون حملها العبودية‪� ...‬إلخ‪ ،‬فهم «مبدعو كل �شيء» �سوى‬
‫متعددة منها‪:‬‬
‫احلرية والطم�أنينة يف عيون ال�صغار‪.‬‬ ‫{ َوه َْل أتَ َ‬ ‫َ‬
‫ُوسى}‬
‫(((‬ ‫د ُ‬
‫يث م َ‬ ‫اك َح ِ‬
‫َ‬
‫يم مْال ُ ْك َر ِم َ‬
‫�إن ال�شاعر بوزيد حرز اهلل حينما ي�أتي بتوظيفات م�ستمدة‬ ‫د ُ‬ ‫{ه َْل أتَ َ‬
‫ني }‬
‫(((‬
‫يث َضيْ ِف ِإب ْ َر ِاه َ‬ ‫اك َح ِ‬
‫م��ن اخلطاب القر�آين؛ ف�إنه ي�أتي به��ا لأحد �أمرين �إما لتدعيم‬ ‫د ُ‬ ‫{ه َْل أتَ َ‬
‫(((‬
‫ُوسى}‬
‫يث م َ‬ ‫اك َح ِ‬
‫ق�ضي��ة قومية‪ ،‬وحتميلها قيمة روحي��ة‪ ،‬و�إ�ضافة قيم قد�سية لها‪،‬‬ ‫َ‬
‫و�إما لتعري��ة ال�سلطة‪ ،‬ينتقي منها ماله وجود مرتاكم يف ذاكرة‬
‫(((‬
‫يث جْالُ ُنودِ }‬
‫د ُ‬ ‫{ه َْل أتَ َ‬
‫اك َح ِ‬
‫{ه َْل أتَ َ‬ ‫َ‬
‫الق��ارئ‪ ،‬فيك�سر التوقع لدي��ه حينما ي�ستخ��دم هذا الرتاث‬
‫(((‬
‫يث ال ْ َغ ِ‬
‫اش َي ِة }‬ ‫د ُ‬‫اك َح ِ‬
‫ا�ستخدام��ا عك�سي��ا‪� ،‬إ ْذ يفرغ دالالت��ه القارة في��ه‪ ،‬ويحملها‬ ‫ف�إذا كانت هذه اجلمل��ة املفتاحية يف الآيات القر�آنية تهيئ‬
‫دالالت مناق�ضة لها؛ لي�صور عمق املفارقة القائمة بني زمنني‪،‬‬ ‫القارئ لتلقي �أخبار ق�ص�صية‪ ،‬وحكايات تاريخية ب�شكل جاد‪،‬‬
‫وبني خطابني‪ ،‬وبني �أيديولوجيتني حتمالن مفارقات �شتى‪.‬‬ ‫‪.86‬‬ ‫((( امل�صدر نف�سه‪:‬‬
‫((( طه‪� ،‬آية‪.9 :‬‬

‫((( الذاريات‪� ،‬آية ‪.24‬‬

‫((( النازعات‪� ،‬آية‪.15 :‬‬

‫((( الربوج‪� ،‬آية‪.17 :‬‬

‫((( الغا�شية‪� ،‬آية‪.1 :‬‬

‫‪119‬‬ ‫‪118‬‬
‫خامس ًا ‪:‬‬
‫الوعي النسوي يف نص‬
‫(((‬
‫«مقاس عربي»‬

‫‪ - 1‬توطئة‪:‬‬
‫يتجلي الوعي الن�سوي يف ال�شعر الن�سائي اليمني عرب ق�ضايا‬
‫ومظاهر ن�سوية متعددة‪ ،‬ت�شكل يف جمملها خ�صائ�صه و�سماته‬
‫املحورية‪ ،‬كق�ضية عالقة ال��ذات بالآخر‪ ،‬وان�شراخات الأنوثة‬
‫الناجتة عن النظ��ام االجتماعي الأب��وي ال�ضاغط‪ ،‬ومناه�ضة‬
‫العن��ف الذكوري‪ ،‬وتعري��ة الأن�ساق التقليدي��ة االجتماعية‪،‬‬
‫والثقافي��ة‪ ،‬والتاريخية‪ ،‬وف�ضح هيمنتها‪ ،‬وحماولة املر�أة امتالك‬
‫الهوي��ة واحلرية‪ ،‬وت�أ�سي���س نف�سها ذاتا م�ستقل��ة مقابل الآخر‬
‫املتعايل‪ ،‬وتظهر جملة من هذه الق�ضايا �أو كلها كمهيمنات يف‬
‫�شعر كل من «ابت�سام املتوكل»‪« ،‬هدى �أبالن»‪« ،‬نبيلة الزبري»‪،‬‬
‫و«منى جني��ب حممد»‪ ،‬و«�سو�سن العريق��ي»‪ ،‬و«ليلى �إلهان»‪،‬‬
‫بينم��ا تختفي كمهيمنة يف �شعر جمموع��ة من ال�شاعرات كـ‬
‫«مي�سون الإرياين» و«غادة احل��رازي» و«مليحة الأ�سعدي»(*)‪،‬‬
‫و�أخري��ات‪ ،‬ويعود ذلك �إىل درجة الوع��ي بالذات من جهة‪،‬‬
‫((( �سو�سن العريقي‪� ،‬أكرث من الالزم‪� ،‬صنعاء‪( ،‬طبعة خا�صة) ط‪2007 ،1 :‬م‪.16 - 11 :‬‬
‫(*) ه��ذه الأ�سم��اء كنماذج دالة فح�س��ب‪ ،‬ولي�ست نهائية‪ ،‬فامل�شه��د الإبداعي اليمني‬
‫املعا�صر ي�ضج بالأ�سماء الن�سائية والن�سوية معا‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫وقب��ل �أن نتناول هذا الن���ص �سن�شري �إىل �أه��م مرتكزات‬ ‫والآخر والعامل من جهة ثانية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ال�شعور با�ستالب‬
‫النظري��ة الن�سوي��ة‪ ،‬ونعم��د �إىل ف�ض اال�شتب��اك احلا�صل بني‬ ‫الهوية‪ ،‬وعنف التج��ارب التي تعانيها الذوات �أو يعاي�شنها �أو‬
‫امل�صطلح��ات املتعلقة به��ذه النظرية‪ ،‬ومن ث��م تو�ضيح ماهية‬ ‫ي�سمعن عنها فتنعك�س كلها على �إبداعاتهن ب�شكل �أو ب�آخر‪.‬‬
‫الكتاب��ة الن�سوي��ة‪ ،‬والن�سائي��ة‪ ،‬حتى يت�سنى لن��ا ال�سري وفق‬ ‫ت�سعى ه��ذه القراءة �إىل ا�ستكناه بع���ض من هذه املالمح‬
‫طريق حمدد‪ ،‬وطريقة وا�ضحة غري مرتبكة‪.‬‬ ‫يف ن���ص «مقا�س عربي» لل�شاع��رة اليمنية «�سو�سن العريقي»‪،‬‬
‫كنموذج لوع��ي الأديبة اليمنية بالق�ضاي��ا الن�سوية و�أبعادها‪،‬‬
‫‪ - 2‬يف إشكالية النظرية النسوية‪:‬‬
‫وقدرتها على متثلها و�إنتاجها ب�شكل ما عرب ن�صو�صها الإبداعية‪،‬‬
‫لقد �أ�صبحت الن�سوية يف الوقت الراهن نظرية مكتملة الر�ؤى‬ ‫واختيار هذا الن�ص منوذجا ي�أتي جلملة من الأ�سباب‪� ،‬أولها �أن‬
‫والأف��كار واالجتاه��ات واملالم��ح‪ ،‬بالرغم مما �صاحبه��ا ‪-‬وما زال‬ ‫ه��ذا الن�ص ينبني على ف�ضاء ن�سوي بدرج��ة �أ�سا�س‪ ،‬ويعالج‬
‫ي�صاحبه��ا‪ -‬من تعدد يف الطروحات وزواي��ا النظر‪ ،‬ومع ذلك مل‬ ‫ق�ضاي��ا عالقة الذات مع الآخر‪ ،‬وك��ذا الأن�ساق االجتماعية‪،‬‬
‫تزل ثمة ارتباكات م�صطلحية متعددة فيها‪� ،‬إذ هنالك من ي�سميها‬ ‫والثقافي��ة‪ ،‬الق��ارة‪ ،‬وانعكا�ساته��ا على الذات م��ن الداخل‪،‬‬
‫بالن�سوي��ة و�آخر بالن�سائية وثالث بالأنثوي��ة‪ ،‬وتظهر �إىل جوار هذه‬ ‫وك�شف فر�ض هيمنة هذه الأن�ساق عليها بطريقة جتعلها تر�ضخ‬
‫امل�صطلحات الثالثة م�صطلح��ات جماورة متعددة كـ «احلرملك»‬ ‫للواق��ع كما هو خارجيا‪ ،‬يف حني تدين��ه وتنبذ ت�سلطه داخليا‬
‫و«احلرميي��ة» وغريها‪ ،‬وثمة من يخلط بني هذه كلها وك�أنها مرتادفة‬ ‫عل��ى نحو ما �سرنى‪ ،‬بالإ�ضاف��ة �إىل عمومية هذا الن�ص وعدم‬
‫ومت�ساوية ويحل بع�ضها حمل الآخر �أو يقوم مقامه وي�ؤدي وظيفته‬ ‫ارتباطه بزمن �أو مكان معينني �أو بذات بعينها‪� ،‬إنه ‪-‬كما يبدو‬
‫املنوطة به‪ ،‬وهو ما جعل باب الفو�ضى امل�صطلحية م�شرعا على �آفاق‬ ‫م��ن عنوانه‪ -‬ميتد يف الف�ضاء العرب��ي عموما‪ ،‬ويغفل الت�سمية‬
‫�شتى‪ ،‬ودعا الكثري من املتلقني �إىل التوج�س من هذه امل�صطلحات؛‬ ‫واحلدود ال�ضيقة‪ ،‬مما يجعل الذات مو�ضوع التناول فيه معادال‬
‫لأنها بارتباكاتها هذه وعدم ت�أطريها وتو�ضيح دالالتها ت�أتي م�شحونة‬ ‫رمزي��ا للمر�أة العربي��ة التي تعاين الهم نف�س��ه‪ ،‬فهو دال املر�أة‬
‫بالكثري من دالالت االحتقار للم��ر�أة‪ ،‬ولكل ما تكتبه‪ ،‬وكذلك‬ ‫امل�ضطه��دة‪ ،‬ودال الن�س��اء املقموعات خارجي��ا‪ ،‬واملتذمرات‬
‫بالتميي��ز اجلنو�سي والتحيز‪ ،‬وكل ذلك ن��اجت عن عدم الر�ؤية �إىل‬ ‫داخليا‪ ،‬وهو دال املناه�ضة لكل متييز وعنف �ضد املر�أة‪ ،‬وباملقابل‬
‫النتاجات والن�صو�ص والأفكار من الداخل وفق نظرية ت�ستجليها‬ ‫ف�إنه يجعل الآخر فيه داال للرجل املت�سلط‪ ،‬والتقليدي‪ ،‬وكذا‬
‫يف حد ذاتها بغ�ض النظر عن ك َّتابها‪ ،‬رجاال كانوا �أم ن�ساء‪.‬‬ ‫النظام االجتماعي الأبوي ب�شتى �صوره وعنفه‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫‪122‬‬
‫عن كاتبها ذكرا كان �أو امر�أة‪ ،‬فكل ما تكتبه املر�أة ن�سائي ولي�س‬ ‫وعل��ى الرغم من كل ذلك فقد ميزت الكاتبة «توريل موي»‬
‫كل م��ا تكتبه ن�سويا»(((؛ لأن الكتاب��ة الن�سوية قد يكتبها رجل‬ ‫وكذلك «�سارة جامبل» و«بام موري�س»((( بني ثالثة م�صطلحات‪،‬‬
‫�أي�ضا‪� ،‬أم��ا الكتابة الن�سائية ف�إنها كل ما تكتبه املر�أة بغ�ض النظر‬ ‫هي «الن�سوي��ة» و«الن�سائية» و«الأنثوية»‪ ،‬ففي ح�ين ي�أتي الأول‬
‫عن تيمات��ه وتوجهاته الإيديولوجي��ة �أو الفكرية‪ ،‬فن�ص «مقا�س‬ ‫‪-‬كم�صطلح‪ -‬داال على نظرية تنه�ض على �أ�س�س مناه�ضة العنف‬
‫عربي» ن�سائي لأن كاتبته امر�أة‪ ،‬ون�سوي لأنه ي�شتغل على ق�ضايا‬ ‫الذكوري املوجه �ضد املر�أة‪ ،‬ومعاجلة ق�ضاياها‪ ،‬والوقوف �إىل جانبها‪،‬‬
‫ن�سوية معينة‪.‬‬ ‫و�إعادة النظر يف الأن�ساق املتعلقة بهذا املجال بغية �إقامة نظام عادل‬
‫ي�سعى �إىل �إزالة الفوارق بني اجلن�سني‪ ،‬ي�أتي الثاين كم�صطلح ف�إنه‬
‫‪ - 3‬أشكال عالقة الذات باآلخر‪:‬‬ ‫ليدل على قيمة بيولوجية من حيث هو ا�سم جمع للمر�أة ولي�س‬
‫يرتبط احلديث ع��ن الآخر((( بالهوية واالختالف‪� ،‬إ ْذ بهما‬ ‫حامال للقيم الأيديولوجية ال�سابقة‪� ،‬أما الأخري (الأنوثة والأنثوية)‬
‫تت�ضح مالمح ال��ذات‪ ،‬وتتحدد من ثم �ص��ورة الآخر‪ ،‬الذي‬ ‫ف�إنه دال على ن�سق ثقايف حتدده التن�شئة‪ ،‬وي�ؤطره املجتمع عندما‬
‫يع��د كل ما هو �ضدنا‪ ،‬وكل ما يق��ع خارجنا‪ ،‬وما يختلف عنا‬ ‫يف��رز جمموعة م��ن ال�صفات واملح��ددات التي يل�صقه��ا باملر�أة‬
‫بيولوجيا �أو �أيديولوجيا �أو اجتماعيا‪ ،...‬ونق�صد به هنا «الرجل»‬ ‫كاحلياء واخلجل والدالل‪ ،...‬وبذلك ينماز كل م�صطلح منها عن‬
‫يف مقاب��ل الذات التي متثله��ا املر�أة‪� ،‬إ ْذ ت�سع��ى الكاتبات يف‬ ‫الآخر مبيزة معينة‪� ،‬أو مبجموعة مزايا متعددة تفرده وجتعله ي�شتغل‬
‫ن�صو�صه��ن �إىل �إبراز ه��ذا الآخر عرب ت�صوي��ر «ذواتهن نتيجة‬ ‫وفق ن�سق خمتلف ال يلتقي مع الآخر �إيديولوجيا وفنيا البتة‪.‬‬
‫خ�سرانه��ن لرهانات عاطفي��ة متثل اجنراح��ا للأنوثة‪/‬وللذات‬ ‫ومن هنا ف�إنه «ينبغي �أن ال نفهم �أن كل ما تكتبه الن�ساء يعد‬
‫الأنثوي��ة يف وجدانه��ا كما يف ذهنيتها وذاكرته��ا»(((‪� ،‬أو التنب�ؤ‬ ‫بال�ض��رورة ن�سويا‪ ...‬ف�إن الكتابة الن�سوية هي الكتابة التي تتبنى‬
‫الدفاع عن ق�ضايا املر�أة‪ ،‬وتفكيك امل�شروع الأبوي‪ ،‬بغ�ض النظر‬
‫((( ع�صام وا�صل‪ ،‬احلركة الن�سوية‪ ..‬الر�ؤى واملالمح‪ ،‬جملة انزياحات‪ ،‬مركز انزياحات‬
‫للتنمية الثقافية‪ ،‬اليمن‪ ،‬ع‪2010 ،4 :‬م‪ ،‬هام�ش ال�صفحة رقم‪.81 :‬‬ ‫((( ينظر‪ :‬توريل موي‪ ،‬الن�سوية والأنثى والأنوثة‪ ،‬تـ‪ :‬كورنيليا اخلالد‪ ،‬الآداب الأجنبية‪،‬‬
‫احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دم�شق‪ ،‬ع‪ ،76 :‬ال�سنة التا�سعة ع�شرة‪ ،‬خريف‪1993 :‬م‪،25 ،24 :‬‬
‫((( ينظر‪ :‬طوين بينيت‪ ،‬و�آخران‪ ،‬مفاتيح ا�صطالحية جديدة‪ -‬معجم م�صطلحات الثقافة‬
‫و�سارة جامبل‪ ،‬الن�سوية وما بعد الن�سوية‪ ،‬تـ‪� :‬أحمد ال�شامي‪ ،‬املجل�س الأعلى للثقافة‪،‬‬
‫واملجتمع‪ ،‬تـ‪� :‬سعيد الغامني‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2010 ،1 :‬م‪.44 - 41 :‬‬
‫امل�شروع القومي للرتجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪2002 ،1 :‬م‪ ،337 - 335 :‬وبام موري�س‪ ،‬الأدب‬
‫((( بو�شو�شة بن جمعة‪ ،‬الرواية الن�سائية التون�سية‪� -‬أ�سئلة التحول‪ ،‬احلداثة‪ ،‬واخل�صو�صية‪،‬‬ ‫والن�سوية‪ ،‬تـ‪� :‬سهام عبد ال�سالم‪ ،‬مراجعة وتقدمي‪� :‬سحر �صبحي عبد احلكيم‪ ،‬املجل�س‬
‫الراوي‪ ،‬النادي الأدبي الثقايف بجدة‪ ،‬ال�سعودية‪ ،‬ع‪ ،20 :‬مار�س‪2009 :‬م‪.115 :‬‬ ‫الأعلى للثقافة‪ ،‬امل�شروع القومي للرتجمة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ع‪ ،474 :‬ط‪2002 ،1 :‬م‪.29 :‬‬

‫‪125‬‬ ‫‪124‬‬
‫ترتبط �صورة عالقة الذات بالآخر يف ن�ص «مقا�س عربي»‪،‬‬ ‫مب�صري م�أ�ساوي للعالقة مع الآخر‪� ،‬أو �إبراز ت�سلطه و�أبويته عند‬
‫بالقل��ق الوجودي املقرتن ب�سطوة ان�ش��داد الذات �إىل الآخر‪،‬‬ ‫حماولة احتوائه لها‪ ،‬وعدم الف�صل بينه وبينها كذات م�ستقلة‬
‫برغم حماولة االنف�صال عن��ه ك�آخر مت�سلط بـ «رجولته» التي‬ ‫له��ا خ�صائ�صها ور�ؤاها و�أفكارها وحياتها الإن�سانية اخلا�صة‪� ،‬أو‬
‫متث��ل عامال معيقا للآخر قب��ل �أن تكون معيقا للذات يف حد‬ ‫�إظهار مدى الغربة بني كل منهما فكريا وفيزيائيا‪� ،‬أو ر�سم خط‬
‫ذاته��ا‪� ،‬إنها تقوم مبحاولة ت�أ�سي���س نف�سها كذات م�ستقلة عنه‪،‬‬ ‫دفاع��ي م�ضمر ت�سعى من خالل��ه �إىل تعرية ما يقوم به الآخر‬
‫ولكنها تعود يف النهاي��ة �إىل �صورتها النمطية التي ر�سمها لها‬ ‫م��ن ممار�س��ات �ضدها بغية جت��اوز هذه املمار�س��ات �أو الإتيان‬
‫املجتم��ع‪ ،‬ويريدها لها الآخر؛ لأن �شيئا م��ا ُت َعبرِّ ُ عنه يف فاحتة‬ ‫ببديل عنها‪.‬‬
‫الن���ص بـ «هيكلي املتوارث»‪ ،‬ويف خامتت��ه بـ «ظلي الأعمى»‪،‬‬ ‫�إن �أول ملمح يتمظهر في هذا الن�ص هو انبنا�ؤه على قاعدة‬
‫يبق��ى يف داخله��ا وي�شدها �إىل الآخ��ر‪ ،‬ويعيده��ا �إليه كجزء‬ ‫�إيديولوجي��ة تتجلى من خالل مجموعة من الخ�صائ�ص التي‬
‫منه م��ن جديد‪ ،‬ولعل دا ّيل «املت��وارث» و«الأعمى» حامالن‬ ‫تبي��ن عالقة ال��ذات (المر�أة) ككي��ان م�ستقل ل��ه توجهاته‬
‫�إيديولوجيان يرم��زان المتداد الأن�ساق االجتماعية وهيمنتها‬ ‫و�سمات��ه الم�سلوبة مع الآخر (الرجل)‪ ،‬ال��ذي يظهر ككيان‬
‫دال على اال�ستمرار‬ ‫عل��ى الذات من الداخل‪ ،‬فـ «املتوارث» ٌّ‬ ‫ي�سعى �إل��ى احتوائها دائما‪ ،‬وتدجينه��ا‪ ،‬وتحويلها �إلى مجرد‬
‫والتوالد وااللت�صاق اجلامد والت�سليم بكل ذلك على جموده‪،‬‬ ‫تاب��ع له‪ ،‬ون�سخة منه‪ ،‬وي�أتي ذل��ك عبر حوامل لغوية م�شفرة‪،‬‬
‫وهو ل�صيق باملجتمع بو�صفه «الآخر اجلمعي»‪ ،‬بينما «الأعمى»‬ ‫ت�ضمر مجموعة من الأن�ساق االجتماعية والثقافية والتاريخية‬
‫دال عل��ى احتجاب الر�ؤية‪ ،‬والتوق��ف‪ ،‬واالنقطاع‪ ،‬والوحدة‪،‬‬ ‫المتحي��زة ذكوري��ا للرجل �ضد المر�أة‪ ،‬وتظه��ر من جهة ثانية‬
‫وه��و ل�صيق بال��ذات بو�صفها املعادل الرم��زي للذات‪/‬املر�أة‬ ‫كيف �أن المر�أة بوا�سط��ة كل هذه الأن�ساق الذكورية تتحول‬
‫عموم��ا ك��ـ «ذات جمعية»‪ ،‬فربغم حم��اوالت ان�سالخها عن‬ ‫�إل��ى قامعة لذاته��ا‪ ،‬عاجزة عن تجاوز المعيق��ات الخارجية؛‬
‫الآخ��ر وخروجها ع��ن دائرته يظ��ل هذا االن�س�لاخ يف �إطار‬ ‫لأنها ق��د �أ�صبحت ل�صيقة به��ا من الداخل نتيج��ة للتن�شئة‬
‫م�سلم��ة «احلاجة ‪ /‬الظاهرية (ال�شكلية)‪� /‬إىل الآخر» و�ضرورة‬ ‫�أوال‪ ،‬وللأع��راف المتوارثة والمتوا�ض��ع عليها اجتماعيا ثانيا‪،‬‬
‫البق��اء معه‪ ،‬والع��ودة �إليه بعد حماولة االن�س�لاخ عنه؛ لأنها‬ ‫فتكبله��ا كلما حاول��ت �أن تتخل�ص منها‪ ،‬فه��ي «ظلها» وهي‬
‫ذات غري ق��ادرة عن التخلي عنه متاما «�أ�شع��ر بالوحدة ‪/....‬‬ ‫ٌ‬ ‫«هيكلها المتوارث» من وجهة نظر الن�ص‪.‬‬
‫‪127‬‬ ‫‪126‬‬
‫�أرميه بوابل من ال�رصاخ الراق�ص‬ ‫�أتلذذ بطعم الإعادة‪� ،»..‬إ ْذ ال ميكن �أن يكون التخلي التام عنه‬
‫يت�ساقط الأمل املتفجر‬ ‫جمديا؛ لأن ذل��ك معناه االنعزال‪ ،‬واالنكف��اء على الذات‪،‬‬
‫‪�                                     ‬شهقة‪..‬‬ ‫واالغرتاب االجتماع��ي والنف�سي‪ ،‬يف حني �سيكون املجدي‬
‫‪�                                               ‬شهقة‪»..‬‬ ‫نابعا من تخلي الآخ��ر عن املركزية الأبوية التي يتكئ عليها‪،‬‬
‫وي�أتي يف خامتة الن�ص‪:‬‬ ‫وميار�سه��ا كواجب من واجب��ات «الرجولة التي جتلده قبل �أن‬
‫«�أتهجاك‬ ‫جتلدها»‪.‬‬
‫�أدخل مرة �أخرى‬
‫‪ - 4‬تشفري البنى وتعرية األنساق‪:‬‬
‫يف كينونة احللم املمتد‬
‫�إن الن�ص يربز هاتني التيمتني (حماولة االنف�صال عن الآخر‬
‫براكني �ضوئية يف دهاليزك ‪..‬‬
‫وف�شلها عن القي��ام بذلك) منذ الفاحتة الن�صية وي�ستثمرها يف‬
‫لكني هذه املرة‬
‫اخلامت��ة كذلك؛ لي�صبح ن�ص��ا دائريا‪ ،‬يعتم��د �أوال على �إظهار‬
‫‪       ‬ال �أتعرث‬
‫ن�سقي��ة املتوارث‪ ،‬وتقليدي��ة املجتمع‪ ،‬وثانيا عل��ى �إظهار حتول‬
‫�إال بظلي الأعمى‬
‫هذه الأن�ساق �إىل داخ��ل الذات نف�سها‪ ،‬ب�سبب هيمنة الفعل‬
‫الذي ي�سبقني �إليك‪»!..‬‬
‫الثق��ايف واالجتماعي من حوله��ا (املت��وارث)‪ ،‬كرمز لتحول‬
‫�إن «املتوارث» يف املفتتح متعلق بـ «هيكل الذات»‪ ،‬و»العمى»‬ ‫القه��ر اخلارجي �إىل داخلي‪ ،‬وحت��ول ال�ضغط من املجتمع ذاته‬
‫يف النهاية متعلق بـ «ظلها»‪ ،‬وكالهما فاعالن خارجيان‪� ،‬أي �أنهما‬ ‫�إىل ال��ذات نف�سه��ا‪ ،‬فيكون املعي��ق حينئذ مزدوج��ا خارجيا‬
‫يكمن��ان على مبعدة من دواخلها التي ترف�ض الفعل الن�سقي‪،‬‬ ‫(املجتمع)‪ ،‬وداخليا (الذات نف�سها)‪ ،‬ي�أتي يف فاحتة الن�ص‪:‬‬
‫وهيمنة الآخر نف�سه‪ ،‬وفعله الذي يتغيا حتويلها �إىل م�سخ �أو �شبيه‬ ‫«يف ا�صطخاب امل�ساء‬
‫بامل�سخ‪� ،‬أو فلنقل �إىل �شبيه بالآخرنف�سه‪ ،‬وعلى مقا�سه هو‪:‬‬ ‫بعروق من ال�ضحك الف�ضي‬
‫«�أدخل يف كينونة احللم املمتد‬ ‫�أمللم امل�سامات النائية‬
‫براكني �ضوئية يف دهاليزك‬ ‫‪               ‬عن هيكلي املتوارث‬
‫‪129‬‬ ‫‪128‬‬
‫�أم��ا بنية الن���ص الواقعة ما ب�ين هاتني البنيت�ين (الفاحتة‬ ‫لكني �أتعرث ب�أزمنتك الظامئة‬
‫واخلامت��ة)‪ ،‬ف�إنها حتدد �أبع��اد عالقة الذات م��ع الآخر بو�صفه‬ ‫�إىل �إعادة �صياغتي على مقا�سك»‬
‫مهيمنا يحاول �إعادة هيكلة الذات (املر�أة) وفقا لر�ؤاه و�أفكاره‪،‬‬ ‫فالهيكل معجميا هو الإط��ار اخلارجي �أو البناء املورفولوجي‪/‬‬
‫ووفقا لتاريخه الإيديولوجي املحدد ن�سقيا �سلفا‪ ،‬وتقوم بذلك‬ ‫ال�شكلي للكائن‪ ،‬بينما الظل هو ال�شبيه املنعك�س عن طريق ال�ضوء‬
‫وف��ق طريقة درامية مت�أزمة تعك�س ال�ص��راع الداخلي للذات‬
‫وما ي�ؤول �إليه خارجيا من انك�سار ومن خ�ضوع ل�سلطة الآخر‪:‬‬ ‫امل�سلط عليه من اخلارج‪ ،‬وهي بذلك ت�صر على �إل�صاق الرتدد يف‬
‫اتخاذ قراراتها ب�ش�أن حتديد م�صريها‪ ،‬وكذا تيمة العودة �إىل الرجل‬
‫«�أدخل يف كينونة احللم املمتد‬
‫بعد طول تفكري يف االنف�صال عنه باملظاهر ال�شكلية اخلارجية لها‪،‬‬
‫‪           ‬براكني �ضوئية يف دهاليزك‬ ‫�أي �أنه��ا م�سلمات اجتماعية حتمية ال متث��ل قناعاتها النابعة من‬
‫لكني �أتعرث ب�أزمنتك الظامئة‬ ‫الداخل‪ ،‬وهو ما يدل على انف�صال الذات نتيجة للهيمنة الذكورية‬
‫�إىل �إعادة �صياغتي على مقا�سك‬ ‫التي ي�صعب جتاوزه��ا كليا من وجهة نظر الن�ص؛ لأن ذلك معناه‬
‫�أتعرث بقامة رجولتك‬ ‫االنعزال عن املجتمع والوحدة والغربة فيه كما �أ�شرنا‪.‬‬
‫التي جتلدك‬
‫‪          ‬قبل �أن جتلدين‬ ‫‪ - 5‬حتول األنساق اخلارجية وهيمنتها على الذات‬
‫‪   ‬لذلك‪،‬‬ ‫من الداخل‪:‬‬
‫�ألوذ بامل�سافات القريبة من بوابة الن�سيان‬ ‫�إذا كانت فاحتة الن�ص تعالج الق�ضية يف بعدها االجتماعي العام‬
‫ف�إنه��ا يف اخلامتة تعاجلها يف م�ستواها الذات��ي اخلا�ص‪� ،‬إذ تنعك�س‬
‫�أتكوم �ضوءاً يطهرين من مياهك الآ�سنة‬
‫ممار�سات الأن�ساق االجتماعية والثقافية القارة من داخل الذات‬
‫‪�        ‬أ�ستعيد �أنفا�سي‬ ‫نف�سه��ا‪ ،‬لتتحول من اخلارج �إىل الداخل‪ ،‬ومن العام �إىل اخلا�ص‪،‬‬
‫‪�             ‬أمللم ما تبقى من حوا�سي‬ ‫كدالل��ة على مدى �سطوة هذه الأن�س��اق و�سلطتها عليها‪ ،‬وعلى‬
‫‪�                         ‬أ�ستفي�ض ندا ًء متو�س ً‬
‫ال‬ ‫عدم مقدرتها يف التخل�ص منها لأنها �إن فعلت ف�ستكون النتيجة‬
‫‪                             ‬ملحكمة القلب الطينية‬ ‫انك�سارها‪ ،‬بينما يظل الآخر على هيمنته وت�سلطه غري ف َّعالٍ وغري‬
‫‪�                 ‬أن تنقي دمي من �سطوة خالياك‬ ‫متحرك وغري را�ض با�ستقالل الذات اجتماعيا وفكريا ونف�سيا عنه‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫‪130‬‬
‫تبع��ا لذلك عنف ال�صراع مع الذات‪ ،‬ون�ص��ل معها �إىل �أوجه‪،‬‬ ‫‪�   ‬أجل�أ �إىل مترينات التنف�س‬
‫ث��م نعود مع ال��ذات �إىل االنحدار من الت�صاع��د �إيذانا بالعودة‬ ‫‪            ‬كي �أطلقك من �صدري‬
‫�إىل نقطة الب��دء املهيمنة‪ ،‬فالذات حتاول الدخول فتتعرث‪ ،‬وتلوذ‬ ‫‪                                                ‬دمعة‪..‬‬
‫بامل�سافات القريبة من بوابات الن�سي��ان وتتطهر من مياه الآخر‬ ‫‪                                                      ‬دمعة‪..‬‬
‫الآ�سن��ة‪ ،‬وتتو�سل لتنقية دمها من �سطوة خالياه‪ ،‬وتلج�أ للتمرن‬ ‫�أتكد�س يف الركن الق�صي من �ضوئي‬
‫عل��ى التنف�س لإطالقه من �صدرها‪ ،‬ولكنها يف كل ذلك ت�شعر‬
‫الذي مل ت�صل �إليه جنومك‬
‫بالوحدة‪ ،‬وتطفو على ال�سطح الذاكرة لي�صبح املرجع �أبديا‪.‬‬
‫�أخاتل ال�صمت املنبوذ يف �أ�ضلعي‬
‫�إن ه��ذا امللفوظ بذلك يربز مدى ال�صراع القائم بني الذات‬ ‫‪.......................‬‬
‫وذاتها فكريا ونف�سيا‪ ،‬وبينها وبني الآخر‪ ،‬عرب م�سار �صوري يحدد‬ ‫‪........................‬‬
‫�ضعف ال��ذات‪ ،‬مقابل �سلطة وق��وة وق�سوة الآخ��ر (الرجل‪/‬‬ ‫�أ�شعر بالوحدة‪....‬‬
‫املجتمع) على نحو‪-« :‬دهاليزك ‪-‬مقا�سك ‪-‬رجولتك ‪-‬مياهك‬ ‫�أتلذذ بطعم الإعادة‪..‬‬
‫الآ�سنة ‪�-‬سطوة خالياك‪ ،»...‬معظم مكونات هذا امل�سار ال�صوري‬ ‫‪..........................‬‬
‫ت�أتي �صفة �ضمنية للآخر �أو �شبه �صفة له‪ ،‬وهي يف معظمها حتيل‬ ‫للذاكرة ثقوب �إ�سفنجية‬
‫�إىل «هيكل��ي املتوارث»‪ ،‬بو�صف ه��ذا الهيكل نتاجا اجتماعيا‬ ‫حينما متتلئ بال�ضو�ضاء‬
‫وثقافي��ا وتاريخي��ا جعلها على ه��ذه ال�صفة وعلى ه��ذا البعد‬ ‫يظل مرجعها �أبديا‪.».‬‬
‫الهيكلي‪ ،‬املجرد من الروح‪ ،‬كل هذه ال�صور امل�شفرة �إيديولوجيا‬
‫ينه���ض ه��ذا امللفوظ على جمموع��ة من املتوالي��ات التي‬
‫وثقافي��ا واجتماعيا حتمل معها ن�سقا ح�ضاريا منفتحا على �آفاق‬ ‫تت�أ�س�س على احلركة الدرامية املتوترة واملتواترة معا‪� ،‬إ ْذ تقوم كل‬
‫التاري��خ الذكوري الأبوي املهيمن‪ ،‬ويعي��د �إىل الذاكرة ال�صور‬ ‫متوالي��ة منها على فعل ي�ؤ�س�س حل��دوث �آخر‪ ،‬فدخول الذات‬
‫النمطية للمر�أة منذ بدء اخلليقة‪ ،‬وي�ستبطن الأبعاد الرمزية التي‬ ‫يف كينونة احللم املمتد ي�ؤدي �إىل التعرث ب�أزمنة الآخر التقليدية‪،‬‬
‫�ساهمت يف ر�س��م مالمح هذه ال�صور النمطية ب�شكل �أو ب�آخر‪،‬‬ ‫واملتعط�شة لتدجينها و�سلب كينونتها كذات لها هويتها وطم�س‬
‫وقد عمدت الكاتبة �إىل �شَ ْح ِن هذا الن�سق �إيديولوجيا‪ ،‬ومن ثم‬ ‫هذه الهوية‪ ،‬ثم ي�ستم��ر الت�صاعد يف بنية الن�ص دراميا لنعي�ش‬
‫‪133‬‬ ‫‪132‬‬
‫�أرميه بوابل من ال�رصاخ الراق�ص‬ ‫ت�شف�يره‪ ،‬بحيث ي�صعب الو�صول �إىل خباي��اه الداللية �إال بعد‬
‫يت�ساقط الأمل املتفجر‬ ‫لأي‪ ،‬وحفر‪ ،‬من جهة‪ ،‬وهربا من �سلطة القارئ‪ ،‬ورقابة املجتمع‪،‬‬
‫‪�                                     ‬شهقة ‪..‬‬ ‫من جهة �أخرى‪.‬‬
‫‪�                                               ‬شهقة ‪..‬‬ ‫و�آخر م��ا ميكن قوله هن��ا �أن الن�ص يعمل عل��ى ا�ستبطان‬
‫�أدخل يف كينونة احللم املمتد‬ ‫وتكثيف جملة من الق�ضايا الن�سوية‪ ،‬ويعاجلها عرب �إبراز عالقة‬
‫الذات بالآخر‪ ،‬التي ت�ؤول يف النهاية �إىل فقدان مو�ضوع القيمة‬
‫‪           ‬براكني �ضوئية يف دهاليزك‬
‫امل�ستهدف من قبله��ا‪ ،‬واملتمثل يف امتالك احلرية واالنف�صال‬
‫لكني �أتعرث ب�أزمنتك الظامئة‬ ‫عن الآخر املت�سل��ط‪ ،‬كنوع من رف�ض ممار�سته املوجهة �ضدها‪،‬‬
‫�إىل �إعادة �صياغتي على مقا�سك‬ ‫واملتمثل��ة يف حماول��ة حتويله��ا من كينونته��ا‪ ،‬و�سلبه��ا ذاتها‬
‫�أتعرث بقامة رجولتك‬ ‫وطم�س هويتها‪ ،‬وهي بذلك تتجل��ى �ضحية للآخر بعموميته‬
‫التي جتلدك‬ ‫(املجتم��ع)‪ ،‬و�ضحي��ة للذات نف�سها بع��دم قدرتها على جتاوز‬
‫املعيقات وحتقيق عامل االنف�صال عن الآخر‪.‬‬
‫‪          ‬قبل �أن جتلدين‬
‫‪   ‬لذلك‪،‬‬
‫النص احمللل‬
‫�ألوذ بامل�سافات القريبة من بوابة الن�سيان‬
‫�أتكوم �ضوءاً يطهرين من مياهك الآ�سنة‬ ‫مـقـاس عــربي‬
‫‪�        ‬أ�ستعيد �أنفا�سي‬
‫‪�             ‬أمللم ما تبقى من حوا�سي‬ ‫يف ا�صطخاب امل�ساء‬
‫‪�                         ‬أ�ستفي�ض ندا ًء متو�س ً‬
‫ال‬ ‫بعروق من ال�ضحك الف�ضي‬
‫‪                             ‬ملحكمة القلب الطينية‬ ‫�أمللم امل�سامات النائية‬
‫‪�                 ‬أن تنقي دمي من �سطوة خالياك‬ ‫‪               ‬عن هيكلي املتوارث‬
‫‪135‬‬ ‫‪134‬‬
‫لكني هذه املرة‬ ‫�أجل�أ �إىل مترينات التنف�س‬
‫‪       ‬ال �أتعرث‬ ‫‪            ‬كي �أطلقك من �صدري‬
‫�إال بظلي الأعمى‬ ‫‪                                                ‬دمعة ‪..‬‬
‫الذي ي�سبقني �إليك ‪! ..‬‬ ‫‪                                                      ‬دمعة ‪..‬‬
‫سوسن العريقي‪:‬‬ ‫�أتكد�س يف الركن الق�صي من �ضوئي‬
‫أكثر من الالزم‪.16 - 11 :‬‬ ‫الذي مل ت�صل �إليه جنومك‬
‫�أخاتل ال�صمت املنبوذ يف �أ�ضلعي‬
‫‪.......... .............‬‬
‫‪........................‬‬
‫‪� ‬أ�شعر بالوحدة ‪....‬‬
‫�أتلذذ بطعم الإعادة‪..  ‬‬
‫‪..........................‬‬
‫‪ ‬للذاكرة ثقوب �إ�سفنجية‬
‫حينما متتلئ بال�ضو�ضاء‬
‫‪       ‬يظل مرجعها �أبديا ‪.‬‬
‫�أتهجاك‬
‫�أدخل مرة �أخرى‬
‫يف كينونة احللم املمتد‬
‫براكني �ضوئية يف دهاليزك ‪..‬‬
‫‪137‬‬ ‫‪136‬‬
‫ثبت امل�صطلحات‬
‫ فرن�سي‬-‫عربي‬

Le manque :‫االفتقار‬
(La performance) :‫الإجناز‬
(le programme narratif) :‫الربنامج ال�سردي‬
(anti-programme narratif) :‫الربنامج ال�سردي امل�ضاد‬
(la configuration discursive) :‫ال ّتجمع اخلطابي‬
(transformation) :‫التحويل‬
(l’état) :‫احلالة‬
Discours narrative :‫خطاب �سردي‬
(la narrativité) :‫ال�سردية‬
(sèmes) :‫�سمات‬
(les sèmes nucléaires) :‫ال�سمات النووية‬
(les figures) :‫ال�صور‬
Figure lexématique (lexème) :)‫ال�صورة املعجمية (الليك�سم‬
Figure léxemantique :‫�صورة لك�سيمية‬
Figure nucléaire :‫�صورة نواتية‬
(l’actant) :‫العامل‬

139 138
‫‪Sujet‬‬ ‫فاعل‪:‬‬
‫‪Sujet de Faire‬‬ ‫فاعل الفعل‪:‬‬
‫قائمة امل�صادر واملراجع‬ ‫)‪(la disjonction‬‬ ‫الف�صل‪:‬‬
‫‪Valeur‬‬ ‫قيمة‪:‬‬
‫)‪(La compétence‬‬ ‫الكفاءة‪:‬‬
‫‪ .1‬القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪Carre sémiotique‬‬ ‫مربع �سيميائي‪:‬‬
‫‪ .2‬أ‪.‬ج غرمي��اس‪ ،‬الفواعل‪ -‬املمثل��ون‪ -‬الصور‪ ،‬تـ‪ :‬عبد الحميد بورايو‪،‬‬ ‫)‪(les parcours figuratifs‬‬ ‫امل�سارات ال�صورية‪:‬‬
‫ضمن كتاب الكشف عن املعنى يف النص الرسدي‪( ،‬النظرية السيميائية‬
‫الرسدية)‪ ،‬دار السبيل للنرش والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪2009 ،1 :‬م‪.‬‬
‫‪Composante discursive‬‬ ‫مكون خطابي‪:‬‬
‫‪ .3‬أ‪.‬ج‪ .‬غرمي��اس‪ ،‬و ج‪ .‬كورتيس‪ ،‬تعريفات اصطالحية‪ ،‬تـ‪ :‬عبد الحميد‬
‫‪Composante narrative‬‬ ‫مكون �سردي‪:‬‬
‫بورايو‪ ،‬ضمن كتاب الكش��ف عن املعنى يف الن��ص الرسدي‪( ،‬النظرية‬ ‫‪Objet de valeur‬‬ ‫مو�ضوع قيمي‪:‬‬
‫السيميائية الرسدية)‪ ،‬دار السبيل للنرش والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪2009 ،1 :‬م‪.‬‬ ‫‪(les unités minimales de la‬‬ ‫الوحدات الداللية ال�صغرى‪:‬‬
‫‪ .4‬أبو القاس��م الحس�ين ب��ن محمد املع��روف بالراغ��ب األصفهاين‪،‬‬ ‫)‪signification‬‬
‫املف��ردات يف غريب القرآن‪ ،‬تحقيق وضبط‪ :‬س��يد كيالين‪ ،‬دار املعرفة‬ ‫)‪(la conjonction‬‬ ‫الو�صل‪:‬‬
‫للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫)‪(la fonction‬‬ ‫الوظيفة‪:‬‬
‫‪ .5‬بوزيد حرز الله‪ ،‬اإلغارة‪ ،‬منشورات‪ ،ANEP :‬الجزائر‪ ،‬ط‪2003 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ .6‬بوشوش��ة بن جمعة‪ ،‬الرواية النس��ائية التونس��ية‪ -‬أسئلة التحول‪،‬‬
‫الحداثة‪ ،‬والخصوصية‪ ،‬الراوي‪ ،‬النادي األديب الثقايف بجدة‪ ،‬السعودية‪،‬‬
‫ع‪ ،20 :‬مارس‪2009 :‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬جان كلود جيرو‪ ،‬ولوي بانينيه‪ ،‬السيميائية نظرية لتحليل الخطاب‪،‬‬
‫تـ‪ :‬رش��يد بن مال��ك‪ ،‬مراجعة وتقدي��م‪ :‬عز الدي��ن المناصرة‪ ،‬ضمن‬
‫كتاب‪ :‬الس��يميائيات أصولها وقواعدها‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪،‬‬
‫د‪.‬ط‪2002 ،‬م‪.‬‬

‫‪141‬‬ ‫‪140‬‬
‫‪ .17‬رشيد بن مالك‪ ،‬قاموس مصطلحات التحليل السيميايئ للنصوص‪،‬‬ ‫‪ .8‬جوزي��ف كورتيس‪ ،‬األش��كال الخطابي��ة‪ ،‬تـ‪ :‬عبد الحمي��د بورايو‪،‬‬
‫عريب ‪-‬إنجليزي ‪ -‬فرنيس‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬الجزائر‪ ،‬د‪ .‬ط‪2000 ،‬م‪.‬‬ ‫الكش��ف عن املعنى‪ ،‬ضمن كتاب‪( :‬الرسديات والس��يميائيات)‪ ،‬دار‬
‫‪ .18‬رفي��ق العجم‪ ،‬موس��وعة مصطلحات التصوف اإلس�لامي‪ ،‬مكتبة‬ ‫السبيل للنرش والتوزيع‪ ،‬د‪ .‬ط‪ ،‬الجزائر‪2009 ،‬م‪.‬‬
‫لبنان نارشون‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1999 ،1 :‬‬ ‫‪ .9‬جوزيف كورتيس‪ ،‬مدخل إىل السيميائية الرسدية والخطابية‪ ،‬تـ‪ :‬جامل‬
‫‪ .19‬س��عاد الحكيم‪ ،‬املعجم الصويف‪ -‬الحكمة يف حدود الكلمة‪ ،‬دندرة‬ ‫ح�ضري‪ ،‬الدار العربية للعلوم نارشون‪ ،‬بريوت‪ ،‬ومنش��ورات االختالف‪،‬‬
‫الجزائر‪ ،‬ط‪2007 ،1 :‬م‪.‬‬
‫للطباعة والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1981 ،1 :‬م‪.‬‬
‫‪ .10‬الجريادس جوليان غرمياس‪ ،‬يف املعنى‪” ،‬دراسات سيميائية”‪ ،‬تعريب‪:‬‬
‫‪ .20‬سعيد بنكراد‪ ،‬مدخل إىل السيميائية الرسدية‪ ،‬منشورات االختالف‪،‬‬
‫نجيب غزاوي‪ ،‬مؤسسة نزار حداد للطباعة‪ ،‬الالذقية‪ ،‬د‪.‬ط‪2000 ،‬م‪.‬‬
‫الجزائر‪ ،‬ط‪2003 ،2 :‬م‪.‬‬
‫‪ .11‬جريال��د برن��س‪ ،‬قاموس الرسديات‪ ،‬تـ‪ :‬الس��يد إمام‪ ،‬مرييت للنرش‬
‫‪ .21‬سوس��ن العريقي‪ ،‬أكرث من ال�لازم‪ ،‬صنعاء‪( ،‬طبعة خاصة) ط‪،1 :‬‬
‫واملعلومات‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪2003 ،1 :‬م‪.‬‬
‫‪2007‬م‪.‬‬
‫‪ .12‬خالد بلقاس��م‪ ،‬أدونيس والخطاب الصويف‪ ،‬دار توبقال للنرش‪ ،‬الدار‬
‫‪ .22‬صادق عيىس الخضور‪ ،‬التواصل بالرتاث يف شعر عز الدين املنارصة‪،‬‬ ‫البيضاء‪ ،‬ط‪2000 ،1 :‬م‪.‬‬
‫دار مجدالوي للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪2007 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ .13‬خديج��ة حس�ين أحم��د املغن��ج‪ ،‬اس��تلهام الرتاث يف ش��عر عبد‬
‫‪ .23‬ط��وين بيني��ت‪ ،‬وآخ��ران‪ ،‬مفاتي��ح اصطالحية جدي��دة‪ -‬معجم‬ ‫العزيز املقال��ح‪ ،‬الجمهورية اليمنية‪ ،‬وزارة الثقافة والس��ياحة‪ ،‬صنعاء‪،‬‬
‫مصطلح��ات الثقافة واملجتمع‪ ،‬تـ‪ :‬س��عيد الغامن��ي‪ ،‬املنظمة العربية‬ ‫د‪.‬ط‪2004 ،‬م‪.‬‬
‫للرتجمة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2010 ،1 :‬م‪.‬‬
‫‪ .14‬خري الدين الزركيل‪ ،‬األعالم‪ -‬قاموس تراجم ألش��هر الرجال والنساء‬
‫‪ .24‬عبد الحميد بورايو‪ ،‬املس��ار الرسدي وتنظيم املحتوى‪ ،‬دراس��ات‬ ‫من العرب واملستعربني واملسترشقني‪ ،‬ج‪ ،3 :‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫س��يميائية لنامذج من ألف ليلة وليلة‪ ،‬دار الس��بيل للنرش والتوزيع‪،‬‬ ‫ط‪1980 ،5 :‬م‪.‬‬
‫الجزائر‪ ،‬د‪.‬ط‪2008 ،‬م‪.‬‬ ‫‪ .15‬دانيال باط‪ ،‬املربع الس��يميايئ والرتكيب ال�سردي‪ ،‬تـ‪ :‬عبد الحميد‬
‫‪ .25‬عبد العزيز املقالح‪ ،‬أبجدية الروح‪ ،‬الهيئة العامة للكتاب‪ ،‬صنعاء‪،‬‬ ‫بورايو‪ ،‬ضمن كتاب الكش��ف عن املعنى يف الن��ص الرسدي‪( ،‬النظرية‬
‫د‪ .‬ط‪1998 ،‬م‪.‬‬ ‫السيميائية الرسدية)‪ ،‬دار السبيل للنرش والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪2009 ،1 :‬م‪.‬‬
‫‪ .26‬عب��د العزي��ز املقالح‪ ،‬كت��اب األم‪ ،‬وزارة الثقاف��ة‪ ،‬الهيئة العامة‬ ‫‪ .16‬رحاب الخطيب‪ ،‬معراج الش��اعر‪ ،‬مقاربة أس��لوبية لشعر طاهر‬
‫السورية للكتاب‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪2008 ،1 :‬م‪.‬‬ ‫رياض‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2005 ،1‬م‪.‬‬
‫‪143‬‬ ‫‪142‬‬
‫‪ .27‬عث�مان بدري‪ ،‬وظيفة العنوان يف الش��عر العريب الحديث‪ -‬قراءة‬
‫تأويلي��ة يف مناذج منتخبة‪ ،‬املجلة العربية للعلوم اإلنس��انية‪ ،‬الس��نة‬
‫الحادية والعرشون‪ ،‬العدد الحادي والثامنون‪ ،‬شتاء ‪2003‬م‪.‬‬
‫‪ .28‬عصام واصل‪ ،‬التناص الرتايث يف الش��عر العريب املعارص‪ ،‬دار غيداء‬
‫للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪2011 ،1 :‬م‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫‪ -‬اإلهداء‬ ‫‪ .29‬عصام واصل‪ ،‬الحركة النس��وية‪ ..‬الرؤى واملالمح‪ ،‬مجلة انزياحات‪،‬‬
‫‪7‬‬ ‫‪ -‬مقدمة‬ ‫مركز انزياحات للتنمية الثقافية‪ ،‬اليمن‪ ،‬ع‪2010 ،4 :‬م‪.‬‬
‫‪ .30‬عيل عرشي زايد‪ ،‬اس��تدعاء الش��خصيات الرتاثية يف الشعر العريب‬
‫ال‪ -‬القصيدة الثالثة من كتاب األم ‪ -‬قراءة سيميائية سردية ‪9‬‬ ‫أو ً‬
‫املعارص‪ ،‬منشورات الرشكة العامة للنرش والتوزيع واإلعالن‪ ،‬طرابلس‪،‬‬
‫‪9‬‬ ‫‪ -‬مدخل‬
‫ط‪1978 ،1‬م‪.‬‬
‫‪14‬‬ ‫‪ -‬اخلصائص السيميائية جلمليت البدء واالختتام‬
‫‪15‬‬ ‫أ‪ .‬اجلملة البدئية‬ ‫‪ .31‬فريق انرتوفرن‪ ،‬التحليل الس��يميايئ للنص��وص‪ -‬مقدمة‪/‬نظرية‪/‬‬
‫‪20‬‬ ‫ب‪ .‬اجلملة اخلتامية‬ ‫تطبي��ق‪ ،‬تـ‪ :‬حبيبة جري��ر‪ ،‬مراجعة‪ :‬عبد الحميد بوراي��و‪ ،‬دار نينوى‬
‫‪25‬‬ ‫‪ -‬البنية السردية‪:‬‬ ‫للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪2012 ،1 :‬م‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫‪ .1‬البنية السطحية‬ ‫‪ .32‬محمد الن��ارص العجيمي‪ ،‬يف الخطاب ال�سردي‪ ،‬نظرية جرمياس‬
‫‪26‬‬ ‫أ‪ .‬املكون الرسدي‬ ‫(‪ ،)Greimas‬سلس��لة مس��اءالت‪ ،‬ال��دار العربية للكت��اب‪ ،‬املغرب‪،‬‬
‫‪37‬‬ ‫ب‪ .‬املكون اخلطايب‬ ‫د‪ .‬ط‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪48‬‬ ‫‪ .2‬البنية العميقة‬
‫‪ .33‬ناتايل بييقي‪-‬غروس‪ ،‬مدخ��ل إىل التناص‪ ،‬تـ‪ :‬عبد الحميد بورايو‪،‬‬
‫‪49‬‬ ‫أ‪ .‬الوحدات الداللية الصغرى‬
‫دار نينوى للدراسات والنرش والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬د‪ .‬ط‪2012 ،‬م‪.‬‬
‫‪54‬‬ ‫ب‪ .‬املربع السيميائي‬
‫‪63‬‬ ‫‪ -‬نتائج‬ ‫‪ .34‬نادية بوشفرة‪ ،‬مباحث يف السيميائية الرسدية‪ ،‬دار األمل للطباعة‬
‫والنرش والتوزيع‪ ،‬تيزي وزو‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫ثانيًا‪ -‬اخلطاب الصويف ديوان «أجبدية الروح»‬
‫‪69‬‬ ‫‪ .1‬توطئة‬
‫‪71‬‬ ‫‪ .2‬العنونة كفضاء للتخييل الصويف‬

‫‪145‬‬
‫‪73‬‬ ‫‪ .3‬الرصاع بني الذات وعاملا املادي‬
‫‪77‬‬ ‫‪ .4‬املوت كوسيلة لاللتقاء باهلل‬
‫‪79‬‬ ‫‪ .5‬الرموز الصوفية كمعادل موضوعي‬

‫‪85‬‬ ‫ثالثا‪ -‬شعرية التناص يف نص‪« :‬أي َّ‬


‫فزاعة تطر ُد الي َ‬
‫ُتم عين!»‬
‫‪85‬‬ ‫‪ .1‬توطئة‬
‫‪89‬‬ ‫‪ .2‬املناص يف النص‬
‫‪91‬‬ ‫‪ .3‬التناص يف النص‬

‫‪103‬‬ ‫رابعا‪ -‬توظيف القرآن الكريم يف ديوان اإلغارة‬


‫‪103‬‬ ‫‪ .1‬توطئة‬
‫‪105‬‬ ‫‪ .2‬حوافز التوظيف القرآين‬
‫‪111‬‬ ‫‪ .3‬القضية وأبعاد الرتميز‬
‫‪115‬‬ ‫‪ .4‬االستخدام العكيس لداللة املرجع‬

‫‪121‬‬ ‫خامسا‪ -‬الوعي النسوي يف نص «مقاس عربي»‬


‫‪121‬‬ ‫‪ .1‬توطئة‬
‫‪123‬‬ ‫‪ .2‬يف إشكالية النظرية النسوية‬
‫‪125‬‬ ‫‪ .3‬أشكال عالقة الذات باآلخر‬
‫‪128‬‬ ‫‪ .4‬تشفري البنى وتعرية األنساق‬
‫‪130‬‬ ‫‪ .5‬حتول األنساق‬
‫‪139‬‬ ‫ثبت املصطلحات‬
‫‪141‬‬ ‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪146‬‬

You might also like