Professional Documents
Culture Documents
com
ع�صام وا�صل
دراسات سيميائية
الطبعة الأويل
كل احلقوق حمفوظة
دار التنوير /اجلزائر
جوال +213 661 41 00 89 :
www.dartanouir-dz.com
ال يسمح بطبع هذا الكتاب أو جزء منه أو نقله بأي شكل أو واسطة
من وسائط نقل املعلومات بام يف ذلك التصوير أو النسخ
أو التسجيل أو التخزين دون إذن خطي من النارش.
3
اإلهداء
5
مقدمة
7
فر�أينا بعد الدرا�سة املت�أنية �صالحية منهج هذه املدر�سة لتحليل
أو ً
ال : الن�ص الإبداع��ي (الفني) عموما� ،شع��راً و�سرداً ،كمنهج يف
«القصيدة الثالثة» من كتاب ن���ص �أو منت متكامل �أو ك�آلي��ة �إجرائية م�ساعدة بجوار �آليات
األم قراءة سيميائية سردية (((
ومقرتحات مناهج �أو نظريات �أخرى كالتنا�ص والن�سوية.
ولعله من املهم هنا التنويه ب�أن الهدف العام لهذه الدرا�سات
يتمثل يف نزعتها التطبيقية ،التي �سعينا �إليها ومت�سكنا بها بعد
مدخل: �أن وجدنا افتقارا كبريا يف ذلك على م�ستوى الدر�س النقدي
يج��د القارئ للمنجز ال�شعري لل�شاع��ر عبد العزيز املقالح العرب��ي؛�إذ ي�أتي جله تنظريا مهمال اجلانب التطبيقي .وختاماً
نزوعه املكثف نحو الت�شكيل ال�س��ردي ،ب�شكل الفت للنظر
�سيميائي��ا ،ومع �أن ه��ذه التيمة مهيمنة يف امل�تن كله �إال �أنها ن�س���أل اهلل �أن نك��ون قد وفقن��ا �إىل ذلك و�أفدن��ا ،و�إن مل ف�إمنا
تتمف�ص��ل يف دي��وان كت��اب الأم ب�شكل �أكرث ج�لاء و�أكرث ح�سبنا �أن اجتهدنا ..وهلل الكمال من قبل ومن بعد.
اختالف��ا وهند�سة ،وه��ي خ�صي�صة تدعو الق��ارئ �إىل الت�أمل
و�إعادة النظر والتفكيك ،ومن ثم الرتكيب ،بحثا عن جماليات
هذا الت�شكيل وغايات��ه �إن تركيبيا �أو �سيميائيا ،وبطريقة تن�أى
ع��ن طرائق التفكيك ال�س��ردي اخلال�ص واملعل��وم م�سبقاً يف
املدون��ة النقدية العربية ،وتتخذ م��ن املنهج ال�سيميائي طريقة
و�آلية؛ لأنه من وجه��ة نظرنا �أكرث فاعلية يف هذه املنت بالذات
لأمور �سنتبينها الحقا.
ولأن الدرا�سات ال�سيميائية ت�شهد غيابا ملحوظا يف ف�ضاءات
النق��د العربي املعا�صر ،لأ�سباب متعددة ،م��ن بني �أهمها ندرة
((( عب��د العزيز املقال��ح ،كت��اب الأم ،وزارة الثقافة ،الهيئة العام��ة ال�سورية للكتاب،
دم�شق ،ط2008 ،1 :م.
9 8
اخلطاب ال�شعري ،وكذا ن�صو�ص �أدبية �أخرى؛ لأن رهاننا الأول امل�ص��ادر واملراجع املتخ�ص�صة (باللغ��ة العربية) ،واكتفاء معظم
يقوم على جملة من الت�س��ا�ؤالت اجلوهرية املختزلة فيما يلي: الدار�سات -على قلتها -بالتنظري و�إهمال اجلانب التطبيقي ،ف�إن
ه��ل يف الإمكان ق��راءة ن�ص ما � -أي ن���ص -بغ�ض النظر عن هذه القراءة �ست�سعى �إىل املزاوجة بني النظرية والتطبيق ،و�ستميل
نوع��ه الأدبي وفقا ملعطيات هذه النظرية امل�سماة بـ «ال�سيميائية �إىل اجلانب التطبيقي �أكرث عرب تطبيق �آليات و�أفكار واحدة من
ال�سردي��ة»؟ ،ه��ل ب�إمكانها �أن تكون نظري��ة عامة لتحليل كافة �أهم املدار�س ال�سيميائية التي مازالت بع�ض �إجراءاتها حمدودة
الأنواع الأدبية ،وفك �شفرات الن�صو�ص ،وحتديد �أ�شكال معانيها لدى القارئ العربي بالرغم م��ن �أهميتها ،وهي مدر�سة باري�س
دون متييز بني ن�ص و�آخر؟ ،ومبعنى �أكرث دقة هل ب�إمكان القارئ �أن « »sémiotique de l’école de parisالت��ي �أر�س��ى �أ�س�سه��ا املفكر
يتناول ن�صو�صا غري �سردية حم�ضة وفقا لهذه النظرية؟ ،خ�صو�صا الفرن�سي �أ.ج جرميا�س ،وو�ضح �أفكارها الكثريون من بعده ،وعلى
و�أن معظم التطبيقات التي اعتمدتها هذه النظرية منذ بداياتها ر�أ�سهم تلميذه ج .كورتي���س ،وفريق انرتوفرن ،وال يعد اعتماد
كانت على ن�صو�ص �سردية ب�سيطة غري مركبة(*)؟!. ه��ذه املدر�سة �إق�صاء للمدار�س الأخرى� ،أو تع�صبا ملدر�سة دون
�إن هذا الأمر ي�شكل رهانا �أكرث تعقيدا ،ويدعو �إىل املغامرة غريها ،و�إمنا وجدنا �أنها �صاحلة ال�ستثمار �شكل املعنى املتمف�صل
من جهة ،واال�شتغال على التجريب واملجازفة من جهة ثانية. يف الن���ص قيد الدرا�سة ،وهو ن���ص «الق�صيدة الثالثة من كتاب
وثم��ة رهانات �أخرى ال تقل �أهمية ع��ن هذه ،وتتمثل يف الأم» لل�شاعر عبد العزي��ز املقالح ،كنموذج لديوانه كتاب الأم
�ض��رورة �إعادة النظر يف كيفيات تطبيق هذه النظرية يف الفكر برمت��ه ،وهذا الن�ص هو ال��ذي ا�ستدعى هذا املنهج ال�سيميائي
العربي -على قلتها-؛ �إذ �إننا جند معظم التطبيقات قد عمدت و�آلياته ،ولعل �أول مظهر �سيميائي جعله ي�ستدعي هذا املنهج �أنه
�إىل اال�شتغ��ال (التقني) على الن�صو���ص ،فتحولت النظرية ن�ص هجني ،ب�إمكاننا �أن نطلق عليه :الن�ص (�شعر�/سردي) ،ففيه
تبعا لذل��ك �إىل �آليات جمردة ،جامدة غ�ير متحركة ،ت�سعى من ال�شعر بقدر ما فيه من ال�سرد ،مل يفارق �شعريته �إىل �سرديته
(*) املالح��ظ �أن �أكرث من ا�شتغل على ه��ذه النظرية كان يطبقها على ن�صو�ص �سردية
(((
ومل يفعل العك�س ،بل حافظ على كل ميزة من الأخرى.
ق�صرية جدا �أو ي�شتغ��ل على ن�صو�ص خرافية وهو ما فعله جرميا�س وكورتي�س وجماعة كم��ا �أن الدافع املحوري لنا يف ذلك يكمن يف الرغبة امللحة
انرتوفرن يف الطرف الآخر ،وما فعله العجيمي ونادية بو�شفرة وغريهما �إذ �إنهما قد طبقا
عل��ى ن�صو�ص من كتاب «كليلة ودمن��ة»� ،أو كما ي�صنع عبد احلميد بورايو يف تطبيقاته لتطبي��ق �آليات ور�ؤى هذه املدر�سة التي كانت معظم تطبيقاتها
على الكثري من ن�صو�ص الأدب ال�شفوي �أو ن�صو�ص �ألف ليلة وليلة. على ال�سرد ،وهدفنا الت�أكد من جدوى تطبيق هذه النظرية على
11 10
-الإرث ال�سو�سريي. �إىل قولب��ة الن�صو�ص ،وتعتمد عل��ى ح�شو التطبيقات بالكثري
-مدر�سة براغ. م��ن الرم��وز ،والرت�سيمات واجل��داول ،يف �أماك��ن ت�ستدعي
� -أعمال (برونديل وهلم�سليف). ذلك �أو ال ت�ستدعي��ه ،وبطرق ع�شوائية ،ناهيك عن �أنها تقوم
بتفكيك الن�صو�ص ولكن ال�صعوبة بعد ذلك تكمن يف كيفية
� -إرث املدر�س��ة ال�شكالنية وعلى ر�أ�سها �أعمال (فالدميري الرتكي��ب ،ومبعنى �أكرث دقة �إن الآلي��ات الإجرائية تكون هي
بروب). غاي��ة يف ح��د ذاتها فيتم –مث�لا -حتديد البن��ى العاملية� ،أو
-الإرث الفرن�سي (تنيري و�سوريو). ال�ص��ور� ،أو احلاالت ،والتحوالت ،ولكن البحث عن الداللة
بالإ�ضاف��ة �إىل �أنها تتطلب حتليال مركبا -(/حمايثا -بنيويا مهم�ش��ا ومق�صى ،وهو مكمن اخللل ،وي�شكل فيما بعد يظل َّ
-خطابيا): رهان��ا �آخ��ر يقف �أم��ام الدار�سني� ..أ�ض��ف �إىل ذلك �ضرورة
« -حمايث��ا» :لأنها تهتم ب��الأدب /الن�ص من حيث هو، توحيد م�صطلحاتها التي يعمه��ا الغمو�ض والفو�ضى ب�شكل
وتبحث يف �أ�شكاله الداخلية ،وتق�صي املحيل اخلارجي ميثل عائقا لدى القارئ العربي؛ �إذ جند بع�ض امل�صطلحات لها
بحث��ا عن �شكل املعن��ى الناجت ع��ن ت�سل�سل احلاالت �أكرث من ترجمة ،و�أكرث من ت�أويل ،و�أكرث من تطبيق.
والتحوالت ،والعالقات الرابطة بني العنا�صر الن�صية. و�إذا كان��ت املدار���س ال�سيميائية -على تعدده��ا -جُ ْت ِم ُع
« -بنيويا» :من حيث �إن املعنى ال يوجد �إال باالختالف، ب���أن ال�سيميائيات تهدف �إىل درا�سة العالمات و�أنظمتها ،ف�إن
وال ميك��ن لعنا�صر الن�ص �أن تك��ون مفيدة �إال مبوجب مدر�سة باري�س تتميز عنها بدرا�سة وحتديد �شكل املعنى يف ن�ص
عالقاته��ا فيم��ا بينه��ا ،فهي ت�ش��كل وح��دة ع�ضوية معطى ،فهي ال تبحث يف الن�ص عن املعنى ،وال عن الرتكيب،
متالحم��ة ال ميكن الف�صل بينه��ا �أو جتزئتها ،فال وجود �أو عن غاياته ولكن عن كيفية قوله ملا قال ،بالإ�ضافة �إىل تعدد
للعنا�صر جمز�أة وال وجود لعن�صر خارجها. وات�س��اع جهازها امل�صطلحي ،وتعدد مرجعياتها و�أ�صولها التي
« -خطابيا» :لأنها تهتم ببناء �إنتاج اخلطابات ،على عك�س ا�ستمد منها (جرميا�س) �أفكارها و�أ�س�سها ومبادئها ،ومنها(((:
الل�سانيات التي تهتم باجلمل واملفردات ،فال�سيميائيات ((( ينظ��ر� :سعيد بنك��راد ،مدخ��ل �إىل ال�سيميائية ال�سردية ،من�ش��ورات االختالف،
تهدف �إىل التنظيم اخلطابي. اجلزائر ،ط2003 ،2 :م.28 :
13 12
م�ؤخرا املفكر الفرن�سي «جريار جيني��ت» ،Gerard Genetteيف �إىل جانب حتديدها للم�ستويات التي يتم من خاللها قراءة
كتابه عتبات ،الذي ق�سمها فيه �إىل ق�سمنيُ ،ع ِن َي الأول منهما الن�صو���ص ،و�آليات كل م�ستوى على حدة ،ابتداء من البنية
بالعتبات الفوقية ،بينما ُع ِن َي الثاين بالعتبات املحيطة ،وما يهم ال�سطحية ،ومكونيها ال�سردي واخلطابي ،وما بينهما ،وو�صوال
هنا هو جزء من العتبات املحيطة الداخلية للن�ص ،وهي اجلملتان �إىل البني��ة العميقة(*) مبكونيها املتمثلني يف تفكيك الوحدات
البدئي��ة واخلتامية ،واملواقف التي يت�ضمنه��ا كل منهما ،وكذا الداللية ال�صغرى ،واملربع ال�سيميائي(**).
بنياتهما العاملية التي تت�ضمنهما� ،أي �أننا �سنتناول هذه العتبات
من وجهة نظ��ر مدر�سة باري�س ال�سيميائية مع اال�ستعانة ببع�ض ت�سعى هذه القراءة �إىل البحث عن �أ�شكال املعنى يف الن�ص
�آراء جينيت التي �سي�ستدعيها الن�ص وال�سياق ،وينبغي الإ�شارة -قيد القراءة ،-وفق البنيتني ال�سطحية والعميقة ،و�ست�سبقها
هنا �إىل �أن جينيت مل يهتم باجلمل االختتامية ،ومل يتناولها� ،أو بتحدي��د اخل�صائ���ص ال�سيميائي��ة جلملتي الب��دء واالختتام
يدرجها �ضمن العتبات الن�صية؛ لأنه على ما يبدو كان من�شغال بو�صفهم��ا ُم�شَ ِّكلني للم�س��ارات التي ت�سع��ى �إىل فتح كوى
بكل ما ميهد للدخول يف الن�ص. للتفاعل بني القارئ والن�ص ،من حيث �إنهما يثريان لديه جملة
من التوقعات واالحتماالت الداللية كما �سرنى فيهما.
أ .اخلصائص السيميائية للجملة البدئية:
اخلصائص السيميائية جلمليت البدء واالختتام
متثل اجلمل البدئية مفاتيح �سيميائية يف الن�ص ،ال تقل �أهمية يف النص:
عن بقية العتبات الن�صية التي ت�سهل عملية تلقيه ،و(قد) ت�سهم اهتم��ت الدرا�س��ات ال�سيميائية على اخت�لاف مدار�سها
يف تفكيك �شفراته ،وحتديد �أ�شكال معناه ،ومن ثم ا�ستكناه بناه
وتوجهاتها يف الآونة الأخرية اهتماما ملحوظا بالعتبات الن�صية
وم�ضامين��ه ال�سيميائية التي ينبني عليها ،وتب��د�أ منذ �أول نقطة
،seuilsمل��ا لها من مق��درة على توجيه املقروئي��ة وحتديد �آلياتها
مف�ضية �إىل التخييل ،وتنتهي عند �أول حتول وانتقال من و�ضعية
(يف معظ��م الأحي��ان) ،وقد بلوره��ا و�أر�سى مبادئه��ا وقواعدها
�إىل �أخ��رى �إن داللي��ا �أو تركيبي��ا� ،إال �أن اجلم��ل البدئية وكذا
اخلتامية – عموما -ال ت�شبه اجلمل النحوية من حيث تراكيبها، (*) هناك من يرتجمها بالبنية العميقة والبنية املحايثة وبنية اخلفاء� ...إلخ.
فاجلملة النحوية لها �أركانها كما هو معروف يف القواعد النحوية، (**) يرتجمه البع�ض باملربع الداليل ،واملربع العالمي ،ومربع جرميا�س...
15 14
كيف؟ وال جمال للخو�ض فيها هنا ،فاجلمل البدئية يف الن�صو�ص جمل
من �أي نافذة �سقط املوت»(((. ن�صية ولي�ست بال�ضرورة جمال نحوية؛ لأنها قد تتكون من جملة
نحوي��ة �أو فقرة �أو �أكرث من ذلك ،وم��ن وظائفها �أنها تقدم فكرة
�إن اختيار هذا امللفوظ جملة بدئية مل ي�أت عبثا� ،أو اعتباطا ،بل
م�صغرة عن الن�ص ،و�/أو تختزل م�ضامينه وتثري فكر القارئ متهيدا
هو ناجت عن اختبار ومالحظة نظريا ومنهجيا ،و�أول م�ؤ�شر منهجي
جعلها �صاحلة لذلك هو �أنها قدمت حالة الذات وو�ضعها الفكري لإدخال��ه يف عملية قراءة الن�ص -كما هو حا�صل مع الن�ص قيد
واالجتماعي القائم ب�شكل خمتزل ،بالإ�ضافة �إىل تقدمي الف�ضاء القراءة ،-وتقدم ر�ؤية كلية عنه ،وجملة من الرتقبات ،والتوقعات
املحيط بها جامدا خميما عليه ال�سكون والرتابة واجلمود؛ لي�شحن ملا �سي�أتي من بنى ن�صية درامية جت�سد الأحداث و�أبعادها.
احلالة الفكرية للذات دالليا ،وتقدم �-إ�ضافة �إىل ذلك -امللفوظ ولكي يدرك املتلقي هذه الوظائف �أو غريها يف جملة بدئية
املحوري الذي يعد ب�ؤرة التحول واملثري املركزي يف الن�ص« :من م��ا ف�إن ذلك يحتم علي��ه تفكيكها �إىل �أ�صغ��ر وحدة خطابية
�أي ناف��ذة �سقط املوت» ..يف بدايته��ا ،وعند نهايتها تعلن انتهاء فيها ،ومن ثم تركيبها وفقا للمعطيات والآليات التي تقرتحها
االختزال الكامن فيها� ،إيذانا بتف�صيل ما �أجمل بعدها وتو�ضيح النظرية وي�ستوعبها املنهج امل�شتغل عليهما ،ويوحي بها الن�ص
�أ�سباب االختزال ،وحيثيات قلق ال��ذات وكذا �أ�سباب جمود وما يفر�ضه من ر�ؤى وعالمات.
املكان وخلوه و�سيطرة ال�شتاء عليه والربودة الكامنة فيه ،ونوافذه يقرتح الن�ص بعد القراءة واملالحظة العميقتني� ،أن اجلملة
املغلقة ،ب�إع�لان الذات املتلفظة عن تف�صيل ما �أُ ْجمِ ل يف بداية
البدئية تتمثل يف امللفوظ التايل:
هذه اجلملة عرب ا�شتغال الذاكرة (اال�سرتجاع):
«كنت وحيدا �أمام ال�رسير «يف ال�سماء،
الذي بد�أ املوت ينزع عنه احلياة، على الأر�ض،
و�أمي تقاوم ما كان �إال ال�شتاء.
تلهث»(((. النوافذ مغلقة
((( عبد العزيز املقالح ،كتاب الأم.19 : وال�شوارع خالية
((( امل�صدر نف�سه.19 :
17 16
وتنطل��ق هذه اجلمل��ة البدئية م��ن حلظة قلق وارتب��اك وهدوء وانطالقا من ذلك ف�إن اجلملة البدئية تتمف�صل يف مقطعني
حزين ،وخلو ي�سيطر على ال�شوارع التي ميثل ال�شتاء حمورها وبطلها قائمني على التوازي الرتكيبي والداليل هكذا:
الرئي�سي الذي يهيمن على كل �شيء فيها� ،إنها خالية �إال منه.. يف ال�سماء
وتقدم هذه اجلملة حالة ذات مت�سائلة عن كيفية ال�صمت ما كان �إال ال�شتاء
ب�شكل معلن وعن �أ�سبابه ب�شكل �ضمني .وتتميز هذه الذات على الأر�ض
بعالم��ة مائزة وهي االفتقار املتمث��ل يف عدم االمتالك ملعرفة من �أي نافذة
و:
حتركات املوت؛ بو�صف املعرفة �إحدى �آليات مو�ضوع اجلهة؛ �سقط املوت
الذي ميثل مو�ضوعا «يك��ون اكت�سابه �ضروريا لت�أ�سي�س كفاءة النوافذ مغلقة
فاع��ل منفذ من �أج��ل حتول رئي�س��ي»((( ،وه��ي عالمة تزج كيف
بالقارئ يف عم��ق الت�سا�ؤل وت�سمه -كنتيجة لذلك -بنف�س ال�شوارع خالية
ال�سم��ة فيبدو فاقدا للمعرفة �أي�ضا ،ف�إذا كانت الذات ال�ساردة
متتل��ك معرف��ة الأح��داث ال�سابق��ة ل�سقوط امل��وت ،وفاقدة �إن امللف��وظ اال�ستفهام��ي الب�سي��ط (كيف) ي�أت��ي ختاما
ملعرف��ة الأح��داث التالية ل�سقوطه ف�إنها ت�سع��ى �إىل االت�صال له��ذه اجلمل��ة ،وبداية ممه��دة لال�ستفهام املرك��ب الذي يليه
به��ا conjonctionع�بر املمار�سة ،واالقرتاب م��ن الأ�سباب، (-م��ن �أي نافذة �سقط املوت) -الذي ميثل بدوره بداية ممهدة
وا�ستك�شافها معاين ًة عرب املحكي ،ف�إن القارئ �سيكت�شفها من ال�شتغ��ال الذاكرة ال�سردية ،وجعل الق��ارئ متلقيا حموريا ملا
الن�ص على عك�س الذات� ،أي �أن م�صدر املعرفة خمتلف عند �سي�أت��ي بعدها م��ن ا�شتغال �سردي حلكاية امل��وت ،و�أ�سرارها
كل منهم��ا ،فالذات ال�ساردة ت�ستقيها م��ن الواقع والتجريب التي تك�شف عن حالة الذات ،وعالقتها مبو�ضوعها الرئي�سي
والبح��ث عنه يف الواقع املحيط ،بينما الذات القارئة ت�ستقيها (حياة الأم/بقائها) ،وكذا عن حالة الأم التي تذوي دون �أن
من الن�ص� ،إن الذات�ين متيزهما عالمة االنف�صال عن املعرفة، ي�ستطيع االبن �أن يقدم لها �أ ّية م�ساعدة ،فهو ذات حالة فاقدة
وتختلفان يف كيفية وم�صدر احل�صول عليها. للق��درة -و�إن كانت ممتلكة للإرادة فه��ي �إرادة معطلة -تقف
((( فري��ق انرتوف��رن ،التحليل ال�سيميائ��ي للن�صو�ص ،مقدمة /نظري��ة -تطبيق ،تـ : يف مواجهة ذات فعل ممتلك��ة ملوا�ضيع اجلهة املتمثلة يف القوة
حبيبة جرير ،دار نينوى للدرا�سات والن�شر والتوزيع ،دم�شق ،ط 2012 ،1م .4: والإرادة ومعرفة الفعل ووجوبه.
19 18
اجلهة ،ينخ��رط من خالله يف عملية الك�ش��ف والقراءة ،ف�إن وق��د انتظمت اجلملة البدئي��ة وفق بني��ة عاملية ت�شكلت
اجلملة اخلتامية تقدم ما ي�شبه الإجابات التي ت�ضمرها اجلملة من:
االفتتاحية ،وتتحدد ب�أول حلظ��ة ينتهي فيها ال�صراع والت�أزم، املر�س��ل (الطم�أنين��ة) ← مو�ضوع القيم��ة (اال�ستقرار)
ويت��م االنتق��ال فيه��ا �إىل ما ي�شب��ه و�ضعية اال�ستق��رار� ،أو ما ← املر�سل �إليه (الذات)االبن.
يوحي باال�ستقرار ،وي�شي ب�أن ما �سي�أتي هو خامتة� ،أو تلخي�ص، امل�ساع��د (اله��دوء) ← الذات(االب��ن) → املعار�ض
واختزال ملا �سبق منذ اجلملة البدئية حتى �آخر فقرات الن�ص (�سقوط املوت فج�أة).
حي��ث اال�ستقرار النهائ��ي ن�صيا على الأق��ل ،وتقوم بوظيفة
متثل الطم�أنينة مر�سال باعثا على اال�ستقرار الذي ميثل فيه
رئي�سي��ة تتمثل يف اختزال م��ا ُف ِّ�ص َل يف الن���ص� ،إنه اختزال الذات مت�صال مبو�ضوعه ،وميثل الهدوء وخلو ال�شوارع م�ساعدا
خمتل��ف ع��ن االختزال الذي تق��وم به اجلمل��ة االفتتاحية، على هذا اال�ستقرار ،وعلى ات�صال الذات/االبن بهذه القيمة
فالأوىل جتمل قبل التف�صيل ،والثانية تختزل بعده. االيجابي��ة ،غري �أن ثمة معار�ضا يربز عل��ى م�سرح الأحداث،
ويقرتح الن�ص جملته اخلتامية بـ: فيحدث حتويال لهذه القيمة ،التي ال يتم الك�شف عن �أبعادها
«يا �أيها املوت رفقا و�أهدافها وات�ساعها �إىل بنية التحول املحورية يف الن�ص فتحول
قيمة اال�ستق��رار �إىل قيمة عدم اال�ستقرار فيبد�أ املوت ب�سلبها
بهذا الكيان الرقيق.
ومن ثم ي�سعى �إىل �سلب قيمة حياة الأم.
مل يعد ج�سدا
�صار طيفا ب .اخلصائص السيميائية للجملة اخلتامية:
ولكنها الروح ف�إذا كان��ت اجلملة البدئية عادة تق��وم بوظيفة رئي�سية هي
اخت��زال الن�ص ،وتقدميه ب�شكل مكث��ف ،وتعمل على �إغراء
�ساكنة الظل
القارئ بتفكي��ك املنت ،بحثا عن م�ضم��رات اجلملة البدئية،
حني يجف ت�ضيء وم�ضمرات الن�ص التي اختزلتها هذه اجلملة ،ومن ثم ت�أ�سي�س
وال ت�س�أل البيت الق��ارئ كفاعل يف برنامج االت�صال باملعرفة ،وامتالك مو�ضوع
21 20
-احلالة اخلتامية= الذات :مت�صلة باملعرفة ،مقتنعة ،را�ضية، تخ�شى الفراق
م�ست�سلمة.. وت�أبى النزوح
وهاتان احلالتان جت�سدان بال�ضرورة كيفية التحول املحوري ك�أين بها تتعذب حزنا عليه
يف الن���ص املتمث��ل يف االنتقال والتح��ول املحوريني يف حياة
و�شوقا �إىل عامل ال�ضوء
االب��ن ،..وحياة الأم و(�صراعها مع املوت) وانتقالها �إىل حالة
املوت واالنف�صال عن احلياة ،وامتالكها حلياة �أخرى. وال�صحوة الأبدية.(((».
ف�إذا كانت اجلمل��ة االفتتاحية يف الن�ص تقدم حالة خمتزلة �إنها -عرب اختزالها -تقدم اخلال�صة النهائية التي تو�صلت
وخطوطاً مقت�ضبة عن �أمر ال يتم الك�شف عنه �إال بعد االنخراط �إليه��ا الذات م��ن ات�ص��ال وانف�صال عن مو�ضوعه��ا ،وتقدم
يف تفا�صيل الن�ص ف�إن اجلملة االختتامية تقدم خال�صة للن�ص �شحن��ة معرفية للمتلقي ،فالذات يف اجلملة البدئية تتدرج يف
وما �آلت �إليه ذات احلالة من ف�صلة مبو�ضوعها وامتالكها للمعرفة، التح��ول والفقدان ،بينما يف امللف��وظ اخلتامي تعي�ش التحول
وا�ست�سالمه��ا ملا �آل �إليه الو�ضع ت�سليما مطلقا ،وا�ستبدال حالة اجلذري ،وبداية ا�ستعادة اال�ستقرار امل�شروط بانتقال الأم �إىل
اخل��وف واالرتباك الت��ي يف مفا�صل الن���ص �إىل حالة �أمنيات ع��امل ال�ضوء ..ف�إذا كانت الذات يف اجلمل��ة البدئية مت�سائلة
يتمناها الذات من املوت� ،أو يطلب منه الرفق بالأم. قلق��ة ف�إنها يف اجلملة اخلتامية م�ست�سلم��ة منك�سرة� ،إنها تقدم
كم��ا �أنها تقدم حال��ة ذاتني؛ ذات احلال��ة /االبن ال�سارد �إجاب��ات ع��ن الت�س��ا�ؤالت املطروحة يف اجلمل��ة االفتتاحية،
يف حلظة ا�ست�سالم ،ومن خالله��ا تتقدم حالة ذات مت�ضمنة وتعيد الذات القارئة وال�ساردة �إىل حالة امتالك ملو�ضوع اجلهة
ه��ي حالة الأم التي �أ�صبح كيانها طيفا ومل يعد ج�سدا ،لأنها املتمث��ل يف املعرفة ،وبذلك تدخل يف ت�ض��اد مع احلالة التي
�أ�صبحت �ساكن��ة تخ�شى الفراق ،ويف نف���س الوقت حتن �إىل متثل انف�صاال عن املعرفة ،مع احلالة اخلتامية التي متثل ات�صاال
ع��امل ال�ضوء� ،إنها بني �أمري��ن؛ �إذ �إنها �ستدخل يف ُف ْ�ص َل ٍة عن باملعرفة وفقا للرت�سيمة التالية:
ع��امل الدنيا املو�ص��وف �ضمنيا بعامل الظ�لام ،و ُو�صلة بعامل -احلال��ة البدئي��ة= ال��ذات :مت�صلة بعدم املعرف��ة ،قلقة،
الآخرة املو�صوف علنا بعامل ال�ضوء. م�ضطربة ،مت�سائلة.
وبذلك تتمثل البنية العاملية للجملة اخلتامية يف: ((( عبد العزيز املقالح ،كتاب الأم.22 ،21 :
23 22
ميك��ن �أن ن�ستنتج من بنيت��ي االختتام �أن االب��ن (الذات) املر�سل( :االبن) ← املو�ضوع( :الي�أ�س) ← املر�سل �إليه( :املوت).
/ال�شاع��ر (املقالح) يف معظم ن�صو�ص��ه �صويف يف ر�ؤيته للموت ↑
امل�ساعد( :الت�سليم بالواقع) ← الذات( :االبن) → املعار�ض( :املوت).
بو�صفه بوابة احلياة الأبدية ،وو�سيلة عبور �إىل االحتاد �أو اللقاء مع بالإ�ضافة �إىل:
الذات الإلهية� ،إال �أنه حينما تعلق الأمر ب�أمه حتول الأمر نوعا ما، املر�سل( :الق�ضاء) ← املو�ضوع( :حياة الأم) ← املر�سل �إليه( :االبن)
ف�أ�صبحت ر�ؤيته �إلي��ه طبيعية (دنيوية) فنلمح مفاج�أة باملوت يف ↑
امل�ساعد( :قرب الأجل) ← الذات :املوت → املعار�ض( :املوت)
البدء وا�ضطرابه وت�سا�ؤله عن مكان وزمان جميء املوت ،ما جعل
ر�ؤيته ال�صوفية تلك تغيب يف املفتتح لكانها تعود فيي االختتام، فثم��ة بنيتان يظه��ر فيمها االبن مانحا متن��ازال يف الأوىل،
وم��ا بني البنيتني يتواتر ال�صراع ب�ين الر�ؤيتني حادا يف االت�ساع ويظهر املوت مهيمنا يف الثانية ،يف الأوىل يكون الذات (االبن)
والتال�شي لي�ستقر فيي الأخري حيث تت�سع �آفاق االنتقال الذاتي منف�صال عن القيمة االيجابية (حياة الأم) ممتلكا للي�أ�س الناجت
(النف�سي للذات) واملو�ضوعي (الأم) �إىل عامل ال�ضوء. عن هيمنة املوت وم�ساعدة الت�سليم بالواقع املحتوم ،ف�إذا كان
املر�س��ل هو «الذي يدفع «ال��ذات» لالت�صال بـ «املو�ضوع»(((،
ف���إن االبن بذلك يقوم بهذا الدور كما ر�أينا� ،إ ْذ �إنه يتحول يف
البنية السردية �آخر املطاف �إىل مر�سل وب�شكل �أكرث دقة �إىل ما ي�شبه الواهب
.1البنية السطحية.
الذي يتن��ازل عن مو�ضوع��ه ب�شكل �أو ب�آخ��ر ويكون بذلك
تتقدم الن�صو�ص كنتيجة جلهاز مبني من القواعد ،والعالقات م�ساعدا له على االت�صال مبو�ضوعه.
التي ت�سهم يف تنظيم البنى التي يخ�ضع لها �شكل املعنى ،وت�أتي
وف��ق م�ستويني مرتاتبني ،هما امل�ست��وى ال�سطحي ،وهو القابل بينم��ا يف الرت�سيمة الثاني��ة يكون املر�س��ل الق�ضاء الذي
للمالحظ��ة ،والذي ينظم املحتويات الق��ادرة على التمظهر يف ي�ساع��د على ات�صال املوت باملو�ضوع امل�ستهدف (حياة الأم)
�شكل خطابي ،وامل�ستوى العميق وهو الذي تفرزه هذه البنيات مب�ساعدة قرب الأجل ومنح االب��ن وتخليه عن مو�ضوعه بناء
ال�سطحي��ة ،وتكون و�سيلة �إىل النفاذ �إليه ،فال�شكليات ال�صورية على قوى غيبية تلزمه ال �شعوريا بالت�سليم بها.
(*) ينبغ��ي التفريق �أوال يف البنية ال�سردية ماب�ين املحكي(/الن�ص) ،وبني ال�سردية/ ((( جريال��د برن�س ،قامو�س ال�سردي��ات ،تـ :ال�سيد �إمام ،مريي��ت للن�شر واملعلومات،
(وهي �سل�سلة احلاالت والتحوالت). القاهرة ،ط2003 ،1 :م.10 :
25 24
م�سارات متعددة ،وتتكون من نوعني من امللفوظات� ،إما �أن تكون يف امل�ست��وى ال�سطحي تتبن��ى عالقات التناق�ض��ات والت�ضاد
ملفوظات حالة� ،أو ملفوظات فعل ،فملفوظات احلالة تتحدد بعالقة والت�ضمن املنظمة يف امل�ستوى العميق.
الذات باملو�ضوع ،بينما تتحدد ملفوظات الفعل بناء على الفعل ويوجد يف امل�ستوى ال�سطحي مكونان رئي�سيان ي�ضبطان عالقاته
التحويلي الذي ي�ؤديه فاعل الفعل/املعار�ض ،ويتم بوا�سطة حتول وعنا�صره املحوري��ة ،وهما املكون ال�س��ردي(*) واملكون اخلطابي،
رئي�سي بني الذات ومو�ضوع��ه امل�ستهدف ،فيحدث اختالال ما، ي�أتي املكون ال�سردي ك�آلية �إجرائية ت�ضبط وحتدد �سل�سلة الربامج
ت�سعى الذات بعده �إىل �إعادة التوازن ومن ثم االمتالك. ال�سردي��ة ،واحلاالت والتحوالت ،بينما ي�ضب��ط املك ِّون اخلطابي
�إن التحويل بناء على ذلك �إما �أن يكون حتويال ُف ْ�ص ِل َّياً تكون ت�سل�سل ال�صور و�آثار املعنى الناجتة عن احلاالت والتحوالت.
الذات منف�صلة عن مو�ضوعه��ا� ،أو حتويال ُو ْ�ص ِل َّياً تكون فيه
فيه ُ
ال��ذات مت�صلة مبو�ضوعه��ا ..وال ميكن حتديد ذل��ك ما مل يتم ُ أ .املكون السردي:
حتديد العوامل ،والقوى املت�صارعة يف الن�ص ،والقيم املت�صارع
(*) يتقدم املكون ال�سردي يف �أي ن�ص بو�صفه �سل�سلة من احلاالت
عليه��ا ،و�أهدافها ،وغايات كل عامل م��ن جهة ،وحتديد م�ساره والتحوالت القائمة بني الذوات وموا�ضيعها ،وترتجم هذه احلاالت
من جه��ة �أخرى .و«ال ميكن االعرتاف بال��ذوات كذوات إ� َّال والتح��والت يف عدد من الربام��ج ال�سردية التي ي�ضمها م�سار �أو
من خالل تعالقه��ا مع مو�ضوعات القيمة ،ومو�ضوعات القيمة (*) ق��د ال تك��ون العوامل �شيئا حمدداً�/أ�شخا�صا مثال ،ولكنه��ا قد تكون �إ�شارات �أو
�أف��كارا �أو عنا�صر غري فيزيائي��ة� ..إلخ ،فالعوامل «هم الكائن��ات �أو الأ�شياء التي مهما
ال ميك��ن االعرتاف بها كموا�ضيع قيمة �إال �إذا كانت م�ستهدفة كان��ت �صفتها و�أ�سلوبها ،حتى و�إن كانت جمرد ممثلني ،وح�سب الطريقة الأكرث �سلبية،
من الذوات ،وبتعبري �آخر ال يوجد حتديد للذوات �إال من خالل ت�ساه��م يف الق�ضية»[ ،جوزيف كورتي�س ،الأ�ش��كال ال�سردية ،تـ :عبد احلميد بورايو،
ارتباطها وو�ضعها يف عالقة مع املو�ضوع والعك�س»(((. �ضم��ن كتاب :الك�ش��ف عن املعنى يف الن���ص ال�سردي( ،ال�سردي��ات ال�سيميائية)،
ج ،3 :دار ال�سبي��ل للن�شر والتوزيع ،اجلزائ��ر2009 ،م ،].56 :ومييز جرميا�س بني نوعني
وحتى تكون الذوات قادرة على الإجناز ينبغي �أن تكون م�ؤهلة م��ن العوامل� ،أولها عوامل التبليغ« :الراوي واملروي ل��ه ،»...وثانيهما عوامل ال�سرد:
«املر�س��ل واملر�سل �إلي��ه ،»...ويقوم النموذج العاملي على ثالث��ة �أزواج من العوامل،
للقيام بذلك ،ويعني هذا �أن تكون ممتلكة ملوا�ضيع اجلهة« :جهات «املر�سل/املر�سل �إليه ،الفاعل/املو�ضوع ،امل�ساعد/املعار�ض»
َ تتكامل فيما بينها ،هي:
وتتحدد هذه الأزواج من خالل حماور ثالثة ،هي:
((( جوزي��ف كورتي���س ،مدخ��ل �إىل ال�سيميائية ال�سردي��ة واخلطابية ،ت��ـ :د .جمال - 1حمور الرغبة :وهو الذي تربط الذات باملو�ضوع.
ح�ض��ري ،الدار العربية للعلوم نا�شرون ،ب�يروت ،ومن�شورات االختالف ،اجلزائر ،ط: - 2حمور الإبالغ :وهو الرابط بني املر�سل واملر�سل �إليه.
2007 ،1م.27 : - 3حمور ال�صراع :ويجمع املعار�ض بامل�ساعد.
27 26
عن�صر االتزان الذي ي�شتمل على عن�صرين هو الآخر� ،أولهما الإ�ضمار :وجوب الفعل/و�إرادة الفعل ،وجهات التحيني :قدرة
التح��ول واالنتقال من حلظة االرتب��اك والت�شتت �إىل حماولة الفعل ومعرفة الفع��ل» ،وحتى يكون الفاعل/ذات احلالة �أي�ضا
القي��ام بربنامج �س��ردي و�سي��ط ،ي�سعى من خالل��ه الفاعل ق��ادرا على التحويل ،و�إعادة الت��وازن ،ينبغي له �أن يكون ممتلكا
�إىل خل��ق م�ش��روع حتويل يه��دف �إىل طرد امل��وت عن الأم، ملوا�ضيع اجلهة بو�صفها م�ؤهالت �أ�سا�سية ينبغي توفرها فيه حتى
والإبقاء على حياتها� ،أما العن�صر الثاين فهو احلل ،ويتمثل يف يعيد االمتالك ويتحول من حال��ة االفتقار �إىل حالة االمتالك؛
«اال�ستقرار» الذي ه��و «و�ضعية نهائية» ويظهر فيها /الفاعل/ لأن «مو�ض��وع اجلهة هو املو�ضوع ال��ذي يكون اكت�سابه �ضروريا
الذات: لت�أ�سي�س كفاءة فاعل منفذ من �أجل حتول رئي�سي»(((.
-م�ست�سلما للق�ضاء والقدر. يتجلى بعد هذه املنطلقات املنهجية املختزلة والب�سيطة/نوعا
ما� /أن املكون ال�سردي يف الن�ص ي�أتي م�شتمال على عن�صرين
-ملح��ا على رغبة الإبقاء على الأم ،ومع ذلك يرغب يف
رئي�سي�ين يدي��ران دفت��ي الن�ص وبن��اه وهم��ا :اال�ضطراب،
ذهابها �إىل عامل ال�ضوء بو�صفه عامل اال�ستقرار النهائي
والتوازن ،وي�شتمل عن�صر اال�ضطراب على و�ضعيتني ،الأوىل
له��ا ،وهو ما يجعل��ه يتنازل ع��ن �إحلاحه عل��ى بقائها،
تتمث��ل يف و�ضعية الت�شت��ت واالرتباك ،والثاني��ة يف و�ضعية
فاالنتقال م�شروع امتالك الأم لقيمة ايجابية تتمثل يف
االفتق��ار (الذات تفتقر �إىل املعرفة منف�صلة عن مو�ضوع اجلهة
احلياة الأبدية يف عامل �أف�ضل.
ومو�ضوع القيمة(*)/الإبقاء على حياة الأم).
-يتق��دم يف حالة تذبذب بني بقاء الأم وذهابها ،وذلك عرب و�إذا كان االفتق��ار عادة ما ي�ؤول �إىل رغبة يف القيام مب�شروع
�ص��ورة الأم املتذبذب��ة بني الأمرين ،وه��و بذلك ال يقدم نقي�ض ،تتحول الذات مبقت�ضاه من ذات حالة �إىل ذات فعل،
�إن �أجنز هذا امل�شروع و�أف�ضى �إىل جزاء ايجابي يتحقق مو�ضوع
قيمت��ه ،فالأم يف هذا الن�ص -مثال -هي املو�ضوع ،وحياتها وبقا�ؤها ..هي القيم املت�صارع
عليها يف الن�ص من قبل الفاعل والفاعل امل�ضاد[ .ينظر :اجلرياد�س جوليان غرميا�س ،يف القيم��ة ويزول االفتق��ار ويكون االمت�لاك ،و�إال ظل االفتقار
املعنى« ،درا�سات �سيميائية» ،تعريب :جنيب غزاوي ،مطبعة احلداد ،الالذقية].83 - 68 : قائم��ا وظل الإحباط((( ،ف�إنه يدع��و �إىل �إن�شاء عن�صر ثان ،وهو
وي�ؤكد جرميا�س بـ«�أن ال�شيء املرغوب ال ي�شكل �سوى ذريعة� ،سوى حي ٍز لتوظيف القيم،
�إنه املكان الو�سيط بني الذات ونف�سها»[ ،ينظر :املرجع نف�سه.]71 : ((( فريق انرتوفرن ،التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص.64 :
((( ينظر :حممد النا�صر العجيمي ،يف اخلطاب ال�سردي ،نظرية جرميا�س (،)Greimas (*) يخل��ط الكثري من الباحثني بني املو�ضوع والقيمة ،يف حني �إن املو�ضوع خمتلف عن
�سل�سلة م�ساءالت ،الدار العربية للكتاب ،املغرب ،د .ط1993 ،م.120 : قيمته ،فاملو�ضوع هو احليز الذي تتحرك فيه القيم� ،إن املو�ضوع هو ال�شيء ،وما يراد منه هو
29 28
بينم��ا ينطلق الن���ص فيزيائيا من مرحل��ة الـ(�أثناء) ،وهي رغبتها الفعلية يف التذبذب ب�ين البقاء والذهاب بقدر ما
مرحل��ة التحول الت��ي يعلن امل��وت فيها ولوج��ه �إىل م�سرح يق��دم حالته الكامنة وتذبذبها بني بقاء الأم �إىل جواره
الأحداث كفاع��ل م�ضاد ،يقوم ب�إح��داث ف�صلة بني الذات وانتقاله��ا �إىل م��كان �آخر (ع��امل ال�ض��وء)� ،إن �صورة
واملو�ض��وع ،ويخلق ب�ؤرة التح ّول املركزية ،ويبدو ذلك يف قول تذبذبه تتخفى خلف �صورة تذبذب الأم.
الراوي« :من �أي نافذة �سقط املوت». وتنتظ��م -بعد ذلك -عالقات الن�ص والذوات يف الربامج
ف��دال (ال�سق��وط) وحده كفي��ل بتو�ضيح م��دى الفزع، ال�سردي��ة وفق م�سار �سردي خط��ي ،يقوم على ثالث مراحل
واملفاج���أة ،واملباغتة التي �أحدثها املوت ،وكذا مقدار التحول زمنية ،تتخللها وظائف معينة(((:
الذي قام به مابني زمنني وو�ضع�ين� ،إنه ملفوظ يتكفل ب�إبراز �أ .ما قبل.
حدين زمنيني فا�صلني( ،قبل/بعد).
ب� .أثناء.
ومتث��ل مرحل��ة التحول (ما بع��د) حالة ت��وازن مع فقدان
م�ضمر� ،أي �أن الذات تعلن عن ت�سليمها بالفعل ،واالنف�صال ج .ما بعد.
Disjonctionعن مو�ضوعها ،ولكنها ال تظهر فعل غياب الأم، ينطلق الن���ص قيد القراءة –عمليا -م��ن املرحلة الثانية:
ب��ل جتعله م�ضمرا ،ولع��ل ما جعلها ت�ضمره م��ع �إمكان حتققه (الأثن��اء) ،وي�ضمر مرحل��ة الـ(ما قبل) ،وينته��ي مبرحلة (ما
هو حماول��ة تخفيف الفاجعة وتهوين وقوعه��ا عليه� ،إنه برغم بعد) ،فم��ا قبل هو املرحل��ة امل�ضمرة وميثل مرحل��ة التوازن؛
ت�سليم��ه الظاه��ر مل يزل يبطن يف النف�س ت��رددا م�ضمرا ناجتا حيث الفاعل ممتلك ملو�ضوعه ،والهدوء م�سيطر على الأ�شياء،
عن قوة الفاجعة. وعل��ى الذوات والع��امل ،ولعل الذات ال�س��اردة تعمل على
�إ�ضمار هذه املرحل��ة عنوة؛ لأن فكر الفاعل كان من�صبا على
من هنا تتجل��ى حركة الن�ص الدائرية ،الت��ي تبد�أ بغياب ف�ترة التحول التي �أحدث��ت خلال وافتق��ارا هامني يف حياته
وتنتهي بغياب �آخر ،تبد�أ بغياب حالة التوازن و�إ�ضمار مرحلة وحياة الأم ويف العامل �أي�ضا.
الـ(ما قب��ل) ،وتنتهي بحالة الغياب امل�ضم��ر للأم ،واالفتقار
للمو�ضوع. ((( ينظر :عبد احلميد بورايو ،امل�سار ال�سردي وتنظيم املحتوى ،درا�سات �سيميائية لنماذج
من �ألف ليلة وليلة ،دار ال�سبيل للن�شر والتوزيع ،اجلزائر ،د.ط2008 ،م.24 ،23 :
31 30
به ،وهو ما يجعله يعل��ن ا�ست�سالمه بعد ذلك ،ور�ضاه وتخليه يت�أ�س�س ملف��وظ الـ(�أثناء) على عودة الراوي �إىل ما قبل/
ع��ن مو�ضوعه ،غري �أن��ه يرمي �إىل و�ضع عق��د ائتماين يطلب املا�ضي:
في��ه الرف��ق مبو�ضوعه (الأم) الت��ي �أ�صبحت فاق��دة لقيمتي «كنت وحيدا �أمام ال�رسير
ال�شباب/والقوة .ويطلب �أخذها برفق.
الذي بد�أ املوت ينزع عنه احلياة
فيظهر من خ�لال هذه الو�ضعيات ووظائفها �أن ثمة ثالث
ذوات تتداخ��ل يف �صراع مبا�شر وغري مبا�شر هما الأم واملوت و�أمي تقاوم
من جه��ة ،واالبن واملوت من جهة ثاني��ة� ،إنه �صراع م�صريي تلهث»...
قائم عل��ى جدلية البقاء والفناء� ،إنه حماولة بقاء بالفعل (وهو �إنه��ا حلظ��ة زمنية مت��ت فيها الأح��داث قبل زم��ن تلفظ
ب�شري حمدود القوة) وفناء بالفعل وبالقوة وهما كامال الأهلية ال��راوي ،يج�سد فيها ال��راوي ذات احلالة مبلفوظ حالة ُف ْ�ص ِل ٍّي
ومكوناتها �سيميائيا. املوت ذات فعل (الذات منف�صلة عن مو�ضوعها) ،وميثل فيها ُ
لذلك تتحقق البنية العاملية للن�ص وفقا للرت�سيمة التالية: مبلفوظ فعل ُو ْ�ص ِل ٍّي ،فهو فاعل حالة مت�صل بالفعل واملو�ضوع،
املر�س��ل (املوت/معرفة) ← مو�ضوع القيمة (حياة الأم) ← املر�سل �إليه يق��وم بف�صل ذات احلالة عن مو�ضوع��ه ،ويت�شكل ذلك عرب
(الأم)/عجز ذات احلالة �إىل الدخول يف برنامج �س��ردي ي�سعى من خالله ُ
امل�ساعد (�إيعاز/قرب الأجل) ← الذات (االبن/ال معرفة) → املعار�ض و�صل��ة مبو�ضوعه و�إعادة اال�ستق��رار� ،إال �أن الربنامج ال�سردي
(املوت)/قدرة امل�ضاد يعيقه عن ذلك ،فتت�سع حينئذ دائرة ال�صراع ،وتدخل
تبد�أ الو�ضعية من �إر�سال �إ�ش��ارات من املوت ،تنذر ب�أخذ ال��ذات يف الف�صلة عن املو�ض��وع القيمي ،كم��ا تت�سع دائرة
حياة الأم (مو�ضوع القيمة)� ،إىل الأم التي ال متلك �شيئا �سوى التلفظ ،وتتقدم الأحداث ،وتتنا�سل الربامج ال�سردية ،وي�أخذ
املقاوم��ة غري املجدية ،واللهاث اليائ�س ،وامل�ساعد على �إر�سال مو�ض��وع القيم��ة �شكله النهائ��ي (الغياب امل�سك��وت عنه)،
تل��ك الإ�شارات هو الإيعاز الناجت ع��ن قرب الأجل املحتوم، ويغ��دو فاعل احلالة فاقدا لكل موا�ضي��ع اجلهة ،بالإ�ضافة �إىل
وتربط الذات/االبن باملو�ضوع/حياة الأم عالقة الرغبة التي فقدان��ه للمو�ضوع وقيمه امل�ستهدفة معا ،م��ن حيث �إنه ْيظهر
يعمل املعار�ض /املوت على عدم حتقيقها �أو �إبقائها. غري قادر عل��ى �إحداث حت��ول ،وت�أ�سي�س م�ش��روع لالت�صال
33 32
باجناز برنامج �سردي و�سيط ينتقل بوا�سطته �إىل حتقيق الربنامج وترب��ط املر�سل/امل��وت باملر�سل �إليه عالق��ة (قوة/عجز)
الرئي�س��ي ،ي�سعى من خ�لال الربنامج الو�سي��ط �إىل امتالك يت�س��م املر�س��ل بالقوة ،بينم��ا يت�سم املر�سل �إلي��ه بالعجز من
املعرفة وامل�ؤهالت حتى ي�ستطيع الإبقاء على حياة الأم وطرد جهة .وتربط املر�سل باملو�ضوع عالقة رغبة االنتزاع واالمتالك
املوت الذي ميثل الربنامج الرئي�سي ،وهو ما مل يتحقق. من جهة �أخرى.
وميكن �أن نحدد كيفيات قيام العالقة مابني الذوات ب�شكل بينم��ا تربط الذات مبو�ضوعه عالق��ة رغبة من جهة وتربطه
مف�صل بالرت�سيمة التالية: عالق��ة �صراع م��ع املعار�ض من جهة �أخ��رى ،ويت�سم املر�سل
باملعرف��ة والق��درة بينما يت�س��م الذات بفق��دان املعرفة وعدم
القدرة:
(ما الذي يفعل ابنك يا �أجمل الأمهات؟)
تبدو عالقة االبن/الذات باملو�ض��وع/الأم عالقة مبا�شرة
تتج�س��د يف الر�ؤية واحل���س ،وتقوم عالقته بامل��وت بينه وبني (�أماه هل �أفتح الباب كي يخرج املوت؟)
املوت عل��ى الوهم/التخييل ،وتقوم عالق��ة الفاعل امل�ضاد/ ت�ؤول العالقة بني ال��ذات واملو�ضوع �إىل عالقة فقدان من
امل��وت بالفاع��ل على الهيمن��ة ،وتقوم عالقته م��ع الأم على جهة ،بينما ت�ؤول بينها وبني املعار�ض �إىل ت�سليم ورجاء للرفق
احل�س �أي�ضا ،يف حني تقوم عالقة الأم به على التخييل وعدم بالأم من جهة �أخرى.
الر�ؤي��ة ،وتقوم عالقته ب��الأم عالقة الفاع��ل املنجز بال�ضحية �إن ال��ذات من خالل ما تقدم تدخ��ل يف �صراع �إ�شكايل
(القيمة امل�ستهدفة). يف غاية التعقيد م��ع الفاعل (املنجز /امل�ضاد) ،فكيف ينت�صر
�إن لكل ذات م��ن هذه الذوات الفاعل��ة وظيفتها كذات يف �صراعه مع فاعل نوراين روحي غري فيزيائي وغري ُم ْد َر ٍك ال
حموري��ة يف البني��ة العاملي��ة ،وم�سارها ال�س��ردي ،وبرناجمها ُيرى!! وهو فاق��د للم�ؤهالت الأ�سا�سية التي جتعله قادرا على
الرام��ي �إىل تنفي��ذ م�شروع ما ع�بر وظيفة حم��ددة .فوظيفة اجن��از م�شروع م��ا ،ومع افتقاره ملوا�ضي��ع اجلهة هذه يدخل يف
الذات/االب��ن تتمث��ل �أوال يف نق��ل ال�سرد/احلكاي��ة التي مرحلة االرتباك النهائية ،ويبقى وجوده كفاعل غري م�ؤهل� ،إن
وقع��ت ،و�إي�صالها �إىل القارئ ،فهو را ٍو م�شارك فيها� .أما وظيفة الذات ملزم حتى يكون ق��ادرا على اجناز التحول واالمتالك
35 34
تاريخ ميالده الأم ف�إنها قائمة عل��ى ال�صراع املبا�شر مع املوت وال�صراع بني
�سنوات ال�صبا تنفي��ذ م�شروع التحول واالنتقال �إىل ع��امل ال�ضوء� ،أو البقاء
والكهولة»(((. يف عامل الظالم ،وكذا االت�ص��ال باالبن .وتقوم وظيفة املوت
�إن ال�ص��راع ب�ين الفاعل والفاعل امل�ض��اد �صراع حم�سوم على اال�شتغال على تيمات الو�صل والف�صل ،ف�صل الأم عن
النتيج��ة �سلف��ا فالفاع��ل ال ي�ستطيع �إيقاف م�ش��روع الفاعل العامل امل�شتم��ل للأهل وال�سكن وو�صلها بعامل �آخر ،وف�صل
امل�ضاد ،وال ميلك �سوى الت�سليم فقط. االبن عنها وو�صله بغيابها.
�إن ه��ذه القوى تت�ص��ارع حول مو�ضوع قيم��ة واحد وهو
ب .املكوِّن اخلطابي:
احلياة /البقاء ..فالفاعل ممتلك لوجود الأم ،والفاعل امل�ضاد/
يف�ض��ي املكون ال�سردي الب�سيط ع��ادة �إىل املكون الأكرث امل��وت ي�سعى �إىل َف ْ�ص ِل ِه عنه وامتالك��ه بدال عنه ،وهو بذلك
تعقي��دا ،وهو املك��ون اخلطاب��ي� ،إذ يتم االنتق��ال من حتليل ين�ص ُب��ه فاعال مف َّو�ضَ اً ،يخول له
ميار���س م�شروعا �شرعيا مطلقا ِّ
الن���ص باعتباره �سل�سلة م��ن احلاالت والتح��والت كعنا�صر انت��زاع املو�ضوع بطريقة غري قابلة للرتاجع ،لأنه ميتلك تفوي�ضا
�ضابط��ة ملجموعة م��ن الأدوار العاملية ب�صفته��ا –هنا -بنية مطلق��ا ،وتوجيها �سماويا ال ميكن التخل��ي عنه ،وهو ما جعل
�سردي��ة � Structure narrativeإىل «املك��ون اخلطابي كا�ستثمار ال��ذات مت�سائلة عرب �شبكة م��ن الأ�سئلة عن كيفية الت�صرف
داليل له��ذه البنية»((( ،وميث��ل املكون اخلطاب��ي حلقة و�صل لإيقاف امل�شروع امل�ضاد ،واملهدد له ،لي�ستقر الأمر يف الو�ضعية
ب�ين البنية ال�سطحي��ة والبنية العميقة ،من حي��ث �إنه يحدد اخلتامية �إىل الت�سليم املطلق والر�ضاء:
الداللة الأولي��ة للن�ص ،ويتم عرب هذا املك��ون درا�سة ال�صور «ولكن نهرا كبريا
املحورية املتمف�صلة يف الن�ص ،و�ضب��ط م�ساراتها التي تندمج ينابيعه �صدر �أمي
فيها وت�ؤ�س���س للت�شاكالت اخلطابية ،ومن ث��م حتديد الأدوار يظل غزير احلنان
املو�ضوعاتية للممثلني. ملاذا يريد له املوت �أن يتوارى
((( عبد العزيز املقالح ،كتاب الأم.21 : وان تبلع الأر�ض �أ�سماء ُه
((( �سعيد بنكراد ،مدخل �إىل ال�سيميائية ال�سردية.78 : وخالياه
37 36
وم��ن املفيد ذكره هن��ا �أن الن�ص كله �شبك��ة مت�ضامة من أ .التجمعات الصورية:
ال�ص��ور ،ولذل��ك ينبغ��ي عن��د التحلي��ل االكتف��اء ب�أكرثها ي�س��وق جرميا�س مثاال داال على ه��ذا النوع من الت�شكيل
متي��زا ،وال بد من جتميعها وتعديلها م��ن �أجل �إعطائها �صياغة ال�ص��وري ،وه��و �أن ال�شم�س تنتظ��م يف م�سارها جمموعة من
�سيميائية متجان�سة جلعلها �أكرث مطابقة ملتطلبات نحو �سردي(((. ال�صور ،مثل الأ�شعة ،والإ�شراق ،واحلرارة� ..إلخ((( ،وهذا يعني
وعليه ميكن �أن مني��ز بني �صورتني حموريتني ينبني الن�ص قيد �أن ال�ص��ورة اللفظية(*) تنمو منها احتم��االت داللية متعددة،
الدرا�س��ة منهما ،وت�شكل ال�صور الباقية لواحق لها ،وهوام�ش متعلق��ة بها ،ناجتة عن بعدين اثنني� ،أولهما من خمزون املفردة
عليه��ا ،تعززها وجتليها من جهة ،وت�ضفي عليها عمقا من جهة املعجمي ،الذي ن�ستطي��ع �أن جنده يف �أي معجم ،والثاين ناجت
�أخ��رى ،وهاتان ال�صورتان هما (ال�شتاء واملوت) ،ي�ضم ال�شتاء عن الذاك��رة الثقافية ،والبعد الت�أويلي للمفردة ،بالإ�ضافة �إىل
�صورة الف�صول الأخرى ،لنقرتح الأقرب �إليه منها وهو الربيع ال�سياق واال�ستعمال.
مثال ،بينما ي�ضم املوت �صورة احلياة كذلك.
وال�صورة /اللك�سيم تت�شكل من ثالث قواعد رئي�سية:
ت�برز �صورة ال�شتاء منذ جملت��ه االفتتاحية ،ومتثل مفتاحا � -أولها� :شكل ال�صورة يف حد ذاتها.
دالليا حموري��ا للن�ص برمته؛ لأنه��ا ذات حمموالت متعددة -والث��اين :جذرها الن��ووي ،وهو مادة ال�ص��ورة ،ونواتها
مت�شظية ،ف�إذا كانت ال�صورة حتتوي «على م�ضمون ثابت يحلل امل�ضمونية� ،إنه حمتواها الثابت.
دال على�إىل عنا�صره الأولية»((( فال�شتاء يف بنيته اللك�سيمية ٌّ � -أم��ا الثال��ث :في�ش��كل م�ساراتها ال�صوري��ة التي متثل
الوقت ،وتدل �صورت��ه النواتية/مادته على ف�صل من ف�صول وظيفته��ا وتوظيفها امل��ادي ،فـ«ال�صورة وح��دة داللية
ال�سنة ،بينما ت��زدوج املعاين يف م�ساراته ال�صورية ،وتتمف�صل ذات م�ضم��ون ثابت ،تعرف بنواته��ا الدائمة ،وتتحقق
�إىل معان حقيقية ومع��ان جمازية ،فاملعاين احلقيقية ت�شي ب�أنه �إ�ضماراتها ب�شكل خمتلف ح�سب ال�سياقات»(((.
((( ينظ��ر� :أ.ج غرميا���س ،الفواعل -املمثلون -ال�صور ،تـ :عب��د احلميد بورايو� ،ضمن
كت��اب الك�ش��ف عن املعنى يف الن���ص ال�سردي ،النظري��ة ال�سيميائي��ة ال�سردية ،دار ((( ينظر :حممد النا�صر العجيمي ،يف اخلطاب ال�سردي.80:،
ال�سبيل للن�شر والتوزيع ،اجلزائر ،ج ،2 :ط2009 ،1 :م.46 : (*) وتعني :املفردة املعجمية ،وهناك من يرتجمها بال�صورة (اللك�سيمية)� ،أو اللك�سيم
((( ر�شي��د بن مال��ك ،قامو�س م�صطلح��ات التحليل ال�سيميائ��ي للن�صو�ص ،عربي- ،lexemوكذا اللفظيم.
اجنليزي-فرن�سي ،دار احلكمة ،اجلزائر ،د .ط2000 ،م74 : ((( فريق انرتوفرن ،التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص.128 :
39 38
وهو دال على اجلفاف واليبا�س وغياب الدفء: ف�صل م��ن ف�صول ال�سنة ،بارد ،ينقطع فيه املطر« /يف اليمن»،
«م�سكينة يف ال�شتاء ال�شوارع بينم��ا يظهر من املع��اين املجازية الذب��ول ،واالنطفاء ،وموت
ياب�سة من يدثرها الطبيعة ،والغياب ،وتف�صيل ذلك تبينه الرت�سيمة التالية:
من يج�س يديها ال�شتاء اللك�سيم (املفردة املعجمية)
ف�صل/وقت
ويرخي عليها �ستار النهار ال�صورة النواتية (مادة ال�صورة)
جتف البحريات
حني يجيء ال�شتاء»(((. معنى جمازي
م�سارات �صورية معنى حقيقي
فال�شت��اء يف معظم البل��دان –ومنها اليم��ن -يحمل داللة
اجلدب ،وموت الطبيعة امل�ؤقت ،الناجت عن انقطاع املطر ،وينتهي ذبول انطفاء موت ف�صل/وقت برد انقطاع املطر
موتها بذهابه تدريجيا لتع��ود �إىل زهوها وحياتها من جديد ،من (غياب/كلي) (ح�ضور/جزئي)
هنا حتمل �صورة ال�شتاء �شحنة داللية مركبة فهي موظفة يف �سياق فاملكون ال�ص��ريف والنح��وي لل�صورة يف�ض��ي �إىل مادتها،
موت الأم ،وذلك ي�شي بوع��ي �سيميائي عميق لهذه ال�صورة، الت��ي تف�ضي بدوره��ا �إىل طبقاتها العميق��ة الكامنة فيها ،غري
ودالالتها اجلوهرية الت��ي ال ت�س ِّلم بوقوع �أمر املوت املطلق ،و�إمنا �أنه��ا تكت�سب من �سياقها اجلديد وا�ستعمالها يف الن�ص معنى
ت�سلم باملوت امل�ؤقت ال��ذي ينتهي بانتهاء ف�صل جمدب لتعود جمازيا خمتلفا ،فهي دالة على م�سارات �صورية خمتلفة �إ�ضافية
دورة الطبيع��ة وحتيا من جديد ،وهو ما تلح عليه الذات ال�ساردة منها( :الوح�شة ،الفراغ ،انقطاع احلركة ،الغياب) ،من حيث
عرب ت�أكيدها يف احلالة اخلتامية ،التي ال تنتهي مبوت الأم ،بل �إنها �إن ال�شت��اء يف الن�ص يقوم بدور مو�ضوعاتي يتمثل يف هيمنته
ت�ضم��ر موتها وتعلن عن رغبة الأم يف االنتقال من عامل الظالم على اجلهات والأماكن بوجوده يف ال�سماء وعلى الأر�ض:
�إىل عامل ال�ضوء برغم حزنها لفراقها البيت والأهل ،وك�أن املوت «يف ال�سماء،
ي�شبه حالة ال�شتاء الذي يبلغه ف�صل اخل�صب عند االنتقال �إىل على الأر�ض،
عامل ال�ضوء بعد املوت. (((
ما كان �إال ال�شتاء».
20 ((( امل�صدر نف�سه: ((( عبد العزيز املقالح ،كتاب الأم.20 :
41 40
ذل��ك -دالالت حافة ،تتعدد بتعدد �سياق��ات وا�ستعماالت وميث��ل املوت يف الن���ص ال�صورة املحوري��ة الثانية ،وتعرف
املفردة ،وخمزونها الثقايف يف الذاكرة �إذ توحي بـ: بنواتها الثابتة ،املتمثل��ة يف الإخافة ،واالحتجاب عن الر�ؤية،
مقربة -قرب -جنازة -ت�شييع -حداد -بكاء -خوف -رثاء- واالنقطاع عن العامل ،واحلزن ،وال�صمت ،بينما يتمثل املعنى
غياب. املج��ازي للموت يف اجلمود ،والغياب ،والقوة ،واالنتزاع ،غري
�أنها تقدم يف الن�ص معنى خمتلفا من خالل الوظيفة املحورية
بالإ�ضاف��ة �إىل �أنها قد اكت�سب��ت يف الن�ص معنى املراوغة، املتمثل��ة يف انتزاع مو�ضوع القيم��ة امل�ستهدف من قبل االبن
فامل��وت يقوم بدور غر�ضي وظيفته التحوي��ل� ،إذ يحول م�سار ويتمث��ل يف حي��اة الأم ،وف�ص��ل االب��ن عنه ،وو�صل��ه بقيمة
ال��ذات من امت�لاك لوج��ود الأم �إىل فقدان له��ذا الوجود، اليتم.
وحتويل االبن �إىل عامل اليتم من جهة ،ونقل الأم من حالة �إىل وبالإ�ضافة �إىل هذه الوظيفة ف�إن معجم «املفردات يف غريب
�أخرى من حالة ال�صحوة امل�ؤقتة �إىل عامل ال�صحوة الأبدية. القر�آن» يحدد �أن��واع املوت بح�سب �أنواع احلياة ،وي�صنفها يف
�إن هاتني ال�صورتني -كما �أ�شرنا -متثالن حمورين رئي�سيني، خم�سة �أنواع(((:
يت�ضام��ان ،ويتداخ�لان من جه��ات �شتى ،فال�شت��اء غياب، -فالأول :ما هو ب���إزاء القوة النامية املوجودة يف الإن�سان
وامل��وت غياب ،وكالهما جمود وحتول م��ن حالة �إىل �أخرى، واحليوان والنبات..
وبذلك تغدو �صور الن�ص �شبكة واحدة. -والثاين :زوال القوة احلا�سة.
وتكمن وظيفة ال�صورتني ال�سياقي��ة والوظيفية يف تكثيف -والثالث :زوال القوة العاقلة.
حالة الفق��دان ،وهيمنة م�س��اري الغياب واجلم��ود ،ومن ثم -والرابع :احلزن املكدر للحياة.
تقدمي حالة الذات املرتبك��ة يف حزنها ،ووجعها ،الناجتني عن -واخلام�س :املنام.
انتزاع املوت ملو�ضوعها. �إن ه��ذا التع��دد املعجم��ي يف م�س��ار ال�ص��ورة يدل على
خ�صبها الداليل وعل��ى �سعتها التداولية ،ولها -بالإ�ضافة �إىل
ب .املسارات الصورية:
((( ينظ��ر� :أبو القا�سم احل�سني بن حممد املع��روف بالراغب الأ�صفهاين ،املفردات يف
متثل امل�سارات ال�صورية جمموعة من املتواليات اخلطابية/ غري��ب الق��ر�آن ،حتقيق و�ضبط� :سيد كي�لاين ،دار املعرفة للطباع��ة والن�شر والتوزيع،
ال�صوري��ة املت�شابك��ة التي يف�ضي بع�ضه��ا �إىل بع�ض ،ويحيل د.ط ،د.ت.477 ،476 :
43 42
ومعنى هذا �أن ال�صور ل�صيقة باملفردات وخزائنها املعجمية بع�ضه��ا �إىل بع���ض ،وينتج بع�ضه��ا عن بع���ض ،ويجمع بينها
والداللي��ة والثقافية ..بينما امل�س��ارات ال�صورية متعلقة ببنى خي��ط رفيع و�أوجه �شب��ه متعددة ،لتندرج حت��ت حمور واحد
اخلط��اب وا�ستعماالتها فيه ،وعالقاته��ا مع غريها ،ووفقا لهذه ميك��ن ت�سميته حق�لا دالليا ،ويعرفه جرميا���س ب�أنه «جمموعة
املنطلقات املنهجية جند �أن الن�ص ينتظم وفق م�سارين �صوريني، �ص��ور متالحم��ة ي�شد بع�ضه��ا بع�ضا ،ويحي��ل بع�ضها [�إىل]
الأول تتمف�صل فيه جمموعة من ال�صور من �أهمها: بع���ض .فال�سي��ارة والقط��ار واحلافل��ة والطائرة ت�ؤل��ف م�سارا
�صوري��ا يحمل عن��وان «و�سائل نق��ل»((( ،وقد ال جن��د م�سارا
«م��ا كان �إال ال�شتاء -ال�شوارع خالي��ة -كنت وحيدا �أمام �صوريا واحدا يف الن�صو�ص بل تتعدد امل�سارات ال�صورية فيها
ال�سري��ر -هل �أفتح الب��اب -ال �أحد يف النواف��ذ -ياب�سة من لتجتم��ع يف نقاط و�أوجه م�شرتكة بينهما ،ترد يف �شكل «جتمع
يدثره��ا -جتف البح�يرات -تبل��ع الأر�ض �أ�سم��اءه� -ساكنة خطاب��ي» Configuration Discurisiveماثل بالقوة يف اخلطاب
الظل». املعط��ى»((( ،ومعنى هذا �أن الوح��دات اللك�سيمية املعجمية
كل ه��ذه امل�س��ارات ال�صورية تت�آزر فيما بينه��ا ،ومتثل �أفقا للم�س��ارات ال�صورية قد ال تت�شابه �أو تتطابق متاما ،لكن يجمع
متناميا للن�ص ،تت�سع دالالته بات�ساع م�ساراته ال�صورية ،فخلو بينه��ا وج��ه �شبه ما ،وتنتظ��م كلها وفق ن�سق واح��د ،وت�ؤدي
ال�ش��وارع �إال من ال�شتاء ،والوحدة ،وف��راغ النوافذ ،وجفاف حمورا فكريا واح��دا ،وت�سمى الب�ؤرة اجلامعة لهذه الوحدات
البح�يرات ،و�سكون الظ��ل» ،كله��ا م�سارات تر�س��م امل�سار املعجمية بال��ـ «جتمعات اخلطابية» وهي على عك�س امل�سارات
املتنامي للن�ص ،ووحداته املكثفة وتعرب عن اجلمود من جهة، ال�صورية املحققة تبعا لظهورها للعيان تبدو «جمردة نطلع عليها
وعن الف��راغ من جهة �أخرى ،واجلم��ود والفراغ هذين وهما من خالل جت�سيدنا �إياها باالقرتاب من الفكرة العامة املقولبة
التجم��ع اخلطاب��ي الأويل له��ذه امل�سارات يق��ودان �إىل قيمة للخط��اب ،والتي تعد الهيكل الأ�سا�س ل��ه حتى يت�سنى لنا
الوح�ش��ة الناجتة ع��ن املوت بو�صفه فاعال م�ض��ادا والتي تقع الإم�ساك بال�شكل املنظم للمحتوى»(((.
حت��ت �ضغطها الذات ،ومتث��ل الوح�شة هن��ا التجمع اخلطابي ((( حممد النا�صر العجيمي ،يف اخلطاب ال�سردي.79 :
الث��اين لهذه امل�سارات ،فالتجمع اخلطاب��ي الأول يف�ضي �إىل ((( نادية بو �شفرة ،مباحث يف ال�سيميائية ال�سردية ،دار الأمل للطباعة والن�شر والتوزيع
جتمع خطابي ثان ،ويتمثل ذلك وفق الرت�سيمة التالية: تيزي وزو ،د.ط ،د.ت.83 :
((( املرجع نف�سه.84 :
45 44
تتنامى ه��ذه ال�صور ،وي�ؤدي كل منه��ا �إىل ما يليها ،فتعرب ما كان �إال ال�شتاء -ال�شوارع خالية -كنت وحيدا -ال �أحد يف النوافذ...
الأوىل عن فقدان املاء بو�صفه حمتواها وجوهرها ،وتعرب الثانية
عن فقدان الذات ملو�ضوع قيمتها (النهر الذي م�صدره �صدر التجمع اخلطابي (�أ):
الأم) (احلنان احلب ال��دفء ،)..وكذلك م�سار تبلع الأر�ض اجلمود/الفراغ.
�أ�سم��اءه الذي يعرب ع��ن فقدان للأ�سم��اء بو�صفها هوية دالة
وو�سم��ا ..و�صورة الكهول��ة التي تدل على فق��دان ال�شباب التجمع اخلطابي (ب):
بو�صفه القوة التي ت��زرع الن�شاط واحليوية يف الروح واجل�سد، الوح�شة/اخلوف.
بل ه��و جوهرهما مع��ا ،وتدعمها �ص��ورة «مل يع��د ج�سدا»، �إمن��ا ينظم ويجمع ه��ذه امل�سارات ال�صوري��ة �أنها دالة على
وبذلك يكون التجمع اخلطاب��ي الذي ي�صل بني هذه ال�صور اجلم��ود والفراغ ،فه��ي -وفقا لذلك -ت�ش��كل عائلة واحدة
ويخلق م�سارها املوحد هو «الفقد». للوح�شة واخلوف.
ويجم��ع هذين امل�سارين ال�صوريني جام��ع واحد ،وهو �أنهما نخل���ص م��ن �شكل ه��ذه الرت�سيم��ة وحمتوياته��ا �إىل �أن
يدعمان التجمعات ال�صورية ،ويحيالن �إليها ،وبذلك ف�إن عالقة امل�سارات ال�صورية هي م��ن متنحنا عنوان جتمعها اخلطابي� ،أو
الت�شارك والف�صل والو�صل والتحويل هي اجلامع بني التجمعات مبعنى �آخر �شكل اجلامع امل�شرتك فيما بينها.
اخلطابية وامل�سارات وال�صور ،ف�إذا كان ال�شتاء ميثل فاعال منجزا
يقوم بوظيفة حتويل ُف ْ�ص ِلي �أي َف ْ�صل الطبيعة عن حياتها وو�صلها �أم��ا امل�سار ال�ص��وري الآخ��ر يف الن�ص ف�إن��ه يت�شكل من
باجلدب/موتها ،ف�إن امل��وت ميثل فاعال منجزا كذلك ،ومهمته جمموع��ة ال�ص��ور املتعددة احلم��والت الداللية ،غ�ير �أن ما
القيام بتحويل ُف ْ�ص ِل ٍّي يتمثل يف ف�صل الفاعل/الذات /االبن يهيمن على دالالتها هو ان�صبابها يف حمور ي�ؤازر املكون العام
عن مو�ضوعها (وجود الأم) ،وو�صلها مبو�ضوع م�ضاد ،وهو اليتم، للن�ص م��ن جهة ومكون م�سارها املقرتح م��ن جهة ثانية ومن
وك��ذا ف�صل الأم ع��ن حياتها الدنيوية وو�صله��ا بحياة �أخرى، �أهم هذه امل�سارات ال�صورية:
ويجم��ع هاتني ال�صورت�ين �أنهما ميثالن دوري��ن غر�ضيني ،من «جت��ف البحريات /نهرا كبريا ..يريد له املوت �أن يتوارى/
حيث �إنهما يقومان بت�أدية �أفعال حتويل ..م�ؤقتة ولي�ست نهائية؛ تبلع الأر�ض �أ�سماءه /..الكهولة /مل يعد ج�سدا»..
47 46
القلب ...البنيات العميقة ه��ي �أكرث ابتعادا عن املو�ضوعات فال�شت��اء يعقبه حتول ،وات�صال بف�صول �أخرى ،وبذلك ت�ستعيد
املو�صوفة� ،أكرث عموم َّية .فالأمر يتع َّلق هنا مب�ستوى حتتي ،يوافق الطبيعة دورتها وحياتها ،واملوت يعقبه فعل حياة �أبدية فت�ستعيد
تقديرا �إدراكا جممال لعامل داليل حمدد.(((». الأم بعد ذلك حياتها..
يه��دف امل�ست��وى العمي��ق �إذن �إىل «�إ�ضف��اء متثيل منظم
ومنطقي على �شكل امل�ضمون»((( .يعاد من خالله بناء ال�سنن .2البنية العميقة:
الذي يحك��م وميف�صل وينظم ما �أُ َّ
ع��د يف البنى ال�سطحية(((. �إذا كان��ت وظيفة البنية ال�سطحي��ة تتمثل يف الك�شف عن
ويت��م تن��اول الن�صو���ص يف البنية العميق��ة بوا�سط��ة �آليتي �أ�ش��كال املعنى عرب البن��ى املتمظه��رة (/املتجلية/امللمو�سة)،
«الوحدات الداللية ال�صغ��رى» وكذا «املربع ال�سيميائي» وما بوا�سطة الربامج وامل�سارات ال�سردية ،وما يحدث فيها من حاالت
وحتوالت ب�ين العوامل ،وموا�ضيعها ،وم�ؤهالتها ،وقدراتها على
بينهما من �آليات تابعة لهما.
االجناز؛ ف���إن البنى العميقة تهتم بالك�شف عن �أ�شكال املعنى
أ .الوحدات الداللية الصغرى: يف بنياته املحايثة ،عرب مف�صلة للوحدات املحورية يف الن�ص ،وما
ال وج��ود لألفاظ م�ستقل��ة مبفردها ،وال ت�شتغ��ل الألفاظ ينتج عنها من تخالفات ،ومتاثالت ،وت�ضادات� ...إلخ.
وحي��دة مبعزل عن بقية الألفاظ� ،إ ْذ البد من عالقة رابطة بني �إن بني��ة ال�سطح تعود «�إىل املجال القابل للمالحظة وتعترب
لفظ و�آخر ،وهذا يعني �أن ثمة لفظني متزامنني ،و�أن ثمة عالقة مقدرة يف امللفوظ .يالحظ مع ذلك �أن [ ...البنية العميق��ة] َّ
بني هذين اللفظني(((« ،فال�صور -يف �أي لغة ما -تقيم عالقات م�صطل��ح العمق حامل لإيح��اءات �أيديولوجية بفعل �إحالته
فيما بينه��ا ،وترتبط ،وتتجم��ع� ،أو تتقاب��ل� ،أو تق�صي بع�ضها �إىل �سيكولوجية الأعماق ،ولأن معناه يقرتب دائما من معنى
الأ�صالة»(((.
((( جوزيف كورتي�س ،الأ�شكال ال�سردية ،تـ :عبد احلميد بورايو.189 ،188 :
ويو�صف هذا امل�ستوى بالعمق لأنه « ُي ْد َر ُك بو�صفه م�ضمرا
((( ج��ان كلود جريو ،ول��وي بانينيه ،ال�سيميائي��ة نظرية لتحليل اخلط��اب ،تـ :ر�شيد
ب��ن مالك ،مراجعة وتقدمي :عز الدين املنا�صرة� ،ضم��ن كتاب :ال�سيميائيات �أ�صولها
يف اخلط��اب املحل��ل ،وهو فيه مبثاب��ة اخلال�ص��ة� ،أو بالأحرى
وقواعدها ،من�شورات االختالف ،اجلزائر ،د.ط2002 ،م.120 :
((( �أ.ج .غرميا�س ،و ج .كورتي�س ،تعريفات ا�صطالحية ،تـ :عبد احلميد بورايو� ،ضمن
((( ينظر :فريق انرتوفرن ،التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص .155 : كت��اب الك�ش��ف عن املعنى يف الن���ص ال�سردي ،النظري��ة ال�سيميائي��ة ال�سردية ،دار
((( ينظر :املرجع نف�سه.171 : ال�سبيل للن�شر والتوزيع ،اجلزائر ،ج ،2 :ط2009 ،1 :م.7 :
49 48
ينابيعه �صدر �أمي البع���ض بف�ضل �سياقاته��ا امل�شرتكة� ،أو املختلف��ة»((( ،وتكون
يظل غزير احلنان»(((. البن��ى العالئقية بني كل لفظ�/ص��ورة و�آخر متعددة ،وال يتم
�إدراك بع�ضه��ا �إال من خالل هذه العالق��ات التي تكون �إما
تتجل��ى ال�ص��ور ال�سابقة متمف�صل��ة يف ملفوظات اخلطاب
عالقات تقابل �أو اختالف:
الذي ينبني على �صورتني حموريتني ،متمف�صلتني فيه ب�شكل
رئي�س��ي ،يجمعهم��ا قا�سم م�ش�ترك واحد ،وتف�ص��ل بينهما موت/عك�س/حياة
قوا�سم �أخ��رى ،فالبحريات يف �أب�س��ط تعريفاتها �أنها جتمعات بحرية/عك�س/جفاف
مائية راكدة� ،أو تتحرك ببطء� ،أما النهر فهو جمرى مائي يت�سم �شباب/عك�س/كهولة
بال�سيولة ،واحلركة ،وعدم الثبات...
ح�ضور/عك�س /غياب
وم��ن خالل هذين التعريفني الب�سيط�ين لكال ال�صورتني
�إن العالقة بني املوت واحلياة عالقة عك�سية ،وهذه العالقة
ن�ستطي��ع تفكيكهما �إىل وحداتهم��ا الداللية بوا�سطة امليزات
تنت��ج عالقة داللي��ة رابطة بينهما ،تقت�ض��ي وجودها وت�سمى
الت��ي يحتويه��ا كل منهم��ا يف ذات��ه� ،أو الت��ي يكت�سبها من
بـ «املح��ور الداليل» ،axe sémantiqueوه��و هنا املحور الرابط
ال�سياقات التي وردت فيها:
بني امل��وت واحلياة ه��و الوجود/ال�صراع بني البق��اء والفناء،
.1طبيعيات/ن�سبة �إىل الطبيعة. وه��و ناجت عن عالق��ة تراتبية تف�ضي حالته��ا الأولية �إىل التي
.2من نف�س املواد املكونة. تليه��ا بال�ضرورة ،وكذا تق��وم العالقة ب�ين البحرية واجلفاف
.3يحمالن معاين اخل�صب والتدفق. على العالق��ة العك�سية ،ويربط بينهما حمور داليل واحد ،هو
ومع احت��واء هاتني ال�صورتني له��ذه املوا�صفات املت�شابهة اخل�صب واجلدب ،ومثلها البقية:
املت�شاكلة �إال �أنهما حتمالن قيما خالفية تفرتقان فيها ،ومنها: «جتف البحريات
-النه��ر :جار -ال يج��ف -ا�ستمرار -عذوب��ة -حركة- حني يجيء ال�شتاء
ات�صال.
ولكن نهرا كبريا
((( عبد العزيز املقالح ،كتاب الأم.21 ،20 : ((( املرجع نف�سه.157 :
51 50
ميث��ل املحور الداليل العنا�صر امل�شرتكة بني ال�صور ،وميكن -البحرية :راكدة -قد جتف -ق��د تكون ماحلةَ -ت َو ُقف-
�إدراك العنا�ص��ر امل�شرتكة هنا طبقا للتقابل بني هذه العنا�صر، (�أو حركة ن�سبية)/انقطاع.
وطبق��ا للتمف�صل القائم بينهما ،فاملح��ور الداليل بينهما طبقا وال ت�ستق��ر هاتان ال�صورتان على موا�صفاتهما القارة فيهما
للتقابل الناجت عن طريق الوحدات املعجمية ال�سياقية هو: فقط ،بل تكت�سبان �أخرى من ال�سياقات:
� -أن البح�يرات طبيعي��ة (يحولها ال�شت��اء �إىل اجلدب/ -البحريات :مو�صوفة بالكرثة ،جافة ،م�صدرها الطبيعة،
املوت). �سبب جفافها طبيعي(/جميء ال�شتاء).
� -أن النه��ر ب�شري (فينابيعه �ص��در �أمي/احلنان/احلب/ -النه��ر :واحد ،ال ج��اف ،م�صدره �ص��در الأم� ،سبب
الدفء /الذي يقابل الق�سوة الناجتة عن فعل املوت). جفاف��ه املفرت�ض (مالئكي/اله��ي) املوت ،وهو ب�شري
فالتقاب��ل ب�ين النه��ر واجلفاف يت��م �إدراكه عل��ى املحور عك�س طبيعي.
الداليل/تقلب��ات الطبيعة ،فالطبيع��ة ذات حالة/البحريات �إن ه��ذه الوح��دات ال�سياقية املعجمي��ة ال تقف عند هذا
وال�شت��اء ذات فع��ل حم ِّول للبح�يرات من حال��ة االت�صال احلد بل متتد لتتجلى يف م�سارات متعددة:
(وجود املاء)� ،إىل حالة االنف�صال (اجلفاف) ،وهذه يف �شكلها -البحريات :فيزيائية -مائية -ح�سية/الطبيعة.
الأويل متعلقة بالطبيعة..
-النهر :ج�سدي -ب�شري -عاطفي/حنان الأم/م�شاعر.
ويت��م �إدراك التقاب��ل بني «حن��ان» و«ق�س��وة» على املحور
الداليل للعواطف ،وهي متعلقة بالأم. وثم��ة جامع م�شرتك ميي��ز ال�صورة الأوىل ع��ن الثانية وهو
�أنها �إن�سانية عك�س طبيعية�/ش��يء وي�سمى هذا اجلامع املميز
ميكن توافقها على حمور داليل �آخر وهو الفناء (اجلفاف)، لكليهما بالنظري(*) الداليل.
فالبح�يرات والنهر م�صريهما يف الن���ص التحول ،وهو بالطبع
حت��ول �آين يتم بع��ده اال�ستع��ادة ،واالت�ص��ال باملو�ضوع من املحور الداليل لهاتني ال�صورتني:
جدي��د ،وال�شتاء هو الفاعل القائم مب�ش��روع حتويل البحريات (*) هن��اك من يرتجمه بالقطب ،والنظري :هو تكرار �سمات �صغرى يف ن�ص ما ،ت�ضمن
ان�سجامه ومتا�سك��ه ،وينق�سم النظري �إىل نظري داليل ونظ�ير �سيميائي ،فالنظري الداليل
وو�صلها باجلفاف ،يف ح�ين �أن املوت هو الفاعل الذي ي�صل ه��و الناجت عن تك��رار وحدات �سياقية ،بينم��ا النظري ال�سيميائي ه��و تكرار ال�سيمات
النهر باجلفاف �أي�ضا. النواتية.
53 52
�إذا كان��ت العالق��ات فيما �سب��ق قائمة عل��ى مالب�سات اكتفينا يف حتليلنا بهاتني ال�صورتني من جملة �صور متعددة؛
االخت�لاف القائمة ب�ين ميزتني �أ�سا�سيتني فق��ط؛ ف�إن املربع لأنهما مركبتان ،حتمالن موا�صفاتهم��ا وبال�ضرورة موا�صفات
ال�سيميائي «ميثل العالقات الرئي�سية التي تخ�ضع لها بال�ضرورة �صورت�ين تت�ضمنانهما وتت�ص�لان بهما ات�ص��اال مبا�شرا هما:
وح��دات املدلولية حتى تتمكن م��ن توليد ف�ضاء داليل قادر احلي��اة مقاب��ل املوت ،وال�شت��اء بو�صفه ف�صل ج��دب مقابل
عل��ى التجل��ي»((( ،وال يتم ذلك �إال عرب مف�صل��ة امللفوظات، الف�صول الأخرى.
والوحدات اخلطابية ،بغية حتديد �أ�شكال املعاين ،عرب املرور من
ب .املربع السيميائي:
بن��ى التجلي يف ال�سطح �إىل البني املحايثة يف الن�ص ،بوا�سطة
ميثل املرب��ع ال�سيميائي جت�سي��دا حيا للقي��م واملو�ضوعات
�إعادة بناء العالقات ومف�صلته��ا؛ لأن املدلولية ال تتحقق �إال
املتمف�صل��ة يف الن�ص ،فهو يعيد مف�صلته��ا وتفكيكها تفكيكا
على �أ�سا�س االختالف ،وال ي�ستوعب املعنى �إال �إذا متف�صل،
منطقي��ا�« ،إن املربع منا�سب لتمثيل تداخ��ل العالقات مابني
�إن العالق��ات تتع��دد وتت�سع عند ا�ستثم��ار املربع ال�سيميائي
الوظائف ...وبني الأ�شياء واملو�ضوعات»((( ،ومن هنا ف�إن عملية
ووظائفه التي ت�ساعد على ا�ستثمار طاقات ال�سيمات ومن ثم
اختي��ار ال�صور وو�ضعها يف حم��اور املرب��ع ال�سيميائي لي�ست
تنفيذها على املربع ال�سيميائ��ي؛ لأنه هو الذي ي�ساعد «على
عملي��ة ع�شوائي��ة ،وال ارجتالي��ة ،ولكن لأنها متث��ل �أوال �صورا
متثي��ل العالقات التي تعق��د بني هذه الوح��دات بغية �إنتاج
املدلوالت التي مينحها الن�ص لقرائه»(((. حموري��ة ومهيمن��ة يف الن�ص ،وكذا قيم��اً �أو مو�ضوعات مهمة
في��ه ،كما �أنها قد متث��ل عوامل محُ َ ِّركة للبن��ى الن�صية برمتها،
ميكن مف�صلة ال�سيمات/ال�صور املحورية يف الن�ص وعالقاتها فـ«املرب��ع ال�سيميائي هو من��وذج تق�سيمي ي�سمح بتمثيل ن�سق
القائمة فيما بينها على املربع ال�سيميائي حتى يتم التو�صل �إىل من القيم ،الذي ينظم العامل الداليل الأدنى ،والذي هو مم�سرد
عالقاتها املحورية �أوال ،و�إىل �أ�شكال معانيها ثانيا ،و�أول العالقات ال�سردي»(((.
التي ميكن حتديدها يف الن�ص هي العالقة القائمة بني الوحدات يف امل�ستوى امل�ؤن�سن تبعا ل�ضرورات الرتكيب ّ
ال�صغرى (احلياة/املوت) باعتبارهما حموري الن�ص الرئي�سيني،
((( داني��ال باط ،املربع ال�سيميائ��ي والرتكيب ال�سردي ،تـ :عبد احلميد بورايو� ،ضمن
.174 ((( فريق انرتوفرن ،التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص: كتاب الك�شف عن املعنى يف الن�ص ال�سردي ،النظرية ال�سيميائية ال�سردية152 :
((( املرجع نف�سه174 : ((( دانيال باط ،املربع ال�سيميائي والرتكيب ال�سردي151 :
55 54
فال وج��ود لأحدهما م��ع الآخر متزامن�ين �إطالقا� ،إن وباعتب��ار �أحدهما مو�ضوع قيمة �إيجاب��ي والآخر مو�ضوع قيمة
وجود �أحدهما يعني غياب الآخر بال�ضرورة. �سلبي� ،أو مو�صل �إىل مو�ضوع قيمة �سلبي:
-وتربز (عالقة الت�ضاد) بني حياة وموت ،فاحلياة �ضد املوت، موت حياة
والعك�س ،غري �أن وجود املوت يفر�ض وجود احلياة� ،أي �أن
ذكر �أحدهما يفر�ض وجود الآخر ،بالرغم من �أنهما غري
متوافقني ويقومان على الت�ضاد الذي ي�ستعمل «للداللة ال موت ال حياة
عل��ى عالقة الت�ضمن املتبادل��ة ،واملوجودة بني عن�صري
املح��ور الداليل؛ ين�ش���أ الت�ضاد عندم��ا يت�ضمن ح�ضور تنتظ��م العالق��ات بني ه��ذه الوح��دات وفق��ا للرتاتب،
عن�صر ح�ض��ور عن�صر �آخر ،والعك���س �صحيح ،وعندما والت�ضمن ،والتناق�ض ،والت�ضاد.
يت�ضمن غياب عن�صر غياب عن�صر �آخر»(((.
-فـ(عالق��ة الرتات��ب) تكمن ب�ين احلياة وامل��وت طبقا
-وجتم��ع بني (ال موت) و(ال حياة) (عالقة �شبه ت�ضاد)، للمح��ور الداليل ال��ذي يجمع بينهما ،وه��و الوجود/
�إنها عالقة الباطل –كما ت�سمى� -إذ �إنهما قد يجتمعان ال�صراع بني قيمتي البقاء والفناء ،وكذلك العالقة بني
معا يف م��كان ،قد تكون فيه �إحدى الذوات بني املوت ال حياة وال موت.
واحلي��اة؛ وهو ما متثله الأم يف الن�ص قيد الدرا�سة ،فهي
� -أما (عالقة التناق�ض) فت�أتي بني حموري حياة وال موت،
تلهث وتنزع فال هي حية وال هي ميتة ..وكذلك النهر
و«يفهم من التناق�ض العالقة التي تقوم على �أثر الفعل
والبحرية ال هي فارغة وال هي ممتلئة� ..إلخ.
الإدراك��ي للنفي بني عن�صرين ،حي��ث يكون العن�صر
-ويوجد ب�ين (ال موت) وبني (م��وت) وبني (ال حياة) الأول مطروح��ا فيق�ص��ى بوا�سطة ه��ذه العملية ليحل
و(حي��اة) (عالقة افرتا���ض) ،وت�سم��ى و�ضعية اللفظ حمله العن�صر الثاين [فهو] عن�صر يت�ضمن غياب عن�صر
ال�سلبي ،فب�إلغاء �أحدهما يثبت الآخر. �آخر»((( .فوجود املوت ينفي معه وجود احلياة ،والعك�س،
45 ((( املرجع نف�سه: 45 ((( ر�شيد بن مالك ،قامو�س م�صطلحات التحليل ال�سيميائي للن�صو�ص:
57 56
وامتالك فقدان ،وبذلك تتحول الأم من حالة احلياة �إىل حالة ميث��ل حمور احلياة نقط��ة البداية يف الن���ص حيث ي�شكل
امل��وت /احلياة الأخرى فهي ممتلكة للحياة ومفتقدة لها يف �آن حالة اله��دوء واال�ستقرار وال�سك��ون واالمتالك ،حتى تظهر
معا ،وتنتقل من هنا �إىل هناك (ح�ضور /غياب) ،فهي �ستفتقد حلظة التناق�ض والت�ض��اد� ،إنها حلظة التحول اجلذري (�سقوط
لقيم ،ومتل��ك باملقابل قيما جديدة ،وتقوم العالقة بني الذات امل��وت من نافذة ما) الذي ميثل فاع�لا محُ َ ِّوال ُي ْد ِخل الذات
والآخر عل��ى جدلية (قوة�/ضعف) ،وهو م��ا يجعلهما قابلني يف ف�صلة ،ويتحول االمتالك �إىل فقدان ،وتقدم مقدرة الذات
للتمف�صل ،وحتديدهما على �أبعاد املربع ال�سيميائي: بق��درة الفاعل ال�ضديد ،با�صطراع احلي��اة مع املوت ،وحلول
�ضعف قوة
�أحدهما حمل الآخر ،وبذلك يف�ضي هذا املربع �إىل مربع �آخر
بال�ضرورة ،وهو القائم على �صور االمتالك والفقد ،و�أدوارهما
كما يف الرت�سيمة التالية:
فقدان امتالك
ال �ضعف ال قوة
تظهر العالقة ب�ين الأم وال �أم ،وبني اليتم عالقات غياب ال ق�سوة ال حنان
وبقاء ،فالأم نقي�ض لليتم ،ووجودها دليل على غياب الآخر/
اليتم فعليا ووجوده ب�شكل غري فاعل ،فكل منهما يلغي وجود ي�برز احلنان باعتباره القيمة الأوىل التي تبث الطم�أنينة يف
الآخر ،ويق�صي��ه ،ويعطل عمله متاما ،بحي��ث �إذا مت االت�صال ال��ذات ،وبظهور حم��ور النقي�ض (املوت) ال��ذي ميثل انتقاال
فعلي��ا ب�أحدهما ي�ستحيل االت�ص��ال الفعلي بالآخر؛ �إن اليتم قا�سيا ،وخ�برة عنيفة مرت بها ال��ذات ،يدخل يف �صراع مع
ميثل القيمة النهائية التي ميتلكها فاعل احلالة يف الن�ص ،وهي قيم �إ�ضافية كثرية �أخرى غري فقدان حياة الأم.
قيم��ة م�ضمرة يف الن�ص ،مل تنجز بعد .وبذلك تكتمل �صورة وترتاك��م امل�س��ارات الداللي��ة يف ه��ذه املح��اور وترتاكم
املرب��ع الذي ميف�صل القيم والعوام��ل املت�صارعة ،وتف�ضي �إىل املربع��ات ،وكل حمور يف�ض��ي �إىل �آخر ،وتندرج حماور الن�ص
�شكله��ا النهائي ،املتعلق بالذوات و�إجن��از كل منها وامتالكه بطريقة تراتبية زمنية تنتقل ب�شكل ب�سيط ،فكل فقدان يف�ضي
ملوا�ضيع القيم (�إيجابية و�سلبية): �إىل فق��دان مماث��ل ،ومقابل يف الداللة ،خمتل��ف يف الأدوات،
موت ابن والآلي��ات ،والنتائج ،وهذا ال�صراع ما بني حنان/ق�سوة يف�ضي
�إىل �ص��راع نهائي ميثل هرم ال�صراع ،ونهايته الدرامية؛ �إ ْذ يتوج
امل��وت ب�إجن��از م�شرعه ،ويكم��ل بذلك مرحل��ة ف�صل الذات
ال موت ال ابن عن موا�ضيع القيم االيجابية (حي��اة الأم /وجودها /حنانها)
61 60
مل��ا تكت�سبه �آليات املربع ال�سيميائ��ي من جدوى يف الك�شف فوج��ود املوت يف حياة الأم يق�صي مع��ه وجود االبن من
عن الت�ضادات ،والتناق�ضات ،والتعالقات فيما بينها... حياتها بال�ضرورة ،ويعمل على َف ْ�ص ِل ِه عنها بالفعل وبالقوة� ،إن
وجود �أحدهما يلغي وجود الآخر بال�ضرورة ،ويحل حمله� ،إنه
نتائج: ال ميكن اجتماعهما معا.
وميكن القول� :إن الن�ص مل يزل بحاجة �إىل قراءة من زاوية وخال�صة ملا تقدم ،ف�إن الن�ص ي�سري وفق م�سارين �سرديني،
نظر �أخرى ،فهذه القراءة ال تزعم �أنها قد �أحاطت بكل ظواهره
وم�س��ار �سردي م�ض��اد ،وم�سار �س��ردي واقع بينهم��ا ،امل�سار
ومظاه��ره ال�سيميائية ،و�إمنا الم�ست منه��ا ما اقت�ضته ال�ضرورة
املرج��وة ،ووفقا لآليات و�إجراءات املنهج املتبع ،وقد تبني من ال�س��ردي ي�شتغل في��ه الفاعل/االب��ن ،وي�شتغ��ل يف امل�سار
خالل القراءة ال�سابقة �أن: ال�س��ردي امل�ضاد فاعل الفعل/امل��وت ،بينما ت�شتغل الأم يف
امل�سار ال�سردي الواق��ع بينهما ،ويت�صاعد ال�صراع والت�أزم بني
-املنهج ال�سيميائي اخلا�ص ب��ـ «مدر�سة باري�س” ٌ
�صالح ال��ذوات :االب��ن واملوت من جه��ة ،والأم وامل��وت من جهة
لتحليل الن�صو�ص (�أي��ة ن�صو�ص �إبداعية) ،وال يقت�صر �أخ��رى ،ليف�ضي ه��ذا ال�ص��راع �إىل فقدان الفاع��ل لوجود
على درا�سة الن�صو�ص ال�سردية املح�ضة فقط.
الأم ،وك��ذا فقدان الأم حلياتها الدنيوية ،وكبديل لهما ميتلك
� -أن الره��ان املذكور يف املقدمة ما ي��زال مفتوحا و�أ�س�سه الفاعل ملو�ضوع قيمة �سلبي (الفقدان) ،ومتتلك الأم مو�ضوع
قائمة؛ وال نزعم �أننا قد جنحنا يف متثله كلياً هنا. قيمة �إيجابي ،بينما يتوج الفاع��ل امل�ضاد فاعال منجزا يحقق
-علينا جتاوز القوالب اجلامدة �أوال ،والرموز والرت�سيمات و�صلته باملو�ضوع امل�ستهدف ،وامتالكه له ،وف�صل –من ثم-
املُ َق ِْو ِل َب�� ُة للن�صو�ص واملختزلة للنظري��ة و�آلياتها ب�شكل الذوات الأخرى عنه.
خم��ل ثانيا ،ومنح الآليات حرية �أكرث مما هي عليه ثالثا. وجت�س��د ال�صور وامل�س��ارات ال�صورية يف الن���ص بنى فنية،
ونح��ن �إذ نو�صي بالتخلي الت��ام عن الرموز (ف Uم.. ت�سه��م يف �إي�ضاح وحتدي��د الأدوار والوظائ��ف واملو�ضوعات
وم��ا �شابهها) وا�ستبدالها بتفا�صيله��ا الل�سانية (الفاعل الت��ي مته��د لالنتق��ال �إىل البنى العميق��ة ،وجت�سي��د الأدوار
منف�صل ع��ن املو�ض��وع ...وما �شابهه��ا) حتى ت�سهل واملو�ضوعات التي تك�شف عن �شكل املعنى عن طريق حتديد
عمليات التداول والقراءة بدون �إعنات �أو مراوغة ،ف�إننا القيم والعوامل الرئي�سية ،وكيفية ال�صراعات فيما بينها ،وفقا
63 62
نص القصيدة احملللة نو�صي بالتخلي اجلزئي ع��ن الرت�سيمات ،والإتيان بها
عن��د االقت�ضاء وال�ض��رورة �إما لإي�ض��اح فكرة غام�ضة
القصيدة الثالثة من كتاب األم لن تت�ض��ح �إال بها� ،أو الختزال فك��رة طويلة �ست�شتت
الأفكار �إن مت التف�صيل فيها.
يف ال�سماء،
على الأر�ض،
ما كان �إال ال�شتاء.
النوافذ مغلقة
وال�شوارع خالية
كيف؟
من �أي نافذة �سقط املوت
كنت وحيدا �أمام ال�رسير
الذي بد�أ املوت ينزع عنه احلياة،
و�أمي تقاوم
تلهث
كانت دموعي تقول لها
-ما لذي يفعل ابنك يا �أجمل
الأمهات؟
65 64
يظل غزير احلنان -وال �صوت
ملاذا يريد له املوت �أن يتوارى �أماه هل افتح الباب
و�أن تبلع الأر�ض �أ�سماء ُه كي يخرج املوت
وخالياه -ال ..رمبا يدخل املوت
تاريخ ميالده كل البيوت التي حولنا تتثاءب
�سنوات ال�صبا ال �أحد يف النوافذ
والكهولة خوفا من الربد
يا �أيها املوت رفقا خوفا من املوت.
بهذا الكيان الرقيق. م�سكينة يف ال�شتاء ال�شوارع
مل يعد ج�سدا ياب�سة من يدثرها
�صار طيفا من يج�س يديها
ولكنها الروح ويرخي عليها �ستار النهار
�ساكنة الظل
حني يجف ت�ضيء جتف البحريات
وال ت�س�أل البيت حني يجيء ال�شتاء
تخ�شى الفراق ولكن نهرا كبريا
وت�أبى النزوح ينابيعه �صدر �أمي
67 66
ك�أين بها تتعذب حزنا عليه
و�شوقا �إىل عامل ال�ضوء
ثانيا:
وال�صحوة الأبدية.
اخلطاب الصويف
(((
يف ديوان «أجبدية الروح» عبد العزيز املقالح
كتاب األم.22 - 19 :
.1توطئة:
يرتبط الت�صوف بجملة من الدالالت ،جتتمع كلها عند نقطة
واحدة هي نزوع املت�صوف نح��و نبذ العامل املادي وا�ستبداله
بالزهد ،و�صراعه م��ع كل ما ُيف�صله عن كل ما هو روحي� ،إنه
ع��ودة �إىل داخل الذات (الروح) ال��دال على النقاء كبديل
للخارج املدن�س (اجل�سد) ،من �أجل الو�صول �إىل الكمال.
جن��د مالمح �صوفية كثرية يف اخلطاب الإبداعي العربي منذ
الق��دمي وحتى يومنا هذا ،وهي مالمح ت�سم الأعمال الإبداعية
بالروحانية وال�سمو وتك�شف ع��ن احلالة االجتماعية والفكرية
لكل م�شتغل عليها يف تلك الن�صو�ص ،ومع �أن التجربة ال�صوفية
يف الأدب العربي قد نمُ َِّطت فيما م�ضى بعد �أن حاول الكثريون
تقعيده��ا وقولبتها وح�صرها يف الغزل واحل��ب الإلهي بوا�سطة
الرتميز برموز �أ�شبه ما تكون بعيدة كل البعد عن ال�صوفية كجوهر
نقاء وقدا�سة منها اخلمرة وت�أنيث املع�شوق املذكر والعك�س ،حتى
(((عبد العزيز املقالح� ،أبجدية الروح ،الهيئة العامة للكتاب� ،صنعاء ،د .ط1998 ،م.
69
احلي��اة ،وف�صلت املجتم��ع عن الفرد والفرد ع��ن املجتمع ،ويف كادت معظم الدرا�سات للتجرب��ة ال�صوفية يف ال�شعر والإبداع
�صيغ��ة مكا�شفة ت�سع��ى �إىل �إعادة النظ��ر يف كل ما ي�سعى �إىل ب�شكل عام تنح�ص��ر يف هذه الرموز والأمناط ،وهو ما يتنافى مع
تهديد الإن�سانية وي�صيبها يف ذاتها ويخد�ش جمالياتها. جوهرها كتجربة �أكرث ات�ساعا ومتددا و�إيهاما من ذلك -خ�صو�صا
وجدت هذه القراءة بعد ت�أمل �أن املهيمن على الديوان يف يف ال�شعر املعا�صر حتديدا-؛ لأن الأدب ب�شكل عام وال�شعر منه
خطابه ال�صويف تيمات ثالث هي :الر�ؤى ال�صوفية على �صعيد ب�ش��كل خا�ص ي�ستدعي التجربة ال�صوفي��ة بو�صفها �أداة خللق
العنون��ة و�إيغاله��ا يف التخييل ،وكذا ال�ص��راع الإن�ساين بني توازن بني عاملي ال��روح واملادة كما نلمح يف �شعر «املقالح» منذ
الذات وعاملها املادي ،وامل��وت كمخل�ص ،وا�ستح�ضار الرموز بداياته الأوىل غري �أن ذلك يغدو ومهيمنا يف كل مفا�صل ديوانه
ال�صوفي��ة (�شخ�صي��ات و�أمكنة ومفاهيم) .وه��و ما �ست�ضطلع املو�س��وم بـ «�أبجدية الروح» ال��ذي ي�شتغل على الت�صوف منذ
الدرا�س��ة بالك�شف ع��ن كيفيات ت�شكالت��ه و�أبعاد دالالته. عنوانه اخلارجي الذي ي�سمه بالأبجدية الروحية مرورا بعناوينه
الداخلية واملنت الذي ميثل لوحة �صوفية مكتملة.
.2العنونة كفضاءات للتخييل الصويف: �إنه ي�سع��ى يف جمموع �إبداع��ه �إىل �إعادة النظ��ر يف الذات
يعد العنوان يف هذا الديوان �أول نافذة تفتح �آفاق التخييل وعالقتها بالعامل انطالقا من ا�ستح�ضاره للفكر ال�صويف وا�شتغاله
وت�شرع��ه على ع��وامل �صوفية تت��وق �إىل الدمج ب�ين املعريف على قاعدته املنهجية والروحية ،ويعيد النظر يف فكرة الت�صوف
(�أبجدي��ة) والعرفاين (ال��روح) ،وهو ت��وق ال�صويف/ال�شاعر ذاته��ا التي ارتبطت بالكثري من �أقط��اب ال�صوفية كو�سيلة جناة
�إىل ابت��كار �أبجدية ثانية ت�سع��ى �إىل التفلت من الواقع املثقل فردي��ة للقطب ذاته؛ لتغ��دو لدى املقالح و�سيل��ة جناة جماعية
بالوح�شة واخلراب واالنف�صال عن موا�ضيع القيمة ،واالنتقال للمجتمع ككل ،وت�صبح يف ديوان��ه املو�سوم بـ «�أبجدية الروح»
م��ن اللغة املعهودة كلغة �صم��اء ال توفر امل�أمول من وجهة نظر ت�صوف��ا ذا عالقة و�شيجة بق�ضيته التي يعاجلها؛ �إ ْذ ُي ْلب ُِ�س ُه لبو�ساً
ال�ص��ويف؛ لأن اللغ��ة امل�ألوفة التي ي�صفها �ضمني��ا بـ(�أبجدية خا�ضع��ة ملا تع��اين منه ال��ذات املتمف�صلة يف البن��ى ال�شعرية
اجل�سد) ،بالزاميتها و�سطوتها وحمدوديتها وانغالقها؛ ال ميكن ويعي�شه جمتم ُعها ككل ،فال جند ظاهرة التغني بالرموز ال�صوفية
اخلال�ص من �سطوتها �سوى باال�ستغراق ال�صويف واال�ستبدال اجلاه��زة واملتع��ارف عليه��ا يف التجربة ال�شعري��ة الكال�سيكية
واالنزياح عن كينونتها ،وهذا ما يجعل البحث عن �أبجدية ثانية كاخلمرة والغزل املعكو���س� ...إلخ ،بل جندها تتجلى يف �صيغة
هاج�سا م�شروعا كان قد خربه وعانى منه املت�صوفة وا�صطدموا �ص��راع مع التحوالت التي م�س��ت املفاهيم وكثفت تعقيدات
71 70
مفاتي��ح �إىل ث ُُك َن ِات الروح ،يف الطري��ق �إىل يفر�س ،من مواقف ب��ه((( ،وقد حاول املقالح االنزياح بها من لغة للج�سد (دنيوية)
�سفي��ان ال�صنعاين ،موق��ف ال�ضحك ،موقف الب��كاء ،موقف �إىل لغ��ة للروح كو�سيلة معرفة ت�سع��ى �إىل بلوغ الغاية والنفاذ
اجل�س��د ،موقف ال��روح ،ذهول ،يف يفر�س ،اكتم��االت �أحمد، �إىل جوهر الأ�شياء والعامل.
�أغنية للروح ،بالقرب من نخلة اهلل� ،أ�سئلة ،مرايا ال�ضوء� ،»...إنها �إن مما ال �شك فيه –واحلال تلك� -أن املنت برمته �سيتنا�سل
ت�شكل م�سارا �صوريا يتعدد يف البدء (لغويا) ليتحد يف املنتهى من هذي��ن الدالني (املعريف والعرافن��ي) ،ولي�ست مبالغة �إن
(�سيميائي��ا) وهو الت�أمل واملناجاة والوج��د واالرتقاء ،والرحيل قلن��ا �إن املنت كله يقوم على هذين املحورين كحقلني دالليني
نح��و املقد���س� ،أو �إىل �أماك��ن و�شخ�صي��ات �صوفي��ة ارتبطت يعم��دان �إىل ت�شكيل املنت بنائي��ا وفنيا ،وهما من جهة �أخرى
روحي��ا به (يفر���س� ،سفيان ال�صنع��اين)� ،أو ا�ستح�ضار النفري يعك�س��ان مفه��وم ال�صوفية مبا هي �أداة لهت��ك �أ�ستار احلجب
�إيحائيا بوا�سطة ا�ستح�ضار ما عرف به يف م�سريته ال�صوفية كلها وحماولة التعرف على اجلانب اخلفي من العامل والبحث عن
(املواق��ف) والتخل�ص من غواية اجل�س��د ،والبحث عن ما ينري املعنى الكلي للعامل ومل�سمى عالقة الذات به وباهلل والآخر.
ظلمات الروح ،والك�شف ،والقلق ،والت�سا�ؤل ،وهي كلها جتتمع كم��ا �أن هذا العنوان ميهد لت�شكي��ل العنونة الداخلية بنائيا
يف حمور واحد هو الت�صوف كبحث عن اخلال�ص. و�سيميائي��ا ،ونلمح ذلك من ال�سمة البارزة يف ت�شكيل معظمها
�إن العنون��ة بن��اء عل��ى ذل��ك ج��زء ال يتجز�أ م��ن الر�ؤية وهي دورانها يف الفلك ال�صويف كحقل داليل تتحرك فيه الأبعاد
الداللية بطريقة تع�ضد الر�ؤية الفنية التي ير�سمها املنت ،وت�شكل
العام��ة التي يقدمها امل�تن وينبني عليه��ا ر�ؤي��ة و�أداة ور�ؤيا، خط��ا �صوفيا واحدا تتوالد منه وعربه جملة من الر�ؤى العرفانية
كم��ا �أنها متهد للدخول يف عوامله ال�صوفي��ة وخباياه الداللية. التي ت�أخذ �ش��كل املعادل املو�ضوعي للتناق�ض��ات واملفارقات
املولدة لدورة احلياة يف م�ستوييها :التجريدي والتجريبي((( ،على
.3الصراع بني الذات وعاملها املادي:
نحو« :فاحتة ،ابتهاالت ،ر�ؤيا ،ق�صيدة حب لل�سماء ،ا�شتعاالت،
ُت ْع�� َر ُف ال�صوفية بنزوعها �صوب نب��ذ النزعة العقلية ال�صرفة
الت��ي جتعل م��ن العامل كونا عملي��ا بحتا يفتق��د �إىل الوجدان، ((( ينظر :خالد بلقا�سم� ،أدوني�س واخلطاب ال�صويف ،دار توبقال للن�شر ،الدار البي�ضاء،
ط2000 ،1 :م.130 :
وك��ذا باقرتابها من العامل الروحي انطالقا من التم�سك ب�شعور ((( ينظ��ر :عثمان بدري ،وظيفة العنوان يف ال�شعر العرب��ي احلديث -قراءة ت�أويلية يف
القل��ب واحلد�س العرفاين والوجداين من �أجل و�صول العارف مناذج منتخبة ،املجلة العربية للعلوم الإن�سانية ،ال�سنة احلادية والع�شرون ،العدد احلادي
�أو املت�ص��وف �إىل غاياته ،وه��ي نزعة تقوم -يف دي��وان «�أبجدية والثمانون� ،شتاء 2003م.24 :
73 72
واعتزلت الزحا َم
ُ الروح» -على االتكاء على النقاء ،والب�ساطة مقابل التعقيد الذي
خلعت حذا َء الهزمية وال�صرب ُ تفر�ضه �سلطة الأ�شي��اء املادية ،وكذا حت�س�س العامل بالروح بدال
�أثمن ما ادخرتْه ال�سنون العجاف ع��ن حوا�س اجل�سد ،وتتجلى هذه النزعة منذ العنوان اخلارجي
ارتفعت� ...أنا
للدي��وان ،ال��ذي يحدد ال�سم��ة الأوىل للمنت وهويت��ه النهائية
ُ
ك�صراع بني الروح واجل�سد ينفي ثانيهما (اجل�سد) انت�صارا للأول
ثم واريتها،
(الروح) ،مع �أن دال الروح يبطن دال اجل�سد لأنهما متالزمان يف
ارتعا�ش العظام»(((.
ِ وملحت بقايا �رشارتِها يفُ الفكر ال�صويف ،فال يكاد يظهر �أحدهما مبعزل عن الآخر ف�إذا ُذ ِك َر
تبدو ذروة ال�صراع يف حماول��ة الذات الق�ضاء على جوهر �أحدهما يذكر معه الآخر ك�ضد؛ ليج�سد ال�صراع الذي يعي�شه
اجل�سد ودافعه املحوري (النف���س) ،بو�صفها املحرك الرئي�سي ال�ص��ويف بني عامله الطيني املدن�س ،وعامله الروحي املقد�س؛ فهو
للج�س��د ،فلوالها ملا كان للج�سد �أي معنى وال �أي وظيفة� ،إن ينت�صر بالأوىل عل��ى الأخرى؛ لذلك ف�إن الديوان يج�سد حالة
النف�س كما يقول املت�صوف��ة «ظلمانية» �سيئة املعاملة ،وروحها االنت�ص��ار على اجل�سد بعزله عن داله الآخر ،ويعمد �إىل دفن ما
يف الأ�ص��ل نورانية ،وال تزداد �صالحا �إال مبخالفة العبد هواها يهيج اجل�سد ومينحه ج�سديته (النف�س):
والإعرا���ض عنها وقهرها؛ لأنها تدخ��ل يف ال�صدر بو�سو�ستها «كنت �أب�رصهاُ
و�أباطيل �أمانيها ابتال ًء(((.
نف�سي مكتظ ًة باخلطايا َ كنت �أب�رص ُ
يتم��دد ال�صراع مع اجل�سد ومكونات��ه ليكت�سب بعداً �آخر
بذباب من الإثم ٍ حما�رص ًة
يف ن���ص «ابتهاالت» املليء باملناجاة ،حينم��ا ي�سعى �إىل نفي
اجل�سد وو�سائلها التي ي�ستعني بها وي�ستبدلها بالروح: باخلروج من اجل�س ِم
ِ حاولت �إغرائها
ُ
«�إلهي �أم َع ْن ُت يف �صدها
�أنا �شاعر فا�ستفزت بقايا الأفاعي ب�صدري ْ
......
((( �أبجدية الروح.116 - 114 :
((( ينظ��ر :رفي��ق العج��م ،مو�سوعة م�صطلح��ات الت�صوف الإ�سالم��ي ،مكتبة لبنان �آه ما كان �أبعد ما بيننا
نا�شرون ،بريوت ،ط.970 : 1999 ،1 : اعتذرت لها
ُ غري �أين
75 74
�أق�صت عن الأر�ض نور ال�سموات يتح�س�س بالروح عامله
واحتكرت ملكوت اجلحيم»(((. يكره اللم�س
�إن �ص��راع الذات مع العامل املل��يء بالتناق�ضات والكثافة عيناه مقفلتان»)((((.
املادية (احل��رب) يدفعها �إىل اللوذ بال�شكوى واملناجاة للذات �إن فع��ل تحَ َ ُّ�س���س عامل ال��ذات ين�سجم مع ع��امل الروح
الإلهي��ة ،واال�ستنج��اد بها بو�صفه��ا مخُ َ ِّل َ�صاً بع��د �أن فر�ضت ال��ذي ميثل هنا �أداة التح�س�س ،و�إقفال العينني ين�سجم وواقع
امل��اد ُة القطيع َة بني الأر���ض وال�سم��اء وا�ستبدلتها باجلحيم. االنف�صال عن العامل وحا�سة اللم�س ،وك�أنه التوق العميق �إىل
االنكف��اء على الروح كعامل لل�س�لام ،واالنف�صال عن الواقع
.4املوت كوسيلة لاللتقاء باهلل: اخلارجي كعامل حرب ودمار بو�صفهما �آلة ف�صل للإن�سان عن
ينظ��ر ال�ص��ويف �إىل املوت على اعتبار �أن��ه طريق �إىل احلياة �سياقه الروحي والزج به يف ظلمات �شئون دنيوية ال طائل منها
الأبدي��ة ،وو�سيلة عب��ور لاللتقاء بالذات الإلهي��ة� ،إنه و�سيلة �سوى ات�س��اع دائرة التيه ،فاحلرب و�سيلة لف�صل الإن�سان عن
لالنتق��ال من العامل الف��اين الذي تنف�صل في��ه الذات عن الروح��ي ،وف�صل احلياة عن العامل النوراين� ،إنه رف�ض للعامل
اخلال��ق �إىل العامل «الالفاين» الذي تلتقي فيه الذات بالإ ْل ِف املادي الفاقد لقيم الإميان:
وال تبتع��د عن��ه .وبعبارة �أخ��رى �إنه �إطالقٌ م��ن قيد اجل�سد «كرهتني احلروب
والأك��وان واالندراج يف املطل��ق والرحمن ،وطريق �إىل احلق، لأين باحل�رسات وباخلوف �أثقلت كاهلها
وو�سيل��ة تفري��ق بني الروح واجل�س��د((( ،وهو ما يع�بر عنه وبه
وجنحت بتحري�ض كل الزهور
املقالح يف ن�ص «ف�صول من كتاب املوت»:
املوت ال يجم ُع اهللَ وكل الع�صافري
والنا�س
َ «و�سوى ِ
�أن تكره احلرب
يف �رشف ٍة واحدة»(((.
�أن ترف�ض املوت ي�أتي به مو�سم للح�صاد الرهيب
((( �أبجدية الروح.22 ،21 : ولكنها احلرب يا �سيدي �أطف�أتني
((( ينظ��ر� :سعاد احلكيم ،املعجم ال�صويف -احلكم��ة يف حدود الكلمة ،دندرة للطباعة و�أطف�أت اللوحات املدالة يف الأفق
والن�شر ،بريوت ،ط1981 ،1 :م.1028 :
((( �أبجدية الروح.79 ،78 : ((( �أبجدية الروح.21 :
77 76
َ
�صوتك، �سمعت
ُ وهي القاعدة التي تتجلى يف ن�ص «اكتماالت �أحمد» حينما
�شبابات وادي الزعفرانِ
ِ الراعيات ،وعرب
ِ حديث
ِ يف تلتق��ي الذات حمور الن�ص (�أحم��د) باهلل عن طريق املوت� ،أو
َ
ا�ستقبلوك وقد متاهى وجدهم بال�شوق قر� ُأت �أ�شعاراً ملوت��ى حينما تتوق �إىل لقائه الذات املتلفظة داخل الن�ص �أي�ضا ،حيث
نحو اهلل تتجلى بنية التح��ول ال�شكلي واجلوهري للذات حمور الن�ص،
فاكتملت ق�صائ ُد ُه ْم
ْ
فيكتم��ل باملوت ،وي�صري �إن�سانا بهي��ا ،ويخرج الكون ومكوناته
َ
من بني حدقاته تارة ومن بني �أكفانه تارة �أخرى:
اكتمل الفتى»(((. كما
ُ
يكتمل الفتى وي�ص ُري �إن�سانا بهياً «باملوت
ِ
وحينم��ا ي�شت��د توق��ه للموت/املخل���ص يطل��ب من��ه
حتوي��ط الأكوان بالأكف��ان وغ�سله��ا بريحان البداي��ة ،ابتغاء احلدائق،
ُ تنداح من حدقاتهحاملاً ُ
الع��ودة �إىل اجل��ذور وال�براءة والع��ودة �إىل حي��ث نقط��ة الفاتنات
ُ واله�ضاب
ُ
الب��دء املتمثل��ة مبا قب��ل اخللق وما قب��ل اخل��روج �إىل احلياة. �سحب و�أ�رشع ٌة
ٌ تطل من �أكفانه
الرايات»(((.
ِ وبحر � ُ
أزرق ٌ
.5الرموز الصوفية كمعادل موضوعي: ويظ��ل الت��وق لدى ال��ذات املتلفظ��ة (ال��ذات ال�شاعرة/
تعد الرم��وز ال�صوفية م��ن �أهم و�سائ��ل التخ�صيب الن�صي ال�س��اردة) يف الن�ص متتابعا؛ �إذ تت��وق �إىل التحول واالنف�صال
واالنفتاح عل��ى العامل يف املدونة ال�شعري��ة العربية ،وت�أتي على عن احلياة واالت�صال باملوت ابتغاء االكتمال ،ويتجلى ذلك عرب
�أ�ش��كال متعددة منها رموز الأماك��ن ورموز ال�شخ�صيات ورموز ملف��وظ مناجاة مع املوت ينم عن �ش��وق كبري من قبل الذات
املف��ردات (امل�صطلح��ات واملفاهي��م ال�صوفي��ة) ...وق��د جتلى الت��ي تظل تلح عل��ى فكرة التحول نحو االكتم��ال وهو جوهر
ذلك يف دي��وان �أبجدية الروح عرب جمموع��ة من ال�شخ�صيات ال�صويف؛ �إذ باملوت يتم االكتمال واالت�صال ،على عك�س جوهر
والأماكن ،والعبارات واملفاهيم (هذه الأخرية لن نتناولها هنا)، الدنيوي الذي يرى يف املوت انف�صاال عن احلياة ..فنجد:
فمن ال�شخ�صيات« :فريد الدين العطار» ،و«�سفيان ال�صنعاين»، ُ
اجلميل املوت
«يا �أيها ُ
و«غيالن الدم�شقي» ،ومن الرموز املكانية املهيمنة« :يفر�س»... ال�ضباب
ِ الهاربات من
ِ خلف التاللِ َ
وجهك نا�صعاً َ ملحت
ُ
((( �أبجدية الروح.147 : ((( �أبجدية الروح.146 ،145 :
79 78
للطبقات الن�صية التي يتح��ول فيها الذات من حالته الأوىل أ .رموز الشخصيات/الرمز قناعا:
املتمثلة يف الفق��دان� ،إىل حالته الثاني��ة املتمثلة يف االمتالك �سنكتف��ي هنا با�ستك�شاف الرمز املقن��ع يف ن�ص «مقامات
للـ»احلقيقة» «� َّ
إبتل �شخ�صي مب��اء احلقيقة»((( بعد �أن يتم دفن �سفي��ان ال�صنع��اين» ،ال��ذي يتخذ في��ه ال�شاعر م��ن الزاهد
النف�س (اجل�سد) واالنت�صار عليها يف �آخر مراحل ال�صراع: «�سفي��ان الث��وري»((( قناعا ،يتماهى فيه ويع�بر به عن حاالته
«ارتفعت� ..أنا
ُ ومواجي��ده ال�صوفية ،ورحلته �إىل اهلل وارتقائه �إليه وتطهره من
ثم واريتُها، النف�س/اجل�س��د ،عرب مقاطع ن�صية �أ�سماه��ا باملواقف ،تتدرج
ارتعا�ش العظام»(((.
ِ وملحت بقايا �رشاراتِها يف
ُ ويرتا�ص��ف بع�ضها فوق بع�ض وي�ؤدي كل منها �إىل الذي يليه
بو�صول��ه �إىل موق��ف ال��روح ي�ص��ل �إىل احلقيق��ة الت��ي فني��ا ودالليا من جه��ة ،وخروجا من حال��ة اجل�سد �إىل الروح
تتك�شف ل��ه فيها خطاي��اه و�آثامه ،وال ينته��ي �إىل اال�ستقرار والتطه��ر باحل��ب الإلهي واالق�تراب من املعرف��ة واكت�شاف
النهائ��ي برغ��م امت�لاك احلقيق��ة ب��ل «تباغت��ه همهم��ات احلقيق��ة من جهة ثانية ،يبتدئها ب��ـ «موقف ال�ضحك» ،الدال
ال�س���ؤال»((( ،وهو ع��دم اال�ستقرار الذي يظ��ل هاج�سا لدى عل��ى اللهو والعبث والف��رح املجاين املف�ض��ي �إىل عقوبة من
املت�صوف��ة م��ا دام��وا يف عل��ى مبعدة ع��ن ال��ذات الإلهية. اهلل ،يلي��ه موقف البكاء ككفارة عن خطيئة ال�ضحك ،وهو ما
يجع��ل اهلل يكافئه بال�سفر �إلي��ه؛ ال�سفر الذي ي�ستك�شف فيه
ب .الرمز املكاني/املكان مالذا: الكثري من العوامل الروحاني��ة ،ويتلو ذلك بـ»موقف اجل�سد»
ال ن�ستطيع �أن ندرك الأبعاد الروحية والفنية للمكان يف ديوان ال��ذي تت�صارع فيه الذات م��ع �شهوتها الفاني��ة وتتجرد منها
«�أبجدية ال��روح» �إال �إذا �أدركنا خلفياته املعرفية ،وتاريخه املتعلق وترف�ضه��ا بعناء و�ش��دة وجماه��دة ،ك�إحال��ة �إىل املجاهدات
بتحوله م��ن واقعه كمكان طبيعي �إىل واقعه اال�ستثنائي كمكان والعن��اء الذي يكابده ال�صويف من �أجل التطهر والو�صول �إىل
�صويف ،فقد انتقى املنت �أماكن ارتبطت برموز من �أقطاب ال�صوفية مو�ضوع القيمة امل�سته��دف ،ويلي ذلك «مقام الروح» كخامتة
الذين تركوا �أثرا كبريا يف امل�شهد ال�صويف اليمني يف زمانهم ،وظل
((( ه��و �أب��و عبد اهلل �سفيان ب��ن �سعيد بن م�سروق الث��وري (778 - 716م) ،كان عاملا،
((( �أبجدية الروح.116 : وفقيه��ا ،وله م�ؤلف��ات يف الفرائ�ض واحلديث ،وكان يلقب ب�أم�ير امل�ؤمنني يف احلديث،
ولد ون�ش�أ يف الكوفة ومات م�ستخفيا يف الب�صرة .ينظر :خري الدين الزركلي ،الأعالم-
((( امل�صدر نف�سه.116 : قامو���س تراجم لأ�شهر الرجال والن�ساء م��ن العرب وامل�ستعربني وامل�ست�شرقني ،ج،3 :
((( �أبجدية الروح.118 : دار العلم للماليني ،بريوت ،ط1980 ،5 :م.104 :
81 80
كم��ا �أنه يتمظه��ر ب�صفات روحية وروحاني��ة متعددة تكاد �أثره��م ماثال �إىل اللحظة يف تلك الأماكن ،فال يكاد يذكر مكان
تك��ون «عجائبي��ة» �أو لها �صف��ات العجائبي ال��ذي ال جند له ما من تلك الأماكن �إال ويذكر معها املت�صوفة الذين ارتبطوا بها،
م�سوغ��ا �إال من خالل البعد ال�صويف ،حت��ى الذات املتلفظة كم��ا هو يف ق�صيد َتي «يف الطريق �إىل يفر���س»((( و«يف يفر�س»(((،
يف الن���ص تبدو منده�شة من كل ال�صفاته واملظاهر التي حتف و«يفر�س» هو مكان/مقام املت�صوف اليمني العارف باهلل «�أحمد
ب��ه ،فنجدها ال تعرف على وجه التحديد �أ «قرية تلك� ،أم هي ب��ن علوان» ،وهما متالزمان �أبداً ح�ضوراً وغياباً ،فبح�ضور يفر�س
�سجادة لل�ص�لاة» «قرية هي� ،أم باحة القلب» «قرية تلك� ،أم يح�ضر اب��ن علوان والعك���س ،وبانتفاء ح�ض��ور �أحدهما ينتفي
واحة تتهجى حروف املحبة». ح�ضور الآخر� ،إنهما عالمتان ثقافيتان متالزمتان فنيا وفكريا.
ول�شدة احل�ضور الروحي يف هذا املكان/القرية ف�إن الذات تتخذ الذات يف الن�ص من هذا املكان مهربا من تغول املدينة
يتمنى �أن ي�سافر (املكان) �إىل النا�س ،ك�إحالة على �شدة انقطاع املليئة بالوح�شة ،و�آليات احل�ضارة ب�ضجيجها وغربة الروح واغرتابها
النا�س يف لهوهم عن روح احلياة وان�شغالهم مبظاهرها وبهرجها فيها ،نتيج��ة انقطاعها عن العامل الروح��ي ،وهيمنة الزيف على
وب�صناعة كوارثهم وحروبهم وموتهم ،ففي حني تكون الذات جوهرها ،وهو ما جعل «يفر�س/القرية» تتجلى يف الن�ص كمعادل
راحل��ة �إىل هذا املكان/يفر�س كما يظه��ر يف العنوان ،يتمنى مو�ضوعي مزدوج للروح مقاب��ل اجل�سد ،وللمدينة مقابل القرية،
وملكونات احل�ضارة مقابل مكونات الطبيعة� ،إنه ي�ستثمره «للتعبري
ال��ذات لو يق��وم املكان بفعل الرحي��ل �إىل النا�س؛ لأنهم يف به عن مدى احلياة الواقعية الراهنة ،التي افتقد فيها ال�شعور باملعنى
ح��ال ابتعادهم عنه غارقون يف ثاراتهم و�صراعاتهم وخطاياهم والقيم و«االت�صال» و«التوا�صل» ،ومن ثم باحلياة التي تال�شى فيها
الدنيوي��ة ،لذلك يدرك �أنه املكان الوحي��د -ما دامت �صفاته ال�شعور بـ «االنتماء» ،وبالهوي��ة املعنوية ،والروحية املتجذرة التي
تل��ك -الذي �سيتطه��رون فيه وبه من خطاياه��م� ،إنه يقرتحه جتعله ي�ست�شعر ويح�س ويدرك كينونته الذاتية واجلماعية الغارقة يف
كحل �أخري ل�سقيا الروح والنقاء والوئام النف�سي والروحي. �سلطة ح�ضارة الأ�شياء املادية التي بقدر ما �أفادت الإن�سان املعا�صر،
وقد جاء املكان تبعا لذلك منفتحا رحبا متحركا غري ثابت �صادرت هويته ،و�أفقدته ال�شعور مبعنى الكرامة الإن�سانية»(((.
فب�إمكانه االنتقال لي�لا �إىل ال�شام وال�صالة يف مكة واجللو�س
�ساع��ات يف ح�ض��رة �أه��ل الع�ش��ق ال�صويف ،كم��ا �أنه ميتلك ((( امل�صدر نف�سه.103 :
�صف��ات ترتفع به عن امل��كان العادي فيغدو مكان��ا ا�ستثنائيا ((( امل�صدر نف�سه.137 :
يزدح��م بال�ض��وء والده�ش��ة والبيا�ض وكلها �صف��ات روحية ((( عثمان بدري ،وظيفة العنوان.29 :...
83 82
تكثف النزعة ال�صوفية له م��ن جهة وللمنت والذات املتلفظة
فيه من جهة �أخرى.
ثالث ًا : ميكن الق��ول �إن اخلطاب ال�صويف يهيم��ن على املنت �أفقيا
شعرية التناص يف نص: وعمودي��ا ،وينطلق م��ن العن��وان اخلارجي م��رورا بالعناوين
«أي َّ
فزاعة تطر ُد الي َ
ُتم عين!»
((( الداخلي��ة ،وا�ستق��رارا يف الن�صو���ص ،وه��و ما مينحه��ا بعدا
�شفيفا يقف عل��ى عتبات الروح ،لي�شع��ل فيها رغبة البحث
واال�ستك�شاف الن�صيني ،ويدفعها �إىل العودة �صوب الداخل
.1توطئة:
بو�صف��ه مقام ا�ستق��رار وطم�أنينة ،والتفلت م��ن �إ�سار اخلارج
تع��د الق�صيدة الكال�سيكية ق�صي��دة �شعرية ،يف حني تعد بو�صفه مقام قلق و�شك وتيه واغرتاب طويل.
الق�صي��دة املعا�صرة �شعرية ق�صيدة بامتي��از .ت�ؤكد هذه املقولة
التح��ول العميق يف امل�صطلح والر�ؤي��ة واال�شتغال ونتائج كل
ذلك مع��ا ،على �صعيد الأن��واع الأدبية عام��ة وعلى �صعيد
ال�شع��ر خا�صة ،فلم نعد جند نوعا �أدبي��ا� ،أو نظرية فكرية قا ّر ًين
على ح��ال ما ،بل جند حت��ركا م�ستمرا وبوت�يرة مت�سارعة ،يف
الإبداع ويف النظريات واملناهج ويف تطبيقاتهما.
من��ذ �أن ج��اءت النظرية ال�شعري��ة وهي متحرك��ة نتيجة
خللفي��ات وفل�سف��ة كل مفكر وم�شتغ��ل عليها وبه��ا؛ فنجد
�شعرية ياكب�سون ،وتودوروف ،وكم��ال �أبي ديب ...وغريهم،
ولعل النقطة اجلامعة بني �أفكار ه�ؤالء وغريهم هي �أن املفهوم
الأويل لل�شعري��ة ي�أتي ك�إجابة عل��ى ال�س�ؤال :ما الذي يجعل
م��ن الأدب �أدب��ا من جه��ة� ،أو ب�أنه��ا متثل جمم��وع الطرائق
((( لل�شاعر عبد املجيد الرتكي.
85 84
فق��رة كبرية �أو �أكرث وال يحي��ل �إىل م�صدرها وم�ؤلفها الت��ي يتخذها الأدي��ب لبناء �أعماله من جه��ة �أخرى ،وعلى
وين�سب العمل لنف�سه. تقارب هذه الأفكار والر�ؤى –ن�سبيا -حول ال�شعرية ،جند �أن
ج -الإيحاء :وهو �أك�ثر �ضمنية وخفاء ،ويتم عربه حتويل طروحات جريار جينيت تختلف عن ه�ؤالء جميعا؛ فهو يرى
الن�ص و�إخفاء تراكيبه وقل��ب دالالته� ،أو �إبقائها بعد �أن �شعري��ة الن�ص تكمن يف «العالقات ع�بر الن�صية»(*) التي
دجمها يف �سياقات الن�ص اجلديد.... متثل جمم��وع ما يربط ن�صا ما بن�ص �آخ��ر ويجعله ينفتح على
- 2املنا�ص :وميث��ل كل ما يحيط باملنت �أو الن�ص ويجعل ما ال يح�صى من الن�صو�ص ويحدد عالقته بالعامل ،ويق�سمها
منه متنا/ن�ص��ا ،ويق�سمه جينيت �إىل ق�سمني :الأول �إىل خم�سة �أمناط يف�ضي كل منها �إىل ما يليه جتريدا وت�ضمينا،
الن�ص املحيط ،والثاين الن�ص الفوقي ،ويعني بالأول ب�شكل تراتبي ،وهي بح�سبه(((:
كل م��ا يحي��ط باملنت ويك��ون قريب��ا من��ه كالعنوان - 1التنا���ص :وهو الوجود الفعلي لن���ص يف �آخر ب�شكل
الرئي�سي ،والفرعي ،والعناوين اخلارجية ،والداخلية، معلن �أو خفي ،وي�أتي هذا الوجود الن�صي وفق ثالث
واملقدمات ،والإه��داءات� ...إلخ ،ويعني بالثاين كل �آليات(**) هي:
م��ا يحيط باملنت ويكون عل��ى م�سافة �أبعد من �سابقه، �أ -االقتبا�س :وهو تكرار وح��دة خطابية من خطاب يف
كاملرا�سالت واحلوارات ال�صحفية وغريها... خطاب �آخر ،وميثل �أكرث وجوه التنا�ص جالء وحرفية
-3امليتان���ص :وهو العالقة التي تربط ن�صا ب�آخر يتحدث وح�ضورا.
عنه دون �أن يذكره مبا�شرة ،ويتمثل يف عالقة ال�شرح ب -ال�سرق��ة :وهي اقتبا�س �صريح ولكنه غري معلن ومي�س
والتف�صيل� ،إنه عالقة النقد بامتياز. امللكية الفكرية للآخرين� ،سيما حني يكون املتنا�ص
-4الن�ص اجلامع :وهو العالقة التي تربط الن�ص بجن�سه، (*) هنالك من يرتجمها خط�أ بـ«املتعاليات الن�صية».
وه��ي �أكرث �ضمنية وجتريدا ،وتهيئ �أفق القارئ لتقبل ((( ينظ��ر عن ذلك :ناتايل بييق��ي غرو�س ،مدخل �إىل التنا���ص ،ترجمة عبد احلميد
عمل ما وفق م�ؤ�شره التجني�سي. بورايو ،دار نينوى للدرا�سات والن�شر والتوزيع ،دم�شق ،د .ط.20 - 17 : 2012 ،
(**) هن��اك وت�ضي��ق نات��ايل غرو�س �إليها �آلي��ة رابعة هي الإحالة؛ الت��ي ينفي الن�ص
-5التعل��ق الن�صي :ويتمثل يف عالق��ة اال�شتقاق التي بوا�سطته��ا معظ��م دوال الن�ص ال�سابق /ويبق��ي على �شيء ي�سري منه��ا فقط .ينظر :
تربط بني ن�صني �سابق والحق ،فالن�ص الالحق ينبني مدخل �إىل التنا�ص .64 :
87 86
الرتكي) ،من بع�ض �إج��راءات املنهج ال�سيميائي (الباري�سي) وج��وده من ال�سابق ،حني ي�شتق بنياته ودالالته وفق
�سبيال ملقاربة التنا�ص ،وكيفيات انبنائه يف الن�ص ،بغية الو�صول طريق��ة ما من �سابقه ،ويعني ذلك �أن الن�ص (ب) هو
�إىل الدالالت العامة التي يتغياها ،وكيفية ت�شكالتها ،من خالل الن���ص الالحق الذي ي�شتق وج��وده من الن�ص (�أ)
درا�سة املنا�ص متمثال يف عتبة العنونة �أوال ،ومن ثم التنا�ص مع وهو ال�سابق عليه يف الوجود ،ويتم اال�شتقاق الن�صي
القر�آن الكرمي بو�صفه مهيمنا �سيميائيا يف الن�ص ثانيا. هذا وف��ق طريقتي املحاكاة والتحوي��ل ولكل منهما
�آلياته املحددة( ،لي���س هذا مقام ذكرها ،وتف�صيلها)،
.2املناص يف النص: ويعد هذا النمط �أهم الأمناط من حيث �إنه عام تندرج
ينتم��ي العنوان �إىل الن���ص املحيط -كما ذكرن��ا �سابقا،- حتته بقية الأمناط الأخرى.
وميث��ل مفتاح��ا �إجرائي��ا يلج من خالل��ه الق��ارئ �إىل �أعماق ويح��دد ج�يرار جينيت ل��كل ق�سم م��ن ه��ذه الأق�سام
الن�ص ،ويقدم �صورة ا�ستباقي��ة مل�ضامينه وعوامله ،واملت�أمل يف �آليات��ه ،و�إجراءات��ه اال�شتغالية التي يتغيا م��ن خاللها قراءة
عنوان ه��ذا الن�ص �سيج��ده عنوانا ملفوظ��ا� ،أي �أنه جزء من الن���ص ،واكتناه تعالقاته مع ذاته والعامل ،وانبناءاته ال�سطحية
املنت ،منتزع من بناه الرتكيبي��ة ،فهو يتكرر يف ال�سطر العا�شر والعميقة� ..إلخ ،وطرح��ه جينيث هذا قد يجعل القارئ يظن
حرفيا وداللياً�“ :أي فزاعة تطرد اليتم عني”. للوهلة الأوىل �أنه يلغي البنيوية واحلقيقة �أنه ال ينفيها نفياً قاطعا
والف َّزاعة معجميا م�شتقة من ال َف َزع والتخويف ،وهي عبارة عن بل يطورها ليجعلها بنيوية مفتوحة ،ويركز على الأدب يف ذاته،
دمية (�شخ�ص/حار�س افرتا�ضي) ،ي�صنعها الفالحون وي�ضعونها ويق�ص��ي �إطاره اخلارجي املقحم علي��ه �إقحاما من اخلارج ،بل
يف حقولهم كحار�س وهمي ي�شتغل على الإيهام بدرجة �أ�سا�س؛ يجع��ل الن�ص هو الذي يحي��ل �إىل خارجه املتمثل يف العامل
ليمنع الطيور والع�صافري من �أكل احلبوب والثمار الزراعية ،وهذه ومكوناته كمرجعية ،وي�ستبعد امل�ؤلف من دائرة اهتمامه(((.
ال�ص��ورة املنتزعة من الواقع حمملة ب�شحنات �أنرثبولوجية ممتدة تتغي��ا هذه القراءة ا�ستكناه �شعري��ة التنا�ص و�سيميائيته يف
يف الذاكرة مرتبطة مب�شاهد الطبيعة واحلقول منها ب�شكل خا�ص، ن���ص (�أي فزاعة تطرد اليتم عني) لل�شاعر اليمني (عبد املجيد
وال�شاعر حينما يتنا�ص معها ال ي�ستدعيها �إىل ن�صه مبحموالتها
((( ينظ��ر :ع�ص��ام وا�صل :التنا�ص الرتاث��ي يف ال�شعر العربي املعا�ص��ر ،دار غيداء للن�شر
القارة فيها ،و�إمنا يعمد �إىل قلب �صورتها النمطية ،فيك�سر بذلك والتوزيع ،الأردن ،ط 2011 ،1م .15 :
89 88
ف��دال اليتم ي�ستدعي داللة املوت ذل��ك �أنه ال ُي ْت َم بدون �أفق التوقع لدى القارئ حني يجعل من الفزاعة �أُمنية يتغيا من
م��وت �أحد قطب��ي الأ�س��رة “الأب �أو الأم” ،كما �أن اليتيم خاللها طرد اليتم الناجت ع��ن موت الأب/ال�شخ�صية املحورية
ي�ستدع��ي معه م ِّيتاً ما؛ �إما �أن يك��ون الأب �أو الأم �أو كليهما الت��ي تخاطبها الذات املتلفظ��ة يف الن�ص منذ بنيته االفتتاحية
دال بال�ضرورة ي�ستدعي مع��ه داال �ضمنيا يت�ضاد معا ،ف��كل ٍّ حتى بنيته اخلتامية ،و�إذا كان الن�ص �-أي ن�ص -حني ي�ستدعي
مع��ه �أو يت�ضمنه وينتج عن��ه؛ �أي �أن حدوث �أحدهما مرتتب ن�صا �آخر يعمل بدرجة �أ�سا�س على قلب دالالته وتغيري �سياقاته
على حدوث الآخر. ب�ش��كل متفاوت؛ ف���إن الن�ص الالحق هنا يح��ول الفزاعة من
�إن هذا العنوان يقدم حالة ذات تتغيا �إقامة و�صلة بـ«ف َّزاعة» حقله��ا �إىل حقل متخيل غري متحقق نابع م��ن �إميان املبدع ب�أنه
مفرت�ضة ،تف�صل��ه عن قيمة اليتم بو�صف��ه حالة غربة روحية، لي�س ثمة ما يبعد املوت مهما يكن..
وفق��دان امتالك ينتج عنه يف العادة انقطاع عن م�صادر الرغد العن��وان يح�شد يف ذه��ن املتلقي هذه ال�ص��ور امل�ستدعاة
والعي�ش ،والطفولة الآمن��ة ،وا�ستغالل الآخرين لليتيم �سيما من الواق��ع فتجعله يت�أه��ب للدخول يف ع��امل الن�ص دراميا
يف �صغره.. من حي��ث انبنائه على احلركة وال�ص��راع اللذين يوحي بهما
ويفر�ضهم��ا عل��ى الذاكرة؛ �سيم��ا يف دايل “ف َّزاع��ة ويتم”،
.3التناص يف النص: فدال ف َّزاعة يحمل كل معاين اخلوف والرتهيب ،وبذلك ف�إن
ويتنا�ص هذا الن�ص مع القران الكرمي ،ومع �صور �أنرثبولوجية الف َّزاع��ة متثل عامال معيقا مينع م��ن االت�صال مبو�ضوع القيمة،
-كم��ا ر�أين��ا يف العنوان� ،-أو �صور منتزعة م��ن احلياة اليومية وعام�لا م�ساعدا لوا�ضعه/الفالح م��ن حيث �إنها حتافظ على
والطبيعة ك�صورتي الف َّزاعة واخل َّبازة التي حتمل خبزها وتبيعه حما�صيل��ه� ،أم��ا دال اليتم ف�إنه يحم��ل معه �ص��ورة م�أ�ساوية
للم��ارة� ،إال �أن هذه ال�ص��ور يف الن�ص ت�أتي ب�شكل جزئي غري درامية حتمل يف ب�ؤرتها معنى املوت واالغرتاب من حيث �إنها
مهيمن ،يف حني ي�أتي التنا�ص مع القر�آن الكرمي مهيمنا يف كل بال�ضرورة ت�ستدعي معه��ا �أحد قطبي الداللة الغائبة ،فاليتيم
بنى الن�ص ،ولذلك �ستكتفي به القراءة -هنا -دون غريه. واليتم لديهما قطبان غائبان:
ويعني التنا�ص مع القر�آن الكرمي ا�ستدعاء دواله ومدلوالته، يتم ← موت.
والتفاع��ل معها ،و�إع��ادة حتويلها يف ن�ص معط��ى ،حتى تغدو يتيم ← ميت.
91 90
�أن ثم��ة فجوات داللية وتركيبية ،ي�ترك الن�ص مهمة �إكمالها جزءا من مكوناته و�شبكته الداللية والنحوية ،فتكتمل حينئذ
للقارئ املفرت�ض؛ لأنه يفرت�ض �أن هذه الرتاكيب والدالالت الداللة بني الن�صني ويغدوان ن�صا واحدا.
قارة يف ذاكرته.. ي�أت��ي التنا�ص م��ع القران الكرمي له��ذا الن�ص منذ اجلملة
وفاحتة الن�ص حينما ت�ستدعي ذلك تقر منذ البداية �أن ثمة البدئية للن�ص وحتديدا يف:
ف�صلة كبرية بني الأب وقيامه بت�أويل الر�ؤيا ،وبينه وبني االبن، أبت من يُ�ؤَ ِّو ُل ر� َ
ؤياي يا � ِ
و�أن ثم��ة غربة ووحدة وفقداناً ملو�ض��ع نتج عنه انغالق املعرفة
وفقدان مو�ضوع اجلهة املتمث��ل يف املعرفة وت�أويل هذه الر�ؤيا، �إ ْذ �إن هذه اجلملة البدئية ت�ستنفر ذاكرة القارئ وتعود بها �إىل
وذل��ك ناجت ع��ن حالة اليت��م ..التي نتج عنه��ا الفراغ الذي �آف��اق الن�ص القر�آين عامة ،و�إىل الق�ص�ص منه خا�صة ،وب�شكل
يج�سده امللفوظ الالحق للملفوظ االفتتاحي القائل: �أخ���ص �إىل ق�صة �سيدن��ا يو�سف عليه ال�س�لام ور�ؤاه املتعددة،
وينتقي منه��ا ر�ؤياه التي نتج عنها توج���س الأب وخوفه مما قد
فالفراغ مليء ب�أحالمنا.. يحل بيو�سف ،وحتذيره من مغبة ذلك ،كما يخربنا قوله تعاىل:
��ر َكو َك ً َ ُ َ َ ُ َ { ِإ ْذ َق َ
�إن الفراغ ع��دم ،وهو �أمر طبيعي بعد فقدان الأب� ،إال �أن با د ع ََش َ ْ ��ت أ َح َ ب��ت ِإني َرأي ْ
ي��ه يَا أ ِ ��ف أِل ِب ِ ��ال ي ُوسُ
ِّ َ
ه��ذا الفراغ مليء ب�أحالم الذات ،واحلل��م هو فراغ �أي�ضا و�إن دينَ {َ }4ق َ
��ال يَ��ا بُ� يَ َّ
َن� ��اج ِ
ُ��م لِ��ي َس ِ ��ر َرأيْتُه ْ ��م َس َوال ْ َق َم َ َوا َّلش ْ
كان انزياحاً عن واقع خللق واقع مغاير غري متحقق يف الغالب؛ ��ك َكيْ��داً ِإ َّن ا َّلش��يْ َطا َن ي��دوا ْ ل َ َ ��اك عَلَ��ى ِإ ْخ َو ِت َ
��ك فَ َي ِك ُ ��ص ُر ْؤي َ َالَ تَ ْقصُ ْ
يك َربَُّ��ك َوي ُ َعل ُم َك ِمن ذلِ َك جَيْ َتب َ َد ٌّو ُّمب ٌ�ين{َ }5و َك َ
لأن احللم يبقى جمرد ر�ؤى و�أفكار من ال�صعوبة جت�سيدها على ِ ��ان ع ُ ِ إل َنس ِ لِ ِ
ُ َ ِّ مَ ََّ َ ْ
الواق��ع يف هذا الن�ص ،والن�ص مل يذك��ر ماهية الأحالم ومل ��م نِ ْع َم َت�� ُه عَلَيْ َك َوعَلَ��ى ِآل ي َ ْعقوبَ ك َم��ا أت َها ي��ث َوي ُ ِت ُّ
ي��ل األ َحادِ ِ تَأ ِو ِ
َ
يحدد نوعها ،ولكن القارئ يلمحها من خالل دالالت احلزن يم َح ِكيمٌ{}6 اق ِإ َّن َرب َّ َك َع ِل ٌ ��ح َ يم َو ِإ ْس َعَلَ��ى أب َ َوي ْ َك ِمن َق ْب ُل ِإب ْ َر ِاه َ
الق��ارة يف الن�ص ،والناجتة عن امل��وت واليتم ،وهذه الأحالم [يو�سف]6 - 5 - 4 :
تتمثل يف عودة الأب وت�أويل الأحالم واال�ستقرار� ..إلخ.. والن�ص �إ ْذ يحيل �إىل ذلك ال يذكره مبا�شرة ،و�إمنا ي�ستبطنه
فت�أوي��ل الر�ؤيا مرتبط يف اخلط��اب القر�آين بيو�سف بدرجة ويحيل �إليه ب�شكل خمتزل مكثف ،ويداعب احلدث الكامن
�أ�سا�س ومن ثم بالأب الذي ف�سر �أول ر�ؤيا ر�آها يو�سف ،فالأب يف ذاك��رة القارئ الذي يرتك له مهم��ة ا�ستكمال ذلك؛ �أي
93 92
أْ ُ ذهَ��ا َولاَ خَ َت ْ ��ال ُخ ْ
َق َ
يدهَا ِس�يرَ تَ َها الول{}21 ��ف َس�� ُن ِع ُ ي���ؤل ر�ؤيا يو�س��ف �أوال ،ومن ثم ي�ؤل يو�س��ف ر�ؤيا ال�سجينني
��ك خَتْ ُ
��ر ْج بَيْ َض��اء ِم�� ْن َغيرْ ِ سُ ��و ٍء آي َ ًة َاح َ ��د َك ِإلىَ َجن ِ ��م ي َ َ
اض ُم َْو ْ وامللك ،ويف اخلطاب ال�شع��ري مبوت الأب مل يجد يو�سف/
َ��ب ِإلىَ ُ ��رى{ }22لِ ُن ِري َ َ ُ
ْب�ى{ْ }23اذه ْ ��ك ِم�� ْن آيَا ِتنَ��ا الْك� رْ َ أ ْخ َ الن�ص من ي�ؤل ر�ؤياه ،فيعمد امللفوظ ال�شعري �إىل حتويل كبري
ِف ْر َع ْو َن ِإن َّ ُه َط َغى{[ .}24طه]24 - 17 : يف اخلط��اب املتنا�ص ،فالأب هناك مل مي��ت و�إمنا عا�ش حزينا
�إنال�شاعربا�ستدعائهلهذهال�شخ�صياتي�أتيبهاليمنحق�ضيته على ف��راق ابنه ،وهنا يحدث العك���س فاالبن هو من يعي�ش
وحالت��ه ال�شعورية قيمة روحية ،ويوح��ي بفداحة فقدان الأب حزينا لفراق �أبيه ويعي�ش يف غربة عن العامل.
م��ن جهة ،وبقيمته ومكانته الت��ي كان يتبو�ؤها يف الأ�سرة ويف كم��ا �أن الن�ص يرتقي ب��الأب �إىل م�ص��اف روحانية حني
نف�سية املبدع ،ومبدى الفراغ الذي تركه فيها من جهة �أخرى، يجعل��ه «يو�سفه��م» و«�سليمانهم» و«مو�ساه��م» (�ضمنيا) ..يف
وت�ستدعي هذه ال�شخ�صيات معها �سماتها و�صفاتها ،وت�سندها امللفوظ القائل:
�إىل الأب الذي �أ�صبح بذلك حامال لها ،فغدا جميال وطاهرا فالفراغ ملي ٌء ب�أحالمِنا
ونقيا و�أمينا ،وهو ما حتيل �إليه ال�صفات امل�ستعارة من �شخ�صية كنت يو�سفنا و�سليمانناَ
يو�س��ف عليه ال�سالم ،وعارفا وعاملا و�أوتي من موا�ضيع القيمة ته�ش على �أمل ٍ
ع�صاك َُّ ما تزال
وموا�ضي��ع اجلهة ال�ش��يء الكثري ،وهو ما توح��ي به �شخ�صية كل و�سائدنا. يتوطن َّ
ُ
�سليمان عليه ال�سالم ،كما �أنه قد �أوتي الكثري من اخل�صائ�ص وه��ذا امللفوظ ي�ستدعي يف ال�سطري��ن الأولني �شخ�صيتي
الداللية امل�ستعارة من �شخ�صية مو�سى عليه ال�سالم. يو�س��ف و�سليم��ان ويف ال�سط��ر الثالث ي�ستدع��ي �شخ�صية
و�إذا كان املتلف��ظ يف الن�ص يوح��ي ب�شكل غري معلن عرب مو�س��ى عليه ال�سالم �إال �أن��ه مل يذكرها و�إمنا ذكر الع�صا وهي
�ضم�ير املتكلم ب�أنه يو�سف ف�إن��ه ي�سند ذلك يف امللفوظ الذي قيمة تختزل كل �سم��ات وخ�صائ�ص ال�شخ�صية الدال عليها
يلي��ه ب�شكل معلن و�صريح للأب الذي كان مبثابة يو�سف� ،إن قوله تعاىل:
َ ُ
�شخ�صي��ة يو�سف حتتمل داللتني اثنت�ين الأوىل امل�سندة �إىل ال ِه َي ع ََصايَ أتَ َو َّكأ
ُوسى{َ }17ق َ { َو َما ِتل ْ َك ِب َي ِم ِين َك يَا م َ
ال��ذات املتلفظة يف البنية االفتتاحي��ة للن�ص وهي االغرتاب آربُ أُ ْخ َرى{َ }18ق َ
ال
َ
عَلَيْ َها َوأ ُه ُّش ِب َها عَلَى َغن َِمي َولِ َي ِفي َها َم ِ
َ
التي ترتب عليها اخلروج من العامل �إىل اجلب �أوال ومن اجلب ُوس��ى{ }19فَ َأل ْ َقاهَا فَ ِإ َذا ِه َي َح َّي ٌة تَ ْس�� َعى{}20 أل ْ ِق َها يَا م َ
95 94
َ
دين َِة امْ َرأة ُ ال ْ َع ِز ِيز ت ُ َر ِاو ُد فَ َتاهَا عَن ن َّ ْف ِس ِ��ه ال نِ ْس�� َو ٌة يِف مْال َ ِ
{ َو َق َ �إىل العامل ثانيا ،والداللة الثانية م�سندة �إىل الأب وهي �صفات
ني}[يو�سف.]30 : ال ٍل ُّم ِب ٍ َراهَا ف َض َ
يِ د َش َغ َف َها حُ ّب ًا ِإنَّا لَن َ َق ْ اجلمال والروحانية� ...إلخ.
وي�شتغل الن�ص على حتوي��ل يف عوامل ال�سرد؛ �أي ا�ستبدال ويعم��ل الن�ص على قلب داللة الآي��ة ال�سابقة فحني كان
القائم�ين بالفع��ل �سيميائي��ا ،في�ستبدل ام��ر�أة العزي��ز باخلبازة، مو�س��ى يه�ش بع�صاه على غنمه كان الأب يه�ش بها على �أمل
وي�ستبدل القائم باملراودة من امر�أة العزيز �أي�ضا �إىل الطيور ،ويحول يتوطن كل و�سائد الذوات املفرت�ضة �إىل جوار املتلفظ:
املُ َرا َود من يو�سف �إىل �أحالم اخلبازة ،ليخدم �سياقات الن�ص وفق ته�ش على �أمل ٍ
ما تزال ع�صاك ُّ
ر�ؤيته للعامل النابعة من التجربة الواقع حتت �ضغطها ..ويعمق حالة يتو َّطن َّ
كل و�سائدنا
االغرتاب والفقد التي ت�ستمر يف مفا�صل الن�ص ومتتد �إىل قوله:
ويبق��ى التنا�ص م��ع تيمات ق�ص��ة يو�سف علي��ه ال�سالم
تم عني
� ُّأي ف َّزاعة تطرد اليـ ُ َ متمف�صال يف الن�ص ،وحميال �إىل الفراغ واالغرتاب ،وحماولة
فال كنز حتت اجلدار اخلروج من االغرتاب واللحاق بالأب ،يف �صورة مركبة مدورة
�سوى وج ٍع لي�س يُقنى. تف�ضي حماورها الأوىل �إىل التي تليها:
فه��ذا امللف��وظ يعمق داللة الفق��د والفراغ وق�س��وة اليتم اخلوف فاكهتي ُ �سوف �آتي وقد نخر
وي�ستدعي �إىل الذاكرة قوله تعاىل: و�س�أم�سح يف عتبات بهائك حزين
َ َ َ َ
اس َ��ت ْط َع َما أهْلَ َها فَ َأب َ ْوا أن
ِّ {فَا َنطلَ َقا َح َّتى ِإ َذا أتَ َيا أه َْل َق ْري َ ٍة ْ بت �أحمله مثل خبَّاز ٍة
الذي ُّ
نق َّض فَ َأ َقا َم ُه َق َ
ال يد أَ ْن ي َ َ
داراً ي ُِر ُ دا ِفي َها ِج َ ي َُضي ُفو ُه َما فَ َو َج َ ال طيور تراود �أحالمها.
َ ل َ ْو ِشئْ َت لاَ خَّ َت ْ
ذ َت عَلَيْ ِه أ ْجراً }[.الكهف]77 : فال�شاعر يقرر �أنه �سوف ي�أتي ومي�سح على عتبات بهاء الأب
َ َ
دين َِة َو َكا َن يِف مْال َ ِ دا ُر فَكا َن لِ ُغلاَ َمينْ ِ ي َ ِت َ
يم ِ�
ْي�نْ ال َ جْ
{ َوأ َّم��ا ِ حزنه/الذات ال��ذي يحمله كخبازة ال طي��ور تراود �أحالمها
َ َ َ َ َ حَتْ َت�� ُه َك ٌ ُ
��ك أ ْن ي َ ْبلُ َغا ال ًا فَ��أ َرا َد َرب ُّ ن��ز هَّل َم��ا َوكا َن أب ُو ُه َما َص حِ ف��دال تراود يحيل �إىل ق�صة يو�سف مع امر�أة العزيز وما ترتب
د ُه َما َوي َ ْس َ��ت ْخ ِر َجا َك َ َ
ح ًة من َّرب َك َو َما فَ َعلْتُ ُه َع ْن نز ُه َما َر مْ َ أ ُش َّ عليها من غربة وانقطاع ع��ن العامل بدخوله ال�سجن وبالتايل
ِّ ِّ ْ َ
أمْ ِري َذلِ َك تَأ ِو ُيل َما مَل ْ تَ ْس ِطع عَّلَيْ ِه َصبرْ اً}[.الكهف.]82 : اكت�شاف براءته� ..إلخ ،كما يقول تعاىل:
97 96
�إن دال (كنت) يوحي ِبف ُْ�ص َل ٍة بني [قبل وبعد] ،وانتقال من ف���إذا كان امللف��وظ القر�آين يخرب يف دالالت��ه ب�أن ثمة كنزا
كائن كان ف َّع��اال �إىل كينونة غري فاعلة ،ففي القبل كان الأب ليتيم�ين ف���إن امللفوظ ال�شع��ري يخرب ب�أن اجل��دار ال يحتوي
موجودا ميار�س طقو�س القراءة على جرح االبن ،يف زمن مليء ذلك الكنز ليعمق داللة الفقر والوحدة ،وبالتايل ف�إن امللفوظ
بالبهج��ة واالمتالك ،ويف املابعد �أ�صبح الأب مفقودا ،و�أ�صبح ال�شع��ري يتماثل مع الن�ص الق��ر�آين ويتخالف معه من جهة
الزم��ن مفرغا من البهج��ة وممتلئا بالتعا�س��ة واحلزن ..ولذلك �أخرى؛ يتماثل معه من حي��ث �إن هناك ُي ْتما ،ويتخالف معه
ي�ستغي��ث ال�شاع��ر بالزمن/ال�سعيد املمتلئ بالبه��اء قبل �أن م��ن حيث وجود الكن��ز واختفائه ..لتت�س��ع دوائر االغرتاب
يداهمه الليل وي�أكل نق��اءه وطهارته ..ويخرب عن حالته التي والوح�شة التي نتج عنها مناجاة ال�شاعر لأبيه يف قوله:
يود الهرب منها �إليه �إ ْذ يقول: �أبي:
�إن دمعي ُ
ي�سيل على ما يرا ُم
�أنا رئ ٌة
وحرف الق�صيدة ُم ٌّر كقيء املري�ض
أردت انتحاراً
لو � ُ ولكن عافية املوت �أو�س ُع
الق�ش
جبال من ِّ حلالت ٌ
ْ من غائالت احلياة.
بيني وبني املياه. ثمة �أمنية يف املوت والهرب من غائالت احلياة� ،إىل ات�ساع
عافية املوت ،ويتنا�ص ال�شاع��ر �أثناء مناجاته لأبيه مع طقو�س
وهو بذل��ك ي�ستدعي �إىل الذاكرة ق�صة الطوفان ،وع�صيان دينية تتمثل يف قراءة الفاحتة على املري�ض:
بن نوح ،وغرقه ،الدال عليها قوله تعاىل:
كنت تقر�أ فاحتة فوق جرحي
م َاص َ ��ال الَ ع ِ
��آوي ِإلىَ َج َب�� ٍل ي َ ْع ِص ُم ِم��نَ مْالَاء َق َ
نيِ ��ال َس ِ{ َق َ
ومت�سح بال�ضوء روحي
َ هّ َ
��ال بَيْ َنه َُم��ا مْالَ�� ْو ُج فَ��كا َن ِم��نَ الل ِإالَّ َم��ن َّر ِح َ
��م َو َح َ ال ْ َي�� ْو َم ِم�� ْن أمْ ِ
��ر ِ ؤمن بيديك
�أنا الآن �أكرث من �أي وقت م�ضى م� ٌ
ني}[.هود.]43 : مْال ُ ْغ َر ِق َ �أغثني �أبي
وهو ح�ين ي�ستدعيه��ا ي�ستدعيها ب�شكل مغاي��ر ل�سياقها الليل وجهي
قبل �أن ي�أكل ُ
التاريخ��ي متاما ،في�صب��ح االبن رئة ،وهو ال��ذي يود االنتحار وخارطتي
واملوت بغية اللحاق بالأب ،ولكنه يف�صح �أن ثمة معيقا يعيقه وبقايا بيا�ضي.
99 98
نص القصيدة احملللة: ع��ن �أمنيته هذه ،واملعيق برغ��م �إعاقته له �ضعيف/جبال من
الق�ش ،فالق�ش على �ضعفه مينعه من االت�صال ب�أمنيته يف حني
كان يف امللف��وظ القر�آين نداء م��ن الأب ويف الن�ص ال�شعري
تم عني ؟؟
الي َ
� ُّأي ف َّزاع ٍة تطر ُد ُ نداء من االبن للأب ،ومتاثل يف �أن االبنني الأول غرق والآخر
يود الغرق ،والأول عا�ص والآخر بار بابيه.
أبت
ؤياي يا � ِ من يُ�ؤَ ِّو ُل ر� َ وخال�صة ما ميكن قوله يف هذه القراءة �أن ن�ص عبد املجيد
فالفراغ ملي ٌء ب�أحالمنا ُ الرتك��ي يتنا�ص مع �آي��ات القران الك��رمي الدالة على احلزن،
كنت يو�سفنا و�سليماننا وعل��ى املكيدة واالغ�تراب بالفعل وبالق��وة ،وحينما يتنا�ص
ته�ش على �أمل ٍ ع�صاك ُّ َ ما ُ
تزال معها يعمل عل��ى قلب دالالتها وم�ضامينه��ا ،ويفرغها دالليا
كل و�سائدنا يتو َّط ُن َّ ليحمله��ا �أبعاد جتربته ور�ؤيته للع��امل وللحياة وفق فل�سفته من
اخلوف فاكهتي ُ �سوف �آتي وقد نخر الأ�شي��اء ،ويعم��ل على حتويل و�إ�ضاف��ة� ،أو حتويل وحذف يف
بهائك حزين َ عتبات أم�سح يف القي��م املتمف�صلة يف الآيات القر�آنية التي تنا�ص معها يف ن�ص
ِ و�س� ُ
مثل خبـَّاز ٍة بت �أحمله َ
«�أي فزاعة تطرد اليتم عني».
الذي ُّ
ال طيو َر تراو ُد �أحال َمها
تم عني � ُّأي ف َّزاع ٍة تطرد اليـ ُ َ
فال كنز حتت اجلدا ِر
�سوى وج ٍع لي�س يُقنى..
�أبي :
ي�سيل على ما يرا ُم �إن دمعي ُ
املري�ض
ِ وحرف الق�صيدة ُم ٌّر كقي ِء
101 100
ولكن عافي َة ِ
املوت �أو�س ُع َّ
رابع ًا : غائالت احلياة .
ِ من
103 102
.2حوافز التوظيف القرآني : وتر�س��خ يف كينونته �شيئا من هويته� ،سيما حني يكون هذا الرتاث
�إن املطلع على ديوان ال�شعر اجلزائري لواجد فيه �أن الرتاث �أقرب اىل الهوية الروحية والإن�سانية ،كالرتاث الديني مثال؛ «لأن
الديني ب�ش��كل عام ،والقر�آين منه ب�شكل خا�ص هو املهيمن �صل��ة ال�شاعر برتاثه الدين��ي �صلة عقيدة ،وخ�صو�ص��ا مع القر�آن
عل��ى غريه من الرتاث ،ولعل ذلك ن��اجت عن قناعات ال�شاعر
(((
الك��رمي ،الكتاب الر�س��ايل املعجز ،والت�شريع الإله��ي املحكم»
ب�أنه هو احلل� ،سيما عند معاجلت��ه لق�ضايا وطنية وقومية ت�شي الذي غري طرائق التلقي والتفكري و�أدوات التعبري ،منذ زمن بعيد،
برف���ض الزحف واملد الأجنبي/غ�ير امل�سلم ،وا�ستيالئه على فظل ال�شاعر يحلم به ،ويجاريه ،وي�ستلهمه يف كتاباته.
(((
موا�ضيع قيمة عربية مركزية ،وهو ما �سرناه يف منت (الإغارة) ولع��ل من املفي��د الإ�شارة هن��ا �إىل �أن طرائ��ق العودة �إىل
لل�شاعر اجلزائري «بوزيد حرز اهلل» كنموذج على ذلك. ال�تراث والتقاط��ع معه ق��د تدرجت ،وم��رت مبراحل �شتى،
ي�أت��ي توظيف القران الكرمي يف دي��وان «الإغارة» منذ الن�ص منذ الإحيائي��ة وحتى اللحظة� ،إذ اختلفت هذه املراحل وفقا
الأول فيه ،ولذلك داللت��ه اجلمالية ،فالن�ص الأول ميثل الفاحتة الختالف الر�ؤي��ة والأداة ،ونتج عنها ما ي�سميه الدكتور علي
الن�صي��ة التي ت�ؤطر املنت ككل ،وه��و �أول ما يواجه املتلقي منه، ع�شري زايد((( بالتعبري عن الرتاث �أو التعبري به..
وذلك ي�ستث�ير ذاكرته وذائقته اجلمالية؛ لأن��ه يعيدها �إىل املنت ولعل �أقرب �أن��واع الرتاث �إىل املب��دع العربي هو الرتاث
الق��ر�آين ،و�إىل وقائعه و�ص��وره و�أزمنته و�أمكنت��ه ،ولأن ال�شاعر الديني ،والقر�آين منه ب�شكل �أكرث؛ لأنه �أُ ُّ�س املرجعية الروحية
«ينطل��ق من امل��وروث الديني على �أ�سا�س فاعلي��ة التوا�صل مع والفكرية ،وهو املركز الذي تتمف�صل حوله وفيه وبه جملة من
الذاكرة اجلمعية»((( ،التي ي�شكل القر�آن �أكرب م�ساحة منها.. القي��م والقوان�ين ،واملفاهيم املتعالية على الآن��ات والأمكنة،
وي�أت��ي اجتاه «بوزيد» �إىل توظي��ف القر�آن الكرمي -كما يتجلى وم��ع �أنه ال ينبغي �أن يعد الق��ر�آن الكرمي تراثا لذاته ويف ذاته،
يف املنت الكل��ي للديوان -مرتبطا ب�أحد جانب�ين �أو كليهما معا، ف�إنه يعد كذلك لوجوده الزمني ،املرتبط ببعثة الر�سول الكرمي
�أولهم��ا اله��م اجلمعي املرتب��ط بامل�صري القوم��ي للوطن العربي علية ال�صالة وال�سالم فقط.
((( خديج��ة ح�س�ين �أحم��د املغنج ،ا�ستله��ام الرتاث يف �شع��ر عبد العزي��ز املقالح،
((( بوزيد حرز اهلل ،الإغارة ،من�شورات ،ANEP :اجلزائز ،ط2003 ،1م. اجلمهورية اليمنية ،وزارة الثقافة وال�سياحة� ،صنعاء ،د.ط2004 ،م47 :
((( خديجة املغنج ،ا�ستلهام الرتاث يف �شعر عبد العزيز املقالح.46 : ((( ينظر علي ع�شري زايد ،ا�ستدعاء ال�شخ�صيات الرتاثية80 :
105 104
�سرياه بالفعل مهيمنا يف كل مفا�صل الن�ص ،وانفتاحاته على وهويت��ه ،يف ظل امل��د ال�صهيوين وغريه ،وثانيهم��ا مرتبط بتعرية
امل��وروث القر�آين يف ذاته� ،أو ال��ذي ي�ستدعي معه بنى تراثية اخلن��وع ال�سيا�س��ي العرب��ي املتقوقع على ذات��ه ،واملنكفئ على
�أخرى كما �سرنى الحقا. هزائمه فقط.
وقد �أتى توظيف الدوال القر�آنية عن طريق القافية التي متثل يتجلى اجلان��ب الأول يف الن�ص الأول م��ن املنت «ترنيمة
ذروة الإيقاع املو�سيقى ،يف الن�ص ال�شعري ،كما هو يف قوله: لعر�س اجلنوب» الذي يهدي��ه «�إىل انت�صار �إخواننا يف جنوب
«هو ذا اجلنوب منزل تنزيال لبن��ان» ،وهو بذلك يف�صح عن الق�ضي��ة التي ي�شتغل عليها،
واملتمف�صل��ة يف الن�ص منذ عنوانه الذي ميثل مفتاحه الأويل،
ومرتل يف �صوتنا ترتيال»((((). وعتبت��ه البنيوي��ة الت��ي ت�ؤ�شر امل�تن ،وتعطي ملح��ة �أولية عنه
الذي ي�ستدعي �إىل الذاكرة قوله تعاىل: للمتلقي ،وت�شري �إىل جن���س الن�ص (االفرتا�ضي) ،من حيث
َ
ي�لا{ }2نِ ْص َف ُه أ ِو ��ل ِإلاَّ َق ِل ً��م اللَّيْ َ��ل{ }1قُ ِ {يَ��ا أَي ُّ َه��ا مْال ُ َّزم ُ ه��و« :ترنيم��ة» ،والرتنيمة م�شتقة معجميا م��ن الرتمن ،والرتمن
ِّ َ
يال{ِ }4إنَّا ��رآ َن تَ ْر ِت ً يال{ }3أ ْو ِز ْد عَلَيْ ِه َو َرت ِل ال ْ ُق ْ ص ِمنْ�� ُه َق ِل ً ا ُنق ْ ترجي��ع ال�صوت طربا من ف��رح ما ،ويبني الن���ص �سبب هذه
َ َ ِّ َس�� ُنل ْ ِقي عَلَيْ َك َق ْوالً ث َ ِق ً
د َو ْطءاً َوأقْ َومُاش َئ َة اللَّيْ ِل ِه َي أ َش ُّ
يال{ِ }5إ َّن ن َ ِ
الرتنيمة/الط��رب ،واملتمث��ل يف االنت�ص��ار ،ولأن االنت�ص��ار
يال{.(((}7 حا َط ِو ً يال{ }6إ َّن ل َ َك ف اَل َّن َهار َسب ً ِق ً ي�ستل��زم عر�سا ،فقد كان ذلك هو ال�س��ر الكامن وراء احتفاء
ِ ْ يِ ِ
الذات بالإيقاع ،الناجت عن توظيف الدوال القر�آنية يف القافية
فف��ي اخلطاب القر�آين احتفاء بال�سجع ،وجتان�س الكلمات يف -كم��ا �سرنى ،-لذا مل ت�أت هذه الدوال يف القافية جزافا� ،أو
�آخر كل �آية(/قليال ،ترتيال ،ثقيال ،قيال� ...إلخ) ،و�إتيانها كفوا�صل ح�شوا ميكن اال�ستغناء عنه.
تكتم��ل بها كل �آية بنائيا و�إيقاعيا ،وهو ما يتماثل معه ال�شاعر يف
خطابه ،عرب كل وحدة داللية� ،أو ما ي�سمى بالبيت ال�شعري الذي يت�أ�س���س الن�ص الأول م��ن املنت على تنا���ص �إيقاعي مع
الق��ر�آن الك��رمي ،وخ�صو�صا م��ع �سورة املزمل ،وه��و ما يعمل
يتماثل �صوتيا مع اخلطاب القر�آين على نحو معني ،فتقابل القافي ُة عل��ى �إ�ضفاء القدمي على الن���ص واملت ّلفظ به وناطقه لتقريبهما
َ
الفوا�صل يف اخلطاب القر�آين.. يف اخلطاب ال�شعري م��ن املتلقي بع��د �إثارة البني��ة الإيقاعية الكامن��ة يف ذاكرته،
9 ((( بوزيد حرز اهلل ،الإغارة: فيظل مت�أجج��ا �إيقاعيا يتوق��ع ال�شعوريا �أن البني��ة الإيقاعية
((( املزمل� ،آية7 - 1 :
امل�ستم��دة من الذاكرة هي املهيمنة عل��ى بنية الن�ص ،وهو ما
107 106
ع��ن انت�صار معط��ى �إىل ِّ
م�صاف كتاب مقد���س ،يتنزل على ف�إذا كان القر�آن الكرمي هو الأكرث قربا للروح ،والأكرث ح�ضوراً
املتلقي ،فريتله ترتيال: يف الذاك��رة اجلمعية ،ف�إن توظيفه يف الن�ص يجعله مثريا ،معجبا
«هو ذا اجلنوب منزل تنزيال يف جمالياته الناجتة عن التماهي بني خطابني يف خطاب واحد،
(((
ومرتل يف �صوتنا ترتيال»
لكل منهما خ�صائ�صه ومميزاته التي تندغم يف قالب واحد ،ومن
هن��ا يت�شكل االنزياح عن املعياري��ة القارة يف كل منهما ،وعلى
وهو ما يتوطد �أكرث يف قوله: الرغم م��ن توظيف ال�شاعر للدوال القر�آني��ة على النحو الذي
«لبنان كم ظل ال�رساب يلفنا ر�أين��ا ،ف�إنه ي�شتغل عل��ى حتويل مع��ريف داليل ،يرتبط بالوعي
حتى �أتيت بوحيها جربيال الأيديولوج��ي� ،أي �أنه -يف ح�ين -يتماثل �إيقاعيا مع اخلطاب
فتعانق القر�آن والإجنيل يف القر�آين من جهة ،يغايره داللي��ا من جهة �أخرى ،حني يناق�ش
�آيات حق ترف�ض الت�أويال ق�ضية قومية ،متمثلة يف الق�ضية اللبنانية املعروفة بت�شعباتها.
�أورا�س حن لعر�سه و�شموخه وق��د جاء الن���ص احتفاء خا�ص��ا بهذه الق�ضي��ة والعر�س
ملا رميت حجارة �سجيال القومي�ين ،بطريقة املب��دع ،وطريقة الن�ص املزدح��م بالدوال
حلقت يف «جزين» طريا جارحا القر�آني��ة التي عاد �إليه��ا لي�ضفي على متن��ه وق�ضيته قدا�سة
روحية؛ لأن الق��ر�آن الكرمي ميثل ذروة القدا�سة لدى الإن�سان
(((
ودفعت �إبرهة ..دفعت الفيال» امل�سل��م ،فحيثما ُوجِ َد هذا القر�آن �أو �ش��يء منه فثمة قدا�سة،
فثمة قد�سية نابعة من العودة اىل جذور التاريخ الإ�سالمي، لأن القدا�س��ة تتج�سد يف امل�صادر الدينية ،وي�صبح توظيف ما
وتيمت��ه الإن�سانية ،والقومية الأوىل ،فنت��ج عن الن�صر توحيد حتتوي��ه تلك امل�ص��ادر �سببا يف �إ�ضفاء القد�سي��ة على الق�ضية
ب�ين الأديان ،وتعانق بني القر�آن والإجنيل ،و�أ�صبحت الأديان مو�ضوع التناول((( ،وخ�صو�صا �إذا كانت الق�ضية ذات ارتباط
حا�سم��ة جازمة ،ال تقبل �أي ت�أوي��ل ،كح�سم الن�صر الذي ال مبا�شر بالواقع ،وامل�صري القومي والإن�ساين والروحي ،لذا فقد
يقبل الت�أويل �أي�ضا. ارتفع الن�ص ال�شعري بجن��وب لبنان يف حلظة الإبداع الناجتة
9 ((( بوزيد حرز اهلل ،الإغارة: ((( ينظ��ر� :صادق عي�سى اخل�ض��ور ،التوا�صل بالرتاث يف �شعر عز الدين املنا�صرة ،دار
((( امل�صدر نف�سه10 : جمدالوي للن�شر والتوزيع ،االردن ،ط2007 ،1م54 :
109 108
�إن توظي��ف َد ْاليَّ «حجارة و�سجي��ل» يف الن�ص ال�شعري قد وهذا الن�صر ي�ستثمر يف الذاكرة خزينها القومي ،الوطني،
يكتف بذلكا�ستدع��ى معه ال�سورة التي وردا فيها كاملة ،ومل ِ ح�ين ي�ستعيد بهذا العر���س الفرائحي العر�س ال��ذي �أقامته
فق��ط بل ا�ستدعى معه��ا �سياقها التاريخ��ي وق�صتها وحوافزها، جب��ال الأورا�س منذ زمن ،فت�سلل م��ن الذاكرة بكل خزينه
لأن ا�ستدعاء �شيء م��ن الرتاث ي�ستدعي معه بال�ضرورة �سياقا الن�ضايل ور�صيده اجلمعي يف الذاكرة ،عرب قوله:
ح�ضاريا كامال((( ،و�إن مل يذكره الن�ص ب�شكل مبا�شر و�صريح. «�أورا�س حن لعر�سه و�شموخه
ملا رميت حجارة� ...سجيال»
.3القضية وأبعاد الرتميز :
ولأن الن���ص يحتفي �إيقاعي��ا بالعر�س الفرائحي الناجت عن دال يحمل ر�صي��دا �أيديولوجيا ،وقوميا وثوريا يف ف�أورا�س ٌّ
الن�ص��ر -كما �أ�شرنا -ف�إنه ي�ستدع��ي �شخ�صية الفنانة اللبنانية الذاكرة العربي��ة ب�شكل عام ،ويف الذاك��رة اجلزائرية ب�شكل
(فريوز)؛ التي قا�سم��ت لبنان بكاءها وفرحها ،وحملت معها خا�ص ،فم��ن جبال الأورا���س كان املنا�ضل��ون ينطلقون �إىل
معاناتها حتى ارتبطت به��ا -فنيا ،-وال ي�أتي بهذه ال�شخ�صية �ساح��ات اجلهاد ،والدفاع عن احلري��ة والكرامة �إنه رمز للثورة
ك�صورة طبق الأ�صل لها ،بل ي�سمو بها فيمنحها �صورة قر�آنية، واالنت�صار معاً...
و�ص��ورة �أ�سطورية ،م�ستوحاتني من ق�صة العذراء/مرمي البتول ويزيد ق�ضيته قدا�سة حني يقارن بني لبنان والطيور التي ق�ضت
عليه��ا ال�سالم ،فيجعلها رمزا قوميا للعفة ،وللمر�أة التي حتمل على �إبرهة وجنده ،ويجع��ل الطرف الآخر مياثل �إبرهة وجنده،
ق�ضية وتت�شبث بها ،وال تفرط فيها ،فيقول: ف�إذا كانت احلجر رمزا للدفاع �ضد الزحف الذي ا�ستهدف رمز
ِرتاب اجلنوب» ت�ضمخي «فريوز «ب ِ القدا�سة الإ�سالمية/الكعبة؛ ف�إن الق�ضية اللبنانية ت�سمو لدى
ومتايلي �صف�صافة ونخيال ال�شاعر يف ن�صه لتكت�سب فيه قدا�سة من مماثلها التاريخي ،الذي
وا�ساقطي رطبا جنيا �إنني
َّ
ميثل معادال مو�ضوعيا لها ،وي�ستدعي قوله تعاىل:
َ َ {أَ مَل ْتَ َر َكيْ َ
(((
من بع�ض طهرك قد �صنعت بتوال» د ُه ْ
م اب ال ْ ِف ِيل{ }1أ مَل ْ جَيْ َع ْل َكيْ َ
ف فَ َع َل َرب ُّ َك ِبأصْ َح ِ
ي��ل{ }3تَ ْر ِمي ِه��م ��م َط�ْي�رْ اً أَبَا ِب َ ف تَ ْض ِلي�� ٍل{َ }2وأَ ْر َس َ
��ل عَلَيْ ِه ْ يِ
ْ ُ َ َ
((( ينظر :د .رحاب اخلطيب ،معراج ال�شاعر ،مقاربة �أ�سلوبية ل�شعر طاهر ريا�ض، حِ ِب َجا َرة ٍ من ِسجي ٍل{ }4فَ َج َعله ُْم ك َع ْص ٍف َّمأكو ٍل{. }}5
(((
امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،بريوت ،ط2005 ،1م.144 : ِّ ِّ
((( بوزيد حرز اهلل ،الإغارة.11 : ((( الفيل� ،آية5 - 1 :
111 110
«الزال يف اجلوالن وعد بيننا �إ ْذ يعيد توظيف قوله تعاىل:
فلتوقدي بذرى ال�ش�آم فتيال ��ك ر َُط ً
ب��ا ��ذ ِع الن َّْخلَ ِ��ة ت ُ َس��ا ِق ْط عَلَيْ ِ
��ك جِ ِب ْ
{ َو ُه��زي ِإلَيْ ِ
ولتطلقي بف�ضاء «غزة» �صيحة َج ِنيّ ًا} ِّ(((.
ولتن�شدي ما بدلوا تبديال �إنه بتوظيف ه��ذه ال�شخ�صية يف هذا ال�سياق مينحها الهالة
فالقد�س كل القد�س معراج وقد القد�سي��ة والروحاني��ة الدينية ال لذاتها ويف ذاته��ا ،بل لأنها
عرب الفرات براقنا والنيال»(((. مرتبط��ة بالق�ضي��ة التي يتحدث عنه��ا� ،أي لأنها حتمل ق�ضية
�إنه احلنني لعر���س جديد ،بعد عر�س جنوب لبنان ،و�أمنية �شع��ب ووط��ن يف فنها و�إبداعاته��ا ..وهو �إ ْذ يعم��د �إىل ذلك
يف «ت��رمن» جديد متعلق بتحرير الأر���ض الفل�سطينية املحتلة، يطلب من ف�يروز �أن تتحول �إىل نخلة ،ف���إذا كانت النخلة قد
فيح�ش��د ال�شاعر لذلك جملة من التوظيفات القر�آنية ،وي�ؤكد ارتبطت يف الذاكرة اجلمعية بالعزة والكرامة ،وم�صدر الرزق،
قيمة الأرا�ضي املقد�سة ،و�أنها الأر�ض التي مت منها العروج �إىل حت��ى �أ�صبحت رم��زا للقومي��ة العربية ،وارتبط��ت يف ذاكرة
ال�سماوات ،كما ي�ؤكد �صرب الإن�سان املنا�ضل فيها ،بقوله: املتلق��ي �أي�ضا بالع��ذراء عليها ال�سالم عن��د و�ضعها جلنينها،
«ولتطلقي بف�ضاء «غزة» �صيحة فكان��ت النخل��ة م�صدر رزقه��ا بعد ال��والدة ،وبذلك حتولت
فريوز ،وفارقت الن�ص الق��ر�آين دالليا ،ف�أ�صبحت هي النخلة
ولتن�شدي ما بدلوا تبديال» ذاتها ،وهي التي تتمايل فتت�ساقط رطبا جنيا.
الدال عليه قوله تعاىل: و�إذا كان��ت ق�ضية جنوب لبنان هي الب���ؤرة املحورية التي
هَّ َ
َدوا الل عَلَيْ ِه فَ ِم ْنهُم
دقُوا َما عَاه ُ ال َص َ ني ِر َج ٌ{ ِمنَ مْال ُ ْؤ ِم ِن َ يتناولها الن�ص ف�إن ال�شاعر ال يتوقف عندها فقط ،بل يتجاوزها
يال}(((. د ً دلُوا تَ ْب ِ َّمن َق َضى حَنْ َب ُه َو ِم ْنهُم َّمن ي َ َ
نت ِظ ُر َو َما ب َ َّ �إىل ق�ضي��ة حتمل م�أ�ساة �أكرب منها ،وه��ي ق�ضية فل�سطني ،وما
ويبقى توظيف القر�آن الكرمي املرتبط بالهم القومي املتعلق ي�ستدعي هذا الق�ضية هو املجاورة بني فريوز وق�ضيتها اللبنانية
بالقد���س ّ
مت�شظياً يف جملة م��ن الن�صو�ص منها ن�ص «معزوفة املوازي��ة للق�ضية الفل�سطينية ،وه��ي الق�ضية التي ارتبطت بها
ب�شكل مبا�شر منذ بداياتها ،يقول ال�شاعر:
12 ((( بوزيد حرز اهلل ،الإغارة:
((( الأحزاب� ،آية23 : 25 ((( مرمي� ،آية:
113 112
امل�شرك��ون؛ ف���إن الن���ص ال�شعري يتن��اول �شخ�صي��ة مغايرة ال�سي��د الأ�صم» الذي يهديه اىل «وق��ع احلجارة» ،وحتديدا يف
ليعريها ويك�شف انهزامها ،و�صممها املرتتب عليه عدم �سماع املقطع ال�سابع منه� ،إ ْذ يقول:
النداءات املر�سلة �إليه من القد�س. «وارتقى �سدرة املنتهى
وا�شتهى حلظة للو�صال
.4االستخدام العكسي لداللة املرجع :
ظلت القد�س ترنو له
وي�أتي اجلانب الآخر من تعامل ال�شاعر مع اخلطاب القر�آين
-وه��و ارتباط��ه مع الق�ضي��ة ال�سيا�سي��ة -يف �إطار م��ا ي�سمى (�أن تعال).
باال�ستخدام العك�سي ملالمح الرتاث ،ويتمثل هذا الأ�سلوب فا�ستوى حجرا وبكى
يف ا�ستخ��دام املالم��ح القر�آنية يف التعبري ع��ن معان تناق�ض وكفى (امل�ؤمنني) الرجال
املدلول للآيات القر�آنية ،ويهدف ال�شاعر من ا�ستخدامه لهذا (((
�رش ما يف القتال».
الأ�سل��وب يف الغالب �إىل توليد نوع م��ن الإح�سا�س العميق �إن هذا امللفوظ يوحي مبدى التخاذل املخزي الذي ي�صور
باملفارق��ة بني املدلول الرتاث��ي للقر�آن والبع��د املعا�صر الذي أ�صم ،ترنوا �إليه القد���س باملجيء لتخلي�صها من قب�ضة
ي�ستخدم��ه يف التعبري عنه((( ،على نحو ما يجد القارئ يف قول �سيدا � َّ
املحت��ل ،فيتح��ول �إىل حجر ويبك��ي ،بعد �أن ارتق��ى �سدرة
ال�شاعر من ن�ص «مرثية واغتيال ع�ش ال�سفر املغناج»(((: املنته��ى ،وظل يحلم بلحظة للو�ص��ال� ،إن دال «ارتقى �سدرة
«كان يروي لنا: املنتهى» ي�ستدعي �إىل الذاكرة قوله تعاىل:
�أنه واحد يغفر الذنب َ َْ ً ُ
ن��د ِس ْ
��د َر ِة ��ة أ ْخ َ
��رى{ِ }13ع َ { َول َ َق ْ
��د َرآه ُ نزل
�أو ي�سرت العيب� ،أو... مْالُن َْت َهى{.(((}}14
ثم ها هو ذا يرتاجع، ف�إذا كان��ت الآية حتكي عن ذات مقد�س��ة وهي �شخ�صية
يرتك �سلطته الر�س��ول الك��رمي ،وتربئه��ا من تق��والت �شتى �أ�سنده��ا �إليه
255 ((( ينظر علي ع�شري زايد ا�ستدعاء ال�شخ�صيات الرتاثية يف ال�شعر العربي: 28 ((( بوزيد حرز اهلل :الإغارة:
((( بوزيد حرز اهلل /الإغارة39 : ((( النجم� :آية14 ،13 :
115 114
في�ستدعي قوله تعاىل: للذي فاج�أ الأر�ض والعر�ض
ُ
يم }(((. ح ُن ا َّ
لر ِح ُ د الَّ ِإلَهَ ِإالَّ ُه َو ا َّ
لر مْ َ م ِإلَهٌ َو ِاح ٌ
{ َو ِإلَـهُك ْ وال�شهداء»..
(((
لي�ش��ي مبدى قب��ح ت�أليه هذه ال�سلط��ة الب�شرية ،الناجت عن فهو ي�ستدعي �إىل الذاكرة الأ�سماء احل�سنى ،التي ت�ستدعي
ت�ضخيم نف�سها لدى ال�شعب ،بالفعل وبالقوة من جهة ،وي�شي معه��ا �سلطة ال��ذات العليا ،ولكنه ي�ستخدمه��ا عك�سيا ليبني
مبدى فراغ هذه ال�سلطة الب�شرية عندما حتني �ساعة جد ما من املفارقة بني �سلطتني اثنتني؛ ال�سلطة الإلهية القادرة على كل
جهة �أخرى. �شيء ،وبني ال�سلط��ة الب�شرية الفاقدة ملوا�ضيع القيمة املتمثلة
ويف ن�ص «�ص��ورة للبحر ..و�سورة للأحزان»((( ثمة توظيف يف الإقدام واحلزم� ...إلخ ،وتزداد املفارقة حدة حني يكت�شف
للق��ر�آن الكرمي يتجل��ى من العنوان وحتدي��دا يف دال «�سورة» القارئ �أن الذات املت�سلطة الب�شرية تفر حينما يداهم الأر�ض
املحم��ل بتاريخه املتعل��ق بالقر�آن ،فحني ي�سم��ع املتلقي دال والعر���ض كائن م��ا ،كعادة الزعماء الذين يف��رون بعد توريط
َّ
«�س��ورة» ي�سمع معه دالالت قر�آنية ،وحينم��ا يقر�أ هذا الدال �شعوبه��م ،وتركهم وحده��م يف �أر�ض املعرك��ة .وي�صور مدى
يقر�أ معه دالالت قر�آنية ب�شكل �أو ب�آخر ،وي�أتي يف املقطع الرابع تخاذله يف حلظات اجلد ،وحتايله على �شعبه� ،إ ْذ يقول:
توظي��ف مللفوظ قر�آين فيه �سخرية م��ن ال�سلطة(/الكبار)� ،إ ْذ «كان يروي لنا،
يقول: �أنه واحد
«هل �أتاك حديث الكبار؟ و�سوا�سية ه�ؤالء العباد
را�سمي الليل يف ق�سمات النهار. ثم هاهو يجمع �شلته
ويهدد �-سبحانها من �شفافية-
مبدعي كل �شيء
ويفرق
�سوى �أن يظل ال�صفاء يف عيون ال�صغار.
واختارنا لل�سواد»(((.
.163 ((( البقرة� ،آية: .40 ((( امل�صدر نف�سه:
((( بوزيد حرز اهلل ،الإغارة.83 : ((( امل�صدر نف�سه.42 :
117 116
ف�إنه��ا يف امللفوظ ال�شع��ري تك�سر �أفق املتلقي بع��د �أن تهيئه عد �إىل �صمتك الآن
ل�سماع �أخبار «الكبار» لفظا ،ال�صغار معنى ،فهم «را�سمو الليل ال تنتظر.
يف ق�سم��ات النهار» ،ف�إذا كان اللي��ل رمزا للرجعية والتخلف عانق البحر واقر�أ عذابك
وامل��وت وال�سكون وانعدام الر�ؤية ،عل��ى عك�س النهار الذي (((
يف كل ما يحتوي من �صور».
يرم��ز �إىل احلرية واالنطالق و�شدة و�ض��وح الر�ؤية ،ف�إن ه�ؤالء
ف���إذا كان الن�ص ينفتح على م��ا ال يح�صى من الن�صو�ص
الكبار ير�سمونه يف ق�سمات النهار وبذلك يطم�سون به احلرية،
ف���إن (هل �أتاك حدي��ث )..ينفتح على �آي��ات �شتى من �سور
ويحلون حملها العبودية� ...إلخ ،فهم «مبدعو كل �شيء» �سوى
متعددة منها:
احلرية والطم�أنينة يف عيون ال�صغار. { َوه َْل أتَ َ َ
ُوسى}
((( د ُ
يث م َ اك َح ِ
َ
يم مْال ُ ْك َر ِم َ
�إن ال�شاعر بوزيد حرز اهلل حينما ي�أتي بتوظيفات م�ستمدة د ُ {ه َْل أتَ َ
ني }
(((
يث َضيْ ِف ِإب ْ َر ِاه َ اك َح ِ
م��ن اخلطاب القر�آين؛ ف�إنه ي�أتي به��ا لأحد �أمرين �إما لتدعيم د ُ {ه َْل أتَ َ
(((
ُوسى}
يث م َ اك َح ِ
ق�ضي��ة قومية ،وحتميلها قيمة روحي��ة ،و�إ�ضافة قيم قد�سية لها، َ
و�إما لتعري��ة ال�سلطة ،ينتقي منها ماله وجود مرتاكم يف ذاكرة
(((
يث جْالُ ُنودِ }
د ُ {ه َْل أتَ َ
اك َح ِ
{ه َْل أتَ َ َ
الق��ارئ ،فيك�سر التوقع لدي��ه حينما ي�ستخ��دم هذا الرتاث
(((
يث ال ْ َغ ِ
اش َي ِة } د ُاك َح ِ
ا�ستخدام��ا عك�سي��ا� ،إ ْذ يفرغ دالالت��ه القارة في��ه ،ويحملها ف�إذا كانت هذه اجلمل��ة املفتاحية يف الآيات القر�آنية تهيئ
دالالت مناق�ضة لها؛ لي�صور عمق املفارقة القائمة بني زمنني، القارئ لتلقي �أخبار ق�ص�صية ،وحكايات تاريخية ب�شكل جاد،
وبني خطابني ،وبني �أيديولوجيتني حتمالن مفارقات �شتى. .86 ((( امل�صدر نف�سه:
((( طه� ،آية.9 :
119 118
خامس ًا :
الوعي النسوي يف نص
(((
«مقاس عربي»
- 1توطئة:
يتجلي الوعي الن�سوي يف ال�شعر الن�سائي اليمني عرب ق�ضايا
ومظاهر ن�سوية متعددة ،ت�شكل يف جمملها خ�صائ�صه و�سماته
املحورية ،كق�ضية عالقة ال��ذات بالآخر ،وان�شراخات الأنوثة
الناجتة عن النظ��ام االجتماعي الأب��وي ال�ضاغط ،ومناه�ضة
العن��ف الذكوري ،وتعري��ة الأن�ساق التقليدي��ة االجتماعية،
والثقافي��ة ،والتاريخية ،وف�ضح هيمنتها ،وحماولة املر�أة امتالك
الهوي��ة واحلرية ،وت�أ�سي���س نف�سها ذاتا م�ستقل��ة مقابل الآخر
املتعايل ،وتظهر جملة من هذه الق�ضايا �أو كلها كمهيمنات يف
�شعر كل من «ابت�سام املتوكل»« ،هدى �أبالن»« ،نبيلة الزبري»،
و«منى جني��ب حممد» ،و«�سو�سن العريق��ي» ،و«ليلى �إلهان»،
بينم��ا تختفي كمهيمنة يف �شعر جمموع��ة من ال�شاعرات كـ
«مي�سون الإرياين» و«غادة احل��رازي» و«مليحة الأ�سعدي»(*)،
و�أخري��ات ،ويعود ذلك �إىل درجة الوع��ي بالذات من جهة،
((( �سو�سن العريقي� ،أكرث من الالزم� ،صنعاء( ،طبعة خا�صة) ط2007 ،1 :م.16 - 11 :
(*) ه��ذه الأ�سم��اء كنماذج دالة فح�س��ب ،ولي�ست نهائية ،فامل�شه��د الإبداعي اليمني
املعا�صر ي�ضج بالأ�سماء الن�سائية والن�سوية معا.
121
وقب��ل �أن نتناول هذا الن���ص �سن�شري �إىل �أه��م مرتكزات والآخر والعامل من جهة ثانية ،بالإ�ضافة �إىل ال�شعور با�ستالب
النظري��ة الن�سوي��ة ،ونعم��د �إىل ف�ض اال�شتب��اك احلا�صل بني الهوية ،وعنف التج��ارب التي تعانيها الذوات �أو يعاي�شنها �أو
امل�صطلح��ات املتعلقة به��ذه النظرية ،ومن ث��م تو�ضيح ماهية ي�سمعن عنها فتنعك�س كلها على �إبداعاتهن ب�شكل �أو ب�آخر.
الكتاب��ة الن�سوي��ة ،والن�سائي��ة ،حتى يت�سنى لن��ا ال�سري وفق ت�سعى ه��ذه القراءة �إىل ا�ستكناه بع���ض من هذه املالمح
طريق حمدد ،وطريقة وا�ضحة غري مرتبكة. يف ن���ص «مقا�س عربي» لل�شاع��رة اليمنية «�سو�سن العريقي»،
كنموذج لوع��ي الأديبة اليمنية بالق�ضاي��ا الن�سوية و�أبعادها،
- 2يف إشكالية النظرية النسوية:
وقدرتها على متثلها و�إنتاجها ب�شكل ما عرب ن�صو�صها الإبداعية،
لقد �أ�صبحت الن�سوية يف الوقت الراهن نظرية مكتملة الر�ؤى واختيار هذا الن�ص منوذجا ي�أتي جلملة من الأ�سباب� ،أولها �أن
والأف��كار واالجتاه��ات واملالم��ح ،بالرغم مما �صاحبه��ا -وما زال ه��ذا الن�ص ينبني على ف�ضاء ن�سوي بدرج��ة �أ�سا�س ،ويعالج
ي�صاحبه��ا -من تعدد يف الطروحات وزواي��ا النظر ،ومع ذلك مل ق�ضاي��ا عالقة الذات مع الآخر ،وك��ذا الأن�ساق االجتماعية،
تزل ثمة ارتباكات م�صطلحية متعددة فيها� ،إذ هنالك من ي�سميها والثقافي��ة ،الق��ارة ،وانعكا�ساته��ا على الذات م��ن الداخل،
بالن�سوي��ة و�آخر بالن�سائية وثالث بالأنثوي��ة ،وتظهر �إىل جوار هذه وك�شف فر�ض هيمنة هذه الأن�ساق عليها بطريقة جتعلها تر�ضخ
امل�صطلحات الثالثة م�صطلح��ات جماورة متعددة كـ «احلرملك» للواق��ع كما هو خارجيا ،يف حني تدين��ه وتنبذ ت�سلطه داخليا
و«احلرميي��ة» وغريها ،وثمة من يخلط بني هذه كلها وك�أنها مرتادفة عل��ى نحو ما �سرنى ،بالإ�ضاف��ة �إىل عمومية هذا الن�ص وعدم
ومت�ساوية ويحل بع�ضها حمل الآخر �أو يقوم مقامه وي�ؤدي وظيفته ارتباطه بزمن �أو مكان معينني �أو بذات بعينها� ،إنه -كما يبدو
املنوطة به ،وهو ما جعل باب الفو�ضى امل�صطلحية م�شرعا على �آفاق م��ن عنوانه -ميتد يف الف�ضاء العرب��ي عموما ،ويغفل الت�سمية
�شتى ،ودعا الكثري من املتلقني �إىل التوج�س من هذه امل�صطلحات؛ واحلدود ال�ضيقة ،مما يجعل الذات مو�ضوع التناول فيه معادال
لأنها بارتباكاتها هذه وعدم ت�أطريها وتو�ضيح دالالتها ت�أتي م�شحونة رمزي��ا للمر�أة العربي��ة التي تعاين الهم نف�س��ه ،فهو دال املر�أة
بالكثري من دالالت االحتقار للم��ر�أة ،ولكل ما تكتبه ،وكذلك امل�ضطه��دة ،ودال الن�س��اء املقموعات خارجي��ا ،واملتذمرات
بالتميي��ز اجلنو�سي والتحيز ،وكل ذلك ن��اجت عن عدم الر�ؤية �إىل داخليا ،وهو دال املناه�ضة لكل متييز وعنف �ضد املر�أة ،وباملقابل
النتاجات والن�صو�ص والأفكار من الداخل وفق نظرية ت�ستجليها ف�إنه يجعل الآخر فيه داال للرجل املت�سلط ،والتقليدي ،وكذا
يف حد ذاتها بغ�ض النظر عن ك َّتابها ،رجاال كانوا �أم ن�ساء. النظام االجتماعي الأبوي ب�شتى �صوره وعنفه.
123 122
عن كاتبها ذكرا كان �أو امر�أة ،فكل ما تكتبه املر�أة ن�سائي ولي�س وعل��ى الرغم من كل ذلك فقد ميزت الكاتبة «توريل موي»
كل م��ا تكتبه ن�سويا»(((؛ لأن الكتاب��ة الن�سوية قد يكتبها رجل وكذلك «�سارة جامبل» و«بام موري�س»((( بني ثالثة م�صطلحات،
�أي�ضا� ،أم��ا الكتابة الن�سائية ف�إنها كل ما تكتبه املر�أة بغ�ض النظر هي «الن�سوي��ة» و«الن�سائية» و«الأنثوية» ،ففي ح�ين ي�أتي الأول
عن تيمات��ه وتوجهاته الإيديولوجي��ة �أو الفكرية ،فن�ص «مقا�س -كم�صطلح -داال على نظرية تنه�ض على �أ�س�س مناه�ضة العنف
عربي» ن�سائي لأن كاتبته امر�أة ،ون�سوي لأنه ي�شتغل على ق�ضايا الذكوري املوجه �ضد املر�أة ،ومعاجلة ق�ضاياها ،والوقوف �إىل جانبها،
ن�سوية معينة. و�إعادة النظر يف الأن�ساق املتعلقة بهذا املجال بغية �إقامة نظام عادل
ي�سعى �إىل �إزالة الفوارق بني اجلن�سني ،ي�أتي الثاين كم�صطلح ف�إنه
- 3أشكال عالقة الذات باآلخر: ليدل على قيمة بيولوجية من حيث هو ا�سم جمع للمر�أة ولي�س
يرتبط احلديث ع��ن الآخر((( بالهوية واالختالف� ،إ ْذ بهما حامال للقيم الأيديولوجية ال�سابقة� ،أما الأخري (الأنوثة والأنثوية)
تت�ضح مالمح ال��ذات ،وتتحدد من ثم �ص��ورة الآخر ،الذي ف�إنه دال على ن�سق ثقايف حتدده التن�شئة ،وي�ؤطره املجتمع عندما
يع��د كل ما هو �ضدنا ،وكل ما يق��ع خارجنا ،وما يختلف عنا يف��رز جمموعة م��ن ال�صفات واملح��ددات التي يل�صقه��ا باملر�أة
بيولوجيا �أو �أيديولوجيا �أو اجتماعيا ،...ونق�صد به هنا «الرجل» كاحلياء واخلجل والدالل ،...وبذلك ينماز كل م�صطلح منها عن
يف مقاب��ل الذات التي متثله��ا املر�أة� ،إ ْذ ت�سع��ى الكاتبات يف الآخر مبيزة معينة� ،أو مبجموعة مزايا متعددة تفرده وجتعله ي�شتغل
ن�صو�صه��ن �إىل �إبراز ه��ذا الآخر عرب ت�صوي��ر «ذواتهن نتيجة وفق ن�سق خمتلف ال يلتقي مع الآخر �إيديولوجيا وفنيا البتة.
خ�سرانه��ن لرهانات عاطفي��ة متثل اجنراح��ا للأنوثة/وللذات ومن هنا ف�إنه «ينبغي �أن ال نفهم �أن كل ما تكتبه الن�ساء يعد
الأنثوي��ة يف وجدانه��ا كما يف ذهنيتها وذاكرته��ا»(((� ،أو التنب�ؤ بال�ض��رورة ن�سويا ...ف�إن الكتابة الن�سوية هي الكتابة التي تتبنى
الدفاع عن ق�ضايا املر�أة ،وتفكيك امل�شروع الأبوي ،بغ�ض النظر
((( ع�صام وا�صل ،احلركة الن�سوية ..الر�ؤى واملالمح ،جملة انزياحات ،مركز انزياحات
للتنمية الثقافية ،اليمن ،ع2010 ،4 :م ،هام�ش ال�صفحة رقم.81 : ((( ينظر :توريل موي ،الن�سوية والأنثى والأنوثة ،تـ :كورنيليا اخلالد ،الآداب الأجنبية،
احتاد الكتاب العرب ،دم�شق ،ع ،76 :ال�سنة التا�سعة ع�شرة ،خريف1993 :م،25 ،24 :
((( ينظر :طوين بينيت ،و�آخران ،مفاتيح ا�صطالحية جديدة -معجم م�صطلحات الثقافة
و�سارة جامبل ،الن�سوية وما بعد الن�سوية ،تـ� :أحمد ال�شامي ،املجل�س الأعلى للثقافة،
واملجتمع ،تـ� :سعيد الغامني ،املنظمة العربية للرتجمة ،بريوت ،ط2010 ،1 :م.44 - 41 :
امل�شروع القومي للرتجمة ،القاهرة ،ط2002 ،1 :م ،337 - 335 :وبام موري�س ،الأدب
((( بو�شو�شة بن جمعة ،الرواية الن�سائية التون�سية� -أ�سئلة التحول ،احلداثة ،واخل�صو�صية، والن�سوية ،تـ� :سهام عبد ال�سالم ،مراجعة وتقدمي� :سحر �صبحي عبد احلكيم ،املجل�س
الراوي ،النادي الأدبي الثقايف بجدة ،ال�سعودية ،ع ،20 :مار�س2009 :م.115 : الأعلى للثقافة ،امل�شروع القومي للرتجمة ،القاهرة ،ع ،474 :ط2002 ،1 :م.29 :
125 124
ترتبط �صورة عالقة الذات بالآخر يف ن�ص «مقا�س عربي»، مب�صري م�أ�ساوي للعالقة مع الآخر� ،أو �إبراز ت�سلطه و�أبويته عند
بالقل��ق الوجودي املقرتن ب�سطوة ان�ش��داد الذات �إىل الآخر، حماولة احتوائه لها ،وعدم الف�صل بينه وبينها كذات م�ستقلة
برغم حماولة االنف�صال عن��ه ك�آخر مت�سلط بـ «رجولته» التي له��ا خ�صائ�صها ور�ؤاها و�أفكارها وحياتها الإن�سانية اخلا�صة� ،أو
متث��ل عامال معيقا للآخر قب��ل �أن تكون معيقا للذات يف حد �إظهار مدى الغربة بني كل منهما فكريا وفيزيائيا� ،أو ر�سم خط
ذاته��ا� ،إنها تقوم مبحاولة ت�أ�سي���س نف�سها كذات م�ستقلة عنه، دفاع��ي م�ضمر ت�سعى من خالل��ه �إىل تعرية ما يقوم به الآخر
ولكنها تعود يف النهاي��ة �إىل �صورتها النمطية التي ر�سمها لها م��ن ممار�س��ات �ضدها بغية جت��اوز هذه املمار�س��ات �أو الإتيان
املجتم��ع ،ويريدها لها الآخر؛ لأن �شيئا م��ا ُت َعبرِّ ُ عنه يف فاحتة ببديل عنها.
الن���ص بـ «هيكلي املتوارث» ،ويف خامتت��ه بـ «ظلي الأعمى»، �إن �أول ملمح يتمظهر في هذا الن�ص هو انبنا�ؤه على قاعدة
يبق��ى يف داخله��ا وي�شدها �إىل الآخ��ر ،ويعيده��ا �إليه كجزء �إيديولوجي��ة تتجلى من خالل مجموعة من الخ�صائ�ص التي
منه م��ن جديد ،ولعل دا ّيل «املت��وارث» و«الأعمى» حامالن تبي��ن عالقة ال��ذات (المر�أة) ككي��ان م�ستقل ل��ه توجهاته
�إيديولوجيان يرم��زان المتداد الأن�ساق االجتماعية وهيمنتها و�سمات��ه الم�سلوبة مع الآخر (الرجل) ،ال��ذي يظهر ككيان
دال على اال�ستمرار عل��ى الذات من الداخل ،فـ «املتوارث» ٌّ ي�سعى �إل��ى احتوائها دائما ،وتدجينه��ا ،وتحويلها �إلى مجرد
والتوالد وااللت�صاق اجلامد والت�سليم بكل ذلك على جموده، تاب��ع له ،ون�سخة منه ،وي�أتي ذل��ك عبر حوامل لغوية م�شفرة،
وهو ل�صيق باملجتمع بو�صفه «الآخر اجلمعي» ،بينما «الأعمى» ت�ضمر مجموعة من الأن�ساق االجتماعية والثقافية والتاريخية
دال عل��ى احتجاب الر�ؤية ،والتوق��ف ،واالنقطاع ،والوحدة، المتحي��زة ذكوري��ا للرجل �ضد المر�أة ،وتظه��ر من جهة ثانية
وه��و ل�صيق بال��ذات بو�صفها املعادل الرم��زي للذات/املر�أة كيف �أن المر�أة بوا�سط��ة كل هذه الأن�ساق الذكورية تتحول
عموم��ا ك��ـ «ذات جمعية» ،فربغم حم��اوالت ان�سالخها عن �إل��ى قامعة لذاته��ا ،عاجزة عن تجاوز المعيق��ات الخارجية؛
الآخ��ر وخروجها ع��ن دائرته يظ��ل هذا االن�س�لاخ يف �إطار لأنها ق��د �أ�صبحت ل�صيقة به��ا من الداخل نتيج��ة للتن�شئة
م�سلم��ة «احلاجة /الظاهرية (ال�شكلية)� /إىل الآخر» و�ضرورة �أوال ،وللأع��راف المتوارثة والمتوا�ض��ع عليها اجتماعيا ثانيا،
البق��اء معه ،والع��ودة �إليه بعد حماولة االن�س�لاخ عنه؛ لأنها فتكبله��ا كلما حاول��ت �أن تتخل�ص منها ،فه��ي «ظلها» وهي
ذات غري ق��ادرة عن التخلي عنه متاما «�أ�شع��ر بالوحدة /.... ٌ «هيكلها المتوارث» من وجهة نظر الن�ص.
127 126
�أرميه بوابل من ال�رصاخ الراق�ص �أتلذذ بطعم الإعادة� ،»..إ ْذ ال ميكن �أن يكون التخلي التام عنه
يت�ساقط الأمل املتفجر جمديا؛ لأن ذل��ك معناه االنعزال ،واالنكف��اء على الذات،
� شهقة.. واالغرتاب االجتماع��ي والنف�سي ،يف حني �سيكون املجدي
� شهقة».. نابعا من تخلي الآخ��ر عن املركزية الأبوية التي يتكئ عليها،
وي�أتي يف خامتة الن�ص: وميار�سه��ا كواجب من واجب��ات «الرجولة التي جتلده قبل �أن
«�أتهجاك جتلدها».
�أدخل مرة �أخرى
- 4تشفري البنى وتعرية األنساق:
يف كينونة احللم املمتد
�إن الن�ص يربز هاتني التيمتني (حماولة االنف�صال عن الآخر
براكني �ضوئية يف دهاليزك ..
وف�شلها عن القي��ام بذلك) منذ الفاحتة الن�صية وي�ستثمرها يف
لكني هذه املرة
اخلامت��ة كذلك؛ لي�صبح ن�ص��ا دائريا ،يعتم��د �أوال على �إظهار
ال �أتعرث
ن�سقي��ة املتوارث ،وتقليدي��ة املجتمع ،وثانيا عل��ى �إظهار حتول
�إال بظلي الأعمى
هذه الأن�ساق �إىل داخ��ل الذات نف�سها ،ب�سبب هيمنة الفعل
الذي ي�سبقني �إليك»!..
الثق��ايف واالجتماعي من حوله��ا (املت��وارث) ،كرمز لتحول
�إن «املتوارث» يف املفتتح متعلق بـ «هيكل الذات» ،و»العمى» القه��ر اخلارجي �إىل داخلي ،وحت��ول ال�ضغط من املجتمع ذاته
يف النهاية متعلق بـ «ظلها» ،وكالهما فاعالن خارجيان� ،أي �أنهما �إىل ال��ذات نف�سه��ا ،فيكون املعي��ق حينئذ مزدوج��ا خارجيا
يكمن��ان على مبعدة من دواخلها التي ترف�ض الفعل الن�سقي، (املجتمع) ،وداخليا (الذات نف�سها) ،ي�أتي يف فاحتة الن�ص:
وهيمنة الآخر نف�سه ،وفعله الذي يتغيا حتويلها �إىل م�سخ �أو �شبيه «يف ا�صطخاب امل�ساء
بامل�سخ� ،أو فلنقل �إىل �شبيه بالآخرنف�سه ،وعلى مقا�سه هو: بعروق من ال�ضحك الف�ضي
«�أدخل يف كينونة احللم املمتد �أمللم امل�سامات النائية
براكني �ضوئية يف دهاليزك عن هيكلي املتوارث
129 128
�أم��ا بنية الن���ص الواقعة ما ب�ين هاتني البنيت�ين (الفاحتة لكني �أتعرث ب�أزمنتك الظامئة
واخلامت��ة) ،ف�إنها حتدد �أبع��اد عالقة الذات م��ع الآخر بو�صفه �إىل �إعادة �صياغتي على مقا�سك»
مهيمنا يحاول �إعادة هيكلة الذات (املر�أة) وفقا لر�ؤاه و�أفكاره، فالهيكل معجميا هو الإط��ار اخلارجي �أو البناء املورفولوجي/
ووفقا لتاريخه الإيديولوجي املحدد ن�سقيا �سلفا ،وتقوم بذلك ال�شكلي للكائن ،بينما الظل هو ال�شبيه املنعك�س عن طريق ال�ضوء
وف��ق طريقة درامية مت�أزمة تعك�س ال�ص��راع الداخلي للذات
وما ي�ؤول �إليه خارجيا من انك�سار ومن خ�ضوع ل�سلطة الآخر: امل�سلط عليه من اخلارج ،وهي بذلك ت�صر على �إل�صاق الرتدد يف
اتخاذ قراراتها ب�ش�أن حتديد م�صريها ،وكذا تيمة العودة �إىل الرجل
«�أدخل يف كينونة احللم املمتد
بعد طول تفكري يف االنف�صال عنه باملظاهر ال�شكلية اخلارجية لها،
براكني �ضوئية يف دهاليزك �أي �أنه��ا م�سلمات اجتماعية حتمية ال متث��ل قناعاتها النابعة من
لكني �أتعرث ب�أزمنتك الظامئة الداخل ،وهو ما يدل على انف�صال الذات نتيجة للهيمنة الذكورية
�إىل �إعادة �صياغتي على مقا�سك التي ي�صعب جتاوزه��ا كليا من وجهة نظر الن�ص؛ لأن ذلك معناه
�أتعرث بقامة رجولتك االنعزال عن املجتمع والوحدة والغربة فيه كما �أ�شرنا.
التي جتلدك
قبل �أن جتلدين - 5حتول األنساق اخلارجية وهيمنتها على الذات
لذلك، من الداخل:
�ألوذ بامل�سافات القريبة من بوابة الن�سيان �إذا كانت فاحتة الن�ص تعالج الق�ضية يف بعدها االجتماعي العام
ف�إنه��ا يف اخلامتة تعاجلها يف م�ستواها الذات��ي اخلا�ص� ،إذ تنعك�س
�أتكوم �ضوءاً يطهرين من مياهك الآ�سنة
ممار�سات الأن�ساق االجتماعية والثقافية القارة من داخل الذات
� أ�ستعيد �أنفا�سي نف�سه��ا ،لتتحول من اخلارج �إىل الداخل ،ومن العام �إىل اخلا�ص،
� أمللم ما تبقى من حوا�سي كدالل��ة على مدى �سطوة هذه الأن�س��اق و�سلطتها عليها ،وعلى
� أ�ستفي�ض ندا ًء متو�س ً
ال عدم مقدرتها يف التخل�ص منها لأنها �إن فعلت ف�ستكون النتيجة
ملحكمة القلب الطينية انك�سارها ،بينما يظل الآخر على هيمنته وت�سلطه غري ف َّعالٍ وغري
� أن تنقي دمي من �سطوة خالياك متحرك وغري را�ض با�ستقالل الذات اجتماعيا وفكريا ونف�سيا عنه.
131 130
تبع��ا لذلك عنف ال�صراع مع الذات ،ون�ص��ل معها �إىل �أوجه، � أجل�أ �إىل مترينات التنف�س
ث��م نعود مع ال��ذات �إىل االنحدار من الت�صاع��د �إيذانا بالعودة كي �أطلقك من �صدري
�إىل نقطة الب��دء املهيمنة ،فالذات حتاول الدخول فتتعرث ،وتلوذ دمعة..
بامل�سافات القريبة من بوابات الن�سي��ان وتتطهر من مياه الآخر دمعة..
الآ�سن��ة ،وتتو�سل لتنقية دمها من �سطوة خالياه ،وتلج�أ للتمرن �أتكد�س يف الركن الق�صي من �ضوئي
عل��ى التنف�س لإطالقه من �صدرها ،ولكنها يف كل ذلك ت�شعر
الذي مل ت�صل �إليه جنومك
بالوحدة ،وتطفو على ال�سطح الذاكرة لي�صبح املرجع �أبديا.
�أخاتل ال�صمت املنبوذ يف �أ�ضلعي
�إن ه��ذا امللفوظ بذلك يربز مدى ال�صراع القائم بني الذات .......................
وذاتها فكريا ونف�سيا ،وبينها وبني الآخر ،عرب م�سار �صوري يحدد ........................
�ضعف ال��ذات ،مقابل �سلطة وق��وة وق�سوة الآخ��ر (الرجل/ �أ�شعر بالوحدة....
املجتمع) على نحو-« :دهاليزك -مقا�سك -رجولتك -مياهك �أتلذذ بطعم الإعادة..
الآ�سنة �-سطوة خالياك ،»...معظم مكونات هذا امل�سار ال�صوري ..........................
ت�أتي �صفة �ضمنية للآخر �أو �شبه �صفة له ،وهي يف معظمها حتيل للذاكرة ثقوب �إ�سفنجية
�إىل «هيكل��ي املتوارث» ،بو�صف ه��ذا الهيكل نتاجا اجتماعيا حينما متتلئ بال�ضو�ضاء
وثقافي��ا وتاريخي��ا جعلها على ه��ذه ال�صفة وعلى ه��ذا البعد يظل مرجعها �أبديا.».
الهيكلي ،املجرد من الروح ،كل هذه ال�صور امل�شفرة �إيديولوجيا
ينه���ض ه��ذا امللفوظ على جمموع��ة من املتوالي��ات التي
وثقافي��ا واجتماعيا حتمل معها ن�سقا ح�ضاريا منفتحا على �آفاق تت�أ�س�س على احلركة الدرامية املتوترة واملتواترة معا� ،إ ْذ تقوم كل
التاري��خ الذكوري الأبوي املهيمن ،ويعي��د �إىل الذاكرة ال�صور متوالي��ة منها على فعل ي�ؤ�س�س حل��دوث �آخر ،فدخول الذات
النمطية للمر�أة منذ بدء اخلليقة ،وي�ستبطن الأبعاد الرمزية التي يف كينونة احللم املمتد ي�ؤدي �إىل التعرث ب�أزمنة الآخر التقليدية،
�ساهمت يف ر�س��م مالمح هذه ال�صور النمطية ب�شكل �أو ب�آخر، واملتعط�شة لتدجينها و�سلب كينونتها كذات لها هويتها وطم�س
وقد عمدت الكاتبة �إىل �شَ ْح ِن هذا الن�سق �إيديولوجيا ،ومن ثم هذه الهوية ،ثم ي�ستم��ر الت�صاعد يف بنية الن�ص دراميا لنعي�ش
133 132
�أرميه بوابل من ال�رصاخ الراق�ص ت�شف�يره ،بحيث ي�صعب الو�صول �إىل خباي��اه الداللية �إال بعد
يت�ساقط الأمل املتفجر لأي ،وحفر ،من جهة ،وهربا من �سلطة القارئ ،ورقابة املجتمع،
� شهقة .. من جهة �أخرى.
� شهقة .. و�آخر م��ا ميكن قوله هن��ا �أن الن�ص يعمل عل��ى ا�ستبطان
�أدخل يف كينونة احللم املمتد وتكثيف جملة من الق�ضايا الن�سوية ،ويعاجلها عرب �إبراز عالقة
الذات بالآخر ،التي ت�ؤول يف النهاية �إىل فقدان مو�ضوع القيمة
براكني �ضوئية يف دهاليزك
امل�ستهدف من قبله��ا ،واملتمثل يف امتالك احلرية واالنف�صال
لكني �أتعرث ب�أزمنتك الظامئة عن الآخر املت�سل��ط ،كنوع من رف�ض ممار�سته املوجهة �ضدها،
�إىل �إعادة �صياغتي على مقا�سك واملتمثل��ة يف حماول��ة حتويله��ا من كينونته��ا ،و�سلبه��ا ذاتها
�أتعرث بقامة رجولتك وطم�س هويتها ،وهي بذلك تتجل��ى �ضحية للآخر بعموميته
التي جتلدك (املجتم��ع) ،و�ضحي��ة للذات نف�سها بع��دم قدرتها على جتاوز
املعيقات وحتقيق عامل االنف�صال عن الآخر.
قبل �أن جتلدين
لذلك،
النص احمللل
�ألوذ بامل�سافات القريبة من بوابة الن�سيان
�أتكوم �ضوءاً يطهرين من مياهك الآ�سنة مـقـاس عــربي
� أ�ستعيد �أنفا�سي
� أمللم ما تبقى من حوا�سي يف ا�صطخاب امل�ساء
� أ�ستفي�ض ندا ًء متو�س ً
ال بعروق من ال�ضحك الف�ضي
ملحكمة القلب الطينية �أمللم امل�سامات النائية
� أن تنقي دمي من �سطوة خالياك عن هيكلي املتوارث
135 134
لكني هذه املرة �أجل�أ �إىل مترينات التنف�س
ال �أتعرث كي �أطلقك من �صدري
�إال بظلي الأعمى دمعة ..
الذي ي�سبقني �إليك ! .. دمعة ..
سوسن العريقي: �أتكد�س يف الركن الق�صي من �ضوئي
أكثر من الالزم.16 - 11 : الذي مل ت�صل �إليه جنومك
�أخاتل ال�صمت املنبوذ يف �أ�ضلعي
.......... .............
........................
� أ�شعر بالوحدة ....
�أتلذذ بطعم الإعادة..
..........................
للذاكرة ثقوب �إ�سفنجية
حينما متتلئ بال�ضو�ضاء
يظل مرجعها �أبديا .
�أتهجاك
�أدخل مرة �أخرى
يف كينونة احللم املمتد
براكني �ضوئية يف دهاليزك ..
137 136
ثبت امل�صطلحات
فرن�سي-عربي
Le manque :االفتقار
(La performance) :الإجناز
(le programme narratif) :الربنامج ال�سردي
(anti-programme narratif) :الربنامج ال�سردي امل�ضاد
(la configuration discursive) :ال ّتجمع اخلطابي
(transformation) :التحويل
(l’état) :احلالة
Discours narrative :خطاب �سردي
(la narrativité) :ال�سردية
(sèmes) :�سمات
(les sèmes nucléaires) :ال�سمات النووية
(les figures) :ال�صور
Figure lexématique (lexème) :)ال�صورة املعجمية (الليك�سم
Figure léxemantique :�صورة لك�سيمية
Figure nucléaire :�صورة نواتية
(l’actant) :العامل
139 138
Sujet فاعل:
Sujet de Faire فاعل الفعل:
قائمة امل�صادر واملراجع )(la disjonction الف�صل:
Valeur قيمة:
)(La compétence الكفاءة:
.1القرآن الكريم. Carre sémiotique مربع �سيميائي:
.2أ.ج غرمي��اس ،الفواعل -املمثل��ون -الصور ،تـ :عبد الحميد بورايو، )(les parcours figuratifs امل�سارات ال�صورية:
ضمن كتاب الكشف عن املعنى يف النص الرسدي( ،النظرية السيميائية
الرسدية) ،دار السبيل للنرش والتوزيع ،الجزائر ،ط2009 ،1 :م.
Composante discursive مكون خطابي:
.3أ.ج .غرمي��اس ،و ج .كورتيس ،تعريفات اصطالحية ،تـ :عبد الحميد
Composante narrative مكون �سردي:
بورايو ،ضمن كتاب الكش��ف عن املعنى يف الن��ص الرسدي( ،النظرية Objet de valeur مو�ضوع قيمي:
السيميائية الرسدية) ،دار السبيل للنرش والتوزيع ،الجزائر ،ط2009 ،1 :م. (les unités minimales de la الوحدات الداللية ال�صغرى:
.4أبو القاس��م الحس�ين ب��ن محمد املع��روف بالراغ��ب األصفهاين، )signification
املف��ردات يف غريب القرآن ،تحقيق وضبط :س��يد كيالين ،دار املعرفة )(la conjonction الو�صل:
للطباعة والنرش والتوزيع ،د.ط ،د.ت.
)(la fonction الوظيفة:
.5بوزيد حرز الله ،اإلغارة ،منشورات ،ANEP :الجزائر ،ط2003 ،1م.
.6بوشوش��ة بن جمعة ،الرواية النس��ائية التونس��ية -أسئلة التحول،
الحداثة ،والخصوصية ،الراوي ،النادي األديب الثقايف بجدة ،السعودية،
ع ،20 :مارس2009 :م.
.7جان كلود جيرو ،ولوي بانينيه ،السيميائية نظرية لتحليل الخطاب،
تـ :رش��يد بن مال��ك ،مراجعة وتقدي��م :عز الدي��ن المناصرة ،ضمن
كتاب :الس��يميائيات أصولها وقواعدها ،منشورات االختالف ،الجزائر،
د.ط2002 ،م.
141 140
.17رشيد بن مالك ،قاموس مصطلحات التحليل السيميايئ للنصوص، .8جوزي��ف كورتيس ،األش��كال الخطابي��ة ،تـ :عبد الحمي��د بورايو،
عريب -إنجليزي -فرنيس ،دار الحكمة ،الجزائر ،د .ط2000 ،م. الكش��ف عن املعنى ،ضمن كتاب( :الرسديات والس��يميائيات) ،دار
.18رفي��ق العجم ،موس��وعة مصطلحات التصوف اإلس�لامي ،مكتبة السبيل للنرش والتوزيع ،د .ط ،الجزائر2009 ،م.
لبنان نارشون ،بريوت ،ط.1999 ،1 : .9جوزيف كورتيس ،مدخل إىل السيميائية الرسدية والخطابية ،تـ :جامل
.19س��عاد الحكيم ،املعجم الصويف -الحكمة يف حدود الكلمة ،دندرة ح�ضري ،الدار العربية للعلوم نارشون ،بريوت ،ومنش��ورات االختالف،
الجزائر ،ط2007 ،1 :م.
للطباعة والنرش ،بريوت ،ط1981 ،1 :م.
.10الجريادس جوليان غرمياس ،يف املعنى” ،دراسات سيميائية” ،تعريب:
.20سعيد بنكراد ،مدخل إىل السيميائية الرسدية ،منشورات االختالف،
نجيب غزاوي ،مؤسسة نزار حداد للطباعة ،الالذقية ،د.ط2000 ،م.
الجزائر ،ط2003 ،2 :م.
.11جريال��د برن��س ،قاموس الرسديات ،تـ :الس��يد إمام ،مرييت للنرش
.21سوس��ن العريقي ،أكرث من ال�لازم ،صنعاء( ،طبعة خاصة) ط،1 :
واملعلومات ،القاهرة ،ط2003 ،1 :م.
2007م.
.12خالد بلقاس��م ،أدونيس والخطاب الصويف ،دار توبقال للنرش ،الدار
.22صادق عيىس الخضور ،التواصل بالرتاث يف شعر عز الدين املنارصة، البيضاء ،ط2000 ،1 :م.
دار مجدالوي للنرش والتوزيع ،األردن ،ط2007 ،1م.
.13خديج��ة حس�ين أحم��د املغن��ج ،اس��تلهام الرتاث يف ش��عر عبد
.23ط��وين بيني��ت ،وآخ��ران ،مفاتي��ح اصطالحية جدي��دة -معجم العزيز املقال��ح ،الجمهورية اليمنية ،وزارة الثقافة والس��ياحة ،صنعاء،
مصطلح��ات الثقافة واملجتمع ،تـ :س��عيد الغامن��ي ،املنظمة العربية د.ط2004 ،م.
للرتجمة ،بريوت ،ط2010 ،1 :م.
.14خري الدين الزركيل ،األعالم -قاموس تراجم ألش��هر الرجال والنساء
.24عبد الحميد بورايو ،املس��ار الرسدي وتنظيم املحتوى ،دراس��ات من العرب واملستعربني واملسترشقني ،ج ،3 :دار العلم للماليني ،بريوت،
س��يميائية لنامذج من ألف ليلة وليلة ،دار الس��بيل للنرش والتوزيع، ط1980 ،5 :م.
الجزائر ،د.ط2008 ،م. .15دانيال باط ،املربع الس��يميايئ والرتكيب ال�سردي ،تـ :عبد الحميد
.25عبد العزيز املقالح ،أبجدية الروح ،الهيئة العامة للكتاب ،صنعاء، بورايو ،ضمن كتاب الكش��ف عن املعنى يف الن��ص الرسدي( ،النظرية
د .ط1998 ،م. السيميائية الرسدية) ،دار السبيل للنرش والتوزيع ،الجزائر ،ط2009 ،1 :م.
.26عب��د العزي��ز املقالح ،كت��اب األم ،وزارة الثقاف��ة ،الهيئة العامة .16رحاب الخطيب ،معراج الش��اعر ،مقاربة أس��لوبية لشعر طاهر
السورية للكتاب ،دمشق ،ط2008 ،1 :م. رياض ،املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،بريوت ،ط2005 ،1م.
143 142
.27عث�مان بدري ،وظيفة العنوان يف الش��عر العريب الحديث -قراءة
تأويلي��ة يف مناذج منتخبة ،املجلة العربية للعلوم اإلنس��انية ،الس��نة
الحادية والعرشون ،العدد الحادي والثامنون ،شتاء 2003م.
.28عصام واصل ،التناص الرتايث يف الش��عر العريب املعارص ،دار غيداء
للنرش والتوزيع ،األردن ،ط2011 ،1 :م.
5 -اإلهداء .29عصام واصل ،الحركة النس��وية ..الرؤى واملالمح ،مجلة انزياحات،
7 -مقدمة مركز انزياحات للتنمية الثقافية ،اليمن ،ع2010 ،4 :م.
.30عيل عرشي زايد ،اس��تدعاء الش��خصيات الرتاثية يف الشعر العريب
ال -القصيدة الثالثة من كتاب األم -قراءة سيميائية سردية 9 أو ً
املعارص ،منشورات الرشكة العامة للنرش والتوزيع واإلعالن ،طرابلس،
9 -مدخل
ط1978 ،1م.
14 -اخلصائص السيميائية جلمليت البدء واالختتام
15 أ .اجلملة البدئية .31فريق انرتوفرن ،التحليل الس��يميايئ للنص��وص -مقدمة/نظرية/
20 ب .اجلملة اخلتامية تطبي��ق ،تـ :حبيبة جري��ر ،مراجعة :عبد الحميد بوراي��و ،دار نينوى
25 -البنية السردية: للدراسات والنرش والتوزيع ،دمشق ،ط2012 ،1 :م.
25 .1البنية السطحية .32محمد الن��ارص العجيمي ،يف الخطاب ال�سردي ،نظرية جرمياس
26 أ .املكون الرسدي ( ،)Greimasسلس��لة مس��اءالت ،ال��دار العربية للكت��اب ،املغرب،
37 ب .املكون اخلطايب د .ط1993 ،م.
48 .2البنية العميقة
.33ناتايل بييقي-غروس ،مدخ��ل إىل التناص ،تـ :عبد الحميد بورايو،
49 أ .الوحدات الداللية الصغرى
دار نينوى للدراسات والنرش والتوزيع ،دمشق ،د .ط2012 ،م.
54 ب .املربع السيميائي
63 -نتائج .34نادية بوشفرة ،مباحث يف السيميائية الرسدية ،دار األمل للطباعة
والنرش والتوزيع ،تيزي وزو ،د.ط ،د.ت.
69 ثانيًا -اخلطاب الصويف ديوان «أجبدية الروح»
69 .1توطئة
71 .2العنونة كفضاء للتخييل الصويف
145
73 .3الرصاع بني الذات وعاملا املادي
77 .4املوت كوسيلة لاللتقاء باهلل
79 .5الرموز الصوفية كمعادل موضوعي
146