You are on page 1of 51

‫دوغمائية املعرفة املستعارة‬

‫دراسة إلسقاطات النظريات املباينة على الواقع املختلف‬


‫اطروحات حممد عابد اجلابري امنوذجاً‬

‫ليث العتابي‬

‫‪1‬‬
‫املقدمة‬
‫إن الربوز و حب الظهور يعترب طبيعة من طبائع اإلنسان ‪ ،‬و كذلك مسألة‬
‫التبعية و املتبوعية ‪ ،‬و ايضاً مسألة تبين اإلصالح كمنهج ذاتي خاص لكل من‬
‫يقول به ‪ ،‬حتى وصل احلال باملفسد ان يتبنى مقولة اإلصالح ‪ ،‬و ذلك ما صرح‬
‫به القرآن الكريم بقوله ‪ (( :‬وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي ا ْلأَرْضِ قَالُوا‬
‫شعُرُونَ ))‬
‫صلِحُونَ * أَلَا ِإنَّهُمْ هُمُ ا ْلمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَ ْ‬
‫ِإَّنمَا نَحْنُ مُ ْ‬
‫سورة البقرة ‪ ،‬اآليات ( ‪ ) 11‬ـ (‪. )12‬‬

‫بشرياً و وسط هذه املماحكات تربز اجلدلية ( اإلبراهيمية ) و ( النمرودية ) و‬


‫اجلدلية ( املوسوية ) و ( الفرعونية ) كمثال متكرر ما بني املستكربين من جهة‬
‫و املصلحني من جهة أخرى ‪.‬‬
‫انه صراع طويل ال و لن ينتهي إال عند نهاية البشرية ‪ ،‬ذلك ان الطباع‬
‫اإلنسانية قابلة للتمرد أو للتشيطن لو صح التعبري ‪.‬‬
‫إن تارخينا ‪ ،‬بل التاريخ البشري حافل بالعديد من احلركات اليت جاءت أو أدعت‬
‫أو تقمصت ثوب اإلصالح ‪ ،‬و اليت اما كانت شاملة تريد اصالح كل شيء ـ‬
‫حبسب قوهلا ـ أو جزئية تقتصر على جمال معني فقط ‪.‬‬
‫فصراع الشرك و التوحيد ‪ ،‬و صراع الكفر و اإلميان ‪ ،‬و صراع التحرر ‪ ،‬و‬
‫العبودية ‪ ،‬و صراع العلم و اجلهل ‪ ،‬و صراع الغنى و الفقر ‪ ،‬و صراع‬
‫االستقالل و االستعمار ‪ ،‬و ما شاكل ذلك حتى وصل إىل صراعات أكثر جزئية و‬
‫أقل فائدة لكن اكثر ضرراً ‪.‬‬
‫إن املشروع كمشروع له اسسه اخلاصة اليت و من خالهلا ميكن ان نطلق عليه‬
‫صفة ( املشروع ) ذلك انه يقوم على اساس التحرر و االستقاللية و حتقيق‬
‫الفائدة املرجوة و حل العقدة اليت سببت جميئه ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ثم ان صاحب املشروع ـ كذلك ـ له صفاته اخلاصة ‪ ،‬إذ ان اخللو من العقد و‬
‫التبعيات االيديولوجية ‪ ،‬و االفكار املسبقة ‪ ،‬و قلة اخلربة العلمية ‪ ،‬و انعدام‬
‫احلنكة و السياسة ‪ ،‬و كذلك الفئوية و االقصاء ‪ ،‬و األنفة و التفاضل ليست من‬
‫صفات املتصدي ألي مشروع اصالحي مطلقاً ‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬و بعد نكسة ‪ 1967‬م انطلقت مجلة من املشاريع اليت رفعت الفتات‬
‫اإلصالح و النهضة ‪ ،‬و كلُ رسم له طريقاً إىل ذلك االصالح الذي يدعيه ‪.‬‬
‫فقسم تبنى النقد مشروعاً ‪ ،‬و آخر تبنى القطيعة ‪ ،‬و ثالث تبنى االيديولوجية ‪ ،‬و‬
‫رابع تبنى املادية ‪ ...‬اخل ‪ .‬و هكذا ‪ ،‬ليكون اجلامع املشرتك للكل هو ( إعالن‬
‫االنتماء االيديولوجي كمنهج اصالحي ) على اختالف ذلك االنتماء ‪ ،‬أي ال‬
‫يوجد اصالح حر لإلنسان و من أجل اإلنسان ‪ ،‬بل هو اصالح مير عن طريق‬
‫النظريات و االحزاب فقط ‪.‬‬
‫من ضمن مجلة هذه ( املشاريع ) ـ لو صح التعبري عنها بهكذا مسمى تساحمي ـ‬
‫مشروع املغربي حممد عابد اجلابري ‪ ،‬و الذي أعلن القطيعة االيديولوجية‬
‫كمنهج لإلصالح من خالل مشروعه لنقد العقل العربي و اإلسالمي ‪.‬‬
‫رفع حممد عابد اجلابري هذه الشعارات ‪ ،‬و طبل هلا من وراءه الكثري من (‬
‫املتسرمنني ) ‪ ،‬و اجزلت العطايا من هنا و هناك هلذا املشروع الذي دعمته دوائر‬
‫خفية بكل ما أوتيت من قوة ‪.‬‬
‫بكل صراحة ان اردنا اطالق لفظ ( املشروع ) عليه فهو مشروع تقسيمي و‬
‫خترييب ‪ ،‬ألنه قائم على التقسيم اجلغرايف ( شرق ـ غرب ) معترباً الغرب (‬
‫املغرب ) متنوراً و الشرق متخلفاً ‪ ،‬و قائم على تقسيم طائفي ( سين ـ شيعي )‬
‫معترباً كل ما هو شيعي هرمسي و خيالي و كاذب ‪ ،‬و كل ما هو سين عقالني ‪،‬‬
‫و تقسيم شخصاني ( رشدي ـ سينوي ) معترباً ابن رشد و بيئته قمة العقالنية‬

‫‪3‬‬
‫‪ ،‬و ابن سينا و بيئته قمة التخلف ‪ ،‬و تقسيم دميوغرايف مستوحى من ابن‬
‫خلدون ( عربي ـ بربري ) معترباً كل ما هو عربي يف قمة الدونية و االحنطاط ‪،‬‬
‫و كل ما هو بربري مغربي يف قمة الرقي و الرفعة ‪.‬‬
‫ثن انه و يف بناء مشروعه املزعوم اعتمد على مناهج استشراقية و أوربية و‬
‫غربية كان له جهد مجعها و تنميقها حسب ذهنيته ‪ ،‬و ليس له ادنى فكرة خاصة‬
‫تصل إىل جزء من االبداع يف ذلك ‪ ،‬بل مشروعه عبارة عن خليط غري متجانس‬
‫إىل حد التصادم و التضارب املضر ‪.‬‬
‫فهل و بعد هذه املقدمة العامة يعترب حممد عابد اجلابري صاحب مشروع ‪ ،‬أم‬
‫تعترب كتاباته املؤدجلة و اهلجينة مشروعاً ‪.‬‬
‫املضحك املبكي انه يصل يف نشوته إىل حد اعتبار ابن تيمية و حممد عبد‬
‫الوهاب و التيار السلفي(‪ )1‬قادة الفكر اإلصالحي عربياً و اسالمياً ‪.‬‬
‫و ال ادري ملاذا هذا االستثناء ( الشرقي ) أم ان أموال النفط السعودي قد‬
‫عملت عملها السحري ‪ ،‬لتخلق استثناءات عجيبة و غريبة لدى مفكر‬
‫ايديولوجي براغماتي(‪ )2‬من طراز حممد عابد اجلابري !؟؟‬
‫سنحاول يف هذا البحث البسيط ان نوضح جممل مشروع و اطروحات حممد‬
‫عابد اجلابري ‪ ،‬مستندين على املصادر املوثوقة يف ذلك ‪ ،‬ملن يريد االستزادة و‬
‫التوسع ‪ ،‬و من اهلل تعاىل نستمد العون و التوفيق ‪.‬‬
‫املؤلف‬
‫‪ 2016‬م‬

‫‪1‬‬
‫( ) الذي انتج لنا النحلة الوهابية التكفيرية ‪ ،‬و تنظيم القاعدة اإلرهابي ‪ ،‬و تنظيم داعش التكفيري ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) براغماتي في مجال التعامالت األكثر فائدة له شخصي ًا ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫االنبهار باآلخر‬

‫إن من أسباب اجلمود و التخلف املهمة هو ( االنبهار باآلخر ) (‬


‫‪ ، ) Fascination with the other‬اي إعطاءه اآلخر حجماً أكرب من‬
‫حجمه الطبيعي ‪ ،‬و الشعور بالتصاغر أمامه ‪ ،‬و التملق له ‪ ،‬و مدحه ‪ ،‬و الكالم‬
‫عنه و كأنه ميلك كل شيء ‪ ،‬و يعلم بكل شيء(‪. )1‬‬
‫و من مصاديق ذلك؛ االنبهار بالغرب ‪ ،‬فال بدّ لنا أن نعلم إن ظاهرة االنبهار‬
‫باحلضارة الغربية يف تزايد ‪ ،‬فإن كان البعض منبهرين بتقدم الغرب ‪ ،‬و‬
‫بصناعاتهم ‪ ،‬و تكنولوجيتهم ‪ ،‬فقد وصل األمر إىل حد االنبهار مبساوئهم ‪ ،‬و‬
‫عاداتهم الالأخالقية ‪ ،‬و تقلدهم حرفياً بال عقل ‪ ،‬و ال واعز ‪ ،‬أو رادع ديين ‪ ،‬أو‬
‫أخالقي ‪.‬‬
‫لقد انبهر الكثري من أبناء إمتنا العربية باحلضارة الغربية ‪ ،‬و نقلوا هذا االنبهار‬
‫إىل أوالدهم ‪ ،‬و إخوانهم ‪ ،‬و أصدقائهم ‪ ،‬و بالتالي تفشى هذا املرض بني‬
‫أوساط األمة ‪ ،‬فزادها مرضاً إىل أمراضها األخرى الداخلية و املزمنة ‪ ،‬فمن نفاقٍ‬
‫أخالقي و ديين إىل ازدواجية و ذوبان أمام اآلخر ‪.‬‬
‫أن ديننا اإلسالمي يدعونا للتعقل ‪ ،‬و االتزان يف كل شيء حتى يف اآلخذ من‬
‫اآلخر ‪ ،‬فنحن نأخذ من اآلخر العلم ‪ ،‬و التكنولوجيا ‪ ،‬و نطمح أن نتقدم و‬
‫نرتقي مثله ‪ ،‬فالبأس بكل ذلك ‪ ،‬أما أن نستورد منه األخالقيات ‪ ،‬و السلوكيات‬
‫السيئة ‪ ،‬ال بل أن يشعر البعض أمامه بالصغر ‪ ،‬و االنعدام ‪ ،‬وجعل من يلحد‬
‫باهلل تعاىل قدوة ‪ ،‬فذلك هو خالف العقل ‪ ،‬وخالف الدين ‪ ،‬و خالف منطق‬
‫اإلنسانية ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) األدوات المعرفية ‪ ،‬المؤلف ‪ ،‬ص ‪. 107‬‬

‫‪5‬‬
‫( إن تقليد عامل الغرب جيب أن يكون يف جمال العلوم ‪ ،‬و الفنون التجريبية ‪ ،‬و‬
‫األساليب الصحيحة ‪ ،‬و املثمرة ‪ ،‬أي يف إطار العقل ‪ ،‬و املصلحة ‪ ،‬ال أن يتبع‬
‫الشرقيون بصورة عمياء الغربيني ‪ ،‬و يتعلموا أساليبهم ‪ ،‬و يعملوا وفقها دون‬
‫قيد أو شرط ‪ ،‬ألن الكثري من اخلطايا ترتكب يف عامل الغرب بصورة مشروعة‬
‫حتت عنوان " احلرية الفردية " و نتيجة لذلك فإن عدداً كبرياً من النساء ‪ ،‬و‬
‫الرجال يتعرضون للمساوئ األخالقية ‪ ،‬و الشرور بفعل الغرائز ‪ ،‬و الرغبات‬
‫النفسية ‪ ،‬فينحرفون عن جادة احلق و الفضيلة ‪ ،‬و لسوء احلظ فإن الفساد ‪ ،‬و‬
‫الضياع يزدادان يومًا بعد آخر ‪ ،‬و يزداد معهما عدد املنحرفني ‪ ،‬و املذنبني )(‪. )1‬‬
‫لقد أوصلنا االنبهار باآلخر إىل حماربة تراثنا ‪ ،‬و ديننا ‪ ،‬و عدم األميان بعقولنا ‪،‬‬
‫فمن أفكار القطيعة ‪ ،‬و إتهام الفكر العربي بالبعد عن الواقع ‪ ،‬إىل إماتة‬
‫العقول و إسباتها ‪ ،‬و كأن الفرد العربي ليس إنساناً ‪ ،‬بل ال إنسان إال الفرد‬
‫الغربي املادي البعيد عن اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫لقد ظهر يف العامل اإلسالمي ‪ ،‬و باخلصوص يف الوطن العربي تيار يؤمن بالتقدم‬
‫الغربي ‪ ،‬كانت البدايات األوىل له مع ظهور حركة األتراك الكماليني ‪ ،‬ثم تطور‬
‫عن طريق شخصيات عربية من أمثال ‪ ( :‬شبلي مشيل ‪ ،‬و يعقوب صروف ‪ ،‬و‬
‫مسري مراش ‪ ،‬و طه حسني ‪ ،‬و سالمة موسى ) ‪.‬‬
‫و كذلك باقي النماذج من أمثال ‪ :‬حممد أركون(‪ ، )2‬و عبد الكريم سروش(‪ ، )3‬و‬
‫النماذج األخرى الكثرية و اليت يضيق املقام عن ذكرها ‪ ،‬و اليت قد متيعت و‬
‫ذابت باآلخر ‪ ،‬أو اليت انطلقت يف نقدها و تهجمها من عقد داخلية فأصبحت‬
‫معاول هدم للحضارة العربية اإلسالمية ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) الشباب و تقليد الغرب ‪ ،‬الشيخ محمد تقي فلسفي ‪ ،‬ص ‪. 20‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) محمد أركون ( ‪ 1928‬ـ ‪ 2010‬م ) ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) عبد الكريم سروش ‪ ،‬و هو أسم مستعار لـ( حسن حاج فرج الدباغ ) من مواليد طهران ( ‪ 1945‬م ) ‪ ،‬خريج جامعة لندن فرع‬
‫الكيمياء ‪ ،‬له ( القبض و البسط في الشريعة ‪ ،‬التراث و العلمانية ‪ ،‬العقل و الحرية ) ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫إن األصوات املنادية بتقليد الغرب ‪ ،‬و املتأثرة به كثرية ابتدأت من أول غزو‬
‫استعماري للبالد اإلسالمية ‪ ،‬و هي مستمرة حلد اآلن ‪ ،‬فنجد الدعوات الكثرية‬
‫لتمجيد الغرب ‪ ،‬و ضرورة تقليده عند الكثريين قدمياً و حديثاً ‪ ،‬فمثالً جند (‬
‫سالمة موسى )(‪ )1‬يقول ‪ ( :‬إذا حنن ارتبطنا بالغرب ‪ ،‬نركب الطيارات و نصنعها‬
‫‪ ،‬و نسكن يف بيوت نظيفة و نبنيها ‪ ،‬و نقرأ كتباً مفيدة و نؤلفها )(‪. )2‬‬
‫و من احلوادث الطريفة و املضحكة املبكية يف نفس الوقت ‪ ،‬انبثاق ثلة ممن‬
‫أُعجب بالغرب ‪ ،‬و أخذ يُشرعن هلم كل شيء ‪ ،‬فنجد ( أمحد بن املواز املغربي‬
‫)(‪ )3‬يف كتابه ( حجة املنذرين على تنطيع املنكرين ) يقول ‪ ( :‬و من احلوادث‬
‫املشكورة يف املدينة تيسري طحن األقوات يف املكينة ألن مصيبة الرحويني أشابت‬
‫الغربان ‪ ،‬و تناقلت أناشيدها الركبان ‪ ،‬فلذلك رفع اهلل كيدهم باملكينة ‪ ،‬و‬
‫جعلت هلم عقوبة مهينة )(‪. )4‬‬
‫إن القرآن الكريم قد وضع لنا املنهجية الصحيحة يف اآلخذ ‪ ،‬و كيف نأخذ من‬
‫اآلخرين وفق منهجية عقالئية صحيحة ‪ ،‬قال تعاىل ‪ ( :‬الَّذِينَ يَسْ َت ِمعُونَ‬
‫الْقَوْلَ فَيَ َّت ِبعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اهللُ َوأُولئِكَ هُمْ أُولُوا‬
‫سورة الزمر ‪ ،‬اآلية (‪. )18‬‬ ‫األَلْبابِ )‬
‫لذا فعلى الشعوب اليت تأثرت ‪ ،‬و أنبهرت بالغرب ‪ ،‬و باخلصوص الشعوب‬
‫الشرقية أن تعرف كيفية االستفادة من علم علماء الغرب ‪ ،‬و تتعلم منهم‬
‫األساليب العلمية ‪ ،‬و العملية ‪ ،‬بأسلوب واعٍ ‪ ،‬و وفق إطار العقل ‪ ،‬و مبا يسمح‬
‫به الدين ‪ ،‬و مبا يتالءم مع األخالق ‪ ،‬و يف حدود العلوم ‪ ،‬و الفنون التقنية ‪ ،‬و‬

‫‪1‬‬
‫( ) سالمة موسى ( ‪ 1887‬ـ ‪ 1958‬م ) مصري ‪ ،‬يعد رائد االشتراكية المصرية ‪ ،‬من أولى كتاباته كتاب ( مقدمة السوبرمان ‪1910‬‬
‫م ) و الذي يتضمن أفكاره التي ركزت على ضرورة االنتماء الكامل للغرب ‪ ،‬و قطع أي صلة تربط مصر بالشرق ‪ ،‬و نقد الفكر‬
‫الديني ‪ ،‬له ( مقدمة السوبرمان ‪ ،‬و االشتراكية ‪ ،‬و نظرية التطور و أصل اإلنسان ) ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) خرائط أيديولوجية ممزقة ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 97‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) أحمد بن المواز المغربي ( ت ‪ 1922‬م ) ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) خرائط أيديولوجية ممزقة ‪ ،‬ص ‪. 96‬‬

‫‪7‬‬
‫جمال العلم ‪ ،‬و املعرفة ‪ ،‬ال أن يقلدوا الغرب بشكل أعمى ‪ ،‬و بالتالي يأخذوا‬
‫منه كل شيء حتى أقواله ‪ ،‬و أفعاله ‪ ،‬و سلوكياته ‪ ،‬و أخالقه ‪ ،‬من دون علم ‪ ،‬و‬
‫دراية ‪ ،‬و بال بعد نظر ‪.‬‬
‫نعم ( أن الغرب من حيث العلم ‪ ،‬و اجلامعات ‪ ،‬و مراكز البحوث ‪ ،‬و األساتذة‬
‫ذوي االختصاص غين ‪ ،‬و لكنه من حيث مكارم األخالق ‪ ،‬و الفضائل اإلنسانية‬
‫فقري ‪ ،‬و حمتاج )(‪ ، )1‬هذا من جانب ‪ ،‬أما من جانب آخر فـ( إذا حصل أن قاطع‬
‫احملليون منتجات املستوطن ‪ ،‬كما بلغنا عن سياسة العصيان املدني اهلندي بزعامة‬
‫غاندي ‪ ،‬أو ثورة التنباك بإيران بزعامة املريزا الشريازي ‪ ،‬فذلك مل يكن تبعيداً‬
‫للمستهلك ‪ ،‬و ال تكفرياً للتقنية ‪ ،‬بل وسيلة من وسائل املقاومة اليت شهد اجملال‬
‫العربي اإلسالمي حاالت ‪ ،‬و شواهد متاثلها )(‪. )2‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) الشباب و تقليد الغرب ‪ ،‬الشيخ محمد تقي فلسفي ‪ ،‬ص ‪. 24‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) خرائط إيديولوجية ممزقة ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 96‬‬

‫‪8‬‬
‫امليتامواكبة‬
‫التطور يحتاج إلى المواكبة ‪ ،‬و إلى ميتامواكبة حتى يتالقح الفكر بالفكر ‪ ،‬و‬
‫تتناطح الند بالند لتولد فكراً ال يرتمي في احضان العبودية و التبعية للفكر‬
‫اآلخر ‪.‬‬
‫المواكبة تعني ‪ :‬المتابعة ‪ ،‬و المسايرة ‪ ،‬و المواظبة ‪ ،‬و المصاحبة ‪ ،‬و المسابقة ‪.‬‬
‫فهي تعني مسايرة المجتمع ‪ ،‬و مسايرة العالم و عدم التخلف عنه ‪.‬‬
‫و هي ـ عموماً ـ ال اشكال فيها ما دامت تخلو من الخضوع و التبعية ‪ ،‬و ال‬
‫تستلزم االنحراف أو التقليد ‪.‬‬
‫ففي الخطاب العاقل ‪ :‬المواكبة تعني االستفادة من اجل التطور ‪ ،‬و ذلك شيء‬
‫لم يمنعه أي نص ديني أو قانوني ‪ ،‬و ال مخالفة فيه للفطرة اإلنسانية مطلقاً ‪.‬‬
‫فإن كانت االستفادة متبادلة فذلك شيء سيديم التطور ‪ ،‬و يفتح المجال لتطوير‬
‫ما يحتاج إلى التطوير ‪.‬‬
‫أما في الخطاب المخادع ‪ :‬فالمواكبة هي غطاء لبث الفرقة ‪ ،‬و لبث االنحراف ‪،‬‬
‫و من اجل السيطرة و الهيمنة ‪ ،‬و تعني االستعمار تحت شعارات ( ناعمة )‬
‫تستبطن في داخلها كل انواع المخاتلة و الخداع ‪ ،‬بل كل انواع الشيطنة ‪.‬‬
‫فتحت مسميات التثاقف و المثاقفة ‪ ،‬أو تحت مسميات العولمة و غيرها سار‬
‫االستعمار الحديث و بخطى واسعة ليسيطر بشكل أكبر و اسهل من ذي قبل ‪.‬‬
‫لقد طالعتنا بعض المشاريع التي تدعي المواكبة من خالل صنع نموذج معرفي‬
‫خاص ‪ ،‬و من تلك الدعوات دعوة ( أسلمة المعرفة ) و التي اطلقها أمثال (‬
‫طه جابر العلواني ) و غيره ‪ ،‬في دعوى لمسابقة و مواكبة المنتج المعرفي‬
‫الغربي من خالل اسلمته كما يدعون ؟!‬

‫‪9‬‬
‫لكن كيف ستكون اسلمة المنتج المعرفي ‪ ،‬و هو منتج معرفي ال توجد فيه‬
‫خانة خاصة بالدين ؟!‬
‫إن هذا النهج من األسلمة غير واضح المعالم ‪ ،‬بل غير قادر على المواكبة‬
‫الحقيقية ‪ ،‬فهو مجرد طرح اعالمي بعيد عن التطبيق ‪ .‬فـ( كيف نسابق المنتج‬
‫المعرفي و كيف نقوّمه في الوقت ذاته بنهج في األسلمة لم تتضح معالمه ألهله‬
‫‪ .‬و حيث بات عسر هضمه انكى و اضر باألمة من هضم المعرفة كما هي ‪.‬‬
‫مشروع ولد ميتاً كما كان منتظراً ‪ ،‬ألنه مصارعة لطواحين الهواء ‪ .‬و ألنه جهد‬
‫يهدف إشغال األمة عن موجبات راهنة تطرح جملة استحقاقات و مهام لم‬
‫تنهض بها بعد أكثر من قرن من النشاط عبثاً )(‪. )1‬‬
‫ان اصل المواكبة يكون بخلق النموذج المعرفي القادر على المسابقة و التسابق‬
‫‪ ،‬و من دون ذلك لن تتحقق المواكبة ‪ ،‬فالنماذج الهجينة أو المستعارة لن‬
‫تقوى على المواكبة ‪ ،‬فضالً عن هزالتها في هذا الميدان ‪ .‬نعم ‪ ( ،‬اصنع‬
‫نهضتك ‪ ،‬ثم ستفرض نموذجك المعرفي على الدنيا ‪ .‬حينئذ ستجد تلقائياً‬
‫العلوم تتأسلم من حيث انك قوي ال من حيث انك مسلم )(‪. )2‬‬
‫إن علينا ـ عموماً ـ ان ال نتحسس من كون العلم املعني ‪ ،‬أو املصطلح املعني ‪،‬‬
‫أو املنهج املعني جاءنا من غري املسلم(‪ ، )3‬فهذا باحلقيقة علم ‪ ،‬و هذه معرفة من‬
‫أساسياتها أنها تدور و ال تستقر أبدًا(‪ ، )4‬فباألمس كانت عندنا ‪ ،‬و اليوم عند‬
‫غرينا ‪ ،‬و غداً ال نعلم أين حتل ‪ ،‬و أين تكون ‪.‬‬
‫ال بد أن نعلم أنه و يف عصر النيب حممد ( صلى اهلل عليه و آله و سلم ) ‪ ،‬و‬
‫باقي املعصومني ( عليهم السالم ) كانت الكثري من السلع ‪ ،‬و البضائع ‪ ،‬و‬

‫‪1‬‬
‫( ) ما وراء المفاهيم ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 39‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 40‬‬
‫‪3‬‬
‫ال ‪ ،‬أو غيرهم ‪.‬‬
‫( ) كالغرب مث ً‬
‫‪4‬‬
‫( ) و هي ليست حكرًا على أحدٍ دون غيره ‪ ،‬و ال يستطيع أحد أن يحتكرها ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الورق ‪ ،‬و احلرب ‪ ،‬و حتى الكتب تأتي من ( اهلند ) ‪ ،‬و ( الصني ) ‪ ،‬و ( بالد‬
‫فارس ) ‪ ،‬و ( بيزنطة ) ‪ ،‬و ( اليونان ) ‪ ،‬و ( أفريقيا ) و مل نرى أحداً منهم (‬
‫عليهم السالم ) منع أو حرم ذلك ‪ ،‬بل إنهم حاربوا ( التخلف ) ‪ ،‬و ( التقوقع‬
‫) ‪ ،‬و ( االمعة ) ‪ ،‬و حاربوا ( الفرق الضالة ) ‪ ،‬و ( التيارات املنحرفة ) ‪ ،‬و مل‬
‫نقرأ إنهم قالوا حيرم عليكم األخذ من ( فالن ) ‪ ،‬أو ( الدولة الفالنية ) ‪ ،‬أو (‬
‫اجلماعة الفالنية ) ‪.‬‬
‫بل إننا نرى و من خالل حماوراتهم مع أصحاب األديان املختلفة إنهم كانوا‬
‫أصحاب منطق و حوار ‪ ،‬و كانوا يعطون اجملال لآلخر أن يتكلم ‪ ،‬و أن يبدي رأيه‬
‫‪ ،‬و يعرب عن مكنون صدره بكل صراحة ‪ ،‬و أن يدافع عن مذهبه حتى يتم كالمه‬
‫‪ ،‬فإذا أنتهى بادروه باإلجابة بأحسن أسلوب ‪ ،‬و أرق كالم ‪ ،‬و أروع املعاني(‪. )1‬‬
‫كما أن رسول اهلل ( صلى اهلل عليه و آله و سلم ) ملا رأى أن اتساع الفتوح‬
‫اإلسالمية يقتضي بأن يتعلم بعض أصحابه صنعة الدبابات ‪ ،‬و اجملانيق ‪ ،‬و‬
‫الضبور ‪ ،‬أرسل إىل ( جرش اليمن ) أثنني من أصحابه يتعلمانها(‪. )2‬‬
‫إن أحاديثهم ( عليهم السالم ) أكرب دليل على ذلك إضافة ملا ذكرناه ‪ ،‬و من هذه‬
‫األحاديث ‪:‬‬
‫قال رسول اهلل ( صلى اهلل عليه و آله و سلم ) ‪ (( :‬أعلم الناس من مجع علم‬
‫الناس إىل علمه ))(‪. )3‬‬
‫و قال ( صلى اهلل عليه و آله و سلم ) ‪ (( :‬أطلبوا العلم و لو بالصني ‪. )4()) ...‬‬
‫قال األمام علي ( عليه السالم ) ‪ (( :‬خذ احلكمة ممن أتاك بها ‪ ،‬و أنظر إىل ما‬
‫قال ‪ ،‬و ال تنظر إىل من قال ))(‪. )5‬‬
‫‪1‬‬
‫( ) راجع كتاب االحتجاج ‪ ،‬مناظرات األمام الرضا عليه السالم في مجلس المأمون العباسي كمثال ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) اإلسالم و الحضارة الغربية ‪ ،‬ص ‪ ، 103‬و الشباب و تقليد العالم الغربي ‪ ،‬الشيخ محمد تقي فلسفي ‪ ،‬ص ‪. 19‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) أمالي الصدوق ‪ ،‬ص ‪. 27‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) كنز العمال ‪. 28697 ،‬‬
‫‪5‬‬
‫( ) غرر الحكم ‪. 5048 ،‬‬

‫‪11‬‬
‫و قال ( عليه السالم ) ‪ (( :‬حسب املرء ‪ ...‬من عرفانه ‪ ،‬علمه بزمانه ))(‪. )1‬‬
‫و قال ( عليه السالم ) ‪ (( :‬حق على العاقل أن يضيف إىل رأيه رأي العقالء ‪ ،‬و‬
‫إىل هلمه علوم العلماء ))(‪. )2‬‬
‫و قال ( عليه السالم ) ‪ (( :‬من أستقبل وجوه اآلراء عرف مواقع اخلطأ ))(‪. )3‬‬
‫قال األمام الصادق ( عليه السالم ) ‪ (( :‬العامل بزمانه ال تهجم عليه اللوابس‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫))‬
‫و قال ( عليه السالم ) ‪ (( :‬على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه مقبالً على شأنه‬
‫))(‪. )5‬‬
‫ثم ال بد من إعطاء ( اآلخر املعريف ) و الذي هو ( آخر إنساني ) حيزاً يف‬
‫تفكرينا ‪ ،‬و حياتنا ‪ ،‬و االبتعاد عن ( األحادية يف التفكري ) ‪ ،‬فلسنا الوحيدون يف‬
‫هذا الكون ‪ ،‬و حنن ال نعيش وحدنا على سطح هذا الكوكب ‪ ،‬فاحلقيقة أننا ال‬
‫ميكن أن نُسري البشرية ـ مبا لديها من اختالفات واقعية و غري واقعية ـ حبسب‬
‫آرائنا ‪ ،‬و معتقداتنا ‪ ،‬و متبنياتنا ‪.‬‬
‫و املطلوب منا هو حُسن األخذ ‪ ،‬و معرفة كيفية األخذ ‪ ،‬و تقنني األخذ ‪ ،‬فليس‬
‫كل الذي لدى اآلخر هو صاحل لألخذ أو صاحل لالستخدام ‪ .‬فهناك ما ال يصلح‬
‫لنا أخذه ثقافياً ‪ ،‬و هناك ما ال يصلح لنا أخذه دينياً ‪ ،‬كما و ان هناك ما ال يصلح‬
‫لنا أخذه أخالقياً ‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬العلم واحد ‪ ،‬لكن الثقافات و األديان ختتلف ‪ ،‬و ما يُفعل يف ثقافة ال جيوز‬
‫فعله يف ثقافة أخرى ‪ ،‬و ما جيوز يف دين ال جيوز يف دين آخر ‪ ،‬و هكذا ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) بحار األنوار ‪ ،‬ج ‪ ، 75‬ص ‪. 80‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) غرر الحكم ‪ ،‬ص ‪. 384‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) نهج البالغة ‪ ،‬الحكمة ‪. 173‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) بحار األنوار ‪ ،‬ج ‪ ، 75‬ص ‪. 269‬‬
‫‪5‬‬
‫( ) م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ج ‪ ، 5‬ص ‪. 342‬‬

‫‪12‬‬
‫جيب ان نواكب لنتعلم ‪ ،‬و لنقرأ ما وراء النصوص ‪ ،‬و ما وراء املواقف ‪ ،‬و ما‬
‫وراء املشاريع ‪.‬‬
‫( إن تقليد عامل الغرب جيب أن يكون يف جمال العلوم ‪ ،‬و الفنون التجريبية ‪ ،‬و‬
‫األساليب الصحيحة ‪ ،‬و املثمرة ‪ ،‬أي يف إطار العقل ‪ ،‬و املصلحة ‪ ،‬ال أن يتبع‬
‫الشرقيون بصورة عمياء الغربيني ‪ ،‬و يتعلموا أساليبهم ‪ ،‬و يعملوا وفقها دون‬
‫قيد أو شرط ‪ ،‬ألن الكثري من اخلطايا ترتكب يف عامل الغرب بصورة مشروعة‬
‫حتت عنوان " احلرية الفردية " و نتيجة لذلك فإن عدداً كبرياً من النساء ‪ ،‬و‬
‫الرجال يتعرضون للمساوئ األخالقية ‪ ،‬و الشرور بفعل الغرائز ‪ ،‬و الرغبات‬
‫النفسية ‪ ،‬فينحرفون عن جادة احلق و الفضيلة ‪ ،‬و لسوء احلظ فإن الفساد ‪ ،‬و‬
‫الضياع يزدادان يومًا بعد آخر ‪ ،‬و يزداد معهما عدد املنحرفني ‪ ،‬و املذنبني )(‪. )1‬‬
‫إن القرآن الكريم قد وضع لنا املنهجية الصحيحة يف اآلخذ ‪ ،‬و كيف نأخذ من‬
‫اآلخرين ‪ ،‬و ذلك وفق منهجية عقالئية صحيحة ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ (( :‬الَّذِينَ يَسْ َت ِمعُونَ الْقَوْلَ فَيَ َّت ِبعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ‬
‫هَداهُمُ اهللُ َوأُولئِكَ هُمْ أُولُوا األَلْبابِ )) سورة الزمر ‪ ،‬اآلية (‪. )18‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) الشباب و تقليد الغرب ‪ ،‬الشيخ محمد تقي فلسفي ‪ ،‬ص ‪. 20‬‬

‫‪13‬‬
‫كيف حنافظ على هويتنا و نواكب التطور ؟‬

‫إن قضية مواكبة التطور و التقدم أمر مهم و البد منه ‪ ،‬لكن جيب أن ال‬
‫يكون على حساب ثوابتنا ‪ ،‬و أن ال يؤدي إىل مسخ هويتنا ‪ ،‬و أن تكون تلك‬
‫القضايا اخلاصة مبسألة التطور غري موجودة ‪ ،‬و أن نكون حنن حمتاجون إليها بكل‬
‫معنى الكلمة ‪ ،‬فاالجرتارات ليست تطوراً ‪ ،‬و تقليد الغري ليس تطوراً ‪ ،‬و توليد‬
‫املصطلحات و اخرتاعها من دون سبب ‪ ،‬و من دون مناسبة ‪ ،‬و من دون أي‬
‫حاجة إىل ذلك ليس تطوراً ‪.‬‬
‫فاألمر األول الذي جيب علينا مراعاته هو ( احلفاظ على اهلوية )‬
‫(‪ ) Preservation of identity‬و املتمثل بـ( الرتاث ) (‪، ) Heritage‬‬
‫لكن علينا أوالً أن نفهم الرتاث ‪ ،‬و من ثَم ننطلق للمحافظة عليه ‪.‬‬
‫فالرتاث من حيث املاهية هو ظاهرة إنسانية موجودة يف مجيع اجملتمعات ‪ ،‬إذ أن‬
‫لكل أمة تراثها اخلاص بها ‪.‬‬
‫و الرتاث تارة يكون ( قومي ) (‪ : ) National‬أي خاص بقوم معينني و‬
‫مبجتمع معني و جبماعة معينة و داخل منطقة معينة ‪.‬‬
‫و تارة يكون الرتاث ( إنساني ) ( ‪ : ) Humanist‬أي ما خيص كل بين‬
‫اإلنسان بال فرق و من دون حتديد ‪ ،‬أو ختصيصٍ له ‪.‬‬
‫لكن قد برزت مشكلة يف زماننا احلالي كان إطالقها باسم احلل ‪ ،‬و هي يف‬
‫احلقيقة مشكلة ‪ ،‬لكنها ال ختلو من فقاعات للحقيقة ‪ ،‬و تلك املشكلة قد متثلت‬
‫يف فكرة ‪ ،‬أو مصطلح ( القطيعة مع الرتاث ) ( ‪Break With the‬‬
‫‪ ، ) Heritage Rupture ( or ) heritage‬فلقد أعتقد البعض أنه ال‬
‫سبيل إىل التخلص من التخلف و التقهقهر ‪ ،‬و بالتالي الدخول إىل ركب‬

‫‪14‬‬
‫التطور ‪ ،‬إال بإحداث ( قطيعة ) ‪ ،‬أو ( قطيعة معرفية ) ( ‪Epistemological‬‬
‫‪ ) Rupture‬مع ( الرتاث ) ( ‪ ، ) Heritage‬فال سلطة إال للعقل الذي‬
‫يتخذه العلم احلديث مصدراً وحيداً للسلطة و املرجعية ‪.‬‬
‫و من الذي نادوا بذلك الكاتب اللبناني ( حسني مروة )(‪ )1‬يف كتابه ( النزعات‬
‫املادية يف اإلسالم ) ‪ ،‬و الكاتب املصري ( حسن حنفي )(‪ )2‬يف كتابيه ( الرتاث و‬
‫التجديد ) ‪ ،‬و ( من العقيدة إىل الثورة ) ‪ ،‬و الكاتب اجلزائري ( حممد أركون )‬
‫يف الكثري من كتبه ‪ ،‬و منها كتاب ( تارخيية الفكر اإلسالمي ) لكن وفق نظرة‬
‫خاصة به حنو الرتاث و كيفية قراءته ‪ ،‬و الكاتب املغربي ( حممد عابد اجلابري‬
‫)(‪ )3‬يف كتابيه ( حنن و الرتاث )(‪ ، )4‬و ( تكوين العقل العربي ) ‪ ،‬و الكاتب‬
‫يف حماوالته لنقد الوعي التارخيي العربي و‬ ‫(‪)5‬‬
‫املغربي ( عبد اهلل العروي )‬
‫اإلسالمي(‪. )6‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) حسين مروة ( ‪ 1910‬ـ ‪ ) 1987‬شيوعي لبناني ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) حسن حنفي ( ‪ 1935‬ـ ‪ ....‬م ) كاتب و مفكر مصري ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) محمد عابد الجابري ( ‪ 1936‬ـ ‪ 2010‬م ) فالقطيعة عنده بنيوية و ثورية تقليداً لما قال به (غاستون باشالر) و (توماس كون) و‬
‫البد من مالحظة أن مفهوم القطيعة الذي ينادي به محمد عابد الجابري قد أخذه من المفكر الفرنسي غاستون باشالر و نقله من مجال‬
‫تاريخ العلم إلى مجال تاريخ الفلسفة ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) فهو يقول في هذا الكتاب الصادر سنة ( ‪ 1980‬م ) ‪ ( :‬إن تجديد العقل العربي يعني في المنظور الذي نتحدث فيه ‪ ،‬إحداث‬
‫قطيعة ابستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر االنحطاط ‪ ،‬و امتداداتها إلى الفكر العربي الحديث و المعاصر ) ‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫( ) عبد اهلل العروي ( ‪ 1933‬ـ ‪ ....‬م ) فالقطيعة عند العروي هي نابعة من المادية التاريخية (التاريخانية) لخلفية انتماءه الماركسي ‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫( ) األدوات المعرفية ‪ ،‬المؤلف ‪ ،‬ص ‪ 139‬ـ ‪. 142‬‬

‫‪15‬‬
‫اجلابري ‪ :‬سرية موجزة‬
‫ولد حممد عابد اجلابري مبدينة سيدي احلسن يف شوال ‪ 1354‬هـ ‪ 1936 /‬م ‪ ،‬يف‬
‫فجيج الواقعة يف شرق املغرب ‪ ،‬على خط احلدود الذي أقامه الفرنسيون بني‬
‫املغرب و اجلزائر ‪ .‬و تتألف فجيج من سبعة قصور ـ أي جتمعات سكنية ـ من‬
‫بينها ( قلعة زناكة ) اليت ولد فيها اجلابري ‪.‬‬
‫أتيحت للجابري فرصة التقاء احلاج حممد فرج أحد رجال السلفية باملغرب ‪،‬‬
‫فكان اجلابري و هو ال يتجاوز العاشرة من عمره يواظب على حضور دروسه‬
‫بعد صالة العصر ‪.‬‬
‫يعد اجلابري من مفكري املغرب‪ ،‬له ما يقارب ( ‪ ) 30‬مؤلفاً يف قضايا الفكر‬
‫املعاصر ‪ ،‬أبرزها ( نقد العقل العربي ) ذائع الصيت ‪.‬‬
‫حممد عابد اجلابري رجل سياسة قبل ان ينتقل إىل جمال للفكر ‪ ،‬فقد كان قيادياً يف‬
‫حزب االحتاد االشرتاكي للقوات الشعبية ( عضو املكتب التنفيذي ) ‪ ،‬ثم قدم‬
‫استقالته من قيادة احلزب مع احتفاظه بعضويته فيه ‪.‬‬
‫حصل اجلابري على دبلوم الدراسات العليا يف الفلسفة عام ( ‪ 1967‬م ) ‪ ،‬ثم‬
‫دكتوراه الدولة يف الفلسفة عام ( ‪ 1970‬م ) من كلية اآلداب بالرباط ‪ .‬عمل‬
‫كمعلم باالبتدائي ( صف أول ) ثم شغل منصب استاذ الفلسفة و الفكر‬
‫العربي اإلسالمي يف كلية اآلداب بالرباط ‪ ،‬و كان عضواً مبجلس أمناء املؤسسة‬
‫العربية للدميقراطية ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫اجلابري و الالمعقول الشيعي‬
‫لقد عكس مشروع النقد اجلابري ارهاصات املنظومة اليت يتبع هلا ‪ ،‬فهو مل‬
‫يتكلم و ينتقد كفرد ‪ ،‬بل هو أزاح إىل اخلارج ما تؤمن به منظومته األم(‪ . )1‬و من‬
‫امللفت للنظر أنه كان يدعي التعامل العلمي و العقلي مع أي قضيةٍ كانت(‪، )2‬‬
‫لكنه عندما يصل إىل الشيعة جنده يتكلم حبس مغاير ‪ ،‬انه يتكلم حبس طائفي‬
‫خالٍ من كل أنواع املعاجلات العقلية و العلمية أو املعرفية ‪ ،‬حتى وصل به احلال‬
‫أن أطلق على الرتاث الشيعي تسمية ( الالمعقول ) ‪.‬‬
‫هذا يدل على انه مل يتحرر من عقده ‪ ،‬و ال يقدر أن جيانب املنظومة الداعمة له ‪،‬‬
‫بل كأمنا مشروعه هذا مل يؤسس إال لنقد الثوابت الدينية عموماً ‪ ،‬و نقد املنظومة‬
‫الشيعية بشكلٍ خاص ‪ .‬و هنا مزلة األقدام ‪ ،‬حينما يناور الشخص مييناً و مشاالً ‪،‬‬
‫و يدلس ‪ ،‬و خيلط البعيد بالقريب ‪ ،‬كل ذلك ليثبت فكرته األصلية فقط دون‬
‫مراعاة ملا من املفروض ان متليه عليه نتائج البحث(‪. )3‬‬
‫هذا ديدن سار عليه الكثريون غري حممد عابد اجلابري من أمثال طه عبد الرمحن ‪،‬‬
‫و أبو يعرب املرزوقي ‪ ،‬و عبد اجمليد الشريف ‪ ،‬من جماميع تبنت منهج احلفاظ على‬
‫املصلحة الفئوية مقابل منهج العقل و املعرفة ‪.‬‬
‫إننا جند اجلابري يف كتاب ( البنية و التكوين ) قد انتقد ابن سينا دون أن يعرف‬
‫عن ابن سينا شيئاً سوى كونه شيعي املذهب ‪ ،‬متنكراً و متجافياً ملسألة االطالع‬
‫على مصادر احلكمة يف الشرق و منابعها و اليت حتتاج إىل عمر اإلنسان لإلحاطة‬
‫بها ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) المنظومة الداعمة له ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) إذ يدعي في أصل مشروعه أن ما دفعه لذلك هو ‪ :‬سؤال النهضة للمجتمعات اإلسالمية ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) من المهم التنويه اال أن مشروعه قد تزامن مع الحرب العراقية اإليرانية في المنطقة ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫لقد قيّم فلسفة الشرق كلها من خالل مؤلفات ابن سينا ‪ ،‬و الكل يعلم الفرق‬
‫الشاسع بني التنظري و التطبيق ‪ ،‬و الفرق بني آليات اكتساب املعرفة و آليات‬
‫إيصاهلا ‪ ،‬و الفرق بني الرأي العام و الرأي اخلاص يف مسألة ما ‪ ،‬فكيف برتاثٍ‬
‫كاملٍ تعرض لعوامل التطور القائمة على النقد و البناء ‪ .‬و كيف لنا أن حنكم‬
‫على فكرٍ عريقٍ جداً ممتد يف الوجود اإلنساني ‪ ،‬و مندك مع ظهور اإلنسان األول‬
‫ليُقّيمَ من خالل قراءة كتاب واحد لشخص واحد فقط؟؟!!‬
‫ليس ذلك بالغريب على اجلابري ‪ ،‬فهو ـ و على سبيل املثال ـ حيكم على‬
‫مذهب كامل أتصف بالقدم و العراقة ‪ ،‬غينٌ برتاثه الفكري و الكالمي و‬
‫العقلي و الفلسفي من خالل كتيب صغري ـ أشك بأن اجلابري قد اطلع عليه‬
‫كامالً أو قراءه القراءة الصحيحة ـ أال و هو ( عقائد االمامية ) للشيخ حممد‬
‫رضا املظفر ( رمحه اهلل ) و الذي كتبه للبسطاء من الناس ممن ال يعرفون املذهب‬
‫الشيعي ‪ ،‬و ذلك لكي يتعرفوا على هذا املذهب بأبسط أسلوب ممكن ‪.‬‬
‫إن ( جدل اخلطابة املتسرت مبناهج علمية يف ظاهرها اخلاصية اليت تتبادر إىل‬
‫الذهن ‪ ،‬و حنن نقرأ أحباث د ‪ .‬اجلابري حول الفكر الشيعي و تارخيه السياسي ‪،‬‬
‫هي تلك احملاولة اليت مل تقطع مع طرائق اجلدل ‪ ،‬و نعين بها طرائق اخلطابة‬
‫القائمة على كثرة األقيسة الناقصة و املصادرات على املطلوب ‪ ،‬و املغالطات ‪،‬‬
‫حتى و هي تتسرت وراء مناهج و مفاهيم ‪ ،‬تبدو ـ يف ظاهرها ـ علمية ‪ ،‬و برهانية‬
‫‪ .‬على أنه ال يكفي ‪ ،‬يف التحليل العلمي ‪ ،‬إيراد املفاهيم العلمية ‪ ،‬هذه اليت من‬
‫اليسري حتويلها إىل أساس لرؤية مفارقة ‪ ،‬حينما ال حنسن استخدامها أو توظيفها‬
‫)(‪. )1‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) كفى ثقافة طائفية و مثقفون طائفيون ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 10‬‬

‫‪18‬‬
‫نعم ‪ ،‬لقد قرأنا عن ( الليدي دراور )(‪ )1‬و اليت عاشت مع الصابئة ما يقارب‬
‫الـ( ‪ ) 40‬عاماً لكي تتعرف على دينهم ‪ ،‬و يف نهاية هذه األعوام األربعون كتبت‬
‫كتابها املسمى بـ( الصابئة املندائيون ) مع العلم أنها مستشرقة ‪ ،‬و انكليزية ‪ ،‬و‬
‫مسيحية ؟!؟‬
‫ليأتي أشخاص مثل حممد عابد اجلابري ليكتبوا عن الرتاث اإلسالمي ـ بشكل‬
‫عام و الشيعي بشكل خاص ـ من خالل ما مسعوه من وعاظ السالطني ‪ ،‬و من‬
‫حكايات اجلدات ‪ ،‬و تأثراً باخللفيات األيديولوجية ‪ ،‬و األهداف الطائفية ‪ ،‬فمن‬
‫هم ليحاكموا تراثاً عريقاً قام على التشارك و التكامل ليحيزوه و خيتزلوه يف‬
‫زوايا ضيقة أو يف دهاليز مظلمة!؟‬
‫( مل تعكس تلك احملاوالت ‪ ،‬أي إملام بالتاريخ أو الفكر الشيعيَّني ‪ ،‬كما تدلّ على‬
‫ذلك مصادره املعتمدة ‪ .‬نعزو تلك احملاولة اليت مل حتقق النجاح املطلوب إىل‬
‫اهلاجس السياسي و األيديولوجي الساكن ـ بقوة ـ يف أعماق مشروع اجلابري ‪...‬‬
‫و حينما نعود إىل مجلة املصادر اليت اعتمدها اجلابري يف تناوله للفكر الشيعي ‪،‬‬
‫و هي العملية اليت ستكشف ‪ ،‬ليس فقط عن عجز يف االستيعاب ‪ ،‬بل ‪ ،‬و هو‬
‫األخطر من ذلك ‪ ،‬عن عجز يف الفرز بني خمتلف الفرق الشيعية ‪ ...‬جند اعتماداً‬
‫بسيطاً على ما ال يتجاوز ثالثة أو أربعة مصادر ‪ .‬يف مقابل ذلك ‪ ...‬جند مادة‬
‫مصدرية غنية ‪ ،‬تتعلق جبملة من املؤلفات ذات املنزع السلفي أو السين األشعري‬
‫‪. )2() ...‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) أثل مي ستيفنسن ( ‪ 1879‬ـ ‪ 1972‬م ) زوجة المحامي و الضابط و القاضي اإلنكليزي أدوين دراور ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) محنة التراث اآلخر ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪75‬ـ ‪. 76‬‬

‫‪19‬‬
‫نعم ( لقد وقع اجلابري بني قوى جذب خمتلفة ‪ ،‬بني نزعة متركز اإلسالم السين ‪،‬‬
‫اليت تأثر فيها ‪ ،‬ال أقول بهاملتون جيب فحسب ‪ ،‬بل مبجمل البيئة الثقافية‬
‫للباحث و بني ذلك اجلهل الكبري بالرتاث اآلخر ‪. )1() ...‬‬
‫ال ميكن التغاضي عما ميلكه حممد عابد اجلابري من أمية كبرية و واضحة‬
‫بالرتاث الشيعي ‪ .‬فلم تعكس حماوالته النقدية أي املام بالتاريخ و الفكر‬
‫الشيعي ‪ ،‬تدل على ذلك مصادره اليت اعتمد عليها ‪ ،‬ذلك ( إننا نعثر على‬
‫مصادر هزيلة جداً ‪ ،‬من الصعوبة مبكان تقبلها بوصفها آثاراً مرجعية كافية ‪،‬‬
‫لتشكل رؤية متكاملة عن التشيع ‪ .‬جند اعتماداً بسيطاً على ما ال يتجاوز ثالثة‬
‫مصادر أو اربعة ‪ ...‬باإلضافة إىل عدد من املصادر االستشراقية )(‪. )2‬‬
‫و هذا يقود اجلابري إىل التلفيق املتعمد القائم على االحكام املسبقة ‪ ،‬و بذلك‬
‫تكون النتيجة سابقة للبحث من أول األمر ‪ .‬فـ( اجلابري الذي ألف إخفاء‬
‫الكثري من مصادره و برت العديد من النصوص اليت من شأنها أن تكون شواهد‬
‫ضد خطواته االنتقائية )(‪. )3‬‬
‫حتى يصل يف حماوالته االنتقائية و االقصائية إىل درجة طرد الشيعة من دائرة‬
‫اإلسالم!؟‬
‫فعقدة الشرق ‪ ،‬و عقدة التشيع ‪ ،‬تظل حاكمة على عقل و روح و فكر اجلابري‬
‫إىل حد اجلنون اهلستريي ( ما اشدها عنصرية و عقدة من الشرق )(‪. )4‬‬
‫فقد ذكر ان الشيعة مبطلقهم و دومنا متييز بني إمامييهم أو إمساعيلييهم مثالً قد‬
‫وجدوا يف اهلرمسية املعني الذي ال ينضب الذي استمدوا منه فلسفتهم البنيوية ‪،‬‬
‫و ان اجلميع قد غرقوا يف حبر اهلرمسية ‪ ،‬و قد مارس اجلابري نوعاً من التعليب‬

‫‪1‬‬
‫( ) كفى ثقافة طائفية و مثقفون طائفيون ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪ 11‬ـ ‪. 12‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 11‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 16‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 18‬‬

‫‪20‬‬
‫الفكري ألن اهلرمسية بنظره هي موجودة عند غري الشيعة الذين مجعهم بهذا‬
‫التعميم العجيب(‪. )1‬‬
‫إن مقومات املشروع العقلي ( املغربي ) حبسب حممد عابد اجلابري قائم على‬
‫ثالثية ابتدعها هو تتشكل من ‪ :‬نقدية ابن حزم ‪ ،‬و عقالنية ابن رشد ‪ ،‬و‬
‫تارخيية ابن خلدون ‪.‬‬
‫( لقد كانت تارخيية ابن خلدون براغماتية ‪ ،‬و هي ما أعاد الفكر العربي إىل‬
‫الوراء ـ حقاً ـ ‪ ،‬فقد عادى ابن خلدون الفالسفة الذين دافع عنهم ابن رشد ‪،‬‬
‫كما محل ابن حزم على أهل القياس الذي أقام عليه الشاطيب بناءه األصولي ‪ ،‬و‬
‫امتدح طريقتهم ابن خلدون ‪ ،‬و ظل ابن رشد سندهم األرسطي ‪ ...‬أي بنية‬
‫ستنبعث من هذه االنتماءات املختلفة ‪ ،‬و إن كان اجلامع بينها اجملال اجلغرايف و‬
‫االنتماء إىل أمراء بين أمية باألندلس !؟ ‪. )2() ...‬‬
‫تبقى العقدة من الشرق و العقدة من التشيع حاكمة على المعقولية اجلابري (‬
‫أما السلطة ‪ ،‬أموية أو عباسية ‪ ،‬القائمة على العصبية اخللدونية و " القبيلة ـ‬
‫الغنيمة " اجلابرية ‪ ،‬فهي بسحر ساحر ترقى إىل منزلة املعقول الديين و املعقول‬
‫العقلي ‪. )3() ...‬‬
‫نعم ‪ ،‬فحسب الطرح اجلابري ( من تعارض تزندق ‪ ،‬على هذا األساس يقوم‬
‫مشروع العقل العربي اجلابري ! رشدية تؤسس لعلمانية )(‪. )4‬‬
‫يقول علي حرب ( ان اجلابري من خالل مشروعه حياول ان ينتصر للفكر السين‬
‫على حساب الفكر الشيعي ‪ ،‬و للفكر املغربي على حساب املشرقي )(‪. )5‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) محمد عابد الجابري و مشروع نقد العقل العربي ‪ ،‬حسين اإلدريسي ‪ ،‬ص ‪. 173‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) كفى ثقافة طائفية و مثقفون طائفيون ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 23‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 33‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 33‬‬
‫‪5‬‬
‫( ) نقد النص ‪ ،‬علي حرب‪ ،‬ص ‪. 60‬‬

‫‪21‬‬
‫هذه التخبطات زائداً الدوغمائية يف الفكر و التلفيق من هنا و هناك مضافاً إىل‬
‫السرقة و االستعارة هي ما يتميز بها ( مشروع اجلابري ) ‪ ،‬املشروع اهلدام الذي‬
‫ظهر على حني غرة ‪ ،‬ضمن إطار ايديولوجي لبث الفرقة و لتمزيق الواقع (‬
‫العربي ‪ /‬اإلسالمي ) يف اتباعه خلطط تفتيت املنطقة اليت تتناغم مع خمططات‬
‫التقسيم االستعمارية ‪.‬‬
‫إنه مشروع قائم على التفريق ‪ ،‬و الفئوية ‪ ،‬و التمزيق ‪ ،‬و اهلدم احلضاري‪،‬‬
‫والتشويه الديين ‪.‬‬
‫فمثالً ‪ :‬يؤكد ناقد العقل العربي ( أي حممد عابد اجلابري ) يف قراءته لقصة حي‬
‫بن يقظان على ان مسعة ابن سينا مل تكن على ما يرام يف األوساط الفلسفية يف‬
‫املغرب و األندلس ‪ ،‬و توكيداً منه على سوء هذه السمعة وجدناه ‪:‬‬
‫‪1‬ـ خيرتع تضامناً ال وجود له يف الواقع التارخيي و اجلغرايف بني فالسفة املغرب‬
‫يف مواجهة كبري فالسفة املشرق ( ابن سينا ) ‪.‬‬
‫‪2‬ـ يؤسس ازدواجية عضاالً بني الوضعية الفلسفية املغربية اليت يؤمثلها و بني‬
‫الوضعية الفلسفية املشرقية اليت يؤبلسها ‪.‬‬
‫‪3‬ـ يوظف صمت ابن باجة و نقد ابن رشد و يُحرف يف الوقت نفسه شهادة‬
‫ابن سبعني و ابن اإلمام لينطقهم مجيعاً باالزدراء املغربي املزعوم لكبري الناطقني‬
‫بلسان مذهب أهل املشرق ‪ ،‬و مع ذلك كله فإن ناقد العقل العربي ال ميلك إال‬
‫ان يُسجل استثناءً ‪ ،‬فأبن طفيل هو الفيلسوف املغربي األندلسي الوحيد املهتم‬
‫بأبن سينا و فلسفته املشرقية ‪ ،‬ملاذا هذا االستثناء ؟‬
‫ألن حضور ابن سينا يف قصة ابن طفيل كان طاغياً و ال ميكن ان يبقى مسكوتاً‬
‫عنه ‪ ،‬و لكن لئن اضطر ناقد العقل العربي إىل اإلعرتاف بهذا االستثناء فإنه‬

‫‪22‬‬
‫يستنفر كل ما أوتيه من طاقة تأويلية إنكارية لينفي مديونية ابن طفيل ألبن سينا‬
‫و تبعيته املصرح بها للحكمة املشرقية(‪ ،)1‬وهذا هو العجب العجاب؟!‬

‫‪1‬‬
‫( ) وحدة العقل العربي اإلسالمي ‪ ،‬جورج طرابيشي ‪ ،‬ص ‪ 195‬ـ ‪. 196‬‬

‫‪23‬‬
‫يف مفهوم القطيعة‬
‫اطاللة عامة‬

‫إن مصطلح القطيعة ‪ ،‬أو ( القطيعة االبستمولوجية ) (‬


‫‪ ) Epistemological Rupture‬يف أساسه ( مصطلح ظهر يف جمال‬
‫الدراسات االبستمولوجية للعلم و تارخيه ‪ ،‬ثم حتول إىل دراسة مجلة من‬
‫النشاطات الفكرية لإلنسان ‪ .‬يطلق هذا املصطلح على كل فرضية أو نظرية‬
‫تعلن عـن قيام الفكر العلمي أكثر مشوالً ‪ .‬و هي ال تعين انفصاالً عن الفكر‬
‫العلمي السابق أو رفضاً لـه ‪ ،‬بل تعين احتواء الفكر العلمي اجلـديد للسابق‬
‫عليه )(‪. )1‬‬
‫فحقيقة مصطلح ( القطيعة االبستمولوجية )(‪ )2‬أنه مصطلح مستورد ظهر على‬
‫يد الفيلسوف الفرنسي ( غاستون باشالر )(‪ )3‬صاحب كتاب ( الفكر العلمي‬
‫اجلديد ) ‪ ،‬و الذي أراد منه ‪ :‬ختلي العالِم يف املخترب عن املعرفة التقليدية‬
‫الشائعة ‪ ،‬و األخذ باملعرفة العلمية املوضوعية القائمة على التجربة و الربهان ‪.‬‬
‫إن أشكال القطيعة االبستمولوجية اليت ذكرها باشالر هي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ القطع االبستمولوجي التام ‪ ،‬و الذي يقوم على الفصل بني الفكرة و احمليط ‪.‬‬
‫‪2‬ـ القطع االبستمولوجي القائم على االحتواء ‪ ،‬فاجلديد حيتوي ما جتاوزه دون أن‬
‫يلغيه ‪.‬‬
‫‪3‬ـ القطع االبستمولوجي بالتتام ‪ ،‬و هو الذي يقول بوجود منظومتني خمتلفتني يف‬
‫احلقل نفسه ‪ ،‬لكلٍ منها اجتاه(‪. )4‬‬
‫‪1‬‬
‫( ) من اآلخر إلى الذات ‪ ،‬حسن مجيد العبيدي ‪ ،‬ص ‪. 180‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) و عن مصطلح ( القطيعة االبستمولوجية ) يراجع كتاب ‪ :‬فلسفة المعرفة عند غاستون باشالر ‪ ،‬محمد وقيدي ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) غاستون باشالر ( ‪ 1884‬ـ ‪ 1962‬م ) فيلسوف و عالم فرنسي ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) المعجم الموسوعي لمصطلحات الحداثة ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ ، 41‬في معنى األبستمولوجيا ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫إال أن هناك معنى آخر للقطيعة متثل يف ‪ :‬القطيعة بني األنظمة املعرفية يف تاريخ‬
‫العِلم ‪ ،‬أي إنه عندما يصل النظام املعريف الذي نستخدمه إىل طريق مسدود و ال‬
‫يستطيع معاجلة اإلشكاليات اليت تواجهنا ‪ ،‬فالبد لنا من التغيري و التخلي و‬
‫بوعي تام عن ذلك النظام املعريف القديم ‪ ،‬و تبين نظام معريف جديد يستطيع‬
‫التعامل مع اإلشكاليات اليت عجز النظام املعريف القديم من التعامل معها(‪. )1‬‬
‫و قد طور هذا املفهوم الثاني الفيلسوف و الناقد الفرنسي ( ميشيل فوكو )‬
‫(‪)2‬‬

‫يف كتابه ( تاريخ اجلنون ) ‪ ،‬و الفيلسوف الفرنسي ( لويس ألتوسري )(‪ ، )3‬و‬
‫مؤرخ العِلم األمريكي ( توماس كون )(‪ )4‬صاحب كتاب ( بنية الثورات العلمية‬
‫)‪.‬‬
‫إذن فإن أول من بلور مفهوم القطيعة االبستمولوجية ( القطيعة املعرفية ) هو‬
‫فيلسوف العلم الفرنسي ( غاستون باشالر ) و يراد به معنيني هما ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬القطيعة املعرفية بني املعرفة العلمية و املعرفة الشائعة ‪ ،‬فهو يرى ان بني‬
‫املعرفة العلمية و املعرفة الشائعة قطيعة كاملة فاألوىل مبنية على الربهان و‬
‫املوضوعية ‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬فهي ذاتية و تقليدية و لذا جعل من شروط العامل ان يتخلص حني يدخل‬
‫املخترب من معرفته السابقة ‪.‬‬
‫أما القطيعة املعرفية باملعنى اآلخر لدى باشالر فهي القطيعة املعرفية بني األنظمة‬
‫املعرفية يف التاريخ العلمي ‪ .‬كأن تقول ‪ :‬ان نيوتن ـ مثالً ـ قد قطع متاماً مع‬
‫الفيزياء السابقة له بعد ان حوهلا إىل كمية حسابية ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) فمن يفعل الشيء نفسه في كل مرة ‪ ،‬بذات الطريق ‪ ،‬و نفس األسلوب ‪ ،‬فال يتوقع أن يرى نتائج مغايرة بتاتاً ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) ميشيل فوكو ( ‪ 1926‬ـ ‪ 1984‬م ) ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) لويس ألتوسير ( ‪ 1916‬ـ ‪ 1990‬م ) ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) توماس كون أو كوهن ( ‪ 1922‬ـ ‪ 1996‬م ) ‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫لقد أوىل باشالر االهتمام األكرب للنوع األول حبكم اهتماماته العلمية ‪ ،‬أما‬
‫النوع الثاني فتوجد تطبيقاته عند الثالثي فوكو و ألتوسري و كوهن ‪.‬‬
‫إن ميشال فوكو قد قسم الفكر الغربي يف كتابه ( الكلمات و األشياء ) إىل‬
‫ثالث حقب تارخيية انطالقاً من تشكل نظام معريف خاص بكل حقبة ‪ ،‬فعصر‬
‫النهضة يتأسس على نظام ( التشابه ) مما يعين ان فهم خطابات هذا العصر ال‬
‫ميكن فهمها إال انطالقاً من هذا النظام ‪ ،‬فهي مبثابة املقدمات أو األسس اليت‬
‫ينطلق منها التفكري و تتشكل بالتالي من خالهلا اخلطابات املعرفية و السياسية‬
‫و الفنية ‪ .‬يلي عصر النهضة العصر الكالسيكي املتمثل بالقرنني السابع و‬
‫الثامن عشر ‪ ،‬و يسود يف هذا العصر نظام ( النظام و الرتتيب ) ‪ ،‬أما العصر‬
‫احلديث ‪ ،‬القرن التاسع عشر ‪ ،‬أصبح التاريخ أو اإلنسان التارخيي هي املقولة‬
‫األساسية يف هذا العصر ‪ .‬و يؤكد فوكو ان اإلنسان مل يكن موجوداً قبل القرن‬
‫الثامن عشر مبعنى انه مل يكن هدف التفكري و ال منطلقه االساسي ‪ ،‬أي ان‬
‫تفكري اإلنسان مل يكن إنسانياً و ال لإلنسان ‪ ،‬بل كان الهوتياً ‪ ،‬سلطوياً ‪.‬‬
‫أما لوي التوسري فقد طبق مفهوم القطيعة من خالل دراسته ملاركس ‪ ،‬حيث قسم‬
‫حياته إىل ثالثة أقسام باعتبار التأثر باهليجلية املثالية ‪ ،‬مرحلة الشباب و التبعية ‪،‬‬
‫و مرحلة االنقطاع و الشك ‪ ،‬و مرحلة االستقالل و التفرد ‪ .‬لقد احدثت‬
‫مساهمة التوسري وقتها لغطاً كبرياً خصوصاً داخل املاركسيني الذين مل يتحملوا‬
‫هذا التقسيم ملاركس األب ‪.‬‬
‫أما توماس كوهن ( كون ) ففي كتابه ( بنية الثورات العلمية ) يسمي النظام‬
‫املعريف بـ( البارديغم ) ‪ ،‬أي النموذج ‪ .‬فالنظرية العلمية يف وقت من األوقات‬
‫تصبح منوذجاً متبعاً لكل الباحثني ‪ .‬يتحول البارديغم حني يتعرض ألزمة نتيجة‬
‫لصعوبات توجهها النظرية العلمية و تعجز من خالهلا عن اإلجابة على هذه‬

‫‪26‬‬
‫الصعوبات ‪ ،‬يف البداية يقوم العلماء بااللتفاف على هذه الصعوبات عن طريق‬
‫عمل الكثري من التلفيقات يف النظرية ‪ ،‬و لكن هذه التلفيقات تعجز يف رقع‬
‫ثقب النظرية و من رحم النظرية خترج ( الثورة العلمية ) اليت يقوم بها عادة‬
‫العلماء الشباب و يرفضها الشيوخ و لكنها تنطلق لتؤسس براديغمها اجلديد‪.‬‬
‫فكيف نتعامل مع املعرفة ‪ ،‬و كيف نتعامل مع الرتاث ؟ هل بأسلوب األخذ‬
‫املطلق ؟ ‪ ،‬أم بأسلوب القطيعة ؟ ‪ ،‬أم ننتهج طريقاً وسطياً يف كيفية األخذ ؟‬
‫فـ(يف إطار الصراع بني األمة اإلسالمية و أعدائها ‪ ،‬أدرك أعداء األمة اإلسالمية‬
‫ضرورة القضاء على اجلانب الفكري و الثقايف ملن أراد السيطرة على الشعوب‬
‫اإلسالمية ‪ ،‬أو استبعاد منافستها احلضارية ‪ ،‬و أن هذا القضاء و االستئصال‬
‫للفكر اإلسالمي ال يُستكمل إال من خالل تقويض اللغة العربية ‪ ،‬الوعاء اجلامع‬
‫للرتاث اإلسالمي ‪ ،‬و إجياد القطيعة ‪ ،‬و التجاوز بني األمة ‪ ،‬و تراثها اإلسالمي‬
‫املدون باللغة العربية )(‪. )1‬‬
‫ان الفيلسوفة الفرنسية ( سوزان باشالر )(‪ )2‬أبنة الفيلسوف الفرنسي املشهور‬
‫( غاستون باشالر )(‪. )3‬‬
‫تساءلت انطالقاً من هوسرل " األول " ‪ ،‬هوسرل املنطقي ال الفينومينولوجي ‪،‬‬
‫عن مبادئ ما مسي بالتاريخ االبستمولوجي للعلوم ‪ ،‬و مل تقبل مبفهوم ( القطيعة‬
‫االبستمولوجية ) إال من خالل تعريف جديد يرى يف القطيعة ( نقلة إىل احلد‬
‫األخري للتغريات السابقة ) نقلة قد تكون مفاجئة ‪ ،‬و لكنها قابلة ألن تتوقع(‪. )4‬‬
‫يرى الكاتب واملفكر املغربي األستاذ إدريس هاني بأنه و على الرغم من ان‬
‫مفهوم القطيعة كان منشؤه علمي حبت ‪ ،‬و رمبا جاء ليقطع الطريق على االخرتاق‬

‫‪1‬‬
‫( ) اللغة الموحدة ‪ ،‬الشيخ غالب الناصر ‪ ،‬ص ‪ 7‬ـ ‪. 8‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) سوزان باشالر ( ‪ 1919‬ـ ‪ ....‬م ) ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) غاستون باشالر ( ‪ 1884‬ـ ‪ 1962‬م ) كان أبوه إسكافياً و جده فالحًا ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫( ) ظ‪ :‬معجم الفالسفة ‪ ،‬جورج طرابيشي ‪ ،‬ص ‪. 143‬‬

‫‪27‬‬
‫االيديولوجي نفسه للمعرفة ‪ ،‬إال انه يعترب أفضل هدية قدمها النقد املعريف إىل‬
‫املقاربة االيديولوجية ‪ .‬و مع ان هذا املفهوم املتداول بكثافة يف النقد املعريف و‬
‫االيديولوجي العربي املعاصر ‪ ،‬هو العنصر اجلامع ملختلف اخلطابات و املشاريع‬
‫النقدية العربية و اإلسالمية املعاصرة ‪ ،‬إال ان هناك جانباً كبرياً من االختالف ال‬
‫يستهان به يف طبيعة و حيثيات القطيعة املنشودة ‪ .‬فهل يا ترى هي قطيعة تامة و‬
‫جذرية مع الرتاث ‪ ،‬أم هي قطيعة موضعية جزئية انتقائية معه ‪ ،‬أم هي قطيعة مع‬
‫فهم معني للرتاث ‪ ،‬أم قطيعة مع الرتاث نفسه ؟(‪ ، )1‬تساؤالت معرفية مشروعة‬
‫حتتاج إىل إجابات مقنعة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) ظ‪ :‬مفهوم القطيعة االبستمولوجية عند غاستون باشالر ‪ ،‬دالل االعوج ( مقال ) ‪ ،‬الحوار المتمدن ‪ ،‬العدد ‪. 3065‬‬

‫‪28‬‬
‫مشروع القطيعة عند اجلابري‬
‫أما عن مشروع حممد عابد اجلابري النقدي املؤمن بالقطيعة كدستور ‪ ،‬يقول‬
‫األستاذ إدريس هاني ‪ ( :‬اجلزء األعظم من العرب جيدون أنفسهم خارج املشروع‬
‫النهضوي اجلابري التجزيئي ‪ .‬ألن شروط قيام هذه النهضة أن يصبح املغرب‬
‫رشدياً و يتخلص من صوفييه ‪ ،‬و أن يصبح املشرق مغربياً رشدياً ال مشرقياً‬
‫سينوياً ‪ ،‬فال مكان للمسيحيني العرب و ال للصوفية و ال للشيعة ‪ ،‬مع أن تأرخينا‬
‫قام على هؤالء مجيعاً ‪ ،‬فالنهضات هي جهد مرتاكم لألمة بكل مكوناتها ‪ .‬إمنا‬
‫النهضات و احلضارات يساهم فيها الربهانيون و البيانيون و العرفانيون ‪ ...‬و‬
‫هي صنيعة للقبيلة و الغنيمة و العقيدة ‪ ...‬و هي نتاج لعقيدة الطاعة و املروءة و‬
‫السعادة و التقوى ‪ ...‬إنها تتسع لكل الفعاليات و حتتوي كل الثقافات ‪ ..‬لذا‬
‫أقول ‪ :‬إن مشروع اجلابري هو يف حقيقة األمر مشروع إهانة لألمة ‪ .‬فلقد أهان‬
‫شعوباً و ثقافاتٍ برمتها ‪. )1()...‬‬
‫إن ما تؤمن به املنظومة اليت يتبع اجلابري هلا تعتمد على باراديغم متناقض ‪،‬‬
‫بل هو ال ميثل أصالً أسس البارديغم احلقيقي ‪ .‬ان الغنوصية اليت اضفوها على‬
‫باريديغمات قلقة أدى إىل أن يعيش الرتاث قلقاً ابستمولوجياً اخرجه من حيزه‬
‫احلقيقي إىل احليز االيديولوجي ‪ .‬و هنا يكمن التهافت الذي وقع فيه اجلابري و‬
‫غريه باعتمادهم على الشخصنة يف احلكم‪ ،‬و احملاكمة للشخوص بدل الكيانات‪.‬‬
‫( هاهنا ‪ ،‬تستبد األيديولوجيا بالبحث ‪ ،‬و يستغين الباحث املنتمي عن اآللية‬
‫االبستمولوجية يف استكشاف البنية احلقيقية اليت تستقر يف مكامن هذا اخلطاب‬

‫‪1‬‬
‫( ) اإلسالم و الحداثة ‪ ،‬احراجات العصر و ضرورات تجديد الخطاب ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬دار الهادي ‪ 2005‬م ‪ ،‬ص ‪. 141‬‬

‫‪29‬‬
‫التارخيي املتعصب ملعصوميته املزعومة ‪ ،‬و املتسلح بعناصر غري معرفية ‪ :‬عناصر‬
‫الغلبة ‪ ،‬و التمركز ‪ ،‬و األمر الواقع ! )(‪. )1‬‬
‫يعترب اجلابري فاعل ثقايف ‪ ،‬و سياسي منخرط يف الصراع االيديولوجي ‪ ،‬و متبين‬
‫للغة ايديولوجية يف الطرح ‪ ،‬و مشروع القطيعة لديه هو مشروع ( قطيعة‬
‫صغرى ) حبسب تعبري األستاذ و الكاتب املغربي املرموق ( إدريس هاني ) ‪.‬‬
‫و إن سبب تسميتها بالقطيعة الصغرى حبسب إدريس هاني ‪ ،‬ذلك ان ( القطيعة‬
‫اليت سعى إليها اجلابري ‪ ،‬هي سلسلة من القطائع اجلزئية و التجزيئية ‪ ،‬اليت‬
‫تتصل جبوانب من الرتاث معينة ‪ ،‬أو بفهم معني له ‪ .‬فحتى مفهوم القطيعة ‪،‬‬
‫خضع عند اجلابري للنظرة التجزيئية و االنتقائية )(‪. )2‬‬
‫إن غاية املقاربة االيديولوجية اجلابرية للرتاث حتقيق ضربني من القطائع ‪:‬‬
‫‪1‬ـ قطيعة تارخيية ‪ ،‬قوامها القطع مع اجملال التارخيي العربي و اإلسالمي الـ( ما‬
‫قبل ـ رشدي ) أي القطع مع عمر اإلشكالية السينوية و الغزالية ؛ مبعنى آخر ‪:‬‬
‫اهلرمسية ‪.‬‬
‫‪2‬ـ قطيعة جغرافية ‪ ،‬قوامها القطع مع الشرق العربي و اإلسالمي ‪ ،‬بوصفه ال‬
‫يزال يعيش عمر اإلشكالية السينوية و الغزالية ‪ ،‬و ال يزال حتى اليوم مشدوداً‬
‫إىل هرمسيته ‪.‬‬
‫فالشرخ الذي يعد نتيجة حتمية للقطيعة اليت يدعو إليها اجلابري و يستلهم‬
‫روحها من الرتاث ‪ ،‬و من التجربة الرشدية نفسها ‪ ،‬هو شرخ تارخيي و جغرايف‬
‫‪ ...‬ان اجلابري كان قد نقلنا إىل أشكال أخرى من ( القطيعة ) يف نقد العقل‬
‫العربي ‪ ،‬ضمن مستويات تفكيكية أخرى ‪ ...‬مل يعد مهماً اليوم الوقوف عند‬

‫‪1‬‬
‫( ) محنة التراث اآلخر ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 77‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) خرائط ايديولوجية ممزقة ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 190‬‬

‫‪30‬‬
‫دقائق األمور و تفاصيل النقد اجلابري للرتاث ‪ .‬فلقد أوضح أكثر نقاده ذلك‬
‫التغليب األعظم لأليديولوجي على املعريف(‪. )1‬‬
‫إن اجلابري حيمل تصوراً طوباوياً ‪ ،‬و يف الوقت نفسه مغالطاً حلركة التاريخ و‬
‫منطق التحوالت االجتماعية و احلضارية ‪ .‬ذلك ملا اعتقد بأن النهضة ال تقوم إال‬
‫بالربهان ‪ .‬و احلقيقة ان النهضة تقوم بكل املكونات االجتماعية و الثقافية ‪ .‬إنها‬
‫نهضة يشارك فيها البيان و الربهان و العرفان ‪ .‬هذه اجلغرفة األيديولوجية و‬
‫النماطية اجلابرية اليت شطت بعيداً لتعيد صياغة الرتاث يف شكل جزائر‬
‫منفصلة و معسكرات متناحرة و عوامل مفككة ‪ ،‬تعكس أزمة العقل العربي‬
‫نفسه ‪ ...‬فالذي يتتبع االختالف ليبيده نظرياً هو باألحرى رافض ألي واقع‬
‫تعددي راهن(‪. )2‬‬
‫نعم ‪ ،‬من بني أكثر املشاريع اثارة للجدل ‪ ،‬املشروع الذي ابتدأه املفكر املغربي‬
‫حممد عابد اجلابري يف بداية الثمانينات ‪ ،‬ليختمه يف أواخر التسعينات من القرن‬
‫املاضي ‪ ،‬و هو ما عُرف بنقد العقل العربي ‪ .‬كما و انه يعد من أكثر املشاريع‬
‫عرضة لالنتقاد ‪ ،‬إذ مل يكن مورد انتقاد مدرسة معينة ‪ ،‬بل ميكن القول حبصول‬
‫ائتالف من املدارس الفكرية جمتمعة على انتقاده(‪. )3‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) ظ‪ :‬خرائط ايديولوجية ممزقة ‪ ،‬ص ‪ 207‬ـ ‪. 208‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) ظ‪ :‬م ‪ ،‬ن ‪ ،‬ص ‪. 208‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) ظ‪ :‬دراسة نقدية في الفكر العربي المعاصر ‪ ،‬الجابري انموذجاً ‪ ،‬نور الدين الدغير ‪ ،‬مجلة المنهاج ‪ ،‬العدد ‪. 28‬‬

‫‪31‬‬
‫اخللط املناهجي اجلابري‬
‫إن قراءة ( اجلابري ) قائمة على تعدد املناهج ‪ :‬املنهج البنيوي ‪ ،‬و املنهج‬
‫التارخيي ‪ ،‬و املنهج االيديولوجي ‪ .‬و يعين هذا أن مثة تنافراً بني هذه املناهج ‪.‬‬
‫فكيف ميكن اجلمع بني املنهج البنيوي الداخلي مع املنهج التارخيي و املنهج‬
‫االيديولوجي باعتبارهما منهجني خارجيني؟!! كما ان البنيوية ـ نظرياً و منهجياً ـ‬
‫ال تتعامل مع العتبات اخلارجية كصاحب النص و املعاني املباشرة ‪ ،‬بل تنطلق‬
‫من قراءة املفاهيم الشكلية للوصول إىل الدالالت الثابتة ‪ ،‬عرب عالقات‬
‫االختالف و التضاد و التناقض ‪ .‬يف حني جند لدى ( اجلابري ) تلفيقاً منهجياً‬
‫واضحاً من خالل اجلمع بني مناهج متداخلة و متنافرة ابستمولوجياً رؤيةً و‬
‫إجراءً و تصوراً(‪. )1‬‬
‫لقد تشاركت حممد عابد اجلابري عدة مؤثرات ‪ ،‬إذ قد أخذ الكثري من هنا و‬
‫هناك ‪ ،‬حتى يكاد ال يكون له وجود وسط االستعارات اليت كون منها مشروعه‬
‫التلفيقي ‪ ،‬و ميكن ان نقسم املؤثرات إىل اربعة اقسام ‪ ،‬لنبني يف كل مؤثر‬
‫الشخصيات اليت أخذ منها األفكار لينسبها لنفسه ‪:‬‬
‫‪1‬ـ عربيا ‪ :‬تأثر بـ‪ :‬مالك بن نيب ‪ ،‬و حسني مروة ‪ ،‬و فهمي جدعان ‪ ،‬و أمني‬
‫اخلولي ‪ ،‬و طه حسني ‪.‬‬
‫‪2‬ـ استشراقياً ‪ :‬تأثر بـ‪ :‬نولدكه ‪ ،‬و رجييس بالشري ‪ ،‬و ارنست رينان ‪ ،‬و هنري‬
‫كوربان ‪ ،‬و لويس ماسينيون ‪ ،‬و جريم ‪ ،‬و وليام موير ‪ ،‬و ريتشارد بيل ‪ ،‬و جاك‬
‫بريك ‪ ،‬و روزنتال ‪ ،‬و سيمون فايل ‪ ،‬و فنسنك ‪ ،‬و هاملتون جب ‪ ،‬و ماكدونالد ‪،‬‬
‫و برنارد لويس ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) ظ‪ :‬مواقف من التراث العربي ـ اإلسالمي ‪ ،‬جميل حمداوي ‪ ،‬ص ‪. 34‬‬

‫‪32‬‬
‫‪3‬ـ أوربياً ‪ :‬تأثر بـ‪ :‬رجييس دوبري ‪ ،‬و اندري الالند ‪ ،‬جان بياجيه ‪ ،‬كلود ليفي‬
‫شرتاوس ‪ ،‬فرويد ‪ ،‬لوي التوسري ‪ ،‬غاستون باشالر ‪ ،‬ميشال فوكو ‪ ،‬توماس كون ‪،‬‬
‫مارتن هايدجر ‪ ،‬جاك دريدا ‪ ،‬درودس ‪ ،‬فيستوجري ‪ ،‬ماكس فيرب ‪ ،‬أملو ‪ ،‬دوبريه ‪،‬‬
‫بروهل ‪ ،‬بول ريكور ‪ ،‬لوسيان كولدمان ‪ ،‬لوكاتش ‪ ،‬غونزيت ‪.‬‬
‫‪4‬ـ تارخيياً ‪ :‬تأثر بـ‪ :‬أمحد بن حنبل ‪ ،‬ابن خلدون ‪ ،‬ابن رشد ‪ ،‬ابن تيمية ‪ ،‬ابن‬
‫حزم ‪ ،‬الغزالي ‪ ،‬الشهرستاني ‪ ،‬حممد بن عبد الوهاب ‪ ،‬الشاطيب ‪.‬‬
‫لقد تبنى اجلابري منظور (أملو) للعقل بوصفه فعالً ‪ .‬و من جهة أخرى فقد تبنى‬
‫اجلابري معنيني للعقل بصورة واضحة و معلنة ‪ ،‬هما املعنيان اللذان طرحهما‬
‫(أندريه الالند) ‪ :‬العقل املكوَّن ـ بفتح الواو مع الشدة ـ و العقل املكوَّن ـ مع‬
‫كسر الواو مع الشدة ـ ‪ .‬إذن حنن بصدد ضرب آخر من االستعارة املفهومية ملاهية‬
‫العقل ‪ ،‬حتدد لنا خمتارات اجلابري ‪ ،‬حيث ميكننا تقدميها كالتالي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ العقل كبنية ( استعاره من عموم البنيويني ؛ بياجه يف مفهوم الالشعور املعريف‬
‫‪ ،‬أو دوبريه يف مفهوم الالشعور السياسي ؛ و ايضاً حتوير ملفهوم " العقلية " ـ‬
‫نظري العقلية البدائية ـ عند بروهل ‪.‬‬
‫‪2‬ـ العقل كفعل أو فعالية (استعارة من " أملو " و من رأى رأيه) ‪.‬‬
‫‪3‬ـ العقل كجدل بني عقلني؛ مكوَّن و مكوَّن (استعارة من أندريه الالند)(‪. )1‬‬
‫ان حممد عابد اجلابري قد تأثر بتصورات (لوسيان كولدمان) صاحب البنيوية‬
‫التكوينية ‪ ...‬كما تأثر ببول ريكور الذي يدعو إىل اجلمع بني الطرح البنيوي‬
‫الداخلي و القراءة السياقية املرجعية اليت تهتم بالذات و املقصدية و اإلحالة(‪. )2‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) ظ‪ :‬خرائط ايديولوجية ممزقة ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪ 196‬ـ ‪. 197‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) ظ‪ :‬مواقف من التراث العربي ـ اإلسالمي ‪ ،‬جميل حمداوي ‪ ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪33‬‬
‫لقد استعمل حممد عابد اجلابري مقوالت و مفاهيم غربية يف العقل السياسي‬
‫العربي كتحليل الالشعور السياسي عند رجييس دوبريه و لوكاتش و مقوالت‬
‫املاركسية و بعض أدوات فوكو(‪. )1‬‬
‫يعد كتاب ( ابن رشد و الرشدية ) من الكتب اليت حاولت االنتصار للمدرسة‬
‫األوربية ‪ ،‬و طرح ابن رشد يف شكله الالتيين ‪ ،‬ليخلص اجلابري يف األخري‬
‫بنتيجة و هي ‪ ( :‬مركزية العقل األوربي ) و هذا ما حاول ( ارنست رينان )‬
‫بالضبط اخللوص إليه قبله!؟ ‪.‬‬
‫يقول االستاذ إدريس هاني يف الرد على ذلك ‪ ( :‬تطالعنا الرشدية بوصفها رهاناً‬
‫أخرياً للفكر العربي ‪ ،‬و نهاية قصوى هلذا العقل ‪ .‬مع أن ظروفاً تارخيية ساهمت‬
‫يف هذا التعاطي املسرف ـ حيث أُهملت جوانب مشرقة من عبقريتنا العربية ـ‬
‫و على رأس ذلك ‪ ،‬االنتقال التارخيي للرشدية إىل قلب الفعل الثقايف األوربي‬
‫يف حلظات مبكرة ‪ ،‬ساندها الوضع اجلغرايف املتقارب ‪. )2() ...‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) ظ‪ :‬أعالم الفكر العربي ‪ ،‬السيد ولد أباه ‪ ،‬ص ‪. 168‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) ما بعد الرشدية ‪ ،‬مال صدرا رائد الحكمة المتعالية ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪ 12‬ـ ‪. 13‬‬

‫‪34‬‬
‫ذو اللوثة كنموذج اقتدائي جابري‬
‫إن القراءة املسيئة للرتاث العربي و اإلسالمي بشكل عام ‪ ،‬و للرتاث‬
‫الفكري الشيعي بشكل خاص ميزة من ميزات كتابات حممد عابد اجلابري ‪ ،‬و‬
‫رائداً للمعقول الديين ‪ ،‬رغم املفارقة الكبرية اليت‬ ‫(‪)1‬‬
‫الذي جعل من ابن تيمية‬
‫أثارها الرحالة املغربي الشهري (ابن بطوطة) و الذي كان ال يتوانى من أن ينعت‬
‫ابن تيمية بـ( الفقيه ذي اللوثة )(‪ )2‬ملا مسع خطبة له يف أحد جوامع دمشق ‪.‬‬
‫انطلق اجلابري و غريه ليجعلوا من ذي اللوثة منوذجاً يقتدى به يف كثريٍ من‬
‫أطروحاتهم السفسطية ذات األبعاد االيديولوجية ‪ ،‬معتمدين يف ذلك على فكر‬
‫دوغمائي عكسه الواقع القروسطي الذي كان يعيش فيه ابن تيمية ‪ ،‬مضافاً إىل‬
‫الواقع التوتاليتاري الذي نشأ على وفقه أمثال حممد عابد اجلابري(‪. )3‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) تقي الدين أحمد الحراني الدمشقي الحنبلي ‪ 661 ( :‬ـ ‪ 728‬هجري ) ‪ 1263 ( ،‬ـ ‪ 1328‬ميالدي ) من أصول غير عربية ‪ ،‬كان‬
‫معادياً للصوفية و الشيعة بسبب و بال سبب ‪ ،‬و كان من أشد النواصب لمذهب التشيع ‪ ،‬و هو أول من أفتى بحرمة زيارة قبر النبي‬
‫محمد ( ص ) ليقطع الطريق على كل زائر ‪ ،‬و عد السفر إلى زيارة قبر النبي ( ص ) عمالً محرماً يجب إتمام الصالة فيه ‪ ،‬و هذه‬
‫اآلراء التي أطلقها اعتمدتها الحركة الوهابية و أحلت بفتاوي أبن تيمية هدم قبور الصالحين ‪ ،‬هذه الفتاوي سمحت للفقهاء بتأليف الكتب‬
‫دفاعاً عن زيارة القبور ‪ ،‬فوضع تقي الدين السبكي ( ت ‪ 756‬هـ ) كتابين ( شفاء السقام في زيارة خير األنام ) و ( الدرة المضية في‬
‫الرد على أبن تيمية ) ‪ ،‬و مؤلفات أخرى في الرد على أبن تيمية مثل ( المقالة المرضية لقاضي قضاة المالكية تقي الدين أبي عبد اهلل‬
‫األخنائي ) و ( نجم المهتدي و رجم المقتدي للفخر أبن المعلم القرشي ) و ( دفع الشبه لتقي الدين الحصني ) و ( التحفة المختارة في‬
‫الرد على منكر الزيارة لتاج الدين الفاكهاني ) و ( إكمال المنة في نقض منهاج السنة لسراج الدين الهندي ) و ( منهاج الشريعة في‬
‫نقض مناج السنة للسيد مهدي القزويني ) و ( اإلمامة الكبرى و ال خالفة العظمى للسيد محمد حسن الشيرازي ) و ( خبر الجهة ألحمد‬
‫بن يحيى بن جبريل الشافعي ) و ( إعتراضات على أبن تيمية ألحمد بن إبراهيم السروطي الحنفي ) و ( الجوهر المنظم في زيارة‬
‫القبر المعظم ألبن حجر الهيتمي ) و ( أبن تيمية ليس سلفياً لمنصور عويس ) و ( أبن تيمية لصائب عبد الحميد ) غيرها الكثير ‪ .‬قال‬
‫أبن حجر العسقالني في ذم منهج أبن تيمية ‪ ... ( :‬و كم من مبالغة لتوهين كالم الرافضي أدته إلى تنقيص علي رضي اهلل عنه ) لسان‬
‫الميزان ‪ ،‬ج ‪ ، 6‬ص ‪319‬ـ ‪ / 320‬وقال أبن حجر الهيتمي في أبن تيمية ‪ ( :‬أبن تيمية عبد خذله اهلل ‪ ،‬و أضله و أعماه و أصمه و‬
‫أذله ‪ ،‬و بذلك صرح األئمة الذين بينوا فساد أحواله و كذب أقواله ‪ ...‬و يعتقد فيه أنه مبتدع ضال مضل جاهل غال و أجارنا من مثل‬
‫طريقته و عقيدته ) الفتاوى الحديثة ‪ ،‬الهيتمي ‪ ،‬ص ‪ / 144‬و في مورد آخر يقول الهيتمي ‪ ( :‬و إياك أن تصغي إلى ما في كتب أبن‬
‫تيمية و تلميذه أبن القيم الجوزية و غيرهما ممن أتخذ إلهه هواه ‪ ...‬و كيف تجاوز هؤالء الملحدون الحدود ‪ ) ...‬الفتاوى الحديثة ‪،‬‬
‫الهيتمي ‪ ،‬ص ‪ / 203‬و قال فيه تاج الدين السبكي ‪ ( :‬و أعلم أن هذه الرفقة ‪ ،‬أعني المزي و الذهبي و البرزلي و كثيراً من أتباعهم‬
‫أضر ب هم أبو العباس أبن تيمية إضراراً بيناً ‪ ...‬و أوقفهم في دكادك من نار ‪ ) ...‬طبقات الشافعية الكبرى ‪ ،‬السبكي ‪ ،‬ج ‪ ، 10‬ص‬
‫‪ / 400‬و قال األلوسي في أبن تيمية ‪ ( :‬و أرى أن تشنيع أبن تيمية ‪ ،‬و أبن القيم ‪ ،‬و أبن قدامة ‪ ،‬و أبن قاضي الجبل ‪ ،‬و الطوفي ‪ ،‬و‬
‫أبي نصر ‪ ،‬و أمثال هم ‪ ،‬صرير باب أو طنين ذباب ‪ ...‬و لوال الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعاً بصاع ‪ ...‬و لعلمتهم كيف يكون‬
‫الهجاء بحروف الهجاء ‪ ) ...‬تفسير روح المعاني ‪ ،‬ج ‪ ، 1‬ص ‪ 18‬ـ ‪. 19‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) رحلة ابن بطوطة ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪. 90‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) فقد كان ابن تيمية عند جملة ممن تسنموا الكتابة نموذجاً في كل شيء ‪ ،‬نذكر من أمثال هؤالء و على سبيل المثال ال الحصر ‪:‬‬
‫أحمد أمين ‪ ،‬و طه جابر العلواني ‪ ،‬و طه عبد الرحمن ‪ ،‬و ابو يعرب المرزوقي ‪ ،‬و غيرهم ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫إذ ( ال يكفي يف التحليل العلمي إيراد املفاهيم العلمية ‪ ،‬هذه اليت من اليسري‬
‫حتويلها إىل اساس لرؤية مفارقة حينما ال حنسن استحكامها أو توظيفها )(‪( . )1‬‬
‫فالبيانيَّة املشرقية رغم كل جهودها اجلبارة مل تلق من الباحث املغربي التقدير‬
‫املطلوب )(‪. )2‬‬
‫لقد أوحى اجلابري يف كالمه عن الرتاث بوجود تكتالت ‪ ،‬و وجود تقسيم ‪ ،‬و‬
‫متايز ‪ ،‬و تناحر بني املشرق و املغرب ‪ .‬لقد أراد أن يبين ـ يف اذهان اجملتمع‬
‫اإلسالمي ـ شرقاً فارغاً و خاوياً ‪ ،‬رغم أن االمجاع من قبل العلماء املسلمني و‬
‫غريهم ‪ ،‬عرباً و غريهم ‪ ،‬بل حتى من قبل املستشرقني و علماء الغرب بأن‬
‫الشرق هو منبع احلضارة ‪ ،‬و منبع العقل ‪ ،‬و انه قلب العامل النابض ‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن نوعية االنتماء الديين فيه ‪ .‬هذا ‪ ،‬مع عدم تغييب لألصقاع األخرى‬
‫من غرب و جنوب و مشال ‪ .‬فاجلميع يشكل وحدة تكاملية يف البناء املعريف‬
‫اإلنساني ‪.‬‬
‫فإذا كان الشرق و كل قادم من املشرق هو بعيد عن حقيقة املعرفة ‪ ،‬و ال يعتد به‬
‫‪ ،‬فبأي خانة سنضع الرتاث احلديثي و الذي ألفه رجال أصوهلم من الشرق ‪،‬‬
‫ومن ذوي أصول أعجمية ؟!؟‬
‫أم بأي خانة سنضع املؤلفات التفسريية اليت ألفها رجال من الشرق ايضاً ‪ ،‬و‬
‫كذلك احلال بالنسبة للعقائد ‪ ،‬و علم الكالم ‪ ،‬و الفلسفة ‪ ،‬و باقي العلوم‬
‫الدينية و غريها من العلوم األخرى ‪.‬‬
‫هل ينكر أحد بأن منشأ املذاهب اإلسالمية هو املشرق ‪ ،‬و أن الفكر الكالمي‬
‫األشعري و املعتزلي ظهر يف املشرق ‪ ،‬و ان التدوين ابتداء يف املشرق ‪ ،‬و انطالق‬
‫االسالم الذي يدين به اجلابري و غريه كان من املشرق !!!؟‬

‫‪1‬‬
‫( ) محنة التراث اآلخر ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 75‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪. 81‬‬

‫‪36‬‬
‫اين جنعل جابر بن حيان ‪ ،‬و أين نذهب بالبريوني ‪ ،‬و املسعودي ‪ ،‬و اليعقوبي ‪،‬‬
‫و الطربي ‪ ،‬و الرازي ‪ ،‬أم اين سيكون مكان ابن اهليثم ‪ ،‬و اجلرجاني ‪ ،‬و ابن‬
‫األثري ‪ ،‬و ابن عساكر ‪ ،‬أم ماذا سنصنع بالبخاري ‪ ،‬و مسلم ‪ ،‬و الرتمذي ‪ ،‬و‬
‫النسائي ؟!؟‬
‫ال أدري ماذا أقول حقاً ‪ ،‬هل ان االيديولوجيا ‪ ،‬و الطائفية ‪ ،‬تصنع باإلنسان هكذا‬
‫؟؟؟!‬
‫( يوهمنا الباحث ‪ ،‬هنا ‪ ،‬بوجود كتلة تارخيية واقعية ‪ ،‬مشلها جمال جغرايف واحد ‪.‬‬
‫يقحم اجلابري عامل اجلغرافيا يف تارخيية اكتسحت اجملال ‪ .‬تارخيية " عقيدية " ‪.‬‬
‫حنن ‪ ،‬يف نهاية املطاف ‪ ،‬مع مستشرق خانته اجلغرافيا و التاريخ ‪ ،‬ينظر إىل الشرق‬
‫نظرة برانية ‪ .‬مشروعه العربي القومي ‪ ،‬ال جيد أي حرج يف املساهمة ـ أو املؤامرة‬
‫ـ املعرفية ‪ ،‬القتطاع هذا اجلزء من احلضارة العربية اإلسالمية اقتطاعاً معرفياً ‪ ،‬و‬
‫هو أشد خطورة من االقتطاع اجلغرايف ‪ .‬مل يعد اجملال ينقسم إىل عقل بيان ‪ ،‬و‬
‫عقل عرفان و ال إىل سنة و شيعة ‪ .‬فهذه املرة سوف ينقسم العقل ‪ ،‬إىل عقل‬
‫الشرق و عقل الغرب ‪ .‬عقل العرفان و الغنوص و التشيع ‪ ،‬و هو يف النهاية‬
‫عقل الالمعقول العقلي ‪ ،‬و الالمعقول الديين ‪ .‬و عقل البيان ‪ ،‬و الربهان ‪ ،‬و‬
‫املعقول العقلي ‪ ،‬و الديين ‪.‬لقد أقر االستشراق بإميان الشرق ‪ ،‬و ارتأى " القلب‬
‫" للشرق ‪ ،‬و " العقل " للغرب ‪ .‬مع اجلابري يبقى هذا الشرق خاوياً على‬
‫عروشه ‪ ،‬ال " قلب " و ال " عقل " ال دين و ال علم ‪ .‬ما أشدها عنصرية و‬
‫عقدة من الشرق ! و ال بد ‪ ،‬يف رأي اجلابري ‪ ،‬من إحداث هذه القطيعة اليت‬
‫ابتدأت يف دائرة عقيدية ‪ ،‬مذهبية لتنتهي إىل حالة جغرافية استقطابية ‪. )1() ...‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) كفى ثقافة طائفية و مثقفون طائفيون ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 18‬‬

‫‪37‬‬
‫ثم لنسمع سفسطة خمرشة من اجلابري تقول ‪ ( :‬كل من عاش أو يعيش حلظة‬
‫ابن سينا بعد ابن رشد ‪ ،‬امنا قضى أو يقضي حياته خارج التاريخ ‪ ،‬و بالفعل‬
‫قضينا حنن العرب حياتنا بعد ابن رشد خارج التاريخ ‪ ..‬ألننا متسكنا بلحظة ابن‬
‫سينا ‪ ،‬بعد أن ادخلها الغزالي يف اإلسالم ‪ ،‬و عاش األوربيون التاريخ الذي‬
‫خرجنا منه ألنهم أخذوا منا ابن رشد فعاشوا حلظته و ما زالوا يفعلون )(‪. )1‬‬
‫هنا كلمات ذكرها اجلابري سأنوه هلا من دون أي شرح ‪ ،‬أو رد ‪ ،‬أو تعليق ‪ ،‬بل‬
‫سأترك البحث و التعليق ملن سيقرأ هذا البحث ‪ ،‬و هذه الكلمات هي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ خارج التاريخ ؟‬
‫‪2‬ـ حنن العرب ؟!؟‬
‫‪3‬ـ أدخلها الغزالي يف اإلسالم ؟؟‬
‫‪4‬ـ عاش األوربيون التاريخ؟!‬
‫‪5‬ـ أخذوا منا ابن رشد !!؟‬
‫‪6‬ـ فعاشوا حلظته؟!!‬
‫يف احلقيقة ما هي إال عبارات متناقضة رغم ترتيبها اإلنشائي ‪.‬‬
‫فتارة نراه يُسفه ( السينوية )(‪ )2‬و حيجمها و ال يعطيها أي أهمية تذكر ‪ ،‬ألنها ـ و‬
‫و حبسب مدعاه ـ ليس هلا أي وجود إال يف داخل إيران ؟!‬
‫ثم يقفز تارة أخرى ليقول ‪ :‬حنن العرب ـ أي الكل ـ اخذنا بأقوال ابن سينا و‬
‫بالتالي عشنا خارج التاريخ ‪ ،‬فعن أي عرب يتكلم ؟ و هل االنتماء هو عربي أم‬
‫اسالمي ؟ كما و ان ابن سيناء مسلم ‪ ،‬لكنه ليس عربي ؟!‬
‫هنا يتجلى اجلهل باجلغرافية ‪ ،‬و التاريخ ‪ ،‬و اللغة ‪ ،‬و االنتماء ‪ ،‬و العرق ‪ ،‬و‬
‫اهلوية ‪ .‬الذي يعيشه هذا اخلطاب و الذي جتلى يف تناقضية عجيبة ‪ ،‬و دوغمائية‬

‫‪1‬‬
‫( ) نحن و التراث ‪ ،‬محمد عابد الجابري ‪ ،‬ص ‪ 70‬ـ ‪. 71‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) نسبة إلى ابن سينا ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ختتزل األكثر من أجل األقل ‪ ،‬بل من أجل الفرد فقط نطق بها خطاب دمياغوجي‬
‫متسرت بستار النقد املعريف املمهد له مبا يسمى خطاب النهضة الذي ادعى تبنيه‬
‫اجلابري و غريه(‪. )1‬‬
‫اجلابري خلق بُنية أو مركب للنهضة و االنبعاث قائم ـ و حبسب ادعائه ـ على ‪:‬‬
‫نقدية ابن حزم ‪ ،‬و عقالنية ابن رشد ‪ ،‬و تارخيية ابن خلدون ‪ ،‬مضافاً هلا‬
‫مقاصدية الشاطيب ‪.‬‬
‫علينا أن ال ننسى نظرية الشاطيب القائل بـ( أمية الشريعة ) القائمة على وفق‬
‫مقدمات قياسية ‪ ،‬و خترصات بعيدة كل البعد عن فهم حقيقة التشريع ‪ ،‬و حقيقة‬
‫االستنباط ‪ ،‬و حقيقة البحث االصولي ‪ ،‬و وفق قواعده األولية املؤسسة للمدارك‬
‫و املباني ‪ ،‬و قواعده الثانوية الناطقة بالقوانني األصولية اليت يقوم عليها احلكم ‪.‬‬
‫فضالً عن عدم الفهم ملعنى األمية اليت ذكرت يف القرآن الكريم ‪ ،‬و اليت كانت‬
‫حمل أخذ و رد بني املفسرين و غريهم ‪.‬‬
‫لقد حاول اجلابري خلق مركب للبنية اليت ادعى بأنها أكسري النهضة ‪ ،‬رغم عدم‬
‫مالحظة أي اشرتاك بني ما ذكر من مناذج إال االشرتاك اجلغرايف فقط ‪.‬‬
‫و جند تهمة الباطنية املساوقة للغنوصية جاهزة و حاضرة عند اجلابري لريمي بها‬
‫من يشاء ‪ ،‬و هذا ختبط واضح ‪ .‬ذلك حني حيكم على الكل مبا قد عرفه أو قراءه‬
‫عند البعض ‪ .‬هو مل يكلف نفسه ليتأكد من أن هذا البعض ـ لو صدق باملدعى‬
‫ـ هل فعل ما يُخل ‪ ،‬و هل هناك أدلة على وجود خلل ‪ ،‬أم هي جمرد تهم قدمية‬
‫يلوكها املتصيدون ‪.‬‬
‫لقد كان القرن الرابع اهلجري قرن االنطالق و التطور للعلوم الشرعية القائمة‬
‫على الربهان على صعيدي علم الدراية و األصول عند املذهب الشيعي االمامي‬

‫‪1‬‬
‫( ) كـ( طه عبد الرحمن ) على سبيل المثال ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ـ على سبيل املثال ـ ‪ ،‬وان العجز الذي سببه االجتاه السلفي يف املنظومة‬
‫االسالمية فرض االهتمام باملدونة األصولية كمشروع نهضوي ‪.‬‬
‫فهل يريد اجلابري أن يرجعنا مبُرَكبّه اجلغرايف إىل العصور اليت ساد فيها الفكر‬
‫االقصائي ‪ ،‬و اليت اجاد االستاذ جورج طرابيشي توصيفها بقوله ‪ ( :‬فإن العقل‬
‫الفقهي السائد يف الساحة العربية و االسالمية بشكل اعم ‪ ،‬ما زال عاجزاً عن‬
‫الوفاء بوعده ـ الذي كان اطلقه منذ مطلع عصر النهضة ـ بتحديث نفسه ‪ .‬و‬
‫لسنا مناري يف أن باب االجتهاد يف هذا الفقه قد اعيد فتحه يف العقود األخرية‬
‫على أيدي منظَّري حركات اإلسالم املؤدجل و املسيَّس معاً ‪ .‬لكن هذا الباب ما‬
‫أعيد فتحه للتقدم إىل األمام ‪ ،‬حنو احلداثة ‪ ،‬بل لالرتداد إىل اخللف ‪ ،‬حنو القدامة‬
‫‪ .‬و هذا ليس حتى إىل عصر مالك و أبي حنيفة و الشافعي ‪ ،‬بل إىل عصر ابن‬
‫تيمية الذي كان هناك ‪ ،‬إىل زمن قريب ‪ ،‬شبه إمجاع على توصيفه بأنه عصر‬
‫احنطاط )(‪. )1‬‬
‫إن املنظومة األصولية اإلمامية مدونة فكرية منفتحة على املنطق و الفلسفة ‪،‬‬
‫قائمة على الربهان العقلي ‪ ،‬و على اإلميان باملصاحل و املفاسد كباعث و حمرك ‪ ،‬و‬
‫على امكانية ادراك العقل للحسن و القبح ‪ ،‬حاوية على أصول عملية يُعتمد‬
‫عليها يف حال غياب النص ‪ ،‬و هذا مبجملة ما تفتقده املدونة السنية ‪.‬‬
‫و قد أشار إىل ذلك االستاذ إدريس هاني بقوله ‪ ( :‬نستطيع القبض على إحدى‬
‫أهم العناصر احملددة للنزعة العقالنية يف هذه التجربة اإلمامية ‪ ،‬التأصيلية ـ و‬
‫من خالل آليات االشتغال االجتهادي اإلمامي ـ أال و هي النزعة إىل اليقني ‪ .‬و‬
‫حيث أن اجملتهدين توصّلوا بعد حبث طويل ‪ ،‬و نظر جاد إىل أن هذه اآلليات‬
‫عاجزة عن إحراز اليقني ‪ ،‬استعاضوا مبا يتيح هلم قدراً من االطمئنان إىل احلقيقة‬

‫‪1‬‬
‫( ) هرطقات ‪ ،‬عن الديمقراطية و العلمانية و الحداثة و الممانعة العربية ‪ ،‬جورج طرابيشي ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪ 62‬ـ ‪. 63‬‬

‫‪40‬‬
‫النسبية يف اطار رؤية براغماتية ‪ ،‬ملا عرف باملصلحة السلوكية ‪ ،‬القاضية برفع‬
‫احلرج عن املكلف ‪ ،‬مع االحتفاظ بالشعور نفسه أمام أزمة اليقني ‪ .‬و ذلك‬
‫تعزيزاً للتصور اإلمامي العام ‪ ،‬و عقله اجملتهد يف ضوء رؤية تفاؤلية ‪ ،‬يقدحها‬
‫عقل انتظاري ‪ ،‬يقر باإلمكانية احملتملة للظهور التام للحقيقة ‪ ...‬و ألن كان هناك‬
‫حقاً شيء ما مييز التصور اإلمامي ‪ ،‬هو تلك الرؤية الشمولية ‪ ،‬اآلخذة باحلسبان‬
‫جانب التماسك و التكامل الرؤيوي باإلضافة إىل عنصر التوازن الذي تتمظهر‬
‫على وفقه الرؤية اإلمامية و هو ما يعين صعوبة يف تفكيك هذا املعطى التارخيي‬
‫حيث املعقول و الروحي يتعايشان بال مفارقة )(‪. )1‬‬
‫فاملدونة األصولية الشيعية ـ و حبق ـ قادرة على إمداد الفكر النهضوي بأسس‬
‫االرتقاء ‪ ،‬و بأدوات املواجهة القائمة على منظومة ال خترج عن إطار الذات و‬
‫اآلخر ‪.‬‬
‫إنها منظومة أحسنت استخدام األدوات املعرفية ‪ ،‬بل هي ميزت بأن لكل علم‬
‫أدواته املعرفية اخلاصة به ‪ ،‬و بذلك جتنبت اخللط ‪ ،‬و ارتقت إىل اإلبداع حني‬
‫أمسكت مبفاتيح العلوم و أدواته املعرفية(‪. )2‬‬
‫يقول األستاذ حسن حنفي ‪ ( :‬و بعد انتهاء أصول الفقه السين أو كاد يف‬
‫املوافقات للشاطيب ‪ ،‬و بدأ عصر الشروح و امللخصات ازدهر أصول الفقه‬
‫الشيعي يف القرنني الرابع عشر و اخلامس عشر ‪ ،‬حتى ليكاد يسمى القرن‬
‫الرابع عشر اهلجري حبق ‪ :‬قرن أصول الفقه الشيعي ‪ ،‬بدأ أصول الفقه السين‬
‫مبكراً يف القرن الثاني و انتهى مبكراً يف القرن السابع ‪ ،‬يف حني بدأ أصول‬

‫‪1‬‬
‫( ) محنة التراث اآلخر ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 432‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) ظ‪ :‬األدوات المعرفية‪ ،‬ليث العتابي‪ ،‬المقدمة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الفقه الشيعي متأخراً يف القرن اخلامس و مل ينتهي بعد ‪ ،‬بل ازدهر يف القرن‬
‫الرابع عشر و ما زال مزدهرًا يف القرن اخلامس عشر ‪. )1() ...‬‬
‫إننا نرى بأن اجلابري حني تكلم عن علوم املدرسة اإلمامية بشكل عام ‪ ،‬و عن‬
‫علم األصول بشكلٍ خاص كان حيتاج إىل ( متمم جعل ) ‪.‬‬
‫و حنن نقول له و لغريه ‪ :‬ان منهج استنباط احلكم الشرعي ـ جممالً ـ مير‬
‫مبرحلتني هما ‪:‬‬
‫‪1‬ـ مرحلة طلب الدليل على احلكم ( اثبات احلكم الشرعي ) ‪.‬‬
‫‪2‬ـ مرحلة تشخيص الوظيفة العملية جتاه احلكم أما تنجزاً أو تعذراً ‪.‬‬
‫فإن وجد دليل سائغ أُخذ به يف مقام إثبات احلكم الشرعي ‪ ،‬و إن مل يوجد مثل‬
‫هذا الدليل ‪ ،‬فال يفتش عن األدلة الناقصة(‪ )2‬يف مقام إثبات احلكم الشرعي ‪،‬‬
‫بل يُنتقل حينئذٍ ‪ ،‬فريجع إىل ما يسمى بـ( األصول العملية ) املبينة للوظيفة‬
‫العملية املقررة شرعاً أو عقالً يف مقام إثبات تعيني كيفية اخلروج عن العهدة جتاه‬
‫التكاليف املشكوكة ‪.‬‬
‫األصول علم عقلي يعارض اجلمود و احلصر و االعالق للعقول و العلوم ‪ ،‬و‬
‫بذلك نفهم سبب النقد و احلرب اليت شنت على منظومة ( علم األصول‬
‫اإلمامي ) ‪ ،‬ألنه اتاح للعقول حرية ال يرتضيها الكثريون ‪ ،‬و تطوراً ال يقبل به‬
‫دعاة اهليمنة و االستغالل ‪.‬‬
‫( كتب يف علم أصول الفقه اإلمامي الشيء الوفري الذي أعطى لعلماء و أساتذة‬
‫األصول االماميني قصب السبق يف هذا املضمار ‪ ،‬و كشف عن عمق أصيل يف‬
‫الفكر األصولي عندهم ‪ ،‬و عن أصالة عمق يف حرية الرأي و استقاللية‬

‫‪1‬‬
‫( ) من النص إلى الواقع ‪ ،‬محاولة إلعادة بناء علم أصول الفقه ‪ ،‬حسن حنفي ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪ 301‬ـ ‪. 302‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) كالقياس ‪ ،‬و االستحسان ‪ ،‬و المصالح المرسلة ‪ ،‬و سد الذرائع ‪ ،‬و نحوها ‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫االستدالل ‪ .‬و يرجع هذا إىل قوة و سعة تعاملهم مع الفكر الكالمي و معطيات‬
‫علم الكالم العقلية و آثاره العلمية )(‪. )1‬‬
‫فمثالً و يف مبحث ( عالقة اللفظ باملعنى ) أو ( الوضع ) نرى بأن املدرسة‬
‫السنية قد تبنت أراء سقراط ‪ ،‬و أرسطو ‪ ،‬و ابن جين ‪ ،‬أو زاوجت و وافقت بني‬
‫هذه اآلراء(‪. )2‬‬
‫بينما جند يف املدرسة اإلمامية ( سبعة ) نظريات حول حقيقة الوضع ‪ ،‬و عالقة‬
‫اللفظ باملعنى ‪ ،‬و هي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ نظرية التعهد للمال علي النهاوندي صاحب كتاب ( تشريح األصول ) ‪.‬‬
‫‪2‬ـ نظرية االختصاص للشيخ حممد كاظم اخلراساني اآلخوند صاحب كتاب (‬
‫كفاية األصول ) ‪.‬‬
‫‪3‬ـ نظرية الرمز للفيلسوف الشيخ حممد حسني االصفهاني صاحب كتاب ( نهاية‬
‫الدراية )‪.‬‬
‫‪4‬ـ نظرية االعتبار للشيخ ضياء الدين العراقي ‪.‬‬
‫‪5‬ـ نظرية التنزيل و يقرّها السيد البجنوردي يف كتابه ( منتهى األصول ) ‪.‬‬
‫‪6‬ـ نظرية اجلعل للشيخ ابي احلسن املشكيين يف ( حاشية على كفاية األصول ) ‪.‬‬
‫‪7‬ـ نظرية االقرتان الشرطي للسيد الشهيد حممد باقر الصدر ( رمحه اهلل ) ‪.‬‬
‫و هنا ـ و وقوفاً عند أصول الفقه و البحث األصولي ـ نود الوقوف عند كتابٍ‬
‫مهم أال و هو كتاب ( كفاية األصول ) الذي ألفه الشيخ حممد كاظم اخلراساني‬
‫املعروف بـ( اآلخوند " رمحه اهلل " ) ‪ ،‬و الذي فرغ من تأليفه عام ( ‪ 1291‬هـ )‬
‫املوافق ( ‪ 1893‬م ) ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) دروس في أصول فقه االمامية ‪ ،‬الشيخ عبد الهادي الفضلي ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪. 7‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) يراجع لذلك ‪ :‬شرح مختصر المنتهى األصولي و حواشيه ج‪ ، 1‬ص ‪ ، 193‬و المحصول ‪ ،‬الرازي ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪ 181‬ـ ‪. 182‬‬

‫‪43‬‬
‫حيث يقول األستاذ حسن حنفي عن كتاب الكفاية ما نصه ‪ ( :‬هو منت اقرب إىل‬
‫املتون األوىل ألهل السنة و الشيعة ‪ ،‬ميتاز بالرتكيز و االقتصار و الوضوح و‬
‫الرتتيب ‪ ،‬كما يستعمل أسلوب القيل و القال ‪ ،‬و الرد على االعرتاضات مسبقاً‬
‫من اجل االتساق العقلي و الربهان املنطقي ‪ ،‬مع حصر األدلة و احلجج و لذلك‬
‫تكثر ألفاظ الوضوح و التجلي و التأمل و التدبر و التعرف و التفطن و النظر‬
‫و املراجعة و التنبيه و عدم الغفلة و التذكر ‪ ...‬و يكون ذلك عادة يف نهاية الفقرة‬
‫و أحياناً يف أوهلا ‪ ...‬و يف نفس الوقت يقوم النص على التجميع و االقتباس و‬
‫ذكر لفظ " انتهى " موضع احلاجة من كالمه ‪ ،‬او " انتهى كالمه رفع مقامه "‬
‫للداللة على نهاية االقتباس ‪ ،‬لذلك ال يستبعد أحداً ‪ ،‬و ال يصدر أحكاماً‬
‫باإلدانة أو التخطئة أو الكفر الصراح على عادة أهل السنة يف استعمال سالح‬
‫التكفري ‪ ،‬و حيمل عدد من ألقاب التعظيم و التفخيم ‪ ...‬و هو مثل كل عامل اخر‬
‫فريد عصره و واحد زمانه ‪ ،‬و نظراً لتلخيصه الشديد فانه كان موضع عديد من‬
‫الشروح و احلواشي و الرتمجات و التعليقات ‪ ...‬و يقوم الوعي على بنية ثالثية‬
‫حمكمة املقدمة و املقاصد و اخلامتة ‪. )1() ...‬‬
‫و عن ( علم األصول اإلمامي ) يقول األستاذ إدريس هاني كذلك ‪ ( :‬اننا مع‬
‫مدرسة األصول االمامية ‪ ،‬نقف على وجهة نظر ختتلف جذرياً عمّا رامه االخبارية‬
‫‪ ،‬وحتى لو اتهمهم اإلخبارية بأنهم جاروا طريق السنة يف التفريع ‪ ،‬فإننا نالحظ‬
‫متيزاً واضحاً يف مناهج االستنباط األصولية ‪ ،‬من الناحيتني االبستمولوجية و‬
‫امليتودولوجية ‪ ،‬وهذا يعود إىل علم أصول الفقه االمامي ‪ ،‬بدأ يعتمد آليات النظر‬
‫الفلسفي ‪ ،‬حيث اكتمل هذا التداخل املعريف مع االنصاري ‪ ،‬وبلغ قمة أوجه مع‬
‫اآلخوند مال كاظم اخلراساني ‪ ،‬وهذا يف الواقع قد أتاح لعلم أصول الفقه‬

‫‪1‬‬
‫( ) من النص إلى الواقع ‪ ،‬حسن حنفي ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪. 336‬‬

‫‪44‬‬
‫االمامي امكانية لتجاوز كثري من ثغرات علم اصول الفه السين ‪ ،‬الذي بقي‬
‫مؤطراً بعلم الكالم األشعري ‪ ،‬حيث ظّلت تعوقه كثري من العوائق املعرفية ‪ ،‬إن‬
‫النزعة العقالنية ظلّت حاضرة يف كل خطوات التأصيل اإلمامي ‪ :‬يف عملية‬
‫إرساء املقدمات ‪ ،‬ويف البحث عن األدلة الشرعية ‪ ،‬والنظر يف الكليات اليت يقوم‬
‫عليها التفريع ‪ ،‬وهو مشروع ميتودولوجيا ‪ ،‬متكن اإلمامية أن يقطعوا يف سبيل‬
‫إمتامها شوطاً ملفتاً للنظر )(‪. )1‬‬
‫يف آخر املطاف نقول ‪ :‬مل يسلم مشروع اجلابري من النقد مطلقاً ‪ ،‬بل ان العديد‬
‫من االنتقادات قد وجهت ملشروعه ‪ ،‬و أشهر االنتقادات كانت من قبل االستاذ‬
‫يف مشروعه للرد على مشروع‬ ‫و الكاتب السوري ( جورج طرابيشي )‬
‫(‪)2‬‬

‫اجلابري ‪ .‬و كذلك ( علي حرب ) يف كتابه ( نقد النص ) ‪ ،‬و ( طه عبد الرمحن‬
‫) يف كتابه ( جتديد املنهج يف تقويم الرتاث ) ‪ ،‬و طيب تيزيين مبا كان ينشره من‬
‫مقاالت خالل عقد الثمانينات من القرن املاضي ‪ ،‬و انتقادات أخرى ظهرت‬
‫تباعاً ‪.‬‬
‫لكن ما حنب أن ننوه له هنا ‪ :‬انه و على مستوى املغرب العربي ؛ يعترب األستاذ‬
‫( إدريس هاني ) من أوائل الذين انتقدوا حممد عابد اجلابري ‪ ،‬بل و من‬
‫األوائل على مستوى الوطن العربي كذلك ‪ .‬إذ يعد كل ما كتبه من كتابات نقداً‬
‫و مواجهة ملشروع اجلابري ‪ ،‬إذ ليس هناك كتاب قد ألفه إال و فيه وقفة نقدية مع‬
‫اجلابري ‪ ،‬و طه عبد الرمحن ‪.‬‬
‫لقد كان منهج األستاذ إدريس هاني ـ عموماً ـ يف نقده للجابري بسبب ضعف‬
‫اجلابري يف فهم الرتاث ‪ ،‬و تنزيله كل مفاهيم احلداثة على الرتاث من دون‬
‫تهذيب و ال استيعاب ‪ ،‬مضافاً إىل تناقضاته الكثرية األخرى ‪ .‬تركزت انتقادات‬

‫(‪ )1‬محنة التراث األخر ‪ .‬ص ‪.413‬‬


‫‪2‬‬
‫( ) جورج طرابيشي ( ‪ 1939‬ـ ‪ 2016‬م ) كاتب سوري ‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫األستاذ إدريس هاني يف مخسة كتب مهمة هي ‪ ( :‬العرب و الغرب ) و (حمنة‬
‫الرتاث اآلخر ) و ( ما بعد الرشدية ) و ( خرائط ايديولوجية ممزقة ) و ( كفى‬
‫ثقافة طائفية و مثقفون طائفيون ) ‪.‬‬
‫يف اجلدول املوجود آخر البحث نقلنا ما مجعه األستاذ إدريس هاني من سرقات‬
‫اجلابري لبعض املصطلحات املشهورة من دون ان يذكر اصحابها مطلقاً ‪.‬‬
‫و لن تنتهي السرقات ( اجلابرية ) عند هذا احلد ‪ ،‬إذ ينقل لنا الكاتب ( أمحد‬
‫احلناكي ) مقاالً له نشره يف (جريدة احلياة )(‪ ، )1‬حتت عنوان ‪ ( :‬عندما يسرق‬
‫املفكر ‪ ،‬حممد عابد اجلابري أمنوذجاً ) ذكر فيه ‪ :‬لقد نشر املفكر املغربي الراحل‬
‫الشهري حممد عابد اجلابري مقاالت يف صحيفة الشرق األوسط عن حمنة أمحد بن‬
‫حنبل من دون الرجوع للمصدر األصلي و هو املفكر األردني ـ الفلسطيين‬
‫الشهري فهمي جدعان ‪ .‬الطريف ان جدعان مل يكن يعلم باالقتباس ( إذا لطفنا‬
‫كلمة سرقة ) ‪ ،‬إال بعد أن أجرى معه الباحث القدير علي العميم حواراً‬
‫لصحيفة الشرق األوسط آنذاك ‪ ،‬و أثناء احلوار سأله عن مقاالت اجلابري بهذا‬
‫اخلصوص ‪ ،‬قال ‪ :‬إنه مل يطلع عليها ‪ ،‬و عندما بادر العميم و وفرها له و قرأها‬
‫جدعان صُدم و ذُهل و غضب من اجلابري ‪ ،‬و اتهمه عالنية بالسرقة عندما قال ‪:‬‬
‫إنه اتبعين حذو القذة بالقذة(‪. )2‬‬
‫و ملا سأل حممد رضا نصر اهلل اجلابري يف برناجمه التلفازي الشهري ( ‪ 60‬دقيقة‬
‫سياسية ) عن ذلك ‪ ،‬فأجاب مرتبكاً أن له صلة وثيقة جبدعان و عائلية كذلك ‪ ،‬و‬
‫ان عدم توفر املصادر ذلك الوقت حدا به إىل األخذ من كتاب جدعان ‪ ( ،‬و كل‬
‫ذلك مل ينف أنه مل يذكر اسم فهمي جدعان كمصدر له )(‪. )3‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) جريدة الحياة ‪ ،‬عدد السبت ‪ 30 ،‬يوليو ‪ /‬تموز ‪ 2016‬تحت عنوان ( عندما يسرق المفكر ‪ ،‬محمد عابد الجابري أنموذجاً ) ‪،‬‬
‫الكاتب ‪ :‬أحمد الحناكي ‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫()م‪،‬ن‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫()م‪،‬ن‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫املفكر اللبناني رضوان السيد ذكر يف إجابة لسؤال من علي العميم عن اخلالف‬
‫بني اجلابري و جدعان التالي ‪ :‬من هذه النقطة أريد ان أبدأ ألحتدث عما فعله‬
‫اجلابري ‪ .‬اجلابري كعادته يف التبسيط ‪ ،‬جاء فاستند إىل النصوص اليت مجعها‬
‫جدعان كلها ‪ ،‬ثم توصل إىل استنتاجات أكثرها من عند جدعان ‪ ...‬ان اجلابري‬
‫أفاد من كتاب جدعان بنسبة ‪ %80‬من النصوص و من االستنتاجات ‪ ،‬و إسهامه‬
‫يقتصر على إسهامني سلبيني إذا صح التعبري ‪ ،‬هما ‪ :‬التبسيطية اليت جتعل من‬
‫األمور كأمنا ليست هناك مشكلة ‪ ،‬بينما املشكالت قائمة قبل و بعد دراسة‬
‫جدعان ‪ .‬زعمه هكذا دومنا إثبات أو دليل بأن الديين كان موظفاً خلدمة السياسي‬
‫‪ ،‬و هذا ما مل يستطع إثباته ‪ ،‬ال يف كتابه عن العقل السياسي العربي ‪ ،‬و ال يف‬
‫مقاالته بصحيفة الشرق األوسط(‪. )1‬‬
‫و هذا ما حدا باحملامي إبراهيم السكران للتصريح القاسي حبق سرقة حممد عابد‬
‫اجلابري و الذي أوردته ( جملة البيان ) يف مراجعات لكتابه ( التأويل احلداثي‬
‫للرتاث )(‪. )2‬‬
‫كما و لقد انتقد االستاذ امحد علي زهرة مشروع اجلابري يف كتابه ( العقل‬
‫العربي بنية و بناء ‪ ،‬دراسة نقدية ملشروع اجلابري ) ‪ ،‬و الذي ركز فيه على نقاط‬
‫مهمة جداً يف املشروع املزعوم ‪ ،‬فيقول أمحد علي زهرة ـ مثالً ـ يف رده على‬
‫احدى مقوالت اجلابري الكثرية ‪ ( :‬أما ان تقول ان اإلسالم ال يأخذ و ال يعطي ‪،‬‬
‫فهذا أمر ليس من اإلسالم و غريب عنه ألنه يف هذه احلالة نوصله إىل اجلمود‬
‫العقائدي و نربطه بكل فكر ضيق ال يعطي و ال يأخذ ‪ ،‬حاشا اإلسالم من هذه‬
‫التهمة اليت يركز عليها اجلابري كثرياً و يعترب نفسه جمدداً يف اإلسالم )(‪. )3‬‬

‫‪1‬‬
‫()م‪،‬ن‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫()م‪،‬ن‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫( ) العقل العربي بنية و بناء ‪ ،‬أحمد علي زهرة ‪ ،‬ص ‪. 317‬‬

‫‪47‬‬
‫من الغريب عند البعض ‪ ،‬و من الطبيعي عندنا ان ينتهي مشروع اجلابري إىل‬
‫منوذج اخالقي هو ( ابن تيمية ) و منوذج اصالحي هو ( حممد عبد الوهاب ) و‬
‫الفكر السلفي الوهابي ‪.‬‬
‫فيقول عن ابن تيمية ‪ ( :‬ففهم الدين على انه إميان و عمل صاحل ‪ ،‬تعد حماولة‬
‫أصيلة ‪ ،‬لقد اهتدى هذا الفقيه املناضل إىل الطريق الصحيح لتشييد أخالق‬
‫إسالمية أصيلة ‪ ،‬أخالق العمل الصاحل )(‪. )1‬‬
‫و قد رد االستاذ إدريس هاني على هذا التخرص و التحجيم العقلي ‪ ،‬و‬
‫التعدي على املعرفة بقوله ‪ ( :‬اجلابري يدعونا إىل ان نكون على امتداد اجلغرافية‬
‫العربية اتباعاً البن تيمية بيانياً ‪ ،‬و رشديني برهانياً ‪ ، )2() ...‬وهذا ما ال ميكن‬
‫اجبارنا أو أدجلتنا وفقه أبداً‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫( ) العقل اإلسالمي دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية ‪ ،‬محمد عابد الجابري ‪ ،‬ص ‪. 619‬‬
‫‪2‬‬
‫( ) اإلسالم و الحداثة ‪ ،‬إدريس هاني ‪ ،‬ص ‪. 141‬‬

‫‪48‬‬
‫جدول توضيحي لسرقات حممد عابد اجلابري و اصوهلا احلقيقية‬
‫من كتاب ‪ (:‬العرب و الغرب أية عالقة أي رهان ‪ ،‬للكاتب و املفكر املغربي ‪:‬‬
‫إدريس هاني ‪ ،‬صفحة ‪ ، 73‬ط‪ ، 1‬دار الطليعة ‪ ،‬بريوت ـ لبنان ) ‪.‬‬
‫املالحظات‬ ‫الفكرة أو املصطلح أو املفهوم صاحب الفكرة األصلي‬ ‫ت‬
‫رجييس دوبري‬ ‫العقل السياسي‬ ‫‪1‬‬
‫العقل املنظم و العقل املنتظم اندري الالند‬ ‫‪2‬‬
‫جان بياجيه‬ ‫الالشعور املعريف‬ ‫‪3‬‬
‫كلود ليفي شرتاوس‬ ‫بنية القرابة و الزمن الثقايف‬ ‫‪4‬‬
‫فرويد‬ ‫الالشعور النفسي‬ ‫‪5‬‬
‫لوي التوسري‬ ‫القطيعة االبستمولوجية‬ ‫‪6‬‬
‫غاستون باشالر‬
‫ميشال فوكو‬
‫ميشال فوكو‬ ‫اخلطاب التارخيي‬ ‫‪7‬‬
‫مارتن هيدغر‬ ‫االنفصال‬ ‫‪8‬‬
‫جاك دريدا‬ ‫االتصال‬ ‫‪9‬‬
‫ميشال فوكو‬ ‫الالمفكر فيه‬ ‫‪11‬‬
‫درودس‬ ‫املعقول الديين‬ ‫‪12‬‬
‫فيستوجري‬ ‫املعقول العقلي‬ ‫‪13‬‬
‫العالقة بني احلضارة اإلسالمية هاملتون جيب‬ ‫‪14‬‬
‫و الفقه‬
‫ماكس فيرب‬ ‫ربط التأخر باستقالة العقل‬ ‫‪15‬‬

‫‪49‬‬
‫هنري كوربان‬ ‫هرمسية التشيع‬ ‫‪16‬‬
‫ماكدونالد‬ ‫الذهنية الذرية‬ ‫‪17‬‬
‫ماكدونالد‬ ‫االنفصالية العربية‬ ‫‪18‬‬

‫‪50‬‬
‫الفهرس‬
‫‪1‬ـ املقدمة ‪.‬‬
‫‪2‬ـ االنبهار باآلخر ‪.‬‬
‫‪3‬ـ امليتامواكبة ‪.‬‬
‫‪4‬ـ كيف حنافظ على هويتنا ونواكب التطور ؟‬
‫‪5‬ـ اجلابري‪ :‬سرية موجزة ‪.‬‬
‫‪6‬ـ اجلابري والالمعقول الشيعي ‪.‬‬
‫‪7‬ـ يف مفهوم القطيعة ‪.‬‬
‫اطاللة عامة ‪.‬‬
‫‪8‬ـ مشروع القطيعة عند اجلابري ‪.‬‬
‫‪9‬ـ اخللط املناهجي اجلابري ‪.‬‬
‫‪10‬ـ ذو اللوثة كنموذج اقتدائي جابري ‪.‬‬
‫‪11‬ـ جدول توضيحي لسرقات حممد عابد اجلابري واصوهلا احلقيقية ‪.‬‬
‫‪12‬ـ الفهرس ‪.‬‬

‫‪51‬‬

You might also like