You are on page 1of 20

‫الثقافة العربية بين األصالة والمعاصرة‬

‫د‪ .‬فرحان السليم‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫إن أول تكليف نزل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هو أهم أسس التثقيف‬
‫(( اقرأ باسم ربك الذي خلق ‪ ،‬خلق اإلنسان من علق ‪ ،‬اقرأ وربك األكرم ‪ ،‬الذي علم بالقلم ‪،‬‬
‫علم اإلنسان‪ 2‬ما مل يعلم ))‬
‫كان هذا النص قاعدة اإلصالح األوىل اليت صنع النيب صلى اهلل عليه وسلم هبا نواة‪ 2‬جمتمع‬
‫حول جمرى التاريخ يف منطقة ال متتلك أمنوذجاً للحضارة ‪.‬‬ ‫حضاري َّ‬
‫ويف واقعنا املعاصر مثة انفصام‪ 2‬بني هويتنا وثقافتنا‪ 2‬حيكم مسبقاً على مشاريعنا بالعقم ‪ ،‬فالوطن‬
‫العريب متتلك شعوبه هوية ختتلف عن هوية الشعوب األخرى ‪ ،‬وال ميكن حبال أن تتفاعل مع‬
‫ثقافتها ‪ ،‬بل تنبهت مؤخراً إىل الغزو الثقايف الذي رافق الغزو اإلعالمي وأصبح موضوع حبث‬
‫ونقاش ‪ .‬يطرح هذا يف أوساط املؤسسات الثقافية‪ 2‬اليت تقف حريى أمام فشلها يف الرقي بثقافة‬
‫الشعوب وتنميتها ‪.‬‬
‫إن اجلدلية بني ثقافة اجملتمع وقيمه ال ميكن أن تنفصم ‪ ،‬وكل تنمية للثقافة ال تنطلق من قيم اجملتمع‬
‫الذي تطرح فيه هي عقيمة ‪ ،‬ومن مث فإن الشعب العريب ال ميكن أن يتفاعل مع ثقافات تتناىف مع‬
‫قيمه وإن مسيت ثقافة عربية ‪.‬‬
‫وال تعين أصالة الثقافة إمهال ثقافة اآلخر وعدم االطالع عليها واإلفادة منها ‪ ،‬كما ال تعين ثقافة‬
‫دينية باملعىن الكهنوتي ‪ ،‬وأيضاً ليست نشر العلوم الشرعية التخصصية‪ 2‬اليت تدرس يف املعاهد كما‬
‫هي عليه ‪ ،‬بل تعين العودة إىل األصالة منهجاً وقيماً ومصدراً يف تنمية ثقافة اجملتمع أيا كان‬
‫اجتاهها أدباً أو فكراً أو فناً ‪.‬‬
‫والثقافة العربية ليست ثقافة مستوردة ‪ ،‬وال مرتمجة ‪ ،‬وال ملفقة ‪ ،‬وال منغلقة ‪ ،‬بل هي ثقافة‬
‫تعتمد على اإلبداع الذي ينبع من التأمل والنظر يف الكون‪،‬وال حدود هلذا اإلبداع فأفقه مفتوح‪.‬‬
‫تعد ثقافتنا العربية من أغىن الثقافات العاملية وأمهها ‪ ،‬فبعد أن ترسخت جذورها قبل اإلسالم لغة‬
‫مشرقة وحكماً وخطباً وأمثاالً وشعراً جتلت فيه العبقرية العربية وكان صورة حلياة العرب ومرآة‬
‫تفكريهم ومشاعرهم ومسرح خياهلم ‪ ،‬تنزل القرآن الكرمي بالعربية فأغناها‪ 2‬معاين سامية وبياناً‬
‫رائعاً ‪ ،‬وفتح هلا سبل االنتشار يف مشارق األرض ومغارهبا ‪.‬‬
‫وبعد السلطان املكني ‪ ،‬أقبل العرب على نقل علوم األقدمني ‪ ،‬ومنها انطلقوا يف آفاق العامل‬
‫مستكشفني مبدعني إىل جانب عطائهم املستمر يف الفقه واألدب وفنون القول كافة ‪.‬‬
‫وخالل هذه املسرية‪ 2‬الشاقة تعرضت الثقافة العربية لسهام "اآلخرين" ‪ ،‬الذين حاولوا اإلساءة إىل‬
‫اللغة العربية وإقصاءها عن التدريس وجماالت احلياة املختلفة ‪ ،‬مث حاولوا إدخال مفاهيم مزيفة يف‬
‫الثقافة العربية ‪ ،‬مث جاءت ثقافة العوملة‪ 2‬لتزاحم الثقافة العربية يف عقر دارها كما تزاحم ثقافات‬
‫خمتلف شعوب العامل لتجعله بال حدود وال ألوان ‪ ،‬ساحة للسلع ومتجراً واسعاً يكدس منه‬
‫الطامعون أرباحاً خيالية هي عرق الكادحني ودم املناضلني يف أرجاء األرض ‪.‬‬
‫إن قدر لغتنا العربية أن تقاوم اإلقصاء والتشويه‪ ، 2‬وقدر أمتنا أن حتافظ على هويتها وترد َالطامعني‬
‫واحلق هو األبقى واملستقبل ملن صرب حىت نيل الظفر‪.‬‬
‫هبا ‪ .‬إن إرادة احلياة هي األقوى َّ‬
‫الصراع بين دعاة األصالة والمعاصرة‬

‫لقد شهدت الساحة العربية توترات شديدةً بني ثنائيات عديدة مرتادفات ملعىن واحد ‪ :‬التقليد‬
‫والتجديد ‪ ،‬احملافظة والتحديث ‪ ،‬اجلمود والتحرر ‪ ،‬الرجعية والتقدمية‪ ، 2‬األنا واآلخر ‪ ،‬الداخل‬
‫واخلارج ‪ ،‬احمللي والعاملي‪ ، 2‬القدمي واجلديد ‪ ،‬الرتاث واحلداثة‪ ،‬ومنها األصالة واملعاصرة ‪.‬‬
‫وجدت منذ عصر النهضة‪ 2‬ـ وتوجد اآلن ـ يف اجملتمع العريب أقلية تدعو تصرحياً أو تلوحياً إىل تقليد‬
‫الغرب مجلة وتفصيال ‪ ،‬هبدف اخلروج من وضعنا البئيس‪ . 2‬إن بعضهم يفسر هذا امليل بالقانون‪2‬‬
‫االجتماعي الذي ذكره ابن خلدون ‪ ،‬القاضي بأن‪ 2‬املغلوب جمبول على تقليد الغالب يف كل شيء‬
‫‪.‬‬
‫إن أمتنا العربية على الصعيد الثقايف ال تبدأ من العدم بل هي تستند إىل إرث ثقايف غين باذخ ‪،‬‬
‫وما يشغلها اآلن هو ‪ :‬كيف توائم بني هذا الرتاث وبني متطلبات العصر الذي نعيش فيه ‪ .‬هل‬
‫تتمسك بالثقافة املتوارثة اليت ألفتها أم هتجرها إلى ثقافة مستوردة ؟ خطران يتهدداهنا ألهنا إن‬
‫متسكت بالقدمي مكتفية‪ 2‬به عاشت خارج الزمان ‪ ،‬وإن تلبست اجلديد بال روية عاشت خارج‬
‫املكان ‪.‬‬
‫إن هذه املشكلة قد شغلت العديد من املفكرين والباحثني ‪ ،‬ولكن من اجللي أن الثقافة ليست يف‬
‫أكثر مكوناهتا صيغة جامدة ال تتغري ‪ ،‬بل هي نتاج بشري ينمو ويزداد عمقاً واتساعاً جبهود البشر‬
‫‪ .‬فالثقافة العربية يف عصر املعري ببالد الشام وعصر ابن رشد يف األندلس ليست الثقافة العربية يف‬
‫العصر اجلاهلي أو صدر اإلسالم أو العصر األموي ‪.‬‬
‫إننا نستطيع أن نقدر للرتاث قيمته ودوره يف تكويننا‪ 2‬النفسي واالجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه‪2‬‬
‫حاجتنا اليوم ‪ ،‬وأن نقبل على الثقافة املعاصرة فنقتبس‪ 2‬من ثقافات اآلخرين ما حتتاج إليه ثقافتنا‬
‫لتحقق معاصرهتا ومواكبة‪ 2‬الثقافات األخرى ‪ ،‬والسيما يف ميدان العلوم والتقانة‪ 2‬والتقنية‪ 2‬والعلوم‬
‫املستحدثة يف السنوات‪ 2‬اخلمسني األخرية ‪ ،‬فاملواءمة بني املوروث واجلديد حيفظ لألمة هويتها‪2‬‬
‫وجيدد طاقتها على النماء والتطور ‪.‬‬
‫أجل إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكربى يف تاريخ البشرية ‪ ،‬وهي مؤهلة اليوم‪2‬‬
‫الستئناف دورها حاضنة لقيم اخلري والعدالة واملساواة‪ 2‬واحملبة والسالم ونابذة كل ما يشوه اإلنسان‬
‫من صور الشر واجلور والعنصرية‪ 2‬والظلم ‪ ،‬وذلك من خالل صيغة مركبة متحركة متطورة ال‬
‫تتنكر لألمس الغابر وال تغمض العني عن متطلبات اليوم‪ 2‬والغد ‪.‬‬
‫هكذا يوجد على الساحة العربية تياران‪ 2‬يتفقان يف اهلدف ‪،‬حمو التخلف ‪ ،‬ويفرتقان‪ 2‬يف األسلوب ‪:‬‬
‫األصالة باحملافظة على املوروث‪،‬أم النبوغ‪ 2‬يف إطار الرتاث اإلنساين املشرتك‪ 2‬؟‬
‫كان التيار األول ميثل القدمي املوروث يف ثباته ومشوخه ‪ ،‬وكان التيار اآلخر ميثل اجلديد الوافد يف‬
‫بريقه وإغرائه ‪.‬‬
‫وال ريب ‪ :‬أنه وجد غالة يف كال الفريقني ‪ .‬ففي مقابل الذين يريدون جتديد الكعبة والشمس‬
‫والقمر ‪ ،‬وجد اجلامدون على كل قدمي ‪ ،‬الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك وسير التاريخ ‪،‬‬
‫شعارهم ‪ :‬ليس يف اإلمكان‪ 2‬أبدع مما كان ! وضاع الوسط بينهما حىت قال حممد كرد علي ‪:‬‬
‫نسينا القدمي ‪ ،‬ومل نتعلم اجلديد ‪.‬‬
‫إهنا ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل ‪ ،‬وهي ثنائية‪ 2‬التكامل ‪ ،‬ال ثنائية‬
‫التضاد والتقابل‪ ، 2‬وقد أحسن د‪ .‬عبد املعطي‪ 2‬الدااليت صياغتها بقوله ‪ " :‬لن متتد أغصاننا يف‬
‫العصر حىت نعمق جذورنا يف الرتاث " ‪.‬‬
‫مكونات الثقافة العربية‬
‫إن الثقافة العربية تتكون‪ 2‬من مكونني رئيسيني ‪ :‬اللغة العربية واإلسالم ومن هنا إصرار بعضهم‬
‫على تسميتها ‪ " :‬الثقافة العربية اإلسالمية " ‪.‬‬
‫إن اللغة هي وعاء العلوم مجيعاً ‪ ،‬وأداة اإلفهام والتعبري العلمي ‪ ،‬والفين والعادي ‪ ،‬ووسيلة التأثري‬
‫يف العقل والشعور بأدهبا ونثرها وشعرها وحكمها وأمثاهلا وقصصها وأساطريها‪ ، 2‬وسائر ألواهنا‬
‫وأدواهتا الفنية ‪.‬‬
‫ومن هنا فإن كل من حيارب اللغة العربية حيارب بالنتيجة الثقافة العربية ‪ .‬وكان من ديدن أعداء‬
‫هذه األمة إضعاف الفصحى ‪ ،‬وإشاعة العامية‪ ، 2‬وإعالء اللغة األجنبية‪ 2‬على اللغة القومية ‪ ،‬وإلغاء‬
‫احلرف العريب يف الكتابة ‪ ،‬وإحالل احلرف الالتيين حمله ‪.‬‬
‫أما الدين فكل الثقافات مدينة لألديان يف تكوينها وتوجيهها ‪ ،‬سواء أكان هذا الدين مساوياً أم‬
‫وضعياً ‪ ،‬كما هو واضح يف ثقافات الشرق والغرب والسيما اإلسالم‪ 2‬الذي له تأثريه العميق‬
‫والشامل يف ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده اإلميانية ‪ ،‬وشعائره التعبدية‪ ، 2‬وقيمه اخللقية ‪،‬‬
‫وأحكامه التشريعية‪ ، 2‬وآدابه العملية ‪ ،‬ومفاهيمه النظرية ‪ ،‬حىت إنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غري‬
‫املسلم الذي يعيش يف اجملتمع املسلم ‪ ،‬وهو ينضح على تفكريه ووجدانه وعالقاته ‪ ،‬شعر أم مل‬
‫يشعر ‪ ،‬مما دعا الزعيم السياسي‪ 2‬مكرم عبيد يف مصر إىل القول ‪ :‬أنا نصراين ديناً ‪ ،‬مسلم وطناً ‪.‬‬
‫ويأيت السؤال ـ اإلشكالية ‪ :‬كيف تكون العالقة بيننا‪ 2‬وبني هذا الوافد اجلديد ؟ كيف نوازن بني‬
‫قدمينا وحديثهم ؟ وبني تراثنا األصيل ومعاصرهم الدخيل ؟ هل العالقة بني الرتاث القدمي والوافد‬
‫احلديث ـ أو بني األصالة واملعاصرة ـ هي عالقة التضاد والتناقض‪ 2‬؟ فال أمل يف اجلمع بينهما ‪ ،‬أو‬
‫هي عالقة التنوع والتكامل‪ 2‬وهنا ميكن اجلمع بينهما ‪.‬‬
‫السؤال خطري ‪ ،‬واجلواب مهم ‪ ،‬والسيما يف هذه املرحلة اليت تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاهتا ‪ ،‬بعد‬
‫أن اكتشفت ذاهتا اليت غابت أو غُيبت‪ 2‬عنها زمناً ‪.‬‬
‫وقد أجاب عنه أناس بافرتاض التناقض‪ 2‬بني األمرين ‪ ،‬فاختار فريق الرتاث واألصالة ‪ ،‬وعاشوا‪2‬‬
‫غرباء عن العامل والزمان ‪.‬‬
‫واختار آخرون العصر واحلداثة ‪ ،‬وعاشوا غرباء عن األهل واملكان ‪ .‬وبقي آخرون مرتددين بني‬
‫أولئك وهؤالء ‪.‬‬
‫ال تعارض بين الثقافة العربية والمعاصرة‬
‫إن املوقف الصحيح هو الذي يُتخذ بعد الدراسة املتأنية‪ 2‬لكل من األمرين املعروضني ‪ .‬وقد سقط‬
‫الكثري يف هذا اخلطأ الشنيع‪ ،‬حني تسرع يف اجلواب بغري علم عن هذا السؤال ‪.‬‬
‫وحيكي لنا الدكتور زكي جنيب حممود يف كتابه " جتديد الفكر العريب " قصة تسرعه حني واجه‬
‫السؤال عن طريق للفكر العريب املعاصر ‪ ،‬يضمن له أن يكون‪ 2‬عربياً حقاً ( أي أصيالً ) ومعاصراً‬
‫حقاً ‪.‬‬
‫" قد يبدو للوهلة األوىل أن مثة تناقضاَ أو ما يشبه التناقض‪ 2‬بني احلدين ألنه إذا كان عربياً‬
‫صحيحاً ‪ ،‬اقتضى ذلك منه أن يغوص يف تراث العرب األقدمني حىت ال يدع جماالً جلديد ـ وإن‬
‫ذرة هواء‬
‫من أبناء األمة العربية اليوم من غاصوا هذا الغوص الذي مل يبق هلم من عصرهم َ‬
‫يتنفسوهنا ـ وأما إذا كان معاصراً صحيحاً ‪ ،‬كان حمتوما عليه أن يغرق إىل أذنيه يف هذا العصر‬
‫بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه ‪ ،‬حىت ال تبقى‪ 2‬أمامه بقية ينفقها‪ 2‬يف استعادة شيء من ثقافة‬
‫العرب األقدمني ‪.‬‬
‫نعم قد يبدو للوهلة األوىل أن بني العربية واملعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض‪ ، 2‬ولذلك جيب‬
‫مركب واحد ‪ ،‬وكأمنا هو سؤال يطلب أن جتتمع‬ ‫السؤال الذي يلتمس طريقاً جيمع الطرفني يف ّ‬
‫مع املاء جذوة نارة ‪ ،‬فهل بني الطرفني مثل هذا التناقض‪ 2‬حقاً ؟ أو أن مثة طريقاً جيمع بينهما ‪،‬‬
‫ذلك هو السؤال " ‪.‬‬
‫ويقول الدكتور ‪ " :‬لقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد ‪ ،‬ولكين كنت إزاءه من املتعجلني الذين‬
‫يسارعون جبواب قبل أن يفحصوه وميحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره ‪ ،‬فبدأت بتعصب‪2‬‬
‫شديد إلجابة تقول ‪ :‬إنه ال أمل يف حياة فكرية معاصرة إال إذا برتنا الرتاث برتاً ‪ ،‬وعشنا مع من‬
‫يعيشون يف عصرنا علماً وحضارة ‪ ،‬ووجهة نظر إىل اإلنسان والعامل ‪ ،‬بل إين متنيت عندئذ أن‬
‫جيدون ‪ ،‬ونلعب كما يلعبون ‪ ،‬ونكتب‪ 2‬من اليسار إىل اليمني‬ ‫جد كما ُ‬ ‫نأكل كما يأكلون ‪ ،‬ون َ‬
‫كما يكتبون‪ !! 2‬على ظن مين آنئذ أن احلضارة وحدة ال تتجزأ ‪ ،‬فإما أن نقبلها من أصحاهبا ـ‬
‫وأصحاهبا اليوم‪ 2‬هم أبناء أوربا وأمريكا بال نزاع ـ وإما أن نرفضها ‪ ،‬وليس يف األمر خيار حبيث‬
‫ننتقي جانباً ونرتك جانباً ‪ ،‬كما دعا إىل ذلك الداعون‪ 2‬إىل اعتدال ؛ بدأت بتعصب‪ 2‬شديد هلذه‬
‫اإلجابة السهلة ‪ ،‬ورمبا كان دافعي اخلبيء إليها هو إملامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا ‪ ،‬وجهلي‬
‫بالرتاث العريب جهالً كاد أن يكون تاماً ‪ ،‬والناس ـ كما قيل حبق ـ أعداء ما جهلوا ‪.‬‬
‫مث تغريت وقفيت مع تطور احلركة القومية‪ ، 2‬فما دام عدونا األلدُ هو نفسه صاحب احلضارة اليت‬
‫توصف بأهنا معاصرة ‪ ،‬فال مناص من نبذه ونبذها معاً ‪ ،‬وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعني‬
‫إىل طابع ثقايف عريب خالص ‪ ،‬حيفظ لنا مساتنا ويردُ عنا ما عساه أن جيرفنا يف تياره فإذا حنن خرب‬
‫من أخبار التاريخ ‪ ،‬مضى زمانه ومل يبق منه إال ذكراه " ‪ .‬ويتابع الدكتور قوله ‪ " :‬ولوال رجوعي‬
‫إىل ثقافيت العربية لدخلت القرب بال رأس " ( جتديد الفكر العريب ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ص‪12‬ـ‬
‫‪. ) 14‬‬
‫ماذا تعني األصالة ؟‬

‫إن فهم األصالة يقتضي‪ 2‬ما يلي ‪:‬‬


‫‪ .1‬ضرورة املعرفة والفهم لثقافتنا ‪ :‬فهم هذه الثقافة من مصادرها األصلية ‪ ،‬ومن أهلها‬
‫الثقات ‪ ،‬وبأدواهتا ومناهجها اخلاصة ‪.‬‬
‫‪ .2‬االعتزاز باالنتماء العريب اإلسالمي ‪ :‬يشعر املثقف‪ 2‬العريب املسلم ‪ ،‬الذي ينتمي إىل ثقافة‬
‫العرب واملسلمني ‪ ،‬أنه عضو يف جسم هذه األمة ‪ ،‬وأنه متحرر من عقدة النقص‪ 2‬اليت يعاين‬
‫منها بعض الناس جتاه كل ما هو غريب ‪ .‬إنه يعتز بلغته ‪ ،‬لغة القرآن والعلوم ‪ ،‬ويعمل على أن‬
‫تكون لغة احلياة ‪ ،‬ولغة العلم ‪ ،‬ولغة الثقافة ‪ ،‬وقد كانت لغة العلم األوىل يف العامل كله لعدة‬
‫قرون ‪ ،‬فال جيوز أن تعجز اليوم عما قامت به باألمس ‪.‬‬
‫‪ .3‬العودة إىل األصول ‪ :‬إىل أصولنا وجذورنا العقدية والفكرية ‪ ،‬واألخالقية ‪ ،‬ونسعى إىل‬
‫مرضية إذا ظل‬
‫حتويل اعتزازنا النظري والعاطفي إىل سلوك عملي ‪ .‬إن االعتزاز يصبح ظاهرة َ‬
‫جمرد كالم يردد ‪ ،‬وشعارات ترفع ‪ ،‬وصيحات تتعاىل ‪ ،‬لسرد األجماد ‪ ،‬وتعظيم األجداد ‪.‬‬
‫‪ .4‬االنتفاع الواعي برتاثنا‪ : 2‬والغوص يف حضنه الزاخر ‪ ،‬الستخراج آللئه وجواهره ‪ .‬وال‬
‫يتصور من أمة عريقة يف احلضارة والثقافة أن هتمل تراثها وتارخيها األديب والثقايف ‪ ،‬وتبدأ من‬
‫الصفر ‪ ،‬أو من التسول لدى غريها ‪.‬‬
‫إن الرتاث حيتوي احلق والباطل ‪ ،‬والصواب‪ 2‬واخلطأ ‪ ،‬والسمني والغث ‪ .‬ففي الرتاث روايات‬
‫يرفضها العقل واملنطق ‪ ،‬وفيه اإلسرائيليات اليت شاعت وانتشرت ‪ .‬من ذلك مثالً كالم الفالسفة‪2‬‬
‫الكبار عن العناصر األربعة ‪ :‬الرتاب واهلواء‪ 2‬والنار واملاء ‪ ،‬أو عن األفالك ‪ ،‬أو عن شكل الكون‪، 2‬‬
‫ومركز األرض ‪ ،‬أو غري ذلك ‪ ،‬مما أبطلته علوم العصر ووثباته اهلائلة ‪.‬‬
‫ويف الرتاث أشياء مل يثبت‪ 2‬خطؤها ‪ ،‬ولكن مل تثبت‪ 2‬جدواها ‪ ،‬أو مل تبق احلاجة إليها قائمة ‪ ،‬كما‬
‫كانت من قبل ‪ ،‬مثل مباحث علم الكالم‪ 2‬املتفلسف ‪ ،‬ومل تبق ختاطب الناس بلسان العصر ‪،‬‬
‫وبعض مباحثها أمسى غري ذي موضوع ‪ ،‬وبعضها جتاوزه العلم أو أبطله ‪ .‬وينبغي وضع علم‬
‫كالم آخر يعرب عن عصرنا ‪ ،‬ويواجه تياراته ‪ ،‬وحيل مشكالته‪. 2‬‬
‫ويف علم التصوف شطحات ونتوءات‪ 2‬يف الفكر والتصور ـ كاحللول واالحتاد ـ تناقض صفاء‬
‫التوحيد اإلسالمي ‪ ،‬وأخرى يف السلوك والعمل ـ كاملبالغة يف الزهد والتوكل ـ تنايف وسطية اخللق‬
‫اإلسالمي‪. 2‬‬
‫ويف كتب األدب والشعر أشياء جتاوزت الدين واخللق والعرف والذوق ‪ ،‬كالغزل بالذكور‬
‫واحلكايات اهلابطة ‪.‬‬
‫إننا لسنا مع الذين يضفون القدسية أو العصمة على كل ما مضى ‪ ،‬وال مع خصومهم الذين ينأون‪2‬‬
‫البد من التخري واالنتقاء‪ ، 2‬السيما يف‬
‫جبانبهم عن كل موروث ‪ ،‬ال لشيء إال ألنه قدمي ‪ ،‬ولكن َ‬
‫جمال الرتبية والتثقيف ‪ ،‬أو جمال الدعوة والتوجيه ‪،‬أو جمال احلكم والتشريع ‪.‬‬
‫قراءة مستبصرة للتراث‬
‫جيب أن تتحقق قراءة مستبصرة للرتاث ‪ ،‬وفق معايري مضبوطة‪ 2‬تسهم يف هنضة األمة ‪ ،‬وتأخذ‬
‫بيدها حنو الصراط املستقيم ‪ .‬فمثالً نقرأ الشعر العريب فنأخذ من روائع التصوير ‪ ،‬وبدائع التعبري ‪،‬‬
‫عن النفس والطبيعة واحلياة ‪ ،‬ونقتبس‪ 2‬غوايل احلكم ‪ ،‬ونرتك املديح املسرف واهلجاء املقذع ‪،‬‬
‫والعصبية‪ 2‬القبلية ‪ ،‬واجملون املكشوف‪ ، 2‬والشك املتحري ‪.‬‬
‫نقرأ حجة اإلسالم الغزايل وننهل من تراثه الرحب يف الرتبية‪ 2‬واألخالق ‪ ،‬ونرتك ما تضمنت كتبه‬
‫من غلو الصوفية ‪ ،‬أو من معارف أثبت علم العصر بطالهنا ‪ ،‬أو ما استند إليه من األحاديث‬
‫الواهية‪ 2‬واملوضوعة‪ 2‬اليت ال سند هلا ‪.‬‬
‫نقرأ التفسري ‪ ،‬وحنذر من اإلسرائيليات ‪ ،‬واألقوال الفاسدات ‪.‬‬
‫ونقرأ احلديث ‪ ،‬وحنذر من املوضوعات‪ 2‬والواهيات ‪.‬‬
‫ونقرأ التصوف ‪ ،‬وحنذر من الشطحات والتطرفات ‪.‬‬
‫ونقرأ علم الكالم ‪ ،‬وحنذر من اجلدليات والسفسطات ‪.‬‬
‫ونقرأ علم الفقه ‪ ،‬وحنذر من الشكليات والتعصبات‪. 2‬‬
‫قراءات متحيزة أو موجَهة للتراث‬
‫تنحاز بعض القراءات املتحيزة لبعض املدارس دون بعض ‪ ،‬ولبعض االجتاهات والشخصيات دون‬
‫بعض ‪ ،‬تأخذ من الرتاث وتدع ‪ ،‬وحتذف منه وتبقي ‪ ،‬وفق أهوائها وميوهلا اخلاصة ‪.‬‬
‫منهم من ينحاز إىل " املدرسة الفلسفية " والسيما " املدرسة املشائية " ‪ ،‬اليت جعلت أكرب مهها‬
‫التوفيق بني الفلسفة والدين ‪ ،‬ولكنها اعتربت الفلسفة أصالً ‪ ،‬والدين تبعاً ‪ ،‬فإذا تعارضا َ‬
‫أول‬
‫الدين ليتفق مع الفلسفة ‪.‬‬
‫ومنهم من ينحاز إىل " املدرسة االعتزالية‪ ، " 2‬ويعدُ املعتزلة " املفكرين األحرار " يف اإلسالم ‪.‬‬
‫وحديث هؤالء عن املعتزلة يوهم أهنم مجاعة " عقالنية " حمضة ‪ ،‬ال تذعن لنصوص الدين ‪ ،‬وال‬
‫ختضع لأحكام الشرع ‪ ،‬وهو تصوير غري صحيح ‪ ،‬السيما يف جمال الفقه واألحكام العملية ‪ ،‬اليت‬
‫كثرياً ما تبعوا‪ 2‬فيها املذهب‪ 2‬احلنفي ‪.‬‬
‫ومنهم من ينحاز إىل شخصيات معروفة دون غريها ‪ ،‬مثل ابن رشد ‪ ،‬وابن حزم ‪ ،‬وابن عريب ‪،‬‬
‫وابن خلدون ‪ ،‬وكالمهم عن هؤالء وأمثاهلم يصورهم بصورة " العقالنيني " اخللصاء ‪ ،‬الذين‬
‫يرفضون النصوص‪ 2‬إذا خالفت مقرراهتم العقلية ‪.‬‬
‫وهذه قراءة متحيزة هلؤالء األعالم‪ ، 2‬فكتبهم تدل بوضوح على أهنم ـ ككل املسلمني ـ ال ميلكون‬
‫أمام حمكمات النصوص‪ ، 2‬إال أن يقولوا‪ : 2‬مسعنا وأطعنا ‪.‬‬
‫فابن رشد وابن خلدون كالمها قاض شرعي وفقيه مالكي ‪ ،‬وابن رشد هو صاحب " بداية اجملتهد‬
‫وهناية املقتصد " يف الفقه املقارن ‪ ،‬الذي يتجسد فيه احرتام املصادر واألدلة الشرعية كلها ‪ ،‬من‬
‫الكتاب والسنة واإلمجاع والقياس ‪.‬‬
‫وابن حزم وابن عريب كالمها فقيه ظاهري ‪ ،‬يأخذ بظواهر النصوص‪ 2‬وحرفيتها يف جمال الفقه‬
‫واستنباط األحكام ‪ ،‬وإن كان على ابن عريب اعرتاضات‪ 2‬مجة يف تصوفه الفلسفي ‪.‬‬
‫ولكن هؤالء العصريني يستنطقون‪ 2‬تلك العقول الكبرية‪ 2‬ـ على اختالف اهتماماهتا وختصصها ـ مبا‬
‫حيبون هم أن تنطق به ‪ ،‬ال مبا نطقت به بالفعل ‪ ،‬فهم يريدوهنا مرتمجة عنهم ‪ ،‬معربة عن فكرهم ‪،‬‬
‫ال عن ذاهتا وفكرها اخلاص ‪.‬‬
‫ويرى الدكتور فهمي جدعان ( نظرية الرتاث ‪ ،‬عمان ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬ص‪ ) 26‬أن هؤالء‬
‫يستلهمون الرتاث املاضي ما يربرون به الواقع احلاضر ‪ ،‬ويرى أن عملية "االستلهام " هذه ليست‬
‫إال عملية تسويغ لقيم احلاضر ‪ ،‬بإسقاط غطاء تراثي عليها ‪ ،‬وأن الذي حيدث عملياً أن احلاضر‬
‫هو الذي يفرض قيمه ‪ ،‬ويلزم هبا ‪.‬‬
‫ومثل هؤالء من يدعو إىل " إعادة قراءة الرتاث " وفق مناهج معاصرة ‪ ،‬ارتضاها أصحاهبا ‪ ،‬تبعاً‬
‫للمدارس اليت ينتمون إليها ‪.‬‬
‫وهذا التوجه شائع عند املثقفني الذين مارسوا خربة مبناهج العلوم اإلنسانية احلديثة ‪ ،‬وبالفلسفات‬
‫الغربية املعاصرة ‪ ،‬فكل واحد من هؤالء يقرأ الرتاث وفقا ملنهجه احملدد ‪ ،‬ويفسره ويوجهه تبعاً‬
‫إلطاره املرجعي ‪ ،‬فهذا يقرؤه قراءة عقالنية ‪ ،‬وثان قراءة لسانية ‪ ،‬وثالث قراءة مادية ‪ ،‬ورابع‬
‫قراءة برامجاتية ‪ ،‬وقراءات أخرى معرفية ووظيفية‪ 2‬وبنيوية‪ ، 2‬إىل آخر التصنيفات‪ 2‬اليت حتاول " أدجلة‬
‫" الرتاث ‪ ،‬وتوظيفه‪ 2‬خلدمة أفكار مدرسة معينة‪ ، 2‬وتوجيهه توجيها ْقبلياً واضحاً ‪ ،‬فهي ليست‬
‫قراءة للفهم ‪ ،‬وإمنا للفعل والتأثري بل " للتثوير " عند بعضهم ‪.‬‬
‫يقول الدكتور جدعان ‪ :‬إن هذه " األدجلة " مل تكن تعين يف هناية التحليل إال شيئاً واحداًَ هو ‪:‬‬
‫أن احلاضر عاجز ـ بإمكاناته وقدراته الكامنة‪ 2‬والصرحية ـ عن إحداث التغيري املنشود ‪ .‬وأن الرتاث‬
‫الذي يشد الناس إليه ‪ ،‬هو الذي ميلك القوة‪ 2‬السحرية على التغيري ‪ ،‬وذلك ـ بطبيعة احلال ـ بعد‬
‫توجيه قراءته الوجهة اليت ختدم األهداف املنصوبة‪ ( 2‬ص‪28‬ومابعدها )‪.‬‬
‫ماذا تعني المعاصرة ؟‬

‫إن املعاصرة تعين أن يعيش اإلنسان يف عصره وزمانه ‪ ،‬ومع أهله األحياء ‪ ،‬يفكر كما يفكرون‬
‫‪ ،‬ويعمل كما يعملون ‪ ،‬يعايش األحياء ال األموات ‪ ،‬واحلاضر ال املاضي ‪ .‬ويقتضي ذلك ما يلي‬
‫‪:‬‬
‫‪ .1‬ضرورة معرفة العصر ‪:‬‬
‫أي أن نعرف " العصر " الذي نعيش فيه معرفة دقيقة وصادقة ‪ ،‬فإن اجلهل بالعصر يؤدي إىل‬
‫عواقب وخيمة ‪ ،‬وهذا ما دفع أحد املفكرين إىل القول ‪ :‬إن املشكلة ليست يف جهلنا باإلسالم ‪،‬‬
‫بل املشكلة يف جهلنا بالعصر ! واجلهل بالعصر مسة مشرتكة بني دعاة األصالة ودعاة املعاصرة ‪ .‬إن‬
‫من بني دعاة األصالة من يعيش يف املاضي وحده ‪ ،‬ويسكن يف صومعة الرتاث ‪ ،‬وقد أغلق عليه‬
‫باهبا ‪ ،‬فال يكاد يرى أو يسمع أو حيسُ شيئاً مما حوله ‪ .‬ويا ليته يعيش يف عصور التألق واالزدهار‬
‫‪ ،‬بل كثرياً ما يعيش يف عصور التخلف والرتاجع ‪ .‬فهو يفكر بعقوهلم ‪ ،‬ويتحدث بلغتهم ‪ ،‬وحييا‬
‫يف مشكالهتم ‪ ،‬وجييب عن أسئلتهم ‪ ،‬فهو حي يعايش األموات ‪ ،‬أكثر مما يعايش األحياء ‪.‬‬
‫إن مما ابتليت به الثقافة العربية نفراً من اآلبائيني الذين يفرون من مواجهة الواقع إىل أحضان‬
‫آبائهم وأجدادهم ‪ (( :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون )) ‪ .‬وإذا سألتهم عن‬
‫حل ملشكلة معاصرة استنجدوا بآبائهم لكي حيلوها ‪ .‬حىت قال فيهم مجال الدين األفغاين ‪ :‬لقد‬
‫أضحوا على حالة كلما قلت هلم كونوا‪ 2‬بين آدم قالوا كان آباؤنا كذا وكذا ‪.‬‬
‫املطلوب ـ إذن ـ أن يعيش اإلنسان القوي يف حاضره ‪ ،‬منطلقاً إ ىل مستقبله ‪ ،‬ولكي حيسن‬
‫العيشة يف حاضره وزمانه (عصره) ينبغي‪ 2‬أن يعرفه حىت يتعامل معه على بصرية ‪ .‬وكلمة اللسان‬ ‫ْ‬
‫الواردة يف اآلية ‪ (( :‬وما أرسلنا من رسول إال بلسان قومه ليبني هلم )) ‪ ،‬يفهم منها اللغة ويفهم‬
‫منها طبيعة‪ 2‬العصر ‪.‬‬
‫معرفة الواقع من متام معرفة العصر ‪ :‬الواقع احمللي ( الوطين ) ‪ ،‬واإلقليمي ( العريب ) ‪،‬‬
‫واإلسالمي‪ ، 2‬والعاملي ‪.‬‬
‫وهذه املعرفة الزمة لكل من يريد تقومي هذا الواقع ‪ ،‬أو إصدار حكم له أوعليه ‪ ،‬أو حماولة‬
‫تغيريه ‪.‬‬
‫وال تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إال مبعرفة العناصر الفاعلة فيه ‪ ،‬واملوجهة له‬
‫واملؤثرة يف تكوينه وتلوينه ‪ ،‬سواء أكانت عناصر مادية أم معنوية‪ ، 2‬بشرية أم غري بشرية ومنها‬
‫عناصر جغرافية وتارخيية واجتماعية واقتصادية وسياسية‪ 2‬وفكرية وروحية ‪.‬‬
‫وتفسري الواقع كتفسري التاريخ ‪ ،‬يتأثر باجتاه املفسر وانتمائه العقدي والفكري ‪.‬‬
‫وجيب أن حنذر من النظرات اجلزئية ‪ ،‬واحمللية ‪ ،‬واآلنية‪ ، 2‬والسطحية ‪ ،‬والتلفيقية والتسوي‪2‬غية ‪.‬‬
‫فعلينا أن حنذر من االجتاه " اإلطرائي " للواقع ‪ ،‬وحماولة حتسينه وإبراز صورته ساملة من كل‬
‫عيب ‪ ،‬منزهة عن كل نقص ‪ ،‬وغضّ الطرف عن العيوب الكامنة‪ 2‬فيه ‪ ،‬وإن كانت تنخر يف كيانه‬
‫‪ ،‬واهتام كل من ينقد هذه العيوب‪ 2‬واآلفات بأنه مشوش ‪ ،‬أو مبالغ أو متطرف ‪.‬‬
‫وحنذر كذلك من االجتاه " التشاؤمي " الذي ينظر إىل الواقع مبنظار أسود ‪ ،‬جيرده من كل‬
‫حسنة ‪ ،‬ويلحق به كل نقيصة ‪ ،‬وال يرى فيه إال ظلمات مرتاكمة ‪ ،‬موروثة من عهود التخلف ‪،‬‬
‫أو وافدة مع عهد االستعمار ‪ .‬مجاهري ُمضلَّلة ‪ ،‬وأقطار هي جمموعة " أصفار " !! وما يرجى من‬
‫تغيري ‪ ،‬أو يؤمل من إصالح ‪ ،‬فهو سراب حيسبه الظمآن ماء ‪.‬‬
‫ومثل ذلك ‪ :‬االجتاه " التآمري " الذي يرى وراء كل حدث ـ وإن صغر ـ أيادي أجنبية ‪،‬‬
‫وقوى خفية ‪ ،‬حتركه من وراء ستار ‪ .‬وحنن ال ننكر التآمر والكيد ولكن تضخيم ذلك حبيث‬
‫جيعلنا " أحجاراً على رقعة الشطرنج " يفتُ يف عضدنا ‪ ،‬وييئسنا من أي توجه إجيايب إلرادة‬
‫التغيري ‪ ،‬ويرحينا بأن نشعر أننا أبدا ضحايا من هو أقوى منا ‪ ،‬وال حلَ أمامنا غري االستسالم‬
‫للواقع املر ‪ .‬ومن ناحية أخرى جيعلنا هذا ال نعود على أنفسنا بالالئمة وال حناول إصالح ما فسد‬
‫‪ ،‬وتدارك ما وقع ‪.‬‬
‫إن أوْىل من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر اخلارجي ‪ ،‬أن نردَها إىل اخللل الداخلي ‪ ،‬أي‬
‫اخللل يف أ نفسنا قبل كل شيء ‪ (( :‬إن اهلل ال يغري ما بقوم حىت يغريوا‪ 2‬ما بأنفسهم )) ‪.‬‬
‫وقريب من ذلك االجتاه " التنصلي " يف تفسري الواقع ‪ ،‬مبعىن أن أحداً ال يريد أن يتحمل‬
‫مسؤولية ما يف هذا الواقع من سوء واحنراف ‪ ،‬فكل واحد ‪ ،‬وكل فريق ‪ ،‬يريد أن حيمل وزره‬
‫على غريه ‪ ،‬أما هو فال ذنب له ‪ ،‬وال تبعة عليه ‪.‬‬
‫الكل يشكو من الفساد ‪ ،‬ولكن من املسؤول عن فساد احلال ؟ وأين اخللل ؟ مجهور كبري من‬
‫الناس حيملون املسؤولية على العلماء ‪ ،‬والعلماء حيملون املسؤولية على احلكام ‪ ،‬واحلكام حيملوهنا‬
‫على الضغوط اخلارجية أو الضرورات الداخلية ‪.‬‬
‫واحلق أن اجلميع مسؤولون‪ ، 2‬كل حسب ماله من طاقة وسلطة ‪ :‬اجلماهري والعلماء ‪،‬‬
‫واملفكرون‪ 2‬واملربون واحلكام ‪ (( :‬كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) ‪ ( .‬متفق عليه من‬
‫حديث ابن عمر ‪ .‬صحيح اجلامع الصغري برقم ‪. )4569‬‬
‫ومن التفسريات اخلاطئة للواقع ‪ :‬التفسري التسوي‪2‬غي التربيري الذي حياول أن يضفي على الواقع‬
‫‪ ،‬ما جيعله مقبوالً ومشروعاً ‪ ،‬وإن حاد عن احلق وسواء السبيل ‪ ،‬ويف هذا لون من التدليس‬
‫والتلبيس ‪ ،‬بإظهار الواقع على غري حقيقته ‪ ،‬وإلباسه زيا غري زيه ‪.‬‬
‫إننا نريد معرفة واقع عصرنا وعاملنا عموما ‪ ،‬وواقع أمتنا خصوصاً كما هو ‪ ،‬دون حتريف وال‬
‫تزييف ‪ ،‬وال هتويل وال هتوين ‪ ،‬وال مدح وال ذم ‪ ،‬مستخدمني األساليب‪ 2‬العلمية املوضوعية يف‬
‫الكشف والرصد والتحليل ‪ ،‬ويف هذا ما يساعدنا على تشخيص الداء ووصف الدواء ‪.‬‬
‫إن أعداءنا يعرفوننا متاماً ‪ ،‬فنحن مكشوفون هلم حىت النخاع ‪ ،‬فهل عرفنا حنن أعداءنا ؟ وإذا‬
‫كنا مل نعرف أنفسنا كما عرفها غرينا ‪ ،‬فكيف نعرفهم ؟ بل هل عرفنا أنفسنا مثلما عرفها‬
‫خصومنا ؟‬
‫عصرنا بني اإلجيابيات والسلبيات‬
‫إنه عصر اإلجيابيات ‪:‬‬
‫عصر العلم والتكنولوجيا ‪.‬‬
‫عصر احلرية وحقوق اإلنسان واستقالل الشعوب ‪.‬‬
‫عصر السرعة والقوة والتغريات السريعة ‪ ،‬والتطورات اهلائلة ‪.‬‬
‫عصر االحتاد والتكتالت الكبرية ‪.‬‬
‫عصر التخطيط والتنظيم ال االرجتالية والفوضى والتواكل ‪.‬‬
‫عصر اقتحام املستقبل ‪ ،‬وعدم االكتفاء باحلاضر ‪ ،‬فضالً عن االنكفاء‪ 2‬على املاضي ‪.‬‬

‫وهو أيضاً عصر السلبيات ‪:‬‬


‫عصر غلبة املادية والنفعية ‪.‬‬
‫عصر تدليل اإلنسان بإشباع شهواته ‪.‬‬
‫عصر التلوث بكل مظاهره ‪.‬‬
‫عصر الوسائل واآلالت ‪ ،‬ال املقاصد والغايات ‪.‬‬
‫عصر القلق واألمراض النفسية‪ ، 2‬والتمزقات االجتماعية ‪.‬‬
‫والناس قسمان حيال العصر ‪ :‬منهم من يهرب منه إىل املاضي خوفاً منه بدل املواجهة ‪ ،‬ومنهم‬
‫من يندمج فيه إىل حد الذوبان ‪ ،‬واخلري يف الوسط حني نستعمل إرادتنا واختيارنا أمام هذه‬
‫املؤثرات لنأخذ ما ينفعنا‪ 2‬وندع ما يضرنا ‪.‬‬
‫وجيب أن ننتبه‪ 2‬اىل نقطة أن العصر ليس الغرب وحده وإن كان هو املهيمن واملسيطر ‪ ،‬فهناك‬
‫العامل اإلسالمي ‪ ،‬وعامل الشرق األقصى‪ 2‬بدياناته وفلسفاته ‪.‬‬
‫ويردد كثري من جتار الثقافة دعوة مشبوهة هي استرياد الثقافة الغربية بكل عناصرها بدعويني ‪:‬‬
‫عاملية هذه الثقافة ‪ ،‬وأهنا ثقافة ال تتجزأ ‪.‬‬
‫أما عاملية الثقافة فهي شبهة خاطئة ألهنم خيلطون بني العلم والثقافة ‪ ،‬فالعلم كوين ‪ ،‬والثقافة‬
‫خاصة بكل قوم وكل مجاعة ‪ .‬العلم واحد والثقافات متنوعة متعددة ‪.‬‬
‫أما دعوى أن الثقافة ال تتجزأ فهي مرفوضة تارخيياً وواقعياً ‪ .‬لقد أخذ العرب عن األمم كثرياً‬
‫مما عندها من العلوم واملعارف ‪ ،‬ولكنهم مل يأخذوا ثقافتها ‪ ،‬وبقوا‪ 2‬حمافظني على لغتهم وعقيدهتم‬
‫وعاداهتم وأعرافهم ‪ .‬أما يف العصر احلديث فقد أخذ اليابانيون عن الغربيني العلم واملناهج ‪ ،‬ومل‬
‫يأخذوا عنهم عقائدهم وشعائرهم وتقاليدهم ‪.‬‬

‫‪-2‬العلم‪ :‬والتكنولوجيا ‪:‬‬


‫إن أصالتنا ال متنعنا من أخذ هذا العلم واالقتباس منه واالنتفاع‪ 2‬به ‪ ،‬بل هي توجب علينا ذلك‬
‫إجياباً ‪ .‬إن التكن‪2‬ولوجيا ال تشرتى شراء ‪ ،‬فتلك اليت تشرتى ال تطور اجملتمع ‪ ،‬فهي تساعد على‬
‫االستهالك‪ 2‬ال اإلنتاج ‪ ،‬والتقليد ال االتباع‪ . 2‬إن التكنولوجيا جيب أن تنبت عندنا ‪ ،‬وأن تتفاعل‬
‫مع واقعنا ‪ ،‬وأن حنملها حنن ‪ .‬وال يظنََن ظان أن ما منلكه اليوم من أجهزة ومعدات جيعلنا‬
‫عصريني ‪.‬‬

‫‪ - 3‬النظرة المستقبلية ‪:‬‬


‫إن من طبيعة املعاصرة أال نستسلم للحاضر بل نتطلع دائماً إىل املستقبل ‪ .‬إن النظرة إىل‬
‫املستقبل ال تقوم على الكهانة والتنجيم ‪ ،‬ولكن على اإلحصاء والتخطيط ‪ ،‬والدراسة والرصد‬
‫وبناء النتائج على املقدمات ‪ .‬جيب أن نفيد من دراسات املستقبل اليت ازدهرت يف الفرتة األخرية‬
‫ازدهاراً كبرياً ‪.‬‬

‫والناس بين الماضي والمستقبل على ثالثة أنواع ‪:‬‬


‫‪ .1‬الماضويون ‪ :‬املشدودون دائماً إىل الوراء ال ينظرون أمامهم أبداً ‪ .‬ومن مساهتم أهنم‬
‫يضفون لوناً من القداسة على الرتاث فهو برأيهم حق كله ال ميكن أن نرتك شيئاً فيه ‪ .‬ويسرفون‬
‫رد كل جديد إىل قدمي من الرتاث ‪ ،‬وإن مل يقم على ذلك برهان ‪ :‬فالطب احلديث مأخوذ من‬ ‫يف ّ‬
‫الرازي وابن سينا ‪ ،‬وعلم االجتماع املعاصر يوجد عند ابن خلدون ‪ ،‬واللسانيات املعاصرة عند‬
‫شرا مما قبله ‪ ،‬ومتعلقون بالصورة والشكل ال‬
‫جرا ‪ .‬وهم يعتربون‪ 2‬كل زمن ً‬‫سيبويه ‪ ...‬وهلم َ‬
‫بالروح واجلوهر ‪.‬‬
‫‪ .2‬المغرقون في المستقبلية ‪ :‬ينظرون دائماً إىل األمام وال يلتفتون إىل الوراء ألن اإلنسان‬
‫يتطور دائماً إىل ما هو أحسن وأمثل ‪ ،‬إهنم كما وصفهم أحد املفكرين ‪ " :‬كأمنا يريدون أن يلغوا‬
‫املاضي من الزمن ‪ ،‬و (أمس) من اللغة ‪ ،‬والفعل املاضي من الكالم ‪ ،‬وحيذفوا الوراء من اجلهة ‪،‬‬
‫والذاكرة من اإلنسان" ‪ .‬الرتاث عندهم متهم ‪ ،‬واملاضي‪ 2‬بغيض ‪ ،‬والسلف متخلفون ‪ ،‬وتاريخ‬
‫األمة ظلمات بعضها فوق بعض ‪ .‬يسكتون عن حسنات الرتاث ‪ ،‬ويضخمون ما فيه من فنت‬
‫واحنرافات ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬دعاة الوسطية ‪ :‬هم الذين سلموا من إفراط األولني وتفريط اآلخرين ‪ ،‬يعلمون أن‬
‫التطور والتغري ليس دائماً إىل األحسن واألمثل ‪ .‬يرحبون بالتطور إذا كان ارتقاء إىل ما هو أفضل‬
‫‪ ،‬وينكرونه إذا اجته حنو اهلبوط واالحندار ‪ .‬إنه تيار الوسطية الذي ال يغفل املستقبل وال ينسى‬
‫املاضي ‪.‬‬

‫‪ .4‬العناية‪ :‬بحقوق اإلنسان ‪:‬‬


‫يصور كثري من الباحثني أن حقوق اإلنسان نبت غريب مل يكن قبال يف األمم السابقة ‪ ،‬واحلقيقة‬
‫أن هذه نظرة مبتسرة قاصرة ‪.‬‬
‫إن األمة العربية قد عرفت حقوق اإلنسان‪ 2‬عن طريق ما بثه اإلسالم‪ ، 2‬مبصدريه القرآن والسنة ‪،‬‬
‫من قيم ومبادئ تعرتف للبشر حبقوقهم كاملة غري منقوصة ‪ ،‬حىت إهنا اعرتفت حبقوق احليوان ‪.‬‬
‫لقد مشل اإلسالم‪ 2‬حقوق اإلنسان‪ 2‬الشخصية الذاتية والفكرية‪ 2‬والسياسية والقانونية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية ‪ ،‬وأكد املساواة‪ 2‬واحلريات العامة املتنوعة ‪.‬‬
‫وقد مشل اإلسالم حقوق البشر بأنواعهم ‪ :‬الرجال والنساء واألطفال ‪.‬‬
‫ومشل املسلمني وغري املسلمني يف داخل الدولة اإلسالمية وخارجها ‪.‬‬
‫وضمن اإلسالم‪ 2‬واجب األمر باملعروف والنهي‪ 2‬عن املنكر الذي يعين إحقاق احلق ومقاومة‬
‫البغي ‪ ،‬وجعله فرضاً على الفرد واجلماعة والدولة ‪.‬‬
‫وقد شرع اإلسالم اجلهاد حلماية حقوق اإلنسان ‪ ،‬ومنع استضعافه ‪ ،‬والبغي‪ 2‬على ذاته وحقوقه‬
‫‪ (( :‬ومالكم ال تقاتلون يف سبيل اهلل واملستضعفني من الرجال والنساء والولدان )) ‪.‬‬
‫وقبل أن أختم حبثي أريد أن أؤكد بعض النتائج الضرورية يف هذه املرحلة احلرجة اليت متر هبا‬
‫أمتنا ‪:‬‬
‫‪ .1‬ضرورة تواصل احلوار بني املخلصني من الطرفني ‪ :‬األصالة واملعاصرة ‪ ،‬لتصحيح املفاهيم ‪،‬‬
‫وإزالة الشبهات ‪ ،‬وتقريب الشَقة ‪ ،‬وحماولة توسيع مساحة املتفق عليه ‪ ،‬وتأكيد التعاون فيه ‪،‬‬
‫اجلادة يف املختلف فيه ‪ ،‬والعمل على تضييقه ‪ ،‬واالجتهاد يف الوصول إىل الصواب أو‬ ‫واملناقشة ّ‬
‫الذهبية‪(:‬نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما‬‫الصحيح أو األصح ‪ ،‬وأن نعمل بالقاعدة َ‬
‫اختلفنا فيه )‪.‬‬
‫‪ .2‬تأكيد كرامة اإلنسان‪ : 2‬لقد وجه كثري من مفكري الغرب النقد العنيف‪ 2‬إىل احلضارة الغربية‬
‫اليت أعلت من شأن املادة وهبطت بقيمة اإلنسان‪ ، 2‬فعلينا أن نؤكد ذلك ونتبناه ‪ ،‬وجنعل من‬
‫ثقافتنا اإلنسانية واقعاً حياً يف أرضنا وجمتمعاتنا ‪ ،‬ومنكن هلا يف حياتنا العقلية والوجدانية‪ ، 2‬حىت‬
‫تؤدي دورها املطلوب يف البناء واإلعالء ‪.‬‬
‫‪ .3‬ال تناقض يف ثقافتنا بني العروبة واإلسالم‪ ، 2‬إال إذا حرفت العروبة فكانت معادية لإلسالم ‪،‬‬
‫وحرف اإلسالم فكان معادياً للعروبة ‪.‬‬
‫‪ .4‬ال صراع يف ثقافتنا بني العلم والدين ‪ ،‬أو بني العلم واإلميان أو بني العقل والنقل ‪ .‬العقل‬
‫أساس النقل ‪ ،‬والنقل يُشيد بالعقل وحيتكم إليه ‪ ،‬وال تعارض بني صحيح املنقول وصريح املعقول‬
‫‪ .‬لذا جيب أن نعلي من شأن العلم واإلميان حىت تدخل األمة العصر جبناحني راسخني ‪.‬‬
‫‪ .5‬ال تعارض بني األصالة احلقة واملعاصرة احلقة ‪ ،‬إذا فهمت كل واحدة منهما على حقيقتها‬
‫‪ .‬إذ نستطيع أن نكون‪ 2‬معاصرين إىل أعلى مستويات املعاصرة ‪ ،‬وأن نبقى كذلك أصالء حىت‬
‫النخاع ‪ .‬إمنا تتعارض األصالة واملعاصرة ‪ ،‬إذا فهمت األصالة على أهنا االحتباس االختياري يف‬
‫سجن املاضي ‪ ،‬واملعاصرة على أهنا الدوران يف رحى الغرب ‪ .‬لذا جيب أن نرفض اجتاهني‬
‫متطرفني ‪ :‬االجتاه األول الذي ينتهي باألصالة إىل اجلمود والتحجر ‪ ،‬واالجتاه الثاين الذي ينحو‬
‫باملعاصرة حنو الفناء يف الغرب ‪ ،‬واتّباع سننه " شرباً بشرب ‪ ،‬وذراعاً بذراع ‪ ،‬حىت لو دخلوا جحر‬
‫ضب لدخلوه " ‪ ،‬وال يكتفي بأخذ العلم والتكنولوجيا وحسن اإلدارة والتنظيم فيه ‪ ،‬واقتباس كل‬
‫يصر على نقل األمنوذج الغريب إلينا بكل عناصره ومقوماته‪ ، 2‬والسيما‬ ‫ما تنهض به احلياة ‪ ،‬بل هو ُ‬
‫جذوره الفلسفية ‪ ،‬ومفاهيمه الفكرية ‪ ،‬وجماالته األدبية ‪ ،‬وتقاليده االجتماعية ‪ ،‬وقوانينه التشريعية‪2‬‬
‫‪ ،‬ومؤثراته الثقافية ‪.‬‬

You might also like