Professional Documents
Culture Documents
إن أول تكليف نزل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هو أهم أسس التثقيف
(( اقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق اإلنسان من علق ،اقرأ وربك األكرم ،الذي علم بالقلم ،
علم اإلنسان 2ما مل يعلم ))
كان هذا النص قاعدة اإلصالح األوىل اليت صنع النيب صلى اهلل عليه وسلم هبا نواة 2جمتمع
حول جمرى التاريخ يف منطقة ال متتلك أمنوذجاً للحضارة . حضاري َّ
ويف واقعنا املعاصر مثة انفصام 2بني هويتنا وثقافتنا 2حيكم مسبقاً على مشاريعنا بالعقم ،فالوطن
العريب متتلك شعوبه هوية ختتلف عن هوية الشعوب األخرى ،وال ميكن حبال أن تتفاعل مع
ثقافتها ،بل تنبهت مؤخراً إىل الغزو الثقايف الذي رافق الغزو اإلعالمي وأصبح موضوع حبث
ونقاش .يطرح هذا يف أوساط املؤسسات الثقافية 2اليت تقف حريى أمام فشلها يف الرقي بثقافة
الشعوب وتنميتها .
إن اجلدلية بني ثقافة اجملتمع وقيمه ال ميكن أن تنفصم ،وكل تنمية للثقافة ال تنطلق من قيم اجملتمع
الذي تطرح فيه هي عقيمة ،ومن مث فإن الشعب العريب ال ميكن أن يتفاعل مع ثقافات تتناىف مع
قيمه وإن مسيت ثقافة عربية .
وال تعين أصالة الثقافة إمهال ثقافة اآلخر وعدم االطالع عليها واإلفادة منها ،كما ال تعين ثقافة
دينية باملعىن الكهنوتي ،وأيضاً ليست نشر العلوم الشرعية التخصصية 2اليت تدرس يف املعاهد كما
هي عليه ،بل تعين العودة إىل األصالة منهجاً وقيماً ومصدراً يف تنمية ثقافة اجملتمع أيا كان
اجتاهها أدباً أو فكراً أو فناً .
والثقافة العربية ليست ثقافة مستوردة ،وال مرتمجة ،وال ملفقة ،وال منغلقة ،بل هي ثقافة
تعتمد على اإلبداع الذي ينبع من التأمل والنظر يف الكون،وال حدود هلذا اإلبداع فأفقه مفتوح.
تعد ثقافتنا العربية من أغىن الثقافات العاملية وأمهها ،فبعد أن ترسخت جذورها قبل اإلسالم لغة
مشرقة وحكماً وخطباً وأمثاالً وشعراً جتلت فيه العبقرية العربية وكان صورة حلياة العرب ومرآة
تفكريهم ومشاعرهم ومسرح خياهلم ،تنزل القرآن الكرمي بالعربية فأغناها 2معاين سامية وبياناً
رائعاً ،وفتح هلا سبل االنتشار يف مشارق األرض ومغارهبا .
وبعد السلطان املكني ،أقبل العرب على نقل علوم األقدمني ،ومنها انطلقوا يف آفاق العامل
مستكشفني مبدعني إىل جانب عطائهم املستمر يف الفقه واألدب وفنون القول كافة .
وخالل هذه املسرية 2الشاقة تعرضت الثقافة العربية لسهام "اآلخرين" ،الذين حاولوا اإلساءة إىل
اللغة العربية وإقصاءها عن التدريس وجماالت احلياة املختلفة ،مث حاولوا إدخال مفاهيم مزيفة يف
الثقافة العربية ،مث جاءت ثقافة العوملة 2لتزاحم الثقافة العربية يف عقر دارها كما تزاحم ثقافات
خمتلف شعوب العامل لتجعله بال حدود وال ألوان ،ساحة للسلع ومتجراً واسعاً يكدس منه
الطامعون أرباحاً خيالية هي عرق الكادحني ودم املناضلني يف أرجاء األرض .
إن قدر لغتنا العربية أن تقاوم اإلقصاء والتشويه ، 2وقدر أمتنا أن حتافظ على هويتها وترد َالطامعني
واحلق هو األبقى واملستقبل ملن صرب حىت نيل الظفر.
هبا .إن إرادة احلياة هي األقوى َّ
الصراع بين دعاة األصالة والمعاصرة
لقد شهدت الساحة العربية توترات شديدةً بني ثنائيات عديدة مرتادفات ملعىن واحد :التقليد
والتجديد ،احملافظة والتحديث ،اجلمود والتحرر ،الرجعية والتقدمية ، 2األنا واآلخر ،الداخل
واخلارج ،احمللي والعاملي ، 2القدمي واجلديد ،الرتاث واحلداثة ،ومنها األصالة واملعاصرة .
وجدت منذ عصر النهضة 2ـ وتوجد اآلن ـ يف اجملتمع العريب أقلية تدعو تصرحياً أو تلوحياً إىل تقليد
الغرب مجلة وتفصيال ،هبدف اخلروج من وضعنا البئيس . 2إن بعضهم يفسر هذا امليل بالقانون2
االجتماعي الذي ذكره ابن خلدون ،القاضي بأن 2املغلوب جمبول على تقليد الغالب يف كل شيء
.
إن أمتنا العربية على الصعيد الثقايف ال تبدأ من العدم بل هي تستند إىل إرث ثقايف غين باذخ ،
وما يشغلها اآلن هو :كيف توائم بني هذا الرتاث وبني متطلبات العصر الذي نعيش فيه .هل
تتمسك بالثقافة املتوارثة اليت ألفتها أم هتجرها إلى ثقافة مستوردة ؟ خطران يتهدداهنا ألهنا إن
متسكت بالقدمي مكتفية 2به عاشت خارج الزمان ،وإن تلبست اجلديد بال روية عاشت خارج
املكان .
إن هذه املشكلة قد شغلت العديد من املفكرين والباحثني ،ولكن من اجللي أن الثقافة ليست يف
أكثر مكوناهتا صيغة جامدة ال تتغري ،بل هي نتاج بشري ينمو ويزداد عمقاً واتساعاً جبهود البشر
.فالثقافة العربية يف عصر املعري ببالد الشام وعصر ابن رشد يف األندلس ليست الثقافة العربية يف
العصر اجلاهلي أو صدر اإلسالم أو العصر األموي .
إننا نستطيع أن نقدر للرتاث قيمته ودوره يف تكويننا 2النفسي واالجتماعي ونأخذ منه ما تقتضيه2
حاجتنا اليوم ،وأن نقبل على الثقافة املعاصرة فنقتبس 2من ثقافات اآلخرين ما حتتاج إليه ثقافتنا
لتحقق معاصرهتا ومواكبة 2الثقافات األخرى ،والسيما يف ميدان العلوم والتقانة 2والتقنية 2والعلوم
املستحدثة يف السنوات 2اخلمسني األخرية ،فاملواءمة بني املوروث واجلديد حيفظ لألمة هويتها2
وجيدد طاقتها على النماء والتطور .
أجل إن الثقافة العربية هي إحدى الثقافات الكربى يف تاريخ البشرية ،وهي مؤهلة اليوم2
الستئناف دورها حاضنة لقيم اخلري والعدالة واملساواة 2واحملبة والسالم ونابذة كل ما يشوه اإلنسان
من صور الشر واجلور والعنصرية 2والظلم ،وذلك من خالل صيغة مركبة متحركة متطورة ال
تتنكر لألمس الغابر وال تغمض العني عن متطلبات اليوم 2والغد .
هكذا يوجد على الساحة العربية تياران 2يتفقان يف اهلدف ،حمو التخلف ،ويفرتقان 2يف األسلوب :
األصالة باحملافظة على املوروث،أم النبوغ 2يف إطار الرتاث اإلنساين املشرتك 2؟
كان التيار األول ميثل القدمي املوروث يف ثباته ومشوخه ،وكان التيار اآلخر ميثل اجلديد الوافد يف
بريقه وإغرائه .
وال ريب :أنه وجد غالة يف كال الفريقني .ففي مقابل الذين يريدون جتديد الكعبة والشمس
والقمر ،وجد اجلامدون على كل قدمي ،الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك وسير التاريخ ،
شعارهم :ليس يف اإلمكان 2أبدع مما كان ! وضاع الوسط بينهما حىت قال حممد كرد علي :
نسينا القدمي ،ومل نتعلم اجلديد .
إهنا ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل ،وهي ثنائية 2التكامل ،ال ثنائية
التضاد والتقابل ، 2وقد أحسن د .عبد املعطي 2الدااليت صياغتها بقوله " :لن متتد أغصاننا يف
العصر حىت نعمق جذورنا يف الرتاث " .
مكونات الثقافة العربية
إن الثقافة العربية تتكون 2من مكونني رئيسيني :اللغة العربية واإلسالم ومن هنا إصرار بعضهم
على تسميتها " :الثقافة العربية اإلسالمية " .
إن اللغة هي وعاء العلوم مجيعاً ،وأداة اإلفهام والتعبري العلمي ،والفين والعادي ،ووسيلة التأثري
يف العقل والشعور بأدهبا ونثرها وشعرها وحكمها وأمثاهلا وقصصها وأساطريها ، 2وسائر ألواهنا
وأدواهتا الفنية .
ومن هنا فإن كل من حيارب اللغة العربية حيارب بالنتيجة الثقافة العربية .وكان من ديدن أعداء
هذه األمة إضعاف الفصحى ،وإشاعة العامية ، 2وإعالء اللغة األجنبية 2على اللغة القومية ،وإلغاء
احلرف العريب يف الكتابة ،وإحالل احلرف الالتيين حمله .
أما الدين فكل الثقافات مدينة لألديان يف تكوينها وتوجيهها ،سواء أكان هذا الدين مساوياً أم
وضعياً ،كما هو واضح يف ثقافات الشرق والغرب والسيما اإلسالم 2الذي له تأثريه العميق
والشامل يف ثقافة أمتنا العربية عن طريق عقائده اإلميانية ،وشعائره التعبدية ، 2وقيمه اخللقية ،
وأحكامه التشريعية ، 2وآدابه العملية ،ومفاهيمه النظرية ،حىت إنه يعد مكوناً مهماً لثقافة غري
املسلم الذي يعيش يف اجملتمع املسلم ،وهو ينضح على تفكريه ووجدانه وعالقاته ،شعر أم مل
يشعر ،مما دعا الزعيم السياسي 2مكرم عبيد يف مصر إىل القول :أنا نصراين ديناً ،مسلم وطناً .
ويأيت السؤال ـ اإلشكالية :كيف تكون العالقة بيننا 2وبني هذا الوافد اجلديد ؟ كيف نوازن بني
قدمينا وحديثهم ؟ وبني تراثنا األصيل ومعاصرهم الدخيل ؟ هل العالقة بني الرتاث القدمي والوافد
احلديث ـ أو بني األصالة واملعاصرة ـ هي عالقة التضاد والتناقض 2؟ فال أمل يف اجلمع بينهما ،أو
هي عالقة التنوع والتكامل 2وهنا ميكن اجلمع بينهما .
السؤال خطري ،واجلواب مهم ،والسيما يف هذه املرحلة اليت تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاهتا ،بعد
أن اكتشفت ذاهتا اليت غابت أو غُيبت 2عنها زمناً .
وقد أجاب عنه أناس بافرتاض التناقض 2بني األمرين ،فاختار فريق الرتاث واألصالة ،وعاشوا2
غرباء عن العامل والزمان .
واختار آخرون العصر واحلداثة ،وعاشوا غرباء عن األهل واملكان .وبقي آخرون مرتددين بني
أولئك وهؤالء .
ال تعارض بين الثقافة العربية والمعاصرة
إن املوقف الصحيح هو الذي يُتخذ بعد الدراسة املتأنية 2لكل من األمرين املعروضني .وقد سقط
الكثري يف هذا اخلطأ الشنيع ،حني تسرع يف اجلواب بغري علم عن هذا السؤال .
وحيكي لنا الدكتور زكي جنيب حممود يف كتابه " جتديد الفكر العريب " قصة تسرعه حني واجه
السؤال عن طريق للفكر العريب املعاصر ،يضمن له أن يكون 2عربياً حقاً ( أي أصيالً ) ومعاصراً
حقاً .
" قد يبدو للوهلة األوىل أن مثة تناقضاَ أو ما يشبه التناقض 2بني احلدين ألنه إذا كان عربياً
صحيحاً ،اقتضى ذلك منه أن يغوص يف تراث العرب األقدمني حىت ال يدع جماالً جلديد ـ وإن
ذرة هواء
من أبناء األمة العربية اليوم من غاصوا هذا الغوص الذي مل يبق هلم من عصرهم َ
يتنفسوهنا ـ وأما إذا كان معاصراً صحيحاً ،كان حمتوما عليه أن يغرق إىل أذنيه يف هذا العصر
بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه ،حىت ال تبقى 2أمامه بقية ينفقها 2يف استعادة شيء من ثقافة
العرب األقدمني .
نعم قد يبدو للوهلة األوىل أن بني العربية واملعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض ، 2ولذلك جيب
مركب واحد ،وكأمنا هو سؤال يطلب أن جتتمع السؤال الذي يلتمس طريقاً جيمع الطرفني يف ّ
مع املاء جذوة نارة ،فهل بني الطرفني مثل هذا التناقض 2حقاً ؟ أو أن مثة طريقاً جيمع بينهما ،
ذلك هو السؤال " .
ويقول الدكتور " :لقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد ،ولكين كنت إزاءه من املتعجلني الذين
يسارعون جبواب قبل أن يفحصوه وميحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره ،فبدأت بتعصب2
شديد إلجابة تقول :إنه ال أمل يف حياة فكرية معاصرة إال إذا برتنا الرتاث برتاً ،وعشنا مع من
يعيشون يف عصرنا علماً وحضارة ،ووجهة نظر إىل اإلنسان والعامل ،بل إين متنيت عندئذ أن
جيدون ،ونلعب كما يلعبون ،ونكتب 2من اليسار إىل اليمني جد كما ُ نأكل كما يأكلون ،ون َ
كما يكتبون !! 2على ظن مين آنئذ أن احلضارة وحدة ال تتجزأ ،فإما أن نقبلها من أصحاهبا ـ
وأصحاهبا اليوم 2هم أبناء أوربا وأمريكا بال نزاع ـ وإما أن نرفضها ،وليس يف األمر خيار حبيث
ننتقي جانباً ونرتك جانباً ،كما دعا إىل ذلك الداعون 2إىل اعتدال ؛ بدأت بتعصب 2شديد هلذه
اإلجابة السهلة ،ورمبا كان دافعي اخلبيء إليها هو إملامي بشيء من ثقافة أوربا وأمريكا ،وجهلي
بالرتاث العريب جهالً كاد أن يكون تاماً ،والناس ـ كما قيل حبق ـ أعداء ما جهلوا .
مث تغريت وقفيت مع تطور احلركة القومية ، 2فما دام عدونا األلدُ هو نفسه صاحب احلضارة اليت
توصف بأهنا معاصرة ،فال مناص من نبذه ونبذها معاً ،وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعني
إىل طابع ثقايف عريب خالص ،حيفظ لنا مساتنا ويردُ عنا ما عساه أن جيرفنا يف تياره فإذا حنن خرب
من أخبار التاريخ ،مضى زمانه ومل يبق منه إال ذكراه " .ويتابع الدكتور قوله " :ولوال رجوعي
إىل ثقافيت العربية لدخلت القرب بال رأس " ( جتديد الفكر العريب ،القاهرة ،دار الشروق ،ص12ـ
. ) 14
ماذا تعني األصالة ؟
إن املعاصرة تعين أن يعيش اإلنسان يف عصره وزمانه ،ومع أهله األحياء ،يفكر كما يفكرون
،ويعمل كما يعملون ،يعايش األحياء ال األموات ،واحلاضر ال املاضي .ويقتضي ذلك ما يلي
:
.1ضرورة معرفة العصر :
أي أن نعرف " العصر " الذي نعيش فيه معرفة دقيقة وصادقة ،فإن اجلهل بالعصر يؤدي إىل
عواقب وخيمة ،وهذا ما دفع أحد املفكرين إىل القول :إن املشكلة ليست يف جهلنا باإلسالم ،
بل املشكلة يف جهلنا بالعصر ! واجلهل بالعصر مسة مشرتكة بني دعاة األصالة ودعاة املعاصرة .إن
من بني دعاة األصالة من يعيش يف املاضي وحده ،ويسكن يف صومعة الرتاث ،وقد أغلق عليه
باهبا ،فال يكاد يرى أو يسمع أو حيسُ شيئاً مما حوله .ويا ليته يعيش يف عصور التألق واالزدهار
،بل كثرياً ما يعيش يف عصور التخلف والرتاجع .فهو يفكر بعقوهلم ،ويتحدث بلغتهم ،وحييا
يف مشكالهتم ،وجييب عن أسئلتهم ،فهو حي يعايش األموات ،أكثر مما يعايش األحياء .
إن مما ابتليت به الثقافة العربية نفراً من اآلبائيني الذين يفرون من مواجهة الواقع إىل أحضان
آبائهم وأجدادهم (( :إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون )) .وإذا سألتهم عن
حل ملشكلة معاصرة استنجدوا بآبائهم لكي حيلوها .حىت قال فيهم مجال الدين األفغاين :لقد
أضحوا على حالة كلما قلت هلم كونوا 2بين آدم قالوا كان آباؤنا كذا وكذا .
املطلوب ـ إذن ـ أن يعيش اإلنسان القوي يف حاضره ،منطلقاً إ ىل مستقبله ،ولكي حيسن
العيشة يف حاضره وزمانه (عصره) ينبغي 2أن يعرفه حىت يتعامل معه على بصرية .وكلمة اللسان ْ
الواردة يف اآلية (( :وما أرسلنا من رسول إال بلسان قومه ليبني هلم )) ،يفهم منها اللغة ويفهم
منها طبيعة 2العصر .
معرفة الواقع من متام معرفة العصر :الواقع احمللي ( الوطين ) ،واإلقليمي ( العريب ) ،
واإلسالمي ، 2والعاملي .
وهذه املعرفة الزمة لكل من يريد تقومي هذا الواقع ،أو إصدار حكم له أوعليه ،أو حماولة
تغيريه .
وال تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إال مبعرفة العناصر الفاعلة فيه ،واملوجهة له
واملؤثرة يف تكوينه وتلوينه ،سواء أكانت عناصر مادية أم معنوية ، 2بشرية أم غري بشرية ومنها
عناصر جغرافية وتارخيية واجتماعية واقتصادية وسياسية 2وفكرية وروحية .
وتفسري الواقع كتفسري التاريخ ،يتأثر باجتاه املفسر وانتمائه العقدي والفكري .
وجيب أن حنذر من النظرات اجلزئية ،واحمللية ،واآلنية ، 2والسطحية ،والتلفيقية والتسوي2غية .
فعلينا أن حنذر من االجتاه " اإلطرائي " للواقع ،وحماولة حتسينه وإبراز صورته ساملة من كل
عيب ،منزهة عن كل نقص ،وغضّ الطرف عن العيوب الكامنة 2فيه ،وإن كانت تنخر يف كيانه
،واهتام كل من ينقد هذه العيوب 2واآلفات بأنه مشوش ،أو مبالغ أو متطرف .
وحنذر كذلك من االجتاه " التشاؤمي " الذي ينظر إىل الواقع مبنظار أسود ،جيرده من كل
حسنة ،ويلحق به كل نقيصة ،وال يرى فيه إال ظلمات مرتاكمة ،موروثة من عهود التخلف ،
أو وافدة مع عهد االستعمار .مجاهري ُمضلَّلة ،وأقطار هي جمموعة " أصفار " !! وما يرجى من
تغيري ،أو يؤمل من إصالح ،فهو سراب حيسبه الظمآن ماء .
ومثل ذلك :االجتاه " التآمري " الذي يرى وراء كل حدث ـ وإن صغر ـ أيادي أجنبية ،
وقوى خفية ،حتركه من وراء ستار .وحنن ال ننكر التآمر والكيد ولكن تضخيم ذلك حبيث
جيعلنا " أحجاراً على رقعة الشطرنج " يفتُ يف عضدنا ،وييئسنا من أي توجه إجيايب إلرادة
التغيري ،ويرحينا بأن نشعر أننا أبدا ضحايا من هو أقوى منا ،وال حلَ أمامنا غري االستسالم
للواقع املر .ومن ناحية أخرى جيعلنا هذا ال نعود على أنفسنا بالالئمة وال حناول إصالح ما فسد
،وتدارك ما وقع .
إن أوْىل من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر اخلارجي ،أن نردَها إىل اخللل الداخلي ،أي
اخللل يف أ نفسنا قبل كل شيء (( :إن اهلل ال يغري ما بقوم حىت يغريوا 2ما بأنفسهم )) .
وقريب من ذلك االجتاه " التنصلي " يف تفسري الواقع ،مبعىن أن أحداً ال يريد أن يتحمل
مسؤولية ما يف هذا الواقع من سوء واحنراف ،فكل واحد ،وكل فريق ،يريد أن حيمل وزره
على غريه ،أما هو فال ذنب له ،وال تبعة عليه .
الكل يشكو من الفساد ،ولكن من املسؤول عن فساد احلال ؟ وأين اخللل ؟ مجهور كبري من
الناس حيملون املسؤولية على العلماء ،والعلماء حيملون املسؤولية على احلكام ،واحلكام حيملوهنا
على الضغوط اخلارجية أو الضرورات الداخلية .
واحلق أن اجلميع مسؤولون ، 2كل حسب ماله من طاقة وسلطة :اجلماهري والعلماء ،
واملفكرون 2واملربون واحلكام (( :كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) ( .متفق عليه من
حديث ابن عمر .صحيح اجلامع الصغري برقم . )4569
ومن التفسريات اخلاطئة للواقع :التفسري التسوي2غي التربيري الذي حياول أن يضفي على الواقع
،ما جيعله مقبوالً ومشروعاً ،وإن حاد عن احلق وسواء السبيل ،ويف هذا لون من التدليس
والتلبيس ،بإظهار الواقع على غري حقيقته ،وإلباسه زيا غري زيه .
إننا نريد معرفة واقع عصرنا وعاملنا عموما ،وواقع أمتنا خصوصاً كما هو ،دون حتريف وال
تزييف ،وال هتويل وال هتوين ،وال مدح وال ذم ،مستخدمني األساليب 2العلمية املوضوعية يف
الكشف والرصد والتحليل ،ويف هذا ما يساعدنا على تشخيص الداء ووصف الدواء .
إن أعداءنا يعرفوننا متاماً ،فنحن مكشوفون هلم حىت النخاع ،فهل عرفنا حنن أعداءنا ؟ وإذا
كنا مل نعرف أنفسنا كما عرفها غرينا ،فكيف نعرفهم ؟ بل هل عرفنا أنفسنا مثلما عرفها
خصومنا ؟
عصرنا بني اإلجيابيات والسلبيات
إنه عصر اإلجيابيات :
عصر العلم والتكنولوجيا .
عصر احلرية وحقوق اإلنسان واستقالل الشعوب .
عصر السرعة والقوة والتغريات السريعة ،والتطورات اهلائلة .
عصر االحتاد والتكتالت الكبرية .
عصر التخطيط والتنظيم ال االرجتالية والفوضى والتواكل .
عصر اقتحام املستقبل ،وعدم االكتفاء باحلاضر ،فضالً عن االنكفاء 2على املاضي .