You are on page 1of 74

‫‪1‬‬

‫في رحاب الحضارة اإلسالمية للدكتور محمد مؤنس عوض‬


‫اختصار وصياغة‬
‫إعداد األستاذ الدكتور رابح المغراوي‬

‫المدخل‪ :‬الحضارة اإلسالمية‪(:‬التعريف‪ ،‬األسس‪ ،‬الخصائص)‬


‫‪ .1‬مفهوم الحضارة عامة‪.‬‬
‫الحضارة من حيث اللغة هي مشتقة من "الحضر" وهم الذين سكنوا المراكز العمرانية‪ ،‬ويرى البعض أن الحضر‬
‫هي المدينة‪ ،‬ويقابلها في اللغة الالتينية ‪ Civitas‬التي اشتقت منها الكلمات األوروبية التي تعني الحضارة‪ ،‬مثل‬
‫‪ Civilization‬في اإلنجليزية‪ ،‬و‪ ،Civilisation‬وفي‪ Zivilisation‬األلمانية‪.‬‬

‫أما من حيث االصطالح فلها مفاهيم متعددة‪ ،‬نذكر منها على سبيل المثال ال الحصر التعريفات اآلتية‪:‬‬

‫"الحضارة هي نظام اجتماعي يعين اإلنسان على زيادة إنتاجه الثقافي"‪.‬‬ ‫•‬
‫هي‪" :‬ذلك الكيان المعقد الذي يضم‪ :‬المعرفة‪ ،‬والمعتقدات‪ ،‬والفنون‪ ،‬والقوانين‪ ،‬والعادات‪ ،‬وجميع القدرات‪،‬‬ ‫•‬
‫والتقاليد األخرى التي َي ْك ِسُبها اإلنسان بوصفه عضوا في المجتمع"‪.‬‬
‫• هي‪" :‬حياة المجتمع المتمثلة في نظمه‪ ،‬ومؤسساته‪ ،‬ومكاسبه‪ ،‬وإنجازاته‪ ،‬وفي القيم والمعاني التي تنطوي‬
‫عليها هذه الحياة"‪.‬‬
‫هي‪ :‬ثمرة كل جهد يقوم به اإلنسان لتحسين ظروف حياته‪ ،‬سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك‬ ‫•‬
‫الثمرة مقصودا‪ ،‬أو غير مقصود‪ ،‬وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية"‪.‬‬

‫خالصة القول‪ :‬إن الحضارة هي جميع اإلنجازات المادية والمعنوية للبشرية على مسار رحلتها الطويلة‪ ،‬وقد قرر‬
‫ابن خلدون في مقدمته أن الحضارة هي غاية العمران البشري‪ ،‬ونهاية لعمره‪ ،‬ومؤذنة بفساده على اعتبار أن الترف‬
‫الحاصل فيها يمثل عنصر دمارها‪.‬‬

‫‪ .2‬مفهوم الحضارة اإلسالمية‪.‬‬


‫‪2‬‬

‫الحضارة اإلسالمية هي تلك الحضارة التي قامت على أسس محددة هي القرآن الكريم‪ ،‬والسنة النبوية الشريفة‪،‬‬
‫والعرق العربي‪ ،‬وشعوب البالد التي دخلها اإلسالم عن طريق الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬والمجال الجغرافي‪ ،‬والعناصر‬
‫األجنبية‪ ،‬واللغة العربية‪.‬‬

‫كما أن للحضارة اإلسالمية خصائص مميزة نذكر منها‪ :‬الوحدانية المطلقة‪ ،‬النزعة العقالنية‪ ،‬الطابع اإلنساني‪،‬‬
‫طابع التسامح‪ ،‬والتوازن بين الماديات والروحانيات‪ ،‬والقدرة على مواجهة التحديات‪.‬‬

‫‪ .3‬أسس الحضارة اإلسالمية‪.‬‬


‫أ القرآن الكريم‪.‬‬
‫أول أساس قامت وتقوم عليه الحضارة اإلسالمية هو القرآن الكريم‪ ،‬فهو أساسها األعظم‪ ،‬وبدونه لم يكن لها‬
‫لتوجد‪ ،‬والقرآن الكريم هو كالم هللا الخالق سبحانه وتعالى‪ ،‬الذي أنزله على قلب رسوله الكريم محمد بن عبد هللا ‪،‬‬
‫ولقد تتابع تنزيله ثالثة وعشرين عاما‪ ،‬في مكة المكرمة والمدينة المنورة‪ ،‬وعدد سوره مئة وأربع عشرة سورة‪ ،‬ست وثمانون‬
‫منها مكية‪ ،‬وثمان وعشرون منها مدنية‪.‬‬

‫كان القرآن الكريم وال يزال دستور المسلمين األول‪ ،‬وهاديهم المقدم في دينهم ودنياهم‪ ،‬فهو المعين الذي ال ينضب‪،‬‬
‫له الفضل في نشوء كثير من العلوم مثل علم أسباب النزول‪ ،‬وعلم الناسخ والنسوخ‪ ،‬وعلم القراءات‪ ،‬وعلم التفسير‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫ونظ ار الرتباط القرآن الوثيق باللغة العربية‪ ،‬باعتبارها سر إعجازه‪ ،‬يصعب ترجمته إلى اللغات األخرى ُليستغنى‬
‫بذلك عن العربية التي أساسها الشعر والنثر والقرآن الكريم‪ ،‬اللهم إال على سبيل تقريب معانيه‪.‬‬

‫ولقد ارتبط المسلون بالقرآن الكريم أشد االرتباط حفظا وقراءة وكتابة‪ ،‬بما عكس مصداقية توكيد رب العالمين "ِإًّنا‬
‫ِ‬
‫الذ ْكر وإِنا َله َل ِ‬
‫حافظو َن"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َن ْح ُن َن َّ ْزلنا َ‬
‫ص به القرآن لم يتأ َّ‬
‫َت لكتب أهل األديان األخرى‪ ،‬حيث لحقها التحريف والتبديل والتزوير‪،‬‬ ‫وإن أمر الحفظ الذي ُخ َّ‬
‫األمر الذي أضفى عليه كثي ار من الوثوقية والمصداقية العالية التي تدفع كل الطعون المشككة‪.‬‬

‫ينج القرآن الكريم عبر التاريخ وإلى اليوم من الهجوم من قبل األعداء بغرض التشكيك في وثوقيته‬
‫ورغم ذلك لم ُ‬
‫والتحريف في معانيه والنقد لما جاء فيه‪ ،‬إال أن ذلك عادة ما يبوء بالفشل‪.‬‬

‫ب السنة النبوية الشريفة‪.‬‬


‫‪3‬‬

‫ظ عن النبي ‪ ‬من قول أو فعل أو تقرير‪ ،‬ولقد حرص المسلمون على اتباع نبيهم ‪ ‬في كل‬ ‫وهي كل ما ُح ِف َ‬
‫صغيرة وكبيرة‪ ،‬وبخاصة إذا ُعلِ ُم بأن سنته وسيرته هي الشرح المفصل والواضح والتطبيقي لكثير مما جاء في القرآن‬
‫الكريم‪.‬‬

‫وال أ ََد َّل على ظاهرة االهتمام المتميز بسنته من كثرة العلماء والمؤلفات التي تخصصت في تدوينها‪ ،‬مثل‪ :‬البخاري‪،‬‬
‫ومسلم‪ ،‬وابن ماجة‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬والترمذي‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وأحمد‪.‬‬

‫ومثله مثل القرآن الكريم تعرض نبي اإلسالم ورسوله ‪ ‬لموجات ناقدة ومشككة على امتداد العصور‪ ،‬لكنها لم‬
‫تصمد أمام شخصيته العظيمة‪ ،‬وإنجازاته المتميزة على أكثر من صعيد‪.‬‬

‫ومثل القرآن الكريم يعد بحق النبي الكريم ‪ ‬بما مثله من قيادة وتأثير األساس الثاني الذي قامت عليه الحضارة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫ولقد بدأ التأثير ابتداء من حادث نزول جبريل روح هللا وأمينه بوحي هللا تعالى إليه في غار حراء‪ ،‬لتبدأ عملية‬
‫نزول القرآن الكريم‪ ،‬وهي لحظة تاريخية فارقة في تاريخ اإلنسانية‪ ،‬بما سيكون لها من آثار حضارية عارمة‪.‬‬

‫لم تسلم سنته ‪ ‬من تشكيك في صحة ما ينسب إليه من أحاديث‪ ،‬لكن علم الحديث بما تضمنه من علوم‪ ،‬وبما‬
‫انخرط فيه من متخصصين‪ ،‬استطاعوا من خالل منهج علمي له أسسه وقواعده‪ ،‬أن يميزوا بين صحيحه وسقيمه‪ ،‬نذكر‬
‫منها على سبيل المثال‪ :‬علم غريب الحديث‪ ،‬علم علل الحديث‪ ،‬علم مصطلح الحديث‪ ،‬وعلم الرجال‪.‬‬

‫ومما ينبغي التذكير به في هذا الصدد أن سيرته ‪ ‬لم ترتبط بها الخرافات واألساطير‪ ،‬كما لم ترتبط بطبيعته‬
‫البشرية أي صفات األلوهية‪ ،‬األمر الذي ميزها بالتاريخية والواقعية والمصداقية‪ ،‬على خالف ما حصل في ديانات أخرى‬
‫مثل المسيحية‪.‬‬

‫كما يجدر التنبيه على أن رسول اإلسالم ألفت عنه مؤلفات تند عن الحصر من قبل المسلمين‪ ،‬ومن غيرهم‬
‫بجميع اللغات‪ ،‬بما دل على شهرته وتأثيره‪ ،‬تفاوتت ما بين اإلنصاف واإلجحاف‪ ،‬لكنها ال تخلو من التقدير‪ ،‬إال أن‬
‫المسلمين ليسوا في حاجة إلى شهادة غيرهم لتعظم ثقتهم بنبيهم‪ ،‬فقد أثنى عليه رب العالمين بقوله‪" :‬وإنك لعلى خلق‬
‫عظيم"‪ ،‬وقد كان لعظمة خلقة الدور البارز في التأثير والتغيير على أوسع نطاق‪.‬‬

‫ت العرق العربي‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫من األسس التي قامت عليها الحضارة اإلسالمية أيضا العرق العربي‪ ،‬فهو الذي عرف اإلسالم أوال‪ ،‬ثم آمن به‪،‬‬
‫ثم خرج به من شبه الجزيرة العربية لنشره في العالم عبر الفتوحات‪ ،‬فأوصله إلى شعوب العالم شرقا وغربا‪ ،‬فبدون‬
‫العرب‪ ،‬باعتبارهم لبنة اإلسالم األساسية‪ ،‬ما كانت لتمتد الحضارة اإلسالمية ذلك االمتداد‪.‬‬

‫ولقد تناول المستشرقون الفتوحات بالدراسة‪ ،‬فأرجعوا أسبابها إلى الدافع االقتصادي‪ ،‬ممثال في السلب والنهب‪،‬‬
‫كما اعتبروها امتدادا لحركة الهجرات التقليدية التي عرفتها كثير من الشعوب‪ ،‬بدافع البحث عن المواطن الفيضية الغنية‬
‫مثل العراق والشام‪ ،‬لكن الزعم ال يدعمه التاريخ‪.‬‬

‫وعلى خالف الزعم المذكور وصفها ‪ H.G. Wells‬بأنها أعجب قصص الفتوح في التاريخ‪ ،‬قامت من أجل إسقاط‬
‫أنظمة الحكم القائمة‪ ،‬وتخيير الشعوب بين اعتناق اإلسالم أو اإلبقاء على ديانتهم السابقة‪.‬‬

‫لم تحدث في الفتوحات عمليات تطهير عرقي‪ ،‬كما تم الحفاظ على البنية السكانية والعمرانية‪ ،‬وتم إنشاء العديد‬
‫من المدن اإلسالمية متميزة‪ ،‬مثل‪ :‬البصرة‪ ،‬والكوفة‪ ،‬والفسطاط‪ ،‬والقيروان‪ ،‬التي ستنموا باطراد‪.‬‬

‫لم تكن الفتوحات إذاً للسلب والنهب‪ ،‬وإنما كانت حضارية رفيعة المستوى‪ ،‬نادرة الطراز‪ ،‬عديمة الشبيه‪.‬‬

‫وحينما نؤكد على أهمية العرق العربي كأساس في بناء الحضارة اإلسالمية‪ ،‬فإننا ال ننكر أهمية األعراق األخرى‬
‫كالفرس والترك وغيرهم‪.‬‬

‫أما الشعوب المفتوحة فجعلت عالم اإلسالم متعددا متنوعا‪ ،‬ضم الفرس واألتراك واألقباط والبربر(األمازيغ) والروم‬
‫وغيرهم‪ ،‬يسوده التعايش وتسامح‪ ،‬والنشاط االقتصادي والعلمي‪ ،‬بعيدا عن كل مظاهر العنصرية التي عرفتها كثير من‬
‫الحضارات‪ ،‬األمر الذي عمق وقوى البعد اإلبداعي للحضارة اإلسالمية‪.‬‬

‫النطاق الجغرافي‪.‬‬ ‫ث‬

‫ال شك أن للجغرافيا أهميتها وتأثيرها‪ ،‬باعتبارها موجهة للتاريخ والذي ما هو من بعض الوجوه إال صراع على‬
‫الجغرافيا‪.‬‬

‫شمل نطاق الحضارة اإلسالمية مناطق واسعة في قارات العالم القديم‪ :‬آسيا‪ ،‬وأفريقيا‪ ،‬وأوروبا‪ ،‬حيث توسعت من‬
‫الصين شرقا إلى جنوب فرنسا غربا‪ ،‬فاشتملت على العديد من األقاليم المناخية واألنماط البيئية المتنوعة‪ ،‬التي تتوفر‬
‫على عشرات األنهار‪ ،‬األمر الذي ساعد على توافر األمن المائي الضروري للحياة والنشاط االقتصادي‪ ،‬زراعة‪،‬‬
‫وصناعة‪ ،‬وتجارة‪ ،‬كما ساعد على نمو كثافة سكانية منتجة‪.‬‬
‫‪5‬‬

‫كما احتوى النطاق الجغرافي على سواحل مهمة وجد بها العديد من الموانئ التي ازدهت من خاللها الرواج‬
‫البحري‪ ،‬كما احتوت أيضا على العديد من المعادن الالزمة للتصنيع‪ ،‬كما ضم هذا المجال الجغرافي خطوط التجارة‬
‫العالمية‪ ،‬خاصة تجارة التوابل اآلتية من الهند‪ ،‬المتجهة نحو أوربا‪ ،‬المارة عبر البحر األحمر وجزيرة العرب‪ ،‬وكذلك‬
‫تجارة الحرير اآلتية من الصين تجاه أوربا مرو ار بالعراق وبالد الشام‪.‬‬

‫إن هذا الموقع العبقري الفريد الذي امتدت عليه الحضارة اإلسالمية جعلها في كثير من األحيان عرضة للتنافس‬
‫والصراع مع القوى الدولية المعادية الموجودة على الساحة‪.‬‬

‫ج العناصر األجنبية‪.‬‬
‫ويقصد بها ما أفاده المسلمون من تراث األمم السابقة مثل الفرس واإلغريق والهنود‪ ،‬وال عيب في ذلك‪ ،‬ألن‬
‫التاريخ أخذ وعطاء‪ ،‬وحوار بين الحضارات‪ ،‬غير أن بعض المستشرقين أنكروا أن يكون للمسلمين أي إضافة في‬
‫مختلف العلوم‪ ،‬وادعوا أن الفضل كله هو لإلغريق‪ ،‬انطالقا من دافع المركزية األوروبية الذاتية‪ ،‬وهو أمر غير منصف‪.‬‬

‫ح اللغة العربية‪.‬‬
‫تعد اللغة العربية أيضا أحد أسس الحضارة اإلسالمية‪ ،‬باعتبارها لغة الوحي القرآني َّ‬
‫"إنا أ َْن َ ْزلناهُ ُق ْرآنا َع َربِيًّا"‪ ،‬األمر‬
‫الذي أكسبها المكانة والمحل المرموق‪ ،‬فنتج عنها كم هائل من اإلبداعات في جميع المجاالت اإلنسانية والطبيعية‪،‬‬
‫وصلت إلينا عبر أضخم تراث إنساني‪ ،‬األمر الذي جعل منها لغة العلوم بامتياز‪ ،‬ومكنها من االنتقال إلى جميع‬
‫المناطق التي بلغتها الفتوحات‪ ،‬فأصبحت أحد أركان الهوية اإلسالمية إلى جانب الدين والتاريخ‪ ،‬بل إنها أثرت حتى‬
‫في غير المسلمين فاعتمدوها لغة للعلم مثلما حدث في األندلس‪.‬‬

‫‪ .4‬خصائص الحضارة اإلسالمية‪.‬‬


‫أ التوحيد الخالص والمطلق‪.‬‬
‫تحتل عقيدة التوحيد في الحضارة اإلسالمية المكانة المركزية والمحورية‪ ،‬األمر الذي يميزها عن كثير من‬
‫الحضارات السابقة‪.‬‬

‫ويعني التوحيد المطلق‪ ،‬إفراد هللا الواحد األحد األكبر المنزه عن الشبيه في أسمائه وصفاته وأفعاله بالعبودية‬
‫الخالصة ال ُي ْش َرك معه أحد من دونه‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫ومن مظاهر التوحيد المطلق في اإلسالم عدم وجود طبقة الكهنوت التي تحتكر الدين لصالحها‪ ،‬وتستغل الناس‬
‫من خالل ذلك‪ ،‬فال وساطة إذاً في اإلسالم بين الخالق وعبده‪ ،‬وال طاعة لمخلوق في معصية الخالق‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬ومن دون مبالغة أو تعصب‪ ،‬لم يعرف التاريخ اإلنساني عموما حضارة نزهت الخالق سبحانه وتعالى حق‬
‫التنزيه مثل الحضارة اإلسالمية‪ ،‬فتجاوزت بذلك كثي ار من الحضارات التي انتشرت فيها األساطير المنافية للعقالنية‬
‫والواقعية‪.‬‬

‫ومن هذا المنطلق ال يمكن فهم كثير من مظاهر الحضارة اإلسالمية وعواملها‪ ،‬إذا أقصي عامل عقيدة التوحيد‬
‫من االعتبار‪.‬‬

‫كما يرتبط بعقدية التوحيد أركان اإلسالم الخمسة األساسية المعروفة‪ ،‬والتي هي جزء ال يتج أز من كثير من‬
‫المظاهر اإلسالمية الخارجية‪ ،‬ونعني بها الشهادتين‪ ،‬والصالة والزكاة‪ ،‬والصيام والزكاة‪ ،‬والحج مع شرط االستطاعة‪،‬‬
‫ومعلوم أن الشهادتين على الحقيقة هي عقد بين اإلنسان وخالقه‪ ،‬ومن خالله يدخل في رحاب الحضارة اإلسالمية‪ ،‬من‬
‫غير طقوس‪ ،‬وال رجال دين‪ ،‬وهذا ما لم يتأت ألي ديانة أخرى‪.‬‬

‫ب النزعة العقالنية‪.‬‬
‫العقالنية هي أيضا من خصائص الحضارة اإلسالمية البارزة‪ ،‬انطالقا من حقيقة أن اإلسالم نفسه هو دين يتوافق‬
‫مع العقل البشري السوي المنصف‪ ،‬وأنه يمتاز بالبساطة واليسر من غير تعقيد يصطدم مع الفطرة اإلنسانية‪ ،‬ومن‬
‫مظاهر ذلك انتفاء الخرافة واألسطورة والالمعقول منه‪ ،‬األمر الذي يعصم العقل المسلم من أن تقتنع بمثل هذه األمور‬
‫التي تعج بها كثير من الديانات السماوية والوضعية‪.‬‬

‫ت النزعة اإلنسانية‪.‬‬
‫اإلنسانية أيضا من الخصائص البارزة في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬تستمد روحها من اإلسالم قرآنا وسنة وأخالقا‬
‫وممارسة‪ ،‬فلقد كان اإلنسان هو الهدف األول لإلسالم في الحضارة اإلسالمية التي نجمت عنه‪ ،‬ولذلك فإن نظمها‬
‫ومؤسساتها كلها كان هدفها خدمة اإلنسان والرقي به‪.‬‬

‫ومن مظاهر اإلنسانية في اإلسالم ذلك التوافق العجيب‪ ،‬والتوازن الفريد‪ ،‬بين المطالب المادية والمطالب الروحية‪.‬‬

‫كذلك من مظاهر البعد اإلنساني في الحضارة اإلسالمية اعتبار اإلنسان خليفة هلل تعالى في األرض‪ ،‬وتكريمه‬
‫على كثير من خلقه‪ ،‬وتسخيرهم له‪ ،‬باإلضافة إلى احترام آدميته من خالل تحريم إزهاق روحه بغير حق‪.‬‬
‫‪7‬‬

‫ث خاصية التسامح‪.‬‬
‫ي عتبر التسامح من أعظم الخصائص التي ميزت الحضارة اإلسالمية عن غيرها من الحضارات‪ ،‬حيث اتسع‬
‫تسامحها ألهل األديان المختلفة‪ ،‬وعلى رأسهم اليهود والنصارى‪ ،‬الذين اعتبرتهم أهل ذمة‪ ،‬أي أهل عهد ال ينبغي‬
‫انتهاكه‪ ،‬ولذلك حمتهم الدولة اإلسالمية من كل اعتداء‪ ،‬فمارسوا شعائرهم وطقوسهم بكل حرية‪ ،‬مستمتعين بحق المواطنة‬
‫المدنية‪ ،‬فشاركوا في بناء الحضارة اإلسالمية وانتموا إليها‪ ،‬فساهموا في التنمية االقتصادية من خالل التجارة والصناعة‬
‫والصيرفة والصباغة‪ ،‬وتقلدوا مناصب راقية في الدولة اإلسالمية‪.‬‬

‫صب رئيسا للمترجمين في عهد المأمون العباسي‪ ،‬كما رأس مؤسسة‬


‫فهذا‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬حنين بن إسحاق ُي َن َّ‬
‫بيت الحكمة التي اختصت في الترجمة في بغداد عاصمة الخالفة العباسية‪.‬‬

‫وهذا موسى بن ميمون اليهودي الذي بلغت به الحظوة إلى أن صار الطبيب الشخصي لصالح الدين األيوبي‪،‬‬
‫وقبله كثير في الخالفة العباسية‪.‬‬

‫بل إن بعضهم تقلد منصب الو ازرة كما حصل في الدولة فاطمية‪ ،‬ومنصب السفارة في مملكة غرناطة األندلسية‪.‬‬

‫والحقيقة إن األندلس جسدت األنموذج األمثل للتسامح والتعايش بين اإلسالم والمسيحية واليهودية بشهادة‬
‫المتخصصين‪.‬‬

‫وال أدل على خاصية التسامح والتعايش من بقاء الماليين من اليهود والمسيحيين في العالم اإلسالمي في كثير‬
‫من البالد العربية واإلسالمية إلى اآلن‪ ،‬وهو أمر لم تعرفه أوربا القرون الوسطى‪ ،‬التي شهدت كثي ار من مظاهر التعصب‬
‫والتطهير العرقي بين الطوائف الدينية المختلفة‪.‬‬

‫ج خاصية القدرة على مواجهة التحديات‪.‬‬


‫كما يلوح مما قرره العنوان‪ ،‬وأكدته الوقائع التاريخية‪ ،‬فإن الحضارة اإلسالمية‪ ،‬واجهت أخطا ار وتحديات كثيرة‪،‬‬
‫وأحيانا متالحقة‪ ،‬على خالف كثير من الحضارات‪ ،‬واستطاعت من خالل أبنائها ومن خالل الرصيد الروحي والحضاري‬
‫الذي تمتلكه أن ترفع التحدي باستجابة واعية وحاسمة‪.‬‬

‫ومن أبرز التحديات التي واجهت على سبيل المثال‪ ،‬الحركة الصليبية على مدى قرنين من الزمان (‪12‬م‪13/‬م)‪،‬‬
‫من خالل حمالت عديدة‪ ،‬تجندت لها أوربا كلها كنيسة وملوكا‪ ،‬وأنفقت فيها األموال الطائلة‪ ،‬وأقامت من خاللها عدة‬
‫إمارات في بالد الشام‪ ،‬بما في ذلك بيت المقدس‪ ،‬ارتكبت فيها الجرائم الفظيعة‪ ،‬أبرزها مذبحة القدس‪ ،‬كما جاؤوا بمشروع‬
‫‪8‬‬

‫التبشير والتنصير‪ ،‬إال أن الحركة فشلت فشال ذريعا‪ ،‬وطرد الصليبيون شر طرد‪ ،‬وعادوا أدراجهم يجرون أذيال الخيبة‬
‫على يد صالح الدين األيوبي في ملحمة حطين سنة ‪1187‬م‪.‬‬

‫ومن أعظم التحديات كذلك‪ ،‬االجتياح المغولي في القرن ‪13‬م‪ ،‬المنطلق من منغوليا شمال الصين‪ ،‬فأهلكوا الحرث‬
‫والنسل‪ ،‬وخربوا القرى والحواضر‪ ،‬بما في ذلك بغداد عاصمة الخالفة العباسية‪ ،‬فقتلوا الخليفة المستعصم قتلة شنيعة‪،‬‬
‫ثم توسعوا نحو الشام وأسقطوا دمشق‪ ،‬إال أن دولة المماليك في مصر كانت لهم بالمرصاد‪ ،‬فكبدهم هزيمة نكراء في‬
‫ملحمة عين جالوت سنة ‪1260‬م‪.‬‬

‫إلى غير ذلك من التحديات مثل تحدي االستعمار الحديث‪ ،‬وما أعقبه‪ ،‬فأكدت المواجهة على قدرة الحضارة‬
‫اإلسالمية على الصمود واالستمرار‪.‬‬

‫ح خاصية العالمية‪.‬‬

‫دل على هذه الخاصية قدرتها على اإلفادة من التراث اإلنساني السابق اإلغريقي والفارسي والهندي‪ ،‬واستيعابه ثم‬
‫هضمه وتمثله وتقديم نتاجه إلى البشر كافة‪ ،‬فكانت الحضارة اإلسالمية بحق‪ ،‬عالمية المنبع وعالمية المصب‪.‬‬

‫وبفضل هذه الخاصية تفوقت على الحضارات السابقة‪ ،‬حيث اتسع نطاقها جغرافيا وثقافيا‪ ،‬وانتشر اإلسالم بموجب‬
‫ذلك في جميع القارات ولقرون عديدة‪ ،‬األمر الذي أكد على البعد اإلنساني المتسامح‪ ،‬الذي فسح مجال اإلسهام‬
‫والمشاركة حتى للعناصر المخالفة للمذهب الرسمي الدولة الحاكمة‪.‬‬

‫كما أن العالمية لم تفرض فرضا‪ ،‬وإنما ترسخت تلقائيا من غير قهر أو إرغام‪ ،‬وإنما من خالل انخراط إيجابي‬
‫طوعي‪ ،‬بخالف ما حدث ويحدث من جراء العولمة ‪ Globalization‬والتي هي في حقيقتها فرض نمط ثقافي واحد‬
‫ووحيد على حساب ثقافات الشعوب األخرى‪.‬‬

‫خ خاصية التوازن‪:‬‬
‫وتتمثل في ذلك التوازن اإللهي الفريد بين مطالب اإلنسان الروحية والمادية‪ ،‬فهي حضارة ال مادية بحتة‪ ،‬وال‬
‫روحية بحتة‪ ،‬فتجنبت بهذه الخاصية آفة الحضارة الغربية المبالغة في الجانب المادي‪ ،‬والتي عجزت في خلق توازن‬
‫يستجيب لالحتياجات الروحية الفطرية الجالبة للسعادة المنشودة‪.‬‬

‫القسم األول‪ :‬نظم الحضارة اإلسالمية‪.‬‬


‫‪ )1‬النظم السياسية واإلدارية‪.‬‬
‫‪9‬‬

‫ونتناول من خاللها بتركيز شديد نظم الخالفة والو ازرة والمظالم والكتابة الحسبة والحجابة لما بينها من ارتباط‬
‫وثيق‪.‬‬
‫‪ .1‬الخالفة‪:‬‬
‫من فعل خلف يخلف خالفة‪ ،‬وهي رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا‪ ،‬ونشأت بعد وفاة النبي ‪ ،‬وهي أرقى‬
‫منصب في النظم اإلسالمية‪ ،‬من شروطها‪ :‬اإلسالم‪ ،‬والبلوغ‪ ،‬والذكورة‪ ،‬والعقل‪ ،‬والحرية‪.‬‬
‫ومن عالماتها الرمزية البردة‪ ،‬إشارة إلى بردة النبي ‪ ،‬التي خلعها على الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى‪،‬‬
‫بعد مدحه وقد رجع تائبا مسلما‪ ،‬حيث توارث البردة الخلفاء األمويون والعباسيون إلى أن سقطت بغداد‪ ،‬فانتقلت بانتقال‬
‫العباسيين إلى القاهرة‪ ،‬ثم انتقلت إلى العثمانيين‪ ،‬ويحتفظ بها اآلن في متحف طوبقبوي سراي بإستانبول مع عدة من‬
‫متعلقات الرسول ‪.‬‬
‫من الشارات الرسمية أيضا الخاتم اقتداء بما فعله الرسول ‪ ،‬اتخذه لختم الرسائل والمعاهدات‪ ،‬منقوش عليه‬
‫"محمد رسول هلل"‪ ،‬ومنها أيضا القضيب‪ ،‬وهو عبارة عن عود اتخذه الرسول ‪ ‬أيضا‪.‬‬
‫كما كان للخالفة شارات مميزة تمثلت في الخطبة وتعني ذكر اسم الخليفة والدعاء له في الجمعة والعيدين‪ ،‬بما‬
‫يدل على االعتراف بالخالفة واستمرارها‪.‬‬
‫ومن عالماتها أيضا ِ‬
‫الطراز‪ ،‬ويقصد به مالبس الخليفة الرسمية المميزة‪.‬‬
‫أما النظام السياسي في اإلسالم فيقوم على األسس اآلتية‪:‬‬
‫‪ .1‬الحاكمية هلل تعالى باعتباره هو مصدر التشريع استجابة لخاصية الوحدانية‪.‬‬
‫‪ .2‬السيادة ألحكام الشرع تطبق على الجميع في جميع مناحي الحياة‪.‬‬
‫‪ .3‬السلطان لألمة‪ ،‬التي يجب عليها مبايعة الحاكم وهو الخليفة أو اإلمام‪.‬‬
‫‪ .4‬يجب أن يكون لألمة خليفة واحدا‪ ،‬هو رئيس الدولة‪ ،‬وتساعده أجهزة تنفيذية وقضائية ومالية‪.‬‬
‫‪ .5‬الشورى التي تعني تبادل المسلمين من أهل االختصاص الرأي في القضايا التي لم يرد فيها نص‪ ،‬وهكذا ال‬
‫يكون القرار فرديا وإنما جماعيا وتوافقيا‪.‬‬

‫من خالل األسس المذكورة تتكشف لنا بجالء أسبقية اإلسالم وبقرون عدة كثي ار من األنظمة السياسية بما في‬
‫ذلك أنظمة معاصرة‪ ،‬من خالل احترامه لحقوق اإلنسان‪ ،‬التي أصل لها القرآن الكريم‪ ،‬باعتباره أول "وثيقة" إلهية متكاملة‬
‫في حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫ولقد تعاقب على مؤسسة الخالفة اإلسالمية ابتداء من الخالفة الراشدة مرو ار بالخالفة األموية‪ ،‬وانتهاء الخالفة‬
‫العباسية في المشرق والمغرب وما صاحب ذلك من تطورات‪ ،‬عدد كبير من الخلفاء لكل واحد مدته وتجربته وآثاره‬
‫تفاوتت ما بين الطول والقصر‪ ،‬والقوة والضعف‪ ،‬واإليجابية والسلبية‪ ،‬واإلنصاف واإلجحاف‪ ،‬شأن كل التواريخ‪ ،‬ال يتسع‬
‫المقام لبسط القول فيها‪.‬‬

‫‪ .2‬الوزارة‪:‬‬
‫المْل َجأُ‪ ،‬ألنه هو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الوَزر‪ ،‬وهو َ‬
‫قيل مشتقة لغويا من الوْزر‪ ،‬وهو الثَق ُل‪ ،‬ألن الوزير يحمل أثقال الخليفة‪ ،‬وقيل من َ‬
‫األزِر‪ ،‬وهو َّ‬
‫الظ ْه ُر‪ ،‬يتقوى به الخليفة كما يتقوى البدن بالظهر‪.‬‬ ‫الذي يلجأ إليه الخليفة‪ ،‬وقيل من ْ‬

‫وتعد الو ازرة من أهم المناصب السياسية في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬وال بد أن تتوافر في الوزير عهدة شروط منها‪:‬‬
‫األمانة‪ ،‬والصدق والذكاء‪ ،‬واالستقامة‪ ،‬والحنكة والتجربة‪.‬‬

‫وللو ازرة عدة صور منها‪ :‬و ازرة التنفيذ‪ ،‬وتعني تنفيذ تعليمات الخليفة‪ ،‬وو ازرة التفويض‪ ،‬وتعني تفويض الخليفة‬
‫أمور الخالفة للوزير بموسوم رسمي‪ ،‬وتكون صالحيات الوزير بالتفويض واسعة منها‪ :‬يجوز له الحكم بنفسه‪ ،‬بما في‬
‫ذلك تقلد األحكام‪ ،‬والنظر في المظالم‪ ،‬والتصرف في بيت المال‪ ،‬والدفاع عن الخالفة والرعية‪ ،‬وتنصيب الوالة‪.‬‬

‫ولقد كانت و ازرة التفويض تعني أن الخليفة صار بال سلطات فعلية‪ ،‬كما تعني أن الوزير المفوض أصبح يتدخل‬
‫في تعيين الخلفاء وفق مصالحه بدل المصلحة العليا‪.‬‬

‫ومع ذلك فإن األمور لم تكن لتسير دوما في صالح الوزراء بالتفويض حينما يتجاوزون الحدود‪ ،‬حيث تدور عليهم‬
‫الدائرة كما حدث للبرامكة الذين َن ِك َبهم هارون الرشيد العباسي من أجل خلق التوازن‪.‬‬

‫‪ .3‬الكتابة‪:‬‬
‫هي أيضا من الوظائف المهمة القريبة من الو ازرة‪ ،‬تتولى إدارة شؤون الدولة فيما يتعلق باألمور التي تقتضي‬
‫الكتابة‪ ،‬ويمكن إرجاع بداياتها إلى العهد النبوي‪ ،‬من خالل اتخاذ عدد من كتبة الوحي الكريم‪.‬‬

‫وستتطور الكتابة على عهد الدولة األموية حيث سيتوالها عدة من الكتاب بحسب االختصاص مثل‪ :‬كاتب‬
‫الرسائل‪ ،‬وكاتب الخراج‪ ،‬وكاتب الشرطة‪ ،‬وكاتب القضاء‪ ،‬األمر الذي دل على علو شأنها‪.‬‬

‫أما العباسيون فقد حرصوا على تولية الكتابة ألهل النسب الرفيع‪.‬‬

‫‪ .4‬المظالم‪:‬‬
‫‪11‬‬

‫كان من مهامه النظر في تعدي الوالة على الرعية‪ ،‬وأيضا منع ظلم العمال عند جباية األموال‪ ،‬ومن وظائفه‬
‫أيضا مراقبة كتاب الدواوين وأحوالهم‪.‬‬

‫ولقد وجد من الخلفاء المسلمين من تولى بنفسه والية المظالم تأكيدا ألهميتها‪ ،‬وحرصا على إقامة العدل الذي هو‬
‫أساس الملك‪.‬‬

‫‪ .5‬الحسبة‪:‬‬
‫وهي من الوظائف الشرعية الرفيعة‪ ،‬القائمة على قاعدة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ويجب أن تتوافر‬
‫في المحتسب الشروط المعتبرة التي حددها الفقهاء‪ ،‬وعلى رأسها اإللمام باألحكام الشرعية في مراقبة األسواق ذات‬
‫المبيعات المختلفة‪ ،‬ومنع الغش‪ ،‬وازدحام الطرقات‪ ،‬ومراقبة التزام أهل الذمة‪ ،‬حرصا على حفظ النظام العام‪ ،‬وقبل ذلك‬
‫حماية المستهلك صحيا واقتصاديا‪.‬‬

‫‪ .6‬الحجابة‪:‬‬

‫وهي من الوظائف التي حدثت على العهد األموي‪ ،‬دعت إليها الضرورة األمنية بعد محاولة اغتيال معاوية بن‬
‫أبي سفيان الفاشلة من قبل الخوارج‪ ،‬فاقتدى به الخلفاء من بعده احت ار از وأمنا من أي مكروه‪.‬‬

‫لكن العباسيين اتجهوا من خاللها إلى إحاطة أنفسهم بنوع من القداسة والرهبة‪ ،‬تأث ار بالتقاليد الفارسية في ذلك‪.‬‬

‫ثم ازداد نفوذ الحاجب مع الزمن فصار مستشا ار في العديد من شؤون الدولة‪ ،‬فعال شأنه عن الوزير‪ ،‬كما أصبح‬
‫مرجعا ألصحاب الدواوين‪ ،‬مما جعل بعض الحجاب يغتنون غناء فاحشا‪.‬‬

‫‪ )2‬النظم االقتصادية‪.‬‬
‫مقدمة‪.‬‬
‫بداية البد من اإلقرار بوجود مالمح أساسية للنظم االقتصادية في منظومة اإلسالم الحضارية‪ ،‬ويمكن إجمالها‬
‫في اآلتي‪:‬‬

‫➢ من المبادئ األساسية أن هللا تعالى مالك‪ ،‬واإلنسان مالك هو اآلخر‪ ،‬مع التأكيد على أن تفسير العالقة بين‬
‫الملكيتين‪ ،‬حيث أن ملكية اإلنسان هي ملكية استخالف‪ ،‬فهو خليفة هللا في األرض والمال من أجل عمارتها واستخدام‬
‫المال في سبيل ذلك‪.‬‬
‫‪12‬‬

‫➢ إن المال ال يصلح إال من األوجه اآلتية‪ :‬يؤخذ بالحق‪ ،‬ويعطى في الحق‪ ،‬ويمنع من الباطل‪ ،‬فاهلل طيب ال‬
‫يقبل إال طيبا‪ ،‬واإلسالم شدد على خطورة الحرام أكثر من غيره من األديان‪.‬‬
‫➢ حرم اإلسالم الربا‪ ،‬وهي الزيادة على المبلغ المقترض وفق شروط خاصة‪ ،‬لما في ذلك من استغالل‪ ،‬من‬
‫دون جهد‪ ،‬ولما فيه من تدمير للعالقات اإلنسانية بين األفراد‪ ،‬والتأثير على االستقالل االقتصادي والسياسي على‬
‫مستوى الدول والمؤسسات‪.‬‬
‫➢ حرم اإلسالم اكتناز األموال‪ ،‬لما لذلك من أثر في تفاوت الدخول‪ ،‬وعدم توظيف المال في النشاط االقتصادي‬
‫واالجتماعي المفيد للمجتمع اإلسالمي تنمية ورخاء‪ ،‬فال يؤدي ذلك إلى تداول المال بين األغنياء فقط‪ ،‬وعلى حساب‬
‫كافة عناصر المجتمع‪.‬‬
‫➢ منع اإلسالم أيضا االحتكار‪ ،‬لما فيه أيضا من استغالل‪ ،‬من خالل احتكار سلعة ما من قبل قلة تجارية‬
‫على حساب باقي أفراد المجتمع‪ ،‬األمر الذي أكد على البعد األخالقي للحضارة اإلسالمية‪.‬‬
‫ولقد أكدت األسس الخمسة المذكورة على الطابع اإلنساني للحضارة اإلسالمية من خالل نظرة اإلسالم إلى المال‪.‬‬
‫أما مصادر وموارد المال في النظم االقتصادية اإلسالمية فمتعددة ومهمة منها‪:‬‬
‫‪ .1‬الزكاة‪:‬‬
‫الزكاة التي تمثل الحد األدنى في الصدقات المفروضة سنويا على األموال المكتنزة‪ ،‬وكذلك المال المسخر للتجارة‪،‬‬
‫وكذلك الغالت الزراعية والصناعية والحيوانية‪.‬‬
‫وأما أوجه اإلنفاق من إيرادات الزكاة فحددها القرآن الكريم في الفقراء‪ ،‬والمساكين‪ ،‬وابن السبيل‪ ،‬والعاملين عليها‪،‬‬
‫والرقاب‪ ،‬والمؤلفة قلوبهم‪ ،‬والغارمين‪ ،‬وفي سبيل هللا‪.‬‬
‫والذي يتأمل في هذه المصارف يدرك الدور المحوري الذي لعبته الزكاة في حل المشاكل االقتصادية‪ ،‬وتضييق‬
‫الهوة بين الفقراء واألغنياء‪ ،‬وعصمة المجتمع من الصراع الطبقي المدمر‪ ،‬ونشر السالم االجتماعي‪.‬‬
‫‪ .2‬الخراج‪:‬‬
‫ومن المصادر المالية أيضا الخراج‪ ،‬وهو ما تخرجه األرض من مزروعات متنوعة‪ ،‬إحياء لألرض وإعمارا‪ ،‬حتى‬
‫ال تبقى عاطلة من غير فائدة‪ ،‬ولتحصيل الخراج عدة اعتبارات منها‪ :‬األرض من حيث جودة الزراعة فيها من عدمها‪،‬‬
‫أنواع الزراعات ثما ار وحبوبا‪ ،‬وتفاوت األثمان‪ ،‬واألرض الزراعية ونوعية ريها أباألنهار والنواعير؟ أم باألمطار والسيول؟‬
‫وال بد من اإلشارة في هذا المقام إلى وجود حاالت تسقط فيها جباية الخراج مثل‪ :‬عدم صالحية األرض للزراعة‪،‬‬
‫وإذا لحق بالزراعة آفات وجوائح‪.‬‬
‫‪ .3‬الجزية‪:‬‬
‫‪13‬‬

‫من المصادر أيضا الجزية المتمثلة في المبلغ المالي الرمزي المأخوذ من أهل الذمة من النصارى واليهود‪ ،‬من‬
‫الذكور البالغين القادرين‪ ،‬مرة واحدة في العام‪ ،‬ألجل استخدامه للصالح العام االجتماعي‪.‬‬
‫ولقد انتقد كثير من المستشرقين الجزية بوصفها ِذَّلة‪ ،‬وجشعا‪ ،‬وقه ار يعارض التسامح‪ ،‬لكن الردود على هذا كانت‬
‫أكثر إقناعا‪ ،‬ألن الجزية كانت عبارة عن ضريبة رمزية يؤديها القادرون مقابل حق المواطنة‪ ،‬وحق الحرية‪ ،‬والحماية‪،‬‬
‫واالستفادة من جميع المرافق‪ ،‬شأنها شأن كثير من الضرائب المفروضة في الدولة المدنية الحديثة‪ ،‬وكذلك هي أقل من‬
‫أنف ُسهم‪.‬‬ ‫واجب الزكاة الذي يؤديه المسلم والذي قد يكون من مصارفها ُ‬
‫أهل الذمة ُ‬
‫‪ .4‬الفيء‪:‬‬
‫ومن المصادر أيضا الفيء‪ ،‬وهو مال الكفار المتروك بال قتال وراجع إلى المسلمين‪ ،‬مثل األموال التي يتخلى‬
‫عنها األعداء فزعا من المسلمين عند نشوب الحرب بين الطرفين‪.‬‬
‫‪ .5‬العشور‪:‬‬
‫ومن المصادر أيضا العشور‪ ،‬وهي نسبة ُع ُشر األموال‪ ،‬تفرض على أهل الذمة إذا انتقلوا من بلد إلى آخر داخل‬
‫رقعة دولة اإلسالم الممتدة‪.‬‬
‫‪ .6‬الغنيمة‪:‬‬
‫من المصادر كذلك الغنائم‪ ،‬وهي مال األعداء المتحصل من الحروب بعد االنتصار مثل األسالب‪ ،‬األسلحة‬
‫والماشية وما إلى ذلك‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬لم تكن الغنيمة هي المصدر الوحيد لألموال كما يظن أو يشاع بأن المسلمين كان همهم في الفتوحات‬
‫الغنيمة فقط كما زعم بعض المستشرقين‪.‬‬
‫لقد كان المقصد من الفتوحات محاربة دول حال القائمون عليها دون الدعوة اإلسالمية‪ ،‬ثم تخيير شعوبها بين‬
‫اعتناق اإلسالم أو عدم اعتناقه‪.‬‬
‫‪ .7‬المواريث الحشرية‪:‬‬
‫من المصادر أيضا المواريث الحشرية‪ ،‬وهي األموال التي ال يعلم وجود مستحق لها‪ ،‬مثل مال هالك لم يترك‬
‫وريثا‪ ،‬أو آخر ترك وارثا وال يستحق كل التركة‪ ،‬كل ذلك وفق ما قرره الشرع‪.‬‬
‫‪ .8‬الصدقات‪:‬‬
‫ومن المصادر أيضا الصدقات‪ ،‬المتمثل في اإلنفاق التطوعي في سبيل هللا‪ ،‬في جميع أوجه البر التي تخدم‬
‫المجتمع‪ ،‬تطهي ار للنفس من األنانية والبخل‪ ،‬ولقد ضرب المسلمون في ذلك أروع األمثلة الدالة على حبهم للخير‪ ،‬ابتغاء‬
‫مرضات هللا‪.‬‬
‫‪14‬‬

‫وهكذا‪ ،‬استطاع اإلسالم من خالل نظرته إلى المال أن يوافق بين الروح الفردية والجماعية‪ ،‬في توازن ملفت‬
‫ومثمر‪ ،‬حال دون شبح الصراع الطبقي المؤدي إلى العداوات والمآسي‪.‬‬
‫‪ .9‬العملة‪:‬‬
‫من القضايا المرتبطة بالجانب المالي مسألة العملة المستخدمة في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬فقد عرف العرب القدامى‬
‫الدرهم الفارسي الساساني‪ ،‬والدينار البيزنطي ذوا األصل اللغوي اليوناني‪ ،‬لكنها ستُعرب على يد عبد الملك بن مروان‬
‫األموي‪ ،‬وكانت الدوافع متعددة‪ :‬منها االستقاللية االقتصادية والمالية‪ ،‬طبع الدولة بالطابع العربي‪ ،‬من خالل تعريب‬
‫كثير من المؤسسات كالدواوين‪.‬‬
‫وهكذا أصبحت العملة بعد التعريب لها المميزات اآلتية‪:‬‬
‫‪ .1‬تخلصت من رسوم اآللهة والملوك‪ ،‬وكل الرموز المسيحية مثل الصليب وعصا المطرانية‪.‬‬
‫‪ .2‬نقش عليها نصوص من القرآن الكريم‪.‬‬
‫الس ِك‪.‬‬
‫‪ .3‬نقشت على طوق الظهر البسملة‪ ،‬وتاريخ َّ‬
‫‪ .4‬نقش على مركز الوجه عبارة التوحيد بهذه الصيغة‪" :‬ال إله إال هللا وحده ال شريك له"‪.‬‬
‫‪ .5‬نقش على طوق الوجه عبارة "محمد رسول هللا أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" محيطة‬
‫بنصوص مركز الوجه‪.‬‬
‫ولقد ارتبط بالعملة أنظمة أخرى خاصة مثل الصيارفة‪ ،‬وكانت مهمتهم النظر في العملة من حيث الجودة والوزن‪.‬‬
‫كما ارتبط بالعملة معامالت ائتمانية‪ ،‬كأن يتم تداول المال بين ثالثة أشخاص في أماكن متباعدة باإلذن واالتفاق‪،‬‬
‫من دون انتقال المال‪ ،‬تَ َح ُّسبا لمخاطر الطريق‪ ،‬وتسمى ُّ‬
‫السْفتَ َج ُة‪ ،‬وتسمى في االصطالح المعاصر باإلنجليزية‬
‫‪.Travelers Cheques‬‬
‫وإلى جانب هذا كانت معامالت ائتمانية أخرى تشبه المعاملة المعاصرة بواسطة الشيك‪ ،‬وهو امتداد الصطالح‬
‫"الصك" ذي األصول الفارسية والعربية‪ ،‬والذي استخدم في مؤسسات حكومية مثل دفع الرواتب‪ ،‬وكسند للدين مع شرط‬
‫التصديق من قبل الشهود‪.‬‬
‫‪ )3‬النظم الحربية في الحضارة اإلسالمية‬
‫أ مفهوم الجهاد‪.‬‬
‫وتتجلى أهمية تناول النظم الحربة في الحضارة اإلسالمية من حيث ارتباطها ببعض المفاهيم المغلوطة‪ ،‬التي‬
‫أثارها كثير من المستشرقين‪ ،‬فكان لها األثر السيء على الفكر الغربي برمته‪ ،‬بحيث اقترن عندهم اإلسالم بالجهاد‬
‫‪15‬‬

‫والحروب‪ ،‬مع ما لديهم من تصور قاتم حول الحروب عامة والجهاد خاصة‪ ،‬األمر تطلب شيئا من التوضيح لهذا‬
‫المصطلح‪.‬‬
‫والجهاد لغة هو التعب والمشقة‪ ،‬ولقد ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة الشريفة بما دل على علو شأنه‪.‬‬
‫كما أنه من الشرائع التي طالها التدرج‪ ،‬بدأً بدعوة المسلمين إلى كف اليد عن القتال‪ ،‬وكان هذا في مكة وأ ََّو َل‬
‫العهد في المدينة‪ ،‬ثم كان اإلذن بالقتال لمواجهة األعداء‪ ،‬ثم فرض لمن قاتلهم من دون من لم يقاتلهم‪ ،‬ثم أخي ار فرض‬
‫لقتال المشركين كافة‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة إلى أن مفهوم الدفاع في اإلسالم يتجاوز حدود الناحية الحربية الصرفة إلى ما هو أوسع‪ ،‬ويتمثل‬
‫في الدفاع ضد كل العوامل التي تقيد حريته‪ ،‬والمتمثلة في معتقدات والتصورات وأنظمة سياسية شكلت حواجز اقتصادية‬
‫وطبيعية وعنصرية آنذاك‪.‬‬
‫كما أن فكرة الجهاد في اإلسالم في بعده الحضاري لها صلة وثيقة بالمثل العليا‪ ،‬إذ لم يكن القتال لمجرد الشهوة‬
‫والنهب والسلب‪ ،‬وإنما من أجل نشر قيم اإلسالم اإلنسانية والمتحضرة‪.‬‬
‫وهكذا لم يرتبط اعتناق اإلسالم باإلكراه كما جاء في القرآن الكريم "ال إكراه في الدين"‪ ،‬األمر الذي نفى عن‬
‫اإلسالم شبهة الغزو واالستعمار والتوسع‪.‬‬
‫ب مبادئ الحرب‪.‬‬
‫ارتبط بالقتال والحرب في اإلسالم عدة مبادئ غاية في العدالة والرقي الحضاري منها‪:‬‬
‫‪ .1‬السلم هو األساس الذي تقوم عليه العالقات اإلنسانية‪ ،‬وإن وجدت حرب فهي في حال الضرورة من غير‬
‫عدوان‪.‬‬
‫‪ .2‬المواجهة بين الجيشين فقط‪ ،‬فال ينبغي أن يتأثر بالحرب من ال يشاركون فيها‪.‬‬
‫‪ .3‬المسارعة إلى السلم‪ ،‬من خالل االستجابة إلى تلبية الدعوة إلى السلم إن ُدعي إليه‪.‬‬
‫‪ .4‬حسن معاملة األسرى‪.‬‬
‫‪ .5‬ليست الحرب والغنيمة غاية‪ ،‬فال حرب مشروعة قبل الدعوة إلى اإلسالم سلميا‪ ،‬ألن الحرب والغنيمة ليست‬
‫غاية‪ ،‬إنما الغاية هي خير اإلنسانية‪.‬‬
‫كما ارتبط بذلك فكرة تقسيم العالم من المنظور الفقهي القانوني إلى قسمين‪:‬‬
‫➢ دار اإلسالم‪ :‬ويقصد بها المناطق اإلسالمية وغير اإلسالمية التي خضعت للسيادة اإلسالمية‪ ،‬وسادت فيها‬
‫أحكام الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫‪16‬‬

‫بادأة‪ ،‬أو في حال‬


‫➢ دار الحرب‪ :‬وهي المناطق التي لم تخضع للسيادة اإلسالمية‪ ،‬والتي يتوقع منها الحرب ُم َ‬
‫اعتراض الدعوة اإلسالمية السلمية‪.‬‬
‫أما من حيث حكمه التكليفي الشرعي فمتأرجح ما بين العينية والكفاية‪ ،‬فيكون فرض عين على من وقع عليهم‬
‫العدوان‪ ،‬فإن لم يستطيعوا رده ففرض على من هم أقرب منهم‪.‬‬
‫أما العاجزون لسبب من األسباب فعليهم ذلك بأموالهم ما استطاعوا ذلك‪.‬‬
‫ت الجيش‪.‬‬
‫أمر آخر مرتبط بالنظام الحربي في الحضارة اإلسالمية البد من اإلشارة إليه‪ ،‬وهو الجيش‪ ،‬وقد بدأ تأسيسه على‬
‫عهد النبي ‪ ،‬وكان غاية في البساطة‪ ،‬ثم تطور تدريجيا على عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬ثم على عهد األمويين والعباسيين‪،‬‬
‫إال أن صار الجيش اإلسالمي أكبر وأقوى عددا وعدة‪.‬‬
‫كان الجيش في البداية يتألف من العرق العربي فقط‪ ،‬ثم انضافت إليه مع الفتوح اإلسالمية الواسعة أعراق أخرى‬
‫مثل الفرس واألتراك وغيرهم‪.‬‬
‫الخيالة لركوبهم‬
‫المشاة‪ ،‬وكان التقديم والتنويه بالفرسان الذين يطلق عليهم اصطالح َ‬
‫كما كان يتألف من الفرسان و ُ‬
‫ِ‬
‫المباغتَة‪ ،‬ألن "الحرب خدعة"‪ ،‬كما جاء في األثر‪.‬‬ ‫الخيل‪ ،‬ويقومون بعدة مهام مثل االستطالع‪ ،‬وإعداد الكمائن‬
‫كما ُرتب الجيش اإلسالمي بما دل على حسن تنظيمية وأدائه‪ ،‬حيث وجدت فيه الرتب اآلتية من أعلى إلى أدنى‪:‬‬
‫الك ْردوس وهي قطعة من الجيش‪ ،‬ثم أمير التَّ ْعِبئة‬
‫أمير الجيش أو المشير‪ ،‬ثم خليفة األمير وهو نائبه ومساعده‪ ،‬ثم أمير ُ‬
‫الك ْردوس‪ ،‬مثل أمير الم ْيمنة أو الم ْيسرة أو القلب وما إلى ذلك‪ ،‬ثم َّ‬
‫النقيب وهو قائد عشرة‬ ‫وهو متولي جزء من أجزاء ُ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫الع َرفاء‪ ،‬ثم العريف وهو قائد عشرة من الجنود‪.‬‬
‫من ُ‬
‫الم ْرتَ َزَقة الراغبين في الحرب‪.‬‬
‫وكان إلى جانب الجند النظاميين عناصر من المتطوعة ُ‬
‫أما أسلحة الجيش اإلسالمي فكانت متعددة ومتطورة بالنسبة لذلك العصر‪ ،‬مثل السيوف والخناجر بأنواعها‬
‫الق ِس ُّي‪ ،‬والدروع‪ ،‬والمجانيق التي تقذف الحجارة أو الرصاص أو الحديد‪ ،‬والتي طورها‬
‫وأشكالها المختلفة‪ ،‬والرماح‪ ،‬و ِ‬
‫الصناع المسلمون أيما تطوير ضخامة‪ ،‬وعلوا‪ ،‬ودقة إصابة‪ ،‬كذلك ُيذكر في هذا المقام َّ‬
‫الدَّبابات‪ ،‬وهي آالت حربية‬
‫مهمتها نقب األسوار مهما كانت قوتها وسمكها‪.‬‬
‫ولقد أكدت المصادر العسكرية التي وصلتنا أن المسلمين مع الزمن تمكنوا من خالل التجارب الحربية والعسكرية‬
‫أن يطوروا كثي ار من األسلحة الهجومية الرادعة مثل بعض األسلحة الكيماوية‪ ،‬واستخدام البارود‪ ،‬ذلك السالح الفتاك‬
‫الذي استخدمه الموحدون والمرينيون المغاربة في حروبهم ضد أعدائهم من النصارى في األندلس‪ ،‬وهو أمر أكد على‬
‫علو الشأن في االختراعات الحربية‪ ،‬التي تعكس التقدم العلمي في ذلك‪.‬‬
‫‪17‬‬

‫أما نشأة األسطول البحري اإلسالمي‪ ،‬فبدأ على يد معاوية بن أبي سفيان في خالفة عثمان بن عفان ‪ ،‬وكان‬
‫أمي ار على بالد الشام‪ ،‬حيث بنى أسطوال خاض به سنة ‪655‬م أول معركة بحرية إسالمية ضد البيزنطيين‪ ،‬استهدفت‬
‫إسقاط القسطنطينية عاصمة اإلمبراطورية‪ ،‬انتصر فيها األسطول اإلسالمي لكنه لم يسقط المدينة‪.‬‬
‫ويجدر التنبيه على أن البحرية اإلسالمية استهدفت القسطنطينية أكثر من مرة على امتداد العصور اإلسالمية‪،‬‬
‫لما كان يشكله البيزنطيون من خطر‪.‬‬
‫كما أن جميع الدول اإلسالمية التي تأسست‪ ،‬وكانت قريبة من البحر‪ ،‬مثل دول شمال أفريقيا واألندلس‪ ،‬اهتمت‬
‫ببناء األساطيل البحرية‪ ،‬باعتبارها ج أز ال يتج أز من الجيش الذي ينبغي أن تتوافر فيه جميع أسباب القوة المدافعة‬
‫والرادعة‪.‬‬
‫ولقد كان نشاط األسطول اإلسالمي على امتداد البحر األبيض المتوسط والبحر األحمر‪ ،‬اقتضى ذلك المنافسة‬
‫الدولية‪ ،‬والصراع التجاري والمدني‪ ،‬الذي فرضته القوى األوربية المتنامية‪.‬‬
‫وهكذا وجدت عدة أنواع من السفن مثل‪:‬‬
‫شواني‪ :‬وهي مراكب بحرية كبيرة الحجم‪ ،‬تحتوي على مئة وأربعين مجدافا‪ ،‬متعددة الوظائف الهجومية‪،‬‬
‫‪ .1‬ال َّ‬
‫والدفاعية‪ ،‬والتموينية‪.‬‬
‫الشواني حيث تستوعب سبعمائة مقاتل‪ ،‬واحتوت أربعين شراعا‪.‬‬‫طسة‪ ،‬وهي أضخم من َّ‬
‫‪ .2‬البطس‪ :‬جمع َب ْ َ‬
‫طحات‪ :‬جمع مسطح‪ ،‬وهي نوع آخر من السفن الحربية الكبيرة‪ ،‬مسطحة الظهر‪ ،‬تتيح القتال من عال‬ ‫‪ .3‬المس َّ‬
‫سطحها‪ ،‬و ِ‬
‫الم َجدفو َن ُي َح ِرُك َ‬
‫ونها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫شل ْندِيات‪ :‬جمع َشَل ْندى‪ ،‬وهي أيضا مراكب ضخمة تنقل األفراد والمؤن واألسلحة‪.‬‬ ‫‪ .4‬ال َّ‬
‫ط َّرَادة‪ ،‬وهي السفينة الصغيرة السريعة‪.‬‬
‫الط َّرادات‪ :‬جمع َ‬
‫َّ‬ ‫‪.5‬‬
‫‪ .6‬الحراريق‪ :‬جمع ح َّراقة‪ ،‬وهي مركب متوسط الحجم يتسع لمائة مقاتل ومائة مجِد ٍ‬
‫ف‪ ،‬تزود بالنفط من أجل‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫قذفه على سفن العدو بهدف إحراقها‪.‬‬
‫‪ .7‬األ ْغ ِربة‪ :‬جمع غراب‪ ،‬سوداء تشبه رأس الغراب‪ ،‬وتمتاز بالسرعة‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ما ذكر وجدت معدات أخرى ارتبطت بالسفن‪ ،‬مثل الكالليب وهي عبارة عن خطاطيف حديدية‪،‬‬
‫ترمى على سفن األعداء لجذبها ومهاجمتها‪.‬‬
‫والتوابيت وكانت تعبأ بالحجارة ألجل الرمي‪ ،‬وقدور الحيات والعقارب والصابون‪ ،‬إلى غير ذلك من المواد‪.‬‬
‫‪18‬‬

‫وباإلضافة إلى األسلحة البحرية المذكورة‪ ،‬اعتمد المسلمون نظام مخابرات غاية في الفعالية‪ ،‬يعتمد على الجواسيس‬
‫بما في ذلك المرأة المسلمة‪ ،‬ونظام الكتابة السرية أو الشيفرة‪ ،‬برعت في ذلك الدولة األيوبية على عهد صالح الدين أيما‬
‫براعة‪ ،‬وحققت بفضل ذلك انتصارات ساحقة على رأسها محركة حطين الشهيرة‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬اإلسهامات العلمية للحضارة اإلسالمية‬


‫‪ )1‬حركة الترجمة في الحضارة اإلسالمية (عالمية المنبع)‪.‬‬
‫يمكن وصف حركة الترجمة في الحضارة اإلسالمية على العهد العباسي بالثورة‪ ،‬نظ ار للتغيير الجذري الذي‬
‫أعقبها‪ ،‬فقد كانت ذات طابع علمي بامتياز‪ ،‬تُرجم من خاللها التراث اليوناني والفارسي والهندي بصورة غير مسبوقة‪.‬‬
‫ويجدر التنبيه على أن الفضل األول في ذلك يرجع إلى اإلسالم نفسه‪ ،‬بما له‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬من رؤية قائمة على‬
‫العالمية والتسامح‪ِ ،‬س ِر االنفتاح على حضارات الشعوب السابقة من غير إقصاء‪.‬‬
‫ولقد كان من وراء ذلك عدة دوافع ِ‬
‫حاجيَّة ملحة منها‪:‬‬
‫‪ .1‬الرغبة في بناء ما يمكن وصفه بلغة الحصر "بقاعدة بيانات" عن تراث األمم األخرى‪ ،‬التي كانت على‬
‫جانب كبير من التحضر مثل الفرس واإلغريق والهنود وغيرهم‪ ،‬بما أكد على أن المسلمين أدركوا مبكرين على أن‬
‫الصراع مع شعوب تلك الحضارات ليس حربيا‪ ،‬وإنما هو حضاري من باب أولى‪.‬‬
‫‪ .2‬الرغبة في ترجمة كتب الفلك والجغرافيا بغرض االستفادة منها في تحديد الشهور العربية‪ ،‬ومواقيت الصالة‪،‬‬
‫واتجاه القبلة‪ ،‬وما إلى ذلك‪.‬‬
‫‪ .3‬الرغبة في ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية من أجل امتالك مهارات الجدل للرد على خصوم اإلسالم‬
‫المجادلين‪.‬‬
‫‪ .4‬الرغبة في رفع تحدي المنافسة الحضارية بين بغداد عاصمة الخالفة العباسية‪ ،‬والقسطنطينية عاصمة‬
‫اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬والتي كانت على أشدها‪.‬‬
‫هذا ويجدر التنبيه على أن ما بلغته الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬من اتساع جغرافي شمل آسيا وأفريقيا وأوروبا‪ ،‬على‬
‫عهد الدولة األموية‪ ،‬مسبوقا بما تم على عهد الخالفة الراشدة‪ ،‬هو الذي هيأ للدولة العباسية أسباب االستقرار السياسي‬
‫الذي سيساعد على التفرغ للترجمة‪.‬‬
‫كما تجدر اإلشارة إلى أنها ستصبح مشروعا قوميا تبنته مؤسسة الخالفة‪ ،‬بما شكل نقلة نوعية عما بدأ عليه‬
‫الحال أواخر الدولة األموية حيث تم بصورة فردية على يد األمير خالد بن يزيد بن معاوية‪.‬‬
‫كما تجدر اإلشارة أيضا إلى أنه في زمن الفتح اإلسالمي كانت هنالك مراكز علمية عريقة‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫‪19‬‬

‫مدرسة ج ْنديسابور‪ :‬تقع في بالد فارس‪ ،‬اشتهرت بالطب والتشريح‪ ،‬تخرج منها علماء تأثروا بالثقافات الهندية‬
‫والفارسية واليونانية‪.‬‬
‫مدرسة ح َّران‪ :‬السريانية وتقع اليوم جنوب تركيا على الحدود السورية‪ ،‬اشتهرت بالفلسفة والفلك والرياضيات‪،‬‬
‫حيث كانت للصابئة عباد الكواكب‪.‬‬
‫الرها‪ :‬السريانية وتقع جنوب شرق تركيا على الحدود الشمالية لبالد الشام‪ ،‬اشتهرت بالعلوم الدينية‬
‫مدرسة َّ‬
‫والفلسفية‪.‬‬
‫مدرسة نصيبين‪ :‬السريانية وتقع أيضا جنوب شرق تركيا على الحدود الشمالية الشرقية لبالد الشام‪ ،‬اشتهرت‬
‫بعلوم الالهوت (اإللهيات)‪ ،‬وكذلك الفلسفة‪.‬‬
‫لقد كانت هذه المراكز هي النواة األولى لنشأة حركة الترجمة‪ ،‬بما توفرت عليه من مترجمين كانوا على دراية‬
‫واسعة بعدة لغات‪.‬‬
‫كما ساعد على ازدهار الترجمة سيطرة العباسيين على طريق الحرير ‪ ،Silk road‬بما وفر األموال الطائلة التي‬
‫ُسخرت للنهوض بهذا المشروع العلمي الطموح‪.‬‬
‫كما ساعد على نجاح المشروع الرعاية الرسمية من قبل الخلفاء العباسيين‪ ،‬وذلك من خالل التفاعل‪ ،‬واختيار‬
‫المترجمين‪ ،‬وتشجيعهم‪ ،‬واحترامهم‪ ،‬واإلنفاق عليهم‪ ،‬وإنشاء المؤسسات الخاصة لذلك‪.‬‬
‫ويجدر التنبيه على أن من أبرز العوامل التي ساعدت على إنجاح حركة الترجمة هو اإلسالم نفسه‪ ،‬الذي كان‬
‫ِفعل أمر "اقرأ" هو أول وحي تصدر به قرآنه المنزل‪ ،‬وما في ذلك من دالالت رمزية غاية في األهمية‪ ،‬وكذلك توجهاته‬
‫القوية نحو إعمال العقل‪ ،‬وطلب العلم‪.‬‬
‫وانطالقا من هذه االعتبارات‪ ،‬وبفضل هذا المشروع العلمي القائم على الترجمة يمكن بحق َعُّد الحضارة اإلسالمية‬
‫الم ْن َبع‪ ،‬من خالل ذلك التفاعل العجيب بين العناصر األجنبية والعناصر األصلية وفي مقدمتها اإلسالم نفسه‬
‫عالمية َ‬
‫باعتباره حضارة‪.‬‬
‫لقد وجد عدد من الرواد الذين قادوا هذا المشروع‪ ،‬الذي أنقذ التراث العلمي للحضارة اإلغريقية والفارسية والهندية‬
‫الح َّراني (ت‪288‬هـ‪901/‬م)‪ ،‬وإسحاق‬ ‫بن إسحاق (ت‪264‬هـ‪873/‬م)‪ ،‬ثاِب ُت ُ‬
‫بن ُق َّرَة َ‬ ‫نذكر منهم على سبيل المثال‪ُ :‬ح َن ْي ُن ُ‬
‫وح َب ْيش بن األعسم(‪264‬هـ‪877/‬م)‪ ،‬يعقوب بن إسحاق الكندي (ت ‪255‬هـ‪869/‬م)‪،‬‬ ‫بن ُح َن ْين (ت‪298‬هـ‪910/‬م)‪ُ ،‬‬
‫وُق ْسطا بن لوقا البعلبكي(ت‪250‬هـ‪864/‬م)‪ ،‬وعمر بن الفرخان الطبري (ت‪200‬هـ‪815/‬م)‪ ،‬وغيرهم كثير‪ ،‬بحيث تجاوزوا‬
‫الستين مترجما‪.‬‬
‫‪20‬‬

‫لكن ولإلنصاف يبقى حنين بن إسحاق هو رائد وقائد المترجمين‪ ،‬بفضل ما امتلكه من مهارات متعددة‪ ،‬فقد كان‬
‫يتقن العربية والسريانية واليونانية‪ ،‬كما كان واسع الثقافة‪ ،‬كما أنه كان طبيبا‪.‬‬

‫عينه الخليفة المأمون العباسي (‪833-823‬م) رئيسا لبيت الحكمة ومؤسسة الترجمة في بغداد‪ ،‬يقود فر َ‬
‫يق عمل‬
‫من نخبة المترجمين المسلمين والنصارى وغيرهم من المتقنين للغات العلم العالمية‪ ،‬تحدوهم الرغبة األكيدة‪ ،‬وتوجههم‬
‫الغاية المشتركة‪ ،‬ضاربين المثال في العمل الجماعي المقدر للعمل الفردي‪ ،‬مؤسسين بذلك ألول أنموذج لفريق العمل‪،‬‬
‫ففاقوا بذلك الحضارات السابقة‪ ،‬وتقدموا على الحضارات الالحقة‪.‬‬
‫الم َؤِس َسة لعلمي الطب والفلسفة التي ترجمها حنين بن إسحاق نذكر منها‪ :‬الفصول ألبقراط‪،‬‬
‫ومن أشهر الكتب ُ‬
‫يماو ْس ألفالطون‪ ،‬وهو منزع أكد على الترابط الوثيق بين‬ ‫ِ‬
‫والصناعة لجالينوس‪ ،‬والكون والفساد ألرسطوطاليس‪ ،‬وط ُ‬
‫العلوم والمعرفة الفلسفية‪ ،‬بين العلوم الحقة والعلوم اإلنسانية واالجتماعية‪.‬‬
‫أما منهجه في الترجمة فقام على أسس من التحقيق والتدقيق‪ ،‬مثل اعتماد النسخة األصلية‪ ،‬فإن ُعدمت اعتمد‬
‫على نسختين فرعيتين ثم يقارن بينهما‪ ،‬كما أوكلت إليه مهمة مراجعة كل ما يصدر عن بيت الحكمة من ترجمات‪.‬‬
‫ومن إنجازاته أنه ترجم أزيد من مائتي كتاب من اللغة اليونانية‪ ،‬قرابة النصف منها مما كتبه جالينوس‪ ،‬كما أنه‬
‫أوجد ألفاظا ومصطلحات عربية جديدة مقابل العديد من الكلمات اليونانية التي لم يكن لها مقابل في العربية والسريانية‪،‬‬
‫كما وصفت ترجماته بالدقة المتناهية والجودة العالية التي حرصت على األمانة في المعنى‪ ،‬والجودة في الصياغة‪.‬‬
‫الصاِبئي فقد تفوق في الرياضيات والفلسفة‪ ،‬وكان يتقن اللغتين السريانية واليونانية إلى‬
‫الحراني َّ‬
‫ثابت بن ُق َّرة َّ‬
‫أما ُ‬
‫جاب اللغة العربية‪ ،‬وترجم عدة كتب إغريقية منها‪:‬‬
‫كتاب المجسطي لبطليموس‪ ،‬هذا الكتاب الذي كان له األثر العميق في معارف المسلمين الجغرافية والفلكية‪.‬‬
‫كتاب أصول الهندسة لمناالؤس‪.‬‬
‫كتاب األمراض الحادة‪ ،‬وكتاب الفصد لجالنوس‪.‬‬
‫اتخذه الخليفة المعتضد صديقا له رغم ديانته الوثنية‪ ،‬األمر الذي أكد على انفتاح وتسامح وإنسانية أبناء الحضارة‬
‫اإلسالمية تجاه من يخالفهم في العرق أو الدين من دون تعصب أو إقصاء‪.‬‬
‫وأما إسحاق بن حنين فكان طبيبا ومترجما مثل والده‪ ،‬ويتقن اليونانية والسريانية والعربية‪ ،‬ترجم العديد من الكتب‬
‫منها‪:‬‬
‫كتاب إبوطيقا(الشعر)‪ ،‬وكتاب الخطابة‪ ،‬وكتاب السماء والعالم‪ ،‬وكتاب الجدل ألرسطوطاليس‪.‬‬
‫‪21‬‬

‫إلى غير ذلك من المترجمين والترجمات التي تنوعت مجاالتها ما بين الطب والصيدلة والفلك والفلسفة والهندسة‬
‫والجغرافيا واألدب وغيرها لما كان لذلك من أولوية‪.‬‬
‫ولقد كان المترجمون في سباق محموم مع الزمن‪ ،‬من أجل استيعاب كل ما كتب‪ ،‬وترجمته إلى العربية‪ ،‬مع‬
‫مراعاة الدقة واإلتقان‪ ،‬وذلك حتى ال يبقى العلم حك ار على أهل ولغة العلوم األصلية‪ ،‬فتحولت بهذا اإلنجاز اللغة العربية‬
‫إلى لغة العلوم البديلة دون منازع‪ ،‬فحفظت العربية‪ ،‬وازدادت قوة ومنعة وتأثي ار‪ ،‬حفظ أهلها من المؤثرات السلبية المحتملة‪.‬‬
‫ويجدر التنبيه على أن الترجمة من خالل مؤسسة بيت الحكمة قد عبرت عن التوافق الالفت لالنتباه بين الكم‬
‫والكيف‪ ،‬والتنوع‪ ،‬والغنى واالنفتاح على التراث الفارسي واليوناني والهندي مع الحرص على الدقة واإلتقان والجودة شكال‬
‫ومضمونا‪ ،‬بشهادة المتخصصين في تاريخ الترجمة بما في ذلك الغربيين‪.‬‬
‫نتائج حركة الترجمة‪.‬‬
‫‪ .1‬قدمت هذه الحركة العلمية الكبرى المقترنة بالترجمة زادا فكريا غاية في األهمية‪ ،‬حيث مكنت من االطالع‬
‫على نفائس التراث اليوناني والفارسي والهندي‪.‬‬
‫‪ .2‬مكن ذلك أيضا من إثراء اللغة العربية بكثير من األلفاظ‪ ،‬والمصطلحات‪ ،‬والتراكيب‪ ،‬والمعاني الجديدة‪ ،‬األمر‬
‫الذي أثبت جدارة وقدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم كلها‪ ،‬حيث أتصبحت في وقت وجيز لغة العلوم في العصور‬
‫الوسطى بدون منازع أو منافس‪ ،‬األمر الذي أكد أيضا على أنها تستطيع ذلك في كل زمان‪ ،‬بما ذلك العصر الراهن‪،‬‬
‫فعلى الرغم من مظاهر التهميش واإلقصاء للغة العربية‪ ،‬كأداة للعلم‪ ،‬إال أنها ما انفكت تؤكد وجودها يوما بعد يوم‪،‬‬
‫وتزاحم أكثر اللغات الحية في كل المجاالت العلمية‪.‬‬
‫‪ .3‬من نتائج هذه الحركة أيضا أن الفاتحين العرب المسلمين لم يكونوا أهل سلب ونهب‪ ،‬مثلما حاول إشاعته‬
‫بعض المستشرقين‪ ،‬وإنما كانوا أصحاب رسالة حضارية نبيلة‪ ،‬من خالل االنفتاح على تراث األمم السابقة وإنقاذه من‬
‫الضياع واالندثار‪ ،‬على اعتبار أن العلم ال وطن له‪ ،‬وأن الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها‪.‬‬
‫األساس الذي ستعتمد‬
‫َ‬ ‫‪ .4‬من النتائج المهمة أيضا أن العلوم اليونانية التي تُرجمت إلى اللغة العربية كانت هي‬
‫عليه أوروبا إبان نهضتها في العصور الوسطى‪ ،‬حيث نتج عن ذلك أعظم وأوسع نهضة شهدتها أوروبا عبر تاريخها‪،‬‬
‫فكان الفضل األكبر في ذلك للحضارة اإلسالمية‪ ،‬التي قدمت لها تراثها التاريخي اإلغريقي‪ ،‬على طبق من ذهب‪ ،‬بنكهة‬
‫عربية إسالمية‪ ،‬تعكس الفهم العميق‪ ،‬واإلضافات المتميزة الجمة‪ ،‬في كل المجاالت العلمية‪.‬‬
‫الوَّراقين‪ ،‬التي تعني إنتاج الكتاب‪ ،‬ورواجه وانتشاره‪ ،‬بما ساهم في‬ ‫ِ‬
‫‪ .5‬أدت حركة الترجمة إلى ازدهار الوَارَق ُة و َ‬
‫خلق مناخ علمي شجع على ظهور ونبوغ كثير من العلماء في كافة المجاالت العلمية والمعرفية‪.‬‬
‫‪22‬‬

‫‪ .6‬أكدت الترجمة أيضا على أن المسلمين‪ ،‬لم يكونوا مجرد َنَقَل ٍة‪ ،‬وإنما كانوا محققين وشارحين ومصححين‬
‫ومنتقدين ومضيفين‪ ،‬على خالف ما ذهب إليه بعض المستشرقين غير المنصفين‪ ،‬الذين زعموا‪ ،‬من دون دليل‪ ،‬أن‬
‫المسلمين لم يأتوا بأي جديد‪ ،‬وأنهم كانوا مرددين للتراث اليوناني فحسب‪ ،‬وال أدل على خالف هذا الزعم ما أكد عليه‬
‫المستشرق ديمتري جوتاس بعد أن بين مواطن تفوق المسلمين من خالل قوله المنصف‪" :‬إن أعمال هؤالء (ابن سينا‪،‬‬

‫التباني‪ ،‬البيروني‪ ،‬الخوارزمي‪ ،‬ابن الهيثم‪ ،‬الفارابي) لم تقف عند الحد الذي تََف َّو َق فيه األدب ُ‬
‫المتَ ْر َج ِم‪ ،‬بل لم تلبث أن‬
‫صِنَف ْت على أسلوب وصيغة‪ ،‬واتخذت موقفا بحيث استجابت للمواقف‬ ‫تفوقت عليه من وجهة نظر علمية‪ ،‬بل إنها ُ‬
‫المعاصرة في العالم اإلسالمي‪ ...‬موقف الباحثين والعلماء الذين نجحوا من خالل اهتمامهم العلمي في تطوير الميادين‬
‫التي تخص كال منهم"‪.‬‬
‫‪ )2‬الطب والصيدلة‪.‬‬
‫من دون مبالغة يمكن القول إن الباحث في تاريخ الطب والصيدلة في الحضارة اإلسالمية يواجه مشكلة كثرة‬
‫التأليف في ذلك كما وكيفا بصورة غير مسبوقة‪ ،‬كما يصادف أسماء العديد من األطباء الذين برعوا في مختلف فروع‬
‫المعرفة الطبية والصيدالنية‪ ،‬لذلك سيكون من الجدير اعتماد النماذج المختارة‪.‬‬

‫هذا ويجدر التنبيه على أن اإلسهام لم يكن مقصو ار على المسلمين فقط‪ ،‬وإنما شمل عناصر أخرى من أهل الذمة‬
‫من اليهود والنصارى الذين كان لهم دور بارز‪ ،‬بما أكد أن الحضارة اإلسالمية اإلنسانية والمتسامحة كانت حضارة الكل‬
‫دون تمييز‪.‬‬

‫كذلك يواجه الباحث بالنسبة لعطاء المسلمين في هذا الباب رؤية استشراقية تأرجحت ما بين االعتراف واإلجحاف‪.‬‬

‫إال أن اإلنصاف المستند إلى معطيات التاريخ يؤكد أن اإلسهام العربي اإلسالمي في هذا المجال كان امتدادا‬
‫لكل ما قدمته الحضارات السابقة‪ ،‬مثل قدماء المصريين الذين عرفوا العديد من األمراض‪ ،‬ومعالجتها من خالل األعشاب‬
‫والعمليات الجراحية‪ ،‬كما أكدت ذلك العديد من البرديات‪.‬‬

‫كذلك األمر بالنسبة لحضارة بالد الرافدين التي برع أهلها من البابليين واآلشوريين في عالج أمراض مختلفة‪ ،‬من‬
‫خالل عقاقير نباتية وحيوانية ومعدنية‪.‬‬

‫من ناحية أخرى عرف العرب عددا من المعارف العالجية‪ ،‬وإن لم ترق إلى مرتبة المعالجة الطبية العلمية‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل الكهانة والعرافة والسحر‪ ،‬والتي سيمحوا أثرها اإلسالم بعقالنيته وواقعيته في هذا المجال‪.‬‬
‫‪23‬‬

‫كما ينبغي التنويه بما عرف بالطب النبوي‪ ،‬باعتباره لبنة أساسية‪ ،‬وذلك من خالل األحاديث النبوية ذات البعد‬
‫الطبي العالجي‪ ،‬والتي ألف فيها قديما أكثر من كتاب مثل كتاب "الطب النبوي" البن قيم الجوزية‪ ،‬بل إن الطب النبوي‬
‫أصبح في عصرنا الحالي يحظى باهتمام خاص من خالل الدراسات واألبحاث العديدة‪.‬‬

‫لكن القفزة النوعية في مجال الدراسات الطبية والصيدالنية ستنطلق ابتداء من عصر الترجمة‪ ،‬حيث أصبح لدي‬
‫المسلمين قاعدة معلومات طبية كبيرة ذات مصادر يونانية وهندية‪.‬‬

‫وهكذا ألف المسلمون في المجاالت الطبية كلها مثل‪ :‬علم التشريح ‪ ،Anatomy‬وعلم وظائف األعضاء‬
‫‪ ،Physiology‬وعلم األمراض ‪ ،Pathology‬وعلم النساء والتوليد ‪ ،Gynaecology‬وعلم األمراض‬
‫الرهاوي في القرن الثالث الهجري حيث ألف‬
‫‪ ،Pharmachlogy‬كما ألفوا في آداب مهنة الطب‪ ،‬مثلما فعل أبو إسحاق ًّ‬
‫في الموضوع كتابا قيما ووافيا أسماه "أدب الطبيب"‪ ،‬وأمراض األطفال‪ ،‬وطب األجنة‪ ،‬واألمراض النفسية والعصبية‪،‬‬
‫كما ألفوا كتبا طبية للفقراء والمساكين الذين ال يقدرون على التطبيب ماديا‪.‬‬

‫ونظ ار لسعة مادة موضوع الطب والصيدلة في التراث العلمي للحضارة اإلسالمية سنقتصر على مجمل اإلنجازات‬
‫الطبية التي تحققت من خالل اآلتي‪:‬‬

‫‪ .1‬اكتشاف الدورة الدموية الصغرى (الدورة الرئوية) قبل وليام هارفي ‪ William Harvy‬اإلنجليزي بعدة قرون‪،‬‬
‫كما أدرك األطباء المسلمون وجود أوعية داخل القلب تغذيه‪ ،‬وبرعوا في وصف الدورة الدموية في األوعية َّ‬
‫الش ْع ِريَّة‬
‫الدقيقة‪.‬‬
‫‪ .2‬القيام بالعديد من العمليات الجراحية‪ ،‬منها فتح القصبة الهوائية‪ ،‬بغرض إنقاذ مرضى االختناق‪ ،‬كما عالجوا‬
‫انسداد المجاري التنفسية (االختناق الحنجري)‪ ،‬من خالل إدخال قصبة مصنوعة من الذهب أو الفضة‪ ،‬ال زالت تستخدم‬
‫حاليا غير أنها مصنوعة من المطاط أو البالستيك‪.‬‬
‫سموها ببواسير األنف وبين األورام‬
‫‪ .3‬دراسة األورام السرطانية‪ ،‬فميزوا مثال بين الزوائد اللحمية األنفية التي َّ‬
‫السرطانية‪.‬‬
‫‪ .4‬معالجة الكسور العظمية‪ ،‬بما في ذلك الكسور الدقيقة‪ ،‬مثل عالج كسر األنف‪.‬‬
‫َغ ِرَية (جمع ِغراء مهي مادة‬
‫ط‪ ،‬والكي باألدوية الكاوية أو بالنار‪ ،‬أو باأل ْ‬ ‫‪ .5‬وقف النزيف بعدة طرق منها َّ‬
‫الرْب ُ‬
‫نباتية لزجة)‪ ،‬أو بالتَّْبريد‪ ،‬أو من خالل الخياطة فوق النقطة النازفة‪.‬‬
‫‪ .6‬وصف العديد من أمراض الجهاز البولي والتناسلي ووسائل عالجها‪.‬‬
‫‪24‬‬

‫‪ .7‬إج ارء عمليات التجميل‪ ،‬بصورة ملفتة‪ ،‬دحضت االدعاء بأنها من نتاج العصر الحديث‪ ،‬حيث عالجوا انشقاق‬
‫الشفة‪ ،‬والرباط تحت اللسان المعيق للكالم لدى األطفال‪ ،‬وانسداد األذن‪ ،‬وتشوهات األصابع‪ ،‬وانسداد مجرى البول‪،‬‬
‫والخنوثة‪ ،‬وتجمع الماء في رؤوس الصبيان‪.‬‬
‫‪ .8‬تصنيع أدوات الجراحة الكثيرة والمتنوعة‪ ،‬والتي تشهد صورها في المخطوطات المحفوظة‪ ،‬على صالحيتها‬
‫واستخدامها حتى في العصر الحديث‪.‬‬
‫‪ .9‬استعمال الخيوط الضامة المصنوعة من أمعاء الحيوانات من أجل خياطة الجروح واألنسجة تحت الجلد‪.‬‬
‫‪ .10‬تشخيص األمراض النفسية والعصبية مثل انفصام الشخصية‪ ،‬واالكتئاب‪ ،‬والسوداوية (المالينخوليا)‪ ،‬وجنون‬
‫العظمة‪ ،‬والوسواس القهري‪ ،‬كما أدركوا الصلة الوثيقة بين األمراض النفسية واألمراض العضوية باعتبار أن اإلنسان‬
‫منظومة متكاملة متداخلة‪.‬‬
‫‪ .11‬استعمال المواد المخدرة‪ ،‬للحؤول دون األلم‪ ،‬أثناء العمليات الجراحية‪ ،‬مثل نبات القنب الهندي والحشيش‪،‬‬
‫واألفيون‪ ،‬إلى غير ذلك من المواد‪.‬‬
‫‪ .12‬معرفة مبدأ اإلنعاش النفسي من خالل دفع كميات من الهواء عبر الرئتين من خالل الضغط المتناوب ال‬
‫يزال مستعمال حتى اليوم في مجال اإلسعاف‪.‬‬
‫‪ .13‬إدراك كثير من جوانب طب النساء والتوليد‪ ،‬وتحدثوا عن أسباب عسر الوالدة مثل اإلشارة إلى بدانة الحامل‪،‬‬
‫أو صغر حجمها‪ ،‬أو ورم في الرحم‪ ،‬أو شدة الخوف‪ ،‬أو الوالدة األولى‪ ،‬أو الوالدة قبل الموعد‪ ،‬أو كبر المولود‪ ،‬أو‬
‫صغره أو خفته‪ ،‬أو ضعفه‪ ،‬أو تشوه خلقي‪ ،‬أو عدة مواليد‪ ،‬أو انقالبه في الرحم‪.‬‬
‫أما األطباء في الحضارة العربية اإلسالمية فقد كانوا كثيرين على امتداد جغرافية العالم اإلسالمي مشرقا ومغربا‬
‫مسلمين ويهود ونصاري‪ ،‬نذكر بعض األعالم منهم‪:‬‬
‫الرازي‪ ،‬أبو بكر بن محمد(ت‪311‬هـ‪923/‬م)‪ ،‬اسمه بالالتينية ‪ُ ،Rhazes‬عَّد من قبل بعض الباحثين الغربيين‬
‫من أعظم األطباء في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬من أبرز مؤلفاته إنجازه العلمي المتفرد "الحاوي في الطب والتداوي"‪ ،‬وهو‬
‫أكبر الموسوعة الطبية في عشرين مجلدا‪ ،‬ويتجاوز عند التحقيق ستين مجلدا‪.‬‬

‫كما ألف مقالة غاية في األهمية والطرافة‪ ،‬فرق من خاللها بين الجدري والحصبة‪ ،‬وكالهما من األمراض الجلدية‪،‬‬
‫عدت فتحا جديدا في علم الطب‪ .‬ترجمت مؤلفاته الطبية إلى اللغة الالتينية‪.‬‬
‫‪25‬‬

‫ابن سينا‪ ،‬علي بن الحسين(‪427‬هـ‪1037/‬م)‪ ،‬بالالتينية ‪ ،Avicenne‬من أشهر مؤلفاته "القانون في الطب"‪ ،‬عد‬
‫من أهم ما ألفه المسلمون في حضارتهم‪ ،‬وهو عبارة عن موسوعة طبية وافية‪ ،‬ترجم إلى الالتينية‪ ،‬شرحه العديد من‬
‫العلماء األوروبيين بما أكد أهمية الكبيرة‪.‬‬

‫الكحال‪ ،‬علي بن عيسى(ت‪400‬هـ‪1010/‬م)‪ ،‬برز واشتهر في طب العيون‪ ،‬من أشهر كتب في ذلك "تذكرة‬
‫الكحالين"‪ ،‬اعتبر من قبل الغرب أفضل ما ألف في هذا التخصص‪ ،‬وصف من خالله األمراض التي تصيب العين‪،‬‬
‫ووسائل عالجها‪ ،‬ترجم أيضا إلى الالتينية‪.‬‬

‫الزهراوي‪ ،‬أبو القاسم خلف بن عباس‪( Albucasis ،‬ت‪400‬هـ‪1013/‬م)‪ ،‬أندلسي من قرطبة‪ ،‬وصف من قبل‬
‫الغربيين بأنه أعظم جراح عرفته الحضارة اإلسالمية‪ ،‬من أشهر كتبه "التصريف لمن عجز عن التأليف"‪ ،‬أجرى العديد‬
‫من العمليات الجراحية‪ ،‬كان ينصح تالميذه بعدم التسرع في اعتماد الجراحة إال بعد استفراغ الجهد من خالل األدوية‬
‫المفردة والمركبة‪.‬‬

‫ابن الهيثم‪ ،‬أبو الحسن (‪1038‬م) يعد من أكبر علماء المسلمين في العصور الوسطى‪ ،‬ألف كتابه الشهير‬
‫"المناظر" ذي القيمة العظيمة‪ ،‬عرض من خالله الظواهر البصرية‪ ،‬وخداع البصر وأسبابه وصفا دقيقا‪ ،‬وتفسي ار علميا‬
‫نادرا‪ ،‬حتى عد بذلك من قبل األخصائيين من علماء الغرب "من أعظم علماء البصريات في كل العصور"‪ ،‬بل عد‬
‫أيضا منشئ علم الضوء بال منازع‪ ،‬كما أطلق عليه أحدهم "أمير النور"‪.‬‬

‫ابن زهر ‪ ،‬وهو طبيب أندلسي‪ ،‬أشهر كتبه "التيسير في المداواة والتدبير" ترجم إلى اللغة الالتينية‪ ،‬وله أيضا‬
‫رسائل ومقاالت في علمي البرص والبهق‪ ،‬وعلل الكلى‪ ،‬وأمراض الجلد‪ ،‬والجهاز البولي‪ ،‬إلى غير ذلك من اإلنجازات‪.‬‬

‫ابن النفيس‪ ،‬يعد من قبل العلماء الغربيين من أكبر األطباء المسلمين‪ ،‬ينسب إليه اكتشاف الدورة الدموية قبل‬
‫العالم اإلنجليزي وليام هارفي بقرون عديدة‪ ،‬عرف أيضا بمنهج اعتماده في العالج على الغذاء بدل األدوية والعقاقير‪.‬‬

‫وإلى جانب كثير من أعالم الرجال‪ ،‬اشتهر في هذا المجال كثير من النساء كذلك‪ ،‬بما أكد على مكانة المرأة‬
‫المسلمة‪ ،‬وحضورها العلمي في الحضارة العربية اإلسالمية من أجل النهوض بما تحتاجه النساء في هذا المجال‪ ،‬نذكر‬
‫منهن على سبيل المثال ال الحصر‪ ،‬أم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي‪ ،‬وأخت الحفيد ابن زهر وابنتها‪ ،‬وابنة‬
‫شهاب الدين بن الصائغ‪.‬‬
‫‪26‬‬

‫كما ارتبط بالطب في الحضارة العربية اإلسالمية مشرقا ومغربا ظاهرة علمية ملفتة‪ ،‬ونعني بها ظاهرة األسر‬
‫الطبية التي توارثت الطب أبا عن جد‪ ،‬وهذا يدل على الرسوخ‪ ،‬وتراكم الخبرة‪ ،‬فضال عن المصداقية والتنافسية‪ ،‬مثل‬
‫أسرة الحارث بن كلدة الثقفي‪ ،‬وأسرة أبي الحكم الدمشقي‪ ،‬وأسرة جورجيوس بن جبرائيل بن َب ْخ َتي ُشوع النصراني السرياني‪،‬‬
‫وأسرة رضي الدين يوسف بن حيدرة الرحبي‪ ،‬وأسرة محمد بن زهر األندلسي‪.‬‬

‫كما ارتبط بالطب العربي اإلسالمي في تلك العصور ظاهرة انتشار المستشفيات التي اصطلح على تسميتها‬
‫بالبيمارستانات جمع بيمارستان ذي األصل الفارسي المؤلف من بيمار وتعني مريض وستان وتعني مكان‪.‬‬

‫ولقد أسس لظاهرة العناية بعالج المصابين العهد النبوي حيث كانت تنصب خيام في ميادين القتال لهذا الغرض‪،‬‬
‫ثم تطورت بعد ذلك عبر العصور المتعاقبة‪ ،‬حتى أصبحت نماذج ال نظير لها في تاريخ الحضارات كلها‪ ،‬عمارة‪،‬‬
‫وتخصصات‪ ،‬وخدمات‪ ،‬ومرافق‪ ،‬ونظافة‪ ،‬وامتيازات‪ ،‬سبقت عصرها‪ ،‬وقاربت وربما تجاوزت كثي ار مما يحدث في عصرنا‬
‫الراهن‪.‬‬

‫نذكر في هذا المجال على سبيل المثال البيمارستان النوري‪ ،‬نسبة إلى السلطان نور الدين محمود الزنكي‪ ،‬شيده‬
‫في دمشق سنة ‪1154‬م‪ ،‬أشاد به وبمرافقه وتخصصاته الرحالة األندلسي الشهير ابن جبير‪.‬‬

‫والبيمارستان الصالحي بالقاهرة نسبة إلى السلطان صالح الدين األيوبي سنة ‪1181‬م‪ ،‬وكان من أشهر‬
‫المستشفيات في زمانه‪.‬‬

‫والبيمارستان المنصوري بالقاهرة أيضا نسبة إلى السلطان المنصور قالوون‪ ،‬شيده سنة ‪1284‬م‪ ،‬ولقد عد من‬
‫مفاخر الحضارة اإلسالمية على اإلطالق‪ ،‬لتوفره على جميع التخصصات تقريبا‪ ،‬وعلى مختبر لصانعة األدوية‪ ،‬وعلى‬
‫خدمات قل نظيرها في كثير من المستشفيات‪.‬‬

‫ولقد توافر في هذه المستشفيات األطباء في جميع التخصصات‪ ،‬وكانت اإلقامة والتطبيب والدواء والطعام مجانا‬
‫بالنسبة لكل من دخله مسلما كان وغير مسلم‪.‬‬

‫كما ارتبط بازدهار الطب في الحضارة العربية اإلسالمية علم الصيدلة بما لهما من ارتباط وثيق‪ ،‬فكان للصيادلة‬
‫العرب والمسلمين إسهامات كثيرة في هذا المجال نذكر منها على سبل المثال ال الحصر‪:‬‬

‫‪ .1‬إدراكهم للعديد من أنواع السموم النباتية‪ ،‬والحيوانية‪ ،‬والمعدنية‪.‬‬


‫‪ .2‬إدراكهم فوائد التمر الهندي‪ ،‬وعود البن لإلسهال والتقيؤ‪.‬‬
‫‪27‬‬

‫‪ .3‬كشفوا روح النشادر وملحه والزرنيخ‪.‬‬


‫‪ .4‬حضروا الترياق المقاوم للسموم من عقاقير مختلفة‪.‬‬

‫كما برز في الحضارة العربية اإلسالمية كثير من الصيادلة نذكر منهم‪:‬‬

‫الشريف اإلدريسي ‪1160‬م‪ ،‬الجغرافي المتميز‪ ،‬ألف كتاب "الجامع ألشتات النبات"‪.‬‬

‫ابن البيطار ‪1248‬م‪ ،‬صاحب الكتاب الشهير "الجامع لمفردات األدوية واألغذية" وصف فيه ‪ 1400‬عقار نباتي‬
‫وحيواني ومعدني‪ ،‬وذكر فيه ‪ 300‬عقار جديد لم يكن لإلغريق معرفة بها‪.‬‬

‫الغافقي ‪1165‬م صاحب كتاب "األدوية المفردة"‪ ،‬ويعد من أعظم الصيادلة المسلمين طوال العصور الوسطى‪.‬‬

‫‪ )3‬علوم الفلك والرياضيات‪.‬‬


‫علوم الفلك والرياضيات‪ ،‬هي أيضا من العلوم التي برع فيها أعالم كثيرون‪ ،‬في ظل الحضارة اإلسالمية‪ ،‬األمر‬
‫الذي جعلهم يحتلون مكانة بارزة في تاريخ العلوم باعتراف المنصفين من المستشرقين الغربيين‪.‬‬

‫الفلك‪.‬‬ ‫أ‬
‫يعد علم الفلك من أعرق العلوم‪ ،‬له بدايات مبكرة‪ ،‬تعود إلى جهود المصريين القدامى‪ ،‬وحضارة بالد الرافدين‪،‬‬
‫والحضارة اليونانية‪ ،‬فكان للمصريين معارف فلكية معتبرة‪ ،‬تجلت من خالل ما شيدوه من عمائر خالدة كاألهرامات‬
‫ونحوها‪ ،‬كما عرفوا الكواكب الخمسة‪ :‬عطارد‪ ،‬والزهرة‪ ،‬والمريخ‪ ،‬والمشتري‪ ،‬وزحل‪.‬‬

‫أما أهل بالد الرافدين فقد قسموا اليوم إلى أربع وعشرين ساعة‪ ،‬والنهار إلى اثني عشر ساعة‪ ،‬وكذلك الليل‪ ،‬وقد‬
‫استفادوا في ذلك من الساعة الشمسية‪ ،‬كما أشار المؤرخون إلى أنهم ميزوا بين الكواكب الخمسة المذكورة‪.‬‬

‫وأما اليونانيون فقد أفادوا من العلوم الفلكية الشرقية القديمة المذكورة ثم طوروها‪ ،‬وكان على رأس ذلك في القرن‬
‫األول الميالدي‪ ،‬بطليموس القلوذي ‪ ،Ptolem Ptolemius Claudius‬األسكندري المشهور بكتابه "المجسطي" الذي‬
‫ترجمه إلى العربية ثابت بن قرة‪ ،‬وكان عمدة المسلمين األولى في الفلك‪ ،‬إال أنهم سرعان ما تجاوزوه بالنقد‪ ،‬وبخاصة‬
‫فكرة اعتباره األرض مركز الكون ودوران الشمس حولها‪.‬‬

‫هذا ولم يخل القرآن الكريم مصدر اإلسالم األول منذ إطاللته المبكرة من إشارات فلكية تدعو إلى النظر وإعمال‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب َما َخَل َق‬ ‫ور َوَقَّد َرهُ َم َن ِازَل لتَ ْعَل ُموا َع َد َد السن َ‬
‫ين َواْلح َس َ‬ ‫اء َواْلَق َم َر ُن ًا‬
‫العقل‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ُ  :‬ه َو الذي َج َع َل الش ْم َس ض َي ً‬
‫‪28‬‬

‫ض َآلي ٍ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫ّللاُ ِفي َّ‬
‫الس َم َاوات َو ْاأل َْر ِ َ‬ ‫الن َه ِار َو َما َخَل َق َّ‬ ‫ف َّ‬
‫اللْي ِل َو َّ‬ ‫اخِت َال ِ‬ ‫ِ‬ ‫يَف ِ‬
‫ص ُل ْاآل َيات لَِق ْو ٍم َي ْعَل ُمو َن ِإ َّن ِفي ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّللاُ ََٰذلِ َك ِإ َّال ِباْل َح ِق‬
‫َّ‬
‫سورة يونس‪.‬‬ ‫لَِق ْو ٍم َيتَُّقو َن‪6/5 ،‬‬

‫ومن هذا المنطلق فقد كان القرآن الكريم عامال أساسيا في صرف اهتمام المسلمين إلى الفلك‪ ،‬ثم جاء زخم ثورة‬
‫الترجمة ذات األثر الفعال في نشأة وتطور هذا العلم لديهم‪ ،‬فقد ثبتت ترجمة "كتاب السند هند" المنسوب لهرمس الحكيم‬
‫في عهد أبي جعفر المنصور () على يد ثابت بن قرة‪ ،‬وهو كتاب تناول حركات النجوم‪ ،‬والشمر والقمر‪ ،‬والتعريف‬
‫بالبروج‪ ،‬كما أنه دعت الحاجة إلى هذا العلم ضرورة معرفة بدايات الشهور ألجل تحديد وجهة القبلة ومواقيت الصالة‪.‬‬

‫الب ذي األصل‬
‫ط ُر ْ‬
‫ثم تطور علم الفلك لدى المسلمين‪ ،‬فاستخدموا آالت متعددة للرصد الفلكي‪ ،‬أهمها‪ :‬األَ ْس ْ‬
‫طر" وهو النجم و"البون" وهي المرآة‪.‬‬
‫اليوناني ‪ Astrolabiun‬المؤلف من كلمة "أَ ْس ْ‬

‫ولألَ ْس ْ‬
‫ط ُرالب عند المسلمين عدة أنواع دلت على التطوير واالستخدام المتعدد منها‪ :‬التام‪ ،‬والمسطح‪ ،‬والطوماري‪،‬‬
‫والهاللي‪ ،‬والزورقي‪ ،‬والعقربي‪ ،‬واآلسي‪ ،‬والقوسي‪ ،‬والجنوب‪ ،‬والشمالي‪ ،‬والكبرى‪ ،‬والمسطح‪ ،‬والمسرطق‪ ،‬وحق العمر‪،‬‬
‫والجامع‪ ،‬وعصا الطوس‪.‬‬

‫ط ُرالب المسطح"‪.‬‬ ‫وكان أبو إسحاق الفزاري أول من صنع األَ ْس ْ‬


‫ط ُرالب‪ ،‬وأولف فيه كتابا سماه‪" :‬العمل باألَ ْس ْ‬

‫الب من عدة أجزاء وهي‪:‬‬


‫ط ُر ْ‬
‫ويتألف األ َْس ْ‬

‫‪ .1‬الحلقة أو العالَّقة‪ :‬ومنها ُيعلق ألخذ االرتفاع والرصد‪.‬‬


‫‪29‬‬

‫‪ .2‬الع ْروة‪ :‬وتتصل بال َحَلَقة والكرسي‪.‬‬


‫ط ُرالب‪.‬‬
‫‪ .3‬الك ْر ِسي‪ :‬ويقع ما بين العروة وأم األ َْس ْ‬
‫ْطرالب‪ :‬الصفيحة المستديرة الكبرى‪ ،‬ذات الطوق‪ ،‬الجامعة للصفائح األخرى التي بداخلها‪.‬‬
‫‪ .4‬أم األس ْ‬

‫‪ .5‬الحجر‪ :‬الفراغ الموجود في أم األسطرالب‪ ،‬وينقش عليها أطوال وأعراض بعض المدن أحيانا‪.‬‬
‫صفائِح‪ :‬أقراص مستديرة الشكل اختلف عددها من أسطرالب آلخر‪.‬‬
‫‪ .6‬ال َّ‬
‫‪ .7‬الع ْنكبوت‪ :‬الشبكة ذات الخروق والنتوءات المشكلة لوجه األسطرالب‪ ،‬والتي تُ َعِي ُن بعض الكواكب‪.‬‬
‫‪ .8‬ال ِعضادة‪ :‬الساق المتحركة على ظهر األسطرالب‪.‬‬
‫الم ْم ِس ُك َّ‬
‫للصفائح والعنكبوت من خالل ثقوب في مراكزها‪.‬‬ ‫ط ُب ُ‬
‫المحْ ور‪ :‬الُق ْ‬
‫‪ِ .9‬‬
‫‪ .10‬الفرس‪ :‬الداخل في القطب الممسك له‪.‬‬
‫‪ .11‬المري‪ :‬الزيادة التي تكون في رأس الجدي‪.‬‬
‫‪ .12‬ظهر األسطرالب‪ :‬وينقسم إلى ‪ 360‬درجة‪ ،‬وإلى أربعة أرباع الدائرة‪ ،‬كما ينقسم إلى أسماء البروج‪ ،‬وغيرها‬
‫من الرسوم الضرورية لعمل األسطرالب‪.‬‬

‫الرُب ِع‪ ،‬وهي عبارة عن ربع دائرة‬


‫بيع ُة‪ ،‬أو ذات ُّ‬ ‫كما وجدت لدى المسلمين آالت أخرى للرصد الفلكي‪ ،‬مثل َّ‬
‫الر َ‬
‫استخدمت للمسح الهندسي ومعرفة األوقات نها ار وليال‪ ،‬إلى غير ذلك من اآلالت‪.‬‬

‫ولقد تطور علم الفلك لدى المسلمين من خالل إنشاء المراصد المتعددة‪ ،‬في مختلف البقاع‪ ،‬مثل مرصد الشماسية‬
‫ببغداد زمن الخليفة المأمون (‪829‬م)‪ ،‬ومرصد سامراء‪ ،‬ومرصد جبل قاسيون‪ ،‬ومرصد أنطاكية‪ ،‬في بالد الشام‪ ،‬ومرصد‬
‫المراغة (أذربيجان) ويعد من أهم وأعجب المراصد في زمانه‪ ،‬ومرصد سمرقند الذي شيده تيمورلنك المغولي‪ ،‬بلغ ارتفاعه‬
‫‪ 21‬مترا‪ ،‬على قاعدة صخرية بلغ طولها ‪ 85‬مترا‪.‬‬

‫ومن أبرز مظاهر تطور هذا العلم في الحضارة اإلسالمية حمل كثير من النجوم أسماء عربية إلى اليوم مثل‪:‬‬
‫العذارى (‪ ،)Adara‬الغول (‪ ،)Algol‬الطائر (‪ ،)Altair‬فم الحوت (‪ ،)Fom Alhut‬الرجل (‪ ،)Rigel‬الزورق‬
‫(‪.)Zaurak‬‬

‫ومن اإلنجازات الفلكية المتميزة في الحضارة اإلسالمية التمكن من قياس محيط األرض على عهد المأمون‬
‫العباسي بمقدار (‪ )41248‬كلم‪ ،‬بحيث ُعَّد من قبل الغرب أول قياس علمي حقيقي تطلب وقتا وجهدا‪.‬‬

‫ولقد انجبت الحضارة اإلسالمية عددا كبي ار من علماء الفلك نذكر منهم على سبيل المثل‪:‬‬
‫‪30‬‬

‫موسى بن شاكر وأبناءه محمد وأحمد وحسن (‪813‬م‪861-‬م)‪ ،‬برعوا في عهد الخليفة المأمون والمتوكل‪ ،‬كما‬
‫يعدون من المؤسسين لكثير من العلوم في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬كانت لهم مهارات كثيرة‪ ،‬بما فيها الرصد الفلكي‪ ،‬تجلى‬
‫من خالل إقامتهم لمرصد في بغداد‪ ،‬كما تركوا عدة مؤلفات في الفلك منها‪" :‬كتاب حركة الفلك األولى" وهي مقالة‬
‫لمحمد بن موسى‪ ،‬و"كتاب تقويم التقاويم للمنازل والسيارات"‪ ،‬ولقد عكس دورهم أهمية دراسة األسر العلمية في العصور‬
‫الوسطى في كافة العلوم‪ ،‬بما دل على خاصية متفردة‪ ،‬تميزت بها الحضارة اإلسالمية دون غيرها‪.‬‬

‫أبو معشر البلخي (‪881‬م) ألف العديد من المؤلفات الفلكية منها‪ :‬كتاب هيئة الفلك‪ ،‬كتاب تفسير المقامات من‬
‫النجوم‪ ،‬كتاب زيج القرانات واالحتراقات‪.‬‬

‫أبو عبد هللا البتاني (‪927‬م) العراقي‪ ،‬والذي يعد من أكبر علماء الفلك المسلمين في العصور الوسطى‪ ،‬عرفه‬
‫األوربيون باسم ‪ Albategni‬أو ‪ ،Albatagnus‬عد من قبل الغرب بطليموس العرب‪ ،‬ألف عدة مؤلفات منها‪ :‬رسالة‬
‫في تحقيق أقدار االتصاالت‪ ،‬كتاب معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك‪ ،‬من إنجازاته‪ :‬تحديد ميل دائرة فلك‬
‫البروج أو ما يعرف بـ" الدائرة الكسوفية"‪ ،‬التوصل إلى نظرية جديدة في أحوال القمر‪ ،‬والكسوف والخسوف‪ ،‬استفاد منها‬
‫ُد ْنثورن ‪ Donthorne‬سنة ‪1749‬م‪ ،‬كما صحح كث ار من التصورات الفلكية التي أوردها بطليموس‪.‬‬

‫أبو الوفاء البوزجاني (‪998‬م)‪ ،‬يرجع إليه الفضل في اكتشافه الخلل الواقع في حساب معادالت مواقع القمر‪،‬‬
‫وتوصله إلى معادلة جديدة عرفت باسم (معادلة السرعة)‪ ،‬التي نسبت زو ار وظلما إلى الفلكي الدانماركي تيشو براهي‬
‫‪( Tycho brahe‬ت‪1610‬م)‪ ،‬كما اعترف للبيروني بأنه هو صاحب الفضل في التوصل إلى النسبة المثلية (المماس)‪،‬‬
‫وله عدة مؤلفات منها‪" :‬كتاب معرفة الدائرة من الفلك"‪ ،‬كتاب الزج الشامل ‪...‬إلخ‪.‬‬

‫الحسن بن الهيثم (‪1039‬م)‪ ،‬يعد من أبرز علماء البصريات‪ ،‬زادت مؤلفاته عن السبعين‪ ،‬أشهرها "المناظر في‬
‫علم اإلبصار"‪ ،‬كان له األثر البارز في أوربا في عصر نهضتها‪ ،‬له مساهمات متميزة في تعليل قوس قزح‪ ،‬وحمرة‬
‫الشفق‪ ،‬والكسوف والخسوف وغيرها‪ ،‬كما انتقد وفند في كتابه "الشكوك على بطليموس" كثي ار من أفكاره‪.‬‬

‫أعدت حوله في العصر الحديث العديد من الدراسات والمؤتمرات‪ ،‬ووصف من قبل الغرب كما ذكر بـ "أمير النور"‬
‫بفضل مساهماته المتميزة في تطوير علم الضوء‪.‬‬

‫أبو الريحان البيروني (‪1050‬م)‪ ،‬يعد من أبرز علماء الفلك الموسوعيين في علمهم‪ ،‬توصل من خالل كتابه‬
‫"القانون المسعودي" إلى تقدير محيط األرض على نحو أشاد به عالم الفلك اإليطالي نللينو‪ ،‬وسماها العلماء األوروبيون‬
‫‪31‬‬

‫(قاعدة البيروني)‪ ،1‬بلغت مؤلفاته ‪ ،417‬منها‪" :‬تحديد نهايات األماكن"‪" ،‬كتاب إيضاح األدلة في كيفية َس ْم ِت القبلة"‪،‬‬
‫"كتاب العمل باألسطرالب"‪" ،‬كتاب عن حركة الشمس"‪" ،‬كتاب عن النجوم"‪" ،‬كتاب االستشهاد باختالف األرصاد"‪...‬إلخ‪.‬‬

‫وتخليدا لذكره أطلقت جمهورية أوزبكستان اسمه على المدينة التي ولد بها‪ ،‬كما عقدت العديد من المؤتمرات‬
‫الدولية من أجل دراسة أعماله ونتائج فكره في الميادين العلمية المختلفة‪.‬‬

‫ط ِعم لبراعته في تطعيم العاج‪ ،‬والمؤلف لعدة من المؤلفات منها‪:‬‬‫بالم َ‬


‫ابن الشاطر الدمشقي (ت ‪1375‬م) الملقب ُ‬
‫المختصر في العمل باألسطرالب‪ ،‬نزهة السامع في العمل بالربع الجامع‪ ،‬الزيج الجديد‪ ،‬والذي يذكر في حقه العالم ديفد‬
‫كينغ ‪1970 David King‬م‪ ،‬بأن العالم البولندي الشهير كوبرنيكوس ‪1543 Copernicus‬م‪ ،‬نقل أفكار ابن الشاطر‬
‫في كتابه "ثورة في األفالك السماوية" صراحة من دون أن يشير إلى ذلك‪.‬‬

‫هذا باإلضافة إلى أسماء أخرى في جهات أخرى من العالم اإلسالمي ال تقل ألمعية مما ذكرنا‪ ،‬أضربنا عن ذكرها‬
‫اختصارا‪ ،‬مثل‪ :‬أبو القاسم المجريطي(‪1007‬م)‪ ،‬عمر الخيام(‪1130‬م)‪ ،‬جابر بن أفلح القرطبي(‪1145‬م)‪ ،‬أبي جعفر‬
‫الخازن(‪1155‬م)‪ ،‬البطروجي(‪1185‬م)‪ ،‬مؤيد الدين المرضي(‪1266‬م)‪ ،‬نصير الدين الطوسي(‪1274‬م)‪ ،‬قطب الدين‬
‫الشيرازي(‪1311‬م)‪ ،‬وغيرهم كثير‪.2‬‬

‫ب الرياضيات‪.‬‬
‫عرفت الرياضيات أيضا لدى قدماء المصريين‪ ،‬وأهل بالد الرافدين‪ ،‬ثم تطورت زمن الحضارة اإلغريقية‪ ،‬وبرع‬
‫فيها جملة من الرياضيين أمثال‪ :‬إقليدس ‪ ،Euclid‬وأرشميدس ‪ ،Archimedes‬وأبولونيوس ‪ ،Appolonius‬الذين أفاد‬
‫الرياضيون المسلمون من كتبهم خالل حركة الترجمة‪ ،‬ثم أضافوا إليها إضافات معتبرة‪ ،‬نذكر منها على سبيل المثال‪:‬‬

‫‪ .1‬تحويلهم لألرقام الهندية إلى نظام عملي سهل التطبيق‪ ،‬كما استخدموا الصفر قبل الهنود‪ ،‬األمر الذي جعل‬
‫الغرب يعتبره اختراعا عربيا قدم للعالم‪ ،‬كما عده الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل من أعظم اإلنجازات التي‬
‫توصل إليها العقل البشري‪.‬‬

‫‪ - 1‬انظر شرحها في الكتاب‪ ،‬ص‪.184 :‬‬


‫‪ 2‬انظر الكتاب المرجع‪ ،‬ص‪.190-185 :‬‬
‫‪32‬‬

‫‪ .2‬كما يجدر التنبيه على أنهم هم الذين وضعوا أسس علم الجبر في القرن التاسع الميالدي‪ ،‬حتى أصبح‬
‫اصطالحا رياضيا شائعا في جميع لغات العالم‪ ،‬تم ذلك بفضل محمد بن موسى الخوارزمي الذي ألف فيه كتابه‬
‫الشهير "حساب الجبر والمقابلة"‪ ،‬اشتهر لدى الغرب في عصر النهضة باالسم الالتيني الجوريتمي ‪.Algorithmie‬‬

‫ومن هنا ينبع التعبير بالغ الشأن في الرياضيات والسيبرنتيك في الوقت الحاضر ‪.Algorithme‬‬

‫‪ .3‬كما ينسب للرياضيين المسلمين تطويرهم لعلم المثلثات‪ ،‬أو حساب المثلثات ‪ ،Trigonometria‬الذي يدرس‬
‫الزوايا والمثلثات‪ ،‬وجعله مستقال عن علم الفلك‪.‬‬

‫ولقد ظهر في الحضارة اإلسالمية كثير من المشاهير الرياضيين‪ ،‬ال يقلون أهمية عن الخوارزمي مثل‪:‬‬

‫اإلصطخري الحاسب (ت ق‪10‬م) مؤلف كتاب "الجامع في الحساب"‪ ،‬وبهاء الدين العاملي (ت ‪1031‬م)‪ ،‬ترك‬
‫العديد من المؤلفات منها‪" :‬الطرق الحسابية األساسية"‪ ،‬و"جمع المتواليات"‪ ،‬و"المسائل العويصة أو مستحيلة الحل"‪،‬‬
‫و"رسالة في الجبر وعالقته بالحساب"‪.‬‬

‫أبو الحسن القلصادي األندلسي (ت‪1486‬م)‪ ،‬ترك عدة من المؤلفات منها‪" :‬كشف األسرار في علم الغبار"‪،‬‬
‫و"قانون الحساب"‪ ،‬و"التبصرة الواضحة في مسائل األعداد الالئحة"‪.‬‬

‫‪ )4‬الجغرافيا‪.‬‬
‫قدم المسلمون معرفة جغرافية مهمة‪ ،‬مقارنة بما كان سائدا قبلهم‪ ،‬وبخاصة لدى اإلغريق‪ ،‬أكد على ذلك حجم‬
‫اإلسهام الكبير في تلك العصور‪.‬‬

‫ولقد كان للعرب قبل ظهور اإلسالم معارفهم الجغرافية‪ ،‬من خالل ما درجوا عليه من التجارة داخل جزيرة العرب‬
‫وخارجها‪ ،‬من خالل رحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والشام‪ ،‬كما كانوا يهتدون في ذلك بالنجوم لمعرفة االتجاهات‬
‫المختلفة‪.‬‬

‫وعندما أشرق اإلسالم‪ ،‬جدت الدوافع لالهتمام بالجغرافيا منها‪:‬‬

‫الرغبة في اكتشاف األرض وعمارتها‪.‬‬ ‫أ‬


‫ب معرفة خراج كل منطقة مناطق الدولة اإلسالمية مترامية األطراف‪.‬‬
‫ت رحلة الحج إلى األماكن المقدسة في الحجاز‪ ،‬واقترانها بالرغبة في تسجيلها ووصف مسارها ومشاهدها‪.‬‬
‫‪33‬‬

‫ث إقامة محطات البريد بين أقاليم الدولة اإلسالمية‪.‬‬


‫حركة الترجمة التي قويت على عهد العباسيين‪ ،‬وكان لها دور بارز في هذا المجال‪ ،‬حيث ترجم كتاب‬ ‫ج‬
‫المجسطي لبطليموس‪ ،‬ذي األهمية والتأثير الكبيرين‪ ،‬بما قدمه للمسلمين من معرفة جغرافية يونانية مهمة‪.‬‬

‫ولقد حاول بعض المستشرقين‪ ،‬المنبهرين بالمركزية الغربية‪ ،‬االدعاء بأن الجغرافيا اليونانية هي المنبع الذي نهل‬
‫منه المسلمون‪ ،‬وأنهم لم يقدموا أي معرفة جغرافية إضافية‪ ،‬وهو زعم مناف للصحة‪ ،‬بل إن إسهامات المسلمين في ذلك‬
‫أوجدت نقلة فارقة في تاريخ العلوم عامة‪ ،‬وعلم جغرافيا خاصة كما سنالحظ‪.‬‬

‫قدم الجغرافيون المسلمون معرفة مهمة في هذا الباب من خالل الوصف العمراني‪ ،‬ورصد المسالك البرية والبحرية‬
‫الممتازة‪ ،‬بما أبان عن عوامل ازدهار األوضاع االقتصادية للعالم اإلسالمي‪ ،‬وانعكاس ذلك على كافة المظاهر‬
‫الحضارية‪.‬‬

‫هذا ويمكن وصف القرن العاشر الميالدي بأنه قرن كبار علماء المسالك والممالك‪ ،‬حيث ظهر فيه عدة أعالم‬
‫أمثال‪:‬‬

‫ابن حوقل (‪990‬م)‪ ،‬ألف كتاب "صورة األرض"‪ ،‬عرف برحالته الواسعة‪ ،‬استغرقت ثالثين سنة‪ ،‬قدم من خاللها‬
‫معلومات‪ ،‬ال يقدما إال الوافد األجنبي المالحظ‪ ،‬فوصف ديار العرب‪ ،‬وبحر فارس (الخليج العربي)‪ ،‬وبالد المغرب‬
‫واألندلس‪ ،‬وكذلك مصر‪ ،‬والشام‪ ،‬والعراق‪ ،‬وبالد فارس‪ ،‬والسند‪ ،‬وما إلى ذلك من أقاليم آسيا الواسعة‪ ،‬بما أكد على‬
‫الرؤية العالمية للجغرافيا عند المسلمين‪.‬‬

‫ابن رستة (ت ق ‪ 10‬م)‪ ،‬مؤلف كتاب "األعالق النفيسة"‪ ،‬قدم فيه وصفا للعديد من األقاليم‪ ،‬والمواقع الجغرافية‪،‬‬
‫والطرق المهمة‪ ،‬مثل طريق خراسان الكبير إلى طوس‪ ،‬وطريق بغداد إلى الكوفة والبصرة‪.‬‬

‫ابن فضالن (ت ق ‪10‬م)‪ ،‬الذي قام برحلة ضمن بعثة سفارية‪ ،‬بأمر من الخليفة المقتدر العباسي‪ ،‬استجابة لطلب‬
‫ملك البلغار وما وراء نهر الفولجا سنة ‪922‬م‪.‬‬

‫أبو زيد البلخي (ت ‪934‬م)‪ ،‬له كتاب "المسالك والممالك"‪ ،‬كان من الرواد في صناعة الخرائط‪.‬‬

‫المسعودي (ت ق ‪10‬م)‪ ،‬من أشهر كتبه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"‪ ،‬هو جغرافي ومؤرخ‪ ،‬يمتاز بالنزعة‬
‫العقالنية والبعد على الخرافية‪ ،‬تعبر كتاباته الجغرافية عن تطور ملحوظ‪.‬‬
‫‪34‬‬

‫المقدسي (ت ق ‪10‬م)‪ ،‬يعد أحد كبار الجغرافيين المسلمين‪ ،‬قرر أن األرض كروية‪ ،‬وقسمها خط االستواء إلى‬
‫قسمين متساويين‪ ،‬وأن محيطها بلغ ‪ 360‬درجة‪ ،‬وأن هناك ‪ 90‬درجة بين ذلك الخط وكل قطب من القطبين الشمالي‬
‫والجنوبي‪.‬‬

‫كما لم يقدم الجغرافيا بمنظورها الضيق‪ ،‬وإنما قدم إشارات مهمة تتعلق بالجوانب البشرية والعادات والنشاط‬
‫االقتصادي والمحاصيل والصنائع‪.‬‬

‫ولقد شكل كل من المسعودي والمقدسي نقطة تحول فارقة في المعرفة الجغرافية اإلسالمية‪ ،‬دون إغفال إسهامات‬
‫األعالم اآلخرين‪.‬‬

‫كتاب "حدود العالم" باللغة الفارسية‪ ،‬لمؤلف مجهول‪ ،‬مثل كثير من الكتب‪ ،‬أهدي ألحد أمراء الدولة الفرغانية‬
‫في طبرستان‪ ،‬فيه وصف لمئات المواقع الجغرافية‪ ،‬والبحار‪ ،‬والجزر‪ ،‬والجبال‪ ،‬واألنهار‪ ،‬والصحاري‪ ،‬سجل تطو ار‬
‫ملحوظا في التأليف الجغرافي لدى المسلمين‪ ،‬أكسبهم قاعدة معلومات جغرافية فريدة‪ ،‬أثنى على أهميته فاسيلي بارتولد‬
‫الحتوائه على مادة وفيرة عن بالد الترك‪ ،‬وآسيا والوسطى‪ ،‬التي لم تخضع لسلطان المسلمين‪ ،‬فاقت جميع المصنفات‬
‫الجغرافية العربية التي بين أيدين‪.3‬‬

‫إسحاق بن الحسين‪( ،‬ت ق ‪ 10‬م)‪ ،‬اشتهر بكتابه "آكام المرجان في ذكر المدائن المشهورة في كل مكان"‪ ،‬تميز‬
‫بتوسعه من حيث الوصف في مدن أفريقية واألندلس‪ ،‬كما قدم معلومات مهمة عن القارة األوروبية من خالل وصفه‬
‫لمناطق في إيطاليا وفرنسا‪ ،‬وبالد الصقالبة (السالف)‪ ،‬وشيء عن اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬بما أكد إلى جانب الكتاب‬
‫الذي تقدمه على أن الجغرافيين المسلمين لم يمنعهم العداء السياسي والعسكري مع غيرهم من أن يقدموا معلومات‬
‫جغرافية عنهم‪ ،‬األمر الذي يؤكد على سعة أفقهم‪.‬‬

‫أبو الريحان البيروني‪( ،‬ت ‪1048‬م)‪ ،‬يعد من أشهر العلماء لدي الغرب‪ ،‬كان متعدد المعارف‪ ،‬موسوعي الثقافة‪،‬‬
‫أجاد العربية‪ ،‬والفارسية‪ ،‬والسنسكريتية‪ ،‬ألف عدة كتب جغرافية منها‪ :‬كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل‬
‫أو مرذولة"‪ ،‬وكتاب "الجماهر في معرفية الجواهر"‪ ،‬وكتاب "اآلثار الباقية عن القرون الخالية"‪ ،‬كلها امتازت بالعمق‪،‬‬
‫وسعة االطالع‪ ،‬متعددة المعارف الجغرافية كالجغرافيا الطبيعية والبشرية واالقتصادية‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر‪ :‬في رحاب الحضارة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.213 :‬‬


‫‪35‬‬

‫كما يعد كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" نقلة نوعية في مجال الجغرافيا اإلقليمية‪،‬‬
‫التي أحاطت بجغرافية الهند وشعوبها‪ ،‬وفتحا في مجال االنثروبولوجيا االجتماعية‪ ،‬جعلته يوصف من قبل المستشرق‬
‫األلماني سخاو ‪ Sachau‬بأنه أعظم عقلية في القرون الوسطى‪.‬‬

‫كما يجدر التنبيه على أن ما كتبه البيروني عن الهند قد أفاد بريطانيا في استعمارها للهند‪ ،‬بما قدمه من معلومات‬
‫عميقة ودقيقة عن الشخصية الهندية وعاداتها‪ ،‬ومعتقداتها‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬ويرتبط بعلم الجغرافيا لدى المسلمين في لعصور الوسطى‪ ،‬تجربة الرحلة‪ ،‬حيث ظهر عدد بارز من الرحالة‬
‫الذين طافوا البلدان‪ ،‬وساهموا بكثير من الكشف الجغرافي‪ ،‬نذكر منهم‪:‬‬

‫ط َّوف في بالد الشام ومصر‪ ،‬وقدم وصفا امتاز بدقة المالحظة‪ ،‬وغ ازرة‬
‫ناصر خسرو (ت ‪1060‬م)‪ ،‬الذي َ‬
‫التفاصيل‪ ،‬بحث عدت مصد ار أساسيا عن أوضاع هذه البالد‪.‬‬

‫الشريف اإلدرسي (ت ‪1160‬م)‪ ،‬يعد أعظم جغرافي‪ ،‬اشتهر بكتابه "نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق"‪ ،‬ألفه بطلب‬
‫من الملك النورماني روجر الثاني ‪1154-1130( Roger II‬م)‪ ،‬في مدينة باليرمو ‪ Palermo‬عاصمة صقلية‪ ،‬وقد‬
‫وضع تحت تصرفه كل اإلمكانيات‪ ،‬فتضمن الكتاب وصفا شامال ودقيقا غير مسبوق ألوروبا‪ ،‬قدم معلومات دقيقة عن‬
‫إيطاليا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وانجلترا‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬واسكندنافيا (السويد‪ ،‬النرويج‪ ،‬الدنمارك)‪ ،‬على نحو جعل صاحبه يحتل مكانة مرموقة‬
‫في تاريخ جهود المسلمين الجغرافية‪ ،‬كما اعتبره البعض نقطة احتكاك بين الحضارتين اإلسالمية والمسيحية‪.‬‬

‫ورغم ذلك هنالك من قلل من قيمة ما قدمه اإلدريسي مثل المستشرق الروسي فالديمير كراتشكوفسكي‪ ،‬مقارنة‬
‫بغيره من الجغرافيين‪ ،‬والباحث التركي الشهير فؤاد سيزكين‪ ،‬الذي ع از ضعف اإلدريسي إلى قضاء معظم عمره في‬
‫صقلية‪ ،‬وهي بيئة أوربية تأثرت بالحضارة اإلسالمية إلى حد بعيد‪.‬‬

‫لكن ُرد على زعمها المتهافت بما أنصف اإلدريسي وأرجع إليه اعتباره‪ ،‬وذلك بفضل الدراسات التي تناولت عمله‪،‬‬
‫وكشفت عن أوجه تميزه وتفوقه‪.4‬‬

‫هذا ويرتبط بإنجازات اإلدريسي الجغرافية الفارقة والمهمة‪ ،‬إسهامه المتميز في علم الخرائط ‪،Cartography‬‬
‫حيث تضمن كتابه سبعين خريطة‪ ،‬عدت من أدق وأوضح وأصح ما وصل إلينا‪ ،‬تفوقت على خرائط بطليموس الذي‬
‫بالغ كثير من الغربيين في تمجيده بحكم المركزية األوروبية‪.‬‬

‫‪ - 4‬النظر‪ :‬في رحاب الحضارة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.217 :‬‬


‫‪36‬‬

‫ياقوت الحموي‪( ،‬ت ‪1225‬م)‪ ،‬هو أيضا أحد العباقرة في الجغرافيا‪ ،‬اشتهر بكتابه الفذ "معجم البلدان"‪ ،‬في ثمانية‬
‫مجلدات‪ ،‬استغرق في تأليفه عشر سنوات‪ ،‬ورتبه أبجديا‪ ،‬وقدم فيه وصفا حيويا ومهما لكل وصل إليه علمه‪ ،‬عن المدن‬
‫والمواضع في بالد اإلسالم مما وراء النهر والهند شرقا إلى بالد المغرب واألندلس غربا‪ ،‬اشتمل على معلومات لها صلة‬
‫بالدين والحضارة واإلثنولوجيا ‪ ،Ethnology‬أي علم األعراق والفصائل البشرية‪ ،‬وما اقترن بها من األدب الشعبي‬
‫‪ ،Folklore‬واألدب الفني‪ ،‬فضال عن المعرفة الجغرافية‪ ،‬بما جعله على حد تعبير العالمة الروسي كراتشكوفسكي‬
‫منجما غنيا للمعرفة ال نظير له في جميع اللغات‪.5‬‬

‫ويجدر التنبيه على أن ياقوت كان من الرقيق الذين نعموا بالحرية في بالد اإلسالم‪ ،‬فلم يمنعه وضعه من أن‬
‫يتعلم ويبرز ويحظى باالحترام والتقدير‪ ،‬األمر الذي أكد على خاصية القدرة على مواجهة التحديات التي عرفت بها‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ ،‬نستشف ذلك من سير كثير من أعالمها الذين تحدوا كل المعوقات من خالل استجابتهم المتميزة‪.‬‬

‫ابن جبير‪( ،‬ت ‪ 1217‬م)‪ ،‬قدم رحلة فريدة‪ ،‬عكست قوة المالحظة‪ ،‬وغ ازرة التفاصيل‪ ،‬وصف من خاللها جميع‬
‫المظاهر العمرانية في األماكن المقدسة بالحجاز‪ ،‬كما وصف مصر‪ ،‬وبالد الشام في العصر األيوبي‪ ،‬كما تناول‬
‫العالقات السلمية بين المسلمين والصليبيين التي تجلت في التواصل التجاري بين الطرفين رغم الصراع‪ ،‬فعد بذلك‬
‫مصد ار ال عنى عنه في التأريخ للعالقة بين الشرق والغرب زمن الحروب الصليبية‪ ،‬في هذه الحقبة الزمنية‪.‬‬

‫كذلك وثق للعديد من المنشآت المعمارية المدنية والحربية‪ ،‬فوصف مثال البيمارستان النوري‪ ،‬المتميز بمعماره‬
‫ومرافقه وخدماته‪ ،‬كما وصف حصن األكراد‪ ،‬الشهير بمناعته الطبيعية وصنعته المعمارية‪.‬‬

‫ابن بطوطة‪1377( ،‬م)‪ ،‬عد أعظم رحالة في زمانه‪ ،‬أملى رحلته على ابن جزي بأمر من الملك أبي عنان‬
‫المريني‪ ،‬تحت عنوان "تحفة النظار في غرائب األمصار وعجائب األسفار"‪ ،‬انطلق من طنجة بشمال المغرب األقصى‬
‫إلى الصين وما وراءها‪ ،‬استغرقت ‪ 27‬عاما‪ ،‬قدرت المسافة التي قطعها بأكثر من ‪ 75000‬ميال‪ ،‬وهي مسافة زادت‬
‫عما قطعه ماركو بولو ‪ Marco Polo‬الرحالة البندقي‪ ،‬الذي يحلو لكثير من الغربيين نعته تعصبا بأنه أعظم الرحالة‪،‬‬
‫لكن دراسات غربية أخرى منصفة أعادت البن بطوطة اعتباره الذي ينازع‪.‬‬

‫قدم ابن بطوطة من خالل رحلته كثي ار من المعلومات الجغرافية واألنثروبولوجية والحضارية والتاريخية غاية في‬
‫الدقة والمصداقية والفرادة لكل المشاهد التي شاهدها‪.‬‬

‫‪ - 5‬المرجع‪ ،‬ص‪.218 :‬‬


‫‪37‬‬

‫شيخ الربوة الدمشقي‪( ،‬ت ‪1326‬م)‪ ،‬مؤلف كتاب "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر"‪ ،‬اتسم بالموسوعية معرفة‬
‫واهتماما‪ ،‬يعد كتابه من المصادر المهمة في الجغرافيا‪.‬‬

‫ابن ماجد (‪1530‬م)‪ ،‬يعد من أبرز علماء الجغرافيا‪ ،‬وبخاصة فيما يتعلق بعلم البحار‪ ،‬لقب بأسد البحار‪ ،‬له عدة‬
‫مؤلفات في ذلك‪ ،‬نذكر منها‪" :‬الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"‪ ،‬و "حاوية االختصار في أصول علم البحار"‪ ،‬كما‬
‫ألف أراجيز في ذلك‪.‬‬

‫الحسن الوزان‪ ،‬الملقب ليون األفريقي ‪( ،Leon Africanus‬ت ‪1552‬م)‪ ،‬ألف كتاب "وصف أفريقيا"‪ ،‬الذي يعد‬
‫من أهم المصادر الجغرافية في أواخر العصور الوسطى‪.‬‬

‫هذا ويجدر التنبيه على أن الجغرافيين المسلمين كان لهم إسهام بارز في مجال اكتشاف القارات قبل إسهام‬
‫األوروبيين‪ ،‬فقد عرفوا قارة أستراليا‪ ،‬وسموها جزيرة جاوة الكبيرة‪ ،‬تميي از لها عن جزيرة جاوة اإلندونيسية قبل أن يكتشفها‬
‫األوروبيون‪.‬‬

‫هذا ويكمن تلخيص إسهامات الجغرافيين المسلمين على سبيل االختصار في النقاط اآلتية‪:‬‬

‫‪ .1‬إشاراتهم الدالة إلى احتمال وصول المسلمين إلى أمريكا قبل اكتشافها من قبل كريستوفر كولومبوس بعدة‬
‫قرون‪ ،‬يؤكد ذلك األدلة اآلتية‪:‬‬
‫إشارة الشريف اإلدريسي في "نزهة المشتاق" إلى قصة الفتية المغررين‪ ،‬الذين قاموا برحلة من لشبونة‬ ‫أ‬
‫(عاصمة البرتغال) بقصد عبور بحر الظلمات (المحيط األطلسي)‪ ،‬فلم يعودوا‪ ،‬األمر الذي ُي ْبقي احتمال بلوغهم قائما‪.‬‬
‫ب إشارة القلقشندي (ت‪1418‬م) في كتابه "صبح األعشى" إلى رحلة قام بها سلطان مالي أبو بكر الثاني عبر‬
‫من خاللها المحيط األطلنطي‪ ،‬ويفترض أنه يكون قد وصل كوبا عام ‪1311‬م‪.‬‬
‫ت إيراد ابن الوردي (ت ‪1349‬م) في كتابه "فريدة العجائب‪ ،‬وخريدة الغرائب" أوصافا محددة تنطبق على الهنود‬
‫الحمر سكان أمريكا األصليين‪ ،‬وال شك أن في ذلك داللة على وصول المسلمين إلى موطنهم‪.‬‬
‫ث ِذ ْك ُر بعض الباحثين أمر وجود مفردات من اللغة العربية ضمن لغة الهنود الحمر‪ ،‬أكدها علم فقه اللغة‪.‬‬
‫‪ .2‬قولهم بكروية األرض‪ ،‬ووجود اليابسة وراء بحر الظلمات‪ ،‬بخالف ما كان عليه تصور الجغرافيين اإلغريق‬
‫الذي توهموا انتهاء اليابسة عند أعمدة هرقل في طنجة شمال المغرب‪.‬‬
‫‪38‬‬

‫‪ .3‬أكدت كثير من الدراسات الحديثة المتخصصة إقرار كريستوفر كولمبوس من خالل رسائله التي كتبها‬
‫استفادته من علوم العرب في ذلك‪.6‬‬
‫‪ .4‬اتساع الرؤية الجغرافية لديهم من خالل اتساع مساحة األرض التي عرفوها ووصفوها وصفا مفصال استغرق‬
‫كافة الجوانب‪ ،‬طبيعية ومناخية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والفالحية‪ ،‬والصناعية‪ ،‬والمعدنية‪ ،‬والدينية‪ ،‬واللغوية‪ ،‬في المشارق‬
‫والمغارب‪ ،‬بفضل بحثهم ومغامراتهم ورحالتهم‪ ،‬وبفضل اتساع الدولة اإلسالمية وانفتاحها على العالم أرضا وشعوبا‪.7‬‬

‫هذا وال يعرف مقدار وحجم إسهامات الجغرافيين المسلمين إال من خالل اإلشارة إلى مظاهر القصور الذي لحق‬
‫الجغرافيا اليونانية والذي يمكن إجماله في اآلتي‪:‬‬

‫‪ .1‬مبالغة بطليموس الذي هو عمدة اإلغريق في الجغرافيا في تحديد طول البحر المتوسط‪.‬‬
‫‪ .2‬تصوره أن المحيط الهندي وكذلك المحيط الهادي بحيرة مغلقة‪.‬‬
‫‪ .3‬إخفاقه في تحديد موقع بحر قزوين‪ ،‬وكذلك الخليج العربي‪ ،‬وكذلك جزيرة سيالن (سريالنكا)‪.‬‬
‫‪ .4‬عدم تمكنه من استعمال خطوط الطول والعرض‪.‬‬
‫‪ .5‬اعتقاده أن األرض مسطحة‪.‬‬
‫‪ .6‬تصوره أن القارة اإلفريقية يمتد طرفها الجنوبي إلى الشرق ليصل إلى األرخبيل اإلندونيسي‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬ورغم كل هذه اإلسهامات الجغرافية المتميزة التي أضافتها الحضارة اإلسالمية إلى التراث الجغرافي البشري‪،‬‬
‫فقد وجد في الغرب من المستشرقين من حاول التقليل من قيمتها شكال ومنهجا وإضافات‪ ،‬إال أن ما يفند تلك مزاعم‬
‫أكثر مما يدعمه‪ ،‬ولعل فيما ذكر الكفاء والغناء‪.‬‬

‫‪ )5‬علم وفن التاريخ‬


‫ال بد من التأكيد بأن التصدي للكتابة عن علم التاريخ يواجه صعوبة كبيرة‪ ،‬نظ ار لضخامة وغنى التراث التاريخي‬
‫الذي خلفه المؤرخون في ظل الحضارة اإلسالمية على مدى قورن عديدة‪ ،‬التي بزت في ذلك جميع الحضارات السابقة‪.‬‬

‫عرف المسلمون التاريخ بأنه اإلعالم بالوقت‪ ،‬تقول‪ :‬أرخت الكتاب‪ ،‬بمعنى بينت وقت كتابته‪.‬‬

‫‪ - 6‬انظر‪ :‬المرجع‪ ،‬ص‪.226 :‬‬


‫‪ -7‬انظر‪ :‬المرجع‪ ،‬ص‪.226 :‬‬
‫‪39‬‬

‫ومع تعاقب العصور تطورت التصورات وتعددت حول ماهية التاريخ‪ ،‬وتأكدت حقيقته كعلم قائم على منهج بحثي‬
‫محدد‪ ،‬كما اعتبر أيضا فنا من حيث اعتماده الخيال الستعادة الماضي‪ ،‬وتصويره من جديد بغية االقتراب قدر اإلمكان‬
‫من الواقع التاريخي والحقيقة التاريخية‪.‬‬

‫ومن هذا المنطلق تتضح صعوبة تحديد ماهية التاريخ الرتباطه بالحياة كلها‪ ،‬استهدافه الوجود اإلنساني في‬
‫الماضي لما له من انعكاس على الحاضر والمستقبل‪.‬‬

‫ويجدر التنبيه على أن الحضارات السابقة عن الحضارة اإلسالمية مثل الحضارة المصرية والعراقية واليونانية‬
‫والرومانية كانت لها كتابات تاريخية تجلت في اآلثار والنقوش والنقود وبعض المصادر األدبية والمالحم واألشعار‪.‬‬

‫نذكر مهم على سبيل المثال هيرودوت ‪ ،Herodotus‬الذي لقبه الغربيون بأبي التاريخ‪ ،‬وثيكوديدز‬
‫‪ ،Thucydides‬الذي وصف من قبلهم أيضا بأبي النقد التاريخي‪.‬‬

‫وإلى جانب هذين المؤرخين وجد آخرون خالل األعصر المتعاقبة‪ ،‬لكنهم يعدون على رؤوس األصابع‪ ،‬أرخوا‬
‫لعهود بعض األباطرة والملوك‪ ،‬كما أرخوا لبعض الحروب والمنشآت‪.8‬‬

‫أما علم التاريخ عند المسلمين فقد ارتبطت نشأته بعلم الحديث النبوي على العهد األموي‪.‬‬

‫هذا ويجدر التنبيه على أن العرب أيضا اشتهروا بروائع األخبار‪ ،‬ومعرفة األنساب‪ ،‬أكد ذلك عبيد بن شرية‬
‫الجرهمي الذي ألف "كتاب الملوك وأخبار الماضين" في تاريخ ملوك اليمن القدامى‪ ،‬ووهب بن منبه اليمني الذي ألف‬
‫"كتاب التيجان ولوك حمير"‪.‬‬

‫وقد يحسن تناول تاريخ علم التاريخ عند المسلمين من خالل مدارسه الفكرية اآلتية‪:‬‬

‫مدرسة المدينة المنورة‪.‬‬ ‫➢‬


‫المدرسة الشامية‪.‬‬ ‫➢‬
‫المدرسة العراقية‪.‬‬ ‫➢‬
‫المدرسة المصرية‪.‬‬ ‫➢‬
‫المدرسة األندلسية‪.‬‬ ‫➢‬
‫‪ .1‬مدرسة المدينة المنورة‪.‬‬

‫‪ - 8‬انظر‪ :‬المرجع‪ ،‬ص‪.248 :‬‬


‫‪40‬‬

‫ارتبطت هذه المدرسة بالمغازي‪ ،‬فوصفت أحيانا بـ "مدرسة المغازي"‪ ،‬ومن أبرز أعالمها الصحابي الجليل عبد‬
‫هللا بن عباس‪ ،‬وصلنا علمه في ذلك عن طريق أبرز تالميذه عروة بن الزبير بن العوام ()‪ ،‬الذي يعد من أوائل من‬
‫كتب في السيرة النبوية‪ ،‬والخلفاء الراشدين‪ ،‬والخالفة األموية (إلى عهد عبد الملك بن مروان)‪.‬‬

‫ومن أعالم هذه المدرسة محمد بن شهاب الزهري (‪741‬م)‪ ،‬الذي كتب هو اآلخر في المغازي‪ ،‬والخلفاء الراشدين‪،‬‬
‫إلى بداية الخالفة األموية‪ ،‬وصلتنا نقول من كتاباته ضمن مؤرخين معتبرين تلوه مثل‪ :‬ابن إسحاق والواقدي والبالذرى‬
‫والطبري وغيرهم‪ ،‬ويعتبر واضع قواعد وأسس دراسة المغازي‪ ،‬والمعالم األولى لكتابة السيرة النبوية‪ ،‬التي تعد من أسس‬
‫الحضارة اإلسالمية كما ذكر في صدر الكتاب‪.‬‬

‫ومن أعالمها موسى بن عقبة (‪758‬م)‪ ،‬كتب في المغازي‪ ،‬والسيرة النبوية‪ ،‬والخالفة الراشدة‪ ،‬والخالفة األموية‪،‬‬
‫اهتم بأمر التسلسل الزمني لألحداث التاريخية‪ ،‬فاستفاد منه المؤرخون والجغرافيون بعده‪.‬‬

‫ومنها أيضا ابن إسحاق‪ ،‬وهو أهم أعالم مدرسة المدينة‪ ،‬أفاد من علم أهل الكتاب‪ ،‬وعطت كتابته من بدء الخليقة‬
‫إلى بني أمية مرو ار بالسيرة النبوية وعصر الخلفاء الراشدين‪.‬‬

‫ومنها كذلك الواقدي (‪823‬م)‪ ،‬الذي بلغت مؤلفاته ‪ 28‬كتابا‪ ،‬فقد أغلبها‪ ،‬لكن وصلتنا كتاباته في المغازي وفتوح‬
‫مصر‪ ،‬وفتوح الشام‪.‬‬

‫ومنها ابن سعد (‪845‬م) تلميذ الواقدي‪ ،‬اشتهر بكتاب الطبقات‪ ،‬الذي يقع في أكثر ‪ 12‬مجلدا‪ ،‬شمل السيرة‪،‬‬
‫والمغازي‪ ،‬والصحابة والتابعين‪ ،‬والخلفاء‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وكان عمدة لمن جاء بعده‪.‬‬

‫المدرسة الشامية‪.‬‬ ‫‪.2‬‬


‫ازدهت خاصة زمن الحروب الصليبية‪ ،‬التي شنها الغرب األوروبي الكاثوليكي على الشرق اإلسالمي‪ ،‬أخريات‬
‫القرن الحادي عشر الميالدي‪ ،‬وامتدت مدى القرنين الثاني عشر والثالث عشر‪ ،‬حيث أدرك مؤرخوها أهمية توثيق‬
‫وقائعها ليس ألبناء جيلهم‪ ،‬وإنما لألجيال التالية كذلك‪ ،‬فظهرت كوكبة فريدة من المؤرخين الذين اعترف بقيمتهم العلمية‬
‫كبار المستشرقين‪ ،‬نذكر منهم‪:‬‬

‫ابن القالنسي الدمشقي(‪1160‬م)‪ ،‬ألف كتاب "ذيل تاريخ دمشق"‪ ،‬استوعب أخبار دمشق عاصمة بالد الشام‪ ،‬كما‬
‫عد كتابه المصدر العربي الوحيد في أخبار الحملتين الصليبيتين األولى والثانية‪ ،‬لمعاصرته لهما‪ ،‬فاكتسب لذلك أهمية‬
‫بالغة‪ ،‬وكان مرجعا ال غنى عنه لمن بعده‪.‬‬
‫‪41‬‬

‫كما تكمن أهميته في إيراده للوثائق‪ ،‬كما حرص على التأريخ للكوارث الطبيعية مثل الجفاف‪ ،‬والزالزل‪.‬‬

‫كما يعد مصد ار أساسيا عن الدولة البورية األتابكية (‪1134‬م‪1154-‬م)‪ ،‬والدولة النورية الزينكية (‪1146‬م‪-‬‬
‫‪1174‬م)‪.‬‬

‫أدرك المستشرقون أهميته فحققه ‪ ،Amedroz‬كما ترجم المؤرخ البريطاني المرموق ‪ Hamilton Gibb‬قسما منه‬
‫إلى االنجليزية‪.‬‬

‫ومنها أيضا‪ ،‬ابن عساكر (‪1176‬م)‪ ،‬مؤرخ ومحدث‪ ،‬من أشهر كتبه "تاريخ مدينة دمشق" المعروف بتاريخ ابن‬
‫عساكر‪ ،‬أطول وأوسع كتاب ألف في هذه المدينة‪ ،‬بلغ ثمانين مجلدا‪ ،‬واستغرق في تأليفه ثالثين سنة‪ ،‬عكست صبره‪،‬‬
‫وحبه لتخليد مآثر مدينته‪.‬‬

‫ومنها كذلك‪ ،‬العماد األصفهاني (‪1201‬م)‪ ،‬عمل كاتبا لنور الدين محمود ومن بعده لصالح الدين األيوبي‪ ،‬ومن‬
‫"الب ْر ُق الشامي"‪ ،‬و"خريدة القصر وجريدة العصر"‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫"الف ْت ُح الُق ِس ُّي في َ‬
‫الف ْت ِح الُقُدس ِي"‪ ،‬و َ‬ ‫أشهر وأنفع مؤلفاته التاريخية‪َ :‬‬
‫و"تاريخ آل سلجوق"‪ ،‬وغيرها من الكتب‪.‬‬

‫يمتاز أسلوبه في الكتابة بأسلوب الكتاب‪ ،‬الذي يطغى عليه األسلوب األدبي القائم على المحسنات البديعية‪ ،‬لذلك‬
‫يحتاج مطالعة إلى جهد ألجل استخراج مادته التاريخية‪.‬‬

‫ومنها أيضا‪ ،‬أبو شامة المقدسي (‪1268‬م)‪ ،‬ومن أشهر كتبه النفيسة‪" :‬الروضتين في تاريخ الدولتين النورية‬
‫والصالحية"‪ ،‬و"الذيل على الروضتين"‪.‬‬

‫الحَل ِب من تاريخ‬
‫ومن أعالم هذه المدرسة كذلك‪ ،‬ابن العديم الحنبلي (‪1261‬م)‪ ،‬من أشهر مؤلفاته التاريخية ُ"زْب َدةُ َ‬
‫حلب"‪ ،‬و"بغية الطلب في تاريخ حلب"‪ ،‬يعد أرز مؤرخ لمدينة حلب‪ ،‬عاصر محنة غزو المغول لبالد الشام‪.‬‬

‫وخالصة القول فقد تنوعت إسهامات مؤرخي المدرسة الشامية‪ ،‬وسجلوا أحداث عصر الحروب الصلبية التي‬
‫عاصروها‪ ،‬الستشعارهم أهميتها‪ ،‬فحابوها بأقالمهم‪ ،‬وحفظوها ألمتهم من الضياع‪ ،‬باعتبارها من أخطر التحديات التي‬
‫واجهت الحضارة اإلسالمية في العصور الوسطى‪.‬‬

‫‪ .2‬المدرسة العراقية‪.‬‬
‫‪42‬‬

‫ازدهرت المدرسة العراقية انطالقا من العراق‪ ،‬الذي شهد تأسيس مدينة بغداد‪ ،‬عاصمة الخالفة العباسية‪ ،‬مترامية‬
‫األطراف‪ ،‬حيث نشطت فيها الحركة العلمية‪ ،‬فكانت بحق المدرسة األم‪ ،‬نظ ار لتعدد أعالمها‪ ،‬وإسهاماتهم البارزة في‬
‫الكتابة التاريخية اإلسالمية في تلك العصور‪ ،‬منهم‪:‬‬

‫القاضي أبو يوسف (‪798‬م)‪ ،‬عاصر الخليفة العباسي هارون الرشد‪ ،‬وألف بأمر منه كتابه الشهير "الخراج"‪،‬‬
‫ويعد مصد ار أساسيا في األوضاع االقتصادية للخالفة اإلسالمية‪.‬‬

‫كما ألف بعده يحيى بن آدم (‪818‬م) وفي نفس الموضوع للخليفة المأمون كتابه "الخراج"‪ ،‬تميز بتفصيالت أوفى‬
‫مما أورده أبو يوسف‪.‬‬

‫كذلك ألف بعدهما أبو عبيد هللا بن سالم (‪848‬م)‪ ،‬كتابه المهم "األموال"‪ ،‬امتاز بالشمولية أكثر مقارنة بالكتابين‬
‫السابقين‪.‬‬

‫ومنهم محمد بن جرير الطبري (‪922‬م)‪ ،‬ويعد شيخ المؤرخين المسلمين وعمدتهم‪ ،‬ألف كتابه الموسوعي الشهير‬
‫"تاريخ الرسل والملوك" المعروف أيضا بتاريخ الطبري‪ ،‬استوعب من خالله تاريخ من تقدمه من المؤرخين باإلضافة إلى‬
‫تأريخه الوافي لعصره من جميع الجوانب‪ ،‬فكان له األثر البارز فيمن تاله من المؤرخين‪ ،‬منهجا ومادة‪ ،‬بل إن أحد‬
‫أشهر المستشرقين األلمان وأكبرهم‪ ،‬وهو كارل بروكلمان ‪ ،Carl Brockelman‬حصل على درجة الدكتوراه حول‬
‫موضوع تأثير تاريخ الطبري وفي تاريخ ابن األثير الذي جاء من بعده بقرون‪.‬‬

‫ومن أعالم هذه المدرسة المسعودي (‪957‬م)‪ ،‬الذي ألف عدة كتب تاريخية مهمة منها‪ :‬كتاب "أخبار الزمان ومن‬
‫أباده الحدثان من األمم الماضية والممالك الدائرة"‪ ،‬وكتاب "التنبيه واإلشراف"‪ ،‬وكتاب "مروج الذهب ومعادن الجوهر"‪،‬‬
‫امتاز المسعودي بنزعته العقالنية في كتابة التاريخية‪ ،‬كما يعد من أهم وأشهر مؤرخي اإلسالم‪.‬‬

‫ومن أعالمها أيضا أبو الفرج األصفهاني (‪973‬م)‪ ،‬له ميول شيعية‪ ،‬خلف عدة مؤلفات مهمة‪ ،‬منها‪ :‬كتاب‬
‫األغاني يقع في أكثر من ‪ 20‬مجلدا‪ ،‬جمع مادته في نصف من الزمان‪ ،‬ويعد منجما من كمناجم المعلومات المتعلقة‬
‫بالحضارة اإلسالمية‪ ،‬إال أنه يتضمن العديد من المعلومات المغلوطة والمدسوسة‪ ،‬أثبتت ذلك الدراسات النقدية التي‬
‫قدمت حوله‪ ،‬لذا يجب الحيطة والحذر في التعامل معه‪.‬‬

‫ومنها كذلك ابن النديم (‪990‬م)‪ ،‬صاحب الكتاب الشهير "الفهرست"‪ ،‬أحصى من خالله الكتب التي ألفت الحضارة‬
‫اإلسالمية حتى القرن العاشر الميالدي‪ ،‬حيث أورد فيه نحو ‪ 6124‬عنوان كتاب‪ ،‬فعد بذلك مصد ار غاية في األهمية‪،‬‬
‫‪43‬‬

‫وال سيما في التأريخ لحركة الترجمة على العهد العباسي‪ ،‬من أجل نقل التراث اليوناني والفارسي والهندي إلى اللغة‬
‫العربية‪ ،‬إلى جانب توثيقه لحجم التأليف في مختلف العلوم عطت أربعة قرون هجرية‪.‬‬

‫ومنها أيضا ابن األثير الجزري (‪1232‬م)‪ ،‬يعد من ألع مؤرخي هذه المدرسة األفذاذ‪ ،‬أثرى التراث التاريخي‬
‫اإلسالمي بعدة مؤلفات مهمة‪ ،‬نذكر منها‪" :‬الكامل في التاريخ" من بدء الخليقة إلى عصره‪ ،‬أفاد ممن تقدمه من المؤرخين‬
‫وبخاصة الطبري‪ ،‬ال يستغنى عنه‪ ،‬ويمتاز بغ ازرة التفاصيل‪ ،‬وحضور شخصيته التأريخية‪ .‬و"أسد الغابة في معرفة‬
‫الصحابة"‪ ،‬فريد في بابه‪ ،‬ترجم فيه لنحو ‪ 8000‬صحابي‪ ،‬بصورة غير مسبوقة‪ ،‬عكست علمه وجهده‪ ،‬وبراعته‪.‬‬

‫هذا يعتبر ابن األثير نقطة تحول في الكتابة التاريخية‪ ،‬وتغي ار واضحا يدركه من يطالع إسهاماته مقارنه بمن‬
‫تقدمه‪ ،‬نبه على ذلك كثير من المتخصصين‪.‬‬

‫ومنها أيضا ابن خلكان‪( ،‬ت ‪1282‬م)‪ ،‬صاحب الكتاب المشهور "وفيات األعيان وأنباء أبناء الزمان"‪ ،‬والذي يعد‬
‫أشمل في تراجم األعالم‪ ،‬حيث عرف بالمئات من الرجال والنساء من أهل العلم والسياسة واألدب‪ ،‬كما تضمن إشارات‬
‫في المجاالت االجتماعية والعلمية غاية في األهمية مادة وأسلوبا‪ ،‬ونظ ار ألهميته في بابه فقد أعقبته ذيول وتكمالت‬
‫مثل كتاب "فوات الوفيات" البن شاكر الكتبي‪ ،‬وكتاب "الوافي بالوفيات" للصفدي‪.‬‬

‫‪ .3‬المدرسة المصرية‪.‬‬

‫ظهر فيها هي األخرى عدد كبير من المؤرخين‪ ،‬أرخت لمصر منذ الفتح اإلسالمي لها‪ ،‬وانضمامها لدولة الخالفة‬
‫الراشدة‪ ،‬وقد بدأت هذه المدرسة مع ابن عبد الحكم من خالل كتابه النفيس "فتوح مصر والمغرب" والذي يعد األعرق‬
‫في بابه‪ ،‬اعتمد على الروايات الشفوية وكثير من الوثائق المهمة‪.‬‬

‫ثم تبعه آخرون مثل الكندي (‪867‬م) صاحب كتاب "الوالة والقضاة"‪ ،‬وابن زوالق صاحب كتاب "أخبار القضاة"‪،‬‬
‫والمسبحي صاحب كتاب "التاريخ الكبير" الذي لم يصل إلينا‪.‬‬

‫كما برز في العصر المملوكي كوكبة متميزة من المؤرخين قلما تجتمع في عصر واحد‪ ،‬منهم‪:‬‬

‫شهاب الدين النويري (‪1322‬م) صاحب الموسوعة الشهيرة "نهاية األرب في فنون األدب" ضم مادة عليمة‬
‫ضخمة‪ ،‬دلت على النفس الطويل والقدرة الفائقة على الجمع والترتيب‪.‬‬
‫‪44‬‬

‫ومن أعالم هذه المدرسة القلقشندي (‪1418‬م)‪ ،‬صاحب الموسوعة الفذة "صبح األعشى في صناعة اإلنشا"‪ ،‬فريد‬
‫في بابه وحجمه‪ ،‬حيث كان موضوعه حول ديوان الكتابة أحد أهم الدواوين اإلدارة اإلسالمية‪ ،‬احتوى كن از حقيقيا من‬
‫الوثائق التي تعد مادة أولية للكتابة التاريخية‪.‬‬

‫من أعالمها السيوطي (‪ 1505‬م)‪ ،‬العالم الموسوعي بامتياز‪ ،‬يعد من أغزر مؤرخي ومؤلفي عصره‪ ،‬كتب قرابة‬
‫‪ 611‬كتابا في المعارف والعلوم المختلفة‪ ،‬وكتب في التاريخ عدة كتب أشهرها‪ :‬كتاب "تاريخ الخلفاء"‪ ،‬وكتاب "حسن‬
‫المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة"‪.‬‬

‫ومن أعالمها أيضا‪ ،‬ابن تغري بردي (‪1569‬م)‪ ،‬ويعد من أبرز أعالم هذه المدرسة‪ ،‬ألف العديد من المؤلفات‬
‫التاريخية النفيسة‪ ،‬نذكر منها أهمها وأشهرها‪" :‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"‪ ،‬و"المنهل الصافي والمستوفي‬
‫بعد الوافي"‪.‬‬

‫ومنها كذلك‪ ،‬السخاوي (‪1496‬م)‪ ،‬ويعد كذلك من المؤرخين المرموقين في زمانه‪ ،‬ألف عدة مؤلفات تاريخية‬
‫مهمة‪ ،‬نذكر منها‪" :‬الضوء الالمع ألهل القرن التاسع" و"التبر المسبوك في ذيل الملوك"‪.‬‬

‫ومن أعالمها أيضا‪ ،‬تقي الدين المقريزي (‪1441‬م)‪ ،‬الذي أعانه اشتغاله في ديوان اإلنشاء وتتلمذه وتأثره بالعالمة‬
‫ابن خلدون على اكتساب رؤية متفردة وشخصية مستقلة في كتابة التاريخ‪ ،‬وأهله لكتابة العديد من الكتب التاريخية‬
‫المفيدة نذكر منها أشهرها وأنفعها‪" :‬المواعظ واالعتبار بذكر الخطط واآلثار" المعروف بالـ "الخطط المقريزية"‪ ،‬و"المقفى‬
‫في تراجم أهل مصر والواردين إليها"‪ ،‬و"السلوك لمعرفة دول الملوك" و"اتعاظ الحنفا بأخبار األئمة الفاطميين الخلفا"‪.‬‬

‫ومنها أيضا‪ ،‬ابن حجر العسقالني (‪1448‬م)‪ ،‬اشتهر بكتابة تراجم األعالم الشهيرة‪ ،‬ألف في ذلك عدة كتب مهمة‬
‫نذكر منها أشهرها وأثرها أثرا‪" :‬الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" و"اإلصابة في تمييز الصحابة" و"إنباء الغمر‬
‫بأبناء العمر" و"رفع اإلصر عمن قضاة مصر" و"لسان الميزان"‪.‬‬

‫‪ .4‬المدرسة األندلسية‬

‫وهي مدرسة لها خصوصيتها‪ ،‬وانجبت العديد من المؤرخين البارزين والمتميزين‪ ،‬نذكر منهم‪:‬‬

‫ابن حبيب (‪852‬م)‪ ،‬يعتبر أول مؤرخ أندلسي‪ ،‬ألف كتابا في التاريخ العام قبل أن يكتب في ذلك شيخ المؤرخين‬
‫اإلمام الطبري بأكثر من نصف قرن‪ ،‬أكد من خالل ذلك على هويته األندلسية المبكرة‪ ،‬له عدة مصنفات مهمة نذكر‬
‫‪45‬‬

‫منها‪" :‬كتاب التاريخ"‪" ،‬كتاب حروب اإلسالم"‪" ،‬كتاب أدب النساء الموسوم بكتاب الغاية والنهاية"‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫الكتب القيمة في السيرة وتاريخ الصحابة والتابعين وتاريخ اإلسالم عامة‪.‬‬

‫ابن عبد ربه (‪940‬م)‪ ،‬مؤلف الكتاب الموسوعة الشهير "العقد الفريد" في ‪ 25‬مجلدا‪ ،‬في األدب والتاريخ وغيره‪،‬‬
‫استوعب كثي ار مما سائدا الثقافة المشرقية رغم الفاصل الجغرافي مما دل على قوة التواصل الحضاري بين جميع أقطار‬
‫العالم اإلسالمي في ذلك الوقت‪.‬‬

‫ومنها أيضا أبو بكر أحمد الرازي (‪955‬م)‪ ،‬ويعد من أكبر وأشهر مؤرخي األندلس في العصر األموي‪ ،‬كتب في‬
‫تاريخ األندلس وأخبار ملوكها ودولها كتابا غاية في األهمية‪ ،‬اعتبر مصد ار مهما لمن أعقبه من المؤرخين‪.‬‬

‫ومنها كذلك‪ ،‬ابن حزم األندلسي (‪1064‬م)‪ ،‬فقيه ومؤرخ له مكانته‪ ،‬كان موسوعي االهتمام والتصنيف‪ ،‬حيث‬
‫كتب في الفقه واألصول‪ ،‬والفلسفة والمنطق والسلوك‪ ،‬والتاريخ واألنساب ومقارنة األديان واألدب‪ ،‬من كتبه‪" :‬نقط العروس‬
‫في تواريخ الخلفاء"‪ ،‬و"جمهرة أنساب العرب‪ ،‬و"الفصل في الملل واألهواء والنحل" و"جوامع السير" و"رسالة في أمهات‬
‫الخلفاء" و"جمل من فتوح اإلسالم"‪.‬‬

‫ابن حيان (‪1076‬م)‪ ،‬يمثل قمة التأليف في الكتابة التاريخية في المدرسة األندلسية‪ ،‬ترك مؤلفات تاريخية أندلسية‬
‫نفيسة مثل‪" :‬المقتبس من أبناء أهل األندلس"‪" ،‬المتين" في ‪ 60‬مجلدا‪ ،‬لكن لألسف لم يصلنا‪ ،‬أجمع مؤرخو األندلس‬
‫على إمامته في تاريخ األندلس‪ ،‬حيث امتاز بالدقة والضبط‪ ،‬وغ ازرة التفاصيل وتنوع المعلومات وشمولها‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫الروح النقدية والمقارنة واالستنتاج‪.‬‬

‫لسان الدين بن الخطيب (‪1374‬م)‪ ،‬خاتمة مؤرخي األندلس‪ ،‬يعد من كبار مؤرخي األندلس دون جدال‪ ،‬غ ازرة‬
‫وتنوعا وأسلوبا‪ ،‬بما كان له من مكانة علمية وأدبية موسوعية‪ ،‬وبما كان له من مكانة سياسية في مملكة غرناطة آخر‬
‫دويلة اإلسالم في األندلس‪ ،‬ومن كتبه القيمة‪" :‬اإلحاطة في أخبار غرناطة"‪ ،‬و"إعمال األعالم"‪" ،‬الكتيبة الكامنة في‬
‫أدباء المائة الثامنة"‪ ،‬و "اللمحة البدرية في الدولة النصرية"‪ ،‬إلى غير ذلك من المؤلفات‪.‬‬

‫ابن خلدون (‪1405‬م)‪ ،‬اشتهر بكتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم‬
‫من ذوي السلطان األكبر"‪ ،‬بدأه بمقدمة تعد عمال ابتكاريا غير مسبوق‪ ،‬بوأته مقام فيلسوف التاريخ بشهادة أرنولد توينبي‪،‬‬
‫مبدع نظرية التحدي واالستجابة‪ ،‬واعتبر ما توصل إليه ابن خلدون أكبر إنجاز توصل إليه عقل بشري في كل زمان‬
‫وكان‪.‬‬
‫‪46‬‬

‫ولقد ساهمت عدة عوامل في صياغة شخصيته الفكرية المتميزة منها‪:‬‬

‫‪ .1‬القدرة الفذة على التحليل واالستنتاج والتعليل والوعي بالعالقة التي تربط بن كافة العناصر المشتركة في‬
‫صناعة التاريخ‪ ،‬ساعده‪ ،‬ال شك‪ ،‬على ذلك سعة اطالعه على العلوم المختلفة بما في ذلك علم التاريخ‪.‬‬
‫‪ .2‬عمله السياسي‪ ،‬وتقلب أحواله في ذلك‪ ،‬واطالعه على كثير من الدسائس‪ ،‬مكنه من إدراك خبايا األمور‪.‬‬
‫‪ .3‬طبيعة العصر الذي عاش فيه‪ ،‬حيث عرف تحوالت كبيرة وتغيرات عميقة في المشرق والمغرب‪ ،‬ساعده‬
‫إدراكها على إنتاج نظرية تفسيرية وتعليلية للعوامل المختلفة غاية في الطرافة واألهمية‪.‬‬
‫‪ .4‬من العوامل أيضا التي أثرت في مساره الفكري ما ألم بالعالم من كارثة الوباء الهائل المعروف بالموت‬
‫األسود‪ ،‬الذي "ذهب بأهل الخير‪ ،‬وطوى كثي ار من محاسن العمران ومحاها‪ ،‬وجاء للدول على حين هرمها‪ ...‬فقلص‬
‫ظاللها‪ ،‬وأوهم من سلطانها‪ ...‬وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول واالنقباض فبادر باإلجابة"‪.9‬‬
‫هذا‪ ،‬ورغم إشادة الكثيرين بإبداع ابن خلدون في مقدمته‪ ،‬فقد ظهر في السنين القليلة الماضية بعض الباحثين‬
‫الذين يزعموا بأن ابن خلدون إنما نقل كل ذلك عن إخوان الصفا‪ ،‬إال أن الزعم فند باألدلة اآلتية‪:‬‬
‫‪ )1‬إن رسائل إخوان الصفا ال تقدم نظرية متكاملة حقيقية لتفسير التاريخ‪ ،‬مثلما قدمه ابن خلدون استنادا على‬
‫نظرية العصبية‪.‬‬
‫‪ )2‬إن النصوص التي قدمت للتدليل على النقل ليست متطابقة‪ ،‬إنها اعتمدت على التلفيق‪ ،‬واألحكام المسبقة‪.‬‬
‫‪ )3‬لم يكن ابن خلدون بما امتلكه من مهارات وخبرات عاصرها مثل الطاعون األسود في حاجة إلى السطو‬
‫على رسائل إخوان الصفا‪.‬‬
‫‪ )4‬تقدير كبار المستشرقين لفكر ابن خلدون واعتباره رم از من رموز الفكر العربي اإلسالمي في عصره‪.‬‬

‫مؤرخون غير مسلمين‪ :‬هذا ولقد وجد إلى جانب المؤرخين العرب والمسلمين مؤرخين غير مسلمين احتضنتهم‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ ،‬نذكر منهم مؤرخين يهود مثل‪ :‬ما شاء هللا(ق‪3-2‬م)‪ ،‬الذي عاش في العصر العباسي‪ ،‬وسعدي‬
‫العاجوني(ق‪10‬م)‪ ،‬وخلف الدمشقي(‪1227‬م)‪ ،‬ومؤرخين مسيحيين مثل‪ :‬ثيوفيل بن توما الرهاوي(‪785‬م)‪ ،‬وإيليا‬
‫النصيبيني(‪1049‬م)‪ ،‬ميخائيل السرياني(‪1199‬م)‪ ،‬وابن العبري غريغوريوس (‪1286‬م)‪.‬‬

‫‪ )6‬الفلسفة‬

‫يواجه الدارس للفلسفة اإلسالمية في الحضارة اإلسالمية إشكالية يمكن عرضها من خالل اآلتي‪:‬‬

‫‪ - 9‬انظر الكتاب المرجع‪ ،‬ص‪.270 :‬‬


‫‪47‬‬

‫أوال‪ :‬المركزية األوروبية وتأثيراتها الكبيرة‪ :‬حيث إن المستشرقين الغربيين الذين درسوا الفلسفة اإلسالمية نظروا‬
‫إليها على أنها نتاج الفلسفة اليونانية‪ ،‬وأن أرسطو كان المحرك لها‪ ،‬على اعتبار أن المسلمين لم يتمكنوا من الفكاك من‬
‫تأثيره حيث وصفوه بـ"المعلم األول"‪ ،‬فلم تكن فلسفتهم‪ ،‬بزعمهم‪ ،‬إال فلسفة يونانية بثياب إسالمية‪ ،‬مستدلين على ذلك‬
‫بكثرة شروح فالسفة اإلسالم لتلك الفلسفة التي اعتبروها أوروبية أصيلة‪.‬‬

‫كذلك وجد بعض الباحثين الغربيين الذين نظروا إلى الفلسفة اإلسالمية نظرة دونية‪ ،‬فوصموا تصوراتهم‬
‫المعيش‪ ،‬فظلوا في أبراج عاجية بعيدين عن هموم الناس‪.‬‬
‫بالميتافيزيقية‪ ،‬ومعالجتهم ألمور جدلية ال عالقة لها بالواقع َ‬
‫وامتدادا لهذه المركزية وجد اتجاه بداخلها رأى أن القرآن الكريم حد من النشاط الفلسفي‪ ،‬وهو أمر مخالف للواقع‬
‫التاريخي‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الطابع الفردي في تناول الفلسفة اإلسالمية‪ :‬تمثل ذلك في تركيز أغلب المستشرقين على عدد من أعالم‬
‫الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬دون البحث عن تأثيراتهم في معاصريهم‪ ،‬كتيارات فكرية‪ ،‬اكتسبت تأييدا من المعاصرين‪ ،‬وتأرجحت‬
‫بين القوة والضعف‪ ،‬بحسب العصور‪ ،‬شأنهم في ذلك شأن أي ظاهرة فكرية في التاريخ اإلنساني عموما‪ ،‬وهكذا ركزوا‬
‫على الفالسفة باعتبارهم أفرادا ال تأثير لهم في المجتمعات‪ ،‬بحجة أن فلسفتهم كانت مجرد ترف عقلي‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬ثنائية الصراع بين الفالسفة والفقهاء المسلمين‪ :‬وهي ظاهرة ال يمكن إغفال ظهورها من حين آلخر‪ ،‬وكانت‬
‫عادة ما تقف السلطة إلى جانب الفقهاء ضد الفالسفة‪ ،‬إال في حاالت استثنائية قليلة‪ ،‬مثلما حصل على عهد الخليفة‬
‫المأمون في العصر العباسي الذي كام مؤيدا للمعتزلة ومذهبهم في النظر‪.‬‬

‫ومن اإلنصاف اإلقرار بأن بعض الفالسفة المسلمين ربما صدموا المجتمع اإلسالمي ببعض التصورات‪ ،‬األمر‬
‫الذي رجح كفة الفقهاء عند المواجهة‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬مشكلة التصنيف‪ :‬فقد وجد فالسفة إلى جانب وجود عديد من المتصوفة المتفلسفين‪ ،‬مما جعل فريقا من‬
‫الباحثين يجمعهم في مجال واحد‪ ،‬األمر الذي جعل دائرة تصنيف الفكر الفلسفي تتسع وتتعدد أوجهها وتوراتها بتعدد‬
‫المنابع والمشارب‪.‬‬

‫هذا ويجدر التنبيه على أن منهج البحث في الفكر الفلسفي لها أسسها التي قد تتفق وقد تختلف أيضا عن منهج‬
‫البحث في الفكر الصوفي باختالف األعصر مصطلحا وتطو ار تاريخيا‪ ،‬إلى جانب اختالف التجربة الصوفية باختالف‬
‫أعالمها‪.‬‬
‫‪48‬‬

‫خامسا‪ :‬الطابع الذكوري للفلسفة في الشرق وفي الغرب كذلك‪ :‬وهو ال شك أمر متوقع لطبيعة تلك المرحلة‬
‫التاريخية‪ ،‬بعكس مرحلة الحضارة اليونانية الرومانية التي نشأ فيها فيلسوفات ذكرهن التاريخ‪.‬‬

‫ورغم ذلك يجب التأكيد على أن التفلسف على مر التاريخ لم يكن محصو ار في الرجال فقط‪ ،‬وإن كان األمر يدعو‬
‫إلى بحث موقف الفلسفة من المرأة‪ ،‬مع التأكيد أيضا على نظرة اإلسالم المتحضرة للمرأة باعتبار أن النساء شقائق‬
‫الرجال‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬مشكلة الموضوعية‪ :‬وتتمثل في صعوبة الحكم القطعي على عدد من الفالسفة بسبب فقدان كتبهم‪،‬‬
‫وتكالب الخصوم ضدهم‪ ،‬األمر الذي حال دون الحكم على أفكارهم‪ ،‬عالوة على موجات العداء للفلسفة والفالسفة عموما‬
‫في المشرق والمغرب‪ ،‬إلى درجة إحراق مؤلفات عدد مهم مثلما حدث للغزالي وابن رشد وغيرهما‪.‬‬

‫ويجدر التنبيه على أن الحديث عن الفلسفة اإلسالمية ال ينبغي أن يبدأ من أصولها اليونانية مثلما يجنح الغربيون‪،‬‬
‫ومن شايعهم من باحثين عرب وغيرهم‪ ،‬تحت تأثير المركزية األوروبية‪ ،‬ألن اإلغريق أنفسهم تعلموا من الحضارات‬
‫السابقة‪ ،‬في الشرق األدنى‪ ،‬وبخاصة من الحضارة المصرية وبالد الرافدين في العراق‪.‬‬

‫كما تجدر اإلشارة إلى أن حركة الترجمة‪ ،‬التي تقدم الحديث عنها‪ ،‬التي كان لها تأثير كبير في تمكين المسلمين‬
‫من االطالع علة مؤلفات أعالم الفلسفة اليونانية‪ ،‬وجعلت تحت أيديكم قاعدة معلومات فلسفية غنية‪ ،‬تعود إلى كبار‬
‫األعالم مثل أفالطون‪ ،‬وأرسطو‪ ،‬وأفلوطين‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬لكن يالحظ أن أرسطو كان صاحب المقام المرموق لدى فالسفة‬
‫اإلسالم‪ ،‬وبخاصة فيما يتصل بالمنطق اآلرسطي‪ ،‬إال أنهم لم يكونوا مقلدين حرفيين له‪ ،‬وإنما اختلفوا معه في كثير من‬
‫الوجوه كما سيتبين من خالل ما يعرض عن فالسفة اإلسالم في اآلتي‪:‬‬

‫الكندي (‪867‬م)‪ ،‬هو أول فيلسوف عربي‪ ،‬ألف العديد من المؤلفات‪ ،‬مثل‪" :‬رسالة في حدود األشياء"‪" ،‬رسالة في‬
‫وحدانية هللا"‪" ،‬رسالة في الجواهر الخمس"‪.‬‬

‫له نظرية في المعرفة ركناها المحسوس والمعقول‪ ،‬أي أن معارفنا إما أن تكون حسية‪ ،‬وإما أن تكون عقلية‪،‬‬
‫ص ِوَرة‪ ،‬ويسميها القوى المتوسطة‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫المتَ َ‬ ‫وبينهما توجد القوى ُ‬
‫المتَ َخيَلة أو ُ‬
‫كان واسع اطالع في جميع العلوم والمعارف‪ ،‬مستقل الشخصية‪ ،‬خالف‪ ،‬وفي زمن مبكر أرسطو‪ ،‬كما كان له‬
‫تأثير كبير من خالل مؤلفاته في المجالت المتعددة مثل الرياضيات‪ ،‬والفلك‪ ،‬والجغرافيا‪ ،‬والطب‪ ،‬وهو ما يحيل إدراكه‬
‫‪49‬‬

‫لوحدة العلوم‪ ،‬وصف أيضا بالريادة والسبق والتأثير فيمن جاء بعده من الفالسفة‪ ،‬كما عكست جهوده قدرة اإلسالم على‬
‫إنجاب فالسفة في مراحله المبكرة‪ ،‬وهو أمر يكاد يقل نظيره في زماننا‪.‬‬

‫الفارابي (‪950‬م)‪ ،‬يعد واحدا من أكبر فالسفة اإلسالم‪ ،‬يوصف بأنه مؤسس الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬ترك تراثا‬
‫فلسفيا معتبرا‪ ،‬منه على سبيل المثال‪" :‬إحصاء العلوم‪ ،‬كتاب الجدل"‪" ،‬الجمع بين رأي الحكيمين"‪" ،‬السياسة المدنية"‪،‬‬
‫"آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها"‪ ،‬والذي يعد من أهم وأشمل مؤلفاته‪ ،‬ألنه يمثل مرحلة النضج في حياته‪ ،‬أودع‬
‫فيه آخر ما توصل إليه من نظرات فلسفية‪ ،‬الميتافيزيقية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والخلقية‪ ،‬مثل فكرة حاجة‬
‫اإلنسان إلى االجتماع والتعاون‪ ،‬وصفات رئيس المدينة الفاضلة وأهلها‪ ،‬والمقارنة بين المدينة الجاهلة والمدينة الفاضلة‪.‬‬

‫ويجدر التنبيه بهذا الخصوص على أنه على الرغم من تأثره في كتابه هذا بكتاب الجمهورية ‪ ،Republuca‬إال‬
‫أن بصماته في ذلك واضحة‪.‬‬

‫وعلى العموم هناك من عد فلسفته مذهبا روحيا متسقا تمام االتساق‪ ،‬وبصورة تعبيرية مذهبا عقليا‪ ،‬األمر الذي‬
‫جعل كا ار دو فو ‪ ،Carra de vaux‬يذهب إلى الشبه بينه وبين الفيلسوف األلماني الشهير نيتشه ‪،Nietzsche‬‬
‫وبخاصة في أفكاره التي أوردها في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"‪.‬‬

‫ابن سينا (‪1037‬م)‪ ،‬يعد الشيخ الرئيس كذلك واحدا من أكبر وأشهر فالسفة اإلسالم‪ ،‬ألف عدة مؤلفات في ذلك‬
‫منها‪" :‬الشفاء"‪" ،‬حي بن يقضان"‪ ،‬الذي سيكتب في موضوعه عدة فالسفة من بعده‪" ،‬اإلشارات والتنبيهات"‪" ،‬رسالة في‬
‫القدر"‪.‬‬

‫امتاز ابن سينا بالموسوعية‪ ،‬واإللمام بالعديد من العلوم والمعارف‪ ،‬جمع بين الفلسفة والطب على حد سواء‪ ،‬األمر‬
‫الذي أكد على منوع وحدة العلوم‪.‬‬

‫من آرائه الفلسفية إرادته التوفيق بين فلسفته وأفكار أهل السنة والجماعة‪ ،‬مثل اعتقاده بأن الخير والشر موجود‬
‫بقدر هللا تعالى‪ ،‬إال أنه سبحانه ال يرضى إال الخير‪ ،‬ومن أفكاره أيضا‪ ،‬أن العالم ال يمكن أن يكون أحسن وال أبدع مما‬
‫هو عليه بالفعل‪.‬‬

‫إخوان الصفا‪ ،‬وهي جماعة فلسفية شيعية وجدت في البصرة في القرن (‪10‬م)‪ ،‬من تصوراتهم أن الشريعة تم‬
‫تدنيسها بالجهاالت‪ ،‬واختلطت بالضالالت‪ ،‬لذلك تصدوا لتطهيرها من خالل الفلسفة‪ ،‬فذهبوا إلى أنه إذا ما حدث التزاوج‬
‫‪50‬‬

‫بين الفلسفة اليونانية والشريعة العربية اإلسالمية فإنه يحصل الكمال‪ ،‬ولقد عبروا عن أفكارهم في ذلك في مجموع لهم‬
‫بعنوان‪" :‬رسائل إخوان الصفا وخالن الوفا"‪.‬‬

‫هذا ويجدر التنبيه على أنهم كانوا موصوفين في كثير من أحوالهم بالسرية‪ ،‬األمر الذي أثار حولهم عالمات‬
‫االستفهام‪ ،‬كما أنهم في مجال األخالق اتجهوا نحو الزهد‪ ،‬مقتبسين في ذلك من مذاهب مختلفة‪ ،‬معتبرين المحبة أسمى‬
‫الفضائل‪ ،‬وغايتها الفناء في هللا الموصوف عندهم بالمحبوب األول‪ ،‬كما حاول إخوان الصفا التوفيق بين الدين والفلسفة‪،‬‬
‫كما أن كثي ار من مصادر أفكارهم لم تكن إسالمية صرفه‪ ،‬وإنما تضمنت الكثير ديانات ما قبل اإلسالم‪.‬‬

‫القسم الثالث‪ :‬المدن والفنون في الحضارة اإلسالمية‬


‫أوال‪ :‬تاريخ المدن اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ .1‬إشكالية البحث في تاريخ المدن‪.‬‬
‫يجسد الحديث عن تاريخ المدينة اإلسالمية من حيث تعريفها‪ ،‬وموقعها‪ ،‬واإلشارة إلى بعض نماذجها‪ ،‬مظه ار‬
‫مهما من مظاهر الحضارة اإلسالمية في القرون الخالية‪ ،‬ال تزال شاهدة العطاء المتدفق لإلسالم‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى الباحث في تاريخ المدينة يواجه إشكاليات حقيقية تتجلى معالمها في اآلتي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬تعدد مصادر تاريخ المدينة اإلسالمية‪ ،‬متمثلة في كتابات مؤرخي المدن‪ ،‬وكتب الخطط‪ ،‬والوفيات‪ ،‬والتراجم‪،‬‬
‫والحوليات‪ ،‬وكتب الحسبة‪ ،‬ودواوين الشعر‪ ،‬واآلثار والنقوش والنقود وغيرها‪.‬‬

‫وبقدر ما يعكس هذا األمر الثراء الحقيقي لتاريخ تلك المراكز العمرانية الحضارية‪ ،‬إال أنه يشكل تحديا حقيقيا‬
‫أمام الباحث‪ ،‬جمعا‪ ،‬واستقصاء‪ ،‬وفحصا‪ ،‬وتركيبا يوصل إلى تصور متكامل المالمح عن تاريخ المدن اإلسالمية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬اتساع المساحة الجغرافية التي أقام المسلمون عليها مدنهم‪ ،‬والتي شملت آسيا وأفريقيا وأوروبا‪ ،‬من الصين‬
‫شرقا إلى األندلس غربا‪ ،‬كما بلغت المئات‪ ،‬لذا يتعين على التصدي لهذا األمر أن يتحرى انتقاء نماذج مميزة تعبر عن‬
‫العمارة والتشييد‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬داللة تلك المدن على مظاهر االزدهار والتألق‪ ،‬مقابل صفحات أخرى دلت على التدهور واألفول‪ ،‬من‬
‫منظور الثبات والتغير‪ ،‬واستحضار عوامل التفاعل والتغير المختلفة داخليا وخارجيا‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬في تاريخ المدن اإلسالمية نجد إشارات مصدرية وافرة حينما يتعلق األمر بعلية القوم من السياسة أمثال‬
‫الخلفاء والسالطين والوزراء وغيرهم‪ ،‬بينما تبدو الصورة باهتة حينما يتعلق األمر بعامة الناس على الرغم من خطورة‬
‫‪51‬‬

‫دورها كثافة وإنتاجا‪ ،‬وهو أمر يشير إلى عدم التوازن من الناحية المصدرية‪ ،‬إال أن األمر يمكن معالجته من خالل ما‬
‫يعرف اليوم بالتاريخ الموازي بالرجوع إلى مصادر أخرى غير مباشرة مثل كتب الرحالت والجغرافيا‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬المركزية األوروبية التي أشرنا إليها أكثر من مرة‪ ،‬والتي تمثلت في انطالق المستشرقين‪ ،‬أحيانا‪ ،‬أثناء‬
‫دراستهم للمدن اإلسالمية من منطلقات خاصة بالمدينة اليونانية والرومانية‪ ،‬باعتبارها امتدادا لنظمها‪ ،‬وهو أمر مغلوط‬
‫جعلهم ال يدركون خصوصيتها وتعبيريها عن روح اإلسالم كدين له في ذلك تأثيره المميز‪ ،‬نتج عنها افتقار المسلمين‬
‫المحدثين لرؤية إسالمية عن المدن اإلسالمية باستثناء بعض الدراسات المتناثرة هنا وهناك‪ ،‬ترد على ادعاءات‬
‫المستشرقين من تأثر بهم ممن تتلمذ عليهم‪.‬‬

‫‪ .2‬التعريف والنشأة ومعايير االختيار‪.‬‬


‫يقصد بالمدينة ذلك الموقع الجغرافي الذي سكنه جمع بشري كبير ال يشتغل بالزراعة‪ ،‬وإنما يشتغل بالتجارة‬
‫والصناعة والحرف المختلفة‪ ،‬تجاوره مناطق ريفية‪ ،‬توفر لسكان المدينة احتياجاتهم الغذائية‪ ،‬باإلضافة إلى وجود سلطة‬
‫سياسية تعمل على نشر العدل بين الناس‪.‬‬

‫كان ميالد المدينة في اإلسالم حدثا حضاريا متفردا‪ ،‬وذلك الرتباطه بالسيرة النبوية الشريفة‪ ،‬وخاصة بحادث‬
‫الهجرة من مكة المكرمة إلى يثرب الصغيرة التي ستتحول إلى المدينة المنورة‪ ،‬ذات المكانة البارزة قداسة وخصوصية‬
‫في تاريخ اإلسالم شرقا وغربا‪.‬‬

‫أقام عليه الصالة والسالم عقب نزوله بها المسجد وبيت إقامته‪ ،‬واستصدر وثيقة كانت بمثابة دستور منظم‬
‫لعالقات طوائف المجتمع‪ ،‬كما آخى بين المهاجرين واألنصار‪ ،‬بما أزال النعرة القبلية‪ ،‬كذلك أنشأ بها سوقا‪ ،‬فصارت‬
‫بفضل هذه اإلجراءات مدينة واضحة المعالم‪ ،‬وقدوة لجميع مؤسسي المدن اإلسالمية الحقا‪.‬‬

‫ص َن المدينة‪ ،‬حينما تألب عليه األحزاب الذين كانت غايتهم استئصال اإلسالم والمسلمين‪ ،‬وذلك من‬
‫أيضا َح َّ‬
‫خالل حفر خندق‪ ،‬قد يعتبر من العجائب في ذلك الزمان‪ ،‬شارك في حفره قرابة ثالثة آالف صحابي‪ ،‬واستغرق الحفر‬
‫أربعة وعشرين يوما‪ ،‬وبلغ طوله ستة كيلومترات‪.‬‬

‫ولقد شكل موقع المدينة اإلسالمية لدى مشيديها أهمية خاصة‪ ،‬حيث تعتمد المشورة الجماعية‪ ،‬من خالل إشراك‬
‫القيادات السياسية والعسكرية والدينية‪ ،‬كما يؤخذ بعين االعتبار المناخ وبخاصة مراعات الرياح الشمالية على اعتبار أن‬
‫‪52‬‬

‫الجنوبية هي مجلبة لألمراض‪ ،‬كما يراعا الموقع العتبارات دفاعية أحيانا‪ ،‬وسياسية واقتصادية أحيانا‪ ،‬كما ال بد من‬
‫توافر مصدر للحياة المتمثل في األنهار أو مياه األمطار‪.‬‬

‫وهكذا فإن المتأمل في مواقع المدن اإلسالمية في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬يالحظ دون عناء أنها لم تكن عشوائية‪،‬‬
‫وإنما كانت ناجمة عن دراسة متأنية أخذت بعين االعتبار العديد من األولويات والمقومات المهمة‪.‬‬

‫كما أنها كانت من خالل اختبار الموقع بعناية‪ ،‬وإقامة المسجد‪ ،‬وبناء دار اإلمارة‪ ،‬وإنشاء السوق‪ ،‬وتخطيط أحياء‬
‫السكان‪ ،‬تعتبر امتدادا لمدينة الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬كما أن المدينة في تاريخ اإلسالم كانت نابعة من مقومات‬
‫اإلسالم عقيدة وشريعة وأخالقا‪ ،‬بعيدة عن أي مؤثرات خارجية يونانية أو رومانية كما زعم بعض الباحثين الغربيين كما‬
‫أشرنا‪.‬‬

‫‪ .3‬أنواع المدن‪.‬‬
‫وجدت في الحضارة اإلسالمية عدة أنواع من المدن اإلسالمية أبرزها‪:‬‬

‫ص ُر‪ ،‬قيل سميت مص ار الحتوائها على مقر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫صر بفسطاط م ْ‬‫صر‪ :‬يمكن أن نمثل للمدينة الم ْ‬ ‫• المدينًة ِ‬
‫الم ْ‬
‫السلطان‪ ،‬والدواوين‪ ،‬أي توفرت على سلطة سياسية‪ ،‬واتسعت كذلك مساحتها‪ ،‬وامتازت بكثافة سكانية مقارنة بغيرها من‬
‫المدن‪.‬‬
‫المدينة المل ِكيَّة‪ :‬هي تلك التي قام السلطان بتشييدها لتكون مق ار لسكناه‪ ،‬وينطبق األمر على بغداد التي بناها‬ ‫•‬
‫أبو جعفر المنصور‪ ،‬والقاهرة الني شيدها المعز لدين هللا الفاطمي‪.‬‬
‫صن‪ :‬وهي تلك التي تمتاز بالحصانة والمنعة من الناحية الطبيعية وغيرها‪ ،‬ويكمن أن نمثل لها‬
‫الح ْ‬
‫المدينة ِ‬ ‫•‬
‫طَلة باألندلس التي وصفت بالحصانة ألحاطتها بالجبال‪.‬‬ ‫طَل ْي ُ‬
‫بمدينة ُ‬
‫• المدينة الف ْرضة‪ :‬المدينة الفرضة هي المدينة الساحلية‪ ،‬والتي عادة ما يكون فيها الميناء لحط السفن‪ ،‬ويمكن‬
‫أن نمثل له بمدينة عكا الفلسطينية‪ ،‬ودمياط المصرية‪ ،‬وغيرهما من المدن الساحلية مشرقا وغربا‪.‬‬

‫هكذا كان لكل نوع من أنواع المدن اإلسالمية خصوصية‪ ،‬كما كانت جميعها نابضة بالحياة السياسية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية‪ ،‬كما كانت على الرغم من تنوعها توحدها خصائص اإلسالم العامة‪ ،‬المتمثلة في المسجد الجامع‪ ،‬والعادات‪،‬‬
‫والتقاليد‪ ،‬وغيرها من المظاهر الدينية المشتركة والمتجانسة مشرقا ومغربا‪.‬‬

‫‪ .4‬نماذج من المدن اإلسالمية‪.‬‬


‫‪53‬‬

‫نذكر في هذا الصدد بعض النماذج للمدن اإلسالمية‪ ،‬نقف من خاللها على عناصر مكوناتها‪ ،‬وعلى أوجه الشبه‬
‫واالختالف بينها‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫الكوفة‪ :‬شيدها الفاتح سعد بن أبي وقاص‪ ،‬قائد ملحمة القادسية ضد الفرس عام ‪639‬م‪ ،‬وذلك بعد تخير‬ ‫أ‬
‫موقعها‪ ،‬مراعاة للظروف الصحية المواتية‪ ،‬فكان المكان مرتفعا‪ ،‬وخاليا من الحشرات‪ ،‬وكذلك يسير االتصال بالمدينة‬
‫المنورة‪ ،‬عاصمة الخالفة‪.‬‬

‫سميت بالكوفة‪ ،‬استنادا إلى خصائص أرضها وتربتها التي كانت مزيجا من الحصباء والطين والرمل‪.‬‬

‫أما مكوناتها األساسية عند اإلنشاء فهي‪ :‬المسجد الجامع الذي اتسم بالبساطة‪ ،‬ودار اإلمارة‪ ،‬وخطط األحياء‬
‫السكنة‪ ،‬وتحصيص مكان للسوق الذي سيتطور مع الزمن إلى عدة أسواق‪.‬‬

‫اتخذها علي بن أبي طالب عاصمة للخالفة‪ ،‬فأصبح لها دور سياسي بارز‪ ،‬كما أصبح لها تبعا لذلك دور علمي‬
‫بارز‪ ،‬فنشأت بها مدرسة نحوية لها شأنها‪ ،‬كما أنجبت أعالما مرموقين في علوم مختلفة‪.‬‬

‫بدأ إشعاع الكوفة يخبو‪ ،‬وسيرع إليها الخراب شيئا فشيئا‪ ،‬وذلك حينما شيدت بغداد‪ ،‬وصارت عاصمة للخالفة‬
‫العباسية‪ ،‬وانتقل إليها الناس‪.‬‬

‫وتجدر المالحظة إلى أن تشييد المدن اإلسالمية األولى‪ ،‬ارتبط بقادة الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬وهذا يدل على أنهم‬
‫لم يكونوا مجرد غزاة فاتحين‪ ،‬وإنما كانوا مؤسسي مدن ورسل مدنية وحضارة‪ ،‬وهي خاصية متفردة امتازت بها الحضارة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫ب الف ْسطاط‪ :‬أنشأها الفاتح عمرو بن العاص عام ‪642‬م‪ ،‬في موقع صحراوي مالئم للفاتحين العرب‪ ،‬بين النيل‬
‫وجبل المقطم‪ ،‬فكان تجنب اإلسكندرية‪ ،‬المدينة البحيرة‪ ،‬وعاصمة العصرين الروماني والبيزنطي مقصودا‪ ،‬اتقاء لخطر‬
‫الهجوم البيزنطي الذي كان متوقعا في تلك المرحلة التاريخية المبكرة‪.‬‬

‫ومعنى الفسطاط الخيمة‪ ،‬أو البيت من َّ‬


‫الش َعر‪ ،‬أما مكوناته فكانت المسجد الجامع الشهير‪ ،‬واألول في القارة‬
‫اإلفريقية‪ ،‬عرف تطو ار كبير مع تعاقب الزمن‪ ،‬وكان له األثر البارز‪ ،‬روحيا‪ ،‬ودعويا‪ ،‬وعلميا‪ ،‬وحضاريا‪ ،‬كذلك كان‬
‫إلى جانبه دار اإلمارة إلدارة األمور‪ ،‬كما احتوى الفسطاط على عدة دواوين مثل‪ :‬ديوان الخراج‪ ،‬وديوان الرسائل‪ ،‬وديوان‬
‫الجند‪ ،‬كما دلت القرائن على توفرها على دار السكة لسك العملة‪.‬‬
‫‪54‬‬

‫ولقد شهد الفسطاط عبر الزمان عدة تحوالت وتقلبات أثرت على استق ارره وعمرانه مثل المجاعة الشديدة التي‬
‫حدثت بسبب انخفاض منسوب النيل‪ ،‬وإحراقها بسبب الصراع اإلسالمي الصليبي على العهد الفاطمي‪.‬‬

‫ورغم ذلك فقد كان الفسطاط مزدهر العمران‪ ،‬كما لعب دو ار مهما في نشر اإلسالم واللغة العربية‪ ،‬ألنها كانت‬
‫منطلقا للفتوحات اإلسالمية في شمال إفريقيا‪.‬‬

‫ت القيروان‪ :‬أقامها الفاتح عقبة بن نافع الفهري عام ‪670‬م في تونس‪ ،‬ومعنى القيروان القافلة‪ ،‬اختار موقعها‬
‫بعناية شديدة كما جرت العادة‪ ،‬فروعي كذلك بعدها عن البحر التوسط وقربها من الريف لمدها باالحتياجات الزراعية‪.‬‬

‫احتوت القيروان أيضا‪ ،‬مثل نظيراتها‪ ،‬على المسجد الجامع‪ ،‬ودار اإلمارة‪ ،‬والسوق‪ ،‬وخطط سكنى األهالي‪ ،‬األمر‬
‫الذي جعل منها مرك از عمرانيا حيويا متناميا‪ ،‬كما شجع على ذلك وقوعها على خط التجارة العالمية بين الشرق والغرب‪.‬‬

‫ولقد ظلت القيروان مزدهرة‪ ،‬إلى أن ألمت بها كارثة غزو وتخريب قبائل بني هالل وبني سليم‪ ،‬بتحريض من‬
‫الفاطميين نكاية في أعدائهم بني زيري‪.‬‬

‫ورغم ذلك واصلت القيروان مسيرتها‪ ،‬شأنها شأن جميع مدن اإلسالم‪ ،‬واستمرت فيها الحياة االقتصادية والعلمية‬
‫والحضارية‪ ،‬بما أكد على خاصية مواجهة التحديات‪ ،‬التي تميزت بها الحضارة اإلسالمية‪ ،‬كما ألمحنا سابقا‪.‬‬

‫ث بغداد‪ :‬وهي المدينة األشهر واألبرز في تاريخ حركة تشييد المدن اإلسالمية حتى ظهور القاهرة‪ ،‬وقد تعددت‬
‫اآلراء حول معنى اسمها‪ ،‬أسسها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام ‪766‬م‪ ،‬اختار موقعها بعناية منقطعة النظير‪،‬‬
‫على حدود صحراء بادية السماوة‪ ،‬فكانت واسطة العقد بين بالد العرب وبالد العجم الذين قامت على أكتافهم الخالفة‬
‫العباسية‪ ،‬كما روعي في إنشائها القرب من دجلة لضرورة المياه‪.‬‬

‫ولقد أنفقت األموال الطائلة في تشييدها‪ ،‬لتكون عظيمة الشأن‪ ،‬فحشد ألجل ذلك المهندسين والبنائين‪ ،‬وصفها‬
‫ياقوت الحموي بـ "أم الدنيا‪ ،‬وسيدة البالد"‪ ،‬كما جعلت على شكل دائري‪ ،‬وأحيطت بسورين عظيمين لتكون حصينة‪،‬‬
‫كما احتوت على المسجد الجامع‪ ،‬وقصر الخليفة‪ ،‬والدواوين المتعدد‪ ،‬والسوق‪ ،‬وخطط أحياء السكان‪.‬‬

‫عدت بفضل ضخامتها وتميزها وازدهارها اقتصاديا وثقافيا من المدن العالمية الرائدة‪ ،‬بحيث نافست بجدارة‬
‫القسطنطينية العاصمة التاريخية الشهيرة لإلمبراطورة البيزنطية‪.‬‬

‫هذا ورغم شهرتها ومنعتها فقد تعرضت بغداد لعدة تحديات‪ ،‬أسوأها وأبشعها‪ ،‬الغزو المغولي سنة ‪1258‬م‪ ،‬القترانه‬
‫بقتل الخليفة‪ ،‬وإسقاط الخالفة‪ ،‬وبالمذابح والتخريب والدمار‪.‬‬
‫‪55‬‬

‫ولقد دخلت بغداد تاريخ العلم من أبوابه المشرعة‪ ،‬حيث تجرج فيها العدد الهائل من األعالم في العلوم المختلفة‪،‬‬
‫تشهد على عطائهم المؤلفات الكثيرة‪ ،‬والمكتبات الوفيرة‪ ،‬فصارت ألجل ذلك مقصد الطالب والرحالة من كل حدب‬
‫وصوب‪.‬‬

‫القاهرة‪ :‬تعد من أكبر المدن التي شيدت في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬أسسها جوهر الصقلي الفاطمي عام‬ ‫ج‬
‫‪969‬م شمال الفسطاط‪ ،‬أطلق عليها هذا االسم لتكون قاهرة لألعداء‪.‬‬

‫احتوت على القصر الفاطمي ذي المساحة الواسعة‪ ،‬والفخامة البالغة‪ ،‬التي عكست الثراء والقوة‪ ،‬والمدنية‪.‬‬

‫كما احتوت على الجامع األزهر‪ ،‬الذي أسس ليكون مرك از للدعوة إلى المذهب الشيعي‪ ،‬بديال عن مسجد عمرو‬
‫بن العاص رمز المذهب السني‪.‬‬

‫ولما أسقطت الدولة األيوبية بقيادة صالح الدين الدولة الفاطمية‪ ،‬دخلت القاهرة عهدا جديدا من حيث العمران‬
‫والبناء‪ ،‬وبخاصة من حيث كثرة تشييد المدارس‪.‬‬

‫كما زادها دفعة حضارية أخرى عهد السالطين المماليك‪ ،‬الذين أنشأوا بها العديد من المدارس‪ ،‬والزوايا‪ ،‬والخوانق‪،‬‬
‫والمساجد‪ ،‬ما زال الكثير منها قائما في العصر الراهن‪.‬‬

‫ولقد كانت القاهرة قبلة لكثير من الرحالة على اختالف أعراقهم ومشاربهم‪ ،‬منهم العالمة ابن خلدون الذي وصفها‬
‫بقوله‪" :‬حضرة الدنيا‪ ،‬وبستان العالم‪ ،‬ومحشر األمم‪ ،‬ومدرج البشر‪ ،‬وديوان اإلسالم‪ ،‬وكرسي الملك‪."..‬‬

‫كما دخلها شيخ الرحالة المسلمين‪ ،‬ابن بطوطة‪ ،‬وخصها بوصف متميز عكس حويتها وانساع عمرانها وكثافة‬
‫سكانها‪ ،‬كما وصفها غيره من الرحالة‪ ،‬بما أكد على مدنيتها وحضارتها على كافة المستويات‪.‬‬

‫‪ .5‬الحياة االجتماعية واالقتصادية في المدن اإلسالمية‪.‬‬


‫أ الحياة االجتماعية‪.‬‬
‫احتضنت المدن اإلسالمية على طبقة عليا من أرباب السيوف وأرباب األقالم وعلى رأس الخليفة أو الوالي وغلى‬
‫جانب ذلك الوزراء والكتاب والقضاة ومن ناظرهم‪.‬‬

‫كما احتضنت الطبقة الوسطى التي تتألف من كبار التجار والصناع‪ ،‬إلى جانب طبقة العامة من صغار التجار‬
‫والصناع وغيرهم‪.‬‬
‫‪56‬‬

‫كما ضمت المدينة اإلسالمية طبقة من أهل الذمة من اليهود والنصارى وغيرهم‪ ،‬عاشوا في توافق عام‪ ،‬مستمتعين‬
‫بما ضمنته لهم الدولة اإلسالمية من حقوق المواطنة والحرية الدينية‪ ،‬باستثناء حاالت نادرة‪ ،‬آثرها محدودة‪.‬‬

‫هذا وتجدر اإلشارة إلى أن الدولة اإلسالمية كان لها دور فعال في رقابة الحياة االجتماعية لحفظ النظام من‬
‫االنح ارف‪ ،‬وضمان الطابع اإلسالمي في المدن‪ ،‬وذلك من خالل دور ديوان الحسبة‪ ،‬في حدود القواعد الشرعية والعوائد‬
‫االجتماعية من دون قمع للحريات‪ ،‬كما قد يتوهمه البعض‪.‬‬

‫ومن الظواهر االجتماعية المرتبطة بالمدن اإلسالمية التي يجب التنويه بها‪ ،‬ظاهرة زحف سكان األرياف إلى‬
‫المدن‪ ،‬رغبة في تحسين ظروف العيش‪ ،‬لتوفر المدن على الفرص المتعددة والمتنوعة‪.‬‬

‫ب الحياة االقتصادية‪.‬‬
‫أما ما يتصل بالحياة االقتصادية في المدن اإلسالمية فقد تجلى من خالل النشاطين الصناعي الحرفي والتجاري‪،‬‬
‫حيث وجدت الصناعات المتعددة مثل‪ :‬صانعة النسيج‪ ،‬والصابون‪ ،‬والورق‪ ،‬والزجاج‪ ،‬والصناعات المعدنية الحديدة‬
‫والنحاسية وكذا الذهبية والفضية وغيرها‪ ،‬كما ارتبط بهاذين النشاطين نقابات منظمة لعمل الحرفيين من حيث التدرج‬
‫في الصنعة‪ ،‬وحمايتها‪ ،‬وتضامن أهلها ضد أي عدوان عليها من أي جهة كانت‪.‬‬

‫هذا وتجدر اإلشارة إلى أن الصناع المسلمين‪ ،‬كانوا فنانين بحق لدقة صناعاتهم‪ ،‬حيث تبوأوا المكانة المرموقة‪،‬‬
‫يؤكد هذا األمر ما تتوفر عليه متاحف الفنون المختلفة المنتشرة في كثير من المدن والبالد العربية وغير العربية‪ ،‬وقد‬
‫شجع على ذلك ونماه عنصر الخبرة المتوارثة‪ ،‬واعتماد الموارد المتاحة والمستوردة‪.‬‬

‫وأما النشاط التجاري في المدن اإلسالمية فعكسته األسواق اليومية واألسبوعية والموسمية سواء المبلط منها أو‬
‫المسقوف مراعاة للحاجة واألحوال الجوية‪.‬‬

‫كما وجدت في المدن اإلسالمية األسواق المتخصصة مثل‪ :‬سوق النحاسين‪ ،‬وسوق الب اززين (األقمشة)‪ ،‬وسوق‬
‫الحدادين‪ ،‬وغيرها كثير‪.‬‬

‫كما وجدت عدة منشآت تجارية كثل‪:‬‬

‫الخانات‪ :‬جمع خان وهو مبنى كبير يضم عدة حوانيت كبيرة وصغيرة‪ ،‬ومخازن للبضائع‪ ،‬وكانت منتشرة في كثير‬
‫من البالد اإلسالمية مشرقا ومغربا‪.‬‬
‫‪57‬‬

‫القياسر‪ :‬جمع قيسارية‪ ،‬وهي عبارة عن بناء كبير‪ ،‬تتوزع على جانبيه الحوانيت‪ ،‬تجعل منها سوقا تحتوي على‬
‫جميع السلع‪ ،‬تغلق ليال‪ ،‬وتخضع للحراسة‪.‬‬

‫كما وجد في المدينة اإلسالمية عدة أنواع من التجار كثل‪ :‬التاجر الركاض وهو المستورد الذي يجلب السلعة من‬
‫مواطنها األصلية‪ ،‬والخزن وهو تاجر الجملة‪ ،‬والمجهز هو مساعده‪ ،‬وتاجر التجزئة وهو المباشر للبيع لعامة الناس‪،‬‬
‫كما وجد التاجر المختص في بضاعة محددة‪.‬‬

‫كما يجدر التنبيه على أن الدول اإلسالمية كانت تتدخل في النشاط التجاري من أجل النهوض باالقتصاد‪ ،‬من‬
‫خالل رقابة األسواق بواسطة خطة الحسبة‪ ،‬كذلك من خالل إصدار ق اررات إللغاء الرسوم التجارية المفروضة لضمان‬
‫سالسة وتدفق السلع الصادرة والواردة‪.‬‬

‫وخالصة القول فإن دراسة المدن اإلسالمية تؤكد‪ ،‬بما يدع مجاال للشك‪ ،‬على الوجه الحضاري والعمراني المؤثر‬
‫لإلسالم‪ ،‬منذ انطالق حركة الفتوحات‪ ،‬األمر الذي يفند كثي ار من األوهام االستشراقية التي تتهم اإلسالم باإلرهاب والعنف‬
‫إلى غير ذلك من النعوت السلبية الباطلة‪.‬‬

‫ثنيا‪ :‬مالمح الفنون اإلسالمية (العمارة والزخرفة والموسيقى)‪.‬‬


‫مقدمة‪.‬‬
‫عطفا على ما سبق‪ ،‬نعرض ألهم خصائص الفنون التي ازدهرت في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬مع األخذ بعين‬
‫االعتبار لبعض النماذج التطبيقية المتعلقة بالعمارة والزخرفة والموسيقى‪.‬‬

‫ويجدر التنبيه كذلك على أن التصدي للموضوع تواجهه إشكالية تناثر مادته الفنية التي تركها الفنان المسلم عبر‬
‫قرون عديدة في كل من آسيا وأفريقيا وأوروبا‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى الرؤية االستشراقية التي تنسب ذلك إلى‬
‫األصول اليونانية‪.‬‬

‫ألجل استجالء ذلك ال بد من عرض عدة نماذج مختارة تسلط الضوء على جوانب من الحضارة اإلسالمية في‬
‫ذلك‪.‬‬

‫حرص قطاع من المستشرقين على تتبع األعمال الفنية‪ ،‬التي زخرت بها الحضارة اإلسالمية‪ ،‬ابتداء من الفتوحات‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فانتهوا إلى تعميق فكرة األثر اليوناني في الفنون اإلسالمية‪.‬‬
‫‪58‬‬

‫وفي ذات الوقت وجد قطاع آخر منهم مثل ابنين سوريو ‪ ،E. Souriou‬وجاستون فييت ‪ ،G. Wiet‬ذهب إلى‬
‫أن اإلسالم أوجد اتجاها تعبيريا جديدا‪ ،‬وأن الفنان المسلم في جميع األعمال التي أبدعها‪ ،‬عكس روح الدين الجديد‬
‫وحضارته‪.‬‬

‫بل إن هنالك من يقر بأن الفن العربي اإلسالمي يعد أحد الفنون العالمية الرئيسة‪ ،‬وأنه أطول عم ار وأوسعها‬
‫انتشارا‪ ،‬وأكثرها تنوعا ووضوحا‪ ،‬وذلك من خالل االحتفاظ بشخصيته المتميزة‪.‬‬

‫يؤكد هذا األمر اهتمام علماء الجمال‪ ،‬ومؤرخي الفن‪ ،‬والنقاد‪ ،‬وعلماء اآلثار‪ ،‬بدراسته ثم االنبهار به واإلشادة‬
‫باإلسالم وحضارته لم لكا لهما من إسهامات وافرة في مجال الفنون‪.‬‬

‫‪ .1‬خصائص الفن اإلسالمي‪.‬‬


‫يتميز الفن اإلسالمي بعدة خصائص يمكن إجمالها في اآلتي‪:‬‬

‫تجنبه للتشخيص والتجسيد والتمثيل‪ ،‬وميله إلى التجريد‪ ،‬وهو ما يفتح المجال أمام الخيال الواسع‪ ،‬واإليحاءات‬ ‫أ‬
‫الروحية‪.‬‬
‫ب فن التسبيح والتعبير عن الالنهائية‪ ،‬حيث تتكرر فيه الوحدات الزخرفية إلى ما ال نهاية‪.‬‬
‫ت امتيازه بالدقة المتناهية‪ ،‬وتحري اإلتقان التام إلى درجة اإلعجاز‪ ،‬وكأنه نوع من التعبد والقربى إلى هللا تعالى‪،‬‬
‫انعكس ذلك في آالف األعمال التي وصلت إلينا‪.‬‬
‫ث خلوه من الفراغ‪ ،‬أي استفادته من جميع أبعاد المكان‪.‬‬
‫تجليته للطموح اإلنساني المتمثل في تشييد أعلى المآذن الرشيقة‪ ،‬وأضخم القباب‪ ،‬وإبداع أدق الزخارف‬ ‫ج‬
‫الالمتناهية‪.‬‬
‫ح اعتماده على جمالية الخط العربي الذي يشد الناظر ويبهره‪.‬‬
‫تمتيع الفنان المسلم‪ ،‬بناء على رأي عفيف بهنسي عالم الفنون اإلسالمية‪ ،‬بالحربية التعبيرية اإلبداعية‬ ‫خ‬
‫المطلقة‪ ،‬بخالف غيره منذ أقدم العصور والذي ظل أسي ار للواقع‪ ،‬وحتى الفنان الغربي الحديث على الرغم من تحرره‬
‫ونزعته التجريدية عجز عن تحقيق تلك الحرية‪ ،‬فوقع في متاهات العدم والالشيء والسريالية‪.‬‬
‫‪ .2‬خصائص العمارة اإلسالمية‬
‫امتازت العمارة اإلسال مية بخاصية أساسية تمثلت في صورة "الجوانية"‪ ،‬وتعني أن أي مبنى سواء أكان مسجدا‬
‫أو مدرسة أو مسكنا فإنه يحمل الطابع الجواني‪ ،‬بحيث يكون خارجه أقل شأنا من عمارته الداخلية‪ ،‬تجلى ذلك من‬
‫‪59‬‬

‫المساجد األولى كجامع القرويين بفاس‪ ،‬والجامع األموي بدمشق‪ ،‬وجامع قرطبة‪ ،‬بخالف داخله الذي امتاز بأروع‬
‫الزخارف‪ ،‬واألثاث المعماري‪ ،‬وكان الباعث من وراء ذلك الرغبة في عدم التظاهر والتفاخر والمضاهاة‪.‬‬

‫كما يالحظ أن التعاليم والمبادئ اإلسالمية دعمت هوية العمارة اإلسالمية وجعلها تخصص فنا وهندسة لعقيدة‬
‫اإلسالم القائمة على التوحيد‪.‬‬

‫كما تجدر اإلشارة إلى أن علماء المسلمين في تلك العصور الزاهرة راعوا العديد من الجوانب العمرانية لم تراع إال‬
‫في عصرنا الحالي‪ ،‬نذكر منهم ابن رامي (ق‪ ،)10‬صاحب كتاب "اإلعالن في أحكام البنيان"‪ ،‬الذي تضمن معلومات‬
‫غاية في األهمية منها‪ :‬قواعد تنظيمية وصحية‪ ،‬األخطاء المعمارية وآثارها كعدم حماية البناء من الدخان‪ ،‬والروائح‬
‫والضوضاء والشمس‪ ،‬واالطالل على الجوار‪ ،‬ومنع اطالع المارة على داخل السكن‪...‬إلخ‪.‬‬

‫‪ .3‬العمارة الدينية‪.‬‬
‫وتتمثل في العمائر الدينية مثل المسجد‪ ،‬وهو الحيز اإللهي إلقامة الصالة التي تجسد الصلة الروحية بين المسلم‬
‫وخالقة سبحانه وتعالى‪ ،‬المتجه صوب القبلة‪ ،‬ذات الشكل المكعب ذي الداللتين‪ :‬داللة االرتباط باالتجاهات األربعة‪،‬‬
‫والداللة السرمدية المتمثلة في رسوخ الكعبة على األرض‪ ،‬باعتبارها مركز الكون الذي ال يحدده زمان‪.10‬‬

‫أما المئذنة فوظيفتها النداء إلى الصالة من خالل التكبير والشهادة بالوحدانية‪ ،‬ولقد تعددت أشكالها بتعدد المساجد‬
‫في البالد اإلسالمية‪ ،‬فنجد المئذنة الصومعة‪ ،‬والمئذنة الملوية‪ ،‬والمئذنة األسطوانية‪ ،‬والمئذنة الحلزونية‪ ،‬والمئذنة‬
‫العثمانية‪.11‬‬

‫وأما القبة فتعد من أبرز السمات الروحية للمسجد إلى جنب المئذنة‪ ،‬وهي نصف الكرة‪ ،‬تقوم فوق الحرم‪ ،‬وترمز‬
‫إلى الكون المؤلف من نصفين‪ :‬النصف العلوي ويمثل السماء‪ ،‬والنصف السفلي ويمثل األرض‪.‬‬

‫ومن األمثلة البارزة للعمارة الدينية في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬مسجد قبة الصخرة الذي أقيم عام ‪691‬م على عهد‬
‫الخليفة عبد الملك بن مروان األموي‪ ،‬وله عدة مميزات نذكرها في اآلتي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬يعد من أقدم المنشآت المعمارية األموية‪ ،‬ال يزال يحتفظ إلى اليوم بمالمحه األصيلة‪ ،‬التي تعكس اإلتقان‬
‫والحسن‪ ،‬رغم عوادي الزمن‪.‬‬

‫‪ - 10‬انظر المرجع‪ ،‬ص‪.385 :‬‬


‫‪ - 11‬انظر المرجع‪ ،‬ص‪.386 :‬‬
‫‪60‬‬

‫ثانيا‪ :‬هو المسجد الفريد بنوعه بشكله المثمن‪ ،‬عكس هندسة المعماريين األوائل الذين ترجموا من خالله تقاليد‬
‫العمارة السائدة‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬إقامته قبة الصخرة على الصخرة المقدسة التي كانت منطلق عروج الرسول عليه الصالة والسالم إلى‬
‫السماء‪ ،‬يبلغ طولها ‪ 17,70‬مترا‪ ،‬وعرضها ‪ 13,50‬مترا‪ ،‬وارتفاعها أكثر من متر‪ ،‬وهي من الحجر الصلد‪ ،‬ويبلغ قطر‬
‫القبة المقامة عليها ‪ 20,44‬مترا‪ ،‬ويبلغ ارتفاعها ‪ 31,50‬مترا‪.‬‬

‫ومن أشهر المساجد في تاريخ العمارة اإلسالمية‪ ،‬مسجد السلطان سليمان في إسطنبول (‪1550‬م‪1557-‬م)‪ ،‬بني‬
‫في العصر الذهبي لهذه الدولة‪ ،‬وله أربع منارات‪ ،‬كما احتوت عاصمة الخالفة العثمانية العديد من المساجد الرائعة‪،‬‬
‫التي أكدت على إسهامات األتراك األصيلة والمتميزة‪.‬‬

‫‪ .4‬العمارة المدنية‪.‬‬
‫وتتمثل العمارة المدنية في القصور والمدارس والبيمارستانات التي انتشرت عبر امتداد جغرافية العالم اإلسالمي‪،‬‬
‫ويمكن أن نمثل لذلك بأحد القصور الشهيرة والمتميزة‪ ،‬ونعني به قصر الحمراء بغرناطة األندلس‪ ،‬بناه الحجاج أبو‬
‫يوسف األول(‪1354‬م)‪ ،‬وأكمله ابنه محمد الخامس الغني باهلل‪.‬‬

‫ولقد احتوى القصر على الزخارف النباتية‪ ،‬والهندسية‪ ،‬والكتابية‪ ،‬يعلوه سقف خشبي يعرف برواق الِب ْرَك ِة‪ ،‬تطل‬
‫بائكة‪ 12‬مؤلفة من سبعة عقود على بهو الريحان‪ ،‬والعقد األوسط منها أكثر ارتفاعا‪ ،‬يقدم مثاال رائعا للبهو األندلسي‬
‫المتميز‪ ،‬ال يزال قائما في غرناطة إلى اليوم‪ ،‬شاهدا على ما بلغه المسلمون من حضارة في األندلس‪.‬‬

‫‪ .5‬العمارة الحربية‪.‬‬
‫وتمثلها القالع والحصون التي أقيمت في جميع أنحاء العالم اإلسالمي على امتداد القرون‪ ،‬ومن نماذجها قلعة‬
‫الجبل التي أقامها صالح الدين األيوبي‪ ،‬فوق جبل المقطم بالقاهرة‪ ،‬ومن نماذجها أيضا قلعة حلب الضخمة والحصينة‬
‫والتي تعد أروع مثال للعمارة الحربية اإلسالمية‪.‬‬

‫‪ - 12‬البائكة‪ :‬عبارة عن صف من األعمدة أو الدعامات‪ ،‬تعلوها عقود يرتكز عليها السقف‪ ،‬وأحيانا يرتكز السقف على األعمدة والدعامات‪ ،‬دون وساطة‬
‫العقود‪.‬‬
‫‪61‬‬

‫ويجدر التنبيه على أن قالع المسلمين كانت أقل عددا بقالع أعدائهم من الصليبيين في بالد الشام‪ ،‬ألنهم كانوا‬
‫يعانون من مشكلة قلة العنصر البشري فأقاموا نحو ‪ 120‬قلعة امتدت من السويد إلى غزة‪ ،‬بخالف المسلمين الذين لم‬
‫يعانوا من هذه المشكلة وبخاصة في سهول الوديان الفيضية مثل بالد الشام ومصر‪.‬‬

‫‪ .6‬الزخارف‪.‬‬
‫وتتمثل كما مرت اإلشارة في الزخارف النباتية والهندسية والكتابية والحيوانية‪ ،‬فنجد مثال الزخارف النباتية منذ‬
‫العصر األموي‪ ،‬تأث ار بالفن البيزنطي بحكم المرحلة تجلى ذلك في قصر المشتى‪ ،‬وقبة الصخرة‪ ،‬والمسجد األموي في‬
‫بالد الشام‪.‬‬

‫كما نجد الزخارف النباتية في شكل وريقات منفردة وثنائية وثالثية‪ ،‬ألشجار العنب والنخيل‪ ،‬باإلضافة إلى الزهور‪،‬‬
‫كزهر الزنبق الذي استخدم في العصر األيوبي‪ ،‬على واجهة المدارس‪.‬‬

‫وتعد الزخارف النباتية "األرابيسك" األكثر شيوعا في الزخرفة اإلسالمية‪ ،‬وهي عبارة عن فروع نباتية‪ ،‬متماثلة‪،‬‬
‫ومتشابكة‪ ،‬ومتتابعة‪ ،‬يمثل ذلك خير تمثيل مدرسة السلطان حسن ومحراب مدرسة الناصر على العهد المملوكي‪ ،‬كما‬
‫يمثل ذلك في العصر العثماني مسجد السلطان أحمد بإسطنبول‪ ،‬ل استخدمت الزخارف النباتية في شمال إفريقيا‬
‫واألندلس على العهد األموي والمرابطي والموحدي‪ ،‬وقد بلغ الطراز الفني المغربي أوجه غرناطة خالل القرن الثالث‬
‫عشر الميالدي‪.‬‬

‫أما الزخارف الهندسية فتعد من أغنى العناصر الزخرفية في العمارة اإلسالمية‪ ،‬وتتمثل في الدوائر المتماسة‬
‫والمتجاورة‪ ،‬والجداول‪ ،‬والخطوط المنكسرة والمتشابكة‪ ،‬باإلضافة إلى أشكال المثلث والمربع والمعين والمخمس‬
‫والمسدس‪.13‬‬

‫وأما بالنسبة للزخارف الكتابية فتعكسها األشكال المتعددة للخط العربي‪ ،‬متمثلة في الخط الكوفي‪ ،‬والمثلث‪،‬‬
‫والنسخ‪ ،‬والرقعة‪ ،‬والفارسي‪ ،‬والديواني‪ ،‬وغيرها من الخطوط‪ ،‬فظهر الخط الكوفي أول ما ظهر في العراق‪ ،‬ويعد أصل‬
‫الخطوط جميعها‪ ،‬واستخدم خط الثلث في عناوين الكتب‪ ،‬واآليات القرآنية‪ ،‬والزخارف المعمارية‪ ،‬كما استخدم خط النسخ‬
‫في نسخ المصاحف‪ ،‬واستخدم خط الرقعة الذي ابتكره العثمانيون في الكتابة العادية‪ ،‬واستعمل الخط الديواني الذي نشأ‬
‫في الدولة العثمانية في دواوين الملوك‪.‬‬

‫‪ - 13‬انظر المرجع‪ ،‬ص‪.389 :‬‬


‫‪62‬‬

‫ويمتاز الخط العربي بالحيوية لما يتوفر عليه من مرونة وطواعية‪ ،‬وقابلية للمد والرجع واالستدارة والتشابك‬
‫والتداخل‪ ،‬األمر الذي هيأ له جميع أسباب التطور والزخرفة باألساليب المختلفة‪ ،‬حتى يقال إن حرف "الهاء" ورد له‬
‫نحو ‪ 900‬شكل مختلف‪ ،‬عكس بحق عبقرية الخط العربي‪.14‬‬

‫ولقد انتشرت الزخرفة الكتابية في جميع العمائر اإلسالمية مشرقا ومغربا على امتداد عصور الحضارة اإلسالمية‪.‬‬

‫أما األشكال اآلدمية والحيوانية فمن أمثلتها قصر الحير الغربي‪ ،‬حيث وجدت صور مشاهد الطير والغناء‪ ،‬كما‬
‫استخدم المسلمون رسوم األسد والفهد والفيل والغزال واألرانب‪ ،‬والطيور المختلفة‪.‬‬

‫ومما يعكس براعة المصور المسلم أعمال الفنان العراقي يحيى بن محمود الواسطي (ق‪13‬م)‪ ،‬الذي ترك إنتاجا‬
‫فنيا رائعا‪ ،‬بلغت ‪ 96‬رسما مصغرا‪ ،‬ينبض بالحياة‪ ،‬تدعوا إلى "إيقاظ لغة العين"‪ ،‬ألن الفن اإلسالمي يطرح سؤال‪ :‬كيف‬
‫نرى؟ ال لماذا نرى؟‬

‫وال بد من التنويه في هذا لمقام بابن البواب (ق‪10‬م) الذي ترك مؤلفات رائعة في الخط والقلم‪ ،‬وأدوات الكتابة‬
‫باإلضافة إلى عدد من المصاحف الرائقة الحسن الرائعة الخط‪.‬‬

‫كما يذكر في هذا الباب ابن ُمْقلة (‪940‬م) الشهير باإلتقان وحسن الخط‪ ،‬هذا باإلضافة إلى غيرهم من الخطاطين‬
‫والمصورين والرسامين على امتداد العصور اإلسالمية‪.‬‬

‫‪ .7‬الموسيقى‪.‬‬
‫وهي أيضا من الفنون التي كان لها محلها في الفنون اإلسالمية المختلفة‪ ،‬وموسيقى هي من الفنون التي تخاطب‬
‫الروح وتعكس جانبا من جوانب التذوق للحضارة اإلسالمية‪ ،‬وبه تكتمل لوحة الفنون في ظل حضارة اإلسالم رقيا‬
‫وشفافية وذوقا وإنسانية‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أن الشعوب الشرقية القديمة في مصر وفي بالد الرفدين كان لها اهتمام بالموسيقى‪ ،‬أكد ذلك‬
‫الشواهد األثرية‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة للحضارة اليونانية‪ ،‬بما أكد على االمتداد الحضاري المشترك لهذه الحضارات‪.‬‬

‫ويجدر التنبيه بالنسبة لموضوع الموسيقى على أن بعض الباحثين الغربيين الذين درسوا تاريخ الموسيقى العالمية‪،‬‬
‫تعمدوا‪ ،‬تحت تأثير المركزية األوروبية‪ ،‬إغفال الموسيقى في الحضارة العربية اإلسالمية‪ ،‬فدرسوا الموسيقى اإلغريقية ثم‬
‫قفزوا إلى مرحلة عصر النهضة وتاريخ أوروبا الحديث‪ ،‬مثلما فعل برنار شابينول في كتابه "تاريخ الموسيقى ‪Histoire‬‬

‫‪ - 14‬انظر المرجع‪ ،‬ص‪.390 :‬‬


‫‪63‬‬

‫‪ ،"de la musique‬وتبعه في ذلك أحد جورج مدبك الباحثين العرب‪ ،‬الذي أغفل تماما دور العرب في اآلالت الموسيقية‪،‬‬
‫رغم وجود آالت موسيقية عربية كثيرة‪.15‬‬

‫يذكر التاريخ وجدود آالت موسيقية عربية انتقلت إلى أوربا فيما بعد‪ ،‬وأوضح مثال على ذلك العود‪ ،‬كما ظهر‬
‫عدد من كبار أعالم الموسيقى‪ ،‬مثل منصور زلزل واسحاق الموصلي وزرياب وغيرهم‪.‬‬

‫كما وجدت مؤلفات في مجال الموسيقى‪ ،‬مثل ما كتبه الفارابي الفيلسوف الشهير‪ ،‬حيث ألف كما مرت اإلشارة‬
‫كتاب "تاريخ الموسيقى الكبير"‪ ،‬وابن علي الكاتب صاحب كتاب "كمال أدب الغناء" كما ال يغفل في هذا المقام أبو‬
‫الفرج األصبهاني صاحب الكتاب الشهير "األغاني" دون إغفال المحاذير الخاصة عند التعامل معه كمصدر تاريخي‬
‫تعرض للنقد‪.‬‬

‫القسم الرابع‪ :‬الحضارة اإلسالمية عالمية المصب وموقف الغرب منها‪.‬‬


‫‪ )1‬معابر الحضارة اإلسالمية إلى أوروبا العصور الوسطى‪.‬‬
‫نعني بالمعابر القنوات التي انتقلت من خاللها حضارة اإلسالم في العصور الوسطى إلى أوربا متمثلة في األندلس‬
‫وصقلية وجنوبي إيطاليا وبالد الشام إبان الحروب الصليبية‪.‬‬

‫إن الوقوف على تلك المعابر يفيد في تفنيد أوهام المتعصبين من أبناء الحضارة الغربية‪ ،‬الذين توهموا أن المسلمين‬
‫لم يقدموا أي شيء ألوربا‪ ،‬وأن المركزية األوربية وحدها هي صاحبة الفضل األول واألخير في ذلك‪ ،‬انطالقا من مرحلة‬
‫اإلبداع اإلغريقي‪ ،‬مرو ار بإنجازات عصر النهضة‪ ،‬وانتهاء بما أعقبه إلى عصرنا الحاضر‪.‬‬

‫وفي هذا المجال يمكن اإلفادة من شهادات المنصفين والموضوعيين من الباحثين الغربيين أنفسهم‪ ،‬الذين اعترفوا‬
‫صراحة بأن أوربا قد تتلمذت على الشرق اإلسالمي صاحب الحضارة الزاهرة‪.‬‬

‫‪ .1‬معبر األندلس‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار األندلس بأنها المعبر الحضاري البارز‪ ،‬الذي قدم اإلسالم كدين حضارة ألوربا‬
‫العصور الوسطى‪ ،‬باعتبارها كانت على أرض أوربية‪ ،‬حيث مكث المسلمون بها ثمانية قرون كاملة‪ ،‬وظهر فيها كبار‬
‫األعالم في جميع المجاالت كما مرت اإلشارة‪ ،‬وكفي أن نشير إلى أن مدينة قرطبة كانت من الحواضر الكبرى على‬
‫مستوى العالم في منتصف القرن العاشر الميالدي‪.‬‬

‫‪ - 15‬انظر المرجع‪ ،‬ص‪.392 :‬‬


‫‪64‬‬

‫لقد كان لألطباء في فرنسا طريقا واحدا لتعلم الطب‪ ،‬هو طريق عبور جبال البرانس من أجل التتلمذ على أيدي‬
‫كبار األطباء المسلمين في قرطبة وإشبيلية وغيرهما من المدن األندلسية المزدهرة‪.‬‬

‫كذلك وجدت اللغة العربية عشاقا كثيرين من األوروبيين باعتبارها وعاء للفكر‪ ،‬ومن الشواهد على ذلك‪ ،‬ما قاله‬
‫الكاتب اإلسباني ألفارو ‪":Alvaro‬لقد نسي المسيحيون حتى لغتهم‪ ،‬ولن نجد بين األلف منهم واحدا يستطيع كتابة‬
‫خطاب باللغة الالتينية‪ ،‬بينما نجد بينهم عددا كبي ار ال يحصى يتكلم العربية بطالقة‪ ،‬ويقرض الشعر أحسن من العرب‬
‫أنفسهم"‪.16‬‬

‫كما يالحظ أن شعر الموشحات األندلسية ترك أثره على شعر التوربادور ‪ Trubador‬الذي وجد في فرنسا‪،‬‬
‫بحيث ال يمكن دراسة هذا الشعر دون استحضار تأثر الموشحات األندلسية فيه‪.‬‬

‫من جهة أخرى قام الملك ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم ‪1252( Alfonco X El Sabio‬م‪1284-‬م) برعاية‬
‫طَلة‪ ،‬التي انخرط فيها كبار المترجمين‪ ،‬وترجمت من خاللها المؤلفات العربية إلى‬
‫طَل ْي ُ‬
‫حركة الترجمة من خالل مدرسة ُ‬
‫اللغة الالتينية‪.‬‬

‫ومن كبار المترجمين الذين برزوا في األندلس في هذه المرحلة نذكر جيرارد الكريموني (‪1114‬م‪1187-‬م)‪ ،‬يقال‬
‫إنه ترجم واحدا وسبعين كتابا عربيا في مجاالت علمية مختلفة نذكر منها غل سبيل المثال ال الحصر‪:‬‬

‫كتاب الحساب للخوارزمي‪.‬‬

‫كتاب الحركات السماوية وجوامع علم النجوم للفرغاني‪.‬‬

‫كتاب أصل الكواكب ألبي علي الخياط‪.‬‬

‫بعض رسائل الكندي‪.‬‬

‫كتاب إحصاء العلوم للفارابي‪.‬‬

‫كتاب الشفاء البن سينا‪.‬‬

‫كتاب مقاصد الفالسفة للغزالي‪.‬‬

‫‪ - 16‬انظر المرجع‪ ،‬ص‪.404 :‬‬


‫‪65‬‬

‫كما كان إلى جانبه يوحنا اإلشبيلي (‪1126‬م‪1151-‬م) الذي قام بدور بارز في هذا المجال حيث ترجم عددا من‬
‫المؤلفات نذكر منها على سبيل المثال‪:‬‬

‫مؤلفات في الفلك ألبي معشر‪.‬‬

‫أحكام النجوم البن الفروخان‪.‬‬

‫كتاب الزيج للبتاني‪.‬‬

‫كتاب الزيج للمخريطي‪.‬‬

‫كما كان إلى جانب هذا األخير مترجم إسباني آخر كان يشاركه في الترجمة هو دو مينكو كوديسالفو (ت ق‬
‫‪12‬م)‪.‬‬

‫وهكذا كان األندلس بحق معب ار أساسيا من معابر الحضارة اإلسالمية إلى أوربا‪ ،‬لذلك ال عجب إذا وجدنا كاتبا‬
‫إسبانيا معاص ار وهو اجناسيو أوالي يقرر أن العرب يغزوها‪ ،‬بل قدموا إليها كمنقذين ورسل حضارة‪.‬‬

‫‪ .2‬معبر صقلية‪.‬‬
‫تعد جزيرة صقلية ‪ Sicily‬إلى جانب جنوبي إيطاليا أيضا من المعابر األساسية للحضارة اإلسالمية إلى أوربا‪،‬‬
‫حيث مكث فيها المسلمون من سنة ‪831‬م إلى سنة ‪1092‬م‪ ،‬وفيما بعد استولى عليها النورمان بسبب تصارع المسلمين‬
‫فيما بينهم‪ ،‬فتولى حكم صقلية روجر األول ‪1061( Roger I‬م_‪1101‬م)‪ ،‬الذي كان متسامحا مع المسلمين‪ ،‬ثم جاء‬
‫بعده روجر الثاني ‪1101( Roger II‬م‪1154-‬م)‪ ،‬وكان من المنبهرين بالحضارة اإلسالمية‪ ،‬حيث وصفه المستشرق‬
‫اإليطالي البارز أماري ‪ Amari‬بأنه سلطان محمد‪ ،‬حيث اعتقد الكثيرون بأنه بالفعل سلطان عربي حمل تاجا مثل‬
‫ملوك اإلفرنج‪.‬‬

‫اتخذ روجر الثاني لنفسه لقبا إسالميا‪ ،‬حيث تسمى بالمعتز باهلل‪ ،‬كما سك عملة باللغة العربية إلى جانب العمالت‬
‫المكتوبة باللغة الالتينية واليونانية‪ ،‬كما أصدر ق اررات باللغات الثالث المذكورة‪ ،‬كما وقع على المعامالت الصادرة عن‬
‫ديوانه بعبارات إسالمية مثل "الحمد هلل حق حمده"‪ ،‬و" الحمد هلل وشك ار ألنعمه"‪ ،‬فكان بحق مثاال صادقا عن ملك أوربي‬
‫فتن بالحضارة اإلسالمية من رأسه إلى أخمص قدميه‪.‬‬
‫‪66‬‬

‫كما ُي ْذ َكر أنه استقدم إلى قصره الجغرافي الشهير الشريف اإلدريسي من مدينته سبتة المغربية‪ ،‬ليؤلف له كتابه‬
‫الشهير "نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق"‪ ،‬بعد أن قدم له كل اإلمكانيات ألجل ذلك‪.‬‬

‫كما أعقب روجر الثاني فريدريك األول وفريدريك الثاني (‪1198‬م‪1250-‬م) والذي كان هو اآلخر منبه ار بالحضارة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬حيث أتقن اللغة العربية‪ ،‬وكانت له عالقات صداقة مع السلطان الكامل األيوبي‪ ،‬حيث تبودلت السفارات‬
‫بينهما‪ ،‬كما يذكر التاريخ أن ابنه منفرد ‪ Manfred‬تأثر هو اآلخر بالحضارة اإلسالمية‪ ،‬وكانت له عالقات ودية مع‬
‫المسلمين‪ ،‬حيث حدثت سفارة بينه وبين السلطان الظاهر بيبرس (‪1260‬م‪1277-‬م)‪.‬‬

‫وعلى العموم فقد كان للغة العربية في صقلية تأثير كبير‪ ،‬حيث تسرب منها إلى اللغتين الالتينية واليونانية ألفاظ‬
‫كثيرة نذك منها على سبيل المثال ال الحصر‪ :‬الفنذق ‪ ،Fondaco‬ديوان ‪ ،Douane‬دفتر ‪ ،Defetari‬رحبة ‪،Rahbo‬‬
‫مخزن ‪ ،Magazin‬مسكين ‪ ،Mesquino‬القصر ‪ ،Cassaro‬القبة ‪ ،La cuba‬العزيزة ‪ ،Alziza‬المحتسب‬
‫‪ ،Almotaceb‬السكة ‪ ،Zecca‬خسارة ‪.Cassaro‬‬

‫ولقد احتضت باليرمو حاضرة صقلية على مدرسة للترجمة من اللغة العربية إلى اللغتين اليونانية والالتينية‪ ،‬مثلما‬
‫كان الحال في مدرسة طليطلة في القرن الثاني عشر الميالدي‪ ،‬كما وجدت عالقات بين المدرستين‪ ،‬ومن الذين ترددوا‬
‫بين المدرستين العالم األسكتلندي ميخائيل سكوت ‪ ،Scott‬الذي ترجم بعض كتب أرسطو بشروح ابن رشد‪.‬‬

‫كما ترجمت مدرسة باليرمو كتب ابن سينا والرازي في الطب‪ ،‬ومن أشهر المترجمين بها أوجينوس الباليرمي‬
‫‪ ،Eugene of Palermo‬وليوناردو البيزي ‪.Leonardo of Piza‬‬

‫‪ .3‬الحروب الصليبية‪.‬‬
‫أقام الصليبيون خالل حمالتهم وحروبهم المتعاقبة في بالد الشام قرابة قرنين من الزمان‪ ،‬وكانوا حينما قدموا‬
‫يتوهمون أنهم أقوى من أعدائهم المسلمين‪ ،‬لكن مفاجأة كبرى كانت تنتظرهم تمثلت في ظاهرة التمشرق‪ ،‬حيث أنهم مع‬
‫طول اإلقامة هناك تعلموا من المسلمين الكثير من العادات والتقاليد‪ ،‬كما أنهم ترجموا مؤلفات علمية إسالمية ال سيما‬
‫في الطب‪ ،‬األمر الذي أكد أن مقولة ابن خلدون الشهيرة‪ ،‬المتمثلة في "أن المغلوب مولع بتقليد الغالب" ال تنطبق على‬
‫وضع بالد الشام زمن الحروب الصليبية‪ ،‬ألننا نحن أمام حال حضارية استثنائية متفردة‪ ،‬حيث إن المغلوب "عسكريا"‬
‫تمكن من هزيمة الغزاة بسالح الحضارة الفتاك‪ ،‬ألنه سالح عميق التأثير‪ ،‬وأقدر على الدوام إذا ما قورن باألسلحة‬
‫المادية التقليدية‪ ،‬وتتوارثه األجيال‪.‬‬
‫‪67‬‬

‫والواقع إن هناك كثير من مظاهر تأثير حضارة اإلسالم في أوربا خالل العصور الوسطى على كثير من األصعدة‬
‫كما سنرى في اآلتي‪:‬‬

‫‪ .‬على الصعيد السياسي‪.‬‬ ‫أ‬

‫من مظاهر التأثير على الصعيد السياسي نجد أن ملوك إنجلت ار وفرنسا كانوا من أوائل المتمردين على الكنيسة‪،‬‬
‫وهي بالد شارك ملوكها بشكل فعال في الحروب الصليبية‪ ،‬وحتى على المستوى الدستوري يرى بعض الباحثين أن‬
‫دستور إنجلت ار يعد بوجه من الوجوه أث ار من آثار الحروب الصليبية‪ ،‬مع عدم إغفال التطور الطبيعي للتاريخ الدستوري‬
‫إلنجلت ار الذي له أهميته‪ ،‬تجلى ذلك في أنه عندما عاد الملك ريتشارد قلب األسد ‪1189( Richard I Lionheart‬م‪-‬‬
‫‪1199‬م) إلى إنجلت ار بعد عودته من بالد الشام‪ ،‬ونجاته بعد تجربة أسر مريرة‪ ،‬طلب منه مرافقوه تطوير بالده لتواكب‬
‫بالد المشرق‪ ،‬كما بدأ اإلنجليز يطالبون بحياة أفضل فيها كثير من الحرية‪ ،‬كما قامت انتفاضة على عهد أخيه الملك‬
‫يوحنا ‪1199( John‬م‪1216-‬م) تطالب بوضع دستور جديد للبالد‪ ،‬كما أرغم على توقيع ما عرف بالماجنا كارتا‬
‫‪ ، Magna Charta‬أو العهد األعظم‪ ،‬والذي يتألف من ثالث وستين مادة‪ ،‬تناولت‪ :‬العالقة بين الكنيسة والدولة‪،‬‬
‫والعالقات اإلقطاعية بين الملك وأتباعه‪ ،‬واإلجراءات الملكية في القضايا المدنية بين الملك ورعاياه‪ ،‬حقوق البارونات‪.‬‬

‫ب على الصعيد الفكري‪.‬‬

‫أما على الصعيد الفكري فعلى الرغم من أن هنالك اتجاها لدى بعض الباحثين يرى أن الصليبيين قدموا إلى‬
‫المنطقة كغزاة‪ ،‬وبالتالي ليس هنالك أي مبرر لجعلهم يتأثرون بحياة المسلمين الفكرية في بالد الشام‪ ،‬ثم ينقلونها بعد‬
‫ذلك إلى الغرب األوربي بصورة أو بأخرى‪ ،‬لكن وقائع التاريخ‪ ،‬واآلثار الجلية تفند ذلك‪ ،‬حيث تدل القرائن المختلفة أن‬
‫التأثر كان على مستوى العلوم اإلنسانية وكذلك العلوم العملية التطبيقية‪.‬‬

‫ت على الصعيد اللغوي‪.‬‬

‫وأما على المستوى أثر الحضارة اإلسالمية في أوربا من الناحية اللغوية‪ ،‬فتجلى ذلك من خالل دخول العديد من‬
‫المفردات العربية إلى اللغات األوروبية زمن الحروب الصليبية نذكر منها على سبيل المثال‪:‬‬

‫كلمة جالب‪ ،‬وهو شراب مستخلص من بعض األعشاب العطري‪ ،‬نجده في االنجليزية ‪ ،Julep‬وفي الفرنسية‬ ‫•‬
‫‪ ،Julepe‬وفي اإلسبانية والبرتغالية ‪ ،Julepe‬وفي اإليطالية ‪.Qiulebbe‬‬
‫كلمة َس ْمت‪ ،‬وهو مصطلح يستخدم في العديد من العلوم التطبيقية مثل المالحة‪ ،‬والفلك وعلم المساحة‪ ،‬نجده‬ ‫•‬
‫في اإلنجليزية ‪ ،Zenith‬وفي الفرنسية ‪ ،)Sommet( Zenith‬وفي اإلسبانية ‪.Azimut‬‬
‫‪68‬‬

‫كلمة شراب‪ ،‬في اإلنجليزية ‪ ،Syrup‬وفي الفرنسية ‪ ،Sirop‬وفي اإليطالية ‪.Sciroppo‬‬ ‫•‬
‫كلمة عود‪ ،‬باإلسبانية ‪ ،Laud‬وبالبرتغالية ‪.Alaude‬‬ ‫•‬
‫كلمة جرة‪ ،‬في اإلنجليزية ‪ ،Jar‬وفي الفرنسية ‪ ،Jarue‬وفي اإلسبانية ‪ ،Jarro‬وفي البرتغالية‪،Zarro ، Jarro‬‬ ‫•‬
‫وفي اإليطالية ‪.Grarro ،Giaro‬‬
‫إلى غير ذلك من األلفاظ والمصطلحات التي ال يتسع المقام لجردها‪ ،‬مما يشهد على التأثير على المستوى اللغوي‬
‫والعلمي والثقافي عموما‪.‬‬
‫ث على الصعيد األدبي‪.‬‬
‫‪ Trupador‬كما مرت‬ ‫أما على مستوى األدب شع ار ونثرا‪ ،‬فقد أثر الشعر العربي في تطعيم شعر التروبادور‬
‫اإلشارة‪ ،‬وهو شعر غنائي فرنسي ظهر في جنوب فرنسا أخريات القرن الحادي عشر الميالدي‪ ،‬وتطور على يد وليام‬
‫العاشر دوق آكيتاين ‪1077( William X of Aquiaine‬م‪1127-‬م)‪ ،‬وقد اشترك في الحملة الصليبية األولى مع غيره‬
‫من الشعراء‪.‬‬
‫كذلك أثرت الحضارة اإلسالمية خالل الحروب الصليبية على الجانب القصصي لدى األوروبيين‪ ،‬حيث ذكر أن‬
‫أسقف عكا جاك دي فتري ‪1170( Jacques de Vitry‬م‪1240-‬م) كان يروي مقتطفات من قصة "ألف ليلة وليلة"‬
‫لبعض عناصر الصليبيين القادمين إلى الشام‪ ،‬وحينما عادوا في القرن الموالي رووها بدورهم على معارفهم‪ ،‬وقد تم نشر‬
‫تلك القصص في القرن الرابع عشر الميالدي‪ ،‬من خالل مجموعة قصصية بعنوان "أعمال الرومان" ‪Gesta‬‬
‫‪ ،Romanorum‬ومن خاللها ظهرت في أوربا قصص مشابهة لها مثل الديكاميرون ‪ ،Decameron II‬التي ألفها‬
‫األديب اإليطالي جيوفاني بوكاشيو ‪1313( Giovanni Bokaccio‬م‪1375-‬م)‪ ،‬وكلمة الديكاميرون تعني الليالي‬
‫العشر على لسان عشر شخصيات سبعة رجال وثالث نساء‪.‬‬
‫ولقد امتازت القصص بالجرأة والحديث المكشوف عن الحب الحسي المتحرر من كل القيود‪ ،‬وبمهاجمة رجال‬
‫الدين‪ ،‬في عنف وسخرية شديدة‪ ،‬في أسلوب حيوي وبسيط‪ ،‬ومن يتأملها جيدا يدرك الشبه بينها وبين قصة الوزراء‬
‫السبعة في ألف ليلة وليلة‪.‬‬
‫هذا ويجدر التنبيه على أن األوربيين حينما تمت ترجمة ألف ليلة وليلة فيما بعد إلى الفرنسية‪ ،‬على يد المستشرق‬
‫جاالن ‪1664( Galland‬م‪1715-‬م) أحدثت ما يشبه البعث المعرفي في أذهانهم‪ ،‬وفتحت بوابة سحرية اكتشف الغرب‬
‫من خاللها عالم الشرق الساحر الذي التقت فيه الحقيقة باألسطورة‪ ،‬كما أثرت في اإلنتاج األدبي األوربي حتى العصر‬
‫الحديث‪.‬‬
‫‪69‬‬

‫كما يجدر التنبيه أيضا على أنه تأكد للدارسين أن دانتي اليجيري ‪1265( Dante‬م‪1321-‬م) أديب إيطاليا‬
‫البارز في عمله ذائع الصيت الكوميديا اإللهية ‪ ،The divine comedy‬تأثر تأث ار واضحا برسالة الغفران ألبي العالء‬
‫المعري‪ ،‬المستلهمة من قصة المعراج‪ ،‬رغم إنكار بعض المنكرين المتعصبين لألدب اإليطالي‪ ،‬لكن أدلة المثبتين أقوى‬
‫من أدلة المنكرين ألنها تستند إلى معطيات تاريخية موثوقة‪.‬‬
‫كما كان أيضا لمقامات الحريري انتشا ار واسعا‪ ،‬وتأثي ار ملفتا‪ ،‬وبخاصة على طراز معروف في األدب اإلسباني‬
‫باسم قصص الصعاليك‪ ،‬األمر الذي أكد بوضوح على قدرة األدب العربي على التأثير على اآلداب العالمية األخرى‪.‬‬
‫ج على صعيد الكتابة التاريخية‪.‬‬
‫وأما على مستوى الكتابة التاريخية‪ ،‬فنجد أن الحضارة اإلسالمية أثرت في إحداث نقلة نوعية وغير مسبوقة في‬
‫الغرب األوربي‪ ،‬فقد لوحظ أن الحروب الصليبية أفرزت المؤرخ الصليبي البارز وليم الصوري ‪William of the‬‬
‫‪ ،Type‬الذي ألف كتابه الفريد "تاريخ األعمال التي جرت فيما وراء البحر"‪ ،‬وقد عمل رئيسا ألساقفة صور ‪،Tyre‬‬
‫وكان يتقن عدة لغات منها العربية‪ ،‬التي اطلع من خاللها على مؤلفات التاريخية العربية‪ ،‬كما أنه بعث إلى الغرب‬
‫األوربي على مدى عشرين سنة (‪1142‬م‪1162-‬م)‪ ،‬حيث كان يموج بما عرف الحقا بنهضة القارن الثاني عشر‬
‫الميالدي‪ ،‬القائمة على أساس ترجمة العلوم اإلسالمية‪ ،‬وهي من أعمق وأوسع النهضات في أوربا القرون الوسطى‪.‬‬
‫ويجدر التنبيه على أن هذا المؤرخ اتسم تاريخه بالروح الناقدة والبصيرة النافذة‪ ،‬حيث انتقد المملكة الصليبية لعدم‬
‫التزامها بالعهود والمواثيق الدبلوماسية بين المسلمين أحيانا‪ ،‬كما كان موضوعيا عندما امتدح السلطان نور الدين محمود‬
‫وتلميذه المخلص السلطان صالح الدين األيوبي الذي بهر الصليبيين بشجاعته وانتصاراته وأخالقه الحربية التي تستمد‬
‫روحها من اإلسالم وحضارته‪.‬‬
‫ولقد عاصر هذا المؤرخ مؤرخا مسلما شهي ار هو ابن القالنسي‪ ،‬الذي أكدت الدراسات أنه قد تأثر به وليم الصوري‬
‫تأث ار واضحا‪.‬‬
‫وهكذا تأكد أن ذروة الكتابة التاريخية في الغرب األوربي في العصور الوسطى لم تكن من أوربا‪ ،‬وإنما كانت من‬
‫الشرق الالتيني الذي تأثر بصورة كبيرة وواضحة بالحضارة اإلسالمية التي كانت على درجة كبيرة من التفوق والقوة‪.‬‬
‫ح على الصعيد الطبي‪.‬‬
‫أما إذا انتقلنا إلى علم الطب فنجد أن أوربا قد أفادت زمن الحروب الصليبية إفادة كبيرة من الحضارة اإلسالمية‪،‬‬
‫متمثلة إسهامات أبنائها المبدعين في هذا المجال‪ ،‬فمن المعروف أن الطب في أوربا القرون الوسطى ارتبط ارتباطا‬
‫وثيقا بالكنيسة التي نظرت إلى المرض على أنه عقاب إلهي ناتج عن اآلثام والخطايا المرتكبة‪ ،‬لذلك كان عادة ما‬
‫‪70‬‬

‫يهاجم كبار رجال الكنيسة األطباء‪ ،‬وال أدل على ذلك ما ُنسب إلى جريجوري أسقف مدينة تور قوله‪ :‬إن عمل األطباء‬
‫يؤدي إلى إلحاق اآلالم بالمرضى أكثر من تخفيف حدتها‪.‬‬
‫لكنهم حينما قدموا إلى المشرق زمن الحروب الصليبية‪ ،‬تأثروا بالحضارة اإلسالمية وتأكدت لديهم الحاجة إلى‬
‫االهتمام بالطب لعالج العديد من الحاالت المرضية‪.‬‬
‫وتشير القرائن إلى أن الطب عند الصليبيين وصم بكثير من التخلف عند مقارنته بما كانت عليه الحال لدى‬
‫المسلمين كما أكد على ذلك الفارس والشاعر والرحالة أسامة ابن منقذ (‪1188‬م) في كتابه االعتبار‪ ،‬األمر الذي دعاهم‬
‫إلى اإلفادة من المسلمين في هذا المجال‪ ،‬كما عملوا على ترجمة كتاب "الكامل في الصناعة الطبية" لعلي بن عباس‬
‫المجوسي‪ ،‬الذي يعد أحد كبار األطباء المسلمين‪ ،‬كما كان لكتابه تأثير ورواج كبير بفضل شموله وعمومه وحسن‬
‫ترتيبه وعمقه‪ ،‬قبل ظهور كتاب القانون في الطب البن سينا الذي سينصرف إليه الناس الحقا أكثر من أي كتاب آخر‪.‬‬
‫ولقد كان كتاب الكامل في الصناعة الطبية المرجع األساس لعلم التشريح في ساليرنو حاضرة صقلية‪ ،‬كما أكدت‬
‫الدراسات أنه من أوائل الكتب المترجمة إلى اللغة الالتينية على يد قسطنطين اإلفريقي‪ ،‬خالل القرن الحادي عشر‬
‫الميالدي‪ ،‬كما ترجم ثانية على يد ستيفن األنطاكي‪ ،‬كما ترجم إلى جانبه أيضا في هذه المرحلة كتاب "سر األسرار في‬
‫المترجم ْين المذكورين في مرحلة الحروب‬
‫َ‬ ‫طب العيون"‪ ،‬بما دل على التأثر الكبير في هذا الصدد‪ ،‬كما كان إلى جانب‬
‫الصليبية مترجم آخر هو برنارد سلفستر‪ ،‬بما دل أيضا على حركة االقتباس واألخذ من الحضارة اإلسالمية كما مرت‬
‫اإلشارة‪.‬‬
‫خ على الصعيد الحربي ومنشآته‪.‬‬
‫لقد كان في هذا المجال أيضا تأثر واضح‪ ،‬منها أخذهم على المسلمين تنعيل الخيل بالحديد‪ ،‬كما تأثروا بالمسلمين‬
‫في العمائر والمنشآت الحربية وبخاصة القالع‪ ،‬حيث اقتبسوا منهم شكل المدخل الموصل من باب القلعة إلى داخلها‬
‫وجعله على هيئة زاوية قائمة‪ ،‬وكذلك أخذوا عنهم إنشاء السقاطات‪ ،‬وهي عبارة عن أجسام بارزة من السور تعتمد على‬
‫كوابيل مفتوحة من أسفلها‪ ،‬تستخدم إللقاء الزيوت المغلية‪ ،‬والمقذوفات الحجرية على المهاجمين‪ ،‬وعادة ما تكون فوق‬
‫األبواب‪ ،‬وأماكن أخرى من السور‪ ،‬وذلك إلعاقة المهاجم من تسلقه‪.‬‬
‫كذلك أخذ الغرب عصر الحروب الصليبية فكرة المزاغل‪ ،‬وهي عبارة عن فتحات طويلة عمودية ضيقة من‬
‫الخارج‪ ،‬موزعة على امتداد أسوار القالع واألبراج‪ ،‬وذلك لمنع تعرض المدافع لإلصابة الخارجية‪.‬‬

‫كذلك تأثر األوربيون في تلك المرحلة فيما يخص العمارة الحربية بما اصطلح على تسميته َ‬
‫بالبرقان‪ ،‬ويعني البرج‬
‫الكبير الذي يبنى على مسافة من باب الحصن‪ ،‬أو قنطرته التي تقام فوق الخندق المحيط بالحصن‪.‬‬
‫‪71‬‬

‫كما يجب في هذا الصدد عدم إغفال الفروسية اإلسالمية التي قدمت أنموذجا فريدا في شخص السلطان صالح‬
‫الدين األيوبي‪ ،‬الذي مثل بحق الحضارة اإلسالمية في هذا الجاب في أبهى وأجمل صورها‪ ،‬شجاعة‪ ،‬ومسالمة‪ ،‬ونبال‪،‬‬
‫والتزاما بالعهود والمواثيق المبرمة‪ ،‬ورحمة‪ ،‬وحسن معاملة‪ ،‬وعفوا عند المقدرة‪ ،‬إلى غير ذلك من القيم التي أكدت على‬
‫الفرق الشاسع بين الفروسية اإلسالمية والفروسية الصلبية القائمة على العنف والدموية والفتك واإلبادة وقساوة والغدر‪،‬‬
‫األمر الذي بهر الصليبيين‪ ،‬وجعلهم ينسجون حوله أسطورة ظلت مصاحبة للعقل الجمعي الغربي طوال العصور‬
‫الوسطى‪.‬‬
‫كل هذه المؤثرات اإلسالمية خالل الحروب الصليبية وغيرها كثير ستكون عامال من عوامل التغيير العميق في‬
‫أوربا‪ ،‬وتدفع بها نحو نهضة شاملة قادتها إلى العصر الحديث الذي عرف تحوالت كبيرة في كل المجاالت‪.‬‬
‫‪ )2‬موقف الغرب من الحضارة اإلسالمية‬
‫نتناول تحت هذا العنوان بيان موقف الغرب من الحضارة اإلسالمية‪ ،‬وكذلك العوامل المتعددة التي أوجدته‪ ،‬كما‬
‫نعرض من خالله لرؤية بعض المنصفين الغربيين الذين انبهروا بالحضارة اإلسالمية‪.‬‬

‫ويجدر التنبيه على أن الغرب عموما اتخذ موقفا عدائيا من الحضارة اإلسالمية‪ ،‬كما استمر على ذلك قرونا‬
‫عديدة‪ ،‬األمر الذي عمقه ورسخه في العقل الجمعي الغربي‪.‬‬

‫هذا ولقد ُوجدت عدة عوامل ساعدت على ذلك الموقف العدائي‪ ،‬نذكر بعضا منها في اآلتي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬عدم اعتراف الغرب باإلسالم ونبيه الكريم عليه الصالة والسالم‪ ،‬حيث نظر اليهود والمسيحيون إلى اإلسالم‬
‫باعتباره بدعة أو هرطقة‪ ،‬وليس باعتباره رسالة خاتمة ومكملة لألديان السماوية السابقة‪ ،‬وهو تصور وجد منذ العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬وستفرغ ألجله رجال الكنيسة جهدهم منذ يوحنا الدمشقي إلى اآلن‪ ،‬ويقوم على التشكيك في اإلسالم‪ ،‬ومهاجمة‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ونبي اإلسالم عليه الصالة والسالم‪ ،‬بروح عدائية أبعد عن الموضوعية العلمية القائمة على الحقائق‪.‬‬

‫ولقد قام فريق من المستشرقين المتعصبين بدور بارز في هذا المجال‪ ،‬تحركهم الكراهية‪ ،‬والرغبة في الثأر من‬
‫دين تمتع بقدرات ذاتية جعلته واسع االنتشار‪ ،‬وصالحية لكل زمان ومكان‪ ،‬يحترم العقل‪ ،‬وينسجم مع الفطرة اإلنسانية‪.‬‬

‫ومن الالفت أنه دين يعترف باليهودية والمسيحية‪ ،‬كما يعترف باآلخر‪ ،‬هذا اآلخر الذي يقصيه‪ ،‬وفي هذا أكبر‬
‫دليل على موضوعية اإلسالم وعالميته وتسامحه‪.‬‬
‫‪72‬‬

‫ثانيا‪ :‬كان لفتح العثمانيين األتراك القسطنطينية عام ‪1453‬م‪ ،‬ودخول المسلمين شرق أوربا بعد سنين عديدة من‬
‫التربص‪ ،‬وإسقاطهم النهائي لإلمبراطورية البيزنطية العتيدة‪ ،‬رمز المسيحية األرثودوكسية ودرعها في الشرق طوال ثانية‬
‫قرون‪ ،‬األثر البالغ في نفوس الغرب المسيحيين‪ ،‬حيث تولد عن ذلك نوع من الرعب أو اإلسالموفوبيا من اإلسالم‪ ،‬كما‬
‫كان أيضا لحصار العثمانيين لفيينا عام ‪1529‬م‪ ،‬األثر الكبير في تعميق هذا الرعب‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أن الغرب سرعان ما يلوح بهذه الورقة كلما دعته الضرورة والمصلحة‪ ،‬والواقع أن أساس‬
‫الرعب من اإلسالم هو سوء فهم اإلسالم المتعمد والمقصود‪ ،‬ونشر ذلك وتعميقه في األذهان من خالل اإلعالم ومناهج‬
‫التعليم‪ ،‬وكذلك من خالل تصيد سلبيات محسوبة على اإلسالم‪ ،‬ونسبتها إلى اإلسالم نفسه‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬أدى انتشار اإلسالم السريع سلميا وتلقائيا‪ ،‬في المناطق التي لم يدخلها الفاتحون المسلمون منذ العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬وإلى عصرنا الحاضر‪ ،‬على الرغم من قلة اإلمكانيات المادية للدعوة اإلسالمية مقارنة بإمكانيات الكنائس‬
‫المسيحية إلى وقوف الغرب من اإلسالم وحضارته موقفا عدائيا‪.‬‬

‫لكن وعلى الرغم من ذلك لم يمنع األمر بعض األعالم من المفكرين الغربيين من االعتراف باإلسالم كدين له‬
‫إنجازات حضارية‪ ،‬مثلما ذكره أديب ألمانيا العظيم جوته (‪1749‬م‪1832-‬م)‪ ،‬وأديب روسيا الشهير تولدستوي (‪1828‬م‪-‬‬
‫‪1910‬م)‪ ،‬وأديب فرنسا المعروف المارتين (‪1790‬م‪1869-‬م)‪ ،‬حيث أثنوا على نبي اإلسالم منجزاته الحضارية بما‬
‫أكد على جاذبية اإلسالم وتأثيره‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬هنالك تهمة دعائية شائعة لدى الغرب حول الشريعة اإلسالمية السمحة واإلسالم عموما‪ ،‬تمثلت في نعتهما‬
‫بالقساوة والعنف والدموية‪ ،‬لكن األمر ال يحتاج إلى دليل لدفع هذه التهمة استنادا إلى الثقافة والتاريخ‪ ،‬فقد عرفنا على‬
‫النقيض من ذلك كيف أن الغرب المسيحي هو الذي أشعل فتيل الحروب الصليبية في تلك العصور‪ ،‬وقد كانت حربا‬
‫عالمية بامتياز‪ ،‬كذلك األمر بالنسبة للحرب العالمية األولى ‪1914‬م‪1918-‬م)‪ ،‬من بعدها الحرب العالمية الثانية‬
‫(‪1939‬م‪1954-‬م)‪ ،‬أودت بحياة الماليين‪ ،‬اقترنت باألخيرة كارثة إلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي‪ ،‬كما‬
‫أن الغرب هو الذي ينتج األسلحة المدمرة‪.‬‬

‫أما الشريعة اإلسالمية فهي مظهر حضاري بارز‪ ،‬أدت إلى نشر األمن في بقاع ديار اإلسالم‪ ،‬وحلت كثي ار من‬
‫المشاكل البشرية‪ ،‬وقادرة على ذلك في المستقبل كما اعترف بذلك األديب األيرلندي الشهير برنارد شو‪ ،‬وكذلك كبار‬
‫رجال القانون في الغرب اعترفوا بذلك‪ ،‬وهو أمر عجزت عن كثير منه القوانين الوضعية مثل جرائم االغتصاب والسرقة‬
‫والقتل واالنتحار غيرها من اآلفات التي لم تنتشر في المجتمعات اإلسالمية القديمة‪.‬‬
‫‪73‬‬

‫خامسا‪ :‬أيضا تصور الغرب أن اإلسالم دين ذكوري‪ ،‬وأن المرأة فيه مسلوبة اإلرادة‪ ،‬وال أثر لها في نظمه‪ ،‬األمر‬
‫الذي عمق لدى الغرب سوء الفهم المتعمد لإلسالم وحضارته‪ ،‬بينما كان وضع المرأة على النقيض من ذلك فقد كانت‬
‫سلطانة وفقيهة ومحتسبة وممرضة وطالبة علم‪ ،‬ومستشارة سياسة‪ ،‬ومديرة للشؤون السياسية عند الضرورة‪ ،‬األمر الذي‬
‫أكد على مساهمتها الفعالة في الحضارة اإلسالمية‪.‬‬

‫ساديا‪ :‬من العوامل التي بلورت هذا الموقف أيضا مسألة المركزية األوربية‪ ،‬التي رسخت وهم أن العلم واألدب‬
‫وال فن إنما نبع من القارة األوربية‪ ،‬وأن حضارة اإلغريق والرومان هي األساس الحقيقي للنهضة األوربية‪ ،‬غافلة عن‬
‫أمرين ال يمكن تجاهلهما وهما‪:‬‬

‫‪ .1‬أن الحضارة اإلغريقية إنما قامت على أكتاف حضارة مصر الفرعونية وحضارة بالد الرافدين‪ ،‬بما أكد على‬
‫أصولها الشرقية‪ ،‬وهي حقيقة كثي ار ما تعمد الباحثون الغربيون إنكارها‪.‬‬
‫‪ .2‬أن الحضارة اإلغريقية تطورت تطورات فارقة في تاريخ العلم على أيدي المسلمين الذين اعتمدوها وانتقدوها‬
‫وتطوروها ثم قدموها إلى الغرب‪ ،‬لتكون من أهم العوامل التي أدت إلى نهضته‪.‬‬

‫سابعا‪ :‬ومن عوامل التي كرست هذا الموقف أيضا عجز الغرب عن التحاور مع الشرق‪ ،‬مثلما عكس ذلك قول‬
‫السياسي واألديب البريطاني كبلنج‪" :‬الشرق شرق والغرب غرب وال يلتقيان‪ ،‬ولن يلتقيا إال يوم القيامة"‪ ،‬وهو قول يدل‬
‫على مدى اتساع الفوارق بين الجانبين‪ ،‬مع التنبيه على أن األمر متصل بالغرب أكثر من الشرق‪ ،‬ألن الحضارة‬
‫اإلسالمية في العصور الوسطى أثبتت مدى قدرتها على حوار األديان والشعوب‪ ،‬تجلى ذلك من خالل إسهامات عشرات‬
‫العلماء غير المسلمين في مجاالت علمية عديدة كما مر بنا‪.‬‬

‫وال شك أن من عوامل هذا العجز نظرة الغرب االستعالئية تجاه اآلخر المختلف عنه لغة وديانة‪ ،‬والتقليل من‬
‫شأنه وقدراته على اإلبداع‪ ،‬وهو أمر َغ َّذ ْته فلسفات أوربية حديثة متعصبة‪ ،‬كما كان أيضا لحركة االستعمار األوربي‬
‫الحديث أسوأ األثر على العالقات بين الغرب والشرق‪ ،‬وبخاصة تلك الحركة التي استخدمت العلم كسالح ألحكام القبضة‬
‫على شعوب الشرق مثلما حدث في الجزائر على سبيل المثال‪.‬‬

‫ورغم خروج االستعمار في مظهره العسكري‪ ،‬ال تزال الفجوات قائمة من خالل النواحي التكنولوجية والتبعية‬
‫الفكرية‪.‬‬

‫وال شك أيضا أن سبعة قرون من الصراع بين الغرب والعالم اإلسالمي شكلت الذهنية الغربية تجاه حضارة‬
‫اإلسالم‪ ،‬ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ‪ 2001‬لتعمق الهوة‪ ،‬وتكرس العداء‪ ،‬وتنعت اإلسالم بنعوت ال‬
‫‪74‬‬

‫تعكس حقيقته كدين وال إسهاماته كتاريخ وحضارة‪ ،‬ولذلك أصبح من الضرورة بمكان المطالبة بقوة بحوار حقيقي مع‬
‫الغرب من أجل تغيير الصورة الذهنية المغلوطة‪ ،‬كما على الغرب أن يكف عن استعالئه‪ ،‬ويشجع على حوار الحضارات‬
‫بدل صدامها وهيمنة قوة واحدة‪ ،‬وإلغاء الثقافات األخرى باسم ما يعرف بالعولمة‪ ،‬وذلك من خالل إقامة مراكز بحثية‪،‬‬
‫واستغالل القنوان الفضائية‪ ،‬وبعث الثقة في نفوس أبناء الحضارة اإلسالمية‪ ،‬رجاء أن يلتقي الشرق والغرب في يوم من‬
‫األيام مثلما فعلت الحضارة اإلسالمية في عصرها الذهبي والعصور الوسطى‪.‬‬

‫كما ينبغي على العالم اإلسالمي تبني سياسات التسامح تجاه العناصر غير المسلمة التي تعيش في كنفه‪ ،‬حتى‬
‫ال تتطلع إلى طلب معاونة الغرب فيستغلها‪.‬‬

‫كذلك ينبغي على المسلمين نبذ العنف والتطرف واإلرهاب كوسيلة وحيدة للتعامل مع الغرب‪ ،‬ألنه ال يجلب إال‬
‫الخسارة‪.‬‬

‫إضافة إلى كل هذا الدعوة إلى ضرورة حل المشكالت الدولية العالقة منذ عقود‪ ،‬وعودة الحقوق إلى أصحابها‪،‬‬
‫مثل حل قضية فلسطين المزمنة‪ ،‬التي عادة ما ينحاز الغرب ضدها‪ ،‬وهي قضية أثرت وتؤثر على كثير من األوضاع‬
‫في الشرق والغرب‪.‬‬

You might also like