You are on page 1of 6

‫مستقبل الثقافات الشعبية العربية‬

‫أ‪ .‬د‪.‬محمد سعيدي‬

‫دائرة الثقافة الوطنية‪ ،‬ناعتاً إياها بالضعف والتخلف‪.‬‬ ‫نسعى يف هذه الدراسة إىل اإلجابة عن بعض التساؤالت اليت ظلت‬
‫تضغط علينا دوما وأبدا حول مستقبل الثقافات الشعبية العربية يف‬
‫‪ -2‬اجلبهة الثانية‪ :‬ميثلها الكيان الثقايف الكولونيالي االستعماري‪،‬‬ ‫خضم التطورات السريعة والعنيفة‪ ،‬اليت تفرضها العوملة وفلسفتها‬
‫الذي ظل يطارد الثقافة الشعبية‪ ،‬مسخراً إياها تسخرياً استعمارياً‪،‬‬ ‫على الشعوب‪ ،‬من حيث الطرح الثقايف واالجتماعي والسياسي‬
‫بعد أن أدرك الدور الريادي الذي تقوم به يف احلفاظ على أصالة‬ ‫واالقتصادي‪.‬‬
‫هوية الشعوب وهوية انتمائها احلضاري والتارخيي‪ .‬فكان سعيه‬
‫حثيثاً لدراستها ومعرفة أسرارها ال لشيء إال من أجل السيطرة‬ ‫ولعل أهم هذه التساؤالت‪:‬‬
‫ً‬
‫عليها واستعمارها‪ .‬فلقد عمل جاهدا على طمسها وتشويهها بعد‬ ‫‪ -‬ماذا نفعل بثقافتنا الشعبية (بكل مظاهرها املادية واملعنوية)‪،‬‬
‫أن استثمرها وأفرغها من قيمها ومن حمتواها الفكري واحلضاري‬ ‫أمام هذا الزحف اهلائل من النماذج الثقافية‪ ،‬اليت اقتحمت الفضاء‬
‫األصيل والعريق‪ ،‬وألصق بها أوصافاً وأمساء سلبية‪( :‬الثقافة‬ ‫االجتماعي والثقايف العربي وحاصرته من كل جهة؟‬
‫البدائية – الثقافة املتوحشة‪ -‬الثقافة التقليدية)‪.‬‬
‫إن التفكري يف مستقبل الثقافات الشعبية‪،‬‬ ‫‪ -‬كيف جتابه السلطة العربية الثقافية‪ ،‬إشكالية‬
‫ً‬
‫مير يف اعتقادنا حتما عرب مناقشة األسس‬ ‫إن‬ ‫الثقافة الشعبية‪ ،‬وإشكالية هوية االنتماء الثقايف‬
‫الفلسفية هلذه املقاومة بروح علمية‪ ،‬بعيدة‬ ‫التفكير في مستقبل‬ ‫واحلضاري يف خضم التطورات اجلديدة؟‬
‫عن األحكام القطعية‪ ،‬واألطروحات اإلثنية‬
‫واإليديولوجية الظرفية الضيقة‬ ‫‪-‬كيف يصون املثقف العربي ثقافته الثقافات الشعبية‪ ،‬يمر‬
‫الشعبية أمام حتديات املستقبل‪ ،‬وما هي في اعتقادنا حتم ًا عبر مناقشة‬
‫اللوازم املعرفية واملنهجية‪ ،‬اليت صنعها األسس الفلسفية لهذه المقاومة ‪ -‬إن الثقافات الشعبية ببساطتها‬
‫وعفويتها‪ .‬تشكل املعامل األساسية‬ ‫لنفسه وبنفسه‪ ،‬صيانة لذاته الثقافية‬
‫واألصلية للتاريخ الثقايف الشعيب‪،‬‬
‫األحكام‬ ‫عن‬ ‫بعيدة‬ ‫علمية‪،‬‬ ‫بروح‬ ‫واحلضارية؟‬
‫القطعية‪ ،‬واألطروحات اإلثنية وعنواناً لشخصيته احلضارية‪ .‬ومن ثم فإن‬
‫التكفل بها مجعاً وتدويناً وتوثيقاً ودراسة‬ ‫واإليديولوجية الظرفية‬ ‫حاالت رهيبة‬
‫ِ‬ ‫عاشت (الثقافات الشعبية)‬
‫واستثمارا‪ ،‬يساعد بدرجة كبرية على فهم‬ ‫ً‬ ‫من االغرتاب الثقايف واالجتماعي واإليديولوجي‪.‬‬
‫أسس البناء االجتماعي والثقايف واحلضاري واملعريف‬
‫الضيقة‬ ‫كما مرت بلحظات أليمة نتيجة املقاومة العنيفة اليت‬
‫واالقتصادي والسياسي العربي‪ .‬إن التكفل املستقبلي مبوضوع‬ ‫خاضتها‪ ،‬وال تزال ختوضها على جبهتني خمتلفتني‪:‬‬
‫الثقافات الشعبية العربية يفرض على الباحثني املهتمني إعادة‬ ‫‪ -1‬اجلبهة األوىل‪ :‬ميثلها الكيان الثقايف العربي النخبوي‪،‬‬
‫النظر يف مفهوم الثقافة الشعبية يف حد ذاتها ومكانتها ضمن املنظومة‬ ‫مبواقفه العدائية والتحقريية للثقافة الشعبية وإقصائه إياها من‬
‫الثقافية الوطنية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى إعادة النظر يف طبيعة‬
‫(*) الجـزائـــر‬

‫‪23‬‬
‫أن هذا االهتمام كانت تنقصه يف كثري من األحيان الروح العلمية‬
‫واملنطق العلمي السليم‪ ...‬وبالتالي مل يصل إىل مستوى تأسيس رؤية‬
‫معرفية خاصة باألدب الشعيب وقضاياه اللغوية والنصية‪ .‬لقد ظل‬
‫املهتمون يتحركون يف الدائرة اإلشكالية حول عالقة األدب الشعيب‬
‫باألدب الفصيح‪ ،‬وقراءة األول يف ضوء ما أنتجه الثاني من مفاهيم‬
‫وتصورات نقدية‪ :‬لقد تناولوا بالدراسة «قضية العالقة القائمة بني‬
‫والكتابة والتدوين والصيانة والتخزين واإلخراج‪ ...‬وقد يتساءل‬
‫األدب الفصيح واألدب العامي‪ ،‬يف ضوء تكوين حضارتنا النفسي‬
‫املرء حول دوافع وأسباب هذا االهتمام‪ ،‬وهذا التكفل العلمي والثقايف‬
‫والتارخيي‪ ،‬وبينوا أن هناك تفاعالً حياً وخالقاً قائما بني األدبني‬
‫واالجتماعي واالقتصادي والسياسي ملادة الفلكلور‪:‬‬
‫على مر العصور(‪ ...)15‬وما ميكن اإلشارة إليه يف احلديث عن‬
‫املنظومة الفكرية العربية‪ ،‬وواقع وآفاق الثقافة الشعبية‪ ،‬أنها‬ ‫لماذا كل هذا االهتمام؟‬
‫ختوفت من استعمال مصطلح الفلكلور كمصطلح علمي‪ ،‬وذلك راجع‬ ‫لقد أدركت املنظومة الفكرية األوروبية قيمة الفلكلور ومظاهره املادية‬
‫بدون أدنى شك إىل ذلك الفهم اخلاطئ واخلطري هلذا املصطلح‪،‬‬ ‫واملعنوية والسلوكية‪ ،‬من حيث الطرح اهلوياتي احلضاري والثقايف‪،‬‬
‫حيث أفرغوه من معانيه الصحيحة وأكسبوه دالالت غري علمية‬ ‫ومن ثم‪ ،‬فإن االهتمام باملادة الفلكلورية هو أوالً وقبل كل شيء‪،‬‬
‫وغري صحيحة‪ ،‬ليصبح عند املثقف العربي مرادفاً داللياً للفوضى‬ ‫اهتمام بأصالة الشعب وبأصوله احلضارية والثقافية والتارخيية‬
‫وللتخلف وللهمجية وللضعف وللسذاجة‪ .‬وكل قول أو فعل أو سلوك‬ ‫ومباضيه وماضي أجداده العريق والعتيق‪ .‬ولعل ما زاد يف تفعيل‬
‫وصف ونعت بالفلكلور والفلكلورية‪ ،‬هو يف اعتقادهم ساذج‪ ،‬همجي‬ ‫الفكر الغربي ملادته الفلكلورية هو ذلك الوعي املعريف العميق يف أن‬
‫ال يستحق الدراسة واالهتمام وغري جدير بالعناية‪ ،‬وال يرقى إىل‬ ‫الفلكلور‪ ،‬هو املعادل التارخيي واحلضاري والعقائدي واأليديولوجي‬
‫املستوى العلمي‪ .‬ونظراً خلوف املنظومة الفكرية العربية من الوقوع‬ ‫والثقايف واالجتماعي للهوية الشعبية يف أوسع معانيها‪ .‬وأن احلفاظ‬
‫يف الفوضى املفهوماتية أو أن تصنف بعض من دراساتها االجتماعية‬ ‫عليه وصيانته والتكفل به هو يف حقيقة األمر‪ ،‬حفاظ على اهلوية‬
‫واإلنسانية اليت اهتمت باملادة الشعبية يف الدائرة املرفوضة‪،‬‬ ‫الشعبية وصيانتها وتكفل بها خوفا عليها من التمزق والتشوه‬
‫املمنوعة‪ ،‬احملرمة أو الساذجة‪ ،‬ظل الدارسون العرب متمسكني‬ ‫والطمس واالندثار‪ .‬إن الفلكلور مبظاهره العديدة واملتعددة مرتبط‬
‫حمافظني على مصطلح الثقافة الشعبية اليت تقوم أساسا على احملاور‬ ‫ارتباطاً عضوياً باهلوية الشعبية‪ ،‬واليت هي يف أبسط معانيها‪« :‬اسم‬
‫التالية‪:‬‬ ‫الكيان أو الوجود على حاله‪ ،‬أي الوجود للشخص أو الشعب أو‬
‫‪-1‬أشكال التعبير الشعبي (األدب الشعبي)‬ ‫األمة‪ ،‬كما هي بناء على مقومات أو مواصفات وخصائص معينة‪،‬‬
‫‪-2‬العادات والتقاليد الشعبية‪.‬‬ ‫متكن من إدراك صاحب اهلوية بعينه دون اشتباه مع أمثاله من‬
‫‪-3‬المعتقدات والطقوس الشعبية‪.‬‬ ‫األشباه‪ .‬واملسألة يف هذه القضية تتعلق بنوعية تلك الصفات واملقومات‬
‫‪-4‬الفنون الشعبية‪.‬‬ ‫واخلصائص(‪.)14‬‬
‫لقد كشفت الدراسات االجتماعية والتارخيية واحلضارية واللغوية‬
‫‪-5‬الحرف والصناعات التقليدية‪.‬‬
‫واألدبية واألنثروبولوجية‪ ،‬مدى قوة الرتادف الداللي والرمزي الذي‬
‫غري أن االهتمامات العربية مبوضوع الثقافة الشعبية يف إطارها‬
‫أحدثته املصطلحات‪ :‬الفلكلور واهلوية‪ ،‬حيث يشريان وحييالن‬
‫اجلزئي أو الشامل‪ ،‬ظلت حمتشمة وقليلة‪ ،‬بل وفقرية جدا من‬
‫بطريقة أو بأخرى إىل بعضهما البعض‪ .‬إنطالقاً مما سبق ذكره ‪،‬‬
‫حيث الطرح املعريف واملنهجي‪ ،‬مقارنة مع ما يزخر به اجملتمع‬
‫اكتسب الفلكلور أهمية كبرية يف الدراسات اإلنسانية واالجتماعية‬
‫العربي من مأثورات شعبية أصلية وأصلية‪ .‬امتازت بعض هذه‬
‫اليت تهتم بأصول الشعوب وعاداتها وتقاليدها وتصوراتها الذهنية‬
‫الدراسات بالسطحية وكثرة األحكام اليت تفتقد إىل التأسيس‬
‫والفكرية‪ ،‬ودالالت ختيالتها على طقوسها ومعتقداتها‪.‬‬
‫العلمي والرؤية العلمية‪ ،‬وذلك لغياب بعض العلوم من املنظومة‬
‫قابل االهتمام العلمي واالجتماعي والثقايف األوروبي بالفلكلور‬
‫الرتبوية العربية‪ ،‬اليت قد تؤهل الباحث العربي إىل التعامل مع‬
‫عدم اهتمام وعدم اكرتاث املنظومة الفكرية العربية بفلكلورها‪.‬‬
‫الثقافة الشعبية ومظاهرها تعامالً علمياً موضوعياً‪ .‬ومن أهم العلوم‬
‫حيث إن العرب‪ ،‬مل يتفطنوا لقيمة الفلكلور يف حياة اإلنسان إال‬
‫اليت تفتقد إليها املعارف العربية‪ ،‬نذكر علوم (األنثروبولوجيا‪،‬‬
‫مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين‪ ،‬ظهرت اإلرهاصات‬
‫واألثنولوجيا‪ ،‬واألثنوجغرافيا‪ ،‬واجلغرافيا البشرية – وعلم‬
‫األوىل على يد عدد قليل وحمدود جداً من الباحثني العرب‪ ،‬بدأوا‬
‫السالالت البشرية)‪ .‬ولقد ظلت كثري من الدراسات العربية ملادة‬
‫باالهتمام مبا أمسوه وقتئذ باملأثورات الشعبية وبالرتاث الشعيب‪،‬‬
‫الثقافة الشعبية دراسات سطحية‪ ،‬ومل تصل مبوضوعها إىل مستوى‬
‫وقد ركزوا هذا االهتمام خاصة على جمال األدب الشعيب‪ ...‬غري‬
‫إدراك «أن فلكلور اجملتمعات أو الثقافة الفلكلورية للمجتمع‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫مع الشعوب العربية‪ ،‬األمر الذي ساعدهم على تسجيل العادات‬ ‫ترتبط برباط نفسي ووجداني عند الشعوب‪ ،‬كما يقوم على سيادة‬
‫والتقاليد العربية واملعتقدات والطقوس الشعبية والفنون التقليدية‬ ‫القيم الروحية والوجدانية واألخالقية على اجلوانب املادية يف حياة‬
‫سخرت إدارة‬‫العربية وأشكاهلا التعبريية العديدة واملتنوعة‪ .‬لقد َّ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬والفلكلور بعامة‪ ،‬ميثل عطاء النفس وعطاء الذات وعطاء‬
‫الدول االستعمارية هلذه املهمة‪ ،‬طاقات بشرية معتربة‪ ،‬فطافوا يف‬ ‫اخلربة العقلية املرتبطة بالفطرة البشرية وعفويتها»(‪.)16‬‬
‫املدن والقرى والبوادي‪ ،‬وحضروا يف احلفالت واملواسم الطقوسية‪،‬‬ ‫إن السؤال الذي يظل يضغط علينا هو ما مستقبل الثقافات الشعبية‬
‫وشاركوا العرب يف أفراحهم ويف أتراحهم‪ ...‬غري أن عالقتهم مع‬ ‫العربية؟‬
‫مظاهر الثقافة الشعبية العربية‪ ،‬مل تقف عند حدود التسجيل‬
‫والفهم واالستثمار االتصالي التواصلي‪ ،‬فسرعان ما شرعوا يف تنفيذ‬ ‫‪ -‬ما ظل يقلقنا كثرياً يف اآلونة األخرية‪ ،‬هو ذلك الغياب‬
‫سياستهم التغريبية التشويهية والتحنيطية‪ ،‬حيث احنرفوا مبا‬ ‫شبه ال ُكلّي‪ ،‬لالهتمام مبوضوع الثقافة الشعبية‪ ،‬وعدم التفكري يف‬
‫سجلوه من مظاهر الثقافة الشعبية العربية احنرافاً خاطئاً وخطرياً‪،‬‬ ‫مصريها أمام شبح العوملة‪ ...‬وكأن املثقف العربي تنصل من دوره‬
‫فأفرغوها من قيمها األصيلة وعوضوها بقيم غربية من وحي خطتهم‬ ‫الريادي واملسؤول‪ ،‬ومل يعد يأبه باملسألة الثقافية الوطنية الشاملة‬
‫ونيتهم يف تشويه املسرية الثقافية واحلضارية للشعب العربي‪ .‬من‬ ‫(الثقافة الرمسية‪ ،‬والثقافة الشعبية)‪ .‬ومل يعد يأبه أيضا مبا تنسجه‬
‫أجل قطع عالقته جبذوره احلضارية والتارخيية‪ ،‬فأبدعوا قيماً‬ ‫حوله العوملة الثقافية من خيوط عنكبوتية خطرية‪ ،‬واليت تسعى‬
‫ونسبوها إىل العقلية العربية‪ ،‬اليت وصفوها بالتحجر والتخلف‬ ‫جاهدة من أجل شل حركته الثقافية‪ ،‬وقطع جذور وأصول انتماءاته‬
‫والفوضى‪ ،‬وعدم قدرتها على اإلبداع وعلى مسايرة متطلبات العصر‪.‬‬ ‫الثقافية واحلضارية والتارخيية‪ .‬يشغل احلديث عن التخوف من‬
‫لقد اجتهت املنظومة الفكرية االستعمارية بالثقافة الشعبية اجتاهاً‬ ‫شبح العوملة فضاء فكرياً واسعاً عند الشعوب‪ ،‬حيث تعمل جاهدة‬
‫خاطئاً وخطرياً‪ ،‬حيث أفقدتها ماهيتها ودورها الريادي يف احلفاظ‬ ‫وبكل طاقاتها البشرية واملؤسساتية على صيانة ذاتها وانتماءاتها‬
‫على أصالة انتماء الشعب العربي‪ .‬ومهما يكن من أمر نشري إىل أن‬ ‫الثقافية واحلضارية‪ ،‬وذلك من خالل التفعيل احلقيقي واألصيل‬
‫املثقف العربي البورجوازي مل يتحرر من هذه الرؤية االستعمارية‬ ‫ملظاهر ثقافتها الشعبية‪ ،‬كمادة أساسية وحية تطعم وتغذي بها‬
‫يف تعامله مع مظاهر الثقافة الشعبية‪ ،‬حيث ظل هو اآلخر ينعتها‬ ‫ذاتها‪ ،‬وكسالح قوي حتارب به من حياول االعتداء على هويتها أو‬
‫بالسذاجة والتخلف واهلمجية والفوضى واملتوحشة‪ .‬لقد صنع املثقف‬ ‫تشويهها أو تدمريها‪ .‬لقد أحدثت العوملة يف نفسية املثقف العضوي‬
‫العربي جداراً معرفياً وثقافياً وايديولوجياً بني ثقافته أي ثقافة‬ ‫(مبفهوم غرامشي) خوفاً ورعباً كبريين‪ ،‬فهو خياف وخيشى من‬
‫النخبة‪ ،‬وثقافة املؤسسات وثقافة الشعب أو الثقافة الشعبية‪ ،‬واليت‬ ‫أن تسقطه وترمي به يف العدمية والغربة والضياع والالنتماء الثقايف‬
‫مل يقف عند حدود وصفها بالتخلف والضعف‪ ،‬بل وصل به احلد إىل‬ ‫واهلويّاتي‪ ،‬فهو خيشى وخياف من أن تضيع منه خصوصياته‬ ‫ُ‬
‫إقصائها من دائرة الثقافة الوطنية ووضعها يف الطرف املناقض للثقافة‬ ‫الثقافية‪ ،‬اليت قد ال تستطيع املقاومة والصمود‪ ،‬أمام النموذج‬
‫النخبوية وللثقافة الوطنية‪ .‬غري أن الواقع الثقايف واالجتماعي‬ ‫الثقايف الذي تسعى العوملة إىل فرضه‪ .‬ومن ثم فإن الذين يتحدثون‬
‫والتارخيي واإليديولوجي للبنية احلضارية والتارخيية والثقافية‬ ‫عن خماطر العوملة الثقافية املتمثلة يف اخرتاق اخلصوصية الثقافية‬
‫العربية‪ ،‬تبني أن الثقافة الشعبية ليست نفياً للثقافة الوطنية‪،‬‬ ‫هلذه اجملتمعات‪ ،‬لديهم من األسباب املوضوعية ما جيعل قلقهم‬
‫ولكنها تصحيح هلا‪ .‬وهذا التصحيح يكتسب معناه من التصحيح‬ ‫وختوفهم منطقياً‪ .‬فهذه الثقافات رغم ما متلكه من مقومات ذاتية‬
‫السياسي‪ ،‬فإذا كنا نطالب بالدميقراطية‪ ،‬على الصعيد السياسي‪،‬‬ ‫للبقاء واالستمرار‪ ،‬كانت وال تزال ‪ -‬قبيل بزوغ مشس العوملة‬
‫فليس مقبوالً أن نسكت عنها يف امليدان الثقايف‪ ،‬وإذا كنا نطالب‬ ‫– ختوض معركتها مع التحديات والتغريات‪ ،‬اليت شهدتها‬
‫بإمساع صوت الشعب يف اجملالس النيابية وأجهزة اإلعالم‪ ،‬فليس‬ ‫جمتمعاتها يف النصف األخري من القرن املنصرم‪ ،‬واليت أحدثت‬
‫منطقياً أن نسكت عن املطالبة بإفساح اجملال لثقافة هذا الشعب‬ ‫واقعاً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً ونفسياً وبيئياً جديداً‪ ،‬قلل من‬
‫لسماع صوتها من هذه األجهزة‪ .‬إن العالقة بني الثقافة الوطنية‬ ‫حيوية هذه الثقافات‪ ،‬وجفف كثرياً من مصادرها ومنابعها"(‪. )17‬‬
‫والثقافة الشعبية إذن‪ ،‬تتحدد من خالل مصري الدميوقراطية (‪.)18‬‬ ‫ولعل ما أدى باملثقف العربي إىل أن يتحرك بعيداً ومنفصال عن الكيان‬
‫الثقايف الشعيب العربي هي تلك الرؤية االيديومعرفية التحقريية‬
‫إن الثقافة الشعبية‪ ،‬مؤهلة ملواجهة مستقبل ثقايف وسياسي‬ ‫واملدمرة‪ ،‬اليت ورثتها عن املنظومة االستعمارية‪ ،‬اليت كانت دائما‬
‫وإيديولوجي صعب وعنيف‪ ،‬فهي مرشحة خلوض مقاومة على‬ ‫تسعى إىل طمس وتشويه الكيان الثقايف العربي األصيل‪ .‬لقد اهتمت‬
‫ثالث جبهات‪:‬‬ ‫املنظومة الكولونيالية مبكراً مبظاهر الثقافة الشعبية العربية حيث‬
‫‪ .1‬جبهة املاضي‪ ،‬وما ألصقه االستعمار بها من نعوت وأوصاف‬ ‫سخرت لذلك أمواالً كبرية ووسائل ضخمة‪ ،‬كما أوفدت إىل امليدان‬
‫خاطئة وخطرية‪.‬‬ ‫العربي عساكرها وإدارييها ورجال الدين‪ ،‬فنزلوا امليدان واختلطوا‬

‫‪27‬‬
‫بنفسه جوانب غري معروفة من شخصيته وكيانه‪ ،‬ويعرب بنفسه عن‬ ‫‪ .2‬جبهة احلاضر العربي‪ ،‬وما مييز املثقف العربي من مواقف‬
‫كوامن ذاته‪ ،‬وحيكي من داخل مروياته ومأثوراته‪ ،‬حقائق قد يغفل‬ ‫عدائية واحتقارية ملظاهرها املادية واملعنوية والسلوكية وإقصائه‬
‫التاريخ عن ذكرها‪ .‬فالفن الشعيب هو الصورة التكاملية لشخصية‬ ‫إياها من الثقافة الوطنية الشاملة‪.‬‬
‫الشعب‪ ،‬اليت تنعكس يف إبداعه الفين‪ ،‬ويظهر ذلك ضمن أشكال‬ ‫‪ .3‬جبهة املستقبل‪ ،‬وما تريد العوملة فرضه من مناذج ثقافية على‬
‫ممارسته ملأثوراته‪ ،‬وفيما يقيمه من احتفاالت يف األعياد واملناسبات‬ ‫الشعوب‪ ،‬على حساب ثقافتها الشعبية‪ .‬وقد تشكل هذه اجلبهة‬
‫العائلية‪ ...‬ويف طقوس العمل وممارسة مشقة العمل‪ ...‬ويف السفر‪...‬‬ ‫أخطر اجلبهات‪ ،‬ألن العوملة اليت تعترب وسائل االتصال أحد أذرعها‬
‫أو زيارة األماكن املقدسة ويف استقبال أيام السنة‪ ...‬وارتباط ذلك‬ ‫اهلامة‪ ،‬أحكمت سيطرتها على كل شيء حبيث ال يستطيع األفراد‪،‬‬
‫بعقيدته وإميانه الديين‪ ...‬يف صراعه من أجل حتقيق حياة أفضل‪،‬‬ ‫أو اجملتمعات الصغرية‪ ،‬أو الدول االحتفاظ خبصوصياتها معها‪ ،‬إال‬
‫ويف كل نشاط حي ميارسه اإلنسان"‪ .‬غري أن دور املثقف العربي يف‬ ‫أن اهليمنة احملمومة‪ ،‬جعلت األفراد واجلماعات والدول يشعرون‬
‫تفعيل موضوع الثقافة الشعبية غري كاف‪ ،‬فال بد من تدخل املؤسسات‬ ‫بالقلق‪ .‬فالعوملة االقتصادية هلا أثرها على الدول النامية وشعوبها يف‬
‫الرمسية ومشاركتها للمثقف وذلك بالتأطري االداري واملالي والعلمي‬ ‫املستوى االقتصادي واالجتماعي والثقايف‪ ،‬ففي امليدان الثقايف جند أن‬
‫والثقايف والرتبوي‪ .‬وقد يتجلى دور املؤسسات يف احملطات التالية‪.‬‬ ‫الثقافات احمللية هلذه الشعوب‪ ،‬مهددة بأن يصيبها ضرر كبري من‬
‫‪ .1‬تشجيع االهتمام باملادة الشعبية مجعاً وتدويناً وصيانة وإخراجاً‬ ‫العوملة‪ ،‬لعدم توافر اإلمكانات‪ ،‬حلماية هذه الثقافات من الفيضان‪،‬‬
‫يف كتب وجمالت والتعريف بها على نطاق واسع‪.‬‬ ‫الذي يتلقاه الفرد من خالل هذه الوسائط لنقل املعلومات وقنوات‬
‫‪ .2‬تسخري الوسائل السمعية البصرية الضرورية‪ ،‬مثل‪ :‬التسجيل‬ ‫االتصال الفضائية(‪.)19‬‬
‫والتصوير‪.‬‬ ‫قد ال يتحقق هذا األمر إذا كانت هذه الشعوب‪ ،‬وهذه اجملتمعات‬
‫‪ .3‬إنشاء املخابر العلمية واملراكز البحثية اليت تتكفل باملادة الشعبية‬ ‫متتلك القدرة املادية واملعنوية لصيانة ذاتها وكيانها الثقايف اخلاص‪.‬‬
‫فالعوملة ال تكتسح وال تغزو إال الثقافات واجملتمعات والشعوب اليت‬
‫افتقدت معاملها التارخيية واحلضارية‪ ،‬وختلت عن ثقافتها احمللية‬
‫األصلية واألصيلة‪ ،‬وتهاونت يف محاية وصيانة هويتها احلضارية‪.‬‬
‫الــــهـــــوامش‬
‫فإذا كانت العوملة كطرح اقتصادي واجتماعي وثقايف تسعى جاهدة‬
‫‪ .1‬د‪ .‬سامية حسن الساعاتي‪ ،‬الثقافة والشخصية‪ ،‬حبث يف علم االجتماع الثقايف‪ ،‬دار‬
‫النهضة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،1983 ،‬ص ‪.35‬‬
‫من أجل إخضاع كل اجملتمعات‪ ،‬وكل الثقافات‪ ،‬وكل الشعوب إىل‬
‫‪ .2‬م‪ .‬ن‪ :‬ص‪35 ،‬‬ ‫منطق واحد وموحد‪ ،‬فإن هذا ال يعين الذوبان واالستسالم لعادات‬
‫‪ .3‬م‪ .‬ن‪ :‬ص‪.36 ،‬‬
‫‪ .4‬م‪ .‬ن‪ :‬ص‪.50 ،‬‬
‫الغري وتقليده‪ ،‬وإمنا ضرورة العودة للثقافة الشعبية‪ ،‬وهي الوحيدة‬
‫‪ .5‬م‪ .‬ن‪ :‬ص‪.51 ،‬‬ ‫القادرة على مواجهة العوملة‪ .‬فبفضلها يتحصن املرء‪ ،‬ويأخذ جرعات‬
‫‪ .6‬م‪ .‬ن‪ :‬ص‪.35 ،‬‬ ‫املواجهة النافعة اليت ال تعزله وال تذيبه‪ ،‬والثقافة الشعبية هي‬
‫‪ .7‬م‪ .‬ن‪ :‬ص‪.28 ،‬‬
‫‪ .8‬م‪ .‬ن‪ :‬ص‪.27 ،‬‬ ‫حجر عثرة يف وجه دعاة العوملة‪ ،‬ألنها تعطي لكل جمتمع عناصر‬
‫‪ .9‬حممد بزيكا‪" ،‬مفهوم الثقافة الشعبية بني املثقف العضوي والتقليدي"‪ ،‬جملة آفاق‪،‬‬ ‫التمييز واالستقاللية من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى تقوي الوحدة‬
‫الصادرة عن احتاد كتاب املغرب‪ ،‬السلسلة اجلديدة‪ ،‬ع ‪ ،9‬يناير‪ ،1982 ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪ .10‬هيام امللقي‪ ،‬ثقافتنا يف مواجهة االنفتاح احلضاري‪ ،‬دار الشواف للنشر والتوزيع‪،‬‬ ‫الوطنية وذلك لتنوعها(‪.)20‬‬
‫الرياض‪ ،1995 ،‬ص ‪.261‬‬ ‫بعدما وقفنا على مفهوم الثقافة الشعبية ووظيفتها التارخيية‬
‫‪ .11‬عبد اللطيف الربغوثي‪" :‬بني الرتاث الرمسي والرتاث الشعيب‪ ،‬جملة صامد‬
‫االقتصادي‪ ،‬العددان ‪ ،67-68‬السنة ‪ ،9‬آيار‪ ،‬حزيران‪ ،‬متوز‪ ،‬آب‪ ،1997 ،‬ص‬
‫واحلضارية وواقعها االجتماعي والثقايف‪ ،‬حناول احلديث عن أهم‬
‫‪.24‬‬ ‫امليكانيزمات واإلجراءات املنهجية واملعرفية الضرورية من أجل‬
‫‪ .12‬هيام امللقي‪ :‬م‪ .‬س‪ ،‬ص ‪.260‬‬
‫‪ .13‬هيام امللقي‪ :‬م‪ .‬س‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫تفعيلها وصيانتها ومحايتها من االندثار والزوال‪ .‬ولعل أهم حمطة‬
‫‪ .14‬م‪ .‬س‪ ،‬ص ‪25‬‬ ‫ميكن االنطالق منها‪ ،‬هي التفكري يف مستقبل الثقافة الشعبية‪،‬‬
‫‪ .15‬د‪ .‬أمحد بن نعمان‪ :‬اهلوية الوطنية – احلقائق واملغالطات‪ ،‬شركة دار األمة للطباعة‬ ‫ويف قدرة املنظومة الفكرية العربية على التكفل مبوضوع الثقافة‬
‫والرتمجة والنشر والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪ ،1996 ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ .16‬كلمة التحرير‪ ،‬جملة املأثورات الشعبية‪ ،‬الصادرة عن مركز الرتاث الشعيب جمللس‬ ‫الشعبية تكفالً علمياً سليماً وأميناً‪ ،‬تبقى دون أدنى شك تلك احملطة‬
‫التعاون اخلليجي‪ ،‬السنة ‪ ،16‬العدد ‪ ،63‬قطر يوليو ‪.2001‬‬ ‫املرتبطة مبوقف املثقف العربي وبرؤيته هلا‪ .‬فهو مطالب بتغيري‬
‫‪ .17‬حممد بزيكا‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ .18‬كلمة التحرير‪ ،‬جملة املأثورات الشعبية‪ ،‬السنة ‪ 14‬العددان ‪ 55-56‬قطر يوليو‪-‬‬ ‫ذلك املوقف‪ ،‬وتلك الرؤية‪ ،‬واالهتمام بها كجزء ثابت ال يتجزأ‬
‫أكتوبر ‪.1999‬‬ ‫من حضارة وثقافة وتاريخ شعبه العريق والعتيق‪ .‬فهو مطالب أيضا‬
‫‪ .19‬صاحل جديد‪ ،‬األشكال التعبريية الشعبية وحتديات العوملة‪ ،‬جملة اجمللس األعلى‬
‫للغة العربية‪ ،‬اجلزائر ‪ ،2002‬ص ‪.75‬‬
‫بدراستها دراسة علمية‪ ،‬ملعرفة األصول التارخيية لشعبه‪ ،‬وكذا‬
‫‪ .20‬صفوت كمال‪ ،‬مدخل لدراسة الفلكلور الكوييت‪ ،‬ط ‪ 2‬الكويت‪ ،1973 ،‬ص ‪76‬‬ ‫أمناط تفكريه ورؤيته للحياة ولألشياء‪« :‬ألن الشعب دائما يقدم‬

‫‪28‬‬

You might also like