You are on page 1of 189

‫فيصل األحمر‬

‫أفق الدراسات الثقافية‬

‫دراسة‬

‫‪1‬‬
‫املحتويات‬
‫ُ‬
‫مقدمة األفق‬ ‫‪‬‬
‫أفق معرفي‪ :‬أفق الدراسات الثقافية‬ ‫‪‬‬
‫أفق فلسفي‪ :‬من سلطة التدليل إلى سلطة التخييل‪ ،‬بين السرد والتاريخ‬ ‫‪‬‬
‫افق اللغة‪ :‬شذرات من خطاب لغوي‬ ‫‪‬‬

‫أفق النص‪ :‬النص من منظور الدراسات الثقافية‬ ‫‪‬‬


‫أفق التاريخ‪ :‬مقدمات جديدة فـي فلسفة التاريخ‪ ،‬باتجاه هيرمينوطيقا التاريخ‬ ‫‪‬‬

‫أفق االفتراض‪ :‬الخيال العلمي و الفلسفة‬ ‫‪‬‬

‫أفق تحقيبي‪ :‬في مقاربة ما بعد البنيويـة‬ ‫‪‬‬

‫أفق إيطيقي‪:‬حكمة لألزمنة الجديدة‪ ،‬املشروع األخالقي لدى إدغار موران‬ ‫‪‬‬
‫أفق الواقع‪ :‬الخيال العلمي واملستنسخ‬ ‫‪‬‬

‫افق الصوت‪/‬الداللة‪ :‬الصوت والداللة‬ ‫‪‬‬


‫أفق الفلسفة‪...‬مرة أخرى‪ :‬يوميات فلسفية‬ ‫‪‬‬
‫أفق التنوير‪ :‬في الحاجة إلى التنوير (حوار مع فيصل األحمر)‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪2‬‬
‫ُ‬
‫مقدمة األفق‬
‫تعد الدراسات الثقافية مجاال مبتكرا متع"دد االختصاص"ات للبحث والنق"د والت"دريس‪ ،‬ي"درس الط"رق ال"تي‬
‫تولد بها "الثقافة"" والطرق التي تحول من خاللها الخبرات الفردية والحياة اليومي""ة والعالق""ات االجتماعي"ة"‬
‫و ترسم عبرها خرائط السلطة‪ .‬يستكشف البحث والتدريس في الدراسات الثقافية العالقات بين الثقافة‬
‫وزمري""ة‪ ،‬و ك ""ذلك مفه ""وم الثقاف ""ات ال""تي تتق""دم أمامن""ا على أنه""ا‬ ‫ال""تي تفهم على أنه ""ا أنش""طة تعبيري ""ة رمزي""ة ُ‬
‫ط" ""رق مم" ""يزة للحي" ""اة‪ .‬وتعتم" ""د الدراس" ""ات الثقافي" "ة" باس" ""تعمال تش" ""كيلة بديع" ""ة من نق" ""اط الق" ""وة في العل" ""وم‬
‫االجتماعية والعلوم اإلنسانية على األساليب والنظريات املنتشرة في ميادين مث"ل الدراس"ات األدبي""ة‪ ،‬وعلم‬
‫االجتماع‪ "،‬ودراسات االتصاالت‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬واألنثروبولوجي"ا الثقافي"ة‪ "،‬واالقتص"اد‪ .‬ثم ترتك"ز على االش"تغال‬
‫عبر الحدود بين هذه املجاالت‪ .‬الدراسات الثقافية" تعالج أسئلة ومشاكل جديدة مما يطرأ في الع"الم الي"وم‪.‬‬
‫وبدال من البحث عن اإلجابات التي ستستمر طوال الوقت‪ ،‬تقوم الدراسات الثقافية بتط""وير أدوات مرن""ة‬
‫تتكيف مع هذا العالم املتغير بسرعة‪.‬‬

‫الدراس""ات الثقافي""ة ال تبتع""د عن كونه""ا حقال ع""ابرا للتخصص""ات يه""دف إلى إلق""اء الض""وء على املمارس""ات‬
‫الثقافي"ة والش"كل الخفي ال"ذي تملك"ه املق"والت الثقافي"ة" لكي تن"درج في أش"كال من املمارس"ة اإليديولوجي"ة‬
‫والسياس""ية غ""ير البريئ""ة ال""تي ترتك""ز عليه""ا ف""ترات تاريخي""ة لكي تم""ارس" ابع""د األش""ياء ال""تي يمكنه""ا أن ترتب""ط‬
‫بمع""نى الثقاف""ة ال""ذي يحي""ل على النب""ل واإلنس""انية والتع""الي" وال""روح املنفتح""ة على الع""الم ال على االس""تعمار‬
‫والعبودي""ة وهض""م حق""وق اآلخ""رين والرغب""ة الجامح""ة في الهيمن""ة وفي مح""ق األقلي""ات‪...‬وأش""كال أخ""رى من‬
‫الشقاء البشري والشطط السياسي الذي كثيرا ما بررته الثقافة‪.‬‬

‫من ه ""ذه الزاوي ""ة يتح ""ول حق ""ل الدراس ""ات الثقافي" "ة" إلى س ""احة نظري ""ة ه ""دفها كس ""ر مق ""والت وتعويض ""ها‬
‫نظري قوية تنتهي إلى تجديد وعينا بالع"الم‪ ،‬ونفض غب"ار اليقين الزائ"ف‬ ‫ّ‬ ‫بمقوالت أخرى‪ .‬في عمليات ضخ‬
‫الذي ال ركيزة له إال الزمن والتعود والتكرار الذي علم الدمار – بدال من تعليم الحمار‪.-‬‬

‫تك" " ""رس الدراس" " ""ات الثقافي " " "ة" لفهم املمارس" " ""ات النص" " ""ية ال" " ""تي من خالله" " ""ا تعم" " ""ل املراح" " ""ل واملجتمع" " ""ات‪،‬‬
‫واملجموع ""ات املتنوع ""ة املتش""كلة واملعتمل ""ة داخله""ا‪ ،‬على خل ""ق تواف""ق وهمي م""ع الت ""اريخ والحي""اة املجتمعي""ة‪"،‬‬
‫وتح""ديات املس""تقبل‪ ،‬وه""و امللمح ال""ذي ينتج من خالل""ه الش""كل الخ""اص لتعام""ل النق""د الثق""افي م""ع النص""وص‬
‫ال""تي يعم""ل عليه""ا‪ .‬وتنطل""ق الدراس""ات الثقافي""ة من جمل""ة من أس""ئلة يب""دو أن املع""ارف ال""تي تتق""اطع معه""ا ه""ذه‬
‫الدراسات لم تتع"ود طرحه"ا‪ ،‬فهي مقارب"ة متع"ددة التخصص"ات واملن"اهج واإلج"راءات للظ"اهرة الحياتي"ة –‬
‫كم""ا أس""لفنا‪ -‬ه""دفها خل""ق منظ""ورات جدي""دة ص""وب موض""وعات مألوف""ة ص""ار عس""يرا أن نزعزعه""ا أو نختل""ق‬

‫‪3‬‬
‫إزاءها ادعاءات جديدة للحقيقة‪ .‬أطر نظرية وممارسات ثقافي"ة ونص"ية ه"دفها" ال"رئيس ه"و تقصي الطري"ق‬
‫املعق ""دة ال ""تي تتش ""كل وتتح ""ول من خالله ""ا التج ""ارب الفردي ""ة والص ""الت الجماعي ""ة‪ ،‬وك ""ذلك مظ ""اهر الحي ""اة‬
‫اليومية في سطحيتها املخادعة‪ ،‬وكل املوضوعات والخبرات والتمثيالت التي درجنا على تسميتها "الثقاف"ة"‪"،‬‬
‫وال""تي يع""د النص األدبي اح""د أملع تجلياته""ا‪ ،‬وذل""ك في إط""ار من وص""ف جينيالوجي"ا" الظ""واهر من جه""ة وفض""ح‬
‫صالت الهيمنة التي تتحكم فيها أو تنتج عنها من جهة أخرى‪.‬‬

‫إنه حقل وليد س"ياق ت"اريخي معطى‪ .‬س"ياق وج"د نفس"ه ال"وريث الت"اريخي لح"ربين كوني"تين مجنون"تين‪ ،‬دون‬
‫إهم ""ال ال ""دور ال ""ذي لعب ""ه الس ""ياق مابع ""د الكولوني ""الي وريث الج ""انب املش ""رق من الفك ""ر املاركس ي اآلف ""ل‪،‬‬
‫وكذا طرائق نظر وعمل ما بعد البنيوية الوريثة الوفية والجسورة للبنيوية ‪ ،‬والفلسفة التحليلي""ة وريث""ة‬
‫التقالي " ""د التجريبي " ""ة والوض " ""عية‪ ،‬والتداولي " ""ة الجدي " ""دة وريث " ""ة البراغماتي " ""ة‪ ،‬واالثنوغرافي " ""ا وريث " ""ة العين‬
‫األنثروبولوجي ""ة‪ ،‬م ""ع قابلي ""ة امتص ""اص كب ""يرة للحساس ""يات العلمي ""ة املنتش ""رة بش ""كل عس ""ير على اللملم ""ة‬
‫تحت راي ""ات من قبي ""ل الحداث ""ة‪ ،‬مابع ""د املاركس ""ية‪ "،‬النظري ""ة الفرنس ""ية‪ ،‬س ""يميائيات الثقاف ""ة‪ ،‬االقتص ""اد‬
‫السياسي‪ ،‬الت""اريخ السياسي‪ ،‬نق""د املش""روع التن"ويري‪ ،‬م"دارس فرانكف"ورت‪ ،‬ب""اريس‪ ،‬لن"دن‪ ،‬يي"ل‪ ... ،‬وكله""ا‬
‫آف ""اق معرفي ""ة تجتم ""ع عن ""د النقط ""ة ال ""تي اجترحه ""ا الثالثي الفلس ""في اله ""ام‪ :‬كان ""ط‪/‬هيغ ""ل‪/‬م ""اركس؛ الثالثي‬
‫ال" ""ذي ردم اله" ""وة الكالس" ""يكية بين املع" ""نى الفلس" ""في وبين اجه" ""زة الس ""لطة‪ .‬فص" ""ار م" ""ا يق" ""ال في الجامع" ""ة في‬
‫ُ‬
‫الفضاء األك"اديمي على ص"لة وطي"دة بم"ا يق"ال في املج"الس السياس"ية واالقتص"ادية‪ ،‬وبه"ذا كش"ف ألول م"رة‬
‫عن الحب""ل الس""ري الك""امن بين قاع""ة ال""درس في ال""رحم األك""اديمي وبين املج""الس املنتخب""ة او املعين""ة ال""تي‬
‫تمثل جمهور الناس وتتخذ القرارات السياسية بدال عنهم‪.‬‬

‫ه""ذا الحب"ل الس""ري ه"و أهم م""ا ي""دور حول""ه الترك"يز في أف""ق الدراس""ات الثقافي"ة" ال""ذي يختص"ر مش""روعه في‬
‫عناوين صارت منذ قرابة األربعين س"نة من كالس"يكيات ال"دروس الجامعي"ة ‪ :‬م"ا عالق"ة الخط"اب بالع"الم؟‬
‫كي""ف تعم""ل النص""وص على توجي""ه دف""ة الع""الم؟ كي""ف تتعام""ل أجه""زة الس""لطة م""ع الفض""اء األك""اديمي ال""ذي‬
‫يتفاع""ل معه""ا؟ م""ا عالق""ات التق""اطع الخفي""ة بين الس""لطة والحقيق""ة (املع""نى ال""ذي تم ترس""يمه مؤسس""اتيا)؟‬
‫م ""ا حقيق ""ة النس ""خ العدي ""دة للحقيق ""ة ال ""تي ينتجه ""ا الت ""اريخ؟ كي ""ف تتص ""ارع وكي ""ف تفض نزاعاته ""ا؟ م ""ا هي‬
‫آلي" ""ات مراجع" ""ة قيم طبق" ""ة أو مرحل" ""ة معين" ""ة؟ وم" ""ا حقيق" ""ة وش" ""كل الج" ""دل الق" ""ائم بين الجه" ""از السياس ي‬
‫والجهاز الفكري اللذين يعتمالن ويشتغالن في الحقبة نفسها؟‬

‫اتخذت املدرسة األنغلوسكسونية ذات الري"ادة في ه"ذا املي"دان عن"وان الثقاف"ة بس"بب مي"ل انغلوسكس"وني‬
‫ص""وب اإليم""ان ب""دور "نم""ط معين" من الثقاف""ة في املحافظ"ة" على نظ""ام ق""ائم معين‪ .‬فعن""وان الثقاف"ة" يتج""اوز‬

‫‪4‬‬
‫في ع " " ""رفهم املعرف " " ""ة ص " " ""وب املمارس " " ""ة‪ ،‬وي " " ""نزلق بيس " " ""ر من القيمي ص " " ""وب الس " " ""لوكي؛ أي من الوج " " ""ود‬
‫االستيطيقي املحض صوب البعد االيطيقي املورط سياسيا‪ .‬لهذا نج""د أولى محط""ات ه""ذا الحق"ل تمثلت في‬
‫مراجع ""ة املدون ""ة الجماليى ""ة (أو النقدي ""ة) لألدب في املنه ""اج األك ""اديمي االنغل ""يزي‪ ،‬إذ أش ""ار ريمون ""د ويليم ""ز‬
‫مبك ""را إلى محدودي ""ة نظ ""ام الحكم الجم ""الي" على النص ""وص "املرس ""مة او الكالس ""يكية"‪ "،‬وأش ""ار إلى أن ه ""ذه‬
‫النص""وص تمث""ل دع""وات للتفك""ير العمي""ق والج""دي في املع""نى الح""الي للثقاف""ة‪ "،‬وأن ثقاف "ة" انجبت النص""وص‬
‫وأنجبتنا أو أنجبناه"ا" ق"د تتجلى بجالء من خالل زواي"ا نظرن"ا ص"وبها‪ ،‬وهي نظ"رة س"تجد ل"دى ل"وي ألتوس"ير‬
‫ثم فوكو كل املسميات الواص"فة له"ا واألط"ر النظري"ة ال"تي توض"ع فيه"ا ه"ذه النص"وص ال"تي ال يمكن فهمه"ا‬
‫إال على اس ""اس كونه ""ا خطاب ""ات؛ فيه ""ا إنت ""اج نص ""وص‪ ،‬وتوجيهه ""ا‪ ،‬واس ""تغاللها اي ""ديولوجيا وسياس ""يا ألج ""ل‬
‫إنت""اج نظ""ام الهيمن""ة ال""ذي ط""ال تأم""ل أنطوني""و غرامشي في""ه‪ .‬هيمن""ة ي""رى فوك""و أنه""ا تكمن في فع""ل س""لطة‬
‫يمل ""ك طابع ""ا خطابي ""ا‪ "،‬وال يمكن تمثل ""ه إال ذائب ""ا ذوبان ""ا تام ""ا في بوتق ""ة املمارس ""ات الخطابي ""ة‪ .‬إذ إن ص ""راع‬
‫السلطة ال يتم إال داخل الخطاب كما يقول فوكو‪.‬‬

‫إن النظر صوب الثقافة كميدان ملعاينة ك"ل مع"اني الحقيق"ة م"وروث عن مدرس"ة فرنكف"ورت‪ .‬فق"د دار في‬
‫الس""نوات القليل""ة الس""ابقة ل""بروز ه""ذا الس""ياق املع""رفي ج""دل خص""ب بين تي""ودور ادورن""و وص""ديقه الل""دود‬
‫وولتر بنيامين حول موق"ع الثقاف"ة انتهى بهم"ا إلى ثنائي"ة قطبي"ة اس"تفادت منه"ا الدراس"ات الثقافي"ة‪ ":‬اإليم"ان‬
‫بق""درة الثقاف""ة على تش""كيل م""رآة لرؤي""ة الحي""اة والت""اريخ‪ "،‬ال لتش""كيل وهم رومانسي حولهم""ا‪ ،‬أو تحميلهم""ا‬
‫بأحك" ""ام مس" ""تعادة جيال بع" ""د جي" ""ل ت" ""دعي طوباوي" ""ة في األحك" ""ام فحس" ""ب‪ ،‬ب" ""ل للعم" ""ل على كش" ""ف األنس" ""اق‬
‫التحتي""ة (وه""و مص""طلح ح""بيب على قل""وب رواد ه""ذا األف""ق) له""ذه املنتج""ات الثقافي""ة ‪ ،‬إذ ال توج""د وثيق""ة‬
‫ترتفع باملعنى الحضاري إال وهي وثيقة تتدنى إلى غياهب الهمجية كما كان يقول بنيامين‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبن""اء على ه""ذه ال""رؤى‪ ،‬يص"بح يس"يرا النظ""ر ص"وب الدراس"ات الثقافي""ة على أنه"ا بن"اء نظ"ري يمكن املعلقين‬
‫والدارسين من االنفتاح على مختلف املعارف والعلوم والتخصصات ألجل تشكيل أحكام وأوصاف حول‬
‫الع""الم ال""ذي نعيش في""ه‪ ".‬كم""ا يمكنن""ا فهم الطبيع""ة املتش""ظية في مختل""ف املع""ارف له""ذا الحق""ل ال""ذي ينطل""ق‬
‫من وهم تس""مية جامع""ة لكي يص""بح باب""ا ينفتح وال ينغل""ق أب""دا؛ ألن خلف""ه باب""ا آخ""ر‪...‬وهك""ذا‪...‬إلى غاي""ة نف""اد‬
‫األشياء ومسمياتها كلها‪.‬‬
‫ُ‬
‫يق""ترح علين""ا ه""ذا األف""ق املع""رفي ترس""يمته الكرونولوجي""ة امللزم""ة فتظه""ر لن""ا أعم""ال ىب""اء اولين هم فردينان""د‬
‫دو سوس"ير ور‪.‬م‪ .‬ليفيس وفروي"د وم"اركس وفري"ديريش إنغل"ز‪ ،‬ثم أعالم النظري"ة الفرنس"ية الكب"ار‪ :‬كل"ود‬
‫ليفي ش ""تراوس وميش ""ال فوك ""و وج ""اك ديري ""دا وبي ""ار بوردي ""و ثم ل ""وي آلتوس ""ير وجي ""ل دول ""وز وروالن ب ""ارط‬

‫‪5‬‬
‫وجاك الك"ان‪ . . .‬وبس"رعة نع"بر األب"وة املباش"رة واملعلن عنه"ا أثن"اء الت"أريخ املدرسي لك"ل من ريمون"د ويلي"امز‬
‫وس " ""تيوارت ه " ""ال ب " ""دءا من منتص " ""ف س " ""تينيات الق " ""رن العش " ""رين وانته " ""اء بم " ""ا ال ح " ""د ل " ""ه من األعالم ومن‬
‫األعم""ال‪ :‬ب""ول غيل""روي‪ -‬دي""ك هيب""دج‪ -‬إدورد س""عيد‪ -‬ط""وني بي""نيت‪ -‬ه""ومي بهاه""ا‪ "-‬أنجيال م""اكروبي‪ -‬غاي""اتري‬
‫س ""بيفاك‪ -‬جولي ""ا كريس ""تيفا‪ -‬أنطوني ""و نيغ ""ري‪ -‬زيغم ""ونت باوم ""ان‪ -‬كورن ""ل ويس ""ت‪ -‬إرنس ""تو الكل ""و‪ -‬ش ""انطال‬
‫م""وف‪ -‬فرانس""وا ليوط""ار‪-‬ريتش""ارد هوغ""ارت‪ -‬دون""ا ه""اراواي‪ -‬بي""ل ه""وكس‪ -‬فري""ديريك جيمس""ن‪ -‬س""اره ميل""ز‪-‬‬
‫جوناث" ""ان ك" ""الر‪ -‬الورنس غروس" ""بيرغ‪ -‬انط" ""وني غي" ""دنز‪ -‬ب" ""ول غيل" ""روي‪ -‬كليف" ""ور غ" ""يرتز‪ ...‬والغ" ""ائب عن ه" ""ذه‬
‫القائمة اكثر من الحاضر في كنفها‪.‬‬

‫وه ""ذا م ""ا يجع ""ل الحق ""ل يش ""به أن يك ""ون علب ""ة أدوات قابل ""ة جميعه ""ا لالس ""تعمال حس ""ب الحاج ""ة املنهجي ""ة‬
‫الطارئ""ة؛" علب""ة أدوات تض""م حق""وال معرفي""ة وفلس""فية ش""ديدة التن""افر من قبي""ل‪ :‬اإلثنوغرافي""ا‪ ،‬النس""وية‪،‬‬
‫املاركس ""ية‪ "،‬فلس ""فة اللغ ""ة‪ ،‬االقتص ""اد السياس ي‪ ،‬نظري ""ة م ""ا بع ""د االس ""تعمار‪ ،‬م ""ا بع ""د املاركس ""ية‪ ،‬م ""ا بع ""د‬
‫البنيوي " ""ة‪ ،‬التداولي " ""ة‪ ،‬التحلي " ""ل النفس ي‪ ،‬البنيوي " ""ة‪ ،‬الس " ""يميائية‪ "،‬النس " ""وية ودراس " ""ات الجن " ""در‪ ،‬التحلي " ""ل‬
‫النصوص ي‪ ،‬البالغ" ""ة الجدي" ""دة‪ ،‬الهيرمينوطيق" ""ا‪ ،‬نظري" ""ة االتص" ""ال‪ . . .‬وتب" ""دو قائم" ""ة مفتوح " "ة" جوهري" ""ا‪. . ".‬‬
‫وينتمي إليه" ""ا عش" ""رات الب" ""احثين ربم" ""ا أش" ""هرهم في الض" ""احية العربي" ""ة إدورد س" ""عيد وفري" ""ديريك جيمس" ""ن‬
‫وهومي بابا بفضل الترجمات الكثيرة ألعمالهم‪.‬‬

‫من املث ""ير لالنتب ""اه ان نش ""ير إلى س ""ياق آخ ""ر يض ""اهي في أهميت ""ه س ""ياق ش ""يوع الفك ""ر املاركس ي في مرحل ""ة‬
‫مابع ""د الح ""رب الكوني ""ة الثاني ""ة ؛ أقص ""د الس ""ياق م ""ا بع ""د الكولوني ""الي ‪ .‬فه ""و س ""ياق اس ""تجلبه نظ ""ام معق ""د‬
‫وخطير من النصوص التي بررت ألوروبا الغالبة فعل ما فعلته‪ .‬فغالبا ما تأتينا النص""وص ملغم""ة ب""اليقين‬
‫الق" ""ديم املالزم له" ""ا – كم" ""ا أس ""لفنا‪ -‬لتش" ""كل حولن" ""ا س" ""ياجا" معق" ""دا اس" ""مه‪ :‬امليتافيزيق" ""ا‪ .‬ليس" ""ت ميتافيزيق" ""ا‬
‫أفالط"ون وأرس"طو وس"بينوزا ال"تي تحي"ل على الالم"رئي ال"ديني ب"ل امليتافيزيق"ا ب"املعنى الديري"دي ال"تي تحي"ل‬
‫على مس ""لمات ذات تقالي ""د قوي ""ة يص ""عب جره "ا" إلى دائ ""رة املراجع ""ة‪ ،‬لتص ""بح ش ""بيهة ب ""اليقين ال ""ديني ال ""ذي‬
‫غالبا ما يتحول على حقيقة تتموقع فوق املعاينة واملراجعة‪.‬‬

‫يعم " ""ل أف " ""ق الدراس " ""ات الثقافي " ""ة على كس " ""ر ه " ""ذه االدع " ""اءات اإلبس " ""تمولوجية" ال " ""تي تس " ""كن قوقع" " "ة"‬
‫الجوهراني ""ة في غ ""ير حاج "ة" إلى التفك ""ير في تفكيكه ""ا او البحث عن ج ""ذورها‪...‬فهي ذات وج ""ود إلهي أو ش ""به‬
‫إلهي ال يحت" ""اج إلى ج" ""ذور وال داعي للبحث عن فروع" ""ه‪ .‬نزع" ""ة الحق" ""ائق في الع" ""الم الغ" ""ربي نزع" ""ة ماهوي" "ة"‬
‫"ولية نتج عنه""ا عن""ف الحرك""ات االس""تعمارية ال""تي ج""اء الس""ياق الح""داثي ثم الس""ياق مابع""د الح""داثي‬ ‫وأص" ّ‬
‫ف"دعيا إلى إع"ادة التفك"ير في"ه‪ .‬وهي دع"وة لعب أبن"اء مس"تعمرات األمس الق"ريب دورا هام"ا" في إرس"ائها من‬
‫خالل إع" ""ادة ق" ""راءات النص" ""وص املش" ""كلة للبن" ""اء الع" ""تيق للفلس" ""فة الغربي" ""ة‪ .‬وهي الحرك" ""ة ال" ""تي دع" ""ا إليه" ""ا‬

‫‪6‬‬
‫ومارسها وأصاب غيره بعدواها الفيلسوف جزائري األص"ول مغ"اربي املنبت إف"ريقي الثقاف"ة ج"اك ديري"دا‪.‬‬
‫وهو منحى يمكن إدراج إدورد سعيد وهومي بهابها وفرانز فانون وستيوارت هال ضمنه‪.‬‬

‫من املث""ير لالنتب""اه وللتأم""ل أن ن""رى ال""ثراء الكب""ير للنظري""ة ال""ذي يجع""ل الدراس""ات الثقافي""ة تخصص""ا مرن""ا‬
‫فيجعله""ا ب""ذلك تتش""كل بش""كل خ""اص" كلم""ا ع""برت ح" ًّ"دا جغرافي""ا‪ ".‬ف""أنت إن ذهبت إلى أميرك""ا وج""دت هيمن""ة‬
‫ملوض"وعات كالنظري"ة السياس"ية واالقتص"اد السياسي وال"دور املرك"زي للمي"ديا في ص"ناعة ال"وعي وفي رس"م‬
‫الخطاط""ات االيديولوجي ""ة‪ ،‬ف ""إن أنت ع""برت املحي ""ط إلى آس""يا القص ""وى وج ""دت الق""وم يتن ""اولون مواض""يع‬
‫كالهجنة ودور االقلي"ات والفض"اء مابع"د الكولوني"الي ال"ذي لعب دورا كب"يرا في الهندس"ة الثقافي"ة" في بل"دان‬
‫أص""ابها االس""تعمار في ش""فرتها الجيني""ة‪ .‬وإن أنت س""اءلت الدراس""ات الثقافي"ة" في أوروب""ا وج""دت جبه""ة قوي""ة‬
‫تمث""ل أوروب""ا العتيق""ة املولع""ة بقض""ايا اإلي""ديولوجيا والهيمن""ة األبوي""ة وبص""ورة الخ""روج العس""ير من دول""ة‬
‫األب املهيمن أو الدول" ""ة الفاتيكاني" ""ة‪ ،‬إن ص" ""ح التعب" ""ير‪ ،‬إلى الش" ""كل الع" ""ولمي للدول" ""ة االفتراض" ""ية مفتوح" ""ة‬
‫الح""دود ال""تي تمل""ك ال""ف عين وال ت""رى إال م""ا تري""ده هي حينم""ا ال تري""ده انت‪ .‬أم""ا في بريطاني""ا فس""وف تج""د‬
‫تك ""رارا عص ""ابيا لعن ""وان اليس ""ار ال ""ذي ورث ""ه بش ""كل موف ""ق ج ""دا نبالء العص ""ر الفيكت ""وري فش ""كلوا م ""ذهبا‬
‫"فابيا" يجتهد ألجل املحافظة على طبقة نبيلة راقي"ة تمل"ك مع"نى "معين"ا"" للثقاف"ة" م"ع انفت"اح غ"ريب الش"كل‬
‫واملعنى على الثقافات التحتية – كما يظهر ذلك في امليدان الذي هيمن علي""ه االنغل""يز في الق""رن العش""رين‪:‬‬
‫املوس""يقى الش""عبية ‪ ،‬وه""و ت""راوح بين املع""نى"النبي""ل" واملع""نى "املهله""ل" للثقاف""ة ال يمكن تص""وره في أملاني""ا او‬
‫فرنسا ‪...‬‬

‫ام ""ا إن بحثت عن الدراس ""ات الثقافي ""ة في البالد العربي ""ة ال ""تي تعنين ""ا اك ""ثر من غيره ""ا فإن ""ك س ""تجد عكوف ""ا‬
‫مبالغا فيه على إدورد سعيد‪ ،‬وتكرارا ملقوالته ال يحده حد‪ ،‬بحيث صارت الدراسات الثقافية مختزلة في‬
‫كتابين هما "االستش"راق" و"الثقاف"ة واإلمبريالي"ة"‪ "،‬وفي مقول"تين أو ثالث مم"ا ه"و وارد في الئح"ة محتوي"ات‬
‫الكتاب‪ ...‬وهذا ما دفعنا في هذا الكتاب صوب اتخ"اذ موق"ع ال"دارس الثق"افي ب"دال من الح"ديث املك"رور غ"ير‬
‫املهض""وم عن الدراس""ات الثقافي""ة‪ ".‬وفض""لنا تن""اول مجموع""ة من املوض""وعات ال""تي كث""يرا م""ا اش""تغلنا عليه""ا‬
‫بطريق""ة العي""ون املتع""ددة للدراس""ة الع""ابرة للتخصص""ات م""ع تحدي""د دائ""رة التنظ""ير للمقارب""ة الثقافي""ة ال""تي‬
‫نن""درج ض""منها‪ .‬ف""إن ق""ال قائ""ل بأنه""ا مقارب""ات ال تتم""اس احيان""ا م""ع الدراس""ات الثقافي""ة بمعانيه""ا املدرس""ية‬
‫املالوفة‪ "،‬وتخطئ هذا التماس م"رات أخ"رى‪ ،‬قلن"ا ل"ه إن الدراس"ات الثقافي"ة مائ"ة ش"عبة ف"إذا أنت اخ"ترت‬
‫شعبة جانبت بالضرورة تسعا وتسعين شعبة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫فيصل األحمر‬

‫أفق معرفي‬

‫أفق الدراسات الثقافية‬

‫تنطلق الدراسات الثقافي"ة من جمل"ة من أس"ئلة يب"دو أن املع"ارف ال"تي تتق"اطع معه"ا ه"ذه الدراس"ات لم‬
‫تتع ""ود طرحه ""ا‪ ،‬فهي مقارب ""ة متع ""ددة التخصص ""ات واملن ""اهج واإلج ""راءات للظ ""اهرة الحياتي ""ة‪ "،‬ه ""دفها‬
‫ال ""رئيس ه" ""و تقص ي الطري" ""ق املعق" ""دة ال" ""تي تتش" ""كل وتتح ""ول من خالله ""ا التج" ""ارب الفردي" ""ة والص ""الت‬
‫الجماعي" ""ة وك" ""ذلك مظ" ""اهر الحي" ""اة اليومي" ""ة في س" ""طحيتها املخادع" ""ة‪ ،‬وك" ""ل املوض" ""وعات والخ" ""برات‬
‫والتم ""ثيالت ال ""تي درجن ""ا على تس ""ميتها "الثقاف ""ة"‪ ،‬وذل ""ك في إط ""ار من وص ""ف جينيالوجي ""ا الظ ""واهر من‬
‫جهة وفضح صالت الهيمنة التي تتحكم فيها أو تنتج عنها من جهة أخرى‪.‬‬

‫تتق""دم الدراس""ات الثقافي""ة كمحاول""ة جدي""دة لط""رح أس""ئلة جوهري "ة" ح""ول الع""الم – تمام""ا كم""ا تفع""ل‬
‫الفلس" ""فة ط" ""ورا بع" ""د ط" ""ور وزمن" ""ا بع" ""د زمن‪ -‬وتنطل" ""ق من خلفي" ""ة ان ك" ""ل ممارس" ""ة مس" ""طحة بس" ""يطة‬
‫للحي""اة‪ ،‬وك""ل مظه""ر ثق""افي" يمي""ل ص""وب أن يك""ون خالي""ا من الكثاف "ة" ه""و في الحقيق""ة "ممارس""ة رمزي""ة"‬
‫لدالل""ة غائب""ة أو مغيب""ة‪ ،‬ونتيج""ة حتمي""ة لبن""اء اجتم""اعي أو لش""بكة عالق""ات اجتماعي""ة ذات ج""ذور غ""ير‬
‫محسوس ""ة أو لص ""الت هيمن ""ة بين املوض ""وعات ال ""تي نتعام ""ل معه ""ا ك ""ذوات فاعل ""ة‪ ،‬ولربم ""ا نك ""ون نحن‬
‫مواض " ""يع له " ""ا ال العكس‪ ،‬وهن " ""ا يس " ""توقفنا االلتب " ""اس ش " ""ديد الدالل " ""ة على م " ""ا ن " ""ذهب الي " ""ه بين مع " ""نى‬
‫«‪ » subject ‬النح""وي ال""ذي ه""و الفاع""ل املهيمن ومعن""اه الفلس""في أو ح""تى املعجمي ال""دارج ال""ذي معن""اه‬
‫املادة املتحدث عنها واملتعامل معها والتي هي بين أيدي فاعلين يسلطون عليها الفعل والخطاب معا‪.‬‬

‫لقد اتكأت الدراسات الثقافية" على العلوم االجتماعية وعلى مختلف ميادين الدراسات اإلنس""انية لكي‬
‫ترس" ""م لنفس" ""ها وببراع" ""ة مش" ""هودة مجموع" ""ة من املن" ""اهج والنظري" ""ات املعرفي " "ة" ال" ""تي تطب" ""ق على ش" ""تى‬
‫املي " ""ادين ال " ""تي ج " ""اءت من ص " ""لبها وال " ""تي تالمس العل " ""وم اإلنس " ""انية ب " ""املعنى األوس " ""ع‪ :‬النظري " ""ة األدبي " ""ة‪،‬‬

‫‪8‬‬
‫نظري" " " ""ات االتص" " " ""ال‪ ،‬اإلعالم‪ ،‬تحلي" " " ""ل الخط" " " ""اب‪ ،‬السياس" " " ""ة الثقافي" " " ""ة‪ ،‬الهندس" " " ""ة االجتماعي" " " ""ة‪،‬‬
‫واالقتصاد‪.‬‬

‫للدراس""ات الثقافي""ة طريق""ة خاص""ة في مقارب""ة األرض""ية األك""ثر عراق""ة لك""ل معرف""ة‪ :‬النص""وص‪ .‬ولكن‬
‫املتح ""ري لطرائ ""ق دراس ""ة النص ""وص ومس ""اءلتها في ه ""ذا املي ""دان س ""يجد اله ""واجس الكالس ""يكية ال ""تي هي‬
‫تاريخي""ة النص""وص وجمالياته""ا ودف""اتر األحك""ام النقدي""ة الس""ابقة حوله""ا وح""تى الج""وانب الش""كلية ال""تي‬
‫درجت املعرف""ة البش""رية الكالس""يكية على االحتف""اء به""ا كس""مات دال""ة على ف""رادات املؤلفين وعلى ب""ؤر‬
‫توتر الجماعات في سياقات تاريخية معينة‪ ،‬كل ذلك ليس هام""ا بق"در الس""ؤال ال""ذي يح"رك الدراس""ات‬
‫الثقافي" ""ة في مواجه" ""ة النص" ""وص‪ :‬م" ""ا ال" ""ذي يتحكم في ظه" ""ور نص" ""وص معين" ""ة في س" ""ياق ت" ""اريخي وثق" ""افي‬
‫معين؟ وما الدور االجتماعي والسياسي واإليديولوجي الثوري الذي تلعبه هذه النصوص؟‬

‫على ي" " ""د أخ" " ""رى يأتين" " ""ا الس" " ""ؤال ح" " ""ول مع" " ""نى النص في كن" " ""ف دراس" " ""ات تع" " ""د املوض" " ""وعات الثقافي" " "ة"‬
‫واملمارسات اليومية واملظاهر الحياتية األكثر تسطيحا أهم ما تنظر إلي""ه؟‪ . . .‬يأتين""ا هن""ا تعري""ف للنص‬
‫تع""ود أص""وله إلى التقالي""د الس""يميائية؛" فح""واه ْأن ُيع""د نص""ا ك" ُّ"ل م""ا من ش""أنه تولي""د مع""نى من خالل أي‬
‫ممارس ""ة دال ""ة ك ""انت‪ ،‬فيص ""بح الل ""ون والش ""كل وامللبس وطرائ ""ق املأك ""ل واملش ""رب‪ ،‬ومواعي ""د عاداتن ""ا‬
‫واختياراتن "ا" الذوقي ""ة الذاتي ""ة وميولن ""ا والص ""ور املحيط ""ة بن ""ا‪ ،‬وك ""ل م ""ا من ش ""أنه أن يتم اختزال ""ه تحت‬
‫العن""وان ش""ديد الدالل""ة ال""ذي ه""و "التجرب""ة املعيش""ة"‪ ،‬كله""ا تص""بح نصوص""ا ب""أتم مع""نى الكلم""ة‪ .‬ولكنه""ا‬
‫تظ " ""ل نصوص " ""ا ال أهمي " ""ة له " ""ا في ه " ""ذا األف " ""ق خ " ""ارج" الس " ""ياقات السياس " ""ية والطبقي " ""ة اإليديولوجي " ""ة‬
‫واالقتص""ادية" والثقافي""ة واالجتماعي""ة ال""تي انتجته""ا أو ال""تي تم إنتاجه""ا في إطاره""ا‪ .‬وك""ل ه""ذا يق""ف على‬
‫خلفي""ة أن الن""اس وهم يتق""اطعون م""ع النص""وص أو يخوض""ون غماره"ا" كتجرب""ة معيش""ة يقوم""ون بإنت""اج‬
‫الدالل ""ة وتولي ""د املع ""اني ال ""تي هي مع ""اني الع ""الم الكلي ""ة الش ""املة الكوني ""ة ال ""تي تب ""دو دائم ""ا مطلق ""ة – وإن‬
‫كانت غير مطردة تماما‪ -‬وتكون حصيلة ه"ذه الس"يرورة هي م"ا نس"ميه بطريق"ة مجازي"ة "الثقاف"ة"؛ ه"ذا‬
‫املفه""وم النقي النبي""ل ال""ذي ي""راه س""تيوارت ه""ال" نمط""ا من ممارس""ة الهيمن""ة من ِقب""ل ق""وى وص""ية ته""دف‬
‫إلى خل"ق ش"عور بالدع"ة والطمأنين""ة ل""دى األتب""اع (وغالب""ا م"ا نس"ميهم املواط""نين الص""الحين) تج"اه الهيمن""ة‬
‫املس""لطة عليهم‪ ،‬الشيء ال""ذي من ش""أنه ض""مان تبعيتهم‪ .‬نتيج""ة ل""ذلك وبن""اء على م""ا س""بق على اإلنس""ان‬
‫في رؤي""ة ه""ذا الحق""ل أن يتأم""ل نفس""ه من خالل س""ؤالين مرك""زيين‪ :‬أح""دهما ه""و‪ :‬م""ا ه""و املس""ار الثق""افي و‬
‫العقلي والسياسي ال""ذي ق""اد حياتن""ا إلى أن تك""ون على الش""كل ال""ذي هي علي""ه؟ والس""ؤال الث""اني ه""و‪ :‬أال‬
‫نكون نحن من خالل عمل اللغة على برمجة أفكارن"ا" موض"وعا للثقاف"ة؟" فنك"ون أدوات في ي"د ال نعرفه"ا‬
‫لتحقيق إرادة ثقافية (اي سياسية) ال نستوضحها؟‬

‫من ه""ذا املنطل""ق يص""بح دور الدراس""ات الثقافي""ة ه""و إع""ادة تفكي""ك م""ا ق""د انب""نى من األص""نام الحياتي""ة‬
‫واالجتماعية بمعزل عن إرادة الف"رد البس"يط املتن"اهي" في الص"غر على املس"توى السياسي‪ ،‬واملتن"اهي في‬

‫‪9‬‬
‫الخط ""ر على املس ""توى الثق ""افي واملتم ""اهي والق ""در م ""ع ذل ""ك على املس ""تويات كله ""ا‪ .‬ويق ""ع ه ""ذا التأم ""ل بين‬
‫التفك ""ير اليس ""اري ألنطوني ""و غرامش ي والتفك ""ير م ""ا بع ""د اليس ""اري مليش ""ال فوك ""و؛ الل " ْ‬
‫"ذين فكك ""ا جي ""دا‬
‫الص ""لة بين الس ""لطة والخط ""اب‪ ،‬م ""ع الف ""رق الكب ""ير ال ""ذي يجع ""ل األول ي ""رى في املرء وس ""يطا لتحقي ""ق‬
‫السلطة فيما يجعل الثاني يعد اإلنسان أداة تطوعها اللغة كوسيلة متعالية لتحقيق موضوع السلطة‪.‬‬

‫كم""ا هي ح"ال ك""ل ص""نف من أص"ناف مقارب"ة املعرف""ة‪ ،‬نج""د الدراس""ات الثقافي"ة" مرتبط"ة بأعم"ال زم""رة‬
‫معين" " " ""ة من الفالس" " " ""فة واملفك" " " ""رين واملنظ" " " ""رين األوروب" " " ""يين أوال؛ وعلى رأس" " " ""هم‪ :‬فروي" " " ""د وم" " " ""اركس‬
‫وفري" ""ديريش إنغل" ""ز‪ ،‬وك" ""ذلك مجموع" ""ة األعالم ال" ""تي س" ""يذكرون الحق" ""ا على أس" ""اس ك" ""ونهم أص" ""حاب‬
‫النظري"ة الفرنس"ية ‪ french theory‬واملقص"ودون هم أساس"ا ميش""ال فوك"و وج""اك ديري"دا وبي"ار بوردي""و‬
‫ثم لوي آلتوسير وجيل دولوز وروالن ب"ارط وج""اك الك""ان‪ . . .‬كم""ا أن الس"لف الص""الح ألعم""ال معتنقي‬
‫الدراس""ات الثقافي"ة" ال يخل""و من اس""مين خ""ارجين عن ك""ل تص""نيف في الحقيق""ة لس""عة أثريهم""ا العلم""يين‪:‬‬
‫فردين ""ان دي سوس ""ير وميخائي ""ل ب ""اختين‪ . . .‬أم ""ا األب ""وة املباش ""رة واملعلن عنه ""ا أثن ""اء الت ""أريخ املدرس ي‬
‫فتعزى لريموند ويليامز وستيوارت هال" بدءا من منتصف ستينيات القرن العشرين‪ .‬وهذا م"ا يجع"ل‬
‫الحق""ل – على ح""د تعب""ير ك""ريس ب""اركر‪ -‬يش""به أن يك""ون علب""ة أدوات قابل""ة جميعه""ا لالس""تعمال حس""ب‬
‫الحاج" ""ة املنهجي" ""ة الطارئ" ""ة؛ علب" ""ة أدوات تض" ""م حق" ""وال معرفي" "ة" وفلس" ""فية ش" ""ديدة التن" ""افر من قبي" ""ل‪:‬‬
‫اإلثنوغرافي" " ""ا‪ ،‬النس" " ""وية‪ ،‬املاركس" " ""ية‪ ،‬فلس" " ""فة اللغ" " ""ة‪ ،‬االقتص" " ""اد السياس ي‪ ،‬نظري" " ""ة م" " ""ا بع" " ""د‬
‫االس " ""تعمار‪ "،‬م" " ""ا بع " ""د املاركس " ""ية‪ ،‬م" " ""ا بع" " ""د البنيوي" " ""ة‪ ،‬التداولي " ""ة‪ ،‬التحلي " ""ل النفس ي‪ ،‬البنيوي" " ""ة‪،‬‬
‫الس""يميائية‪ "،‬النس""وية‪ ،‬التحلي""ل النصوصي‪ ،‬البالغ""ة الجدي""دة‪ ،‬الهيرمينوطيق""ا‪ ،‬نظري""ة االتص""ال‪. . .‬‬
‫وتبدو قائمة مفتوحة جوهريا‪. . ".‬‬
‫والواقع أنها قائمة محاولة الحصر فيها بال طائ"ل ألن م""ا يبحث عن"ه أه"ل بيت الدراس"ات الثقافي"ة" ليس‬
‫املعين؛ وإنم""ا يبحث""ون عن وجه""ة نظ""ر مفي""دة في األف""ق ال""ذي اتخ""ذوه قبل""ة‬ ‫الع َلم ّ‬ ‫االتج""اه الفلس""في وال َ‬
‫ألعمالهم حتى وإن كانت وجهة نظر متناهية" في الصغر‪.‬‬

‫نتعلم في حق" ""ل الدراس" ""ات الثقافي" "ة" كيفي" "ة" بديع" ""ة ال قب" ""ل للمجتم" ""ع العلمي به" ""ا في إنش" ""اء التعريف" ""ات‪،‬‬
‫التعري ""ف ال كماهي ""ة تق ""وم اللغ ""ة بتمثيله ""ا ب ""ل كوج ""ود ال يخ ""رج عن دائ ""رة االس ""تعمال اللغ ""وي ال ""ذي‬
‫يوج""دها‪ "،‬وه""و مفه""وم اإلنج""ازي ال""ذي ج""اء بفك""رة اللعب""ة الكالمي""ة ل""دى لودفي""غ فيتجنش""تاين؛" أح""د‬
‫األعالم األث""يرين ل""دى أه""ل ه""ذا ال""بيت‪ .‬وق""د وق""ف مح""رر الكت""اب م""رارا في مقدمت""ه على ح""واف عس""ر‬
‫تحدي""د الدراس""ات الثقافي"ة" بدق""ة‪ ،‬إلى الح""د ال""ذي وص""ل مع""ه إلى الرك""ون إلى تعري""ف تلفيقي من قبي""ل‪:‬‬
‫الدراسات الثقافية" هي ما نعتقد أنها هي الدراسات الثقافية‪ ،‬الشيء الذي لم يمنع تحديدا آخر دقيقا‬
‫على بس""اطة في األداء‪ :‬الدراس""ات الثقافي ""ة هي طريق""ة معين""ة عن ""د معتنقي ه""ذا االتج ""اه في الح ""دث عن‬
‫مواض ""يع معين ""ة؛ ك ""ثرت أو قلت‪ ،‬عوض ""ا عن أن يك ""ون الحق ""ل – وه ""ذا ه ""و املألوف‪ -‬الئح ""ة مواض ""يع‬
‫معينة ثابتة دالة على حقل يلملم شملها‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫هذا العسر في تحدي"د املاهي"ة" لم يمن"ع مح"اوالت الوق"وف عن"د املظ"اهر" األك"ثر جالء لتمي"يز الحق"ل عن‬
‫غ""يره‪ ،‬ل""ذا نج""د كث""يرا من املعلقين يقف""ون عن""د الح""د ال""ثري الفاص""ل‪/‬الج""امع بين الدراس""ات الثقافي""ة‬
‫ك""أفق مع""رفي وكمبتغى منهجي أو ك""أداة عارف""ة لفهم الع""الم وبين مابع""د الحداث""ة كمفه""وم تحقي""بي يرتك""ز‬
‫على مواق" ""ف وآراء ووجه" ""ات نظ" ""ر نش" ""أت في أعق" ""اب ف" ""ترة ج" ""رت الع" ""ادة – م" ""رة دون تمحيص وم" ""رة‬
‫بتمحيص يفيض عن الحاجة‪ "-‬على تسميتها الحداثة‪ ،‬ويفيدنا في هذا السياق استحضار معاين""ة أس""تاذ‬
‫الفلسفة االيطالي جياني فاتيمو‪  G. Vattimo  ‬للسياق الجامع بين الدراسات الثقافية والفترة‪ /‬الثقافة‬
‫مابع " ""د الحداثي " ""ة فيج " ""دهما مرتك " ""زتين على تح " ""ولين رئيس " ""ين لعب " ""ا دورا في ظهورهم " "ا" وفي تش " ""كيلتهما‬
‫العقلية‪ :‬أقصد من جهة نهاية السيطرة األوروبية على العالم في أعق""اب الح""رب العاملي""ة الثاني""ة‪ ،‬وك"ذا‬
‫تط" ""ور وس" ""ائل اإلعالم وظه" ""ور املي" ""ديا الوطني" ""ة واإلقليمي " "ة" ال" ""تي غالب" ""ا م" ""ا ق" ""امت بالدعاي" ""ة املنطقي" ""ة‬
‫واملنتظ""رة للثقاف""ات املحلي""ه والهامش""ية البعي""دة عن املراك""ز الحض""ارية املألوف""ة‪ . . ".‬وإن ك""ان املمحص‬
‫جيدا يقف على الطابع التلفيقي لألفق املعرفي للدراسات الثقافية‪ ،‬فهي أفق يبحث عن أجوبة صائبة‬
‫ألس" ""ئلة زمن معطى‪ ،‬بأن" ""اس ذوي ملمح مح" ""دد‪ ،‬في ظ" ""روف سياس" ""ية وتاريخي" "ة" واجتماعي" ""ة مح" ""ددة‪،‬‬
‫وهي أس" ""ئلة ق" ""د يج" ""دون له" ""ا إجاب" ""ات في مق" ""والت الحداث" ""ة مثلم" ""ا يج" ""دونها في مابع" ""د الحداث" ""ة‪ ،‬له" ""ذا‬
‫ف""املفهوم التحقي""بي املذكور ال يتج""اوز الحيل""ة املنهجي""ة؛ ألن اله""اجس املح""رك له""ذا األف""ق املع""رفي ليس‬
‫َ‬
‫الحقب والتع" ""يين أو تح" ""ري نق" ""اوة األع" ""راق العلمي" ""ة؛ ب" ""ل ربم" ""ا يك" ""ون العكس ه" ""و الص" ""حيح‪ ،‬في ظ" ""ل‬ ‫ِ‬
‫هاجس مرك"زي ه"و تحس"ين الظ"رف املعيشي بواس"طة زعزع"ة كيان"ات الخطاب"ات املهيمن"ة بخل"ق أنظم"ة‬
‫استحس " ""ان واس " ""تهجان بديل " ""ة لألنظم " ""ة الس " ""ابقة ال " ""تي يتم نق " ""دها باس " ""تعمال علب " ""ة األدوات ال " ""تي هي‬
‫الدراسات ‪.‬‬
‫من األساس ي على املس" " ""توى املنهجي أن نق" " ""ف عن" " ""د حقيق" " ""تين ارتبطت" " ""ا كث" " ""يرا به" " ""ذا الحق" " ""ل املع" " ""رفي‬
‫األخطبوطي‪ :‬أوالهم"ا" الطبيع"ة االختالفي"ة" ال"تي يعوزه"ا االنتظ"ام لنش"أة ه"ذا الحق"ل؛ حق"ل يتش"كل خ"ط‬
‫نش ""أته كس""يرورة هي ج ""وهر ص ""يرورته‪ ،‬وفي ذل ""ك يق ""ول ك ""ريس ب ""اركر في موس ""وعته "موس ""وعة س ""يج‬
‫للدراسات الثقافية"؛" ترجمة‪ :‬جمال بلقاسم)‬
‫" بالنس""بة لي هن""اك خ""ط يجب أن يفص""ل بين دراس""ة الثقاف"ة" و الدراس""ات الثقافي"ة" ال""تي نش""أت بش""كل‬
‫مؤسس""اتي (أي داخ""ل املؤسس""ة)‪ .‬فدراس""ة الثقاف""ة تت""وزع على ع""دة مج""االت أكاديمي""ة كعلم االجتم""اع‬
‫واألنثروبولوجي " " " ""ا و األدب االنجل " " " ""يزي‪ . . .‬إلخ‪ .‬و تس " " " ""ود مجموع " " " ""ة من الفض " " " ""اءات الجغرافي " " " ""ة و‬
‫املؤسساتية‪ ،‬و لكنها ال تمث"ل بالض"رورة الدراس"ات الثقافي"ة‪ .‬و بينم"ا ال تمتل"ك دراس"ة الثقاف"ة" أص"وال‬
‫مح""ددة‪ ،‬فه""ذا ال يع""ني أن الدراس""ات الثقافي "ة" ال يمكن تس""ميتها‪ .‬و تك""وين مرك""ز الدراس""ات الثقافي "ة"‬
‫املعاص ""رة بجامع ""ة برمنغه ""ام في س ""نة ‪ 1960‬ك ""ان حال ""ة تنظيمي ""ة حاس ""مة‪ ".‬و من ""ذ ذل ""ك ال ""وقت س ""عى‬
‫الحق"ل إلى تمدي""د قاعدت""ه الثقافي""ة ومجال""ه الجغ""رافي و أص""بح هن""اك مش""تغلون بالدراس""ات الثقافي"ة" في‬
‫الوالي""ات املتح""دة األمريكي""ة و أس""تراليا وإفريقي""ا و آس""يا و أمريك""ا الالتيني""ة‪ ،‬ك""ل ل""ه ش""كل الدراس""ات‬
‫الثقافي""ة الخ""اص ب""ه و طريق""ة عمل""ه‪ ،‬و بالت""الي" ال أري""د أن أمنح ش""يئا من االمتي""از" للدراس""ات الثقافي"ة"‬

‫‪11‬‬
‫االنجليزي""ة في ح""د ذاته""ا‪ ،‬بق""در م""ا أن""ني أري""د الترك""يز على أن تأس""يس الدراس""ات الثقافي "ة" ك""ان بمرك""ز‬
‫برمنغه ""ام‪ ،‬وهي لحظ ""ة مؤسس ""اتية ذات مغ ""زى‪ .‬األم ""ر يش ""به أن تق ""ول أن علم الجتم ""اع" املعاص ""ر لم‬
‫يكن من صنع ماركس و دوركايم و فيبر‪ ،‬و املجال العلمي ليس حك""را على ني""وتن و آينش""تاين‪ ،‬و لكن‬
‫من الص ""عب أن ت ""درس مواض ""يع ه ""ذه املج ""االت دون أن تناقش ""ها ض ""من أفك ""ار ه ""ذه الشخص ""يات‪ .‬و‬
‫علي""ه فالدراس""ات الثقافي""ة ليس""ت هي مرك""ز برمنغه""ام‪ ،‬ولكن أي اكتش""اف ملس""ائل للحق""ل ال يمكن أن‬
‫ننخرط فيها دون االستعانة باإلرث الفكري للحقل"‬
‫وثانية الحقيقتين هي أننا في حقل الدراس"ات الثقافي"ة نتعام"ل دائم"ا م"ع رؤي"ة خاص"ة ( نس"خة شخص"ية‬
‫كم ""ا يس ""ميها ب ""اركر) للدراس ""ات الثقافي ""ة ليس ""ت بالض ""رورة ملزم ""ة للنس ""خ األخ ""رى‪ .‬وفي ذل ""ك يق ""ول‬
‫كريس باركر‪:‬‬
‫" نس" ""ختي إذا املرتبط" ""ة بالدراس" ""ات الثقافي" ""ة تنطل" ""ق من املاركس" ""ية الجدي" ""دة و انخراطه" ""ا في البنيوي" ""ة‬
‫وعمل أنطونيو گرامشي على السواء‪ .‬و هنا تعتبر األيديولوجيا و النص و الهيمن"ة تص""ورات مفتاحي"ة"‬
‫للدراس " ""ات الثقافي " ""ة‪ .‬في ال " ""وقت نفس " ""ه‪ ،‬ط " ""ورت الدراس " ""ات الثقافي " ""ة تي " ""ارا من العم " ""ل التجري " ""بي‬
‫واإلثنوغرافي‪ ،‬كان في كثير من األحيان" أقل ظهورا من التحلي"ل النصوصي‪ ،‬و لكن"ني أفض"ل أن أك"ون‬
‫متعاطف " ""ا مع " ""ه‪ .‬والواق " ""ع أن " ""ني ال أرى أن االثنوغرافي " ""ا والتحلي " ""ل النصوص ي متن " ""افيين أو يس " ""تبعد‬
‫أح""دهما اآلخ""ر‪ .‬في وقت الح""ق احتض""نت بعض الج""وانب من م""ا بع""د البنيوي""ة‪ ،‬و أعم""ال فوك""و بش""كل‬
‫خ""اص‪ .‬أين ش""كلت مف""اهيم كالخط""اب والذاتي""ة مح""ور اهتمام""اتي إلى ج""انب قض""ايا الحقيق""ة و التمثي""ل‪.‬‬
‫َ‬
‫و ضمن هذا السياق كنت أنا و الدراسات الثقافية" مستغرقين بشكل كامل داخل مسائل الهوية‪" .‬‬
‫ويفس""ر لن""ا اختي""ارات الدراس""ات الثقافي"ة" الفلس""فية ‪-‬عموم""ا‪ ،‬وفيم""ا يش""به النس"خة الش""املة املتعالي""ة‬
‫ُ‬
‫املش ""تركة للدراس ""ات الثقافي ""ة كم ""ا تتع ""اطى في نيوزيالن ""د وفي الوالي ""ات املتح ""دة على ح ""د س ""واء ‪ -‬ذل ""ك‬
‫الط ""ابع اإلي ""ديولوجي ال ""ذي ارتك ""زت علي ""ه اتجاه ""ات ش ""عب هللا الفلس ""في املخت ""ار؛" ف ""برغم تع ""دد ه ""ذه‬
‫اآلف"اق وتش"عبها املذهل احيان"ا‪ ،‬وح"تى اختالف مالمح ه""ؤالء الفالس"فة وأص"ولهم العرقي"ة‪ ،‬إال انهم –‬
‫وبش" ""كل مث" ""ير للتس" ""اؤل – داروا بانتظ" ""ام ووف" ""اء كب" ""ير ح" ""ول نق" ""د األس" ""اس العقالني وال" ""ذاتي للحداث" ""ة‬
‫وللت""اريخ "األبيض" للفلس""فة‪ .‬وأعم""ال ميش""يل فوك""و‪  M. Foucault  "،‬وج""اك ديري""د‪  J. Derrida ‬وجي""ل‬
‫دول""يز‪ ،J. Deluze ‬وريتش""ارد رورتي‪  R. Rorty ‬مثال تنض""ح ب""ذلك القل""ق إزاء يقيني""ات تش""كلت بمع""زل‬
‫َ‬
‫عن تمحيص الع""الم والع" ِ"الم‪ ،‬وان كن""ا ننح""ني باهتم""ام ام""ام االرتي""اب الكب""ير ال""ذي اب""داه م""رارا "ايه""اب‬
‫حس ""ن"‪ E. Hassan‬إزاء فك ""رة الس ""ؤال املقض للمض ""اجع العلمي ""ة اليقظ ""ة‪َ :‬من ِمن الب ""احثين يخت ""ار َمن‬
‫ِمن الكت""اب بوص""فه ِمن الكت""اب واملفك""رين املر ّس"مين ال""ذين علين""ا وض""ع أعم""الهم في الص""ف األول؟ ثم‬
‫ما هي دواف"ع ه"ذا االختي"ار؟‪ . . .‬أس"ئلة تمل"ك ت"بريرات آتي"ة من أف"ق التداولي"ة الجدي"دة تق"ول م"ا فح"واه‬
‫أن النص""وص ال ينبغي له""ا أن تتك""ور ح""ول املقارب""ات النص""انية ال""تي يملؤه""ا الش""عور الخ""اطئ باالكتف""اء؛‬
‫بل عليها أن تندرج ضمن ثالوث قوائمه الضرورية هي‪ :‬النص‪ ،‬فعل النضال‪ ،‬املسألة السياسية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫لقد علمنا فوكو الشك في "املطل"ق" وفي الثق""ة املفرط"ة للنظري""ات العام"ة‪ ،‬علمن""ا الح"رص إزاء املؤتل"ف‬
‫والب" ""ديهي واملس" ""لم ب" ""ه‪ ،‬اس" ""تند الى مقارب" ""ة جينالوجي" "ة" تنطل" ""ق من وض" ""ع الي" ""د على خي" ""ط ملم" ""وس في‬
‫الحاضر ألجل سبر تاريخ تشكله وكيفية تشكله التاريخي‪ ،‬وه"و م"ا ج"ره إلى فض"ح الخراف"ات العقالني"ة‬
‫الحديث ""ة البيض ""اء‪ ،‬خراف ""ات تمثله ""ا خ ""ير تمثي ""ل مؤسس ""ات الع ""زل والعق ""اب‪ ،‬وعلمن ""ا درس ""ا ت ""دين ل ""ه‬
‫الدراس ""ات الثقافي "ة" بش ""كل مباش ""ر ونه ""ائي وعمي ""ق – ك ""ان فوك ""و س ""يكره تعب ""يري ه ""ذا ل ""و اطل ""ع علي ""ه‪-‬‬
‫درس الهيمن" ""ة‪ ،‬وتحلي" ""ل الس" ""لطة‪ ،‬وم" ""دى تهافتن" ""ا وفق" ""ر وعين" ""ا بالس" ""لطة حينم" ""ا نحص" ""رها" في كي" ""ان"‬
‫مح""دد‪ ،‬ه""و جه""از" الدول""ة املرك""زي‪ .‬لق""د عم""ل على تبي""ان ش""موليتها مليكانيزم""ات تطوي""ع الجس""د باس""م‬
‫نظ"ام أو معرف"ة‪ ،‬به"دف تحقي"ق ن"وع من التش"ريح السياسي للجس"د‪،I ‘anatomie politique du corps ‬‬
‫عم" ""ل – كم" ""ا يق" ""ول فوك" ""و ‪ -‬يس" ""مح بالحص" ""ول على أجس" ""اد طيع" ""ة منق" ""ادة‪ ،‬وقابل" ""ة لالس" ""تغالل ش" ""به‬
‫الص" ""ناعي كم" ""ادة مجتمعي" ""ة عقلي" ""ة خ" ""ام‪ ،‬أجس" ""ام قابل" ""ة للتحوي" ""ل واإلنت" ""اج وح" ""تى االس" ""ترجاع بع" ""د‬
‫االس ""تعمال‪ ،‬ك ""ل ذل ""ك بش ""كل مس ""تتر ال يتجلى بالض ""رورة على املس ""توى السياس ي املكش ""وف ب ""ل على‬
‫مس" ""تويات خطابي " "ة" ش" ""ديدة الخف" ""اء‪ .‬ميكانيزم" ""ات تنتهي إلى إخض" ""اع الف" ""رد لهيمن" ""ة "الوض" ""ع الق" ""ائم"‬
‫املسمى تارة النظام العادي لألشياء وتارة الق"انون‪ ،‬أو ح"تى " الحس املش"ترك" ‪ common sens‬بتعب"ير‬
‫اإلنغل ""يز‪ .‬تخض ""عه ل ""ذلك خطاب ""ات ص ""نعها الرج ""ل الغ ""ربي األوروبي بمع ""زل عن رأي بقي ""ة الع ""الم في‬
‫القض " ""ايا ال " ""تي س " ""تتحول إلى ش " ""ان ع " ""المي‪ .‬خطاب " ""ات ربم " ""ا أس " ""ماؤها مألوف " ""ة مث " ""ل‪ :‬املدارس واإلدارة‬
‫والتش " ""ريع املؤسس " ""اتي‪ ،‬ومص " ""حات العالج النفس ي والعقلي والس " ""جون وال " ""ورش واملعام " ""ل وثكن " ""ات‬
‫الجيش واملستشفيات والفضاءات العمومية‪.‬‬
‫يحيلن""ا ه""ذا طبع""ا على م""ا ط""وره س""تيوارت ه""ال في تص""وره ملف""اهيم اإلي""ديولوجيا وال""ذي يب""دو كص""دى‬
‫في""ه ترجي""ع ألص""وات فوك""و س""الفة ال""ذكر؛ فاإلي""ديولوجيا" في مخط""ط عم""ل س""تيوارت ه""ال" ليس""ت بن""اء‬
‫ناص ""عا يعم ""ل على تحدي ""د ح ""دوده الخاص ""ة بق ""درما هي تش ""كيلة أخطبوطي ""ة تلفيقي ""ة تعم ""ل على ض ""م‬
‫النقيض إلى نقيض ""ه لتقوي ""ة ص ""فها في مس ""ار ص ""راع اإلي ""ديولوجيات‪ .‬وي ""رى س ""تيوارت ه ""ال من جه ""ة‬
‫أخ" ""رى – وه" ""ذه من أمه" ""ات أفك" ""اره ب" ""ان اإلي" ""ديولوجيات ال يش" ""كلها األف" ""راد ب" ""ل هم فق" ""ط يعمل" ""ون في‬
‫إطاره" ""ا ال" ""ذي يتج" ""اوزهم‪ ،‬ويتص" ""رفون" في كنفه" ""ا وكفى‪ .‬وينتج عن ذل" ""ك ب" ""أن اإلي" ""ديولوجيات تنتهي‬
‫ب""التكرم على األف""راد من أتباعه""ا بفرص""ة للتم""اهي معرفي "ا" ولخل""ق مناس""بات للتع""رف على ال""ذات‪ ،‬وهي‬
‫أفكار تسمح لألفراد بصنع ميل خاص في اإلطار العام يريحهم إلى ما هم عليه‪.‬‬
‫هن""ا نفهم أحس""ن كي""ف أن املعرف""ة في ه""ذا التص""ور املعاص""ر تخ""رج من كونه""ا تش""كيال ملع""نى الواق""ع إلى‬
‫دائ" " ""رة أخط" " ""ر هي إج" " ""ادة ت" " ""رويض ه" " ""ذا الواق" " ""ع والتعام" " ""ل مع" " ""ه‪ ،‬فنخ" " ""رج من املفه" " ""وم التجري" " ""دي‬
‫الترانسندنتالي" للمعرفة إلى بعدها امللموس الجبري املحايث‪.‬‬
‫من املفي ""د لل ""دارس الي ""وم ( أراج ""ع كتاب ""ة ه ""ذه الس ""طور في موق ""ع سياس ي وت ""اريخي م ""ريب من ص ""يف‬
‫‪ )2018‬ان يتأم""ل تحلي""ل فوك""و لطريق""ة مواج""ه البرن""امج التس""لطي املعق""د ال""ذي تم إرس""اؤه على مس""يرة‬
‫ق"رون وال"ذي أف"رز نظام"ا ذا وج"ه ناص"ع يتق"دم أمامن"ا كممارس"ة قائم"ة" على الهيمن"ة‪ ،‬نظام"ا اس"تبداديا‬

‫‪13‬‬
‫يض""ع أقنع"ة حض""ارية حداثي""ة بيض"اء‪ ،‬نظام"ا ي""رى فوك""و أن"ه من املفي"د تط"وير عم"ل فلس""في يعم"ل على‬
‫إرس""اء أش""كال جدي""دة من املواق""ف والس""لوك والب""واعث‪ ،‬أش""كال أرض""يتها التك""اثر‪  prolifération ‬ب""ديال‬
‫لالخ" ""تزال ‪ réduction‬وللتوحي" ""د ‪ ،unification‬كم" ""ا يرتك" ""ز التقاب" ""ل أو املج" ""اورة‪  juxtaposition ‬ب" ""ديال‬
‫للتماث" " " " " " ""ل‪ ،similitude ،‬لتص" " " " " " ""بح س" " " " " " ""مة فكرن" " " " " " ""ا الجدي" " " " " " ""د هي االنفص" " " " " " ""ال‪  disjonction ‬ب" " " " " " ""ديال‬
‫لالتص""ال‪ . . .conjonction ‬ويس""ير علين""ا الي""وم بع""د أن تش""ربنا الدراس""ات الثقافي "ة" طيل""ة نص ق""رن ان‬
‫نفهم الفائ""دة اإلجرائي""ة بعي""دة املدى لبرن""امج كه""ذا من أج""ل إرس""اء ثقاف""ة عاملي""ة منفتح""ة على املختل""ف‬
‫وعلى األقلي""ات‪ ،‬مب"ني على الفهم لالحت"واء واإلض""افة ال على الوص"ف اإلقص""ائي ال""ذي هدف"ه" املحاص""رة‬
‫واالستئص""ال‪ . . ".‬ثقاف""ة االع""تراف بالبش""ري في إط""ار ك""وني ع""المي‪ ،‬ال ثقاف""ة تح""دد الك""وني انطالق""ا من‬
‫فكر الحواضر املنغلق على نفسه داخل وهم الكونية‪. . . .‬‬
‫وإذا ك""ان مفي""دا ل""دارس الي""وم فهم ه""ذه املعطي""ات فإن""ه اك""ثر إف""ادة أن نقاب""ل بينه""ا وبين البرن""امج ال""ذي‬
‫وض ""عه س ""تيوارت ه ""ال مثال لفهم آلي""ات التواص""ل؛ كمحاول""ة للتفري ""ق بين الق ""راءات املختلف""ة ال""تي هي‬
‫س"بيلنا للفهم والتخ"اذ مواق"ع لل"ذات وس"ط الع"الم؛ فه"و يرسي نموذج"ا فع"اال للتواص"ل ع"بر املي"ديا أوال‬
‫ثم في مطل""ق األفع""ال التواص""لية ال""تي نحق""ق من خالله""ا نموذج""ا ثقافي""ا؛" شيء بمثاب""ة ب""رامج ال محال""ة‬
‫منها للتواجد داخل العالم ولتعاطي الداللة داخ"ل الجماع"ة‪ .‬يف"رق ه"ال بين ثالث"ة أن"واع من الق"راءات‪:‬‬
‫ق ""راءة معمم ""ة‪ ،‬تف ""رض علين ""ا بس ""بب طابعه ""ا العم ""ومي التعميمي وبفض ""ل ارتباطه ""ا بالعالم ""ات األك ""ثر‬
‫انتشارا وثباتا داخل العالم‪ .‬أما النوع الثاني فه"و الق"راءة التفاوض"ية؛" وفيه"ا يك"ون الف"رد بص"دد قب"ول‬
‫القراءة السابقة التي يمكنن"ا وص"فها بالرس"مية فق"ط ألنه"ا مرس"مة من قب"ل الس"طلة‪ ،‬ولكن"ه يح"دث ل"ه‬
‫أن يخ""رج من تل""ك الترس""يمة للثقاف "ة" ال""تي يص""فها س""تيفن غ""رينبالط ‪ S. Greenblat‬بأنه""ا س""ياج ش""به‬
‫تكنول " ""وجي للحماي " ""ة ولكن لل " ""ردع أيض " ""ا يم " ""ارس على الف " ""رد كتش " ""كيلة قوي " ""ة من الح " ""دود املرس " ""ومة‬
‫املعروفة‪ "،‬وهي حدود يمارس الف"رد خروج"ا جزئي"ا في نق"اط مح"ددة عنه"ا للمارس"ة رؤي"ا تك"ون مرتبط"ة‬
‫بالتجرب ""ة الشخص ""ية والعقائ ""د الفردي ""ة واملي ""ول الذاتي ""ة‪ .‬وت ""أتي الق ""راءة االعتراض ""ية اين يتم ت ""رتيب‬
‫املرسمة وطرحها نهائيا‪.‬‬ ‫عناصر خطابية بديلة عن تلك املذكورة آنفا هدفها نبذ القراءة ّ‬
‫تلتقي الدراس""ات الثقافي""ة م""ع فك""ر ديري""دا في م""ا ال ح""د ل""ه من نق""اط التق""اطع‪ ،‬ولكن النق""ط األعم""ق‬
‫واألبع ""د غ ""ورا هي بالتأكي "د" اس ""تبعاد الحلم الطوب ""وي ب ""املجتمع العقالني ال ""ذي ك ""انت الحداث ""ة تحلم ب ""ه‬
‫وال""ذي لم تتخلص مابع""د الحداث""ة من أض ""غاث أحالم""ه تمام""ا فج ""اء "التفكي ""ك" ملحاول ""ة إح""داث ش ""رخ‬
‫نه ""ائي في جس ""د امليتافيزيق ""ا بش ""كلها املوروث‪ ،‬فالتفكي ""ك يح ""اول مواجه ""ة امليتافيزيق ""ا الغربي ""ة كنظ ""ام‬
‫فك" ""ري ث" ""ابت ال يمكن نق" ""ده وتقويض" ""ه‪ ،‬مواجه" ""ة به" ""دف اجتثاث" ""ه من ج" ""ذوره من خالل كس" ""ر هيمن" ""ة‬
‫اللوغ""وس ال""ذي ه""و اللغ""ة املوروث""ة واألبني""ة ال""تي تحتويه""ا والبني""ات التحتي""ة الكامن""ة‪ . . .‬لوغ""وس تع""د‬
‫خلخلته دعوة ملمارسة مختلفة تنبين على فعل التأويل والهرمينوطيقا أكثر من اعتماده""ا على التس"ليم‬
‫يسير الدراسات الثقافية‪ :‬فكرة املراجعة‪.‬‬ ‫الغيبي بمسلمات لم تخضع ألهم امتحان ّ‬

‫‪14‬‬
‫الخلفية الهيرمينوطيقية لدى ديريدا تجمع الرغبة في فك املستغلق القديم املوجودة ل"دى الق"دماء م"ع‬
‫جلي‪ ،‬انته""اء إلى مس""اري اللعب ب""الكالم بحث""ا عن إنجازي""ة‬ ‫خفي تحت ك""ل مع""نى ّ‬ ‫الح""ذر من وج""ود مع""نى ّ‬
‫طارئة محايثة وغير متعالية تماما وك""ذلك عن مس""ار ه"يرمينوطيقي يه""دف بالس""ماح لإلنس""ان باكتش"اف‬
‫نفس" ""ه ع" ""بر البحث في الخطاب" ""ات ( م" ""ا يس" ""ميه فوك" ""و بعب" ""ور االس" ""تيطيقا نح" ""و اإليطيق" ""ا؛ أي الس" ""ماح‬
‫لإلنس ""ان باس ""تخالص ش ""كل أجم ""ل للوج ""ود باالس ""تعانة بالنص ""وص ومن خالل العم ""ل عليه ""ا والتعام ""ل‬
‫معه""ا)‪ . . .‬وهي روح إيجابي""ة نج""دها ت""ذرع مختل""ف مواق""ع الدراس""ات الثقافي""ة‪ "،‬لن تبتع""د عنه""ا فك""رة‬
‫البحث في النص " ""وص واإلش " ""كال واملمارس " ""ات به " ""دف تحس " ""ين الظ " ""رف البش " ""ري ( وو تعب " ""ير يس " ""تعيره‬
‫ريتش""ارد رورتي من الك""اتب الفرنسي أن""دري م""وروا)‪ ،‬وال الفك""رة ال""تي عن""ون به""ا كورن""ل ويس""ت كتاب "ه"‬
‫بش" ""كل ش" ""ديد الدالل" ""ة‪ :‬املحافظ" ""ة على اإليم" ""ان )‪ . . .keeping faith (1994‬أو البرن" ""امج املض يء ال" ""ذي‬
‫تقترح""ه ش""انتال م""وف ح""ول تع""ويض ديمقراطي""ة الص""وت الواح""د ذات الط""ابع اإلل""زامي بديمقراطي""ة‬
‫تشاركية" ومتعددة‪. . .‬‬
‫وهذه املواقع املعرفي"ة وزواي"ا النظ"ر تنتهي إلى خل"ق وعي خ"اص بالكتاب"ة ك"أداة للتفك"ير واملمانع"ة‪ ،‬ففي‬
‫ضوء هذه االتجاهات" والحساسيات واملقوالت التي ال تدعي أكثر من تحريك أديم النص النائم امله""ادن‬
‫الخاض ""ع لس ""لطة اللوغ ""وس ال ""تي هي أداة تس ""لط أط ""راف سياس ""ية معين ""ة‪ ،‬يمكنن ""ا ان نعي الدراس ""ات‬
‫الثقافي" " ""ة كمحاول " " "ة" لل" " ""وعي بالكتاب" " ""ة كمق" " ""ام خ" " ""اص" (أو مؤسس" " ""ة) وس" " ""ط املمارس" " ""ات السياس" " ""ية‪/‬‬
‫املدني ""ة‪/‬الحكومي ""ة األخ ""رى‪ . . .‬مق ""ام ي ""ثري كث ""يرا رواي ""ة اإلنس ""ان ح ""ول نفس ""ه؛ رواي ""ة تتش ""بع ب ""احتواء‬
‫روايات أفراد استثنائيين في فترات شاذة عن القاعدة العامة‪.‬‬
‫القاعدة‪ . . .‬جوهر اللوغوس‪. . .‬‬
‫اللوغوس‪ . . .‬أداة الهيمنة األولى‪. . .‬‬

‫‪15‬‬
‫أفق فلسفي‬

‫من سلطة التدليل إلى سلطة التخييل‬

‫بين السرد والتاريخ‬

‫مقدمة‬
‫إن الح" ""ديث عن أص" ""ول الص" ""لة بين الكتاب" ""ة التخييلي" ""ة والت" ""اريخ يع" ""ود بن" ""ا إلى التمفص" ""ل اله" ""ام بين‬
‫امللحم""ة و الرواي""ة‪ ،‬فمم""ا ال ش""ك في""ه ل""دى جمه""ور املعلقين واملؤرخين أن أص""ل الرواي""ة ه""و امللحم""ة‪،‬‬
‫وأن م""ا ح""دث ه""و سلس""لة من عملي""ات الع""دول ال""تي ش""ملت ال""روح الديني""ة مهمش""ة إياه"ا" لص""الح هم""وم‬
‫بشرية‪ ،‬وش"ملت األش"خاص والشخص"يات فق"امت بتنقي"ة النص"وص من املخلوق"ات ش"ديدة البع"د عن‬
‫الواق ""ع‪ ،‬وش ""ملت ص ""ورة الع ""الم في بعدي ""ه الزم ""ني و املكانـي فجعلتهمـا أق ""رب إلـى واقعن ""ا اليومـي‪ ،‬و‬
‫استبدلت الصراع الالهوتي الغيبي امليتافيزيقي بصراع ناسوتي ملموس معيش‪.‬‬

‫إن الع""ودة بالرواي""ة إلى أص""ولها ‪ -‬وهي ع""ودة يتول""ع به""ا ك""ل دارس بش""كل غ""ريب ‪ -‬تجعلن""ا ال نق""در‬
‫على تجنب الوق " ""وع بين أحض " ""ان امللحم " ""ة‪ ،‬فالتض " ""اد ملحم " ""ة ‪ /‬رواي " ""ة " ه " ""و األك " ""ثر مناع " ""ة من غ " ""يره‬
‫بالنس""بة للمتخصص""ين‪ ،‬ي""رى لبعض ب""أن الرواي""ة مس""خ للقص""ة امللحمي""ة‪ ،‬تق""ع في مس""توى ع""ائلي و إلى‬
‫مالئكي‪ .‬تتضمن وجهة النظر هذه بصفة واضحة أطروحات املؤرخ املجري جيورجي لوكاتش و يمكن‬
‫قراءته ""ا م ""ا بين الس ""طور في مث ""ل كت ""اب املحاك ""اة (‪ )mimesis‬املنس ""وب لع ""الم اللغ ""ة أورب ""اخ‪ . . .‬يوض ""ح‬
‫كت""اب الرواي""ة الهزلي""ة لس""كارون (‪ ")scarron‬عملي""ة زوال القداس""ة ‪ -‬الت""دنيس أو الدمقرط""ة ‪ -‬ه""ذه ال""تي‬
‫‪1‬‬
‫فرضها األدب السردي املعاصر على مجمع األرباب العتيق"‬

‫فاليت‪ ،‬برنار‪ :‬الرواية‪ -‬تر‪ :‬عبد الحميد بورايو‪ -‬دار الحكمة‪ -‬الجزائر‪-2000 -‬ص ‪10‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪16‬‬
‫أما الناقدة الفرنس"ية م"ارت روب"ير ‪ Marthe Robert‬فتص"ف الرواي"ة ب"االبن غ"ير الش"رعي ال"ذي عم"ل‬
‫دائما على اكتساب املصداقية التي كانت ق"ديما حك"را على اآلداب القديم"ة النبيل"ة فحس"ب‪ ،‬وتش"ير إلى‬
‫ك" ""ون الرواي" ""ات القديم" ""ة ( املدونات األمه" ""ات ) تتس" ""م باملس" ""حة الهزلي" ""ة‪ ،‬وهي مس" ""حة تخلص" ""ت منه" ""ا‬
‫بدءا من القرن السابع عشر‪ ،‬أين أصبحت الكتابات تطرح قضايا جدية وتعالجها بلغة جدي""ة‬ ‫الرواية ً‬
‫ص" ""ارمة ج ""ديرة ب ""االحترام والتأم" ""ل و النظ ""ر العمي" ""ق‪ ،‬تمام" ""ا مثلم" ""ا هي الفلس ""فة و الش" ""عر أو الش ""عر‬
‫التمثيلي‪.1‬‬

‫وليس ""ت م ""ارت روب ""ير بص ""دد التالعب باللغ ""ة و هي تس ""تعير تعب ""ير "االبن غ ""ير الش ""رعي" فهي ب ""ذلك‬
‫تحيلن" ""ا على املفص" ""ل األوروبي اله" ""ام الفاص" ""ل في قض" ""ية النش" ""أة ال" ""تي نحن بص" ""ددها‪ ،‬فكلم" ""ة ‪Roman‬‬
‫الدال ""ة على الرواي ""ة في األص ""ل الفرنس ي هي تس ""مية ك ""انت تم ""يز ‪ -‬أول م ""ا ظه ""رت ‪ -‬اللهج ""ات الهجين ""ة "‬
‫املنحطة " املتفرعة عن الالتينية التي ك""انت لغ""ة املؤسس"تين الديني"ة و الحاكم"ة‪ "،‬فالرومانية* هي لهج""ة‬
‫العل""وم واآلداب والتخ""اطب أيض""ا املتبل""ورة في بداي""ة الق""رن الث""اني عش""ر في جن""وب أوروب""ا‪ ،‬و غ""ريب و‬
‫ليس غريب ""ا أن ت ""دل ه ""ذه الكلم" ""ة على مع" ""نى القص ""ص ال ""تي ت" ""روى ‪ -‬في األس ""واق و املج" ""امع املش ""ابهة ‪-‬‬
‫‪2‬‬
‫باللهجة الرومانية‪.‬‬

‫أوال‪ :‬فلسفة األصول‬

‫أثن""اء البحث عن أص""ول الرواي""ة كث""يرا م""ا تعترض""نا اص""ناف كث""يرة من النص""وص ال""تي يمكنن""ا ع""دها‬
‫رواي ""ة ويمكنن ""ا ع ""دها غ ""ير ذل ""ك‪ ،‬وذل ""ك بعي ""دا عن ح ""ديث امللحم ""ة أص ""ال‪ ،‬فهنال ""ك س ""رديات القص ""ور‬
‫ووق" ""ائع بعض الف" ""ترات التاريخي" "ة" ال" ""تي ش يء له" ""ا أن توص" ""ف تاريخي" ""ا‪ ،‬وال" ""تي يتواش" ""ج فيه" ""ا الت" ""اريخي‬
‫باألس""طوري أوالخ""رافي فتعي""دنا" إلى نم""ط من التخيي""ل الجمي""ل‪ .‬كم""ا أن هنال""ك كتب الرحل""ة ال""تي تول""ع‬
‫بالعناصر الخيالية مازجة" اياها بالوقائع واملشاهدات في إطار ال يبتعد تماما عن التخييل الروائي‪.‬‬

‫م‪ .‬نفسه‪ -‬ص‪10‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Divers: litteratures et langages ( le roman, le récit non romanesque, le cinema ) Fernand‬‬
‫‪Nathan ed, Paris 1975, p 7.‬‬
‫‪17‬‬
‫يقفز مؤلفو كتاب " األدب و اللغات " تحت إشراف األستاذ هنري ميتيران إلى الق"رن الس"ابع عش"ر‬
‫فيج""دون مقال""ة ألديب ه""و ه""وي (‪ )Huet‬ح""ول أص""ل الرواي""ات ال""تي يعرفه""ا على أس""اس كونه""ا »قصص""ا‬
‫‪3‬‬
‫مصطنعة تروي غراميات مكتوبة نثرا وبفنية ألجل تسلية القراء ومتعتهم"‬

‫إذا نظرن ""ا إلى التط ""ور الكرونول ""وجي ملفه ""وم "ال ""روائي"‪ ،‬س ""نجده يتط ""ور متنوع ""ا ومتغ ""يرا من ""ذ ( ق‬
‫‪13‬م ) أين يعني املترجم من الالتيني"ة إلى اللهج"ة الرومانثيـة‪ "،‬م"رورا ب""املعنى ال""دال على ك""ل راو لخ"بر م""ا‬
‫باللهج ""ة الرومانثي ""ة( بداي ""ة ق ‪14‬م)‪ ،‬ووص ""وال‪ ،‬في الق ""رن الس ""ابع عش ""ر‪ ،‬إلى املع ""نى ال ""دال على راوي‬
‫قصص أو أخبار مع تحريف وقائعها الحقيقي"ة بطريق""ة ش""اعرية ( روائي"ة ‪ ) Romanesque‬أي بطريق""ة‬
‫‪2‬‬
‫" عجيبة‪ ،‬ساحرة‪ ،‬مثخنة باملغامرات الغريبة‪ ،‬و كل شيء يناقض الواقع‪ ،‬العادي املعروف "‬
‫وي ""ذكر مؤلف ""و الكت ""اب متتبعين آث ""ار الرواي ""ات األوروبي ""ة أن الرواي ""ات ك ""انت رائج ""ة ج ""دا ب " ً‬
‫"دءا من‬
‫الق"رن الث""اني عش"ر‪ ،‬أي في ف"ترة انتش""ار رواي"ة الفروس""ية‪ ،‬و ق"د تخلص"ت من الش""عر بس"رعة (ق ‪13‬م)‬
‫لكي يحتف""ظ ال""روائي باإللق""اء الف""ني أم""ام الجم""وع متخلي""ا عن ال""وزن الش""عري ثم عن الش""كل الش""عري‬
‫وإن كانت املضامين نفسها لم تتغير كثيرا‪ ،‬مع ميل شديد من املؤلفين ( و من الجمهور طبعـا ) صوب‬
‫قص ""ص الفرس ""ان واألبط ""ال ممن س ""افروا في إط ""ار الح ""روب الصليبيـة‪ ،‬وه ""و الشـيء ال ""ذي لم يمن ""ع‬
‫ظه""ور " رواي""ات " ذات ط""ابع اجتماعـي انتق""ادي و تعليمـي (رواي""ة رون""ار ‪ -‬ق ‪13‬م ‪ -‬ورواي""ة الزه""رة ‪ -‬ق‬
‫‪13‬م ‪ ،)-‬وهي تقالي ""د روائي ""ة درس األس ""تاذ مينين ""ديز بيالي ""و ج ""ذورها" فأعاده ""ا إلى املروي ""ات الش ""عبية‬
‫اإلس ""بانية ال ""تي ب ""رهن على أس ""بقيتها على م ""ا ه ""و مع ""روف ظه ""وره في فرنس ""ا؛ وي ""ورد بيالي ""و برهان ""ا على‬
‫‪3‬‬
‫ذلك هو كون اإلطار الذي تدور فيه تلك الروايات املبكرة هو إسبانيا تحديدا (رواية روالن مثال)‪.‬‬

‫وظ""ل األم""ر على ه""ذا الوج""ه إلى غاي""ة مط""الع الق""رن الس""ادس عش""ر أين ح""دثت تغ""يرات كب""يرة أهمه""ا‬
‫اخ" ""تراع الطباع" ""ة‪ ،‬االكتش" ""افات الك" ""برى‪ ،‬ظه" ""ور بورجوازي" ""ة تجاري" ""ة كثيف" ""ة و حيوي" ""ة و املد الكب" ""ير‬
‫للنموذج الرأسمالي" (قب"ل األوان)‪ ،‬ه"ذه التغ"يرات الحض"ارية أح"دثت تغ"يرا كب"يرا على مس"توى األعم"ال‬
‫الروائي ""ة‪ ،‬فق ""د ص ""ارت تطب ""ع‪ ،‬و ظه ""رت طبق ""ة متوس ""طة قارئ ""ة نهم ""ة ( فيم ""ا ع ""دا النبالء طبع ""ا) وهي‬
‫طبق ""ة مقتني ""ة للكتب‪ ،‬وه ""ذا ه ""و الش يء الجدي ""د‪ ،‬ومقتني ""ة للرواي ""ة بالدرج ""ة األولى ؛ إلـى درج ""ة أن‬
‫الروائ""يين و الط""ابعين و تج""ار الكت""اب ص""اروا يعم""دون إلى ص""ياغة الخطاب""ات القديم""ة ص""ياغة جدي""دة‪،‬‬

‫‪3‬‬
‫‪Ibid, p 7.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid, p 7.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Menendez Pelayo: Origenes de la novela, consejo superior de investigaciones cientificas,‬‬
‫‪Madrid,1961,p202‬‬
‫‪18‬‬
‫وإلى ترجم" ""ة أعم" ""ال الروائ" ""يين األج" ""انب ( االس" ""بان و اإليط" ""اليين رأس" ""ا ) ال" ""تي يب" ""دو أنه" ""ا ك" ""انت أك" ""ثر‬
‫استجابة لثقافة القراء آنذاك‪.‬‬

‫الق""رن الس""ادس عش ""ر ينفتح علــى بانتاغروي ""ل لرابلـي (‪ Rabelais ")Pantagruel‬ويختم م""ع املدون ""ة‬
‫األولـى ل""دون كيخ""وت لس""يرفانتيس (‪ ،Don Quichotte " )Cervantes‬وهم""ا عنوان""ان كث""يرا م""ا اتخ""ذهما"‬
‫ُ‬
‫ميخائيل باختين كمدونة أ ٍ ّم لفجر الرواية " الحديثة "‪.‬‬

‫ه ""ذه املرحل ""ة دال ""ة على أس ""باب تط ""ور الجنس ال ""روائي الس ""ريع‪ ،‬وعلى مس ""وغات تفوق ""ه‪ ،‬في رأي‬
‫باختين‪ ،‬و هي مرحل"ة ي"دخلها ب"اختين من م"داخل عدي"دة و باالتك"اء على مق"والت كث"يرة‪ ،‬ففي دراس"ته‬
‫للخي" ""ال القروس" ""طي و للفكاه" ""ة عن" ""د رابلي‪ ،‬و للمجتم" ""ع ال" ""روائي في عص" ""ر النهض" ""ة و لتف" ""وق الجنس‬
‫ال ""روائي وملقولت ""ه األم ح ""ول " الزمك ""ان ‪ "Le Chronotope‬و ملب ""دأ الحواري ""ة ‪ ،Le dialogisme‬في ه ""ذه‬
‫املناس""بات املعرفي""ة كلهـا س""ينطلق ب""اختين من نص""وص الق""رن الس""ادس عش""ر خاصـة ( وإن ك""انت لـه‬
‫تطبيق ""ات هام ""ة ح ""ول دوستوييفس ""كي ) متخ ""ذا ه ""ذه املرحل ""ة كنقط ""ة ب ""دء حقيقي" "ة" للرواي ""ة الحديث ""ة‬
‫باملعنى املتع"ارف علي"ه تقني"ا بين النق"اد و املؤرخين ‪ . . .1‬أي أن اله"وة بين رواي"ات رابلي و رواي"ات كل"ود‬
‫س""يمون أو د‪ .‬هـ‪ .‬ل""ورنس أق""ل بكث""ير من اله""وة الكب""يرة بين امللحمـة الجرمانيــة "تريس""تان و إي""زولت "‬
‫أو امللحمة القروسطية " أغنية روالن " وبين رابلي أو سيرفانتيس‪.‬‬

‫ويضع باختين يده على كثير من املواقع الداللية التي تشير بوضوح إلى املنع""رج الكب""ير ال""ذي عاش""ته‬
‫الرواي""ة في عص""ر النهض""ة‪ . . .‬وق""د يك""ون أهم ه""ذه املواق""ع و أذكاه""ا على اإلطالق النظ""ر إلى الص""لة ال""تي‬
‫يخلقه""ا الك""اتب بين الزم""ان في الرواي""ة و بين املك""ان‪ ،‬و ه""ذا االلتق""اء يترص""ده ب""اختين في نص""وص كث""يرة‬
‫بدءا من املدونات اإلغريقية التي أهملناها ألسباب منهجية و ال"تي يع"دها" كث"ير من م"ؤرخي األدب نقط"ة‬
‫الب" ""دء الحقيقي للرواية‪ . . .2 .‬ووص" ""وال إلى الق" ""رن التاس" ""ع عش" ""ر‪ ،‬يخلص ب" ""اختين إلى أن ك" ""ل ع" ""دول‬
‫عاشته الرواية‪ ،‬وكل دبيب تطور‪ ،‬وكل حسن خروج عن النمط السائد‪ ،‬وكل حرك"ة" لطيف"ة أح"دثها‬
‫ن""اص على نص‪ ،‬يمكن للناق""د الحص""يف أن يلمس""ها ل""دى الزم""ان ؛ أي ص""ياغة الزم""ان و املك""ان مع""ا في‬
‫‪4‬‬
‫النص ‪( 3‬الزمان الذي يقترحه باختين كبعد رابع للفضاء ساعة وللداللة ساعة أخرى‪) .‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Bakhtine, Mikhail: esthètique et théorie du roman, gallimard, Paris, 1958, p 305.‬‬

‫‪2‬‬
‫هالل‪ ،‬محمد غنيمي‪ :‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪ ،1986‬ص ص ‪.495 - 494‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Esthétique et theorie du roman, p 238‬‬
‫‪4‬‬
‫‪Ibid, p 237.‬‬
‫‪19‬‬
‫ثانيا‪ :‬فلسفة تحول‪ :‬نسف املركز‪ /‬إثبات الهامش‬

‫إن التأم""ل الفلس""في في الف""رق بين س""يرورة الرواي""ة و الس""يرورة التاريخي"ة" يع""د م""دخال آخ""ر لت""أمالت‬
‫ب ""اختين في تط ""ور الرواي ""ة و اس ""تقاللها كجنس ال اختالط بين ""ه و بين غ ""يره‪ ،‬ففي حين يق ""ول لوك ""اتش‬
‫ببرجوازي" ""ة الرواي" ""ة كم" ""ا رأين" ""ا س" ""ابقا‪»   ،‬يأخ" ""ذ ب" ""اختين بمنظ" ""ور أك" ""ثر مرون" ""ة‪ ،‬مم" ""يزا بين الرواي" ""ة و‬
‫املق"دمات املوض"وعية ال"تي أفض"ت إليه"ا‪ ،‬إذ لك"ل ت"اريخ أساسي ت"اريخ هامشي يتكئ علي"ه‪ ،‬و ق"ائال أيض"ا‬
‫بف ""رق بين ال""زمن املنطقي و الت ""اريخي‪ ،‬كم ""ا ل""و ك ""انت الرواي ""ة ال تص""احب الت ""اريخ الع ""ام في ط ""ور معين‬
‫من ""ه فق ""ط ب ""ل لهـا تاريخه ""ا الخ ""اص‪ ،‬ال ""ذي ي ""واكب الت ""اريخ الع ""ام أحيان ""ا و يس ""بقه في أحي ""ان أخ ""رى‪،‬‬
‫يرب ""ط ب ""اختين ‪ . . .‬بين زمن ال ""والدة الروائي ""ة و أزمن ""ة تش ""كل العناص ""ر الروائي ""ة‪ ،‬بق ""در م ""ا يم ""يز بين‬
‫الرواية والشروط املوض"وعية ال"تي تش"كلها‪ ،‬ال"تي تع"رف الص"عود كم"ا االنحس"ار‪ ،‬م"دلال على أن ت"اريخ‬
‫‪1‬‬
‫الرواية يتعرف بالجمع ال بصيغة املفرد «‬

‫يتض""ح هن""ا وبش""كل جي""د ان دعم الف""ترة – بمؤسس""اتها الجلي""ة وبم""ا يمكن تس""ميته ال""ذوق الع""ام –‬
‫للعنص""ر ال""روائي ه""و حرك""ة ذات عم""ق سياسي ته""دف إلى نس""ف تص""ور ق""ديم للع""الم تم ترس""يمه ومن""ع‬
‫التص ""ورات املغ ""ايرة ل ""ه ب ""ذلك‪ .‬وتبقى مقارب ""ة ب ""اختين للموض ""وع ال ""ذي نحن بص ""دده متم ""يزة بس ""بب‬
‫ازدواجي "ة" زواي ""ا النظ ""ر ال ""تي يمنحه ""ا إياه "ا" تراوح ""ه بين النق ""د والت ""اريخ العقلي‪ ،‬بين الوص ""ف والحكم‬
‫التقويمي‪.‬‬

‫لق ""د ك ""ان ب""اختين واعيـا ج""دا بالتعقي""د الش ""ديد لعمليـة املخ ""اض األدبـي الفلسفـي و الت""اريخي ال ""ذي‬
‫أدى إلى نش""أة الرواي""ة الحديث""ة م""ع مطل""ع الق""رن الس""ادس عش""ر‪ . . .‬ه""ا ه""و ذا يتأم""ل النص""وص الس""ير‬
‫ذاتي ""ة ق ""ائال‪» :‬من الض ""روري أوال قب ""ل االنتق ""ال إلى النم ""ط الث ""الث من الرواي ""ة القديم ""ة إب ""داء تحف ""ظ‬
‫ج ""وهري للغاي ""ة وه""و أنن""ا نع""ني بالنم""ط الث""الث الرواي ""ة الس""يرية (البيوغرافي""ة) لكن األدب الق ""ديم لم‬
‫ينش ئ عمال س ""يريا كب ""يرا بوس ""عنا فيم ""ا ل ""و اس ""تخدمنا مص ""طلحاتنا أن نطل ""ق علي ""ه اس ""م الرواي ""ة‪ .‬لكن‬
‫األدب الق" ""ديم أنش" ""أ أش" ""كاال جوهري" ""ة من الس" ""يرة و الس" ""يرة الذاتي" ""ة لم ت" ""ؤثر ت" ""أثيرا ض" ""خما في تط" ""ور‬
‫الس"يرة و الس"يرة الذاتي""ة فحس""ب‪ ،‬ب"ل في تط""ور الرواي""ة األدبي""ة كله""ا‪ ،‬و يق""وم في أس""اس ه""ذه األش""كال‬

‫‪1‬‬
‫دراج‪ ،‬فيصل‪ :‬نظرية الرواية و الرواية العربية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬لبنان المغرب‪ ،‬ط ‪ ،1999 ،1‬ص‪.74‬‬

‫‪20‬‬
‫القديم""ة نم""ط جدي""د من ال""زمن الس""يري (ال""بيوتوبوغرافي) و ص""ورة جدي""دة ب""نيت بن""اء خاص""ا لإلنس""ان‬
‫‪1‬‬
‫الذي يقطع طريقه في الحياة«‬

‫العتب""ة الفلس""فية الفاص""لة بين الس""ير تتح""رك بش""كل مث""ير لالنتب""اه عن""د ه""ذه النقط""ة‪ .‬فالس""ؤال ذو‬
‫االس""تلزامات الفلس""فية الهام""ة ح""ول‪ :‬من من""ا يمكن""ه تق""ديم س""يرته الشخص""ية كس""يرة دي""رة بالت""دوين؟‬
‫ه"و س"ؤال ذو بع"د فلس"في يتجلى على أديم فلس"فة الت"اريخ ال"تي هي رص"د لحرك"ة ف"ترة معين"ة من خالل‬
‫مؤش ""رات فردي ""ة وأخ ""رى جماعي" "ة" يمكنه ""ا أن تك ""ون منوط ""ة بمجموع ""ة خاص ""ة من األف ""راد املتم ""يزين‬
‫ال""ذين ص""ارت لهم خريط""ة " بيوتوبوغرافي""ة"" حامل""ة ل""دالالت جدي""دة لتحدي""د األعالم والرج""ال الكب""ار‬
‫واألف" ""راد االس" ""تثنائيين الج" ""ديرين بتق" ""ديم س" ""يرتهم "العط" ""رة" ألبن" ""اء زمنهم – واألزمن" ""ة اآلتي" ""ة أيض" ""ا‪-‬‬
‫رسم ويشار إلي"ه كنقط"ة فارق""ة في الت"اريخ‪ .‬وغن ك"ان هنال"ك من الفالس"فة‬ ‫كنموذج فلسفي يحتذى ُوي ّ‬
‫من يح""ذر من ه""ذه النقط""ة بال""ذات كعالم""ة دال""ة على إفس""اد للتي""ار الط""بيعي للحي""اة بإخراجالت""اريخ من‬
‫ّ‬
‫تول"د‬
‫س""ير "ع""ادي" باتج""اه منظوم""ات قيم مش""بعة ب""اليقين ال""ذي كث""يرا م""ا ادى بن""ا ص""وب اليقيني""ة ال""تي "‬
‫‪2‬‬
‫الشمولية الفلسفية والتي تمهد للشمولية السياسية‪".‬‬

‫إن جمه""ور املت""أدبين نق""ادا و م"ؤرخين يمي"ل ص""وب البحث في أغ"وار الثقاف"ات املحلي"ة ‪ -‬على اختالف‬
‫املش""ارب ‪ -‬عن آث""ار ملا تحي""ط ب""ه النظري""ات الحديث""ة‪ ،‬من ذل""ك م""ا يفعل""ه عب""د هللا إب""راهيم في تطبيقات"ه"‬
‫للعت""اد املنهجي التفكيكي علــى النص""وص العربي""ة ‪3‬أو م""ا يق""وم ب""ه نص""ر حام""د أب""و زي""د باحث""ا عن اآلث""ار‬
‫الس""يميولوجية" في ال""تراث الفك""ري و اللغ""وي الع""ربي ‪ . . .4‬أو م""ا سيش""كله س""عيد يقطين وعب""د الفت""اح‬
‫كيليط""و بحث"ا عن مالمح الس"رد الحديث""ة في ص"لب الكتاب""ات العربي"ة القديم""ة (الخ"بر مثال) أو منقب""ا عن‬
‫إحداثيات القصة ( أو النص السردي ) على معلم السيرة الشعبية ‪.5‬‬

‫الشيء الذي ال يمنع سلوكا مقابال يص"ر على الفص"ل بين ك""ل ش"بيهين وق""ف بينهم""ا أي ح""اجز فاص""ل‪،‬‬
‫أو ملمح نش" ""از‪ ،‬و على رأس م" ""ا يق" ""ف بينهم" ""ا الت" ""اريخ ال" ""ذي يجته" ""د جنوني" ""ا في التفرق" ""ة بين الش" ""يئين‬
‫‪6‬‬
‫املتماثلين متى ما فرق بينهما زمن ما‪ ،‬و ذلك ما يفعله عبد امللك مرتاض مثال‪.‬‬

‫‪ 1‬م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص‪75‬‬


‫‪2‬‬
‫‪Karl Popper: the poverty of historicism- Routledge- new edition- 1994- p46‬‬
‫‪ 3‬إبراهيم‪ ،‬عبد هللا‪ :‬السردية العربية( موضوع الكتاب كله هو هذه التفصيلة التي نحن بصددها)‬
‫‪ 4‬قاسم‪ ،‬سيزا و أبو زيد‪ ،‬نصر حامد‪ :‬مدخل إلى السيميوطيقا‪ ،‬عيون المقاالت‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط ‪ ،2‬ص ص ‪-73‬‬
‫‪.133‬‬
‫‪ 5‬يقطين‪ ،‬سعيد‪ ƒ:‬الكالم و الخبر‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬لبنان المغرب‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص ص ‪.219 - 218‬‬
‫‪6‬مرتاض‪ ،‬عبد المالك‪ :‬في نظرية الرواية‪ ،‬دار الغرب‪ -‬الجزائر‪ ،2005 -‬ص ‪.35‬‬

‫‪21‬‬
‫يقوم انتقاد هذه النظرة ‪ -‬و إن كان انتقادا خالي"ا من اإلقص"اء الت"ام للفك"رة ال"تي أس"لفنا أنه"ا متف"ق‬
‫عليها ‪ -‬على أساسين رئيسيين ؛ األول يتكئ على بطالن السياق الت"اريخي ال"ذي ج"اءت في إط"اره املالحم‪،‬‬
‫و نق" ""ول بطالن الس" ""ياق الت" ""اريخي و األص" ""ح ق" ""ول‪ :‬بطالن الس" ""ياق العقي" ""دي‪ ،‬ألن املالحم مرتبط" ""ة ال‬
‫محال""ة بوثني""ة م""ا‪ ،‬بعقائ""د تعددي""ة‪ ،‬باعتق""اد في آله""ة و أنص""اف آله""ة وأبن""اء مفترض""ين له""ؤالء ال""ذين ال‬
‫مه""رب من س""متهم بميس""م إنس""اني‪ ،‬والنتيج""ة ك""انت أن ملمح البط""ل ( األبط""ال ) في الرواي""ة تغ""ير كث""يرا‪،‬‬
‫فه" ""ذا األخ" ""ير أص" ""بح ق" ""ابال للض" ""عف و لخس" ""ارة الس" ""باق‪ ،‬للبق" ""اء دون تحقي" ""ق مرامي" ""ه ودون الوف" ""اء‬
‫لوعوده البطولية‪ . . .‬و كل ه"ذا يق"ف موقف"ا نقيض"ا ملوق"ف امللحم"ة‪ . . .‬و األس"اس ال"رئيس الث"اني ه"و‬
‫كون الرواية أكثر اهتماما باألداء اللغوي ( و بالجانب الش"كلي عموم"ا ) مم"ا ك"انت علي"ه املالحم ق"ديما‪،‬‬
‫إذ أنه ""ا ‪ -‬رغم كونه ""ا تكتب ش ""عرا ‪ -‬ك ""انت تيس ""ر أم ""ر الن ""اظم‪ ،‬و ال تحاس ""به محاس ""بة ش ""عرية عس ""يرة‪،‬‬
‫لس""بب بس""يط ه""و ك""ون املع""ول علي""ه في امللحم""ة فيم""ا وراء اللغ""ة وفيم""ا وراء الش""كل ه""و " املض""مون "‬
‫‪1‬‬
‫وإن كانت هذه الكلمة مطاطية جدا‪.‬‬

‫ينبغي الوق""وف م""رة أخ""يرة عن""د املفص""ل اله""ام ال""ذي يش""كله التط""ور ال""ذي نحن بص""دده فــي املرحلـة‬
‫املنتقلـة من العص" ""ور الوسطـى و العص" ""ور الكالس" ""يكية إلى عص" ""ر النهض" ""ة ثم العص" ""ور الحديث" ""ة‪. . .‬‬
‫وذل ""ك بغي ""ة اس ""تنطاق التح ""ول الج ""ذري لش ""كل األداء اللغ ""وي في طموح ""ه للخ ""روج تمامـا من سلطـة‬
‫املدرسـة و املؤسسة و العرف و املرجعيات الص"ارمة ال"تي تنق"ل اللغ"ة و املخيل"ة و ب"اقي عناص"ر العملي"ة‬
‫االبداعي" ""ة ال" ""تي نع" ""رف أنه" ""ا ش" ""ديدة الطم" ""وح ص" ""وب الحري" ""ة و االنفالت من قي" ""ود الجنس املح" ""دد و‬
‫القواعد و الطرائق و الذوق السائد‪ . . .‬الخ‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬فلسفة التطور‪ :‬نص الحياة من حياة النص‬

‫يقول بوريس ايخنباوم ‪ » Boris Eikhenbaum‬لقد تطورت القصة القصيرة اإليطالي"ة‪ ،‬في الق"رنين‬
‫الث ""الث عش ""ر و الراب ""ع عش ""ر‪ ،‬مباش ""رة انطالق ""ا من الخراف ""ة و األحدوث ""ة و لم تفق ""د ص ""لتها بأش ""كال‬
‫الحكي البدائي ""ة إنه ""ا ‪ -‬دون أن تقل ""د عن قص ""د الخط ""اب الش ""فوي ‪ -‬م ""الت إلى طريق ""ة ال ""راوي ال ""ذي ال‬
‫م""زاعم ل""ه و ال""ذي يح""اول أن يعرفن""ا على حكاي "ة" معين""ة دون أن يس""تعمل س""وى كلم""ات بس""يطة‪ .‬ه""ذه‬
‫القص ""ة القص ""يرة لم تكن تتض ""من ال وص ""فا مس ""هبا للطبيع ""ة و ال أوص ""اف مفص ""لة للشخص ""يات‪ ،‬و ال‬

‫‪ 1‬م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص ص ‪.36 - 35‬‬

‫‪22‬‬
‫اس""تطرادات غنائي""ة أو فلس""فية‪ ،‬إنن""ا ال نج""د فيه""ا ح""وارا‪ . . .‬على الش""كل ال""ذي عودتن""ا علي""ه القص""ة‬
‫القص""يرة أو الرواي""ة املعاص""رتان‪ ،‬في رواي""ة املغ""امرات القديم""ة‪ ،‬ك""انت الص""لة فيم""ا بين املراح""ل ال""تي‬
‫يجع""ل املتن الحك""ائي ‪ Fable‬بعض""ها يتب""ع لبعض‪ ،‬ك""انت تتم بمس""اعدة بط""ل حاض""ر دائم""ا‪ ،‬لق""د تط""ورت‬
‫ه""ذه الرواي""ة انطالق""ا من مجموع""ة قص""ص قص""يرة‪ ،‬مث""ل " ال""ديكاميرون "*‪ ،‬نظ""را ألن األهمي""ة تعطى‬
‫‪1‬‬
‫لتأطير السرد واألنساق والتحفيز «‪.‬‬

‫يوحي كالم إيخنباوم بتح"ول كب"ير يمه"د النتق"ال الفن الس"ردي من امللحم"ة و من األداء الش"فوي إلى‬
‫م" ""ا س" ""يأتي بيان" ""ه و م" ""ا س" ""بقت اإلش" ""ارة إلي" ""ه‪ . . .‬ف" ""الراوي ك" ""ان ساذجـا يكش" ""ف عن نفسـه و يس" ""جل‬
‫حض ""وره فيعط ""ل كث ""يرا من طاق ""ات اإليح ""اء وإمكاني ""ات الت ""أثير‪ ،‬ثم تط ""ورت حال ""ه فأص ""بح ذكي ""ا يجي ""د‬
‫التخفي خلف موضوعية ما يمحو آثار نشاطه بحيث يعجز دون التماسها القارئ املتتب""ع‪ ،‬إن""ه راو ذو‬
‫استراتجيات تحتية معقدة تؤدي دورها بخفوت كبير‪.‬‬

‫إذا م" ""ا حفرن" ""ا قليال في دم" ""اغ ه" ""ذا ال" ""راوي املتح" ""ول على ح" ""واف كتب مث" ""ل ال" ""ديكاميرون وحكاي" ""ات"‬
‫ك" ""انتربوري ثم انب" ""اء دونكيش" ""وط س" ""نجد أنفس" ""نا بص" ""دد تش" ""كيل رؤي" ""ة مث" ""يرة للج" ""دل ص" ""وب الع" ""الم؛‬
‫ف""الراوي ال""ذي يوج""ه ص""وبنا الح""ديث يش""به تمام""ا الص""ورة القديم""ة للمعلم أو للن""بي أو للع""راف ال""ذي‬
‫يوج ""ه ص ""وبنا ح ""ديثا س ""لطته الفلس ""فية الوحي ""دة مرتبط ""ة بمن يقول ""ه‪ ،‬وبمكانت ""ه الخطابي ""ة كمهيمن‬
‫نفس ي وعقلي على جمه ""وره‪ ،‬في حين ان الش ""كل الجدي ""د لل ""راوي يش ""به عم ""ل اللغ ""ة الي ""وم؛ عم ""ل غ ""ير‬
‫محس""وس يعتم""ل داخلن""ا بمع""زل عن القائ""ل‪ ،‬يش""كلنا من ال""داخل بمع""زل عن إرادتن""ا وفي لعب""ة خ""داع‬
‫كبرى توحي بأنه ال يوجد غيرنا على اديم التخاطب‪.‬‬

‫يس""جل ايخنب""اوم ت""أثير العلم و املوض""وعية العلمي""ة م""ع االرهاص""ات" األولى لعص""ر األن""وار ال""ذي ه""و‬
‫عص ""ر العلم املع ""ادي لك ""ل م ""ا ه ""و ميت ""افيريقي و ك ""ل م ""ا يق ""ترب من امليتافيزيك ""ا أو يتص ""ل به ""ا ب ""أي ش ""كل‬
‫ك" ""ان‪ ،‬يق" ""ول »تتم" ""يز رواي" ""ة الق" ""رن التاس" ""ع عش" ""ر باس" ""تعمال ك" ""ثيف للوص" ""ف‪ ،‬والص" ""ور الشخص" ""ية‬
‫الس""يكولوجية" والح""وارات‪ . . .‬و تق""دم لن""ا ه""ذه الح""وارات في بعض األحي""ان‪ ،‬كمج""رد محادث""ة ترس""م‬
‫لن ""ا الص ""ور الشخص ""ية للشخص ""يات من خالل ردودهم‪ . . .‬أو باعتباره ""ا‪ "،‬فق ""ط‪ ،‬ش ""كال مقنع ""ا لحكي‬
‫يك""ون نتيج""ة ل""ذلك‪ ،‬ب""دون خاص""ية " مش""هدية " لكن ه""ذه الح""وارات تتقمص في بعض األحي""ان ش""كال‬
‫محض مس"رحي فتغ"دو وظيفته"ا دف""ع الح"دث إلى أم"ام و ليس فق""ط وص"ف الشخص"يات‪ . . .‬إن الرواي"ة‬

‫‪ 1‬الخطيب‪ ،‬إبراهيم‪ :‬نظرية المنهج الشكلي ( نصوص الشكالنيين‪ ƒ‬الروس )‪ ،‬ترجم‪ƒƒ‬ة‪ ،‬مؤسس‪ƒ‬ة األبح‪ƒ‬اث العربي‪ƒƒ‬ة‪ ،‬لبن‪ƒ‬ان‪،‬‬
‫ط ‪ ،1982 ،1‬ص ص ‪.109 -108‬‬

‫‪23‬‬
‫تقط ""ع به ""ذه الطريق ""ة ص ""لتها بالش ""كل الحك ""ائي و تغ ""دو مزيج ""ا من الح ""وارات املش ""هدية‪ ،‬و اإلش ""ارات‬
‫‪1‬‬
‫املفصلة التي تقوم بالتعليق على الديكور‪ ،‬و اإليماءات و النبر الخ‪« .‬‬

‫ه ""ذا الوض ""ع الس ""ردي ن ""اتج حس ""ب ايخنب ""اوم على تط ""ور أش ""كال الكتاب ""ة ( والكتاب ""ة الس ""ردية ) من‬
‫مقالة إلى وصف رحلة إلى دراسة‪ ،‬إلى يوميات إلى م"ذكرات‪ . . .‬و ك"ل ه""ذه " ت"روي " قصص"ا بش""كل أو‬
‫بآخر‪ . . .‬إض"افة إلى كثاف"ة الرس"ائل املتبادل"ة ال"تي تس"م بالتأم"ل و الحرك"ة الذهني"ة على ه"امش " رواي"ة‬
‫األح""داث "‪ . . .‬إض""افة إلى م""ا تمنح""ه املذكرات من ه""وامش التأم""ل االجتم""اعي‪ ،‬الفلس""في واألخالقي‪. . .‬‬
‫كل هذا رسم لنا ملمحا جديدا تمام""ا ملا ك"ان مج""رد " رواي"ة أح"داث "‪ ،‬و بعمليـة عكسيـة أص"بح النص‬
‫القصص ي (ال " ""روائي) منفتح " ""ا على إمكاني " ""ات الكتاب " ""ة ه " ""ذه فتغ " ""ير ش " ""كل الرواي " ""ة ج " ""ذريا‪ "،‬و لم يع " ""د‬
‫للملحمة أي أثر‪.‬‬

‫لق""د » حص""ل فـي بدايـة الق""رن التـاسع عش""ر انتش""ار كب""ير لدراسـات األخالق و الرواي""ة املتسلس""لة‬
‫الل" ""تين أخ" ""ذت فيم" ""ا بع" ""د ش" ""كل الدراسـات املس" ""ماة " فيزيولوجيـة "‪ ،‬وهي دراس" ""ات ح" ""رمت من ك" ""ل‬
‫خاص""ة تهذيبي""ة‪ ،‬وترك""زت في وص""ف الحي""اة الحض""رية بتن""وع طبقاته""ا وفئاته "ا" ولهجاته""ا‪ . . . ".‬إن رواي""ة‬
‫الق""رن التاس""ع عش""ر‪ ،‬ل""دى ك""ل من ديك""نز و بل""زاك و تولس""توي ودوستويفس""كي‪ ،‬ق""د اش""تقت من ه""ذه‬
‫الدراسـات الوصفيــة و الس""يكولوجية‪ .‬كم""ا أن مص""ادر ه""ذه الروايـة ك""انت هـي الدراس""ات االنغليزيـة‬
‫من نم" " ""ط ( الحي" " ""اة في لن" " ""دن )‪ . . .‬و الكتاب" " ""ات الوص" " ""فية الفرنس" " ""ية عن ب" " ""اريس‪ . . .‬و " الدراس" " ""ات‬
‫الفيزيولوجية " الروسية‪ ،‬و مع ذلك فإن هناك رواية تنتمي إلى النم""ط الق""ديم من رواي""ات املغ""امرات‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ . .‬و هنا تتم املحافظة على الصلة بالكالم الذي يقترب مع ذلك من الخطابـة و ليس من الحكي«‬

‫هنال" ""ك مقارب" ""ة ثالثي" ""ة األبع" ""اد لت" ""اريخ الرواي" ""ة أو لنظريـة نشأتهـا‪ ،‬أو لنظرياتهـا على اعتب" ""ار ك" ""ون‬
‫نظري""ة الرواي""ة ت""أمال فـي هويته""ا الفلس""فية مج""ردة من ك""ل اعتب""ار آخ""ر مرتب""ط بالض""رورات الكتابي""ة أو‬
‫بالس" ""ياقات" السياس" ""ية والعقيدي" ""ة واالجتماعي" ""ة‪ ،‬و ب" ""النظر إلى االعتب" ""ارات كله" ""ا لرؤي" ""ة م" ""ا وراء ه" ""ذه‬
‫االعتب" ""ارات‪ .‬ه" ""ذه املقارب" ""ة هي ال" ""تي تق" ""ول إن الرواي" ""ة إم" ""ا أن تك" ""ون جنس" ""ا أدبي" ""ا تش" ""كل على ه" ""امش‬
‫امللحم""ة ؛ أي على ه""امش الش""عر‪ ،‬و إم""ا أن تك""ون ض""ربا من الت""اريخ الشخصي الج""زئي و إم""ا أن تك""ون‬
‫تعبيرا عن وجدان املجتمع‪.‬‬

‫‪ 1‬م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص ‪.110‬‬


‫‪2‬م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص ص‪.110-109‬‬
‫‪24‬‬
‫رابعا‪ :‬فلسفة السرد‪ :‬إثبات املشهد‪ /‬نفي الشهادة‬

‫إن التأمل الفلسفي في رحلة التطور هذه يقودنا إلى مقابلة غريبة بين التاريخ الذي يجته""د بال طائ""ل‬
‫كي ينق ""ل ش ""هادات من أثث ""وا مرحل ""ة م ""ا وبين طريق ""ة "روائي ""ة" في الح ""ديث عن ه ""ذا الع ""الم على أس ""اس‬
‫كون""ه كتاب""ة يتبناه""ا أش""خاص معين""ون ينتم""ون إلى دوائ""ر سياس""ية أو إيديولوجي "ة" ( والغ""الب أن تك""ون‬
‫سياس""ية‪ /‬إيديولوجي""ة) يق""دمون "ص""يغة تاريخي""ة"" أو "نس""خة للحقيق""ة"" تتماشى واس""تراتيجياتهم ال""تي‬
‫يق""ف خلفه""ا دائم""ا منط""ق املص""لحة السياس""ية الهادف""ة دائم""ا إلى ص""ياغة املش""اهدة في إط""ار مش""هد ينتهي‬
‫‪1‬‬
‫إلى أال يأبه تماما بالحقيقة‪ ،‬أو بالصدقية التي يبدو التاريخ حامال لرايتها دائما‪.‬‬

‫بن" ""اء على م" ""ا س" ""بق ف" ""إن فريق" ""ا كب" ""يرا من املؤرخين يع" ""ود بالرواي" ""ة إلى كتاب" ""ات املؤرخين األوائ" ""ل في‬
‫العص ""ر اإلغ ""ريقي ويع ""ود إليهم ألنهم اعتم ""دوا الت ""دوين‪ ،‬على عكس من ج ""اء قبلهـم من رواة األخب ""ار‬
‫ومن م ""ؤرخي عص ""ر م ""ا قب ""ل الت ""دوين‪ ،‬ف ""املؤرخ" املته ""افت لس ""بب أو آلخ ""ر ه ""و في الحقيق ""ة روائي بك ""ل‬
‫املق""اييس‪ ،‬و إذا ك""انت البني""ة االبتدائي""ة هي كتاب""ة الت""اريخ‪ ،‬ف""إن الش""كل النه""ائي ه""و رواي""ة ال ش""ك و ال‬
‫ام""تراء فـي روائيتهـا‪ 2 ،‬وال""ذي ال يع""ود ك""ل ه""ذا الع""ود يق""ف عن""د النص""وص الهام""ة ال""تي منحت الرواي""ة‬
‫هوي""ة أدبيـة و كتابي""ة مس""تقلة و م""ائزة له""ا عن غيره""ا فيج""د كم""ا كب""يرا من الرواي""ات التاريخي""ة‪ ،‬األم""ر‬
‫فسره املؤرخون" بكون الرواية » قبل أن تبلغ ما بلغت"ه الي"وم من وض"ع ممت""از حمله"ا على إنك"ار الت"اريخ‬
‫و اإلنس ""ان و املك ""ان والحقيق ""ة ( الرواي ""ة الجدي ""دة )‪ ،‬ك ""انت متزاوج ""ة م ""ع الت ""اريخ زواج وف ""اء‪ ،‬تنش ""د‬
‫العالقة الحميمة بينها وبينه‪ .‬و لكن لعلها كانت مجرد مرحلة كانت الرواي"ة فيه"ا ال تفت"أ غ"ير واثق"ة من‬
‫نفس""ها‪ ،‬وال موقن""ة من جماله""ا الف""ني‪ ،‬و س""لطانها األدبي املث""ير‪ ،‬فكن""ا نلفيه""ا تع""ول تع""ويال ش""ديدا على‬
‫أح""داث الت""اريخ إمـا بص""ورة مباش""رة‪ ،‬و إم""ا بإيه""ام الق""ارئ ب""أن م""ا ح""دث‪ ،‬ه""و فعال وق""ع يوم""ا م""ا‪ ،‬في‬
‫زمن الت""اريخ‪ ،‬و أن الشخص""يات املرس""ومة هي‪ ،‬حق""ا‪ ،‬تمث""ل أشخاص""ا ك""انوا يحي""ون و يرزق""ون‪ ،‬مم""ا‬
‫‪3‬‬
‫حمل بالزاك على عد الرواية حليفا للتاريخ «‪.‬‬

‫لق""د م""ال ال""روائي في بعض املراح""ل إلى محاول""ة فهم الواق""ع‪ ،‬لك""ون واقع""ه ه""ذا مش""بعا باألح""داث‬
‫ال""تي يتغ""ير عن""دها مس""ار الت""اريخ‪ ،‬فك""أن الك""اتب ي""أتي في أعق""اب ه""ذه املراح""ل فيج""د واقعهم ت""أثر ش""ديد‬
‫الت""أثر بت""اريخ ق""ريب أو متوس""ط الق""رب‪ ،‬فيش""رع ه""ذا ال""روائي في الكتاب""ة متن""اوال الت""اريخ لعل""ه يفهم""ه‬

‫‪1‬‬
‫‪Karl popper- op. cit. p14‬‬
‫هالل‪ ،‬محمد غنيمي‪ :‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص ص ‪.494 - 493‬‬ ‫‪2‬‬

‫مرتاض‪ ،‬عبد المالك‪:‬في نظرية الرواية‪ ،‬ص ص ‪.39 - 38‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪25‬‬
‫أك " ""ثر فيفهم واقع " ""ه املباش " ""ر على ض " ""وء ه " ""ذا الفهم ‪ . . .1‬و ه " ""ذا م " ""ا ح " ""دث بالنس " ""بة للرومانس " ""يين في‬
‫النص""ف األول من الق""رن التاس""ع عش""ر‪ ،‬إذ ال يوج""د ك""اتب ه""ام إال و ل""ه كت""اب ح""ول الث""ورة الفرنس""ية‬
‫يحاول من خالله قراءة ما حدث س"واء للع"رض‪ ،‬للمحاكم"ة" ( كم"ا هي الح"ال في كت"اب " قص"ة م"دينتين‬
‫" ألنغليزي تشارلز ديكنز ) أو لطرح قضايا اليوم املباشر من خالل تصوير قضايا األمس القريب‪.‬‬

‫ثم إن ال""روائي في ح""االت كث""يرة يج""د نفس""ه سياس""يا بش""كل م""ا ؛ و األمثل""ة في ه""ذا املض""مار أك""ثر من‬
‫كث ""يرة‪ ،‬فتتح ""ول كتاب ""ة الواق ""ع إلى كتاب "ة" تاريخي ""ة بالض ""رورة مس ""تفيدة باملق ""درة الكب ""يرة ال ""تي يملكه ""ا‬
‫األدب على االخ""تزال‪ ،‬التحوي""ل و الترم""يز ( التش""فير )‪ 2‬ك""ل ه""ذا ال يجب أن يهم""ل وجه""ا رابع""ا للقض""ية‬
‫ال ""تي نحن بص ""ددها هي الوج ""ه الف ""ني‪ ،‬إذ ال ش ""ك في ك ""ون الرواي ""ة تواش ""جت م ""ع الت ""اريخ باس ""تمرار و‬
‫نجاع""ة » ألنه""ا عم""دت إلى تحلي""ل األح""داث التاريخي"ة" و االجتماعي"ة" بش""كل ف""ني ب""ارع‪ ،‬ثم ألنه""ا ك""انت في‬
‫عه""د ك""ان الن""اس في""ه ال يف""تئون يعتق""دون في قيم""ة س""لطان الف""رد «‪ . . .3 .‬و ه""ذه النقط""ة ربم""ا هي ال""تي‬
‫أدت إلى تراج""ع الش""كل الق""ديم للرواي""ة التاريخي""ة لفائ""دة أن""واع أخ""رى رمزي""ة ق""د نستش""فها في املي""دان‬
‫الع"ربي من خالل نص"وص ذكي"ة حداثي"ة مث"ل أعم"ال جم"ال الغيط"اني ال"ذي يع"د مث"اال جي"دا له"ذا الن"وع‬
‫من االش"تغال في أعم"ال من قبي"ل "الزي"ني برك"ات" و"كت"اب التجلي"ات"و "م"ذكرات ش"اب ع"اش من"ذ أل"ف‬
‫عام"‪.‬‬

‫ليس تراج"ع االعتق"اد الفلس"في في ق"وة الف"رد و س"لطانه على الس"يرورة التاريخي"ة ه"و وح"ده الس"بب‬
‫ال ""ذي أدى إلـى تراج ""ع الروايـة التاريخيـة‪ "،‬ب ""ل إن مفه ""وم ال ""زمن نفسـه ق ""د تغ ""ير و أص ""يب بش يء من‬
‫"املرض" !‪ . . .‬فالخض"وع للتسلس"ل الزم"ني‪ ،‬و النظ"ر إلى ه"ذا األخ"ير نظ"رة خطي"ة تعاقبي"ة" كالس"يكية‪،‬‬
‫واالهتم ""ام بالـ " أمان ""ة " التاريخي ""ة‪ . . .‬ك ""ل ذل ""ك من مكاس ""ب املاض ي ص ""ار املح ""دثون يش ""مئزون من ""ه‬
‫ش""ديد االش""مئزاز ف""إذا ك""ان ال""زمن ق""د س""يطر على الرواي""ة التاريخي""ة كمح""ور ق""وى له""ا » ف""إن الرواي""ة‬
‫الجدي ""دة‪ ،‬ومعه ""ا النزع ""ة النقدي ""ة البنوي ""ة ترفض ""ان مفه ""وم ال ""زمن‪ ،‬أو على األق ""ل ترفض ""ان س ""لطانه‬
‫مح" ""اولتين التخلص من" ""ه ب" ""العبث ب" ""ه‪ ،‬و الني" ""ل من" ""ه‪ ،‬و التش" ""كيك في أم" ""ره‪ ،‬بتقديم" ""ه حيث يجب أن‬
‫ي ""ؤخر‪ ،‬وبت ""أخيره حيث يجب أن يتق ""دم‪ ،‬و ب ""الهروب من وطأت ""ه تحت أش ""كال متنوع ""ة من الس ""رد‪ ،‬و‬
‫‪4‬‬
‫لقد نشأ عن رفض الزمن‪ . . .‬رفض للتاريخ أيضا تحت تبريرات فكرية مختلفة‪.« . . .‬‬

‫‪ 1‬م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬

‫‪ 2‬يقطين‪ ،‬سعيد‪ ƒ:‬انفتاح النص الروائي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬المغرب‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪ ،2001 ،2‬ص ‪.81‬‬
‫‪ 3‬مرتاض‪ ،‬عبد المالك‪ :‬في نظرية الرواية‪ ،‬ص ‪.44‬‬
‫‪ 4‬م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪26‬‬
‫إال أن ق " ""راء العش " ""ريات األخ " ""يرة ‪ -‬أي م " ""ا بع " ""د الرواي " ""ة الجدي " ""دة ‪ -‬ع " ""ادوا إلى املطالب " ""ة بالرواي " ""ة‬
‫التاريخي"ة‪ ،‬و ربم"ا ي"دل على ذل"ك أرق"ام س"حب الرواي"ات التاريخي"ة في فرنس"ا‪ ،‬يق"ول ل"وران فلي"در إن‬
‫الق""راء ال زال""وا »منج""ذبين أك""بر انج""ذاب ص""وب املعرف""ة اللذي""ذة الطريف""ة لفص""ول الت""اريخ املجي""دة أو‬
‫األليم""ة‪ ،‬وص""وب فتن""ة العظم""اء و املش""اهير‪ ،‬و الط""ابع البط""ولي‪ . . ".‬و ه""ذا ه""و مي""دان مح""ترفي الرواي""ة‬
‫التاريخي" "ة" ال" ""ذين س" ""يتفيدون دائم" ""ا من وث" ""ائق كث" ""يرة ج" ""دا يعمل" ""ون على ع" ""دم ظهوره" "ا" خل" ""ف آثارهـا"‬
‫يستغلونهـا إلع""ادة الل""ون والص""وت و الرائح""ة إلى الف""ترات املنس""ية‪ ،‬و إلع""ادة إحي""اء الرغب""ات واملي""ول‬
‫‪1‬‬
‫التي انطفأت منذ زمن بعيد مثلما يستحب خيالهم‪« .‬‬

‫لق""د نتج عن ه""ذه االزدواجي""ة س""ؤال مختل""ف تمام""ا ح""ول العالق""ة العميق""ة بين النص ال""روائي من‬
‫حيث تمثل " ""ه كبني " "ة" معق " ""دة ( بني " ""ة حواري " ""ة كم " ""ا أس " ""لف بين أي " ""دينا ميخائي " ""ل ب " ""اختين ) وبين الواق " ""ع‬
‫التاريخي‪ . . .‬ذلك هو السؤال ال"ذي ع"بر عن"ه ميش"ال زيراف"ا عن الص"لة الخفي"ة بين أعط"اف النص"وص‬
‫"املتحاورة " التي تشكل نسيج النص ( أليس ‪ texte‬مبنيا على الجذر اللغوي الالتيني ال""دال على النس""يج‬
‫؟)* ؛ الص ""لة بين الح ""دث االجتم ""اعي و الثق ""افي ال ""ذي تب ""نى الرواي ""ة من حول ""ه و بين الح ""دث الكت ""ابي و‬
‫التقنية التشكيلية التي يجترحهـا الروائـي و يتخذها وسيلة لعرض مادته الروائية‪ . . .‬وهذان األخ""يران‬
‫طبع""ا هم""ا املع""ول عليهم""ا في املحج""ة الك""برى لك""ل الكت""اب‪ :‬إح""داث أث""ر على ص""احب الجالل""ة الق""ارئ‪. . .! ‬‬
‫مهمة ستزداد حساسية في املرحلة التاريخية التي نص"فها ب""الفترة م"ا بع"د الحداثي""ة أو املرحل"ة الحداثي"ة‬
‫املت" ""أخرة ال" ""تي بل" ""غ الح" ""د بأص" ""حابها أنهم نف" ""وا إمكاني" ""ة فهمه" ""ا ب" ""أدوات علم االجتم" ""اع أو علم الت" ""اريخ‬
‫‪2‬‬
‫العروفة لدينا؛ فهي مرحلة من صفاتها االستعصاء على الفهم العلمي القديم‪.‬‬

‫هذا النوع من التس"اؤل مفي"د ج"دا ألن"ه ط"ور ال"وعي الع"ام بالس"يرورة الروائي"ة املتنقل"ة من التش"كل‪/‬‬
‫البيـان إلـى التشكيل ‪ /‬للتبيين‪ ،‬فالوعـي النقدي املتقاسم بين الجميع ( املط"روح في الطري"ق يتعام"ل م"ع‬
‫الرواي""ة حالي""ا على أس""اس أن لحمت""ه األولي""ة تتش""كل رأس""ا من لحم""ات ص""غيرة بعض""ها ت""اريخي و بعض""ها‬
‫اجتماعي‪.‬‬

‫‪ 1‬فليدر‪ ،‬لوران‪ :‬الروايـة الفرنسيـة المعاص‪ƒƒ‬رة‪ ،‬ترجمـة‪ :‬فيص‪ƒ‬ل األحم‪ƒƒ‬ر‪ ،‬منش‪ƒƒ‬ورات مخ‪ƒƒ‬بر الترجم‪ƒƒ‬ة فـي اللس‪ƒƒ‬انيات‬
‫واألدب‪ ،‬الجزائر ‪ ،2004‬ص ‪.110‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Pavlich George, “ Contemplating a postmodern sociology: genealogy, limits and‬‬
‫‪critique ”, The Sociological Review, vol. 43, n°3, August 1995, p.  549-550.‬‬
‫‪27‬‬
‫ل ""ذلك نج ""د الرواي ""ة مدروسـة من قب ""ل ع ""الم النفس ( كدراس ""ة فروي ""د ألعم ""ال دوستويفس ""كي )‪،‬‬
‫كم ""ا نج ""دها مؤش ""را اجتماعي ""ا بالنس ""بة للمرحل ""ة ال ""تي تنط ""ق بلس ""انها (ن ""ذكر باهتم ""ام علم ""اء االجتم ""اع"‬
‫ببلزاك) ونجدها مجاال خصبا للمطارحات الفلسفية‪ . . .‬الخ‪.‬‬

‫وم" ""ع ذل" ""ك فعلى ال" ""رغم ‪ » ‬من أن للرواي" ""ة وجوه" "ا" ال تحص ى‪ ،‬و أش" ""كاال ال تع" ""د ؛ فإنه" ""ا م" ""ع ذل" ""ك‬
‫تتجس ""د تحت ش ""كل كت ""اب ؛ و إن من أسس ""ها ال ""تي ال تب ""ديل له ""ا و ال تغي ""ير أنه ""ا ظ ""اهرة لس ""رد حكاي ""ة‬
‫متخيل""ة قابل""ة للتح""ول‪ ،‬و ق""ادرة على االختالف و التغ""ير إلى غ""ير ح""د مفض""ية إلى تسلس""ل املجموع""ات‪،‬‬
‫أو إلى تت ""ابع الب ""نى الفني ""ة‪ ،‬أي إلى مجموع ""ات تك ""ون عناص ""رها" مرتبط ""ة بعض ""ها ببعض بحيث تش ""كل‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫آخر املطاف‪ ،‬عمال أدبيا كليا منسجمــا‪« .‬‬

‫خامسا‪ :‬فلسفة التمثيل؛ من سلطة التدليل إلى سلطة التخييل‬

‫نق""ف م""ع الرواي""ة التاريخي""ة على مفارق""ات عدي""دة ص""نعت مج""دها‪ ،‬و أدت به""ا إلى التح""ول من‬
‫أحد أشرف األنواع األدبية إلى واحد من أهزلها و أبعدها عن التناول األك""اديمي الج""اد‪ ،‬قب""ل أن تص"ير‬
‫مي""دانا لتج""ريب روائي ‪ -‬ع""ربي وع""المي ‪ -‬حام""ل ألك""ثر من موق""ع من مواق""ع االش""تغال الح""داثي املس""كون‬
‫بهواجس الجدة و التميز و الطرق املستمر على أبواب املعاني التي ال عهد لها بطارق‪.‬‬

‫املفارقة األولى تقفز إلى الذهن من خالل تفكيرنا في الربط بين رواية تريد نفس""ها اس""تعادة للماضي‬
‫وللمألوف و اتجاه في الكتابة يريد نفسه قطيعة" مع املاضي و تقويضا لكل مألوف‪.‬‬

‫هنال ""ك مفارق "ة" كب ""يرة ت ""بين كي ""ف أن اس ""تعادة املاض ي في الرواي ""ة ك ""انت من ""ذ الب ""دء ته ""دف إلى خل ""ق‬
‫لحظ" ""ة ثالث" ""ة فيم" ""ا وراء املاض ي والحاض" ""ر؛ املاض ي الظ" ""اهري ال" ""ذي يحي" ""ل علي" ""ه الس" ""ياق الت" ""اريخي‪،‬‬
‫والحاض""ر املهيمن من خالل إح""داثيات املؤل""ف والت""أليف و الكتاب""ة نفس""ها‪ . . .‬إن ج""ورجي لوك""اتش في‬
‫بحث ""ه الرائ ""د ح ""ول الرواي ""ة التاريخي ""ة ك ""ان يش ""ير إلى أن أب ""ا الرواي ""ة التاريخي "ة" وول ""تر س ""كوت ‪Walter‬‬
‫‪ Scott‬ك""ان من""ذ نص""ه األول مؤرخ""ا غ""ير حاف""ل بالت""اريخ و كاتب""ا نافي""ا للحاض""ر من خريط""ة كتابت""ه‪ "،‬ك""ان‬
‫يستعمل الحاض"ر للنظ"ر فيم"ا وراءه و يس"تغل املاضي من أج"ل وعي أفض"ل بالحاض"ر‪ . . .‬وعي " أفض"ل‬
‫‪2‬‬
‫" أو وعي " متعال "‪ . . .‬أو وعي "حداثي"‪. . .‬‬

‫‪ 1‬مرتاض‪ ،‬عبد المالك‪ :‬في نظرية الرواية‪ ،‬ص ‪.47‬‬


‫‪2‬‬
‫‪Lukács, Georgy: le roman historique, td Robert Smilley, Saint –Armand, paris,1977- p:17.‬‬
‫‪28‬‬
‫يص""ر لوك""اتش على ه""ذه النقط""ة و ه""و يش""ير إلى وج""ود رواي""ات ذات بع""د ت""اريخي‪ ،‬أو رواي""ات ت""اريخ‬
‫يف"رق بينه"ا و بين " الرواي"ة التاريخي"ة " ع"ادا األولى اس"تعادة لذي"ذة س"لبية للت"اريخ‪ "،‬أو تموقع"ا س"طحيا‬
‫في اإلط ""ار الت ""اريخي ال ""ذي يظ ""ل إط ""ارا حاملا س ""حريا مهم ""ا قلن ""ا‪ ،‬و ن ""اظرا ص ""وب الثاني ""ة ككتاب ""ة ج ""ادة‬
‫‪1‬‬
‫تذهب إلى التاريخ ذهابا يقظا هادفا" خاضعا الستراتجية مبينة واضحة‪.‬‬

‫املفارق" ""ة الثاني" ""ة تكمن في " النص " ال" ""ذي يق" ""ف على تخ" ""وم الت" ""اريخ س" ""اعة‪ ،‬وعلى تخ" ""وم الرواي" ""ة‬
‫س ""اعة أخ ""رى‪ ،‬فهنال ""ك تم ""اه مث ""ير للتأم ""ل بين النص ""ين‪ ،‬أو بين الوظيف ""تين؛ وظيف ""ة املؤرخ و وظيف ""ة‬
‫ال ""روائي‪ . . .‬تم ""اه يجع ""ل م ""ؤرخي األدب يقف ""ون مط ""وال م ""ع الروم ""اني "لوس ""يان الس ""وري" و ه ""و يكتب "‬
‫التاريخ الحقيقي " صائغا تاريخ العالم في تلك املنطقة صياغة أدبية مرحة غير عابئة بمحمول الوثائق‬
‫بق""در م""ا هي عابئ""ة بمجه""ول الخي""ال‪ . . .‬فه""و "ت""اريخ"" ألن""ه يس""رد الوق""ائع و األح""داث‪ ،‬و ه""و " حقيقي "‬
‫من الناحية األدبية‪ . . .‬وهن"ا املفارق"ة" ال"تي تفضي على الس"ؤال األنطول"وجي‪ :‬أين ينتهي الت"اريخ كي تب"دأ‬
‫الرواية ؟ وأين تتوقف الرواية كي نجد أنفسنا إزاء التاريخ ؟‬

‫إن الرواي " ""ة التاريخي " ""ة ملتقى جي " ""د للن " ""وعين اللغ " ""ويين ألنه " ""ا تق " ""ف على التخ " ""وم‪ .‬إال أن »الرواي " ""ة‬
‫التاريخي ""ة تبعث في النفس ص ""ورا و مش ""اعر غ ""ير الص ""ور و املش ""اعر ال ""تي يبعثه ""ا في النف ""وس الوص ""ف‬
‫‪2‬‬
‫التاريخي الخالص«‬

‫أي أن املتلقي في نهاي""ة األم""ر ه""و الحكم على ه""ذه الرقع""ة متداخل""ة املاهي""ات‪ . . .‬فش""عورنا هن""ا غ""يره‬
‫يعن للبعض من""ا تنظ""ير ذل""ك من خالل جع""ل الت""اريخ لص""يقا بالوث""ائق مثال إال أن البعض‬ ‫هن""اك‪ .‬و ق""د ُّ‬

‫اآلخ""ر س""يقول‪ :‬إن الوث""ائق معرض""ة للته""افت‪ ،‬ف""إذا ظه""ر بطالن ص""دق وث""ائق الي""وم تح""ول ت""اريخ الي""وم‬
‫إلى روايات في الغد!‬

‫ويمكنن""ا اختص""ارا للجه""د و للمطارح""ات" القولي""ة أن نق""ول م""ع رأي املعلقين الش""ائع‪ » :‬يقص علي""ك‬
‫الت""اريخ حي""اة الجماع""ات قب""ل ك""ل شيء‪ ،‬و أم""ا الرواي""ة التاريخي""ة فتص""ور ل""ك حي""اة "الف""رد" قب""ل ك""ل‬
‫ش يء‪ . . .‬والن ""اس مولع ""ون بتتب ""ع س ""يرة الف ""رد‪ ،‬يس ""معون خفق ""ات قلب ""ه‪ ،‬ويراقب ""ون التفات ""ات ذهن ""ه‪،‬‬
‫وينظ ""رون إلي ""ه‪ . . .‬كي ""ف تغم ""ره الح ""وادث والظ ""روف فال يك ""اد يمل ""ك منه ""ا ومن نفس ""ه ش ""يئا «‪ ،3‬وه ""و‬
‫عنص""ر ح""بيب إلى ال""روح الحداثي""ة‪ ،‬إذ أنن""ا كث""يرا م""ا ن""رى التف""اف النص""وص ح""ول شخص""ية‪ ،‬أو ع""دة‬

‫‪1‬‬
‫‪ibid:p:17-18‬‬
‫الجويني‪ ،‬مصطفى الصاوي‪ :‬في األدب العالمي‪ ،‬منشأة المعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬د ت‪ ،‬ص‪.16 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص‪.16 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪29‬‬
‫شخص" ""يات‪ ،‬مرك" ""زة عليه" ""ا ال تحي" ""د عنه" ""ا‪ .‬ثم ي" ""أتي الت" ""اريخ م" ""دعما ص" ""دقية النص" ""وص و غ" ""ير م" ""زعج‬
‫َّ‬
‫للرواي ""ة من حيث خصائص ""ها‪ "،‬إذ أنه ""ا تعم ""ل بطريق ""ة خاص ""ة فتس ""تثير »ل ""ذتك بالص ""راع‪ ،‬واألزم ""ات و‬
‫تش""وقك إلى معرف""ة نهاي""ة أبطاله""ا‪ .‬أم""ا الت""اريخ فال موض""ع في""ه للقل""ق «‪ ،1‬وربم""ا تك""ون ه""ذه العناص""ر‬
‫الثالثة أهم نقاط االئتالف و االختالف التي تميز هذه املفارقة الثانية‪.‬‬

‫أم""ا املفارق""ة الثالث""ة فهي كامن""ة عن""د الع""املين املتق""ابلين الل""ذين يجعالن ه""ذه الرواي""ات مائل""ة ص""وب‬
‫ن""وع من الس""كونية و نقص التجدي""د عموم""ا‪ ،‬و يجعالن إقب""ال الجمه""ور عليه""ا كث""يرا كب""يرا كثيف""ا‪ ،‬ق""د‬
‫يكون غياب التجديد هذا هو تحديدا ما يروق جمهور القراء‪ ،‬الذي هو جمهور" ال يحسن التعامل م""ع‬
‫‪2‬‬
‫االنشطارات الحداثية التي كثيرا ما يصعب على متوسطي الثقافة تتبع مساراتها‪.‬‬

‫يفسر الناقد لوران فليدر العمل العميق لهذه الرواي""ات‪ ،‬و ه""و تحدي"دا العم"ل ال"ذي يس"حر الق"راء‬
‫ويجذبنا باستمرار صوب هذه النصوص‪.‬‬

‫» و الزال الق""راء منج""ذبين أك""بر انج""ذاب ص""وب املعرف""ة اللذي""ذة الطريف""ة لفص""ول الت""اريخ املجي""دة‬
‫أو األليم""ة‪ ،‬و ص""وب فتن"ة" العظم""اء و املش""اهير‪ ،‬و الط""ابع البط""ولي‪ ،‬بمع""اركهم و إنج""ازاتهم و ه""ذا ه""و‬
‫ه""و مي""دان مح""ترفي الرواي""ة التاريخي""ة ال""ذين يس""تفيدون دائم""ا من وث""ائق كث""يرة ج""دا يعمل""ون على ع""دم‬
‫ظهوره"ا" خل""ف آثاره""ا‪ ،‬يس""تغلونها إلع""ادة الل""ون و الص""وت و الرائح""ة إلى الف""ترات املنس""ية‪ ،‬و إلع""ادة‬
‫‪3‬‬
‫إحياء الرغبات و امليول التي انطفأت منذ زمن بعيد مثلما يحسب خيالهم«‬

‫هي " لعب" ""ة " إذن‪ ،‬لعب" ""ة كش" ""ف و إخف" ""اء ش" ""ديدة التعقي" ""د‪ ،‬كش" ""ف للج" ""انب ال" ""واقعي من حي" ""وات‬
‫السابقين و إخفاء للعمل التوريثي ال"ذي يبقى مص"در ك"ل س"حر‪ . . .‬فالق""ارئ عموم"ا ي"دخل عاملا يحي"ط‬
‫به إحاطة سطحية منتظرا اكتشاف جوانب أخرى تخفى علي"ه‪ ،‬فه"و يق"رأ رواي"ة ه"و مؤل"ف له"ا جزئي"ا‬
‫و ه""ذا الش""عور ه""و ال""ذي يج""ذب الق""راء‪ ،‬و ه""و نفس""ه املرتك""ز ال""ذي ي""دفع املؤلفين إلى اإلكث""ار" من ه""ذه‬
‫التفاص ""يل الص ""غيرة إكث ""ارا دف ""ع الفيلس ""وف الفرنس ي "ج ""ول ميش ""لي" م ""ع فج ""ر نش ""أة ه ""ذا الن ""وع إلى‬
‫الصراخ غاضبا‪.‬‬

‫‪ ) 1‬م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص‪17-16 :‬‬


‫‪ 2‬فليدر‪ ،‬لوران‪ :‬الرواية الفرنسية المعاصرة‪ ،‬ص‪.110 :‬‬

‫م‪ ,‬نفسه‪ ،‬ص‪110‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪30‬‬
‫» إنكم تخ ""دعون الجه ""ال‪ ،‬و تزعج ""ون املثقفين‪ ،‬حين تفس ""دون الت ""اريخ به ""ذه الخي ""االت واألوه ""ام‬
‫‪4‬‬
‫كما تفسدون هذه بالتاريخ «‬

‫املفارق" ""ة الرابع" ""ة الج" ""ديرة ب" ""التوقف‪ ،‬وهي عل" ""ة العل" ""ل فيم" ""ا يتعل" ""ق بع" ""ودة الروائ" ""يين الح" ""داثيين‪،‬‬
‫وح ""تى الكت ""اب ال ""ذين ين ""درجون ض ""من تي ""ار م ""ا بع ""د الحداث ""ة‪ ،‬إلى الت ""اريخ يمتح ""ون من ""ه هي املفارق" "ة"‬
‫املناقض "ة" لالتج ""اه "الت ""داولي"‪ "،‬إن ""ه اتج ""اه اولئ ""ك ال ""ذين ينطلق ""ون من مواض ""عة مفاده ""ا أن البحث عن‬
‫الحقيق""ة التاريخي""ة في األدب أم""ر ال طائ""ل من ورائ""ه‪ .‬ل""ذلك ن""رى الناق""د املهتم بقص م""ا بع""د الحداث""ة "‬
‫أحم" ""د خ" " ّ‬
‫"ريس" يتح" ""دث عن اس" ""تعادة النص الت" ""اريخي لعرض" ""ه روائي" ""ا ولعرض" ""ه بطريق" ""ة ال تبقى على‬
‫عه""ود الوف""اء ألش""باه ج""ورجي زي""دان و وول""تر س""كوت وألكس""ندر دوم""ا‪ ،‬ب""ل تتخطى بهجتهم الكتابي""ة "‬
‫الس" ""اذجة " إلى ن" ""وع من االش" ""تغال العمي" ""ق ال" ""ذي كث" ""يرا م" ""ا يص" ""ر على املزج بين الحاض" ""ر و املاض ي‪،‬‬
‫معتم" " ""دا موتيف" " ""ا معروف" " ""ا في األدب العج" " ""ائبي ه" " ""و م" " ""ا يس" " ""ميه النق" " ""اد » الحفل" " ""ة الع" " ""ابرة للت" " ""اريخ «‬
‫‪2‬‬
‫‪Transhistorical party‬‬

‫إن ه" ""ذه النزع" ""ة " الحداثي" ""ة " هي ال" ""تي بعثت ال" ""روح في الرواي" ""ة التاريخي" ""ة ‪ -‬بمفهومه" ""ا الكالس" ""يكي‬
‫االص" ""طالحي املتع" ""ارف علي" ""ه ‪ -‬بع" ""دما أص" ""يبت بإنه" ""اك كب" ""ير أنزله" ""ا ‪ -‬كم" ""ا أش" ""رنا ‪ -‬من قمم األدب إلى‬
‫املدارج التحتي" " ""ة لألدب الجم" " ""اهيري ذي الطبع" " ""ات الرخيص" " "ة" و الق" " ""راءات الس" " ""ريعة الع" " ""ابرة ( أدب‬
‫محط"ات القط"ار كم"ا يس"مى ل"دى الفرنس"يين )‪ ،‬و يح"دد أحم"د خ"ريس الخاص"ية الرئيس"ة له"ذا الن"وع "‬
‫ما بعد الحداثي" ؛ تلك هي املقولة " املتياقص""ية" " أي حض"ور التعلي"ق على القص أو وعي عملي"ة القص‬
‫نفسها‪ ،‬أو وجود »قص شارح «‪ 3‬على نمط اللغة الشارحة املنتشر ورود مصطلحها ‪ Métalangage‬في‬
‫االس""تعمال اللس""اني‪ . . .‬فالقص""ة القديم""ة ( النص الت""اريخي ) موض""وعة في م""رآة واقعي""ة تقابله""ا قص""ة‬
‫( = سياق = عملية كتابة ) واقعية أو حاضرة أو راهنة‪.‬‬

‫س""ندخل ب""اب الفلس""فة إذن من زاوي""تين‪ :‬إح""داهما زاوي""ة إتاح""ة إمكان""ات كتابي""ة أو خاص""يات أدبي""ة‬
‫راهنة يبني عليهـا الروائي ممكناتـه اإلبداعيـة‪ ،‬و هذا ديدن الفلسفة الحداثية بامتياز‪.‬‬

‫‪ 4‬مكي‪ ،‬الطاهر أحمد‪ :‬األدب المقارن‪ ،‬أصوله و تطوره و مناهجه‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬مصر‪ ،‬ط ‪ ،2002 ƒ،4‬ص ص‪/556‬‬
‫‪.557‬‬
‫‪ 2‬أحمد خريس‪ :‬العوالم المتياقصية‪ .‬في الرواية العربية‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬لبنان‪ ،2001 ،‬ص‪.119 :‬‬

‫م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص ص‪( .24 ،14 :‬المبحث كله يتناول هذه الجزئية التقنية)‬ ‫‪3‬‬

‫‪31‬‬
‫أما الزاوية الثانية فهذه التي كنا بصددها و التي مفادها حل إشكاليات اإلنه"اك ال"ذي يص"يب احيان"ا‬
‫تصوراتنا حول العالم بواسطة املزاوجة بين نوعين كتابيين أو بين رؤيتين متنافرتين للعالم للحص""ول‬
‫ّ‬
‫مخصب للعقل ولتصورنا حول الحقيق"ة‪ ،‬و ه"ذا اختي"ار م"ا بع"د ح"داثي مف"اده الس"ير ض"د‬ ‫على تهجين‬
‫تي ""ار تش ""كل األن ""واع‪ ،‬فم ""ا ك ""ان من الس ""رد مبني ""ا على وهم الت ""دليل العلقلي ال ""واقعي يص ""بح مبني ""ا على‬
‫التخيي""ل وعلى س""لطة التص""ورات والتم""ثيالت؛ أي أنن""ا نكش""ف س""راديب الخي""ال ب""دال من إخفائه""ا تحت‬
‫عباءة الواقع والحقيقة (وهو ما يفعله الروائيون منذ ميالد النوع)‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫الخالصة‪:‬‬

‫يمكنن" ""ا من خالل م" ""ا مض ى أن نخلص إلى جمل" ""ة من املالحظ" ""ات من قبي" ""ل أنن" ""ا حينم " "ا" نق" ""ف على‬
‫الح " ""دود الرابط " ""ة بين النص الت " ""اريخي والنص الس " ""ردي التخ " ""ييلي نك " ""ون بص " ""دد الرب " ""ط بين ط " ""رفين‪:‬‬
‫التفك" ""ير من خالل الت" ""دليل والس" ""ببية والص" ""الت املنطقي" ""ة الخاض" ""عة للسالس" ""ل العللي" ""ة املعروف " "ة" في‬
‫الخط" ""اب الفلس" ""في والخط" ""اب العلمي‪ ،‬وك" ""ل م" ""ا أحالن" ""ا على مق" ""والت الواقعي" ""ة‪ ،‬والتفك" ""ير من خالل‬
‫التخييل اي باختراع صورة عن الواق"ع تمنحن"ا إمكاني"ة ثري"ة لخل"ق تق"ابالت نفك"ر من خالل تموقعن"ا في‬
‫املس""افة بين الط""رفين املتق""ابلين جراءه""ا‪ .‬س""يكون هنال""ك في النهاي""ة طرف""ان اثن""ان‪ :‬أح""دهما ه""و املس""جل‬
‫للحي " ""اد عن راهن الواقعي " ""ة و راهن الرواي " ""ة التاريخي " ""ة إلى ممكن االلتق " ""اء بينهم " ""ا‪ ،‬وثانيهم " ""ا املس " ""جل‬
‫للحي ""اد عن راهن الس ""رد التخ ""ييلي املخات ""ل و املرتك ""ز ارتك ""ازا تام ""ا ك ""امال على عام ""ل اإليه ""ام بالحقيق ""ة‪،‬‬
‫س ""عيا ص ""وب س ""رد تالع ""بي يك ""ذب و يكش ""ف أكاذيب ""ه مرتك ""زا على إح ""داث ل ""ذة اكتش ""اف األكذوب ""ة‪ ،‬و‬
‫اللذة األكبر التي هي متعة رؤية عمل يتشكل تحت أعيننا‪.‬‬

‫نخلص ك ""ذلك إلى تأم ""ل العالق ""ة املت ""وترة بين " الواقعي ""ة " و " التاريخي ""ة "؛ إنن ""ا أثن ""اء كتاب ""ة رواي ""ة‬
‫نظل نسعى على قدمين ال فكاك منهما؛ أوالهما قدم األدب نفسه كمرجعي"ة" حتمي"ة لك"ل عم"ل أدبي‪ ،‬و‬
‫ثانيتهم"ا هي الواق""ع ‪/‬الت""اريخ يق"ف أمامن""ا على ش"كل مص""الحة بين األم"رين‪ ،‬فه"و " الواق"ع " ال"ذي تح""ول‬
‫إلى لغ""ة أو إلى أدب‪ ،‬أو إلى خط""اب‪ ،‬كم""ا فص""ل في ذل""ك الق""ول ميش""ال فوك""و‪ . . ".‬الوثيق""ة التارخي""ة هي‬
‫امللتقى غير املتوتر بين " اللغة " و" الحياة"‪. . .‬‬

‫مم""ا يق""ف بن""ا البحث عن""ده فك""رة طبيع""ة الص""لة باملاضي‪ ،‬فق""د تح""دثنا أعاله عن ج""زء الحي""اة أو‬
‫الواق""ع أو البع""د ال""واقعي للت""اريخ" من وجه"ة" نظ""ر فلس""فية تأويلي""ة بحت""ة‪ ،‬وه""ا إنن""ا هن""ا نستحض""ر زاوي""ة‬
‫النظ"ر ال"تي ت"برر مي"ل النص األدبي و ربم"ا الفن"ون جميع"ا ص"وب ماضي النص""وص األدبي""ة‪ ،‬و ال"تي يع"د‬
‫النص الت"اريخي‪ ،‬حس"ب مفك"ري م"ا بع"د الحداث"ة و م"ا بع"د البنيويـة‪ ،‬تابع"ا له"ا بش"كل م"ا ألن"ه ي"أتي بع"د‬
‫تمام أمرها واستقامة أودها ‪.1‬‬

‫‪ 1‬فريديريك غرو‪ :‬ميشال فوكو‪ ،‬تر‪ :‬محمد و طفه‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2008‬ص‪.54 :‬‬
‫‪33‬‬
‫يص " ""ر إدوارد س " ""عيد أثن " ""اء الح " ""ديث عن التلقيح بالوثيق " ""ة التاريخي " ""ة على وج " ""ود نص فح " ""ل أو نص‬
‫مهيمن‪ 2‬تع"د ك"ل كتاب"ة" اس"تعادة ل"ه‪ ،‬وثيق"ة تحكم املخي"ال و تنظم عملي"ة الخل"ق‪ ،‬وهي وثيق"ة مس"تعدة‬
‫لترك هويتها وخطيتها وسياقها" األصلي لفائدة اللعبة األدبية‪ ،‬وخدمة ملا يود الروائيون قوله‬

‫‪ 2‬عبد هللا الغ َّد امي‪ :‬النقد الثقافي‪ ،‬قراءة في األنساق الثقافية العربية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪2000 ،‬م‪.123 :‬‬
‫‪34‬‬
‫مكتبة الدراسة‬
‫فاليت‪ ،‬برنار‪ :‬الرواية‪ -‬تر‪ :‬عبد الحميد بورايو‪ -‬دار الحكمة‪ -‬الجزائر‪.2000 -‬‬
‫هالل‪ ،‬محمد غنيمي‪ :‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪.1986‬‬
‫دراج‪ ،‬فيصل‪ :‬نظرية الرواية و الرواية العربية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬لبنان المغرب‪ ،‬ط ‪.1999 ،1‬‬

‫إبراهيم‪ ،‬عبد هللا‪ :‬السردية العربية( موضوع الكتاب كله هو هذه التفصيلة التي نحن بصددها)‬
‫قاسم‪ ،‬سيزا و أبو زيد‪ ،‬نصر حامد‪ :‬مدخل إلى السيميوطيقا‪ ،‬عيون المقاالت‪ ،‬الدار البيضاء‪.‬‬
‫يقطين‪ ،‬سعيد‪ :‬الكالم و الخبر‪ ،‬المركز‪ ƒ‬الثقافي العربي‪ ،‬لبنان المغرب‪ ،‬ط‪.1997 ،1‬‬
‫مرتاض‪ ،‬عبد المالك‪ :‬في نظرية الرواية‪ ،‬دار الغرب‪ -‬الجزائر‪.2005 -‬‬
‫الخطيب‪ ،‬إبراهيم‪ :‬نظرية المنهج الشكلي ( نص‪ƒƒ‬وص الش‪ƒƒ‬كالنيين ال‪ƒƒ‬روس )‪ ،‬ترجم‪ƒƒ‬ة‪ ،‬مؤسس‪ƒƒ‬ة األبح‪ƒƒ‬اث‬
‫العربية‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪.1982 ،1‬‬
‫يقطين‪ ،‬سعيد‪ :‬انفتاح النص الروائي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬المغرب‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪.2001 ،2‬‬
‫فليدر‪ ،‬لوران‪ :‬الروايـة الفرنسيـة المعاصرة‪ ،‬ترجمـة‪ :‬فيص‪ƒƒ‬ل األحم‪ƒƒ‬ر‪ ،‬منش‪ƒƒ‬ورات مخ‪ƒƒ‬بر الترجم‪ƒƒ‬ة فـي‬
‫اللسانيات واألدب‪ ،‬الجزائر ‪ ،2004‬ص ‪.110‬‬
‫الجويني‪ ،‬مصطفى الصاوي‪ ƒ:‬في األدب العالمي‪ ،‬منشأة المعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬د ت‪.‬‬
‫مكي‪ ،‬الطاهر أحمد‪ :‬األدب المقارن‪ ،‬أصوله و تطوره و مناهجه‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪.2002 ،4‬‬
‫خريس‪ ،‬أحمد‪ :‬العوالم المتياقصية‪ .‬في الرواية العربية‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬لبنان‪.2001 ،‬‬
‫فريديريك‪ ƒ‬غ‪ƒ‬رو‪ :‬ميش‪ƒƒ‬ال فوكو‪ ،‬ت‪ƒƒ‬ر‪ :‬محم‪ƒƒ‬د و طف‪ƒ‬ه‪ ،‬المؤسس‪ƒ‬ة الجامعي‪ƒƒ‬ة للدراس‪ƒƒ‬ات و النش‪ƒƒ‬ر و التوزي‪ƒ‬ع‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬ط‪.2008 ،1‬‬
‫عب‪ƒƒ‬د هللا الغ‪َّ ƒ‬دامي‪ :‬النق‪ƒƒ‬د الثق‪ƒƒ‬افي‪ ،‬ق‪ƒƒ‬راءة في األنس‪ƒƒ‬اق الثقافي‪ƒƒ‬ة العربي‪ƒƒ‬ة‪ ،‬المرك‪ƒ‬ز‪ ƒ‬الثق‪ƒƒ‬افي الع‪ƒƒ‬ربي‪ ،‬ال‪ƒƒ‬دار‬
‫البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪.2000 ،‬‬

‫‪Pavlich George, “ Contemplating a postmodern sociology: genealogy, limits and‬‬


‫‪critique ”, The Sociological Review, vol. 43, n°3, August 1995.‬‬
‫‪Lukács, Georgy: le roman historique, td Robert Smilley, Saint –Armand,‬‬
‫‪paris,1977.‬‬
‫) ‪Divers: litteratures et langages ( le roman, le récit non romanesque, le cinema‬‬
‫‪Fernand‬‬
‫‪Nathan ed, Paris 1975.‬‬
‫‪Menendez Pelayo: Origenes de la novela, consejo superior de investigaciones‬‬
‫‪cientificas, Madrid,1961.‬‬
‫‪Bakhtine, Mikhail: esthètique et théorie du roman, gallimard, Paris, 1958.‬‬
‫‪Karl Popper: the poverty of historicism- Routledge- new edition- 1994.‬‬

‫‪35‬‬
‫افق اللغة‬

‫شذرات من خطاب لغوي‬

‫توطئة‬

‫تريد هذه األنطولوجيا أن تسافر بالقارئ سفرا خفيفا ع"بر مواق"ع لغوي"ة متباين"ة‪ ،‬وتري"د بانتقاله"ا من‬
‫موقع إلى موقع أن تبين الكم الكبير من التنوع الذي يميز الظاهرة اللغوية‪ ،‬فاللغة لعبت أدوارا كثيرة‬
‫أص"بحنا نعرفه""ا جي"دا وتلعب أدوارا كث""يرة نعرفه"ا معرف""ة نس""بية‪ ،‬وال ب""د أنه"ا س"تلعب أدوارا أخ""رى لم‬
‫نعرفه""ا بع""د‪ ،‬له""ذا انتقلن""ا في غض""ون ه""ذا النص‪ ،‬بين ماضي األداء اللغ""وي وحاض""ره‪ ،‬ونظرن""ا إلي""ه من‬
‫زوايا عدي"دة وبعي"ون جمه"ور واس"ع من الن"اظرين املحنكين أص"حاب النظ"ر الث"اقب والعك"وف الفلس"في‬
‫واملع""رفي ّ "‬
‫حم ال األوج""ه ‪ :‬نح""اة‪ ،‬دالل""يين‪ ،‬رواة‪ ،‬مفس""رين للق""رآن‪ ،‬أنثروبولوج""يين‪ ،‬م""ؤرخين‪ ،‬فالس""فة‪،‬‬
‫ألسنيين‪ ،‬أدباء‪...‬الخ‪.‬‬

‫اللغ ""ة ظ ""اهرة هالمي ""ة ألنه ""ا تلعب لعب ""تين في آن؛ هي تمث ""ل الع ""الم وتخل ""ق عامله ""ا ال ""ذي ينتهي إلى نس ""ف‬
‫الع""الم وتعويض""ه كم""ا يق""ول لودفي""غ فيتغنش""تاين ال""ذي ك""ان ي""رى ب""أن ادع""اء اللغ""ة تمثي""ل العلم ادع""اء‬
‫ف""ارغ‪ "،‬وأن ادع""اء الفك""ر فهم الع""الم ه""و ش""رط منطقي مس""تحيل التحق""ق‪ ،‬ألن األش""ياء حبيس""ة ال"برامج‬
‫ال""تي تص""نعها‪ ،‬وألن الع""الم ال وج""ود ل""ه خ""ارج" اللغ""ة ال""تي تقول""ه‪،‬من جه""ة‪ "،‬في حين تعج""ز اللغ""ة عن أن‬
‫تتواج ""د خ ""ارج اللغ ""ة‪ ،‬وه ""و م ""ا يق ""ود ك ""ل حقيق ""ة إلى أن تك ""ون ص ""ياغة بال غاي ""ة نهائي ""ة‪ ،‬ص ""ياغة تش ""به‬
‫اللعب الذي يهدف إلى تحقيق إنجاز بال غاية خارج" اإلحالة على قواعده الداخلية ‪.1‬‬

‫أم" ""ا العن" ""وان فه" ""و اس" ""تدعاء مباش" ""ر لعن" ""وان كت" ""اب روالن ب" ""ارط ال" ""ذي س" ""افر في النص" ""وص الكث" ""يرة‬
‫املتباينة" واملنتشرة على اختالف األزمن"ة واألمكن"ة واملواض"يع واملؤلفين بحث"ا عن ظه"ور مقول"ة»الحب»‪.‬‬
‫فعن""ون كتاب"ه" ‪ :‬ش""ذرات من خط""اب عاش""ق ‪ .fragment d’un discours amoureux‬كت""اب اخ""تزل ع""امين‬
‫من ال""دروس ال""تي ألقاه""ا ب""ارط في املدرس""ة التطبيقي""ة للدراس""ات العلي""ا بب""اريس (‪ ،)1974/1976‬انتهت‬
‫بكتاب ينطق بخلفيته مابعد الحداثية التي تتجلى من خالل نقطتين محوريتين‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Ludwig Wittgenstein: tractus logico-philosophicus, trad. P.Klossowsky, Gallimard, Paris, 1963, vol1/p35‬‬

‫‪36‬‬
‫ا‪/‬مركزي ""ة فع ""ل الق ""راءة وأولويت ""ه على ك ""ل فع ""ل ذي ط ""ابع منهجي‪ .‬ويحيلن ""ا ه ""ذا بشخص ""ية الق ""ارئ ال""تي‬
‫ظهرت عند قدام اإلغري"ق قب"ل دخوله"ا الثقاف"ة السكوالس"تيكية؛ الق"ارئ ال"ذي ه"و عب"د أو ت"ابع مكل"ف‬
‫ب""القراءة لس""ادته من مخطوط""ات وكتب ألج""ل التس""لية والتثقي""ف ودون أدنى ت""دخل‪ .‬ه""ذه الشخص""ية‬
‫التي تمثل هيمنة" الص"وت الق"ارئ على العق"ل املنظم للمق"روء‪ .‬وه"و انتص"ار للنص في وض"عه الخ"ام على‬
‫الخطاب املوجه املحمل الخاضع لالستراتيجية املرسومة املوصوفة سلفا‪.‬‬

‫ب‪ /‬تتق ""دم الكتاب ""ة الش ""ذرية في املش ""روع مابع ""د الح ""داثي على أس ""اس كونه ""ا كتاب ""ة اوالني ""ة وثانياني ""ة في‬
‫الوقت ذاته؛ كتابة تريد نهايتها مسيرا ال مصيرا‪ ،‬تتح"رى في ع"دم اكتماله"ا نمط"ا من االكتم"ال ال"ذي ه"و‬
‫النقصان الذي يحيل بش"كل ت"ام كام"ل على الحي"اة وعلى تجرب"ة املعرف"ة البش"رية‪ .‬الكتاب"ة الش"ذرية إذن‬
‫كتابة" تتوسع بشكل جذموري وال تنب"ني كج"ذر ارس"طي تتف"رع عن"ه ف"روع ه"و س"ابقها وهي لواحق"ه‪ .‬وال‬
‫تخفى األهمي ""ة ملنهجي ""ة من ه ""ذا القبي ""ل‪ .‬منهجي ""ة تنب ""ني ض ""د منط ""ق األبني ""ة‪ .‬تقص ""ف املركزي ""ات لفائ ""دة‬
‫االنفتاح على النصوص اآلتية من كل فج بعيد‪.‬‬

‫ويحض""رنا هن""ا التص""ور الجمي""ل ل""روالن ب""ارط ح""ول اللغ""ة – ال ح""ول العش""ق ه""ذه املرة‪ -‬إذ يق""ول»إن‬
‫اللغ""ة مث""ل الجل""د‪ ،‬وإنن""ا نحت""ك بعض""نا ببعض حينم""ا نتكلم؛ ك""ان كلماتن""ا أنام""ل او ك""أن للكلم""ات نفس""ها‬
‫‪1‬‬
‫أصابع»‬

‫جوهر املسألة اللغوية‬

‫احت" " " " " ""وت مع" " " " " ""اجم املع" " " " " ""اني العربي" " " " " ""ة ("الغ" " " " " ""ريب املص" " " " " ""نف»ألبي عبي" " " " " ""د‪»،‬فق" " " " " ""د اللغ" " " " " ""ة وس" " " " " ""ر‬
‫العربي""ة»للثع""البي»املخص""ص»ألبن س""يدة‪»،‬كت""اب التلخيص»ألبي هالل العس""كري) على الكلم""ات العربي""ة‬
‫مرتب" ""ة حس" ""ب س" ""ياقاتها" أوال وحس" ""ب التت" ""ابع الت" ""اريخي ملختل" ""ف ال" ""دالالت ال" ""تي تع" ""اقبت على اللفظ" ""ة‬
‫الواح""دة ح""تى ان""ه ليك""ون ص"وابا أن تختص"ر علم»فق""ه اللغ"ة»في معرف""ة تح"والت املع""نى في م""دار اللفظ""ة‬
‫الواح""دة‪ .‬وبع""د أربع""ة عش""ر قرن""ا ي""أتي ميش""ال فوك""و في حفريات""ه املعرفي"ة" لينتب""ه إلى خط""أ كب""ير يرتكب""ه‬
‫دارس"و الخط"اب واملحلل""ون فه""و يق"ول‪ ،‬بع"د أن يش"ير إلى أن النظري""ة النحوي"ة إقص"ائية بالض"رورة‪ ،‬ب"ل‬
‫وإقص""ائية عن عم""د وم""ع س""ابق اإلص""رار والترص""د ‪»:‬ه""ل ننتهي من ه""ذا إلى أن النح""و ال يب""دو منس""جما‬
‫ومتماس " ""كا إال من الناحي " ""ة املظهري " ""ة‪ ،‬وأن ه " ""ذا الع " ""دد العدي " ""د من العب " ""ارات والتحليالت األوص " ""اف‬

‫‪1‬‬
‫‪Roland Barthes : Fragments d’un discours amoureux , le Seuil, Paris, 1977, p171‬‬

‫‪37‬‬
‫واملبادئ والنتائج والخالصات واالستنباطات الذي عاش أكثر من قرن من الزمن باسم النح""و لم يكن‬
‫س ""وى وح ""دة زائف ""ة؟ ربم ""ا ه ""ذا ص ""حيح‪ .‬لكن ه ""ذا ال يمنعن ""ا من اكتش ""اف وح ""دة خطابي ""ة ش ""ريطة أال‬
‫نلتمس ""ها في ج ""انب تناس ""ق املف ""اهيم ب ""ل في ج ""انب انبثاقه "ا" املت ""آني أو املتع ""اقب‪ ،‬اختالفه "ا" وافتراقه ""ا ب ""ل‬
‫وتناقض " ""ها إن اقتض ى الح " ""ال‪ ،‬أي أن علين " ""ا أال نبحث عن ش " ""رح املف " ""اهيم ال " ""تي بلغت من العمومي " ""ة‬
‫والتجري" ""د ح" ""دا كافي" ""ا‪ "،‬كي نتمكن عن طريقه" ""ا من التوص" ""ل إلى املف" ""اهيم األخ" ""رى الباقي" ""ة ون" ""دخلها في‬
‫‪1‬‬
‫البناء االستبطاني‪ ،‬بل أن نعمل على تحليل أشكال ظهورها وتبعثرها»‬

‫ف""إذا ك""ان سوس""ير ي""رى أال ض""رورة للدراس""ة التعاقبي "ة" من ب""اب كونه""ا علم""ا ال ينف""ع‪ ،‬وأن الج""دوى ك""ل‬
‫الج""دوى في الدراس""ة اآلني""ة ال""تي تجعلن""ا نحي""ط من اللغ""ة بم""ا يهمن""ا ويش""غلنا‪ ،‬ف""ان ميش""ال فوك""و (وه""و‬
‫حفي ""د من أحف ""اد سوس ""ير) ي ""رى أن طري ""ق الدراس ""ة التعاقبي ""ة تم ""ر بالض ""رورة بالدراس ""ة اآلني ""ة‪ ،‬وأن‬
‫حد التمكن من فهم الظاهرة املتزامنة معن"ا وال""تي‬ ‫ذلك يتم بالتقاط الظواهر اآلنية طورا بعد طور إلى ّ‬

‫نصفها باآلنية (بالنسبة إلينا)‪ ،‬لكي يصبح املعنى العميق للحفريات ه""و إيق""اظ أجي""ال – او طبق""ات‪ -‬من‬
‫الطاق" ""ة الداللي" ""ة اآلني" ""ة املتراكب بعض" ""ها ف" ""وق بعض في رك" ""ام ال" ""زمن‪ .‬وه" ""ذا ه" ""و مفه" ""وم الحفري" ""ات‬
‫املعرفية" التي يبدو أن قدامى لغويي العرب قد مالوا صوبها فطريا ودون نظرية منظر‪ ،‬على األق""ل من‬
‫خالل عملهم على خامة اللغة بمعاول فقه اللغة‪.‬‬

‫اإلمساك بالخطاب متلبسا‬

‫علمن""ا الق""رن العش""رون أن اللغ""ة ليس""ت بريئ""ة‪ ،‬وعلمن""ا عص""ر النهض""ة أن اللغ""ة متط""ورة ش""ئنا أو أبين""ا‪،‬‬
‫علمتن" ""ا الث" ""ورات املتعاقب " "ة" أن اللغ" ""ة ق" ""د ت" ""ؤدي بحي" ""اة الن" ""اس إلى الهالك‪ ،‬فيم" ""ا علمن" ""ا أه" ""ل املدرس" ""ة‬
‫التحليلي""ة ب""أن اللغ""ة تحكم وعين""ا باألش""ياء‪ ،‬لكي يح""دد ج""ون أوس""تن وجماعت""ه ب""أن األفع""ال هي كلم""ات‬
‫أص""ابها تح""ول الحي""اة‪ ،‬وأن الكلم""ات ال ه""دف له""ا س""وى التح""ول إلى أفع""ال واقع""ة واقعية‪ .2‬قبله""ا علمن""ا‬
‫املتص""وفة" في اإلس""الم أن اللغ""ة مح""ل اللتق""اء الناس""وني ب""الالهوتي‪ ،‬وعلمن""ا علم""اء الطليع""ة الع""رب من‬
‫الع ""املين بحق ""ل اللغ ""ة واألدب مع ""ا (وكلهم جمع ""وا رواي ""ة اللغ ""ة إلى االجته ""اد النح ""وي إلى رواي ""ة الش ""عر‬
‫والن ""ثر إلى االجته ""اد البالغي) أن الس ""ياق س ""يد الدالل ""ة وأن اللغ ""ة ملك ""ة إنس ""انية يفع ""ل به ""ا اإلنس ""ان م ""ا‬

‫‪1‬‬
‫ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪.‬تر‪ :‬سالم يفوت‪ -‬دار إفريقيا‪-‬الشرق‪ -‬الدار البيضاء‪ -‬ط‪-1987 -2‬ص‪35‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ trad. G. Lanne, Le Seuil, Paris, 1970, p. 41.‬ة ‪John Langshaw Austin, Quand dire, c’est faire‬‬

‫‪38‬‬
‫يش ""اء‪ ،‬فك ""انوا ال ي ""أتون بجمل ""ة إال وقبله ""ا ق ""ال فالن عن فالن عن فالن عن ص ""احب الق ""ول‪ ،‬وال يهمن ""ا‬
‫إذا شعر القارئ بامللل من سلسة األسانيد‪ ،‬فاملهم صحة السند وسالمة النقل‪.‬‬

‫ويتساءل ميشال فوكو قب"ل معاين"ة أي خط"اب ‪»:‬من يتكلم؟ من من مجم"وع األف"راد املتكلمين ل"ه الح"ق‬
‫في أن يتمل""ك ه""ذا الن""وع من اللغ""ة؟ من مالكه""ا؟ من يف""وض إلي""ه ه""ذا املال""ك ح""ق التص""رف فيه""ا وممن‬
‫يتلقى املالك‪ ،‬إن لم نقل ض"مانة الحقيق"ة‪ ،‬فعلى األق"ل حدس"ا وتخمين"ا ب"أن م"ا يقول"ه حقيق"ة؟" م"ا وض"ع‬
‫األف""راد قانون""ا أو عرف""ا أو ش""رعا أو بص""ورة اعتباطي""ة عفوي""ة‪ ،‬ال""ذين ينف""ردون بح""ق التلف""ظ بخط""اب‬
‫‪1‬‬
‫من هذا النوع؟‪"..‬‬

‫ك""ل ه""ذه أس""ئلة ال ب""د منه""ا قب""ل معاين""ة الخط""اب وقب""ل التط""رق ملحمول""ه‪ ،‬والع""رب «تح""دد مفه""وم اللغ""ة‬
‫ُ‬
‫بأنها»أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»كما قال ابن جني‪ ،‬وتحدد وظيف"ة اللغ""ة بأنه""ا»البي"ان»كم""ا‬
‫يق""ول الجاح""ظ‪ ،‬أو اإلنب""اء واإلخب""ار" كم""ا ذهب املعتزل""ة بش""كل ع""ام والقاضي عب""د الجب""ار األس""دآبادي‬
‫على وج""ه الخص""وص‪ ،‬والبي""ان أو اإلنب""اء يعني""ان الق""درة على التواص""ل به""دف نق""ل الخ""برة واملعرف""ة من‬
‫جي""ل إلى جي""ل داخ""ل املجتم""ع الواح""د‪ ،‬أومن مجتم""ع إلى مجتم""ع وبكلم""ات أخ""رى فق""د تح""ددت وظيف""ة‬
‫اللغ" " ""ة بن" " ""اء على ض" " ""رورة االجتم" " ""اع" اإلنس" " ""اني‪ ،‬واختالف اإلنس" " ""ان عن غ" " ""يره من الكائن" " ""ات بحاجت" " ""ه‬
‫‪2‬‬
‫للتواصل"‬

‫أم""ا املح""دثون فيلخص""ون أفك""ارهم" الكث""يرة في التعري""ف الت""الي ‪»:‬اللغ""ة ظ""اهرة بس""يكولوجية اجتماعي""ة‬
‫ثقافية" مكتس"بة‪ ،‬ال ص"فة بيولوجي"ة مالزم"ة للف"رد‪ ،‬تت"ألف من مجموع"ة رم"وز ص"وتية لغوي"ة اكتس"بت‬
‫عن طري ""ق االختب ""ار مع ""اني مق ""ررة في ال ""ذهن وبه ""ذا النظ ""ام الرم ""زي الص ""وتي تس ""تطيع جماع ""ة م ""ا أن‬
‫تتف"اهم وتتفاع"ل وباللغ"ة فق"ط ص"ار اإلنس"ان إنس"انا‪ ،‬وباللغ"ة فق"ط تط"ورت الحض"ارة وتق"دم العم"ران‬
‫‪3‬‬
‫وبلغ العقل اإلنساني ذروته‪ ،‬فدرس اللغة درسا علميا فلسفيا»‬

‫‪1‬‬
‫حفريات المعرفة‪ -‬ص‪48‬‬
‫‪2‬‬
‫نصر حامد أبو زيد‪ :‬السيميوطيقا‪ ،‬حول بعض المفاهيم واألبعاد»(باالشتراك مع سيزا قايسم)‪،‬عيون المقاالت‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ج‪/1‬ص‪75‬‬
‫‪3‬‬
‫أنيس فريحة‪ :‬نظريات في اللغة‪ -‬دار الكتاب اللبناني‪ -‬ط‪ -1981-2‬ص‪14‬‬

‫‪39‬‬
‫فن اللغة‪ /‬لغة الفن‬

‫من ""ذ أن ح ""دد سوس ""ير مب ""ادئ اللس ""انيات وه ""و يبش ""ر بعلم الح ""ق ه ""و علم العالم ""ات ‪la sémiologie‬‬
‫مقرا بأن دراسة لغة اإلنسان والتمكن من آليات عملها يحيل بالضرورة إلى اكتس"اب عت"اد منهجي ك"اف‬
‫لدراسة جمي"ع أنم"اط اللغ"ات األخ"رى‪ ،‬أو أنظم"ة التواص"ل غ"ير اللس"انية (وغ"ير البش"رية أيض"ا)‪ ،‬أي أن‬
‫ق" ""راءة ال" ""دليل اللس" ""اني تحلي" ""ل على ق" ""راءة ال" ""دليل وكفى‪ ،‬دون تحدي" ""د لن" ""وع ه" ""ذا ال" ""دليل‪ .‬وبس" ""رعة‬
‫اص" ""طدم العلم" ""اء (من" ""ذ خمس" ""ينيات الق" ""رن العش" ""رين) بتحدي" ""د ه" ""ذه اللغ" ""ات غ" ""ير اللس" ""انية (أو غ" ""ير‬
‫الكالمي ""ة) فوج ""دوا أنفس ""هم أم ""ام ه ""ذا الص ""نف من األس ""ئلة فيم ""ا يتعل ""ق بالتواص ""ل الف ""ني (في مي ""دان‬
‫الفن ""ون التش ""كيلية)‪ :‬ه ""ل توج ""د س ""مة أساس ""ية مش ""تركة بين ك ""ل ه ""ذه الفن ""ون س ""وى مفه ""وم مبهم ه ""و‬
‫مفهوم»التشكيل»‪ la plastique‬؟‬

‫ه""ل توج""د وح""دة ش""كلية يمكن تحدي""دها على أنه""ا الوح""دة ال""تي ت""دخل في تك""وين ك""ل ه""ذه الفن""ون أو في‬
‫أحدها؟" ولكن ما هي وح"دة التص"وير والرس"م؟ ه"ل هي الش"كل أم الخ"ط أم الل"ون؟ وه"ل ه"ذا الس"ؤال‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫إذا طرحناه بهذا الشكل‪ -‬له معنى؟‬

‫ووج " ""د الس " ""يميولوجيون" الج " ""دد‪ -‬آن " ""ذاك‪ -‬أنفس " ""هم أم " ""ام مح " ""اوالت منهجي " ""ة لإلحاط " ""ة بموض " ""وعهم‪،‬‬
‫ولض" ""بط طريق" ""ة عملهم‪ ،‬فق" ""رروا أن" ""ه ال ب" ""د لك" ""ل نظ" ""ام س" ""يميولوجي يق" ""وم على العالم" ""ات أن يخض" ""ع‬
‫لشرط احتوائه على ما يلي ‪:‬‬

‫‪ _1‬قائمة" محددة من العالمات‪.‬‬

‫‪ _2‬قواعد للتنسيق تتحكم في تشكيل هذه العالمات‪.‬‬

‫‪ _3‬مقوالت محددة بغض النظر عن طبيعة املقوالت التي ينتجها النظام وعدد هذه املقوالت‪.‬‬

‫وتظه ""ر معاين ""ة بس ""يطة أن الفن ""ون التش ""كيلية ال تس ""تطيع أن تش ""كل نظام ""ا س ""يميولوجية‪ "،‬وهي بالت ""الي"‬
‫ليس ""ت لغ ""ة‪ ،‬ولكن الفن ""ون التش ""كيلية ق ""امت وس ""تقوم دائم ""ا ب ""دورها" التواص ""لي الجم ""الي‪ "،‬ف ""أين يكمن‬
‫الخلل؟‬

‫الح""ل بس""يط‪ ،‬إن""ه وص""ف أك""ثر دق""ة‪ ،‬وص""ف وكالم يح""اول اإلحاط""ة بالظ""اهرة لوض""ع الي""د على لغته""ا‬
‫الخفية اللطيفة خافتة الصوت‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫السيميوطيقا‪ -‬ص‪138‬‬

‫‪40‬‬
‫كالم أك ""ثر لوص ""ف م ""ا ه ""و أش ""مل من الكالم‪ ،‬وهك ""ذا وج ""د البحث عن»لغ ""ة الفن»نفس ""ه يس ""قط م ""رة‬
‫أخرى في فخ»فن اللغة»‪ .‬هل كان سوسير يتوقع هذا؟‬

‫جدوى جدولة»الالجدوى»‬

‫قد يع"ترض أح"دنا على دع"وى علمن"ة البحث اللغ"وي ال"تي أغ"وت الجمي"ع من"ذ سوس"ير‪ :‬إن اللغ"ة ظ"اهرة‬
‫اجتماعي""ة ال تلين ألحك""ام العلم الص""ارمة ألنه""ا في جري""ان وان""دفاع مس""تمر (‪ )un flux continu‬وفي ّ"‬
‫تغي"ر‬
‫دائم‪».‬وك ""ل ظ ""اهرة حي ""ة متط ""ورة متغ ""يرة ت ""أبي التقيي ""د‪ ،‬فنحن ال نقي ""د جمي ""ع ظ ""واهر الك ""ون إال عن ""د‬
‫استقرارها وثبوتها‪ ،‬وفي هذا االع"تراض شيء من الص"حة ول"ذا يق"ول علم"اء اللغ"ة الي"وم ب"أنهم ينظ"رون‬
‫إلى اللغ ""ة على أنه ""ا بن ""اء زم ""ني‪ ،‬وأن وظيف ""ة ع ""الم اللغ ""ة هي في املرتب ""ة األولى الوص ""ف‪ ،‬وص ""ف اللغ ""ة في‬
‫ال"زمن املعطى ال""ذي يتم في"ه الوص"ف‪ .‬وه""ذا الوص"ف ال"دقيق للغ"ة في نقط"ة معين"ة من الزم""ان واملك"ان‬
‫هو العلم ذاته‪.1".‬‬

‫وإذا ك""انت اإلحاط""ة بج""وانب الظ""اهرة اللغوي""ة في زمن فعال مش""بعا ب""الال ج""دوى لك""ون ه""ذه اللغ""ة ق""د‬
‫تح""ركت عم""ا تك""ون النظري""ة املحيط""ة به""ا علي""ه في حين اكتماله""ا‪ ،‬ف""ان تط""ور اللغ""ة ليس بالدرج""ة ال""تي‬
‫يرس""مها بعض األلس""نين من االنزي""اح‪ ،‬فمعرف""ة قواع""د اللغ""ة العربي""ة كم""ا رس""خت عن""د الخلي""ل ودونه""ا‬
‫س" ""يبويه في كتاب" ""ه من" ""ذ ثالث" ""ة عش" ""ر قرن" ""ا تجيب كث" ""يرا من ه" ""ذه االس" ""تفهامات اللغوي" ""ة ملتع" ""اطي اللغ" ""ة‬
‫العربي""ة في الق""رن الح""ادي والعش""رين‪ ،‬ه""ذا من جه""ة ومن جه""ة أخ""رى ف""ان ت""راكم املحاول""ة الوص""فية‬
‫ط""ورا بع""د ط""ور‪ ،‬تس""مح باس""تنباط ص""ورة مجمل""ة له""ذه الظ""اهرة‪ ،‬ص""ورة تتج""اوز األنم""اط املتغ""يرة إلى‬
‫الجوهر‪ ،‬املادة الخام األولية للغة املدروسة‪.‬‬

‫جدولة هذه املراحل املتتالية من الالجدوى تفضي إذن إلى نتيجة لها أكثر من جدوى‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫نظريات في اللغة‪ -‬ص ص‪34/35‬‬

‫‪41‬‬
‫اللغة املستحيلة‬

‫يقول تعالى" ‪":‬أفال يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا" كثيرا"(النساء‪)82 -‬‬

‫"ق" ""ل لئن اجتمعت اإلنس والجن على أن ي" ""أتوا بمث" ""ل ه" ""ذا الق" ""رآن ال ي" ""أتون بمثل" ""ه ول" ""و ك" ""ان بعض" ""هم‬
‫لبعض ظهيرا"(اإلسراء‪)88 -‬‬

‫"أم يقول""ون اف""تراه‪ ،‬ق""ل ف""أتوا بعش""ر س""ور مثل""ه مفتري""ات وادع""وا من اس""تطعتم من دون هللا إن كنتم‬
‫صادقين"(البقرة ‪)23‬‬

‫كث""يرا م""ا ع""برت اآلي""ات القرآني""ة عن اس""تحالة ه""ذا الخط""اب وتعالي""ه عن الغ""ير‪ ،‬فم""رة نق""رأ لهج""ة تح" ٍّ"د‬
‫للكف""ار لإلتي""ان بأص""غر وح""دة ممكن""ة من""ه‪ ،‬وم""رة يحم""ل من ال""تراكيب ومن املوس""يقى م""ا يجع""ل كث""يرا‬
‫من املتعص""بين من اإلس""الم آن"ذاك يلين ويلتق""ط العناص""ر غ"ير البش"رية (وه""ذا موض""وع ال ي"زال بحاج"ة"‬
‫إلى دراسة حديثة تأخذ من التحليل النفسي ومن جمالي""ات التلقي وتس"تعين بآلي""ات حديث"ة وبإمكاني""ات‬
‫املعالج"ة املخبري"ة والق"راءة العص"بية له"ذا األث"ر الك"امن خام"ا في بط"ون الكتب القديم"ة) وهي حال"ة عم"ر‬
‫بن الخطاب الذي كانوا يقولون في حقه ‪ :‬انه لن يسلم حتى يسلم حماره؟‬

‫إنه""ا اس""تحالة متع""ددة الوج""وه‪ ،‬ألن الق""رآن ب""رهن م""رة ب""التركيب وم""رة بالدالل""ة وم""رة ثالث""ة باإلش""ارة‬
‫ومرة أخ"رى بمحم"ول الخط"اب‪ ،‬عن نب"وءات واستش"رافات تاريخي"ة وعلمي"ة ص"دقت ط"ورا بع"د ط"ور‪...‬‬
‫وهي أيضا االستحالة التي ت"أثرت ع"بر فت"ق حجب خطاب"ات ولغ"ات س"ابقة ك"انت محج"وزة ومس"جونة في‬
‫دوائ""ر مح""دودة (األدي""رة‪ ،‬كتب الكنه""ة‪ ،‬املخطوط""ات الس""رية‪ ...‬الخ) ك""ل ه""ذا في إط""ار عقب""ة لغوي""ة كب""يرة‬
‫هي ك ""ون حام ""ل ه ""ذه اللغ ""ة إنس ""انا أمي ""ا (س ""واء في تفس ""ير الس ""لف لألمي ""ة كعطال ""ة للكف ""اءة اللغوي ""ة في‬
‫الكتاب""ة والق""راءة‪ ،‬او في التفس""ير املعاص""ر لفك""رة الن""بي األمي بمع""نى من أبن""اء األمم) يف""ترض في""ه ع""دم‬
‫الكف" ""اءة على التعام" ""ل م" ""ع اللغ" ""ة تعام" ""ل غ" ""يره من غ" ""ير األم" ""يين‪ .‬فال ب" ""د أن" ""ه ممكن اللغ" ""ة يفض ي على‬
‫مستحيلها‪.‬‬

‫اللغة مجال حيوي‬

‫اللغ ""ة مناس ""بة دائم ""ة للتعب ""ير عن حيوي ""ة أم ""ة أو ح ""تى إقليم‪ ،‬ف ""الظروف الطبيعي" "ة" تك ""ون أحيان ""ا غ ""ير‬
‫مناس ""بة الزده ""ار" اللغ ""ة‪ ،‬وقواع ""دها غ ""ير ميس ""رة ألم ""ور تلقينه ""ا‪ -‬كم ""ا هي الح ""ال بالنس ""بة للغ ""ة مقاطع ""ة‬
‫‪42‬‬
‫التين ""وم‪ ،‬وس""ط ايطالي ""ا‪ -‬إال أن حيوي ""ة أهله ""ا ق ""د َّ‬
‫حولته ""ا إلى الالتيني ""ة ال ""تي ابتلعت اإلغريقي ""ة القديم ""ة‬
‫ومحت آثاره" "ا" من الوج" ""ود‪ ،‬لكي تس" ""يطر على جن" ""وب أورب" ""ا وتص" ""بح اللغ" ""ة الرس" ""مية‪ ،‬ثم تتق" ""اطع م" ""ع‬
‫اللهج ""ات املحلي ""ة فتص ""بح لغ ""ة التعام ""ل الي ""ومي‪ ،‬وتص ""بح الي ""وم ‪ -‬وق ""د تجاوزه ""ا ال ""زمن بحكم حرك" "ة"‬
‫الت ""اريخ‪ ،‬الس ""ائرة باس ""تمرار إلى األم ""ام‪ -‬حاض ""رة في ص ""لب ك ""ل اللغ ""ات األوروبي ""ة‪ ،‬وك ""ل لغ ""ات الع ""الم‬
‫بشكل ما‪.‬‬

‫الشيء نفس""ه عرفت""ه العربي""ة‪ ،‬ال""تي ك""ان ع""دد مس""تعمليها‪ -‬على ك""ثرة اللهج""ات‪ -‬أي""ام البعث""ة املحمدي""ة ال‬
‫يتج" ""اوز ثالث" ""ة ماليين مس" ""تعمل كلهم يس ""كنون ش" ""به جزي" ""رة واح" ""دة‪ ،‬ثم غ" ""زت الع" ""الم لتنتش" ""ر في ك" ""ل‬
‫األص ""قاع وع ""دد مس ""تعمليها نص ""ف امللي ""ار نس ""مة بع ""دما ك ""ان ك ""ل ش يء يبش ""ر بان ""دثارها" على أي ""ام ع ""رب‬
‫الجاهلية‪.‬‬

‫اللغ ""ة إذن عن ""وان حيوي ""ة على ش ""فاه عناص ""ر بش ""رية معين ""ة‪ ،‬حيوي ""ة ق ""د تتجلى بأش ""كال كث ""يرة ولكنه ""ا‬
‫‪1‬‬
‫تتجلى ‪-‬أكثر من تجليها بأي شكل آخر‪ -‬من خالل اللغة‪.‬‬

‫اللغة وتأنسن اإلنسان‬

‫ت""راجعت ل""دى علم""اء نهاي""ة الق""رن العش""رين فك""رة ظه""ور اللغ""ة أول م""ا ظه""رت على النس""ق نفس""ه ال""ذي‬
‫يعرف""ه ظه""ور ه""ذه اللغ""ة عن""د الطف""ل‪ ،‬أي بواس""طة الص""راخ كتعب""ير قاع""دي ثم املد كتنوي""ع لألص""وات‬
‫وتفري""ق عاق""ل لبعض""ها عن بعض‪ ،‬ثم بواس""طة املق""اطع الص""وتية ال""تي تس""مح بظه""ور ح""روف واض""حة‬
‫تتألف من أجل أداء أصناف معينة من املعاني‪...‬‬

‫الفك ""رة الس ""ائدة هي ال ""تي تع ""ود أص ""ولها إلى مب ""احث م ""اكس م ""ولر ال ""تي أراد ريب ""و أن يعارض ""ها" فأثراه ""ا‬
‫بش""كل م""ا وال""تي مفاده""ا أن الكلم""ات األولى ال""تي ظه""رت وال""تي اس""تعملها اإلنس""ان هي املع""اني الكلي""ة ال""تي‬
‫تشعبت عنها ألفاظ دالة على الجزيئ"ات والتفاص"يل‪ .2‬واملت"داول في ال"دائرة العلمي"ة ه"و أن م"اكس م"ولر‬
‫ق""د اعتم""د "في تأيي""د ه""ذه النظري""ة على أدل""ة مس""تمدة من البحث في أص""ول الكلم""ات في اللغ""ات الهندي""ة‬
‫األوروبية‪ .‬فقد ظه"ر ل"ه أن مف"ردات ه"ذه اللغ"ات جميعه"ا" ترج"ع الى خمس"مائة أص"ل مش"ترك‪ ،‬وأن ه"ذه‬
‫األص""ول تمث""ل اللغ""ة األولى ال""تي انش""عبت منه""ا ه""ذه الفص""يلة‪ .‬فهي ل""ذلك تمث""ل اللغ""ة اإلنس""انية في أق""دم‬
‫‪1‬‬
‫علي عبد الواحد وافي‪ :‬علم اللغة‪ ،‬دار النهضة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،200-8‬ص ص‪170/171‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Max Müller : Nouvelles leçons sur la science du langage,  tome premier, Phonétique et étymologie,  traduit de l'anglais par‬‬
‫‪Georges Harris et Georges Perrot, A. Durand et Pedone-Lauriel, Paris,1867, p. 307.‬‬

‫‪43‬‬
‫عه""وده‪ ،‬وت""بين ل""ه من تحل""ل ه""ذه األص""ول أنه""ا ت""دل على مع""ان كلي""ة‪ ،‬وان""ه ال تش""ابه مطلق""ا بين أص""واتها‬
‫وما تدل عليه من فعل أو حالة"‪.1‬‬

‫ويب""دو من خالل ه""ذا ال""رأي أن اإلنس""ان ت""درج من األلوهي"ة" الفردوس""ية إلى إنس""انية م""ا بع""د الس""قوط‪،‬‬
‫انتق ""ل من وعي كلي ش ""امل ف" ""وق إنس" ""اني‪ ،‬إلى وعي ج" ""زئي منق" ""وص‪ ،‬اللغ ""ة إذن هي مس ""ار االنتق ""ال من‬
‫حال""ة الجن""ة ال""تي هي املك""ان الكلي القاب""ل لالخ""تزال في املك""ان ال""ذي يك""ون في""ه آدم في اللحظ""ة‪ -‬ال""تي هي‬
‫مب ""دئيا أب ""د قاب ""ل للتقلص والتم ""دد حس ""ب املش ""يئة‪ -‬ال ""تي يك ""ون فيه ""ا‪ ،‬إلى حال ""ة األرض املبهم ""ة الحزين ""ة‬
‫الواسعة دون قابلية لالختزال‪.‬‬

‫اللغ""ة في رحل""ة تطوره""ا اإلنس""اني ق""امت برحل""ة مض""ادة للغ""ة آدم م""ا قب""ل األرض""ية ال""تي هي معرف""ة كلي""ة‬
‫حاصلة تلقائيا بشكل كامل‪ -‬حسب تعبير الفالسفة‪.-‬‬

‫وتط ""ور اللغ ""ة حس ""ب ه ""ذا ال ""رأي الس ""ائد ه ""و تط ""ور اإلنس ""ان األرض ي ال ""ذي ه ""و ابتع ""اد عن األلوهي "ة"‬
‫والكم"ال واق"تراب من النقص"ان "الكام"ل"‪ ،‬من اإلنس"ان ال"ذي ينسى وينسى أن"ه ق"د نسي‪ ،‬فيحت"اج دائم"ا‬
‫إلى تفاصيل إضافية‪.‬‬

‫األداء اللغوي وغريزة املجاز‬

‫«ان نيتش""ه ال يعتق""د بوج""ود مع""نى أو دالل""ة حرفي""ة ص""حيحة مماثل""ة لنفس""ها مطابق""ة له""ا‪ .‬فق""د وص""ف‬
‫ال""دافع املج""ازي (الغري""زة املجازي""ة) بأن""ه ح""افز لتك""وين الص""ور املجازي""ة‪ ،‬وذهب إلى أن أص""ل ك""ل فك""رة‬
‫ه""و مس""اواة م""ا ال يتس""اوى‪ ،‬والص""ورة املجازي""ة تأس""يس لتط""ابق أو هوي""ة بين أش""ياء تختل""ف عن بعض""ها‬
‫البعض‪.‬‬

‫ما الحقيقة؟ جيش متحرك من الصور املجازي"ة‪ "،‬من الكناي"ات وخل"ع الص"فات البش"رية على الجم"اد أم‬
‫أن الحقائق أوهام نسينا أنها أوهام‪ ...‬قطع نقدية انمحى منها الوجه اآلخ"ر فاس"تحالت قطع""ا معدني"ة ال‬
‫قيمة لها»‪.2‬‬

‫‪ 1‬علي عبد الواحد وافي‪ :‬علم اللغة‪ ،‬ص‪114‬‬


‫‪ 2‬مادان ساروب‪ :‬دليل تنهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة تر‪ :‬خميسي بوغرارة‪ -‬منشورات‪ ƒ‬مخبر الترجمة في اللسانيات‪ ƒ‬واألدب‪ -‬الجزائر‪-‬‬
‫‪-2005‬ص ص‪67/68‬‬

‫‪44‬‬
‫يع""بر نيش""ته عن ه""ذه الفك""رة بع""دة ط""رق على اختالف مراحل""ه الفلس""فية‪ ،‬فه""و ي""رى اللغ""ة جيش""ا من‬
‫املخ""اتالت يه""دف إلى ص"ياغة وهم ال ب"د من"ه واف""تراض ع"والم أخ"رى هي إمكاني""ات داللي"ة تس""مى‪" ‬الحلم"‬
‫و"املس""تقبل البعي""د" و"املاضي البعي""د"‪( ...‬هك""ذا تكلم زرادش""ت)‪ ،‬وي""رى اللغ""ة نظام""ا من ال""دالالت ال""تي‬
‫تفرض" ""ها أط" ""راف متحكم" ""ة في أداة اللغ" ""ة محول" ""ة إياه" ""ا إلى" ""أداة حكم وتس" ""لط (جينيالوجي" ""ا األخالق)‬
‫وينظ""ر إلى اللغ""ة على أنه""ا س""جن ال يمكن اإلفالت من""ه ألنن""ا إذا جئن "ا" إلى وص""ف لتحدي""د اس""تراتيجياتنا‬
‫تجاه "ه" نج""د أنفس""نا نع""الج األم""ر بواس""طة اللغ""ة‪ ،‬ف""الهروب منه""ا يتم به""ا وال مه""رب س""وى دف""ع عتب""ات‬
‫الس ""جن إلى أبع ""د األم ""اكن املمكن ""ة بواس ""طة ممارس ""ة لعب ""ة املج ""از‪ ،‬ال ""تي هي عب ""ارة عن وق ""ف التنفي ""ذ‬
‫ال""ذي يمنحن""ا فس""حة ص""غيرة قب""ل الع""ودة إلى الس""جن (فيم""ا وراء فك""رة الخ""ير والش""ر)‪ .‬به""ذا امليك""انيزم‬
‫الغ ""ريب يفس ""ر نيش ""ته ض ""رورة املج ""از من جه ""ة وآلي ""ة تط ""ور اللغ ""ة باس ""تمرار وخروجه" "ا" من مكاس ""بها‬
‫الراهنة" إلى مكاسب ممكنة‪.‬‬

‫كم من مساء في»هذا املساء"‬

‫ق" ""ال»جاكس" ""بون»حكى لي ممث" ""ل ق" ""ديم بمس" ""رح ستانيسالفس" ""كي بموس" ""كو كي" ""ف ك" ""ان املخ" ""رج الش" ""هير‬
‫يطلب من""ه‪ ،‬حينم""ا ك""ان ي""ؤدي عرض""ا تجريبي""ا بمس""رحية م""ا‪ ،‬أن يس""تخرج أربعين رس""الة مختلف""ة من‬
‫عب" ""ارة»ه" ""ذا املس" ""اء»بواس" ""طة تنوي" ""ع التلوين" ""ات التعبيري" ""ة‪ ،‬وك" ""ان أن وض" ""ع قائم" ""ة مكون" ""ة من بض" ""عة‬
‫وأربعين موقفا انفعاليا وبعد ذلك تلفظ بالعبارة املذكورة في توافق مع ك""ل موق""ف من ه""ذه املواق""ف‪،‬‬
‫ه ""ذه املواق ""ف ال ""تي على املس ""تمعين أن يتعرف ""وا عليه ""ا انطالق ""ا فحس ""ب من تغ ""يرات التش ""كيل الص ""وتي‬
‫‪1‬‬
‫لهاتين الكلمتين البسيطتين‪..‬‬

‫إن أوائ ""ل اللغ ""ويين الع ""رب وهم يح ""اولون مقارب ""ة الظ ""اهرة من زاويته ""ا الص ""وتية لم يكون ""وا بع ""د ق ""د‬
‫أح ""اطوا ب ""املنطق األرس ""طي ال ""ذي أعطى األولوي ""ة للكلم ""ة على الجمل ""ة مص ""داقا لرأي ""ه القائ ""ل بأس ""بقية‬
‫الكلمة على الفكر وعلى الجملة (أ ي التركيب النحوي؛ مجموع الكلمات) نتيجة لذلك‪.‬‬

‫الغ " ""الب ه " ""و أنهم في ذل " ""ك ك " ""انوا يص " ""غون إلى ص " ""وت منهجي داخلي أوحى إليهم في نهاي " ""ة الق " ""رن األول‬
‫الهج ""ري ب ""أن يخرج ""وا إلى البادي ""ة لتلقي اللغ ""ة س ""ماعا وهي أص ""وات قب ""ل تلقيه ""ا (ثم تلقينه ""ا) كرس ""وم‬
‫وكتشكيالت معقدة طورا بعد طور‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫رومان جاكبسون‪ :‬قضايا الشعرية‪ -‬تر‪ :‬محمد الولي ومبارك حنون‪ -‬دار الكتاب اللبناني‪ ƒ-‬ط‪ -1981-2‬ص‪23‬‬

‫‪45‬‬
‫ك" ""انت املؤلف" ""ات اللغوي" ""ة األولى ص" ""وتية بالدرج" ""ة األولى (كتب اللغ" ""ات أو اللهج" ""ات‪ ،‬كتب الهم" ""ز‪ ،‬كتب‬
‫فعلة أو أفعلة‪ ،‬كتب ما اتفق لفظه واختلف معناه‪ ،‬كتاب العين‪ ،‬كتاب الجيم‪ ...‬الخ) دون إهم""ال ك""ون‬
‫املدرس""ة املعجمي""ة األك""ثر ش""يوعا إلى مراح""ل مت""أخرة ج""دا هي مدرس""ة الخلي""ل بن أحم""د املعتم""دة على‬
‫النسق الصوتي في ترتيب موادها‪.‬‬

‫وقد مال الدرس اللغوي الغربي بدءا من سوسير إلى لسانيات الجملة تأس"يا في ذل"ك بالفيلولوجي"ا ال"تي‬
‫ك ""انت تنطل ""ق من الجمل ""ة كوح ""دة لل ""درس‪ ...‬وعلى ض ""وء م ""ا رواه جاكوبس ""ن نقال عن ستانيسالفس ""كي‪،‬‬
‫ربم""ا تك""ون الحلق""ة الض""ائعة في جامعاتن "ا" هي ملتقى اللس""انيات السوس""يرية م""ع ال""درس اللغ""وي الع""ربي‬
‫الطالئعي‪ ،‬إذا عبث" ""ا نح" ""اول تق" ""ريب آراء ق" ""دامى اللغ" ""ويين الع" ""رب من آراء سوس" ""ير في حين أن نقط" ""ة‬
‫البداية بالنسبة للدرسين مختلفة تماما‪.‬‬

‫اإلنسان حيوان ذو لوغوس‬

‫«املفردة تعني اللفظ أوالصوت اللفظي‪ ،‬غير أن ارتباط هذا الصوت بكينونة متعالية جعلها ‪logos‬‬

‫ص" ""فة تخص ق" ""وى التحكم ب ""الكون في املوروث اإلغ" ""ريقي‪ ،‬وتخص ال" ""ذات اإللهي" ""ة في الفك ""ر املس ""يحي‪،‬‬
‫لكن الفك " ""ر املس " ""يحي نق " ""ل الفك " ""رة إلى مرحل " ""ة ثاني " ""ة هي مرحل " ""ة الخل " ""ق املتجس " ""د؛ ومن هن " ""ا ك " ""انت‬
‫االفتتاحية اإلنجيلية»في البدء كان اللوغس‪ ،‬ثم تحول إلى كينونة متحقق""ة»وق"د أخ""ذ اللوغ""وس يبحث‬
‫له عن امتدادات أهم ما يثيرنا فيها في هذا املقام هو بنوة العم التي ربم""ا ت"رتقي الس""لم الت""اريخي لتص"ير‬
‫أخوة مع لفظة»لغة"‪ ،‬فبين»لوغوس»و"لغة»ال يوجد سوى الحد الجغرافي الواهي»‪.1‬‬

‫الل""وغس وج""د نفس""ه يمث""ل هللا (ال""ذي ك""ان وه""و دائم""ا في البداي""ة‪ ،‬وه""و نفس""ه البداي""ة) ويختص""ر العق""ل‬
‫(الذي هو ترتيب لغوي) ويخ"تزل الق"درة على اإلب"داع‪ ،‬واملعرف"ة املتص"لة باهلل والنظ"ام والع"رف والع"ام‬
‫والبديهي"ة‪ ،‬ثم ص"ار‪-‬بفض"ل املفس"رين‪ -‬الق"وى الخفي"ة املتحكم"ة في الك"ون‪ ،‬ثم حول"ه رج"ال الكنيس"ة إلى‬
‫مرحل""ة»الحل""ول»والتجس""د ال""دنيوي ليص""بح الل""وغس (اللغ""ة ممتلك""ا كي""ان ملم""وس بش""ري (لحم ودم)‬
‫وهو ذات املسيح نفسها»‪.2‬‬

‫‪1‬‬
‫فيصل األحمر‪ :‬دائرة المعارف الحداثية ومابعد الحداثية‪ -‬دار األوطان‪ -‬الجزائر‪ -2011-‬ج‪/2‬ص‪125‬‬
‫‪2‬‬
‫ميجان الرويلي وسعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ -‬دار الكتاب اللبناني‪ -‬ط‪-1981-2‬ص‪14‬‬

‫‪46‬‬
‫مقارب""ة اللغ""ة ه""ذه وال""تي يجب أال ننسى أن الثقاف"ة" الكالس""يكية فص""لت في إنس""انية اإلنس""ان بواس""طتها‬
‫(اإلنسان حيوان ناطق) مثيرة جدا من زاوية كون اللغة جسدا ملموسا داال على قوى غائبة‪.‬‬

‫إنه""ا نفس""ها ص""فة الكلم""ات ال""تي تحض""ر فيزيائي""ا لتخ""تزل األش""ياء وتعوض""ها األص""وات (تل""ك املوج""ودات‬
‫الفيزيائي""ة) ال""تي تق""وم بتوري""ة متالزم""تين دائم""تين فهي تخفي الشيء ال""ذي يك""ون غائب""ا عن""ا وتستحض""ره‬
‫من خالل الخصائص اللغوية الفريدة التي تربط الصورة األكوستيكية بالصورة الذهنية" دائما وأبدا‪.‬‬

‫لغة تفصل في األمور ‪ :‬لغة قاطعة كحد السيف‬

‫يروي إدوارد سابير‪ ،‬وهو الخبير الكبير بلغات الهنود الحم"ر‪ ،‬أن كث"يرا من الهن"ود الحم"ر ح"افظوا على‬
‫تقليد غريب وصلهم من سالف الحقب البائدة‪ ،‬ذل"ك ه"و التقلي"د اللغ"وي القائ"ل ب"أن الت"ذكير والت"أنيث‬
‫ليسا حالتين لنمط واحد من الكالم بل إنهما خطابان" مختلفان تماما‪...‬‬

‫ففي كاليفورني""ا‪ "،‬ول""دى بعض القبائ""ل املتم""يزة باملحافظ""ة على عراق""ة أدائه""ا الغ""وي دون عظيم تغي""ير‪،‬‬
‫يح " ""دث أن هنال" ""ك من»يس " ""تعمل ن" ""وعين من املف" ""ردات ون " ""وعين من ال" ""تراكيب ‪ :‬واح" ""د للنس" ""اء وآخ " ""ر‬
‫للرجال أي أن لفظ"ة بيت تك"ون كلم"ة مغ"ايرة في لغ"ة النس"اء للفظ"ة بيت نفس"ها في لغ"ة الرج"ال‪ .‬وهن"اك‬
‫لغات ال تعرف لفظا واحدا عاما لفكرة عامة‪ ،‬وال تستطيع التجريد‪ ،‬فإننا نقول أك"ل خ""بزا وأك""ل لحم""ا‬
‫وأكل عنبا‪،‬‬

‫أم""ا عن""دهم فلك""ل ن""وع من األك""ل لف""ظ خ""اص‪ "،‬فع""ل أك""ل في»أك""ل عنب""ا»ه""و غ""يره في»أك""ل م""وزا»وال يق""ف‬
‫األم"ر عن"د ه"ذه الغ"رائب ب"ل نج"د أن الفع"ل املاضي يك"ون غ"يره في املض"ارع وليس كم"ا هي الح"ال عن"دنا‬
‫حيث نقول أكل يأكل‪.1".‬‬

‫ه ""ذه اآلث ""ار نج ""دها" في ك ""ل اللغ ""ات في واق ""ع األم ""ر‪ ،‬فالعربي ""ة ت ""ؤنث الحم ""ار إلى أت ""ان‪ ،‬والرج ""ل إلى املرأة‬
‫واألس " ""د إلى اللب " ""ؤة‪ ،‬وش " ""رب في الفرنس " ""ية تنتق " ""ل بين ‪ boire‬و ‪ ingurgiter‬و ‪prendre‬و ‪ se taper‬و‬
‫‪ siroter‬و ‪.. susurrer‬‬

‫وإذا كن""ا ننظ""ر إلى ه""ذه الظ""واهر اللغوي""ة على أس""اس كونه""ا تعقي""دات قديم""ة يعم""ل التط""ور على نب""ذها‬
‫لفائ""دة قواع""د ذات طواعي""ة‪ ،‬من جه""ة‪ "،‬وذات قابلي""ة للتلقين‪ ،‬من جه""ة أخ""رى‪ ،‬فإنن""ا ال نس""تطيع تجنب‬
‫الش""عور بحس""رة م""ا له""ذه األنظم""ة اللغوي""ة املض""بوطة ال""تي تفص""ل في األم""ور فص""ال تام""ا وك""امال وتقط""ع‬

‫‪1‬‬
‫نظريات في اللغة‪ -‬ص‪23‬‬

‫‪47‬‬
‫ك ""ل إمكاني ""ات الحرك ""ة‪ "،‬وال تك ""ون واس ""عة الش""بهة شاس ""عة اللبس كث ""يرة التالعب‪ ،‬فتك ""ون اللغ ""ة ب ""ذلك‬
‫عامل" ""ة وفعال" "ة" أك" ""ثر‪ ،‬دون الوق" ""وف عن" ""د التفاص" ""يل‪ ،‬وه" ""و املنزع ال" ""ذي ت" ""نزع إلي" ""ه اللغ" ""ة في تطوره" "ا"‬
‫باستمرار‪.‬‬

‫اللغة وأرشيفها‬

‫مي""دان العب""ارات‪ -‬حس""ب ميش""ال فوك""و_ يتح""دد حس""ب اعتب""ارات ومعطي""ات تاريخي""ة‪»،‬ويتم""يز ب""أنواع‬
‫مختلف ""ة من الوض ""عية‪ ،‬وينقس ""م إلى تش ""كيالت خطابي" "ة" متم ""ايزة‪ ،‬إن ""ه مي ""دان ال يتخ ""ذ هيئ ""ة س ""هل أو‬
‫أرض منبسطة تمام االنبساط ال نتوء فيها وال انحراف‪ ،‬تمتد بال نهاية‪ ،‬مثلما اعتقدت ذل""ك في البداي""ة‬
‫عن""دما كنت أتح""دث عن»مس""احة" الخط""اب»لن يظه""ر كعنص""ر س""اكن‪ ،‬ص""قيل ومحاي""د‪ ،‬ت""أتي الخطاب""ات‬
‫لتس" ""توي في" ""ه وتنتص" ""ب‪ ،‬ك" ""ل منه" ""ا وف" ""ق حركت" "ه" الخاص" ""ة‪ ،‬أو ت" ""أتي إلي" ""ه مدفوع" ""ة بدينامي" ""ة غامض" ""ة ‪:‬‬
‫دينامي ""ة موض" ""وعات وأفك" ""ار ومف" ""اهيم ومع ""ارف‪ .‬ب ""ل يتعل" ""ق األم ""ر بكتل" ""ة معق" ""دة‪ ،‬تتم ""ايز فيه ""ا جه" ""ات‬
‫مختلف""ة‪ ،‬وتنتش""ر فيه""ا حس""ب ق""وانين نوعي""ة‪ ،‬ممارس""ات ال يمكن أن تك""ون متطابق""ة‪ ،‬وع""وض أن نع""ثر‬
‫فيه""ا على كلم""ات تع""بر ب""األحرف الب""ارزة عن أفك""ار" نش""أت فيم""ا قب""ل‪ ،‬وفي موض""ع آخ""ر‪ ،‬كلم""ات مص""فوفة‬
‫على الكت ""اب املي ""ثي األك ""بر للت ""اريخ‪ ،‬نج ""دها داخ ""ل س ""مك املمارس ""ات الخطابي ""ة‪ ،‬وأم ""ام منظوم ""ات تقيم‬
‫عب" ""ارات‪ ،‬مثلم" ""ا تنش ئ األح" ""داث (له" ""ا ش" ""روطها ومي" ""دان ظهوره" ""ا) وأش" ""ياء تتض" ""من إمكاني" ""ات وحق" ""ل‬
‫اس ""تعمالها‪ .‬فجمي ""ع منظوم ""ات العب ""ارات تل ""ك (األح ""داث من جه ""ة‪ ،‬واألش ""ياء من جه ""ة أخ ""رى) هي م ""ا‬
‫أقترح تسميته ‪Archive‬؛ نظام احتفاظ العبارة وظهورها"‪.1‬‬

‫هل من لغة للحيوان؟‪ ...‬مرة أخرى‬

‫هل الدليل اللغوي ميزة إنسانية تستثني كل ما هو غير إنساني‪ ،‬أم أن للحيوان أيضا لغة؟‬

‫سؤال متكرر دائما‪.‬‬

‫لق""د وض""ح م""اكس ف""ون ف""ريش في تجارب""ه الش""هيرة ح""ول ط""رق التواص""ل ل""دى النح""ل أن هنال""ك لغ""ة ال‬
‫ش""ك فيه""ا تتف""اهم به""ا عناص""ر النح""ل‪ ،‬إش""ارات مث""ل ال""دوائر واألق""واس وال""دوائر املزدوج""ة على ش""كل‬

‫‪1‬‬
‫حفريات المعرفة‪ -‬ص‪119‬‬

‫‪48‬‬
‫ال" ""رقم ‪ ،8‬وس" ""رعة ال" ""دوران‪ ...‬الخ‪ ،‬وهي إش" ""ارات دال" ""ة على مجموع" ""ة معين" ""ة من املعلوم" ""ات املرتبط" ""ة‬
‫ألغراض النحل وممارساتهم الحيوية‪.‬‬

‫ولكن الرأي الغالب هو أنه إذا كانت هن"اك فعال عملي""ة تواص"ل ل""دى النح""ل‪ ،‬فإنن"ا" ال نس"تطيع ع ّ"د ه""ذا‬
‫ً‬
‫التواص""ل لغ""ة‪ ،‬ألن س""ريان املعلوم""ات ال يفضي على الح""وار‪ ،‬فاملعلوم""ة ال""تي تبعثه""ا النحل""ة ال تس""تدعي‬
‫إجاب ""ة‪ ،‬إنه ""ا وحي ""دة االتج ""اه‪ ،‬مح ""دودة األداء ألنه ""ا ال تفع ""ل س ""وى ته ""ييج أداة تواص ""لية نفعي ""ة متع ""ارف‬
‫عليها‪.‬‬

‫ويلخص إيميل بنفنست الفرق بين التواص"ل ل"دى النح"ل كم"ا وص"فه ف"ون ف"ريش والتواص"ل البش"ري‬
‫كم""ا وص""فته أجي""ال اللغ""ويين واأللس""نيين املتعاقب""ة‪ "،‬بأن""ه يكمن في ك""ون اللغ""ة منظوم""ة إش""ارية‪ ،‬في حين‬
‫أن تواص" ""ل النح" ""ل يمث" ""ل فق" ""ط قانون" ""ا إش" ""اريا‪ ،‬والق" ""انون مغل" ""ق‪ ،‬وحي" ""د االتج" ""اه‪ ،‬مح" ""دود الفعالي" ""ة‪،‬‬
‫مس " ""تغن عن اآلف " ""اق االجتهادي " ""ة‪ ،‬و مل " " ٍ"غ لك " ""ل ه " ""امش من ه " ""وامش املن " ""اورة‪ ،‬في حين أن املنظوم " ""ة هي‬
‫إس" ""قاط نس" ""ق معين على عناص" ""ر معط" ""اة‪ ،‬ولكن النس" ""ق منفتح والعناص" ""ر متوال" ""دة‪ ،‬ول" ""ذلك فه" ""امش‬
‫املن ""اورة (من خالل األخ ""ذ وال ""رد والح ""وار) واس ""ع وأف ""ق التح ""رك بالعناص ""ر في إط ""ار النس ""ق الواس ""ع‪،‬‬
‫وه " ""ذا م " ""ا يفس " ""ر التط " ""ور املس " ""تمر للغ " ""ات البش " ""رية في مقاب " ""ل الس " ""كونية الكب " ""يرة لق " ""انون التواص " ""ل‬
‫‪1‬‬
‫الحيواني‪.‬‬

‫اللغة عند ما بعد الحداثيين‬

‫«لقد استعمل مفهوم املجاز عند وولتر بينيامن كوسيلة لفهم األعمال الفنية الطالعية (الالعضوية)‬

‫فه" ""و يص" ""ف مس" ""تعمل االس" ""تعارة وه" ""و يأخ" ""ذ عنص" ""را من الظ" ""رف الكلي للحي" ""اة ويعزل" ""ه وي" ""نزع عن" ""ه‬
‫وظيفته (االستعارة في األساس شذرة أوشظية‪ ،‬عكس الرمز العضوي) ثم يأخذ وص""ل تل""ك الش""ذرات‬
‫املعزول" ""ة بعض" ""ها ببعض ويحص" ""ل ب" ""ذلك على الدالل" ""ة‪ ،‬غ" ""ير أن ذل" ""ك املع" ""نى مف" ""ترض ألن" ""ه ال ينب" ""ع من‬
‫‪2‬‬
‫الظرف األصلي للشذرات»‬

‫وه ""ذا يعي ""دنا الى الفك ""رة املتك ""ررة ل ""دى م ""ا بع ""د الح ""داثيين ح ""ول أن اللغ ""ة ليس ل ""ديها جدي ""د يض ""يفه‬
‫املعجم‪ ،‬ولكنه""ا تمل""ك بحكم الخص"ائص القديم""ة لل"تركيب النح""وي إمكاني""ات ال متناهي""ة لتولي""د الدالل"ة‬
‫‪1‬‬
‫‪Émile Benveniste : Problèmes de linguistique générale,  t. 1, Paris, Gallimard,»Tel», 1966,p. 56/62.‬‬
‫‪2‬‬
‫دليل تمهيدي إلى مابعد الحداثة ومابعد البنيوية‪ -‬ص‪176‬‬

‫‪49‬‬
‫وإنتاج املعنى املتركز على فرض""ية التالعب ب""الكالم وذل""ك عن طري""ق ال"تركيب(‪ )le montage‬واملخاتل"ة‬
‫أوالخ ""داع(‪ ; )la supercherie‬وك ""ل م ""ا ين ""درج ض ""من األلع ""اب الكالمي ""ة (‪ .)jeux de mots‬إن م ""ا بع ""د‬
‫الحداث ""ة تنطل ""ق من أن متع ""اطي النص األدبي خ ""رج من دائ ""رة الواق ""ع ودائ ""رة املع ""نى الحقيقي للغ ""ة إلى‬
‫دائ" ""رة الفن واملع" ""اني املجازي" ""ة للغ" ""ة‪ ،‬فال داعي ملحاول" ""ة الفن أن يس" ""تعيد الواق" ""ع ل" ""ذلك فلغ" ""ة م" ""ا بع" ""د‬
‫الحداث ""ة تق ""ول ملتلقيه ""ا ح ""اذر إن ""ني س ""أعطيك تركيب ""ة علي ""ك تفكيكه ""ا واس ""ترجاع حالته ""ا قب ""ل اإلحال ""ة‪"،‬‬
‫علي" ""ك القي" ""ام بعكس ال" ""تركيب‪ ،‬وذل" ""ك حس" ""ب الق" ""وانين ال" ""تي اتفقن" ""ا عليه" ""ا (ش" ""أنها في ذل" ""ك ش" ""أن ك" ""ل‬
‫صناعة‪.).‬‬

‫ويبقى التح" ""دي األخ" ""ير بع" ""د اس" ""تعادة ه" ""ذه الش" ""ذرات املعالج" ""ة‪ ،‬أو املركب" ""ة‪ "،‬أو املفبرك" ""ة‪ "،‬أو املعم" ""ول‬
‫عليه " " ""ا‪ ،‬ه " " ""و أن يتمكن املتلقي من زرع ه " " ""ذه الش " " ""ذرات في واقع " " ""ه بحكم تجربت " " ""ه الس " " ""ابقة (التلقي‬
‫والتشتيت) وما ينتجهم ذلك من حميمية‪.‬‬

‫برغسون والعجز اللغوي‬

‫في كتاب" "ه" عن»الض ""حك»يالح ""ظ الفيلس ""وف الفرنس ي ه ""نري برغس ""ون ب ""أن»الكلم ""ات كله ""ا (فيم ""ا ع ""ادا‬
‫أس""ماء العلم) تح""دد أنماط""ا لألش""ياء وال تح""دد األش""ياء‪ ،‬تق""ارب املس""مى مم""ا يش"بهه مم""ا تعج ب""ه الطبيع""ة‬
‫واللغة‪ ،‬لذلك فالكلمة" ال تحدد من الشيء إال مظهره الخارجي ومميزاته األكثر تداوال وورودا وانتشارا‬
‫‪1‬‬
‫بين مستخدمي هذه الكلمة‪ ،‬والكلمة بذلك تقف بيننا وبين جوهر" الشيء»‬

‫وهنا تطرح قضية هامة" إذ يعود برغسون إلى أصل اللغ"ة األول‪ ،‬فتحض"رنا فك"رة الص"ور الص"وتية ثم‬
‫الص ""ور املرس ""ومة ال ""تي تع ""وض الحي ""اة وتخ ""تزل املوج ""ودات‪ ...‬وإذا ك ""انت اإلنس ""انية تش ""عر من ""ذ أق ""دم‬
‫اآلماد بالفخر بسبب هذين االنجازين الكبيرين فان الفلسفة الحديثة (على خطى نيتشه ثم برغسون)‬
‫تش" ""عر ب" ""الحزن الكب" ""ير ال" ""ذي ال ب" ""د أن يش" ""عر ب" ""ه مس" ""تعمل اللغ" ""ة ال" ""ذي ش" ""غل نفس" ""ه به" ""ذه األدوات‬
‫االص""طناعية»املس""ماة اللغ""ة»وال""تي تق""ف أب""دا بينن""ا وبين أص""ناف أخ""رى من املعرف""ة ض""حينا به""ا تض""حية‬
‫تامة ونحن ننخرط في سهولة اللغة وبساطة طرائقها في األداء‪.‬‬

‫ه ""ذا الفيلس ""وف (ومع ""ه جمه ""رة أخ ""رى من الفالس ""فة ال ""ذين وقف ""وا مط ""وال عن ""د اص ""طناعية اللغ ""ة‬
‫وتالعبه" ""ا»الش" ""رير»؛ من خالل االس" ""تثمار في العالق" ""ة بين الص" ""وت والص" ""ورة من جه" ""ة و الج" ""وهر في‬
‫‪1‬‬
‫‪Henri Bergson : Le Rire, éd. PUF, Paris, p. 117.‬‬

‫‪50‬‬
‫الجهة املقابلة؛ جمهرة تبدأ مع نيتشه‪ ،‬مرورا بهيدغر‪ ،‬وصوال إلى فوكو‪ ،‬ديريدا‪ ،‬دول""وز وليوط""ار‪...‬الخ‬
‫الخ)‪ ،‬ه ""ذا الفيلس ""وف يق ""ف حزين ""ا أم ""ام اإلنس ""ان ال ""ذي أراد أن يتفلس ""ف لفهم ج ""وهر األش ""ياء ففق ""د‬
‫الفلس " ""فة وبقي ح " ""بيس لغت " ""ه‪...‬ح " ""بيس»مس " ""افة»هي املس " ""افة ال " ""تي ال مه " ""رب منه " ""ا بين الش يء املس " ""مى‬
‫وتس ""ميته‪ ،‬ه ""ذا الش يء ال ""ذي أص ""بحنا ال نس ""تطيع ول ""وج ماهيت ""ه ح ""تى م ""تى م ""ا ك ""ان ج ""زءا من محيطن ""ا‬
‫املباشر‪ ،‬هذا الشيء الذي أصبحنا ال نملك إزاءه سوى القدرة على تسميته‪.‬‬

‫من اللغة إلى الخطاب‬

‫لنعت ""بر اآلن ماهي ""ة العب ""ارة كلبن ""ة من لبن ""ات الخط ""اب‪ .‬يق ""ول درايق ""وس ورابين ""و‪»:‬ليس ""ت العب ""ارة ق ""وال‬
‫أواقتراحا وليست كيانا نفسيا أومنطقيا‪ ،‬وهي ليست ك"ذلك ح"دثا أوص"يغة مثالي"ة»إن اختالف العب"ارة‬
‫عن الق""ول يع""ني أن""ه بإمك""ان جمل""ة واح""دة أن ت""ؤدي ع""دة وظ""ائف بحيث تتوق""ف ك""ل وظيف""ة منه""ا على‬
‫السياق الخطابي التي ترد فيه‪"...‬‬

‫تنق" ""ل س" ""ارة ميل" ""ز كالم" ""ا ح" ""ول ميش" ""ال فوك" ""و ىمف" ""اده أن العدي" ""د من األق" ""وال املختلف" ""ة ق" ""د تش" ""كل في‬
‫حقيق "ة" األم""ر من عب""ارة واح""دة‪ ،‬ك""ان يق""رأ مض""يف ط""ائرة نفس اإلعالن بلغ""ات مختلف""ة‪ .‬فق""د»تش""كل‬
‫الخرائط عبارات إذا كانت تمثل مناطق جغرافية‪ ،‬وق"د تك"ون ح"تى الص"ورة البياني"ة للوح"ة املف"اتيح في‬
‫ً‬
‫آلة رقن ما عبارة‪ ،‬إذا ما ظهرت ضمن دليل استعمال ومثلت الطريقة القياس"ية ل"ترتيب الح"روف على‬
‫اللوحة‪".‬‬

‫يم""يز فوك""و تمي""يزا مهم""ا في عمل""ه بين الخط""اب كمفه""وم ع""ام‪ ،‬وه""و مجموع""ة القواع""د واإلج""راءات ال""تي‬
‫تحكم أنماطا معينة من الكالم‪ ،‬وتل"ك الخطاب"ات أومجموع"ات العب"ارات نفس"ها‪ ،‬إن الخط"اب مجموع"ة‬
‫من العب" ""ارات املبارك " "ة" وله" ""ا ق" ""وة مؤسس" ""اتية‪ ،‬إي أن له" ""ا ت" ""أثيرا عميق" ""ا على الطريق" ""ة ال" ""تي يفك" ""ر به" ""ا‬
‫األشخاص وعلى الكيفية التي يسلكون بها‪ .‬لكن‪ ،‬مع ذلك تبقى حدود الخطاب غامضة‪».‬‬

‫إستراتيجية اللغة ‪ /‬إستراتيجية األدب‬

‫طاملا أن التحلي" ""ل الت" ""اريخي ال يس" ""مح بع" ""رض مجموع" ""ة من األولوي" ""ات البنيوي" ""ة‪ ،‬ف" ""ان ب" ""ارط‪ ...‬ينح" ""از‬
‫لتوجي ""ه تفك ""يره إلى منظ ""ور ألس ""ني بص ""فة جوهري ""ة‪ .‬ومن ثم ف ""ان فرض ""يته النظري ""ة هي فرض ""ية ب ""ول‬

‫‪51‬‬
‫ف ""اليري بال ""ذات وال ""ذي يق ""ول ‪»:‬م ""ا األدب؟‪ ...‬ه ""و ال يمكن أن يك ""ون س ""وى ن ""وع من توس ""يع وممارس ""ة‬
‫بعض خص""ائص اللغ""ة"‪ .1‬ويح""اول ب""ارط إذن تحدي""د ال""دال انطالق""ا من نم""وذج اللغ""ة‪ .‬وهك""ذا يتص""دى‬
‫في»م ""دخل إلى التحلي ""ل الب ""نيوي للمحكي»إلع ""داد معجم لص ""يغ ت ""راكيب املحكي‪ ،‬ويتمس ""ك بحص ""ر ع""دد‬
‫معين من»الوح ""دات الس ""ردية «ال ""تي س ""تكون على مس ""توى العم ""ل املروي مثلم ""ا ك ""انت علي ""ه الوح ""دات‬
‫األلس ""نية على مس ""توى اللغ ""ة‪ .‬ففي املحكي‪ ،‬كم ""ا ه ""و الش ""أن في اللغ ""ة‪ ،‬ف ""ان الط ""ابع ال ""وظيفي ه ""و ال ""ذي‬
‫يس""مح بتجدي""د الوح""دة‪ ،‬ك""ل مقط""ع من القص""ة يس""مح ب""أن ي""درك بوص""فه عنص""را للرب""ط‪ ،‬ويعت""بر إذا‬
‫مالئما إلعداد نحو سردي‪.‬‬

‫وإذا ما اعتبرنا التحليل املفصل للعمل السردي يفرض الفكرة نفسها وهي أن توجد بني"ة ال تتغ"ير هي‬
‫ال" ""تي ستش" ""كل‪ ،‬بخض" ""وعها لق" ""وانين ص" ""ارمة‪ ،‬نوع" ""ا من ال" ""دال الك" ""وني للمحكي‪ ،‬فه" ""ذه النظري" ""ة نتيج" ""ة‬
‫منطقي ""ة للتش ""ابه املس ""لم ب ""ه بين اللغ ""ة واألدب إلى ح ""د ق ""ول ب ""ارط ‪»:‬لم يع ""د من املمكن الي ""وم اعتب ""ار‬
‫األدب فن"ا ق"د يهم"ل ك"ل عالق"ة باللغ"ة‪ ،‬من"ذ أن ك"ان ق"د اس"تعملها ك"أداة للتعب"ير عن الفك"رة أو العاطف"ة‬
‫‪2‬‬
‫أو الجمال‪ ،‬فال تني اللغة مصاحبة للخطاب وهي تمد إليه مرآة بنيتها الخاصة‪».‬‬

‫أنطولوجية اللغة وإستمولوجيتها (في تفاصيل جوامع الكلم)‬

‫يرس ""م محي ال ""دين بن ع ""ربي في»الفتوح ""ات املكي ""ة»مقارب ""ة فلس ""فية ش ""ديدة األهمي ""ة ملس ""تويات األداء‬
‫اللغ ""وي حس ""ب العالق ""ات املح ""ددة للتواص ""ل الق ""ديم بين الاله ""وت والناس ""وت‪ ،‬فه ""و يق ""ول إن هنال ""ك‬
‫وج ""ودا أولي ""ا مح ""دثا للغ ""ة ال س ""ابق ل ""ه (وج ""ود أنطول ""وجي) ثم تط ""وير له ""ا عن قص ""د ودراس ""ة وتفك ""ير‬
‫س" ""ابق (إبس" ""تمولوجي)‪ ،‬وأن جوام" ""ع الكلم ال" ""تي أوتيه" ""ا الرس" ""ول محم" ""د (ص) تحت" ""وي مع" ""ارف داخلي" ""ة‬
‫مباش""رة أوتيه""ا‪ ،‬مفهوم""ة حس""ب ميكانيزم""ات إلهي""ة ال تفس""ير له""ا‪ ،‬وتحت""وي حق""ائق مطلق""ة ال س""ابق له""ا‪،‬‬
‫كم" ""ا أن جوام" ""ع الكلم هي الق" ""درة على تحميص الق" ""رآن وه" ""و كت" ""اب ت" ""راكمي الدالل" ""ة وليس أص" ""يلها‪،‬‬
‫وب""ذلك تنتج عن""دنا ثالث""ة مس""تويات للغ""ة هي املس""ند واملس""ند إلي""ه والرابط""ة بينهم""ا‪ ،‬وفي ذل""ك يق""ول ابن‬
‫عربي»ان جوامع الكلمة من عالم الحروف ثالثة ‪ :‬ذات غنية قائمة" بذاتها‪ ،‬وذات فقيرة إلى ه"ذه الغني"ة‬
‫غ""ير قائم""ة بنفس""ها‪ ،‬ولكن يرج""ع منه""ا إلى ال""ذات الغني""ة وص""ف تتص""ف ب""ه يطلبه""ا بذات""ه‪ ،‬فان""ه ليس من‬
‫ذاته ""ا إال بمص ""احبة" ه ""ذه ال ""ذات له ""ا‪ ،‬فق ""د ص ""ح أيض ""ا الفق ""ر لل ""ذات الغني ""ة القائم ""ة بنفس ""ها كم ""ا ص ""ح‬

‫‪1‬‬
‫فانسون جوف‪ :‬روالن بارط واألدب‪ -‬تر‪:‬محمد سويرتي‪ -‬إفريقياالشرق‪-‬الدار البيضاء‪ -‬ط‪ -1994-1‬ص‪42‬‬
‫‪2‬‬
‫م‪ .‬نفسه‪ -‬ص‪43‬‬

‫‪52‬‬
‫لألخ ""رى‪ ،‬وذات ثالث ""ة رابط ""ة بين ذاتين غني ""تين‪ ،‬أو ذاتين فق ""يرتين‪ ،‬أو ذات فق ""يرة وذات غني ""ة‪ ،‬وه ""ذه‬
‫ال""ذات الرابط""ة الفق ""يرة لوج ""ود ه ""اتين ال""ذاتين‪ ...‬فلنس""م الغني""ة ذات ""ا‪ ،‬وال ""ذات الفق""يرة ح""دثا‪ ،‬وال""ذات‬
‫‪1‬‬
‫الثالثة رابطة‪ ،‬فنقول الكلم محصور في ثالثة حقائق ‪ :‬ذات وحدث ورابطة‪».‬‬

‫وتك ""ون الرابط ""ة هي الج ""انب اللغ ""وي له ""ذه الطبق ""ات املفهوماتي ""ة‪ ،‬في حين أن ال ""ذات هي هللا أي املاهي ""ة‬
‫األولى ‪ /‬األص" ""لية ‪ /‬األم‪ ،‬أم" ""ا الح" ""دث فه" ""و الع" ""الم بموجودات" ""ه؛ ع" ""الم يستعص ي علين" ""ا فهم" ""ه ووعي" ""ه‪،‬‬
‫لتك " ""ون الرابط " ""ة هي األس " ""ماء ال " ""تي تعلمه " ""ا آدم وال " ""تي ت " ""درجت اإلنس " ""انية بط " ""رق عدي " ""دة على تعلمه " ""ا‬
‫واالحتيال للتحكم فيها بشتى الحيل‪.‬‬

‫في إستراتيجية األطراس (تفكيك اللغات املتراكبة)‬

‫(الط" ""رس ‪ )palimpseste‬ش" ""بكة نص" ""ية معق" ""دة‪ ،‬ش" ""بكة تنب" ""ني على ال" ""تراكب وعلى طبق" ""ات عدي" ""دة من‬
‫الفه" " ""وم املتراص" " ""ة بفع " ""ل ال" " ""زمن‪ .‬يعي النق" " ""اد املح" " ""دثون –والح" " ""داثيون منهم على وج" " ""ه الخص" " ""وص‪-‬‬
‫األط""راس على أس""اس كونه""ا بن""اء اركيولوجي"ا" لنم""ط مح""دد من املعرف""ة‪ .‬ومفاده""ا «أن الص""ورة املجازي""ة‬
‫الرئيسية التي يس"تعملها التفكيكي"ون هي ص"ورة ق"راءة للنص"وص تش"به الكش"ف باألش"عة على الص"ور‪،‬‬
‫هذا الكشف الذي يبدي آثار الكتابة القديمة تحت الكتابة الجديدة‪ ،‬إذا وج""دنا في عملي"ة ش""رح النص‬
‫على الطريق" ""ة التقليدي" ""ة كلم" ""ات ت" ""أوي تناقض" ""ا ال يمكن حل" ""ه‪ ،‬وبحكم كونه" ""ا كلم" ""ة واح" ""دة غالب" ""ا م" ""ا‬
‫تس ""تعمل ب ""دالالت مختلف ""ة مبع ""دة ب ""ذلك االنتب ""اه عن غي ""اب املع ""نى الواح ""د‪ ،‬فإنن ""ا س ""نحط عن ""د تل ""ك‬
‫الكلم""ة‪ .‬وإذا ب""دا لن""ا أن ص""ورة مجازي""ة تخفي أو تكبت م""ا ي""ترتب عنه""ا‪ ،‬فإنن"ا" س""نحط عن""د تل""ك الص""ورة‬
‫أيض " ""ا‪ ،‬س " ""نتبع مغامرته " ""ا خالل النص وتفككه " ""ا ونكتش " ""ف أن بني " ""ة إخف " ""اء‪ ،‬موض " ""حين خروجه " ""ا عن‬
‫معاييره" " ""ا وك" " ""ذلك طبيعته" " ""ا الالمح" " ""ددة‪ ،‬لق" " ""د أعطى ديري" " ""دا منهجي" " ""ا في ق" " ""راءة»النص»يش" " ""به كث" " ""يرا‬
‫االقتراب""ات البس""يكو تحليلي""ة في مج""ال األم""راض العص""بية‪ ،‬إذا أن»الق""راءة»التفكيكي""ة بع""د اس""تنطاقها"‬
‫للنص تنف " " ""ذ من خالل خطوط " " ""ه الدفاعي " " ""ة‪ ،‬وت " " ""بين أن هن " " ""اك مجموع " " ""ة من التق " " ""ابالت الثنائي " " ""ة_‬
‫شخصي‪/‬عم""ومي‪ ،‬م""ذكر‪ /‬م""ؤنث‪ ،‬مش""ابه ‪ /‬مخ""الف‪ ،‬عقالني ‪ /‬غ""ير عقالني‪ ،‬ص""حيح ‪ /‬مخطئ‪ ،‬رئيسي ‪/‬‬
‫ث " " ""انوي‪ .....،‬الخ‪ -‬نج " " ""د الط " " ""رف األول مبجال أومفض " " ""ال أوعلوي " " ""ا‪ ،‬ويوض " " ""ح التفكيكي " " ""ون أن هوي " " ""ة‬
‫الط ""رف»املبج ""ل»تتوق ""ف على إقص ""اء الط ""رف اآلخ ""ر‪ ،‬وي ""بينون أن األولوي ""ة تع ""ود في الحقيق ""ة للط ""رف‬
‫الث""اني وليس األول‪ .‬وتتمث""ل طريق""ة دري""دا في فحص دق""ائق اللحظ""ة غ""ير املح""ددة واإلزاح""ات ال""تي تك""اد‬
‫‪1‬‬
‫محي الدين بن عربي‪ :‬الفتوحات المكية‪ -‬دار صادر ‪ -‬لبنان‪ -‬ج‪ -1‬ص‪86‬‬

‫‪53‬‬
‫تفلت من إدراك القارئ وتركيزه‪ ،‬فهو ال يبحث عن لحظ"ة االلتب"اس أو التوري"ة ال"تي تك"ون ق"د أدمجت‬
‫‪1‬‬
‫في املعنى الكلي املوحد لنظام النص فحسب بل أيضا عن اللحظة التي تهدد النظام باالنهيار حقا‪"".‬‬

‫اللغة املخلصة‬

‫ي""روي األن""ثرويولوجيون" عن أن س""كان املحي""ط األطلسي األك""ثر عزل""ة (املاوري‪ ،‬س""كان جزي""رة ‪pâques‬‬
‫التي يس"ميها أهله"ا»راب"ا ن"ووي»بمع"نى ‪ :‬مرك"ز الع"الم أو»س"رة الع"الم»يملك"ون لغ"ة مش"بعة ب"الرموز لغ"ة‬
‫بعي"دة ج"دا عن اللغ"ات األخ"رى تتك"ون من جم"ل قص"يرة ج"دا‪ ،‬أغلبه"ا يتخلص في كلم"ة أوكلم"تين فق"ط‪،‬‬
‫لغة صافية تخلصت من الشوائب‪.‬‬

‫وإذا كان الدارس يستطيع تفسير هذه البساطة املفرطة ببساطة حي""اة املاوري (عبي""د»الرج""ل الط""ائر")‬
‫ف ""ان الظ ""اهرة األش ""د جلب ""ا لالهتم ""ام هي كلم ""ات ممنوع ""ة من غ ""ير املتزوجين وال يعرفه ""ا الف ""رد في ه ""ذه‬
‫القبيلة إال في ليلة زواج"ه‪ ،‬كلم"ات خاص"ة بالت"اريخ‪ ،‬باآلله"ة ب"الجنس اآلخ"ر‪ ،‬بتقس"يم املحاص"يل‪ ،‬بح"دود‬
‫الزوج والزوجة‪...‬الخ‪ ،‬الكلمات األساسية وهذه القبائل البدائية يفسرون ه"ذه الظ"اهرة اللغوي"ة بك"ون‬
‫هذه الكلم"ات تفق"د معناه"ا إذا م"ا تعلمه"ا الص"غار‪ ،‬هي كلم"ات ال ب"د من إحاط"ة تعلمه"ا‪ ،‬هي كلم"ات ال ب"د‬
‫من إحاط""ة تعلمه""ا بقداس""ة كب""يرة (إنه""ا كلم""ات تق""ال في األذن فق""ط)‪ ،‬هي كلم""ات مخلص""ة تعين الرج""ل‬
‫واملرأة الجدي ""دين على دخ ""ول مرحل ""ة البل ""وغ واملس ""ؤولية‪ ،‬تعينه ""ا على قط ""ع الص ""لة م ""ع ع ""الم ال ""براءة‬
‫والالمب ""االة‪ ،‬وهي كلم ""ات تق ""ال س ""را وتتناق ""ل س ""را ألنه ""ا كلم ""ات مخلص ""ة تعطي مف ""اتيح الحي ""اة واملوت‪،‬‬
‫الحدود النهائية لإلنس"ان‪ ،‬كلم"ات تختص"ر علم التربي"ة والفلس"فة وعلم الاله"وت والق"وانين والدس"اتير‪،‬‬
‫وتختص ""ر الفلس ""فة كله ""ا‪ .‬ك""ل ه""ذا في ج""زر ك ""انت منقطع ""ة عن ال""دنيا انقطاع ""ا ش ""به ت ""ام ح""تى منتص""ف‬
‫الق " ""رن ‪ ،18‬أين اكتش " ""فت فتح " ""ولت تس " ""ميتها من»س " ""رة الع " ""الم»إلى»جزي " ""رة أعي " ""اد الفص " ""ح»‪ ،‬فك " ""أن‬
‫اكتش ""اف ه ""ؤالء الب ""دائيين للغ ""ات أخ ""رى غ ""ير مخلص ""ة على أي ""دي مس ""يحيين ممن يؤمن ""ون ب ""الخالص‬
‫‪2‬‬
‫أفقدهم لغتهم املخلصة فتحول عاملهم من»مركز للعالم»إلى عيد من أعياد اآلخرين‪.‬‬

‫ما اتفق مبناه واختلف معناه‬

‫‪1‬‬
‫دليل تمهيدي إلى مابعد البنيوية ومابعد الحداثة‪ -‬ص ص‪74/75‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Thomas S. Barthel: The Eighth Land: The Polynesian Settlement of Easter Island, Honolulu University of Hawaii, 1978, pp213/214.‬‬

‫‪54‬‬
‫األضداد ظاهرة لغوية فريدة‪ ،‬قد تك"ون اللغ"ة العربي"ة هي الوحي"دة ال"تي تف"ردت به"ذه ال"نزوة العجيب"ة‪،‬‬
‫كلم""ات ت""دل على املع""نى وعلى ض"ده في ال""وقت نفس"ه‪ ،‬ورغم أن»أب"ا علي الق""الي البغ"دادي األندلسي»أك"ثر‬
‫من ال " ""براهين على ع " ""دم ص " ""حة ه " ""ذا التض " ""اد‪ ،‬ورد أغلب ه " ""ذه االس " ""تعماالت إلى ته " ""افت ُجم " ""اع اللغ " ""ة‬
‫العربي""ة األوائ""ل‪ ،‬إال أن كتب األض""داد ال""تي ألفت في الق""رون األولى لل""درس الع""ربي ت""دل على االلتف""ات‬
‫املبكر ملؤلفي هذا النوع من الكتب والرسائل ذات الط"ابع املعجمي إلى ه"ذه الظ"اهرة اللغوي"ة العجيب"ة‪،‬‬
‫ب""ل إن كتب الفه""ارس ت""ذكر جمه""رة كب""يرة من اللغ""ويين الع""رب ممن اهتم""وا به""ذا الن""وع من الت""أليف ‪:‬‬
‫قط" " " ""رب‪ -‬األص" " " ""معي‪ -‬ابن الس" " " ""كيت‪ -‬ابن قتيب" " " ""ة‪ ...‬ويبقى أق" " " ""رب م" " " ""ا وص" " " ""لنا من ه" " " ""ذه الكتب إلى‬
‫الكم" ""ال»كت" ""اب" األض" ""داد»البن األنب" ""اري ال" ""ذي يق" ""ول ردا عمن أنك" ""روا وج" ""ود الظ" ""اهرة أومن اهتم" ""وا‬
‫ب ""العرب ب""النقص وعلم""اء الطالئ ""ع بالته ""افت ‪»:‬ويظن أه""ل الب""دع والزي ""غ واإلزراء ب""العرب أن ذل ""ك ك""ان‬
‫منهم لنقصان حكمتهم‪ ،‬وقل"ة بالغتهم وك"ثرة االلتب"اس في مح"اوراتهم عن"د اتص"ال مخاطب"اتهم فيس"ألون‬
‫عن ذل ""ك ويحتج ""ون ب ""أن االس ""م من ""بئ عن املع ""نى ال ""ذي تحت ""ه ودال علي ""ه وموض ""ح تأويل ""ه‪ ،‬ف ""إذا اعت ""ور‬
‫َ‬
‫"اطب‪ ،‬وبط""ل ب""ذلك مع""نى تعلي""ق‬ ‫اللفظ""ة الواح""دة معني""ان مختلف""ان لم يع""رف املخ""اطب أيهم""ا أراد املخ" ِ‬
‫االس""م على املس""مى‪ .‬ف""أجيبوا عن ه""ذا ال""ذي ظن""وه وس""ألوا عن""ه بض""روب من األجوب""ة أح""دهن أن كالم‬
‫الع" ""رب يص" ""حح بعض" ""ه بعض" ""ا‪ ،‬ويرتب" ""ط أول" ""ه ب" ""آخره‪ ،‬وال يع" ""رف مع" ""نى الخط" ""اب من" ""ه إال باس" ""تيفائه‬
‫واس""تكمال جمي""ع حروف""ه‪ ،‬فج""از وق""وع اللفظ""ة على املعن""يين املتض""ادين ألن""ه يتق""دمها وي""أتي بع""دها م""ا‬
‫يدل على خصوصية أحد املعنيين دون اآلخر»‪.1‬‬

‫اللغة في املشروع البنيوي‬

‫ط" ""الب الب" ""نيويون في غم" ""رة ت" ""ألقهم (خمس" ""ينيات وس" ""تينيات الق" ""رن ‪ )20‬بمزي" ""د من العلمي" ""ة والدق" ""ة‬
‫املنهجي""ة في تحدي""د»اللغ""ة»‪ ،‬واعتم""دوا في ذل""ك على أعم""ال»ج""اك الك""ان"‪ ،‬وخاص "ة" أعم""ال»كل""ود ليفي‪-‬‬
‫ش""تراوس"‪ ،‬وق""د عملت املقارب""ات البنيوي""ة على التش""كيل العلمي الص""ارم ملواق""ع معرفي""ة ظلت مط""وال‬
‫مي""دانا محص""ورا في املب""احث الفلس""فية‪ ،‬وذل""ك ببن""اء منظوم""ات أي تش""كيالت عام""ة ال تعم""ل عناص""رها"‬
‫التحتية إال في إطارها" (اللغة منظومة مغلقة كباقي املنظومات القابلة للتبنين)‪.‬‬

‫وعم ""ل الب ""نيويون على أن ي ""دفعوا إلى األم ""ام بالجه ""د املوض ""وعي الس ""ابق عن طري ""ق الوص ""ف ال ""دقيق‬
‫للبنى االجتماعية والثقافية املتحكمة في األداء اللغوي من أجل صياغة قوانين أكثر شموال‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫محمد بن القاسم األنباري‪ :‬األضداد‪ ،‬تحقيق‪:‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪ /‬بيروت‪ ،2006،‬ص‪13‬‬

‫‪55‬‬
‫وهك" ""ذا ب" ""دأ اإلنس" ""ان‪ ،‬ص" ""انع املع" ""اني ومهندس" ""ها‪ ،‬بالتالش ي لص" ""الح منظوم" ""ات محيط" ""ة ب" ""ه تدفع" ""ه إلى‬
‫ص""ناعة وهندس""ة مح""ددتين‪ ،‬وه""ذا ه""و املع""نى ال""ذي آلت إلي""ه ه""ذه الجه""ود‪ ،‬وال""ذي يص""وغه كل""ود ليفي‬
‫ش ""تراوس في الفص ""ول األخ ""يرة من كتاب ""ه املرجعي»الفك ""ر الب ""دائي»إذ يق ""ول إن اله ""دف النه ""ائي للعل ""وم‬
‫‪1‬‬
‫جهد مجاله الرئيسي هو التفتيت اللغوي‪.‬‬ ‫اإلنسانية ليس تشكيل اإلنسان وإنما تفتيته‪ ،‬وهو ٌ‬

‫الطاقة البدائية للغة في لحظاتها االعتباطية‬

‫في مطل ""ع العش ""رينيات من الق ""رن الف ""ائت ابتك ""ر الس ""يرياليون طرق ""ا جدي ""دة للتعام ""ل م ""ع اللغ ""ة ألج ""ل‬
‫كتابة" الشعر‪ ،‬فق"د ك"انوا يبحث"ون عن س"بل للخ"روج من بالغ"ة املاضي‪ ،‬لكس"ر هيمن"ة" النح"و املت"وارث‪،‬‬
‫لالنزي" ""اح عن م" ""ألوف الص" ""ور الش" ""عرية والق" ""والب التعبيري" ""ة‪ ،‬وك" ""انت إح" ""دى ه" ""ذه املبتك" ""رات إذن هي‬
‫الكتاب""ة اآللي""ة ‪ l’écriture automatique‬؛ ومفاده""ا أن يكتب الش""اعر تحت ت""أثير مخ""در أو م""ادة مس""كرة‬
‫أو مهلوسة من أجل إبعاد كل القوى الرقيب"ة على ال"ذهن‪ ،‬من أج"ل تحري"ر الالوعي من س"طوة ال"وعي‪...‬‬
‫وك""انت النت""ائج ج""ديرة باالهتم""ام‪ ،‬تمام""ا في ذل""ك مثلم""ا ك""انت نت""ائج ابتك""ار" آخ""ر ه""و لعب""ة الح""ظ (أو لعب""ة‬
‫ال""نرد)‪ ،‬وهي لعب""ة كتابي "ة" «تقتص""ر على كتاب""ة كمي "ة" معين""ة من الكلم""ات على أوراق مطوي""ة‪ ،‬ثم اختي""ار‬
‫ه""ذه األوراق حس""ب ترتيبه""ا الن""اتج عن اختي""ار اعتب""اطي أعمى‪ ...‬والنت""ائج في الح""التين نص""وص غامض""ة‬
‫‪2‬‬
‫غريبة مغلقة دون القارئ‪ ،‬نصوص مبهمة‪ ،‬خالية من املعاني والتراكيب واملتعارف عليها‪.‬‬

‫عم كان السيرياليون يبحثون إذن؟‬

‫ه""دفهم كم""ا يوض"حه الس""يريالي م""اكس ج""اكوب" في نص""ه»من الش""عر ‪»1922‬هواس""تعادة طاق""ة االش""تغال‬
‫الكامن" ""ة في اللحظ" ""ة الغ" ""ابرة لظه" ""ور كلم" ""ة وارتباطه" ""ا األول (األول ج" ""دا واألول تمام" ""ا) باملس" ""مى ال" ""ذي‬
‫س ""يكون ارتباط ""ا ال انفص ""ام ل ""ه‪ .‬ه ""ذه اللحظ ""ة الس ""حرية ال ""تي يمحوه ""ا االس ""تعمال املتك ""رر والع ""ادات‬
‫االس""ترجاعية" التراكمي "ة" للتوظي""ف اللغ""وي هي ال""تي ك""انت الكتاب""ة اآللي""ة أو اللعب ب""التراكيب يح""اوالن‬
‫استرجاعها بالربط األول (بشكل ما) بين كلمتين لم تعرفا ربطا من قبل‪ .‬ثم تكون شرعية ه""ذا ال"زواج‬
‫هي الفن‪ ،‬هي قداسة اإلبداع‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Claude Lévi-Strauss : la pensée sauvage. Plon, Paris, 1996, p259.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Henri Lemaitre : la poesie depuis baudelaire , Armand Colin, Paris, pp147‬‬

‫‪56‬‬
‫وإذا ك""انت ه""ذه النص""وص لم تف""رض م""ا فرض""ته اللغ""ة املتوارث""ة من كهرب""اء التلقي‪ ،‬ولن تفع""ل طبع""ا‬
‫‪1‬‬
‫فان التجربة جديرة بالتوقف واملعاينة‪".‬‬

‫بمثابة الخالصات‬

‫ال تتوج" ""د خالص" ""ة واض" ""حة للغ" ""ة‪ .‬الخالص" ""ة الوحي" ""دة هي تل" ""ك ال" ""تي تحي" ""ل على أرض اللغ" ""ة بامتي" ""از‪:‬‬
‫اإلنسان‪ .‬لقد كان هايديغير دائم"ا يفض"ل الش"عر على ب"اقي الخطاب"ات ملا ل"ه من الق"درة على أن يول"د من‬
‫جدي ""د‪ .‬كالم يس ""تطيع أن يك ""ون لنفس ""ه أونطولوجي ""ا متج ""ددة ب ""دال من التح ""ول إلى ابس ""تمولوجيا والى‬
‫لوغوس ثابت مؤطر‪.‬‬

‫من جه""ة ثاني"ة‪ ،‬ف""إن التأم""ل في اللغ""ة يط""رح مس"ألة الحقيق""ة طرح"ا عميق"ا؛" ه"ذه الحقيق"ة املتجلي"ة ع"بر‬
‫أط" ""وار‪ ،‬أو املتكش" ""فة ع" ""بر اللغ" ""ة كم" ""ا يق" ""ول هاي" ""ديغير دائما ‪ ،‬ويحيلن" ""ا ك" ""ل ذل" ""ك على الس" ""مات القلق" ""ة‬
‫‪2‬‬

‫أنطولوجي""ا ال""تي تس"كن اللغ""ة‪ ،‬س""مات ك""انت ق""د دارت حوله""ا أس""ئلة نيتش""ه الباحث"ة" في الص"لة املتس""ائلة‬
‫عن الصلة بين الحقيقة واملجاز‪ ،‬فقد كان يق"ف إزاءه"ا متش"ككا مرتاب"ا‪ ،‬كأن"ه يتق"اطع م"ع الواق"ع في ك"ل‬
‫لحظ ""ة ويمارس" "ه" وه ""و يلتص ""ق ب ""ه‪ ،‬ولكن ""ه يحاف ""ظ على وعي ""ه امله ""ووس بمحدودي ""ة الواق ""ع إزاء اللغ ""ة‪.‬‬
‫محدودي ""ة رأيناه "ا" أعاله تتجلى عكس ""يا في ارتب ""اك عم ""ل اللغ ""ة إزائ الواق ""ع والحقيق ""ة‪.‬وه "و" ال ""ذي ك ""ان‬
‫يتس""اءل‪»:‬م""ا الحقيق""ة إذا؟ جيش متح""رك من الص""ور املجازي "ة" ومن الكناي""ات وخل""ع الص""فات البش""رية‬
‫على الجم" " ""اد؟ أم أن الحق " ""ائق أوه " ""ام نس" " ""ينا أنه" " ""ا أوه" " ""ام؟‪ ...‬قط " ""ع نقدي " ""ة انمحى منه" " ""ا الوج " ""ه اآلخ " ""ر‬
‫فاستحالت قطعا معدنية ال قيمة لها‪.«3‬‬

‫وق""د كرس""ت الفلس""فات الحديث""ة على اختالف مش""اربها فك""رة تع""دد املع""اني ه""ذه ال""تي بش""ر به""ا نيتش""ه‪،‬‬
‫فه ""و يق ""ول إن الفلس ""فات القديم ""ة كله ""ا ك ""انت تتخ ""ذ اللغ ""ة وس ""يلة للبرهن ""ة على انس ""جامها والغ ""رض‬
‫تماس""ك بنيانهـا‪ ،‬وك""انت اللغ""ة غ""ير منفصلـة عن املنط""ق والعق""ل والع""رف الع""ام والحقيق""ة‪ ،‬وك""ل ذل""ك‬
‫‪1‬‬
‫‪Ibid., p148‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Martin Heidegger : Introduction en la métaphysique, trad. Pascal David, , Ed. du Seuil, Paris, coll.»Points-‬‬
‫‪Essais»(2005), p. 67.‬‬
‫‪ 3‬ساروب‪ ،‬مادان ‪ :‬دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية ومابعد‪ ƒ‬الحداثة‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪57‬‬
‫ي ""دخل تحت مظلـة اللوغ ""وس ‪Logos‬؛ ه ""ذا األخ ""ير ال ""ذي اكتش ""فت الفلس ""فة من ""ذ الث ""ورات الحديث ""ة ‪-‬‬
‫س""واء منهـا العقلـي والتق""ني ‪ -‬أن""ه أق""ل يقيني""ة مم""ا كن""ا نعتق""ده علي""ه‪ ،‬وفي ه""ذا الس""ياق يالح""ظ الجمه""ور‬
‫الفلس" " " ""في أن الفلس " " ""فة ‪ -‬من أفالط" " " ""ون إلى وقتن " " ""ا الحاض " " ""ر – ق" " " ""د عملت على التعام" " " ""ل بن " " ""وع من‬
‫اإلزدواجي""ة م""ع اللغ""ة‪ ،‬فهي تكبت فك""رة مجازي""ة اللغ""ة بطبيعته""ا وبش""كل مف""روغ من""ه رغم ن""زوع اللغ""ة‬
‫الفلس""فية إلى اس""تعمال الص""ور املجازي""ة م""ع التس""تر عن ذل""ك‪ .‬وه""ذه االعتب""ارات هي ال""تي س""تدور حوله""ا‬
‫مباحث الخطاب والتفكيك والجينيالوجيا" لدى ميشال فوكو و جاك ديريدا وكل من حذا حذوهما‪".‬‬

‫على ي""د ثالث""ة قادتن""ا الت""أمالت ال""تي طورناه""ا في ه""ذا البحث الش""ذري ص""وب تأم""ل طرائ""ق اش""تغال اللغ""ة‬
‫من حيث بناؤها أوال‪ ،‬فاللغة ظاهرة مشاغبة‪ ،‬لعبية‪ ،‬طفولية مناورة‪ ،‬عاقلة حكيمة‪ .‬إنها هالمي""ة ألنن""ا‬
‫كلم ""ا ظنن ""ا أنفس ""نا أحطن ""ا به ""ا إحاط ""ة ش ""املة وج ""دنا أنفس ""نا دون محاص ""رتها بالق ""در ال ""ذي أردن ""اه أول‬
‫األم"ر‪ ،‬وهي طفولي"ة من زاوي"ة أخ"رى‪ ،‬كث"يرة التقلب‪ ،‬مزاجي"ة الظه"ور والتح"ول من ح"ال إلى ح"ال‪ "،‬ثم‬
‫هي عاقل " ""ة حكمي " ""ة إذا م " ""ا حللناه " "ا" تحليال عميق " ""ا للكش " ""ف عن الطبق " ""ات التحتي " ""ة ألداه " ""ا‪ .‬ثم قادتن " ""ا‬
‫الت""أمالت في مرحل""ة الحق "ة" ص""وب إلق""اء الض ""وء على أث ""ر اللغ ""ة في الفض""اء اإلب ""داعي الح ""داثي وم ""ا بع ""د‬
‫الح""داثي أيض""ا‪ .‬و الواق""ع ه""و أن املتتب""ع يج""د نفس""ه هن "ا" أم""ام ثالث مق""والت محوري""ة في ع""الم الحداث""ة‪:‬‬
‫مركزي ""ة اللغ ""ة‪ ،‬نس ""بية اليقيني ""ات‪ ،‬آني ""ة التجرب ""ة ال ""تي تتخ ""ذ اللغ ""ة اآلني ""ة مركب ""ا له ""ا‪ .‬وق ""د يك ""ون من‬
‫الج" ""دير بال" ""ذكر أن نق" ""ول إن م" ""ا بع" ""د الحداث" ""ة اس" ""ترجعت ه" ""ذه القيم رغم خروجه" "ا" ك" ""رد فع" ""ل ض" ""د‬
‫الحداثة‪ ،‬ولهذا االسترجاع داللة قوية ترتبط بصالبة الصلة بين التجربة افنسانية واألداء اللغوي‪.‬‬

‫وليس خل ""وا من األهمي "ة" أن نش ""ير إلى أن فيلس ""وفا أعلن الحداث ""ة مث ""ل نيتش ""ه يس ""م بميس ""مه فالس ""فة‬
‫متن" ""افرين فك" ""را وس" ""لوكا واتجاه" ""ا سياس" ""يا مث" ""ل برغس" ""ون أوال‪ ،‬ثم ميش" ""ال فوك" ""و‪ ،‬ج" ""ان فرانس" ""وا‬
‫ليوط ""ار‪ ،‬ج ""اك ديري ""دا و جي ""ل دول ""وز‪ ،‬و إذا ك ""ان ه ""ؤالء األخ ""يرون منتمين إلى جي ""ل واح ""د ف ""إن بينهم‬
‫تباين""ا كب""يرا يجع""ل ليوط""ار مناض""ال يس""اريا ويجع""ل ميش""ال فوك""و معارضـا شرسـا لك""ل أن""واع الخض""وع‬
‫للهياكـل واملؤسسـات االجتماعيـة والسياسيـة‪.‬‬

‫من وجه ""ة نظ ""ر (وتأم ""ل) رابع ""ة س ""نجد أن ""ه ب ""رغم ك ""ون مجم ""ل فلس ""فة نيتش ""ه محتوي ""ا على م ""ا ين ""اقض‬
‫أفك ""ار الحداث ""ة ‪ -‬كمـا وصلتنـا ‪ -‬إال أن كث ""يرا من أفك ""اره نج ""د ص ""داه في أص ""وات الس ""يرياليين مثال وهم‬
‫جماع""ة تمث""ل الحداث""ة تم""ثيال ص""اخبا‪ "،‬من جه""ة‪ ،‬وجي""دا من جه""ة أخ""رى‪ .‬وإن ك""ل مطل""ع على نص""وص‬
‫السيرياليين يق"رب إلى أن"دري بريت"ون أو ب"ول إيل"وار أو فيليب س"وبو كالم"ا مث"ل ه"ذا الكالم ال"ذي يق"ال‬
‫في ح""ق نيتش""ه‪»:‬إن انس""جام و تماس""ك نظ""ام معين ال يش""كل ض""مانا للحقيق""ة في""ه‪ ،‬واعتم""د (نيتش""ه) في‬

‫‪58‬‬
‫هجوم " " ""ه على األنظم " " ""ة والنظامي " " ""ة على رفض الالعقالني " " ""ة ال " " ""تي تكمن في ع " " ""دم مناقش " " ""ة األنظم " " ""ة‬
‫للمسلمات‪ ،‬ففي نظره ليس العلم نظاما مغلقا ال ذاتيا بل هو بحث متحمس عن املعرفة‪.«1‬‬

‫النقط" ""ة املركزي" ""ة الخامس" ""ة ال" ""تي دار حوله" ""ا ه" ""ذا املق" ""ال وال" ""تي هي نقط" ""ة واس" ""عة الج" ""وانب متش" ""عبة‬
‫املش " ""ارب هي النقط " ""ة ال " ""تي نج " ""د اللغ " ""ة عن " ""دها متص " ""لة ب " ""املعيش‪ ،‬بتج " ""ارب اإلنس " ""ان‪ ،‬ال " ""نزوع ص " ""وب‬
‫االستعصاء على النمذجة والتنمي"ط‪ ،‬ثم العم"ل في نهاي"ة األم"ر على ص"ناعة حي"اة ق"د توص"ف بأنه"ا حي"اة‬
‫مختزل ""ة في اللغ ""ة كم ""ا يص ""ر على ذل ""ك أعالم مث ""ل فيتغنش ""تاين وفوك ""و‪ .‬وفي ه ""ذا االتج ""اه يق ""ول روالن‬
‫روالن ب""ارط‪»:‬كتاب""ة طبق""ة اجتماعي"ة و ملا ك""انت ق""د ول""دت في الق"رن الس"ابع عش"ر وس"ط فئ"ة متمرك""زة‬
‫مباش ""رة ح ""ول الس ""لطة‪ ،‬و تك ""ونت بق ""رارات دوغماتي ""ة‪ ،‬و طه ""رت س ""ريعا من جمي ""ع الطرائ ""ق النحوي ""ة‬
‫ال""تي أنش""أتها الذاتي""ة التلقائي""ة لإلنس""ان الش""عبي و روض""ت‪ ،‬بعكس ذل""ك‪ ،‬علـى وض""ع التحدي""دات‪ ،‬فـإن‬
‫الكتابـة البورجوازيـة ق ""د ق ""دمت أول األم ""ر باالس ""تخفاف املعه ""ود عن ""د االنتص ""ارات السياس ""ية األولى‬
‫على أنها لغة طبقة أقلية محظوظة‪».2‬‬

‫وإذا ك""ان ال ب""د من خالص"ة للخالص""ة ف"إن اللغ""ة به"ذا املع""نى ومثلم""ا اتض"ح من خالل األق"اليم ال""تي م""رت‬
‫به" ""ا ه" ""ذه الدراس" ""ة عملت دائم" ""ا عمال مزدوج" ""ا‪ :‬دف" ""ع عتب" ""ات التجرب" ""ة اإلنس" ""انية إلى أبع" ""د ح" ""د ممكن‪،‬‬
‫وحض""انة التج""ارب املختلف""ة ال""تي تم""ر بمس""تعمل اللغ""ة ال""ذي ه""و ذات وموض""ع له""ا – ب""املفهوم الفلس""في‬
‫ال ""رائج في الدراس ""ات الثقافي ""ة‪ "،‬واملص ""ر على عم ""ل ال ""وعي والت ""دخل في الع ""الم والخ ""وض في ""ه بمختل ""ف‬
‫األش ""كال جنب" "ا" إلى جنب م ""ع عم ""ل الالوعي ال ""ذي عم ""ل الق ""رن العش ""رون على رس ""م خطاطات ""ه الكث ""يرة‬
‫املتنوع""ة‪ .‬وك""ل ذل""ك يحيلن""ا على م""برر ‪-‬أو ض""رورة‪ -‬التن""اول الش""ذري على طريق""ة روالن ب""ارط‪ .‬تن""اول‬
‫يحيل على موض"وعات ال يس"توفيها الع"رض الفلس"في الكالس"يكي لتن"وع جوانبه"ا وت"داخلها بق"درما تفي"د‬
‫فيه""ا مراكم""ة التج""ارب دون ادع""اء اإلطالق وال ادع""اء الحقيق""ة‪ ،‬وبعي""دا عن ادع""اء جوام""ع الق""ول –كم""ا‬
‫يق ""ول الرس ""ول محم ""د‪ -‬أو الق ""ول الفص ""ل – كم ""ا يق ""ول أب ""و الولي ""د بن رش ""د‪ ،-‬أو املف ""ردات النهائي ""ة –‬
‫حسب مصطلح ريتشارد رورتي‪.-‬‬

‫‪ 1‬ساروب‪،‬مادان ‪ :‬دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد‪ ƒ‬الحداثة‪ ،‬ص ‪.129‬‬
‫‪ 2‬روالن بارط‪ :‬الدرجة الصفر للكتابة‪ ،‬تر‪ :‬محمد برادة‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،1982 ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪59‬‬
‫أفق النص‬

‫النص من منظور الدراسات الثقافية‬

‫من القاعدة اللغوية إلى اللعبة الكالمية‬

‫لقد مرت اللغة في الضاحية العربية بمرحلة بدا وكأن الوعي العلمي بها كان وعيا تلقائيا أو نوعا من‬
‫الوعي الحاصل بقوة األشياء كما يقول املناطقة‪ ،‬فلم يعمد العربي إلى تدوين معرفته تلك لعدم‬
‫شعوره بالحاجة إلى تدوينها‪ ،‬ولشعور العربي املتعاطي للغته بالكفاية التامة من وجهة النظر‬
‫الوظيفية ملا أوتي من علم ببليغها ومهلهلها‪ ،‬بغريبها وبجمهورها‪ "،‬كفاية لم تتزلزل أركانها إال بمجيء‬
‫الدين اإلسالمي ذي النزعة اإلنسانية الكونية‪ ،‬نزعة دفعت األمور صوب ضرورة تحويلها من لغة‬
‫منغلقة الدائرة إلى لغة كونية يحتاج املسلمون الجدد الواردون على األمة اإلسالمية إلى تعلمها‬
‫كشرط ضروري لتعلم مبادئ الدين ومعرفة شرائعه وحتى أداء شعائره‪.‬‬

‫منذ عصر النبي صلى هللا عليه وسلم تنبه املستعملون إلى ورود اللحن على ألسنة املوالي الذين لم‬
‫تكن اللغة العربية بالضرورة لغة أمهم وال حتى لغة مهدهم‪ .‬وكانت نتيجة شيوع اللحن هي ضرورة‬
‫نشوء علم النحو الذي من طريف املعلوم في أمره أنه مصطلح مرتبط باملدرسة النبوية (خبر ابي‬
‫األسود الدؤلي مع علي بن أبي طالب رضي هللا عنهما)‪.‬‬
‫ومن الجدير بالذكر ُّ‬
‫تنبه العلماء األوائل إلى تعدد مدارج اللغة من حيث وعيهم بــمختلف أشكال‬
‫الرسائل اللغوية التي يتضمنها التواصل أو االنتاج النصي‪.‬‬

‫فكان" أن دار سؤال عميق بين علماء األصول حول مفهوم الجملة مقربين اياه من خامات الكالم‬
‫كلفظ مستقل حامل ملعناه‪ .‬وهو الذي يسميه النحويون الجمل ويستدلون عليه دائما باملثل‬
‫الشهير نحو " زيد أخوك‪ ،‬وقام محمد‪ ،‬وضرب سعيد‪ ،‬وفي الدار أبوك‪ ،‬وصه ومه ورويدا… فكل‬
‫لفظ استقل بنفسه وجنيت منه ثمرة معناه فهو كالم "‪ . . .1‬فكأن الجملة هي الصورة النظامية‬

‫ابن جني‪ ،‬أبو الفتح ‪ :‬الخصائص مصر‪ ،‬ط‪ ،2010 ،4‬ج ‪ ،1‬ص‪18‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪60‬‬
‫للكالم‪ ،‬أو ال تصور املنهجي له‪ ،‬وهو تصور منطقي من حيث كون الجملة هي املجمل من الكالم‬
‫الذي يشكل وحدة مستقلة حاملة ملعنى تام غير منقوص‪.‬‬

‫ويحدد ابن هشام مفهوم الجملة بمنظار اللساني املعاصر‪ ،‬فعلم اللساني وضع أساسات علمية‬
‫ملنطلقاته املنهجية عندما أوضح الحدود الفارقة بين اللغة والكالم‪ ،‬مثلما أثبتها دي سوسير في كتابه‬
‫دروس في اللسانيات العامة إن "الكالم هو القول املفيد بالقصد‪ ،‬واملراد باملفيد ما دل على معنى‬
‫يحسن السكوت عليه "‪ . 1‬وهو مفهوم سيرثه كل الدارسين في املراحل املوالية من تطور اللسانيات‪.‬‬

‫يحسب للعرب الوقوف الذكي عند حدود عمليات اإلسناد التي أدت إلى تقسيم الجملة من قبل‬
‫النحاة اآلباء إلى جملة اسمية وأخرى فعلية من حيث موقع املسند واملسند إليه وما ينتج عنهما من‬
‫تبعات الفعل والعمل واألثر على املعنى‪ ،‬وهي عالقات موضعية ومنطقية حددها اللغويون بدقة‬
‫متناهية‪ :‬صالت القرائن املعنوية ؛ وقد حصروها في اإلسناد أساسا‪ ،‬وكذلك عالقات التخصيص‬
‫‪2‬‬
‫والنسبة والتبعية‪  ‬واملخالفة‬

‫وبعد مفهوم "الجملة" عند ابن جني‪ ،‬وهو املفهوم املقابل "للقول" عند سيبويه‪ ،‬نجد جار هللا‬
‫الزمخشري يعرف الكالم بأنه "املركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى األخرى… وذلك ال يتأتى إال في‬
‫اسمين كقولك زيد أخوك‪ ،‬وبشر صاحبك أو في فعل واسم نحو قولك ضرب زيد وانطلق بكر‬
‫ويسمى جملة "‪ . . .3‬إنه تصور للغة يدل على كثير من العمق ومن االستباق الزمني أثناء فهم‬
‫االشتغال اللغوي‪ ،‬خصوصا ونحن نتأمل كل ذلك من أعلى هضبة القرن العشرين؛ قرن يعلم جيدا‬
‫درجة صعوبة الظاهرة اللغوية‪.‬‬

‫نورد فيما يلي نصا جميال يبين ما نحن بصدده ونحن نحاول الوقوف عند وعي علماء الصول بدرجة‬
‫التعقيد الكبيرة التي تكتنف الظاهرة اللغوية؛ فاللغة التي هي دفتر صوتي للروح البشرية قد اتخذت‬

‫ابن هشآم‪ ،‬جمال الدين ‪ :‬مغني اللبيب عن كتب األعاريب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،1964 ،‬ص ‪.490‬‬ ‫‪1‬‬

‫حسان‪ ،‬تمام ‪ :‬اللغة العربية معناها ومبناها‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬المغرب‪ ،2000 ،‬ص ‪189‬‬ ‫‪2‬‬

‫الزمخشري‪ ،‬أبو القاسم‪ :‬المفصل في صنعة اإلعراب‪ ،‬دار الهالل‪ ،‬مصر‪ _ 1993 ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪61‬‬
‫عدة مصطلحات ومفاهيم تبيين جيدا الوعي األصولي بتعدد وجوه هذا الكائن الذي يحدث أن نسميه‬
‫بطريقة عفوية "اللغة"‪.‬‬

‫" اللغة وهي أقدم املصطلحات‪ .‬قيل عن أبي زيد األنصاري (ت‪215‬هـ) ‪ :‬كان أبو زيد أحفظ الناس‬
‫للغة‪ .‬واملقصود هنا بكلمة اللغة ‪ :‬مجموع املفردات ومعرفة دالالتها‪ .‬وبهذا املعنى كانت كتب‬
‫الطبقات ّ‬
‫تميز بين املشتغلين بالنحو أو العربية من جانب واملشتغلين باللغة من الجانب اآلخر‪ .‬لذا‬
‫عد األصمعي (ت‪216‬هـ) من اللغويين‪.‬‬ ‫عد سيبويه (ت ‪180‬هـ) واملبرد(ت‪285‬هـ) من النحاة‪ ،‬بينما ّ‬
‫ّ‬

‫وقد ظل استخدام كلمة اللغة بهذا املعنى عدة قرون‪ ،‬وأصبح اللغوي هو الباحث في املفردات جمعا‬
‫وسجلها في رسائل لغوية ّ‬
‫مصنفة في‬ ‫وتصنيفا وتأليفا‪ ،‬فاألصمعي" لغوي ألنه جمع ألفاظ البدو ّ‬

‫موضوعات داللية‪ ،‬وابن دريد (ت‪321‬هـ) لغوي ألنه ألف معجمه (جمهرة اللغة)"‪.1‬‬

‫وهذه األفكار تبين نوعا عاليا من الوعي بالظاهرة اللغوية من حيث التقسيم وأسسه املتعددة التي‬
‫هي حينا مرتبطة بالبناء الداخلي – وهو هاجس بنيوي يظهر بقوة في كتاب سيبويه‪ ،‬وسيرثه عبد‬
‫القاهر الجرجاني الحقا" أثناء وضع أسس نظرية النظم‪ ،-‬وحينا بالوظائف الداخلية – كما هي‬
‫الحال أثناء الحديث عن نظرية العامل مثال‪ ،-‬أو حتى بالجوانب الطارئة على الرسالة اللغوية على‬
‫املستوى الكالمي – حسب التقسيم السوسيري‪-‬؛ سواء في ذلك املتكلمون األفذاذ من البلغاء‬
‫واملتكلمون العاديون وهو ميدان ستدور حوله البالغة في زمن أول ثم التداولية حديثا‪".‬‬

‫إن موضوع دراستنا هو الوقوف عند الحد الرابط بين املفهوم القديم الذي دار أساسا حول‬
‫محاولة فهم التواصل املقدس ( فهم النص القرآني عندنا نحن العرب املسلمين مثال) فهما تكتنفه‬
‫جدية كبيرة يقتضيها السياق املقدس‪ ،‬وبين املفهوم املعاصر للعبة الكالمية الذي يبدأ عملية كسر‬
‫الجدية والصرامة التي لم يعد لها مبرر بعدما انفصل علم اللغة ومعه علم البالغة نهائيا عن‬
‫النصوص املقدسة‪ ،‬بحيث يمكننا أن نالحظ شيوع االستشهاد الشعري لدى املتأخرين من علماء‬
‫النحو والبالغة في محاولة لخلق مسافة بين علم اللغة وعلوم القرآن‪.‬‬

‫يفيدنا كثيرا في هذه املساءلة العلمية أن نقف عند املثال الشهير الذي أورده سوسير الذي هو "لعبة‬
‫الشطرنج" من أجل الداللة على طريقة عمل اللغة من الداخل‪.‬‬

‫‪ - 1‬الضامن‪ ،‬حاتم صالح ‪ :‬علم اللغة‪ .‬مطبعة التعليم العالي‪ .‬العراق‪ .1989 .‬ص ص ‪32-31‬‬

‫‪62‬‬
‫يلخص صالح فضل ما نود الذهاب إليه بشكل جيد إذ يقول‪" :‬إذا كانت اللغة عند سوسير نظاما من‬
‫الرموز ال يعرف سوى قوانينه الخاصة املميزة فإنه يقارنها أكثر من مرة بلعبة الشطرنج لتوضيح‬
‫خصائصها‪ "،‬فيدعو إلى التمييز في دراسة اللغة بين العناصر الداخلية فيها والعناصر الخارجية" عنها‪،‬‬
‫فعندما نؤرخ للعبة الشطرنج فندرس" انتقالها من إيران إلى أوربا فإن هذا يعتبر شيئا خارجيا‪ "،‬أما‬
‫عندما ندرس نظامها وقوانينها فإننا حينئد أمام عناصرها الداخلية‪ ،‬كذلك لو ّبدلنا قطع الشطرنج‬
‫الخشبية بأخرى من العاج لم ّ‬
‫يمس هذا نظام اللعب الداخلي‪ ،‬أما لو انتقصنا من عدد القطع أو‬
‫زدنا عليها لكان لذلك تأثيره العميق في قواعد اللعب‪ .‬ويمضي في هذه املقارنة األثيرة لديه بين اللغة‬
‫والشطرنج باعتبار كل منهما نظاما من القيم يخضع لتعديالت طارئة على النحو التالي ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬وضع رقعة الشطرنج في حالة ما يطابق تماما وضعا ّ‬
‫معينا للغة‪ ،‬لذلك فإننا نجد أنه إذا كانت‬
‫قيمة كل قطعة تتوقف على موقعها في الرقعة فكذلك األمر في اللغة إذ تتوقف قيمة كل كلمة على‬
‫مقابلتها بغيرها من الكلمات‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬ال بد أن يكون النظام القائم في حالة ما مؤقتا حيث ال يلبث أن ّ‬
‫يتغير إلى وضع آخر‪ ،‬إال أن‬
‫جميع القيم تتوقف على عرف ثابت مسبق‪ ،‬وهو قواعد اللعب التي توجد قبل بداية اللعب وتظل‬
‫قائمة بعد انتهاء كل مباراة‪ ،‬هذه القواعد املقررة دائما توجد في اللغة وهي مبادئها الثابتة‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬لكي يتم االنتقال من حالة توازن إلى أخرى‪ ،‬أي من حالة وصفية إلى أخرى يكفي تحريك‬
‫قطعة واحدة‪ ،‬فال يحدث ّ‬
‫تحرك شامل دفعة واحدة وهنا نعثر على ما يوازي بالضبط عمليات‬
‫التطور التاريخية ‪:‬‬

‫كل لعبة في الشطرنج تتمثل في تحريك قطعة واحدة فحسب‪ ،‬كذلك في اللغة ال تطرأ التغييرات‬ ‫أ‪-‬‬
‫إال على عناصر منعزلة‪.‬‬
‫وبالرغم من ذلك فإن لكل لعبة نتائج تمس النظام بأكمله‪ ،‬حتى يستحيل على الالعب أن‬ ‫ب‪-‬‬
‫يتوقع بدقة جميع النتائج التي ستنجم عنها فقد تكون خطيرة أو متوسطة أو ضئيلة طبقا‬
‫للظروف‪ ،‬وقد تؤدي لعبة واحدة إلى انقالب في املباراة‪ ،‬وتؤثر حتى في القطع التي كان يبدو‬
‫للوهلة األولى أنها بعيدة عن العملية‪ ،‬ومثل هذا يحدث كذلك في اللغة‬
‫يعتبر نقل قطعة ما فوق رقعة الشطرنج عمال مختلفا متميزا عن حالتي التوازن السابق‬ ‫ت‪-‬‬
‫والالحق فالتغيير الحادث ال ينتمي إلى أي منهما بحال وما يهم في واقع األمر إنما هو تلك الحاالت‬

‫‪63‬‬
‫في مباراة الشطرنج نجد أن الخاصية املميزة ألي وضع نركز انتباهنا عليه إنما هو استقالله عن‬ ‫ث‪-‬‬
‫األوضاع السابقة عليه‪ ،‬فالذي يتابع جميع مراحل املباراة ال يختلف في لحظة معينة عن‬
‫الفضولي الذي يطل ويلقي نظرة عابرة على الرقعة‪ ،‬كل منهما يرى الوضع بأكمله ويستطيع أن‬
‫يحدس بما سيحدث‪ ،‬وكذلك األمر في اللغة‪ ،‬مما يوضح لنا الفروق بين الطرق الوصفية‬
‫‪1‬‬
‫والتاريخية‪ ،‬املتكلم ال يمارس عمليات الكالم إال طبقا لوضع معين من أوضاع اللغة"‬

‫يهمنا في هذا املقام ان نقوم بمراجعة املسار الذي قاد النظر صوب اللغة من حيث فلس""فتها أص""ال‬
‫من""ذ النظ""رة املادي""ة التجريبي""ة ال""تي اجترحه""ا سوس""ير ح""تى النظ""رة الوض""عية املادي""ة التحليلي""ة ال""تي‬
‫وص" ""لها توص" ""يف الع" ""الم الكب" ""ير لودفي" ""غ فيتجنش" ""تاين على اعتب" ""ار كون" ""ه أح" ""د أهم من نظ" ""ر للغ" ""ة‬
‫وجوهرها في العصر الحديث‪.‬‬

‫س""نحاول في م""ا يلي الترك""يز على عم""ل فيتجنش""تاين من منطل""ق أن""ه األمث""ل للدالل""ة على املس""ار اللس""اني‬

‫الذي اخترناه لهذه الدراسة والذي يدور حول األلعاب الكالمية‪.‬‬

‫هنال" ""ك من لخص فلس" ""فة فيتجنش" ""تاين اللغوي" ""ة ونظريت" ""ه الش" ""هيرة ح" ""ول اللعب" ""ة الكالمي" ""ة كأمثول" ""ة‬

‫رمزي ""ة تخ ""تزل عالق ""ة املرء باللغ ""ة والنش ""اط التواص ""لي بتعب ""ير في غاي ""ة البس ""اطة وفي قم ""ة الفعالي ""ة‪ :‬ال‬

‫مع" ""نى بال فائ" ""دة‪ .‬واللعب يص" ""بح يحق" ""ق الفائ" ""دتين الل" ""تين هم" ""ا اإلنج" ""از حس" ""ب قواع" ""د تتج" ""اوز الف" ""رد‬

‫وكذلك تحقيق رضا اإلنجاز الجيد الذي يشعر به اي العب مع أية لعبة في العالم‪.‬‬

‫في كتابه" "أبحاث فلسفية" يطرح فتجنشتاين السؤال الجوهري ‪ :‬ما هي أنواع الجمل؟… إذ يالحظ م""ع‬

‫قارئ " "ه" بأن " ""ه يوج " ""د م " ""ا ال ع " ""د ل " ""ه من أص " ""ناف الجم " ""ل؛ وهي أن " ""واع تض " ""م إلى الك " ""ثرة عام " ""ل التش " ""تت‬
‫‪2‬‬
‫واالختالف بحيث يصعب حصرها" في إطار قواعد من ذلك النوع الذي درجنا على دراسته‪.‬‬

‫س""يقود ه""ذا التأم""ل كم""ا ك""ان ورد عن""ده إلى مقابل""ة فكرت""ه الس""ابقة في كتاب""ه وه""و بع""د ش""اب في مقتب""ل‬

‫العم"ر "رس"الة منطقي"ة وفلس"فية" وال"تي مفاده"ا أن ك"ل عنت الفلس"فة يت"أتى من االنتق"ال التعس"في من‬

‫‪ - 1‬فضل‪ ،‬صالح‪ :‬وجوه المقارنة بين دراسة اللغة ولعبة الشطرنج‪ T.‬انظر ‪ :‬عبد السالم المسدي ‪ :‬اللسانيات من خالل النصوص‪ ،‬الدار‬
‫التونسية للنشر‪ ،1984 ،‬ص ‪63-61‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Wittgenstein, Ludwig, philosophical lnvestigations, Blackwell, london 1953, p. 23‬‬

‫‪64‬‬
‫املع""اني الواح""دة األحادي""ة للكلم""ات – تل""ك املع""اني ال""تي يعرفه""ا القاصي وال""داني – ص""وب مع""ان ت""دعي‬

‫لنفس ""ها مق ""ام التعقي ""د الفلس ""في ال ""ذي ه ""و محض وهم تض ""خم لت ""اريخ طوي ""ل ع ""ريض ليش ""كل ج ""وهر‬
‫ّ‬ ‫اإلشكاليات الفلسفية‪ .‬يقول بأن ّ‬
‫فإن"ه على‬
‫"أن اللغة لها وجه واحد ذو معنى‪ ،‬وبحسب هذه النظري""ة "‬

‫ال""رغم من محدودي""ة املف""ردات لكن القض""ايا واألق""وال غ""ير مح""دودة‪ ،‬أم""ا من ناحي""ة املحت""وى واملع""نى‬
‫‪1‬‬ ‫ف" " ّ‬
‫"إن اللغ" ""ة هي تجس" ""يد للواق" ""ع‪ ،‬ونحن بإمكانن" ""ا التح" " ّ"دث عن اللغ" ""ة ال" ""تي تص" " ّ"ور الوق" ""ائع فحس" ""ب"‬

‫والخالصة هي ان اللغة والواقع شيء واحد‪.‬‬

‫إن ادعاء ابستيمولوجيا كهذا من شأنه أن يغير نظام تقويمنا وكل أرضيات تفكيرنا وقدرتنا على‬

‫الحكم‪ ،‬فإذا تطابق الفكر مع اللغة تطابقا ينفي تماما وجود فكر بال لغة فمعناه أن اللغة نفسها‬

‫ستعوض في وقت "تحليلي" الحق امليتافيزيقا‪ ،‬بل لربما تصبح هي نفسها ضربا من ضروب‬

‫امليتافيزيقا‪".‬‬

‫لقد مر تفكير فيتجنشتاين بمرحلة "منطقية"" سادها املنطق الرياضي اين كان تصوره دور الكلمات‬

‫املتراتبة في كنف الجملة الواحدة بمثابة مجموعة من الصور للشيء الواحد‪ :‬شارع او مشهد مركب؛‬

‫بحيث ال يكون للمكون اللغوي املفرد معنى خارج" التركيب أو الشكل الكلي؛ أو املعنى اإلجمالي‪. . ".‬‬

‫وهي نظرة فلسفية تامة الجدة بالنسبة للميراث اللغوي الذي لم يقل بهذا ال لدى قدامى وال لدى‬

‫محدثين‪.‬‬

‫ستؤثر الفلسفة التحليلية في فكر فتجنشتاين بعمق فيجعل – في مرحلة الحقة‪ "-‬يتأمل جوهر اللغة‬

‫كحادثة عرضية خالية من كل جوهر‪ "،‬بمعنى انه ال يوجد بعد ماهوي للغة‪ ،‬وال يوجد لها معنى‬

‫نهائي وال معنى محدد سلفا‪ ،‬فال بعد لها إال في إطار استعمالنا لها‪. . .‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Wittgenstein, Ludwig, Tractatus logico – philosophico, Routledge, london, 1982,‬‬
‫‪ed5, p102‬‬

‫‪65‬‬
‫س""يتطور ه"ذا املنظ"ور ل""دى فتجنش"تاين دون أن يتح"ول إلى شيء من""اقض تم""ام املناقض""ة له""ذه الخلفي"ة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الوضعية لألداء اللغوي‪ ،‬فمنذ صدور كتابه (أبحاث فلسفية) لم يعد يرى اللغة جوهرا واحدا تجم""ع‬

‫في ثناياه"ا" جمي""ع الص""ور اللغوي""ة‪ ،‬وه""و املفه""وم ال""ذي نحن بص""دده في ه""ذه الدراس""ة‪ ،‬مفه""وم اص""طلح‬

‫عليه بمصطلح "ألعاب اللغة" ‪ .1‬والواجب التركيز عليه في هذا املقام أمران اثنان‪:‬‬
‫ّ‬
‫أـ اللغة كاللعبة‪ ،‬كلتاهما" تصنفان كنشاط إنساني يتعلمه الفرد في الوسط االجتماعي‪.‬‬

‫ب ـ اللغ""ة أمره""ا ك""أمر األلع""اب‪ ،‬تتحكم فيه""ا قواع""د وق""وانين معلوم""ة وخاص""ة به""ا ومختص""ة به""ا دون‬

‫غيرها‪ ،‬بحيث أنه في غيابها ال تقوم لها قائمة‪ ،‬بل قد يتعطل جوهرها" أصال‪.‬‬

‫لقد ّ‬
‫مر فكر لودفج فيتجنشتاين ألجل الوصول إلى مفهوم متكامل للعبة الكالمية بمراحل عديدة‬

‫يرى بعضهم انها مراحل مناقض محمول بعضها ملحمول الغير فيما تبدو لنا متكاملة على العموم‪.‬‬

‫ألجل فهم هذا املسار الذي أدى بالبحث اللساني الذي ولد حديثا على يدي سوسير من أجل تنقية‬

‫البحث اللساني من االعتبارات التي تعزى إلى الفلسفة والفيلولوجيا كفرع ينتمي ولو تقليديا إلى‬

‫الفلسفة ( في النزوع صوب الشرح والتعالي؛ أي النزعة الشارحة" املنبنية على عزو الظاهرة إلى ما‬

‫سواها وما يحيط بها مع اخذ املعطى امليتافيزيقي بعين االعتبار)‪ ،‬لجل فهم هذا ال بد من وضعه في‬

‫إطار الجدل الذي دخل فيه الفالسفة التحليليون في إنجلترا مع خصومهم من املدارس األخرى‪،‬‬

‫والذي يهمنا منه خلوص فيتجنشتاين إلى فكرة أن التفكير في الفلسفة من خالل اللغة التي تؤدى بها‬

‫هي الغاية العليا؛ إذ ال يوجد شيء يفوق اللغة التي تعتمل معيرة عن موضوع ما‪ ،‬إلى درجة أن أي‬
‫‪2‬‬
‫موضوع ال يملك كينونة إال في إطار تلك الكينونة اللغوية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Wittgenstein, philosophical investigations ; p 569‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid , pp569-570‬‬

‫‪66‬‬
‫إن التداعيات اإليديولوجية" لهذه األفكار هامة جدا؛ ففيتجنشتاين من خالل مالحظاته العميقة‬

‫يضرب الجانب املاهوي للغة عرض الحائط‪ ،‬كما يرفض بذلك كل بعد ترانسدنتالي للغة‪ ،‬وحتى‬

‫الرؤية الكونية لسوسير والتي تقتضي بان كل ألسنة البشر ترتبط بعضها ببعض في نقطة "املستوى‬

‫اللغوي"‪ ،‬في حين يذهب فيتجنشتاين إلى أن وجوه الشبه في االستعماالت اللغوية ال ترقى إلى درجة‬

‫عليا تتطلب الدرس الفلسفي‪ ،‬عن هي إال تشابهات عائلية – كما يقول ال تمنع فردا عن أن يكون‬
‫ّ‬
‫متفردا متميزا عمن سواه‪ 1 .‬وتمثل هذه النظرة إلى اللغة طفرة نوعية في الفلسفة التحليلية‪،‬‬

‫وباالعتماد عليها استطاع فتجنتشتاين صياغة نظريته الخاصة في املعنى‪ ،‬عرفت بـنظرية االستعمال‪،‬‬
‫وأهم ما يطرحه في نظريته هذه ّأنه يطلب ّ‬
‫منا أن ننظر إلى اللغة كأداة بيد املتكلم ّ‬
‫يعبر بها عن‬
‫ّ‬
‫مقاصده املتعددة واملتنوعة‪ ،‬وألنه ال يمكن حصر مقاصد املتكلمين؛ لكثرتها‪ ،‬فعليه ال يمكن رسم‬
‫ً‬
‫دائما البتكار لعبة لغوية جديدة في كل لحظة‪ّ ،‬‬ ‫صورة محددة لها؛ ّ‬
‫ومما نحصل عليه‬ ‫ألن ّثمة إمكانية‬
‫ّ‬
‫من نظرية فتغنشتاين هو أنه على الرغم من محدودية املفردات والجمل؛ باعتبارها أدوات لغوية‪،‬‬
‫‪2‬‬ ‫ّ‬
‫فإن تطبيقاتها" غير محدودة وال حصر لها‬

‫ويحدد اللعبة الكالمية في بحوثه الفلسفية على أساس كونها إمكانيات ال متناهية من لتوظيف عدد‬

‫محدود من أدوات العمل‪ ،‬مثلما هي الحال في اللعب (ولن نذكر الشطرنج عبثا )‪ . . .‬هي أدوات‬

‫تركيبية" محدودة العدد معلومة القواعد يتم تشكيلها حسب إمكانيات غير متناهية" خاضعة ملزاج‬

‫اللعب‪/‬املستعمل‪ ،‬وحسب اإلمكانيات الرياضية التي تطبق على العدد الكبير – وإن كان محدودا‪-‬‬

‫من املفردات والعدد الكبير من القواعد التركيبية" والخصائص الضمنية ما يشبه توفيقات‬

‫واالحتماالت وعمليات تذكر بتنامي الدوال الهندسية يجعل إمكانيات الالعب غير متناهية‪".‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Magin, Marie, Wittgenstein, Routledge,london, 1997, ch. 3-4.‬‬
‫محمد علي عبد اهلل‪ :‬تصنيف األفعال اللسانية‬ ‫‪2‬‬

‫‪/http://nosos. net‬تصنيف‪-‬األفعال‪-‬اللسانية‪( /‬نصوص معاصرة)‬

‫‪67‬‬
‫إن تبعات نظرية مثل هذه هامة جدا على البحث اللغوي‪ ،‬فقد اخذ فتجنشتاين مثاال توضيحيا‬
‫أورده سوسير لتبيان جانب محدد من نظريته اللغوي‪ -‬الجانب الشكلي – ثم تالعب به تالعبا خطيرا‬
‫ذا تبعات أيديولوجية" التخلو من أهمية‪ ،‬إن النزعة العلمية الواصفة تصل مع فتجنشتاين إلى نقطة‬
‫ذات بال ينتفي معها أي بعد ماهوي للغة‪ .‬إن نظرية فتجنشتاين هذه حول اللعبة الكالمية تنفي‬
‫الكينونة املتعالية للغة التي تجعلنا دائما نتعامل مع بعد ميتافيزيقي سحري وساحر للغة ال ينبغي أن‬
‫نغفل عنه ألنه دائما هو الجانب الكامن القائم خلف محاولتنا البائسة للتعامل مع اللغة في بعدها"‬
‫البسيط العادي الناسوتي املهلهل‪ . . .‬إن رؤية فتجنشتاين ‪ -‬ومعها رؤية التحليليين‪ -‬تقتضي ربط‬
‫اللغة بالواقع املادي امللموس املحسوس‪ ،‬فاللغة في بعض آرائه هي الواقع والواقع هو اللغة‪.‬‬

‫لقد طال تقليب التحليليين ملسألة الحذر الضروي للحكيم من استعماله للكلمات‪ ،‬فالكلمات‬
‫والتراكيب يغلب عليها أن تحتوي وجهات نظرنا صوب األشياء‪ ،‬فتقولب حتى طريقة تفكيرنا في‬
‫مواضيع الفلسفة‪ ،‬وهي نفسها ال تعدو كونها استعماال خاصا ولعبة ذات خصوصيات للكلمات‪.‬‬

‫مع فتجنشتاين تحول السؤال املفخخ‪ :‬ماذا أعرف؟ إلى سؤال بسيط ذي تبعات هو‪ :‬ما هو يا ترى‬
‫هذا الذي أعرفه؟ وفي هذه الخطوة االبستمولوجية قطع لشوط كبير صوب الواقعية املادية‬
‫التجريبية ألجل تخطي املآزق – حسب لفظه‪ -‬املثالية التي تجعلنا نراجع معطيات الحس املشترك‬
‫التي يفترض أنها شكل قاعدي من الوعي ال يقبل النقاش لوضوحه" وشيوعه يرى التحليليون بأنه‬
‫صالح لقياس ما سواه من الحس عليه؛ ال العكس‪.‬‬

‫إذا عاينا نظرية األدب سنجد هذا النوع من التفكير متجليا في الظاهرة األدبية‪ ،‬فمبدأ اللعب‪،‬‬
‫وكسر قوانين األنواع واألجناس‪ ،‬وتهشيم عمود الشعر مرة وعود السرد مرة ثانية‪ ،‬كل ذلك صار‬
‫عملة متداولة‪ ،‬وليس أدل على ما نذهب إليه من عناوين "اللعبة السياسية"" ثم "اللعبة السردية" ثم‬
‫ألعاب الكالم‪ ،‬واللعبة البالغية‪ . . .‬كل ذلك صار من تراث العنونة داال على أن اللعب قد تخطى‬
‫‪1‬‬
‫معناه الطفولي الخالي" من الجدية إلى معنى جاد كما رأينا أعاله على أيدي الفالسفة األكثر جدية‪.‬‬

‫التيار التعبيري التهديمي الثوري األهم الذي ظهر في الفترة بين الحربين اسمه "دادا" بقيادة تريستان‬
‫زارا‪ ،‬وأنت إن بحثت في القواميس وجدت معنى كلمة "دادا" هو لعبة خشبية قديمة لألطفال‪.‬‬

‫فيصل األحمر‪ :‬دائرة معارف اآلداب األجنبية‪ -‬دار األوطان‪ -‬الجزائر‪ -2013 -‬ج‪ -3‬ص ص ‪749-748‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪68‬‬
‫اخترع السيرياليون الف طريقة للتأليف تشبه طرائق اللعب اكثر من الشبه مع عوالم اإلبداع‪، .‬‬
‫وكذلك فعل مسرحيو املرحلة الذين كفوا عن رواية قصص منطقية ألنه ال احد يقوى على تحمل‬
‫متابعة أحداث يتوقعها دائما وال أحد يريد مواصلة مهزلة خديعة نفسه بتصديق هذا النوع من‬
‫التراكيب القصصية الكالسيكية التي تطور وعي االنسان السردي اكثر منها بكثير‪ . . .‬املقصود بهؤالء‬
‫املبدعين الكبار‪ ":‬يوجين يونيسكو و أنطونين آرتو ولويجي بيرانديللو وغيرهم من املنتمين عن حق‬
‫أحيانا وعلى باطل احيانا كثيرة اخرى إلى ما سمي بتيار العبث؛ مع مالحظة الحبل الداللي الواصل بين‬
‫العبث واللعب‪ ،‬مع عدم نسيان املساهمةالفلسفية للبير كامو‪ ،‬فعبارة "مسرح العبث" صاغها‬
‫الناقد مارتن ايسلين لوسم اتجاه داخل املسرح في خمسينات القرن املاضي مقترضا إياها من‬
‫مفهوم ألبير كامو ماخوذ من كتابه حول سيزيف الذي ارتبط جهاده في الحياة بمسار معقد ال‬
‫يفضي على نتيجة وصفه كامو بالعبث‪.‬‬

‫من املعلوم والجدير بالتأمل في هذا املقام التأريخي للظواهر األدبية – التي هي الوجه اآلخر للظواهر‬
‫والتمظهرات اللغوية‪ -‬ان نستحضر املوازاة املوجودة بال ريب بين مسرحيات العبث وروايات ما بعد‬
‫الحداثة في العديد من البعاد الشكلية واملضمونية أو حتى على املستوى الفلسفي الذي يفضح رؤية‬
‫فلسفية متعالية صوب الحياة‪ ،‬ويحضرني هنا عنوان كتاب هام في انتقاد اإليديولوجيات الجادة‬
‫كتبه" الكاتب الفرنسي الكبير "روجي فايون" عنوانه "في مديح الكاردينال دو بيرنيس" ‪Roger‬‬
‫)‪ ،Vailland : éloge du Cardinal De Bernis (1955‬والكاردينال" دو بيرنيس شخصية مستهترة شبه‬
‫تافهة تظهر كثيرا في مذكرات كازانوفا استعملها الكاتب كمؤشر على ضرورة وجود هامش من الخفة‬
‫واملرح والتعاطي الفلسفي مع اللعب‪ .‬وليس بعيدا عن هذا السياق عنوان كتاب الكاتبة سيلفي‬
‫كولومب "في" مديح الخفة" )‪ ،Sylvie Coulombe : Éloge de la légèreté (2013‬وهو كتاب حول روح‬
‫هذا العصر التي تتعاطى كل شيء بخفة وعبور وبال تركيز‪ ،‬وتتعاطى مع مسائل الوجود التي عهدنا‬
‫أخذها على محمل الجد بشكل يشبه اللعب‪.‬‬

‫ال يمكننا في سياق الحديث عن الصلة بين اللعبة الكالمية كتفسير لالشتغال اللغوي وبينها كحامل‬
‫نقدي نظري يفسر الوعي العميق بالعمل األدبي ان نمر بهذه املرحلة التي شهدت تحوالت عميقة في‬
‫النظرية األدبية – أقصد مرحلة ما بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬والتي نسميها عموما مرحلة مابعد‬
‫الحداثة‪ ،‬بشكل تحقيبي غير علمي وغير وثوقي‪ ،"-‬اليمكننا إذن أن نغفل ذكر عمل مسرحي كبير مثل‬
‫"املغنية الصلعاء" ألوجين يونسكو‪ ،‬على اعتبار انه عمل يتكون من سلسلة من املشاهد املسرحية"‬

‫‪69‬‬
‫التي تحركها نماذج معروضة أمامنا مسرحيا على شكل دروس واقتباسات مأخوذة من كتاب مدرسي‬
‫‪1‬‬
‫للغة‪.‬‬

‫ولعل واحدا من أهم الشخصيات التي يمكن تصنيفها بانتمائها للعبث وما بعد الحداثة هو صموئيل‬
‫ً‬
‫بيكيت‪ .‬ينظر غالبا الى عمل صموئيل بيكيت على كونه معلما لالنتقال من الحداثة الى ما بعد‬
‫الحداثة في األدب‪ .‬لديه روابط وثيقة بالحداثة بسبب صداقته مع جيمس جويس‪ .‬لكن هذا ال ينفي‬
‫ً‬
‫ان عمله ساعد في تشكيل تطور األدب بعيدا عن الحداثة‪ .‬احتفى جويس‪ ،‬أحد امثلة الحداثة‬
‫بامكانيات اللغة‪ .‬وقد تراءات لبيكيت في عام ‪ 1945‬احدى الرؤى التي تقول انه بهدف الهروب من‬
‫شبح جويس عليه التركيز على فقر اللغة وعلى اإلنسان ككائن فاشل‪ .‬أعماله الالحقة عكست كذلك‬
‫شخصيات علقت في مواقف ال خالص منها مع محاولتها بوهن تحقيق تواصل‪ ،‬مالذه األخير هو اداء‬
‫يخرج منها أفضل ما لديها‪ .‬ويذكرنا هذا بما أسلفنا ذكره عن فتجنشتاين أثناء تفسير الخلفية‬
‫الفكرية لنظرية األلعاب الكالمية‪ ،‬إذ أننا شهدنا مع فتجنشتاين تحول السؤال املفخخ‪ :‬ماذا أعرف؟‬
‫إلى سؤال بسيط ذي تبعات هو‪ :‬ما هو يا ترى هذا الذي أعرفه؟‪ . . .‬فالنصوص األدبية التي كانت‬
‫تطمح إلى اإلبداع صارت تتقصد املحاكاة الساخرة مثال‪ ،‬وهذه الباروديا أو الباستيش‪ ،‬هي تأمل ذكي‬
‫جواني مرح في جواهر النصوص اإلبداعية من أجل فهم املسافات الضرورية التي تعرفها اللغة‬
‫كمرآة عاكسة لتحوالت الذات والوجدان والوعي؛ تحوالت علمنا فتجنشتاين بأنها ال وجود لها إال‬
‫على املستوى اللغوي‪.‬‬

‫لقد اسلفنا بأن في هذه الخطوة االبستمولوجية قطعا لشوط كبير صوب الواقعية املادية التجريبية‬
‫ألجل تخطي املآزق املثالية – حسب لفظ فتجنشتاين دائما ‪ -‬التي تجعلنا نراجع معطيات الحس‬
‫املشترك التي يفترض أنها شكل قاعدي من الوعي ال يقبل النقاش لوضوحه وشيوعه يرى التحليليون‬
‫بأنه صالح لقياس ما سواه من الحس عليه‪ . . .‬وهذا ما يحدثه أدباء أفذاذ يراجعون عاداتنا وسنننا‬
‫األدبية محدثين زالزل" كبرى في وعينا النصي الذي هو – كما أسلفنا وكما ينبغي أن نتذكر دائما‪-‬‬
‫وعينا اللغوي‪ . . .‬مراجعة تطال مرتكزاتنا الجمالية في النص السردي مثال‪ ،‬كما هي الحال في الرواية‬
‫الجديدة (تحديد الشخصيات‪ ،‬الوعي املوروث‪ ،‬األحكام الجاهزة في مجتمع الرواية‪ ،‬االستعمال‬
‫اللغوي‪ ،‬العادات واالختيارات اللغوية‪ ،‬واملوقع الرمزي املركزي للعناصر املألوفة" في النص‪ :‬املكان‪-‬‬
‫الزمان‪ -‬السرد‪ . . .‬الخ الخ)‪.‬‬

‫فيصل األحمر‪ :‬دراسات في اآلداب األجنبية‪ -‬منشورات مخبر الترجمة في اللسانيات واألدب‪ -‬جامعة قسنطينة‪ -2013 -‬ص‪119‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪70‬‬
‫يمكننا باملوازاة تأمل تجربة مابعد حداثية عميقة األثر خطيرة البعد مثل تجربة صموئيل بيكيت‬
‫الذي أدت تجاربه "على شكل السرد وعلى تحلل السرد وتفسخ الشخصية داخل الرواية والدراما الى‬
‫اكسابه جائزة نوبل لألدب عام ‪ . .1969‬عمد عمل بيكيت األخير الذي نشر خالل حياته "املثيرات‬
‫الساكنة" ‪ 1988‬الى كسر العوائق بين الدراما‪ ،‬والرواية والشعر مع كون نصوص هذه املجموعة‬
‫ً‬
‫تتألف بالكامل تقريبا من اصداء وتكرار ألعماله السابقة‪ . .‬شكل (بيكيت) بال شك واحدا من آباء‬
‫حركة" ما بعد الحداثة في الرواية بل العمل السردي‪ ،‬التي تابعت زلزلة افكار" االنسجام املنطقي في‬
‫ً ‪1‬‬
‫السرد‪ ،‬وخريطة الحبكة‪ ،‬والتسلسل الزمني املنتظم‪ ،‬والشخصيات املشروحة سيكولوجيا"‪".‬‬

‫مثال آخر شديد األهمية في املرحلة مابعد الحداثية هو تجربة اللعب على صيغ تعبير لدى "جيل‬
‫البيت ‪ "beat generation‬من قبل جاك كيرواك " لصالح الشباب األميركي الساخط خالل خمسينات‬
‫القرن املاضي املادية؟ طور كيرواك افكار "التلقائية" أو "الذاتي الحركة"" الى ما اسماه "النثر‬
‫العفوي"‪ ،‬التلقائي‪ ،‬ليخلق ملحمة متعددة الوجه الروائي اسماها اسطورة داليوز" ضمن قالب‬
‫ً‬
‫مارسيل بروست في "البحث عن الزمن املفقود" تسمية "جيل البيت" غالبا ما تستعمل بشكل أوسع‬
‫لإلشارة الى العديد من كتاب اميركا ملا بعد الحرب من مثل شعراء "الجبل االسود‪ ،‬مدرسة‬
‫نيويورك‪ ،‬عصر نهضة سان فرانسيسكو" وغيرها‪ .‬وكان يشار من حين الى آخر الى هؤالء الكتاب‬
‫ً‬
‫انهم "ما بعد حداثيون"‪ .‬مع ان استعمال ما بعد حداثوي هي اقل استعماال باالشارة الى هؤالء اال ان‬
‫تسميتهم بما بعد الحداثويين لم تزل تظهر‪ ،‬اسماء العديد من الكتاب املعتبرين من هذه املجموعة‬
‫"جون اشبوري‪ ،‬ريتشارد بروتيغان‪ ،‬جيلبرت سورنتينو وغيرهم) تظهر عادة في لوائح كتاب ما بعد‬
‫الحداثة‪ .‬أحد الكتاب املحسوبين على "جيل البيت" هو وليم بوروز الذي نشر رواية "العشاء‬
‫العاري" في باريس عام ‪ 1959‬وفي اميركا عام ‪ .1961‬وتعتبر روايته هذه من قبل البعض الرواية ما‬
‫بعد الحداثوية األولى‪ ،‬ألنها قائمة على التشظي‪ ،‬ودون قوس سرد مركزي‪ ،‬وهي تتوسل عناصر من‬
‫أنواع أدبية معروفة من مثل القصة البوليسية وقصة الخيال العلمي‪ .‬وهي مليئة باملحاكاة الساخرة‪،‬‬
‫ً‬
‫واملفارقة واللعب الدعابي‪ ،‬وحسب بعض املراجع فان كال من الصديقين كيرواك والين غينسبيرغ‬
‫حررا هذا الكتاب مستسرشدين بالصدفة"‪.2‬‬

‫موقع اإلمبراطور‪http://www.:‬‬ ‫محيدلي‪ ،‬فوزي‪ :‬أدب ما بعد الحداثة‪ ،‬التلقائية والصدفة والتهكم والمعنى المراوغ‪ T‬أبداً‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪alimbaratur. com/index. php?option=com_content&id=2766:2014-02-01-17-53-27&Itemid=8‬‬

‫م‪ .‬نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪71‬‬
‫إن الوعي بفكرة اللعب كمدخل لعالقة" االنسان بالعالم يعطي نتائج في غاية األهمية‪ ،‬فقد رأينا كيف‬
‫أن املسار الذي انطلق باللغة من الدوران حول النصوص املقدسة‪ ،‬قد تدرج صوب فكرة اللعبة‬
‫كميدان اشتغال للقواعد الثابتة القاعدية املعروفة والتي يغلب عليها أن تكون بسيطة يسيرة املأخذ‪،‬‬
‫لكي ينعكس هذا املوقف على إنشاء النصوص اإلبداعية التي هي مجال اشتغال األفراد املتميزين‬
‫داخل الجماعة اللغوية الواحدة‪ ،‬فتصبح" اللعبة الكالمية لعبة بالغية ثم لعبة جمالية" مرورا باللعبة‬
‫الفلسفية‪ ،‬وربما نكون بصدد لعبة وجودية يكون فيها لكياننا املسار نفسه الذي كان للغة فيكون‬
‫الجسم جالسا قبالة الروح وبينهما رقعة شطرنج لم يحلم بها سوسير‪.‬‬

‫يبقى فقط انه إذا كان الجسم من أمر اللغة فإن الروح من أمر ربي‪ ،‬وما أوتيتم من العلم إال قليال‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫أفق التاريخ‬

‫مقدمات جديدة فـي فلسفة التاريخ‬


‫باتجاه هيرمينوطيقا التاريخ‬

‫مقدمة‬

‫تط" ""رح الكتاب" ""ة التاريخي " "ة" إش" ""كاليات كث" ""يرة تحي" ""ل على إش" ""كاليات الحي" ""اة؛ ال من زاوي" ""ة ك" ""ون‬
‫التاريخ مبدئيا – وفي مطلق أمره كذلك‪ -‬تدوينا للحي"اة يحم"ل في طي"ات الت"دوين أم"راض الحي"اة‬
‫نفس" ""ها‪ ،‬ب" ""ل ك" ""ذلك من زاوي" ""ة ك" ""ون الت" ""أريخ – كفع" ""ل إنس" ""اني‪ -‬يكتنف" ""ه غم" ""وض ك" ""ل افع" ""ال‬
‫اإلنسانية األخرى‪ ،‬كما تكتنفه تناقض"اته" ورغبت"ه في التع"الي" ومختل"ف مظ"اهر" س"وء التق"دير في‬
‫النظر وعسر تحديد الوجهة أثناء تحديد وجهات النظر التي هي جوهر عمل املؤرخين‪.‬‬

‫يب ""دأ عم ""ل املؤرخ كت ""دوين يتح ""دى هن ""ات ال ""ذاكرة وينتهي كنظ ""ام للتفك ""ير يخل ""ق هن ""ات للعق ""ل‪.‬‬
‫وه""ذا ج""وهر" االنتق""ال األول من الت""اريخ كم""ا ك""ان يعي""ه الق""دامى إلى الت""اريخ كم""ا تمن""اه منظ""رو‬
‫عص ""ر األن ""وار بقي ""ادة فولت ""ير ال ""ذي ه ""و مبتك ""ر مص ""طلح "فلس ""فة الت ""اريخ"؛ أي كعملي ""ة تأويلي ""ة‬
‫ألفعال البش"ر‪ ،‬ثم االنتق"ال إلى الع"رف م"ا بع"د الح"داثي ال"ذي وص"فناه – تأس"يا بميش"ال فوك"و‪-‬‬
‫بهيرمينوطيق" ""ا الت" ""اريخ؛ ذل" ""ك الفع" ""ل ال" ""ذي هدف " "ه" التع" ""رف على التفك" ""ير املعق" ""د في الح" ""وادث‬
‫املاض""ية بعين حديث""ة ال تخ""رج عن اإلط""ار الت""أويلي ال""ذي ه""و إط""ار لتفس""ير للنص""وص وك""ذلك‬
‫إط""ار نظ""ري لتحدي""د عملي""ة الفهم من أج""ل ه""دف اس""مى ه""و تش""كيل منهج للفع""ل وللت""دخل في‬
‫الحي ""اة‪ ،‬بحيث يص ""بح البع ""د الت ""أويلي في تحلي ""ل وتفس ""ير النص ""وص التاريخي "ة" وك ""ل النص ""وص‬
‫ذات الط ""ابع الثق ""افي" الك ""ثيف وذات البع ""د التأسيس ي في الثقاف ""ات القومي ""ة والثقاف ""ة اإلنس ""انية‬
‫عموم""ا ه""و وج""ه من وجهي العمل""ة اإلنس""انية ال""تي وجهه""ا اآلخ""ر ه""و الفع""ل السياسي واملس""اهمة"‬
‫في البناء الحياتي ألبناء الزمن الحالي‪".‬‬

‫‪73‬‬
‫عتبات وإشكاليات‬

‫هنال"ك من"اهج وط"رق كث"يرة لكتاب"ة الت"اريخ‪ ،‬من الس"رد املباش"ر ال"ذي ك"ان يب"دو ل"دى الق"دامى‬
‫شكال معينا من أش"كال األدب‪ ،‬وال"ذي ه"و نق"ل لألخب"ار بأس"لوب معين يتقاس"مه هاجس"ا النق"ل‬
‫األمين لألح ""داث والتعب ""ير املستس" ""اغ ال" ""ذي ي ""برر عن ""وان الكتاب ""ة‪ ،‬وال يح ""رك ه" ""ذا الن ""وع من‬
‫الكتاب""ة س""ؤال خ""اص ب""ل يحرك""ه فيض األخب""ار واملروي""ات‪ ،‬وفي ه""ذا اإلط""ار يمكنن""ا فهم الق""ول‬
‫االفتت""احي الش""هير للط""بري في كتاب "ه" ("ت""اريخ األمم واملل""وك"‪ " :‬فم""ا يكن في كت""ابي ه""ذا من خ""بر‬
‫ذكرن" ""اه عن بعض املاض" ""ين‪ ،‬مم" ""ا يس" ""تنكره قارئ" ""ه‪ ،‬أو يستش" ""نعه س" ""امعه‪ ،‬من أج" ""ل أن" ""ه لم‬
‫وجها من الص"حة‪ ،‬وال مع"نى في الحقيق"ة‪ ،‬فليعلم أن"ه لم ي َ‬ ‫ً‬
‫"ؤت من قبلن"ا‪ ،‬وإنم"ا أوتي‬ ‫يعرف له‬
‫‪1‬‬
‫أدينا ذلك على نحو ما ّأدي إلينا"‬ ‫من بعض ناقليه إلينا‪ ،‬وإنما ّ‬

‫ال ي" ""وحي ه" ""ذا الكالم بم" ""ا س" ""يكون من التس" ""اؤالت ال ""تي س" ""تدور بين مختل" ""ف االتجاه" ""ات ح" ""ول‬
‫فلس"فة الت""اريخ‪ ،‬بداي"ة من فولت""ير ال"ذي يع""د تاريخي"ا مبتك""ر مص""طلح "فلس""فة الت"اريخ"" ووقوف"ا"‬
‫عن ""د هيغ ""ل ال ""ذي س ""يدور ح ""ول تص ""وره لفهم الت ""اريخ ج ""دل واس ""ع ج ""دا‪ ،‬م ""رورا بالحولي ""ات‬
‫وبكث" ""ير من املحط" ""ات متباين" ""ة االتج" ""اه متفاوت" ""ة األهمي" ""ة في تفس" ""ير س" ""يل األح" ""داث التاريخي " "ة"‬
‫وصوال إلى املنهج مابعد الحداثي في التأريخ‪.‬‬

‫من ""ذ أرس ""طو وتيوس ""يديد ط ""رحت كتاب ""ة الت ""اريخ جمل ""ة من اإلش ""كاليات بت فيه ""ا أرس ""طو على‬
‫طريق""ة س"قراط ب""القول بض""رورة اإليم""ان بوج"ود عل""ة تاريخي""ة ك"برى تع""د نقط""ة نهاي""ة الت""اريخ‪،‬‬
‫ونهاي ""ة الحي ""اة ال ""تي تس ""ير ص ""وبها األح ""داث بهم ""ة عالي ""ة‪ .‬وك ""ان ذل ""ك عالج ""ا للط ""ابع الفوض ""وي‬
‫ال""ذي تتس""م ب""ه األح""داث‪ ،‬وللط""ابع االعتب""اطي ش""ديد االعتباطي""ة ال""ذي تتس""م ب""ه حي""اة أي""ة أم""ة‬
‫إذا تأمله""ا جي""دا‪ .‬وتح""ولت ه""ذه النقط""ة املتعالي""ة‪ ،‬أو ه""ذه "الحكم""ة" الكب""يرة النبيل""ة الش""ريفة‬
‫من الحي""اة إلى ش""ماعة االنش""طارات العفوي""ة االعتباطي""ة ال""تي تتس""م به""ا األح""داث الحياتي""ة( أي‬
‫التاريخي""ة)‪ ،‬وهي حكم""ة لم يتوق""ف البحث فيه""ا‪ ،‬ووص""فها والعم""ل التنظ""يري املتعل""ق به""ا‪ ،‬ع""ل‬
‫تع""دد في املن""اهج وفي زواي""ا النظ""ر‪ . . .‬تع""دد يع""زى حس""ب تعري""ف ابن خل""دون الش""هير إلى تع""دد‬
‫مناحي الحياة نفسها‪.‬‬

‫يق""ول ابن خل""دون معرف""ا الت""اريخ بأن""ه" خ""بر عن االجتم""اع" اإلنس""اني ال""ذي ه""و عم""ران الع""الم‪،‬‬
‫وم ""ا يع ""رض لطبيع ""ة ذل ""ك العم ""ران من األح ""وال‪ ،‬مث ""ل الت ""وحش و الت ""أنس و العص ""بيات‪ ،‬و‬
‫‪ - 1‬الطبري‪ :‬تاريخ الطبري‪ -‬المكتبة العلمية‪ -‬المكتبة العلمية‪ -‬ط‪-1986 -1‬ج‪ -1‬ص‪13‬‬

‫‪74‬‬
‫أص""ناف التغلب""ات للبش""ر بعض""هم على بعض‪ ،‬و م""ا ينش""أ عن ذل""ك من املل""ك و ال""دول و مراتبه""ا‪،‬‬
‫و م""ا ينتحل""ه البش""ر بأعم""الهم و مس""اعيهم من الكس""ب و املع""اش و العل""وم و الص""نائع‪ ،‬و س""ائر‬
‫م""ا يح""دث في ذل""ك العم""ران بطبيعت""ه و أحوال""ه" ‪ . .1‬إن""ه تعري""ف يتخ""ذ ع""دة وج""وه‪ ،‬فه""و أيض""ا‬
‫الفن الن" ""ادر واللطي" ""ف ال" ""دقيق ال" ""ذي " يوقفن" ""ا على أح" ""وال املاض" ""ين من األمم في أخالقهم و‬
‫األنبياء في س"يرهم و املل"وك في دولهم و سياس"تهم ح"تى تتم فائ"دة االقت"داء في ذل"ك ملن يروم"ه في‬
‫أحوال الدين و ال"دنيا‪ .‬فه"و محت"اج إلى مآخ"ذ متع"ددة و مع"ارف متنوع"ة و حس"ن نظ"ر و تثبت‬
‫يفض ""يان بص ""احبهما إلى الح ""ق و ينكب ""ان ب ""ه عن املزالت و املغال ""ط ألن األخب ""ار" إذا اعتم ""د فيه ""ا‬
‫على مجرد النقل و لم تحكم أصول العادة و قواع"د السياس"ة و طبيع"ة العم"ران و األح"وال في‬
‫االجتماع اإلنساني و ال قيس الغائب منها بالشاهد و الحاض""ر بال""ذاهب فربم""ا لم ي""ؤمن فيه""ا من‬
‫‪2‬‬
‫العثور و مزلة القدم و الحياد عن جادة الصدق"‬

‫ولكن إشكالية معقدة ستنشأ على هامش هذا الهاجس الوصفي الذي يشغل ابن خلدون؛ رغم‬
‫كون" ""ه هاجس" ""ا يقظ" ""ا ذكي" ""ا متنبه" ""ا إلى م" ""ا يس" ""ميه "م" ""زالت الق" ""دم" ال" ""تي ت" ""تربص بك" ""ل من يري" ""د‬
‫الح ""ديث عن س ""ابق الح ""وادث واص ""فا وم ""ؤوال‪ ،‬والحقيق ""ة هي ان ""ه ال يمكن أن نص ""ف دون أن‬
‫نك ""ون ق ""د دخلن ""ا دائ ""رة التأوي ""ل من حيث ك ""ون أي وص ""ف ح ""امال بالض ""رورة لش ""رطي املعرف ""ة‬
‫والخ ""برة الفردي ""ة في تش ""كيل ص ""ورة و"فهم"" كم ""ا يق ""ول –فيم ""ا س ""يأتي بيان ""ه ‪ -‬فيلهلم ديلط ""اي‪.‬‬
‫تل""ك اإلش""كالية هي املع""نى املتع""الي ال""ذي يف""ترض في""ه أن يك""ون مس""تقال عن األح""داث في ش""كلها‬
‫املف""رد البس""يط الخطي‪ .‬وهي إش""كالية سينش""أ على هامش""ها م""ا سيس""مى بفلس""فة الت""اريخ‪ ،‬وه""و‬
‫حقل للعمل على التاريخ بشكل يتطلب تقسيما منهجيا لطرق التعامل مع املادة التاريخية‪.‬‬

‫ه ""ذا اله ""اجس التقس ""يمي املس ""كون بطريق ""ة إدراج عملي ""ات فهم املادة التاريخي ""ة ض ""من الفهم‬
‫الع""ام ل"دى اإلنس"ان كم"ادة علمي""ة خاض""عة للمنهج""ة واإلطالق كم""ا يح"دث لن""ا م"ع العل"وم وطبق""ا‬
‫للمنهج العلمي‪ ،‬وه ""و اله ""اجس األق ""دم واألك ""ثر اتس ""اعا في الحقيق ""ة‪ ،‬ألن الفالس ""فة من ""ذ أق ""دم‬
‫األزم ""ان ك ""انوا ينطلق ""ون من نقط ""ة نهاي ""ة؛ أو "غاي ""ة" واض ""حة يب ""دو أن األح ""داث تس ""ير تجاهه "ا"‬
‫فيما هي توجه دفتها في اتجاه"ات عدي"دة معلوم"ة حين"ا ومجهول"ة أحيان"ا‪ ،‬وه"ذا ه"و اتج"اه يجم"ع‬
‫أص ""نافا" متنوع ""ة من الفالس ""فة إلى درج ""ة أن ""ك تج ""د نقيض ""ين مث ""ل ك ""ارل م ""اركس وم ""اكس في ""بر‬
‫ين""درجان ض""من ه""ذه الترس""يمة بيس""ر كب""ير‪ ،‬رغم كونهم""ا يختلف""ان ج""ذريا في تفاص""يل املس""يرة‬
‫الك " ""برى ال " ""تي بين نقط " ""ة الح " ""ال ونقط " ""ة املآل‪ ،‬بين الوق " ""ائع والتوقع " ""ات‪ ،‬بين الوض " ""ع الق " ""ائم‬
‫‪3‬‬
‫والوضع القادم‪ ،‬أو بين املقدمات والنتائج‪.‬‬

‫‪ 1‬عبد الرحمن بن خلدون‪" :‬مقدمة ابن خلدون"‪ ،‬تحقيق‪ A‬ابي عبد الرحمان عادل بن سعد‪ ،‬الدار الذهبية للطبع و النشر و التوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‬
‫‪41‬‬
‫‪2‬‬
‫م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص ‪15‬‬
‫‪3‬‬
‫عبدهللا العروي‪ :‬مفهوم التاريخ ج‪ ،1‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،4‬ص‪176‬‬

‫‪75‬‬
‫يقابل هذا النوع من املؤلفات في حقل فلسفة التاريخ صنف آخ"ر يب"دو مهجوس"ا بفك"رة الف"رز‬
‫املنهجي للوق""ائع‪ ،‬ه""و ص""نف يتموق""ع داخ""ل موض""وعه الت""اريخي به""دف تص""نيف الح""وادث حس""ب‬
‫درج" ""ة األهمي" ""ة من أج" ""ل اقتن" ""اص "روح العص" ""ر" ‪ -‬كم" ""ا ك" ""ان يس" ""ميها اح" ""د أفض" ""ل ممثلي ه" ""ذا‬
‫االتج ""اه‪ :‬ج ""اكوب بوركه ""ارت‪ "-‬روح يب ""دو أنه ""ا تنبعث من أم ""اكن ليس ""ت مح ""ددة بدق ""ة؛ يع ""ود‬
‫الفض""ل ك""ل الفض""ل في اقتناص""ها إلى "حاس""ة املؤرخ"‪ ،‬ه""ذا األخ""ير ال""ذي يس""تعين بعت""اد يح""دده‬
‫املص""طلح البوركه ""ارتي" ال ""دال على شيء منس ""جم رغم تنوع""ه‪ :‬الق ""درة على التحلي ""ل‪ ،‬الح""واس‬
‫الذكي""ة‪ ،‬طاق""ة التمي""يز‪ ،‬تمث""ل األش""ياء‪ ،‬إع""ادة ق""راءة املص""ادر‪ ،‬التبص""ر‪ ،‬املق""درة على ت""رتيب‬
‫‪1‬‬
‫فوضى الوقائع التاريخية‪. . .‬‬

‫ه ""ذا التقس ""يم ال يس ""تثني وج ""ود فالس ""فة آخ ""رين للت ""اريخ هم أق ""رب إلى روح املؤرخين منهم إلى‬
‫روح الفالس" ""فة‪ ،‬تس" ""يطر عليهم مهم" ""ة اس" ""تيفاء ال" ""زمن َّ‬
‫املؤرخ ل" ""ه أك" ""ثر من أي ش يء آخ" ""ر‪ ،‬ال‬
‫يهمهم التموقع داخل الكتابة التاريخية بقدر اهتمامهم باستيفاء روح املرحلة‪ ،‬ليأتي ما نعتن""اه‬
‫هن ""ا بعملي ""ة الفهم في الت ""اريخ كنتيج ""ة حتمي ""ة ل ""ترتيب املادة التاريخي ""ة ولكي تنتج "وجه ""ة نظ ""ر‬
‫تاريخي""ة بش""كل تلق""ائي دون توجيهه""ا ع""دا من خالل الع""رض "املوض""وعي" لألح""داث والوق""ائع‪. . .‬‬
‫ع""رض كث""يرا م""ا ي""دعونا إلى مواجه""ة التب""اين الكب""ير في وجه""ات النظ""ر ص""وب الحقيق""ة التاريخي""ة‬
‫الواح""دة؛ وج""دير باالنتب""اه هن""ا أن نقاب""ل رؤي""ة بوركه""ارت التقديس""ية لعص""ر النهض""ة م""ع رؤي""ة‬
‫مون" ""تين في "رحلت" ""ه إلى إيطالي" ""ا" أين ع" ""اين أص" ""نافا من الفوض ى والش" ""تات والعج" ""ز عن إحالل‬
‫النظام والصرامة من مدين"ة إيطالي"ة إلى أخ"رى‪ . . .2 .‬أو أن نقاب"ل رؤي"ة م"ؤرخ معجب ب"الثورة‬
‫الفرنس ""ية مث ""ل هيغ ""ل برؤي ""ة ح ""ذرة وقريب ""ة من االس ""تهجان تج ""اه م ""يراث ه ""ذه الث ""ورة كم ""ا هي‬
‫‪3‬‬
‫الحال لدى كارل ماركس؛ وخصوصا في كتابة "الثامن عشر برومير لنابليون"‬

‫‪1‬‬
‫‪Gottfried Boehm: La critique de l’historicisme par Jacob Burckhardt: genèse et‬‬
‫‪validité, Traducteur: Marianne Charrière, Revue Germanique Internationale. N: 2/1994.‬‬
‫‪P 76‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Michel De Montaigne: Journal de voyage, Gallimard, paris,1983, pp214/215‬‬
‫‪3‬‬
‫‪G. W. F. Hegel: Introduction à la philosophie de l’histoire, Livre de poche, Paris.‬‬
‫‪2012, p61‬‬
‫يراجع كذلك‪:‬‬
‫‪Karl Marx: 18 Brumaire de Napoléon 3,Flammarion, paris, 2007‬‬

‫‪76‬‬
‫فلسفة التاريخ‪ :‬دالالت مختلفة‬

‫يفتح فولت""ير فتح""ا جدي""دا بتس""اؤله عن ال""ذات الواص""فة للح""وادث التاريخي""ة؛" أين تراه""ا تق""ف؟‬
‫وم ""ا الخالص ""ة ال ""تي يمكن للس ""رد الت ""اريخي ان يحمله ""ا له ""ذه ال ""ذات ال ""تي تعم ""ل أعم ""اال معق ""دة‬
‫متع""ددة ج""رت الع""ادة أن نختزله""ا بتس""مية "الت""اريخ"‪ . . .‬ويب""دو أنه""ا "حال""ة" تاريخي""ة جدي""دة هي‬
‫ال" ""تي فك" ""ر فيه" ""ا فولت" ""ير وه" ""و يلقي بمص" ""طلح "فلس" ""فة الت" ""اريخ" غ ""ير ملتفت إلى الطاق" ""ة الك" ""برى‬
‫ملقترح""ه املص""طلحي اله""ام ال""ذي س""ياخذ مكان""ة وأهمي""ة هم""ا قطع""ا أعلى مرتب""ة من مرتب""ة فولت""ير‬
‫الذي ال يحسب في املؤرخين رغم إصراره على التأليف التاريخي؛ تأليف ك""ان ي""راه مكمال لعمل""ه‬
‫التن ""ويري كفيلس ""وف يبحث عن موق ""ع يجم ""ع اإلنس ""ان الع ""ادي بالفيلس ""وف مثلم ""ا يجم ""ع عم ""ل‬
‫‪1‬‬
‫املؤرخ الراصد للحادثة والفيلسوف املؤول لها ولكن في الفضاء املدني العمومي املشترك‪.‬‬

‫لق""د درج الع""رف الت""اريخي على اس""تبعاد الحكم ال""ذاتي‪ ،‬واس""تبعاد دائ""رة إلح""اق املع""اني اآلني""ة‬
‫عن دائ""رة اس""تعادة األح""داث القديم""ة‪ ،‬من منطل""ق انن""ا إذ ن""ؤرخ نح""اول فهم الحادث""ة القديم""ة‬
‫كم""ا ح""دثت‪ ،‬وهي وض""عية تنب""ه فولت""ير إلى ال ج""دواها مش""يرا إلى أن املع""ول علي""ه ه""و اس""تنباط‬
‫درس آني معاص ""ر لن ""ا‪ ،‬درس يعنين ""ا نحن بالض ""رورة‪ ،‬بم ""ا أن ""ه لن يتكمن من أن يع ""ني املعن ""يين‬
‫امليتين جميعا‪.‬‬

‫إن فولت""ير ال يض""حي تمام""ا بوجه""ة النظ""ر القديم""ة‪ ،‬فعن""وان كتاب "ه" الت""اريخي اله""ام ح""ول ت""اريخ‬
‫فرنس ""ا ه ""و "‪ "Essai sur les mœurs et l’esprit des nations‬وه ""و عن ""وان ي ""دل على املواق ""ع‬
‫التاريخي" "ة" الهام ""ة بالنس ""بة إلي ""ه – وهي مواق ""ع كالس ""يكية ت ""دل على نظ ""رة الق ""دامى ص ""وب من‬
‫يص" ""نع الت" ""اريخ ومن ه" ""و ج" ""دير بالت" ""أثير في مس" ""ار األح" ""داث‪ ،‬ولكن" ""ه عن" ""وان ي" ""دل ك" ""ذلك على‬
‫ال""درس املرغ""وب في استخالص""ه من الوق""ائع التاريخي "ة" حس""ب فولت""ير ال""ذي تحت""ل عن""ده مهم""ة‬
‫الفيلس ""وف املرتب ""ة الرئيس ""ة بالنس ""بة للم ""ؤرخ ال ""ذي يحرك ""ه ه ""اجس" فهم الح ""وادث أك ""ثر مم ""ا‬
‫يحركه هاجس تاثير الفهم في أبناء زمن املؤرخ‪.‬‬

‫يق"ول في ه"ذا الس"ياق واص"فا وض"عيته "التنويري""ة" بامتي"از بأن"ه ال يتص""ور نفس"ه إال على أس""اس‬
‫كون""ه "فيلس""وفا يكتب تاريخ""ا لق""ارئ ه""و أيض""ا فيلس""وف بش""كل م""ا"‪ .2‬ه""ذا الق""ارئ ال""ذي ي""راه‬
‫فولت ""ير باحث ""ا عن حق ""ائق ذات منفع ""ة في وق ""ائع ماض" ""ية ج" ""رت الع ""ادة أال تعطي ""ه ش" ""يئا س ""وى‬
‫أك""اذيب بال منفع""ة ت""ذكر‪ ،‬وه""ذا م""ا دفع""ه إلى التفرق""ة بين ت""اريخ فلس""في وت""اريخ خ""رافي‪ .‬وق""د‬
‫ك ""ان ذل ""ك كل ""ه على ه ""امش تقالي ""د تاريخي ""ة تجع ""ل نق ""ل الخط ""اء ج ""زءا مقب ""وال في مطل ""ق األم ""ر‪،‬‬
‫ت"برره الزاوي""ة التاريخي""ة ال""تي هي زاوي""ة تجع"ل م""ا وص""لنا من م""ادة حقيقي""ا س""واء حم""ل الواقعي""ة‬

‫‪1‬‬
‫عبد هللا العروي‪ :‬مفهوم التاريخ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪ ،3‬ج‪ ،1‬ص‪.175‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Voltaire: Essai sur les mœurs, Paris, Classiques Garnier, 1990, tome I, p. 3.‬‬

‫‪77‬‬
‫وقابلي""ة التص""ديق أم لم يحملهم""ا‪ ،‬وفي ذل""ك يق""ول معارض""ا نزع""ة النق""ل التلق""ائي للوق""ائع وم""ا‬
‫يفترض ""ه من يقيني""ات ال س""ند له""ا س""وى وروده""ا في املت""ون اإلس ""رائيلية؛ مثلم ""ا هي قص ""ة نس ""بة‬
‫األقب"اط إلى مي"نيس حفي"د الن"بي ن"وح‪ ،‬وه"و ام"ر يعارض"ه فولت"ير بس"بب اتخ"اذه إلحداثي"ة قب"ول‬
‫التاريخ العبراني كتاريخ" للبشرية جمعاء في حين يرى فولتير مثال بان تاريخ العبران"يين ه"و ت"ارخ‬
‫‪1‬‬
‫أمة واحدة إلى جوارها" أمم كثيرة‪.‬‬

‫والغ ""الب في ه ""ذا اإلط ""ار ه ""و س ""ير الفلس ""فة التاريخي ""ة في اتج ""اهين متق ""ابلين ومتك ""املين في آن‪:‬‬
‫االتج" " ""اه األول يش" " ""تغل على الج" " ""انب الكيفي واملنهجي املتس" " ""ائل عن "كيفي" " ""ة"" كتاب " " "ة" الت" " ""اريخ‬
‫ومنهجي""ة ك""ل م""ؤرخ في مقارب""ة مادت""ه‪ ،‬واالتج""اه الث""اني يش""تغل على الج""انب ال""داللي أو الت""أويلي‪،‬‬
‫إذ يعكف على مناقشة مسائل محموالت النصوص التاريخية واملع""اني املمكن استخالص"ها منه"ا‬
‫دون املساس بجوهر الحوادث املوثقة‪.‬‬

‫ستس""يطر على الت"اريخ وعلى فلس""فة الت"اريخ تحدي""دا هت"ان" النظرت""ان‪ :‬التفس"يرية والتأويلي""ة من‬
‫زاوي""ة النظ""ر الحديث""ة ال""تي ترس""م ح""دودا واض""حة ج""دا ولكنه""ا تحت""اج إلى املراجع""ة بين العل""وم‬
‫التطبيقي""ة وتل""ك اإلنس""انية؛ عل""وم تطبيقي""ة ص""لبة مخبري""ة تجريبي""ة تعم""ل على وص""ف الظ""واهر‬
‫وتفس""يرها حس""ب "ظاهره""ا" – بلف""ظ الفالس""فة وعلم""اء األص""ول الع""رب‪ ،-‬والعل""وم اإلنس""انية‬
‫ال ""تي ت ""ؤمن ب ""أن الحقيق ""ة مخفي ""ة دوم ""ا خل ""ف طبق ""ات معق ""دة من املع ""اني الهامش ""ية املغيب ""ة او‬
‫الغائب ""ة بس ""بب الط ""ابع املخات ""ل للنش ""اط اإلنس""اني ال""ذي يخل""ق دائم ""ا وبالض ""رورة بع ""دا "باطني""ا""‬
‫لألح" ""داث‪ .‬وتك" ""ون النتيج" ""ة هي أن مع" ""نى األح" ""داث املقص" ""ود من قب" ""ل أه" ""ل ال" ""زمن املؤرخ ل" ""ه‬
‫ينتهي دائم " ""ا "بتج " ""اوز ال " ""زمن ال " ""ذي حلت في " ""ه األح " ""داث لكي ي " ""ذوب في مع " ""نى يستش " ""كل على‬
‫املعاصرين ويتماهى مع معنى كلي وغير زمني للتاريخ""‪ ،2‬وهذه مالحظة ستتحول إلى واح""دة من‬
‫كالسيكيات التأمل في املعنى التاريخي‪.‬‬

‫يحيلن""ا كالم ج""ان ب""ول س""ارتر على موض""وع كتاب""ه املذكور "نق""د العق""ل الج""دلي"" ال""ذي ه""و نق""د‬
‫عجيب للماركس ""ية‪ ،‬يح ""اول إيج ""اد ن ""واقض له ""ا فينتهي إلى تث ""بيت ك ""ل إبس ""تيماتها‪ "،‬معلن ""ا بك ""ل‬
‫ص""راحة "إن املاركس""ية هي الت""اريخ فيم""ا ه""و يعي نفس""ه"‪ ،3‬وه""ذه املالحظ""ة تض""عنا على ح""واف‬
‫مس""الة ش""ديدة األهمي"ة" دار حوله""ا ج""دا كب""ير‪ :‬ه""ل يمكن لف""ترة م""ا أن تخ""رج من تاريخه""ا ال""ذي‬
‫يبدو انه يدركها كحتمي"ة لكي تقف"ز إلى مرحل"ة جدي"دة يمكنن"ا أن نجته"د فنس"ميها "تاريخ"ا فائق"ا"‬
‫‪ hyperhistoire‬؟‬

‫سنترك هذه املسالة لكي نعود إليها الحقا‪".‬‬


‫‪1‬‬
‫‪Voltaire, Oeuvres historiques, Bibliothèque de la Pléiade, p. 41.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Jean-paul Sartre: critique de la raison dialectique, NRF-Gallimard, Paris, p39.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Ibid, p134‬‬

‫‪78‬‬
‫إن نظ""رة تمحيص""ية ص""وب تأوي""ل املع""نى الت""اريخي تجع""ل هيغ""ل ق""د اس""تخرج تيم""ة مس""يرة له""ذا‬
‫الت""اريخ‪ ،‬تيم""ة عام""ة تتع""الى على أه""ل ال""زمن املعطى وعلى مختل""ف األجي""ال ال""تي يش""ملها الت""اريخ‬
‫ولكنه""ا تظه""ر لفيلس""وف الت""اريخ ال""ذي يمل""ك ثالث عي""ون إن ج""ازت لن""ا الص""ورة البالغي""ة؛ عين‬
‫أفقي""ة على األح""داث‪ ،‬وأخ""رى عمودي""ة على التفس""يرات املباش""رة‪ ،‬ثم عين فض""ائية أو متعالي""ة‬
‫– هي العين الفولتيري " " ""ة – تبحث في م " " ""ا وراء األح " " ""داث وتفس " " ""يراتها ال " " ""تي تفرض " " ""ها النق " " ""ول‬
‫واملناقشات املعهودة حول النقول‪ ،‬وهي كلها تتحول إلى وثائق تاريخية‪ ،‬أو إلى م"يراث ت""اريخي‪،‬‬
‫ال تختل ""ف في ذل ""ك عن مادته ""ا الرئيس ""ية ال ""تي هي األح ""داث والوق ""ائع‪ .‬ه ""ذه العين الثالث ""ة ال ""تي‬
‫ح""ددها" هيغ""ل بش""كل مطل""ق ق""ائال‪" :‬إن الت""اريخ الع""المي ال يع""دو كون""ه تط""ورا في النظ""ر ص""وب‬
‫‪1‬‬
‫مسالة الحرية"‬

‫في فلس""فة هيغ""ل ال تنفص""ل ال""ذات عن موض""وع الت""اريخ أب""دا‪ ،‬فق""د ف""رق في بداي""ة محاض""راته‬
‫‪ 1821‬بين م" ""وقعين منهج" ""يين هم " ""ا في النهاي " ""ة موقع" ""ان عض " ""ويان وف " ""اعالن للم " ""ؤرخ؛ أح " ""دهما‬
‫املؤرخ املح ""ايث للواقع ""ة والث ""اني م ""ؤرخ الح ""ق يتقص ى ش ""يئا آخ ""ر ع ""دا ت ""رتيب األح ""داث وفهم‬
‫بواعثه ""ا وبواطنه ""ا ومآالته ""ا؛ واح ""د يبحث عن تأص ""يل الت ""اريخ والث ""اني يبحث عن تأص ""يل نظري ""ة‬
‫أص" ""يلة للت" ""اريخ‪ "،‬فنحن إذا تجاوزن" ""ا الفئ" ""ة األولى ألولئ" ""ك «ال" ""ذين تمح" ""ور عملهم أساس" ""ا على‬
‫وص " ""ف األعم " ""ال واألح " ""داث‪ ،‬ووص " ""ف ح " ""ال املجتم " ""ع كم " ""ا وج " ""دوه وهم يعاينون " ""ه‪ ،‬وال " ""ذين‬
‫يص""بحون ب""ذلك ج""زءا من روح ه""ذه الف""ترة بحكم مش""اركتهم في رس""م ص""ورة أمين""ة ملا ح""دث في‬
‫العالم من حولهم‪ ،‬سمحت بنقل الفترة برمتها الى ميدان التمثل العقلي» ‪.2‬‬

‫إذا نحن تجاوزن" " ""ا ه" " ""ذه الفئ" " ""ة قابلتن" " ""ا الفئ" " ""ة الثاني" " ""ة اين نالقي جماعة الت" " ""اريخ النظ" " ""ري أو‬
‫البراغم" ""اتي أو "العلمي" – حس" ""ب مص" ""طلح هيغ" ""ل نفس" ""ه‪ " :-‬و «الت" ""اريخ البراغم" ""اتي يب" ""دأ من‬
‫رغبتن ""ا في دارس ""ة مرحل ""ة ماض ""ية‪ ،‬وان نغ ""رق بتأمالتن ""ا في ع ""الم غ ""ريب عن ""ا‪ ،‬وع ""دتنا في ذل ""ك‬
‫الت""أمالت النظري""ة ال""تي تنتهي إلى بعث ه""ذا املاضي وملئ""ه بالحي""اة‪ ،‬هن""ا يعتم""د العم""ل كل""ه على‬
‫روح املؤرخ‪ ،‬ألن املع" ""ول علي" ""ه ه" ""و اس" ""تنباط" القيم األخالقي" "ة" من الت" ""اريخ‪ ،‬وه" ""و عم" ""ل يم" ""ر‬
‫أحيان" ""ا بالتعس" ""ف في ت" ""رتيب وتأوي" ""ل الت" ""اريخ‪ ،‬من منطل" ""ق أن املؤرخ يص" ""بغ روح عص" ""ره على‬
‫‪3‬‬
‫املاضي الذي يستعيده بال تردد كبير»‬

‫يتعالى الفكر البشري في مرحلة الحقة لتشكيل معنى خاص" به‪ :‬نوع مما يمكن وسمه بالت""أريخ‬
‫للحاض""ر‪ ،‬أك""ثر من كون ""ه استحض ""ارا للت""اريخ‪ "،‬ف ""الفكر البش""ري او ال ""روح املعاص""رة املتج ""ددة‬
‫جيال فجي""ل تس""كن الت""اريخ بش""كلها املتم""يز الخ""اص؛ وفلس""فة الت""اريخ كمفه""وم يتوس""ط املس""افة"‬

‫‪1‬‬
‫‪Hegel: Introduction à la philosophie de l’histoire, p61‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid, p 35‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Ibid, p78‬‬

‫‪79‬‬
‫بين الت " ""أريخ والتفلس " ""ف ته " ""دف إلى إحالل العق " ""ل في الت " ""اريخ‪ .‬اله " ""دف األس " ""مى إذن ه " ""و فهم‬
‫الت ""اريخ بواس ""طة الفك""ر‪ ،‬وإض ""افة البش""ر الج""ديرة ب ""التوقف هي إض ""افة الفك ""ر أو العق""ل أو‬
‫روح اإلنس""ان‪ .‬يق""ول هيغ""ل في ذل""ك إن «ت""اريخ الع""الم طري""ق يناض""ل في""ه الفك""ر لكي يبل""غ وعي""ا‬
‫معين ""ا بذات ""ه‪ ،‬أي لكي يك ""ون ح ""را‪ ،‬فه ""و في نهاي ""ة األم ""ر ن ""وع من تط ""ور عملي ""ة ال ""وعي بالحري ""ة‪،‬‬
‫وك""ل خط""وة يق ""وم به""ا ليس""ت ش ""يئا ع ""دا ك ""ون اإلنس""ان يخط ""و خط""وة إض ""افية في مس""يرة تمث ""ل‬
‫الحرية»‪.1‬‬

‫في ضوء هذا الكالم يصبح يسيرا تماما فهم العنوان الفرعي لكتاب هيغل ح""ول فلس"فة الت""اريخ‬
‫الذي هو " الحرية في التاريخ"‪".‬‬

‫لق""د غ""رق هيغ""ل في توص""يفات ك""ان الب""د منه""ا بالنس""بة ملتحمس ح""ديث عه""د ب""الثورة الفرنس""ية‬
‫بك ""ل م ""ا له ""ا من رمزي ""ة تاريخي ""ة عالي ""ة‪ ،‬وال نس ""تبعد كون ""ه اخت ""ار ب ""اراديغم الحري ""ة كمح ""رك‬
‫للدفق ""ة التاريخي""ة وكدف "ة" تق""ود أص""ال عملي""ة التفك""ير ال ""تي يبل ""غ ب""ه األم""ر ح""د اعتباره "ا" عملي ""ة‬
‫‪2‬‬
‫تحرر لإلنسان من القيم غير اإلنسانية‬

‫وينتهي ج" ""وهر فك" ""رة هيغ" ""ل إلى منظ" ""ور يرب" ""ط التحقي" ""ق الت" ""اريخي الج" ""دير بالت" ""أريخ" ل" ""ه بفع" ""ل‬
‫التفك""ير‪ ،‬وه""و م""ا يفس""ر مقولت""ه ذائع""ة الص""يت‪" :‬املعق""ول واقعي وال""واقعي معق""ول" ‪ .3‬ه""ذه‬
‫الخلفي" " ""ة ال" " ""تي تختص" " ""ر املحرك" " ""ات التاريخي" " ""ة‪ ،‬واإلرادة الفائق" " ""ة – بلف" " ""ظ ش" " ""وبنهاور ال" " ""ذي‬
‫سيس ""ترجعه نيتش ""ه‪ -‬والفوض ى الوقائعي ""ة – بلف ""ظ بوركه ""ارت‪ "-‬في عملي ""ة تحقي ""ق ف ""رادة حي ""ة‬
‫وحيوية مصدرها العقل‪ ،‬وهذا ه"و ج"وهر الص"فة اللص"يقة بهيغ"ل وال"تي سيش"ن عليه"ا م"اركس‬
‫حربا ضروسا‪.‬‬

‫وإذا جعلن ""ا ه ""ذه النظ ""رة التمحيص ""ية املذكورة أعاله ترك ""ز على الت ""اريخ املاركس ي ال ""ذي هيمن‬
‫على تفكير س"ارتر ثم من بع"ده على تفك"ير أهم الع"املين على فلس"فة املع"نى الت"اريخي على امت"داد‬
‫الق""رن العش""رين‪ ،‬فإنن""ا س""نجد ان أهم م""ا يس""توقفنا في املنظ""ار املاركسي املرتك""ز على الجدلي""ة‬
‫املادي""ة املناقض""ة واملص""ححة للجدلي""ة املثالي""ة ل""دى هيغ""ل‪ ،‬ه""و م""ا ج""اء في تفس""ير م""اركس نفس""ه‬
‫ملنهجيت""ه الفلس""فية؛ إذ يق""ول‪" :‬إن طريق""تي الديالكتيكي""ة ليس""ت فق""ط متباين""ة م""ع ال""ديالكتيك‬
‫الهيغلي‪ ،‬ب " ""ل هي النقيض الت " ""ام واملباش " ""ر ل " ""ه‪ .‬فهيغ " ""ل يجع " ""ل عملي " ""ة التفك " ""ير‪ -‬وهي مفه " ""وم‬
‫"الفك ""رة" عن ""ده‪ -‬ذات ""ا مس ""تقلة بنفس ""ها‪ ،‬ويجعله ""ا الق ""وة الخالق ""ة للع ""الم الفعلي واملس ""يرة ل ""ه‪،‬‬
‫ُ‬
‫ويبلغ هيغل حد تمثل العالم الفعلي بمثابة صورة خارجية" مس""تقلة عن ك"ل ذات تتجلى الفك""رة‬

‫‪1‬‬
‫‪Ibid; p 51‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid; p52‬‬
‫‪3‬‬
‫هيغل‪ :‬موسوعة العلوم الفلسفية‪ ،‬ترجمة‪ :‬إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬ط‪ ،2‬مج‪/1‬ص‪55‬‬

‫‪80‬‬
‫عبره" ""ا‪ .‬أم" ""ا بالنس" ""بة إلي‪ ،‬فأن" ""ا أرى املث" ""ال ه" ""و نفس" ""ه الع" ""الم املادي ال" ""ذي يلتقط" ""ه ال" ""دماغ‬
‫‪1‬‬
‫اإلنساني حسيا ويعكس صورته املادية الحقيقية ويترجمها إلى أشكال ذاتية هي مادة الفكر‪.‬‬

‫في الرؤي ""ة املاركس ""ية ال تص ""نع األفك ""ار" واقع ""ا‪ ،‬وال يخل ""ق ال ""وعي كفع ""ل وج ""ودي س ""ابق عمال أو‬
‫نش""اطا بش""ريا من ش""انه ان ينتظم لتمثي""ل "ت""اريخ" م""ا‪ ،‬ب""ل العكس ه""و م""ا يح""دث في الجماع""ات‬
‫البش " ""رية يعطين " ""ا بواس " ""طة االستقص " ""اء ص " ""ورة لت " ""اريخ تتحكم في " ""ه كلي " ""ة مقول " ""ة "الص " ""راع‬
‫الطبقي"‪ ،‬ص ""راع طبق ""ة العم ""ال البس ""طاء أو "البروليتاري ""ا"" والطبق ""ة البورجوازي ""ة املتحكم ""ة في‬
‫العم""ل وفي العم""ال نتيج""ة ل""ذلك‪ .‬ف""األولى" «طبق""ة تعت""اش كلي""ا ً من بي""ع عمله""ا وال تج""ني األرب""اح‬
‫من أي ن""وع ٍ من أن""واع رأس املال وتتوق""ف حياته""ا أو موته""ا‪ ،‬ال ب""ل وجوده""ا بأس""ره‪ ،‬على طلب‬
‫عملها وترتهن بالتالي بتعاقب األزمات مع فترات االزدهار الصناعي» ‪.2‬‬

‫العالق" ""ة بين ق" ""وى اإلنت" ""اج وال" ""وعي االجتم" ""اعي قوي" ""ة ص" ""لبة تتحكم في ت" ""رتيب ش" ""كل ( ومن ثم‬
‫ج" ""وهر) املجتم" ""ع وأفعال" ""ه‪ ،‬وتتحكم نتيج" ""ة ل" ""ذلك في الت" ""اريخ‪ ،‬فوض" ""ع اإلنس" ""ان يح" ""دد نهائي" ""ا‬
‫طريقت" ""ه في التفاع" ""ل م" ""ع الع" ""الم‪ ،‬ويح" ""دد حزم" ""ة األحك" ""ام ال" ""تي ي" ""تزود به" ""ا‪ ،‬وتح" ""دد عالق" ""اتهم‬
‫بالطبيع""ة وباالنس""ان‪ ،‬وح""تى بالس""ماء أو "املعب""ود" ال""ذي يعبدون""ه‪ ،‬ويمكنن""ا دائم""ا تقفي الص""لة‬
‫اإللزامي""ة بين املكون""ات املادي""ة لع""الم اإلنس""ان‪ ،‬من وس""ائل عم""ل وإنت""اج‪ ،‬ومن آالت ومع""دات‬
‫وأدوات؛ وه ""و م ""ا يس ""ميه م ""اركس بالبني ""ة التحتي ""ة‪ .‬وبين األفك ""ار" ال""تي يتبنونه ""ا أو ينتجونه ""ا أو‬
‫يتص ""ورونها ثم يحققونه" ""ا كمؤسس ""ات؛ وه" ""و م" ""ا ينعت" ""ه م ""اركس م ""رة أخ" ""رى بالبني ""ة الفوقي ""ة‪"،‬‬
‫وبتعب" ""ير آخ" ""ر «ليس وعي األف" ""راد م" ""ا يح" ""دد كي" ""انهم االجتم" ""اعي‪ ،‬ب" ""ل على العكس تمام" ""ا ً‪ :‬إن‬
‫‪3‬‬
‫كيانهم اإلجتماعي يحدد وعيهم»‬

‫إن م ""اركس بهذاالتص ""ور يخ ""تزل مس ""افة درج الق ""دامى – وح ""تى املح ""دثون‪ -‬على ع ""دها مس ""افة‬
‫التأم ""ل‪ ،‬مس ""افة "ميتافيزيقي ""ة" – ب ""املعنى مابع ""د الح ""داثي للكلم ""ة؛ أي املع ""نى ال ""ذي يحي ""ل على‬
‫اليقيني ""ات املس ""توردة دون مراجع ""ة ودون قابلي ""ة للمراجع ""ة‪ -‬تح ""وي املع ""نى املتع ""الي للح ""وادث‪،‬‬
‫وتخفي "الحكمة" الخالدة املتعالية ال"تي تعطي مع"نى ملا ح"دث مم"ا يب"دو دائم"ا مفرغ"ا من املع"نى‪،‬‬
‫تماما كم"ا ك"ان شكس"بير يتمثل"ه‪" :‬الحي"اة حكاي"ة يرويه"ا علين"ا معت"وه‪ ،‬مليئ"ة بالغض"ب والعن"ف‪،‬‬
‫وال تفضي على أي شيء" ( ماساة مكبث‪ -‬فصل ‪ ،5‬املشهد ‪.)5‬‬

‫ال توجد إذن في التفسير املاركسي الذي سيش"يد ب"ه س"ارتر من حيث ي"دري ومن حيث ال ي"دري‬
‫أي مع ""نى خال ""د أو طاق ""ة حي ""ة عاقل ""ة تس ""يطر على املس ""ار الس ""اعي ص ""وب غاي ""ة نعلمه ""ا ونجه ""ل‬
‫مساراتها وكيفياتها‪ ،‬شيء كالحكمة الخالدة التي يمكن وص"فها بأنه"ا "فلس"فة الت"اريخ"‪ ،‬فك"ل م"ا‬
‫‪1‬‬
‫‪Karl Marx: le capital, lachatre, paris, nouv. Ed; tome1, p349‬‬
‫‪ : 2‬كارل ماركس وفريدريك إنجلز‪ :‬البيان الشيوعي‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمود شريح‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬ط‪ ،2000‬ص‪9‬‬
‫‪ 3‬م‪ .‬نفسه‪ ،‬ص‪25‬‬

‫‪81‬‬
‫هنالك سيرورات طبيعية تخضع لقانون مادي ترابي داخلي امليكانيزم""ات‪ ،‬والجدلي""ة املوص"وفة‬
‫من قب""ل م""اركس مادي""ة محسوس""ة قابل""ة للمعاينة‪ ،‬مس""تقلة العم""ل والتحكم‪ ،‬وغ""ير قابل""ة ألي‬
‫ش ""كل من أش ""كال التع ""الي‪ ".‬ميك ""انيزم ت ""ام مس ""تقل وعام " ٌ"ل أب " ً"دا‪ ،‬لم يحتج إلى ت ""دخل "إلهي" وال‬
‫يحتاجه ولن يفعل‪ ،‬ال اليوم وال غدا‪.‬‬

‫إن ال " ""راجح عن " ""د املعلقين ه " ""و أن ه " ""ذه الحيل " ""ة التص " ""حيحية للمعطى الهيغلي الج " ""دلي ال " ""ذي ج " ""اء‬
‫مص ""ححا للمس ""عى الك ""انطي املث ""الي ال ""ذي ك ""ان ي ""رى في ه ""ذه املثالي ""ة ق ""راءة خاص "ة" للع ""الم ولتفس ""ير‬
‫الت""اريخ‪ ،‬إذ " تبقى املثالي""ة متس""امية على الجدلي""ة‪ ،‬ولكنه""ا ال تري""د أن تك""ون جدلي""ة في ح""د ذاته""ا‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫إنها تزرع الجدل في ارواحنا فحسب"‬

‫وهي رؤي""ة يرفض""ها هيغ""ل ألن""ه ال ي""ومن بق""وة كامن""ة في األش""ياء‪ ،‬ب""ل يجع""ل الفك""ر متعالي""ا عليه""ا‬
‫فحسب‪ ،‬فالفكر جزء من سيرورة األشياء يستقل عنها بقوته التأملية ‪ speculative‬فحس""ب ‪،2‬‬
‫والغ" ""الب ه" ""و ك" ""ون الجدلي" ""ة املادي" ""ة محاول" ""ة لتفس" ""ير الت" ""اريخ تفس" ""يرا علمي" ""ا‪ ،‬تأس" ""يا ب" ""املنهج‬
‫التجري ""بي ال ""ذي س ""يطر في تل ""ك املرحل ""ة بال ""ذات (النص ""ف الث ""اني من الق ""رن التاس ""ع عش ""ر) على‬
‫مختلف التخصصات العلمية؛ وخصوصا البيولوجيا والفيزياء‪.‬‬

‫الجدلي " ""ة التاريخي " "ة" حس " ""ب وعي م " ""اركس وإنغل " ""ز تش " ""تغل على مح " ""ورين‪ :‬األول ه " ""و تش " ""كيل‬
‫املفه ""وم؛ أي العم ""ل على املس ""توى اإلبس ""تمولوجي ال ""ذي يف ""ترض من ""ه جعلن ""ا نش ""عر بغربتن ""ا في‬
‫الع""الم املوروث عن املاض""ين‪ ،‬ع""الم ال يعنين""ا ألن""ه يحم""ل تناقض""ات األزمن""ة الخالي""ة‪ ،‬مس""ارات‬
‫فكري""ة وظ""روف تاريخي""ة ربم""ا يك""ون أجم""ل م""ا في إمكانه""ا خلق""ه من ش""رط نظ""ري ه""و م""ا أتى ب""ه‬
‫هيغ ""ل‪ ،‬وه ""و أف ""ق إبس ""تمولوجي اش ""تغل م ""اركس بهم ""ة عالي ""ة على كس ""ره واص ""فا إي ""اه ب ""الهرم‬
‫املقل"وب ال"ذي تتلخص مهمت"ه ه"و ورفي"ق رحلت"ه" املعرفي"ة فري"دريش إنغل"ز في إعادت"ه إلى وض"عه‬
‫املنطقي الصحيح على قواعده الصحيحة‪.‬‬

‫مستقبل غامض لتاريخ واضح‬

‫نتيجة لكل ما مر بنا سنفهم بيس"ر م"ا يش"هده الق"رن العش"رون من تج"اذب غ"ريب بين اث"نين من‬
‫العناص ""ر ال ""تي تنتهي ب ""ان تك ""ون غ ""ير تاريخي ""ة‪ ":‬املادي ""ة واملثالي ""ة؛ ه ""ذين املفه ""ومين غ ""ير املؤهلين‬
‫للحكم على الت""اريخ بش""كل دقي""ق ونه""ائي كحرك "ة" ذاتي""ة للتك""وين ال""ذاتي لس""بب بس""يط ه""و ع""دم‬
‫ح ""دوث الفص ""ل النه ""ائي في أمرهم ""ا‪ ،‬وتعرض ""هما للج ""دل باس ""تمرار‪ ،‬وه ""و م ""ا يمن ""ع عنهم ""ا نهائي ""ا‬

‫‪1‬‬
‫روجي غارودي‪ :‬الماركسية‪ ،‬تر‪ :‬محمد األمين بحري‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬الجزائر‪ ،2009 ،‬ص‪126‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Marx: le capital; tome1, p225‬‬

‫‪82‬‬
‫ص ""فة العلمي ""ة‪ ،‬ول ""و ب ""املعنى الكالس ""يكي لكلم ""ة "علم"‪ .‬والحاص ""ل ه ""و أن الج ""دل الق ""ائم ي ""دور‬
‫حول جعل املثالية مستقلة عن كل ملمح مادي‪ ،‬والتمكين للعكس أيضا بطبيعة الحال‪.‬‬

‫ه""ذه اإلش""كالية وم""ا يعتوره"ا" من غم""وض هي مفت""اح رفض فلس""فة الت""اريخ بالش""كل الق""ديم‪ ،‬في‬
‫الق""رن العش""رين‪ ،‬والعم""ل ال""دؤوب على تجاوزه "ا" تمام""ا‪ ،‬أو ربم""ا التعام""ل معه""ا – عكس""ما ق""د‬
‫رأين" ""ا س" ""ابقا‪ -‬على أس" ""اس كونه" ""ا إش" ""كالية ت" ""دخل ض" ""من الظ" ""رف الت" ""اريخي وال تش" ""رحه بش" ""كل‬
‫‪1‬‬
‫متعال‬

‫ه"ذا ال"رفض املالح"ظ ل"دى الجي"ل الجدي"د من املفك"رين ال"ذين ج"رت الع"ادة على ع"دهم منتمين‬
‫إلى ال ""زمن مابع ""د الح ""داثي ليس رفض ""ا ص ""ميميا لفلس ""فة الت ""اريخ كم ""ا رأيناه ""ا أعاله‪ ،‬ب ""ل ه ""و‬
‫رفض متمح""ور ح""ول م""ا يمكن وص""فه ب""زواج املص""لحة بين الت""اريخ واملادي""ة من جه""ة‪ ،‬وبين ك""ل‬
‫من املثالي""ة والرؤي""ة االنعكاس""ية للمع""نى الت""اريخي من الجه""ة األخ""رى‪ .‬إن االختي""ار" التلق""ائي بين‬
‫وجهة النظر الدياليكتيكية وتلك الظواهرية لم يعد مطروحا اصال‪ ،‬من منطلق أن كل اختيار‬
‫ينتهي ب""أن يك""ون مبني""ا على مع""اداة ومناقض""ة االختي""ار" املقاب""ل‪ ،‬وه""و األم""ر ال""ذي يجعلن""ا نج""انب‬
‫الصواب مرارا‪.‬‬

‫لزمن مديد تمحورت املناقشات كلها حول ضرورة االختيار بين مقوالت الصراع الطبقي أو‬
‫‪2‬‬
‫مثالية الوساطة الذاتية للمعرفة االجتماعية‪".‬‬

‫وبالت" ""الي فق" ""د عم" ""ل الجي" ""ل الجدي" ""د على تخطي عقب" ""ة األص" ""ل املش" ""ترك لفلس" ""فة الت" ""اريخ لكي‬
‫يتمكن""وا من تخطي عقب""ة ه""ذا الثن""ائي الغ""ريب ال""ذي انتهى بن""ا إلى االعتق""اد ب""أن مس""ائل ظه""رت‬
‫في مرحلة ما من سيرورة الحياة على األرض‪ ،‬ومن مسارات التطور البش""ري( لكي ال نق""ول من‬
‫التاريخ) هي مس"ائل قديم"ة ال يمكن ط"رح املادة ال"تي عملت عليه"ا ه"ذه املس"ائل أو ال"تي ظه"رت في‬
‫كنفه ""ا من دون التع ""رض لزاوي ""ة النظ ""ر املحت ""واة في ه ""ذه املس ""ائل‪ ،‬وذل ""ك بالتحدي ""د م ""ا تفعل ""ه‬
‫الثنائية املتسلطة على البحث (مادية‪/‬مثالية)‪.‬‬

‫من الغريب أن نالحظ أن هذه الثنائية‪/‬األداة املعرفية تقف عند أقدم م"ا يمكنن"ا تص"وره من‬
‫املس""ائل الفلس""فية‪ ،‬وتض""بط بالت""الي رؤي""ة معين""ة للت""اريخ ال محيص عنه""ا ألي ب""احث يري""د بحث‬
‫املسائل املتعلقة بنشأة البحث الفلسفي‪ ،‬وهي مغب"ة منهجي"ة ح"ذر منه"ا ايمانوي"ل كان"ط ب"اكرا في‬
‫نصوصه الشهيرة وهو يقول ما مجمله بان الفلسفة ليست املس"ائل املدروس"ة ض"من الفلس"فة‬
‫(وال ضمن التاريخ)‪ ،‬والتي تحدد الحق‪ ،‬بل هي الطريق التي يش""كلها الحق""ل الفلس""في ويتخ""ذها‬
‫‪1‬‬
‫‪John Dewey: reconstruction in philosophy, Henry Holt and company, New York.‬‬ ‫‪1920,‬‬
‫‪p101‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Vincent Citot: Matérialisme et idéalisme en histoire: à propos du Secret de‬‬
‫‪l’Occident de D. Cosandey, in le Philosophoire, n30-2008- paris, p158-159‬‬

‫‪83‬‬
‫طريق""ة ت""دل علي""ه ويحي""ل عليه""ا بالض""رورة‪ ،‬وال""تي هي – في املقارب""ة الكانطي""ة للفلس""فة‪ -‬البني""ة‬
‫التبريرية الشارحة‪ ،‬التي من خاللها ت"برر الفلس"فة عقالني"ا ومنطقي"ا مقارباته"ا" ملوض"وعاتها‪ ،‬ثم‬
‫تعكف على نفسها مبررة وشارحة طريقتها في العمل بالشكل العقالني املنطقي نفسه‪.‬‬

‫ليس" ""ت بعي" ""دة عن ك" ""ل ه" ""ذا املقارب" ""ة املث" ""يرة للتأم" ""ل ال" ""تي ي" ""أتي به" ""ا "ج" ""ون دي" ""وي" محيال على ال‬
‫ج""دوى البحث في أص""ول فلس""فية ت""برر البت في ه""ذه املس""ألة في فلس""فة الت""اريخ؛ التقاب""ل الق""ديم‬
‫بين التفس" ""ير املث" ""الي والتفس" ""ير املادي للت" ""اريخ‪ ،‬ب" ""ل وح" ""تى محاول" ""ة الس" ""يطرة على النق" ""اش بين‬
‫املادي""ة واملثالي""ة‪ .‬له""ذا فإنن""ا ال نس""تغرب أن تأتين""ا ه""ذه املحاول""ة أول م""رة من أميرك""ا (الوالي""ات‬
‫املتح " ""دة) بوص " ""فها أرض " ""ا غ " ""ير معني " ""ة ب " ""امليراث الثقي " ""ل للنق " ""اش الفلس " ""في كم " ""ا ورث " ""ه الق " ""رن‬
‫العش ""رون‪ ،‬إن ج ""ل م ""ا فعل ""ه ج ""ون دي ""وي في ه ""ذا الحق ""ل وفي ه ""ذا املوض ""وع ه ""و االس ""تعانة‬
‫باملنظ ""ار البراغم ""اتي للخ ""روج من ه ""ذه املعارض ""ة‪ ".‬وهي خط ""وة س ""تمهد عم ""ل فالس ""فة م ""ا بع ""د‬
‫الحداث" " ""ة بش" " ""كل كب" " ""ير رغم ارتب" " ""اط أهمهم ب" " ""امليراث اليس" " ""اري‪ :‬مدرس" " ""ة ب" " ""اريس ومدرس" " ""ة‬
‫فرانكف ""وت أساس ""ا‪ .‬رغم أن وجه ""ة النظ ""ر اليس ""ارية لتفس ""ير الفلس ""فة م ""رة والت ""اريخ م ""رارا‪،‬‬
‫ستعرف انبعاث"ات كث"يرة مفس"رة الت"اريخ مادي"ا‪ ،‬بأش"كال جدي"دة ومتج"ددة‪ .‬وه"و م"ا س"نراه م"ع‬
‫م""ؤلفين مث""ل لوس""يان غول""دمان و ل""وي آلتوس""ير وش""انتال م""وف إرنس""تو الكل""و وأوليفيي""ه بل""وخ‬
‫وباسكال شاربونا ومارسيا بونج‪ ،‬واالتجاه النشط ج""دا في الض""احية االنغلوسكس""ونية املس"مى‬
‫باليسار الجديد ‪.the new left‬‬

‫وفي حين يبتغي كث" ""يرون إقام" ""ة الص" ""راع الطبقي كم" ""واطن أص" ""لي للفلس" ""فة‪ ،‬واس" ""تبعاد الرؤي" ""ة‬
‫املثالي""ة ال""تي زع""زع بنيانه""ا الق""رن العش""رون بإص""رار كث""ير من أعالم""ه على رفض الحتمي""ة كم""آل‬
‫للت""اريخ‪ . . ".،‬يق""ف خل""ف ك""ل ه""ذا الج""دل الط""ابع ال""ذي عك""ف علي""ه الفيلس""وف األملاني فيلهلم‬
‫ديلط""اي من خالل بدئ""ه في عرض""ه الش""يق لفلس""فة الت""اريخ ال""تي ش""غلت الج""زء األهم من عمل""ه‬
‫بين علوم الطبيعة وعلوم العقل‪ ،‬أي نمط من املعارف مادته خارج" اإلنسان يش""تغل عليه""ا من‬
‫‪1‬‬
‫خالل إخضاعها للعقل ونمط آخر يكون العقل نفسه هو مادتها‬

‫ورغم دق""ة ه""ذا التقس""يم ال""ذي لفت انتباهن""ا ألول م""رة إلى موق""ع فيلس""وف الت""اريخ من الت""اريخ‪،‬‬
‫إال أن مغب""ة منهجي""ة اخ""رى تبقى مطروح""ة؛ أو ربم""ا تنش""أ من وجه""ة نظ""ر ديلط""اي ه""ذه‪ ،‬مغب""ة‬
‫س""ببها الط""ابع املخات""ل للم""ادة التاريخي""ة إذ أن كث""يرا من ه""ذه الوث""ائق مزال""ق ال حق""ائق إذا ج""از‬
‫لن ""ا أن نس ""ترجع روح تعب ""ير فوك ""و الش ""هير ‪ ،le document est monument‬فالوث ""ائق واآلث ""ار‬
‫تتالعب بالحقيق ""ة التاريخي ""ة مانح ""ة إيان ""ا الص ""يغة ال ""تي تك ""ون الف ""ترة ق ""د ارتض ""تها لنفس ""ها وال‬
‫تمنحن " ""ا الص " ""يغة ال " ""تي علين " ""ا أن نس " ""تعيدها" إذا ارتأين " ""ا تق " ""ريب عم " ""ل املؤرخ من عم " ""ل ع " ""الم‬
‫‪1‬‬
‫‪Wilhelm Dilthey; La vie historique, trad: Christian Berner et Jean-Claude Gens.‬‬
‫‪Septentrion, Paris, 2014, p15‬‬

‫‪84‬‬
‫الطبيعي " " ""ات حس " " ""ب تقس " " ""يم ديلط " " ""اي‪ .‬ول " " ""و أنن " " ""ا س " " ""نجد س " " ""ندا للبحث الت " " ""اريخي في ه " " ""ذه‬
‫الوث ""ائق‪/‬املزال ""ق لكي نحوله ""ا من خالل خطابن ""ا الت ""اريخي املوض ""وعي املعم ""ق إلى وث ""ائق‪/‬حق ""ائق‪،‬‬
‫وه ""ذه الطاق ""ة التدليلي ""ة إيجابي ""ا أو س ""لبيا هي أح ""د املبررات الك ""برى لض ""رورة اإليم ""ان بنجاع ""ة‬
‫‪.1‬‬
‫عمل املؤرخ‬

‫‪1‬‬
‫‪Jacques Le Goff: histoire et mémoire, Gallimard, Paris. p303‬‬

‫‪85‬‬
‫تتح""رج فلس""فة الت""اريخ كث ""يرا من املع""اني ال ""تي من ش ""أنها أن تنبعث من س ""رد األح""داث؛ س ""واء‬
‫أك""ان س""ردا يتح""رى املوض""وعية ويح""د من حض""ور املؤرخ أو املعل""ق كم""ا هي ح""ال أش""خاص من‬
‫قبي""ل الط""بري أو ابن األث""ير أو ابن كث""ير‪ ،‬أو ك""ان س""ردا من تل""ك ال""تي نج""د فيه""ا ه""اجس التعلي""ق‬
‫حاضرا بشدة كما هي حال البيروني في "اآلثار الباقية"" أو ابن خلدون في تاريخه‪.‬‬

‫املشكلة التي تطرح هنا هي طبيعة فعل "الفهم" ‪ compréhension‬في التاريخ‪ .‬ويلخص املس""ألة‬
‫اح"د املش"تغلين األف""ذاذ في ه"ذا الحق"ل؛ املؤرخ الفرنسي ب""ول فين ‪ ،Paul Veyne‬واملس"الة عن"ده‬
‫جوهره""ا أن""ه ألج""ل بل""وغ مع""نى "فلس""في" للت""اريخ علين""ا أن "نخ""وض حرب""ا شرس""ة ض""د املنظ""ور‬
‫ال" ""ذي تعم" ""ل على فرض" ""ه املص" ""ادر"‪ ،1‬من منطل" ""ق أن املعض" ""لة الرئيس" ""ة لفهم الت" ""اريخ معض" ""لة‬
‫ثنائية؛ من جهة بسبب كون التاريخ يبلغنا بشكل مشوه وجزئي‪ ،‬ومن الجه"ة الثاني"ة أن"ه يبلغن""ا‬
‫‪2‬‬
‫مشبعا بوجهة نظر املصادر؛ أشخاصا ووثائق‪.‬‬

‫ه""ذه املس""ألة هي ال""تي س""يدور ح""ول جوهره""ا أو ح""ول خلفيته""ا االبس""تيمولوجية" الح""ديث ح""ول‬
‫التاريخانية‪ "،‬والذي سيبلغ مقوالت التاريخانية" الجديدة املتينة‪".‬‬

‫ك""ان هيغ""ل ق""د واج""ه على ه""امش دروس""ه األولى ح""ول فلس""فة الت""اريخ ‪ 1822/1823‬ثم ال""دروس‬
‫الثاني ""ة ‪ 1830/1831‬معض ""لة تحدي ""د م ""ادة الت ""اريخ وطريق ""ة العم ""ل عليه ""ا وزاوي ""ة العم ""ل ه ""ذه؛‬
‫وك"ان أن"ه ق"ام باختي"ار غ"ير موف""ق تمام""ا حينم""ا رس""م خطاط"ة" تس""مح ل""ه ب""التفكير الفلس""في ال"ذي‬
‫يتج ""اوز التفك ""ير ال ""ذي درج علي ""ه قب ""ل تل ""ك املرحل ""ة؛ أي التفك ""ير الت ""اريخي ال ""ذي ه ""و اس ""تعادة‬
‫كرونولوجي""ة تقابلي""ة وحواري""ة (ه""ل نق""ول جدلي""ة؟) للتفك""ير السياسي في الت""اريخ‪ ،‬واملقص""ود‬
‫باختي""اره ه""و تحدي""د دائ""رة بحث""ه في األمم ال""تي له""ا ت""اريخ‪ ،‬أي تل""ك ال""تي ش""كلت دوال س""ارت عن‬
‫قصد صوب تشكيل معنى معين للحرية وشعرت بضرورة تدوين قصتها مع مساراتها تلك‪ ،‬أي‬
‫تلك األمم التي أرخت لنفس"ها فك"انت أمم"ا "تاريخي"ة" تقابله"ا حس"ب مص"طلحه نفس"ه األمم ال"تي‬
‫ظلت "خارج التاريخ"؛" أمم يصفها بأنها ليس لها تاريخ موضوعي ألنها لم تطمح في امتالك ت""اريخ‬
‫‪.3‬‬
‫ذاتي‪ ،‬وألنها لم تشكل لنفسها سردا تاريخيا‬

‫من املث""ير أن ن""رى الفك""رة التنويري""ة لهيغ""ل ال""ذي ي""رى من خالله""ا ب""أن هنال""ك أمم""ا تتح""رك لكي‬
‫تأهل التاريخ وأن أمما أخرى تظل خاملة؛ وق"د ص"نع لفكرت"ه ح"ول فلس"فة الت"اريخ "موتيف"ا" أو‬
‫"ترس""يمة"" مرجعي""ة‪ ،‬أو محرك""ا يتمث""ل في تط""وير مفه""وم الحري""ة أو ممارس""ته ‪ ،4‬من املفي""د أن‬
‫ن""رى كي""ف أن ه""ذه الفك""رة س""تتحول على أي""دي أعالم التاريخاني""ة الجدي""دة إلى عكس""ها تمام""ا؛‬

‫‪1‬‬
‫‪Paul Veyne: comment on écrit l’histoire,Seuil, paris, 1971, p151‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid, p152‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Hegel: Introduction à la philosophie de l’histoire,p12‬‬
‫‪4‬‬
‫‪Ibid, p60‬‬

‫‪86‬‬
‫وإن كن ""ا ال نس ""تبعد ذل ""ك من منطل ""ق أن حرك ""ة التاريخاني "ة" الجدي ""دة ج ""اءت في الفض ""اء مابع ""د‬
‫الح""داثي ال""ذي ه""و فض""اء ش""غله في كث""ير من جوانب""ه نق""د املش""روع الح""داثي ال""ذي درج املعلق""ون‬
‫على إدراج هيغ ""ل ض ""منه‪ .‬نق ""د بج ""د مخ ""ارج" كث ""يرة ل ""ه في الفك ""رة الجدي ""دة ال ""تي تجع ""ل للت ""اريخ‬
‫ج ""وهرين‪ ،‬أح ""دهما واص ""ف يع""نى ب ""الثوابت الوقائعي "ة" والث ""اني م ""ؤول متمح ""ور ح ""ول املتغ ""يرات‬
‫‪1‬‬
‫املنوطة بغنسان الزمن املتحرك‪.‬‬

‫ترتب""ط فلس""فة الت""اريخ في الف""ترة مابع""د الحداثي""ة بتوص""يف اس""ترجاعي يب""دأ مدرس""يا وينتهي إلى‬
‫املخالف ""ة الش ""ديدة لتع ""اليم املدرس ""ية‪ "،‬فه ""ذه الفلس ""فة به ""ذا املع ""نى تحدي ""دا تحي ""ل على «مدون ""ة‬
‫البح ""وث الص ""ادرة عن املؤرخين والفالس ""فة ال ""ذين أرادوا من ""ذ ق ""رنين أن يقيم ""وا املكان ""ة ال ""تي‬
‫تحتله""ا املعرف "ة" التاريخي""ة في نظ""ام املع""ارف‪ ،‬م""ع املقارن""ة بم""ا تقدم""ه العل""وم الدقيق""ة‪ ،‬وذل""ك‬
‫بتحدي""د موض""وعاتها ومناهجه""ا ونم""ط الحقيق""ة ال""ذي يمكن ان تبلغ""ه‪ .‬أم""ا املع""نى األخ""ير فه""و‬
‫تحدي ""د «فلس ""فة الت ""اريخ (كأنطولوجي ""ا للص ""يرورة)‪ ،‬وه ""و ال ""ذي يح ""رص على تأكي ""د ان مس ""ار‬
‫اإلنس""ان من""ذ بداي""ة ال""زمن‪ ،‬يق""وم على وح""دة عميق""ة ويمتل""ك مع""نى دفين""ا‪ ،‬ويمكن أن يض""بط‬
‫هذا املعنى في فكرة "القدر اإللهي"»‪.2‬‬

‫وألجل البت في هذه املسألة الحساسة نذكر بما كان من جاكوب بوركهارت مؤرخ الفنون واملنظر‬
‫الكبير لعلم التاريخ حينما" وقف على عتبة هامة؛ إذ يرى بأن القوانين التي ينبني عليها التاريخ ال‬
‫تتأتي من األحداث املحورية (السياسية مثال‪ . . .‬وذلك أضعف اإليمان ) بل تأتي كذلك من صغائر‬
‫األمور ودقائق التفاصيل‪ ،‬هذه التفاصيل التي قد تذهب باملعنى التاريخي في اتجاه مثلما قد تعمل‬
‫على تصريفه صوب اتجاه آخر وهذه النقطة تحيلنا على جوهر عمل ديلطاي الذي ربط التأويل‬
‫الذي اشتهر به اسمه بالتأريخ ومن الجدير بالتوقف ان ديلطاي يؤمن إيمانا راسخا بالحتمية‬
‫التاريخية" (فهو صاحب مصطلح "التاريخانية"" ) فيما يفتح نافذة التأويل على املعنى التاريخي‪،‬‬
‫الذي هو معنى متجدد جيال بعد جيل بسبب دخول عين الناظر إلى الحادثة إلى جانب عبن‬
‫الفاحص للثر التاريخي الذي هو اثر ذو صبغة اركيولوجية‪ ،‬السلوك املناسب إزاءها هو‬
‫الحفريات واالستكشاف ال النظر والوصف‪.3‬‬

‫يفتح هذا الفهم املعاصر (والصحيح أن نقول مابعد الحداثي‪ ،‬كما قد أسلفنا) للظاهرة التاريخية‬
‫الباب واسعا على املوقع الجديد الذي تتبوأه الذات في خطابات مابعد الحداثة‪ .‬إن في تحليل‬

‫‪1‬‬
‫عبد هللا العروي‪ :‬مفهوم التاريخ‪ ،‬ج‪ /1‬ص ‪400‬‬
‫‪2‬‬
‫السيد ولد اباه‪ :‬التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو‪ ،‬دار المنتخب‪ ƒ‬العربي‪ ،‬ط‪1994 ،1‬م‪ ،‬ص‪191‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Gottfried Boehm, « La critique de l’historicisme par Jacob Burckhardt: genèse et‬‬
‫‪validité », Revue germanique internationale, 2, 1994, pp 75/76‬‬

‫‪87‬‬
‫الخطابات مابعد البنيوية كثيرا من التركيز على موقع الذات في املعرفة وفي مسارات صناعة‬
‫املعنى والحياة والتي يختزلها كلها البحث في اللغة‪ ،‬هذه األداة املحورية في الفهم (هذا املوقع‬
‫الحساس في فلسفة التاريخ)‪ ،‬وهي من املرتكزات الكبرى ألعمال أعالم مابعد الحداثة؛ إذ أن‬
‫هناك في الواقع اختالفا جذريا" لهذه النظريات عن النظريات القديمة التي هي امتدادات متنوعة‬
‫للتعليم السكوالستيكي وللمذهب الكنسي وما نتج عن كل هذا من النزعات التي تضع الذات خارج‬
‫أطر املعرفة‪ .‬فالذات متعلم سلبي أو حيادي‪ .‬والظواهر هي األمهات وهي املعول عليها لفهم‬
‫العالم‪.‬‬

‫في هذا املنظور مابعد الحداثي يقول بول ريكور " املنتظر من املؤرخ هو نمط محدد من الذاتية‪،‬‬
‫ال ننتظر الذاتية كذاتية لذاتها‪ ،‬أي ذاتية متاحة‪ "،‬بل كنمط محدد يشترط فيه أن يكون مناسبا‬
‫للموضوعية الالزمة للتاريخ‪ ،‬هي إذن ذاتية متورطة‪ ،‬متورطة مع املوضوعية املتوخاة‪ ،‬وعلى‬
‫هامش استشعارنا لوجود ذاتية جيدة وأخرى سيئة‪ ،‬فإننا نرتقب فصال بين الذاتيتين تقوم به‬
‫‪1‬‬
‫ممارسة مهنة املؤرخ‪" .‬‬

‫موقع للمؤرخ يصل حدا غريبا من التعدد وصفه عبد هللا العروي قائال بأنه أحيانا يتعدد فيلتبس‬
‫بسبب تكاثر املالمح التي يتخذها املؤرخ نفسه والتي تتراكب حد اشتباه األمر علينا؛ نحن الذين‬
‫نأخذ كتابا في التاريخ لشخص واحد اسمه مريح بقدرما هو مخاتل لنا‪ ،‬شخص مثل ابن خلدون‬
‫"املؤرخ"؛ ولكن أي مؤرخ هو في الحقيقة؟ إنه شخص واحد بذات واحدة تختفي تحتها شخصيات‬
‫عدة بذوات متعددة؛ إذ "يمثل ابن خلدون‪ )1( :‬راويا مثل غيره من الرواة عندما يتكلم عن‬
‫أصول العرب والبربر والترك‪ )2( ،‬مشاهدا بل صحفيا عندما يتكلم عن نفسه وعلى سالكين بني‬
‫مرين؛(‪ )3‬مؤرخا يزاحم في اإلتقان والنباهة" واالطالع املسعودي أو البيروني؛ (‪ )4‬منظرا لقواعد‬
‫الكتابة التاريخية؛ (‪ )5‬مبدعا لعلم العمران في مستوى فالسفة عهد التنوير‪ .2" . . .‬وهكذا فإن‬
‫مفهوم الذات محكوم أيضا بموقعها؛" الشيء الذي يعقد املهمة التي يتوخاها بول ريكور أكثر‪.‬‬

‫ويصل عمل املعول مابعد الحداثي إلى درجة بعيدة األثر من الهدم إلحداثيات التفكير املوروث‬
‫عن العصور السابقة‪ .‬فقد ورثنا عن الجدود الوضعيين تقديسا شبيها بالتقديس الديني لفكرة‬
‫"املوضوعية"؛" ولعل البحث التاريخي – كما مر بنا سابقا أكثر تقديسا لهذه املوضوعية العلمية‬
‫من غيره من األنشطة اإلنسانية‪ .‬إال ان املفكر في الفضاء مابعد الحداثي يرى في املوضوعية‬
‫‪1‬‬
‫‪Paul Ricoeur: Histoire et verité, seuil, Paris, p23/24‬‬
‫‪2‬‬
‫عبد هللا العروي‪ :‬مفهوم التاريخ‪ ،‬ج‪ /1‬ص‪16‬‬

‫‪88‬‬
‫ُ‬
‫الذات املذكورة أعاله‪ .‬وهذا ما يقصده ريكور في‬ ‫ّ‬
‫وتصرفها‪،‬‬ ‫وجوها عديدة تتصرف فيها‪،‬‬
‫ِ‬
‫مقدمته املنهجية لبحثه في الصلة بين التاريخ والحقيقة‪ ،‬إذ يرى بأن املنتظر "من التاريخ هو نمط‬
‫معين من املوضوعية‪ ،‬موضوعية تناسبه‪ ،‬وهذا هو املنطلق الذي ينبغي تبنيه‪ ،‬ولكن‪ :‬ما‬
‫املقصود تحديدا بهذا العنوان؟ على املوضوعية هنا أن يتم فهمها بمعناها اإلبستمولوجي الدقيق‪:‬‬
‫يعد األمر موضوعيا إذا تمكن الفكر املنهجي من استيعابه وتنظيمه وفهمه وجعله قابال للفهم‪.‬‬
‫ينطبق هذا على علوم الفيزياء والبيولوجيا ولكنه ينطبق ايضا على التاريخ‪ ،‬ولهذا ننتظر من‬
‫التاريخ أن يمنح ماضي املجتمعات تذكرة عبور إلى مصاف املوضوعية النبيلة‪ ،‬وليس معنى هذا‬
‫أن موضوعية التاريخ هي نفسها موضوعية الفيزياء والبيولوجيا‪ ،‬إذ أن هنالك موضوعيات بقدر‬
‫ما هنالك سلوكات منهجية في هذا العالم‪ .‬لذا فنحن ننتظر من التاريخ أن يضيف لبنة أخرى إلى‬
‫‪1‬‬
‫جدار املوضوعية املتنوع‪" .‬‬

‫تهيمن الذات إذن على مسار الفهم ومسار وضع اليد على روح الحادثة إلى درجة خلق دائرة‬
‫للمعنى يمكننا وصفها بدائرة الفهم املتعالي؛ نوع من الفهم الذي ينتج حتى من أخطاء الذات في‬
‫مساراتها‪ ،‬أخطاء هي مشاتل لفهم جديد – كما يقول املؤرخ الهام جاك لوغوف؛ الذي يتفاءل‬
‫خيرا حتى حينما يتم الحياد عن جادة الصواب أثناء محاولة إدراك الحقيقة التاريخية‪ "،‬أو‬
‫محاولة وضع اليد على فلسفة معينة للتاريخ‪ .‬فهو يعتقد جازما بأن " الوثيقة التي تبين خطؤها"‬
‫هي وثيقة هامة من الناحية التاريخية‪ ،‬ألنها تختزن شهادة هامة" حول الفترة التي صنعتها وحول‬
‫‪2‬‬
‫الفترة التي تم استعمالها فيها واعتبارها صحيحة فيها‪" .‬‬

‫ويعمق الطرح أكثر حينما يدعو إلى مساءلة صمت التاريخ حول بعض الفترات‪ ،‬وهنا يظهر لنا‬
‫االهتمام السوسيري بالصمت كجزء ال يتجزأ من الرسائل اللغوية‪ ،‬فإذا كانت اللغة هي حصان‬
‫املعركة الفلسفية في الفترة مابعد الحداثية فإننا لن نستغرب استنطاق الصمت في الخطابات‬
‫التاريخية‪ ".‬وفي هذا السياق يقول جاك لوغوف‪ " :‬ال بد من مساءلة التاريخ حول فترات‬
‫‪3‬‬
‫صمته‪ ،‬ال بد أيضا من جرد ألرشيف الصمت"‬

‫إن هذا امللمح الجزئي والذاتي واالجتزائي لعملية ترتيب التاريخ حسب استراتيجية هي وليدة‬
‫الحاضر‪ ،‬هو ما يدفع بميشال فوكو إلى استعادة اللفظة الديلطاوية بامتياز التي هي‬

‫‪1‬‬
‫‪Ibid. , p24‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Jacques Le Goff: histoire et mémoire, Gallimard, p303‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Ibid. ,p302‬‬

‫‪89‬‬
‫ُ‬
‫فحسب‪.‬‬ ‫"هيرمينوطيقا" لكي يصف عملية قراءتنا الذاتية الخاصة التي تعنينا‪ ،‬وتعنينا نحن‬
‫تعنينا في إطار محاولة ترسيخ تجربتنا الحاضرة والبحث لها عن أرضية صلبة ترتكز عليها‪.‬‬
‫أرضية التاريخ التي تستدرج كل معاني الجالل التي ترتبط من حيث ندري ومن حيث ال ندري‬
‫باملاضي‪ .‬وهذا هو بالذات ما دفع بالفضاء مابعد الحداثي صوب الحديث عن نوع من‬
‫"هيرمينطيقا التاريخ "‪ ،‬التي هدفها" ليس فهم املاضي بل رسم معالم مستقبل معين من خالل‬
‫‪1‬‬
‫التأريخ للحاضر‪.‬‬

‫خالصات‬

‫بداية‪ :‬تحيل فلسفة التاريخ بدءا من فولت"ير على أم"رين رئيس"يين‪ :‬أولهم"ا دراس"ة من"اهج‬ ‫‪-‬‬
‫البحث في الوق ""ائع التاريخي ""ة باإلجاب ""ة على الس ""ؤالين‪ :‬كي ""ف تتم كتاب ""ة الت ""اريخ؟ و م ""ا املنهجي ""ة‬
‫املعقول ""ة واملوثوق ""ة للتحق ""ق من ص ""حة محم ""والت ه ""ذه النص ""وص التاريخي ""ة لتش ""ذيبها وتنقي ""ة‬
‫األخبار والوقائع والتفسيرات الواردة؟‬
‫األمر اآلخر الذي تحيل عليه فلسفة التاريخ هو العملية التأويلية؛ وفيها يقوم‬ ‫‪-‬‬
‫املؤرخ‪/‬الفيلسوف باستحداث أبعاد عامة ما ال تحيل عليها النصوص التاريخية ألول وهلة‪ ،‬بل أنها‬
‫كثيرا ما تحيل على نقيضها تماما‪.‬‬

‫وقد تطورت اآلراء –كما رأينا – في اتجاه ضرورة اتخاذ موقف ابتدائي يحدد موقع املؤرخ‪/‬املؤول‬
‫إزاء مادته الحوادثية‪ ،‬موقف يغلب عليه امليل صوب تفسير كل شيء بشكل نهائي‪ ،‬والسماح‬
‫بالتالي بالتقاط معنى التاريخ وصياغة روح العصر‪.‬‬

‫من جه" ""ة ثالث" ""ة‪ :‬يص" ""بح الش" ""غل الش" ""اغل لفيلس" ""وف الت" ""اريخ في ه" ""ذا املنظ" ""ور ه" ""و تحري" ""ر‬ ‫‪-‬‬
‫مبحث فلسفي يركز اساسا على "السمة التاريخي"ة" ل"تي يمكنن"ا ع"دها امللمح األك"ثر ملعان"ا للوج"ود‬
‫البش ""ري م ""ع ه ""اجس" التفس ""ير والتأوي ""ل‪ ،‬ك ""ل ه ""ذا يص ""بح تخطيط ""ا مس ""تقبليا لتحقي ""ق يوطوبي ""ا‬
‫ش" ""يوعية اش" ""تغل م" ""اركس بهم" ""ة عالي" ""ة على وص" ""ف الت" ""اريخ العري" ""ق ال" ""ذي من" ""ع تحققه" ""ا؛ ت" ""اريخ‬
‫الص " ""الت البش " ""رية املبني " ""ة على ثنائي " ""ات الس " ""يد والعب " ""د‪ ،‬ال " ""رئيس واملرؤوس‪ ،‬املال " ""ك واألج " ""ير‬
‫الي""ومي‪ ،‬الح"اكم املتس"لط واملحك""وم امله"ان‪ . . .،‬وكله""ا ظ"روف جعلت اله"دف األس""مى للت""اريخ ه"و‬
‫نفس""ه اله""دف ال""ذي ك""ان هيغ""ل ق""د ح""دده – و ه""و اله""دف ال""ذي لم ينف""ه م""اركس‪ ،‬بك""ل غراب""ة‪،-‬‬
‫واملقص ""ود ب ""ه طبع ""ا ه ""و تحقي ""ق س ""عادة اإلنس ""ان من خالل تح ""رره الت ""ام من نفس ""ه ومن س ""لطة‬
‫التاريخ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪M Foucault: dits et écrits, p1383‬‬

‫‪90‬‬
‫على يد رابعة؛ كان ال بد من تحديد جوهر عمل املؤرخ بين منظار العالم ومنظار املعلق‪ ،‬هل‬ ‫‪-‬‬
‫المطلوب من املؤرخ هو التعليق الخارجي "املوضوعي" على الحوادث؟ أم أنه ينبغي عليه أن يسقط‬
‫على كل ما أمامه منظارا ثريا ومتعاليا يبحث عن معنى كامن نلحقه نحن بالتاريخ ألنه غير ظاهر‬
‫ألول وهلة‪ .‬ونذكر هنا بما كان من جاكوب" بوركهارت مؤرخ الفنون واملنظر الكبير لعلم التاريخ‬
‫حينما وقف على عتبة هامة؛" إذ يرى بأن القوانين التي ينبني عليها التاريخ ال تتأتي من األحداث‬
‫املحورية (السياسية مثال‪ . . .‬وذلك أضعف اإليمان ) بل تأتي كذلك من صغائر األمور ودقائق‬
‫التفاصيل‪ ،‬هذه التفاصيل التي قد تذهب باملعنى التاريخي في اتجاه مثلما قد تعمل على تصريفه‬
‫صوب اتجاه آخر وهذه النقطة تحيلنا على جوهر عمل ديلطاي الذي ربط التأويل الذي اشتهر به‬
‫اسمه بالتأريخ ومن الجدير بالتوقف ان ديلطاي يؤمن إيمانا راسخا بالحتمية التاريخية (فهو‬
‫صاحب مصطلح "التاريخانية" ) فيما يفتح نافذة التأويل على املعنى التاريخي‪ ،‬الذي هو معنى‬
‫متجدد جيال بعد جيل بسبب دخول عين الناظر إلى الحادثة إلى جانب عبن الفاحص للثر التاريخي‬
‫الذي هو اثر ذو صبغة اركيولوجية‪ ،‬السلوك املناسب إزاءها هو الحفريات واالستكشاف ال‬
‫النظر والوصف ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫ستتسع الرؤية الفلسفية للتاريخ في الفضاء ما بعد الحداثي لكي تصبح قادرة حتى على بناء مسارت‬
‫للتاريخ في غياب مسارات موصوفة له‪ ،‬وهذا هو جوهر" التأويل‪ ،‬فمؤرخو الزمن مابعد الحداثي‬
‫يؤمنون بإن "ما كان"" هو أيضا "ما لم يكن"‪ ،‬فهذا "املستحيل التاريخي" واملسار الذي قام بمنعه‬
‫من الحدوث الذي هو – كما هو واضح‪ -‬جزء من فلسفة التاريخ‪ "،‬من باب قبول االستدالل‬
‫باالستقصاء وقبول االستدالل بامتناع االستقصاء أيضا‪ .‬وكمثال لفهم هذا الراي يمكننا سوق‬
‫املثال حيث نستمع إلى قول ميشال فوكو في مقاربة مثيرة لالنتباه حول الصلة الوجودية بين‬
‫التاريخ الغربي وصنوه وغريمه ووجهه اآلخر أيضا التاريخ الشرقي‪ " :‬يتشكل تاريخ الغرب من‬
‫النظر إلى الشرق الذي هو أصله نظرة استعادة ملاض ما‪ :‬فالشرق هو كل ما لم يتمكن من كونه‬
‫الغرب‪ ،‬وال بد إذن من كتابة تاريخ للحد الفاصل بين قيمتين معنويتين" ‪.2‬‬

‫وختاما فإن املعنى التاريخي ينتهي به األمر أن يصبح مجرد "سرد" يدون وجهة نظر‪ .‬وإذا‬ ‫‪-‬‬
‫كانت هنالك كلمة قد نالت حظا كبيرا في نصف القرن املاضي الذي هو نصف القرن مابعد‬

‫‪1‬‬
‫‪Gottfried Boehm, « La critique de l’historicisme par Jacob Burckhardt: genèse et‬‬
‫‪validité », Revue germanique internationale, 2, 1994, pp 75/76‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Michel Foucault: dits et écrits, Gallimard, Paris, vol1, p190‬‬

‫‪91‬‬
‫الحداثي بامتياز فهي كلمة السرد‪ .‬هذا املفهوم الذي ألقى بظالله على كل املفاهيم املمكنة‪ ،‬السرد‬
‫الذي يستجيب كثيرا مليزة العصر الذي تهيمن على اآلراء فيه وجهات النظر‪ ،‬والذي هو عصر‬
‫يجعل "الوجهة" أهم ما في "النظر" أثناء تحديد "وجهات النظر "‪ .‬فالسرد يمثل زاوية ذاتية فارغة‬
‫من ادعاء الحقيقة‪ ،‬وهذا يشمل "الحقيقة" كمعطى غير ثابت بسبب ارتباطه – كما أسلفنا –‬
‫منطو على كم كبير من األغالط هي جزء ال يتجزأ‬
‫ٍ‬ ‫باللغة التي هي كيان غير ثابت‪ ،‬مخاتل‪ ،‬متطور‪،‬‬
‫منه‪ .‬فإ ذا جئنا إلى تفسير حادثة أو سلسلة أحداث تاريخية فإننا نصطدم أوال بمعنى التفسير‪ ،‬و"‬
‫‪1‬‬
‫ما نسميه التفسير ليس شيئا سوى الطريقة التي يكتسبها السرد التاريخي لتشكيل حبكة معقولة"‬

‫و كما هي الحال في القصص واملرويات التي تدرج ضمن الخيال‪ ،‬فإن التاريخ املوصوف في األفق‬
‫مابعد الحداثي بأنه مجرد سرد يصبح هو أيضا مهووسا بالبحث في الهامشي والعرضي عما ينتظمه‬
‫منطق ما‪ ،‬منطق سوف نختزل األحكام كلها لنسميه فلسفة التاريخ مرة‪ ،‬ونسميه روح العصر أو‬
‫معنى الحادثة‪ ،‬تبعا لفولتير مرة‪ ،‬لهيغل مرة ولديلطاي مرة ثالثة‪.‬‬

‫فاملؤرخون في نهاية األمر ساردون يملكون وثائق ال غير‪ ،‬إنهم " يروون حبكات وقصصا هي بمثابة‬
‫مسارات يرسمونها حسب رؤيتهم على أرض الوقائع‪ ،‬لذا فإنه ال مؤرخ يملك أن يصف هذه‬
‫األرض وصفا كليا‪ ،‬ألن طبيعة املسار هي املرور عبر نقاط معينة وكفى‪ ،‬وفي النهاية فإنه ال مسار‬
‫من كل هذه املسارات هو "الصحيح" وال هو "التاريخ"‪ . . .،‬والسبب العميق لذلك هو أن كل واقعة‬
‫هي ملتقى ملسارات ممكنة‪ . . .‬وفي النهاية فإنها ال توجد واقعة اجتماعية كلية لكي نحصل على تاريخ‬
‫‪2‬‬
‫كلي‪" .‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Paul Veyne: Comment on écrit l’histoire, Seuil, Paris, 1971,‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid. p38‬‬

‫‪92‬‬
:‫مكتبة الدراسة‬

‫ الدار الذهبية‬،‫ تحقيق ابي عبد الرحمان عادل بن سعد‬،"‫ "مقدمة ابن خلدون‬:‫عبد الرحمن بن خلدون‬
.‫ القاهرة‬،‫للطبع و النشر و التوزيع‬

،2000‫ ط‬،‫ منشورات الجمل‬،‫ محمود شريح‬:‫ ترجمة‬،‫ البيان الشيوعي‬:‫كارل ماركس وفريدريك إنجلز‬

‫م‬1994 ،1‫ ط‬،‫ دار املنتخب العربي‬،‫ التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو‬:‫السيد ولد اباه‬

،2009 ،‫ الجزائر‬،‫ دار الحكمة‬،‫ محمد األمين بحري‬:‫ تر‬،‫ املاركسية‬:‫روجي غارودي‬

2005 ،4‫ ط‬.1‫ ج‬،‫ الدار البيضاء‬،‫ املركز الثقافي العربي‬،‫ مفهوم التاريخ‬:‫عبد هللا العروي‬

Gottfried Boehm: La critique de l’historicisme par Jacob Burckhardt: genèse et validité, Traducteur: Marianne Charrière, Revue Germanique
Internationale. N: 2/1994.
Vincent Citot: Matérialisme et idéalisme en histoire: à propos du Secret de l’Occident de D. Cosandey, in le Philosophoire, n30-2008- paris.
John Dewey: reconstruction in philosophy, Henry Holt and company, New York. 1920.
Wilhelm Dilthey: La vie historique, trad: Christian Berner et Jean-Claude Gens. Septentrion, Paris, 2014. Michel Foucault: dits et écrits, Gallimard,
Paris, vol1. 2001
G. W. F. Hegel: Introduction à la philosophie de l’histoire, Livre de poche, Paris. 2012.
Jacques Le Goff: histoire et mémoire, Gallimard, Paris. p303
Karl Marx: 18 Brumaire de Napoleon 3,Flammarion, paris, 2007
Karl Marx: le capital, Lachâtre, paris, nouv. Ed; tome1.
Michel De Montaigne: Journal de voyage, Gallimard,paris,1983.
Paul Ricoeur: Histoire et verité, seuil, Paris. Nouv. Ed. 2001
Jean-paul Sartre: critique de la raison dialectique, NRF-Gallimard, Paris, p39.
Paul Veyne: comment on écrit l’histoire, Seuil, paris. 1971
Voltaire: Essai sur les moeurs, Paris, Classiques Garnier. Paris. , 1990.
Voltaire, Oeuvres historiques, Bibliothèque de la Pléiade, Paris. 1958

93
‫أفق االفتراض‬

‫الخيال العلمي و الفلسفة‬

‫من الج""دير ب""التوقف هن""ا فك"رة أن الخي"ال العلمي في تاريخ"ه الق"ديم ق""د نش""أ في كن""ف الخط""اب‬
‫ُ‬
‫الفلس""في‪ ،‬فنحن ن""ذكر ض""من العش""رة ك ّ"ت"اب الض""روريين في الت""اريخ الق""ديم للخي""ال العلمي أس""ماء مث""ل‬

‫تل""ك ال"تي ذكرناه"ا" أعاله‪ ،‬وهم جميعهم فالس""فة قب""ل ك""ونهم مش""تغلين على ع""والم التخيي""ل ال""تي نلحقه""ا‬

‫بهم‪ .‬وه ""ذا ي ""دلنا بوض ""وح على حميمي ""ة الص ""لة بين الخي ""ال العلمي والخط ""اب الفلس ""في‪ ،‬ص ""لة ت ""دعمها‬

‫املوضوعات التي أسلفنا اإلشارة إليها‪ :‬اإلنسان‪ -‬هللا‪ -‬الزمن‪ -‬املوت‪ -‬املصير‪.‬‬

‫ليس ج""وهر" املس""ألة في أس""ماء جمعت التخيي""ل إلى الت""دليل‪ ،‬أو جمالي""ات الس""رد إلى فعالي""ات ال""درس‪،‬‬

‫الج""وهر متعل""ق في الواق""ع بطريق""ة النظ""ر إلى الحقيق""ة؛" أي في امليكانيزم""ات العميق""ة لل""وعي بالع""الم‪ ،‬في‬

‫ت ""رتيب افكارن ""ا‪ "،‬في طريقتن ""ا غ ""ير الواعي ""ة في فهم عاملن ""ا وتش ""كيل خطاب ""ات معين ""ة حول ""ه‪ .‬أي بتجرب ""ة‬

‫ال" ""وعي عن" ""د اإلنس" ""ان وبخص" ""ائص م" ""دارج ح" ""دوث املعرف" ""ة عن" ""ده ‪...1‬إذ يب" ""دو أن هنال" ""ك نمطين من‬

‫الحقيقة؛ الحقيقة السردية والحقيقة الدرسية‪ ،‬حقيقة" التحليل وحقيقة التمثيل‪...‬‬

‫في بعض محاورات""ه يق""ف س""قراط قبال""ة رفقائ "ه" الطلب""ة بع""د مقاطع""ة م""ا متس""ائال‪ :‬واآلن م""اذا تري""دون‬

‫أواصل عرضي أم أروي لكم حكاية؟‬

‫الطريق إلى الحقيقة قد يتأتى مما يسميه هللا "ضرب األمثال" من خالل رواية أقاصيص مرتبة حس""ب‬

‫استراتيجيات عاقلة عاملة عاملة ‪ ،‬كما تت"أتى من خالل الع"رض الفلس"في املعه"ود املعتم"د على التحلي"ل‬

‫والبرهان واالستقصاء والتمثيل املجرد والصيغ العقلية التجريدية‪.‬‬


‫‪1‬‬
‫‪Divers : vocabulaire des sciences cognitives, sous la direction de : Olivier Houdé- puf- paris-‬‬
‫‪2003- pp 330/331‬‬

‫‪94‬‬
‫في ض""وء ه""ذا يمكنن""ا أن نق""ول إن الخي""ال العلمي ه""و أدب ذو ط""ابع فلس""في يتخ""ذ إلى الحقيق""ة طريق""ة‬

‫الس ""رد والتمثي ""ل و"ض ""رب األمث ""ال" للن ""اس لعلهم يت ""دبرون فيعقل ""ون‪ .‬ويتم ""يز بطريق ""ة خاص ""ة في بن ""اء‬

‫فرضياته؛" طريق"ة منطقي"ة وعلمي"ة وم"بررة ومبني"ة على الس"ببية والعللي"ة‪،‬وه"ذا ه"و الخ"ط الفاص"ل بين‬

‫العلم والخرافة‪ ،‬والفاصل – على املستوى األدبي‪ -‬بين األدب العجائبي وبين الخيال العلمي‪.‬‬

‫إن من يتخ ""ذون نهاي ""ة الق ""رن الث ""امن عش ""ر وبداي ""ة الق ""رن التاس ""ع عش ""ر كنقط ""ة واس ""عة املدى مليالد‬

‫الخيال العلمي يرتكزون بالضرورة على الجديد العلمي والتقني لتلك الف"ترة‪ :‬الكهرب""اء‪ ،‬التط""ور الس""ريع‬

‫للعل""وم التجريبي""ة‪ ،‬املحرك""ات النفاث""ة‪ ،‬القط""ارات‪ ،‬إن""ارة املدن بالغ""از‪...‬وفي ك""ل ه""ذا معطى علمي يرس""م‬

‫ش ""كل الحي ""اة اليومي ""ة ويلح ""ق جدي ""د الحي ""اة ب ""التطور العلمي‪ ،‬وفي ه ""ذا اإلط ""ار يمكنن ""ا أن ننظ ""ر ص ""وب‬

‫قص""تين من القص""ص األس""الف للخي""ال العلمي هم""ا "ميكروميغ""اس"" لفولت""ير( ‪ )1752‬و"فرانكنش""تاين"‬

‫ملاري شيللي (‪ ،)1818‬ففي األولى تصور بديع للع"الم في إط"ار نظري"ات ني"وتن الجدي"دة آن"ذاك‪ ،‬وفي إط"ار‬

‫الج""دل التن""ويري ح""ول إمكاني""ة أن تأه""ل مخلوق""ات معين""ة الك""واكب ال""تي تش""كل املجموع""ة الشمس""ية؛‬

‫وج""دير بااللتف""ات أن الكلم""ة األك""ثر تردي""دا في ه""ذا العم""ل الخي""الي العلمي هي "العق""ل ‪" la raison‬؛ ومن""ه‬

‫م ""ا ذكرن ""اه من رغب ""ة في التفس ""ير العقلي للع ""الم الحك ""ائي ال ""ذي ك ""ان يفس ""ر الع ""الم واألش ""ياء والوق ""ائع‬

‫تفسيرا خرافيا سحريا اعتباطيا تحت العنوان الواسع املبهم للعجائبية‪".‬‬

‫وق" ""د لفت ب" ""ول ريك" ""ور انتباهن" "ا" إلى ال ""دور الفلس ""في والبن" ""ائي لعملي" ""ة تس ""ريد الع" ""الم‪ ،‬أو لك ""ل ص" ""ياغة‬

‫س" ""ردية ك" ""انت؛ إذ يع" ""ني الح" ""ديث عن ع" ""الم النص الترك" ""يز على ملمح ال ينتمي الى اي عم" ""ل أدبي يفتح‬

‫أمام""ه أفق""ا لتجرب""ة ممكن""ة ‪ ،‬ع""الم يمكن أن يع""اش في""ه‪ .‬فليس النص بالشيء املغل""ق على ذات""ه‪ ،‬ب""ل ه""و‬
‫‪1‬‬
‫مشروع كون جديد مستقل عن الكون الذي نعيش فيه"‬

‫بول ريكور‪ -‬احلياة حبثا عن السرد‪ ،‬ترمجة سعيد الغامني‪ -‬جملة نزوى‪ -‬ع‪ -1997 -10‬ص‪23-24‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪95‬‬
‫ك ""ذلك يمكنن ""ا أن نتأم ""ل مح ""رك الس ""رد في رواي ""ة م ""اري ش ""يلي "فرانكنش ""تاين" فه ""و ع ""ودة الحي ""اة إلى‬

‫الجس""د امليت ع""بر الطاق""ة الكهربائي""ة الكامن""ة في الرع""د‪ ،‬وهي إحداثي""ة واض""حة في الدالل""ة على االرتك""از‬

‫العلمي العقلي العقالني على العلم والعق ""ل واملنط ""ق رغم االس ""تحالة املنطقي ""ة لح ""دوث ذل ""ك‪ .‬ومن هن ""ا‬

‫يتأتى سحر السرد بعدما تأتت فلسفته‪.‬‬

‫يقف أمامنا العمل الهام الذي هو " ميكروميغ""اس" لفولت"ير‪ ،‬ومن املث""ير لالهتم"ام ان الرحل"ة الفض"ائية‬

‫للبط""ل ق""د ج""اءت في أعق""اب نش""ر رس""الة فلس""فية في نق""د املجتم""ع لم ت""رق لـ "مف""تي" ب""اريس (ومص""طلح‬

‫"املفتي" لفولتير وليس تالعبا زمنيا باملصطلحات‪ ،‬ومفتي فولت"ير ه""و أس""قف ب"اريس األك"بر)‪...‬فنحن هن"ا‬

‫في إط" ""ار الح" ""رب القديم" ""ة بين العق" ""ل والكنيس" ""ة‪ ،‬بين التفس" ""ير املادي العلمي والتفس" ""ير ال" ""ديني ال" ""ذي‬

‫ينطل ""ق دائم ""ا من تغليب النق ""ول على العق ""ول‪ ،‬وت ""رتيب اإليم ""ان األعمى بالحق ""ائق قب ""ل مراجع ""ة زب ""دة‬

‫هذه الحقائق وعرضها على محك العقل ومسبار املراجعة العقلية والواقعية التجريبية‪.‬‬

‫من جه" ""ة مقابل" ""ة فإن" ""ه من الض" ""روري التنب" ""ه إلى ك" ""ون فك" ""رة الخي" ""ال العلمي ق" ""د خ" ""رجت من الفك" ""ر‬

‫العج""ائبي‪ ،‬ب""ل إن أح""د أهم النق""اد الفرنس""يين ال""ذي نظ""روا للخي""ال العلمي مبك""را (ج""اك س""تيرنبرغ) ق""د‬

‫عنون كتاب"ه بعن"وان طوي"ل ه"و "قط"اع من العج"ائبي يس"مى األدب التنب"ؤي" ‪،‬وه"و عن"وان بق"در م"ا يب"دو‬

‫ثقيال على الهضم من الناحية الفنية بقدرما ما يتجلى من خالله اإلصرار الشديد على ربط ه""ذا ب""ذاك‬

‫وجعل هذا من صلب ذاك‪.‬‬

‫ي""دعونا التأم""ل العمي""ق إلى فهم البع""د املض""مر لس""لوك الخي""ال العج""ائبي م""ع الواق""ع؛ فالب""احث والك""اتب‬

‫"روجي"ه" ك"ايوا" إذ يص""ف ال""دب العج""ائبي بكون"ه "القطيع""ة الغريب""ة م""ع الع""الم ال""واقعي" " ويق"ترح أيض""ا‬
‫‪1‬‬

‫ب ""أن ه ""ذه القطيع ""ة هي ض ""ريبة التج ""اوز‪ ،‬فالعالق ""ات م ""ع الواق ""ع كم ""ا تعودن ""ا علي ""ه تنتفي فتحررن "ا" من‬

‫إواليات تفكيرنا املعهود‪ ،‬وتفتح الباب بذلك للتفكير الجديد الحر الذي يمكنه الذهاب إلى أي أفق‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Roger Caillois, Images, images, Stock, 1975, p. 14.‬‬

‫‪96‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ"أم" ا الخي" ""ال العلمي فال يتعام" ""ل بنفس املنهج بم" ""ا "أن""ه "‬
‫يمث""ل تواص" ""ال م" ""ع ال" ""راهن‪ ،‬فه" ""و يب" ""دع تناس" ""قه‬

‫"اص ال" ""ذي يس" " ِّ"ير منطق" ""ا ذا قيم" ""ة مقنعة ‪ .‬ف" ""إذا ك" ""ان املوض" ""وع استش" ""رافيا مثال‪ ،‬يمكنن" ""ا‬
‫‪1‬‬ ‫ال" ""داخلي الخ" " ّ‬
‫ّ‬
‫‪2‬‬
‫مالحظة أنه يوجد العدد من العناصر التي تتضافر لخلق مفعول املمكن"‬

‫هنال""ك من يع""دون العلم في ح""د ذات""ه فلس""فة‪ ،‬أي فلس""فة لتفس""ير الظ""واهر ال""تي تحي""ط باإلنس""ان‪ ،‬ومن‬

‫الجدير باإلشارة إلى أن الخي"ال ليس أداة للمتع"ة فق"ط‪ ،‬فه"و أداة فلس"فية تام"ة البن"اء ومعروف"ة الح"د‪،‬‬

‫فكل الفالسفة من"ذ أفالط"ون ح"تى ه"اديغير ق"د مألوا كتبهم ب"آالف القص"ص الص"غيرة ال"تي تعم"ل بش"كل‬

‫فعال جدا على ضخ طاقة وعي كبيرة في الفهم املحدود للناس إزاء بعض الظواهر املتعلقة بالواقع‪ .‬إن‬

‫ق" ""رب الواق" ""ع من" ""ا يجعلن" ""ا ال ن" ""راه بالق" ""در الك" ""افي‪ "،‬وه" ""ذا يجعلن" ""ا بحاج" ""ة إلى القص" ""ص ال" ""تي تلعب دور‬

‫التمثي""ل وتمكنن""ا من التح""وير والقي""اس واإلحاط""ة والتش""بيه‪...‬الخ الخ‪...‬وكله"ا" آلي""ات للتفك""ير تمكنن""ا من‬

‫فهم الواقع القريب الذي نقترب منه إلى درجة يصبح فيها أحيانا غامض"ا ج"دا بالنس"بة لفهمن"ا الص"غير‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وق ""د ي ""دفعنا ه ""ذا للتأم ""ل في طبيع ""ة املي ""ل اإلنس ""اني الق ""ديم ص ""وب الخي ""ال‪ ،‬وص ""وب الخي ""ال العج ""ائبي‬

‫تحدي " ""دا ل " ""دى الن " ""اس جميع " ""ا‪ "،‬وه " ""و موض " ""وع يحيلن " ""ا على م " ""ا يخرجن " ""ا عن موض " ""وعنا‪ :‬أي فلس " ""فة‬

‫العج""ائبي ‪ ،‬ولكن""ه يتم""اس بش""كل كب""ير وه""ام م""ع م""ا أس""لفنا الح""ديث عن""ه أثن""اء الح""ديث عن أدب" املاذا‬

‫لو؟" او الفرضيات الذهنية" التي تسمح لنا ببناء أبنية ذهنية نظرية مفيدة للعقل البشري‪.‬‬
‫ف""األدب العج""ائبي أو األدب الفانط""ازي غالب""ا م""ا يتق""دم أمامن""ا كس""لف مناس""ب وض""روري ّ‬
‫وملح للخي""ال‬

‫العلمي‪ ،‬ولكن التمي""يز أم""ر ض""روري ألن الخي""ال العلمي ه""و غ""ير الفانتازي""ا‪ ،‬ولك" ّ"ل منهم""ا خصائص"ه" ال""تي‬

‫لكل قوانين"ه ال"تي تس ّ"يره‪ .‬الخي"ال العلمي ه"و أدب‬ ‫ّ‬


‫يتميز بها‪ .‬فهما بالطبع‪ ،‬ينتميان إلى أدب الخيال ولكن ّ‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫بأن ""ه‬
‫املمكن فيم" ""ا يب" ""دو ان األدب العج" ""ائبي ه" ""و أدب املس" ""تحيل أو املستعص ي‪ .‬يتم" ""يز الخي" ""ال العلمي "‬
‫‪ 1‬كوثر عياد وحممد\ اهلادي عياد‪ :‬أدب اخليال العلمي‪ -‬منشورات جامعة دمشق‪ -‬سوريا‪ -2015 -‬ص ‪31 :‬‬
‫‪Jean Searle, « Le statut logique du discours de la fiction », in Sens et expression : études 2‬‬
‫‪.théoriques des actes de langage, Paris, Ed de Minuit, 1982, p. 111‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Gilbert Hottois :Philosophie et science fiction, ed université de Bruxelles (vrin 2000)- Belgique, 2000, pp 9-10‬‬

‫‪97‬‬
‫يق ""ترح علين ""ا ص ""ورا لع ""والم يبتكره ""ا خي ""ال الك ""اتب ارتك ""ازا على املنط ""ق‪ ،‬وب ""الرجوع ال""ثري إلى ال ""واقعي‬

‫واملع""روف واملمكن وال""وارد واملت""اح التفك""ير في""ه او استش""رافه كم""ا يق""ول روجي بوزيتط""و‪ ،‬فالعالق""ات"‬
‫ُ‬
‫م" ""ع الحي" ""اة املمكن" ""ة ال تقط" ""ع تمام" ""ا‪ ،‬والك" ""اتب والق" ""ارئ – على عكس م" ""ا يح" ""دث في األدب العج" ""ائبي ال‬

‫يبتع ""دان عن "معقولي ""ة عالي ""ة" ترتك ""ز على منطقي ""ة قوي ""ة للم ""واد املتخيل ""ة‪ .‬وق ""د اق ""ترح املنظ ""ر روجي‬

‫بوزيط ""و تس ""مية جميل ""ة حينم ""ا ف ""رق بين العج ""ائبي والخي ""ال العلمي بتكني ""ة ه ""ذا األخ ""ير بكني ""ة‪" :‬أدب‬
‫ّ‬
‫املب" ""ادرات" ‪ ،‬أدب ع" ""والم موج" ""ودة ولكنه" ""ا معلق" ""ة ‪ ،‬ع" ""والم ممكن" ""ة وغ" ""ير مس" ""تحيلة ولكنه" ""ا تنتظ" ""ر‬
‫‪1‬‬

‫إمكانية التحقيق‪ ،‬وهي بهذا ربما تتحقق وربما ال تفعل‪.‬‬

‫الخي ""ال عالق ""ة س ""ليمة م ""ع الع ""الم‪ .‬ويمنحن ""ا الخي ""ال العلمي طاق ""ة نظري ""ة قوي ""ة تس ""مح لن ""ا بخل ""ق أبع ""اد‬

‫غائب" ""ة عن دائ ""رة الح ""واس‪ .‬الخي ""ال ق" ""درة على االستبص ""ار" والتفك ""ير النظ ""ري املج ""رد ال ""ذي يتم ""يز ب ""ه‬

‫العلم""اء الكب""ار وال""ذي ه""و س""الح الفن""انين الكب""ار ال""ذين تب""ني على أعم""الهم القف""زات الحض""ارية الك""برى‪.‬‬

‫أك ""بر الخي ""اليين هم ج ""الينوس وأرخمي ""دس وابن الهيثم وابن س ""ينا والخ ""وارزمي وعب ""اس بن فرن ""اس ‪،‬‬

‫قائمة الخياليين الكبار تحتوي أناسا مثل جاليليو وتوريتشيلي وباستور وآينشتاين‪.‬‬

‫يس" ""توقفنا دائم" ""ا على ه" ""امش الح" ""ديث عن ه" ""ؤالء الخي" ""اليين تص" ""ور لحظ" ""ة ظه" ""ور أفك" ""ارهم" املجنون" ""ة‬

‫وكيفي" ""ة تفاع" ""ل الجمه" ""ور معه" ""ا‪ ،‬جم" ""ور العلم" ""اء واملتتبعين لهم واملتلقين البس" ""يطين من رج" ""ال ال" ""دين‬

‫وطلب ""ة العلم ال ""ذين يكون ""ون آن ""ذاك بص ""دد االش ""تغال بالش ""كل نفس ""ه ال ""ذي يش ""تغل ب ""ه ق ""راء الخي ""ال‬

‫العلمي والفانطازيا‪ ،‬ويسمي الباحث مارك آنجينو هذه املحددات الغريبة الجديدة لهذا الع""الم املق""ترح‬

‫ح" ""ديثا على جمه" ""ور" ال ص" ""لة ل" ""ه بم" ""ا يس" ""مى باملول" ""دات (املص" ""طلحات الخاص" ""ة ال" ""تي تع" ""د مف" ""اتيح قص‬

‫الخي " ""ال العلمي وال " ""تي تق " ""ترح مف " ""اهيم وعالم " ""ات جدي " ""دة خاص " "ة" بالع " ""الم الجدي " ""د الغ " ""ريب املق " ""ترح)‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Georges Turner, Encyclopédie visuelle de la science-fiction, Paris, Albin Michel, 1979, p.‬‬
‫‪257.‬‬

‫‪98‬‬
‫ُ ًّ‬
‫يحب أن يس " " ّ"ميها "م " ""ارك أنجين " ""و""كلم " ""ات الخي " ""ال"‪Marc Angenot, 1‬‬
‫ولدات‪ ،‬أو كم " ""ا ّ‬ ‫فاس " ""تعمال امل‬

‫‪ » « mots-fiction‬في كتاب" "ة" الخي ""ال العلمي تخ ""تزن طاق ""ة تخييلي ""ة وإمكاني ""ات عقلي ""ة واس ""عة تنتهي ب ""ان‬

‫تش" ""كل بص" ""مة خاص" ""ة للخي" ""ال العلمي ‪.‬مح" ""ددات عقلي" ""ة وأرص" ""فة كوني" ""ة ذات طاق" ""ة داللي" ""ة عالي" ""ة هي‬

‫املص""طلحات واملس""ميات ال""تي م""ا أن""زل الت""داول به""ا من س""لطان‪ .‬قوي""ة بس""لطة اإليح""اء رغم أن وجوده""ا‬

‫ال يتع" ""دى االف" ""تراض ال" ""ذي تتحكم في" ""ه الس ""نن اللغوي" ""ة ال ""تي ال تخ" ""رج من دائ" ""رة النص ال" ""روائي ومن‬

‫دائرة اكبر هي عالم األدب‪.‬‬

‫يتخلص الخيال من الواقع بناء على هذه البنيات التخييلية التي تحيل على الواقع بطريقة‬

‫هش ""ة تتق ""وى قليال بق ""وة املنط ""ق دون أن تلغي ش ""عورنا بالخي ""ال وبش يء من االس ""تحالة‪ "،‬وهن ""ا يط ""ابق‬

‫الخي " ""ال العلمي نظ " ""يره األدب العج " ""ائبي ‪ ،‬رغم أن منط " ""ق العم " ""ل األدبي ال " ""داخلي في العجائبي " ""ات ليس‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هام ""ا‪ّ ،‬‬
‫ألنه ""ا – أي العجائبي ""ات‪ -‬أدب الالواق ""ع أو الالممكن‪ .‬وينتهي ه ""ذا النمط ""ان األدبي ""ان إلى املقابل ""ة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بين املمكن والالممكن‪ ،‬الخيال املمكن الحدوث والخيال الالممكن الحدوث‪.‬‬

‫يح""دد الب""احث"دي""نيس ميل""يي" ‪ Denis Mellier‬ه""ذا الت""وازي بين النمطين ب""أن الخي""ال العلمي ينب""ني على‬

‫ت ""ركيب ع ""والم ببن ""اء منط ""ق معين فيم ""ا يرتك ""ز العج ""ائبي على ه ""دم الواق ""ع املع ""روف دون بن ""اء خ ""اص‬

‫ومحدد لتضحيته البدئية باملنطق املألوف‪ ...2.‬ونتيجة ه""ذه اآللي""ة هي الت"أثير على العق"ل البش""ري بش""كل‬

‫غير متوقع هو تجديد صلة اإلنسان باألشياء وبالعالم‪.‬‬

‫إنها نقطة بالغة األهمية هذه التي نوردها في هذا السياق؛ فكرة قدرة املحافظ"ة على العالق"ة االنبهاري"ة"‬

‫مع الوجود‪ ،‬وه"ذا ج"انب يمكن"ه أن يمث"ل بع"دا فلس"فيا ب"الغ األهمي"ة‪ "،‬فأح"د اله"واجس الرئيس"ة للخي"ال‬

‫العلمي وللفلس""فة مع""ا هي ه""اجس فهم أس""رار الوج""ود‪ ،‬تفس""ير الع""الم من خالل أداة االس""تقطاب ال""تي‬

‫هي تخي""ل وج""ه ث""ان للمس""ائل ال""تي تأتين""ا دائم""ا بوج""ه واح""د وكفى‪ .‬االس""تقطاب فلس""فيا يختزل""ه أرس""طو‬

‫‪1‬‬
‫‪Marc Angenot, « Le paradigme absent », Poétique, n°33, 1978.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Denis Mellier, Ecriture de l’excès. Fictions Fantastiques et poétique de la terreur , Paris,‬‬
‫‪Honoré Champion, 1999, p. 111.‬‬

‫‪99‬‬
‫ق ""ائال‪ :‬بأض ""دادها تتض ""ح األم ""ور‪ ،‬ويختزل ""ه كان ""ط ق ""ائال‪ :‬إذا تش ""ابهت علي ""ك األم ""ور عممه ""ا ح ""تى ت ""درك‬

‫خفاياها‪ ،‬ويختزله الخيال العلمي بأشهر جملة أنتجها التنظير للخيال العلمي‪" :‬ماذا لو ان‪...‬؟"‬

‫في منتص""ف الق""رن التاس""ع عش""ر ك""انت الفلس""فات الطوباوي""ة والوض""عية العلمي""ة املادي""ة مس""يطرة على‬

‫اإلنسان الذي كان خارجا" لتوه من سلطة الكنائس األنظمة امللكية الدينية التي كسر س""طوتها ن""ابليون‬

‫بتت ""ويج نفس ""ه عوض ""ا عن الباب ""ا ال ""ذي ك ""ان حاض ""را‪ ،‬ك ""ان ذل ""ك ع ""ام ‪1816‬؛ كاس ""را ش ""وكة امليتافيزيق ""ا‬

‫بحرك" ""ة ش" ""ديدة الرمزي" ""ة‪ ...‬وأعم" ""ال ج" ""ول ف" ""يرن تنط" ""ق كله" ""ا بتل" ""ك الثق" ""ة في العق" ""ل والعلم والتفك" ""ير‪،‬‬

‫ومركزية اإلنسان الذي كان بصدد التحول إلى إله صغير مثير للعجب‪... .‬‬
‫‪1‬‬

‫م""ع ب""دايات الق""رن العش""رين ب""دأ ج""ول ف""يرن نفس""ه يتش""كك في ك""ل ذل""ك بس""بب م""ا ك""ان ق""د ب""دأ يالحظ""ه‬

‫من دور س ""لبي للعلم؛ تل ""ك األداة ال ""تي ص ""ار اإلنس ""ان يس ""لطها على أخي ""ه اإلنس ""ان ال له ""دف إال إحك ""ام‬

‫الس ""يطرة أك ""ثر علي ""ه‪ ،‬فه ""ذا اإلنس ""ان ال ""ذي ك ""ان يحتمي بالكنيس ""ة ص ""ار عاري ""ا بال غط ""اء س ""وى جن ""ون‬

‫اإلنس ""ان وجش ""عه ال ""ذي ال ح ""دود ل ""ه‪ .‬بع ""دها‪ ،‬وفي ف ""ترة م ""ا بين الح ""ربين جم ""ع أل ""دوس هكس ""لي جمي ""ع‬

‫النقاش ""ات ال" ""تي ك ""انت منتش" ""رة على أيام" ""ه وض" ""منها روايت ""ه البديع ""ة ال ""تي ق ""د تك ""ون أجم ""ل م ""ا كتب في‬

‫الخي " ""ال العلمي في تل " ""ك الف " ""ترة ب " ""النظر إلى الج " ""ودة الفني " ""ة للعم " ""ل‪ ،‬والعم " ""ق الفلس " ""في للطروح " ""ات ‪،‬‬

‫والطراف""ة الش""ديدة في اس""تعمال ذاك""رة الخي""ال العلمي الجدي""دة وال""ذاكرة العتيق""ة لألدب "الرفي""ع" –‬

‫كما عهدنا تسميته – سنجد دائما دفترا من األسئلة مطروحا على اإلنس"ان‪ ،‬وس"نجده ط"ورا بع"د ط"ور‬

‫وجيال بع""د جي""ل عاكف""ا على تل""ك املس""ائل بقص""د ح""ل مش""كالتها‪ .‬واألدب ع""اكف به""ذا املفه""وم دائم""ا على‬

‫رص""د مؤش""رات العص""ر املحي""ط ب""ه ‪ ،‬على االس""تجابة ل""روح العص""ر؛ وب""ذلك س""نجد الي""وم أدب""ا يص""ور‬
‫‪2‬‬
‫االنسان الرقمي‪ ،‬ويقوم بتمثيل قيم هذا العصر الحالم والثائر واملتشكك املتسائل‬

‫‪ 1‬خملوف عامر‪ :‬ألوان من احلكي‪ -‬دار القبية‪ -‬اجلزائر‪ -2016 -‬ص ‪122-121‬‬
‫‪ 2‬جمموعة‪ \:‬فلسفة السرد‪ -‬منشورات ضفاف – لبنان‪ -‬ص‪135‬‬

‫‪100‬‬
‫هنال " ""ك من يتس " ""اءل بش " ""كل محلي ‪ :‬ه " ""ل يمكنن " ""ا أن نق " ""ول إن األدب الع " ""ربي الي " ""وم‪ ،‬وخيالن " ""ا الع " ""ربي‬

‫بالدرجة" األولى‪ ،‬يساير الفلسفات السائدة ‪...‬والواقع هو أن الع"الم بفض""ل الش"بكة املعلوماتي""ة العاملي"ة‬

‫ص" ""ار يش" ""به القري" ""ة فعال‪ ،‬ل" ""ذلك ال يج" ""انب الحقيق" ""ة قولن" ""ا إن أس" ""ئلة ك" ""اتب الخي" ""ال العلمي في البالد‬

‫العربي" ""ة هي نفس" ""ها؛ أو على األق" ""ل هي من" ""اظرة لتل" ""ك املطروح" ""ة على الك" ""اتب في الغ" ""رب أين يمكن" ""ه أن‬

‫يأخذنا في كل دروب الخيال واالفتراض دون أن يواجه بالفتات ضرورة التوقف‪.‬‬

‫هنال""ك نقط""ة تش""غل أي ب""ال على ه""امش الت""أمالت الفلس""فية في موض""وع الخي""ال العلمي ؛ التأم""ل ح""ول‬

‫"ملاذا؟" و"ما الهدف؟" بعيدا عن تأمالتنا األدبية املعهودة التي يشغلها السؤال‪" :‬كيف؟"‪...‬‬

‫تل""ك النقط""ة هي ض""رورة دخ""ول ك""اتب الخي""ال العلمي دوائ""ر التمثي""ل ال""ذهني للع""الم‪ ،‬ف""العلم كث""يرا م""ا‬

‫ينتج تم""ثيالت للع""الم ال عه""د للحي""اة وال للبش""ر به""ا‪ ،‬ففك""رة الش""رائح اإللكتروني""ة ليس""ت وس""يلة تخ""زين‬

‫معلومات فحسب بل هي أداة تواص"ل رمزي"ة‪ ،‬تمام"ا ك"الرموز اللغوي"ة‪ ،‬ب"ل انه"ا تتح"ول إلى لعب"ة كالمي"ة‬

‫في مرحل ""ة الحق ""ة بفض ""ل تب ""ني الجماع ""ة اللغوي ""ة له ""ا‪ ،‬ويكفين ""ا أن نتح ""رى قليال ح ""ول مئ ""ات التع ""ابير‬

‫اآلتي""ة الى ممارس""اتنا اليومي""ة من أفقي اإلعالم اآللي والتواص""ل ب""الهواتف الذكي""ة‪ "،‬فه""ذه الرم""وز قب""ل‬

‫دخوله" ""ا الحي ""اة االجتماعي" ""ة ك" ""انت معطي" ""ات علمي ""ة مخبري" ""ة جاف" "ة" وبعي ""دة تمام" ""ا عن دائ ""رة الت ""داول‬

‫الجم"اعي املجتمعي‪ "،‬وبال أدنى كثاف""ة حياتي"ة‪ ،‬ال تع"بر عن أي شيء خ"ارج دائ"رة العلم"اء املختص"ين‪ ..‬ي"أتي‬

‫هن""ا دور الك""اتب الع""ربي بم""ا أن الح""ديث يعني""ه إذ علي""ه أن يخ""وض في ه""ذا النظ""ام التم""ثيلي بال هيب""ة‪،‬‬

‫ألن له ""ذا الخ ""وض دورا فلس ""فيا معين ""ا‪ .‬واملقص ""ود بال ""دور الفلس ""في ه ""و ممارس ""ة اللغ ""ة والتخيي ""ل من‬

‫زاوي ""ة رمزي ""ة عربي ""ة إس ""المية‪ ،‬تمام ""ا كم ""ا كث ""يرا م ""ا يفع ""ل الكت ""اب الكب ""ار ال ""ذين ي ""أتون بأنظم ""ة تمثي ""ل‬

‫رمزي" ""ة متخيل" ""ة جزئي" ""ا فيم" ""ا أجزاؤه" ""ا األك" ""بر هي من وحي عقائ" ""د قديم" ""ة ونص" ""وص عتيق" ""ة ت" ""دين به" ""ا‬

‫أصولهم اإلثنية ومراجعهم الثقافية‪".‬‬

‫‪101‬‬
‫إن ف ""رض ثقافتن" "ا" من خالل ض ""خ الحي ""اة فيه ""ا بمض ""خة الت ""داول ه ""و طريق ""ة فلس ""فية في االنتق ""ال من‬

‫الوج" ""ود التلق" ""ائي للخي" ""ال العلمي إلى ن" ""وع من الوج" ""ود ب" ""القوة‪ ...‬ومن زاوي" ""ة املس" ""تهلك الس" ""لبي للمنتج‬

‫الفلسفي إلى إلى زاوية الخالق الواعي واملستهلك املستنير الذي لديه دائما قيمة مضافة‪.‬‬

‫به" " ""ذا‪ ،‬لن يك" " ""ون دورن" " ""ا‪ ،‬نحن الع" " ""رب في الحي" " ""اة‪ ،‬في الغ" " ""الب‪ ،‬تكنولوجي" " ""ا‪ ،‬فق" " ""د تجاوزن" " ""ا املس" " ""ار‬

‫التكنولوجي كثيرا‪ ،‬وليس تنظيميا تسييريا؛ فعلى هذا املستوى أيضا لس""نا في الص""دارة تمام""ا‪ ،‬يبقى أن""ه‬

‫من حسن حظنا أن لنا خلفية في فلسفة األخالق ربما تفي"د الع"الم على املس"توى الفلس"في؛ ألن إح"دى‬

‫األزم""ات الحالي""ة للع""الم – وأن""ا هن""ا أتح""دث بطريق""ة كت""اب الخي""ال العلمي ال""ذين هم مغرم""ون ب""النظرة‬

‫الشاملة للعالم والحياة والنوع البشري‪ -‬هي األزمة األخالقية‪":‬‬

‫م""ا القيم ال""تي نرس""خها وم""ا هي تل""ك ال""تي نطرحه""ا؟ م""ا القواع""د اإليديولوجي "ة" ال""تي نب""ني عليه""ا تص""ورنا‬

‫للغ""د؟ كي""ف يمكن معالج""ة الج""و املش""حون ال""ذي س""يطر على اإلنس""ان في الق""رن العش""رين؟ م""ا الط""رق‬

‫الس ""ليمة لخل ""ق ح ""وار متك ""افئ" بين ط ""رفين بينهم ""ا ص ""دوع كث ""يرة مث ""ل نص ""ف الك ""رة األرض ""ية الش ""مالي‬

‫والجنوبي؟‬

‫أعتق ""د أن اإلض ""افة األخالقي" "ة" إلى مص ""ير الع ""الم هي األرض ""ية الفلس ""فية األك ""ثر توفيق ""ا لن ""ا كع ""رب في‬

‫املرحلة الحالية‪...‬‬

‫ذ‬

‫‪102‬‬
‫أفق تحقيبي‬

‫في مقاربة ما بعد البنيويـة‬

‫تمثل أمثولة حقيقة" "العصا"" الواردة عند برتراند راسل لتوضيح وجهة" النظر "الوض"عية"" نقط"ة‬

‫انطالق مناس""بة ملقالن""ا ه""ذا‪ . . .‬فق""د س""ئل الفيلس""وف االنجل""يزي كي""ف يمكنن""ا مقارب""ة الواقع""ة "عص""ا"‬

‫إذا أخ""ذنا بعين االعتب""ار ك""ون ذل""ك الجس""م الخش""بي املتك""أ علي""ه‪ ،‬ال""ذي إن وض""عناه في املاء ب""دا يتمطى‬

‫كالحي ""ة‪ ،‬وإن نظرن ""ا إلي""ه من طرف ""ه تب""دى نقط ""ة ثابت""ة فحسب‪+ ،‬وإن أمس ""كنا ب ""ه تجلى ص""لبا قاس ""يا‬

‫وطويال ممتدا‪. .‬‬

‫ما حقيقة العصا في ظل هذا التضارب في معطيات الحواس؟‬

‫ك""انت إجاب""ة برتران""د راس""ل ‪ :‬إن العص""ا هي محص""لة ك""ل ه""ذه الح""االت في أذهانن""ا مرتبط""ة بمفه""وم‬

‫متحرك ننعته بالعصا‪.‬‬

‫تختص""ر ه""ذه األمثول""ة الحرك""ة البديع""ة ص""وب بن""اء ص""رح البنيوي""ة والحرك"ة" ال""تي ال تق""ل ب""دعا في‬

‫تقويض هذا الصرح ألجل بناء صرح ما بعد البنيوية‪.‬‬

‫إن للمعرفة تعرجات غريبة تجعل مسيرة تطور اختصاص" ما مليئة باملفاجآت‪ . . ".‬ومن غ""ريب‬

‫أم" ""ر م" ""ا بع" ""د البنيوي" ""ة أن أعالمه" ""ا في معظمهم س" ""اهموا بش" ""كل نش" ""ط في تق" ""ويض بنيانه" ""ا والتمهي" ""د ملا‬

‫بع""دها‪ ،‬وه""و أم""ر س""نعود إلي""ه الحق""ا‪ "،‬له""ذا تص""دق أمثول""ة العص""ا‪ ،‬وربم""ا يك""ون التعري""ف الجي""د ملا‬

‫بع""د البنيوي""ة بأن""ه بالض""بط مجموع""ة من األش""تات الفكري""ة واالتجاه""ات املنهجي""ة واألطي""اف النظري""ة‬

‫يجمعها نعت املعلقين – معجبين أو ساخطين‪ -‬لها بما بعد البنيوية‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫يبقى أم" ""ر ت" ""أثر ه" ""ؤالء املا بع" ""د ب" ""نيويين باملص" ""ادر نفس" ""ها يجلب االنتب" ""اه "فق" ""د ت" ""أثر العدي" ""د من‬

‫املفك""رين ت""أثرا عميق""ا بفلس""فة نيتش""ه‪ ،‬وخاص"ة" برفض""ها لـ"وهم" الحقيق""ة‪ ،‬واألفك""ار املتحج""رة ح""ول‬

‫الدالل""ة‪ ،‬واعتقاده""ا ب""إرادة الق""وة وتأكي""دها" على م""ذهب دايونايس""يس‪ Dionysos‬في الحي""اة‪ ،‬ومناوئته""ا‬

‫للمس ""اواتية‪ .‬وعلى س ""بيل املث ""ال ت ""أثر فوك ""و بنيتش ""ه في أواخ ""ر الخمس ""ينيات وب ""دأ ينتق ""د التاريخاني ""ة‬

‫‪ Historicisme‬واالنس ""انوية ‪ Humanisme‬كم ""ا ن ""دد ج ""ان فرانس ""وا ليوط ""ار ال ""ذي ك ""ان مناض ""ال يس ""اريا‬

‫باالتح " ""اد الس " ""وفياتي ورج " ""ع إلى فك " ""ر نيتش " ""ه‪ .‬أم " ""ا ج " ""اك ديري " ""دا فه " ""و يستحض " ""ر نيتش " ""ه في كتابات " ""ه‬

‫باس""تمرار‪ ،‬كم""ا أن جي""ل دول""وز أيض""ا ت""أثر كث""يرا بنيتش""ه وي""رى العدي""د من الكت""اب أن م""اركس يرش""ح‬

‫هيج ""ل باإلبق ""اء على الش ""كل الراديك ""الي (أي املنهج الج ""دلي) والتخلص من املحت ""وى املحاف ""ظ أم ""ا دول ""وز‬

‫ف""يرفض فلس""فة هيج""ل ش""كال ومض""مونا‪ ،‬وي""ذهب إلى أن نيتش""ه ه""و أول ناق""د حقيقي لهيج""ل ولفك""ره‬

‫الجدلي"‪.1‬‬

‫إن ه ""ذا الع ""رض املختص ""ر يق ""وم بمس ""ح جي ""د للفالس ""فة املنض ""وين تحت العن ""وان الكب ""ير ال ""براق‬

‫املغ""ري "م""ا بع""د البنيوي""ة" ذل""ك أنن""ا من خالل االطالع على رأي ه""ؤالء املفك""رين في املش""روع النيتش""وي‬

‫نكون قد وضعنا القدم داخل مياه البحيرة ما بعد البنيوية‪.‬‬

‫لم يكن جاكبسون وهو يذكر لفظة "بنيوية" تعليقا على بعض كالم سوس"ير ع""ام ‪ 1929‬يعلم أن‬

‫املص""طلح س""يتحول بع""د ‪ 20‬س""نة أو أك""ثر إلى م""ذهب نق""دي وفك""ري يمأل ال""دنيا ويش""غل الن""اس ك""ل ذل""ك‬

‫الش""غل‪ . . .‬ك""ان جاكبس""ون" يح""اول (م""ع زم""رة من زمالئ""ه الش""كالنيين ال""روس) إرس""اء قواع""د جدي""دة‬

‫للتأم""ل في األدب تكتسي طابع""ا علمي""ا موض""وعيا‪ ،‬يض""يق من دائ""رة ال""ذوق وس""لطان األن""ا وال""ذات ال""تي‬

‫تتالعب ب" ""القيم دون منهج واض" ""ح‪ ،‬وال" ""تي تح" ""ور املوض" ""وع ال" ""ذي يك" ""ون بين أي" ""ديها تح" ""ويرا خالي" "ا" من‬

‫‪ - 1‬مادان ساروب‪ - :‬دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة‪ -‬منشورات مخبر الترجمة في اللسانيات واألدب‪ -‬جامعة قسنطينة‪-20043 -‬‬
‫ص‪127‬‬

‫‪104‬‬
‫ه ""اجس بل ""وغ الحقيق ""ة وخالي ""ا من هاجس ي اإلقن ""اع والت ""برير ألج ""ل توص ""يل القيم ""ة ال ""تي تك ""ون ال ""ذات‬

‫تحتفي بها‪.‬‬

‫س""يقول املرسي الحقيقي لقواع""د املذهب الب""نيوي "كل""ود ليفي ش""تراوس" عن ه""ذه ال""ذات تحدي""دا‬

‫"‪ . . .‬األن""ا ‪ :‬طف""ل الفلس""فة املدلل ال""ذي ال يحتم""ل ؛ ج""اء ليش""غل مك""ان الص""دارة ف""وق خش""بة املس""رح‬

‫الفلس""في‪ ،‬فوق""ف ب""ذلك حج""ر ع""ثرة في وج""ه ك""ل عم""ل ج""دي‪ ،‬نتيج""ة لرغبت""ه املس""تمرة في االس""تئثار"‬
‫‪1‬‬
‫وحده بكل انتباه"‬

‫وه""و كالم نج""د ل""ه ص""دى عن""د أهم الفالس""فة م""ا بع""د الب""نيويين ‪ :‬ميش""ال فوك""و ال""ذي يق""ول "إذا‬

‫ك ""ان ثم ""ة ش يء ال ي ""رقى إلي ""ه الش ""ك ب ""أي ح ""ال من األح ""وال‪ ،‬فه ""و أن االنس ""ان ال يمث ""ل البت ""ة أق ""دم وال‬

‫أدوم مش""كلة ط""رحت على املعرف""ة البش""رية‪ . . .‬فلم يكن االنس""ان ه""و املح""ور األوح""د ال""ذي طاملا ظلت‬

‫املعرف" "ة" تح" ""وم حول" ""ه وح" ""ول أس" ""راره بتل" ""ك الص" ""ورة الغامض" ""ة املبهم" ""ة أو على ذل" ""ك النح" ""و املس" ""تمر‬

‫الدائب‪ . . .‬والحق أن االنسان اختراع جديد تظهر لنا األركيولوجيا – بك"ل س"هولة‪ -‬على أن"ه يرج"ع إلى‬

‫عهد حديث‪ ،‬وأنه قد يصل – في مستقبل ‪ -‬قريب إلى نهايته املحتومة"‪.2‬‬

‫ولكن""ه وجب علين""ا كتوطئ""ة أن ن""ورد ملخص""ا مخفف""ا عن الحص""يلة البنيوي""ة كتوطئ""ة لفهم س""ياق‬

‫الفكر والنقد ما بعد البنيويين‪.‬‬

‫على عتبات الفكر البنيوي‬

‫‪ - 1‬زكريا إبراهيم‪ :‬مشكلة البنية‪ -‬مكتبة مصر‪ -‬مصر‪-‬دت—ص‪5‬‬


‫‪ - 2‬م‪ .‬نفسه‪-‬ص‪5‬‬

‫‪105‬‬
‫إن البنيوي ""ة هي "منهج فلس ""في وفك ""ري ونق ""دي‪ ،‬ونظري ""ة للمعرف ""ة تتم ""يز ب ""الحرص الش ""ديد على‬

‫االل ""تزام بح ""دود املنط ""ق والعقالني ""ة‪ ،‬ويتأس ""س ه ""ذا املنهج على فك ""رة جوهري "ة" مؤداه ""ا ‪ :‬أن االرتب ""اط‬

‫العام لفكرة أو لعدة أفكار مرتبطة بعضها ببعض على أساس العناص"ر املكون"ة له"ا‪ ،‬أم"ا تل"ك العناص"ر‬

‫فال يعنى بها املنهج إال من حيث ارتباطها وتأثرها بعضها ببعض في نظام منطقي مركب"‪.1‬‬

‫لقد جاءت البنيوية تطورا طبيعيا لسيرورة فكري"ة تع"ود إلى نهاي"ة الق"رن الس"ادس عش""ر؛ أي ب"دءا‬

‫من الفلسفة التجريبية على يدي " لوك "‪ ،‬و " هيوم "‪ ،‬مرورا إلى الفلس""فة املثالي""ة على ي""دي " ك""انت‬

‫"‪ ،‬و " هيغ""ل " و " ديك""ارت " وص""وال إلى الفلس""فة الظاهرتي""ة عن""د " هوس""رل " و" هي""دغر "‪ ،‬ويعي""دنا‬

‫ه" ""ذا الج" ""دل إلى الكالم عن أص" ""ول الفك" ""ر الح" ""داثي ال" ""ذي يرج" ""ع ب" ""ه كث" ""ير من املعلقين ح" ""تى العص" ""ر‬

‫اليون""اني‪ . . .‬وهي ح""ال الفيلس""وف التفكيكي " ج""اك ديري""دا " وص""راع ثنائي""ة ال""داخل و الخ""ارج بين من‬

‫ي ""رى الحقيق ""ة ( املع ""نى ) موج ""ودة في الخ ""ارجي ( الطبيع ""ة )‪ ،‬و بين من يراه ""ا ق ""ارة في العق ""ل كمرك ""ز‬

‫للمعرف " ""ة و اإلدراك‪ .‬كم " ""ا أن ه " ""ذا التس " ""ليم لم ينش " ""أ من ف " ""راغ ب " ""ل إن الرب " ""ط " املألوف " للبنيوي " ""ة‬

‫بفلس""فة " ك""انت "ل""ه م""ا ي""برره‪ ،‬وه""و تأس""يس " ك""انت " لفلس""فته العقلي""ة ( املثالي""ة ) على أس""اس مب""دأ‬

‫النس ""ق‪ ،‬إال أن ""ه اتك ""أ على العق ""ل كمرك ""ز للنظ ""ر في للمعرف ""ة أو كنس ""ق يس ""يرها‪ ،‬في حين أن البنيوي ""ة‬
‫‪2‬‬
‫استندت إلى اللغة‪.‬‬

‫إن الربط بين البنيوية و الفلسفة الكانتية كثير الورود ؛ يقول " بول ريكور "‪:‬إن البنيوي""ة هي "‬

‫بني" ""ة دون ذات‪ ،‬ألن ق" ""وام ه" ""ذه الفلس" ""فة أنه" ""ا تجع" ""ل من النم" ""وذج اللغ" ""وي نموذج" ""ا مطلق" ""ا بع" ""د أن‬

‫عممت""ه ش""يئا فش""يئا "‪ ،3‬والغ""الب عن""د الدارس""ين أن الحرك""ة الش""كالنية في روس""يا هي الس""لف الش""رعي‬

‫لالتج" ""اه الب" ""نيوي‪ ،‬وق" ""د ب" ""رزت في ب" ""دايات الق" ""رن العش" ""رين عقب وف" ""اة أبي اللس" ""انيات فردين" ""ان دي‬

‫سوس""ير وس""اهمت في نش""وء البنيوي""ة عن طري""ق الجه""ود اللغوي""ة اللس""انية ال""تي ب""ذلتها ثل""ة من الب""احثين‬

‫‪ - 1‬سمير حجازي‪ :‬معجم المصطلحات اللغوية واألدبية الحديثة‪ -‬دار الراتب‪-‬بيروت‪ ƒ-‬ص ص‪200/201‬‬
‫‪2‬‬
‫خثير ذويبي ‪ :‬البنيوية و العمل األدبي – ص ‪- 23‬‬
‫‪ -3‬م‪ .‬نفسه‪-‬ص‪24‬‬

‫‪106‬‬
‫والنق" ""اد واملهتمين بدراس" ""ة اللغ" ""ة والنص األدبي‪ . . .‬من أمث" ""ال " روم" ""ان جاكوبس" ""ون"‪ ،‬و " فالديم" ""ير‬

‫ب""روب " و"تيني""انوف"و "ب""وريس إيخنب""اوم" و" فيكت""ور شكلوفس""كي"‪ ".‬وك""ان بحثهم ال""رئيس عن مفه""وم‬

‫أدبي" ""ة األدب وهي " ج" ""وهر" األدب و الج" ""وهر هن" ""ا ليس ب" ""املعنى الفلس" ""في لألش" ""ياء‪ ،‬و إنم" ""ا يع" ""ني ب" ""ه‬

‫ببس""اطة أجم""ل م""ا في األدب و اص""دق م""ا في""ه من عاطف""ة‪ ،‬و أدف""أ م""ا في ج""وه‪ ،‬و أروع م""ا في نس""جه‪. . .‬‬

‫" ‪.1‬‬

‫إن املنهج الب " ""نيوي في الفك " ""ر األدبي و النق " ""دي والفلس " ""في ك " ""ذلك‪ ،‬وفي مي " ""دان الدراس " ""ات اإلنس " ""انية‬

‫عموما لم ينبثق من الع"دم‪ ،‬و لع"ل األب"رز و األهم في كاف"ة" تل"ك اإلرهاص"ات م"ا نش"أ في مطل"ع الق"رن في‬

‫حق" ""ل الدراس" ""ات اللغوي" ""ة وعلى وج" ""ه الخص" ""وص بت" ""أثير من العالم" ""ة فردينان" ""د دي سوس" ""ير (‪_1857‬‬

‫‪ )1913‬و كتاب " ""ه الشهـير (دروس في األلسنـية العام " ""ة )‪ ،‬أين أق " ""ر ب " ""أن اللغ " ""ة يجب أن ت " ""درس كعلم‬

‫مستقل بذاته‪ ،‬يدرس في ذاته ولذاته (حسب التعبير الذي صار مشهورا والعائد إلى سوسير) ذلك أن‬

‫العص ""ور الس ""ابقة ق ""د تع ""ودت على دراس ""ة اللغ ""ة على ض ""وء علم آخ ""ر أو من أج ""ل خدم ""ة تخص ""ص أو‬

‫نص" ""وص ليس" ""ت هي ج" ""وهر" اللغ" ""ة‪ . . .‬وب" ""ذلك ح" ""ول سوس" ""ير اللغ" ""ة من وس" ""يلة في ال" ""درس العلمي إلى‬

‫غاية‪ . . .‬وكان أساس تفكيره هو دراسة عالقاتها الداخلية دراس"ة علمي""ة تكش"ف عن ال""دالالت الكلي"ة‬

‫املحققة لقيمها الكلية أو القصدية‪ ،‬وهذه هي الخلفية التي ارتكز عليها البنيويون‪ ،‬وال"تي نح"اول فيم""ا‬

‫يأتي أن نضيء أهم جوانبها‪:‬‬

‫أص""ل كلم""ة بنيوي""ة التي""ني ‪ Struere‬ومعناه "ا" البن""اء ‪ ،‬ومن املث""ير لالتب""اه ق""ول " ج""ورج مون""ان " ال""ذي‬

‫معناه أن كلمة بنية ليست لها رواسب و أعماق ميثافيزيقية إذا ما تأملناه""ا ملي""ا‪ ،‬فهي ت""دل على البن""اء‬

‫بمعن ""اه الع ""ادي املس ""طح‪ . . .‬أم ""ا املع ""ادل الفرنس ي فه ""و كلم ""ة ‪ Structure‬وله ""ا عموما دالالت مختلف ""ة‪،‬‬

‫‪ - 1‬فيصل األحمر‪ :‬الدليل السيميولوجي – ص‪34‬‬

‫‪107‬‬
‫من قبي ""ل النظ""ام ‪ ordre‬ال""تركيب ‪ Constitution‬و ال""ترتيب ‪ Disposition‬و الش ""كل ‪ Forme‬الهيكل ""ة‬
‫‪1‬‬
‫‪. Organisation‬‬

‫أم" ""ا في العربي" ""ة فق" ""د وردت كث" ""يرا كمش" ""تق ملادة "ب‪ .‬ن‪ .‬ي" ولكن بمع" ""ان التهمن" ""ا كث" ""يرا …ونج" ""د له" ""ذا‬

‫املص " ""طلح اس " ""تعماالت عدي " ""دة في مي " ""ادين علمي " ""ة مختلف " ""ة كالكيمي " ""اء‪ ،‬علم االجتم " ""اع‪ "،‬االقتص " ""اد‪،‬‬

‫والجيولوجيا‪ ،‬والرياضيات‪ ،‬و بخاصة الفلسفة‪.‬‬

‫لق""د ج""اءت البنيويـة كمفه""وم فلسفـي وتح""ولت إلى فلسفـة معاص""رة ع""رفت خصوص""ا في فرنس""ا ب""دءا‬

‫من الس" ""تينيات‪ ،‬وق" ""د ج" ""اءت كح" ""ل ملش" ""كالت الفلس" ""فة الوجودي" ""ة ال" ""تي ك" ""انت ق" ""د ب" ""دأت تتره" ""ل‪" ،‬‬

‫وعن""دما نتح""دث عن البنيوي""ة بوص""فها منهج""ا و بين البنيوي""ة بوص""فها م""ذهبا فلس""فيا يت""وخى الش""مولية‬

‫في تفسيراتـه و يستخـدم تجلي""ات العقـل في املج""االت املتباينـة‪ ،‬ه""ذا ي""ؤدي إلى نتيج""ة مبدئي""ة و هي أن‬

‫البنيوية بوصفهـا منهجـا قديمـة " ‪.2‬‬

‫إن الغ""الب عن""د الدارس""ين ه""و ان البنيوي""ة طريق""ة بحث في الواق""ع عموم""ا وإجم""اال‪ ،‬ال في األش""ياء على‬

‫انف" ""راد‪ ،‬إنه" ""ا بحث في العالق" ""ات بين ه" ""ذه األش" ""ياء‪ ،‬وق" ""د يك" ""ون التعري" ""ف األمث" ""ل واألش" ""هر واألص" ""ح‬

‫للبنيوية هو كونها " محاولـة نقل النموذج اللغـوي إلى حقـول ثقافيـة أخـرى " ‪.3‬‬

‫لق""ذ أخ""ذت البنيوي""ة عن سوس"ير وص""فه اللغ"ة بكونه"ا نس"قا من اإلش""ارات‪ ،‬و ك"ذلك تأمالت"ه في طبيع"ة‬

‫اإلش""ارة و كونه""ا اعتباطي""ة‪ ،‬ثم تفريق""ه بين ال""دال و املدلول من ناحي""ة‪ "،‬و اعتب""اره للعالم""ة ذل""ك الك""ل‬

‫ال ""ذي ي ""تركب من ""ه ال ""دال و املدلول من ناحي ""ة أخ ""رى ثم تفريق ""ه بع ""د ذل ""ك بين اللغ ""ة (‪ ) Langage‬و‬

‫الكالم ( ‪ ) Parole‬من حيث ك""ون األول مخزون""ا ذهني""ا للجماع""ة البش""رية‪ ،‬والكالم ال""ذي ه""و إض""افات‬

‫املتح ""دث ملجم ""وع القواع ""د ال ""تي تعلمه ""ا من أج ""ل التعب ""ير عن فك ""رة أو رس ""الة‪ ،‬ثم عم ""ل سوس ""ير على‬

‫‪ - 1‬خثير ذويبي ‪ :‬البنيوية و العمل األدبي – ص ص ‪83/85‬‬


‫‪ - 2‬عمر مهيبل‪ : A‬من النسق إلى الذات – قراءات في الفكر العربي المعاصر ‪-‬ص ‪13‬‬
‫‪ - 3‬م‪ .‬نفسه ‪-‬ص ‪14‬‬

‫‪108‬‬
‫التفريـق بـين اآلني""ة ( ‪ ،) Synchronie‬من حيث هي دراس""ة اللغ""ة بوص""فها نظام""ا في عص""ر م""ا‪ ،‬و بين‬

‫الزمانيـة ( ‪ ) Diachronie‬من حيث هي دراس""ة اللغ""ة من حيث تطوراته""ا و تحوالته""ا التاريخي""ة‪ .‬و من‬

‫األفكـار ال" ""تي أث" ""رت في البنيوي" ""ة ك" ""ذلك م" ""ا اعتق" ""ده " سويس" ""ير " ح" ""ول اللغ" ""ة من حيث كونه" ""ا " بني" ""ة‬

‫مكتفي ""ة ب ""ذاتها‪ ،‬و م ""بررة ذاتيا " ‪ . . .1‬وه ""و التمي ""يز س ""يولد فك ""رة مركزي ""ة في التفك ""ير الب ""نيوي‪ . . .‬إن ""ه‬

‫مب" ""دأ "الع" ""زل" ال" ""ذي س" ""وف ينتق" ""ل فيم" ""ا بع" ""د إلى مختل" ""ف التخصص" ""ات‪ ،‬فيتم التمي" ""يز بين البني" ""ة و‬

‫الحادث ""ة‪ ،‬وبين الف ""ونيم و األلف ""ون‪ ،‬و بين املورفيم و األلوم ""ورف‪ ،‬و بين املي ""ثيم و األس ""طورة‪ ،‬بين‬

‫الوح ""دة و تنوعه ""ا‪ . . .‬وس ""يجد الحق ""ا ص ""يغته األيديولوجي "ة" في كلم ""ة " روالن ب ""ارط " " اللغ ""ة ليس ""ت‬

‫ليبيرالي " ""ة و ال ديمقراطي " ""ة‪ ،‬إنه " ""ا بك " ""ل بس " ""اطة فاش " ""ية " ‪ . . .2‬أي أنه " ""ا تبس " ""ط س " ""يطرتها املطلق " ""ة على‬

‫موضوعها وتسيطر كذلك على أذهاننا وتحدد الصيغة التي نفكر بها‪.‬‬

‫من خالل مب" ""دأ "الع" ""زل ه" ""ذا‪ ،‬تتعام" ""ل البنيوي" ""ة م" ""ع النص بوص" ""فه م" ""ادة مس" ""تقلة معزول" ""ة عن‬

‫س""ياقها" و عن ال""ذات القارئ""ة‪ ،‬ف""النص مس""تقل تمام""ا عن أي شيء إذ ال عالق""ة ل""ه بالحي""اة واملجتم""ع أو‬

‫األفك ""ار" أو النفس ""ية‪ .‬إن العالق ""ة بين األديب مثال وبين محيط ""ه موج ""ودة ولكنه ""ا ال ينبغي له ""ا أن ت ""برر‬

‫وجود النص فيص"ير املع"نى الوحي"د للنص ه"و ت"برير ه"ذه املعطي"ات الخ"ارج‪-‬نص"ية فحس"ب‪ . . .‬وه"ذا م"ا‬

‫يوص ""ل روالن ب ""ارط في مقال ""ه الش ""هير ج ""دا "التحلي ""ل الب ""نيوي للقص ""ة" إلى أن يع ""رف القص ""ة بأنه ""ا "‬

‫مجموع""ة من الجم""ل " فحس""ب‪ . . .‬وه""و كالم ل""و ع""اد ق""دامى النق""اد من الق""رن التاس""ع عش""ر وق""رؤوه‬

‫لخروا صرعى‪.‬‬

‫تتميز البنيوية بخصائص ثالثة ‪ :‬الكلية أو الش"مول‪ ،‬و التح"ول‪ ،‬و التنظيم ال"ذاتي‪ ،‬فك"أن البني"ة‬

‫بحسب البنيويون هي ما يضمن للعقل فهم الواقع و التأكد" منه و السيطرة عليه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫عبد الناصر حسن محمد ‪ :‬نظرية التوصيل و قراءة النص األدبي‪ -‬ص ‪- 49‬‬
‫‪ - 2‬عبد هللا الغذامي ‪ :‬الخطيئة و التكفير ‪ -‬ص‪45‬‬

‫‪109‬‬
‫كم ""ا يرتك ""ز املنهج الب ""نيوي ارتك ""ازا على مرجعي ""ة البني ""ة اللغوي ""ة إلض ""اءة النص و ف ""رز العناص ""ر‬

‫املكون""ة ل""ه‪ ،‬و الكش""ف عن العالق""ات املختلف""ة ال""تي تص""نع تع""دد ال""دالالت فاألنس""اق اللغوي""ة هي ال""تي‬

‫تعطي املدلوالت وتحددها؛ بل و تحدد الشكل التركيبي للعبارة بحيث يك""ون هن""اك تفاع""ل أكي"د بينهم""ا‪،‬‬

‫فرصد السياق اإلبداعي يسمح لنا بفهم العديد من العالقات التركيبية بين أجزاء الكالم‪.‬‬

‫و هكذا فإن تتبع ّ‬


‫تكون الجملة شكليا‪ ،‬بوصف بنيتها و ما يعرض ألجزائها و عناص"رها‪ "،‬ي"تيح لن"ا فهم‬

‫كيفية" ارتب"اط املع"نى بمجموع"ة األلف"اظ املنطوق"ة واملكتوب"ة‪ ،‬وكلم"ا تمكن"ا من وص"ف بني"ة الجمل"ة زاد‬

‫وعين ""ا بالعالق ""ات بين الش ""كل واملض ""مون‪ .‬تق ""ول " دليل ""ة مرس ""لي " ‪ " :‬من املؤك ""د أن البنيوي ""ة أت ""احت‬

‫تق" ""دما ج" ""ديا نح" ""و موض" ""عة اإلج" ""راءات املس" ""تخدمة‪ ،‬و أدت إلى أعم" ""ال ته" ""دف إلى اإلحاط" ""ة بالتخي" ""ل‬

‫األدبي من وج ""ه نظ ""ر نظامي ""ة و دقيق ""ة ذات فعالي ""ة عملياتي ""ة أكي ""دة " ب ""ارط‪ ،‬بريم ""ون‪ ،‬ت ""ودوروف‪،‬‬

‫قريماس‪ "،‬بروب‪ ،‬والشكالنيون الروس‪ :‬شكلوفسكي‪ ،‬و توماشيفسكي وآخرون‪.1" . . .‬‬

‫التحوالت ما بعد البنيوية‬

‫من خالل ه ""ذا الع ""رض يمكنن ""ا أن نفهم مواق ""ع كث ""يرة على خارط" "ة" الفك ""ر م ""ا بع ""د الب ""نيوي‪ ،‬ف ""املبتغى‬

‫اليقي""ني ال""ذي ول""دت في كنف"ه" البنيوي""ة يتع""ارض تعارض""ا كلي""ا م""ع الج""و الري""بي‪ ،‬التقري""بي وغ""ير املحتفي‬

‫بالحقيقة كما يفرضها ظاهرها‪ "،‬وهي مبادئ تجمع مختلف التيارات ما بعد البنيوية‪.‬‬

‫تق""ول "آن إين""و" في تعري""ف الس""يميولوجيا إنه""ا محاول""ة لخل""ق وعي ب""نيوي لعملي""ة االس""تقراء‪ ،‬والتعب""ير‬

‫ينط" ""وي على مفارق " "ة" إذ أنن" ""ا نعلم كلن" ""ا أن االس" ""تقراء في ع" ""الم املع" ""نى عملي" ""ة عبثي" ""ة‪ ،‬وذل" ""ك بس" ""بب‬

‫‪ - 1‬خثير ذويبي ‪ :‬البنيوية و العمل األدبي‪ -‬ص ‪30‬‬

‫‪110‬‬
‫الطبيع""ة املتش""ظية لت""داول املع""اني في ال""ذهن البش""ري‪ ،‬وبن""اء على ه""ذا تص""بح كلم""ة محاول""ة ال""تي تج""اور‬

‫"الوعي البنيوي" تشكل هدما صريحا للمبادئ "العلمية"" التجريبية اليقينية التي نشأ الفك""ر الب""نيوي في‬

‫كنفه ""ا‪ . . .‬إن ""ه كس ""ر ملق ""والت مث ""ل االنغالق واالكتف ""اء والكم ""ال‪ ،‬وهي مق ""والت تص ""ف ال ""وعي الب ""نيوي‬

‫باملعرفة‪.‬‬

‫إنن""ا نتح""رى الدق""ة بقولن""ا "املعرف""ة" ب""دال من كلم""ات أخ""رى‪ ،‬ألن املن""اخ م""ا بع""د الب""نيوي من""اخ ش""امل‬

‫ملختلف جوانب املعرفة ال الفلسفة والنقد األدبي أو اللغوي فحسب‪. . .‬‬

‫يجدر بنا هنا ذكر الرمز األعلى لهذا املناخ وال"ذي ه"و الفيلس"وف فري"ديريك نيتش"ه وق"د أراد ل"ه حظ"ه‬

‫الع ""اثر أن ي ""أتي في مرحل ""ة ك ""انت االنس ""انية فيه ""ا مش ""بعة بتق ""ديس العلم واالل ""تزام السياس ي والنمطي ""ة‬

‫االجتماعي ""ة والفلس ""فات ذات املق ""والت الك ""برى النهائي ""ة التام ""ة الكلي ""ة‪ . . .‬كاملاركس ""ية وبع ""دها االتج ""اه‬

‫الفروي" ""دي‪ . .‬إلخ‪ . . .‬وعلين" ""ا من أج" ""ل تحلي" ""ل دقي" ""ق أن نستحض" ""ر م" ""ا يتماش ى م" ""ع ه" ""ذه املناخ" ""ات من‬

‫انعكاسات عميقة غائرة على املس"تويات االجتماعي""ة وااليديولوجي"ة" والسياس"ية‪ . ".‬ومختل"ف التمثالت‬

‫والتمثيالت الثقافية‪".‬‬

‫لق""د ج""اء نيتش""ه مش""ككا في امليراث العقلي وفي البني""ات العميق""ة للفك""ر والحض""ارة الغربي""ة ومش""ككا في‬

‫اآلل""ة‪ ،‬وفي املع""ارف التجريبي""ة ومختل""ف أش""كال اليقيني""ات ال""تي ترت""اح البش""رية دائم""ا إليه""ا‪ . .‬له""ذا نج""د‬

‫لنيتش ""ه ظالال ل ""دى فالس ""فة ك ""ثر ممن ينض ""وون تحت الالفت ""ة البراق ""ة ملا بع ""د الب ""نيويين‪ . . .‬واملالح ""ظ‬

‫ل""دى املتأم""ل املدقق ه""و أن نيتش""ه ه""و الفيلس""وف الس""ابق للق""رن العش""رين املفض""ل ل""دى أبن""اء الق""رن‬

‫العشرين‪ ،‬وخصوصا لدى ما بعد الحداثيين ولدى ما بعد البنيويين‪.‬‬

‫كث""يرا م""ا يح""دث التم""اهي بين م""ا بع""د البنيوي""ة وم""ا بع""د الحداث""ة‪ ،‬وكم""ا هي الح""ال دائم""ا حينم""ا يت""داخل‬

‫مفهوم"ان متقارب"ان في األذه"ان‪ ،‬فإنن"ا نج"د فريق"ا يف"رق تفرق"ة دقيق"ة بين املفه"ومين وآخ"ر يض"عهما في‬

‫س" ""لة واح" ""دة‪ ،‬ح" ""تى أنن" ""ا لنج" ""د رم" ""زا مث" ""ل روالن ب" ""ارط يع" ""ده املؤرخ" ""ون مفك" ""را رئيس" ""ا من مفك" ""ري‬
‫‪111‬‬
‫البنيوي" ""ة‪ ،‬وتع " ""ده املدرس " ""ة األميريكي" ""ة من املمه " ""دين الرك " ""ائز ملا بع" ""د البنيوي " ""ة في إط " ""ار م " ""ا سيس" ""مى‬

‫بالنظري" ""ة الفرنس" ""ية ‪ ، French theory‬وذل" ""ك من خالل عمل" ""ه كس" ""يميولوجي عتي" ""د على ه" ""دم انغالق‬

‫البنية ورفضها للذات وللماحول" مكتفية باملوضوع وبأنساقه" الداخلية‪.‬‬

‫نج""د ك""ذلك ميش""ال فوك""و ي""ردد م""رارا ب""أن عمل""ه مس""تقل تمام""ا عن الثنائي""ة الض""دية بنيوي""ة ‪ /‬م""ا بع""د‬

‫بنيبوي ""ة‪ . . .‬وإن كن ""ا بص ""دد تح ""ري الص ""دق فإنن ""ا س ""نقول إن م ""ا يفعل ""ه ك ""ل ه ""ؤالء املفك ""رين ب ""دءا من‬

‫‪ 1968‬ه"و خل""ق "ج""و مع"رفي"" و"من"اخ أك"اديمي" س"ينتج أفك""ارا ينض"وي تحته"ا أو في م""داراتها ك"ل م""ا ي""درج‬

‫– إن بتسرع أو بتؤدة‪ -‬ضمن ما يسمى بتيارات ما بعد البنيوية‪.‬‬

‫إن استعمال صيغة الجمع الدال على تعددية مجاالت عمل م"ا بع"د البنيوي"ة‪ ،‬ب"دءا من أس"باب‬

‫نش""أة ه""ذا الـ"م""ا بع""د ‪ "POST‬ال""تي ت""تراوح تمام""ا بين الرغب""ة في معالج""ة ح""دود البنيوي""ة ومحدودي""ة نم""ط‬

‫تعاملها مع مواضيعها‪ ،‬وبين الرغبة في الذهاب إلى محطة أخرى برفض امليراث البنيوي برمته‪.1‬‬

‫لق""د س""عى مابع""د الب""نيويين إلى تخطي النم""وذج اللغ""وي ال""ذي دارت حول""ه البنيوي""ة من منطل""ق‬

‫أن""ه نم""وذج منق""وص في عق""ر داره‪ . . .‬إن النظ""ر إلى ك""ل موض""وع من مواض""يع املعرف"ة" على أس""اس كون""ه‬

‫وح""دة قابل""ة للتج""زيء إلى وح""دات ص""غرى ترب""ط بينه""ا عالق""ات كمث""ل العالق""ات النحوي""ة الرابط""ة بين‬

‫عناصر الجملة هو نظر قاصر بالضرورة ألن اللغة تعمل داخل التركيب النحوي وخارجه‪ . .‬وه"ذا م"ا‬

‫يجب أن ينتبه إليه الع"الم الف"ذ‪ . . .‬إن الص"مت ه"و ج"زء من اللغ"ة‪ ،‬والس"ياق ك"ذلك‪ ،‬وك"ذلك الس"ياق‬

‫املحي ""ط ب ""الكالم‪ . .‬وق ""د تمرك ""زت الس ""يميائيات ح ""ول ه ""ذا البع ""د الغ ""ائب عن اللغ ""ة‪ ،‬أو ح ""ول الق ""درة‬
‫‪2‬‬
‫الفائقة للغة على أن تومئ إلى عناصر غائبة عن بنية الجملة وممتلكة لطاقة حضور كبرى‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪- Marc Gontard : Post-modernisme et littérature- « Œuvres et critiques » - vol. 23- 1998-p p32/33‬‬
‫‪ - 2‬الدليل السيميولوجي‪ -‬ص‪17‬‬

‫‪112‬‬
‫إن املش" ""روع الس" ""يميولوجي لي" ""أتي مص" ""ححا للمش" ""روع الب" ""نيوي من خالل اس" ""تنطاق طاق" ""ات الت" ""دليل‬

‫الكامن""ة في أعط""اف البني""ة وال""تي هي م""ع ذل""ك غائب""ة عن عناص""ر البني""ة التركيبي""ة وعن األنس""اق الرابط""ة‬

‫بين هذه العناصر‪.‬‬

‫ك""ان ج""اك الك""ان" ي""رى‪ -‬من زاويت""ه الخاص""ة ‪ -‬ب""أن فك""رة سوس""ير ح""ول إمكاني""ة ع""زل اللغ""ة عن ال""ذات‬

‫لتص" ""ير موض" ""وعا نس" ""لط علي" ""ه طاق" ""ة املعرف" ""ة أو الدراس" ""ة أو الرغب" ""ة في اإلحاط" ""ة‪ ،‬فك" ""رة خاطئ" ""ة في‬

‫مجمله" ""ا وي" ""رى"أنن" ""ا كلن" ""ا غ" ""ارقون في اللغ" ""ة اليومي" ""ة وال يمكنن" ""ا الخ" ""روج منه" ""ا" ‪ ،1‬ب" ""ل إن" ""ه ي" ""ذهب في‬

‫أطروحات " " ""ه إلى ت " " ""داخل غ " " ""امض وض " " ""بابي بين"األن " " ""ا" واللغ " " ""ة الص " " ""ادرة عن ال " " ""ذات (واجه " " ""ة األن " " ""ا‬

‫االجتماعي ""ة )‪ . .‬فتص ""ير اللغ ""ة فخ ""ا لل ""ذات ال أداة له ""ا‪ .‬ويمث ""ل على ذل ""ك بالخل ""ل اللغ ""وي ال ""ذي يص ""يب‬

‫املرض ى النفس " ""انيين‪ ،‬وك " ""ذلك االنغالق الفك " ""ري الت " ""ام لع " ""ديمي الق " ""درة على االش " ""تغال اللغ " ""وي من‬

‫املرضى‪ . .‬على ج""انب آخ""ر "ي""رى الك""ان أن الدالل""ة ت""برز فق""ط من خالل الخط""اب كنتيج"ة" لالنزي""اح على‬

‫ط ""ول سلس ""لة داللي ""ة‪ ،‬وعلى غ ""رار "ديري ""دا" يص ""ر على قابلي ""ة املدلول للتغ ""ير وعلى إمكاني ""ة توظيف ""ه‬

‫ك ""دال ب ""دوره‪ .‬وب ""الطبع ي ""ترتب عن ع ""دم التط ""ابق ه ""ذا بين اللغ ""ة والواق ""ع (أي الطبيع ""ة غ ""ير التمثيلي ""ة‬

‫للغ ""ة ) أن املدلول يبقى دائم ""ا مؤقت ""ا "‪ 2‬وهي فك ""رة نج ""دها عن ""د ك ""ل املفك ""رين م ""ا بع ""د الب ""نيويين‪ ،‬وهي‬

‫فك ""رة نيتش ""وية بامتي ""از لكي نع ""ود على نيتش ""ه ال ""ذي قلن ""ا إن ""ه االبن املدلل للفك ""ر م ""ا بع ""د الب ""نيوي؛ في‬

‫استعارة للصيغة الشهيرة لليفي شتراوس حول الذات‪.‬‬

‫والخالص ""ة هي أن ال ""دال في نظ ""رة الك ""ان للغ ""ة ي ""دل دائم ""ا على دال آخ ""ر وال تخل ""و أي كلم ""ة ك ""انت من‬

‫املجازي ""ة ( واملج ""از ه ""و إحالل دال مح ""ل دال آخ ""ر) ويتح ""دث الك ""ان عن "ان ""زالق"على ط ""ول السلس ""لة‬

‫الداللية‪ ،‬من دال إلى دال وبما أنه بإمكان أي دال أن ي""دل ب"أثر رجعي بع""د ح""دوث فع""ل الدالل"ة فليس‬
‫‪3‬‬
‫هناك داللة مغلقة كاملة ومرضية"‬

‫‪ - 1‬دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة‪ -‬م‪ .‬مذكور‪ -‬ص‪18‬‬
‫‪ - 2‬م‪ .‬نفسه‪ -‬ص‪19‬‬
‫‪ - 3‬م‪ .‬نفسه –ص‪19‬‬

‫‪113‬‬
‫إن اللغة به"ذا املنظ"ور تص"ير كينون"ة نعيش داخله"ا‪ ،‬ويص"بح التموق"ع الب"نيوي االس"تعالئي ال"ذي يس"مح‬

‫بالنظرة الشمولية والدراسة املوضوعية ضربا من العبث‪ ،‬إن الذات متشابكة مع املوض"وع في ض"ياع‬

‫كلي للح ""دود بحيث يص ""ير املوض ""وع ج ""زءا من ال ""ذات‪ ،‬وتص ""ير ال ""ذات متورط ""ة في خل ""ق منظ ""ور ح ""ول‬

‫املوض ""وع يجع ""ل ه ""ذا األخ ""ير منقوص ""ا ألن ""ه غ ""ير مح ""دد بش ""كل قاب ""ل لالتف ""اق علي ""ه‪ ،‬أي بش ""كل قاب ""ل‬

‫للتجريب والفحص‪.‬‬

‫يوقعن ""ا ه ""ذا الكالم مباش ""رة في الت ""أمالت الهام ""ة مليش ""ال فوك ""و ح ""ول الخط ""اب ال ""ذي يجعل ""ه تنظيم ""ا‬

‫مخادع" ""ا يه" ""دف إلى خل" ""ق س" ""لطة مهيمن" ""ة خ" ""ارج البني" ""ة الخطابي" ""ة‪ "،‬تهيمن عليه" ""ا من ال" ""داخل (دون أن‬
‫‪1‬‬
‫تظهر) ومن الخارج دون أن نتحسسها‪.‬‬

‫النقط ""ة الثاني ""ة ال ""تي تب ""اين بين البنيوي ""ة والت ""أمالت الفوكوي ""ة في الخط ""اب هي االص ""رار على االنتش ""ار‬

‫الزم""اني للعناص""ر الخطابي""ة‪ ،‬وم""ا يش""به ف""راغ اللحظ""ة الخطابي""ة من أي""ة كثاف""ة‪ "،‬بحيث أنن""ا إذا رمن""ا‬

‫تأم " ""ل أي تش " ""كيل خط " ""ابي في لحظ " ""ة معط " ""اة‪ ،‬خ " ""ارج الس " ""يرورة التاريخي " ""ة فإنن " ""ا س " ""نكون ق " ""د رمن " ""ا‬

‫املس""تحيل‪ . . .2‬وه""ذه نقط""ة يجتم""ع حوله""ا فيلس""وفان م""ا بع""د بنيوي""ان هم""ا ديري""دا وفوك""و‪ ،‬فق""د ق""ال‬

‫األول بالتفكيكية وقال الثاني بالحفري"ات في البن"اءات التحتي"ة الخفي"ة‪ ،‬وق"د رب"ط املحلل"ون واملعلق"ون‬

‫بين الفك" ""رتين أو بين املفك" ""رين إلى درج" ""ة نش" ""وء خص" ""ومة ك" ""برى بين الفيلس" ""وفين في محاول" ""ة من ك" ""ل‬

‫منهم" ""ا لتبي" ""ان وج" ""وه اختالف نظرت" ""ه عن نظ" ""رة اآلخ" ""ر‪ . .‬إال أن نظرتيهم" ""ا لل" ""دور الخط" ""ير للتش" ""كيالت‬

‫الخطابية في رسم الحقيقة‪ ،‬وفي تعيين ما يمكنه أن يوسم باليقين تظالن نظرتين متقاربتين‪.‬‬

‫"إن م""ا بع""د البنيوي""ة أص""بحت في أح""د تجلياته""ا طريق""ة مناس""بة للته""رب من القض""ايا السياس""ية ؛ فق""د‬

‫حركت أعمال ديريدا وغ"يره موج"ة كب"يرة من الش"ك في املف"اهيم الكالس"يكية للحقيق"ة والواق"ع واملع"نى‬
‫‪1‬‬
‫‪- Pierre Machery : Querelles cartesiennes II –2002- article. lien : stl. recherche. univ-lille3.‬‬
‫‪fr/seminaires/philosophie/macherey/‬‬
‫‪2‬‬
‫‪-ibid.‬‬

‫‪114‬‬
‫واملعرف" ""ة‪ ".‬ف" ""إذا ك" ""ان املع" ""نى – أو املدلول‪ -‬إنتاج" ""ا ع" ""ابرا من الكلم" ""ات او ال" ""دوال املتغ" ""يرة باس" ""تمرار‪،‬‬

‫املتأرجحة" بين الحضور والغياب‪ ،‬كيف يمكن أن تك""ون هن""اك حقيق""ة مح""ددة أو مع"نى على االطالق ؟‬

‫وإذا ك""ان الواق""ع يتش""كل بواس""طة خطاباتن""ا ع""وض أن ينعكس من خالله""ا فكي""ف نع""رف الواق""ع نفس""ه‬

‫ع""وض أن نع""رف خطابن""ا فق""ط؟ وباعتب""ار ه""ذه الدوغمائي""ة ال يمكنن""ا أن نع""رف أي شيء على االطالق‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫كل واحد منا سجين خطابه""‬

‫ه""ذه الفك""رة ي""دفعها مفك""رون آخ""رون مث""ل ريتش""ارد رورتي ودونال""د ديفيدس""ن إلى نقط""ة أبع""د حينم""ا‬

‫يجتمعان (رغم البون املبدئي بينهما) على عد االستعمال اللغوي لزمن معطى ش"ديد اللص"وق بال"ذوات‬

‫املس""اهمة في خلق""ه وباملمارس""ات املجتمعي""ة ال""تي س""اهمت في إظه""اره بحيث يص""ير عس""يرا (ب""ل مس""تحيال‪،‬‬

‫في عرف ديفيدسن) أن نترجم نصا قديما إلى لغة حديثة‪.‬‬

‫وفي مقول""ة تجم""ع أش""تاتا من األفك""ار يق""ول جوناث""ان ك""الر"وعن""دما أص""بحت البنيوي""ة حرك"ة" أو مدرس""ة‬

‫ب ""دأ املنظ ""رون يبتع ""دون عنه ""ا‪ ،‬فق ""د ب ""دا واض ""حا أن أعم ""ال من ك ""انوا يعت ""برون ب ""نيويين لم تتم ""اش م ""ع‬

‫البنيوي"ة كمحاول""ة للتحكم في البني""ات وتنظيمه""ا‪ ،‬وب""دأ ينظ"ر إلى ب""ارط والك"ان وفوك"و على أنهم م"ا بع"د‬
‫‪2‬‬
‫بنيويين ألنهم تعدوا تصورات البنيوية الضيقة "‬

‫ويمكنن""ا ض""رب مث""ال على ه""ذا الكالم بالتقس""يم البلي""غ ال""ذي ج""اء ب""ه ج""يرار جي""نيت في كتاب""ه"أط""راس"‬

‫‪ ،1982‬وه ""و يق ""ر ب ""أن هن ""اك ن ""وعين من التفك ""ير الب ""نيوي أح ""دهما بنيوي ""ة االنغالق وثانيهم ""ا بنيوي ""ة‬

‫االنفت""اح كم""ا يس""ميها‪ ،‬وق""د ض""رب مث""اال للن""وع األول بالدراس""ة الش""هيرة في تحلي""ل قص""يدة "القط""ط "‬

‫لبودلير والتي أنجزها روم""ان جاكبس"ون" بمعي"ة كل""ود ليفي ش"تراوس‪ ،‬في حين رأى جي"نيت نفس"ه يحل""ل‬

‫النص"وص فيم"ا بعض"ها ين"ير بعض"ا‪ ،‬فيص"ير مع"نى النص منوط"ا بمع"ان ت"أتي من خارج""ه وه"ذا مض"اد ملا‬

‫رأينا أعاله من مبادئ البنيوية‬


‫‪ - 1‬دليل تمهيدي‪ ƒ‬إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة‪ -‬م‪ .‬مذكور‪ -‬ص‪138‬‬

‫‪ - 2‬جوناثان كالر‪ : ‬النظرية األدبية‪ -‬تر‪ :‬خميسي بوغرارة‪ -‬منشورات‪ ƒ‬مخبر الترجمة في اللسانيات‪ ƒ‬واألدب‪ -‬جامعة قسنطينة‪ -2008 ƒ-‬ص‪116‬‬

‫‪115‬‬
‫ويمكنن""ا الوق""وف على ق""راءة مث""يرة ألعم""ال الب""نيويين ت""رى ب""أن "كث""يرا من املواق""ف املرتبط""ة بم""ا بع""د‬

‫البنيوي""ة ك""انت واض""حة ح""تى في األعم""ال األولى له""ؤالء املفك""رين عن""دما ك""ان يعتق""د أنهم ب""نيويون‪ ،‬فق""د‬

‫وص""فوا التش""ابك ال""ذي يح""دث بين النظري""ات والظ""واهر ال""تي تح""اول النظري""ات وص""فها‪ ،‬والنص""وص‬

‫ال""تي تنتج املع""نى بخل""ق األع""راف ال""تي شخص""ها التحلي""ل الب""نيوي‪ ،‬كم""ا أق""روا بع""دم إمكاني""ة بن""اء نظ""ام‬
‫‪1‬‬
‫داللي كامل ومتناغم‪ ،‬ألن األنظمة في حالة تغير مستمر"‬

‫وربما يكون املسار املعرفي الجدير بالتأمل ألعمال روالن بارط بليغا في الداللة على ه"ذه الفك"رة‪ ،‬نق"د‬

‫بدأ بكتابة "ميتولوجيات" قارئ"ا للظ"واهر الثقافي"ة بخلفي"ة نظامي"ة غ"ير متقص"دة للزاوي"ة البنيوي"ة‪ ،‬ثم‬

‫م ""ر بمرحل ""ة بنيوي ""ة ص ""ريحة م ""ع بداي ""ة الس ""تينيات يمثله ""ا خ ""ير تمثي ""ل مقال ""ه ذائ ""ع الص ""يت " التحلي ""ل‬

‫الب" ""نيوي للقص" ""ة"‪ . .‬ثم تح" ""ولت أعمال" ""ه إلى س" ""يميولوجيا منفتح" ""ة مثقف" ""ة مض" ""ادة لالنغالق الب" ""نيوي‬

‫وللحتميات والكليات واليقينيات التي رافقت نشأة البنيوية‪.‬‬

‫"في" الواق ""ع ليس ""ت م ""ا بع ""د البنيوي ""ة كش ""فا لنق ""ائص وأخط ""اء البنيوي ""ة فحس ""ب ب ""ل هي أك ""ثر من ذل ""ك‪،‬‬

‫ع""زوف عن مش""روع محاول""ة فهم الظ""واهر الثقافي""ة وترك""يز ع""وض ذل""ك على نق""د املعرف""ة والش""مولية‬

‫وال""ذات‪ ،‬ويعام""ل ك""ل من ه""ذه كإش""كالية‪ ،‬فبني""ات" األنظم""ة الداللي""ة‪ ،‬كمواض""يع للمعرف""ة‪ "،‬ليس له""ا‬

‫وجود مستقل عن الذات‪ ،‬بل هي بنيات لذوات متشابكة مع القوى التي تنتج تلك البنيات" ‪.2‬‬

‫إن ه""ذه األفك""ار تس""قط وهم البنيوي""ة املتمث""ل في م""يزتي"الكم""ال"" و"الثب""ات"‪ . . ".‬فالخط""اب ينط""وي أب""دا‬

‫على غم""وض وان""زالق وانغالق غ""ير قاب""ل للمعالج""ة املنهجي""ة‪ ،‬وعلى خ""داع ومخ""اتالت مستعص""ية على‬

‫اإلحاطة‪.‬‬

‫ومن الواض""ح أن ال""دور ال""رئيس في ه""ذه املرحل""ة يع""ود إلى ت""دخل ال""ذات ؛ ه""ذه األداة م""ا بع""د البنيوي""ة‬

‫ال ""تي نج ""دها ش ""ديدة الحض ""ور ل ""دى فالس ""فة "النظري ""ة الفرنس ""ية" كعنص ""ر مض ""اد للكلي ""ة واملطلقي ""ة‬
‫‪ - 1‬م‪ .‬نفسه‪ -‬الصفحة نفسها‬
‫‪ - 2‬م‪ .‬نفسه‪ -‬الصفحة نفسها‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫واالس ""تعالئية‪ " ،‬إن خالص ""ة م ""ا يقول ""ه م ""ا بع ""د الب ""نيويين مث ""ل ليوط ""ار هي أن هن ""اك في الحي ""اة أش ""ياء‬

‫كث""يرة أهم من السياس""ة قى‪ ،‬ف""إذا انهمكن""ا في السياسي نس""ينا م""ا يج""ري" هن""ا‪ ،‬اآلن" واملاركس""يون دائم""ا‬

‫ينتق ""دون الوض ""ع الح ""الي" ب ""النظر إلى وض ""عية مثالي ""ة واملتطرف ""ون يتعنت ""ون لدرج ""ة أن ""ه ال وقت ل ""ديهم‬

‫للتمت ""ع بالحي ""اة‪ ،‬واملثالي ""ة كم ""ا هي اآلن تعزلن ""ا عن الحاض ""ر يجب ع ""وض أن نحن إلى مجتم ""ع متكام ""ل‬

‫يك ""ون ق ""د وج ""د في املاض ي أن نجس ""د مظ ""اهر الحي ""اة املعاص ""رة ويري ""د م ""ا بع ""د الب ""نيويين تمجي ""د ك ""ل‬

‫العناصر التي تجاهلتها النظريات الكليانية‪ ،‬لذلك نجدهم يركزون على الهامشي واملستثنى"‪.1‬‬

‫الفكرة األخرى ال"تي تول"دت عن الفك"ر مابع"د الب"نيوي هي التمجي"د الش"ديد ملب"دأ الل"ذة‪ ،‬وذل"ك ب"النظر‬

‫إليها كطاقة" فعال"ة إلخ"راج مكنون"ات العق"ل ال"تي غالب"ا م"ا تكبحه"ا ميكانيزم"ات األداء العقلي ال"واعي؛ أي‬

‫األخالقي (وف" ""ق أخالقي" ""ات املجتم" ""ع ال" ""تي تخ" ""رج من دائ" ""رة التواف" ""ق إلى دائ" ""رة الس" ""لطة املرتك" ""زة على‬

‫ال""تراكم الت""اريخي)‪ . . .‬إن له""ذا النم""ط من تمجي""د الل""ذة تمظه""رات ثقافي"ة" معاص""رة كث""يرة‪ ،‬فق""د تج""اوز‬

‫املفه ""وم م ""ا بع ""د الب ""نيوي عتب ""ات ال ""درس األدبي والج ""ا بواب ""ة التمظه ""رات الثقافي ""ة املتنوع ""ة‪ ،‬فيمكنن ""ا‬

‫دراس" ""ة أنظم" ""ة املوض" ""ة او فلس" ""فة وس" ""ائل اإلعالم ونظري" ""ات التواص" ""ل لنج" ""د أن مب" ""دئي املس" ""ؤولية‬

‫وااللتزام اللذين سيطرا على فكر ما بين الحربين وكذلك ما بعد الحرب الكونية الثانية قد أخذ يترك‬

‫مكان""ه ت"دريجيا ملب"دأ الل"ذة واملتع""ة والراح"ة واللعب والله""و وتمجي""د ال"ذات املس"تمتعة والجس"د املنتشي‬

‫والجمال الظاهري وعبادة الجسم والشكل والهيأة و ك"ل تل"ك القيم الرائج""ة في أفك""ار أس"اطين م""ا بع"د‬

‫الحداث""ة (ولنت""ذكر هن""ا ذل""ك التم""اهي ال""ذي ب""دأنا ب""ه دراس""تنا بين القيم م""ا بع""د البنيوي""ة والقيم م""ا بع""د‬

‫الحداثية)‪. . .‬‬

‫إن له" ""ذه األفك ""ار" خلفي ""ة كب ""يرة في الدراس" ""ات النفس" ""ية لالك ""ان وفيليكس غواط ""اري وجي ""ل دول" ""وز‪. . .‬‬

‫وقد‪ ":‬كتب ليوطار (‪ ) . . .‬عن التوتر الخطابي والتصويري‪ ،‬أي بين الكالم والص""ورة في كت""اب عنوان"ه‬

‫الخط""اب‪ /‬الص""ورة ‪ discours/figure‬فق""د ك""ان دائم""ا مولع""ا بك""ل م""ا ه""و غ""ير لغ""وي‪ . . .‬كم""ا انتق""د نظ""رة‬
‫‪ - 1‬دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة‪ -‬م‪ .‬مذكور‪ -‬ص‪142‬‬

‫‪117‬‬
‫َ‬
‫"آخ ر اللغ""ة" وربك""ه بالتمثي""ل التص""ويري‪ ،‬كم""ا رب""ط م""ا قب""ل الش""عور‬
‫الك""ان القائل""ة ب""أن الالش""عور ه""و "‬

‫باللغ ""ة‪ .‬فاللغ ""ة ترتب ""ط بالرقاب ""ة والكبت والقم ""ع‪ ،‬أم ""ا التمثي ""ل التص ""ويري فيرتب ""ط بالش ""هوة الخ ""رق‪،‬‬

‫ويرى ليوطار أن الفن الح"ديث مش"تت ومح"رر‪ ،‬ويمث"ل ك"ل من التش"تيت والتش"ويش محاول"ة لتس"ليط‬

‫الضوء على عمليات الالشعور‪ .‬وهكذا يستدعي الفن حتما زعزعة األعراف"‪. . .1‬‬

‫إن إح ""دى األفك" ""ار األك ""ثر تعارض" ""ا م ""ع الفك ""ر الب" ""نيوي في إط ""ار املش ""روع م ""ا بع" ""د الب ""نيوي هي فك ""رة‬

‫االختالف التي تحيل أيضا على اللعبة الكالمية التي اقترحه"ا "ج"اك ديري"دا " اختالف‪/‬تش"تيت أو إرج"اء‬

‫‪ Différence/différance‬وال " ""تي فحواه " ""ا أن النص " ""وص تمتل " ""ك طاق " ""ات إلرج " ""اء املع " ""نى ال " ""ذي عودتن " ""ا‬

‫الكالس" ""يكية على كون" ""ه مغلق" ""ا نهائي" ""ا منتهي" ""ا مبتوت" ""ا في أم" ""ره‪ ،‬طاق" ""ات تجع" ""ل الق" ""راء يمتلك" ""ون ح" ""ق"‬

‫االختالف" في تأوي""ل املع""نى‪ ،‬وإرج""اء ه""ذا املع""نى النه""ائي في إط""ار "لعب""ة " ان""زالق املدلوالت على أرض""ية‬

‫املداليل‪ ،‬وهك ""ذا يع ""وض "االئتالف" السويس ""ري الواق ""ف خل ""ف املش ""روع الب ""نيوي به ""ذا الـ "اختالف"‬
‫‪2‬‬
‫الديريدي املرسي للمشروع ما بعد البنيوي‪. . .‬‬

‫يعي" ""دنا ه" ""ذا املفه" ""وم الى الخلفي" ""ة النيتش" ""اوية‪ ،‬ألن نيتش" ""ه ك" ""ان ق" ""د وق" ""ف ض" ""د التفك" ""ير من مرك" ""ز‬

‫الثنائيات األرسطية التي استمرت حتى الجدلية الهيغيلية‪ .‬الثنائيات ال"تي تنظم ك"ل القيم وك"ل األفك"ار"‬

‫فتقص ي م ""ا ش ""ذ عن طرفيه ""ا املتج ""ادلين أو املتق ""ابلين وق ""د ك ""ان ه ""ذا أح ""د املواض ""يع الرئيس ""ية ال ""تي دار‬

‫حولها كتاب " جيل دولوز" 'نيتشه والفلسفة' ‪ ،1962‬قائال بان قيمة االختالف هي قيمة مس""تقلة عن‬

‫ال ""ذات واملوض ""وع‪ ،‬قيم ""ة رئيس ""ية أص ""لية أص ""يلة غ ""ير قابل ""ة لالخ ""تزال إلى قيم تك ""ون وح ""دات اص ""غر‪،‬‬

‫فالتع ""دد ن ""اموس من ن ""واميس الك ""ون واالختالف ه ""و الوج ""ه اآلخ ""ر للتع ""دد فه ""و قيم ""ة باني ""ة للخل ""ق‪،‬‬

‫للطبيعة وللمعنى‪.‬‬

‫م‪ .‬نفسه‪ -‬ص‪141‬‬ ‫‪-1‬‬


‫‪2‬‬
‫‪- Denis‬‬
‫‪Huisman, marie-agnès malfray :  Les pages les plus célèbres de la philosophie‬‬
‫‪occidentale. De Socrate à Foucault- ed. perrain- paris-2000- p632-  ‬‬
‫‪118‬‬
‫ويتح ""ول االختالف ل ""دى ديري ""دا إلى قيم ""ة ع ""ابرة لل ""زمن أو مش ""تتة أو مؤجل ""ة على مح ""ور ال ""زمن‪ ،‬لكي‬

‫تص""ير القيم "آث""ارا" على خ""ط ال""زمن‪ ،‬وتض""يع التقني""ات بأنه""ا مؤجل""ة إلى زمن لم ي""أت بع""د‪ ،‬ومزلزل""ة‬

‫بفعل مضى وانقضى حامال معه صيغة أخرى ماضية تاركة آثارها في الحاضر‪ . . .‬وبه""ذا الش"كل يص"ير‬

‫االختالف قيم" ""ة حتمي" ""ة متحرك" ""ة في ال" ""زمن‪ . . .‬وهي قيم" ""ة تزل" ""زل البني" ""ان الب" ""نيوي فتفق" ""ده أس" ""باب‬

‫وجوده‪.‬‬

‫يق""ول ديري""دا على ه""امش ه""ذه الفك""رة " ربم""ا على الفلس""فة أن ت""دخل في اعتباره"ا" ه""ذا الغم""وض وه""ذا‬

‫الت""داخل‪ ،‬أن تفك""ر في""ه وأن تفك""ر من خالل""ه في نفس""ها‪ ،‬أن عليه""ا أن تتقب""ل التعددي""ة واالختالف في‬
‫‪1‬‬
‫أفق التوقعات الذي هو في أفق جوهري في الفلسفة"‬

‫فك""رة ثالث""ة هي املنح""درة من الت""أمالت م""ا بع""د البنيوي""ة في الخط""اب‪ ،‬وال""تي ت""ؤدي بن""ا إلى االعتق""اد ب""أن‬

‫بين الخط ""اب وال ""ذهن املش ""كل ل ""ه أو الص ""ائغ ل ""ه واملتلف ""ظ ب ""ه ص ""لة دائري ""ة؛ بحيث أنن ""ا بم ""رور ال ""زمن‬

‫نص""بح ع""اجزين تمام""ا عن ال""وعي بالفاع""ل واملفع""ول ب""ه‪ ،‬ذل""ك أنن""ا نص""وغ خطاب""ات تع""بر عن""ا ثم نص""ير‬

‫سجناء تلك الخطابات‪ ،‬التي تصبح تتحكم في مصائرنا‪ ،‬ويتحرك هذا امليكانيزم في إطار خلق عالم""ات‬

‫هيمن ""ة تجعلن ""ا ع ""اجزين عن البت النه ""ائي في الس ""ؤال ‪ :‬ه ""ل اإلنس ""ان ه ""و ال ""ذي يتحكم في الخط ""اب أم‬

‫العكس؟‬

‫من املث ""ير لالنتب" ""اه أن "فوك" ""و "م" ""ع بدايات ""ه انتمى إلى التي" ""ار الب" ""نيوي‪ ،‬أو أدرج ض" ""منه بس" ""بب مج ""االت‬

‫االهتمام املتقاطعة مع ذلك التيار‪ ،‬في حين نجده يعلن عن مجمل األفكار" التي ترسم مساره الفلس""في‬

‫ال""ثري واملتم ""يز ب ""االختالف الت ""ام عن البنيوي ""ة في كتاب "ه" " الكلم ""ات واألش ""ياء" ‪Les mots et les choses‬‬

‫الصادر عام ‪ 1966‬أي في عز سطوة التيار البنيوي الذي كان آنذاك في أوجه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪-Jacques Derrida : L’écriture et la différance- seuil-Paris-1967-p166‬‬

‫‪119‬‬
‫فك""رة أخ""رى ص""ارت تحس""ب على امليراث م""ا بع""د الب""نيوي هي تمجي""د الل""ذة كقيم""ة فلس""فية‪ ،‬واتخاذه""ا‬

‫قيمة بديلة لقيمة "املسؤولية"‪ ،‬قيمة تعم"ل على تحري"ر اإلنس"ان من ض"غط الحي"اة والفك"ر والص"راع‪،‬‬

‫وك ""ل ذل ""ك لفائ ""دة التس ""لية والراح ""ة واالنبس ""اط والتخف ""ف من األعب ""اء‪ .‬إن ""ه اتج ""اه ف ""اض عن ح ""دود‬

‫الفلسفة ليلمس الدين والتواصل واالجتماع واألدب أيضا‪.‬‬

‫إن له""ذا النم"ط من تمجي""د الل""ذة تمظه"رات ثقافي"ة" كث""يرة في الثقاف"ة" املعاص""رة‪ ،‬فق""د تج""اوز املفه"وم م"ا‬

‫بعد البنيوي عتبات الدرس األدبي والجا بواب""ة التمظه""رات الثقافي""ة املتنوع"ة‪ ،‬فيمكنن""ا دراس""ة أنظم"ة‬

‫املوض""ة‪ ،‬أو فلس""فة وس""ائل اإلعالم وك""ذلك الخلفي""ات السوس""يوثقافية" لنظري""ة التواص""ل‪ ،‬لنج""د أن‬

‫مب ""دئي املس ""ؤولية واالل""تزام الل ""ذين س ""يطرا على فك ""ر م ""ابين الح ""ربين وك ""ذلك م ""ا بع ""د الح ""رب الكوني ""ة‬

‫الثانية ق"د أخ"ذا يترك"ان مكانهم"ا ت"دريجيا ملب"دأ الل"ذة واملتع"ة واللعب والراح"ة والتس"لية وتمجي"د ال"ذات‬

‫املس ""تمتعة والجس ""د املنتشي والجم ""ال الظ ""اهري وعب ""ادة الجس""م والش ""كل والهيئ ""ة‪ . . .‬وك ""ل تل ""ك القيم‬

‫الرائج""ة في أفك""ار أس""اطين م""ا بع""د الحداث""ة ( ويج""در بن""ا هن""ا أن ن""ذكر بالتم""اهي ال""ذي ب""دأنا ب""ه دراس""تنا‬

‫بين القيم ما بعد البنيوية والقيم ما بعد الحداثية )‪. . . .‬‬

‫إن له""ذه األفك""ار" خلفي""ة كب""يرة في الدراس""ات النفس""ية لـ"الك""ان" و "فيليكس غواط""اري" و"جي""ل دول""وز‬

‫"وقد كتب ليوطار عن العمق الشديد لألثر النفسي للتوتر الخط"ابي والتص"ويري بين الكالم والص"ورة‬

‫في كت""اب عنوان""ه "الخط""اب‪/‬الص""ورة" ‪ ، discours/figue‬وق""د ك""ان دائم""ا مولع""ا بك""ل م""ا ه""و غ""ير لغ""وي‪،‬‬

‫كما انتقد نظرة "الك"ان" القائل"ة ب"ان الالش"عور ه"و " آخ"ر اللغ"ة "وربط"ه بالتمثي"ل التص"ويري كم"ا رب"ط‬

‫م ""ا قب ""ل الش ""عور باللغ ""ة‪ .‬فاللغ ""ة ترتب ""ط بالرقاب ""ة والكبت والقم ""ع‪ ،‬أم ""ا التمثي ""ل التص ""ويري فيرتب ""ط‬

‫بالشهوة والخرق ويرى "ليوطار" أن الفن الحديث مشتت ومحرر ويمثل كل من التش""تيت والتش""ويش‬

‫محاولة لتسليط الضوء على عملية الالشعور وهكذا يستدعي الفن حتما زعزعة أعراف ‪A41‬‬

‫‪120‬‬
‫يمكننا في هذه املرحلة من هذا العرض السريع لبعض مواقع االشتغال م""ا بع""د الب""نيوي أن نس""تخلص‬

‫جملة من األفكار" و على رأسها عودة الذات إلى شيء من التالعب باملوضوع بعدما عمل الق""رن التاس"ع‬

‫عشر وبداية القرن ‪ 20‬على تحيي"دها" بتل"ك الحج"ة ال"تي ص"اغها "ليفي ش"تراوس" ق"ائال بأنه"ا مث"ل الطف"ل‬

‫املدلل للفلس""فة وذل""ك في أعق""اب ظه""ور النزع""ة العلمي""ة واملادي""ة والكلياني "ة" ال""تي ك""انت تحلم بمنظوم""ة‬

‫ترانس " ""اندنتالية تحي" ""ط باملعرف " ""ة والك " ""ون واإلنس " ""ان‪ ،‬وتص " ""ل إلى ص " ""ياغة منظوم " ""ات لل " ""وعي والفهم‬

‫ولتفكيك ميكانيزمات التاريخ والكون واالجتماع واالستطان أيضا‪.‬‬

‫الفك""رة املركزي""ة األخ""رى هي ت""أخر اليقيني""ة الكلياني""ة لفائ""دة الريبي""ة واالختالف والجزئي""ة والتش""تيت‬

‫واملراجع ""ة واملس ""اءلة واإلرج ""اء‪ . . ".‬وهي كله ""ا قيم اق ""رب إلى ج ""وهر" اإلنس ""ان‪ ،‬ال ""ذي ع ""اد م ""ع م ""ا بع ""د‬

‫الب ""نيويين ليحت ""ل املكان ""ة املركزي ""ة في الفلس ""فة والفك ""ر‪ . . .‬إن م ""دار بحث اإلنس ""ان ه ""و اإلنس ""ان وليس‬

‫املنظومات املحيطة به‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫أفق إيطيقي‬
‫حكمة لألزمنة الجديدة‬
‫املشروع األخالقي لدى إدغار موران‬

‫إن وعي إدغ ""ار م ""وران بخصوص ""يات ال ""زمن ال ""ذي نحي ""اه وعي خ ""اص" ج ""دا؛ وله ""ذا نج ""د دائم ""ا ص ""دى‬
‫خاص ""ا ون ""برة متم ""يزة لدي ""ه كتل ""ك الش ""هيرة ال ""تي يح ""دد فيه ""ا نمط ""ا مم ""يزا ملا يس ""ميه الض ""رورة الثوري ""ة‬
‫لألزمنة القلقة الحديثة؛ إذ يقر بأننا " بحاجة" إلى أن نفهم أن ثورة اليوم ال تتمركز كثيرا على أساس‬
‫األفك ""ار" الجي ""دة أو املناقض" "ة" لل" ""راهن او تل" ""ك الحقيقي" ""ة في ص ""راع الحي ""اة واملوت م ""ع األفك" ""ار الس ""يئة‬
‫‪1‬‬
‫والخاطئة‪  ،‬ولكن في مجال تعقيد تنظيم األفكار "‬

‫ف ""إذا اس ""تبعدنا الثنائي ""ة العتيق ""ة للص ""واب والخط ""أ الل ""ذين تعودن ""ا عليهم ""ا كط ""رفين ف ""اعلين في الص ""راع‬
‫املدعو "جدلي""ة" كمواجه ""ة حتمي ""ة بين ق""وتين متناقض ""تين ته""دف إح""داهما للهيمن""ة على األخ""رى‪ ،‬نج""د‬
‫انفس ""نا بالض ""رورة في مق ""ترح إدغ ""ار م ""وران ال ""داعي إلى التفك ""ير من زاوي ""ة الحواري ""ة كمقارب "ة" مختلف ""ة‬
‫للصراع الفكري والتاريخي واألخالقي" طبعا‪.‬‬

‫ويح" ""دد م" ""وران ه" ""ذا املفه" ""وم ال" ""وارد أول م" ""رة عن" ""د ب" ""اختين ق" ""ائال‪ " :‬إن فك" ""رة الح" ""وار تس" ""مح برب" ""ط‬
‫املواض""يع العدائي""ة‪ ،‬وال""تي يب""دو في ح""دودها ملمح التن""اقض‪ .‬وه""ذا يع""ني أن منطق""تين اثن""تين تتق""ابالن‪،‬‬
‫لتتح " ""د املب" ""ادئ دون ازدواجي " ""ة االزدواجي" ""ة في ه " ""ذه الوح" ""دة‪ :‬وبالت " ""الي" الفك" ""رة‪ .‬أم" ""ا "األحادي" ""ة" ال" ""تي‬
‫اقترحته""ا في بعض الح""االت بالنس""بة لإلنس""ان فهي أحادي""ة الوج""ود‪ ،‬العض""وية وغ""ير العض""وية على ح""د‬
‫س" ""واء‪ .‬وربم" ""ا الثقافي" ""ة ايض" ""ا‪ .‬وفي منظ" ""ار يجع" ""ل الوج" ""ود محص" ""ورا بين الوح" ""دة أو التعددي" ""ة يص" ""بح‬
‫‪2‬‬
‫الحوار هو التكامل‪".‬‬

‫يق ""ر إدغ ""ار م ""وران ب ""أن ت ""اريخ ال ""دياليكتيك مرتب ""ط اص ""ال بت ""اريخ الع ""داوة والص ""راعات الدامي ""ة ال ""تي‬
‫هيمنت على األخالق البش""رية كص""يغة وحي""دة ممكن""ة للتقاب""ل بين اتج""اهين غ""ير متفقين‪ .‬ونط""رح مع""ه‬
‫هنا السؤال الجوهؤي الدذي انبنت عليه "منهجيته"" الش"هيرة‪ :‬ه"ل يمكن للص""راع ان يحي"ل على خاتم""ة‬

‫‪1‬‬
‫‪- Edgar MORIN, La Méthode 4-Les idées, pag. 238‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Nelson Vallejo-Gomez : La pensée complexe : Antidote pour les pensées uniques Entretien avec Edgar Morin‬‬
‫‪In : Synergies Monde n° 4 - 2008 pp. 249‬‬

‫‪122‬‬
‫سعيدة؟ ثم؟‪ ،‬أفال يمكنم لالختالف أال يحيل على العداوة؟ وأن يحيل على إمكانية" ول""و نظري""ة للعيش‬
‫املشترك؟‬

‫ألج" ""ل اإلجاب" ""ة على ذل" ""ك يع" ""ود بن" ""ا إدغ" ""ار م" ""وران إلى مرحل" ""ة هيراقلي" ""ط ال" ""ذي ك" ""ان يتمث" ""ل التع" ""دد في‬
‫الج ""وهر الواح ""د‪" .‬يجب إذن أن نس ""عى في التفك ""ير املتن ""اقض من ه ""يراكليتس‪ ،‬ال ""ذي يتص ""ور تع ""دد في‬
‫واح ""د‪ .‬وح ""دة الك ""ائن‪ ،‬نظ ""ام معق ""د‪ ،‬ف ""إن التنظيم النش ""ط ال يفهم ""ه منط ""ق الهوي ""ة الس ""ائد والغ ""ارق في‬
‫األحادية املنغلقة على الذات‪ .‬ففي غطار الواحد ليس هناك‬

‫التن " ""وع فق " ""ط‪ ،‬ب " ""ل توج " ""د ح " ""تى النس " ""بية وع " ""دم اليقين‪ ،‬والغم " ""وض‪ ،‬واالزدواجي " ""ة‪ "،‬واالنقس " ""امات‪،‬‬
‫والع ""داء‪ .‬يجب أن نفهم أن واح ""دا ه ""و في الواق ""ع بالنس ""بة إلى اآلخ ""ر‪ .‬ال يمكن تعريفه ""ا إال في جوهره ""ا‪.‬‬
‫انه يحت"اج الى الخ"روج من بيئت"ه ومراقب"ه‪ .‬واح"دة معق"دة ج"دا‪ .‬إن"ه هوي"ة معق"دة‪ .‬ه"و‪ ،‬مث"ل ك"ل م"ا ينتج‬
‫الفردي""ة‪ ،‬واالس""تقاللية‪ ،‬والهوي""ة‪،‬االس""تمرارية في أش""كالها‪ "،‬و في إط""ار أحادي""ات متع""ددة‪ .‬لق""د كتبت في‬
‫كت ""ابي " التفك ""ير أوروب ""ا"‪ ،‬أنن ""ا نعيش في ال ""وهم ب ""أن الهوي ""ة واح ""دة وغ ""ير قابل ""ة للتجزئ ""ة‪،‬في" حين أن ""ه ال‬
‫يوج" ""د ش يء ع" ""دا وح" ""دة متع" ""ددة الوح ""دات (وح" ""دة مركب ""ة)‪ ،‬والواق" ""ع ه" ""و أن هويتن ""ا هي جمه" ""رة من‬
‫‪1‬‬
‫الهويات املتآلفة‪ ،‬بمعنى اننا نعيش الهوية العائلية"‬

‫يمكنن""ا أن نتق""دم خط""وة إلى األم""ام متس""ائلين فلس""فيا‪ :‬كي""ف تنش""ا أخط""اء التربي""ة والتك""وين ه""ذه؟ ( من‬
‫منطل" ""ق أن املش" ""روع األخالقي" إلدغ" ""ار م" ""وران كم" ""ا عرفن" ""اه من قب" ""ل ه" ""و مش" ""روع يعتم" ""د على مخط" ""ط‬
‫ترب""وي‪ ،‬مخط""ط يتكئ أساس""ا على تك""وين إنس""ان ي""أتي غ""دا حس""ب مخطط""ات ونم""اذج نفس""ية وثقافي "ة"‬
‫نعمل اليوم على تشكيلها وهنا" يبزغ قلقان في الواقع ال قلق واحد‪:‬‬

‫كيف تنشأ أخطاء التشكيل البشري هذه؟‬

‫ه""ل يمكن التفك""ير في إنس""ان ب""ديل مس""تعد لفتح ص""فحة تاريخي""ة ( وبالت""الي" أخالقي""ة) جدي""دة وج""ديرة‬
‫بالتخطيط املستقبلي إلنقاذ إنسانية يبدو انها تعاني مشكال كب""يرا في التواص"ل البش""ري في عص"ر يس"مى‬
‫للمفارقة" بعصر التواصل‪.‬؟‬

‫ي ""دعونا إدغ ""ار م ""وران إلى إع ""ادة جدول ""ة املف ""اهيم فيق ""ول ب ""أن التواص ""ل اإلنس ""اني لكي يحق ""ق "أهداف ""ه‬
‫وغايات""ه ينبغي أن يك""ون هن""اك فهم ص""حيح لإلنس""ان في ح""د ذات""ه‪ ،‬في أبع""اده ومكونات""ه‪ .‬إن فهم اإلنس""ان‬

‫‪1‬‬
‫‪Ibid. p250‬‬

‫‪123‬‬
‫يتطلب ال" ""وعي بالط" ""ابع املركب له" ""ذا اإلنس" ""ان‪ ،‬فاألس" ""لوب املع" ""رفي الق" ""ائم على الفص" ""ل واالخ" ""تزال ق" ""د‬
‫وق ""ف ح ""ائال دون فهم التعقي ""د اإلنس ""اني‪ ،‬حيث أنه ""ا ق ""د تحققت تجزئ ""ة اإلنس ""ان بمختل ""ف العل ""وم ‪،‬‬
‫ّ‬
‫بالظ ""اهرة البش ""رية ك" ل من زاوي ""ة خاص ""ة ومح ""ددة‪ ،‬فتـم التج ""زيء إلى أج ""زاء‪ ،‬ك ""ل ج ""زء مع ""زول عن‬
‫‪1‬‬
‫اآلخر في العلوم اإلنسانية‪ ،‬بينما غاب اإلنسان في علوم العالم‪".‬‬

‫من غ""ريب األم""ر أن تج""د ه""ذه املع""ارف تش""كل خطاب""ات ع""بر نص""وص تق""ترح وعي""ا جدي""دا باإلنس""ان في‬
‫ح""د ذات""ه‪ .‬وه""و أم""ر ح""دث م""رارا من""ذ عص""ر النهض""ة وخاص""ة من""ذ مرحل""ة األن""وار أين تم تحدي""د ه""ذه‬
‫املع ""ارف وتحدي ""د غاياته ""ا الجدي ""دة ال ""تي هي تجدي ""د ال ""وعي باإلنس ""ان‪ .‬فم ""تى يمكنن ""ا النظ ""ر إلى اإلنس ""ان‬
‫بص ""فته نص ""ا ق ""ابال للعم ""ل علي ""ه خطابي ""ا‪ ".‬لتش ""كيله خطاب ""ا وليس لتش ""كيل خطاب ""ات حول ""ه مثلم ""ا فع ""ل‬
‫مفكرو عصر النهضة؟‬

‫يأتين""ا هن""ا تعري""ف للنص تع""ود أص""وله إلى التقالي""د الس""يميائية؛ فح""واه ْأن ُيع""د نص""ا ك" ُّ"ل م""ا من ش""أنه‬
‫تولي " ""د مع " ""نى من خالل أي ممارس " ""ة دال " ""ة ك " ""انت‪ ،‬فيص " ""بح الل " ""ون والش " ""كل وامللبس وطرائ " ""ق املأك " ""ل‬
‫واملش""رب‪ ،‬ومواعي""د عاداتن""ا واختياراتن "ا" الذوقي""ة الذاتي""ة وميولن""ا والص""ور املحيط""ة بن""ا‪ ،‬وك""ل م""ا من‬
‫ش""أنه أن يتم اختزال""ه تحت العن""وان ش""ديد الدالل""ة ال""ذي ه""و "التجرب""ة املعيش""ة"‪ "،‬كله""ا تص""بح نصوص""ا‬
‫ب" ""أتم مع" ""نى الكلم" ""ة‪ .‬ولكنه" ""ا تظ" ""ل نصوص" ""ا ال أهمي" ""ة له" ""ا في ه" ""ذا األف" ""ق خ" ""ارج الس" ""ياقات السياس" ""ية‬
‫والطبقي " ""ة اإليديولوجي " "ة" واالقتص " ""ادية" والثقافي " "ة" واالجتماعي " ""ة ال " ""تي أنتجته " ""ا أو ال " ""تي تم إنتاجه " ""ا في‬
‫إطاره ""ا‪ ".‬وك ""ل ه ""ذا يق ""ف على خلفي ""ة أن الن ""اس وهم يتق ""اطعون م ""ع النص ""وص أو يخوض ""ون غماره ""ا‬
‫كتجرب""ة معيش""ة يقوم""ون بإنت""اج الدالل""ة وتولي""د املع""اني ال""تي هي مع""اني الع""الم الكلي""ة الش""املة الكوني""ة‬
‫ال""تي تب""دو دائم""ا مطلق""ة – وإن ك""انت غ""ير مط""ردة تمام""ا‪ -‬وتك""ون حص""يلة ه""ذه الس""يرورة هي م""ا نس""ميه‬
‫بطريق ""ة مجازي ""ة "الثقاف ""ة"؛" ه ""ذا املفه ""وم النقي النبي ""ل ال ""ذي ي ""راه س ""تيوارت ه ""ال نمط ""ا من ممارس ""ة‬
‫الهيمنة من ِقبل قوى وص"ية ته"دف إلى خل"ق ش"عور بالدع"ة والطمأنين"ة ل"دى األتب"اع (وغالب"ا م"ا نس"ميهم‬
‫املواط ""نين الص ""الحين) تج ""اه الهيمن ""ة املس ""لطة عليهم‪ ،‬الش يء ال ""ذي من ش ""أنه ض ""مان تبعيتهم‪ .‬نتيج ""ة‬
‫ل " ""ذلك وبن " ""اء على م " ""ا س " ""بق على اإلنس " ""ان في رؤي " ""ة ه " ""ذا الحق " ""ل أن يتأم " ""ل نفس " ""ه من خالل س " ""ؤالين‬
‫مرك ""زيين‪ :‬أح ""دهما ه ""و‪ :‬م ""ا ه ""و املس ""ار الثق ""افي و العقلي والسياس ي ال ""ذي ق ""اد حياتن "ا" إلى أن تك ""ون على‬
‫الش""كل ال""ذي هي علي""ه؟ والس""ؤال الث""اني ه""و‪ :‬أال نك""ون نحن من خالل عم""ل اللغ""ة على برمج""ة أفكارن""ا‬

‫‪ - 1‬إدغار موران‪ ،‬المنهج‪ :‬إنسانية البشرية ‪ -‬الهوية البشرية‪،‬ترجمة‪ :‬هناء صبحي‪ ،‬هيئة أبوظبي للثقافة والتراث‪ ،‬ط‪ ، 1‬أبو ظبي‪، 9002 ،‬ص‪.99‬‬

‫‪124‬‬
‫موض ""وعا للثقاف ""ة؟ فنك ""ون أدوات في ي ""د ال نعرفه ""ا لتحقي ""ق إرادة ثقافي" "ة" (اي سياس ""ية وأخالقي ""ة) ال‬
‫نستوضحها؟‬

‫من ه""ذا املنطل""ق يص""بح دور الدراس""ات الثقافي""ة ه""و إع""ادة تفكي""ك م""ا ق""د انب""نى من األص""نام الحياتي""ة‬
‫واالجتماعية بمعزل عن إرادة الف"رد البس"يط املتن"اهي" في الص"غر على املس"توى السياسي‪ ،‬واملتن"اهي في‬
‫الخط ""ر على املس ""توى األخالقي" واملتم ""اهي والق ""در م""ع ذل ""ك على املس ""تويات كله ""ا‪ .‬ويق ""ع ه ""ذا التأم ""ل بين‬
‫التفك ""ير اليس ""اري ألنطوني ""و غرامش ي والتفك ""ير م ""ا بع ""د اليس ""اري مليش ""ال فوك ""و؛ الل " ْ‬
‫"ذين فكك ""ا جي ""دا‬
‫‪1‬‬
‫الصلة بين السلطة والخطاب‪ ،‬أي بين العمل واألخالق‪..‬‬

‫وبالت""الي – وبحس""ب إدغ""ار م""وران‪ -‬نحن بحاج""ة إلى فك""ر يجم""ع عناص""ر التعقي""د البش""ري )البيولوجي "ة"‬
‫والثقافية واالجتماعية" والشخص"ية( وتنظيمه"ا‪ ،‬ذل"ك أن مص"طلح "إنس"اني" غ"ني‪ ،‬ومتن"اقض‪ ،‬وم"زدوج‪:‬‬
‫إن""ه في الواق""ع‪ ،‬ج""د معق""د بالنس""بة لألذه""ان" املجبول""ة على إجالل األفك""ار" الواض""حة واملم""يز ‪.‬وه""ذا يع""ني‬
‫أن التعقي" ""د البش" ""ري يفتح الطري" ""ق أم" ""ام ك" ""ل من الفيزي" ""اء والبيولوجي" "ا" واألنثروبولوجي" ""ا االجتماعي" "ة"‬
‫ويه ""دف إلى بن""اء تص ""ور ش""امل عن الطبيع""ة البش""رية ب""إبراز الت""داخل بين العض""وي الحي""وي والفك""ري‬
‫‪2‬‬
‫الثقافي‪.‬‬

‫يعي" ""دنا ه" ""ذا املفه" ""وم الى الخلفي" ""ة النيتش" ""اوية‪ ،‬ألن نيتش" ""ه ك" ""ان ق" ""د وق" ""ف ض" ""د التفك" ""ير من مرك" ""ز‬
‫الثنائيات األرسطية التي استمرت حتى الجدلية الهيغيلية‪ .‬الثنائيات ال"تي تنظم ك"ل القيم وك"ل األفك"ار"‬
‫فتقص ي م ""ا ش ""ذ عن طرفيه ""ا املتج ""ادلين أو املتق ""ابلين وق ""د ك ""ان ه ""ذا أح ""د املواض ""يع الرئيس ""ية ال ""تي دار‬
‫حولها كتاب " جيل دولوز" 'نيتشه والفلسفة' ‪ ،1962‬قائال بان قيمة االختالف هي قيمة مس""تقلة عن‬
‫ال ""ذات واملوض ""وع‪ ،‬قيم ""ة رئيس ""ية أص ""لية أص ""يلة غ ""ير قابل ""ة لالخ ""تزال إلى قيم تك ""ون وح ""دات اص ""غر‪،‬‬
‫فالتع ""دد ن ""اموس من ن ""واميس الك ""ون واالختالف ه ""و الوج ""ه اآلخ ""ر للتع ""دد فه ""و قيم ""ة باني ""ة للخل ""ق‪،‬‬
‫للطبيعة وللمعنى‪.‬‬

‫ويتح ""ول االختالف ل ""دى ديري ""دا إلى قيم ""ة ع ""ابرة لل ""زمن أو مش ""تتة أو مؤجل ""ة على مح ""ور ال ""زمن‪ ،‬لكي‬
‫تص""ير القيم "آث""ارا" على خ""ط ال""زمن‪ ،‬وتض""يع التقني""ات بأنه""ا مؤجل""ة إلى زمن لم ي""أت بع""د‪ ،‬ومزلزل""ة‬
‫بفعل مضى وانقضى حامال معه صيغة أخرى ماضية تاركة آثارها في الحاضر‪ . . .‬وبه""ذا الش"كل يص"ير‬
‫‪ - 1‬فيصل األحمر‪ :‬مقدمة كتاب "معجم الدراسات الثقافية" لكريس باركر‪ -‬تر‪ :‬جمال بلقاسم‪ -‬داررؤيا‪-‬مصر‪ -2018-‬ص ص‪7/8‬‬
‫‪ - 2‬المنهج‪ :‬إنسانية البشرية ‪ -‬الهوية البشرية‪ -‬ص ‪23‬‬

‫‪125‬‬
‫االختالف قيم" ""ة حتمي" ""ة متحرك" ""ة في ال" ""زمن‪ . . .‬وهي قيم" ""ة تزل" ""زل البني" ""ان الب" ""نيوي فتفق" ""ده أس" ""باب‬
‫وجوده‪.‬‬

‫يق""ول ديري""دا على ه""امش ه""ذه الفك""رة " ربم""ا على الفلس""فة أن ت""دخل في اعتباره"ا" ه""ذا الغم""وض وه""ذا‬
‫الت""داخل‪ ،‬أن تفك""ر في""ه وأن تفك""ر من خالل""ه في نفس""ها‪ ،‬أن عليه""ا أن تتقب""ل التعددي""ة واالختالف في‬
‫‪1‬‬
‫أفق التوقعات الذي هو في أفق جوهري في الفلسفة"‬

‫الفك " ""رة ي " ""دفعها م " ""وران إلى ابع " ""د نقط " ""ة ممكن " ""ة من خالل جع " ""ل االختالف مكون " ""ا أساس " ""يا للخام " ""ة‬
‫البش ""رية‪ ،‬وه ""و مب ""دأ ال ""تركيب ‪ ،‬أين يص ""بح تع ""دد الوجه ""ات الوجودي ""ة ج ""زءا من "نص ""اعة " التش ""كيل‬
‫البشري‪ .‬وكثيرا ما أصر إدغار موران في دروسه ومحاضراته التمهيدية على ض"رورة الح"ذر من الب"ون‬
‫الشاس" ""ع بين "ال ""تركيب" والتعقي ""د"؛" فم" ""ا ه ""و م ""ركب ليس معق ""دا بالض" ""رورة‪ ،‬والش يء املعق" ""د ليبس‬
‫مركب ""ا بالض ""رورة‪ ،‬ف ""التركيب ج ""وهري في "اإلنس ""اني" في حين ان املعق ""د عرض ي في وجه ""ة نظ ""ر البش ""ر‬
‫صوب موضوعاتهم‪ .‬وهذا أمر ال بد من تربي"ة البش"رية علي"ه‪ .‬فاملس"ألة ليس"ت مس"الة مفه"وم مس"تعص‬
‫بق""درما هي مس""ألة الدعاي""ة (ع""بر التربي""ة والتك""وين) لحقيق""ة جوهري""ة في الك""ون وفي البش""ر‪ .‬وهن""ا نع""ود‬
‫إلى تشكيل نصوص وصياغة خطابات حول وجهة النظر التي يقترحها موران‪.‬‬

‫في موق""ع آخ""ر من مش""روعه األخالقي ال""تربوي ال""ذي وض""عه في كت""اب من ثالث""ة أج""زاء يع""د الج""زء ال""ذي‬
‫"إن إص""الح املعرف""ة والتفك""ير‬ ‫نحن بص""دده الث""الث واألخ""ير في""ه‪ ،‬يق""ول م""وران تعقيب""ا على فكرت""ه تل""ك ّ‬

‫ّ"‬
‫التربي"ة‬ ‫ّ"‬
‫التربي"ة ال ""ذي ه ""و ب ""دوره مرتب ""ط بإص ""الح املعرف ""ة والتفك ""ير‪ .‬ونض ""يف أن تجدي ""د‬ ‫ُ‬
‫رهن إص ""الح‬
‫مرتب ""ط بتجدي ""د الفهم ال ""ذي يعت ""بر ه ""و اآلخ ""ر رهن إحي ""اء إي ""روس وه ""ذا اإلحي ""اء‪ ،‬ه ""و اآلخ ""ر‪ّ ،‬‬
‫مقي""د‬
‫‪2‬‬
‫كل اإلصالحات‪ ،‬إذن‪ ،‬مترابطة‪ ‬‬ ‫ّ‬
‫التربية‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية التي تربط‪ ،‬هي أيضا‪ ،‬بإصالح‬ ‫بتجديد العالقات‬
‫ُ‬
‫فق ""د ب ""ات في رأي ""ه من الض ""روري "أن نقحم في التعليم دراس ""ة الط ""ابع العقلي وال ""ذهني والثق ""افي" ال ""ذي‬
‫ً‬ ‫ّتتس ""م ب ""ه املع ""ارف البش " ّ‬
‫"رية ُون ّ‬
‫طوره ""ا‪ ".‬ومن الض ""روري أيض ""ا أن يش ""مل التعليم النظ ""ر في ص " ّ"يغ ه ""ذه‬
‫ّ"‬
‫والثقافي"ة ال""تي يمكن أن ّ‬
‫تجره""ا إلى ال""وهم والخط""أ» ‪ ،3‬و هن""ا‬ ‫الدراس""ة وطرائقه""ا وفي األح""وال النفس" ّ"ية‬
‫يقف " " ""ز إلين " " ""ا مص " " ""طلح ّ‬
‫روج ل " " ""ه كث " " ""يرا وعن " " ""ون ب " " ""ه أح " " ""د مب " " ""احث الكت " " ""اب ال " " ""ذي ن " " ""دور في فلك " " ""ه"‬
‫مصطلح‪” ‬معرفة املعرفة”‪ ‬الذي ُيريد به موران تلك اآللية العميقة لتقليب املعارف والنظر في طريقة‬
‫تشكلها وسبل تحصيلها والهدف منها كذلك‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪-Jacques Derrida : L’écriture et la différance- seuil-Paris-1967-p166‬‬
‫إدغار موران‪ ،‬تعليم الحياة‪ :‬بيان لتغيير التربيّة‪ ،‬تر‪ :‬الطاهر بن يحي‪( ،‬بيروت‪ :‬منشورات ضفاف‪ ،‬ط‪ ،)2016 ،1‬ص ‪167‬‬ ‫‪-2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -‬بيان لتغيير التربيّة‪ -‬ص ‪95‬‬

‫‪126‬‬
‫إن غربل""ة املف""اهيم ت""ؤدي إلى تنقي""ة املعرف""ة من الش""وائب االعتيادي""ة‪ .‬وم""وران يتح""دث في س""ياق كالم""ه‬
‫هذا عن "املعرفة املناسبة"" التي هي نوع من العلم الن"افع؛ أو العلم ال"ذي يحم"ل أس"باب نش"أته وج"دواه‬
‫في ترتيب مواده‪ ،‬علم مب"ني أيض"ا على سياس"ة الفع"ل ال"تربوي اله"ادف إلى إج"ادة التص"رف (وه"و ج"وهر"‬
‫السياس " " ""ة) والتمهي " " ""د لتحقي " " ""ق ه " " ""دف كمتع " " ""ال على وج " " ""ود الف " " ""رد الع " " ""الم واملتعلم (وه " " ""و ج " " ""وهر‬
‫الحض" " " ""ارة)‪...‬ولنت" " " ""ذكر باملناس" " " ""بة أن أح" " " ""د كتب م" " " ""وران ه" " " ""و كتيب" " " ""ه الب" " " ""ديع "من أج" " " ""ل سياس" " " ""ة‬
‫للحض""ارة"‪... 1‬ويح""دد م""وران ه""ذا العلم الن""افع كم""ا وص""فناه بأن""ه علم ض""روري وعس""ير املطلب بس""بب‬
‫املهم""ة املنوط""ة ب""ه ال""تي هي بن""اء معرف""ة ق""ادرة على التحكم في املش""اكل في إطاره""ا املركب‪ّ ،‬‬
‫ألن املعرف "ة"‬
‫ً‬
‫"ادر على‬
‫ٍ‬ ‫"‬ ‫ق‬ ‫"ير‬‫"‬ ‫غ‬ ‫املرء‬ ‫"ل‬ ‫"‬ ‫ع‬‫تج‬ ‫"ا‬‫"‬ ‫م‬ ‫"ا‬‫الجزئي ""ة ال ""تي تعودن ""ا عليه ""ا ال تحق ""ق األه ""داف املقص ""ودة‪ ،‬وهي «غالب "‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االنتب" ""اه إلى الرواب" ""ط القائم" ""ة بين األج" ""زاء والكلي" ""ات‪ .‬ومن ال" ""واجب أن يح" " ّ"ل محله" ""ا ن" ""وع من املعرف" ""ة‬
‫ّ‬
‫‪2‬‬
‫القادرة على إدراك األشياء في سياقاتها" وفي ما تنتمي إليه املركبات واملجموعات»‬

‫وهي فك ""رة مركزي ""ة دارت حوله ""ا فص ""ول ال يس ""عنا املك ""ان ل ""ذكرها" من عمل ""ه الكب ""ير "املنهجي ""ة"‪ "،‬ذل ""ك‬
‫املش ""روع ال ""ذي يق ""دم نفس ""ه كمش ""روع ملعاين ""ة الواق ""ع األخالقي للع ""الم‪ .‬ال ""ذي ورثن ""اه كم ""ا ه ""و ‪ :‬متع ""دد‬
‫م""ركب وغ""ير مؤه""ل معرفي""ا وال أخالقي""ا – كم""ا يق""ول س""تيوارت ه""ال‪ -‬ال""ذي ي""راه عاملا للمواجه""ة بين‬
‫شرق مستعمر وغرب استعمره ولكنه أصيب به في الهوية‪ .‬كما أنه عالم وريث العوملة وما سبقها من‬
‫اط""وار مش""بعة بص""راع املعس""كرين الش""رقي والغ""ربي‪ .‬إال أن""ه ع""الم لم يع""د يمكن""ه أن يغمض عين""ه على‬
‫‪3‬‬
‫الوجود الفعلي ألبناء املستعمرات – غريبي اللون والجنسية مختلفي االيديولوجيا‪.‬‬

‫ألج""ل مواجه""ة ك""ل ه""ذا يق""ول إدغ""ار م""وران في ه""ذا الص""دد‪":‬إن املعرف""ة ال""تي نن""ادي به""ا معق""دة‪ - :‬ألنه""ا‬
‫تع""ترف أن الك""ائن االنس""اني ال""ذي يدرس""ها ه""و ج""زء من موض""وعه ‪ -‬فهي تفص""ل بين الوح""دة البش""رية‬
‫وتنوعه""ا‪ - .‬تعي جمي""ع أبع""اد واق""ع اإلنس""ان املج""زأة حالي""ا إلى فيزيائي""ة وبيولوجي"ة" وس""يكولوجية وديني""ة‬
‫‪4‬‬
‫واقتصادية واجتماعية وتاريخية""‬

‫علين""ا أن نظ""ل يقظين إلى أن ه""ذه الفك""رة األخالقي "ة" املوجه""ة ص""وب املس""تقبل تمل""ك ج""ذورا في الفك""ر‬
‫الغ ""ربي‪ ،‬ولن نحت ""اج إلى الع ""ودة إلى أفالط ""ون ومحاورات ""ه ألنه ""ا مح ""اورات أحادي ""ة االتج ""اه رغم ظ ""اهر‬

‫‪1‬‬
‫‪Pour une politique de civilisation- ed Arléa- 2002- france‬‬

‫‪-2‬‬ ‫بيان لتغيير التربيّة‪ -‬ص ‪96‬‬


‫‪3‬‬
‫‪Stuart Hall : identités et cultures politiques des cultural studies- trad : Christophe Jacquet- ed Amsterdam-2008-‬‬
‫‪pp379/380.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪- 7 Edgar Morin , La méthode: L’humanité de l’humanité,Éditions du Seuil, Paris, 2001, p12-13.‬‬

‫‪127‬‬
‫التع""دد‪ ،‬ولن نس""ير في االتج""اه القائ""ل بق""دم فك""رة الت""داول ح""ول الحقيق""ة؛ س""واء أس""مينا ه""ذا الت""داول‬
‫مح ""اورات أو ج ""دال أو مقال ""ة‪ ،‬على تع ""دد التس ""ميات‪ .‬يب ""دو ان هنال ""ك وعي ""ا ق ""ديما بأن ""ه من الض ""روري‬
‫االنفت""اح على اآلخ""ر ال ""ذي ه""و امت""داد لن""ا رغم الط ""ابع املتش ""ظي ألفكارن ""ا وتوجهاتن "ا" وح ""تى ألش ""كالنا في‬
‫تص""ميم وعيش الث""ورة؛ على اعتب""ار أن ه""ذه هي واح""دة من األفع""ال واملج""االت اإليطيقي""ة األق""ل قابلي""ة‬
‫لتوس ""يع ال ""دائرة‪ ،‬واألك ""ثر ف ""رادة في التجرب ""ة املعيش ""ة البش ""رية‪ ،‬وال ""تي يراه ""ا م ""وران قابل ""ة للنمذج ""ة‬
‫حس" ""ب اس" ""تقراء معين‪ ،1‬وهي تجرب" ""ة في االنفت" ""اح على اآلخ" ""ر ‪ ،‬يق" ""ترح له" ""ا تس" ""مية "اإليطيق" ""ا املركب" ""ة""‬
‫تختل ""ف عم ""ا يمكنن ""ا إيج ""اده عن ""د ي ""ورغن هابرم ""اس تحت عن ""وان "إيطيق ""ا املناقش ""ة" أو م ""ا ي ""رد عن ""د‬
‫تلمي""ذه اليس""اري الش""هير أكس""يل ه""ونيث تحت ش""ارة "إيطيق""ا االع""تراف"‪...‬وإذا ك""ان علين""ا أن نقربه""ا من‬
‫شيء فربما كان األمثل ربطها بفكرة أخالقيات "التضامن" كما يتمثلها ريتشارد رورتي‪.2‬‬

‫وهي تجرب" " ""ة ته" " ""دف إلى التغلب على ت" " ""اريخ الص" " ""راع بين أط" " ""راف ي" " ""ذهب م" " ""وران إلى أنه" " ""ا ت" " ""ربت على‬
‫األخالقي " ""ات الجدلي " ""ة موروث " ""ة ال يمكنه " ""ا أن تنجب ش " ""يئا ع " ""دا ج " ""و البغض " ""اء والش " ""حناء ال " ""تي ت " ""ترجم‬
‫املمارس""ات البش""رية الناجم "ة" عنه""ا جوهره""ا بش""كل وفي‪ ،‬في حين ت""ذهب "الحواري""ة ال""تي يقترحه""ا إدغ""ار‬
‫م ""وران إلى تحقي ""ق "وح ""دة معق ""دة بين منطقين‪ ،‬وكي ""انين متنافس ""ين ومتعارض ""ين يتغ ""ذى أح ""دهما على‬
‫اآلخ" " ""ر ويكمالن بعض" " ""هما لكنهم" " ""ا يتعارض" " ""ان" ويتحارب" " ""ان أيض" " ""ا‪ ،‬وينبغي تمي" " ""يز ه" " ""ذه الحواري" " ""ة عن‬
‫الدياليكتي ""ة الهيغلي ""ة‪ .‬فل ""دى هيغ ""ل‪ ،‬تج ""د املتناقض ""ات حل ""وال له ""ا‪ ، . ،‬تك ""ون ويتج ""اوز بعض ""ها البعض‬
‫ويلغي بعض" ""ها بعض" ""ا داخ" ""ل وح" ""دة علي" ""ا‪ .‬وفي الحواري" ""ة تك" ""ون املتناقض" ""ات دائم" ""ة وتش" ""كل كيان" ""ات أو‬
‫ظواهر معقدة‪«3.‬‬

‫ونود في الجزء املتبقي من ورقتنا" هذه أن ننقل حرفيا" اجزاء هام""ة من الخالص""ة املذكورة س""ابقا ح"ول‬
‫أفك" ""ار إدغ" ""ار م" ""وران وال" ""تي هي مض" ""منة في مقدم" ""ة كتاب" ""ه اله" ""ام املع" ""ارف الس" ""بع الض" ""رورية للتربي" ""ة‬
‫املستقبلية )‪..les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur (1999‬‬

‫يقول من جملة ما يقوله بأنه وصل غلى تلخيص فكرته اإليطيقية في تعاليم ميسرة يهدف الفيلس"وف‬
‫إلى جعله""ا م ""رامي تربوي ""ة تح ""اك من حوله ""ا ال""برامج التربوي ""ة معمم ""ة على البش""رية ألج ""ل ص ""مان فك ""رة‬
‫أخالقية" تخرج بنا من مطبات القرن العشرين إلى آفاق مضيئة لألزمنة الحديثة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪Edgar Morin ; Tariq Ramadan : au péril des idées-presses du Chatelet- France-2014- p201‬‬
‫‪ - 2‬يراجع للتوسع كتاب ريتشارد رورتي األشهر في هذا االتجاه‪ Contingency, Irony, and Solidarity :‬الصادر عن منشورات‪ƒ‬‬
‫جامعة كمبردج (‪.)1989‬‬
‫‪3‬‬
‫‪E. Morin, La méthode: L’humanité de l’humanité, op, cit, p347.‬‬

‫‪128‬‬
‫ويحدد النقاط السبعة الواجب التفكير فيها وانطالقا منها فيما يلي‪:‬‬

‫"‪ .1‬عمى املعرفة‪ :‬الخطأ والوهم‬

‫ومن الج""دير باملالحظ"ة" أن التعليم ال""ذي يه""دف إلى إيص""ال املعرف""ة يص""ير أعمى ال ي""درك م""ا هي املعرف""ة‬
‫البش ""رية‪ ،‬وال خصائص ""ها‪ ،‬وال عقباته ""ا ‪ ،‬والص ""عوباته‪ ،‬وال دوافعه ""ا ص ""وب الخط ""أ وح ""تى ال ""وهم‪ ،‬ه ""و‬
‫تعليم ال يشغله القلق على معرفة ما هو جوهر املعرفة‪.‬‬

‫في الواق""ع‪ ،‬ال يمكن اعتب""ار املعرف""ة ك""أداة ج""اهزة يمكن اس""تخدامها دون دراس""ة طبيعته""ا‪ .‬ول""ذلك يجب‬
‫أن تظه" ""ر املعرف" ""ة باملعرف" ""ة كض" ""رورة أولى تك" ""ون بمثاب" ""ة التحض" ""ير ملواجه" ""ة املخ" ""اطر الدائم" ""ة للخط" ""أ‬
‫وال""وهم‪ ،‬الل""ذين يفس""دان باس""تمرار ال""روح اإلنس""انية‪ .‬فج""وهر املس""ألة ه""و تس""ليح ك""ل عق""ل بش""ري في‬
‫النضال الحيوي من أجل وضوح الرؤية‪.‬‬

‫فمن الض ""روري في مي ""دان التعليم إدراج دراس ""ة الخص ""ائص الدماغي ""ة والعقلي ""ة والثقافي ""ة للمعرف" "ة"‬
‫البش""رية‪ ،‬وك""ذلك مس""اراتها ‪ ،‬وش""روطها‪ ،‬وك""ذا أجهزته""ا النفس""ية والثقافي"ة" ال""تي تجعله""ا تق""ع في الخط""أ‬
‫حينا وفي الوهم أحيانا‪.‬‬

‫‪ .2‬مبادئ املعرفة الصحيحة‬

‫هي مش""كلة رئيس""ية ال ت""زال قائم"ة" تل""ك املتعلق""ة بالحاج"ة" إلى تعزي""ز املعرف""ة الق""ادرة على فهم املش""اكل‬
‫الشاملة واألساسية التي تندرج تحتها املعارف الجزئية واملحلية‪.‬‬

‫إن س" ""يادة املعرف ""ة املج" ""زأة في مختل ""ف التخصص" ""ات غالب" ""ا م" ""ا تجعلن ""ا غ ""ير ق" ""ادرين على تش ""غيل آلي ""ة‬
‫الرب""ط بين األج""زاء والكلي""ات‪ ،‬ل""ذا يجب أن يش""ق الطري""ق لوض""ع معرف""ة ق""ادرة على التق""اط األش""ياء في‬
‫سياقاتها‪ ،‬مركباتها‪ "،‬واملجموعات الخاصة بهم‪.‬‬

‫ومن الض""روري تط""وير الق""درة الطبيعي""ة للعق""ل البش""ري لوض""ع جمي""ع املعلوم""ات الخاص""ة ب""ه في س""ياق‬
‫ش""امل‪ .‬هن""اك حاج""ة لتعليم األس""اليب ال""تي تمكنن""ا من التق""اط العالق""ات املتبادل""ة والت""أثيرات املتبادل""ة‬
‫بين األجزاء وبين الكل شيء في عالم مركب‪.‬‬

‫‪ .3‬تعليم الوضع البشري‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫إن اإلنس ""ان يتجلى في ال ""وقت نفس ""ه جس ""ديا وبيولوجي ""ا ونفس ""يا وثقافي ""ا واجتماعي ""ا وتاريخي ""ا‪ ".‬ه ""ذه‬
‫الوح""دة املركب "ة" من الطبيع""ة البش""رية ال""تي تفككت تمام""ا في الت""دريس‪ ،‬ع""بر التخصص""ات‪ ،‬والي""وم من‬
‫املستحيل معرفة ما يعنيه أن يكون اإلنسان إنسانا‪ ،‬في حين أن الجميع‪ ،‬أينما ك""انوا‪ ،‬ينبغي أن ي""دركوا‬
‫ويعوا كل من الطبيعة املركبة لهويتهم الخاصة ولهويتهم املشتركة مع جميع البشر اآلخرين‪.‬‬

‫وبالتالي‪ "،‬ينبغي أن يكون الوضع البشري عنصرا أساسيا في كل تدريس‪.‬‬

‫وي " ""بين ه " ""ذا الج " ""زء من دراس " ""تنا كي " ""ف يمكن‪ ،‬من تخصص " ""ات الي " ""وم‪ ،‬التع " ""رف على وح " ""دة اإلنس " ""ان‬
‫وتعقي ""ده من خالل جم ""ع وتنظيم املعرف ""ة املتفرق "ة" في العل ""وم الطبيعي ""ة‪ "،‬والعل ""وم اإلنس ""انية‪ ،‬واألدب‬
‫والفلسفة‪ ،‬وإثبات االرتباط غير القابل للذوبان بين الوحدة وتنوع كل ما هو اإلنسان‪.‬‬

‫‪ .4‬تعليم الهوية األرضية‬

‫لم يع" ""د هنال" ""ك ش" ""ك في أن املص" ""ير الع" ""المي للجنس البش" ""ري ه" ""و حقيق" ""ة رئيس" ""ية ومفتاحي" ""ة أخ" ""رى‬
‫تجاهله""ا التعليم‪ .‬ويجب أن تص""بح معرف""ة التط""ورات في عص""ر الك""وكب واالع""تراف بهوي""ة األرض أح""د‬
‫أهم أهداف التعليم‪.‬‬

‫فمن الضروري أن يتم تعليم تاريخ مرحلة الكوكب التي تبدأ مع االتصال بين جميع القارات في الق"رن‬
‫الس ""ادس عش ""ر‪ ،‬ت ""اريخ من ش ""أنه أن يظه ""ر كي ""ف ش ""اع التض ""امن بين جمي ""ع أنح ""اء الع ""الم‪ ،‬ولكن دون‬
‫يلقي بظالله على القمع والهيمنة اللذين دمرا وال يزاالن يدمران اإلنسانية‪.‬‬

‫وس""يكون من الض""روري اإلش""ارة إلى م""ركب األزم""ة الكوكبي "ة" ال""ذي يص""ادف الق""رن العش""رين‪ ،‬وال""ذي‬
‫ي""بين أن جمي""ع البش""ر‪ ،‬ال""ذين يواجه""ون اآلن نفس مش""اكل الحي""اة واملوت‪ ،‬يعيش""ون مجتمع""ا مش""ترك‬
‫املصير‪.‬‬

‫‪ .5‬في مواجهة التيه‬

‫وق""د أعطان""ا العلم الكث""ير من اليقين‪ ،‬ولكنن""ا في الق""رن العش""رين اكتش""فنا أيض""ا مج""االت ال حص""ر له""ا‬
‫من ع ""دم اليقين‪ ،‬ومن التي ""ه‪ .‬وينبغي" أن يش ""مل الت ""دريس ت ""دريس أوج ""ه التي ""ه ال ""تي ظه ""رت في العل ""وم‬
‫الفيزيائي" ""ة (امليكروفيزي" ""ا‪ ،‬ال" ""ديناميكا" الحراري ""ة‪ ،‬علم الكوني" ""ات)‪ ،‬وعل ""وم التط ""ور ال" ""بيولوجي والعل ""وم‬
‫التاريخية‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫كم""ا ينبغي ت""دريس مب""ادئ االس""تراتيجية ال""تي تجع""ل مواجه""ة املخ""اطر ممكن""ة مهم""ا ك""ان ش""كلها ونوعه""ا‬
‫وج""دتها‪ ،‬وتعينن""ا على تع""ديل مس""اراتها‪ ،‬وفق""ا للمعلوم""ات املكتس""بة خالل س""ير العم""ل‪ .‬وعلين""ا أن نتعلم‬
‫التنقل في محيط التيه من خالل جزر اليقين‪.‬‬

‫إن ص ""يغة الش ""اعر اليون""اني يوريبي""دس‪ ،‬وال""تي عمره "ا" خمس""ة وعش ""رين قرن""ا‪ ،‬هي أك""ثر حداث ""ة من أي‬
‫وقت مض ى‪ " :‬أم" ""ا املتوق" ""ع فال يح" ""دث‪،‬وأم" ""ا املجه" ""ول فل" ""ه رب يعت" ""ني ب" ""ه "‪ .‬إن التخلي عن املف" ""اهيم‬
‫الحتمي " ""ة للت " ""اريخ البش " ""ري ال " ""تي ك " ""انت تعتق " ""د بإمكاني" " "ة" التنب " ""ؤ بمس " ""تقبلنا‪ ،‬واس " ""تعراض األح " ""داث‬
‫والح""وادث في قرنن""ا وكله""ا غ""ير متوق""ع‪ ،‬وك""ذلك امللمح املض""اد لك""ل توق""ع للمغ""امرة اإلنس""انية؛ ك""ل ذل""ك‬
‫ينبغي أن يش""جعنا على إع""داد العق""ول للتعام""ل م""ع غ""ير املتوق""ع وملواجهت""ه‪ .‬ومن الض""روري أن يتح""ول‬
‫جميع املسؤولين عن التدريس إلى طليعة الطابع غير اليقيني لهذا العصر‪.‬‬

‫‪ .6‬التعليم التفهم‬

‫التفهم هو على حد سواء وسيلة وغاية للتواصل البشري‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فالتعليم من أج""ل التفهم غ""ائب‬
‫عن تعاليمن""ا‪ .‬ه""ذا الك""وكب يتطلب التف""اهم املتب""ادل بك""ل مع""نى الكلم""ة‪ .‬وب""النظر إلى أهمي""ة التعليم من‬
‫أج""ل الفهم‪ ،‬يتطلب تط""وير الفهم‪ ،‬على جمي""ع مس""تويات التعليم وفي جمي""ع األعم""ار‪ ،‬إص""الح العقلي""ات‪.‬‬
‫يجب أن يكون هذا العمل من أجل تعليم املستقبل‪.‬‬

‫إن التف ""اهم املتب ""ادل بين البش ""ر‪ ،‬س ""واء ك ""انوا قري ""بين أو أج ""انب‪ ،‬أم ""ر حي ""وي اآلن بالنس ""بة للعالق ""ات‬
‫اإلنسانية للخروج من حالتهم البربرية من سوء الفهم‪.‬‬

‫ومن هن ""ا ج ""اءت الحاج" "ة" إلى دراس ""ة ع ""دم الفهم‪ ،‬من ج ""ذوره‪ ،‬وطرائق ""ه وآث ""اره‪ .‬ومث ""ل ه ""ذه الدراس ""ة‬
‫ض""رورية أك""ثر ألنه""ا ال تتن""اول األع""راض ولكن م""ع ج""ذور العنص""رية وكراهي""ة األج""انب واالزدراء‪ .‬وفي‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬ستكون واحدة من أسلم قواعد التعليم من أجل السالم‪.‬‬

‫‪ .7‬أخالقيات الجنس البشري‬

‫يجب أن ي""ؤدي الت""دريس إلى "األن""ثروبو األخالقي""ة" من خالل النظ""ر في الط""ابع الثالثي للحال""ة اإلنس""انية‬
‫التي هي على حد سواء‪ ،‬ال تقسيم لها‪ :‬الفرد‪-‬املجتمع‪-‬النوع‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫وبه ""ذا املع ""نى‪ ،‬ف ""إن أخالقي ""ات الف ""رد‪/‬الن ""وع تتطلب الس ""يطرة املتبادل ""ة على املجتم ""ع من ج ""انب الف ""رد‬
‫وعلى الف " ""رد من ج " ""انب املجتم " ""ع‪ ،‬وه " ""ذا ه " ""و ج " ""وهر الديمقراطي " ""ة؛" في الق " ""رن الح " ""ادي والعش " ""رين‪،‬‬
‫أخالقيات الفرد‪/‬النوع تدعو إلى املواطن ة األرضية‪.‬‬

‫إن تلقين األخالق بناء على دروس في الوعظ غير مجد‪ .‬فال بد من تكوين الفرد على أساس كون""ه ف"ردا‬
‫وج""زءا من جماع""ة ‪ ،‬وج""زءا ال يتج""زا من ن""وع أيض""ا‪ .‬يجب أن يتش""كل ال""وعي به""ذا البع""د الثالثي في آن‬
‫واحد‪.‬‬

‫نحم""ل في ك""ل واح""د من""ا ه""ذا الواق""ع الثالثي‪ .‬ول""ذلك‪ ،‬ف""إن أي تنمي""ة بش""رية حق""ة يجب أن تنط""وي على‬
‫التنمية املشتركة لالستقاللية الفردية‪ ،‬واملشاركة" املجتمعية‪ ،‬ولوعي االنتماء إلى النوع البشري‪.‬‬

‫من ه " ""ذا يظه " ""ر ه " ""دفان كب " ""يران بط " ""ابع اخالقي" وسياس ي في اآلن نفس " ""ه‪ :‬إقام " ""ة عالق " ""ة من الس " ""يطرة‬
‫املتبادل""ة بين املجتم""ع واألف""راد من خالل الديمقراطي""ة‪ ،‬لتحقي""ق اإلنس""انية كمجتم""ع ع""المي‪ .‬كم""ا يجب‬
‫أن يسهم التدريس ليس فقط في وعينا بأرضنا الوطن‪ ،‬ولكن أيضا للسماح لهذا الوعي أن يتجس""د في‬
‫‪1‬‬
‫الرغبة في تحقيق املواطنة األرضية‪"".‬‬

‫ويمكنن ""ا اقتب ""اس تعلي ""ق جمي ""ل لألس ""تاذة خديج ""ة زتيلي أوردت ""ه تعليق ""ا على محتوي ""ات ه ""ذا املش ""روع‬
‫األخالقي ال""تربوي ليك""ون في ه""ذا املق""ام بمثاب""ة خالص""ة ملا ورد في ه""ذه الورق""ة‪ ".‬تق""ول األس""تاذة ‪ّ " :‬إن‬
‫(املجتم" ""ع البش" ""ري) ‪ ‬ه" ""و املنش" ""ود في نهاي" ""ة املط" ""اف ويجب أن ي" " ّ‬
‫"ؤدي التعليم دوره املن" ""وط ب" ""ه لتحقي" ""ق‬
‫أه " " " " " ""داف املجتم " " " " " ""ع البش " " " " " ""ري في ّ‬
‫هوي" " " " " ""ة أرض " " " " " " ّ"ية مش " " " " " ""تركة‪ ،‬ويجب أن يفض ي إلى ن " " " " " ""وع من‬
‫(األنثروبولوجيا‪ ‬األخالقي" ""ة) ‪ ،‬ال" ""تي يتواج" ""د فيه" ""ا الف" ""رد واملجتم" ""ع والن" ""وع في نفس ال" ""وقت والس" ""عي إلى‬
‫الديمقراطي""ة داخ ""ل املجتمع ""ات‪ ،‬وتحقي ""ق م ""ا يس ""ميه م ""وران ب ــ(املواطن ""ة األرض " ّ"ية) ‪ ‬إلى ج ""انب‬
‫ّ‬ ‫تحقي ""ق‬
‫ّ"‬
‫حقيقي ة" أن‬ ‫ذل""ك‪ ،‬تعم""ل على مراع""اة املص""ير اإلنس""اني املش""ترك‪ ،‬ول""ذلك « وجب على ك" ّ"ل تنمي""ة بش" ّ‬
‫"رية‬
‫تجم ""ع بين تنمي ""ة االس ""تقالل ال ""ذاتي الف ""ردي وتنمي ""ة التض ""امن االجتم ""اعي وتنمي ""ة ال ""وعي باالنتم ""اء إلى‬
‫‪2‬‬
‫النوع البشري"‬

‫‪1‬‬
‫‪Edgar Morin : Les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur, Paris, Seuil, octobre 1999,‬‬
‫‪pp9/12.‬‬
‫‪ - 2‬خديجة زتيلـي‪ :‬الحياة في الزمن الراهن ‪ ،‬إدغار موران وتعليم فن الحياة ‪ ،‬مجلة "هوامش" ثقافات معاصرة(نسخة إلـكترونية)‪ƒ.‬‬

‫‪132‬‬
‫أفق الواقع‬

‫الخيال العلمي واملستنسخ‬

‫جون بودريار‬
‫( ه""ذا املق""ال ه""و ترجم""ة ملبحث الث""الث عش""ر من كت""اب "املستنس""خات واالص""طناع" لج""ون بودري""ار «‪simulacres ‬‬
‫‪ ،et simulation » Jean Baudrillard‬وفيه يتع"رض للتق"اطع بين مفه"وم الخي"ال العلمي املعاص"ر" وطرائ"ق مؤلفي"ه وبين‬
‫املفهوم الذي طوره لضياع معنى الواقع ونش"وء مفه"وم الواقعي"ة املفرط"ة ‪ hyperréalisme‬وك"ذلك الواقعي"ة الرقمي"ة"‬
‫وهيمنة املستنسخات" على العالم" الذي قطع صالته مع الواقع" والحقيقة لفائدة حقيقة اصطناعية ‪)simulacron‬‬

‫هناك ثالثة أنظمة قارة للمستنسخات‪:‬‬


‫املستنس""خات" الطبيعي""ة ‪ :‬مبني""ة على الص""ورة او املماثل""ة أو ح""تى التقلي""د وال""تزييف مم""ا يح""دث في الع""الم الص""ناعي‬
‫مثال‪ .‬وهي في املطلق مستنسخات متناغمة‪ ،‬متفائلة‪ ،‬وتهدف إلى إعادة بناء العالم كما قد صوره هللا‪.‬‬
‫املستنسخات اإلنتاجية‪ :‬وهذه مبنية على الطاق"ة والق"وة‪ ،‬وتتحق"ق بواس"طة" اآلل"ة والعت"اد وتأخ"ذ مكانه"ا بيس"ر من‬
‫املنظومة اإلنتاجية‪ .‬غايتها بروميثية بشكل ما ‪ :‬التطبيق على نطاق العالم كله‪ ،‬والتوسع املس""تمر‪ ،‬وإطالق س""راح كم‬
‫هائل من الطاقة غير املحدودة (الرغبة مكون أساسي لليوطوبيا املنتمية لهذا النظام من أنظمة" املستنسخات) ‪.‬‬
‫مستنسخات" املنظومة االصطناعية‪ :‬و تتمحور حول املعلومات" القائمة ‪ ،‬هي لعبة خلق نماذج‪ ،‬واللعب التخ""ييلي‬
‫املعرفي‪ ".‬هدفها تحقيق الحد األقصى من الفاعلية ‪ ،‬وتحقيق الواقع البديل‪ ،‬والسيطرة الكاملة‪.‬‬

‫تنتمي إلى النظ ""ام األول ك" ""ل كالس" ""يكيات تص ""وراتنا ح ""ول املدن الفاض" ""لة ‪ .‬فيم" ""ا يرتب" ""ط بالنظ" ""ام الث" ""اني املفه" ""وم‬
‫الش""ائع للخي""ال العلمي‪ ..‬ام""ا على ح""دود النظ""ام الث""الث ‪...‬فإنن""ا نتس""اءل ‪:‬ه""ل هن""اك ح""تى اآلن أي نط""اق تخ""ييلي يتواف""ق‬
‫م" ""ع ه" ""ذا النظ" ""ام؟ اإلجاب" ""ة املحتمل" ""ة هي أن" ""ه لم يع" ""د للـخيال العلمي التقلي" ""دي أي وج" ""ود في ظ" ""ل مس" ""تجدات ع" ""الم‬
‫املستنسخات الذي يحيط بنا‪ ....‬الخيال ميت‪ ،‬وهذا شيء آخر ب""دأ في الظه"ور (وليس فق""ط في دائ""رة التخيي""ل‪ ،‬ب""ل على‬
‫مس""توى التنظ""ير في الثقاف""ة واملعرف""ة أيض""ا)‪ .‬الظ""اهر" ان م""ا يلعب ض""د ه""ذين الن""وعين البائ""دين ه""و التح""ول املس""تمر‬
‫وكذلك نقص الدقة او مخاتلة املفاهيم‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ال مج ""ال لواق ""ع وال خي ""ال إال في ظ ""ل وج ""ود مس ""افة معين ""ة بينهم ""ا‪ ،‬وهي مس ""افة تفت ""أ تض ""يق‪ .‬م ""اذا يح ""دث عن ""دما‬
‫تنتفي ه" " ""ذه املس" " ""افة أو تتض" " ""اءل؟ ونحن الي" " ""وم ش" " ""هود على انتف" " ""اء ه" " ""ذه املس" " ""افة وعلى ت" " ""داخل ح" " ""دي مفه" " ""ومي‬
‫لواق""ع‪/‬الحقيق""ة والخي""ال‪/‬ال""وهم وكالهم""ا ي""ترك الي""وم مكان""ه لنم""وذج املستنس""خ‪ .‬وال نتح""رك هرب""ا من أح""د القط""بين‬
‫الكالسيكيين صوب اآلخر إال في إطار تحركنا من مستنسخ إلى آخر‪ .‬وذل""ك بص""فتنا حض"ورا وش""هودا على انتف""اء تل""ك‬
‫املسافة التي كانت تسمح لنا بالتأمل وبعمليات اإلسقاط الضرورية‪.‬‬
‫غالب""ا م""ا ك""ان يتحق""ق الح""د األقصى له""ذه املس""افة في اليوتوبي""ا‪ ،‬أين يتم تص""وير ع""الم متع""ال‪ ،‬يتم تمثي""ل الك""ون‬
‫ع" ""بره بش" ""كل مختل" ""ف ج" ""ذريا (وللمالحظ" ""ة ف" ""إن ش" ""كله األك" ""ثر فردي" ""ة يبقى ه" ""و الحلم الرومانس ي اين يتم تحقي" ""ق‬
‫املسافة املذكورة سابقا من خالل التعم"ق" في ال"ذات‪ ،‬وهي رحل"ة سيس"تبدلها التخيي"ل اليوط"وبي بالس"فر؛ اين غالب"ا م"ا‬
‫نقع – كما هو معهود في األدبيات اليوطوبية في جزيرة بعيدة‪ ،‬حيث تصبح الجزيرة" مكان تحقيق الخي""ال فيم""ا يبقى‬
‫البر الحقيقة والواقع املألوفين)‪.‬‬
‫هذه املسافة تتقلص إلى حد بعيد في الخيال العمي باملعنى املالوف‪ ،‬وهو نمط تخييلي يعمل في املنظ""ور ال""ذي نحن‬
‫بص ""دده على خل ""ق إمكاني ""ات" إلس ""قاط ع ""الم اإلنت ""اج الحقيقي مهم ""ا تظ ""اهر بأن ""ه ال يفع ""ل من خالل تقليع ""ات الخي ""ال‪.‬‬
‫إسقاط يجعل كل ما يفعله الخيال اليخرج عن أن يكون مبالغة في وج"ه تق"ني أو آلي أو م"ادي من الوج"وه ال"تي درجن"ا‬
‫على التعام""ل معه""ا‪ .‬مبالغ""ة تعتم""د الك""ثرة أو التك""رار بأض""عاف ال متناهي""ة‪ ،‬وبه""ذا فإنن""ا ننتق""ل من يوطوبي""ات ع""الم م""ا‬
‫قب " ""ل العص " ""ر الص " ""ناعي الى ع " ""الم مش " ""بع بالتص " ""نيع‪ ،‬ويعم " ""ل الخي " ""ال العلمي في ه " ""ذا املنظ " ""ور على ت " ""اجيج اإلض " ""افات"‬
‫التكنولوجية للعصر الصناعي ومكاثرتها ومبالغتها" ومضاعفتها بأضعاف تكثر أو تقل‪.‬‬

‫وتكاد تنتفي تماما هذه املسافة التخييلية في عصر النماذج‪ .‬هذه النماذج ال""تي تظه"ر" في العص""ر ال""رقمي ال كت""ذكرة‬
‫لعالم سبق وال كإسقاط لنماذج شبيهة‪ .‬إنها تصنع عاملها الذي ال يقابله في الواقع أي عالم‪ ،‬ولهذا أسلفنا بأن الخي""ال‬
‫العلمي باملعنى املعهود قد فقد مكانته تماما بانحسار املسافة بين العالم" التخييلي واملرجع الواقعي‪ .‬ففكرة االس""تباق‬
‫ال ""تي ارتك ""ز عليه ""ا الخي ""ال العلمي التقلي ""دي ق ""د ص ""ارت بالي ""ة‪ .‬إن النم ""اذج ال ""تي ج ""اءت مكان ""ه ص ""ارت تش ""كل واقع ""ا ال‬
‫يرحب بأي خيال‪ ،‬من منطلق أنها محايثة للواقع ومتجاوزة ملعن""اه وألبع""اده كله""ا‪ ،‬بش""كل لم يع""د ي"ترك أي مج""ال ف""ارغ‬
‫يعم""ل في""ه الخي""ال بطريقت""ه املتعالي""ة‪ .‬إن املس""رح اآلن ه""و مس""رح "املستنس""خات" ال""تي تش""تغل في ع""الم "اص""طناعي"" –‬
‫ب""املعنى الس""يبرنيطيقي للكلم "ة" طبع""ا‪ .-‬وخالص""ة األم""ر ه""و أن عملي""ات" التص""ميم واملن""اورة وجمي""ع أن""واع التالعب ال""تي‬
‫تعتمدها هذه النماذج (سيناريوهات افتراضية‪ ،‬وإنشاء مواقف املستنسخات‪ ،‬وما إلى ذلك)‪ ،‬ال شيء يميز اآلن ه""ذا‬
‫النوع من "إدارة التعامالت" عن الواقع وهذا ينفي أية إمكانية لوجود التخييل‪.‬‬
‫الواقع" اليوم صار يتجاوز الخي"ال في إط"ار مفه"وم اص"طناعي للواقعي"ة" ال"تي ص"ارت هي نفس"ها حبيس"ة النم"اذج ألن‬
‫هذه الـأخيرة" هي التي تقترح اليوم الواقع‪ ،‬والواقع بهذا الشكل ال يعدو كونه ذريعة للنماذج‪.‬‬
‫لق""د ك""ان الخي""ال ذريع""ة للع""الم ال""واقعي في ع""الم يهيمن علي""ه مب""دأ الواق""ع‪ .‬أم""ا الي""وم‪ ،‬فق""د ص""ار الواق "ع" ذريع""ة‬
‫للنموذج في عالم يحكمه مبدأ االصطناع‪ .‬للمفارقة‪ ،‬فإن الواق"ع الي"وم ص"ار بمثاب"ة يوتوبي"ا‪ ،‬ولكنه"ا يوتوبي"ا ال تع"دو‬
‫كونها احتماال واردا غير ممكن تحقيقه‪ .‬يوتوبيا تصلح للحلم بها‪ ،‬ال غير‪ .‬تصلح فقط للحلم بكيان ضائع‪.‬‬
‫ولع""ل الخي""ال العلمي في ه""ذا العص""ر من علم التحكم اآللي والواقعي"ة" املفرط""ة ‪ hyperréalité‬س""يكون فق""ط أداة‬
‫يمكن االعتماد عليها ملحاولة بعث وإحياء للعوالم" "التاريخي"ة" للماضي‪ ،‬محاول"ة إلع"ادة بن"اء "مختبري""ة" ‪ in vitro‬ق"د‬
‫تبل ""غ درج ""ة عالي ""ة من الدق ""ة في رس ""م أص ""غر تفاص ""يل الحلق ""ات املختلف ""ة من األي ""ام الخ ""والي‪ :‬األح ""داث‪ ،‬األش ""خاص‬
‫واإلي ""ديولوجيات البائ ""دة ال ""تي ص ""ارت اآلن فارغ ""ة من ك ""ل مع ""نى ومن ك ""ل ماهي ""ة أص ""لية‪ ،‬وال ""تي تظ ""ل محافظ ""ة على‬

‫‪134‬‬
‫س" ""حرها الع" ""تيق س" ""اعة االس" ""ترجاع‪ .‬تمام" ""ا مثلم" ""ا هي الح" ""ال م" ""ع ص" ""ورة 'الح" ""رب األهلي ""ة' في رواي ""ة فيليب ك دي ""ك‬
‫‪  " P.K.Dick‬مستنسخات" ‪ ." Simulacra‬فالحرب" األهلية تصبح مجرد ص"ورة ثالثي"ة األبع"اد ببث ج"وي عمالق ‪ .‬به"ذا‬
‫الشكل لن يعود الخيال مرة أخرى مرآة تستبق للمستقبل‪ ،‬بل سصبح هلوسة يائسة تحاول تمثل املاضي‪.‬‬
‫ال يمكننا من اآلن فصاعدا أن نتصور أية أكوان أخرى ‪ .‬لقد فقدنا هبة "التعالي"‪.‬‬
‫لق ""د ك ""ان الخي ""ال العلمي الكالس ""يكي واح ""دا من ه ""ذه األك ""وان اآلخ ""ذة في التوس ""ع‪ :‬فق ""د وج ""دت اعمال "ه" ض ""التها في‬
‫وص" ""ف الوق" ""ائع" األرض" ""ية املتزامن" ""ة معه" ""ا؛ من قبي" ""ل س" ""رديات الحرك" ""ات االستكش" ""افية‪ ،‬إلى ج" ""انب تقالي" ""د النظ" ""رة‬
‫االستعمارية لأله"الي في الق"رنين ال‪ 19‬وال‪ .20‬والواق"ع" أن الخي"ال العلمي ق"د فق"د العالق"ة" الس"ببية بين ص"ورة الع"الم‬
‫وبني""ة الخي""ال ألس""باب عدي""دة من قبي""ل كونن""ا الي""وم نعيش في ظ""ل أن مس""احة األرض ص""ارت معروف""ة كلي""ا‪ ،‬مش""فرة‪،‬‬
‫معين""ة مرس""ومة على خرائ""ط ‪ ،‬تام""ة الج""رد‪ ،‬مس""تنفذة‪ .‬لق""د تقلص""ت مس""احتها تمام""ا بفع""ل العوملة‪ .‬أص""بحت األرض‬
‫تش""به مرك""زا للتس""وق العم""ومي ليس فق""ط القتن""اء الس""لع ب""ل لتمري""ر القيم والعالم""ات‪ ،‬والنم""اذج‪ ،‬وبالت""الي فال مج""ال‬
‫يبقى للخي""ال‪ .‬من جه""ة أخ""رى‪ ،‬ليس ه""ذا ه""و بالض""بط س""بب م""ا ن""راه" من تعط "ل" ت""ام له""ذه الترس""انة الكب""يرة املس""ماة‬
‫الخي""ال العلمي (الترس""انة الفني""ة والعقلي""ة والكوني""ة)‪ .‬له""ذا التوق""ف عن االش""تغال‪ ،‬في الواق""ع‪ ،‬س""بب م""زدوج آخ""ر؛‬
‫أنهم ""ا ظاهرت ""ان طبيعيت ""ان مرتبطت ""ان بتط ""ور الن ""وع؛ فبع ""د ق ""رون من االنفج ""ار والتوس ""ع ج ""اءت مرحل ""ة بل ""وغ الح ""د‬
‫األقصى والتراجع‪ ،‬وما حدث للمد العلمي والتكنولوجي قد حدث نظيره للخيال أيضا‪.‬‬
‫ح ""تى اآلن‪ ،‬كن ""ا دائم ""ا محت ""اطين باس ""تمرار من الخي ""ال‪ ،‬ألن معام ""ل الواقعي "ة" يتناس ""ب طردي ""ا م ""ع الخي ""ال؛ الش يء‬
‫ال""ذي ي""وفر للواق"ع" كثافت""ه‪ .‬و ه""ذا ص""حيح‪ ،‬فطبق""ا لتق""ديرات االستكش""اف الجغ""رافي" ولغ""زو الفض""اء‪ :‬عن""دما ال تك""ون‬
‫هن"اك مواق"ع جدي"دة لالستكش"اف‪ ،‬عن"دما تغطي الخريط"ة جمي"ع األراضي‪ ،‬يأخ"ذ مب"دأ الواق"ع" في االختف"اء‪ .‬ان غ"زو‬
‫الفض""اء به""ذا املع""نى‪ ،‬يص""ير عتب""ة ال رجع""ة بع""دها تمس بمب""دأ فق""دان اإلح""داثيات األرض""ية ومرجعياته""ا‪ .‬ان الواق""ع‪،‬‬
‫باعتب""اره كون""ا متماس""كا داخلي""ا يب""دأ في شيء مث""ل ال""نزيف بس""بب تم""دده الى ح""د ال نه""ائي‪ .‬والواقعي"ة" املتض""منة في غ""زو‬
‫الفض""اء به""ذا املع""نى تتح""ول الى واقعي""ة مفرط""ة ‪ . hyperréalité‬ش""اهد‪ ،‬على س""بيل املث""ال‪ ،‬ه""ذه الش""قة من غرف""تين م""ع‬
‫مطبخ وحم ""ام ال ""تي يتم وض ""عها في املدار م ""ع القم ""ر الص ""ناعي داخ ""ل كبس ""ولة م ""ا؛ إن ه ""ذا التخيي ""ل ينتق ""ل بم ""ألوف‬
‫الحي ""اة البش ""رية إلى مطلقي ""ة فض ""ائية أو كوني ""ة ت ""وحي تمام ""ا بنهاي ""ة امليتافيزيق ""ا‪ ،‬ونهاي ""ة الق ""درة على الحلم‪ ،‬أي نهاي ""ة‬
‫الخيال العلمي التي تعمل لفائدة بداية الواقعية املفرطة‪. hyperréalité‬‬
‫بن" ""اء على ه" ""ذا‪ ،‬وجب أن يتغ" ""ير الوض" ""ع‪ :‬إن اإلس" ""قاط‪ ،‬أو التقاطب" ""ات‪ ،‬االس" ""تقراء‪ ،‬وه" ""ذا النم" ""ط املب" ""الغ في" ""ه من‬
‫استنس""اخ الص""ور والنم""اذج ال""ذي ص""نع مج""د الخي""ال العلمي فيم""ا مضى‪ ،‬لم يع""د ممكن""ا في ال""وقت الح""الي‪ .‬فك""رة بن""اء‬
‫نم""اذج خيالي""ة باالرتك""از على الواق "ع" ص""ارت مس""تحيلة‪ ،‬والعكس في الحقيق""ة ه""و م""ا ص""ار يح""دث‪ .‬س""نعمل على خل""ق‬
‫وضعيات فريدة تؤثث املستنسخات" الجديدة‪ ،‬ثم سنكد كثيرا ألجل إعطائها مالمح واقعية‪ .‬سيص"بح خل""ق منظوم"ات‬
‫وهمية من البيانات" للواقع الذي لم يعد يملك األلفة املعهودة للمعيش‪ ،‬ألن الواق""ع ب"املعنى الكالس"يكي ق"د اختفى من‬
‫حياتنا‪ .‬بل إنه إذا نظرنا إليه يعيون اليوم ب"دا غريب"ا وربم"ا ب"دا مقلق"ا يتفاص"يله غ"ير العادي"ة‪ ،‬يش"به أن يك"ون حظ"يرة‬
‫او محمية مص"وغة بدق"ة متناهي"ة ولكن"ه في ك"ل ذل"ك خ"ال من ك"ل محت"وى بع"د إفراغ"ه من ك"ل واقعي"ة وبع"د ال"زج ب"ه‬
‫في منظومة الواقعية املفرطة‪.‬‬
‫به ""ذا املفه ""وم لن يك ""ون الخي ""ال العلمي الح ""ق م ""اثال في البع ""د التوس ""عي‪ ،‬م ""ع ك ""ل م ""ا في ""ه من الحري ""ة و "الس ""ذاجة"‬
‫اللتين" منحتاه ش"يئا من س"حر االكتش"اف‪ ،‬ب"ل س"يتطور – ب"دال من ذل"ك‪ -‬في االتج"اه املع"اكس؛ أي داخلي"ا وانبجاس"يا‪،‬‬
‫كم ""ا ح ""دث م ""ع تص ""ورنا للك ""ون؛ من خالل الس ""عى إلحي ""اء املستنس ""خ وتحديث ""ه وتقريب ""ه لل ""ذهان ع ""بر أج ""زاء وش ""ظايا‬
‫تفترض أن ما صار وضعنا عليه هو واقعنا الفعلي‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫املس""ألة تكمن في الس""ؤال عن األعم""ال الخيالي""ة العلمي""ة ال""تي تس""تجيب له""ذا الش""رط من االرت""داد ألش""ياء الع""الم؟‬
‫ومن الواضح" أن القصص القصيرة للكاتب" فيليب‪ .‬ك‪ .‬ديك "تنجذب"‪ ،‬بشكل مثير لالنتباه" ‪ ،‬إلى هذا الفضاء الجديد‬
‫(على ال""رغم من أن""ه ال يمكن التعب""ير عم""ا يح""دث به""ذا التعب""ير‪ ...‬في ظ""ل ك""ون ه""ذا الك""ون الجدي""د ه""و "مض""اد للجاذبي""ة‬
‫أص""ال"‪ ،‬وإذا ك""ان الب""د من جاذبي""ة ‪ ،‬فإنه""ا س""تكون ح""ول "ثقب" الواق""ع"؛ أي ح""ول "ثقب" الخي""ال)‪ .‬إن دي""ك ال يبتك""ر‬
‫األك ""وان املوازي ""ة وال الغرائبي ""ة الكوني ""ة الفولكلوري ""ة‪ ،‬وال املغ ""امرات" البطولي ""ة في الفض ""اء الخ ""ارجي‪ .‬فالق ""ارئ‪ ،‬من ""ذ‬
‫البداية‪،‬ملقى تماما في "العالم االصطناعي" بعيدا عن كل أصل أو ماض او مستقبل‪ ،‬مغمور وس""ط شيء كالس""يل؛‬
‫تي" ""ار من ك" ""ل اإلح" ""داثيات" (العقلي" ""ة والزمكاني" ""ة‪ ،‬والس" ""يميائية)‪ .‬ليس" ""ت مس" ""ألة أك" ""وان متوازي" ""ة‪ ،‬وال مس" ""ألة بع" ""دين‬
‫متقابلين‪ ،‬بل عالم "االص"طناع" والواق"ع املف"رط ‪ . hyperréalité‬كام"ل مكتم"ل ومس"تقل في إط"ار اختالف"ه عن النم"اذج‬
‫الس""ابقة‪ .‬إن خصوص""ية فيليب دي""ك هي أن""ه يتح""دث عن ع""الم مغم""ور بش""كل فري""د في املستنس""خ‪ ،‬لق""د تع""ود الخي""ال‬
‫العلمي على التراوح بين عالم نملك دائما مؤشرا على األصل في"ه لنتع""رف على نظ"يره‪ ،‬مرسى واقعي يحم"ل مؤش""رات‬
‫الحقيق ""ة مهم ""ا تع ""ددت من حولن ""ا الع ""والم املوازي ""ة‪ .‬فك ""رة النظ ""ير او املوازي ه ""ذه تق ""دم أي تخيي ""ل على أن ""ه نس ""خة‬
‫قريب""ة أو بعي""دة من نس""خة أخ""رى‪ .‬بينم""ا هن""ا نالح""ظ اختف""اء النظ""ير ‪ .‬ع""الم املستنس""خ واح""د‪ ،‬والواح""د يج""د نفس""ه‬
‫دائم ""ا بالفع ""ل في الع ""الم اآلخ ""ر‪ ،‬ع ""الم آخ ""ر ليس ""ت ل ""ه أص ""ول يع ""ود اليه ""ا أو يحي ""ل عليه ""ا ‪ ،‬فال مراي ""ا وال إس ""قاط وال‬
‫يوتوبي ""ا ُ "ي"ذهب اليه""ا‪ ".‬املستنس ""خ هن""ا مهيمن‪ ،‬ال يمكن تج ""اوزه‪ ،‬لعب""ة مغلق""ة ومنتهي ""ة بال مخ""ارج اض""طرارية‪ ".‬ونحن ال‬
‫يمكنن""ا ان نتح""ول "من خالل املرآة"" إلى الج""انب اآلخ""ر‪ ،‬كم""ا ك""ان يح""دث خالل العص""ر ال""ذهبي للخي""ال العلمي املب""ني‬
‫على التعالي‪،‬‬
‫ولع""ل املث""ال األك""ثر إقناع""ا س""يكون جيمس غراه""ام ب""االرد وتط""ور نصوص""ه الخيالي""ة من قصص""ه القص""يرة الحاملة‬
‫املشبعة بالعجائب والتغريب" والتعالي‪ ،‬وصوال إلى روايت"ه "ص"دام س"ير ‪ "Crash‬وال"ذي يمث"ل (أك"ثر من روايتي"ه "مب"ان‬
‫شامخة" و "جزيرة" الخرسانة"" ) تمثيال جيدا هذا الخيال العلمي الجديد الذي لم يةعد شبيها بالخيال العلمي‪.‬‬
‫"ص""دام س""ير " ه""و عاملن""ا‪ ،‬فال ش يء في الرواي""ة في""ه "اخ""ترع" فك""ل م""ا فيه""ا ه""و "ف""ائق الوظيفي""ة"‪ :‬حرك""ة املرور‬
‫والح""وادث والتكنولوجي""ا واملوت والجنس وعدس""ة الك""اميرا‪ .‬ك""ل ش يء يش""به آل""ة ض""خمة متماس""كة تحي""ل على ع""الم‬
‫املستنس" ""خ ‪ .‬إن" ""ه تس" ""ريع للنم" ""اذج الخاص" ""ة بن" ""ا‪ ،‬من جمي" ""ع النم" ""اذج ال" ""تي تحي" ""ط بن" ""ا‪،‬املندمج" ""ة في حياتن" ""ا واملفرط" ""ة‬
‫االس""تعمال في الف""راغ‪ .‬م""ا يم""يز "ص""دام س""ير" عن ب""اقي نم""اذج الخي""ال العلمي ه""و أن""ه ق""د تخلص من عبودي""ة النم""اذج‬
‫القديم""ة للثنائي""ة اليكانيكي""ة املعه""ودة ال""تي تنظم م""ادة الع""الم ال""روائي" حس""ب الثنائي""ة امليكانيكي""ة ال""تي تقاب""ل الوظيف""ة‬
‫م" ""ع االختالل ال" ""وظيفي‪ ،‬خصوص" ""ية ه" ""ذه الرواي " "ة" هي أنه" ""ا تبعث إلى املس" ""تقبل نفس خط" ""وط الق" ""وى ونفس املرامي‬
‫الغائي" ""ة املعه" ""ودة في الك" ""ون "الع" ""ادي"" ‪ ،‬والخي" ""ال به" ""ذا ي" ""ذهب فيم" ""ا وراء الواق" "ع" ‪ -‬أو ح" ""تى م" ""ا دون" ""ه ‪ -‬آخ" ""ذا اتجاه" ""ا‬
‫معاكس"ا ص"وب ال"داخل‪ ،‬وغالب"ا م"ا يك"ون ذل"ك ألط"ف وأجم"ل وأذكى‪ ،‬وك"ل ذل"ك ب"احترام قواع"د اللعب"ة الحالي"ة‪ .‬وهن"ا‬
‫مربط الفرس‪،‬‬
‫إذا تأملن""ا "ص""دام س""ير" لن نج""د ال الخي""ال وال الواق""ع‪ ،‬ب""ل هنال""ك ن""وع من الواق""ع الف""ائق ألغى كال منهم""ا‪ .‬وهن""ا‬
‫يكمن الط ""ابع التع ""ريفي للخي ""ال العلمي املعاص ""ر – إن ك ""ان موج ""ودا أص ""ال‪ .‬ويمكنن ""ا س ""حب م ""ا قلن ""اه" على أعم ""ال من‬
‫قبي ""ل رواي ""ة "ج ""اك ب ""ارون ومس ""ألة األبدي ""ة" لن ""ورمن س ""بينراد ‪ N. Spinrad‬أو " وقف ""ة في زنجب ""ار" لج ""ون برون ""ير ‪J.‬‬
‫‪.Brunner‬‬

‫‪136‬‬
‫في واقع األمر‪ ،‬الخيال العلمي من هذا القبيل لم يع"د "املك"ان" الغ"ريب"‪ ،‬ب"ل ه"و "ك"ل مك"ان"‪ :‬حيث تت"دفق النم"اذج‬
‫اآلن وهن""ا‪ ،‬في ه""ذا الن""وع األلي""ف والب""ديهي ل""دينا من املحي""ط "االستنس""اخي" ‪ .‬م""اذا ال""ذي يك""ون ق""د تص""وره‪ ،‬مب""دئيا‪،‬‬
‫مؤلف الخيال العلمي على سبيل املثال؟ (ونجدد اإلقرار بأن "التصور" لم يعد ممكنا كما قد أسلفنا)‬
‫تصور ملصانع مستنسخات" أملانيا الغربية‪ ،‬مصانع توظف العاطلين عن العمل" في جميع األدوار وجميع األوضاع‬
‫والطبق" ""ات املعروف" ""ة في ع" ""الم التص" ""نيع التقلي" ""دي‪ ،‬مص" ""انع ال تخ" ""رج من لعب" ""ة سلس" ""لة االنت" ""اج املعروف" ""ة‪ ،‬األوام" ""ر‬
‫والطلبي""ات‪،‬واملنافس""ة‪ ،‬واملذكرات‪ ،‬وكش""وف الحس""اب‪ ،‬الخ ‪..‬وك""ل ه""ذا ض""من ش""بكة ض""خمة من املص""انع‪ ،‬وك""ل ه""ذه‬
‫الشبكة لن تخرج طبعا من مض"اعفات االنت"اج اآليل"ة إلى الف"راغ (أح"د مص"انع املستنس"خ ه"ذه يك"ون مثال ق"د بل"غ ح"د‬
‫اإلفالس "الحقيقي"‪ ،‬فيك""ون ق""د ع""اد إلى تس""ريح عمال""ه الع""اطلين‪ ،..)...‬في الواق""ع‪ ،‬م""ا أمامن""ا ه""و مستنس""خ واملص""انع‬
‫أطروح ""ة وهمي ""ة‪ ،‬والغ ""رض أن م ""ا أمامن ""ا من تخيي""ل ه""و واق ""ع مف""رط ‪ hyperréalité‬وذل""ك يعم ""ل من خالل كونه""ا‬
‫تخيالت‪/‬وقائع ممكنة وفاعلة وال تقبل التشكيك وال املراجعة‪".‬‬
‫املث""ير للعجب هن""ا ليس التع""ارض بين املص""انع الوهمي""ة و املص""انع الحقيقي""ة‪ ،‬املدهش ه""و ع""دم وج""ود تمي""يز بين‬
‫االث""نين‪ :‬أي ك""ون ك""ل ه""وامش اإلنت""اج ال مرجعي""ة له""ا ع""دا "مستنس""خ ع""الم األعم""ال"‪ ،‬إن""ه الواق "ع" املف""رط بواقعيت""ه‬
‫املفرط""ة ال""تي تكتس""ب مص"داقيتها" من ك"ون أغ""رب م""ا فيه""ا كم""ادة للخي""ال العلمي أن""ه ال غراب""ة فيه""ا بتات""ا‪ .‬ويمكن للم""رء‬
‫أن ي"رى بان"ه ليس"ت هن""اك حاج"ة الخ""تراع أي شيء‪ :‬فك"ل شيء هن""ا أمامن"ا‪ ،‬س""ابق ح"تى لوجودن""ا‪ ،‬يطف"و إلين""ا من ع""الم‬
‫خال من األسرار‪ ،‬خال من كل عمق‪.‬‬
‫إن أك ""بر الص ""عوبات الي ""وم‪ ،‬في ع ""الم الخي ""ال العلمي‪ ،‬هي أن تك ""ون ق ""ادرا على تمي ""يز م ""ا من ش ""أنه أن يتماش ى م ""ع‬
‫تخيالت النظ ""ام الث ""اني؛ االنت ""اجي‪/‬اإلس ""قاطي (وه ""ذا ه ""و ج ""زء كب ""ير من جمل ""ة ه ""ذه األعم ""ال) وم ""ا ال ""ذي ه ""و ناش ئ‬
‫كنتيج ""ة الض ""محالل الخي ""ال ال ""ذي ذكرن ""اه آنف ""ا‪ ،‬س ""يكون يس ""يرا مب ""دئيا أن نم ""يز بين الروبوت ""ات واآللي ""ات (ال ""تي هي‬
‫السمة املم"يزة للدرج"ة الثاني"ة) وبين آلي"ات التحكم املع"رفي أو أجه"زة الكم"بيوتر املس"تمدة ب"ديهيا من املس"توى الث"الث‪.‬‬
‫يمكن في مرحل" " ""ة الحق" " ""ة التنب" " ""ه إلى االن" " ""زالق الب" " ""ديع من مس" " ""توى إلى آخ" " ""ر ؛ وق" " ""د يحت" " ""ل أح" " ""د النظ" " ""امين داخ" " ""ل‬
‫املستنس ""خات" اآلخ ""ر ‪ ،‬ويمكن للكم ""بيوتر ببس ""اطة أن يعم ""ل بش ""كل جي ""د ج ""دا بمثاب ""ة آلي ""ات س ""يبرنيطيقية فائق ""ة ‪،‬‬
‫ويمكن أيض""ا للروبوت""ات أن تص""ير فائق""ة املق""درة ‪ ،‬وك""ل ه""ذا يفتح لن""ا ب""اب التخيي""ل العلمي على مص""راعيه وه""ذا ه""و‬
‫بالض""بط م""ا ن""راه في النم""ادج ال""تي ذكرناه""ا آنف""ا ويمكنن""ا استحض""ار ال""دور امليت""افيزيقي ال""ذي يلعب""ه الروب""وط في رواي""ة‬
‫إي‪ .‬س ي كالرك " ‪ ،2001‬اوديس " ""يا الفض " ""اء" وك " ""ذلك دور العق " ""ل الف " ""ائق ش " ""املنزر ‪ Shalmanezer‬في رواي " ""ة نورم " ""ان‬
‫سبينراد املذكورة آنفا‪.‬‬
‫إن الت""داخل بين مس""تويات املستنس""خ ال"تي أثبتناه""ا أعاله ال ي"زال ممكن""ا‪ ،‬وه"و معين ه""ام للخي""ال العلمي‪ ،‬وس"وف‬
‫نج ""د التخيي ""ل يعم" "ل" على املس ""توى األوب ""رالي ‪ opératique‬ال ""ذي يوظ ""ف األالت مس ""رحيا أو أوبرالي ""ا ) الدرج ""ة األولى‬
‫للمستنس "خ" (‪ ،‬كم""ا س""نجده على املس""توى العملي" ‪ ، opératoire‬ال""ذي غالب""ا م""ا يرك""ز على مض""اعفة إمكاني""ات الق""درة‬
‫والق" ""زة والطاق" ""ة ال" ""واردة في الواق" ""ع ( الدرج" ""ة الثاني" ""ة للمستنس" ""خ)" ‪ .‬وس" ""يعمل الخي" ""ال العلمي أخ" ""يرا على املس" ""توى‬
‫الرقمي العملياتي ‪ ، opérationnel‬وهو مركز تماما على مرحلة ما بعد التقنية‪ ،‬أو التقني"ة املفرط"ة (الدرج"ة الثالث"ة)‬
‫والغالب أن الكتاب سيمتحون ملدة الباس بها من معين هذه الدرجة لعذريتها ثم لإلمكانيات الواسعة" التي تختزنها‪.‬‬

‫‪137‬‬
1

138
‫افق الصوت‪/‬الداللة‬

‫الصوت والداللة‬

‫‪ ‬تنطل ""ق ه ""ذه الدراس ""ة من الس ""ؤال ح ""ول اإلمكاني ""ات الداللي ""ة لألص ""وات‪ .‬من الس ""ؤال املزدوج‪ :‬ه ""ل‬
‫نحن نفك" ""ر من خالل األص" ""وات؟ وه" ""ل ي" ""دل الص" ""وت قب" ""ل تك" ""وين كلم" ""ة أو نش" ""وء بع" ""د س" ""يميائي‬
‫لألصوات املجتمعة بعضها سندا دالليا وإشاريا وثقافيا" لبعض؟‬
‫‪ ‬هل يحيا الصوت املفرد ‪-‬وبمعزل عن كل تركيب‪ -‬حياة ما؟ الننا آنذاك قد نصبح كائن"ات خاض""عة‬
‫لألص""وات فيم""ا هي منخدع""ة بانتظ""ار مجيء قافل""ة الكلم""ات ال""تي يك""ون املع""نى ق""د وص""ل قبله""ا وعم""ل‬
‫عمله الثقافي فين"ا‪...‬هي فك"رة أردن"ا أن نبحث له"ا عم"ا يس"ندها في ال"تراث اللس"اني الع"ربي و في ال"تراث‬
‫الثق" ""افي الغ" ""ربي (الح" ""ديث) ‪ ،‬و أردن" ""ا التمكين له" ""ا من خالل تط" ""بيق على املس" ""توى ال" ""ذي ق" ""د يك" ""ون‬
‫املس ""تة األك ""ثر حساس ""ية في التق ""اط معطي ""ات الص ""وت والدالل ""ة‪ :‬املس ""توى األدبي (من منطل ""ق ك ""ون‬
‫األعم""ال األدبي""ة تجلي""ات علي""ا لألداء اللغ""وي)‪...‬س""ننظر في الج""زء األخ""ير من ه""ذه الدراس""ة في نص""ين‬
‫أدب ""يين مس ""تنطقين بعض املواق ""ع الص ""وتية و ب ""احثين عن الدالل ""ة في بع ""دها" الثق ""افي في ه ""ذه املواق ""ع‬
‫أحاصلة هي أم ال ؟‪.‬‬
‫‪ ‬إن ش" ""يوع الرب" ""ط بين الكلم" ""ة و الدالل" ""ة (و ذل" ""ك من مخلف" ""ات ال" ""تراث النح" ""وي و املعجمي ش" ""رقا‬
‫وغرب " " ""ا) ه " " ""و ال " " ""ذي خل " " ""ق هيمن " " ""ة الكلم " " ""ة‪ ،‬إال أن تط " " ""ور عل " " ""وم الدالل " " ""ة الحديث " " ""ة ونش " " ""وء علم‬
‫الس" ""يميولوجيا عوام ""ل عملت على تحري" ""ر املع" ""نى من الكلم ""ة ‪ ،‬إذ علمتن" ""ا الس ""يميولوجيا" أن املع ""نى‬
‫يس ""كن ك ""ل ش يء‪ :‬الحرك ""ات‪ ،‬األش ""كال‪ ،‬األل ""وان‪ ،‬الحج ""وم‪ ،‬األص ""وات (طبيعي ""ة وتواض ""عية)‪ ،‬و ك ""ل‬
‫الصفات املمكن"ة‪...‬من هن"ا انطل"ق التفك"ير في مع"اني تل"ك املادة الص"امتة املص"متة املس"ماة "الص"وت"؛‬
‫و س""نلتزم بالص""وت اللغ""وي طبع""ا‪ ،‬ألن األص""وات غ""ير اللغوي""ة (واملوس""يقى بالدرج "ة" األولى) مي""دان‬
‫داللي ضخم متشعب و ثري‪...‬‬
‫‪ ‬يالقي العائ""د للبحث في منش""أ اللغ""ة نظري""ات كث""يرة تعتم""د على ع""د الص""وت املف""رد أص""ال لك""ل كالم ‪،‬‬
‫فنظرية الب"و‪-‬واو مثال‪ -‬و ال"تي أش"ار إلى م"ا يش"بهها ابن ج"ني في ب"اب "إمس"اس األلف"اظ أش"باه املع"اني"‪-‬‬

‫‪139‬‬
‫تق""ول ب""أن أص""ل اللغ""ة محاك""اة اإلنس""ان لألص""وات الطبيعي""ة‪ ،‬و هي نظري""ة ي""دعمها وج""ود كم هائ""ل‬
‫من الكلم " ""ات معانيه " ""ا دال " ""ة على الص " ""وت املراف " ""ق لح " ""دوث فعله " ""ا(غن " ""ة‪ ،‬زقزق " ""ة‪ ،‬قهقه " ""ة‪ "،‬ض " ""رب‪،‬‬
‫خشخش ""ة‪ ،‬طقطق ""ة‪ ،‬القط ""ة املس ""ماة "م ""و" عن ""د األطف ""ال الص ""غار‪ ،‬عن ""د الص ""ينيين الق ""دامى و عن ""د‬
‫األقباط كذلك‪)1/17(..)! ‬‬

‫و البن ج""ني في ه""ذا االتج""اه مقول""ة ش""هيرة ال ب""أس من استحض""ارها" مفاده""ا ذه""اب "بعض""هم إلى أن‬
‫أص""ل اللغ""ات كله""ا إنم""ا ه""و من األص""وات و املس""موعات ك""دوي ال""ريح و ح""نين الرع""د و خري""ر املاء و‬
‫ش""حيج الحم""ار و نهي""ق الغ""راب و ص""هيل الف""رس و ن""زيب الض""بي و نح""و ذل""ك‪ ،‬ثم ول""دت اللغ""ات عن‬
‫متقبل"‪)2/417(.‬‬ ‫ذلك فيما بعد‪ ،‬و هذا عندي وجه صالح‪ ،‬و مذهب‬

‫و ال تن"أى عن ه""ذا االعتق"اد النظري""ة التعجبي"ة العاطفي"ة ‪ ) )Pooh- Pooh‬ال""تي تق""ول أن الخام"ة األولى‬
‫للمعاني كلها أصوات تعجبية انفعالية عاطفية تعبر عن مشاعر اإلنسان القديم‪ ،‬و قريب من ج"وهر"‬
‫ه""ذه النظري""ة ج""وهر" نظري""ة محاك""اة األص""وات ملعانيه""ا (نظري""ة م""اركس م""ولر) ال""تي ت""دور على مح""ور‬
‫ق ""ريب ج ""دا من مح ""ور ه ""ذه الدراس ""ة‪ ،‬فم ""ولر ي ""رى – مثلم ""ا رأت الع ""رب ق ""ديما‪ -‬مع ""نى أو زم ""رة من‬
‫املع""اني تم""يز ك""ل ح""رف ‪ ،‬فالح""اء ت""دل على االنبس""اط و الس""عة و الراح""ة (حب‪ ،‬رحب‪ ،‬بح""ر‪ ،‬ح""رب‪،‬‬
‫س"حر‪ ،‬حري"ة‪ ،‬حل"ول‪ )...،‬و الغين للظلم"ة و االنغالق و الخف"اء و االنقب"اض (رغم‪ ،‬غيب‪ ،‬غ"يرة‪ ،‬غش‪،‬‬
‫شغب‪ ،‬غضب‪ ،‬لدغ‪ ،‬فراغ‪ ،‬سغب)(‪.)20-1/19‬‬

‫هي خمس نظري""ات أو س""ت تق""ف قبال""ة نظري""تي التوقي""ف اإللهي (اإلله""ام) و نظري""ة التواض""ع لتفس""ير‬
‫نش" ""أة اللغ" ""ة‪ ،‬و كله" ""ا تق" ""ول ب" ""أن الخام" ""ة األولى للمع" ""نى هي الص" ""وت املف" ""رد أو الف" ""ونيم أو املقط" ""ع‬
‫(‪ 21-1/20‬ثم‪)26-24‬‬ ‫الصوتي – في أحسن األحوال‪-‬‬

‫‪ ‬الحجة الك"برى ملا نبحث ل"ه عن حجج في ه"ذه الدراس"ة آتي"ة من مالحظ"ة العلم"اء للطبيع"ة الص"وتية‬
‫للكتاب" ""ة؛ و املقص" ""ودة أن املع" ""اني أثن" ""اء الكتاب" ""ة ت" ""ؤدي بواس" ""طة ح" ""روف مف" ""ردة تع" ""ادل األص" ""وات‬
‫البس""يطة‪ ،‬و ه""ذا ي""دل على أن دارسي اللغ""ة من""ذ األلفي""ة الثالث""ة قب""ل امليالد ق""د عمل""وا على الترجم""ة‬
‫الرس""مية‪/‬الحفري""ة‪/‬الخطي""ة ألهم مك""ون لغ""وي (و ه""و الص""وت) و إال لك""انت الح""روف تمث""ل مع""اني‬
‫الكلم" ""ات مثال أو مع" ""اني أعق" ""د مثلم" ""ا هي ح" ""ال الكتاب" ""ة التعبيري" ""ة ‪ Pictogrammes‬ال" ""تي لم تس" ""تطع‬
‫االنتشار رغم خدماتها اللغوية‪ .‬فالرموز "اللغوية" رموز صوتية‪ ،‬ومعنى هذا أن طبيعة اللغة تتخذ‬
‫في املق""ام األول ص""ورة ص""وتية منطوق""ة مس""موعة فالكتاب""ة في أحس""ن أحواله""ا محاول""ة للتعب""ير عن‬
‫اللغة في واقعها الصوتي(‪.)3/43‬‬

‫‪140‬‬
‫و ليس بعي ""دا عن تأم ""ل املح ""دثين ه ""ذا تأم ""ل الق ""دماء و هم ينظ ""رون في تس ""مية الح ""رف به ""ذا االس ""م‬
‫ألن الح""رف في اللغ""ة ه""و ح""د الشيء‪ ،‬فك""ذلك الكالم منقط""ع إلى أج""زاء ح""د ك""ل منه""ا الص""وت املف""رد‬
‫(الح ""رف)‪ ،‬و ه ""ذه نظ ""رة تجزيئي ""ة دقيق ""ة ج ""دا وق ""ف عن ""دها" القاض ي عب ""د الجب ""ار(‪ )4/255‬و ك ""ذلك‬
‫تسميتهم الكالم حديثا ألنه ‪ -‬كما يقول الرازي‪ -‬يحدث مرحلة إثر مرحلة كترتب األحوال في ال""دنيا‬
‫األسماع"(‪)4/269‬‬ ‫‪ ،‬فهو "يحدث حاال بعد حال على‬

‫‪ ‬م""ادة علمي""ة واف""رة ح""ول دالل""ة الص""وت تأتين""ا من خالل البحث في دالالت ف""واتح الس""ور نح""و "ألم"‬
‫و "كهيعص"و" "حم"‪...‬الخ‪...‬فق "د" تش ""عب البحث في دالالت ه ""ذه األص ""وات املف""ردة اآلتي""ة قص ""دا على‬
‫هذا الشكل‪ ،‬و ذهب املفسرون و العلماء مذاهب ال حد له""ا تص""ر كله"ا على جع""ل ال"رأي الوحي""د ه"و‬
‫ع""دم تحدي""د الدالل""ة النهائي "ة" و األكي""دة له""ذه الح""روف‪ ،‬مثلم""ا تتف""ق ح""ول كونه""ا ذات مع""نى م""ركب‬
‫(يتج ""اوز الكلم ""ات و الجم ""ل و األفك ""ار و الس ""ياقات )‪ ،‬مع ""نى يفيض فيم ""ا وراء الص ""وت ال ""ذي ش ""اع‬
‫اف""تراض خل""وه من املع""نى‪ ،‬و يتف""ق املح""دثون على ك""ون ابن حي""ان األندلسي (ق ‪8‬هـ) أفض""ل و أوس""ع‬
‫من بحث في األمر و هو نفسه القائل ‪:‬إن الفواتح أصوات مفردة دالة على سورة أو معادلة ملعانيه""ا‬
‫ناهي""ك عن ك""ون الس""ور مس""ماة بأس""ماء ه""ذه الح""روف‪ ،‬فمتع""اطو الق""راءة و علم""اء األص""ول يقول""ون‬
‫"كهيعص"" و ال يقول""ون "م""ريم"‪ ،‬فض""ال عن الق""ول األك""ثر ش""يوعا و ال""ذي م""ؤداه س""رية مع""نى ه""ذه‬
‫األصوات وباطنيتها التي ال تؤديها كلمة مثلما يؤديها صوت‪)102-5/101(.‬‬

‫‪ ‬ف""إذا بحثت في املعجمي""ة عن س""ند ل""دالالت األص""وات وج""دت تل""ك األخب""ار الغريب""ة عم""ا درج الع""رب‬
‫علي""ه من إطالق الح""روف على أش""ياء مح""ددة بعينه""ا نع""رف منه""ا جميع""ا املث""ال ال""ذي مف""اده تس""ميتهم‬
‫للحوت نونا و للجبل جيما حتى قي"ل أن الش"كل الع"ربي‪/‬النبطي‪/‬القبطي للص"وت "جيم" يش"به ش"كل‬
‫الجب " ""ل نفس " ""ه‪...‬و ق " ""د أورد ابن قتيب " "ة" قائم " ""ة تام " ""ة ملجم " ""وع التس " ""ميات العربي " ""ة ال " ""تي اخ " ""تزلت إلى‬
‫حروف ‪:‬‬
‫األلف ‪ :‬الواحد من كل شيء ‪ ،‬و الرجل الذي ال زوجة له ‪ ،‬و فعل ماض‪...‬‬

‫الباء‪ :‬الشيخ كثير الجماع‪.‬‬

‫التاء ‪ :‬اآلنية التي تحلب فيها البقر‪.‬‬

‫الوادي‪...،‬الخ(‪)158-5/156‬‬ ‫الطاء‪ :‬الرجل إذا شاب و ال يشبع من الجماع‪ ،‬و سنام البعير ‪ ،‬و مهبط‬

‫و م""ا يهمن""ا من ه""ذه الن""وادر الغريب""ة املث""يرة للدهش""ة و ربم""ا لالبتس""ام أيض""ا ه""و الج""انب ال""ذي نحن‬
‫بص""دده‪ ،‬و األم""ر يجعلن""ا ننظ""ر بجالء كي""ف أن الع""رب من""ذ الق""ديم درج""وا على التعام""ل م""ع املع""نى‬
‫املركب (االس " ""م) بص " ""يغة الص " ""وت املف " ""رد (الح " ""رف) و ه " ""و أم " ""ر س " ""نجد ل " ""ه في الثقاف " ""ة األجنبي " "ة"‬

‫‪141‬‬
‫(‪ )les abréviations‬أو‬ ‫االختص" " ""ارات ال" " ""تي نعرفه" " ""ا جي" " ""دا ألس" " ""ماء األش" " ""ياء إلى ح" " ""روف‬
‫الح""روف ال""تي تص""ير رم""وزا مفتاحي "ة" أو افتتاحي""ة (‪ )les initiales‬مثلم""ا يح""دث م""ع األس""ماء ‪ ،‬فل""دى‬
‫املش " ""اهير مثال يق " ""ول الفرنس " ""يون ‪ B.B‬واملقص " ""ود (‪ )Brigitte Bardot‬أو يقول " ""ون ‪ BHL‬و املقص " ""ود‬
‫الفيلس"وف الش"هير (‪... )Bernard Henry-Levy‬الخ‪(...‬و للفائ"دة فق"ط فه"ذا ه"و أح"د اآلراء ال"واردة في‬
‫تفسير الحروف الواردة فواتح للسور(‪...)106-5/105‬و ذلك ما قد نسميه التفسير الطلسمي‪.)! ‬‬

‫‪ ‬لن نج"انب الص""واب إن قلن""ا إن أهم م"ا قي""ل في الب"اب ال""ذي نحن بص"دده ه"و م"ا أورده أب"و الفتح بن‬
‫جني سواء ما جاء به هو نفسه و ما أثبته عن اآلخرين مطورا و معدال ومصححا‪.‬‬
‫و ربم ""ا يج ""در بن ""ا الب ""دء بالح ""ديث عن النظري ""ة املنس ""وبة إلي ""ه نس ""بة مطلق ""ة ال ريب فيه ""ا ي ""ذكرها" ه ""و‬
‫نفسه و يعترف بها املؤرخون بعده‪ ،‬تلك طبعا هي نظرية االشتقاق األكبر‪.‬‬

‫يق""ول‪ ":‬ه""ذا موض""ع لم يس""مه أح""د من أص""حابنا ؛ غ""ير أن أب""ا علي‪ -‬رحم""ه هللا‪ -‬ك""ان يس""تعين ب""ه و يخل""د‬
‫إلي ""ه‪ ،‬م ""ع إع ""واز االش ""تقاق األص ""غر‪ ،‬لكن ""ه م ""ع ه ""ذا لم يس ""مه‪...‬وإنم ""ا ه ""ذا التلقيب لن ""ا نحن‪ ،‬و س ""تراه‬
‫فتعلم أنه لقب مستحسن‪ ،‬و ذلك أن االشتقاق عندي على ضربين‪ :‬كبير و صغير‪.‬‬

‫فالص""غير م""ا في أي""دي الن""اس و كتبهم؛ ك""أن تأخ""ذ أص""ال من األص""ول فتتق""راه فتجم""ع بين معاني""ه و إن‬
‫اختلفت صيغه و مبانيه‪)...(.‬‬

‫و أم ""ا االش ""تقاق األك ""بر فه ""و أن تأخ ""ذ أص ""ال من األص ""ول الثالثي ""ة‪ ،‬فتعق ""د علي ""ه و على تقاليب ""ه الس ""تة‬
‫مع"نى واح"دا‪ ،‬تجم"ع ال"تراكيب الس"تة و م"ا يتص"رف من ك"ل واح"د منه"ا علي"ه‪ ،‬و إن تباع"د شيء من ذل"ك‬
‫(عنه) رد بلطف الصنعة و التأويل إليه؛ كما يفعل االشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد"(‪.)2/490‬‬

‫إن نظرية ابن جني هذه تقترح مباشرة هوي"ة داللي"ة للص"وت‪ ،‬أو على األق"ل الجتم"اع" األص"وات بعض"ها‬
‫إلى ج""انب بعض‪...‬و ه""و م""ا لم يفك""ر في""ه آخ""ر‪...‬و لع""ل ه""ذا الن""وع من التفك""ير يك""ون أك""ثر إثم""ارا ل""و أن""ه‬
‫دعم بت""أمالت ع""ابرة للغ""ات ق""د تجيب األس""ئلة الك""برى ح""ول م""ا الحظ "ه" العلم""اء من اتف""اق للغ""ات على‬
‫تب " ""اين املواق " ""ع و األزمن " ""ة في تس " ""مية بعض املع " ""اني ال " ""تي نعلم أنه " ""ا قديم " ""ة و مرافق " ""ة لإلنس " ""ان من " ""ذ‬
‫الق""دم‪...‬فتس""ميات هللا كله""ا فيه""ا ح""رف حلقي (هـ) و م""د ب""األلف و ال""واو‪ :‬هللا‪ ،‬إل""ه‪،Goth, God, Theo ،‬‬
‫إلوهيم‪ ،‬جيهوفاه‪ ،Dio،‬يهوه‪... ,Dieu‬فلماذا هذا اإلصرار؟‪...‬‬

‫و نالح""ظ أن ابن ج""ني واث""ق مم""ا ي""ذهب إلي""ه ‪ ،‬و نق""رأ مع""ه ه""ذا املث""ال‪ :‬يق""ول‪" :‬فمن ذل""ك تقليب (ج ب‬
‫ر) فهي أين وقعت – للق" ""وة و الش" ""دة‪ -‬منه" ""ا‪:‬ج" ""برت العظم‪ ،‬والفق" ""ير‪ ،‬إذا قويتهم" ""ا و ش" ""ددت منهم" ""ا‪ .‬و‬

‫‪142‬‬
‫الج""بر‪ :‬املل""ك لقوت""ه و تقويت""ه لغ""يره‪ .‬و منه""ا (رج""ل مج""رب) إذا ّ‬
‫جرس""ته األم""ور ونجذت""ه فق""ويت منت""ه و‬
‫اشتدت شكيمته‪ .‬و منه الجراب ألنه يحفظ م"ا في"ه‪...‬و من"ه ال"برج لقوت"ه في نفس"ه و ق"وة م"ا يلي"ه ب"ه‪ ،‬و‬
‫كذلك البرج لنقاء بياض العين و ص"فاء س"وادها‪ ،‬ه"و ق"وة أمره"ا‪ ،‬و أن"ه ليس بل"ون مستض"عف‪...‬و من"ه‬
‫رجب لتعظيمهم إي""اه عن القت""ال في""ه‪ ،‬و إذا ك""رمت النخل""ة على أهله""ا فم""الت دعموه""ا بالرجب""ة‪ "،‬و هي‬
‫شيء تستند إليه لتقوى به‪ ،‬والراجبة‪ :‬أحد فصوص" األصابع‪ ،‬و هي مقوية لها"(‪..)2/491‬‬

‫ف""الحروف املجتمع""ة كله""ا تحي""ل على مع""ان متقارب""ة في أح""د األبع""اد و ل""و تباع""دت في أبع""اد أخ""رى و ه""ذا‬
‫مثير للحيرة‪.‬‬

‫أال يكون السؤال واجبا‪ :‬هل للحروف‪/‬األصوات هوية مسبقة؟ ثم السؤال الناتج عنه‪ :‬أال يكون تط""ور‬
‫اللغات حسب الحاجة" و بواسطة املواض"عة ق"د أبع"د األص"وات عن مس"افاتها األص"يلة؟‪...‬إلجاب""ة س"ؤال‬
‫كهذا نحت"اج طبع"ا إلى أك"ثر من ه"ذه الدراس"ة و أك"ثر من دارس واح"د إال أن إرهاص"ات األم"ر جلي"ة كم"ا‬
‫نرى‪.‬‬

‫‪ ‬على ي ""د أخ""رى نق ""رأ م""ع ابن ج ""ني دائم ""ا مالحظات ""ه ح ""ول توج ""ه املع ""نى اتجاه ""ا معين""ا ملج""رد اجتم ""اع‬
‫بعض األصوات‪.‬‬
‫يق" ""ول ابن ج" ""ني‪ " :‬و نح" ""و ق" ""ولهم‪ :‬ح" ""احيت‪ ،‬و ع" ""اعيت‪ ،‬و ه" ""اهيت؛" إذا قلت ح" ""اء‪ ،‬و ع" ""اء‪ ،‬وه" ""اء‪ .‬و‬
‫قولهم بسملت ‪ ،‬و هللت‪ ،‬و حوقلت؛ كل ذل"ك (و أش"باهه) إنم"ا يرج"ع في اش""تقاقه إلى األص"وات ‪ ،‬و‬
‫األمر أوسع‪.‬‬

‫و من طري""ف م""ا م""ر بي‪...‬ازدح""ام ال""دال و الت""اء و الط""اء و ال""راء و الالم و الن""ون‪ ،‬إذا م""ازجتهن الف""اء‬
‫نحوهم""ا" (‬ ‫و الضعف و‬ ‫على التقديم و التأخير‪ ،‬فأكثر أحوالها و مجموع معانيها أنها للوهن‬
‫‪.)2/415‬‬

‫و يض""رب أمثل""ة على ذل""ك ‪ :‬ال""دالف=الش""يخ الض""عيف‪ ،‬الظلي""ف=املج""ان‪ ،‬الطن""ف=م""ا أش""رف خ""ارج‬
‫البن""اء‪ ،‬ال""دنف=املريض‪ ،‬الفالة=الهالك‪ ،‬الط""رف=أض""عف م ""ا في الشيء(وه ""و أض ""عف من وس ""طه)‪،‬‬
‫الفرد=الضعيف لعزلته‪ ،‬الفارط=املتقدم‪...،‬الخ‪.‬‬

‫و الفك""رة املقترح""ة هن""ا فكرت""ان ال واح""دة‪ ،‬إح""داهما م""ا س""بق م""روره معن""ا أثن""اء الح""ديث عن تفس""ير‬
‫فقه""اء اللغ""ة لنش""أة اللغ""ة من اق""تراح األص""وات أللف""اظ و مع""ان مرتبط""ة بهوي""ة ص""وتية ال تحت""اج إلى‬
‫تأويل لطيف‪ -‬حسب تعبير ابن جني نفسه‪...-‬‬

‫‪143‬‬
‫و الفك" ""رة الثاني" ""ة عالق" ""ة بم" ""ا أس" ""ميناه دالل" ""ة األص" ""وات ‪...‬فكأنن" ""ا نق" ""ول – م" ""ع ابن ج" ""ني طبع" ""ا‪ -‬إن‬
‫الصوتين متى اجتمعا يتجهان مباشرة إلى عنوان يعرفانه ‪ ،‬و إال فلماذا كل هذا التق""ارب في تق""اليب‬
‫املادة على تب""اين تفاص""يلها‪...‬و م""ا ن""ود إض""افته هن""ا ه""و اإلش""ارة الذكي""ة – رغم كونه""ا بديهي""ة إلى ح""د‬
‫م ""ا‪ -‬إلى وج ""ود ح ""االت اس ""تثنائية" تبتع ""د بأح ""د األلف ""اظ املش ""اكلة ص ""وتيا ملا نحن بص ""دده عن املع ""نى‬
‫الذي يجمع ألفاظ املادة املعنية‪ ،‬و تفسير األم"ر من ب"اب أول ه"و ك"ون تل"ك الحال"ة اس"تثناء ال يفع"ل‬
‫س""وى تأكي""د القاع""دة‪ ،‬و من ب""اب آخ""ر‪ ،‬ال ب""د من االنتب""اه إلى الحيوي""ة الكب""يرة للغ""ة و قابلي""ة التط""ور‬
‫و ظه " ""ور الطف " ""رات أثن " ""اء ه " ""ذا التط " ""ور ‪ ،‬بحيث يمتن " ""ع في كث " ""ير من الح " ""االت الرج " ""وع إلى املواق " ""ع‬
‫األصلية للظاهرة‪...‬و" هذا معطى علمي ثابت ال ينكره مشتغل على اللغة‪.‬‬

‫‪ ‬ننظ" " ""ر اآلن ‪-‬في الج" " ""زء الث" " ""اني من دراس" " ""تنا ه" " ""ذه‪ -‬في ب " ""راهين أدبي" " ""ة على املق" " ""دمات اللغوي" " ""ة ال" " ""تي‬
‫أوردناه" ""ا ‪ ،‬و ن" ""ود في البداي" ""ة اإلش" ""ارة إلى بعض القض" ""ايا العام" ""ة املتعلق" ""ة ب" ""األداء الص" ""وتي للمع" ""نى‬
‫األدبي و كي""ف أن""ه بع""د مس""تقل ب""الغ األهمي""ة و ليس محط""ة يم""ر به""ا الك""اتب‪/‬الق""ارئ م""رور الك""رام‬
‫سيرا صوب الكلمة التي هي مسكن املعنى القاعدي‪ ،‬قبل الجملة التي هي عاصمة املعاني بال منازع‪.‬‬
‫لق""د الح""ظ األس""تاذ إب""راهيم عب""د ال""رحمن في دراس""ته لبعض النم""اذج الجاهلي""ة كي""ف أن الظ""واهر‬
‫الص ""وتية – ال ""تي أص ""بح معروف ""ا بع ""دها" ال ""داللي و مدروس ""ا ك ""أول مس ""توى من مس ""تويات الدراس ""ة‬
‫األس ""لوبية للش ""عر خاص ""ة‪ -‬تعم ""ل على إض ""فاء بع""د داللي ال تؤدي ""ه الكلم ""ات و األبي ""ات تمام ""ا ‪...‬أي أن‬
‫الص""وت يق""ول م""ا ال تقول""ه الكلم""ة؛ و من ذل""ك م""ا الحظ""ه من إص""رار األعشى على ص""وت بعين""ه ه""و‬
‫أل ""ف املد ال ""ذي يحق ""ق –حس ""ب الناق ""د‪ -‬بطئ ""ا موس ""يقيا لطول ""ه املف ""رط‪ ،‬و ه ""و ص ""وت يص ""ر علي ""ه‬
‫األعشى – وهن""ا الطراف""ة‪ -‬في قص""ائد املديح والهج""اء‪ -‬من أج""ل تحقي""ق بع""د ت""أملي ينتج تأكي""دا ملع""اني‬
‫ك""ثر ع""دها انفعالي""ة غ""ير تأملي""ة (الطم""ع و الغض""ب) ‪...‬فالتوكي "د" و اإلص""رار و التث""بيت ال""ذي يص""يب‬
‫ه""ذه املع""اني ال ي""أتي من محم""ول الق""ول‪ -‬ألن""ه مش""بوه ينتظ""ر و ربم""ا مش""كوك في""ه‪ -‬ب""ل من الس""بيل‬
‫الص""وتية و طريق""ة األداء الص""وتي له""ذه املع""اني(‪... .)6/84‬فيص""بح" الص""وت بع""دا يعم""ل على مس""توى‬
‫مستقل تماما عن املستويات األخرى‪.‬‬

‫من جه""ة ثاني""ة الح""ظ املش""تغلون على الدراس""ات األس""لوبية للش""عر أن ظ""اهرة اإلنش""اد تعم""ل بنش""اط‬ ‫‪‬‬
‫و فعالي" "ة" على إض ""فاء أبع ""اد جدي ""دة على مع ""نى القص ""يدة‪ ،‬فبع ""دما أق ""ر الق ""دامى ك ""ون الش ""عر كالم ""ا‬
‫موزون""ا مقفى‪ ،‬ج""اء الس""ؤال ح""ديثا‪ :‬ه""ل ك""ل كالم م""وزون مقفى ش""عر؟ واإلجاب""ة طبع""ا‪:‬ال‪...‬و ج""وهر‬

‫‪144‬‬
‫القض""ية ك""امن في التفاع""ل بين املس""تويات العدي""دة للنص الش""عري‪...‬أم""ا إض""افة اإلنش""اد كبع""د إض""افي‬
‫ينعش البع ""د الص ""وتي للش ""عر ‪ ،‬ب ""ل ويح ""دده أحيان ""ا أو يعطي ""ه امت ""دادا ال يمكن ل ""ه اكتس ""ابه خ ""ارج"‬
‫ال ""دائرة الص ""وتية‪/‬اإلنش ""ادية‪ ،‬فمم ""ا لم ينتب ""ه إلى خطورت ""ه إال األس ""لوبيون املح ""دثون‪ ،‬يق ""ول محم ""د‬
‫الض""الع‪" :‬تض""يف الق""راءة الجهري""ة للنص الش""عري تفس""يرا فردي""ا ل""ه‪ ،‬يتح""ول في""ه البن""اء العروضي‬
‫املج""رد‪ ،‬وي""برز في""ه األداء اللغ""وي الص""وتي ال""ذي يحم""ل مالمح إيقاع""ه وقوالب""ه‪ ،‬مث""ل التنغيم والن""بر‬
‫واالستغراق الزمني بنوعيه الفونيمي والجملي‪ ،‬حيث توظ"ف فيه"ا الوح"دات اللغوي"ة توظيف"ا فني"ا"" (‬

‫‪.)7/135‬‬
‫ويس ""تنطقون‬ ‫فاألس ""لوبيون وهم يحلل ""ون خص ""ائص النص الش ""عري فيم ""ا وراء امليراث البالغي‬
‫ك" ""ل املواق" ""ع املمكن" ""ة للمع" ""نى الش" ""عري‪ ،‬وج" ""دوا أن القواع" ""د املتحكم" ""ة في اإلب" ""داع الش" ""عري "بنوعيه" ""ا‬
‫النح""وي والعروضي ال تك""ون بمن""أى عن إنت""اج الدالل""ة الخاص""ة بالقص""يدة ألن ك""ل ج""انب من الج""وانب‬
‫على مس" ""توى األص" ""وات والص" ""يغ واملف" ""ردات وال" ""تراكيب وال" ""وزن الش" ""عري الخ" ""اص واختي" ""ار" القافي" ""ة‬
‫املعين""ة بتع""اون م""ع اآلخ""ر‪ ،‬ومن هن""ا يك""ون إنت""اج الدالل""ة حاص""ال لع""دد كب""ير من التوقع""ات ال""تي تت""آزر‬
‫ً‬
‫معي ًنا يساعد بدوره على توجيه فهم الجزئيات في إطار النص كله"(‪.)7/137‬‬ ‫سياقا" ّ‬ ‫وتصنع‬
‫قاطع"ا مص ً‬
‫"يريا‬ ‫ً‬ ‫إنها كيمياء لغوي"ة داللي"ة معق"دة يش"كل الص"وت فيه"ا عنص ً"را رئي ًس"ا‪ ،‬أو عنص ً"را‬
‫غيابه يؤدي إلى تعطيل التفاعل و تعليق املعنى الشعري‪...‬‬

‫من جه" ""ة ثالث" ""ة ي" ""أتي كل" ""ود ليفي ش" ""تراوس ملجموع" ""ة من الت" ""أمالت الطريف" ""ة ح" ""ول التجرب" ""ة‬ ‫‪‬‬
‫الصوتية و داللتها ‪ ،‬و كذلك حول األداء الحسي للمعطيات الصوتية؛ و هو م"ا ك"ان ي"درس من"ذ الق"رن‬
‫‪ ،18‬تحت العن" ""وان الج" ""امع "الحس املش" ""ترك" أو املطابق" ""ات بين الح" ""واس"‪...‬و ينق" ""ل مالحظ" ""ات كث" ""يرة‬
‫نقتبس منه""ا م""ا يتق""اطع م""ع موض""وعنا املح""دد‪ .‬يق""ول‪ ":‬بخص""وص الس""ماع الل""وني (حال""ة خاص""ة من ه""ذه‬
‫املطابق""ات بين الح""واس‪ ،‬ال""تي يش""ار إليه""ا باس""م الحس املش""ترك) س""جل جاكبس""ون ه""ذه املالحظ""ة‪" :‬إن‬
‫االق""تران الجلي بين ل""ون ش""ديد اللوني""ة مث""ل األرج""واني‪ ،‬و إرن""ان الب""وق الش""ديد الص""وتية‪ ،‬و بين ذرى‬
‫الص""بغية الص""وتية (‪ )/a/‬و الس""كونية (‪ )/k/‬في اس""م الل""ون‪ :‬األرج""واني‪ écarlate‬مدهش""ا حق""ا" (‪ ،.)8/93‬و‬
‫يضيف املترجم مالحظة كون األمر يصح أيضا على اللفظة اإلنجليزية ‪ ، scarlet‬و نضيف نحن أننا مع‬
‫نفس املدرجين الصوتيين الواردين في نعت اللون(القاني) إذا ما انتقلنا إلى الدائرة العربية‪!!! ‬‬
‫ثم يش""ير كل""ود ليفي ش""تراوس إلى ارتب""اط الص""وت الع""الي املفخم «‪ » a ‬في التجرب""ة اإلنس""انية (و خاص "ة"‬
‫ل""دى األطف""ال‪ ،‬و هم مؤش""ر ممت""از) ب""اللون األحم""ر مس""تفيدا من وث""ائق كث""يرة ل""دى فن""انين تش""كيليين و‬

‫‪145‬‬
‫علماء اجتماع ثم في خواطر صحفية و مقاطع نثري"ة‪...‬قب"ل أن ي"ورد مق"اطع آلرث"ر رامب"و ترب"ط الص"ائت‬
‫املفخم باللون األسود (الذي هو درجة عليا من الحمرة فيعلق على املقطعين التاليين‪.)8/94( :‬‬

‫‪ -‬من قصيدة "صوائت ‪:"Voyelles‬‬

‫‪A, noir corset velu de mouches éclatantes‬‬

‫(األلف ‪ ،‬مشد أسود مظلل بذبابات صارخة)‬

‫‪ -‬من قصيدته" املطولة‪" :‬إشراقات ‪" Illuminations‬‬

‫‪Des blessures écarlates et noires éclatent‬‬

‫‪Dans les chairs superbes‬‬

‫(جراح قرمزية‪ ،‬و سوداء تسطع في األجسام الفاتنة)‬

‫و إذا كن"ا ننق"ل كالم ه"ذا األلس"ني األن"ثربولوجي الجلي"ل دون رغب"ة في املناقش"ة ف"إن الج"دير بال"ذكر‬
‫هو الشبه الصوتي بين (قاني ‪ )écarlate‬و بين (صارخة ‪. )éclatantes‬‬

‫علم""ا أن الخ""اء م""درج ق""ريب من الك""اف املفخم""ة الغ""ائرة في تجوي""ف الفم‪ ،‬ب""دليل ان ك""ل الخ""اء عربي""ة‬
‫تنقل لدى األوروبيين كاف مفخمة‪.!!! ‬‬

‫و ليس بعيدا عن كل هذا م"ا ك"ان م"ع الش"عراء الفرنس"يين املش"تغلين على م"ا يس"مى القص"ائد الص"وتية‪،‬‬
‫و ال""تي تفق""د الكلم""ات فيه""ا موقع""ا ليص""ير ال""بيت مص""اوتات قاعدي""ة منظوم""ة الس""تثارة انطباع""ات هي في‬
‫غ""نى عن الكلم""ة‪ ،‬و من أهم املش""تغلين عليه""ا في فرنس""ا‪ :‬روني ش""ار ‪ R. Char‬و ه""نري ميش""و ‪ H. MICHAUX‬و‬
‫خاصة ميشال ليريس )‪.M. LEIRIS (9/67-81‬‬

‫‪146‬‬
‫من جه ""ة رابع ""ة يش ""ير الناق ""د ريتش ""اردز إلى ك ""ون املس ""توى الص ""وتي ه ""و املج ""ال الفاص ""ل في‬ ‫‪‬‬
‫مس " ""ألة املفاض " ""لة بين الش " ""عراء؛ ذل " ""ك أن األدب توليف " ""ة ص " ""وتية و لفظي " ""ة ثم داللي " ""ة ‪ ،‬و أن األدب " ""اء‬
‫يش ""تركون في املعجم و في ال ""رؤى‪ -‬إلى ح ""د م ""ا‪ -‬ثم يش ""تركون في ال ""زاد البالغي‪ ،‬و يبقى النس ""يج الص ""وتي‬
‫لش""اعر م""ا (و الن""اتج عن مجم""وع االختي""ارات املعجمي""ة و التركيب""ات النحوي""ة ال""تي يفرض""ها على النص‪،‬‬
‫و م""ا ينتج عنه""ا مجتمع""ة من هندس""ة ص""وتية متم""يزة)‪ ،‬ذل""ك ه""و بال""ذات م""ا يجع""ل ش""اعرا حس""نا و آخ""ر‬
‫جيدا و الثالث عبقري زمانه(‪.)61-10/60‬‬
‫و ه""ذا ه""و نفس""ه م""ا دف""ع ص""احبي كت""اب "نظري""ة األدب" إلى اس""تخالص دقي""ق لطي""ف مف""اده أن الش""بكة‬
‫الص ""وتية للنص األدبي‪ ،‬و الت ""أثير الجم ""الي" الن ""اتج عنه ""ا ه ""و بالت ""دقيق م ""ا يجع ""ل النص األدبي عظيم ""ا في‬
‫إليها‪)208-10/205( .‬‬ ‫لغته و ناشزا أو باهتا في لغة أخرى يترجم‬

‫و نختم ه ""ذه املالحظ ""ات ب ""القراءة الذكي ""ة ال ""تي ج ""اء به ""ا املت ""أخرون" من النق ""اد الع ""رب الق ""دامى ملا أثبت ""ه‬ ‫‪‬‬
‫املتق""دمون ح""ول النش""از الح""ادث من غ""ريب اللف""ظ‪ ،‬و ح""ول مص""طلح الغ""ريب أص""ال‪...‬إذ يب""دو أن الغ""ريب‬
‫انب" ""نى على رك" ""يزتين إح" ""داهما قل" ""ة ت" ""داول اللفظ" ""ة في ال" ""دوائر اللغوي" ""ة الرس" ""مية‪ ،‬والثاني" ""ة هي الش" ""عور‬
‫بالغراب""ة أو بالنش""از أو ب""الحرج من الجمل""ة املوس""يقية ال""تي تش""كلها الكلم""ة ملجم""وع أص""واتها املؤتلف""ة‪...‬و‬
‫لع" ""دم الغراب" ""ة ش" ""روط( هي ش" ""رط الفص" ""احة" طبع" ""ا) لخص" ""ها ابن س" ""نان ب" ""أن يك" ""ون ت" ""أليف اللفظ" ""ة من‬
‫ح" ""روف متباع" ""دة املخ" ""ارج" ‪ ،‬و أن يك" ""ون لتأليفه" ""ا في الس" ""مع حس" ""ن و مزي" ""ة‪ ،‬و أن تك" ""ون غ" ""ير مت" ""وعرة‬
‫وحشية‪ ،‬وأن تكون جارية على العرف العربي الصحيح‪)10/67( .‬‬

‫ه ""ذه القاع ""دة تط ""ور النظ ""ر إليه ""ا بفض ""ل ف ""رض األص ""وات ملعانيه ""ا‪ ،‬فق ""د الح ""ظ النق ""اد لج ""وء الش ""عراء‬
‫املنف" ر عن قص" ""د‪ ،‬ثم‬ ‫األك" ""ثر اقت" ""دارا و األعظم حساس" ""ية ص" ""وتية إلى ألف" ""اظ نواش" ""ز ‪ ،‬و إلى الغ" ""ريب ّ "‬
‫و خادم""ا – رغم‬ ‫تس""اءلوا فوج""دوا األث""ر ال""داللي" لت""ك األص""وات متماش""يا م""ع الس""ياق الع""ام للنص‬
‫الغراب""ة و النف""ور و النش""وز‪ -‬ملع""نى القص""يدة فاس""تحدثوا تقس""يمات أق""ل تحج""را من تقس""يمات األوائ""ل‪.‬‬
‫و يلخص ه ""ذه اآلراء ابن األث ""ير بك ""ون الوحش ي ينقس ""م إلى قس ""مين‪" :‬أح ""دهما غ ""ريب حس ""ن ‪ ،‬و اآلخ ""ر‬
‫غريب قبيح و ذلك أنه منسوب إلى اس"م ال"وحش ال"ذي يس"كن القف"ار‪ ،‬و ليس ب"أنيس و ك"ذلك األلف"اظ‬
‫ال""تي لم تكن مأنوس""ة االس""تعمال‪ "،‬وليس ش""رط الوحشي أن يك""ون مس" ً‬
‫"تقبحا‪ ،‬ب""ل يك""ون ن" ً‬
‫"افرا ال ي""ألف‬
‫اإلنس‪ ،‬فت""ارة حس""نا‪ ،‬وت""ارة يك""ون ً"‬
‫قبيح ا‪ ،‬وعلى ه""ذا ف""إن أح""د أقس""ام الوحشي‪ .‬وه""و الغ""ريب الحس""ن‪-‬‬
‫يختلف باختالف النسب و اإلضافات ‪ ...‬ويقول‪ ":‬فال تظنن أن الوحشي من األلف"اظ م"ا يكره"ه س"معك‬
‫ّ‬ ‫و ثقل عليك النطق به‪ ،‬و إنما هو الغريب الذي ّ‬
‫يقل استعماله فتارة يخ""ف على س""معك و ال تج""د في""ه‬
‫الكراهة"‪)10/68(.‬‬ ‫كراهة‪ "،‬وتارة يثقل سمعك وتجد فيه‬

‫‪147‬‬
‫ه ""ذه املالحظ ""ات بالغ""ة األهمي ""ة في التع""رف على عم ""ق التجرب ""ة اإلنس""انية (الش""عورية والداللي""ة ً "‬
‫طبع"ا)‬
‫التي يخوض"ها اإلنس"ان م"ع الص"وت املف"رد البس"يط‪ ،‬وال"تي تض"اهي مض"اهاة تام"ة تجارب"ه م"ع اللغ"ة‪ ،‬وم"ع‬
‫املعنى املركب‪ ،‬و حتى مع املعنى املتعالي‪ ،‬كما هي الحال مع املعاني امليتافيزيقية‪".‬‬

‫ن""أتي اآلن إلى الج""زء األخ""ير من دراس""تنا لنع""اين قص""يدتين اخترناهم"ا" لقراب""ة نفس""ية و ت""ذوق‬ ‫‪‬‬
‫اعتباطي‪ ...‬الشيء الذي من ش"أنه ت"دعيم النت"ائج ال"تي نزعمه"ا‪...‬والقص"يدتان" من عي"ون الش"عر الع"ربي‬
‫في الف""ترة العباس""ية وك""ل املت""أدبين يعرفونهم""ا جي""دا‪ ،‬وله""ذا لن نثبتهم""ا على متن ه""ذه الدراس""ة‪ ...‬األولى‬
‫بائية بشار التي مطلعها‪:‬‬
‫هل من رسول مخبر عني جميع العرب‬

‫وهي الهجائي""ة الك"برى ال""تي أثبت فيه""ا ش""عوبيته‪ ،‬وال""تي نعت الع""رب فيه""ا بك""ل النع""وت القبيح""ة املمكن""ة‪...‬‬
‫فس ""ياقها ص ""اخب غاض ""ب وربم ""ا ح ""زين إذا م ""ا نظرن ""ا إلى وض ""عية أبن ""اء الش ""عوب في املرحل ""ة ال ""تي نحن‬
‫بصددها‪...‬والبنية" الصوتية التي نستنطقها تخبر باألشياء نفسها‪:‬‬

‫‪ -‬الح""رف الغ""الب ه""و الب""اء وه""و ص""اخب مجه""ور خ""ارجي" (ص""ادر من الش""فتين)‪ ...‬و في غلبت""ه رف""ع للهج""ة‬
‫وإعالء للصوت ما بعده إعالء‪ ...‬إنه صوت يختزل الغضب ويقول الثورة الصامتة التي اعتملت مطوال‬
‫في صدور بني العباس في ظ"ل حكم ب"ني أمي"ة ذوي النزع"ة العروبي"ة‪ ...‬وتق"ول ك"ذلك الث"ورة األخط"ر منه"ا‬
‫التي هي ث"ورة املوالي ال"ذين أس"يئت مع"املتهم م"رارا وبك"ل الط"رق املمكن"ة‪ ...‬إال أن الغض"ب الك"امن ال"ذي‬
‫ال مه ""رب ل ""ه من التح ""ول إلى ش يء من الح ""زن و من نغم ""ات األس ى‪ ،‬ال يج ""د في م ""ا ذكرن ""اه من املواق ""ع‬
‫الص" ""وتية م" ""ا يترجم" ""ه‪ ،‬فيلج" ""أ إلى الكس" ""رة األس" ""يانة الحزين" ""ة ال" ""تي تغل" ""ق ب" ""اب القافي" "ة" باالس" ""تغراق في‬
‫الكسرة ال"تي هي اس"تغراق في كس"ر الص"وت و خفض"ه (وله"ذا س"ميت كس"رة)‪ ...‬الل"ذين هم"ا اس"تغراقان‬
‫في انكسار اإليقاع النفسي‪ :‬وهذا بالضبط ما تحاول الدراسة قوله‪.‬‬

‫‪ -‬تتكئ القافي"ة" على تت""الي ثالث حرك""ات‪ ،‬والدارس""ون ي""رون في ه""ذا النم""ط من التش""كيل الص""وتي تعب""يرا‬
‫عن الحركي""ة والنش""اط والحيوي""ة‪ .‬والس""ياق الع""ام للقص""يدة ي""برر ه""ذا االختي""ار" التش""كيلي؛ فبش""ار في‬
‫موق ""ف محاجج ""ة و مطارح ""ة قولي ""ة؛ ب ""ل إن جس ""د نص ""ه ه ""و الكم املث ""ير من التفاص ""يل الحق ""يرة ال ""تي‬
‫ارتبطت بحي""اة الع""رب في الجاهلي""ة‪ "،‬وال""تي جعله""ا تق""ف قبال""ة نظيراته""ا ل""دى مل""وك الف""رس‪ ...‬وه""ذا كل""ه‬
‫سياق حيوي إلى درجة كبيرة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫‪ -‬الحظن" ""ا ك" ""ذلك ظ" ""اهرة ص" ""وتية ج" ""ديرة ب" ""التوقف واملس" ""اءلة؛ القافي" ""ة – ض" ""د ك" ""ل التوقع" ""ات‪ -‬ب" ""اء‬
‫مكس""ورة؛ أي ح ""رف مجه""ور ق ""وي ص ""اخب ي ""ؤدى م ""ع خفض الص""وت وكس ""ره‪ ...‬وفي ه ""ذا على م ""ا نظن‬
‫قص ""د من الش ""اعر للحص ""ول على ش ""عور باالختن ""اق‪ ،‬ف ""الجهر املحاص ""ر بخفض الص ""وت ينتج ش ""عورا‬
‫قويا بالضغط الداخلي‪ ،‬بالثورة الصامتة‪ ،‬باالنفجارات املكبوتة التي قد تعطي تحفة شعرية نادرة‪...‬‬

‫أم""ا القص""يدة الثاني""ة ال""تي أردن""ا الوق""وف عن""دها فهي رائي""ة أبي تم""ام الش""هيرة في وص""ف الربي""ع‪ ،‬وال""تي‬ ‫‪‬‬
‫هي قص"يدة غريب"ة النظم ألن باعثه"ا األساسي ه"و م"دح الخليف"ة‪ ،‬في حين يس""يطر عليه""ا وص""ف الربي""ع‬
‫وآثاره بلغة جميلة وصور خالبة يعرفها املتأدبون جميعا؛ وهي التي مطلعها‪:‬‬
‫وغدا الثرى في حليه يتكسر‬ ‫رقت حواشي الدهر فهي تمرمر‬

‫وق""د تأملن""ا املوقعين الص""وتيين الرئيس""يين‪ :‬القافي""ة وال""روي‪ ،‬فوج""دنا األداء الص""وتي يك""اد يك""ون مغني""ا‬
‫عن كل إطالة حديث‪ .‬وسنجمل كالمنا مثلما فعلنا مع النص السابق في ثالث مالحظات أساسية‪:‬‬

‫‪ -‬إن قافي""ة بح""ر الكام""ل على ص""لة ببحره""ا أك""ثر مم""ا هي علي""ه الح""ال م""ع بح""ور أخ""رى‪ ،‬أين نج""د ك""ثرة في‬
‫الزحاف""ات والعل""ل تجع""ل القافي""ة مس""تقلة في تش""كيلها الص""وتي عن هندس""ة ب""اقي األبي""ات‪...‬في" الكام""ل نج""د‬
‫القافي "ة" لص ""يقة بب ""اقي البح ""ر؛ ألن الوت ""د املجم ""وع (علن) وال ""ذي تتكئ علي ""ه القافي "ة" من ش ""أنه أن يتك ""رر‬
‫س " " " " " ""ت م " " " " " ""رات كامل " " " " " ""ة(بع " " " " " ""دد التفعيالت) ؛ وه " " " " " ""ذا التك " " " " " ""رار من ش " " " " " ""أنه خل " " " " " ""ق إيق " " " " " ""اع منتظم‬
‫( متف""ا‪+‬علن‪+‬متف""ا‪+‬علن‪ )...‬انتظام""ا ال ينكس""ر؛ وذل""ك ألن الكام""ل بح""ر نقي في""ه تفعيل""ة واح""دة متك""ررة‪،‬‬
‫مختلطا‪)11/52( .‬‬ ‫وليس بحرا‬

‫نحن إذن أمام ظاهرتين لهم"ا داللت"ان‪ :‬األولى هي إش"اعة الطمأنين"ة" داخ"ل النفس ال"تي هي على موع"د م"ع‬
‫إيقاع متكرر رتيب منتظم‪ ،‬وهذا يتماشى مع الصور البديعة ال"تي يص"طنعها أب"و تم""ام للربي"ع‪ ،‬وال"تي هي‬
‫تمهيد لتصوير حال البالد في عه"د الخليف"ة املم"دوح ‪ ،‬واالس"تراتيجية هي املج"اورة والتن"اظر‪ ،‬فالطبيع"ة‬
‫يرعاه ""ا هللا‪ ،‬وهي جميل ""ة كم ""ا ن ""رى بعي ""ني الش ""اعر‪ ،‬والبالد يرعاه "ا" الخليف ""ة‪ ،‬وهي هانئ "ة" مس ""تقرة كم ""ا‬
‫ن " ""رى يعي " ""ني الش " ""اعر‪ ،‬واالن " ""زالق من "ع " ""دل الطبيع " ""ة" إلى "ع " ""دل الخليف " ""ة" يح " ""دث على متن النص‪،‬‬
‫واملوس ""يقى به ""ذا املنط ""ق تش ""يع "ع ""دال لإليق ""اع" يتماش ى م ""ع الرتاب ""ة واالنتظ ""ام والتك ""رار املنس ""جم له ""ذا‬
‫البحر‪.‬‬

‫ه ""ذا من جه ""ة ومن جه ""ة أخ ""رى‪ ،‬فتفعيل ""ة الكام ""ل ترتك ""ز على ك ""ثرة الحرك ""ات وقل ""ة الس ""واكن‪،‬‬
‫املعاني‪)12/394( .‬‬ ‫األمر الذي يترجمه العروضيون بإشاعة الحركة والحيوية في‬

‫‪149‬‬
‫والوظيف ""ة الص ""وتية هن ""ا م ""بررة بك ""ون الحم ""اس والحيوي ""ة يتماش ""يان م ""ع الس ""عادة والفرح ""ة والحب ""ور‬
‫املس""يطرة على القص""يدة‪...‬س""عادة املتلقي هي س""عادة ب""الربيع ومثله""ا الس""عادة بالخليف""ة ودليله""ا س""عادة‬
‫املوس ""يقى‪ ...‬إنه ""ا اس ""تراتيجية ن ""ادرة في الش ""عر الع ""ربي الق ""ديم‪...‬وق ""د يك ""ون ه ""ذا س ""بب ك ""ون النص من‬
‫العيون‪.‬‬

‫س""نالحظ أن دور القافي "ة" في ه""ذه القص""يدة مث""ل دوره "ا" في القص""يدة الس""ابقة؛إنهم "ا" متش""ابهتان في‬ ‫‪-‬‬
‫كونهم ""ا مطلق ""تين (ال ""روي متح ""رك) مج ""ردتين من التأس ""يس وال ""ردف‪،‬موص ""ولتان بح ""رفي اللين(و‪-‬‬
‫ي)‪...‬واألهم كونهم ""ا مش ""بعتين ب ""الحروف املتحرك ""ة؛" وإن ك ""انت قص ""يدة بش ""ار أك ""ثر حركي" "ة" (ثالث ""ة‬
‫أح ""رف متحرك ""ة في مقاب ""ل ح ""رفين ل ""دى أبي تم ""ام)؛ والس ""بب في اعتقادن ""ا ك ""ون األولى أص ""خب من‬
‫الثانية‪...‬‬
‫أم ""ا ال ""روي فه ""و راء مرفوع ""ة‪ ،‬وهي ح ""رف مك ""رر لس ""نا بحاج ""ة إلى الت ""ذكير ب ""دوره ال ""داللي‪"-‬النفس ي من‬ ‫‪-‬‬
‫إشاعة االهتزاز في الفم ثم في النفس وفي املعاني عموما(‪...)13/93‬وهو اهتزاز السعادة؛ هذه األخيرة ال""تي‬
‫ترتب" ""ط في كث" ""ير من اللغ" ""ات ب" ""الراء(ف" ""رح‪-‬حب" ""ور‪-‬راح" ""ة‪"-‬كرك" ""رة‪-‬ت" ""رويح‪-‬رخ" ""اء‪-‬ف" ""ردوس‪-‬انبه" ""ار‪repos- -‬‬
‫‪...bonheur-heureux-richesse-paradis-ivresse-rire-humour-rest-hilario-cheri‬الخ)‬
‫وس""تكون املالحظ "ة" األخ""يرة متعلق""ة بحرك""ة الرف""ع املتماش""ية م""ع حرك "ة" الفم أثن""اء الض""حك واالمتالء‬ ‫‪-‬‬
‫ب""الهواء املنس""رح‪ ،‬وال""تي يقابله""ا ل""دى بش""ار الكس""رة ال""تي قلن""ا إنه""ا تحم""ل تعب""يرا عن أسى ق""ديم ك""امن في‬
‫أنفس الجماهير املناضلة في صفوف بني العباس والذين كانوا مضطهدين أيام األمويين‪.‬‬

‫من خالل ه""ذه املعاين""ة الس""ريعة له""ذه املواق""ع الص""وتية نص""ل دون ارتب""اك إلى ك""ون الص""وت موجه""ا(بكس""ر‬
‫الجيم وفتحه"ا) للمع"نى املس""يطر على البن"اء ال""ذي يهندس"ه الص"وت‪ .‬وك""ون املالحظ"ات ال"تي أوردناه"ا مط""ردة‬
‫ي""بين لن""ا إلى أي""ة درج""ة يلتص""ق الص""وت ب""املعنى‪ ،‬ويعي""دنا من الت""أل األدبي إلى م""ا قلن""اه في املق""دمات اللغوي""ة‬
‫حول الصلة األكيدة الوثقى بين الصوت والداللة‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫‪:‬ائمة املراجع‬

‫‪-1‬أنيس فريحة‪ :‬نظريات في اللغة‪ -‬الكتاب اللبناني‪ -‬بيروت‪1979-‬‬

‫‪ 2-‬ابن جني‪ ،‬أبو الفتح‪ :‬الخصائص‪ -‬دار الكتب العلمية‪ -‬لبنان‪.‬ج‪1‬‬

‫عبد السالم املسدي‪ :‬اللسانيات من خالل النصوص‪ -‬الدار التونسية للنشر‪3- 1984-‬‬

‫عبد السالم املسدي‪:‬التفكير اللساني في الحضارة العربية‪ -‬الدار العربية للكتاب‪ -‬لبنان‪-‬ط‪- 1986 -2‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ -5‬محمد بدري عبد الجليل ‪ :‬براعة االستهالل في فواتح القصائد و السور‪ -‬دار املعرفة الجامعية‪ -‬مصر‪-2005 -‬‬
‫إبراهيم عبد الرحمن‪ :‬قضايا" الشعر في النقد العربي‪ -‬مكتبة الشباب‪ -‬مصر‪ -‬ط‪6- 1999 -3‬‬

‫‪-‬محمد صالح الضالع‪ :‬األسلوبية الصوتية‪ -‬دار غريب‪ -‬مصر‪7- 2002 -‬‬

‫‪ -‬كلود ليفي شتراوس‪ :‬النظر‪ ،‬السمع‪ ،‬القراءة‪ -‬تر‪ :‬خليل أحمد خليل‪ -‬دار الطليعة‪ -‬لبنان‪ -‬ط‪8- 1994 -1‬‬

‫‪-9Claire- Marie Bancquart : La poésie Française d’aujourd’hui – ArmandColin- 1994-‬‬

‫حسني عبد الجليل يوسف ‪ :‬التمثيل الصوتي للمعاني‪ -‬الدار الثقافية للنشر‪ -‬مصر‪ "-‬ط‪10- 1995 -1‬‬

‫مصطفى السعدني‪ :‬البنيات األسلوبية في الشعر العربي الحديث‪-‬منشأة املعارف‪-‬مصر ‪11-‬‬

‫‪-‬موسى األحمدي نويوات‪:‬املتوسط" الكافي في علم العروض والقوافي‪-‬دار الحكمة‪-‬الجزائر‪-‬ط‪12- 1994-4‬‬


‫‪-‬فيصل األحمر‪ :‬السيميائية الشعرية‪-‬منشورات اإلمتاع واملؤانسة‪-‬الجزائر‪13- 2005 -‬‬

‫‪151‬‬
‫أفق الفلسفة‪...‬مرةأخرى‬

‫يوميات فلسفية‬

‫الدراسات الثقافية وثقافة املراجعة‬

‫يسألني صديقي في محاوراتنا املستمرة‪:‬ملاذا تنتشر في كل مكان من العالم الدراسات الثقافية فيما‬
‫نتحدث نحن فقط عن شيء هجين اسمه النقد الثقافي؟‬
‫الغالب يا صديقي أن الدراسات الثقافية نظريات هدفها الحراك االجتماعي وبلداننا ال تريد حراكا‬
‫اجتماعيا‪...‬نظريات عملت بعمق وثورية على تمحيص ونقد املركزية الثقافية االستعمارية وخافها‬
‫التاريخ الحافل "املش كوك في حقيقيت ه وفي مسار تحول ه إلى حقيقة تاريخية إنس انية" وإلى الوجود‬
‫الذي صار قويا والذي مارسه حضور أبناء ثقافات األقليات اإلثنية والعرقية وأبناء املستعمرات‬
‫املتحررة حديثا وكل هذه البلدان اإلفريقية والعربية واإلسالمية وامللونة‪ ،‬أبناء هاجروا واستقروا‬
‫في البلدان األوروبية و الغربية عموما‪ ،‬وكل ذلك اصبح اليوم يطرح سؤاال مزدوجا‪ :‬ملاذا لم ينجح‬
‫هؤالء في بلدانهم؟ وملاذا ينجحون إلى هذه الدرجة في البلدان األجنبية؟‪...‬واإلجابة على هذا النوع من‬
‫األسئلة له تبعات سياسية ال تطيقها بلداننا‪...‬لهذا يا صديقي يفضل الحاكم العربي وكالبه الحارسة‬
‫في مختل ف املؤسس ات العلمي ة الخ وض في النص وص القديم ة من أج ل تكبي ل الخطاب ات بعزله ا في‬

‫‪152‬‬
‫إط ار يك اد ال يع ني ح تى املش تغلين علي ه‪...‬له ذا ي ا ص ديقي ينتش ر النق د الثق افي ال ذي ه و نم ط من‬
‫الخطاب النقدي بال تبعات سياسية‪.‬‬
‫يس ألني ص ديقي ك ذلك ‪ :‬م ا التح دي املع رفي ال ذي يق ف خل ف ه ذه املقارب ة ال تي تص فها بالثوري ة‬
‫والعميقة؟‬
‫والغ الب عن دي ه و أن اإلنس ان يج د نفس ه في خض م الدراس ات الثقاف ة يتأم ل نفس ه من خالل‬
‫س ؤالين مرك زيين‪ :‬أح دهما ه و‪ :‬م ا ه و املس ار الثق افي و العقلي والسياس ي ال ذي ق اد حي اتي إلى أن‬
‫تكون على الشكل الذي هي عليه؟ والسؤال الثاني هو‪ :‬أال أكون أنا من خالل عمل اللغة على برمجة‬
‫افك اري موض وعا للثقاف ة؟ ف أكون أداة في ي د ال أعرفه ا لتحقي ق إرادة ثقافي ة (اي سياس ية) ال‬
‫أعرفها؟‬
‫من ه ذا املنطل ق يص بح دور الدراس ات الثقافي ة ه و إع ادة تفكي ك م ا ق د انب نى من األص نام‬
‫الحياتية واالجتماعية بمعزل عن إرادة الفرد البسيط املتناهي في الصغر على املستوى السياسي‪،‬‬
‫واملتن اهي في الخط ر على املس توى الثق افي‪ ،‬واملتم اهي والق در م ع ذل ك على املس تويات كله ا‪ .‬ويق ع‬
‫ه ذا التأم ل بين التفك ير اليس اري ألنطوني و غرامش ي والتفك ير م ا بع د اليس اري مليش ال فوك و؛‬
‫وهما املفكران اللذان فككا جيدا الصلة بين السلطة والخطاب‪ ،‬مع الفرق الكبير الذي يجعل‬
‫األول ي رى في املرء وس يطا لتحقي ق الس لطة فيم ا يجع ل الث اني يع د اإلنس ان أداة تطوعه ا اللغ ة‬
‫كأداة متعالية لتحقيق موضوع السطلة‪.‬‬
‫تتشكل الدراسات الثقافية من ساللسل متوالدة من املباحث التي يبدو أحيانا أنها متنافرة والتي‬
‫يغلب عليها ان تنطلق من نقطتين أوالهما كسر الهيمنة الرسمية للقانون الجمالي على النصوص‬
‫األدبي ة أساس ا‪ ،‬والنص وص الثقافي ة جميعه ا في مطل ق األم ر‪ ،‬وثانيتهم ا – وهي ناتج ة عن األولى‪-‬‬
‫النظر صوب مواقع داللية اخرى ومساحات تجاذب لقوى التدليل التي تنتهي بممارسة صنف‬
‫من الهيمنة على عقولنا من خالل الثوب األبيض الناصع للجماليات النصية املعهودة ‪...‬وينتج عن‬
‫هذه النقطة فيضان النظرة العلمية وفعل التقصي فيما وراء النصوص األدبية و الثقافية‪ ،‬ثم‬
‫الخروج إلى الظاهرة الثقافية كنص؛ وهو سلوك علمتنا إياه الثقافة السيميائية منذ منتصف‬
‫الخمسينيات أين كان روالن بارط يقول ‪ -‬تأسيا بأستاذه كلود ليفي شتراوس‪ : -‬إن جسم اإلنسان‬
‫وحاالت ه وممارس اته يمكنه ا أن تع د نصوص ا أك ثر فص احة من النص وص األدبي ة في الدالل ة على‬
‫الج وهر اإلنس اني ال ذي تش تغل علي ه النص وص‪ ...‬افك ار سيس ترجعها االش تغال في الدراس ات‬
‫الثقافية من خالل التلقيح الكبير لعلم االجتماع ولألنثروبولوجيا لهذه االتجاهات التي تنطلق من‬
‫نسقية القراءة والتحليل صوب سياقيته‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫انتهت الدراس ات الثقافي ة إلى عب ور أرض البحث في االنثروبولوجي ا الثقافي ة واملب احث اإلثني ة‬
‫وعلم االجتماع في تقاطع مستمر يشتعل حينا ويخبو حينا آخر مع الفلسفة ( أم العلوم حديثا‬
‫أكثر مما اعتقدناها قديما)‪ ،‬وانتهى بها املسار إلى تشكيل رؤية متفردة صوب موضوعاتها األثيرة‬
‫ترتك ز على تقص ي مواق ع تجلي ال ديناميكيات السياس ية للثقاف ة املعاص رة في إط ار أص ولها‬
‫التاريخية‪ ،‬مالمحها البارزة وأوجه الصراع التي تعتمل في إطارها‪...‬نظرة تدور في فلك الخلفية‬
‫املتس ائلة ح ول نقط ة بحث مرك زة ج دا هي النظ ر في كيفي ة ارتب اط ممارس ات ثقافي ة معين ة‬
‫بش بكات وأنظم ة خفي ة من الق وى املرتبط ة او الفاعل ة في الظ واهر االجتماعي ة ال تي هي‬
‫اإلي ديولوجيا‪ ،‬التش كيالت الطبقي ة‪ ،‬االختالف ات العرقي ة‪ ،‬املس تويات الثقافي ة للف راد‪ ،‬الت اريخ‬
‫املشترك للجماعات‪ ،‬الصول القبيلية املؤثرة‪ ،‬التطلعات الجنسية‪ ،‬الجنوسة‪ ،‬الحرمان الطبقي‪،‬‬
‫الش روخ العقيدي ة‪ ،‬الص راعات بين األجي ال املتطاحن ة‪..،‬الخ‪...‬م ع حض ور اله اجس اللغ وي في‬
‫خلفية البحث من منطلق التعريف الشهير العائد إلى آرنولد توينبي والقائل بأن " الثقافة بنيات‬
‫عملية و نماذج نمطية فكرية واقعية و خيالية تظهر في اللغة املثقفة و اللغة الرمزية و تظهر في‬
‫سلوك و في فكر الفرد و الجماعية متراكمة عبر الزمن "‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫في محبة الفلسفة‬

‫غالبا ما أسأل‪ :‬بماذا علينا أن نبدأ وسط هذا الخراب؟‬

‫إجابتي نفسها دائما‪ :‬التركيز على الفلسفة‪.‬‬

‫أعيش في فض ""ائين اث ""نين‪ :‬الجامع ""ة والوس ""ط األدبي‪ .‬في الجامع ""ة أج ""د ك ""يرا من الطلب ""ة ي ""رون الفلس ""فة‬
‫كنوع من الهرطقة أو من تضييع الوقت فيما ال نفع له‪ ،‬وفي الوسط األدبي يرونها شيئا عاليا بعيدا ال‬
‫يبلغ ""ه اال قل ""ة من الن ""اس؛و هنال ""ك من ي ""رى – باملقاب ""ل‪ -‬ب ""أن الفلس ""فة تفس ""د بداه ""ة الكتاب ""ة وعالقتن ""ا‬
‫املباشرة بالعالم؛ عالقة يفترض ان تنتج أدبا جيدا ( شعرا في اغلب الحيان)‪.‬‬

‫والواق ""ع ان الكت ""اب عن ""دنا يع ""انون من مش ""كلة كب ""يرة هي غي ""اب فلس ""فة في الحي ""اة يملكونه ""ا وتض ""بط‬
‫رؤيتهم ص" ""وب األش" ""ياء‪ ،‬فكث" ""يرا م" ""ا يب" ""دو ل" ""ك أن الك" ""اتب ال يس" ""توعب من الحي" ""اة ش" ""يئا خاص" ""ا يف" ""وق‬
‫فيه‪/‬من خالله استيعاب أبيه أو جده أو أمه‪...‬‬

‫وه"ذا الط"ابع "الس"اذج" يدخل"ه كتابن"ا من ب"اب آخ"ر ع"دا الب"اب ال"ذي يدخل"ه غيرن"ا ممن في أزم"ان أخ"رى‬
‫وأم"اكن مختلف"ة ‪ ،‬فهم ي"دخلون ب""اب البداه""ة والس"ذاجة والبس""اطة والعذري""ة من أج""ل محاول"ة تجدي"د‬
‫الصلة باألشياء‪ ...‬والدخول م"ع الع"الم في ح"وار عمي"ق‪...‬وليس"ت حالن"ا هي ح"ال البداه"ة ال"تي هي فلس"فة‬
‫تس"مح لن"ا بتعمي"ق ق"درتنا" على التأم"ل في الع"الم ‪ ،‬ب"ل ان حالن"ا هي س"ذاجة تشي بأنن"ا ع"اجزون عن فهم‬
‫محيطنا‪...‬‬

‫واذا ع ""دنا الى الجامع ""ة س ""نجد عق ""وال وذواق ""ا متحج ""رة‪ ،‬م ""ع نظ ""رة س ""لبية ص ""وب الفلس ""فة منطلقه ""ا‬
‫األس""اس ه""و م""ا أح""ذر من""ه دائم""ا‪ :‬املجتم""ع ذو الط""ابع اإلس""المي ( وحاش""ا اإلس""الم حاش""اه حاش""اه) ال""ذي‬
‫يحتكر فيه التفكير من قبل قلة قليلة تفكر في مكان الجميع‪.‬‬

‫شخص""يا ت""ربيت على الفلس""فة‪ ،‬ولي معه""ا ص""فحات كث""يرة من كت""اب حي""اتي‪ ".‬وكث""يرا من ه""ذه الص""فحات‬
‫مكتوب عليه‪:‬نيتشه‪.‬‬

‫فريديريك نيتشه العظيم‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫أك""ثر شيء راق""ني في فلس""فة نيتش""ه التع""دد والخ""روج عن النس""ق والفوضى الخالق""ة للكتاب""ة وص""عوبة‬
‫ال ""دخول في خان ""ة واح ""دة فق ""ط‪ .‬ويظه ""ر لن ""ا ه ""ذا جي ""دا من خالل الئح ""ة املت ""أثرين ب ""ه‪ ،‬فه ""و فه ""و يس ""م‬
‫بميسمه فالسفة متنافرين فكرا وسلوكا واتجاها سياسيا مث"ل برغس"ون أوال‪ ،‬ثم ميش""ال فوك""و‪ ،‬ج""ان‬
‫فرانس""وا ليوط""ار‪ ،‬ج""اك ديري""دا و جي""ل دول""وز‪ ،‬و إذا ك""ان ه""ؤالء األخ""يرون منتمين إلى جي""ل واح""د ف""إن‬
‫بينهم تباين ""ا كب ""يرا يجع ""ل ليوط ""ار مناض ""ال يس ""اريا ويجع ""ل ميش ""ال فوك ""و معارضـا شرسـا لك ""ل أن ""واع‬
‫الخضوع للهياكـل واملؤسسـات االجتماعيـة والسياسيـة‪.‬‬

‫أحببت في نيتش ""ه فك ""رة قت ""ل األب؛ أو مرجع ""ة األش ""كال القائم ""ة للس ""لطة هم ""ا ك ""ان نوعه ""ا‪ ،‬يق ""ول‬
‫م""ادان س""اروب في ه""ذا الس""ياق‪ »:‬لق""د رف""ع نيتش""ه ص""وته ض""د عب""ارة الدول""ة والليبرالي""ة السياس""ية ألن""ه‬
‫ض ""د سياس ي في العم ""ق وك ""ان يك ""ره فك ""رة االنتم ""اء إلى أي "ح ""زب" مهم ""ا ك ""ان‪ ،‬كم ""ا أن ""ه ع ""ارض فك ""رة‬
‫الدول ""ة ألنه ""ا تمث ""ل في نظ ""ره ق ""وة تخي ""ف الن ""اس وتجعلهم يطيع ""ون ويتفق ""ون و يتش ""ابهون (‪ )...‬ويتمث ""ل‬
‫العنصر األساسي في فكر نيتشه وحياته في "الفرد ضد سياسي الذي ينشد الكمـال الذاتي"«‬

‫ت ""ربيت ش ""عريا في املدرس ""ة الس ""يريالية‪ ،‬وهن ""اك ايض ""ا ك ""انت ص ""ورة نيتش ""ه على الج ""دار‪ ،‬فك ""ل مطل ""ع‬
‫حصيف على نصوص السيرياليين يق"رب إلى "أن"دري بريت"ون" أو "ب"ول إيل"وار"" أو فيليب س"وبو" كالم"ا‬
‫مث ""ل ه ""ذا الكالم ال ""ذي ك ""ان يق ""ال في ح ""ق نيتش ""ه‪» :‬إن انس ""جام و تماس ""ك نظ ""ام معين ال يش ""كل ض ""مانا‬
‫للحقيق ""ة في ""ه‪ ،‬لق ""د اعتم ""د (نيتش ""ه) في هجوم ""ه على األنظم ""ة والنظامي ""ة على رفض الالعقالني ""ة ال ""تي‬
‫تكمن في ع""دم مناقش""ة األنظم""ة للمس""لمات‪ ،‬ففي نظ""ره ليس العلم نظام""ا مغلق""ا ال ذاتي""ا ب""ل ه""و بحث‬
‫متحمس عن املعرفة«‪.‬‬
‫ُ ّ‬
‫تعلمن ""ا الفلس ""فة التفك""ير وكيفي ""ة التفك ""ير‪ ،‬وع ""دم التهيب من التفك""ير وتعلمن ""ا ش ""يئا أهم من ك ""ل ذل ""ك‪:‬‬
‫ضرورة مراجعة قناعاتنا السابقة‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫الوجود والعدم‪ ،‬مسألة سياسية ال فلسفية‬

‫صديقي أستاذ الفلسفة الذي يهتم بالشأن السياسي بشكل ينسيك دائما بأنه استاذ فلسفة‪ ،‬يجعلك باستمرار‬
‫تتذكر بأنه أستاذ للفلسفة حينما يستدرجك لكي تمارسا فعل املشي على طريقة الفالسفة القدامى الذين لم يكن‬
‫يهمهم الشأن السياسي ألن السياسة كانت في عرف ذلك الزمان من شأن العامة ومن يفوقون العامة بقليل‪ ،‬وال‬
‫صلة للطبقة املتميزة بالفلسفة عدا كون بعض الساسة قديما خطباء أفذاذا‪ ،‬فالخطيب هو النخبوي الوحيد من‬
‫بين الساسة الذي يليق الحديث عنه وسط الفالسفة‪ ،‬فالخطيب سياسي قادر على التفلسف؛ من منطلق كون‬
‫الفلسفة في العرف العام كالما يدور حول نفسه‪ ،‬وكون الفلسفة في العرف الحالي خطابات نشكلها حول‬
‫موضوعات معينة ال دور لها سوى الداللة على مرحلتنا‪ ،‬وتحديد كون مرحلتنا هي التي أنتجت الخطابات" التي‬
‫نعرفها‪ ،‬فكل حقيقة ال تعدو كونها طريقتنا "املعينة" للحديث حول شيء بعينه‪.‬‬

‫وأنتما تمارسان رياضة املشي متراوحين بين إحداثية فهم الرياضة على أنها تدريب الجسم من منطلق القاعدة‬
‫الفلسفية (العقل السليم في الجسم السليم) وبين إحداثية عد العربية للرياضة نمطا من الحساب‪ ،‬الرياضة التي‬
‫هي الرياضيات‪...‬يحدث" أن يستدرجك الصديق الفيلسوف صوب مجلس للساسة القدامى الذين يصبغون شنبهم‬
‫مع كل حملة انتخابات لكي يظهر صغر سنهم واستعدادهم املنطقي للعمل" ولتقديم النفس والنفيس ما دامت‬
‫الصحة جيدة؛ ولنتذكر دائما بأن العقل السليم ال مهرب له من الجسم السليم‪,.‬‬

‫يحدث كثيرا ان يفضي املشي الجميل على وقفة هامة في السير واملسيرة واملسار معا؛ وقفة تساير الفترات‬
‫االنتخابية أين يتخلى صديقي الفيلسوف عن حديث الجابري وابن سينا وشوبنهاور الذي هو مغرم به و ابن سينا‬
‫الذي يحفظ كثيرا من نصوصه ويعده ظاهرة متفردة في الزمان واملكان‪ ،‬صديقي هذا الذي جمعته مجالس كثيرة‬
‫مع طه عبد الرحمن تجده صدفة يتحول الى جندي منضبط تحضيرا الستحقاقات انتخابية معينة‪ ،‬وتجده يمطط‬
‫مدائح جبهة التحرير ومستحثات سياسية اخرى من حساسيات سياسية ظرفية أخرى بشكل يضحي تماما بالنزعة‬
‫النقدية التي زرعها فيه فولتير الذي يتلذذ بذكر اسمه تلذذا شبيها بالتلذذ الجنسي‪" :‬فولتييييييير ‪...‬يا دين‬
‫الزحححح"‪..‬‬

‫تستدرجه الى حديث حميمي يكرهه متسائال‪ :‬أال تعتقد يا شيخ بأن هنالك إسفافا معينا عند جماعتك؟ أال ترى بأن‬
‫استاذا جامعيا مشارفا على التقاعد (أو ربما التقاعس ) مجبر بشكل معين على إدانة املهزلة السياسية في بالدنا على‬
‫األقل بشيء من التخلي (وهو فعل بسيك افضل من التعامل بلسانه وبقلبه؛ وذلك في البلدان" املتقدمة هو أقوى‬
‫اإليمان‪ :‬اإلدانة والفضح وأخذ موقف واضح يتحول الى رسالة تبقى لألجيال املستقبلية)؟‬

‫ساعتها فقط يظهر الوجه الذي يفسر خيبتنا الوطنية غير الديمقراطية والتي تنفجر في وجه الجبهة الشعبية بسبب‬
‫تقاعس النخب‪...‬يقول صديقي بصوت ال يظهر كثيرا‪ :‬دعك من املثاليات يا رجل‪...‬انت مثقف وتعرف من اين تؤكل‬

‫‪157‬‬
‫الكتف‪...‬في نهاية األمر كل واحد يحتال لكي يأخذ حصته من البالد بما يملكه من حيل‪...‬انا أستاذ فلسفة استطيع‬
‫فقط أن أتفلسف‪...‬‬

‫ساعتها فقط تفهم جيدا سبب وجود كثير من الفلسفة ومن الحداثة ومن التفكير التراثي في بالدنا دون ان نجد‬
‫أثرا" ال لتفلسف وال لحداثة وال ألصالة وال تأصيل‪...‬‬

‫من الصيغ التي يرددها صديقي دائما نقال عن ميالد الفلسفة اإلسالمية‪ :‬تاييس األيسات‪ ...‬ويتاسى على اننا لم ننجح‬
‫في غرز صيغة " ايس" للحديث" عن تحقيق الوجود لغويا‪ ،‬وإيجاد صيغة لغوية للوجود بدال من وجود الليسات‬
‫وثقافة "الليس"التي تدل فقط على الن النخب املحلية ‪ -‬يؤمن بغلبة ليس علىى األداة اللغوية املتروكة في ثقافتنا‬
‫"ايس"‪...‬وذلك جوهر املسألة‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الخيال العلمي‪...‬طريقة في التفكير‬

‫يروقني النظر متعدد األبع"اد ص"وب الخي"ال العلمي ال"ذي يحمل"ه األم"يركي له"ذا الن"وع‪ .‬يحض"رني ح"وار ألح"د أهم‬
‫الناش " " ""رين املختص " " ""ين في ه " " ""ذا املج " " ""ال؛ اقص " " ""د الك " " ""اتب" والناش " " ""ر "ل " " ""و آن " " ""درز" ال " " ""ذي يق " " ""ول ‪ :‬من األس " " ""هل دوم " " ""ا‬
‫تعري""ف‪ ‬الخي""ال‪ ‬العلمي‪ ‬بمحت""واه أك""ثر من تعريف""ه بش""كله‪ .‬وأعتق""د أن التعريف""ات" تحت""اج إلى أن تك""ون وص""فية وليس""ت‬
‫إلزامي""ة‪ ،‬أي أن تتح""دث عم""ا يح""دث ب""األحرى أك""ثر من أن تتح""دث عم""ا ال يح""دث‪ .‬إن تع""ريفي املفض""ل ه""و التعري""ف‬
‫ال ""ذي تناول ""ه فري ""دريك بوه ""ل ع ""بر مجموع ""ة من التس ""اؤالت‪« :‬ه ""ل تق ""ول القص ""ة لي ش ""يئا م ""ا يس ""تحق أن أعرف ""ه‪ ،‬لم‬
‫أعرف""ه من قب""ل عن العالق""ة بين اإلنس""ان والتكنولوجي""ا؟ ه""ل تن""ير ل""دي منطق""ة م""ا من العلم كنت أجهله""ا؟" ه""ل تفتح‬
‫أفق " ""ا جدي" ""دا في تفك" ""يري؟‪  ‬ه" ""ل تجعل " ""ني أفك" ""ر بط " ""رق جدي " ""دة من التفك " ""ير لم أكن ألفك" ""ر به " ""ا على اإلطالق من دون‬
‫قراءته ""ا؟ ه ""ل تط ""رح احتم ""االت عن مس ""ارات املس ""تقبل املحتم ""ل الب ""ديل يمكن أن يتخ ""ذها الع ""الم؟" ه ""ل تن ""ير أح ""داث‬
‫الحاض ""ر واتجاهات ""ه ب ""أن تري ""ني إلى أين تق ""ود الغ ""د؟ ه ""ل تمنح ""ني وجه ""ة نظ ""ر طازج ""ة وموض ""وعية عن الع ""الم‪ ،‬وعن‬
‫الثقاف""ة ال""تي أنتمي إليه""ا وللثقاف""ة اإلنس""انية بوج""ه ع""ام؟ أو ربم""ا أن ت""تيح لي أن أرى‪ ،‬من خالل عي""ني‪" ً ،‬‬
‫نوع ا آخ""ر من‬
‫ً‬
‫مختلفا كلية‪ ،‬من كوكب يبعد سنوات ضوئية؟ ه"ذه الص"فات العدي"دة ليس"ت فق"ط من بين تل"ك الص"فات‬ ‫املخلوقات"‬
‫ال ""تي تجع ""ل‪ ‬الخي ""ال‪ ‬العلمي‪ ‬جي ""دا‪ ،‬ب ""ل هي م ""ا تجعل ""ه فري ""دا‪ .‬لن تص ""بح القص ""ة قص ""ة خي ""ال علمي جي ""دة إن لم تق ""در‬
‫تق""ديرا عالي""ا في بعض من تل""ك األوج"ه على األق""ل‪ .‬ففي تق"ديري أن محت"وى القص""ة‪  ‬يظ"ل معي"ارا ص"الحا‪ ،‬تمام""ا مثلم"ا‬
‫نقيم جودة العمل" بناء على األسلوب‪.‬‬

‫تجدي" ""د طريق" ""ة التفك" ""ير‪...‬مراجع" ""ة معارفن" ""ا بأنفس" ""نا وقناعاتن" ""ا املألوف" ""ة ح" ""ول الع" ""الم" واألش" ""ياء‪...‬تجدي" ""د الص" ""لة‬
‫بالت ""اريخ‪...‬النظ ""ر في م ""ا نري ""ده وط ""رق التمكين ل ""ه‪...‬ذل ""ك م ""ا نش ""أ الخي ""ال العلمي في كنف ""ه وذل ""ك م ""ا علي ""ه ان يواص ""ل‬
‫الطريق صوبه‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫املحاورة واملناورة‬
‫ّ‬
‫يمكن ""ك الفيس ""بوك وامليس ""نجر وب ""اقي ب ""رامج التواص ""ل االجتم ""اعي من إحي ""اء فن املح ""اورة …ذل ""ك الفن‬
‫ال ""ذي عم ""ل الق ""رن العش ""رون تأس ""يا ب ""القرن التاس ""ع عش ""ر على قتل ""ه إلى درج ""ة كب ""يرة بإيع ""از من املدح‬
‫املف""رط للفردي""ة والعزل""ة واالنعزالي""ة والفردي""ة…قيم دارت الحداث""ة حوله""ا مؤله""ة ذل""ك الف""رد املتف""رد‬
‫ال" ""ذي يعم" ""ل جاه" ""دا على املحافظ" ""ة على فردانيت" ""ه داخ" ""ل الجماع" ""ة ال" ""تي تش" ""كل دائم" ""ا خط" ""را على قيم‬
‫الف " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " ""رد…‬
‫إن تطور اإلنسان قد سار به طيلة هذين القرنين الشاذين صوب الخروج التام من ال""دائرة الجماعي""ة‬
‫على أس ""اس كونه ""ا تش ""كل خط ""را معين ""ا على س ""المة فك ""ره ونزاه ""ة روح ""ه ال ""تي هي روح متف ""ردة متم ""يزة‬
‫ذات بص ""مة ينبغي ال ""دفاع عنه ""ا‪ .‬وق ""د ص ""ار إنس ""ان عص ""ر الحداث ""ة ص ""امتا منغلق ""ا على نفس ""ه مقدس ""ا‬
‫لحاالت كالقلق والغثيان والخدر الحسي ‪ ،‬ورافضا لالجتم"اع" والح""وار والتواص"ل والنظ"ر إلى ال"ذات في‬
‫مراي ""ا آلخ ""رين‪ .‬أنتج ك ""ل ذل ""ك مق ""والت الغرب ""ة والتغ ""ريب‪ ،‬والوحش ""ة‪ ،‬والجن ""ون‪ ،‬والريبي ""ة املطلق ""ة‪،‬‬
‫وتق" ""ديس الفوض ى والالنس" ""قية والنزع" ""ة الثوري" ""ة املب" ""الغ فيه" ""ا بس" ""بب اعتباره " "ا" أي ش" ""كل من أش" ""كال‬
‫ً‬
‫االنض"باط املجتمعي أو االل"تزام الفكي أو االنص"ياع السياسي قيم"ة س"لبية‪ ،‬وفي ه"ذا تعميم‪ ،‬وخل"ف ك"ل‬
‫تعميم تعتيم كما هو معروف‬

‫– املح""اورة ل""دى فيلس""وف مث""ل س""قراط أو تلمي""ذه الف""ذ أفالط""ون هي كش""كل للممارس""ة فع""ل التفك""ير‪،‬‬
‫بحث إنن"ا الي""وم ال نمل"ك عمال لس""قراط مثال ولكنن"ا – م""ع ذل""ك‪ -‬نس"تخلص آراءه الهام"ة من اآلث"ار ال"تي‬
‫تركه ""ا من خالل ترك ""يزه الكب ""ير على املح ""اورة كطريق ""ة في التفك ""ير‪ ،‬وعلى يقظت ""ه املبك ""رة ال ""تي جعلت ""ه‬
‫شديد الحذر من النزع"ة االكتفائي"ة" القاتل"ة ال"تي يق"ود إليه"ا التمرك"ز ح"ول ال"ذات‪ ،‬والتفك"ير على ص"عيد‬
‫ف""ردي‪ .‬يقودن""ا الح""وار إلى النتيج""ة الهام""ة ال""تي هي أن الحقيق""ة ال تغ""دو تلقين""ا ب""ل نتيج""ة لبحث مش""ترك‬
‫يلعب في املحاور دورا ال ريب فيه‪.‬وليس هذا املس"عى ل""دى س"قراط ببعي""د عن املوق""ف املع""ادي الواض"ح‬
‫ال ""ذي اتخ ""ذه س ""قراط وأتباع ""ه من التع ""الي الفك ""ري للسوفس ""طائيين ال ""ذين نس ""بوا ألنفس ""هم املعرف" "ة"‬
‫وأق"روا اس""تحواذهم الت""ام على الحقيق""ة‪ .‬تهمن"ا الي"وم الع"ودة إلى املب""دإ الس""قراطي ال""ذي ج"ره – وينبغي"‬
‫أن يجرن""ا – ص""وب اإلعالن الش""جاع ‪ ” :‬ك""ل م""ا أعرف""ه ه""و أني ال أع""رف ش""يئا !!” …وهي دع""وة ص""ريحة‬
‫ص""وب ض""رورة ض""خ التفك""ير ب""الحس نق""دي‪ ،‬وه""و ذل""ك املوق""ف العقلي ال""ذي ي""دفع ص""احبه" إلى الح""ذر‬
‫والتريث في الخضوع للمسلمات واملعارف الجاهزة قبل إخضاعها للفحص والتحليل‪.‬‬

‫يحيلن ""ا ه ""ذا بغراب ""ة وبمتع ""ة على إض ""افة فلس ""فية من الق ""رن العش ""رين؛ واملقص ""ود طبع ""ا ه ""و فلس ""فة‬
‫التواص ""ل ل ""دى ي ""ورغن هابرم ""اس؛" الفيلس ""وف األم ""اني الكب ""ير ال ""ذي كس ""ر ال ""بروج العاجي ""ة للفالس ""فة‬
‫داعيا الجميع إلى إخضاع الفكر المتحان الواقع‪ ،‬وكاسرا يقينية امليراث الفلسفي لفائدة مقاربة تذكر‬
‫بج ""ون دي ""وي والبراغماتي ""ة الواقعي" "ة" الحديث ""ة‪ ،‬مقارب ""ة يس ""ميها “التواص ""لية” فحواه ""ا أن ادع ""اء الح ""ق‬

‫‪160‬‬
‫ال""ذي يول""ع ب""ه الفالس""فة في ك""ل ف""ترة ولع""ا مبني""ا على نب""ذ اآلخ""ر وإثب""ات ال""ذات‪ ،‬و ب""دال من ذل""ك ي""دعو‬
‫هابرم" ""اس" إلى قيم التواص" ""ل ال" ""تي ال تق" ""وم على الغلب" ""ة وه" ""اجس الهيمن" ""ة‪ ،‬والع" ""الي املع" ""رفي والرؤي" ""وي‬
‫والبالغي أيض ""ا‪ ،‬من منطل ""ق مالحظت ""ه للس ""حر الكب ""ير ال ""ذي تس ""لطه ص ""ياغات فلس ""فية معين ""ة بس ""بب‬
‫بالغته ""ا العالي ""ة وأس ""اليبها ال ""تي تأخ ""ذ األلب ""اب‪ ،‬في مقاب ""ل ك ""ل ذل ""ك يق ""وم ق ""وام فلس ""فة التواص ""ل على‬
‫املحاجج" ""ة واإلقن" ""اع‪ "،‬ومقارع" ""ة الحجج بعض" ""ها ببعض لكي تك" ""ون الغلب" ""ة للق" ""وى ال لألحلى أو األطلى‪..‬‬
‫وألج" ""ل ذل" ""ك اس" ""تعاد هابرم" ""اس مفهوم" ""ا كانطي" ""ا هام" ""ا ه" ""و “مفه" ""وم الفض" ""اء العم" ""ومي” ال" ""ذي يبش" ""ر‬
‫باملمارسة الديمقراطية‪ ،‬وبنوع من إشاعة تداول املعنى بين الناس‪.‬‬

‫أم""ارس هن""ا ل""ذة أدبي""ة على حواشي ت""أمالتي الفلس""فية ن""اقال عص""ارة جي""دة مم""ا ورد في مح""اوراتي على‬
‫مواقع التواصل االجتماعي مع أصدقائي وشركائي املعرفيين وطلبتي املتميزين وأصدقائي الذين أح"ترم‬
‫رأيهم وأش ""اركهم ل ""ذة املح ""اورة بحث ""ا عن اله ""دف املطل ""ق لإلنس ""ان في الحي ""اة‪ :‬البحث عن الح ""ق وبل ""وع‬
‫الحكمة‪“ ،‬ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” – صدق هللا العظيم‪-‬‬

‫من القطوف الجميلة في علب املحادثة‪:‬‬

‫– ملاذا ال نمل ""ك ناق ""دا عربي ""ا مث ""ل ه ""نري غييوم ""ان ‪H. Guillemin‬الفرنس ي املختص الكب ""ير وال ""ذي ال‬
‫يض""اهى في الق""رن التاس""ع عش""ر يعي""د النظ""ر في أك""بر القناع""ات وأك""ثر األحك""ام رس""وخا فيم""ا ه""و متعل""ق‬
‫بهذا القرن مما هو أحكتم نقدية راسخة ودروس أدبية متكررة في املدارس…هل يمكن""ك أن تتص"ور ي""ا‬
‫أس""تاذ مفك""را في الجزائ""ر ينتق""د األم""ير عب""د الق""ادر ومص""الي" الح""اج وفرح""ات عب""اس وعب""د الحمي""د بن‬
‫ب""اديس‪ ،‬كم""ا يعي""د ق""راءة بك""ر بن حم""اد وابن رش""يق في ض""وء م""ذهب متش""كك في املكاس""ب ال""تي غالب""ا م""ا‬
‫نتعام""ل معه""ا على أس""اس كونه""ا قناع""ات “تاريخي""ة”؟…ه""ل يمكن""ك أن تتص""ور رجال يتعام""ل م""ع الت""اريخ‬
‫بريبية كبيرة ويفضل تأريخا نسبيا بدال من التاريخ اليقيني الذي نعرفه؟‬

‫– البالد أك" ""بر من األعالم… وأك" ""بر بكث" ""ير من تص" ""رفات رج" ""ال السياس" ""ة الح" ""اليين…رؤس" ""اء األح" ""زاب‬
‫املكلفين بمه""ام وس""خة واض""حة…رج""ال األعم""ال ال""ذين ي""دخلون السياس""ة له""دف واح""د فق""ط‪ :‬التكت""ل‬
‫لتش""كيل جماع""ة ض""اغطة ال ه""دف له""ا س""وى املحافظ"ة" على مص""الحها… والكت""اب واملفك""رون والش""عراء‬
‫خاصة غالبا ما كانوا يعملون على جعلنا ننسى الظالم املهيمن ونتذكر الضوء…ذكري"ات الن"ور الجميل"ة‬
‫التي تجعلنا نعي بأن الظالم ليس قدرا بل مرحلة سبقها النور وال بد ان يلح""ق به"ا ن"ور ول"و بع""د حين…‬
‫الحلم إسمنت الواقع…والواقع بال حلم‪/‬أمل‪/‬خيال يصبح كابوسا…‬

‫– الص ""حافة الي ""وم تتعام ""ل م ""ع ك ""ل م ""ا ه ""و ط ""ارئ وس ""ريع وع ""ابر…أهم م ""ا يميزه ""ا ه ""و قص ""دية ع ""دم‬
‫التح""ري فاتح""ة الب""اب لثقاف""ة الك""ذب واإلش""اعة والنق""ل األخ""رق ألخب""ار ال أس""اس له""ا من الص""حة…في‬

‫‪161‬‬
‫الغ ""رب وعن ""د ال ""دول املتقدم ""ة ه ""ذه املمارس ""ات يتم تجريمه ""ا وعن ""دنا في الش ""رق الجريم ""ة الوحي ""دة هي‬
‫الوق" ""وف ض" ""د املص" ""لحة الفردي " ""ة املحص" ""ورة الض" ""يقة للجماع " ""ات الحاكم" ""ة…وح " ""تى الحقيق " ""ة تص " ""بح‬
‫مصادرة في إطار البرنامج السياسي املعقد للمحافظة" على الجه""از الح"اكم؛" نظ"ام الوف"اء األعمى وال"والء‬
‫املشروط…أما الق"انون فيعط"ل ألس"باب أمني"ة على العم"وم من أج"ل أال يتح"ول ذات ي"وم إلى حج"ة ض"د‬
‫الجه""از الح""اكم املهيمن ظلم""ا واس""تبدادا…ويض""اف إلى ه""ذه املعطي""ات الخ""اص بال""دول املتخلف""ة مش""كل‬
‫كب" ""ير ينتج عن غي" ""اب الص" ""حافة املختص" ""ة ذات الج" ""ودة املهني" ""ة العالي" ""ة…وه" ""و غي" ""اب يض" ""من للعم" ""ل‬
‫الص""حفي اك""بر خط""ر ممكن يح""ق به""ا‪ :‬انع""دام املس""افة وه""امش التفك""ير والتأم""ل في الخ""بر وفي الح""وادث‬
‫وأبعادها…‬

‫– من األشياء التي صدمتني بشدة إجاب""ة رئيس الحكوم""ة للص""حافة ال"تي س"اءلته ح"ول م"بررات سياس""ة‬
‫التقش" ""ف‪ ،‬والس" ""ؤال املرك" ""زي‪ :‬للجزائ" ""ر أم" ""وال كث" ""يرة راكمته" ""ا في الس" ""نوات األخ" ""يرة بفض" ""ل االرتف" ""اع‬
‫الف" ""احش ال" ""ذي ط" ""ال أم" ""ده في أس" ""عار الب" ""ترول‪ :‬إلى أين ذهبت ك" ""ل تل" ""ك األم" ""وال؟ كي" ""ف تب" ""ددت به" ""ذه‬
‫الس""رعة؟ لق""د أج""اب س""الل بك""ل بس""اطة وبال أي ت""ردد‪ :‬املال ال""ذي تم تض""ييعه لم يتم نهب""ه من ط""رف‬
‫األج" ""انب؛ ه" ""و م" ""ال الجزائ" ""ريين أخ" ""ذه الجزائري" ""ون…ه" ""ل يعق" ""ل ان يق" ""ال كالم كه" ""ذا في بل" ""د ع" ""انى م" ""ا‬
‫عانين""اه؟ والغ""ريب أن""ه ال أح""د يس""تهجن ش""يئا…عولن""ا على حرك""ة “برك""ات” ال""تي نش""أت من""ذ س""نتين أو‬
‫أكثر ملمارسة ثقافة اإلدانة …ولكننا نرى رجاالتها (وخاصة “نساءاتها” يعيشون عيش األثرياء الذين ال‬
‫يبدون أدنى استعداد للنضال واملواجهة…معارضة حريرية ورفض سياسي مخملي…‬

‫– يروق ""ني التفك ""ير ض ""د التي ""ار‪ ،‬الخ ""روج الت ""ام عن الط ""رق ال ""تي ج ""رت الع ""ادة أن تك ""ون ط ""رق الن ""اس‬
‫املتبع""ة… تص""بح الثقاف""ة بخ""ير حينم""ا ي""أتي رج""ل يح""ول اتج""اه الس""فينة من النقيض إلى النقيض؛ تمام""ا‬
‫كم ""ا فع ""ل رائ ""د الزنوج ""ة إيمي س ""يزير املارتينيكي وه ""و يقلب ق ""راءة الت ""اريخ رأس ""ا على عقب في ‪1950‬‬
‫قائال في أعط"اف “خط"اب ض"د االس"تعمار”‪“ :‬يس"تحق األم"ر إج"راء دراس"ة س"ريرية بالتفص"يل ح"ول نهج‬
‫هتلر والحركة الهتلرية‪ .‬دراسة تكشف لبورجوازي القرن العش"رين‪ ،‬ش""ديد التم""يز واألناق"ة" واملس"يحي‬
‫ّ‬
‫إلى ح""د بعي""د‪" ،‬أن"ه يحم""ل في داخل""ه هتل""ر ال يع""رف نفس""ه‪ّ ،‬أن هتل""ر يس""كنه‪ّ ،‬أن هتل""ر ه""و ش""يطانه (…)‬
‫ّ‬
‫وأن"ه في الحقيق""ة‪ ،‬م""ا لم يغف""ره لهتل""ر‪ ،‬ليس الجريم""ة بح""د ذاته""ا‪ ،‬الجريم""ة ض""د اإلنس""ان ب""ل الجريم""ة‬ ‫"‬
‫طب""ق على أوروب" ""ا أس" ""اليب اس" ""تعمارية لم تكن‬ ‫ض" ""د الرج" ""ل األبيض‪ ،‬وإذالل الرج" ""ل األبيض‪ ،‬وكون" ""ه ّ"‬
‫تطبق إال ضد عرب الجزائر وعمال الهند وزنوج أفريقيا‪”.‬‬ ‫ّ‬

‫– كلم" ""ا ت" ""ابعت األنب" ""اء في الع" ""الم؛ أو م" ""ا يس" ""مى “أنب" ""اء الس" ""اعة” وجعلت أحلله" ""ا مح" ""اوال االنتق" ""ال من‬
‫املظ" ""اهر" ص" ""وب الج" ""واهر‪ ،‬وج" ""دت نفس ي مقتنع" ""ا ب" ""أن مس" ""يرة التط" ""ور البش" ""ري تحت" ""اج إلى قلي" ""ل من‬
‫التخل""ف…وإن ك""انت ال""دعوة إلى التخل""ف عس""يرة بعض الشيء…واألفض""ل ه""و جعله""ا دع""وة لل""تريث على‬
‫األق " ""ل…دع " ""وة إلى ق " ""راءة الت " ""اريخ…إلى فهم تجرب " ""تي األن " ""دلس وص " ""قلية األوروبي " ""تين…والتواص " ""ل م " ""ع‬

‫‪162‬‬
‫الشخصيات التاريخية ذات الط"ابع الع"المي‪ :‬اإلس"كندر املق"دوني‪ ،‬الخليف"ة العباسي املأمون‪ ،‬ابن رش"د‪،‬‬
‫غوت""ه…الش""ك في العلم…كس""ر ش""وكة الرأس""مالية اإلمبريالي""ة… اس""تعادة الش""عور باإليم""ان والخ""وف من‬
‫هللا ( مهما كانت طبيعة الدين ونوعه) ألن اإلنسان الذي ال يخشى هللا على أي مذهب من املذاهب ه""و‬
‫إنس""ان متحج""ر القلب ألن""ه مغ""رور ويح" ّ"ل نفس""ه مح""ل هللا…ك""ل ه""ذه األفك""ار ت""اتيني وفيه""ا جميعه""ا ن""زوع‬
‫ص ""وب اس ""تعادة نم ""ط من الحي ""اة ق ""ديم…والخالص ""ة س ""ؤال( أليس الس ""ؤال خ ""ير من ""اورة ألج ""ل ض ""مان‬
‫حياة املحاورة؟)‪:‬هل تكون أهم أجوبة املستقبل كامنة في املاضي؟‬

‫‪163‬‬
‫الروائي فيلسوف بال برنامج فلسفي واضح‬

‫ترتبط الفلسفة بنمط من الكالم جرت العادة ان يرتبط في الثقافة" العربية بالكالم غير املثمر‪ ،‬أو‬
‫الزائد عن الحاجة‪ "،‬بقدرما ارتبط في الثقافات الغربية بالتعقيد عدم تأتي املعنى ووضوح املقاصد‪...‬‬
‫وتلك هي حال الرواية اليوم‪...‬وقد ال تكون "آيريس موردوخ" بعيدة عن هذا املعنى العربي املرح وهي‬
‫تشتكي منذ أكثر من ستين سنة من إكراهات الكتابة الروائية وكيف انها تشعر بأن الرواية قد‬
‫اصبحت شكال منهكا‪ "،‬يعاني انحسار دائرة اإلمكانيات‪ ،‬فنحن الروائيين نبدو دائما بصدد قول أشياء‬
‫قد قيلت من قبل معلوم أمرها‪...‬ولكن استمرار الكتاب الروائية وشغف الناس بها يبدي جانبا آخر‪:‬‬
‫نجاعة هذا الشيء غير الواضحة نجاعته‪...‬‬

‫من جهة أخرى أعتقد ان الروائي ‪-‬في عرفي على األقل ‪ -‬فيلسوف غير حكيم إن جاز التعبير‪...‬يملك‬
‫القدرة على التعالي" التي تمكنه من النظر إلى األشياء من منظور متعال يختلف عن الخبرة الخطية‬
‫السطحية التي يملكها الناس أجمعون ‪ ،‬وتسمح له باستخالص نتائج جديرة بالتوقف والتأمل‪ ،‬ولكنه‬
‫شخص غريب تفتنه الحياة عموما‪ ،‬ففتنة" الحياة هي املدخل األكبر للرواية‪ ،‬الرغبة الجامحة لتأمل‬
‫األحداث التي لواله لذابت في النسيان والالمباالة‪ ،‬ولوقعت في سلة مهمالت الحياة‪ ،‬ذلك امليل‬
‫الغريب صوب تسليط كاميرا قوية على حيوات بشر غير مؤهلين الحتالل مناصب العاملية ومواقع‬
‫األسطرة ثم تحويلهم إلى شخصيات ذات رمزية عالية تخرج بهم من دوائر العادي إلى دائرة‬
‫االستثناء‪.‬‬

‫وسط كل ما سبق يظل السؤال املركزي لكل رواية هو إجابة ذلك السؤال املتكرر‪ :‬ما املعنى الحقيقي‬
‫العميق للحياة؟‬

‫يبدو لي من خالل الندوات التي أقيمها أو أشارك فيها أن هنالك بحثا عن معنى الحياة يرتبط بعملنا‬
‫كروائيين؛ إذ تستوقفني بالتحديد نزعة موجودة في بعض من القراء ومن أصحاب األسئلة يبدو انهم‬
‫األكثر قربا من موضوع الرواية التي أكون بصددها‪ ،‬وقد تساءلت ملاذا يكون في كل مرة املعني‬
‫باملوضوع هو الكثر شغفا بالنص؟ أليس من املفروض ان يكون هو أقل الناس اهتماما بها؟‬

‫إجابة السؤال تكمن بكل بساطة في أننا نمارس الحياة بشكل تلقائي وسريع ومتشابك‪،‬وهذه الصفات‬
‫الثالث تمعنا من خلق مسافة" األمان والتأمل الكافية لفهم ما نخوض يه‪ ،‬لهذا يحتاج الناس إلى‬
‫الروائي هذا العالم املتوفر لدينا والفيلسوف الذي نطاله بخيالنا ويطالنا بحروفه‪ ،‬هذا األخ األكبر‬
‫الذي يجيد فهم ما يحدث لنا والذي يعيننا على فهم العالم وعلى اتخاذ القرار املناسب‪...‬‬

‫‪164‬‬
‫شيء مثل املرافقة العقلية قياسا على املرافقة النفسية أو املرافقة البيداغوجية‪".‬‬

‫أسبوع‪ ...‬بين الذات والعالم‬

‫اليوم األول‪ :‬خميس للتأمل‪.‬‬

‫استوقفه سؤال طرح عليه مرارا‪ :‬ملاذا ال تدون رحالتك؟ اسلوبك جميل وعينك حادة‪ .‬البد ان سردك الرحلي‬
‫سيكون رائعا‪ .‬فلماذا ال تكلل" اسفارك بكتاب؟‬

‫نظرت" الى نفسي متأمال‪ :‬ملاذا يبدو لك هذا املسافر الذي هو أنت أجنبيا هكذا؟‬

‫لم يجب‪/‬أجب‪.‬‬

‫استغرقت" أكثر مستقصيا بعض الغرف الداخلية التي ال يدخلها أحد‪ .‬وجذت الفيصل املسافر هنالك قابعا غير‬
‫مكترث بشيء‪.‬‬

‫خلفت فيه أسفاره كثيرا من األلم‪ .‬اكتشف أخيرا بأنه ال شيء يذهب الكتشافه‪ .‬كل شيء كان نارا مشتعلة فيه قبل‬
‫ان يخبو إثر السفر‪ .‬سفره الكبير كان في الحياة‪ .‬سفر غير ممتع رغم انه جدير بان يعاش‪ .‬منذ نعومة أظافره‬
‫زودوه بكثير من االستعداد للدهشة‪ .‬وزودوه ببرنامج الدهشة‪ .‬هكذا يجب ان تكون‪ .‬الفتى الصالح يفعل‬
‫هذا وال يفعل هذا‪ .‬املواطن الصالح يقول كذا وال يقول كذا‪ .‬يفعل هذه ويترك تلك‪ .‬حبيب ماما ال‬
‫تكرر فعل هذا‪ .‬موافق؟ وإال فإن ماما لن تحبك‪ .‬بابا كذلك‪ .‬ما أشبه البابا باملاما (سواء في املسيحية‬
‫ُ‬
‫وفي البيت)‪ .‬تعرف غلى تعاليم القبيلة جمعاء وكان يحلم ببالد بعيدة ال تقتل الجميل وال يرذل فيها‬
‫كل شيء‪ .‬بالد تعود عليها في الكتب وفي السنما؛ رفيقيه" القديمين‪ .‬ولكنه اكتشف بانه ال شيء ينتظره‬
‫في أي مكان‪ .‬كل املهازل متشابهة متساوية فقط تختلف التسميات والكنيات‪ .‬فقططططط‪.‬‬

‫اليوم الثاني‪ :‬الجمعة‪ .‬يوم هللا بامتياز‪.‬‬

‫خطبة الجمعة تضاعفت تعاستها‪ :‬كان موضوعها الربط التعيس بين املشاركة" في االنتخاب واإليمان‬
‫واكتشف املؤمنون املغبونون في إيمانهم واملأمورون باتباع أئمتهم بأن عدم مقاطعة االنتخابات‬
‫التشريعية الوشيكة ضرب من ضروب اإليمان‪ .‬ال احد صدق الخطاب السياسي األجوف‪ .‬ال أحد‬
‫قادر على اإليمان بما يقوله األئمة في مختلف ارجاء البالد املسلمة أمرها للحاكم وشرطته وجنوده‬
‫‪165‬‬
‫كأجهزة تملك سبل العقاب والصفح واملكافأة (أليس هللا في ذهن جدتي هو املعاقب الغفور حسب‬
‫مزاج مجهول ما؟ أولسنا جميعا الورثة الشرعيين للجدات العتيقات؟)‪ .‬الاحد يعلم ما ينبغي فعله‪ .‬ال‬
‫احد يملك قرار أفعاله‪ .‬وهذه هي "إلدورادو السياسة"؛" شعب طيع غير واع يخاف األوهام‪.‬‬

‫انتهى اليوم بذكر هللا طبعا‪ :‬لعن هللا من سرق الحكم من البسطاء متكئا على الكذب والرياء‬
‫والتظاهر والوعود الوهمية‪ .‬لعن هللا من يسعى إلى البرملان لخدمة أغراضه وهو على بينة بأنه ال‬
‫يستطيع فعل شيء لحد من اآلالف الذين ضحك عليهم لكي يبلغ راتبه عشرة أضعاف رواتبهم‪( .‬أال‬
‫بذكر هللا تطمئن القلوب)‬

‫اليوم الثالث‪ :‬السبت ‪...‬يوم الشعر‬

‫ال صلة واضحة بين السبت والشعر اال أنني قضيت اليوم بين الكلمات أحاول اتمام قضيدة قديمة‬
‫كنت قد كتبتها‪/‬بدأتها ثم انقطع حبلها وجئتها مرارا بكلماتي ومعاني وبالغتي فقالت لنا القصيدة‪:‬‬
‫كونوا قردة خاسئين‪...‬‬

‫الحقيقة أن القصيدو كانت تنتظر سبتها لكي نكون اصحاب السبت الشعري ال اصحاب السبت‬
‫امللعون‪...‬وأخيرا قالت لنا القصيدو‪ :‬اانتم اصحاب السبت املناسب؟ كونوا إذن مالئك مباركين‪"...‬‬

‫اليوم الرابع‪ :‬األحد‪ "...‬يوم آخر هلل‪.‬‬

‫بصدفة تلفزيونية رائعة أعدت التفرج على فلم ميلوش فورمان الجميل «‪ .» Amadeus ‬كنت قد‬
‫رأيته مرتين أو ثالثا فيما مضى من الزمن الجميل‪ ،‬هذه املرة مارست تمرينا أحبه كثيرا‪ :‬التركيز على‬
‫أداء ممثل واحد دون غيره عند إعادة مشاهدة فلم ما‪ ...‬غصت تماما مع فريدرك موراي آبراهام‬
‫الذي ادى دور املوسيقي انطونيو سالييري الذي كان عبقريا في زمانه ولكن شمس موزارت غطته‬
‫تغطية شنيعة جعلته يعيش غيظا شديدا‪ ،‬والفلم املقتبس عن مسرحية نيو يوركية حديثة مقتبسة‬
‫هي بدورها عن مسرحية" قصيرة لبوشكين بعنوان "موزار وسالييري"‪ ...‬الفلم يتقدم أمامنا كأنه‬
‫اعتراف مطول لقصة غيرة شديدة من قبل سالييري الذي اراد تحقيق مجد هللا على وجه األرض‬
‫ُ‬
‫بموسيقاه ولكنه ووجه من قبل ربه بتفضيل فتى ارعن الخلق سليط اللسان مستهتر الروح منحه‬

‫‪166‬‬
‫عبقرية ال تفسير لها اال املنحة اإللهية‪...‬لكي يتحول وجود سالييري كله الى صراع طويل يهدف إلى‬
‫محاربة هذا الرب الذي اختار الرذيلة كي يزينها بالعبقرية بدال من منحه هو ممثل النبل واألخالق‬
‫والسمو الروحي تلك الهبة الغريبة‪...‬‬

‫املوسيقى تاج هللا سبحانه يهبه من يشاء من عباده املبدعين‪...‬‬

‫أجمل ما الفلم كان طريقة إدراج موسيقى األعمال الكبرى ملوزار في سيل األحداث‪ ،‬حتى تبدو كأنها‬
‫ألفت خدمة للسيناريو ال قبله بقرنين‪.‬‬

‫اليوم الخامس‪ :‬االثنين‪...‬املوسيقى تاج اإلنسانية أيضا‬

‫لم أخرج بيسر من أجواء فلم أماديوس‪...‬استغرقني التأمل في املوسيقى‪...‬والعالقة" بين املوسيقى‬
‫والحياة‪...‬يرد في الفلم ان نشيد املوتى هو الذي استنفد روح موزار‪ ،‬وفي الفلم أن موزار عانى ما‬
‫عاناه من عنت وفقر بسبب خضوعه إليقاع روحه بدال من السير في الطرق الجمالية املعبدة‪...‬دافع‬
‫عن خصوصية جرمانية معينة بتأليف أوليات األوبرات باللغة األملانية‪...‬‬

‫أسقطت هذه التأمالت على موسيقانا الجزائرية مفكرا في عدالة ما لقيتها الطبوع الجزائرية التي الم‬
‫بها االنكماش بسبب بعدها عن الحياة‪...‬الشعبي والحوزي واملالوف كانت دائما موسيقى للفرجة‪...‬ال‬
‫تنطلق من الحياة وال تهتم بالعودة اليها‪...‬موسيقى فقرات ترفيهية وكفى‪...‬أما املوسيقى البدوية فكانت‬
‫موسيقى مندمجة معنية بالحياة وبالناس‪...‬تطورت" الى موسيقى الراي (او الرأي)‪...‬التي هي موسيقى‬
‫الحس املشترك‪...‬موسيقى املصائر التراجيدية والحيوات الهامشية امللعونة‪...‬موسيقى الشذوذ‬
‫السلوكي والثورة النفسية وحتى املقاومة االستعمارية‪...‬لذا تطورت وبلغت أبعد اآلفاق في العالم‪...‬‬

‫في الخالصة ستكون املوسيقى تاج عز لإلنسان أيضا‪...‬ولو بعد حين‪...‬‬

‫اليوم السادس‪ :‬الثالثاء‪..‬العظمة الجزائرية لم تكن في املوعد‪..‬‬

‫ظهرت نتائج جائزة البوكر‪...‬الصحافة" تلعب الدور املنتظر فتأخذ انطباعات املختصين حول‬
‫الجائزة‪...‬أعطيت نصا قصيرا وسجلت ثالث دقائق لإلذاعة ‪...‬‬

‫‪167‬‬
‫مرى أخرى جاءت األسئلة حول مكان الجزائر من الجائزة‪...‬وحظ الجزائريين من الجائزة‪...‬الخ الخ‬
‫الخ‬

‫من ال يملك أدنى مقومات ساحة ثقافية وتداول روائي واهتمام إعالمي بالرواية في بالده ال يستطيع‬
‫لوم غيره على عدم التهليل له فيما هو مصر على منع التهليل في بالده‪...‬‬

‫مبروك للعربية السعودية حصولها على البوكر للمرة الثالثة ‪...‬طلبتي في الدكتوراه بالكاد يذكرون‬
‫اسم عبده وازن قبل العودة إلى باكثير عند ذكر األدب السعودي‪...‬باقي" السعودية بالنسبة لهم بقاع‬
‫مقدسة او مرابط للخيل األميركي املدافع عن‪...‬؟؟؟‬

‫ال أحد يذكر بالتحديد عم تدافع الجيوش األميريكية املتكاثرة في اململكة العربية السعودية‪.‬‬

‫ال بد من إعادة التفرج على فلم "لورنس العرب"‪...‬‬

‫اليوم السابع‪ :‬مالك بن نبي‪ ...‬فن التفكير ‪...‬‬

‫بعد أيام صاخبة قبعت قليال في البيت‪...‬وأطللت مطوال على الفيسبوك ألجد هجوم""ات متزامن""ة غريب""ة‬
‫على جمعي ""ة العلم ""اء املس ""لمين وعلى مال ""ك بن ن ""بي‪...‬م ""ع إس ""قاطات غريب ""ة وقريب ""ة من الس ""خافة لهم ""وم‬
‫الحاضر على وقائع املاضي ومواقعه‪...‬‬

‫شخصيا أدين ملالك بن نبي كثيرا لنه علمني شيئا هام""ا؛ علم"ني فن التفك"ير ال علم"ه‪...‬ال""ف درس تعلم""ك‬
‫املنهج فتفك" ""ر منهجي" ""ا ولكن" ""ك تعج" ""ز عن تج" ""اوز املنهج الى روح" ""ه‪...‬عن تج" ""اوز الفك" ""رة ص" ""وب من" ""ابع‬
‫امكانياته ""ا‪...‬كتبت ذات ي ""وم نص ""ا ص ""غيرا بإيع ""از من تأمالت ""ه ح ""ول الص ""لة بين حي بن يقظ ""ان وروبنس ""ن‬
‫كروسو‪...‬شخصيا" ذهبت في اتجاه آخر فكتبت ما يلي‪:‬‬

‫‪ ---‬ابن طفيل‪ //‬داروين‪ :‬ورؤية اإلنسان‪...... ---‬‬

‫في قص""ة "حي بن يقظ""ان" يب""دا اإلنس""ان رحلت""ه من ال""وعي الش""ديد بافض""ليته على الحي""وان‪ ،‬يتعام""ل م""ع‬
‫الحي""وان ب""احترام كحاض""ن للحي""اة‪ ،‬يح""ترم البيئ""ة كمح""ل لإلب""داع اإللهي‪ ،‬ويبحث عن هللا في إط""ار وعي‬
‫بان رسالة اإلنسان سباق للتواصل مع هللا وتحقيق اكتمال جزء ناقص في اإلنسان الذي يك""ون يعيش‬
‫بمف""رده وس""ط حيوان""ات أخ""رى‪ ....‬إذا عاينن""ا اإلنس""ان عن""د داروين س""نجده كائن""ا حيواني""ا في ص""راع م""ع‬

‫‪168‬‬
‫الحيوان ""ات ألج ""ل البق ""اء‪ ،‬تحت راي ""ة ق ""انون "ط ""بيعي"" ال نعلم من أين ي ""اتي مف ""اده أن البق ""اء لألق ""وى‪،‬‬
‫يهدف اإلنسان الدارويني إلى تحقيق حيوانية كب"يرة ق"د ت"رتقي ب"ه من مص"اف الق"رد الض"احك الغ"بي إلى‬
‫األس ""د الواق ""ف على ق ""ائمتين بال روح فكاه ""ة‪ ...‬إذا قفزن ""ا إلى م ""ا نحن علي ""ه على أيامن ""ا س ""نفهم إنس ""ان‬
‫الي""وم ال""ذي ه""و س""ليل مف""اهيم النهض""ة ال""تي أق""رت اإلنس""ان كمرك""ز للع""الم ‪ ،‬وجعلت رحلت""ه من نفس""ه‬
‫باتج ""اه نفس ""ه؛ وهي حلق ""ة مفرغ ""ة في الواق ""ع‪...‬و ه ""و ك ""ذلك س ""ليل الفك ""ر التن ""ويري ال ""ذي ع ""وض ك ""ل‬
‫األحالم املاورائي ""ة واملتعالي ""ة لإلنس ""ان بالتفس ""ير املادي "ويق ""ال‪ :‬العلمي" ال ""ذي ينتهي إلى نتيج ""ة واح ""دة‪:‬‬
‫إعفاء اإلنسان من االلتزامات األخالقية" تجاه الطبيعة‪ ،‬الكوكب‪ ،‬اإلنسان‪ ،‬تجاه نفس""ه وتج""اه هللا (بم""ا‬
‫أن " ""ه تع " ""وزه تفس " ""يرات مادي " ""ة ملموس " ""ة علمي " ""ة تجريبي " ""ة تمنح " ""ه نيش " ""ان األولهي " ""ة وت " ""نزع عن " ""ه ش " ""بهة‬
‫الخرافة)‪ ...‬خالص"ة أولى‪ :‬تخيل"وا معي عاملا تك"ون في"ه أوروب"ا ق"د اتخ"ذت مرجعه"ا الك"اتب األوروبي "ابن‬
‫طفي""ل" (أليس ابن طفب""ل كاتب"ا" أوروبي""ا من وجه""ة نظ""ر جغرافي""ة؟) ب""دال من الوجه""ة األخ""رى ال""تي ادت‬
‫إلى ترس""يم ثقاف""ة اإلنس""ان املتأل""ه ال""ذي يس""تحل ك""ل أن""واع القت""ل وال""دمار تحت غط""اء أخالقي وعن""اوين‬
‫إنس""انية؟ خالص""ة ثاني""ة‪ :‬في رواي""ة واقعي""ة وغ""ير خيالي""ة وال علمي""ة يتخ""ذ أن""اس ق""رارات سياس""ية تك""ون‬
‫عواقبه""ا الح""روب واملجاع""ات ‪ ،‬فتتح""ول النفس البريئ""ة املقتول""ة بغ""ير وج""ه ح""ق في اللف""ظ االبن طفيلي‬
‫إلى "ضحايا عمودية" في لفظ ورثة الداروينية‪...‬‬

‫‪169‬‬
‫تأمالت بين الشعر والسياسة‬

‫قبس أول‪:‬‬

‫يفتتح ابن حزم األندلسي رسالته حول "األخالق والسير" بقوله هامة حول ان رأس الرذائل هو "الحرص" وأن‬
‫عالجه برأس الفضائل الذي سيكون نتيجة لذلك‪ :‬الترك والزهد في األشياء‪...‬ينتهي الفيلسوف االنساني الغنوصي‬
‫"إدغار موران في كثير من كتبه ومحاضراته في السنوات الفائتة إلى أن العالم" الحالي بحاجة إلى إعادة تأهيل أخالقي‬
‫‪...‬يبدأ أساسا من نقض القاعدة الرأسمالية التي تعد االنسان مستهلكا وتربط مهمة االنسان على األرض بإشباع‬
‫الرغبات" ‪...‬ويتم سحب الفكرة على السياسة فيكون االتجاه الرأسمالي" االمبريالي الذي يربط أزمة الركود‬
‫االقتصادي الذي سببه سوء استغالل الثروات بالحل الذي يكرره الجميع‪ ":‬البحث عن قروض من دائنين تسمح‬
‫بتحريك عجلة االقتصاد من أجل خلق ثروات" تسمح برد الديون والتخلص من الزمة‪...‬وهي في الحقيقة حلقة‬
‫مفرغة ال مهرب منها‪...‬فهي غرق ممنهج في دوامة ديون تؤدي إلى تدخل الدائنين في سياسة البالد والتضحية الكلية‬
‫بفكرة السيادة‪.‬‬

‫خالصة سريعة‪ :‬طرق الحكمة غريبة فقد يصل الفقيه املؤمن والحكيم املرتاب إلى "الحق" رغم تباين الطريقين‪...‬‬

‫ثان‪:‬‬
‫قبس ٍ‬

‫الشعر أيضا عرف الظاهرة نفسها‪:‬ركام كبير من الصور حول لعبة تشكيل صور شعرية حول املعاني املعروفة إلى‬
‫سيناريو غريب جدا‪...‬شعراء الحاضر يحاولون االقتصاد في القول لفائدة اإليحاء‪...‬يحاولون وصف التجارب‬
‫الجديدة التي لم يتم وصفها من قبل‪ ،‬ويحاولون خلق اقتصاد سياسي للصور الشعرية (بتعبير الدراسات الثقافية)‬
‫من خالل عرض أشياء تعرفها" في أغلفة قول ال نعرفها‪ ،‬ومن خالل الدعاية النقدية التي تناسبها‪ ،‬فليس عبثا أن يتم‬
‫على جبهة تتفيه الشعر العمودي مثال على املواقع واملنابر االجتماعية والثقافية االفتراضية‪ ،‬لكي نجد باملقابل نقال‬
‫لعروض خليجية للشعر العمودي والنبطي بطريقة مغرية جدا‪...‬وكل ذلك يحيل على الحرب التي بين السلع في‬
‫السوق الحرة‪...‬‬

‫خالصة بديهية شعرية‪ :‬وتفوز في سوق املنابر "السلعة"" الجسورة‪...‬‬

‫قبس ثالث‪:‬‬

‫في املواجهة التي كانت بين بالد اليونان ودائنيها" طرحت عدة أسئلة جوهرية على النظام العالمي الجديد‪:‬‬

‫ما فائدة البقاء في االتحاد األوروبي إذا كان هذا الخير طريقا صوب الغرق؟ ما املنطق العلمي العالم الذكي الذي‬
‫يجعل بالدا تتخذ لها قرضا بفوائد فاحشة العلو فتجد البالد نفسها بعد عامين على وشك اقتراض" مبلغ جديد‬

‫‪170‬‬
‫ثالثة أرباعه ستعود إلى لدائنين على شكل خدمات ديون؟‪...‬أحد الردود البليغة عقب االستفتاء الشعبي حول قبول‬
‫الدين أو الثورة ضده – الشيء الذي كان يعرض اليونان" لعقوبة الخروج املباشر من االتحاد األوروبي‪ -‬كانت من‬
‫بعض املواطنين ‪ " :‬ال يهمك كثيرا حينما تكون جائعا وال تستطيع تلبية حاجات اهلك اليومية الى اي اتحاد‬
‫تنتمي"‪..‬انه ربا كوني لم يدخل في أي حسبان ممكن‪...‬الوضعية اليونانية أوقفت مرآة كبيرة أمام العالم" كي يتأمل في‬
‫الوحل الربوي الكبير يغرق العالم" منذ الحرب" العاملية الثانية‪ ،‬وفي الوضع غير اإلنساني الذي آلت إليها أنظمة‬
‫املساعدة اإلنسانية‪...‬‬

‫خالصة ‪ :‬حتى النزعة اإلنسانية التي هي اكبر مكاسب اإلنسان الحديث قد تحيد عن الطريق" دون شعور منها‪ ،‬فال‬
‫يوجد حكم مطلق ومطلق اإلطالق‪ ،‬وإن ُوجد فال بد أنه قد يجرنا إلى نقطة ضرورة إعادة الحسابات كلها‪.‬‬

‫قبس رابع‪:‬‬

‫نحتاج في أية ساحة ثقافية إلى نماذج معينة تعمل" داخل املنظومة ولكنها تعمل ضدها‪ ،‬وجوه ثقافية تبدو ألول‬
‫وهلة بنت محيطها املباشر‪ ،‬ولكنها تعمل ببطء وتؤدة وإصرار على خلخلة املنظومة التي أنشأتها او التي احتضنتها‪،‬‬
‫هذا النوع من املثقفين يعمل دائما على خلق مراكز اهتمام تختلف عن املراكز األساسية التي تحتفي بها املؤسسات‬
‫الرسمية‪ ،‬كما تعمل جاهدة على ابتكار خطاب مغاير للخط ب الرسمي‪ ،‬فإن لم يخالفه فهو يهمشه باقتراح خطاب‬
‫مختلف وبديل‪ ،‬بهواجس مركزية ومساءالت وتطلعات" ثقافية مختلفة عما يكرسه الخطاب الرسمي‬
‫للمؤسسة‪...‬يحافظ هؤالء على توازن معين للفكار في عاملهم‪...‬وهو دور ال يستطيع غيرهم القيام به‪...‬أنظر في البالد‬
‫العربية" فأجد أصنافا" كثيرة من املثقفين ولكنني ال أجد هذا الصنف الذي يتوسط املسافات الضرورية بين العامة‬
‫والنخبة‪ ،‬وبين االندماج والتزام البرج العاجي‪ ،‬وبين الحس املشترك والقدرة على سبر أغوار النابي من األحاسيس‬
‫واملواجد‪ ،‬بين معطيات اليوم ومكنونات الغد‪ ،‬بين ألوان الكائن واطياف الكامن‪...‬هذا املثقف ال أراه‪...‬وليست البالد‬
‫العربية" استثناء في هذا‪ ،‬فقد تغير شكل النخبة تماما وصار املثقف موظفا او خادم سلطة ( دولة او جماعة‬
‫ضاغطة) ولم يعد العلم الكبير الذي كانه منذ أربعين سنة‪ ،‬وتحول العلم الكبير إلى مقدمة التلفزيون والعب كرة‬
‫القدم وبعض الفنانين الذين يأهلون الشاشات الصغيرة التي تتكاثر كالفطر (وكثير من الفطر سام)‪...‬‬

‫كأيام‬ ‫ٌ‬ ‫أوائله" *** ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬


‫كناس وأيام ِ‬
‫ٍ‬ ‫ناس‬ ‫بعض من ِ‬ ‫الدهر‬
‫ِ‬ ‫أواخر‬ ‫خالصة شعرية تراثية‪:‬‬

‫‪171‬‬
‫فلسفة الرحلة‬

‫الكتابة رحلة في اللغة مثلما أن الحياة رحلة اإلنسان على أديمي األرض والزمن‪...‬‬
‫ماذا عن الرحلة في تجربة الكتابة التي هي تجربة الحياة في نهاية األمر‪...‬؟‬
‫الرحلة تشبه الشعر في نقطة العمل على خلق صلة صحية بالعالم‪ ،‬الرحلة" تسمح لك بالتعرف على اآلخر‪،‬‬
‫ومعرفة اآلخر مرحلة هامة في بناء األنا‪ .‬يبدو لنا دائما بأن السياحة شيء زائد عن الحاجة البشرية‪ ،‬تزجية‬
‫فراغ‪ ،‬أو التعبير عن نمط معين من الوجود الذي من أهم صفاته أنه غير متاح للناس أجمعين‪ ،‬إال أن هنالك‬
‫جانبا عميقا يكمن خلف "ارتياد اآلفاق" ‪ ،‬الجنب الذي يمكننا حتى ربطه بالفكرة الدينية التي تدعو إلى التبصر‬
‫في شؤون الخلق‪ .‬إلى معرفة الغرف الخلفية للوجود‪ ،‬وإلى خلق تجربة منوطة باآلخر تتجاوز مجرد العلم‬
‫ّ‬
‫التعرف والتجربة‪.‬‬ ‫بالشيء وتتجاوز عرضية العلم" واملعرفة صوب جوهرية‬
‫مكنتني رحالتي الكثيرة في القارات األربع من تشكيل مفهوم خاص لإلنسانية‪ ،‬لهذه القلوب الحاملة في كل مكان‬
‫بشكل مختلف‪ ،‬للحياة" التي قوامها االختالف رغم ظاهر التشابه‪ .‬في الرحلة تتغلب على كآبة اليومي وتدخل باب‬
‫املفاجأة‪ ،‬تجدد الصلة بالحلم‪ ،‬تثقف حواسك على اليقظة الكبرى‪ ،‬على اهتبال املجاهيل‪ ،‬األلوان الجديدة‪،‬‬
‫الكلمات املدهشة‪ ،‬اللهجات" غير املتوقعة‪ ،‬األحداث الخارجة عن املألوف‪...‬هي فن في تذوق الحياة والتعرف على‬
‫االنسان خارج الدروب املعبدة البليدة" التي يدخلنا فيها روتين اليومي وإيقاع املتكرر املتشابه‪ .‬يبدو لي من رحلة‬
‫إلى رحلة بأن االنسان سيكون أفضل حاال مما هو عليه لو أنه يسافر أكثر‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫فالسفة ضد الفلسفة‬

‫منذ خمس وعشرين سنة قرأت كتابين أوقعاني في حب الفلسفة‪ :‬األول كتاب مبسط فيه مختصر فلسفة جون‪-‬‬
‫بول سارتر ‪ ،‬والثاني كتاب تعليمي حول شهاب الدين السهروردي‪...‬‬

‫كان يروقني في الفلسفة ذلك الشمول الكبير لعقول صغيرة تتمكن من حل مشكالت يغرق فيها آالف الناس‪...‬تلك‬
‫البرامج املفيدة لتأويل ما كان والتمهيد ملا سيكون‪...‬تلك النبرة الواثقة في العقل وفي اإلنسان ؛ اإلنسان ذلك‬
‫املخلوق الضعيف الذي يقف دائما قبالة كبريات املعضالت" التي تتفنن في خلقها الحياة بعزيمة النملة التي تسخن‬
‫عضالتها ألجل مبارزة الفيل‪ ...‬وهي نظرة سيصححها لي ابن سينا أوال وهو يعرف الفلسفة بأنها ‪ ":‬استكمال النفس‬
‫ّ‬
‫العملية على قدر الطاقة اإلنسانية"‬ ‫ّ‬
‫النظرية و‬ ‫ّ‬
‫بتصور األمور و التصديق بالحقائق‬ ‫اإلنسانية‬
‫ّ‬
‫وكذلك سيدقق األمر ويقربه من اللفظ القرآني الذي تربيت" على محبته‪ " :‬فعل الفلسفة ليس إال النظر في‬
‫املوجودات و اعتبارها"‬

‫الفلسفة هي اجتهاد ألجل التدبر‪...‬جميل جدا‪"...‬‬

‫وكانت إحدى نقاط الجذب الرئيسة في املجال الفلسفة بالنسبة لي هي املقاربة البعيدة عن البالغة ملواضيع ألفتها في‬
‫األدب متلبسة دائما بكم هائل من البيان والتوابل التعبيرية‪...‬شيئا" فشيئا سأجد نفسي مغرما وسط األدباء باألكثر‬
‫فلسفة واألشد تعقيدا وبالذين يبدو لك أنهم ال يفعلون شيئا سوى مناقشة مقوالت فلسفية من خالل‬
‫أعمالهم‪...‬وكذلك حدث لي أن صرت مولعا أشد الولع" بالفالسفة ذوي البالغة العالية‪...‬أصحاب" اللغة األدبية‬
‫املشبعة باملناورة والتالعب باأللفاظ واملعاني‪.‬‬

‫حدث لي أمران محرجان‪ :‬قراءة "فينومينولوجيا الروح" لهيغل و"فينومينولوجيا اإلدراك" ملوريس ميرلو‬
‫بونتي‪...‬وكنت آنذاك حوالي العشرين من العمر او دون ذلك بقليل‪...‬قلت في دخيلتي‪ :‬إما أن هذا الكالم فيه مشكلة‬
‫واضحة وإما أنني حمار مركب – حسب تعبير توفيق الحكيم – وعلي أن أعي ذلك‪...‬‬

‫مر وقت طويل لكي أكتشف أنني لم أكن على خطأ تماما وال أنني الوحيد الذي الحظ األسلوب التعيس لهذين‬
‫الذهنين الكبيرين وهاتين القمتين الفكريتين الكبيرتين‪ ،‬ولغيرهما كذلك‪...‬‬

‫بعد ربع قرن من تعاطي الفلسفة بشكل جنوني‪ ،‬أجد اليوم بأن هنالك فالسفة يعملون ضد الفلسفة ألنهم‬
‫يبعدونها عن الناس بشكل قصدي‪...‬فقد كان ارسطو وافالطون يتحدثون في "األغورا" إلى بسطاء القوم‪ ،‬وكذلك‬
‫فعل ابن رشد والغزالي‪ ،‬والشيء نفسه ينسحب على نيتشه وسارتر وجل الفالسفة األنغلوسكسون في العصور‬
‫الحديثة ‪...‬في حين ياتي آخرون مثل هيغل وديريدا وميرلو بونتي (ولإلشارة فأنا من محبيهم ثالثتهم) فيعملون" ضد‬
‫الفلسفة ببناء برامج فلسفية يحار في أمرها حتى أهل االختصاص‪...‬‬

‫ـ ـ بمثابة املخرج ـ ـ‬

‫"علينا أن نتعلم كيف نتفلسف ال أن نتعلم الفلسفة نفسها" –كانط‪-‬‬

‫‪173‬‬
‫الشاعر والفضاء العمومي‬

‫في رحل""ة ك""انت لي م""ؤخرا إلى الوالي""ات املتح""دة أج""ريت ع""دة لق""اءات م""ع أص""دقاء ومع""ارف على ص""لة بالش""عر وبنش""ر‬
‫الشعر تحديدا مثل املسؤولين اإلعالميين لجائزة البيوليتزر الشعرية وامللح""ق اإلعالمي والتنظيمي للش""ؤون الثقافي"ة‬
‫بجامعتي كولومبيا وسينت جون يونيفيرسيتي بالكوينز‪ ،‬وبعض املهتمين" بالشأن الشعري في دور النش""ر وك""ان مح""رك‬
‫بح""ثي ه""و اإلجاب""ة على الس""ؤال‪ :‬كي""ف يمكنن""ا أن نعي""د تأهي""ل أمتن""ا الش""اعرة ب""الفطرة ش""عريا؟ وم""ا الخل""ل ال""ذي جع""ل‬
‫الشعر يصبح غريبا لدينا؟‬

‫كنت محمال بأس ""ئلة القل ""ق‪ :‬ملاذا ال يظه ""ر الش ""اعر في املي ""ديا عن ""دنا إال وه ""و بهل ""وان أو مجن ""ون أو مخت ""ل عقلي ""ا؟ من‬
‫يقف ضد ظهور الشاعر في الفضاء العمومي – كما يسميه الفيلسوف يورغن هابرم""اس‪ -‬؟ ومن يش""رف على تس""ويد‬
‫الص " ""فحة إلى درج " ""ة أن أطفالن " ""ا الي " ""وم ال ي " ""دركون الوج " ""ود الش " ""عري إال كوج " ""ود ق " ""ديم آت من الكتب ال ينتمي إلى‬
‫الواقع؟"‬

‫أجريت في الواليات املتح"دة ع"دة لق"اءات ومح"اورات بخلفي"ة ك"انت تحرك"ني ق"د يس"تغربها بعض"نا مفاده"ا أن الش"عراء‬
‫األمريك""ان هم األفض""ل مبيع""ا في الع""الم واألحس""ن ح""اال مادي""ة وك""ذلك األوس""ع مش""اركة في الحي""اة السياس""ية‪...‬وه""ذا‬
‫معطى إحص ""ائي وليس ق ""راءة انطباعي ""ة‪ .‬في الوالي ""ات املتح ""دة ال ""تي ترتب ""ط في املخي ""ال الع ""ام ل ""دينا بالجف ""اف واملادي ""ة‬
‫والتحجر والسطوة املدنية التكنولوجية‪...‬وبكل ما يتنافى مع الشعر‪.‬‬

‫خالص""ة تحقيقي ذل""ك ك""انت ب""أن هنال""ك تربي""ة قاعدي""ة تعم""ل على إدراج الش""اعر في الحي""اة اليومي""ة‪ ،‬فالش""اعر عن""دهم‬
‫نش""ط ج""دا في الحي""اة االجتماعي""ة وفي م""ا يش""به النش""اط الجمع""وي" (عم""ل الجمعي""ات ) ‪...‬الش""اعر يتواص""ل م""ع قارئ""ه‬
‫املس""تقبلي في املدارس من""ذ الس""نوات األولى في املدرس""ة فيك""بر ه""ذا الق""ارئ وه""و مكتس""ب لخ""برة الس""ماع واالس""تماع‬
‫والتلقي منذ نعومة أظافره‪.‬‬

‫ي""دخل الش""اعر الحي""اة سياس""يا أيض""ا فيك""ون من""دمجا في املص""ير الع""ام للجماع""ة وه""و الشيء ال""ذي ق""د يحيلن""ا على دور‬
‫الش""اعر في الت""اريخين العرب""يين الق""ديم والح""ديث إذ أن""ه ك""ان يس""جل حض""وره الف""ني باالرتك""از على الحض""ور السياسي‬
‫وبتمثي""ل ض""مير الجماع""ة ال""تي يخ""تزل مص""يرها وأحالمه""ا ويعطي آماله""ا ص""وتا وحرف""ا‪ ،‬أم""ا الوظيف""ة الفني""ة والفلس""فية‬
‫املتعالية" للشعر فهي أوال الحقة بهذه الوظيفة السياسية‪ ،‬وهي يغلب عليها ان تكون تحصيل حاصل‪.‬‬

‫إن إجاب""ة الس""ؤال املط""روح في ه""ذه املح""اورة ح""ول مس""ؤولية توزي""ع املنتج الش""عري تكمن في طريق""ة ت""رتيب عناص""ر‬
‫الخريط"ة" الش"عرية" في الواق"ع" املحي"ط بن"ا‪ .‬ولن نجيب ه"ذا الس"ؤال ح"تى نبل"غ درج"ة ال"وعي الكافي"ة ال"تي تجع"ل املواطن‬
‫البسيط – ال النخب‪ -‬يجيب على السؤال الجوهري‪ :‬ما دور النخب عموما والشاعر خصوصا في الفضاء العمومي؟‬

‫‪174‬‬
‫من من كل هؤالء الكتاب سأكون؟‬

‫أول كاتب تمنيت أن أكونه هو توفيق الحكيم‪ ...‬ال غرابة فقد بدأت فكرة أن أكون كاتبا على هامش‬
‫صدفة كونية جعلت أستاذتي للغة العربية التي أدين لها بالكثير "احميدة فطيمة' تضع بين يدي‬
‫مسرحية "لعبة املوت" التهمتها في ليلة او اثنتين‪...‬كهربتني أجواؤها التي لم تكن تشبه كل ما مر بي من‬
‫قبل‪...‬كنت فبي الثالثة عشرة‪...‬سن يأس الطفولة‪.‬‬

‫رغم كثرة قراءتي لجيمس هادلي تشيز إال أنني لم أتمن أن أكونه‪...‬كنت" قد رأيت في األفالم التي أنا‬
‫مدمن عليها كثيرا من حبكاته‪ "...‬اكتفيت بتعلم اللغة الفرنسية التي كنت أقرؤها وأتكلمها بيسر تام‬
‫وأنا في الخامسة عشرة‪...‬‬

‫الخامسة عشرة كانت عام اكتشاف مالك بن نبي‪...‬أزعجتني قراءته ألني لم افهم ما كان يقوله‪...‬قلت‬
‫ارجئه إلى وقت الحق‪ "...‬ساعتها كنت قد اكتشفت وجود شخصين لهما عظيم الدور في تكويني‪ :‬عباس‬
‫محمود العقاد وطه حسين‪...‬يااااه‪...‬ما اروع أن تقرأ لكليهما‪"..‬‬

‫كنت مصابا بشبق غريب بحيث لم اكن أصبر على قراءة كتاب واحد‪...‬شعور" غريب بأن ما قد كتب‬
‫يتسرب من بين أصابع العمر الذي يمر بسرعة‪ 15....‬سنة؟ يا للهول‪...‬لم يبق أمامي الكثير!‬

‫تمنيت أن أكون تشكيلة من كليهما‪ :‬كاتب قوي مشهور مبصر مثل العقاد ذو بصيرة مثل طه‬
‫حسين‪...‬أو مثلهما معا‪...‬يشعرك بالتربع على عرش األشياء مثل كل منهما‪...‬مع نزوع غريب بعض‬
‫الشيء مثل طه حسين‪...‬أنيق األسلوب مثله أيضا وقوي الحجة والتركيب مثل العقاد‪...‬‬

‫بطلي األول في املرحلة الثانوية كان مارون عبود‪...‬صدفة اخرى أرادت أن تحتوي مكتبة الثانوية على‬
‫األعمال الكاملة ملارون عبود‪...‬غضبت اول األمر ألني لم اسمع باسمه من قبل‪...‬سألت عنه‪...‬ال احد‬
‫كان يعرفه‪..‬وحتى" من أجاب بأنه يعرفه بدا لي كأنه مدع فحسب‪...‬‬

‫غرقت مع مارون عبود الذي كنت أفضله على الرياضيات والفيزياء‪ ...‬نعم‪...‬الصدفة التي عودتني على‬
‫األشياء الجميلة جعلتني أدرس في القسم الرياضي ‪...‬وكانت مرحلة مقيتة رغم اطنان الذكريات‬
‫الجميلة التي أحتفظ بها من تلك الفترة‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫كنت أقرأ كتابين وثالثة وأربعة في الوقت نفسه‪...‬في سباق مع الزمن‪...‬ومع املكان‪...‬‬

‫أحمد أمين رائع ولكنه دون تطلعاتي‪...‬‬

‫بدأت تعلم االنغليزية‪...‬قرأت ايفانهو لوولتر سكوت في نسخة إنغليزية مبسطة وكذلك "الحالة‬
‫الغريبة للدكتور جيكل واملستر هايد"‪...‬راقتني القصة‪...‬وكنت أجد املقاالت والدراسات خيرا من الفن‬
‫القصصي ومن الشعر‪...‬لم أفهم يوما ملاذا تعج قوائم مؤلفات الكتاب الغربيين بالروايات والقصص‬
‫واملسرحيات وتخلو تماما من الدراسات‪...‬غرابة ستعشش في وجداني مطوال‪...‬‬

‫مع اواخر املرحلة الثانوية اكتشفت اثنين آخرين تمنيت أن أكون تشكيلة منهما أيضا‪ :‬زكي نجيب‬
‫محمود وجول فيرن‪...‬مع دفقة من جون بول سارتر‪.‬‬

‫كنت اجد الخط الذي كتبت بع اعمال جول فيرن شديد الصغر وكنت اخشى أال أتمكن من إتمام‬
‫تلك الكتب الضخمة التي يتحدث عنها عمي السعيد وشقيقي قدور ( شخصان سيلعبان دورا هاما في‬
‫تكويني وتوجيهي) ‪ ...‬كان قدور يحب الجزيرة السرية وعمي السعيد يتحدث دوما عن " كيرابان‬
‫العنيد"‪...‬كانت" أعماله الخيالية العلمية اجمل بكثير‪...‬وراقتني "رحلة" إلى متصف األرض" بشكل‬
‫استثنائي‪...‬‬

‫سالمة موسى‪ .‬نجيب محفوظ‪ .‬اإلبراهيمي‪ .‬دي موسي‪ .‬محمود تيمور‪ .‬عبد الحليم عبد هللا‪ .‬أحمد‬
‫أمين‪ .‬الرافعي‪ .‬الطاهر وطار‪ .‬بن هدوقة‪ .‬عمار يزلي‪ .‬كونزاليك ‪ .‬جوزيف كرونان‪"...‬‬

‫كلهم كانوا رائعين ممتعين ولكني نسيت أن أحلم بمشابهتهم‪...‬‬

‫تذكرت حلمي مؤخرا وقلت لنفسي‪ :‬هانحن أوالء فيها‪ :‬من تراك تحلم اليوم في الرابعة والربعين أن‬
‫تكونه بدال عنك؟‬

‫لم أفكر كثيرا‪ .‬إما ألدوس هكسلي وإما خورخي بورخيس ونيتشه‪.‬‬

‫في الخالصة يبدو لي اليوم وأنا سائر بسرعة صوب الخمسين‪ ،‬بأن بلوغ الضفة األخرى ألي شيء لها‬
‫شرط واحد ووحيد‪ :‬االرتماء في املاء والسباحة‪...‬الباقي؟ بيده وحده سبحانه‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫أفق التنوير‬

‫في الحاجة إلى التنوير‬


‫حوار مع فيصل األحمر‬

‫أجراه الدكتور بشير ربوح‬

‫س‪ ::1‬هل باإلمكان أن نتحدث عن مسار علمي لباحثنا في ظل دروب املعرفة األكاديمية‬
‫والحياتية؟‬

‫ف‪.‬ا‪ :‬شخصيا ال أعي الحياة بعيدا عن األطر األكاديمية التي كانت قديما تنجح تماما في املحافظة" على‬
‫بعد واقعي لألسئلة املنتجة حول الحياة‪ ،‬بحيث نشعر أن الفيلسوف أو العالم "األكاديمي" هو‬
‫شخص يمارس الحياة باملعنى األوسع‪ ،‬في حين نرى منذ عصر النهضة مثقفا أكاديميا داخل أسوار‬
‫مؤسسة مغلقة تشكل حوله شرنقة تمنع ‪ -‬ألسباب تاريخية غير حتمية‪ ،‬وخضوعا لسلطة ذات‬
‫وجود عرضي؛ سلطة غير مبررة جوهريا‪ -‬تمنع تسرب الحياة الفعلية الواقعية املحسوسة إليه‪،‬‬
‫وهذا ما يبرر كثرة التنظير في حياتنا" وارتطام املباني النظرية املستمر بأسوار الواقع والتطبيق‬
‫واملعاينة الحية املباشرة‪.‬‬

‫شخصيا أشتغل في حياتي األكاديمية على ميادين تقتبس صفحات حياتي مباشرة‪ ،‬فقد مارست‬
‫الترجمة ّ‬
‫ودرستها وبحثت فيها ألنني عرفت التعددية اللغوية باكرا في حياتي ؛ الشيء الذي جعلني‬
‫أقف في مفترقات طرق كثيرة على امتداد حياتي منحتني إمكانية النظر إلى أشياء كثيرة من منظور‬
‫مزدوج املوقع ألنه مزدوج اللغة؛ أي مزدوج العقل والوعي والحساسية؛ أفليست اللغة ميدان العقل‬
‫ومسبار الوعي وأبجدية الحساسية؟‬

‫كما اشتغلت كثيرا على الخيال العلمي الذي ُيعد – بغرابة كبيرة – مدخلي إلى الفلسفة‪ ،‬فبعدما‬
‫عكفت بعسر كبير على كتب الفالسفة الكبار طيلة سنوات التكوين األولى ( مما قبل دخول الجامعة‬

‫‪177‬‬
‫حتى مرحلة مابعد التدرج) دون تحصيل شيء كبير عدا عادة التقعر بذكر بعض األسماء املعروفة‬
‫ومخملية استحضار مقوالت كنت أحفظها ملتصقا بقشورها" دون املرور صوب لبابها‪ ،‬جاءني الولع‬
‫الكبير بالخيال العلمي فتعودت على التفكير من زاوية طرح السؤال النظري " ماذا لو أن‪...‬؟"‬
‫‪...‬سؤال سيكون له واسع الفضل في توجيه حواسي التفكيرية صوب الفرضيات املمكنة‪ .‬والواقع هو‬
‫أن ألذ ما في الخيال العلمي هو فكرة االفتراض أو املضاربة – كتلك التي في أسواق تداول العملة‪... -‬‬
‫إن االفتراض(أو املضاربة ) ‪ Spéculation‬هو فعال ما يفعله كاتب الخيال العلمي إذ يأخذ معطيات‬
‫حاضرة؛ فلسفة‪ ،‬عقيدة‪ ،‬اتجاه سياسي‪ ،‬هاجس بيئي‪ ،‬إنذار بكوارث طبيعية‪ ،‬بحث علمي ‪ ...‬الخ‪ ،‬ثم‬
‫يغزل باالتكاء عليها قصة يحاول من خاللها توقع ما سيحدث لو أن ما يعتمل في صلب " الحاضر "‬
‫قد تحقق‪ ،‬لو أن الخطر الذي ينذرنا منه العلماء مثال قد َّ‬
‫حل‪ ،‬لو أن املحاولة العلمية التي نعلق عليها‬
‫باملجنونة قد نجحت ‪...‬وهذا هو جوهر الفلسفة في الحقيقة‪ ،‬فهي تنويعات عقلية – فيتجنشتاين‬
‫يقول‪ :‬تنويعات لغوية فقط‪ -‬حول الحاضر واملمكن واملوصوف واملحدوس الذي ال نعلم بعد شكله‬
‫وال طموحه في الحياة‪.‬‬

‫‪    ‬الخيال العلمي مغامرة في الكتابة؛ وهو بهذا – وإذا تاملنا وجهة النظر الديريدية في الكتابة على أنها‬
‫رغبة ميتافيزيقية في ترك اثر يتعالى" على الحياة مرتين؛ مرة بوصفها من األعلى‪ ،‬ومرة بالطموح‬
‫باق‪... -‬بهذا املعنى نرى كم أن الخيال العلمي يتميز‬
‫املشروع جدا بأن تنقضي الحياة واألثر املكتوب ٍ‬
‫أساسا –وأكثر من اي نوع كتابي آخر‪ -‬بإمكانيات الكتابة الكثيرة التي يمنحها هذا النوع للكاتب من‬
‫املنطلق األول األصلي الرئيسي للخيال؛ أليس الخيال في تعريفه القاعدي هو تفكيك للواقع إلى قطع‬
‫صغيرة ثم إعادة تركيبه حسب استراتيجيات معطاة؟‬

‫هذا التعريف يجعلنا نعود إل السؤال حول الخطابات التي نبتغي تشكيلها حول الحياة‪ ،‬وهي‬
‫خطابات كامنة" في رواياتنا بشكل شبه وراثي – فهي دالة حصريا علينا وبشكل سهل السبر والوصف‬
‫والتحديد‪ -.‬وهذا سر ارتباطي أيضا بالكتابة الرواية‪ ،‬كفيلسوف يريد تشكيل خطاب تخييلي حول‬
‫الواقع والحياة وعدم االكتفاء بتشكيل الخطاب التحليلي‪ /‬التدليلي فحسب‪.‬‬

‫لق""د أس""لفت في بعض كتاب""اتي ذك""ر مث""ال أراه على درج""ة ش""ديدة األهمي""ة‪ ،‬إذ يق""ف س""قراط في بعض‬
‫محاورات""ه قبال""ة رفقائ"ه" الطلب""ة بع""د مقاطع""ة م""ا متس""ائال‪ :‬واآلن م""اذا تري""دون أواص""ل عرضي أم أروي‬
‫لكم حكاية؟"‬

‫‪178‬‬
‫الطريق إلى الحقيقة قد يتأتى مما يسميه هللا "ضرب األمثال" من خالل رواية أقاصيص مرتبة حسب‬
‫استراتيجيات عاقلة عاملة عاملة‪ ،‬كما تتأتى من خالل العرض الفلسفي املعهود املعتمد على التحليل‬
‫والبرهان واالستقصاء والتمثيل املجرد والصيغ العقلية التجريدية‪.‬‬

‫أعتقد بأن هذه هي الزاوية التي شدت حواسي باكرا وردمت الهوة الوهمية الكالسيكية التي بين سرد‬
‫الحكايات وعرض الحقائق املجردة‪ ،‬أي بين عمل الروائي أو الشاعر وبين عمل الفيلسوف‪.‬‬

‫والخالصة هي أن الرواية صورة للواقع الذي ال نشاط للعقل البشري منذ الخليقة حتى الحقيقة إال‬
‫ّ‬
‫العصي على الحواس ‪...‬‬ ‫وهو نشاط يصب في محاولة اقتناص صورة هذا الواقع املركب املتداخل‬

‫وواقع األمر فيما يتعلق بالرواية في ظني هو أننا كثيرا ما نغفل عن كون الرواية طريقة للنظر الى‬
‫الحياة؛ الشيء الذي يقودنا إلى التفكير بأن دراسة رواية أو نقدها وتحليلها‪ ،‬وحتى طريقة قراءتها‬
‫وطريقتنا في الحديث عنها هو تفكير في الحياة‪ K‬ووجهة نظر نتخذها للحديث عن األشياء املحيطة بنا‪.‬‬

‫س‪ :2‬ما هي أهم االنشغاالت الفكرية التي طرقها فيصل األحمر؟‬

‫ف‪.‬ا‪ :‬أعتقد أنني – حالي في ذلك كحال أي مثقف يحاول أن يكتسب جدارة هذه التسمية الكبيرة‪-‬‬
‫مهووس بفكرة "اإلصالح"؛" مع كل الشعور بالخيبة الذي أصبح منوطا بهذه الفكرة أو بهذا املصطلح‬
‫تحديدا‪ ،‬هذه الفكرة التي نجدها – مع ذلك ولحسن الحظ ‪ -‬تتجدد جيال فجيال؛ فهو املفهوم نفسه‬
‫الذي يتسمى عند اإلغريق بالتطهير‪ ،‬وعند الهلنستيين بالفهم واملراجعة‪ ،‬والوارد في الفكر الديني‬
‫اإلسالمي تحت عنوان "تجديد الدين" أو "اإلحياء"‪ "،‬وهي عينها املسماة عند كانط بنقد العقول‬
‫السائدة‪ ،‬وعند املحدثين بالثورة أو التقويض أو إعادة النظر أو التحليل وإعادة التأهيل‪ .‬والفكرة –‬
‫في جوهرها ‪ -‬هي العمل على مكاسبنا العقلية من أجل تحسين الظرف البشري ( وهذا هو مصطلح‬
‫البراغماتيين الدال على اإلصالح)‪.‬‬

‫من محركات التفكير عندي أيضا التأمل في التراث – وهو محرك غير بعيد عن الفكرة السابقة‪-‬‬
‫وخالصة مالحظاتي هي أننا قد غالينا كثيرا في التعامل مع التراث كخطاب على حساب التعامل معه‬
‫كنصوص‪ "،‬فالنص ولود والخطاب نهائي‪ ،‬النص دعوة للتحاور والخطاب دعوة للخضوع‪ ،‬النص‬
‫شرنقة للمعنى والخطاب كفن له‪ .‬وحتى عندما جئنا في القرن العشرين إلى التعامل مع هذه املعارف‬
‫اللغوية فلسفيا أخطأنا مبتغانا مرة بسبب العالقة املتشنجة مع التراث "املقدس"‪ "،‬والغلو في نزعة‬
‫ّ‬
‫وعرضيها‪ .‬ومرة ثانية بسبب سوء فهمنا" لهذه‬ ‫ّ‬
‫جوهريها‬ ‫تقديس كل أصناف الخطابات التراثية‬
‫‪179‬‬
‫املفاهيم" النظرية عميقة الداللة وشديدة االنعكاس على املستوى السياسي والحياتي لكونها تصب في‬
‫البؤرة الدينية التي هي ّأم أفعالنا‪ ،‬فدفتر الكلمات يحدد دفتر األفعال كما هو معروف عند‬
‫البراغماتتين وعند الفالسفة التحليليين‪ ،‬وهذا ما دفعهم إلى صب جام اهتمامهم الفلسفي على‬
‫الصياغة املتجددة للقضايا الفلسفية‪ ،‬بدال من التركيز على مناقشة القضايا الكالسيكية التي تفشت‬
‫حتى كادت تصبح حصرية الداللة على الفلسفة كتخصص مغلق على هذه القضايا‪ ،‬ومحكوم‬
‫باألشكال املتوارثة للقضايا دون إمكانية طرح أسئلة جديدة عليها إال بعد عنت شديد مع الطبقة‬
‫األكاديمية التي هي – من حيث املبدإ‪-‬طبقة متكلسة تكره الجديد‪.‬‬

‫لق ""د انتق ""ل مفه ""وم النص في الثق ""افتين اللغوي ""ة والفلس ""فية من الص ""ورة الش ""فوية ال ""تي تجعل ""ه كتل ""ة‬

‫واحدة خاضعة لص"نف معين من أص"ناف التلقي ص"وب الص"ورة املتع"ددة الكثيف"ة العميق"ة ال"تي تجع"ل‬

‫كل مكون نصي داخال في عالقات متع"ددة م"ع أي عنص"ر من العناص"ر األخ"رى وه"و األم"ر ال"ذي يعك"ف‬

‫التن""اص على دراس""ته من""ذ نص""ف ق""رن تقريب""ا‪ .‬وه""ذا االنتق""ال من ش""أنه أن يجع""ل مفه""وم النص يتع""دد‬

‫ويراوغ أذهاننا وأجهزتنا املفهوماتية مرارا إلى أن نصير نشعر بضرورة تفكيك املجمل وتيسير املعس""ر‬

‫وتب""يين املبهم ثن يجعلن""ا ح""ذرين من التص""ريف اإلي""ديولوجي واالس""تغالل السياسي لك""ل ه""ذه املف""اهيم‪.‬‬

‫في ض ""وء ه ""ذا تق ""ود مس ""اءالتي الفكري ""ة اس ""ئلة مث ""ل‪ :‬ه ""ل الحي ""اة خطاب ""ات ام نص ""وص؟ وأيهم ""ا أس ""بق؟‬

‫وأيهما يجر اآلخر في دروب املعنى؟‬

‫الظاهر في عرفي – على هامش تأمالتي الكثيرة في التقابل الفكري والفلسفي الذي أراه مجديا دائما‬
‫بين التراث والحداثة ‪ -‬هو أنه قد ساد عندنا االعتقاد بأننا بصدد التفكير في النص بدال من العكوف‬
‫على الخطاب‪ ،‬والحقيقة هي أن العكس هو بالتحديد ما كان بصدد الحدوث‪.‬‬

‫تطرح نفسها جملة من األسئلة‪ :‬أيهما يشكل اآلخر؛ الخطاب أم النص؟ هل خطاباتنا" حول الذات‬
‫والهوية والعقيدة والحرية والتعاطي السياسي واإلمامة والقرآن واإليمان وامليتافيزيقا وهرمية‬
‫الف َرق اإلسالمية واملفاضلة بينها هي التي تحدد مآالت النصوص أو تقوم بتصريفها (علما أن التاويل‬
‫ِ‬
‫هو إعادة إنتاج للنصوص كانها لم يسبق لها أن تكون)؟ أن أن العكس هو ما يحدث فترسم‬
‫النصوص مالمح خطاباتنا؟"‬

‫‪180‬‬
‫والسؤال الجامع لكل ذلك هو التالي‪ :‬إذا كنا نعيش اليوم "أبوريا" كبرى فأين يكمن الخلل؟‬

‫كيف يمكن للنص الوحيد الذي يبدو متماسكا "محفوظا" أن يترتب عنه كل هذا الغبش املعرفي وكل‬
‫هذه الفوضى التأويلية التي تنتهي إلى الصراع الدامي؟‬

‫س‪ :3‬ماذا عن الشعر في ظل هذه الخريطة؟ هل يملك الشعر موقعا يخول له الخوض في املعارك‬
‫الفكرية التي تندلع اليوم في أطر تبدو غير شعرية على اإلطالق؟‬

‫ف‪.‬ا‪ :‬مما كتبته وكررته مرارا في محاضراتي تفسيري للمعارضة الشرسة التي يواجهها" الشعر على‬
‫أيامنا من قبل املؤسسة الرسمية؛" اقصد رجل السياسة ورجل الدين‪ .‬إنه ملن املثير للغرابة أن يتفق‬
‫هذان الرجالن على معارضة الشعر وأن تكون الحجتان األقوى لهذين االتجاهين هما القرآن الكريم‬
‫(في قراءة سريعة متسرعة) وجمهورية أفالطون ( في قراءة خالية من التمعن)‪ .‬والواقع هو أن الشعر‬
‫يفضي على مسالة شديدة األهمية" من وجتهي النظر الفلسفية والسياسية‪ .‬كيف ذلك؟‬

‫يعلمنا الشعر التعامل مع اليقينيات املحيطة بنا تعامال عائما يبدو لنا أول األمر مائعا بال ضفاف‪،‬‬
‫ويثير من جملة ما يثيره رد فعل صارم مفاده أن الشاعر ال يعرف ما يقول ونحن نحتاج ألجل‬
‫التفاهم إلى معرفة ما نقوله بالتحديد والدقة وبالفصل الواضح القطعي في الفروق بين الكلمات‪،‬‬
‫هذا املنطق "الحقيقي" يتنافر مع املنطق "املجازي"‪...‬‬

‫إال أن التاريخ يعلمنا بأن كل الحقائق التي يرتكز عليها زمن معطى تنتهي بأن تتحول إلى باطل ما‪،‬‬
‫وتتقادم‪ ،‬ويتجاوزها قطار الحقيقة‪ ،‬لكي تصبح قوالب لغوية جاهزة وشبه مفرغة من املعنى ومن‬
‫الجدوى اثناء االستعمال‪ ،‬قوالب علينا تجاوزها من أجل بلوغ الحقائق الجديدة‪ ،‬وهكذا يتحول‬
‫التاريخ إلى سلسلة طويلة من اإلخفاقات "املدعية" للحقيقة‪ ،‬والتي ثابتها الوحيد هو املجاز‪ ،‬هو‬
‫الدرجة الثانية للمعنى‪ ،‬هو الحياد بالكلمات عن مراتبها املعروفة؛" وهذا هو جوهر اللغة الشعرية‬
‫َ‬
‫التي وصف أهلها هللا في محكم تنزيله بأنهم يقولون ما ال يفعلون‪ ،‬وكان ذلك وصفا لطبيعة شيء ما‬
‫اسمه اللغة الشعرية‪ ،‬ولم يكن تماما حكما أخالقيا كما قرأه املفسرون مرارا‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫من التجارب التي عكفت عليها بكثير من التأمل تجربة كتابة الهايكو‪ ،‬ذلك الشكل الشعري اآلتي إلينا‬
‫من اليابان متبعا طريقا غير التي يتبعها الشعر عندنا في املشرق‪ ،‬فالشاعر عندنا سليل ساللة شعرية‬
‫ُ‬
‫بالضرورة‪ ،‬في حين يأتي إلى الهايكو أهله من باب التأمل والحكمة ال من باب اللغة والبالغة‪.‬‬

‫ذلك أهم شيء وأكثر أمر راقني في تلك التجربة الشعرية‪ .‬من جهة أخرى هو شعر يتماشى مع‬
‫"جاهزية"" العصر‪ ،‬ورغبته في القنص اليسير‪ ،‬في املأخذ السريع البسيط‪ ،‬في السرعة وامللل وضرورة‬
‫التغيير من اجل االنتقال إلى شيء آخر‪ .‬الهايكو في عرفي حرب على ضغط الكالم غير الشعري علي‬
‫حينما" أنتقل إلى صيغتي الشعرية‪...‬هو انتصار للصمت‪ ...‬طريقة لتصفية القصائد من املعلوم املكرور‬
‫‪ ...‬من عنف "الطريقة" الشعرية‪...‬وهو" ثوري جدا بهذا املعنى‪ .‬ثوري وغير ائتالفي‪.‬‬

‫الهايكو صوت يتوسط املسافة بين اإلنسان والطبيعة‪ ...‬مسبار يلتقط العالم بال جلبة‪...‬يستعيد" طاقة‬
‫البداهة والوحشية النباتية ( ال الحيوانية) التي كانت تأهل األرض قبل أن تهيمن الحقيقة على باقي‬
‫املوجودات‪...‬‬

‫هو جملة تتحاور مع الصمت حول معطى الحاسة البسيطة (ما أراه وأسمعه وما أفكر فيه‬
‫مباشرة‪ )...‬دون الطمع في تشييد بناء "شعري" كاذب ينتهي إلى تكريس املحيط املألوف والحيل‬
‫ُ‬
‫اللغوية واألكاذيب التي تعودنا اللغة عليها من خالل قتل األشياء والحلول محلها‪.‬‬

‫هو كشف ملا تختزنه الحياة في البساطة‪ ...‬معطى االنمحاء الذي في الطبيعة وفي الحياة‪ ...‬سرح للعالم‬
‫البعيد عن االعتداد البشري‪ ...‬بيانات منمحية ضد العلو في األرض‪ ...‬جبهة مقاومة كالمية تنتصر‬
‫يضحي بالحقيقة في سبيل تحقيق‬‫املتقول الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫املمنطق‬ ‫للعقل‪ /‬القلب ضد العقل‪ /‬اللوغوس‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القاعدة اللغوية‪...‬‬

‫س‪ :4‬هل يمكن أن نفكر في تأسيس مبحث فكري عربي ينشغل بقضايا الدراسات الثقافية؟‬

‫ف‪.‬ا‪ :‬أعتقد أننا أمة تناسبها الدراسات الثقافية تماما‪ ،‬أمة ذات خلفية إستيطيقية شكالنية عميقة‬
‫لم يحدث لها يوما أن انفكت عن املسألة اإليطيقية‪ ،‬وهذا اإلخاء بين الجمالي" واألخالقي" معادلة‬
‫صعبة تمت لنا بيسر كبير بسبب خاصية" كامنة في الدين اإلسالمي ‪ ،‬في حين أن األمم األخرى ال تزال‬
‫تتعامل معه بتشنج كبير‪...‬فالتقاليد األكاديمية في الغرب ال تزال تستعسر هضم انشغال العالم‬

‫‪182‬‬
‫باملسألة االجتماعية‪ "،‬واملدونة األدبية مثال تظل بعيدة تماما عن الشأن اإليديولوجي – إال في إطار ما‬
‫تقتضيه حاجة النص أحيانا‪ -‬في حين نالحظ عندنا مثال املسافات املتقاربة" بين الدراسات اللغوية‬
‫والدراسات القرآنية ذات الطابع الثقافي التأويلي والتي لم نتمكن من ولوج بابها إال بواسطة دراسة‬
‫لغة الشعر واألحكام البالغية التي هي السنن اللغوي والداللي للداء القرآني‪...‬‬

‫في الغرب نجد عسرا في اختزال هذه املسافات‪ ،‬عسر يزداد أواره بسبب التقاليد األكاديمية – كما‬
‫أسلفت‪ ... -‬املذهب الوضعي مثال‪ ،‬أو املذهب التجريبي يمانعان تماما إذا ما جئناهما" بالنزعة التأويلية‬
‫للدراسات الثقافية التي جاءت تحول مسارات تفكيرنا الفلسفي من السؤال عن كيفيات الظاهرة‬
‫وحيثياتها إلى السؤال عن مآلها الحياتي وتوريطاتها السياسية‪ "،‬وعن طبيعة عملها التحتي من أجل‬
‫تصريف فعل الهيمنة اثناء إنتاج‪/‬إعادة إنتاج‪/‬استرجاع الخطابات املختلفة؛ من وصفة الدواء إلى‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫تعل ُمنا (وربما ّ‬
‫"األسماء كلها"‪...‬‬ ‫تحملنا فتبرمجنا كي نبتلع)‬ ‫القواميس التي ِ‬

‫أفق الدراسات الثقافية مفيد في تعليمنا ما لم نكن نعلم‪ :‬كيفية طرح أسئلة جديدة على الحياة‪.‬‬
‫الشك في امليراث اإلنساني في امليدان الشائك املعقد الذي هو "اإلنسانيات"‪ ،‬وضرورة مراجعة‬
‫مسلماتنا التي ال تخلو أبدا من فخاخ كامنة" تعمل عملها غير امللموس والذي هو بالكاد محسوس‪،‬‬
‫والذي يظل قويا وفعاال مع ذلك‪.‬‬

‫تقف الدراسات الثقافية" في منتصف الطريق بين خطاب "شرف املعرفة ونبلها" ‪،‬وبين خطاب‬
‫"فائدتها" أو خطرها"" ؛ أي خطاب التأمل في دورها" – اإليجابي او ربما السلبي‪ -‬في تسليط هيمنة صانع‬
‫املعرفة" علينا؛ نحن املستهلكين لها‪.‬‬

‫لقد كانت الحواس الصحيحة لعلماء األصول – في مرحلة الرقي اإلسالمي‪ -‬تهديهم مباشرة إلى آلية‬
‫تطويع النصوص املترجمة حديثا عن اللغات األجنبية؛ فيقومون بغربلة مثيرة للعجب‪ ،‬فطرحوا‬
‫املسرح مثال لشعورهم بال جدواه اإليديولوجية" في مرحلة البناء تلك‪ ،‬مع وجود ما يعوضه لديهم‬
‫(بتعبير الجاحظ ثم حازم القرطاجني الحقا)‪ ،‬ولو كنا نحن من يفعل ذلك لكنا ترجمناه آليا ملجرد‬
‫مجيئه من البالد األجنبية‪ .‬وهذه املالحظة املثيرة تعيدنا على مفهوم الدراسات الثقافية التي تتقدم‬
‫أمامنا كمقاربة متعددة التخصصات واملناهج واإلجراءات للحياة وجوانبها الظاهرة التي نكنيها‬
‫"ثقافة"‪ ،‬مقاربة تجتهد ألجل استعادة مسارات تشكل التجارب الفردية‪ ،‬ثم تحولها‪ ،‬وانتهاء بذوبانها‬
‫أو عدمه في امليراث الجماعي‪ .‬محاولة لرسم خرائط "اليومي" الذي يتأسطر بمعزل عنا‪ ،‬ثم ننام‬

‫‪183‬‬
‫ونفيق لكي نجده قد اكتسى جالل القرون الخوالي‪ ،‬ونقول‪ :‬هي فجوة األجيال‪ .‬ولكن ما هي مسارات‬
‫هذه الفجوة؟ َ‬
‫عالم تفضي يا ترى؟‬

‫هي عاداتنا في سطحيتها املخادعة ‪ ،‬وكل املوضوعات والخبرات والتمثيالت التي درجنا على تسميتها‬
‫"الثقافة"" التي تتقصى الدراسات الثقافية طرائق علمية بديعة إلعادة تفكيك شبكاتها" التي تبدو لنا‬
‫خاضعة" لحتميات عريقة رغم أنها مجرد تشكالت حديثة جدا وعرضيةتماما‪ "،‬تدعونا إلى عمل‬
‫جينيالوجي" على مختلف الظواهر من جهة‪ ،‬وفضح صالت الهيمنة التي تتحكم فيها أو تنتج عنها من‬
‫جهة أخرى‪.‬‬

‫يبقى أن املدرسة املحلية لهذا النمط من املقاربات املعرفية عليها أن تواجه مشكال كبيرا ومشكال‬
‫معقدا؛ الكبير هو طريقة دخول التراث بعيون جديدة تستعمل آلية الطرح واالحتضان؛" والطرح‬
‫عندنا يطرح مشكلة بسبب القداسة الوهمية التي تعودنا صبغ عالقتنا بالتراث بها‪...‬‬

‫واملشكل املعقد هو أن هذه املقاربة ال تتخذ لها منهجا أبدا؛ بل هي مقاربة استكشافية تتعامل مع‬
‫موضوعات املعرفة معاملة الرحالة الذي يدخل بالدا غريبة غير معروفة ويحاول استكشافها" ألجل‬
‫وضعها على خريطة اإليديولوجيا" وصراع الهيمنة واالستثمار السياسي والتجاذب‬
‫الحضاري‪...‬ويضاف تعقيد من درجة ثانية هو ذلك املتعلق بالطريقة التي ال بد لها أن تكون سلسة في‬
‫استجالب هذه املناهج من الغرب املختلف ثقافيا واملتهم إيديولوجيا بالرغبة في املسخ الثقافي" والغزو‬
‫الفكري ألجل الهيمنة علينا في الشرق الخاضع لفعل االستيهام املستمر – بتعبير إدورد سعيد‪...-‬‬
‫وهذا االستجالب يطرح مشاكل منهجية أعتقد أن مناقشتها والبحث عن حلول لها قد تكون عتبة‬
‫هامة لدخول هذا الحقل املفيد لنا في مرحلة تجديد الغزو واالستعمار التي تعرفها أمتنا ومنطقتنا‪".‬‬

‫ولكنها حلول تعود حقل الدراسات الثقافية" على حلها ببراعة كبيرة تعتمد تعددية اآلفاق وتقاطع‬
‫منابع املعرفة وتضافرها" ألجل االستفادة من عشرات وجهات النظر واملنظورات العلمية والحيل‬
‫املنهجية واإلضاءات االبستمولوجية في مقاربات قد توصف بالتلفيقية ولكنها ال يمكن أال توصف‬
‫بالفعالة الناجعة‪.‬‬

‫س‪ :5‬هل من املمكن أن نؤسس لفضاء يهتم بالترجمة‪ ،‬ونعيد بالتالي إحياء املاضي التليد ألمتنا؟‬

‫‪184‬‬
‫ف‪.‬ا‪ :‬موقع الترجمة في العالم اإلسالمي القديم ليس هو موقعها اليوم‪ ،‬وإذا كان لنا أن نقرب شيئا‬
‫اليوم مما كانت الترجمة تلعبه كدور باألمس الجميل ألمتنا فإننا سنحل محل الترجمة مراجعات‬
‫الكتب‪ ،‬هذا النشاط الثقافي الهام الذي يقدم املعرفة املحيطة بنا‪ ،‬وليس معنى هذا الكالم إننا في غير‬
‫حاجة إلى الترجمة بل نحن محتاجون" إلى الداللة على الكتب الكثيرة الجديرة باالطالع عليها‪ ،‬قارئنا‬
‫البسيط وطالبنا الجامعي يحتاج إلى معرفة مظان الكتب‪ ،‬ويحتاج إلى شيء نحن فقراء جدا إليه‪:‬‬
‫هرمية املؤلفات؛ االعتبار الهرمي الذي يجعل الواحد واعيا بأمهات الكتب ثم باألقل أهمية‪...‬وهكذا‪"...‬‬

‫بعد هذا الدور "املؤشر" على الكتب نحتاج – بشدة‪ -‬إلى ترجمة الكتب لتسير سبل التنوير الذي هو‬
‫بغيتنا ومبتغانا‪ ،‬فالشرط األول للتنوير هو خلق جدوى األشياء‪ ،‬وتزويد األرواح املطمئنة التي‬
‫تتآكلها الدعة في زاوية الظالم بالشغف الضروري إلى النور واملعرفة‪ .‬كثيرا ما تساءلت في كتاباتي عن‬
‫سبب الركود الذي يحيط بنا؛ متأسيا بأساتذتي النهضويين الذين لم يكفوا يوما عن السؤال حول‬
‫"سبب تقدم الغير وتخلفنا"‪ "،‬وحول "شروط النهضة" ‪ ...‬والراجح هو أن االستعمار قد خلق فينا‬
‫قنوطا من الغلبة الدنيوية فصببنا" جام غضبنا‪ /‬فرحنا‪ /‬أملنا على الفوز األخروي الذي هو نوع من‬
‫االنسحاب من معارك الحياة‪.‬‬

‫في هذا السياق أتوقع أن تكون الترجمة نوعا من "املهماز"" الذي يحرك أسئلتنا حول مدى صحة‬
‫"الشعور باالكتفاء" الذي يملؤنا في هذه الزاوية من الكون‪ .‬فالترجمة تضع صورتنا قبالة صورة‬
‫اآلخر وحينها‪ ،‬وحينها فقط يمكننا أن نرى صورتنا في مرآة اآلخر‪ ،‬انعكاس ذو قيمة فكرية كبيرة‬
‫بحيث يمكننا جعله الشرط الضروري والحصري للشعور بضرورة فعل التنوير الذي هو دائما – في‬
‫مطلق األمر‪ -‬فعل ياتي ليهدم بناء نتعود عليه‪ ،‬ونتلذذ بتكراره ظنا منا بأنه اإلمكانية الوحيدة التي‬
‫يمكن لألشياء ان تكون عليها‪.‬‬

‫س‪ :6‬هل تعتقد بأننا نعيش مرحلة تنوير؟ كثيرون سيقولون عكس هذا الكالم‪ ،‬فحالنا ليست‬
‫جيدة ال فرديا وال جماعيا‪ ،‬وال داخليا وال خارجيا؟‬

‫ف‪ .‬ا‪ :‬يبدو لي العصر الذي نعيشه عصرا مشبعا بالحاجة" إلى النزوع التنويري؛ تلك الحالة التاريخية"‬
‫التي تتميز من ضمن ما تتميز به بنمط معين من تحديد األولويات الفكرية وتغيير االبيستيمات‬
‫تمهيدا لطرح أسئلة جديدة على الحياة التي ورثناها؛" واقتراح باراديغمات ال عهد لنا بها من اجل‬

‫‪185‬‬
‫مقاربة الحياة والفكر ‪ ،‬عصرنا هو عصر بحاجة إلى التنوير أيضا من باب تعطشه الكبير للتأويل؛‬
‫تلك الطاقة الكامنة" في املعاني التي تحتاج إلى إعادات االعتبار" للحواس العقلية التي يؤدي التعود على‬
‫ّ‬
‫برنامج محدد متكرر للمعنى ولطبيعة الصلة التي نتعود عليها معه إلى تبلدها ومنه إلى حاجتنا" إلى‬
‫إعادة تثقيفها‪ .‬من الغريب مثال أن تراجع ترثنا الفكري فيما يتعلق بالجنس مثال (وهو موضوعة‬
‫أشتغل عليها حاليا) فترى الدرجة الكبيرة من تطويع الواقع العربي الصحراوي لتيمات تربت ونمت‬
‫في الحواضر الشرقية؛ هندا وسندا وفارس‪ ،‬ولكن العطش إلى التأويل – كما أسلفت يخلق القناطر‬
‫الداللية الكافية" لالستحواذ على شوارد املعنى شرقا وغربا‪ ،‬ثم تربية الذوق العام على خلق صالت‬
‫"األلفة" مع املعاني (وهذا هو جوهر" الفعل التنويري)؛ سواء في ذلك املعاني الجديدة او املوحشة التي‬
‫غالبا ما نجد الوسط الفكري يصفها بصفات مضادة للتنوير من قبيل "الغريب"‪" ،‬الهجين الثقافي"‪"،‬‬
‫"التلوث الفكري"‪" ،‬الغزو الثقافي"‪ "،‬االستالب الحضاري" ‪"،‬املختلف اإليديولوجي"‪ "...‬الخ‪...‬وكل ذلك‬
‫خطابات حسنة النية تسقط في ظالمية مهلكة تعمل كالقاطعة في نظام الدارة الكهربائية‪ "،‬فتمنع تيار‬
‫التفكير واملراجعة‪ "،‬لتقطع الطريق أمام التأويل في مسار مشبع باالكتفاء الذي هو مقبرة املعاني‬
‫ونعش الحياة‪.‬‬

‫في مساري الفكري أصر كثيرا على مقولة "املراجعة"" بدال من الفكر الثوري الذي اثبت مرارا‬
‫محدودية عمله‪ .‬الفكر بمنظار املراجعة يجعلنا نعيد زيارة مواقع التراث بعيون محملة بإمكانيات‬
‫رصد جديدة؛ بهدف مساءلة تاريخنا الفكري الذي هو جزء من حاضرنا الحياتي ‪ ،‬والذي هو منبت‬
‫مساءالتنا لواقعنا الثقافي‪ ،‬والذي هو أرضية الحساسيات التي نولد مزودين بها في إطار نوع من‬
‫الحتمية التي ال نهرب منها إال إليها؛ من أين تأتينا هذه امليول الدقيقة اللطيفة الخفية التي تعمل فينا‪"،‬‬
‫وتتجلى من خاللنا دون أن نشعر بعملها؟‬

‫هذا هو نوع األسئلة التي أبحث عنها وأنا أعيد زيارة مواقع معينة من التراث بعيون تدربت على‬
‫رصد الظواهر الناتئة عن مألوفنا‪ ،‬وعلى اإلحساس بالغرابة‪ ،‬والعدول‪ ،‬والهيمنة الخفية لألشياء‬
‫ولألفكار‪ ".‬وهذا ما فعلته في دراساتي حول "اصول البحث السيميائي في التراث" (‪ ،)2005‬و "الداللة‬
‫الصوتية بين املوسيقى والشعر وعلم الداللة" (‪ )2011‬و "في مقاربة مابعد البنيوية" (‪ ،)2011‬و‬
‫"الترجمة‪ ،‬مقاربة ثقافية"" (‪ ،)2008‬و " مالمح التخييل العلمي عند العرب" (‪ )2006‬وكذلك "في"‬
‫االستثمار الحداثي للسرد العربي" (‪ )2011‬والقراءات مابعد الحداثة للنصوص العربية املعاصرة (‬
‫‪...)2009/2016‬‬

‫‪186‬‬
‫بالنسبة للجزء اآلخر من السؤال؛ اقصد مالحظتك أستاذ حول حالنا اليوم‪ ،‬وحول السواد املخيم‬
‫على كل مناحي الحياة فسأكتفي بتكرار مالحظة حكيم األزمنة املعاصرة‪" :‬إدغار موران" الذي يردد‬
‫دائما بأن املفاجأة والسيناريوهات غير املتوقعة هي إحدى ثوابت التاريخ‪ ،‬وكثيرا ما تكشف التاريخ‬
‫عن أشياء لم تكن تماما في الحسبان‪ ،‬بل عن أشياء هي – في كثير من الحيان‪ -‬مناقضة" لكل‬
‫التوقعات‪...‬‬

‫لذا فلنحافظ على بذور األمل ألنها خير زرع في املراحل الحالكة كالتي نحن بصددها في بالدنا ومع‬
‫أمتنا‪.‬‬

‫س‪ :7‬ما هي أهم املشاريع التي يمكن أن نتكئ عليها من أجل التقعيد لتفعيل تفكري مبدع؟‬

‫ف‪.‬ا‪ :‬رغم تسطح إجابتي ورغم االنتقاد الكبير الذي يمكنني توجيهه للديمقراطية فإنني سأعترف بكل‬
‫صراحة بأن املشروع الديمقراطي هو خير ما وصلنا من املشاريع‪ ،‬فلنلتصق باملشروع الديمقراطي‬
‫على األقل ألجل الدعاية لقيمة هامة" تفتر إليها ثقافتنا" العربية رغم حرص تعاليم الدين اإلسالمي‬
‫عليها؛ أقصد قيمة الفرد‪ ،‬واحترام حياة األفراد‪ ،‬وشيوع قيم املواطنة التي ترتفع بمقام الفرد في‬
‫سلم الدول إل األعلى‪ .‬تراثنا ينطق للسف الشديد بالطبقية واحترام نبل املنشأ‪ ،‬واتخاذ موقع متميز‬
‫بناء على النسب والسلسلة العائلية ‪...‬الخ‬

‫من األشياء التي ال بد تربية النشء عليها‪ :‬االعتزاز بأنفسهم كأفراد مستقلين هامين استثنائيين‪ ،‬ال‬
‫تقديمهم ملدارس مصاصة للدماء تمألهم بقيم ليست صحيحة بالضرورة وليست مناط أي شيء مما‬
‫نبني به وبواسطته ومن خالله شيئا ذا بال‪...‬‬

‫أعتقد أن النموذج االجتماعي الديمقراطي هو نموذج سياسي وفكري قد نتعلم منه الكثير‪ ،‬وقد‬
‫نستفيد من زوايا نظره صوب أشياء الفرد والجماعة والعالم عموما‪.‬‬

‫نموذج آخر قد تكون فيه دروس كبيرة لنا هو النموذج اإلسالمي لدول أقصى الشرق‪ ،‬فقد حلوا‬
‫على ما يبدو املعادلة الصعبة فيما يتعلق باملالءمة بين اإلسالم والحداثة‪ ،‬وهو أنموذج أعترف تمام‬
‫االعتراف بأننا قد عجزنا عن املضي فيه قدما‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫كما يمكننا أن نبث الحياة في مشاريع امشاج بدا كأن أصحابها لم يكفهم القرن العشرون السريع‬
‫املتسارع كي يكملوها ويقدموها على أكمل وجه؛ أقصد مشاريع كمشروع محمد أركون و الجابري‬
‫ومالك بن نبي والطيب التيزيني وإدورد سعيد وهشام جعيط وعلي حرب ومالك شبل واملسيري‬
‫وعبد الوهاب ّ‬
‫مدب وباقر الصدر وعبد اإلله بلقزيز وطه عبد الرحمن وابي يعرب املرزوقي ومحمد‬
‫عمارة وهويدي ‪ ...‬تلك القراءات للواقع والتراث وللعالقات بين شرقنا املتعثر والغرب املتقدم‬
‫بتسارع كبير‪ ،‬قراءات منفتحة على املناهج الغربية‪ ،‬مع عدم التضحية بعناصر الذات التاريخية‪،‬‬
‫وبمكونات الهوية األصيلة واألصلية‪.‬‬

‫‪188‬‬
*
*

You might also like