Professional Documents
Culture Documents
دراسة
1
املحتويات
ُ
مقدمة األفق
أفق معرفي :أفق الدراسات الثقافية
أفق فلسفي :من سلطة التدليل إلى سلطة التخييل ،بين السرد والتاريخ
افق اللغة :شذرات من خطاب لغوي
أفق إيطيقي:حكمة لألزمنة الجديدة ،املشروع األخالقي لدى إدغار موران
أفق الواقع :الخيال العلمي واملستنسخ
2
ُ
مقدمة األفق
تعد الدراسات الثقافية مجاال مبتكرا متع"دد االختصاص"ات للبحث والنق"د والت"دريس ،ي"درس الط"رق ال"تي
تولد بها "الثقافة"" والطرق التي تحول من خاللها الخبرات الفردية والحياة اليومي""ة والعالق""ات االجتماعي"ة"
و ترسم عبرها خرائط السلطة .يستكشف البحث والتدريس في الدراسات الثقافية العالقات بين الثقافة
وزمري""ة ،و ك ""ذلك مفه ""وم الثقاف ""ات ال""تي تتق""دم أمامن""ا على أنه""ا ال""تي تفهم على أنه ""ا أنش""طة تعبيري ""ة رمزي""ة ُ
ط" ""رق مم" ""يزة للحي" ""اة .وتعتم" ""د الدراس" ""ات الثقافي" "ة" باس" ""تعمال تش" ""كيلة بديع" ""ة من نق" ""اط الق" ""وة في العل" ""وم
االجتماعية والعلوم اإلنسانية على األساليب والنظريات املنتشرة في ميادين مث"ل الدراس"ات األدبي""ة ،وعلم
االجتماع "،ودراسات االتصاالت ،والتاريخ ،واألنثروبولوجي"ا الثقافي"ة "،واالقتص"اد .ثم ترتك"ز على االش"تغال
عبر الحدود بين هذه املجاالت .الدراسات الثقافية" تعالج أسئلة ومشاكل جديدة مما يطرأ في الع"الم الي"وم.
وبدال من البحث عن اإلجابات التي ستستمر طوال الوقت ،تقوم الدراسات الثقافية بتط""وير أدوات مرن""ة
تتكيف مع هذا العالم املتغير بسرعة.
الدراس""ات الثقافي""ة ال تبتع""د عن كونه""ا حقال ع""ابرا للتخصص""ات يه""دف إلى إلق""اء الض""وء على املمارس""ات
الثقافي"ة والش"كل الخفي ال"ذي تملك"ه املق"والت الثقافي"ة" لكي تن"درج في أش"كال من املمارس"ة اإليديولوجي"ة
والسياس""ية غ""ير البريئ""ة ال""تي ترتك""ز عليه""ا ف""ترات تاريخي""ة لكي تم""ارس" ابع""د األش""ياء ال""تي يمكنه""ا أن ترتب""ط
بمع""نى الثقاف""ة ال""ذي يحي""ل على النب""ل واإلنس""انية والتع""الي" وال""روح املنفتح""ة على الع""الم ال على االس""تعمار
والعبودي""ة وهض""م حق""وق اآلخ""رين والرغب""ة الجامح""ة في الهيمن""ة وفي مح""ق األقلي""ات...وأش""كال أخ""رى من
الشقاء البشري والشطط السياسي الذي كثيرا ما بررته الثقافة.
من ه ""ذه الزاوي ""ة يتح ""ول حق ""ل الدراس ""ات الثقافي" "ة" إلى س ""احة نظري ""ة ه ""دفها كس ""ر مق ""والت وتعويض ""ها
نظري قوية تنتهي إلى تجديد وعينا بالع"الم ،ونفض غب"ار اليقين الزائ"ف ّ بمقوالت أخرى .في عمليات ضخ
الذي ال ركيزة له إال الزمن والتعود والتكرار الذي علم الدمار – بدال من تعليم الحمار.-
تك" " ""رس الدراس" " ""ات الثقافي " " "ة" لفهم املمارس" " ""ات النص" " ""ية ال" " ""تي من خالله" " ""ا تعم" " ""ل املراح" " ""ل واملجتمع" " ""ات،
واملجموع ""ات املتنوع ""ة املتش""كلة واملعتمل ""ة داخله""ا ،على خل ""ق تواف""ق وهمي م""ع الت ""اريخ والحي""اة املجتمعي""ة"،
وتح""ديات املس""تقبل ،وه""و امللمح ال""ذي ينتج من خالل""ه الش""كل الخ""اص لتعام""ل النق""د الثق""افي م""ع النص""وص
ال""تي يعم""ل عليه""ا .وتنطل""ق الدراس""ات الثقافي""ة من جمل""ة من أس""ئلة يب""دو أن املع""ارف ال""تي تتق""اطع معه""ا ه""ذه
الدراسات لم تتع"ود طرحه"ا ،فهي مقارب"ة متع"ددة التخصص"ات واملن"اهج واإلج"راءات للظ"اهرة الحياتي"ة –
كم""ا أس""لفنا -ه""دفها خل""ق منظ""ورات جدي""دة ص""وب موض""وعات مألوف""ة ص""ار عس""يرا أن نزعزعه""ا أو نختل""ق
3
إزاءها ادعاءات جديدة للحقيقة .أطر نظرية وممارسات ثقافي"ة ونص"ية ه"دفها" ال"رئيس ه"و تقصي الطري"ق
املعق ""دة ال ""تي تتش ""كل وتتح ""ول من خالله ""ا التج ""ارب الفردي ""ة والص ""الت الجماعي ""ة ،وك ""ذلك مظ ""اهر الحي ""اة
اليومية في سطحيتها املخادعة ،وكل املوضوعات والخبرات والتمثيالت التي درجنا على تسميتها "الثقاف"ة""،
وال""تي يع""د النص األدبي اح""د أملع تجلياته""ا ،وذل""ك في إط""ار من وص""ف جينيالوجي"ا" الظ""واهر من جه""ة وفض""ح
صالت الهيمنة التي تتحكم فيها أو تنتج عنها من جهة أخرى.
إنه حقل وليد س"ياق ت"اريخي معطى .س"ياق وج"د نفس"ه ال"وريث الت"اريخي لح"ربين كوني"تين مجنون"تين ،دون
إهم ""ال ال ""دور ال ""ذي لعب ""ه الس ""ياق مابع ""د الكولوني ""الي وريث الج ""انب املش ""رق من الفك ""ر املاركس ي اآلف ""ل،
وكذا طرائق نظر وعمل ما بعد البنيوية الوريثة الوفية والجسورة للبنيوية ،والفلسفة التحليلي""ة وريث""ة
التقالي " ""د التجريبي " ""ة والوض " ""عية ،والتداولي " ""ة الجدي " ""دة وريث " ""ة البراغماتي " ""ة ،واالثنوغرافي " ""ا وريث " ""ة العين
األنثروبولوجي ""ة ،م ""ع قابلي ""ة امتص ""اص كب ""يرة للحساس ""يات العلمي ""ة املنتش ""رة بش ""كل عس ""ير على اللملم ""ة
تحت راي ""ات من قبي ""ل الحداث ""ة ،مابع ""د املاركس ""ية "،النظري ""ة الفرنس ""ية ،س ""يميائيات الثقاف ""ة ،االقتص ""اد
السياسي ،الت""اريخ السياسي ،نق""د املش""روع التن"ويري ،م"دارس فرانكف"ورت ،ب""اريس ،لن"دن ،يي"ل ... ،وكله""ا
آف ""اق معرفي ""ة تجتم ""ع عن ""د النقط ""ة ال ""تي اجترحه ""ا الثالثي الفلس ""في اله ""ام :كان ""ط/هيغ ""ل/م ""اركس؛ الثالثي
ال" ""ذي ردم اله" ""وة الكالس" ""يكية بين املع" ""نى الفلس" ""في وبين اجه" ""زة الس ""لطة .فص" ""ار م" ""ا يق" ""ال في الجامع" ""ة في
ُ
الفضاء األك"اديمي على ص"لة وطي"دة بم"ا يق"ال في املج"الس السياس"ية واالقتص"ادية ،وبه"ذا كش"ف ألول م"رة
عن الحب""ل الس""ري الك""امن بين قاع""ة ال""درس في ال""رحم األك""اديمي وبين املج""الس املنتخب""ة او املعين""ة ال""تي
تمثل جمهور الناس وتتخذ القرارات السياسية بدال عنهم.
ه""ذا الحب"ل الس""ري ه"و أهم م""ا ي""دور حول""ه الترك"يز في أف""ق الدراس""ات الثقافي"ة" ال""ذي يختص"ر مش""روعه في
عناوين صارت منذ قرابة األربعين س"نة من كالس"يكيات ال"دروس الجامعي"ة :م"ا عالق"ة الخط"اب بالع"الم؟
كي""ف تعم""ل النص""وص على توجي""ه دف""ة الع""الم؟ كي""ف تتعام""ل أجه""زة الس""لطة م""ع الفض""اء األك""اديمي ال""ذي
يتفاع""ل معه""ا؟ م""ا عالق""ات التق""اطع الخفي""ة بين الس""لطة والحقيق""ة (املع""نى ال""ذي تم ترس""يمه مؤسس""اتيا)؟
م ""ا حقيق ""ة النس ""خ العدي ""دة للحقيق ""ة ال ""تي ينتجه ""ا الت ""اريخ؟ كي ""ف تتص ""ارع وكي ""ف تفض نزاعاته ""ا؟ م ""ا هي
آلي" ""ات مراجع" ""ة قيم طبق" ""ة أو مرحل" ""ة معين" ""ة؟ وم" ""ا حقيق" ""ة وش" ""كل الج" ""دل الق" ""ائم بين الجه" ""از السياس ي
والجهاز الفكري اللذين يعتمالن ويشتغالن في الحقبة نفسها؟
اتخذت املدرسة األنغلوسكسونية ذات الري"ادة في ه"ذا املي"دان عن"وان الثقاف"ة بس"بب مي"ل انغلوسكس"وني
ص""وب اإليم""ان ب""دور "نم""ط معين" من الثقاف""ة في املحافظ"ة" على نظ""ام ق""ائم معين .فعن""وان الثقاف"ة" يتج""اوز
4
في ع " " ""رفهم املعرف " " ""ة ص " " ""وب املمارس " " ""ة ،وي " " ""نزلق بيس " " ""ر من القيمي ص " " ""وب الس " " ""لوكي؛ أي من الوج " " ""ود
االستيطيقي املحض صوب البعد االيطيقي املورط سياسيا .لهذا نج""د أولى محط""ات ه""ذا الحق"ل تمثلت في
مراجع ""ة املدون ""ة الجماليى ""ة (أو النقدي ""ة) لألدب في املنه ""اج األك ""اديمي االنغل ""يزي ،إذ أش ""ار ريمون ""د ويليم ""ز
مبك ""را إلى محدودي ""ة نظ ""ام الحكم الجم ""الي" على النص ""وص "املرس ""مة او الكالس ""يكية" "،وأش ""ار إلى أن ه ""ذه
النص""وص تمث""ل دع""وات للتفك""ير العمي""ق والج""دي في املع""نى الح""الي للثقاف""ة "،وأن ثقاف "ة" انجبت النص""وص
وأنجبتنا أو أنجبناه"ا" ق"د تتجلى بجالء من خالل زواي"ا نظرن"ا ص"وبها ،وهي نظ"رة س"تجد ل"دى ل"وي ألتوس"ير
ثم فوكو كل املسميات الواص"فة له"ا واألط"ر النظري"ة ال"تي توض"ع فيه"ا ه"ذه النص"وص ال"تي ال يمكن فهمه"ا
إال على اس ""اس كونه ""ا خطاب ""ات؛ فيه ""ا إنت ""اج نص ""وص ،وتوجيهه ""ا ،واس ""تغاللها اي ""ديولوجيا وسياس ""يا ألج ""ل
إنت""اج نظ""ام الهيمن""ة ال""ذي ط""ال تأم""ل أنطوني""و غرامشي في""ه .هيمن""ة ي""رى فوك""و أنه""ا تكمن في فع""ل س""لطة
يمل ""ك طابع ""ا خطابي ""ا "،وال يمكن تمثل ""ه إال ذائب ""ا ذوبان ""ا تام ""ا في بوتق ""ة املمارس ""ات الخطابي ""ة .إذ إن ص ""راع
السلطة ال يتم إال داخل الخطاب كما يقول فوكو.
إن النظر صوب الثقافة كميدان ملعاينة ك"ل مع"اني الحقيق"ة م"وروث عن مدرس"ة فرنكف"ورت .فق"د دار في
الس""نوات القليل""ة الس""ابقة ل""بروز ه""ذا الس""ياق املع""رفي ج""دل خص""ب بين تي""ودور ادورن""و وص""ديقه الل""دود
وولتر بنيامين حول موق"ع الثقاف"ة انتهى بهم"ا إلى ثنائي"ة قطبي"ة اس"تفادت منه"ا الدراس"ات الثقافي"ة ":اإليم"ان
بق""درة الثقاف""ة على تش""كيل م""رآة لرؤي""ة الحي""اة والت""اريخ "،ال لتش""كيل وهم رومانسي حولهم""ا ،أو تحميلهم""ا
بأحك" ""ام مس" ""تعادة جيال بع" ""د جي" ""ل ت" ""دعي طوباوي" ""ة في األحك" ""ام فحس" ""ب ،ب" ""ل للعم" ""ل على كش" ""ف األنس" ""اق
التحتي""ة (وه""و مص""طلح ح""بيب على قل""وب رواد ه""ذا األف""ق) له""ذه املنتج""ات الثقافي""ة ،إذ ال توج""د وثيق""ة
ترتفع باملعنى الحضاري إال وهي وثيقة تتدنى إلى غياهب الهمجية كما كان يقول بنيامين.
ّ
وبن""اء على ه""ذه ال""رؤى ،يص"بح يس"يرا النظ""ر ص"وب الدراس"ات الثقافي""ة على أنه"ا بن"اء نظ"ري يمكن املعلقين
والدارسين من االنفتاح على مختلف املعارف والعلوم والتخصصات ألجل تشكيل أحكام وأوصاف حول
الع""الم ال""ذي نعيش في""ه ".كم""ا يمكنن""ا فهم الطبيع""ة املتش""ظية في مختل""ف املع""ارف له""ذا الحق""ل ال""ذي ينطل""ق
من وهم تس""مية جامع""ة لكي يص""بح باب""ا ينفتح وال ينغل""ق أب""دا؛ ألن خلف""ه باب""ا آخ""ر...وهك""ذا...إلى غاي""ة نف""اد
األشياء ومسمياتها كلها.
ُ
يق""ترح علين""ا ه""ذا األف""ق املع""رفي ترس""يمته الكرونولوجي""ة امللزم""ة فتظه""ر لن""ا أعم""ال ىب""اء اولين هم فردينان""د
دو سوس"ير ور.م .ليفيس وفروي"د وم"اركس وفري"ديريش إنغل"ز ،ثم أعالم النظري"ة الفرنس"ية الكب"ار :كل"ود
ليفي ش ""تراوس وميش ""ال فوك ""و وج ""اك ديري ""دا وبي ""ار بوردي ""و ثم ل ""وي آلتوس ""ير وجي ""ل دول ""وز وروالن ب ""ارط
5
وجاك الك"ان . . .وبس"رعة نع"بر األب"وة املباش"رة واملعلن عنه"ا أثن"اء الت"أريخ املدرسي لك"ل من ريمون"د ويلي"امز
وس " ""تيوارت ه " ""ال ب " ""دءا من منتص " ""ف س " ""تينيات الق " ""رن العش " ""رين وانته " ""اء بم " ""ا ال ح " ""د ل " ""ه من األعالم ومن
األعم""ال :ب""ول غيل""روي -دي""ك هيب""دج -إدورد س""عيد -ط""وني بي""نيت -ه""ومي بهاه""ا "-أنجيال م""اكروبي -غاي""اتري
س ""بيفاك -جولي ""ا كريس ""تيفا -أنطوني ""و نيغ ""ري -زيغم ""ونت باوم ""ان -كورن ""ل ويس ""ت -إرنس ""تو الكل ""و -ش ""انطال
م""وف -فرانس""وا ليوط""ار-ريتش""ارد هوغ""ارت -دون""ا ه""اراواي -بي""ل ه""وكس -فري""ديريك جيمس""ن -س""اره ميل""ز-
جوناث" ""ان ك" ""الر -الورنس غروس" ""بيرغ -انط" ""وني غي" ""دنز -ب" ""ول غيل" ""روي -كليف" ""ور غ" ""يرتز ...والغ" ""ائب عن ه" ""ذه
القائمة اكثر من الحاضر في كنفها.
وه ""ذا م ""ا يجع ""ل الحق ""ل يش ""به أن يك ""ون علب ""ة أدوات قابل ""ة جميعه ""ا لالس ""تعمال حس ""ب الحاج ""ة املنهجي ""ة
الطارئ""ة؛" علب""ة أدوات تض""م حق""وال معرفي""ة وفلس""فية ش""ديدة التن""افر من قبي""ل :اإلثنوغرافي""ا ،النس""وية،
املاركس ""ية "،فلس ""فة اللغ ""ة ،االقتص ""اد السياس ي ،نظري ""ة م ""ا بع ""د االس ""تعمار ،م ""ا بع ""د املاركس ""ية ،م ""ا بع ""د
البنيوي " ""ة ،التداولي " ""ة ،التحلي " ""ل النفس ي ،البنيوي " ""ة ،الس " ""يميائية "،النس " ""وية ودراس " ""ات الجن " ""در ،التحلي " ""ل
النصوص ي ،البالغ" ""ة الجدي" ""دة ،الهيرمينوطيق" ""ا ،نظري" ""ة االتص" ""ال . . .وتب" ""دو قائم" ""ة مفتوح " "ة" جوهري" ""ا. . ".
وينتمي إليه" ""ا عش" ""رات الب" ""احثين ربم" ""ا أش" ""هرهم في الض" ""احية العربي" ""ة إدورد س" ""عيد وفري" ""ديريك جيمس" ""ن
وهومي بابا بفضل الترجمات الكثيرة ألعمالهم.
من املث ""ير لالنتب ""اه ان نش ""ير إلى س ""ياق آخ ""ر يض ""اهي في أهميت ""ه س ""ياق ش ""يوع الفك ""ر املاركس ي في مرحل ""ة
مابع ""د الح ""رب الكوني ""ة الثاني ""ة ؛ أقص ""د الس ""ياق م ""ا بع ""د الكولوني ""الي .فه ""و س ""ياق اس ""تجلبه نظ ""ام معق ""د
وخطير من النصوص التي بررت ألوروبا الغالبة فعل ما فعلته .فغالبا ما تأتينا النص""وص ملغم""ة ب""اليقين
الق" ""ديم املالزم له" ""ا – كم" ""ا أس ""لفنا -لتش" ""كل حولن" ""ا س" ""ياجا" معق" ""دا اس" ""مه :امليتافيزيق" ""ا .ليس" ""ت ميتافيزيق" ""ا
أفالط"ون وأرس"طو وس"بينوزا ال"تي تحي"ل على الالم"رئي ال"ديني ب"ل امليتافيزيق"ا ب"املعنى الديري"دي ال"تي تحي"ل
على مس ""لمات ذات تقالي ""د قوي ""ة يص ""عب جره "ا" إلى دائ ""رة املراجع ""ة ،لتص ""بح ش ""بيهة ب ""اليقين ال ""ديني ال ""ذي
غالبا ما يتحول على حقيقة تتموقع فوق املعاينة واملراجعة.
يعم " ""ل أف " ""ق الدراس " ""ات الثقافي " ""ة على كس " ""ر ه " ""ذه االدع " ""اءات اإلبس " ""تمولوجية" ال " ""تي تس " ""كن قوقع" " "ة"
الجوهراني ""ة في غ ""ير حاج "ة" إلى التفك ""ير في تفكيكه ""ا او البحث عن ج ""ذورها...فهي ذات وج ""ود إلهي أو ش ""به
إلهي ال يحت" ""اج إلى ج" ""ذور وال داعي للبحث عن فروع" ""ه .نزع" ""ة الحق" ""ائق في الع" ""الم الغ" ""ربي نزع" ""ة ماهوي" "ة"
"ولية نتج عنه""ا عن""ف الحرك""ات االس""تعمارية ال""تي ج""اء الس""ياق الح""داثي ثم الس""ياق مابع""د الح""داثي وأص" ّ
ف"دعيا إلى إع"ادة التفك"ير في"ه .وهي دع"وة لعب أبن"اء مس"تعمرات األمس الق"ريب دورا هام"ا" في إرس"ائها من
خالل إع" ""ادة ق" ""راءات النص" ""وص املش" ""كلة للبن" ""اء الع" ""تيق للفلس" ""فة الغربي" ""ة .وهي الحرك" ""ة ال" ""تي دع" ""ا إليه" ""ا
6
ومارسها وأصاب غيره بعدواها الفيلسوف جزائري األص"ول مغ"اربي املنبت إف"ريقي الثقاف"ة ج"اك ديري"دا.
وهو منحى يمكن إدراج إدورد سعيد وهومي بهابها وفرانز فانون وستيوارت هال ضمنه.
من املث""ير لالنتب""اه وللتأم""ل أن ن""رى ال""ثراء الكب""ير للنظري""ة ال""ذي يجع""ل الدراس""ات الثقافي""ة تخصص""ا مرن""ا
فيجعله""ا ب""ذلك تتش""كل بش""كل خ""اص" كلم""ا ع""برت ح" ًّ"دا جغرافي""ا ".ف""أنت إن ذهبت إلى أميرك""ا وج""دت هيمن""ة
ملوض"وعات كالنظري"ة السياس"ية واالقتص"اد السياسي وال"دور املرك"زي للمي"ديا في ص"ناعة ال"وعي وفي رس"م
الخطاط""ات االيديولوجي ""ة ،ف ""إن أنت ع""برت املحي ""ط إلى آس""يا القص ""وى وج ""دت الق""وم يتن ""اولون مواض""يع
كالهجنة ودور االقلي"ات والفض"اء مابع"د الكولوني"الي ال"ذي لعب دورا كب"يرا في الهندس"ة الثقافي"ة" في بل"دان
أص""ابها االس""تعمار في ش""فرتها الجيني""ة .وإن أنت س""اءلت الدراس""ات الثقافي"ة" في أوروب""ا وج""دت جبه""ة قوي""ة
تمث""ل أوروب""ا العتيق""ة املولع""ة بقض""ايا اإلي""ديولوجيا والهيمن""ة األبوي""ة وبص""ورة الخ""روج العس""ير من دول""ة
األب املهيمن أو الدول" ""ة الفاتيكاني" ""ة ،إن ص" ""ح التعب" ""ير ،إلى الش" ""كل الع" ""ولمي للدول" ""ة االفتراض" ""ية مفتوح" ""ة
الح""دود ال""تي تمل""ك ال""ف عين وال ت""رى إال م""ا تري""ده هي حينم""ا ال تري""ده انت .أم""ا في بريطاني""ا فس""وف تج""د
تك ""رارا عص ""ابيا لعن ""وان اليس ""ار ال ""ذي ورث ""ه بش ""كل موف ""ق ج ""دا نبالء العص ""ر الفيكت ""وري فش ""كلوا م ""ذهبا
"فابيا" يجتهد ألجل املحافظة على طبقة نبيلة راقي"ة تمل"ك مع"نى "معين"ا"" للثقاف"ة" م"ع انفت"اح غ"ريب الش"كل
واملعنى على الثقافات التحتية – كما يظهر ذلك في امليدان الذي هيمن علي""ه االنغل""يز في الق""رن العش""رين:
املوس""يقى الش""عبية ،وه""و ت""راوح بين املع""نى"النبي""ل" واملع""نى "املهله""ل" للثقاف""ة ال يمكن تص""وره في أملاني""ا او
فرنسا ...
ام ""ا إن بحثت عن الدراس ""ات الثقافي ""ة في البالد العربي ""ة ال ""تي تعنين ""ا اك ""ثر من غيره ""ا فإن ""ك س ""تجد عكوف ""ا
مبالغا فيه على إدورد سعيد ،وتكرارا ملقوالته ال يحده حد ،بحيث صارت الدراسات الثقافية مختزلة في
كتابين هما "االستش"راق" و"الثقاف"ة واإلمبريالي"ة" "،وفي مقول"تين أو ثالث مم"ا ه"و وارد في الئح"ة محتوي"ات
الكتاب ...وهذا ما دفعنا في هذا الكتاب صوب اتخ"اذ موق"ع ال"دارس الثق"افي ب"دال من الح"ديث املك"رور غ"ير
املهض""وم عن الدراس""ات الثقافي""ة ".وفض""لنا تن""اول مجموع""ة من املوض""وعات ال""تي كث""يرا م""ا اش""تغلنا عليه""ا
بطريق""ة العي""ون املتع""ددة للدراس""ة الع""ابرة للتخصص""ات م""ع تحدي""د دائ""رة التنظ""ير للمقارب""ة الثقافي""ة ال""تي
نن""درج ض""منها .ف""إن ق""ال قائ""ل بأنه""ا مقارب""ات ال تتم""اس احيان""ا م""ع الدراس""ات الثقافي""ة بمعانيه""ا املدرس""ية
املالوفة "،وتخطئ هذا التماس م"رات أخ"رى ،قلن"ا ل"ه إن الدراس"ات الثقافي"ة مائ"ة ش"عبة ف"إذا أنت اخ"ترت
شعبة جانبت بالضرورة تسعا وتسعين شعبة.
7
فيصل األحمر
أفق معرفي
تنطلق الدراسات الثقافي"ة من جمل"ة من أس"ئلة يب"دو أن املع"ارف ال"تي تتق"اطع معه"ا ه"ذه الدراس"ات لم
تتع ""ود طرحه ""ا ،فهي مقارب ""ة متع ""ددة التخصص ""ات واملن ""اهج واإلج ""راءات للظ ""اهرة الحياتي ""ة "،ه ""دفها
ال ""رئيس ه" ""و تقص ي الطري" ""ق املعق" ""دة ال" ""تي تتش" ""كل وتتح ""ول من خالله ""ا التج" ""ارب الفردي" ""ة والص ""الت
الجماعي" ""ة وك" ""ذلك مظ" ""اهر الحي" ""اة اليومي" ""ة في س" ""طحيتها املخادع" ""ة ،وك" ""ل املوض" ""وعات والخ" ""برات
والتم ""ثيالت ال ""تي درجن ""ا على تس ""ميتها "الثقاف ""ة" ،وذل ""ك في إط ""ار من وص ""ف جينيالوجي ""ا الظ ""واهر من
جهة وفضح صالت الهيمنة التي تتحكم فيها أو تنتج عنها من جهة أخرى.
تتق""دم الدراس""ات الثقافي""ة كمحاول""ة جدي""دة لط""رح أس""ئلة جوهري "ة" ح""ول الع""الم – تمام""ا كم""ا تفع""ل
الفلس" ""فة ط" ""ورا بع" ""د ط" ""ور وزمن" ""ا بع" ""د زمن -وتنطل" ""ق من خلفي" ""ة ان ك" ""ل ممارس" ""ة مس" ""طحة بس" ""يطة
للحي""اة ،وك""ل مظه""ر ثق""افي" يمي""ل ص""وب أن يك""ون خالي""ا من الكثاف "ة" ه""و في الحقيق""ة "ممارس""ة رمزي""ة"
لدالل""ة غائب""ة أو مغيب""ة ،ونتيج""ة حتمي""ة لبن""اء اجتم""اعي أو لش""بكة عالق""ات اجتماعي""ة ذات ج""ذور غ""ير
محسوس ""ة أو لص ""الت هيمن ""ة بين املوض ""وعات ال ""تي نتعام ""ل معه ""ا ك ""ذوات فاعل ""ة ،ولربم ""ا نك ""ون نحن
مواض " ""يع له " ""ا ال العكس ،وهن " ""ا يس " ""توقفنا االلتب " ""اس ش " ""ديد الدالل " ""ة على م " ""ا ن " ""ذهب الي " ""ه بين مع " ""نى
« » subject النح""وي ال""ذي ه""و الفاع""ل املهيمن ومعن""اه الفلس""في أو ح""تى املعجمي ال""دارج ال""ذي معن""اه
املادة املتحدث عنها واملتعامل معها والتي هي بين أيدي فاعلين يسلطون عليها الفعل والخطاب معا.
لقد اتكأت الدراسات الثقافية" على العلوم االجتماعية وعلى مختلف ميادين الدراسات اإلنس""انية لكي
ترس" ""م لنفس" ""ها وببراع" ""ة مش" ""هودة مجموع" ""ة من املن" ""اهج والنظري" ""ات املعرفي " "ة" ال" ""تي تطب" ""ق على ش" ""تى
املي " ""ادين ال " ""تي ج " ""اءت من ص " ""لبها وال " ""تي تالمس العل " ""وم اإلنس " ""انية ب " ""املعنى األوس " ""ع :النظري " ""ة األدبي " ""ة،
8
نظري" " " ""ات االتص" " " ""ال ،اإلعالم ،تحلي" " " ""ل الخط" " " ""اب ،السياس" " " ""ة الثقافي" " " ""ة ،الهندس" " " ""ة االجتماعي" " " ""ة،
واالقتصاد.
للدراس""ات الثقافي""ة طريق""ة خاص""ة في مقارب""ة األرض""ية األك""ثر عراق""ة لك""ل معرف""ة :النص""وص .ولكن
املتح ""ري لطرائ ""ق دراس ""ة النص ""وص ومس ""اءلتها في ه ""ذا املي ""دان س ""يجد اله ""واجس الكالس ""يكية ال ""تي هي
تاريخي""ة النص""وص وجمالياته""ا ودف""اتر األحك""ام النقدي""ة الس""ابقة حوله""ا وح""تى الج""وانب الش""كلية ال""تي
درجت املعرف""ة البش""رية الكالس""يكية على االحتف""اء به""ا كس""مات دال""ة على ف""رادات املؤلفين وعلى ب""ؤر
توتر الجماعات في سياقات تاريخية معينة ،كل ذلك ليس هام""ا بق"در الس""ؤال ال""ذي يح"رك الدراس""ات
الثقافي" ""ة في مواجه" ""ة النص" ""وص :م" ""ا ال" ""ذي يتحكم في ظه" ""ور نص" ""وص معين" ""ة في س" ""ياق ت" ""اريخي وثق" ""افي
معين؟ وما الدور االجتماعي والسياسي واإليديولوجي الثوري الذي تلعبه هذه النصوص؟
على ي" " ""د أخ" " ""رى يأتين" " ""ا الس" " ""ؤال ح" " ""ول مع" " ""نى النص في كن" " ""ف دراس" " ""ات تع" " ""د املوض" " ""وعات الثقافي" " "ة"
واملمارسات اليومية واملظاهر الحياتية األكثر تسطيحا أهم ما تنظر إلي""ه؟ . . .يأتين""ا هن""ا تعري""ف للنص
تع""ود أص""وله إلى التقالي""د الس""يميائية؛" فح""واه ْأن ُيع""د نص""ا ك" ُّ"ل م""ا من ش""أنه تولي""د مع""نى من خالل أي
ممارس ""ة دال ""ة ك ""انت ،فيص ""بح الل ""ون والش ""كل وامللبس وطرائ ""ق املأك ""ل واملش ""رب ،ومواعي ""د عاداتن ""ا
واختياراتن "ا" الذوقي ""ة الذاتي ""ة وميولن ""ا والص ""ور املحيط ""ة بن ""ا ،وك ""ل م ""ا من ش ""أنه أن يتم اختزال ""ه تحت
العن""وان ش""ديد الدالل""ة ال""ذي ه""و "التجرب""ة املعيش""ة" ،كله""ا تص""بح نصوص""ا ب""أتم مع""نى الكلم""ة .ولكنه""ا
تظ " ""ل نصوص " ""ا ال أهمي " ""ة له " ""ا في ه " ""ذا األف " ""ق خ " ""ارج" الس " ""ياقات السياس " ""ية والطبقي " ""ة اإليديولوجي " ""ة
واالقتص""ادية" والثقافي""ة واالجتماعي""ة ال""تي انتجته""ا أو ال""تي تم إنتاجه""ا في إطاره""ا .وك""ل ه""ذا يق""ف على
خلفي""ة أن الن""اس وهم يتق""اطعون م""ع النص""وص أو يخوض""ون غماره"ا" كتجرب""ة معيش""ة يقوم""ون بإنت""اج
الدالل ""ة وتولي ""د املع ""اني ال ""تي هي مع ""اني الع ""الم الكلي ""ة الش ""املة الكوني ""ة ال ""تي تب ""دو دائم ""ا مطلق ""ة – وإن
كانت غير مطردة تماما -وتكون حصيلة ه"ذه الس"يرورة هي م"ا نس"ميه بطريق"ة مجازي"ة "الثقاف"ة"؛ ه"ذا
املفه""وم النقي النبي""ل ال""ذي ي""راه س""تيوارت ه""ال" نمط""ا من ممارس""ة الهيمن""ة من ِقب""ل ق""وى وص""ية ته""دف
إلى خل"ق ش"عور بالدع"ة والطمأنين""ة ل""دى األتب""اع (وغالب""ا م"ا نس"ميهم املواط""نين الص""الحين) تج"اه الهيمن""ة
املس""لطة عليهم ،الشيء ال""ذي من ش""أنه ض""مان تبعيتهم .نتيج""ة ل""ذلك وبن""اء على م""ا س""بق على اإلنس""ان
في رؤي""ة ه""ذا الحق""ل أن يتأم""ل نفس""ه من خالل س""ؤالين مرك""زيين :أح""دهما ه""و :م""ا ه""و املس""ار الثق""افي و
العقلي والسياسي ال""ذي ق""اد حياتن""ا إلى أن تك""ون على الش""كل ال""ذي هي علي""ه؟ والس""ؤال الث""اني ه""و :أال
نكون نحن من خالل عمل اللغة على برمجة أفكارن"ا" موض"وعا للثقاف"ة؟" فنك"ون أدوات في ي"د ال نعرفه"ا
لتحقيق إرادة ثقافية (اي سياسية) ال نستوضحها؟
من ه""ذا املنطل""ق يص""بح دور الدراس""ات الثقافي""ة ه""و إع""ادة تفكي""ك م""ا ق""د انب""نى من األص""نام الحياتي""ة
واالجتماعية بمعزل عن إرادة الف"رد البس"يط املتن"اهي" في الص"غر على املس"توى السياسي ،واملتن"اهي في
9
الخط ""ر على املس ""توى الثق ""افي واملتم ""اهي والق ""در م ""ع ذل ""ك على املس ""تويات كله ""ا .ويق ""ع ه ""ذا التأم ""ل بين
التفك ""ير اليس ""اري ألنطوني ""و غرامش ي والتفك ""ير م ""ا بع ""د اليس ""اري مليش ""ال فوك ""و؛ الل " ْ
"ذين فكك ""ا جي ""دا
الص ""لة بين الس ""لطة والخط ""اب ،م ""ع الف ""رق الكب ""ير ال ""ذي يجع ""ل األول ي ""رى في املرء وس ""يطا لتحقي ""ق
السلطة فيما يجعل الثاني يعد اإلنسان أداة تطوعها اللغة كوسيلة متعالية لتحقيق موضوع السلطة.
كم""ا هي ح"ال ك""ل ص""نف من أص"ناف مقارب"ة املعرف""ة ،نج""د الدراس""ات الثقافي"ة" مرتبط"ة بأعم"ال زم""رة
معين" " " ""ة من الفالس" " " ""فة واملفك" " " ""رين واملنظ" " " ""رين األوروب" " " ""يين أوال؛ وعلى رأس" " " ""هم :فروي" " " ""د وم" " " ""اركس
وفري" ""ديريش إنغل" ""ز ،وك" ""ذلك مجموع" ""ة األعالم ال" ""تي س" ""يذكرون الحق" ""ا على أس" ""اس ك" ""ونهم أص" ""حاب
النظري"ة الفرنس"ية french theoryواملقص"ودون هم أساس"ا ميش""ال فوك"و وج""اك ديري"دا وبي"ار بوردي""و
ثم لوي آلتوسير وجيل دولوز وروالن ب"ارط وج""اك الك""ان . . .كم""ا أن الس"لف الص""الح ألعم""ال معتنقي
الدراس""ات الثقافي"ة" ال يخل""و من اس""مين خ""ارجين عن ك""ل تص""نيف في الحقيق""ة لس""عة أثريهم""ا العلم""يين:
فردين ""ان دي سوس ""ير وميخائي ""ل ب ""اختين . . .أم ""ا األب ""وة املباش ""رة واملعلن عنه ""ا أثن ""اء الت ""أريخ املدرس ي
فتعزى لريموند ويليامز وستيوارت هال" بدءا من منتصف ستينيات القرن العشرين .وهذا م"ا يجع"ل
الحق""ل – على ح""د تعب""ير ك""ريس ب""اركر -يش""به أن يك""ون علب""ة أدوات قابل""ة جميعه""ا لالس""تعمال حس""ب
الحاج" ""ة املنهجي" ""ة الطارئ" ""ة؛ علب" ""ة أدوات تض" ""م حق" ""وال معرفي" "ة" وفلس" ""فية ش" ""ديدة التن" ""افر من قبي" ""ل:
اإلثنوغرافي" " ""ا ،النس" " ""وية ،املاركس" " ""ية ،فلس" " ""فة اللغ" " ""ة ،االقتص" " ""اد السياس ي ،نظري" " ""ة م" " ""ا بع" " ""د
االس " ""تعمار "،م" " ""ا بع " ""د املاركس " ""ية ،م" " ""ا بع" " ""د البنيوي" " ""ة ،التداولي " ""ة ،التحلي " ""ل النفس ي ،البنيوي" " ""ة،
الس""يميائية "،النس""وية ،التحلي""ل النصوصي ،البالغ""ة الجدي""دة ،الهيرمينوطيق""ا ،نظري""ة االتص""ال. . .
وتبدو قائمة مفتوحة جوهريا. . ".
والواقع أنها قائمة محاولة الحصر فيها بال طائ"ل ألن م""ا يبحث عن"ه أه"ل بيت الدراس"ات الثقافي"ة" ليس
املعين؛ وإنم""ا يبحث""ون عن وجه""ة نظ""ر مفي""دة في األف""ق ال""ذي اتخ""ذوه قبل""ة الع َلم ّ االتج""اه الفلس""في وال َ
ألعمالهم حتى وإن كانت وجهة نظر متناهية" في الصغر.
نتعلم في حق" ""ل الدراس" ""ات الثقافي" "ة" كيفي" "ة" بديع" ""ة ال قب" ""ل للمجتم" ""ع العلمي به" ""ا في إنش" ""اء التعريف" ""ات،
التعري ""ف ال كماهي ""ة تق ""وم اللغ ""ة بتمثيله ""ا ب ""ل كوج ""ود ال يخ ""رج عن دائ ""رة االس ""تعمال اللغ ""وي ال ""ذي
يوج""دها "،وه""و مفه""وم اإلنج""ازي ال""ذي ج""اء بفك""رة اللعب""ة الكالمي""ة ل""دى لودفي""غ فيتجنش""تاين؛" أح""د
األعالم األث""يرين ل""دى أه""ل ه""ذا ال""بيت .وق""د وق""ف مح""رر الكت""اب م""رارا في مقدمت""ه على ح""واف عس""ر
تحدي""د الدراس""ات الثقافي"ة" بدق""ة ،إلى الح""د ال""ذي وص""ل مع""ه إلى الرك""ون إلى تعري""ف تلفيقي من قبي""ل:
الدراسات الثقافية" هي ما نعتقد أنها هي الدراسات الثقافية ،الشيء الذي لم يمنع تحديدا آخر دقيقا
على بس""اطة في األداء :الدراس""ات الثقافي ""ة هي طريق""ة معين""ة عن ""د معتنقي ه""ذا االتج ""اه في الح ""دث عن
مواض ""يع معين ""ة؛ ك ""ثرت أو قلت ،عوض ""ا عن أن يك ""ون الحق ""ل – وه ""ذا ه ""و املألوف -الئح ""ة مواض ""يع
معينة ثابتة دالة على حقل يلملم شملها.
10
هذا العسر في تحدي"د املاهي"ة" لم يمن"ع مح"اوالت الوق"وف عن"د املظ"اهر" األك"ثر جالء لتمي"يز الحق"ل عن
غ""يره ،ل""ذا نج""د كث""يرا من املعلقين يقف""ون عن""د الح""د ال""ثري الفاص""ل/الج""امع بين الدراس""ات الثقافي""ة
ك""أفق مع""رفي وكمبتغى منهجي أو ك""أداة عارف""ة لفهم الع""الم وبين مابع""د الحداث""ة كمفه""وم تحقي""بي يرتك""ز
على مواق" ""ف وآراء ووجه" ""ات نظ" ""ر نش" ""أت في أعق" ""اب ف" ""ترة ج" ""رت الع" ""ادة – م" ""رة دون تمحيص وم" ""رة
بتمحيص يفيض عن الحاجة "-على تسميتها الحداثة ،ويفيدنا في هذا السياق استحضار معاين""ة أس""تاذ
الفلسفة االيطالي جياني فاتيمو G. Vattimo للسياق الجامع بين الدراسات الثقافية والفترة /الثقافة
مابع " ""د الحداثي " ""ة فيج " ""دهما مرتك " ""زتين على تح " ""ولين رئيس " ""ين لعب " ""ا دورا في ظهورهم " "ا" وفي تش " ""كيلتهما
العقلية :أقصد من جهة نهاية السيطرة األوروبية على العالم في أعق""اب الح""رب العاملي""ة الثاني""ة ،وك"ذا
تط" ""ور وس" ""ائل اإلعالم وظه" ""ور املي" ""ديا الوطني" ""ة واإلقليمي " "ة" ال" ""تي غالب" ""ا م" ""ا ق" ""امت بالدعاي" ""ة املنطقي" ""ة
واملنتظ""رة للثقاف""ات املحلي""ه والهامش""ية البعي""دة عن املراك""ز الحض""ارية املألوف""ة . . ".وإن ك""ان املمحص
جيدا يقف على الطابع التلفيقي لألفق املعرفي للدراسات الثقافية ،فهي أفق يبحث عن أجوبة صائبة
ألس" ""ئلة زمن معطى ،بأن" ""اس ذوي ملمح مح" ""دد ،في ظ" ""روف سياس" ""ية وتاريخي" "ة" واجتماعي" ""ة مح" ""ددة،
وهي أس" ""ئلة ق" ""د يج" ""دون له" ""ا إجاب" ""ات في مق" ""والت الحداث" ""ة مثلم" ""ا يج" ""دونها في مابع" ""د الحداث" ""ة ،له" ""ذا
ف""املفهوم التحقي""بي املذكور ال يتج""اوز الحيل""ة املنهجي""ة؛ ألن اله""اجس املح""رك له""ذا األف""ق املع""رفي ليس
َ
الحقب والتع" ""يين أو تح" ""ري نق" ""اوة األع" ""راق العلمي" ""ة؛ ب" ""ل ربم" ""ا يك" ""ون العكس ه" ""و الص" ""حيح ،في ظ" ""ل ِ
هاجس مرك"زي ه"و تحس"ين الظ"رف املعيشي بواس"طة زعزع"ة كيان"ات الخطاب"ات املهيمن"ة بخل"ق أنظم"ة
استحس " ""ان واس " ""تهجان بديل " ""ة لألنظم " ""ة الس " ""ابقة ال " ""تي يتم نق " ""دها باس " ""تعمال علب " ""ة األدوات ال " ""تي هي
الدراسات .
من األساس ي على املس" " ""توى املنهجي أن نق" " ""ف عن" " ""د حقيق" " ""تين ارتبطت" " ""ا كث" " ""يرا به" " ""ذا الحق" " ""ل املع" " ""رفي
األخطبوطي :أوالهم"ا" الطبيع"ة االختالفي"ة" ال"تي يعوزه"ا االنتظ"ام لنش"أة ه"ذا الحق"ل؛ حق"ل يتش"كل خ"ط
نش ""أته كس""يرورة هي ج ""وهر ص ""يرورته ،وفي ذل ""ك يق ""ول ك ""ريس ب ""اركر في موس ""وعته "موس ""وعة س ""يج
للدراسات الثقافية"؛" ترجمة :جمال بلقاسم)
" بالنس""بة لي هن""اك خ""ط يجب أن يفص""ل بين دراس""ة الثقاف"ة" و الدراس""ات الثقافي"ة" ال""تي نش""أت بش""كل
مؤسس""اتي (أي داخ""ل املؤسس""ة) .فدراس""ة الثقاف""ة تت""وزع على ع""دة مج""االت أكاديمي""ة كعلم االجتم""اع
واألنثروبولوجي " " " ""ا و األدب االنجل " " " ""يزي . . .إلخ .و تس " " " ""ود مجموع " " " ""ة من الفض " " " ""اءات الجغرافي " " " ""ة و
املؤسساتية ،و لكنها ال تمث"ل بالض"رورة الدراس"ات الثقافي"ة .و بينم"ا ال تمتل"ك دراس"ة الثقاف"ة" أص"وال
مح""ددة ،فه""ذا ال يع""ني أن الدراس""ات الثقافي "ة" ال يمكن تس""ميتها .و تك""وين مرك""ز الدراس""ات الثقافي "ة"
املعاص ""رة بجامع ""ة برمنغه ""ام في س ""نة 1960ك ""ان حال ""ة تنظيمي ""ة حاس ""مة ".و من ""ذ ذل ""ك ال ""وقت س ""عى
الحق"ل إلى تمدي""د قاعدت""ه الثقافي""ة ومجال""ه الجغ""رافي و أص""بح هن""اك مش""تغلون بالدراس""ات الثقافي"ة" في
الوالي""ات املتح""دة األمريكي""ة و أس""تراليا وإفريقي""ا و آس""يا و أمريك""ا الالتيني""ة ،ك""ل ل""ه ش""كل الدراس""ات
الثقافي""ة الخ""اص ب""ه و طريق""ة عمل""ه ،و بالت""الي" ال أري""د أن أمنح ش""يئا من االمتي""از" للدراس""ات الثقافي"ة"
11
االنجليزي""ة في ح""د ذاته""ا ،بق""در م""ا أن""ني أري""د الترك""يز على أن تأس""يس الدراس""ات الثقافي "ة" ك""ان بمرك""ز
برمنغه ""ام ،وهي لحظ ""ة مؤسس ""اتية ذات مغ ""زى .األم ""ر يش ""به أن تق ""ول أن علم الجتم ""اع" املعاص ""ر لم
يكن من صنع ماركس و دوركايم و فيبر ،و املجال العلمي ليس حك""را على ني""وتن و آينش""تاين ،و لكن
من الص ""عب أن ت ""درس مواض ""يع ه ""ذه املج ""االت دون أن تناقش ""ها ض ""من أفك ""ار ه ""ذه الشخص ""يات .و
علي""ه فالدراس""ات الثقافي""ة ليس""ت هي مرك""ز برمنغه""ام ،ولكن أي اكتش""اف ملس""ائل للحق""ل ال يمكن أن
ننخرط فيها دون االستعانة باإلرث الفكري للحقل"
وثانية الحقيقتين هي أننا في حقل الدراس"ات الثقافي"ة نتعام"ل دائم"ا م"ع رؤي"ة خاص"ة ( نس"خة شخص"ية
كم ""ا يس ""ميها ب ""اركر) للدراس ""ات الثقافي ""ة ليس ""ت بالض ""رورة ملزم ""ة للنس ""خ األخ ""رى .وفي ذل ""ك يق ""ول
كريس باركر:
" نس" ""ختي إذا املرتبط" ""ة بالدراس" ""ات الثقافي" ""ة تنطل" ""ق من املاركس" ""ية الجدي" ""دة و انخراطه" ""ا في البنيوي" ""ة
وعمل أنطونيو گرامشي على السواء .و هنا تعتبر األيديولوجيا و النص و الهيمن"ة تص""ورات مفتاحي"ة"
للدراس " ""ات الثقافي " ""ة .في ال " ""وقت نفس " ""ه ،ط " ""ورت الدراس " ""ات الثقافي " ""ة تي " ""ارا من العم " ""ل التجري " ""بي
واإلثنوغرافي ،كان في كثير من األحيان" أقل ظهورا من التحلي"ل النصوصي ،و لكن"ني أفض"ل أن أك"ون
متعاطف " ""ا مع " ""ه .والواق " ""ع أن " ""ني ال أرى أن االثنوغرافي " ""ا والتحلي " ""ل النصوص ي متن " ""افيين أو يس " ""تبعد
أح""دهما اآلخ""ر .في وقت الح""ق احتض""نت بعض الج""وانب من م""ا بع""د البنيوي""ة ،و أعم""ال فوك""و بش""كل
خ""اص .أين ش""كلت مف""اهيم كالخط""اب والذاتي""ة مح""ور اهتمام""اتي إلى ج""انب قض""ايا الحقيق""ة و التمثي""ل.
َ
و ضمن هذا السياق كنت أنا و الدراسات الثقافية" مستغرقين بشكل كامل داخل مسائل الهوية" .
ويفس""ر لن""ا اختي""ارات الدراس""ات الثقافي"ة" الفلس""فية -عموم""ا ،وفيم""ا يش""به النس"خة الش""املة املتعالي""ة
ُ
املش ""تركة للدراس ""ات الثقافي ""ة كم ""ا تتع ""اطى في نيوزيالن ""د وفي الوالي ""ات املتح ""دة على ح ""د س ""واء -ذل ""ك
الط ""ابع اإلي ""ديولوجي ال ""ذي ارتك ""زت علي ""ه اتجاه ""ات ش ""عب هللا الفلس ""في املخت ""ار؛" ف ""برغم تع ""دد ه ""ذه
اآلف"اق وتش"عبها املذهل احيان"ا ،وح"تى اختالف مالمح ه""ؤالء الفالس"فة وأص"ولهم العرقي"ة ،إال انهم –
وبش" ""كل مث" ""ير للتس" ""اؤل – داروا بانتظ" ""ام ووف" ""اء كب" ""ير ح" ""ول نق" ""د األس" ""اس العقالني وال" ""ذاتي للحداث" ""ة
وللت""اريخ "األبيض" للفلس""فة .وأعم""ال ميش""يل فوك""و M. Foucault "،وج""اك ديري""د J. Derrida وجي""ل
دول""يز ،J. Deluze وريتش""ارد رورتي R. Rorty مثال تنض""ح ب""ذلك القل""ق إزاء يقيني""ات تش""كلت بمع""زل
َ
عن تمحيص الع""الم والع" ِ"الم ،وان كن""ا ننح""ني باهتم""ام ام""ام االرتي""اب الكب""ير ال""ذي اب""داه م""رارا "ايه""اب
حس ""ن" E. Hassanإزاء فك ""رة الس ""ؤال املقض للمض ""اجع العلمي ""ة اليقظ ""ةَ :من ِمن الب ""احثين يخت ""ار َمن
ِمن الكت""اب بوص""فه ِمن الكت""اب واملفك""رين املر ّس"مين ال""ذين علين""ا وض""ع أعم""الهم في الص""ف األول؟ ثم
ما هي دواف"ع ه"ذا االختي"ار؟ . . .أس"ئلة تمل"ك ت"بريرات آتي"ة من أف"ق التداولي"ة الجدي"دة تق"ول م"ا فح"واه
أن النص""وص ال ينبغي له""ا أن تتك""ور ح""ول املقارب""ات النص""انية ال""تي يملؤه""ا الش""عور الخ""اطئ باالكتف""اء؛
بل عليها أن تندرج ضمن ثالوث قوائمه الضرورية هي :النص ،فعل النضال ،املسألة السياسية.
12
لقد علمنا فوكو الشك في "املطل"ق" وفي الثق""ة املفرط"ة للنظري""ات العام"ة ،علمن""ا الح"رص إزاء املؤتل"ف
والب" ""ديهي واملس" ""لم ب" ""ه ،اس" ""تند الى مقارب" ""ة جينالوجي" "ة" تنطل" ""ق من وض" ""ع الي" ""د على خي" ""ط ملم" ""وس في
الحاضر ألجل سبر تاريخ تشكله وكيفية تشكله التاريخي ،وه"و م"ا ج"ره إلى فض"ح الخراف"ات العقالني"ة
الحديث ""ة البيض ""اء ،خراف ""ات تمثله ""ا خ ""ير تمثي ""ل مؤسس ""ات الع ""زل والعق ""اب ،وعلمن ""ا درس ""ا ت ""دين ل ""ه
الدراس ""ات الثقافي "ة" بش ""كل مباش ""ر ونه ""ائي وعمي ""ق – ك ""ان فوك ""و س ""يكره تعب ""يري ه ""ذا ل ""و اطل ""ع علي ""ه-
درس الهيمن" ""ة ،وتحلي" ""ل الس" ""لطة ،وم" ""دى تهافتن" ""ا وفق" ""ر وعين" ""ا بالس" ""لطة حينم" ""ا نحص" ""رها" في كي" ""ان"
مح""دد ،ه""و جه""از" الدول""ة املرك""زي .لق""د عم""ل على تبي""ان ش""موليتها مليكانيزم""ات تطوي""ع الجس""د باس""م
نظ"ام أو معرف"ة ،به"دف تحقي"ق ن"وع من التش"ريح السياسي للجس"د،I ‘anatomie politique du corps
عم" ""ل – كم" ""ا يق" ""ول فوك" ""و -يس" ""مح بالحص" ""ول على أجس" ""اد طيع" ""ة منق" ""ادة ،وقابل" ""ة لالس" ""تغالل ش" ""به
الص" ""ناعي كم" ""ادة مجتمعي" ""ة عقلي" ""ة خ" ""ام ،أجس" ""ام قابل" ""ة للتحوي" ""ل واإلنت" ""اج وح" ""تى االس" ""ترجاع بع" ""د
االس ""تعمال ،ك ""ل ذل ""ك بش ""كل مس ""تتر ال يتجلى بالض ""رورة على املس ""توى السياس ي املكش ""وف ب ""ل على
مس" ""تويات خطابي " "ة" ش" ""ديدة الخف" ""اء .ميكانيزم" ""ات تنتهي إلى إخض" ""اع الف" ""رد لهيمن" ""ة "الوض" ""ع الق" ""ائم"
املسمى تارة النظام العادي لألشياء وتارة الق"انون ،أو ح"تى " الحس املش"ترك" common sensبتعب"ير
اإلنغل ""يز .تخض ""عه ل ""ذلك خطاب ""ات ص ""نعها الرج ""ل الغ ""ربي األوروبي بمع ""زل عن رأي بقي ""ة الع ""الم في
القض " ""ايا ال " ""تي س " ""تتحول إلى ش " ""ان ع " ""المي .خطاب " ""ات ربم " ""ا أس " ""ماؤها مألوف " ""ة مث " ""ل :املدارس واإلدارة
والتش " ""ريع املؤسس " ""اتي ،ومص " ""حات العالج النفس ي والعقلي والس " ""جون وال " ""ورش واملعام " ""ل وثكن " ""ات
الجيش واملستشفيات والفضاءات العمومية.
يحيلن""ا ه""ذا طبع""ا على م""ا ط""وره س""تيوارت ه""ال في تص""وره ملف""اهيم اإلي""ديولوجيا وال""ذي يب""دو كص""دى
في""ه ترجي""ع ألص""وات فوك""و س""الفة ال""ذكر؛ فاإلي""ديولوجيا" في مخط""ط عم""ل س""تيوارت ه""ال" ليس""ت بن""اء
ناص ""عا يعم ""ل على تحدي ""د ح ""دوده الخاص ""ة بق ""درما هي تش ""كيلة أخطبوطي ""ة تلفيقي ""ة تعم ""ل على ض ""م
النقيض إلى نقيض ""ه لتقوي ""ة ص ""فها في مس ""ار ص ""راع اإلي ""ديولوجيات .وي ""رى س ""تيوارت ه ""ال من جه ""ة
أخ" ""رى – وه" ""ذه من أمه" ""ات أفك" ""اره ب" ""ان اإلي" ""ديولوجيات ال يش" ""كلها األف" ""راد ب" ""ل هم فق" ""ط يعمل" ""ون في
إطاره" ""ا ال" ""ذي يتج" ""اوزهم ،ويتص" ""رفون" في كنفه" ""ا وكفى .وينتج عن ذل" ""ك ب" ""أن اإلي" ""ديولوجيات تنتهي
ب""التكرم على األف""راد من أتباعه""ا بفرص""ة للتم""اهي معرفي "ا" ولخل""ق مناس""بات للتع""رف على ال""ذات ،وهي
أفكار تسمح لألفراد بصنع ميل خاص في اإلطار العام يريحهم إلى ما هم عليه.
هن""ا نفهم أحس""ن كي""ف أن املعرف""ة في ه""ذا التص""ور املعاص""ر تخ""رج من كونه""ا تش""كيال ملع""نى الواق""ع إلى
دائ" " ""رة أخط" " ""ر هي إج" " ""ادة ت" " ""رويض ه" " ""ذا الواق" " ""ع والتعام" " ""ل مع" " ""ه ،فنخ" " ""رج من املفه" " ""وم التجري" " ""دي
الترانسندنتالي" للمعرفة إلى بعدها امللموس الجبري املحايث.
من املفي ""د لل ""دارس الي ""وم ( أراج ""ع كتاب ""ة ه ""ذه الس ""طور في موق ""ع سياس ي وت ""اريخي م ""ريب من ص ""يف
)2018ان يتأم""ل تحلي""ل فوك""و لطريق""ة مواج""ه البرن""امج التس""لطي املعق""د ال""ذي تم إرس""اؤه على مس""يرة
ق"رون وال"ذي أف"رز نظام"ا ذا وج"ه ناص"ع يتق"دم أمامن"ا كممارس"ة قائم"ة" على الهيمن"ة ،نظام"ا اس"تبداديا
13
يض""ع أقنع"ة حض""ارية حداثي""ة بيض"اء ،نظام"ا ي""رى فوك""و أن"ه من املفي"د تط"وير عم"ل فلس""في يعم"ل على
إرس""اء أش""كال جدي""دة من املواق""ف والس""لوك والب""واعث ،أش""كال أرض""يتها التك""اثر prolifération ب""ديال
لالخ" ""تزال réductionوللتوحي" ""د ،unificationكم" ""ا يرتك" ""ز التقاب" ""ل أو املج" ""اورة juxtaposition ب" ""ديال
للتماث" " " " " " ""ل ،similitude ،لتص" " " " " " ""بح س" " " " " " ""مة فكرن" " " " " " ""ا الجدي" " " " " " ""د هي االنفص" " " " " " ""ال disjonction ب" " " " " " ""ديال
لالتص""ال . . .conjonction ويس""ير علين""ا الي""وم بع""د أن تش""ربنا الدراس""ات الثقافي "ة" طيل""ة نص ق""رن ان
نفهم الفائ""دة اإلجرائي""ة بعي""دة املدى لبرن""امج كه""ذا من أج""ل إرس""اء ثقاف""ة عاملي""ة منفتح""ة على املختل""ف
وعلى األقلي""ات ،مب"ني على الفهم لالحت"واء واإلض""افة ال على الوص"ف اإلقص""ائي ال""ذي هدف"ه" املحاص""رة
واالستئص""ال . . ".ثقاف""ة االع""تراف بالبش""ري في إط""ار ك""وني ع""المي ،ال ثقاف""ة تح""دد الك""وني انطالق""ا من
فكر الحواضر املنغلق على نفسه داخل وهم الكونية. . . .
وإذا ك""ان مفي""دا ل""دارس الي""وم فهم ه""ذه املعطي""ات فإن""ه اك""ثر إف""ادة أن نقاب""ل بينه""ا وبين البرن""امج ال""ذي
وض ""عه س ""تيوارت ه ""ال مثال لفهم آلي""ات التواص""ل؛ كمحاول""ة للتفري ""ق بين الق ""راءات املختلف""ة ال""تي هي
س"بيلنا للفهم والتخ"اذ مواق"ع لل"ذات وس"ط الع"الم؛ فه"و يرسي نموذج"ا فع"اال للتواص"ل ع"بر املي"ديا أوال
ثم في مطل""ق األفع""ال التواص""لية ال""تي نحق""ق من خالله""ا نموذج""ا ثقافي""ا؛" شيء بمثاب""ة ب""رامج ال محال""ة
منها للتواجد داخل العالم ولتعاطي الداللة داخ"ل الجماع"ة .يف"رق ه"ال بين ثالث"ة أن"واع من الق"راءات:
ق ""راءة معمم ""ة ،تف ""رض علين ""ا بس ""بب طابعه ""ا العم ""ومي التعميمي وبفض ""ل ارتباطه ""ا بالعالم ""ات األك ""ثر
انتشارا وثباتا داخل العالم .أما النوع الثاني فه"و الق"راءة التفاوض"ية؛" وفيه"ا يك"ون الف"رد بص"دد قب"ول
القراءة السابقة التي يمكنن"ا وص"فها بالرس"مية فق"ط ألنه"ا مرس"مة من قب"ل الس"طلة ،ولكن"ه يح"دث ل"ه
أن يخ""رج من تل""ك الترس""يمة للثقاف "ة" ال""تي يص""فها س""تيفن غ""رينبالط S. Greenblatبأنه""ا س""ياج ش""به
تكنول " ""وجي للحماي " ""ة ولكن لل " ""ردع أيض " ""ا يم " ""ارس على الف " ""رد كتش " ""كيلة قوي " ""ة من الح " ""دود املرس " ""ومة
املعروفة "،وهي حدود يمارس الف"رد خروج"ا جزئي"ا في نق"اط مح"ددة عنه"ا للمارس"ة رؤي"ا تك"ون مرتبط"ة
بالتجرب ""ة الشخص ""ية والعقائ ""د الفردي ""ة واملي ""ول الذاتي ""ة .وت ""أتي الق ""راءة االعتراض ""ية اين يتم ت ""رتيب
املرسمة وطرحها نهائيا. عناصر خطابية بديلة عن تلك املذكورة آنفا هدفها نبذ القراءة ّ
تلتقي الدراس""ات الثقافي""ة م""ع فك""ر ديري""دا في م""ا ال ح""د ل""ه من نق""اط التق""اطع ،ولكن النق""ط األعم""ق
واألبع ""د غ ""ورا هي بالتأكي "د" اس ""تبعاد الحلم الطوب ""وي ب ""املجتمع العقالني ال ""ذي ك ""انت الحداث ""ة تحلم ب ""ه
وال""ذي لم تتخلص مابع""د الحداث""ة من أض ""غاث أحالم""ه تمام""ا فج ""اء "التفكي ""ك" ملحاول ""ة إح""داث ش ""رخ
نه ""ائي في جس ""د امليتافيزيق ""ا بش ""كلها املوروث ،فالتفكي ""ك يح ""اول مواجه ""ة امليتافيزيق ""ا الغربي ""ة كنظ ""ام
فك" ""ري ث" ""ابت ال يمكن نق" ""ده وتقويض" ""ه ،مواجه" ""ة به" ""دف اجتثاث" ""ه من ج" ""ذوره من خالل كس" ""ر هيمن" ""ة
اللوغ""وس ال""ذي ه""و اللغ""ة املوروث""ة واألبني""ة ال""تي تحتويه""ا والبني""ات التحتي""ة الكامن""ة . . .لوغ""وس تع""د
خلخلته دعوة ملمارسة مختلفة تنبين على فعل التأويل والهرمينوطيقا أكثر من اعتماده""ا على التس"ليم
يسير الدراسات الثقافية :فكرة املراجعة. الغيبي بمسلمات لم تخضع ألهم امتحان ّ
14
الخلفية الهيرمينوطيقية لدى ديريدا تجمع الرغبة في فك املستغلق القديم املوجودة ل"دى الق"دماء م"ع
جلي ،انته""اء إلى مس""اري اللعب ب""الكالم بحث""ا عن إنجازي""ة خفي تحت ك""ل مع""نى ّ الح""ذر من وج""ود مع""نى ّ
طارئة محايثة وغير متعالية تماما وك""ذلك عن مس""ار ه"يرمينوطيقي يه""دف بالس""ماح لإلنس""ان باكتش"اف
نفس" ""ه ع" ""بر البحث في الخطاب" ""ات ( م" ""ا يس" ""ميه فوك" ""و بعب" ""ور االس" ""تيطيقا نح" ""و اإليطيق" ""ا؛ أي الس" ""ماح
لإلنس ""ان باس ""تخالص ش ""كل أجم ""ل للوج ""ود باالس ""تعانة بالنص ""وص ومن خالل العم ""ل عليه ""ا والتعام ""ل
معه""ا) . . .وهي روح إيجابي""ة نج""دها ت""ذرع مختل""ف مواق""ع الدراس""ات الثقافي""ة "،لن تبتع""د عنه""ا فك""رة
البحث في النص " ""وص واإلش " ""كال واملمارس " ""ات به " ""دف تحس " ""ين الظ " ""رف البش " ""ري ( وو تعب " ""ير يس " ""تعيره
ريتش""ارد رورتي من الك""اتب الفرنسي أن""دري م""وروا) ،وال الفك""رة ال""تي عن""ون به""ا كورن""ل ويس""ت كتاب "ه"
بش" ""كل ش" ""ديد الدالل" ""ة :املحافظ" ""ة على اإليم" ""ان ) . . .keeping faith (1994أو البرن" ""امج املض يء ال" ""ذي
تقترح""ه ش""انتال م""وف ح""ول تع""ويض ديمقراطي""ة الص""وت الواح""د ذات الط""ابع اإلل""زامي بديمقراطي""ة
تشاركية" ومتعددة. . .
وهذه املواقع املعرفي"ة وزواي"ا النظ"ر تنتهي إلى خل"ق وعي خ"اص بالكتاب"ة ك"أداة للتفك"ير واملمانع"ة ،ففي
ضوء هذه االتجاهات" والحساسيات واملقوالت التي ال تدعي أكثر من تحريك أديم النص النائم امله""ادن
الخاض ""ع لس ""لطة اللوغ ""وس ال ""تي هي أداة تس ""لط أط ""راف سياس ""ية معين ""ة ،يمكنن ""ا ان نعي الدراس ""ات
الثقافي" " ""ة كمحاول " " "ة" لل" " ""وعي بالكتاب" " ""ة كمق" " ""ام خ" " ""اص" (أو مؤسس" " ""ة) وس" " ""ط املمارس" " ""ات السياس" " ""ية/
املدني ""ة/الحكومي ""ة األخ ""رى . . .مق ""ام ي ""ثري كث ""يرا رواي ""ة اإلنس ""ان ح ""ول نفس ""ه؛ رواي ""ة تتش ""بع ب ""احتواء
روايات أفراد استثنائيين في فترات شاذة عن القاعدة العامة.
القاعدة . . .جوهر اللوغوس. . .
اللوغوس . . .أداة الهيمنة األولى. . .
15
أفق فلسفي
مقدمة
إن الح" ""ديث عن أص" ""ول الص" ""لة بين الكتاب" ""ة التخييلي" ""ة والت" ""اريخ يع" ""ود بن" ""ا إلى التمفص" ""ل اله" ""ام بين
امللحم""ة و الرواي""ة ،فمم""ا ال ش""ك في""ه ل""دى جمه""ور املعلقين واملؤرخين أن أص""ل الرواي""ة ه""و امللحم""ة،
وأن م""ا ح""دث ه""و سلس""لة من عملي""ات الع""دول ال""تي ش""ملت ال""روح الديني""ة مهمش""ة إياه"ا" لص""الح هم""وم
بشرية ،وش"ملت األش"خاص والشخص"يات فق"امت بتنقي"ة النص"وص من املخلوق"ات ش"ديدة البع"د عن
الواق ""ع ،وش ""ملت ص ""ورة الع ""الم في بعدي ""ه الزم ""ني و املكانـي فجعلتهمـا أق ""رب إلـى واقعن ""ا اليومـي ،و
استبدلت الصراع الالهوتي الغيبي امليتافيزيقي بصراع ناسوتي ملموس معيش.
إن الع""ودة بالرواي""ة إلى أص""ولها -وهي ع""ودة يتول""ع به""ا ك""ل دارس بش""كل غ""ريب -تجعلن""ا ال نق""در
على تجنب الوق " ""وع بين أحض " ""ان امللحم " ""ة ،فالتض " ""اد ملحم " ""ة /رواي " ""ة " ه " ""و األك " ""ثر مناع " ""ة من غ " ""يره
بالنس""بة للمتخصص""ين ،ي""رى لبعض ب""أن الرواي""ة مس""خ للقص""ة امللحمي""ة ،تق""ع في مس""توى ع""ائلي و إلى
مالئكي .تتضمن وجهة النظر هذه بصفة واضحة أطروحات املؤرخ املجري جيورجي لوكاتش و يمكن
قراءته ""ا م ""ا بين الس ""طور في مث ""ل كت ""اب املحاك ""اة ( )mimesisاملنس ""وب لع ""الم اللغ ""ة أورب ""اخ . . .يوض ""ح
كت""اب الرواي""ة الهزلي""ة لس""كارون ( ")scarronعملي""ة زوال القداس""ة -الت""دنيس أو الدمقرط""ة -ه""ذه ال""تي
1
فرضها األدب السردي املعاصر على مجمع األرباب العتيق"
فاليت ،برنار :الرواية -تر :عبد الحميد بورايو -دار الحكمة -الجزائر-2000 -ص 10 1
16
أما الناقدة الفرنس"ية م"ارت روب"ير Marthe Robertفتص"ف الرواي"ة ب"االبن غ"ير الش"رعي ال"ذي عم"ل
دائما على اكتساب املصداقية التي كانت ق"ديما حك"را على اآلداب القديم"ة النبيل"ة فحس"ب ،وتش"ير إلى
ك" ""ون الرواي" ""ات القديم" ""ة ( املدونات األمه" ""ات ) تتس" ""م باملس" ""حة الهزلي" ""ة ،وهي مس" ""حة تخلص" ""ت منه" ""ا
بدءا من القرن السابع عشر ،أين أصبحت الكتابات تطرح قضايا جدية وتعالجها بلغة جدي""ة الرواية ً
ص" ""ارمة ج ""ديرة ب ""االحترام والتأم" ""ل و النظ ""ر العمي" ""ق ،تمام" ""ا مثلم" ""ا هي الفلس ""فة و الش" ""عر أو الش ""عر
التمثيلي.1
وليس ""ت م ""ارت روب ""ير بص ""دد التالعب باللغ ""ة و هي تس ""تعير تعب ""ير "االبن غ ""ير الش ""رعي" فهي ب ""ذلك
تحيلن" ""ا على املفص" ""ل األوروبي اله" ""ام الفاص" ""ل في قض" ""ية النش" ""أة ال" ""تي نحن بص" ""ددها ،فكلم" ""ة Roman
الدال ""ة على الرواي ""ة في األص ""ل الفرنس ي هي تس ""مية ك ""انت تم ""يز -أول م ""ا ظه ""رت -اللهج ""ات الهجين ""ة "
املنحطة " املتفرعة عن الالتينية التي ك""انت لغ""ة املؤسس"تين الديني"ة و الحاكم"ة "،فالرومانية* هي لهج""ة
العل""وم واآلداب والتخ""اطب أيض""ا املتبل""ورة في بداي""ة الق""رن الث""اني عش""ر في جن""وب أوروب""ا ،و غ""ريب و
ليس غريب ""ا أن ت ""دل ه ""ذه الكلم" ""ة على مع" ""نى القص ""ص ال ""تي ت" ""روى -في األس ""واق و املج" ""امع املش ""ابهة -
2
باللهجة الرومانية.
أثن""اء البحث عن أص""ول الرواي""ة كث""يرا م""ا تعترض""نا اص""ناف كث""يرة من النص""وص ال""تي يمكنن""ا ع""دها
رواي ""ة ويمكنن ""ا ع ""دها غ ""ير ذل ""ك ،وذل ""ك بعي ""دا عن ح ""ديث امللحم ""ة أص ""ال ،فهنال ""ك س ""رديات القص ""ور
ووق" ""ائع بعض الف" ""ترات التاريخي" "ة" ال" ""تي ش يء له" ""ا أن توص" ""ف تاريخي" ""ا ،وال" ""تي يتواش" ""ج فيه" ""ا الت" ""اريخي
باألس""طوري أوالخ""رافي فتعي""دنا" إلى نم""ط من التخيي""ل الجمي""ل .كم""ا أن هنال""ك كتب الرحل""ة ال""تي تول""ع
بالعناصر الخيالية مازجة" اياها بالوقائع واملشاهدات في إطار ال يبتعد تماما عن التخييل الروائي.
2
Divers: litteratures et langages ( le roman, le récit non romanesque, le cinema ) Fernand
Nathan ed, Paris 1975, p 7.
17
يقفز مؤلفو كتاب " األدب و اللغات " تحت إشراف األستاذ هنري ميتيران إلى الق"رن الس"ابع عش"ر
فيج""دون مقال""ة ألديب ه""و ه""وي ( )Huetح""ول أص""ل الرواي""ات ال""تي يعرفه""ا على أس""اس كونه""ا »قصص""ا
3
مصطنعة تروي غراميات مكتوبة نثرا وبفنية ألجل تسلية القراء ومتعتهم"
إذا نظرن ""ا إلى التط ""ور الكرونول ""وجي ملفه ""وم "ال ""روائي" ،س ""نجده يتط ""ور متنوع ""ا ومتغ ""يرا من ""ذ ( ق
13م ) أين يعني املترجم من الالتيني"ة إلى اللهج"ة الرومانثيـة "،م"رورا ب""املعنى ال""دال على ك""ل راو لخ"بر م""ا
باللهج ""ة الرومانثي ""ة( بداي ""ة ق 14م) ،ووص ""وال ،في الق ""رن الس ""ابع عش ""ر ،إلى املع ""نى ال ""دال على راوي
قصص أو أخبار مع تحريف وقائعها الحقيقي"ة بطريق""ة ش""اعرية ( روائي"ة ) Romanesqueأي بطريق""ة
2
" عجيبة ،ساحرة ،مثخنة باملغامرات الغريبة ،و كل شيء يناقض الواقع ،العادي املعروف "
وي ""ذكر مؤلف ""و الكت ""اب متتبعين آث ""ار الرواي ""ات األوروبي ""ة أن الرواي ""ات ك ""انت رائج ""ة ج ""دا ب " ً
"دءا من
الق"رن الث""اني عش"ر ،أي في ف"ترة انتش""ار رواي"ة الفروس""ية ،و ق"د تخلص"ت من الش""عر بس"رعة (ق 13م)
لكي يحتف""ظ ال""روائي باإللق""اء الف""ني أم""ام الجم""وع متخلي""ا عن ال""وزن الش""عري ثم عن الش""كل الش""عري
وإن كانت املضامين نفسها لم تتغير كثيرا ،مع ميل شديد من املؤلفين ( و من الجمهور طبعـا ) صوب
قص ""ص الفرس ""ان واألبط ""ال ممن س ""افروا في إط ""ار الح ""روب الصليبيـة ،وه ""و الشـيء ال ""ذي لم يمن ""ع
ظه""ور " رواي""ات " ذات ط""ابع اجتماعـي انتق""ادي و تعليمـي (رواي""ة رون""ار -ق 13م -ورواي""ة الزه""رة -ق
13م ،)-وهي تقالي ""د روائي ""ة درس األس ""تاذ مينين ""ديز بيالي ""و ج ""ذورها" فأعاده ""ا إلى املروي ""ات الش ""عبية
اإلس ""بانية ال ""تي ب ""رهن على أس ""بقيتها على م ""ا ه ""و مع ""روف ظه ""وره في فرنس ""ا؛ وي ""ورد بيالي ""و برهان ""ا على
3
ذلك هو كون اإلطار الذي تدور فيه تلك الروايات املبكرة هو إسبانيا تحديدا (رواية روالن مثال).
وظ""ل األم""ر على ه""ذا الوج""ه إلى غاي""ة مط""الع الق""رن الس""ادس عش""ر أين ح""دثت تغ""يرات كب""يرة أهمه""ا
اخ" ""تراع الطباع" ""ة ،االكتش" ""افات الك" ""برى ،ظه" ""ور بورجوازي" ""ة تجاري" ""ة كثيف" ""ة و حيوي" ""ة و املد الكب" ""ير
للنموذج الرأسمالي" (قب"ل األوان) ،ه"ذه التغ"يرات الحض"ارية أح"دثت تغ"يرا كب"يرا على مس"توى األعم"ال
الروائي ""ة ،فق ""د ص ""ارت تطب ""ع ،و ظه ""رت طبق ""ة متوس ""طة قارئ ""ة نهم ""ة ( فيم ""ا ع ""دا النبالء طبع ""ا) وهي
طبق ""ة مقتني ""ة للكتب ،وه ""ذا ه ""و الش يء الجدي ""د ،ومقتني ""ة للرواي ""ة بالدرج ""ة األولى ؛ إلـى درج ""ة أن
الروائ""يين و الط""ابعين و تج""ار الكت""اب ص""اروا يعم""دون إلى ص""ياغة الخطاب""ات القديم""ة ص""ياغة جدي""دة،
3
Ibid, p 7.
2
Ibid, p 7.
3
Menendez Pelayo: Origenes de la novela, consejo superior de investigaciones cientificas,
Madrid,1961,p202
18
وإلى ترجم" ""ة أعم" ""ال الروائ" ""يين األج" ""انب ( االس" ""بان و اإليط" ""اليين رأس" ""ا ) ال" ""تي يب" ""دو أنه" ""ا ك" ""انت أك" ""ثر
استجابة لثقافة القراء آنذاك.
الق""رن الس""ادس عش ""ر ينفتح علــى بانتاغروي ""ل لرابلـي ( Rabelais ")Pantagruelويختم م""ع املدون ""ة
األولـى ل""دون كيخ""وت لس""يرفانتيس ( ،Don Quichotte " )Cervantesوهم""ا عنوان""ان كث""يرا م""ا اتخ""ذهما"
ُ
ميخائيل باختين كمدونة أ ٍ ّم لفجر الرواية " الحديثة ".
ه ""ذه املرحل ""ة دال ""ة على أس ""باب تط ""ور الجنس ال ""روائي الس ""ريع ،وعلى مس ""وغات تفوق ""ه ،في رأي
باختين ،و هي مرحل"ة ي"دخلها ب"اختين من م"داخل عدي"دة و باالتك"اء على مق"والت كث"يرة ،ففي دراس"ته
للخي" ""ال القروس" ""طي و للفكاه" ""ة عن" ""د رابلي ،و للمجتم" ""ع ال" ""روائي في عص" ""ر النهض" ""ة و لتف" ""وق الجنس
ال ""روائي وملقولت ""ه األم ح ""ول " الزمك ""ان "Le Chronotopeو ملب ""دأ الحواري ""ة ،Le dialogismeفي ه ""ذه
املناس""بات املعرفي""ة كلهـا س""ينطلق ب""اختين من نص""وص الق""رن الس""ادس عش""ر خاصـة ( وإن ك""انت لـه
تطبيق ""ات هام ""ة ح ""ول دوستوييفس ""كي ) متخ ""ذا ه ""ذه املرحل ""ة كنقط ""ة ب ""دء حقيقي" "ة" للرواي ""ة الحديث ""ة
باملعنى املتع"ارف علي"ه تقني"ا بين النق"اد و املؤرخين . . .1أي أن اله"وة بين رواي"ات رابلي و رواي"ات كل"ود
س""يمون أو د .هـ .ل""ورنس أق""ل بكث""ير من اله""وة الكب""يرة بين امللحمـة الجرمانيــة "تريس""تان و إي""زولت "
أو امللحمة القروسطية " أغنية روالن " وبين رابلي أو سيرفانتيس.
ويضع باختين يده على كثير من املواقع الداللية التي تشير بوضوح إلى املنع""رج الكب""ير ال""ذي عاش""ته
الرواي""ة في عص""ر النهض""ة . . .وق""د يك""ون أهم ه""ذه املواق""ع و أذكاه""ا على اإلطالق النظ""ر إلى الص""لة ال""تي
يخلقه""ا الك""اتب بين الزم""ان في الرواي""ة و بين املك""ان ،و ه""ذا االلتق""اء يترص""ده ب""اختين في نص""وص كث""يرة
بدءا من املدونات اإلغريقية التي أهملناها ألسباب منهجية و ال"تي يع"دها" كث"ير من م"ؤرخي األدب نقط"ة
الب" ""دء الحقيقي للرواية . . .2 .ووص" ""وال إلى الق" ""رن التاس" ""ع عش" ""ر ،يخلص ب" ""اختين إلى أن ك" ""ل ع" ""دول
عاشته الرواية ،وكل دبيب تطور ،وكل حسن خروج عن النمط السائد ،وكل حرك"ة" لطيف"ة أح"دثها
ن""اص على نص ،يمكن للناق""د الحص""يف أن يلمس""ها ل""دى الزم""ان ؛ أي ص""ياغة الزم""ان و املك""ان مع""ا في
4
النص ( 3الزمان الذي يقترحه باختين كبعد رابع للفضاء ساعة وللداللة ساعة أخرى) .
1
Bakhtine, Mikhail: esthètique et théorie du roman, gallimard, Paris, 1958, p 305.
2
هالل ،محمد غنيمي :النقد األدبي الحديث ،دار العودة ،بيروت ،1986ص ص .495 - 494
3
Esthétique et theorie du roman, p 238
4
Ibid, p 237.
19
ثانيا :فلسفة تحول :نسف املركز /إثبات الهامش
إن التأم""ل الفلس""في في الف""رق بين س""يرورة الرواي""ة و الس""يرورة التاريخي"ة" يع""د م""دخال آخ""ر لت""أمالت
ب ""اختين في تط ""ور الرواي ""ة و اس ""تقاللها كجنس ال اختالط بين ""ه و بين غ ""يره ،ففي حين يق ""ول لوك ""اتش
ببرجوازي" ""ة الرواي" ""ة كم" ""ا رأين" ""ا س" ""ابقا» ،يأخ" ""ذ ب" ""اختين بمنظ" ""ور أك" ""ثر مرون" ""ة ،مم" ""يزا بين الرواي" ""ة و
املق"دمات املوض"وعية ال"تي أفض"ت إليه"ا ،إذ لك"ل ت"اريخ أساسي ت"اريخ هامشي يتكئ علي"ه ،و ق"ائال أيض"ا
بف ""رق بين ال""زمن املنطقي و الت ""اريخي ،كم ""ا ل""و ك ""انت الرواي ""ة ال تص""احب الت ""اريخ الع ""ام في ط ""ور معين
من ""ه فق ""ط ب ""ل لهـا تاريخه ""ا الخ ""اص ،ال ""ذي ي ""واكب الت ""اريخ الع ""ام أحيان ""ا و يس ""بقه في أحي ""ان أخ ""رى،
يرب ""ط ب ""اختين . . .بين زمن ال ""والدة الروائي ""ة و أزمن ""ة تش ""كل العناص ""ر الروائي ""ة ،بق ""در م ""ا يم ""يز بين
الرواية والشروط املوض"وعية ال"تي تش"كلها ،ال"تي تع"رف الص"عود كم"ا االنحس"ار ،م"دلال على أن ت"اريخ
1
الرواية يتعرف بالجمع ال بصيغة املفرد «
يتض""ح هن""ا وبش""كل جي""د ان دعم الف""ترة – بمؤسس""اتها الجلي""ة وبم""ا يمكن تس""ميته ال""ذوق الع""ام –
للعنص""ر ال""روائي ه""و حرك""ة ذات عم""ق سياسي ته""دف إلى نس""ف تص""ور ق""ديم للع""الم تم ترس""يمه ومن""ع
التص ""ورات املغ ""ايرة ل ""ه ب ""ذلك .وتبقى مقارب ""ة ب ""اختين للموض ""وع ال ""ذي نحن بص ""دده متم ""يزة بس ""بب
ازدواجي "ة" زواي ""ا النظ ""ر ال ""تي يمنحه ""ا إياه "ا" تراوح ""ه بين النق ""د والت ""اريخ العقلي ،بين الوص ""ف والحكم
التقويمي.
لق ""د ك ""ان ب""اختين واعيـا ج""دا بالتعقي""د الش ""ديد لعمليـة املخ ""اض األدبـي الفلسفـي و الت""اريخي ال ""ذي
أدى إلى نش""أة الرواي""ة الحديث""ة م""ع مطل""ع الق""رن الس""ادس عش""ر . . .ه""ا ه""و ذا يتأم""ل النص""وص الس""ير
ذاتي ""ة ق ""ائال» :من الض ""روري أوال قب ""ل االنتق ""ال إلى النم ""ط الث ""الث من الرواي ""ة القديم ""ة إب ""داء تحف ""ظ
ج ""وهري للغاي ""ة وه""و أنن""ا نع""ني بالنم""ط الث""الث الرواي ""ة الس""يرية (البيوغرافي""ة) لكن األدب الق ""ديم لم
ينش ئ عمال س ""يريا كب ""يرا بوس ""عنا فيم ""ا ل ""و اس ""تخدمنا مص ""طلحاتنا أن نطل ""ق علي ""ه اس ""م الرواي ""ة .لكن
األدب الق" ""ديم أنش" ""أ أش" ""كاال جوهري" ""ة من الس" ""يرة و الس" ""يرة الذاتي" ""ة لم ت" ""ؤثر ت" ""أثيرا ض" ""خما في تط" ""ور
الس"يرة و الس"يرة الذاتي""ة فحس""ب ،ب"ل في تط""ور الرواي""ة األدبي""ة كله""ا ،و يق""وم في أس""اس ه""ذه األش""كال
1
دراج ،فيصل :نظرية الرواية و الرواية العربية ،المركز الثقافي العربي ،لبنان المغرب ،ط ،1999 ،1ص.74
20
القديم""ة نم""ط جدي""د من ال""زمن الس""يري (ال""بيوتوبوغرافي) و ص""ورة جدي""دة ب""نيت بن""اء خاص""ا لإلنس""ان
1
الذي يقطع طريقه في الحياة«
العتب""ة الفلس""فية الفاص""لة بين الس""ير تتح""رك بش""كل مث""ير لالنتب""اه عن""د ه""ذه النقط""ة .فالس""ؤال ذو
االس""تلزامات الفلس""فية الهام""ة ح""ول :من من""ا يمكن""ه تق""ديم س""يرته الشخص""ية كس""يرة دي""رة بالت""دوين؟
ه"و س"ؤال ذو بع"د فلس"في يتجلى على أديم فلس"فة الت"اريخ ال"تي هي رص"د لحرك"ة ف"ترة معين"ة من خالل
مؤش ""رات فردي ""ة وأخ ""رى جماعي" "ة" يمكنه ""ا أن تك ""ون منوط ""ة بمجموع ""ة خاص ""ة من األف ""راد املتم ""يزين
ال""ذين ص""ارت لهم خريط""ة " بيوتوبوغرافي""ة"" حامل""ة ل""دالالت جدي""دة لتحدي""د األعالم والرج""ال الكب""ار
واألف" ""راد االس" ""تثنائيين الج" ""ديرين بتق" ""ديم س" ""يرتهم "العط" ""رة" ألبن" ""اء زمنهم – واألزمن" ""ة اآلتي" ""ة أيض" ""ا-
رسم ويشار إلي"ه كنقط"ة فارق""ة في الت"اريخ .وغن ك"ان هنال"ك من الفالس"فة كنموذج فلسفي يحتذى ُوي ّ
من يح""ذر من ه""ذه النقط""ة بال""ذات كعالم""ة دال""ة على إفس""اد للتي""ار الط""بيعي للحي""اة بإخراجالت""اريخ من
ّ
تول"د
س""ير "ع""ادي" باتج""اه منظوم""ات قيم مش""بعة ب""اليقين ال""ذي كث""يرا م""ا ادى بن""ا ص""وب اليقيني""ة ال""تي "
2
الشمولية الفلسفية والتي تمهد للشمولية السياسية".
إن جمه""ور املت""أدبين نق""ادا و م"ؤرخين يمي"ل ص""وب البحث في أغ"وار الثقاف"ات املحلي"ة -على اختالف
املش""ارب -عن آث""ار ملا تحي""ط ب""ه النظري""ات الحديث""ة ،من ذل""ك م""ا يفعل""ه عب""د هللا إب""راهيم في تطبيقات"ه"
للعت""اد املنهجي التفكيكي علــى النص""وص العربي""ة 3أو م""ا يق""وم ب""ه نص""ر حام""د أب""و زي""د باحث""ا عن اآلث""ار
الس""يميولوجية" في ال""تراث الفك""ري و اللغ""وي الع""ربي . . .4أو م""ا سيش""كله س""عيد يقطين وعب""د الفت""اح
كيليط""و بحث"ا عن مالمح الس"رد الحديث""ة في ص"لب الكتاب""ات العربي"ة القديم""ة (الخ"بر مثال) أو منقب""ا عن
إحداثيات القصة ( أو النص السردي ) على معلم السيرة الشعبية .5
الشيء الذي ال يمنع سلوكا مقابال يص"ر على الفص"ل بين ك""ل ش"بيهين وق""ف بينهم""ا أي ح""اجز فاص""ل،
أو ملمح نش" ""از ،و على رأس م" ""ا يق" ""ف بينهم" ""ا الت" ""اريخ ال" ""ذي يجته" ""د جنوني" ""ا في التفرق" ""ة بين الش" ""يئين
6
املتماثلين متى ما فرق بينهما زمن ما ،و ذلك ما يفعله عبد امللك مرتاض مثال.
21
يقوم انتقاد هذه النظرة -و إن كان انتقادا خالي"ا من اإلقص"اء الت"ام للفك"رة ال"تي أس"لفنا أنه"ا متف"ق
عليها -على أساسين رئيسيين ؛ األول يتكئ على بطالن السياق الت"اريخي ال"ذي ج"اءت في إط"اره املالحم،
و نق" ""ول بطالن الس" ""ياق الت" ""اريخي و األص" ""ح ق" ""ول :بطالن الس" ""ياق العقي" ""دي ،ألن املالحم مرتبط" ""ة ال
محال""ة بوثني""ة م""ا ،بعقائ""د تعددي""ة ،باعتق""اد في آله""ة و أنص""اف آله""ة وأبن""اء مفترض""ين له""ؤالء ال""ذين ال
مه""رب من س""متهم بميس""م إنس""اني ،والنتيج""ة ك""انت أن ملمح البط""ل ( األبط""ال ) في الرواي""ة تغ""ير كث""يرا،
فه" ""ذا األخ" ""ير أص" ""بح ق" ""ابال للض" ""عف و لخس" ""ارة الس" ""باق ،للبق" ""اء دون تحقي" ""ق مرامي" ""ه ودون الوف" ""اء
لوعوده البطولية . . .و كل ه"ذا يق"ف موقف"ا نقيض"ا ملوق"ف امللحم"ة . . .و األس"اس ال"رئيس الث"اني ه"و
كون الرواية أكثر اهتماما باألداء اللغوي ( و بالجانب الش"كلي عموم"ا ) مم"ا ك"انت علي"ه املالحم ق"ديما،
إذ أنه ""ا -رغم كونه ""ا تكتب ش ""عرا -ك ""انت تيس ""ر أم ""ر الن ""اظم ،و ال تحاس ""به محاس ""بة ش ""عرية عس ""يرة،
لس""بب بس""يط ه""و ك""ون املع""ول علي""ه في امللحم""ة فيم""ا وراء اللغ""ة وفيم""ا وراء الش""كل ه""و " املض""مون "
1
وإن كانت هذه الكلمة مطاطية جدا.
ينبغي الوق""وف م""رة أخ""يرة عن""د املفص""ل اله""ام ال""ذي يش""كله التط""ور ال""ذي نحن بص""دده فــي املرحلـة
املنتقلـة من العص" ""ور الوسطـى و العص" ""ور الكالس" ""يكية إلى عص" ""ر النهض" ""ة ثم العص" ""ور الحديث" ""ة. . .
وذل ""ك بغي ""ة اس ""تنطاق التح ""ول الج ""ذري لش ""كل األداء اللغ ""وي في طموح ""ه للخ ""روج تمامـا من سلطـة
املدرسـة و املؤسسة و العرف و املرجعيات الص"ارمة ال"تي تنق"ل اللغ"ة و املخيل"ة و ب"اقي عناص"ر العملي"ة
االبداعي" ""ة ال" ""تي نع" ""رف أنه" ""ا ش" ""ديدة الطم" ""وح ص" ""وب الحري" ""ة و االنفالت من قي" ""ود الجنس املح" ""دد و
القواعد و الطرائق و الذوق السائد . . .الخ.
يقول بوريس ايخنباوم » Boris Eikhenbaumلقد تطورت القصة القصيرة اإليطالي"ة ،في الق"رنين
الث ""الث عش ""ر و الراب ""ع عش ""ر ،مباش ""رة انطالق ""ا من الخراف ""ة و األحدوث ""ة و لم تفق ""د ص ""لتها بأش ""كال
الحكي البدائي ""ة إنه ""ا -دون أن تقل ""د عن قص ""د الخط ""اب الش ""فوي -م ""الت إلى طريق ""ة ال ""راوي ال ""ذي ال
م""زاعم ل""ه و ال""ذي يح""اول أن يعرفن""ا على حكاي "ة" معين""ة دون أن يس""تعمل س""وى كلم""ات بس""يطة .ه""ذه
القص ""ة القص ""يرة لم تكن تتض ""من ال وص ""فا مس ""هبا للطبيع ""ة و ال أوص ""اف مفص ""لة للشخص ""يات ،و ال
22
اس""تطرادات غنائي""ة أو فلس""فية ،إنن""ا ال نج""د فيه""ا ح""وارا . . .على الش""كل ال""ذي عودتن""ا علي""ه القص""ة
القص""يرة أو الرواي""ة املعاص""رتان ،في رواي""ة املغ""امرات القديم""ة ،ك""انت الص""لة فيم""ا بين املراح""ل ال""تي
يجع""ل املتن الحك""ائي Fableبعض""ها يتب""ع لبعض ،ك""انت تتم بمس""اعدة بط""ل حاض""ر دائم""ا ،لق""د تط""ورت
ه""ذه الرواي""ة انطالق""ا من مجموع""ة قص""ص قص""يرة ،مث""ل " ال""ديكاميرون "* ،نظ""را ألن األهمي""ة تعطى
1
لتأطير السرد واألنساق والتحفيز «.
يوحي كالم إيخنباوم بتح"ول كب"ير يمه"د النتق"ال الفن الس"ردي من امللحم"ة و من األداء الش"فوي إلى
م" ""ا س" ""يأتي بيان" ""ه و م" ""ا س" ""بقت اإلش" ""ارة إلي" ""ه . . .ف" ""الراوي ك" ""ان ساذجـا يكش" ""ف عن نفسـه و يس" ""جل
حض ""وره فيعط ""ل كث ""يرا من طاق ""ات اإليح ""اء وإمكاني ""ات الت ""أثير ،ثم تط ""ورت حال ""ه فأص ""بح ذكي ""ا يجي ""د
التخفي خلف موضوعية ما يمحو آثار نشاطه بحيث يعجز دون التماسها القارئ املتتب""ع ،إن""ه راو ذو
استراتجيات تحتية معقدة تؤدي دورها بخفوت كبير.
إذا م" ""ا حفرن" ""ا قليال في دم" ""اغ ه" ""ذا ال" ""راوي املتح" ""ول على ح" ""واف كتب مث" ""ل ال" ""ديكاميرون وحكاي" ""ات"
ك" ""انتربوري ثم انب" ""اء دونكيش" ""وط س" ""نجد أنفس" ""نا بص" ""دد تش" ""كيل رؤي" ""ة مث" ""يرة للج" ""دل ص" ""وب الع" ""الم؛
ف""الراوي ال""ذي يوج""ه ص""وبنا الح""ديث يش""به تمام""ا الص""ورة القديم""ة للمعلم أو للن""بي أو للع""راف ال""ذي
يوج ""ه ص ""وبنا ح ""ديثا س ""لطته الفلس ""فية الوحي ""دة مرتبط ""ة بمن يقول ""ه ،وبمكانت ""ه الخطابي ""ة كمهيمن
نفس ي وعقلي على جمه ""وره ،في حين ان الش ""كل الجدي ""د لل ""راوي يش ""به عم ""ل اللغ ""ة الي ""وم؛ عم ""ل غ ""ير
محس""وس يعتم""ل داخلن""ا بمع""زل عن القائ""ل ،يش""كلنا من ال""داخل بمع""زل عن إرادتن""ا وفي لعب""ة خ""داع
كبرى توحي بأنه ال يوجد غيرنا على اديم التخاطب.
يس""جل ايخنب""اوم ت""أثير العلم و املوض""وعية العلمي""ة م""ع االرهاص""ات" األولى لعص""ر األن""وار ال""ذي ه""و
عص ""ر العلم املع ""ادي لك ""ل م ""ا ه ""و ميت ""افيريقي و ك ""ل م ""ا يق ""ترب من امليتافيزيك ""ا أو يتص ""ل به ""ا ب ""أي ش ""كل
ك" ""ان ،يق" ""ول »تتم" ""يز رواي" ""ة الق" ""رن التاس" ""ع عش" ""ر باس" ""تعمال ك" ""ثيف للوص" ""ف ،والص" ""ور الشخص" ""ية
الس""يكولوجية" والح""وارات . . .و تق""دم لن""ا ه""ذه الح""وارات في بعض األحي""ان ،كمج""رد محادث""ة ترس""م
لن ""ا الص ""ور الشخص ""ية للشخص ""يات من خالل ردودهم . . .أو باعتباره ""ا "،فق ""ط ،ش ""كال مقنع ""ا لحكي
يك""ون نتيج""ة ل""ذلك ،ب""دون خاص""ية " مش""هدية " لكن ه""ذه الح""وارات تتقمص في بعض األحي""ان ش""كال
محض مس"رحي فتغ"دو وظيفته"ا دف""ع الح"دث إلى أم"ام و ليس فق""ط وص"ف الشخص"يات . . .إن الرواي"ة
1الخطيب ،إبراهيم :نظرية المنهج الشكلي ( نصوص الشكالنيين ƒالروس ) ،ترجمƒƒة ،مؤسسƒة األبحƒاث العربيƒƒة ،لبنƒان،
ط ،1982 ،1ص ص .109 -108
23
تقط ""ع به ""ذه الطريق ""ة ص ""لتها بالش ""كل الحك ""ائي و تغ ""دو مزيج ""ا من الح ""وارات املش ""هدية ،و اإلش ""ارات
1
املفصلة التي تقوم بالتعليق على الديكور ،و اإليماءات و النبر الخ« .
ه ""ذا الوض ""ع الس ""ردي ن ""اتج حس ""ب ايخنب ""اوم على تط ""ور أش ""كال الكتاب ""ة ( والكتاب ""ة الس ""ردية ) من
مقالة إلى وصف رحلة إلى دراسة ،إلى يوميات إلى م"ذكرات . . .و ك"ل ه""ذه " ت"روي " قصص"ا بش""كل أو
بآخر . . .إض"افة إلى كثاف"ة الرس"ائل املتبادل"ة ال"تي تس"م بالتأم"ل و الحرك"ة الذهني"ة على ه"امش " رواي"ة
األح""داث " . . .إض""افة إلى م""ا تمنح""ه املذكرات من ه""وامش التأم""ل االجتم""اعي ،الفلس""في واألخالقي. . .
كل هذا رسم لنا ملمحا جديدا تمام""ا ملا ك"ان مج""رد " رواي"ة أح"داث " ،و بعمليـة عكسيـة أص"بح النص
القصص ي (ال " ""روائي) منفتح " ""ا على إمكاني " ""ات الكتاب " ""ة ه " ""ذه فتغ " ""ير ش " ""كل الرواي " ""ة ج " ""ذريا "،و لم يع " ""د
للملحمة أي أثر.
لق""د » حص""ل فـي بدايـة الق""رن التـاسع عش""ر انتش""ار كب""ير لدراسـات األخالق و الرواي""ة املتسلس""لة
الل" ""تين أخ" ""ذت فيم" ""ا بع" ""د ش" ""كل الدراسـات املس" ""ماة " فيزيولوجيـة " ،وهي دراس" ""ات ح" ""رمت من ك" ""ل
خاص""ة تهذيبي""ة ،وترك""زت في وص""ف الحي""اة الحض""رية بتن""وع طبقاته""ا وفئاته "ا" ولهجاته""ا . . . ".إن رواي""ة
الق""رن التاس""ع عش""ر ،ل""دى ك""ل من ديك""نز و بل""زاك و تولس""توي ودوستويفس""كي ،ق""د اش""تقت من ه""ذه
الدراسـات الوصفيــة و الس""يكولوجية .كم""ا أن مص""ادر ه""ذه الروايـة ك""انت هـي الدراس""ات االنغليزيـة
من نم" " ""ط ( الحي" " ""اة في لن" " ""دن ) . . .و الكتاب" " ""ات الوص" " ""فية الفرنس" " ""ية عن ب" " ""اريس . . .و " الدراس" " ""ات
الفيزيولوجية " الروسية ،و مع ذلك فإن هناك رواية تنتمي إلى النم""ط الق""ديم من رواي""ات املغ""امرات.
2
. .و هنا تتم املحافظة على الصلة بالكالم الذي يقترب مع ذلك من الخطابـة و ليس من الحكي«
هنال" ""ك مقارب" ""ة ثالثي" ""ة األبع" ""اد لت" ""اريخ الرواي" ""ة أو لنظريـة نشأتهـا ،أو لنظرياتهـا على اعتب" ""ار ك" ""ون
نظري""ة الرواي""ة ت""أمال فـي هويته""ا الفلس""فية مج""ردة من ك""ل اعتب""ار آخ""ر مرتب""ط بالض""رورات الكتابي""ة أو
بالس" ""ياقات" السياس" ""ية والعقيدي" ""ة واالجتماعي" ""ة ،و ب" ""النظر إلى االعتب" ""ارات كله" ""ا لرؤي" ""ة م" ""ا وراء ه" ""ذه
االعتب" ""ارات .ه" ""ذه املقارب" ""ة هي ال" ""تي تق" ""ول إن الرواي" ""ة إم" ""ا أن تك" ""ون جنس" ""ا أدبي" ""ا تش" ""كل على ه" ""امش
امللحم""ة ؛ أي على ه""امش الش""عر ،و إم""ا أن تك""ون ض""ربا من الت""اريخ الشخصي الج""زئي و إم""ا أن تك""ون
تعبيرا عن وجدان املجتمع.
إن التأمل الفلسفي في رحلة التطور هذه يقودنا إلى مقابلة غريبة بين التاريخ الذي يجته""د بال طائ""ل
كي ينق ""ل ش ""هادات من أثث ""وا مرحل ""ة م ""ا وبين طريق ""ة "روائي ""ة" في الح ""ديث عن ه ""ذا الع ""الم على أس ""اس
كون""ه كتاب""ة يتبناه""ا أش""خاص معين""ون ينتم""ون إلى دوائ""ر سياس""ية أو إيديولوجي "ة" ( والغ""الب أن تك""ون
سياس""ية /إيديولوجي""ة) يق""دمون "ص""يغة تاريخي""ة"" أو "نس""خة للحقيق""ة"" تتماشى واس""تراتيجياتهم ال""تي
يق""ف خلفه""ا دائم""ا منط""ق املص""لحة السياس""ية الهادف""ة دائم""ا إلى ص""ياغة املش""اهدة في إط""ار مش""هد ينتهي
1
إلى أال يأبه تماما بالحقيقة ،أو بالصدقية التي يبدو التاريخ حامال لرايتها دائما.
بن" ""اء على م" ""ا س" ""بق ف" ""إن فريق" ""ا كب" ""يرا من املؤرخين يع" ""ود بالرواي" ""ة إلى كتاب" ""ات املؤرخين األوائ" ""ل في
العص ""ر اإلغ ""ريقي ويع ""ود إليهم ألنهم اعتم ""دوا الت ""دوين ،على عكس من ج ""اء قبلهـم من رواة األخب ""ار
ومن م ""ؤرخي عص ""ر م ""ا قب ""ل الت ""دوين ،ف ""املؤرخ" املته ""افت لس ""بب أو آلخ ""ر ه ""و في الحقيق ""ة روائي بك ""ل
املق""اييس ،و إذا ك""انت البني""ة االبتدائي""ة هي كتاب""ة الت""اريخ ،ف""إن الش""كل النه""ائي ه""و رواي""ة ال ش""ك و ال
ام""تراء فـي روائيتهـا 2 ،وال""ذي ال يع""ود ك""ل ه""ذا الع""ود يق""ف عن""د النص""وص الهام""ة ال""تي منحت الرواي""ة
هوي""ة أدبيـة و كتابي""ة مس""تقلة و م""ائزة له""ا عن غيره""ا فيج""د كم""ا كب""يرا من الرواي""ات التاريخي""ة ،األم""ر
فسره املؤرخون" بكون الرواية » قبل أن تبلغ ما بلغت"ه الي"وم من وض"ع ممت""از حمله"ا على إنك"ار الت"اريخ
و اإلنس ""ان و املك ""ان والحقيق ""ة ( الرواي ""ة الجدي ""دة ) ،ك ""انت متزاوج ""ة م ""ع الت ""اريخ زواج وف ""اء ،تنش ""د
العالقة الحميمة بينها وبينه .و لكن لعلها كانت مجرد مرحلة كانت الرواي"ة فيه"ا ال تفت"أ غ"ير واثق"ة من
نفس""ها ،وال موقن""ة من جماله""ا الف""ني ،و س""لطانها األدبي املث""ير ،فكن""ا نلفيه""ا تع""ول تع""ويال ش""ديدا على
أح""داث الت""اريخ إمـا بص""ورة مباش""رة ،و إم""ا بإيه""ام الق""ارئ ب""أن م""ا ح""دث ،ه""و فعال وق""ع يوم""ا م""ا ،في
زمن الت""اريخ ،و أن الشخص""يات املرس""ومة هي ،حق""ا ،تمث""ل أشخاص""ا ك""انوا يحي""ون و يرزق""ون ،مم""ا
3
حمل بالزاك على عد الرواية حليفا للتاريخ «.
لق""د م""ال ال""روائي في بعض املراح""ل إلى محاول""ة فهم الواق""ع ،لك""ون واقع""ه ه""ذا مش""بعا باألح""داث
ال""تي يتغ""ير عن""دها مس""ار الت""اريخ ،فك""أن الك""اتب ي""أتي في أعق""اب ه""ذه املراح""ل فيج""د واقعهم ت""أثر ش""ديد
الت""أثر بت""اريخ ق""ريب أو متوس""ط الق""رب ،فيش""رع ه""ذا ال""روائي في الكتاب""ة متن""اوال الت""اريخ لعل""ه يفهم""ه
1
Karl popper- op. cit. p14
هالل ،محمد غنيمي :النقد األدبي الحديث ،ص ص .494 - 493 2
25
أك " ""ثر فيفهم واقع " ""ه املباش " ""ر على ض " ""وء ه " ""ذا الفهم . . .1و ه " ""ذا م " ""ا ح " ""دث بالنس " ""بة للرومانس " ""يين في
النص""ف األول من الق""رن التاس""ع عش""ر ،إذ ال يوج""د ك""اتب ه""ام إال و ل""ه كت""اب ح""ول الث""ورة الفرنس""ية
يحاول من خالله قراءة ما حدث س"واء للع"رض ،للمحاكم"ة" ( كم"ا هي الح"ال في كت"اب " قص"ة م"دينتين
" ألنغليزي تشارلز ديكنز ) أو لطرح قضايا اليوم املباشر من خالل تصوير قضايا األمس القريب.
ثم إن ال""روائي في ح""االت كث""يرة يج""د نفس""ه سياس""يا بش""كل م""ا ؛ و األمثل""ة في ه""ذا املض""مار أك""ثر من
كث ""يرة ،فتتح ""ول كتاب ""ة الواق ""ع إلى كتاب "ة" تاريخي ""ة بالض ""رورة مس ""تفيدة باملق ""درة الكب ""يرة ال ""تي يملكه ""ا
األدب على االخ""تزال ،التحوي""ل و الترم""يز ( التش""فير ) 2ك""ل ه""ذا ال يجب أن يهم""ل وجه""ا رابع""ا للقض""ية
ال ""تي نحن بص ""ددها هي الوج ""ه الف ""ني ،إذ ال ش ""ك في ك ""ون الرواي ""ة تواش ""جت م ""ع الت ""اريخ باس ""تمرار و
نجاع""ة » ألنه""ا عم""دت إلى تحلي""ل األح""داث التاريخي"ة" و االجتماعي"ة" بش""كل ف""ني ب""ارع ،ثم ألنه""ا ك""انت في
عه""د ك""ان الن""اس في""ه ال يف""تئون يعتق""دون في قيم""ة س""لطان الف""رد « . . .3 .و ه""ذه النقط""ة ربم""ا هي ال""تي
أدت إلى تراج""ع الش""كل الق""ديم للرواي""ة التاريخي""ة لفائ""دة أن""واع أخ""رى رمزي""ة ق""د نستش""فها في املي""دان
الع"ربي من خالل نص"وص ذكي"ة حداثي"ة مث"ل أعم"ال جم"ال الغيط"اني ال"ذي يع"د مث"اال جي"دا له"ذا الن"وع
من االش"تغال في أعم"ال من قبي"ل "الزي"ني برك"ات" و"كت"اب التجلي"ات"و "م"ذكرات ش"اب ع"اش من"ذ أل"ف
عام".
ليس تراج"ع االعتق"اد الفلس"في في ق"وة الف"رد و س"لطانه على الس"يرورة التاريخي"ة ه"و وح"ده الس"بب
ال ""ذي أدى إلـى تراج ""ع الروايـة التاريخيـة "،ب ""ل إن مفه ""وم ال ""زمن نفسـه ق ""د تغ ""ير و أص ""يب بش يء من
"املرض" ! . . .فالخض"وع للتسلس"ل الزم"ني ،و النظ"ر إلى ه"ذا األخ"ير نظ"رة خطي"ة تعاقبي"ة" كالس"يكية،
واالهتم ""ام بالـ " أمان ""ة " التاريخي ""ة . . .ك ""ل ذل ""ك من مكاس ""ب املاض ي ص ""ار املح ""دثون يش ""مئزون من ""ه
ش""ديد االش""مئزاز ف""إذا ك""ان ال""زمن ق""د س""يطر على الرواي""ة التاريخي""ة كمح""ور ق""وى له""ا » ف""إن الرواي""ة
الجدي ""دة ،ومعه ""ا النزع ""ة النقدي ""ة البنوي ""ة ترفض ""ان مفه ""وم ال ""زمن ،أو على األق ""ل ترفض ""ان س ""لطانه
مح" ""اولتين التخلص من" ""ه ب" ""العبث ب" ""ه ،و الني" ""ل من" ""ه ،و التش" ""كيك في أم" ""ره ،بتقديم" ""ه حيث يجب أن
ي ""ؤخر ،وبت ""أخيره حيث يجب أن يتق ""دم ،و ب ""الهروب من وطأت ""ه تحت أش ""كال متنوع ""ة من الس ""رد ،و
4
لقد نشأ عن رفض الزمن . . .رفض للتاريخ أيضا تحت تبريرات فكرية مختلفة.« . . .
2يقطين ،سعيد ƒ:انفتاح النص الروائي ،المركز الثقافي العربي ،المغرب ،لبنان ،ط ،2001 ،2ص .81
3مرتاض ،عبد المالك :في نظرية الرواية ،ص .44
4م .نفسه ،ص .45
26
إال أن ق " ""راء العش " ""ريات األخ " ""يرة -أي م " ""ا بع " ""د الرواي " ""ة الجدي " ""دة -ع " ""ادوا إلى املطالب " ""ة بالرواي " ""ة
التاريخي"ة ،و ربم"ا ي"دل على ذل"ك أرق"ام س"حب الرواي"ات التاريخي"ة في فرنس"ا ،يق"ول ل"وران فلي"در إن
الق""راء ال زال""وا »منج""ذبين أك""بر انج""ذاب ص""وب املعرف""ة اللذي""ذة الطريف""ة لفص""ول الت""اريخ املجي""دة أو
األليم""ة ،وص""وب فتن""ة العظم""اء و املش""اهير ،و الط""ابع البط""ولي . . ".و ه""ذا ه""و مي""دان مح""ترفي الرواي""ة
التاريخي" "ة" ال" ""ذين س" ""يتفيدون دائم" ""ا من وث" ""ائق كث" ""يرة ج" ""دا يعمل" ""ون على ع" ""دم ظهوره" "ا" خل" ""ف آثارهـا"
يستغلونهـا إلع""ادة الل""ون والص""وت و الرائح""ة إلى الف""ترات املنس""ية ،و إلع""ادة إحي""اء الرغب""ات واملي""ول
1
التي انطفأت منذ زمن بعيد مثلما يستحب خيالهم« .
لق""د نتج عن ه""ذه االزدواجي""ة س""ؤال مختل""ف تمام""ا ح""ول العالق""ة العميق""ة بين النص ال""روائي من
حيث تمثل " ""ه كبني " "ة" معق " ""دة ( بني " ""ة حواري " ""ة كم " ""ا أس " ""لف بين أي " ""دينا ميخائي " ""ل ب " ""اختين ) وبين الواق " ""ع
التاريخي . . .ذلك هو السؤال ال"ذي ع"بر عن"ه ميش"ال زيراف"ا عن الص"لة الخفي"ة بين أعط"اف النص"وص
"املتحاورة " التي تشكل نسيج النص ( أليس texteمبنيا على الجذر اللغوي الالتيني ال""دال على النس""يج
؟)* ؛ الص ""لة بين الح ""دث االجتم ""اعي و الثق ""افي ال ""ذي تب ""نى الرواي ""ة من حول ""ه و بين الح ""دث الكت ""ابي و
التقنية التشكيلية التي يجترحهـا الروائـي و يتخذها وسيلة لعرض مادته الروائية . . .وهذان األخ""يران
طبع""ا هم""ا املع""ول عليهم""ا في املحج""ة الك""برى لك""ل الكت""اب :إح""داث أث""ر على ص""احب الجالل""ة الق""ارئ. . .!
مهمة ستزداد حساسية في املرحلة التاريخية التي نص"فها ب""الفترة م"ا بع"د الحداثي""ة أو املرحل"ة الحداثي"ة
املت" ""أخرة ال" ""تي بل" ""غ الح" ""د بأص" ""حابها أنهم نف" ""وا إمكاني" ""ة فهمه" ""ا ب" ""أدوات علم االجتم" ""اع أو علم الت" ""اريخ
2
العروفة لدينا؛ فهي مرحلة من صفاتها االستعصاء على الفهم العلمي القديم.
هذا النوع من التس"اؤل مفي"د ج"دا ألن"ه ط"ور ال"وعي الع"ام بالس"يرورة الروائي"ة املتنقل"ة من التش"كل/
البيـان إلـى التشكيل /للتبيين ،فالوعـي النقدي املتقاسم بين الجميع ( املط"روح في الطري"ق يتعام"ل م"ع
الرواي""ة حالي""ا على أس""اس أن لحمت""ه األولي""ة تتش""كل رأس""ا من لحم""ات ص""غيرة بعض""ها ت""اريخي و بعض""ها
اجتماعي.
1فليدر ،لوران :الروايـة الفرنسيـة المعاصƒƒرة ،ترجمـة :فيصƒل األحمƒƒر ،منشƒƒورات مخƒƒبر الترجمƒƒة فـي اللسƒƒانيات
واألدب ،الجزائر ،2004ص .110
2
Pavlich George, “ Contemplating a postmodern sociology: genealogy, limits and
critique ”, The Sociological Review, vol. 43, n°3, August 1995, p. 549-550.
27
ل ""ذلك نج ""د الرواي ""ة مدروسـة من قب ""ل ع ""الم النفس ( كدراس ""ة فروي ""د ألعم ""ال دوستويفس ""كي )،
كم ""ا نج ""دها مؤش ""را اجتماعي ""ا بالنس ""بة للمرحل ""ة ال ""تي تنط ""ق بلس ""انها (ن ""ذكر باهتم ""ام علم ""اء االجتم ""اع"
ببلزاك) ونجدها مجاال خصبا للمطارحات الفلسفية . . .الخ.
وم" ""ع ذل" ""ك فعلى ال" ""رغم » من أن للرواي" ""ة وجوه" "ا" ال تحص ى ،و أش" ""كاال ال تع" ""د ؛ فإنه" ""ا م" ""ع ذل" ""ك
تتجس ""د تحت ش ""كل كت ""اب ؛ و إن من أسس ""ها ال ""تي ال تب ""ديل له ""ا و ال تغي ""ير أنه ""ا ظ ""اهرة لس ""رد حكاي ""ة
متخيل""ة قابل""ة للتح""ول ،و ق""ادرة على االختالف و التغ""ير إلى غ""ير ح""د مفض""ية إلى تسلس""ل املجموع""ات،
أو إلى تت ""ابع الب ""نى الفني ""ة ،أي إلى مجموع ""ات تك ""ون عناص ""رها" مرتبط ""ة بعض ""ها ببعض بحيث تش ""كل،
1
آخر املطاف ،عمال أدبيا كليا منسجمــا« .
نق""ف م""ع الرواي""ة التاريخي""ة على مفارق""ات عدي""دة ص""نعت مج""دها ،و أدت به""ا إلى التح""ول من
أحد أشرف األنواع األدبية إلى واحد من أهزلها و أبعدها عن التناول األك""اديمي الج""اد ،قب""ل أن تص"ير
مي""دانا لتج""ريب روائي -ع""ربي وع""المي -حام""ل ألك""ثر من موق""ع من مواق""ع االش""تغال الح""داثي املس""كون
بهواجس الجدة و التميز و الطرق املستمر على أبواب املعاني التي ال عهد لها بطارق.
املفارقة األولى تقفز إلى الذهن من خالل تفكيرنا في الربط بين رواية تريد نفس""ها اس""تعادة للماضي
وللمألوف و اتجاه في الكتابة يريد نفسه قطيعة" مع املاضي و تقويضا لكل مألوف.
هنال ""ك مفارق "ة" كب ""يرة ت ""بين كي ""ف أن اس ""تعادة املاض ي في الرواي ""ة ك ""انت من ""ذ الب ""دء ته ""دف إلى خل ""ق
لحظ" ""ة ثالث" ""ة فيم" ""ا وراء املاض ي والحاض" ""ر؛ املاض ي الظ" ""اهري ال" ""ذي يحي" ""ل علي" ""ه الس" ""ياق الت" ""اريخي،
والحاض""ر املهيمن من خالل إح""داثيات املؤل""ف والت""أليف و الكتاب""ة نفس""ها . . .إن ج""ورجي لوك""اتش في
بحث ""ه الرائ ""د ح ""ول الرواي ""ة التاريخي ""ة ك ""ان يش ""ير إلى أن أب ""ا الرواي ""ة التاريخي "ة" وول ""تر س ""كوت Walter
Scottك""ان من""ذ نص""ه األول مؤرخ""ا غ""ير حاف""ل بالت""اريخ و كاتب""ا نافي""ا للحاض""ر من خريط""ة كتابت""ه "،ك""ان
يستعمل الحاض"ر للنظ"ر فيم"ا وراءه و يس"تغل املاضي من أج"ل وعي أفض"ل بالحاض"ر . . .وعي " أفض"ل
2
" أو وعي " متعال " . . .أو وعي "حداثي". . .
املفارق" ""ة الثاني" ""ة تكمن في " النص " ال" ""ذي يق" ""ف على تخ" ""وم الت" ""اريخ س" ""اعة ،وعلى تخ" ""وم الرواي" ""ة
س ""اعة أخ ""رى ،فهنال ""ك تم ""اه مث ""ير للتأم ""ل بين النص ""ين ،أو بين الوظيف ""تين؛ وظيف ""ة املؤرخ و وظيف ""ة
ال ""روائي . . .تم ""اه يجع ""ل م ""ؤرخي األدب يقف ""ون مط ""وال م ""ع الروم ""اني "لوس ""يان الس ""وري" و ه ""و يكتب "
التاريخ الحقيقي " صائغا تاريخ العالم في تلك املنطقة صياغة أدبية مرحة غير عابئة بمحمول الوثائق
بق""در م""ا هي عابئ""ة بمجه""ول الخي""ال . . .فه""و "ت""اريخ"" ألن""ه يس""رد الوق""ائع و األح""داث ،و ه""و " حقيقي "
من الناحية األدبية . . .وهن"ا املفارق"ة" ال"تي تفضي على الس"ؤال األنطول"وجي :أين ينتهي الت"اريخ كي تب"دأ
الرواية ؟ وأين تتوقف الرواية كي نجد أنفسنا إزاء التاريخ ؟
إن الرواي " ""ة التاريخي " ""ة ملتقى جي " ""د للن " ""وعين اللغ " ""ويين ألنه " ""ا تق " ""ف على التخ " ""وم .إال أن »الرواي " ""ة
التاريخي ""ة تبعث في النفس ص ""ورا و مش ""اعر غ ""ير الص ""ور و املش ""اعر ال ""تي يبعثه ""ا في النف ""وس الوص ""ف
2
التاريخي الخالص«
أي أن املتلقي في نهاي""ة األم""ر ه""و الحكم على ه""ذه الرقع""ة متداخل""ة املاهي""ات . . .فش""عورنا هن""ا غ""يره
يعن للبعض من""ا تنظ""ير ذل""ك من خالل جع""ل الت""اريخ لص""يقا بالوث""ائق مثال إال أن البعض هن""اك .و ق""د ُّ
اآلخ""ر س""يقول :إن الوث""ائق معرض""ة للته""افت ،ف""إذا ظه""ر بطالن ص""دق وث""ائق الي""وم تح""ول ت""اريخ الي""وم
إلى روايات في الغد!
ويمكنن""ا اختص""ارا للجه""د و للمطارح""ات" القولي""ة أن نق""ول م""ع رأي املعلقين الش""ائع » :يقص علي""ك
الت""اريخ حي""اة الجماع""ات قب""ل ك""ل شيء ،و أم""ا الرواي""ة التاريخي""ة فتص""ور ل""ك حي""اة "الف""رد" قب""ل ك""ل
ش يء . . .والن ""اس مولع ""ون بتتب ""ع س ""يرة الف ""رد ،يس ""معون خفق ""ات قلب ""ه ،ويراقب ""ون التفات ""ات ذهن ""ه،
وينظ ""رون إلي ""ه . . .كي ""ف تغم ""ره الح ""وادث والظ ""روف فال يك ""اد يمل ""ك منه ""ا ومن نفس ""ه ش ""يئا « ،3وه ""و
عنص""ر ح""بيب إلى ال""روح الحداثي""ة ،إذ أنن""ا كث""يرا م""ا ن""رى التف""اف النص""وص ح""ول شخص""ية ،أو ع""دة
1
ibid:p:17-18
الجويني ،مصطفى الصاوي :في األدب العالمي ،منشأة المعارف ،مصر ،د ت ،ص.16 : 2
29
شخص" ""يات ،مرك" ""زة عليه" ""ا ال تحي" ""د عنه" ""ا .ثم ي" ""أتي الت" ""اريخ م" ""دعما ص" ""دقية النص" ""وص و غ" ""ير م" ""زعج
َّ
للرواي ""ة من حيث خصائص ""ها "،إذ أنه ""ا تعم ""ل بطريق ""ة خاص ""ة فتس ""تثير »ل ""ذتك بالص ""راع ،واألزم ""ات و
تش""وقك إلى معرف""ة نهاي""ة أبطاله""ا .أم""ا الت""اريخ فال موض""ع في""ه للقل""ق « ،1وربم""ا تك""ون ه""ذه العناص""ر
الثالثة أهم نقاط االئتالف و االختالف التي تميز هذه املفارقة الثانية.
أم""ا املفارق""ة الثالث""ة فهي كامن""ة عن""د الع""املين املتق""ابلين الل""ذين يجعالن ه""ذه الرواي""ات مائل""ة ص""وب
ن""وع من الس""كونية و نقص التجدي""د عموم""ا ،و يجعالن إقب""ال الجمه""ور عليه""ا كث""يرا كب""يرا كثيف""ا ،ق""د
يكون غياب التجديد هذا هو تحديدا ما يروق جمهور القراء ،الذي هو جمهور" ال يحسن التعامل م""ع
2
االنشطارات الحداثية التي كثيرا ما يصعب على متوسطي الثقافة تتبع مساراتها.
يفسر الناقد لوران فليدر العمل العميق لهذه الرواي""ات ،و ه""و تحدي"دا العم"ل ال"ذي يس"حر الق"راء
ويجذبنا باستمرار صوب هذه النصوص.
» و الزال الق""راء منج""ذبين أك""بر انج""ذاب ص""وب املعرف""ة اللذي""ذة الطريف""ة لفص""ول الت""اريخ املجي""دة
أو األليم""ة ،و ص""وب فتن"ة" العظم""اء و املش""اهير ،و الط""ابع البط""ولي ،بمع""اركهم و إنج""ازاتهم و ه""ذا ه""و
ه""و مي""دان مح""ترفي الرواي""ة التاريخي""ة ال""ذين يس""تفيدون دائم""ا من وث""ائق كث""يرة ج""دا يعمل""ون على ع""دم
ظهوره"ا" خل""ف آثاره""ا ،يس""تغلونها إلع""ادة الل""ون و الص""وت و الرائح""ة إلى الف""ترات املنس""ية ،و إلع""ادة
3
إحياء الرغبات و امليول التي انطفأت منذ زمن بعيد مثلما يحسب خيالهم«
هي " لعب" ""ة " إذن ،لعب" ""ة كش" ""ف و إخف" ""اء ش" ""ديدة التعقي" ""د ،كش" ""ف للج" ""انب ال" ""واقعي من حي" ""وات
السابقين و إخفاء للعمل التوريثي ال"ذي يبقى مص"در ك"ل س"حر . . .فالق""ارئ عموم"ا ي"دخل عاملا يحي"ط
به إحاطة سطحية منتظرا اكتشاف جوانب أخرى تخفى علي"ه ،فه"و يق"رأ رواي"ة ه"و مؤل"ف له"ا جزئي"ا
و ه""ذا الش""عور ه""و ال""ذي يج""ذب الق""راء ،و ه""و نفس""ه املرتك""ز ال""ذي ي""دفع املؤلفين إلى اإلكث""ار" من ه""ذه
التفاص ""يل الص ""غيرة إكث ""ارا دف ""ع الفيلس ""وف الفرنس ي "ج ""ول ميش ""لي" م ""ع فج ""ر نش ""أة ه ""ذا الن ""وع إلى
الصراخ غاضبا.
30
» إنكم تخ ""دعون الجه ""ال ،و تزعج ""ون املثقفين ،حين تفس ""دون الت ""اريخ به ""ذه الخي ""االت واألوه ""ام
4
كما تفسدون هذه بالتاريخ «
املفارق" ""ة الرابع" ""ة الج" ""ديرة ب" ""التوقف ،وهي عل" ""ة العل" ""ل فيم" ""ا يتعل" ""ق بع" ""ودة الروائ" ""يين الح" ""داثيين،
وح ""تى الكت ""اب ال ""ذين ين ""درجون ض ""من تي ""ار م ""ا بع ""د الحداث ""ة ،إلى الت ""اريخ يمتح ""ون من ""ه هي املفارق" "ة"
املناقض "ة" لالتج ""اه "الت ""داولي" "،إن ""ه اتج ""اه اولئ ""ك ال ""ذين ينطلق ""ون من مواض ""عة مفاده ""ا أن البحث عن
الحقيق""ة التاريخي""ة في األدب أم""ر ال طائ""ل من ورائ""ه .ل""ذلك ن""رى الناق""د املهتم بقص م""ا بع""د الحداث""ة "
أحم" ""د خ" " ّ
"ريس" يتح" ""دث عن اس" ""تعادة النص الت" ""اريخي لعرض" ""ه روائي" ""ا ولعرض" ""ه بطريق" ""ة ال تبقى على
عه""ود الوف""اء ألش""باه ج""ورجي زي""دان و وول""تر س""كوت وألكس""ندر دوم""ا ،ب""ل تتخطى بهجتهم الكتابي""ة "
الس" ""اذجة " إلى ن" ""وع من االش" ""تغال العمي" ""ق ال" ""ذي كث" ""يرا م" ""ا يص" ""ر على املزج بين الحاض" ""ر و املاض ي،
معتم" " ""دا موتيف" " ""ا معروف" " ""ا في األدب العج" " ""ائبي ه" " ""و م" " ""ا يس" " ""ميه النق" " ""اد » الحفل" " ""ة الع" " ""ابرة للت" " ""اريخ «
2
Transhistorical party
إن ه" ""ذه النزع" ""ة " الحداثي" ""ة " هي ال" ""تي بعثت ال" ""روح في الرواي" ""ة التاريخي" ""ة -بمفهومه" ""ا الكالس" ""يكي
االص" ""طالحي املتع" ""ارف علي" ""ه -بع" ""دما أص" ""يبت بإنه" ""اك كب" ""ير أنزله" ""ا -كم" ""ا أش" ""رنا -من قمم األدب إلى
املدارج التحتي" " ""ة لألدب الجم" " ""اهيري ذي الطبع" " ""ات الرخيص" " "ة" و الق" " ""راءات الس" " ""ريعة الع" " ""ابرة ( أدب
محط"ات القط"ار كم"ا يس"مى ل"دى الفرنس"يين ) ،و يح"دد أحم"د خ"ريس الخاص"ية الرئيس"ة له"ذا الن"وع "
ما بعد الحداثي" ؛ تلك هي املقولة " املتياقص""ية" " أي حض"ور التعلي"ق على القص أو وعي عملي"ة القص
نفسها ،أو وجود »قص شارح « 3على نمط اللغة الشارحة املنتشر ورود مصطلحها Métalangageفي
االس""تعمال اللس""اني . . .فالقص""ة القديم""ة ( النص الت""اريخي ) موض""وعة في م""رآة واقعي""ة تقابله""ا قص""ة
( = سياق = عملية كتابة ) واقعية أو حاضرة أو راهنة.
س""ندخل ب""اب الفلس""فة إذن من زاوي""تين :إح""داهما زاوي""ة إتاح""ة إمكان""ات كتابي""ة أو خاص""يات أدبي""ة
راهنة يبني عليهـا الروائي ممكناتـه اإلبداعيـة ،و هذا ديدن الفلسفة الحداثية بامتياز.
4مكي ،الطاهر أحمد :األدب المقارن ،أصوله و تطوره و مناهجه ،مكتبة اآلداب ،مصر ،ط ،2002 ƒ،4ص ص/556
.557
2أحمد خريس :العوالم المتياقصية .في الرواية العربية ،دار الفارابي ،لبنان ،2001 ،ص.119 :
م .نفسه ،ص ص( .24 ،14 :المبحث كله يتناول هذه الجزئية التقنية) 3
31
أما الزاوية الثانية فهذه التي كنا بصددها و التي مفادها حل إشكاليات اإلنه"اك ال"ذي يص"يب احيان"ا
تصوراتنا حول العالم بواسطة املزاوجة بين نوعين كتابيين أو بين رؤيتين متنافرتين للعالم للحص""ول
ّ
مخصب للعقل ولتصورنا حول الحقيق"ة ،و ه"ذا اختي"ار م"ا بع"د ح"داثي مف"اده الس"ير ض"د على تهجين
تي ""ار تش ""كل األن ""واع ،فم ""ا ك ""ان من الس ""رد مبني ""ا على وهم الت ""دليل العلقلي ال ""واقعي يص ""بح مبني ""ا على
التخيي""ل وعلى س""لطة التص""ورات والتم""ثيالت؛ أي أنن""ا نكش""ف س""راديب الخي""ال ب""دال من إخفائه""ا تحت
عباءة الواقع والحقيقة (وهو ما يفعله الروائيون منذ ميالد النوع).
32
الخالصة:
يمكنن" ""ا من خالل م" ""ا مض ى أن نخلص إلى جمل" ""ة من املالحظ" ""ات من قبي" ""ل أنن" ""ا حينم " "ا" نق" ""ف على
الح " ""دود الرابط " ""ة بين النص الت " ""اريخي والنص الس " ""ردي التخ " ""ييلي نك " ""ون بص " ""دد الرب " ""ط بين ط " ""رفين:
التفك" ""ير من خالل الت" ""دليل والس" ""ببية والص" ""الت املنطقي" ""ة الخاض" ""عة للسالس" ""ل العللي" ""ة املعروف " "ة" في
الخط" ""اب الفلس" ""في والخط" ""اب العلمي ،وك" ""ل م" ""ا أحالن" ""ا على مق" ""والت الواقعي" ""ة ،والتفك" ""ير من خالل
التخييل اي باختراع صورة عن الواق"ع تمنحن"ا إمكاني"ة ثري"ة لخل"ق تق"ابالت نفك"ر من خالل تموقعن"ا في
املس""افة بين الط""رفين املتق""ابلين جراءه""ا .س""يكون هنال""ك في النهاي""ة طرف""ان اثن""ان :أح""دهما ه""و املس""جل
للحي " ""اد عن راهن الواقعي " ""ة و راهن الرواي " ""ة التاريخي " ""ة إلى ممكن االلتق " ""اء بينهم " ""ا ،وثانيهم " ""ا املس " ""جل
للحي ""اد عن راهن الس ""رد التخ ""ييلي املخات ""ل و املرتك ""ز ارتك ""ازا تام ""ا ك ""امال على عام ""ل اإليه ""ام بالحقيق ""ة،
س ""عيا ص ""وب س ""رد تالع ""بي يك ""ذب و يكش ""ف أكاذيب ""ه مرتك ""زا على إح ""داث ل ""ذة اكتش ""اف األكذوب ""ة ،و
اللذة األكبر التي هي متعة رؤية عمل يتشكل تحت أعيننا.
نخلص ك ""ذلك إلى تأم ""ل العالق ""ة املت ""وترة بين " الواقعي ""ة " و " التاريخي ""ة "؛ إنن ""ا أثن ""اء كتاب ""ة رواي ""ة
نظل نسعى على قدمين ال فكاك منهما؛ أوالهما قدم األدب نفسه كمرجعي"ة" حتمي"ة لك"ل عم"ل أدبي ،و
ثانيتهم"ا هي الواق""ع /الت""اريخ يق"ف أمامن""ا على ش"كل مص""الحة بين األم"رين ،فه"و " الواق"ع " ال"ذي تح""ول
إلى لغ""ة أو إلى أدب ،أو إلى خط""اب ،كم""ا فص""ل في ذل""ك الق""ول ميش""ال فوك""و . . ".الوثيق""ة التارخي""ة هي
امللتقى غير املتوتر بين " اللغة " و" الحياة". . .
مم""ا يق""ف بن""ا البحث عن""ده فك""رة طبيع""ة الص""لة باملاضي ،فق""د تح""دثنا أعاله عن ج""زء الحي""اة أو
الواق""ع أو البع""د ال""واقعي للت""اريخ" من وجه"ة" نظ""ر فلس""فية تأويلي""ة بحت""ة ،وه""ا إنن""ا هن""ا نستحض""ر زاوي""ة
النظ"ر ال"تي ت"برر مي"ل النص األدبي و ربم"ا الفن"ون جميع"ا ص"وب ماضي النص""وص األدبي""ة ،و ال"تي يع"د
النص الت"اريخي ،حس"ب مفك"ري م"ا بع"د الحداث"ة و م"ا بع"د البنيويـة ،تابع"ا له"ا بش"كل م"ا ألن"ه ي"أتي بع"د
تمام أمرها واستقامة أودها .1
1فريديريك غرو :ميشال فوكو ،تر :محمد و طفه ،المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع ،لبنان ،ط،1
،2008ص.54 :
33
يص " ""ر إدوارد س " ""عيد أثن " ""اء الح " ""ديث عن التلقيح بالوثيق " ""ة التاريخي " ""ة على وج " ""ود نص فح " ""ل أو نص
مهيمن 2تع"د ك"ل كتاب"ة" اس"تعادة ل"ه ،وثيق"ة تحكم املخي"ال و تنظم عملي"ة الخل"ق ،وهي وثيق"ة مس"تعدة
لترك هويتها وخطيتها وسياقها" األصلي لفائدة اللعبة األدبية ،وخدمة ملا يود الروائيون قوله
2عبد هللا الغ َّد امي :النقد الثقافي ،قراءة في األنساق الثقافية العربية ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،الطبعة
األولى2000 ،م.123 :
34
مكتبة الدراسة
فاليت ،برنار :الرواية -تر :عبد الحميد بورايو -دار الحكمة -الجزائر.2000 -
هالل ،محمد غنيمي :النقد األدبي الحديث ،دار العودة ،بيروت .1986
دراج ،فيصل :نظرية الرواية و الرواية العربية ،المركز الثقافي العربي ،لبنان المغرب ،ط .1999 ،1
إبراهيم ،عبد هللا :السردية العربية( موضوع الكتاب كله هو هذه التفصيلة التي نحن بصددها)
قاسم ،سيزا و أبو زيد ،نصر حامد :مدخل إلى السيميوطيقا ،عيون المقاالت ،الدار البيضاء.
يقطين ،سعيد :الكالم و الخبر ،المركز ƒالثقافي العربي ،لبنان المغرب ،ط.1997 ،1
مرتاض ،عبد المالك :في نظرية الرواية ،دار الغرب -الجزائر.2005 -
الخطيب ،إبراهيم :نظرية المنهج الشكلي ( نصƒƒوص الشƒƒكالنيين الƒƒروس ) ،ترجمƒƒة ،مؤسسƒƒة األبحƒƒاث
العربية ،لبنان ،ط .1982 ،1
يقطين ،سعيد :انفتاح النص الروائي ،المركز الثقافي العربي ،المغرب ،لبنان ،ط .2001 ،2
فليدر ،لوران :الروايـة الفرنسيـة المعاصرة ،ترجمـة :فيصƒƒل األحمƒƒر ،منشƒƒورات مخƒƒبر الترجمƒƒة فـي
اللسانيات واألدب ،الجزائر ،2004ص .110
الجويني ،مصطفى الصاوي ƒ:في األدب العالمي ،منشأة المعارف ،مصر ،د ت.
مكي ،الطاهر أحمد :األدب المقارن ،أصوله و تطوره و مناهجه ،مكتبة اآلداب ،مصر ،ط.2002 ،4
خريس ،أحمد :العوالم المتياقصية .في الرواية العربية ،دار الفارابي ،لبنان.2001 ،
فريديريك ƒغƒرو :ميشƒƒال فوكو ،تƒƒر :محمƒƒد و طفƒه ،المؤسسƒة الجامعيƒƒة للدراسƒƒات و النشƒƒر و التوزيƒع،
لبنان ،ط.2008 ،1
عبƒƒد هللا الغَّ ƒدامي :النقƒƒد الثقƒƒافي ،قƒƒراءة في األنسƒƒاق الثقافيƒƒة العربيƒƒة ،المركƒز ƒالثقƒƒافي العƒƒربي ،الƒƒدار
البيضاء ،الطبعة األولى.2000 ،
35
افق اللغة
توطئة
تريد هذه األنطولوجيا أن تسافر بالقارئ سفرا خفيفا ع"بر مواق"ع لغوي"ة متباين"ة ،وتري"د بانتقاله"ا من
موقع إلى موقع أن تبين الكم الكبير من التنوع الذي يميز الظاهرة اللغوية ،فاللغة لعبت أدوارا كثيرة
أص"بحنا نعرفه""ا جي"دا وتلعب أدوارا كث""يرة نعرفه"ا معرف""ة نس""بية ،وال ب""د أنه"ا س"تلعب أدوارا أخ""رى لم
نعرفه""ا بع""د ،له""ذا انتقلن""ا في غض""ون ه""ذا النص ،بين ماضي األداء اللغ""وي وحاض""ره ،ونظرن""ا إلي""ه من
زوايا عدي"دة وبعي"ون جمه"ور واس"ع من الن"اظرين املحنكين أص"حاب النظ"ر الث"اقب والعك"وف الفلس"في
واملع""رفي ّ "
حم ال األوج""ه :نح""اة ،دالل""يين ،رواة ،مفس""رين للق""رآن ،أنثروبولوج""يين ،م""ؤرخين ،فالس""فة،
ألسنيين ،أدباء...الخ.
اللغ ""ة ظ ""اهرة هالمي ""ة ألنه ""ا تلعب لعب ""تين في آن؛ هي تمث ""ل الع ""الم وتخل ""ق عامله ""ا ال ""ذي ينتهي إلى نس ""ف
الع""الم وتعويض""ه كم""ا يق""ول لودفي""غ فيتغنش""تاين ال""ذي ك""ان ي""رى ب""أن ادع""اء اللغ""ة تمثي""ل العلم ادع""اء
ف""ارغ "،وأن ادع""اء الفك""ر فهم الع""الم ه""و ش""رط منطقي مس""تحيل التحق""ق ،ألن األش""ياء حبيس""ة ال"برامج
ال""تي تص""نعها ،وألن الع""الم ال وج""ود ل""ه خ""ارج" اللغ""ة ال""تي تقول""ه،من جه""ة "،في حين تعج""ز اللغ""ة عن أن
تتواج ""د خ ""ارج اللغ ""ة ،وه ""و م ""ا يق ""ود ك ""ل حقيق ""ة إلى أن تك ""ون ص ""ياغة بال غاي ""ة نهائي ""ة ،ص ""ياغة تش ""به
اللعب الذي يهدف إلى تحقيق إنجاز بال غاية خارج" اإلحالة على قواعده الداخلية .1
أم" ""ا العن" ""وان فه" ""و اس" ""تدعاء مباش" ""ر لعن" ""وان كت" ""اب روالن ب" ""ارط ال" ""ذي س" ""افر في النص" ""وص الكث" ""يرة
املتباينة" واملنتشرة على اختالف األزمن"ة واألمكن"ة واملواض"يع واملؤلفين بحث"ا عن ظه"ور مقول"ة»الحب».
فعن""ون كتاب"ه" :ش""ذرات من خط""اب عاش""ق .fragment d’un discours amoureuxكت""اب اخ""تزل ع""امين
من ال""دروس ال""تي ألقاه""ا ب""ارط في املدرس""ة التطبيقي""ة للدراس""ات العلي""ا بب""اريس ( ،)1974/1976انتهت
بكتاب ينطق بخلفيته مابعد الحداثية التي تتجلى من خالل نقطتين محوريتين:
1
Ludwig Wittgenstein: tractus logico-philosophicus, trad. P.Klossowsky, Gallimard, Paris, 1963, vol1/p35
36
ا/مركزي ""ة فع ""ل الق ""راءة وأولويت ""ه على ك ""ل فع ""ل ذي ط ""ابع منهجي .ويحيلن ""ا ه ""ذا بشخص ""ية الق ""ارئ ال""تي
ظهرت عند قدام اإلغري"ق قب"ل دخوله"ا الثقاف"ة السكوالس"تيكية؛ الق"ارئ ال"ذي ه"و عب"د أو ت"ابع مكل"ف
ب""القراءة لس""ادته من مخطوط""ات وكتب ألج""ل التس""لية والتثقي""ف ودون أدنى ت""دخل .ه""ذه الشخص""ية
التي تمثل هيمنة" الص"وت الق"ارئ على العق"ل املنظم للمق"روء .وه"و انتص"ار للنص في وض"عه الخ"ام على
الخطاب املوجه املحمل الخاضع لالستراتيجية املرسومة املوصوفة سلفا.
ب /تتق ""دم الكتاب ""ة الش ""ذرية في املش ""روع مابع ""د الح ""داثي على أس ""اس كونه ""ا كتاب ""ة اوالني ""ة وثانياني ""ة في
الوقت ذاته؛ كتابة تريد نهايتها مسيرا ال مصيرا ،تتح"رى في ع"دم اكتماله"ا نمط"ا من االكتم"ال ال"ذي ه"و
النقصان الذي يحيل بش"كل ت"ام كام"ل على الحي"اة وعلى تجرب"ة املعرف"ة البش"رية .الكتاب"ة الش"ذرية إذن
كتابة" تتوسع بشكل جذموري وال تنب"ني كج"ذر ارس"طي تتف"رع عن"ه ف"روع ه"و س"ابقها وهي لواحق"ه .وال
تخفى األهمي ""ة ملنهجي ""ة من ه ""ذا القبي ""ل .منهجي ""ة تنب ""ني ض ""د منط ""ق األبني ""ة .تقص ""ف املركزي ""ات لفائ ""دة
االنفتاح على النصوص اآلتية من كل فج بعيد.
ويحض""رنا هن""ا التص""ور الجمي""ل ل""روالن ب""ارط ح""ول اللغ""ة – ال ح""ول العش""ق ه""ذه املرة -إذ يق""ول»إن
اللغ""ة مث""ل الجل""د ،وإنن""ا نحت""ك بعض""نا ببعض حينم""ا نتكلم؛ ك""ان كلماتن""ا أنام""ل او ك""أن للكلم""ات نفس""ها
1
أصابع»
احت" " " " " ""وت مع" " " " " ""اجم املع" " " " " ""اني العربي" " " " " ""ة ("الغ" " " " " ""ريب املص" " " " " ""نف»ألبي عبي" " " " " ""د»،فق" " " " " ""د اللغ" " " " " ""ة وس" " " " " ""ر
العربي""ة»للثع""البي»املخص""ص»ألبن س""يدة»،كت""اب التلخيص»ألبي هالل العس""كري) على الكلم""ات العربي""ة
مرتب" ""ة حس" ""ب س" ""ياقاتها" أوال وحس" ""ب التت" ""ابع الت" ""اريخي ملختل" ""ف ال" ""دالالت ال" ""تي تع" ""اقبت على اللفظ" ""ة
الواح""دة ح""تى ان""ه ليك""ون ص"وابا أن تختص"ر علم»فق""ه اللغ"ة»في معرف""ة تح"والت املع""نى في م""دار اللفظ""ة
الواح""دة .وبع""د أربع""ة عش""ر قرن""ا ي""أتي ميش""ال فوك""و في حفريات""ه املعرفي"ة" لينتب""ه إلى خط""أ كب""ير يرتكب""ه
دارس"و الخط"اب واملحلل""ون فه""و يق"ول ،بع"د أن يش"ير إلى أن النظري""ة النحوي"ة إقص"ائية بالض"رورة ،ب"ل
وإقص""ائية عن عم""د وم""ع س""ابق اإلص""رار والترص""د »:ه""ل ننتهي من ه""ذا إلى أن النح""و ال يب""دو منس""جما
ومتماس " ""كا إال من الناحي " ""ة املظهري " ""ة ،وأن ه " ""ذا الع " ""دد العدي " ""د من العب " ""ارات والتحليالت األوص " ""اف
1
Roland Barthes : Fragments d’un discours amoureux , le Seuil, Paris, 1977, p171
37
واملبادئ والنتائج والخالصات واالستنباطات الذي عاش أكثر من قرن من الزمن باسم النح""و لم يكن
س ""وى وح ""دة زائف ""ة؟ ربم ""ا ه ""ذا ص ""حيح .لكن ه ""ذا ال يمنعن ""ا من اكتش ""اف وح ""دة خطابي ""ة ش ""ريطة أال
نلتمس ""ها في ج ""انب تناس ""ق املف ""اهيم ب ""ل في ج ""انب انبثاقه "ا" املت ""آني أو املتع ""اقب ،اختالفه "ا" وافتراقه ""ا ب ""ل
وتناقض " ""ها إن اقتض ى الح " ""ال ،أي أن علين " ""ا أال نبحث عن ش " ""رح املف " ""اهيم ال " ""تي بلغت من العمومي " ""ة
والتجري" ""د ح" ""دا كافي" ""ا "،كي نتمكن عن طريقه" ""ا من التوص" ""ل إلى املف" ""اهيم األخ" ""رى الباقي" ""ة ون" ""دخلها في
1
البناء االستبطاني ،بل أن نعمل على تحليل أشكال ظهورها وتبعثرها»
ف""إذا ك""ان سوس""ير ي""رى أال ض""رورة للدراس""ة التعاقبي "ة" من ب""اب كونه""ا علم""ا ال ينف""ع ،وأن الج""دوى ك""ل
الج""دوى في الدراس""ة اآلني""ة ال""تي تجعلن""ا نحي""ط من اللغ""ة بم""ا يهمن""ا ويش""غلنا ،ف""ان ميش""ال فوك""و (وه""و
حفي ""د من أحف ""اد سوس ""ير) ي ""رى أن طري ""ق الدراس ""ة التعاقبي ""ة تم ""ر بالض ""رورة بالدراس ""ة اآلني ""ة ،وأن
حد التمكن من فهم الظاهرة املتزامنة معن"ا وال""تي ذلك يتم بالتقاط الظواهر اآلنية طورا بعد طور إلى ّ
نصفها باآلنية (بالنسبة إلينا) ،لكي يصبح املعنى العميق للحفريات ه""و إيق""اظ أجي""ال – او طبق""ات -من
الطاق" ""ة الداللي" ""ة اآلني" ""ة املتراكب بعض" ""ها ف" ""وق بعض في رك" ""ام ال" ""زمن .وه" ""ذا ه" ""و مفه" ""وم الحفري" ""ات
املعرفية" التي يبدو أن قدامى لغويي العرب قد مالوا صوبها فطريا ودون نظرية منظر ،على األق""ل من
خالل عملهم على خامة اللغة بمعاول فقه اللغة.
علمن""ا الق""رن العش""رون أن اللغ""ة ليس""ت بريئ""ة ،وعلمن""ا عص""ر النهض""ة أن اللغ""ة متط""ورة ش""ئنا أو أبين""ا،
علمتن" ""ا الث" ""ورات املتعاقب " "ة" أن اللغ" ""ة ق" ""د ت" ""ؤدي بحي" ""اة الن" ""اس إلى الهالك ،فيم" ""ا علمن" ""ا أه" ""ل املدرس" ""ة
التحليلي""ة ب""أن اللغ""ة تحكم وعين""ا باألش""ياء ،لكي يح""دد ج""ون أوس""تن وجماعت""ه ب""أن األفع""ال هي كلم""ات
أص""ابها تح""ول الحي""اة ،وأن الكلم""ات ال ه""دف له""ا س""وى التح""ول إلى أفع""ال واقع""ة واقعية .2قبله""ا علمن""ا
املتص""وفة" في اإلس""الم أن اللغ""ة مح""ل اللتق""اء الناس""وني ب""الالهوتي ،وعلمن""ا علم""اء الطليع""ة الع""رب من
الع ""املين بحق ""ل اللغ ""ة واألدب مع ""ا (وكلهم جمع ""وا رواي ""ة اللغ ""ة إلى االجته ""اد النح ""وي إلى رواي ""ة الش ""عر
والن ""ثر إلى االجته ""اد البالغي) أن الس ""ياق س ""يد الدالل ""ة وأن اللغ ""ة ملك ""ة إنس ""انية يفع ""ل به ""ا اإلنس ""ان م ""ا
1
ميشال فوكو :حفريات المعرفة.تر :سالم يفوت -دار إفريقيا-الشرق -الدار البيضاء -ط-1987 -2ص35
2
trad. G. Lanne, Le Seuil, Paris, 1970, p. 41.ة John Langshaw Austin, Quand dire, c’est faire
38
يش ""اء ،فك ""انوا ال ي ""أتون بجمل ""ة إال وقبله ""ا ق ""ال فالن عن فالن عن فالن عن ص ""احب الق ""ول ،وال يهمن ""ا
إذا شعر القارئ بامللل من سلسة األسانيد ،فاملهم صحة السند وسالمة النقل.
ويتساءل ميشال فوكو قب"ل معاين"ة أي خط"اب »:من يتكلم؟ من من مجم"وع األف"راد املتكلمين ل"ه الح"ق
في أن يتمل""ك ه""ذا الن""وع من اللغ""ة؟ من مالكه""ا؟ من يف""وض إلي""ه ه""ذا املال""ك ح""ق التص""رف فيه""ا وممن
يتلقى املالك ،إن لم نقل ض"مانة الحقيق"ة ،فعلى األق"ل حدس"ا وتخمين"ا ب"أن م"ا يقول"ه حقيق"ة؟" م"ا وض"ع
األف""راد قانون""ا أو عرف""ا أو ش""رعا أو بص""ورة اعتباطي""ة عفوي""ة ،ال""ذين ينف""ردون بح""ق التلف""ظ بخط""اب
1
من هذا النوع؟"..
ك""ل ه""ذه أس""ئلة ال ب""د منه""ا قب""ل معاين""ة الخط""اب وقب""ل التط""رق ملحمول""ه ،والع""رب «تح""دد مفه""وم اللغ""ة
ُ
بأنها»أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم»كما قال ابن جني ،وتحدد وظيف"ة اللغ""ة بأنه""ا»البي"ان»كم""ا
يق""ول الجاح""ظ ،أو اإلنب""اء واإلخب""ار" كم""ا ذهب املعتزل""ة بش""كل ع""ام والقاضي عب""د الجب""ار األس""دآبادي
على وج""ه الخص""وص ،والبي""ان أو اإلنب""اء يعني""ان الق""درة على التواص""ل به""دف نق""ل الخ""برة واملعرف""ة من
جي""ل إلى جي""ل داخ""ل املجتم""ع الواح""د ،أومن مجتم""ع إلى مجتم""ع وبكلم""ات أخ""رى فق""د تح""ددت وظيف""ة
اللغ" " ""ة بن" " ""اء على ض" " ""رورة االجتم" " ""اع" اإلنس" " ""اني ،واختالف اإلنس" " ""ان عن غ" " ""يره من الكائن" " ""ات بحاجت" " ""ه
2
للتواصل"
أم""ا املح""دثون فيلخص""ون أفك""ارهم" الكث""يرة في التعري""ف الت""الي »:اللغ""ة ظ""اهرة بس""يكولوجية اجتماعي""ة
ثقافية" مكتس"بة ،ال ص"فة بيولوجي"ة مالزم"ة للف"رد ،تت"ألف من مجموع"ة رم"وز ص"وتية لغوي"ة اكتس"بت
عن طري ""ق االختب ""ار مع ""اني مق ""ررة في ال ""ذهن وبه ""ذا النظ ""ام الرم ""زي الص ""وتي تس ""تطيع جماع ""ة م ""ا أن
تتف"اهم وتتفاع"ل وباللغ"ة فق"ط ص"ار اإلنس"ان إنس"انا ،وباللغ"ة فق"ط تط"ورت الحض"ارة وتق"دم العم"ران
3
وبلغ العقل اإلنساني ذروته ،فدرس اللغة درسا علميا فلسفيا»
1
حفريات المعرفة -ص48
2
نصر حامد أبو زيد :السيميوطيقا ،حول بعض المفاهيم واألبعاد»(باالشتراك مع سيزا قايسم)،عيون المقاالت ،الدار البيضاء ،ج/1ص75
3
أنيس فريحة :نظريات في اللغة -دار الكتاب اللبناني -ط -1981-2ص14
39
فن اللغة /لغة الفن
من ""ذ أن ح ""دد سوس ""ير مب ""ادئ اللس ""انيات وه ""و يبش ""ر بعلم الح ""ق ه ""و علم العالم ""ات la sémiologie
مقرا بأن دراسة لغة اإلنسان والتمكن من آليات عملها يحيل بالضرورة إلى اكتس"اب عت"اد منهجي ك"اف
لدراسة جمي"ع أنم"اط اللغ"ات األخ"رى ،أو أنظم"ة التواص"ل غ"ير اللس"انية (وغ"ير البش"رية أيض"ا) ،أي أن
ق" ""راءة ال" ""دليل اللس" ""اني تحلي" ""ل على ق" ""راءة ال" ""دليل وكفى ،دون تحدي" ""د لن" ""وع ه" ""ذا ال" ""دليل .وبس" ""رعة
اص" ""طدم العلم" ""اء (من" ""ذ خمس" ""ينيات الق" ""رن العش" ""رين) بتحدي" ""د ه" ""ذه اللغ" ""ات غ" ""ير اللس" ""انية (أو غ" ""ير
الكالمي ""ة) فوج ""دوا أنفس ""هم أم ""ام ه ""ذا الص ""نف من األس ""ئلة فيم ""ا يتعل ""ق بالتواص ""ل الف ""ني (في مي ""دان
الفن ""ون التش ""كيلية) :ه ""ل توج ""د س ""مة أساس ""ية مش ""تركة بين ك ""ل ه ""ذه الفن ""ون س ""وى مفه ""وم مبهم ه ""و
مفهوم»التشكيل» la plastique؟
ه""ل توج""د وح""دة ش""كلية يمكن تحدي""دها على أنه""ا الوح""دة ال""تي ت""دخل في تك""وين ك""ل ه""ذه الفن""ون أو في
أحدها؟" ولكن ما هي وح"دة التص"وير والرس"م؟ ه"ل هي الش"كل أم الخ"ط أم الل"ون؟ وه"ل ه"ذا الس"ؤال-
1
إذا طرحناه بهذا الشكل -له معنى؟
ووج " ""د الس " ""يميولوجيون" الج " ""دد -آن " ""ذاك -أنفس " ""هم أم " ""ام مح " ""اوالت منهجي " ""ة لإلحاط " ""ة بموض " ""وعهم،
ولض" ""بط طريق" ""ة عملهم ،فق" ""رروا أن" ""ه ال ب" ""د لك" ""ل نظ" ""ام س" ""يميولوجي يق" ""وم على العالم" ""ات أن يخض" ""ع
لشرط احتوائه على ما يلي :
_3مقوالت محددة بغض النظر عن طبيعة املقوالت التي ينتجها النظام وعدد هذه املقوالت.
وتظه ""ر معاين ""ة بس ""يطة أن الفن ""ون التش ""كيلية ال تس ""تطيع أن تش ""كل نظام ""ا س ""يميولوجية "،وهي بالت ""الي"
ليس ""ت لغ ""ة ،ولكن الفن ""ون التش ""كيلية ق ""امت وس ""تقوم دائم ""ا ب ""دورها" التواص ""لي الجم ""الي "،ف ""أين يكمن
الخلل؟
الح""ل بس""يط ،إن""ه وص""ف أك""ثر دق""ة ،وص""ف وكالم يح""اول اإلحاط""ة بالظ""اهرة لوض""ع الي""د على لغته""ا
الخفية اللطيفة خافتة الصوت.
1
السيميوطيقا -ص138
40
كالم أك ""ثر لوص ""ف م ""ا ه ""و أش ""مل من الكالم ،وهك ""ذا وج ""د البحث عن»لغ ""ة الفن»نفس ""ه يس ""قط م ""رة
أخرى في فخ»فن اللغة» .هل كان سوسير يتوقع هذا؟
جدوى جدولة»الالجدوى»
قد يع"ترض أح"دنا على دع"وى علمن"ة البحث اللغ"وي ال"تي أغ"وت الجمي"ع من"ذ سوس"ير :إن اللغ"ة ظ"اهرة
اجتماعي""ة ال تلين ألحك""ام العلم الص""ارمة ألنه""ا في جري""ان وان""دفاع مس""تمر ( )un flux continuوفي ّ"
تغي"ر
دائم».وك ""ل ظ ""اهرة حي ""ة متط ""ورة متغ ""يرة ت ""أبي التقيي ""د ،فنحن ال نقي ""د جمي ""ع ظ ""واهر الك ""ون إال عن ""د
استقرارها وثبوتها ،وفي هذا االع"تراض شيء من الص"حة ول"ذا يق"ول علم"اء اللغ"ة الي"وم ب"أنهم ينظ"رون
إلى اللغ ""ة على أنه ""ا بن ""اء زم ""ني ،وأن وظيف ""ة ع ""الم اللغ ""ة هي في املرتب ""ة األولى الوص ""ف ،وص ""ف اللغ ""ة في
ال"زمن املعطى ال""ذي يتم في"ه الوص"ف .وه""ذا الوص"ف ال"دقيق للغ"ة في نقط"ة معين"ة من الزم""ان واملك"ان
هو العلم ذاته.1".
وإذا ك""انت اإلحاط""ة بج""وانب الظ""اهرة اللغوي""ة في زمن فعال مش""بعا ب""الال ج""دوى لك""ون ه""ذه اللغ""ة ق""د
تح""ركت عم""ا تك""ون النظري""ة املحيط""ة به""ا علي""ه في حين اكتماله""ا ،ف""ان تط""ور اللغ""ة ليس بالدرج""ة ال""تي
يرس""مها بعض األلس""نين من االنزي""اح ،فمعرف""ة قواع""د اللغ""ة العربي""ة كم""ا رس""خت عن""د الخلي""ل ودونه""ا
س" ""يبويه في كتاب" ""ه من" ""ذ ثالث" ""ة عش" ""ر قرن" ""ا تجيب كث" ""يرا من ه" ""ذه االس" ""تفهامات اللغوي" ""ة ملتع" ""اطي اللغ" ""ة
العربي""ة في الق""رن الح""ادي والعش""رين ،ه""ذا من جه""ة ومن جه""ة أخ""رى ف""ان ت""راكم املحاول""ة الوص""فية
ط""ورا بع""د ط""ور ،تس""مح باس""تنباط ص""ورة مجمل""ة له""ذه الظ""اهرة ،ص""ورة تتج""اوز األنم""اط املتغ""يرة إلى
الجوهر ،املادة الخام األولية للغة املدروسة.
جدولة هذه املراحل املتتالية من الالجدوى تفضي إذن إلى نتيجة لها أكثر من جدوى.
1
نظريات في اللغة -ص ص34/35
41
اللغة املستحيلة
يقول تعالى" ":أفال يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا" كثيرا"(النساء)82 -
"ق" ""ل لئن اجتمعت اإلنس والجن على أن ي" ""أتوا بمث" ""ل ه" ""ذا الق" ""رآن ال ي" ""أتون بمثل" ""ه ول" ""و ك" ""ان بعض" ""هم
لبعض ظهيرا"(اإلسراء)88 -
"أم يقول""ون اف""تراه ،ق""ل ف""أتوا بعش""ر س""ور مثل""ه مفتري""ات وادع""وا من اس""تطعتم من دون هللا إن كنتم
صادقين"(البقرة )23
كث""يرا م""ا ع""برت اآلي""ات القرآني""ة عن اس""تحالة ه""ذا الخط""اب وتعالي""ه عن الغ""ير ،فم""رة نق""رأ لهج""ة تح" ٍّ"د
للكف""ار لإلتي""ان بأص""غر وح""دة ممكن""ة من""ه ،وم""رة يحم""ل من ال""تراكيب ومن املوس""يقى م""ا يجع""ل كث""يرا
من املتعص""بين من اإلس""الم آن"ذاك يلين ويلتق""ط العناص""ر غ"ير البش"رية (وه""ذا موض""وع ال ي"زال بحاج"ة"
إلى دراسة حديثة تأخذ من التحليل النفسي ومن جمالي""ات التلقي وتس"تعين بآلي""ات حديث"ة وبإمكاني""ات
املعالج"ة املخبري"ة والق"راءة العص"بية له"ذا األث"ر الك"امن خام"ا في بط"ون الكتب القديم"ة) وهي حال"ة عم"ر
بن الخطاب الذي كانوا يقولون في حقه :انه لن يسلم حتى يسلم حماره؟
إنه""ا اس""تحالة متع""ددة الوج""وه ،ألن الق""رآن ب""رهن م""رة ب""التركيب وم""رة بالدالل""ة وم""رة ثالث""ة باإلش""ارة
ومرة أخ"رى بمحم"ول الخط"اب ،عن نب"وءات واستش"رافات تاريخي"ة وعلمي"ة ص"دقت ط"ورا بع"د ط"ور...
وهي أيضا االستحالة التي ت"أثرت ع"بر فت"ق حجب خطاب"ات ولغ"ات س"ابقة ك"انت محج"وزة ومس"جونة في
دوائ""ر مح""دودة (األدي""رة ،كتب الكنه""ة ،املخطوط""ات الس""رية ...الخ) ك""ل ه""ذا في إط""ار عقب""ة لغوي""ة كب""يرة
هي ك ""ون حام ""ل ه ""ذه اللغ ""ة إنس ""انا أمي ""ا (س ""واء في تفس ""ير الس ""لف لألمي ""ة كعطال ""ة للكف ""اءة اللغوي ""ة في
الكتاب""ة والق""راءة ،او في التفس""ير املعاص""ر لفك""رة الن""بي األمي بمع""نى من أبن""اء األمم) يف""ترض في""ه ع""دم
الكف" ""اءة على التعام" ""ل م" ""ع اللغ" ""ة تعام" ""ل غ" ""يره من غ" ""ير األم" ""يين .فال ب" ""د أن" ""ه ممكن اللغ" ""ة يفض ي على
مستحيلها.
اللغ ""ة مناس ""بة دائم ""ة للتعب ""ير عن حيوي ""ة أم ""ة أو ح ""تى إقليم ،ف ""الظروف الطبيعي" "ة" تك ""ون أحيان ""ا غ ""ير
مناس ""بة الزده ""ار" اللغ ""ة ،وقواع ""دها غ ""ير ميس ""رة ألم ""ور تلقينه ""ا -كم ""ا هي الح ""ال بالنس ""بة للغ ""ة مقاطع ""ة
42
التين ""وم ،وس""ط ايطالي ""ا -إال أن حيوي ""ة أهله ""ا ق ""د َّ
حولته ""ا إلى الالتيني ""ة ال ""تي ابتلعت اإلغريقي ""ة القديم ""ة
ومحت آثاره" "ا" من الوج" ""ود ،لكي تس" ""يطر على جن" ""وب أورب" ""ا وتص" ""بح اللغ" ""ة الرس" ""مية ،ثم تتق" ""اطع م" ""ع
اللهج ""ات املحلي ""ة فتص ""بح لغ ""ة التعام ""ل الي ""ومي ،وتص ""بح الي ""وم -وق ""د تجاوزه ""ا ال ""زمن بحكم حرك" "ة"
الت ""اريخ ،الس ""ائرة باس ""تمرار إلى األم ""ام -حاض ""رة في ص ""لب ك ""ل اللغ ""ات األوروبي ""ة ،وك ""ل لغ ""ات الع ""الم
بشكل ما.
الشيء نفس""ه عرفت""ه العربي""ة ،ال""تي ك""ان ع""دد مس""تعمليها -على ك""ثرة اللهج""ات -أي""ام البعث""ة املحمدي""ة ال
يتج" ""اوز ثالث" ""ة ماليين مس" ""تعمل كلهم يس ""كنون ش" ""به جزي" ""رة واح" ""دة ،ثم غ" ""زت الع" ""الم لتنتش" ""ر في ك" ""ل
األص ""قاع وع ""دد مس ""تعمليها نص ""ف امللي ""ار نس ""مة بع ""دما ك ""ان ك ""ل ش يء يبش ""ر بان ""دثارها" على أي ""ام ع ""رب
الجاهلية.
اللغ ""ة إذن عن ""وان حيوي ""ة على ش ""فاه عناص ""ر بش ""رية معين ""ة ،حيوي ""ة ق ""د تتجلى بأش ""كال كث ""يرة ولكنه ""ا
1
تتجلى -أكثر من تجليها بأي شكل آخر -من خالل اللغة.
ت""راجعت ل""دى علم""اء نهاي""ة الق""رن العش""رين فك""رة ظه""ور اللغ""ة أول م""ا ظه""رت على النس""ق نفس""ه ال""ذي
يعرف""ه ظه""ور ه""ذه اللغ""ة عن""د الطف""ل ،أي بواس""طة الص""راخ كتعب""ير قاع""دي ثم املد كتنوي""ع لألص""وات
وتفري""ق عاق""ل لبعض""ها عن بعض ،ثم بواس""طة املق""اطع الص""وتية ال""تي تس""مح بظه""ور ح""روف واض""حة
تتألف من أجل أداء أصناف معينة من املعاني...
الفك ""رة الس ""ائدة هي ال ""تي تع ""ود أص ""ولها إلى مب ""احث م ""اكس م ""ولر ال ""تي أراد ريب ""و أن يعارض ""ها" فأثراه ""ا
بش""كل م""ا وال""تي مفاده""ا أن الكلم""ات األولى ال""تي ظه""رت وال""تي اس""تعملها اإلنس""ان هي املع""اني الكلي""ة ال""تي
تشعبت عنها ألفاظ دالة على الجزيئ"ات والتفاص"يل .2واملت"داول في ال"دائرة العلمي"ة ه"و أن م"اكس م"ولر
ق""د اعتم""د "في تأيي""د ه""ذه النظري""ة على أدل""ة مس""تمدة من البحث في أص""ول الكلم""ات في اللغ""ات الهندي""ة
األوروبية .فقد ظه"ر ل"ه أن مف"ردات ه"ذه اللغ"ات جميعه"ا" ترج"ع الى خمس"مائة أص"ل مش"ترك ،وأن ه"ذه
األص""ول تمث""ل اللغ""ة األولى ال""تي انش""عبت منه""ا ه""ذه الفص""يلة .فهي ل""ذلك تمث""ل اللغ""ة اإلنس""انية في أق""دم
1
علي عبد الواحد وافي :علم اللغة ،دار النهضة ،مصر ،ط ،200-8ص ص170/171
2
Max Müller : Nouvelles leçons sur la science du langage, tome premier, Phonétique et étymologie, traduit de l'anglais par
Georges Harris et Georges Perrot, A. Durand et Pedone-Lauriel, Paris,1867, p. 307.
43
عه""وده ،وت""بين ل""ه من تحل""ل ه""ذه األص""ول أنه""ا ت""دل على مع""ان كلي""ة ،وان""ه ال تش""ابه مطلق""ا بين أص""واتها
وما تدل عليه من فعل أو حالة".1
ويب""دو من خالل ه""ذا ال""رأي أن اإلنس""ان ت""درج من األلوهي"ة" الفردوس""ية إلى إنس""انية م""ا بع""د الس""قوط،
انتق ""ل من وعي كلي ش ""امل ف" ""وق إنس" ""اني ،إلى وعي ج" ""زئي منق" ""وص ،اللغ ""ة إذن هي مس ""ار االنتق ""ال من
حال""ة الجن""ة ال""تي هي املك""ان الكلي القاب""ل لالخ""تزال في املك""ان ال""ذي يك""ون في""ه آدم في اللحظ""ة -ال""تي هي
مب ""دئيا أب ""د قاب ""ل للتقلص والتم ""دد حس ""ب املش ""يئة -ال ""تي يك ""ون فيه ""ا ،إلى حال ""ة األرض املبهم ""ة الحزين ""ة
الواسعة دون قابلية لالختزال.
اللغ""ة في رحل""ة تطوره""ا اإلنس""اني ق""امت برحل""ة مض""ادة للغ""ة آدم م""ا قب""ل األرض""ية ال""تي هي معرف""ة كلي""ة
حاصلة تلقائيا بشكل كامل -حسب تعبير الفالسفة.-
وتط ""ور اللغ ""ة حس ""ب ه ""ذا ال ""رأي الس ""ائد ه ""و تط ""ور اإلنس ""ان األرض ي ال ""ذي ه ""و ابتع ""اد عن األلوهي "ة"
والكم"ال واق"تراب من النقص"ان "الكام"ل" ،من اإلنس"ان ال"ذي ينسى وينسى أن"ه ق"د نسي ،فيحت"اج دائم"ا
إلى تفاصيل إضافية.
«ان نيتش""ه ال يعتق""د بوج""ود مع""نى أو دالل""ة حرفي""ة ص""حيحة مماثل""ة لنفس""ها مطابق""ة له""ا .فق""د وص""ف
ال""دافع املج""ازي (الغري""زة املجازي""ة) بأن""ه ح""افز لتك""وين الص""ور املجازي""ة ،وذهب إلى أن أص""ل ك""ل فك""رة
ه""و مس""اواة م""ا ال يتس""اوى ،والص""ورة املجازي""ة تأس""يس لتط""ابق أو هوي""ة بين أش""ياء تختل""ف عن بعض""ها
البعض.
ما الحقيقة؟ جيش متحرك من الصور املجازي"ة "،من الكناي"ات وخل"ع الص"فات البش"رية على الجم"اد أم
أن الحقائق أوهام نسينا أنها أوهام ...قطع نقدية انمحى منها الوجه اآلخ"ر فاس"تحالت قطع""ا معدني"ة ال
قيمة لها».2
44
يع""بر نيش""ته عن ه""ذه الفك""رة بع""دة ط""رق على اختالف مراحل""ه الفلس""فية ،فه""و ي""رى اللغ""ة جيش""ا من
املخ""اتالت يه""دف إلى ص"ياغة وهم ال ب"د من"ه واف""تراض ع"والم أخ"رى هي إمكاني""ات داللي"ة تس""مى" الحلم"
و"املس""تقبل البعي""د" و"املاضي البعي""د"( ...هك""ذا تكلم زرادش""ت) ،وي""رى اللغ""ة نظام""ا من ال""دالالت ال""تي
تفرض" ""ها أط" ""راف متحكم" ""ة في أداة اللغ" ""ة محول" ""ة إياه" ""ا إلى" ""أداة حكم وتس" ""لط (جينيالوجي" ""ا األخالق)
وينظ""ر إلى اللغ""ة على أنه""ا س""جن ال يمكن اإلفالت من""ه ألنن""ا إذا جئن "ا" إلى وص""ف لتحدي""د اس""تراتيجياتنا
تجاه "ه" نج""د أنفس""نا نع""الج األم""ر بواس""طة اللغ""ة ،ف""الهروب منه""ا يتم به""ا وال مه""رب س""وى دف""ع عتب""ات
الس ""جن إلى أبع ""د األم ""اكن املمكن ""ة بواس ""طة ممارس ""ة لعب ""ة املج ""از ،ال ""تي هي عب ""ارة عن وق ""ف التنفي ""ذ
ال""ذي يمنحن""ا فس""حة ص""غيرة قب""ل الع""ودة إلى الس""جن (فيم""ا وراء فك""رة الخ""ير والش""ر) .به""ذا امليك""انيزم
الغ ""ريب يفس ""ر نيش ""ته ض ""رورة املج ""از من جه ""ة وآلي ""ة تط ""ور اللغ ""ة باس ""تمرار وخروجه" "ا" من مكاس ""بها
الراهنة" إلى مكاسب ممكنة.
ق" ""ال»جاكس" ""بون»حكى لي ممث" ""ل ق" ""ديم بمس" ""رح ستانيسالفس" ""كي بموس" ""كو كي" ""ف ك" ""ان املخ" ""رج الش" ""هير
يطلب من""ه ،حينم""ا ك""ان ي""ؤدي عرض""ا تجريبي""ا بمس""رحية م""ا ،أن يس""تخرج أربعين رس""الة مختلف""ة من
عب" ""ارة»ه" ""ذا املس" ""اء»بواس" ""طة تنوي" ""ع التلوين" ""ات التعبيري" ""ة ،وك" ""ان أن وض" ""ع قائم" ""ة مكون" ""ة من بض" ""عة
وأربعين موقفا انفعاليا وبعد ذلك تلفظ بالعبارة املذكورة في توافق مع ك""ل موق""ف من ه""ذه املواق""ف،
ه ""ذه املواق ""ف ال ""تي على املس ""تمعين أن يتعرف ""وا عليه ""ا انطالق ""ا فحس ""ب من تغ ""يرات التش ""كيل الص ""وتي
1
لهاتين الكلمتين البسيطتين..
إن أوائ ""ل اللغ ""ويين الع ""رب وهم يح ""اولون مقارب ""ة الظ ""اهرة من زاويته ""ا الص ""وتية لم يكون ""وا بع ""د ق ""د
أح ""اطوا ب ""املنطق األرس ""طي ال ""ذي أعطى األولوي ""ة للكلم ""ة على الجمل ""ة مص ""داقا لرأي ""ه القائ ""ل بأس ""بقية
الكلمة على الفكر وعلى الجملة (أ ي التركيب النحوي؛ مجموع الكلمات) نتيجة لذلك.
الغ " ""الب ه " ""و أنهم في ذل " ""ك ك " ""انوا يص " ""غون إلى ص " ""وت منهجي داخلي أوحى إليهم في نهاي " ""ة الق " ""رن األول
الهج ""ري ب ""أن يخرج ""وا إلى البادي ""ة لتلقي اللغ ""ة س ""ماعا وهي أص ""وات قب ""ل تلقيه ""ا (ثم تلقينه ""ا) كرس ""وم
وكتشكيالت معقدة طورا بعد طور.
1
رومان جاكبسون :قضايا الشعرية -تر :محمد الولي ومبارك حنون -دار الكتاب اللبناني ƒ-ط -1981-2ص23
45
ك" ""انت املؤلف" ""ات اللغوي" ""ة األولى ص" ""وتية بالدرج" ""ة األولى (كتب اللغ" ""ات أو اللهج" ""ات ،كتب الهم" ""ز ،كتب
فعلة أو أفعلة ،كتب ما اتفق لفظه واختلف معناه ،كتاب العين ،كتاب الجيم ...الخ) دون إهم""ال ك""ون
املدرس""ة املعجمي""ة األك""ثر ش""يوعا إلى مراح""ل مت""أخرة ج""دا هي مدرس""ة الخلي""ل بن أحم""د املعتم""دة على
النسق الصوتي في ترتيب موادها.
وقد مال الدرس اللغوي الغربي بدءا من سوسير إلى لسانيات الجملة تأس"يا في ذل"ك بالفيلولوجي"ا ال"تي
ك ""انت تنطل ""ق من الجمل ""ة كوح ""دة لل ""درس ...وعلى ض ""وء م ""ا رواه جاكوبس ""ن نقال عن ستانيسالفس ""كي،
ربم""ا تك""ون الحلق""ة الض""ائعة في جامعاتن "ا" هي ملتقى اللس""انيات السوس""يرية م""ع ال""درس اللغ""وي الع""ربي
الطالئعي ،إذا عبث" ""ا نح" ""اول تق" ""ريب آراء ق" ""دامى اللغ" ""ويين الع" ""رب من آراء سوس" ""ير في حين أن نقط" ""ة
البداية بالنسبة للدرسين مختلفة تماما.
«املفردة تعني اللفظ أوالصوت اللفظي ،غير أن ارتباط هذا الصوت بكينونة متعالية جعلها logos
ص" ""فة تخص ق" ""وى التحكم ب ""الكون في املوروث اإلغ" ""ريقي ،وتخص ال" ""ذات اإللهي" ""ة في الفك ""ر املس ""يحي،
لكن الفك " ""ر املس " ""يحي نق " ""ل الفك " ""رة إلى مرحل " ""ة ثاني " ""ة هي مرحل " ""ة الخل " ""ق املتجس " ""د؛ ومن هن " ""ا ك " ""انت
االفتتاحية اإلنجيلية»في البدء كان اللوغس ،ثم تحول إلى كينونة متحقق""ة»وق"د أخ""ذ اللوغ""وس يبحث
له عن امتدادات أهم ما يثيرنا فيها في هذا املقام هو بنوة العم التي ربم""ا ت"رتقي الس""لم الت""اريخي لتص"ير
أخوة مع لفظة»لغة" ،فبين»لوغوس»و"لغة»ال يوجد سوى الحد الجغرافي الواهي».1
الل""وغس وج""د نفس""ه يمث""ل هللا (ال""ذي ك""ان وه""و دائم""ا في البداي""ة ،وه""و نفس""ه البداي""ة) ويختص""ر العق""ل
(الذي هو ترتيب لغوي) ويخ"تزل الق"درة على اإلب"داع ،واملعرف"ة املتص"لة باهلل والنظ"ام والع"رف والع"ام
والبديهي"ة ،ثم ص"ار-بفض"ل املفس"رين -الق"وى الخفي"ة املتحكم"ة في الك"ون ،ثم حول"ه رج"ال الكنيس"ة إلى
مرحل""ة»الحل""ول»والتجس""د ال""دنيوي ليص""بح الل""وغس (اللغ""ة ممتلك""ا كي""ان ملم""وس بش""ري (لحم ودم)
وهو ذات املسيح نفسها».2
1
فيصل األحمر :دائرة المعارف الحداثية ومابعد الحداثية -دار األوطان -الجزائر -2011-ج/2ص125
2
ميجان الرويلي وسعد البازعي :دليل الناقد األدبي -دار الكتاب اللبناني -ط-1981-2ص14
46
مقارب""ة اللغ""ة ه""ذه وال""تي يجب أال ننسى أن الثقاف"ة" الكالس""يكية فص""لت في إنس""انية اإلنس""ان بواس""طتها
(اإلنسان حيوان ناطق) مثيرة جدا من زاوية كون اللغة جسدا ملموسا داال على قوى غائبة.
إنه""ا نفس""ها ص""فة الكلم""ات ال""تي تحض""ر فيزيائي""ا لتخ""تزل األش""ياء وتعوض""ها األص""وات (تل""ك املوج""ودات
الفيزيائي""ة) ال""تي تق""وم بتوري""ة متالزم""تين دائم""تين فهي تخفي الشيء ال""ذي يك""ون غائب""ا عن""ا وتستحض""ره
من خالل الخصائص اللغوية الفريدة التي تربط الصورة األكوستيكية بالصورة الذهنية" دائما وأبدا.
يروي إدوارد سابير ،وهو الخبير الكبير بلغات الهنود الحم"ر ،أن كث"يرا من الهن"ود الحم"ر ح"افظوا على
تقليد غريب وصلهم من سالف الحقب البائدة ،ذل"ك ه"و التقلي"د اللغ"وي القائ"ل ب"أن الت"ذكير والت"أنيث
ليسا حالتين لنمط واحد من الكالم بل إنهما خطابان" مختلفان تماما...
ففي كاليفورني""ا "،ول""دى بعض القبائ""ل املتم""يزة باملحافظ""ة على عراق""ة أدائه""ا الغ""وي دون عظيم تغي""ير،
يح " ""دث أن هنال" ""ك من»يس " ""تعمل ن" ""وعين من املف" ""ردات ون " ""وعين من ال" ""تراكيب :واح" ""د للنس" ""اء وآخ " ""ر
للرجال أي أن لفظ"ة بيت تك"ون كلم"ة مغ"ايرة في لغ"ة النس"اء للفظ"ة بيت نفس"ها في لغ"ة الرج"ال .وهن"اك
لغات ال تعرف لفظا واحدا عاما لفكرة عامة ،وال تستطيع التجريد ،فإننا نقول أك"ل خ""بزا وأك""ل لحم""ا
وأكل عنبا،
أم""ا عن""دهم فلك""ل ن""وع من األك""ل لف""ظ خ""اص "،فع""ل أك""ل في»أك""ل عنب""ا»ه""و غ""يره في»أك""ل م""وزا»وال يق""ف
األم"ر عن"د ه"ذه الغ"رائب ب"ل نج"د أن الفع"ل املاضي يك"ون غ"يره في املض"ارع وليس كم"ا هي الح"ال عن"دنا
حيث نقول أكل يأكل.1".
ه ""ذه اآلث ""ار نج ""دها" في ك ""ل اللغ ""ات في واق ""ع األم ""ر ،فالعربي ""ة ت ""ؤنث الحم ""ار إلى أت ""ان ،والرج ""ل إلى املرأة
واألس " ""د إلى اللب " ""ؤة ،وش " ""رب في الفرنس " ""ية تنتق " ""ل بين boireو ingurgiterو prendreو se taperو
siroterو .. susurrer
وإذا كن""ا ننظ""ر إلى ه""ذه الظ""واهر اللغوي""ة على أس""اس كونه""ا تعقي""دات قديم""ة يعم""ل التط""ور على نب""ذها
لفائ""دة قواع""د ذات طواعي""ة ،من جه""ة "،وذات قابلي""ة للتلقين ،من جه""ة أخ""رى ،فإنن""ا ال نس""تطيع تجنب
الش""عور بحس""رة م""ا له""ذه األنظم""ة اللغوي""ة املض""بوطة ال""تي تفص""ل في األم""ور فص""ال تام""ا وك""امال وتقط""ع
1
نظريات في اللغة -ص23
47
ك ""ل إمكاني ""ات الحرك ""ة "،وال تك ""ون واس ""عة الش""بهة شاس ""عة اللبس كث ""يرة التالعب ،فتك ""ون اللغ ""ة ب ""ذلك
عامل" ""ة وفعال" "ة" أك" ""ثر ،دون الوق" ""وف عن" ""د التفاص" ""يل ،وه" ""و املنزع ال" ""ذي ت" ""نزع إلي" ""ه اللغ" ""ة في تطوره" "ا"
باستمرار.
اللغة وأرشيفها
مي""دان العب""ارات -حس""ب ميش""ال فوك""و_ يتح""دد حس""ب اعتب""ارات ومعطي""ات تاريخي""ة»،ويتم""يز ب""أنواع
مختلف ""ة من الوض ""عية ،وينقس ""م إلى تش ""كيالت خطابي" "ة" متم ""ايزة ،إن ""ه مي ""دان ال يتخ ""ذ هيئ ""ة س ""هل أو
أرض منبسطة تمام االنبساط ال نتوء فيها وال انحراف ،تمتد بال نهاية ،مثلما اعتقدت ذل""ك في البداي""ة
عن""دما كنت أتح""دث عن»مس""احة" الخط""اب»لن يظه""ر كعنص""ر س""اكن ،ص""قيل ومحاي""د ،ت""أتي الخطاب""ات
لتس" ""توي في" ""ه وتنتص" ""ب ،ك" ""ل منه" ""ا وف" ""ق حركت" "ه" الخاص" ""ة ،أو ت" ""أتي إلي" ""ه مدفوع" ""ة بدينامي" ""ة غامض" ""ة :
دينامي ""ة موض" ""وعات وأفك" ""ار ومف" ""اهيم ومع ""ارف .ب ""ل يتعل" ""ق األم ""ر بكتل" ""ة معق" ""دة ،تتم ""ايز فيه ""ا جه" ""ات
مختلف""ة ،وتنتش""ر فيه""ا حس""ب ق""وانين نوعي""ة ،ممارس""ات ال يمكن أن تك""ون متطابق""ة ،وع""وض أن نع""ثر
فيه""ا على كلم""ات تع""بر ب""األحرف الب""ارزة عن أفك""ار" نش""أت فيم""ا قب""ل ،وفي موض""ع آخ""ر ،كلم""ات مص""فوفة
على الكت ""اب املي ""ثي األك ""بر للت ""اريخ ،نج ""دها داخ ""ل س ""مك املمارس ""ات الخطابي ""ة ،وأم ""ام منظوم ""ات تقيم
عب" ""ارات ،مثلم" ""ا تنش ئ األح" ""داث (له" ""ا ش" ""روطها ومي" ""دان ظهوره" ""ا) وأش" ""ياء تتض" ""من إمكاني" ""ات وحق" ""ل
اس ""تعمالها .فجمي ""ع منظوم ""ات العب ""ارات تل ""ك (األح ""داث من جه ""ة ،واألش ""ياء من جه ""ة أخ ""رى) هي م ""ا
أقترح تسميته Archive؛ نظام احتفاظ العبارة وظهورها".1
هل الدليل اللغوي ميزة إنسانية تستثني كل ما هو غير إنساني ،أم أن للحيوان أيضا لغة؟
لق""د وض""ح م""اكس ف""ون ف""ريش في تجارب""ه الش""هيرة ح""ول ط""رق التواص""ل ل""دى النح""ل أن هنال""ك لغ""ة ال
ش""ك فيه""ا تتف""اهم به""ا عناص""ر النح""ل ،إش""ارات مث""ل ال""دوائر واألق""واس وال""دوائر املزدوج""ة على ش""كل
1
حفريات المعرفة -ص119
48
ال" ""رقم ،8وس" ""رعة ال" ""دوران ...الخ ،وهي إش" ""ارات دال" ""ة على مجموع" ""ة معين" ""ة من املعلوم" ""ات املرتبط" ""ة
ألغراض النحل وممارساتهم الحيوية.
ولكن الرأي الغالب هو أنه إذا كانت هن"اك فعال عملي""ة تواص"ل ل""دى النح""ل ،فإنن"ا" ال نس"تطيع ع ّ"د ه""ذا
ً
التواص""ل لغ""ة ،ألن س""ريان املعلوم""ات ال يفضي على الح""وار ،فاملعلوم""ة ال""تي تبعثه""ا النحل""ة ال تس""تدعي
إجاب ""ة ،إنه ""ا وحي ""دة االتج ""اه ،مح ""دودة األداء ألنه ""ا ال تفع ""ل س ""وى ته ""ييج أداة تواص ""لية نفعي ""ة متع ""ارف
عليها.
ويلخص إيميل بنفنست الفرق بين التواص"ل ل"دى النح"ل كم"ا وص"فه ف"ون ف"ريش والتواص"ل البش"ري
كم""ا وص""فته أجي""ال اللغ""ويين واأللس""نيين املتعاقب""ة "،بأن""ه يكمن في ك""ون اللغ""ة منظوم""ة إش""ارية ،في حين
أن تواص" ""ل النح" ""ل يمث" ""ل فق" ""ط قانون" ""ا إش" ""اريا ،والق" ""انون مغل" ""ق ،وحي" ""د االتج" ""اه ،مح" ""دود الفعالي" ""ة،
مس " ""تغن عن اآلف " ""اق االجتهادي " ""ة ،و مل " " ٍ"غ لك " ""ل ه " ""امش من ه " ""وامش املن " ""اورة ،في حين أن املنظوم " ""ة هي
إس" ""قاط نس" ""ق معين على عناص" ""ر معط" ""اة ،ولكن النس" ""ق منفتح والعناص" ""ر متوال" ""دة ،ول" ""ذلك فه" ""امش
املن ""اورة (من خالل األخ ""ذ وال ""رد والح ""وار) واس ""ع وأف ""ق التح ""رك بالعناص ""ر في إط ""ار النس ""ق الواس ""ع،
وه " ""ذا م " ""ا يفس " ""ر التط " ""ور املس " ""تمر للغ " ""ات البش " ""رية في مقاب " ""ل الس " ""كونية الكب " ""يرة لق " ""انون التواص " ""ل
1
الحيواني.
«لقد استعمل مفهوم املجاز عند وولتر بينيامن كوسيلة لفهم األعمال الفنية الطالعية (الالعضوية)
فه" ""و يص" ""ف مس" ""تعمل االس" ""تعارة وه" ""و يأخ" ""ذ عنص" ""را من الظ" ""رف الكلي للحي" ""اة ويعزل" ""ه وي" ""نزع عن" ""ه
وظيفته (االستعارة في األساس شذرة أوشظية ،عكس الرمز العضوي) ثم يأخذ وص""ل تل""ك الش""ذرات
املعزول" ""ة بعض" ""ها ببعض ويحص" ""ل ب" ""ذلك على الدالل" ""ة ،غ" ""ير أن ذل" ""ك املع" ""نى مف" ""ترض ألن" ""ه ال ينب" ""ع من
2
الظرف األصلي للشذرات»
وه ""ذا يعي ""دنا الى الفك ""رة املتك ""ررة ل ""دى م ""ا بع ""د الح ""داثيين ح ""ول أن اللغ ""ة ليس ل ""ديها جدي ""د يض ""يفه
املعجم ،ولكنه""ا تمل""ك بحكم الخص"ائص القديم""ة لل"تركيب النح""وي إمكاني""ات ال متناهي""ة لتولي""د الدالل"ة
1
Émile Benveniste : Problèmes de linguistique générale, t. 1, Paris, Gallimard,»Tel», 1966,p. 56/62.
2
دليل تمهيدي إلى مابعد الحداثة ومابعد البنيوية -ص176
49
وإنتاج املعنى املتركز على فرض""ية التالعب ب""الكالم وذل""ك عن طري""ق ال"تركيب( )le montageواملخاتل"ة
أوالخ ""داع( ; )la supercherieوك ""ل م ""ا ين ""درج ض ""من األلع ""اب الكالمي ""ة ( .)jeux de motsإن م ""ا بع ""د
الحداث ""ة تنطل ""ق من أن متع ""اطي النص األدبي خ ""رج من دائ ""رة الواق ""ع ودائ ""رة املع ""نى الحقيقي للغ ""ة إلى
دائ" ""رة الفن واملع" ""اني املجازي" ""ة للغ" ""ة ،فال داعي ملحاول" ""ة الفن أن يس" ""تعيد الواق" ""ع ل" ""ذلك فلغ" ""ة م" ""ا بع" ""د
الحداث ""ة تق ""ول ملتلقيه ""ا ح ""اذر إن ""ني س ""أعطيك تركيب ""ة علي ""ك تفكيكه ""ا واس ""ترجاع حالته ""ا قب ""ل اإلحال ""ة"،
علي" ""ك القي" ""ام بعكس ال" ""تركيب ،وذل" ""ك حس" ""ب الق" ""وانين ال" ""تي اتفقن" ""ا عليه" ""ا (ش" ""أنها في ذل" ""ك ش" ""أن ك" ""ل
صناعة.).
ويبقى التح" ""دي األخ" ""ير بع" ""د اس" ""تعادة ه" ""ذه الش" ""ذرات املعالج" ""ة ،أو املركب" ""ة "،أو املفبرك" ""ة "،أو املعم" ""ول
عليه " " ""ا ،ه " " ""و أن يتمكن املتلقي من زرع ه " " ""ذه الش " " ""ذرات في واقع " " ""ه بحكم تجربت " " ""ه الس " " ""ابقة (التلقي
والتشتيت) وما ينتجهم ذلك من حميمية.
في كتاب" "ه" عن»الض ""حك»يالح ""ظ الفيلس ""وف الفرنس ي ه ""نري برغس ""ون ب ""أن»الكلم ""ات كله ""ا (فيم ""ا ع ""ادا
أس""ماء العلم) تح""دد أنماط""ا لألش""ياء وال تح""دد األش""ياء ،تق""ارب املس""مى مم""ا يش"بهه مم""ا تعج ب""ه الطبيع""ة
واللغة ،لذلك فالكلمة" ال تحدد من الشيء إال مظهره الخارجي ومميزاته األكثر تداوال وورودا وانتشارا
1
بين مستخدمي هذه الكلمة ،والكلمة بذلك تقف بيننا وبين جوهر" الشيء»
وهنا تطرح قضية هامة" إذ يعود برغسون إلى أصل اللغ"ة األول ،فتحض"رنا فك"رة الص"ور الص"وتية ثم
الص ""ور املرس ""ومة ال ""تي تع ""وض الحي ""اة وتخ ""تزل املوج ""ودات ...وإذا ك ""انت اإلنس ""انية تش ""عر من ""ذ أق ""دم
اآلماد بالفخر بسبب هذين االنجازين الكبيرين فان الفلسفة الحديثة (على خطى نيتشه ثم برغسون)
تش" ""عر ب" ""الحزن الكب" ""ير ال" ""ذي ال ب" ""د أن يش" ""عر ب" ""ه مس" ""تعمل اللغ" ""ة ال" ""ذي ش" ""غل نفس" ""ه به" ""ذه األدوات
االص""طناعية»املس""ماة اللغ""ة»وال""تي تق""ف أب""دا بينن""ا وبين أص""ناف أخ""رى من املعرف""ة ض""حينا به""ا تض""حية
تامة ونحن ننخرط في سهولة اللغة وبساطة طرائقها في األداء.
ه ""ذا الفيلس ""وف (ومع ""ه جمه ""رة أخ ""رى من الفالس ""فة ال ""ذين وقف ""وا مط ""وال عن ""د اص ""طناعية اللغ ""ة
وتالعبه" ""ا»الش" ""رير»؛ من خالل االس" ""تثمار في العالق" ""ة بين الص" ""وت والص" ""ورة من جه" ""ة و الج" ""وهر في
1
Henri Bergson : Le Rire, éd. PUF, Paris, p. 117.
50
الجهة املقابلة؛ جمهرة تبدأ مع نيتشه ،مرورا بهيدغر ،وصوال إلى فوكو ،ديريدا ،دول""وز وليوط""ار...الخ
الخ) ،ه ""ذا الفيلس ""وف يق ""ف حزين ""ا أم ""ام اإلنس ""ان ال ""ذي أراد أن يتفلس ""ف لفهم ج ""وهر األش ""ياء ففق ""د
الفلس " ""فة وبقي ح " ""بيس لغت " ""ه...ح " ""بيس»مس " ""افة»هي املس " ""افة ال " ""تي ال مه " ""رب منه " ""ا بين الش يء املس " ""مى
وتس ""ميته ،ه ""ذا الش يء ال ""ذي أص ""بحنا ال نس ""تطيع ول ""وج ماهيت ""ه ح ""تى م ""تى م ""ا ك ""ان ج ""زءا من محيطن ""ا
املباشر ،هذا الشيء الذي أصبحنا ال نملك إزاءه سوى القدرة على تسميته.
لنعت ""بر اآلن ماهي ""ة العب ""ارة كلبن ""ة من لبن ""ات الخط ""اب .يق ""ول درايق ""وس ورابين ""و»:ليس ""ت العب ""ارة ق ""وال
أواقتراحا وليست كيانا نفسيا أومنطقيا ،وهي ليست ك"ذلك ح"دثا أوص"يغة مثالي"ة»إن اختالف العب"ارة
عن الق""ول يع""ني أن""ه بإمك""ان جمل""ة واح""دة أن ت""ؤدي ع""دة وظ""ائف بحيث تتوق""ف ك""ل وظيف""ة منه""ا على
السياق الخطابي التي ترد فيه"...
تنق" ""ل س" ""ارة ميل" ""ز كالم" ""ا ح" ""ول ميش" ""ال فوك" ""و ىمف" ""اده أن العدي" ""د من األق" ""وال املختلف" ""ة ق" ""د تش" ""كل في
حقيق "ة" األم""ر من عب""ارة واح""دة ،ك""ان يق""رأ مض""يف ط""ائرة نفس اإلعالن بلغ""ات مختلف""ة .فق""د»تش""كل
الخرائط عبارات إذا كانت تمثل مناطق جغرافية ،وق"د تك"ون ح"تى الص"ورة البياني"ة للوح"ة املف"اتيح في
ً
آلة رقن ما عبارة ،إذا ما ظهرت ضمن دليل استعمال ومثلت الطريقة القياس"ية ل"ترتيب الح"روف على
اللوحة".
يم""يز فوك""و تمي""يزا مهم""ا في عمل""ه بين الخط""اب كمفه""وم ع""ام ،وه""و مجموع""ة القواع""د واإلج""راءات ال""تي
تحكم أنماطا معينة من الكالم ،وتل"ك الخطاب"ات أومجموع"ات العب"ارات نفس"ها ،إن الخط"اب مجموع"ة
من العب" ""ارات املبارك " "ة" وله" ""ا ق" ""وة مؤسس" ""اتية ،إي أن له" ""ا ت" ""أثيرا عميق" ""ا على الطريق" ""ة ال" ""تي يفك" ""ر به" ""ا
األشخاص وعلى الكيفية التي يسلكون بها .لكن ،مع ذلك تبقى حدود الخطاب غامضة».
طاملا أن التحلي" ""ل الت" ""اريخي ال يس" ""مح بع" ""رض مجموع" ""ة من األولوي" ""ات البنيوي" ""ة ،ف" ""ان ب" ""ارط ...ينح" ""از
لتوجي ""ه تفك ""يره إلى منظ ""ور ألس ""ني بص ""فة جوهري ""ة .ومن ثم ف ""ان فرض ""يته النظري ""ة هي فرض ""ية ب ""ول
51
ف ""اليري بال ""ذات وال ""ذي يق ""ول »:م ""ا األدب؟ ...ه ""و ال يمكن أن يك ""ون س ""وى ن ""وع من توس ""يع وممارس ""ة
بعض خص""ائص اللغ""ة" .1ويح""اول ب""ارط إذن تحدي""د ال""دال انطالق""ا من نم""وذج اللغ""ة .وهك""ذا يتص""دى
في»م ""دخل إلى التحلي ""ل الب ""نيوي للمحكي»إلع ""داد معجم لص ""يغ ت ""راكيب املحكي ،ويتمس ""ك بحص ""ر ع""دد
معين من»الوح ""دات الس ""ردية «ال ""تي س ""تكون على مس ""توى العم ""ل املروي مثلم ""ا ك ""انت علي ""ه الوح ""دات
األلس ""نية على مس ""توى اللغ ""ة .ففي املحكي ،كم ""ا ه ""و الش ""أن في اللغ ""ة ،ف ""ان الط ""ابع ال ""وظيفي ه ""و ال ""ذي
يس""مح بتجدي""د الوح""دة ،ك""ل مقط""ع من القص""ة يس""مح ب""أن ي""درك بوص""فه عنص""را للرب""ط ،ويعت""بر إذا
مالئما إلعداد نحو سردي.
وإذا ما اعتبرنا التحليل املفصل للعمل السردي يفرض الفكرة نفسها وهي أن توجد بني"ة ال تتغ"ير هي
ال" ""تي ستش" ""كل ،بخض" ""وعها لق" ""وانين ص" ""ارمة ،نوع" ""ا من ال" ""دال الك" ""وني للمحكي ،فه" ""ذه النظري" ""ة نتيج" ""ة
منطقي ""ة للتش ""ابه املس ""لم ب ""ه بين اللغ ""ة واألدب إلى ح ""د ق ""ول ب ""ارط »:لم يع ""د من املمكن الي ""وم اعتب ""ار
األدب فن"ا ق"د يهم"ل ك"ل عالق"ة باللغ"ة ،من"ذ أن ك"ان ق"د اس"تعملها ك"أداة للتعب"ير عن الفك"رة أو العاطف"ة
2
أو الجمال ،فال تني اللغة مصاحبة للخطاب وهي تمد إليه مرآة بنيتها الخاصة».
يرس ""م محي ال ""دين بن ع ""ربي في»الفتوح ""ات املكي ""ة»مقارب ""ة فلس ""فية ش ""ديدة األهمي ""ة ملس ""تويات األداء
اللغ ""وي حس ""ب العالق ""ات املح ""ددة للتواص ""ل الق ""ديم بين الاله ""وت والناس ""وت ،فه ""و يق ""ول إن هنال ""ك
وج ""ودا أولي ""ا مح ""دثا للغ ""ة ال س ""ابق ل ""ه (وج ""ود أنطول ""وجي) ثم تط ""وير له ""ا عن قص ""د ودراس ""ة وتفك ""ير
س" ""ابق (إبس" ""تمولوجي) ،وأن جوام" ""ع الكلم ال" ""تي أوتيه" ""ا الرس" ""ول محم" ""د (ص) تحت" ""وي مع" ""ارف داخلي" ""ة
مباش""رة أوتيه""ا ،مفهوم""ة حس""ب ميكانيزم""ات إلهي""ة ال تفس""ير له""ا ،وتحت""وي حق""ائق مطلق""ة ال س""ابق له""ا،
كم" ""ا أن جوام" ""ع الكلم هي الق" ""درة على تحميص الق" ""رآن وه" ""و كت" ""اب ت" ""راكمي الدالل" ""ة وليس أص" ""يلها،
وب""ذلك تنتج عن""دنا ثالث""ة مس""تويات للغ""ة هي املس""ند واملس""ند إلي""ه والرابط""ة بينهم""ا ،وفي ذل""ك يق""ول ابن
عربي»ان جوامع الكلمة من عالم الحروف ثالثة :ذات غنية قائمة" بذاتها ،وذات فقيرة إلى ه"ذه الغني"ة
غ""ير قائم""ة بنفس""ها ،ولكن يرج""ع منه""ا إلى ال""ذات الغني""ة وص""ف تتص""ف ب""ه يطلبه""ا بذات""ه ،فان""ه ليس من
ذاته ""ا إال بمص ""احبة" ه ""ذه ال ""ذات له ""ا ،فق ""د ص ""ح أيض ""ا الفق ""ر لل ""ذات الغني ""ة القائم ""ة بنفس ""ها كم ""ا ص ""ح
1
فانسون جوف :روالن بارط واألدب -تر:محمد سويرتي -إفريقياالشرق-الدار البيضاء -ط -1994-1ص42
2
م .نفسه -ص43
52
لألخ ""رى ،وذات ثالث ""ة رابط ""ة بين ذاتين غني ""تين ،أو ذاتين فق ""يرتين ،أو ذات فق ""يرة وذات غني ""ة ،وه ""ذه
ال""ذات الرابط""ة الفق ""يرة لوج ""ود ه ""اتين ال""ذاتين ...فلنس""م الغني""ة ذات ""ا ،وال ""ذات الفق""يرة ح""دثا ،وال""ذات
1
الثالثة رابطة ،فنقول الكلم محصور في ثالثة حقائق :ذات وحدث ورابطة».
وتك ""ون الرابط ""ة هي الج ""انب اللغ ""وي له ""ذه الطبق ""ات املفهوماتي ""ة ،في حين أن ال ""ذات هي هللا أي املاهي ""ة
األولى /األص" ""لية /األم ،أم" ""ا الح" ""دث فه" ""و الع" ""الم بموجودات" ""ه؛ ع" ""الم يستعص ي علين" ""ا فهم" ""ه ووعي" ""ه،
لتك " ""ون الرابط " ""ة هي األس " ""ماء ال " ""تي تعلمه " ""ا آدم وال " ""تي ت " ""درجت اإلنس " ""انية بط " ""رق عدي " ""دة على تعلمه " ""ا
واالحتيال للتحكم فيها بشتى الحيل.
(الط" ""رس )palimpsesteش" ""بكة نص" ""ية معق" ""دة ،ش" ""بكة تنب" ""ني على ال" ""تراكب وعلى طبق" ""ات عدي" ""دة من
الفه" " ""وم املتراص" " ""ة بفع " ""ل ال" " ""زمن .يعي النق" " ""اد املح" " ""دثون –والح" " ""داثيون منهم على وج" " ""ه الخص" " ""وص-
األط""راس على أس""اس كونه""ا بن""اء اركيولوجي"ا" لنم""ط مح""دد من املعرف""ة .ومفاده""ا «أن الص""ورة املجازي""ة
الرئيسية التي يس"تعملها التفكيكي"ون هي ص"ورة ق"راءة للنص"وص تش"به الكش"ف باألش"عة على الص"ور،
هذا الكشف الذي يبدي آثار الكتابة القديمة تحت الكتابة الجديدة ،إذا وج""دنا في عملي"ة ش""رح النص
على الطريق" ""ة التقليدي" ""ة كلم" ""ات ت" ""أوي تناقض" ""ا ال يمكن حل" ""ه ،وبحكم كونه" ""ا كلم" ""ة واح" ""دة غالب" ""ا م" ""ا
تس ""تعمل ب ""دالالت مختلف ""ة مبع ""دة ب ""ذلك االنتب ""اه عن غي ""اب املع ""نى الواح ""د ،فإنن ""ا س ""نحط عن ""د تل ""ك
الكلم""ة .وإذا ب""دا لن""ا أن ص""ورة مجازي""ة تخفي أو تكبت م""ا ي""ترتب عنه""ا ،فإنن"ا" س""نحط عن""د تل""ك الص""ورة
أيض " ""ا ،س " ""نتبع مغامرته " ""ا خالل النص وتفككه " ""ا ونكتش " ""ف أن بني " ""ة إخف " ""اء ،موض " ""حين خروجه " ""ا عن
معاييره" " ""ا وك" " ""ذلك طبيعته" " ""ا الالمح" " ""ددة ،لق" " ""د أعطى ديري" " ""دا منهجي" " ""ا في ق" " ""راءة»النص»يش" " ""به كث" " ""يرا
االقتراب""ات البس""يكو تحليلي""ة في مج""ال األم""راض العص""بية ،إذا أن»الق""راءة»التفكيكي""ة بع""د اس""تنطاقها"
للنص تنف " " ""ذ من خالل خطوط " " ""ه الدفاعي " " ""ة ،وت " " ""بين أن هن " " ""اك مجموع " " ""ة من التق " " ""ابالت الثنائي " " ""ة_
شخصي/عم""ومي ،م""ذكر /م""ؤنث ،مش""ابه /مخ""الف ،عقالني /غ""ير عقالني ،ص""حيح /مخطئ ،رئيسي /
ث " " ""انوي .....،الخ -نج " " ""د الط " " ""رف األول مبجال أومفض " " ""ال أوعلوي " " ""ا ،ويوض " " ""ح التفكيكي " " ""ون أن هوي " " ""ة
الط ""رف»املبج ""ل»تتوق ""ف على إقص ""اء الط ""رف اآلخ ""ر ،وي ""بينون أن األولوي ""ة تع ""ود في الحقيق ""ة للط ""رف
الث""اني وليس األول .وتتمث""ل طريق""ة دري""دا في فحص دق""ائق اللحظ""ة غ""ير املح""ددة واإلزاح""ات ال""تي تك""اد
1
محي الدين بن عربي :الفتوحات المكية -دار صادر -لبنان -ج -1ص86
53
تفلت من إدراك القارئ وتركيزه ،فهو ال يبحث عن لحظ"ة االلتب"اس أو التوري"ة ال"تي تك"ون ق"د أدمجت
1
في املعنى الكلي املوحد لنظام النص فحسب بل أيضا عن اللحظة التي تهدد النظام باالنهيار حقا"".
اللغة املخلصة
ي""روي األن""ثرويولوجيون" عن أن س""كان املحي""ط األطلسي األك""ثر عزل""ة (املاوري ،س""كان جزي""رة pâques
التي يس"ميها أهله"ا»راب"ا ن"ووي»بمع"نى :مرك"ز الع"الم أو»س"رة الع"الم»يملك"ون لغ"ة مش"بعة ب"الرموز لغ"ة
بعي"دة ج"دا عن اللغ"ات األخ"رى تتك"ون من جم"ل قص"يرة ج"دا ،أغلبه"ا يتخلص في كلم"ة أوكلم"تين فق"ط،
لغة صافية تخلصت من الشوائب.
وإذا كان الدارس يستطيع تفسير هذه البساطة املفرطة ببساطة حي""اة املاوري (عبي""د»الرج""ل الط""ائر")
ف ""ان الظ ""اهرة األش ""د جلب ""ا لالهتم ""ام هي كلم ""ات ممنوع ""ة من غ ""ير املتزوجين وال يعرفه ""ا الف ""رد في ه ""ذه
القبيلة إال في ليلة زواج"ه ،كلم"ات خاص"ة بالت"اريخ ،باآلله"ة ب"الجنس اآلخ"ر ،بتقس"يم املحاص"يل ،بح"دود
الزوج والزوجة...الخ ،الكلمات األساسية وهذه القبائل البدائية يفسرون ه"ذه الظ"اهرة اللغوي"ة بك"ون
هذه الكلم"ات تفق"د معناه"ا إذا م"ا تعلمه"ا الص"غار ،هي كلم"ات ال ب"د من إحاط"ة تعلمه"ا ،هي كلم"ات ال ب"د
من إحاط""ة تعلمه""ا بقداس""ة كب""يرة (إنه""ا كلم""ات تق""ال في األذن فق""ط) ،هي كلم""ات مخلص""ة تعين الرج""ل
واملرأة الجدي ""دين على دخ ""ول مرحل ""ة البل ""وغ واملس ""ؤولية ،تعينه ""ا على قط ""ع الص ""لة م ""ع ع ""الم ال ""براءة
والالمب ""االة ،وهي كلم ""ات تق ""ال س ""را وتتناق ""ل س ""را ألنه ""ا كلم ""ات مخلص ""ة تعطي مف ""اتيح الحي ""اة واملوت،
الحدود النهائية لإلنس"ان ،كلم"ات تختص"ر علم التربي"ة والفلس"فة وعلم الاله"وت والق"وانين والدس"اتير،
وتختص ""ر الفلس ""فة كله ""ا .ك""ل ه""ذا في ج""زر ك ""انت منقطع ""ة عن ال""دنيا انقطاع ""ا ش ""به ت ""ام ح""تى منتص""ف
الق " ""رن ،18أين اكتش " ""فت فتح " ""ولت تس " ""ميتها من»س " ""رة الع " ""الم»إلى»جزي " ""رة أعي " ""اد الفص " ""ح» ،فك " ""أن
اكتش ""اف ه ""ؤالء الب ""دائيين للغ ""ات أخ ""رى غ ""ير مخلص ""ة على أي ""دي مس ""يحيين ممن يؤمن ""ون ب ""الخالص
2
أفقدهم لغتهم املخلصة فتحول عاملهم من»مركز للعالم»إلى عيد من أعياد اآلخرين.
1
دليل تمهيدي إلى مابعد البنيوية ومابعد الحداثة -ص ص74/75
2
Thomas S. Barthel: The Eighth Land: The Polynesian Settlement of Easter Island, Honolulu University of Hawaii, 1978, pp213/214.
54
األضداد ظاهرة لغوية فريدة ،قد تك"ون اللغ"ة العربي"ة هي الوحي"دة ال"تي تف"ردت به"ذه ال"نزوة العجيب"ة،
كلم""ات ت""دل على املع""نى وعلى ض"ده في ال""وقت نفس"ه ،ورغم أن»أب"ا علي الق""الي البغ"دادي األندلسي»أك"ثر
من ال " ""براهين على ع " ""دم ص " ""حة ه " ""ذا التض " ""اد ،ورد أغلب ه " ""ذه االس " ""تعماالت إلى ته " ""افت ُجم " ""اع اللغ " ""ة
العربي""ة األوائ""ل ،إال أن كتب األض""داد ال""تي ألفت في الق""رون األولى لل""درس الع""ربي ت""دل على االلتف""ات
املبكر ملؤلفي هذا النوع من الكتب والرسائل ذات الط"ابع املعجمي إلى ه"ذه الظ"اهرة اللغوي"ة العجيب"ة،
ب""ل إن كتب الفه""ارس ت""ذكر جمه""رة كب""يرة من اللغ""ويين الع""رب ممن اهتم""وا به""ذا الن""وع من الت""أليف :
قط" " " ""رب -األص" " " ""معي -ابن الس" " " ""كيت -ابن قتيب" " " ""ة ...ويبقى أق" " " ""رب م" " " ""ا وص" " " ""لنا من ه" " " ""ذه الكتب إلى
الكم" ""ال»كت" ""اب" األض" ""داد»البن األنب" ""اري ال" ""ذي يق" ""ول ردا عمن أنك" ""روا وج" ""ود الظ" ""اهرة أومن اهتم" ""وا
ب ""العرب ب""النقص وعلم""اء الطالئ ""ع بالته ""افت »:ويظن أه""ل الب""دع والزي ""غ واإلزراء ب""العرب أن ذل ""ك ك""ان
منهم لنقصان حكمتهم ،وقل"ة بالغتهم وك"ثرة االلتب"اس في مح"اوراتهم عن"د اتص"ال مخاطب"اتهم فيس"ألون
عن ذل ""ك ويحتج ""ون ب ""أن االس ""م من ""بئ عن املع ""نى ال ""ذي تحت ""ه ودال علي ""ه وموض ""ح تأويل ""ه ،ف ""إذا اعت ""ور
َ
"اطب ،وبط""ل ب""ذلك مع""نى تعلي""ق اللفظ""ة الواح""دة معني""ان مختلف""ان لم يع""رف املخ""اطب أيهم""ا أراد املخ" ِ
االس""م على املس""مى .ف""أجيبوا عن ه""ذا ال""ذي ظن""وه وس""ألوا عن""ه بض""روب من األجوب""ة أح""دهن أن كالم
الع" ""رب يص" ""حح بعض" ""ه بعض" ""ا ،ويرتب" ""ط أول" ""ه ب" ""آخره ،وال يع" ""رف مع" ""نى الخط" ""اب من" ""ه إال باس" ""تيفائه
واس""تكمال جمي""ع حروف""ه ،فج""از وق""وع اللفظ""ة على املعن""يين املتض""ادين ألن""ه يتق""دمها وي""أتي بع""دها م""ا
يدل على خصوصية أحد املعنيين دون اآلخر».1
ط" ""الب الب" ""نيويون في غم" ""رة ت" ""ألقهم (خمس" ""ينيات وس" ""تينيات الق" ""رن )20بمزي" ""د من العلمي" ""ة والدق" ""ة
املنهجي""ة في تحدي""د»اللغ""ة» ،واعتم""دوا في ذل""ك على أعم""ال»ج""اك الك""ان" ،وخاص "ة" أعم""ال»كل""ود ليفي-
ش""تراوس" ،وق""د عملت املقارب""ات البنيوي""ة على التش""كيل العلمي الص""ارم ملواق""ع معرفي""ة ظلت مط""وال
مي""دانا محص""ورا في املب""احث الفلس""فية ،وذل""ك ببن""اء منظوم""ات أي تش""كيالت عام""ة ال تعم""ل عناص""رها"
التحتية إال في إطارها" (اللغة منظومة مغلقة كباقي املنظومات القابلة للتبنين).
وعم ""ل الب ""نيويون على أن ي ""دفعوا إلى األم ""ام بالجه ""د املوض ""وعي الس ""ابق عن طري ""ق الوص ""ف ال ""دقيق
للبنى االجتماعية والثقافية املتحكمة في األداء اللغوي من أجل صياغة قوانين أكثر شموال.
1
محمد بن القاسم األنباري :األضداد ،تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم ،المكتبة العصرية ،صيدا /بيروت ،2006،ص13
55
وهك" ""ذا ب" ""دأ اإلنس" ""ان ،ص" ""انع املع" ""اني ومهندس" ""ها ،بالتالش ي لص" ""الح منظوم" ""ات محيط" ""ة ب" ""ه تدفع" ""ه إلى
ص""ناعة وهندس""ة مح""ددتين ،وه""ذا ه""و املع""نى ال""ذي آلت إلي""ه ه""ذه الجه""ود ،وال""ذي يص""وغه كل""ود ليفي
ش ""تراوس في الفص ""ول األخ ""يرة من كتاب ""ه املرجعي»الفك ""ر الب ""دائي»إذ يق ""ول إن اله ""دف النه ""ائي للعل ""وم
1
جهد مجاله الرئيسي هو التفتيت اللغوي. اإلنسانية ليس تشكيل اإلنسان وإنما تفتيته ،وهو ٌ
في مطل ""ع العش ""رينيات من الق ""رن الف ""ائت ابتك ""ر الس ""يرياليون طرق ""ا جدي ""دة للتعام ""ل م ""ع اللغ ""ة ألج ""ل
كتابة" الشعر ،فق"د ك"انوا يبحث"ون عن س"بل للخ"روج من بالغ"ة املاضي ،لكس"ر هيمن"ة" النح"و املت"وارث،
لالنزي" ""اح عن م" ""ألوف الص" ""ور الش" ""عرية والق" ""والب التعبيري" ""ة ،وك" ""انت إح" ""دى ه" ""ذه املبتك" ""رات إذن هي
الكتاب""ة اآللي""ة l’écriture automatique؛ ومفاده""ا أن يكتب الش""اعر تحت ت""أثير مخ""در أو م""ادة مس""كرة
أو مهلوسة من أجل إبعاد كل القوى الرقيب"ة على ال"ذهن ،من أج"ل تحري"ر الالوعي من س"طوة ال"وعي...
وك""انت النت""ائج ج""ديرة باالهتم""ام ،تمام""ا في ذل""ك مثلم""ا ك""انت نت""ائج ابتك""ار" آخ""ر ه""و لعب""ة الح""ظ (أو لعب""ة
ال""نرد) ،وهي لعب""ة كتابي "ة" «تقتص""ر على كتاب""ة كمي "ة" معين""ة من الكلم""ات على أوراق مطوي""ة ،ثم اختي""ار
ه""ذه األوراق حس""ب ترتيبه""ا الن""اتج عن اختي""ار اعتب""اطي أعمى ...والنت""ائج في الح""التين نص""وص غامض""ة
2
غريبة مغلقة دون القارئ ،نصوص مبهمة ،خالية من املعاني والتراكيب واملتعارف عليها.
ه""دفهم كم""ا يوض"حه الس""يريالي م""اكس ج""اكوب" في نص""ه»من الش""عر »1922هواس""تعادة طاق""ة االش""تغال
الكامن" ""ة في اللحظ" ""ة الغ" ""ابرة لظه" ""ور كلم" ""ة وارتباطه" ""ا األول (األول ج" ""دا واألول تمام" ""ا) باملس" ""مى ال" ""ذي
س ""يكون ارتباط ""ا ال انفص ""ام ل ""ه .ه ""ذه اللحظ ""ة الس ""حرية ال ""تي يمحوه ""ا االس ""تعمال املتك ""رر والع ""ادات
االس""ترجاعية" التراكمي "ة" للتوظي""ف اللغ""وي هي ال""تي ك""انت الكتاب""ة اآللي""ة أو اللعب ب""التراكيب يح""اوالن
استرجاعها بالربط األول (بشكل ما) بين كلمتين لم تعرفا ربطا من قبل .ثم تكون شرعية ه""ذا ال"زواج
هي الفن ،هي قداسة اإلبداع.
1
Claude Lévi-Strauss : la pensée sauvage. Plon, Paris, 1996, p259.
2
Henri Lemaitre : la poesie depuis baudelaire , Armand Colin, Paris, pp147
56
وإذا ك""انت ه""ذه النص""وص لم تف""رض م""ا فرض""ته اللغ""ة املتوارث""ة من كهرب""اء التلقي ،ولن تفع""ل طبع""ا
1
فان التجربة جديرة بالتوقف واملعاينة".
بمثابة الخالصات
ال تتوج" ""د خالص" ""ة واض" ""حة للغ" ""ة .الخالص" ""ة الوحي" ""دة هي تل" ""ك ال" ""تي تحي" ""ل على أرض اللغ" ""ة بامتي" ""از:
اإلنسان .لقد كان هايديغير دائم"ا يفض"ل الش"عر على ب"اقي الخطاب"ات ملا ل"ه من الق"درة على أن يول"د من
جدي ""د .كالم يس ""تطيع أن يك ""ون لنفس ""ه أونطولوجي ""ا متج ""ددة ب ""دال من التح ""ول إلى ابس ""تمولوجيا والى
لوغوس ثابت مؤطر.
من جه""ة ثاني"ة ،ف""إن التأم""ل في اللغ""ة يط""رح مس"ألة الحقيق""ة طرح"ا عميق"ا؛" ه"ذه الحقيق"ة املتجلي"ة ع"بر
أط" ""وار ،أو املتكش" ""فة ع" ""بر اللغ" ""ة كم" ""ا يق" ""ول هاي" ""ديغير دائما ،ويحيلن" ""ا ك" ""ل ذل" ""ك على الس" ""مات القلق" ""ة
2
أنطولوجي""ا ال""تي تس"كن اللغ""ة ،س""مات ك""انت ق""د دارت حوله""ا أس""ئلة نيتش""ه الباحث"ة" في الص"لة املتس""ائلة
عن الصلة بين الحقيقة واملجاز ،فقد كان يق"ف إزاءه"ا متش"ككا مرتاب"ا ،كأن"ه يتق"اطع م"ع الواق"ع في ك"ل
لحظ ""ة ويمارس" "ه" وه ""و يلتص ""ق ب ""ه ،ولكن ""ه يحاف ""ظ على وعي ""ه امله ""ووس بمحدودي ""ة الواق ""ع إزاء اللغ ""ة.
محدودي ""ة رأيناه "ا" أعاله تتجلى عكس ""يا في ارتب ""اك عم ""ل اللغ ""ة إزائ الواق ""ع والحقيق ""ة.وه "و" ال ""ذي ك ""ان
يتس""اءل»:م""ا الحقيق""ة إذا؟ جيش متح""رك من الص""ور املجازي "ة" ومن الكناي""ات وخل""ع الص""فات البش""رية
على الجم" " ""اد؟ أم أن الحق " ""ائق أوه " ""ام نس" " ""ينا أنه" " ""ا أوه" " ""ام؟ ...قط " ""ع نقدي " ""ة انمحى منه" " ""ا الوج " ""ه اآلخ " ""ر
فاستحالت قطعا معدنية ال قيمة لها.«3
وق""د كرس""ت الفلس""فات الحديث""ة على اختالف مش""اربها فك""رة تع""دد املع""اني ه""ذه ال""تي بش""ر به""ا نيتش""ه،
فه ""و يق ""ول إن الفلس ""فات القديم ""ة كله ""ا ك ""انت تتخ ""ذ اللغ ""ة وس ""يلة للبرهن ""ة على انس ""جامها والغ ""رض
تماس""ك بنيانهـا ،وك""انت اللغ""ة غ""ير منفصلـة عن املنط""ق والعق""ل والع""رف الع""ام والحقيق""ة ،وك""ل ذل""ك
1
Ibid., p148
2
Martin Heidegger : Introduction en la métaphysique, trad. Pascal David, , Ed. du Seuil, Paris, coll.»Points-
Essais»(2005), p. 67.
3ساروب ،مادان :دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية ومابعد ƒالحداثة ،ص .63
57
ي ""دخل تحت مظلـة اللوغ ""وس Logos؛ ه ""ذا األخ ""ير ال ""ذي اكتش ""فت الفلس ""فة من ""ذ الث ""ورات الحديث ""ة -
س""واء منهـا العقلـي والتق""ني -أن""ه أق""ل يقيني""ة مم""ا كن""ا نعتق""ده علي""ه ،وفي ه""ذا الس""ياق يالح""ظ الجمه""ور
الفلس" " " ""في أن الفلس " " ""فة -من أفالط" " " ""ون إلى وقتن " " ""ا الحاض " " ""ر – ق" " " ""د عملت على التعام" " " ""ل بن " " ""وع من
اإلزدواجي""ة م""ع اللغ""ة ،فهي تكبت فك""رة مجازي""ة اللغ""ة بطبيعته""ا وبش""كل مف""روغ من""ه رغم ن""زوع اللغ""ة
الفلس""فية إلى اس""تعمال الص""ور املجازي""ة م""ع التس""تر عن ذل""ك .وه""ذه االعتب""ارات هي ال""تي س""تدور حوله""ا
مباحث الخطاب والتفكيك والجينيالوجيا" لدى ميشال فوكو و جاك ديريدا وكل من حذا حذوهما".
على ي""د ثالث""ة قادتن""ا الت""أمالت ال""تي طورناه""ا في ه""ذا البحث الش""ذري ص""وب تأم""ل طرائ""ق اش""تغال اللغ""ة
من حيث بناؤها أوال ،فاللغة ظاهرة مشاغبة ،لعبية ،طفولية مناورة ،عاقلة حكيمة .إنها هالمي""ة ألنن""ا
كلم ""ا ظنن ""ا أنفس ""نا أحطن ""ا به ""ا إحاط ""ة ش ""املة وج ""دنا أنفس ""نا دون محاص ""رتها بالق ""در ال ""ذي أردن ""اه أول
األم"ر ،وهي طفولي"ة من زاوي"ة أخ"رى ،كث"يرة التقلب ،مزاجي"ة الظه"ور والتح"ول من ح"ال إلى ح"ال "،ثم
هي عاقل " ""ة حكمي " ""ة إذا م " ""ا حللناه " "ا" تحليال عميق " ""ا للكش " ""ف عن الطبق " ""ات التحتي " ""ة ألداه " ""ا .ثم قادتن " ""ا
الت""أمالت في مرحل""ة الحق "ة" ص""وب إلق""اء الض ""وء على أث ""ر اللغ ""ة في الفض""اء اإلب ""داعي الح ""داثي وم ""ا بع ""د
الح""داثي أيض""ا .و الواق""ع ه""و أن املتتب""ع يج""د نفس""ه هن "ا" أم""ام ثالث مق""والت محوري""ة في ع""الم الحداث""ة:
مركزي ""ة اللغ ""ة ،نس ""بية اليقيني ""ات ،آني ""ة التجرب ""ة ال ""تي تتخ ""ذ اللغ ""ة اآلني ""ة مركب ""ا له ""ا .وق ""د يك ""ون من
الج" ""دير بال" ""ذكر أن نق" ""ول إن م" ""ا بع" ""د الحداث" ""ة اس" ""ترجعت ه" ""ذه القيم رغم خروجه" "ا" ك" ""رد فع" ""ل ض" ""د
الحداثة ،ولهذا االسترجاع داللة قوية ترتبط بصالبة الصلة بين التجربة افنسانية واألداء اللغوي.
وليس خل ""وا من األهمي "ة" أن نش ""ير إلى أن فيلس ""وفا أعلن الحداث ""ة مث ""ل نيتش ""ه يس ""م بميس ""مه فالس ""فة
متن" ""افرين فك" ""را وس" ""لوكا واتجاه" ""ا سياس" ""يا مث" ""ل برغس" ""ون أوال ،ثم ميش" ""ال فوك" ""و ،ج" ""ان فرانس" ""وا
ليوط ""ار ،ج ""اك ديري ""دا و جي ""ل دول ""وز ،و إذا ك ""ان ه ""ؤالء األخ ""يرون منتمين إلى جي ""ل واح ""د ف ""إن بينهم
تباين""ا كب""يرا يجع""ل ليوط""ار مناض""ال يس""اريا ويجع""ل ميش""ال فوك""و معارضـا شرسـا لك""ل أن""واع الخض""وع
للهياكـل واملؤسسـات االجتماعيـة والسياسيـة.
من وجه ""ة نظ ""ر (وتأم ""ل) رابع ""ة س ""نجد أن ""ه ب ""رغم ك ""ون مجم ""ل فلس ""فة نيتش ""ه محتوي ""ا على م ""ا ين ""اقض
أفك ""ار الحداث ""ة -كمـا وصلتنـا -إال أن كث ""يرا من أفك ""اره نج ""د ص ""داه في أص ""وات الس ""يرياليين مثال وهم
جماع""ة تمث""ل الحداث""ة تم""ثيال ص""اخبا "،من جه""ة ،وجي""دا من جه""ة أخ""رى .وإن ك""ل مطل""ع على نص""وص
السيرياليين يق"رب إلى أن"دري بريت"ون أو ب"ول إيل"وار أو فيليب س"وبو كالم"ا مث"ل ه"ذا الكالم ال"ذي يق"ال
في ح""ق نيتش""ه»:إن انس""جام و تماس""ك نظ""ام معين ال يش""كل ض""مانا للحقيق""ة في""ه ،واعتم""د (نيتش""ه) في
58
هجوم " " ""ه على األنظم " " ""ة والنظامي " " ""ة على رفض الالعقالني " " ""ة ال " " ""تي تكمن في ع " " ""دم مناقش " " ""ة األنظم " " ""ة
للمسلمات ،ففي نظره ليس العلم نظاما مغلقا ال ذاتيا بل هو بحث متحمس عن املعرفة.«1
النقط" ""ة املركزي" ""ة الخامس" ""ة ال" ""تي دار حوله" ""ا ه" ""ذا املق" ""ال وال" ""تي هي نقط" ""ة واس" ""عة الج" ""وانب متش" ""عبة
املش " ""ارب هي النقط " ""ة ال " ""تي نج " ""د اللغ " ""ة عن " ""دها متص " ""لة ب " ""املعيش ،بتج " ""ارب اإلنس " ""ان ،ال " ""نزوع ص " ""وب
االستعصاء على النمذجة والتنمي"ط ،ثم العم"ل في نهاي"ة األم"ر على ص"ناعة حي"اة ق"د توص"ف بأنه"ا حي"اة
مختزل ""ة في اللغ ""ة كم ""ا يص ""ر على ذل ""ك أعالم مث ""ل فيتغنش ""تاين وفوك ""و .وفي ه ""ذا االتج ""اه يق ""ول روالن
روالن ب""ارط»:كتاب""ة طبق""ة اجتماعي"ة و ملا ك""انت ق""د ول""دت في الق"رن الس"ابع عش"ر وس"ط فئ"ة متمرك""زة
مباش ""رة ح ""ول الس ""لطة ،و تك ""ونت بق ""رارات دوغماتي ""ة ،و طه ""رت س ""ريعا من جمي ""ع الطرائ ""ق النحوي ""ة
ال""تي أنش""أتها الذاتي""ة التلقائي""ة لإلنس""ان الش""عبي و روض""ت ،بعكس ذل""ك ،علـى وض""ع التحدي""دات ،فـإن
الكتابـة البورجوازيـة ق ""د ق ""دمت أول األم ""ر باالس ""تخفاف املعه ""ود عن ""د االنتص ""ارات السياس ""ية األولى
على أنها لغة طبقة أقلية محظوظة».2
وإذا ك""ان ال ب""د من خالص"ة للخالص""ة ف"إن اللغ""ة به"ذا املع""نى ومثلم""ا اتض"ح من خالل األق"اليم ال""تي م""رت
به" ""ا ه" ""ذه الدراس" ""ة عملت دائم" ""ا عمال مزدوج" ""ا :دف" ""ع عتب" ""ات التجرب" ""ة اإلنس" ""انية إلى أبع" ""د ح" ""د ممكن،
وحض""انة التج""ارب املختلف""ة ال""تي تم""ر بمس""تعمل اللغ""ة ال""ذي ه""و ذات وموض""ع له""ا – ب""املفهوم الفلس""في
ال ""رائج في الدراس ""ات الثقافي ""ة "،واملص ""ر على عم ""ل ال ""وعي والت ""دخل في الع ""الم والخ ""وض في ""ه بمختل ""ف
األش ""كال جنب" "ا" إلى جنب م ""ع عم ""ل الالوعي ال ""ذي عم ""ل الق ""رن العش ""رون على رس ""م خطاطات ""ه الكث ""يرة
املتنوع""ة .وك""ل ذل""ك يحيلن""ا على م""برر -أو ض""رورة -التن""اول الش""ذري على طريق""ة روالن ب""ارط .تن""اول
يحيل على موض"وعات ال يس"توفيها الع"رض الفلس"في الكالس"يكي لتن"وع جوانبه"ا وت"داخلها بق"درما تفي"د
فيه""ا مراكم""ة التج""ارب دون ادع""اء اإلطالق وال ادع""اء الحقيق""ة ،وبعي""دا عن ادع""اء جوام""ع الق""ول –كم""ا
يق ""ول الرس ""ول محم ""د -أو الق ""ول الفص ""ل – كم ""ا يق ""ول أب ""و الولي ""د بن رش ""د ،-أو املف ""ردات النهائي ""ة –
حسب مصطلح ريتشارد رورتي.-
1ساروب،مادان :دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد ƒالحداثة ،ص .129
2روالن بارط :الدرجة الصفر للكتابة ،تر :محمد برادة ،دار الطليعة ،بيروت ،1982 ،ص .73
59
أفق النص
لقد مرت اللغة في الضاحية العربية بمرحلة بدا وكأن الوعي العلمي بها كان وعيا تلقائيا أو نوعا من
الوعي الحاصل بقوة األشياء كما يقول املناطقة ،فلم يعمد العربي إلى تدوين معرفته تلك لعدم
شعوره بالحاجة إلى تدوينها ،ولشعور العربي املتعاطي للغته بالكفاية التامة من وجهة النظر
الوظيفية ملا أوتي من علم ببليغها ومهلهلها ،بغريبها وبجمهورها "،كفاية لم تتزلزل أركانها إال بمجيء
الدين اإلسالمي ذي النزعة اإلنسانية الكونية ،نزعة دفعت األمور صوب ضرورة تحويلها من لغة
منغلقة الدائرة إلى لغة كونية يحتاج املسلمون الجدد الواردون على األمة اإلسالمية إلى تعلمها
كشرط ضروري لتعلم مبادئ الدين ومعرفة شرائعه وحتى أداء شعائره.
منذ عصر النبي صلى هللا عليه وسلم تنبه املستعملون إلى ورود اللحن على ألسنة املوالي الذين لم
تكن اللغة العربية بالضرورة لغة أمهم وال حتى لغة مهدهم .وكانت نتيجة شيوع اللحن هي ضرورة
نشوء علم النحو الذي من طريف املعلوم في أمره أنه مصطلح مرتبط باملدرسة النبوية (خبر ابي
األسود الدؤلي مع علي بن أبي طالب رضي هللا عنهما).
ومن الجدير بالذكر ُّ
تنبه العلماء األوائل إلى تعدد مدارج اللغة من حيث وعيهم بــمختلف أشكال
الرسائل اللغوية التي يتضمنها التواصل أو االنتاج النصي.
فكان" أن دار سؤال عميق بين علماء األصول حول مفهوم الجملة مقربين اياه من خامات الكالم
كلفظ مستقل حامل ملعناه .وهو الذي يسميه النحويون الجمل ويستدلون عليه دائما باملثل
الشهير نحو " زيد أخوك ،وقام محمد ،وضرب سعيد ،وفي الدار أبوك ،وصه ومه ورويدا… فكل
لفظ استقل بنفسه وجنيت منه ثمرة معناه فهو كالم " . . .1فكأن الجملة هي الصورة النظامية
ابن جني ،أبو الفتح :الخصائص مصر ،ط ،2010 ،4ج ،1ص18 1
60
للكالم ،أو ال تصور املنهجي له ،وهو تصور منطقي من حيث كون الجملة هي املجمل من الكالم
الذي يشكل وحدة مستقلة حاملة ملعنى تام غير منقوص.
ويحدد ابن هشام مفهوم الجملة بمنظار اللساني املعاصر ،فعلم اللساني وضع أساسات علمية
ملنطلقاته املنهجية عندما أوضح الحدود الفارقة بين اللغة والكالم ،مثلما أثبتها دي سوسير في كتابه
دروس في اللسانيات العامة إن "الكالم هو القول املفيد بالقصد ،واملراد باملفيد ما دل على معنى
يحسن السكوت عليه " . 1وهو مفهوم سيرثه كل الدارسين في املراحل املوالية من تطور اللسانيات.
يحسب للعرب الوقوف الذكي عند حدود عمليات اإلسناد التي أدت إلى تقسيم الجملة من قبل
النحاة اآلباء إلى جملة اسمية وأخرى فعلية من حيث موقع املسند واملسند إليه وما ينتج عنهما من
تبعات الفعل والعمل واألثر على املعنى ،وهي عالقات موضعية ومنطقية حددها اللغويون بدقة
متناهية :صالت القرائن املعنوية ؛ وقد حصروها في اإلسناد أساسا ،وكذلك عالقات التخصيص
2
والنسبة والتبعية واملخالفة
وبعد مفهوم "الجملة" عند ابن جني ،وهو املفهوم املقابل "للقول" عند سيبويه ،نجد جار هللا
الزمخشري يعرف الكالم بأنه "املركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى األخرى… وذلك ال يتأتى إال في
اسمين كقولك زيد أخوك ،وبشر صاحبك أو في فعل واسم نحو قولك ضرب زيد وانطلق بكر
ويسمى جملة " . . .3إنه تصور للغة يدل على كثير من العمق ومن االستباق الزمني أثناء فهم
االشتغال اللغوي ،خصوصا ونحن نتأمل كل ذلك من أعلى هضبة القرن العشرين؛ قرن يعلم جيدا
درجة صعوبة الظاهرة اللغوية.
نورد فيما يلي نصا جميال يبين ما نحن بصدده ونحن نحاول الوقوف عند وعي علماء الصول بدرجة
التعقيد الكبيرة التي تكتنف الظاهرة اللغوية؛ فاللغة التي هي دفتر صوتي للروح البشرية قد اتخذت
ابن هشآم ،جمال الدين :مغني اللبيب عن كتب األعاريب ،دار الفكر ،دمشق ،1964 ،ص .490 1
حسان ،تمام :اللغة العربية معناها ومبناها ،دار الثقافة ،المغرب ،2000 ،ص 189 2
الزمخشري ،أبو القاسم :المفصل في صنعة اإلعراب ،دار الهالل ،مصر _ 1993 ،ص .6 3
61
عدة مصطلحات ومفاهيم تبيين جيدا الوعي األصولي بتعدد وجوه هذا الكائن الذي يحدث أن نسميه
بطريقة عفوية "اللغة".
" اللغة وهي أقدم املصطلحات .قيل عن أبي زيد األنصاري (ت215هـ) :كان أبو زيد أحفظ الناس
للغة .واملقصود هنا بكلمة اللغة :مجموع املفردات ومعرفة دالالتها .وبهذا املعنى كانت كتب
الطبقات ّ
تميز بين املشتغلين بالنحو أو العربية من جانب واملشتغلين باللغة من الجانب اآلخر .لذا
عد األصمعي (ت216هـ) من اللغويين. عد سيبويه (ت 180هـ) واملبرد(ت285هـ) من النحاة ،بينما ّ
ّ
وقد ظل استخدام كلمة اللغة بهذا املعنى عدة قرون ،وأصبح اللغوي هو الباحث في املفردات جمعا
وسجلها في رسائل لغوية ّ
مصنفة في وتصنيفا وتأليفا ،فاألصمعي" لغوي ألنه جمع ألفاظ البدو ّ
موضوعات داللية ،وابن دريد (ت321هـ) لغوي ألنه ألف معجمه (جمهرة اللغة)".1
وهذه األفكار تبين نوعا عاليا من الوعي بالظاهرة اللغوية من حيث التقسيم وأسسه املتعددة التي
هي حينا مرتبطة بالبناء الداخلي – وهو هاجس بنيوي يظهر بقوة في كتاب سيبويه ،وسيرثه عبد
القاهر الجرجاني الحقا" أثناء وضع أسس نظرية النظم ،-وحينا بالوظائف الداخلية – كما هي
الحال أثناء الحديث عن نظرية العامل مثال ،-أو حتى بالجوانب الطارئة على الرسالة اللغوية على
املستوى الكالمي – حسب التقسيم السوسيري-؛ سواء في ذلك املتكلمون األفذاذ من البلغاء
واملتكلمون العاديون وهو ميدان ستدور حوله البالغة في زمن أول ثم التداولية حديثا".
إن موضوع دراستنا هو الوقوف عند الحد الرابط بين املفهوم القديم الذي دار أساسا حول
محاولة فهم التواصل املقدس ( فهم النص القرآني عندنا نحن العرب املسلمين مثال) فهما تكتنفه
جدية كبيرة يقتضيها السياق املقدس ،وبين املفهوم املعاصر للعبة الكالمية الذي يبدأ عملية كسر
الجدية والصرامة التي لم يعد لها مبرر بعدما انفصل علم اللغة ومعه علم البالغة نهائيا عن
النصوص املقدسة ،بحيث يمكننا أن نالحظ شيوع االستشهاد الشعري لدى املتأخرين من علماء
النحو والبالغة في محاولة لخلق مسافة بين علم اللغة وعلوم القرآن.
يفيدنا كثيرا في هذه املساءلة العلمية أن نقف عند املثال الشهير الذي أورده سوسير الذي هو "لعبة
الشطرنج" من أجل الداللة على طريقة عمل اللغة من الداخل.
- 1الضامن ،حاتم صالح :علم اللغة .مطبعة التعليم العالي .العراق .1989 .ص ص 32-31
62
يلخص صالح فضل ما نود الذهاب إليه بشكل جيد إذ يقول" :إذا كانت اللغة عند سوسير نظاما من
الرموز ال يعرف سوى قوانينه الخاصة املميزة فإنه يقارنها أكثر من مرة بلعبة الشطرنج لتوضيح
خصائصها "،فيدعو إلى التمييز في دراسة اللغة بين العناصر الداخلية فيها والعناصر الخارجية" عنها،
فعندما نؤرخ للعبة الشطرنج فندرس" انتقالها من إيران إلى أوربا فإن هذا يعتبر شيئا خارجيا "،أما
عندما ندرس نظامها وقوانينها فإننا حينئد أمام عناصرها الداخلية ،كذلك لو ّبدلنا قطع الشطرنج
الخشبية بأخرى من العاج لم ّ
يمس هذا نظام اللعب الداخلي ،أما لو انتقصنا من عدد القطع أو
زدنا عليها لكان لذلك تأثيره العميق في قواعد اللعب .ويمضي في هذه املقارنة األثيرة لديه بين اللغة
والشطرنج باعتبار كل منهما نظاما من القيم يخضع لتعديالت طارئة على النحو التالي :
أوال :وضع رقعة الشطرنج في حالة ما يطابق تماما وضعا ّ
معينا للغة ،لذلك فإننا نجد أنه إذا كانت
قيمة كل قطعة تتوقف على موقعها في الرقعة فكذلك األمر في اللغة إذ تتوقف قيمة كل كلمة على
مقابلتها بغيرها من الكلمات.
ثانيا :ال بد أن يكون النظام القائم في حالة ما مؤقتا حيث ال يلبث أن ّ
يتغير إلى وضع آخر ،إال أن
جميع القيم تتوقف على عرف ثابت مسبق ،وهو قواعد اللعب التي توجد قبل بداية اللعب وتظل
قائمة بعد انتهاء كل مباراة ،هذه القواعد املقررة دائما توجد في اللغة وهي مبادئها الثابتة.
ثالثا :لكي يتم االنتقال من حالة توازن إلى أخرى ،أي من حالة وصفية إلى أخرى يكفي تحريك
قطعة واحدة ،فال يحدث ّ
تحرك شامل دفعة واحدة وهنا نعثر على ما يوازي بالضبط عمليات
التطور التاريخية :
كل لعبة في الشطرنج تتمثل في تحريك قطعة واحدة فحسب ،كذلك في اللغة ال تطرأ التغييرات أ-
إال على عناصر منعزلة.
وبالرغم من ذلك فإن لكل لعبة نتائج تمس النظام بأكمله ،حتى يستحيل على الالعب أن ب-
يتوقع بدقة جميع النتائج التي ستنجم عنها فقد تكون خطيرة أو متوسطة أو ضئيلة طبقا
للظروف ،وقد تؤدي لعبة واحدة إلى انقالب في املباراة ،وتؤثر حتى في القطع التي كان يبدو
للوهلة األولى أنها بعيدة عن العملية ،ومثل هذا يحدث كذلك في اللغة
يعتبر نقل قطعة ما فوق رقعة الشطرنج عمال مختلفا متميزا عن حالتي التوازن السابق ت-
والالحق فالتغيير الحادث ال ينتمي إلى أي منهما بحال وما يهم في واقع األمر إنما هو تلك الحاالت
63
في مباراة الشطرنج نجد أن الخاصية املميزة ألي وضع نركز انتباهنا عليه إنما هو استقالله عن ث-
األوضاع السابقة عليه ،فالذي يتابع جميع مراحل املباراة ال يختلف في لحظة معينة عن
الفضولي الذي يطل ويلقي نظرة عابرة على الرقعة ،كل منهما يرى الوضع بأكمله ويستطيع أن
يحدس بما سيحدث ،وكذلك األمر في اللغة ،مما يوضح لنا الفروق بين الطرق الوصفية
1
والتاريخية ،املتكلم ال يمارس عمليات الكالم إال طبقا لوضع معين من أوضاع اللغة"
يهمنا في هذا املقام ان نقوم بمراجعة املسار الذي قاد النظر صوب اللغة من حيث فلس""فتها أص""ال
من""ذ النظ""رة املادي""ة التجريبي""ة ال""تي اجترحه""ا سوس""ير ح""تى النظ""رة الوض""عية املادي""ة التحليلي""ة ال""تي
وص" ""لها توص" ""يف الع" ""الم الكب" ""ير لودفي" ""غ فيتجنش" ""تاين على اعتب" ""ار كون" ""ه أح" ""د أهم من نظ" ""ر للغ" ""ة
وجوهرها في العصر الحديث.
س""نحاول في م""ا يلي الترك""يز على عم""ل فيتجنش""تاين من منطل""ق أن""ه األمث""ل للدالل""ة على املس""ار اللس""اني
هنال" ""ك من لخص فلس" ""فة فيتجنش" ""تاين اللغوي" ""ة ونظريت" ""ه الش" ""هيرة ح" ""ول اللعب" ""ة الكالمي" ""ة كأمثول" ""ة
رمزي ""ة تخ ""تزل عالق ""ة املرء باللغ ""ة والنش ""اط التواص ""لي بتعب ""ير في غاي ""ة البس ""اطة وفي قم ""ة الفعالي ""ة :ال
مع" ""نى بال فائ" ""دة .واللعب يص" ""بح يحق" ""ق الفائ" ""دتين الل" ""تين هم" ""ا اإلنج" ""از حس" ""ب قواع" ""د تتج" ""اوز الف" ""رد
وكذلك تحقيق رضا اإلنجاز الجيد الذي يشعر به اي العب مع أية لعبة في العالم.
في كتابه" "أبحاث فلسفية" يطرح فتجنشتاين السؤال الجوهري :ما هي أنواع الجمل؟… إذ يالحظ م""ع
قارئ " "ه" بأن " ""ه يوج " ""د م " ""ا ال ع " ""د ل " ""ه من أص " ""ناف الجم " ""ل؛ وهي أن " ""واع تض " ""م إلى الك " ""ثرة عام " ""ل التش " ""تت
2
واالختالف بحيث يصعب حصرها" في إطار قواعد من ذلك النوع الذي درجنا على دراسته.
س""يقود ه""ذا التأم""ل كم""ا ك""ان ورد عن""ده إلى مقابل""ة فكرت""ه الس""ابقة في كتاب""ه وه""و بع""د ش""اب في مقتب""ل
العم"ر "رس"الة منطقي"ة وفلس"فية" وال"تي مفاده"ا أن ك"ل عنت الفلس"فة يت"أتى من االنتق"ال التعس"في من
- 1فضل ،صالح :وجوه المقارنة بين دراسة اللغة ولعبة الشطرنج T.انظر :عبد السالم المسدي :اللسانيات من خالل النصوص ،الدار
التونسية للنشر ،1984 ،ص 63-61
2
Wittgenstein, Ludwig, philosophical lnvestigations, Blackwell, london 1953, p. 23
64
املع""اني الواح""دة األحادي""ة للكلم""ات – تل""ك املع""اني ال""تي يعرفه""ا القاصي وال""داني – ص""وب مع""ان ت""دعي
لنفس ""ها مق ""ام التعقي ""د الفلس ""في ال ""ذي ه ""و محض وهم تض ""خم لت ""اريخ طوي ""ل ع ""ريض ليش ""كل ج ""وهر
ّ اإلشكاليات الفلسفية .يقول بأن ّ
فإن"ه على
"أن اللغة لها وجه واحد ذو معنى ،وبحسب هذه النظري""ة "
ال""رغم من محدودي""ة املف""ردات لكن القض""ايا واألق""وال غ""ير مح""دودة ،أم""ا من ناحي""ة املحت""وى واملع""نى
1 ف" " ّ
"إن اللغ" ""ة هي تجس" ""يد للواق" ""ع ،ونحن بإمكانن" ""ا التح" " ّ"دث عن اللغ" ""ة ال" ""تي تص" " ّ"ور الوق" ""ائع فحس" ""ب"
إن ادعاء ابستيمولوجيا كهذا من شأنه أن يغير نظام تقويمنا وكل أرضيات تفكيرنا وقدرتنا على
الحكم ،فإذا تطابق الفكر مع اللغة تطابقا ينفي تماما وجود فكر بال لغة فمعناه أن اللغة نفسها
ستعوض في وقت "تحليلي" الحق امليتافيزيقا ،بل لربما تصبح هي نفسها ضربا من ضروب
امليتافيزيقا".
لقد مر تفكير فيتجنشتاين بمرحلة "منطقية"" سادها املنطق الرياضي اين كان تصوره دور الكلمات
املتراتبة في كنف الجملة الواحدة بمثابة مجموعة من الصور للشيء الواحد :شارع او مشهد مركب؛
بحيث ال يكون للمكون اللغوي املفرد معنى خارج" التركيب أو الشكل الكلي؛ أو املعنى اإلجمالي. . ".
وهي نظرة فلسفية تامة الجدة بالنسبة للميراث اللغوي الذي لم يقل بهذا ال لدى قدامى وال لدى
محدثين.
ستؤثر الفلسفة التحليلية في فكر فتجنشتاين بعمق فيجعل – في مرحلة الحقة "-يتأمل جوهر اللغة
كحادثة عرضية خالية من كل جوهر "،بمعنى انه ال يوجد بعد ماهوي للغة ،وال يوجد لها معنى
نهائي وال معنى محدد سلفا ،فال بعد لها إال في إطار استعمالنا لها. . .
1
Wittgenstein, Ludwig, Tractatus logico – philosophico, Routledge, london, 1982,
ed5, p102
65
س""يتطور ه"ذا املنظ"ور ل""دى فتجنش"تاين دون أن يتح"ول إلى شيء من""اقض تم""ام املناقض""ة له""ذه الخلفي"ة
ً ً
الوضعية لألداء اللغوي ،فمنذ صدور كتابه (أبحاث فلسفية) لم يعد يرى اللغة جوهرا واحدا تجم""ع
في ثناياه"ا" جمي""ع الص""ور اللغوي""ة ،وه""و املفه""وم ال""ذي نحن بص""دده في ه""ذه الدراس""ة ،مفه""وم اص""طلح
عليه بمصطلح "ألعاب اللغة" .1والواجب التركيز عليه في هذا املقام أمران اثنان:
ّ
أـ اللغة كاللعبة ،كلتاهما" تصنفان كنشاط إنساني يتعلمه الفرد في الوسط االجتماعي.
ب ـ اللغ""ة أمره""ا ك""أمر األلع""اب ،تتحكم فيه""ا قواع""د وق""وانين معلوم""ة وخاص""ة به""ا ومختص""ة به""ا دون
غيرها ،بحيث أنه في غيابها ال تقوم لها قائمة ،بل قد يتعطل جوهرها" أصال.
لقد ّ
مر فكر لودفج فيتجنشتاين ألجل الوصول إلى مفهوم متكامل للعبة الكالمية بمراحل عديدة
يرى بعضهم انها مراحل مناقض محمول بعضها ملحمول الغير فيما تبدو لنا متكاملة على العموم.
ألجل فهم هذا املسار الذي أدى بالبحث اللساني الذي ولد حديثا على يدي سوسير من أجل تنقية
البحث اللساني من االعتبارات التي تعزى إلى الفلسفة والفيلولوجيا كفرع ينتمي ولو تقليديا إلى
الفلسفة ( في النزوع صوب الشرح والتعالي؛ أي النزعة الشارحة" املنبنية على عزو الظاهرة إلى ما
سواها وما يحيط بها مع اخذ املعطى امليتافيزيقي بعين االعتبار) ،لجل فهم هذا ال بد من وضعه في
إطار الجدل الذي دخل فيه الفالسفة التحليليون في إنجلترا مع خصومهم من املدارس األخرى،
والذي يهمنا منه خلوص فيتجنشتاين إلى فكرة أن التفكير في الفلسفة من خالل اللغة التي تؤدى بها
هي الغاية العليا؛ إذ ال يوجد شيء يفوق اللغة التي تعتمل معيرة عن موضوع ما ،إلى درجة أن أي
2
موضوع ال يملك كينونة إال في إطار تلك الكينونة اللغوية.
1
Wittgenstein, philosophical investigations ; p 569
2
Ibid , pp569-570
66
إن التداعيات اإليديولوجية" لهذه األفكار هامة جدا؛ ففيتجنشتاين من خالل مالحظاته العميقة
يضرب الجانب املاهوي للغة عرض الحائط ،كما يرفض بذلك كل بعد ترانسدنتالي للغة ،وحتى
الرؤية الكونية لسوسير والتي تقتضي بان كل ألسنة البشر ترتبط بعضها ببعض في نقطة "املستوى
اللغوي" ،في حين يذهب فيتجنشتاين إلى أن وجوه الشبه في االستعماالت اللغوية ال ترقى إلى درجة
عليا تتطلب الدرس الفلسفي ،عن هي إال تشابهات عائلية – كما يقول ال تمنع فردا عن أن يكون
ّ
متفردا متميزا عمن سواه 1 .وتمثل هذه النظرة إلى اللغة طفرة نوعية في الفلسفة التحليلية،
وباالعتماد عليها استطاع فتجنتشتاين صياغة نظريته الخاصة في املعنى ،عرفت بـنظرية االستعمال،
وأهم ما يطرحه في نظريته هذه ّأنه يطلب ّ
منا أن ننظر إلى اللغة كأداة بيد املتكلم ّ
يعبر بها عن
ّ
مقاصده املتعددة واملتنوعة ،وألنه ال يمكن حصر مقاصد املتكلمين؛ لكثرتها ،فعليه ال يمكن رسم
ً
دائما البتكار لعبة لغوية جديدة في كل لحظةّ ، صورة محددة لها؛ ّ
ومما نحصل عليه ألن ّثمة إمكانية
ّ
من نظرية فتغنشتاين هو أنه على الرغم من محدودية املفردات والجمل؛ باعتبارها أدوات لغوية،
2 ّ
فإن تطبيقاتها" غير محدودة وال حصر لها
ويحدد اللعبة الكالمية في بحوثه الفلسفية على أساس كونها إمكانيات ال متناهية من لتوظيف عدد
محدود من أدوات العمل ،مثلما هي الحال في اللعب (ولن نذكر الشطرنج عبثا ) . . .هي أدوات
تركيبية" محدودة العدد معلومة القواعد يتم تشكيلها حسب إمكانيات غير متناهية" خاضعة ملزاج
اللعب/املستعمل ،وحسب اإلمكانيات الرياضية التي تطبق على العدد الكبير – وإن كان محدودا-
من املفردات والعدد الكبير من القواعد التركيبية" والخصائص الضمنية ما يشبه توفيقات
واالحتماالت وعمليات تذكر بتنامي الدوال الهندسية يجعل إمكانيات الالعب غير متناهية".
1
Magin, Marie, Wittgenstein, Routledge,london, 1997, ch. 3-4.
محمد علي عبد اهلل :تصنيف األفعال اللسانية 2
67
إن تبعات نظرية مثل هذه هامة جدا على البحث اللغوي ،فقد اخذ فتجنشتاين مثاال توضيحيا
أورده سوسير لتبيان جانب محدد من نظريته اللغوي -الجانب الشكلي – ثم تالعب به تالعبا خطيرا
ذا تبعات أيديولوجية" التخلو من أهمية ،إن النزعة العلمية الواصفة تصل مع فتجنشتاين إلى نقطة
ذات بال ينتفي معها أي بعد ماهوي للغة .إن نظرية فتجنشتاين هذه حول اللعبة الكالمية تنفي
الكينونة املتعالية للغة التي تجعلنا دائما نتعامل مع بعد ميتافيزيقي سحري وساحر للغة ال ينبغي أن
نغفل عنه ألنه دائما هو الجانب الكامن القائم خلف محاولتنا البائسة للتعامل مع اللغة في بعدها"
البسيط العادي الناسوتي املهلهل . . .إن رؤية فتجنشتاين -ومعها رؤية التحليليين -تقتضي ربط
اللغة بالواقع املادي امللموس املحسوس ،فاللغة في بعض آرائه هي الواقع والواقع هو اللغة.
لقد طال تقليب التحليليين ملسألة الحذر الضروي للحكيم من استعماله للكلمات ،فالكلمات
والتراكيب يغلب عليها أن تحتوي وجهات نظرنا صوب األشياء ،فتقولب حتى طريقة تفكيرنا في
مواضيع الفلسفة ،وهي نفسها ال تعدو كونها استعماال خاصا ولعبة ذات خصوصيات للكلمات.
مع فتجنشتاين تحول السؤال املفخخ :ماذا أعرف؟ إلى سؤال بسيط ذي تبعات هو :ما هو يا ترى
هذا الذي أعرفه؟ وفي هذه الخطوة االبستمولوجية قطع لشوط كبير صوب الواقعية املادية
التجريبية ألجل تخطي املآزق – حسب لفظه -املثالية التي تجعلنا نراجع معطيات الحس املشترك
التي يفترض أنها شكل قاعدي من الوعي ال يقبل النقاش لوضوحه" وشيوعه يرى التحليليون بأنه
صالح لقياس ما سواه من الحس عليه؛ ال العكس.
إذا عاينا نظرية األدب سنجد هذا النوع من التفكير متجليا في الظاهرة األدبية ،فمبدأ اللعب،
وكسر قوانين األنواع واألجناس ،وتهشيم عمود الشعر مرة وعود السرد مرة ثانية ،كل ذلك صار
عملة متداولة ،وليس أدل على ما نذهب إليه من عناوين "اللعبة السياسية"" ثم "اللعبة السردية" ثم
ألعاب الكالم ،واللعبة البالغية . . .كل ذلك صار من تراث العنونة داال على أن اللعب قد تخطى
1
معناه الطفولي الخالي" من الجدية إلى معنى جاد كما رأينا أعاله على أيدي الفالسفة األكثر جدية.
التيار التعبيري التهديمي الثوري األهم الذي ظهر في الفترة بين الحربين اسمه "دادا" بقيادة تريستان
زارا ،وأنت إن بحثت في القواميس وجدت معنى كلمة "دادا" هو لعبة خشبية قديمة لألطفال.
فيصل األحمر :دائرة معارف اآلداب األجنبية -دار األوطان -الجزائر -2013 -ج -3ص ص 749-748 1
68
اخترع السيرياليون الف طريقة للتأليف تشبه طرائق اللعب اكثر من الشبه مع عوالم اإلبداع، .
وكذلك فعل مسرحيو املرحلة الذين كفوا عن رواية قصص منطقية ألنه ال احد يقوى على تحمل
متابعة أحداث يتوقعها دائما وال أحد يريد مواصلة مهزلة خديعة نفسه بتصديق هذا النوع من
التراكيب القصصية الكالسيكية التي تطور وعي االنسان السردي اكثر منها بكثير . . .املقصود بهؤالء
املبدعين الكبار ":يوجين يونيسكو و أنطونين آرتو ولويجي بيرانديللو وغيرهم من املنتمين عن حق
أحيانا وعلى باطل احيانا كثيرة اخرى إلى ما سمي بتيار العبث؛ مع مالحظة الحبل الداللي الواصل بين
العبث واللعب ،مع عدم نسيان املساهمةالفلسفية للبير كامو ،فعبارة "مسرح العبث" صاغها
الناقد مارتن ايسلين لوسم اتجاه داخل املسرح في خمسينات القرن املاضي مقترضا إياها من
مفهوم ألبير كامو ماخوذ من كتابه حول سيزيف الذي ارتبط جهاده في الحياة بمسار معقد ال
يفضي على نتيجة وصفه كامو بالعبث.
من املعلوم والجدير بالتأمل في هذا املقام التأريخي للظواهر األدبية – التي هي الوجه اآلخر للظواهر
والتمظهرات اللغوية -ان نستحضر املوازاة املوجودة بال ريب بين مسرحيات العبث وروايات ما بعد
الحداثة في العديد من البعاد الشكلية واملضمونية أو حتى على املستوى الفلسفي الذي يفضح رؤية
فلسفية متعالية صوب الحياة ،ويحضرني هنا عنوان كتاب هام في انتقاد اإليديولوجيات الجادة
كتبه" الكاتب الفرنسي الكبير "روجي فايون" عنوانه "في مديح الكاردينال دو بيرنيس" Roger
) ،Vailland : éloge du Cardinal De Bernis (1955والكاردينال" دو بيرنيس شخصية مستهترة شبه
تافهة تظهر كثيرا في مذكرات كازانوفا استعملها الكاتب كمؤشر على ضرورة وجود هامش من الخفة
واملرح والتعاطي الفلسفي مع اللعب .وليس بعيدا عن هذا السياق عنوان كتاب الكاتبة سيلفي
كولومب "في" مديح الخفة" ) ،Sylvie Coulombe : Éloge de la légèreté (2013وهو كتاب حول روح
هذا العصر التي تتعاطى كل شيء بخفة وعبور وبال تركيز ،وتتعاطى مع مسائل الوجود التي عهدنا
أخذها على محمل الجد بشكل يشبه اللعب.
ال يمكننا في سياق الحديث عن الصلة بين اللعبة الكالمية كتفسير لالشتغال اللغوي وبينها كحامل
نقدي نظري يفسر الوعي العميق بالعمل األدبي ان نمر بهذه املرحلة التي شهدت تحوالت عميقة في
النظرية األدبية – أقصد مرحلة ما بعد الحرب العاملية الثانية ،والتي نسميها عموما مرحلة مابعد
الحداثة ،بشكل تحقيبي غير علمي وغير وثوقي ،"-اليمكننا إذن أن نغفل ذكر عمل مسرحي كبير مثل
"املغنية الصلعاء" ألوجين يونسكو ،على اعتبار انه عمل يتكون من سلسلة من املشاهد املسرحية"
69
التي تحركها نماذج معروضة أمامنا مسرحيا على شكل دروس واقتباسات مأخوذة من كتاب مدرسي
1
للغة.
ولعل واحدا من أهم الشخصيات التي يمكن تصنيفها بانتمائها للعبث وما بعد الحداثة هو صموئيل
ً
بيكيت .ينظر غالبا الى عمل صموئيل بيكيت على كونه معلما لالنتقال من الحداثة الى ما بعد
الحداثة في األدب .لديه روابط وثيقة بالحداثة بسبب صداقته مع جيمس جويس .لكن هذا ال ينفي
ً
ان عمله ساعد في تشكيل تطور األدب بعيدا عن الحداثة .احتفى جويس ،أحد امثلة الحداثة
بامكانيات اللغة .وقد تراءات لبيكيت في عام 1945احدى الرؤى التي تقول انه بهدف الهروب من
شبح جويس عليه التركيز على فقر اللغة وعلى اإلنسان ككائن فاشل .أعماله الالحقة عكست كذلك
شخصيات علقت في مواقف ال خالص منها مع محاولتها بوهن تحقيق تواصل ،مالذه األخير هو اداء
يخرج منها أفضل ما لديها .ويذكرنا هذا بما أسلفنا ذكره عن فتجنشتاين أثناء تفسير الخلفية
الفكرية لنظرية األلعاب الكالمية ،إذ أننا شهدنا مع فتجنشتاين تحول السؤال املفخخ :ماذا أعرف؟
إلى سؤال بسيط ذي تبعات هو :ما هو يا ترى هذا الذي أعرفه؟ . . .فالنصوص األدبية التي كانت
تطمح إلى اإلبداع صارت تتقصد املحاكاة الساخرة مثال ،وهذه الباروديا أو الباستيش ،هي تأمل ذكي
جواني مرح في جواهر النصوص اإلبداعية من أجل فهم املسافات الضرورية التي تعرفها اللغة
كمرآة عاكسة لتحوالت الذات والوجدان والوعي؛ تحوالت علمنا فتجنشتاين بأنها ال وجود لها إال
على املستوى اللغوي.
لقد اسلفنا بأن في هذه الخطوة االبستمولوجية قطعا لشوط كبير صوب الواقعية املادية التجريبية
ألجل تخطي املآزق املثالية – حسب لفظ فتجنشتاين دائما -التي تجعلنا نراجع معطيات الحس
املشترك التي يفترض أنها شكل قاعدي من الوعي ال يقبل النقاش لوضوحه وشيوعه يرى التحليليون
بأنه صالح لقياس ما سواه من الحس عليه . . .وهذا ما يحدثه أدباء أفذاذ يراجعون عاداتنا وسنننا
األدبية محدثين زالزل" كبرى في وعينا النصي الذي هو – كما أسلفنا وكما ينبغي أن نتذكر دائما-
وعينا اللغوي . . .مراجعة تطال مرتكزاتنا الجمالية في النص السردي مثال ،كما هي الحال في الرواية
الجديدة (تحديد الشخصيات ،الوعي املوروث ،األحكام الجاهزة في مجتمع الرواية ،االستعمال
اللغوي ،العادات واالختيارات اللغوية ،واملوقع الرمزي املركزي للعناصر املألوفة" في النص :املكان-
الزمان -السرد . . .الخ الخ).
فيصل األحمر :دراسات في اآلداب األجنبية -منشورات مخبر الترجمة في اللسانيات واألدب -جامعة قسنطينة -2013 -ص119 1
70
يمكننا باملوازاة تأمل تجربة مابعد حداثية عميقة األثر خطيرة البعد مثل تجربة صموئيل بيكيت
الذي أدت تجاربه "على شكل السرد وعلى تحلل السرد وتفسخ الشخصية داخل الرواية والدراما الى
اكسابه جائزة نوبل لألدب عام . .1969عمد عمل بيكيت األخير الذي نشر خالل حياته "املثيرات
الساكنة" 1988الى كسر العوائق بين الدراما ،والرواية والشعر مع كون نصوص هذه املجموعة
ً
تتألف بالكامل تقريبا من اصداء وتكرار ألعماله السابقة . .شكل (بيكيت) بال شك واحدا من آباء
حركة" ما بعد الحداثة في الرواية بل العمل السردي ،التي تابعت زلزلة افكار" االنسجام املنطقي في
ً 1
السرد ،وخريطة الحبكة ،والتسلسل الزمني املنتظم ،والشخصيات املشروحة سيكولوجيا"".
مثال آخر شديد األهمية في املرحلة مابعد الحداثية هو تجربة اللعب على صيغ تعبير لدى "جيل
البيت "beat generationمن قبل جاك كيرواك " لصالح الشباب األميركي الساخط خالل خمسينات
القرن املاضي املادية؟ طور كيرواك افكار "التلقائية" أو "الذاتي الحركة"" الى ما اسماه "النثر
العفوي" ،التلقائي ،ليخلق ملحمة متعددة الوجه الروائي اسماها اسطورة داليوز" ضمن قالب
ً
مارسيل بروست في "البحث عن الزمن املفقود" تسمية "جيل البيت" غالبا ما تستعمل بشكل أوسع
لإلشارة الى العديد من كتاب اميركا ملا بعد الحرب من مثل شعراء "الجبل االسود ،مدرسة
نيويورك ،عصر نهضة سان فرانسيسكو" وغيرها .وكان يشار من حين الى آخر الى هؤالء الكتاب
ً
انهم "ما بعد حداثيون" .مع ان استعمال ما بعد حداثوي هي اقل استعماال باالشارة الى هؤالء اال ان
تسميتهم بما بعد الحداثويين لم تزل تظهر ،اسماء العديد من الكتاب املعتبرين من هذه املجموعة
"جون اشبوري ،ريتشارد بروتيغان ،جيلبرت سورنتينو وغيرهم) تظهر عادة في لوائح كتاب ما بعد
الحداثة .أحد الكتاب املحسوبين على "جيل البيت" هو وليم بوروز الذي نشر رواية "العشاء
العاري" في باريس عام 1959وفي اميركا عام .1961وتعتبر روايته هذه من قبل البعض الرواية ما
بعد الحداثوية األولى ،ألنها قائمة على التشظي ،ودون قوس سرد مركزي ،وهي تتوسل عناصر من
أنواع أدبية معروفة من مثل القصة البوليسية وقصة الخيال العلمي .وهي مليئة باملحاكاة الساخرة،
ً
واملفارقة واللعب الدعابي ،وحسب بعض املراجع فان كال من الصديقين كيرواك والين غينسبيرغ
حررا هذا الكتاب مستسرشدين بالصدفة".2
موقع اإلمبراطورhttp://www.: محيدلي ،فوزي :أدب ما بعد الحداثة ،التلقائية والصدفة والتهكم والمعنى المراوغ Tأبداً. 1
71
إن الوعي بفكرة اللعب كمدخل لعالقة" االنسان بالعالم يعطي نتائج في غاية األهمية ،فقد رأينا كيف
أن املسار الذي انطلق باللغة من الدوران حول النصوص املقدسة ،قد تدرج صوب فكرة اللعبة
كميدان اشتغال للقواعد الثابتة القاعدية املعروفة والتي يغلب عليها أن تكون بسيطة يسيرة املأخذ،
لكي ينعكس هذا املوقف على إنشاء النصوص اإلبداعية التي هي مجال اشتغال األفراد املتميزين
داخل الجماعة اللغوية الواحدة ،فتصبح" اللعبة الكالمية لعبة بالغية ثم لعبة جمالية" مرورا باللعبة
الفلسفية ،وربما نكون بصدد لعبة وجودية يكون فيها لكياننا املسار نفسه الذي كان للغة فيكون
الجسم جالسا قبالة الروح وبينهما رقعة شطرنج لم يحلم بها سوسير.
يبقى فقط انه إذا كان الجسم من أمر اللغة فإن الروح من أمر ربي ،وما أوتيتم من العلم إال قليال.
72
أفق التاريخ
مقدمة
تط" ""رح الكتاب" ""ة التاريخي " "ة" إش" ""كاليات كث" ""يرة تحي" ""ل على إش" ""كاليات الحي" ""اة؛ ال من زاوي" ""ة ك" ""ون
التاريخ مبدئيا – وفي مطلق أمره كذلك -تدوينا للحي"اة يحم"ل في طي"ات الت"دوين أم"راض الحي"اة
نفس" ""ها ،ب" ""ل ك" ""ذلك من زاوي" ""ة ك" ""ون الت" ""أريخ – كفع" ""ل إنس" ""اني -يكتنف" ""ه غم" ""وض ك" ""ل افع" ""ال
اإلنسانية األخرى ،كما تكتنفه تناقض"اته" ورغبت"ه في التع"الي" ومختل"ف مظ"اهر" س"وء التق"دير في
النظر وعسر تحديد الوجهة أثناء تحديد وجهات النظر التي هي جوهر عمل املؤرخين.
يب ""دأ عم ""ل املؤرخ كت ""دوين يتح ""دى هن ""ات ال ""ذاكرة وينتهي كنظ ""ام للتفك ""ير يخل ""ق هن ""ات للعق ""ل.
وه""ذا ج""وهر" االنتق""ال األول من الت""اريخ كم""ا ك""ان يعي""ه الق""دامى إلى الت""اريخ كم""ا تمن""اه منظ""رو
عص ""ر األن ""وار بقي ""ادة فولت ""ير ال ""ذي ه ""و مبتك ""ر مص ""طلح "فلس ""فة الت ""اريخ"؛ أي كعملي ""ة تأويلي ""ة
ألفعال البش"ر ،ثم االنتق"ال إلى الع"رف م"ا بع"د الح"داثي ال"ذي وص"فناه – تأس"يا بميش"ال فوك"و-
بهيرمينوطيق" ""ا الت" ""اريخ؛ ذل" ""ك الفع" ""ل ال" ""ذي هدف " "ه" التع" ""رف على التفك" ""ير املعق" ""د في الح" ""وادث
املاض""ية بعين حديث""ة ال تخ""رج عن اإلط""ار الت""أويلي ال""ذي ه""و إط""ار لتفس""ير للنص""وص وك""ذلك
إط""ار نظ""ري لتحدي""د عملي""ة الفهم من أج""ل ه""دف اس""مى ه""و تش""كيل منهج للفع""ل وللت""دخل في
الحي ""اة ،بحيث يص ""بح البع ""د الت ""أويلي في تحلي ""ل وتفس ""ير النص ""وص التاريخي "ة" وك ""ل النص ""وص
ذات الط ""ابع الثق ""افي" الك ""ثيف وذات البع ""د التأسيس ي في الثقاف ""ات القومي ""ة والثقاف ""ة اإلنس ""انية
عموم""ا ه""و وج""ه من وجهي العمل""ة اإلنس""انية ال""تي وجهه""ا اآلخ""ر ه""و الفع""ل السياسي واملس""اهمة"
في البناء الحياتي ألبناء الزمن الحالي".
73
عتبات وإشكاليات
هنال"ك من"اهج وط"رق كث"يرة لكتاب"ة الت"اريخ ،من الس"رد املباش"ر ال"ذي ك"ان يب"دو ل"دى الق"دامى
شكال معينا من أش"كال األدب ،وال"ذي ه"و نق"ل لألخب"ار بأس"لوب معين يتقاس"مه هاجس"ا النق"ل
األمين لألح ""داث والتعب ""ير املستس" ""اغ ال" ""ذي ي ""برر عن ""وان الكتاب ""ة ،وال يح ""رك ه" ""ذا الن ""وع من
الكتاب""ة س""ؤال خ""اص ب""ل يحرك""ه فيض األخب""ار واملروي""ات ،وفي ه""ذا اإلط""ار يمكنن""ا فهم الق""ول
االفتت""احي الش""هير للط""بري في كتاب "ه" ("ت""اريخ األمم واملل""وك" " :فم""ا يكن في كت""ابي ه""ذا من خ""بر
ذكرن" ""اه عن بعض املاض" ""ين ،مم" ""ا يس" ""تنكره قارئ" ""ه ،أو يستش" ""نعه س" ""امعه ،من أج" ""ل أن" ""ه لم
وجها من الص"حة ،وال مع"نى في الحقيق"ة ،فليعلم أن"ه لم ي َ ً
"ؤت من قبلن"ا ،وإنم"ا أوتي يعرف له
1
أدينا ذلك على نحو ما ّأدي إلينا" من بعض ناقليه إلينا ،وإنما ّ
ال ي" ""وحي ه" ""ذا الكالم بم" ""ا س" ""يكون من التس" ""اؤالت ال ""تي س" ""تدور بين مختل" ""ف االتجاه" ""ات ح" ""ول
فلس"فة الت""اريخ ،بداي"ة من فولت""ير ال"ذي يع""د تاريخي"ا مبتك""ر مص""طلح "فلس""فة الت"اريخ"" ووقوف"ا"
عن ""د هيغ ""ل ال ""ذي س ""يدور ح ""ول تص ""وره لفهم الت ""اريخ ج ""دل واس ""ع ج ""دا ،م ""رورا بالحولي ""ات
وبكث" ""ير من املحط" ""ات متباين" ""ة االتج" ""اه متفاوت" ""ة األهمي" ""ة في تفس" ""ير س" ""يل األح" ""داث التاريخي " "ة"
وصوال إلى املنهج مابعد الحداثي في التأريخ.
من ""ذ أرس ""طو وتيوس ""يديد ط ""رحت كتاب ""ة الت ""اريخ جمل ""ة من اإلش ""كاليات بت فيه ""ا أرس ""طو على
طريق""ة س"قراط ب""القول بض""رورة اإليم""ان بوج"ود عل""ة تاريخي""ة ك"برى تع""د نقط""ة نهاي""ة الت""اريخ،
ونهاي ""ة الحي ""اة ال ""تي تس ""ير ص ""وبها األح ""داث بهم ""ة عالي ""ة .وك ""ان ذل ""ك عالج ""ا للط ""ابع الفوض ""وي
ال""ذي تتس""م ب""ه األح""داث ،وللط""ابع االعتب""اطي ش""ديد االعتباطي""ة ال""ذي تتس""م ب""ه حي""اة أي""ة أم""ة
إذا تأمله""ا جي""دا .وتح""ولت ه""ذه النقط""ة املتعالي""ة ،أو ه""ذه "الحكم""ة" الكب""يرة النبيل""ة الش""ريفة
من الحي""اة إلى ش""ماعة االنش""طارات العفوي""ة االعتباطي""ة ال""تي تتس""م به""ا األح""داث الحياتي""ة( أي
التاريخي""ة) ،وهي حكم""ة لم يتوق""ف البحث فيه""ا ،ووص""فها والعم""ل التنظ""يري املتعل""ق به""ا ،ع""ل
تع""دد في املن""اهج وفي زواي""ا النظ""ر . . .تع""دد يع""زى حس""ب تعري""ف ابن خل""دون الش""هير إلى تع""دد
مناحي الحياة نفسها.
يق""ول ابن خل""دون معرف""ا الت""اريخ بأن""ه" خ""بر عن االجتم""اع" اإلنس""اني ال""ذي ه""و عم""ران الع""الم،
وم ""ا يع ""رض لطبيع ""ة ذل ""ك العم ""ران من األح ""وال ،مث ""ل الت ""وحش و الت ""أنس و العص ""بيات ،و
- 1الطبري :تاريخ الطبري -المكتبة العلمية -المكتبة العلمية -ط-1986 -1ج -1ص13
74
أص""ناف التغلب""ات للبش""ر بعض""هم على بعض ،و م""ا ينش""أ عن ذل""ك من املل""ك و ال""دول و مراتبه""ا،
و م""ا ينتحل""ه البش""ر بأعم""الهم و مس""اعيهم من الكس""ب و املع""اش و العل""وم و الص""نائع ،و س""ائر
م""ا يح""دث في ذل""ك العم""ران بطبيعت""ه و أحوال""ه" . .1إن""ه تعري""ف يتخ""ذ ع""دة وج""وه ،فه""و أيض""ا
الفن الن" ""ادر واللطي" ""ف ال" ""دقيق ال" ""ذي " يوقفن" ""ا على أح" ""وال املاض" ""ين من األمم في أخالقهم و
األنبياء في س"يرهم و املل"وك في دولهم و سياس"تهم ح"تى تتم فائ"دة االقت"داء في ذل"ك ملن يروم"ه في
أحوال الدين و ال"دنيا .فه"و محت"اج إلى مآخ"ذ متع"ددة و مع"ارف متنوع"ة و حس"ن نظ"ر و تثبت
يفض ""يان بص ""احبهما إلى الح ""ق و ينكب ""ان ب ""ه عن املزالت و املغال ""ط ألن األخب ""ار" إذا اعتم ""د فيه ""ا
على مجرد النقل و لم تحكم أصول العادة و قواع"د السياس"ة و طبيع"ة العم"ران و األح"وال في
االجتماع اإلنساني و ال قيس الغائب منها بالشاهد و الحاض""ر بال""ذاهب فربم""ا لم ي""ؤمن فيه""ا من
2
العثور و مزلة القدم و الحياد عن جادة الصدق"
ولكن إشكالية معقدة ستنشأ على هامش هذا الهاجس الوصفي الذي يشغل ابن خلدون؛ رغم
كون" ""ه هاجس" ""ا يقظ" ""ا ذكي" ""ا متنبه" ""ا إلى م" ""ا يس" ""ميه "م" ""زالت الق" ""دم" ال" ""تي ت" ""تربص بك" ""ل من يري" ""د
الح ""ديث عن س ""ابق الح ""وادث واص ""فا وم ""ؤوال ،والحقيق ""ة هي ان ""ه ال يمكن أن نص ""ف دون أن
نك ""ون ق ""د دخلن ""ا دائ ""رة التأوي ""ل من حيث ك ""ون أي وص ""ف ح ""امال بالض ""رورة لش ""رطي املعرف ""ة
والخ ""برة الفردي ""ة في تش ""كيل ص ""ورة و"فهم"" كم ""ا يق ""ول –فيم ""ا س ""يأتي بيان ""ه -فيلهلم ديلط ""اي.
تل""ك اإلش""كالية هي املع""نى املتع""الي ال""ذي يف""ترض في""ه أن يك""ون مس""تقال عن األح""داث في ش""كلها
املف""رد البس""يط الخطي .وهي إش""كالية سينش""أ على هامش""ها م""ا سيس""مى بفلس""فة الت""اريخ ،وه""و
حقل للعمل على التاريخ بشكل يتطلب تقسيما منهجيا لطرق التعامل مع املادة التاريخية.
ه ""ذا اله ""اجس التقس ""يمي املس ""كون بطريق ""ة إدراج عملي ""ات فهم املادة التاريخي ""ة ض ""من الفهم
الع""ام ل"دى اإلنس"ان كم"ادة علمي""ة خاض""عة للمنهج""ة واإلطالق كم""ا يح"دث لن""ا م"ع العل"وم وطبق""ا
للمنهج العلمي ،وه ""و اله ""اجس األق ""دم واألك ""ثر اتس ""اعا في الحقيق ""ة ،ألن الفالس ""فة من ""ذ أق ""دم
األزم ""ان ك ""انوا ينطلق ""ون من نقط ""ة نهاي ""ة؛ أو "غاي ""ة" واض ""حة يب ""دو أن األح ""داث تس ""ير تجاهه "ا"
فيما هي توجه دفتها في اتجاه"ات عدي"دة معلوم"ة حين"ا ومجهول"ة أحيان"ا ،وه"ذا ه"و اتج"اه يجم"ع
أص ""نافا" متنوع ""ة من الفالس ""فة إلى درج ""ة أن ""ك تج ""د نقيض ""ين مث ""ل ك ""ارل م ""اركس وم ""اكس في ""بر
ين""درجان ض""من ه""ذه الترس""يمة بيس""ر كب""ير ،رغم كونهم""ا يختلف""ان ج""ذريا في تفاص""يل املس""يرة
الك " ""برى ال " ""تي بين نقط " ""ة الح " ""ال ونقط " ""ة املآل ،بين الوق " ""ائع والتوقع " ""ات ،بين الوض " ""ع الق " ""ائم
3
والوضع القادم ،أو بين املقدمات والنتائج.
1عبد الرحمن بن خلدون" :مقدمة ابن خلدون" ،تحقيق Aابي عبد الرحمان عادل بن سعد ،الدار الذهبية للطبع و النشر و التوزيع ،القاهرة ،ص
41
2
م .نفسه ،ص 15
3
عبدهللا العروي :مفهوم التاريخ ج ،1المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،ط ،4ص176
75
يقابل هذا النوع من املؤلفات في حقل فلسفة التاريخ صنف آخ"ر يب"دو مهجوس"ا بفك"رة الف"رز
املنهجي للوق""ائع ،ه""و ص""نف يتموق""ع داخ""ل موض""وعه الت""اريخي به""دف تص""نيف الح""وادث حس""ب
درج" ""ة األهمي" ""ة من أج" ""ل اقتن" ""اص "روح العص" ""ر" -كم" ""ا ك" ""ان يس" ""ميها اح" ""د أفض" ""ل ممثلي ه" ""ذا
االتج ""اه :ج ""اكوب بوركه ""ارت "-روح يب ""دو أنه ""ا تنبعث من أم ""اكن ليس ""ت مح ""ددة بدق ""ة؛ يع ""ود
الفض""ل ك""ل الفض""ل في اقتناص""ها إلى "حاس""ة املؤرخ" ،ه""ذا األخ""ير ال""ذي يس""تعين بعت""اد يح""دده
املص""طلح البوركه ""ارتي" ال ""دال على شيء منس ""جم رغم تنوع""ه :الق ""درة على التحلي ""ل ،الح""واس
الذكي""ة ،طاق""ة التمي""يز ،تمث""ل األش""ياء ،إع""ادة ق""راءة املص""ادر ،التبص""ر ،املق""درة على ت""رتيب
1
فوضى الوقائع التاريخية. . .
ه ""ذا التقس ""يم ال يس ""تثني وج ""ود فالس ""فة آخ ""رين للت ""اريخ هم أق ""رب إلى روح املؤرخين منهم إلى
روح الفالس" ""فة ،تس" ""يطر عليهم مهم" ""ة اس" ""تيفاء ال" ""زمن َّ
املؤرخ ل" ""ه أك" ""ثر من أي ش يء آخ" ""ر ،ال
يهمهم التموقع داخل الكتابة التاريخية بقدر اهتمامهم باستيفاء روح املرحلة ،ليأتي ما نعتن""اه
هن ""ا بعملي ""ة الفهم في الت ""اريخ كنتيج ""ة حتمي ""ة ل ""ترتيب املادة التاريخي ""ة ولكي تنتج "وجه ""ة نظ ""ر
تاريخي""ة بش""كل تلق""ائي دون توجيهه""ا ع""دا من خالل الع""رض "املوض""وعي" لألح""داث والوق""ائع. . .
ع""رض كث""يرا م""ا ي""دعونا إلى مواجه""ة التب""اين الكب""ير في وجه""ات النظ""ر ص""وب الحقيق""ة التاريخي""ة
الواح""دة؛ وج""دير باالنتب""اه هن""ا أن نقاب""ل رؤي""ة بوركه""ارت التقديس""ية لعص""ر النهض""ة م""ع رؤي""ة
مون" ""تين في "رحلت" ""ه إلى إيطالي" ""ا" أين ع" ""اين أص" ""نافا من الفوض ى والش" ""تات والعج" ""ز عن إحالل
النظام والصرامة من مدين"ة إيطالي"ة إلى أخ"رى . . .2 .أو أن نقاب"ل رؤي"ة م"ؤرخ معجب ب"الثورة
الفرنس ""ية مث ""ل هيغ ""ل برؤي ""ة ح ""ذرة وقريب ""ة من االس ""تهجان تج ""اه م ""يراث ه ""ذه الث ""ورة كم ""ا هي
3
الحال لدى كارل ماركس؛ وخصوصا في كتابة "الثامن عشر برومير لنابليون"
1
Gottfried Boehm: La critique de l’historicisme par Jacob Burckhardt: genèse et
validité, Traducteur: Marianne Charrière, Revue Germanique Internationale. N: 2/1994.
P 76
2
Michel De Montaigne: Journal de voyage, Gallimard, paris,1983, pp214/215
3
G. W. F. Hegel: Introduction à la philosophie de l’histoire, Livre de poche, Paris.
2012, p61
يراجع كذلك:
Karl Marx: 18 Brumaire de Napoléon 3,Flammarion, paris, 2007
76
فلسفة التاريخ :دالالت مختلفة
يفتح فولت""ير فتح""ا جدي""دا بتس""اؤله عن ال""ذات الواص""فة للح""وادث التاريخي""ة؛" أين تراه""ا تق""ف؟
وم ""ا الخالص ""ة ال ""تي يمكن للس ""رد الت ""اريخي ان يحمله ""ا له ""ذه ال ""ذات ال ""تي تعم ""ل أعم ""اال معق ""دة
متع""ددة ج""رت الع""ادة أن نختزله""ا بتس""مية "الت""اريخ" . . .ويب""دو أنه""ا "حال""ة" تاريخي""ة جدي""دة هي
ال" ""تي فك" ""ر فيه" ""ا فولت" ""ير وه" ""و يلقي بمص" ""طلح "فلس" ""فة الت" ""اريخ" غ ""ير ملتفت إلى الطاق" ""ة الك" ""برى
ملقترح""ه املص""طلحي اله""ام ال""ذي س""ياخذ مكان""ة وأهمي""ة هم""ا قطع""ا أعلى مرتب""ة من مرتب""ة فولت""ير
الذي ال يحسب في املؤرخين رغم إصراره على التأليف التاريخي؛ تأليف ك""ان ي""راه مكمال لعمل""ه
التن ""ويري كفيلس ""وف يبحث عن موق ""ع يجم ""ع اإلنس ""ان الع ""ادي بالفيلس ""وف مثلم ""ا يجم ""ع عم ""ل
1
املؤرخ الراصد للحادثة والفيلسوف املؤول لها ولكن في الفضاء املدني العمومي املشترك.
لق""د درج الع""رف الت""اريخي على اس""تبعاد الحكم ال""ذاتي ،واس""تبعاد دائ""رة إلح""اق املع""اني اآلني""ة
عن دائ""رة اس""تعادة األح""داث القديم""ة ،من منطل""ق انن""ا إذ ن""ؤرخ نح""اول فهم الحادث""ة القديم""ة
كم""ا ح""دثت ،وهي وض""عية تنب""ه فولت""ير إلى ال ج""دواها مش""يرا إلى أن املع""ول علي""ه ه""و اس""تنباط
درس آني معاص ""ر لن ""ا ،درس يعنين ""ا نحن بالض ""رورة ،بم ""ا أن ""ه لن يتكمن من أن يع ""ني املعن ""يين
امليتين جميعا.
إن فولت""ير ال يض""حي تمام""ا بوجه""ة النظ""ر القديم""ة ،فعن""وان كتاب "ه" الت""اريخي اله""ام ح""ول ت""اريخ
فرنس ""ا ه ""و " "Essai sur les mœurs et l’esprit des nationsوه ""و عن ""وان ي ""دل على املواق ""ع
التاريخي" "ة" الهام ""ة بالنس ""بة إلي ""ه – وهي مواق ""ع كالس ""يكية ت ""دل على نظ ""رة الق ""دامى ص ""وب من
يص" ""نع الت" ""اريخ ومن ه" ""و ج" ""دير بالت" ""أثير في مس" ""ار األح" ""داث ،ولكن" ""ه عن" ""وان ي" ""دل ك" ""ذلك على
ال""درس املرغ""وب في استخالص""ه من الوق""ائع التاريخي "ة" حس""ب فولت""ير ال""ذي تحت""ل عن""ده مهم""ة
الفيلس ""وف املرتب ""ة الرئيس ""ة بالنس ""بة للم ""ؤرخ ال ""ذي يحرك ""ه ه ""اجس" فهم الح ""وادث أك ""ثر مم ""ا
يحركه هاجس تاثير الفهم في أبناء زمن املؤرخ.
يق"ول في ه"ذا الس"ياق واص"فا وض"عيته "التنويري""ة" بامتي"از بأن"ه ال يتص""ور نفس"ه إال على أس""اس
كون""ه "فيلس""وفا يكتب تاريخ""ا لق""ارئ ه""و أيض""ا فيلس""وف بش""كل م""ا" .2ه""ذا الق""ارئ ال""ذي ي""راه
فولت ""ير باحث ""ا عن حق ""ائق ذات منفع ""ة في وق ""ائع ماض" ""ية ج" ""رت الع ""ادة أال تعطي ""ه ش" ""يئا س ""وى
أك""اذيب بال منفع""ة ت""ذكر ،وه""ذا م""ا دفع""ه إلى التفرق""ة بين ت""اريخ فلس""في وت""اريخ خ""رافي .وق""د
ك ""ان ذل ""ك كل ""ه على ه ""امش تقالي ""د تاريخي ""ة تجع ""ل نق ""ل الخط ""اء ج ""زءا مقب ""وال في مطل ""ق األم ""ر،
ت"برره الزاوي""ة التاريخي""ة ال""تي هي زاوي""ة تجع"ل م""ا وص""لنا من م""ادة حقيقي""ا س""واء حم""ل الواقعي""ة
1
عبد هللا العروي :مفهوم التاريخ ،المركز الثقافي العربي ،ط ،3ج ،1ص.175
2
Voltaire: Essai sur les mœurs, Paris, Classiques Garnier, 1990, tome I, p. 3.
77
وقابلي""ة التص""ديق أم لم يحملهم""ا ،وفي ذل""ك يق""ول معارض""ا نزع""ة النق""ل التلق""ائي للوق""ائع وم""ا
يفترض ""ه من يقيني""ات ال س""ند له""ا س""وى وروده""ا في املت""ون اإلس ""رائيلية؛ مثلم ""ا هي قص ""ة نس ""بة
األقب"اط إلى مي"نيس حفي"د الن"بي ن"وح ،وه"و ام"ر يعارض"ه فولت"ير بس"بب اتخ"اذه إلحداثي"ة قب"ول
التاريخ العبراني كتاريخ" للبشرية جمعاء في حين يرى فولتير مثال بان تاريخ العبران"يين ه"و ت"ارخ
1
أمة واحدة إلى جوارها" أمم كثيرة.
والغ ""الب في ه ""ذا اإلط ""ار ه ""و س ""ير الفلس ""فة التاريخي ""ة في اتج ""اهين متق ""ابلين ومتك ""املين في آن:
االتج" " ""اه األول يش" " ""تغل على الج" " ""انب الكيفي واملنهجي املتس" " ""ائل عن "كيفي" " ""ة"" كتاب " " "ة" الت" " ""اريخ
ومنهجي""ة ك""ل م""ؤرخ في مقارب""ة مادت""ه ،واالتج""اه الث""اني يش""تغل على الج""انب ال""داللي أو الت""أويلي،
إذ يعكف على مناقشة مسائل محموالت النصوص التاريخية واملع""اني املمكن استخالص"ها منه"ا
دون املساس بجوهر الحوادث املوثقة.
ستس""يطر على الت"اريخ وعلى فلس""فة الت"اريخ تحدي""دا هت"ان" النظرت""ان :التفس"يرية والتأويلي""ة من
زاوي""ة النظ""ر الحديث""ة ال""تي ترس""م ح""دودا واض""حة ج""دا ولكنه""ا تحت""اج إلى املراجع""ة بين العل""وم
التطبيقي""ة وتل""ك اإلنس""انية؛ عل""وم تطبيقي""ة ص""لبة مخبري""ة تجريبي""ة تعم""ل على وص""ف الظ""واهر
وتفس""يرها حس""ب "ظاهره""ا" – بلف""ظ الفالس""فة وعلم""اء األص""ول الع""رب ،-والعل""وم اإلنس""انية
ال ""تي ت ""ؤمن ب ""أن الحقيق ""ة مخفي ""ة دوم ""ا خل ""ف طبق ""ات معق ""دة من املع ""اني الهامش ""ية املغيب ""ة او
الغائب ""ة بس ""بب الط ""ابع املخات ""ل للنش ""اط اإلنس""اني ال""ذي يخل""ق دائم ""ا وبالض ""رورة بع ""دا "باطني""ا""
لألح" ""داث .وتك" ""ون النتيج" ""ة هي أن مع" ""نى األح" ""داث املقص" ""ود من قب" ""ل أه" ""ل ال" ""زمن املؤرخ ل" ""ه
ينتهي دائم " ""ا "بتج " ""اوز ال " ""زمن ال " ""ذي حلت في " ""ه األح " ""داث لكي ي " ""ذوب في مع " ""نى يستش " ""كل على
املعاصرين ويتماهى مع معنى كلي وغير زمني للتاريخ"" ،2وهذه مالحظة ستتحول إلى واح""دة من
كالسيكيات التأمل في املعنى التاريخي.
يحيلن""ا كالم ج""ان ب""ول س""ارتر على موض""وع كتاب""ه املذكور "نق""د العق""ل الج""دلي"" ال""ذي ه""و نق""د
عجيب للماركس ""ية ،يح ""اول إيج ""اد ن ""واقض له ""ا فينتهي إلى تث ""بيت ك ""ل إبس ""تيماتها "،معلن ""ا بك ""ل
ص""راحة "إن املاركس""ية هي الت""اريخ فيم""ا ه""و يعي نفس""ه" ،3وه""ذه املالحظ""ة تض""عنا على ح""واف
مس""الة ش""ديدة األهمي"ة" دار حوله""ا ج""دا كب""ير :ه""ل يمكن لف""ترة م""ا أن تخ""رج من تاريخه""ا ال""ذي
يبدو انه يدركها كحتمي"ة لكي تقف"ز إلى مرحل"ة جدي"دة يمكنن"ا أن نجته"د فنس"ميها "تاريخ"ا فائق"ا"
hyperhistoire؟
78
إن نظ""رة تمحيص""ية ص""وب تأوي""ل املع""نى الت""اريخي تجع""ل هيغ""ل ق""د اس""تخرج تيم""ة مس""يرة له""ذا
الت""اريخ ،تيم""ة عام""ة تتع""الى على أه""ل ال""زمن املعطى وعلى مختل""ف األجي""ال ال""تي يش""ملها الت""اريخ
ولكنه""ا تظه""ر لفيلس""وف الت""اريخ ال""ذي يمل""ك ثالث عي""ون إن ج""ازت لن""ا الص""ورة البالغي""ة؛ عين
أفقي""ة على األح""داث ،وأخ""رى عمودي""ة على التفس""يرات املباش""رة ،ثم عين فض""ائية أو متعالي""ة
– هي العين الفولتيري " " ""ة – تبحث في م " " ""ا وراء األح " " ""داث وتفس " " ""يراتها ال " " ""تي تفرض " " ""ها النق " " ""ول
واملناقشات املعهودة حول النقول ،وهي كلها تتحول إلى وثائق تاريخية ،أو إلى م"يراث ت""اريخي،
ال تختل ""ف في ذل ""ك عن مادته ""ا الرئيس ""ية ال ""تي هي األح ""داث والوق ""ائع .ه ""ذه العين الثالث ""ة ال ""تي
ح""ددها" هيغ""ل بش""كل مطل""ق ق""ائال" :إن الت""اريخ الع""المي ال يع""دو كون""ه تط""ورا في النظ""ر ص""وب
1
مسالة الحرية"
في فلس""فة هيغ""ل ال تنفص""ل ال""ذات عن موض""وع الت""اريخ أب""دا ،فق""د ف""رق في بداي""ة محاض""راته
1821بين م" ""وقعين منهج" ""يين هم " ""ا في النهاي " ""ة موقع" ""ان عض " ""ويان وف " ""اعالن للم " ""ؤرخ؛ أح " ""دهما
املؤرخ املح ""ايث للواقع ""ة والث ""اني م ""ؤرخ الح ""ق يتقص ى ش ""يئا آخ ""ر ع ""دا ت ""رتيب األح ""داث وفهم
بواعثه ""ا وبواطنه ""ا ومآالته ""ا؛ واح ""د يبحث عن تأص ""يل الت ""اريخ والث ""اني يبحث عن تأص ""يل نظري ""ة
أص" ""يلة للت" ""اريخ "،فنحن إذا تجاوزن" ""ا الفئ" ""ة األولى ألولئ" ""ك «ال" ""ذين تمح" ""ور عملهم أساس" ""ا على
وص " ""ف األعم " ""ال واألح " ""داث ،ووص " ""ف ح " ""ال املجتم " ""ع كم " ""ا وج " ""دوه وهم يعاينون " ""ه ،وال " ""ذين
يص""بحون ب""ذلك ج""زءا من روح ه""ذه الف""ترة بحكم مش""اركتهم في رس""م ص""ورة أمين""ة ملا ح""دث في
العالم من حولهم ،سمحت بنقل الفترة برمتها الى ميدان التمثل العقلي» .2
إذا نحن تجاوزن" " ""ا ه" " ""ذه الفئ" " ""ة قابلتن" " ""ا الفئ" " ""ة الثاني" " ""ة اين نالقي جماعة الت" " ""اريخ النظ" " ""ري أو
البراغم" ""اتي أو "العلمي" – حس" ""ب مص" ""طلح هيغ" ""ل نفس" ""ه " :-و «الت" ""اريخ البراغم" ""اتي يب" ""دأ من
رغبتن ""ا في دارس ""ة مرحل ""ة ماض ""ية ،وان نغ ""رق بتأمالتن ""ا في ع ""الم غ ""ريب عن ""ا ،وع ""دتنا في ذل ""ك
الت""أمالت النظري""ة ال""تي تنتهي إلى بعث ه""ذا املاضي وملئ""ه بالحي""اة ،هن""ا يعتم""د العم""ل كل""ه على
روح املؤرخ ،ألن املع" ""ول علي" ""ه ه" ""و اس" ""تنباط" القيم األخالقي" "ة" من الت" ""اريخ ،وه" ""و عم" ""ل يم" ""ر
أحيان" ""ا بالتعس" ""ف في ت" ""رتيب وتأوي" ""ل الت" ""اريخ ،من منطل" ""ق أن املؤرخ يص" ""بغ روح عص" ""ره على
3
املاضي الذي يستعيده بال تردد كبير»
يتعالى الفكر البشري في مرحلة الحقة لتشكيل معنى خاص" به :نوع مما يمكن وسمه بالت""أريخ
للحاض""ر ،أك""ثر من كون ""ه استحض ""ارا للت""اريخ "،ف ""الفكر البش""ري او ال ""روح املعاص""رة املتج ""ددة
جيال فجي""ل تس""كن الت""اريخ بش""كلها املتم""يز الخ""اص؛ وفلس""فة الت""اريخ كمفه""وم يتوس""ط املس""افة"
1
Hegel: Introduction à la philosophie de l’histoire, p61
2
Ibid, p 35
3
Ibid, p78
79
بين الت " ""أريخ والتفلس " ""ف ته " ""دف إلى إحالل العق " ""ل في الت " ""اريخ .اله " ""دف األس " ""مى إذن ه " ""و فهم
الت ""اريخ بواس ""طة الفك""ر ،وإض ""افة البش""ر الج""ديرة ب ""التوقف هي إض ""افة الفك ""ر أو العق""ل أو
روح اإلنس""ان .يق""ول هيغ""ل في ذل""ك إن «ت""اريخ الع""الم طري""ق يناض""ل في""ه الفك""ر لكي يبل""غ وعي""ا
معين ""ا بذات ""ه ،أي لكي يك ""ون ح ""را ،فه ""و في نهاي ""ة األم ""ر ن ""وع من تط ""ور عملي ""ة ال ""وعي بالحري ""ة،
وك""ل خط""وة يق ""وم به""ا ليس""ت ش ""يئا ع ""دا ك ""ون اإلنس""ان يخط ""و خط""وة إض ""افية في مس""يرة تمث ""ل
الحرية».1
في ضوء هذا الكالم يصبح يسيرا تماما فهم العنوان الفرعي لكتاب هيغل ح""ول فلس"فة الت""اريخ
الذي هو " الحرية في التاريخ"".
لق""د غ""رق هيغ""ل في توص""يفات ك""ان الب""د منه""ا بالنس""بة ملتحمس ح""ديث عه""د ب""الثورة الفرنس""ية
بك ""ل م ""ا له ""ا من رمزي ""ة تاريخي ""ة عالي ""ة ،وال نس ""تبعد كون ""ه اخت ""ار ب ""اراديغم الحري ""ة كمح ""رك
للدفق ""ة التاريخي""ة وكدف "ة" تق""ود أص""ال عملي""ة التفك""ير ال ""تي يبل ""غ ب""ه األم""ر ح""د اعتباره "ا" عملي ""ة
2
تحرر لإلنسان من القيم غير اإلنسانية
وينتهي ج" ""وهر فك" ""رة هيغ" ""ل إلى منظ" ""ور يرب" ""ط التحقي" ""ق الت" ""اريخي الج" ""دير بالت" ""أريخ" ل" ""ه بفع" ""ل
التفك""ير ،وه""و م""ا يفس""ر مقولت""ه ذائع""ة الص""يت" :املعق""ول واقعي وال""واقعي معق""ول" .3ه""ذه
الخلفي" " ""ة ال" " ""تي تختص" " ""ر املحرك" " ""ات التاريخي" " ""ة ،واإلرادة الفائق" " ""ة – بلف" " ""ظ ش" " ""وبنهاور ال" " ""ذي
سيس ""ترجعه نيتش ""ه -والفوض ى الوقائعي ""ة – بلف ""ظ بوركه ""ارت "-في عملي ""ة تحقي ""ق ف ""رادة حي ""ة
وحيوية مصدرها العقل ،وهذا ه"و ج"وهر الص"فة اللص"يقة بهيغ"ل وال"تي سيش"ن عليه"ا م"اركس
حربا ضروسا.
وإذا جعلن ""ا ه ""ذه النظ ""رة التمحيص ""ية املذكورة أعاله ترك ""ز على الت ""اريخ املاركس ي ال ""ذي هيمن
على تفكير س"ارتر ثم من بع"ده على تفك"ير أهم الع"املين على فلس"فة املع"نى الت"اريخي على امت"داد
الق""رن العش""رين ،فإنن""ا س""نجد ان أهم م""ا يس""توقفنا في املنظ""ار املاركسي املرتك""ز على الجدلي""ة
املادي""ة املناقض""ة واملص""ححة للجدلي""ة املثالي""ة ل""دى هيغ""ل ،ه""و م""ا ج""اء في تفس""ير م""اركس نفس""ه
ملنهجيت""ه الفلس""فية؛ إذ يق""ول" :إن طريق""تي الديالكتيكي""ة ليس""ت فق""ط متباين""ة م""ع ال""ديالكتيك
الهيغلي ،ب " ""ل هي النقيض الت " ""ام واملباش " ""ر ل " ""ه .فهيغ " ""ل يجع " ""ل عملي " ""ة التفك " ""ير -وهي مفه " ""وم
"الفك ""رة" عن ""ده -ذات ""ا مس ""تقلة بنفس ""ها ،ويجعله ""ا الق ""وة الخالق ""ة للع ""الم الفعلي واملس ""يرة ل ""ه،
ُ
ويبلغ هيغل حد تمثل العالم الفعلي بمثابة صورة خارجية" مس""تقلة عن ك"ل ذات تتجلى الفك""رة
1
Ibid; p 51
2
Ibid; p52
3
هيغل :موسوعة العلوم الفلسفية ،ترجمة :إمام عبد الفتاح إمام ،دار التنوير ،ط ،2مج/1ص55
80
عبره" ""ا .أم" ""ا بالنس" ""بة إلي ،فأن" ""ا أرى املث" ""ال ه" ""و نفس" ""ه الع" ""الم املادي ال" ""ذي يلتقط" ""ه ال" ""دماغ
1
اإلنساني حسيا ويعكس صورته املادية الحقيقية ويترجمها إلى أشكال ذاتية هي مادة الفكر.
في الرؤي ""ة املاركس ""ية ال تص ""نع األفك ""ار" واقع ""ا ،وال يخل ""ق ال ""وعي كفع ""ل وج ""ودي س ""ابق عمال أو
نش""اطا بش""ريا من ش""انه ان ينتظم لتمثي""ل "ت""اريخ" م""ا ،ب""ل العكس ه""و م""ا يح""دث في الجماع""ات
البش " ""رية يعطين " ""ا بواس " ""طة االستقص " ""اء ص " ""ورة لت " ""اريخ تتحكم في " ""ه كلي " ""ة مقول " ""ة "الص " ""راع
الطبقي" ،ص ""راع طبق ""ة العم ""ال البس ""طاء أو "البروليتاري ""ا"" والطبق ""ة البورجوازي ""ة املتحكم ""ة في
العم""ل وفي العم""ال نتيج""ة ل""ذلك .ف""األولى" «طبق""ة تعت""اش كلي""ا ً من بي""ع عمله""ا وال تج""ني األرب""اح
من أي ن""وع ٍ من أن""واع رأس املال وتتوق""ف حياته""ا أو موته""ا ،ال ب""ل وجوده""ا بأس""ره ،على طلب
عملها وترتهن بالتالي بتعاقب األزمات مع فترات االزدهار الصناعي» .2
العالق" ""ة بين ق" ""وى اإلنت" ""اج وال" ""وعي االجتم" ""اعي قوي" ""ة ص" ""لبة تتحكم في ت" ""رتيب ش" ""كل ( ومن ثم
ج" ""وهر) املجتم" ""ع وأفعال" ""ه ،وتتحكم نتيج" ""ة ل" ""ذلك في الت" ""اريخ ،فوض" ""ع اإلنس" ""ان يح" ""دد نهائي" ""ا
طريقت" ""ه في التفاع" ""ل م" ""ع الع" ""الم ،ويح" ""دد حزم" ""ة األحك" ""ام ال" ""تي ي" ""تزود به" ""ا ،وتح" ""دد عالق" ""اتهم
بالطبيع""ة وباالنس""ان ،وح""تى بالس""ماء أو "املعب""ود" ال""ذي يعبدون""ه ،ويمكنن""ا دائم""ا تقفي الص""لة
اإللزامي""ة بين املكون""ات املادي""ة لع""الم اإلنس""ان ،من وس""ائل عم""ل وإنت""اج ،ومن آالت ومع""دات
وأدوات؛ وه ""و م ""ا يس ""ميه م ""اركس بالبني ""ة التحتي ""ة .وبين األفك ""ار" ال""تي يتبنونه ""ا أو ينتجونه ""ا أو
يتص ""ورونها ثم يحققونه" ""ا كمؤسس ""ات؛ وه" ""و م" ""ا ينعت" ""ه م ""اركس م ""رة أخ" ""رى بالبني ""ة الفوقي ""ة"،
وبتعب" ""ير آخ" ""ر «ليس وعي األف" ""راد م" ""ا يح" ""دد كي" ""انهم االجتم" ""اعي ،ب" ""ل على العكس تمام" ""ا ً :إن
3
كيانهم اإلجتماعي يحدد وعيهم»
إن م ""اركس بهذاالتص ""ور يخ ""تزل مس ""افة درج الق ""دامى – وح ""تى املح ""دثون -على ع ""دها مس ""افة
التأم ""ل ،مس ""افة "ميتافيزيقي ""ة" – ب ""املعنى مابع ""د الح ""داثي للكلم ""ة؛ أي املع ""نى ال ""ذي يحي ""ل على
اليقيني ""ات املس ""توردة دون مراجع ""ة ودون قابلي ""ة للمراجع ""ة -تح ""وي املع ""نى املتع ""الي للح ""وادث،
وتخفي "الحكمة" الخالدة املتعالية ال"تي تعطي مع"نى ملا ح"دث مم"ا يب"دو دائم"ا مفرغ"ا من املع"نى،
تماما كم"ا ك"ان شكس"بير يتمثل"ه" :الحي"اة حكاي"ة يرويه"ا علين"ا معت"وه ،مليئ"ة بالغض"ب والعن"ف،
وال تفضي على أي شيء" ( ماساة مكبث -فصل ،5املشهد .)5
ال توجد إذن في التفسير املاركسي الذي سيش"يد ب"ه س"ارتر من حيث ي"دري ومن حيث ال ي"دري
أي مع ""نى خال ""د أو طاق ""ة حي ""ة عاقل ""ة تس ""يطر على املس ""ار الس ""اعي ص ""وب غاي ""ة نعلمه ""ا ونجه ""ل
مساراتها وكيفياتها ،شيء كالحكمة الخالدة التي يمكن وص"فها بأنه"ا "فلس"فة الت"اريخ" ،فك"ل م"ا
1
Karl Marx: le capital, lachatre, paris, nouv. Ed; tome1, p349
: 2كارل ماركس وفريدريك إنجلز :البيان الشيوعي ،ترجمة :محمود شريح ،منشورات الجمل ،ط ،2000ص9
3م .نفسه ،ص25
81
هنالك سيرورات طبيعية تخضع لقانون مادي ترابي داخلي امليكانيزم""ات ،والجدلي""ة املوص"وفة
من قب""ل م""اركس مادي""ة محسوس""ة قابل""ة للمعاينة ،مس""تقلة العم""ل والتحكم ،وغ""ير قابل""ة ألي
ش ""كل من أش ""كال التع ""الي ".ميك ""انيزم ت ""ام مس ""تقل وعام " ٌ"ل أب " ً"دا ،لم يحتج إلى ت ""دخل "إلهي" وال
يحتاجه ولن يفعل ،ال اليوم وال غدا.
إن ال " ""راجح عن " ""د املعلقين ه " ""و أن ه " ""ذه الحيل " ""ة التص " ""حيحية للمعطى الهيغلي الج " ""دلي ال " ""ذي ج " ""اء
مص ""ححا للمس ""عى الك ""انطي املث ""الي ال ""ذي ك ""ان ي ""رى في ه ""ذه املثالي ""ة ق ""راءة خاص "ة" للع ""الم ولتفس ""ير
الت""اريخ ،إذ " تبقى املثالي""ة متس""امية على الجدلي""ة ،ولكنه""ا ال تري""د أن تك""ون جدلي""ة في ح""د ذاته""ا،
1
إنها تزرع الجدل في ارواحنا فحسب"
وهي رؤي""ة يرفض""ها هيغ""ل ألن""ه ال ي""ومن بق""وة كامن""ة في األش""ياء ،ب""ل يجع""ل الفك""ر متعالي""ا عليه""ا
فحسب ،فالفكر جزء من سيرورة األشياء يستقل عنها بقوته التأملية speculativeفحس""ب ،2
والغ" ""الب ه" ""و ك" ""ون الجدلي" ""ة املادي" ""ة محاول" ""ة لتفس" ""ير الت" ""اريخ تفس" ""يرا علمي" ""ا ،تأس" ""يا ب" ""املنهج
التجري ""بي ال ""ذي س ""يطر في تل ""ك املرحل ""ة بال ""ذات (النص ""ف الث ""اني من الق ""رن التاس ""ع عش ""ر) على
مختلف التخصصات العلمية؛ وخصوصا البيولوجيا والفيزياء.
الجدلي " ""ة التاريخي " "ة" حس " ""ب وعي م " ""اركس وإنغل " ""ز تش " ""تغل على مح " ""ورين :األول ه " ""و تش " ""كيل
املفه ""وم؛ أي العم ""ل على املس ""توى اإلبس ""تمولوجي ال ""ذي يف ""ترض من ""ه جعلن ""ا نش ""عر بغربتن ""ا في
الع""الم املوروث عن املاض""ين ،ع""الم ال يعنين""ا ألن""ه يحم""ل تناقض""ات األزمن""ة الخالي""ة ،مس""ارات
فكري""ة وظ""روف تاريخي""ة ربم""ا يك""ون أجم""ل م""ا في إمكانه""ا خلق""ه من ش""رط نظ""ري ه""و م""ا أتى ب""ه
هيغ ""ل ،وه ""و أف ""ق إبس ""تمولوجي اش ""تغل م ""اركس بهم ""ة عالي ""ة على كس ""ره واص ""فا إي ""اه ب ""الهرم
املقل"وب ال"ذي تتلخص مهمت"ه ه"و ورفي"ق رحلت"ه" املعرفي"ة فري"دريش إنغل"ز في إعادت"ه إلى وض"عه
املنطقي الصحيح على قواعده الصحيحة.
نتيجة لكل ما مر بنا سنفهم بيس"ر م"ا يش"هده الق"رن العش"رون من تج"اذب غ"ريب بين اث"نين من
العناص ""ر ال ""تي تنتهي ب ""ان تك ""ون غ ""ير تاريخي ""ة ":املادي ""ة واملثالي ""ة؛ ه ""ذين املفه ""ومين غ ""ير املؤهلين
للحكم على الت""اريخ بش""كل دقي""ق ونه""ائي كحرك "ة" ذاتي""ة للتك""وين ال""ذاتي لس""بب بس""يط ه""و ع""دم
ح ""دوث الفص ""ل النه ""ائي في أمرهم ""ا ،وتعرض ""هما للج ""دل باس ""تمرار ،وه ""و م ""ا يمن ""ع عنهم ""ا نهائي ""ا
1
روجي غارودي :الماركسية ،تر :محمد األمين بحري ،دار الحكمة ،الجزائر ،2009 ،ص126
2
Marx: le capital; tome1, p225
82
ص ""فة العلمي ""ة ،ول ""و ب ""املعنى الكالس ""يكي لكلم ""ة "علم" .والحاص ""ل ه ""و أن الج ""دل الق ""ائم ي ""دور
حول جعل املثالية مستقلة عن كل ملمح مادي ،والتمكين للعكس أيضا بطبيعة الحال.
ه""ذه اإلش""كالية وم""ا يعتوره"ا" من غم""وض هي مفت""اح رفض فلس""فة الت""اريخ بالش""كل الق""ديم ،في
الق""رن العش""رين ،والعم""ل ال""دؤوب على تجاوزه "ا" تمام""ا ،أو ربم""ا التعام""ل معه""ا – عكس""ما ق""د
رأين" ""ا س" ""ابقا -على أس" ""اس كونه" ""ا إش" ""كالية ت" ""دخل ض" ""من الظ" ""رف الت" ""اريخي وال تش" ""رحه بش" ""كل
1
متعال
ه"ذا ال"رفض املالح"ظ ل"دى الجي"ل الجدي"د من املفك"رين ال"ذين ج"رت الع"ادة على ع"دهم منتمين
إلى ال ""زمن مابع ""د الح ""داثي ليس رفض ""ا ص ""ميميا لفلس ""فة الت ""اريخ كم ""ا رأيناه ""ا أعاله ،ب ""ل ه ""و
رفض متمح""ور ح""ول م""ا يمكن وص""فه ب""زواج املص""لحة بين الت""اريخ واملادي""ة من جه""ة ،وبين ك""ل
من املثالي""ة والرؤي""ة االنعكاس""ية للمع""نى الت""اريخي من الجه""ة األخ""رى .إن االختي""ار" التلق""ائي بين
وجهة النظر الدياليكتيكية وتلك الظواهرية لم يعد مطروحا اصال ،من منطلق أن كل اختيار
ينتهي ب""أن يك""ون مبني""ا على مع""اداة ومناقض""ة االختي""ار" املقاب""ل ،وه""و األم""ر ال""ذي يجعلن""ا نج""انب
الصواب مرارا.
لزمن مديد تمحورت املناقشات كلها حول ضرورة االختيار بين مقوالت الصراع الطبقي أو
2
مثالية الوساطة الذاتية للمعرفة االجتماعية".
وبالت" ""الي فق" ""د عم" ""ل الجي" ""ل الجدي" ""د على تخطي عقب" ""ة األص" ""ل املش" ""ترك لفلس" ""فة الت" ""اريخ لكي
يتمكن""وا من تخطي عقب""ة ه""ذا الثن""ائي الغ""ريب ال""ذي انتهى بن""ا إلى االعتق""اد ب""أن مس""ائل ظه""رت
في مرحلة ما من سيرورة الحياة على األرض ،ومن مسارات التطور البش""ري( لكي ال نق""ول من
التاريخ) هي مس"ائل قديم"ة ال يمكن ط"رح املادة ال"تي عملت عليه"ا ه"ذه املس"ائل أو ال"تي ظه"رت في
كنفه ""ا من دون التع ""رض لزاوي ""ة النظ ""ر املحت ""واة في ه ""ذه املس ""ائل ،وذل ""ك بالتحدي ""د م ""ا تفعل ""ه
الثنائية املتسلطة على البحث (مادية/مثالية).
من الغريب أن نالحظ أن هذه الثنائية/األداة املعرفية تقف عند أقدم م"ا يمكنن"ا تص"وره من
املس""ائل الفلس""فية ،وتض""بط بالت""الي رؤي""ة معين""ة للت""اريخ ال محيص عنه""ا ألي ب""احث يري""د بحث
املسائل املتعلقة بنشأة البحث الفلسفي ،وهي مغب"ة منهجي"ة ح"ذر منه"ا ايمانوي"ل كان"ط ب"اكرا في
نصوصه الشهيرة وهو يقول ما مجمله بان الفلسفة ليست املس"ائل املدروس"ة ض"من الفلس"فة
(وال ضمن التاريخ) ،والتي تحدد الحق ،بل هي الطريق التي يش""كلها الحق""ل الفلس""في ويتخ""ذها
1
John Dewey: reconstruction in philosophy, Henry Holt and company, New York. 1920,
p101
2
Vincent Citot: Matérialisme et idéalisme en histoire: à propos du Secret de
l’Occident de D. Cosandey, in le Philosophoire, n30-2008- paris, p158-159
83
طريق""ة ت""دل علي""ه ويحي""ل عليه""ا بالض""رورة ،وال""تي هي – في املقارب""ة الكانطي""ة للفلس""فة -البني""ة
التبريرية الشارحة ،التي من خاللها ت"برر الفلس"فة عقالني"ا ومنطقي"ا مقارباته"ا" ملوض"وعاتها ،ثم
تعكف على نفسها مبررة وشارحة طريقتها في العمل بالشكل العقالني املنطقي نفسه.
ليس" ""ت بعي" ""دة عن ك" ""ل ه" ""ذا املقارب" ""ة املث" ""يرة للتأم" ""ل ال" ""تي ي" ""أتي به" ""ا "ج" ""ون دي" ""وي" محيال على ال
ج""دوى البحث في أص""ول فلس""فية ت""برر البت في ه""ذه املس""ألة في فلس""فة الت""اريخ؛ التقاب""ل الق""ديم
بين التفس" ""ير املث" ""الي والتفس" ""ير املادي للت" ""اريخ ،ب" ""ل وح" ""تى محاول" ""ة الس" ""يطرة على النق" ""اش بين
املادي""ة واملثالي""ة .له""ذا فإنن""ا ال نس""تغرب أن تأتين""ا ه""ذه املحاول""ة أول م""رة من أميرك""ا (الوالي""ات
املتح " ""دة) بوص " ""فها أرض " ""ا غ " ""ير معني " ""ة ب " ""امليراث الثقي " ""ل للنق " ""اش الفلس " ""في كم " ""ا ورث " ""ه الق " ""رن
العش ""رون ،إن ج ""ل م ""ا فعل ""ه ج ""ون دي ""وي في ه ""ذا الحق ""ل وفي ه ""ذا املوض ""وع ه ""و االس ""تعانة
باملنظ ""ار البراغم ""اتي للخ ""روج من ه ""ذه املعارض ""ة ".وهي خط ""وة س ""تمهد عم ""ل فالس ""فة م ""ا بع ""د
الحداث" " ""ة بش" " ""كل كب" " ""ير رغم ارتب" " ""اط أهمهم ب" " ""امليراث اليس" " ""اري :مدرس" " ""ة ب" " ""اريس ومدرس" " ""ة
فرانكف ""وت أساس ""ا .رغم أن وجه ""ة النظ ""ر اليس ""ارية لتفس ""ير الفلس ""فة م ""رة والت ""اريخ م ""رارا،
ستعرف انبعاث"ات كث"يرة مفس"رة الت"اريخ مادي"ا ،بأش"كال جدي"دة ومتج"ددة .وه"و م"ا س"نراه م"ع
م""ؤلفين مث""ل لوس""يان غول""دمان و ل""وي آلتوس""ير وش""انتال م""وف إرنس""تو الكل""و وأوليفيي""ه بل""وخ
وباسكال شاربونا ومارسيا بونج ،واالتجاه النشط ج""دا في الض""احية االنغلوسكس""ونية املس"مى
باليسار الجديد .the new left
وفي حين يبتغي كث" ""يرون إقام" ""ة الص" ""راع الطبقي كم" ""واطن أص" ""لي للفلس" ""فة ،واس" ""تبعاد الرؤي" ""ة
املثالي""ة ال""تي زع""زع بنيانه""ا الق""رن العش""رون بإص""رار كث""ير من أعالم""ه على رفض الحتمي""ة كم""آل
للت""اريخ . . ".،يق""ف خل""ف ك""ل ه""ذا الج""دل الط""ابع ال""ذي عك""ف علي""ه الفيلس""وف األملاني فيلهلم
ديلط""اي من خالل بدئ""ه في عرض""ه الش""يق لفلس""فة الت""اريخ ال""تي ش""غلت الج""زء األهم من عمل""ه
بين علوم الطبيعة وعلوم العقل ،أي نمط من املعارف مادته خارج" اإلنسان يش""تغل عليه""ا من
1
خالل إخضاعها للعقل ونمط آخر يكون العقل نفسه هو مادتها
ورغم دق""ة ه""ذا التقس""يم ال""ذي لفت انتباهن""ا ألول م""رة إلى موق""ع فيلس""وف الت""اريخ من الت""اريخ،
إال أن مغب""ة منهجي""ة اخ""رى تبقى مطروح""ة؛ أو ربم""ا تنش""أ من وجه""ة نظ""ر ديلط""اي ه""ذه ،مغب""ة
س""ببها الط""ابع املخات""ل للم""ادة التاريخي""ة إذ أن كث""يرا من ه""ذه الوث""ائق مزال""ق ال حق""ائق إذا ج""از
لن ""ا أن نس ""ترجع روح تعب ""ير فوك ""و الش ""هير ،le document est monumentفالوث ""ائق واآلث ""ار
تتالعب بالحقيق ""ة التاريخي ""ة مانح ""ة إيان ""ا الص ""يغة ال ""تي تك ""ون الف ""ترة ق ""د ارتض ""تها لنفس ""ها وال
تمنحن " ""ا الص " ""يغة ال " ""تي علين " ""ا أن نس " ""تعيدها" إذا ارتأين " ""ا تق " ""ريب عم " ""ل املؤرخ من عم " ""ل ع " ""الم
1
Wilhelm Dilthey; La vie historique, trad: Christian Berner et Jean-Claude Gens.
Septentrion, Paris, 2014, p15
84
الطبيعي " " ""ات حس " " ""ب تقس " " ""يم ديلط " " ""اي .ول " " ""و أنن " " ""ا س " " ""نجد س " " ""ندا للبحث الت " " ""اريخي في ه " " ""ذه
الوث ""ائق/املزال ""ق لكي نحوله ""ا من خالل خطابن ""ا الت ""اريخي املوض ""وعي املعم ""ق إلى وث ""ائق/حق ""ائق،
وه ""ذه الطاق ""ة التدليلي ""ة إيجابي ""ا أو س ""لبيا هي أح ""د املبررات الك ""برى لض ""رورة اإليم ""ان بنجاع ""ة
.1
عمل املؤرخ
1
Jacques Le Goff: histoire et mémoire, Gallimard, Paris. p303
85
تتح""رج فلس""فة الت""اريخ كث ""يرا من املع""اني ال ""تي من ش ""أنها أن تنبعث من س ""رد األح""داث؛ س ""واء
أك""ان س""ردا يتح""رى املوض""وعية ويح""د من حض""ور املؤرخ أو املعل""ق كم""ا هي ح""ال أش""خاص من
قبي""ل الط""بري أو ابن األث""ير أو ابن كث""ير ،أو ك""ان س""ردا من تل""ك ال""تي نج""د فيه""ا ه""اجس التعلي""ق
حاضرا بشدة كما هي حال البيروني في "اآلثار الباقية"" أو ابن خلدون في تاريخه.
املشكلة التي تطرح هنا هي طبيعة فعل "الفهم" compréhensionفي التاريخ .ويلخص املس""ألة
اح"د املش"تغلين األف""ذاذ في ه"ذا الحق"ل؛ املؤرخ الفرنسي ب""ول فين ،Paul Veyneواملس"الة عن"ده
جوهره""ا أن""ه ألج""ل بل""وغ مع""نى "فلس""في" للت""اريخ علين""ا أن "نخ""وض حرب""ا شرس""ة ض""د املنظ""ور
ال" ""ذي تعم" ""ل على فرض" ""ه املص" ""ادر" ،1من منطل" ""ق أن املعض" ""لة الرئيس" ""ة لفهم الت" ""اريخ معض" ""لة
ثنائية؛ من جهة بسبب كون التاريخ يبلغنا بشكل مشوه وجزئي ،ومن الجه"ة الثاني"ة أن"ه يبلغن""ا
2
مشبعا بوجهة نظر املصادر؛ أشخاصا ووثائق.
ه""ذه املس""ألة هي ال""تي س""يدور ح""ول جوهره""ا أو ح""ول خلفيته""ا االبس""تيمولوجية" الح""ديث ح""ول
التاريخانية "،والذي سيبلغ مقوالت التاريخانية" الجديدة املتينة".
ك""ان هيغ""ل ق""د واج""ه على ه""امش دروس""ه األولى ح""ول فلس""فة الت""اريخ 1822/1823ثم ال""دروس
الثاني ""ة 1830/1831معض ""لة تحدي ""د م ""ادة الت ""اريخ وطريق ""ة العم ""ل عليه ""ا وزاوي ""ة العم ""ل ه ""ذه؛
وك"ان أن"ه ق"ام باختي"ار غ"ير موف""ق تمام""ا حينم""ا رس""م خطاط"ة" تس""مح ل""ه ب""التفكير الفلس""في ال"ذي
يتج ""اوز التفك ""ير ال ""ذي درج علي ""ه قب ""ل تل ""ك املرحل ""ة؛ أي التفك ""ير الت ""اريخي ال ""ذي ه ""و اس ""تعادة
كرونولوجي""ة تقابلي""ة وحواري""ة (ه""ل نق""ول جدلي""ة؟) للتفك""ير السياسي في الت""اريخ ،واملقص""ود
باختي""اره ه""و تحدي""د دائ""رة بحث""ه في األمم ال""تي له""ا ت""اريخ ،أي تل""ك ال""تي ش""كلت دوال س""ارت عن
قصد صوب تشكيل معنى معين للحرية وشعرت بضرورة تدوين قصتها مع مساراتها تلك ،أي
تلك األمم التي أرخت لنفس"ها فك"انت أمم"ا "تاريخي"ة" تقابله"ا حس"ب مص"طلحه نفس"ه األمم ال"تي
ظلت "خارج التاريخ"؛" أمم يصفها بأنها ليس لها تاريخ موضوعي ألنها لم تطمح في امتالك ت""اريخ
.3
ذاتي ،وألنها لم تشكل لنفسها سردا تاريخيا
من املث""ير أن ن""رى الفك""رة التنويري""ة لهيغ""ل ال""ذي ي""رى من خالله""ا ب""أن هنال""ك أمم""ا تتح""رك لكي
تأهل التاريخ وأن أمما أخرى تظل خاملة؛ وق"د ص"نع لفكرت"ه ح"ول فلس"فة الت"اريخ "موتيف"ا" أو
"ترس""يمة"" مرجعي""ة ،أو محرك""ا يتمث""ل في تط""وير مفه""وم الحري""ة أو ممارس""ته ،4من املفي""د أن
ن""رى كي""ف أن ه""ذه الفك""رة س""تتحول على أي""دي أعالم التاريخاني""ة الجدي""دة إلى عكس""ها تمام""ا؛
1
Paul Veyne: comment on écrit l’histoire,Seuil, paris, 1971, p151
2
Ibid, p152
3
Hegel: Introduction à la philosophie de l’histoire,p12
4
Ibid, p60
86
وإن كن ""ا ال نس ""تبعد ذل ""ك من منطل ""ق أن حرك ""ة التاريخاني "ة" الجدي ""دة ج ""اءت في الفض ""اء مابع ""د
الح""داثي ال""ذي ه""و فض""اء ش""غله في كث""ير من جوانب""ه نق""د املش""روع الح""داثي ال""ذي درج املعلق""ون
على إدراج هيغ ""ل ض ""منه .نق ""د بج ""د مخ ""ارج" كث ""يرة ل ""ه في الفك ""رة الجدي ""دة ال ""تي تجع ""ل للت ""اريخ
ج ""وهرين ،أح ""دهما واص ""ف يع""نى ب ""الثوابت الوقائعي "ة" والث ""اني م ""ؤول متمح ""ور ح ""ول املتغ ""يرات
1
املنوطة بغنسان الزمن املتحرك.
ترتب""ط فلس""فة الت""اريخ في الف""ترة مابع""د الحداثي""ة بتوص""يف اس""ترجاعي يب""دأ مدرس""يا وينتهي إلى
املخالف ""ة الش ""ديدة لتع ""اليم املدرس ""ية "،فه ""ذه الفلس ""فة به ""ذا املع ""نى تحدي ""دا تحي ""ل على «مدون ""ة
البح ""وث الص ""ادرة عن املؤرخين والفالس ""فة ال ""ذين أرادوا من ""ذ ق ""رنين أن يقيم ""وا املكان ""ة ال ""تي
تحتله""ا املعرف "ة" التاريخي""ة في نظ""ام املع""ارف ،م""ع املقارن""ة بم""ا تقدم""ه العل""وم الدقيق""ة ،وذل""ك
بتحدي""د موض""وعاتها ومناهجه""ا ونم""ط الحقيق""ة ال""ذي يمكن ان تبلغ""ه .أم""ا املع""نى األخ""ير فه""و
تحدي ""د «فلس ""فة الت ""اريخ (كأنطولوجي ""ا للص ""يرورة) ،وه ""و ال ""ذي يح ""رص على تأكي ""د ان مس ""ار
اإلنس""ان من""ذ بداي""ة ال""زمن ،يق""وم على وح""دة عميق""ة ويمتل""ك مع""نى دفين""ا ،ويمكن أن يض""بط
هذا املعنى في فكرة "القدر اإللهي"».2
وألجل البت في هذه املسألة الحساسة نذكر بما كان من جاكوب بوركهارت مؤرخ الفنون واملنظر
الكبير لعلم التاريخ حينما" وقف على عتبة هامة؛ إذ يرى بأن القوانين التي ينبني عليها التاريخ ال
تتأتي من األحداث املحورية (السياسية مثال . . .وذلك أضعف اإليمان ) بل تأتي كذلك من صغائر
األمور ودقائق التفاصيل ،هذه التفاصيل التي قد تذهب باملعنى التاريخي في اتجاه مثلما قد تعمل
على تصريفه صوب اتجاه آخر وهذه النقطة تحيلنا على جوهر عمل ديلطاي الذي ربط التأويل
الذي اشتهر به اسمه بالتأريخ ومن الجدير بالتوقف ان ديلطاي يؤمن إيمانا راسخا بالحتمية
التاريخية" (فهو صاحب مصطلح "التاريخانية"" ) فيما يفتح نافذة التأويل على املعنى التاريخي،
الذي هو معنى متجدد جيال بعد جيل بسبب دخول عين الناظر إلى الحادثة إلى جانب عبن
الفاحص للثر التاريخي الذي هو اثر ذو صبغة اركيولوجية ،السلوك املناسب إزاءها هو
الحفريات واالستكشاف ال النظر والوصف.3
يفتح هذا الفهم املعاصر (والصحيح أن نقول مابعد الحداثي ،كما قد أسلفنا) للظاهرة التاريخية
الباب واسعا على املوقع الجديد الذي تتبوأه الذات في خطابات مابعد الحداثة .إن في تحليل
1
عبد هللا العروي :مفهوم التاريخ ،ج /1ص 400
2
السيد ولد اباه :التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو ،دار المنتخب ƒالعربي ،ط1994 ،1م ،ص191
3
Gottfried Boehm, « La critique de l’historicisme par Jacob Burckhardt: genèse et
validité », Revue germanique internationale, 2, 1994, pp 75/76
87
الخطابات مابعد البنيوية كثيرا من التركيز على موقع الذات في املعرفة وفي مسارات صناعة
املعنى والحياة والتي يختزلها كلها البحث في اللغة ،هذه األداة املحورية في الفهم (هذا املوقع
الحساس في فلسفة التاريخ) ،وهي من املرتكزات الكبرى ألعمال أعالم مابعد الحداثة؛ إذ أن
هناك في الواقع اختالفا جذريا" لهذه النظريات عن النظريات القديمة التي هي امتدادات متنوعة
للتعليم السكوالستيكي وللمذهب الكنسي وما نتج عن كل هذا من النزعات التي تضع الذات خارج
أطر املعرفة .فالذات متعلم سلبي أو حيادي .والظواهر هي األمهات وهي املعول عليها لفهم
العالم.
في هذا املنظور مابعد الحداثي يقول بول ريكور " املنتظر من املؤرخ هو نمط محدد من الذاتية،
ال ننتظر الذاتية كذاتية لذاتها ،أي ذاتية متاحة "،بل كنمط محدد يشترط فيه أن يكون مناسبا
للموضوعية الالزمة للتاريخ ،هي إذن ذاتية متورطة ،متورطة مع املوضوعية املتوخاة ،وعلى
هامش استشعارنا لوجود ذاتية جيدة وأخرى سيئة ،فإننا نرتقب فصال بين الذاتيتين تقوم به
1
ممارسة مهنة املؤرخ" .
موقع للمؤرخ يصل حدا غريبا من التعدد وصفه عبد هللا العروي قائال بأنه أحيانا يتعدد فيلتبس
بسبب تكاثر املالمح التي يتخذها املؤرخ نفسه والتي تتراكب حد اشتباه األمر علينا؛ نحن الذين
نأخذ كتابا في التاريخ لشخص واحد اسمه مريح بقدرما هو مخاتل لنا ،شخص مثل ابن خلدون
"املؤرخ"؛ ولكن أي مؤرخ هو في الحقيقة؟ إنه شخص واحد بذات واحدة تختفي تحتها شخصيات
عدة بذوات متعددة؛ إذ "يمثل ابن خلدون )1( :راويا مثل غيره من الرواة عندما يتكلم عن
أصول العرب والبربر والترك )2( ،مشاهدا بل صحفيا عندما يتكلم عن نفسه وعلى سالكين بني
مرين؛( )3مؤرخا يزاحم في اإلتقان والنباهة" واالطالع املسعودي أو البيروني؛ ( )4منظرا لقواعد
الكتابة التاريخية؛ ( )5مبدعا لعلم العمران في مستوى فالسفة عهد التنوير .2" . . .وهكذا فإن
مفهوم الذات محكوم أيضا بموقعها؛" الشيء الذي يعقد املهمة التي يتوخاها بول ريكور أكثر.
ويصل عمل املعول مابعد الحداثي إلى درجة بعيدة األثر من الهدم إلحداثيات التفكير املوروث
عن العصور السابقة .فقد ورثنا عن الجدود الوضعيين تقديسا شبيها بالتقديس الديني لفكرة
"املوضوعية"؛" ولعل البحث التاريخي – كما مر بنا سابقا أكثر تقديسا لهذه املوضوعية العلمية
من غيره من األنشطة اإلنسانية .إال ان املفكر في الفضاء مابعد الحداثي يرى في املوضوعية
1
Paul Ricoeur: Histoire et verité, seuil, Paris, p23/24
2
عبد هللا العروي :مفهوم التاريخ ،ج /1ص16
88
ُ
الذات املذكورة أعاله .وهذا ما يقصده ريكور في ّ
وتصرفها، وجوها عديدة تتصرف فيها،
ِ
مقدمته املنهجية لبحثه في الصلة بين التاريخ والحقيقة ،إذ يرى بأن املنتظر "من التاريخ هو نمط
معين من املوضوعية ،موضوعية تناسبه ،وهذا هو املنطلق الذي ينبغي تبنيه ،ولكن :ما
املقصود تحديدا بهذا العنوان؟ على املوضوعية هنا أن يتم فهمها بمعناها اإلبستمولوجي الدقيق:
يعد األمر موضوعيا إذا تمكن الفكر املنهجي من استيعابه وتنظيمه وفهمه وجعله قابال للفهم.
ينطبق هذا على علوم الفيزياء والبيولوجيا ولكنه ينطبق ايضا على التاريخ ،ولهذا ننتظر من
التاريخ أن يمنح ماضي املجتمعات تذكرة عبور إلى مصاف املوضوعية النبيلة ،وليس معنى هذا
أن موضوعية التاريخ هي نفسها موضوعية الفيزياء والبيولوجيا ،إذ أن هنالك موضوعيات بقدر
ما هنالك سلوكات منهجية في هذا العالم .لذا فنحن ننتظر من التاريخ أن يضيف لبنة أخرى إلى
1
جدار املوضوعية املتنوع" .
تهيمن الذات إذن على مسار الفهم ومسار وضع اليد على روح الحادثة إلى درجة خلق دائرة
للمعنى يمكننا وصفها بدائرة الفهم املتعالي؛ نوع من الفهم الذي ينتج حتى من أخطاء الذات في
مساراتها ،أخطاء هي مشاتل لفهم جديد – كما يقول املؤرخ الهام جاك لوغوف؛ الذي يتفاءل
خيرا حتى حينما يتم الحياد عن جادة الصواب أثناء محاولة إدراك الحقيقة التاريخية "،أو
محاولة وضع اليد على فلسفة معينة للتاريخ .فهو يعتقد جازما بأن " الوثيقة التي تبين خطؤها"
هي وثيقة هامة من الناحية التاريخية ،ألنها تختزن شهادة هامة" حول الفترة التي صنعتها وحول
2
الفترة التي تم استعمالها فيها واعتبارها صحيحة فيها" .
ويعمق الطرح أكثر حينما يدعو إلى مساءلة صمت التاريخ حول بعض الفترات ،وهنا يظهر لنا
االهتمام السوسيري بالصمت كجزء ال يتجزأ من الرسائل اللغوية ،فإذا كانت اللغة هي حصان
املعركة الفلسفية في الفترة مابعد الحداثية فإننا لن نستغرب استنطاق الصمت في الخطابات
التاريخية ".وفي هذا السياق يقول جاك لوغوف " :ال بد من مساءلة التاريخ حول فترات
3
صمته ،ال بد أيضا من جرد ألرشيف الصمت"
إن هذا امللمح الجزئي والذاتي واالجتزائي لعملية ترتيب التاريخ حسب استراتيجية هي وليدة
الحاضر ،هو ما يدفع بميشال فوكو إلى استعادة اللفظة الديلطاوية بامتياز التي هي
1
Ibid. , p24
2
Jacques Le Goff: histoire et mémoire, Gallimard, p303
3
Ibid. ,p302
89
ُ
فحسب. "هيرمينوطيقا" لكي يصف عملية قراءتنا الذاتية الخاصة التي تعنينا ،وتعنينا نحن
تعنينا في إطار محاولة ترسيخ تجربتنا الحاضرة والبحث لها عن أرضية صلبة ترتكز عليها.
أرضية التاريخ التي تستدرج كل معاني الجالل التي ترتبط من حيث ندري ومن حيث ال ندري
باملاضي .وهذا هو بالذات ما دفع بالفضاء مابعد الحداثي صوب الحديث عن نوع من
"هيرمينطيقا التاريخ " ،التي هدفها" ليس فهم املاضي بل رسم معالم مستقبل معين من خالل
1
التأريخ للحاضر.
خالصات
بداية :تحيل فلسفة التاريخ بدءا من فولت"ير على أم"رين رئيس"يين :أولهم"ا دراس"ة من"اهج -
البحث في الوق ""ائع التاريخي ""ة باإلجاب ""ة على الس ""ؤالين :كي ""ف تتم كتاب ""ة الت ""اريخ؟ و م ""ا املنهجي ""ة
املعقول ""ة واملوثوق ""ة للتحق ""ق من ص ""حة محم ""والت ه ""ذه النص ""وص التاريخي ""ة لتش ""ذيبها وتنقي ""ة
األخبار والوقائع والتفسيرات الواردة؟
األمر اآلخر الذي تحيل عليه فلسفة التاريخ هو العملية التأويلية؛ وفيها يقوم -
املؤرخ/الفيلسوف باستحداث أبعاد عامة ما ال تحيل عليها النصوص التاريخية ألول وهلة ،بل أنها
كثيرا ما تحيل على نقيضها تماما.
وقد تطورت اآلراء –كما رأينا – في اتجاه ضرورة اتخاذ موقف ابتدائي يحدد موقع املؤرخ/املؤول
إزاء مادته الحوادثية ،موقف يغلب عليه امليل صوب تفسير كل شيء بشكل نهائي ،والسماح
بالتالي بالتقاط معنى التاريخ وصياغة روح العصر.
من جه" ""ة ثالث" ""ة :يص" ""بح الش" ""غل الش" ""اغل لفيلس" ""وف الت" ""اريخ في ه" ""ذا املنظ" ""ور ه" ""و تحري" ""ر -
مبحث فلسفي يركز اساسا على "السمة التاريخي"ة" ل"تي يمكنن"ا ع"دها امللمح األك"ثر ملعان"ا للوج"ود
البش ""ري م ""ع ه ""اجس" التفس ""ير والتأوي ""ل ،ك ""ل ه ""ذا يص ""بح تخطيط ""ا مس ""تقبليا لتحقي ""ق يوطوبي ""ا
ش" ""يوعية اش" ""تغل م" ""اركس بهم" ""ة عالي" ""ة على وص" ""ف الت" ""اريخ العري" ""ق ال" ""ذي من" ""ع تحققه" ""ا؛ ت" ""اريخ
الص " ""الت البش " ""رية املبني " ""ة على ثنائي " ""ات الس " ""يد والعب " ""د ،ال " ""رئيس واملرؤوس ،املال " ""ك واألج " ""ير
الي""ومي ،الح"اكم املتس"لط واملحك""وم امله"ان . . .،وكله""ا ظ"روف جعلت اله"دف األس""مى للت""اريخ ه"و
نفس""ه اله""دف ال""ذي ك""ان هيغ""ل ق""د ح""دده – و ه""و اله""دف ال""ذي لم ينف""ه م""اركس ،بك""ل غراب""ة،-
واملقص ""ود ب ""ه طبع ""ا ه ""و تحقي ""ق س ""عادة اإلنس ""ان من خالل تح ""رره الت ""ام من نفس ""ه ومن س ""لطة
التاريخ.
1
M Foucault: dits et écrits, p1383
90
على يد رابعة؛ كان ال بد من تحديد جوهر عمل املؤرخ بين منظار العالم ومنظار املعلق ،هل -
المطلوب من املؤرخ هو التعليق الخارجي "املوضوعي" على الحوادث؟ أم أنه ينبغي عليه أن يسقط
على كل ما أمامه منظارا ثريا ومتعاليا يبحث عن معنى كامن نلحقه نحن بالتاريخ ألنه غير ظاهر
ألول وهلة .ونذكر هنا بما كان من جاكوب" بوركهارت مؤرخ الفنون واملنظر الكبير لعلم التاريخ
حينما وقف على عتبة هامة؛" إذ يرى بأن القوانين التي ينبني عليها التاريخ ال تتأتي من األحداث
املحورية (السياسية مثال . . .وذلك أضعف اإليمان ) بل تأتي كذلك من صغائر األمور ودقائق
التفاصيل ،هذه التفاصيل التي قد تذهب باملعنى التاريخي في اتجاه مثلما قد تعمل على تصريفه
صوب اتجاه آخر وهذه النقطة تحيلنا على جوهر عمل ديلطاي الذي ربط التأويل الذي اشتهر به
اسمه بالتأريخ ومن الجدير بالتوقف ان ديلطاي يؤمن إيمانا راسخا بالحتمية التاريخية (فهو
صاحب مصطلح "التاريخانية" ) فيما يفتح نافذة التأويل على املعنى التاريخي ،الذي هو معنى
متجدد جيال بعد جيل بسبب دخول عين الناظر إلى الحادثة إلى جانب عبن الفاحص للثر التاريخي
الذي هو اثر ذو صبغة اركيولوجية ،السلوك املناسب إزاءها هو الحفريات واالستكشاف ال
النظر والوصف .
1
ستتسع الرؤية الفلسفية للتاريخ في الفضاء ما بعد الحداثي لكي تصبح قادرة حتى على بناء مسارت
للتاريخ في غياب مسارات موصوفة له ،وهذا هو جوهر" التأويل ،فمؤرخو الزمن مابعد الحداثي
يؤمنون بإن "ما كان"" هو أيضا "ما لم يكن" ،فهذا "املستحيل التاريخي" واملسار الذي قام بمنعه
من الحدوث الذي هو – كما هو واضح -جزء من فلسفة التاريخ "،من باب قبول االستدالل
باالستقصاء وقبول االستدالل بامتناع االستقصاء أيضا .وكمثال لفهم هذا الراي يمكننا سوق
املثال حيث نستمع إلى قول ميشال فوكو في مقاربة مثيرة لالنتباه حول الصلة الوجودية بين
التاريخ الغربي وصنوه وغريمه ووجهه اآلخر أيضا التاريخ الشرقي " :يتشكل تاريخ الغرب من
النظر إلى الشرق الذي هو أصله نظرة استعادة ملاض ما :فالشرق هو كل ما لم يتمكن من كونه
الغرب ،وال بد إذن من كتابة تاريخ للحد الفاصل بين قيمتين معنويتين" .2
وختاما فإن املعنى التاريخي ينتهي به األمر أن يصبح مجرد "سرد" يدون وجهة نظر .وإذا -
كانت هنالك كلمة قد نالت حظا كبيرا في نصف القرن املاضي الذي هو نصف القرن مابعد
1
Gottfried Boehm, « La critique de l’historicisme par Jacob Burckhardt: genèse et
validité », Revue germanique internationale, 2, 1994, pp 75/76
2
Michel Foucault: dits et écrits, Gallimard, Paris, vol1, p190
91
الحداثي بامتياز فهي كلمة السرد .هذا املفهوم الذي ألقى بظالله على كل املفاهيم املمكنة ،السرد
الذي يستجيب كثيرا مليزة العصر الذي تهيمن على اآلراء فيه وجهات النظر ،والذي هو عصر
يجعل "الوجهة" أهم ما في "النظر" أثناء تحديد "وجهات النظر " .فالسرد يمثل زاوية ذاتية فارغة
من ادعاء الحقيقة ،وهذا يشمل "الحقيقة" كمعطى غير ثابت بسبب ارتباطه – كما أسلفنا –
منطو على كم كبير من األغالط هي جزء ال يتجزأ
ٍ باللغة التي هي كيان غير ثابت ،مخاتل ،متطور،
منه .فإ ذا جئنا إلى تفسير حادثة أو سلسلة أحداث تاريخية فإننا نصطدم أوال بمعنى التفسير ،و"
1
ما نسميه التفسير ليس شيئا سوى الطريقة التي يكتسبها السرد التاريخي لتشكيل حبكة معقولة"
و كما هي الحال في القصص واملرويات التي تدرج ضمن الخيال ،فإن التاريخ املوصوف في األفق
مابعد الحداثي بأنه مجرد سرد يصبح هو أيضا مهووسا بالبحث في الهامشي والعرضي عما ينتظمه
منطق ما ،منطق سوف نختزل األحكام كلها لنسميه فلسفة التاريخ مرة ،ونسميه روح العصر أو
معنى الحادثة ،تبعا لفولتير مرة ،لهيغل مرة ولديلطاي مرة ثالثة.
فاملؤرخون في نهاية األمر ساردون يملكون وثائق ال غير ،إنهم " يروون حبكات وقصصا هي بمثابة
مسارات يرسمونها حسب رؤيتهم على أرض الوقائع ،لذا فإنه ال مؤرخ يملك أن يصف هذه
األرض وصفا كليا ،ألن طبيعة املسار هي املرور عبر نقاط معينة وكفى ،وفي النهاية فإنه ال مسار
من كل هذه املسارات هو "الصحيح" وال هو "التاريخ" . . .،والسبب العميق لذلك هو أن كل واقعة
هي ملتقى ملسارات ممكنة . . .وفي النهاية فإنها ال توجد واقعة اجتماعية كلية لكي نحصل على تاريخ
2
كلي" .
1
Paul Veyne: Comment on écrit l’histoire, Seuil, Paris, 1971,
2
Ibid. p38
92
:مكتبة الدراسة
الدار الذهبية، تحقيق ابي عبد الرحمان عادل بن سعد،" "مقدمة ابن خلدون:عبد الرحمن بن خلدون
. القاهرة،للطبع و النشر و التوزيع
،2000 ط، منشورات الجمل، محمود شريح: ترجمة، البيان الشيوعي:كارل ماركس وفريدريك إنجلز
م1994 ،1 ط، دار املنتخب العربي، التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو:السيد ولد اباه
،2009 ، الجزائر، دار الحكمة، محمد األمين بحري: تر، املاركسية:روجي غارودي
2005 ،4 ط.1 ج، الدار البيضاء، املركز الثقافي العربي، مفهوم التاريخ:عبد هللا العروي
Gottfried Boehm: La critique de l’historicisme par Jacob Burckhardt: genèse et validité, Traducteur: Marianne Charrière, Revue Germanique
Internationale. N: 2/1994.
Vincent Citot: Matérialisme et idéalisme en histoire: à propos du Secret de l’Occident de D. Cosandey, in le Philosophoire, n30-2008- paris.
John Dewey: reconstruction in philosophy, Henry Holt and company, New York. 1920.
Wilhelm Dilthey: La vie historique, trad: Christian Berner et Jean-Claude Gens. Septentrion, Paris, 2014. Michel Foucault: dits et écrits, Gallimard,
Paris, vol1. 2001
G. W. F. Hegel: Introduction à la philosophie de l’histoire, Livre de poche, Paris. 2012.
Jacques Le Goff: histoire et mémoire, Gallimard, Paris. p303
Karl Marx: 18 Brumaire de Napoleon 3,Flammarion, paris, 2007
Karl Marx: le capital, Lachâtre, paris, nouv. Ed; tome1.
Michel De Montaigne: Journal de voyage, Gallimard,paris,1983.
Paul Ricoeur: Histoire et verité, seuil, Paris. Nouv. Ed. 2001
Jean-paul Sartre: critique de la raison dialectique, NRF-Gallimard, Paris, p39.
Paul Veyne: comment on écrit l’histoire, Seuil, paris. 1971
Voltaire: Essai sur les moeurs, Paris, Classiques Garnier. Paris. , 1990.
Voltaire, Oeuvres historiques, Bibliothèque de la Pléiade, Paris. 1958
93
أفق االفتراض
من الج""دير ب""التوقف هن""ا فك"رة أن الخي"ال العلمي في تاريخ"ه الق"ديم ق""د نش""أ في كن""ف الخط""اب
ُ
الفلس""في ،فنحن ن""ذكر ض""من العش""رة ك ّ"ت"اب الض""روريين في الت""اريخ الق""ديم للخي""ال العلمي أس""ماء مث""ل
تل""ك ال"تي ذكرناه"ا" أعاله ،وهم جميعهم فالس""فة قب""ل ك""ونهم مش""تغلين على ع""والم التخيي""ل ال""تي نلحقه""ا
بهم .وه ""ذا ي ""دلنا بوض ""وح على حميمي ""ة الص ""لة بين الخي ""ال العلمي والخط ""اب الفلس ""في ،ص ""لة ت ""دعمها
املوضوعات التي أسلفنا اإلشارة إليها :اإلنسان -هللا -الزمن -املوت -املصير.
ليس ج""وهر" املس""ألة في أس""ماء جمعت التخيي""ل إلى الت""دليل ،أو جمالي""ات الس""رد إلى فعالي""ات ال""درس،
الج""وهر متعل""ق في الواق""ع بطريق""ة النظ""ر إلى الحقيق""ة؛" أي في امليكانيزم""ات العميق""ة لل""وعي بالع""الم ،في
ت ""رتيب افكارن ""ا "،في طريقتن ""ا غ ""ير الواعي ""ة في فهم عاملن ""ا وتش ""كيل خطاب ""ات معين ""ة حول ""ه .أي بتجرب ""ة
ال" ""وعي عن" ""د اإلنس" ""ان وبخص" ""ائص م" ""دارج ح" ""دوث املعرف" ""ة عن" ""ده ...1إذ يب" ""دو أن هنال" ""ك نمطين من
في بعض محاورات""ه يق""ف س""قراط قبال""ة رفقائ "ه" الطلب""ة بع""د مقاطع""ة م""ا متس""ائال :واآلن م""اذا تري""دون
الطريق إلى الحقيقة قد يتأتى مما يسميه هللا "ضرب األمثال" من خالل رواية أقاصيص مرتبة حس""ب
استراتيجيات عاقلة عاملة عاملة ،كما تت"أتى من خالل الع"رض الفلس"في املعه"ود املعتم"د على التحلي"ل
94
في ض""وء ه""ذا يمكنن""ا أن نق""ول إن الخي""ال العلمي ه""و أدب ذو ط""ابع فلس""في يتخ""ذ إلى الحقيق""ة طريق""ة
الس ""رد والتمثي ""ل و"ض ""رب األمث ""ال" للن ""اس لعلهم يت ""دبرون فيعقل ""ون .ويتم ""يز بطريق ""ة خاص ""ة في بن ""اء
فرضياته؛" طريق"ة منطقي"ة وعلمي"ة وم"بررة ومبني"ة على الس"ببية والعللي"ة،وه"ذا ه"و الخ"ط الفاص"ل بين
العلم والخرافة ،والفاصل – على املستوى األدبي -بين األدب العجائبي وبين الخيال العلمي.
إن من يتخ ""ذون نهاي ""ة الق ""رن الث ""امن عش ""ر وبداي ""ة الق ""رن التاس ""ع عش ""ر كنقط ""ة واس ""عة املدى مليالد
الخيال العلمي يرتكزون بالضرورة على الجديد العلمي والتقني لتلك الف"ترة :الكهرب""اء ،التط""ور الس""ريع
للعل""وم التجريبي""ة ،املحرك""ات النفاث""ة ،القط""ارات ،إن""ارة املدن بالغ""از...وفي ك""ل ه""ذا معطى علمي يرس""م
ش ""كل الحي ""اة اليومي ""ة ويلح ""ق جدي ""د الحي ""اة ب ""التطور العلمي ،وفي ه ""ذا اإلط ""ار يمكنن ""ا أن ننظ ""ر ص ""وب
ملاري شيللي ( ،)1818ففي األولى تصور بديع للع"الم في إط"ار نظري"ات ني"وتن الجدي"دة آن"ذاك ،وفي إط"ار
الج""دل التن""ويري ح""ول إمكاني""ة أن تأه""ل مخلوق""ات معين""ة الك""واكب ال""تي تش""كل املجموع""ة الشمس""ية؛
وج""دير بااللتف""ات أن الكلم""ة األك""ثر تردي""دا في ه""ذا العم""ل الخي""الي العلمي هي "العق""ل " la raison؛ ومن""ه
م ""ا ذكرن ""اه من رغب ""ة في التفس ""ير العقلي للع ""الم الحك ""ائي ال ""ذي ك ""ان يفس ""ر الع ""الم واألش ""ياء والوق ""ائع
وق" ""د لفت ب" ""ول ريك" ""ور انتباهن" "ا" إلى ال ""دور الفلس ""في والبن" ""ائي لعملي" ""ة تس ""ريد الع" ""الم ،أو لك ""ل ص" ""ياغة
س" ""ردية ك" ""انت؛ إذ يع" ""ني الح" ""ديث عن ع" ""الم النص الترك" ""يز على ملمح ال ينتمي الى اي عم" ""ل أدبي يفتح
أمام""ه أفق""ا لتجرب""ة ممكن""ة ،ع""الم يمكن أن يع""اش في""ه .فليس النص بالشيء املغل""ق على ذات""ه ،ب""ل ه""و
1
مشروع كون جديد مستقل عن الكون الذي نعيش فيه"
بول ريكور -احلياة حبثا عن السرد ،ترمجة سعيد الغامني -جملة نزوى -ع -1997 -10ص23-24 1
95
ك ""ذلك يمكنن ""ا أن نتأم ""ل مح ""رك الس ""رد في رواي ""ة م ""اري ش ""يلي "فرانكنش ""تاين" فه ""و ع ""ودة الحي ""اة إلى
الجس""د امليت ع""بر الطاق""ة الكهربائي""ة الكامن""ة في الرع""د ،وهي إحداثي""ة واض""حة في الدالل""ة على االرتك""از
العلمي العقلي العقالني على العلم والعق ""ل واملنط ""ق رغم االس ""تحالة املنطقي ""ة لح ""دوث ذل ""ك .ومن هن ""ا
يقف أمامنا العمل الهام الذي هو " ميكروميغ""اس" لفولت"ير ،ومن املث""ير لالهتم"ام ان الرحل"ة الفض"ائية
للبط""ل ق""د ج""اءت في أعق""اب نش""ر رس""الة فلس""فية في نق""د املجتم""ع لم ت""رق لـ "مف""تي" ب""اريس (ومص""طلح
"املفتي" لفولتير وليس تالعبا زمنيا باملصطلحات ،ومفتي فولت"ير ه""و أس""قف ب"اريس األك"بر)...فنحن هن"ا
في إط" ""ار الح" ""رب القديم" ""ة بين العق" ""ل والكنيس" ""ة ،بين التفس" ""ير املادي العلمي والتفس" ""ير ال" ""ديني ال" ""ذي
ينطل ""ق دائم ""ا من تغليب النق ""ول على العق ""ول ،وت ""رتيب اإليم ""ان األعمى بالحق ""ائق قب ""ل مراجع ""ة زب ""دة
هذه الحقائق وعرضها على محك العقل ومسبار املراجعة العقلية والواقعية التجريبية.
من جه" ""ة مقابل" ""ة فإن" ""ه من الض" ""روري التنب" ""ه إلى ك" ""ون فك" ""رة الخي" ""ال العلمي ق" ""د خ" ""رجت من الفك" ""ر
العج""ائبي ،ب""ل إن أح""د أهم النق""اد الفرنس""يين ال""ذي نظ""روا للخي""ال العلمي مبك""را (ج""اك س""تيرنبرغ) ق""د
عنون كتاب"ه بعن"وان طوي"ل ه"و "قط"اع من العج"ائبي يس"مى األدب التنب"ؤي" ،وه"و عن"وان بق"در م"ا يب"دو
ثقيال على الهضم من الناحية الفنية بقدرما ما يتجلى من خالله اإلصرار الشديد على ربط ه""ذا ب""ذاك
ي""دعونا التأم""ل العمي""ق إلى فهم البع""د املض""مر لس""لوك الخي""ال العج""ائبي م""ع الواق""ع؛ فالب""احث والك""اتب
"روجي"ه" ك"ايوا" إذ يص""ف ال""دب العج""ائبي بكون"ه "القطيع""ة الغريب""ة م""ع الع""الم ال""واقعي" " ويق"ترح أيض""ا
1
ب ""أن ه ""ذه القطيع ""ة هي ض ""ريبة التج ""اوز ،فالعالق ""ات م ""ع الواق ""ع كم ""ا تعودن ""ا علي ""ه تنتفي فتحررن "ا" من
إواليات تفكيرنا املعهود ،وتفتح الباب بذلك للتفكير الجديد الحر الذي يمكنه الذهاب إلى أي أفق.
1
Roger Caillois, Images, images, Stock, 1975, p. 14.
96
ّ ّ
ّ"أم" ا الخي" ""ال العلمي فال يتعام" ""ل بنفس املنهج بم" ""ا "أن""ه "
يمث""ل تواص" ""ال م" ""ع ال" ""راهن ،فه" ""و يب" ""دع تناس" ""قه
"اص ال" ""ذي يس" " ِّ"ير منطق" ""ا ذا قيم" ""ة مقنعة .ف" ""إذا ك" ""ان املوض" ""وع استش" ""رافيا مثال ،يمكنن" ""ا
1 ال" ""داخلي الخ" " ّ
ّ
2
مالحظة أنه يوجد العدد من العناصر التي تتضافر لخلق مفعول املمكن"
هنال""ك من يع""دون العلم في ح""د ذات""ه فلس""فة ،أي فلس""فة لتفس""ير الظ""واهر ال""تي تحي""ط باإلنس""ان ،ومن
الجدير باإلشارة إلى أن الخي"ال ليس أداة للمتع"ة فق"ط ،فه"و أداة فلس"فية تام"ة البن"اء ومعروف"ة الح"د،
فكل الفالسفة من"ذ أفالط"ون ح"تى ه"اديغير ق"د مألوا كتبهم ب"آالف القص"ص الص"غيرة ال"تي تعم"ل بش"كل
فعال جدا على ضخ طاقة وعي كبيرة في الفهم املحدود للناس إزاء بعض الظواهر املتعلقة بالواقع .إن
ق" ""رب الواق" ""ع من" ""ا يجعلن" ""ا ال ن" ""راه بالق" ""در الك" ""افي "،وه" ""ذا يجعلن" ""ا بحاج" ""ة إلى القص" ""ص ال" ""تي تلعب دور
التمثي""ل وتمكنن""ا من التح""وير والقي""اس واإلحاط""ة والتش""بيه...الخ الخ...وكله"ا" آلي""ات للتفك""ير تمكنن""ا من
فهم الواقع القريب الذي نقترب منه إلى درجة يصبح فيها أحيانا غامض"ا ج"دا بالنس"بة لفهمن"ا الص"غير.
3
وق ""د ي ""دفعنا ه ""ذا للتأم ""ل في طبيع ""ة املي ""ل اإلنس ""اني الق ""ديم ص ""وب الخي ""ال ،وص ""وب الخي ""ال العج ""ائبي
تحدي " ""دا ل " ""دى الن " ""اس جميع " ""ا "،وه " ""و موض " ""وع يحيلن " ""ا على م " ""ا يخرجن " ""ا عن موض " ""وعنا :أي فلس " ""فة
العج""ائبي ،ولكن""ه يتم""اس بش""كل كب""ير وه""ام م""ع م""ا أس""لفنا الح""ديث عن""ه أثن""اء الح""ديث عن أدب" املاذا
لو؟" او الفرضيات الذهنية" التي تسمح لنا ببناء أبنية ذهنية نظرية مفيدة للعقل البشري.
ف""األدب العج""ائبي أو األدب الفانط""ازي غالب""ا م""ا يتق""دم أمامن""ا كس""لف مناس""ب وض""روري ّ
وملح للخي""ال
العلمي ،ولكن التمي""يز أم""ر ض""روري ألن الخي""ال العلمي ه""و غ""ير الفانتازي""ا ،ولك" ّ"ل منهم""ا خصائص"ه" ال""تي
97
يق ""ترح علين ""ا ص ""ورا لع ""والم يبتكره ""ا خي ""ال الك ""اتب ارتك ""ازا على املنط ""ق ،وب ""الرجوع ال""ثري إلى ال ""واقعي
واملع""روف واملمكن وال""وارد واملت""اح التفك""ير في""ه او استش""رافه كم""ا يق""ول روجي بوزيتط""و ،فالعالق""ات"
ُ
م" ""ع الحي" ""اة املمكن" ""ة ال تقط" ""ع تمام" ""ا ،والك" ""اتب والق" ""ارئ – على عكس م" ""ا يح" ""دث في األدب العج" ""ائبي ال
يبتع ""دان عن "معقولي ""ة عالي ""ة" ترتك ""ز على منطقي ""ة قوي ""ة للم ""واد املتخيل ""ة .وق ""د اق ""ترح املنظ ""ر روجي
بوزيط ""و تس ""مية جميل ""ة حينم ""ا ف ""رق بين العج ""ائبي والخي ""ال العلمي بتكني ""ة ه ""ذا األخ ""ير بكني ""ة" :أدب
ّ
املب" ""ادرات" ،أدب ع" ""والم موج" ""ودة ولكنه" ""ا معلق" ""ة ،ع" ""والم ممكن" ""ة وغ" ""ير مس" ""تحيلة ولكنه" ""ا تنتظ" ""ر
1
الخي ""ال عالق ""ة س ""ليمة م ""ع الع ""الم .ويمنحن ""ا الخي ""ال العلمي طاق ""ة نظري ""ة قوي ""ة تس ""مح لن ""ا بخل ""ق أبع ""اد
غائب" ""ة عن دائ ""رة الح ""واس .الخي ""ال ق" ""درة على االستبص ""ار" والتفك ""ير النظ ""ري املج ""رد ال ""ذي يتم ""يز ب ""ه
العلم""اء الكب""ار وال""ذي ه""و س""الح الفن""انين الكب""ار ال""ذين تب""ني على أعم""الهم القف""زات الحض""ارية الك""برى.
أك ""بر الخي ""اليين هم ج ""الينوس وأرخمي ""دس وابن الهيثم وابن س ""ينا والخ ""وارزمي وعب ""اس بن فرن ""اس ،
قائمة الخياليين الكبار تحتوي أناسا مثل جاليليو وتوريتشيلي وباستور وآينشتاين.
يس" ""توقفنا دائم" ""ا على ه" ""امش الح" ""ديث عن ه" ""ؤالء الخي" ""اليين تص" ""ور لحظ" ""ة ظه" ""ور أفك" ""ارهم" املجنون" ""ة
وكيفي" ""ة تفاع" ""ل الجمه" ""ور معه" ""ا ،جم" ""ور العلم" ""اء واملتتبعين لهم واملتلقين البس" ""يطين من رج" ""ال ال" ""دين
وطلب ""ة العلم ال ""ذين يكون ""ون آن ""ذاك بص ""دد االش ""تغال بالش ""كل نفس ""ه ال ""ذي يش ""تغل ب ""ه ق ""راء الخي ""ال
العلمي والفانطازيا ،ويسمي الباحث مارك آنجينو هذه املحددات الغريبة الجديدة لهذا الع""الم املق""ترح
ح" ""ديثا على جمه" ""ور" ال ص" ""لة ل" ""ه بم" ""ا يس" ""مى باملول" ""دات (املص" ""طلحات الخاص" ""ة ال" ""تي تع" ""د مف" ""اتيح قص
الخي " ""ال العلمي وال " ""تي تق " ""ترح مف " ""اهيم وعالم " ""ات جدي " ""دة خاص " "ة" بالع " ""الم الجدي " ""د الغ " ""ريب املق " ""ترح).
1
Georges Turner, Encyclopédie visuelle de la science-fiction, Paris, Albin Michel, 1979, p.
257.
98
ُ ًّ
يحب أن يس " " ّ"ميها "م " ""ارك أنجين " ""و""كلم " ""ات الخي " ""ال"Marc Angenot, 1
ولدات ،أو كم " ""ا ّ فاس " ""تعمال امل
» « mots-fictionفي كتاب" "ة" الخي ""ال العلمي تخ ""تزن طاق ""ة تخييلي ""ة وإمكاني ""ات عقلي ""ة واس ""عة تنتهي ب ""ان
تش" ""كل بص" ""مة خاص" ""ة للخي" ""ال العلمي .مح" ""ددات عقلي" ""ة وأرص" ""فة كوني" ""ة ذات طاق" ""ة داللي" ""ة عالي" ""ة هي
املص""طلحات واملس""ميات ال""تي م""ا أن""زل الت""داول به""ا من س""لطان .قوي""ة بس""لطة اإليح""اء رغم أن وجوده""ا
ال يتع" ""دى االف" ""تراض ال" ""ذي تتحكم في" ""ه الس ""نن اللغوي" ""ة ال ""تي ال تخ" ""رج من دائ" ""رة النص ال" ""روائي ومن
يتخلص الخيال من الواقع بناء على هذه البنيات التخييلية التي تحيل على الواقع بطريقة
هش ""ة تتق ""وى قليال بق ""وة املنط ""ق دون أن تلغي ش ""عورنا بالخي ""ال وبش يء من االس ""تحالة "،وهن ""ا يط ""ابق
الخي " ""ال العلمي نظ " ""يره األدب العج " ""ائبي ،رغم أن منط " ""ق العم " ""ل األدبي ال " ""داخلي في العجائبي " ""ات ليس
ّ ّ هام ""اّ ،
ألنه ""ا – أي العجائبي ""ات -أدب الالواق ""ع أو الالممكن .وينتهي ه ""ذا النمط ""ان األدبي ""ان إلى املقابل ""ة
ّ ّ
بين املمكن والالممكن ،الخيال املمكن الحدوث والخيال الالممكن الحدوث.
يح""دد الب""احث"دي""نيس ميل""يي" Denis Mellierه""ذا الت""وازي بين النمطين ب""أن الخي""ال العلمي ينب""ني على
ت ""ركيب ع ""والم ببن ""اء منط ""ق معين فيم ""ا يرتك ""ز العج ""ائبي على ه ""دم الواق ""ع املع ""روف دون بن ""اء خ ""اص
ومحدد لتضحيته البدئية باملنطق املألوف ...2.ونتيجة ه""ذه اآللي""ة هي الت"أثير على العق"ل البش""ري بش""كل
إنها نقطة بالغة األهمية هذه التي نوردها في هذا السياق؛ فكرة قدرة املحافظ"ة على العالق"ة االنبهاري"ة"
مع الوجود ،وه"ذا ج"انب يمكن"ه أن يمث"ل بع"دا فلس"فيا ب"الغ األهمي"ة "،فأح"د اله"واجس الرئيس"ة للخي"ال
العلمي وللفلس""فة مع""ا هي ه""اجس فهم أس""رار الوج""ود ،تفس""ير الع""الم من خالل أداة االس""تقطاب ال""تي
هي تخي""ل وج""ه ث""ان للمس""ائل ال""تي تأتين""ا دائم""ا بوج""ه واح""د وكفى .االس""تقطاب فلس""فيا يختزل""ه أرس""طو
1
Marc Angenot, « Le paradigme absent », Poétique, n°33, 1978.
2
Denis Mellier, Ecriture de l’excès. Fictions Fantastiques et poétique de la terreur , Paris,
Honoré Champion, 1999, p. 111.
99
ق ""ائال :بأض ""دادها تتض ""ح األم ""ور ،ويختزل ""ه كان ""ط ق ""ائال :إذا تش ""ابهت علي ""ك األم ""ور عممه ""ا ح ""تى ت ""درك
خفاياها ،ويختزله الخيال العلمي بأشهر جملة أنتجها التنظير للخيال العلمي" :ماذا لو ان...؟"
في منتص""ف الق""رن التاس""ع عش""ر ك""انت الفلس""فات الطوباوي""ة والوض""عية العلمي""ة املادي""ة مس""يطرة على
اإلنسان الذي كان خارجا" لتوه من سلطة الكنائس األنظمة امللكية الدينية التي كسر س""طوتها ن""ابليون
بتت ""ويج نفس ""ه عوض ""ا عن الباب ""ا ال ""ذي ك ""ان حاض ""را ،ك ""ان ذل ""ك ع ""ام 1816؛ كاس ""را ش ""وكة امليتافيزيق ""ا
بحرك" ""ة ش" ""ديدة الرمزي" ""ة ...وأعم" ""ال ج" ""ول ف" ""يرن تنط" ""ق كله" ""ا بتل" ""ك الثق" ""ة في العق" ""ل والعلم والتفك" ""ير،
ومركزية اإلنسان الذي كان بصدد التحول إلى إله صغير مثير للعجب... .
1
م""ع ب""دايات الق""رن العش""رين ب""دأ ج""ول ف""يرن نفس""ه يتش""كك في ك""ل ذل""ك بس""بب م""ا ك""ان ق""د ب""دأ يالحظ""ه
من دور س ""لبي للعلم؛ تل ""ك األداة ال ""تي ص ""ار اإلنس ""ان يس ""لطها على أخي ""ه اإلنس ""ان ال له ""دف إال إحك ""ام
الس ""يطرة أك ""ثر علي ""ه ،فه ""ذا اإلنس ""ان ال ""ذي ك ""ان يحتمي بالكنيس ""ة ص ""ار عاري ""ا بال غط ""اء س ""وى جن ""ون
اإلنس ""ان وجش ""عه ال ""ذي ال ح ""دود ل ""ه .بع ""دها ،وفي ف ""ترة م ""ا بين الح ""ربين جم ""ع أل ""دوس هكس ""لي جمي ""ع
النقاش ""ات ال" ""تي ك ""انت منتش" ""رة على أيام" ""ه وض" ""منها روايت ""ه البديع ""ة ال ""تي ق ""د تك ""ون أجم ""ل م ""ا كتب في
الخي " ""ال العلمي في تل " ""ك الف " ""ترة ب " ""النظر إلى الج " ""ودة الفني " ""ة للعم " ""ل ،والعم " ""ق الفلس " ""في للطروح " ""ات ،
والطراف""ة الش""ديدة في اس""تعمال ذاك""رة الخي""ال العلمي الجدي""دة وال""ذاكرة العتيق""ة لألدب "الرفي""ع" –
كما عهدنا تسميته – سنجد دائما دفترا من األسئلة مطروحا على اإلنس"ان ،وس"نجده ط"ورا بع"د ط"ور
وجيال بع""د جي""ل عاكف""ا على تل""ك املس""ائل بقص""د ح""ل مش""كالتها .واألدب ع""اكف به""ذا املفه""وم دائم""ا على
رص""د مؤش""رات العص""ر املحي""ط ب""ه ،على االس""تجابة ل""روح العص""ر؛ وب""ذلك س""نجد الي""وم أدب""ا يص""ور
2
االنسان الرقمي ،ويقوم بتمثيل قيم هذا العصر الحالم والثائر واملتشكك املتسائل
1خملوف عامر :ألوان من احلكي -دار القبية -اجلزائر -2016 -ص 122-121
2جمموعة \:فلسفة السرد -منشورات ضفاف – لبنان -ص135
100
هنال " ""ك من يتس " ""اءل بش " ""كل محلي :ه " ""ل يمكنن " ""ا أن نق " ""ول إن األدب الع " ""ربي الي " ""وم ،وخيالن " ""ا الع " ""ربي
بالدرجة" األولى ،يساير الفلسفات السائدة ...والواقع هو أن الع"الم بفض""ل الش"بكة املعلوماتي""ة العاملي"ة
ص" ""ار يش" ""به القري" ""ة فعال ،ل" ""ذلك ال يج" ""انب الحقيق" ""ة قولن" ""ا إن أس" ""ئلة ك" ""اتب الخي" ""ال العلمي في البالد
العربي" ""ة هي نفس" ""ها؛ أو على األق" ""ل هي من" ""اظرة لتل" ""ك املطروح" ""ة على الك" ""اتب في الغ" ""رب أين يمكن" ""ه أن
هنال""ك نقط""ة تش""غل أي ب""ال على ه""امش الت""أمالت الفلس""فية في موض""وع الخي""ال العلمي ؛ التأم""ل ح""ول
"ملاذا؟" و"ما الهدف؟" بعيدا عن تأمالتنا األدبية املعهودة التي يشغلها السؤال" :كيف؟"...
تل""ك النقط""ة هي ض""رورة دخ""ول ك""اتب الخي""ال العلمي دوائ""ر التمثي""ل ال""ذهني للع""الم ،ف""العلم كث""يرا م""ا
ينتج تم""ثيالت للع""الم ال عه""د للحي""اة وال للبش""ر به""ا ،ففك""رة الش""رائح اإللكتروني""ة ليس""ت وس""يلة تخ""زين
معلومات فحسب بل هي أداة تواص"ل رمزي"ة ،تمام"ا ك"الرموز اللغوي"ة ،ب"ل انه"ا تتح"ول إلى لعب"ة كالمي"ة
في مرحل ""ة الحق ""ة بفض ""ل تب ""ني الجماع ""ة اللغوي ""ة له ""ا ،ويكفين ""ا أن نتح ""رى قليال ح ""ول مئ ""ات التع ""ابير
اآلتي""ة الى ممارس""اتنا اليومي""ة من أفقي اإلعالم اآللي والتواص""ل ب""الهواتف الذكي""ة "،فه""ذه الرم""وز قب""ل
دخوله" ""ا الحي ""اة االجتماعي" ""ة ك" ""انت معطي" ""ات علمي ""ة مخبري" ""ة جاف" "ة" وبعي ""دة تمام" ""ا عن دائ ""رة الت ""داول
الجم"اعي املجتمعي "،وبال أدنى كثاف""ة حياتي"ة ،ال تع"بر عن أي شيء خ"ارج دائ"رة العلم"اء املختص"ين ..ي"أتي
هن""ا دور الك""اتب الع""ربي بم""ا أن الح""ديث يعني""ه إذ علي""ه أن يخ""وض في ه""ذا النظ""ام التم""ثيلي بال هيب""ة،
ألن له ""ذا الخ ""وض دورا فلس ""فيا معين ""ا .واملقص ""ود بال ""دور الفلس ""في ه ""و ممارس ""ة اللغ ""ة والتخيي ""ل من
زاوي ""ة رمزي ""ة عربي ""ة إس ""المية ،تمام ""ا كم ""ا كث ""يرا م ""ا يفع ""ل الكت ""اب الكب ""ار ال ""ذين ي ""أتون بأنظم ""ة تمثي ""ل
رمزي" ""ة متخيل" ""ة جزئي" ""ا فيم" ""ا أجزاؤه" ""ا األك" ""بر هي من وحي عقائ" ""د قديم" ""ة ونص" ""وص عتيق" ""ة ت" ""دين به" ""ا
101
إن ف ""رض ثقافتن" "ا" من خالل ض ""خ الحي ""اة فيه ""ا بمض ""خة الت ""داول ه ""و طريق ""ة فلس ""فية في االنتق ""ال من
الوج" ""ود التلق" ""ائي للخي" ""ال العلمي إلى ن" ""وع من الوج" ""ود ب" ""القوة ...ومن زاوي" ""ة املس" ""تهلك الس" ""لبي للمنتج
الفلسفي إلى إلى زاوية الخالق الواعي واملستهلك املستنير الذي لديه دائما قيمة مضافة.
به" " ""ذا ،لن يك" " ""ون دورن" " ""ا ،نحن الع" " ""رب في الحي" " ""اة ،في الغ" " ""الب ،تكنولوجي" " ""ا ،فق" " ""د تجاوزن" " ""ا املس" " ""ار
التكنولوجي كثيرا ،وليس تنظيميا تسييريا؛ فعلى هذا املستوى أيضا لس""نا في الص""دارة تمام""ا ،يبقى أن""ه
من حسن حظنا أن لنا خلفية في فلسفة األخالق ربما تفي"د الع"الم على املس"توى الفلس"في؛ ألن إح"دى
األزم""ات الحالي""ة للع""الم – وأن""ا هن""ا أتح""دث بطريق""ة كت""اب الخي""ال العلمي ال""ذين هم مغرم""ون ب""النظرة
م""ا القيم ال""تي نرس""خها وم""ا هي تل""ك ال""تي نطرحه""ا؟ م""ا القواع""د اإليديولوجي "ة" ال""تي نب""ني عليه""ا تص""ورنا
للغ""د؟ كي""ف يمكن معالج""ة الج""و املش""حون ال""ذي س""يطر على اإلنس""ان في الق""رن العش""رين؟ م""ا الط""رق
الس ""ليمة لخل ""ق ح ""وار متك ""افئ" بين ط ""رفين بينهم ""ا ص ""دوع كث ""يرة مث ""ل نص ""ف الك ""رة األرض ""ية الش ""مالي
والجنوبي؟
أعتق ""د أن اإلض ""افة األخالقي" "ة" إلى مص ""ير الع ""الم هي األرض ""ية الفلس ""فية األك ""ثر توفيق ""ا لن ""ا كع ""رب في
املرحلة الحالية...
ذ
102
أفق تحقيبي
تمثل أمثولة حقيقة" "العصا"" الواردة عند برتراند راسل لتوضيح وجهة" النظر "الوض"عية"" نقط"ة
انطالق مناس""بة ملقالن""ا ه""ذا . . .فق""د س""ئل الفيلس""وف االنجل""يزي كي""ف يمكنن""ا مقارب""ة الواقع""ة "عص""ا"
إذا أخ""ذنا بعين االعتب""ار ك""ون ذل""ك الجس""م الخش""بي املتك""أ علي""ه ،ال""ذي إن وض""عناه في املاء ب""دا يتمطى
كالحي ""ة ،وإن نظرن ""ا إلي""ه من طرف ""ه تب""دى نقط ""ة ثابت""ة فحسب+ ،وإن أمس ""كنا ب ""ه تجلى ص""لبا قاس ""يا
ك""انت إجاب""ة برتران""د راس""ل :إن العص""ا هي محص""لة ك""ل ه""ذه الح""االت في أذهانن""ا مرتبط""ة بمفه""وم
تختص""ر ه""ذه األمثول""ة الحرك""ة البديع""ة ص""وب بن""اء ص""رح البنيوي""ة والحرك"ة" ال""تي ال تق""ل ب""دعا في
إن للمعرفة تعرجات غريبة تجعل مسيرة تطور اختصاص" ما مليئة باملفاجآت . . ".ومن غ""ريب
أم" ""ر م" ""ا بع" ""د البنيوي" ""ة أن أعالمه" ""ا في معظمهم س" ""اهموا بش" ""كل نش" ""ط في تق" ""ويض بنيانه" ""ا والتمهي" ""د ملا
بع""دها ،وه""و أم""ر س""نعود إلي""ه الحق""ا "،له""ذا تص""دق أمثول""ة العص""ا ،وربم""ا يك""ون التعري""ف الجي""د ملا
بع""د البنيوي""ة بأن""ه بالض""بط مجموع""ة من األش""تات الفكري""ة واالتجاه""ات املنهجي""ة واألطي""اف النظري""ة
103
يبقى أم" ""ر ت" ""أثر ه" ""ؤالء املا بع" ""د ب" ""نيويين باملص" ""ادر نفس" ""ها يجلب االنتب" ""اه "فق" ""د ت" ""أثر العدي" ""د من
املفك""رين ت""أثرا عميق""ا بفلس""فة نيتش""ه ،وخاص"ة" برفض""ها لـ"وهم" الحقيق""ة ،واألفك""ار املتحج""رة ح""ول
الدالل""ة ،واعتقاده""ا ب""إرادة الق""وة وتأكي""دها" على م""ذهب دايونايس""يس Dionysosفي الحي""اة ،ومناوئته""ا
للمس ""اواتية .وعلى س ""بيل املث ""ال ت ""أثر فوك ""و بنيتش ""ه في أواخ ""ر الخمس ""ينيات وب ""دأ ينتق ""د التاريخاني ""ة
Historicismeواالنس ""انوية Humanismeكم ""ا ن ""دد ج ""ان فرانس ""وا ليوط ""ار ال ""ذي ك ""ان مناض ""ال يس ""اريا
باالتح " ""اد الس " ""وفياتي ورج " ""ع إلى فك " ""ر نيتش " ""ه .أم " ""ا ج " ""اك ديري " ""دا فه " ""و يستحض " ""ر نيتش " ""ه في كتابات " ""ه
باس""تمرار ،كم""ا أن جي""ل دول""وز أيض""ا ت""أثر كث""يرا بنيتش""ه وي""رى العدي""د من الكت""اب أن م""اركس يرش""ح
هيج ""ل باإلبق ""اء على الش ""كل الراديك ""الي (أي املنهج الج ""دلي) والتخلص من املحت ""وى املحاف ""ظ أم ""ا دول ""وز
ف""يرفض فلس""فة هيج""ل ش""كال ومض""مونا ،وي""ذهب إلى أن نيتش""ه ه""و أول ناق""د حقيقي لهيج""ل ولفك""ره
الجدلي".1
إن ه ""ذا الع ""رض املختص ""ر يق ""وم بمس ""ح جي ""د للفالس ""فة املنض ""وين تحت العن ""وان الكب ""ير ال ""براق
املغ""ري "م""ا بع""د البنيوي""ة" ذل""ك أنن""ا من خالل االطالع على رأي ه""ؤالء املفك""رين في املش""روع النيتش""وي
لم يكن جاكبسون وهو يذكر لفظة "بنيوية" تعليقا على بعض كالم سوس"ير ع""ام 1929يعلم أن
املص""طلح س""يتحول بع""د 20س""نة أو أك""ثر إلى م""ذهب نق""دي وفك""ري يمأل ال""دنيا ويش""غل الن""اس ك""ل ذل""ك
الش""غل . . .ك""ان جاكبس""ون" يح""اول (م""ع زم""رة من زمالئ""ه الش""كالنيين ال""روس) إرس""اء قواع""د جدي""دة
للتأم""ل في األدب تكتسي طابع""ا علمي""ا موض""وعيا ،يض""يق من دائ""رة ال""ذوق وس""لطان األن""ا وال""ذات ال""تي
تتالعب ب" ""القيم دون منهج واض" ""ح ،وال" ""تي تح" ""ور املوض" ""وع ال" ""ذي يك" ""ون بين أي" ""ديها تح" ""ويرا خالي" "ا" من
- 1مادان ساروب - :دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة -منشورات مخبر الترجمة في اللسانيات واألدب -جامعة قسنطينة-20043 -
ص127
104
ه ""اجس بل ""وغ الحقيق ""ة وخالي ""ا من هاجس ي اإلقن ""اع والت ""برير ألج ""ل توص ""يل القيم ""ة ال ""تي تك ""ون ال ""ذات
تحتفي بها.
س""يقول املرسي الحقيقي لقواع""د املذهب الب""نيوي "كل""ود ليفي ش""تراوس" عن ه""ذه ال""ذات تحدي""دا
" . . .األن""ا :طف""ل الفلس""فة املدلل ال""ذي ال يحتم""ل ؛ ج""اء ليش""غل مك""ان الص""دارة ف""وق خش""بة املس""رح
الفلس""في ،فوق""ف ب""ذلك حج""ر ع""ثرة في وج""ه ك""ل عم""ل ج""دي ،نتيج""ة لرغبت""ه املس""تمرة في االس""تئثار"
1
وحده بكل انتباه"
وه""و كالم نج""د ل""ه ص""دى عن""د أهم الفالس""فة م""ا بع""د الب""نيويين :ميش""ال فوك""و ال""ذي يق""ول "إذا
ك ""ان ثم ""ة ش يء ال ي ""رقى إلي ""ه الش ""ك ب ""أي ح ""ال من األح ""وال ،فه ""و أن االنس ""ان ال يمث ""ل البت ""ة أق ""دم وال
أدوم مش""كلة ط""رحت على املعرف""ة البش""رية . . .فلم يكن االنس""ان ه""و املح""ور األوح""د ال""ذي طاملا ظلت
املعرف" "ة" تح" ""وم حول" ""ه وح" ""ول أس" ""راره بتل" ""ك الص" ""ورة الغامض" ""ة املبهم" ""ة أو على ذل" ""ك النح" ""و املس" ""تمر
الدائب . . .والحق أن االنسان اختراع جديد تظهر لنا األركيولوجيا – بك"ل س"هولة -على أن"ه يرج"ع إلى
ولكن""ه وجب علين""ا كتوطئ""ة أن ن""ورد ملخص""ا مخفف""ا عن الحص""يلة البنيوي""ة كتوطئ""ة لفهم س""ياق
105
إن البنيوي ""ة هي "منهج فلس ""في وفك ""ري ونق ""دي ،ونظري ""ة للمعرف ""ة تتم ""يز ب ""الحرص الش ""ديد على
االل ""تزام بح ""دود املنط ""ق والعقالني ""ة ،ويتأس ""س ه ""ذا املنهج على فك ""رة جوهري "ة" مؤداه ""ا :أن االرتب ""اط
العام لفكرة أو لعدة أفكار مرتبطة بعضها ببعض على أساس العناص"ر املكون"ة له"ا ،أم"ا تل"ك العناص"ر
فال يعنى بها املنهج إال من حيث ارتباطها وتأثرها بعضها ببعض في نظام منطقي مركب".1
لقد جاءت البنيوية تطورا طبيعيا لسيرورة فكري"ة تع"ود إلى نهاي"ة الق"رن الس"ادس عش""ر؛ أي ب"دءا
من الفلسفة التجريبية على يدي " لوك " ،و " هيوم " ،مرورا إلى الفلس""فة املثالي""ة على ي""دي " ك""انت
" ،و " هيغ""ل " و " ديك""ارت " وص""وال إلى الفلس""فة الظاهرتي""ة عن""د " هوس""رل " و" هي""دغر " ،ويعي""دنا
ه" ""ذا الج" ""دل إلى الكالم عن أص" ""ول الفك" ""ر الح" ""داثي ال" ""ذي يرج" ""ع ب" ""ه كث" ""ير من املعلقين ح" ""تى العص" ""ر
اليون""اني . . .وهي ح""ال الفيلس""وف التفكيكي " ج""اك ديري""دا " وص""راع ثنائي""ة ال""داخل و الخ""ارج بين من
ي ""رى الحقيق ""ة ( املع ""نى ) موج ""ودة في الخ ""ارجي ( الطبيع ""ة ) ،و بين من يراه ""ا ق ""ارة في العق ""ل كمرك ""ز
للمعرف " ""ة و اإلدراك .كم " ""ا أن ه " ""ذا التس " ""ليم لم ينش " ""أ من ف " ""راغ ب " ""ل إن الرب " ""ط " املألوف " للبنيوي " ""ة
بفلس""فة " ك""انت "ل""ه م""ا ي""برره ،وه""و تأس""يس " ك""انت " لفلس""فته العقلي""ة ( املثالي""ة ) على أس""اس مب""دأ
النس ""ق ،إال أن ""ه اتك ""أ على العق ""ل كمرك ""ز للنظ ""ر في للمعرف ""ة أو كنس ""ق يس ""يرها ،في حين أن البنيوي ""ة
2
استندت إلى اللغة.
إن الربط بين البنيوية و الفلسفة الكانتية كثير الورود ؛ يقول " بول ريكور ":إن البنيوي""ة هي "
بني" ""ة دون ذات ،ألن ق" ""وام ه" ""ذه الفلس" ""فة أنه" ""ا تجع" ""ل من النم" ""وذج اللغ" ""وي نموذج" ""ا مطلق" ""ا بع" ""د أن
عممت""ه ش""يئا فش""يئا " ،3والغ""الب عن""د الدارس""ين أن الحرك""ة الش""كالنية في روس""يا هي الس""لف الش""رعي
لالتج" ""اه الب" ""نيوي ،وق" ""د ب" ""رزت في ب" ""دايات الق" ""رن العش" ""رين عقب وف" ""اة أبي اللس" ""انيات فردين" ""ان دي
سوس""ير وس""اهمت في نش""وء البنيوي""ة عن طري""ق الجه""ود اللغوي""ة اللس""انية ال""تي ب""ذلتها ثل""ة من الب""احثين
- 1سمير حجازي :معجم المصطلحات اللغوية واألدبية الحديثة -دار الراتب-بيروت ƒ-ص ص200/201
2
خثير ذويبي :البنيوية و العمل األدبي – ص - 23
-3م .نفسه-ص24
106
والنق" ""اد واملهتمين بدراس" ""ة اللغ" ""ة والنص األدبي . . .من أمث" ""ال " روم" ""ان جاكوبس" ""ون" ،و " فالديم" ""ير
ب""روب " و"تيني""انوف"و "ب""وريس إيخنب""اوم" و" فيكت""ور شكلوفس""كي" ".وك""ان بحثهم ال""رئيس عن مفه""وم
أدبي" ""ة األدب وهي " ج" ""وهر" األدب و الج" ""وهر هن" ""ا ليس ب" ""املعنى الفلس" ""في لألش" ""ياء ،و إنم" ""ا يع" ""ني ب" ""ه
ببس""اطة أجم""ل م""ا في األدب و اص""دق م""ا في""ه من عاطف""ة ،و أدف""أ م""ا في ج""وه ،و أروع م""ا في نس""جه. . .
" .1
إن املنهج الب " ""نيوي في الفك " ""ر األدبي و النق " ""دي والفلس " ""في ك " ""ذلك ،وفي مي " ""دان الدراس " ""ات اإلنس " ""انية
عموما لم ينبثق من الع"دم ،و لع"ل األب"رز و األهم في كاف"ة" تل"ك اإلرهاص"ات م"ا نش"أ في مطل"ع الق"رن في
حق" ""ل الدراس" ""ات اللغوي" ""ة وعلى وج" ""ه الخص" ""وص بت" ""أثير من العالم" ""ة فردينان" ""د دي سوس" ""ير (_1857
)1913و كتاب " ""ه الشهـير (دروس في األلسنـية العام " ""ة ) ،أين أق " ""ر ب " ""أن اللغ " ""ة يجب أن ت " ""درس كعلم
مستقل بذاته ،يدرس في ذاته ولذاته (حسب التعبير الذي صار مشهورا والعائد إلى سوسير) ذلك أن
العص ""ور الس ""ابقة ق ""د تع ""ودت على دراس ""ة اللغ ""ة على ض ""وء علم آخ ""ر أو من أج ""ل خدم ""ة تخص ""ص أو
نص" ""وص ليس" ""ت هي ج" ""وهر" اللغ" ""ة . . .وب" ""ذلك ح" ""ول سوس" ""ير اللغ" ""ة من وس" ""يلة في ال" ""درس العلمي إلى
غاية . . .وكان أساس تفكيره هو دراسة عالقاتها الداخلية دراس"ة علمي""ة تكش"ف عن ال""دالالت الكلي"ة
املحققة لقيمها الكلية أو القصدية ،وهذه هي الخلفية التي ارتكز عليها البنيويون ،وال"تي نح"اول فيم""ا
أص""ل كلم""ة بنيوي""ة التي""ني Struereومعناه "ا" البن""اء ،ومن املث""ير لالتب""اه ق""ول " ج""ورج مون""ان " ال""ذي
معناه أن كلمة بنية ليست لها رواسب و أعماق ميثافيزيقية إذا ما تأملناه""ا ملي""ا ،فهي ت""دل على البن""اء
بمعن ""اه الع ""ادي املس ""طح . . .أم ""ا املع ""ادل الفرنس ي فه ""و كلم ""ة Structureوله ""ا عموما دالالت مختلف ""ة،
107
من قبي ""ل النظ""ام ordreال""تركيب Constitutionو ال""ترتيب Dispositionو الش ""كل Formeالهيكل ""ة
1
. Organisation
أم" ""ا في العربي" ""ة فق" ""د وردت كث" ""يرا كمش" ""تق ملادة "ب .ن .ي" ولكن بمع" ""ان التهمن" ""ا كث" ""يرا …ونج" ""د له" ""ذا
املص " ""طلح اس " ""تعماالت عدي " ""دة في مي " ""ادين علمي " ""ة مختلف " ""ة كالكيمي " ""اء ،علم االجتم " ""اع "،االقتص " ""اد،
لق""د ج""اءت البنيويـة كمفه""وم فلسفـي وتح""ولت إلى فلسفـة معاص""رة ع""رفت خصوص""ا في فرنس""ا ب""دءا
من الس" ""تينيات ،وق" ""د ج" ""اءت كح" ""ل ملش" ""كالت الفلس" ""فة الوجودي" ""ة ال" ""تي ك" ""انت ق" ""د ب" ""دأت تتره" ""ل" ،
وعن""دما نتح""دث عن البنيوي""ة بوص""فها منهج""ا و بين البنيوي""ة بوص""فها م""ذهبا فلس""فيا يت""وخى الش""مولية
في تفسيراتـه و يستخـدم تجلي""ات العقـل في املج""االت املتباينـة ،ه""ذا ي""ؤدي إلى نتيج""ة مبدئي""ة و هي أن
إن الغ""الب عن""د الدارس""ين ه""و ان البنيوي""ة طريق""ة بحث في الواق""ع عموم""ا وإجم""اال ،ال في األش""ياء على
انف" ""راد ،إنه" ""ا بحث في العالق" ""ات بين ه" ""ذه األش" ""ياء ،وق" ""د يك" ""ون التعري" ""ف األمث" ""ل واألش" ""هر واألص" ""ح
للبنيوية هو كونها " محاولـة نقل النموذج اللغـوي إلى حقـول ثقافيـة أخـرى " .3
لق""ذ أخ""ذت البنيوي""ة عن سوس"ير وص""فه اللغ"ة بكونه"ا نس"قا من اإلش""ارات ،و ك"ذلك تأمالت"ه في طبيع"ة
اإلش""ارة و كونه""ا اعتباطي""ة ،ثم تفريق""ه بين ال""دال و املدلول من ناحي""ة "،و اعتب""اره للعالم""ة ذل""ك الك""ل
ال ""ذي ي ""تركب من ""ه ال ""دال و املدلول من ناحي ""ة أخ ""رى ثم تفريق ""ه بع ""د ذل ""ك بين اللغ ""ة ( ) Langageو
الكالم ( ) Paroleمن حيث ك""ون األول مخزون""ا ذهني""ا للجماع""ة البش""رية ،والكالم ال""ذي ه""و إض""افات
املتح ""دث ملجم ""وع القواع ""د ال ""تي تعلمه ""ا من أج ""ل التعب ""ير عن فك ""رة أو رس ""الة ،ثم عم ""ل سوس ""ير على
108
التفريـق بـين اآلني""ة ( ،) Synchronieمن حيث هي دراس""ة اللغ""ة بوص""فها نظام""ا في عص""ر م""ا ،و بين
الزمانيـة ( ) Diachronieمن حيث هي دراس""ة اللغ""ة من حيث تطوراته""ا و تحوالته""ا التاريخي""ة .و من
األفكـار ال" ""تي أث" ""رت في البنيوي" ""ة ك" ""ذلك م" ""ا اعتق" ""ده " سويس" ""ير " ح" ""ول اللغ" ""ة من حيث كونه" ""ا " بني" ""ة
مكتفي ""ة ب ""ذاتها ،و م ""بررة ذاتيا " . . .1وه ""و التمي ""يز س ""يولد فك ""رة مركزي ""ة في التفك ""ير الب ""نيوي . . .إن ""ه
مب" ""دأ "الع" ""زل" ال" ""ذي س" ""وف ينتق" ""ل فيم" ""ا بع" ""د إلى مختل" ""ف التخصص" ""ات ،فيتم التمي" ""يز بين البني" ""ة و
الحادث ""ة ،وبين الف ""ونيم و األلف ""ون ،و بين املورفيم و األلوم ""ورف ،و بين املي ""ثيم و األس ""طورة ،بين
الوح ""دة و تنوعه ""ا . . .وس ""يجد الحق ""ا ص ""يغته األيديولوجي "ة" في كلم ""ة " روالن ب ""ارط " " اللغ ""ة ليس ""ت
ليبيرالي " ""ة و ال ديمقراطي " ""ة ،إنه " ""ا بك " ""ل بس " ""اطة فاش " ""ية " . . .2أي أنه " ""ا تبس " ""ط س " ""يطرتها املطلق " ""ة على
موضوعها وتسيطر كذلك على أذهاننا وتحدد الصيغة التي نفكر بها.
من خالل مب" ""دأ "الع" ""زل ه" ""ذا ،تتعام" ""ل البنيوي" ""ة م" ""ع النص بوص" ""فه م" ""ادة مس" ""تقلة معزول" ""ة عن
س""ياقها" و عن ال""ذات القارئ""ة ،ف""النص مس""تقل تمام""ا عن أي شيء إذ ال عالق""ة ل""ه بالحي""اة واملجتم""ع أو
األفك ""ار" أو النفس ""ية .إن العالق ""ة بين األديب مثال وبين محيط ""ه موج ""ودة ولكنه ""ا ال ينبغي له ""ا أن ت ""برر
وجود النص فيص"ير املع"نى الوحي"د للنص ه"و ت"برير ه"ذه املعطي"ات الخ"ارج-نص"ية فحس"ب . . .وه"ذا م"ا
يوص ""ل روالن ب ""ارط في مقال ""ه الش ""هير ج ""دا "التحلي ""ل الب ""نيوي للقص ""ة" إلى أن يع ""رف القص ""ة بأنه ""ا "
مجموع""ة من الجم""ل " فحس""ب . . .وه""و كالم ل""و ع""اد ق""دامى النق""اد من الق""رن التاس""ع عش""ر وق""رؤوه
لخروا صرعى.
تتميز البنيوية بخصائص ثالثة :الكلية أو الش"مول ،و التح"ول ،و التنظيم ال"ذاتي ،فك"أن البني"ة
بحسب البنيويون هي ما يضمن للعقل فهم الواقع و التأكد" منه و السيطرة عليه.
1
عبد الناصر حسن محمد :نظرية التوصيل و قراءة النص األدبي -ص - 49
- 2عبد هللا الغذامي :الخطيئة و التكفير -ص45
109
كم ""ا يرتك ""ز املنهج الب ""نيوي ارتك ""ازا على مرجعي ""ة البني ""ة اللغوي ""ة إلض ""اءة النص و ف ""رز العناص ""ر
املكون""ة ل""ه ،و الكش""ف عن العالق""ات املختلف""ة ال""تي تص""نع تع""دد ال""دالالت فاألنس""اق اللغوي""ة هي ال""تي
تعطي املدلوالت وتحددها؛ بل و تحدد الشكل التركيبي للعبارة بحيث يك""ون هن""اك تفاع""ل أكي"د بينهم""ا،
فرصد السياق اإلبداعي يسمح لنا بفهم العديد من العالقات التركيبية بين أجزاء الكالم.
كيفية" ارتب"اط املع"نى بمجموع"ة األلف"اظ املنطوق"ة واملكتوب"ة ،وكلم"ا تمكن"ا من وص"ف بني"ة الجمل"ة زاد
وعين ""ا بالعالق ""ات بين الش ""كل واملض ""مون .تق ""ول " دليل ""ة مرس ""لي " " :من املؤك ""د أن البنيوي ""ة أت ""احت
تق" ""دما ج" ""ديا نح" ""و موض" ""عة اإلج" ""راءات املس" ""تخدمة ،و أدت إلى أعم" ""ال ته" ""دف إلى اإلحاط" ""ة بالتخي" ""ل
األدبي من وج ""ه نظ ""ر نظامي ""ة و دقيق ""ة ذات فعالي ""ة عملياتي ""ة أكي ""دة " ب ""ارط ،بريم ""ون ،ت ""ودوروف،
من خالل ه ""ذا الع ""رض يمكنن ""ا أن نفهم مواق ""ع كث ""يرة على خارط" "ة" الفك ""ر م ""ا بع ""د الب ""نيوي ،ف ""املبتغى
اليقي""ني ال""ذي ول""دت في كنف"ه" البنيوي""ة يتع""ارض تعارض""ا كلي""ا م""ع الج""و الري""بي ،التقري""بي وغ""ير املحتفي
بالحقيقة كما يفرضها ظاهرها "،وهي مبادئ تجمع مختلف التيارات ما بعد البنيوية.
تق""ول "آن إين""و" في تعري""ف الس""يميولوجيا إنه""ا محاول""ة لخل""ق وعي ب""نيوي لعملي""ة االس""تقراء ،والتعب""ير
ينط" ""وي على مفارق " "ة" إذ أنن" ""ا نعلم كلن" ""ا أن االس" ""تقراء في ع" ""الم املع" ""نى عملي" ""ة عبثي" ""ة ،وذل" ""ك بس" ""بب
110
الطبيع""ة املتش""ظية لت""داول املع""اني في ال""ذهن البش""ري ،وبن""اء على ه""ذا تص""بح كلم""ة محاول""ة ال""تي تج""اور
"الوعي البنيوي" تشكل هدما صريحا للمبادئ "العلمية"" التجريبية اليقينية التي نشأ الفك""ر الب""نيوي في
كنفه ""ا . . .إن ""ه كس ""ر ملق ""والت مث ""ل االنغالق واالكتف ""اء والكم ""ال ،وهي مق ""والت تص ""ف ال ""وعي الب ""نيوي
باملعرفة.
إنن""ا نتح""رى الدق""ة بقولن""ا "املعرف""ة" ب""دال من كلم""ات أخ""رى ،ألن املن""اخ م""ا بع""د الب""نيوي من""اخ ش""امل
يجدر بنا هنا ذكر الرمز األعلى لهذا املناخ وال"ذي ه"و الفيلس"وف فري"ديريك نيتش"ه وق"د أراد ل"ه حظ"ه
الع ""اثر أن ي ""أتي في مرحل ""ة ك ""انت االنس ""انية فيه ""ا مش ""بعة بتق ""ديس العلم واالل ""تزام السياس ي والنمطي ""ة
االجتماعي ""ة والفلس ""فات ذات املق ""والت الك ""برى النهائي ""ة التام ""ة الكلي ""ة . . .كاملاركس ""ية وبع ""دها االتج ""اه
الفروي" ""دي . .إلخ . . .وعلين" ""ا من أج" ""ل تحلي" ""ل دقي" ""ق أن نستحض" ""ر م" ""ا يتماش ى م" ""ع ه" ""ذه املناخ" ""ات من
انعكاسات عميقة غائرة على املس"تويات االجتماعي""ة وااليديولوجي"ة" والسياس"ية . ".ومختل"ف التمثالت
والتمثيالت الثقافية".
لق""د ج""اء نيتش""ه مش""ككا في امليراث العقلي وفي البني""ات العميق""ة للفك""ر والحض""ارة الغربي""ة ومش""ككا في
اآلل""ة ،وفي املع""ارف التجريبي""ة ومختل""ف أش""كال اليقيني""ات ال""تي ترت""اح البش""رية دائم""ا إليه""ا . .له""ذا نج""د
لنيتش ""ه ظالال ل ""دى فالس ""فة ك ""ثر ممن ينض ""وون تحت الالفت ""ة البراق ""ة ملا بع ""د الب ""نيويين . . .واملالح ""ظ
ل""دى املتأم""ل املدقق ه""و أن نيتش""ه ه""و الفيلس""وف الس""ابق للق""رن العش""رين املفض""ل ل""دى أبن""اء الق""رن
كث""يرا م""ا يح""دث التم""اهي بين م""ا بع""د البنيوي""ة وم""ا بع""د الحداث""ة ،وكم""ا هي الح""ال دائم""ا حينم""ا يت""داخل
مفهوم"ان متقارب"ان في األذه"ان ،فإنن"ا نج"د فريق"ا يف"رق تفرق"ة دقيق"ة بين املفه"ومين وآخ"ر يض"عهما في
س" ""لة واح" ""دة ،ح" ""تى أنن" ""ا لنج" ""د رم" ""زا مث" ""ل روالن ب" ""ارط يع" ""ده املؤرخ" ""ون مفك" ""را رئيس" ""ا من مفك" ""ري
111
البنيوي" ""ة ،وتع " ""ده املدرس " ""ة األميريكي" ""ة من املمه " ""دين الرك " ""ائز ملا بع" ""د البنيوي " ""ة في إط " ""ار م " ""ا سيس" ""مى
بالنظري" ""ة الفرنس" ""ية ، French theoryوذل" ""ك من خالل عمل" ""ه كس" ""يميولوجي عتي" ""د على ه" ""دم انغالق
نج""د ك""ذلك ميش""ال فوك""و ي""ردد م""رارا ب""أن عمل""ه مس""تقل تمام""ا عن الثنائي""ة الض""دية بنيوي""ة /م""ا بع""د
بنيبوي ""ة . . .وإن كن ""ا بص ""دد تح ""ري الص ""دق فإنن ""ا س ""نقول إن م ""ا يفعل ""ه ك ""ل ه ""ؤالء املفك ""رين ب ""دءا من
1968ه"و خل""ق "ج""و مع"رفي"" و"من"اخ أك"اديمي" س"ينتج أفك""ارا ينض"وي تحته"ا أو في م""داراتها ك"ل م""ا ي""درج
إن استعمال صيغة الجمع الدال على تعددية مجاالت عمل م"ا بع"د البنيوي"ة ،ب"دءا من أس"باب
نش""أة ه""ذا الـ"م""ا بع""د "POSTال""تي ت""تراوح تمام""ا بين الرغب""ة في معالج""ة ح""دود البنيوي""ة ومحدودي""ة نم""ط
تعاملها مع مواضيعها ،وبين الرغبة في الذهاب إلى محطة أخرى برفض امليراث البنيوي برمته.1
لق""د س""عى مابع""د الب""نيويين إلى تخطي النم""وذج اللغ""وي ال""ذي دارت حول""ه البنيوي""ة من منطل""ق
أن""ه نم""وذج منق""وص في عق""ر داره . . .إن النظ""ر إلى ك""ل موض""وع من مواض""يع املعرف"ة" على أس""اس كون""ه
وح""دة قابل""ة للتج""زيء إلى وح""دات ص""غرى ترب""ط بينه""ا عالق""ات كمث""ل العالق""ات النحوي""ة الرابط""ة بين
عناصر الجملة هو نظر قاصر بالضرورة ألن اللغة تعمل داخل التركيب النحوي وخارجه . .وه"ذا م"ا
يجب أن ينتبه إليه الع"الم الف"ذ . . .إن الص"مت ه"و ج"زء من اللغ"ة ،والس"ياق ك"ذلك ،وك"ذلك الس"ياق
املحي ""ط ب ""الكالم . .وق ""د تمرك ""زت الس ""يميائيات ح ""ول ه ""ذا البع ""د الغ ""ائب عن اللغ ""ة ،أو ح ""ول الق ""درة
2
الفائقة للغة على أن تومئ إلى عناصر غائبة عن بنية الجملة وممتلكة لطاقة حضور كبرى.
1
- Marc Gontard : Post-modernisme et littérature- « Œuvres et critiques » - vol. 23- 1998-p p32/33
- 2الدليل السيميولوجي -ص17
112
إن املش" ""روع الس" ""يميولوجي لي" ""أتي مص" ""ححا للمش" ""روع الب" ""نيوي من خالل اس" ""تنطاق طاق" ""ات الت" ""دليل
الكامن""ة في أعط""اف البني""ة وال""تي هي م""ع ذل""ك غائب""ة عن عناص""ر البني""ة التركيبي""ة وعن األنس""اق الرابط""ة
ك""ان ج""اك الك""ان" ي""رى -من زاويت""ه الخاص""ة -ب""أن فك""رة سوس""ير ح""ول إمكاني""ة ع""زل اللغ""ة عن ال""ذات
لتص" ""ير موض" ""وعا نس" ""لط علي" ""ه طاق" ""ة املعرف" ""ة أو الدراس" ""ة أو الرغب" ""ة في اإلحاط" ""ة ،فك" ""رة خاطئ" ""ة في
مجمله" ""ا وي" ""رى"أنن" ""ا كلن" ""ا غ" ""ارقون في اللغ" ""ة اليومي" ""ة وال يمكنن" ""ا الخ" ""روج منه" ""ا" ،1ب" ""ل إن" ""ه ي" ""ذهب في
أطروحات " " ""ه إلى ت " " ""داخل غ " " ""امض وض " " ""بابي بين"األن " " ""ا" واللغ " " ""ة الص " " ""ادرة عن ال " " ""ذات (واجه " " ""ة األن " " ""ا
االجتماعي ""ة ) . .فتص ""ير اللغ ""ة فخ ""ا لل ""ذات ال أداة له ""ا .ويمث ""ل على ذل ""ك بالخل ""ل اللغ ""وي ال ""ذي يص ""يب
املرض ى النفس " ""انيين ،وك " ""ذلك االنغالق الفك " ""ري الت " ""ام لع " ""ديمي الق " ""درة على االش " ""تغال اللغ " ""وي من
املرضى . .على ج""انب آخ""ر "ي""رى الك""ان أن الدالل""ة ت""برز فق""ط من خالل الخط""اب كنتيج"ة" لالنزي""اح على
ط ""ول سلس ""لة داللي ""ة ،وعلى غ ""رار "ديري ""دا" يص ""ر على قابلي ""ة املدلول للتغ ""ير وعلى إمكاني ""ة توظيف ""ه
ك ""دال ب ""دوره .وب ""الطبع ي ""ترتب عن ع ""دم التط ""ابق ه ""ذا بين اللغ ""ة والواق ""ع (أي الطبيع ""ة غ ""ير التمثيلي ""ة
للغ ""ة ) أن املدلول يبقى دائم ""ا مؤقت ""ا " 2وهي فك ""رة نج ""دها عن ""د ك ""ل املفك ""رين م ""ا بع ""د الب ""نيويين ،وهي
فك ""رة نيتش ""وية بامتي ""از لكي نع ""ود على نيتش ""ه ال ""ذي قلن ""ا إن ""ه االبن املدلل للفك ""ر م ""ا بع ""د الب ""نيوي؛ في
والخالص ""ة هي أن ال ""دال في نظ ""رة الك ""ان للغ ""ة ي ""دل دائم ""ا على دال آخ ""ر وال تخل ""و أي كلم ""ة ك ""انت من
املجازي ""ة ( واملج ""از ه ""و إحالل دال مح ""ل دال آخ ""ر) ويتح ""دث الك ""ان عن "ان ""زالق"على ط ""ول السلس ""لة
الداللية ،من دال إلى دال وبما أنه بإمكان أي دال أن ي""دل ب"أثر رجعي بع""د ح""دوث فع""ل الدالل"ة فليس
3
هناك داللة مغلقة كاملة ومرضية"
- 1دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة -م .مذكور -ص18
- 2م .نفسه -ص19
- 3م .نفسه –ص19
113
إن اللغة به"ذا املنظ"ور تص"ير كينون"ة نعيش داخله"ا ،ويص"بح التموق"ع الب"نيوي االس"تعالئي ال"ذي يس"مح
بالنظرة الشمولية والدراسة املوضوعية ضربا من العبث ،إن الذات متشابكة مع املوض"وع في ض"ياع
كلي للح ""دود بحيث يص ""ير املوض ""وع ج ""زءا من ال ""ذات ،وتص ""ير ال ""ذات متورط ""ة في خل ""ق منظ ""ور ح ""ول
املوض ""وع يجع ""ل ه ""ذا األخ ""ير منقوص ""ا ألن ""ه غ ""ير مح ""دد بش ""كل قاب ""ل لالتف ""اق علي ""ه ،أي بش ""كل قاب ""ل
للتجريب والفحص.
يوقعن ""ا ه ""ذا الكالم مباش ""رة في الت ""أمالت الهام ""ة مليش ""ال فوك ""و ح ""ول الخط ""اب ال ""ذي يجعل ""ه تنظيم ""ا
مخادع" ""ا يه" ""دف إلى خل" ""ق س" ""لطة مهيمن" ""ة خ" ""ارج البني" ""ة الخطابي" ""ة "،تهيمن عليه" ""ا من ال" ""داخل (دون أن
1
تظهر) ومن الخارج دون أن نتحسسها.
النقط ""ة الثاني ""ة ال ""تي تب ""اين بين البنيوي ""ة والت ""أمالت الفوكوي ""ة في الخط ""اب هي االص ""رار على االنتش ""ار
الزم""اني للعناص""ر الخطابي""ة ،وم""ا يش""به ف""راغ اللحظ""ة الخطابي""ة من أي""ة كثاف""ة "،بحيث أنن""ا إذا رمن""ا
تأم " ""ل أي تش " ""كيل خط " ""ابي في لحظ " ""ة معط " ""اة ،خ " ""ارج الس " ""يرورة التاريخي " ""ة فإنن " ""ا س " ""نكون ق " ""د رمن " ""ا
املس""تحيل . . .2وه""ذه نقط""ة يجتم""ع حوله""ا فيلس""وفان م""ا بع""د بنيوي""ان هم""ا ديري""دا وفوك""و ،فق""د ق""ال
األول بالتفكيكية وقال الثاني بالحفري"ات في البن"اءات التحتي"ة الخفي"ة ،وق"د رب"ط املحلل"ون واملعلق"ون
بين الفك" ""رتين أو بين املفك" ""رين إلى درج" ""ة نش" ""وء خص" ""ومة ك" ""برى بين الفيلس" ""وفين في محاول" ""ة من ك" ""ل
منهم" ""ا لتبي" ""ان وج" ""وه اختالف نظرت" ""ه عن نظ" ""رة اآلخ" ""ر . .إال أن نظرتيهم" ""ا لل" ""دور الخط" ""ير للتش" ""كيالت
الخطابية في رسم الحقيقة ،وفي تعيين ما يمكنه أن يوسم باليقين تظالن نظرتين متقاربتين.
"إن م""ا بع""د البنيوي""ة أص""بحت في أح""د تجلياته""ا طريق""ة مناس""بة للته""رب من القض""ايا السياس""ية ؛ فق""د
حركت أعمال ديريدا وغ"يره موج"ة كب"يرة من الش"ك في املف"اهيم الكالس"يكية للحقيق"ة والواق"ع واملع"نى
1
- Pierre Machery : Querelles cartesiennes II –2002- article. lien : stl. recherche. univ-lille3.
fr/seminaires/philosophie/macherey/
2
-ibid.
114
واملعرف" ""ة ".ف" ""إذا ك" ""ان املع" ""نى – أو املدلول -إنتاج" ""ا ع" ""ابرا من الكلم" ""ات او ال" ""دوال املتغ" ""يرة باس" ""تمرار،
املتأرجحة" بين الحضور والغياب ،كيف يمكن أن تك""ون هن""اك حقيق""ة مح""ددة أو مع"نى على االطالق ؟
وإذا ك""ان الواق""ع يتش""كل بواس""طة خطاباتن""ا ع""وض أن ينعكس من خالله""ا فكي""ف نع""رف الواق""ع نفس""ه
ع""وض أن نع""رف خطابن""ا فق""ط؟ وباعتب""ار ه""ذه الدوغمائي""ة ال يمكنن""ا أن نع""رف أي شيء على االطالق،
1
كل واحد منا سجين خطابه""
ه""ذه الفك""رة ي""دفعها مفك""رون آخ""رون مث""ل ريتش""ارد رورتي ودونال""د ديفيدس""ن إلى نقط""ة أبع""د حينم""ا
يجتمعان (رغم البون املبدئي بينهما) على عد االستعمال اللغوي لزمن معطى ش"ديد اللص"وق بال"ذوات
املس""اهمة في خلق""ه وباملمارس""ات املجتمعي""ة ال""تي س""اهمت في إظه""اره بحيث يص""ير عس""يرا (ب""ل مس""تحيال،
وفي مقول""ة تجم""ع أش""تاتا من األفك""ار يق""ول جوناث""ان ك""الر"وعن""دما أص""بحت البنيوي""ة حرك"ة" أو مدرس""ة
ب ""دأ املنظ ""رون يبتع ""دون عنه ""ا ،فق ""د ب ""دا واض ""حا أن أعم ""ال من ك ""انوا يعت ""برون ب ""نيويين لم تتم ""اش م ""ع
البنيوي"ة كمحاول""ة للتحكم في البني""ات وتنظيمه""ا ،وب""دأ ينظ"ر إلى ب""ارط والك"ان وفوك"و على أنهم م"ا بع"د
2
بنيويين ألنهم تعدوا تصورات البنيوية الضيقة "
ويمكنن""ا ض""رب مث""ال على ه""ذا الكالم بالتقس""يم البلي""غ ال""ذي ج""اء ب""ه ج""يرار جي""نيت في كتاب""ه"أط""راس"
،1982وه ""و يق ""ر ب ""أن هن ""اك ن ""وعين من التفك ""ير الب ""نيوي أح ""دهما بنيوي ""ة االنغالق وثانيهم ""ا بنيوي ""ة
االنفت""اح كم""ا يس""ميها ،وق""د ض""رب مث""اال للن""وع األول بالدراس""ة الش""هيرة في تحلي""ل قص""يدة "القط""ط "
لبودلير والتي أنجزها روم""ان جاكبس"ون" بمعي"ة كل""ود ليفي ش"تراوس ،في حين رأى جي"نيت نفس"ه يحل""ل
النص"وص فيم"ا بعض"ها ين"ير بعض"ا ،فيص"ير مع"نى النص منوط"ا بمع"ان ت"أتي من خارج""ه وه"ذا مض"اد ملا
- 2جوناثان كالر : النظرية األدبية -تر :خميسي بوغرارة -منشورات ƒمخبر الترجمة في اللسانيات ƒواألدب -جامعة قسنطينة -2008 ƒ-ص116
115
ويمكنن""ا الوق""وف على ق""راءة مث""يرة ألعم""ال الب""نيويين ت""رى ب""أن "كث""يرا من املواق""ف املرتبط""ة بم""ا بع""د
البنيوي""ة ك""انت واض""حة ح""تى في األعم""ال األولى له""ؤالء املفك""رين عن""دما ك""ان يعتق""د أنهم ب""نيويون ،فق""د
وص""فوا التش""ابك ال""ذي يح""دث بين النظري""ات والظ""واهر ال""تي تح""اول النظري""ات وص""فها ،والنص""وص
ال""تي تنتج املع""نى بخل""ق األع""راف ال""تي شخص""ها التحلي""ل الب""نيوي ،كم""ا أق""روا بع""دم إمكاني""ة بن""اء نظ""ام
1
داللي كامل ومتناغم ،ألن األنظمة في حالة تغير مستمر"
وربما يكون املسار املعرفي الجدير بالتأمل ألعمال روالن بارط بليغا في الداللة على ه"ذه الفك"رة ،نق"د
بدأ بكتابة "ميتولوجيات" قارئ"ا للظ"واهر الثقافي"ة بخلفي"ة نظامي"ة غ"ير متقص"دة للزاوي"ة البنيوي"ة ،ثم
م ""ر بمرحل ""ة بنيوي ""ة ص ""ريحة م ""ع بداي ""ة الس ""تينيات يمثله ""ا خ ""ير تمثي ""ل مقال ""ه ذائ ""ع الص ""يت " التحلي ""ل
الب" ""نيوي للقص" ""ة" . .ثم تح" ""ولت أعمال" ""ه إلى س" ""يميولوجيا منفتح" ""ة مثقف" ""ة مض" ""ادة لالنغالق الب" ""نيوي
"في" الواق ""ع ليس ""ت م ""ا بع ""د البنيوي ""ة كش ""فا لنق ""ائص وأخط ""اء البنيوي ""ة فحس ""ب ب ""ل هي أك ""ثر من ذل ""ك،
ع""زوف عن مش""روع محاول""ة فهم الظ""واهر الثقافي""ة وترك""يز ع""وض ذل""ك على نق""د املعرف""ة والش""مولية
وال""ذات ،ويعام""ل ك""ل من ه""ذه كإش""كالية ،فبني""ات" األنظم""ة الداللي""ة ،كمواض""يع للمعرف""ة "،ليس له""ا
وجود مستقل عن الذات ،بل هي بنيات لذوات متشابكة مع القوى التي تنتج تلك البنيات" .2
إن ه""ذه األفك""ار تس""قط وهم البنيوي""ة املتمث""ل في م""يزتي"الكم""ال"" و"الثب""ات" . . ".فالخط""اب ينط""وي أب""دا
على غم""وض وان""زالق وانغالق غ""ير قاب""ل للمعالج""ة املنهجي""ة ،وعلى خ""داع ومخ""اتالت مستعص""ية على
اإلحاطة.
ومن الواض""ح أن ال""دور ال""رئيس في ه""ذه املرحل""ة يع""ود إلى ت""دخل ال""ذات ؛ ه""ذه األداة م""ا بع""د البنيوي""ة
ال ""تي نج ""دها ش ""ديدة الحض ""ور ل ""دى فالس ""فة "النظري ""ة الفرنس ""ية" كعنص ""ر مض ""اد للكلي ""ة واملطلقي ""ة
- 1م .نفسه -الصفحة نفسها
- 2م .نفسه -الصفحة نفسها.
116
واالس ""تعالئية " ،إن خالص ""ة م ""ا يقول ""ه م ""ا بع ""د الب ""نيويين مث ""ل ليوط ""ار هي أن هن ""اك في الحي ""اة أش ""ياء
كث""يرة أهم من السياس""ة قى ،ف""إذا انهمكن""ا في السياسي نس""ينا م""ا يج""ري" هن""ا ،اآلن" واملاركس""يون دائم""ا
ينتق ""دون الوض ""ع الح ""الي" ب ""النظر إلى وض ""عية مثالي ""ة واملتطرف ""ون يتعنت ""ون لدرج ""ة أن ""ه ال وقت ل ""ديهم
للتمت ""ع بالحي ""اة ،واملثالي ""ة كم ""ا هي اآلن تعزلن ""ا عن الحاض ""ر يجب ع ""وض أن نحن إلى مجتم ""ع متكام ""ل
يك ""ون ق ""د وج ""د في املاض ي أن نجس ""د مظ ""اهر الحي ""اة املعاص ""رة ويري ""د م ""ا بع ""د الب ""نيويين تمجي ""د ك ""ل
العناصر التي تجاهلتها النظريات الكليانية ،لذلك نجدهم يركزون على الهامشي واملستثنى".1
الفكرة األخرى ال"تي تول"دت عن الفك"ر مابع"د الب"نيوي هي التمجي"د الش"ديد ملب"دأ الل"ذة ،وذل"ك ب"النظر
إليها كطاقة" فعال"ة إلخ"راج مكنون"ات العق"ل ال"تي غالب"ا م"ا تكبحه"ا ميكانيزم"ات األداء العقلي ال"واعي؛ أي
األخالقي (وف" ""ق أخالقي" ""ات املجتم" ""ع ال" ""تي تخ" ""رج من دائ" ""رة التواف" ""ق إلى دائ" ""رة الس" ""لطة املرتك" ""زة على
ال""تراكم الت""اريخي) . . .إن له""ذا النم""ط من تمجي""د الل""ذة تمظه""رات ثقافي"ة" معاص""رة كث""يرة ،فق""د تج""اوز
املفه ""وم م ""ا بع ""د الب ""نيوي عتب ""ات ال ""درس األدبي والج ""ا بواب ""ة التمظه ""رات الثقافي ""ة املتنوع ""ة ،فيمكنن ""ا
دراس" ""ة أنظم" ""ة املوض" ""ة او فلس" ""فة وس" ""ائل اإلعالم ونظري" ""ات التواص" ""ل لنج" ""د أن مب" ""دئي املس" ""ؤولية
وااللتزام اللذين سيطرا على فكر ما بين الحربين وكذلك ما بعد الحرب الكونية الثانية قد أخذ يترك
مكان""ه ت"دريجيا ملب"دأ الل"ذة واملتع""ة والراح"ة واللعب والله""و وتمجي""د ال"ذات املس"تمتعة والجس"د املنتشي
والجمال الظاهري وعبادة الجسم والشكل والهيأة و ك"ل تل"ك القيم الرائج""ة في أفك""ار أس"اطين م""ا بع"د
الحداث""ة (ولنت""ذكر هن""ا ذل""ك التم""اهي ال""ذي ب""دأنا ب""ه دراس""تنا بين القيم م""ا بع""د البنيوي""ة والقيم م""ا بع""د
الحداثية). . .
إن له" ""ذه األفك ""ار" خلفي ""ة كب ""يرة في الدراس" ""ات النفس" ""ية لالك ""ان وفيليكس غواط ""اري وجي ""ل دول" ""وز. . .
وقد ":كتب ليوطار ( ) . . .عن التوتر الخطابي والتصويري ،أي بين الكالم والص""ورة في كت""اب عنوان"ه
الخط""اب /الص""ورة discours/figureفق""د ك""ان دائم""ا مولع""ا بك""ل م""ا ه""و غ""ير لغ""وي . . .كم""ا انتق""د نظ""رة
- 1دليل تمهيدي إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة -م .مذكور -ص142
117
َ
"آخ ر اللغ""ة" وربك""ه بالتمثي""ل التص""ويري ،كم""ا رب""ط م""ا قب""ل الش""عور
الك""ان القائل""ة ب""أن الالش""عور ه""و "
باللغ ""ة .فاللغ ""ة ترتب ""ط بالرقاب ""ة والكبت والقم ""ع ،أم ""ا التمثي ""ل التص ""ويري فيرتب ""ط بالش ""هوة الخ ""رق،
ويرى ليوطار أن الفن الح"ديث مش"تت ومح"رر ،ويمث"ل ك"ل من التش"تيت والتش"ويش محاول"ة لتس"ليط
الضوء على عمليات الالشعور .وهكذا يستدعي الفن حتما زعزعة األعراف". . .1
إن إح ""دى األفك" ""ار األك ""ثر تعارض" ""ا م ""ع الفك ""ر الب" ""نيوي في إط ""ار املش ""روع م ""ا بع" ""د الب ""نيوي هي فك ""رة
االختالف التي تحيل أيضا على اللعبة الكالمية التي اقترحه"ا "ج"اك ديري"دا " اختالف/تش"تيت أو إرج"اء
Différence/différanceوال " ""تي فحواه " ""ا أن النص " ""وص تمتل " ""ك طاق " ""ات إلرج " ""اء املع " ""نى ال " ""ذي عودتن " ""ا
الكالس" ""يكية على كون" ""ه مغلق" ""ا نهائي" ""ا منتهي" ""ا مبتوت" ""ا في أم" ""ره ،طاق" ""ات تجع" ""ل الق" ""راء يمتلك" ""ون ح" ""ق"
االختالف" في تأوي""ل املع""نى ،وإرج""اء ه""ذا املع""نى النه""ائي في إط""ار "لعب""ة " ان""زالق املدلوالت على أرض""ية
املداليل ،وهك ""ذا يع ""وض "االئتالف" السويس ""ري الواق ""ف خل ""ف املش ""روع الب ""نيوي به ""ذا الـ "اختالف"
2
الديريدي املرسي للمشروع ما بعد البنيوي. . .
يعي" ""دنا ه" ""ذا املفه" ""وم الى الخلفي" ""ة النيتش" ""اوية ،ألن نيتش" ""ه ك" ""ان ق" ""د وق" ""ف ض" ""د التفك" ""ير من مرك" ""ز
الثنائيات األرسطية التي استمرت حتى الجدلية الهيغيلية .الثنائيات ال"تي تنظم ك"ل القيم وك"ل األفك"ار"
فتقص ي م ""ا ش ""ذ عن طرفيه ""ا املتج ""ادلين أو املتق ""ابلين وق ""د ك ""ان ه ""ذا أح ""د املواض ""يع الرئيس ""ية ال ""تي دار
حولها كتاب " جيل دولوز" 'نيتشه والفلسفة' ،1962قائال بان قيمة االختالف هي قيمة مس""تقلة عن
ال ""ذات واملوض ""وع ،قيم ""ة رئيس ""ية أص ""لية أص ""يلة غ ""ير قابل ""ة لالخ ""تزال إلى قيم تك ""ون وح ""دات اص ""غر،
فالتع ""دد ن ""اموس من ن ""واميس الك ""ون واالختالف ه ""و الوج ""ه اآلخ ""ر للتع ""دد فه ""و قيم ""ة باني ""ة للخل ""ق،
للطبيعة وللمعنى.
تص""ير القيم "آث""ارا" على خ""ط ال""زمن ،وتض""يع التقني""ات بأنه""ا مؤجل""ة إلى زمن لم ي""أت بع""د ،ومزلزل""ة
بفعل مضى وانقضى حامال معه صيغة أخرى ماضية تاركة آثارها في الحاضر . . .وبه""ذا الش"كل يص"ير
االختالف قيم" ""ة حتمي" ""ة متحرك" ""ة في ال" ""زمن . . .وهي قيم" ""ة تزل" ""زل البني" ""ان الب" ""نيوي فتفق" ""ده أس" ""باب
وجوده.
يق""ول ديري""دا على ه""امش ه""ذه الفك""رة " ربم""ا على الفلس""فة أن ت""دخل في اعتباره"ا" ه""ذا الغم""وض وه""ذا
الت""داخل ،أن تفك""ر في""ه وأن تفك""ر من خالل""ه في نفس""ها ،أن عليه""ا أن تتقب""ل التعددي""ة واالختالف في
1
أفق التوقعات الذي هو في أفق جوهري في الفلسفة"
فك""رة ثالث""ة هي املنح""درة من الت""أمالت م""ا بع""د البنيوي""ة في الخط""اب ،وال""تي ت""ؤدي بن""ا إلى االعتق""اد ب""أن
بين الخط ""اب وال ""ذهن املش ""كل ل ""ه أو الص ""ائغ ل ""ه واملتلف ""ظ ب ""ه ص ""لة دائري ""ة؛ بحيث أنن ""ا بم ""رور ال ""زمن
نص""بح ع""اجزين تمام""ا عن ال""وعي بالفاع""ل واملفع""ول ب""ه ،ذل""ك أنن""ا نص""وغ خطاب""ات تع""بر عن""ا ثم نص""ير
سجناء تلك الخطابات ،التي تصبح تتحكم في مصائرنا ،ويتحرك هذا امليكانيزم في إطار خلق عالم""ات
هيمن ""ة تجعلن ""ا ع ""اجزين عن البت النه ""ائي في الس ""ؤال :ه ""ل اإلنس ""ان ه ""و ال ""ذي يتحكم في الخط ""اب أم
العكس؟
من املث ""ير لالنتب" ""اه أن "فوك" ""و "م" ""ع بدايات ""ه انتمى إلى التي" ""ار الب" ""نيوي ،أو أدرج ض" ""منه بس" ""بب مج ""االت
االهتمام املتقاطعة مع ذلك التيار ،في حين نجده يعلن عن مجمل األفكار" التي ترسم مساره الفلس""في
ال""ثري واملتم ""يز ب ""االختالف الت ""ام عن البنيوي ""ة في كتاب "ه" " الكلم ""ات واألش ""ياء" Les mots et les choses
الصادر عام 1966أي في عز سطوة التيار البنيوي الذي كان آنذاك في أوجه.
1
-Jacques Derrida : L’écriture et la différance- seuil-Paris-1967-p166
119
فك""رة أخ""رى ص""ارت تحس""ب على امليراث م""ا بع""د الب""نيوي هي تمجي""د الل""ذة كقيم""ة فلس""فية ،واتخاذه""ا
قيمة بديلة لقيمة "املسؤولية" ،قيمة تعم"ل على تحري"ر اإلنس"ان من ض"غط الحي"اة والفك"ر والص"راع،
وك ""ل ذل ""ك لفائ ""دة التس ""لية والراح ""ة واالنبس ""اط والتخف ""ف من األعب ""اء .إن ""ه اتج ""اه ف ""اض عن ح ""دود
إن له""ذا النم"ط من تمجي""د الل""ذة تمظه"رات ثقافي"ة" كث""يرة في الثقاف"ة" املعاص""رة ،فق""د تج""اوز املفه"وم م"ا
بعد البنيوي عتبات الدرس األدبي والجا بواب""ة التمظه""رات الثقافي""ة املتنوع"ة ،فيمكنن""ا دراس""ة أنظم"ة
املوض""ة ،أو فلس""فة وس""ائل اإلعالم وك""ذلك الخلفي""ات السوس""يوثقافية" لنظري""ة التواص""ل ،لنج""د أن
مب ""دئي املس ""ؤولية واالل""تزام الل ""ذين س ""يطرا على فك ""ر م ""ابين الح ""ربين وك ""ذلك م ""ا بع ""د الح ""رب الكوني ""ة
الثانية ق"د أخ"ذا يترك"ان مكانهم"ا ت"دريجيا ملب"دأ الل"ذة واملتع"ة واللعب والراح"ة والتس"لية وتمجي"د ال"ذات
املس ""تمتعة والجس ""د املنتشي والجم ""ال الظ ""اهري وعب ""ادة الجس""م والش ""كل والهيئ ""ة . . .وك ""ل تل ""ك القيم
الرائج""ة في أفك""ار أس""اطين م""ا بع""د الحداث""ة ( ويج""در بن""ا هن""ا أن ن""ذكر بالتم""اهي ال""ذي ب""دأنا ب""ه دراس""تنا
إن له""ذه األفك""ار" خلفي""ة كب""يرة في الدراس""ات النفس""ية لـ"الك""ان" و "فيليكس غواط""اري" و"جي""ل دول""وز
"وقد كتب ليوطار عن العمق الشديد لألثر النفسي للتوتر الخط"ابي والتص"ويري بين الكالم والص"ورة
في كت""اب عنوان""ه "الخط""اب/الص""ورة" ، discours/figueوق""د ك""ان دائم""ا مولع""ا بك""ل م""ا ه""و غ""ير لغ""وي،
كما انتقد نظرة "الك"ان" القائل"ة ب"ان الالش"عور ه"و " آخ"ر اللغ"ة "وربط"ه بالتمثي"ل التص"ويري كم"ا رب"ط
م ""ا قب ""ل الش ""عور باللغ ""ة .فاللغ ""ة ترتب ""ط بالرقاب ""ة والكبت والقم ""ع ،أم ""ا التمثي ""ل التص ""ويري فيرتب ""ط
بالشهوة والخرق ويرى "ليوطار" أن الفن الحديث مشتت ومحرر ويمثل كل من التش""تيت والتش""ويش
محاولة لتسليط الضوء على عملية الالشعور وهكذا يستدعي الفن حتما زعزعة أعراف A41
120
يمكننا في هذه املرحلة من هذا العرض السريع لبعض مواقع االشتغال م""ا بع""د الب""نيوي أن نس""تخلص
جملة من األفكار" و على رأسها عودة الذات إلى شيء من التالعب باملوضوع بعدما عمل الق""رن التاس"ع
عشر وبداية القرن 20على تحيي"دها" بتل"ك الحج"ة ال"تي ص"اغها "ليفي ش"تراوس" ق"ائال بأنه"ا مث"ل الطف"ل
املدلل للفلس""فة وذل""ك في أعق""اب ظه""ور النزع""ة العلمي""ة واملادي""ة والكلياني "ة" ال""تي ك""انت تحلم بمنظوم""ة
ترانس " ""اندنتالية تحي" ""ط باملعرف " ""ة والك " ""ون واإلنس " ""ان ،وتص " ""ل إلى ص " ""ياغة منظوم " ""ات لل " ""وعي والفهم
الفك""رة املركزي""ة األخ""رى هي ت""أخر اليقيني""ة الكلياني""ة لفائ""دة الريبي""ة واالختالف والجزئي""ة والتش""تيت
واملراجع ""ة واملس ""اءلة واإلرج ""اء . . ".وهي كله ""ا قيم اق ""رب إلى ج ""وهر" اإلنس ""ان ،ال ""ذي ع ""اد م ""ع م ""ا بع ""د
الب ""نيويين ليحت ""ل املكان ""ة املركزي ""ة في الفلس ""فة والفك ""ر . . .إن م ""دار بحث اإلنس ""ان ه ""و اإلنس ""ان وليس
121
أفق إيطيقي
حكمة لألزمنة الجديدة
املشروع األخالقي لدى إدغار موران
إن وعي إدغ ""ار م ""وران بخصوص ""يات ال ""زمن ال ""ذي نحي ""اه وعي خ ""اص" ج ""دا؛ وله ""ذا نج ""د دائم ""ا ص ""دى
خاص ""ا ون ""برة متم ""يزة لدي ""ه كتل ""ك الش ""هيرة ال ""تي يح ""دد فيه ""ا نمط ""ا مم ""يزا ملا يس ""ميه الض ""رورة الثوري ""ة
لألزمنة القلقة الحديثة؛ إذ يقر بأننا " بحاجة" إلى أن نفهم أن ثورة اليوم ال تتمركز كثيرا على أساس
األفك ""ار" الجي ""دة أو املناقض" "ة" لل" ""راهن او تل" ""ك الحقيقي" ""ة في ص ""راع الحي ""اة واملوت م ""ع األفك" ""ار الس ""يئة
1
والخاطئة ،ولكن في مجال تعقيد تنظيم األفكار "
ف ""إذا اس ""تبعدنا الثنائي ""ة العتيق ""ة للص ""واب والخط ""أ الل ""ذين تعودن ""ا عليهم ""ا كط ""رفين ف ""اعلين في الص ""راع
املدعو "جدلي""ة" كمواجه ""ة حتمي ""ة بين ق""وتين متناقض ""تين ته""دف إح""داهما للهيمن""ة على األخ""رى ،نج""د
انفس ""نا بالض ""رورة في مق ""ترح إدغ ""ار م ""وران ال ""داعي إلى التفك ""ير من زاوي ""ة الحواري ""ة كمقارب "ة" مختلف ""ة
للصراع الفكري والتاريخي واألخالقي" طبعا.
ويح" ""دد م" ""وران ه" ""ذا املفه" ""وم ال" ""وارد أول م" ""رة عن" ""د ب" ""اختين ق" ""ائال " :إن فك" ""رة الح" ""وار تس" ""مح برب" ""ط
املواض""يع العدائي""ة ،وال""تي يب""دو في ح""دودها ملمح التن""اقض .وه""ذا يع""ني أن منطق""تين اثن""تين تتق""ابالن،
لتتح " ""د املب" ""ادئ دون ازدواجي " ""ة االزدواجي" ""ة في ه " ""ذه الوح" ""دة :وبالت " ""الي" الفك" ""رة .أم" ""ا "األحادي" ""ة" ال" ""تي
اقترحته""ا في بعض الح""االت بالنس""بة لإلنس""ان فهي أحادي""ة الوج""ود ،العض""وية وغ""ير العض""وية على ح""د
س" ""واء .وربم" ""ا الثقافي" ""ة ايض" ""ا .وفي منظ" ""ار يجع" ""ل الوج" ""ود محص" ""ورا بين الوح" ""دة أو التعددي" ""ة يص" ""بح
2
الحوار هو التكامل".
يق ""ر إدغ ""ار م ""وران ب ""أن ت ""اريخ ال ""دياليكتيك مرتب ""ط اص ""ال بت ""اريخ الع ""داوة والص ""راعات الدامي ""ة ال ""تي
هيمنت على األخالق البش""رية كص""يغة وحي""دة ممكن""ة للتقاب""ل بين اتج""اهين غ""ير متفقين .ونط""رح مع""ه
هنا السؤال الجوهؤي الدذي انبنت عليه "منهجيته"" الش"هيرة :ه"ل يمكن للص""راع ان يحي"ل على خاتم""ة
1
- Edgar MORIN, La Méthode 4-Les idées, pag. 238
2
Nelson Vallejo-Gomez : La pensée complexe : Antidote pour les pensées uniques Entretien avec Edgar Morin
In : Synergies Monde n° 4 - 2008 pp. 249
122
سعيدة؟ ثم؟ ،أفال يمكنم لالختالف أال يحيل على العداوة؟ وأن يحيل على إمكانية" ول""و نظري""ة للعيش
املشترك؟
ألج" ""ل اإلجاب" ""ة على ذل" ""ك يع" ""ود بن" ""ا إدغ" ""ار م" ""وران إلى مرحل" ""ة هيراقلي" ""ط ال" ""ذي ك" ""ان يتمث" ""ل التع" ""دد في
الج ""وهر الواح ""د" .يجب إذن أن نس ""عى في التفك ""ير املتن ""اقض من ه ""يراكليتس ،ال ""ذي يتص ""ور تع ""دد في
واح ""د .وح ""دة الك ""ائن ،نظ ""ام معق ""د ،ف ""إن التنظيم النش ""ط ال يفهم ""ه منط ""ق الهوي ""ة الس ""ائد والغ ""ارق في
األحادية املنغلقة على الذات .ففي غطار الواحد ليس هناك
التن " ""وع فق " ""ط ،ب " ""ل توج " ""د ح " ""تى النس " ""بية وع " ""دم اليقين ،والغم " ""وض ،واالزدواجي " ""ة "،واالنقس " ""امات،
والع ""داء .يجب أن نفهم أن واح ""دا ه ""و في الواق ""ع بالنس ""بة إلى اآلخ ""ر .ال يمكن تعريفه ""ا إال في جوهره ""ا.
انه يحت"اج الى الخ"روج من بيئت"ه ومراقب"ه .واح"دة معق"دة ج"دا .إن"ه هوي"ة معق"دة .ه"و ،مث"ل ك"ل م"ا ينتج
الفردي""ة ،واالس""تقاللية ،والهوي""ة،االس""تمرارية في أش""كالها "،و في إط""ار أحادي""ات متع""ددة .لق""د كتبت في
كت ""ابي " التفك ""ير أوروب ""ا" ،أنن ""ا نعيش في ال ""وهم ب ""أن الهوي ""ة واح ""دة وغ ""ير قابل ""ة للتجزئ ""ة،في" حين أن ""ه ال
يوج" ""د ش يء ع" ""دا وح" ""دة متع" ""ددة الوح ""دات (وح" ""دة مركب ""ة) ،والواق" ""ع ه" ""و أن هويتن ""ا هي جمه" ""رة من
1
الهويات املتآلفة ،بمعنى اننا نعيش الهوية العائلية"
يمكنن""ا أن نتق""دم خط""وة إلى األم""ام متس""ائلين فلس""فيا :كي""ف تنش""ا أخط""اء التربي""ة والتك""وين ه""ذه؟ ( من
منطل" ""ق أن املش" ""روع األخالقي" إلدغ" ""ار م" ""وران كم" ""ا عرفن" ""اه من قب" ""ل ه" ""و مش" ""روع يعتم" ""د على مخط" ""ط
ترب""وي ،مخط""ط يتكئ أساس""ا على تك""وين إنس""ان ي""أتي غ""دا حس""ب مخطط""ات ونم""اذج نفس""ية وثقافي "ة"
نعمل اليوم على تشكيلها وهنا" يبزغ قلقان في الواقع ال قلق واحد:
ه""ل يمكن التفك""ير في إنس""ان ب""ديل مس""تعد لفتح ص""فحة تاريخي""ة ( وبالت""الي" أخالقي""ة) جدي""دة وج""ديرة
بالتخطيط املستقبلي إلنقاذ إنسانية يبدو انها تعاني مشكال كب""يرا في التواص"ل البش""ري في عص"ر يس"مى
للمفارقة" بعصر التواصل.؟
ي ""دعونا إدغ ""ار م ""وران إلى إع ""ادة جدول ""ة املف ""اهيم فيق ""ول ب ""أن التواص ""ل اإلنس ""اني لكي يحق ""ق "أهداف ""ه
وغايات""ه ينبغي أن يك""ون هن""اك فهم ص""حيح لإلنس""ان في ح""د ذات""ه ،في أبع""اده ومكونات""ه .إن فهم اإلنس""ان
1
Ibid. p250
123
يتطلب ال" ""وعي بالط" ""ابع املركب له" ""ذا اإلنس" ""ان ،فاألس" ""لوب املع" ""رفي الق" ""ائم على الفص" ""ل واالخ" ""تزال ق" ""د
وق ""ف ح ""ائال دون فهم التعقي ""د اإلنس ""اني ،حيث أنه ""ا ق ""د تحققت تجزئ ""ة اإلنس ""ان بمختل ""ف العل ""وم ،
ّ
بالظ ""اهرة البش ""رية ك" ل من زاوي ""ة خاص ""ة ومح ""ددة ،فتـم التج ""زيء إلى أج ""زاء ،ك ""ل ج ""زء مع ""زول عن
1
اآلخر في العلوم اإلنسانية ،بينما غاب اإلنسان في علوم العالم".
من غ""ريب األم""ر أن تج""د ه""ذه املع""ارف تش""كل خطاب""ات ع""بر نص""وص تق""ترح وعي""ا جدي""دا باإلنس""ان في
ح""د ذات""ه .وه""و أم""ر ح""دث م""رارا من""ذ عص""ر النهض""ة وخاص""ة من""ذ مرحل""ة األن""وار أين تم تحدي""د ه""ذه
املع ""ارف وتحدي ""د غاياته ""ا الجدي ""دة ال ""تي هي تجدي ""د ال ""وعي باإلنس ""ان .فم ""تى يمكنن ""ا النظ ""ر إلى اإلنس ""ان
بص ""فته نص ""ا ق ""ابال للعم ""ل علي ""ه خطابي ""ا ".لتش ""كيله خطاب ""ا وليس لتش ""كيل خطاب ""ات حول ""ه مثلم ""ا فع ""ل
مفكرو عصر النهضة؟
يأتين""ا هن""ا تعري""ف للنص تع""ود أص""وله إلى التقالي""د الس""يميائية؛ فح""واه ْأن ُيع""د نص""ا ك" ُّ"ل م""ا من ش""أنه
تولي " ""د مع " ""نى من خالل أي ممارس " ""ة دال " ""ة ك " ""انت ،فيص " ""بح الل " ""ون والش " ""كل وامللبس وطرائ " ""ق املأك " ""ل
واملش""رب ،ومواعي""د عاداتن""ا واختياراتن "ا" الذوقي""ة الذاتي""ة وميولن""ا والص""ور املحيط""ة بن""ا ،وك""ل م""ا من
ش""أنه أن يتم اختزال""ه تحت العن""وان ش""ديد الدالل""ة ال""ذي ه""و "التجرب""ة املعيش""ة" "،كله""ا تص""بح نصوص""ا
ب" ""أتم مع" ""نى الكلم" ""ة .ولكنه" ""ا تظ" ""ل نصوص" ""ا ال أهمي" ""ة له" ""ا في ه" ""ذا األف" ""ق خ" ""ارج الس" ""ياقات السياس" ""ية
والطبقي " ""ة اإليديولوجي " "ة" واالقتص " ""ادية" والثقافي " "ة" واالجتماعي " ""ة ال " ""تي أنتجته " ""ا أو ال " ""تي تم إنتاجه " ""ا في
إطاره ""ا ".وك ""ل ه ""ذا يق ""ف على خلفي ""ة أن الن ""اس وهم يتق ""اطعون م ""ع النص ""وص أو يخوض ""ون غماره ""ا
كتجرب""ة معيش""ة يقوم""ون بإنت""اج الدالل""ة وتولي""د املع""اني ال""تي هي مع""اني الع""الم الكلي""ة الش""املة الكوني""ة
ال""تي تب""دو دائم""ا مطلق""ة – وإن ك""انت غ""ير مط""ردة تمام""ا -وتك""ون حص""يلة ه""ذه الس""يرورة هي م""ا نس""ميه
بطريق ""ة مجازي ""ة "الثقاف ""ة"؛" ه ""ذا املفه ""وم النقي النبي ""ل ال ""ذي ي ""راه س ""تيوارت ه ""ال نمط ""ا من ممارس ""ة
الهيمنة من ِقبل قوى وص"ية ته"دف إلى خل"ق ش"عور بالدع"ة والطمأنين"ة ل"دى األتب"اع (وغالب"ا م"ا نس"ميهم
املواط ""نين الص ""الحين) تج ""اه الهيمن ""ة املس ""لطة عليهم ،الش يء ال ""ذي من ش ""أنه ض ""مان تبعيتهم .نتيج ""ة
ل " ""ذلك وبن " ""اء على م " ""ا س " ""بق على اإلنس " ""ان في رؤي " ""ة ه " ""ذا الحق " ""ل أن يتأم " ""ل نفس " ""ه من خالل س " ""ؤالين
مرك ""زيين :أح ""دهما ه ""و :م ""ا ه ""و املس ""ار الثق ""افي و العقلي والسياس ي ال ""ذي ق ""اد حياتن "ا" إلى أن تك ""ون على
الش""كل ال""ذي هي علي""ه؟ والس""ؤال الث""اني ه""و :أال نك""ون نحن من خالل عم""ل اللغ""ة على برمج""ة أفكارن""ا
- 1إدغار موران ،المنهج :إنسانية البشرية -الهوية البشرية،ترجمة :هناء صبحي ،هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ،ط ، 1أبو ظبي، 9002 ،ص.99
124
موض ""وعا للثقاف ""ة؟ فنك ""ون أدوات في ي ""د ال نعرفه ""ا لتحقي ""ق إرادة ثقافي" "ة" (اي سياس ""ية وأخالقي ""ة) ال
نستوضحها؟
من ه""ذا املنطل""ق يص""بح دور الدراس""ات الثقافي""ة ه""و إع""ادة تفكي""ك م""ا ق""د انب""نى من األص""نام الحياتي""ة
واالجتماعية بمعزل عن إرادة الف"رد البس"يط املتن"اهي" في الص"غر على املس"توى السياسي ،واملتن"اهي في
الخط ""ر على املس ""توى األخالقي" واملتم ""اهي والق ""در م""ع ذل ""ك على املس ""تويات كله ""ا .ويق ""ع ه ""ذا التأم ""ل بين
التفك ""ير اليس ""اري ألنطوني ""و غرامش ي والتفك ""ير م ""ا بع ""د اليس ""اري مليش ""ال فوك ""و؛ الل " ْ
"ذين فكك ""ا جي ""دا
1
الصلة بين السلطة والخطاب ،أي بين العمل واألخالق..
وبالت""الي – وبحس""ب إدغ""ار م""وران -نحن بحاج""ة إلى فك""ر يجم""ع عناص""ر التعقي""د البش""ري )البيولوجي "ة"
والثقافية واالجتماعية" والشخص"ية( وتنظيمه"ا ،ذل"ك أن مص"طلح "إنس"اني" غ"ني ،ومتن"اقض ،وم"زدوج:
إن""ه في الواق""ع ،ج""د معق""د بالنس""بة لألذه""ان" املجبول""ة على إجالل األفك""ار" الواض""حة واملم""يز .وه""ذا يع""ني
أن التعقي" ""د البش" ""ري يفتح الطري" ""ق أم" ""ام ك" ""ل من الفيزي" ""اء والبيولوجي" "ا" واألنثروبولوجي" ""ا االجتماعي" "ة"
ويه ""دف إلى بن""اء تص ""ور ش""امل عن الطبيع""ة البش""رية ب""إبراز الت""داخل بين العض""وي الحي""وي والفك""ري
2
الثقافي.
يعي" ""دنا ه" ""ذا املفه" ""وم الى الخلفي" ""ة النيتش" ""اوية ،ألن نيتش" ""ه ك" ""ان ق" ""د وق" ""ف ض" ""د التفك" ""ير من مرك" ""ز
الثنائيات األرسطية التي استمرت حتى الجدلية الهيغيلية .الثنائيات ال"تي تنظم ك"ل القيم وك"ل األفك"ار"
فتقص ي م ""ا ش ""ذ عن طرفيه ""ا املتج ""ادلين أو املتق ""ابلين وق ""د ك ""ان ه ""ذا أح ""د املواض ""يع الرئيس ""ية ال ""تي دار
حولها كتاب " جيل دولوز" 'نيتشه والفلسفة' ،1962قائال بان قيمة االختالف هي قيمة مس""تقلة عن
ال ""ذات واملوض ""وع ،قيم ""ة رئيس ""ية أص ""لية أص ""يلة غ ""ير قابل ""ة لالخ ""تزال إلى قيم تك ""ون وح ""دات اص ""غر،
فالتع ""دد ن ""اموس من ن ""واميس الك ""ون واالختالف ه ""و الوج ""ه اآلخ ""ر للتع ""دد فه ""و قيم ""ة باني ""ة للخل ""ق،
للطبيعة وللمعنى.
ويتح ""ول االختالف ل ""دى ديري ""دا إلى قيم ""ة ع ""ابرة لل ""زمن أو مش ""تتة أو مؤجل ""ة على مح ""ور ال ""زمن ،لكي
تص""ير القيم "آث""ارا" على خ""ط ال""زمن ،وتض""يع التقني""ات بأنه""ا مؤجل""ة إلى زمن لم ي""أت بع""د ،ومزلزل""ة
بفعل مضى وانقضى حامال معه صيغة أخرى ماضية تاركة آثارها في الحاضر . . .وبه""ذا الش"كل يص"ير
- 1فيصل األحمر :مقدمة كتاب "معجم الدراسات الثقافية" لكريس باركر -تر :جمال بلقاسم -داررؤيا-مصر -2018-ص ص7/8
- 2المنهج :إنسانية البشرية -الهوية البشرية -ص 23
125
االختالف قيم" ""ة حتمي" ""ة متحرك" ""ة في ال" ""زمن . . .وهي قيم" ""ة تزل" ""زل البني" ""ان الب" ""نيوي فتفق" ""ده أس" ""باب
وجوده.
يق""ول ديري""دا على ه""امش ه""ذه الفك""رة " ربم""ا على الفلس""فة أن ت""دخل في اعتباره"ا" ه""ذا الغم""وض وه""ذا
الت""داخل ،أن تفك""ر في""ه وأن تفك""ر من خالل""ه في نفس""ها ،أن عليه""ا أن تتقب""ل التعددي""ة واالختالف في
1
أفق التوقعات الذي هو في أفق جوهري في الفلسفة"
الفك " ""رة ي " ""دفعها م " ""وران إلى ابع " ""د نقط " ""ة ممكن " ""ة من خالل جع " ""ل االختالف مكون " ""ا أساس " ""يا للخام " ""ة
البش ""رية ،وه ""و مب ""دأ ال ""تركيب ،أين يص ""بح تع ""دد الوجه ""ات الوجودي ""ة ج ""زءا من "نص ""اعة " التش ""كيل
البشري .وكثيرا ما أصر إدغار موران في دروسه ومحاضراته التمهيدية على ض"رورة الح"ذر من الب"ون
الشاس" ""ع بين "ال ""تركيب" والتعقي ""د"؛" فم" ""ا ه ""و م ""ركب ليس معق ""دا بالض" ""رورة ،والش يء املعق" ""د ليبس
مركب ""ا بالض ""رورة ،ف ""التركيب ج ""وهري في "اإلنس ""اني" في حين ان املعق ""د عرض ي في وجه ""ة نظ ""ر البش ""ر
صوب موضوعاتهم .وهذا أمر ال بد من تربي"ة البش"رية علي"ه .فاملس"ألة ليس"ت مس"الة مفه"وم مس"تعص
بق""درما هي مس""ألة الدعاي""ة (ع""بر التربي""ة والتك""وين) لحقيق""ة جوهري""ة في الك""ون وفي البش""ر .وهن""ا نع""ود
إلى تشكيل نصوص وصياغة خطابات حول وجهة النظر التي يقترحها موران.
في موق""ع آخ""ر من مش""روعه األخالقي ال""تربوي ال""ذي وض""عه في كت""اب من ثالث""ة أج""زاء يع""د الج""زء ال""ذي
"إن إص""الح املعرف""ة والتفك""ير نحن بص""دده الث""الث واألخ""ير في""ه ،يق""ول م""وران تعقيب""ا على فكرت""ه تل""ك ّ
ّ"
التربي"ة ّ"
التربي"ة ال ""ذي ه ""و ب ""دوره مرتب ""ط بإص ""الح املعرف ""ة والتفك ""ير .ونض ""يف أن تجدي ""د ُ
رهن إص ""الح
مرتب ""ط بتجدي ""د الفهم ال ""ذي يعت ""بر ه ""و اآلخ ""ر رهن إحي ""اء إي ""روس وه ""ذا اإلحي ""اء ،ه ""و اآلخ ""رّ ،
مقي""د
2
كل اإلصالحات ،إذن ،مترابطة ّ
التربيةّ . ّ
اإلنسانية التي تربط ،هي أيضا ،بإصالح بتجديد العالقات
ُ
فق ""د ب ""ات في رأي ""ه من الض ""روري "أن نقحم في التعليم دراس ""ة الط ""ابع العقلي وال ""ذهني والثق ""افي" ال ""ذي
ً ّتتس ""م ب ""ه املع ""ارف البش " ّ
"رية ُون ّ
طوره ""ا ".ومن الض ""روري أيض ""ا أن يش ""مل التعليم النظ ""ر في ص " ّ"يغ ه ""ذه
ّ"
والثقافي"ة ال""تي يمكن أن ّ
تجره""ا إلى ال""وهم والخط""أ» ،3و هن""ا الدراس""ة وطرائقه""ا وفي األح""وال النفس" ّ"ية
يقف " " ""ز إلين " " ""ا مص " " ""طلح ّ
روج ل " " ""ه كث " " ""يرا وعن " " ""ون ب " " ""ه أح " " ""د مب " " ""احث الكت " " ""اب ال " " ""ذي ن " " ""دور في فلك " " ""ه"
مصطلح” معرفة املعرفة” الذي ُيريد به موران تلك اآللية العميقة لتقليب املعارف والنظر في طريقة
تشكلها وسبل تحصيلها والهدف منها كذلك.
1
-Jacques Derrida : L’écriture et la différance- seuil-Paris-1967-p166
إدغار موران ،تعليم الحياة :بيان لتغيير التربيّة ،تر :الطاهر بن يحي( ،بيروت :منشورات ضفاف ،ط ،)2016 ،1ص 167 -2
3
-بيان لتغيير التربيّة -ص 95
126
إن غربل""ة املف""اهيم ت""ؤدي إلى تنقي""ة املعرف""ة من الش""وائب االعتيادي""ة .وم""وران يتح""دث في س""ياق كالم""ه
هذا عن "املعرفة املناسبة"" التي هي نوع من العلم الن"افع؛ أو العلم ال"ذي يحم"ل أس"باب نش"أته وج"دواه
في ترتيب مواده ،علم مب"ني أيض"ا على سياس"ة الفع"ل ال"تربوي اله"ادف إلى إج"ادة التص"رف (وه"و ج"وهر"
السياس " " ""ة) والتمهي " " ""د لتحقي " " ""ق ه " " ""دف كمتع " " ""ال على وج " " ""ود الف " " ""رد الع " " ""الم واملتعلم (وه " " ""و ج " " ""وهر
الحض" " " ""ارة)...ولنت" " " ""ذكر باملناس" " " ""بة أن أح" " " ""د كتب م" " " ""وران ه" " " ""و كتيب" " " ""ه الب" " " ""ديع "من أج" " " ""ل سياس" " " ""ة
للحض""ارة"... 1ويح""دد م""وران ه""ذا العلم الن""افع كم""ا وص""فناه بأن""ه علم ض""روري وعس""ير املطلب بس""بب
املهم""ة املنوط""ة ب""ه ال""تي هي بن""اء معرف""ة ق""ادرة على التحكم في املش""اكل في إطاره""ا املركبّ ،
ألن املعرف "ة"
ً
"ادر على
ٍ " ق "ير" غ املرء "ل " عتج "ا" م "االجزئي ""ة ال ""تي تعودن ""ا عليه ""ا ال تحق ""ق األه ""داف املقص ""ودة ،وهي «غالب "
ّ ّ
االنتب" ""اه إلى الرواب" ""ط القائم" ""ة بين األج" ""زاء والكلي" ""ات .ومن ال" ""واجب أن يح" " ّ"ل محله" ""ا ن" ""وع من املعرف" ""ة
ّ
2
القادرة على إدراك األشياء في سياقاتها" وفي ما تنتمي إليه املركبات واملجموعات»
وهي فك ""رة مركزي ""ة دارت حوله ""ا فص ""ول ال يس ""عنا املك ""ان ل ""ذكرها" من عمل ""ه الكب ""ير "املنهجي ""ة" "،ذل ""ك
املش ""روع ال ""ذي يق ""دم نفس ""ه كمش ""روع ملعاين ""ة الواق ""ع األخالقي للع ""الم .ال ""ذي ورثن ""اه كم ""ا ه ""و :متع ""دد
م""ركب وغ""ير مؤه""ل معرفي""ا وال أخالقي""ا – كم""ا يق""ول س""تيوارت ه""ال -ال""ذي ي""راه عاملا للمواجه""ة بين
شرق مستعمر وغرب استعمره ولكنه أصيب به في الهوية .كما أنه عالم وريث العوملة وما سبقها من
اط""وار مش""بعة بص""راع املعس""كرين الش""رقي والغ""ربي .إال أن""ه ع""الم لم يع""د يمكن""ه أن يغمض عين""ه على
3
الوجود الفعلي ألبناء املستعمرات – غريبي اللون والجنسية مختلفي االيديولوجيا.
ألج""ل مواجه""ة ك""ل ه""ذا يق""ول إدغ""ار م""وران في ه""ذا الص""دد":إن املعرف""ة ال""تي نن""ادي به""ا معق""دة - :ألنه""ا
تع""ترف أن الك""ائن االنس""اني ال""ذي يدرس""ها ه""و ج""زء من موض""وعه -فهي تفص""ل بين الوح""دة البش""رية
وتنوعه""ا - .تعي جمي""ع أبع""اد واق""ع اإلنس""ان املج""زأة حالي""ا إلى فيزيائي""ة وبيولوجي"ة" وس""يكولوجية وديني""ة
4
واقتصادية واجتماعية وتاريخية""
علين""ا أن نظ""ل يقظين إلى أن ه""ذه الفك""رة األخالقي "ة" املوجه""ة ص""وب املس""تقبل تمل""ك ج""ذورا في الفك""ر
الغ ""ربي ،ولن نحت ""اج إلى الع ""ودة إلى أفالط ""ون ومحاورات ""ه ألنه ""ا مح ""اورات أحادي ""ة االتج ""اه رغم ظ ""اهر
1
Pour une politique de civilisation- ed Arléa- 2002- france
127
التع""دد ،ولن نس""ير في االتج""اه القائ""ل بق""دم فك""رة الت""داول ح""ول الحقيق""ة؛ س""واء أس""مينا ه""ذا الت""داول
مح ""اورات أو ج ""دال أو مقال ""ة ،على تع ""دد التس ""ميات .يب ""دو ان هنال ""ك وعي ""ا ق ""ديما بأن ""ه من الض ""روري
االنفت""اح على اآلخ""ر ال ""ذي ه""و امت""داد لن""ا رغم الط ""ابع املتش ""ظي ألفكارن ""ا وتوجهاتن "ا" وح ""تى ألش ""كالنا في
تص""ميم وعيش الث""ورة؛ على اعتب""ار أن ه""ذه هي واح""دة من األفع""ال واملج""االت اإليطيقي""ة األق""ل قابلي""ة
لتوس ""يع ال ""دائرة ،واألك ""ثر ف ""رادة في التجرب ""ة املعيش ""ة البش ""رية ،وال ""تي يراه ""ا م ""وران قابل ""ة للنمذج ""ة
حس" ""ب اس" ""تقراء معين ،1وهي تجرب" ""ة في االنفت" ""اح على اآلخ" ""ر ،يق" ""ترح له" ""ا تس" ""مية "اإليطيق" ""ا املركب" ""ة""
تختل ""ف عم ""ا يمكنن ""ا إيج ""اده عن ""د ي ""ورغن هابرم ""اس تحت عن ""وان "إيطيق ""ا املناقش ""ة" أو م ""ا ي ""رد عن ""د
تلمي""ذه اليس""اري الش""هير أكس""يل ه""ونيث تحت ش""ارة "إيطيق""ا االع""تراف"...وإذا ك""ان علين""ا أن نقربه""ا من
شيء فربما كان األمثل ربطها بفكرة أخالقيات "التضامن" كما يتمثلها ريتشارد رورتي.2
وهي تجرب" " ""ة ته" " ""دف إلى التغلب على ت" " ""اريخ الص" " ""راع بين أط" " ""راف ي" " ""ذهب م" " ""وران إلى أنه" " ""ا ت" " ""ربت على
األخالقي " ""ات الجدلي " ""ة موروث " ""ة ال يمكنه " ""ا أن تنجب ش " ""يئا ع " ""دا ج " ""و البغض " ""اء والش " ""حناء ال " ""تي ت " ""ترجم
املمارس""ات البش""رية الناجم "ة" عنه""ا جوهره""ا بش""كل وفي ،في حين ت""ذهب "الحواري""ة ال""تي يقترحه""ا إدغ""ار
م ""وران إلى تحقي ""ق "وح ""دة معق ""دة بين منطقين ،وكي ""انين متنافس ""ين ومتعارض ""ين يتغ ""ذى أح ""دهما على
اآلخ" " ""ر ويكمالن بعض" " ""هما لكنهم" " ""ا يتعارض" " ""ان" ويتحارب" " ""ان أيض" " ""ا ،وينبغي تمي" " ""يز ه" " ""ذه الحواري" " ""ة عن
الدياليكتي ""ة الهيغلي ""ة .فل ""دى هيغ ""ل ،تج ""د املتناقض ""ات حل ""وال له ""ا ، . ،تك ""ون ويتج ""اوز بعض ""ها البعض
ويلغي بعض" ""ها بعض" ""ا داخ" ""ل وح" ""دة علي" ""ا .وفي الحواري" ""ة تك" ""ون املتناقض" ""ات دائم" ""ة وتش" ""كل كيان" ""ات أو
ظواهر معقدة«3.
ونود في الجزء املتبقي من ورقتنا" هذه أن ننقل حرفيا" اجزاء هام""ة من الخالص""ة املذكورة س""ابقا ح"ول
أفك" ""ار إدغ" ""ار م" ""وران وال" ""تي هي مض" ""منة في مقدم" ""ة كتاب" ""ه اله" ""ام املع" ""ارف الس" ""بع الض" ""رورية للتربي" ""ة
املستقبلية )..les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur (1999
يقول من جملة ما يقوله بأنه وصل غلى تلخيص فكرته اإليطيقية في تعاليم ميسرة يهدف الفيلس"وف
إلى جعله""ا م ""رامي تربوي ""ة تح ""اك من حوله ""ا ال""برامج التربوي ""ة معمم ""ة على البش""رية ألج ""ل ص ""مان فك ""رة
أخالقية" تخرج بنا من مطبات القرن العشرين إلى آفاق مضيئة لألزمنة الحديثة.
1
Edgar Morin ; Tariq Ramadan : au péril des idées-presses du Chatelet- France-2014- p201
- 2يراجع للتوسع كتاب ريتشارد رورتي األشهر في هذا االتجاه Contingency, Irony, and Solidarity :الصادر عن منشوراتƒ
جامعة كمبردج (.)1989
3
E. Morin, La méthode: L’humanité de l’humanité, op, cit, p347.
128
ويحدد النقاط السبعة الواجب التفكير فيها وانطالقا منها فيما يلي:
ومن الج""دير باملالحظ"ة" أن التعليم ال""ذي يه""دف إلى إيص""ال املعرف""ة يص""ير أعمى ال ي""درك م""ا هي املعرف""ة
البش ""رية ،وال خصائص ""ها ،وال عقباته ""ا ،والص ""عوباته ،وال دوافعه ""ا ص ""وب الخط ""أ وح ""تى ال ""وهم ،ه ""و
تعليم ال يشغله القلق على معرفة ما هو جوهر املعرفة.
في الواق""ع ،ال يمكن اعتب""ار املعرف""ة ك""أداة ج""اهزة يمكن اس""تخدامها دون دراس""ة طبيعته""ا .ول""ذلك يجب
أن تظه" ""ر املعرف" ""ة باملعرف" ""ة كض" ""رورة أولى تك" ""ون بمثاب" ""ة التحض" ""ير ملواجه" ""ة املخ" ""اطر الدائم" ""ة للخط" ""أ
وال""وهم ،الل""ذين يفس""دان باس""تمرار ال""روح اإلنس""انية .فج""وهر املس""ألة ه""و تس""ليح ك""ل عق""ل بش""ري في
النضال الحيوي من أجل وضوح الرؤية.
فمن الض ""روري في مي ""دان التعليم إدراج دراس ""ة الخص ""ائص الدماغي ""ة والعقلي ""ة والثقافي ""ة للمعرف" "ة"
البش""رية ،وك""ذلك مس""اراتها ،وش""روطها ،وك""ذا أجهزته""ا النفس""ية والثقافي"ة" ال""تي تجعله""ا تق""ع في الخط""أ
حينا وفي الوهم أحيانا.
هي مش""كلة رئيس""ية ال ت""زال قائم"ة" تل""ك املتعلق""ة بالحاج"ة" إلى تعزي""ز املعرف""ة الق""ادرة على فهم املش""اكل
الشاملة واألساسية التي تندرج تحتها املعارف الجزئية واملحلية.
إن س" ""يادة املعرف ""ة املج" ""زأة في مختل ""ف التخصص" ""ات غالب" ""ا م" ""ا تجعلن ""ا غ ""ير ق" ""ادرين على تش ""غيل آلي ""ة
الرب""ط بين األج""زاء والكلي""ات ،ل""ذا يجب أن يش""ق الطري""ق لوض""ع معرف""ة ق""ادرة على التق""اط األش""ياء في
سياقاتها ،مركباتها "،واملجموعات الخاصة بهم.
ومن الض""روري تط""وير الق""درة الطبيعي""ة للعق""ل البش""ري لوض""ع جمي""ع املعلوم""ات الخاص""ة ب""ه في س""ياق
ش""امل .هن""اك حاج""ة لتعليم األس""اليب ال""تي تمكنن""ا من التق""اط العالق""ات املتبادل""ة والت""أثيرات املتبادل""ة
بين األجزاء وبين الكل شيء في عالم مركب.
129
إن اإلنس ""ان يتجلى في ال ""وقت نفس ""ه جس ""ديا وبيولوجي ""ا ونفس ""يا وثقافي ""ا واجتماعي ""ا وتاريخي ""ا ".ه ""ذه
الوح""دة املركب "ة" من الطبيع""ة البش""رية ال""تي تفككت تمام""ا في الت""دريس ،ع""بر التخصص""ات ،والي""وم من
املستحيل معرفة ما يعنيه أن يكون اإلنسان إنسانا ،في حين أن الجميع ،أينما ك""انوا ،ينبغي أن ي""دركوا
ويعوا كل من الطبيعة املركبة لهويتهم الخاصة ولهويتهم املشتركة مع جميع البشر اآلخرين.
وي " ""بين ه " ""ذا الج " ""زء من دراس " ""تنا كي " ""ف يمكن ،من تخصص " ""ات الي " ""وم ،التع " ""رف على وح " ""دة اإلنس " ""ان
وتعقي ""ده من خالل جم ""ع وتنظيم املعرف ""ة املتفرق "ة" في العل ""وم الطبيعي ""ة "،والعل ""وم اإلنس ""انية ،واألدب
والفلسفة ،وإثبات االرتباط غير القابل للذوبان بين الوحدة وتنوع كل ما هو اإلنسان.
لم يع" ""د هنال" ""ك ش" ""ك في أن املص" ""ير الع" ""المي للجنس البش" ""ري ه" ""و حقيق" ""ة رئيس" ""ية ومفتاحي" ""ة أخ" ""رى
تجاهله""ا التعليم .ويجب أن تص""بح معرف""ة التط""ورات في عص""ر الك""وكب واالع""تراف بهوي""ة األرض أح""د
أهم أهداف التعليم.
فمن الضروري أن يتم تعليم تاريخ مرحلة الكوكب التي تبدأ مع االتصال بين جميع القارات في الق"رن
الس ""ادس عش ""ر ،ت ""اريخ من ش ""أنه أن يظه ""ر كي ""ف ش ""اع التض ""امن بين جمي ""ع أنح ""اء الع ""الم ،ولكن دون
يلقي بظالله على القمع والهيمنة اللذين دمرا وال يزاالن يدمران اإلنسانية.
وس""يكون من الض""روري اإلش""ارة إلى م""ركب األزم""ة الكوكبي "ة" ال""ذي يص""ادف الق""رن العش""رين ،وال""ذي
ي""بين أن جمي""ع البش""ر ،ال""ذين يواجه""ون اآلن نفس مش""اكل الحي""اة واملوت ،يعيش""ون مجتمع""ا مش""ترك
املصير.
وق""د أعطان""ا العلم الكث""ير من اليقين ،ولكنن""ا في الق""رن العش""رين اكتش""فنا أيض""ا مج""االت ال حص""ر له""ا
من ع ""دم اليقين ،ومن التي ""ه .وينبغي" أن يش ""مل الت ""دريس ت ""دريس أوج ""ه التي ""ه ال ""تي ظه ""رت في العل ""وم
الفيزيائي" ""ة (امليكروفيزي" ""ا ،ال" ""ديناميكا" الحراري ""ة ،علم الكوني" ""ات) ،وعل ""وم التط ""ور ال" ""بيولوجي والعل ""وم
التاريخية.
130
كم""ا ينبغي ت""دريس مب""ادئ االس""تراتيجية ال""تي تجع""ل مواجه""ة املخ""اطر ممكن""ة مهم""ا ك""ان ش""كلها ونوعه""ا
وج""دتها ،وتعينن""ا على تع""ديل مس""اراتها ،وفق""ا للمعلوم""ات املكتس""بة خالل س""ير العم""ل .وعلين""ا أن نتعلم
التنقل في محيط التيه من خالل جزر اليقين.
إن ص ""يغة الش ""اعر اليون""اني يوريبي""دس ،وال""تي عمره "ا" خمس""ة وعش ""رين قرن""ا ،هي أك""ثر حداث ""ة من أي
وقت مض ى " :أم" ""ا املتوق" ""ع فال يح" ""دث،وأم" ""ا املجه" ""ول فل" ""ه رب يعت" ""ني ب" ""ه " .إن التخلي عن املف" ""اهيم
الحتمي " ""ة للت " ""اريخ البش " ""ري ال " ""تي ك " ""انت تعتق " ""د بإمكاني" " "ة" التنب " ""ؤ بمس " ""تقبلنا ،واس " ""تعراض األح " ""داث
والح""وادث في قرنن""ا وكله""ا غ""ير متوق""ع ،وك""ذلك امللمح املض""اد لك""ل توق""ع للمغ""امرة اإلنس""انية؛ ك""ل ذل""ك
ينبغي أن يش""جعنا على إع""داد العق""ول للتعام""ل م""ع غ""ير املتوق""ع وملواجهت""ه .ومن الض""روري أن يتح""ول
جميع املسؤولين عن التدريس إلى طليعة الطابع غير اليقيني لهذا العصر.
.6التعليم التفهم
التفهم هو على حد سواء وسيلة وغاية للتواصل البشري .ومع ذلك ،فالتعليم من أج""ل التفهم غ""ائب
عن تعاليمن""ا .ه""ذا الك""وكب يتطلب التف""اهم املتب""ادل بك""ل مع""نى الكلم""ة .وب""النظر إلى أهمي""ة التعليم من
أج""ل الفهم ،يتطلب تط""وير الفهم ،على جمي""ع مس""تويات التعليم وفي جمي""ع األعم""ار ،إص""الح العقلي""ات.
يجب أن يكون هذا العمل من أجل تعليم املستقبل.
إن التف ""اهم املتب ""ادل بين البش ""ر ،س ""واء ك ""انوا قري ""بين أو أج ""انب ،أم ""ر حي ""وي اآلن بالنس ""بة للعالق ""ات
اإلنسانية للخروج من حالتهم البربرية من سوء الفهم.
ومن هن ""ا ج ""اءت الحاج" "ة" إلى دراس ""ة ع ""دم الفهم ،من ج ""ذوره ،وطرائق ""ه وآث ""اره .ومث ""ل ه ""ذه الدراس ""ة
ض""رورية أك""ثر ألنه""ا ال تتن""اول األع""راض ولكن م""ع ج""ذور العنص""رية وكراهي""ة األج""انب واالزدراء .وفي
الوقت نفسه ،ستكون واحدة من أسلم قواعد التعليم من أجل السالم.
يجب أن ي""ؤدي الت""دريس إلى "األن""ثروبو األخالقي""ة" من خالل النظ""ر في الط""ابع الثالثي للحال""ة اإلنس""انية
التي هي على حد سواء ،ال تقسيم لها :الفرد-املجتمع-النوع.
131
وبه ""ذا املع ""نى ،ف ""إن أخالقي ""ات الف ""رد/الن ""وع تتطلب الس ""يطرة املتبادل ""ة على املجتم ""ع من ج ""انب الف ""رد
وعلى الف " ""رد من ج " ""انب املجتم " ""ع ،وه " ""ذا ه " ""و ج " ""وهر الديمقراطي " ""ة؛" في الق " ""رن الح " ""ادي والعش " ""رين،
أخالقيات الفرد/النوع تدعو إلى املواطن ة األرضية.
إن تلقين األخالق بناء على دروس في الوعظ غير مجد .فال بد من تكوين الفرد على أساس كون""ه ف"ردا
وج""زءا من جماع""ة ،وج""زءا ال يتج""زا من ن""وع أيض""ا .يجب أن يتش""كل ال""وعي به""ذا البع""د الثالثي في آن
واحد.
نحم""ل في ك""ل واح""د من""ا ه""ذا الواق""ع الثالثي .ول""ذلك ،ف""إن أي تنمي""ة بش""رية حق""ة يجب أن تنط""وي على
التنمية املشتركة لالستقاللية الفردية ،واملشاركة" املجتمعية ،ولوعي االنتماء إلى النوع البشري.
من ه " ""ذا يظه " ""ر ه " ""دفان كب " ""يران بط " ""ابع اخالقي" وسياس ي في اآلن نفس " ""ه :إقام " ""ة عالق " ""ة من الس " ""يطرة
املتبادل""ة بين املجتم""ع واألف""راد من خالل الديمقراطي""ة ،لتحقي""ق اإلنس""انية كمجتم""ع ع""المي .كم""ا يجب
أن يسهم التدريس ليس فقط في وعينا بأرضنا الوطن ،ولكن أيضا للسماح لهذا الوعي أن يتجس""د في
1
الرغبة في تحقيق املواطنة األرضية"".
ويمكنن ""ا اقتب ""اس تعلي ""ق جمي ""ل لألس ""تاذة خديج ""ة زتيلي أوردت ""ه تعليق ""ا على محتوي ""ات ه ""ذا املش ""روع
األخالقي ال""تربوي ليك""ون في ه""ذا املق""ام بمثاب""ة خالص""ة ملا ورد في ه""ذه الورق""ة ".تق""ول األس""تاذة ّ " :إن
(املجتم" ""ع البش" ""ري) ه" ""و املنش" ""ود في نهاي" ""ة املط" ""اف ويجب أن ي" " ّ
"ؤدي التعليم دوره املن" ""وط ب" ""ه لتحقي" ""ق
أه " " " " " ""داف املجتم " " " " " ""ع البش " " " " " ""ري في ّ
هوي" " " " " ""ة أرض " " " " " " ّ"ية مش " " " " " ""تركة ،ويجب أن يفض ي إلى ن " " " " " ""وع من
(األنثروبولوجيا األخالقي" ""ة) ،ال" ""تي يتواج" ""د فيه" ""ا الف" ""رد واملجتم" ""ع والن" ""وع في نفس ال" ""وقت والس" ""عي إلى
الديمقراطي""ة داخ ""ل املجتمع ""ات ،وتحقي ""ق م ""ا يس ""ميه م ""وران ب ــ(املواطن ""ة األرض " ّ"ية) إلى ج ""انب
ّ تحقي ""ق
ّ"
حقيقي ة" أن ذل""ك ،تعم""ل على مراع""اة املص""ير اإلنس""اني املش""ترك ،ول""ذلك « وجب على ك" ّ"ل تنمي""ة بش" ّ
"رية
تجم ""ع بين تنمي ""ة االس ""تقالل ال ""ذاتي الف ""ردي وتنمي ""ة التض ""امن االجتم ""اعي وتنمي ""ة ال ""وعي باالنتم ""اء إلى
2
النوع البشري"
1
Edgar Morin : Les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur, Paris, Seuil, octobre 1999,
pp9/12.
- 2خديجة زتيلـي :الحياة في الزمن الراهن ،إدغار موران وتعليم فن الحياة ،مجلة "هوامش" ثقافات معاصرة(نسخة إلـكترونية)ƒ.
132
أفق الواقع
جون بودريار
( ه""ذا املق""ال ه""و ترجم""ة ملبحث الث""الث عش""ر من كت""اب "املستنس""خات واالص""طناع" لج""ون بودري""ار «simulacres
،et simulation » Jean Baudrillardوفيه يتع"رض للتق"اطع بين مفه"وم الخي"ال العلمي املعاص"ر" وطرائ"ق مؤلفي"ه وبين
املفهوم الذي طوره لضياع معنى الواقع ونش"وء مفه"وم الواقعي"ة املفرط"ة hyperréalismeوك"ذلك الواقعي"ة الرقمي"ة"
وهيمنة املستنسخات" على العالم" الذي قطع صالته مع الواقع" والحقيقة لفائدة حقيقة اصطناعية )simulacron
تنتمي إلى النظ ""ام األول ك" ""ل كالس" ""يكيات تص ""وراتنا ح ""ول املدن الفاض" ""لة .فيم" ""ا يرتب" ""ط بالنظ" ""ام الث" ""اني املفه" ""وم
الش""ائع للخي""ال العلمي ..ام""ا على ح""دود النظ""ام الث""الث ...فإنن""ا نتس""اءل :ه""ل هن""اك ح""تى اآلن أي نط""اق تخ""ييلي يتواف""ق
م" ""ع ه" ""ذا النظ" ""ام؟ اإلجاب" ""ة املحتمل" ""ة هي أن" ""ه لم يع" ""د للـخيال العلمي التقلي" ""دي أي وج" ""ود في ظ" ""ل مس" ""تجدات ع" ""الم
املستنسخات الذي يحيط بنا ....الخيال ميت ،وهذا شيء آخر ب""دأ في الظه"ور (وليس فق""ط في دائ""رة التخيي""ل ،ب""ل على
مس""توى التنظ""ير في الثقاف""ة واملعرف""ة أيض""ا) .الظ""اهر" ان م""ا يلعب ض""د ه""ذين الن""وعين البائ""دين ه""و التح""ول املس""تمر
وكذلك نقص الدقة او مخاتلة املفاهيم.
133
ال مج ""ال لواق ""ع وال خي ""ال إال في ظ ""ل وج ""ود مس ""افة معين ""ة بينهم ""ا ،وهي مس ""افة تفت ""أ تض ""يق .م ""اذا يح ""دث عن ""دما
تنتفي ه" " ""ذه املس" " ""افة أو تتض" " ""اءل؟ ونحن الي" " ""وم ش" " ""هود على انتف" " ""اء ه" " ""ذه املس" " ""افة وعلى ت" " ""داخل ح" " ""دي مفه" " ""ومي
لواق""ع/الحقيق""ة والخي""ال/ال""وهم وكالهم""ا ي""ترك الي""وم مكان""ه لنم""وذج املستنس""خ .وال نتح""رك هرب""ا من أح""د القط""بين
الكالسيكيين صوب اآلخر إال في إطار تحركنا من مستنسخ إلى آخر .وذل""ك بص""فتنا حض"ورا وش""هودا على انتف""اء تل""ك
املسافة التي كانت تسمح لنا بالتأمل وبعمليات اإلسقاط الضرورية.
غالب""ا م""ا ك""ان يتحق""ق الح""د األقصى له""ذه املس""افة في اليوتوبي""ا ،أين يتم تص""وير ع""الم متع""ال ،يتم تمثي""ل الك""ون
ع" ""بره بش" ""كل مختل" ""ف ج" ""ذريا (وللمالحظ" ""ة ف" ""إن ش" ""كله األك" ""ثر فردي" ""ة يبقى ه" ""و الحلم الرومانس ي اين يتم تحقي" ""ق
املسافة املذكورة سابقا من خالل التعم"ق" في ال"ذات ،وهي رحل"ة سيس"تبدلها التخيي"ل اليوط"وبي بالس"فر؛ اين غالب"ا م"ا
نقع – كما هو معهود في األدبيات اليوطوبية في جزيرة بعيدة ،حيث تصبح الجزيرة" مكان تحقيق الخي""ال فيم""ا يبقى
البر الحقيقة والواقع املألوفين).
هذه املسافة تتقلص إلى حد بعيد في الخيال العمي باملعنى املالوف ،وهو نمط تخييلي يعمل في املنظ""ور ال""ذي نحن
بص ""دده على خل ""ق إمكاني ""ات" إلس ""قاط ع ""الم اإلنت ""اج الحقيقي مهم ""ا تظ ""اهر بأن ""ه ال يفع ""ل من خالل تقليع ""ات الخي ""ال.
إسقاط يجعل كل ما يفعله الخيال اليخرج عن أن يكون مبالغة في وج"ه تق"ني أو آلي أو م"ادي من الوج"وه ال"تي درجن"ا
على التعام""ل معه""ا .مبالغ""ة تعتم""د الك""ثرة أو التك""رار بأض""عاف ال متناهي""ة ،وبه""ذا فإنن""ا ننتق""ل من يوطوبي""ات ع""الم م""ا
قب " ""ل العص " ""ر الص " ""ناعي الى ع " ""الم مش " ""بع بالتص " ""نيع ،ويعم " ""ل الخي " ""ال العلمي في ه " ""ذا املنظ " ""ور على ت " ""اجيج اإلض " ""افات"
التكنولوجية للعصر الصناعي ومكاثرتها ومبالغتها" ومضاعفتها بأضعاف تكثر أو تقل.
وتكاد تنتفي تماما هذه املسافة التخييلية في عصر النماذج .هذه النماذج ال""تي تظه"ر" في العص""ر ال""رقمي ال كت""ذكرة
لعالم سبق وال كإسقاط لنماذج شبيهة .إنها تصنع عاملها الذي ال يقابله في الواقع أي عالم ،ولهذا أسلفنا بأن الخي""ال
العلمي باملعنى املعهود قد فقد مكانته تماما بانحسار املسافة بين العالم" التخييلي واملرجع الواقعي .ففكرة االس""تباق
ال ""تي ارتك ""ز عليه ""ا الخي ""ال العلمي التقلي ""دي ق ""د ص ""ارت بالي ""ة .إن النم ""اذج ال ""تي ج ""اءت مكان ""ه ص ""ارت تش ""كل واقع ""ا ال
يرحب بأي خيال ،من منطلق أنها محايثة للواقع ومتجاوزة ملعن""اه وألبع""اده كله""ا ،بش""كل لم يع""د ي"ترك أي مج""ال ف""ارغ
يعم""ل في""ه الخي""ال بطريقت""ه املتعالي""ة .إن املس""رح اآلن ه""و مس""رح "املستنس""خات" ال""تي تش""تغل في ع""الم "اص""طناعي"" –
ب""املعنى الس""يبرنيطيقي للكلم "ة" طبع""ا .-وخالص""ة األم""ر ه""و أن عملي""ات" التص""ميم واملن""اورة وجمي""ع أن""واع التالعب ال""تي
تعتمدها هذه النماذج (سيناريوهات افتراضية ،وإنشاء مواقف املستنسخات ،وما إلى ذلك) ،ال شيء يميز اآلن ه""ذا
النوع من "إدارة التعامالت" عن الواقع وهذا ينفي أية إمكانية لوجود التخييل.
الواقع" اليوم صار يتجاوز الخي"ال في إط"ار مفه"وم اص"طناعي للواقعي"ة" ال"تي ص"ارت هي نفس"ها حبيس"ة النم"اذج ألن
هذه الـأخيرة" هي التي تقترح اليوم الواقع ،والواقع بهذا الشكل ال يعدو كونه ذريعة للنماذج.
لق""د ك""ان الخي""ال ذريع""ة للع""الم ال""واقعي في ع""الم يهيمن علي""ه مب""دأ الواق""ع .أم""ا الي""وم ،فق""د ص""ار الواق "ع" ذريع""ة
للنموذج في عالم يحكمه مبدأ االصطناع .للمفارقة ،فإن الواق"ع الي"وم ص"ار بمثاب"ة يوتوبي"ا ،ولكنه"ا يوتوبي"ا ال تع"دو
كونها احتماال واردا غير ممكن تحقيقه .يوتوبيا تصلح للحلم بها ،ال غير .تصلح فقط للحلم بكيان ضائع.
ولع""ل الخي""ال العلمي في ه""ذا العص""ر من علم التحكم اآللي والواقعي"ة" املفرط""ة hyperréalitéس""يكون فق""ط أداة
يمكن االعتماد عليها ملحاولة بعث وإحياء للعوالم" "التاريخي"ة" للماضي ،محاول"ة إلع"ادة بن"اء "مختبري""ة" in vitroق"د
تبل ""غ درج ""ة عالي ""ة من الدق ""ة في رس ""م أص ""غر تفاص ""يل الحلق ""ات املختلف ""ة من األي ""ام الخ ""والي :األح ""داث ،األش ""خاص
واإلي ""ديولوجيات البائ ""دة ال ""تي ص ""ارت اآلن فارغ ""ة من ك ""ل مع ""نى ومن ك ""ل ماهي ""ة أص ""لية ،وال ""تي تظ ""ل محافظ ""ة على
134
س" ""حرها الع" ""تيق س" ""اعة االس" ""ترجاع .تمام" ""ا مثلم" ""ا هي الح" ""ال م" ""ع ص" ""ورة 'الح" ""رب األهلي ""ة' في رواي ""ة فيليب ك دي ""ك
" P.K.Dickمستنسخات" ." Simulacraفالحرب" األهلية تصبح مجرد ص"ورة ثالثي"ة األبع"اد ببث ج"وي عمالق .به"ذا
الشكل لن يعود الخيال مرة أخرى مرآة تستبق للمستقبل ،بل سصبح هلوسة يائسة تحاول تمثل املاضي.
ال يمكننا من اآلن فصاعدا أن نتصور أية أكوان أخرى .لقد فقدنا هبة "التعالي".
لق ""د ك ""ان الخي ""ال العلمي الكالس ""يكي واح ""دا من ه ""ذه األك ""وان اآلخ ""ذة في التوس ""ع :فق ""د وج ""دت اعمال "ه" ض ""التها في
وص" ""ف الوق" ""ائع" األرض" ""ية املتزامن" ""ة معه" ""ا؛ من قبي" ""ل س" ""رديات الحرك" ""ات االستكش" ""افية ،إلى ج" ""انب تقالي" ""د النظ" ""رة
االستعمارية لأله"الي في الق"رنين ال 19وال .20والواق"ع" أن الخي"ال العلمي ق"د فق"د العالق"ة" الس"ببية بين ص"ورة الع"الم
وبني""ة الخي""ال ألس""باب عدي""دة من قبي""ل كونن""ا الي""وم نعيش في ظ""ل أن مس""احة األرض ص""ارت معروف""ة كلي""ا ،مش""فرة،
معين""ة مرس""ومة على خرائ""ط ،تام""ة الج""رد ،مس""تنفذة .لق""د تقلص""ت مس""احتها تمام""ا بفع""ل العوملة .أص""بحت األرض
تش""به مرك""زا للتس""وق العم""ومي ليس فق""ط القتن""اء الس""لع ب""ل لتمري""ر القيم والعالم""ات ،والنم""اذج ،وبالت""الي فال مج""ال
يبقى للخي""ال .من جه""ة أخ""رى ،ليس ه""ذا ه""و بالض""بط س""بب م""ا ن""راه" من تعط "ل" ت""ام له""ذه الترس""انة الكب""يرة املس""ماة
الخي""ال العلمي (الترس""انة الفني""ة والعقلي""ة والكوني""ة) .له""ذا التوق""ف عن االش""تغال ،في الواق""ع ،س""بب م""زدوج آخ""ر؛
أنهم ""ا ظاهرت ""ان طبيعيت ""ان مرتبطت ""ان بتط ""ور الن ""وع؛ فبع ""د ق ""رون من االنفج ""ار والتوس ""ع ج ""اءت مرحل ""ة بل ""وغ الح ""د
األقصى والتراجع ،وما حدث للمد العلمي والتكنولوجي قد حدث نظيره للخيال أيضا.
ح ""تى اآلن ،كن ""ا دائم ""ا محت ""اطين باس ""تمرار من الخي ""ال ،ألن معام ""ل الواقعي "ة" يتناس ""ب طردي ""ا م ""ع الخي ""ال؛ الش يء
ال""ذي ي""وفر للواق"ع" كثافت""ه .و ه""ذا ص""حيح ،فطبق""ا لتق""ديرات االستكش""اف الجغ""رافي" ولغ""زو الفض""اء :عن""دما ال تك""ون
هن"اك مواق"ع جدي"دة لالستكش"اف ،عن"دما تغطي الخريط"ة جمي"ع األراضي ،يأخ"ذ مب"دأ الواق"ع" في االختف"اء .ان غ"زو
الفض""اء به""ذا املع""نى ،يص""ير عتب""ة ال رجع""ة بع""دها تمس بمب""دأ فق""دان اإلح""داثيات األرض""ية ومرجعياته""ا .ان الواق""ع،
باعتب""اره كون""ا متماس""كا داخلي""ا يب""دأ في شيء مث""ل ال""نزيف بس""بب تم""دده الى ح""د ال نه""ائي .والواقعي"ة" املتض""منة في غ""زو
الفض""اء به""ذا املع""نى تتح""ول الى واقعي""ة مفرط""ة . hyperréalitéش""اهد ،على س""بيل املث""ال ،ه""ذه الش""قة من غرف""تين م""ع
مطبخ وحم ""ام ال ""تي يتم وض ""عها في املدار م ""ع القم ""ر الص ""ناعي داخ ""ل كبس ""ولة م ""ا؛ إن ه ""ذا التخيي ""ل ينتق ""ل بم ""ألوف
الحي ""اة البش ""رية إلى مطلقي ""ة فض ""ائية أو كوني ""ة ت ""وحي تمام ""ا بنهاي ""ة امليتافيزيق ""ا ،ونهاي ""ة الق ""درة على الحلم ،أي نهاي ""ة
الخيال العلمي التي تعمل لفائدة بداية الواقعية املفرطة. hyperréalité
بن" ""اء على ه" ""ذا ،وجب أن يتغ" ""ير الوض" ""ع :إن اإلس" ""قاط ،أو التقاطب" ""ات ،االس" ""تقراء ،وه" ""ذا النم" ""ط املب" ""الغ في" ""ه من
استنس""اخ الص""ور والنم""اذج ال""ذي ص""نع مج""د الخي""ال العلمي فيم""ا مضى ،لم يع""د ممكن""ا في ال""وقت الح""الي .فك""رة بن""اء
نم""اذج خيالي""ة باالرتك""از على الواق "ع" ص""ارت مس""تحيلة ،والعكس في الحقيق""ة ه""و م""ا ص""ار يح""دث .س""نعمل على خل""ق
وضعيات فريدة تؤثث املستنسخات" الجديدة ،ثم سنكد كثيرا ألجل إعطائها مالمح واقعية .سيص"بح خل""ق منظوم"ات
وهمية من البيانات" للواقع الذي لم يعد يملك األلفة املعهودة للمعيش ،ألن الواق""ع ب"املعنى الكالس"يكي ق"د اختفى من
حياتنا .بل إنه إذا نظرنا إليه يعيون اليوم ب"دا غريب"ا وربم"ا ب"دا مقلق"ا يتفاص"يله غ"ير العادي"ة ،يش"به أن يك"ون حظ"يرة
او محمية مص"وغة بدق"ة متناهي"ة ولكن"ه في ك"ل ذل"ك خ"ال من ك"ل محت"وى بع"د إفراغ"ه من ك"ل واقعي"ة وبع"د ال"زج ب"ه
في منظومة الواقعية املفرطة.
به ""ذا املفه ""وم لن يك ""ون الخي ""ال العلمي الح ""ق م ""اثال في البع ""د التوس ""عي ،م ""ع ك ""ل م ""ا في ""ه من الحري ""ة و "الس ""ذاجة"
اللتين" منحتاه ش"يئا من س"حر االكتش"اف ،ب"ل س"يتطور – ب"دال من ذل"ك -في االتج"اه املع"اكس؛ أي داخلي"ا وانبجاس"يا،
كم ""ا ح ""دث م ""ع تص ""ورنا للك ""ون؛ من خالل الس ""عى إلحي ""اء املستنس ""خ وتحديث ""ه وتقريب ""ه لل ""ذهان ع ""بر أج ""زاء وش ""ظايا
تفترض أن ما صار وضعنا عليه هو واقعنا الفعلي.
135
املس""ألة تكمن في الس""ؤال عن األعم""ال الخيالي""ة العلمي""ة ال""تي تس""تجيب له""ذا الش""رط من االرت""داد ألش""ياء الع""الم؟
ومن الواضح" أن القصص القصيرة للكاتب" فيليب .ك .ديك "تنجذب" ،بشكل مثير لالنتباه" ،إلى هذا الفضاء الجديد
(على ال""رغم من أن""ه ال يمكن التعب""ير عم""ا يح""دث به""ذا التعب""ير ...في ظ""ل ك""ون ه""ذا الك""ون الجدي""د ه""و "مض""اد للجاذبي""ة
أص""ال" ،وإذا ك""ان الب""د من جاذبي""ة ،فإنه""ا س""تكون ح""ول "ثقب" الواق""ع"؛ أي ح""ول "ثقب" الخي""ال) .إن دي""ك ال يبتك""ر
األك ""وان املوازي ""ة وال الغرائبي ""ة الكوني ""ة الفولكلوري ""ة ،وال املغ ""امرات" البطولي ""ة في الفض ""اء الخ ""ارجي .فالق ""ارئ ،من ""ذ
البداية،ملقى تماما في "العالم االصطناعي" بعيدا عن كل أصل أو ماض او مستقبل ،مغمور وس""ط شيء كالس""يل؛
تي" ""ار من ك" ""ل اإلح" ""داثيات" (العقلي" ""ة والزمكاني" ""ة ،والس" ""يميائية) .ليس" ""ت مس" ""ألة أك" ""وان متوازي" ""ة ،وال مس" ""ألة بع" ""دين
متقابلين ،بل عالم "االص"طناع" والواق"ع املف"رط . hyperréalitéكام"ل مكتم"ل ومس"تقل في إط"ار اختالف"ه عن النم"اذج
الس""ابقة .إن خصوص""ية فيليب دي""ك هي أن""ه يتح""دث عن ع""الم مغم""ور بش""كل فري""د في املستنس""خ ،لق""د تع""ود الخي""ال
العلمي على التراوح بين عالم نملك دائما مؤشرا على األصل في"ه لنتع""رف على نظ"يره ،مرسى واقعي يحم"ل مؤش""رات
الحقيق ""ة مهم ""ا تع ""ددت من حولن ""ا الع ""والم املوازي ""ة .فك ""رة النظ ""ير او املوازي ه ""ذه تق ""دم أي تخيي ""ل على أن ""ه نس ""خة
قريب""ة أو بعي""دة من نس""خة أخ""رى .بينم""ا هن""ا نالح""ظ اختف""اء النظ""ير .ع""الم املستنس""خ واح""د ،والواح""د يج""د نفس""ه
دائم ""ا بالفع ""ل في الع ""الم اآلخ ""ر ،ع ""الم آخ ""ر ليس ""ت ل ""ه أص ""ول يع ""ود اليه ""ا أو يحي ""ل عليه ""ا ،فال مراي ""ا وال إس ""قاط وال
يوتوبي ""ا ُ "ي"ذهب اليه""ا ".املستنس ""خ هن""ا مهيمن ،ال يمكن تج ""اوزه ،لعب""ة مغلق""ة ومنتهي ""ة بال مخ""ارج اض""طرارية ".ونحن ال
يمكنن""ا ان نتح""ول "من خالل املرآة"" إلى الج""انب اآلخ""ر ،كم""ا ك""ان يح""دث خالل العص""ر ال""ذهبي للخي""ال العلمي املب""ني
على التعالي،
ولع""ل املث""ال األك""ثر إقناع""ا س""يكون جيمس غراه""ام ب""االرد وتط""ور نصوص""ه الخيالي""ة من قصص""ه القص""يرة الحاملة
املشبعة بالعجائب والتغريب" والتعالي ،وصوال إلى روايت"ه "ص"دام س"ير "Crashوال"ذي يمث"ل (أك"ثر من روايتي"ه "مب"ان
شامخة" و "جزيرة" الخرسانة"" ) تمثيال جيدا هذا الخيال العلمي الجديد الذي لم يةعد شبيها بالخيال العلمي.
"ص""دام س""ير " ه""و عاملن""ا ،فال ش يء في الرواي""ة في""ه "اخ""ترع" فك""ل م""ا فيه""ا ه""و "ف""ائق الوظيفي""ة" :حرك""ة املرور
والح""وادث والتكنولوجي""ا واملوت والجنس وعدس""ة الك""اميرا .ك""ل ش يء يش""به آل""ة ض""خمة متماس""كة تحي""ل على ع""الم
املستنس" ""خ .إن" ""ه تس" ""ريع للنم" ""اذج الخاص" ""ة بن" ""ا ،من جمي" ""ع النم" ""اذج ال" ""تي تحي" ""ط بن" ""ا،املندمج" ""ة في حياتن" ""ا واملفرط" ""ة
االس""تعمال في الف""راغ .م""ا يم""يز "ص""دام س""ير" عن ب""اقي نم""اذج الخي""ال العلمي ه""و أن""ه ق""د تخلص من عبودي""ة النم""اذج
القديم""ة للثنائي""ة اليكانيكي""ة املعه""ودة ال""تي تنظم م""ادة الع""الم ال""روائي" حس""ب الثنائي""ة امليكانيكي""ة ال""تي تقاب""ل الوظيف""ة
م" ""ع االختالل ال" ""وظيفي ،خصوص" ""ية ه" ""ذه الرواي " "ة" هي أنه" ""ا تبعث إلى املس" ""تقبل نفس خط" ""وط الق" ""وى ونفس املرامي
الغائي" ""ة املعه" ""ودة في الك" ""ون "الع" ""ادي"" ،والخي" ""ال به" ""ذا ي" ""ذهب فيم" ""ا وراء الواق" "ع" -أو ح" ""تى م" ""ا دون" ""ه -آخ" ""ذا اتجاه" ""ا
معاكس"ا ص"وب ال"داخل ،وغالب"ا م"ا يك"ون ذل"ك ألط"ف وأجم"ل وأذكى ،وك"ل ذل"ك ب"احترام قواع"د اللعب"ة الحالي"ة .وهن"ا
مربط الفرس،
إذا تأملن""ا "ص""دام س""ير" لن نج""د ال الخي""ال وال الواق""ع ،ب""ل هنال""ك ن""وع من الواق""ع الف""ائق ألغى كال منهم""ا .وهن""ا
يكمن الط ""ابع التع ""ريفي للخي ""ال العلمي املعاص ""ر – إن ك ""ان موج ""ودا أص ""ال .ويمكنن ""ا س ""حب م ""ا قلن ""اه" على أعم ""ال من
قبي ""ل رواي ""ة "ج ""اك ب ""ارون ومس ""ألة األبدي ""ة" لن ""ورمن س ""بينراد N. Spinradأو " وقف ""ة في زنجب ""ار" لج ""ون برون ""ير J.
.Brunner
136
في واقع األمر ،الخيال العلمي من هذا القبيل لم يع"د "املك"ان" الغ"ريب" ،ب"ل ه"و "ك"ل مك"ان" :حيث تت"دفق النم"اذج
اآلن وهن""ا ،في ه""ذا الن""وع األلي""ف والب""ديهي ل""دينا من املحي""ط "االستنس""اخي" .م""اذا ال""ذي يك""ون ق""د تص""وره ،مب""دئيا،
مؤلف الخيال العلمي على سبيل املثال؟ (ونجدد اإلقرار بأن "التصور" لم يعد ممكنا كما قد أسلفنا)
تصور ملصانع مستنسخات" أملانيا الغربية ،مصانع توظف العاطلين عن العمل" في جميع األدوار وجميع األوضاع
والطبق" ""ات املعروف" ""ة في ع" ""الم التص" ""نيع التقلي" ""دي ،مص" ""انع ال تخ" ""رج من لعب" ""ة سلس" ""لة االنت" ""اج املعروف" ""ة ،األوام" ""ر
والطلبي""ات،واملنافس""ة ،واملذكرات ،وكش""وف الحس""اب ،الخ ..وك""ل ه""ذا ض""من ش""بكة ض""خمة من املص""انع ،وك""ل ه""ذه
الشبكة لن تخرج طبعا من مض"اعفات االنت"اج اآليل"ة إلى الف"راغ (أح"د مص"انع املستنس"خ ه"ذه يك"ون مثال ق"د بل"غ ح"د
اإلفالس "الحقيقي" ،فيك""ون ق""د ع""اد إلى تس""ريح عمال""ه الع""اطلين ،..)...في الواق""ع ،م""ا أمامن""ا ه""و مستنس""خ واملص""انع
أطروح ""ة وهمي ""ة ،والغ ""رض أن م ""ا أمامن ""ا من تخيي""ل ه""و واق ""ع مف""رط hyperréalitéوذل""ك يعم ""ل من خالل كونه""ا
تخيالت/وقائع ممكنة وفاعلة وال تقبل التشكيك وال املراجعة".
املث""ير للعجب هن""ا ليس التع""ارض بين املص""انع الوهمي""ة و املص""انع الحقيقي""ة ،املدهش ه""و ع""دم وج""ود تمي""يز بين
االث""نين :أي ك""ون ك""ل ه""وامش اإلنت""اج ال مرجعي""ة له""ا ع""دا "مستنس""خ ع""الم األعم""ال" ،إن""ه الواق "ع" املف""رط بواقعيت""ه
املفرط""ة ال""تي تكتس""ب مص"داقيتها" من ك"ون أغ""رب م""ا فيه""ا كم""ادة للخي""ال العلمي أن""ه ال غراب""ة فيه""ا بتات""ا .ويمكن للم""رء
أن ي"رى بان"ه ليس"ت هن""اك حاج"ة الخ""تراع أي شيء :فك"ل شيء هن""ا أمامن"ا ،س""ابق ح"تى لوجودن""ا ،يطف"و إلين""ا من ع""الم
خال من األسرار ،خال من كل عمق.
إن أك ""بر الص ""عوبات الي ""وم ،في ع ""الم الخي ""ال العلمي ،هي أن تك ""ون ق ""ادرا على تمي ""يز م ""ا من ش ""أنه أن يتماش ى م ""ع
تخيالت النظ ""ام الث ""اني؛ االنت ""اجي/اإلس ""قاطي (وه ""ذا ه ""و ج ""زء كب ""ير من جمل ""ة ه ""ذه األعم ""ال) وم ""ا ال ""ذي ه ""و ناش ئ
كنتيج ""ة الض ""محالل الخي ""ال ال ""ذي ذكرن ""اه آنف ""ا ،س ""يكون يس ""يرا مب ""دئيا أن نم ""يز بين الروبوت ""ات واآللي ""ات (ال ""تي هي
السمة املم"يزة للدرج"ة الثاني"ة) وبين آلي"ات التحكم املع"رفي أو أجه"زة الكم"بيوتر املس"تمدة ب"ديهيا من املس"توى الث"الث.
يمكن في مرحل" " ""ة الحق" " ""ة التنب" " ""ه إلى االن" " ""زالق الب" " ""ديع من مس" " ""توى إلى آخ" " ""ر ؛ وق" " ""د يحت" " ""ل أح" " ""د النظ" " ""امين داخ" " ""ل
املستنس ""خات" اآلخ ""ر ،ويمكن للكم ""بيوتر ببس ""اطة أن يعم ""ل بش ""كل جي ""د ج ""دا بمثاب ""ة آلي ""ات س ""يبرنيطيقية فائق ""ة ،
ويمكن أيض""ا للروبوت""ات أن تص""ير فائق""ة املق""درة ،وك""ل ه""ذا يفتح لن""ا ب""اب التخيي""ل العلمي على مص""راعيه وه""ذا ه""و
بالض""بط م""ا ن""راه في النم""ادج ال""تي ذكرناه""ا آنف""ا ويمكنن""ا استحض""ار ال""دور امليت""افيزيقي ال""ذي يلعب""ه الروب""وط في رواي""ة
إي .س ي كالرك " ،2001اوديس " ""يا الفض " ""اء" وك " ""ذلك دور العق " ""ل الف " ""ائق ش " ""املنزر Shalmanezerفي رواي " ""ة نورم " ""ان
سبينراد املذكورة آنفا.
إن الت""داخل بين مس""تويات املستنس""خ ال"تي أثبتناه""ا أعاله ال ي"زال ممكن""ا ،وه"و معين ه""ام للخي""ال العلمي ،وس"وف
نج ""د التخيي ""ل يعم" "ل" على املس ""توى األوب ""رالي opératiqueال ""ذي يوظ ""ف األالت مس ""رحيا أو أوبرالي ""ا ) الدرج ""ة األولى
للمستنس "خ" ( ،كم""ا س""نجده على املس""توى العملي" ، opératoireال""ذي غالب""ا م""ا يرك""ز على مض""اعفة إمكاني""ات الق""درة
والق" ""زة والطاق" ""ة ال" ""واردة في الواق" ""ع ( الدرج" ""ة الثاني" ""ة للمستنس" ""خ)" .وس" ""يعمل الخي" ""ال العلمي أخ" ""يرا على املس" ""توى
الرقمي العملياتي ، opérationnelوهو مركز تماما على مرحلة ما بعد التقنية ،أو التقني"ة املفرط"ة (الدرج"ة الثالث"ة)
والغالب أن الكتاب سيمتحون ملدة الباس بها من معين هذه الدرجة لعذريتها ثم لإلمكانيات الواسعة" التي تختزنها.
137
1
138
افق الصوت/الداللة
الصوت والداللة
تنطل ""ق ه ""ذه الدراس ""ة من الس ""ؤال ح ""ول اإلمكاني ""ات الداللي ""ة لألص ""وات .من الس ""ؤال املزدوج :ه ""ل
نحن نفك" ""ر من خالل األص" ""وات؟ وه" ""ل ي" ""دل الص" ""وت قب" ""ل تك" ""وين كلم" ""ة أو نش" ""وء بع" ""د س" ""يميائي
لألصوات املجتمعة بعضها سندا دالليا وإشاريا وثقافيا" لبعض؟
هل يحيا الصوت املفرد -وبمعزل عن كل تركيب -حياة ما؟ الننا آنذاك قد نصبح كائن"ات خاض""عة
لألص""وات فيم""ا هي منخدع""ة بانتظ""ار مجيء قافل""ة الكلم""ات ال""تي يك""ون املع""نى ق""د وص""ل قبله""ا وعم""ل
عمله الثقافي فين"ا...هي فك"رة أردن"ا أن نبحث له"ا عم"ا يس"ندها في ال"تراث اللس"اني الع"ربي و في ال"تراث
الثق" ""افي الغ" ""ربي (الح" ""ديث) ،و أردن" ""ا التمكين له" ""ا من خالل تط" ""بيق على املس" ""توى ال" ""ذي ق" ""د يك" ""ون
املس ""تة األك ""ثر حساس ""ية في التق ""اط معطي ""ات الص ""وت والدالل ""ة :املس ""توى األدبي (من منطل ""ق ك ""ون
األعم""ال األدبي""ة تجلي""ات علي""ا لألداء اللغ""وي)...س""ننظر في الج""زء األخ""ير من ه""ذه الدراس""ة في نص""ين
أدب ""يين مس ""تنطقين بعض املواق ""ع الص ""وتية و ب ""احثين عن الدالل ""ة في بع ""دها" الثق ""افي في ه ""ذه املواق ""ع
أحاصلة هي أم ال ؟.
إن ش" ""يوع الرب" ""ط بين الكلم" ""ة و الدالل" ""ة (و ذل" ""ك من مخلف" ""ات ال" ""تراث النح" ""وي و املعجمي ش" ""رقا
وغرب " " ""ا) ه " " ""و ال " " ""ذي خل " " ""ق هيمن " " ""ة الكلم " " ""ة ،إال أن تط " " ""ور عل " " ""وم الدالل " " ""ة الحديث " " ""ة ونش " " ""وء علم
الس" ""يميولوجيا عوام ""ل عملت على تحري" ""ر املع" ""نى من الكلم ""ة ،إذ علمتن" ""ا الس ""يميولوجيا" أن املع ""نى
يس ""كن ك ""ل ش يء :الحرك ""ات ،األش ""كال ،األل ""وان ،الحج ""وم ،األص ""وات (طبيعي ""ة وتواض ""عية) ،و ك ""ل
الصفات املمكن"ة...من هن"ا انطل"ق التفك"ير في مع"اني تل"ك املادة الص"امتة املص"متة املس"ماة "الص"وت"؛
و س""نلتزم بالص""وت اللغ""وي طبع""ا ،ألن األص""وات غ""ير اللغوي""ة (واملوس""يقى بالدرج "ة" األولى) مي""دان
داللي ضخم متشعب و ثري...
يالقي العائ""د للبحث في منش""أ اللغ""ة نظري""ات كث""يرة تعتم""د على ع""د الص""وت املف""رد أص""ال لك""ل كالم ،
فنظرية الب"و-واو مثال -و ال"تي أش"ار إلى م"ا يش"بهها ابن ج"ني في ب"اب "إمس"اس األلف"اظ أش"باه املع"اني"-
139
تق""ول ب""أن أص""ل اللغ""ة محاك""اة اإلنس""ان لألص""وات الطبيعي""ة ،و هي نظري""ة ي""دعمها وج""ود كم هائ""ل
من الكلم " ""ات معانيه " ""ا دال " ""ة على الص " ""وت املراف " ""ق لح " ""دوث فعله " ""ا(غن " ""ة ،زقزق " ""ة ،قهقه " ""ة "،ض " ""رب،
خشخش ""ة ،طقطق ""ة ،القط ""ة املس ""ماة "م ""و" عن ""د األطف ""ال الص ""غار ،عن ""د الص ""ينيين الق ""دامى و عن ""د
األقباط كذلك)1/17(..)!
و البن ج""ني في ه""ذا االتج""اه مقول""ة ش""هيرة ال ب""أس من استحض""ارها" مفاده""ا ذه""اب "بعض""هم إلى أن
أص""ل اللغ""ات كله""ا إنم""ا ه""و من األص""وات و املس""موعات ك""دوي ال""ريح و ح""نين الرع""د و خري""ر املاء و
ش""حيج الحم""ار و نهي""ق الغ""راب و ص""هيل الف""رس و ن""زيب الض""بي و نح""و ذل""ك ،ثم ول""دت اللغ""ات عن
متقبل")2/417(. ذلك فيما بعد ،و هذا عندي وجه صالح ،و مذهب
و ال تن"أى عن ه""ذا االعتق"اد النظري""ة التعجبي"ة العاطفي"ة ) )Pooh- Poohال""تي تق""ول أن الخام"ة األولى
للمعاني كلها أصوات تعجبية انفعالية عاطفية تعبر عن مشاعر اإلنسان القديم ،و قريب من ج"وهر"
ه""ذه النظري""ة ج""وهر" نظري""ة محاك""اة األص""وات ملعانيه""ا (نظري""ة م""اركس م""ولر) ال""تي ت""دور على مح""ور
ق ""ريب ج ""دا من مح ""ور ه ""ذه الدراس ""ة ،فم ""ولر ي ""رى – مثلم ""ا رأت الع ""رب ق ""ديما -مع ""نى أو زم ""رة من
املع""اني تم""يز ك""ل ح""رف ،فالح""اء ت""دل على االنبس""اط و الس""عة و الراح""ة (حب ،رحب ،بح""ر ،ح""رب،
س"حر ،حري"ة ،حل"ول )...،و الغين للظلم"ة و االنغالق و الخف"اء و االنقب"اض (رغم ،غيب ،غ"يرة ،غش،
شغب ،غضب ،لدغ ،فراغ ،سغب)(.)20-1/19
هي خمس نظري""ات أو س""ت تق""ف قبال""ة نظري""تي التوقي""ف اإللهي (اإلله""ام) و نظري""ة التواض""ع لتفس""ير
نش" ""أة اللغ" ""ة ،و كله" ""ا تق" ""ول ب" ""أن الخام" ""ة األولى للمع" ""نى هي الص" ""وت املف" ""رد أو الف" ""ونيم أو املقط" ""ع
( 21-1/20ثم)26-24 الصوتي – في أحسن األحوال-
الحجة الك"برى ملا نبحث ل"ه عن حجج في ه"ذه الدراس"ة آتي"ة من مالحظ"ة العلم"اء للطبيع"ة الص"وتية
للكتاب" ""ة؛ و املقص" ""ودة أن املع" ""اني أثن" ""اء الكتاب" ""ة ت" ""ؤدي بواس" ""طة ح" ""روف مف" ""ردة تع" ""ادل األص" ""وات
البس""يطة ،و ه""ذا ي""دل على أن دارسي اللغ""ة من""ذ األلفي""ة الثالث""ة قب""ل امليالد ق""د عمل""وا على الترجم""ة
الرس""مية/الحفري""ة/الخطي""ة ألهم مك""ون لغ""وي (و ه""و الص""وت) و إال لك""انت الح""روف تمث""ل مع""اني
الكلم" ""ات مثال أو مع" ""اني أعق" ""د مثلم" ""ا هي ح" ""ال الكتاب" ""ة التعبيري" ""ة Pictogrammesال" ""تي لم تس" ""تطع
االنتشار رغم خدماتها اللغوية .فالرموز "اللغوية" رموز صوتية ،ومعنى هذا أن طبيعة اللغة تتخذ
في املق""ام األول ص""ورة ص""وتية منطوق""ة مس""موعة فالكتاب""ة في أحس""ن أحواله""ا محاول""ة للتعب""ير عن
اللغة في واقعها الصوتي(.)3/43
140
و ليس بعي ""دا عن تأم ""ل املح ""دثين ه ""ذا تأم ""ل الق ""دماء و هم ينظ ""رون في تس ""مية الح ""رف به ""ذا االس ""م
ألن الح""رف في اللغ""ة ه""و ح""د الشيء ،فك""ذلك الكالم منقط""ع إلى أج""زاء ح""د ك""ل منه""ا الص""وت املف""رد
(الح ""رف) ،و ه ""ذه نظ ""رة تجزيئي ""ة دقيق ""ة ج ""دا وق ""ف عن ""دها" القاض ي عب ""د الجب ""ار( )4/255و ك ""ذلك
تسميتهم الكالم حديثا ألنه -كما يقول الرازي -يحدث مرحلة إثر مرحلة كترتب األحوال في ال""دنيا
األسماع"()4/269 ،فهو "يحدث حاال بعد حال على
م""ادة علمي""ة واف""رة ح""ول دالل""ة الص""وت تأتين""ا من خالل البحث في دالالت ف""واتح الس""ور نح""و "ألم"
و "كهيعص"و" "حم"...الخ...فق "د" تش ""عب البحث في دالالت ه ""ذه األص ""وات املف""ردة اآلتي""ة قص ""دا على
هذا الشكل ،و ذهب املفسرون و العلماء مذاهب ال حد له""ا تص""ر كله"ا على جع""ل ال"رأي الوحي""د ه"و
ع""دم تحدي""د الدالل""ة النهائي "ة" و األكي""دة له""ذه الح""روف ،مثلم""ا تتف""ق ح""ول كونه""ا ذات مع""نى م""ركب
(يتج ""اوز الكلم ""ات و الجم ""ل و األفك ""ار و الس ""ياقات ) ،مع ""نى يفيض فيم ""ا وراء الص ""وت ال ""ذي ش ""اع
اف""تراض خل""وه من املع""نى ،و يتف""ق املح""دثون على ك""ون ابن حي""ان األندلسي (ق 8هـ) أفض""ل و أوس""ع
من بحث في األمر و هو نفسه القائل :إن الفواتح أصوات مفردة دالة على سورة أو معادلة ملعانيه""ا
ناهي""ك عن ك""ون الس""ور مس""ماة بأس""ماء ه""ذه الح""روف ،فمتع""اطو الق""راءة و علم""اء األص""ول يقول""ون
"كهيعص"" و ال يقول""ون "م""ريم" ،فض""ال عن الق""ول األك""ثر ش""يوعا و ال""ذي م""ؤداه س""رية مع""نى ه""ذه
األصوات وباطنيتها التي ال تؤديها كلمة مثلما يؤديها صوت)102-5/101(.
ف""إذا بحثت في املعجمي""ة عن س""ند ل""دالالت األص""وات وج""دت تل""ك األخب""ار الغريب""ة عم""ا درج الع""رب
علي""ه من إطالق الح""روف على أش""ياء مح""ددة بعينه""ا نع""رف منه""ا جميع""ا املث""ال ال""ذي مف""اده تس""ميتهم
للحوت نونا و للجبل جيما حتى قي"ل أن الش"كل الع"ربي/النبطي/القبطي للص"وت "جيم" يش"به ش"كل
الجب " ""ل نفس " ""ه...و ق " ""د أورد ابن قتيب " "ة" قائم " ""ة تام " ""ة ملجم " ""وع التس " ""ميات العربي " ""ة ال " ""تي اخ " ""تزلت إلى
حروف :
األلف :الواحد من كل شيء ،و الرجل الذي ال زوجة له ،و فعل ماض...
الوادي...،الخ()158-5/156 الطاء :الرجل إذا شاب و ال يشبع من الجماع ،و سنام البعير ،و مهبط
و م""ا يهمن""ا من ه""ذه الن""وادر الغريب""ة املث""يرة للدهش""ة و ربم""ا لالبتس""ام أيض""ا ه""و الج""انب ال""ذي نحن
بص""دده ،و األم""ر يجعلن""ا ننظ""ر بجالء كي""ف أن الع""رب من""ذ الق""ديم درج""وا على التعام""ل م""ع املع""نى
املركب (االس " ""م) بص " ""يغة الص " ""وت املف " ""رد (الح " ""رف) و ه " ""و أم " ""ر س " ""نجد ل " ""ه في الثقاف " ""ة األجنبي " "ة"
141
( )les abréviationsأو االختص" " ""ارات ال" " ""تي نعرفه" " ""ا جي" " ""دا ألس" " ""ماء األش" " ""ياء إلى ح" " ""روف
الح""روف ال""تي تص""ير رم""وزا مفتاحي "ة" أو افتتاحي""ة ( )les initialesمثلم""ا يح""دث م""ع األس""ماء ،فل""دى
املش " ""اهير مثال يق " ""ول الفرنس " ""يون B.Bواملقص " ""ود ( )Brigitte Bardotأو يقول " ""ون BHLو املقص " ""ود
الفيلس"وف الش"هير (... )Bernard Henry-Levyالخ(...و للفائ"دة فق"ط فه"ذا ه"و أح"د اآلراء ال"واردة في
تفسير الحروف الواردة فواتح للسور(...)106-5/105و ذلك ما قد نسميه التفسير الطلسمي.)!
لن نج"انب الص""واب إن قلن""ا إن أهم م"ا قي""ل في الب"اب ال""ذي نحن بص"دده ه"و م"ا أورده أب"و الفتح بن
جني سواء ما جاء به هو نفسه و ما أثبته عن اآلخرين مطورا و معدال ومصححا.
و ربم ""ا يج ""در بن ""ا الب ""دء بالح ""ديث عن النظري ""ة املنس ""وبة إلي ""ه نس ""بة مطلق ""ة ال ريب فيه ""ا ي ""ذكرها" ه ""و
نفسه و يعترف بها املؤرخون بعده ،تلك طبعا هي نظرية االشتقاق األكبر.
يق""ول ":ه""ذا موض""ع لم يس""مه أح""د من أص""حابنا ؛ غ""ير أن أب""ا علي -رحم""ه هللا -ك""ان يس""تعين ب""ه و يخل""د
إلي ""ه ،م ""ع إع ""واز االش ""تقاق األص ""غر ،لكن ""ه م ""ع ه ""ذا لم يس ""مه...وإنم ""ا ه ""ذا التلقيب لن ""ا نحن ،و س ""تراه
فتعلم أنه لقب مستحسن ،و ذلك أن االشتقاق عندي على ضربين :كبير و صغير.
فالص""غير م""ا في أي""دي الن""اس و كتبهم؛ ك""أن تأخ""ذ أص""ال من األص""ول فتتق""راه فتجم""ع بين معاني""ه و إن
اختلفت صيغه و مبانيه)...(.
و أم ""ا االش ""تقاق األك ""بر فه ""و أن تأخ ""ذ أص ""ال من األص ""ول الثالثي ""ة ،فتعق ""د علي ""ه و على تقاليب ""ه الس ""تة
مع"نى واح"دا ،تجم"ع ال"تراكيب الس"تة و م"ا يتص"رف من ك"ل واح"د منه"ا علي"ه ،و إن تباع"د شيء من ذل"ك
(عنه) رد بلطف الصنعة و التأويل إليه؛ كما يفعل االشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد"(.)2/490
إن نظرية ابن جني هذه تقترح مباشرة هوي"ة داللي"ة للص"وت ،أو على األق"ل الجتم"اع" األص"وات بعض"ها
إلى ج""انب بعض...و ه""و م""ا لم يفك""ر في""ه آخ""ر...و لع""ل ه""ذا الن""وع من التفك""ير يك""ون أك""ثر إثم""ارا ل""و أن""ه
دعم بت""أمالت ع""ابرة للغ""ات ق""د تجيب األس""ئلة الك""برى ح""ول م""ا الحظ "ه" العلم""اء من اتف""اق للغ""ات على
تب " ""اين املواق " ""ع و األزمن " ""ة في تس " ""مية بعض املع " ""اني ال " ""تي نعلم أنه " ""ا قديم " ""ة و مرافق " ""ة لإلنس " ""ان من " ""ذ
الق""دم...فتس""ميات هللا كله""ا فيه""ا ح""رف حلقي (هـ) و م""د ب""األلف و ال""واو :هللا ،إل""ه،Goth, God, Theo ،
إلوهيم ،جيهوفاه ،Dio،يهوه... ,Dieuفلماذا هذا اإلصرار؟...
و نالح""ظ أن ابن ج""ني واث""ق مم""ا ي""ذهب إلي""ه ،و نق""رأ مع""ه ه""ذا املث""ال :يق""ول" :فمن ذل""ك تقليب (ج ب
ر) فهي أين وقعت – للق" ""وة و الش" ""دة -منه" ""ا:ج" ""برت العظم ،والفق" ""ير ،إذا قويتهم" ""ا و ش" ""ددت منهم" ""ا .و
142
الج""بر :املل""ك لقوت""ه و تقويت""ه لغ""يره .و منه""ا (رج""ل مج""رب) إذا ّ
جرس""ته األم""ور ونجذت""ه فق""ويت منت""ه و
اشتدت شكيمته .و منه الجراب ألنه يحفظ م"ا في"ه...و من"ه ال"برج لقوت"ه في نفس"ه و ق"وة م"ا يلي"ه ب"ه ،و
كذلك البرج لنقاء بياض العين و ص"فاء س"وادها ،ه"و ق"وة أمره"ا ،و أن"ه ليس بل"ون مستض"عف...و من"ه
رجب لتعظيمهم إي""اه عن القت""ال في""ه ،و إذا ك""رمت النخل""ة على أهله""ا فم""الت دعموه""ا بالرجب""ة "،و هي
شيء تستند إليه لتقوى به ،والراجبة :أحد فصوص" األصابع ،و هي مقوية لها"(..)2/491
ف""الحروف املجتمع""ة كله""ا تحي""ل على مع""ان متقارب""ة في أح""د األبع""اد و ل""و تباع""دت في أبع""اد أخ""رى و ه""ذا
مثير للحيرة.
أال يكون السؤال واجبا :هل للحروف/األصوات هوية مسبقة؟ ثم السؤال الناتج عنه :أال يكون تط""ور
اللغات حسب الحاجة" و بواسطة املواض"عة ق"د أبع"د األص"وات عن مس"افاتها األص"يلة؟...إلجاب""ة س"ؤال
كهذا نحت"اج طبع"ا إلى أك"ثر من ه"ذه الدراس"ة و أك"ثر من دارس واح"د إال أن إرهاص"ات األم"ر جلي"ة كم"ا
نرى.
على ي ""د أخ""رى نق ""رأ م""ع ابن ج ""ني دائم ""ا مالحظات ""ه ح ""ول توج ""ه املع ""نى اتجاه ""ا معين""ا ملج""رد اجتم ""اع
بعض األصوات.
يق" ""ول ابن ج" ""ني " :و نح" ""و ق" ""ولهم :ح" ""احيت ،و ع" ""اعيت ،و ه" ""اهيت؛" إذا قلت ح" ""اء ،و ع" ""اء ،وه" ""اء .و
قولهم بسملت ،و هللت ،و حوقلت؛ كل ذل"ك (و أش"باهه) إنم"ا يرج"ع في اش""تقاقه إلى األص"وات ،و
األمر أوسع.
و من طري""ف م""ا م""ر بي...ازدح""ام ال""دال و الت""اء و الط""اء و ال""راء و الالم و الن""ون ،إذا م""ازجتهن الف""اء
نحوهم""ا" ( و الضعف و على التقديم و التأخير ،فأكثر أحوالها و مجموع معانيها أنها للوهن
.)2/415
و يض""رب أمثل""ة على ذل""ك :ال""دالف=الش""يخ الض""عيف ،الظلي""ف=املج""ان ،الطن""ف=م""ا أش""رف خ""ارج
البن""اء ،ال""دنف=املريض ،الفالة=الهالك ،الط""رف=أض""عف م ""ا في الشيء(وه ""و أض ""عف من وس ""طه)،
الفرد=الضعيف لعزلته ،الفارط=املتقدم...،الخ.
و الفك""رة املقترح""ة هن""ا فكرت""ان ال واح""دة ،إح""داهما م""ا س""بق م""روره معن""ا أثن""اء الح""ديث عن تفس""ير
فقه""اء اللغ""ة لنش""أة اللغ""ة من اق""تراح األص""وات أللف""اظ و مع""ان مرتبط""ة بهوي""ة ص""وتية ال تحت""اج إلى
تأويل لطيف -حسب تعبير ابن جني نفسه...-
143
و الفك" ""رة الثاني" ""ة عالق" ""ة بم" ""ا أس" ""ميناه دالل" ""ة األص" ""وات ...فكأنن" ""ا نق" ""ول – م" ""ع ابن ج" ""ني طبع" ""ا -إن
الصوتين متى اجتمعا يتجهان مباشرة إلى عنوان يعرفانه ،و إال فلماذا كل هذا التق""ارب في تق""اليب
املادة على تب""اين تفاص""يلها...و م""ا ن""ود إض""افته هن""ا ه""و اإلش""ارة الذكي""ة – رغم كونه""ا بديهي""ة إلى ح""د
م ""ا -إلى وج ""ود ح ""االت اس ""تثنائية" تبتع ""د بأح ""د األلف ""اظ املش ""اكلة ص ""وتيا ملا نحن بص ""دده عن املع ""نى
الذي يجمع ألفاظ املادة املعنية ،و تفسير األم"ر من ب"اب أول ه"و ك"ون تل"ك الحال"ة اس"تثناء ال يفع"ل
س""وى تأكي""د القاع""دة ،و من ب""اب آخ""ر ،ال ب""د من االنتب""اه إلى الحيوي""ة الكب""يرة للغ""ة و قابلي""ة التط""ور
و ظه " ""ور الطف " ""رات أثن " ""اء ه " ""ذا التط " ""ور ،بحيث يمتن " ""ع في كث " ""ير من الح " ""االت الرج " ""وع إلى املواق " ""ع
األصلية للظاهرة...و" هذا معطى علمي ثابت ال ينكره مشتغل على اللغة.
ننظ" " ""ر اآلن -في الج" " ""زء الث" " ""اني من دراس" " ""تنا ه" " ""ذه -في ب " ""راهين أدبي" " ""ة على املق" " ""دمات اللغوي" " ""ة ال" " ""تي
أوردناه" ""ا ،و ن" ""ود في البداي" ""ة اإلش" ""ارة إلى بعض القض" ""ايا العام" ""ة املتعلق" ""ة ب" ""األداء الص" ""وتي للمع" ""نى
األدبي و كي""ف أن""ه بع""د مس""تقل ب""الغ األهمي""ة و ليس محط""ة يم""ر به""ا الك""اتب/الق""ارئ م""رور الك""رام
سيرا صوب الكلمة التي هي مسكن املعنى القاعدي ،قبل الجملة التي هي عاصمة املعاني بال منازع.
لق""د الح""ظ األس""تاذ إب""راهيم عب""د ال""رحمن في دراس""ته لبعض النم""اذج الجاهلي""ة كي""ف أن الظ""واهر
الص ""وتية – ال ""تي أص ""بح معروف ""ا بع ""دها" ال ""داللي و مدروس ""ا ك ""أول مس ""توى من مس ""تويات الدراس ""ة
األس ""لوبية للش ""عر خاص ""ة -تعم ""ل على إض ""فاء بع""د داللي ال تؤدي ""ه الكلم ""ات و األبي ""ات تمام ""ا ...أي أن
الص""وت يق""ول م""ا ال تقول""ه الكلم""ة؛ و من ذل""ك م""ا الحظ""ه من إص""رار األعشى على ص""وت بعين""ه ه""و
أل ""ف املد ال ""ذي يحق ""ق –حس ""ب الناق ""د -بطئ ""ا موس ""يقيا لطول ""ه املف ""رط ،و ه ""و ص ""وت يص ""ر علي ""ه
األعشى – وهن""ا الطراف""ة -في قص""ائد املديح والهج""اء -من أج""ل تحقي""ق بع""د ت""أملي ينتج تأكي""دا ملع""اني
ك""ثر ع""دها انفعالي""ة غ""ير تأملي""ة (الطم""ع و الغض""ب) ...فالتوكي "د" و اإلص""رار و التث""بيت ال""ذي يص""يب
ه""ذه املع""اني ال ي""أتي من محم""ول الق""ول -ألن""ه مش""بوه ينتظ""ر و ربم""ا مش""كوك في""ه -ب""ل من الس""بيل
الص""وتية و طريق""ة األداء الص""وتي له""ذه املع""اني(... .)6/84فيص""بح" الص""وت بع""دا يعم""ل على مس""توى
مستقل تماما عن املستويات األخرى.
من جه""ة ثاني""ة الح""ظ املش""تغلون على الدراس""ات األس""لوبية للش""عر أن ظ""اهرة اإلنش""اد تعم""ل بنش""اط
و فعالي" "ة" على إض ""فاء أبع ""اد جدي ""دة على مع ""نى القص ""يدة ،فبع ""دما أق ""ر الق ""دامى ك ""ون الش ""عر كالم ""ا
موزون""ا مقفى ،ج""اء الس""ؤال ح""ديثا :ه""ل ك""ل كالم م""وزون مقفى ش""عر؟ واإلجاب""ة طبع""ا:ال...و ج""وهر
144
القض""ية ك""امن في التفاع""ل بين املس""تويات العدي""دة للنص الش""عري...أم""ا إض""افة اإلنش""اد كبع""د إض""افي
ينعش البع ""د الص ""وتي للش ""عر ،ب ""ل ويح ""دده أحيان ""ا أو يعطي ""ه امت ""دادا ال يمكن ل ""ه اكتس ""ابه خ ""ارج"
ال ""دائرة الص ""وتية/اإلنش ""ادية ،فمم ""ا لم ينتب ""ه إلى خطورت ""ه إال األس ""لوبيون املح ""دثون ،يق ""ول محم ""د
الض""الع" :تض""يف الق""راءة الجهري""ة للنص الش""عري تفس""يرا فردي""ا ل""ه ،يتح""ول في""ه البن""اء العروضي
املج""رد ،وي""برز في""ه األداء اللغ""وي الص""وتي ال""ذي يحم""ل مالمح إيقاع""ه وقوالب""ه ،مث""ل التنغيم والن""بر
واالستغراق الزمني بنوعيه الفونيمي والجملي ،حيث توظ"ف فيه"ا الوح"دات اللغوي"ة توظيف"ا فني"ا"" (
.)7/135
ويس ""تنطقون فاألس ""لوبيون وهم يحلل ""ون خص ""ائص النص الش ""عري فيم ""ا وراء امليراث البالغي
ك" ""ل املواق" ""ع املمكن" ""ة للمع" ""نى الش" ""عري ،وج" ""دوا أن القواع" ""د املتحكم" ""ة في اإلب" ""داع الش" ""عري "بنوعيه" ""ا
النح""وي والعروضي ال تك""ون بمن""أى عن إنت""اج الدالل""ة الخاص""ة بالقص""يدة ألن ك""ل ج""انب من الج""وانب
على مس" ""توى األص" ""وات والص" ""يغ واملف" ""ردات وال" ""تراكيب وال" ""وزن الش" ""عري الخ" ""اص واختي" ""ار" القافي" ""ة
املعين""ة بتع""اون م""ع اآلخ""ر ،ومن هن""ا يك""ون إنت""اج الدالل""ة حاص""ال لع""دد كب""ير من التوقع""ات ال""تي تت""آزر
ً
معي ًنا يساعد بدوره على توجيه فهم الجزئيات في إطار النص كله"(.)7/137 سياقا" ّ وتصنع
قاطع"ا مص ً
"يريا ً إنها كيمياء لغوي"ة داللي"ة معق"دة يش"كل الص"وت فيه"ا عنص ً"را رئي ًس"ا ،أو عنص ً"را
غيابه يؤدي إلى تعطيل التفاعل و تعليق املعنى الشعري...
من جه" ""ة ثالث" ""ة ي" ""أتي كل" ""ود ليفي ش" ""تراوس ملجموع" ""ة من الت" ""أمالت الطريف" ""ة ح" ""ول التجرب" ""ة
الصوتية و داللتها ،و كذلك حول األداء الحسي للمعطيات الصوتية؛ و هو م"ا ك"ان ي"درس من"ذ الق"رن
،18تحت العن" ""وان الج" ""امع "الحس املش" ""ترك" أو املطابق" ""ات بين الح" ""واس"...و ينق" ""ل مالحظ" ""ات كث" ""يرة
نقتبس منه""ا م""ا يتق""اطع م""ع موض""وعنا املح""دد .يق""ول ":بخص""وص الس""ماع الل""وني (حال""ة خاص""ة من ه""ذه
املطابق""ات بين الح""واس ،ال""تي يش""ار إليه""ا باس""م الحس املش""ترك) س""جل جاكبس""ون ه""ذه املالحظ""ة" :إن
االق""تران الجلي بين ل""ون ش""ديد اللوني""ة مث""ل األرج""واني ،و إرن""ان الب""وق الش""ديد الص""وتية ،و بين ذرى
الص""بغية الص""وتية ( )/a/و الس""كونية ( )/k/في اس""م الل""ون :األرج""واني écarlateمدهش""ا حق""ا" ( ،.)8/93و
يضيف املترجم مالحظة كون األمر يصح أيضا على اللفظة اإلنجليزية ، scarletو نضيف نحن أننا مع
نفس املدرجين الصوتيين الواردين في نعت اللون(القاني) إذا ما انتقلنا إلى الدائرة العربية!!!
ثم يش""ير كل""ود ليفي ش""تراوس إلى ارتب""اط الص""وت الع""الي املفخم « » a في التجرب""ة اإلنس""انية (و خاص "ة"
ل""دى األطف""ال ،و هم مؤش""ر ممت""از) ب""اللون األحم""ر مس""تفيدا من وث""ائق كث""يرة ل""دى فن""انين تش""كيليين و
145
علماء اجتماع ثم في خواطر صحفية و مقاطع نثري"ة...قب"ل أن ي"ورد مق"اطع آلرث"ر رامب"و ترب"ط الص"ائت
املفخم باللون األسود (الذي هو درجة عليا من الحمرة فيعلق على املقطعين التاليين.)8/94( :
و إذا كن"ا ننق"ل كالم ه"ذا األلس"ني األن"ثربولوجي الجلي"ل دون رغب"ة في املناقش"ة ف"إن الج"دير بال"ذكر
هو الشبه الصوتي بين (قاني )écarlateو بين (صارخة . )éclatantes
علم""ا أن الخ""اء م""درج ق""ريب من الك""اف املفخم""ة الغ""ائرة في تجوي""ف الفم ،ب""دليل ان ك""ل الخ""اء عربي""ة
تنقل لدى األوروبيين كاف مفخمة.!!!
و ليس بعيدا عن كل هذا م"ا ك"ان م"ع الش"عراء الفرنس"يين املش"تغلين على م"ا يس"مى القص"ائد الص"وتية،
و ال""تي تفق""د الكلم""ات فيه""ا موقع""ا ليص""ير ال""بيت مص""اوتات قاعدي""ة منظوم""ة الس""تثارة انطباع""ات هي في
غ""نى عن الكلم""ة ،و من أهم املش""تغلين عليه""ا في فرنس""ا :روني ش""ار R. Charو ه""نري ميش""و H. MICHAUXو
خاصة ميشال ليريس ).M. LEIRIS (9/67-81
146
من جه ""ة رابع ""ة يش ""ير الناق ""د ريتش ""اردز إلى ك ""ون املس ""توى الص ""وتي ه ""و املج ""ال الفاص ""ل في
مس " ""ألة املفاض " ""لة بين الش " ""عراء؛ ذل " ""ك أن األدب توليف " ""ة ص " ""وتية و لفظي " ""ة ثم داللي " ""ة ،و أن األدب " ""اء
يش ""تركون في املعجم و في ال ""رؤى -إلى ح ""د م ""ا -ثم يش ""تركون في ال ""زاد البالغي ،و يبقى النس ""يج الص ""وتي
لش""اعر م""ا (و الن""اتج عن مجم""وع االختي""ارات املعجمي""ة و التركيب""ات النحوي""ة ال""تي يفرض""ها على النص،
و م""ا ينتج عنه""ا مجتمع""ة من هندس""ة ص""وتية متم""يزة) ،ذل""ك ه""و بال""ذات م""ا يجع""ل ش""اعرا حس""نا و آخ""ر
جيدا و الثالث عبقري زمانه(.)61-10/60
و ه""ذا ه""و نفس""ه م""ا دف""ع ص""احبي كت""اب "نظري""ة األدب" إلى اس""تخالص دقي""ق لطي""ف مف""اده أن الش""بكة
الص ""وتية للنص األدبي ،و الت ""أثير الجم ""الي" الن ""اتج عنه ""ا ه ""و بالت ""دقيق م ""ا يجع ""ل النص األدبي عظيم ""ا في
إليها)208-10/205( . لغته و ناشزا أو باهتا في لغة أخرى يترجم
و نختم ه ""ذه املالحظ ""ات ب ""القراءة الذكي ""ة ال ""تي ج ""اء به ""ا املت ""أخرون" من النق ""اد الع ""رب الق ""دامى ملا أثبت ""ه
املتق""دمون ح""ول النش""از الح""ادث من غ""ريب اللف""ظ ،و ح""ول مص""طلح الغ""ريب أص""ال...إذ يب""دو أن الغ""ريب
انب" ""نى على رك" ""يزتين إح" ""داهما قل" ""ة ت" ""داول اللفظ" ""ة في ال" ""دوائر اللغوي" ""ة الرس" ""مية ،والثاني" ""ة هي الش" ""عور
بالغراب""ة أو بالنش""از أو ب""الحرج من الجمل""ة املوس""يقية ال""تي تش""كلها الكلم""ة ملجم""وع أص""واتها املؤتلف""ة...و
لع" ""دم الغراب" ""ة ش" ""روط( هي ش" ""رط الفص" ""احة" طبع" ""ا) لخص" ""ها ابن س" ""نان ب" ""أن يك" ""ون ت" ""أليف اللفظ" ""ة من
ح" ""روف متباع" ""دة املخ" ""ارج" ،و أن يك" ""ون لتأليفه" ""ا في الس" ""مع حس" ""ن و مزي" ""ة ،و أن تك" ""ون غ" ""ير مت" ""وعرة
وحشية ،وأن تكون جارية على العرف العربي الصحيح)10/67( .
ه ""ذه القاع ""دة تط ""ور النظ ""ر إليه ""ا بفض ""ل ف ""رض األص ""وات ملعانيه ""ا ،فق ""د الح ""ظ النق ""اد لج ""وء الش ""عراء
املنف" ر عن قص" ""د ،ثم األك" ""ثر اقت" ""دارا و األعظم حساس" ""ية ص" ""وتية إلى ألف" ""اظ نواش" ""ز ،و إلى الغ" ""ريب ّ "
و خادم""ا – رغم تس""اءلوا فوج""دوا األث""ر ال""داللي" لت""ك األص""وات متماش""يا م""ع الس""ياق الع""ام للنص
الغراب""ة و النف""ور و النش""وز -ملع""نى القص""يدة فاس""تحدثوا تقس""يمات أق""ل تحج""را من تقس""يمات األوائ""ل.
و يلخص ه ""ذه اآلراء ابن األث ""ير بك ""ون الوحش ي ينقس ""م إلى قس ""مين" :أح ""دهما غ ""ريب حس ""ن ،و اآلخ ""ر
غريب قبيح و ذلك أنه منسوب إلى اس"م ال"وحش ال"ذي يس"كن القف"ار ،و ليس ب"أنيس و ك"ذلك األلف"اظ
ال""تي لم تكن مأنوس""ة االس""تعمال "،وليس ش""رط الوحشي أن يك""ون مس" ً
"تقبحا ،ب""ل يك""ون ن" ً
"افرا ال ي""ألف
اإلنس ،فت""ارة حس""نا ،وت""ارة يك""ون ً"
قبيح ا ،وعلى ه""ذا ف""إن أح""د أقس""ام الوحشي .وه""و الغ""ريب الحس""ن-
يختلف باختالف النسب و اإلضافات ...ويقول ":فال تظنن أن الوحشي من األلف"اظ م"ا يكره"ه س"معك
ّ و ثقل عليك النطق به ،و إنما هو الغريب الذي ّ
يقل استعماله فتارة يخ""ف على س""معك و ال تج""د في""ه
الكراهة")10/68(. كراهة "،وتارة يثقل سمعك وتجد فيه
147
ه ""ذه املالحظ ""ات بالغ""ة األهمي ""ة في التع""رف على عم ""ق التجرب ""ة اإلنس""انية (الش""عورية والداللي""ة ً "
طبع"ا)
التي يخوض"ها اإلنس"ان م"ع الص"وت املف"رد البس"يط ،وال"تي تض"اهي مض"اهاة تام"ة تجارب"ه م"ع اللغ"ة ،وم"ع
املعنى املركب ،و حتى مع املعنى املتعالي ،كما هي الحال مع املعاني امليتافيزيقية".
ن""أتي اآلن إلى الج""زء األخ""ير من دراس""تنا لنع""اين قص""يدتين اخترناهم"ا" لقراب""ة نفس""ية و ت""ذوق
اعتباطي ...الشيء الذي من ش"أنه ت"دعيم النت"ائج ال"تي نزعمه"ا...والقص"يدتان" من عي"ون الش"عر الع"ربي
في الف""ترة العباس""ية وك""ل املت""أدبين يعرفونهم""ا جي""دا ،وله""ذا لن نثبتهم""ا على متن ه""ذه الدراس""ة ...األولى
بائية بشار التي مطلعها:
هل من رسول مخبر عني جميع العرب
وهي الهجائي""ة الك"برى ال""تي أثبت فيه""ا ش""عوبيته ،وال""تي نعت الع""رب فيه""ا بك""ل النع""وت القبيح""ة املمكن""ة...
فس ""ياقها ص ""اخب غاض ""ب وربم ""ا ح ""زين إذا م ""ا نظرن ""ا إلى وض ""عية أبن ""اء الش ""عوب في املرحل ""ة ال ""تي نحن
بصددها...والبنية" الصوتية التي نستنطقها تخبر باألشياء نفسها:
-الح""رف الغ""الب ه""و الب""اء وه""و ص""اخب مجه""ور خ""ارجي" (ص""ادر من الش""فتين) ...و في غلبت""ه رف""ع للهج""ة
وإعالء للصوت ما بعده إعالء ...إنه صوت يختزل الغضب ويقول الثورة الصامتة التي اعتملت مطوال
في صدور بني العباس في ظ"ل حكم ب"ني أمي"ة ذوي النزع"ة العروبي"ة ...وتق"ول ك"ذلك الث"ورة األخط"ر منه"ا
التي هي ث"ورة املوالي ال"ذين أس"يئت مع"املتهم م"رارا وبك"ل الط"رق املمكن"ة ...إال أن الغض"ب الك"امن ال"ذي
ال مه ""رب ل ""ه من التح ""ول إلى ش يء من الح ""زن و من نغم ""ات األس ى ،ال يج ""د في م ""ا ذكرن ""اه من املواق ""ع
الص" ""وتية م" ""ا يترجم" ""ه ،فيلج" ""أ إلى الكس" ""رة األس" ""يانة الحزين" ""ة ال" ""تي تغل" ""ق ب" ""اب القافي" "ة" باالس" ""تغراق في
الكسرة ال"تي هي اس"تغراق في كس"ر الص"وت و خفض"ه (وله"ذا س"ميت كس"رة) ...الل"ذين هم"ا اس"تغراقان
في انكسار اإليقاع النفسي :وهذا بالضبط ما تحاول الدراسة قوله.
-تتكئ القافي"ة" على تت""الي ثالث حرك""ات ،والدارس""ون ي""رون في ه""ذا النم""ط من التش""كيل الص""وتي تعب""يرا
عن الحركي""ة والنش""اط والحيوي""ة .والس""ياق الع""ام للقص""يدة ي""برر ه""ذا االختي""ار" التش""كيلي؛ فبش""ار في
موق ""ف محاجج ""ة و مطارح ""ة قولي ""ة؛ ب ""ل إن جس ""د نص ""ه ه ""و الكم املث ""ير من التفاص ""يل الحق ""يرة ال ""تي
ارتبطت بحي""اة الع""رب في الجاهلي""ة "،وال""تي جعله""ا تق""ف قبال""ة نظيراته""ا ل""دى مل""وك الف""رس ...وه""ذا كل""ه
سياق حيوي إلى درجة كبيرة.
148
-الحظن" ""ا ك" ""ذلك ظ" ""اهرة ص" ""وتية ج" ""ديرة ب" ""التوقف واملس" ""اءلة؛ القافي" ""ة – ض" ""د ك" ""ل التوقع" ""ات -ب" ""اء
مكس""ورة؛ أي ح ""رف مجه""ور ق ""وي ص ""اخب ي ""ؤدى م ""ع خفض الص""وت وكس ""ره ...وفي ه ""ذا على م ""ا نظن
قص ""د من الش ""اعر للحص ""ول على ش ""عور باالختن ""اق ،ف ""الجهر املحاص ""ر بخفض الص ""وت ينتج ش ""عورا
قويا بالضغط الداخلي ،بالثورة الصامتة ،باالنفجارات املكبوتة التي قد تعطي تحفة شعرية نادرة...
أم""ا القص""يدة الثاني""ة ال""تي أردن""ا الوق""وف عن""دها فهي رائي""ة أبي تم""ام الش""هيرة في وص""ف الربي""ع ،وال""تي
هي قص"يدة غريب"ة النظم ألن باعثه"ا األساسي ه"و م"دح الخليف"ة ،في حين يس""يطر عليه""ا وص""ف الربي""ع
وآثاره بلغة جميلة وصور خالبة يعرفها املتأدبون جميعا؛ وهي التي مطلعها:
وغدا الثرى في حليه يتكسر رقت حواشي الدهر فهي تمرمر
وق""د تأملن""ا املوقعين الص""وتيين الرئيس""يين :القافي""ة وال""روي ،فوج""دنا األداء الص""وتي يك""اد يك""ون مغني""ا
عن كل إطالة حديث .وسنجمل كالمنا مثلما فعلنا مع النص السابق في ثالث مالحظات أساسية:
-إن قافي""ة بح""ر الكام""ل على ص""لة ببحره""ا أك""ثر مم""ا هي علي""ه الح""ال م""ع بح""ور أخ""رى ،أين نج""د ك""ثرة في
الزحاف""ات والعل""ل تجع""ل القافي""ة مس""تقلة في تش""كيلها الص""وتي عن هندس""ة ب""اقي األبي""ات...في" الكام""ل نج""د
القافي "ة" لص ""يقة بب ""اقي البح ""ر؛ ألن الوت ""د املجم ""وع (علن) وال ""ذي تتكئ علي ""ه القافي "ة" من ش ""أنه أن يتك ""رر
س " " " " " ""ت م " " " " " ""رات كامل " " " " " ""ة(بع " " " " " ""دد التفعيالت) ؛ وه " " " " " ""ذا التك " " " " " ""رار من ش " " " " " ""أنه خل " " " " " ""ق إيق " " " " " ""اع منتظم
( متف""ا+علن+متف""ا+علن )...انتظام""ا ال ينكس""ر؛ وذل""ك ألن الكام""ل بح""ر نقي في""ه تفعيل""ة واح""دة متك""ررة،
مختلطا)11/52( . وليس بحرا
نحن إذن أمام ظاهرتين لهم"ا داللت"ان :األولى هي إش"اعة الطمأنين"ة" داخ"ل النفس ال"تي هي على موع"د م"ع
إيقاع متكرر رتيب منتظم ،وهذا يتماشى مع الصور البديعة ال"تي يص"طنعها أب"و تم""ام للربي"ع ،وال"تي هي
تمهيد لتصوير حال البالد في عه"د الخليف"ة املم"دوح ،واالس"تراتيجية هي املج"اورة والتن"اظر ،فالطبيع"ة
يرعاه ""ا هللا ،وهي جميل ""ة كم ""ا ن ""رى بعي ""ني الش ""اعر ،والبالد يرعاه "ا" الخليف ""ة ،وهي هانئ "ة" مس ""تقرة كم ""ا
ن " ""رى يعي " ""ني الش " ""اعر ،واالن " ""زالق من "ع " ""دل الطبيع " ""ة" إلى "ع " ""دل الخليف " ""ة" يح " ""دث على متن النص،
واملوس ""يقى به ""ذا املنط ""ق تش ""يع "ع ""دال لإليق ""اع" يتماش ى م ""ع الرتاب ""ة واالنتظ ""ام والتك ""رار املنس ""جم له ""ذا
البحر.
ه ""ذا من جه ""ة ومن جه ""ة أخ ""رى ،فتفعيل ""ة الكام ""ل ترتك ""ز على ك ""ثرة الحرك ""ات وقل ""ة الس ""واكن،
املعاني)12/394( . األمر الذي يترجمه العروضيون بإشاعة الحركة والحيوية في
149
والوظيف ""ة الص ""وتية هن ""ا م ""بررة بك ""ون الحم ""اس والحيوي ""ة يتماش ""يان م ""ع الس ""عادة والفرح ""ة والحب ""ور
املس""يطرة على القص""يدة...س""عادة املتلقي هي س""عادة ب""الربيع ومثله""ا الس""عادة بالخليف""ة ودليله""ا س""عادة
املوس ""يقى ...إنه ""ا اس ""تراتيجية ن ""ادرة في الش ""عر الع ""ربي الق ""ديم...وق ""د يك ""ون ه ""ذا س ""بب ك ""ون النص من
العيون.
س""نالحظ أن دور القافي "ة" في ه""ذه القص""يدة مث""ل دوره "ا" في القص""يدة الس""ابقة؛إنهم "ا" متش""ابهتان في -
كونهم ""ا مطلق ""تين (ال ""روي متح ""رك) مج ""ردتين من التأس ""يس وال ""ردف،موص ""ولتان بح ""رفي اللين(و-
ي)...واألهم كونهم ""ا مش ""بعتين ب ""الحروف املتحرك ""ة؛" وإن ك ""انت قص ""يدة بش ""ار أك ""ثر حركي" "ة" (ثالث ""ة
أح ""رف متحرك ""ة في مقاب ""ل ح ""رفين ل ""دى أبي تم ""ام)؛ والس ""بب في اعتقادن ""ا ك ""ون األولى أص ""خب من
الثانية...
أم ""ا ال ""روي فه ""و راء مرفوع ""ة ،وهي ح ""رف مك ""رر لس ""نا بحاج ""ة إلى الت ""ذكير ب ""دوره ال ""داللي"-النفس ي من -
إشاعة االهتزاز في الفم ثم في النفس وفي املعاني عموما(...)13/93وهو اهتزاز السعادة؛ هذه األخيرة ال""تي
ترتب" ""ط في كث" ""ير من اللغ" ""ات ب" ""الراء(ف" ""رح-حب" ""ور-راح" ""ة"-كرك" ""رة-ت" ""رويح-رخ" ""اء-ف" ""ردوس-انبه" ""ارrepos- -
...bonheur-heureux-richesse-paradis-ivresse-rire-humour-rest-hilario-cheriالخ)
وس""تكون املالحظ "ة" األخ""يرة متعلق""ة بحرك""ة الرف""ع املتماش""ية م""ع حرك "ة" الفم أثن""اء الض""حك واالمتالء -
ب""الهواء املنس""رح ،وال""تي يقابله""ا ل""دى بش""ار الكس""رة ال""تي قلن""ا إنه""ا تحم""ل تعب""يرا عن أسى ق""ديم ك""امن في
أنفس الجماهير املناضلة في صفوف بني العباس والذين كانوا مضطهدين أيام األمويين.
من خالل ه""ذه املعاين""ة الس""ريعة له""ذه املواق""ع الص""وتية نص""ل دون ارتب""اك إلى ك""ون الص""وت موجه""ا(بكس""ر
الجيم وفتحه"ا) للمع"نى املس""يطر على البن"اء ال""ذي يهندس"ه الص"وت .وك""ون املالحظ"ات ال"تي أوردناه"ا مط""ردة
ي""بين لن""ا إلى أي""ة درج""ة يلتص""ق الص""وت ب""املعنى ،ويعي""دنا من الت""أل األدبي إلى م""ا قلن""اه في املق""دمات اللغوي""ة
حول الصلة األكيدة الوثقى بين الصوت والداللة.
150
:ائمة املراجع
عبد السالم املسدي :اللسانيات من خالل النصوص -الدار التونسية للنشر3- 1984-
عبد السالم املسدي:التفكير اللساني في الحضارة العربية -الدار العربية للكتاب -لبنان-ط- 1986 -2 4
-5محمد بدري عبد الجليل :براعة االستهالل في فواتح القصائد و السور -دار املعرفة الجامعية -مصر-2005 -
إبراهيم عبد الرحمن :قضايا" الشعر في النقد العربي -مكتبة الشباب -مصر -ط6- 1999 -3
-محمد صالح الضالع :األسلوبية الصوتية -دار غريب -مصر7- 2002 -
-كلود ليفي شتراوس :النظر ،السمع ،القراءة -تر :خليل أحمد خليل -دار الطليعة -لبنان -ط8- 1994 -1
حسني عبد الجليل يوسف :التمثيل الصوتي للمعاني -الدار الثقافية للنشر -مصر "-ط10- 1995 -1
151
أفق الفلسفة...مرةأخرى
يوميات فلسفية
يسألني صديقي في محاوراتنا املستمرة:ملاذا تنتشر في كل مكان من العالم الدراسات الثقافية فيما
نتحدث نحن فقط عن شيء هجين اسمه النقد الثقافي؟
الغالب يا صديقي أن الدراسات الثقافية نظريات هدفها الحراك االجتماعي وبلداننا ال تريد حراكا
اجتماعيا...نظريات عملت بعمق وثورية على تمحيص ونقد املركزية الثقافية االستعمارية وخافها
التاريخ الحافل "املش كوك في حقيقيت ه وفي مسار تحول ه إلى حقيقة تاريخية إنس انية" وإلى الوجود
الذي صار قويا والذي مارسه حضور أبناء ثقافات األقليات اإلثنية والعرقية وأبناء املستعمرات
املتحررة حديثا وكل هذه البلدان اإلفريقية والعربية واإلسالمية وامللونة ،أبناء هاجروا واستقروا
في البلدان األوروبية و الغربية عموما ،وكل ذلك اصبح اليوم يطرح سؤاال مزدوجا :ملاذا لم ينجح
هؤالء في بلدانهم؟ وملاذا ينجحون إلى هذه الدرجة في البلدان األجنبية؟...واإلجابة على هذا النوع من
األسئلة له تبعات سياسية ال تطيقها بلداننا...لهذا يا صديقي يفضل الحاكم العربي وكالبه الحارسة
في مختل ف املؤسس ات العلمي ة الخ وض في النص وص القديم ة من أج ل تكبي ل الخطاب ات بعزله ا في
152
إط ار يك اد ال يع ني ح تى املش تغلين علي ه...له ذا ي ا ص ديقي ينتش ر النق د الثق افي ال ذي ه و نم ط من
الخطاب النقدي بال تبعات سياسية.
يس ألني ص ديقي ك ذلك :م ا التح دي املع رفي ال ذي يق ف خل ف ه ذه املقارب ة ال تي تص فها بالثوري ة
والعميقة؟
والغ الب عن دي ه و أن اإلنس ان يج د نفس ه في خض م الدراس ات الثقاف ة يتأم ل نفس ه من خالل
س ؤالين مرك زيين :أح دهما ه و :م ا ه و املس ار الثق افي و العقلي والسياس ي ال ذي ق اد حي اتي إلى أن
تكون على الشكل الذي هي عليه؟ والسؤال الثاني هو :أال أكون أنا من خالل عمل اللغة على برمجة
افك اري موض وعا للثقاف ة؟ ف أكون أداة في ي د ال أعرفه ا لتحقي ق إرادة ثقافي ة (اي سياس ية) ال
أعرفها؟
من ه ذا املنطل ق يص بح دور الدراس ات الثقافي ة ه و إع ادة تفكي ك م ا ق د انب نى من األص نام
الحياتية واالجتماعية بمعزل عن إرادة الفرد البسيط املتناهي في الصغر على املستوى السياسي،
واملتن اهي في الخط ر على املس توى الثق افي ،واملتم اهي والق در م ع ذل ك على املس تويات كله ا .ويق ع
ه ذا التأم ل بين التفك ير اليس اري ألنطوني و غرامش ي والتفك ير م ا بع د اليس اري مليش ال فوك و؛
وهما املفكران اللذان فككا جيدا الصلة بين السلطة والخطاب ،مع الفرق الكبير الذي يجعل
األول ي رى في املرء وس يطا لتحقي ق الس لطة فيم ا يجع ل الث اني يع د اإلنس ان أداة تطوعه ا اللغ ة
كأداة متعالية لتحقيق موضوع السطلة.
تتشكل الدراسات الثقافية من ساللسل متوالدة من املباحث التي يبدو أحيانا أنها متنافرة والتي
يغلب عليها ان تنطلق من نقطتين أوالهما كسر الهيمنة الرسمية للقانون الجمالي على النصوص
األدبي ة أساس ا ،والنص وص الثقافي ة جميعه ا في مطل ق األم ر ،وثانيتهم ا – وهي ناتج ة عن األولى-
النظر صوب مواقع داللية اخرى ومساحات تجاذب لقوى التدليل التي تنتهي بممارسة صنف
من الهيمنة على عقولنا من خالل الثوب األبيض الناصع للجماليات النصية املعهودة ...وينتج عن
هذه النقطة فيضان النظرة العلمية وفعل التقصي فيما وراء النصوص األدبية و الثقافية ،ثم
الخروج إلى الظاهرة الثقافية كنص؛ وهو سلوك علمتنا إياه الثقافة السيميائية منذ منتصف
الخمسينيات أين كان روالن بارط يقول -تأسيا بأستاذه كلود ليفي شتراوس : -إن جسم اإلنسان
وحاالت ه وممارس اته يمكنه ا أن تع د نصوص ا أك ثر فص احة من النص وص األدبي ة في الدالل ة على
الج وهر اإلنس اني ال ذي تش تغل علي ه النص وص ...افك ار سيس ترجعها االش تغال في الدراس ات
الثقافية من خالل التلقيح الكبير لعلم االجتماع ولألنثروبولوجيا لهذه االتجاهات التي تنطلق من
نسقية القراءة والتحليل صوب سياقيته.
153
انتهت الدراس ات الثقافي ة إلى عب ور أرض البحث في االنثروبولوجي ا الثقافي ة واملب احث اإلثني ة
وعلم االجتماع في تقاطع مستمر يشتعل حينا ويخبو حينا آخر مع الفلسفة ( أم العلوم حديثا
أكثر مما اعتقدناها قديما) ،وانتهى بها املسار إلى تشكيل رؤية متفردة صوب موضوعاتها األثيرة
ترتك ز على تقص ي مواق ع تجلي ال ديناميكيات السياس ية للثقاف ة املعاص رة في إط ار أص ولها
التاريخية ،مالمحها البارزة وأوجه الصراع التي تعتمل في إطارها...نظرة تدور في فلك الخلفية
املتس ائلة ح ول نقط ة بحث مرك زة ج دا هي النظ ر في كيفي ة ارتب اط ممارس ات ثقافي ة معين ة
بش بكات وأنظم ة خفي ة من الق وى املرتبط ة او الفاعل ة في الظ واهر االجتماعي ة ال تي هي
اإلي ديولوجيا ،التش كيالت الطبقي ة ،االختالف ات العرقي ة ،املس تويات الثقافي ة للف راد ،الت اريخ
املشترك للجماعات ،الصول القبيلية املؤثرة ،التطلعات الجنسية ،الجنوسة ،الحرمان الطبقي،
الش روخ العقيدي ة ،الص راعات بين األجي ال املتطاحن ة..،الخ...م ع حض ور اله اجس اللغ وي في
خلفية البحث من منطلق التعريف الشهير العائد إلى آرنولد توينبي والقائل بأن " الثقافة بنيات
عملية و نماذج نمطية فكرية واقعية و خيالية تظهر في اللغة املثقفة و اللغة الرمزية و تظهر في
سلوك و في فكر الفرد و الجماعية متراكمة عبر الزمن ".
154
في محبة الفلسفة
أعيش في فض ""ائين اث ""نين :الجامع ""ة والوس ""ط األدبي .في الجامع ""ة أج ""د ك ""يرا من الطلب ""ة ي ""رون الفلس ""فة
كنوع من الهرطقة أو من تضييع الوقت فيما ال نفع له ،وفي الوسط األدبي يرونها شيئا عاليا بعيدا ال
يبلغ ""ه اال قل ""ة من الن ""اس؛و هنال ""ك من ي ""رى – باملقاب ""ل -ب ""أن الفلس ""فة تفس ""د بداه ""ة الكتاب ""ة وعالقتن ""ا
املباشرة بالعالم؛ عالقة يفترض ان تنتج أدبا جيدا ( شعرا في اغلب الحيان).
والواق ""ع ان الكت ""اب عن ""دنا يع ""انون من مش ""كلة كب ""يرة هي غي ""اب فلس ""فة في الحي ""اة يملكونه ""ا وتض ""بط
رؤيتهم ص" ""وب األش" ""ياء ،فكث" ""يرا م" ""ا يب" ""دو ل" ""ك أن الك" ""اتب ال يس" ""توعب من الحي" ""اة ش" ""يئا خاص" ""ا يف" ""وق
فيه/من خالله استيعاب أبيه أو جده أو أمه...
وه"ذا الط"ابع "الس"اذج" يدخل"ه كتابن"ا من ب"اب آخ"ر ع"دا الب"اب ال"ذي يدخل"ه غيرن"ا ممن في أزم"ان أخ"رى
وأم"اكن مختلف"ة ،فهم ي"دخلون ب""اب البداه""ة والس"ذاجة والبس""اطة والعذري""ة من أج""ل محاول"ة تجدي"د
الصلة باألشياء ...والدخول م"ع الع"الم في ح"وار عمي"ق...وليس"ت حالن"ا هي ح"ال البداه"ة ال"تي هي فلس"فة
تس"مح لن"ا بتعمي"ق ق"درتنا" على التأم"ل في الع"الم ،ب"ل ان حالن"ا هي س"ذاجة تشي بأنن"ا ع"اجزون عن فهم
محيطنا...
واذا ع ""دنا الى الجامع ""ة س ""نجد عق ""وال وذواق ""ا متحج ""رة ،م ""ع نظ ""رة س ""لبية ص ""وب الفلس ""فة منطلقه ""ا
األس""اس ه""و م""ا أح""ذر من""ه دائم""ا :املجتم""ع ذو الط""ابع اإلس""المي ( وحاش""ا اإلس""الم حاش""اه حاش""اه) ال""ذي
يحتكر فيه التفكير من قبل قلة قليلة تفكر في مكان الجميع.
شخص""يا ت""ربيت على الفلس""فة ،ولي معه""ا ص""فحات كث""يرة من كت""اب حي""اتي ".وكث""يرا من ه""ذه الص""فحات
مكتوب عليه:نيتشه.
155
أك""ثر شيء راق""ني في فلس""فة نيتش""ه التع""دد والخ""روج عن النس""ق والفوضى الخالق""ة للكتاب""ة وص""عوبة
ال ""دخول في خان ""ة واح ""دة فق ""ط .ويظه ""ر لن ""ا ه ""ذا جي ""دا من خالل الئح ""ة املت ""أثرين ب ""ه ،فه ""و فه ""و يس ""م
بميسمه فالسفة متنافرين فكرا وسلوكا واتجاها سياسيا مث"ل برغس"ون أوال ،ثم ميش""ال فوك""و ،ج""ان
فرانس""وا ليوط""ار ،ج""اك ديري""دا و جي""ل دول""وز ،و إذا ك""ان ه""ؤالء األخ""يرون منتمين إلى جي""ل واح""د ف""إن
بينهم تباين ""ا كب ""يرا يجع ""ل ليوط ""ار مناض ""ال يس ""اريا ويجع ""ل ميش ""ال فوك ""و معارضـا شرسـا لك ""ل أن ""واع
الخضوع للهياكـل واملؤسسـات االجتماعيـة والسياسيـة.
أحببت في نيتش ""ه فك ""رة قت ""ل األب؛ أو مرجع ""ة األش ""كال القائم ""ة للس ""لطة هم ""ا ك ""ان نوعه ""ا ،يق ""ول
م""ادان س""اروب في ه""ذا الس""ياق »:لق""د رف""ع نيتش""ه ص""وته ض""د عب""ارة الدول""ة والليبرالي""ة السياس""ية ألن""ه
ض ""د سياس ي في العم ""ق وك ""ان يك ""ره فك ""رة االنتم ""اء إلى أي "ح ""زب" مهم ""ا ك ""ان ،كم ""ا أن ""ه ع ""ارض فك ""رة
الدول ""ة ألنه ""ا تمث ""ل في نظ ""ره ق ""وة تخي ""ف الن ""اس وتجعلهم يطيع ""ون ويتفق ""ون و يتش ""ابهون ( )...ويتمث ""ل
العنصر األساسي في فكر نيتشه وحياته في "الفرد ضد سياسي الذي ينشد الكمـال الذاتي"«
ت ""ربيت ش ""عريا في املدرس ""ة الس ""يريالية ،وهن ""اك ايض ""ا ك ""انت ص ""ورة نيتش ""ه على الج ""دار ،فك ""ل مطل ""ع
حصيف على نصوص السيرياليين يق"رب إلى "أن"دري بريت"ون" أو "ب"ول إيل"وار"" أو فيليب س"وبو" كالم"ا
مث ""ل ه ""ذا الكالم ال ""ذي ك ""ان يق ""ال في ح ""ق نيتش ""ه» :إن انس ""جام و تماس ""ك نظ ""ام معين ال يش ""كل ض ""مانا
للحقيق ""ة في ""ه ،لق ""د اعتم ""د (نيتش ""ه) في هجوم ""ه على األنظم ""ة والنظامي ""ة على رفض الالعقالني ""ة ال ""تي
تكمن في ع""دم مناقش""ة األنظم""ة للمس""لمات ،ففي نظ""ره ليس العلم نظام""ا مغلق""ا ال ذاتي""ا ب""ل ه""و بحث
متحمس عن املعرفة«.
ُ ّ
تعلمن ""ا الفلس ""فة التفك""ير وكيفي ""ة التفك ""ير ،وع ""دم التهيب من التفك""ير وتعلمن ""ا ش ""يئا أهم من ك ""ل ذل ""ك:
ضرورة مراجعة قناعاتنا السابقة.
156
الوجود والعدم ،مسألة سياسية ال فلسفية
صديقي أستاذ الفلسفة الذي يهتم بالشأن السياسي بشكل ينسيك دائما بأنه استاذ فلسفة ،يجعلك باستمرار
تتذكر بأنه أستاذ للفلسفة حينما يستدرجك لكي تمارسا فعل املشي على طريقة الفالسفة القدامى الذين لم يكن
يهمهم الشأن السياسي ألن السياسة كانت في عرف ذلك الزمان من شأن العامة ومن يفوقون العامة بقليل ،وال
صلة للطبقة املتميزة بالفلسفة عدا كون بعض الساسة قديما خطباء أفذاذا ،فالخطيب هو النخبوي الوحيد من
بين الساسة الذي يليق الحديث عنه وسط الفالسفة ،فالخطيب سياسي قادر على التفلسف؛ من منطلق كون
الفلسفة في العرف العام كالما يدور حول نفسه ،وكون الفلسفة في العرف الحالي خطابات نشكلها حول
موضوعات معينة ال دور لها سوى الداللة على مرحلتنا ،وتحديد كون مرحلتنا هي التي أنتجت الخطابات" التي
نعرفها ،فكل حقيقة ال تعدو كونها طريقتنا "املعينة" للحديث حول شيء بعينه.
وأنتما تمارسان رياضة املشي متراوحين بين إحداثية فهم الرياضة على أنها تدريب الجسم من منطلق القاعدة
الفلسفية (العقل السليم في الجسم السليم) وبين إحداثية عد العربية للرياضة نمطا من الحساب ،الرياضة التي
هي الرياضيات...يحدث" أن يستدرجك الصديق الفيلسوف صوب مجلس للساسة القدامى الذين يصبغون شنبهم
مع كل حملة انتخابات لكي يظهر صغر سنهم واستعدادهم املنطقي للعمل" ولتقديم النفس والنفيس ما دامت
الصحة جيدة؛ ولنتذكر دائما بأن العقل السليم ال مهرب له من الجسم السليم,.
يحدث كثيرا ان يفضي املشي الجميل على وقفة هامة في السير واملسيرة واملسار معا؛ وقفة تساير الفترات
االنتخابية أين يتخلى صديقي الفيلسوف عن حديث الجابري وابن سينا وشوبنهاور الذي هو مغرم به و ابن سينا
الذي يحفظ كثيرا من نصوصه ويعده ظاهرة متفردة في الزمان واملكان ،صديقي هذا الذي جمعته مجالس كثيرة
مع طه عبد الرحمن تجده صدفة يتحول الى جندي منضبط تحضيرا الستحقاقات انتخابية معينة ،وتجده يمطط
مدائح جبهة التحرير ومستحثات سياسية اخرى من حساسيات سياسية ظرفية أخرى بشكل يضحي تماما بالنزعة
النقدية التي زرعها فيه فولتير الذي يتلذذ بذكر اسمه تلذذا شبيها بالتلذذ الجنسي" :فولتييييييير ...يا دين
الزحححح"..
تستدرجه الى حديث حميمي يكرهه متسائال :أال تعتقد يا شيخ بأن هنالك إسفافا معينا عند جماعتك؟ أال ترى بأن
استاذا جامعيا مشارفا على التقاعد (أو ربما التقاعس ) مجبر بشكل معين على إدانة املهزلة السياسية في بالدنا على
األقل بشيء من التخلي (وهو فعل بسيك افضل من التعامل بلسانه وبقلبه؛ وذلك في البلدان" املتقدمة هو أقوى
اإليمان :اإلدانة والفضح وأخذ موقف واضح يتحول الى رسالة تبقى لألجيال املستقبلية)؟
ساعتها فقط يظهر الوجه الذي يفسر خيبتنا الوطنية غير الديمقراطية والتي تنفجر في وجه الجبهة الشعبية بسبب
تقاعس النخب...يقول صديقي بصوت ال يظهر كثيرا :دعك من املثاليات يا رجل...انت مثقف وتعرف من اين تؤكل
157
الكتف...في نهاية األمر كل واحد يحتال لكي يأخذ حصته من البالد بما يملكه من حيل...انا أستاذ فلسفة استطيع
فقط أن أتفلسف...
ساعتها فقط تفهم جيدا سبب وجود كثير من الفلسفة ومن الحداثة ومن التفكير التراثي في بالدنا دون ان نجد
أثرا" ال لتفلسف وال لحداثة وال ألصالة وال تأصيل...
من الصيغ التي يرددها صديقي دائما نقال عن ميالد الفلسفة اإلسالمية :تاييس األيسات ...ويتاسى على اننا لم ننجح
في غرز صيغة " ايس" للحديث" عن تحقيق الوجود لغويا ،وإيجاد صيغة لغوية للوجود بدال من وجود الليسات
وثقافة "الليس"التي تدل فقط على الن النخب املحلية -يؤمن بغلبة ليس علىى األداة اللغوية املتروكة في ثقافتنا
"ايس"...وذلك جوهر املسألة.
158
الخيال العلمي...طريقة في التفكير
يروقني النظر متعدد األبع"اد ص"وب الخي"ال العلمي ال"ذي يحمل"ه األم"يركي له"ذا الن"وع .يحض"رني ح"وار ألح"د أهم
الناش " " ""رين املختص " " ""ين في ه " " ""ذا املج " " ""ال؛ اقص " " ""د الك " " ""اتب" والناش " " ""ر "ل " " ""و آن " " ""درز" ال " " ""ذي يق " " ""ول :من األس " " ""هل دوم " " ""ا
تعري""ف الخي""ال العلمي بمحت""واه أك""ثر من تعريف""ه بش""كله .وأعتق""د أن التعريف""ات" تحت""اج إلى أن تك""ون وص""فية وليس""ت
إلزامي""ة ،أي أن تتح""دث عم""ا يح""دث ب""األحرى أك""ثر من أن تتح""دث عم""ا ال يح""دث .إن تع""ريفي املفض""ل ه""و التعري""ف
ال ""ذي تناول ""ه فري ""دريك بوه ""ل ع ""بر مجموع ""ة من التس ""اؤالت« :ه ""ل تق ""ول القص ""ة لي ش ""يئا م ""ا يس ""تحق أن أعرف ""ه ،لم
أعرف""ه من قب""ل عن العالق""ة بين اإلنس""ان والتكنولوجي""ا؟ ه""ل تن""ير ل""دي منطق""ة م""ا من العلم كنت أجهله""ا؟" ه""ل تفتح
أفق " ""ا جدي" ""دا في تفك" ""يري؟ ه" ""ل تجعل " ""ني أفك" ""ر بط " ""رق جدي " ""دة من التفك " ""ير لم أكن ألفك" ""ر به " ""ا على اإلطالق من دون
قراءته ""ا؟ ه ""ل تط ""رح احتم ""االت عن مس ""ارات املس ""تقبل املحتم ""ل الب ""ديل يمكن أن يتخ ""ذها الع ""الم؟" ه ""ل تن ""ير أح ""داث
الحاض ""ر واتجاهات ""ه ب ""أن تري ""ني إلى أين تق ""ود الغ ""د؟ ه ""ل تمنح ""ني وجه ""ة نظ ""ر طازج ""ة وموض ""وعية عن الع ""الم ،وعن
الثقاف""ة ال""تي أنتمي إليه""ا وللثقاف""ة اإلنس""انية بوج""ه ع""ام؟ أو ربم""ا أن ت""تيح لي أن أرى ،من خالل عي""ني" ً ،
نوع ا آخ""ر من
ً
مختلفا كلية ،من كوكب يبعد سنوات ضوئية؟ ه"ذه الص"فات العدي"دة ليس"ت فق"ط من بين تل"ك الص"فات املخلوقات"
ال ""تي تجع ""ل الخي ""ال العلمي جي ""دا ،ب ""ل هي م ""ا تجعل ""ه فري ""دا .لن تص ""بح القص ""ة قص ""ة خي ""ال علمي جي ""دة إن لم تق ""در
تق""ديرا عالي""ا في بعض من تل""ك األوج"ه على األق""ل .ففي تق"ديري أن محت"وى القص""ة يظ"ل معي"ارا ص"الحا ،تمام""ا مثلم"ا
نقيم جودة العمل" بناء على األسلوب.
تجدي" ""د طريق" ""ة التفك" ""ير...مراجع" ""ة معارفن" ""ا بأنفس" ""نا وقناعاتن" ""ا املألوف" ""ة ح" ""ول الع" ""الم" واألش" ""ياء...تجدي" ""د الص" ""لة
بالت ""اريخ...النظ ""ر في م ""ا نري ""ده وط ""رق التمكين ل ""ه...ذل ""ك م ""ا نش ""أ الخي ""ال العلمي في كنف ""ه وذل ""ك م ""ا علي ""ه ان يواص ""ل
الطريق صوبه.
159
املحاورة واملناورة
ّ
يمكن ""ك الفيس ""بوك وامليس ""نجر وب ""اقي ب ""رامج التواص ""ل االجتم ""اعي من إحي ""اء فن املح ""اورة …ذل ""ك الفن
ال ""ذي عم ""ل الق ""رن العش ""رون تأس ""يا ب ""القرن التاس ""ع عش ""ر على قتل ""ه إلى درج ""ة كب ""يرة بإيع ""از من املدح
املف""رط للفردي""ة والعزل""ة واالنعزالي""ة والفردي""ة…قيم دارت الحداث""ة حوله""ا مؤله""ة ذل""ك الف""رد املتف""رد
ال" ""ذي يعم" ""ل جاه" ""دا على املحافظ" ""ة على فردانيت" ""ه داخ" ""ل الجماع" ""ة ال" ""تي تش" ""كل دائم" ""ا خط" ""را على قيم
الف " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " ""رد…
إن تطور اإلنسان قد سار به طيلة هذين القرنين الشاذين صوب الخروج التام من ال""دائرة الجماعي""ة
على أس ""اس كونه ""ا تش ""كل خط ""را معين ""ا على س ""المة فك ""ره ونزاه ""ة روح ""ه ال ""تي هي روح متف ""ردة متم ""يزة
ذات بص ""مة ينبغي ال ""دفاع عنه ""ا .وق ""د ص ""ار إنس ""ان عص ""ر الحداث ""ة ص ""امتا منغلق ""ا على نفس ""ه مقدس ""ا
لحاالت كالقلق والغثيان والخدر الحسي ،ورافضا لالجتم"اع" والح""وار والتواص"ل والنظ"ر إلى ال"ذات في
مراي ""ا آلخ ""رين .أنتج ك ""ل ذل ""ك مق ""والت الغرب ""ة والتغ ""ريب ،والوحش ""ة ،والجن ""ون ،والريبي ""ة املطلق ""ة،
وتق" ""ديس الفوض ى والالنس" ""قية والنزع" ""ة الثوري" ""ة املب" ""الغ فيه" ""ا بس" ""بب اعتباره " "ا" أي ش" ""كل من أش" ""كال
ً
االنض"باط املجتمعي أو االل"تزام الفكي أو االنص"ياع السياسي قيم"ة س"لبية ،وفي ه"ذا تعميم ،وخل"ف ك"ل
تعميم تعتيم كما هو معروف
– املح""اورة ل""دى فيلس""وف مث""ل س""قراط أو تلمي""ذه الف""ذ أفالط""ون هي كش""كل للممارس""ة فع""ل التفك""ير،
بحث إنن"ا الي""وم ال نمل"ك عمال لس""قراط مثال ولكنن"ا – م""ع ذل""ك -نس"تخلص آراءه الهام"ة من اآلث"ار ال"تي
تركه ""ا من خالل ترك ""يزه الكب ""ير على املح ""اورة كطريق ""ة في التفك ""ير ،وعلى يقظت ""ه املبك ""رة ال ""تي جعلت ""ه
شديد الحذر من النزع"ة االكتفائي"ة" القاتل"ة ال"تي يق"ود إليه"ا التمرك"ز ح"ول ال"ذات ،والتفك"ير على ص"عيد
ف""ردي .يقودن""ا الح""وار إلى النتيج""ة الهام""ة ال""تي هي أن الحقيق""ة ال تغ""دو تلقين""ا ب""ل نتيج""ة لبحث مش""ترك
يلعب في املحاور دورا ال ريب فيه.وليس هذا املس"عى ل""دى س"قراط ببعي""د عن املوق""ف املع""ادي الواض"ح
ال ""ذي اتخ ""ذه س ""قراط وأتباع ""ه من التع ""الي الفك ""ري للسوفس ""طائيين ال ""ذين نس ""بوا ألنفس ""هم املعرف" "ة"
وأق"روا اس""تحواذهم الت""ام على الحقيق""ة .تهمن"ا الي"وم الع"ودة إلى املب""دإ الس""قراطي ال""ذي ج"ره – وينبغي"
أن يجرن""ا – ص""وب اإلعالن الش""جاع ” :ك""ل م""ا أعرف""ه ه""و أني ال أع""رف ش""يئا !!” …وهي دع""وة ص""ريحة
ص""وب ض""رورة ض""خ التفك""ير ب""الحس نق""دي ،وه""و ذل""ك املوق""ف العقلي ال""ذي ي""دفع ص""احبه" إلى الح""ذر
والتريث في الخضوع للمسلمات واملعارف الجاهزة قبل إخضاعها للفحص والتحليل.
يحيلن ""ا ه ""ذا بغراب ""ة وبمتع ""ة على إض ""افة فلس ""فية من الق ""رن العش ""رين؛ واملقص ""ود طبع ""ا ه ""و فلس ""فة
التواص ""ل ل ""دى ي ""ورغن هابرم ""اس؛" الفيلس ""وف األم ""اني الكب ""ير ال ""ذي كس ""ر ال ""بروج العاجي ""ة للفالس ""فة
داعيا الجميع إلى إخضاع الفكر المتحان الواقع ،وكاسرا يقينية امليراث الفلسفي لفائدة مقاربة تذكر
بج ""ون دي ""وي والبراغماتي ""ة الواقعي" "ة" الحديث ""ة ،مقارب ""ة يس ""ميها “التواص ""لية” فحواه ""ا أن ادع ""اء الح ""ق
160
ال""ذي يول""ع ب""ه الفالس""فة في ك""ل ف""ترة ولع""ا مبني""ا على نب""ذ اآلخ""ر وإثب""ات ال""ذات ،و ب""دال من ذل""ك ي""دعو
هابرم" ""اس" إلى قيم التواص" ""ل ال" ""تي ال تق" ""وم على الغلب" ""ة وه" ""اجس الهيمن" ""ة ،والع" ""الي املع" ""رفي والرؤي" ""وي
والبالغي أيض ""ا ،من منطل ""ق مالحظت ""ه للس ""حر الكب ""ير ال ""ذي تس ""لطه ص ""ياغات فلس ""فية معين ""ة بس ""بب
بالغته ""ا العالي ""ة وأس ""اليبها ال ""تي تأخ ""ذ األلب ""اب ،في مقاب ""ل ك ""ل ذل ""ك يق ""وم ق ""وام فلس ""فة التواص ""ل على
املحاجج" ""ة واإلقن" ""اع "،ومقارع" ""ة الحجج بعض" ""ها ببعض لكي تك" ""ون الغلب" ""ة للق" ""وى ال لألحلى أو األطلى..
وألج" ""ل ذل" ""ك اس" ""تعاد هابرم" ""اس مفهوم" ""ا كانطي" ""ا هام" ""ا ه" ""و “مفه" ""وم الفض" ""اء العم" ""ومي” ال" ""ذي يبش" ""ر
باملمارسة الديمقراطية ،وبنوع من إشاعة تداول املعنى بين الناس.
أم""ارس هن""ا ل""ذة أدبي""ة على حواشي ت""أمالتي الفلس""فية ن""اقال عص""ارة جي""دة مم""ا ورد في مح""اوراتي على
مواقع التواصل االجتماعي مع أصدقائي وشركائي املعرفيين وطلبتي املتميزين وأصدقائي الذين أح"ترم
رأيهم وأش ""اركهم ل ""ذة املح ""اورة بحث ""ا عن اله ""دف املطل ""ق لإلنس ""ان في الحي ""اة :البحث عن الح ""ق وبل ""وع
الحكمة“ ،ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” – صدق هللا العظيم-
– ملاذا ال نمل ""ك ناق ""دا عربي ""ا مث ""ل ه ""نري غييوم ""ان H. Guilleminالفرنس ي املختص الكب ""ير وال ""ذي ال
يض""اهى في الق""رن التاس""ع عش""ر يعي""د النظ""ر في أك""بر القناع""ات وأك""ثر األحك""ام رس""وخا فيم""ا ه""و متعل""ق
بهذا القرن مما هو أحكتم نقدية راسخة ودروس أدبية متكررة في املدارس…هل يمكن""ك أن تتص"ور ي""ا
أس""تاذ مفك""را في الجزائ""ر ينتق""د األم""ير عب""د الق""ادر ومص""الي" الح""اج وفرح""ات عب""اس وعب""د الحمي""د بن
ب""اديس ،كم""ا يعي""د ق""راءة بك""ر بن حم""اد وابن رش""يق في ض""وء م""ذهب متش""كك في املكاس""ب ال""تي غالب""ا م""ا
نتعام""ل معه""ا على أس""اس كونه""ا قناع""ات “تاريخي""ة”؟…ه""ل يمكن""ك أن تتص""ور رجال يتعام""ل م""ع الت""اريخ
بريبية كبيرة ويفضل تأريخا نسبيا بدال من التاريخ اليقيني الذي نعرفه؟
– البالد أك" ""بر من األعالم… وأك" ""بر بكث" ""ير من تص" ""رفات رج" ""ال السياس" ""ة الح" ""اليين…رؤس" ""اء األح" ""زاب
املكلفين بمه""ام وس""خة واض""حة…رج""ال األعم""ال ال""ذين ي""دخلون السياس""ة له""دف واح""د فق""ط :التكت""ل
لتش""كيل جماع""ة ض""اغطة ال ه""دف له""ا س""وى املحافظ"ة" على مص""الحها… والكت""اب واملفك""رون والش""عراء
خاصة غالبا ما كانوا يعملون على جعلنا ننسى الظالم املهيمن ونتذكر الضوء…ذكري"ات الن"ور الجميل"ة
التي تجعلنا نعي بأن الظالم ليس قدرا بل مرحلة سبقها النور وال بد ان يلح""ق به"ا ن"ور ول"و بع""د حين…
الحلم إسمنت الواقع…والواقع بال حلم/أمل/خيال يصبح كابوسا…
– الص ""حافة الي ""وم تتعام ""ل م ""ع ك ""ل م ""ا ه ""و ط ""ارئ وس ""ريع وع ""ابر…أهم م ""ا يميزه ""ا ه ""و قص ""دية ع ""دم
التح""ري فاتح""ة الب""اب لثقاف""ة الك""ذب واإلش""اعة والنق""ل األخ""رق ألخب""ار ال أس""اس له""ا من الص""حة…في
161
الغ ""رب وعن ""د ال ""دول املتقدم ""ة ه ""ذه املمارس ""ات يتم تجريمه ""ا وعن ""دنا في الش ""رق الجريم ""ة الوحي ""دة هي
الوق" ""وف ض" ""د املص" ""لحة الفردي " ""ة املحص" ""ورة الض" ""يقة للجماع " ""ات الحاكم" ""ة…وح " ""تى الحقيق " ""ة تص " ""بح
مصادرة في إطار البرنامج السياسي املعقد للمحافظة" على الجه""از الح"اكم؛" نظ"ام الوف"اء األعمى وال"والء
املشروط…أما الق"انون فيعط"ل ألس"باب أمني"ة على العم"وم من أج"ل أال يتح"ول ذات ي"وم إلى حج"ة ض"د
الجه""از الح""اكم املهيمن ظلم""ا واس""تبدادا…ويض""اف إلى ه""ذه املعطي""ات الخ""اص بال""دول املتخلف""ة مش""كل
كب" ""ير ينتج عن غي" ""اب الص" ""حافة املختص" ""ة ذات الج" ""ودة املهني" ""ة العالي" ""ة…وه" ""و غي" ""اب يض" ""من للعم" ""ل
الص""حفي اك""بر خط""ر ممكن يح""ق به""ا :انع""دام املس""افة وه""امش التفك""ير والتأم""ل في الخ""بر وفي الح""وادث
وأبعادها…
– من األشياء التي صدمتني بشدة إجاب""ة رئيس الحكوم""ة للص""حافة ال"تي س"اءلته ح"ول م"بررات سياس""ة
التقش" ""ف ،والس" ""ؤال املرك" ""زي :للجزائ" ""ر أم" ""وال كث" ""يرة راكمته" ""ا في الس" ""نوات األخ" ""يرة بفض" ""ل االرتف" ""اع
الف" ""احش ال" ""ذي ط" ""ال أم" ""ده في أس" ""عار الب" ""ترول :إلى أين ذهبت ك" ""ل تل" ""ك األم" ""وال؟ كي" ""ف تب" ""ددت به" ""ذه
الس""رعة؟ لق""د أج""اب س""الل بك""ل بس""اطة وبال أي ت""ردد :املال ال""ذي تم تض""ييعه لم يتم نهب""ه من ط""رف
األج" ""انب؛ ه" ""و م" ""ال الجزائ" ""ريين أخ" ""ذه الجزائري" ""ون…ه" ""ل يعق" ""ل ان يق" ""ال كالم كه" ""ذا في بل" ""د ع" ""انى م" ""ا
عانين""اه؟ والغ""ريب أن""ه ال أح""د يس""تهجن ش""يئا…عولن""ا على حرك""ة “برك""ات” ال""تي نش""أت من""ذ س""نتين أو
أكثر ملمارسة ثقافة اإلدانة …ولكننا نرى رجاالتها (وخاصة “نساءاتها” يعيشون عيش األثرياء الذين ال
يبدون أدنى استعداد للنضال واملواجهة…معارضة حريرية ورفض سياسي مخملي…
– يروق ""ني التفك ""ير ض ""د التي ""ار ،الخ ""روج الت ""ام عن الط ""رق ال ""تي ج ""رت الع ""ادة أن تك ""ون ط ""رق الن ""اس
املتبع""ة… تص""بح الثقاف""ة بخ""ير حينم""ا ي""أتي رج""ل يح""ول اتج""اه الس""فينة من النقيض إلى النقيض؛ تمام""ا
كم ""ا فع ""ل رائ ""د الزنوج ""ة إيمي س ""يزير املارتينيكي وه ""و يقلب ق ""راءة الت ""اريخ رأس ""ا على عقب في 1950
قائال في أعط"اف “خط"اب ض"د االس"تعمار”“ :يس"تحق األم"ر إج"راء دراس"ة س"ريرية بالتفص"يل ح"ول نهج
هتلر والحركة الهتلرية .دراسة تكشف لبورجوازي القرن العش"رين ،ش""ديد التم""يز واألناق"ة" واملس"يحي
ّ
إلى ح""د بعي""د" ،أن"ه يحم""ل في داخل""ه هتل""ر ال يع""رف نفس""هّ ،أن هتل""ر يس""كنهّ ،أن هتل""ر ه""و ش""يطانه (…)
ّ
وأن"ه في الحقيق""ة ،م""ا لم يغف""ره لهتل""ر ،ليس الجريم""ة بح""د ذاته""ا ،الجريم""ة ض""د اإلنس""ان ب""ل الجريم""ة "
طب""ق على أوروب" ""ا أس" ""اليب اس" ""تعمارية لم تكن ض" ""د الرج" ""ل األبيض ،وإذالل الرج" ""ل األبيض ،وكون" ""ه ّ"
تطبق إال ضد عرب الجزائر وعمال الهند وزنوج أفريقيا”. ّ
– كلم" ""ا ت" ""ابعت األنب" ""اء في الع" ""الم؛ أو م" ""ا يس" ""مى “أنب" ""اء الس" ""اعة” وجعلت أحلله" ""ا مح" ""اوال االنتق" ""ال من
املظ" ""اهر" ص" ""وب الج" ""واهر ،وج" ""دت نفس ي مقتنع" ""ا ب" ""أن مس" ""يرة التط" ""ور البش" ""ري تحت" ""اج إلى قلي" ""ل من
التخل""ف…وإن ك""انت ال""دعوة إلى التخل""ف عس""يرة بعض الشيء…واألفض""ل ه""و جعله""ا دع""وة لل""تريث على
األق " ""ل…دع " ""وة إلى ق " ""راءة الت " ""اريخ…إلى فهم تجرب " ""تي األن " ""دلس وص " ""قلية األوروبي " ""تين…والتواص " ""ل م " ""ع
162
الشخصيات التاريخية ذات الط"ابع الع"المي :اإلس"كندر املق"دوني ،الخليف"ة العباسي املأمون ،ابن رش"د،
غوت""ه…الش""ك في العلم…كس""ر ش""وكة الرأس""مالية اإلمبريالي""ة… اس""تعادة الش""عور باإليم""ان والخ""وف من
هللا ( مهما كانت طبيعة الدين ونوعه) ألن اإلنسان الذي ال يخشى هللا على أي مذهب من املذاهب ه""و
إنس""ان متحج""ر القلب ألن""ه مغ""رور ويح" ّ"ل نفس""ه مح""ل هللا…ك""ل ه""ذه األفك""ار ت""اتيني وفيه""ا جميعه""ا ن""زوع
ص ""وب اس ""تعادة نم ""ط من الحي ""اة ق ""ديم…والخالص ""ة س ""ؤال( أليس الس ""ؤال خ ""ير من ""اورة ألج ""ل ض ""مان
حياة املحاورة؟):هل تكون أهم أجوبة املستقبل كامنة في املاضي؟
163
الروائي فيلسوف بال برنامج فلسفي واضح
ترتبط الفلسفة بنمط من الكالم جرت العادة ان يرتبط في الثقافة" العربية بالكالم غير املثمر ،أو
الزائد عن الحاجة "،بقدرما ارتبط في الثقافات الغربية بالتعقيد عدم تأتي املعنى ووضوح املقاصد...
وتلك هي حال الرواية اليوم...وقد ال تكون "آيريس موردوخ" بعيدة عن هذا املعنى العربي املرح وهي
تشتكي منذ أكثر من ستين سنة من إكراهات الكتابة الروائية وكيف انها تشعر بأن الرواية قد
اصبحت شكال منهكا "،يعاني انحسار دائرة اإلمكانيات ،فنحن الروائيين نبدو دائما بصدد قول أشياء
قد قيلت من قبل معلوم أمرها...ولكن استمرار الكتاب الروائية وشغف الناس بها يبدي جانبا آخر:
نجاعة هذا الشيء غير الواضحة نجاعته...
من جهة أخرى أعتقد ان الروائي -في عرفي على األقل -فيلسوف غير حكيم إن جاز التعبير...يملك
القدرة على التعالي" التي تمكنه من النظر إلى األشياء من منظور متعال يختلف عن الخبرة الخطية
السطحية التي يملكها الناس أجمعون ،وتسمح له باستخالص نتائج جديرة بالتوقف والتأمل ،ولكنه
شخص غريب تفتنه الحياة عموما ،ففتنة" الحياة هي املدخل األكبر للرواية ،الرغبة الجامحة لتأمل
األحداث التي لواله لذابت في النسيان والالمباالة ،ولوقعت في سلة مهمالت الحياة ،ذلك امليل
الغريب صوب تسليط كاميرا قوية على حيوات بشر غير مؤهلين الحتالل مناصب العاملية ومواقع
األسطرة ثم تحويلهم إلى شخصيات ذات رمزية عالية تخرج بهم من دوائر العادي إلى دائرة
االستثناء.
وسط كل ما سبق يظل السؤال املركزي لكل رواية هو إجابة ذلك السؤال املتكرر :ما املعنى الحقيقي
العميق للحياة؟
يبدو لي من خالل الندوات التي أقيمها أو أشارك فيها أن هنالك بحثا عن معنى الحياة يرتبط بعملنا
كروائيين؛ إذ تستوقفني بالتحديد نزعة موجودة في بعض من القراء ومن أصحاب األسئلة يبدو انهم
األكثر قربا من موضوع الرواية التي أكون بصددها ،وقد تساءلت ملاذا يكون في كل مرة املعني
باملوضوع هو الكثر شغفا بالنص؟ أليس من املفروض ان يكون هو أقل الناس اهتماما بها؟
إجابة السؤال تكمن بكل بساطة في أننا نمارس الحياة بشكل تلقائي وسريع ومتشابك،وهذه الصفات
الثالث تمعنا من خلق مسافة" األمان والتأمل الكافية لفهم ما نخوض يه ،لهذا يحتاج الناس إلى
الروائي هذا العالم املتوفر لدينا والفيلسوف الذي نطاله بخيالنا ويطالنا بحروفه ،هذا األخ األكبر
الذي يجيد فهم ما يحدث لنا والذي يعيننا على فهم العالم وعلى اتخاذ القرار املناسب...
164
شيء مثل املرافقة العقلية قياسا على املرافقة النفسية أو املرافقة البيداغوجية".
استوقفه سؤال طرح عليه مرارا :ملاذا ال تدون رحالتك؟ اسلوبك جميل وعينك حادة .البد ان سردك الرحلي
سيكون رائعا .فلماذا ال تكلل" اسفارك بكتاب؟
نظرت" الى نفسي متأمال :ملاذا يبدو لك هذا املسافر الذي هو أنت أجنبيا هكذا؟
لم يجب/أجب.
استغرقت" أكثر مستقصيا بعض الغرف الداخلية التي ال يدخلها أحد .وجذت الفيصل املسافر هنالك قابعا غير
مكترث بشيء.
خلفت فيه أسفاره كثيرا من األلم .اكتشف أخيرا بأنه ال شيء يذهب الكتشافه .كل شيء كان نارا مشتعلة فيه قبل
ان يخبو إثر السفر .سفره الكبير كان في الحياة .سفر غير ممتع رغم انه جدير بان يعاش .منذ نعومة أظافره
زودوه بكثير من االستعداد للدهشة .وزودوه ببرنامج الدهشة .هكذا يجب ان تكون .الفتى الصالح يفعل
هذا وال يفعل هذا .املواطن الصالح يقول كذا وال يقول كذا .يفعل هذه ويترك تلك .حبيب ماما ال
تكرر فعل هذا .موافق؟ وإال فإن ماما لن تحبك .بابا كذلك .ما أشبه البابا باملاما (سواء في املسيحية
ُ
وفي البيت) .تعرف غلى تعاليم القبيلة جمعاء وكان يحلم ببالد بعيدة ال تقتل الجميل وال يرذل فيها
كل شيء .بالد تعود عليها في الكتب وفي السنما؛ رفيقيه" القديمين .ولكنه اكتشف بانه ال شيء ينتظره
في أي مكان .كل املهازل متشابهة متساوية فقط تختلف التسميات والكنيات .فقططططط.
خطبة الجمعة تضاعفت تعاستها :كان موضوعها الربط التعيس بين املشاركة" في االنتخاب واإليمان
واكتشف املؤمنون املغبونون في إيمانهم واملأمورون باتباع أئمتهم بأن عدم مقاطعة االنتخابات
التشريعية الوشيكة ضرب من ضروب اإليمان .ال احد صدق الخطاب السياسي األجوف .ال أحد
قادر على اإليمان بما يقوله األئمة في مختلف ارجاء البالد املسلمة أمرها للحاكم وشرطته وجنوده
165
كأجهزة تملك سبل العقاب والصفح واملكافأة (أليس هللا في ذهن جدتي هو املعاقب الغفور حسب
مزاج مجهول ما؟ أولسنا جميعا الورثة الشرعيين للجدات العتيقات؟) .الاحد يعلم ما ينبغي فعله .ال
احد يملك قرار أفعاله .وهذه هي "إلدورادو السياسة"؛" شعب طيع غير واع يخاف األوهام.
انتهى اليوم بذكر هللا طبعا :لعن هللا من سرق الحكم من البسطاء متكئا على الكذب والرياء
والتظاهر والوعود الوهمية .لعن هللا من يسعى إلى البرملان لخدمة أغراضه وهو على بينة بأنه ال
يستطيع فعل شيء لحد من اآلالف الذين ضحك عليهم لكي يبلغ راتبه عشرة أضعاف رواتبهم( .أال
بذكر هللا تطمئن القلوب)
ال صلة واضحة بين السبت والشعر اال أنني قضيت اليوم بين الكلمات أحاول اتمام قضيدة قديمة
كنت قد كتبتها/بدأتها ثم انقطع حبلها وجئتها مرارا بكلماتي ومعاني وبالغتي فقالت لنا القصيدة:
كونوا قردة خاسئين...
الحقيقة أن القصيدو كانت تنتظر سبتها لكي نكون اصحاب السبت الشعري ال اصحاب السبت
امللعون...وأخيرا قالت لنا القصيدو :اانتم اصحاب السبت املناسب؟ كونوا إذن مالئك مباركين"...
بصدفة تلفزيونية رائعة أعدت التفرج على فلم ميلوش فورمان الجميل « .» Amadeus كنت قد
رأيته مرتين أو ثالثا فيما مضى من الزمن الجميل ،هذه املرة مارست تمرينا أحبه كثيرا :التركيز على
أداء ممثل واحد دون غيره عند إعادة مشاهدة فلم ما ...غصت تماما مع فريدرك موراي آبراهام
الذي ادى دور املوسيقي انطونيو سالييري الذي كان عبقريا في زمانه ولكن شمس موزارت غطته
تغطية شنيعة جعلته يعيش غيظا شديدا ،والفلم املقتبس عن مسرحية نيو يوركية حديثة مقتبسة
هي بدورها عن مسرحية" قصيرة لبوشكين بعنوان "موزار وسالييري" ...الفلم يتقدم أمامنا كأنه
اعتراف مطول لقصة غيرة شديدة من قبل سالييري الذي اراد تحقيق مجد هللا على وجه األرض
ُ
بموسيقاه ولكنه ووجه من قبل ربه بتفضيل فتى ارعن الخلق سليط اللسان مستهتر الروح منحه
166
عبقرية ال تفسير لها اال املنحة اإللهية...لكي يتحول وجود سالييري كله الى صراع طويل يهدف إلى
محاربة هذا الرب الذي اختار الرذيلة كي يزينها بالعبقرية بدال من منحه هو ممثل النبل واألخالق
والسمو الروحي تلك الهبة الغريبة...
أجمل ما الفلم كان طريقة إدراج موسيقى األعمال الكبرى ملوزار في سيل األحداث ،حتى تبدو كأنها
ألفت خدمة للسيناريو ال قبله بقرنين.
لم أخرج بيسر من أجواء فلم أماديوس...استغرقني التأمل في املوسيقى...والعالقة" بين املوسيقى
والحياة...يرد في الفلم ان نشيد املوتى هو الذي استنفد روح موزار ،وفي الفلم أن موزار عانى ما
عاناه من عنت وفقر بسبب خضوعه إليقاع روحه بدال من السير في الطرق الجمالية املعبدة...دافع
عن خصوصية جرمانية معينة بتأليف أوليات األوبرات باللغة األملانية...
أسقطت هذه التأمالت على موسيقانا الجزائرية مفكرا في عدالة ما لقيتها الطبوع الجزائرية التي الم
بها االنكماش بسبب بعدها عن الحياة...الشعبي والحوزي واملالوف كانت دائما موسيقى للفرجة...ال
تنطلق من الحياة وال تهتم بالعودة اليها...موسيقى فقرات ترفيهية وكفى...أما املوسيقى البدوية فكانت
موسيقى مندمجة معنية بالحياة وبالناس...تطورت" الى موسيقى الراي (او الرأي)...التي هي موسيقى
الحس املشترك...موسيقى املصائر التراجيدية والحيوات الهامشية امللعونة...موسيقى الشذوذ
السلوكي والثورة النفسية وحتى املقاومة االستعمارية...لذا تطورت وبلغت أبعد اآلفاق في العالم...
ظهرت نتائج جائزة البوكر...الصحافة" تلعب الدور املنتظر فتأخذ انطباعات املختصين حول
الجائزة...أعطيت نصا قصيرا وسجلت ثالث دقائق لإلذاعة ...
167
مرى أخرى جاءت األسئلة حول مكان الجزائر من الجائزة...وحظ الجزائريين من الجائزة...الخ الخ
الخ
من ال يملك أدنى مقومات ساحة ثقافية وتداول روائي واهتمام إعالمي بالرواية في بالده ال يستطيع
لوم غيره على عدم التهليل له فيما هو مصر على منع التهليل في بالده...
مبروك للعربية السعودية حصولها على البوكر للمرة الثالثة ...طلبتي في الدكتوراه بالكاد يذكرون
اسم عبده وازن قبل العودة إلى باكثير عند ذكر األدب السعودي...باقي" السعودية بالنسبة لهم بقاع
مقدسة او مرابط للخيل األميركي املدافع عن...؟؟؟
ال أحد يذكر بالتحديد عم تدافع الجيوش األميريكية املتكاثرة في اململكة العربية السعودية.
بعد أيام صاخبة قبعت قليال في البيت...وأطللت مطوال على الفيسبوك ألجد هجوم""ات متزامن""ة غريب""ة
على جمعي ""ة العلم ""اء املس ""لمين وعلى مال ""ك بن ن ""بي...م ""ع إس ""قاطات غريب ""ة وقريب ""ة من الس ""خافة لهم ""وم
الحاضر على وقائع املاضي ومواقعه...
شخصيا أدين ملالك بن نبي كثيرا لنه علمني شيئا هام""ا؛ علم"ني فن التفك"ير ال علم"ه...ال""ف درس تعلم""ك
املنهج فتفك" ""ر منهجي" ""ا ولكن" ""ك تعج" ""ز عن تج" ""اوز املنهج الى روح" ""ه...عن تج" ""اوز الفك" ""رة ص" ""وب من" ""ابع
امكانياته ""ا...كتبت ذات ي ""وم نص ""ا ص ""غيرا بإيع ""از من تأمالت ""ه ح ""ول الص ""لة بين حي بن يقظ ""ان وروبنس ""ن
كروسو...شخصيا" ذهبت في اتجاه آخر فكتبت ما يلي:
في قص""ة "حي بن يقظ""ان" يب""دا اإلنس""ان رحلت""ه من ال""وعي الش""ديد بافض""ليته على الحي""وان ،يتعام""ل م""ع
الحي""وان ب""احترام كحاض""ن للحي""اة ،يح""ترم البيئ""ة كمح""ل لإلب""داع اإللهي ،ويبحث عن هللا في إط""ار وعي
بان رسالة اإلنسان سباق للتواصل مع هللا وتحقيق اكتمال جزء ناقص في اإلنسان الذي يك""ون يعيش
بمف""رده وس""ط حيوان""ات أخ""رى ....إذا عاينن""ا اإلنس""ان عن""د داروين س""نجده كائن""ا حيواني""ا في ص""راع م""ع
168
الحيوان ""ات ألج ""ل البق ""اء ،تحت راي ""ة ق ""انون "ط ""بيعي"" ال نعلم من أين ي ""اتي مف ""اده أن البق ""اء لألق ""وى،
يهدف اإلنسان الدارويني إلى تحقيق حيوانية كب"يرة ق"د ت"رتقي ب"ه من مص"اف الق"رد الض"احك الغ"بي إلى
األس ""د الواق ""ف على ق ""ائمتين بال روح فكاه ""ة ...إذا قفزن ""ا إلى م ""ا نحن علي ""ه على أيامن ""ا س ""نفهم إنس ""ان
الي""وم ال""ذي ه""و س""ليل مف""اهيم النهض""ة ال""تي أق""رت اإلنس""ان كمرك""ز للع""الم ،وجعلت رحلت""ه من نفس""ه
باتج ""اه نفس ""ه؛ وهي حلق ""ة مفرغ ""ة في الواق ""ع...و ه ""و ك ""ذلك س ""ليل الفك ""ر التن ""ويري ال ""ذي ع ""وض ك ""ل
األحالم املاورائي ""ة واملتعالي ""ة لإلنس ""ان بالتفس ""ير املادي "ويق ""ال :العلمي" ال ""ذي ينتهي إلى نتيج ""ة واح ""دة:
إعفاء اإلنسان من االلتزامات األخالقية" تجاه الطبيعة ،الكوكب ،اإلنسان ،تجاه نفس""ه وتج""اه هللا (بم""ا
أن " ""ه تع " ""وزه تفس " ""يرات مادي " ""ة ملموس " ""ة علمي " ""ة تجريبي " ""ة تمنح " ""ه نيش " ""ان األولهي " ""ة وت " ""نزع عن " ""ه ش " ""بهة
الخرافة) ...خالص"ة أولى :تخيل"وا معي عاملا تك"ون في"ه أوروب"ا ق"د اتخ"ذت مرجعه"ا الك"اتب األوروبي "ابن
طفي""ل" (أليس ابن طفب""ل كاتب"ا" أوروبي""ا من وجه""ة نظ""ر جغرافي""ة؟) ب""دال من الوجه""ة األخ""رى ال""تي ادت
إلى ترس""يم ثقاف""ة اإلنس""ان املتأل""ه ال""ذي يس""تحل ك""ل أن""واع القت""ل وال""دمار تحت غط""اء أخالقي وعن""اوين
إنس""انية؟ خالص""ة ثاني""ة :في رواي""ة واقعي""ة وغ""ير خيالي""ة وال علمي""ة يتخ""ذ أن""اس ق""رارات سياس""ية تك""ون
عواقبه""ا الح""روب واملجاع""ات ،فتتح""ول النفس البريئ""ة املقتول""ة بغ""ير وج""ه ح""ق في اللف""ظ االبن طفيلي
إلى "ضحايا عمودية" في لفظ ورثة الداروينية...
169
تأمالت بين الشعر والسياسة
قبس أول:
يفتتح ابن حزم األندلسي رسالته حول "األخالق والسير" بقوله هامة حول ان رأس الرذائل هو "الحرص" وأن
عالجه برأس الفضائل الذي سيكون نتيجة لذلك :الترك والزهد في األشياء...ينتهي الفيلسوف االنساني الغنوصي
"إدغار موران في كثير من كتبه ومحاضراته في السنوات الفائتة إلى أن العالم" الحالي بحاجة إلى إعادة تأهيل أخالقي
...يبدأ أساسا من نقض القاعدة الرأسمالية التي تعد االنسان مستهلكا وتربط مهمة االنسان على األرض بإشباع
الرغبات" ...ويتم سحب الفكرة على السياسة فيكون االتجاه الرأسمالي" االمبريالي الذي يربط أزمة الركود
االقتصادي الذي سببه سوء استغالل الثروات بالحل الذي يكرره الجميع ":البحث عن قروض من دائنين تسمح
بتحريك عجلة االقتصاد من أجل خلق ثروات" تسمح برد الديون والتخلص من الزمة...وهي في الحقيقة حلقة
مفرغة ال مهرب منها...فهي غرق ممنهج في دوامة ديون تؤدي إلى تدخل الدائنين في سياسة البالد والتضحية الكلية
بفكرة السيادة.
خالصة سريعة :طرق الحكمة غريبة فقد يصل الفقيه املؤمن والحكيم املرتاب إلى "الحق" رغم تباين الطريقين...
ثان:
قبس ٍ
الشعر أيضا عرف الظاهرة نفسها:ركام كبير من الصور حول لعبة تشكيل صور شعرية حول املعاني املعروفة إلى
سيناريو غريب جدا...شعراء الحاضر يحاولون االقتصاد في القول لفائدة اإليحاء...يحاولون وصف التجارب
الجديدة التي لم يتم وصفها من قبل ،ويحاولون خلق اقتصاد سياسي للصور الشعرية (بتعبير الدراسات الثقافية)
من خالل عرض أشياء تعرفها" في أغلفة قول ال نعرفها ،ومن خالل الدعاية النقدية التي تناسبها ،فليس عبثا أن يتم
على جبهة تتفيه الشعر العمودي مثال على املواقع واملنابر االجتماعية والثقافية االفتراضية ،لكي نجد باملقابل نقال
لعروض خليجية للشعر العمودي والنبطي بطريقة مغرية جدا...وكل ذلك يحيل على الحرب التي بين السلع في
السوق الحرة...
قبس ثالث:
في املواجهة التي كانت بين بالد اليونان ودائنيها" طرحت عدة أسئلة جوهرية على النظام العالمي الجديد:
ما فائدة البقاء في االتحاد األوروبي إذا كان هذا الخير طريقا صوب الغرق؟ ما املنطق العلمي العالم الذكي الذي
يجعل بالدا تتخذ لها قرضا بفوائد فاحشة العلو فتجد البالد نفسها بعد عامين على وشك اقتراض" مبلغ جديد
170
ثالثة أرباعه ستعود إلى لدائنين على شكل خدمات ديون؟...أحد الردود البليغة عقب االستفتاء الشعبي حول قبول
الدين أو الثورة ضده – الشيء الذي كان يعرض اليونان" لعقوبة الخروج املباشر من االتحاد األوروبي -كانت من
بعض املواطنين " :ال يهمك كثيرا حينما تكون جائعا وال تستطيع تلبية حاجات اهلك اليومية الى اي اتحاد
تنتمي"..انه ربا كوني لم يدخل في أي حسبان ممكن...الوضعية اليونانية أوقفت مرآة كبيرة أمام العالم" كي يتأمل في
الوحل الربوي الكبير يغرق العالم" منذ الحرب" العاملية الثانية ،وفي الوضع غير اإلنساني الذي آلت إليها أنظمة
املساعدة اإلنسانية...
خالصة :حتى النزعة اإلنسانية التي هي اكبر مكاسب اإلنسان الحديث قد تحيد عن الطريق" دون شعور منها ،فال
يوجد حكم مطلق ومطلق اإلطالق ،وإن ُوجد فال بد أنه قد يجرنا إلى نقطة ضرورة إعادة الحسابات كلها.
قبس رابع:
نحتاج في أية ساحة ثقافية إلى نماذج معينة تعمل" داخل املنظومة ولكنها تعمل ضدها ،وجوه ثقافية تبدو ألول
وهلة بنت محيطها املباشر ،ولكنها تعمل ببطء وتؤدة وإصرار على خلخلة املنظومة التي أنشأتها او التي احتضنتها،
هذا النوع من املثقفين يعمل دائما على خلق مراكز اهتمام تختلف عن املراكز األساسية التي تحتفي بها املؤسسات
الرسمية ،كما تعمل جاهدة على ابتكار خطاب مغاير للخط ب الرسمي ،فإن لم يخالفه فهو يهمشه باقتراح خطاب
مختلف وبديل ،بهواجس مركزية ومساءالت وتطلعات" ثقافية مختلفة عما يكرسه الخطاب الرسمي
للمؤسسة...يحافظ هؤالء على توازن معين للفكار في عاملهم...وهو دور ال يستطيع غيرهم القيام به...أنظر في البالد
العربية" فأجد أصنافا" كثيرة من املثقفين ولكنني ال أجد هذا الصنف الذي يتوسط املسافات الضرورية بين العامة
والنخبة ،وبين االندماج والتزام البرج العاجي ،وبين الحس املشترك والقدرة على سبر أغوار النابي من األحاسيس
واملواجد ،بين معطيات اليوم ومكنونات الغد ،بين ألوان الكائن واطياف الكامن...هذا املثقف ال أراه...وليست البالد
العربية" استثناء في هذا ،فقد تغير شكل النخبة تماما وصار املثقف موظفا او خادم سلطة ( دولة او جماعة
ضاغطة) ولم يعد العلم الكبير الذي كانه منذ أربعين سنة ،وتحول العلم الكبير إلى مقدمة التلفزيون والعب كرة
القدم وبعض الفنانين الذين يأهلون الشاشات الصغيرة التي تتكاثر كالفطر (وكثير من الفطر سام)...
171
فلسفة الرحلة
الكتابة رحلة في اللغة مثلما أن الحياة رحلة اإلنسان على أديمي األرض والزمن...
ماذا عن الرحلة في تجربة الكتابة التي هي تجربة الحياة في نهاية األمر...؟
الرحلة تشبه الشعر في نقطة العمل على خلق صلة صحية بالعالم ،الرحلة" تسمح لك بالتعرف على اآلخر،
ومعرفة اآلخر مرحلة هامة في بناء األنا .يبدو لنا دائما بأن السياحة شيء زائد عن الحاجة البشرية ،تزجية
فراغ ،أو التعبير عن نمط معين من الوجود الذي من أهم صفاته أنه غير متاح للناس أجمعين ،إال أن هنالك
جانبا عميقا يكمن خلف "ارتياد اآلفاق" ،الجنب الذي يمكننا حتى ربطه بالفكرة الدينية التي تدعو إلى التبصر
في شؤون الخلق .إلى معرفة الغرف الخلفية للوجود ،وإلى خلق تجربة منوطة باآلخر تتجاوز مجرد العلم
ّ
التعرف والتجربة. بالشيء وتتجاوز عرضية العلم" واملعرفة صوب جوهرية
مكنتني رحالتي الكثيرة في القارات األربع من تشكيل مفهوم خاص لإلنسانية ،لهذه القلوب الحاملة في كل مكان
بشكل مختلف ،للحياة" التي قوامها االختالف رغم ظاهر التشابه .في الرحلة تتغلب على كآبة اليومي وتدخل باب
املفاجأة ،تجدد الصلة بالحلم ،تثقف حواسك على اليقظة الكبرى ،على اهتبال املجاهيل ،األلوان الجديدة،
الكلمات املدهشة ،اللهجات" غير املتوقعة ،األحداث الخارجة عن املألوف...هي فن في تذوق الحياة والتعرف على
االنسان خارج الدروب املعبدة البليدة" التي يدخلنا فيها روتين اليومي وإيقاع املتكرر املتشابه .يبدو لي من رحلة
إلى رحلة بأن االنسان سيكون أفضل حاال مما هو عليه لو أنه يسافر أكثر.
172
فالسفة ضد الفلسفة
منذ خمس وعشرين سنة قرأت كتابين أوقعاني في حب الفلسفة :األول كتاب مبسط فيه مختصر فلسفة جون-
بول سارتر ،والثاني كتاب تعليمي حول شهاب الدين السهروردي...
كان يروقني في الفلسفة ذلك الشمول الكبير لعقول صغيرة تتمكن من حل مشكالت يغرق فيها آالف الناس...تلك
البرامج املفيدة لتأويل ما كان والتمهيد ملا سيكون...تلك النبرة الواثقة في العقل وفي اإلنسان ؛ اإلنسان ذلك
املخلوق الضعيف الذي يقف دائما قبالة كبريات املعضالت" التي تتفنن في خلقها الحياة بعزيمة النملة التي تسخن
عضالتها ألجل مبارزة الفيل ...وهي نظرة سيصححها لي ابن سينا أوال وهو يعرف الفلسفة بأنها ":استكمال النفس
ّ
العملية على قدر الطاقة اإلنسانية" ّ
النظرية و ّ
بتصور األمور و التصديق بالحقائق اإلنسانية
ّ
وكذلك سيدقق األمر ويقربه من اللفظ القرآني الذي تربيت" على محبته " :فعل الفلسفة ليس إال النظر في
املوجودات و اعتبارها"
وكانت إحدى نقاط الجذب الرئيسة في املجال الفلسفة بالنسبة لي هي املقاربة البعيدة عن البالغة ملواضيع ألفتها في
األدب متلبسة دائما بكم هائل من البيان والتوابل التعبيرية...شيئا" فشيئا سأجد نفسي مغرما وسط األدباء باألكثر
فلسفة واألشد تعقيدا وبالذين يبدو لك أنهم ال يفعلون شيئا سوى مناقشة مقوالت فلسفية من خالل
أعمالهم...وكذلك حدث لي أن صرت مولعا أشد الولع" بالفالسفة ذوي البالغة العالية...أصحاب" اللغة األدبية
املشبعة باملناورة والتالعب باأللفاظ واملعاني.
حدث لي أمران محرجان :قراءة "فينومينولوجيا الروح" لهيغل و"فينومينولوجيا اإلدراك" ملوريس ميرلو
بونتي...وكنت آنذاك حوالي العشرين من العمر او دون ذلك بقليل...قلت في دخيلتي :إما أن هذا الكالم فيه مشكلة
واضحة وإما أنني حمار مركب – حسب تعبير توفيق الحكيم – وعلي أن أعي ذلك...
مر وقت طويل لكي أكتشف أنني لم أكن على خطأ تماما وال أنني الوحيد الذي الحظ األسلوب التعيس لهذين
الذهنين الكبيرين وهاتين القمتين الفكريتين الكبيرتين ،ولغيرهما كذلك...
بعد ربع قرن من تعاطي الفلسفة بشكل جنوني ،أجد اليوم بأن هنالك فالسفة يعملون ضد الفلسفة ألنهم
يبعدونها عن الناس بشكل قصدي...فقد كان ارسطو وافالطون يتحدثون في "األغورا" إلى بسطاء القوم ،وكذلك
فعل ابن رشد والغزالي ،والشيء نفسه ينسحب على نيتشه وسارتر وجل الفالسفة األنغلوسكسون في العصور
الحديثة ...في حين ياتي آخرون مثل هيغل وديريدا وميرلو بونتي (ولإلشارة فأنا من محبيهم ثالثتهم) فيعملون" ضد
الفلسفة ببناء برامج فلسفية يحار في أمرها حتى أهل االختصاص...
ـ ـ بمثابة املخرج ـ ـ
173
الشاعر والفضاء العمومي
في رحل""ة ك""انت لي م""ؤخرا إلى الوالي""ات املتح""دة أج""ريت ع""دة لق""اءات م""ع أص""دقاء ومع""ارف على ص""لة بالش""عر وبنش""ر
الشعر تحديدا مثل املسؤولين اإلعالميين لجائزة البيوليتزر الشعرية وامللح""ق اإلعالمي والتنظيمي للش""ؤون الثقافي"ة
بجامعتي كولومبيا وسينت جون يونيفيرسيتي بالكوينز ،وبعض املهتمين" بالشأن الشعري في دور النش""ر وك""ان مح""رك
بح""ثي ه""و اإلجاب""ة على الس""ؤال :كي""ف يمكنن""ا أن نعي""د تأهي""ل أمتن""ا الش""اعرة ب""الفطرة ش""عريا؟ وم""ا الخل""ل ال""ذي جع""ل
الشعر يصبح غريبا لدينا؟
كنت محمال بأس ""ئلة القل ""ق :ملاذا ال يظه ""ر الش ""اعر في املي ""ديا عن ""دنا إال وه ""و بهل ""وان أو مجن ""ون أو مخت ""ل عقلي ""ا؟ من
يقف ضد ظهور الشاعر في الفضاء العمومي – كما يسميه الفيلسوف يورغن هابرم""اس -؟ ومن يش""رف على تس""ويد
الص " ""فحة إلى درج " ""ة أن أطفالن " ""ا الي " ""وم ال ي " ""دركون الوج " ""ود الش " ""عري إال كوج " ""ود ق " ""ديم آت من الكتب ال ينتمي إلى
الواقع؟"
أجريت في الواليات املتح"دة ع"دة لق"اءات ومح"اورات بخلفي"ة ك"انت تحرك"ني ق"د يس"تغربها بعض"نا مفاده"ا أن الش"عراء
األمريك""ان هم األفض""ل مبيع""ا في الع""الم واألحس""ن ح""اال مادي""ة وك""ذلك األوس""ع مش""اركة في الحي""اة السياس""ية...وه""ذا
معطى إحص ""ائي وليس ق ""راءة انطباعي ""ة .في الوالي ""ات املتح ""دة ال ""تي ترتب ""ط في املخي ""ال الع ""ام ل ""دينا بالجف ""اف واملادي ""ة
والتحجر والسطوة املدنية التكنولوجية...وبكل ما يتنافى مع الشعر.
خالص""ة تحقيقي ذل""ك ك""انت ب""أن هنال""ك تربي""ة قاعدي""ة تعم""ل على إدراج الش""اعر في الحي""اة اليومي""ة ،فالش""اعر عن""دهم
نش""ط ج""دا في الحي""اة االجتماعي""ة وفي م""ا يش""به النش""اط الجمع""وي" (عم""ل الجمعي""ات ) ...الش""اعر يتواص""ل م""ع قارئ""ه
املس""تقبلي في املدارس من""ذ الس""نوات األولى في املدرس""ة فيك""بر ه""ذا الق""ارئ وه""و مكتس""ب لخ""برة الس""ماع واالس""تماع
والتلقي منذ نعومة أظافره.
ي""دخل الش""اعر الحي""اة سياس""يا أيض""ا فيك""ون من""دمجا في املص""ير الع""ام للجماع""ة وه""و الشيء ال""ذي ق""د يحيلن""ا على دور
الش""اعر في الت""اريخين العرب""يين الق""ديم والح""ديث إذ أن""ه ك""ان يس""جل حض""وره الف""ني باالرتك""از على الحض""ور السياسي
وبتمثي""ل ض""مير الجماع""ة ال""تي يخ""تزل مص""يرها وأحالمه""ا ويعطي آماله""ا ص""وتا وحرف""ا ،أم""ا الوظيف""ة الفني""ة والفلس""فية
املتعالية" للشعر فهي أوال الحقة بهذه الوظيفة السياسية ،وهي يغلب عليها ان تكون تحصيل حاصل.
إن إجاب""ة الس""ؤال املط""روح في ه""ذه املح""اورة ح""ول مس""ؤولية توزي""ع املنتج الش""عري تكمن في طريق""ة ت""رتيب عناص""ر
الخريط"ة" الش"عرية" في الواق"ع" املحي"ط بن"ا .ولن نجيب ه"ذا الس"ؤال ح"تى نبل"غ درج"ة ال"وعي الكافي"ة ال"تي تجع"ل املواطن
البسيط – ال النخب -يجيب على السؤال الجوهري :ما دور النخب عموما والشاعر خصوصا في الفضاء العمومي؟
174
من من كل هؤالء الكتاب سأكون؟
أول كاتب تمنيت أن أكونه هو توفيق الحكيم ...ال غرابة فقد بدأت فكرة أن أكون كاتبا على هامش
صدفة كونية جعلت أستاذتي للغة العربية التي أدين لها بالكثير "احميدة فطيمة' تضع بين يدي
مسرحية "لعبة املوت" التهمتها في ليلة او اثنتين...كهربتني أجواؤها التي لم تكن تشبه كل ما مر بي من
قبل...كنت فبي الثالثة عشرة...سن يأس الطفولة.
رغم كثرة قراءتي لجيمس هادلي تشيز إال أنني لم أتمن أن أكونه...كنت" قد رأيت في األفالم التي أنا
مدمن عليها كثيرا من حبكاته "...اكتفيت بتعلم اللغة الفرنسية التي كنت أقرؤها وأتكلمها بيسر تام
وأنا في الخامسة عشرة...
الخامسة عشرة كانت عام اكتشاف مالك بن نبي...أزعجتني قراءته ألني لم افهم ما كان يقوله...قلت
ارجئه إلى وقت الحق "...ساعتها كنت قد اكتشفت وجود شخصين لهما عظيم الدور في تكويني :عباس
محمود العقاد وطه حسين...يااااه...ما اروع أن تقرأ لكليهما"..
كنت مصابا بشبق غريب بحيث لم اكن أصبر على قراءة كتاب واحد...شعور" غريب بأن ما قد كتب
يتسرب من بين أصابع العمر الذي يمر بسرعة 15....سنة؟ يا للهول...لم يبق أمامي الكثير!
تمنيت أن أكون تشكيلة من كليهما :كاتب قوي مشهور مبصر مثل العقاد ذو بصيرة مثل طه
حسين...أو مثلهما معا...يشعرك بالتربع على عرش األشياء مثل كل منهما...مع نزوع غريب بعض
الشيء مثل طه حسين...أنيق األسلوب مثله أيضا وقوي الحجة والتركيب مثل العقاد...
بطلي األول في املرحلة الثانوية كان مارون عبود...صدفة اخرى أرادت أن تحتوي مكتبة الثانوية على
األعمال الكاملة ملارون عبود...غضبت اول األمر ألني لم اسمع باسمه من قبل...سألت عنه...ال احد
كان يعرفه..وحتى" من أجاب بأنه يعرفه بدا لي كأنه مدع فحسب...
غرقت مع مارون عبود الذي كنت أفضله على الرياضيات والفيزياء ...نعم...الصدفة التي عودتني على
األشياء الجميلة جعلتني أدرس في القسم الرياضي ...وكانت مرحلة مقيتة رغم اطنان الذكريات
الجميلة التي أحتفظ بها من تلك الفترة.
175
كنت أقرأ كتابين وثالثة وأربعة في الوقت نفسه...في سباق مع الزمن...ومع املكان...
بدأت تعلم االنغليزية...قرأت ايفانهو لوولتر سكوت في نسخة إنغليزية مبسطة وكذلك "الحالة
الغريبة للدكتور جيكل واملستر هايد"...راقتني القصة...وكنت أجد املقاالت والدراسات خيرا من الفن
القصصي ومن الشعر...لم أفهم يوما ملاذا تعج قوائم مؤلفات الكتاب الغربيين بالروايات والقصص
واملسرحيات وتخلو تماما من الدراسات...غرابة ستعشش في وجداني مطوال...
مع اواخر املرحلة الثانوية اكتشفت اثنين آخرين تمنيت أن أكون تشكيلة منهما أيضا :زكي نجيب
محمود وجول فيرن...مع دفقة من جون بول سارتر.
كنت اجد الخط الذي كتبت بع اعمال جول فيرن شديد الصغر وكنت اخشى أال أتمكن من إتمام
تلك الكتب الضخمة التي يتحدث عنها عمي السعيد وشقيقي قدور ( شخصان سيلعبان دورا هاما في
تكويني وتوجيهي) ...كان قدور يحب الجزيرة السرية وعمي السعيد يتحدث دوما عن " كيرابان
العنيد"...كانت" أعماله الخيالية العلمية اجمل بكثير...وراقتني "رحلة" إلى متصف األرض" بشكل
استثنائي...
سالمة موسى .نجيب محفوظ .اإلبراهيمي .دي موسي .محمود تيمور .عبد الحليم عبد هللا .أحمد
أمين .الرافعي .الطاهر وطار .بن هدوقة .عمار يزلي .كونزاليك .جوزيف كرونان"...
تذكرت حلمي مؤخرا وقلت لنفسي :هانحن أوالء فيها :من تراك تحلم اليوم في الرابعة والربعين أن
تكونه بدال عنك؟
لم أفكر كثيرا .إما ألدوس هكسلي وإما خورخي بورخيس ونيتشه.
في الخالصة يبدو لي اليوم وأنا سائر بسرعة صوب الخمسين ،بأن بلوغ الضفة األخرى ألي شيء لها
شرط واحد ووحيد :االرتماء في املاء والسباحة...الباقي؟ بيده وحده سبحانه.
176
أفق التنوير
س ::1هل باإلمكان أن نتحدث عن مسار علمي لباحثنا في ظل دروب املعرفة األكاديمية
والحياتية؟
ف.ا :شخصيا ال أعي الحياة بعيدا عن األطر األكاديمية التي كانت قديما تنجح تماما في املحافظة" على
بعد واقعي لألسئلة املنتجة حول الحياة ،بحيث نشعر أن الفيلسوف أو العالم "األكاديمي" هو
شخص يمارس الحياة باملعنى األوسع ،في حين نرى منذ عصر النهضة مثقفا أكاديميا داخل أسوار
مؤسسة مغلقة تشكل حوله شرنقة تمنع -ألسباب تاريخية غير حتمية ،وخضوعا لسلطة ذات
وجود عرضي؛ سلطة غير مبررة جوهريا -تمنع تسرب الحياة الفعلية الواقعية املحسوسة إليه،
وهذا ما يبرر كثرة التنظير في حياتنا" وارتطام املباني النظرية املستمر بأسوار الواقع والتطبيق
واملعاينة الحية املباشرة.
شخصيا أشتغل في حياتي األكاديمية على ميادين تقتبس صفحات حياتي مباشرة ،فقد مارست
الترجمة ّ
ودرستها وبحثت فيها ألنني عرفت التعددية اللغوية باكرا في حياتي ؛ الشيء الذي جعلني
أقف في مفترقات طرق كثيرة على امتداد حياتي منحتني إمكانية النظر إلى أشياء كثيرة من منظور
مزدوج املوقع ألنه مزدوج اللغة؛ أي مزدوج العقل والوعي والحساسية؛ أفليست اللغة ميدان العقل
ومسبار الوعي وأبجدية الحساسية؟
كما اشتغلت كثيرا على الخيال العلمي الذي ُيعد – بغرابة كبيرة – مدخلي إلى الفلسفة ،فبعدما
عكفت بعسر كبير على كتب الفالسفة الكبار طيلة سنوات التكوين األولى ( مما قبل دخول الجامعة
177
حتى مرحلة مابعد التدرج) دون تحصيل شيء كبير عدا عادة التقعر بذكر بعض األسماء املعروفة
ومخملية استحضار مقوالت كنت أحفظها ملتصقا بقشورها" دون املرور صوب لبابها ،جاءني الولع
الكبير بالخيال العلمي فتعودت على التفكير من زاوية طرح السؤال النظري " ماذا لو أن...؟"
...سؤال سيكون له واسع الفضل في توجيه حواسي التفكيرية صوب الفرضيات املمكنة .والواقع هو
أن ألذ ما في الخيال العلمي هو فكرة االفتراض أو املضاربة – كتلك التي في أسواق تداول العملة... -
إن االفتراض(أو املضاربة ) Spéculationهو فعال ما يفعله كاتب الخيال العلمي إذ يأخذ معطيات
حاضرة؛ فلسفة ،عقيدة ،اتجاه سياسي ،هاجس بيئي ،إنذار بكوارث طبيعية ،بحث علمي ...الخ ،ثم
يغزل باالتكاء عليها قصة يحاول من خاللها توقع ما سيحدث لو أن ما يعتمل في صلب " الحاضر "
قد تحقق ،لو أن الخطر الذي ينذرنا منه العلماء مثال قد َّ
حل ،لو أن املحاولة العلمية التي نعلق عليها
باملجنونة قد نجحت ...وهذا هو جوهر الفلسفة في الحقيقة ،فهي تنويعات عقلية – فيتجنشتاين
يقول :تنويعات لغوية فقط -حول الحاضر واملمكن واملوصوف واملحدوس الذي ال نعلم بعد شكله
وال طموحه في الحياة.
الخيال العلمي مغامرة في الكتابة؛ وهو بهذا – وإذا تاملنا وجهة النظر الديريدية في الكتابة على أنها
رغبة ميتافيزيقية في ترك اثر يتعالى" على الحياة مرتين؛ مرة بوصفها من األعلى ،ومرة بالطموح
باق... -بهذا املعنى نرى كم أن الخيال العلمي يتميز
املشروع جدا بأن تنقضي الحياة واألثر املكتوب ٍ
أساسا –وأكثر من اي نوع كتابي آخر -بإمكانيات الكتابة الكثيرة التي يمنحها هذا النوع للكاتب من
املنطلق األول األصلي الرئيسي للخيال؛ أليس الخيال في تعريفه القاعدي هو تفكيك للواقع إلى قطع
صغيرة ثم إعادة تركيبه حسب استراتيجيات معطاة؟
هذا التعريف يجعلنا نعود إل السؤال حول الخطابات التي نبتغي تشكيلها حول الحياة ،وهي
خطابات كامنة" في رواياتنا بشكل شبه وراثي – فهي دالة حصريا علينا وبشكل سهل السبر والوصف
والتحديد -.وهذا سر ارتباطي أيضا بالكتابة الرواية ،كفيلسوف يريد تشكيل خطاب تخييلي حول
الواقع والحياة وعدم االكتفاء بتشكيل الخطاب التحليلي /التدليلي فحسب.
لق""د أس""لفت في بعض كتاب""اتي ذك""ر مث""ال أراه على درج""ة ش""ديدة األهمي""ة ،إذ يق""ف س""قراط في بعض
محاورات""ه قبال""ة رفقائ"ه" الطلب""ة بع""د مقاطع""ة م""ا متس""ائال :واآلن م""اذا تري""دون أواص""ل عرضي أم أروي
لكم حكاية؟"
178
الطريق إلى الحقيقة قد يتأتى مما يسميه هللا "ضرب األمثال" من خالل رواية أقاصيص مرتبة حسب
استراتيجيات عاقلة عاملة عاملة ،كما تتأتى من خالل العرض الفلسفي املعهود املعتمد على التحليل
والبرهان واالستقصاء والتمثيل املجرد والصيغ العقلية التجريدية.
أعتقد بأن هذه هي الزاوية التي شدت حواسي باكرا وردمت الهوة الوهمية الكالسيكية التي بين سرد
الحكايات وعرض الحقائق املجردة ،أي بين عمل الروائي أو الشاعر وبين عمل الفيلسوف.
والخالصة هي أن الرواية صورة للواقع الذي ال نشاط للعقل البشري منذ الخليقة حتى الحقيقة إال
ّ
العصي على الحواس ... وهو نشاط يصب في محاولة اقتناص صورة هذا الواقع املركب املتداخل
وواقع األمر فيما يتعلق بالرواية في ظني هو أننا كثيرا ما نغفل عن كون الرواية طريقة للنظر الى
الحياة؛ الشيء الذي يقودنا إلى التفكير بأن دراسة رواية أو نقدها وتحليلها ،وحتى طريقة قراءتها
وطريقتنا في الحديث عنها هو تفكير في الحياة Kووجهة نظر نتخذها للحديث عن األشياء املحيطة بنا.
ف.ا :أعتقد أنني – حالي في ذلك كحال أي مثقف يحاول أن يكتسب جدارة هذه التسمية الكبيرة-
مهووس بفكرة "اإلصالح"؛" مع كل الشعور بالخيبة الذي أصبح منوطا بهذه الفكرة أو بهذا املصطلح
تحديدا ،هذه الفكرة التي نجدها – مع ذلك ولحسن الحظ -تتجدد جيال فجيال؛ فهو املفهوم نفسه
الذي يتسمى عند اإلغريق بالتطهير ،وعند الهلنستيين بالفهم واملراجعة ،والوارد في الفكر الديني
اإلسالمي تحت عنوان "تجديد الدين" أو "اإلحياء" "،وهي عينها املسماة عند كانط بنقد العقول
السائدة ،وعند املحدثين بالثورة أو التقويض أو إعادة النظر أو التحليل وإعادة التأهيل .والفكرة –
في جوهرها -هي العمل على مكاسبنا العقلية من أجل تحسين الظرف البشري ( وهذا هو مصطلح
البراغماتيين الدال على اإلصالح).
من محركات التفكير عندي أيضا التأمل في التراث – وهو محرك غير بعيد عن الفكرة السابقة-
وخالصة مالحظاتي هي أننا قد غالينا كثيرا في التعامل مع التراث كخطاب على حساب التعامل معه
كنصوص "،فالنص ولود والخطاب نهائي ،النص دعوة للتحاور والخطاب دعوة للخضوع ،النص
شرنقة للمعنى والخطاب كفن له .وحتى عندما جئنا في القرن العشرين إلى التعامل مع هذه املعارف
اللغوية فلسفيا أخطأنا مبتغانا مرة بسبب العالقة املتشنجة مع التراث "املقدس" "،والغلو في نزعة
ّ
وعرضيها .ومرة ثانية بسبب سوء فهمنا" لهذه ّ
جوهريها تقديس كل أصناف الخطابات التراثية
179
املفاهيم" النظرية عميقة الداللة وشديدة االنعكاس على املستوى السياسي والحياتي لكونها تصب في
البؤرة الدينية التي هي ّأم أفعالنا ،فدفتر الكلمات يحدد دفتر األفعال كما هو معروف عند
البراغماتتين وعند الفالسفة التحليليين ،وهذا ما دفعهم إلى صب جام اهتمامهم الفلسفي على
الصياغة املتجددة للقضايا الفلسفية ،بدال من التركيز على مناقشة القضايا الكالسيكية التي تفشت
حتى كادت تصبح حصرية الداللة على الفلسفة كتخصص مغلق على هذه القضايا ،ومحكوم
باألشكال املتوارثة للقضايا دون إمكانية طرح أسئلة جديدة عليها إال بعد عنت شديد مع الطبقة
األكاديمية التي هي – من حيث املبدإ-طبقة متكلسة تكره الجديد.
لق ""د انتق ""ل مفه ""وم النص في الثق ""افتين اللغوي ""ة والفلس ""فية من الص ""ورة الش ""فوية ال ""تي تجعل ""ه كتل ""ة
واحدة خاضعة لص"نف معين من أص"ناف التلقي ص"وب الص"ورة املتع"ددة الكثيف"ة العميق"ة ال"تي تجع"ل
كل مكون نصي داخال في عالقات متع"ددة م"ع أي عنص"ر من العناص"ر األخ"رى وه"و األم"ر ال"ذي يعك"ف
التن""اص على دراس""ته من""ذ نص""ف ق""رن تقريب""ا .وه""ذا االنتق""ال من ش""أنه أن يجع""ل مفه""وم النص يتع""دد
ويراوغ أذهاننا وأجهزتنا املفهوماتية مرارا إلى أن نصير نشعر بضرورة تفكيك املجمل وتيسير املعس""ر
وتب""يين املبهم ثن يجعلن""ا ح""ذرين من التص""ريف اإلي""ديولوجي واالس""تغالل السياسي لك""ل ه""ذه املف""اهيم.
في ض ""وء ه ""ذا تق ""ود مس ""اءالتي الفكري ""ة اس ""ئلة مث ""ل :ه ""ل الحي ""اة خطاب ""ات ام نص ""وص؟ وأيهم ""ا أس ""بق؟
الظاهر في عرفي – على هامش تأمالتي الكثيرة في التقابل الفكري والفلسفي الذي أراه مجديا دائما
بين التراث والحداثة -هو أنه قد ساد عندنا االعتقاد بأننا بصدد التفكير في النص بدال من العكوف
على الخطاب ،والحقيقة هي أن العكس هو بالتحديد ما كان بصدد الحدوث.
تطرح نفسها جملة من األسئلة :أيهما يشكل اآلخر؛ الخطاب أم النص؟ هل خطاباتنا" حول الذات
والهوية والعقيدة والحرية والتعاطي السياسي واإلمامة والقرآن واإليمان وامليتافيزيقا وهرمية
الف َرق اإلسالمية واملفاضلة بينها هي التي تحدد مآالت النصوص أو تقوم بتصريفها (علما أن التاويل
ِ
هو إعادة إنتاج للنصوص كانها لم يسبق لها أن تكون)؟ أن أن العكس هو ما يحدث فترسم
النصوص مالمح خطاباتنا؟"
180
والسؤال الجامع لكل ذلك هو التالي :إذا كنا نعيش اليوم "أبوريا" كبرى فأين يكمن الخلل؟
كيف يمكن للنص الوحيد الذي يبدو متماسكا "محفوظا" أن يترتب عنه كل هذا الغبش املعرفي وكل
هذه الفوضى التأويلية التي تنتهي إلى الصراع الدامي؟
س :3ماذا عن الشعر في ظل هذه الخريطة؟ هل يملك الشعر موقعا يخول له الخوض في املعارك
الفكرية التي تندلع اليوم في أطر تبدو غير شعرية على اإلطالق؟
ف.ا :مما كتبته وكررته مرارا في محاضراتي تفسيري للمعارضة الشرسة التي يواجهها" الشعر على
أيامنا من قبل املؤسسة الرسمية؛" اقصد رجل السياسة ورجل الدين .إنه ملن املثير للغرابة أن يتفق
هذان الرجالن على معارضة الشعر وأن تكون الحجتان األقوى لهذين االتجاهين هما القرآن الكريم
(في قراءة سريعة متسرعة) وجمهورية أفالطون ( في قراءة خالية من التمعن) .والواقع هو أن الشعر
يفضي على مسالة شديدة األهمية" من وجتهي النظر الفلسفية والسياسية .كيف ذلك؟
يعلمنا الشعر التعامل مع اليقينيات املحيطة بنا تعامال عائما يبدو لنا أول األمر مائعا بال ضفاف،
ويثير من جملة ما يثيره رد فعل صارم مفاده أن الشاعر ال يعرف ما يقول ونحن نحتاج ألجل
التفاهم إلى معرفة ما نقوله بالتحديد والدقة وبالفصل الواضح القطعي في الفروق بين الكلمات،
هذا املنطق "الحقيقي" يتنافر مع املنطق "املجازي"...
إال أن التاريخ يعلمنا بأن كل الحقائق التي يرتكز عليها زمن معطى تنتهي بأن تتحول إلى باطل ما،
وتتقادم ،ويتجاوزها قطار الحقيقة ،لكي تصبح قوالب لغوية جاهزة وشبه مفرغة من املعنى ومن
الجدوى اثناء االستعمال ،قوالب علينا تجاوزها من أجل بلوغ الحقائق الجديدة ،وهكذا يتحول
التاريخ إلى سلسلة طويلة من اإلخفاقات "املدعية" للحقيقة ،والتي ثابتها الوحيد هو املجاز ،هو
الدرجة الثانية للمعنى ،هو الحياد بالكلمات عن مراتبها املعروفة؛" وهذا هو جوهر اللغة الشعرية
َ
التي وصف أهلها هللا في محكم تنزيله بأنهم يقولون ما ال يفعلون ،وكان ذلك وصفا لطبيعة شيء ما
اسمه اللغة الشعرية ،ولم يكن تماما حكما أخالقيا كما قرأه املفسرون مرارا.
181
من التجارب التي عكفت عليها بكثير من التأمل تجربة كتابة الهايكو ،ذلك الشكل الشعري اآلتي إلينا
من اليابان متبعا طريقا غير التي يتبعها الشعر عندنا في املشرق ،فالشاعر عندنا سليل ساللة شعرية
ُ
بالضرورة ،في حين يأتي إلى الهايكو أهله من باب التأمل والحكمة ال من باب اللغة والبالغة.
ذلك أهم شيء وأكثر أمر راقني في تلك التجربة الشعرية .من جهة أخرى هو شعر يتماشى مع
"جاهزية"" العصر ،ورغبته في القنص اليسير ،في املأخذ السريع البسيط ،في السرعة وامللل وضرورة
التغيير من اجل االنتقال إلى شيء آخر .الهايكو في عرفي حرب على ضغط الكالم غير الشعري علي
حينما" أنتقل إلى صيغتي الشعرية...هو انتصار للصمت ...طريقة لتصفية القصائد من املعلوم املكرور
...من عنف "الطريقة" الشعرية...وهو" ثوري جدا بهذا املعنى .ثوري وغير ائتالفي.
الهايكو صوت يتوسط املسافة بين اإلنسان والطبيعة ...مسبار يلتقط العالم بال جلبة...يستعيد" طاقة
البداهة والوحشية النباتية ( ال الحيوانية) التي كانت تأهل األرض قبل أن تهيمن الحقيقة على باقي
املوجودات...
هو جملة تتحاور مع الصمت حول معطى الحاسة البسيطة (ما أراه وأسمعه وما أفكر فيه
مباشرة )...دون الطمع في تشييد بناء "شعري" كاذب ينتهي إلى تكريس املحيط املألوف والحيل
ُ
اللغوية واألكاذيب التي تعودنا اللغة عليها من خالل قتل األشياء والحلول محلها.
هو كشف ملا تختزنه الحياة في البساطة ...معطى االنمحاء الذي في الطبيعة وفي الحياة ...سرح للعالم
البعيد عن االعتداد البشري ...بيانات منمحية ضد العلو في األرض ...جبهة مقاومة كالمية تنتصر
يضحي بالحقيقة في سبيل تحقيقاملتقول الذي ّ ّ املمنطق للعقل /القلب ضد العقل /اللوغوس
ِ ِ
القاعدة اللغوية...
س :4هل يمكن أن نفكر في تأسيس مبحث فكري عربي ينشغل بقضايا الدراسات الثقافية؟
ف.ا :أعتقد أننا أمة تناسبها الدراسات الثقافية تماما ،أمة ذات خلفية إستيطيقية شكالنية عميقة
لم يحدث لها يوما أن انفكت عن املسألة اإليطيقية ،وهذا اإلخاء بين الجمالي" واألخالقي" معادلة
صعبة تمت لنا بيسر كبير بسبب خاصية" كامنة في الدين اإلسالمي ،في حين أن األمم األخرى ال تزال
تتعامل معه بتشنج كبير...فالتقاليد األكاديمية في الغرب ال تزال تستعسر هضم انشغال العالم
182
باملسألة االجتماعية "،واملدونة األدبية مثال تظل بعيدة تماما عن الشأن اإليديولوجي – إال في إطار ما
تقتضيه حاجة النص أحيانا -في حين نالحظ عندنا مثال املسافات املتقاربة" بين الدراسات اللغوية
والدراسات القرآنية ذات الطابع الثقافي التأويلي والتي لم نتمكن من ولوج بابها إال بواسطة دراسة
لغة الشعر واألحكام البالغية التي هي السنن اللغوي والداللي للداء القرآني...
في الغرب نجد عسرا في اختزال هذه املسافات ،عسر يزداد أواره بسبب التقاليد األكاديمية – كما
أسلفت ... -املذهب الوضعي مثال ،أو املذهب التجريبي يمانعان تماما إذا ما جئناهما" بالنزعة التأويلية
للدراسات الثقافية التي جاءت تحول مسارات تفكيرنا الفلسفي من السؤال عن كيفيات الظاهرة
وحيثياتها إلى السؤال عن مآلها الحياتي وتوريطاتها السياسية "،وعن طبيعة عملها التحتي من أجل
تصريف فعل الهيمنة اثناء إنتاج/إعادة إنتاج/استرجاع الخطابات املختلفة؛ من وصفة الدواء إلى
َ ّ
تعل ُمنا (وربما ّ
"األسماء كلها"... تحملنا فتبرمجنا كي نبتلع) القواميس التي ِ
أفق الدراسات الثقافية مفيد في تعليمنا ما لم نكن نعلم :كيفية طرح أسئلة جديدة على الحياة.
الشك في امليراث اإلنساني في امليدان الشائك املعقد الذي هو "اإلنسانيات" ،وضرورة مراجعة
مسلماتنا التي ال تخلو أبدا من فخاخ كامنة" تعمل عملها غير امللموس والذي هو بالكاد محسوس،
والذي يظل قويا وفعاال مع ذلك.
تقف الدراسات الثقافية" في منتصف الطريق بين خطاب "شرف املعرفة ونبلها" ،وبين خطاب
"فائدتها" أو خطرها"" ؛ أي خطاب التأمل في دورها" – اإليجابي او ربما السلبي -في تسليط هيمنة صانع
املعرفة" علينا؛ نحن املستهلكين لها.
لقد كانت الحواس الصحيحة لعلماء األصول – في مرحلة الرقي اإلسالمي -تهديهم مباشرة إلى آلية
تطويع النصوص املترجمة حديثا عن اللغات األجنبية؛ فيقومون بغربلة مثيرة للعجب ،فطرحوا
املسرح مثال لشعورهم بال جدواه اإليديولوجية" في مرحلة البناء تلك ،مع وجود ما يعوضه لديهم
(بتعبير الجاحظ ثم حازم القرطاجني الحقا) ،ولو كنا نحن من يفعل ذلك لكنا ترجمناه آليا ملجرد
مجيئه من البالد األجنبية .وهذه املالحظة املثيرة تعيدنا على مفهوم الدراسات الثقافية التي تتقدم
أمامنا كمقاربة متعددة التخصصات واملناهج واإلجراءات للحياة وجوانبها الظاهرة التي نكنيها
"ثقافة" ،مقاربة تجتهد ألجل استعادة مسارات تشكل التجارب الفردية ،ثم تحولها ،وانتهاء بذوبانها
أو عدمه في امليراث الجماعي .محاولة لرسم خرائط "اليومي" الذي يتأسطر بمعزل عنا ،ثم ننام
183
ونفيق لكي نجده قد اكتسى جالل القرون الخوالي ،ونقول :هي فجوة األجيال .ولكن ما هي مسارات
هذه الفجوة؟ َ
عالم تفضي يا ترى؟
هي عاداتنا في سطحيتها املخادعة ،وكل املوضوعات والخبرات والتمثيالت التي درجنا على تسميتها
"الثقافة"" التي تتقصى الدراسات الثقافية طرائق علمية بديعة إلعادة تفكيك شبكاتها" التي تبدو لنا
خاضعة" لحتميات عريقة رغم أنها مجرد تشكالت حديثة جدا وعرضيةتماما "،تدعونا إلى عمل
جينيالوجي" على مختلف الظواهر من جهة ،وفضح صالت الهيمنة التي تتحكم فيها أو تنتج عنها من
جهة أخرى.
يبقى أن املدرسة املحلية لهذا النمط من املقاربات املعرفية عليها أن تواجه مشكال كبيرا ومشكال
معقدا؛ الكبير هو طريقة دخول التراث بعيون جديدة تستعمل آلية الطرح واالحتضان؛" والطرح
عندنا يطرح مشكلة بسبب القداسة الوهمية التي تعودنا صبغ عالقتنا بالتراث بها...
واملشكل املعقد هو أن هذه املقاربة ال تتخذ لها منهجا أبدا؛ بل هي مقاربة استكشافية تتعامل مع
موضوعات املعرفة معاملة الرحالة الذي يدخل بالدا غريبة غير معروفة ويحاول استكشافها" ألجل
وضعها على خريطة اإليديولوجيا" وصراع الهيمنة واالستثمار السياسي والتجاذب
الحضاري...ويضاف تعقيد من درجة ثانية هو ذلك املتعلق بالطريقة التي ال بد لها أن تكون سلسة في
استجالب هذه املناهج من الغرب املختلف ثقافيا واملتهم إيديولوجيا بالرغبة في املسخ الثقافي" والغزو
الفكري ألجل الهيمنة علينا في الشرق الخاضع لفعل االستيهام املستمر – بتعبير إدورد سعيد...-
وهذا االستجالب يطرح مشاكل منهجية أعتقد أن مناقشتها والبحث عن حلول لها قد تكون عتبة
هامة لدخول هذا الحقل املفيد لنا في مرحلة تجديد الغزو واالستعمار التي تعرفها أمتنا ومنطقتنا".
ولكنها حلول تعود حقل الدراسات الثقافية" على حلها ببراعة كبيرة تعتمد تعددية اآلفاق وتقاطع
منابع املعرفة وتضافرها" ألجل االستفادة من عشرات وجهات النظر واملنظورات العلمية والحيل
املنهجية واإلضاءات االبستمولوجية في مقاربات قد توصف بالتلفيقية ولكنها ال يمكن أال توصف
بالفعالة الناجعة.
س :5هل من املمكن أن نؤسس لفضاء يهتم بالترجمة ،ونعيد بالتالي إحياء املاضي التليد ألمتنا؟
184
ف.ا :موقع الترجمة في العالم اإلسالمي القديم ليس هو موقعها اليوم ،وإذا كان لنا أن نقرب شيئا
اليوم مما كانت الترجمة تلعبه كدور باألمس الجميل ألمتنا فإننا سنحل محل الترجمة مراجعات
الكتب ،هذا النشاط الثقافي الهام الذي يقدم املعرفة املحيطة بنا ،وليس معنى هذا الكالم إننا في غير
حاجة إلى الترجمة بل نحن محتاجون" إلى الداللة على الكتب الكثيرة الجديرة باالطالع عليها ،قارئنا
البسيط وطالبنا الجامعي يحتاج إلى معرفة مظان الكتب ،ويحتاج إلى شيء نحن فقراء جدا إليه:
هرمية املؤلفات؛ االعتبار الهرمي الذي يجعل الواحد واعيا بأمهات الكتب ثم باألقل أهمية...وهكذا"...
بعد هذا الدور "املؤشر" على الكتب نحتاج – بشدة -إلى ترجمة الكتب لتسير سبل التنوير الذي هو
بغيتنا ومبتغانا ،فالشرط األول للتنوير هو خلق جدوى األشياء ،وتزويد األرواح املطمئنة التي
تتآكلها الدعة في زاوية الظالم بالشغف الضروري إلى النور واملعرفة .كثيرا ما تساءلت في كتاباتي عن
سبب الركود الذي يحيط بنا؛ متأسيا بأساتذتي النهضويين الذين لم يكفوا يوما عن السؤال حول
"سبب تقدم الغير وتخلفنا" "،وحول "شروط النهضة" ...والراجح هو أن االستعمار قد خلق فينا
قنوطا من الغلبة الدنيوية فصببنا" جام غضبنا /فرحنا /أملنا على الفوز األخروي الذي هو نوع من
االنسحاب من معارك الحياة.
في هذا السياق أتوقع أن تكون الترجمة نوعا من "املهماز"" الذي يحرك أسئلتنا حول مدى صحة
"الشعور باالكتفاء" الذي يملؤنا في هذه الزاوية من الكون .فالترجمة تضع صورتنا قبالة صورة
اآلخر وحينها ،وحينها فقط يمكننا أن نرى صورتنا في مرآة اآلخر ،انعكاس ذو قيمة فكرية كبيرة
بحيث يمكننا جعله الشرط الضروري والحصري للشعور بضرورة فعل التنوير الذي هو دائما – في
مطلق األمر -فعل ياتي ليهدم بناء نتعود عليه ،ونتلذذ بتكراره ظنا منا بأنه اإلمكانية الوحيدة التي
يمكن لألشياء ان تكون عليها.
س :6هل تعتقد بأننا نعيش مرحلة تنوير؟ كثيرون سيقولون عكس هذا الكالم ،فحالنا ليست
جيدة ال فرديا وال جماعيا ،وال داخليا وال خارجيا؟
ف .ا :يبدو لي العصر الذي نعيشه عصرا مشبعا بالحاجة" إلى النزوع التنويري؛ تلك الحالة التاريخية"
التي تتميز من ضمن ما تتميز به بنمط معين من تحديد األولويات الفكرية وتغيير االبيستيمات
تمهيدا لطرح أسئلة جديدة على الحياة التي ورثناها؛" واقتراح باراديغمات ال عهد لنا بها من اجل
185
مقاربة الحياة والفكر ،عصرنا هو عصر بحاجة إلى التنوير أيضا من باب تعطشه الكبير للتأويل؛
تلك الطاقة الكامنة" في املعاني التي تحتاج إلى إعادات االعتبار" للحواس العقلية التي يؤدي التعود على
ّ
برنامج محدد متكرر للمعنى ولطبيعة الصلة التي نتعود عليها معه إلى تبلدها ومنه إلى حاجتنا" إلى
إعادة تثقيفها .من الغريب مثال أن تراجع ترثنا الفكري فيما يتعلق بالجنس مثال (وهو موضوعة
أشتغل عليها حاليا) فترى الدرجة الكبيرة من تطويع الواقع العربي الصحراوي لتيمات تربت ونمت
في الحواضر الشرقية؛ هندا وسندا وفارس ،ولكن العطش إلى التأويل – كما أسلفت يخلق القناطر
الداللية الكافية" لالستحواذ على شوارد املعنى شرقا وغربا ،ثم تربية الذوق العام على خلق صالت
"األلفة" مع املعاني (وهذا هو جوهر" الفعل التنويري)؛ سواء في ذلك املعاني الجديدة او املوحشة التي
غالبا ما نجد الوسط الفكري يصفها بصفات مضادة للتنوير من قبيل "الغريب"" ،الهجين الثقافي""،
"التلوث الفكري"" ،الغزو الثقافي" "،االستالب الحضاري" "،املختلف اإليديولوجي" "...الخ...وكل ذلك
خطابات حسنة النية تسقط في ظالمية مهلكة تعمل كالقاطعة في نظام الدارة الكهربائية "،فتمنع تيار
التفكير واملراجعة "،لتقطع الطريق أمام التأويل في مسار مشبع باالكتفاء الذي هو مقبرة املعاني
ونعش الحياة.
في مساري الفكري أصر كثيرا على مقولة "املراجعة"" بدال من الفكر الثوري الذي اثبت مرارا
محدودية عمله .الفكر بمنظار املراجعة يجعلنا نعيد زيارة مواقع التراث بعيون محملة بإمكانيات
رصد جديدة؛ بهدف مساءلة تاريخنا الفكري الذي هو جزء من حاضرنا الحياتي ،والذي هو منبت
مساءالتنا لواقعنا الثقافي ،والذي هو أرضية الحساسيات التي نولد مزودين بها في إطار نوع من
الحتمية التي ال نهرب منها إال إليها؛ من أين تأتينا هذه امليول الدقيقة اللطيفة الخفية التي تعمل فينا"،
وتتجلى من خاللنا دون أن نشعر بعملها؟
هذا هو نوع األسئلة التي أبحث عنها وأنا أعيد زيارة مواقع معينة من التراث بعيون تدربت على
رصد الظواهر الناتئة عن مألوفنا ،وعلى اإلحساس بالغرابة ،والعدول ،والهيمنة الخفية لألشياء
ولألفكار ".وهذا ما فعلته في دراساتي حول "اصول البحث السيميائي في التراث" ( ،)2005و "الداللة
الصوتية بين املوسيقى والشعر وعلم الداللة" ( )2011و "في مقاربة مابعد البنيوية" ( ،)2011و
"الترجمة ،مقاربة ثقافية"" ( ،)2008و " مالمح التخييل العلمي عند العرب" ( )2006وكذلك "في"
االستثمار الحداثي للسرد العربي" ( )2011والقراءات مابعد الحداثة للنصوص العربية املعاصرة (
...)2009/2016
186
بالنسبة للجزء اآلخر من السؤال؛ اقصد مالحظتك أستاذ حول حالنا اليوم ،وحول السواد املخيم
على كل مناحي الحياة فسأكتفي بتكرار مالحظة حكيم األزمنة املعاصرة" :إدغار موران" الذي يردد
دائما بأن املفاجأة والسيناريوهات غير املتوقعة هي إحدى ثوابت التاريخ ،وكثيرا ما تكشف التاريخ
عن أشياء لم تكن تماما في الحسبان ،بل عن أشياء هي – في كثير من الحيان -مناقضة" لكل
التوقعات...
لذا فلنحافظ على بذور األمل ألنها خير زرع في املراحل الحالكة كالتي نحن بصددها في بالدنا ومع
أمتنا.
س :7ما هي أهم املشاريع التي يمكن أن نتكئ عليها من أجل التقعيد لتفعيل تفكري مبدع؟
ف.ا :رغم تسطح إجابتي ورغم االنتقاد الكبير الذي يمكنني توجيهه للديمقراطية فإنني سأعترف بكل
صراحة بأن املشروع الديمقراطي هو خير ما وصلنا من املشاريع ،فلنلتصق باملشروع الديمقراطي
على األقل ألجل الدعاية لقيمة هامة" تفتر إليها ثقافتنا" العربية رغم حرص تعاليم الدين اإلسالمي
عليها؛ أقصد قيمة الفرد ،واحترام حياة األفراد ،وشيوع قيم املواطنة التي ترتفع بمقام الفرد في
سلم الدول إل األعلى .تراثنا ينطق للسف الشديد بالطبقية واحترام نبل املنشأ ،واتخاذ موقع متميز
بناء على النسب والسلسلة العائلية ...الخ
من األشياء التي ال بد تربية النشء عليها :االعتزاز بأنفسهم كأفراد مستقلين هامين استثنائيين ،ال
تقديمهم ملدارس مصاصة للدماء تمألهم بقيم ليست صحيحة بالضرورة وليست مناط أي شيء مما
نبني به وبواسطته ومن خالله شيئا ذا بال...
أعتقد أن النموذج االجتماعي الديمقراطي هو نموذج سياسي وفكري قد نتعلم منه الكثير ،وقد
نستفيد من زوايا نظره صوب أشياء الفرد والجماعة والعالم عموما.
نموذج آخر قد تكون فيه دروس كبيرة لنا هو النموذج اإلسالمي لدول أقصى الشرق ،فقد حلوا
على ما يبدو املعادلة الصعبة فيما يتعلق باملالءمة بين اإلسالم والحداثة ،وهو أنموذج أعترف تمام
االعتراف بأننا قد عجزنا عن املضي فيه قدما.
187
كما يمكننا أن نبث الحياة في مشاريع امشاج بدا كأن أصحابها لم يكفهم القرن العشرون السريع
املتسارع كي يكملوها ويقدموها على أكمل وجه؛ أقصد مشاريع كمشروع محمد أركون و الجابري
ومالك بن نبي والطيب التيزيني وإدورد سعيد وهشام جعيط وعلي حرب ومالك شبل واملسيري
وعبد الوهاب ّ
مدب وباقر الصدر وعبد اإلله بلقزيز وطه عبد الرحمن وابي يعرب املرزوقي ومحمد
عمارة وهويدي ...تلك القراءات للواقع والتراث وللعالقات بين شرقنا املتعثر والغرب املتقدم
بتسارع كبير ،قراءات منفتحة على املناهج الغربية ،مع عدم التضحية بعناصر الذات التاريخية،
وبمكونات الهوية األصيلة واألصلية.
188
*
*