You are on page 1of 30

‫حوار مع فتحي المسكيني‬

‫منصة معنى ‪2022/1/13‬‬

‫حاوره‪ :‬إبراهيم الكلثم‬


‫______________________________________________________________________‬

‫‪ -‬دكتور فتحي المسكيني‪ ،‬نشكرك جزيل الشكر على تلبية الدعوة‪ ،‬ونتطلع‬
‫إلى حوار مثمر وممتع فكر ًيا معك‪.‬‬

‫منذ سنواتك الجامعيّة األولى بدأت باالشتغال بهيغل‪ ،‬وأوضحت في «هيغل‬


‫ونهاية الميتافيزيقا» ( دار الجنوب‪ )1997 ،‬أهمية العودة إليه‪ ،‬وقد سألت‬
‫في موضع آخر‪« :‬من هو هيغل بالنسبة إلينا؟»‪ ،‬ما طرافة الطرح الهيغلي‬
‫لمن هم ‪-‬بحسب عبارتك‪ -‬يقطنون «جنوب الحداثة»؟‬

‫بدأ لقائي مع هيغل سنة ‪ 1987-1986‬عندما أنجزت ّأول بحث جامعي لي وكان‬
‫بالفرنسية عنوانه »مفهوم الذات وعمل السالب في فينومينولوجيا الروح»‪ .‬كان‬
‫سببي الشخصي لالهتمام به (خارج الواجب «األكاديمي» الذي تمليه وتحدّده فكرة‬
‫«الجامعة» عندنا) هو الحاجة إلى تطوير فهم دقيق لمعنى أن نكون «أنفسنا»‪ ،‬ليس‬
‫فقط أن ننتمي إلى أ ّمة مخصوصة تفرض علينا هوية جاهزة‪ ،‬بل أن نمارس لقاءنا‬
‫أن لقائي بهيغل‬‫بأنفسنا بوصفه تجربة متميّزة جدّا اسمها «الذات»‪ .‬وهذا يعني ّ‬
‫وأمر إلى غرض آخر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ي أن أنجزه‬
‫مجرد مشكل مدرسي عل ّ‬‫ّ‬ ‫واهتمامي به لم يكن‬
‫أن على‬ ‫بأن «المطلق» هو «ذات» مثلنا‪ ،‬وبالتالي ّ‬
‫وجدت لدى هيغل ادّعاء مثيرا ّ‬
‫جوهرا‪ ،‬بل كذلك بوصفه ذاتًا»‪.1‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الحق وأن تعبّر عنه ليس بوصفه‬ ‫الفلسفة «أن تدرك‬

‫‪ -‬ماذا يعني هيغل بذلك؟‬

‫نؤرخ لها بوصفها‬


‫أن «هللا» مثال ليس «شيئا» بل هو «ذات» علينا أن ّ‬ ‫يعني ذلك ّ‬
‫شكال من الحياة‪ ،‬وليس هوية مغلقة تقع خارج مداركنا أو بعيدا عن عالمنا؛ ّ‬
‫أن‬
‫المطلق أو المقدّس ليس شيئا يمكننا أن ندخل في عالقة «مباشرة» معه‪ .‬ال أحد ّ‬
‫يحق‬
‫له أن يدّعي عالقة مفضّلة مع هللا أو مع المطلق أو مع الحقيقة‪ .‬علينا أن نستمع إلى‬
‫هيغل قليال‪ .‬يقول‪:‬‬

‫ي هو الكينونة التي هي في الحقيقة ذاتٌ ‪ ،‬أو وهو ما يعني نفس‬ ‫« ّ‬


‫إن الجوهر الح ّ‬
‫الشيء‪ ،‬هو الكينونة التي هي في الحقيقة فعليّة‪ ،‬ولكن فقط من حيث ّ‬
‫أن هذا الجوهر‬
‫سط بين أن يصير شيئا آخر غير ذاته‬ ‫هو الحركة التي بها يطرح ذاته‪ ،‬أو هو التو ّ‬
‫‪1‬‬
‫‪- G. W. FR. Hegel, Phänomenologie des Geistes (Hamburg: Felix Meiner Verlag, 2011), p. 13‬‬

‫[‪]2‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫فإن الجوهر هو السلبيّة البسيطة‪ ،‬وبذلك‬ ‫وبين أن يكون ذاته‪ .‬ومن حيث هو ذاتٌ ّ‬
‫سلب للتباين الالمبالي‬
‫ٌ‬ ‫هو انقسام البسيط‪ ،‬أو التضاعف المتضادّ‪ ،‬الذي هو من جديد‬
‫وتضادّه؛ وحده هذا التطابق المصلح لذاته أو االنعكاس في كينونة الغير داخل ذات‬
‫ّ‬
‫الحق‪.‬‬ ‫نفسه؛ وليس وحدة أصلية بما هي كذلك‪ ،‬أو مباشرة بما هي كذلك‪ ،‬وحده هو‬
‫الحق هو صيرورة ذات نفسه‪ ،‬الدائرة‪ ،‬التي تفترض وتمتلك منذ البداية نهايتها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن‬
‫بوصفها مقصدها‪ ،‬وهو ليس فعليّا إالّ عبر تحقّقه وعبر نهايته‪.‬‬

‫وبذلك ّ‬
‫فإن حياة هللا والمعرفة اإللهية قد يمكن اإلفصاح عنهما بوصفهما نوعا من‬
‫مجرد الوعظ وحتى إلى‬
‫ّ‬ ‫لعبة المحبّة مع ذات نفسها؛ ّ‬
‫لكن هذه الفكرة قد تسقط إلى‬
‫‪2‬‬
‫السخافة‪ ،‬عندما ينقصها الجدّ واأللم واألناة وعمل السالب»‪.‬‬

‫هذا درس فلسفي‪« ،‬نحن» الذين نسكن «جنوب الحداثة» ‪-‬كموقع ميتافيزيقي متميّز‪،‬‬
‫سة إلى تف ّهمه من الداخل‪ :‬نعني من داخل‬‫وليس بوصفه لعنة كولونيالية‪ -‬في حاجة ما ّ‬
‫أنفسنا أو من داخل المشاكل التي يطرحها التزامنا بأن نكون أنفسنا وليس مفعوال‬
‫ي شكل غريب من «الذات»‪ .‬يعني هيغل بلفظة «الجوهر» ك ّل «ما ليس‬ ‫تابعا أل ّ‬
‫إن هللا جوهر بقدر ما نعامله بوصفه‬‫ذاتا»‪ .‬الجوهر هو كل ما نعامله بوصفه «شيئا»‪ّ .‬‬
‫أن ما هو «حقيقي»‬ ‫لكن هيغل يعتبر ّ‬‫«شيئا» يمكن ألحدهم أن يستولي عليه لنفسه‪ّ .‬‬
‫ال يمكن أن «يكون» جوهرا فقط؛ يجب أن «يصير» ذاتا‪ .‬هيغل هو من أدخل‬
‫الصيرورة إلى الحقيقة‪ .‬وهو يقرأ «الصيرورة» في أفق فهم مسيحي عميق‪ :‬إنّها‬
‫نوع من «الجدّ واأللم واألناة وعمل السالب»‪ .‬ال يتعلق األمر هنا بمجرد انفعاالت‬
‫نتأول ذلك في ضوء المفهوم المسيحي لإلله‪ :‬اإلله الذي يموت‬ ‫حزينة بل علينا أن ّ‬
‫متألما على الصليب‪ .‬هيغل هو من أخذ جدّيا معنى أن يدخل األلم في ماهية اإلله‪،‬‬
‫ولم يفعل غير ترجمة هذا األلم بوصفه تجربة‪ .‬مفهوميًّا‪» ،‬فينومينولوجيا الروح‬
‫«هي تاريخ هذا األلم بوصفه وقد صار «تاريخا مفهوميًّا» للمطلق الذي يريد أن‬
‫يكون بيننا‪ ،‬ويرفض أن يمثل أمامنا بوصفه «شيئا»‪ .‬وكل ذلك غير ممكن التص ّور‬
‫من دون تجربة «اإلله اإلبراهيمي» بعامة‪ ،‬بوصفه هو «من» نقل اإلله من نطاق‬
‫«الجوهر» (الوثني) إلى أفق «الذات» (التوحيدية) التي تريد أن تكون بيننا أو التي‬
‫تخاطبنا‪.‬‬

‫حسب هيغل‪ ،‬وحده اإلنسان «الحديث» (حديث = مسيحي) شعر بهذه الحقيقة وتب ّناها‬
‫من الداخل‪ ،‬وذلك فقط ألنّه ذاتٌ وليس «جوهرا» فقط‪ .‬كل أنواع البشر السابقة كانت‬
‫«أفرادا»‪ّ .‬‬
‫لكن الذات ليست فردا‪ .‬الذاتي لدى هيغل يمكن أن يكون هللا أو الدولة أو‬
‫‪2‬‬
‫‪- Ibid. p.-14-15‬‬

‫[‪]3‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫الفن أو المقدس أو الحقيقة ‪ ...‬ولذلك هو الصفة التأ ّملية للمفهوم بما هو كذلك‪ .‬من‬
‫يتذوت» بشكل مطلق‪.‬‬‫يف ّكر في شكل مفهومي هو « ّ‬

‫ولذلك سوف يظ ّل ما نحبّه أو نؤمن به «شيئا» فقط طالما ال نفهمه بوصفه «ذاتا»‪.‬‬
‫الذات هي كل كائن ينمو‪ ،‬كل كائن صار يستمدّ حقيقته من حركته‪ ،‬أي من كل‬
‫الممكن الذي بحوزته‪ .‬الذات هي كل جوهر اكتشف طريقته في أن يصير ذاته‪ .‬الذات‬
‫مجرد جواهر‪ ،‬أي مجرد موادّ ألنفسنا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هي شكل الحياة التي نصيرها بعد أن كنّا‬
‫ي أن «أصيرها»‪ .‬ال أريد أن أرث‬ ‫ولذلك ال يكفي أن «أكون» نفسي فقط بل عل ّ‬
‫نفسي‪ ،‬أريد أن أكتشفها‪ .‬وهذا يعني أنّني على استعداد كي أتعامل مع نفسي ولكن‬
‫أيضا مع هللا أو الحرية أو الحب بوصفه «تجربة» وليس «شيئا»‪ .‬كل ذات هي‬
‫تتحول التجربة إلى هوية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مجرد تجربة لكنها هي كل ما نملكه عن أنفسنا‪ .‬وفجأة‬
‫أي إلى شكل من الحياة حيث يصبح التمييز بين «المعنى» و«المعاناة» ترفا منهجيًّا‪.‬‬

‫ذلك هو السياق الذي أحببت فيه هيغل بوصفه «حيوانا فلسفيا» كبيرا يعلّم الناس‬
‫أن هيغل كان يقصد ذلك‪ .‬ربما كان له قصة‬ ‫لكن هذا ال يعني ّ‬
‫كيف يصيرون ذواتا‪ّ .‬‬
‫ي وجه‬‫إن هيغل لم يكن يعرف بأ ّ‬ ‫أخرى مع نفسه‪ .‬قال جورج باطاي ذات مرة‪ّ « :‬‬
‫هو كان على حق»‪.‬‬

‫ذلك أنّنا نلتقي بهيغل في أفق لم يكن يخاطبه‪ .‬وهو ما س ّميته في ّأول محاضرة فلسفية‬
‫لي ألقيتها سنة ‪ 1991‬تحت عنوان أزعج أساتذتي في ذلك الوقت‪ ،‬هو «التفكير مع‬
‫هيغل ضدّ هيغل»؛ ما س ّميته «جنوب الحداثة»‪ .‬كانوا يتهيّبون ويرتعبون من التفكير‬
‫«ض ّد» الغرب الذي جمعه هيغل في «فينومينولوجيا الروح» بوصفها «نهاية‬
‫أن «التفكير» ضرب‬ ‫تاريخ» المعنى بالنسبة إلى الفالسفة‪ .‬كان قراري عندئذ هو ّ‬
‫من «مقاومة المفهوم» وليس مجرد «إقصاء لآلخر وبناء حوانيت التراث في‬
‫أن هيغل – الذي نقرأ نصوصه وليس هيغل‬ ‫عقولنا»‪ .3‬وهو تمرين فلسفي وجدت ّ‬
‫الحر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الشراح‪ -‬هو ّأول معلّم كبير أدخل «المقاومة»‪ ،‬أي ّ‬
‫فن التناقض‬ ‫ّ‬ ‫في مل ّخصات‬
‫الحر‬
‫ّ‬ ‫حر‪ .‬التناقض‬‫في لحم المفهوم‪ .‬من يف ّكر هو يقاوم‪ ،‬أي يتح ّمل تناقضه بشكل ّ‬
‫هو «لعبة المحبة مع نفسها»‪.‬‬

‫‪ -‬ما المقصود بـ«جنوب الحداثة»؟ وكيف هي مقاومة؟ هل هي مقاومة‬


‫ضد »الحداثة«؟‬

‫‪ - 3‬فتحي المسكيني‪" ،‬فلسفة النوابت" (بيروت‪ :‬دار الطليعة‪ ،)1997 ،‬ص ‪.32‬‬

‫[‪]4‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫إن عبارة «جنوب الحداثة» ال تعني بناء سردية «ديـ‪-‬كولونيالية» )‪(decolonial‬‬ ‫ّ‬
‫تخول للمثقّفين غير الغربيين ممارسة ضغينة ميتافيزيقية ضدّ‬ ‫حزينة في فن العداوة ّ‬
‫ي نوع من «الصفح»‬ ‫«الحداثة» بوصفها «ظالمية» إبستيمولوجية غير قادرة على أ ّ‬
‫درب‬ ‫حول األرض إلى مستعمرة أوروبية‪ .‬بل فقط‪ :‬الت ّ‬ ‫تجاه المستعمر السابق الذي ّ‬
‫ي» انعزالي‪« .‬الجنوب» صفة‬ ‫على التفكير من «موقع آخر»‪ ،‬وليس بشكل «آخر ّ‬
‫إن هيغل قد عثر على‬ ‫إبستيمولوجية وليست مهربا جغرافيا خارج أفق اإلنسانية‪ّ .‬‬
‫خيط سردي مناسب إلعادة كتابة تاريخ «الروح» المسيحي بشكل علماني‪ .‬ربّما‬
‫نعثر نحن أيضا في ذلك على دروس سردية أو مفهوميّة‪ ،‬بسبب النسب التوحيدي‬
‫لكن ذلك ال يجعل منه النموذج الوحيد أو «العالمي» لتفكير‬ ‫الذي يجمعنا مع هيغل‪ّ ،‬‬
‫غير الغربيين‪ .‬وهذا ما علّمتنا إيّاه كتابات فرانس فانون وإدوارد سعيد وسمير أمين‪.‬‬
‫لقد وجدت في استعارة «الجنوب» مقاما للتفكير الذي يم ّكن من «التفكير مع هيغل»‬
‫(ألن «الغرب» هو بدوره‬ ‫ّ‬ ‫(ألنّه ال معنى للخروج عن أفق اإلنسانية) «ضدّ هيغل»‬
‫مجرد استعارة جغرافية آن األوان لتنسيبها)‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ -‬أشرت للتو إلى كتابك األول «فلسفة النوابت» ( دار الطليعة‪،)1997 ،‬‬
‫سؤاال بالغ األهمية‪« :‬كيف نستأنف البحث‬ ‫ً‬ ‫وفي ذلك الكتاب‪ ،‬طرحت‬
‫الفلسفي الذي شرع فيه أسالفنا‪ ،‬ولكن بخاصة في األفق اإلشكالي للفلسفة‬
‫المعاصرة بالذات؟» ويبدو أن ذلك السؤال يحرك كل عملك سواء كان‬
‫صا أم ترجمةً‪ ،‬ماذا تقصد بشرط «الكونية» الذي أُهدر مع قراء‬ ‫إنتا ًجا خا ً‬
‫التراث؟ وما الفارق بين قارئ التراث والمتفلسف؟ مع مالحظة أن هنالك‬
‫موجة جديدة في االشتغال الفكري شعارها «المحلي» ال «الكوني»‪،‬‬
‫ستارا لما هو غربي (وهذه «الموجة» تمتد من مفكري‬ ‫ً‬ ‫فالكوني ليس إال‬
‫العرب المحافظين إلى منظري ما بعد االستعمار)‪.‬‬

‫لم يكن كتاب «فلسفة النوابت» ّأول كتبي فقد صدر في بيروت في أيلول ‪1997‬‬
‫وكان قد سبقه كتاب «هيغل ونهاية المتافيزيقا» الذي صدر في تونس في مارس من‬
‫لكن ما يجمع بين الكتابين هو المشكل المزدوج الذي خيّم على أبحاثي‬‫نفس العام‪ّ .‬‬
‫في تلك الفترة بداية من ‪ 1990‬تاريخ التحاقي للتدريس بالجامعة التونسية‪ .‬وكان ّأول‬
‫تعبير عن ذلك المشكل المزدوج هو نشر مقالين متقابلين وينتميان إلى أفقي استشكال‬
‫متنازعين‪ :‬من جهة نشر مقال في الفلسفة الغربية عنوانه «هابرماز أمام هايدغر أو‬
‫كيف الكالم على الفلسفة؟»‪ 4،‬ومن جهة نشر بحث في الفلسفة العربية عنوانه‬

‫‪ - 4‬ف‪ .‬المسكيني‪" " ،‬هابرماز أمام هايدغر أو كيف الكالم على الفلسفة؟"‪ ،‬ضمن‪ :‬الفكر العربي المعاصر‪ ،‬العدد ‪ ،)1991( 85-84‬ص‪.25-21‬‬

‫[‪]5‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫«جبران والحداثة أو النسخة العربية من العدمية»‪.5‬كان «االزدواج» في المشكل‬


‫الذي كان يدعوني إلى التفكير الفلسفي واقعة روحية وليس ترفا منهجيًّا‪ .‬وكنت‬
‫أتساءل‪ :‬ماذا يمكن أن تكون عليه طبيعة العالقة بين ما يشير إليه الكتابان المنشوران‬
‫سنة ‪ 1997‬ك ّل على حدة؟ نعني‪ :‬كيف نستأنف تجربة التفلسف العربية (وليس قراءة‬
‫التراث) في عصر هيمن فيه السؤال عن نهاية الميتافيزيقا الغربية (عصر هيغل)؟‬
‫األول عن هابرماس وهيدغر هو مقال من‬ ‫بأن المقال ّ‬‫ي ّ‬ ‫لكنّني كنت على وعي شق ّ‬
‫نوع «كولونيالي»؛ أ ّما المقالي الثاني عن جبران ونيتشه هو من نوع‬
‫«ديكولونيالي»‪ .‬لم يكن ذلك ترفا منهجيًّا بل محنة ميتافيزيقية تفرض على من يشعر‬
‫بها «تدبيرا جديدا للمتوحد»‪.‬‬

‫هذا القلق «غير الغربي» أو هذا الشعور «الجنوبي» بأه ّمية الفلسفة قد قادني إلى‬
‫بأن «الفيلسوف» جسم غريب عن سردية الملة‬ ‫إن أسالفنا قد شعروا ّ‬‫هذا االفتراض‪ّ :‬‬
‫(نعني تأويل «اآلدمية» بوصفها «استخالفا» عاما على األرض)‪ ،‬وأطلقوا عليه‬
‫فإن استئناف التفلسف ال يمكن أن يت ّم «عندنا»‬ ‫اسما أصيال هو «النابتة»‪ .‬ومن ث ّم ّ‬
‫إالّ تحت صورة «النوابت»‪ ،‬سواء فهمنا ذلك في مصطلح الفارابي‪ ،‬أي بشكل سالب‬
‫(حيث يمكن لفقهاء الملة أن يعتبروا الفالسفة «نوابت» في معنى «الشوك بين‬
‫تصورنا ذلك في اصطالح ابن باجة (حيث النابتة هو الفيلسوف نفسه‬ ‫ّ‬ ‫الزرع») أو‬
‫متوحدا» يعيش في ملة ال تؤمن به وال تراه)‪.‬‬
‫بوصفه « ّ‬

‫أن تكويني «األكاديمي» في الفلسفة الغربية ‪«-‬أكاديمي» لفظ يعود بنا إلى‬ ‫إالّ ّ‬
‫أفالطون‪ -‬كان يعلّمني شيئا آخر‪ّ :‬‬
‫أن الفلسفة جنس ِخطابي أنتجته المدينة اليونانية‬
‫بحيث هو يعبّر عن ماهيتها‪ ،‬وليس جسما غريبا عنها‪ .‬ولذلك كان ظهور الفالسفة‬
‫يبرر»‬
‫في تاريخ الغرب حدثا طبيعيًّا وأصليًّا‪ ،‬ومن ث ّم ليس على الفيلسوف أن « ّ‬
‫حقيقته‪ .‬وذلك على عكس فيلسوف الملة الذي يجد نفسه ملقى به في سردية تفرض‬
‫يتحول تفكيره‪ ،‬من دون أن يشعر‪ ،‬إلى نوع من االعتذار الميتافيزيقي‬ ‫ّ‬ ‫عليه أن‬
‫كأن التفلسف فضيحة أخالقية عليه أن يداريها مخافة أن تنقلب إلى تهمة‬ ‫الخجول‪ّ .‬‬
‫سياسية أو تجديف ديني‪.‬‬

‫قراء التراث» على اختالف مناهجهم‬‫هذا الوضع اإلشكالي جعلني أنظر عندئذ إلى « ّ‬
‫وتأويالتهم (الذين سيطروا في أواخر الثمانينات على ما يمكن أن نس ّميه «ساحة‬
‫التفكير» لدينا) وكأنّهم قد أعفوا أنفسهم من المعركة الحقيقية التي هي معركة‬
‫وعوضوها بحرب داخلية ضد مصادر أنفسهم‪.‬‬ ‫«كونية» ّ‬
‫‪ - 5‬ف‪ .‬المسكيني‪" ،‬جبران والحداثة أو النسخة العربية من العدمية"‪ ،‬ضمن‪ :‬الفكر العربي المعاصر‪ ،‬العدد ‪ ،)1991( 89-88‬ص ‪.128-120‬‬

‫[‪]6‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫‪ -‬رغم ذلك‪ ،‬في النقاشات ما بعد الكولنيالية‪ ،‬يوجد تحسس ال يخفى على‬
‫المتابع من مصطلح «الكوني» و«الكونية»‪ .‬بم نتعامل مع هذا التوجس؟‬

‫«كونية» نسبة إلى «الكون»‪ ،‬وهي كما نرى ترجمة حرفية للمصطلح الغربي كما‬
‫تقوله االنجليزية «‪ »universal‬نسبة إلى «‪ّ .»universe‬‬
‫لكن هذا المعنى الحرفي‬
‫مجرد ترجمة التينية ( ‪universum,‬‬ ‫ّ‬ ‫يخفي أنّه كان أيضا في تاريخ المصطلح‬
‫‪ universalis‬من «‪ »vertere‬و«‪ »unum‬أي «ما هو مو ّجه تماما‪ ،‬دفعة واحدة‪،‬‬
‫نحو» ) للفظ يوناني (‪ )to katholou‬عرفه العرب القدامى عند نقل نصوص‬
‫أرسطو وترجموه بلفظة «الكلّي» في مقابل «الجزئي» (‪.)to kath’hekaston‬‬
‫لكن لفظ «‪ »universum‬والجمع‬ ‫الكلي اكتشاف فلسفي ينسبه أرسطو إلى سقراط‪ّ .6‬‬
‫«‪ »universa‬كان يعني لدى سيسرون «جملة األشياء» ومن ث ّم جملة «الكون»‪.‬‬
‫«الكوني» إذن ليس «كليًّا»‪ ،‬وهو ليس واحدا بل وجهة نحو الواحد الذي يجمع‬
‫األشياء بناء على «االتساق» وليس على «الحصر»‪ .‬هنا علينا أن نستعمل «المعنى»‬
‫(الجهد البشري للتفاهم بوصفه أفقا «كونيا») وليس «الماهية» (التي تدّعي أنّها‬
‫«كلية»)‪.‬‬

‫هذه النظرة السريعة على تاريخ المصطلح في مختلف اللغات الميتافيزيقية للفلسفة‬
‫تضعنا رأسا أمام التصادم المفهومي بين معنيين ال يراهما (أو ال يريد أن يراهما)‬
‫كرس اختيارا اصطالحيا واحدا هو « ‪the‬‬ ‫المتكلّم الغربي «الحديث» الذي ّ‬
‫األول التيني يطرح «الكوني» نسبة إلى «الكون» من جهة‪،‬‬ ‫‪ : »universal‬المعنى ّ‬
‫الكل» أو «الجملة» من جهة أخرى‪ .‬ومن اليسير‬‫ومعنى يوناني يعيد «الكلي» إلى « ّ‬
‫أن الفارابي أو ابن سينا لم يعرف معنى «الكوني» بل فقط معنى «الكلي»‪.‬‬ ‫أن نرى ّ‬

‫تكمن نكتة اإلشكال في المماهاة التي فرضتها «الحداثة» بين المعنيين‪ ،‬الحداثة من‬
‫حيث هي سياسة للحقيقة‪ ،‬وليس مجرد حقبة زمنية‪ .‬ولدينا مثاالن على هذا العنف‬
‫التأويلي‪ .‬مثال كالسيكي هو معنى «المثال» األفالطوني الذي نقده أرسطو قائال‪:‬‬
‫«ليس ث ّمة أي صفة كلية (‪ )καθόλου‬هي جوهر (‪ .7»)οὐσία‬الكلي إذن ليس‬
‫أن ما ندّعي أنّه «كلي» ال يعني أنّه كذلك في «وجوده»‪ .‬الكلي‬
‫جوهرا‪ .‬يعني ذلك ّ‬
‫ظاهرة اسمية وليست واقعة أنطولوجية‪ .‬قد يبدو هذا النقاش ترفا ميتافيزيقيا ّ‬
‫لكن‬
‫حولت‬‫وحولته إلى سياسة للحقيقة‪ .‬وذلك عندما ّ‬ ‫ّ‬ ‫المسيحية استولت عليه‬

‫‪6‬‬
‫‪- Aristotle, Metaphysics, A, 6, 986b 4-7; M, 4, 1078b 27-29 ; M, 9, 1086 2-4.‬‬
‫‪7‬‬
‫‪- Ibid. Z, 13, 1038b 35‬‬

‫[‪]7‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫«‪«( »katholon, to katholou‬الكلي» أو «العام» بالمعنى المنطقي) ومنه‬


‫«‪ »koinon‬أي «المشترك»‪ ،‬وذلك إلى «‪«( »katholikos‬الجامع» بالمعنى‬
‫الديني‪ ،‬وهو ليس بعيدا عن معنى «الجامع» اإلسالمي)‪ ،‬إالّ أنّه مصطلح لم تستعمله‬
‫الفلسفة‪ 8‬بل هو من اختراع الكنيسة منذ مجمع نيقية األول سنة ‪ 325‬القائم على‬
‫قانون العقيدة القائل «أنا أؤمن بالكنيسة الواحدة (‪ ،)unam‬المقدسة (‪،)sanctam‬‬
‫الجامعة (‪ )catholicam‬والرسولية(‪ .»)apostolicam‬لفظة «‪»katholikos‬‬
‫ب أو حسب أو على) والصفة «‪( »holos‬أي «الجمع» أو‬ ‫مر ّكب من «‪ِ ( »kata‬‬
‫«الجميع» أو «الجملة»)‪.‬‬

‫علينا أن نسأل‪ :‬متى دخل معنى «الهيمنة» في مفهوم «الكوني»؟ من الواضح ّ‬


‫أن‬
‫المصطلح المنطقي اليوناني («الكلي» ‪ )»to katholou« -‬هو الذي قصده الغزالي‬
‫صص له كتاب «معيار العلم»‪ .‬الكلي إذن ليس‬ ‫عندما تحدّث عن «المنطقيات» وخ ّ‬
‫ي‬
‫موضع نزاع ألحد وهو أساس الحقيقة في العلوم‪ .‬وهو أمر ال يمكن أن نواجهه بأ ّ‬
‫أن الكنيسة المسيحية قد‬ ‫لكن المشكل يبدأ عندما نالحظ ّ‬‫اعتراض «ديكولونيالي»‪ّ .‬‬
‫حولت «الكلي» إلى‬ ‫حولت «‪ »to katholou‬إلى « ‪ ،»katholikos‬نعني ّ‬ ‫ّ‬
‫«كلياني» أو منصب «جامع»‪ ،‬من خالل مؤسسة جديدة للحقيقة لم يعرفها الفالسفة‬ ‫ّ‬
‫اليونان هي «الكنيسة الجامعة» (‪ .)katholikê ekklêsia‬يقول إغناطيوس‬
‫األنطاكي‪ ،‬أحد آباء الكنيسة الرسوليين (‪«:)35-107‬حيثما يظهر األسقف‪ ،‬ها هنا‬
‫تكون الجماعة‪ ،‬كما أنّه حيثما يكون يسوع المسيح‪ ،‬هاهنا تكون الكنيسة الجامعة»‪.9‬‬
‫لقد ت ّم االستيالء الالهوتي على «الكلي» اليوناني وتحويله لغويًّا ودالليًّا واصطالحيًّا‬
‫منذ القرن الثاني الميالدي إلى «كوني» كنسي‪ .‬وهي صفة لكنيسة وليست صفة‬
‫لديانة‪.‬‬

‫في هذا السياق الصامت أتى المحدثون إلى مصطلح «الكوني» بوصفه منصبا يقع‬
‫في مفترق الطرق بين «الكلي» الذي في العلوم و«الكوني» الذي في الكنيسة‪ .‬كان‬
‫النزاع على أشدّه بين تأويلين للكوني‪ :‬هل هو «كلّي» علمي أم «جامع» كنسي؟ كان‬
‫الحل الذي اقترحه كانط هو تنشيط عبارة يونانية أخرى مأثورة عن الفيلسوف الكلبي‬
‫وطورها الرواقيون الحقا‪ ،‬أال وهي‬ ‫ّ‬ ‫ديوجان (‪ 421-323‬ق‪.‬م‪).‬‬
‫«‪ ،»kosmopolitês‬وهو مصطلح مر ّكب من «‪ »kosmos‬أي «العالم» ومن «‬
‫إن المعنى الذي اقترحه كانط وعصر التنوير معه هو‬ ‫‪ »politês‬أي «المواطن»‪ّ .‬‬

‫‪8‬‬
‫‪- Cf. Georges Mailhos, « De la construction de l’uiversel », in : Horizons Maghrébins- Le droit à la mémoire/‬‬
‫‪Année 2007/ 56/ p. 162.‬‬
‫‪1. Ignace d’Antioche, Lettre aux Smyrniotes, VIII, 2.‬‬

‫[‪]8‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫ّ‬
‫أن «الكوني» ال يجدر به أن يعني سوى «مواطنة العالم»‪ .‬إذ كانت إجابة ديوجان‪،‬‬
‫حين سئل «من أين أتيت؟»‪ ،‬أن قال‪« :‬أنا مواطن من العالم (‪.»)kosmopolitês‬‬
‫حق‪/‬قانون كسموبولتاني» ( ‪ius‬‬ ‫وفي سنة ‪ 1795‬اقترح كانط اختراع إرساء « ّ‬
‫‪ّ )cosmopoliticum‬‬
‫ينظم نوعا من «الضيافة الكونية» بين المحدثين‪.‬‬

‫كان ذلك أفضل ما منحتنا إياه فكرة «الجامعة» الحديثة لدينا والتي ظلّت تواصل‬
‫التقليد األوروبي في ترتيب درس الفلسفة بوصفه جنسا أدبيا البد أن ينضوي تحت‬
‫مشروع «األنوار» كما تبدّى خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر‪ّ .‬‬
‫لكن‬
‫هذا النوع من «الكوني» الميتافيزيقي واألخالقي قد انقلب فجأة منذ ‪( 1800‬مع عودة‬
‫بأن الغرب هو بتعبير إدوارد سعيد «واقعة‬ ‫انتصاب مفاجئ لفكرة تقول ّ‬
‫إمبراطورية» وليس «عصر تنوير») إلى جهاز استعماري للهيمنة على الشعوب‬
‫«غير الغربية» التي ت ّم استثناؤها من برنامج التنوير الميتازيزيقي أو األخالقي‬
‫للحداثة ومعاملتها بوصفه «موضوعا» للحداثة وليس «ذاتا» لها‪ .‬في هذا اإلطار‬
‫تحديدا كان اهتمامي بهيغل بوصفه عالمة «إمبراطورية» تسللت إلى جسم المفهوم‬
‫وتحولت إلى سردية لم تعد‬ ‫ّ‬ ‫الفلسفي ومعه فقدت الفلسفة كل براءتها التنويرية‬
‫«كونية» وإنما صارت «كونانية» (‪ )universalist‬تفرض «الكوني» وال تنتجه‪.‬‬
‫عرف الفلسفة سنة ‪ 1821‬في تصدير كتابه‬ ‫كان هيغل متّسقا مع نفسه عندما ّ‬
‫«الخطوط األساسية لفلسفة القانون» (وهو كتاب كنت قد ترجمته سنة ‪ 1989‬ولم‬
‫نتصور ما هو كائن هو مه ّمة الفلسفة‪ ،‬وذلك ّ‬
‫أن ما‬ ‫ّ‬ ‫أنشره إلى حدّ اآلن) قائال‪« :‬أن‬
‫فإن ك ّل واحد من الناس هو على كل حال‬‫هو كائن إنّما هو العقل‪ .‬وفيما يتعلق بالفرد ّ‬
‫ابن عصره؛ كذلك الفلسفة‪ ،‬فهي عصرها مدركا في الفكر» ‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫لقد وضعنا هيغل أمام وضع «عالمي» يتطلب م ّنا أن نف ّكر بشكل «عالمي»‪.‬‬
‫والمشكل هو مدى قدرتنا على أن نأخذ هيغل بجدّية‪ ،‬وال نتعامل معه كمادة مدرسية‪.‬‬
‫وهذا األمر ش ّخصه فالسفة غربيون من قبيل نيتشه وهيدغر ومرلوبنتي وباطاي‬
‫وليفناس ودريدا ودولوز وفوكو وهابرماس وبتلر‪ .‬وهنا نعثر على خيط يمكن أن‬
‫يساعدنا على تعريف «قارئ التراث» في مقابل «المتفلسف»‪ :‬هو كل كاتب يطرح‬
‫مشاكله بشكل «محلّي» معزول‪ .‬أ ّما «المتفلسف» فهو ذاك الذي أخذ هيغل بجدّية‪،‬‬
‫سس خطاب الهيمنة «الكونانية» للغرب بل هيغل الذي «فشل»‬ ‫ليس هيغل الذي أ ّ‬
‫أيضا كما أشار إلى جورج باطاي‪ّ .‬‬
‫إن «فشل» هيغل أكثر طرافة من نجاحه التأ ّملي‪.‬‬
‫ونحن نقرأ هذا الفشل بأنّه ال يرانا‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫‪- Hegel, Grundlinien der Philosophie des Rechts (1821), Verlag von Felix Meiner, Leipzig 1911, p. 15: „Das was‬‬
‫‪ist zu begreifen, ist die Aufgabe der Philosophie, denn das, was ist, ist die Vernunft. Was das Individuum betrifft,‬‬
‫“‪so ist ohnehin jedes ein Sohn seiner Zeit; so ist auch die Philosophie, ihre Zeit in Gedanken erlaßt.‬‬

‫[‪]9‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫يتحول إلى تعلّة‬


‫ّ‬ ‫وهذا العمى الميتافيزيقي تجاه «غير الغربيين» ال يجب أبدا أن‬
‫«ديكولونالية» متهافتة للخروج من براديغم «العصر» باتجاه «العصور األخرى»‬
‫أكانت عصور الهندي األحمر أو «الزنجي» اإلفريقي أو «التابع» التنموي أو الفقير‬
‫أن «المحلّي» هو مجرد خدعة سردية‬ ‫«الجنوبي» أو «اآلخر» الصليبي‪ ،‬إلخ‪ .‬وذلك ّ‬
‫أن الغرب قد هيمن‬‫وليس مفهوما‪ :‬إذا أخذنا هيغل بجدّية‪ ،‬نعني إذا أخذنا بجدّية واقعة ّ‬
‫على العالم الحالي ألنّه نجح في اختراع سردية كبرى للعصر وفرضها على قراءة‬
‫بأن «المحلّي» قد‬
‫غير الغربيين لمصادر أنفسهم بال رجعة؛ فإنّنا سوف نشعر عندئذ ّ‬
‫سرق منّا دفعة واحدة وتح ّول إلى غريب داخل بيته‪ ،‬وبات عليه أن يعيد اكتشاف‬
‫نفسه في مفردات لم يكلّم نفسه بها من قبل‪ .‬وهنا تفيدنا الفلسفة في تشخيص الحالة‪:‬‬
‫تذوت في األثناء وصار يش ّكل هويته من درجة خضوعه‬ ‫إن «المحلّي» الجنوبي قد ّ‬‫ّ‬
‫لمنوال الهيمنة اإلبستيمولوجية للشمال‪.‬‬

‫ولذلك كان السؤال الهادي في مقدمة كتابي «فلسفة النوابت» هو هكذا‪'« :‬ما العمل'‬
‫أن المحاولة المناسبة عندئذ هي أن أرسم ًّ‬
‫خطا‬ ‫في نهاية الميتافيزيقا؟»‪ .‬وقد وجدت ّ‬
‫المرئيا ومستحيال بين فاتحتين فلسفيتين أثبتهما في رأس المقدمة‪ :‬بين هيدغر (الذي‬
‫يقول سنة ‪ 1946‬ضمن «رسالة في اإلنسانو ّية»‪« :‬إ ّننا لم نتدبّر ماهية الفعل بما‬
‫يكفي من الحسم بعد») وبين ابن باجة (الذي يقول سنة ‪ 1138‬ضمن «تدبير‬
‫المتو ّحد»‪« :‬فأ ّما من وقع على رأي صادق لم يكن في تلك المدينة أو كان فيها نقيضه‬
‫هو المعتمد‪ ،‬فإنّهم يس ّمون النوابت»)‪ .‬كان المشكل الكبير إذن ‪-‬ذلك الذي يمكن أن‬
‫يدعو جيلنا إلى التفلسف وليس إلى قراءة التراث‪ -‬هو‪ :‬أن نستشكل العالقة الممكنة‬
‫بين «أزمة» الغرب حيث أخذ يعيد منذ مطلع القرن التاسع عشر كتابة تاريخه‬
‫الروحي ويتف ّحص أدواته تحت عنوان «نهاية الميتافيزيقا» وبين «استئناف» العرب‬
‫تعطل منذ ابن خلدون‪ .‬الغرب‬ ‫تحت وطأة العالقة «الكولونيالية» لعمل التفكير الذي ّ‬
‫في أزمة‪ -‬هذا واضح منذ الرومانسيين‪ -‬لكنّنا ال نملك أفقا لالستقالل عنه إالّ بالعبور‬
‫ّ‬
‫وألن اإلسالم‬ ‫الميتافيزيقي واألخالقي في أفق المشاكل التي فرضها على اإلنسانية‪.‬‬
‫يتجزأ من السردية التوحيدية التي تعدّ الحداثة الكولونيالية تتويجا معلمنا‬ ‫ّ‬ ‫جزء ال‬
‫تورط ميتافيزيقي أو أخالقي‬ ‫ي ّ‬ ‫ومعولما لها‪ ،‬فإنّه ال ّ‬
‫يحق لنا أبدا أن نعفي أنفسنا من أ ّ‬
‫ي ملجأ «ديكولونالي» خارجي‬ ‫في نفس التقليد‪ .‬وبالتالي نحن ممنوعون سلفا من أ ّ‬
‫حقًّا وهو «تباعد ميتافيزيقي» يتمتّع به مثال مف ّكرون في تقاليد أخرى مثل الفالسفة‬
‫األفارقة أو الفالسفة «األمريكيين‪-‬األصليين» أو البوذيين‪.‬‬

‫[‪]10‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫إذن المشكل هو‪ :‬كيف نبني «كونيًّا» بال إرادة هيمنة «كلّية»؟ كيف نميّز بين‬
‫«الكونية» (‪ )universality‬و«الكليّة» (‪)totality‬؟ ‪ -‬وهنا يمكننا أن نستفيد بشكل‬
‫كبير من كتابات إيمانويل ليفناس‪ .‬علينا أن نقرأ «الكوني» بوصفه «مطلقا» أو‬
‫«المتناهيا»‪ .‬ك ّل ما يشعر به شعب بشكل مطلق هو كوني‪ ،‬نسبة إلى «الكون» كما‬
‫يأتي إلى أفق البشر‪ .‬وهذا يعني أنّه نوع من «الخارجيّة» التي ال يمكن ألي طرف‬
‫التفوق على غيرها باسم‬ ‫ّ‬ ‫أن يحصرها في «هوهو» أو في «كلية» مغلقة تدّعي‬
‫«مفهوم» الكوني‪ .‬علينا أن ننظر إلى ما هو «كوني» على أنّه «كثرة بال كلّي»‬
‫(‪ )une multiplicité sans total‬كما يقول ليفناس‪ .11‬وهي كثرة ليس لها من‬
‫ي متكلّم أن يدّعي أنّه يملك «باطنيّة» ّ‬
‫تتفوق‬ ‫مح ّل سوى اللغة‪ :‬هناك حيث ال يمكن أل ّ‬
‫علينا‪ .‬ويل ّخص ليفناس هذا النوع من اللقاء مع اآلخر في استعارة «الوجه لوجه»‬
‫في الخطاب‪ ،‬حيث ال أحد يمكنه معاملة اآلخر بوصفه «موضوعا» لوعيه‪ .‬ويؤ ّكد‬
‫ي مفهوم يمكنه أن يدرك الخارجيّة»‪ 12‬التي يالقيها‪.‬‬‫أنّه «ليس ث ّمة أ ّ‬

‫‪ -‬لننتقل إلى إشكال ذي صلة بموضوع الهوية كذلك‪ :‬لقد عرضت في كتابك‬
‫«الهوية والحرية‪ :‬نحو أنوار جديدة» (جداول‪ )2011 ،‬لثنائية «الهوية»‬
‫و«الحرية»‪ ،‬و«الحيوي» و«الهووي» وبينت أن الحيوي قبل الهووي‬
‫والحرية سابقة على الهوية‪ .‬كيف تقابل هذا بما يطرحه فالسفة الهوية‬
‫من الجماعاتيين ‪-‬على اختالف مشاربهم وفلسفاتهم‪ -‬من أن حرية الفرد‬
‫(أو ربما بمصطلحاتك‪« :‬الحيوي») غير مفهومة ما لم تعاش في سياق‬
‫هوية جامعة («التقليد»‪« ،‬التراث»‪« ،‬مصادر الذات»؛ إلخ) وبعبارة‬
‫مشاغبة‪ :‬أن «الحيوي» لن يفهم دون «الهووي»؟‬

‫ينبغي التنبيه هنا إلى معضلة منهجية ترزح تحتها كل محاوالت التفكير في أفق‬
‫فهمنا الحالي ألنفسنا‪ :‬أال وهي استعمال »المصطلحات» الغربية في سياقاتنا وكأنّنا‬
‫صا‬ ‫نتكلّم عن «نفس الشيء»‪ .‬لنأخذ مثاال على ذلك مصطلح «الهوية»‪ .‬فحين نقرأ ن ًّ‬
‫غربيًّا كتبه تشارلز تايلور في كتابه «مصادر النفس» ( ‪The Sources of the‬‬
‫صا عربيًّا‪-‬إسالميًّا‬
‫‪ )Self‬عن «الطريقة الحديثة في صنع الهوية» (‪ ،13)1989‬ون ًّ‬
‫للفقيد حسن حنفي عن «الهوية» ضمن كتابه «مقدمة في علم االستغراب»‬
‫(‪ 14)1991‬عن «دعوته إلى إبداع األنا في مقابل تقليد اآلخر‪ ،‬وإمكانية تحويل اآلخر‬
‫‪11‬‬
‫‪- Emmanuel Levinas, Totalité et infini. Essai sur l’extériorité (Paris : Le Livre de Poche, 1990), p. 327.‬‬
‫‪12‬‬
‫‪- Ibid. p. 329.‬‬
‫‪13‬‬
‫‪- Charles Taylor, Sources of the Self: The Making of the Modern Identity (Cambridge: Harvard University‬‬
‫‪Press, 1989).‬‬
‫‪ - 14‬حسن حنفي‪ ،‬مقدمة في علم االستغراب (القاهرة‪ :‬الدار الفنية للنشر والتوزيع‪.)1991 ،‬‬

‫[‪]11‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫إلى موضوع للعلم بدال من أن يكون مصدرا للعلم»‪ ،‬وهو موقف يج ّمعه تحت‬
‫مصطلح «االستغراب» بوصفه الشكل الوحيد لمقاومة «التغريب»‪ ،15‬أي وضعية‬
‫تحول األنا إلى آخر»‪ -17‬إذا قرأنا هذين‬
‫من «ال هوية له»‪ 16‬حيث نالحظ «كيف ّ‬
‫صة تفكير واحدة سوف نكتشف أنّنا ال نتحدّث عن «نفس الشيء»‪:‬‬ ‫صين على من ّ‬ ‫الن ّ‬
‫نؤرخ للهوية األوروبية بوصفها «تاريخ نفسها»‪ ،‬وهو‬ ‫إن مشكلة تايلور هي كيف ّ‬ ‫ّ‬
‫تكون وظهور معنى «الباطنيّة» المميّزة للذات (التي تجري حسب‬ ‫تاريخ يجري عبر ّ‬
‫تأويله من أفالطون وأغسطينوس إلى المحدثين مثل مونتانيي وديكارت ولوك)‪ ،‬ث ّم‬
‫عبر دعوة اإلصالح البروتستانتي إلى إقرار القيمة «اإلتيقية» لدائرة «الحياة‬
‫العادية» المر ّكزة على العائلة والعمل‪ ،‬ث ّم عبر اكتشاف المحدثين منذ القرن السابع‬
‫عشر لما س ّمي «صوت الطبيعة» الثاوي في صلب «الوعي»‪ ،‬ومن ث ّم بناء الصورة‬
‫الموجبة لتاريخ الوعي بوصفه «تقدّما أخالقيا»‪.‬‬

‫أ ّما في حالة حسن حنفي فنحن نجد محاولة لالستغراب في مواجهة التغريب‪ :‬إنّه‬
‫جردنا من هويتها األصيلة وعلينا أن نواجهه‪،‬‬
‫يقدّم تاريخا لآلخر بوصفه خصما ّ‬
‫نحوله إلى «موضوع» للعلم بدل أن يكون «مصدرا» للعلم‪ .‬نحن ال نعثر‬ ‫وذلك بأن ّ‬
‫ي «تذويت» ألنفسنا هنا بل على عمليّة «موضعة» للغرب بوصفه «آخر»‪.‬‬ ‫على أ ّ‬
‫تعرف على الطريق إلى «إبداع األنا»‬‫ي ّ‬‫وهو يعتبر هذا اإلجراء شرط إمكان أ ّ‬
‫الخاص بنا‪ .‬كان تايلور يف ّكر «بال آخر» أ ّما حنفي فهو «يستغرب» (يدرس الغرب)‬
‫«بال أنا»‪.‬‬

‫لو أعدنا اآلن صياغة المشكلة التي ته ّمني‪« :‬الحرية قبل الهوية»‪ .‬وفحصنا‬
‫بأن «الحيوي لن يفهم دون الهووي»‪ .‬لنالحظ ّأوال‬ ‫االعتراض «الجماعوي» القائل ّ‬
‫أن مفردات السؤال قد تغيّرت‪« .‬قبل» الهوية ال تعني «دون» الهوية‪ .‬ال يتعلّق األمر‬
‫ّ‬
‫بقرار عدمي للتغريب (القضاء على الهوية أو االستغناء عنها) بل بترتيب منهجي‬
‫لألولويات‪ ،‬أي بتقويم لما س ّماه كانط ذات مرة «مصلحة العقل» وليس «إدراك‬
‫إن «الحرية» هي مفهومة هنا في معنى‬ ‫يتصور الفقهاء‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫المصالح بالعقل» كما‬
‫«شكل الحياة» المنشودة من قِبل جيل من الناس‪ ،‬الحياة التي تكون حسب تعبير‬
‫جوديث بتلر «قابلة للحياة» وليس عبأ أخالقيا على أجسادهم‪ .‬ما تفترضه الفلسفة‬
‫هنا هو أنّه ال شيء يسبق الحياة‪ :‬في البدء كانت الحياة ثم جاءت المؤسسة البشرية‬
‫من أجل تنظيم النسل وتحديد الهوية ورسم مساحة العقل وضبط جملة مقوالت‬
‫وألن الحرية هي شكل الحياة فإنّه ال يحق ألحد أن ّ‬
‫يشرع لنا هويتنا قبل‬ ‫ّ‬ ‫أرسطو‪.‬‬
‫‪ - 15‬نفسه‪ ،‬ص ‪22‬‬
‫‪ - 16‬نفسه‪ ،‬ص ‪23‬‬
‫‪ - 17‬نفسه‪ ،‬ص ‪25‬‬

‫[‪]12‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫أجسادنا‪ ،‬نعني قبل تش ّكل حياتنا التي نحياها بكل جدارة أنطولوجية‪ .‬كل ما أتى بعد‬
‫ّ‬
‫مشتق وليس أصليًّا‪ .‬وحدها الحياة تأتي بال هدف جاهز‪.‬‬ ‫أجسادنا هو جهاز هووي‬
‫وهذا هو المعنى البريء للحرية‪ :‬إنّها حرية البراءة أو ال تكون‪ .‬الحرية بوصفها‬
‫نوعا من البراءة التي ال تقبل التفاوض مع أحد‪ ،‬مهما كان دوره الهووي‪.‬‬

‫أن «الجماعاتيين» الغربيين هم «مثقّفون» ينطلقون من «موقع» هووي‬ ‫هنا نتبيّن ّ‬


‫جاهز هو موقع «الجماعات» أو «األقليات» التي تعاني من اختزالها في «عنصر»‬
‫تمييزي مخجل أو قاهر من قبيل «الطائفة» أو «العرق» أو «اللون» أو «الجنس»‬
‫أو «الجندر» أو «الجنسانية» أو «اللغة» أو «الثقافة» أو «الهجرة» أو «الحدود»‬
‫‪ ...‬إلخ‪ .‬نحن لسنا «جماعاتيين» أو «أقليّين» كما هو حال الهنود الحمر أو السود أو‬
‫المثليين أو األجانب ‪ ...‬بل نحن نعاني من نزعة «جماعويّة» مرعبة تخيّم على‬
‫التحول‬
‫ّ‬ ‫«فرديّتنا»‪ :‬نحن نجد أنفسنا غارقين في أتون «جماعة كبرى» ال تزال تمانع‬
‫مدونة «كونية» لحقوق‬ ‫الحديث إلى «مجتمع مدني» يدّعي إمكانية تأسيسه على ّ‬
‫اإلنسان والمواطن‪ .‬نحن ال زلنا جماعة روحية عمالقة تتوفر على روافد هووية‬
‫عمالقة ألنّها نجحت في فرض مماهاة مثيرة بين «الجماعوي» وبين «المقدّس»‪،‬‬
‫بحيث أنّه ت ّم تعديل مفهوم «الهوية» (الجماعاتي) بحيث ينقلب إلى سياسات‬
‫«جماعوية» تقوم على عملية دمج مرعبة بين الهوية والجماعة الكبرى‪ ،‬ث ّم بين‬
‫الهوية والسياسة‪ ،‬ث ّم بين الهوية والدين‪ ،‬وربما بين الهوية وهللا‪ ،‬إلخ ‪ ...‬وهكذا ت ّم‬
‫تجنيد «الهوية» من أجل مراقبة حدود «الجماعة الكبرى» وعدم التردد في‬
‫استعمالها العنيف بوصفه جهاز تكفير أو تخوين ‪ ...‬قد تشرف عليه الدول بنفسها‪.‬‬

‫بأن حريته غير قابلة للعيش من دون هوية‪ .‬هي‬ ‫وحدها جماعة مرعبة تقنع «الفرد» ّ‬
‫تكون قد سرقت منه أفق المعنى المتاح له في جسده وفي عصره‪ ،‬ووضعت مكانه‬
‫إن أخطر ما تقوم به الجماعة‬‫نطاقا هوويًّا مراقبا ومنقّى من كل عناصر االعتراض‪ّ .‬‬
‫الكبرى أو ما يس ّمى «األمة» هو «تشييء» الهوية بحيث يمكنها احتكار ملكيتها أو‬
‫التكلّم باسمها‪ .‬وهي ال تفعل ذلك ألسباب واهية بل ألسباب أنطولوجية خطيرة جدّا‪،‬‬
‫أال وهي معاملة «الكينونة» نفسها‪ ،‬وبالتالي معاملة «المقدسات» و«الحقيقة»‬
‫لكن الهوية ليست «شيئا» بل‬‫و«األلوهة» نفسها بوصفها «شيئا» تملكه سلطة ما‪ّ .‬‬
‫تلك القدرة على تش ّكل «الذات» وهي تخوض صراعا مع نوع معيّن من «التشيّؤ»‪،‬‬
‫قد يكون تشيّؤ المعرفة أو تشيّؤ السلطة أو تشيّؤ الدين أو تشيّؤ الجنس‪ ،‬إلخ‪ .‬ولذلك‬
‫ليس من البديهي أن يكون أحدهم «ذاتا»‪ .‬بل عليه أن يصير كذلك بقدر استعداده‬
‫إن شكل حياتك ليس معطى من أحد‪ ،‬بل هو ما تبنيه‬ ‫لتجريب هذا المستحيل الصغير‪ّ :‬‬
‫صتك التي لن تكتبها أبدا إالّ عرضا‪ .‬وهذا يعني ّ‬
‫أن الفرد نفسه ال‬ ‫بنفسك داخل ق ّ‬

‫[‪]13‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫يسيطر على هويته أو على «من» سيكون‪ .‬وهكذا ّ‬


‫فإن ما يمكن للفلسفة أن تساعد‬
‫على ارتسامه هو حرية الحياة‪ ،‬وليس فقط الدفاع عن جدار هووي ليس لك إالّ ّ‬
‫ألن‬
‫قررت ذلك منذ مئات السنين‪ .‬حرية الحياة هي حق الناس في أن‬
‫الجماعة الكبرى قد ّ‬
‫ي إكراه هووي‪ ،‬قد يأتي من الدين أو من الدولة أو من‬
‫يختاروا أنفسهم بعيدا عن أ ّ‬
‫الجندر‪ ،‬إلخ؛ نعني من «اآلخر» بعامة‪ .‬ولذلك ّ‬
‫فإن الرهان الحقيقي هو العودة إلى‬
‫«اإلنسان» نعني عودة الناس إلى أجسادهم وإلى قصصهم الخاصة بوصفها «ثروة‬
‫أخالقية» ال يمكن ألي جهة أن تسرقها منهم باسم مؤسسة «جماعوية» ال تراهم‪.‬‬

‫‪ّ -‬‬
‫إن استقبال العلمانية لدينا يبدو غريبًا إن قلبنا النظر في األمر‪ .‬فالعلمانية‬
‫عادةً ما ترى بوصفها ضر ًبا من الهوية وااللتزام السياسي االجتماعي‪،‬‬
‫حيث يوضع «المتدين» أو «اإلسالمي» إزاء «العلماني» دون وجود أي‬
‫مماثال ‪ً -‬‬
‫مثال‪ -‬في‬ ‫ً‬ ‫أطر جامعة بينهما‪ .‬بينما ال يبدو استعمال المصطلح‬
‫الغرب؛ حيث معارضة «المتدين» لغيره ال تأتي في سياق أسس تنظيم‬
‫الدولة الحديثة أو «شكل السلطة وتداولها» أو «المواطنة» أو بعض‬
‫أمورا من قبيل القرارات‬‫ً‬ ‫المسلمات االجتماعية الضمنية؛ وإنما تطال‬
‫السياسية التفصيلية؛ وفي لبها‪ ،‬هي اختالف حول «الخيرات» األصلح‬
‫للـ«مواطن»‪ .‬إذ يبدو لي األمر وكأننا نستعمل الكلمة «خطأ تصنيفيًا»‬
‫(‪ .)Category mistake‬هل تتفق مع هذا التوصيف؟ وبم نفهم هذا‬
‫االختالف بين «العلمانيتين»؟‬

‫هذا توصيف مقبول‪ .‬طالما ّ‬


‫أن مه ّمة الفلسفة هي التمييز بين «المقوالت»‪.‬‬

‫يقول رايل في مقالة نشرها سنة ‪ 1938‬تحت عنوان «مقوالت»‪« :‬نحن نكون في‬
‫ظلمة فيما يتعلق بطبيعة المشاكل والمناهج الفلسفية إذا كنّا في ظلمة حول األصناف‬
‫أو المقوالت»‪.18‬‬

‫المشكل هو استعمال بعض المصطلحات دون أن نتبيّن أنّها تنتمي إلى «صنف»‬
‫دون آخر أو تقع تحت «مقولة» دون أخرى‪ .‬وهو ما أطلق عليه رايل في الفصل‬
‫األول من كتابه «مفهوم الذهن» (‪ ،)1949‬والذي عنوانه «أسطورة ديكارت»‪،‬‬
‫‪19‬‬
‫اسم «الخطأ في المقولة» أو «الخطأ التصنيفي»‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪- G. Ryle, “Categories”, in: Proceedings of the Aristotelian Society, New Series, Vol. 38 (1937 - 1938), pp. 189.‬‬
‫‪19‬‬
‫‪- G. Ryle, The Concept of Mind (London: Hutchinson University Library, 1949), p. 16.‬‬

‫[‪]14‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫تبدو مه ّمة الفلسفة هنا قائمة على التمييز بين «الفئات» أو «المقوالت» التي تندرج‬
‫تحتها «المفاهيم» التي نستعملها‪ .‬نحن ال نأتي إلى األلفاظ في معانيها النحوية بل في‬
‫داللتها «المقولية»‪ ،‬أي تلك التي تستمدّها من نوع من التصنيف على مستوى القضايا‬
‫أو الخطاب‪.‬‬

‫عرف الذهن في ضوء النموذج الميكانيكي الذي‬


‫وكان خطأ ديكارت هو كونه قد ّ‬
‫صار هو مقياس المعرفة العلمية في عصره‪ .‬فصار الذهن نوعا من «الشبح داخل‬
‫اآللة»‪ :‬إنّه ليس آلة في الجسم لكنّه آلة‪.‬‬

‫لو طبّقنا هذا «الخطأ التصنيفي» على العلمانية لوصلنا إلى نتيجة مشابهة‪ :‬هي لدينا‬
‫ي بين «مواطن» الدولة القانونية و«مؤمن» الدين‬ ‫تحولت إلى نزاع هوو ّ‬ ‫ّ‬ ‫قد‬
‫أن الغرب قد شهد «عصرا علمانيا» حسب تعبير تايلور‪ ،‬يدور‬ ‫الجماعوي‪ .‬والحال ّ‬
‫فيه نقاش عمومي بين «مواطنين»‪ ،‬بعضهم «متديّن» وبعضهم «غير متديّن»‪ ،‬وهذا‬
‫مجرد نزاع في «الترجمة»‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يعني حسب توصيف هابرماس ّ‬
‫أن النزاع السياسي هو‬
‫ترجمة «المضامين الدينية» في لغة القانون الحديث وترجمة «المصطلحات‬
‫تمس المنزلة الدستورية‬
‫ّ‬ ‫لكن هذه الترجمة ال‬‫القانونية» في لغة التعبير الديني‪ّ .‬‬
‫والمدنية لصفة «المواطن»‪.‬‬

‫إن تكلّم معجم الدولة الحديثة هو الذي‬ ‫ولكن هل »نحن» مواطنون؟ أم «رعايا»؟ ّ‬
‫سمح لنا «سهوا» أن نعتبر أنفسنا «أفرادا» و«أشخاصا» و«مواطنين»‪ .‬ولكن هل‬
‫نحن كذلك فعال لو فحصنا األمر فحصا دقيقا‪ ،‬نعني نضع في االعتبار «واقعة»‬
‫اإلنسان كما نعيشها‪ ،‬وليس كما تحدّثنا عنها الدولة؛ أعني دولة «األمر الواقع»‪ ،‬أي‬
‫الدولة من جهة ما هي سلطة دنيوية ويومية دون أي تعليق أخالقي آخر‪ .‬هناك عنف‬
‫سسها «قانونيًّا»‬ ‫صب صفة «المواطن» في س ّجالتنا اإلدارية وأ ّ‬ ‫تأويلي هو الذي ن ّ‬
‫مجرد تنصيبات‬ ‫ّ‬ ‫باعتبارها قائمة بداهة على «الهوية» أو «الجنسية» التي هي أيضا‬
‫إدارية فرضها منطق الدولة الحديثة ولم يت ّم بناؤها واالشتغال عليها فعليًّا‪ .‬ال تزال‬
‫هذه المفاهيم تعطى في شكل «منح» هووية لنوع من المحكومين الذين ت ّم تجميعهم‬
‫تحت عنوان قانوني من اختراع المحدثين منذ هوبس يحمل اسم «الشعب»‪ .‬وكان‬
‫ذلك عنوانا رسميًّا ت ّم وضعه مكان عنوان سابق هو «جمهور المؤمنين» في نطاق‬
‫دولة «الملة»‪.‬‬

‫لو نظرنا اآلن من زاوية النقاش بين «العلمانيين» و«الدينيين» لوجدنا أنّه من حيث‬
‫بتطور‬
‫ّ‬ ‫المصطلح نقاش مستورد‪ .‬وهذا يعني أنّه ظاهرة محلّية وريفية خاصة‬

‫[‪]15‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫المجتمع األوروبي المسيحي تحديدا‪ .‬وهو مجتمع كان مهيّأ من حيث بنيته المتنازع‬
‫عليها بين «الزمني» و«الروحاني» أو بين مؤسسة «الكنيسة» ومؤسسة «الحكم»‬
‫المكرس ثقافيا وقانونيا وأخالقيا بين منطقة‬
‫ّ‬ ‫الهوة أو االنفصال‬
‫لرصد تلك المسافة أو ّ‬
‫متسرع على أنّها تعني «الدين») ومنطقة‬ ‫ّ‬ ‫«‪( »religio‬التي نترجمها بشكل‬
‫«‪«( »status rei publicae‬حالة الشأن العام» أي «شكل الحكم»)‪ .‬وعلى الرغم‬
‫من ظهور الدولة الحديثة بعد معاهدة واستفاليا سنة ‪ 1648‬فهي لم تغيّر كثيرا من‬
‫نظمته بتكريس مبدأ «‪«( »cujus regio, ejus religio‬مثل‬ ‫جوهر النزاع بل ّ‬
‫األمير‪ ،‬مثل الدين»‪ ،‬أي «كما يكون األمير‪ ،‬يكون الدين»)‪ :‬لقد استولت الدولة‬
‫الحديثة على منطقة الدين وصارت مؤسسة من مؤسساتها‪ ،‬وذلك باعتبار ّ‬
‫أن ذلك‬
‫هو المخرج الوحيد المتاح من عصر «حرب األديان» في أوروبا‪.‬‬

‫أن نقاش «المثقفين» حول العلمانية هو موقف متأ ّخر‪ ،‬وهو مفعول خطابي‬ ‫ذلك يعني ّ‬
‫فإن التحاق «المسلمين» بالنقاش هو نفسه ظاهرة‬ ‫لنزاع سياسي سابق بقرون‪ .‬ولذلك ّ‬
‫مجرد تمديد إبستيمولوجي لنقاش كولونيالي ال‬
‫ّ‬ ‫يجب دراستها‪ .‬مثال‪ :‬قد يكون النقاش‬
‫نملك رهانه الداخلي‪ .‬وت ّم استيراده وفرضه على عقولنا كما ت ّم فرض كل‬
‫أن الملة اإلسالمية لم تعرف ذلك الفصل‬ ‫«إبستيمولوجيا الشمال»‪ .‬لكن المربك هو ّ‬
‫أن الدفاع عن‬‫البنيوي والمؤسساتي المشار إليه بين الكنيسة وشكل الحكم‪ ،‬ومن ث ّم ّ‬
‫العلمانية أو نقدها هو نقاش ريفي ومحلي خاص باألوروبيين‪ ،‬قد يكون ملهاة تاريخية‬
‫عن لبّ اإلشكال السياسي الذي لدينا‪ :‬نحن نعاني من نوع آخر أو معاكس من سياسة‬
‫الحقيقة‪ .‬فحيثما كانت المسيحية ترسم جدار الفصل بين الروحي والزمني‪ ،‬وبالتالي‬
‫تجزء ماهية السيادة وتقتطع منها جزءا تطالبه باالعتراف به‬ ‫تحرج الحاكم ألنّها ّ‬
‫بوصفه منطقة تقع «خارج» سلطته‪ ،‬وهو ما أدّى به بعد قرون طويلة إلى االستيالء‬
‫«القانوني» عليه ومأسسته باسم «العصر العلماني»؛ فإ ّن اإلسالم لم يكن‬
‫«‪ »religio‬بالمعنى المسيحي بل هو «دين» بالمعنى العربي‪ :‬أي شكل من‬
‫ي فاصل بين الروحي والزمني بل يقع‬ ‫«الطاعة» االستخالفية المطلقة حيث يغيب أ ّ‬
‫«تسييس» كل مساحة الفعل البشري ليس فقط في حدود «الحياة» بل في العالقة‬
‫ي «علمنة إسالمية» فهي تناقض في األلفاظ‪.‬‬ ‫«بالموت» أيضا‪ .‬ومن ث ّم ال معنى أل ّ‬
‫أ ّما الجدال بين العلمانيين العرب واإلسالميين فهو نزاع خارجي وشبه كولونيالي‬
‫ألنّه ناتج عن وضع اضطراري‪ ،‬وليس له سوى فائدة «دفاعية» أو «تفاوضية»‬
‫أن االحتجاج بمكاسب العلمانية‬‫لتحسين شروط الحرية في فضاءاتنا العمومية‪ .‬ذلك ّ‬
‫الغربية ضد تخلّف حجج اإلسالميين حول الحياة المشتركة هو نصر كولونيالي‬
‫عليهم‪ ،‬وليس استشكاال أصيال للمشكل السياسي لدينا‪ .‬هو تكريس م ّجاني‬

‫[‪]16‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫إلبستيمولوجيا الشمال دون مساعدة حقيقية لنمط تفكيرنا على تحرير نفسه من‬
‫الداخل‪.‬‬

‫بدال من النقاش حول العلمانية كان يجدر بنا‪ ،‬مثال‪ ،‬أن نجذّر أسئلتنا حول‬
‫«االستخالف»‪ :‬لماذا ت ّم تنصيب فكرة االستخالف بوصفها ماهية السلطة في أفق‬
‫أن ثالثية األب‪/‬الملك‪/‬اإلله (الواحد) ال تزال صالحة‬‫المؤمنين باإلله الواحد؟ وهل ّ‬
‫تصور للحرية على األرض؟ لماذا ال يزال رهط من الناس في هذا القسط‬ ‫ّ‬ ‫لبلورة‬
‫األول من القرن ‪« 21‬ينجح» في استدعاء آلة االستخالف وفي تنصيبها مثل شاشة‬
‫شة وعدم التردّد في مطالبة ماليين المسلمين باالستجابة‬ ‫مرعبة في أفق حياتنا اله ّ‬
‫إلى دعواه كأنّه يملك تفويضا إلهيًّا في الغرض؟ لماذا نواصل تحاشي هذا الصدام‬
‫ونعوضه بانتصارات علمانية وهميّة عليها من خارج أفقها؟ يبدو‬‫ّ‬ ‫مع مصادر أنفسنا؟‬
‫أن كل سجال علماني في أفقنا هو تأجيل لألسئلة الجذرية حول سياسة الحقيقة التي‬ ‫ّ‬
‫تحكمنا جميعا واالستعاضة عنها بمرافقة سياحيّة ما بعد‪-‬كولونيالية للنقاش الغربي‬
‫حول تاريخه الخاص بعد استيراده وتطبيقه في شكل من التنوير العنيف‪.‬‬

‫ما يجب أن ندافع عنه هو «المواطنة» بوصفها صفة تقع ما وراء النزاع بين‬
‫العلمانيين والدينيين‪ .‬المواطنة ليست عقيدة تعادي عقيدة مضادة هي الدين‪ .‬الدين لم‬
‫يعد أفقا للنقاش حول أنفسنا الجديدة إالّ من جهة سياسات الذاكرة أو سرديات الهوية‬
‫تصورات الخير‪ .‬هذا ما يمكن أن نستفيده من الفلسفات‬ ‫ّ‬ ‫أو نماذج العيش أو‬
‫لكن المواطنة‪ ،‬أي النقاش العمومي حول «حرية» الفرد أو حول‬ ‫الجماعاتية‪ّ .‬‬
‫«العدل» في «المجتمع المدني» وليس «المجتمع‪-‬الجماعة» ‪-‬الذي يحتفظ بقدر هائل‬
‫من قيم الملة ويحضنها حتى بعد موتها التاريخي‪ -‬فهي مشكل غير هووي وغير‬
‫سردي وال يمكن أن يحسم بالتعويل المخاتل على سياسات الذاكرة أو سرديات الهوية‬
‫تصورات الخير‪ .‬المواطنة هي االستعمال الحر لمساحة المشترك‬ ‫ّ‬ ‫أو نماذج العيش أو‬
‫بين األجساد‪-‬األفراد المتساوين أخالقيا وقانونيا‪.‬‬

‫‪ -‬يبدو أن كتابك األخير «اإليمان الحر أو ما بعد الملة» (مؤمنون بال حدود‪،‬‬
‫‪ )2019‬كان إجابة طويلة عن سؤال عالقة الهوية بالدين؛ حيث ميزت بين‬
‫«اإليمان الحر» و «حرية المعتقد»‪ .‬بم يختلف األول عن الثاني؟‬

‫ي‬
‫حر‪ ،‬دون أي إمالء الهوتي محصور للمعتقد‪ ،‬ودون أ ّ‬ ‫الفرق بين أن تؤمن بشكل ّ‬
‫حصر مسبق لما يمكن للناس أن يؤمنوا به من عند أنفسهم‪ ،‬وبين أن تدع المؤمنين‬
‫«اآلخرين» والمختلفين يمارسون «حقّهم» في ما يؤمنون به دون أ ّ‬
‫ي إكراه‪ ،‬باسم‬

‫[‪]17‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫الحر يخلق ما يؤمن به‬‫ّ‬ ‫«حرية الضمير»؛ هما مشكالن مختلفان تماما‪ .‬المؤمن‬
‫ويختار نفسه‪ ،‬وبهذا المعنى هو يخترع عالقته بتراثه الخاص أو بمصادر نفسه‬
‫العميقة‪ .‬ولذلك هو في خصومة حادّة مع ك ّل توريث للمعتقدات ّ‬
‫ألن ك ّل معتقد ّ‬
‫تحول‬
‫إلى «مؤسسة» دينية هو ينتهي إلى تكفير «اآلخرين» أو محاكمتهم أو نفيهم أو‬
‫المتصوفة هم بمعنى ما مؤمنون أحرار وذلك أنّهم‬
‫ّ‬ ‫البراء منهم‪ .‬وفي تقديري ّ‬
‫أن‬
‫الحر ليس مؤمنا تقليديا وال مؤمنا‬
‫ّ‬ ‫ليسوا «مؤمنين نظاميين» إالّ عرضا‪ .‬المؤمن‬
‫حر» لخطاب فقدنا الصلة بأفقه‬‫رسميًّا وال متديّنا بالمعنى التقني‪ .‬بل هو «مستمع ّ‬
‫مكرس باسم نوع معيّن من‬ ‫نص» (بالمعنى الحديث) ّ‬ ‫تحول إلى « ّ‬‫األصلي بعد أن ّ‬
‫السلطة‪ ،‬أكانت سلطة «الفرقة» أو «الطائفة» أو «الخالفة» أو «الدولة»‪ .‬المؤمن‬
‫الحر يقع «خارجا» بكل قصد ألنّه صار «فردا» بال رجعة ولم يعد «عضوا» في‬ ‫ّ‬
‫أي «جماعة» أكانت سياسية أم تأويلية‪.‬‬

‫ي مؤسسة دينية‪ ،‬لكنّها ّ‬


‫تعطل ك ّل «طاعة»‬ ‫وهذه «الخارجية» ليست عداء هوويّا أل ّ‬
‫بالمعنى الالهوتي‪ .‬وعندما نالحظ األجيال الجديدة‪ ،‬لدينا وحتى في الغرب‪ ،‬نشعر‬
‫مرت‪ ،‬دون استشارة أحد ودون ضجة كبيرة‪ ،‬إلى تجربة‬ ‫ّ‬
‫أن األغلبية الساحقة منها قد ّ‬
‫مكرس‪ .‬لكنّه إيمان يمتلك‬‫ي محتوى الهوتي ّ‬ ‫«اإليمان الحر» المفرغ تماما من أ ّ‬
‫الحر إلى‬
‫ّ‬ ‫أصالته الخاصة القائمة في جزء واسع منها على «المحبة»‪ :‬محبة االنتماء‬
‫ألن المحبّ يخترع ما‬‫نوع من مصادر الذات‪ .‬هي إذن محبّة بال موضوع جاهز‪ّ ،‬‬
‫يحبّه في كل مرة‪ .‬وهذا هو المعنى األصلي لما يس ّمى «عبادة»‪ :‬هي نوع خاص من‬
‫أن ترك األجيال الجديدة تختار طريقتها الخاصة في محبّة‬ ‫المحبّة‪ .‬وأنا أفترض ّ‬
‫وتقرر‬
‫ّ‬ ‫مصادر أنفسنا هو الفرصة الوحيدة المناسبة كي ال تشعر باالختناق الهووي‬
‫«الرحيل» الميتافيزيقي بال رجعة‪ .‬لم يعد يمكن فرض الطاعة الدينية على أحد‪،‬‬
‫ألن شكل الحكم‪ ،‬حكم البشر بعامة‪ ،‬قد تغيّر بال رجعة‪ .‬حتى الطبيعة‪ ،‬بعد‬‫وذلك فقط ّ‬
‫أزمة المناخ‪ ،‬لم تعد تقبل أن يحكمها البشر‪ ،‬نعني «أن يس ّخروها» كما تقول سردية‬
‫الملة لدينا‪ ،‬كما فعلوا طيلة عصور «االستخالف» التي سنّها اإلله الواحد‪.‬‬

‫أ ّما «حرية المعتقد» فهي شيء آخر‪ :‬هي مكسب حقوقي لنوع من المعجم السياسي‬
‫سس نفسه على فرضية «القانون الطبيعي»‪ ،‬وهو بذلك مرتبط في داللته‬ ‫الذي أ ّ‬
‫وحولته إلى‬
‫ّ‬ ‫بوجود الدولة الليبرالية الحديثة‪ ،‬تلك التي استولت على منطقة الدين‬
‫إحدى مؤسساتها الرسمية‪ .‬وتعني حرية المعتقد أو حرية الضمير «حق» كل‬
‫«شخص» أو كل «فرد» في اعتناق نوع من المعتقدات التي «يريد» اعتناقها‬
‫وممارستها بكل حرية‪ .‬بيد أنّه من دون إقرار مقولة «الفرد» ّ‬
‫فإن الحديث في دساتير‬
‫الدولة الحديثة عن «حرية المعتقد» هو تنويع أسلوبي فقط‪ .‬وهو ما تفعله أغلب الدول‬

‫[‪]18‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫أن لبّ المشكل ال يكمن في المعتقد نفسه بل في الحرية‪.‬‬ ‫حتى الغربية منها‪ .‬وذلك ّ‬
‫تعني «الحرية» هنا احتفاظ الفرد بحقّه في اختيار ما يؤمن به أو تغييره أو عدم‬
‫لكن ذلك سرعان ما يصطدم بسلطة الدولة نفسها‪ ،‬تلك الدولة التي كانت‬ ‫اإليمان به‪ّ .‬‬
‫قد احتفظت لنفسها بعالقة مميّزة مع هذا المعتقد أو ذاك‪ .‬ومن ناحية فلسفية يوجد‬
‫أن «اإلنسان» مفهوم لم يظهر‬ ‫إشكال في مفهوم «حرية المعتقد» في حالتين‪ :‬إ ّما ّ‬
‫بعد‪ ،‬نعني لم يت ّم تكريسه بوصفه هو األساس الوجودي الوحيد والكوني لما نسميه‬
‫مجرد «أثر» إلرادة إلهية تمتلك «حقوقا متعالية» يجب‬ ‫ّ‬ ‫«طبيعة بشرية»‪ ،‬وليس‬
‫أن «الحرية» التي يطالب بها مؤمن ما سوف تهدّد الجهاز‬ ‫تقديسها بإطالق؛ وإ ّما ّ‬
‫الروحي الذي أقامت عليها الدولة القائمة شرعيتها‪.‬‬

‫ألن «اإلنسان» الذي‬ ‫أن حرية المعتقد غير ممكنة ّ‬ ‫ومن ث ّم نحن أمام مشكلين‪ :‬إ ّما ّ‬
‫فإن حقّه مؤ ّجل إلى جيل آخر؛ وإ ّما أنّها‬
‫نتحدث عنه لم يصبح «فردا» بعد‪ ،‬وبالتالي ّ‬
‫حرية ممنوعة ألنّها حرية خطيرة تغيّر العالقة بالمعتقد وبالتالي تضع شرعية الدولة‬
‫موضع تهديد‪ .‬الحالة األولى هي الحالة السائدة في مجتمعاتنا العربية واإلسالمية؛‬
‫أ ّما الحالة الثانية فيمكن أن توجد حتى في الدول الغربية‪ .‬ولو ألقينا نظرة سريعة‬
‫على الفقرة ‪ 18‬من «اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان» الذي صيغ سنة ‪،1948‬‬
‫باإلنجليزية‪ ،‬لوجدناه يقول‪:‬‬

‫ي واحد (‪ )everyone‬الحق في حرية التفكير والضمير‬ ‫«لكل أو أل ّ‬


‫(‪ )conscience‬والدين؛ وهذا الحق يتض ّمن الحرية في تغيير دينه أو معتقده‪،‬‬
‫والحريّة‪ ،‬إ ّما بمفرده أو باشتراك مع آخرين وبشكل عمومي أو خاص( ‪in public‬‬
‫‪ ،)or private‬في إظهار دينه أو معتقده في التعليم والممارسة والعبادة وإقامة‬
‫الشعائر»‪.‬‬

‫لو قرأنا الترجمة العربية التي تعتمدها‪ ،‬مثال‪« ،‬مفوضية األمم المتحدة السامية‬
‫لحقوق اإلنسان» ضمن «المعاهدات الدولية األساسية لحقوق اإلنسان" بالعربية‪-،20‬‬
‫لالحظنا التحويرات التالية‪:‬‬

‫أ‪« -‬كل واحد» من الناس صارت «لكل شخص»‪ :‬وعلينا أن نسأل‪ :‬ماذا لو ّ‬
‫أن مقولة‬
‫تطورا أخالقيا خاصا بنوع من‬ ‫ّ‬ ‫«الشخص» ليست مقصودة هنا ألنّها تفترض‬
‫تمت ترجمة مصطلح «‪ »conscience‬بعبارة «الوجدان» ( يقال‬ ‫ّ‬ ‫الثقافات؟ ب‪-‬‬

‫‪ - 20‬مفوضية األمم المتحدة السامية لحقوق اإلنسان‪ ،‬المعاهدات الدولية األساسية لحقوق اإلنسان ( نيويورك وجنيف‪ :‬األمم المتحدة‪،)2006 ،‬‬
‫ص ‪.5‬‬

‫[‪]19‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫اطنِيَّة‪ ،‬وما يتأثَّر بِ ِه ِمن لذَّة أو ألم»)؛‬


‫بالعربية‪ِ « :‬وجدانُ المر ِء ‪ :‬نفسه وقواه الب ِ‬
‫أن ما تشير إليه االنجليزية هو المصطلح المسيحي الذي صرنا نشير إليه‬ ‫والحال ّ‬
‫مكرس في الثقافة الغربية وال معنى له خارج‬ ‫بعبارة «الضمير» الخلقي‪ ،‬وهو مفهوم ّ‬
‫تلك الثقافة‪ .‬ج‪ -‬ت ّمت ترجمة التمييز بين «الفضاء العمومي» و«الحياة الخاصة»‬
‫بعبارة «أمام المأل أو على حدة»‪ .‬وهو ما يطرح مشكال تأويليا خطيرا‪ّ :‬‬
‫ألن الفرق‬
‫هنا حادّ بين معجم الملة (حيث يتم التفريق بين ما يقال على «المأل» وما يقال «على‬
‫حدة») وبين معجم الدولة الليبرالية الحديثة (التي تميّز بين «العمومي» الذي تسنّه‬
‫القوانين العامة لسلوك المواطنين جميعا و«الخاص» المتعلق بالحياة الخاصة‬
‫«للفرد» في بيته أو فضائه الخاص)‪.‬‬

‫كل هذه المالحظات السريعة تجعلنا نتش ّكك في قدرة ثقافتنا على فهم ما يشير إليه‬
‫البند ‪ 18‬من «اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان»‪ .‬ومكمن الصعوبة من الناحية‬
‫الفلسفية هو في تقديري أنّها ثقافة تفضّل أن تترجم «‪( »the universal‬الكوني)‬
‫بعبارة «العالمي»‪ .‬وعلينا أن نرى نوعية الحرج الميتافيزيقي والسياسي الذي يقع‬
‫أن «حقوق اإلنسان» ليست «كونية» (أي مستمدّة من «الطبيعة البشرية»‬ ‫تفاديه‪ّ .‬‬
‫يتجزأ من طبيعة «الكون» بعامة)‪ ،‬بل هي‬ ‫ّ‬ ‫بما هي كذلك باعتبارها جزءا ال‬
‫«عالمية» (أي نسبة إلى «العالم» كما هو قائم اليوم تحت سلطة نوع من الدول التي‬
‫تعرف ماهية «اإلنسان»‬ ‫ي حق في أن تفرض على الدول األخرى كيف ّ‬ ‫ال تملك أ ّ‬
‫بسبب مبدأ السيادة الحديث‪ ،‬ولكن يمكنها بسبب قوتها الكولونيالية أن تش ّجع فقط على‬
‫اعتناق مجموعة من المبادئ والقيم العامة دون فرضها)‪.‬‬

‫ي مكان إالّ شكليًّا فقط‪ ،‬ألنّها‬‫وبالمقارنة مع «حرية المعتقد» التي ال تطبّق في أ ّ‬


‫مكسب «حقوقي» ال تحترمه الدول غالب األمر‪ ،‬كلّما اصطدم بشرعيتها أو‬
‫بسلطتها‪ ،‬فالدولة متورطة أيضا هي بدورها في تأسيس نفسها على الدين‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫ي تفويض قانوني كي يعيشه‬ ‫«اإليمان الحر» هو شكل من الحياة‪ ،‬وال يحتاج إلى أ ّ‬
‫أي كان‪ .‬هو نوع من حرية الحقيقة تجاه الكينونة في العالم بوصفها مشكال خاصا‪،‬‬
‫وليس بوصفها سلوكا عموميا تحت إشراف الدولة‪ .‬فالدولة ال ترى العالم إالّ عرضا‪.‬‬

‫‪ -‬يالحظ القارئ في كتاباتك تعاط ًفا واشتباكًا تحليليًا مع كتابات أدباء عرب‬
‫(درويش‪ ،‬المسعدي‪ ،‬جبران) أكثر من غيرهم من المفكرين والباحثين‬
‫العرب الذين تكلفوا ‪-‬صراحةً‪ -‬ببحث مسألة الحداثة العربية‪ ،‬وكأنك تتلمس‬
‫في هؤالء األدباء «حداثةً عربية» لم تجدها عند غيرهم‪ .‬أتتفق مع هذا‬

‫[‪]20‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫التوصيف؟ وهل تؤيد الرأي الشائع الذي مفاده أن «حداثة العرب» لم‬
‫تتحقق إال في األدب؟‬

‫أن «الحداثة» هي األفق الشعري الذي نبحث عنه أو نسعى‬ ‫يفترض هذا التوصيف ّ‬
‫إلى التطابق معه‪ .‬وهذا نفسه مشكل مزعج واألمر المطروح أكثر تعقيدا‪ .‬ربما كان‬
‫هناك جيل واسع من الشعراء واألدباء الذين رغبوا بشدّة في تأسيس «حداثة عربية»‬
‫أن مقولة «الشاعر» أو‬‫على منوال الحداثة «الغربية»‪ .‬إالّ أنّه من النادر أن نالحظ ّ‬
‫«األديب» نفسها هي في أفقنا ما بعد الكولونيالي قد تغيّرت بشكل خطير‪ .‬نحن لم‬
‫نعد نلتقي بشخصية الشاعر أو األديب «التقليدي» رغم أنّه مازال يظهر دونما خجل‬
‫يذكر‪ .‬ث ّمة قدر جديد للشعراء قد أخذ يرنو في األفق‪.‬‬

‫يؤ ّكد فيلسوف مثل آالن باديو في كتاب له يحمل عنوانا له «فيم يف ّكر القصيد؟»‪،21‬‬
‫أنّه‪ ،‬منذ القرن الثامن عشر‪ ،‬قد ظهر في التقليد األوروبي نوع من الشعراء‬
‫تحولوا في األثناء إلى‬
‫«المضادين للفلسفة»‪ .‬كان الفالسفة عندئذ متغطرسين إذ ّ‬
‫أصحاب أنساق ومنظومات تأ ّملية مطلقة‪ .‬وردّ الشعراء عليهم بتدشين ما س ّماه باديو‬
‫«عصر الشعراء» الذي هو عصر يقصد أن يكون «فلسفيًّا مضادًّا» حيث يمكن‬
‫«التفكير» بال مفهوم‪ .‬وهو عصر يمتدّ في كتابات شعراء (ما بين ‪ 1870‬و‪)1960‬‬
‫مثل رامبو وماالرميه وبوسوا وسيالن‪.‬‬

‫أن شعراءنا وأدباءنا من جبران‬‫أ ّما نحن فال نملك هذا الترف الميتافيزيقي‪ .‬إذ يبدو ّ‬
‫إلى درويش لم يكونوا يعانون من تغطرس أو صلف الفالسفة‪ ،‬فهم لم يظهروا بعد‪،‬‬
‫ولذلك ال يمكن قراءتهم وكأنّهم «فالسفة مضادّون» (‪ .)antiphilosophes‬لنقل‪:‬‬
‫تستقر لدينا أجناس خطاب تصل العداوة فيما بينها‬
‫ّ‬ ‫نحن لم ّ‬
‫نوزع األدوار بعد‪ .‬أو لم‬
‫إلى حدّ الصراع حول الحقيقة‪.‬‬

‫تحول «الكتّاب» (وهو توصيف مقصود أل ّنه بمثابة الدرجة‬ ‫وفي غياب الفالسفة ّ‬
‫الصفر من الجنس األدبي) إلى أبطال «شعريين» مه ّمتهم هي قيادة ثقافة فقدت‬
‫طريقتها الخاصة في تعليم نفسها وبالتالي دخلت في مرحلة الصيانة أو هي قيد‬
‫أن الثقافات «غير الغربية» قد وجدت نفسها (حتى بعد‬ ‫المراجعة بشكل مؤلم‪ .‬ذلك ّ‬
‫االستقالل) تعاني من تهميش كولونيالي داخلي تقوده النخبة ما بعد الكولونيالية‬
‫نفسها‪ ،‬وصار «الكاتب» بعامة يعاني من «شبحيّة» عالمية ومحلّية في نفس الوقت‪،‬‬
‫أن اللغة نفسها التي يكتب بها هي لغة تعاني من قصور إبستمولوجي ودونية‬‫وذلك ّ‬
‫‪21‬‬
‫‪- A. Badiou, Que pense le poème ? (Paris : Nous, 2016), p. 29 sqq.‬‬

‫[‪]21‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫متمرس‬
‫ّ‬ ‫المهربين ألنّه قارئ‬
‫ّ‬ ‫أخالقية أمام نظيراتها الغربية‪ .‬من جهة هو كاتب يشبه‬
‫باللغات الغربية وليس له مصدر كوني سواها؛ وهو من جهة كاتب هجين ألنّه فقد‬
‫نسبه الداخلي إلى نفسه‪.‬‬

‫وهكذا هو صار يخوض معركة اإلبداع على جبهتين‪ :‬واحدة ضد نموذج كولونيالي‬
‫مستمر فرضته النماذج الحديثة وأخرى ضد الجهاز التقليدي الذي انسحب لكنّه ترك‬
‫ّ‬
‫فراغا هوويًّا مرعبا‪ .‬فماذا يمكن أن يكون «الشعر» عندئذ؟‬

‫صحيح أنّه قد ظهر في أفق العرب المعاصرين شعراء استعادوا القدرة على اإلبداع‬
‫تضره الترجمة) مثل جبران أو درويش‪ .‬ال يعني ذلك أنّهم‬ ‫ّ‬ ‫«الكوني» (الذي ال‬
‫تحولوا فجأة إلى كتّاب «غربيين» أو حقّقوا «الحداثة الشعرية» بالنسبة إلينا‪ .‬هم فقط‬
‫ّ‬
‫قطعوا أشواطا هائلة باتجاه تهيئة األفق لنوع غير مسبوق من اللقاء الكبير بأنفسنا‬
‫ي من الممكن البديل أو من اآلتي‪.‬‬‫وبمصادر أنفسنا وبالتالي لنوع قو ّ‬

‫طبعا‪ ،‬كان سؤال باديو ينخرط في تقليد غربي قديم حول الصراع أو التنافس‬
‫كرسه أفالطون‪ .‬وهو صراع صار جزءا من قدر‬ ‫المستمر بين الشاعر والفيلسوف ّ‬
‫ّ‬
‫أن نيتشه قد ل ّخص المسألة ذات حديث من أحاديث‬ ‫الفلسفة والشعر كليهما‪ .‬ويبدو ّ‬
‫زرادشت عندما اعترف بمرارة قائال‪« :‬والحق إنّي ألخجل من أنّه مازال ينبغي‬
‫لكن الفلسفة اليوم يمكن أن تعيب على باديو أو هيدغر ّ‬
‫أن‬ ‫ي أن أكون شاعرا»‪ّ .‬‬ ‫عل ّ‬
‫رجوعهما إلى الشعراء كان من أجل تحميلهم مه ّمة غريبة عنهم‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫أن الفالسفة‬
‫قد عجزوا عنها‪ ،‬أال وهي مه ّمة «التفكير» في الكينونة‪ ،‬أو في الحدث في عصر‬
‫التقنية‪ّ .‬‬
‫لكن التفكير ليس مه ّمة الشعراء‪ .‬وعلينا أن نسأل‪ :‬لماذا اعتبر األفالطونيون‬
‫أن «التفكير» هو أكثر األفعال اإلنسانية نبال وفضال؟ هذا‬ ‫من أفالطون إلى باديو ّ‬
‫تصورا يونانيا للتفاضل بين النظر والعمل أماله الشكل‬ ‫ّ‬ ‫االعتبار يعكس‬
‫األرستقراطي للحكم‪ .‬وفي تقديري هذا االختزال لكل عالقة جوهرية بالحقيقة في‬
‫مجرد مرض ثقافي «غربي» وليس مطلبا‬ ‫ّ‬ ‫مه ّمة «التفكير» هو في واقع األمر‬
‫«كونيا» يجب على كل شاعر على األرض‪.‬‬

‫أن الشاعر له قدره الخاص‪ .‬وربما يكون لنا مخرج من أفق‬‫ما نريد إثباته هنا هو ّ‬
‫نستمر‬
‫ّ‬ ‫الحداثة الكولونيالية بالشعر‪ .‬وليس بالسياسة أو بالعلف اإلبستمولوجي الذي‬
‫في استهالكه‪.‬‬

‫[‪]22‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫صحيح أنّه ليس لدينا بعد «شاعر محض» كما أنّه ليس لدينا بعد «فيلسوف محض»‪.‬‬
‫الشاعر المحض هو الذي ينجح في إبقاء الشعر داخل مه ّمته الخاصة دونما تورط‬
‫هووي في معركة غريبة عنه‪ .‬والشعراء عندنا فهموا «االلتزام» الوجودي فهما‬
‫هوويًّا‪ :‬بوصفه التزاما تجاه «األرض» أو تجاه «الشعب» أو «األمة» ‪ ...‬وهي‬
‫قضايا مصيرية لكنها ليست قضايا شعرية إالّ عرضا‪ .‬ربما ال يزال الشاعر خائفا‬
‫من أن يصبح بال انتماء أو بال جمهور أو بال هوية‪ .‬وكما ال يجدر بالشاعر أن يصبح‬
‫«مف ّكرا» كما رغب في ذلك باديو‪ ،‬كذلك ليس عليه أن يصبح «مثقّفا» يناضل من‬
‫إن للشاعر قدره الخاص‪ .‬وكل تد ّخل هووي في مه ّمته‬
‫أجل هوية جاهزة لمجتمعه‪ّ .‬‬
‫ي تد ّخل فلسفي في موضوعه هو تشويه ميتافيزيقي لقدره‪.‬‬ ‫مثل أ ّ‬

‫فإن الشاعر لدينا قد وجد نفسه مطالبا بأن يمأل الفراغات التي تركها‬‫ومع ذلك ّ‬
‫أن عليه أن يشغل مه ّمات «النبي» و«الفيلسوف» و«الفتى» وربما‬ ‫أصحابها‪ّ :‬‬
‫«القائد» الرمزي ‪ ...‬الغائبين أو المستحيلين ‪...‬كما تحدّث الشاعر التونسي الصغير‬
‫أن شعراءنا قد‬‫لكن الواقع هو ّ‬
‫أوالد أحمد عن «القيادة الشعرية للثورة» التونسية‪ّ .‬‬
‫يتفرغوا لتجربة أنفسهم الجديدة إالّ‬
‫كتبوا دوما تحت اضطرار هووي مريع ولم ّ‬
‫نادرا‪.‬‬

‫وألن الحداثة هي اليوم «هوية» كولونيالية للغربيين‪ ،‬ولم تعد أفقا خصبا لتجريب‬‫ّ‬
‫نكف عن انتظار «الحداثة العربية» وكأنّها خبر سار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الكونيات‪ّ ،‬‬
‫فإن علينا أن‬
‫شعراؤنا لم يحققوا الحداثة وال ينبغي لهم ذلك‪ .‬هذا حلم كولونيالي مدسوس في عقول‬
‫النخبة وآن األوان للتحرر منه ليس بتنصيب عداوات تأويلية مع الغرب بل من خالل‬
‫معارك ذاتية مع أنفسنا السائدة إلى حدّ اآلن‪.‬‬

‫على الشعراء أن «يكتبوا» فقط‪ .‬وتعني «الكتابة» (منذ النصف الثاني من القرن‬
‫مجرد التجريب‪/‬التخريب الجذري إلمكانية أن نكون أنفسنا دون أي‬ ‫ّ‬ ‫العشرين)‬
‫ضمانات أخرى‪ .‬ذلك أنّه ال توجد وصفة جاهزة لمن سنكون‪ .‬ال أحد يملك صندوقا‬
‫هوويا وبالتالي يمكنه أن يزايد علينا في االنتماء‪ .‬ربما التقصير األخالقي الوحيد‬
‫للشاعر هو أنّه مازال يريد أن يعترف به بوصفه كذلك‪ .‬إنّه ال يزال يخاف المشي‬
‫أن طاقة «التخريب» التي‬ ‫صته‪ .‬والمرعب ّ‬‫في الظالم وحيدا من دون رفقة تحكي ق ّ‬
‫يفترض أنّها خاصة بالشعر قد ت ّمت سرقتها من الشعراء‪ .‬ربما سرقتها الدولة الحديثة‬
‫لكن من سرقها حقّا هم‬ ‫بالسلطة التي تملكها على الحياة والموت واالستثناء؛ ّ‬
‫«اإلرهابيون»‪ :‬هذا الرهط من الحيوانات العدمية التي تريد تغيير العالم بدون‬
‫مساعدة الشعراء‪ ،‬أي بدون حلم وال استباق وال مستحيل وال ته ّكم اآلتي‪ .‬إذ يبدو‬

‫[‪]23‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫اإلرهاب شعرا عدميا بال شعراء‪ .‬هو رهط يزعم أنّه يترجم غضب اإلله التوحيدي‬
‫في عصر صار فيه ممنوعا من الكالم‪ .‬وهذا االستغناء عن الشعراء في اختراع‬
‫إن الشاعر هو الذي لن يتوقف أبدا عن البحث عن «السماء‬ ‫المستقبل هو اإلرهاب‪ّ .‬‬
‫األخيرة» بعبارة درويش؛ ّ‬
‫لكن اإلرهابي هو من يريد إغالق السماء علينا بال رجعة‪.‬‬

‫‪ -‬يالحظ بعض المنظرين العرب سباتًا مقل ًقا فيما صار يسمى «الفكر‬
‫العربي»‪ ،‬وهذا السبات رافقته موجة عارمة من الترجمات التي احتلت‬
‫مكانها‪ .‬وقبل عقدين‪ ،‬في عملك الموسوم بـ«الهوية والزمان» طرحت‬
‫السؤال التالي‪« :‬هل توجد فلسفة عربية معاصرة؟»‪ .‬دعني أعيد طرح‬
‫السؤال عليك في ضوء ما قلتُ للتو‪ :‬ما حال الفلسفة لدينا اليوم؟ وكيف‬
‫تقيّمون األعمال الحالية؟ وهل العدد المتزايد من الترجمات إشارة طيبة أم‬
‫سيئة في عالقتها بالفلسفة العربية؟‬

‫يعرف «الفكر» بأنّه‬


‫لنعد قليال إلى األشياء كما كان يقول هوسرل‪ .‬كان أفالطون ّ‬
‫«الخطاب الذي تقوم به النفس مع نفسها حول األشياء التي تفحص عنها» (محاورة‬
‫عرفه بكونه «الخطاب الباطني الذي تقوم به النفس مع‬‫«تيتاتوس»‪ 189 ،‬هـ) ث ّم ّ‬
‫نفسها بشكل صامت» (محاورة «السفسطائي»‪ 263 ،‬د)‪ .‬ماذا يعني عندئذ أن ندّعي‬
‫ّ‬
‫أن «الفكر العربي» (وهذه تسمية علينا مساءلتها) قد دخل في «سبات مقلق»؟‬

‫أن الفعل اليوناني‬ ‫في درسه الشهير «ما معنى أن نف ّكر؟»‪ 22‬أشار هيدغر إلى ّ‬
‫فإن قرارا‬‫«‪ »noeîn‬لم يكن يد ّل في أصله على معنى «التفكير»‪ ،‬وبالتالي ّ‬
‫يتحول إلى «منطق»‬ ‫ّ‬ ‫ميتافيزيقيا متأ ّخرا هو الذي جعل «قول» (‪ )légein‬الكائن‬
‫يعرف نفسه عندئذ بأنّه «ماهية التفكير»‪ .‬كان التفكير يعني أن‬ ‫(‪ )Logik‬صار ّ‬
‫مجرد «تسجيل»‬ ‫«ندرك» شيئا ما بالمعنى الحرفي‪ ،‬أي أن نظفر به وليس في معنى ّ‬
‫حضوره‪ .‬أن ندركه يفترض أنّنا فاجأناه حيث هو‪ ،‬واستبقناه أو سبقناه إلى نفسه‪ ،‬أنّنا‬
‫مؤرخو اللسان اليوناني‪،‬‬ ‫انتبهنا له ونبّهنا عليه‪ .‬وفي واقع األمر يتعلّق األمر‪ ،‬كما بيّن ّ‬
‫بأن فريسته في الجوار‬ ‫وهيدغر يذكر ذلك بدوره‪ ،‬بمجاز بدائي هو شعور الصيّاد ّ‬
‫وهو «يشت ّم» أو «يستشعر» (‪ )wittern und Witterung‬وجودها‪ .‬يقول هيدغر‪:‬‬
‫أن ‪ noos‬و‪ noûs‬ال يدّالن في األصل على ما سوف يتش ّكل الحقا بوصفه‬ ‫«ومن ّ‬

‫‪22‬‬
‫‪- M. Heidegger, Was heißt Denken (), p. 210.‬‬

‫[‪]24‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫العقل؛ إذ يعني 'النوس' اإلحساس‪ ،‬الذي يتملّكه شيء ما في ح ّ‬


‫سه ويأخذه من ك ّل‬
‫‪23‬‬
‫قلبه»‪.‬‬

‫ولذلك علينا أن نسأل‪ :‬متى صرنا نتكلّم عن »الفكر» بوصفه جوهرا يحمل بصمة‬
‫«هووية» أو «قومية»؟ أي «ذاتا» ننسب إليها «صفات» من قبيل «العربي» أو‬
‫أن «القومية» هي اختراع سياسي حديث‬ ‫«اليوناني» أو «األلماني»؟ من المعلوم ّ‬
‫نشأ في القرن الثامن عشر يهدف إلى «شرعنة» وجود «الدولة‪-‬األمة»؛ حيث يصبح‬
‫مفهوم «الشعب» نواة أخالقية لالنتماء‪ ،‬وهو مسار أدّى إلى بناء مقولة «األمة»‬
‫التي تج ّمع خصائص ثقافية من قبيل «اللغة» و«الدين» و«التاريخ» و«العرق»‪،‬‬
‫إلخ ‪ ...‬هذا السياق «الرومانسي» هو الذي اخترع تسميات من قبيل «المثالية‬
‫األلمانية» (ظهرت العبارة في عنوان مقالة تنسب إلى هيغل وشيلنغ وهلدرلين‬
‫جميعا‪ ،‬حوالي ‪ 1795‬عنوانها «البرنامج األقدم للمثالية األلمانية»)‪ .‬وهو السياق‬
‫الذي يمنح عبارة من نوع «الفكر العربي» داللتها‪.‬‬

‫إن «الشعوب» تف ّكر؟ وخاصة‪ :‬من قال ّ‬


‫إن «الفكر» يحمل توقيع هوويًّا‬ ‫ولكن من قال ّ‬
‫ي مدى يمكننا «جوهرة» الفكر والتعامل معه بوصفه‬‫أو قوميًّا؟ وأكثر من ذلك‪ :‬إلى أ ّ‬
‫«ذاتا» يمكن عندئذ أن تحتمل استعارة كانط عن «السبات»؟‬

‫نقول في العربية الكالسيكية‪ :‬الفكر هو إعمال النظر أو العقل أو الخاطر في الشيء‪.‬‬


‫وف ّكر في الشيء تأ ّمله وتف ّكر فيه‪ .‬بل نحن نعثر على مقابل للمعنى الالتيني للفظة‬
‫«‪ »pensare‬الذي يعني في أصله «وزن» الشيء بالميزان‪ ،‬وذلك في كتاب «البحر‬
‫عرف مفهوم «القياس»‪ .‬حيث جاء ما‬ ‫المحيط في أصول الفقه» للزركشي حين ّ‬
‫يلي‪ِ «:‬قيس الرأي‪ ،‬وامرؤ القيس‪ ،‬العتبار األمور برأيه» ث ّم ‪...«:‬فيقول المف ّكر‪:‬‬
‫قست الشيء إذا تف ّكر فيه»‪.‬‬

‫لكن هذا المعنى ربما كان مشتقًّا ومتأ ّخرا وليس هو بالمعنى األصلي‪ .‬مثال‪ :‬نعثر‬ ‫ّ‬
‫فكر» أي ما لي فيه‬‫على عبارة عربية نراها واعدة هنا‪ ،‬أال وهي‪« :‬مالي في األمر ٌ‬
‫«حاجة وال مباالة» أو «ال أحتاج إليه» أو «ال أبالي به»‪ .‬ما يثير االنتباه هنا هو ّ‬
‫أن‬
‫«الفكر» ليس جوهرا أو ذاتا حتى تدخل في سبات دغمائي أو سردي‪ .‬الفكر حاجة‬
‫تنبثق نتيجة شكل من الحياة‪ .‬ومن هنا هي تدعونا إلى نحو من «المباالة» أو العناية‬
‫بأنفسنا‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪- Ibib. P. 210 : « Daher bedeuten noos und noûs ursprünglich nicht das, was sich später als die Vernunft‬‬
‫“‪herausbildet; Noos bedeutet das Sinnen, das etwas im Sinn hat und sich zu Herzen nimmt.‬‬

‫[‪]25‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫كرسها مثال محمد أركون بعنوان كتاب تحت هذا‬ ‫إن عبارة «الفكر العربي» قد ّ‬‫ّ‬
‫االسم نشره بالفرنسية سنة ‪ ،1975‬والحال أنّه يخلط خلطا حادًّا وشامال بين «الفكر‬
‫ي معنى لمقولة «الفكر»‬ ‫العربي» وما يس ّميه «العقل اإلسالمي» بحيث هو ال يرى أ ّ‬
‫خارج ما قيل تحت عنوان «اإلسالم»‪ .24‬وفي آخر التحليل هي عبارة «غربية» أو‬
‫حتى «كولونيالية» تريد أن تصنّف نوعا من «الثقافة» المنسوبة إلى نوع من‬
‫المجتمعات وكأنّها تقع خارج أفق التفكير بما هو كذلك‪ ،‬أي التفكير كما يمارسه‬
‫الفالسفة والعلماء في الغرب من أفالطون إلى هيدغر‪ .‬في واقع األمر ال يوجد عقل‬
‫ألن العقل مفهوم والتفكير بواسطة المفاهيم ليس عمال قوميا‬‫إسالمي وال عقل عربي ّ‬
‫فإن المكسب الوحيد لمشاريع من نوع «نقد العقل العربي»‬ ‫وال هاجسا هوويا‪ .‬ولذلك ّ‬
‫أو «نقد العقل اإلسالمي» هو مكسب «ديكولونيالي» عرضي‪ ،‬تفاوضي أو نقدي‪،‬‬
‫لكنّه مؤقّت ونضالي‪ ،‬نعني موقفا يعمل على تنسيب هيمنة إبستمولوجيا الشمال‬
‫أن علينا أن «نجوهر» أو‬ ‫لكن ذلك ال يعني ّ‬
‫التحرر من ادّعاءاتها ومقوالتها‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫وعلى‬
‫نذوت» الفكر «غير الغربي» على أساس أنّه يملك «هوية» خارج أفق اإلنسانية‬ ‫« ّ‬
‫الحالية كما تش ّكلت مالمحها الكبرى في األديان والعلوم والفلسفة والفنون وأشكال‬
‫الحكم ونظريات الحب منذ اإلنسان النيوليثي‪.‬‬

‫من هنا نستطيع أن نعيد النظر في األحكام المسبقة ضد الترجمات المعاصرة وكأنّها‬
‫تأتي كي تسدّ ما عجز عنه الفكر العربي‪ .‬يبدو لنا أنّه ال يوجد فرق جوهري بين من‬
‫يف ّكر ومن يترجم‪ .‬في الحالتين نحن نشتغل على استعمال تداولي للخطاب أو للغة‬
‫بعامة في نطاق نوع معيّن من سياسة الحقيقة داخل ثقافة ما‪ .‬ث ّم نحن نمارس هذا‬
‫النشاط في لحظة تاريخية ذات توقيف عال‪ ،‬أال وهي اللحظة «الديكولونيالية»‪:‬‬
‫اللحظة التي أخذت فيها الثقافات تستعيد دورها المحلي وتراجع الرواسب‬
‫الكولونيالية في نمط تفكيرها‪.‬‬

‫أن االستعمار ليس عنفا عسكريا فقط بل هو عملية هيمنة لغوية وأخالقية‬ ‫وبما ّ‬
‫فإن جميع الشعوب التي خضعت لالستعمار قد صارت تتكلّم‬ ‫ومفهومية ناعمة ّ‬
‫مشوهة إلى حدّ ما نحويًّا واستعاريًّا‪ ،‬وبالتالي ّ‬
‫فإن‬ ‫«لغات» مجروحة من الداخل‪ّ ،‬‬
‫من يكتب بالعربية اليوم هو كمن يترجم‪ ،‬نعني أنّه يكتب في لغة خضعت لهيمنة‬
‫لغوية «غربية»‪ ،‬وليس ذلك عن طريق الترجمة كعمل تقني‪ ،‬بل عن طريق شكل‬
‫مستمرة عبر التبعية المفهومية والمقوالتية‪ ،‬والتي‬
‫ّ‬ ‫الحياة الكولونيالية التي مازالت‬
‫إن االستعمار لم يخضع إرادة‬ ‫مجرد تكلّم اللغات األجنبية‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫هي شيء مختلف عن‬
‫‪24‬‬
‫‪- M. Arkoun, La Pensée arabe (Paris : PUF, 1975).‬‬

‫[‪]26‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫وجردت من براءتها الخطابية ما قبل‬ ‫ّ‬ ‫الشعوب فقط بل أخضع إرادة اللغات‬
‫فإن تحرير الشعوب لن يكتمل من دون تحرير‬ ‫الكولونيالية‪ ،‬بال رجعة‪ .‬ولذلك ّ‬
‫ندرس بواسطة لغة عربية هي في أغلب مقوالتها واستعاراتها النظرية‬ ‫اللغات‪ .‬نحن ّ‬
‫لغة مترجمة وليست لغة أصلية‪ .‬لقد فقدنا العربية الكالسيكية بشكل كامل‪ .‬وعلينا أن‬
‫نعيد تملّك هذه اللغة في سياقات ال تزال خاضعة للغات الغربية ومقوالتها‪.‬‬

‫إن عبارة «أنا أف ّكر إذن أنا موجود» متى كتبناها بالعربية الكالسيكية هي عبارة ال‬
‫ّ‬
‫معنى لها تماما‪ .‬وعبثا يحاول المترجمون تبيئة هذا «المفهوم» وتعريبه‪ .‬إنّه يقع‬
‫سنا القديمة‪ .‬وال نعني بذلك أنّها ترجمة غير دقيقة أو غير أمينة‪ .‬بل‬‫دوما خارج حوا ّ‬
‫إنّها اشتغال على حدث مفهومي لم يقع بعد بالنسبة إلينا‪ .‬نحن ال نعتبر بعد ّ‬
‫أن فعل‬
‫«التفكير» هو وحده المبدأ الميتافيزيقي الذي يش ّكل يقيننا حول «أنفسنا» أو حول‬
‫«هللا» أو حول «العالم»‪ .‬ال تزال هناك سرديات قوية وعنيدة تفت ّك من عقولنا طريقة‬
‫إن «االكتشاف الميتافيزيقي لإلنسان» الذي يزعم الغربيون أنّه حدث‬ ‫تأسيس الحقيقة‪ّ .‬‬
‫لديهم‪ ،‬في القرن السابع عشر مع ديكارت‪ ،‬ربما هو لم يصبح «حاجة» فلسفية أو‬
‫روحية أو أخالقية بالنسبة إلينا‪ .‬نحن نواصل «المباالة» بشيء آخر‪.‬‬

‫لقد تساءلت منذ عشرين سنة ‪« :‬هل توجد فلسفة عربية معاصرة؟»‪ .‬وكان ظنّي‬
‫عندئذ أنّنا نحتاج إلى هذا النوع من اإلنجاز‪ .‬لكنّني اليوم أقل تفاؤال‪ .‬وليس ذلك ّ‬
‫ألن‬
‫ألن مطالب التفكير تغيّرت بشكل مرعب‪ .‬وذلك‬ ‫«الفكر العربي» دخل في سبات‪ ،‬بل ّ‬
‫أن «الغرب» نفسه لم يعد يش ّكل «السماء األخيرة» لمن يف ّكر‪.‬‬
‫لسبب ضخم‪ :‬أال وهو ّ‬
‫إن مرحلة «ما بعد الغرب» قد بدأت فعال‪ .‬ومنذ «فلسفة النوابت» كنت قد أستشعرت‬ ‫ّ‬
‫مجرد «نقد العقل الهووي» الذي أشرت إليه في كتاب «الهوية‬ ‫ّ‬ ‫مه ّمة أكبر من‬
‫والزمان»‪ .‬ما كنت أستشرفه هو بناء «حقول مفهومية للمقاومة» من موقع محدّد‬
‫هو ما س ّميته عندئذ «جنوب الحداثة»‪ ،‬وذلك منذ مقالتي «التفكير مع هيغل ضد‬
‫هيغل» المنشورة سنة ‪ ،1991‬وهو موقع صار يس ّمى في الغرب باسم «الخيار‬
‫الديكولونيالي»‪.‬‬

‫سرنا الحديث معك دكتور فتحي‪ ،‬فقد كان تطوا ًفا ممت ًعا في المفاهيم‬ ‫‪ّ -‬‬
‫الفلسفية وتاريخها وتأثيلها‪ .‬أود أن أختم الحوار بسؤالك عما تعكف عليه‬
‫اآلن ترجمة وتأليفًا؟‬

‫[‪]27‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫لقد فرغت منذ فترة من ترجمة كتاب جوديث بتلر «قلق الجندر»‪ ،‬وها أنا اآلن‬
‫أعكف على كتابة مقدّمة لها‪ .‬وكان دأبي دوما أن أعمل على نقل أ ّمهات الكتب التي‬
‫مجرد نقل كتب ثانوية هي أقرب إلى العلف‬ ‫ّ‬ ‫تخلق عالما جديدا في لغة ما‪ ،‬وليس‬
‫سسة في مجالها‪ .‬وقد فعلت ذلك مع هيدغر‬ ‫اإلبستيمولوجي منها إلى النظريات المؤ ّ‬
‫وهابرماس وكانط ونيتشه من قبل‪ .‬ال أترجم إالّ ما أراه جزءا من ماهية العصر‪،‬‬
‫ويحولها إلى ورشة تفكير‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يقبض على حقيقة مجتمع أو دين أو جيل أو جماعة كبيرة‬
‫وقد وجدت في كتاب جوديث بتلر الذي ترجمته تمرينا رائعا على إعادة طرح‬
‫القضايا النسوية على نحو وضع مقولة «النساء» نفسها موضع سؤال‪ ،‬بحيث ّ‬
‫أن‬
‫سست على الفرق بين «الجنسين»‬ ‫تحرير «النساء» من الهرميّة المعيارية التي تأ ّ‬
‫سدت في «النظام األبوي» وشبكة «السلطة» الجنسية‬ ‫من الذكر واألنثى‪ ،‬وتج ّ‬
‫والسياسية التي تم ّخضت عنه‪ ،‬هو معركة رمزية تظ ّل عرضيّة أو معطوبة طالما‬
‫إن «هوية»‬ ‫لم يت ّم تحرير «الذات» التي يفترض أنّها موجودة خلف هذه التسمية‪ّ .‬‬
‫الجندر هي عبارة عن «فعل إنجازي» وليست «جوهرا»‪ ،‬بيولوجيا أو ماهية‬
‫مستقرة بال رجعة‪« .‬فعل إنجازي» أي شيء ال «نكونه» بل «نفعله»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعية‬
‫شيء ال «يقع» بل دور «نؤدّيه»‪ .‬وهو ال يبدو لنا أمرا «طبيعيًّا» إالّ ألنّه تماهى مع‬
‫البنية «النحوية» التي نعبّر بها عن أنفسنا‪.‬‬

‫ي‪ ،‬أال‬
‫لكن ورشة الترجمة عندي مفتوحة دائما انطالقا من موقف فلسفي أساسي لد ّ‬ ‫ّ‬
‫أن لغتنا القديمة قد عادت إلى المعاجم وانسحبت متوارية عن شعورنا بأنفسنا‬ ‫وهو ّ‬
‫الجديدة‪ .‬لقد تركتنا وحدنا بمعنى ما‪ .‬ولذلك كل ما نقوله اليوم‪ ،‬قصدنا ذلك أم لم‬
‫نقصد‪ ،‬هو محض «ترجمة» حتى ولو واصلنا استعمال الفصحى «دون تكلّمها»‬
‫من الداخل أو باألصالة‪ .‬نحن صرنا فجأة يتامى لغويين نواصل استخدام لغتنا لكن‬
‫في غيابها‪ .‬ولغة الغياب هذه هي لغة الترجمة‪ .‬صارت لغتنا تقنية غياب عن عالم‬
‫صار ال يكلّمنا إالّ عرضا‪ ،‬لقد تغيّر «نحو» العالم وفرض علينا أن «نترجم»‪ ،‬أي‬
‫أن نستعمل ألفاظا ال تقول ما نتكلّم عنه إالّ « ّ‬
‫تجوزا»‪ .‬ربما ما فقدناه هو قدرة لغتنا‬
‫التجوز»‪ ،‬نعني لغة‬
‫القديمة على «المجاز»‪ ،‬وصارت ثروتنا الوحيدة هي لغة « ّ‬
‫تستلف استعارات جديدة من اللغات الغربية حتى ال تموت اختناقا من العجز عن‬
‫قول كينونة تقع خارج أفقها‪.‬‬

‫لكن هذا أمر واقع ربما في اللغات غير الغربية جميعا‪ ،‬ولذلك هو ال يدعو إلى‬ ‫ّ‬
‫أن العالج المناسب ليس شيئا آخر سوى إعادة التفكير في الترجمة‪:‬‬ ‫الحزن‪ .‬ذلك ّ‬
‫فهي لم تعد تبادال في الجمل بين لسانين متكافئين‪ ،‬بل صارت معركة غير متكافئة‬
‫بين لغات مهيمنة «تتكلّم» نحو العالم كما نطقت به الحداثة الكولونيالية وبين لغات‬

‫[‪]28‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫تجوزا» للغرض‪ ،‬ولم تخلقها من‬ ‫مهيمن عليها «تقول» عالما بمقوالت صنعتها « ّ‬
‫يء هو‪ :‬بين أن نواصل تكلّم لغتنا القديمة وهي‬ ‫عند نفسها‪ .‬طبعا‪ ،‬كان الخيار الس ّ‬
‫مجرد حنين‬
‫ّ‬ ‫تتحدث عن عالم قد انسحب من أفقنا منذ زمن طويل‪ ،‬وبالتالي صار‬
‫«عنيف» إلى هويات لم تعد قابلة للسكن؛ وبين أن نحاول صناعة لغة جديدة عن‬
‫طريق الترجمة‪ .‬ومن المحيط إلى الخليج كل الناطقين بالعربية الحالية – الفصحى‬
‫الحديثة واللهجات المرافقة‪ -‬هم «مترجمون» ميدانيون‪ ،‬حيث فقدوا الصلة باللغة‬
‫وتحول الكالم عندهم إلى «فعل إنجازي»‪ ،‬أي إلى «أداء» دور ما في‬ ‫ّ‬ ‫القديمة‬
‫أدرب طلبتي على «تكلّم»‬ ‫مسرحية العالم الحديث «اإلجبارية» بقدر المستطاع‪ .‬وأنا ّ‬
‫بمجرد «قوله» من خارج تجاربه أو أفعاله‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لغة العصر داخل لغتنا‪ ،‬وليس االكتفاء‬
‫ال يكفي أن «نقول» ما يقوله الغربيون بلغتنا‪ ،‬فهذا سوف يؤ ّجل طويال معركتنا مع‬
‫نتمرن يوميّا على «تكلّم» لغة العصر بوصفها إنجازا متعدد‬ ‫ّ‬ ‫أنفسنا‪ ،‬بل علينا أن‬
‫اللغات‪ ،‬ويمكننا أن نشارك به بوصفنا «مترجمين أساسيين»‪ .‬ليس ثمة شخص اليوم‬
‫ال يسكن أكثر من لغة‪ .‬حتى اإلنجليزي الذي ال يجد فائدة في تعلّم لغة أخرى‪.‬‬

‫إن الجزء األعظم م ّما‬‫وبهذا المعنى أنا ال أميّز حقّا بين «الترجمة» و«التأليف»‪ّ .‬‬
‫يس ّميه أصحابه «تأليفا» هو في واقعة األمر تمارين عرضيّة وغير مباشرة في‬
‫«الترجمة اإلنجازية» التي أشرت إليها‪ .‬ومن النادر جدًّا أن نعثر على «نص‬
‫ي استنساخ من لغة مترجم عنها‪ .‬يبدو لي ّ‬
‫أن‬ ‫محض»‪ ،‬أي مكتوب بالعربية دون أ ّ‬
‫العرب المعاصرين لم يبدؤوا بعد في «التأليف» بالمعنى الجذري‪ .‬هم مترجمون‬
‫فقط‪ ،‬وال فرق إن كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة‪ .‬ونعني بالتأليف الجذري‬
‫القدرة على صناعة حدث روحي أو فلسفي أو شعري أو سياسي أو علمي ال يدين‬
‫أن هذا وضع قاهر فإنّه لم يبق لنا سوى‬‫ي نواة مفهوميّة‪ .‬وبما ّ‬ ‫للمدونة «الغربية» بأ ّ‬
‫ّ‬
‫أن ندفع براديغم الترجمة إلى أقصاه‪ :‬أن نصبح «مترجمين جيّدين» قدر ما يتطلّبه‬
‫ذلك من الوقت الميتافيزيقي‪« .‬المترجم الجيّد» ليس هو من ينقل الكتب من لغة أخرى‬
‫مجرد وظيفة إجرائية تجري في ظروف عادية بين لغتين‬ ‫ّ‬ ‫بشكل أمين ‪-‬فهذه‬
‫متساوتين‪ -‬بل هو من ينجح في «تكلّم» لغة العصر دون لكنة كبيرة‪ .‬ليس المطلوب‬
‫أن «يقول» العصر كما قالته اإلنجليزية ‪-‬اللغة الكولونيالية المهيمنة والتي تدّعي‬
‫الكونية‪ -‬بل كما يمكن أليّة لغة غير غربية أن «تنطق» به نطقا «حيوانيًّا» أصيال‪.‬‬
‫مجرد احتمال لشكل الحياة كما نعيشها‪ ،‬وليس كما نصفها‬ ‫ّ‬ ‫وهو فعل «حيواني» ألنّه‬
‫أن الترجمة فعل إنجازي‪« :‬جسدي»‬ ‫بواسطة لغة قديمة انسحب عالمها‪ .‬وهذا يعني ّ‬
‫و«جندري» و«جنسي» و«سياسي» و«اقتصادي» و«تقني»‪ ،‬إلخ ‪ ...‬وهي كلّها‬
‫«أفعال» حيويّة ال تحتمل التأجيل إلى جيل آخر‪.‬‬

‫[‪]29‬‬ ‫______________________________________________________________________‬
‫______________________________________________________________________‬

‫وفي الوقت الراهن أنا أعكف على تجميع حدوسي وأسئلتي باتجاه تأليف كتاب ينقل‬
‫تعودت عليها في جامعاتنا‪ .‬وموضوع هذا الكتاب سوف‬ ‫الفلسفة خارج دروسها التي ّ‬
‫إن هدفي هو إحراج «الفالسفة» من زاوية السؤال عن الفقر بوصفه‬ ‫يكون «الفقر»‪ّ .‬‬
‫على األرجح هو البؤرة األنطولوجية المتردّمة تحت كل مقوالتهم عن «الالوجود»‬
‫أو «العدم» أو «الشر» أو «القلق» أو «الذنب» أو «الخطأ» أو «العدل» أو‬
‫يقض مضجع اإلنسانية في كل العصور ليس «الحقيقة» بل‬ ‫ّ‬ ‫«السلطة» ‪ ...‬إلخ‪ .‬ما‬
‫أن خلود «الجسم» وليس «النفس» هو بؤرة اإلشكال‪ .‬لم تكن‬ ‫«البقاء»‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫«النفس» غير تقنية بقاء نسينا االستعارة التي اشتقّت منها‪.‬‬

‫وإن رفع الفقر إلى رتبة المقولة الميتافيزيقية من شأنه أن يلقي ضوءا جديدا ‪-‬مثال‪-‬‬ ‫ّ‬
‫أن نيتشه قد أعلن عن حزنه‬ ‫على إعالن نيتشه لحدث «موت اإلله»‪ .‬فجأة يبدو لنا ّ‬
‫تحرره‪ .‬يبدو نيتشه الهوتيًّا حزينا‪ .‬ولذلك ال زال يطمع في تجديد العالقة‬
‫وليس عن ّ‬
‫والتحول إلى «نب ّي» ما بعد مسيحي‪ّ .‬‬
‫إن نيتشه لم ير مكان الجريمة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫مع اإلله الكتابي‬
‫الفقر المحض بوصفه بنية كينونة‪ ،‬وليس حالة بؤس عارض‪ .‬وبهذا المعنى ّ‬
‫فإن‬
‫إعالن موت اإلله قد كان شعارا حزينا‪ ،‬وليس انتصارا أخالقيا على أحد‪ّ .‬‬
‫إن اإلله‬
‫التوحيدي ال يموت لسبب بسيط‪ ،‬أال وهو استمرار وجود أولئك الذين اخترعوه‪:‬‬
‫إن الفقر هو األفق الروحي لكل أنواع استدعاء اآللهة إلى األرض‪ّ .‬‬
‫إن الفقر‬ ‫الفقراء‪ّ .‬‬
‫هو ما يجعل اإلله الكتابي في ص ّحة ميتافيزيقية جيّدة‪.‬‬

‫[‪]30‬‬ ‫______________________________________________________________________‬

You might also like