Professional Documents
Culture Documents
-دكتور فتحي المسكيني ،نشكرك جزيل الشكر على تلبية الدعوة ،ونتطلع
إلى حوار مثمر وممتع فكر ًيا معك.
بدأ لقائي مع هيغل سنة 1987-1986عندما أنجزت ّأول بحث جامعي لي وكان
بالفرنسية عنوانه »مفهوم الذات وعمل السالب في فينومينولوجيا الروح» .كان
سببي الشخصي لالهتمام به (خارج الواجب «األكاديمي» الذي تمليه وتحدّده فكرة
«الجامعة» عندنا) هو الحاجة إلى تطوير فهم دقيق لمعنى أن نكون «أنفسنا» ،ليس
فقط أن ننتمي إلى أ ّمة مخصوصة تفرض علينا هوية جاهزة ،بل أن نمارس لقاءنا
أن لقائي بهيغلبأنفسنا بوصفه تجربة متميّزة جدّا اسمها «الذات» .وهذا يعني ّ
وأمر إلى غرض آخر: ّ ي أن أنجزه
مجرد مشكل مدرسي عل ّّ واهتمامي به لم يكن
أن على بأن «المطلق» هو «ذات» مثلنا ،وبالتالي ّ
وجدت لدى هيغل ادّعاء مثيرا ّ
جوهرا ،بل كذلك بوصفه ذاتًا».1
ً ّ
الحق وأن تعبّر عنه ليس بوصفه الفلسفة «أن تدرك
[]2 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
فإن الجوهر هو السلبيّة البسيطة ،وبذلك وبين أن يكون ذاته .ومن حيث هو ذاتٌ ّ
سلب للتباين الالمبالي
ٌ هو انقسام البسيط ،أو التضاعف المتضادّ ،الذي هو من جديد
وتضادّه؛ وحده هذا التطابق المصلح لذاته أو االنعكاس في كينونة الغير داخل ذات
ّ
الحق. نفسه؛ وليس وحدة أصلية بما هي كذلك ،أو مباشرة بما هي كذلك ،وحده هو
الحق هو صيرورة ذات نفسه ،الدائرة ،التي تفترض وتمتلك منذ البداية نهايتها ّ ّ
إن
بوصفها مقصدها ،وهو ليس فعليّا إالّ عبر تحقّقه وعبر نهايته.
وبذلك ّ
فإن حياة هللا والمعرفة اإللهية قد يمكن اإلفصاح عنهما بوصفهما نوعا من
مجرد الوعظ وحتى إلى
ّ لعبة المحبّة مع ذات نفسها؛ ّ
لكن هذه الفكرة قد تسقط إلى
2
السخافة ،عندما ينقصها الجدّ واأللم واألناة وعمل السالب».
هذا درس فلسفي« ،نحن» الذين نسكن «جنوب الحداثة» -كموقع ميتافيزيقي متميّز،
سة إلى تف ّهمه من الداخل :نعني من داخلوليس بوصفه لعنة كولونيالية -في حاجة ما ّ
أنفسنا أو من داخل المشاكل التي يطرحها التزامنا بأن نكون أنفسنا وليس مفعوال
ي شكل غريب من «الذات» .يعني هيغل بلفظة «الجوهر» ك ّل «ما ليس تابعا أل ّ
إن هللا جوهر بقدر ما نعامله بوصفهذاتا» .الجوهر هو كل ما نعامله بوصفه «شيئا»ّ .
أن ما هو «حقيقي» لكن هيغل يعتبر ّ«شيئا» يمكن ألحدهم أن يستولي عليه لنفسهّ .
ال يمكن أن «يكون» جوهرا فقط؛ يجب أن «يصير» ذاتا .هيغل هو من أدخل
الصيرورة إلى الحقيقة .وهو يقرأ «الصيرورة» في أفق فهم مسيحي عميق :إنّها
نوع من «الجدّ واأللم واألناة وعمل السالب» .ال يتعلق األمر هنا بمجرد انفعاالت
نتأول ذلك في ضوء المفهوم المسيحي لإلله :اإلله الذي يموت حزينة بل علينا أن ّ
متألما على الصليب .هيغل هو من أخذ جدّيا معنى أن يدخل األلم في ماهية اإلله،
ولم يفعل غير ترجمة هذا األلم بوصفه تجربة .مفهوميًّا» ،فينومينولوجيا الروح
«هي تاريخ هذا األلم بوصفه وقد صار «تاريخا مفهوميًّا» للمطلق الذي يريد أن
يكون بيننا ،ويرفض أن يمثل أمامنا بوصفه «شيئا» .وكل ذلك غير ممكن التص ّور
من دون تجربة «اإلله اإلبراهيمي» بعامة ،بوصفه هو «من» نقل اإلله من نطاق
«الجوهر» (الوثني) إلى أفق «الذات» (التوحيدية) التي تريد أن تكون بيننا أو التي
تخاطبنا.
حسب هيغل ،وحده اإلنسان «الحديث» (حديث = مسيحي) شعر بهذه الحقيقة وتب ّناها
من الداخل ،وذلك فقط ألنّه ذاتٌ وليس «جوهرا» فقط .كل أنواع البشر السابقة كانت
«أفرادا»ّ .
لكن الذات ليست فردا .الذاتي لدى هيغل يمكن أن يكون هللا أو الدولة أو
2
- Ibid. p.-14-15
[]3 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
الفن أو المقدس أو الحقيقة ...ولذلك هو الصفة التأ ّملية للمفهوم بما هو كذلك .من
يتذوت» بشكل مطلق.يف ّكر في شكل مفهومي هو « ّ
ولذلك سوف يظ ّل ما نحبّه أو نؤمن به «شيئا» فقط طالما ال نفهمه بوصفه «ذاتا».
الذات هي كل كائن ينمو ،كل كائن صار يستمدّ حقيقته من حركته ،أي من كل
الممكن الذي بحوزته .الذات هي كل جوهر اكتشف طريقته في أن يصير ذاته .الذات
مجرد جواهر ،أي مجرد موادّ ألنفسنا. ّ هي شكل الحياة التي نصيرها بعد أن كنّا
ي أن «أصيرها» .ال أريد أن أرث ولذلك ال يكفي أن «أكون» نفسي فقط بل عل ّ
نفسي ،أريد أن أكتشفها .وهذا يعني أنّني على استعداد كي أتعامل مع نفسي ولكن
أيضا مع هللا أو الحرية أو الحب بوصفه «تجربة» وليس «شيئا» .كل ذات هي
تتحول التجربة إلى هوية، ّ مجرد تجربة لكنها هي كل ما نملكه عن أنفسنا .وفجأة
أي إلى شكل من الحياة حيث يصبح التمييز بين «المعنى» و«المعاناة» ترفا منهجيًّا.
ذلك هو السياق الذي أحببت فيه هيغل بوصفه «حيوانا فلسفيا» كبيرا يعلّم الناس
أن هيغل كان يقصد ذلك .ربما كان له قصة لكن هذا ال يعني ّ
كيف يصيرون ذواتاّ .
ي وجهإن هيغل لم يكن يعرف بأ ّ أخرى مع نفسه .قال جورج باطاي ذات مرةّ « :
هو كان على حق».
ذلك أنّنا نلتقي بهيغل في أفق لم يكن يخاطبه .وهو ما س ّميته في ّأول محاضرة فلسفية
لي ألقيتها سنة 1991تحت عنوان أزعج أساتذتي في ذلك الوقت ،هو «التفكير مع
هيغل ضدّ هيغل»؛ ما س ّميته «جنوب الحداثة» .كانوا يتهيّبون ويرتعبون من التفكير
«ض ّد» الغرب الذي جمعه هيغل في «فينومينولوجيا الروح» بوصفها «نهاية
أن «التفكير» ضرب تاريخ» المعنى بالنسبة إلى الفالسفة .كان قراري عندئذ هو ّ
من «مقاومة المفهوم» وليس مجرد «إقصاء لآلخر وبناء حوانيت التراث في
أن هيغل – الذي نقرأ نصوصه وليس هيغل عقولنا» .3وهو تمرين فلسفي وجدت ّ
الحر،
ّ الشراح -هو ّأول معلّم كبير أدخل «المقاومة» ،أي ّ
فن التناقض ّ في مل ّخصات
الحر
ّ حر .التناقضفي لحم المفهوم .من يف ّكر هو يقاوم ،أي يتح ّمل تناقضه بشكل ّ
هو «لعبة المحبة مع نفسها».
- 3فتحي المسكيني" ،فلسفة النوابت" (بيروت :دار الطليعة ،)1997 ،ص .32
[]4 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
إن عبارة «جنوب الحداثة» ال تعني بناء سردية «ديـ-كولونيالية» )(decolonial ّ
تخول للمثقّفين غير الغربيين ممارسة ضغينة ميتافيزيقية ضدّ حزينة في فن العداوة ّ
ي نوع من «الصفح» «الحداثة» بوصفها «ظالمية» إبستيمولوجية غير قادرة على أ ّ
درب حول األرض إلى مستعمرة أوروبية .بل فقط :الت ّ تجاه المستعمر السابق الذي ّ
ي» انعزالي« .الجنوب» صفة على التفكير من «موقع آخر» ،وليس بشكل «آخر ّ
إن هيغل قد عثر على إبستيمولوجية وليست مهربا جغرافيا خارج أفق اإلنسانيةّ .
خيط سردي مناسب إلعادة كتابة تاريخ «الروح» المسيحي بشكل علماني .ربّما
نعثر نحن أيضا في ذلك على دروس سردية أو مفهوميّة ،بسبب النسب التوحيدي
لكن ذلك ال يجعل منه النموذج الوحيد أو «العالمي» لتفكير الذي يجمعنا مع هيغلّ ،
غير الغربيين .وهذا ما علّمتنا إيّاه كتابات فرانس فانون وإدوارد سعيد وسمير أمين.
لقد وجدت في استعارة «الجنوب» مقاما للتفكير الذي يم ّكن من «التفكير مع هيغل»
(ألن «الغرب» هو بدوره ّ (ألنّه ال معنى للخروج عن أفق اإلنسانية) «ضدّ هيغل»
مجرد استعارة جغرافية آن األوان لتنسيبها).
ّ
-أشرت للتو إلى كتابك األول «فلسفة النوابت» ( دار الطليعة،)1997 ،
سؤاال بالغ األهمية« :كيف نستأنف البحث ً وفي ذلك الكتاب ،طرحت
الفلسفي الذي شرع فيه أسالفنا ،ولكن بخاصة في األفق اإلشكالي للفلسفة
المعاصرة بالذات؟» ويبدو أن ذلك السؤال يحرك كل عملك سواء كان
صا أم ترجمةً ،ماذا تقصد بشرط «الكونية» الذي أُهدر مع قراء إنتا ًجا خا ً
التراث؟ وما الفارق بين قارئ التراث والمتفلسف؟ مع مالحظة أن هنالك
موجة جديدة في االشتغال الفكري شعارها «المحلي» ال «الكوني»،
ستارا لما هو غربي (وهذه «الموجة» تمتد من مفكري ً فالكوني ليس إال
العرب المحافظين إلى منظري ما بعد االستعمار).
لم يكن كتاب «فلسفة النوابت» ّأول كتبي فقد صدر في بيروت في أيلول 1997
وكان قد سبقه كتاب «هيغل ونهاية المتافيزيقا» الذي صدر في تونس في مارس من
لكن ما يجمع بين الكتابين هو المشكل المزدوج الذي خيّم على أبحاثينفس العامّ .
في تلك الفترة بداية من 1990تاريخ التحاقي للتدريس بالجامعة التونسية .وكان ّأول
تعبير عن ذلك المشكل المزدوج هو نشر مقالين متقابلين وينتميان إلى أفقي استشكال
متنازعين :من جهة نشر مقال في الفلسفة الغربية عنوانه «هابرماز أمام هايدغر أو
كيف الكالم على الفلسفة؟» 4،ومن جهة نشر بحث في الفلسفة العربية عنوانه
- 4ف .المسكيني" " ،هابرماز أمام هايدغر أو كيف الكالم على الفلسفة؟" ،ضمن :الفكر العربي المعاصر ،العدد ،)1991( 85-84ص.25-21
[]5 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
هذا القلق «غير الغربي» أو هذا الشعور «الجنوبي» بأه ّمية الفلسفة قد قادني إلى
بأن «الفيلسوف» جسم غريب عن سردية الملة إن أسالفنا قد شعروا ّهذا االفتراضّ :
(نعني تأويل «اآلدمية» بوصفها «استخالفا» عاما على األرض) ،وأطلقوا عليه
فإن استئناف التفلسف ال يمكن أن يت ّم «عندنا» اسما أصيال هو «النابتة» .ومن ث ّم ّ
إالّ تحت صورة «النوابت» ،سواء فهمنا ذلك في مصطلح الفارابي ،أي بشكل سالب
(حيث يمكن لفقهاء الملة أن يعتبروا الفالسفة «نوابت» في معنى «الشوك بين
تصورنا ذلك في اصطالح ابن باجة (حيث النابتة هو الفيلسوف نفسه ّ الزرع») أو
متوحدا» يعيش في ملة ال تؤمن به وال تراه).
بوصفه « ّ
أن تكويني «األكاديمي» في الفلسفة الغربية «-أكاديمي» لفظ يعود بنا إلى إالّ ّ
أفالطون -كان يعلّمني شيئا آخرّ :
أن الفلسفة جنس ِخطابي أنتجته المدينة اليونانية
بحيث هو يعبّر عن ماهيتها ،وليس جسما غريبا عنها .ولذلك كان ظهور الفالسفة
يبرر»
في تاريخ الغرب حدثا طبيعيًّا وأصليًّا ،ومن ث ّم ليس على الفيلسوف أن « ّ
حقيقته .وذلك على عكس فيلسوف الملة الذي يجد نفسه ملقى به في سردية تفرض
يتحول تفكيره ،من دون أن يشعر ،إلى نوع من االعتذار الميتافيزيقي ّ عليه أن
كأن التفلسف فضيحة أخالقية عليه أن يداريها مخافة أن تنقلب إلى تهمة الخجولّ .
سياسية أو تجديف ديني.
قراء التراث» على اختالف مناهجهمهذا الوضع اإلشكالي جعلني أنظر عندئذ إلى « ّ
وتأويالتهم (الذين سيطروا في أواخر الثمانينات على ما يمكن أن نس ّميه «ساحة
التفكير» لدينا) وكأنّهم قد أعفوا أنفسهم من المعركة الحقيقية التي هي معركة
وعوضوها بحرب داخلية ضد مصادر أنفسهم. «كونية» ّ
- 5ف .المسكيني" ،جبران والحداثة أو النسخة العربية من العدمية" ،ضمن :الفكر العربي المعاصر ،العدد ،)1991( 89-88ص .128-120
[]6 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
-رغم ذلك ،في النقاشات ما بعد الكولنيالية ،يوجد تحسس ال يخفى على
المتابع من مصطلح «الكوني» و«الكونية» .بم نتعامل مع هذا التوجس؟
«كونية» نسبة إلى «الكون» ،وهي كما نرى ترجمة حرفية للمصطلح الغربي كما
تقوله االنجليزية « »universalنسبة إلى «ّ .»universe
لكن هذا المعنى الحرفي
مجرد ترجمة التينية ( universum, ّ يخفي أنّه كان أيضا في تاريخ المصطلح
universalisمن « »vertereو« »unumأي «ما هو مو ّجه تماما ،دفعة واحدة،
نحو» ) للفظ يوناني ( )to katholouعرفه العرب القدامى عند نقل نصوص
أرسطو وترجموه بلفظة «الكلّي» في مقابل «الجزئي» (.)to kath’hekaston
لكن لفظ « »universumوالجمع الكلي اكتشاف فلسفي ينسبه أرسطو إلى سقراطّ .6
« »universaكان يعني لدى سيسرون «جملة األشياء» ومن ث ّم جملة «الكون».
«الكوني» إذن ليس «كليًّا» ،وهو ليس واحدا بل وجهة نحو الواحد الذي يجمع
األشياء بناء على «االتساق» وليس على «الحصر» .هنا علينا أن نستعمل «المعنى»
(الجهد البشري للتفاهم بوصفه أفقا «كونيا») وليس «الماهية» (التي تدّعي أنّها
«كلية»).
هذه النظرة السريعة على تاريخ المصطلح في مختلف اللغات الميتافيزيقية للفلسفة
تضعنا رأسا أمام التصادم المفهومي بين معنيين ال يراهما (أو ال يريد أن يراهما)
كرس اختيارا اصطالحيا واحدا هو « the المتكلّم الغربي «الحديث» الذي ّ
األول التيني يطرح «الكوني» نسبة إلى «الكون» من جهة، : »universalالمعنى ّ
الكل» أو «الجملة» من جهة أخرى .ومن اليسيرومعنى يوناني يعيد «الكلي» إلى « ّ
أن الفارابي أو ابن سينا لم يعرف معنى «الكوني» بل فقط معنى «الكلي». أن نرى ّ
تكمن نكتة اإلشكال في المماهاة التي فرضتها «الحداثة» بين المعنيين ،الحداثة من
حيث هي سياسة للحقيقة ،وليس مجرد حقبة زمنية .ولدينا مثاالن على هذا العنف
التأويلي .مثال كالسيكي هو معنى «المثال» األفالطوني الذي نقده أرسطو قائال:
«ليس ث ّمة أي صفة كلية ( )καθόλουهي جوهر ( .7»)οὐσίαالكلي إذن ليس
أن ما ندّعي أنّه «كلي» ال يعني أنّه كذلك في «وجوده» .الكلي
جوهرا .يعني ذلك ّ
ظاهرة اسمية وليست واقعة أنطولوجية .قد يبدو هذا النقاش ترفا ميتافيزيقيا ّ
لكن
حولتوحولته إلى سياسة للحقيقة .وذلك عندما ّ ّ المسيحية استولت عليه
6
- Aristotle, Metaphysics, A, 6, 986b 4-7; M, 4, 1078b 27-29 ; M, 9, 1086 2-4.
7
- Ibid. Z, 13, 1038b 35
[]7 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
في هذا السياق الصامت أتى المحدثون إلى مصطلح «الكوني» بوصفه منصبا يقع
في مفترق الطرق بين «الكلي» الذي في العلوم و«الكوني» الذي في الكنيسة .كان
النزاع على أشدّه بين تأويلين للكوني :هل هو «كلّي» علمي أم «جامع» كنسي؟ كان
الحل الذي اقترحه كانط هو تنشيط عبارة يونانية أخرى مأثورة عن الفيلسوف الكلبي
وطورها الرواقيون الحقا ،أال وهي ّ ديوجان ( 421-323ق.م).
« ،»kosmopolitêsوهو مصطلح مر ّكب من « »kosmosأي «العالم» ومن «
إن المعنى الذي اقترحه كانط وعصر التنوير معه هو »politêsأي «المواطن»ّ .
8
- Cf. Georges Mailhos, « De la construction de l’uiversel », in : Horizons Maghrébins- Le droit à la mémoire/
Année 2007/ 56/ p. 162.
1. Ignace d’Antioche, Lettre aux Smyrniotes, VIII, 2.
[]8 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
ّ
أن «الكوني» ال يجدر به أن يعني سوى «مواطنة العالم» .إذ كانت إجابة ديوجان،
حين سئل «من أين أتيت؟» ،أن قال« :أنا مواطن من العالم (.»)kosmopolitês
حق/قانون كسموبولتاني» ( ius وفي سنة 1795اقترح كانط اختراع إرساء « ّ
ّ )cosmopoliticum
ينظم نوعا من «الضيافة الكونية» بين المحدثين.
كان ذلك أفضل ما منحتنا إياه فكرة «الجامعة» الحديثة لدينا والتي ظلّت تواصل
التقليد األوروبي في ترتيب درس الفلسفة بوصفه جنسا أدبيا البد أن ينضوي تحت
مشروع «األنوار» كما تبدّى خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشرّ .
لكن
هذا النوع من «الكوني» الميتافيزيقي واألخالقي قد انقلب فجأة منذ ( 1800مع عودة
بأن الغرب هو بتعبير إدوارد سعيد «واقعة انتصاب مفاجئ لفكرة تقول ّ
إمبراطورية» وليس «عصر تنوير») إلى جهاز استعماري للهيمنة على الشعوب
«غير الغربية» التي ت ّم استثناؤها من برنامج التنوير الميتازيزيقي أو األخالقي
للحداثة ومعاملتها بوصفه «موضوعا» للحداثة وليس «ذاتا» لها .في هذا اإلطار
تحديدا كان اهتمامي بهيغل بوصفه عالمة «إمبراطورية» تسللت إلى جسم المفهوم
وتحولت إلى سردية لم تعد ّ الفلسفي ومعه فقدت الفلسفة كل براءتها التنويرية
«كونية» وإنما صارت «كونانية» ( )universalistتفرض «الكوني» وال تنتجه.
عرف الفلسفة سنة 1821في تصدير كتابه كان هيغل متّسقا مع نفسه عندما ّ
«الخطوط األساسية لفلسفة القانون» (وهو كتاب كنت قد ترجمته سنة 1989ولم
نتصور ما هو كائن هو مه ّمة الفلسفة ،وذلك ّ
أن ما ّ أنشره إلى حدّ اآلن) قائال« :أن
فإن ك ّل واحد من الناس هو على كل حالهو كائن إنّما هو العقل .وفيما يتعلق بالفرد ّ
ابن عصره؛ كذلك الفلسفة ،فهي عصرها مدركا في الفكر» .
10
لقد وضعنا هيغل أمام وضع «عالمي» يتطلب م ّنا أن نف ّكر بشكل «عالمي».
والمشكل هو مدى قدرتنا على أن نأخذ هيغل بجدّية ،وال نتعامل معه كمادة مدرسية.
وهذا األمر ش ّخصه فالسفة غربيون من قبيل نيتشه وهيدغر ومرلوبنتي وباطاي
وليفناس ودريدا ودولوز وفوكو وهابرماس وبتلر .وهنا نعثر على خيط يمكن أن
يساعدنا على تعريف «قارئ التراث» في مقابل «المتفلسف» :هو كل كاتب يطرح
مشاكله بشكل «محلّي» معزول .أ ّما «المتفلسف» فهو ذاك الذي أخذ هيغل بجدّية،
سس خطاب الهيمنة «الكونانية» للغرب بل هيغل الذي «فشل» ليس هيغل الذي أ ّ
أيضا كما أشار إلى جورج باطايّ .
إن «فشل» هيغل أكثر طرافة من نجاحه التأ ّملي.
ونحن نقرأ هذا الفشل بأنّه ال يرانا.
10
- Hegel, Grundlinien der Philosophie des Rechts (1821), Verlag von Felix Meiner, Leipzig 1911, p. 15: „Das was
ist zu begreifen, ist die Aufgabe der Philosophie, denn das, was ist, ist die Vernunft. Was das Individuum betrifft,
“so ist ohnehin jedes ein Sohn seiner Zeit; so ist auch die Philosophie, ihre Zeit in Gedanken erlaßt.
[]9 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
ولذلك كان السؤال الهادي في مقدمة كتابي «فلسفة النوابت» هو هكذا'« :ما العمل'
أن المحاولة المناسبة عندئذ هي أن أرسم ًّ
خطا في نهاية الميتافيزيقا؟» .وقد وجدت ّ
المرئيا ومستحيال بين فاتحتين فلسفيتين أثبتهما في رأس المقدمة :بين هيدغر (الذي
يقول سنة 1946ضمن «رسالة في اإلنسانو ّية»« :إ ّننا لم نتدبّر ماهية الفعل بما
يكفي من الحسم بعد») وبين ابن باجة (الذي يقول سنة 1138ضمن «تدبير
المتو ّحد»« :فأ ّما من وقع على رأي صادق لم يكن في تلك المدينة أو كان فيها نقيضه
هو المعتمد ،فإنّهم يس ّمون النوابت») .كان المشكل الكبير إذن -ذلك الذي يمكن أن
يدعو جيلنا إلى التفلسف وليس إلى قراءة التراث -هو :أن نستشكل العالقة الممكنة
بين «أزمة» الغرب حيث أخذ يعيد منذ مطلع القرن التاسع عشر كتابة تاريخه
الروحي ويتف ّحص أدواته تحت عنوان «نهاية الميتافيزيقا» وبين «استئناف» العرب
تعطل منذ ابن خلدون .الغرب تحت وطأة العالقة «الكولونيالية» لعمل التفكير الذي ّ
في أزمة -هذا واضح منذ الرومانسيين -لكنّنا ال نملك أفقا لالستقالل عنه إالّ بالعبور
ّ
وألن اإلسالم الميتافيزيقي واألخالقي في أفق المشاكل التي فرضها على اإلنسانية.
يتجزأ من السردية التوحيدية التي تعدّ الحداثة الكولونيالية تتويجا معلمنا ّ جزء ال
تورط ميتافيزيقي أو أخالقي ي ّ ومعولما لها ،فإنّه ال ّ
يحق لنا أبدا أن نعفي أنفسنا من أ ّ
ي ملجأ «ديكولونالي» خارجي في نفس التقليد .وبالتالي نحن ممنوعون سلفا من أ ّ
حقًّا وهو «تباعد ميتافيزيقي» يتمتّع به مثال مف ّكرون في تقاليد أخرى مثل الفالسفة
األفارقة أو الفالسفة «األمريكيين-األصليين» أو البوذيين.
[]10 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
إذن المشكل هو :كيف نبني «كونيًّا» بال إرادة هيمنة «كلّية»؟ كيف نميّز بين
«الكونية» ( )universalityو«الكليّة» ()totality؟ -وهنا يمكننا أن نستفيد بشكل
كبير من كتابات إيمانويل ليفناس .علينا أن نقرأ «الكوني» بوصفه «مطلقا» أو
«المتناهيا» .ك ّل ما يشعر به شعب بشكل مطلق هو كوني ،نسبة إلى «الكون» كما
يأتي إلى أفق البشر .وهذا يعني أنّه نوع من «الخارجيّة» التي ال يمكن ألي طرف
التفوق على غيرها باسم ّ أن يحصرها في «هوهو» أو في «كلية» مغلقة تدّعي
«مفهوم» الكوني .علينا أن ننظر إلى ما هو «كوني» على أنّه «كثرة بال كلّي»
( )une multiplicité sans totalكما يقول ليفناس .11وهي كثرة ليس لها من
ي متكلّم أن يدّعي أنّه يملك «باطنيّة» ّ
تتفوق مح ّل سوى اللغة :هناك حيث ال يمكن أل ّ
علينا .ويل ّخص ليفناس هذا النوع من اللقاء مع اآلخر في استعارة «الوجه لوجه»
في الخطاب ،حيث ال أحد يمكنه معاملة اآلخر بوصفه «موضوعا» لوعيه .ويؤ ّكد
ي مفهوم يمكنه أن يدرك الخارجيّة» 12التي يالقيها.أنّه «ليس ث ّمة أ ّ
-لننتقل إلى إشكال ذي صلة بموضوع الهوية كذلك :لقد عرضت في كتابك
«الهوية والحرية :نحو أنوار جديدة» (جداول )2011 ،لثنائية «الهوية»
و«الحرية» ،و«الحيوي» و«الهووي» وبينت أن الحيوي قبل الهووي
والحرية سابقة على الهوية .كيف تقابل هذا بما يطرحه فالسفة الهوية
من الجماعاتيين -على اختالف مشاربهم وفلسفاتهم -من أن حرية الفرد
(أو ربما بمصطلحاتك« :الحيوي») غير مفهومة ما لم تعاش في سياق
هوية جامعة («التقليد»« ،التراث»« ،مصادر الذات»؛ إلخ) وبعبارة
مشاغبة :أن «الحيوي» لن يفهم دون «الهووي»؟
ينبغي التنبيه هنا إلى معضلة منهجية ترزح تحتها كل محاوالت التفكير في أفق
فهمنا الحالي ألنفسنا :أال وهي استعمال »المصطلحات» الغربية في سياقاتنا وكأنّنا
صا نتكلّم عن «نفس الشيء» .لنأخذ مثاال على ذلك مصطلح «الهوية» .فحين نقرأ ن ًّ
غربيًّا كتبه تشارلز تايلور في كتابه «مصادر النفس» ( The Sources of the
صا عربيًّا-إسالميًّا
)Selfعن «الطريقة الحديثة في صنع الهوية» ( ،13)1989ون ًّ
للفقيد حسن حنفي عن «الهوية» ضمن كتابه «مقدمة في علم االستغراب»
( 14)1991عن «دعوته إلى إبداع األنا في مقابل تقليد اآلخر ،وإمكانية تحويل اآلخر
11
- Emmanuel Levinas, Totalité et infini. Essai sur l’extériorité (Paris : Le Livre de Poche, 1990), p. 327.
12
- Ibid. p. 329.
13
- Charles Taylor, Sources of the Self: The Making of the Modern Identity (Cambridge: Harvard University
Press, 1989).
- 14حسن حنفي ،مقدمة في علم االستغراب (القاهرة :الدار الفنية للنشر والتوزيع.)1991 ،
[]11 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
إلى موضوع للعلم بدال من أن يكون مصدرا للعلم» ،وهو موقف يج ّمعه تحت
مصطلح «االستغراب» بوصفه الشكل الوحيد لمقاومة «التغريب» ،15أي وضعية
تحول األنا إلى آخر» -17إذا قرأنا هذين
من «ال هوية له» 16حيث نالحظ «كيف ّ
صة تفكير واحدة سوف نكتشف أنّنا ال نتحدّث عن «نفس الشيء»: صين على من ّ الن ّ
نؤرخ للهوية األوروبية بوصفها «تاريخ نفسها» ،وهو إن مشكلة تايلور هي كيف ّ ّ
تكون وظهور معنى «الباطنيّة» المميّزة للذات (التي تجري حسب تاريخ يجري عبر ّ
تأويله من أفالطون وأغسطينوس إلى المحدثين مثل مونتانيي وديكارت ولوك) ،ث ّم
عبر دعوة اإلصالح البروتستانتي إلى إقرار القيمة «اإلتيقية» لدائرة «الحياة
العادية» المر ّكزة على العائلة والعمل ،ث ّم عبر اكتشاف المحدثين منذ القرن السابع
عشر لما س ّمي «صوت الطبيعة» الثاوي في صلب «الوعي» ،ومن ث ّم بناء الصورة
الموجبة لتاريخ الوعي بوصفه «تقدّما أخالقيا».
أ ّما في حالة حسن حنفي فنحن نجد محاولة لالستغراب في مواجهة التغريب :إنّه
جردنا من هويتها األصيلة وعلينا أن نواجهه،
يقدّم تاريخا لآلخر بوصفه خصما ّ
نحوله إلى «موضوع» للعلم بدل أن يكون «مصدرا» للعلم .نحن ال نعثر وذلك بأن ّ
ي «تذويت» ألنفسنا هنا بل على عمليّة «موضعة» للغرب بوصفه «آخر». على أ ّ
تعرف على الطريق إلى «إبداع األنا»ي ّوهو يعتبر هذا اإلجراء شرط إمكان أ ّ
الخاص بنا .كان تايلور يف ّكر «بال آخر» أ ّما حنفي فهو «يستغرب» (يدرس الغرب)
«بال أنا».
لو أعدنا اآلن صياغة المشكلة التي ته ّمني« :الحرية قبل الهوية» .وفحصنا
بأن «الحيوي لن يفهم دون الهووي» .لنالحظ ّأوال االعتراض «الجماعوي» القائل ّ
أن مفردات السؤال قد تغيّرت« .قبل» الهوية ال تعني «دون» الهوية .ال يتعلّق األمر
ّ
بقرار عدمي للتغريب (القضاء على الهوية أو االستغناء عنها) بل بترتيب منهجي
لألولويات ،أي بتقويم لما س ّماه كانط ذات مرة «مصلحة العقل» وليس «إدراك
إن «الحرية» هي مفهومة هنا في معنى يتصور الفقهاءّ .
ّ المصالح بالعقل» كما
«شكل الحياة» المنشودة من قِبل جيل من الناس ،الحياة التي تكون حسب تعبير
جوديث بتلر «قابلة للحياة» وليس عبأ أخالقيا على أجسادهم .ما تفترضه الفلسفة
هنا هو أنّه ال شيء يسبق الحياة :في البدء كانت الحياة ثم جاءت المؤسسة البشرية
من أجل تنظيم النسل وتحديد الهوية ورسم مساحة العقل وضبط جملة مقوالت
وألن الحرية هي شكل الحياة فإنّه ال يحق ألحد أن ّ
يشرع لنا هويتنا قبل ّ أرسطو.
- 15نفسه ،ص 22
- 16نفسه ،ص 23
- 17نفسه ،ص 25
[]12 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
أجسادنا ،نعني قبل تش ّكل حياتنا التي نحياها بكل جدارة أنطولوجية .كل ما أتى بعد
ّ
مشتق وليس أصليًّا .وحدها الحياة تأتي بال هدف جاهز. أجسادنا هو جهاز هووي
وهذا هو المعنى البريء للحرية :إنّها حرية البراءة أو ال تكون .الحرية بوصفها
نوعا من البراءة التي ال تقبل التفاوض مع أحد ،مهما كان دوره الهووي.
بأن حريته غير قابلة للعيش من دون هوية .هي وحدها جماعة مرعبة تقنع «الفرد» ّ
تكون قد سرقت منه أفق المعنى المتاح له في جسده وفي عصره ،ووضعت مكانه
إن أخطر ما تقوم به الجماعةنطاقا هوويًّا مراقبا ومنقّى من كل عناصر االعتراضّ .
الكبرى أو ما يس ّمى «األمة» هو «تشييء» الهوية بحيث يمكنها احتكار ملكيتها أو
التكلّم باسمها .وهي ال تفعل ذلك ألسباب واهية بل ألسباب أنطولوجية خطيرة جدّا،
أال وهي معاملة «الكينونة» نفسها ،وبالتالي معاملة «المقدسات» و«الحقيقة»
لكن الهوية ليست «شيئا» بلو«األلوهة» نفسها بوصفها «شيئا» تملكه سلطة ماّ .
تلك القدرة على تش ّكل «الذات» وهي تخوض صراعا مع نوع معيّن من «التشيّؤ»،
قد يكون تشيّؤ المعرفة أو تشيّؤ السلطة أو تشيّؤ الدين أو تشيّؤ الجنس ،إلخ .ولذلك
ليس من البديهي أن يكون أحدهم «ذاتا» .بل عليه أن يصير كذلك بقدر استعداده
إن شكل حياتك ليس معطى من أحد ،بل هو ما تبنيه لتجريب هذا المستحيل الصغيرّ :
صتك التي لن تكتبها أبدا إالّ عرضا .وهذا يعني ّ
أن الفرد نفسه ال بنفسك داخل ق ّ
[]13 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
ّ -
إن استقبال العلمانية لدينا يبدو غريبًا إن قلبنا النظر في األمر .فالعلمانية
عادةً ما ترى بوصفها ضر ًبا من الهوية وااللتزام السياسي االجتماعي،
حيث يوضع «المتدين» أو «اإلسالمي» إزاء «العلماني» دون وجود أي
مماثال ً -
مثال -في ً أطر جامعة بينهما .بينما ال يبدو استعمال المصطلح
الغرب؛ حيث معارضة «المتدين» لغيره ال تأتي في سياق أسس تنظيم
الدولة الحديثة أو «شكل السلطة وتداولها» أو «المواطنة» أو بعض
أمورا من قبيل القراراتً المسلمات االجتماعية الضمنية؛ وإنما تطال
السياسية التفصيلية؛ وفي لبها ،هي اختالف حول «الخيرات» األصلح
للـ«مواطن» .إذ يبدو لي األمر وكأننا نستعمل الكلمة «خطأ تصنيفيًا»
( .)Category mistakeهل تتفق مع هذا التوصيف؟ وبم نفهم هذا
االختالف بين «العلمانيتين»؟
يقول رايل في مقالة نشرها سنة 1938تحت عنوان «مقوالت»« :نحن نكون في
ظلمة فيما يتعلق بطبيعة المشاكل والمناهج الفلسفية إذا كنّا في ظلمة حول األصناف
أو المقوالت».18
المشكل هو استعمال بعض المصطلحات دون أن نتبيّن أنّها تنتمي إلى «صنف»
دون آخر أو تقع تحت «مقولة» دون أخرى .وهو ما أطلق عليه رايل في الفصل
األول من كتابه «مفهوم الذهن» ( ،)1949والذي عنوانه «أسطورة ديكارت»،
19
اسم «الخطأ في المقولة» أو «الخطأ التصنيفي».
18
- G. Ryle, “Categories”, in: Proceedings of the Aristotelian Society, New Series, Vol. 38 (1937 - 1938), pp. 189.
19
- G. Ryle, The Concept of Mind (London: Hutchinson University Library, 1949), p. 16.
[]14 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
تبدو مه ّمة الفلسفة هنا قائمة على التمييز بين «الفئات» أو «المقوالت» التي تندرج
تحتها «المفاهيم» التي نستعملها .نحن ال نأتي إلى األلفاظ في معانيها النحوية بل في
داللتها «المقولية» ،أي تلك التي تستمدّها من نوع من التصنيف على مستوى القضايا
أو الخطاب.
لو طبّقنا هذا «الخطأ التصنيفي» على العلمانية لوصلنا إلى نتيجة مشابهة :هي لدينا
ي بين «مواطن» الدولة القانونية و«مؤمن» الدين تحولت إلى نزاع هوو ّ ّ قد
أن الغرب قد شهد «عصرا علمانيا» حسب تعبير تايلور ،يدور الجماعوي .والحال ّ
فيه نقاش عمومي بين «مواطنين» ،بعضهم «متديّن» وبعضهم «غير متديّن» ،وهذا
مجرد نزاع في «الترجمة»:
ّ يعني حسب توصيف هابرماس ّ
أن النزاع السياسي هو
ترجمة «المضامين الدينية» في لغة القانون الحديث وترجمة «المصطلحات
تمس المنزلة الدستورية
ّ لكن هذه الترجمة الالقانونية» في لغة التعبير الدينيّ .
والمدنية لصفة «المواطن».
إن تكلّم معجم الدولة الحديثة هو الذي ولكن هل »نحن» مواطنون؟ أم «رعايا»؟ ّ
سمح لنا «سهوا» أن نعتبر أنفسنا «أفرادا» و«أشخاصا» و«مواطنين» .ولكن هل
نحن كذلك فعال لو فحصنا األمر فحصا دقيقا ،نعني نضع في االعتبار «واقعة»
اإلنسان كما نعيشها ،وليس كما تحدّثنا عنها الدولة؛ أعني دولة «األمر الواقع» ،أي
الدولة من جهة ما هي سلطة دنيوية ويومية دون أي تعليق أخالقي آخر .هناك عنف
سسها «قانونيًّا» صب صفة «المواطن» في س ّجالتنا اإلدارية وأ ّ تأويلي هو الذي ن ّ
مجرد تنصيبات ّ باعتبارها قائمة بداهة على «الهوية» أو «الجنسية» التي هي أيضا
إدارية فرضها منطق الدولة الحديثة ولم يت ّم بناؤها واالشتغال عليها فعليًّا .ال تزال
هذه المفاهيم تعطى في شكل «منح» هووية لنوع من المحكومين الذين ت ّم تجميعهم
تحت عنوان قانوني من اختراع المحدثين منذ هوبس يحمل اسم «الشعب» .وكان
ذلك عنوانا رسميًّا ت ّم وضعه مكان عنوان سابق هو «جمهور المؤمنين» في نطاق
دولة «الملة».
لو نظرنا اآلن من زاوية النقاش بين «العلمانيين» و«الدينيين» لوجدنا أنّه من حيث
بتطور
ّ المصطلح نقاش مستورد .وهذا يعني أنّه ظاهرة محلّية وريفية خاصة
[]15 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
المجتمع األوروبي المسيحي تحديدا .وهو مجتمع كان مهيّأ من حيث بنيته المتنازع
عليها بين «الزمني» و«الروحاني» أو بين مؤسسة «الكنيسة» ومؤسسة «الحكم»
المكرس ثقافيا وقانونيا وأخالقيا بين منطقة
ّ الهوة أو االنفصال
لرصد تلك المسافة أو ّ
متسرع على أنّها تعني «الدين») ومنطقة ّ «( »religioالتي نترجمها بشكل
««( »status rei publicaeحالة الشأن العام» أي «شكل الحكم») .وعلى الرغم
من ظهور الدولة الحديثة بعد معاهدة واستفاليا سنة 1648فهي لم تغيّر كثيرا من
نظمته بتكريس مبدأ ««( »cujus regio, ejus religioمثل جوهر النزاع بل ّ
األمير ،مثل الدين» ،أي «كما يكون األمير ،يكون الدين») :لقد استولت الدولة
الحديثة على منطقة الدين وصارت مؤسسة من مؤسساتها ،وذلك باعتبار ّ
أن ذلك
هو المخرج الوحيد المتاح من عصر «حرب األديان» في أوروبا.
أن نقاش «المثقفين» حول العلمانية هو موقف متأ ّخر ،وهو مفعول خطابي ذلك يعني ّ
فإن التحاق «المسلمين» بالنقاش هو نفسه ظاهرة لنزاع سياسي سابق بقرون .ولذلك ّ
مجرد تمديد إبستيمولوجي لنقاش كولونيالي ال
ّ يجب دراستها .مثال :قد يكون النقاش
نملك رهانه الداخلي .وت ّم استيراده وفرضه على عقولنا كما ت ّم فرض كل
أن الملة اإلسالمية لم تعرف ذلك الفصل «إبستيمولوجيا الشمال» .لكن المربك هو ّ
أن الدفاع عنالبنيوي والمؤسساتي المشار إليه بين الكنيسة وشكل الحكم ،ومن ث ّم ّ
العلمانية أو نقدها هو نقاش ريفي ومحلي خاص باألوروبيين ،قد يكون ملهاة تاريخية
عن لبّ اإلشكال السياسي الذي لدينا :نحن نعاني من نوع آخر أو معاكس من سياسة
الحقيقة .فحيثما كانت المسيحية ترسم جدار الفصل بين الروحي والزمني ،وبالتالي
تجزء ماهية السيادة وتقتطع منها جزءا تطالبه باالعتراف به تحرج الحاكم ألنّها ّ
بوصفه منطقة تقع «خارج» سلطته ،وهو ما أدّى به بعد قرون طويلة إلى االستيالء
«القانوني» عليه ومأسسته باسم «العصر العلماني»؛ فإ ّن اإلسالم لم يكن
« »religioبالمعنى المسيحي بل هو «دين» بالمعنى العربي :أي شكل من
ي فاصل بين الروحي والزمني بل يقع «الطاعة» االستخالفية المطلقة حيث يغيب أ ّ
«تسييس» كل مساحة الفعل البشري ليس فقط في حدود «الحياة» بل في العالقة
ي «علمنة إسالمية» فهي تناقض في األلفاظ. «بالموت» أيضا .ومن ث ّم ال معنى أل ّ
أ ّما الجدال بين العلمانيين العرب واإلسالميين فهو نزاع خارجي وشبه كولونيالي
ألنّه ناتج عن وضع اضطراري ،وليس له سوى فائدة «دفاعية» أو «تفاوضية»
أن االحتجاج بمكاسب العلمانيةلتحسين شروط الحرية في فضاءاتنا العمومية .ذلك ّ
الغربية ضد تخلّف حجج اإلسالميين حول الحياة المشتركة هو نصر كولونيالي
عليهم ،وليس استشكاال أصيال للمشكل السياسي لدينا .هو تكريس م ّجاني
[]16 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
إلبستيمولوجيا الشمال دون مساعدة حقيقية لنمط تفكيرنا على تحرير نفسه من
الداخل.
بدال من النقاش حول العلمانية كان يجدر بنا ،مثال ،أن نجذّر أسئلتنا حول
«االستخالف» :لماذا ت ّم تنصيب فكرة االستخالف بوصفها ماهية السلطة في أفق
أن ثالثية األب/الملك/اإلله (الواحد) ال تزال صالحةالمؤمنين باإلله الواحد؟ وهل ّ
تصور للحرية على األرض؟ لماذا ال يزال رهط من الناس في هذا القسط ّ لبلورة
األول من القرن « 21ينجح» في استدعاء آلة االستخالف وفي تنصيبها مثل شاشة
شة وعدم التردّد في مطالبة ماليين المسلمين باالستجابة مرعبة في أفق حياتنا اله ّ
إلى دعواه كأنّه يملك تفويضا إلهيًّا في الغرض؟ لماذا نواصل تحاشي هذا الصدام
ونعوضه بانتصارات علمانية وهميّة عليها من خارج أفقها؟ يبدوّ مع مصادر أنفسنا؟
أن كل سجال علماني في أفقنا هو تأجيل لألسئلة الجذرية حول سياسة الحقيقة التي ّ
تحكمنا جميعا واالستعاضة عنها بمرافقة سياحيّة ما بعد-كولونيالية للنقاش الغربي
حول تاريخه الخاص بعد استيراده وتطبيقه في شكل من التنوير العنيف.
ما يجب أن ندافع عنه هو «المواطنة» بوصفها صفة تقع ما وراء النزاع بين
العلمانيين والدينيين .المواطنة ليست عقيدة تعادي عقيدة مضادة هي الدين .الدين لم
يعد أفقا للنقاش حول أنفسنا الجديدة إالّ من جهة سياسات الذاكرة أو سرديات الهوية
تصورات الخير .هذا ما يمكن أن نستفيده من الفلسفات ّ أو نماذج العيش أو
لكن المواطنة ،أي النقاش العمومي حول «حرية» الفرد أو حول الجماعاتيةّ .
«العدل» في «المجتمع المدني» وليس «المجتمع-الجماعة» -الذي يحتفظ بقدر هائل
من قيم الملة ويحضنها حتى بعد موتها التاريخي -فهي مشكل غير هووي وغير
سردي وال يمكن أن يحسم بالتعويل المخاتل على سياسات الذاكرة أو سرديات الهوية
تصورات الخير .المواطنة هي االستعمال الحر لمساحة المشترك ّ أو نماذج العيش أو
بين األجساد-األفراد المتساوين أخالقيا وقانونيا.
-يبدو أن كتابك األخير «اإليمان الحر أو ما بعد الملة» (مؤمنون بال حدود،
)2019كان إجابة طويلة عن سؤال عالقة الهوية بالدين؛ حيث ميزت بين
«اإليمان الحر» و «حرية المعتقد» .بم يختلف األول عن الثاني؟
ي
حر ،دون أي إمالء الهوتي محصور للمعتقد ،ودون أ ّ الفرق بين أن تؤمن بشكل ّ
حصر مسبق لما يمكن للناس أن يؤمنوا به من عند أنفسهم ،وبين أن تدع المؤمنين
«اآلخرين» والمختلفين يمارسون «حقّهم» في ما يؤمنون به دون أ ّ
ي إكراه ،باسم
[]17 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
الحر يخلق ما يؤمن بهّ «حرية الضمير»؛ هما مشكالن مختلفان تماما .المؤمن
ويختار نفسه ،وبهذا المعنى هو يخترع عالقته بتراثه الخاص أو بمصادر نفسه
العميقة .ولذلك هو في خصومة حادّة مع ك ّل توريث للمعتقدات ّ
ألن ك ّل معتقد ّ
تحول
إلى «مؤسسة» دينية هو ينتهي إلى تكفير «اآلخرين» أو محاكمتهم أو نفيهم أو
المتصوفة هم بمعنى ما مؤمنون أحرار وذلك أنّهم
ّ البراء منهم .وفي تقديري ّ
أن
الحر ليس مؤمنا تقليديا وال مؤمنا
ّ ليسوا «مؤمنين نظاميين» إالّ عرضا .المؤمن
حر» لخطاب فقدنا الصلة بأفقهرسميًّا وال متديّنا بالمعنى التقني .بل هو «مستمع ّ
مكرس باسم نوع معيّن من نص» (بالمعنى الحديث) ّ تحول إلى « ّاألصلي بعد أن ّ
السلطة ،أكانت سلطة «الفرقة» أو «الطائفة» أو «الخالفة» أو «الدولة» .المؤمن
الحر يقع «خارجا» بكل قصد ألنّه صار «فردا» بال رجعة ولم يعد «عضوا» في ّ
أي «جماعة» أكانت سياسية أم تأويلية.
أ ّما «حرية المعتقد» فهي شيء آخر :هي مكسب حقوقي لنوع من المعجم السياسي
سس نفسه على فرضية «القانون الطبيعي» ،وهو بذلك مرتبط في داللته الذي أ ّ
وحولته إلى
ّ بوجود الدولة الليبرالية الحديثة ،تلك التي استولت على منطقة الدين
إحدى مؤسساتها الرسمية .وتعني حرية المعتقد أو حرية الضمير «حق» كل
«شخص» أو كل «فرد» في اعتناق نوع من المعتقدات التي «يريد» اعتناقها
وممارستها بكل حرية .بيد أنّه من دون إقرار مقولة «الفرد» ّ
فإن الحديث في دساتير
الدولة الحديثة عن «حرية المعتقد» هو تنويع أسلوبي فقط .وهو ما تفعله أغلب الدول
[]18 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
أن لبّ المشكل ال يكمن في المعتقد نفسه بل في الحرية. حتى الغربية منها .وذلك ّ
تعني «الحرية» هنا احتفاظ الفرد بحقّه في اختيار ما يؤمن به أو تغييره أو عدم
لكن ذلك سرعان ما يصطدم بسلطة الدولة نفسها ،تلك الدولة التي كانت اإليمان بهّ .
قد احتفظت لنفسها بعالقة مميّزة مع هذا المعتقد أو ذاك .ومن ناحية فلسفية يوجد
أن «اإلنسان» مفهوم لم يظهر إشكال في مفهوم «حرية المعتقد» في حالتين :إ ّما ّ
بعد ،نعني لم يت ّم تكريسه بوصفه هو األساس الوجودي الوحيد والكوني لما نسميه
مجرد «أثر» إلرادة إلهية تمتلك «حقوقا متعالية» يجب ّ «طبيعة بشرية» ،وليس
أن «الحرية» التي يطالب بها مؤمن ما سوف تهدّد الجهاز تقديسها بإطالق؛ وإ ّما ّ
الروحي الذي أقامت عليها الدولة القائمة شرعيتها.
ألن «اإلنسان» الذي أن حرية المعتقد غير ممكنة ّ ومن ث ّم نحن أمام مشكلين :إ ّما ّ
فإن حقّه مؤ ّجل إلى جيل آخر؛ وإ ّما أنّها
نتحدث عنه لم يصبح «فردا» بعد ،وبالتالي ّ
حرية ممنوعة ألنّها حرية خطيرة تغيّر العالقة بالمعتقد وبالتالي تضع شرعية الدولة
موضع تهديد .الحالة األولى هي الحالة السائدة في مجتمعاتنا العربية واإلسالمية؛
أ ّما الحالة الثانية فيمكن أن توجد حتى في الدول الغربية .ولو ألقينا نظرة سريعة
على الفقرة 18من «اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان» الذي صيغ سنة ،1948
باإلنجليزية ،لوجدناه يقول:
لو قرأنا الترجمة العربية التي تعتمدها ،مثال« ،مفوضية األمم المتحدة السامية
لحقوق اإلنسان» ضمن «المعاهدات الدولية األساسية لحقوق اإلنسان" بالعربية-،20
لالحظنا التحويرات التالية:
أ« -كل واحد» من الناس صارت «لكل شخص» :وعلينا أن نسأل :ماذا لو ّ
أن مقولة
تطورا أخالقيا خاصا بنوع من ّ «الشخص» ليست مقصودة هنا ألنّها تفترض
تمت ترجمة مصطلح « »conscienceبعبارة «الوجدان» ( يقال ّ الثقافات؟ ب-
- 20مفوضية األمم المتحدة السامية لحقوق اإلنسان ،المعاهدات الدولية األساسية لحقوق اإلنسان ( نيويورك وجنيف :األمم المتحدة،)2006 ،
ص .5
[]19 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
كل هذه المالحظات السريعة تجعلنا نتش ّكك في قدرة ثقافتنا على فهم ما يشير إليه
البند 18من «اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان» .ومكمن الصعوبة من الناحية
الفلسفية هو في تقديري أنّها ثقافة تفضّل أن تترجم «( »the universalالكوني)
بعبارة «العالمي» .وعلينا أن نرى نوعية الحرج الميتافيزيقي والسياسي الذي يقع
أن «حقوق اإلنسان» ليست «كونية» (أي مستمدّة من «الطبيعة البشرية» تفاديهّ .
يتجزأ من طبيعة «الكون» بعامة) ،بل هي ّ بما هي كذلك باعتبارها جزءا ال
«عالمية» (أي نسبة إلى «العالم» كما هو قائم اليوم تحت سلطة نوع من الدول التي
تعرف ماهية «اإلنسان» ي حق في أن تفرض على الدول األخرى كيف ّ ال تملك أ ّ
بسبب مبدأ السيادة الحديث ،ولكن يمكنها بسبب قوتها الكولونيالية أن تش ّجع فقط على
اعتناق مجموعة من المبادئ والقيم العامة دون فرضها).
-يالحظ القارئ في كتاباتك تعاط ًفا واشتباكًا تحليليًا مع كتابات أدباء عرب
(درويش ،المسعدي ،جبران) أكثر من غيرهم من المفكرين والباحثين
العرب الذين تكلفوا -صراحةً -ببحث مسألة الحداثة العربية ،وكأنك تتلمس
في هؤالء األدباء «حداثةً عربية» لم تجدها عند غيرهم .أتتفق مع هذا
[]20 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
التوصيف؟ وهل تؤيد الرأي الشائع الذي مفاده أن «حداثة العرب» لم
تتحقق إال في األدب؟
أن «الحداثة» هي األفق الشعري الذي نبحث عنه أو نسعى يفترض هذا التوصيف ّ
إلى التطابق معه .وهذا نفسه مشكل مزعج واألمر المطروح أكثر تعقيدا .ربما كان
هناك جيل واسع من الشعراء واألدباء الذين رغبوا بشدّة في تأسيس «حداثة عربية»
أن مقولة «الشاعر» أوعلى منوال الحداثة «الغربية» .إالّ أنّه من النادر أن نالحظ ّ
«األديب» نفسها هي في أفقنا ما بعد الكولونيالي قد تغيّرت بشكل خطير .نحن لم
نعد نلتقي بشخصية الشاعر أو األديب «التقليدي» رغم أنّه مازال يظهر دونما خجل
يذكر .ث ّمة قدر جديد للشعراء قد أخذ يرنو في األفق.
يؤ ّكد فيلسوف مثل آالن باديو في كتاب له يحمل عنوانا له «فيم يف ّكر القصيد؟»،21
أنّه ،منذ القرن الثامن عشر ،قد ظهر في التقليد األوروبي نوع من الشعراء
تحولوا في األثناء إلى
«المضادين للفلسفة» .كان الفالسفة عندئذ متغطرسين إذ ّ
أصحاب أنساق ومنظومات تأ ّملية مطلقة .وردّ الشعراء عليهم بتدشين ما س ّماه باديو
«عصر الشعراء» الذي هو عصر يقصد أن يكون «فلسفيًّا مضادًّا» حيث يمكن
«التفكير» بال مفهوم .وهو عصر يمتدّ في كتابات شعراء (ما بين 1870و)1960
مثل رامبو وماالرميه وبوسوا وسيالن.
أن شعراءنا وأدباءنا من جبرانأ ّما نحن فال نملك هذا الترف الميتافيزيقي .إذ يبدو ّ
إلى درويش لم يكونوا يعانون من تغطرس أو صلف الفالسفة ،فهم لم يظهروا بعد،
ولذلك ال يمكن قراءتهم وكأنّهم «فالسفة مضادّون» ( .)antiphilosophesلنقل:
تستقر لدينا أجناس خطاب تصل العداوة فيما بينها
ّ نحن لم ّ
نوزع األدوار بعد .أو لم
إلى حدّ الصراع حول الحقيقة.
تحول «الكتّاب» (وهو توصيف مقصود أل ّنه بمثابة الدرجة وفي غياب الفالسفة ّ
الصفر من الجنس األدبي) إلى أبطال «شعريين» مه ّمتهم هي قيادة ثقافة فقدت
طريقتها الخاصة في تعليم نفسها وبالتالي دخلت في مرحلة الصيانة أو هي قيد
أن الثقافات «غير الغربية» قد وجدت نفسها (حتى بعد المراجعة بشكل مؤلم .ذلك ّ
االستقالل) تعاني من تهميش كولونيالي داخلي تقوده النخبة ما بعد الكولونيالية
نفسها ،وصار «الكاتب» بعامة يعاني من «شبحيّة» عالمية ومحلّية في نفس الوقت،
أن اللغة نفسها التي يكتب بها هي لغة تعاني من قصور إبستمولوجي ودونيةوذلك ّ
21
- A. Badiou, Que pense le poème ? (Paris : Nous, 2016), p. 29 sqq.
[]21 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
متمرس
ّ المهربين ألنّه قارئ
ّ أخالقية أمام نظيراتها الغربية .من جهة هو كاتب يشبه
باللغات الغربية وليس له مصدر كوني سواها؛ وهو من جهة كاتب هجين ألنّه فقد
نسبه الداخلي إلى نفسه.
وهكذا هو صار يخوض معركة اإلبداع على جبهتين :واحدة ضد نموذج كولونيالي
مستمر فرضته النماذج الحديثة وأخرى ضد الجهاز التقليدي الذي انسحب لكنّه ترك
ّ
فراغا هوويًّا مرعبا .فماذا يمكن أن يكون «الشعر» عندئذ؟
صحيح أنّه قد ظهر في أفق العرب المعاصرين شعراء استعادوا القدرة على اإلبداع
تضره الترجمة) مثل جبران أو درويش .ال يعني ذلك أنّهم ّ «الكوني» (الذي ال
تحولوا فجأة إلى كتّاب «غربيين» أو حقّقوا «الحداثة الشعرية» بالنسبة إلينا .هم فقط
ّ
قطعوا أشواطا هائلة باتجاه تهيئة األفق لنوع غير مسبوق من اللقاء الكبير بأنفسنا
ي من الممكن البديل أو من اآلتي.وبمصادر أنفسنا وبالتالي لنوع قو ّ
طبعا ،كان سؤال باديو ينخرط في تقليد غربي قديم حول الصراع أو التنافس
كرسه أفالطون .وهو صراع صار جزءا من قدر المستمر بين الشاعر والفيلسوف ّ
ّ
أن نيتشه قد ل ّخص المسألة ذات حديث من أحاديث الفلسفة والشعر كليهما .ويبدو ّ
زرادشت عندما اعترف بمرارة قائال« :والحق إنّي ألخجل من أنّه مازال ينبغي
لكن الفلسفة اليوم يمكن أن تعيب على باديو أو هيدغر ّ
أن ي أن أكون شاعرا»ّ . عل ّ
رجوعهما إلى الشعراء كان من أجل تحميلهم مه ّمة غريبة عنهم ،ويبدو ّ
أن الفالسفة
قد عجزوا عنها ،أال وهي مه ّمة «التفكير» في الكينونة ،أو في الحدث في عصر
التقنيةّ .
لكن التفكير ليس مه ّمة الشعراء .وعلينا أن نسأل :لماذا اعتبر األفالطونيون
أن «التفكير» هو أكثر األفعال اإلنسانية نبال وفضال؟ هذا من أفالطون إلى باديو ّ
تصورا يونانيا للتفاضل بين النظر والعمل أماله الشكل ّ االعتبار يعكس
األرستقراطي للحكم .وفي تقديري هذا االختزال لكل عالقة جوهرية بالحقيقة في
مجرد مرض ثقافي «غربي» وليس مطلبا ّ مه ّمة «التفكير» هو في واقع األمر
«كونيا» يجب على كل شاعر على األرض.
أن الشاعر له قدره الخاص .وربما يكون لنا مخرج من أفقما نريد إثباته هنا هو ّ
نستمر
ّ الحداثة الكولونيالية بالشعر .وليس بالسياسة أو بالعلف اإلبستمولوجي الذي
في استهالكه.
[]22 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
صحيح أنّه ليس لدينا بعد «شاعر محض» كما أنّه ليس لدينا بعد «فيلسوف محض».
الشاعر المحض هو الذي ينجح في إبقاء الشعر داخل مه ّمته الخاصة دونما تورط
هووي في معركة غريبة عنه .والشعراء عندنا فهموا «االلتزام» الوجودي فهما
هوويًّا :بوصفه التزاما تجاه «األرض» أو تجاه «الشعب» أو «األمة» ...وهي
قضايا مصيرية لكنها ليست قضايا شعرية إالّ عرضا .ربما ال يزال الشاعر خائفا
من أن يصبح بال انتماء أو بال جمهور أو بال هوية .وكما ال يجدر بالشاعر أن يصبح
«مف ّكرا» كما رغب في ذلك باديو ،كذلك ليس عليه أن يصبح «مثقّفا» يناضل من
إن للشاعر قدره الخاص .وكل تد ّخل هووي في مه ّمته
أجل هوية جاهزة لمجتمعهّ .
ي تد ّخل فلسفي في موضوعه هو تشويه ميتافيزيقي لقدره. مثل أ ّ
فإن الشاعر لدينا قد وجد نفسه مطالبا بأن يمأل الفراغات التي تركهاومع ذلك ّ
أن عليه أن يشغل مه ّمات «النبي» و«الفيلسوف» و«الفتى» وربما أصحابهاّ :
«القائد» الرمزي ...الغائبين أو المستحيلين ...كما تحدّث الشاعر التونسي الصغير
أن شعراءنا قدلكن الواقع هو ّ
أوالد أحمد عن «القيادة الشعرية للثورة» التونسيةّ .
يتفرغوا لتجربة أنفسهم الجديدة إالّ
كتبوا دوما تحت اضطرار هووي مريع ولم ّ
نادرا.
وألن الحداثة هي اليوم «هوية» كولونيالية للغربيين ،ولم تعد أفقا خصبا لتجريبّ
نكف عن انتظار «الحداثة العربية» وكأنّها خبر سار. ّ الكونياتّ ،
فإن علينا أن
شعراؤنا لم يحققوا الحداثة وال ينبغي لهم ذلك .هذا حلم كولونيالي مدسوس في عقول
النخبة وآن األوان للتحرر منه ليس بتنصيب عداوات تأويلية مع الغرب بل من خالل
معارك ذاتية مع أنفسنا السائدة إلى حدّ اآلن.
على الشعراء أن «يكتبوا» فقط .وتعني «الكتابة» (منذ النصف الثاني من القرن
مجرد التجريب/التخريب الجذري إلمكانية أن نكون أنفسنا دون أي ّ العشرين)
ضمانات أخرى .ذلك أنّه ال توجد وصفة جاهزة لمن سنكون .ال أحد يملك صندوقا
هوويا وبالتالي يمكنه أن يزايد علينا في االنتماء .ربما التقصير األخالقي الوحيد
للشاعر هو أنّه مازال يريد أن يعترف به بوصفه كذلك .إنّه ال يزال يخاف المشي
أن طاقة «التخريب» التي صته .والمرعب ّفي الظالم وحيدا من دون رفقة تحكي ق ّ
يفترض أنّها خاصة بالشعر قد ت ّمت سرقتها من الشعراء .ربما سرقتها الدولة الحديثة
لكن من سرقها حقّا هم بالسلطة التي تملكها على الحياة والموت واالستثناء؛ ّ
«اإلرهابيون» :هذا الرهط من الحيوانات العدمية التي تريد تغيير العالم بدون
مساعدة الشعراء ،أي بدون حلم وال استباق وال مستحيل وال ته ّكم اآلتي .إذ يبدو
[]23 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
اإلرهاب شعرا عدميا بال شعراء .هو رهط يزعم أنّه يترجم غضب اإلله التوحيدي
في عصر صار فيه ممنوعا من الكالم .وهذا االستغناء عن الشعراء في اختراع
إن الشاعر هو الذي لن يتوقف أبدا عن البحث عن «السماء المستقبل هو اإلرهابّ .
األخيرة» بعبارة درويش؛ ّ
لكن اإلرهابي هو من يريد إغالق السماء علينا بال رجعة.
-يالحظ بعض المنظرين العرب سباتًا مقل ًقا فيما صار يسمى «الفكر
العربي» ،وهذا السبات رافقته موجة عارمة من الترجمات التي احتلت
مكانها .وقبل عقدين ،في عملك الموسوم بـ«الهوية والزمان» طرحت
السؤال التالي« :هل توجد فلسفة عربية معاصرة؟» .دعني أعيد طرح
السؤال عليك في ضوء ما قلتُ للتو :ما حال الفلسفة لدينا اليوم؟ وكيف
تقيّمون األعمال الحالية؟ وهل العدد المتزايد من الترجمات إشارة طيبة أم
سيئة في عالقتها بالفلسفة العربية؟
أن الفعل اليوناني في درسه الشهير «ما معنى أن نف ّكر؟» 22أشار هيدغر إلى ّ
فإن قرارا« »noeînلم يكن يد ّل في أصله على معنى «التفكير» ،وبالتالي ّ
يتحول إلى «منطق» ّ ميتافيزيقيا متأ ّخرا هو الذي جعل «قول» ( )légeinالكائن
يعرف نفسه عندئذ بأنّه «ماهية التفكير» .كان التفكير يعني أن ( )Logikصار ّ
مجرد «تسجيل» «ندرك» شيئا ما بالمعنى الحرفي ،أي أن نظفر به وليس في معنى ّ
حضوره .أن ندركه يفترض أنّنا فاجأناه حيث هو ،واستبقناه أو سبقناه إلى نفسه ،أنّنا
مؤرخو اللسان اليوناني، انتبهنا له ونبّهنا عليه .وفي واقع األمر يتعلّق األمر ،كما بيّن ّ
بأن فريسته في الجوار وهيدغر يذكر ذلك بدوره ،بمجاز بدائي هو شعور الصيّاد ّ
وهو «يشت ّم» أو «يستشعر» ( )wittern und Witterungوجودها .يقول هيدغر:
أن noosو noûsال يدّالن في األصل على ما سوف يتش ّكل الحقا بوصفه «ومن ّ
22
- M. Heidegger, Was heißt Denken (), p. 210.
[]24 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
ولذلك علينا أن نسأل :متى صرنا نتكلّم عن »الفكر» بوصفه جوهرا يحمل بصمة
«هووية» أو «قومية»؟ أي «ذاتا» ننسب إليها «صفات» من قبيل «العربي» أو
أن «القومية» هي اختراع سياسي حديث «اليوناني» أو «األلماني»؟ من المعلوم ّ
نشأ في القرن الثامن عشر يهدف إلى «شرعنة» وجود «الدولة-األمة»؛ حيث يصبح
مفهوم «الشعب» نواة أخالقية لالنتماء ،وهو مسار أدّى إلى بناء مقولة «األمة»
التي تج ّمع خصائص ثقافية من قبيل «اللغة» و«الدين» و«التاريخ» و«العرق»،
إلخ ...هذا السياق «الرومانسي» هو الذي اخترع تسميات من قبيل «المثالية
األلمانية» (ظهرت العبارة في عنوان مقالة تنسب إلى هيغل وشيلنغ وهلدرلين
جميعا ،حوالي 1795عنوانها «البرنامج األقدم للمثالية األلمانية») .وهو السياق
الذي يمنح عبارة من نوع «الفكر العربي» داللتها.
لكن هذا المعنى ربما كان مشتقًّا ومتأ ّخرا وليس هو بالمعنى األصلي .مثال :نعثر ّ
فكر» أي ما لي فيهعلى عبارة عربية نراها واعدة هنا ،أال وهي« :مالي في األمر ٌ
«حاجة وال مباالة» أو «ال أحتاج إليه» أو «ال أبالي به» .ما يثير االنتباه هنا هو ّ
أن
«الفكر» ليس جوهرا أو ذاتا حتى تدخل في سبات دغمائي أو سردي .الفكر حاجة
تنبثق نتيجة شكل من الحياة .ومن هنا هي تدعونا إلى نحو من «المباالة» أو العناية
بأنفسنا.
23
- Ibib. P. 210 : « Daher bedeuten noos und noûs ursprünglich nicht das, was sich später als die Vernunft
“herausbildet; Noos bedeutet das Sinnen, das etwas im Sinn hat und sich zu Herzen nimmt.
[]25 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
كرسها مثال محمد أركون بعنوان كتاب تحت هذا إن عبارة «الفكر العربي» قد ّّ
االسم نشره بالفرنسية سنة ،1975والحال أنّه يخلط خلطا حادًّا وشامال بين «الفكر
ي معنى لمقولة «الفكر» العربي» وما يس ّميه «العقل اإلسالمي» بحيث هو ال يرى أ ّ
خارج ما قيل تحت عنوان «اإلسالم» .24وفي آخر التحليل هي عبارة «غربية» أو
حتى «كولونيالية» تريد أن تصنّف نوعا من «الثقافة» المنسوبة إلى نوع من
المجتمعات وكأنّها تقع خارج أفق التفكير بما هو كذلك ،أي التفكير كما يمارسه
الفالسفة والعلماء في الغرب من أفالطون إلى هيدغر .في واقع األمر ال يوجد عقل
ألن العقل مفهوم والتفكير بواسطة المفاهيم ليس عمال قومياإسالمي وال عقل عربي ّ
فإن المكسب الوحيد لمشاريع من نوع «نقد العقل العربي» وال هاجسا هوويا .ولذلك ّ
أو «نقد العقل اإلسالمي» هو مكسب «ديكولونيالي» عرضي ،تفاوضي أو نقدي،
لكنّه مؤقّت ونضالي ،نعني موقفا يعمل على تنسيب هيمنة إبستمولوجيا الشمال
أن علينا أن «نجوهر» أو لكن ذلك ال يعني ّ
التحرر من ادّعاءاتها ومقوالتهاّ .
ّ وعلى
نذوت» الفكر «غير الغربي» على أساس أنّه يملك «هوية» خارج أفق اإلنسانية « ّ
الحالية كما تش ّكلت مالمحها الكبرى في األديان والعلوم والفلسفة والفنون وأشكال
الحكم ونظريات الحب منذ اإلنسان النيوليثي.
من هنا نستطيع أن نعيد النظر في األحكام المسبقة ضد الترجمات المعاصرة وكأنّها
تأتي كي تسدّ ما عجز عنه الفكر العربي .يبدو لنا أنّه ال يوجد فرق جوهري بين من
يف ّكر ومن يترجم .في الحالتين نحن نشتغل على استعمال تداولي للخطاب أو للغة
بعامة في نطاق نوع معيّن من سياسة الحقيقة داخل ثقافة ما .ث ّم نحن نمارس هذا
النشاط في لحظة تاريخية ذات توقيف عال ،أال وهي اللحظة «الديكولونيالية»:
اللحظة التي أخذت فيها الثقافات تستعيد دورها المحلي وتراجع الرواسب
الكولونيالية في نمط تفكيرها.
أن االستعمار ليس عنفا عسكريا فقط بل هو عملية هيمنة لغوية وأخالقية وبما ّ
فإن جميع الشعوب التي خضعت لالستعمار قد صارت تتكلّم ومفهومية ناعمة ّ
مشوهة إلى حدّ ما نحويًّا واستعاريًّا ،وبالتالي ّ
فإن «لغات» مجروحة من الداخلّ ،
من يكتب بالعربية اليوم هو كمن يترجم ،نعني أنّه يكتب في لغة خضعت لهيمنة
لغوية «غربية» ،وليس ذلك عن طريق الترجمة كعمل تقني ،بل عن طريق شكل
مستمرة عبر التبعية المفهومية والمقوالتية ،والتي
ّ الحياة الكولونيالية التي مازالت
إن االستعمار لم يخضع إرادة مجرد تكلّم اللغات األجنبيةّ .
ّ هي شيء مختلف عن
24
- M. Arkoun, La Pensée arabe (Paris : PUF, 1975).
[]26 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
وجردت من براءتها الخطابية ما قبل ّ الشعوب فقط بل أخضع إرادة اللغات
فإن تحرير الشعوب لن يكتمل من دون تحرير الكولونيالية ،بال رجعة .ولذلك ّ
ندرس بواسطة لغة عربية هي في أغلب مقوالتها واستعاراتها النظرية اللغات .نحن ّ
لغة مترجمة وليست لغة أصلية .لقد فقدنا العربية الكالسيكية بشكل كامل .وعلينا أن
نعيد تملّك هذه اللغة في سياقات ال تزال خاضعة للغات الغربية ومقوالتها.
إن عبارة «أنا أف ّكر إذن أنا موجود» متى كتبناها بالعربية الكالسيكية هي عبارة ال
ّ
معنى لها تماما .وعبثا يحاول المترجمون تبيئة هذا «المفهوم» وتعريبه .إنّه يقع
سنا القديمة .وال نعني بذلك أنّها ترجمة غير دقيقة أو غير أمينة .بلدوما خارج حوا ّ
إنّها اشتغال على حدث مفهومي لم يقع بعد بالنسبة إلينا .نحن ال نعتبر بعد ّ
أن فعل
«التفكير» هو وحده المبدأ الميتافيزيقي الذي يش ّكل يقيننا حول «أنفسنا» أو حول
«هللا» أو حول «العالم» .ال تزال هناك سرديات قوية وعنيدة تفت ّك من عقولنا طريقة
إن «االكتشاف الميتافيزيقي لإلنسان» الذي يزعم الغربيون أنّه حدث تأسيس الحقيقةّ .
لديهم ،في القرن السابع عشر مع ديكارت ،ربما هو لم يصبح «حاجة» فلسفية أو
روحية أو أخالقية بالنسبة إلينا .نحن نواصل «المباالة» بشيء آخر.
لقد تساءلت منذ عشرين سنة « :هل توجد فلسفة عربية معاصرة؟» .وكان ظنّي
عندئذ أنّنا نحتاج إلى هذا النوع من اإلنجاز .لكنّني اليوم أقل تفاؤال .وليس ذلك ّ
ألن
ألن مطالب التفكير تغيّرت بشكل مرعب .وذلك «الفكر العربي» دخل في سبات ،بل ّ
أن «الغرب» نفسه لم يعد يش ّكل «السماء األخيرة» لمن يف ّكر.
لسبب ضخم :أال وهو ّ
إن مرحلة «ما بعد الغرب» قد بدأت فعال .ومنذ «فلسفة النوابت» كنت قد أستشعرت ّ
مجرد «نقد العقل الهووي» الذي أشرت إليه في كتاب «الهوية ّ مه ّمة أكبر من
والزمان» .ما كنت أستشرفه هو بناء «حقول مفهومية للمقاومة» من موقع محدّد
هو ما س ّميته عندئذ «جنوب الحداثة» ،وذلك منذ مقالتي «التفكير مع هيغل ضد
هيغل» المنشورة سنة ،1991وهو موقع صار يس ّمى في الغرب باسم «الخيار
الديكولونيالي».
سرنا الحديث معك دكتور فتحي ،فقد كان تطوا ًفا ممت ًعا في المفاهيم ّ -
الفلسفية وتاريخها وتأثيلها .أود أن أختم الحوار بسؤالك عما تعكف عليه
اآلن ترجمة وتأليفًا؟
[]27 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
لقد فرغت منذ فترة من ترجمة كتاب جوديث بتلر «قلق الجندر» ،وها أنا اآلن
أعكف على كتابة مقدّمة لها .وكان دأبي دوما أن أعمل على نقل أ ّمهات الكتب التي
مجرد نقل كتب ثانوية هي أقرب إلى العلف ّ تخلق عالما جديدا في لغة ما ،وليس
سسة في مجالها .وقد فعلت ذلك مع هيدغر اإلبستيمولوجي منها إلى النظريات المؤ ّ
وهابرماس وكانط ونيتشه من قبل .ال أترجم إالّ ما أراه جزءا من ماهية العصر،
ويحولها إلى ورشة تفكير. ّ يقبض على حقيقة مجتمع أو دين أو جيل أو جماعة كبيرة
وقد وجدت في كتاب جوديث بتلر الذي ترجمته تمرينا رائعا على إعادة طرح
القضايا النسوية على نحو وضع مقولة «النساء» نفسها موضع سؤال ،بحيث ّ
أن
سست على الفرق بين «الجنسين» تحرير «النساء» من الهرميّة المعيارية التي تأ ّ
سدت في «النظام األبوي» وشبكة «السلطة» الجنسية من الذكر واألنثى ،وتج ّ
والسياسية التي تم ّخضت عنه ،هو معركة رمزية تظ ّل عرضيّة أو معطوبة طالما
إن «هوية» لم يت ّم تحرير «الذات» التي يفترض أنّها موجودة خلف هذه التسميةّ .
الجندر هي عبارة عن «فعل إنجازي» وليست «جوهرا» ،بيولوجيا أو ماهية
مستقرة بال رجعة« .فعل إنجازي» أي شيء ال «نكونه» بل «نفعله». ّ اجتماعية
شيء ال «يقع» بل دور «نؤدّيه» .وهو ال يبدو لنا أمرا «طبيعيًّا» إالّ ألنّه تماهى مع
البنية «النحوية» التي نعبّر بها عن أنفسنا.
ي ،أال
لكن ورشة الترجمة عندي مفتوحة دائما انطالقا من موقف فلسفي أساسي لد ّ ّ
أن لغتنا القديمة قد عادت إلى المعاجم وانسحبت متوارية عن شعورنا بأنفسنا وهو ّ
الجديدة .لقد تركتنا وحدنا بمعنى ما .ولذلك كل ما نقوله اليوم ،قصدنا ذلك أم لم
نقصد ،هو محض «ترجمة» حتى ولو واصلنا استعمال الفصحى «دون تكلّمها»
من الداخل أو باألصالة .نحن صرنا فجأة يتامى لغويين نواصل استخدام لغتنا لكن
في غيابها .ولغة الغياب هذه هي لغة الترجمة .صارت لغتنا تقنية غياب عن عالم
صار ال يكلّمنا إالّ عرضا ،لقد تغيّر «نحو» العالم وفرض علينا أن «نترجم» ،أي
أن نستعمل ألفاظا ال تقول ما نتكلّم عنه إالّ « ّ
تجوزا» .ربما ما فقدناه هو قدرة لغتنا
التجوز» ،نعني لغة
القديمة على «المجاز» ،وصارت ثروتنا الوحيدة هي لغة « ّ
تستلف استعارات جديدة من اللغات الغربية حتى ال تموت اختناقا من العجز عن
قول كينونة تقع خارج أفقها.
لكن هذا أمر واقع ربما في اللغات غير الغربية جميعا ،ولذلك هو ال يدعو إلى ّ
أن العالج المناسب ليس شيئا آخر سوى إعادة التفكير في الترجمة: الحزن .ذلك ّ
فهي لم تعد تبادال في الجمل بين لسانين متكافئين ،بل صارت معركة غير متكافئة
بين لغات مهيمنة «تتكلّم» نحو العالم كما نطقت به الحداثة الكولونيالية وبين لغات
[]28 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
تجوزا» للغرض ،ولم تخلقها من مهيمن عليها «تقول» عالما بمقوالت صنعتها « ّ
يء هو :بين أن نواصل تكلّم لغتنا القديمة وهي عند نفسها .طبعا ،كان الخيار الس ّ
مجرد حنين
ّ تتحدث عن عالم قد انسحب من أفقنا منذ زمن طويل ،وبالتالي صار
«عنيف» إلى هويات لم تعد قابلة للسكن؛ وبين أن نحاول صناعة لغة جديدة عن
طريق الترجمة .ومن المحيط إلى الخليج كل الناطقين بالعربية الحالية – الفصحى
الحديثة واللهجات المرافقة -هم «مترجمون» ميدانيون ،حيث فقدوا الصلة باللغة
وتحول الكالم عندهم إلى «فعل إنجازي» ،أي إلى «أداء» دور ما في ّ القديمة
أدرب طلبتي على «تكلّم» مسرحية العالم الحديث «اإلجبارية» بقدر المستطاع .وأنا ّ
بمجرد «قوله» من خارج تجاربه أو أفعاله. ّ لغة العصر داخل لغتنا ،وليس االكتفاء
ال يكفي أن «نقول» ما يقوله الغربيون بلغتنا ،فهذا سوف يؤ ّجل طويال معركتنا مع
نتمرن يوميّا على «تكلّم» لغة العصر بوصفها إنجازا متعدد ّ أنفسنا ،بل علينا أن
اللغات ،ويمكننا أن نشارك به بوصفنا «مترجمين أساسيين» .ليس ثمة شخص اليوم
ال يسكن أكثر من لغة .حتى اإلنجليزي الذي ال يجد فائدة في تعلّم لغة أخرى.
إن الجزء األعظم م ّماوبهذا المعنى أنا ال أميّز حقّا بين «الترجمة» و«التأليف»ّ .
يس ّميه أصحابه «تأليفا» هو في واقعة األمر تمارين عرضيّة وغير مباشرة في
«الترجمة اإلنجازية» التي أشرت إليها .ومن النادر جدًّا أن نعثر على «نص
ي استنساخ من لغة مترجم عنها .يبدو لي ّ
أن محض» ،أي مكتوب بالعربية دون أ ّ
العرب المعاصرين لم يبدؤوا بعد في «التأليف» بالمعنى الجذري .هم مترجمون
فقط ،وال فرق إن كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة .ونعني بالتأليف الجذري
القدرة على صناعة حدث روحي أو فلسفي أو شعري أو سياسي أو علمي ال يدين
أن هذا وضع قاهر فإنّه لم يبق لنا سوىي نواة مفهوميّة .وبما ّ للمدونة «الغربية» بأ ّ
ّ
أن ندفع براديغم الترجمة إلى أقصاه :أن نصبح «مترجمين جيّدين» قدر ما يتطلّبه
ذلك من الوقت الميتافيزيقي« .المترجم الجيّد» ليس هو من ينقل الكتب من لغة أخرى
مجرد وظيفة إجرائية تجري في ظروف عادية بين لغتين ّ بشكل أمين -فهذه
متساوتين -بل هو من ينجح في «تكلّم» لغة العصر دون لكنة كبيرة .ليس المطلوب
أن «يقول» العصر كما قالته اإلنجليزية -اللغة الكولونيالية المهيمنة والتي تدّعي
الكونية -بل كما يمكن أليّة لغة غير غربية أن «تنطق» به نطقا «حيوانيًّا» أصيال.
مجرد احتمال لشكل الحياة كما نعيشها ،وليس كما نصفها ّ وهو فعل «حيواني» ألنّه
أن الترجمة فعل إنجازي« :جسدي» بواسطة لغة قديمة انسحب عالمها .وهذا يعني ّ
و«جندري» و«جنسي» و«سياسي» و«اقتصادي» و«تقني» ،إلخ ...وهي كلّها
«أفعال» حيويّة ال تحتمل التأجيل إلى جيل آخر.
[]29 ______________________________________________________________________
______________________________________________________________________
وفي الوقت الراهن أنا أعكف على تجميع حدوسي وأسئلتي باتجاه تأليف كتاب ينقل
تعودت عليها في جامعاتنا .وموضوع هذا الكتاب سوف الفلسفة خارج دروسها التي ّ
إن هدفي هو إحراج «الفالسفة» من زاوية السؤال عن الفقر بوصفه يكون «الفقر»ّ .
على األرجح هو البؤرة األنطولوجية المتردّمة تحت كل مقوالتهم عن «الالوجود»
أو «العدم» أو «الشر» أو «القلق» أو «الذنب» أو «الخطأ» أو «العدل» أو
يقض مضجع اإلنسانية في كل العصور ليس «الحقيقة» بل ّ «السلطة» ...إلخ .ما
أن خلود «الجسم» وليس «النفس» هو بؤرة اإلشكال .لم تكن «البقاء» ،وهذا يعني ّ
«النفس» غير تقنية بقاء نسينا االستعارة التي اشتقّت منها.
وإن رفع الفقر إلى رتبة المقولة الميتافيزيقية من شأنه أن يلقي ضوءا جديدا -مثال- ّ
أن نيتشه قد أعلن عن حزنه على إعالن نيتشه لحدث «موت اإلله» .فجأة يبدو لنا ّ
تحرره .يبدو نيتشه الهوتيًّا حزينا .ولذلك ال زال يطمع في تجديد العالقة
وليس عن ّ
والتحول إلى «نب ّي» ما بعد مسيحيّ .
إن نيتشه لم ير مكان الجريمة: ّ مع اإلله الكتابي
الفقر المحض بوصفه بنية كينونة ،وليس حالة بؤس عارض .وبهذا المعنى ّ
فإن
إعالن موت اإلله قد كان شعارا حزينا ،وليس انتصارا أخالقيا على أحدّ .
إن اإلله
التوحيدي ال يموت لسبب بسيط ،أال وهو استمرار وجود أولئك الذين اخترعوه:
إن الفقر هو األفق الروحي لكل أنواع استدعاء اآللهة إلى األرضّ .
إن الفقر الفقراءّ .
هو ما يجعل اإلله الكتابي في ص ّحة ميتافيزيقية جيّدة.
[]30 ______________________________________________________________________