Professional Documents
Culture Documents
لعل األنثروبولوجيا من أكثر المعارف والعلوم االجتماعية واإلنسانية التي تعرضت للنقد والهجوم،
وصاحبتها الشكوك منذ نشأتها ،وظلت تالزمها لزمن طويل .فاألنثروبولوجيا هي العلم الذي كانت
وع َّدت األنثروبولوجيا على أنها
والدته والدة شبهة؛ حيث ارتبطت هذه الوالدة بالمعامل االستعماريةُ ،
علم ملحق بالنظام االستعماري الذي يخدم برامجه ومشاريعه االستعمارية ،وتحدد موضوع هذا العلم
ومجاله ،بمجتمعات المؤسسة االستعمارية .وهذه حقيقة ثابتة ال يجادل فيها األوروبيون أنفسهم ،وهم
الذين اعترفوا بهذه الحقيقة ووثقوها ،وتواثرت عنهم وعن غيرهم الكتابات والشهادات التي ال تضع
مكاناً للشك في هذا الشأن .ولسنا بحاجة إلى التوغل في تفاصيل هذه الحقيقة ،أو اإلسهاب في الحديث
عنها .والذي يعنينا وما نحن بصدده هو تلك المالحظات التي ترتبط بعالقة األنثروبولوجيا بالثقافة،
ومن هذه المالحظات:
أوالً :تصنف األنثروبولوجيا على أنها من العلوم االجتماعية التي ساهمت منذ وقت مبكر في تعريف
الثقافة ،التعريف الذي كان له أثر في تكوين المعرفة بفكرة الثقافة ،وخصوصاً التعريف الذي قدمه
تايلور .والتعريفات وهكذا المفاهيم والتصورات غالباً ما تتصف في بدايات نشأتها بطابع العمومية،
وهذه حالة طبيعية تصدق على مختلف أقسام العلوم ،وال تمثل نقصاً أو ضعفاً؛ ألن االنتقال من العام
إلى الخاص بحاجة لزمن من التطور والتراكم والتكامل ،وهو انتقال ضروري ولكن بفعل قانون
الحركة وليس آلياً أو طبيعياً.
والمقصود بالمعنى العام للثقافة أن األنثروبولوجيا تدمج كل شيء بالثقافة ،من الدين إلى المعرفة
واالقتصاد واألخالق والسياسة والفن والعرف والقانون ،وال تكاد تترك شيئاً خارجاً عنها .وهو المعنى
الذي ظهر متجلياً في تعريف تايلور للثقافة ،التعريف الذي ساهم بقوة في تشكيل فكرة األنثروبولوجيا
أدى هذا المعنى األنثروبولوجي للثقافة وظيفته ،وكان مهماً والفتاً في وقته ،وبقيت له
للثقافة ،وقد ّ
وظيفته الخاصة التي تتحدد في نطاق األنثروبولوجيا.
فالثقافة التي تكون بهذا المحتوى من االتساع فإنها ال يمكن أن تُ َع َّرف أو تُ َح َّدد ،كما ال معنى للحديث
عن الثقافة التي تعني كل شيء.
ثانياً :يرتبط مفهوم الثقافة -في منظور األنثروبولوجيا -بالمجتمعات البدائية ،وهو مفهوم خاص بتلك
المجتمعات ،ويتناغم مع طبيعة مكوناتها ومالمحها وكامل خصوصياتها.
واألنثروبولوجيا -كما يقول عنها أبو زيد -هي المعرفة المنهجية المنظمة عن المجتمعات البدائية ،فقد
جاءت لهذه المجتمعات ،ومن أجلها .والرؤية التي شكلتها األنثروبولوجيا عن الثقافة إنما تُعنى بحاجات
ولعل التوصل إلى هذه المالحظة كان بداية القطيعة وتغيير المنحى في العالقة مع األنثروبولوجيا
وفكرتها عن الثقافة ،وهذا التغير في الموقف من األنثروبولوجيا كان مؤثراً في تحريك وتطور مفهوم
الثقافة.
ثالثاً :لقد ربطت األنثروبولوجيا الثقافة بسياسات ومشاريع سياسية متحيزة وتوظيفية ،وذلك حين
خضعت األنثروبولوجيا إلى معامل النظام االستعماري ،وأصبحت العلم المفضَّل للدراسة الحقلية،
وللتحكم في إدارة وتوجيه المجتمعات المستعمرة ،وكيفية التأثير فيها ،وتحويلها إلى مجتمعات تابعة،
ومستوطنات هامشية ،ومدارات حزينة .لهذا فقد كانت األنثروبولوجيا العلم الذي حاول السيطرة على
الثقافة وضبطها ،وتحويلها إلى منهجيات من أجل تكوين المعرفة بالمجتمعات الخاضعة تحت هيمنة
القوى االستعمارية ،والكشف عن أسرار هذه المجتمعات ،وتفكيك النظم االجتماعية فيها ،وتحليل
تصوراتها وعقائدها وأساطيرها وفنونها .وجميع هذه المهام كانت توظف بشكل أساسي لضرورات
ومقتضيات النظام االستعماري ،وليس لضرورات ومقتضيات تلك المجتمعات المستعمرة؛ ألن من يقوم
بهذه المهام هم باحثون أو إداريون ينتمون إلى مجتمعات النظام االستعماري ،وال يمتون بصلة
لمجتمعات الدراسات الحقلية .وغالباً ما يكون هؤالء مكلفون إما مباشرة من اإلدارات االستعمارية،
وإ ما عن طريق جامعات ومعاهد مرتبطة بتلك اإلدارات االستعمارية ،وبهذه النشاطات والغايات تكون
األنثروبولوجيا قد ساهمت في تجريد الثقافة من مكوناتها األخالقية ،وجعلتها تحت هيمنة السياسة.
رابعاً :لقد تعاملت األنثروبولوجيا مع المجتمعات التي قامت بدراستها ووصفتها بالبدائية ،وكأن هذه
المجتمعات أشبه ما يكون بمختبرات بشرية كغيرها من المختبرات األخرى التي توظف للدراسة
والبحث والتحليل ،والختبار وتجريب فرضيات ونظريات ،وأعطيت هذه العملية تسمية الدراسة
الحقلية .التسمية التي تفضح طبيعة الدور الذي تنهض به األنثروبولوجيا وكأنها تتعامل مع طبيعة
مختلفة من البشر ،أو مع نوع من البشر أقل درجة من اآلخرين ،الذين يصلحون أن يجرب عليهم
الدراسة الحقلية بوصفهم بدائيين.
لهذا يمكن وصف النظرة الثقافية التي شكلتها األنثروبولوجيا عن المجتمعات البدائية ،على أنها نظرة
متعالية وفوقية ،وتنتهي إلى تأكيد وجود مجتمعات بدائية ،ومجتمعات أخرى متقدمة.