Professional Documents
Culture Documents
يقول آالن " :من لم يبدأ بعدم الفهم ،ال يعرف معنى التفكير ".
المفهوم :
للفظ اليومي معاني متشعّبة ومعقّدة ج ّدا إلى ح ّد أنّه يصعب ضبط مفهوم ومعنى
واضح لهذا اللفظ .إالّ أنّنا سنحاول أن نسوق بعض المفاهيم التي قد تتوافق ولفظة
اليومي.
أن كلمة اليومي يمكن أن تحيل على :الرتابة ،االجترار ،االنغالق ،الخمول والكسل إذ ّ
الفكري ،الرضى بالجاهز والتسليم به .وك ّل هذا في الحقيقة يحيل إلى معنى واضح
وهو :الفكر السّائد وهو الفكر الذي يسلّم بك ّل شيء دون أ ّ
ي تفكير أو إعمال للعقل.
فعبارة اليومي بك ّل ما تحمل من معاني ودالالت تحيل دائما وفي ك ّل الحاالت إلى
ك يمارس على اإلنسان العنف المسلّط على اإلنسان من قبل العالم .فهذا العالم وبال ش ّ
جملة من الضغوطات و اإللزامات التي تكبّل اإلنسان وتعوق عمليّة التفكير .بل
وأكثر من ذلك يصبح اإلنسان في ظ ّل هذه القسوة المسلّطة عليه إلى كائن ال مف ّكر،
ولهذا فنحن نقرن لفظة اليومي بلفظة الوثوقيّة والدغمائيّة .إذن فاليومي يفرض
أن اإلنسان يفتقد حريّة التفكير وهذه هي مأساة اإلنسان وصايته على الفكر إلى ح ّد ّ
الحقيقيّة .لذلك فنحن نلجأ للفلسفة حتّى تعتقنا من سلطة اليومي وتحرّرنا من تبعاته،
ألن رسالة الفيلسوف هي إقامة القطيعة بين الفكر السّائد والفكر الفلسفي (الفكر ذلك ّ
السّائد يسلّم بك ّل شيء دون برهان ألنّه فكر تع ّود في ظ ّل ما هو يومي بالحلول
الجاهزة والتسليم باألحكام المسبقة).
ألن اليومي يفرض على مفهوم اليومي يظ ّل إذن مرتبط أساسا بما هو سلبي ،ذلك ّ
اإلنسان جملة من األفكار التي نجبر على تقبّلها سلبيّا دون فحص أو نقد أو تأ ّمل،
إن مصدرها هو اآلخر(المجتمع ،العادات، فهذه األفكار ال دخل للذات في بنائها بل ّ
التقاليد ،الموروث.)...
في عالقة اليومي بالفلسفة :
تغدو الفلسفة مقاومة لليومي الجاثم فهي التي تقيم فارقا بين المعرفة الح ّ
ق (النابعة من
العقل والقائمة على التفحّص والتمعّن والتبصّر الذهني) وبين إعتقاد المعرفة
ق اإلقامة في معرفة مطلقة في مقابل ألن الفيلسوف ينكر عن نفسه ح ّ (الوثوقيّة) ذلك ّ
فإن قيمة التفلسف يستم ّد مشروعيّته من حيث أنّهالعا ّمي الذي ي ّدعي أنّه يعرف .إذن ّ
يراهن على تحرير اإلنسان من وساطة فكر اليومي.
إذن فإنّه هنالك مقابلة كبيرة بين اليوم ّي والفلسفة ،وهي مقابلة تذ ّكرنا بمقابالت بين
أزواج متعددة مثل الرّتابة/التجدد ،واالجترار/اإلبداع ،واالنغالق/االنفتاح،
والفلسفة/اليومي.
وفي اعتقادي أن هذا الزوج األخير يكاد يضم األزواج األخرى جميعها .ذلك أن
اليومي يعني االجترار والتكرار ،واجتماعيا ً الرتابة ،وإيديولوجيا الدوكسا وبادئ
الرأي ،وزمانيا ً التقليد والماضي الجاثم ،وأنطولوجيا التطابق والوحدة.
على هذا النحو تغدو الفلسفة ،في مقابلتها لليومي ،سعيا ً وراء إحداث الفجوات في ما
يبدو متصالا ،وخلق الفراغ في ما يبدو ممتلئاً ،وزرع الشك في ما يبدو بديهياً ،وبعث
روح التحديث في ما يعمل تقليداً ،وتوليد البارادوكس في ما يعمل دوكسا.
الفلسفة اذاً مقاومة تعمل في جبهات متعددة ،أي تعمل ضد كل ما من شأنه أن يكرس
االمتالء والتطابق والتقليد.
الفلسفة هي محاولة السترجاع اإلنسان إلنسانيّته بعيدا عن عالم يفرض الطاعة على
الفرد ويفقده حتّى القدرة على التمييز ،والفلسفة أيضا محاولة إلحياء حس االختالف
وزرع روح التحرّر .إن الفلسفة تنسج على أرضية الحريّة ،أو على األصح إنها هي
التي تقيم تلك الح ّريّة.
الفلسفة بوصفها تفكيرا في اليومي
التفكير باليومي واالشتغال على أه ّم القضايا التي تخترقه من العمق ،هو أحد أه ّم
التوجّهات الفلسفية المعاصرة .وهي توجّهات تهدف إلى التخلّص من مأزق الفلسفة
الذي وصلت فيه إلى طريق مسدود بسبب ما يُنسب إليها من نظريات ومناهج
ومقوالت تتعالى فيها على ما هو يوم ّي ومتغيّر وآن ّي وجزئ ّي لصالح ما هو كوني
وشمولي وأنساق ثابتة ،حتّى غدت منطوية على نفسها تعيد طرح مواضيعها وتعيد
كذلك فرز توجّهاتها ،بينما الواقع اليومي بهمومه وقضاياه يتنفّس هواء مختلفا
ويطرح تحديّات على الفكر ليس بوسع الفلسفة ومناهجها التي تولّدت في القرن
التاسع عشر أن تجيب عن مثل هذه القضايا والتحديّات.
أن تحلّل مفهوم األمومة كما تشهد عليها ظاهرة ما يُس ّمى باأل ّمهات البديالت
ك ّوال ش ّ
المنتشرة في الهند بسبب الفقر ،وعالقة ذلك بالتغيّرات االجتماعية واألخالقية ،وما
يتّصل بها من مفهوم التبنّي األسري في المجتمعات الحديثة هي إحدى تجلّيات مثل
هذه القضايا .ربّما يتساءل المرء هنا أنّنا في المجتمعات العربية بمنأى عن هذه
الظواهر ،لذلك ال حاجة إلى طرح مثل هذه المسائل على الفكر والفلسفة ألنّها ببساطة
ال تمسّ هموم اإلنسان العربي وال قضاياه من العمق .قد يبدو هذا صحيحا من وجهة
نظر تتعامى عن فهم االنزياحات الثقافية بالمفهوم األنثروبولوجي التي تطال جميع
المجتمعات .فعولمة نمط العيش ،وعولمة المشاعر اإلنسانية كذلك هي واحدة من أه ّم
هذه االنزياحات .أليست سمة االستهالك هي ما تحكم حياتنا اليومية في جميع جوانبها
المختلفة :من األكل واللّباس وقيادة السيّارة واستعمال التقنية والسير في شوارع المدن
المختلفة وارتياد المقاهي والمنازل واألعمال ،إضافة إلى توسيع رقعة المشاعر
المشتركة بين شعوب العالم من قبيل ردود األفعال حول الكوارث اإلنسانية التي
تصيب اإلنسان جرّاء الطبيعة أو العنف البشري .هذه الكوارث توحّد المشاعر وتو ّحد
ردود أفعالها من غضب وفرح وحزن بفضل تقنيات االتّصاالت العالمية .إذن جميع
هذه االعتبارات تقودنا إلى القول من وجهة نظر أخرى أنّنا مدعوون جميعا لتأ ّمل
تح ّوالت هذا العالم الذي نعيش فيه بوصفنا متورّطين إنسانيّا في صنع حياة مشتركة
تحفظ لإلنسان كرامته على هذه األرض .لذلك انفتاح الفلسفة على مجرى الواقع
اليوم ّي يلبّي مثل هذا التو ّرط اإلنساني التي تسعى إليها المعرفة من العمق .أليس
إعمال الفكر في ظواهر اجتماعية من قبيل مفهوم النجومية وعالقته بالعوالم التي
تفرّخه مثل السينما والرياضة والسياسة واإلعالم والموضة والغناء واألزياء والدين
هي حصانة ض ّد السقوط في ف ّخ تعالي الفكر وانفصاله عن اله ّم اليوم ّي .ألم يتح ّدث
روالن بارت عن الرياضة والموضة بوصفهما إحدى أه ّم متيولوجيات الواقع
اليوم ّي؟ .وفي ذاكرتي العديد من المف ّكرين والفالسفة الذين أخذوا الفلسفة ومناهجها
في العلوم اإلنسانية إلى االرتباط بالفكر اليومي :من ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك
دريدا إلى جان بودريار وجان ليوتار .إلى واحد من مؤسّسي علم اجتماع اليومي وهو
الفرنسي مشيل مافيزولي .يقول في كتابه" تأ ّمل العالم من خالل مق ّدمة ُمتر ِج ِمه فريد
أن الغرب يشهد منذ ثمانينات القرن الماضي انهيارا متواترا للبنيات الزاهي»ّ ..( :
المؤسّسية الكبرى التي كانت تمنح معنى للمجتمع .فقد انتهى الغرب إلى ضرب من
اإلشباع في مجال الظواهر التجريدية والقيم الكبرى واآلليات االقتصادية
وتجذر للصورة وثورة في مجال ّ واإليديولوجية .بالمقابل ث ّمة انبثاق للكيفي واللاه ِْوي
التواصل وبدأت الجماهير تر ّكز وتتمركز حول اليوم ّي والحاضر واألنشطة التي ال
غائية لها) .هذه التأ ّمالت العميقة في التحليل للمجتمع الغربي يقف خلفها ثراء معرفي
في المصادر والرؤى والمناهج ،وإحساس عميق يعي تماما زمنيته إزاء ما يحدث
للبنية االجتماعية والثقافية من شروخ تمسّ عمق الشعور اإلنساني .لذلك من يحاول
أن يفهم المجتمعات الغربية عليه أن يوجد الصلة الوثيقة بين النصوص الفكرية
والفلسفية واألدبية من جهة ،وبين عالقتها بالواقع اليومي التي اتّكأت عليه تلك
النصوص في إنتاج مفاهيمها وتص ّوراتها ونتائجها .ال يجدي أن نفهم النصوص
بمعزل عن ارتباط تشكلها بالحياة اليومية في الغرب ،وهذا بالتأكيد يتطلّب معرفة
ق تفاصيله .لكن لألسف لم يحاول الفكر العربي أن يقبض دقيقة بالتاريخ الغربي في أد ّ
على مثل هذه اللحظة ،فهو بالكاد يترجم النصوص وحتّى يتفاعل معها نجده يعزلها
عن سياق تش ّكلها وظروف نشأتها ُمف ّوتا الفرصة عليه لتجديد فكره النقدي .وهذا ما
تانبّه له جملة من المف ّكرين العرب الذين حاولوا أن ير ّكزوا على أهميّة التجديد في
قضايا الفكر والفلسفة من خالل السعي في إظهار أهميّة ما هو يوم ّي في فهم المجتمع
وقضاياه وخلق وعي مغاير لمشاكله.
يقول الدكتور فتحي التريكي في مق ّدمة كتابه " فلسفة الحياة اليومية " :أريد أن أتناول
بالبحث إشكالية عالقة الفلسفة الحالية بالواقع المعاش ،ومطمحنا في ك ّل ذلك هو
التأكيد على ضرورة التفكير الملّحة في مجتمعاتنا الحالية تلك التي هيمنت عليها
أن الفلسفة ما هي إالّ
النظريات اإلقصائية التي ترتدي تارة ثوب التكنولوجيا مؤ ّكدة ّ
أن الفكر الفلسفي يعادي في كنهه أضغاث صالونات وتارة أخرى ثوب التديّن لتعلن ّ
اإليمان ".بالتأكيد هذا البحث له وجاهته ألنّه سوف يثير قضايا ظلّت غير مف ّكر فيها
أو على األق ّل مه ّمشة في محيطنا الثقافي العربي الذي ال يزال تفكيره ير ّكز على
اللغوي والبنيوي والمؤسّساتي راميا بالجزئي والمتخيّل والجسدي في خارج المطلق
على ح ّد تعبير فريد الزاهي .وتنصبّ وجاهته أيضا على مفاعيله في تحريك المعرفة
باتّجاه الوعي بك ّل ما هو تاريخي .يقول عبد السالم بن عبد العالي في هذا الصدد":
عندما تنصبّ الفلسفة على اليومي ،وعندما تهت ّم بالصحافة واللباس والرياضة
والمأكل والمشرب والشائعة واإلشهار والكليب .فذلك سعي وراء الفصل بين الطبيعة
والتاريخ والبحث عن الجديد في المستجدات ،وعن الغريب في األلفة ،وعن التاريخ ّي
في األسطورة".
https://www.facebook.com/groups/facebac