Professional Documents
Culture Documents
معوقات السعادة
تمثل المطلب األكثر شيوعا انتهى كانط إلى اإلقرار بأنّ السّعادة ،رغم كونها ّ
بين ال ّناس ،فإ ّنها ت ّتصف باستحالة ال ّتح ّقق فعليّا وأخالقيّا في الواقع ال ّتاريخي .غير
أن تصور فيلسوف التنوير قد فاته أن ثورات التنوير األولى في امريكا وفرنسا
ستجعل من السعادة مطلبا من مطالب الديمقراطية وحقا من حقوق االنسان.
فإعالن االستقالل األمريكي ( )6771يعد أول وثيقة دستورية تتضمن اإلشارة إلى
الحق في السعادة ،ففي خضم الصراع مع انكلترا ،قام اآلباء المؤسسون للواليات المتحدة
األمريكية بالتصويت على االنفصال ،حيث ضمّنوا إعالن االستقالل ثالثة حقوق
أساسية ،غير قابلة للتفاوض أو التجزئة ،وهى :الحق في الحياة ،والحق في الحرية،
والحق في السعي إلى السعادة .كما نصت المادة األولى من الدستور الفرنسي ()6771
على أن "هدف المجتمع هو السعادة العامة" ،ما سيدفع باإلنسان الحديث الى جعل
السعادة مطلبا وضعيا ارضيا .خاصة أمام تحوالت النظام السياسي واالجتماعي
واتجاهه نحو أن يكون "مجتمع الوفرة" و الدولة الديمقراطية الحديثة "دولة
الرفاه" .ففي العشرين من مارس من كل سنة يحتفل المجتمع الدولي باليوم
العالمي للسعادة ،وفيه يتم إعالن ترتيب الدول ضمن مؤشر السعادة العالمي،
الذي يستند إلى ستة عناصر ،هي :نصيب الفرد من الناتج المحلى اإلجمالي،
ومتوسط األعمار ،والدعم االجتماعي ،والحرية االجتماعية ،والسخاء (يُقاس
بالتبرعات) ،وغياب الفساد.
إن التأكيد اليوم على أن السعادة هي أساسا حق يتساوى فيه الجميع ،قيمة ال
للفرد ،بل للجميع فإن ذلك ما سيجعل من السعادة مطلبا ينزاح عن االخالقي نحو
ان يكون مطلبا حقوقيا وسياسيا .فتغدو السعادة مرادفة للرفاه ،ورغد العيش.
( ) le bien être, le bien vivre
فحياة االنسان بطبعها موجهة نحو طلب السعادة ورغد العيش كما يؤكد ذلك
البارون دولباخ حين يقول ":في كل المراحل المتطورة والمتباعدة بعضها عن
بعض ،يكون االنسان موجها بطبيعة تحثه باستمرار على تحسين مصيره
وجعله أكثر رفاه" .غير أن الميل الى طلب السعادة في المجتمعات االستهالكية
1
الهادي عبد الحفيظ 2021
او "ثورة رغد العيش" كما يحلو لبودريارد تسميتها ،يتم الترويج لها كايدلوجيا،
منذ الثورة الفرنسية حيث يتم الترويج للسعادة و للعيش الرغيد مدعومة
بأسطورة المساواة ،من اجل تمجيد الفردانية ومبادئ االنسان البرجوازي،
كالحرية والملكية والمتعة التي تتحول الى مقياس لديمقراطية الواجهة
او"ديمقراطية المقام" كما يسميها بودريارد .ديمقراطية التلفاز ،والسيارة .قد
تبدو متعينة لكنها تظل مع ذلك صورية.
يقول بودريارد " :لكي تكون حاملة أسطورة المساواة يجب أن تكون السعادة
قابلة للقيس ،ويجب أن يكون رغد العيش ،قابال للقيس بواسطة أشياء
وعالمات رفاه".
فلكي تكون السعادة شيئا يمكن توزيعه بطريقة عادلة بين الناس ،يجب أن تكون
مادية ،ولكي تكون قابلة للقسمة يجب أن تكون قابلة للقياس ،وبالتالي تتماهى
السعادة مع الرفاه في المجتمعات االستهالكية لكنها مع ذلك تكشف عن
"العقالنية العقالنية المعاصرة" بعبارة هربرت ماركوز .والتي تعمل على
مفارقة عجيبة .ففي الوقت الذي تعمل فيه هذه العقالنية بحكم سياسة السيطرة
التكنولوجية على إنماء الثروة وتحسين الوجود البشري بخلق الوفرة و الرفاه
تعمل باستمرار في االتجاه المعاكس على "خفض القيمة االستعمالية للحرية"
وتنميط الفكر والسلوك لخلق "إنسان ذو بعد واحد" ،إنسان ال يفكر بل يعمل،
إنسان ال يشارك بل يطيع و يستهلك .انه "االنسان االنضباطي" بعبارة فوكو.
2
الهادي عبد الحفيظ 2021
و إذا كان فرويد قد بيّن عدم إمكان التخلّي عن الحضارة ،رغم احتوائها القلق أو
ّ
المنظمة هي مصدر القلق ذاته فذلك راجع لكونها مصدر التشريعات والمحرّ مات
لالجتماع اإلنساني.
وما دامت الحضارة هي مصدر بؤس اإلنسان و تعاسته ،بما هي ُتحيل على مبدأ
المثال (األنا األعلى) الذي يمارس سلطة على األنا (مبدأ الواقع) حتى ال يمتثل
اللذة) .فإن فرويد يستخلص بالضرورة عدم إمكان تحقق لرغبات الهو (مبدأ ّ
السعادة ذلك إن مآسي الحياة تستوجب مس ّكنات قصد تحمّلها وهي ثالثة:
6ـ إلهيات قو ّية نواجه بها البؤس.
2ـ إشباع خيالي للرغبات تحت وطأة البؤس والكبت والحرمان.
← ثمن تطوّ ر الحضارة هو نقصان السّعادة و البؤس.
3
الهادي عبد الحفيظ 2021
بهذا ،وعوض أن نهدر جهدنا في البحث عن السعادة واليات تحققها ،علينا أن
نوجّ ه جهودنا إلي البحث عما يسبب أالمنا .وعما به نسكن األوجاع التي تجتاح
حياتنا.
" من هنا نفهم ،لماذا يجد الواحد منا نفسه ،مكرها في كثير من األحيان ،على
أن يهتف بينه وبين نفسه" آه ليست الحياة بسهلة " فرويد.
4