You are on page 1of 7

‫العمل‪ :‬النجاعة والعدالة‬

‫األستاذ‪ :‬زهري بوستّة‬


‫التمهيد‪:‬‬
‫‪ -‬إن التفكري يف مسألة العمل يتنزل ضمن إهتمامات الفلسفة ابإلنسان والقيم‪.‬‬
‫‪ -‬انتظارات اإلنسان من العمل‪ :‬ماهية اإلنسان تتحدد يف العمل كفعل إنساين واع غايته حتقق اإلنسان وحتريره من سلطة الطبيعة وحتمياهتا‪.‬‬
‫وحتوله بفعل ظروف اترخيية اقتصادية واجتماعية معينة إىل أداة اغرتاب‬
‫‪ -‬إن املتأمل يف واقع املمارسة العملية اليوم يكشف إنزايح العمل عن غاايته هذه َ‬
‫لإلنسان العامل وشقاءه من جهة ومصدر للنجاعة والثروة والقيم التبادلية من جهة أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬أن واقع العمل يف عصر العوملة أنتج توترا حادا بني مطلب النجاعة ومبدأ العدالة‪.‬‬
‫فهل يصبح من عبث األقدار أن يكون العمل الذي راهن عليه اإلنسان لتحقيق إنسانيته مقرتان ضرورة ابالغرتاب؟‬
‫هذا ما يستوجب ضرورة مراجعة مسألة ربط العمل ابلنجاعة وفق شروط تكون أكثر إنسانية وعدال تضمن حدا من اإلنصاف‪.‬‬
‫اإلشكاليات‪:‬‬
‫ما داللة العمل؟ هل العمل اغرتاب أم حترر؟‬
‫هل العمل وسيلة لتحقيق الربح بتقاضي أجر أم أنه غاية إنسانية نبيلة؟ وهل نعمل لتلبية الضرورة الطبيعية أم لتجسيم اختيار ثقايف؟‬
‫هل العمل هو مصدر امللكية وطريق حنو السعادة أم أنه يضفي معىن على احلياة؟‬
‫ماذا نعين ابلنجاعة؟ وما املقصود ابلعدالة؟ كيف ارتبط العمل بقيمة النجاعة؟ هل حترتم كل األعمال اإلنسانية مبدأ العدالة؟ كيف يكون وضع العمل يف إطار‬
‫التناقض بني العدالة والنجاعة؟ أليس احلرص على جناعة العمل يؤدي إىل تدنيسه ملبدأ العدالة؟ هل العمل حيقق مطلب النجاعة فقط أم أنه ميكن أن حيرتم‬
‫مبدأ العدالة؟ مىت يكون العمل منصفا؟ هل ابإلبقاء على التناقض بني العدالة والنجاعة أم إبزالته وحتقيق التوازن بينهما؟ هل يضفي العمل املشروعية القانوين‬
‫على امتالك األقلية القسط اهلام من الثروة؟ هل العمل خلق للقيمة أم سلب لكل قيمة؟ هل من العدل املساواة بني الناس يف األجور؟ وهل املنفعة املادية هي‬
‫الغاية املثلى من العمل اإلنساين؟‬
‫ما نراهن عليه من البحث يف آداب العمل هو تفادي النظر إىل العدالة من زاوية املساواة والتعويض والتعامل معها من زاوية اإلنصاف والتوزيع للمنافع‬
‫واخلريات حىت يستفيد الذين هم أقل حظا‪.‬‬
‫‪ -I‬الدالالت‬
‫• يف داللة العمل‪:‬‬
‫‪ -‬إن العمل ظاهرة مرتبطة منذ القدمي بتحقيق احلاجات الضرورية يف حياة اإلنسان‪ ،‬ولكن اختلف يف حتديد داللته لفصله عن غريه من األنشطة‪.‬‬
‫‪َ -‬حتدد العمل يف الفلسفات القدمية (اليوانن) مبا هو موضع حقارة ال يقوم به إال العبيد‪ ،‬حيث يربط أفالطون وأرسطو العمل ابلعمل اليدوي‪ ،‬ومن مثة فهو‬
‫عمل ال يصلح إال للرعاع والعبيد‪ .‬إن العمل اليدوي‪ ،‬يتناىف مع ماهية اإلنسان‪ ،‬ألن اإلنسان "حيوان عاقل"‪ ،‬ومن مثة تكون اخلصوصية األساسية لإلنسان‬
‫هي التفكري‪ .‬هكذا يكون العبد جمردا من خصوصياته اإلنسانية‪ ،‬فأصبح (أرسطو) جمرد آلة‪ ،‬ألنه يعوض اآللة اليت حيتاج إليها اإلنسان‪ :‬استهجان العمل‬
‫اليدوي‪ ← .‬نظرة ا‬
‫االزدراء هذه ميكن ردها إىل غياب فلسفات حقيقية يف ظاهرة العمل‪.‬‬
‫‪ -‬إن الداينة املسيحية قد كرست النظرة الدونية للعمل مبا هو ال يتعدى أن يكون إال عنوان شقاء وتكفري عن اخلطيئة والذنب‪ :‬العمل لعنة‪.‬‬
‫‪ -‬يف الداينة اإلسالمية اارتبط بداللة موجبة ذلك أنه "من ابت كادا من عرق جبينه ابت مغفورا له" وكذلك فـ "إن هللا يكره العبد البطال"‪.‬‬
‫← رغم اختالف التصورين األولني فإّنما يلتقيان يف احلط من قيمة العمل والعامل‪ ،‬ما جعلهما موضوع مراجعة يف الفلسفات احلديثة‪.‬‬
‫← حتول العمل من داللة التحقري إىل داللة القداسة‪ ،‬ليكتسب اإلنسان قيمته من خالل فعله وممارسته‪ .‬وهبذا املعىن بدا الربط ضروراي بني إنتماء الفرد إىل‬
‫دينه وانتمائه إىل جمتمعه من خالل هذا النشاط الذي اّتذ صفة التقديس‪.‬‬
‫‪ -‬مع الثورة الصناعية أصبح للعمل قيمة أخرى‪ ،‬حيث يؤكد آدم مسيث أن العمل هو أساس كل قيمة تبادلية‪ ،‬فقد تبني بعد تقسيم العمل‪ ،‬أن الفرد أصبح يف‬
‫حاجة إىل غريه لينتج له ما ال يستطيع هو إنتاجه‪ .‬كما أن قيمة املنتوج تزداد بكمية اجملهود املبذول إلنتاجه‪ .‬فالعمل إذن مثل العملة‪ ،‬فهو الثمن الذي يدفعه‬
‫اإلنسان ليقتين األشياء أو ليعطيها قيمة‪.‬‬
‫‪ -‬ينظر ماركس إىل العمل من وجهني‪ :‬فالعمل هو جمهود جسمي وقوة فيزايئية يسخر هبما اإلنسان الطبيعة لنفسه‪ ،‬حيث يقول ماركس‪:‬‬
‫احلي أيخذ األشياء ويبعثها من بني األموات"‪ ،‬كما أن العمل فاعلية مرتبطة مباهية اإلنسان‪ ،‬فبواسطته ينمي اإلنسان مواهبه وملكاته وقدراته‪:‬‬
‫"إ ّن العمل ّ‬
‫← العمل فعل قصدي موجب يطلب االجناز ويتوزع إىل نوعني ذهين ويدوي يتكامالن رغم خصوصية كل منهما‪.‬‬
‫‪ ǂ‬العمل إنساين صرف‬
‫إذا أتملنا ما تقوم به بعض احليواانت‪ ،‬يبدو كأّنا تعمل‪ ،‬وقد جندها تضاهي يف مهاراهتا أمهر الصناع اآلدميني‪ ،‬ومع ذلك يرى ماركس أنه ال ميكن اعتبار‬
‫إجنازاهتا عمال‪ ،‬ألن الفعل الذي يصدر عنها جمرد سلوك آيل غريزي‪ .‬فالعمل‪ -‬إذن ‪ -‬ظاهرة إنسانية الرتباطه ابلوعي‪ .‬مبعىن أنه معاانة فكرية‪ ،‬تصميم وّتطيط‬
‫وتدبري‪ ،‬إبداع وخلق وابتكار‪ ،‬سلوك غائي يبحث عن األفضل‪ ،‬شعور ابملتعة وحتقيق للذات‪ .‬فهو ليس نشاطا معزوال‪ ،‬وإمنا هو‪ -‬ماركس‪ -‬مسار تتفاعل فيه‬
‫ثالثة مكوانت‪ :‬العمل ذاته كفعل لإلنتاج‪ ،‬واملادة موضوع التحويل‪ ،‬واألداة اليت بواسطتها حيدث فعل اإلنتاج‪ ...‬وكنتيجة هلذا‪ ،‬يرى املاركسيون أن العمل‬
‫خاصية إنسانية ابمتياز‪.‬‬
‫‪ ǂ‬العمل‪ :‬من إنتاج الطبيعة إىل إنتاج الوعي‬
‫← إن اإلنسان يعيد إنتاج ذاته وهو يعيد إنتاج الطبيعة‪.‬‬
‫"إن احليوان ال ينتج إال لذاته يف حني أن اإلنسان يعيد إنتاج الطبيعة كلها"‪ - .‬ماركس‬
‫"العمل هو كل تغيري مفيد للعامل اخلارجي من طرف اإلنسان"‪ - .‬أوغيست كونت‬
‫‪ ǂ‬العمل وظيفة‪ :‬وجودية واجتماعية وأخالقية‬
‫"أجربوا الناس عن العمل وستجعلون منهم أانسا مستقيمني"‪ - .‬فولتري‬
‫"العمل يبعد عنا آفات ثالث‪ :‬القلق واالحتياج والرذيلة"‪ - .‬فولتري‪.‬‬
‫ما حنتفظ به‪ - :‬يتحدد العمل مبا هو النشاط اإلنساين املتمايز واملميَّز والذي ُعد احلد الفاصل بني املنزلة احليوانية والكينونة اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ -‬يتحدد العمل مبا هو نشاط واع يعمل على حتويل الطبيعة من معطى خام إىل منتوجات صاحلة للتبادل أو االستهالك‪.‬‬
‫‪ -‬ميثل العمل وسيلة إنتاج إلحكام سيطرة اإلنسان على الطبيعة وحتقيق الوعي ابلضرورة‪.‬‬
‫‪ -‬العمل فاعلية إنسانية يعمل من خالله اإلنسان على تغيري الطبيعة تغيريا انفعا ويتحرر من ضروراهتا‪.‬‬
‫‪ -‬العمل ُُمدد من ُمددات اإلنساين يف اإلنسان‪.‬‬
‫• يف داللة النجاعة‪:‬‬
‫‪ -‬حييل مفهوم النجاعة على حقل الرباغماتية والنفعية‪ ،‬ذلك أن النجاعة تعين الوفرة يف اإلنتاج أو اإلنتاجية واملردودية‪ :‬البعد التداويل للعمل‪.‬‬
‫‪ -‬النجاعة هي الفاعلية اليت ترتبط مبعاين اإلنتاج والربح والثروة وحتقق الوفرة والرخاء والرفاه‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬النجاعة يف العمل هو استعمال أفضل الوسائل‬
‫أقل مت ّكن من البيع أبكثر ربح‪ ..‬وإ ّن‬
‫املمكنة يف أسرع األوقات أبقل التكاليف لتحقيق أعلى النتائج‪ .‬يقول آدم مسيث‪" :‬إ ّن االستمرار يف اإلنتاج بتكاليف ّ‬
‫مبهمة عدد كبري من الناس"‪.‬‬
‫تسهل العمل وختتصره مت ّكن إنساان واحدا من القيام ّ‬
‫اخرتاع عدد كبري من اآلالت اليت ّ‬
‫‪ -‬إن النجاعة هي أسلوب يف العمل يتضمن قصدية منظمة متكن من حتقيق هدف نفعي وتتحدد كإسرتاتيجية تنظم طريقة العمل ليضمن لنفسه ما أراد من‬
‫منفعة بناء على مبدأ األداء‪ .‬كما تتطلب النجاعة حتقق مجلة من الشروط هي التخطيط املنظم وطريقة عمل ذات مراحل والتحكم يف اجملهودات وتوخي املرونة‬
‫والسهولة‪ .‬إن مثل هذا القول يفيد أن التقسيم التقين للعمل داخل نظام رأمسايل تتحكم فيه الدولة حيقق الرخاء االقتصادي الذي يفرز استقرارا اجتماعيا ميكن‬
‫األفراد من حتقيق مصاحلهم الفردية يف ظل مصلحة مجاعية‪ .‬يقول ماركس واجنلز يف البيان الشيوعي‪" :‬خلقت الرأمسالية خالل فرتة حكمها اليت كانت ابلكاد‬
‫كل األجيال السابقة معا"‪.‬‬
‫مائة عام قوى إنتاجية أكثر جربوات ممّا خلقته ّ‬
‫‪ +‬ما نالحظه أن النجاعة مفهوم اقتصادي ابألساس مرتبط ابلوصول ابلعمل إىل قدرة إنتاجية عالية ويتحرك ضمن مبدأ املردود وكوجيتو البضاعة والعقل‬
‫احلسايب ويربط العمل ابملصلحة والربح والثروة واملنفعة وابلتايل فإن كل عمل ال حتصل منه منفعة مادية هو عمل غري انجح وكل عمل حيقق املصلحة اآلنية‬
‫اخلاصة مع املصلحة العامة‬
‫ّ‬ ‫واملستقبلية واخلاصة واجلماعية هو عمل انجع‪ ،‬يقول كاينز‪" :‬إ ّن العامل ال حتكمه املشيئة اإلهلية على حنو تتوافق فيه املصلحة‬
‫تعرب عن املصاحل الفردية‪)+(".‬‬
‫أل ّن التجربة تؤّكد أ ّن املصاحل اجلماعية ّ‬
‫‪ -‬إن احلرص على املردودية أثناء العمل وعلى إنتاج كمية أكرب من البضائع تزيد عن حاجيات السوق وااللتجاء إىل مضاعفة عدد ساعات العمل من أجل‬
‫املزيد من اإلنتاجية قد أدى إىل حتويل مبدأ النجاعة إىل وسيلة يقع استثمارها اجتماعيا لتنمية رأس املال وتطوير االقتصاد وإىل حصول ااستتباعات خطرية‬
‫أمهها التفاوت والالمساواة واالستبعاد االجتماعي واالغرتاب والتشيؤ والتموضع‪)-( .‬‬
‫الشواهد‪:‬‬
‫كل س ّكان البالد املتم ّدنة" – نيتشه‬
‫‪" -‬البحث عن عمل من أجل الربح هذا ما يتساوى فيه تقريبا ّ‬
‫• يف داللة العدالة‪:‬‬
‫‪ -‬تفيد يف معناها االشتقاقي (اإلتيمولوجي) ما هو مطابق للحق فهي تعود يف األصل إىل كلمة ‪ jus juris‬أي احلق‪.‬‬
‫‪ -‬اقرتن مفهوم العدالة يف الفلسفة القدمية ابلفضيلة فسجلها أخالقي‪ ،‬إذ تتمثل يف فضيلة إعطاء كل ذي حق حقه‪ .‬مما يوكل إليها مهمة احرتام حقوق‬
‫اآلخرين‪ ،‬فالعدالة هي إحدى الفضائل الرئيسية األربعة إىل جانب احلكمة والشجاعة واالعتدال (أفالطون)‬
‫‪ -‬يربط الفهم الليبريايل املعاصر العدالة بتوزيع الثروات واملنافع االقتصادية واالجتماعية وابملصلحة العمومية اليت تقتضي أشكاال من التفاوت حىت تتحقق‪،‬‬
‫لتصبح العدالة خاضعة إىل ضرب من "االتّفاق العام"‪.‬‬
‫‪ -‬ما دام غري العادل يتمثل فيما هو غري مقبول اجتماعيا‪ ،‬فإن معيار العدالة هو اجملتمع‪ .‬وعلى سبيل املثال‪ ،‬يعترب الالتساوي يف األجور بني مهن من‬
‫اختصاصات خمتلفة عادال ألن ذلك مقبول من طرف اجلميع‪ ،‬فال ميكن االعرتاض على أجر عامل يتقاضى أقل من أجر موظف سام أو إطار مشرف يف‬
‫مؤسسة‪ .‬ومن هنا التأكيد على عدم اخللط بني العدالة االجتماعية أو اإلنصاف واملساواة‪.‬‬
‫‪ -‬يف العدالة مييز بني عدالة تعويضية وعدالة توزيعية‪ ،‬وتتمثل العدالة التعويضية يف تعويض املظلوم من الظامل على أساس التساوي ووفق مبدأ العني ابلعني‪...‬‬
‫سواء كان ذلك يف املعامالت اإلرادية الناشئة عن تفاهم الطرفني (بيع وشراء) أو يف املعامالت غري اإلرادية (السرقة واالعتداء)‪ .‬هذا النوع من العدالة يقوم إذن‬
‫على قاعدة املساواة الرايضية نظرا ألن التعويض يكون عادال إذا ما وجدت مساواة حقيقية بني الطرفني كانت هلما نفس القيمة‪ .‬أما العدالة التوزيعية فهي‬
‫الصادرة عن السلطة واملتمثلة يف توزيع اخلريات واألموال حسب االستحقاق واجلدارة واملوهبة والكفاءة واجملهود املبذول نظرا ألنه ليس من ابب العدل توزيع‬
‫نفس املقادير على أشخاص غري متساوين‪.‬‬
‫‪ -‬هذا التمييز بني العدالتني يذكران ابلتمييز الذي قام به أفالطون يف ُماورة اجلمهورية بني املساواة العددية اليت تنظر إىل األفراد على أّنم متساوين مثل أسنان‬
‫املشط واملساواة اهلندسية اليت تقتضي معاملة األفراد حسب حاجياهتم واستحقاقاهتم‪ .‬إذ يقول‪" :‬إنّنا لسنا مجيعا سواء وإ ّّنا تتباين طبائعنا وتوجد بيننا فروق‬
‫معني"‪ .‬وعليه بدل إقامة عالقات على أساس املنافسة والصراع يف إطار العمل واملسألة االجتماعية يكون من الضروري (إ‪.‬‬
‫كامنة جتعل كالّ منّا صاحلا لعمل ّ‬
‫فروم) إقامة عالقة تعاون عادلة بدوّنا يستحيل إيقاف التوجه األعمى لآللة االجتماعية‪.‬‬
‫الشواهد‪:‬‬
‫‪" -‬ليست العدالة جزءا من الفضيلة وإمنا هي الفضيلة كلها" ‪ -‬مسكويه‬
‫كل ذي ح ّق ما يستح ّقه طبقا للقانون املدين"‪ -.‬سبينوزا‬
‫‪" -‬العدالة استعداد دائم للفرد ألن يعطي ّ‬

‫الرهان‪ :‬التحول بعالقة النجاعة ابلعدالة من عالقة تضاد إىل عالقة توافق‪.‬‬
‫حترر‬
‫‪ -II‬العمل‪ :‬استالب أم ّ‬
‫تقسيم العمل‪ :‬ا‬
‫االنتقال من الندرة إىل الوفرة‬
‫إن التزايد املطرد للسكان ال ميكن أن جيد حاجته يف الصناعات احلرفية واألعمال التقليدية‪ .‬فهذه الضروب من اإلنتاج ال ميكن أن تضعنا إال أمام أزمة‬
‫الندرة‪ ،‬ندرة اإلنتاج مقابل تزايد السكان‪ .‬لذلك مثل تقسيم العمل احلل األمثل مبا يعنيه من ّتصص العامل يف إنتاج جزئي ليصبح من املمكن إنتاج أكثر‬
‫عدد ممكن يف أقل وقت ممكن‪ .‬وهذا ما ميكن أن حيدث ثورة صناعية وتطور يف اإلنتاج‪ .‬وعوض أن يرتفع عدد السكان ويرتاجع اإلنتاج ‪ -‬مثل حال‬
‫الصناعات احلرفية ‪ -‬يصبح العكس‪ -‬ينخفض عدد السكان لريتفع اإلنتاج ويصبح من املمكن أن نتحدث عن حتقيق أكثر قدر ممكن من الرفاه ألكرب عدد‬
‫ممكن من السكان‪ .‬وهبذا املعىن يكون تقسيم العمل مرجع رفاه الفرد ومرجع زايدة رأس املال وأصل التوازن االجتماعي ومبعث القوة االقتصادية اليت بدورها‬
‫تكون دافعا للقوة السياسية للدولة‪.‬‬
‫إذا كانت القداسة جتعلنا نُقدم على الشيء حبماسة فائقة‪ ،‬فإن العمل املأجور قد بدا على العكس من ذلك يثري يف اإلنسان نفورا مرعبا "ليهرب العامل‬
‫من الشغل هروبه من الطاعون" على حد عبارة ماركس ذلك أن العمل "ليس إشباعا لرغبة" وال حيمل أي جاذبية جتعل اإلنسان مييل إليه‪ ،‬ألن املمارسة‬
‫فقدت قيمتها لفصلها عن احلرية كمبعث لإلبداع‪ .‬وكذلك فقد أفقدت الغاية التجارية العامل كل قيمة‪ ،‬فحني نكون إزاء واقع العمل تتحطم كل نزعة إنسانية‬
‫للعمل نفسه‪ ،‬لقد كان العمل يف اللغة الالتينية يقرتن من جهة التسمية آبلة التعذيب‪ .‬أما اآلن فقد أصبح واقعة تعذيب واستالب‪.‬‬
‫لقد حتول العمل (مع اجملتمعات الصناعية) إىل ظاهرة تعمل على استالب اإلنسان بدل أن حترره‪ ،‬حيث يؤكد اجنلز أن العمل أصبح عمال إجباراي يعمل‬
‫على إذالل اإلنسان وإفقاده كرامته‪ .‬وكان ذلك نتيجة لتقسيم العمل‪ ،‬حيث أصبح الفرد يشتغل مقابل شيء اتفه (األجرة) ال تربطه به أية عالقة إنسانية‪ .‬بل‬
‫إن تبسيط العمل أدى إىل اختزاله يف حركة اتفهة يكررها العامل دون توقف‪ ،‬فتحول العم ل إىل عمل رتيب‪ ،‬يعمل على تشييء اإلنسان واالحندار به إىل‬
‫مصاف احليوان‪ .‬وهذا اإلحساس ابالستالب يظهر ‪ -‬ماركس‪ -‬من خالل نفور العامل من العمل حيث حيس داخله ابلشقاء والتذمر‪ ،‬واّنيار نفسي وإرهاق‬
‫مينعه من تطوير طاقاته وحتقيق ذاته‪ .‬وتكون النتيجة احلتمية هلذا وضع عكسي‪ :‬بدل أن حيس اإلنسان بكينونته داخل العمل‪ ،‬أصبح يبحث عن ذاته يف‬
‫أوقات الفراغ يف أعمال تعترب جمرد وظائف حيوانية كاألكل‪ ،‬والنوم‪ ،‬واإلجناب‪ .‬إن االستالب يف نظر املاركسية ليس إال نتيجة حتمية لالستغالل الناجم بدوره‬
‫عن امللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج‪.‬‬
‫يرى سارتر أن تقسيم العمل على الطريقة التايلورية أد ى إىل استالب اإلنسان‪ .‬حيث ترى هذه النزعة أن املردودية يف االقتصاد ال تقوم إال على الزايدة يف‬
‫اإلنتاجية أبقل ما ميكن من اجلهد والتكاليف‪ ،‬ويف أسرع وقت ممكن‪ .‬ومن مثة يكون العمل املتسلسل القائم على نظام اآللية النموذج املثايل لتحقيق األهداف‬
‫االقتصادية‪ ،‬لكن هذا‪ -‬يف اعتقاد سارتر‪ -‬ال مينع العامل من التحرر من أشكال االستالب من خالل جدلية العبد والسيد‪ ،‬اليت أابن هيقل‪ -‬من خالهلا ‪-‬‬
‫كيف أن العبد يستطيع أن حيقق ذاته بواسطة العمل وجيرب ابلتايل السيد على االعرتاف به‪ .‬فلما أصبح العبد وسيطا بني السيد والطبيعة مكنه ذلك من‬
‫السيطرة على الطبيعة ومن تبعية السيد له‪ ،‬وهذا إدراك أويل لصورة احلرية‪ .‬وإذا كيفنا هذا التمثل مع منوذج العمل املتسلسل يتضح أن جدلية السيد والعبد ال‬
‫ميكنها أن تتحقق إال إذا تصور العامل احلركة البسيطة اليت يقوم هبا يف بعدها الوظيفي‪ ،‬أي يف تكاملها مع احلركات اليت يقوم هبا العمال اآلخرون‪ ،‬األمر الذي‬
‫يدفع هبم إىل أن يتمثلوا أنفسهم كما لو كانوا ذاات واحدة‪ ،‬ومن مثة يدرك العامل أنه ال ميكنه أن حيقق ذاته مبعزل عن اآلخرين‪ ،‬وعلى العامل يف اآلن ذاته أن‬
‫يتمثل فرديته كذات جيب بناؤها من الداخل من خالل عملية التكوين املستمر اليت ستمكنه من مواكبة تطورات نظام اآللية‪.‬‬
‫يرى جورج فريدمان أن نظام اآللية حيتوي على سلبيات‪ ،‬أمهها‪ ،‬أنه يعرض العامل إىل استالب ذهين وإىل تدهور نفسي‪ ،‬بل واستالب اقتصادي من جراء‬
‫البطالة اليت تكون عادة نتيجة حتمية لتعميم اآللية وتطورها‪ .‬كما أن بعض املصاحل الفردية قد تؤدي إىل تعميق القطيعة بني العمال ورؤسائهم مما يسبب تدهور‬
‫العالقات االجتماعية‪ .‬إال أنه يدعو إىل ضرورة التخلص من النظرة االختزالية والسطحية لنظام اآللية اليت تلخص هذا النظام يف السلبيات فقط‪ .‬إذ أن‬
‫إجيابيات اآللية تفوق بكثري سلبياهتا‪ .‬فمن الطوابوية االعتقاد أن العامل ميكن أن يستفيد بشكل مباشر مما ينتجه كما كان األمر معموال به يف القرون‬
‫الوسطى‪ .‬ومن الطوابوية كذلك أن يتحقق اإلنتاج دون التضحية نسبيا حبرية العامل‪ .‬إال أنه من املمكن دائما أن يبحث العامل عن حتقيق ذاته وحيققها خارج‬
‫املصنع‪ ،‬يف أوقات الفراغ‪ .‬فيكفي التأكيد على أن نظام اآللية أراح العامل من االستعباد اجلسدي الذي كان يعاين منه من جراء األعمال الشاقة واملضنية‪ .‬كما‬
‫مكن رجال األعمال من الربح ملا ميثله نظام اآللية من اقتصاد يف التكاليف‪ .‬إضافة إىل أن نظام اآللية ال يهدد كرامة اإلنسان ابعتباره مستهلكا‪ ،‬حيث‬
‫يستطيع كل فرد أن يستجيب حلاجاته الضرورية وينميها نظرا ملا سيجده أمامه من وفرة‪.‬‬
‫الشواهد‪:‬‬
‫ط الصانع" ‪ -‬دي توكفيل‬
‫الصنعة واحن ّ‬
‫‪" -‬كلّما تقبل مبدأ تقسيم العمل تطبيقا أكثر تق ّدمت ّ‬
‫ولكّن ال أريد أن أصبح عبدا أثناء عملي"‪.‬‬
‫أظل عاطال عن العمل ّ‬
‫أحب أ ّن ّ‬
‫‪ -‬املشكل‪ :‬أحد الباحثني عن فرصة عمل يف عصر الالعمل‪":‬أان ال ّ‬
‫‪ -III‬يف عالقة التعارض بني النجاعة والعدالة‪ :‬العمل مبا هو جناعة‬
‫إن "الصدام بني العدالة والنجاعة يظهر يف أشكال ال حصر هلا"‪ -‬إيريك فايل‪.‬‬
‫ال شك أن العمل قد ارتبط ابلنجاعة سواء كانت مطلبا أو واقعة أو مقتضى وهو ما يكشف عن مفارقة اثوية يف العمل فهو من جهة ما حيقق عربه‬
‫اإلنسان تفرده ومتيزه وهو من جهة اثنية اجملال الذي جيسد الالإنساين يف العمل اإلنساين‪ .‬وهو ما حييل على االغرتاب أو ا‬
‫االستيالب‪ ،‬فالعمل مل يعد اجملال‬
‫الذي حيقق اإلنسان فيه ما هو إنساين‪ ،‬فعملية االنصياع لألوامر أو اخلضوع لنظام التيلرة هو ما حيول العامل إىل شيء يتبع اآللة‪"...‬قطعة من اللّحم والدم‬
‫ملتصقة بقطعة من الفوالذ" على حد عبارة ماركس‪ ،‬فلم يعد العمل هو اجملال الذي يرتجم الوعي والقدرة بل هو جمرد حركات تُفرض على العامل‪.‬‬
‫إن ا‬
‫االغرتاب (أو القيمة املضادة) هو حالة من التفاوت بني الذات وما يتحقق منها تعلن عن فقدان الذات لذاهتا ال سيما وأن العامل يكون املنتج من‬
‫جهة والغريب أمام ما ينتجه من جهة أخرى‪ .‬إن االغرتاب هو ما جيعل الذات متخارجة عن ذاهتا وما يعنيه من انفصال املمارسة عن الوعي‪ ،‬إنه ابألساس‬
‫"طرد اإلنسان من ذاته" على حد عبارة روجي غارودي‪ ،‬يف حني أن التشيُّؤ يتمثل يف أن الزايدة يف قيمة عامل األشياء قد حولت اإلنسان من مرتبة الصانع‬
‫لألشياء إىل مرتبة املتماهي معها‪ .‬أما التموضع فيعين أن الذات مل تعد تنتج ذاات تعي ذاهتا بل حتولت إىل موضوع فاقد قيمة ما يصنع بفعل التكرار الدائم‬
‫لنفس العمل‪ .‬يقول ماركس‪" :‬يصبح العامل سلعة تزداد وضاعة بقدر الزايدة يف خلق السلعة" ويضيف‪" :‬كلّما زاد فقر العامل وتعاظم فقر عامله‬
‫خاص‪".‬‬
‫وحل ما ميلكه بشكل ّ‬
‫الداخلي إالّ ّ‬
‫‪ -‬االغرتاب هو فقدان اإلنسان ملقومات وجوده اإلنسانية حتت أتثري العوامل االقتصادية واالجتماعية والدينية‪.‬‬
‫‪ -‬إن إنتظام العمل وفق مبدأ النجاعة كما تؤسس له الليبريالية ينتهي حسب ماركس إىل وضع يسلب فيه العامل من ذاته ومن منتوج عمله‪.‬‬
‫‪ -‬يتمثل تقسيم العمل التقين (أحد مظاهر االغرتاب) يف تفصيل وتوزيع مراحل العمل وعزل بعضها عن بعض ليتكفل كل عامل مبهمة واحدة أو جبزئية عمل‬
‫ُمددة بدقة مرتبطة ارتباطا وثيقا بعنصر الزمن وهو ما جيعل العمل املفتت مقرتان بقيمة النجاعة كقيمة مادية‪.‬‬
‫املرات"‬
‫يكررها مئات ّ‬
‫املهمة الواحدة ّ‬
‫‪ -‬ترتجم هذه النجاعة مطلب الوفرة وذلك ما أكد عليه سارتر يف اعتباره العامل يف نظام األجرة‪" .‬رجل ّ‬
‫‪ -‬تبني لنا أطروحة دوركهامي القيمة االجتماعية للعمل ولتقسيمه كما تبني لنا سلبيات تفتيته من ذلك استحضار دوركهامي ملوقف توكفيل الذي يرى يف تقسيم‬
‫العمل تقدما وجودة للصنعة مقابل احنطاط للعامل ولقيمته‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬يذهب ماركوز إىل أتثيم احلضارة الغربية املعاصرة أو اجملتمعات الرأمسالية اليت حولت اإلنسان إىل إنسان جمرد من أبعاده أو هو ذي بعد واحد واختزاله يف‬
‫كينونة إنتاجية وااستهالكية ُمضة‪.‬‬
‫‪ -‬احلضارة الغربية الصناعية الراهنة تقومت على لوغوس الربح بشكل خلقت يف اإلنسان إيروس الصناعي مرتبط حباجات زائفة يصنعها اإلشهار‪.‬‬
‫االجتماعي والتشيؤ على الصعيدين النفسي‬ ‫االقتصادي والبؤس ا‬ ‫االستغالل ا‬
‫← حتول العمل من قيمة إنسانية سامية وفعل يف األشياء إىل مصدر إلنتاج ا‬
‫َ‬
‫والوجودي‪.‬‬
‫االعتقاد اخلاطئ يف أن العمل إما أن يكون انجعا أو ال يكون عمال وعدم ا‬
‫االكرتاث مبطلب العدالة والتغافل عن الظروف‬ ‫← إن هذه النتائج اخلطرية سببها ا‬
‫الالإنسانية اليت يعاين منها واقع العمل والوضع البائس للعمال‪ .‬لكن ما حصل هو النتيجة العكسية أي املزيد من االستبعاد االجتماعي والعيش يف أسر فقرية‬
‫والتداخل بني األجر املنخفض والفقر وُمدودية الرعاية الصحية والنقص يف الروابط األسرية وسوء التغذية‪.‬‬
‫← إن التضافر بني العمل والنجاعة أدى إىل إحداث جناعة دون عدالة عرب عنها إيريك فايل بقوله‪" :‬إ ّن املواطن هو ابدئ األمر عضو يف جمتمع العمل‬
‫وأول ما يطالب به هو جزء عادل من اإلنتاج االجتماعي"‪ .‬واملقصود هو االحتجاج على احليف واإلجحاف واجلور الذي يتعرض له العمال يف جمتمع‬ ‫ّ‬
‫املصنع والذي أدى إىل إنتاج فوراق اجتماعية وتفاوت يف الدخل وخلل يف التمتع ابخلريات بني األفراد والطبقات‪.‬‬
‫فماهي إذن الشروط املوضوعية اليت تنبين عليها إنسانية العمل وجتاوز سلبيات النجاعة واإلغرتاب؟‬
‫الشواهد‪:‬‬
‫قارة"‪ .‬ربط العمل ابلنجاعة‬
‫تصرفا معيّنا تكون فيه نسبة اجلهد املبذول قياسا إىل النجاعة اإلنتاجية نسبة ّ‬
‫‪ -‬جورج ابطاي‪" :‬يقتضي العمل ّ‬
‫وحيوهلا إىل شيء انفع"‪ .‬ربط العمل ابلنجاعة‬
‫‪ -‬برودون‪" :‬إ ّن العمل هو الفعل الذ ّكي الذي يعاجل به اإلنسان املادة ّ‬
‫اخلاص حبكم ذلك اجلهد"‪ .‬الثروة‬
‫ّ‬ ‫اخلاص احلال العامة اليت كانت عليها األرض لذلك أصبحت ملكي‬
‫ّ‬ ‫إين قد ب ّدلت جبهدي‬
‫‪ -‬جون لوك‪ّ " :‬‬
‫‪ -‬روسو‪" :‬إ ّن العمل وحده هو الذي أعطى الفالح احل ّق يف منتوج األرض اليت حرثها"‪ .‬ربط العمل ابلثروة‬
‫‪ -IV‬يف عالقة التوافق بني النجاعة والعدالة‪ :‬العمل مبا هو النجاعة العادلة‬
‫إذا كان من غري املمكن أن نتحدث عن العمل بال جناعة‪ ،‬فذلك ألنه ال ميكن لصاحب رأس املال أن يوظف أمواله دون أن ينتظر منها رحبا ومردودية‬
‫وفائض قيمة‪ ،‬ولكن ما ال ميكن أن يكون مقبوال هو أن يتضاعف فائض القيمة على حساب العمال أنفسهم وال ميكن أن تكون النجاعة وحدها للعرف أو‬
‫السيد بل جيب أن يراعى الوضع املادي للعامل حىت تكون النجاعة نفسها عادلة من الناحية االقتصادية‪ .‬كما أن الغاية نفسها ال تكون مرتبطة بزايدة الثروة‬
‫وتفقري العامل ذهنيا وإمنا يراعى يف اإلنسان سعيه إىل تطوير وعيه ابستمرار وتنمية قدراته ممارسة وفكرا حىت يكون العمل نفسه واعيا‪.‬‬
‫وهبذا املعىن نتبني أن العمل كظاهرة إنسانية يرتبط بعوامل متنوعة ومتداخلة اقتصاداي واجتماعيا وسياسيا لذلك يكون من الضروري أن تتضافر كل هذه‬
‫العوامل لتجعل من العمل إنسانيا ‪ -‬من جهة النجاعة ومن جهة العدالة كغاية‪ .‬أن يكون ال عمل انجعا‪ ،‬ذلك ما ال ميكن التشكيك فيه‪ ،‬فالنجاعة هي‬
‫الفاعلية اليت ترتبط مبعاين اإلنتاج واملردودية والربح والثروة‪ ،‬وهذه القيم حيققها العمل بشكل فعلي‪ ،‬ولكن ما يبدو إحراجيا هو أن نتحدث عن عمل عادل‪.‬‬
‫ذلك أن العدالة حتمل معىن املساواة ولكن هل ميكن أن نساوي بني عامل خمتص وعامل غري خمتص؟ هل ميكن أن نساوي بني مردود صاحب رأس املال وبني‬
‫مردود العامل؟‬
‫لو حبثنا يف داللة املساواة لتبينا أّنا توازن بني قيمتني وإذا كان العمل قد حتول إىل قيمة مادية فمعناه أنه إبمكاننا أن حندد قيمته مبوازين الربح واملردودية‪.‬‬
‫فالعمل هبذا املعىن هو سلعة تقدر بثمن‪ ،‬غري أن مثنه ليس اثبتا وإمنا متغري‪ ،‬ومثلما ّتضع السلع يف السوق إىل املساومة فإن العمل نفسه حتدد قيمته ضمن‬
‫كل‬
‫مجلة من املساومات تتم بني العامل وصاحب رأس املال فالعامل يبيع جهدا له قيمة وصاحب رأس املال يشرتي هذا اجلهد مقابل قيمة‪ ،‬لقول نيتشه " ّ‬
‫كل شيء ميكن دفع مثنه ذلك هو القانون األخالقي للعدالة" وطاملا أن العمل قابل للقيس فهو قابل للبيع مبا يوازيه من مثن‪ .‬إال أن سيادة‬
‫شيء له قيمة و ّ‬
‫منطق السوق على العالقة القائمة بني العامل وصاحب رأس املال ال ّتضع ضرورة إىل بيع عادل‪ ،‬وإمنا هناك دائما فائض قيمة‪ ،‬وهو الفارق بني مثن ما ينتجه‬
‫العامل وما يتقاضاه من أجر ‪ ،‬وعن هذا الفارق نفسه تتولد أبشع طرق االستغالل الذي يكون طاغيا على عالقات العمل‪ ،‬كما يذهب إىل ذلك أرفون إن‬
‫"العمل يف شكله احلايل غري عادل"‪ ،‬وذلك لتداخل عوامل متفرقة‪ ،‬فالعامل ال يتقاضى أجرا يعادل قيمة ما ينتجه‪ ،‬وال يتقاضى ما يقابل احتياجاته‪ ،‬إضافة‬
‫إىل أن الالمساواة جتد تربيرها يف التفاوت الطبيعي ذكاء وموهبة‪ .‬وبناء عليه يصبح العامل رهني أبشع املساومات وأسوء ذرائع االستغالل استجابة ملنطق‬
‫السوق القائم على العرض والطلب‪ ،‬والصراع واملنافسة‪ .‬وهذا ما جعل إ‪ .‬فروم يتشاءم من الوضع احلايل الذي توازي فيه الزايدة يف التقدم والثراء‪ ،‬زايدة يف‬
‫الفقر‪ .‬وإذا كان ماركس قد اقرتح ثورة الربوليتاراي كحل‪ ،‬فإن إ‪ .‬فروم يكاد يسلم أبنه ال حل هلذه الوحشية املتنامية‪ .‬فهل نكتفي بوصف واقع العمل دون‬
‫البحث عن حلول ممكنة؟ وهل حنتكم إىل الواقع رغم ما فيه من إجحاف؟ وابملقابل هل تكون العدالة يف شكلها املثايل احلل األنسب؟‬
‫إذا كان اإلحراج األساسي هو التصادم بني العدالة والنجاعة‪ ،‬وإذا كانت املساواة بني العامل وصاحب رأس املال غري ممكنة‪ ،‬فإنه يكون من الضروري على‬
‫األقل تعميم االستفادة أبقصى جهد ممكن ‪ -‬وإن كانت أبشكال متفاوتة ‪ -‬كما يذهب إىل ذلك راولس‪ ،‬وهبذا تكون العدالة يف حد ذاهتا مقصدا للنجاعة‬
‫بدل أن نعتربها متعارضة معها‪ .‬إن العدالة مبا هي مساواة مطلقة ال يؤيدها الواقع‪ ،‬كما أّنا عدمية املعىن‪ .‬لذلك يكون من الضروري أن نستبدل هذه الداللة‬
‫ابلعدالة يف معىن اإلنصاف‪.‬‬
‫إن القول بعالقة التوازن تدفعنا إىل البحث يف املفاهيم اجملاورة ملفهوم النجاعة مثل مفهوم الوفرة والثروة‪ ،‬ويف املفاهيم اجملاورة ملفهوم العدالة كمفهوم‬
‫اإلنصاف ومفهوم احلرية‪ .‬فالعدالة يف أحد وجوهها ال تتحقق إال إنصافا ( العدالة هي تنظيم املصاحل الفردية يف إطار املصلحة العامة وهذا هو مبدأ اإلنصاف‬
‫عينه الذي جيعل املواطن يطالب جبزء عادل من اإلنتاج االجتماعي) مبا أن اإلنصاف يتحدد مبا هو شعور طبيعي مبا هو عادل وهو أمسى من القانون‪ ،‬مبا هو‬
‫إعطاء كل ذي حق حقه‪ ،‬ذلك أن احلق وحده يستبعد الالمساواة ويتجاوز االدعاء السائد أبن التفاوت جيد أصله يف الطبيعة نفسها‪ .‬فإريك فايل يعمل على‬
‫إجياد تثبيت العالقة بني العدالة والنجاعة وإحداث نوع من التوازن بني النجاعة كقيمة مادية وبني العدالة مبا هي عدالة اجتماعية وإنصافا‪ .‬ذلك أن العالقة‬
‫تتحدد مبا هي تشارطية‪ ،‬ليجعل من عملية التفكري يف النجاعة دون العدالة غري ممكنة‪ .‬فمسؤولية السياسي تكمن يف التأليف إبجياد املالءمة بني متطلبات‬
‫العدالة ومقتضيات النجاعة‪ ،‬فاحنياز الدولة للعدالة دون النجاعة أو للنجاعة دون العدالة جيعلها غري عادلة‪ .‬لذلك يتوجب عدم التذمر من النجاعة وعلى‬
‫الدولة أن جتعل النجاعة عادلة‪ ،‬ألن النجاعة هي اليت جتعل من اإلنسان فاعال ذلك أن اإلنسان يتحدد مبا هو عضو يف جمتمع العمل‪ .‬فمهمة الدولة تكمن‬
‫يف حتقيق العدالة يف دنيا الواقع والعمل‪ ،‬هي العدالة من أجل املصاحل كما أن النجاعة هي تنظيم املصاحل‪ ،‬فمن واجبات احلكومة اعتبار املصاحل حىت ميكنها أن‬
‫تكون عادلة‪.‬‬
‫وخالصة القول إن العدالة كإنصاف هي ضرب ‪ -‬من احلد األقصى‪ -‬من الرفاه ابلنسبة إىل أغلب أفراد اجملتمع أي يقع تبين مبدأ العدالة التوزيعية (كل‬
‫حسب جمهوده) بدل العدالة التعويضية (كل حسب حاجته)‪.‬‬
‫إن اإلقرار ابلتفاوت هو إقرار اباحتكار الثروة‪ ،‬وابملقابل فإن الطموح إىل عدالة مطلقة هو طموح غريب عن الواقع‪ .‬وهذا ما يستدعي حال واقعيا أبن‬
‫"ننظم أشكال التفاوت االقتصادي االجتماعي على حنو يستفيد منه اجلميع"‪ ،‬ليكون من املمكن اإلرتقاء اجتماعيا واقتصاداي واإلنتقال من طبقة إىل أخرى‪.‬‬
‫ويكون من الضروري فسح اجملال للغري لإلرتقاء‪ ،‬وبدل إقامة عالقات على املنافسة والصراع‪ ،‬يكون من الضروري إقامة "عالقة تعاون وليست عالقة استغالل"‬
‫التوجه األعمى‬
‫على حد عبارة إيريك فروم‪ .‬إن التعاون هو العالقة األكثر إنسانية واألكثر مالءمة للتواصل اإلنساين إذ "بدون هذا التعاون يستحيل إيقاف ّ‬
‫لآللة االجتماعية" وبدل متثل السعادة على أّنا تكديس للثروة وتشيئة للعالقات اإلنسانية وأتلية ألنشطتها‪ ،‬يكون من الضروري أن نتمثلها يف معىن العطاء‬
‫والتضحية واعتبار اآلخر كقيمة‪ ،‬ذلك أن "الفرحة تغمر اإلنسان حني يعطي ويشارك‪ ،‬وليس حني يستغل ويكتنز" ‪ -‬إيريك فروم‪.‬‬
‫ليست العدالة قيمة مطلقة بل هي مرتبطة ابلنجاعة املادية‪ ،‬ذلك أنه ال ميكننا أن نعدل إال عند وجود ما هو مادي وما هو انفع ذلك أنه يكون من‬
‫الضروري أن يوجد اإلنتاج واملنفعة‪ ،‬كي تكون العدالة ممكنة‪ ،‬إن املنفعة ليست قيمة مضادة للعدالة بل هي شرط حتققها الفعلي‪ .‬كما أن العدالة ليست خطرا‬
‫على الثراء وليست هتديدا للمصاحل االقتصادية‪ ،‬وإمنا هي شرط كل متاسك اجتماعي‪ ،‬لقد تنبأ البعض‪-‬خطأ ‪ -‬أبن منحة البطالة ‪ -‬كقيمة عادلة ‪ -‬ميكن أن‬
‫تضع االقتصاد الفرنسي يف وضع عجز‪ ،‬ولكن تبني على العكس من ذلك‪ ،‬مما يعين يف األخري أنه ال تعارض بني العدالة والنجاعة‪.‬‬
‫االجتماعية ملقاة ابألساس على عاتق احلكومات‬ ‫إن االقتصاد ال يقصد لذاته‪ ،‬أي لتكديس الثروة‪ ،‬وإمنا يستمد قيمته من اجتماعيته‪ .‬إن مهمة العدالة ا‬
‫كما يذهب إىل ذلك إيريك فايل‪ ،‬ذلك أن العامل ال يتحدد كيانه مبوقعه يف املصنع‪ ،‬وإمنا هو‪ -‬إضافة إىل كونه عامل‪ -‬فهو مواطن ضمن حكومة يوكل هلا‬
‫وأول ما يطالب به هو جزء عادل من اإلنتاج االجتماعي"‪.‬‬
‫احلفاظ على حقه‪ ،‬لقول إيريك فايل‪" :‬إ ّن املواطن هو ابدئ األمر عضو يف جمتمع العمل‪ّ .‬‬
‫وهبذا املعىن يتضح تعقيد داللة العدالة اليت هي حصيلة جهود اقتصادية وسياسية‪ .‬وهي قيمة جتمع حوهلا كل املنتجات اإلنسانية‪ ،‬من دين وأخالق وسياسة‪.‬‬
‫كما أن كل هذه القيم ال وجود هلا يف فراغ‪ ،‬وإمنا ضمن حتقق فعلي للثراء املادي‪ ،‬وبقدر ثراء اجملتمعات‪ ،‬بقدر توقها إىل قيمة العدالة‪ .‬إن العمل ال حيتوي‬
‫فحسب على قيم الثراء واملنفعة واملردودية وإمنا هو يف حد ذاته قيمة‪ :‬إنه أوال وأساسا صانع للوجود اإلنساين‪.‬‬
‫الشواهد‪:‬‬
‫"إ ّن العدالة من غري النجاعة ليس هلا معّن وإ ّن النجاعة ال تفيد شيئا من غري العدالة" ‪ -‬إريك فايل‬
‫"العدالة دون مصلحة وهم والنجاعة دون عدالة تضليل وفساد" ‪ -‬إيريك فايل‬
‫خامتة‪:‬‬
‫‪ -‬مهما تعددت األطروحات‪ ،‬فإننا ال نستطيع أن نتصور العامل اليوم دون ظاهرة العمل‪ ،‬أو حياة ليس فيها عمل‪ ،‬مهما كنا طوابويني أو مستغرقني يف أحالم‬
‫ألّنا ال تشعل لنا لفائف التبغ"‪ -.‬كاراليل‬
‫اليقظة‪" .‬إنّه من احلماقة أن نلعن الشمس ّ‬
‫‪ -‬إذا كان ديكارت قد قال‪" :‬أان أفكر فأان إذن موجود"‪ ،‬فإننا ميكن أن نعارضه بقولنا‪" :‬أان أعمل إذن أان موجود" ألن أبشع أشكال االستالب هو‬
‫استالب الالعمل (أو استالب البطالة)‪" .‬كلّما أخلد إىل الكسل كلّما صعب عليه أن يعزم على العمل"‪ - .‬كانط‬
‫‪ -‬العم ل وحده يستطيع أن حيقق لإلنسان إنسانيته ويضمن له كرامته‪ .‬إننا اليوم نوجد ابلقدر الذي نعمل‪ ،‬بل األصح أن وجودان متوقف على العمل‪ ،‬من‬
‫خالله نستطيع أن نتفاعل مع ذواتنا ومع اآلخرين‪ ،‬وهو الكفيل أبن يقيم التصاحل بيننا وبني أنفسنا‪ ،‬بيننا وبني جمتمعنا‪.‬‬
‫حّت يبلغ جدارة عالية" ‪ -‬أرفون‬
‫جمرد ضرورة قاسية ال يستطيع اإلنسان التملّص منها بل هو يف الوقت ذاته اإلمكان املتاح له ّ‬
‫"العمل ليس ّ‬

You might also like