Professional Documents
Culture Documents
اعداد
1
1ـ على سبيل التقديم :
تندرج هذه المسألة في فضاء إشكالي عام هو مطلب الكوني باعتباره رهانا لإلنساني
في واقع محكوم بالصراع والهيمنة وموجه بمبادئ وقيم وضعية باتت تهدد وحدة
االنسانية .للتفكير في امكان "العيش المشترك" ضمن افق حوار ايتيقي تشرع له
فلسفة االختالف واألنثروبولوجيا البنيوية اليوم .
ـ إحراجات:
2
.1يف السّؤال عن اهلوية
.2الرمز مبا هو مكون للخصوصية
.3من اخلصوصية اىل الكونية :
أ) اشكالية التنوع الثقايف
ب) اشكالية املركزية الثقافية
ت) حوار ام صدام احلضارات
.4الكونية والعوملة ؟
السؤال عن الهوية وان ولد من رحم الفلسفة اليونانية ،إال انه ولد
والدة منطقية ،فقد كان سؤال الهوية هو سؤال المنطق عند أرسطو
قبل أن يصبح سؤال الفلسفة وعلم االجتماع ثم علم األنثروبولوجيا.
ومعنى الهوية لغة ،من هو أو هو هو وتعني الوجود المشار إليه
الحاضر ،والمرادف لماهية الشيء أو الوجود المنفرد ،كما يقول
":هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد الفارابي
له كل واحد وقولنا انه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي ال يقع فيه اشتراك"
أي ما تكون خصوصية ذاته غير موقوفة على غيره ،بل مستفادة منه .وهو تقريبا المعنى نفسه
في الالتينية حيث تعني الهوية identitéمن idemاي ما يكون هو نفسه . lui-même
« L’identité est le « sentiment subjectif et tonique d'une unité personnelle et d'une continuité
» temporelle
وهي معاني على وصال بمفاهيم أخرى ،ذات قرابة مثل الماهية ،وذات النفس ،على المعنى
الذي ذهب اليه الجرجاني في تعريفاته "ماهية الشيء هي ما به يكون الشيء هو هو " .اال ان
الهوية بهذا المعنى اخص من الماهية ،ألن الهوية تقال على الجزئي ،في حين تقال الماهية على
الكلي .وبعبارة اخرى ما به الشيء يكون يسمى ماهية ،اذا كان كليا كماهية االنسان .وهوية اذا
3
كان جزئيا ،كحقيقة زيد ( كليات ابي البقاء) .والهوية تعني مطابقة الشيء لنفسه ،او مطابقته
لمثيله .والمطابقة بهذا المعنى تكون اذن اما عددية ،numériqueاو شخصية .personnelleوتتعدد
مجاالت حضور مفهوم الهوية ،مما يدعونا الى التمييز بين:
هوية األنا وهوية الذات .وهي التحديدات التي أعرب عنها اريك فروم حين ميز بين هوية ال "الما
أوجد" ويعني هوية األنا ،وهي هوية فردية شخصية ذات طابع فردي نفسي ،ينظر لها من
منظور سيكولوجي ،وهو ما يسميه جون لوك "هوية شخصية " .وهوية ثانية يسميها فروم هوية
ال" ما املك" وتعني ما سماه هوية الذات ،وهي هوية مفتوحة على الخارج ،أو هوية اجتماعية
أو ثقافية أو "هوية مركبة" كما سماها ادغار موران .
إن الفضل يعود – إن كان ثمة فضل –لألبحاث والدراسات االنثروبولوجية ،في االهتمام
بالهوية ،من جهة ما هي مطلب الذات الجماعية ووحدتها ،ومن جهة وعي هذه الذات
بخصوصيتها ،في عالم أصبح االنفتاح والتنوع فيه واقعا حيا ،لم يعد باإلمكان إنكاره أو تجاهله
منذ االستعمار .واليوم يتزايد االهتمام بمعاني الخصوصية الثقافية ()5بعد التحوالت الجيو-
سياسية التي عرفها العالم ،بنهاية الحرب الباردة وظهور طرف استقطاب عالمي أحادي ،أسس
لمقوالت جديدة للهيمنة بعد "مركزية الثقافة" مثل "العولمة" و"القرية الكونية "و"صدام
الحضارات" و "...العيش معا .".
فإذا كان الصراع الدولي اليوم ،لم تعد تحسمه شعوب أو دول ،بل حضارات كما يبين
فإن " الهوية الثقافية التي هي في أوسع معانيها ،الهوية الحضارية تشكل نماذج للتماسك
والتفكك والصراع " .إن الهوية تتح ّدد عموما باعتبارها ما به يكون الشيء هو نفسه ،وهذا
التحديد للهوية ليس بعيدا عن معنى اإلنية ،من حيث أنها تحيل إلى ما يميز اإلنسان ،وما يعبّر به
عن حقيقته من وجهة ميتافيزيقية .بيد أن السؤال عن الخصوصية يحيل إلى الهوية ،من جهة ما
يميز اإلنسان بما هو كائن ،ينتمي إلى مجموعة أو مجتمع معين .وهذا يعني أن إشكالية
الخصوصية والكونية ،تجعلنا نغادر نهائيا حقل الفردية المنغلقة على ذاتها ،إلى مستوى أوسع
من االنفتاح على الغيرية في مختلف أشكالها وأبعادها الثقافية والحضرية.
4
غير أن إدغار موران ،يتناول مشكل الهوية من
جهة تعقد وتنوّ ع مستويات الهوية اإلنسانية ،إذ أنه
يرى أنّ التنوع بين األفراد والثقافات يبلغ ح ّدا
كبيرا إلى درجة أننا نحسب القول بالوحدة
اإلنسانية ضربا من التجريد .ذلك أن "موران"
يعتبر الهوية "هوية مركبة" ،من هوية شخصية
وهوية اجتماعية وهوية ثقافية ،أي كهوية تدرك
من الداخل ،ولكن أيضا كهوية يمكن التعرف إليها
من الخارج .وتمثل األساس الذي يستم ّد منه أ ّ
ي
مجتمع أو ثقافة اختالفها وتميزها عن مجتمع آخر أو عن ثقافة أخرى.
فكيف يمكن إذا أن نحافظ على الهوية دون أن يلحق ضيما بما هو كوني؟
إنّ "ادغار موران" يريد فهم جدلية الوحدة والتنوع ،بما هي األساس التفسيري لإلنساني والثقافة
على ح ّد سواء ،إذ يجب حسب رأيه أن ننظر في الوحدة من جهة كونها تنتج التنوع ،ال من جهة
كونها تولّد التجانس ،وتقضي على التنوع .كما يجب أن ننظر للتنوّ ع من جهة كونه ينتج الوحدة
ال التنوع الذي ينغلق على ذاته ،فيقضي على الوحدة ،ذلك أن السؤال عن الهوية عند "ادغار
موران" ال يخرج عن سؤال ما اإلنسان؟ وبالتالي السؤال عما هو إنساني في اإلنسان؟
خاصة وأن السؤال عن الهوية ،كثرت المطارحات حوله في الوقت الراهن ،حيث أصبحنا
شهودا مذعورين من المشاهد الوحشية ،التي تق ّدمها وسائل اإلعالم يوميا ،فنتساءل عن طبيعة
هذا الكائن القادر على الخير كما الشر إلى أقصى ح ّد .لذلك يرى "إدغار موران" أن الثالثية
اإلنسانية المتمثلة في الفرد والمجتمع والنوع ،تضع الفرد اإلنساني في وضعية تسمح -له في
ذات الوقت بتكوين تنوع غير محدود ووحدة خصوصية ،والعالقات بين هذه الحدود الثالث
ليست فقط متكاملة بل هي أيضا متضادة ،وتمثل إمكانات صراع بين خاصيات بيولوجية،
وخاصيات ثقافية ،في سيرورة متعاودة وفي تولّد مستمرّ ،ولذلك يرى "موران" أن الهوية
اإلنسانية ،تحمل في ذاتها شكل الوضعية اإلنسانية ،ال بطريقة منفصلة أو متعاقبة ،ولكن بطريقة
متزامنة .فاإلنسان وفي ذات الوقت كائن عارف وكائن صانع ...والهوية المركبة بهذا المعنى،
ال تذوب ال في النوع وال في المجتمع ،بما أن اإلنسان كذات أو كفرد ال يتعين فقط في الحوار
مع ذاته ،ولكن يتعين أيضا في الحوار مع اآلخر.
في نهاية الستينات برزت األقلية األمريكية من أصل إفريقي ،خصوصا بظهور منظمة "الفهود السود" سنة .6611ثم حذت أقليات
أخرى حذو حركة السود ،مطالبة باالعتراف بخصوصيتها .وهذه الظرفية أنتجت "صحوة هوية حقيقية" في سنوات السبعينات .وكما
الحظ ذلك عالم االجتماع األمريكي روجر بروباكر ،فإن "تجربة األمريكيين من أصل إفريقي مع قضية "اإلثنية" باعتبارها تصنيفا
يفرض نفسه ،وفي الوقت نفسه باعتبارها تحديدا ذاتيا للهوية ...هذه التجربة كانت حاسمة ليس فقط لنفسها وفي داخل حدودها الخاصة،
بل أيضا في تقديمها لنموذج االحتجاج على أساس من الهوية ،وهو النموذج الذي استفادت منه جميع أنواع الهويات ،بدءا من تلك التي
تتعلق بالجنس أو باالختيار الجنسي ،وانتهاء بتلك التي تتأسس على "االنتماء االثني أو العرق" .وقد انعكس هذا في حقل العلوم
االجتماعية على مستوى الهيكلة بتأسيس أقسام متنوعة بالجامعة األمريكية مثل الدراسات األفرو-أمريكية (ويسمى هذا القسم
بـ"الدراسات السوداء") ،والدراسات النسوية ،والدراسات الخاصة بطائفة الشاذين جنسيا ،والدراسات عن المكسيكيين المستقرين
بالواليات المتحدة ،والدراسات اليهودية .وتبدو هوية األقلية بالنسبة لهذه الحقول الدراسية معطى أول ّيا .كذلك قام مفكرو ما بعد
االستعمار من جانبهم ،كإدوارد سعيد وكاياتري سبيفاك ،بمساءلة الهويات الهجينة والمختلطة التي صنعها التاريخ االستعماري.
عن مقال :مفهوم الهوية -تاريخه واشكاالته ..د .الياس بلكا ،بيروت :مجلة الكلمة
5
-6الرمز مبا هو مكون للخصوصية
المقدس كما يعرفه د حسن حنفي في الموسوعة الفلسفية ،هو " :كل ما يحظى باالحترام بشكل
مطلق ،وكل ما هو غير قابل للهتك او الخرق وال يجوز االعتداء عليه " .اذن يحيل لفظ المقدس
على القداسة والتقديس ،وهي مشتقة من فعل ق ّدس ،بمعنى طهّر وتبارك ،الى مرجعية دينية
باألساس ،سواء كان موضوع التقديس اماكن او كتبا او كائنات .ويقال عن هللا الق ّدوس ،أي
المنزه عن كل نقص وعيب .فال غرابة ان يحيل المقدس على الطهارة وانتفاء التدنيس ،وهي
خاصية السلوك الديني ،وهنا يتداخل االسطوري بالديني .بل ان المقدس يتجلى كذلك في
السحري والطقوسي ،بل في اشكال تعابير دنيا كالخرافة او الحكاية الشعبية .حيث يكون
مضمونها دوما هو الخيال fictionوالعجيب ،merveilleuxو الخارق ،fantaisieوالميثولوجي
و الالمعقول ،irrationnelوالمعقول plausibleأحيانا أخرى.
يتجلى المقدس في صورة اله او قوة خارقة ،او كائن خرافي او عجيب ال واقعي او سحري،
يثير الرعب واإلجالل معا .وفي ذلك ما يشد اليه االهتمام تلذذا ومتعة او انتظارا لعطاياه او
استسالما له خوفا من انتقامه .يقول روجي كايوا ":انما من المقدس ينتظر المؤمن كل ضروب
العون وكل اشكال التوفيق ،فاإلجالل الذي يبعثه في نفسه هو مزيج من الرعب والثقة،وهو
يعزو المصائب التي تتربص به فيكون ضحيتها كما ..الخيرات التي يحلم بها ".
والمق ّدس الديني هو قبل ك ّل شيء تجربة ،تنحو إلى أن تتجلى في صور و تمثالت رمزية .وقد
بين "مايير" ان تجربة المق ّدس هي ضرب روحاني من المعانقة للعالم .إنها حدس مؤسس لنوع
من الحضور الغامض ،لشيء يتجاوز الحدود المعتادة للتجربة اإلنسانية .وهذا الشيء المغاير
تماما للدنيوي يفلت من ظروف التجربة المدنسة .والمق ّدس كرمز يسمح باالنفتاح على العالم
المطلق ،ذلك أن طقس ما يم ّكن اإلنسان من اكتشاف هذا العالم المطلق ،الذي يفلت بالماهية من
ك ّل لغة ،خاصة وأن الدين هو نسق يعبّر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز واألسطورة.
لقد وضعت الشعوب في االديان ،ما كانت تفكر فيه بشأن العالم ،عن "
المطلق عما كائن بذاته " هيجل HEGEL
6
المقدس والهوية الثقافية:
يعتبر المقدس رمز /ديني ،مقوم للهوية الثقافية لكل مجتمع انساني ،فكل ثقافة او جماعة انسانية،
تتعرف على ذاتها وهويتها الثقافية ،من خالل الرموز الدينية التي تتبناها والتي تميزها عن
غيرها من الثقافات .وبذلك يكون الدين /المقدس هو العامل الذي تستمد منه كل جماعة الشعور
باالنتماء الثقافي .وفي هذا المنظور ،تكون األسطورة لغة المفارق ،عند "غارودي" فهو ال
يتحدث عن المفارق باعتباره خارجيا أو قوة فوق طبيعية ،فليس هو تعالي لرب فوقي بل تجريد
رمزي للمطلق ،وهو ما يجعل من األسطورة فعل خلق جماعي ،فاألسطورة ليست مجرّد
مشاركة في العالم ،بل هي رؤية للعالم تميز اإلنسان .لذلك يرى "غارودي" أننا ال نستطيع أن
ننعت باألسطورة ما هو مجرّ د أثر باقي من الماضي ،كما ال نستطيع أن نعتبر األسطورة مجرّد
إعادة إنتاج ،أو مجرّ د محافظة على الحاضر باعتبارها معيارا للسلوك .وهذا يعني أن األسطورة
ليست من الماضي بل أن هناك أساطير ينتجها اإلنسان اليوم .ما يخلق تقابال بين المقدس
والمدنس حسب مارسيا الياد ،فعند االنسان المؤمن "المقدس يحاكي المسلك االلهي ،يقيم
بالقرب من االلهة أي في الحقيقي وذي المعنى" .بينما يرى االنسان الالديني في المقدس "عقبة
امام حريته ،ولن يثوب الى رشده جذريا ،ولن يصير حرا حقا ،إال بأن يقتل االله االخير".
هذا التعالق بين الديني و الالديني بين المقدس والمدنس ،يصفه بول ريكور بالتقابل بين الرمز
والوثن ،هو ما يخلق ما يسميه ريكور "االغتراب الديني" ،الذي ال يمكن حله اال ب "ان يموت
الوثن ويحيا الرمز " .فالرمز صورة تخيلية في ذهن المتدين ال يمكن تمثلها واقعيا إال في
موضوع حسي "هو انهيار العالمة في موضوع فوق طبيعي و فوق
ثقافي" كما يقول ريكور.
7
بالرغم من اختالف االديان ،فان المقدس /الدين ،يمثل رمزا اساسيا وكونيا مشتركا بين
جميع البشر ،رغم اختالفهم الثقافي .ويتجلى هذا الطابع الكوني للدين حسب دوركايم في
البنية الموحدة له ،اذ تتكون الظاهرة الدينية من معتقدات وطقوس (المعتقدات هي الجانب
النظري االيماني ،التسليمي ،والتأسيسي .اما الطقوس فهي مجموع الممارسات التي تنتج
عن تلك المعتقدات والتي تقتضي دقة وصرامة في انجازها) ،ومن نظرة انشطارية للعالم
(حيث يمكن التمييز بين عالم مقدس كامل وفاضل ،عالم الحقيقة المطلقة و أخر مدنس ،عالم
االنسان برذيلته ،ومحدوديته وفساده.
ومن المقدس ما يمكن ان يتجلى في اشكال مختلفة طبيعية اسطورية خيالية ...وما يبرر
القول بكونية المقدس ،هو كون الرموز الدينية تستجيب الى حاجات االنسان في جميع
العصور ،وضمن كل الثقافات .يضاف الى ذلك ان الدين يقدم نفسه ،على انه استجابة
معرفية لحاجة االنسان ،الى فهم الوجود ومعرفة المصير .وال يكتفي الدين بهذا الجانب
المعرفي فقط بل يقوم بوظيفة اخالقية اذ يقدم نسقا اخالقيا ( ،منظومة من القيم )توجه
السلوك فهو على حد عبارة فرويد "قوة تتحكم فينا كيف ما تشاء" .
8
داللة الصورة
الصورة في اليونانية ( )Iconتعني التشابه والتماثل ،و ترجمت إلى( )Imagoفي الالتينية
و ( )Imageفي الفرنسية ،مع اختالف في النطق .ويتفق معجما الروس()Larousse
وروبير( ،)Robertعلى أن الصورة هي إعادة إنتاج شيء بواسطة الرسم أو النحت أو
غيرهما ،كما يشيرا إلى أن الصورة الذهنية( )Image mentaleتحيل على معنى
التمثل( ،)Répresentationوهو تمثل تخييلي ( )imaginaireومنها ()imagination
الخيال او التخيل .فالصورة اذن هي رسم ذهني تخيلي لشيء يستوحي من الواقع فيعيد تمثله
بشكل آخر .فالصورة تتح ّدد في معناها األصلي ،باعتبارها إعادة إنتاج طبق األصل.
عالقة الصورة بالهوية الثقافية
كل ثقافة تمتلك ابداعات فنية تميزها عن غيرها من الثقافات ،وباعتبارها عمال ابداعيا تمثل
الصورة عامال محددا لالنتماء الثقافي .ألنها نظام رمزي ووسيط ،يستخدم للتعبير عن
تمثالت دينية او عن احداث اسطورية ،تميز ثقافة انسانية مخصوصة .فهي شكل تدع فيه
الحضارات تجربتها المتنوعة وتبرز فعاليتها كثقافة حية .وقد اصبحت الصورة ذات قيمة
اكبر ودور خطير اليوم أي في ظل العولمة فمن مميزات العولمة ،انها عممت وسائل
االتصال الحديث أي وسائل االعالم المرئية واالنظمة المعلوماتية' ،شبكة اإلنترنت) فتحولت
الصورة الى اداة اتصال ،توكل لها وظائف متعددة ومختلفة منها الوظيفة االشهارية .فهي
عنصر مكون لخطاب اشهاري يقوم باستمالة االفراد ،الى االستهالك ووظيفة دعائية تتجلى
في ممارسة التأثير االيديولوجي ،الستمالة الناس الى اراء ومواقف واهداف سياسية .
سلطة الصورة
ومن هذا المنطلق ،فإن سلطة الصورة تكون كبيرة على الحس المشترك خاصة وان
الصورة تعكس رغبة من قام بأخذها ،أكثر مما تعكس الواقع .ذلك ان سلطة الصورة ،تستند
الى ميل االنسان الى تحويل حاجاته الى معرفة ،أي االعتقاد في ما يريد رؤيته .ومن هنا
يتأتى استخدام الصور كأداة في الخطاب الديني أمال في خلق الخلط بين واقع الصورة
والواقع الذي تتمثله ،وكذلك الشأن في الحروب اإلعالمية الموجهة إيديولوجيا ،بل وحتى في
الخطاب االشهاري ونظام الموضة .فغدا عصرنا بامتياز عصر "حضارة الصورة " بلغة
1
بارط او هو "العصر المرآوي".
،يذهب الى ابعد من ذلك في تفكيك داالت الصورة نحو ربطها باالجتماعي ، غير ان
حتى تتجلى الصورة ك"فرجة" او "مشهد" .spectacleفهذا التراكم الهائل للصور كبضاعة
لالستهالك ،جعل ديبور يتحدث عن المجتمعات المعاصرة باعتبارها مجتمعات الفرجة ،و
تمثل الفرجة عنده رؤية كلية للحياة ،وهي أساسا ترسانة من الصور المؤثرة على المشاهد،
ما من شأنه أن ينتج ما سماه ب"االستبعاد المعمم" ،الذي يمثل وجها من وجوه االغتراب.
اغتراب له قدرة تأثيرية بالغة ،تستم ّد من األساس االقتصادي ،بحيث تطوّ ع الصورة
والكلمة لتشكيل الوعي الزائف .إنه تأثير يغري الجموع صنعه مخطط االقتصاد الليبرالي،
للتحكم في صفوف الناس وإبعادهم عن مشاغلهم الحقيقية عبر التشبه بسلوك المشاهير
1
انظر مجلة الفكر العربي المعاصر عدد 28-28لسنة – 6661عن مركز االنماء العربي – بيروت لبنان.
9
والنجوم ،الذين يتصدرون الفرجات االشهارية .وبقدر ما تعتمد الفرجة أنواعا من الصور
الباهرة وأشكال الترفيه المغرية ،يتحول اإلنسان المستهلك للسلع إلى مستهلك لألوهام،
والصورة التي كانت في األصل تبلغ الداللة وتحدث التواصل ،تحوّ لت إلى عنصر تأثير
ّ
ومعطل للحوار بين الذوات. مفسد للتواصل الحقيقي
الثقافة يف معناها الواسع ،تعين مجموع السامت الروحية واملادية والفكرية والعاطفية ،اليت خيتص هبا جممتع برشي معني،
او فئة اجامتعية بعيهنا .ويه مركب يشمل الآداب والفنون وامناط العيش واحلياة ،كام يشمل احلقوق الاساس ية
ل إلنسان .ومنظومات القمي والتقاليد واملعتقدات ،وتشلك لك ثقافة برشية ،منظومة من القمي فريدة من نوعها وغري قابةل
للستبدال ،وبواسطة هذه القمي وكذكل بواسطة اشاكل التعبري املتنوعة واخملتلفة يمتكن ،لك شعب من الشعوب
البرشية من تأكيد حضوره ومشاركته يف العامل (.املفهوم املعمتد من قبل املؤمتر العاملي للس ياسات الثقافية املنعقد حتت
رعاية منظمة الامم املتحدة يف س نة 2891مبكس يكو)
ان عصرنا اليوم هو عصر االختالف دون منازع ،فنحن نمدح االختالف و
نقرضه ،نطالب بحق االختالف ونناضل من أجله .غير أن الحضور الدائم لكلمة
االختالف في منطوقنا اليومي و في مختلف المنابر ،ال يعكس بالضرورة حضور
11
فكرة االختالف في ظ ّل واقع العولمة حيث تسيطر ثقافة واحدة ،وحيث نالحظ مواقف عنصرية
و ال تسامح مع االختالف الثقافي .ذلك هو منطلق "كلود لفي ستراوس" في
تظ ّننه على ما آلت إليه العالقات اإلنسانية اليوم والعالقات بين الثقافات " البربري
والحضارات في ظ ّل الح ّد األقصى من االتصال أو ما سمّاه "إفراط االتصال".
ما هو إذن شأن االختالف الثقافي اليوم؟ هل هو واقع فعلي معيش أم أنّ هو من امن
االختالف هو مجرّد كلمة أو شعار نتبجح بها في المنابر لتوشي الخطب؟ بوجود
عندما قارن "كلود لفي ستراوس" عالقات القرابة واألساطير عند "البدائيين" البربرية "
الحظ أنه ينتهي دائما إلى نفس المشكل األساسي ،فاستخلص أن وراء تنوع
الثقافات توجد وحدة نفسية لإلنسانية ،إذ هنالك عناصر أساسية مشتركة كلود ليفي
لإلنسانية ،والحضارات ال تقوم إال بتركيب هذه العناصر المشتركة في
ستراوس
تشكيالت مختلفة .ولذلك نالحظ بين الثقافات البعيدة عن بعضها البعض
تشابهات وهي تشابهات ال ُتعزى بالضرورة إلى التواصل بين الحضارات
خاصة إذا ما تبيّنا وجود حضارات يصعب تصور االتصال فيما بينها نظرا
النزوائها وتباعدها عن بعضها البعض مثلما هو شأن حضارة "األنكا" في “امريكا الجنوبية” و
”الداهومي” في “منطقة الغرب االفريقي “.
و يالحظ “كلود لفي ستراوس” ،انطالقا من دراسته لألساطير والقواعد االجتماعية لمختلف
الثقافات نواة أساسية تمثل ثوابت بنيوية ( )Des Invariants structuralesفي ك ّل بقاع العالم مثل
عالقات المحرمات ( ،)Prohibition de l’incesteفهذا الممنوع يحضر في ك ّل المجتمعات ويمثل ثابت
بنيوي يسمح في ك ّل المجتمعات من التحول من اإلنسان البيولوجي إلى اإلنسان االجتماعي.
ومن هذا المنطلق يقرّ “لفي ستراوس” أنه” :ليس هناك حضارة بدائية وأخرى متطورة” ،بل
هناك إجابات مختلفة لمشكالت أساسية ومتماثلة ،وما يسميه العنصريون بالمتوحشين هم أيضا
يفكرون وفكرهم ليس أق ّل مرتبة من فكر الغربيين بل هو فقط فكر يشتغل بطريقة مختلفة عن
فكر الغربيين .وهذا يعني أن اإلنسانية عند « لفي ستراوس” تتطور في ضروب متنوعة من
المجتمعات والحضارات ،وهذا التنوع الثقافي ليس مرتبطا بأي حتمية بيولوجية ألن التنوع
مواز للتنوع الثقافي خاصة وأن التنوع الثقافي يتميز
ٍ البيولوجي ليس إال تنوعا على مستوى آخر
عن التنوع البيولوجي من جهة كون التنوع الثقافي يع ّد بالمئات واآلالف في حين أن التنوع
البيولوجي يُع ّد بالعشرات .وقدرة الثقافة على دمج هذا المجموع المركب من االختراعات في
الميادين المختلفة والذي نسميه حضارة يتناسب مع عدد واختالف الثقافات التي تتشارك مع
بعضها عن قصد أو عن غير قصد في تأسيس استراتيجيا مشتركة .ذلك ما ينتهي إليه “لفي
ستراوس” عبر مقارنته بين أوروبا في عصر النهضة وأمريكا ما قبل “كولومبس » ،فأوروبا
عصر النهضة كانت تمثل موضع تالقي وصهر التأثيرات األكثر تنوعا بدءا بالتقليد الروماني
واليوناني فالجرماني واألنقلوسكسوني ،وصوال إلى التأثيرات العربية والصينية ،في حين أن
أمريكا ما قبل “كولومبس” ،ال تنعم بهذا التنوع بحكم عزلتها كقارة ،وفي حين أن الثقافات التي
كانت تتالقح في أوروبا ،تمثل نتيجة اختالفات قديمة تعود إلى ألفيات .مما جعلها تحقق توازنا
اجتماعيا فإن ثقافات أمريكا لم تكن متمفصلة بما فيه الكفاية ،وهو ربما ما يفسر انهيارها أمام
11
حفنة من المستعمرين ثم إن الحلف الثقافي في أمريكا ما قبل “كولومبس” كان مقاما بين أطراف
أق ّل اختالفا.
وهذا يعني أنه ليس هناك مجتمع ترسّبي في ذاته وبذاته ،والتاريخ الترسبي ،ليس خصوصية
بعض األعراق أو بعض الثقافات .بل هو نتيجة سلوك ثقافي ،هو ضرب من وجود الثقافات
يتمثل في وجودها معا ،وهكذا يستخلص “لفي ستراوس” أن التقاء الثقافات قد يؤدي إلى
نتيجتين:
-إما أن يؤدي إلى تص ّدع وانهيار نموذج أحد المجتمعات
-إما أن يؤدي إلى تأليف أصيل بمعنى والدة نموذج ثالث ال يمكن اختزاله في
النموذجين السابقين.
وهذا يعني أنه ليس هناك تالقحا حضاريا دون مستفيد والمستفيد األوّ ل هو ما يسميه “لفي
ستراوس” بالحضارة العالمية التي ال تمثل حضارة متميزة عن الحضارات األخرى ومتمتعة
بنفس القدر من الواقعية وإنما هي فكرة مجردة .ومساهمة الثقافات الفعلية المختلفة ال تقتصر
على الئحة ابتكاراتها الخاصة ،خاصة وأنّ البحث عن جدارة ثقافة ما باختراع أو بآخر هو أمر
ال يمكن التثبت منه ،ثم إن المساهمات الثقافية يمكن توزيعها إلى صنفين ،فمن جهة لدينا
مجموعة من اإلضافات والمكتسبات المعزولة التي يسهل تقييم أهميتها
وهي محدودة ومن الجهة المقابلة لدينا إسهامات نسقية ترتبط بالطريقة
الخاصة التي يختارها ك ّل مجتمع للتعبير أو إلشباع مجموع طموحات
إنسانية والمشكل بالنسبة لـ”لفي ستراوس” ال يتمثل في قدرة مجتمع ما
على االنتفاع من نمط عيش جيرانه ولكن ،إذا ما كان هذا المجتمع
قادرا و إلى أيّ مدى يكون قادرا على فهم ومعرفة جيرانه؟ ومن هذا
المنطلق فإن الحضارة العالمية ال يمكن أن توجد إال كفكرة ،من حيث
أنها" :تحالف للثقافات التي تحتفظ كلّ واحدة منها بخصوصيتها ".
أما ما هو بصدد التحقق في إطار العولمة ،فليس إال عالمة تقهقر
اإلنساني والكوني .وإذا كانت اإلنسانية تأبى أن تكون المستهلك العقيم
للقيم التي أنتجتها في الماضي ،فإنه عليها أن تتعلم من جديد أن ك ّل خلق حقيقي يتضمّن نفيا
ورفضا للقيم األخرى ،ألننا ال نستطيع أن نذوب في اآلخرين وأن نكون مختلفين في نفس الوقت
والعصر الذهبي للخلق تحقق في “ظ ّل شروط الحد األدنى من االتصال” ،ألن هذا الح ّد األدنى
من االتصال هو ما يدفع أطراف التواصل رغم البعد ودون أن يكون التواصل دائما وسريعا
وهو الشكل الذي يضعف االختالف .و كلود لفي ستراوس يعلم أن العودة إلى الوراء غير
ممكنة ،ولكن الوجهة التي تسير فيها اإلنسانية ،وجهة العولمة تجعل الوضع اإلنساني مشحونا
مجرد
ّ ومولدا للحقد العرقي و الالتسامح الثقافي "فنحن اآلن مهددون باحتمال تحولنا إلى
مستهلكين قادرين على استهالك أي شيء من أية نقطة في العالم ومن أية ثقافة والثمن دائما
فقداننا ألصالتنا بأكملها" .يبدو إذن أنّ إفراط االتصال هو ما يه ّدد اإلنساني ألنه يه ّدد التنوع
واالختالف المح ّفز والمولّد لإلبداع المحرز للتقدم .و بالتالي فإن عدم اعتبار االختالف يجعلنا
نعتقد أن ما هو عادي بالنسبة إلينا هو كذلك بالنسبة لك ّل الناس ،يجعلنا نعتقد أن معاييرنا الثقافية
هي معايير كونية ،ويجعلنا نعتقد أن ما هو عادي بالنسبة إلينا هو أيضا طبيعيا.
12
-2اشكالية املركزية الثقافية :
يقول إيريك وولف في كتابه أوروبا ومن ال تاريخ لهم :عن موسوعة ويكبيديا
«ويؤمن بعضنا بأن للغرب شجرة نسب تشير بأن اليونان القديمة أنجبت روما ،وأن روما أنجبت أوروبا المسيحية،
وأن أوروبا المسيحية أنجبت عصر النهضة ،وعصر النهضة أنجب التنوير ،والتنوير ما لبث أن تمخضّ عن
الديمقراطية السياسية والثورة الصناعية أما الصناعة المتزاوجة مع الديمقراطية فسرعان ما تمكنت من إنتاج الواليات
المتحدة األمريكية المجسدة لحقوق اإلنسان والحرية والبحث عن السعادة»
13
وعليه فإن المختلف بثقافته ال يعتبر فقط غريبا
بل أيضا بربريا) ( Barbareفالغريب هو اآلخر
بالنسبة إلى األنا ،هو من ينتمي إلى ثقافة مختلفة
والبربريّ هو الغريب الذي أُموضعه في مرتبة
أق ّل من اإلنسان.
وعبارة بربري ) (barbarianإنسان ينظر إليه
على أنه غير متحضر أو بدائي .وعادة ما يطلق
على الغريب او االجنبي الوافد على المدينة وهي عبارة كان يستعملها اليونان لإلشارة الى
الغريب الوافد على اثينا او غير الناطق بلغتها ويقال يبربر اذ يلوك الكالم وال يحسن نطقه وهي
تناسب عند العرب عبارة العجم واالعجمي غير الناطق بالعربية وفي اللسان العربي تقال على
الحيوان لكونه ال ينطق فنقول العجماوات أي الخرساء لكون الوافدين على الجزيرة العربية من
غير العرب يصنفونهم في خانة الحيوان االعجم .فالبربري هو االعجمي وهو الغريب وهو
المتوحش( forasticusفي الالتينية وفي الفرنسية )faroucheاو غير المتمدن او من ينتمي
لعالم الالإنسانية و الالمدنية و الالتحضر.
ثم اصبحت تطلق على أي عضو من أمة يحكم عليها البعض على أنها أقل حضارية أو نظامية
(مثل المجتمع القبلي) ،ولكن قد يكون أيضا جزءا من مجموعة ثقافية" بدائية" معينة (مثل البدو
الرحل) او الطبقة االجتماعية (مثل قطاع الطرق) سواء داخل األمة أو خارجها .و قد عرج
كلود ليفي ستراوس في كتابه العرق والتاريخ على هذا المعنى بالضبط حين يقول "كانت
العصور القديمة تخلط كل ما ال يشترك مع الثقافة اليونانية تحت اسم البربري وفيما بعد
استعملت الحضارة الغربية تعبير متوحش في المعنى ذاته ..اذ من المرجح ان كلمة بربري تقود
من الناحية اللغوية الى غموض وجمجمة اغاني العصافير بمواجهة القيمة التعبيرية للغة البشرية
وكذلك كلمة متوحش التي تعني انه ات من الغابة تذكر بنوع من الحياة الحيوانية في مقابل
الثقافة االنسانية ".
لذلك يسمي "كلود لفي ستراوس" مركزية إثنية ( ) Ethnocentrismeالحكم المسبق الذي ال
يحكم قيميا على ثقافة أخرى إال انطالقا من ثقافته الخاصة .وهذا يعني أنّ المركزية االثنية
بالنسبة للوعي الجماعي ،هي عند " كلود لفي ستراوس" نظير األنانية بالنسبة للوعي الفردي.
لذلك يدعونا « كلود لفي ستراوس” إلى التسامح مع الثقافات األخرى وأن نتعلم تقبّل اختالفات
اإلنسانية ،ذلك ما يسميه بالنسبية الثقافية ،فليس هناك ثقافة لها الحق في النظر إلى ذاتها
باعتبارها أرقى من الثقافات األخرى ،ولذلك يقول "كلود لفي ستراوس" " :إن البربري هو من
آمن بوجود البربرية" ،فمن وجهة النظر األنثروبولوجية ليس هناك سلّم مفاضلة بين الثقافات
14
وإنما هناك تنوّ ع نسبي بين الثقافات ومفهوم التفوق الثقافي ليس إال ّ وليد الحكم المسبق الذي
تمثله المركزية االثنية أو الميل العتبار ثقافتنا الخاصة نموذجا لإلنسان.
"ان الفرس تقتدي وال تبتكر ,والروم ال يحسنون اال البناء والهندسة ,والصين اصحاب صنعة ال فكر وال روية ,والترك
سباع للهراش ,والهند اصحاب وهم وشعوذة ,والزنج بهائم هاملة .اما العرب فقد علمتهم العزلة التفكير وساعدتهم
بيئتهم على دقة املالحظة وهم ذوو قيم خلقية عليا " ابو حيان التوحيدي –االمتاع واملؤانسة .
15
"عيش مشترك" مع االخر المختلف اذ يقول «أعرف األخالق بالمعني العام للفظ وهو
الرغبة في العيش الحسن مع ومن أجل اآلخرين وفي مؤسسات عادلة .ومن ثمة فإن جميع
األفراد والتجمعات البشرية على تفردها وخصوصية رؤاها ومعتقداتها وذاكرتها الحضارية
تريد أن تعيش في سياق الحياة الخاصة أو المشتركة وفقا لمقتضيات الرغبة في االكتمال
السعيد «.ومن المالحظ أن ريكور يؤكد في هذا السياق أن الرغبة في االكتمال السعيد على
الصعيد األممي والكوني ال يمكن أن تتحقق إال ضمن منظومة من المبادئ والقيم االيتيقية
المشتركة التي توحد البشر حول غاياتهم الوجودية –الكونية على الصعيدين األخالقي
واالجتماعي –الثقافي .و عليه فأن اللقاء بين الثقافات المتنوعة على أرضية الحوار المتكافئ
ليس ترسبا لليوطوبيا و التمثالت الخيالية بقدر ما هو بحاجة إلى تجديل االستعدادات والقيم
الكامنة في اإلنسان سواء أتعين في قدراته الذاتية-الشخصية أو في رهاناته و انتظاراته
االيتيقية والحقوقية –الكونية .وعليه فإن ايتيقا االعتراف الكوني بالهوية واالختالف
بين األمم والشعوب تبقى على الرغم من كل الظروف التاريخية الصعبة التي مرت بها
رهينة استعداد كل أمة للمساهمة اإلبداعية في إثراء الحضارة العالمية والتعايش في تفاهم
ووفاق مع الحضارة الثقافية.وهو ما تصوره ريكور ممكنا للثقافة العربية االسالمية وللثقافة
الهندية اذ يقول "وحدها الثقافة الحية والوفية ألصولها وفي االن نفسه تلك التي في حالة
ابداع على صعيد الفن واألدب والفلسفة ..هي القادرة على تحمل اللقاء بالثقافات االخرى
...واني على يقين بأنه سيكون للعالم االسالمي الذي يشهد نهضة وللعالم الهندي الذي تولد
تأمالته القديمة تاريخا يافعا مع حضارتنا وثقافتنا االوروبية هذا التجاور المخصوص الذي
لكل المبدعين".
ولكن تعالوا نرى ما يقوله فالسفة "الديمقراطية والعولمة الجدد " ففرانسيس فوكوياما
F.FOKOYAMAهذا الشاب الياباني األصل الذي لم يكن اسمه ظاهرا أو معروفا حتى سنة
1981في أوساط الباحثين حتى القاء محاضرته الشهيرة بعنوان " نهاية التاريخ " في
جامعة شيكاغو .أصبح هكذا و فجأة "العقل المفكر" للنظام العالمي الجديد -اذ نراه يكتب في
مقال نشرته مجلة " نيوزويك " NEWSWEEKبعنوان" :العدو الحقيقي " يعتبر فيه أن
"الديمقراطية الحديثة هي نسخة علمانية للمبدأ المسيحي في المساواة اإلنسانية عالميا " وفي
المقابل فإن "اإلسالم هو الحضارة الرئيسية الوحيدة التي يمكن الجدال بأن لديها بعض
المشاكل األساسية مع الحداثة ".و تقوم فكرته المحورية على ان الثقافة الغربية بمكوناتها
الرئيسية من عقالنية وليبرالية وديموقراطية ومنظومة لحقوق االنسان ليست فريدة من
نوعها ومتفوقة على سائر الثقافات البشرية االخرى فحسب بل انها لتعتبر كذلك غاية التاريخ
البشري ونهايته .
فالمشكل من منظور فوكوياما ،مشكل حضاري ،عقائدي ،فمشكل التخلف ،و الفقر ،و
اإلرهاب ...،سببه عدم تالؤم الدين اإلسالمي مع الحداثة الغربية ،أو ما يسميه " الفاشية
اإلسالمية " في إشارة للحركات الدينية المتطرفة في الوطن العربي وعلى رأسها " الحركة
الوهابية " في السعودية .
والتي ستعطي هذا المفهوم بعد احداث 11سبتمبر كل ذلك الزخم الداللي في حرب امريكا
على االرهاب من باب التبرير الفلسفي و االيتيقي بان المعركة معركة حضارات كما
سيسوقها وينمقها المفكر االستراتيجي االمريكي صامويل هتنتغتون في ما سماه "صدام
16
الحضارات ".يقول " تقوم فرضيتي على ان المصدر الجوهري للصراع في العالم الجديد لن
يكون ايديولوجيا او اقتصاديا بالدرجة االولى .فاالنقسام الكبير داخل الجنس البشري وكذالك
مصدر الصراع المسيطر سيكون حضاريا .كما ان الدول القومية ستضل هي الالعب
االقوى على مسرح الشؤون الدولية .لكن الصراعات الرئيسية في السياسة الدولية ستنشب
بين دول ومجموعات من الحضارات المختلفة وستكون حدود التوتر الفاصلة بين تلك
الحضارات هي خطوط وواجهات المعارك الكبرى في المستقبل ستضل هي الالعب االقوى
على مسرح الشؤون الدولية .لكن الصراعات الرئيسية في السياسة الدولية ستنشب بين دول
ومجموعات من الحضارات المختلفة وستكون حدود التوتر الفاصلة بين تلك الحضارات هي
خطوط وواجهات المعارك الكبرى في المستقبل" ذلك ان الحضارات األخرى لم تدخل بعد
عصر " التحضر " بالمفهوم الغربي للكلمة وان تسنى لها اليوم ذلك فبفضل ما سماه "عبء
الرجل االبيض" المحكوم بالتفوق والهيمنة ال باألخالق .ف"لما كانت الحضارات االسيوية
واإلسالمية تدعي اثبات الطابع الكوني لثقافتها فان الغربيين سيدفعون لالهتمام اكثر بالروابط
الموجودة بين الكونية واالمبريالية ".
وليست مفاهيم "الحرب على االرهاب" و"الفوضى الخالقة" و"الشرق االوسط الجديد"
و"النظام العالمي الجديد "و"الربيع العربي " الخ سوى نسخ صالحة للتطبيق لمفهوم صدام
الحضارات حسب الظروف الجيو-سياسية.
18
دستور
كوسموبولوتي
الكونية
مبدأ العمومية مشروع فدراليات دول
حرة
سالم دائم
رقابة
الفيلسوف
لكنّ ال "كانط" وال "هيغل" كروّ اد للحداثة كان بإمكانهما أن يأخذا بعين االعتبار أهمية العامل
االقتصادي في نشأة الحروب واندالعها وهو ما تشهد عليه العولمة .ذلك هو المنطلق الذي جعل
ونظرت إليه يموت عندما يتحقق،"بودريار" يعتبر أن الكوني كيوطوبيا utopieتغنت بالحداثة ّ
ألن الكونية تفسد عندما تتحقق .ذلك أن العولمة حسب "بودريار" ليست شيء آخر غير
الخصوصية المدعية للكونية ،والثقافة الغربية التي كانت حبلى بالكوني ،عندما جاءها المخاض
ولدت العولمة فماتت بدورها .ولكن إذا كان موت الثقافات األخرى موتا رحيما ألنها ماتت من
فرط خصوصيتها ،فإن موت الثقافة الغربية كان موتا شنيعا ألنها فقدت ك ّل خصوصية عبر
استئصال ك ّل قيمها السمحة (الحرية ،الديمقراطية ،حقوق االنسان )...في إطار العولمة إذ أنّ
"الكوني يهلك في العولمة".
19
فالعولمة ( )globalisationاو العالمية ( )mondialisationليست هي ما نعنيه بالكونية
( )universalisationفي معناها الفلسفي و االيتيقي االنف الذكر والذي نظر له كل فالسفة
التنوير ,بل العولمة هي مشروع نيوليبرالي و نيوكولونيالي (استعمار جديد) اقتصادي
واجتماعي وثقافي تعمل منظومة الرأسمالية العالمية على تجذيره وفق براديغم االنتاج –
االستهالك -والمردودية المنتج لنظام اكثر توحشا بعد نهاية الحرب الباردة وفق جملة من
اليات الهيمنة االمبريالية التي يمكن اجمالها في "انها الزيادة المتسارعة لتدفق البضائع المختلفة
ولحرية مرور الناس و الراسمال و التكنولوجيا واالتصاالت وللمعرفة عبر الحدود القومية
وتسمي العولمة ايضا باتجاه ما بعد القومية " transnationalismeويمكن تحديدها على النحو
التالي :
على المستوى على المستوى المالي على المستوى التجاري مس توايت على المستوى
الهمينة
الثقافي العسكري
الجمعيات والمنظمات
ذات الصبغة الحقوقية حلف شمال االطلسي االلية
والخيرية واالعالمية البنك العالمي وصندوق منظمة التجارة العالمية
والمعاهد االستراتيجية. النقد الدولي والصناديق الناتو N.A.T.O
مثل "فريدوم هاوس " المانحة W.T.O
هيومن رايتس واتش –
االنترنت –الفضائيات – F.M.I World
Trade
برامج تلفزيون الواقع
الخ W.B organization
تنميط القيم واالفكار اقراض الدول الفقيرة الدفاع اتفاقيات الشراكة والتبادل الوظيفة اتفاقيات
على صعيد عالمي والنامية بعنوان تعديل المشترك بين الشركاء التجاري بفتح الحدود والغاء
وتكييف العقول بخلق موازناتها المالية ولعب دور شرطي الرسوم الجمركية وتحرير
ما يسمى"اجيال القادة" واغراقها في المديونية المبادالت والتعامل بالدوالر العالم.
لمزيد تفقيرها الخضاعها و ترويج ثقافة كعملة عالمية وحيدة.
االستهالك وقيم ونهب ثرواتها.
الفردانية والمردودية
والمصلحة .
هذا يعني أن العولمة تسير في اتجاه القضاء على االختالف خاصة وأن االختالف يمثل بالنسبة
لـ"كلود لفي ستروس" واقعا طبيعيا .إذ يالحظ "كلود لفي ستروس "أن الحضارات والثقافات
توجد في واقع االختالف إذ تتطوّ ر اإلنسانية في ضروب متنوعة من المجتمعات والحضارات.
والتنوع الثقافي يولّد بالضرورة تالقحا بين الثقافات ،فضرب وجود الثقافات يتمثل في وجودها
معا ،وااللتقاء بين الثقافات إما أن يؤ ّدي إلى تص ّدع وانهيار نموذج أحد المجتمعات وإما إلى
تأليف أصيل بمعنى والدة نموذج ثالث ال يمكن اختزاله في النموذجين السابقين .وهذا يعني أنه
ليس هناك تالقح حضاري دون مستفيد ،والمستفيد األول يسميه "ستراوس" بالحضارة العالمية
التي ال تمثل في نظره حضارة متميزة عن الحضارات األخرى ومتمتعة بنفس القدرة من
الواقعية وإنما هي فكرة مجرّ دة .والمشكل بالنسبة لـ"ستراوس" ال يتمثل في قدرة مجتمع ما على
االنتفاع من نمط عيش جيرانه ولكن هو مشكل قدرة مجتمع ما على فهم ومعرفة جيرانه .ومن
21
هذا المنطلق فإن الحضارة العالمية ال يمكن أن توجد إال كفكرة من حيث هيّ "تحالف للثقافات
التي تحتفظ ك ّل واحدة منها بخصوصياتها .أما ما هو بصدد التحقق اليوم في ظ ّل العولمة فليس
إال عالمة تقهقر اإلنساني والكوني ،وإذا كانت اإلنسانية تأبى أن تكون المستهلك العقيم للقيم التي
أنتجتها في الماضي فإنه عليها أن تتعلم من جديد أن ك ّل خلق حقيقي يتضمن رفضا ونفيا للقيم
األخرى ،ألننا ال نستطيع أن نذوب في اآلخر ونكون مختلفين في نفس الوقت لذلك ينقد لفي
ستراوس فكرة التفوق الثقافي التي يعتبرها وليدة للحكم المسبق الذي تمثله المركزية االثنية أي
الميل إلى اعتبار ثقافتنا الخاصة نموذج لإلنسان.
حوصلة و استنتاجات
ما يمكن استخالصه اذن ،هو ان الهوية امر ضروري ،ال يمكن خارجها الحديث عن انسانية
االنسان .ألنها االطار الذي يخرج االنسان من فرديته ليتعرف على خصوصيته ،وهي التي
تشعره بالطابع العالئقي لوجوده ،وبنمط حضوره الجمعي .وهي مطلب ايتيقي قادرة على ان
ترسم للفرد والجماعة موقعا ،يؤسس لمالمح حضوره قبالة الغير المختلف عنه ثقافيا .فمن خالل
الهوية يتعرف االنسان على ذاته كما يتعرف االخر عليه ،سواء اكان يشترك معه في السياق
الثقافي او يختلف عنه ،وداخل الهوية تتوفر لإلنسان معايير للحكم .من هنا ندرك ضرورتها
وندرك الضياع واالغتراب الذي ينشأ عن فقدانها .وانه اذا فقدت الجماعة تميزها الثقافي أي
مواردها الثقافية الخاصة التي ال يشاركها فيها غيرها ،فقدت هويتها كجماعة مستقلة .وان لكل
مجتمع سوى ثقافة شديدة التماسك ،تدفعه الى مقاومة المحاوالت التي تبذل لطمس هويته .وفي
المقابل فان هذا الوجه االيجابي للهوية ،ال يمكن ان يخفي مخاطرها ،اذا ما اصيبت بداء
التعصب وعششت داخلها العنصرية ووجهتها المركزية الثقافية ،فهي تتحول الى عائق يمنع
التواصل ويبشر بانقراضها.
فالهوية بهذا المعني وعلى حد عبارة هيقل سلبية ،ولكنها ليست عدما خالصا فارغا وانما هي
سلب للوجود وخصائصه .على الهوية اذن تتجنب كل ما يدعو الى االنغالق والتقوقع على
الذات ،وان تدرك وجود االختالف بما هو اختالف قادر على اثراء المحلي .ال يحتاج اال الى
التقاء االنسان باإلنسان من اجل وحدة انسانية فال توجد هذه الوحدة االنسانية حسب موران ،اال
بقدر ما يوجد من تنوع ثقافي .وعلى شعوب العالم على اختالفها ان تنظم نفسها على نحو
يجعلها قادرة ،على الفعل كما لو كانت انسانا واحدا (على حد عبارة غاندي) .فالثقافة المعزولة
ال يمكن لها ان تكون متفوقة (كما اكد على ذلك ستروس) ،وان التعلل بالعولمة وتحويلها الى
شر مطلق تسند اليه كل هذه التوترات والصراعات والحروب الدائرة اليوم ،امر مبالغ فيه على
اعتبار ان العولمة فيها من االيجابيات ما يجعل امكانية قيام حوار حضاري او ديني امر ممكن،
بما توفره من وسائل تواصل تجعل التعرف على االخر اكثر سهولة وسرعة .فالعولمة ليست
هي المنشأ لسيطرة ثقافة على ثقافة اخرى ،ولكنها انشات نمطا جديدا من السيطرة الثقافية،
بمجرد الوعي به هناك امكانية لتجاوزه .وان المشتركات بيننا على اختالفاتنا قادرة على ان
توجهنا الى ما هو كوني انساني .اننا نحتاج الى وعي مسؤول وارادة قوية إلنجازه وتلك هي
مهمة الثقافة ،واال وكما عبر عن ذلك كلود ليفي شتراوس ستكون نهاية االنسانية جمعاء '':لقد
بدا العالم بدون انسان وسينتهي بدونه .
21
المعهد النموذجي -قابس معهد حي األمل – قابس
dhiab.tahar@gmail.com Abunadem.marzouki@gmail.com
22