You are on page 1of 22

‫درس‬

‫اعداد‬

‫الطاهر ذياب‬ ‫اهلادي عبد احلفيظ‬


‫أستاذ أول مميز درجة استثنائية‬ ‫أستاذ أول مميز درجة استثنائية‬
‫املعهد النموذجي ‪ -‬قابس‬ ‫معهد حي األمل – قابس‬

‫"علي ان افتح نوافذي لكل رياح العامل شرط ان ال‬


‫تقتلعين من جذوري " غاندي‪.‬‬

‫السنة الدراسية‪9191 / 9102 :‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ 1‬ـ على سبيل التقديم ‪:‬‬

‫تندرج هذه المسألة في فضاء إشكالي عام هو مطلب الكوني باعتباره رهانا لإلنساني‬
‫في واقع محكوم بالصراع والهيمنة وموجه بمبادئ وقيم وضعية باتت تهدد وحدة‬
‫االنسانية ‪ .‬للتفكير في امكان "العيش المشترك" ضمن افق حوار ايتيقي تشرع له‬
‫فلسفة االختالف واألنثروبولوجيا البنيوية اليوم ‪.‬‬

‫ـ إحراجات‪:‬‬

‫‪ ‬كيف ميكن أن نتحدّث عن كوني إنساني يف واقع فسيفساء ثقافية ؟‬


‫‪ ‬هل ميكن فعال أن حنقّق هذا الكوني أم أن فكرة" العيش املشرتك" تبقى جمرّد امكان‬
‫وجود يفسد عندما يتحقّق؟‬
‫‪ ‬كيف ميكن أن حنقق هذا الكوني دون أن نقع فريسة "مركزية ثقافية" جتتثنا من‬
‫جذورنا؟‬
‫‪ ‬كيف حنافظ على اهلوية دون الوقوع يف موقف انغالقي قصووي رافض لكل كونية؟‬
‫‪ ‬وبالتالي كيف ميكن أن نستشرف أفق كوني يتحقّق فيه التواصل ضمن شروط ايتيقية‬
‫ويراعي اخلصوصية؟‬

‫‪2‬‬
‫‪ .1‬يف السّؤال عن اهلوية‬
‫‪ .2‬الرمز مبا هو مكون للخصوصية‬
‫‪ .3‬من اخلصوصية اىل الكونية ‪:‬‬
‫أ) اشكالية التنوع الثقايف‬
‫ب) اشكالية املركزية الثقافية‬
‫ت) حوار ام صدام احلضارات‬
‫‪ .4‬الكونية والعوملة ؟‬

‫يف السؤال عن اهلوية ‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫السؤال عن الهوية وان ولد من رحم الفلسفة اليونانية‪ ،‬إال انه ولد‬
‫والدة منطقية‪ ،‬فقد كان سؤال الهوية هو سؤال المنطق عند أرسطو‬
‫قبل أن يصبح سؤال الفلسفة وعلم االجتماع ثم علم األنثروبولوجيا‪.‬‬
‫ومعنى الهوية لغة‪ ،‬من هو أو هو هو وتعني الوجود المشار إليه‬
‫الحاضر‪ ،‬والمرادف لماهية الشيء أو الوجود المنفرد‪ ،‬كما يقول‬
‫‪":‬هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد‬ ‫الفارابي‬
‫له كل واحد وقولنا انه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي ال يقع فيه اشتراك"‬
‫أي ما تكون خصوصية ذاته غير موقوفة على غيره‪ ،‬بل مستفادة منه ‪.‬وهو تقريبا المعنى نفسه‬
‫في الالتينية حيث تعني الهوية ‪ identité‬من ‪ idem‬اي ما يكون هو نفسه ‪. lui-même‬‬

‫‪« L’identité est le « sentiment subjectif et tonique d'une unité personnelle et d'une continuité‬‬
‫» ‪temporelle‬‬

‫وهي معاني على وصال بمفاهيم أخرى‪ ،‬ذات قرابة مثل الماهية‪ ،‬وذات النفس‪ ،‬على المعنى‬
‫الذي ذهب اليه الجرجاني في تعريفاته "ماهية الشيء هي ما به يكون الشيء هو هو "‪ .‬اال ان‬
‫الهوية بهذا المعنى اخص من الماهية‪ ،‬ألن الهوية تقال على الجزئي‪ ،‬في حين تقال الماهية على‬
‫الكلي‪ .‬وبعبارة اخرى ما به الشيء يكون يسمى ماهية‪ ،‬اذا كان كليا كماهية االنسان‪ .‬وهوية اذا‬
‫‪3‬‬
‫كان جزئيا‪ ،‬كحقيقة زيد ( كليات ابي البقاء)‪ .‬والهوية تعني مطابقة الشيء لنفسه‪ ،‬او مطابقته‬
‫لمثيله‪ .‬والمطابقة بهذا المعنى تكون اذن اما عددية ‪ ،numérique‬او شخصية ‪ .personnelle‬وتتعدد‬
‫مجاالت حضور مفهوم الهوية‪ ،‬مما يدعونا الى التمييز بين‪:‬‬

‫‪ ‬هوية شخصية‪ ،identité personnelle:‬والتي تحيل على ما تختص به الذات من تفرد‬


‫ووحدة‪ ،‬تشمل الوعي بالذات‪ ،‬وتمثل الفرد لها‪ .‬وتتكون هذه الهوية من التركيبة‬
‫البدنية والبعد الفكري و النفسي‬
‫‪ ‬هوية اجتماعية‪ :‬ونعني بها كل ما يؤمن التعرف على الذات من الخارج‪ ،‬وترتبط‬
‫بجملة االنظمة التي يشترك فيها الفرد مع األعضاء االخرين داخل المجتمع االخر‪،‬‬
‫وتمثل االساس الذي يستمد منه اي مجتمع اختالفه وتميزه عن مجتمع اخر كاللغة‬
‫والدين والعرق ‪...‬‬
‫‪ ‬هوية ثقافية‪ identité culturelle :‬وتتكون من كل ما هو مشترك بين جميع افراد‬
‫المجتمع مثل القواعد والمثل والقيم التي يشترك الفرد مع بقية افراد المجتمع ويمكن‬
‫ان نتحدث ايضا عن هوية بينثقافية ‪ interculturelle‬في حالة التبادل والحوار بين‬
‫الثقافات المختلفة ‪ .‬ويمكننا اليوم حصر داللة الهوية في معنيين‪:‬‬

‫هوية األنا وهوية الذات ‪.‬وهي التحديدات التي أعرب عنها اريك فروم حين ميز بين هوية ال "الما‬
‫أوجد" ويعني هوية األنا‪ ،‬وهي هوية فردية شخصية ذات طابع فردي نفسي‪ ،‬ينظر لها من‬
‫منظور سيكولوجي‪ ،‬وهو ما يسميه جون لوك "هوية شخصية "‪ .‬وهوية ثانية يسميها فروم هوية‬
‫ال" ما املك" وتعني ما سماه هوية الذات‪ ،‬وهي هوية مفتوحة على الخارج‪ ،‬أو هوية اجتماعية‬
‫أو ثقافية أو "هوية مركبة" كما سماها ادغار موران ‪.‬‬
‫إن الفضل يعود – إن كان ثمة فضل –لألبحاث والدراسات االنثروبولوجية‪ ،‬في االهتمام‬
‫بالهوية‪ ،‬من جهة ما هي مطلب الذات الجماعية ووحدتها‪ ،‬ومن جهة وعي هذه الذات‬
‫بخصوصيتها‪ ،‬في عالم أصبح االنفتاح والتنوع فيه واقعا حيا‪ ،‬لم يعد باإلمكان إنكاره أو تجاهله‬
‫منذ االستعمار‪ .‬واليوم يتزايد االهتمام بمعاني الخصوصية الثقافية (‪)5‬بعد التحوالت الجيو‪-‬‬
‫سياسية التي عرفها العالم‪ ،‬بنهاية الحرب الباردة وظهور طرف استقطاب عالمي أحادي‪ ،‬أسس‬
‫لمقوالت جديدة للهيمنة بعد "مركزية الثقافة" مثل "العولمة" و"القرية الكونية "و"صدام‬
‫الحضارات" و‪ "...‬العيش معا ‪.".‬‬
‫فإذا كان الصراع الدولي اليوم‪ ،‬لم تعد تحسمه شعوب أو دول‪ ،‬بل حضارات كما يبين‬
‫فإن " الهوية الثقافية التي هي في أوسع معانيها‪ ،‬الهوية الحضارية تشكل نماذج للتماسك‬
‫والتفكك والصراع " ‪.‬إن الهوية تتح ّدد عموما باعتبارها ما به يكون الشيء هو نفسه‪ ،‬وهذا‬
‫التحديد للهوية ليس بعيدا عن معنى اإلنية‪ ،‬من حيث أنها تحيل إلى ما يميز اإلنسان‪ ،‬وما يعبّر به‬
‫عن حقيقته من وجهة ميتافيزيقية‪ .‬بيد أن السؤال عن الخصوصية يحيل إلى الهوية‪ ،‬من جهة ما‬
‫يميز اإلنسان بما هو كائن‪ ،‬ينتمي إلى مجموعة أو مجتمع معين‪ .‬وهذا يعني أن إشكالية‬
‫الخصوصية والكونية‪ ،‬تجعلنا نغادر نهائيا حقل الفردية المنغلقة على ذاتها‪ ،‬إلى مستوى أوسع‬
‫من االنفتاح على الغيرية في مختلف أشكالها وأبعادها الثقافية والحضرية‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫غير أن إدغار موران‪ ،‬يتناول مشكل الهوية من‬
‫جهة تعقد وتنوّ ع مستويات الهوية اإلنسانية‪ ،‬إذ أنه‬
‫يرى أنّ التنوع بين األفراد والثقافات يبلغ ح ّدا‬
‫كبيرا إلى درجة أننا نحسب القول بالوحدة‬
‫اإلنسانية ضربا من التجريد‪ .‬ذلك أن "موران"‬
‫يعتبر الهوية "هوية مركبة"‪ ،‬من هوية شخصية‬
‫وهوية اجتماعية وهوية ثقافية‪ ،‬أي كهوية تدرك‬
‫من الداخل‪ ،‬ولكن أيضا كهوية يمكن التعرف إليها‬
‫من الخارج‪ .‬وتمثل األساس الذي يستم ّد منه أ ّ‬
‫ي‬
‫مجتمع أو ثقافة اختالفها وتميزها عن مجتمع آخر أو عن ثقافة أخرى‪.‬‬

‫فكيف يمكن إذا أن نحافظ على الهوية دون أن يلحق ضيما بما هو كوني؟‬
‫إنّ "ادغار موران" يريد فهم جدلية الوحدة والتنوع‪ ،‬بما هي األساس التفسيري لإلنساني والثقافة‬
‫على ح ّد سواء‪ ،‬إذ يجب حسب رأيه أن ننظر في الوحدة من جهة كونها تنتج التنوع‪ ،‬ال من جهة‬
‫كونها تولّد التجانس‪ ،‬وتقضي على التنوع‪ .‬كما يجب أن ننظر للتنوّ ع من جهة كونه ينتج الوحدة‬
‫ال التنوع الذي ينغلق على ذاته‪ ،‬فيقضي على الوحدة‪ ،‬ذلك أن السؤال عن الهوية عند "ادغار‬
‫موران" ال يخرج عن سؤال ما اإلنسان؟ وبالتالي السؤال عما هو إنساني في اإلنسان؟‬
‫خاصة وأن السؤال عن الهوية‪ ،‬كثرت المطارحات حوله في الوقت الراهن‪ ،‬حيث أصبحنا‬
‫شهودا مذعورين من المشاهد الوحشية‪ ،‬التي تق ّدمها وسائل اإلعالم يوميا‪ ،‬فنتساءل عن طبيعة‬
‫هذا الكائن القادر على الخير كما الشر إلى أقصى ح ّد ‪.‬لذلك يرى "إدغار موران" أن الثالثية‬
‫اإلنسانية المتمثلة في الفرد والمجتمع والنوع‪ ،‬تضع الفرد اإلنساني في وضعية تسمح ‪-‬له في‬
‫ذات الوقت بتكوين تنوع غير محدود ووحدة خصوصية‪ ،‬والعالقات بين هذه الحدود الثالث‬
‫ليست فقط متكاملة بل هي أيضا متضادة‪ ،‬وتمثل إمكانات صراع بين خاصيات بيولوجية‪،‬‬
‫وخاصيات ثقافية‪ ،‬في سيرورة متعاودة وفي تولّد مستمرّ ‪ ،‬ولذلك يرى "موران" أن الهوية‬
‫اإلنسانية‪ ،‬تحمل في ذاتها شكل الوضعية اإلنسانية‪ ،‬ال بطريقة منفصلة أو متعاقبة‪ ،‬ولكن بطريقة‬
‫متزامنة‪ .‬فاإلنسان وفي ذات الوقت كائن عارف وكائن صانع‪ ...‬والهوية المركبة بهذا المعنى‪،‬‬
‫ال تذوب ال في النوع وال في المجتمع‪ ،‬بما أن اإلنسان كذات أو كفرد ال يتعين فقط في الحوار‬
‫مع ذاته‪ ،‬ولكن يتعين أيضا في الحوار مع اآلخر‪.‬‬
‫في نهاية الستينات برزت األقلية األمريكية من أصل إفريقي‪ ،‬خصوصا بظهور منظمة "الفهود السود" سنة ‪ .6611‬ثم حذت أقليات‬
‫أخرى حذو حركة السود‪ ،‬مطالبة باالعتراف بخصوصيتها‪ .‬وهذه الظرفية أنتجت "صحوة هوية حقيقية" في سنوات السبعينات‪ .‬وكما‬
‫الحظ ذلك عالم االجتماع األمريكي روجر بروباكر‪ ،‬فإن "تجربة األمريكيين من أصل إفريقي مع قضية "اإلثنية" باعتبارها تصنيفا‬
‫يفرض نفسه‪ ،‬وفي الوقت نفسه باعتبارها تحديدا ذاتيا للهوية‪ ...‬هذه التجربة كانت حاسمة ليس فقط لنفسها وفي داخل حدودها الخاصة‪،‬‬
‫بل أيضا في تقديمها لنموذج االحتجاج على أساس من الهوية‪ ،‬وهو النموذج الذي استفادت منه جميع أنواع الهويات‪ ،‬بدءا من تلك التي‬
‫تتعلق بالجنس أو باالختيار الجنسي‪ ،‬وانتهاء بتلك التي تتأسس على "االنتماء االثني أو العرق"‪ .‬وقد انعكس هذا في حقل العلوم‬
‫االجتماعية على مستوى الهيكلة بتأسيس أقسام متنوعة بالجامعة األمريكية مثل الدراسات األفرو‪-‬أمريكية (ويسمى هذا القسم‬
‫بـ"الدراسات السوداء")‪ ،‬والدراسات النسوية‪ ،‬والدراسات الخاصة بطائفة الشاذين جنسيا‪ ،‬والدراسات عن المكسيكيين المستقرين‬
‫بالواليات المتحدة‪ ،‬والدراسات اليهودية‪ .‬وتبدو هوية األقلية بالنسبة لهذه الحقول الدراسية معطى أول ّيا‪ .‬كذلك قام مفكرو ما بعد‬
‫االستعمار من جانبهم‪ ،‬كإدوارد سعيد وكاياتري سبيفاك‪ ،‬بمساءلة الهويات الهجينة والمختلطة التي صنعها التاريخ االستعماري‪.‬‬

‫عن مقال‪ :‬مفهوم الهوية‪ -‬تاريخه واشكاالته‪ ..‬د‪ .‬الياس بلكا‪ ،‬بيروت‪ :‬مجلة الكلمة‬
‫‪5‬‬
‫‪ -6‬الرمز مبا هو مكون للخصوصية‬

‫المقدس كما يعرفه د حسن حنفي في الموسوعة الفلسفية‪ ،‬هو ‪ " :‬كل ما يحظى باالحترام بشكل‬
‫مطلق‪ ،‬وكل ما هو غير قابل للهتك او الخرق وال يجوز االعتداء عليه "‪ .‬اذن يحيل لفظ المقدس‬
‫على القداسة والتقديس‪ ،‬وهي مشتقة من فعل ق ّدس‪ ،‬بمعنى طهّر وتبارك‪ ،‬الى مرجعية دينية‬
‫باألساس‪ ،‬سواء كان موضوع التقديس اماكن او كتبا او كائنات‪ .‬ويقال عن هللا الق ّدوس‪ ،‬أي‬
‫المنزه عن كل نقص وعيب‪ .‬فال غرابة ان يحيل المقدس على الطهارة وانتفاء التدنيس‪ ،‬وهي‬
‫خاصية السلوك الديني‪ ،‬وهنا يتداخل االسطوري بالديني‪ .‬بل ان المقدس يتجلى كذلك في‬
‫السحري والطقوسي‪ ،‬بل في اشكال تعابير دنيا كالخرافة او الحكاية الشعبية‪ .‬حيث يكون‬
‫مضمونها دوما هو الخيال ‪ fiction‬والعجيب ‪ ،merveilleux‬و الخارق ‪ ،fantaisie‬والميثولوجي‬
‫و الالمعقول ‪ ،irrationnel‬والمعقول ‪ plausible‬أحيانا أخرى‪.‬‬
‫يتجلى المقدس في صورة اله او قوة خارقة‪ ،‬او كائن خرافي او عجيب ال واقعي او سحري‪،‬‬
‫يثير الرعب واإلجالل معا‪ .‬وفي ذلك ما يشد اليه االهتمام تلذذا ومتعة او انتظارا لعطاياه او‬
‫استسالما له خوفا من انتقامه‪ .‬يقول روجي كايوا‪ ":‬انما من المقدس ينتظر المؤمن كل ضروب‬
‫العون وكل اشكال التوفيق ‪ ،‬فاإلجالل الذي يبعثه في نفسه هو مزيج من الرعب والثقة‪،‬وهو‬
‫يعزو المصائب التي تتربص به فيكون ضحيتها كما ‪ ..‬الخيرات التي يحلم بها "‪.‬‬

‫والمق ّدس الديني هو قبل ك ّل شيء تجربة‪ ،‬تنحو إلى أن تتجلى في صور و تمثالت رمزية‪ .‬وقد‬
‫بين "مايير" ان تجربة المق ّدس هي ضرب روحاني من المعانقة للعالم‪ .‬إنها حدس مؤسس لنوع‬
‫من الحضور الغامض‪ ،‬لشيء يتجاوز الحدود المعتادة للتجربة اإلنسانية‪ .‬وهذا الشيء المغاير‬
‫تماما للدنيوي يفلت من ظروف التجربة المدنسة‪ .‬والمق ّدس كرمز يسمح باالنفتاح على العالم‬
‫المطلق‪ ،‬ذلك أن طقس ما يم ّكن اإلنسان من اكتشاف هذا العالم المطلق‪ ،‬الذي يفلت بالماهية من‬
‫ك ّل لغة‪ ،‬خاصة وأن الدين هو نسق يعبّر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز واألسطورة‪.‬‬

‫لقد وضعت الشعوب في االديان‪ ،‬ما كانت تفكر فيه بشأن العالم‪ ،‬عن‬ ‫"‬
‫المطلق عما كائن بذاته " هيجل ‪HEGEL‬‬

‫‪6‬‬
‫المقدس والهوية الثقافية‪:‬‬

‫يعتبر المقدس رمز‪ /‬ديني‪ ،‬مقوم للهوية الثقافية لكل مجتمع انساني‪ ،‬فكل ثقافة او جماعة انسانية‪،‬‬
‫تتعرف على ذاتها وهويتها الثقافية‪ ،‬من خالل الرموز الدينية التي تتبناها والتي تميزها عن‬
‫غيرها من الثقافات‪ .‬وبذلك يكون الدين ‪/‬المقدس هو العامل الذي تستمد منه كل جماعة الشعور‬
‫باالنتماء الثقافي‪ .‬وفي هذا المنظور‪ ،‬تكون األسطورة لغة المفارق‪ ،‬عند "غارودي" فهو ال‬
‫يتحدث عن المفارق باعتباره خارجيا أو قوة فوق طبيعية ‪ ،‬فليس هو تعالي لرب فوقي بل تجريد‬
‫رمزي للمطلق‪ ،‬وهو ما يجعل من األسطورة فعل خلق جماعي‪ ،‬فاألسطورة ليست مجرّد‬
‫مشاركة في العالم‪ ،‬بل هي رؤية للعالم تميز اإلنسان‪ .‬لذلك يرى "غارودي" أننا ال نستطيع أن‬
‫ننعت باألسطورة ما هو مجرّ د أثر باقي من الماضي‪ ،‬كما ال نستطيع أن نعتبر األسطورة مجرّد‬
‫إعادة إنتاج‪ ،‬أو مجرّ د محافظة على الحاضر باعتبارها معيارا للسلوك‪ .‬وهذا يعني أن األسطورة‬
‫ليست من الماضي بل أن هناك أساطير ينتجها اإلنسان اليوم‪ .‬ما يخلق تقابال بين المقدس‬
‫والمدنس حسب مارسيا الياد‪ ،‬فعند االنسان المؤمن "المقدس يحاكي المسلك االلهي ‪ ،‬يقيم‬
‫بالقرب من االلهة أي في الحقيقي وذي المعنى"‪ .‬بينما يرى االنسان الالديني في المقدس "عقبة‬
‫امام حريته ‪ ،‬ولن يثوب الى رشده جذريا ‪ ،‬ولن يصير حرا حقا ‪ ،‬إال بأن يقتل االله االخير"‪.‬‬
‫هذا التعالق بين الديني و الالديني بين المقدس والمدنس‪ ،‬يصفه بول ريكور بالتقابل بين الرمز‬
‫والوثن‪ ،‬هو ما يخلق ما يسميه ريكور "االغتراب الديني"‪ ،‬الذي ال يمكن حله اال ب "ان يموت‬
‫الوثن ويحيا الرمز "‪ .‬فالرمز صورة تخيلية في ذهن المتدين ال يمكن تمثلها واقعيا إال في‬
‫موضوع حسي "هو انهيار العالمة في موضوع فوق طبيعي و فوق‬
‫ثقافي" كما يقول ريكور‪.‬‬

‫ويرى دوركايم ان االفكار الدينية واألسطورية‪ ،‬تعمل ألجل وظيفة‬


‫اجتماعية باألساس‪ ،‬ال لغاية االيمان او االعتقاد بل لتحقيق التماسك‬
‫االجتماعي للمجتمع وهو ما يفسر حسبه‪ ،‬خلود واستمرار الظاهرة الدينية‬
‫واألسطورية بشكل عام‪ .‬فهذه االفكار ضرب من "وعي جمعي"‪ ،‬تعمل‬
‫على توحيد المجتمع وإعادة انتاج عالقاته‪ ،‬بعد ان يكون قد اصابها الفتور‪.‬‬
‫فاألعياد الدينية وطقوسها تعمل ك "محرار" اعادة انتاج عالقات االفراد‬
‫بعضهم ببعض ‪.‬‬

‫الصورة بني اخلصوصية الثقافية والكونية‬


‫اميل دوركايم‬

‫‪7‬‬
‫بالرغم من اختالف االديان‪ ،‬فان المقدس ‪/‬الدين‪ ،‬يمثل رمزا اساسيا وكونيا مشتركا بين‬
‫جميع البشر‪ ،‬رغم اختالفهم الثقافي‪ .‬ويتجلى هذا الطابع الكوني للدين حسب دوركايم في‬
‫البنية الموحدة له‪ ،‬اذ تتكون الظاهرة الدينية من معتقدات وطقوس (المعتقدات هي الجانب‬
‫النظري االيماني‪ ،‬التسليمي‪ ،‬والتأسيسي‪ .‬اما الطقوس فهي مجموع الممارسات التي تنتج‬
‫عن تلك المعتقدات والتي تقتضي دقة وصرامة في انجازها)‪ ،‬ومن نظرة انشطارية للعالم‬
‫(حيث يمكن التمييز بين عالم مقدس كامل وفاضل‪ ،‬عالم الحقيقة المطلقة و أخر مدنس‪ ،‬عالم‬
‫االنسان برذيلته‪ ،‬ومحدوديته وفساده‪.‬‬
‫ومن المقدس ما يمكن ان يتجلى في اشكال مختلفة طبيعية اسطورية خيالية ‪...‬وما يبرر‬
‫القول بكونية المقدس‪ ،‬هو كون الرموز الدينية تستجيب الى حاجات االنسان في جميع‬
‫العصور‪ ،‬وضمن كل الثقافات‪ .‬يضاف الى ذلك ان الدين يقدم نفسه‪ ،‬على انه استجابة‬
‫معرفية لحاجة االنسان‪ ،‬الى فهم الوجود ومعرفة المصير‪ .‬وال يكتفي الدين بهذا الجانب‬
‫المعرفي فقط بل يقوم بوظيفة اخالقية اذ يقدم نسقا اخالقيا‪ ( ،‬منظومة من القيم )توجه‬
‫السلوك فهو على حد عبارة فرويد "قوة تتحكم فينا كيف ما تشاء" ‪.‬‬

‫اال انه وباعتباره‪ ،‬مكون اساسي للهوية‬


‫الثقافية‪ ،‬فان الدين يمكن ان يتحول الى‬
‫مصدر للتعصب الثقافي‪ ،‬وما يبرر القول‬
‫بان المقدس قد يتحول الى سبب للعنف‬
‫والصراع المهدد للكونية‪ ،‬هو انه اوال‬
‫يتضمن نظرة تقويمية تصنيفية للبشر‪ ،‬من‬
‫جنس ثنائيات االيمان والكفر‪ ،‬والخير‬
‫والشر‪ ،‬واالخيار واالشرار‪( .‬شعب هللا‬
‫المختار في العبرية او كنتم خير امة اخرجت للناس ‪..‬والدعوة الى مقاتلة الكفار‪ .)..‬فهذا‬
‫التصنيف يخلق لدى بعض المتدينين نزعة عدائية اتجاه االخر‪ ،‬تدفع المتعصبين الى‬
‫اضطهاده وحتى الغائه ‪.‬اما المبرر الثاني فيتمثل في التوظيف االيديولوجي‪ ،‬حيث يتحول‬
‫الدين الى اداة لتبرير مصالح اقتصادية وسياسية‪ ،‬وهو ما يساهم في خلق التناقضات‬
‫والصراعات بين الحضارات ‪.‬‬
‫ولكن وبالرغم من هذا الوجه السلبي للمقدس‪ ،‬فانه يمكن االعتراف بوجود ايجابيات للظاهرة‬
‫الدينية‪ ،‬تجعل منها اذا احسنا قراءتها وتوظيفها‪ ،‬اداة للتسامح وطريقا نحو الكونية‪ .‬ان‬
‫الظاهرة الدينية تتضمن بعض القيم والمبادئ االخالقية‪ ،‬التي تشجع المنتسبين لثقافات مختلفة‬
‫على التسامح وقبول االخر‪ ،‬واالعتراف بهويته الروحية‪ .‬ولعل اهم هذه المبادئ مبدا االخوة‬
‫والمساواة بين البشر‪ ،‬والدعوة للتعارف وحفظ الحياة والعدل ‪...‬‬

‫‪8‬‬
‫داللة الصورة‬
‫الصورة في اليونانية (‪ )Icon‬تعني التشابه والتماثل‪ ،‬و ترجمت إلى(‪ )Imago‬في الالتينية‬
‫و (‪ )Image‬في الفرنسية‪ ،‬مع اختالف في النطق‪ .‬ويتفق معجما الروس(‪)Larousse‬‬
‫وروبير(‪ ،)Robert‬على أن الصورة هي إعادة إنتاج شيء بواسطة الرسم أو النحت أو‬
‫غيرهما‪ ،‬كما يشيرا إلى أن الصورة الذهنية(‪ )Image mentale‬تحيل على معنى‬
‫التمثل(‪ ،)Répresentation‬وهو تمثل تخييلي (‪ )imaginaire‬ومنها (‪)imagination‬‬
‫الخيال او التخيل ‪.‬فالصورة اذن هي رسم ذهني تخيلي لشيء يستوحي من الواقع فيعيد تمثله‬
‫بشكل آخر‪ .‬فالصورة تتح ّدد في معناها األصلي‪ ،‬باعتبارها إعادة إنتاج طبق األصل‪.‬‬
‫عالقة الصورة بالهوية الثقافية‬
‫كل ثقافة تمتلك ابداعات فنية تميزها عن غيرها من الثقافات‪ ،‬وباعتبارها عمال ابداعيا تمثل‬
‫الصورة عامال محددا لالنتماء الثقافي‪ .‬ألنها نظام رمزي ووسيط‪ ،‬يستخدم للتعبير عن‬
‫تمثالت دينية او عن احداث اسطورية‪ ،‬تميز ثقافة انسانية مخصوصة‪ .‬فهي شكل تدع فيه‬
‫الحضارات تجربتها المتنوعة وتبرز فعاليتها كثقافة حية ‪.‬وقد اصبحت الصورة ذات قيمة‬
‫اكبر ودور خطير اليوم أي في ظل العولمة فمن مميزات العولمة‪ ،‬انها عممت وسائل‬
‫االتصال الحديث أي وسائل االعالم المرئية واالنظمة المعلوماتية‪' ،‬شبكة اإلنترنت) فتحولت‬
‫الصورة الى اداة اتصال‪ ،‬توكل لها وظائف متعددة ومختلفة منها الوظيفة االشهارية‪ .‬فهي‬
‫عنصر مكون لخطاب اشهاري يقوم باستمالة االفراد‪ ،‬الى االستهالك ووظيفة دعائية تتجلى‬
‫في ممارسة التأثير االيديولوجي‪ ،‬الستمالة الناس الى اراء ومواقف واهداف سياسية ‪.‬‬
‫سلطة الصورة‬
‫ومن هذا المنطلق‪ ،‬فإن سلطة الصورة تكون كبيرة على الحس المشترك خاصة وان‬
‫الصورة تعكس رغبة من قام بأخذها‪ ،‬أكثر مما تعكس الواقع‪ .‬ذلك ان سلطة الصورة‪ ،‬تستند‬
‫الى ميل االنسان الى تحويل حاجاته الى معرفة‪ ،‬أي االعتقاد في ما يريد رؤيته‪ .‬ومن هنا‬
‫يتأتى استخدام الصور كأداة في الخطاب الديني أمال في خلق الخلط بين واقع الصورة‬
‫والواقع الذي تتمثله‪ ،‬وكذلك الشأن في الحروب اإلعالمية الموجهة إيديولوجيا‪ ،‬بل وحتى في‬
‫الخطاب االشهاري ونظام الموضة‪ .‬فغدا عصرنا بامتياز عصر "حضارة الصورة " بلغة‬
‫‪1‬‬
‫بارط او هو "العصر المرآوي"‪.‬‬
‫‪ ،‬يذهب الى ابعد من ذلك في تفكيك داالت الصورة نحو ربطها باالجتماعي ‪،‬‬ ‫غير ان‬
‫حتى تتجلى الصورة ك"فرجة" او "مشهد" ‪ .spectacle‬فهذا التراكم الهائل للصور كبضاعة‬
‫لالستهالك‪ ،‬جعل ديبور يتحدث عن المجتمعات المعاصرة باعتبارها مجتمعات الفرجة‪ ،‬و‬
‫تمثل الفرجة عنده رؤية كلية للحياة‪ ،‬وهي أساسا ترسانة من الصور المؤثرة على المشاهد‪،‬‬
‫ما من شأنه أن ينتج ما سماه ب"االستبعاد المعمم"‪ ،‬الذي يمثل وجها من وجوه االغتراب‪.‬‬
‫اغتراب له قدرة تأثيرية بالغة‪ ،‬تستم ّد من األساس االقتصادي‪ ،‬بحيث تطوّ ع الصورة‬
‫والكلمة لتشكيل الوعي الزائف‪ .‬إنه تأثير يغري الجموع صنعه مخطط االقتصاد الليبرالي‪،‬‬
‫للتحكم في صفوف الناس وإبعادهم عن مشاغلهم الحقيقية عبر التشبه بسلوك المشاهير‬
‫‪1‬‬
‫انظر مجلة الفكر العربي المعاصر عدد ‪ 28-28‬لسنة ‪ – 6661‬عن مركز االنماء العربي – بيروت لبنان‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫والنجوم‪ ،‬الذين يتصدرون الفرجات االشهارية ‪ .‬وبقدر ما تعتمد الفرجة أنواعا من الصور‬
‫الباهرة وأشكال الترفيه المغرية‪ ،‬يتحول اإلنسان المستهلك للسلع إلى مستهلك لألوهام‪،‬‬
‫والصورة التي كانت في األصل تبلغ الداللة وتحدث التواصل‪ ،‬تحوّ لت إلى عنصر تأثير‬
‫ّ‬
‫ومعطل للحوار بين الذوات‪.‬‬ ‫مفسد للتواصل الحقيقي‬

‫مخاطر الصورة في ثقافة العولمة‬

‫وبذلك تتحول الصورة من اداة تواصل‪،‬‬


‫الى كونها عائقا ازاء تحقيقه اذ انها‬
‫تؤسس لعالقة احادية يغيب فيها دور‬
‫المتلقي‪ ،‬ويصبح عنصرا سلبيا يكتفي‬
‫بالمشاهد واالنفعال‪ .‬بل يتجاوز دورها‬
‫هذا البعد التغييري‪ ،‬لتصبح اداة تنميط‬
‫للسلوك عندما تحفز االنسان على‬
‫االستهالك‪ .‬ويترتب عن ذلك اضعاف‬
‫دور العقل في المجال الفكري والمعرفي‪،‬‬
‫وبالتالي عدم قدرة الخصوصية على ابتكار الحلول لمشاكلها‪ ،‬وعدم قدرتها على المشاركة‬
‫في الحضارة الكونية‪ .‬وهذا ما يهدد الكوني ذاته الن الصورة في عصر العولمة‪ ،‬تسعى الى‬
‫عولمة السوق وتنصب على ثقافة االستهالك مما يضعف دور القيم التي توحد بين الثقافات ‪.‬‬

‫ـ من اخلصوصية اىل الكونية ‪:‬‬

‫‪ )1‬اشكالية التنوع الثقايف‪:‬‬

‫الثقافة يف معناها الواسع‪ ،‬تعين مجموع السامت الروحية واملادية والفكرية والعاطفية‪ ،‬اليت خيتص هبا جممتع برشي معني‪،‬‬
‫او فئة اجامتعية بعيهنا‪ .‬ويه مركب يشمل الآداب والفنون وامناط العيش واحلياة‪ ،‬كام يشمل احلقوق الاساس ية‬
‫ل إلنسان ‪ .‬ومنظومات القمي والتقاليد واملعتقدات‪ ،‬وتشلك لك ثقافة برشية‪ ،‬منظومة من القمي فريدة من نوعها وغري قابةل‬
‫للستبدال‪ ،‬وبواسطة هذه القمي وكذكل بواسطة اشاكل التعبري املتنوعة واخملتلفة يمتكن‪ ،‬لك شعب من الشعوب‬
‫البرشية من تأكيد حضوره ومشاركته يف العامل ‪(.‬املفهوم املعمتد من قبل املؤمتر العاملي للس ياسات الثقافية املنعقد حتت‬
‫رعاية منظمة الامم املتحدة يف س نة ‪ 2891‬مبكس يكو)‬

‫ان عصرنا اليوم هو عصر االختالف دون منازع‪ ،‬فنحن نمدح االختالف و‬
‫نقرضه‪ ،‬نطالب بحق االختالف ونناضل من أجله‪ .‬غير أن الحضور الدائم لكلمة‬
‫االختالف في منطوقنا اليومي و في مختلف المنابر‪ ،‬ال يعكس بالضرورة حضور‬
‫‪11‬‬
‫فكرة االختالف في ظ ّل واقع العولمة حيث تسيطر ثقافة واحدة‪ ،‬وحيث نالحظ مواقف عنصرية‬
‫و ال تسامح مع االختالف الثقافي‪ .‬ذلك هو منطلق "كلود لفي ستراوس" في‬
‫تظ ّننه على ما آلت إليه العالقات اإلنسانية اليوم والعالقات بين الثقافات‬ ‫" البربري‬
‫والحضارات في ظ ّل الح ّد األقصى من االتصال أو ما سمّاه "إفراط االتصال"‪.‬‬
‫ما هو إذن شأن االختالف الثقافي اليوم؟ هل هو واقع فعلي معيش أم أنّ‬ ‫هو من امن‬
‫االختالف هو مجرّد كلمة أو شعار نتبجح بها في المنابر لتوشي الخطب؟‬ ‫بوجود‬
‫عندما قارن "كلود لفي ستراوس" عالقات القرابة واألساطير عند "البدائيين"‬ ‫البربرية "‬
‫الحظ أنه ينتهي دائما إلى نفس المشكل األساسي‪ ،‬فاستخلص أن وراء تنوع‬
‫الثقافات توجد وحدة نفسية لإلنسانية‪ ،‬إذ هنالك عناصر أساسية مشتركة‬ ‫كلود ليفي‬
‫لإلنسانية‪ ،‬والحضارات ال تقوم إال بتركيب هذه العناصر المشتركة في‬
‫ستراوس‬
‫تشكيالت مختلفة‪ .‬ولذلك نالحظ بين الثقافات البعيدة عن بعضها البعض‬
‫تشابهات وهي تشابهات ال ُتعزى بالضرورة إلى التواصل بين الحضارات‬
‫خاصة إذا ما تبيّنا وجود حضارات يصعب تصور االتصال فيما بينها نظرا‬
‫النزوائها وتباعدها عن بعضها البعض مثلما هو شأن حضارة "األنكا" في “امريكا الجنوبية” و‬
‫”الداهومي” في “منطقة الغرب االفريقي “‪.‬‬
‫و يالحظ “كلود لفي ستراوس”‪ ،‬انطالقا من دراسته لألساطير والقواعد االجتماعية لمختلف‬
‫الثقافات نواة أساسية تمثل ثوابت بنيوية (‪ )Des Invariants structurales‬في ك ّل بقاع العالم مثل‬
‫عالقات المحرمات (‪ ،)Prohibition de l’inceste‬فهذا الممنوع يحضر في ك ّل المجتمعات ويمثل ثابت‬
‫بنيوي يسمح في ك ّل المجتمعات من التحول من اإلنسان البيولوجي إلى اإلنسان االجتماعي‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق يقرّ “لفي ستراوس” أنه‪” :‬ليس هناك حضارة بدائية وأخرى متطورة”‪ ،‬بل‬
‫هناك إجابات مختلفة لمشكالت أساسية ومتماثلة‪ ،‬وما يسميه العنصريون بالمتوحشين هم أيضا‬
‫يفكرون وفكرهم ليس أق ّل مرتبة من فكر الغربيين بل هو فقط فكر يشتغل بطريقة مختلفة عن‬
‫فكر الغربيين‪ .‬وهذا يعني أن اإلنسانية عند « لفي ستراوس” تتطور في ضروب متنوعة من‬
‫المجتمعات والحضارات‪ ،‬وهذا التنوع الثقافي ليس مرتبطا بأي حتمية بيولوجية ألن التنوع‬
‫مواز للتنوع الثقافي خاصة وأن التنوع الثقافي يتميز‬
‫ٍ‬ ‫البيولوجي ليس إال تنوعا على مستوى آخر‬
‫عن التنوع البيولوجي من جهة كون التنوع الثقافي يع ّد بالمئات واآلالف في حين أن التنوع‬
‫البيولوجي يُع ّد بالعشرات‪ .‬وقدرة الثقافة على دمج هذا المجموع المركب من االختراعات في‬
‫الميادين المختلفة والذي نسميه حضارة يتناسب مع عدد واختالف الثقافات التي تتشارك مع‬
‫بعضها عن قصد أو عن غير قصد في تأسيس استراتيجيا مشتركة‪ .‬ذلك ما ينتهي إليه “لفي‬
‫ستراوس” عبر مقارنته بين أوروبا في عصر النهضة وأمريكا ما قبل “كولومبس »‪ ،‬فأوروبا‬
‫عصر النهضة كانت تمثل موضع تالقي وصهر التأثيرات األكثر تنوعا بدءا بالتقليد الروماني‬
‫واليوناني فالجرماني واألنقلوسكسوني‪ ،‬وصوال إلى التأثيرات العربية والصينية‪ ،‬في حين أن‬
‫أمريكا ما قبل “كولومبس”‪ ،‬ال تنعم بهذا التنوع بحكم عزلتها كقارة‪ ،‬وفي حين أن الثقافات التي‬
‫كانت تتالقح في أوروبا‪ ،‬تمثل نتيجة اختالفات قديمة تعود إلى ألفيات‪ .‬مما جعلها تحقق توازنا‬
‫اجتماعيا فإن ثقافات أمريكا لم تكن متمفصلة بما فيه الكفاية‪ ،‬وهو ربما ما يفسر انهيارها أمام‬

‫‪11‬‬
‫حفنة من المستعمرين ثم إن الحلف الثقافي في أمريكا ما قبل “كولومبس” كان مقاما بين أطراف‬
‫أق ّل اختالفا‪.‬‬
‫وهذا يعني أنه ليس هناك مجتمع ترسّبي في ذاته وبذاته‪ ،‬والتاريخ الترسبي‪ ،‬ليس خصوصية‬
‫بعض األعراق أو بعض الثقافات‪ .‬بل هو نتيجة سلوك ثقافي‪ ،‬هو ضرب من وجود الثقافات‬
‫يتمثل في وجودها معا‪ ،‬وهكذا يستخلص “لفي ستراوس” أن التقاء الثقافات قد يؤدي إلى‬
‫نتيجتين‪:‬‬
‫‪ -‬إما أن يؤدي إلى تص ّدع وانهيار نموذج أحد المجتمعات‬
‫‪ -‬إما أن يؤدي إلى تأليف أصيل بمعنى والدة نموذج ثالث ال يمكن اختزاله في‬
‫النموذجين السابقين‪.‬‬
‫وهذا يعني أنه ليس هناك تالقحا حضاريا دون مستفيد والمستفيد األوّ ل هو ما يسميه “لفي‬
‫ستراوس” بالحضارة العالمية التي ال تمثل حضارة متميزة عن الحضارات األخرى ومتمتعة‬
‫بنفس القدر من الواقعية وإنما هي فكرة مجردة‪ .‬ومساهمة الثقافات الفعلية المختلفة ال تقتصر‬
‫على الئحة ابتكاراتها الخاصة‪ ،‬خاصة وأنّ البحث عن جدارة ثقافة ما باختراع أو بآخر هو أمر‬
‫ال يمكن التثبت منه‪ ،‬ثم إن المساهمات الثقافية يمكن توزيعها إلى صنفين‪ ،‬فمن جهة لدينا‬
‫مجموعة من اإلضافات والمكتسبات المعزولة التي يسهل تقييم أهميتها‬
‫وهي محدودة ومن الجهة المقابلة لدينا إسهامات نسقية ترتبط بالطريقة‬
‫الخاصة التي يختارها ك ّل مجتمع للتعبير أو إلشباع مجموع طموحات‬
‫إنسانية والمشكل بالنسبة لـ”لفي ستراوس” ال يتمثل في قدرة مجتمع ما‬
‫على االنتفاع من نمط عيش جيرانه ولكن‪ ،‬إذا ما كان هذا المجتمع‬
‫قادرا و إلى أيّ مدى يكون قادرا على فهم ومعرفة جيرانه؟ ومن هذا‬
‫المنطلق فإن الحضارة العالمية ال يمكن أن توجد إال كفكرة‪ ،‬من حيث‬
‫أنها‪" :‬تحالف للثقافات التي تحتفظ كلّ واحدة منها بخصوصيتها "‪.‬‬
‫أما ما هو بصدد التحقق في إطار العولمة‪ ،‬فليس إال عالمة تقهقر‬
‫اإلنساني والكوني‪ .‬وإذا كانت اإلنسانية تأبى أن تكون المستهلك العقيم‬
‫للقيم التي أنتجتها في الماضي‪ ،‬فإنه عليها أن تتعلم من جديد أن ك ّل خلق حقيقي يتضمّن نفيا‬
‫ورفضا للقيم األخرى‪ ،‬ألننا ال نستطيع أن نذوب في اآلخرين وأن نكون مختلفين في نفس الوقت‬
‫والعصر الذهبي للخلق تحقق في “ظ ّل شروط الحد األدنى من االتصال”‪ ،‬ألن هذا الح ّد األدنى‬
‫من االتصال هو ما يدفع أطراف التواصل رغم البعد ودون أن يكون التواصل دائما وسريعا‬
‫وهو الشكل الذي يضعف االختالف‪ .‬و كلود لفي ستراوس يعلم أن العودة إلى الوراء غير‬
‫ممكنة‪ ،‬ولكن الوجهة التي تسير فيها اإلنسانية‪ ،‬وجهة العولمة تجعل الوضع اإلنساني مشحونا‬
‫مجرد‬
‫ّ‬ ‫ومولدا للحقد العرقي و الالتسامح الثقافي "فنحن اآلن مهددون باحتمال تحولنا إلى‬
‫مستهلكين قادرين على استهالك أي شيء من أية نقطة في العالم ومن أية ثقافة والثمن دائما‬
‫فقداننا ألصالتنا بأكملها"‪ .‬يبدو إذن أنّ إفراط االتصال هو ما يه ّدد اإلنساني ألنه يه ّدد التنوع‬
‫واالختالف المح ّفز والمولّد لإلبداع المحرز للتقدم‪ .‬و بالتالي فإن عدم اعتبار االختالف يجعلنا‬
‫نعتقد أن ما هو عادي بالنسبة إلينا هو كذلك بالنسبة لك ّل الناس‪ ،‬يجعلنا نعتقد أن معاييرنا الثقافية‬
‫هي معايير كونية‪ ،‬ويجعلنا نعتقد أن ما هو عادي بالنسبة إلينا هو أيضا طبيعيا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ -2‬اشكالية املركزية الثقافية ‪:‬‬

‫المركزية االثنية او الثقافية او االستعالء العرقي أو التمركز اإلثني أو المركزية‬


‫العرقية أو االستِعراقية كما جاء في موسوعة ويكبيديا "و اعتقاد إنسان بأن أمته أو الجنس الذي‬
‫ينتمي إليه األحسن واألكثر اتساقا مع الطبيعة‪ .‬يشير إلى االعتقاد بأن جماعة الفرد هي األفضل‬
‫بين كل الجماعات‪ ،‬وأن الحكم على اآلخرين على أساس أن جماعة الفرد هي مرجع هذا الحكم‬
‫إيمانا بالقيمة الفريدة والصواب التام للجماعة التي ينتمي إليها والترفع عن الجماعات األخرى‬
‫إلى حد اعتبارها نوعا من غير نوع جماعته"‪ .‬وال شك أن هذا التمركز العرقي يعد عامال هاما‬
‫في نشأة الصراعات العرقية والتعصبية والتي قد تصل في أحيان كثيرة إلى حد المذابح واإلبادة‬
‫والتمرد والثورة واإلرهاب والحروب‪.‬‬
‫أدخل وليم جراهام سمنر‪ ،‬عالِم االجتماع األمريكي هذا المصطلح عام‪ 1906‬م ‪.‬عرّ فه على أنه‬
‫النظر إلى جماعة ما على أنها مركز كل شيء‪ ،‬وجميع اآلخرين يوزنون ويرتبون بعدهم‪.‬‬
‫ونتيجة التساع نطاق ثقافة ما‪ ،‬فإن الناس أصبحوا يرون طرق مجتمعهم باعتبارها الطرق‬
‫السليمة للتفكير والشعور والعمل‪ .‬ولهذا السبب فإن االستعالء العرقي قد ال يمكن تجنبه‪ .‬إنه‬
‫يعطي الناس شعورا باالنتماء والكبرياء والرغبة‪ ،‬في التضحية من أجل خير الجماعة ولكنه‬
‫يصبح ضارا إذا بلغ ح ّد التطرف‪ .‬كما أنه قد يسبِّب التحيُّز والتعصب ورفض اآلراء اآلتية من‬
‫الثقافات األخرى بل واضطهاد الجماعات األخرى‪ .‬والتعرّ ض للثقافات األخرى يكسب المرء‬
‫فهما ومرونة‪ ،‬قد تقلل مثل ردود الفعل هذه‪ .‬ولكن ال يمكن التغلب عليها كلية أبدا‪ .‬إن الهوى‬
‫وهوسْ التمركز اإلثني العرقي‪ ،‬والخيال الشخصي تقود إلى تزييف الوعي‬ ‫َ‬ ‫األيديولوجي‬
‫التاريخي واالستغراق في تعظيم التاريخ العرقي المصطفى‪ ،‬على حساب األمانة العلمية‬
‫والمصداقية الفكرية‪" .‬وقد استغل هذا التحديد فالسفة وسياسيون وعلماء أنثروبولوجيا واجتماع‬
‫إلثبات التفوق الحضاري الغربي على ثقافات الشعوب االخرى‪ ،‬مستغلين في ذلك ما وصلت اليه‬
‫الداروينية في ابحاث "النشوء واالرتقاء" الطبيعية‪ ،‬لسحبها على التنوع االثني والثقافي للبشرية‬
‫‪.‬مثلما تصور نيتشة فكرة السوبرمان‪ ،‬القائمة على ارادة القوة‪ ،‬والتي قد تكون النازية وظفتها‬
‫لتبرير مشروعية الحرب‪ ،‬على عقيدة تفوق الجنس الجرماني على باقي الشعوب االوروبية‪ .‬او‬
‫فكرة "المعجزة االغريقية "التي نظر لها مؤرخ العلوم الفرنسي رينيه تاتون ‪ René TATON‬في‬
‫موسوعته عن تاريخ العلوم التي اثبت فيها تفوق االغريق بفضل اللوغوس ‪.‬‬

‫يقول إيريك وولف في كتابه أوروبا ومن ال تاريخ لهم‪ :‬عن موسوعة ويكبيديا‬

‫«ويؤمن بعضنا بأن للغرب شجرة نسب تشير بأن اليونان القديمة أنجبت روما‪ ،‬وأن روما أنجبت أوروبا المسيحية‪،‬‬
‫وأن أوروبا المسيحية أنجبت عصر النهضة‪ ،‬وعصر النهضة أنجب التنوير‪ ،‬والتنوير ما لبث أن تمخضّ عن‬
‫الديمقراطية السياسية والثورة الصناعية أما الصناعة المتزاوجة مع الديمقراطية فسرعان ما تمكنت من إنتاج الواليات‬
‫المتحدة األمريكية المجسدة لحقوق اإلنسان والحرية والبحث عن السعادة»‬

‫‪13‬‬
‫وعليه فإن المختلف بثقافته ال يعتبر فقط غريبا‬
‫بل أيضا بربريا)‪ ( Barbare‬فالغريب هو اآلخر‬
‫بالنسبة إلى األنا‪ ،‬هو من ينتمي إلى ثقافة مختلفة‬
‫والبربريّ هو الغريب الذي أُموضعه في مرتبة‬
‫أق ّل من اإلنسان‪.‬‬
‫وعبارة بربري )‪ (barbarian‬إنسان ينظر إليه‬
‫على أنه غير متحضر أو بدائي ‪.‬وعادة ما يطلق‬
‫على الغريب او االجنبي الوافد على المدينة وهي عبارة كان يستعملها اليونان لإلشارة الى‬
‫الغريب الوافد على اثينا او غير الناطق بلغتها ويقال يبربر اذ يلوك الكالم وال يحسن نطقه وهي‬
‫تناسب عند العرب عبارة العجم واالعجمي غير الناطق بالعربية وفي اللسان العربي تقال على‬
‫الحيوان لكونه ال ينطق فنقول العجماوات أي الخرساء لكون الوافدين على الجزيرة العربية من‬
‫غير العرب يصنفونهم في خانة الحيوان االعجم ‪.‬فالبربري هو االعجمي وهو الغريب وهو‬
‫المتوحش( ‪ forasticus‬في الالتينية وفي الفرنسية ‪ )farouche‬او غير المتمدن او من ينتمي‬
‫لعالم الالإنسانية و الالمدنية و الالتحضر‪.‬‬

‫االسم اليوناني القديم ‪ βάρβαρος‬بارباروس "‪" "barbarian‬برابرة"‪ ،‬نقيض ل ‪ πολίτης‬بوليتس‪،‬‬


‫"مواطن" من ‪ - πόλις‬بوليس‪" ،‬دولة المدينة"‪.‬‬

‫ثم اصبحت تطلق على أي عضو من أمة يحكم عليها البعض على أنها أقل حضارية أو نظامية‬
‫(مثل المجتمع القبلي)‪ ،‬ولكن قد يكون أيضا جزءا من مجموعة ثقافية" بدائية" معينة (مثل البدو‬
‫الرحل) او الطبقة االجتماعية (مثل قطاع الطرق) سواء داخل األمة أو خارجها‪ .‬و قد عرج‬
‫كلود ليفي ستراوس في كتابه العرق والتاريخ على هذا المعنى بالضبط حين يقول "كانت‬
‫العصور القديمة تخلط كل ما ال يشترك مع الثقافة اليونانية تحت اسم البربري وفيما بعد‬
‫استعملت الحضارة الغربية تعبير متوحش في المعنى ذاته ‪..‬اذ من المرجح ان كلمة بربري تقود‬
‫من الناحية اللغوية الى غموض وجمجمة اغاني العصافير بمواجهة القيمة التعبيرية للغة البشرية‬
‫وكذلك كلمة متوحش التي تعني انه ات من الغابة تذكر بنوع من الحياة الحيوانية في مقابل‬
‫الثقافة االنسانية "‪.‬‬
‫لذلك يسمي "كلود لفي ستراوس" مركزية إثنية (‪ ) Ethnocentrisme‬الحكم المسبق الذي ال‬
‫يحكم قيميا على ثقافة أخرى إال انطالقا من ثقافته الخاصة‪ .‬وهذا يعني أنّ المركزية االثنية‬
‫بالنسبة للوعي الجماعي‪ ،‬هي عند " كلود لفي ستراوس" نظير األنانية بالنسبة للوعي الفردي‪.‬‬
‫لذلك يدعونا « كلود لفي ستراوس” إلى التسامح مع الثقافات األخرى وأن نتعلم تقبّل اختالفات‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ذلك ما يسميه بالنسبية الثقافية‪ ،‬فليس هناك ثقافة لها الحق في النظر إلى ذاتها‬
‫باعتبارها أرقى من الثقافات األخرى‪ ،‬ولذلك يقول "كلود لفي ستراوس"‪ " :‬إن البربري هو من‬
‫آمن بوجود البربرية"‪ ،‬فمن وجهة النظر األنثروبولوجية ليس هناك سلّم مفاضلة بين الثقافات‬

‫‪14‬‬
‫وإنما هناك تنوّ ع نسبي بين الثقافات ومفهوم التفوق الثقافي ليس إال ّ وليد الحكم المسبق الذي‬
‫تمثله المركزية االثنية أو الميل العتبار ثقافتنا الخاصة نموذجا لإلنسان‪.‬‬

‫"ان الفرس تقتدي وال تبتكر ‪ ,‬والروم ال يحسنون اال البناء والهندسة‪ ,‬والصين اصحاب صنعة ال فكر وال روية‪ ,‬والترك‬
‫سباع للهراش ‪,‬والهند اصحاب وهم وشعوذة ‪,‬والزنج بهائم هاملة‪ .‬اما العرب فقد علمتهم العزلة التفكير وساعدتهم‬
‫بيئتهم على دقة املالحظة وهم ذوو قيم خلقية عليا " ابو حيان التوحيدي –االمتاع واملؤانسة ‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ حوار ام صدام احلضارات ‪:‬‬

‫هل في االختالف والتنوع ما يبرر الصراع و‬


‫االقصاء أم أن االختالف على العكس يؤكد‬
‫التواصل طالما ان العقل خاصية مشتركة بين‬
‫الجميع كما تعلمنا منذ ديكارت؟‬
‫في رسالته "في أصل التفاوت بين البشر" بين‬
‫روسو للمرة األولى ‪ ،‬أن هناك نوعين من التفاوت‬
‫بين الناس ‪ ،‬تفاوت طبيعي وآخر اجتماعي ‪ ،‬وأنه‬
‫اذا كانت المؤسسات االجتماعية تكشف عن بشاعة التفاوت بين الناس ‪ ،‬فإنه من غير الممكن بل‬
‫من المستحيل رد هذا التفاوت إلى أصل طبيعي ‪ .‬والعودة إلى طبيعة التفاوت يضطرنا إلى فهم‬
‫طبيعة اإلنسان ذاته ‪ .‬و روسو يكشف لنا أن الطبيعة البشرية" خيرة " وأن نزعة الشر في‬
‫اإلنسان خلقتها المؤسسات االجتماعية ‪ ،‬حين بررت االختالف بين الناس على أنه طبيعي ‪ ،‬وأن‬
‫االمتيازات االجتماعية و المادية ‪ ،‬كاالمتياز في الثروة و في الميراث ‪ ،‬من أصل طبيعي ‪.‬‬
‫والحال أن ما هو طبيعي في هذا التفاوت بين البشر عند روسو هو فقط ذلك االختالف في المولد‬
‫و في فرص الحياة " ‪ ، " la fortune‬أما الحقوق الطبيعية التي سنت منها الدساتير " قوانينها‬
‫الوضعية "فهي متساوية عند الجميع ‪ ،‬وانما هذه األنظمة هي التي أساءت فهم واستخدام هذه‬
‫القوانين ‪ .‬لذلك سيعلن روسو في كتابه " في العقد االجتماعي ‪":‬يولد الناس أحرارا دوما و لكنهم‬
‫في كل مكان هم مكبلون باألغالل" ‪ ،‬باعتبار الحرية حق طبيعي قامت األنظمة المدنية‬
‫باعتمادها شعارا لقيامها ‪ ،‬و أساسا لوحدة البشرية ‪.‬وكان لزاما على المؤسسات المدنية المحافظة‬
‫على هذا الحق ال اغتصابه كما جاء في" اإلعالن الفرنسي لحقوق اإلنسان و المواطن " في ذلك‬
‫الوقت " إن غاية كل اجتماع سياسي هي المحافظة على حقوق اإلنسان الطبيعية والالمتناهية " ‪.‬‬
‫وان كانت غاية أي اجتماع بشري تحقيق الحقوق الطبيعية لإلنسان فان غاية أي التقاء ثقافي‬
‫هو تحقيق كونية هذه الحقوق و هذا يفترض "ايتيقا حوار " كما سماه بول ريكور من اجل‬

‫‪15‬‬
‫"عيش مشترك" مع االخر المختلف اذ يقول «أعرف األخالق بالمعني العام للفظ وهو‬
‫الرغبة في العيش الحسن مع ومن أجل اآلخرين وفي مؤسسات عادلة ‪.‬ومن ثمة فإن جميع‬
‫األفراد والتجمعات البشرية على تفردها وخصوصية رؤاها ومعتقداتها وذاكرتها الحضارية‬
‫تريد أن تعيش في سياق الحياة الخاصة أو المشتركة وفقا لمقتضيات الرغبة في االكتمال‬
‫السعيد «‪.‬ومن المالحظ أن ريكور يؤكد في هذا السياق أن الرغبة في االكتمال السعيد على‬
‫الصعيد األممي والكوني ال يمكن أن تتحقق إال ضمن منظومة من المبادئ والقيم االيتيقية‬
‫المشتركة التي توحد البشر حول غاياتهم الوجودية –الكونية على الصعيدين األخالقي‬
‫واالجتماعي –الثقافي‪ .‬و عليه فأن اللقاء بين الثقافات المتنوعة على أرضية الحوار المتكافئ‬
‫ليس ترسبا لليوطوبيا و التمثالت الخيالية بقدر ما هو بحاجة إلى تجديل االستعدادات والقيم‬
‫الكامنة في اإلنسان سواء أتعين في قدراته الذاتية‪-‬الشخصية أو في رهاناته و انتظاراته‬
‫االيتيقية والحقوقية –الكونية‪ .‬وعليه فإن ايتيقا االعتراف الكوني بالهوية واالختالف‬
‫بين األمم والشعوب تبقى على الرغم من كل الظروف التاريخية الصعبة التي مرت بها‬
‫رهينة استعداد كل أمة للمساهمة اإلبداعية في إثراء الحضارة العالمية والتعايش في تفاهم‬
‫ووفاق مع الحضارة الثقافية‪.‬وهو ما تصوره ريكور ممكنا للثقافة العربية االسالمية وللثقافة‬
‫الهندية اذ يقول "وحدها الثقافة الحية والوفية ألصولها وفي االن نفسه تلك التي في حالة‬
‫ابداع على صعيد الفن واألدب والفلسفة ‪..‬هي القادرة على تحمل اللقاء بالثقافات االخرى‬
‫‪...‬واني على يقين بأنه سيكون للعالم االسالمي الذي يشهد نهضة وللعالم الهندي الذي تولد‬
‫تأمالته القديمة تاريخا يافعا مع حضارتنا وثقافتنا االوروبية هذا التجاور المخصوص الذي‬
‫لكل المبدعين"‪.‬‬
‫ولكن تعالوا نرى ما يقوله فالسفة "الديمقراطية والعولمة الجدد " ففرانسيس فوكوياما‬
‫‪ F.FOKOYAMA‬هذا الشاب الياباني األصل الذي لم يكن اسمه ظاهرا أو معروفا حتى سنة‬
‫‪ 1981‬في أوساط الباحثين حتى القاء محاضرته الشهيرة بعنوان " نهاية التاريخ " في‬
‫جامعة شيكاغو ‪.‬أصبح هكذا و فجأة "العقل المفكر" للنظام العالمي الجديد‪ -‬اذ نراه يكتب في‬
‫مقال نشرته مجلة " نيوزويك " ‪ NEWSWEEK‬بعنوان‪" :‬العدو الحقيقي " يعتبر فيه أن‬
‫"الديمقراطية الحديثة هي نسخة علمانية للمبدأ المسيحي في المساواة اإلنسانية عالميا " وفي‬
‫المقابل فإن "اإلسالم هو الحضارة الرئيسية الوحيدة التي يمكن الجدال بأن لديها بعض‬
‫المشاكل األساسية مع الحداثة "‪.‬و تقوم فكرته المحورية على ان الثقافة الغربية بمكوناتها‬
‫الرئيسية من عقالنية وليبرالية وديموقراطية ومنظومة لحقوق االنسان ليست فريدة من‬
‫نوعها ومتفوقة على سائر الثقافات البشرية االخرى فحسب بل انها لتعتبر كذلك غاية التاريخ‬
‫البشري ونهايته ‪.‬‬
‫فالمشكل من منظور فوكوياما ‪ ،‬مشكل حضاري‪ ،‬عقائدي‪ ،‬فمشكل التخلف‪ ،‬و الفقر‪ ،‬و‬
‫اإلرهاب ‪ ...،‬سببه عدم تالؤم الدين اإلسالمي مع الحداثة الغربية ‪ ،‬أو ما يسميه " الفاشية‬
‫اإلسالمية " في إشارة للحركات الدينية المتطرفة في الوطن العربي وعلى رأسها " الحركة‬
‫الوهابية " في السعودية ‪.‬‬
‫والتي ستعطي هذا المفهوم بعد احداث ‪ 11‬سبتمبر كل ذلك الزخم الداللي في حرب امريكا‬
‫على االرهاب من باب التبرير الفلسفي و االيتيقي بان المعركة معركة حضارات كما‬
‫سيسوقها وينمقها المفكر االستراتيجي االمريكي صامويل هتنتغتون في ما سماه "صدام‬

‫‪16‬‬
‫الحضارات "‪.‬يقول " تقوم فرضيتي على ان المصدر الجوهري للصراع في العالم الجديد لن‬
‫يكون ايديولوجيا او اقتصاديا بالدرجة االولى ‪ .‬فاالنقسام الكبير داخل الجنس البشري وكذالك‬
‫مصدر الصراع المسيطر سيكون حضاريا ‪.‬كما ان الدول القومية ستضل هي الالعب‬
‫االقوى على مسرح الشؤون الدولية ‪.‬لكن الصراعات الرئيسية في السياسة الدولية ستنشب‬
‫بين دول ومجموعات من الحضارات المختلفة وستكون حدود التوتر الفاصلة بين تلك‬
‫الحضارات هي خطوط وواجهات المعارك الكبرى في المستقبل ستضل هي الالعب االقوى‬
‫على مسرح الشؤون الدولية ‪.‬لكن الصراعات الرئيسية في السياسة الدولية ستنشب بين دول‬
‫ومجموعات من الحضارات المختلفة وستكون حدود التوتر الفاصلة بين تلك الحضارات هي‬
‫خطوط وواجهات المعارك الكبرى في المستقبل" ذلك ان الحضارات األخرى لم تدخل بعد‬
‫عصر " التحضر " بالمفهوم الغربي للكلمة وان تسنى لها اليوم ذلك فبفضل ما سماه "عبء‬
‫الرجل االبيض" المحكوم بالتفوق والهيمنة ال باألخالق ‪.‬ف"لما كانت الحضارات االسيوية‬
‫واإلسالمية تدعي اثبات الطابع الكوني لثقافتها فان الغربيين سيدفعون لالهتمام اكثر بالروابط‬
‫الموجودة بين الكونية واالمبريالية "‪.‬‬
‫وليست مفاهيم "الحرب على االرهاب" و"الفوضى الخالقة" و"الشرق االوسط الجديد"‬
‫و"النظام العالمي الجديد "و"الربيع العربي " الخ سوى نسخ صالحة للتطبيق لمفهوم صدام‬
‫الحضارات حسب الظروف الجيو‪-‬سياسية‪.‬‬

‫‪ ) 4‬الكونية والعوملة ‪:‬‬

‫ذلك أن العولمة هي عملية اقتصادية في مقام اوّ ل‬


‫ث ّم سياسية ويتبع ذلك الجوانب االجتماعية والثقافية‬
‫إذ هي عملية تح ّكم وسيطرة تشغل إزاحة األسوار‬
‫والحواجز بين الدول‪ ،‬بل أنها تسعى إلى تحويل‬
‫العالم إلى ما يشبه القرية حتى تسهل عملية‬
‫السيطرة خاصة وأن العولمة من الناحية‬
‫االقتصادية تقوم على نشر الرأسمالية كنظام‬
‫للتجارة وكنظام لالستهالك وهي عملية يلعب فيها اإلعالم دورا كبيرا خاصة وأن اإلعالم‬
‫واالتصال والمعلومات تمثل اليوم المكونات األساسية في االقتصاد العالمي‪ ،‬وفرض الرأسمالية‬
‫على كل دول العالم تسبب في فقر الدول النامية وارتفاع مديونيتها مما أجبر هذه الدول على‬
‫تقديم تنازالت سياسية واجتماعية‪ .‬وهذا ما يضعنا أمام أه ّم األسئلة على هامش عالقة العولمة‬
‫بالهوية وهو سؤال يتعلق بالمكان فالمكان ض ّل على امتداد التركيبة السياسية التقليدية ممثال في‬
‫الدولة الوطنية‪ ،‬مكان مغلق على مجموعة من الفاعلين الحاضرين في عالقات تقوم وجها لوجه‪،‬‬
‫هذا المكان أصبح اليوم مجاال كونيا مفتوحا لتفاعالت أبعد من نطاقه المح ّدد‪ ،‬تفاعالت يدخل فيها‬
‫أفراد غير موجودين بالمكان ذاته وأحداث ال تحدث بالمكان ذاته‪ ،‬مما يجعل التعايش بين‬
‫العولمة والهوية أمرا محدودا للغاية ما دامت الهوية ترتكز على الخصوصية بينما تسعى العولمة‬
‫إلى تجاوز هذه الخصوصية ‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫وهكذا يرى "سمير أمين" أن اندثار الحدود السياسية والثقافية والقانونية أمام العولمة المدعومة‬
‫بوسائل حديثة لالتصال كاألنترنت والفضاءات التلفزية‪ ...‬قد دمر آخر قالع المقاومة لالكتساح‬
‫الغربي واألمريكي باألساس‪ ،‬إذ تتجاوز الهيمنة األمريكية في العولمة الجانب االقتصادي‬
‫والسياسي لتشمل الجانب الثقافي أطلق عليه "سمير أمين" اسم ثقافة العولمة بما يعنيه ذلك من‬
‫تعميم للقيم النفسية والعقائدية‪ ...‬األمريكية على األذواق والسلوكيات التي تش ّكل المنظومة‬
‫المتكاملة للخصوصية الحضارية لبقية شعوب العالم‪ .‬والمدخل األساسي لهذه االيديولوجيا الثقافية‬
‫يتمثل في اإلعالم الذي يتجاوز ك ّل األشكال التقليدية للتواصل والذي أنتج ثقافة جديدة‪ ،‬ثقافة ما‬
‫بعد ما بعد المكتوب‪ ،‬ثقافة الصورة باعتبارها المفتاح السحري لثقافة العولمة‪ .‬لذلك ينقد "سمير‬
‫أمين" المثقفين العرب الذين تدور مناقشاتهم حول إشكاليات مفتعلة تتعلق بالحداثة واألصالة‪،‬‬
‫ألن الثقافة بالنسبة لـ‪ :‬سمير أمين‪ ،‬ليست منظومة صلبة وجامدة في الزمن والمسألة بالنسبة إليه‬
‫يجب أن تطرح في إطار النسبية الثقافية أين تتحدد الثقافة باعتبارها مبدأ تكيف مع ظروف‬
‫الحياة ‪ .‬وفي إطار هذه المنظومة للنسبية الثقافية يرى "سمير أمين" أنه باإلمكان تطوير ثقافة‬
‫جديدة تجابه العولمة الثقافية وتحمي الهوية الثقافية من الهيمنة التي تفرضها أمريكا‪ .‬المشكل إذا‬
‫بالنسبة لـ"سمير أمين" ال يتعلق بالتهجم على الحداثة والكونية التي نظرت لها الحداثة مع‬
‫"كانط" وإنما في مجابهة ثقافة العولمة ‪.‬‬
‫ذلك أن كانط كان ينظر إلقامة سلم دائمة‪ ،‬كان يرى أنّ السلم بين الشعوب والثقافات والدول هو‬
‫مشروع قابل للتحقيق ال بمعنى تغيير جذري في اإلنسان ولكن بمعنى إنشاء الحق الذي سيكون‬
‫خالص سياسي لإلنسان‪ ،‬فالسلم ال يكون إال بتطبيق الحق وال تكون شرعية إال العالقات سواء‬
‫بين األفراد أو الدول التي ال تقوم على العنف وإنما تقوم على الخضوع الحرّ لقانون مشترك‪.‬‬
‫والكونية التي يتح ّدث عنها "كانط" تتمثل في سنّ قانون سياسي كوني يحمي حق الغرباء‪ ،‬جعل‬
‫كانط يدافع عن فكرة مواطنة عالمية بحيث يتمتع الفرد بحقوقه بطريقة مستقلة عن انتمائه‬
‫الوطني واإلقليمي‪ .‬وهذا يعني أن الحق السياسي الكوني عند كانط هو إدانة لغطرسة الدول‬
‫االستعمارية وإدانة لك ّل أشكال التخوف من الغريب ولذلك فإن تأسيس حق سياسي كوني‪ ،‬يجعل‬
‫من كل إنسان مواطنا للعالم ال مواطنا عالميا بمعنى تنكره ألصوله وثقافته‪ ،‬بحيث يكون الوعي‬
‫بالمواطنة متسعا بحسب العالم كله‪ .‬وذلك ممكن بالنسبة لكانط ألنه يعتبر أن ما يجب على‬
‫اإلنسان فعله هو بالضبط ما يستطيع اإلنسان فعله‪ .‬ذلك هو معنى الحرّ ية األخالقية عنده‪ ،‬وذلك‬
‫نظرت له الحداثة مع كانط‪.‬‬‫هو أيضا المطلب اإلنساني الذي ّ‬
‫فالكونية التي يسميها كانط "الضيافة الكونية" هي مشروع ممكن اخالقيا وميتافيزيقيا (العقل‬
‫العملي) قابل للتأسيس ضمن شروط الحق الكوني وليس محبة االنسان وضمن مبادئ السلم‬
‫البشري وشروط الزيارة ال االقامة ما يفترض دستور كوسموبولوتي لدول جمهورية لفيدراليات‬
‫حرة تتوفر على فضاء عمومي اليتيقا الفعل السياسي على النحو التالي ‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫دستور‬
‫كوسموبولوتي‬

‫الكونية‬
‫مبدأ العمومية‬ ‫مشروع‬ ‫فدراليات دول‬
‫حرة‬
‫سالم دائم‬

‫رقابة‬
‫الفيلسوف‬

‫لكنّ ال "كانط" وال "هيغل" كروّ اد للحداثة كان بإمكانهما أن يأخذا بعين االعتبار أهمية العامل‬
‫االقتصادي في نشأة الحروب واندالعها وهو ما تشهد عليه العولمة‪ .‬ذلك هو المنطلق الذي جعل‬
‫ونظرت إليه يموت عندما يتحقق‪،‬‬‫"بودريار" يعتبر أن الكوني كيوطوبيا ‪ utopie‬تغنت بالحداثة ّ‬
‫ألن الكونية تفسد عندما تتحقق‪ .‬ذلك أن العولمة حسب "بودريار" ليست شيء آخر غير‬
‫الخصوصية المدعية للكونية‪ ،‬والثقافة الغربية التي كانت حبلى بالكوني‪ ،‬عندما جاءها المخاض‬
‫ولدت العولمة فماتت بدورها‪ .‬ولكن إذا كان موت الثقافات األخرى موتا رحيما ألنها ماتت من‬
‫فرط خصوصيتها‪ ،‬فإن موت الثقافة الغربية كان موتا شنيعا ألنها فقدت ك ّل خصوصية عبر‬
‫استئصال ك ّل قيمها السمحة (الحرية‪ ،‬الديمقراطية‪ ،‬حقوق االنسان‪ )...‬في إطار العولمة إذ أنّ‬
‫"الكوني يهلك في العولمة‪".‬‬

‫‪19‬‬
‫فالعولمة (‪ )globalisation‬او العالمية ( ‪ )mondialisation‬ليست هي ما نعنيه بالكونية‬
‫(‪ )universalisation‬في معناها الفلسفي و االيتيقي االنف الذكر والذي نظر له كل فالسفة‬
‫التنوير ‪,‬بل العولمة هي مشروع نيوليبرالي و نيوكولونيالي (استعمار جديد) اقتصادي‬
‫واجتماعي وثقافي تعمل منظومة الرأسمالية العالمية على تجذيره وفق براديغم االنتاج –‬
‫االستهالك ‪ -‬والمردودية المنتج لنظام اكثر توحشا بعد نهاية الحرب الباردة وفق جملة من‬
‫اليات الهيمنة االمبريالية التي يمكن اجمالها في "انها الزيادة المتسارعة لتدفق البضائع المختلفة‬
‫ولحرية مرور الناس و الراسمال و التكنولوجيا واالتصاالت وللمعرفة عبر الحدود القومية‬
‫وتسمي العولمة ايضا باتجاه ما بعد القومية ‪" transnationalisme‬ويمكن تحديدها على النحو‬
‫التالي ‪:‬‬

‫على المستوى‬ ‫على المستوى المالي‬ ‫على المستوى التجاري‬ ‫مس توايت على المستوى‬
‫الهمينة‬
‫الثقافي‬ ‫العسكري‬
‫الجمعيات والمنظمات‬
‫ذات الصبغة الحقوقية‬ ‫حلف شمال االطلسي‬ ‫االلية‬
‫والخيرية واالعالمية‬ ‫البنك العالمي وصندوق‬ ‫منظمة التجارة العالمية‬
‫والمعاهد االستراتيجية‪.‬‬ ‫النقد الدولي والصناديق‬ ‫الناتو ‪N.A.T.O‬‬
‫مثل "فريدوم هاوس "‬ ‫المانحة‬ ‫‪W.T.O‬‬
‫هيومن رايتس واتش –‬
‫االنترنت –الفضائيات –‬ ‫‪F.M.I World‬‬
‫‪Trade‬‬
‫برامج تلفزيون الواقع‬
‫الخ‬ ‫‪W.B organization‬‬

‫تنميط القيم واالفكار‬ ‫اقراض الدول الفقيرة‬ ‫الدفاع اتفاقيات الشراكة والتبادل‬ ‫الوظيفة اتفاقيات‬
‫على صعيد عالمي‬ ‫والنامية بعنوان تعديل‬ ‫المشترك بين الشركاء التجاري بفتح الحدود والغاء‬
‫وتكييف العقول بخلق‬ ‫موازناتها المالية‬ ‫ولعب دور شرطي الرسوم الجمركية وتحرير‬
‫ما يسمى"اجيال القادة"‬ ‫واغراقها في المديونية‬ ‫المبادالت والتعامل بالدوالر‬ ‫العالم‪.‬‬
‫لمزيد تفقيرها الخضاعها و ترويج ثقافة‬ ‫كعملة عالمية وحيدة‪.‬‬
‫االستهالك وقيم‬ ‫ونهب ثرواتها‪.‬‬
‫الفردانية والمردودية‬
‫والمصلحة ‪.‬‬

‫هذا يعني أن العولمة تسير في اتجاه القضاء على االختالف خاصة وأن االختالف يمثل بالنسبة‬
‫لـ"كلود لفي ستروس" واقعا طبيعيا‪ .‬إذ يالحظ "كلود لفي ستروس "أن الحضارات والثقافات‬
‫توجد في واقع االختالف إذ تتطوّ ر اإلنسانية في ضروب متنوعة من المجتمعات والحضارات‪.‬‬
‫والتنوع الثقافي يولّد بالضرورة تالقحا بين الثقافات‪ ،‬فضرب وجود الثقافات يتمثل في وجودها‬
‫معا‪ ،‬وااللتقاء بين الثقافات إما أن يؤ ّدي إلى تص ّدع وانهيار نموذج أحد المجتمعات وإما إلى‬
‫تأليف أصيل بمعنى والدة نموذج ثالث ال يمكن اختزاله في النموذجين السابقين‪ .‬وهذا يعني أنه‬
‫ليس هناك تالقح حضاري دون مستفيد‪ ،‬والمستفيد األول يسميه "ستراوس" بالحضارة العالمية‬
‫التي ال تمثل في نظره حضارة متميزة عن الحضارات األخرى ومتمتعة بنفس القدرة من‬
‫الواقعية وإنما هي فكرة مجرّ دة‪ .‬والمشكل بالنسبة لـ"ستراوس" ال يتمثل في قدرة مجتمع ما على‬
‫االنتفاع من نمط عيش جيرانه ولكن هو مشكل قدرة مجتمع ما على فهم ومعرفة جيرانه‪ .‬ومن‬

‫‪21‬‬
‫هذا المنطلق فإن الحضارة العالمية ال يمكن أن توجد إال كفكرة من حيث هيّ "تحالف للثقافات‬
‫التي تحتفظ ك ّل واحدة منها بخصوصياتها‪ .‬أما ما هو بصدد التحقق اليوم في ظ ّل العولمة فليس‬
‫إال عالمة تقهقر اإلنساني والكوني‪ ،‬وإذا كانت اإلنسانية تأبى أن تكون المستهلك العقيم للقيم التي‬
‫أنتجتها في الماضي فإنه عليها أن تتعلم من جديد أن ك ّل خلق حقيقي يتضمن رفضا ونفيا للقيم‬
‫األخرى‪ ،‬ألننا ال نستطيع أن نذوب في اآلخر ونكون مختلفين في نفس الوقت لذلك ينقد لفي‬
‫ستراوس فكرة التفوق الثقافي التي يعتبرها وليدة للحكم المسبق الذي تمثله المركزية االثنية أي‬
‫الميل إلى اعتبار ثقافتنا الخاصة نموذج لإلنسان‪.‬‬
‫حوصلة و استنتاجات‬

‫ما يمكن استخالصه اذن‪ ،‬هو ان الهوية امر ضروري‪ ،‬ال يمكن خارجها الحديث عن انسانية‬
‫االنسان‪ .‬ألنها االطار الذي يخرج االنسان من فرديته ليتعرف على خصوصيته‪ ،‬وهي التي‬
‫تشعره بالطابع العالئقي لوجوده‪ ،‬وبنمط حضوره الجمعي‪ .‬وهي مطلب ايتيقي قادرة على ان‬
‫ترسم للفرد والجماعة موقعا‪ ،‬يؤسس لمالمح حضوره قبالة الغير المختلف عنه ثقافيا‪ .‬فمن خالل‬
‫الهوية يتعرف االنسان على ذاته كما يتعرف االخر عليه‪ ،‬سواء اكان يشترك معه في السياق‬
‫الثقافي او يختلف عنه‪ ،‬وداخل الهوية تتوفر لإلنسان معايير للحكم‪ .‬من هنا ندرك ضرورتها‬
‫وندرك الضياع واالغتراب الذي ينشأ عن فقدانها‪ .‬وانه اذا فقدت الجماعة تميزها الثقافي أي‬
‫مواردها الثقافية الخاصة التي ال يشاركها فيها غيرها‪ ،‬فقدت هويتها كجماعة مستقلة ‪.‬وان لكل‬
‫مجتمع سوى ثقافة شديدة التماسك‪ ،‬تدفعه الى مقاومة المحاوالت التي تبذل لطمس هويته‪ .‬وفي‬
‫المقابل فان هذا الوجه االيجابي للهوية‪ ،‬ال يمكن ان يخفي مخاطرها‪ ،‬اذا ما اصيبت بداء‬
‫التعصب وعششت داخلها العنصرية ووجهتها المركزية الثقافية‪ ،‬فهي تتحول الى عائق يمنع‬
‫التواصل ويبشر بانقراضها‪.‬‬
‫فالهوية بهذا المعني وعلى حد عبارة هيقل سلبية‪ ،‬ولكنها ليست عدما خالصا فارغا وانما هي‬
‫سلب للوجود وخصائصه‪ .‬على الهوية اذن تتجنب كل ما يدعو الى االنغالق والتقوقع على‬
‫الذات‪ ،‬وان تدرك وجود االختالف بما هو اختالف قادر على اثراء المحلي‪ .‬ال يحتاج اال الى‬
‫التقاء االنسان باإلنسان من اجل وحدة انسانية فال توجد هذه الوحدة االنسانية حسب موران‪ ،‬اال‬
‫بقدر ما يوجد من تنوع ثقافي ‪.‬وعلى شعوب العالم على اختالفها ان تنظم نفسها على نحو‬
‫يجعلها قادرة‪ ،‬على الفعل كما لو كانت انسانا واحدا (على حد عبارة غاندي)‪ .‬فالثقافة المعزولة‬
‫ال يمكن لها ان تكون متفوقة (كما اكد على ذلك ستروس)‪ ،‬وان التعلل بالعولمة وتحويلها الى‬
‫شر مطلق تسند اليه كل هذه التوترات والصراعات والحروب الدائرة اليوم‪ ،‬امر مبالغ فيه على‬
‫اعتبار ان العولمة فيها من االيجابيات ما يجعل امكانية قيام حوار حضاري او ديني امر ممكن‪،‬‬
‫بما توفره من وسائل تواصل تجعل التعرف على االخر اكثر سهولة وسرعة‪ .‬فالعولمة ليست‬
‫هي المنشأ لسيطرة ثقافة على ثقافة اخرى‪ ،‬ولكنها انشات نمطا جديدا من السيطرة الثقافية‪،‬‬
‫بمجرد الوعي به هناك امكانية لتجاوزه ‪.‬وان المشتركات بيننا على اختالفاتنا قادرة على ان‬
‫توجهنا الى ما هو كوني انساني ‪ .‬اننا نحتاج الى وعي مسؤول وارادة قوية إلنجازه وتلك هي‬
‫مهمة الثقافة‪ ،‬واال وكما عبر عن ذلك كلود ليفي شتراوس ستكون نهاية االنسانية جمعاء ‪ '':‬لقد‬
‫بدا العالم بدون انسان وسينتهي بدونه ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫المعهد النموذجي ‪ -‬قابس‬ ‫معهد حي األمل – قابس‬
‫‪dhiab.tahar@gmail.com‬‬ ‫‪Abunadem.marzouki@gmail.com‬‬

‫السنة الدراسية ‪8181 - 8166‬‬

‫‪22‬‬

You might also like