You are on page 1of 4

‫الغير‬

‫‪I‬ـ تمهيد‬
‫إذا ما كان النسان شخصا قائم الذات‪ ،‬فإنه ليس فردا معزول‪ ،‬بل إن النسان موجود ليعيججش مججع الخريججن‪ ،‬فهججو فججي حاجججة‬
‫دائمة إليهم ليشعر بالطمأنينة والمان‪ .‬لذا فإن الحاجة إلى الخر‪ ،‬إلى الغير‪ ،‬هي من الضروريات الولى التي تفججرض نفسججها‬
‫على الفرد‪ .‬فكون النا في حاجة إلى الغير‪ ،‬معناه العتراف بأن هذا الغير شبيه النا في طبيعتها‪ ،‬وأن له نفس الكيان ونفس‬
‫الشعور‪ ،‬بل له نفس الحقوق والواجبات‪ .‬وهو ما يستدعي القرار بأن الغير أنا آخر‪ ،‬أو أنه عالم ممكن يججدعوني لستكشججافه‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬إن القرار بوجود الغير يثير إشكال إمكانية معرفته‪ ،‬ويبدو من منظور فلسفة الذاتية أنه ليس من السهل تكوين معرفة‬
‫عن الغير‪ ،‬فالمعرفة اليقينية المباشرة هي معرفة النا بما هي ذات واعية مفكرة‪ ،‬أمججا معرفججة الغيججر فإنهججا ل تحصججل بشججكل‬
‫مباشر مثل معرفة النا‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فهي معرفة افتراضية‪ .‬لكن هذا التصور يمكن العتراض عليه باعتبججاره منغلقججا علججى ذاتججه‪،‬‬
‫وأنه عاجز على إخراج النا أو الذات من انغلقها‪ .‬لذلك كان من اللزم تجاوز هذا التصور الججذاتي نحججو نظريججة تعتججبر أن النججا‪،‬‬
‫حتى في لحظات انغلقه على نفسه‪ ،‬يظل حامل لفكرة الغير في ذاته‪ .‬ول يكون النا حامل للغير إل لن هذا الغير هججو مجججال‬
‫لمعرفة واضحة ويقينية‪ .‬بيد أن الغير ل يكون مجال معرفة بالنسبة للنا إل لن النسان مدفوع بحاجججة غريزيججة نحججو الرتبججاط‬
‫مع الغير‪ .‬فمهما كان النسان‪ ،‬ومهمججا كججان وضججعه الجتمججاعي والنفسججي‪ ،‬فججإنه يحتججاج إلججى مرافقيججن ومخججاطبين وأصججدقاء‪.‬‬
‫فالنسان اجتماعي بطبعه‪ ،‬وبالتالي فهو في حاجة دائمة وملحة لربط أواصر الصلة مع الخرين‪ .‬وفي ضوء ما سججبق يتبججن أن‬
‫إشكالية الغير تطرح على الصعيد الونطولوجي ) الوجودي( وعلى الصعيد المعرفي والوجداني و العلئقججي ويمكججن صججياغتها‬
‫كما يلي‪ :‬ما هو الغير؟ وكيف يتحدد وجوده؟ وهل وجوده ضروري لوجججود النججا ) الجذات(؟ أي هجل وجججود النجا كججذات مفكجرة‬
‫مرهون بوجود الغير باعتباره أنا آخر أم أن النا هو في غنججى عججن وجججود الغيججر؟ وهججل يمكججن معرفججة الغيججر؟ وإن كججانت تلججك‬
‫المعرفة ممكنة فهل تتم من حيث أن الغير ذاتا أم موضوعا أم ماذا؟ وإذا ما كانت العلقة المعرفية بججالغير تطججرح صججعوبات‬
‫ومفارقات وتحديات على نظرية المعرفة‪ ،‬فما هي أوجه العلقات الخرى الممكنة بين النا وبين الغيججر؟ وهججل هنججاك إمكانيججة‬
‫للتواصل مع الغير؟ وإلى أي حد يمكن أن تكون العلقة بين النا والغير خالية من التشّيؤ والستلب والنفي وتنفتح على أفججق‬
‫الصداقة والمودة والحترام المتبادل؟‬

‫‪II‬ـ وجود الغير‬


‫‪ -1‬موقف الفلسفة الديكارتية‬

‫إذا ما كان التساؤل حول الذات ووضع النسان لنفسه موضع تساؤل هي بداية التفلسف‪ ،‬فإن التفكيججر الفلسججفي لججم يتمكججن‬
‫من تأسيس نظرية متكاملة حول الذات إل في الزمنة الحديثة‪ .‬وبالتحديججد انطلقججا مججن اللحظججة الديكارتيججة‪ .‬ويمكججن اخججتزال‬
‫أهمية السهام الديكارتي في تاريخ الفلسفة‪ ،‬في مقولة الكوجيطو‪ :‬أنا أفكر إذن أنا موجود‪ ،‬التي في ضججوئها أصججبح النسججان‬
‫يتحدد باعتباره ذاتا مفكرة‪ ،‬وهي الحقيقة الولى والبديهية التي ل يرقججى إليهجا الشججك‪ ،‬وهججي أيضججا الججدليل النطولجوجي علججى‬
‫الوجود النساني‪ .‬وسيعمل ديكارت على تمييز الذات المفكرة عن كل ما عداها‪ ،‬بحيث أن كل ما ليس ذاتا مفكرة ل يعدو أن‬
‫يكون إل موضوعا معطى أمام الذات وقابل للمعرفة من طرفها‪ ،‬وهذا التمييز يجعل الذات تتعارض مججع كججل مججا ليججس إياهججا‪،‬‬
‫ويمتد هذا التعارض ليشمل الغير الذي هو "ذات أخرى"‪ .‬فالفلسفة الذاتية التي أسس لها ديكارت هي في عمقها ذات نزعججة‬
‫أنانية تنفي أي قيمة وأي دور للغير على مستوى وجود الذات ومعرفتها‪ ،‬بل إن الذات تؤسس لوجودها على أرضية نفي الغير‬
‫واختزاله في مجرد موضوع معطى ل يختلف عن باقي الموضوعات الخرى‪ ،‬وبالنتيجة فإن فلسفة الذاتية عجزت على إثججارة‬
‫إشكالية الغير والتأمل فيها بعمق وتبصر‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف الفلسفة الهيغلية‬

‫يعد هيغل من الفلسفة النادرين الذين أدركوا أهمية مفهوم الذات الذي بلوره ديكارت وجعججل الفلسججفة الحديثججة تسججمى بججه‪،‬‬
‫كما يعتبر كذلك من أكثر الفلسفة الذين بينوا ثغرات ومنزلقات الفلسفة الديكارتية وحدود نظرتها إلى النسان الججذي جردتججه‬
‫من عالمه ومن انشراطات وجوده لتنغلق به في سماء مفهوم الذاتية مفترضة أن وجود النا ل يقتضججي ول يسججتدعي وجججود‬
‫الغير‪ .‬إذ يؤكد هيغل أن الوجود النساني هو في جوهره وجود في العالم‪ ،‬أي أنه وجود يتحقق ويعلن عن نفسججه فججي العججالم‪،‬‬
‫ولذلك فإن الوعي بالذات الذي تقوم عليه فلسفة الذاتية هو مجرد لحظة من لحظات وعي الذات الججذي يتكامججل مججع الججوعي‬
‫من أجل الذات‪ ،‬و" ليكون وعي الذات هو وعي من أجل الذات يتوجب أن تكون الذات معترفا بها مجن طجرف الغيججر" يقجول‬
‫هيغل‪ ،‬وهذا العتراف هو محصلة صراع مأساوي بين الذات‪ ،‬الغير‪ ،‬يتخذ شكل الصراع من أجل الحرية‪ ،‬يغامر فيه كل طرف‬
‫بالحياة من أجل الحرية والعتراف‪ ،‬وبالمخاطرة بالحياة يضيف هيغل "يسمو كل من النا والخر بيقين وجوده إلججى مسججتوى‬

‫‪1‬‬
‫الحقيقة بالنسبة لذاته وبالنسبة للخر‪ ...‬وبواسطتها يتم الحفاظ على الحرية"‪ .‬وعبر هذا الصراع يتعلم وعي الذات أن الحيججاة‬
‫جوهرية مثل وعي الذات‪ ،‬وعن طريق هذه التجربة يتقابل وعي خالص لذاته مع وعي ليس وعيا لججذاته وإنمججا هججو وعججي مجن‬
‫أجل وعي آخر‪ ،‬ويؤكد هيغل على أن "هاتان اللحظتان جوهريتان‪ ،‬إنهما بمثابة وجهيججن متقججابلين للججوعي‪ ،‬الواحججد هججو لحظججة‬
‫وعي مستقلة تقوم ماهيته في كونه وجودا لذاته‪ ،‬والخر هو لحظة وعجي تجابع تقجوم مجاهيته فجي الحيجاة والوججود مجن أججل‬
‫الخر‪ ،‬أحدهما سيد والخر عبد"‪ ،‬وفي نظر هيغل إن جدلية السيد والعبد تؤطر العلقة بيججن النججا والغيججر‪ ،‬وتشججرط وجودهمججا‪،‬‬
‫وهو ما يعني أن الذات ليست مكتفية بذاتها ووجودها ليس منفصل عن وجود الغير‪ ،‬بل إن وجود الججذات ليججس ممكنججا إل فججي‬
‫علقتها بالغير باعتباره أنا آخر‪ .‬وبهذا المعنى يؤسس هيغل لتصور فلسفي يتجاوز فلسفة الذاتية وينفتح على فلسججفة الغيريججة‬
‫والختلف‪ .‬دون أن يعني ذلك أن هيغل تجاوز كليا سقف فلسفة الذاتية‪ .‬فبالرغم من تأكيججده علججى أن وجججود الغيججر ضججروري‬
‫لوجود النا‪ ،‬إل أنه يختزل تلك الضرورة ضمن علقة جدلية قائم على مبدأ التناقض والنفي أو السلب‪ ،‬وهو ما يعني أن وجججود‬
‫الغير عند هيغل ظل محكوما بمنطق الستلب والتشييء نفسه الذي طبع نظرة فلسفة الذاتية إلى الغير‪.‬‬

‫‪ -3‬موقف الفلسفة الوجودية‬

‫بالرغم من الحيز المهم الذي منحه سارتر لمفهوم الغير في كتابه الفلسفي القيم "الوجججود والعججدم"‪ ،‬وبججالرغم أيضججا مججن أن‬
‫سارتر سيثير في نفس الكتاب الشكالية الفلسفية لمفهوم الغير بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الفلسججفة‪ ،‬إل أن تصججور‬
‫سارتر لوجود الغير لم يستطيع الخروج عن نسق التصور الهيغلي‪ ،‬بل لم يستطيع الخججروج عجن نسجق تصجور فلسجفة الذاتيجة‬
‫برمتها‪ ،‬ربما يجد ذلك مبرره النظري في كون فلسفته الوجوديججة هججي فججي جوهرهججا فلسججفة ذاتيججة‪ .‬فججالغير‪ ،‬بحسججب تعريججف‬
‫سارت الشهير له‪" ،‬هو الخر‪ ،‬أي النا الذي ليس إياي"‪ ،‬ويضيف معلقا على ذلك التعريف ومعمقا له‪" ،‬فنحن نرى هنا إذن أن‬
‫السلب بنية مكونة لوجود – الغير‪ [...] -‬فالغير هو من ليس إياي‪ ،‬و هو من لسجت أنجا إيججاه‪ .‬وكلمجة " ليججس " تشجير هنججا إلجى‬
‫العدم بوصفه عنصر فصل معطى بين الغير و بين نفسي‪ .‬فهناك عدم يفصل بيني و بين الغير‪ .‬و هذا العدم ل يسججتمد أصججوله‬
‫من ذاتي أنا‪ ،‬و ل من الغير‪ ،‬و ل من علقة متبادلة بين الغير و بيني‪ ،‬بل هو أصل أساس كل علقة بين الغيججر و بينججي‪ ،‬كغيججاب‬
‫أولي للعلقة‪ .‬ذلك أن الغير يبدوا لي تجريبيا بمناسبة إدراك جسم‪ ،‬و هذا الجسم هو في – ذاته خارج عن إحساسججي‪ ،‬و نمججط‬
‫العلقة التي يصل و يفصل بين هذين الجسمين هو العلقة الممكنة مثل رابطة الشياء التي ليس بينها علقججة"‪ .‬ويتججبين فعججل‬
‫إعدام كل من النا والغير لبعضهما‪ ،‬حسب سارت‪ ،‬في كون "الغير يمثل السلب الجذري لتجربتي‪ ،‬لننججي بالنسججبة لججه لسججت‬
‫ذاتا بل موضوعا‪ .‬فأنا أسعى بكل جهدي إذن بوصفي ذاتا يعججترف‪ ،‬إلججى أن أعامججل الججذات الججتي تنكججر كججوني ذاتججا‪ ،‬و تحججددني‬
‫بوصفي موضوعا‪ ،‬أن أعاملها كموضوع"‪ .‬ونظر كل من النا والغير إلى بعضهما البعججض كموضججوع يعنججي تجريججد وسججلب كججل‬
‫طرف للخر مما هو جوهري وأصلي فيه‪ ،‬أي تجريده من أناه بما هي ذات مفكرة‪.‬‬

‫‪ -4‬موقف جيل دولوز‬

‫يرى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ‪ Gilles Deleuze‬أن خطأ النظريات الفلسفية حول الغير يكمن فججي كونهججا اخججتزلت‬
‫الغير تارة في موضوع خاص وتجارة فجي ذات أخجرى‪ ،‬بجل إن تصجورا مثجل الجذي يقجول بجه سجارتر‪ ،‬اقتصجر علجى الجمجع بيجن‬
‫التحديدين‪ ،‬جاعل من الغير موضوعا يقع عليه نظري‪ ،‬قمينا بأن ينظر إلي هججو بججدوره ويحججولني إلججى موضججوع"‪ ،‬فججي حيججن أن‬
‫" ليس شخصا و ل ذاتا و ل موضوعا‪ ...‬وهناك تعدد للذوات لن هناك غيججرا و ليججس العكججس‪ .‬و علججى‬ ‫الغير\بالنسبة لدولوز‬
‫هذا يقتضي الغير مفهوما قبليا يتفرع عنه الموضوع الخاص و الذات المغجايرة و النجا‪ ،‬و ليجس العكجس"‪ .‬ويضجيف دولجوز "أن‬
‫الغير هو عالم ممكن‪ ،‬كما يتبدى في محيا من يعبر عنه‪ ،‬و كما يحصل عبر لغة تمنحه صورة متحققة‪ .‬الغير بهذا المعنججى‪ ،‬هججو‬
‫مفهوم ذو ثلثة مكونات متلزمة ‪ :‬عالم ممكن‪ ،‬وجه قائم الوجود‪ " ،‬كلم أو لغة واقعية"‪ .‬إن الغير‪ ،‬بالنسبة لجيل دولوز ليس‬
‫موضوعا في حقل إدراكي ول ذاتا تدركني‪ ،‬وإنما هو "بنية الحقل الدراكي‪ .‬والغير كبينية تسبق في وجودها كل العناصر الججتي‬
‫تحينها ضمن كل حقل إدراكي منظم"‪ .‬فالغير إذا هو "بنية الممكن‪ ،‬إنه وجود الممكن المغلف‪ ،‬أما النا فهو تحويل الممكنججات‬
‫وتفسيرها‪ ،‬بينما اللغة هي واقع الممكن من حيث هو ممكن‪ .‬وبالتالي فإن الغير هو الذي يجعل الدراك المعرفي ممكنا‪ ،‬كمججا‬
‫أنه هو الذي يقذف برغبة النا نحو الشيء‪ ،‬بما "أن رغبتي تمر دائما عبر الغير"‪ ،‬على حد تعبير جيل دولوز‪.‬‬

‫‪III‬ـ معرفة الغير‬


‫‪ -1‬استحالة معرفة الغير‬

‫إن عملية المعرفة تقتضي‪،‬كما تحددت منذ ديكارت‪ ،‬وجود الذات العارفة وموضوع المعرفة‪ .‬وسحب هذه القاعججدة المعرفيججة‬
‫على الغير يحوله إلى موضوع شأنه شأن باقي الموضوعات الخرى المطروحة في مقابل الذات لمعرفتها والسيطرة عليهججا‪،‬‬

‫‪2‬‬
‫وهذه العملية التشييئية تستأصل من الغير أناه وذاتيته التي هي قوام وجوده والجانب الصججيل فيججه الججذي بججه يتفججرد ويتمججايز‪،‬‬
‫وبالتالي فإن معرفة الغير كموضوع تقجر باسجتحالة معرفجة الغيجر كجذات‪ ،‬علجى اعتبجار أن معرفجة الجذات أو بجالحرى الجوعي‬
‫بالذات‪ ،‬حسب ديكارت‪ ،‬هو حضور مباشر للذات أمام ذاتها وحدسها‪ ،‬بما أن الحدس هو معرفة مباشججرة بالججذات ل تتوسججطها‬
‫المفاهيم والمبادئ الستدللية‪ .‬وفي هذا الطار يرى ماليبرانش "أننا ل نعرف نفوس الناس الخرين‪ ،‬ول نعرف عقججولهم كمججا‬
‫هي إل معرفة قائمة على التخمين"‪ .‬فالخرون ماداموا مختلفين عنا‪ ،‬فإنه ليس من الممكن لنا أن نعرفهم مججن خلل وعينججا‬
‫الذاتي ‪ .‬إن أقصى ما يمكننا الوصول إليه هو محاولة إطلق فرضيات تقول بأن الناس الخرين هم من نفس فصججيلة ذواتنججا"‪،‬‬
‫ويعتقد ماليبرانش أن معرفتنا بالغير قد تكون صائبة إن اقتصرت على الجوانب العقلية والقيمية والخلقيججة فججي الغيججر‪ ،‬لكنججه‬
‫يؤكد بأن معرفتنا بالغير "تكون كثيرة التعرض للخطأ إذا نحن اقتصرنا في حكمنججا فقججط علججى عواطفنججا" ‪.‬ول تنججآى فلسججفة‬
‫سارتر عن هذا التصور الذي يلح على استحالة معرفة الغير كذات‪ ،‬لن نظرة كل من النا والغير إلججى بعضججهما البعججض تظججل‬
‫محكومة بثنائية الذات‪ /‬الموضوع‪ ،‬ويستنتج سارتر أن بين النا والغير هوة بل قرار وغياب العلقة‪ ،‬أي بينهما مججا يشججبه العججدم‪،‬‬
‫وعليه فإن كل نظرة تقيمها الذات عن الغير ليست إل صورة ذهنية تكونها الذات وتسقطها على الغير‪.‬‬

‫‪ -‬امكانية معرفة الغير‬

‫ا‪ -‬موقف ماكس شيلر‬

‫القول بأن الفلسفة الحديثة اختزلت الغير في الموضوع‪ ،‬ل يعني أنه لم تتبلور أيجة نظريجة فلسجفية تشجذ عجن هجذه القاعجدة‬
‫وتقول بإمكانية معرفة الغير معرفة مغايرة‪ ،‬ويعد الفيلسججوف اللمججاني مججاكس شججيلر ‪ Max scheler‬مججن الفلسججفة الوائل‬
‫الذي حاولوا التفكير في الغير بشكل مختلف‪ ،‬حيث يرى أننا ل ندرك الغير‪ ،‬ومنججذ الوهلججة الولججى‪ ،‬كجسججد أو كفكججرة‪ ،‬بشججكل‬
‫جزئي بل ندركه ككلية ل تنقسم ول تتجزأ‪ ،‬بعد ذلك يتم تقسيم هذه الكليججة إلججى إدراك خججارجي وآخججر بججاطني‪ ،‬دون أن يعنججي‬
‫ذلك أنهما منفصلن كليا عن بعضهما البعض‪ ،‬ويضيف شيلر " أن هججذين المحتججويين يتعلججق أحججدهما بججالخر ويترابطججان بربججاط‬
‫جوهري ويستمر حتى حين أحاول إدراك نفسي‪ ،‬ويستقل عن كل ملحظة وكل استقراء"‪.‬‬

‫ب‪ -‬معرفة الغير من منظور الفلسفة الظاهراتية )الفينومينولوجية(‬

‫يحاول " إدموند هوسرل"‪ ،‬في تأمله الخامس‪ ،‬من "تأملت ديكارتية" الجابة عن هججذين السجؤالين‪ :‬لمججاذا الخججر موججود فججي‬
‫تجربتي؟ بل كيف يظهر الخر في تجربتي داخل العالم؟ إذ يعتبر أن إدراك الخرين هججو إدراك لججذوات نفسججية‪ ،‬طبيعيججة‪ ،‬لهججا‬
‫جسم مثل جسمي‪ ،‬ونفس مثل نفسي‪ ،‬إن هذا الدراك هو تجربة إنسانية عن الخر باعتباره موجودا أمامنا هو ذاتججه‪" ،‬بلحمججه‬
‫وعظمه"؛ لكنني ل أدركه على نحو مباشر‪ ،‬لن ما أدركه بشكل مباشر هو "ذاتي أنا" أو " مججا يخصججني أنججا"‪ ،‬إن الخججر نظيججر‪،‬‬
‫وحضور النظير هو حضور الخر بذاته‪ ،‬أي حضوره باعتباره شخصا من أجل ذاته‪ ،‬ومن ثمة فمعرفته تتم بواسطة تجربججة غيججر‬
‫مباشرة‪ ،‬أو لنقل بواسطة إدراك غير مباشر‪ ،‬أي بما يسميه "هوسرل" بج‪ :‬التوافججق فججي العججالم‪ .‬إنهججا تجربججة "النحججن" والججتي‬
‫تقوم على مفهوم "البينذاتية"‪ .‬ل يظهر الغير أمامي ومنفصل عني‪ ،‬بل يأخذ إمكانيته من اعتباري أنا آخر‪ .‬فججي نفججس السججياق‬
‫يؤكد"موريس ميرلوبونتي" على أن "تجربة الغير" هي تجربجة النزيججاح عججن المركججز‪ ،‬أي مركججز الججذات‪ ،‬إنهججا تجربجة جسججدية‪،‬‬
‫فتحليل الغير يقوم في العمق على تحليل الجسد النساني‪ .‬لماذا الجسججد؟ لنججي عنججدما أدرك‪ ،‬فججإني أدرك بجسججدي وعججبره‪،‬‬
‫ويتجه الوعي نحو الشياء‪ ،‬لن حياة قبل‪ -‬شخصية تحركه‪ .‬إن الكلم هو ما يجعل من "النا" آخر‪ ،‬ويعلججن عمججا هججو أكججثر قربججا‬
‫منا‪ ،‬ويجعل من مفهوم البينذاتية‪ ،‬مفهوما ذاتيا وكونيا في نفس الن‪ .‬وردا على التصور الججذي يججرى أن النججا ينظججر إلججى الغيججر‬
‫كموضوع يقول ميرلوبونتي "يعتقد البعض أن الغير يحولني إلى موضوع وينفيني‪ ،‬مثلما أنني أحوله إلى موضوع وأنفيه‪ .‬لكججن‬
‫في الواقع‪ ،‬ل تحولني نظرة الغير إلى موضوع‪ ،‬ول تحوله نظرتي إلى موضوع إل إذا احتمججى كججل واحججد منججا بأعمججاق طججبيعته‬
‫الفكرية‪ ،‬و إل إذا تبادلنا نظرة ل إنسانية‪ ،‬وإل إذا أحس كل واحد منا بأفعاله‪ ،‬ل من حيث هي أفعال مفهومة‪ ،‬وإنما من حيججث‬
‫يتم إدراكها وكأنها أفعججال حشججرة مججن الحشججرات‪ ...‬فالحريججة المتعججددة الشججكال‪ ،‬والطبيعججة المفكججرة‪ ،‬والعمججق غيججر القابججل‬
‫ي وفي الغير تسجججل حججدود كججل تعججاطف‪ ،‬وتوقججف بالتأكيججد‬ ‫للستلب‪ ،‬والوجود الذي ل صفة له‪ ،‬كل تلك العناصر الموجودة ف ّ‬
‫التواصل‪ ،‬لكنها ل تعدمه‪ ...‬ول يمكن للفيلسوف أثناء خلوته التأملية أل يحمل معه الخرين‪ ،‬لنه في هذا العالم المظلم‪ ،‬تعل ّججم‬
‫بشكل أبدي أن يعاملهم على أنهم أشباهه‪ ،‬وأن كل علم ل بد وأن ينبني علججى هججذا الججرأي‪ .‬فالذاتيججة المتعاليججة ‪ ...‬هججي بيججن –‬
‫ذاتية" ‪.‬‬

‫‪IV‬ـ العلقة مع الغير‬


‫‪ -1‬الصداقة‬

‫إن العلقة بين النا والغير ل يمكن اختزالها في العلقة المعرفية فقط‪ ،‬ذلك لن هذه العلقة مركبة ومتعددة يتداخل فيها ما هو‬
‫معرفي بما هو عاطفي بما هو اجتماعي أخلقي‪ ،‬ثقافي‪ ،‬سياسججي‪ ،‬اقتصججادي وانسججاني‪ ...‬وإجمججال يمكججن الحججديث عججن وجهيججن‬
‫أساسيين من أوجه العلقة بين النا والغير‪ :‬علقة القرابة وعلقة الغرابة‪ .‬من أبرز علقات القرابة بين النججا والغيججر نجججد علقججة‬
‫الصداقة التي تتجاوز في أبعادها ومبادئهججا بججاقي علقججات القرابججة الججتي تسججتند علججى الرابطججة الدمويجة أو العرقيججة أو المذهبيججة‬

‫‪3‬‬
‫واللغوية‪ .‬والصداقة هي علقة إنسانية اقترنت عبر تاريخها بالفلسفة التي تعني اصججطلحا محبججة الحكمججة أي صججداقة المعرفججة‪،‬‬
‫فالفلسفة هي الحكمة في المحبة أو في الصداقة بتعبير هايدغر‪ .‬وقد نبه أفلطون إلى أن الصداقة ل تكججون بيججن المتمججاثلين أو‬
‫الضدين وإنما تكون بين المختلفين حيث يسعى كل واحد منهما إلى التكامل مع الخر‪ ،‬بما أن النسان هو كائن ناقص يجدرك أن‬
‫تحقيق وجوده يقتضي منه الدخول في علقة مع الغير‪ .‬ومن جهته يرى أرسطو أن الصداقة هي فضيلة تعد ضرورية علججى وجججه‬
‫الطلق للحياة‪ .‬ذلك لن الصداقة هي الرابطة التي تجمع الناس في المدينة‪ ،‬وهججو مججا يعنججي أن الصججداقة هججي أسججاس التمججدن‬
‫والتحضر‪ ،‬لنها تخلق التوافق والنسجام بين الناس وتلغي التنافر والتنابذ‪ ،‬ويضيف أرسججطو " أن المججواطنين لججو تعلججق بعضججهم‬
‫البعض برباط الصداقة لما احتاجوا إلى العدالة التي إذا بلغت حد الكمال ظهرت أنها من طبيعة الصججداقة"‪ ،‬ومججرد ذلججك هججو أن‬
‫الصداقة تقوم على مبدأ فعل الخير من أجل الغير‪ .‬وفي المجتمعات الحديثة تعد الصداقة قيمججة إنسججانية مثلججى تتيججح إمكانيججات‬
‫هائلة للتواصل والتفاهم بين الذوات المختلفة‪ ،‬كما تعد شرطا لتجاوز مختلف أشكال العنججف والقصججاء والتطججرف‪ ،‬باعتبججار أنهججا‬
‫تتوافق مع طبيعة الوجود النساني الذي يتحدد بكونه وجود مع الخرين‪...‬‬

‫‪ -2‬الغرابة‬

‫يتقاطع مفهوم الصداقة مع مفهوم الغرابة‪ .‬وقد اتخذت الغريججب أوجهججا متباينججة فججي الثقافججة النسججانية‪ :‬المجهججول‪ ،‬الغججامض‪،‬‬
‫الهامشي‪ ،‬الجنبي‪ ،‬الدخيل‪ ،‬المهاجر‪ ...‬وقد تعددت العلقة بالغير كغريب بججاختلف الحضججارات والثقافججات‪ ،‬ففججي المجتمعججات‬
‫القديمة الغريب هو الخارج عن القبيلة والمدينة والملة‪ ،‬وفي المجتمعات الحديثة الغريججب هججو الجنججبي‪ ،‬المهججاجر‪ ،‬المتخلججف‪،‬‬
‫المتوحش‪ ...‬ومن منظور كهذا كانت العلقة بالغريب هي علقة سلب وإلغاء‪ .‬وبمقابل هذه النظرة القصائية المهيمنة على‬
‫العلقة بالغريب‪ ،‬تعتبر جوليا كريستيفا في سياق السعي لبلورة نظرة مختلفججة إلججى الغيججر والغريججب‪ ،‬أن الغريججب" ليججس هججو‬
‫السم المستعار للحقد وللخر ول هو العدم‪ ،‬وإنما الغريب هو ما يسكننا على نحو غريب"‪ .‬وبحسب كريستيفا أن الغريب يبدأ‬
‫حين ينشأ لدينا الوعي باختلفنا وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا على أننا غرباء ومتمردون على الروابط والجماعات‪.‬‬
‫وفي السياق ذاته يرى مارك جيوم ‪ Marc Guillaume‬وبودرليار ‪" J.Boudrillard‬أن الغير هو في آن مختلف بكيفية جذرية‪،‬‬
‫ومشابه لغيره في وضعه"‪ .‬وهذا التوتر الذي يحكم العلقة بججالغير هججو فججي حججد ذاتججه شججيئا إيجابيججا‪ ،‬لنججه يحفججز علججى التفكيججر‬
‫وينعشه‪ .‬لكن لن يكون ذلك التفكير مجديا ما لم يتم العمل على تجججاوز كججل أشججكال العنججف والقصججاء التشججيؤ الججذي يخججترق‬
‫العلقة بين النا والغير‪ ،‬والنكباب على صياغة أخلقيججة تواصججلية جديججدة بيججن الججذوات‪ ،‬قوامهججا‪ :‬العججتراف المتبججادل‪ ،‬الحججوار‪،‬‬
‫الختلف‪ ،‬التكامل‪ ،‬الصداقة‪...‬‬

‫‪V‬ـ استنتاجات‬
‫‪ -‬يكشف التفكير في مفهوم الغير عن إشكالية فلسفية ذات أبعاد معرفية ووجودية وثقافية وسياسية واجتماعية ودينية‪.‬‬

‫‪ -‬إن وجود الغير ضروري لوجود النا‪ .‬فهو شرط قيام الوجود البشري‪.‬‬

‫‪ -‬إن وجود الغير محدد من محددات الذات‪ ،‬وبالتالي فمعرفة الذات ل تتحقق إل بمعرفة الغير‪.‬‬

‫‪ -‬إن معرفة الغير والتواصل معه ممكنة إذا ما تأسست على العتراف المتبادل بين النا والغير‪ ،‬وذلك بالنظر إلى الغير كذات‬
‫ل كموضوع‪.‬‬

‫‪ -‬على الرغم من أن التاريخ النساني عرف مراحل اتسمت بالنظر إلى الغير نظججرة الهيمنججة والسججتعلء ورغبجة فجي التججدمير‬
‫والقصاء فإن الحكمة تقتضي تجاوز هذه النظرة والتأسيس لعلقة بيجن النجا والغيجر تقجوم علجى أخلقيجات تواصجلية قوامهجا‪:‬‬
‫الحوار‪ ،‬الختلف‪ ،‬التكامل‪ ،‬الصداقة‪...‬‬

‫‪4‬‬

You might also like