Professional Documents
Culture Documents
Iـ تمهيد
إذا ما كان النسان شخصا قائم الذات ،فإنه ليس فردا معزول ،بل إن النسان موجود ليعيججش مججع الخريججن ،فهججو فججي حاجججة
دائمة إليهم ليشعر بالطمأنينة والمان .لذا فإن الحاجة إلى الخر ،إلى الغير ،هي من الضروريات الولى التي تفججرض نفسججها
على الفرد .فكون النا في حاجة إلى الغير ،معناه العتراف بأن هذا الغير شبيه النا في طبيعتها ،وأن له نفس الكيان ونفس
الشعور ،بل له نفس الحقوق والواجبات .وهو ما يستدعي القرار بأن الغير أنا آخر ،أو أنه عالم ممكن يججدعوني لستكشججافه.
لكن ،إن القرار بوجود الغير يثير إشكال إمكانية معرفته ،ويبدو من منظور فلسفة الذاتية أنه ليس من السهل تكوين معرفة
عن الغير ،فالمعرفة اليقينية المباشرة هي معرفة النا بما هي ذات واعية مفكرة ،أمججا معرفججة الغيججر فإنهججا ل تحصججل بشججكل
مباشر مثل معرفة النا ،ومن ثم ،فهي معرفة افتراضية .لكن هذا التصور يمكن العتراض عليه باعتبججاره منغلقججا علججى ذاتججه،
وأنه عاجز على إخراج النا أو الذات من انغلقها .لذلك كان من اللزم تجاوز هذا التصور الججذاتي نحججو نظريججة تعتججبر أن النججا،
حتى في لحظات انغلقه على نفسه ،يظل حامل لفكرة الغير في ذاته .ول يكون النا حامل للغير إل لن هذا الغير هججو مجججال
لمعرفة واضحة ويقينية .بيد أن الغير ل يكون مجال معرفة بالنسبة للنا إل لن النسان مدفوع بحاجججة غريزيججة نحججو الرتبججاط
مع الغير .فمهما كان النسان ،ومهمججا كججان وضججعه الجتمججاعي والنفسججي ،فججإنه يحتججاج إلججى مرافقيججن ومخججاطبين وأصججدقاء.
فالنسان اجتماعي بطبعه ،وبالتالي فهو في حاجة دائمة وملحة لربط أواصر الصلة مع الخرين .وفي ضوء ما سججبق يتبججن أن
إشكالية الغير تطرح على الصعيد الونطولوجي ) الوجودي( وعلى الصعيد المعرفي والوجداني و العلئقججي ويمكججن صججياغتها
كما يلي :ما هو الغير؟ وكيف يتحدد وجوده؟ وهل وجوده ضروري لوجججود النججا ) الجذات(؟ أي هجل وجججود النجا كججذات مفكجرة
مرهون بوجود الغير باعتباره أنا آخر أم أن النا هو في غنججى عججن وجججود الغيججر؟ وهججل يمكججن معرفججة الغيججر؟ وإن كججانت تلججك
المعرفة ممكنة فهل تتم من حيث أن الغير ذاتا أم موضوعا أم ماذا؟ وإذا ما كانت العلقة المعرفية بججالغير تطججرح صججعوبات
ومفارقات وتحديات على نظرية المعرفة ،فما هي أوجه العلقات الخرى الممكنة بين النا وبين الغيججر؟ وهججل هنججاك إمكانيججة
للتواصل مع الغير؟ وإلى أي حد يمكن أن تكون العلقة بين النا والغير خالية من التشّيؤ والستلب والنفي وتنفتح على أفججق
الصداقة والمودة والحترام المتبادل؟
إذا ما كان التساؤل حول الذات ووضع النسان لنفسه موضع تساؤل هي بداية التفلسف ،فإن التفكيججر الفلسججفي لججم يتمكججن
من تأسيس نظرية متكاملة حول الذات إل في الزمنة الحديثة .وبالتحديججد انطلقججا مججن اللحظججة الديكارتيججة .ويمكججن اخججتزال
أهمية السهام الديكارتي في تاريخ الفلسفة ،في مقولة الكوجيطو :أنا أفكر إذن أنا موجود ،التي في ضججوئها أصججبح النسججان
يتحدد باعتباره ذاتا مفكرة ،وهي الحقيقة الولى والبديهية التي ل يرقججى إليهجا الشججك ،وهججي أيضججا الججدليل النطولجوجي علججى
الوجود النساني .وسيعمل ديكارت على تمييز الذات المفكرة عن كل ما عداها ،بحيث أن كل ما ليس ذاتا مفكرة ل يعدو أن
يكون إل موضوعا معطى أمام الذات وقابل للمعرفة من طرفها ،وهذا التمييز يجعل الذات تتعارض مججع كججل مججا ليججس إياهججا،
ويمتد هذا التعارض ليشمل الغير الذي هو "ذات أخرى" .فالفلسفة الذاتية التي أسس لها ديكارت هي في عمقها ذات نزعججة
أنانية تنفي أي قيمة وأي دور للغير على مستوى وجود الذات ومعرفتها ،بل إن الذات تؤسس لوجودها على أرضية نفي الغير
واختزاله في مجرد موضوع معطى ل يختلف عن باقي الموضوعات الخرى ،وبالنتيجة فإن فلسفة الذاتية عجزت على إثججارة
إشكالية الغير والتأمل فيها بعمق وتبصر.
يعد هيغل من الفلسفة النادرين الذين أدركوا أهمية مفهوم الذات الذي بلوره ديكارت وجعججل الفلسججفة الحديثججة تسججمى بججه،
كما يعتبر كذلك من أكثر الفلسفة الذين بينوا ثغرات ومنزلقات الفلسفة الديكارتية وحدود نظرتها إلى النسان الججذي جردتججه
من عالمه ومن انشراطات وجوده لتنغلق به في سماء مفهوم الذاتية مفترضة أن وجود النا ل يقتضججي ول يسججتدعي وجججود
الغير .إذ يؤكد هيغل أن الوجود النساني هو في جوهره وجود في العالم ،أي أنه وجود يتحقق ويعلن عن نفسججه فججي العججالم،
ولذلك فإن الوعي بالذات الذي تقوم عليه فلسفة الذاتية هو مجرد لحظة من لحظات وعي الذات الججذي يتكامججل مججع الججوعي
من أجل الذات ،و" ليكون وعي الذات هو وعي من أجل الذات يتوجب أن تكون الذات معترفا بها مجن طجرف الغيججر" يقجول
هيغل ،وهذا العتراف هو محصلة صراع مأساوي بين الذات ،الغير ،يتخذ شكل الصراع من أجل الحرية ،يغامر فيه كل طرف
بالحياة من أجل الحرية والعتراف ،وبالمخاطرة بالحياة يضيف هيغل "يسمو كل من النا والخر بيقين وجوده إلججى مسججتوى
1
الحقيقة بالنسبة لذاته وبالنسبة للخر ...وبواسطتها يتم الحفاظ على الحرية" .وعبر هذا الصراع يتعلم وعي الذات أن الحيججاة
جوهرية مثل وعي الذات ،وعن طريق هذه التجربة يتقابل وعي خالص لذاته مع وعي ليس وعيا لججذاته وإنمججا هججو وعججي مجن
أجل وعي آخر ،ويؤكد هيغل على أن "هاتان اللحظتان جوهريتان ،إنهما بمثابة وجهيججن متقججابلين للججوعي ،الواحججد هججو لحظججة
وعي مستقلة تقوم ماهيته في كونه وجودا لذاته ،والخر هو لحظة وعجي تجابع تقجوم مجاهيته فجي الحيجاة والوججود مجن أججل
الخر ،أحدهما سيد والخر عبد" ،وفي نظر هيغل إن جدلية السيد والعبد تؤطر العلقة بيججن النججا والغيججر ،وتشججرط وجودهمججا،
وهو ما يعني أن الذات ليست مكتفية بذاتها ووجودها ليس منفصل عن وجود الغير ،بل إن وجود الججذات ليججس ممكنججا إل فججي
علقتها بالغير باعتباره أنا آخر .وبهذا المعنى يؤسس هيغل لتصور فلسفي يتجاوز فلسفة الذاتية وينفتح على فلسججفة الغيريججة
والختلف .دون أن يعني ذلك أن هيغل تجاوز كليا سقف فلسفة الذاتية .فبالرغم من تأكيججده علججى أن وجججود الغيججر ضججروري
لوجود النا ،إل أنه يختزل تلك الضرورة ضمن علقة جدلية قائم على مبدأ التناقض والنفي أو السلب ،وهو ما يعني أن وجججود
الغير عند هيغل ظل محكوما بمنطق الستلب والتشييء نفسه الذي طبع نظرة فلسفة الذاتية إلى الغير.
بالرغم من الحيز المهم الذي منحه سارتر لمفهوم الغير في كتابه الفلسفي القيم "الوجججود والعججدم" ،وبججالرغم أيضججا مججن أن
سارتر سيثير في نفس الكتاب الشكالية الفلسفية لمفهوم الغير بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الفلسججفة ،إل أن تصججور
سارتر لوجود الغير لم يستطيع الخروج عن نسق التصور الهيغلي ،بل لم يستطيع الخججروج عجن نسجق تصجور فلسجفة الذاتيجة
برمتها ،ربما يجد ذلك مبرره النظري في كون فلسفته الوجوديججة هججي فججي جوهرهججا فلسججفة ذاتيججة .فججالغير ،بحسججب تعريججف
سارت الشهير له" ،هو الخر ،أي النا الذي ليس إياي" ،ويضيف معلقا على ذلك التعريف ومعمقا له" ،فنحن نرى هنا إذن أن
السلب بنية مكونة لوجود – الغير [...] -فالغير هو من ليس إياي ،و هو من لسجت أنجا إيججاه .وكلمجة " ليججس " تشجير هنججا إلجى
العدم بوصفه عنصر فصل معطى بين الغير و بين نفسي .فهناك عدم يفصل بيني و بين الغير .و هذا العدم ل يسججتمد أصججوله
من ذاتي أنا ،و ل من الغير ،و ل من علقة متبادلة بين الغير و بيني ،بل هو أصل أساس كل علقة بين الغيججر و بينججي ،كغيججاب
أولي للعلقة .ذلك أن الغير يبدوا لي تجريبيا بمناسبة إدراك جسم ،و هذا الجسم هو في – ذاته خارج عن إحساسججي ،و نمججط
العلقة التي يصل و يفصل بين هذين الجسمين هو العلقة الممكنة مثل رابطة الشياء التي ليس بينها علقججة" .ويتججبين فعججل
إعدام كل من النا والغير لبعضهما ،حسب سارت ،في كون "الغير يمثل السلب الجذري لتجربتي ،لننججي بالنسججبة لججه لسججت
ذاتا بل موضوعا .فأنا أسعى بكل جهدي إذن بوصفي ذاتا يعججترف ،إلججى أن أعامججل الججذات الججتي تنكججر كججوني ذاتججا ،و تحججددني
بوصفي موضوعا ،أن أعاملها كموضوع" .ونظر كل من النا والغير إلى بعضهما البعججض كموضججوع يعنججي تجريججد وسججلب كججل
طرف للخر مما هو جوهري وأصلي فيه ،أي تجريده من أناه بما هي ذات مفكرة.
يرى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز Gilles Deleuzeأن خطأ النظريات الفلسفية حول الغير يكمن فججي كونهججا اخججتزلت
الغير تارة في موضوع خاص وتجارة فجي ذات أخجرى ،بجل إن تصجورا مثجل الجذي يقجول بجه سجارتر ،اقتصجر علجى الجمجع بيجن
التحديدين ،جاعل من الغير موضوعا يقع عليه نظري ،قمينا بأن ينظر إلي هججو بججدوره ويحججولني إلججى موضججوع" ،فججي حيججن أن
" ليس شخصا و ل ذاتا و ل موضوعا ...وهناك تعدد للذوات لن هناك غيججرا و ليججس العكججس .و علججى الغير\بالنسبة لدولوز
هذا يقتضي الغير مفهوما قبليا يتفرع عنه الموضوع الخاص و الذات المغجايرة و النجا ،و ليجس العكجس" .ويضجيف دولجوز "أن
الغير هو عالم ممكن ،كما يتبدى في محيا من يعبر عنه ،و كما يحصل عبر لغة تمنحه صورة متحققة .الغير بهذا المعنججى ،هججو
مفهوم ذو ثلثة مكونات متلزمة :عالم ممكن ،وجه قائم الوجود " ،كلم أو لغة واقعية" .إن الغير ،بالنسبة لجيل دولوز ليس
موضوعا في حقل إدراكي ول ذاتا تدركني ،وإنما هو "بنية الحقل الدراكي .والغير كبينية تسبق في وجودها كل العناصر الججتي
تحينها ضمن كل حقل إدراكي منظم" .فالغير إذا هو "بنية الممكن ،إنه وجود الممكن المغلف ،أما النا فهو تحويل الممكنججات
وتفسيرها ،بينما اللغة هي واقع الممكن من حيث هو ممكن .وبالتالي فإن الغير هو الذي يجعل الدراك المعرفي ممكنا ،كمججا
أنه هو الذي يقذف برغبة النا نحو الشيء ،بما "أن رغبتي تمر دائما عبر الغير" ،على حد تعبير جيل دولوز.
إن عملية المعرفة تقتضي،كما تحددت منذ ديكارت ،وجود الذات العارفة وموضوع المعرفة .وسحب هذه القاعججدة المعرفيججة
على الغير يحوله إلى موضوع شأنه شأن باقي الموضوعات الخرى المطروحة في مقابل الذات لمعرفتها والسيطرة عليهججا،
2
وهذه العملية التشييئية تستأصل من الغير أناه وذاتيته التي هي قوام وجوده والجانب الصججيل فيججه الججذي بججه يتفججرد ويتمججايز،
وبالتالي فإن معرفة الغير كموضوع تقجر باسجتحالة معرفجة الغيجر كجذات ،علجى اعتبجار أن معرفجة الجذات أو بجالحرى الجوعي
بالذات ،حسب ديكارت ،هو حضور مباشر للذات أمام ذاتها وحدسها ،بما أن الحدس هو معرفة مباشججرة بالججذات ل تتوسججطها
المفاهيم والمبادئ الستدللية .وفي هذا الطار يرى ماليبرانش "أننا ل نعرف نفوس الناس الخرين ،ول نعرف عقججولهم كمججا
هي إل معرفة قائمة على التخمين" .فالخرون ماداموا مختلفين عنا ،فإنه ليس من الممكن لنا أن نعرفهم مججن خلل وعينججا
الذاتي .إن أقصى ما يمكننا الوصول إليه هو محاولة إطلق فرضيات تقول بأن الناس الخرين هم من نفس فصججيلة ذواتنججا"،
ويعتقد ماليبرانش أن معرفتنا بالغير قد تكون صائبة إن اقتصرت على الجوانب العقلية والقيمية والخلقيججة فججي الغيججر ،لكنججه
يؤكد بأن معرفتنا بالغير "تكون كثيرة التعرض للخطأ إذا نحن اقتصرنا في حكمنججا فقججط علججى عواطفنججا" .ول تنججآى فلسججفة
سارتر عن هذا التصور الذي يلح على استحالة معرفة الغير كذات ،لن نظرة كل من النا والغير إلججى بعضججهما البعججض تظججل
محكومة بثنائية الذات /الموضوع ،ويستنتج سارتر أن بين النا والغير هوة بل قرار وغياب العلقة ،أي بينهما مججا يشججبه العججدم،
وعليه فإن كل نظرة تقيمها الذات عن الغير ليست إل صورة ذهنية تكونها الذات وتسقطها على الغير.
القول بأن الفلسفة الحديثة اختزلت الغير في الموضوع ،ل يعني أنه لم تتبلور أيجة نظريجة فلسجفية تشجذ عجن هجذه القاعجدة
وتقول بإمكانية معرفة الغير معرفة مغايرة ،ويعد الفيلسججوف اللمججاني مججاكس شججيلر Max schelerمججن الفلسججفة الوائل
الذي حاولوا التفكير في الغير بشكل مختلف ،حيث يرى أننا ل ندرك الغير ،ومنججذ الوهلججة الولججى ،كجسججد أو كفكججرة ،بشججكل
جزئي بل ندركه ككلية ل تنقسم ول تتجزأ ،بعد ذلك يتم تقسيم هذه الكليججة إلججى إدراك خججارجي وآخججر بججاطني ،دون أن يعنججي
ذلك أنهما منفصلن كليا عن بعضهما البعض ،ويضيف شيلر " أن هججذين المحتججويين يتعلججق أحججدهما بججالخر ويترابطججان بربججاط
جوهري ويستمر حتى حين أحاول إدراك نفسي ،ويستقل عن كل ملحظة وكل استقراء".
يحاول " إدموند هوسرل" ،في تأمله الخامس ،من "تأملت ديكارتية" الجابة عن هججذين السجؤالين :لمججاذا الخججر موججود فججي
تجربتي؟ بل كيف يظهر الخر في تجربتي داخل العالم؟ إذ يعتبر أن إدراك الخرين هججو إدراك لججذوات نفسججية ،طبيعيججة ،لهججا
جسم مثل جسمي ،ونفس مثل نفسي ،إن هذا الدراك هو تجربة إنسانية عن الخر باعتباره موجودا أمامنا هو ذاتججه" ،بلحمججه
وعظمه"؛ لكنني ل أدركه على نحو مباشر ،لن ما أدركه بشكل مباشر هو "ذاتي أنا" أو " مججا يخصججني أنججا" ،إن الخججر نظيججر،
وحضور النظير هو حضور الخر بذاته ،أي حضوره باعتباره شخصا من أجل ذاته ،ومن ثمة فمعرفته تتم بواسطة تجربججة غيججر
مباشرة ،أو لنقل بواسطة إدراك غير مباشر ،أي بما يسميه "هوسرل" بج :التوافججق فججي العججالم .إنهججا تجربججة "النحججن" والججتي
تقوم على مفهوم "البينذاتية" .ل يظهر الغير أمامي ومنفصل عني ،بل يأخذ إمكانيته من اعتباري أنا آخر .فججي نفججس السججياق
يؤكد"موريس ميرلوبونتي" على أن "تجربة الغير" هي تجربجة النزيججاح عججن المركججز ،أي مركججز الججذات ،إنهججا تجربجة جسججدية،
فتحليل الغير يقوم في العمق على تحليل الجسد النساني .لماذا الجسججد؟ لنججي عنججدما أدرك ،فججإني أدرك بجسججدي وعججبره،
ويتجه الوعي نحو الشياء ،لن حياة قبل -شخصية تحركه .إن الكلم هو ما يجعل من "النا" آخر ،ويعلججن عمججا هججو أكججثر قربججا
منا ،ويجعل من مفهوم البينذاتية ،مفهوما ذاتيا وكونيا في نفس الن .وردا على التصور الججذي يججرى أن النججا ينظججر إلججى الغيججر
كموضوع يقول ميرلوبونتي "يعتقد البعض أن الغير يحولني إلى موضوع وينفيني ،مثلما أنني أحوله إلى موضوع وأنفيه .لكججن
في الواقع ،ل تحولني نظرة الغير إلى موضوع ،ول تحوله نظرتي إلى موضوع إل إذا احتمججى كججل واحججد منججا بأعمججاق طججبيعته
الفكرية ،و إل إذا تبادلنا نظرة ل إنسانية ،وإل إذا أحس كل واحد منا بأفعاله ،ل من حيث هي أفعال مفهومة ،وإنما من حيججث
يتم إدراكها وكأنها أفعججال حشججرة مججن الحشججرات ...فالحريججة المتعججددة الشججكال ،والطبيعججة المفكججرة ،والعمججق غيججر القابججل
ي وفي الغير تسجججل حججدود كججل تعججاطف ،وتوقججف بالتأكيججد للستلب ،والوجود الذي ل صفة له ،كل تلك العناصر الموجودة ف ّ
التواصل ،لكنها ل تعدمه ...ول يمكن للفيلسوف أثناء خلوته التأملية أل يحمل معه الخرين ،لنه في هذا العالم المظلم ،تعل ّججم
بشكل أبدي أن يعاملهم على أنهم أشباهه ،وأن كل علم ل بد وأن ينبني علججى هججذا الججرأي .فالذاتيججة المتعاليججة ...هججي بيججن –
ذاتية" .
إن العلقة بين النا والغير ل يمكن اختزالها في العلقة المعرفية فقط ،ذلك لن هذه العلقة مركبة ومتعددة يتداخل فيها ما هو
معرفي بما هو عاطفي بما هو اجتماعي أخلقي ،ثقافي ،سياسججي ،اقتصججادي وانسججاني ...وإجمججال يمكججن الحججديث عججن وجهيججن
أساسيين من أوجه العلقة بين النا والغير :علقة القرابة وعلقة الغرابة .من أبرز علقات القرابة بين النججا والغيججر نجججد علقججة
الصداقة التي تتجاوز في أبعادها ومبادئهججا بججاقي علقججات القرابججة الججتي تسججتند علججى الرابطججة الدمويجة أو العرقيججة أو المذهبيججة
3
واللغوية .والصداقة هي علقة إنسانية اقترنت عبر تاريخها بالفلسفة التي تعني اصججطلحا محبججة الحكمججة أي صججداقة المعرفججة،
فالفلسفة هي الحكمة في المحبة أو في الصداقة بتعبير هايدغر .وقد نبه أفلطون إلى أن الصداقة ل تكججون بيججن المتمججاثلين أو
الضدين وإنما تكون بين المختلفين حيث يسعى كل واحد منهما إلى التكامل مع الخر ،بما أن النسان هو كائن ناقص يجدرك أن
تحقيق وجوده يقتضي منه الدخول في علقة مع الغير .ومن جهته يرى أرسطو أن الصداقة هي فضيلة تعد ضرورية علججى وجججه
الطلق للحياة .ذلك لن الصداقة هي الرابطة التي تجمع الناس في المدينة ،وهججو مججا يعنججي أن الصججداقة هججي أسججاس التمججدن
والتحضر ،لنها تخلق التوافق والنسجام بين الناس وتلغي التنافر والتنابذ ،ويضيف أرسججطو " أن المججواطنين لججو تعلججق بعضججهم
البعض برباط الصداقة لما احتاجوا إلى العدالة التي إذا بلغت حد الكمال ظهرت أنها من طبيعة الصججداقة" ،ومججرد ذلججك هججو أن
الصداقة تقوم على مبدأ فعل الخير من أجل الغير .وفي المجتمعات الحديثة تعد الصداقة قيمججة إنسججانية مثلججى تتيججح إمكانيججات
هائلة للتواصل والتفاهم بين الذوات المختلفة ،كما تعد شرطا لتجاوز مختلف أشكال العنججف والقصججاء والتطججرف ،باعتبججار أنهججا
تتوافق مع طبيعة الوجود النساني الذي يتحدد بكونه وجود مع الخرين...
-2الغرابة
يتقاطع مفهوم الصداقة مع مفهوم الغرابة .وقد اتخذت الغريججب أوجهججا متباينججة فججي الثقافججة النسججانية :المجهججول ،الغججامض،
الهامشي ،الجنبي ،الدخيل ،المهاجر ...وقد تعددت العلقة بالغير كغريب بججاختلف الحضججارات والثقافججات ،ففججي المجتمعججات
القديمة الغريب هو الخارج عن القبيلة والمدينة والملة ،وفي المجتمعات الحديثة الغريججب هججو الجنججبي ،المهججاجر ،المتخلججف،
المتوحش ...ومن منظور كهذا كانت العلقة بالغريب هي علقة سلب وإلغاء .وبمقابل هذه النظرة القصائية المهيمنة على
العلقة بالغريب ،تعتبر جوليا كريستيفا في سياق السعي لبلورة نظرة مختلفججة إلججى الغيججر والغريججب ،أن الغريججب" ليججس هججو
السم المستعار للحقد وللخر ول هو العدم ،وإنما الغريب هو ما يسكننا على نحو غريب" .وبحسب كريستيفا أن الغريب يبدأ
حين ينشأ لدينا الوعي باختلفنا وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا على أننا غرباء ومتمردون على الروابط والجماعات.
وفي السياق ذاته يرى مارك جيوم Marc Guillaumeوبودرليار " J.Boudrillardأن الغير هو في آن مختلف بكيفية جذرية،
ومشابه لغيره في وضعه" .وهذا التوتر الذي يحكم العلقة بججالغير هججو فججي حججد ذاتججه شججيئا إيجابيججا ،لنججه يحفججز علججى التفكيججر
وينعشه .لكن لن يكون ذلك التفكير مجديا ما لم يتم العمل على تجججاوز كججل أشججكال العنججف والقصججاء التشججيؤ الججذي يخججترق
العلقة بين النا والغير ،والنكباب على صياغة أخلقيججة تواصججلية جديججدة بيججن الججذوات ،قوامهججا :العججتراف المتبججادل ،الحججوار،
الختلف ،التكامل ،الصداقة...
Vـ استنتاجات
-يكشف التفكير في مفهوم الغير عن إشكالية فلسفية ذات أبعاد معرفية ووجودية وثقافية وسياسية واجتماعية ودينية.
-إن وجود الغير ضروري لوجود النا .فهو شرط قيام الوجود البشري.
-إن وجود الغير محدد من محددات الذات ،وبالتالي فمعرفة الذات ل تتحقق إل بمعرفة الغير.
-إن معرفة الغير والتواصل معه ممكنة إذا ما تأسست على العتراف المتبادل بين النا والغير ،وذلك بالنظر إلى الغير كذات
ل كموضوع.
-على الرغم من أن التاريخ النساني عرف مراحل اتسمت بالنظر إلى الغير نظججرة الهيمنججة والسججتعلء ورغبجة فجي التججدمير
والقصاء فإن الحكمة تقتضي تجاوز هذه النظرة والتأسيس لعلقة بيجن النجا والغيجر تقجوم علجى أخلقيجات تواصجلية قوامهجا:
الحوار ،الختلف ،التكامل ،الصداقة...
4