You are on page 1of 3

‫إعداد‪ :‬الصّحيب بوقرّة‬ ‫اجلمهوريّة التونسيّة‬

‫أستاذ مربّز يف الفلسفة‬ ‫وزارة التربية‬

‫[اخلصوصيّة والكونيّة]‬

‫جذاذة مراجعة‬

‫اخلصوصيّة و الكونيّة‬
‫" نشدان العاملية يف اجملال الثقايف‪ ،‬كما يف غريه من اجملاالت‪ ،‬طموح مشروع‪ ،‬ورغبة يف‬
‫نبتش‬

‫األخذ والعطاء‪ ،‬يف التعارف واحلوار والتالقح‪ ،‬إنها طريقة األنا للتعامل مع اآلخر بوصفه‬
‫أنا ثانية‪ ،‬طريقها جلعل اإليثار حيل حمل األثرة‪ ،‬أما العوملة فهي طموح‪ ،‬بل إرادة‬
‫الخرتاق اآلخر وسلبه خصوصيته‪ ،‬وبالتالي نفيه من العامل‪ .‬العاملية إغناء للهوية‬
‫حممد عابد اجلابري‬ ‫الثقافية‪ ،‬أما العوملة فهي اخرتاق هلا ومتييع"‪.‬‬ ‫إعداد‪ :‬الصّحيب بوقرة‬

‫نبتش‬
‫إحراجات املسألة‪:‬‬ ‫دواعي اإلهتمام‬

‫▪ كيف ميكن للخصوصيّة أن تنفتح على الكونية دون أن تفقد خصوصيتها؟ أال ميكن النظر إىل الكونية‬ ‫▪ ما يسم الواقع اإلنساني من تعدد وتنوّع واختالف‪ ،‬مبا هو‬
‫مبا هي احلفاظ على اخلصوصية؟ أال ميكن للكونية أن تكون أفق اخلصوصية؟‬ ‫مؤشرّ على الكثرة وما مييّز اإلنساني من نزوع حنو‬
‫▪ أم هل علينا أن خنتار ما بني اخلصوصية والكونية؟ أال ترتجم هذه الثنائيات عن رؤية اختزالية تنتهي عادة‬ ‫الكوني‪ ،‬وما ميثلّ القاسم املشرتك يف الفضاء اإلنساني مبا‬
‫إىل االنتصار لقطب والتضحية باآلخر؟‬ ‫هو مؤشرّ على الوحدة‪ ،‬أو الوجود النوعي لإلنسان‪.‬‬
‫▪ إذا اعتربنا أن الكوني قيمة نوعية فهل علينا اليوم أن ننقذ الكوني من خماطر الفراغ األنطولوجي الذي قد‬ ‫▪ ما اقرتن به واقع االختالف من صراع أو صدام وعنف مورس‬
‫تولده الدعوات املدافعة عن اخلصوصية أم علينا أن ننقذ أنفسنا من كوني ال يفيد إال صورة جمرّدة للعدم؟‬ ‫حتت شعارات خمتلفة‪ ،‬فحرب اآلهلة أو احلرب باسم الدفاع‬
‫▪ أال ينبغي أن منيزّ بني كوني ينبغي إنقاذه وبني كوني ينبغي أن ننقذ أنفسنا منه؟ وبأي معنى ميكن أن‬ ‫عن حقوق اإلنسان أو من أجل نشر قيم احلق أو الدفاع عن‬
‫ندافع عن اخلصوصية ونعيشها دون القطع مع الكونية؟‬ ‫الكرامة اإلنسانية أو باسم مقاومة اإلرهاب‪.‬‬
‫▪ إذا افرتضنا الطابع املركب للهوية أي هوية تتحدد على ضوء عوامل خمتلفة ومتعددة‪ ،‬أال تفهم الكونية‬ ‫▪ ظهور أقليات تدافع عن حقّها يف االختالف واالعرتاف بها مبا‬
‫على أنها أفق اخلصوصية‪ ،‬فبأي معنى نفهم الكونية أفقا للخصوصية؟ وهل يعين ذلك إمكان جتاوز القول‬ ‫هي وجود أو كيان مستقلّ‪ ،‬له هويّته املميزة‬
‫بالكونية مبا هي نفي للخصوصيات؟‬ ‫▪ يبدو قبول اإلختالف مستعصيا على أذهان البشر خاصة حني‬
‫▪ لكن ما داللة الكوني وما مشروعية القول بالكوني أو الدفاع عنه؟ وهل من إمكانية للتمييز بني‬ ‫يغدو العنصر املميّز هلذه اجلماعة أو تلك مقدّسا ومثال‬
‫الكوني والكلي؟‬ ‫اعلى‪ ،‬مما يدعونا للتفكري يف إيتيقا جديدة تتسعّ‬
‫▪ أال ميكننا أن نقارب الكوني من مناذج تفكري خمتلفة كأن نقاربه من جهة الطبيعة ومن جهة الوظيفة؟‬ ‫إلختالف تبقيه إختالفا‪..‬‬
‫▪ أال يفيد هذا النظر إىل اخلصوصي مبا هو فضاء الثقافات [الكثرة] والكوني مبا هو فضاء احلضارة [الوحدة]؟‬ ‫▪ نعيش اخرتاق ثقافات خلصوصية ثقافات أخرى باسم‬
‫▪ أال يبدو استشكال العالقة على ضوء هذا القول بني اخلصوصي والكوني مفتعال وال مربر له؟‬ ‫الكوني‪.‬‬
‫▪ أال يثري الواقع اإلنساني مبا يتضمنه من تناقضات مشكل العالقة هذا؟ فهل الكوني من جهة الواقع مبثل‬ ‫▪ انغالق ثقافات معينة على نفسها دفاعا عن اخلصوصية‬
‫النقاء الذي نصوره من جهة املفهوم؟ أال يدفعنا هذا اإلختالف للتمييز بني كوني إيديولوجي وكوني ايتيقي؟‬ ‫ورفضا للكونية‪.‬‬
‫فأي معنى للكوني إذا ما قاربناه إيديولوجيا؟ وأي معنى له يف داللته اإليتيقية؟‬ ‫▪ قدر اخلصوصيات أن يظلّ لقاء بعضها ببعض متارجحا بني‬
‫▪ أال ينبغي أن يفهم من هذا أن الدفاع عن اخلصوصية ال ينبغي أن حيمل على معنى رفض الكوني وإمنا رفض‬ ‫وصل وفصل‪ ،‬لقاء بقدر ما حنتفي حبدوثه خنشى عواقبه‪...‬‬
‫كوني اهليمنة أو كوني املوت دفاعا عن كوني احلياة أو كوني كلية اإلنسان ووجوده النوعي؟‬ ‫▪ حياصرنا العنف من كلّ صوب لريسم لوحة قامتة لوجود‬
‫▪ أليس الكوني يف معناه اإليتيقي ما به نعيش على حدة [خصوصية] ومعا [كونية]؟ أليس كوني احلياة هو أن‬ ‫إنساني توهّم مصلحته يف اإلقتداء بالغالب ال يف السري‬
‫حيافظ كلّ منا على خصوصيته دون نفي اآلخر ونفي حقه يف أن يعيش خصوصيته؟ ودون رفض الوقوف على‬ ‫معه‪...‬‬
‫أرض مشرتكة قوامها قيم كونية ينبغي احرتامها والدفاع عنها ومشاكل كونية جتمع اإلنسانية يف همّ‬ ‫▪ بني اهلويّة واملقدسّ عالقة قرابة ونسب تغذيه بقدر ما‬
‫واحد ومصري واحد؟‬ ‫تتغذى به وحتميه بقدر ما حتتمي به‪ ،‬ليكون املقدسّ ما‬
‫يوجّه اخلصوصيّة توجيها يرتاوح بني االنغالق واإلنفتاح‪،‬‬
‫وبني الصدام واحلوار‪...‬‬
‫‪https://www.facebook.com/philosophiles/ Les Philosophiles‬‬ ‫▪ أصبحت العالقات بني الدول حتددها جغرافيا ثقافية‪.‬‬

‫‪philofoubouguerra@yahoo.fr‬‬ ‫‪1‬‬ ‫الصّحبــي بـ ـ ــوقرّة‬


‫إعداد‪ :‬الصّحيب بوقرّة‬ ‫اجلمهوريّة التونسيّة‬
‫أستاذ مربّز يف الفلسفة‬ ‫وزارة التربية‬

‫[اخلصوصيّة والكونيّة]‬
‫اهلويّة ومشكل التعصبّ‬

‫حمركة للتحرر‪ +‬عامل وحدة للجماعة ‪ +‬عنصر متايز وفرادة واختالف ‪ +‬منبّهة للوعي ‪ +‬حمددّا للنضج‪...‬‬ ‫اهلويّة‪ّ :‬‬
‫اخلصوصيّة ‪ /‬اهلويّة‪ :‬يشدّ هذا الثابت املتحوّل بني أطرافه وحدة متكثّرة حتيل على فروقات ولودة‪ ،‬وكثرة مفتتّة تفيد معنى التفككّ واهلشاشة‪.‬‬
‫لبّ اهلوية هو انتماء مسئول ومسئولية انتماء‪.‬‬
‫عدّ الرتاث تاكيد للهويّة‪ :‬قد تصبح عملية إلغاء "اآلخر" حلظة بناء حامسة للهوية‪.‬‬
‫يتولّد عن التسليم باهلوية البسيطة أو اجلوهر البسيط املنغلق على ذاته والذي ال حيتاج يف وجوده لغرية‪ ،‬دفاعا مميتا عن اخلصوصية‪ ،‬وباسم اخلصوصية ندافع‬
‫عن جوهر اهلوية الثقافية يف مواجهة خمتلف الثقافات‪ ،‬وباسم ذات االنغالق ننظر إىل كل ما هو آت من ثقافة أخرى على أنه غريب وغرييّة تتهددنا‪ ،‬ينبغي‬
‫رفضها وإقامة جدار عازل حيول دونها والتأثري فينا أو غزونا خشية حتولنا عما حنن عليه‪ ،‬أي خشية أن نفقد مقوماتنا فنفقد هويتنا أو نعيش أزمة هوية‪.‬‬
‫استتباعات مثل هذا املوقف‪ :‬رفض كلّ تواصل مع اآلخر وإحالل العنف حملّه مبا يعنيه من يأس من اإلنساني أو إدعاء احتكاره أو ادعاء األفضلية واالعرتاف‬
‫بضرب واحد من التعامل حيكمه منطق الصراع أو الصدام‪.‬‬
‫عندها يتحوّل القول باخلصوصية هذيانا أو هوسا عندها ال فرق بني الدفاع عن اهلوية أو السقوط يف اهلاوية؛ وعندما يعوّض اجلنون خطاب العقل والتعقّل‪،‬‬
‫يستحيل التسامح تهاونا والتهاون خيانة أو هرطقة؛ ويتحوّل املتعصب الناطق الرمسي باسم اهلوية والرتاث وباسم املوت واحلياة؛ وعندما تصاب اهلويةّ بداء‬
‫التخشّب والتحجرّ والصدء أو عندما يسكن القول باخلصوصية أروقة الكهوف واملغاور واجلبال‪ ،‬لن تكون اهلويّة إال الوجه املقنعّ للهاوية‪.‬‬

‫اهلويّة املركّبة وقيمة اإلختالف‬ ‫اهلويّة وواقع اإلختالف‬


‫قيمة االختالف‪:‬‬ ‫االختالف‪ :‬مقولة كثريا ما أربكت اهلويات املنكمشة وكثريا ما‬
‫اإلختالف ‪ :‬ال ينفي وجود قواسم مشرتكة بني مجيع الثقافات مهما اختلفت درجة تعقدّها وأيّا كان انتسابها إىل اجملتمعات‬ ‫أحْرجت العقل الذي دَرَجَ على منطق الواحد وتناسى أنّ اإلنسان واحد•‬
‫القدمية أو احلديثة‪ ،‬ولعلّ أبرز هذه القواسم‪ :‬وجود اللغة‪ ،‬القدرة على الرتميز‪ ،‬إبتكار أدوات التقنية‪ ،‬السعي إىل التنظيم‬ ‫وكثري‪.‬‬
‫والتقعيد‪ ،‬النزوع إىل املطلق واحلاجة إىل رؤية للعامل تعيد تشكيله على حنو يسكنه املعنى‪.‬‬ ‫يتحدّد االختالف يف سياق اخلطابات األنرتوبولوجية الثقافوية‬
‫يقول كلود ليفي سرتوس‪" :‬مجيع البشر بال إستثناء ميلكون لغة وتقنيات وفنون ومعارف وتنظيمات إجتماعية إقتصادية‬ ‫والبنيوية ‪-‬على األقل‪ -‬باعتباره حقا وميزة تتمتّع بها كلّ جمموعة•‬
‫سياسية ‪ ...‬غري أن املقادير والنسب ليست دائما هي ذاتها عند كل الثقافات”‪.‬‬ ‫ثقافية دون استثناء‪.‬‬
‫يقول أيضا كلود ليفي سرتوس‪" :‬ال ميكن للحضارة العاملية أن تكون شيئا آخر على املستوى العاملي غري حتالف للثقافات اليت‬ ‫إنّه احلق يف انتهاج أساليب ومنظوريات ورؤى تؤمّن من خالهلا•‬
‫حتتفظ كل واحدة منها خبصوصياتها“‬ ‫اجملموعة تكيّفها مع حميطها وإشباعها حلاجاتها املادية والروحية‪،‬‬
‫فضاء العاملية هو فضاء لقاء اخلصوصي بالكوني واحمللي بالعاملي حبيث يكون العاملي إنفتاحا على العامل وإقرارا حبق اإلختالف‬ ‫•‬ ‫نشدانا للبقاء وحسن البقاء‪.‬‬
‫واملساواة والندية بني خمتلف األمم والشعوب والثقافات‪.‬‬ ‫وإذا سلّمنا بأنّ لكلّ جمتمع ثقافة‪ ،‬مهما بدت بسيطة يف تركيبتها‬
‫اهلويّة املركبة‪:‬‬ ‫أو حمدودة يف وسائلها وجناعتها‪ ،‬فإنّ التمايز واالختالف هو القاعدة‬
‫اهلويّة املركبة‪ :‬تنبين على االنطالق من مفهوم أنه ال وجود جلوهر ثابت وأصيل ومميز جملتمع ما أو ألمة ما أو للنحن الثقايف‪،‬‬ ‫•‬ ‫يف حني يكون التماثل والتنميط هو الشاذ‪.‬‬
‫وهنا ال يعود نفي اآلخر جزء من منظومة بناء اهلوية بل يصبح اآلخر وجود قائما داخل «الذات» أو وجودا يسكن يف عمق اهلويّة‬ ‫وبذلك يربز االختالف كنقيض للخالف‪ ،‬إنّه ما يؤشر هلذا الطرف أو‬
‫ومعها‪ ،‬وتصبح الذات كونية ال تُحد حبدود‪ ،‬ويصبح خطاب اآلخر هو حوار اهلويّة‪ ،‬وتصبح التعددية أحد أهم خصائص اهلوية‪،‬‬ ‫ذاك باالعرتاف بالغري يف غرييته واحرتام خصوصياته مبنأى عن كلّ‬
‫هوية كونية خارج كل اهلويات‪ ،‬هوية مركبة‪ ،‬عالقتها مباضيها وحاضرها ومستقبلها مبنية على غنى تعددي ال حمدود‪.‬‬ ‫هيمنة وإقصاء أو مفاضلة عرقية أو ثقافية‪.‬‬
‫إنه لقاء التغاير‪ ،‬لقاء يكون فيه اآلخر أنا آخر وليس آخر غريي‬
‫ال توجد ثقافة بل ثقافات‪ ،‬من جهة الكثرة والتنوع واالختالف يف الفضاء اإلنساني‪ ،‬أي من جهة "كثرة الوحدة"؛ وال توجد‬ ‫•‬
‫آليات الصدام‪:‬‬
‫ثقافات بل ثقافة من جهة "وحدة الكثرة" على حدّ عبارة إدغار موران‪.‬‬
‫آليّة اإللغاء‪ :‬املواقف االنطباعية اليت ترسم صورا قامتة عن اآلخرين‪،‬‬
‫تتحول اهلوية إىل مشكلة‪ ،‬حنت يتم النظر إليها ككل مغلق ونهائي‪ ،‬أو حنت يتم ربطها باملاضي‪ ،‬باألموات‪ ،‬وتكون اهلوية حالّ‬ ‫•‬
‫فهم“قرود األرض“أو“األشرار“أو” بيض القمّل“أو“الربابرة“كما ذكر‬
‫حلظة تعرتف بانتسابها للتاريخ أو تقرّ بأنها " ابنة التاريخ "‪ ،‬وأنها غري حمكومة بالوفاء لألصول‪.‬‬
‫ذلك ليفي سرتاوس يف كتاب” العرق والتّاريخ“‪ .‬وهنا يلعب التّخييل‬
‫أن اهلوية مشروع مفتوح‪ ،‬وليست نظاما مكتمال‪.‬‬ ‫والتّرميز يف اللّغة دورا هامّا يف التّعبري عن الرّغبة يف إلغاء اآلخر•‬
‫جيدر بالفلسفة اليوم أن تعيد صهر مقولة اهلويّة‪ ،‬أو أن تهجر هذه املقولة "اليت تتحدث إىل الناس" دون ان تتحدّث عنهم‪ ،‬لصاحل‬ ‫•‬ ‫بتحقريه أو استهجانه‪.‬‬
‫مفاهيم أكثر حتديداً وأقل التباسا‪.‬‬ ‫آليّة النزاع‪ :‬التنازع من أجل البقاء‪ ،‬وهو صراع فرضته ندرة خريات‬
‫احلضارة العاملية‪:‬‬ ‫األرض‪ ،‬صراع نلمسه لدى أولئك الذين يقول عنهم ابن خلدون “رزقهم‬
‫احلضارة العاملية اليت ننشد هي جُماع اخلصوصيات‪ ،‬ضمن رؤية كونية تتأسس على ما هو إنساني يف كلّ إنسان‪ ،‬رؤية ترى يف‬ ‫•‬ ‫يف رؤوس رماحهم”‬
‫اإلنسان‪ ،‬يف جممل أفعاله وخصائصه مبثابة جزء من كلٍّ هو الكون بأسره على حدّ عبارة ميشال سار‪ ،‬ويف هذا املدى الكوني‬ ‫آلية التعصب‪ :‬التعصّب والتّمركز على الذات إذ يتحول االعتزاز‬
‫بالذات يربز مفهوم املواطنة الكونية إذ "ليس أليّ إنسان حقّ أكثر من غريه يف التمتّع مبنافع األرض" كما كتب كانط‪.‬‬ ‫باالنتماء إىل نرجسية تولّد بدورها سادية حتول وجهة الطاقة‬
‫ا ملواطن الكوني فلسفيا‪ ،‬هو هذا اإلنسان املدني العاقل املعرتف بالغري يف غرييته وحبقه يف االختالف واملشاركة يف القرار‪ ،‬إنّه‬ ‫العدوانية من داخل نظام احلضارة إىل خارجه (فرويد‪“ :‬مستقبل•‬
‫اإلنسان املواطن وقد حترّر من ضيق االنتماء إىل الدولة‪/‬األمّة أو من ضيق اهلويات القومية الضيّقة (حق الضيافة العاملية‪ :‬كانط)‬ ‫وهم”‪ ،‬ص‪.)18‬‬
‫ليكون قانونه احلقيقة ومطلبه احلرية ومبدؤه املشاركة وشركاؤه يف املواطنة البشر مجيعا دون استثناء أو متييز أو إقصاء‪،‬‬ ‫آليّة التفوّق‪ :‬املركزية الثقافية‪ :‬اعتقاد الفرد اجلازم بسموّ اجملموعة‬
‫ألنّ الوطن ليس جمرد فضاء جغرايف بل هو باألساس حرية وحقوق ولعلّ هذا ما دعا كانط إىل احلديث عن دستور كوني من‬ ‫الّيت ينتسب إليها ورفعتها‪ ،‬إىل درجة اعتبارها مركز الثقافات‬
‫أجل سالم دائم بني الشعوب‪.‬‬ ‫مجيعها وأفضلها‪ ،‬وهي قناعة تقوم على عقدة تفوّق واستعالء‪ ،‬تقصي‬
‫لذلك ال بد من ربط مفهوم "حوار احلضارات" مبفهوم املواطنة العاملية وما يُحيل إليه من مفاهيم جماورة كمفهوم حقوق اإلنسان‬ ‫اآلخر أو جتعله يف مرتبة الدّون‪ .‬وقد بيّن كلود لفي سرتوس أن•‬
‫ذات البُعد الكوني الذي يتجاوز احلدود‪.‬‬ ‫التّمركز العرقي هو حكم مسبق يعكس اعتقاد مجاعة بشرية ما‪،‬‬
‫إن لقاء مثمرا بني الثقافات ممكنا تارخييا حسب بول ريكور‪ ،‬وما يتوفر لدينا من وسائل تكنولوجية واتصالية ومعلوماتية‬ ‫بأن اإلنسانية تنتهي عند حدود اجملموعة القبلية أو اللّغوية‪ ،‬وأحيانا‬
‫هائلة مي كن أن يساعدنا على التقدم أشواطا يف هذا السبيل‪ ،‬سبيل لقاء اإلنسان باإلنسان‪ ،‬ألن "قدر اإلنسان هو أن يكون مثل‬ ‫عند حدود القرية‪ .‬فهي ال ترى خارج تلك احلدود إالّ الغرباء ومن هم‬
‫النحل داخل اخلليّة“‪ :‬كانط‪.‬‬ ‫أدني من البشر‪.‬‬

‫‪philofoubouguerra@yahoo.fr‬‬ ‫‪2‬‬ ‫الصّحبــي بـ ـ ــوقرّة‬


‫إعداد‪ :‬الصّحيب بوقرّة‬ ‫اجلمهوريّة التونسيّة‬
‫أستاذ مربّز يف الفلسفة‬ ‫وزارة التربية‬

‫[اخلصوصيّة والكونيّة]‬
‫الكوني وفخّ العوملة‬
‫▪ إن الواقع العنيف والصدامي للهوية البسيطة الذي ينتقل بنا من اهلوية إىل اهلاوية‪ ،‬يقابله واقع كوني إيديولوجي هيمين‪ ،‬ينتقل بنا من منطق‬
‫الصراع اإليديولوجي إىل منطق االخرتاق الثقايف‪ ،‬مم يدفعنا للتشكيك يف العالقة من جديدة‪ ،‬ال عالقة اهلوية بالعوملة فحسب‪ ،‬بل عالقة العوملة‬
‫بالكوني ذاته‪.‬‬
‫▪ يتحرّك الكوني العوملي ضمن أفق العقل األداتي‪ ،‬أفق املصلحة والنجاعة بدل أفق احلقيقة القيم‪ ،‬وبقدر ما تشتد أساليب اهليمنة العوملية أو‬
‫الكوني العوملي بقدر ما تشتدّ مقاومة اخلصوصيات وتشتدّ مربرّات انغالقها‪ .‬فالعوملة تطارد اهلوية وتالحقها وحتاصرها وجتهز عليها‪ ،‬ويف دائرة‬
‫هذه املطاردة تعاند اهلوية أسباب الذوبان والفناء‪.‬‬
‫▪ يف زمن العوملة ربح اإلنسان كلّ شيء ولكنّه خسر ذاته‪...‬أصبح إنسانا بال ذاكرة وبالتالي بال هوية‪ .‬ولكن هل يدعونا بؤس اإلنسان زمن العوملة‬
‫للقطع مع الكوني أو اليأس منه؟‬
‫▪ ترى العوملة ذات القطب الواحد‪ ،‬أنه من حقّها تشكيل العامل وفق رؤاها ومصاحلها‪ ،‬وباسم العاملية استهدفت مقوّمات اخلصوصيّة‪ :‬املقدّس‪،‬اللّغة‪،‬‬
‫الفكر‪ ،‬العادات وحتى أمناط العيش والسلوك‪ ،‬فاألمر يتجاوز االبتزاز االقتصادي واالستعباد السياسي وفرض الشروط والقيود بالقوة إىل االخرتاق‬
‫الثقايف وذلك بالعمل على صهر اخلصوصيات ضمن املنظومة الثقافية الغربية عرب ما تنشره تكنولوجيا االتصال من ثقافة استهالكية تؤجج‬
‫الرّغبات وتقمعها‪ ،‬تزرع التنميط وتدّعيه عيشا كرميا‪ ،‬تصنع الرأي وتدّعيه حرية للفكر‪ ،‬تعِد “مبجتمع املعرفة” وتسوّق لـ“جمتمع املشهد”‪،‬‬
‫تدّعي العاملية وتساوم اإلنسان يف إنسانيته‪ ،‬مما ساهم يف تغريبه وعزله عن قضاياه احلقيقية‪.‬‬
‫▪ لقد سبق لنيتشه أن دعانا يف “ما وراء اخلري والشر” إىل التصدي هلذا “التقدم الذي يصيّر الناس متشابهني أكثر فأكثر‪ ،‬وعاديني وسذّج وسوقيني”‬

‫" إبراز األخر كعدو لنا هي لعبة جد سهلة للعب عوض احلوار‪ .‬فعال‪ ،‬تشتبك حرب احلضارات هذه‪ ،‬ألنه يتم إقناع الناس‬
‫من هذا الطرف وذاك بان كل اآلخرين هم ضدنا بأن ليس هناك شخص ميكن التخاطب معه يف اجلانب اآلخر‪ .‬تايلور‬

‫" ميكن أن ينطلق تواصل يف جمتمع متحررّ حقق الرشد ألعضائه ليصل إىل حوار خال من السيطرة" هربماس‬

‫"علينا أن نتصور وحدة تضمن التنوّع ومتيّزه‪ ،‬وأن نتصوّر تنوّعا ينخرط يف وحدة‪ .‬إن الوحدة املركبة هلي هذا بالضبط‪... ،‬‬
‫إ‪.‬موران‬ ‫إنها وحدة مركبة خالقة"‬

‫" إن قطرة املاء تشارك يف عظمة احمليط حتى وإن كانت ال تعي ذلك؛ لكن مبجرّد أن ترغب يف االنفصال جتفّ متاما"‬
‫املهامتا غاندي‪ -‬كلّ البشر إخوة‬
‫‪-‬‬
‫اإلنساني وحدة متكثّرةّ‬ ‫اإلستخالص‪ :‬يف اخلتام نقول‪:‬‬
‫من الكوني اإليديولوجي إىل الكوني اإليتيقي‬
‫▪ اإلنساني وحدة وكثرة يف آن‪ :‬وحدة من جهة االنتساب إىل عامل الثقافة وما يقتضيه من‬
‫▪ هو كوني القيم أو كوني احلياة الذي نفهمه على أنه كوني مبدع‬ ‫جتديل للطبيعة وانفتاح على الغري وإبداع للرموز وزرع للمعنى‪ ،‬وكثرة من جهة تنوّع‬
‫خالقّ منفتح‪ ،‬متيّزه قوى الفعل ال قوى االنفعال أو هو كوني إيتيقي؛‬ ‫اهلويات الثقافية واألنظمة الرمزية وأساليب التفكري واإلبداع وإثبات الكيان‪.‬‬
‫ال يزال اإلنسان سؤاله بامتياز‪ ،‬أليس كوني احلياة هو أن يدافع كلّ‬ ‫▪ ال تعارض بني اخلصوصية والكونية‪ :‬اخلصوصيات نواة ثقافية إبداعية مبا حتمله من‬
‫منا على هويّته دون نفي هوية اآلخر أو نفي حقه يف أن يعيش‬ ‫اختالف وتنوّع وختصيب للحضارة العاملية‪ ،‬والكونية هي ما ننشد من جُماع للخصوصيات‬
‫خصوصيته؟ حبيث تتحقق حكمة العيش معا‪ ،‬حكمة تنقذ الكوني‬ ‫يف صيغة وحدة‪ :‬الوحدة املقصودة ليست متاثال وتنميطا يقضي على االختالف ويبتلع‬
‫من العوملي وتقتلع اهلوية من اهلاوية‪.‬‬ ‫اهلويات‪ ،‬وإمنا هي الوحدة اليت تعبّر عن التعدّد لتجعل املضمون حيمل بصمة الكلي‬
‫▪ جيب أن ندخل يف صراع من أجل عاملية املبادئ ضد عوملة املصاحل أو مع‬ ‫وخياطب اإلنساني فينا حتى يكون االختالف باعثا على معرفة اإلنسان هلويته كإنسان‬
‫أنسنة العوملة ض ّد عوملة اإلنسان‪.‬‬ ‫ولتكون اهلوية هوية إنسانية ال يُربكها االختالف بل يثريها ويطوّرها‪.‬‬
‫من املفيد أن نالحظ يف النهاية أن األمم والشعوب تزداد انشغاالً‬ ‫▪ إ ّن حوار احلضارات هو اآللية األكثر قدرة على جتسيم هذه التطلعات وعلى تكريس احلق‬
‫بتارخيها وماضيها وتراثها حني يكون حاضرها مأزوماً‪ ،‬فاألزمات‬ ‫يف االختالف دون االختالف يف احلق‪ ،‬نشدانا ملنزلة إنسانية يكون فيها اإلنسان إنسانا‬
‫الكربى اليت تطال "أنا" اإلنسان احلاضر تدفع به آليًّا إىل البحث عن‬ ‫حبق‪ .‬لكن التشخيص النقدي للواقع يؤكد لنا أنّ اإلنسان جيدُ عسرا كبريا يف االلتزام‬
‫"األنا" املاضي عرب الغوص والبحث عن مسوغات تارخيية تعيد لذاته‬ ‫بقبول االختالف ويف االعرتاف به حقّا لآلخر‪ ،‬فهل احرتم نظام العوملة هذه االختالفات؟‬
‫املتصدّعة اعتبارها من جديد عرب اجرتار املاضي "اجمليد"‪.‬‬ ‫وهل متثل العوملة خطرا فعليا على هوية الثقافات؟‬

‫‪philofoubouguerra@yahoo.fr‬‬ ‫‪3‬‬ ‫الصّحبــي بـ ـ ــوقرّة‬

You might also like