You are on page 1of 55

‫مدخل تمهيدي حول جدل النسق والتاريخ‬

‫‪ ‬توطئة‬
‫المبحث األول‪ :‬النقد الثقافي‬ ‫ا‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬التاريخ‪.‬‬ ‫ب‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬جدل النسق والتاريخ‪.‬‬ ‫ج‪.‬‬


‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫تـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوطئـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‪:‬‬

‫‪2‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫المبحث األول‪ :‬النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬ ‫‪.1‬‬

‫ش هدت الدراس ات النقدي ة املعاص رة يف النص ف الث اين من الق رن العش رين مجل ة من التح والت‬
‫اجلذرية اليت مست حقول املعرفة العلمية؛ أفضت هذه التحوالت إىل ظهور وانتشار تيارات واجتاهات‬
‫جديدة دعت إىل إرساء مفاهيم ما بعد احلداثة؛ اليت أتت على خلفية نقد احلداثة الغربية ومنطلقاهتا‬
‫الفلس فية ونزعاهتا العقالني ة‪ ،‬كم ا أتت على خلفي ة تفكي ك املق والت املركزي ة الك ربى فح اولت‬
‫حتطيمها والتحرر من قيودها اليت هيمنت لفرتة طويلة من الزمن‪.‬‬

‫احتفت ما بعد احلداثة بالثقافة الشعبية‪ ،‬وباملهمش واملدنس‪ ،‬والغريب واملختلف‪ ،‬وأولت اهتمامها‬
‫بدراس ات اجلنوس ة والزنوج ة‪ ،‬وأع ادت النظ ر يف املس لمات ال يت ق امت على أساس ها احلداث ة من‬
‫نظريات وأنظمة فكرية خضعت كلها ملبدأ االنغالق واالستالب‪ ،‬ليصبح هذا املبدأ يف ما بعد جمرد‬
‫آلية من آليات احلداثة تولدت على أنقاضه مبادئ أخرى تقوم على االنفتاح والتحرر وتفكيك كل ما‬
‫هو منظم ومنسجم‪.‬‬

‫اصطُلِ َح عليه ب"النقد الثقافي"‬


‫ويف غمرة هذه التحوالت اليت مشلت عدة علوم ومعارف‪ ،‬ظهر ما ْ‬
‫ِج النق د من دائ رة البني ة املغلق ة ومن‬
‫انط وى ه ذا األخ ري حتت تي ار م ا بع د احلداث ة‪ ،‬واس تطاع أن خُي ر َ‬
‫دائ رة اجلمالي ات البالغي ة‪ ،‬كم ا اس تطاع أيض ا التح رر من ثقاف ة النخب ة وأدهبا‪ ،‬وس لطة املؤسس ات‬
‫الثقافي ة املهيمن ة ليعم ل على فض حها وتعريته ا‪ ،‬وليحتفي باخلطاب ات غ ري الرمسية كخطاب ات املعارض ة‬
‫ونصوص األدب الشعيب وغريه‪ّ ،‬أم ا غايته األساسية من ذلك فهي الكشف عن املسكوت عنه وعن‬
‫العيوب النسقية املضمرة داخل اخلطاب غري الرمسي وغري املؤسسايت‪.‬‬

‫استمد النقد الثقايف موضوعه من الثقافة اليت غذت بدورها توجهاته الفكرية والنقدية وعملت على‬
‫مترير أنساقها وأشكاهلا وصيغها داخل النصوص واخلطابات‪ ،‬ليمارس بذلك مهمته واملتمثلة يف تفكيك‬
‫تلك اخلطابات وحتليلها ومقاربتها مقاربة ثقافية‪ ،‬والكشف عن أنساقها املضمرة واملتخفية داخلها‪.‬‬
‫ومن وإشكالياته‪ :‬ما هي مرجعياته املعرفية اليت أسهمت يف بلورته؟ أين وكيف نشأ هذا النقد؟‬

‫ما مفهومه؟‬ ‫‪‬‬


‫ما هو النسق الثقايف؟ وما هي طبيعته؟‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪3‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫المرجعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات المعرفي ـ ـ ـ ـ ــة للنقـ ـ ــد الثقافـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‪:‬‬ ‫ا‪.‬‬

‫ارتبط مفه وم النق د الثق ايف من ذ بدايات ه األوىل يف أوروب ا يف الق رن ‪ 18‬مبجموع ة من املمارس ات‬
‫النقدي ة ال يت مه دت لظه وره الفعلي م ع بداي ة التس عينات؛ أين أس همت ه ذه املمارس ات يف نش أته‬
‫وبلورته فكانت مبثابة اللبنة األوىل يف رسم معامله كمجال معريف وفكري‪ ،‬ومن بينها نذكر‪ :‬جهود‬
‫مدرسة برمنجهام للدراسات الثقافية املعاصرة‪ ،‬مدرسة فرانكفورت‪ ،‬التارخيانية اجلديدة‪ ،‬املادية الثقافية‬
‫وغريها قدمت هذه املرجعيات تصور معريف جديد وفق املسلمات اليت قامت على أساسها ما بعد‬
‫احلداثة ليشهد العامل الغريب انطالقا من ذلك نقلة نوعية مست مجيع التخصصات وعلى رأسها‪ :‬اجملال‬
‫األديب والثقايف واالجتماعي والسياسي‪ ،‬فثمة إذن أرضية أقل ما يقال عنها أهّن ا مهدت وأسهمت يف‬
‫بلورة املعامل األوىل للنقد الثقايف‪ ،‬وهذا يف األغلب ما جيعلنا حباجة إىل التعرف على تلك األرضية أو‬
‫اجلهود املذكورة سابقا؛ أين وكيف نشأت؟ وماهي أهدافها؟ وكيف أثرت يف بلورة مصطلح ومفهوم‬
‫وأدوات النقد الثقايف؟‪.‬‬

‫أ‪ 1.‬مدرسة برمنجهام للدراسات الثقافية المعاصرة‪:‬‬

‫شكلت أعمال مدرسة برمنجهام من خالل تطويرها للدراسات الثقافية املعاصرة إطارا مرجعيا‬
‫للنق د الثق ايف‪ ،‬ح ىت أهَّن ا <<تُع د من ض من أهم الم دارس النقدي ة والمعرفي ة‪ ،‬ال تي ك ان له ا ت أثير‬
‫فاعل في الساحة النقدية العالمية>>‪ 1.‬ذلك َّ‬
‫ألن دائرة اختصاصها مل تقتصر على ثقافة النخبة فقط‬
‫وإمَّن ا تعدت ذلك إىل ثقافة الطبقة العاملة والثقافة الشعبية‪ ،‬ظف إىل ذلك انفتاحها على عامل األزياء‬
‫واملوض ة والس ينما واألوب را‪ ،‬كم ا أهَّن ا اهتمت بالكتاب ات النس وية‪ ،‬والقض ايا املتعلق ة ب العرق والل ون‬
‫والزنوج ة واجلنوس ة‪ ،‬إىل ج انب اهتمامه ا بقض ايا احلي اة اليومي ة‪ ،‬فهي جمال أو حق ل مع ريف متع دد‬
‫االختصاص ات ي درس ع دة مي ادين‪ :‬ك العلوم االجتماعية<<ووس ائل اإلعالم‪ medi‬والثقاف ة‬
‫الش عبية ‪ ،popular culture‬والثقاف ات ال دنيا‪ ،sub culture‬والمس ائل األيديولوجية‬
‫‪ ،Ideological matter‬واألدب‪ ،literature‬وعلم العالم ات‪، semiotics‬‬

‫‪-1‬روي دي ع دالن‪ :‬الدراس ات الثقافي ة‪ :‬النش أة واملفه وم‪ ،‬جمل ة إش كاالت‪ ،‬جملد‪ ،07‬الع دد‪ ،01‬الس نة ‪2018‬‬
‫متنراست‪ ،‬ص‪.151‬‬

‫‪4‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫والمسائل المرتبطة بالجنوسة‪ ،gender related issues‬والحركات االجتماعية‪social‬‬


‫‪1‬‬
‫‪ ،movements‬والحياة اليومية‪ ، evrey day life‬وموضوعات أخرى متنوعة>>‪.‬‬
‫يتض ح لن ا من خالل ه ذا املنطلق م دى اتس اع أف ق ختصص ات وجماالت الدراس ات الثقافي ة وك ذلك‬
‫م دى تش عب حقوهلا املعرفي ة ح ىت َّ‬
‫أن الناق د اجلزائ ري "فيص ل األحم ر" أج اد وص فها أو تس ميتها‬
‫‪2‬‬
‫"بالحقل المعرفي األخطبوطي"‪.‬‬

‫َّأما فيما خيص نشأت هذا املركز فقد تأسس يف بريطانيا سنة ‪ 1964‬على يد ريتشارد هوغارت‬
‫وجه ود ك ل من راميون د ولي امز وس تيوارت ه ول ال ذي تس لم إدارة املرك ز ملدة عش ر س نوات من‬
‫‪1969‬إىل غاية‪ ،1979‬فيم ا ي رى آرث ر أيزابرجر<< أنَّه ا نش أت في الس بعينيات‪ ،‬حيث ش رع‬
‫مرك ز الدراس ات الثقافي ة المعاص رة بجامع ة برمنجه ام في ع ام ‪ 1971‬في نش ر ص حيفة أوراق‬
‫عم ل في الدراس ات الثقافي ة>>‪ 3.‬إال َّ‬
‫أن ه ذه الص حيفة س رعان م ا ت وقفت عن الص دور خملف ةً‬
‫وراءها أثرا كبريا استفادت منه ع ّدة مدارس وتيارات نقدية <<ومنذ ذلك الوقت سعى الحقل إلى‬
‫تمديد قاعدته الثقافية ومجاله الجغرافي وأصبح هناك مشتغلون بالدراسات الثقافية في الواليات‬
‫المتحدة األمريكية وأستراليا وإفريقيا وآسيا وأمريكا الالتينية‪ ،‬كل له شكل الدراسات الثقافية‬
‫أن الدراس ات الثقافي ة مل تتم يز بس عة جماالهتا فق ط وإمَّن ا‬
‫الخ اص ب ه وطريق ة عمل ه>>‪ 4.‬واألكي د َّ‬
‫متيزت باتس اع رقعته ا اجلغرافي ة ح ىت أهّن ا جتاوزت ح دود اجنل رتا وأوروب ا كك ل‪ ،‬لتص ل إىل الس احة‬
‫النقدية العربية‪ ،‬وإذا ما حاولنا البحث عنها يف كتابات الباحثني العرب سنجد<<عكوفا مبالغا فيه‬
‫على إدوارد سعيد‪ ،‬وتكرارا لمقوالته ال يحده حد‪ ،‬بحيث صارت الدراسات الثقافي ة مختزلة في‬
‫كت ابين هم ا "االستش راق" و"الثقاف ة واإلمبريالي ة"‪ ،‬وفي مقول تين أو ثالث>>‪ 5.‬ولع ل ه ذا‬

‫‪-1‬آرث ر أيزابرج ر‪ :‬النق د الثق ايف‪ ،‬متهي د مب دئي للمف اهيم الرئيس ية‪ ،‬ترمجة وف اء إب راهيم‪ ،‬اجمللس األعلى للثقاف ة‪ ،‬ط‪1‬‬
‫‪ ،2003‬ص‪.31 ،‬‬
‫‪-2‬فيصل األمحر‪ :‬أفق الدراسات الثقافية‪ ،‬منشورات ضفاف‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1‬‬
‫‪ ،2019‬ص‪.19‬‬
‫‪- 3‬آرثر أيزابرجر‪ :‬النقد الثقايف‪ ،‬متهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية‪ ،‬ترمجة ص ‪.31‬‬
‫‪-4‬فيصل األمحر‪ :‬أفق الدراسات الثقافية‪ ،‬ص‪.20-19‬‬
‫‪- 5‬املرجع نفسه‪ : ‬ص‪.13‬‬

‫‪5‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫العكوف املبالغ فيه راجع إىل أمهية الكتابني املذكورين سابقا‪ ،‬خاصة كتاب "االستشراق" الذي كان‬
‫له دور كبري يف تطور الدراسات الثقافية نظرا للمواضيع املطروحة فيه واملتعلقة "بالكيفية اليت أثر هبا‬
‫‪1‬‬
‫االستشراق على اإلدراكات الغربية عن اإلسالم والشرق األوسط"‪.‬‬

‫َّأما إطاره املفهومي؛ فقد ع ّده النقاد<<من المصطلحات التي يشوبها الغموض والتعقيد فه و‬
‫زئبقي المفهوم مراوغ ومخادع ومضلل في داللته‪ ،‬لذلك يصعب على أي دارس أو ناقد فهمه‬
‫س واء من حيث منهج ه أو من حيث مرامي ه وأهداف ه المعلن ة والخفي ة‪ ،‬ح تى عن د نق اد جماع ة‬
‫برمنجهام>>‪ 2.‬ولعل غموض هذا املصطلح راجع إىل سببني‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬تع دد واختالف توجه ات الدراس ات الثقافي ة فهي تش مل نطاق ا واس عا من الكتاب ات‬ ‫‪‬‬
‫والعلوم وامليادين ومن الصعب حتديد هذا التنوع ووضع تعريف شامل وأحادي له‪.‬‬
‫َّأما الس بب الث اني‪ :‬فه و على األغلب مرتب ط مبفه وم الثقافة‪ *3‬ال ذي تبنت ه الدراس ات‬ ‫‪‬‬
‫الثقافي ة‪ ‬ورك زت علي ه وعلى ممارس اته بوص فه منتج ومك ون للمنظوم ة االجتماعي ة‪ ،‬فالثقاف ة‬
‫بدورها<< تعرضت ‪.....‬عبر تطورها الختالفات عميقة مست عدة جوانب منها‪ ،‬وكانت‬
‫عب ارة عن اختالف ات تع بر عن تط ور المفه وم وحقول ه المعرفي ة>>‪ 4.‬ف املتتبع ملفه وم الثقاف ة‬
‫جيده ه و اآلخ ر من أك ثر املف اهيم تعقي دا وغموض ا‪ ،‬ح ىت َّ‬
‫أن معاني ه تع ددت واختلفت ب اختالف‬
‫املراح ل ال يت م َّر هبا‪ ،‬كم ا َّ‬
‫أن ج ذوره كمص طلح اس تعملت يف ع دة جماالت كالزراع ة‪ ،‬وتربي ة‬

‫‪- 1‬فؤاد سعيد‪ :‬الدراسات الثقافية والتحليل الثقايف‪ ،‬املركز القومي للبحوث االجتماعية واجلنائية‪ ،‬دط‪ ،‬ص‪.3‬‬
‫‪- 2‬رويدي عدالن‪ :‬الدراسات الثقافية‪ :‬النشأة واملفهوم‪ ،‬ص‪.159‬‬
‫‪-*3‬اس تعمل مص طلح ثقافة‪ Cultura‬ألول م رة يف اللغ ة الالتيني ة يف الق رون الوس طى األوروبي ة خالل الق رن‬
‫احلادي عشر مبعىن قطعة أرض يشتغل عليها‪ ،‬إىل أن أصبح مرادفا للزراعة‪ .‬مث تطور يف بداية القرن السادس عشر‬
‫فأص بح يع ين فع ل معرف ة زراع ة األرض‪ ،‬مث انتق ل املفه وم من الزراع ة إىل املعرف ة احلقيقي ة بالزراع ة والق درة على‬
‫اإلنت اج‪ ،‬وم ع النهض ة األوروبي ة حتول املفه وم من ثقاف ة األرض إىل ثقاف ة الفك ر واص طبغ مبف اهيم احلداث ة وعص ر‬
‫األنوار‪ ،‬ويعد اإلجنليزي تايلور أول من عرف الثقافة يف كتابه "الثقافة البدائية" سنة ‪ ،1871‬تعريفا شامال للثقافة‬
‫يقول فيه "هي ذلك الكل املعقد الذي حيتوي املعارف واملعتقدات والفن والعواطف والقانون والتقاليد واإلمكانات‬
‫األخرى أو العادات اليت يكتسبها الفرد بصفته فردا يف اجملتمع"‪ ،‬انظر د‪ .‬وسيلة سناين‪ :‬يف نظرية التداخل الثقايف‪ ،‬دار‬
‫فضاءات‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،2015 1‬ص‪.27-26‬‬
‫‪-44‬وسيلة سناين‪ :‬يف نظرية التداخل الثقايف‪ ،‬ص‪.26-25 ،‬‬

‫‪6‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫احليوان ات الداجن ة وحراث ة األرض وغريه ا من االس تعماالت ال يت أث رت في ه وجعلت من ه أح د‬


‫أصعب املفاهيم‪ ،‬ورغم صعوبة حتديد مفهوم له إال َّ‬
‫أن راميوند وليامز حدد<<للثقافة ثالثة معان‬
‫حديثة متداخلة الداللة بعضها في بعض وتستعمل حاليا‪ :‬أولهما الثقافة عملية تنمية فكرية‬
‫وروحية وجمالية عامة‪ ،‬وثانيها أسلوب حياة لشعب أو لحقبة أو لجماعة بشرية ما أي سلوك‬
‫مجتمع معين‪ ،‬وثالثهما أعمال وممارسات النشاط الفكري والسيما النشاط الفني وهو بعد‬
‫ذلك يصفها وصفا مكثفا بقوله "كل طريقة للحياة يعيشها الناس">>‪ 1 .‬لقد خلص راميوند‬
‫وليامز مفهوم الثقافة واعتربها مكون فكري وروحي ومجايل‪ ،‬يرصد هذا املكون حركية كل فرد‬
‫ما داخل جمتمعه من سلوكات وممارسات وأنشطة تُ ِربز مدى ارتباطه الوثيق بواقعه االجتماعي‬
‫والسياسي والديين‪.‬‬

‫لق د أس لفنا‪ ،‬أنَّه<<ليس من الس هل وض ع تعري ف دقي ق للدراس ات الثقافي ة (‪cultural‬‬


‫‪َّ )studies‬‬
‫ألن مفهوم الثقافة نفسه يتميز بكثير من التعقيد والغموض كما يرى الناقد رايموند‬
‫ولي امز‪ .‬وم ع ذل ك‪ ،‬فالدراس ات الثقافي ة ليس ت نظري ة بم ا يعني ه مفه وم النظري ة من تج انس في‬
‫المف اهيم وانتمائه ا أنطولوجي ا إلى حق ل معين في المعرف ة‪ ،‬وإنّم ا هي م زيج من النظري ات‬
‫‪2‬‬
‫والمقاربات الخطابية وأنماط القوى االجتماعية والثقافية وارتباطها بالهويات والجماعات>>‪.‬‬
‫من هذا املنطلق ميكن أن نتصور َّ‬
‫أن هذا املزيج من النظريات واملقاربات اخلطابية هو ما مييزها وجيعلها‬
‫من أكثر احلقول املعرفية اليت يصعب فهمها ودراستها وكذا تصنيفها <<فهي ليست دراسة علمية‬
‫أو فلس فة أو جمل ة من األطروح ات فحس ب ولكنه ا انفت اح على أس ئلة عميق ة تخص الثقاف ة‬
‫اإلنسانية في إطار شامل وجامع‪ ،‬ضمن محيط سياسي وإيديولوجي كوني‪ ،‬وهي استراتيجية في‬
‫قراءة مختلف الخطابات سواء إعالمية‪ ،‬أو تخص الثقافة الشعبية أو النخبوية‪ ،‬ومن ثم فاألدب‬
‫ينصهر مع تلك الخطابات>>‪ 3.‬كممارسة دالة على منط حمدد من املرجعيات املعرفية اليت تستلزم‬
‫قراءة ما بعد حداثية كالقراءة الثقافية اليت تصبو إىل قراءة النصوص سواء كانت تلك النصوص أدبية‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬دار احلوار‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪ ،2017 ،1‬ص‪.17-16‬‬
‫‪- 2‬ادريس اخلضراوي‪ :‬الرواية العربية وأسئلة ما بعد االستعمار‪ ،‬دار رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪2012‬‬
‫ص‪.46‬‬
‫‪- 3‬رويدي عدالن‪ :‬الدراسات الثقافية‪ :‬النشأة واملفهوم‪ ،‬ص‪.161‬‬

‫‪7‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫أو إعالمية‪ ،‬رمسية أو مهمشة‪ ،‬سياسية أو اجتماعية قراءة ثقافية بعيدة عن األطر اجلمالية وترتكز على‬
‫نظم وأنس اق ثقافي ة ل<<لي ترتب على ه ذا المنظ ور المنفتح للعم ل األدبي‪ ،‬اع ادة االعتب ار‬
‫للتواص ل المفق ود بين اآلداب والفن ون‪ ،‬وقراءته ا من منظ ور يستكش ف الثقاف ة واس تخداماتها‬
‫االجتماعية‪.....‬وبهذا المعنى‪ ،‬فالدراسات الثقافية ال يرتكز اهتمامها فقط على إظهار تحيزات‬
‫الثقاف ة باتج اه م ا ه و رس مي أو مؤسس ي وحس ب‪...‬وإنّم ا يتج اوز اهتمامه ا ه ذه الح دود‬
‫ليس توعب أش كاال أخ رى من التس اؤل>>‪ 1.‬ولع ل مجل ة التس اؤالت تل ك هي اليت مكنته ا من أن‬
‫تك ون ممارس ة نقدي ة ثقافية خاص ة ال تش به س ابقيها‪ ،‬ال تعيقه ا القي ود وال احلواجز من اس تيعاب ك ل‬
‫املعارف والفنون‪ ،‬تتقاطع مع مسارات النقد الثقايف يف طروحاهتا وآلياهتا ويف اهتماماهتا اليت مل تقتصر‬
‫على املهمش فقط؛ بل اهتمت أيضا باملقموع واملطموس وكل ما هو منبوذ وحمتقر‪.‬‬

‫الت ــاريخاني ـ ــة الجديـ ـ ــدة‪:‬‬ ‫ب‪.‬‬

‫تُعـ ُــد التارخيانية اجلديدة "‪ "New Historicism‬أحد أبرز املمارسات النقدية ما بعد احلداثية‬
‫اليت حاكت حقول الدراسات الثقافية وتبنت أسسها من خالل حماوالهتا كسر اهليمنة الثقافية الغربية‬
‫وإع ادة مس اءلتها‪ ،‬أم ا عن ب دايات تبل ور معامله ا األوىل فق د ظه رت يف الوالي ات املتح دة األمريكي ة‬
‫وتط ورت على ي د رائ دها س تيفن غ رينبالت من خالل نش ره لدراس ته املوس ومة ب "نح و ش عرية‬
‫الثقاف ة" وال يت ك انت مبثاب ة االنطالق ة األوىل يف تن امي مش روعه واملتمث ل يف نق د خط اب النهض ة‬
‫االجنليزي والذي أعاد من خالله قراءة النصوص األدبية وفق منظور التارخيانية اجلديدة‪ .‬فما املقصود‬
‫هبا؟ وما هي مرتكزاهتا األساسية؟‪.‬‬

‫ـود بداية التارخيانية اجلديدة‪ ‬إىل هناية السبعينات وبداية الثمانينات‪ ،‬بيدا َّ‬
‫أن الظهور الفعلي كان‬ ‫تعـ ُ‬
‫مع بداية السبعينات؛ حني أصدر جليفورد غريتز كتابا بعنوان "تأويل الثقافات" وفيه<<أشار إلى‬

‫‪- 1‬ادريس اخلضراوي‪ :‬الرواية العربية وأسئلة ما بعد االستعمار‪ ،‬ص‪.50-49‬‬


‫‪-‬التارخيانية اجلديدة أو التحليل الثقايف‪ :‬من أبرز االجتاهات النقدية يف مرحلة ما بعد البنيوية‪ ،‬إذ أخذ هذا االجتاه يف‬
‫التنامي مع مطلع الثمانينات‪ ،‬ومن أبرز أعماله ستيفن غرينبالت‪ :‬أستاذ جبامعة كاليفورنيا –بريكلي‪ -‬والذي عرف‬
‫بدراساته التارخيانية اجلادة حول أدبيات عصر النهضة من خالل ما أمساه ب"شعرية الثقافة"‪ ،‬أنظر‪ :‬يوسف عليمات‬
‫مجاليات التحليل الثقايف‪ ،‬الشعر اجلاهلي امنوذجا‪ ،‬املؤسسة العربية للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص‪.27 ،‬‬

‫‪8‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫أن الع الم األن ثروبولوجي يجب أن يص ف الظ اهرة اإلنس انية ال تي يدرس ها بإرجاعه ا إلى الس ياق‬
‫االجتماعي والثقافي الخاص بها لغرض التعرف على دالالتها ومضامينها الرمزية‪ ،‬فال معنى ألي‬
‫ظاهرة معزولة عن سياقها>>‪ 1.‬هبذا املعىن؛ يكون جليفورد غريتز قد أشار إىل قراءة جديدة ختتلف‬
‫عن القراءات النصية السابقة اليت كانت تركز على البنية الداخلية وهي بنية مغلقة كان مبقتضاها العامل‬
‫األنثروبولوجي يبعد أي سياق خارجي أو مرجعية خارجية من شأهنا أن تأثر على تلك البنية الداخلية‬
‫املغلقة وهذا بالتحديد ما قام به رواد التارخيانية اجلديدة أمثال‪ :‬ستيفن غرينبالت وقد أسلفنا ذكره‪،‬‬
‫ل ويس من رتوز‪ ،‬جونث ان غول دنبورغ‪ ،‬ليون ارد نيتنه اوس‪ ،‬س تيفن أورغ ل‪ ،‬م ايكلز‪ ،‬ك اثرين غ االغ‪،‬‬
‫ريتشارد هيلغرسن‪...‬وغريهم ممن اهتموا <<بالتكون التاريخي للذات‪ ،‬وبالدور التصارعي لألدب‬
‫في عص ر النهض ة ‪....‬وكي ف أن النص وص األدبي ة تق ع وس ط ممارس ات الخط اب ومؤسس ات‬
‫الفترة الزمنية المعنية‪ ،‬حيث يتعاملون مع األدب ال بكونه انعكاسا للواقع االجتماعي أو نتاجا له‪،‬‬
‫بل بوصفه ممارسة من ممارسات عدة تكون متنازعة متعارضة أحيانا>>‪ 2.‬يبدو َّ‬
‫أن اهتمامات‬
‫النق اد الت ارخييني مل تقتص ر فق ط على النص األديب وعلى احليثي ات ال يت حترك ه؛ س واء ك انت حيثي ات‬
‫ثقافي ة أو اجتماعي ة أو إيديولوجي ة هلا عالق ة وثيق ة بالعص ر ال ذي أنتج في ه‪ ،‬ب ل مثة اهتمام ات أخ رى‬
‫جتلت يف <<التعب يرات الثقافي ة مث ل‪ :‬اتهام ات العراف ة‪ ،‬والي دويات الطبي ة‪،‬‬
‫والمالبس ‪.....‬واهتم وا بفحص العالق ة بين الكتاب ة والمجتم ع وه و م ا نعت ه ريتش ارد ويلس ون‬
‫‪ Richard Wilson‬ب"نصنصة التاريخ" كما اختص هؤالء بدراسة أدب عصر النهضة وأدب‬
‫العص رين الفيكت وري واإلليزابي ثي ورك زوا أيض ا على دراس ة ال دراما الشكس بيرية>>‪ 3.‬وف ق‬
‫معطيات ومرتكزات التارخيانية اجلديدة‪ ،‬ومن بني تلك املعطيات "القراءة الفاحصة" وهي قراءة يقع‬
‫على عاتقها التعامل مع النصوص على أهّن ا أيقونة ثقافية حتمل داخلها أنساق ثقافية مبطنة ومتخفية‬
‫ومهمة الناقد التارخياين هنا هي البحث عن تلك املضمرات وإعادة قراءهتا وتفحصها‪.‬‬

‫‪-1‬معن الط ائي‪ :‬ت أريخ التارخياني ة اجلدي دة واش كالية العالق ة م ع اليس ار اجلدي د‪ ،‬ص حيفة املثق ف‪ ،‬الع دد ‪1248‬‬
‫( ‪)www.Almothaqaf.com‬‬ ‫‪06/12/2009‬‬
‫‪-2‬جوناثان كالر‪ :‬النظرية األدبية‪ ،‬ترمجة‪ :‬رشاد عبد القادر‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪،2004‬‬
‫ص ‪.155-154‬‬
‫‪-3‬يوسف عليمات‪ :‬مجاليات التحليل الثقايف "الشعر اجلاهلي منوذجا"‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫دار فارس للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص‪.29‬‬

‫‪9‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫لقد أشار ستيفن غرينبالت يف سياق حديثه عن شعرية الثقافة إىل َّ‬
‫أن مصطلح التارخيانية اجلديدة‬
‫أمساه يف بدايته سنة ‪ 1980‬ب"الشعرية الثقافية" ل<<يعدل عنه سنة ‪ 1982‬ويسمي منهجه ب‬
‫ثم ما لبث أن عاد إلى المصطلح األول سنة ‪ 1.>>1988‬ولعل الدافع‬
‫"التاريخانية الجديدة" ّ‬
‫َّ‬
‫<<أن مصطلح التاريخانية الجديدة لم يكن‬ ‫الذي جعله يعدل عن التسمية األوىل مثَّ يعود إليها هو‬
‫صياغة واعية مقصودة لوصف منهج محدد في دراسة تاريخ األدب‪ ،‬وإنّما اقتبسه من مقالة له‬
‫وردت كمقدمة لمجموعة دراسات أدبية حول عصر النهضة وجمعها وحررها في كتاب وسمه‬
‫ب"عصر النهضة وتشكيل الذات"‪ .‬ويوضح أن استخدام هذا المصطلح جاء بصورة عفوية ومن‬
‫غير سابق دراسة وتخطيط‪ ،‬وأنه قد فوجئ بأن هذا المصطلح شاع وانتشر‪ ،‬وبات متداوال في‬
‫الدراسات األدبية ونظرية األدب>>‪ 2.‬وعلى أساس هذه الصياغة غري املقصودة واليت سرعان ما‬
‫انتش ر اس تعماهلا‪ ،‬كان لزاما عليه أن يرسم حدودا هلذا املص طلح ويوضح طبيعته إن كان توجه ا أو‬
‫نظري ة ويزي ل عن ه اللبس والغم وض ال ذي أح اط ب ه‪ ،‬يق ول يف ه ذا الس ياق واص فا‬
‫مص طلحه<<وكجزء من ه ذه الظ اهرة الغريبة‪ ،‬طلب م ني ق ول شيء على س بيل التنظ ير ح ول‬
‫العمل الذي أقوم به‪ .‬لذلك سأحاول إن لم أكن سأحدد التاريخانية الجديدة فعلى األقل سأعينها‬
‫كممارس ة‪-‬ممارس ة ع وض عقي دة‪ ،‬م ا دامت بق در م ا يمكن ني أن أق ول (ويتعين علي أن أك ون‬
‫الوحي د لمعرف ة ذل ك)إنه ا ليس ت عقي دة بالك ل>>‪ 3.‬يلخص ه ذا املقط ع وجه ة نظ ر س تيفن‬
‫غ رينبالت وحييلن ا إىل أنّ ه يعتربه ا ممارس ة رافض ا يف اآلن نفس ه فك رة أن تك ون عقي دة‪ ،‬معلن ا وبك ل‬
‫ص راحة أهَّن ا<<ليس ت مب دأ أو عقي دة‪ ،‬وإنم ا هي منهج في الق راءة والتأوي ل>> ف إن ك انت‬
‫التارخيانية اجلديدة ممارسة؛ فما طبيعة هذه املمارسة؟ أو ما مفهومها؟ وما هو جمال ممارستها؟‬

‫حاول ستيفن غرينبالت إجياد مفهوم للتارخيانية اجلديدة –أو الشعرية الثقافية‪-‬يتماهى مع املعىن‬
‫الكلي هلا‪ ،‬فيعرفها <<بكونها دراسة االنتاج الجمعي للممارسات الثقافية‪ ،‬وبحث العالقات بين‬
‫تلك الممارسات الثقافية‪....‬وكيف جرت صياغة المعتقدات والتجارب الجمعية‪ ،‬ثم نقلها من‬

‫‪-1‬غرينبالت‪ ،‬منرتوز‪ ،‬غالغر‪ ،‬لينرتيشيا‪ ،‬تايسن‪ :‬التارخيانية اجلديدة واألدب‪ ،‬ترمجة‪ :‬حلسن أمحامة‪ ،‬املركز الثقايف‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪ ،2018 ،1‬ص‪.5‬‬
‫‪-2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.05‬‬
‫‪-3‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.18‬‬

‫‪10‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫وسيط إلى آخر مركز في شكل جمالي يمكن التعامل معه‪ ،‬ومن ثمة تقديمها لالستهالك‪ ،‬وكي ف‬
‫خططت الح دود بين الممارس ات الثقافي ة ال تي تع د أش كاال فني ة بين األش كال األخ رى ذات‬
‫الصلة>>‪ 1.‬تعىن التارخيانية اجلديدة إذن بدراسة جل املمارسات الثقافية يف صيغها املختلفة كما‬
‫تس عى للبحث يف عالق ة تل ك املمارس ات ب اجملتمع وإبداعات ه األدبي ة وغ ري األدبي ة‪ ،‬كم ا ي رى –‬
‫غرينبالت‪َّ -‬‬
‫أن<< هذا المنهج يسعى باالتكاء على القراءة الفاحصة إلى استعادة القيم الثقافية‬
‫التي امتصها النص األدبي‪ ،‬ألن ذلك النص‪ ،‬على عكس النصوص األخرى‪ ،‬قادر على أن يتضمن‬
‫بداخل ه الس ياق ال ذي أنتج من داخل ه>>‪َّ 2.‬‬
‫إن تش كيل قاع دة معرفي ة ممنهج ة تق وم على الق راءة‬
‫الفاحصة اليت تتيح إمكانية قراءة النصوص األدبية واستنباط أبرز املقوالت الثقافية املتخفية داخلها هي‬
‫ق راءة ق ادرة على <<دراس ة ال دالالت الثقافي ة والسياس ية واالجتماعي ة المرتبط ة بإنت اج العم ل‬
‫األدبي وانتشاره واستهالكه من قبل الجماهير‪ ،‬وإعادة إنتاجه وتوزيعه من قبل الثقافات المتلقية‬
‫ل ذلك العم ل فغ رينبالت ومون ترو لم يتع امال م ع نص وص شكس بير على أنه ا نت اج عبقري ة أدبي ة‬
‫تتجسد فيها تجليات ذات طبيعة جمالية وفلسفية متعالية على التاريخ والثقافة‪ ،‬كما فعل نقاد‬
‫شكسبير التقليديون‪ ،‬بل كأيقونة ثقافية جرى تصنيعها وإعادة توزيعها‪...‬فقد نزعت التاريخانية‬
‫الجدي دة هال ة القدس ية عن األعم ال األدبي ة ووض عتها موض ع المس اواة م ع النص وص القانوني ة‬
‫والص حف>>‪ 3.‬متت إذن اإلطاح ة بقاع دة الالت داخل على ح د تعب ري عب د اهلل الغ ذامي ذل ك ألهَّن ا‬
‫كممارسة ثقافية تؤمن بضرورة جتاوز وإلغاء هذه القاعدة؛ لنتأكد حسب النقاد التارخيني أهّت ا ختطت‬
‫تلك املعايري ومجعت بينها وبني خمتلف التخصصات كالفن والتاريخ والسياسة واالقتصاد‪.‬‬

‫أقصت التارخيانية اجلديدة مفاهيم ومصطلحات كانت من قبل أكثر شيوعا واستعماال‪ :‬كمفهوم‬
‫احملاك اة‪ ،‬وال وهم والتخيي ل والرم ز وج اءت مبجموع ة من األدوات اإلجرائي ة ال يت أع ادت من خالهلا‬
‫تقييم الصلة بني النصوص األدبية وغري األدبية نذكر منها مصطلح‪:‬‬

‫‪- 1‬يوسف عليمات‪ :‬مجاليات التحليل الثقايف "اعتذاريات النابغة الذبياين منوذجا" جملة عامل الفكر‪ ،‬العدد‪ ،1‬جملد‪35‬‬
‫يوليو‪-‬سبتمرب‪ ،2006‬ص‪.66‬‬
‫‪- 2‬غرينبالت‪ ،‬منرتوز‪ ،‬غالغر‪ ،‬لينرتيشيا‪ ،‬تايسن‪ :‬التارخيانية اجلديدة واألدب‪ ،‬ص‪.11-10‬‬
‫‪-3‬معن الطائي‪ :‬تأريخ التارخيانية اجلديدة واشكالية العالقة مع اليسار اجلديد ‪www.Almothaqaf.com‬‬

‫‪11‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫التفاوض‪ :‬ويكون <<بين النصوص األدبية وغير األدبية التي يتم إنتاجها داخل حقبة تاريخية‬ ‫‪‬‬
‫معينة‪ ،‬فال أفضلية لنص أدبي ما بمقوماته الفنية والجمالية على غيره من النصوص المدونة‬
‫األخرى‪ ،‬أي ألن هناك دائما حوار تفاعلي تفاوضي بين جميع النصوص التي تنتجها ثقافة ما‬
‫ض من لحظ ة تاريخي ة معين ة>>‪ 1.‬ي تيح إذن مص طلح "التف اوض" إمكاني ة إزاح ة احلواجز ال يت‬
‫أقامتها التوجهات احلداثية السابقة بني النصوص االرمسية املعتمدة وغري املعتمدة‪ ،‬حىت أنَّه يفسح‬
‫اجملال إلمكانية التواصل والتفاعل بينهم‪ ،‬كما يأخذ بعني االعتبار السياقات اليت أسهمت يف إنتاج‬
‫تلك النصوص‪ ،‬والسيما السياقات الثقافية واحلقب التارخيية اليت ظهرت فيها تلك السياقات‪.‬‬
‫ش عرية الحي اة اليومي ة‪ :‬وتعين<< َّ‬
‫أن النص أو الخط اب –يلتق ط ض من مقاربت ه الس ياقية‪-‬‬ ‫‪‬‬
‫دراسة األنماط والتشكالت الثقافية ضمن حقبة معينة؛ حيث يلتقط النص ما هو مهمش‪ ،‬وما‬
‫هو واقعي يومي‪ ،‬بعيدا عن كل رؤية نخبوية مهيمنة ومتفوقة>>‪ 2.‬خلقت التارخيانية اجلديدة‬
‫وعي ا ثقافي ا بالس لوك الي ومي املم ارس واملع اش‪ ،‬حيث اس رتعت النص وص غ ري املؤسس اتية وغ ري‬
‫اجلمالية اهتمام الناقد التارخياين الذي أعاد االعتبار هلا وللمهمش واملقصى والشعيب واحملتقر‪.‬‬
‫الوص ف الس ميك‪ :‬مبعىن<<أن للنص عالق ة وثيق ة بالخلفي ات الس ياقية وليس مج رد بني ة‬ ‫‪‬‬
‫ثقافي ة أو رمزي ة معزول ة‪ ،‬ومن ثم فالب د من تش غيل الوص ف الس ميك‪ ،‬لتأوي ل النص أو‬
‫الخط اب ت أويال علمي ا حقيقي ا>>‪ 3.‬الب د إذن من مقارب ة النص األديب انطالق ا من الس ياقات‬
‫الثقافي ة واالجتماعي ة والسياس ية والديني ة احمليط ة ب ه‪ ،‬وال يت ك انت من قب ل خ ارج دائ رة الق راءة‬
‫النقدية‪.‬‬

‫ج اءت ه ذه املص طلحات واألدوات االجرائي ة املس تعارة من ي وري لومتان وغ ريتز ‪-‬وال يت متَّ على‬
‫أساس ها تق ويض املص طلحات النقدي ة ال يت ك انت س ائدة من قب ل‪ -‬انطالق ا من مق درهتا على كس ر‬
‫الرتابة اليت كان عليها النقد واالنفتاح على مرتكزات نقدية جديدة تقرأ النصوص واخلطابات قراءة‬
‫ثقافية متثلت تلك املرتكزات على وجه اخلصوص يف مفهومي اخلطاب والسلطة عند ميشيل فوكو؛‬
‫وهي من بني املص طلحات ال يت ك ان هلا ت أثري كب ري يف ظه ور التارخياني ة اجلدي دة‪ .‬ومن املرتك زات‬
‫‪www.Almothaqaf.com‬‬ ‫‪-1‬معن الطائي‪ :‬تأريخ التارخيانية اجلديدة واشكالية العالقة مع اليسار اجلديد‬
‫‪-2‬إميان برقالح‪ :‬النقد الثقايف والتارخيانية اجلديدة‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫‪-3‬املرجع نفسه‪ : ‬ص‪.85‬‬

‫‪12‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫األخرى اليت قامت على أساسها جند مصطلح التاريخ فهو<<بالنسبة للتاريخيين الجدد ليس معرفة‬
‫موضوعية باإلمكان توظيفها بما يخدم تفسير النص األدبي‪ ،‬مثلما أن األدب ليس مجرد وسيط‬
‫للتعبير عن المعرفة التاريخية‪ .‬التاريخ شأنه شأن النص األدبي متحرك وقابل ألكثر من تفسير‪،‬‬
‫من هنا لزم إعطاء أهمية بالغة لدور السياق التاريخي في دراسة النصوص األدبية ولدور اإلبداع‬
‫في تفسير التاريخ>>‪ 1.‬ارتكزت إذن التارخيانية اجلديدة على السياقات التارخيية اليت ال ميكن للناقد‬
‫التارخياين أن يتجاهله ا أو يتجاوزه ا؛ ذل ك َّ‬
‫ألن النص وص األدبي ة هي نت اج تل ك الس ياقات حتي ط هبا‬
‫وتتعني من خالهلا ولعل ما يثمن ما جاء يف املقطع السابق مقولة ريتشارد ويلسون "نصنصة التاريخ"‬
‫أو ما حدده لويس مونرتوز ب"تاريخية النصوص ونصية التاريخ" ف<<تاريخية النصوص تعني‬
‫عنده الخصوصية الثقافية والقاعدة االجتماعية لكل أنواع الكتابة‪ ،‬فيما يتعلق بنصية التاريخ تعني‬
‫أننا ال نستطيع التوصل إلى ماض كامل وصحيح‪ ،‬وإلى وجود مادي معيش دون وساطة اآلثار‬
‫النص ية المتبقي ة للمجتم ع موض وع الدراس ة‪ .‬إن النص إذن مفت اح ال دخول إلى الت اريخ الثق افي‬
‫واالجتم اعي للعص ر في غيب ة الش واهد المادي ة غ ير النص ية على العص ر‪ ،‬وه ذا م ا يقص ده أتب اع‬
‫التاريخانية الجديدة بنصية التاريخ>>‪ 2.‬ترتكز إذن التارخيانية اجلديدة على ثنائية األدب والتاريخ‬
‫وتنظ ر إليهم ا نظ رة معمق ة؛ فتق رأ النص وص األدبي ة على أهَّن ا ظ اهرة من ظ واهر الت اريخ يف ش كلها‬
‫ومجاليتها وحىت يف ممارساهتا الثقافية‪ ،‬وتقرأ التاريخ على أنَّه نص من النصوص السردية فتنزع عنه تلك‬
‫اهلال ة القدس ية خصوص ا م ا تعل ق حبركيته وتغ ريه وتط وره‪ ،‬وهتتم بنس بية م ا يص ل من حق ائق تارخيي ة‬
‫خاصة باملاضي البعيد والقريب‪ ،‬فكالمها‪-‬األدب والتاريخ‪-‬يشكالن عالقة تأثر وتأثري؛ فال النصوص‬
‫األدبية مبقدورها جتاهل السياقات التارخيية‪ ،‬وال التاريخ بإمكانه جتاوز سردية النصوص‪.‬‬

‫مثة إذن‪ ،‬مجلة من املقومات األساسية ارتكزت عليها التارخيانية اجلديدة جعلت منها ممارسة نقدية‬
‫هتدف إىل جتاوز املعايري احلداثية السابقة‪ ،‬وتستكشف إمكانية أو مدى تفاعل النصوص واخلطابات –‬
‫األدبي ة وغ ري األدبي ة‪-‬م ع الثقاف ة وممارس اهتا املختلف ة التارخيي ة واالجتماعي ة والسياس ية؛ فهي إن ص ح‬

‫‪ - 1‬غرينبالت‪ ،‬منرتوز‪ ،‬غالغر‪ ،‬لينرتيشيا‪ ،‬تايسن‪ :‬التارخيانية اجلديدة واألدب‪ ،‬ص‪.09-08‬‬


‫‪-2‬حفن اوي بعلي‪ :‬م دخل يف نظري ة النق د الثق ايف املق ارن "املنطلق ات‪ ،‬املرجعي ات‪ ،‬املنهجي ات"‪ ،‬دار العربي ة للعل وم‪،‬‬
‫لبنان منشورات االختالف‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪ ،2007 ،1‬ص‪.63‬‬

‫‪13‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫القول وجه آخر من أوجه النقد الثقايف؛ تقرأ وتتفحص وتقوض وتنقد املقوالت املركزية واملؤسسات‬
‫الثقافية املهيمنة‪.‬‬

‫ج‪ .‬الماديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة الثقافيـ ـ ـ ـ ـ ــة‪:‬‬

‫ش كلت املادي ة الثقافي ة هي األخ رى وعي ا نق ديا مغ ايرا جتلى بوض وح يف كوهنا عملي ة إجرائي ة‬
‫حتليلي ة اختلفت عن غريه ا من التوجه ات النقدي ة ال يت ظه رت يف الس بعينيات من الق رن العش رين‬
‫فهي<<مظهر من مظاهر الدراسات الثقافية واتجاها نقديا آخر كسر حدود الدراسات النقدية‬
‫التقليدي ة إذ وج د في ه الكث ير من الدارس ين نس خة بريطاني ة لنظيرته ا األمريكي ة التاريخاني ة‬
‫الجديدة‪َّ 1.>>-‬‬
‫إن هذا التواشج احلاصل بينها وبني نظريهتا األمريكية جعلنا نتساءل عن طبيعة هذا‬
‫التوجه؟ وصلته بالتارخيانية اجلديدة؟‪.‬‬

‫ت ربز أمهي ة املادي ة الثقافي ة يف كوهنا<<منهج للتعام ل م ع األدب‪ ،‬ب دأ في بريطاني ا في أواخ ر‬
‫الس بعينيات وارتبطت به أس ماء مفك رين ونق اد من المحس وبين على اليس ار األم ريكي األوروبي‬
‫في مقدمتهم "رايموند وليامز" >>‪ 2.‬متكن هذا األخري من وضع أسس ملسعاه الفكري حىت أنَّه قام‬
‫بتحديد معامله‪ ،‬بعد أن استغرق منه هذا األمر قرابة ثالثني عاما لالنتقال من <<النظرية الماركسية‬
‫المعتم دة [إنجل ز بليخ انوف‪ ،‬ف وكس‪ ،‬كودي ل‪ ،‬ويس ت‪ ،‬زادان وف] (وال تي ب دأت في قبوله ا‬
‫بشكل عام) وعبر أشكال متعددة من النظرية والبحث‪ ،‬إلى أن وصلت إلى الموقف الذي أتبناه‬
‫اآلن وال ذي أعرف ه بالمادي ة الثقافي ة>>‪ 3.‬ولع َّل اإلحاط ة جبوانب ه ذا الط رح اجلدي د‪-‬املادي ة‬
‫الثقافي ة‪-‬ال ذي أتى ب ه رميون د ولي امز يس مح لن ا باس تنباط ال دوافع ال يت دعت إىل نش أته‪ ،‬فق د ظه ر‬
‫نتيجة<<تصدع اإلجماع الذي ساد الحياة السياسية البريطانية خالل السبعينيات‪ ،‬وما صاحبه‬
‫من انهيار الفرضيات التقليدية عن قيم النقد األدبي وأهدافه‪ ،‬وما فعلته الضغوط القوية المتعددة‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬ص‪.42‬‬
‫‪-2‬حفناوي رشيد بعلي‪ :‬مسارات النقد ومدارات ما بعد احلداثة يف ترويض اخلطاب‪ ،‬دروب للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪1‬‬
‫‪ ،2011‬ص‪.14‬‬
‫‪-3‬ك‪ .‬نلوولف‪ ،‬ك‪ .‬نوريس‪ ،‬ج‪ ،‬أوزيورن‪ :‬موسوعة كمربيدج يف النقد األديب‪-‬القرن العشرون‪ ،‬املداخل التارخيية‬
‫والفلسفية والنفسية‪ ،-‬مراجعة وإشراف‪ ،‬رضوى عاشور‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.74 ،‬‬

‫‪14‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫داخ ل الماركس ية والبنيوي ة والنس وية والتحلي ل النفس ي وم ا بع د البنيوي ة وم ا نجم عن ه ذه‬
‫الضغوط من تساؤالت عملية دارت حول مكانة النصوص األدبية بوصفها موجدات لغوية وقوى‬
‫إيديولوجية في مجتمعنا>>‪ 1.‬على َّ‬
‫أن صلتها بالتارخيانية اجلديدة كما يرى ثلة من الباحثني تتحدد‬
‫انطالقا من مواطن يتماثالن فيها ومواطن أخرى يتعارضان فيها ذكرهتا الناقدة سحر كاظم محزة يف‬
‫مؤلفه ا "جدلي ة األنس اق المض مرة في النق د الثق افي" ميكن اإلش ارة إليه ا بإجياز من خالل اجلدول‬
‫اآليت‪:‬‬

‫مواطن التعارض‬ ‫مواطن التماثل‬

‫توس م التارخياني ة بالوص فية‪ ،‬يف حني توس م‬ ‫‪‬‬ ‫جمال الدراسة هو أدب عصر النهضة‬ ‫‪‬‬
‫املادية الثقافية بالنقدية‪.‬‬ ‫وباألخص المسرحيات الشكسبريية‪.‬‬
‫تكشف التارخيانية أوجه اخللل وسوء الفهم‬ ‫جتاوز منط ق أحادي ة الثقاف ة‪ ،‬وتك ريس ‪‬‬ ‫‪‬‬
‫يف حني تتج اوز املادي ة الثقافي ة ذل ك إىل‬ ‫االهتمام باملهمش والشعيب واملغيب‪.‬‬
‫تصحيح ما تنتقده باملمارسة العملية‪.‬‬ ‫املاركسية باعتبارها الطابع الغالب‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫‪2‬‬
‫تس عى املادي ة إىل رفض ك ل أش كال اهليمن ة‬ ‫‪‬‬ ‫ميثالن حقال من حقول النقد التارخيي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫التقليدي ة الس ائدة يف التش كيل الثق ايف األديب‬
‫والنق دي‪ ،‬يف حني تس عى التارخياني ة إىل‬
‫الكش ف عن تل ك األش كال واالكتف اء‬
‫بوصفها حماولة تفسريها‪.‬‬
‫املادي ة أك ثر ميال إىل الث ورة والتغي ري‬ ‫‪‬‬
‫‪3‬‬
‫والتارخيانية أكثر ميال للتوافق‪.‬‬

‫يت بني لن ا من خالل اجلدول الس ابق َّ‬


‫أن املادي ة الثقافي ة ختتل ف اختالف ا بين ا م ع نظريهتا األمريكي ة‬
‫وباألخص طبيعة القراءة اليت ترتكز عليها كل ممارسة من املمارسات املذكورة أعاله‪ ،‬فاملادية الثقافية‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪- 2‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬ص‪.45-44‬‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪-47-46-45‬‬

‫‪15‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫تعتمد على مفهوم "القراءة المقاومة" وعلى مفاهيم اجرائية أخرى كمفهوم "االنشقاق" وهو أداة‬
‫اجرائية تستعني به <<في معالجة النصوص الثقافية بوصفه مقابال ومباينا لمفهوم "االحتواء" الذي‬
‫تطرحه التاريخانية الجديدة‪ .‬و"االنشقاق" و"االحتواء" كالهما مفهومان سياسيان‪ ،‬يعني األول‬
‫الخروج من أبنية السلطة والتصدي لمزاعم "السلطة المهيمنة" ومحاربة تلك المزاعم‪ ،‬في حين‬
‫يعني اآلخر أي "االحتواء" احتواء السلطة لبعض أنماط المعارضة بدمجها في أبنيتها>>‪َّ 1.‬‬
‫إن‬
‫هذا االختالف امللحوظ يف األدوات اإلجرائية ويف املفاهيم وطبيعة املمارسة جعل من املادية الثقافية‬
‫نظرية تقوم على كل ما هو مرتبط بعمليات اإلنتاج ووسائله وأولويتها يف ذلك مراعاة احمليط املادي‬
‫لظواهر الثقافية‪.‬‬

‫يف ظل هذه املرجعيات املعرفية اليت كنَّا قد أشرنا إليها آنفا؛ تشكل النقد الثقايف واستمد أسسه‬
‫ومنطلقاته منها‪ ،‬فكانت –هذه املرجعيات‪-‬مبثابة الرتسانة اليت استعان هبا أثناء مراحل تطوره‪ ،‬فكيف‬
‫وأين نشأ وتطور هذا النقد؟‪.‬‬

‫نش ـ ـ ـ ـ ــأة النق ـ ــد الثقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــافي‪:‬‬ ‫ت‪.‬‬


‫عن ـ ــد الغ ـ ـ ــرب‪:‬‬ ‫ا‪.‬‬

‫الشك َّ‬
‫أن مشروع النقد الثقايف قد فتح األبواب على ممارسات ثقافية جديدة تتموضع داخل إطار‬ ‫َّ‬
‫ثقافة التعدد والتداخل الثقايف الذي ارتكزت عليه مقوالت ما بعد احلداثة وجعلت منه ذريعة إلسقاط‬
‫املركزيات املهيمنة على الثقافة الغربية آنذاك؛ حىت أنَّه تقاطع يف مواضع كثرية ‪-‬إن مل نقل أنَّه كان‬
‫جزءا منها‪ -‬مع العديد من املفاهيم والقضايا املا بعد حداثية كأسئلة ما بعد الكولونيالية‪ ،‬ودراسات‬
‫الزنوجة واجلنوسة‪ ،‬وغريها مما تعلق باملهمش والشعيب وغري الرمسي‪.‬‬

‫كما أنَّه انتهج لنفسه طريقة يف قراءة النصوص واخلطابات؛ جعلت منه مشروعا ثقايف يهدف إىل‬
‫إماطة اللثام عن عيوب النقد األديب وجتاوزاته النقدية‪ ،‬ليحل حمله منط ما بعد حداثي للقراءة النقدية‬
‫تعتمد على آليات وإجراءات ومفاهيم ثقافية‪ ،‬تبحث يف خبايا النصوص واخلطابات وتكشف عن ما‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬ص‪.46‬‬

‫‪16‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫هو مستبطن ومتخفي داخلها‪ ،‬فكيف نشأ هذا النقد الذي قلب موازين الذائقة الغربية والعربية على‬
‫السواء؟ ومن مؤسسه؟‪.‬‬

‫َّ‬
‫إن هذا النقد مبفهومه وآلياته وممارساته املعرفية والثقافية كانت له إرهاصات خاصة به احتضنت‬
‫ظهوره األول <<ومما يالحظ في نشأة النقد الثقافي أن للمصطلح ظهورا أسبق بكثير من ظهور‬
‫المفه وم وتجلي ه في الس احة النقدي ة والفكري ة‪ ،‬ففي حين تؤك د المؤلف ات الغربي ة والمؤلف ات‬
‫العربي ة نش وء النق د الثق افي مفهوم ا وتنظ يرا>>‪ 1.‬ظه ر ه ذا األخ ري بش كل فعلي م ع بداي ة‬
‫التسعينيات على يد الناقد (فينست ليتش‪ )V. Leitch‬الذي انطلق يف كتابه "النقد الثقافي‪ :‬نظرية‬
‫األدب لما بعد الحداثة" الصادر سنة ‪1992‬؛ من تصور جعله يتعامل مع النصوص على أهَّن ا أيقونة‬
‫ثقافي ة ف<<دع ا إلى نق د ثق افي م ا بع د ب نيوي تك ون مهمت ه األساس ية تمكين النق د المعاص ر‬
‫للخروج من نفق الشكالنية والنقد السطحي الذي حصر الممارسات النقدية داخل إطار األدب‬
‫فحس ب>>‪ 2.‬لق د ح اول فينس ت ليتش من خالل دعوت ه تل ك ختليص النص األديب من مث الب‬
‫الش كالنية وس لطة البنيوي ة ال يت حص رت العم ل األديب داخ ل إط اره الش كلي واللُّغ وي‪ ،‬وأبعدت ه عن‬
‫سياقاته اخلارجية احمليطة به‪.‬‬

‫كم ا َّ‬
‫أن وعي فينس ت ليتش خبصوص يات مش روعه النق دي جعل ه يطل ق عليه<<مص طلح النق د‬
‫الثقافي مسميا مشروعه النقدي بهذا االسم تحديدا وجعله رديفا لمصطلحي ما بعد الحداثة وما‬
‫بعد البنيوية >>‪ 3.‬فإىل جانب بلورته هلذا املصطلح‪ ،‬حدد له ثالث ركائز أساسية متثلت يف‪:‬‬

‫ال ميكن قراءة النقد الثقايف داخل املنظومة املؤسساتية اليت تقدس كل ما هو مجايل فحيثما توجد‬ ‫‪‬‬
‫"القبحييات" أو كل ما هو غري مجايل يدخل ضمن تطلعات النقد الثقايف‪ ،‬أي ينفتح على مجال‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬ص‪.50‬‬
‫‪- 2‬فارس توفيق البيل‪ :‬الرواية اخلليجية‪ ،‬قراءة يف األنساق الثقافية‪ ،‬شركة دار األكادمييون للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ 2016‬ص‪.18-17 ،‬‬
‫‪- 3‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص‪.31 ،‬‬

‫‪17‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫ع ريض من االهتمام ات إلى م ا ه و غ ير محس وب في حس اب المؤسس ة وإلى م ا ه و غ ير‬


‫‪1‬‬
‫جمالي في عرف المؤسسة سواء كان خطابا أو ظاهرة‪.‬‬
‫يدين النقد الثقايف للنظريات املعرفية اليت تقوم على أساس نقد الثقافة املركزية وتأويل النصوص‬ ‫‪‬‬
‫‪4‬‬
‫وإعادة قراءهتا‪ ،‬ودراسة المرجعية التاريخية وغيرها‪.‬‬
‫لق د اس تفاد النق د الثق ايف من اجتاه ات م ا بع د البنيوي ة واس تقى مادت ه من<<أنظم ة الخط اب‬ ‫‪‬‬
‫وأنظمة اإلفصاح النصوصي كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو‪ ،‬خاصة في مقولة دريدا أن‬
‫ال شيء خارج النص وهي مقولة يصفها ليتش بأنها بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي الما بعد‬
‫‪2‬‬
‫البنيوي‪ ،‬ومعها مفاتيح التشريح النصوصي عند بارت وحفريات فوكو>>‪.‬‬

‫اتس ع مش روع النق د الثق ايف املا بع د ب نيوي ل دى ليتش ح ىت أص بحت ل ه مس ارات وأدوات وك ذا‬
‫مصطلحات ومفاهيم قام بتطوريها واستبداهلا مبصطلحات أخرى أكثر دقة ومتاشيا مع هذا النقد نذكر‬
‫من بينه ا مفه وم األنظم ة العقلي ة والالعقلي ة ال ذي وض عه<<هادف ا من وراء ذل ك فتح إمكاني ات‬
‫أوسع للنقد الثقافي الما بعد بنيوي في تناوله الكلي أو التفتيتي للنص أو الظاهرة وفي تشريحه‬
‫لهما على أن يتم النظر للظاهرة أي ظاهرة بوصفها نصا>>‪ 3.‬ومن املثري لالهتمام َّ‬
‫أن هذا املفهوم‬
‫جاء كبديل ملصطلح اإليديولوجيا بعد أن قام ليتش بتطوير ما جاء به ميشال فوكو يف كتابه "احلقيقة‬
‫والسلطة" ؛ ففي نظر الغذامي مل يويل فوكو اهتماما كبريا هبذا املصطلح‪ ،‬أما ليتش فاأليديولوجيا يف‬
‫‪4‬‬
‫نظ ره <<مص طلح ج رى تحميل ه بحم والت سياس ية وص ار يش ير إلى دالالت متعارض ة>>‪.‬‬
‫حييلنا هذا بتأكيد إىل املفاهيم األخرى اليت طورها ليتش؛ كمصطلح "النقد المؤسساتي" وهو عبارة‬
‫اس رتاتيجية تقيي ه إىل ح ّد م ا من املؤسس ات الرمسية‪ ،‬ل ذلك ع اد إىل أعم ال ك ل من إدوارد س عيد‬
‫وميشال فوكو باعتبارها من أبرز الدراسات اليت قامت بنقد املؤسسة‪ ،‬فالغاية اليت سعى إليها ليتش‬
‫تكمن يف<<تجنب النق د الثق افي الم ا بع د ب نيوي من الوق وع في حبائ ل المؤسس ة وأفض ل‬

‫‪1‬‬
‫‪.‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص‪ :‬ص‪-32‬‬
‫‪-44‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.32 ،‬‬
‫‪-2‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.32 ،‬‬
‫‪-3‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.32 ،‬‬
‫‪-4‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.32،‬‬

‫‪18‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫ح االت التحص ين هي ممارس ة نق د المؤسس ة‪ ،‬وه ذا درس في أخالقي ات العم ل‪ ،‬إنن ا نع ود إلى‬
‫األعمال العظيمة ولكن مع رغبة في قراءتها بتواضع شديد ‪-‬حسب تعبير ليتش‪-‬من أجل وضع‬
‫أسئلة عنها ومن حولها عن المؤسساتية والطبقية>>‪ 1.‬ولئن حاولنا تتبع مراحل تطور النقد الثقايف‬
‫مر مبرحلتني‪:‬‬
‫بشكل فعلي سنجده قد َّ‬

‫المرحلة األولى‪ :‬متيزت هذه املرحلة بأهَّن ا كانت سابقة لظهوره بشكل فعلي كمفهوم وممارسة‬ ‫‪‬‬
‫متكاملة‪ ،‬وقد مشلت حماوالت وكتابات مبكرة أبرزها <<اإلشارة الشهيرة للمفكر األلماني‬
‫تيودور أدورنو في مقالته التي عنونها (النقد الثقافي والمجتمع) التي تعود إلى عام ‪1949‬م‬
‫المقالة التي تضمنت هجوما على نوع من النقد البرجوازي الذي ساد في نهاية القرن التاسع‬
‫عش ر ال ذي يمث ل الثقاف ة الس ائدة عن د األكثري ة وبع دها عن الحقيق ة ونزوعه ا‬
‫السلطوي(‪)...‬والمفهوم الذي تقدمه مقالة أدورنو على ما يبدو هو مفهوم عام يتوجه إلى‬
‫نق د الممارس ات السياس ية الخاطئ ة داخ ل ثقاف ة معين ة>>‪ 2.‬ظ ف إىل ذل ك أهّن ا –املقال ة‪-‬‬
‫تطرقت رغم ظهورها املبكر إىل جمال مهم وبارز اسرتع اهتمام النقاد الثقافيون الحقا وهو جمال‬
‫علم السياسة‪ ،‬مبصطلحاته ومفاهيمه‪.‬‬
‫مل تكن حماولة أدورنو هي الوحيدة آنذاك فقد<<ظهرت تسمية النقد الثقافي بالداللة ذاتها‬
‫في كتابات "يورغن هابرماس" الفيلسوف األلماني وزميل ادورنو في مدرسة فرانكفورت‬
‫في النص ف األول من الق رن العش رين في كت اب ل ه بعن وان (المح افظون الج دد‪ :‬النق د‬
‫الثق افي والح وار الت اريخي) وهابرم اس لم يعن في كتاب ه بتحدي د المفه وم‪ ،‬وإنم ا اكتفى‬
‫بالداللة العامة الشائعة التي تضمنتها مقالة ادورنو من قبل>>‪ 3.‬ومن أجل اإلحاطة جبوانب‬
‫هذه املرحلة نستكمل ذكر حماولة أخرى مبكرة للمؤرخ األمريكي هايدن وايت الذي أشار يف‬
‫دراسته املعنونة ب"بالغيات الخطاب‪ :‬مقاالت في النقد الثقافي" الصادر سنة ‪1978‬م إىل‬
‫أنّه ال يوجد <<اختالف بين بالغيات الخطاب الموظفة في العلوم اإلنسانية واألدب وعد‬

‫‪- 1‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص‪.35 ،‬‬
‫‪- 2‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪-3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.51‬‬

‫‪19‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫تحليله لذلك التداخل الخطابي نوعا من النقد الثقافي>>‪َّ 1.‬‬


‫إن الدراسة اليت نشرها هايدن‬
‫وايت تؤكد َّ‬
‫أن النقد الثقايف منذ بدايات ظهوره كمصطلح كان يسعى إلحداث تداخل بني‬
‫العلوم والثقافات األخرى وفك القيود اليت كانت هتتم فقط بكل ما هو خنبوي وترفض كل ما‬
‫له صلة باليومي والشعيب‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬وهي املرحلة اليت تطور فيها مفهوم النقد الثقايف بشكل كلي‪ ،‬ففي منتصف‬ ‫‪‬‬
‫القرن الثامن عشر صدرت جمموعة تتكون من اثين عشر مقالة شارك فيها عدة كتاب بعنوان‬
‫"النق د في الجامع ة" أص درها ك ل من جيرالد ج راف وريجنال د جيب ونز س نة ‪1985‬م‬
‫وقد<<مثلت ه ذه ال دعوات بداي ة لنش وء النق د الثق افي بمفهوم ه الق ائم على التع الق بين‬
‫الثق افي بمكونات ه السياس ية واالجتماعي ة والفلس فية والديني ة‪-‬والنص ي وتوس يع م ديات‬
‫الدراسة النقدية للخروج من أطر األدب إلى الفنون ومعطيات الثقافة برمتها>>‪ 2.‬ومبا َّ‬
‫أن‬
‫النقد الثقايف نشاط فكري غريب انتقل إىل الساحة النقدية العربية من خالل مشروع الغذامي فإن‬
‫األسئلة اليت تقبع يف أذهاننا أو باألحرى السؤال األكثر إحلاحا هو كيف كانت بوادره أو نشأته‬
‫عند العرب؟‪.‬‬

‫ب‪ .‬عن ــد العــرب‪:‬‬

‫من املعل وم َّ‬


‫أن النق د الثق ايف –كممارس ة فكري ة هلا أدواهتا وآلياهتا اإلجرائي ة‪-‬وف د ه و اآلخ ر إىل‬
‫الس احة النقدي ة العربي ة كم ا وف دت بقي ة املن اهج الغربي ة األخ رى‪ ،‬ح ىت َّ‬
‫أن النق اد الع رب أقبل وا علي ه‬
‫وتبن وا أسس ه ومنطلقات ه ومفاهيم ه بالدراس ة والرتمجة‪ ،‬وس ارعوا إيل البحث عن ج ذوره يف الثقاف ة‬
‫العربي ة <<كم ا فع ل دكت ور ناص ر الحجيالن حينم ا وج د "أن النق د الثق افي ب رزت مص طلحاته‬
‫وأدوات ه م ع حس ن ش امي في أطروحت ه لل دكتوراه ع ام ‪ 1967‬عن الس لوك الثق افي وعالقت ه‬
‫ب الالوعي من خالل دراس ة دينامي ة الثقاف ة التراثي ة" وي رى أن ه قنن بعض المف اهيم الثقافي ة‬
‫‪3‬‬
‫ك"النسق" و"السلوك الثقافي" و"القناع الخارجي" و"سجل الذاكرة" و"التثاقف" وغيرها>>‪.‬‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬ص‪.51‬‬
‫‪-2‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.52‬‬
‫‪-3‬املرجع نفسه‪  ‬ص‪.65-64‬‬

‫‪20‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫وهي مفاهيم ال تبتعد عن كوهنا <<مفاهيم ثقافية عامة تواجهنا في الكثير من الحقول المعرفية‬
‫كاللس انيات وعلم االجتم اع وعلم النفس وهي ليس ت من أدوات النق د الثق افي ومص طلحاته‬
‫الخاصة قطعا‪ ،‬ولذا يمكن لنا أن نعد أطروحة الشامي من الدراسات الثقافية المبكرة في الساحة‬
‫العربية‪ .‬ولنا أيضا أن نعد الشامي من نقاد الثقافة العرب األوائل ال ناقدا ثقافيا>>‪ 1.‬وما يهمنا‬
‫هنا من خالل هذه اإلشارة هو اجلانب االصطالحي واملفهومي الذي حنن بصدده فاألمر املتعلق بالناقد‬
‫حسن شامي واعتبار مصطلحاته مصطلحات ثقافية‪ ،‬جيعلنا ننظر جبالء إىل اخللط احلاصل على مستوى‬
‫املص طلح واملفه وم من قب ل النق اد ورمبا جيدر بن ا أن نق ف عن د ه ذه النقط ة‪ ،‬فقد<<اتس مت بعض‬
‫الكتاب ات النقدي ة العربي ة المؤص لة والم ؤطرة للنق د الثق افي باش تمالها على اض طراب يكمن في‬
‫الخل ط بين الجه د الع ربي المتوج ه نح و نق د مض امين الثقاف ة وتجلياته ا على أص عدها المختلف ة‬
‫السياس ية واالقتص ادية واالجتماعي ة والديني ة وبين النق د الثق افي بوص فه منهج ا نق ديا يتوس ل‬
‫بإجراءات وأدوات نقدية معينة لقراءة نصوص الثقافة على اختالف مناحيها>>‪ 2.‬فمن النقاد من‬
‫اتض حت عن ده الرؤي ة وأوج د الفروق ات الواض حة بني النق د الثق ايف وبني الدراس ات العربي ة ال يت‬
‫متظهرت فيها الثقافة بأبعادها السياسية واالجتماعية وغريها ومنهم من أخفق يف الفصل بينهما‪.‬‬

‫َّأما الس بب وراء ه ذا اخلل ط ه و وج ود جمموع ة من األعم ال النقدي ة ال يت أدرجه ا النق اد يف خان ة‬
‫الدراسات الثقافية أو ما أمساه الناقدان "سعد البازعي وميجان الرويلي" ب "نقد ثقافي عام" وهو نقد‬
‫أقرا من خالله أنَّه مائل إىل التوسع ألنَّه يعتمد على املعىن العام <<وليس بالمعنى ما بعد البنيوي‬
‫الذي يقترحه ليتش‪ ،‬ورأينا الثقافة بوصفها مرادفة للحضارة ‪...‬فإنه يمكن الحديث عن كثير من‬
‫النقد الذي قدمه الكتاب العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر بوصفه نقدا ثقافيا أي بوصفه‬
‫استكش افا لتك وين الثقاف ة العربي ة وتقويما له ا‪ ،‬يص دق ذلك على م ا كتب في مج االت الت اريخ‬
‫والنق د األدبي واالجتم اع والسياسة وغيره ا مم ا يتم اس م ع الثقافة ويش كل نقدا له ا>>‪َّ 3.‬‬
‫إن‬
‫الناقدان هبذا التصور قد أوضحا َّ‬
‫أن ما كتب يف اجملاالت املذكورة يف املقطع السابق خترج عن كوهنا‬

‫‪-1‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.65‬‬


‫‪- 2‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ :‬ص‪.62-61‬‬
‫‪- 3‬ميجان الرويلي وسعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األديب‪ ،‬ص‪.309 ،‬‬

‫‪21‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫نقدا ثقايف كما هو معروف مبفهومه الغريب إىل مفهوم أوسع وأبعد و هذا طبعا ما أمسته الناقدة "سحر‬
‫ك اظم حم زة" ب <<نق د الثقاف ة>>‪ 1‬أم ا من وجه ة نظرنا فهي عب ارة عن متظه رات للثقاف ة يف‬
‫الكتابات العربية؛ ومن بينها<<ما كتبه طه حسين في كتاب في الشعر الجاهلي‪ ،‬أو في مستقبل‬
‫الثقاف ة في مص ر‪ ،‬وك ذلك كث يرا مما نش ره العق اد وجماعة الديوان وبعض المهج ريين‪ ،‬ثم نقد‬
‫أدونيس في الثابت والمتحول‪ ،‬بل وكتابات بعض الباحثين المعاصرين كعبد اهلل العروي ومحمد‬
‫عاب د الج ابري وط ه عب د ال رحمن وهش ام جعي ط وفهمي ج دعان وعلي ح رب ومحم ود أمين‬
‫العالم‪ ،‬وكثير غير ذلك مما يصعب إحصاؤه‪ .‬كما يندرج ضمن النقد الثقافي ما أسماه هشام‬
‫شرابي ب"النقد الحضاري" في كتاب له بهذا العنوان (أنظر‪ :‬البطريركية)‪ ،‬وما دعا إليه ناقد‬
‫مث ل ش كري عي اد من نق د حض اري أيض ا‪ ،‬وم ا قدم ه ب احث مث ل عب د اهلل المس يري في مج ال‬
‫التح يز>>‪ 2.‬وهك ذا ميكن لل دارس أن يفهم اخللفي ة ال يت على أساس ها أطل ق الناق دان على تل ك‬
‫الكتابات بالنقد الثقايف العام ألهَّن ما أدركا الشرخ املوجود بني املصطلحني؛ وبالتايل مل تكن التسمية‬
‫جمرد حتوير أو خلط وإمّن ا كانت عبارة عن وعي حاصل مبين على الفهم اجليد للمصطلح واملفهوم‪َّ ،‬أما‬
‫الناق د حمس ن جاس م املوس وي فق د تعام ل م ع املص طلح ومفهوم ه <<في كتابات ه عن النق د‬
‫الثق افي ‪...‬ت ارة للدالل ة على عمومي ة س بق أن س ميناها "نق د الثقاف ة"‪ ،‬إذ نج ده يرب ط بين النق د‬
‫الثق افي والنهض ة العربي ة المت أثرة ب الغرب ‪.....‬حين يتس اءل عن الم انع من الع ودة إلى ت راث‬
‫القدامى وقراءة متونه على أنّه نقد ثقافي وال يرى ضيرا في قراءة رد محمود أمين العالم وعبد‬
‫العظيم أنيس على "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين بل وكتابات طه حسين ذاتها‪ ،‬على أنها‬
‫نقد ثقافي‪ ،‬ويعد "المعذبون في األرض" لطه حسين صورة من صور النقد الثقافي ‪...‬ثم يظهر‬
‫‪3‬‬
‫مصطلح "النقد الثقافي لديه ليدل على مفهومه الما بعد بنيوي‪ ،‬والذي عرضه آرثر برجر>>‪.‬‬
‫ي بني ه ذا املقط ع م دى االض طراب ال ذي وق ع في ه املوس وي وإال م ا ك ان ليس تعمل املص طلح يف غ ري‬
‫موضعه‪ ،‬مع العلم أنَّه كان ملما بكل جوانبه ومفاهيمه الغربية<<ونظن أن مسألة االضطراب في‬
‫تحدي د المص طلح أم ر ال يالم عليه الناق د الع ربي كث يرا فق د ك ان المنظر الغ ربي لديه مث ل هذا‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ :‬ص‪.62‬‬
‫‪- 2‬ميجان الرويلي وسعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األديب‪ ،‬ص‪.309 ،‬‬
‫‪- 3‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ :‬ص‪.63‬‬

‫‪22‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫‪1‬‬
‫الخلط في تحديد المصطلح والسيما أن األمر أحسن حاال إذ يمتلك وعيا تاما بالمفهوم>>‪.‬‬
‫ال ذي مل تكتم ل ص ورته إال م ع مش روع عب د اهلل الغ ذامي الص ادر س نة ‪ 2000‬واملوس وم‬
‫ب"النقد الثقافي‪ :‬قراءة في األنساق الثقافية العربية" وهو أول حماولة جادة يف حقل النقد الثقايف‬
‫<<ينَ ِظ ر ويُطبق ويؤول ويتعامل مع متن قرائي شاسع يشمل الشعر الجاهلي‪،‬‬ ‫العريب ذلك ألنَّه ُ‬
‫وأدب العص ر اإلسالمي واألموي والعباسي والعص ر الح ديث‪ ،‬كما أنَّه يجعل الق ارئ يعيش في‬
‫حالة من التشويش بسبب الصدمة التي يخلقها فيه هذا الكتاب بأحكامه الحاسمة والجازمة عن‬
‫الثقاف ة واألدب العرب يين‪ ،‬وعن رجعي ة الحداث ة العربي ة ورجعي ة ك ل من أبي تم ام والمتن بي‬
‫‪2‬‬
‫تكمن أمهي ة ه ذا الكت اب يف اس رتاتيجيته اإلجرائي ة ويف‬ ‫وأدونيس ونزار قباني وغيرهم>>‪.‬‬
‫انتقائ ه لنم اذج ش عرية قدمية وحديث ة ح اول من خالهلا اإلجاب ة عن التس اؤالت املطروح ة يف مقدم ة‬
‫كتاب ه‪ ،‬ولي بني من خالهلا أنّ ه قد<<آن اآلوان ألن نبحث في العي وب النس قية للشخص ية العربي ة‬
‫المتش عرنة وال تي يحمله ا دي وان الع رب وتتجلى في س لوكنا االجتم اعي>>‪ 3.‬إهّن ا نقط ة بالغ ة‬
‫األمهية ألننا نتحدث عن نقد أديب س يطر ملدة طويلة من الزمن كسر سيطرته تلك عبد اهلل الغذامي‬
‫عندما أعلن أنّه أصبح قاصرا ال ميكنه البحث يف العيوب النسقية وأنّه غري قادر على كشفها‪.‬‬

‫لق د جع ل من كتاب ه مرتع ا مهم ا لط رح ع دة أس ئلة م ازالت تبحث عن إجاب ة‪ ،‬ف رغم وجاه ة‬
‫مشروعه إال أنَّه أثار بشكل واضح جدال كبريا السيما تلك األقالم اليت تفجرت معارضة مشروعه‬
‫فواج ه س يال من االنتق ادات ال يت وجهت ل ه‪ ،‬يف حني جند ثل ة من النق اد الع رب تبن وا ه ذا املش روع‬
‫وطبقوه على نصوص شعرية وسردية كما هو مبني يف اجلدول التايل‪:‬‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ ،‬ص‪.64‬‬
‫‪-2‬ن ادر ك اظم‪ :‬تعارض ات النق د الثق ايف‪ ،‬أو رحل ة البحث عن النس ق املتناس خ‪ ،‬ض من كت اب "عب د اهلل الغ ذامي‬
‫واملمارس ة النقدي ة والثقافي ة‪ :‬حس ني الس ماهيجي وآخ رون‪/‬مؤلف ون ع رب‪ ،‬املؤسس ة العربي ة للدراس ات والنش ر‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط ‪ ،2003‬ص‪.105 ،‬‬
‫‪- 3‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص‪.7 ،‬‬

‫‪23‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫السنة‬ ‫عنوان الكتاب‬ ‫املؤلف‬


‫‪2004-‬‬ ‫مجاليات التحليل الثقايف‬ ‫يوسف عليمات‬
‫‪2009-‬‬ ‫النسق الثقايف‬
‫‪2004-‬‬ ‫متثيالت اآلخر‬ ‫نادر كاظم‬
‫‪2006-‬‬ ‫‪-‬هلوية والسرد‬
‫‪2005-‬‬ ‫النظرية والنقد الثقايف‬ ‫حممد جاسم املوسري‬
‫‪2006-‬‬ ‫حتوالت النقد الثقايف‬ ‫عبد القادر الرباعي‬
‫‪2007-‬‬ ‫مدخل يف نظرية النقد الثقايف‬ ‫حفناوي بلعلي‬
‫‪2009-‬‬ ‫املقارن‪.‬‬
‫مسارات النقد ومدارات احلداثة‪.‬‬
‫‪2009-‬‬ ‫مجاليات النقد الثقايف حنو رؤية‬ ‫أمحد مجال املرازيق‬
‫لألنساق الثقافية يف الشعر‬
‫األندلسي‪.‬‬
‫ك انت جترب ة عب د اهلل الغ ذامي م ع النق د الثق ايف مبني ة على خلفي ة معرفي ة مه د هلا من خالل كتابات ه‬
‫مر بتجربتني ملسنا من خالهلما حتوال يف مساره‬
‫السابقة اليت كانت امتدادا ملشروع النقد الثقايف؛ فقد ّ‬
‫املع ريف والنق دي؛ فمن نق ده للنص وص نق دا أدبي ا إىل نق ده لألنس اق الثقافي ة نق دا ح اول من خالل ه‬
‫كشف العيوب النسقية اخلفية للخطاب الشعري‪.‬‬

‫وهبذا‪ ،‬ميكننا التعرف على ماهية النقد الثقايف‪ ،‬بعد أن تتبعنا مراحل نشأته وتطوره يف الثقافة الغربية‬
‫ال يت انف ردت هبذه النش أة وواجهت تل ك الزوبع ة ال يت أثاره ا‪ ،‬خملف ا وراءه مب ادئ وقيم خلخلت‬
‫ثوابته ا‪-‬الثقاف ة الغربي ة‪-‬ومرتكزاهتا ال يت ك انت عليه ا ح داثتها من قب ل‪ ،‬كم ا تعرفن ا على نش أته عن د‬
‫العرب من خالل مشروع عبد اهلل الغذامي الذي هو اآلخر خالف من خالله أسس النقد األديب الذي‬
‫ألفته وتعودت عليه الذائقة العربية‪ ،‬لذلك آن اآلوان للتعرف على مفهومه؟‪.‬‬

‫مفه ـ ــوم النق ـ ــد الثقاف ـ ـ ــي‪:‬‬ ‫ث‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫يتس م مفه وم النق د الثق ايف ه و اآلخ ر مبعن يني‪ :‬املع ىن الع ام واملع ىن اخلاص؛ ففي معن اه األول عرف ه‬
‫آرثر أيزبرجر بأنَّه<<نشاط وليس مجاال معرفيا خاصا بذاته>>‪ 1.‬جيعل هذا التعريف من قارئه‬
‫يقف أمام جمموعة من التساؤالت‪ :‬ماذا يعين أرثر أيزابرجر بنشاط وليس جمال معريف؟ هل هذا يعين‬
‫َّ‬
‫أن النقد الثقايف ال ميكن اعتباره نظرية نقدية قائمة بذاهتا؟‪.‬‬

‫من الب ديهي ج دا أن يزي ل عن ه تل ك الض بابية‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬


‫إن ه ذا الغم وض ال ذي ولده تعري ف أرث ر أيزابرج ر َ‬
‫احمليطة ب ه وجييب عن تل ك التس اؤالت ال يت ت دور يف ذهن املتلقي؛ فق د أتبعه بتفاص يل أك ثر توض يحا‬
‫َّ‬
‫<<أن نق اد الثقاف ة يطبق ون المف اهيم والنظري ات المتض منة على‬ ‫ملفه وم النق د الثق ايف ويع ين به‬
‫َّ‬
‫به(‪)..‬فإن‬ ‫الفنون الراقية والثقافة الشعبية والحياة اليومية وعلى حشد من الموضوعات المرتبطة‬
‫الثقافي كما أعتقد هو مهمة متداخلة مترابطة‪ ،‬متجاوزة‪ ،‬متعددة‪ ،‬كما أن نقاد الثقافة يأتون من‬
‫مجاالت مختلفة ويستخدمون أفكارا ومفاهيم متنوعة‪ ،‬وبمقدور النقد الثقافي أن يشمل نظرية‬
‫األدب والجم ال والنق د‪ ،‬وأيض ا التفك ير الفلس في وتحلي ل الوس ائط‪ ،‬والنق د الثق افي الش عبي‪،‬‬
‫وبمق دوره أيض ا أن يفس ر (نظري ات ومج االت علم العالم ة‪ ،‬ونظري ة التحلي ل النفس ي‪ ،‬والنظري ة‬
‫الماركس ية والنظري ة االجتماعي ة واألنثربولوجي ة‪...‬إلخ) ودراس ات االتص ال وبحث في وس ائل‬
‫اإلعالم والوس ائل األخ رى المتنوع ة ال تي تم يز المجتم ع والثقاف ة المعاص رة وح تى غ ير‬
‫المعاص رة>>‪ 2.‬ولع َّل ه ذا االنفت اح على املن اهج والنظري ات النقدي ة كاملاركس ية والبنيوي ة وعلم‬
‫النفس والنقد النسوي وعلم السياسة واإلعالم هو ما جعل الناقد حمسن جاسم املوسوي يدرجه هو‬
‫اآلخر يف خانة<<فعالية‪ ،‬ال فرعا معرفيا‪ ،‬يتوخى بلوغ المعارف األخرى عبر استخدام واسع‬
‫للنظري ات والمف اهيم ال تي ت تيح التق رب من فع ل الثقاف ة في المجتمع ات>>‪ 3.‬تع ددت إذن‬
‫الفضاءات والعلوم اليت استقى منها هذا النقد مبادئه وآلياته اإلجرائية؛ حىت َّ‬
‫أن عملية االنفتاح تلك‬
‫مكنت ه وأمدت ه باملف اهيم واملص طلحات‪ ،‬لكن من جه ة أخ رى يبقى الس ؤال الس ابق ه ل ميكن اعتب ار‬
‫النقد الثقايف نظرية نقدية أم ال مطروحا؟‪.‬‬

‫‪- 1‬آرثر أيزابرجر‪ :‬النقد الثقايف‪ ،‬متهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪- 2‬آرثر أيزابرجر‪ :‬النقد الثقايف‪ ،‬متهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية‪ :،‬ص‪.31-30‬‬
‫‪-3‬حسن جاسم املوسوي‪ :‬النظرية والنقد الثقايف‪ :‬الكتابة العربية يف عامل متغري(واقعها‪ ،‬سياقاهتا‪ ،‬وبناها الشعورية)‬
‫املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬دار فارس للنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص‪.10 ،‬‬

‫‪25‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫َّأما الناقدان سعد البازعي وميجان الرويلي فقد تطرقا ملفهوم هذا النقد<<في داللته العام ة يمكن‬
‫القول إن النقد الثقافي كما يوحي اسمه نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعا لبحثه‬
‫وتفك يره ويع بر عن مواق ف إزاء تطوراته ا وس ماتها>>‪َّ 1.‬‬
‫إن الثقاف ة يف تص ور الناق دان ميج ان‬
‫الرويلي وسعد البازعي هي البؤرة األساسية اليت تتيح للناقد إمكانية ممارسة قراءته النقدية‪ ،‬فمن خالهلا‬
‫ميرر الكاتب خطاب ات أدبية وغ ري أدبي ة؛ ق د تك ون حمملة بأفك ار سياس ية أو إيديولوجية أو دينية أو‬
‫اجتماعية ومهمة النقد الثقايف هنا هي الكشف عنها والبحث يف مضمراهتا وقراءهتا قراءة ثقافية‪ ،‬ومن‬
‫مثَّ ميكنن ا الق ول َّ‬
‫إن النق د الثق ايف<<ليس منهج ا بين من اهج أخ رى‪ ،‬أو م ذهبا أو نظري ة‪ ،‬كم ا أن ه‬
‫ليس فرعا أو مجاال متخصصا من بين فروع المعرفة ومجاالتها‪ ،‬بل هو ممارسة أو فاعلية تتوفر‬
‫على كل ما تنتجه الثقافة من نصوص سواء كانت مادية أو فكرية‪ ،‬ويعني النص هنا كل ممارسة‬
‫قوال أو فعال تولد مع نى أو داللة>>‪ 2.‬ومبا َّ‬
‫أن ص ورة النقد الثق ايف العامة قد اتضحت من خالل‬
‫التع اريف الس ابقة وحتددت على أنَّه نش اط فك ري أو ممارس ة فكري ة انفتحت على عل وم ونظري ات‬
‫نقدية استقت منها مفاهيمها وأدواهتا ومص طلحاهتا‪ ،‬يفرتض علينا بعد هذه اخلطوة أن نتعرف على‬
‫معناه اخلاص فقد عرفه عبد اهلل الغذامي‪ :‬بأنَّه<<فرع من فروع النقد النصوصي العام‪ ،‬ومن ثم‬
‫فهو أحد علوم اللغة وحقول األلسنية معني بنقد األنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب‬
‫الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء‬
‫بسواء‪ ،‬من حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي‪ ،‬وهو لهذا معني بكشف‬
‫ال الجم الي‪ ،‬كم ا ه و ش أن النق د األدبي‪ ،‬وإنم ا هم ه كش ف المخب وء من تحت أقنع ة البالغي‬
‫الجمالي‪ ،‬وكما أن لدينا نظريات في الجماليات‪ ،‬فإن المطلوب إيجاد نظريات في (القبحيات)‬
‫ال بمعنى البحث عن جماليات القبح مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البالغي في‬
‫تدشين الجمالي وتعزيزه‪ ،‬وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة األنساق وفعلها‬
‫المض اد لل وعي وللحس النق دي>>‪ 3.‬إذا ك ان النق اد املذكورين أعاله ق د اعت ربوا النق د الثق ايف‬

‫‪-1‬ميجان الرويلي وسعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪2005 ،4‬‬
‫ص‪.305 ،‬‬
‫‪- 2‬صالح قنصوة‪ :‬متارين يف النقد الثقايف‪ ،‬دار مرييت‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،2007 ،1‬ص‪.5‬‬
‫‪- 3‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص‪.85-84‬‬

‫‪26‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫نشاط فكري أو فاعلية؛ َّ‬


‫فإن عبد اهلل الغذامي تعدى ذلك إىل مفهوم أعمق بكثري من املفاهيم السابقة‪،‬‬
‫فقد غدا النقد الثقايف عنده فرعا من فروع اللسانيات‪ ،‬وعلم اللغة والنص‪ ،‬وقد جعل عملية البحث‬
‫والكشف عن األنساق الثقافية املضمرة غاية هذا النقد ومهمته‪ ،‬كما أنَّه مل يكتف هبذا القدر؛ وإمَّن ا‬
‫وحتد للذائقة العربية اليت وقفت له باملرصاد جتابه أفكاره وطروحاته وترفض‬ ‫سلك طريقا كله شغف ٍ‬
‫يف اآلن نفسه منظوره اجلديد الذي أعلن من خالله عن موت النقد األديب مؤكدا هنايته‪ ،‬ومدعيا َّ‬
‫أن‬
‫رؤيته‪-‬النقد األديب‪-‬تقتصر فقط على اجلماليات البالغية وال تأخذ بعني االعتبار ما هو متخفي وراءها‬
‫من قبحي ات‪ ،‬مما يفض ي إىل ض رورة إجياد نظري ات تع ىن ب البحث ودراس ة تل ك القبحي ات املض مرة‬
‫واملتخفية وراء اجلماليات البالغية وهذا ما رمسه عبد اهلل الغذامي وأدرجه يف خمططه الثقايف‪.‬‬

‫أن الغذامي مل يعلن عنها بغري قصد‪ ،‬وإمَّن ا كانت له دوافع‬


‫ففكرة "موت النقد األدبي" تعين غالبا َّ‬
‫وأس باب واعرتاض ات كث رية‪ ،‬كم ا ك انت ل ه رغب ة جاحمة يف إمتام وتكمل ة النقص ال ذي ترك ه ذل ك‬
‫النق د؛ ول و مل تكن غايت ه ك ذلك م ا ك ان ليص رح َّ‬
‫أن النق د األديب أدى<<دورا مهم ا في الوق وف‬
‫‪1‬‬
‫على (جمالي ات) النص وص‪ ،‬وفي ت دريبنا على ت ذوق الجم الي وتقب ل الجمي ل النصوص ي>>‪.‬‬
‫ولكن عملية التذوق تلك اقتصرت فقط على املستوى اجلمايل‪ ،‬والسبب الرئيسي وراء ذلك هو النقد‬
‫األديب الذي<<بسببه أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية‬
‫المختبئ ة من تحت عب اءة الجم الي(‪)....‬وبم ا أن النق د األدبي غ ير مؤه ل لكش ف ه ذا الخل ل‬
‫الثقافي فقد كانت دعوتي بإعالن موت النقد األدبي وإحالل النقد الثقافي مكانه‪ ،‬وكان ذلك‬
‫في تونس في ندوة عن الشعر عقدت في ‪ ،22/09/1997‬وكررت ذلك في مقالة في جريدة‬
‫الحياة(أكتوبر ‪ 2.>>.1998‬لن نطيل احلديث عن عالقة النقد األديب بالنقد الثقايف؛ فما يعنينا هو‬
‫َّ‬
‫أن ه ذا األخ ري نش اط مع ريف وفك ري ل ه أهداف ه ووظائف ه‪ ،‬يس عى إىل ق راءة النص وص واخلطاب ات‬
‫النخبوية والشعبية‪ ،‬الرمسية واملهمشة قراءة يعتمد فيها على الثقافة يف الكشف عن األنساق املضمرة‬
‫واملتخفية وراء مجالية تلك النصوص وأدبيتها لذلك سنحاول يف هذه اجلزئية األخرية تسليط الضوء‬
‫والوقوف على مفهوم النسق الثقايف ملا له من أمهية كبرية وخادمة لبقية الفصول الالحقة‪.‬‬

‫‪- 1‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ :‬ص‪.7‬‬
‫‪-2‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.8‬‬

‫‪27‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫ج‪ .‬مفهـ ـ ــوم النسـ ــق الثقاف ـ ـ ــي‪:‬‬

‫ت ربز ماهي ة النس ق الثق ايف حبس ب التص ور املفه ومي للنق د الثق ايف ووظيفت ه باعتب اره <<نق دا‬
‫لألنساق المضمرة‪ :‬فهو يتوجه بالدرجة األساس نحو ما تحويه نصوص الثقافة على تنوعها من‬
‫أنساق‪ ،‬إذ يشكل مفهوم النسق محورا مركزيا في مشروع النقد الثقافي>>‪ 1.‬ليكون هبذا املعىن‬ ‫ٍ‬
‫حال ة تس تدعي االحاط ة هبا؛ ذل ك ألنَّه يع زز وظيف ة النق د الثق ايف فيَ ْمتَثِ ُل للثقاف ة ال يت تغذي ه ومتده‬
‫بنص وص وخطاب ات تس اعده على االختب اء وراءه ا‪َّ ،‬أما الس ؤال ال ذي ينبغي أن يط رح هن ا فيتمح ور‬
‫أساسا حول مفهوم النسق*‪ ،‬السيما وأ َن هذا االشكال مت طرحه يف منابر كثرية وأجيب عليه يف عدة‬
‫مر هبا ب دءا بالع امل اللس اين دي سوس ري‪ ،‬وع امل االجتم اع غ ريتس‬
‫دراس ات توقفت عن د حمطاته اليت َّ‬
‫وكذا العامل االنثروبولوجي كلود ليفي شرتاوس لذلك لن نطيل احلديث عنه‪ ،‬فما يعنينا هنا هو النسق‬
‫الثقايف الذي حييلنا مباشرة إىل احلديث عن وظيفته؛ ذلك َّ‬
‫ألن الغذامي مل حيدد له مفهوما واضح املعامل‬
‫يق ول<<إال أنن ا هن ا نط رح "النس ق" كمفه وم مرك زي في مش روعنا النق دي‪ ،‬ومن ثم فإن ه‬
‫يكتس ب عن دنا قيم ا داللي ة وص فات اص طالحية خاص ة نح ددها فيم ا يلي‪ :‬يتح دد النس ق ع بر‬
‫وظيفت ه‪ ،‬وليس ع بر وج وده المج رد>>‪ 2.‬ض من ه ذا التحدي د ق ارب الغ ذامي النس ق الثق ايف من‬
‫وجهة مغايرة أوهلا‪ :‬أنَّه أوىل اهتمامه وتركيزه بالنسق داخل إطاره اخلاص أي الثقايف واستبعد معناه‬
‫اللغ وي واملعجمي وال داليل أي الع ام‪ ،‬ثانيه ا‪ :‬بع د طرح ه للس ؤال "م ا النس ق الثق ايف‪...‬؟" يف مؤلف ه‬
‫انتظرنا تعريفا شامال وملما هبذا األخري ولكنه وضع مباشرة حتديدات لوظيفته بدال من بناء أرضية‬
‫تعريفي ة ل ه تزي ل عن ه الغم وض‪ ،‬وكي ال يبقى جمه وال كم ا ص رح الناق د عب د الن يب اص طيف عن دما‬
‫تساءل عن سبب<<إغفال الغذامي على نحو ال يصدق لتعريف هذا المفهوم المركز في دعوته‬

‫‪- 1‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ :‬ص‪.85 ،‬‬
‫**‪-‬النسق‪ :‬جيري استخدام كلمة (النسق) كثريا يف اخلطاب العام واخلاص‪ ،‬وتشيع يف الكتابات إىل درجة قد تشوه‬
‫داللتها‪ ،‬وتبدأ بسيطة كأن تعين ما كان على نظام واحد‪ ،‬كما يف تعريف املعجم الوسيط‪ ،‬وقد تأيت مرادفة ملعىن‬
‫البنية (‪ )structure‬أو معىن (النظام) حسب مصطلح دي سوسري‪ :‬أنظر عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف‬
‫األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص‪.76 ،‬‬
‫‪- 2‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ :‬ص‪.77‬‬

‫‪28‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫والس يما أنَّه ينس ب إلي ه الكث ير من المص طلحات والمف اهيم األخ رى من مث ل المك ون‬
‫النس قي‪......‬والحس النس قي‪...‬والنس قي الثق افي‪...‬والوظيف ة النس قية ‪..‬والمض مر‬
‫النسقي ‪...‬ولست أدري كيف يمكن أن يتابع القارئ محاجة الغذامي وهو يصول ويجول في‬
‫دفاع ه عن ه ذا المجه ول أو النس ق دون أن يس عفه ول و بتعري ف بس يط ييس ر علي ه ص حبته في‬
‫كفاحه من أجل النقد الثقافي>>‪ 1.‬من جهة أخرى‪ ،‬جند الناقد يوسف عليمات هو اآلخر يعرفه‬
‫انطالق ا من وظيفت ه ومساته ومميزات ه النقدي ة معت ربا<<النق د النس قي كم ا يتجلى في ه ذا التنظ ير‬
‫يصطفي النسق بوصفه عنصرا مركزيا في الحضارة والمعرفة والثقافة والسياسة والمجتمع إذ‬
‫يتسم النسق من حيث هو نظام بالمخاتلة واستثمار الجمالي والمجازي ليمرر تجلياته ومضمراته‬
‫التي ال تنكشف إال بالقراءة الفاحصة>>‪ 2.‬لقد تبلور إذن النسق الثقايف انطالقا من وظيفته اليت‬
‫تعتم د على منط ك ان يف م ا مض ى يس تند إىل ال دالالت الض منية والص رحية ولكن م ع س يادته أص بح‬
‫يس تند إىل ال دالالت النس قية ال يت جتاوزت ح دود ال دالالت الس ابقة ألهَّن ا <<دالل ة ترتب ط في‬
‫عالقات متشابكة نشأت مع الزمن لتكون عنصرا ثقافيا أخذ بالتشكل التدريجي إلى أن أصبح‬
‫عنصرا فاعال‪ ،‬ولكنه وبسبب نشوئه التدريجي تمكن من التغلغل غير الملحوظ وظل كامنا هن اك‬
‫في أعم اق الخطاب ات‪ ،‬وظ ل ينتق ل م ا بين اللغ ة وال ذهن البش ري ف اعال أفعال ه من دون رقيب‬
‫نقدي النشغال النقد بالجمالي أوال‪ ،‬ثم لقدرة العناصر النسقية على الكمون >>‪ 3.‬انطالقا من‬
‫هذا التصور الذي مل يبني لنا فقط مدى قدرة وبراعة العنصر النسقي على االختباء‪ ،‬بل ودفعنا أيضا‬
‫إىل التوج ه ص وبه –العنص ر النس قي‪-‬لتع رف على خاص ية الظه ور والض مور ال يت ميت از هبا؛ فالنس ق‬
‫الظاهر هو<<قرين النسق المضمر ونقيضه في آن‪ ،‬فهو يالزمه وال ينفك عنه‪ ،‬ويختلف عنه‪،‬‬
‫فالنس ق الظ اهر يعلن عن ه ويتجلى في س طح النص وفي معاني ه وأبنيت ه>>‪ّ 4.‬أم ا املض مر‬
‫ف<<يعمل على االختفاء والتواري واالنزواء في أعماق النص وفي بنيته العميقة‪ ،‬بل ربما في‬
‫‪- 1‬عبد اهلل الغذامي‪ ،‬عبد النيب اصطيف‪ :‬نقد ثقايف أم نقد أديب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،2004‬ص‪.189‬‬
‫‪-2‬يوس ف حمم ود عليم ات‪ :‬النق د النس قي "متثالت النس ق يف الش عر اجلاهلي"‪ ،‬دار األهلي ة للنش ر والتوزي ع‪ ،‬عم ان‬
‫األردن‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1‬ص‪.09‬‬
‫‪- 3‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص‪.72،‬‬
‫‪- 4‬نعيمة بولكعيبات‪ :‬النسق املضمر يف نوادر جحا‪ ،‬جملة فصول‪ ،‬اجمللد ‪ ،25/3‬العدد ‪ ،99‬ربيع ‪ ،2017‬ص‬
‫‪.433‬‬

‫‪29‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫بنيته الصامتة والخفية في المسكوت عنه في النص>>‪ 1.‬لكل منهما طبيعة تناسب طريقة عمله‬
‫كم ا يب دو يف املقطعني الس ابقني إال َّ‬
‫أن النق د الثق ايف ألقى الض وء بش كل كب ري على <<النس ق‬
‫المضمر‪ ،‬أما النسق الظاهر فال يولى من االهتمام سوى بقدر ما يعد وسيلة للكشف عن المضمر‬
‫المت واري خلف ه وبق در م ا يحوي ه هن ا أو هن اك من إلم اح أو إيح اء بالنس ق المض مر الك امن‬
‫المخالف للظاهر‪ ،‬ل ذا فالنقد الثق افي يعنى عناية كبيرة بالنسق المضمر>>‪ 2.‬ذلك َّ‬
‫ألن طبيع ة‬
‫النس ق املض مر ال يت تعتم د على الت واري واالختب اء تش كل خط ورة على عكس م ا حيدث م ع الظ اهر‬
‫الذي وببساطة ميكن الكشف عن أبعاده ومتضهراته وال يشكل أية خطورة أو صعوبة كما هو احلال‬
‫‪3‬‬
‫مع املضمر الذي <<تكمن خطورته في كونه كامنا حيث يمارس تأثيره من دون رقيب>>‪.‬‬
‫ولعل داللته تلك اليت تعتمد على خاصية التخفي والتواري هي اليت جعلته ال حيتكم إىل أي قانون من‬
‫شأنه أن يسريه وال خيضع إىل أية رقابة قد متنعه من مترير صو ٍر وخطابات ميكن القول عنها أهَّن ا ليست‬
‫من ص نع املؤل ف وال الق ارئ وإمَّن ا هي<< منعرس ة في الخط اب‪ ،‬مؤلفته ا الثقاف ة‪ ،‬ومس تهلكوها‬
‫جم اهير اللغ ة من كت اب وق راء‪ ،‬يتس اوى في ذل ك الص غير م ع الكب ير والنس اء م ع الرج ال‬
‫والمهمش م ع المس ود>>‪ 4.‬يتض ح إذن مفه وم النس ق املض مر أك ثر من خالل مجل ة من الش روط‬
‫والسمات االصطالحية مجعها الغذامي على النحو الت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــايل‪:‬‬

‫يشرتط الغذامي وجود نسقني يف نص واحد‪ ،‬أو ما هو يف حكم النص الواحد‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أن يك ون أح دمها مض مر واآلخ ر علني ا‪ ،‬ويك ون املض مر نقيض ا وناس خا للمعلن‪ ،‬ول و ح دث‬ ‫‪‬‬

‫وصار املضمر غري مناقض للعلين فسيخرج النص عن جمال النقد الثقايف‪ ،‬مبا أنه ليس لدينا نسق‬

‫مض مر من اقض للعل ين‪ ،‬وذل ك ألن جمال ه ذا النق د ه و كش ف األنس اق املض مرة (الناس خة‬

‫للعلين)‪.‬‬

‫‪-1‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.433‬‬


‫‪- 2‬سحر كاظم محزة‪ :‬جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف‪ :‬ص‪.96 ،‬‬
‫‪-3‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.96 ،‬‬
‫‪- 4‬عبد اهلل الغذامي‪ :‬النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ص‪.79 ،‬‬

‫‪30‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫البد أن يكون النص موضوع الفحص نصا مجاليا‪ ،‬ألننا ندعي أن الثقافة تتوسل باجلمايل لتمرير‬ ‫‪‬‬

‫أنساقها وترسيخ هذه األنساق‪.‬‬

‫البد أن يكون النص ذا قبول مجاهريي‪ ،‬وحيظى مبقروئية عريضة وذلك لكي نرى ما لألنساق‬ ‫‪‬‬
‫‪1‬‬
‫من فعل عمومي ضارب يف الذهن االجتماعي والثقايف‪.‬‬

‫وبالت ايل فالناق د الثق ايف حباج ة إىل الش روط األربع ة املذكورة أعاله؛ ألهَّن ا توض ح منطلق ات كث رية‬

‫البد منها نذكر على سبيل املثال الشرط األول وباألخص الثاين‪ ،‬هذا األخري يبني مدى أمهية النسق‬

‫الظاهر الذي ال ميكن أن يتعاىل عليه املضمر أو يلغيه بل وجوده مرتبط بوجود األول وبالتايل له أمهية‬

‫كبرية‪ ،‬كما يعارض هذا الشرط مقولة الناقدة سحر كاظم محزة السابقة اليت قالت فيها َّ‬
‫أن النسق‬

‫الظاهر ال يوىل له اهتمام كبري َّ‬


‫وأن النقد الثقايف يعين عناية كبرية بالنسق املضمر‪ ،‬فمن وجهة نظر‬

‫الغذامي ال خيلو النسق الظاهر من األمهية‪ ،‬وله أيضا أدوار ومهام كثرية؛ وإن حدث ومت تغيبه أو إلغاءه‬

‫يف هذه احلالة تصبح النصوص الثقافية نصوصا فارغة من أي داللة نسقية وال يعود النقد الثقايف معنيا‬

‫بدراسة النصوص دراسة ثقافية يسعى من خالهلا للكشف عن األنساق الثقافية املضمرة وهي خطوط‬

‫محر ينبغي على النقد الثقايف أن ال يتجاوزها وإال تدخل الدراسة يف مصاف النقد األديب‪.‬‬

‫وفي األخ ير س نحاول في المب احث الالحق ة ق راءة النص وص الروائي ة الجزائري ة ومقاربته ا‬

‫مقارب ة ثقافي ة‪ ،‬ذل ك ألن الرواي ة الجزائري ة وظفت الت اريخ اإلس المي لتمري ر خطاب ات مض مرة‬

‫سنحاول كشفها وتسليط الضوء عليها‪.‬‬

‫‪-1‬عبد اهلل الغذامي‪ ،‬عبد النيب اصطيف‪ :‬نقد ثقايف أم نقد أديب‪ ،‬ص ‪.32‬‬

‫‪31‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫المبحث الثاني‪ :‬التاريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــخ‬ ‫‪.2‬‬

‫مفهوم التاريخ اإلسالمي‪:‬‬

‫أ‪ .‬مفهوم التاريخ‪:‬‬

‫جل املؤرخني والدارسني ال يتم إال‬ ‫َّ‬


‫إن حماولة اإلملام مبصطلح التاريخ وكم ا هو متعارف عليه عن د ّ‬
‫وفقا ملعناه اللغوي واالصطالحي؛ فالتاريخ لغة‪ :‬هو<<اإلعالم بالوقت>>‪ 1.‬أو حتديد وقت حدوث‬
‫الش يء‪ ،‬وق د ج اء يف معجم الص حاح م ادة "أرخ" <<الت أريخ ه و تعري ف ال وقت‪ ،‬والت وريخ مثل ه‬
‫خ>>‪َّ 2.‬أما يف معجم لسان‬
‫وأرخت الكتاب بيوم كذا‪ ،‬وورخته‪ ،‬واإلرخ بقر الوحش‪ ،‬الواحدةُ إر ٌ‬
‫العرب البن منظور فقد قيل‪<<:‬إ ّن التأريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربي محض‪ ،‬وإ ّن المسلمين‬
‫أخ ذوه عن أه ل الكت اب‪ ،‬وت أريخ المس لمين أرخ من زمن هج رة س يدنا رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم‪ ،‬كتب في خالفة عمر رضي اهلل عنه فضار تاريخا إلى اليوم‪ ،‬وقيل إن التأريخ مأخوذ منه كأن ه‬
‫إن الت اريخ يف اللُّغ ة‬
‫ش يء ح دث كم ا يح دث الول د‪ ،‬وقي ل الت اريخ م أخوذ من ه ألن ه ح ديث>>‪َّ 3.‬‬
‫اختلف يف أصلها‬
‫العربية مشتق من كلمة "أرخ" وهلا عدة اشتقاقات ورخت تورخيا وأرخت تأرخيا وقد ْ‬
‫إن كان عريب أو فارسي أو سرياين‪ ،‬ظف إىل ذلك أهّن ا مل ترد يف القرآن الكرمي ورمبا هلذا السبب اعتربها‬
‫املؤرخون كلمة معربة ومعناها عموما حتديد وقت حدوث الشيء‪.‬‬

‫‪- 1‬علي حممد الصاليب‪ :‬صفحات مشرقة من التاريخ اإلسالمي‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬ج‪،1‬ط‪ 2009 ،1‬ص‬
‫‪.15‬‬
‫‪- 2‬إمساعيل بن محاد اجلوهري‪ :‬الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية‪ ،‬احملقق‪ ،‬أمحد عبد الغفور عطار‪ ،‬دار العلم‬
‫للماليني ط‪ ،1990 ،4‬ص‪.418‬‬
‫‪- 3‬أيب الفضل مجال الدن حممد مب مكرم ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬اجمللد‪ ،3‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬دط‪ ،‬ص‪.4‬‬

‫‪32‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫َّأما املعجم الفلسفي جلميل صليبا فقد وردت كلمة التاريخ يف <<الفرنسية‪ »Histoire« ‬وفي‬
‫اإلنجليزية «‪ »History‬وفي الالتيني ة«‪  »Historia‬ومعناه ا لغ ة تعري ف ال وقت وت اريخ‬
‫الش يء وقت ه وغايت ه والت اريخ أيض ا علم يبحث في الوق ائع والح وادث الماض ية>>‪ 1.‬ووردت‬
‫أيض ا يف موس وعة الالن د الفلس فية<<من اليوناني ة "‪ ،"Istoria‬بحث‪ ،‬اس تعالم‪ ،‬ومن ثم معرف ة‬
‫أن مع نى الكلم ة أدق عن د أرس طو‪ ،‬فه و ي ُّ‬
‫دل على مج رد‬ ‫وأخ يرا منس وبية م ا ع رف ت اريخ‪ ،‬إال َّ‬
‫رك ام من الوث ائق‪ ،‬مقاب ل عم ل تفس يري أو تنس يق>>‪ 2.‬وكم ا ذك ر س ابقا يف موس وعة الالن د‬
‫وظ ف أرس طو مص طلح ت اريخ وأراد من خالل ه اإلش ارة إىل مجع من الوث ائق‪ ،‬أم ا س قراط فق د َّ‬
‫دل‬
‫املصطلح معه على املعرفة وبالتايل <<لم يكن لكلمة تاريخ في الماضي معنى واحد>>‪ 3.‬وحمدد‪،‬‬
‫فقد تعددت معانيه وكثرت استخداماته ولكن معظمها استعملت يف سياق واحد أال وهو التحديد‬
‫واإلعالم بوقت حدوث الشيء‪.‬‬

‫أما الداللة االصطالحية للتاريخ فقد<<اختلفت عبارات علماء المسلمين في تحديد تعريف‬
‫ل ه ولع ل ذل ك راج ع إلى س عة الموض وعات ال تي ت دخل في مفه وم الت اريخ‪ ،‬ومن المالح ظ َّ‬
‫أن‬
‫الم ؤرخين في الق رون الثالث ة األولى من الهج رة النبوي ة لم ي دونوا تعريف ا ك امال مح ددا لعلم‬
‫التاريخ‪ ،‬وإنما كانوا يكتفون بذكر فوائده‪ ،‬وأغراضه>>‪ 4.‬ومن بني هؤالء املؤرخني الذين اعتنوا‬
‫بالت اريخ وبفوائ ده وغايات ه العالم ة عب د ال رمحن بن خل دون ال ذي أفص ح يف مقدمت ه عن فض ل علم‬
‫جم الفوائ د‪ ،‬ش ريف الغاي ة‪ ،‬إذ ه و يوقفن ا على أح وال‬
‫الت اريخ واعت ربه <<فن عزي ز الم ذهب‪ّ ،‬‬
‫الماض يين من األمم في أخالقهم واألنبياء في سيرهم‪ ،‬والمل وك في دولهم وسياستهم‪ ،‬حتى تتم‬
‫فائ دة االقت داء في ذل ك لمن يروم ه في أح وال ال دين وال دنيا>>‪ 5.‬وإىل ج انب فوائ د الت اريخ‬

‫‪- 1‬مجيل صليبا‪ :‬املعجم الفلسفي باأللفاظ العربية والفرنسية واإلجنليزية‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان ط‪ ،1982‬ص‪.227 ،‬‬
‫‪-2‬أندري ه الالند‪ :‬موسوعة الالن د الفلس فية‪ :‬اجمللد األول‪ ، A-G‬تع ريب‪ :‬خلي ل أمحد خليل‪ ،‬منش ورات عويدات‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2001‬ص‪.558‬‬
‫‪- 3‬مجيل صليبا‪ :‬املعجم الفلسفي باأللفاظ العربية والفرنسية واإلجنليزية‪ ،‬ص‪.227 ،‬‬
‫‪- 4‬علي حممد الصاليب‪ :‬صفحات مشرقة من التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ص‪.15‬‬
‫‪-5‬عبد الرمحن بن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬دار ابن اجلوزي للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،2010 ،1‬ص‬
‫‪.9‬‬

‫‪33‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫وغايت ه ق دم ابن خل دون ص ياغة حمددة هلذا العلم وع ّده فن من<<الفن ون ال تي تت داولها األمم‬
‫واألجيال‪...‬في ظاهره ال يزيد على إخبار عن األيام والدول والسوابق من القرون األول‪ ،‬تنمو‬
‫فيه ا األق وال‪ ،‬وتض رب فيه ا األمث ال‪ ،‬في باطن ه نظ ر وتحقي ق وتعلي ل للكائن ات ومبادئه ا دقي ق‪،‬‬
‫وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق‪ ،‬فهو في ذلك أصيل في الحكمة عريق‪ ،‬وجدير بأن يعد‬
‫في علومها وخليق>>‪ 1.‬حيمل التاريخ عند ابن خلدون معنيني‪:‬‬

‫أولهما ظاهري‪ :‬وهو اإلخبار عن حياة األمم والشعوب والدول واجملتمعات اإلنسانية يف القرون‬ ‫‪‬‬
‫السابقة ومل يتجاوز هذا املعىن فعل السرد واإلخبار‪.‬‬
‫ثانيهما باطني‪ :‬ألنّه يعتمد على التفسري والتعليل والبحث يف أسباب وقوع األحداث وبالتايل هو‬ ‫‪‬‬
‫علم من العل وم اإلنس انية واالجتماعي ة ال يت ي درس فيه ا املؤرخ حي اة اإلنس ان يف املاض ي الق ريب‬
‫والبعيد‪.‬‬

‫كم ا نق رأ يف كت اب عب د اهلل الع روي "مفه وم الت اريخ األلف اظ والم ذاهب‪ ،‬المف اهيم‬
‫واألص ول" دراس ة حول مفه وم مص طلح الت اريخ وه دف املؤرخ وك ذا منحى علم الت اريخ‪ ،‬وتكمن‬
‫أمهية هذه الدراسة أهّن ا سلطت الضوء على املؤرخ باعتباره ذلك الفرد املتخصص يف دراسة األحوال‬
‫املاضية وباعتباره أيضا الزمة البد منه ا وال ميكن االستغناء عنها يف علم التاريخ ومن مثة‪َّ ،‬‬
‫فإن غاية‬
‫الع روي األوىل هي البحث يف الت اريخ كص ناعة ب دال من الت اريخ كوق ائع ح دثت يف املاض ي ل ذلك‬
‫ف <<التساؤل حول مفهوم التاريخ أمر جوهري وتافه في آن‪ .‬هذا ما قاله ابن خلدون وهذا ما‬
‫نأك ده الي وم‪ ...‬ج وهري ألنَّه ق ائم أينم ا اتج ه الفك ر‪ ،‬وتاف ه أل ّن منفعت ه غ ير واض حة لك ل ف رد‬
‫متخص ص>>‪َّ 2.‬‬
‫إن هلذا التس اؤل مع ىن واض ح وحمدد عن د الع روي ف البحث عن ماهي ة للت اريخ‬
‫تكشف لنا عن جانبني أحدمها جوهري‪ :‬عندما يكون مرتبطا بالفكر واملفكر معا وهنا يؤكد على‬
‫أمهية التاريخ بالنسبة للمفكر‪ ،‬ومن جهة أخرى حماولة النظر إىل التاريخ ومن زاوية املؤرخ هو أمر تافه‬
‫وحجته يف ذلك َّ‬
‫أن منفعته غري واضحة‪ .‬هذا وقد قسم العروي التاريخ إىل قسمني‪:‬‬

‫‪-1‬عبد الرمحن بن خلدون‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ص‪.3 ،‬‬


‫‪- 2‬عبد اهلل العروي‪ :‬مفهوم التاريخ" األلفاظ واملذاهب‪ ،‬املفاهيم واألصول"‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪/‬الدار‬
‫البيضاء ط‪ ،2005 ،4‬ص‪.29‬‬

‫‪34‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫التاريخ العام‪ :‬هو جمموع األحوال اليت عرفها الكون حىت اللحظة "ت"‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫التاريخ المحفوظ‪ :‬هو ما يعرفه املؤرخ يف اللحظة "ت"‪ .‬واملؤرخ هنا هو املمثل النظري للحرفة‬ ‫‪‬‬
‫‪1‬‬
‫كلها‪.‬‬

‫لق د قس م الع روي الت اريخ إىل ن وعني ومل يكتفي فق ط هبذه التقس يمات وإمَّن ا عم د إىل التفري ق بينهم ا‬
‫وإذا أمعنَّا النظر يف الفروقات اليت قدَّمها جند َّ‬
‫أن تلك التقسيمات تتماشى مع منهجه وطريقة تعامله‬
‫مع املصطلح‪ ،‬ليخلص يف األخري إىل نتيجة مفادها َّ‬
‫أن <<التاريخ كوني في مضمونه وبشري في‬
‫حفظ ه وذك ره‪ ،‬وال يمكن أن يك ون إال من وللبش ر>>‪ 2.‬إذن‪ ،‬وانطالق ا مما س بق نس تنتج َّ‬
‫أن‬
‫التاريخ هو ذلك املاضي بأحواله وحوادثه ووقائعه وكذا بانتصاراته وهزائمه وهو املادة اليت يسعى‬
‫املؤرخ إىل حفظها وذكرها ودراستها‪ ،‬ظف إىل ذلك هو علم نظري إنساين يبحث فيه عن حوادث‬
‫‪3‬‬
‫الزمان من حيث التعيني والتوقيت والتفسري والتعليل‪.‬‬

‫ب‪ .‬ماذا نعني التاريخ اإلسالمي‪:‬‬

‫سبق وأن أشرنا إىل مفهوم مصطلح التاريخ‪ ،‬وانطالقا منه ومن املادة التارخيية اليت يتأسس بناء‬
‫عليها وعلى احلوادث واألخبار‪ ،‬ميكن أن نعتمده كمعيار لتصنيف أي من احلقب التارخيية اليت يرتكز‬
‫عليه ا ه ذا البحث‪ ،‬ف التواريخ ختتل ف ب اختالف األزمن ة؛ كالت اريخ الق دمي واحلديث واملعاص ر‪،‬‬
‫وب اختالف األمم واجملتمع ات؛ كالت اريخ اليون اين والت اريخ الفارس ي والت اريخ الغ ريب والع ريب‪ ،‬وك ذا‬
‫باختالف الديانات كالتاريخ املسيحي والتاريخ اليهودي والتاريخ اإلسالمي هذا األخري ميكن اعتباره‬
‫حقب ة تارخيي ة من حقب الت اريخ اإلنس اين كك ل‪ ،‬وق د ح ددت بدايت ه هبج رة الرس ول ص لى اهلل علي ه‬
‫وس لم‪َّ ،‬أما عن س بب<<وض ع الت اريخ الهج ري أ ّن أب ا موس ى األش عري كتب إلى عم ر بن‬
‫الخطاب "إنا قد قرأنا صكا من الكتب التي تأتينا من قبل أمير المؤمنين‪ ،‬وكان محله شعبان‪ ،‬فما‬
‫ندري أي الشعبانين‪ :‬أهو الماضي أو اآلتي؟ فجمع عمر أعيان الصحابة واستشارهم فيما تضبط‬
‫به األوقات‪ ،‬وقال له الهرمزان وكان فارسيا‪" :‬إن لنا حسابا نسميه ماء روز‪ ،‬أي حساب الشهور‬

‫‪- 1‬عبد اهلل العروي‪ :‬مفهوم التاريخ" األلفاظ واملذاهب‪ ،‬املفاهيم واألصول"‪ ،‬ص‪.34 ،‬‬
‫‪-2‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.35‬‬
‫‪- 3‬علي حممد الصاليب‪ :‬صفحات مشرقة من التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ص‪.17‬‬

‫‪35‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫واألعوام" وشرح له كيفيه استعماله‪ ،‬فأمر عمر بوضع التاريخ‪ ،‬وأشاروا عليه بتاريخ الروم فلم‬
‫يقبله لطوله‪ ،‬وتاريخ الفرس فرده لعدم استناده إلى مبدأ معين‪......،‬فاستقرؤهم عمر على تعيين‬
‫يوم من أيامه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولم يصلح وقت المبعث لكونه غير معلوم‪ ،‬ولم يكن وقت‬
‫ميالده صلى اهلل عليه وسلم معروفا لالختالف فيه‪ ،‬ولم يصلح وقت وفاته فقد أبى المسلمون‬
‫ذل ك لنف رة طبعهم من ح ادث الوف اة ل ه ص لى اهلل علي ه وس لم‪ ،‬فجع ل عم ر مب دأ الهج رة بداي ة‬
‫التاريخ‪ ،‬ألنه بها ظهرت دولة اإلسالم وكانت الهجرة يوم الثالثاء ثمان من ربيع األول‪ ،‬بينما‬
‫‪1‬‬
‫أول الس نة الهجري ة من المح رم‪ ،‬وك ان اتف اقهم على ه ذا س نة س بع عش رة من الهج رة>>‪.‬‬
‫اتفقت مجيع املصادر على َّ‬
‫أن بداية التاريخ اإلسالمي قد حددت هبجرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫كم ا أمجعت على َّ‬
‫أن<<الت اريخ اإلس المي ه و ت اريخ الش عوب وال دول اإلس المية من ذ دخ ول‬
‫اإلس الم حتى العهد الحاض ر‪ ،‬وبهذا فالت اريخ اإلس المي طويل طول القرون األربعة عشر التي‬
‫اجتازه ا‪ ،‬واس ع س عة الرقع ة ال تي يش غلها من المحي ط األطلس ي إلى المحي ط اله ادي‪ ،‬متماس ك‬
‫تماسك مبادئ اإلسالم التي يباشرها المسلمون على هذه الخريطة الفسحة>>‪ 2.‬وهذا بالضبط‬
‫معىن التاريخ اإلسالمي الذي امتدت رقعته اجلغرافية ووصلت إىل أبعد احلدود‪ ،‬مل يتوقف عند ذلك‬
‫فقط‪ ،‬بل امتاز أيضا بغزارة أحداثه وفتوحاته وحروبه‪ ،‬فهو كما قيل يف املقطع السابق تاريخ الشعوب‬
‫واجملتمعات اإلسالمية‪ ،‬تلك اجملتمعات اليت استطاعت أن حتافظ على مبادئ الدين اإلسالمي اليت جاء‬
‫هبا الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم‪ ،‬مثلم ا ح افظت أيض ا على تارخيه ا الض خم احلاف ل باالنتص ارات‬
‫والفتوحات وبالشخصيات التارخيية العظيمة واملشهورة وتفاصيل ثوراته وقضاياه املعقدة واملتشابكة‬
‫واليت كثريا ما اختلف يف أمرها ومدى صحتها؛ كل هذا الزخم والثراء مل يكن حمل اهتمام للمؤرخني‬
‫والدارسني فقط بل ألفت حوله الكثري من الكتابات التارخيية واألعمال األدبية والروائية خاصة‪ ،‬حىت‬
‫أنَّه أصبح أداة يف يد الروائيني الذين تعاملوا معه بوجهات نظر خمتلفة‪ ،‬ظف إىل ذلك فقد بذلوا جهدا‬
‫كبريا يف مللمة األحداث والثورات والشخصيات اليت أصاهبا التشويه والتحريف والتزوير والتهميش‪،‬‬

‫‪- 1‬عبد املنعم احلفين‪ :‬املعجم الشامل ملصطلحات الفلسفة‪ ،‬مكتبة دبويل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬ط‪ ،2000 ،3‬ص‪.177‬‬
‫‪-2‬أمحد شليب‪ :‬موسوعة التاريخ اإلسالمي واحلضارة اإلسالمية‪ ،‬مكتبة النهضة اإلسالمية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ 12‬سنة‬
‫‪ ،1987‬ص‪.24‬‬

‫‪36‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫ل ذلك س نتوقف يف ه ذا املبحث عن د أب رز املت ون الرواي ة اجلزائري ة املعاص رة وس نحاول تبي ان ط رق‬
‫توظيفها للتاريخ اإلسالمي‪.‬‬

‫عن دما نط رح مس ألة التعام ل م ع النص وص التارخيي ة املعاص رة يع ين أنن ا نتج ه حنو البحث عن‬
‫اس رتاتيجية معين ة وحمددة تتمث ل يف مب دأ اش تغال الس رد ال ذي<< أض حى من ذ العق دين األخ يرين‬
‫األرض المشتركة التي تلتقي عليها كثير من النظريات والتيارات النقدية والفكرية التي أعادت‬
‫النظ ر في التص ورات الس ابقة ال تي ك ان يتحكم به ا ه اجس إنت اج المعرف ة الكلي ة والش املة‬
‫باألدب‪ .‬وإذا كان هذ الوعي المركب العابر للنظرية والمنهج والتيارات المختلفة يكشف الثراء‬
‫والغ نى الثق افي واالجتم اعي للممارس ة الس ردية‪ ،‬فإنَّه من جه ة أخ رى يلم ع إلى التح والت ال تي‬
‫ح دثت في حق ل دراس ته من ذ أن اتض ح لعل وم الس رد الكالس يكية ص عوبة االش تغال على ه ذا‬
‫الموضوع‪ ،‬وبلوغ الفهم المتجدد به انطالقا من تبئير القراءة على مظهريه الشكلي والوظيفي‪.‬‬
‫وهذا ما حتّم االستفادة من اإلضافات التي تبلورها العلوم االجتماعية>>‪ 1.‬فالقاعدة األساسية‬
‫اليت كان حيتكم عليها السرد سابقا قامت على حمدودية الشكل والوظيفة‬

‫‪-1‬إدريس اخلضراوي‪ :  ‬سرديات األمة ختييل التاريخ وثقافة الذاكرة يف الرواية املغربية املعاصرة‪ ،‬دار أفريقيا الشرق‬
‫املغرب ط‪ ،2017‬ص‪.27‬‬

‫‪37‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫تـ ـ ـ ــوطئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬ ‫‪‬‬


‫س ـــارت الروايـ ـ ـــة من ـــذ ب دايات ظهورهـ ـــا يف األدب العـ ـ ـــريب حنو التع ـ ـــدد واالختـ ـــالف يف‬
‫اخلص ائص واملف اهيم‪ ،‬واالجتاه ات؛ ح دا هبا ه ذا املس ار إىل اعتباره ا أح د أب رز الفن ون النثري ة ال يت‬
‫أب دعت يف تص وير خصوص يات وقض ايا ومش كالت اجملتم ع الع ريب‪ ،‬ناهي ك عن ت اريخ ه ذا اجملتم ع‬
‫وذاكرته اجلمعية اليت مل تستطع –الرواية‪ -‬اغفاهلا أو تداركها‪ ،‬ظف إىل ذلك املرجعيات التارخيية اليت‬
‫اس تندت عليه ا من ذ نش أهتا ح ىت أهَّن ا مل تكتفي ب ذلك ب ل متاهت معه ا‪-‬املرجعي ات التارخيي ة‪ -‬وم ع‬
‫س ردياهتا ووقائعه ا وأخباره ا وول دت نوع ا جدي دا من أن واع الكتاب ات ال يت ميتزج فيه ا الت ارخيي‬
‫بالتخييلي والواقعي بالفين واملاضي باحلاضر‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫‪ .1‬المب ـحــث األول‪ :‬مسارات الرواية التاريخية الجديدة)لمحات نظرية)‬

‫لقد أجازت لنا العالقة املوجودة بني الرواية والتاريخ احلديث عن الرواية التارخيية؛ ذلك ألهَّن ا ظهرت‬
‫نتيج ة التالقح والتم ازج احلاص ل بني املاض ي واحلاض ر‪َّ ،‬‬
‫وألن املتتب ع ملس اراهتا يلمح تأثره ا الواض ح‬
‫باملتغريات اليت طرأت على الرواية العربية احلديثة وباألخص قدرهتا على االنفتاح والتفاعل مع النصوص‬
‫اخلارجية ومساءلتها وقراءهتا بطرق جديدة تتماشى مع التيارات النقدية املعاصرة‪ ،‬ومبا َّ‬
‫أن الرواية التارخيية‬
‫مر منذ بدايات ظهوره بعدة مراحل َّ‬
‫فإن<<الدارس يصادف جملة من الصعاب عادة ما‬ ‫فن مستحدث َّ‬
‫تنحصر في المس توى النظ ري والمس توى النص ي لحضور التاريخ في الكتاب ة الروائية>>‪ 1.‬وليس‬
‫املستوى النظري وال النصي الذي بوسعنا القول عنه أنَّه من الصعوبات اليت واجهتنا أثناء البحث يف هذا‬
‫الس ند؛ وإمَّن ا الكم اهلائ ل من الدراس ات واألحباث ال يت أح اطت ب ه من ك ل الزواي ا واجله ات من تعري ٍ‬
‫ف‬
‫وحبث يف املاهية‪ ،‬ظف إىل ذلك نشأته‪ ،‬ومراحله وطرق اشتغاله وتقنياته اليت ختتلف باختالف الروائي‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫حىت أننا احرتنا يف أمرنا كيف هلذا املبحث أن خيتلف عن سابقيه‪ ،‬فما كان لنا إال أن نسلط الضوء‬
‫على املنت الروائي التارخيي املعاصر أو الرواية التارخيية اجلديدة ال ألهَّن ا مل تدرس من قبل بل العكس متاما‬
‫وإمَّن ا َّ‬
‫ألن هذا االقرتاح سيكون معينا للدراسة يف وقت الحق‪.‬‬

‫لقد جتاوزت هذه األخرية أطر ومرتكزات الرواية التارخيية التقليدية و<<أعلنت(‪ )..‬القطيعة مع ما‬
‫هو تاريخي ورسمي (‪ )...‬محاولةً خلق تاريخ بديل يشاكس التاريخ الرسمي الذي هو تاريخ الملوك‬
‫والس الطين والحك ام والمنتص رين ع بر الت اريخ ويعلن عن والدة ت اريخ ب ديل وجدي د يتج اوز إط ار‬
‫المركزيات التاريخية التقليدية ويصور معاناة المهزومين والمسحوقين والمقهورين>>‪ 2.‬وبوالدة‬
‫هذا النوع من التاريخ اجلديد أصبح من الضروري التعرف عليه وعلى تقنياته وبؤره السردية وتشكالته‬

‫‪-1‬عبد الفتاح احلجمري‪ :‬هل لدينا رواية تارخيية؟‪ ،‬جملة فصول‪ ،‬اجمللد‪ ،16‬العدد‪ ،3‬شتاء‪ ،1997‬ص‬

‫‪-2‬فاض ل ث امر‪ :‬الت أرخيي والس ردي يف الرواي ة العربي ة‪ ،‬ابن الن دمي للنش ر والتوزي ع‪-‬اجلزائ ر‪ ،-‬دار الرواف د الثقافي ة‪-‬‬
‫ناشرون‪-‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2018 ،1‬ص‪.09‬‬

‫‪39‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫داخ ل الكتاب ة الروائي ة‪ ،‬ولكن قب ل ذل ك جيب أن نعلم َّ‬


‫أن ه ذه الدراس ة س تفتقد إىل املنهجي ة العلمي ة ل و‬
‫جتاوزنا وأغفلنا اإلشارة إىل الرواية التارخيية التقليدية اليت هي يف األساس األرضية اليت ساعدت على نضج‬
‫وتط ور املنت ال روائي الت ارخيي اجلدي د‪ ،‬فعن طريقه ا أدرك ال روائي الع ريب املعاص ر أمهية وقيمة وخص ائص‬
‫الت اريخ املائزة ال يت ال تقتص ر فق ط على التعليم والتش ويق واملطالع ة ب ل تتع دى ذل ك إىل البحث يف أبع اد‬
‫الذات اإلنسانية وتناقضات اجملتمع وصراعاته‪.‬‬

‫الرواي ــة التاريخيـ ــة التقليدي ـ ــة‪:‬‬ ‫ا‪.‬‬

‫وس ط من اخ نق دي مش حون ب آراء النق اد املتض ادة ح ول نق اط التش ابه واالختالف بني الرواي ة‬
‫التارخيية التقليدية واجلديدة ارتأينا أوال أن يكون هذا املبحث عب ارة عن حملات نظرية سريعة مبسطة‬
‫لكال املفه ومني‪ ،‬ولكن قب ل ذل ك مازلن ا يف حاج ة إىل التع رف على الرواي ة التارخيي ة ‪-‬بعي دا عن‬
‫أنواعها‪ -‬وطرح أسئلة نقدية حوهلا؛ فالسؤال املبدئي الذي نفتتح به مرتبط ومتعلق مباهيتها واملقصود‬
‫هبا؟‪.‬‬

‫َّ‬
‫إن املقصود بالرواية التارخيية هو بالذات ذلك املعىن املتواجد يف أصل التشابك احلاصل بني الرواية‬
‫والت اريخ‪ ،‬وق د وص ف ه ذا األخ ري بأنَّه<<خط اب س حري>>‪1‬ص يغ على أس س ومب ادئ علمي ة‬
‫وك انت التجرب ة اإلنس انية مباض يها وأح داثها هي أص ل وه دف ه ذا العلم‪ ،‬بي دا َّ‬
‫أن<<البحث في‬
‫علمية الخطاب التاريخي لن تعود إلى نقطة االنطالق األولى وهي جدلية نسبة التاريخ للعلم أم‬
‫للفن‪ ،‬ب ل إنه ا تأخ ذ ب الرأي الت وفيقي ال ذي ال ينفي علمي ة الت اريخ م ع ذل ك يق ر‬
‫بخصوصيتها>>‪ 2.‬حييل الرأي التوفيقي على وجود مواقف أخرى منها من عارضت علمية التاريخ‬
‫ألسباب قد تتعلق مبدى موضوعية املدونة التارخيية اليت تفتقد خاصية العامل املادي املتواجد يف الظواهر‬
‫الفزيائي ة على س بيل املث ال أو الظ واهر الطبيعي ة القائم ة على ق وانني وجتارب وفرض يات يتم دراس تها‬
‫داخل املختربات وتتطور مع تطور االكتشافات‪ ،‬أما الرأي اآلخر فريى أن املدونة التارخيية ميكن أن‬

‫‪-1‬عبد السالم أقلمون‪ :‬الرواية والتاريخ "سلطان احلكاية وحكاية السلطان"‪ ،‬دار الكتاب اجلديد املتحدة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬ط‪ ،2010‬ص‪.9 ،‬‬
‫‪-2‬مىن بشلم‪ :‬عالقة الرواية العربية بالتاريخ‪ ،‬جملة املخرب‪ ،‬أحباث يف اللغة واألدب اجلزائري‪ ،‬جامعة بسكرة‪ ،‬اجلزائر‬
‫العدد‪ ،13‬ط‪ ،2017‬ص‪.138‬‬

‫‪40‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫تك ون م ادة علمي ة قابل ة للدراس ة وف ق أس س ومب ادئ علمي ة وه ذا م ا جنده عن د ابن خل دون ال ذي‬
‫أسس<<لمرحلة جديدة من التفكير المنهجي التاريخي>>‪ 1.‬الذي ينتهج فيه<<منهجا برهاني ا‬
‫استدالليا>>‪ 2.‬أما الرأي التوفيقي فيعتربه<<منهج قار في استقصاء الحقائق‪ ،‬ومعاودة تكرار‬
‫الماضي كما هو>>‪ 3.‬واملقصود بتكرار املاضي كما هو من وجهة نطر الناقد يعين مدى واقعية‬
‫احلق ائق التارخيي ة اليت جيب أن تبتع د عن األه واء والذاتية وال تق ع يف فخ األدجلة وإال ف<<العلمية‬
‫فيه لن تكون شيئا آخر سوى صناعة التاريخ>>‪َّ 4.‬‬
‫إن علمية التاريخ تلك هي اخلاصية اليت عملت‬
‫على نق ل املاض ي بأحداث ه وهزائم ه وانتص اراته بك ل موض وعيه وواقعي ة وه و م ا جعله ا ختتل ف عن‬
‫احملكي ال روائي ال ذي ال يتقي د بتل ك العلمي ة واملوض وعية وإمَّن ا ه و اآلخ ر يتم يز عن ه‪-‬الت اريخ‪ -‬بكون ه‬
‫يس تطيع ق ول م ا مل يس تطع اآلخ ر‪-‬الت اريخ‪ -‬قوله<<والواق ع أن ال ذي بين الرواي ة والت اريخ من‬
‫ترابط وتواشج هو أكبر من مجرد تماس وقائعي بل ثمة ما يشي بأن النسغ السردي للكتابتين‬
‫يط وي هوي ة واح دة‪ ،‬قب ل أن ينم از الص نفان عن بعض هما البعض‪ .‬وم ع التم ايز تبقى أنوي ة م اض‬
‫مش ترك مترس بة في جينيالوجي ا الخط ابين‪ ،‬تطف و معالمهم ا بين الفين ة واألخ رى للت ذكير‬
‫إن اقرتان احملكي الروائي بالواقع التارخيي يعين َّ‬
‫أن كالمها أسسا وعيا عميقا واستطاعا‬ ‫بذلك>>‪َّ 5.‬‬
‫التمييز بني ما تقتضيه وتستسيغه الكتابة الفنية وما تقوم عليه الكتابة التارخيية‪ ،‬ويف حماولة منهما لفعل‬
‫ذل ك ك ان<<للمس ألة وجوه ا أخ رى تغ ري ب النظر وت دعو إلى التقص ي‪ .‬فالت اريخ‪ ،‬ش أنه ش أن‬
‫الرواية‪ ،‬خطاب سردي‪ .‬ومهما بالغنا في إسباغ البعد المرجعي عليه فإنه يظل خطابا منجزا في‬
‫مقام محدد تتحكم فيه اعتبارات شتى توجهه وتضيء مسالك قراءته وكذا الشأن بالنسبة إلى‬
‫الرواية‪ ،‬فهي وإن بدت خطابا تخييليا ال تنقطع عن صلتها بالمرجع انقطاعا تاما>>‪ 6.‬ما يريد‬
‫أن املرجعي ة التارخيي ة مهم ا ك انت متفاعل ة م ع الرواي ة إىل ح د كب ري إال أهَّن ا‬
‫أن خيلص إلي ه الناق د ه و َّ‬
‫حتتكم إىل مجل ة من العوام ل واألدوات والط رق ال يت تتحكم يف س ريها وتطوره ا ومثة أيض ا مقوم ات‬
‫‪- 1‬عبد السالم أقلمون‪ :‬الرواية والتاريخ "سلطان احلكاية وحكاية السلطان"‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫‪-2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫‪ -4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫‪-5‬عبد السالم أقلمون‪ :‬الرواية والتاريخ "سلطان احلكاية وحكاية السلطان"‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫‪- 6‬حممد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ "دراسات يف ختييل املرجعي"‪ ،‬دار املعرفة للنشر‪ ،‬تونس‪ ،‬ط‪ ،2008 ،1‬ص‪.18‬‬

‫‪41‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫ختيلية ال ميكن للفن الروائي أن يستغين عنها أو يتجاوزها؛ ف<<التاريخ خطاب نفعي يسعى إلى‬
‫الكش ف عن الق وانين المتحكم ة في تت ابع الوق ائع‪ ،‬في حين أن األدب والرواي ة على وج ه‬
‫الخص وص خط اب جم الي تق دم في ه الوظيف ة اإلنش ائية على الوظيف ة المرجعي ة>>‪ 1.‬وم ع ذلك‬
‫غ دا اخلط اب الت ارخيي ن واة أساس ية تنظم ح ول أحداث ه وم واده حمكي ات ختييلي ة س رعان م ا تن امت‬
‫وتطورت مشكلة فنا مجع فنون القول مع فنون النثر حبكم االعتبارات السردية املوجودة بينهما اليت‬
‫انص هرت وحتاورت فيم ا بينه ا مش كلة <<من خالل ه ذا‪ ،‬الل ون اإلب داعي الموس وم بالرواي ة‬
‫التاريخي ة بم ا هي منطق ة بين الت اريخ واألدب الل ذين يؤل ف بينهم ا أن كالّ منهم ا خط اب‬
‫سردي>>‪ 2.‬يرتبط إذن مفهوم الرواية التارخيية خباصية السرد اليت يشرتك فيها التخييل مع التاريخ؛‬
‫فمص طلح الرواي ة التارخيي ة يعكس مفهوم ا جوهري ا يقص د به<<خط اب أدبي ينش غل على خط اب‬
‫ت اريخي مثبت س ابق علي ه انش غاال أفقي ا يح اول إع ادة إنتاج ه روائي ا‪ ،‬ض من معطي ات آني ة‪ ،‬ال‬
‫تتعارض مع المعطيات األساسية للخطاب التاريخي‪ .‬وانشغاال رأسيا عندما تحاول إتمام المشهد‬
‫الت اريخي من وجه ة نظ ر المؤل ف إتمام ا تفس يريا أو تعليلي ا أو تص حيحيا‪ ،‬لغاي ات إس قاطية أو‬
‫استذكارية أو استشرافية>>‪ 3.‬وقد اعتربته الناقدة تعريفا أمجلت فيه أهم مميزات الرواية التارخيية؛‬
‫كذلك نشاطرها الرأي؛ ادراكا منَّا َّ‬
‫أن احملكي التارخيي تتجاذبه مرجعيتني‪ :‬النص الروائي الذي متكن‬
‫من استحضار وقائع حقيقية استوعبها وأضاف عليها خاصيته التخييلية وذلك دون شك لغايات قد‬
‫تك ون متعلق ة باس تذكار املاض ي أو اس قاطه على احلاض ر أو ق د تك ون ل ه نظ رة استش رافية مس تقبلية‬
‫وآليته يف ذلك التاريخ الذي<<يشترك مع الرواية التاريخية في كون كل منهما خطابا‪ .‬وهذا‬
‫الخط اب في الح التين مرتب ط بالماض ي يعلن في ه الم ؤرخ أن ه مج رد ناق ل موض وعي لم ا وق ع‪،‬‬
‫ويعلن الروائي أنه راو ألحداث جرت وإن أهملها المؤرخون>>‪ 4.‬قد تتماهى الرواية التارخيية‬
‫م ع الت اريخ من خالل الع ودة إىل املاض ي لكنه ا على ح د ق ول حمم د القاض ي ت رفض أن تبقى حتت‬

‫‪-1‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.24-23‬‬


‫‪-2‬املرجع نفسه‪ : ‬ص‪.23‬‬
‫‪-3‬نضال الشمايل‪ :‬الرواية التارخيية حبث يف مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية‪ ،‬دار الكتب احلديث‪ ،‬أربد‪،‬‬
‫األردن ط‪ ،2006 ،‬ص‪.117‬‬
‫‪- 4‬حممد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ "دراسات يف ختييل املرجعي"‪ ،‬ص ‪.86‬‬

‫‪42‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫‪1‬‬
‫عباءته ويف ال وقت نفسه تأىب االنفص ال عنه لذلك عم د إىل توص يفها <<بالجنس الهجين>>‪.‬‬
‫فهي يف نظره<<صراع بين خطابين وبين رؤيتين للعالم ولكي نقرأها البد لنا من استنفار آليات‬
‫مخصوصة نتمكن بها من فك االرتباط بين المرجعي والتخيلي‪ ،‬بين خطاب السلطة الذي يتجلى‬
‫في الت اريخ وس لطة الخط اب ال تي تتجلى في الرواي ة>>‪َّ 2.‬‬
‫إن ه ذا املعطى ال ذي يق ُّر في ه الناق د‬
‫بوج ود ص راع بينهم ا م ا ه و إال حماول ة لتش خيص م دى اس تيعاب خصوص يات اخلط اب ال روائي‬
‫للخطاب التارخيي الذي يسعى هو اآلخر إلفساح حيز هام هلا كي تثمر وتتفاعل وتنفتح عليه وتقرأ‬
‫طبيعة اخلطاب السلطوي الذي يتواجد ويطغى بشكل كبري على صفحاته ويتحكم يف سجالته اليت مل‬
‫عد العالقة بينهما عالقة صراع َّ‬
‫ألن الرواية غايتها‬ ‫ٍ‬
‫بنصوص ذات اهليمنة والتسلط‪ ،‬لذلك َّ‬ ‫حتتفظ إال‬
‫تش يد حمكي ات حتاول من خالهلا اس تعادة ت اريخ مهمش ومنس ي ومس لوب َّأما اخلطاب ات الس لطوية‬
‫املهيمنة واملتحكمة فيه ترفض الكشف عنه وحتاول اخفاءه لتظهر فقط ما تريد إظهاره‪ ،‬وما يتماشى‬
‫مع مصاحلها السياسية‪.‬‬

‫غري َّ‬
‫أن اخلوض يف غمار الرواية التارخيية يقودنا لزاما إىل احلديث عنها عند الغرب باعتبارها وليدة‬
‫بيئ ة غربي ة‪ ،‬فالعالق ة املوج ودة بني<<الت اريخ والرواي ة كم ا ه و واض ح ليس ت عالق ة ع ابرة أو‬
‫عرضية فعندما ظهرت الرواية جنسا أدبيا جديدا اقترنت في الغالب بالتاريخ‪ ،‬فوجدنا روايات‬
‫السير والتر سكوت التاريخية وروايات الفروسية التي عبرت عنها روايات ألكسندر دوماس‪،‬‬
‫ووجدنا قبل ذلك رواية "دون كيشوت" للروائي اإلسباني سرفانتس>>‪ 3.‬دون أن ننسى ذكر‬
‫رواية ستيفن كرين "شارة الشجاعة الحمراء"‪ ،‬كما أهَّن ا حتولت وازدهرت يف أوروبا<<حيث نجد‬
‫ك ل من ألف رد دوفين يي في "الخ امس من م ارس" ع ام ‪ ،1826‬وم انزوني في "المخطوب ة" ع ام‬
‫‪ ،1827‬وبع ده بل زاك في "الث ائرون" ع ام ‪ 1829‬وبروس بير ميريمي ة في "ت اريخ زمن ش ارل‬
‫التاس ع" ع ام‪ ،1829‬وفكت ور هيج و في "ن وتردام دي ب اري" ع ام ‪" ،1831‬ويلت ون في "أي ام‬
‫بومبي األخيرة عام ‪ ،1834‬وروبرت جريفز في "كلوديوس" عام ‪ ،1934‬وألكسندر دوماس‬
‫في "الفرسان الثالثة" عام ‪ ،1844‬والذي يعد من أكثر المتأثرين بوالتر سكوت فقد اتبعه وسار‬
‫‪ -1‬املرجع السابق‪ :‬ص‪.92 ،‬‬
‫‪- 2‬حممد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ "دراسات يف ختييل املرجعي"‪ ،‬ص‪.116-115‬‬
‫‪- 3‬فاضل ثامر‪ :‬النقد والتاريخ يف رواية ما بعد احلداثة‪ ،‬جملة الكوفة‪ ،‬العدد‪ ،10‬سنة‪ ،2016‬ص‪.43‬‬

‫‪43‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫على نهج ه>>‪ 1.‬لق د نش أة الروي ة التارخيي ة وتط ورت يف أوروب ا واألهم من ذل ك أهَن ا رمست مع امل‬
‫ه ذا التع الق بني الرواي ة والت اريخ وأنتجت خطاب ا روائي ت ارخيي عظيم<<واآلن تعيش الرواي ة‬
‫التاريخي ة عص را ذهبي ا عن د الغ رب كم ا يظه ر ذل ك على أي دي كت اب معاص رين من أمث ال‪:‬‬
‫"خوس يه س اراماجو" و"م اركيز" و"م اريو فاراج اس لوس ا" و"م ارجريت ات وود>>‪َّ 2.‬أما‬
‫<<الرواي ة العربي ة هي األخ رى ق د اق ترنت في ب داياتها بالت اريخ أيض ا كم ا ك انت الح ال م ع‬
‫روايات جورجي زيدان التاريخية والمويحلي وأبو الثناء اآللوسي في العراق>>‪ 3.‬وقد قارب‬
‫النقاد العرب نشأة الرواية التارخيية يف األدب العريب من عدة مداخل‪ ،‬واختلفوا يف طبيعة نشأهتا إن‬
‫ك انت نت اج مت أثر بالرواي ة التارخيي ة عن د وال رت س كوت وألكس ندر دوم اس األب؟ أم َّ‬
‫أن هلا ج ذورا‬
‫ضاربة يف عمق الرتاث العريب القدمي؟ وضمن هذه املقاربة النقدية اليت خلصت إىل ظهور توجه ثالث‬
‫زاوج بني الرتاث العريب القدمي املتمثل يف سرية اهلاللية‪ ،‬وقصة عنرتة‪ ،‬وسرية الظاهر بيربس‪.....‬وبني‬
‫الرواي ة التارخيي ة الغربي ة ال يت اس تمدت منه ا ش كلها الف ين‪ ،‬ظه رت رواي ة "زنوبي ا" أول رواي ة تارخيي ة‬
‫عربي ة نش رها س ليم البس تاين متسلس لة يف أع داد جمل ة جن ان س نة ‪ ،1871‬وق د ص ورت ه ذه الرواي ة‬
‫الصراع القائم بني ملكة تدمر والرومان يف القرن الثالث‪ ،‬مث كتب رواية "بدور" سنة ‪ 1872‬وكان‬
‫موض وعها ي دور ح ول أم رية أموي ة وقعت يف حب ابن عمه ا عب د ال رمحن ال داخل مؤس س الدول ة‬
‫األموية يف األندلس‪ ،‬ويف سنة ‪ 1874‬نشر رواية "الهيام في بالد الشام" وتدور أحداثها حول فتح‬
‫بالد الش ام يف عص ر أيب بك ر الص ديق وعم ر بن اخلط اب‪<<4.‬إال أنَ ه ش اب ه ذا اإلنت اج ال روائي‬
‫الكثير من العيوب أهمها ضعف المعمار الفني الناتج عن عدم الترابط وكثرة التفكك والتقطيع‬
‫ألح داث الرواي ة‪ ،‬عالوة على ك ثرة المص ادفات والمفاجئ ات والت دخالت ب العبر والحكم‬
‫والمواع ظ(‪ ).....‬ونالح ظ أن ه ذه اللغ ة في بس اطتها وقربه ا من الن اس تب دو مت أثرة باألس لوب‬
‫الص حفي وبلغ ة الرواي ة الغربي ة‪ ،‬وفي محافظته ا على الس جع والب ديع تب دي تعلقه ا بالقص ص‬

‫‪-1‬حمم د حمم د حس ن طبي ل‪ :‬حتوالت الرواي ة التارخيي ة يف األدب الع ريب‪ ،‬رس الة ماجس تري للحص ول على درج ة‬
‫املاجستري قسم اللغة العربية‪ ،‬كلية اآلداب يف اجلامعة اإلسالمية‪ ،‬غزة‪ ،‬سنة‪ ،2016‬ص ‪.13‬‬
‫‪-2‬نضال الشمايل‪ :‬الرواية التارخيية حبث يف مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية العربية‪ ،‬ص‪.120‬‬
‫‪- 3‬فاضل ثامر‪ :‬النقد والتاريخ يف رواية ما بعد احلداثة‪ ،‬جملة الكوفة‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪- 4‬نقال عن حممد حممد حسن طبيل‪ :‬حتوالت الرواية التارخيية يف األدب العريب‪ ،‬ص‪.18‬‬

‫‪44‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫الش عبي وال تراث الس ردي الع ربي‪ ،‬والك اتب ب ذلك ح اول أن ي وازن بين م ا تعلم ه من أس لوب‬
‫غربي‪ ،‬وبين الموروث السردي والقصص الشعبي العربي الذي كان سائدا آنذاك>>‪ 1.‬نفهم‬
‫من هذا‪َّ ،‬‬
‫أن سليم البستاين كان على معرفة بالشكل الفين للرواية الغربية وكذا متأثر بالرتاث العريب‬
‫القدمي وعلى هذا األساس بدا أنَّه ينتمي إىل أصحاب االجتاه الذي زاوج بني القوالب العربية والغربية‪،‬‬
‫واجتاه ه لعب دور اجلس ور يف الرب ط ين الثق افتني ولعب أيض ا دور الري ادة وتط وير الرواي ة التارخيي ة‬
‫العريب وحنن يف هذا نوافق الناقد حممد حممد حسن طبيل‪.‬‬

‫أما الرواية التارخيية العربية يف مسارها التطوري فقد مرت على حد قول الناقد نضال الشمايل بثالث‬
‫مراحل‪:‬‬

‫المرحل ة األولى‪ :‬وهي عب ارة عن<<مرحل ة إع ادة تس جيل الت اريخ س رديا م ع محاول ة‬ ‫‪‬‬
‫للتقي د ول و من بعي د بمجرياته لغاي ات تعليمي ة إخبارية‪ ،‬كم ا ظه ر ذل ك في أعم ال ج ورجي‬
‫زي دان>>‪ 2.‬يق ف ج ورجي زي دان خل ف ه ذه املرحلة اليت انطلق فيه ا من ذ بداياته من تصور‬
‫حدده واعتربه مبثابة قالب يستقطب به القراء لغايات يرى أهَّن ا األنسب هلم وهي غايات تعليمية‬
‫تثقيفية <<لقد اتجهت روايات الجيل األول إلى إعادة كتابة التاريخ بصورة شائقة‪ ،‬تهدف‬
‫إلى تثبيت أحداثه فيحصل أن يخرج الكاتب عن أصول السرد القصصي في مواضيع كثيرة‬
‫ويشعر القارئ أن الكاتب يهمه أحكام التفاصيل التاريخية أكثر مما يهمه إحكام التفاصيل‬
‫التاريخية أكثر مما يهمه إحكام الخيال في خلق صورة حية لذلك المجتمع>>‪ 3.‬اشتغل‬
‫رواد هذا اجليل على مواد تارخيية اعتربوها هي األساس يف نصوصهم‪ ،‬مكتفيني مبكوناهتا دون أن‬
‫ينظ روا إىل عامله ا احلك ائي وخصائص ه الفنية<<والس بب وراء اهتم ام الك اتب بالج انب‬
‫الت اريخي ه و الظ روف ال تي كتبت فيه ا ه ذه الرواي ات ال تي أخ رجت من دائ رة الرواي ة‪،‬‬
‫ووس مت بالتعليمي ة غ ير أن الم ادة التاريخي ة عن د االش تغال عليه ا روائي ا لم تس لم من ذاتي ة‬

‫‪-1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.18‬‬


‫‪-2‬نضال الشمايل‪ :‬الرواية التارخيية حبث يف مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية العربية‪ ،‬ص ‪.123-122‬‬
‫‪-3‬مىن بشلم‪ :‬عالقة الرواية العربية بالتاريخ‪ ،‬ص‪.143‬‬

‫‪45‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫الكتاب>>‪ 1.‬وتقصد الناقد بذاتية الكاتب َّ‬


‫أن أغلب رواد هذا اجليل هم أقلية عربية مسيحية‬
‫كتبت الت اريخ اإلس المي‪ ،‬فالريب أن تتخل ل نصوص هم بعض ا من معتق داهتم ال يت يؤمن ون هبا‬
‫أبس طها أهَّن م ي رون أنفس هم أقلي ة مض طهدة ومهمشة<<فزي دان ك ان ي وارب في تش ويش‬
‫الح دث الت اريخي بنزعات ه الخاص ة أم ا ف رح أنط وان فلم يكن يس تنكف عن إظه ار تعص به‬
‫صريحا؛ فجميع أبطاله كانوا من غير العرب المسلمين لم يكن يكتفي بتقديم تاريخ زائف‬
‫ب ل يطمح إلى تنمية إي ديولوجيا نقيضة للقومي ة العربي ة واإلس المية‪ ،‬أما زي دان فيجع ل بنياته‬
‫الروائية مشدودة إلى نسق الحكي الكالسيكي خصوصا مظهره التشويقي‪......‬يجعل أبطاله‬
‫يعيشون ظروفا عصيبة وشديدة الحرج‪ ،‬ثم يجعل الفرج دائما على يد القساوسة والرهبان‪،‬‬
‫مما يجعل رواياته تحمل نفسا تبشيريا خفيف األثر وإن كان عميق الداللة>>‪ .2‬واملسألة يف‬
‫هذه احلالة من وجهة نظرن ا خترج عن غاياهتا التعليمية إىل ٍ‬
‫حد ما لتتخلله ا على األغلب غايات‬
‫متعلق ة ب رؤيتهم للواق ع ال ذي يعيش ونه ونظ رهتم للوض ع ال ذي حياولون تش رحيه كم ا يري دون‪،‬‬
‫هدفهم واضح وهو الدفاع عن األقلية املسيحية وإظهارهم يف صورة تعمل على حتليل معطيات‬
‫حاضرهم أال وهو اضطهادهم وهتميشهم ومعاملتهم معاملة ختتلف عن البقية املسلمة وكذلك‪،‬‬
‫كما قالت الناقدة ال ختلو نصوصهم من حماولة نشر الديانة املسيحية ونشر معتقداهتم والتبشري هبا؛‬
‫أن نصوص هذه املرحلة إىل جانب أهَّن ا استهدفت القراء بغية تعليمهم إال أهَّن ا‬
‫وبالتايل نأكد على َّ‬
‫أيضا مررت رؤيتها اآلنية للواقع املعيشي الذي وجدت نفسها داخله‪ ،‬لتعيد كتابة أحداث تارخيية‬
‫ألبستها حبكة تشويقية مسلية وأمهلت جانبها الفين واجلمايل‪.‬‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬وهي<<مرحلة الموازنة بين ما هو تاريخي وما هو فني‪ ،‬فالتاريخ يسكب‬ ‫‪‬‬
‫في ق الب روائي واض ح المع الم‪ ،‬ويحق ق أهداف ه ويس تعرض وجه ة نظ ره‪ ،‬كم ا ظه ر في‬
‫روايات نجيب محفوظ>>‪ 3.‬ومن أهم مميزات هذه املرحلة أهَّن ا سعت إىل تفعيل مكونات كال‬
‫املرجعيتني التارخيية والتخيلية ويف اآلن نفسه ساوت بينهما‪ ،‬ومن روادها جنيب حمفوظ الذي<<‬
‫يكش ف في روايات ه التاريخي ة منظ وره للع الم ومع نى الرواي ة ال تي ترح ل إلى أزمن ة مختلفة‬

‫‪-1‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.143‬‬


‫‪-2‬مىن بشلم‪ :‬عالقة الرواية العربية بالتاريخ‪ ،‬ص‪.143‬‬
‫‪-3‬نضال الشمايل‪ :‬الرواية التارخيية حبث يف مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية العربية‪ ،‬ص ‪.123‬‬

‫‪46‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫وتتمس ك بمأس اة اإلنس ان‪ .‬فه و إذ يكتب عن مص ر القديم ة إنم ا يفع ل ذل ك احتجاج ا على‬
‫الحاض ر وبحث ا عم ا يض يء وجوه ه‪ ،‬فوض ع في الماض ي أس ئلة الحاض ر‪ ،‬فيمكن الق ول أن‬
‫التاريخ وفّر للرواية العربية فرصة التمرس إلى أن كفا تشبع هذا الشكل الروائي‪...‬مما أدى‬
‫إلى تحول الرواية إلى الحياة المعيشة>>‪ 1.‬حتددت هذه املرحلة بعد نضج مكونات خلطاب‬
‫ال روائي لي دخل ض من نس يجها اخلط اب الت ارخيي ويتع ادال يف الكف ة ودون تغليب أح دمها عن‬
‫اآلخر ويناقشا معا ظروف احلياة املعيشة بعد أن غيبها رواد اجليل األول‪.‬‬
‫المرحل ة الثالث ة‪ :‬اعتربها نض ال الش مايل<<مرحل ة اس تثمار الت اريخ اس تثمارا اس قاطيا واعي ا‬ ‫‪‬‬
‫يرتهن التاريخ فيه إلى ما هو فني بالدرجة األولى‪ ،‬وفيه يتهيأ التاريخ قناعا‪ .‬والروايات التي‬
‫سارت على هذا النهج تسعى جاهدة إلى تفسير الواقع المعيش من خالل الماضي المنقضي‬
‫ال ذي يمكن أن يعي د نفس ه لكنه ا ته رب إلى ف ترات مش ابهة للحظته ا الحاض رة فتق وم بم ا‬
‫يس مى ب"اإلس قاط الت اريخي‪ ،‬كم ا لمس نا ذل ك ل دى جم ال الغيط اني في "الزي ني برك ات"‬
‫ورض وى عاش ور في "ثالثي ة غرناط ة" وعب د ال رحمن م نيف في "أرض الس واد">>‪ 2.‬لق د‬
‫متيزت ه ذه املرحل ة رغم تأخره ا عن املرحل تني الس ابقتني باعتماده ا على تقني ة "اإلس قاط‬
‫التاريخي" ويعين هبا الناقد؛ تلك النصوص الروائية اليت حاولت تفسري الواقع املعيش بالعودة إىل‬
‫املاض ي وانتق اء ح وادث تارخيي ة ش بيهة إىل ح د كب ري باألح داث الراهن ة أو ال يت عاص رت زمن‬
‫كتابته ا واس قاطها‪َّ ،‬أما أن يك ون الت اريخ قناع ا ف ذلك يس تدعي منَّا اإلش ارة إىل م ا ذك ره حمم د‬
‫القاضي يف معرض حديثه عن رواية "الزيني بركات" جلمال الغيطاين حتت عنوان "الرواية وقناع‬
‫التاريخ"‪ ،‬ف<<الغاية األساسية للتاريخ في هذه الرواية هي تحقيق المماهاة بين الحاضر‬
‫والماضي عبر الفن>>‪َّ 3.‬‬
‫ألن التاريخ يف نظره يكون قناعا يتخفى الروائي وراءه حىت يتمكن‬
‫من مترير خطابات تشغل تفكريه ليستثمرها يف خدمة حاضره‪.‬‬

‫كانت هذه هي املراحل الثالث اليت مرت هبا الرواي ة التارخيي ة؛ فمن خالهلم –املراح ل الثالث‪-‬ميكن‬
‫أن خنلص إىل أم رين‪ :‬أوهلم ا َّ‬
‫أن الرواي ة التارخيي ة يف مس ارها التأسيس ي األول م ا هي إال منج ز ف ين‬
‫‪-1‬مىن بشلم‪ :‬عالقة الرواية العربية بالتاريخ‪ ،‬ص‪.144‬‬
‫‪-2‬نضال الشمايل‪ :‬الرواية التارخيية حبث يف مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية العربية‪ ،‬ص ‪.123‬‬
‫‪- 3‬حممد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ "دراسات يف ختييل املرجعي"‪ ،‬ص‪.54‬‬

‫‪47‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫واقعي متيز باش تغاله على م واد تارخيي ة خمصوص ة حتوي مص ادر وأح داث ووق ائع اس تثمرها ال روائي‬
‫خلدم ة اإلط ار الع امل ل ذلك املنج ز الف ين‪َّ ،‬أما األم ر الث اين فق ذ انبث ق من األول حيث ميكنن ا الق ول َّ‬
‫أن‬
‫الرواية التارخيية يف املرحلة الثالثة اختلفت وتعددت رؤاها عن املراحل األوىل‪ ،‬فرؤيتها تلك مبنية على‬
‫م دى وعي ال روائي املعاص ر وفهم ه ألبع اد عص ره االجتماعي ة والسياس ية والثقافي ة‪ ،‬ح ىت َّ‬
‫أن ط رق‬
‫اش تغاله تغ ريت‪ ،‬ه ذا م ا جع ل الناق د عب د اهلل اب راهيم وسط ذل ك املن اخ النق دي مش حون أن يق رتح‬
‫مص طلحا ب ديل عنه ا يف كتاب ه <<التخي ل الت اريخي‪( :‬الس رد واإلمبراطوري ة والتجرب ة‬
‫االستعمارية)>> والذي تطرق يف مقدمته إىل احلديث عن مصطلح التخيل التارخيي معلنا َّ‬
‫أن األوان‬
‫قد حان ليحل هذا املصطلح حمل الرواية التارخيية ألهّن ا مل تعد قادرة على حتديد أجناسيتها ناهيك عن‬
‫تقوقعه ا يف دائ رة املاضي<< فه ذا اإلحالل س وف ي دفع بالكتاب ة الس ردية التاريخي ة إلى تخطي‬
‫مشكلة األنواع األدبية وحدودها ووظائفها‪ ،‬ثم إنَّه يفكك ثنائية الرواية والتاريخ ويعيد دمجهما‬
‫في هوية سردية جديدة‪ ،‬فال يرهن نفسه ألي منهما‪ ،‬كما أنَّه سوف يحيّ د أمر البحث في مقدار‬
‫خضوع التخيالت السردية لمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية فينفتح على كتابة ال تحمل وقائع‬
‫الت اريخ‪ ،‬وال تعرفه ا‪ ،‬إنَّم ا تبحث في طياته ا عن الع بر المتن اظرة بين الماض ي والحاض ر‪ ،‬وعن‬
‫التمثالت الرمزي ة فيم ا بينه ا‪ ،‬فض ال عن اس تيحاء الت أمالت والمص ائر والت وترات واالنهي ارات‬
‫القيمية والتطلعات الكبرى‪ ،‬فتجعل منها أطرا ناظمة ألحداثها ودالالتها فكل تلك المسارات‬
‫الك برى ال تي يقترحه ا "التخي ل الت اريخي" تنق ل الكتاب ة الس ردية من موق ع ج رى تقيي د ح دوده‬
‫النوعي ة إلى تخ وم رحب ة للكتاب ة المفتوح ة على الماض ي والحاض ر>>‪ 1.‬وقص د فهم أبع اد ه ذا‬
‫اإلحالل الذي اقرتحه عبد اهلل ابراهيم سنحاول تبسيط املقطع السابق يف النقاط التاليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‪:‬‬

‫يسعى عب د اهلل ابراهيم إىل حتدي د هوي ة الكتابة الس ردية ذلك أل ّن حماول ة جتنيس الرواية على أهَّن ا‬ ‫‪‬‬
‫رواية تارخيية أمر شائك‪ ،‬أما البديل فيتجاوز اشكالية التجنيس وذلك لقدرته على ختطي مشكلة‬
‫األنواع األدبية وحدودها‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد اهلل إبراهيم‪ :‬التخيل التارخيي "الس رد واإلمرباطورية والتجربة االستعمارية"‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات‬
‫والنشر بريوت‪ ،‬ط‪ ،2011 ،1‬ص‪.5 ،‬‬

‫‪48‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫يتج اوز مص طلح التخي ل الت ارخيي فك رة البحث عن م ا إذا ك انت الكتاب ة الس ردية ختض ع ملب دأ‬ ‫‪‬‬
‫مطابقة املرجعيات التارخيية إىل البحث عن عوامل أخرى موجودة يف التاريخ باعتباره حدث مليء‬
‫بالعرب والتجارب ومصدر من مصادر اإلهلام اإلبداعي اليت متكن الروائي من جتديد آليات الكتابة‬
‫السردية وخلق أدوات تأويلية وقرائية جديدة جتعله أكثر انفتاحا على املاضي واحلاضر واملستقبل‪،‬‬
‫وأك ثر حري ة يف مس اءلة املاض ي وإع ادة كتابت ه واالفص اح عم ا س كت عن ه وم ا مهش من قب ل‬
‫التاريخ الرمسي‪.‬‬

‫أم ا املقص ود بالتخي ل الت ارخيي فيعرف ه عب د اهلل إب راهيم على أنّ ه <<الم ادة التاريخي ة المتش كلة‬
‫بواسطة السرد‪ ،‬وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية‪ ،‬وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية‬
‫ورمزي ة فالمتخي ل الت اريخي ال يحي ل على حق ائق الماض ي وال يقرره ا وال ي روج له ا ‪ ،‬إنم ا‬
‫يس توحيها بوص فها رك ائز مفس رة ألحداث ه‪ ،‬وه و من نت اج العالق ة المتفاعل ة بين الس رد المع زز‬
‫بالخيال والتاريخ الم دعم بالوق ائع‪ ،‬لكنه تركيب ثالث مختلف عنها>>‪َّ 1.‬‬
‫إن التخيل الت ارخيي‬
‫ككل ق ائم على التفاع ل احلاص ل بني املرجعي ة التخييلية واملرجعي ة الواقعي ة ال يت ينجر عنه ا ن وع أديب‬
‫معروف يسمى الرواية التارخيية لكن تركيبته‪-‬التخيل التارخيي‪ -‬ختتلف عنها‪-‬الرواية التارخيية‪ -‬ألنَّه‬
‫يبتع د عن التعري ف ب احلوادث التارخيي ة وتعليمه ا للق راء وال يس لط الض وء على تل ك احلوادث وال‬
‫يقرره ا وإمنا يس عى إىل اس تدعائها بغي ة اس قاطها على احلاض ر لت ؤدي جمموع ة من الوظ ائف منه ا‬
‫اجلمالية والرمزية فغايته بعيدة كل البعد عن التوثيق والتوصيف ونلمس غالبا هذه الرتكيبة اليت أشار‬
‫إليها عبد اهلل إبراهيم يف الكثري من النماذج الروائية العربية املعاصرة فنجدها عند أمني معلوف‪ ،‬واسيين‬
‫األعرج‪ ،‬احلبيب السائح‪ ،‬رضوى عاشور‪ ،‬بن سامل محيش‪ ،‬صنع اهلل إبراهيم‪ ،‬مجال الغيطاين‪ ،‬يوسف‬
‫زيدان وغريهم ممن حاولوا إعادة قراءة التاريخ العريب واإلسالمي َف ُه ْم<<روائيون آمنت كتاباتهم‬
‫بالتحول البنيوي والداللي في توظيفها لمادة التاريخ فصنعت لنفسها شكال جديدا يستأنس إلى‬
‫التاريخ خدمة للنسق الفكري الذي تقوم عليه الرواية فجاءت أعمالهم م َخيلة متحررة من الوثيقة‬
‫ومستندة إلى تجارب تنتصر للممكن‪ ،‬أكثر من انتصارها لما كان‪ ،‬أي أنها انتصرت للخيال على‬
‫حس اب الواقع ة التاريخي ة‪ ،‬وه و م ا منح ه ذا الجي ل مس احة كب يرة من الحري ة خ ولت ل ه س لطة‬

‫‪-1‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.5‬‬

‫‪49‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫التمييز والرفض والتصحيح والتحويل والتحوير ناهيك عما منحته له من قدرة على بعث التاريخ‬
‫المحظور‪ ،‬وإيراد التاريخ المغمور‪ ،‬والنبش في ركام الوقائع‪ ،‬فاستنطق هذا الجيل ظالل نصوص‬
‫سلطوية‪ ،‬مستش ّفا ما عكسته من هوامش وهزائم ُسكت عنها وطنيا أو قوميا‪ ،‬هذا إن لم يتجاوز‬
‫بج رأة تحليال وت أويال ه ذا الج انب إلى الج انب المظلم من اله زائم>>‪ 1.‬لق د أك د الناق د يف‬
‫املقطع السابق على مسألة مهمة وهي َّ‬
‫أن جل األعمال الروائية املعاصرة مل تعد تعتمد على املرجعيات‬
‫الوثائقية‪ ،‬ويرجع ذلك إىل مبدأ الروائي املعاصر يف تعامله مع التاريخ‪ ،‬وبالتايل قدموا تصورا جديدا‬
‫لعالقة الرواية بالتاريخ خيتلف عن التصور الذي جاء به كتاب الرواية التارخيية التقليدية‪ ،‬وهذا التصور‬
‫اجلدي د ه و م ا نري د التوق ف عن ده واحلديث عن ه‪ ،‬ألنَّه ق د يس اعدنا على إدراك واس تيعاب خصوص ية‬
‫الرواية التارخيية اجلديدة‪.‬‬

‫الروايـ ــة التاريخيـ ــة الجديـ ـ ــدة‪:‬‬

‫َّ‬
‫إن مرتك زات الرواي ة التارخيي ة اجلدي دة وتص وراهتا وغاياهتا املتع ددة جعلته ا ختتل ف عن نظريهتا‬
‫التقليدية كوهنا توجهت صوب تواريخ خمفية مل تكن معلومة من قبل ووقائع وأحداث حاول التاريخ‬
‫الرمسي أن ال يكشف عنها‪ .‬لتبقى مسترتة وجمهولة‪ ،‬فضال عن أ ّن مهمتها تتمثل يف<<اقامة جسر‬
‫افتراضي يربط الحاضر بالماضي ويؤسس لمملكة سردية قادرة على مواجهة الزمن وتقديم ب ديل‬
‫حداثي وما بعد حداثي للرواية العربية وللواقع االجتماعي والسياسي والثقافي العربي في عصرنا‪.‬‬
‫ذلك أن الروائي العربي ال ينقطع عن الحاضر وإنما يحاول إضاءته بالتخييل التاريخي وتأسيس‬
‫فضاءات تعالق تواصلية بين الماضي والحاضر>>‪َّ 1.‬‬
‫إن هذا البديل احلداثي أو ما بعد احلداثي ما‬
‫ه و إال مفه وم نق دي تتوس ل ب ه الرواي ة التارخيي ة يف دراس تها ل ذلك املاض ي بانكس اراته وانعطافات ه‬
‫وحوادث ه املطم ورة؛ تستحض ره –الرواي ة التارخيي ة‪-‬لتزي ل عن ه الغب ار والغم وض وتكش ف احلق ائق‬
‫اجملهول ة‪ ،‬يس عفها يف ذل ك انفتاحه ا على اآللي ات النقدي ة احلداثي ة وم ا بع د احلداثي ة؛ لرتتب ط هبم‬

‫‪-11‬عبد اهلل بن صفية‪ :‬املتخيل التارخيي يف الرواية اجلزائرية "جدلية املرجع واملنجز السردي"‪ ،‬أطروحة مقدمة لنيل‬
‫شهادة دكتوراه علوم يف األدب العريب احلديث ختصص سرديات‪ ،‬قسم اللغة واألدب العريب‪ ،‬جامعة باتنة ‪ ،1‬السنة‬
‫اجلامعية ‪ ،2017-2016‬ص ‪.28-27‬‬
‫‪-1‬فاضل ثامر‪ :‬التأرخيي والسردي يف الرواية العربية‪ ،‬ص‪.10‬‬

‫‪50‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫وتتأثر<<بما َّ‬
‫جد من تقنيات فنية حديثة ومتطورة‪ ،‬حيث تحولت الرواية التاريخية تحوال جادا‬
‫نحو إقرار مزيد من األدبية التي تستخدم التاريخ كمادة خام لغايات إبداعية صرفة‪ ،‬تهدف إلى‬
‫نق د ال ذات واالس تفادة من أخط اء وتج ارب الماض ي واس تكناه المس تقبل‪ ،‬عن طري ق اس تثمار‬
‫التقنيات السردية الحديثة التي تستخدمها الرواية الجديدة‪ ،‬كل ذلك وفق رؤية فنية اسقاطية‬
‫تربط الماضي بالحاضر>>‪ 1.‬تعمل الرواية التارخيية احلداثية وما بعد حداثية على إعادة انتاج وعي‬
‫ف ين واقعي م ع مراع اة وفهم أبع اد العالق ة املوج ودة بني املاض ي واحلاض ر‪ ،‬كما<<ق دمت الرواي ة‬
‫التاريخي ة العربي ة الحداثي ة ش هادتها الش جاعة عن الت اريخ الع ربي واإلس المي‪ ،‬بطريق ة جدي دة‬
‫لدرجة تجعلنا نعيد صياغة مقولة إنجلز عن روايات بلزاك التي عدها أكثر صدقية وموضوعية من‬
‫التاريخ الرسمي المدون‪ ،‬فنقول في ضوء ذلك أن الروائي العربي الحديث في تعامله مع الت اريخ‬
‫الع ربي ق د ك ان أك ثر أمان ة وش جاعة من الت اريخ الرس مي ألن ه ببس اطة انح از إلى ت دوين ت اريخ‬
‫اإلنسان المهمش والمسحوق في أحالمه وصبواته ومعاناته وتوقه إلى الحرية والعدالة والجمال‬
‫وتجنب االمتثال للتاريخ الرسمي المزور الذي يركز على أفعال السالطين والملوك واألمراء‪،‬‬
‫وب ذا ق دم ق راءة منفتح ة لم ا ه و مس كوت عن ه من أنس اق مغيب ة ومدفون ة تحت رك ام ثقي ل من‬
‫أك اذيب وتض ليالت الم دونات الرس مية الص فراء>>‪َّ 2.‬‬
‫إن األوص اف ال يت ق دمها الناق د للرواي ة‬
‫التارخيية احلداثية وللروائي العريب املعاصر دليل على أهَّن ا تبوأت مكانة مل تستطع نظريهتا التقليدية أن‬
‫تصل إليها‪ ،‬ودليل أيضا على َّ‬
‫أن هلا اجلرأة يف قول ما مل يستطع املؤرخ احلقيقي والتاريخ قوله‪ ،‬لذلك‬
‫حش د هلا تل ك األوص اف‪ ،‬ال يت مكنتن ا من فهم الفاعلي ة املتبادل ة بني الرواي ة اجلدي دة والت اريخ وال يت‬
‫انطلقت من بني ة س ردية جدي دة ميكن أن نالح ظ من خالهلا َّ‬
‫أن<<أهم م ا يش غل الرواي ة الجدي دة‬
‫ال تي تس تعمل الت اريخ ه و م دى تعبيره ا عن فكرته ا ورؤيته ا وف ق أس س لغوي ة ال وف ق إط ار‬
‫الت اريخ‪ ،‬إنه ا توظ ف الماض ي وتس تعمله للتعب ير عن الحاض ر‪ ،‬فهي ليس ت وثيق ة تاريخي ة يعتم د‬
‫عليها الباحثون في التوثيق للتاريخ والحدث التاريخي ال ينفصل عن نسيج الرواية الذي ال يبني‬
‫قواع ده على أس س تاريخي ة بق در م ا يبث ال روائي في تض اعيفه إب داعا وخي اال>>‪ 3.‬ح ىت َّ‬
‫أن‬

‫‪-1‬حممد حممد حسن طبيل‪ :‬حتوالت الرواية التارخيية يف األدب العريب‪ ،‬ص‪.158‬‬
‫‪- 2‬فاضل ثامر‪ :‬التأرخيي والسردي يف الرواية العربية‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪-3‬حممد حممد حسن طبيل‪ :‬حتوالت الرواية التارخيية يف األدب العريب‪ ،‬ص‪.160‬‬

‫‪51‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫تقنياهتا السردية تلك تداخلت هي األخرى وأصبح هلا بعدا جديدا<<فلقد انتقل النقاد في الرواية‬
‫الجديدة من التركيز على ماهية المادة التاريخية إلى التركيز على الكيفية التي سردت بها هذه‬
‫الم ادة‪ ،‬وق دمت من خالله ا للق ارئ‪ ،‬أم ا المتخي ل فلم يع د تل ك الحكاي ة الخيالي ة أو القص ة‬
‫الغرامية التي ينسجها الروائي من وحي خياله مع مادته التاريخية ليكون رواياته‪ ،‬وإنَّما أضحى‬
‫المادة السردية المنجزة التي تنشأ من خالل العالقة النشيطة والخالفة مع ما حدث>>‪ 1.‬هذه‬
‫السلسلة من التحوالت السردية على مستوى احلدث التارخيي واملادة التارخيية كان هلا تأثري أيضا على‬
‫احلقيقة التارخيية ف<<الرواية الجديدة ال تعتمد على الحقيقة التاريخية‪ ،‬وال تتكئ عليها بل إن‬
‫الحقيقة التي تتسيدها هي حقيقة السرد التي تنشأ من فعل الكتابة‪ ،‬إنها تستعمل المادة التاريخية‬
‫وتجعله ا س ردا يفق دها زمنه ا األولي الحقيقي‪ ،‬ويمنحه ا زمن ا جدي دا يع بر الك اتب عن فكرت ه‬
‫ورؤيت ه المعاص رة>>‪ 2.‬إىل ج انب أش كال الس رد احلديث ة ال يت س نتناوهلا بالدراس ة الحق ا‪ ،‬ك ان‬
‫للمص طلح نص يب أيض ا‪ ،‬ف<<نق اد الرواي ة الجدي دة ال يش رعنون اس تخدام مص طلح الرواي ة‬
‫التاريخية‪ ،‬فإذا كان هذا المفهوم ينسجم مع الرواية التقليدية التي تسعى إلى تقديم التاريخ‪ ،‬فإنه‬
‫ال ينسجم مع الرواية الجديدة التي تستعمل التاريخ روائيا‪َّ ،‬‬
‫ألن تسجيل التاريخ وتوثيقه ليس من‬
‫مهامه ا‪ ،‬ب ل إنَّه ا تس تعمل الم ادة التاريخي ة وتض في عليه ا الكث ير من أش كال الخي ال‬
‫الف ني ‪....‬فالرواي ة ال تي تس تعمل الت اريخ ال يهمه ا مق دار االرتب اط بالت اريخ من عدم ه إن ال ذي‬
‫يهمها بالدرجة األولى هو الفكرة والقضية التي تسعى إلثارتها من خالل العودة إلى حقبة تاريخية‬
‫معين ة>>‪ 3.‬ل ذلك رفض كتاهبا ه ذه التس مية َّ‬
‫ألن نصوص هم يف نظ رهم تص ب يف دائ رة البحث عن‬
‫طرق قراءة التاريخ املاضوي دون قيود وبآليات تأويلية تساعدهم على استجوابه واسقاطه على قضايا‬
‫عصرهم مبنظور يسمح هلم معاجلتها فوضعوها داخل إطار أجناسي واحد وهو جنس الرواية فقط‬

‫‪ .2‬المبحث الثاني‪ :‬طرق توظيف التاريخ اإلسالمي في الرواية الجزائرية المعاصرة‪:‬‬

‫‪-1‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.160‬‬


‫‪-2‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.160‬‬
‫‪- 3‬حممد حممد حسن طبيل‪ :‬حتوالت الرواية التارخيية يف األدب العريب‪ ،‬ص‪.161‬‬

‫‪52‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫اق رتبت الرواي ة اجلزائري ة املعاص رة يف توظيفه ا للت اريخ من التص ور اجلدي د ال ذي أش رنا إلي ه س ابقا‪،‬‬
‫وذلك من خالل جتارب روائية أثبتت حضورها يف الساحة األدبية العربية؛ فلم تعد حباجة إىل من يدافع‬
‫عنها‪ ،‬ذلك ألهَّن ا ختطت مع مطلع القرن احلايل تأثريات الظروف السياسية واالجتماعية اليت مرت هبا قبل‬
‫االستقالل وبعده‪ ،‬حىت أهَّن ا اندجمت مع نظريهتا يف املشرق العريب وانفتحت على أشكال سردية جديدة‬
‫للتعب ري عن الواق ع اجلزائ ري والع ريب‪ ،‬من خالل توظيفه ا للت اريخ واألس اطري وال رتاث الش عيب وال ديين‬
‫بتقنيات وأشكال حداثية‪ .‬ضف إىل ذلك أهّن ا أسهمت يف خلق وعي ثقايف وأديب لدى القارئ اجلزائري‬
‫املنشغل بأسئلة الواقع وما حيدث يف اجملتمع‪ ،‬هلذا السبب جلأ الروائي اجلزائري املعاصر إىل املاضي القريب‬
‫والبعيد بأحداثه وتوارخيه وهنل منه مادته احلكائية السيما تلك املادة التارخيية اليت تستدعي من الروائي أن‬
‫يعيد قراءهتا ليسلط الضوء على ما هو مهمش ومقموع‪.‬‬

‫ف إذا م ا ألقين ا نظ رة على اإلنت اج األديب يف اجلزائ ر من ذ بداي ة الس بعينات إىل غاي ة الي وم جنده يزخ ر‬
‫ب الكثري من الروايات اليت تتضمن مؤش رات واضحة عن حضور التاريخ بشقيه الثوري واإلس المي‪،‬‬
‫لذلك سنحاول من خالل هذا املبحث قراءة املنجز السردي اجلزائري املعاصر‪َّ ،‬‬
‫ألن األمر سيطول إن‬
‫حاولنا استحضار النصوص الروائية السابقة كنصوص السبعينات مع عبد احلميد بن هدوقة يف "ريح‬
‫اجلن وب" و"الالز" لط اهر وط ار‪ ،‬ونص وص الثمانيني ات كرواي ة "اجلازي ة وال دراويش" ونص وص‬
‫التس عينيات ك"ذاك رة اجلس د" ألحالم مس تغامني‪ ،‬فمن خالل مناذج العق ود الثالث ة املذكورة تط رق‬
‫ال روائي إىل ت اريخ الث ورة التحريري ة؛ ونظ ر إىل ه ذا الت اريخ نظ رة ختتل ف عن غ ريه فقد<<حرصت‬
‫الرواية الجزائرية في مرحلة السبعينات على البحث عن موقع تاريخي للتيار اليساري في الثورة‬
‫التحريرية ليكون ذلك بمثابة الدعم الشرعي لهذا الفكر في المجتمع الجزائري‪ ،‬وربطه بالتاريخ‬
‫ك ان في ه نوع ا من التق ديس والتمجي د له ذا الفك ر وش يئا من الت دنيس واالزدراء لبقي ة التي ارات‬
‫الفكري ة األخ رى>>‪ 1.‬أم ا رواي ة الثمانين ات فك انت نقيض ة للتص ورات ال يت ج اءت هبا الرواي ة‬
‫السبعينية ذلك ألهَّن ا أعلنت مراجعة<<الكثير من القضايا لعل أبرزها‪-‬إعادة تقييم الفترة السبعينية‬
‫بم ا س اعد فيه ا من أفك ار ومش اريع وطموح ات‪ ،‬لكن بإس قاط ج انب التمجي د والتق ديس‬

‫‪-1‬عثمان رواق‪ :‬التناص التارخيي يف الرواية اجلزائرية "بني الرؤية التقديسية وإعادة القراءة"‪ ،‬جملة املقال‪ ،‬العدد الرابع‬
‫ديسمرب ‪ ،2016‬جامعة ‪20‬أوت‪ ،1955‬سكيكدة‪ ،‬ص‪.247-246‬‬

‫‪53‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫وبمحاول ة إث ارة أس ئلة الح يرة والقلق ة‪-‬وإن لم تك ف الرواي ة الجزائري ة عن استحض ار الت اريخ‪،‬‬
‫لكن استحض اره ه ذه الم رة ليس لت برير‪-‬فك ر‪-‬مرحل ة أو لتمجي د س لطة وإنم ا ليك ون الت اريخ‬
‫"ت اريخ الث ورة خلفي ة جامع ة لك ل عناص ر المجتم ع">>‪َّ 1.‬‬
‫إن مث ل ه ذه القض ايا ال يت تض منتها‬
‫نصوص فرتة الثمانينات جعلتها تقرتب أكثر من الواقع السياسي واالجتماعي يف تلك اآلونة‪ ،‬يف حني‬
‫كانت رواية التسعينات أكثر نضجا وقدرة على إعادة قراءة ذلك التاريخ فقد <<حققت شيئا من‬
‫النضج ودخلت عوالم التجريب على مستوى التقنية الروائية‪ ،‬وعلى مستوى الموضوعات وإن‬
‫احتفظت بموض وع الت اريخ كخلفي ة للكث ير من الرواي ات‪ ،‬لكن م ا يالح ظ أن تعام ل رواي ة‬
‫التس عينات م ع الت اريخ لم يع د بتل ك الص ورة التقديس ية الم بررة لتوج ه م ا‪ ،‬وال تل ك الرؤي ة‬
‫المشككة‪ ،‬وإنما تجاوزت كل ذلك إلى تبني رؤية نقدية ثائرة تصل في أحيان كثيرة إلى تق ويض‬
‫الكثير من الروايات الرسمية والسلطوية عن التاريخ وأحداثه‪ ،‬وما يالحظ كشيء جديد في هذه‬
‫المرحلة أنَّها لم تعد تنظر إلى التاريخ رؤية عامة ككل متجانس وإنّما صارت تهتم بالتفاصيل‬
‫وبالحق ائق الجزئي ة وبالمس كوت عن ه>>‪ 2.‬واملالح ظ َّ‬
‫أن الرواي ة اجلزائري ة من ذ ب داياهتا مل تفص ل‬
‫اخلطاب التخييلي عن املرجعي وإن اختلفت كل فرتة عن غريها يف التعامل مع الوقائع التارخيية إال أن‬
‫هذا التعامل َسَّر ع وترية تبلور الرواية اجلزائرية؛ اليت اعتمدت يف ذلك على املرجعيتني السابقتني اللذين‬
‫شكال عاملني مهمني يف نضجها وتطورها‪.‬‬

‫ما سندرسه اآلن هو حماولة استعراض مناذج روائية جزائرية معاصرة استحضرت التاريخ اإلسالمي برؤية‬
‫حداثية‪ ،‬ميكن هلذه النماذج أن تساعدنا على البحث يف خصوصية النص الروائي اجلزائري واختالفه عن‬
‫غريه من النصوص اليت تعاملت مع التاريخ وباألخص التاريخ اإلسالمي‪ ،‬لكن قبل ذلك وجب علينا أوال‬
‫تقدمي مقاربة مفاهيمية ملصطلح التاريخ اإلسالمي قبل التوجه صوب النماذج الروائية اجلزائرية املختارة‬
‫للدراسة‪.‬‬

‫‪-1‬املرجع نفسه‪ :‬ص‪.246-245‬‬


‫‪-2‬عثمان رواق‪ :‬التناص التارخيي يف الرواية اجلزائرية "بني الرؤية التقديسية وإعادة القراءة"‪ ،‬ص‪.250‬‬

‫‪54‬‬
‫مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية‬

‫‪55‬‬

You might also like