Professional Documents
Culture Documents
توطئة
المبحث األول :النقد الثقافي ا.
2
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
ش هدت الدراس ات النقدي ة املعاص رة يف النص ف الث اين من الق رن العش رين مجل ة من التح والت
اجلذرية اليت مست حقول املعرفة العلمية؛ أفضت هذه التحوالت إىل ظهور وانتشار تيارات واجتاهات
جديدة دعت إىل إرساء مفاهيم ما بعد احلداثة؛ اليت أتت على خلفية نقد احلداثة الغربية ومنطلقاهتا
الفلس فية ونزعاهتا العقالني ة ،كم ا أتت على خلفي ة تفكي ك املق والت املركزي ة الك ربى فح اولت
حتطيمها والتحرر من قيودها اليت هيمنت لفرتة طويلة من الزمن.
احتفت ما بعد احلداثة بالثقافة الشعبية ،وباملهمش واملدنس ،والغريب واملختلف ،وأولت اهتمامها
بدراس ات اجلنوس ة والزنوج ة ،وأع ادت النظ ر يف املس لمات ال يت ق امت على أساس ها احلداث ة من
نظريات وأنظمة فكرية خضعت كلها ملبدأ االنغالق واالستالب ،ليصبح هذا املبدأ يف ما بعد جمرد
آلية من آليات احلداثة تولدت على أنقاضه مبادئ أخرى تقوم على االنفتاح والتحرر وتفكيك كل ما
هو منظم ومنسجم.
استمد النقد الثقايف موضوعه من الثقافة اليت غذت بدورها توجهاته الفكرية والنقدية وعملت على
مترير أنساقها وأشكاهلا وصيغها داخل النصوص واخلطابات ،ليمارس بذلك مهمته واملتمثلة يف تفكيك
تلك اخلطابات وحتليلها ومقاربتها مقاربة ثقافية ،والكشف عن أنساقها املضمرة واملتخفية داخلها.
ومن وإشكالياته :ما هي مرجعياته املعرفية اليت أسهمت يف بلورته؟ أين وكيف نشأ هذا النقد؟
3
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
ارتبط مفه وم النق د الثق ايف من ذ بدايات ه األوىل يف أوروب ا يف الق رن 18مبجموع ة من املمارس ات
النقدي ة ال يت مه دت لظه وره الفعلي م ع بداي ة التس عينات؛ أين أس همت ه ذه املمارس ات يف نش أته
وبلورته فكانت مبثابة اللبنة األوىل يف رسم معامله كمجال معريف وفكري ،ومن بينها نذكر :جهود
مدرسة برمنجهام للدراسات الثقافية املعاصرة ،مدرسة فرانكفورت ،التارخيانية اجلديدة ،املادية الثقافية
وغريها قدمت هذه املرجعيات تصور معريف جديد وفق املسلمات اليت قامت على أساسها ما بعد
احلداثة ليشهد العامل الغريب انطالقا من ذلك نقلة نوعية مست مجيع التخصصات وعلى رأسها :اجملال
األديب والثقايف واالجتماعي والسياسي ،فثمة إذن أرضية أقل ما يقال عنها أهّن ا مهدت وأسهمت يف
بلورة املعامل األوىل للنقد الثقايف ،وهذا يف األغلب ما جيعلنا حباجة إىل التعرف على تلك األرضية أو
اجلهود املذكورة سابقا؛ أين وكيف نشأت؟ وماهي أهدافها؟ وكيف أثرت يف بلورة مصطلح ومفهوم
وأدوات النقد الثقايف؟.
شكلت أعمال مدرسة برمنجهام من خالل تطويرها للدراسات الثقافية املعاصرة إطارا مرجعيا
للنق د الثق ايف ،ح ىت أهَّن ا <<تُع د من ض من أهم الم دارس النقدي ة والمعرفي ة ،ال تي ك ان له ا ت أثير
فاعل في الساحة النقدية العالمية>> 1.ذلك َّ
ألن دائرة اختصاصها مل تقتصر على ثقافة النخبة فقط
وإمَّن ا تعدت ذلك إىل ثقافة الطبقة العاملة والثقافة الشعبية ،ظف إىل ذلك انفتاحها على عامل األزياء
واملوض ة والس ينما واألوب را ،كم ا أهَّن ا اهتمت بالكتاب ات النس وية ،والقض ايا املتعلق ة ب العرق والل ون
والزنوج ة واجلنوس ة ،إىل ج انب اهتمامه ا بقض ايا احلي اة اليومي ة ،فهي جمال أو حق ل مع ريف متع دد
االختصاص ات ي درس ع دة مي ادين :ك العلوم االجتماعية<<ووس ائل اإلعالم mediوالثقاف ة
الش عبية ،popular cultureوالثقاف ات ال دنيا ،sub cultureوالمس ائل األيديولوجية
،Ideological matterواألدب ،literatureوعلم العالم ات، semiotics
-1روي دي ع دالن :الدراس ات الثقافي ة :النش أة واملفه وم ،جمل ة إش كاالت ،جملد ،07الع دد ،01الس نة 2018
متنراست ،ص.151
4
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
َّأما فيما خيص نشأت هذا املركز فقد تأسس يف بريطانيا سنة 1964على يد ريتشارد هوغارت
وجه ود ك ل من راميون د ولي امز وس تيوارت ه ول ال ذي تس لم إدارة املرك ز ملدة عش ر س نوات من
1969إىل غاية ،1979فيم ا ي رى آرث ر أيزابرجر<< أنَّه ا نش أت في الس بعينيات ،حيث ش رع
مرك ز الدراس ات الثقافي ة المعاص رة بجامع ة برمنجه ام في ع ام 1971في نش ر ص حيفة أوراق
عم ل في الدراس ات الثقافي ة>> 3.إال َّ
أن ه ذه الص حيفة س رعان م ا ت وقفت عن الص دور خملف ةً
وراءها أثرا كبريا استفادت منه ع ّدة مدارس وتيارات نقدية <<ومنذ ذلك الوقت سعى الحقل إلى
تمديد قاعدته الثقافية ومجاله الجغرافي وأصبح هناك مشتغلون بالدراسات الثقافية في الواليات
المتحدة األمريكية وأستراليا وإفريقيا وآسيا وأمريكا الالتينية ،كل له شكل الدراسات الثقافية
أن الدراس ات الثقافي ة مل تتم يز بس عة جماالهتا فق ط وإمَّن ا
الخ اص ب ه وطريق ة عمل ه>> 4.واألكي د َّ
متيزت باتس اع رقعته ا اجلغرافي ة ح ىت أهّن ا جتاوزت ح دود اجنل رتا وأوروب ا كك ل ،لتص ل إىل الس احة
النقدية العربية ،وإذا ما حاولنا البحث عنها يف كتابات الباحثني العرب سنجد<<عكوفا مبالغا فيه
على إدوارد سعيد ،وتكرارا لمقوالته ال يحده حد ،بحيث صارت الدراسات الثقافي ة مختزلة في
كت ابين هم ا "االستش راق" و"الثقاف ة واإلمبريالي ة" ،وفي مقول تين أو ثالث>> 5.ولع ل ه ذا
-1آرث ر أيزابرج ر :النق د الثق ايف ،متهي د مب دئي للمف اهيم الرئيس ية ،ترمجة وف اء إب راهيم ،اجمللس األعلى للثقاف ة ،ط1
،2003ص.31 ،
-2فيصل األمحر :أفق الدراسات الثقافية ،منشورات ضفاف ،اجلزائر ،منشورات االختالف ،اجلزائر ،بريوت ،ط1
،2019ص.19
- 3آرثر أيزابرجر :النقد الثقايف ،متهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية ،ترمجة ص .31
-4فيصل األمحر :أفق الدراسات الثقافية ،ص.20-19
- 5املرجع نفسه : ص.13
5
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
العكوف املبالغ فيه راجع إىل أمهية الكتابني املذكورين سابقا ،خاصة كتاب "االستشراق" الذي كان
له دور كبري يف تطور الدراسات الثقافية نظرا للمواضيع املطروحة فيه واملتعلقة "بالكيفية اليت أثر هبا
1
االستشراق على اإلدراكات الغربية عن اإلسالم والشرق األوسط".
َّأما إطاره املفهومي؛ فقد ع ّده النقاد<<من المصطلحات التي يشوبها الغموض والتعقيد فه و
زئبقي المفهوم مراوغ ومخادع ومضلل في داللته ،لذلك يصعب على أي دارس أو ناقد فهمه
س واء من حيث منهج ه أو من حيث مرامي ه وأهداف ه المعلن ة والخفي ة ،ح تى عن د نق اد جماع ة
برمنجهام>> 2.ولعل غموض هذا املصطلح راجع إىل سببني:
أولهما :تع دد واختالف توجه ات الدراس ات الثقافي ة فهي تش مل نطاق ا واس عا من الكتاب ات
والعلوم وامليادين ومن الصعب حتديد هذا التنوع ووضع تعريف شامل وأحادي له.
َّأما الس بب الث اني :فه و على األغلب مرتب ط مبفه وم الثقافة *3ال ذي تبنت ه الدراس ات
الثقافي ة ورك زت علي ه وعلى ممارس اته بوص فه منتج ومك ون للمنظوم ة االجتماعي ة ،فالثقاف ة
بدورها<< تعرضت .....عبر تطورها الختالفات عميقة مست عدة جوانب منها ،وكانت
عب ارة عن اختالف ات تع بر عن تط ور المفه وم وحقول ه المعرفي ة>> 4.ف املتتبع ملفه وم الثقاف ة
جيده ه و اآلخ ر من أك ثر املف اهيم تعقي دا وغموض ا ،ح ىت َّ
أن معاني ه تع ددت واختلفت ب اختالف
املراح ل ال يت م َّر هبا ،كم ا َّ
أن ج ذوره كمص طلح اس تعملت يف ع دة جماالت كالزراع ة ،وتربي ة
- 1فؤاد سعيد :الدراسات الثقافية والتحليل الثقايف ،املركز القومي للبحوث االجتماعية واجلنائية ،دط ،ص.3
- 2رويدي عدالن :الدراسات الثقافية :النشأة واملفهوم ،ص.159
-*3اس تعمل مص طلح ثقافة Culturaألول م رة يف اللغ ة الالتيني ة يف الق رون الوس طى األوروبي ة خالل الق رن
احلادي عشر مبعىن قطعة أرض يشتغل عليها ،إىل أن أصبح مرادفا للزراعة .مث تطور يف بداية القرن السادس عشر
فأص بح يع ين فع ل معرف ة زراع ة األرض ،مث انتق ل املفه وم من الزراع ة إىل املعرف ة احلقيقي ة بالزراع ة والق درة على
اإلنت اج ،وم ع النهض ة األوروبي ة حتول املفه وم من ثقاف ة األرض إىل ثقاف ة الفك ر واص طبغ مبف اهيم احلداث ة وعص ر
األنوار ،ويعد اإلجنليزي تايلور أول من عرف الثقافة يف كتابه "الثقافة البدائية" سنة ،1871تعريفا شامال للثقافة
يقول فيه "هي ذلك الكل املعقد الذي حيتوي املعارف واملعتقدات والفن والعواطف والقانون والتقاليد واإلمكانات
األخرى أو العادات اليت يكتسبها الفرد بصفته فردا يف اجملتمع" ،انظر د .وسيلة سناين :يف نظرية التداخل الثقايف ،دار
فضاءات ،عمان ،األردن ،ط ،2015 1ص.27-26
-44وسيلة سناين :يف نظرية التداخل الثقايف ،ص.26-25 ،
6
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،دار احلوار ،سوريا ،ط ،2017 ،1ص.17-16
- 2ادريس اخلضراوي :الرواية العربية وأسئلة ما بعد االستعمار ،دار رؤية للنشر والتوزيع ،القاهرة ،مصر ،ط2012
ص.46
- 3رويدي عدالن :الدراسات الثقافية :النشأة واملفهوم ،ص.161
7
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
أو إعالمية ،رمسية أو مهمشة ،سياسية أو اجتماعية قراءة ثقافية بعيدة عن األطر اجلمالية وترتكز على
نظم وأنس اق ثقافي ة ل<<لي ترتب على ه ذا المنظ ور المنفتح للعم ل األدبي ،اع ادة االعتب ار
للتواص ل المفق ود بين اآلداب والفن ون ،وقراءته ا من منظ ور يستكش ف الثقاف ة واس تخداماتها
االجتماعية.....وبهذا المعنى ،فالدراسات الثقافية ال يرتكز اهتمامها فقط على إظهار تحيزات
الثقاف ة باتج اه م ا ه و رس مي أو مؤسس ي وحس ب...وإنّم ا يتج اوز اهتمامه ا ه ذه الح دود
ليس توعب أش كاال أخ رى من التس اؤل>> 1.ولع ل مجل ة التس اؤالت تل ك هي اليت مكنته ا من أن
تك ون ممارس ة نقدي ة ثقافية خاص ة ال تش به س ابقيها ،ال تعيقه ا القي ود وال احلواجز من اس تيعاب ك ل
املعارف والفنون ،تتقاطع مع مسارات النقد الثقايف يف طروحاهتا وآلياهتا ويف اهتماماهتا اليت مل تقتصر
على املهمش فقط؛ بل اهتمت أيضا باملقموع واملطموس وكل ما هو منبوذ وحمتقر.
تُعـ ُــد التارخيانية اجلديدة " "New Historicismأحد أبرز املمارسات النقدية ما بعد احلداثية
اليت حاكت حقول الدراسات الثقافية وتبنت أسسها من خالل حماوالهتا كسر اهليمنة الثقافية الغربية
وإع ادة مس اءلتها ،أم ا عن ب دايات تبل ور معامله ا األوىل فق د ظه رت يف الوالي ات املتح دة األمريكي ة
وتط ورت على ي د رائ دها س تيفن غ رينبالت من خالل نش ره لدراس ته املوس ومة ب "نح و ش عرية
الثقاف ة" وال يت ك انت مبثاب ة االنطالق ة األوىل يف تن امي مش روعه واملتمث ل يف نق د خط اب النهض ة
االجنليزي والذي أعاد من خالله قراءة النصوص األدبية وفق منظور التارخيانية اجلديدة .فما املقصود
هبا؟ وما هي مرتكزاهتا األساسية؟.
ـود بداية التارخيانية اجلديدة إىل هناية السبعينات وبداية الثمانينات ،بيدا َّ
أن الظهور الفعلي كان تعـ ُ
مع بداية السبعينات؛ حني أصدر جليفورد غريتز كتابا بعنوان "تأويل الثقافات" وفيه<<أشار إلى
8
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
أن الع الم األن ثروبولوجي يجب أن يص ف الظ اهرة اإلنس انية ال تي يدرس ها بإرجاعه ا إلى الس ياق
االجتماعي والثقافي الخاص بها لغرض التعرف على دالالتها ومضامينها الرمزية ،فال معنى ألي
ظاهرة معزولة عن سياقها>> 1.هبذا املعىن؛ يكون جليفورد غريتز قد أشار إىل قراءة جديدة ختتلف
عن القراءات النصية السابقة اليت كانت تركز على البنية الداخلية وهي بنية مغلقة كان مبقتضاها العامل
األنثروبولوجي يبعد أي سياق خارجي أو مرجعية خارجية من شأهنا أن تأثر على تلك البنية الداخلية
املغلقة وهذا بالتحديد ما قام به رواد التارخيانية اجلديدة أمثال :ستيفن غرينبالت وقد أسلفنا ذكره،
ل ويس من رتوز ،جونث ان غول دنبورغ ،ليون ارد نيتنه اوس ،س تيفن أورغ ل ،م ايكلز ،ك اثرين غ االغ،
ريتشارد هيلغرسن...وغريهم ممن اهتموا <<بالتكون التاريخي للذات ،وبالدور التصارعي لألدب
في عص ر النهض ة ....وكي ف أن النص وص األدبي ة تق ع وس ط ممارس ات الخط اب ومؤسس ات
الفترة الزمنية المعنية ،حيث يتعاملون مع األدب ال بكونه انعكاسا للواقع االجتماعي أو نتاجا له،
بل بوصفه ممارسة من ممارسات عدة تكون متنازعة متعارضة أحيانا>> 2.يبدو َّ
أن اهتمامات
النق اد الت ارخييني مل تقتص ر فق ط على النص األديب وعلى احليثي ات ال يت حترك ه؛ س واء ك انت حيثي ات
ثقافي ة أو اجتماعي ة أو إيديولوجي ة هلا عالق ة وثيق ة بالعص ر ال ذي أنتج في ه ،ب ل مثة اهتمام ات أخ رى
جتلت يف <<التعب يرات الثقافي ة مث ل :اتهام ات العراف ة ،والي دويات الطبي ة،
والمالبس .....واهتم وا بفحص العالق ة بين الكتاب ة والمجتم ع وه و م ا نعت ه ريتش ارد ويلس ون
Richard Wilsonب"نصنصة التاريخ" كما اختص هؤالء بدراسة أدب عصر النهضة وأدب
العص رين الفيكت وري واإلليزابي ثي ورك زوا أيض ا على دراس ة ال دراما الشكس بيرية>> 3.وف ق
معطيات ومرتكزات التارخيانية اجلديدة ،ومن بني تلك املعطيات "القراءة الفاحصة" وهي قراءة يقع
على عاتقها التعامل مع النصوص على أهّن ا أيقونة ثقافية حتمل داخلها أنساق ثقافية مبطنة ومتخفية
ومهمة الناقد التارخياين هنا هي البحث عن تلك املضمرات وإعادة قراءهتا وتفحصها.
-1معن الط ائي :ت أريخ التارخياني ة اجلدي دة واش كالية العالق ة م ع اليس ار اجلدي د ،ص حيفة املثق ف ،الع دد 1248
( )www.Almothaqaf.com 06/12/2009
-2جوناثان كالر :النظرية األدبية ،ترمجة :رشاد عبد القادر ،منشورات وزارة الثقافة ،دمشق ،سوريا ،ط،2004
ص .155-154
-3يوسف عليمات :مجاليات التحليل الثقايف "الشعر اجلاهلي منوذجا" ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بريوت،
دار فارس للنشر والتوزيع ،عمان ،ط ،2004 ،1ص.29
9
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
لقد أشار ستيفن غرينبالت يف سياق حديثه عن شعرية الثقافة إىل َّ
أن مصطلح التارخيانية اجلديدة
أمساه يف بدايته سنة 1980ب"الشعرية الثقافية" ل<<يعدل عنه سنة 1982ويسمي منهجه ب
ثم ما لبث أن عاد إلى المصطلح األول سنة 1.>>1988ولعل الدافع
"التاريخانية الجديدة" ّ
َّ
<<أن مصطلح التاريخانية الجديدة لم يكن الذي جعله يعدل عن التسمية األوىل مثَّ يعود إليها هو
صياغة واعية مقصودة لوصف منهج محدد في دراسة تاريخ األدب ،وإنّما اقتبسه من مقالة له
وردت كمقدمة لمجموعة دراسات أدبية حول عصر النهضة وجمعها وحررها في كتاب وسمه
ب"عصر النهضة وتشكيل الذات" .ويوضح أن استخدام هذا المصطلح جاء بصورة عفوية ومن
غير سابق دراسة وتخطيط ،وأنه قد فوجئ بأن هذا المصطلح شاع وانتشر ،وبات متداوال في
الدراسات األدبية ونظرية األدب>> 2.وعلى أساس هذه الصياغة غري املقصودة واليت سرعان ما
انتش ر اس تعماهلا ،كان لزاما عليه أن يرسم حدودا هلذا املص طلح ويوضح طبيعته إن كان توجه ا أو
نظري ة ويزي ل عن ه اللبس والغم وض ال ذي أح اط ب ه ،يق ول يف ه ذا الس ياق واص فا
مص طلحه<<وكجزء من ه ذه الظ اهرة الغريبة ،طلب م ني ق ول شيء على س بيل التنظ ير ح ول
العمل الذي أقوم به .لذلك سأحاول إن لم أكن سأحدد التاريخانية الجديدة فعلى األقل سأعينها
كممارس ة-ممارس ة ع وض عقي دة ،م ا دامت بق در م ا يمكن ني أن أق ول (ويتعين علي أن أك ون
الوحي د لمعرف ة ذل ك)إنه ا ليس ت عقي دة بالك ل>> 3.يلخص ه ذا املقط ع وجه ة نظ ر س تيفن
غ رينبالت وحييلن ا إىل أنّ ه يعتربه ا ممارس ة رافض ا يف اآلن نفس ه فك رة أن تك ون عقي دة ،معلن ا وبك ل
ص راحة أهَّن ا<<ليس ت مب دأ أو عقي دة ،وإنم ا هي منهج في الق راءة والتأوي ل>> ف إن ك انت
التارخيانية اجلديدة ممارسة؛ فما طبيعة هذه املمارسة؟ أو ما مفهومها؟ وما هو جمال ممارستها؟
حاول ستيفن غرينبالت إجياد مفهوم للتارخيانية اجلديدة –أو الشعرية الثقافية-يتماهى مع املعىن
الكلي هلا ،فيعرفها <<بكونها دراسة االنتاج الجمعي للممارسات الثقافية ،وبحث العالقات بين
تلك الممارسات الثقافية....وكيف جرت صياغة المعتقدات والتجارب الجمعية ،ثم نقلها من
-1غرينبالت ،منرتوز ،غالغر ،لينرتيشيا ،تايسن :التارخيانية اجلديدة واألدب ،ترمجة :حلسن أمحامة ،املركز الثقايف،
الدار البيضاء ،املغرب ،ط ،2018 ،1ص.5
-2املرجع نفسه ،ص.05
-3املرجع نفسه :ص.18
10
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
وسيط إلى آخر مركز في شكل جمالي يمكن التعامل معه ،ومن ثمة تقديمها لالستهالك ،وكي ف
خططت الح دود بين الممارس ات الثقافي ة ال تي تع د أش كاال فني ة بين األش كال األخ رى ذات
الصلة>> 1.تعىن التارخيانية اجلديدة إذن بدراسة جل املمارسات الثقافية يف صيغها املختلفة كما
تس عى للبحث يف عالق ة تل ك املمارس ات ب اجملتمع وإبداعات ه األدبي ة وغ ري األدبي ة ،كم ا ي رى –
غرينبالتَّ -
أن<< هذا المنهج يسعى باالتكاء على القراءة الفاحصة إلى استعادة القيم الثقافية
التي امتصها النص األدبي ،ألن ذلك النص ،على عكس النصوص األخرى ،قادر على أن يتضمن
بداخل ه الس ياق ال ذي أنتج من داخل ه>>َّ 2.
إن تش كيل قاع دة معرفي ة ممنهج ة تق وم على الق راءة
الفاحصة اليت تتيح إمكانية قراءة النصوص األدبية واستنباط أبرز املقوالت الثقافية املتخفية داخلها هي
ق راءة ق ادرة على <<دراس ة ال دالالت الثقافي ة والسياس ية واالجتماعي ة المرتبط ة بإنت اج العم ل
األدبي وانتشاره واستهالكه من قبل الجماهير ،وإعادة إنتاجه وتوزيعه من قبل الثقافات المتلقية
ل ذلك العم ل فغ رينبالت ومون ترو لم يتع امال م ع نص وص شكس بير على أنه ا نت اج عبقري ة أدبي ة
تتجسد فيها تجليات ذات طبيعة جمالية وفلسفية متعالية على التاريخ والثقافة ،كما فعل نقاد
شكسبير التقليديون ،بل كأيقونة ثقافية جرى تصنيعها وإعادة توزيعها...فقد نزعت التاريخانية
الجدي دة هال ة القدس ية عن األعم ال األدبي ة ووض عتها موض ع المس اواة م ع النص وص القانوني ة
والص حف>> 3.متت إذن اإلطاح ة بقاع دة الالت داخل على ح د تعب ري عب د اهلل الغ ذامي ذل ك ألهَّن ا
كممارسة ثقافية تؤمن بضرورة جتاوز وإلغاء هذه القاعدة؛ لنتأكد حسب النقاد التارخيني أهّت ا ختطت
تلك املعايري ومجعت بينها وبني خمتلف التخصصات كالفن والتاريخ والسياسة واالقتصاد.
أقصت التارخيانية اجلديدة مفاهيم ومصطلحات كانت من قبل أكثر شيوعا واستعماال :كمفهوم
احملاك اة ،وال وهم والتخيي ل والرم ز وج اءت مبجموع ة من األدوات اإلجرائي ة ال يت أع ادت من خالهلا
تقييم الصلة بني النصوص األدبية وغري األدبية نذكر منها مصطلح:
- 1يوسف عليمات :مجاليات التحليل الثقايف "اعتذاريات النابغة الذبياين منوذجا" جملة عامل الفكر ،العدد ،1جملد35
يوليو-سبتمرب ،2006ص.66
- 2غرينبالت ،منرتوز ،غالغر ،لينرتيشيا ،تايسن :التارخيانية اجلديدة واألدب ،ص.11-10
-3معن الطائي :تأريخ التارخيانية اجلديدة واشكالية العالقة مع اليسار اجلديد www.Almothaqaf.com
11
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
التفاوض :ويكون <<بين النصوص األدبية وغير األدبية التي يتم إنتاجها داخل حقبة تاريخية
معينة ،فال أفضلية لنص أدبي ما بمقوماته الفنية والجمالية على غيره من النصوص المدونة
األخرى ،أي ألن هناك دائما حوار تفاعلي تفاوضي بين جميع النصوص التي تنتجها ثقافة ما
ض من لحظ ة تاريخي ة معين ة>> 1.ي تيح إذن مص طلح "التف اوض" إمكاني ة إزاح ة احلواجز ال يت
أقامتها التوجهات احلداثية السابقة بني النصوص االرمسية املعتمدة وغري املعتمدة ،حىت أنَّه يفسح
اجملال إلمكانية التواصل والتفاعل بينهم ،كما يأخذ بعني االعتبار السياقات اليت أسهمت يف إنتاج
تلك النصوص ،والسيما السياقات الثقافية واحلقب التارخيية اليت ظهرت فيها تلك السياقات.
ش عرية الحي اة اليومي ة :وتعين<< َّ
أن النص أو الخط اب –يلتق ط ض من مقاربت ه الس ياقية-
دراسة األنماط والتشكالت الثقافية ضمن حقبة معينة؛ حيث يلتقط النص ما هو مهمش ،وما
هو واقعي يومي ،بعيدا عن كل رؤية نخبوية مهيمنة ومتفوقة>> 2.خلقت التارخيانية اجلديدة
وعي ا ثقافي ا بالس لوك الي ومي املم ارس واملع اش ،حيث اس رتعت النص وص غ ري املؤسس اتية وغ ري
اجلمالية اهتمام الناقد التارخياين الذي أعاد االعتبار هلا وللمهمش واملقصى والشعيب واحملتقر.
الوص ف الس ميك :مبعىن<<أن للنص عالق ة وثيق ة بالخلفي ات الس ياقية وليس مج رد بني ة
ثقافي ة أو رمزي ة معزول ة ،ومن ثم فالب د من تش غيل الوص ف الس ميك ،لتأوي ل النص أو
الخط اب ت أويال علمي ا حقيقي ا>> 3.الب د إذن من مقارب ة النص األديب انطالق ا من الس ياقات
الثقافي ة واالجتماعي ة والسياس ية والديني ة احمليط ة ب ه ،وال يت ك انت من قب ل خ ارج دائ رة الق راءة
النقدية.
ج اءت ه ذه املص طلحات واألدوات االجرائي ة املس تعارة من ي وري لومتان وغ ريتز -وال يت متَّ على
أساس ها تق ويض املص طلحات النقدي ة ال يت ك انت س ائدة من قب ل -انطالق ا من مق درهتا على كس ر
الرتابة اليت كان عليها النقد واالنفتاح على مرتكزات نقدية جديدة تقرأ النصوص واخلطابات قراءة
ثقافية متثلت تلك املرتكزات على وجه اخلصوص يف مفهومي اخلطاب والسلطة عند ميشيل فوكو؛
وهي من بني املص طلحات ال يت ك ان هلا ت أثري كب ري يف ظه ور التارخياني ة اجلدي دة .ومن املرتك زات
www.Almothaqaf.com -1معن الطائي :تأريخ التارخيانية اجلديدة واشكالية العالقة مع اليسار اجلديد
-2إميان برقالح :النقد الثقايف والتارخيانية اجلديدة ،ص.85
-3املرجع نفسه : ص.85
12
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
األخرى اليت قامت على أساسها جند مصطلح التاريخ فهو<<بالنسبة للتاريخيين الجدد ليس معرفة
موضوعية باإلمكان توظيفها بما يخدم تفسير النص األدبي ،مثلما أن األدب ليس مجرد وسيط
للتعبير عن المعرفة التاريخية .التاريخ شأنه شأن النص األدبي متحرك وقابل ألكثر من تفسير،
من هنا لزم إعطاء أهمية بالغة لدور السياق التاريخي في دراسة النصوص األدبية ولدور اإلبداع
في تفسير التاريخ>> 1.ارتكزت إذن التارخيانية اجلديدة على السياقات التارخيية اليت ال ميكن للناقد
التارخياين أن يتجاهله ا أو يتجاوزه ا؛ ذل ك َّ
ألن النص وص األدبي ة هي نت اج تل ك الس ياقات حتي ط هبا
وتتعني من خالهلا ولعل ما يثمن ما جاء يف املقطع السابق مقولة ريتشارد ويلسون "نصنصة التاريخ"
أو ما حدده لويس مونرتوز ب"تاريخية النصوص ونصية التاريخ" ف<<تاريخية النصوص تعني
عنده الخصوصية الثقافية والقاعدة االجتماعية لكل أنواع الكتابة ،فيما يتعلق بنصية التاريخ تعني
أننا ال نستطيع التوصل إلى ماض كامل وصحيح ،وإلى وجود مادي معيش دون وساطة اآلثار
النص ية المتبقي ة للمجتم ع موض وع الدراس ة .إن النص إذن مفت اح ال دخول إلى الت اريخ الثق افي
واالجتم اعي للعص ر في غيب ة الش واهد المادي ة غ ير النص ية على العص ر ،وه ذا م ا يقص ده أتب اع
التاريخانية الجديدة بنصية التاريخ>> 2.ترتكز إذن التارخيانية اجلديدة على ثنائية األدب والتاريخ
وتنظ ر إليهم ا نظ رة معمق ة؛ فتق رأ النص وص األدبي ة على أهَّن ا ظ اهرة من ظ واهر الت اريخ يف ش كلها
ومجاليتها وحىت يف ممارساهتا الثقافية ،وتقرأ التاريخ على أنَّه نص من النصوص السردية فتنزع عنه تلك
اهلال ة القدس ية خصوص ا م ا تعل ق حبركيته وتغ ريه وتط وره ،وهتتم بنس بية م ا يص ل من حق ائق تارخيي ة
خاصة باملاضي البعيد والقريب ،فكالمها-األدب والتاريخ-يشكالن عالقة تأثر وتأثري؛ فال النصوص
األدبية مبقدورها جتاهل السياقات التارخيية ،وال التاريخ بإمكانه جتاوز سردية النصوص.
مثة إذن ،مجلة من املقومات األساسية ارتكزت عليها التارخيانية اجلديدة جعلت منها ممارسة نقدية
هتدف إىل جتاوز املعايري احلداثية السابقة ،وتستكشف إمكانية أو مدى تفاعل النصوص واخلطابات –
األدبي ة وغ ري األدبي ة-م ع الثقاف ة وممارس اهتا املختلف ة التارخيي ة واالجتماعي ة والسياس ية؛ فهي إن ص ح
13
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
القول وجه آخر من أوجه النقد الثقايف؛ تقرأ وتتفحص وتقوض وتنقد املقوالت املركزية واملؤسسات
الثقافية املهيمنة.
ش كلت املادي ة الثقافي ة هي األخ رى وعي ا نق ديا مغ ايرا جتلى بوض وح يف كوهنا عملي ة إجرائي ة
حتليلي ة اختلفت عن غريه ا من التوجه ات النقدي ة ال يت ظه رت يف الس بعينيات من الق رن العش رين
فهي<<مظهر من مظاهر الدراسات الثقافية واتجاها نقديا آخر كسر حدود الدراسات النقدية
التقليدي ة إذ وج د في ه الكث ير من الدارس ين نس خة بريطاني ة لنظيرته ا األمريكي ة التاريخاني ة
الجديدةَّ 1.>>-
إن هذا التواشج احلاصل بينها وبني نظريهتا األمريكية جعلنا نتساءل عن طبيعة هذا
التوجه؟ وصلته بالتارخيانية اجلديدة؟.
ت ربز أمهي ة املادي ة الثقافي ة يف كوهنا<<منهج للتعام ل م ع األدب ،ب دأ في بريطاني ا في أواخ ر
الس بعينيات وارتبطت به أس ماء مفك رين ونق اد من المحس وبين على اليس ار األم ريكي األوروبي
في مقدمتهم "رايموند وليامز" >> 2.متكن هذا األخري من وضع أسس ملسعاه الفكري حىت أنَّه قام
بتحديد معامله ،بعد أن استغرق منه هذا األمر قرابة ثالثني عاما لالنتقال من <<النظرية الماركسية
المعتم دة [إنجل ز بليخ انوف ،ف وكس ،كودي ل ،ويس ت ،زادان وف] (وال تي ب دأت في قبوله ا
بشكل عام) وعبر أشكال متعددة من النظرية والبحث ،إلى أن وصلت إلى الموقف الذي أتبناه
اآلن وال ذي أعرف ه بالمادي ة الثقافي ة>> 3.ولع َّل اإلحاط ة جبوانب ه ذا الط رح اجلدي د-املادي ة
الثقافي ة-ال ذي أتى ب ه رميون د ولي امز يس مح لن ا باس تنباط ال دوافع ال يت دعت إىل نش أته ،فق د ظه ر
نتيجة<<تصدع اإلجماع الذي ساد الحياة السياسية البريطانية خالل السبعينيات ،وما صاحبه
من انهيار الفرضيات التقليدية عن قيم النقد األدبي وأهدافه ،وما فعلته الضغوط القوية المتعددة
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،ص.42
-2حفناوي رشيد بعلي :مسارات النقد ومدارات ما بعد احلداثة يف ترويض اخلطاب ،دروب للنشر ،عمان ،ط1
،2011ص.14
-3ك .نلوولف ،ك .نوريس ،ج ،أوزيورن :موسوعة كمربيدج يف النقد األديب-القرن العشرون ،املداخل التارخيية
والفلسفية والنفسية ،-مراجعة وإشراف ،رضوى عاشور ،اجمللس األعلى للثقافة ،مصر ،ط ،2005 ،1ص.74 ،
14
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
داخ ل الماركس ية والبنيوي ة والنس وية والتحلي ل النفس ي وم ا بع د البنيوي ة وم ا نجم عن ه ذه
الضغوط من تساؤالت عملية دارت حول مكانة النصوص األدبية بوصفها موجدات لغوية وقوى
إيديولوجية في مجتمعنا>> 1.على َّ
أن صلتها بالتارخيانية اجلديدة كما يرى ثلة من الباحثني تتحدد
انطالقا من مواطن يتماثالن فيها ومواطن أخرى يتعارضان فيها ذكرهتا الناقدة سحر كاظم محزة يف
مؤلفه ا "جدلي ة األنس اق المض مرة في النق د الثق افي" ميكن اإلش ارة إليه ا بإجياز من خالل اجلدول
اآليت:
توس م التارخياني ة بالوص فية ،يف حني توس م جمال الدراسة هو أدب عصر النهضة
املادية الثقافية بالنقدية. وباألخص المسرحيات الشكسبريية.
تكشف التارخيانية أوجه اخللل وسوء الفهم جتاوز منط ق أحادي ة الثقاف ة ،وتك ريس
يف حني تتج اوز املادي ة الثقافي ة ذل ك إىل االهتمام باملهمش والشعيب واملغيب.
تصحيح ما تنتقده باملمارسة العملية. املاركسية باعتبارها الطابع الغالب.
2
تس عى املادي ة إىل رفض ك ل أش كال اهليمن ة ميثالن حقال من حقول النقد التارخيي.
التقليدي ة الس ائدة يف التش كيل الثق ايف األديب
والنق دي ،يف حني تس عى التارخياني ة إىل
الكش ف عن تل ك األش كال واالكتف اء
بوصفها حماولة تفسريها.
املادي ة أك ثر ميال إىل الث ورة والتغي ري
3
والتارخيانية أكثر ميال للتوافق.
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،ص.43
- 2سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،ص.45-44
3
.املرجع نفسه :ص-47-46-45
15
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
تعتمد على مفهوم "القراءة المقاومة" وعلى مفاهيم اجرائية أخرى كمفهوم "االنشقاق" وهو أداة
اجرائية تستعني به <<في معالجة النصوص الثقافية بوصفه مقابال ومباينا لمفهوم "االحتواء" الذي
تطرحه التاريخانية الجديدة .و"االنشقاق" و"االحتواء" كالهما مفهومان سياسيان ،يعني األول
الخروج من أبنية السلطة والتصدي لمزاعم "السلطة المهيمنة" ومحاربة تلك المزاعم ،في حين
يعني اآلخر أي "االحتواء" احتواء السلطة لبعض أنماط المعارضة بدمجها في أبنيتها>>َّ 1.
إن
هذا االختالف امللحوظ يف األدوات اإلجرائية ويف املفاهيم وطبيعة املمارسة جعل من املادية الثقافية
نظرية تقوم على كل ما هو مرتبط بعمليات اإلنتاج ووسائله وأولويتها يف ذلك مراعاة احمليط املادي
لظواهر الثقافية.
يف ظل هذه املرجعيات املعرفية اليت كنَّا قد أشرنا إليها آنفا؛ تشكل النقد الثقايف واستمد أسسه
ومنطلقاته منها ،فكانت –هذه املرجعيات-مبثابة الرتسانة اليت استعان هبا أثناء مراحل تطوره ،فكيف
وأين نشأ وتطور هذا النقد؟.
الشك َّ
أن مشروع النقد الثقايف قد فتح األبواب على ممارسات ثقافية جديدة تتموضع داخل إطار َّ
ثقافة التعدد والتداخل الثقايف الذي ارتكزت عليه مقوالت ما بعد احلداثة وجعلت منه ذريعة إلسقاط
املركزيات املهيمنة على الثقافة الغربية آنذاك؛ حىت أنَّه تقاطع يف مواضع كثرية -إن مل نقل أنَّه كان
جزءا منها -مع العديد من املفاهيم والقضايا املا بعد حداثية كأسئلة ما بعد الكولونيالية ،ودراسات
الزنوجة واجلنوسة ،وغريها مما تعلق باملهمش والشعيب وغري الرمسي.
كما أنَّه انتهج لنفسه طريقة يف قراءة النصوص واخلطابات؛ جعلت منه مشروعا ثقايف يهدف إىل
إماطة اللثام عن عيوب النقد األديب وجتاوزاته النقدية ،ليحل حمله منط ما بعد حداثي للقراءة النقدية
تعتمد على آليات وإجراءات ومفاهيم ثقافية ،تبحث يف خبايا النصوص واخلطابات وتكشف عن ما
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،ص.46
16
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
هو مستبطن ومتخفي داخلها ،فكيف نشأ هذا النقد الذي قلب موازين الذائقة الغربية والعربية على
السواء؟ ومن مؤسسه؟.
َّ
إن هذا النقد مبفهومه وآلياته وممارساته املعرفية والثقافية كانت له إرهاصات خاصة به احتضنت
ظهوره األول <<ومما يالحظ في نشأة النقد الثقافي أن للمصطلح ظهورا أسبق بكثير من ظهور
المفه وم وتجلي ه في الس احة النقدي ة والفكري ة ،ففي حين تؤك د المؤلف ات الغربي ة والمؤلف ات
العربي ة نش وء النق د الثق افي مفهوم ا وتنظ يرا>> 1.ظه ر ه ذا األخ ري بش كل فعلي م ع بداي ة
التسعينيات على يد الناقد (فينست ليتش )V. Leitchالذي انطلق يف كتابه "النقد الثقافي :نظرية
األدب لما بعد الحداثة" الصادر سنة 1992؛ من تصور جعله يتعامل مع النصوص على أهَّن ا أيقونة
ثقافي ة ف<<دع ا إلى نق د ثق افي م ا بع د ب نيوي تك ون مهمت ه األساس ية تمكين النق د المعاص ر
للخروج من نفق الشكالنية والنقد السطحي الذي حصر الممارسات النقدية داخل إطار األدب
فحس ب>> 2.لق د ح اول فينس ت ليتش من خالل دعوت ه تل ك ختليص النص األديب من مث الب
الش كالنية وس لطة البنيوي ة ال يت حص رت العم ل األديب داخ ل إط اره الش كلي واللُّغ وي ،وأبعدت ه عن
سياقاته اخلارجية احمليطة به.
كم ا َّ
أن وعي فينس ت ليتش خبصوص يات مش روعه النق دي جعل ه يطل ق عليه<<مص طلح النق د
الثقافي مسميا مشروعه النقدي بهذا االسم تحديدا وجعله رديفا لمصطلحي ما بعد الحداثة وما
بعد البنيوية >> 3.فإىل جانب بلورته هلذا املصطلح ،حدد له ثالث ركائز أساسية متثلت يف:
ال ميكن قراءة النقد الثقايف داخل املنظومة املؤسساتية اليت تقدس كل ما هو مجايل فحيثما توجد
"القبحييات" أو كل ما هو غري مجايل يدخل ضمن تطلعات النقد الثقايف ،أي ينفتح على مجال
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،ص.50
- 2فارس توفيق البيل :الرواية اخلليجية ،قراءة يف األنساق الثقافية ،شركة دار األكادمييون للنشر ،عمان ،ط،1
2016ص.18-17 ،
- 3عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية ،ص.31 ،
17
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
اتس ع مش روع النق د الثق ايف املا بع د ب نيوي ل دى ليتش ح ىت أص بحت ل ه مس ارات وأدوات وك ذا
مصطلحات ومفاهيم قام بتطوريها واستبداهلا مبصطلحات أخرى أكثر دقة ومتاشيا مع هذا النقد نذكر
من بينه ا مفه وم األنظم ة العقلي ة والالعقلي ة ال ذي وض عه<<هادف ا من وراء ذل ك فتح إمكاني ات
أوسع للنقد الثقافي الما بعد بنيوي في تناوله الكلي أو التفتيتي للنص أو الظاهرة وفي تشريحه
لهما على أن يتم النظر للظاهرة أي ظاهرة بوصفها نصا>> 3.ومن املثري لالهتمام َّ
أن هذا املفهوم
جاء كبديل ملصطلح اإليديولوجيا بعد أن قام ليتش بتطوير ما جاء به ميشال فوكو يف كتابه "احلقيقة
والسلطة" ؛ ففي نظر الغذامي مل يويل فوكو اهتماما كبريا هبذا املصطلح ،أما ليتش فاأليديولوجيا يف
4
نظ ره <<مص طلح ج رى تحميل ه بحم والت سياس ية وص ار يش ير إلى دالالت متعارض ة>>.
حييلنا هذا بتأكيد إىل املفاهيم األخرى اليت طورها ليتش؛ كمصطلح "النقد المؤسساتي" وهو عبارة
اس رتاتيجية تقيي ه إىل ح ّد م ا من املؤسس ات الرمسية ،ل ذلك ع اد إىل أعم ال ك ل من إدوارد س عيد
وميشال فوكو باعتبارها من أبرز الدراسات اليت قامت بنقد املؤسسة ،فالغاية اليت سعى إليها ليتش
تكمن يف<<تجنب النق د الثق افي الم ا بع د ب نيوي من الوق وع في حبائ ل المؤسس ة وأفض ل
1
.عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية ،ص :ص-32
-44املرجع نفسه :ص.32 ،
-2املرجع نفسه :ص.32 ،
-3املرجع نفسه :ص.32 ،
-4املرجع نفسه :ص.32،
18
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
ح االت التحص ين هي ممارس ة نق د المؤسس ة ،وه ذا درس في أخالقي ات العم ل ،إنن ا نع ود إلى
األعمال العظيمة ولكن مع رغبة في قراءتها بتواضع شديد -حسب تعبير ليتش-من أجل وضع
أسئلة عنها ومن حولها عن المؤسساتية والطبقية>> 1.ولئن حاولنا تتبع مراحل تطور النقد الثقايف
مر مبرحلتني:
بشكل فعلي سنجده قد َّ
المرحلة األولى :متيزت هذه املرحلة بأهَّن ا كانت سابقة لظهوره بشكل فعلي كمفهوم وممارسة
متكاملة ،وقد مشلت حماوالت وكتابات مبكرة أبرزها <<اإلشارة الشهيرة للمفكر األلماني
تيودور أدورنو في مقالته التي عنونها (النقد الثقافي والمجتمع) التي تعود إلى عام 1949م
المقالة التي تضمنت هجوما على نوع من النقد البرجوازي الذي ساد في نهاية القرن التاسع
عش ر ال ذي يمث ل الثقاف ة الس ائدة عن د األكثري ة وبع دها عن الحقيق ة ونزوعه ا
السلطوي()...والمفهوم الذي تقدمه مقالة أدورنو على ما يبدو هو مفهوم عام يتوجه إلى
نق د الممارس ات السياس ية الخاطئ ة داخ ل ثقاف ة معين ة>> 2.ظ ف إىل ذل ك أهّن ا –املقال ة-
تطرقت رغم ظهورها املبكر إىل جمال مهم وبارز اسرتع اهتمام النقاد الثقافيون الحقا وهو جمال
علم السياسة ،مبصطلحاته ومفاهيمه.
مل تكن حماولة أدورنو هي الوحيدة آنذاك فقد<<ظهرت تسمية النقد الثقافي بالداللة ذاتها
في كتابات "يورغن هابرماس" الفيلسوف األلماني وزميل ادورنو في مدرسة فرانكفورت
في النص ف األول من الق رن العش رين في كت اب ل ه بعن وان (المح افظون الج دد :النق د
الثق افي والح وار الت اريخي) وهابرم اس لم يعن في كتاب ه بتحدي د المفه وم ،وإنم ا اكتفى
بالداللة العامة الشائعة التي تضمنتها مقالة ادورنو من قبل>> 3.ومن أجل اإلحاطة جبوانب
هذه املرحلة نستكمل ذكر حماولة أخرى مبكرة للمؤرخ األمريكي هايدن وايت الذي أشار يف
دراسته املعنونة ب"بالغيات الخطاب :مقاالت في النقد الثقافي" الصادر سنة 1978م إىل
أنّه ال يوجد <<اختالف بين بالغيات الخطاب الموظفة في العلوم اإلنسانية واألدب وعد
- 1عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية ،ص.35 ،
- 2سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،ص .50
-3املرجع نفسه ،ص.51
19
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،ص.51
-2املرجع نفسه :ص.52
-3املرجع نفسه ص.65-64
20
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
وهي مفاهيم ال تبتعد عن كوهنا <<مفاهيم ثقافية عامة تواجهنا في الكثير من الحقول المعرفية
كاللس انيات وعلم االجتم اع وعلم النفس وهي ليس ت من أدوات النق د الثق افي ومص طلحاته
الخاصة قطعا ،ولذا يمكن لنا أن نعد أطروحة الشامي من الدراسات الثقافية المبكرة في الساحة
العربية .ولنا أيضا أن نعد الشامي من نقاد الثقافة العرب األوائل ال ناقدا ثقافيا>> 1.وما يهمنا
هنا من خالل هذه اإلشارة هو اجلانب االصطالحي واملفهومي الذي حنن بصدده فاألمر املتعلق بالناقد
حسن شامي واعتبار مصطلحاته مصطلحات ثقافية ،جيعلنا ننظر جبالء إىل اخللط احلاصل على مستوى
املص طلح واملفه وم من قب ل النق اد ورمبا جيدر بن ا أن نق ف عن د ه ذه النقط ة ،فقد<<اتس مت بعض
الكتاب ات النقدي ة العربي ة المؤص لة والم ؤطرة للنق د الثق افي باش تمالها على اض طراب يكمن في
الخل ط بين الجه د الع ربي المتوج ه نح و نق د مض امين الثقاف ة وتجلياته ا على أص عدها المختلف ة
السياس ية واالقتص ادية واالجتماعي ة والديني ة وبين النق د الثق افي بوص فه منهج ا نق ديا يتوس ل
بإجراءات وأدوات نقدية معينة لقراءة نصوص الثقافة على اختالف مناحيها>> 2.فمن النقاد من
اتض حت عن ده الرؤي ة وأوج د الفروق ات الواض حة بني النق د الثق ايف وبني الدراس ات العربي ة ال يت
متظهرت فيها الثقافة بأبعادها السياسية واالجتماعية وغريها ومنهم من أخفق يف الفصل بينهما.
َّأما الس بب وراء ه ذا اخلل ط ه و وج ود جمموع ة من األعم ال النقدي ة ال يت أدرجه ا النق اد يف خان ة
الدراسات الثقافية أو ما أمساه الناقدان "سعد البازعي وميجان الرويلي" ب "نقد ثقافي عام" وهو نقد
أقرا من خالله أنَّه مائل إىل التوسع ألنَّه يعتمد على املعىن العام <<وليس بالمعنى ما بعد البنيوي
الذي يقترحه ليتش ،ورأينا الثقافة بوصفها مرادفة للحضارة ...فإنه يمكن الحديث عن كثير من
النقد الذي قدمه الكتاب العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر بوصفه نقدا ثقافيا أي بوصفه
استكش افا لتك وين الثقاف ة العربي ة وتقويما له ا ،يص دق ذلك على م ا كتب في مج االت الت اريخ
والنق د األدبي واالجتم اع والسياسة وغيره ا مم ا يتم اس م ع الثقافة ويش كل نقدا له ا>>َّ 3.
إن
الناقدان هبذا التصور قد أوضحا َّ
أن ما كتب يف اجملاالت املذكورة يف املقطع السابق خترج عن كوهنا
21
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
نقدا ثقايف كما هو معروف مبفهومه الغريب إىل مفهوم أوسع وأبعد و هذا طبعا ما أمسته الناقدة "سحر
ك اظم حم زة" ب <<نق د الثقاف ة>> 1أم ا من وجه ة نظرنا فهي عب ارة عن متظه رات للثقاف ة يف
الكتابات العربية؛ ومن بينها<<ما كتبه طه حسين في كتاب في الشعر الجاهلي ،أو في مستقبل
الثقاف ة في مص ر ،وك ذلك كث يرا مما نش ره العق اد وجماعة الديوان وبعض المهج ريين ،ثم نقد
أدونيس في الثابت والمتحول ،بل وكتابات بعض الباحثين المعاصرين كعبد اهلل العروي ومحمد
عاب د الج ابري وط ه عب د ال رحمن وهش ام جعي ط وفهمي ج دعان وعلي ح رب ومحم ود أمين
العالم ،وكثير غير ذلك مما يصعب إحصاؤه .كما يندرج ضمن النقد الثقافي ما أسماه هشام
شرابي ب"النقد الحضاري" في كتاب له بهذا العنوان (أنظر :البطريركية) ،وما دعا إليه ناقد
مث ل ش كري عي اد من نق د حض اري أيض ا ،وم ا قدم ه ب احث مث ل عب د اهلل المس يري في مج ال
التح يز>> 2.وهك ذا ميكن لل دارس أن يفهم اخللفي ة ال يت على أساس ها أطل ق الناق دان على تل ك
الكتابات بالنقد الثقايف العام ألهَّن ما أدركا الشرخ املوجود بني املصطلحني؛ وبالتايل مل تكن التسمية
جمرد حتوير أو خلط وإمّن ا كانت عبارة عن وعي حاصل مبين على الفهم اجليد للمصطلح واملفهومَّ ،أما
الناق د حمس ن جاس م املوس وي فق د تعام ل م ع املص طلح ومفهوم ه <<في كتابات ه عن النق د
الثق افي ...ت ارة للدالل ة على عمومي ة س بق أن س ميناها "نق د الثقاف ة" ،إذ نج ده يرب ط بين النق د
الثق افي والنهض ة العربي ة المت أثرة ب الغرب .....حين يتس اءل عن الم انع من الع ودة إلى ت راث
القدامى وقراءة متونه على أنّه نقد ثقافي وال يرى ضيرا في قراءة رد محمود أمين العالم وعبد
العظيم أنيس على "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين بل وكتابات طه حسين ذاتها ،على أنها
نقد ثقافي ،ويعد "المعذبون في األرض" لطه حسين صورة من صور النقد الثقافي ...ثم يظهر
3
مصطلح "النقد الثقافي لديه ليدل على مفهومه الما بعد بنيوي ،والذي عرضه آرثر برجر>>.
ي بني ه ذا املقط ع م دى االض طراب ال ذي وق ع في ه املوس وي وإال م ا ك ان ليس تعمل املص طلح يف غ ري
موضعه ،مع العلم أنَّه كان ملما بكل جوانبه ومفاهيمه الغربية<<ونظن أن مسألة االضطراب في
تحدي د المص طلح أم ر ال يالم عليه الناق د الع ربي كث يرا فق د ك ان المنظر الغ ربي لديه مث ل هذا
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف :ص.62
- 2ميجان الرويلي وسعد البازعي :دليل الناقد األديب ،ص.309 ،
- 3سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف :ص.63
22
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
1
الخلط في تحديد المصطلح والسيما أن األمر أحسن حاال إذ يمتلك وعيا تاما بالمفهوم>>.
ال ذي مل تكتم ل ص ورته إال م ع مش روع عب د اهلل الغ ذامي الص ادر س نة 2000واملوس وم
ب"النقد الثقافي :قراءة في األنساق الثقافية العربية" وهو أول حماولة جادة يف حقل النقد الثقايف
<<ينَ ِظ ر ويُطبق ويؤول ويتعامل مع متن قرائي شاسع يشمل الشعر الجاهلي، العريب ذلك ألنَّه ُ
وأدب العص ر اإلسالمي واألموي والعباسي والعص ر الح ديث ،كما أنَّه يجعل الق ارئ يعيش في
حالة من التشويش بسبب الصدمة التي يخلقها فيه هذا الكتاب بأحكامه الحاسمة والجازمة عن
الثقاف ة واألدب العرب يين ،وعن رجعي ة الحداث ة العربي ة ورجعي ة ك ل من أبي تم ام والمتن بي
2
تكمن أمهي ة ه ذا الكت اب يف اس رتاتيجيته اإلجرائي ة ويف وأدونيس ونزار قباني وغيرهم>>.
انتقائ ه لنم اذج ش عرية قدمية وحديث ة ح اول من خالهلا اإلجاب ة عن التس اؤالت املطروح ة يف مقدم ة
كتاب ه ،ولي بني من خالهلا أنّ ه قد<<آن اآلوان ألن نبحث في العي وب النس قية للشخص ية العربي ة
المتش عرنة وال تي يحمله ا دي وان الع رب وتتجلى في س لوكنا االجتم اعي>> 3.إهّن ا نقط ة بالغ ة
األمهية ألننا نتحدث عن نقد أديب س يطر ملدة طويلة من الزمن كسر سيطرته تلك عبد اهلل الغذامي
عندما أعلن أنّه أصبح قاصرا ال ميكنه البحث يف العيوب النسقية وأنّه غري قادر على كشفها.
لق د جع ل من كتاب ه مرتع ا مهم ا لط رح ع دة أس ئلة م ازالت تبحث عن إجاب ة ،ف رغم وجاه ة
مشروعه إال أنَّه أثار بشكل واضح جدال كبريا السيما تلك األقالم اليت تفجرت معارضة مشروعه
فواج ه س يال من االنتق ادات ال يت وجهت ل ه ،يف حني جند ثل ة من النق اد الع رب تبن وا ه ذا املش روع
وطبقوه على نصوص شعرية وسردية كما هو مبني يف اجلدول التايل:
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف ،ص.64
-2ن ادر ك اظم :تعارض ات النق د الثق ايف ،أو رحل ة البحث عن النس ق املتناس خ ،ض من كت اب "عب د اهلل الغ ذامي
واملمارس ة النقدي ة والثقافي ة :حس ني الس ماهيجي وآخ رون/مؤلف ون ع رب ،املؤسس ة العربي ة للدراس ات والنش ر،
بريوت ،لبنان ،ط ،2003ص.105 ،
- 3عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية ،ص.7 ،
23
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
وهبذا ،ميكننا التعرف على ماهية النقد الثقايف ،بعد أن تتبعنا مراحل نشأته وتطوره يف الثقافة الغربية
ال يت انف ردت هبذه النش أة وواجهت تل ك الزوبع ة ال يت أثاره ا ،خملف ا وراءه مب ادئ وقيم خلخلت
ثوابته ا-الثقاف ة الغربي ة-ومرتكزاهتا ال يت ك انت عليه ا ح داثتها من قب ل ،كم ا تعرفن ا على نش أته عن د
العرب من خالل مشروع عبد اهلل الغذامي الذي هو اآلخر خالف من خالله أسس النقد األديب الذي
ألفته وتعودت عليه الذائقة العربية ،لذلك آن اآلوان للتعرف على مفهومه؟.
24
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
يتس م مفه وم النق د الثق ايف ه و اآلخ ر مبعن يني :املع ىن الع ام واملع ىن اخلاص؛ ففي معن اه األول عرف ه
آرثر أيزبرجر بأنَّه<<نشاط وليس مجاال معرفيا خاصا بذاته>> 1.جيعل هذا التعريف من قارئه
يقف أمام جمموعة من التساؤالت :ماذا يعين أرثر أيزابرجر بنشاط وليس جمال معريف؟ هل هذا يعين
َّ
أن النقد الثقايف ال ميكن اعتباره نظرية نقدية قائمة بذاهتا؟.
- 1آرثر أيزابرجر :النقد الثقايف ،متهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية ،ص .30
- 2آرثر أيزابرجر :النقد الثقايف ،متهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية :،ص.31-30
-3حسن جاسم املوسوي :النظرية والنقد الثقايف :الكتابة العربية يف عامل متغري(واقعها ،سياقاهتا ،وبناها الشعورية)
املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،دار فارس للنشر والتوزيع ،بريوت-لبنان ،ط ،2005 ،1ص.10 ،
25
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
َّأما الناقدان سعد البازعي وميجان الرويلي فقد تطرقا ملفهوم هذا النقد<<في داللته العام ة يمكن
القول إن النقد الثقافي كما يوحي اسمه نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعا لبحثه
وتفك يره ويع بر عن مواق ف إزاء تطوراته ا وس ماتها>>َّ 1.
إن الثقاف ة يف تص ور الناق دان ميج ان
الرويلي وسعد البازعي هي البؤرة األساسية اليت تتيح للناقد إمكانية ممارسة قراءته النقدية ،فمن خالهلا
ميرر الكاتب خطاب ات أدبية وغ ري أدبي ة؛ ق د تك ون حمملة بأفك ار سياس ية أو إيديولوجية أو دينية أو
اجتماعية ومهمة النقد الثقايف هنا هي الكشف عنها والبحث يف مضمراهتا وقراءهتا قراءة ثقافية ،ومن
مثَّ ميكنن ا الق ول َّ
إن النق د الثق ايف<<ليس منهج ا بين من اهج أخ رى ،أو م ذهبا أو نظري ة ،كم ا أن ه
ليس فرعا أو مجاال متخصصا من بين فروع المعرفة ومجاالتها ،بل هو ممارسة أو فاعلية تتوفر
على كل ما تنتجه الثقافة من نصوص سواء كانت مادية أو فكرية ،ويعني النص هنا كل ممارسة
قوال أو فعال تولد مع نى أو داللة>> 2.ومبا َّ
أن ص ورة النقد الثق ايف العامة قد اتضحت من خالل
التع اريف الس ابقة وحتددت على أنَّه نش اط فك ري أو ممارس ة فكري ة انفتحت على عل وم ونظري ات
نقدية استقت منها مفاهيمها وأدواهتا ومص طلحاهتا ،يفرتض علينا بعد هذه اخلطوة أن نتعرف على
معناه اخلاص فقد عرفه عبد اهلل الغذامي :بأنَّه<<فرع من فروع النقد النصوصي العام ،ومن ثم
فهو أحد علوم اللغة وحقول األلسنية معني بنقد األنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب
الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء
بسواء ،من حيث دور كل منها في حساب المستهلك الثقافي الجمعي ،وهو لهذا معني بكشف
ال الجم الي ،كم ا ه و ش أن النق د األدبي ،وإنم ا هم ه كش ف المخب وء من تحت أقنع ة البالغي
الجمالي ،وكما أن لدينا نظريات في الجماليات ،فإن المطلوب إيجاد نظريات في (القبحيات)
ال بمعنى البحث عن جماليات القبح مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البالغي في
تدشين الجمالي وتعزيزه ،وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة األنساق وفعلها
المض اد لل وعي وللحس النق دي>> 3.إذا ك ان النق اد املذكورين أعاله ق د اعت ربوا النق د الثق ايف
-1ميجان الرويلي وسعد البازعي :دليل الناقد األديب ،املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،املغرب ،ط2005 ،4
ص.305 ،
- 2صالح قنصوة :متارين يف النقد الثقايف ،دار مرييت ،القاهرة ،مصر ،ط ،2007 ،1ص.5
- 3عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية ،ص.85-84
26
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
- 1عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية :ص.7
-2املرجع نفسه :ص.8
27
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
ت ربز ماهي ة النس ق الثق ايف حبس ب التص ور املفه ومي للنق د الثق ايف ووظيفت ه باعتب اره <<نق دا
لألنساق المضمرة :فهو يتوجه بالدرجة األساس نحو ما تحويه نصوص الثقافة على تنوعها من
أنساق ،إذ يشكل مفهوم النسق محورا مركزيا في مشروع النقد الثقافي>> 1.ليكون هبذا املعىن ٍ
حال ة تس تدعي االحاط ة هبا؛ ذل ك ألنَّه يع زز وظيف ة النق د الثق ايف فيَ ْمتَثِ ُل للثقاف ة ال يت تغذي ه ومتده
بنص وص وخطاب ات تس اعده على االختب اء وراءه اَّ ،أما الس ؤال ال ذي ينبغي أن يط رح هن ا فيتمح ور
أساسا حول مفهوم النسق* ،السيما وأ َن هذا االشكال مت طرحه يف منابر كثرية وأجيب عليه يف عدة
مر هبا ب دءا بالع امل اللس اين دي سوس ري ،وع امل االجتم اع غ ريتس
دراس ات توقفت عن د حمطاته اليت َّ
وكذا العامل االنثروبولوجي كلود ليفي شرتاوس لذلك لن نطيل احلديث عنه ،فما يعنينا هنا هو النسق
الثقايف الذي حييلنا مباشرة إىل احلديث عن وظيفته؛ ذلك َّ
ألن الغذامي مل حيدد له مفهوما واضح املعامل
يق ول<<إال أنن ا هن ا نط رح "النس ق" كمفه وم مرك زي في مش روعنا النق دي ،ومن ثم فإن ه
يكتس ب عن دنا قيم ا داللي ة وص فات اص طالحية خاص ة نح ددها فيم ا يلي :يتح دد النس ق ع بر
وظيفت ه ،وليس ع بر وج وده المج رد>> 2.ض من ه ذا التحدي د ق ارب الغ ذامي النس ق الثق ايف من
وجهة مغايرة أوهلا :أنَّه أوىل اهتمامه وتركيزه بالنسق داخل إطاره اخلاص أي الثقايف واستبعد معناه
اللغ وي واملعجمي وال داليل أي الع ام ،ثانيه ا :بع د طرح ه للس ؤال "م ا النس ق الثق ايف...؟" يف مؤلف ه
انتظرنا تعريفا شامال وملما هبذا األخري ولكنه وضع مباشرة حتديدات لوظيفته بدال من بناء أرضية
تعريفي ة ل ه تزي ل عن ه الغم وض ،وكي ال يبقى جمه وال كم ا ص رح الناق د عب د الن يب اص طيف عن دما
تساءل عن سبب<<إغفال الغذامي على نحو ال يصدق لتعريف هذا المفهوم المركز في دعوته
- 1سحر كاظم محزة :جدلية األنساق املضمرة يف النقد الثقايف :ص.85 ،
**-النسق :جيري استخدام كلمة (النسق) كثريا يف اخلطاب العام واخلاص ،وتشيع يف الكتابات إىل درجة قد تشوه
داللتها ،وتبدأ بسيطة كأن تعين ما كان على نظام واحد ،كما يف تعريف املعجم الوسيط ،وقد تأيت مرادفة ملعىن
البنية ( )structureأو معىن (النظام) حسب مصطلح دي سوسري :أنظر عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف
األنساق الثقافية العربية ،ص.76 ،
- 2عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية :ص.77
28
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
والس يما أنَّه ينس ب إلي ه الكث ير من المص طلحات والمف اهيم األخ رى من مث ل المك ون
النس قي......والحس النس قي...والنس قي الثق افي...والوظيف ة النس قية ..والمض مر
النسقي ...ولست أدري كيف يمكن أن يتابع القارئ محاجة الغذامي وهو يصول ويجول في
دفاع ه عن ه ذا المجه ول أو النس ق دون أن يس عفه ول و بتعري ف بس يط ييس ر علي ه ص حبته في
كفاحه من أجل النقد الثقافي>> 1.من جهة أخرى ،جند الناقد يوسف عليمات هو اآلخر يعرفه
انطالق ا من وظيفت ه ومساته ومميزات ه النقدي ة معت ربا<<النق د النس قي كم ا يتجلى في ه ذا التنظ ير
يصطفي النسق بوصفه عنصرا مركزيا في الحضارة والمعرفة والثقافة والسياسة والمجتمع إذ
يتسم النسق من حيث هو نظام بالمخاتلة واستثمار الجمالي والمجازي ليمرر تجلياته ومضمراته
التي ال تنكشف إال بالقراءة الفاحصة>> 2.لقد تبلور إذن النسق الثقايف انطالقا من وظيفته اليت
تعتم د على منط ك ان يف م ا مض ى يس تند إىل ال دالالت الض منية والص رحية ولكن م ع س يادته أص بح
يس تند إىل ال دالالت النس قية ال يت جتاوزت ح دود ال دالالت الس ابقة ألهَّن ا <<دالل ة ترتب ط في
عالقات متشابكة نشأت مع الزمن لتكون عنصرا ثقافيا أخذ بالتشكل التدريجي إلى أن أصبح
عنصرا فاعال ،ولكنه وبسبب نشوئه التدريجي تمكن من التغلغل غير الملحوظ وظل كامنا هن اك
في أعم اق الخطاب ات ،وظ ل ينتق ل م ا بين اللغ ة وال ذهن البش ري ف اعال أفعال ه من دون رقيب
نقدي النشغال النقد بالجمالي أوال ،ثم لقدرة العناصر النسقية على الكمون >> 3.انطالقا من
هذا التصور الذي مل يبني لنا فقط مدى قدرة وبراعة العنصر النسقي على االختباء ،بل ودفعنا أيضا
إىل التوج ه ص وبه –العنص ر النس قي-لتع رف على خاص ية الظه ور والض مور ال يت ميت از هبا؛ فالنس ق
الظاهر هو<<قرين النسق المضمر ونقيضه في آن ،فهو يالزمه وال ينفك عنه ،ويختلف عنه،
فالنس ق الظ اهر يعلن عن ه ويتجلى في س طح النص وفي معاني ه وأبنيت ه>>ّ 4.أم ا املض مر
ف<<يعمل على االختفاء والتواري واالنزواء في أعماق النص وفي بنيته العميقة ،بل ربما في
- 1عبد اهلل الغذامي ،عبد النيب اصطيف :نقد ثقايف أم نقد أديب ،دار الفكر ،دمشق ،ط ،2004ص.189
-2يوس ف حمم ود عليم ات :النق د النس قي "متثالت النس ق يف الش عر اجلاهلي" ،دار األهلي ة للنش ر والتوزي ع ،عم ان
األردن ،ط ،2015 ،1ص.09
- 3عبد اهلل الغذامي :النقد الثقايف قراءة يف األنساق الثقافية العربية ،ص.72،
- 4نعيمة بولكعيبات :النسق املضمر يف نوادر جحا ،جملة فصول ،اجمللد ،25/3العدد ،99ربيع ،2017ص
.433
29
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
بنيته الصامتة والخفية في المسكوت عنه في النص>> 1.لكل منهما طبيعة تناسب طريقة عمله
كم ا يب دو يف املقطعني الس ابقني إال َّ
أن النق د الثق ايف ألقى الض وء بش كل كب ري على <<النس ق
المضمر ،أما النسق الظاهر فال يولى من االهتمام سوى بقدر ما يعد وسيلة للكشف عن المضمر
المت واري خلف ه وبق در م ا يحوي ه هن ا أو هن اك من إلم اح أو إيح اء بالنس ق المض مر الك امن
المخالف للظاهر ،ل ذا فالنقد الثق افي يعنى عناية كبيرة بالنسق المضمر>> 2.ذلك َّ
ألن طبيع ة
النس ق املض مر ال يت تعتم د على الت واري واالختب اء تش كل خط ورة على عكس م ا حيدث م ع الظ اهر
الذي وببساطة ميكن الكشف عن أبعاده ومتضهراته وال يشكل أية خطورة أو صعوبة كما هو احلال
3
مع املضمر الذي <<تكمن خطورته في كونه كامنا حيث يمارس تأثيره من دون رقيب>>.
ولعل داللته تلك اليت تعتمد على خاصية التخفي والتواري هي اليت جعلته ال حيتكم إىل أي قانون من
شأنه أن يسريه وال خيضع إىل أية رقابة قد متنعه من مترير صو ٍر وخطابات ميكن القول عنها أهَّن ا ليست
من ص نع املؤل ف وال الق ارئ وإمَّن ا هي<< منعرس ة في الخط اب ،مؤلفته ا الثقاف ة ،ومس تهلكوها
جم اهير اللغ ة من كت اب وق راء ،يتس اوى في ذل ك الص غير م ع الكب ير والنس اء م ع الرج ال
والمهمش م ع المس ود>> 4.يتض ح إذن مفه وم النس ق املض مر أك ثر من خالل مجل ة من الش روط
والسمات االصطالحية مجعها الغذامي على النحو الت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــايل:
يشرتط الغذامي وجود نسقني يف نص واحد ،أو ما هو يف حكم النص الواحد.
أن يك ون أح دمها مض مر واآلخ ر علني ا ،ويك ون املض مر نقيض ا وناس خا للمعلن ،ول و ح دث
وصار املضمر غري مناقض للعلين فسيخرج النص عن جمال النقد الثقايف ،مبا أنه ليس لدينا نسق
مض مر من اقض للعل ين ،وذل ك ألن جمال ه ذا النق د ه و كش ف األنس اق املض مرة (الناس خة
للعلين).
30
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
البد أن يكون النص موضوع الفحص نصا مجاليا ،ألننا ندعي أن الثقافة تتوسل باجلمايل لتمرير
البد أن يكون النص ذا قبول مجاهريي ،وحيظى مبقروئية عريضة وذلك لكي نرى ما لألنساق
1
من فعل عمومي ضارب يف الذهن االجتماعي والثقايف.
وبالت ايل فالناق د الثق ايف حباج ة إىل الش روط األربع ة املذكورة أعاله؛ ألهَّن ا توض ح منطلق ات كث رية
البد منها نذكر على سبيل املثال الشرط األول وباألخص الثاين ،هذا األخري يبني مدى أمهية النسق
الظاهر الذي ال ميكن أن يتعاىل عليه املضمر أو يلغيه بل وجوده مرتبط بوجود األول وبالتايل له أمهية
كبرية ،كما يعارض هذا الشرط مقولة الناقدة سحر كاظم محزة السابقة اليت قالت فيها َّ
أن النسق
الغذامي ال خيلو النسق الظاهر من األمهية ،وله أيضا أدوار ومهام كثرية؛ وإن حدث ومت تغيبه أو إلغاءه
يف هذه احلالة تصبح النصوص الثقافية نصوصا فارغة من أي داللة نسقية وال يعود النقد الثقايف معنيا
بدراسة النصوص دراسة ثقافية يسعى من خالهلا للكشف عن األنساق الثقافية املضمرة وهي خطوط
محر ينبغي على النقد الثقايف أن ال يتجاوزها وإال تدخل الدراسة يف مصاف النقد األديب.
وفي األخ ير س نحاول في المب احث الالحق ة ق راءة النص وص الروائي ة الجزائري ة ومقاربته ا
مقارب ة ثقافي ة ،ذل ك ألن الرواي ة الجزائري ة وظفت الت اريخ اإلس المي لتمري ر خطاب ات مض مرة
-1عبد اهلل الغذامي ،عبد النيب اصطيف :نقد ثقايف أم نقد أديب ،ص .32
31
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
- 1علي حممد الصاليب :صفحات مشرقة من التاريخ اإلسالمي ،دار ابن حزم ،القاهرة ،مصر،ج،1ط 2009 ،1ص
.15
- 2إمساعيل بن محاد اجلوهري :الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ،احملقق ،أمحد عبد الغفور عطار ،دار العلم
للماليني ط ،1990 ،4ص.418
- 3أيب الفضل مجال الدن حممد مب مكرم ابن منظور ،لسان العرب ،اجمللد ،3دار صادر ،بريوت ،لبنان ،دط ،ص.4
32
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
َّأما املعجم الفلسفي جلميل صليبا فقد وردت كلمة التاريخ يف <<الفرنسية »Histoire« وفي
اإلنجليزية « »Historyوفي الالتيني ة« »Historiaومعناه ا لغ ة تعري ف ال وقت وت اريخ
الش يء وقت ه وغايت ه والت اريخ أيض ا علم يبحث في الوق ائع والح وادث الماض ية>> 1.ووردت
أيض ا يف موس وعة الالن د الفلس فية<<من اليوناني ة " ،"Istoriaبحث ،اس تعالم ،ومن ثم معرف ة
أن مع نى الكلم ة أدق عن د أرس طو ،فه و ي ُّ
دل على مج رد وأخ يرا منس وبية م ا ع رف ت اريخ ،إال َّ
رك ام من الوث ائق ،مقاب ل عم ل تفس يري أو تنس يق>> 2.وكم ا ذك ر س ابقا يف موس وعة الالن د
وظ ف أرس طو مص طلح ت اريخ وأراد من خالل ه اإلش ارة إىل مجع من الوث ائق ،أم ا س قراط فق د َّ
دل
املصطلح معه على املعرفة وبالتايل <<لم يكن لكلمة تاريخ في الماضي معنى واحد>> 3.وحمدد،
فقد تعددت معانيه وكثرت استخداماته ولكن معظمها استعملت يف سياق واحد أال وهو التحديد
واإلعالم بوقت حدوث الشيء.
أما الداللة االصطالحية للتاريخ فقد<<اختلفت عبارات علماء المسلمين في تحديد تعريف
ل ه ولع ل ذل ك راج ع إلى س عة الموض وعات ال تي ت دخل في مفه وم الت اريخ ،ومن المالح ظ َّ
أن
الم ؤرخين في الق رون الثالث ة األولى من الهج رة النبوي ة لم ي دونوا تعريف ا ك امال مح ددا لعلم
التاريخ ،وإنما كانوا يكتفون بذكر فوائده ،وأغراضه>> 4.ومن بني هؤالء املؤرخني الذين اعتنوا
بالت اريخ وبفوائ ده وغايات ه العالم ة عب د ال رمحن بن خل دون ال ذي أفص ح يف مقدمت ه عن فض ل علم
جم الفوائ د ،ش ريف الغاي ة ،إذ ه و يوقفن ا على أح وال
الت اريخ واعت ربه <<فن عزي ز الم ذهبّ ،
الماض يين من األمم في أخالقهم واألنبياء في سيرهم ،والمل وك في دولهم وسياستهم ،حتى تتم
فائ دة االقت داء في ذل ك لمن يروم ه في أح وال ال دين وال دنيا>> 5.وإىل ج انب فوائ د الت اريخ
- 1مجيل صليبا :املعجم الفلسفي باأللفاظ العربية والفرنسية واإلجنليزية ،اجلزء األول ،دار الكتاب اللبناين ،بريوت،
لبنان ط ،1982ص.227 ،
-2أندري ه الالند :موسوعة الالن د الفلس فية :اجمللد األول ، A-Gتع ريب :خلي ل أمحد خليل ،منش ورات عويدات
بريوت ،لبنان ،ط ،2001ص.558
- 3مجيل صليبا :املعجم الفلسفي باأللفاظ العربية والفرنسية واإلجنليزية ،ص.227 ،
- 4علي حممد الصاليب :صفحات مشرقة من التاريخ اإلسالمي ،ص.15
-5عبد الرمحن بن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،دار ابن اجلوزي للنشر والتوزيع ،القاهرة ،مصر ،ط ،2010 ،1ص
.9
33
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
وغايت ه ق دم ابن خل دون ص ياغة حمددة هلذا العلم وع ّده فن من<<الفن ون ال تي تت داولها األمم
واألجيال...في ظاهره ال يزيد على إخبار عن األيام والدول والسوابق من القرون األول ،تنمو
فيه ا األق وال ،وتض رب فيه ا األمث ال ،في باطن ه نظ ر وتحقي ق وتعلي ل للكائن ات ومبادئه ا دقي ق،
وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ،فهو في ذلك أصيل في الحكمة عريق ،وجدير بأن يعد
في علومها وخليق>> 1.حيمل التاريخ عند ابن خلدون معنيني:
أولهما ظاهري :وهو اإلخبار عن حياة األمم والشعوب والدول واجملتمعات اإلنسانية يف القرون
السابقة ومل يتجاوز هذا املعىن فعل السرد واإلخبار.
ثانيهما باطني :ألنّه يعتمد على التفسري والتعليل والبحث يف أسباب وقوع األحداث وبالتايل هو
علم من العل وم اإلنس انية واالجتماعي ة ال يت ي درس فيه ا املؤرخ حي اة اإلنس ان يف املاض ي الق ريب
والبعيد.
كم ا نق رأ يف كت اب عب د اهلل الع روي "مفه وم الت اريخ األلف اظ والم ذاهب ،المف اهيم
واألص ول" دراس ة حول مفه وم مص طلح الت اريخ وه دف املؤرخ وك ذا منحى علم الت اريخ ،وتكمن
أمهية هذه الدراسة أهّن ا سلطت الضوء على املؤرخ باعتباره ذلك الفرد املتخصص يف دراسة األحوال
املاضية وباعتباره أيضا الزمة البد منه ا وال ميكن االستغناء عنها يف علم التاريخ ومن مثةَّ ،
فإن غاية
الع روي األوىل هي البحث يف الت اريخ كص ناعة ب دال من الت اريخ كوق ائع ح دثت يف املاض ي ل ذلك
ف <<التساؤل حول مفهوم التاريخ أمر جوهري وتافه في آن .هذا ما قاله ابن خلدون وهذا ما
نأك ده الي وم ...ج وهري ألنَّه ق ائم أينم ا اتج ه الفك ر ،وتاف ه أل ّن منفعت ه غ ير واض حة لك ل ف رد
متخص ص>>َّ 2.
إن هلذا التس اؤل مع ىن واض ح وحمدد عن د الع روي ف البحث عن ماهي ة للت اريخ
تكشف لنا عن جانبني أحدمها جوهري :عندما يكون مرتبطا بالفكر واملفكر معا وهنا يؤكد على
أمهية التاريخ بالنسبة للمفكر ،ومن جهة أخرى حماولة النظر إىل التاريخ ومن زاوية املؤرخ هو أمر تافه
وحجته يف ذلك َّ
أن منفعته غري واضحة .هذا وقد قسم العروي التاريخ إىل قسمني:
34
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
التاريخ العام :هو جمموع األحوال اليت عرفها الكون حىت اللحظة "ت".
التاريخ المحفوظ :هو ما يعرفه املؤرخ يف اللحظة "ت" .واملؤرخ هنا هو املمثل النظري للحرفة
1
كلها.
لق د قس م الع روي الت اريخ إىل ن وعني ومل يكتفي فق ط هبذه التقس يمات وإمَّن ا عم د إىل التفري ق بينهم ا
وإذا أمعنَّا النظر يف الفروقات اليت قدَّمها جند َّ
أن تلك التقسيمات تتماشى مع منهجه وطريقة تعامله
مع املصطلح ،ليخلص يف األخري إىل نتيجة مفادها َّ
أن <<التاريخ كوني في مضمونه وبشري في
حفظ ه وذك ره ،وال يمكن أن يك ون إال من وللبش ر>> 2.إذن ،وانطالق ا مما س بق نس تنتج َّ
أن
التاريخ هو ذلك املاضي بأحواله وحوادثه ووقائعه وكذا بانتصاراته وهزائمه وهو املادة اليت يسعى
املؤرخ إىل حفظها وذكرها ودراستها ،ظف إىل ذلك هو علم نظري إنساين يبحث فيه عن حوادث
3
الزمان من حيث التعيني والتوقيت والتفسري والتعليل.
سبق وأن أشرنا إىل مفهوم مصطلح التاريخ ،وانطالقا منه ومن املادة التارخيية اليت يتأسس بناء
عليها وعلى احلوادث واألخبار ،ميكن أن نعتمده كمعيار لتصنيف أي من احلقب التارخيية اليت يرتكز
عليه ا ه ذا البحث ،ف التواريخ ختتل ف ب اختالف األزمن ة؛ كالت اريخ الق دمي واحلديث واملعاص ر،
وب اختالف األمم واجملتمع ات؛ كالت اريخ اليون اين والت اريخ الفارس ي والت اريخ الغ ريب والع ريب ،وك ذا
باختالف الديانات كالتاريخ املسيحي والتاريخ اليهودي والتاريخ اإلسالمي هذا األخري ميكن اعتباره
حقب ة تارخيي ة من حقب الت اريخ اإلنس اين كك ل ،وق د ح ددت بدايت ه هبج رة الرس ول ص لى اهلل علي ه
وس لمَّ ،أما عن س بب<<وض ع الت اريخ الهج ري أ ّن أب ا موس ى األش عري كتب إلى عم ر بن
الخطاب "إنا قد قرأنا صكا من الكتب التي تأتينا من قبل أمير المؤمنين ،وكان محله شعبان ،فما
ندري أي الشعبانين :أهو الماضي أو اآلتي؟ فجمع عمر أعيان الصحابة واستشارهم فيما تضبط
به األوقات ،وقال له الهرمزان وكان فارسيا" :إن لنا حسابا نسميه ماء روز ،أي حساب الشهور
- 1عبد اهلل العروي :مفهوم التاريخ" األلفاظ واملذاهب ،املفاهيم واألصول" ،ص.34 ،
-2املرجع نفسه :ص.35
- 3علي حممد الصاليب :صفحات مشرقة من التاريخ اإلسالمي ،ص.17
35
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
واألعوام" وشرح له كيفيه استعماله ،فأمر عمر بوضع التاريخ ،وأشاروا عليه بتاريخ الروم فلم
يقبله لطوله ،وتاريخ الفرس فرده لعدم استناده إلى مبدأ معين......،فاستقرؤهم عمر على تعيين
يوم من أيامه صلى اهلل عليه وسلم ،ولم يصلح وقت المبعث لكونه غير معلوم ،ولم يكن وقت
ميالده صلى اهلل عليه وسلم معروفا لالختالف فيه ،ولم يصلح وقت وفاته فقد أبى المسلمون
ذل ك لنف رة طبعهم من ح ادث الوف اة ل ه ص لى اهلل علي ه وس لم ،فجع ل عم ر مب دأ الهج رة بداي ة
التاريخ ،ألنه بها ظهرت دولة اإلسالم وكانت الهجرة يوم الثالثاء ثمان من ربيع األول ،بينما
1
أول الس نة الهجري ة من المح رم ،وك ان اتف اقهم على ه ذا س نة س بع عش رة من الهج رة>>.
اتفقت مجيع املصادر على َّ
أن بداية التاريخ اإلسالمي قد حددت هبجرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم،
كم ا أمجعت على َّ
أن<<الت اريخ اإلس المي ه و ت اريخ الش عوب وال دول اإلس المية من ذ دخ ول
اإلس الم حتى العهد الحاض ر ،وبهذا فالت اريخ اإلس المي طويل طول القرون األربعة عشر التي
اجتازه ا ،واس ع س عة الرقع ة ال تي يش غلها من المحي ط األطلس ي إلى المحي ط اله ادي ،متماس ك
تماسك مبادئ اإلسالم التي يباشرها المسلمون على هذه الخريطة الفسحة>> 2.وهذا بالضبط
معىن التاريخ اإلسالمي الذي امتدت رقعته اجلغرافية ووصلت إىل أبعد احلدود ،مل يتوقف عند ذلك
فقط ،بل امتاز أيضا بغزارة أحداثه وفتوحاته وحروبه ،فهو كما قيل يف املقطع السابق تاريخ الشعوب
واجملتمعات اإلسالمية ،تلك اجملتمعات اليت استطاعت أن حتافظ على مبادئ الدين اإلسالمي اليت جاء
هبا الرس ول ص لى اهلل علي ه وس لم ،مثلم ا ح افظت أيض ا على تارخيه ا الض خم احلاف ل باالنتص ارات
والفتوحات وبالشخصيات التارخيية العظيمة واملشهورة وتفاصيل ثوراته وقضاياه املعقدة واملتشابكة
واليت كثريا ما اختلف يف أمرها ومدى صحتها؛ كل هذا الزخم والثراء مل يكن حمل اهتمام للمؤرخني
والدارسني فقط بل ألفت حوله الكثري من الكتابات التارخيية واألعمال األدبية والروائية خاصة ،حىت
أنَّه أصبح أداة يف يد الروائيني الذين تعاملوا معه بوجهات نظر خمتلفة ،ظف إىل ذلك فقد بذلوا جهدا
كبريا يف مللمة األحداث والثورات والشخصيات اليت أصاهبا التشويه والتحريف والتزوير والتهميش،
- 1عبد املنعم احلفين :املعجم الشامل ملصطلحات الفلسفة ،مكتبة دبويل ،القاهرة ،مصر،ط ،2000 ،3ص.177
-2أمحد شليب :موسوعة التاريخ اإلسالمي واحلضارة اإلسالمية ،مكتبة النهضة اإلسالمية ،القاهرة ،مصر ،ط 12سنة
،1987ص.24
36
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
ل ذلك س نتوقف يف ه ذا املبحث عن د أب رز املت ون الرواي ة اجلزائري ة املعاص رة وس نحاول تبي ان ط رق
توظيفها للتاريخ اإلسالمي.
عن دما نط رح مس ألة التعام ل م ع النص وص التارخيي ة املعاص رة يع ين أنن ا نتج ه حنو البحث عن
اس رتاتيجية معين ة وحمددة تتمث ل يف مب دأ اش تغال الس رد ال ذي<< أض حى من ذ العق دين األخ يرين
األرض المشتركة التي تلتقي عليها كثير من النظريات والتيارات النقدية والفكرية التي أعادت
النظ ر في التص ورات الس ابقة ال تي ك ان يتحكم به ا ه اجس إنت اج المعرف ة الكلي ة والش املة
باألدب .وإذا كان هذ الوعي المركب العابر للنظرية والمنهج والتيارات المختلفة يكشف الثراء
والغ نى الثق افي واالجتم اعي للممارس ة الس ردية ،فإنَّه من جه ة أخ رى يلم ع إلى التح والت ال تي
ح دثت في حق ل دراس ته من ذ أن اتض ح لعل وم الس رد الكالس يكية ص عوبة االش تغال على ه ذا
الموضوع ،وبلوغ الفهم المتجدد به انطالقا من تبئير القراءة على مظهريه الشكلي والوظيفي.
وهذا ما حتّم االستفادة من اإلضافات التي تبلورها العلوم االجتماعية>> 1.فالقاعدة األساسية
اليت كان حيتكم عليها السرد سابقا قامت على حمدودية الشكل والوظيفة
-1إدريس اخلضراوي : سرديات األمة ختييل التاريخ وثقافة الذاكرة يف الرواية املغربية املعاصرة ،دار أفريقيا الشرق
املغرب ط ،2017ص.27
37
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
38
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
لقد أجازت لنا العالقة املوجودة بني الرواية والتاريخ احلديث عن الرواية التارخيية؛ ذلك ألهَّن ا ظهرت
نتيج ة التالقح والتم ازج احلاص ل بني املاض ي واحلاض رَّ ،
وألن املتتب ع ملس اراهتا يلمح تأثره ا الواض ح
باملتغريات اليت طرأت على الرواية العربية احلديثة وباألخص قدرهتا على االنفتاح والتفاعل مع النصوص
اخلارجية ومساءلتها وقراءهتا بطرق جديدة تتماشى مع التيارات النقدية املعاصرة ،ومبا َّ
أن الرواية التارخيية
مر منذ بدايات ظهوره بعدة مراحل َّ
فإن<<الدارس يصادف جملة من الصعاب عادة ما فن مستحدث َّ
تنحصر في المس توى النظ ري والمس توى النص ي لحضور التاريخ في الكتاب ة الروائية>> 1.وليس
املستوى النظري وال النصي الذي بوسعنا القول عنه أنَّه من الصعوبات اليت واجهتنا أثناء البحث يف هذا
الس ند؛ وإمَّن ا الكم اهلائ ل من الدراس ات واألحباث ال يت أح اطت ب ه من ك ل الزواي ا واجله ات من تعري ٍ
ف
وحبث يف املاهية ،ظف إىل ذلك نشأته ،ومراحله وطرق اشتغاله وتقنياته اليت ختتلف باختالف الروائي. ٍ
حىت أننا احرتنا يف أمرنا كيف هلذا املبحث أن خيتلف عن سابقيه ،فما كان لنا إال أن نسلط الضوء
على املنت الروائي التارخيي املعاصر أو الرواية التارخيية اجلديدة ال ألهَّن ا مل تدرس من قبل بل العكس متاما
وإمَّن ا َّ
ألن هذا االقرتاح سيكون معينا للدراسة يف وقت الحق.
لقد جتاوزت هذه األخرية أطر ومرتكزات الرواية التارخيية التقليدية و<<أعلنت( )..القطيعة مع ما
هو تاريخي ورسمي ( )...محاولةً خلق تاريخ بديل يشاكس التاريخ الرسمي الذي هو تاريخ الملوك
والس الطين والحك ام والمنتص رين ع بر الت اريخ ويعلن عن والدة ت اريخ ب ديل وجدي د يتج اوز إط ار
المركزيات التاريخية التقليدية ويصور معاناة المهزومين والمسحوقين والمقهورين>> 2.وبوالدة
هذا النوع من التاريخ اجلديد أصبح من الضروري التعرف عليه وعلى تقنياته وبؤره السردية وتشكالته
-1عبد الفتاح احلجمري :هل لدينا رواية تارخيية؟ ،جملة فصول ،اجمللد ،16العدد ،3شتاء ،1997ص
-2فاض ل ث امر :الت أرخيي والس ردي يف الرواي ة العربي ة ،ابن الن دمي للنش ر والتوزي ع-اجلزائ ر ،-دار الرواف د الثقافي ة-
ناشرون-لبنان ،ط ،2018 ،1ص.09
39
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
وس ط من اخ نق دي مش حون ب آراء النق اد املتض ادة ح ول نق اط التش ابه واالختالف بني الرواي ة
التارخيية التقليدية واجلديدة ارتأينا أوال أن يكون هذا املبحث عب ارة عن حملات نظرية سريعة مبسطة
لكال املفه ومني ،ولكن قب ل ذل ك مازلن ا يف حاج ة إىل التع رف على الرواي ة التارخيي ة -بعي دا عن
أنواعها -وطرح أسئلة نقدية حوهلا؛ فالسؤال املبدئي الذي نفتتح به مرتبط ومتعلق مباهيتها واملقصود
هبا؟.
َّ
إن املقصود بالرواية التارخيية هو بالذات ذلك املعىن املتواجد يف أصل التشابك احلاصل بني الرواية
والت اريخ ،وق د وص ف ه ذا األخ ري بأنَّه<<خط اب س حري>>1ص يغ على أس س ومب ادئ علمي ة
وك انت التجرب ة اإلنس انية مباض يها وأح داثها هي أص ل وه دف ه ذا العلم ،بي دا َّ
أن<<البحث في
علمية الخطاب التاريخي لن تعود إلى نقطة االنطالق األولى وهي جدلية نسبة التاريخ للعلم أم
للفن ،ب ل إنه ا تأخ ذ ب الرأي الت وفيقي ال ذي ال ينفي علمي ة الت اريخ م ع ذل ك يق ر
بخصوصيتها>> 2.حييل الرأي التوفيقي على وجود مواقف أخرى منها من عارضت علمية التاريخ
ألسباب قد تتعلق مبدى موضوعية املدونة التارخيية اليت تفتقد خاصية العامل املادي املتواجد يف الظواهر
الفزيائي ة على س بيل املث ال أو الظ واهر الطبيعي ة القائم ة على ق وانني وجتارب وفرض يات يتم دراس تها
داخل املختربات وتتطور مع تطور االكتشافات ،أما الرأي اآلخر فريى أن املدونة التارخيية ميكن أن
-1عبد السالم أقلمون :الرواية والتاريخ "سلطان احلكاية وحكاية السلطان" ،دار الكتاب اجلديد املتحدة ،بريوت،
لبنان ،ط ،2010ص.9 ،
-2مىن بشلم :عالقة الرواية العربية بالتاريخ ،جملة املخرب ،أحباث يف اللغة واألدب اجلزائري ،جامعة بسكرة ،اجلزائر
العدد ،13ط ،2017ص.138
40
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
تك ون م ادة علمي ة قابل ة للدراس ة وف ق أس س ومب ادئ علمي ة وه ذا م ا جنده عن د ابن خل دون ال ذي
أسس<<لمرحلة جديدة من التفكير المنهجي التاريخي>> 1.الذي ينتهج فيه<<منهجا برهاني ا
استدالليا>> 2.أما الرأي التوفيقي فيعتربه<<منهج قار في استقصاء الحقائق ،ومعاودة تكرار
الماضي كما هو>> 3.واملقصود بتكرار املاضي كما هو من وجهة نطر الناقد يعين مدى واقعية
احلق ائق التارخيي ة اليت جيب أن تبتع د عن األه واء والذاتية وال تق ع يف فخ األدجلة وإال ف<<العلمية
فيه لن تكون شيئا آخر سوى صناعة التاريخ>>َّ 4.
إن علمية التاريخ تلك هي اخلاصية اليت عملت
على نق ل املاض ي بأحداث ه وهزائم ه وانتص اراته بك ل موض وعيه وواقعي ة وه و م ا جعله ا ختتل ف عن
احملكي ال روائي ال ذي ال يتقي د بتل ك العلمي ة واملوض وعية وإمَّن ا ه و اآلخ ر يتم يز عن ه-الت اريخ -بكون ه
يس تطيع ق ول م ا مل يس تطع اآلخ ر-الت اريخ -قوله<<والواق ع أن ال ذي بين الرواي ة والت اريخ من
ترابط وتواشج هو أكبر من مجرد تماس وقائعي بل ثمة ما يشي بأن النسغ السردي للكتابتين
يط وي هوي ة واح دة ،قب ل أن ينم از الص نفان عن بعض هما البعض .وم ع التم ايز تبقى أنوي ة م اض
مش ترك مترس بة في جينيالوجي ا الخط ابين ،تطف و معالمهم ا بين الفين ة واألخ رى للت ذكير
إن اقرتان احملكي الروائي بالواقع التارخيي يعين َّ
أن كالمها أسسا وعيا عميقا واستطاعا بذلك>>َّ 5.
التمييز بني ما تقتضيه وتستسيغه الكتابة الفنية وما تقوم عليه الكتابة التارخيية ،ويف حماولة منهما لفعل
ذل ك ك ان<<للمس ألة وجوه ا أخ رى تغ ري ب النظر وت دعو إلى التقص ي .فالت اريخ ،ش أنه ش أن
الرواية ،خطاب سردي .ومهما بالغنا في إسباغ البعد المرجعي عليه فإنه يظل خطابا منجزا في
مقام محدد تتحكم فيه اعتبارات شتى توجهه وتضيء مسالك قراءته وكذا الشأن بالنسبة إلى
الرواية ،فهي وإن بدت خطابا تخييليا ال تنقطع عن صلتها بالمرجع انقطاعا تاما>> 6.ما يريد
أن املرجعي ة التارخيي ة مهم ا ك انت متفاعل ة م ع الرواي ة إىل ح د كب ري إال أهَّن ا
أن خيلص إلي ه الناق د ه و َّ
حتتكم إىل مجل ة من العوام ل واألدوات والط رق ال يت تتحكم يف س ريها وتطوره ا ومثة أيض ا مقوم ات
- 1عبد السالم أقلمون :الرواية والتاريخ "سلطان احلكاية وحكاية السلطان" ،ص.13
-2املرجع نفسه ،ص.16
-3املرجع نفسه ،ص.9
-4املرجع نفسه ،ص.13
-5عبد السالم أقلمون :الرواية والتاريخ "سلطان احلكاية وحكاية السلطان" ،ص.9
- 6حممد القاضي :الرواية والتاريخ "دراسات يف ختييل املرجعي" ،دار املعرفة للنشر ،تونس ،ط ،2008 ،1ص.18
41
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
ختيلية ال ميكن للفن الروائي أن يستغين عنها أو يتجاوزها؛ ف<<التاريخ خطاب نفعي يسعى إلى
الكش ف عن الق وانين المتحكم ة في تت ابع الوق ائع ،في حين أن األدب والرواي ة على وج ه
الخص وص خط اب جم الي تق دم في ه الوظيف ة اإلنش ائية على الوظيف ة المرجعي ة>> 1.وم ع ذلك
غ دا اخلط اب الت ارخيي ن واة أساس ية تنظم ح ول أحداث ه وم واده حمكي ات ختييلي ة س رعان م ا تن امت
وتطورت مشكلة فنا مجع فنون القول مع فنون النثر حبكم االعتبارات السردية املوجودة بينهما اليت
انص هرت وحتاورت فيم ا بينه ا مش كلة <<من خالل ه ذا ،الل ون اإلب داعي الموس وم بالرواي ة
التاريخي ة بم ا هي منطق ة بين الت اريخ واألدب الل ذين يؤل ف بينهم ا أن كالّ منهم ا خط اب
سردي>> 2.يرتبط إذن مفهوم الرواية التارخيية خباصية السرد اليت يشرتك فيها التخييل مع التاريخ؛
فمص طلح الرواي ة التارخيي ة يعكس مفهوم ا جوهري ا يقص د به<<خط اب أدبي ينش غل على خط اب
ت اريخي مثبت س ابق علي ه انش غاال أفقي ا يح اول إع ادة إنتاج ه روائي ا ،ض من معطي ات آني ة ،ال
تتعارض مع المعطيات األساسية للخطاب التاريخي .وانشغاال رأسيا عندما تحاول إتمام المشهد
الت اريخي من وجه ة نظ ر المؤل ف إتمام ا تفس يريا أو تعليلي ا أو تص حيحيا ،لغاي ات إس قاطية أو
استذكارية أو استشرافية>> 3.وقد اعتربته الناقدة تعريفا أمجلت فيه أهم مميزات الرواية التارخيية؛
كذلك نشاطرها الرأي؛ ادراكا منَّا َّ
أن احملكي التارخيي تتجاذبه مرجعيتني :النص الروائي الذي متكن
من استحضار وقائع حقيقية استوعبها وأضاف عليها خاصيته التخييلية وذلك دون شك لغايات قد
تك ون متعلق ة باس تذكار املاض ي أو اس قاطه على احلاض ر أو ق د تك ون ل ه نظ رة استش رافية مس تقبلية
وآليته يف ذلك التاريخ الذي<<يشترك مع الرواية التاريخية في كون كل منهما خطابا .وهذا
الخط اب في الح التين مرتب ط بالماض ي يعلن في ه الم ؤرخ أن ه مج رد ناق ل موض وعي لم ا وق ع،
ويعلن الروائي أنه راو ألحداث جرت وإن أهملها المؤرخون>> 4.قد تتماهى الرواية التارخيية
م ع الت اريخ من خالل الع ودة إىل املاض ي لكنه ا على ح د ق ول حمم د القاض ي ت رفض أن تبقى حتت
42
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
1
عباءته ويف ال وقت نفسه تأىب االنفص ال عنه لذلك عم د إىل توص يفها <<بالجنس الهجين>>.
فهي يف نظره<<صراع بين خطابين وبين رؤيتين للعالم ولكي نقرأها البد لنا من استنفار آليات
مخصوصة نتمكن بها من فك االرتباط بين المرجعي والتخيلي ،بين خطاب السلطة الذي يتجلى
في الت اريخ وس لطة الخط اب ال تي تتجلى في الرواي ة>>َّ 2.
إن ه ذا املعطى ال ذي يق ُّر في ه الناق د
بوج ود ص راع بينهم ا م ا ه و إال حماول ة لتش خيص م دى اس تيعاب خصوص يات اخلط اب ال روائي
للخطاب التارخيي الذي يسعى هو اآلخر إلفساح حيز هام هلا كي تثمر وتتفاعل وتنفتح عليه وتقرأ
طبيعة اخلطاب السلطوي الذي يتواجد ويطغى بشكل كبري على صفحاته ويتحكم يف سجالته اليت مل
عد العالقة بينهما عالقة صراع َّ
ألن الرواية غايتها ٍ
بنصوص ذات اهليمنة والتسلط ،لذلك َّ حتتفظ إال
تش يد حمكي ات حتاول من خالهلا اس تعادة ت اريخ مهمش ومنس ي ومس لوب َّأما اخلطاب ات الس لطوية
املهيمنة واملتحكمة فيه ترفض الكشف عنه وحتاول اخفاءه لتظهر فقط ما تريد إظهاره ،وما يتماشى
مع مصاحلها السياسية.
غري َّ
أن اخلوض يف غمار الرواية التارخيية يقودنا لزاما إىل احلديث عنها عند الغرب باعتبارها وليدة
بيئ ة غربي ة ،فالعالق ة املوج ودة بني<<الت اريخ والرواي ة كم ا ه و واض ح ليس ت عالق ة ع ابرة أو
عرضية فعندما ظهرت الرواية جنسا أدبيا جديدا اقترنت في الغالب بالتاريخ ،فوجدنا روايات
السير والتر سكوت التاريخية وروايات الفروسية التي عبرت عنها روايات ألكسندر دوماس،
ووجدنا قبل ذلك رواية "دون كيشوت" للروائي اإلسباني سرفانتس>> 3.دون أن ننسى ذكر
رواية ستيفن كرين "شارة الشجاعة الحمراء" ،كما أهَّن ا حتولت وازدهرت يف أوروبا<<حيث نجد
ك ل من ألف رد دوفين يي في "الخ امس من م ارس" ع ام ،1826وم انزوني في "المخطوب ة" ع ام
،1827وبع ده بل زاك في "الث ائرون" ع ام 1829وبروس بير ميريمي ة في "ت اريخ زمن ش ارل
التاس ع" ع ام ،1829وفكت ور هيج و في "ن وتردام دي ب اري" ع ام " ،1831ويلت ون في "أي ام
بومبي األخيرة عام ،1834وروبرت جريفز في "كلوديوس" عام ،1934وألكسندر دوماس
في "الفرسان الثالثة" عام ،1844والذي يعد من أكثر المتأثرين بوالتر سكوت فقد اتبعه وسار
-1املرجع السابق :ص.92 ،
- 2حممد القاضي :الرواية والتاريخ "دراسات يف ختييل املرجعي" ،ص.116-115
- 3فاضل ثامر :النقد والتاريخ يف رواية ما بعد احلداثة ،جملة الكوفة ،العدد ،10سنة ،2016ص.43
43
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
على نهج ه>> 1.لق د نش أة الروي ة التارخيي ة وتط ورت يف أوروب ا واألهم من ذل ك أهَن ا رمست مع امل
ه ذا التع الق بني الرواي ة والت اريخ وأنتجت خطاب ا روائي ت ارخيي عظيم<<واآلن تعيش الرواي ة
التاريخي ة عص را ذهبي ا عن د الغ رب كم ا يظه ر ذل ك على أي دي كت اب معاص رين من أمث ال:
"خوس يه س اراماجو" و"م اركيز" و"م اريو فاراج اس لوس ا" و"م ارجريت ات وود>>َّ 2.أما
<<الرواي ة العربي ة هي األخ رى ق د اق ترنت في ب داياتها بالت اريخ أيض ا كم ا ك انت الح ال م ع
روايات جورجي زيدان التاريخية والمويحلي وأبو الثناء اآللوسي في العراق>> 3.وقد قارب
النقاد العرب نشأة الرواية التارخيية يف األدب العريب من عدة مداخل ،واختلفوا يف طبيعة نشأهتا إن
ك انت نت اج مت أثر بالرواي ة التارخيي ة عن د وال رت س كوت وألكس ندر دوم اس األب؟ أم َّ
أن هلا ج ذورا
ضاربة يف عمق الرتاث العريب القدمي؟ وضمن هذه املقاربة النقدية اليت خلصت إىل ظهور توجه ثالث
زاوج بني الرتاث العريب القدمي املتمثل يف سرية اهلاللية ،وقصة عنرتة ،وسرية الظاهر بيربس.....وبني
الرواي ة التارخيي ة الغربي ة ال يت اس تمدت منه ا ش كلها الف ين ،ظه رت رواي ة "زنوبي ا" أول رواي ة تارخيي ة
عربي ة نش رها س ليم البس تاين متسلس لة يف أع داد جمل ة جن ان س نة ،1871وق د ص ورت ه ذه الرواي ة
الصراع القائم بني ملكة تدمر والرومان يف القرن الثالث ،مث كتب رواية "بدور" سنة 1872وكان
موض وعها ي دور ح ول أم رية أموي ة وقعت يف حب ابن عمه ا عب د ال رمحن ال داخل مؤس س الدول ة
األموية يف األندلس ،ويف سنة 1874نشر رواية "الهيام في بالد الشام" وتدور أحداثها حول فتح
بالد الش ام يف عص ر أيب بك ر الص ديق وعم ر بن اخلط اب<<4.إال أنَ ه ش اب ه ذا اإلنت اج ال روائي
الكثير من العيوب أهمها ضعف المعمار الفني الناتج عن عدم الترابط وكثرة التفكك والتقطيع
ألح داث الرواي ة ،عالوة على ك ثرة المص ادفات والمفاجئ ات والت دخالت ب العبر والحكم
والمواع ظ( ).....ونالح ظ أن ه ذه اللغ ة في بس اطتها وقربه ا من الن اس تب دو مت أثرة باألس لوب
الص حفي وبلغ ة الرواي ة الغربي ة ،وفي محافظته ا على الس جع والب ديع تب دي تعلقه ا بالقص ص
-1حمم د حمم د حس ن طبي ل :حتوالت الرواي ة التارخيي ة يف األدب الع ريب ،رس الة ماجس تري للحص ول على درج ة
املاجستري قسم اللغة العربية ،كلية اآلداب يف اجلامعة اإلسالمية ،غزة ،سنة ،2016ص .13
-2نضال الشمايل :الرواية التارخيية حبث يف مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية العربية ،ص.120
- 3فاضل ثامر :النقد والتاريخ يف رواية ما بعد احلداثة ،جملة الكوفة ،ص.43
- 4نقال عن حممد حممد حسن طبيل :حتوالت الرواية التارخيية يف األدب العريب ،ص.18
44
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
الش عبي وال تراث الس ردي الع ربي ،والك اتب ب ذلك ح اول أن ي وازن بين م ا تعلم ه من أس لوب
غربي ،وبين الموروث السردي والقصص الشعبي العربي الذي كان سائدا آنذاك>> 1.نفهم
من هذاَّ ،
أن سليم البستاين كان على معرفة بالشكل الفين للرواية الغربية وكذا متأثر بالرتاث العريب
القدمي وعلى هذا األساس بدا أنَّه ينتمي إىل أصحاب االجتاه الذي زاوج بني القوالب العربية والغربية،
واجتاه ه لعب دور اجلس ور يف الرب ط ين الثق افتني ولعب أيض ا دور الري ادة وتط وير الرواي ة التارخيي ة
العريب وحنن يف هذا نوافق الناقد حممد حممد حسن طبيل.
أما الرواية التارخيية العربية يف مسارها التطوري فقد مرت على حد قول الناقد نضال الشمايل بثالث
مراحل:
المرحل ة األولى :وهي عب ارة عن<<مرحل ة إع ادة تس جيل الت اريخ س رديا م ع محاول ة
للتقي د ول و من بعي د بمجرياته لغاي ات تعليمي ة إخبارية ،كم ا ظه ر ذل ك في أعم ال ج ورجي
زي دان>> 2.يق ف ج ورجي زي دان خل ف ه ذه املرحلة اليت انطلق فيه ا من ذ بداياته من تصور
حدده واعتربه مبثابة قالب يستقطب به القراء لغايات يرى أهَّن ا األنسب هلم وهي غايات تعليمية
تثقيفية <<لقد اتجهت روايات الجيل األول إلى إعادة كتابة التاريخ بصورة شائقة ،تهدف
إلى تثبيت أحداثه فيحصل أن يخرج الكاتب عن أصول السرد القصصي في مواضيع كثيرة
ويشعر القارئ أن الكاتب يهمه أحكام التفاصيل التاريخية أكثر مما يهمه إحكام التفاصيل
التاريخية أكثر مما يهمه إحكام الخيال في خلق صورة حية لذلك المجتمع>> 3.اشتغل
رواد هذا اجليل على مواد تارخيية اعتربوها هي األساس يف نصوصهم ،مكتفيني مبكوناهتا دون أن
ينظ روا إىل عامله ا احلك ائي وخصائص ه الفنية<<والس بب وراء اهتم ام الك اتب بالج انب
الت اريخي ه و الظ روف ال تي كتبت فيه ا ه ذه الرواي ات ال تي أخ رجت من دائ رة الرواي ة،
ووس مت بالتعليمي ة غ ير أن الم ادة التاريخي ة عن د االش تغال عليه ا روائي ا لم تس لم من ذاتي ة
45
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
46
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
وتتمس ك بمأس اة اإلنس ان .فه و إذ يكتب عن مص ر القديم ة إنم ا يفع ل ذل ك احتجاج ا على
الحاض ر وبحث ا عم ا يض يء وجوه ه ،فوض ع في الماض ي أس ئلة الحاض ر ،فيمكن الق ول أن
التاريخ وفّر للرواية العربية فرصة التمرس إلى أن كفا تشبع هذا الشكل الروائي...مما أدى
إلى تحول الرواية إلى الحياة المعيشة>> 1.حتددت هذه املرحلة بعد نضج مكونات خلطاب
ال روائي لي دخل ض من نس يجها اخلط اب الت ارخيي ويتع ادال يف الكف ة ودون تغليب أح دمها عن
اآلخر ويناقشا معا ظروف احلياة املعيشة بعد أن غيبها رواد اجليل األول.
المرحل ة الثالث ة :اعتربها نض ال الش مايل<<مرحل ة اس تثمار الت اريخ اس تثمارا اس قاطيا واعي ا
يرتهن التاريخ فيه إلى ما هو فني بالدرجة األولى ،وفيه يتهيأ التاريخ قناعا .والروايات التي
سارت على هذا النهج تسعى جاهدة إلى تفسير الواقع المعيش من خالل الماضي المنقضي
ال ذي يمكن أن يعي د نفس ه لكنه ا ته رب إلى ف ترات مش ابهة للحظته ا الحاض رة فتق وم بم ا
يس مى ب"اإلس قاط الت اريخي ،كم ا لمس نا ذل ك ل دى جم ال الغيط اني في "الزي ني برك ات"
ورض وى عاش ور في "ثالثي ة غرناط ة" وعب د ال رحمن م نيف في "أرض الس واد">> 2.لق د
متيزت ه ذه املرحل ة رغم تأخره ا عن املرحل تني الس ابقتني باعتماده ا على تقني ة "اإلس قاط
التاريخي" ويعين هبا الناقد؛ تلك النصوص الروائية اليت حاولت تفسري الواقع املعيش بالعودة إىل
املاض ي وانتق اء ح وادث تارخيي ة ش بيهة إىل ح د كب ري باألح داث الراهن ة أو ال يت عاص رت زمن
كتابته ا واس قاطهاَّ ،أما أن يك ون الت اريخ قناع ا ف ذلك يس تدعي منَّا اإلش ارة إىل م ا ذك ره حمم د
القاضي يف معرض حديثه عن رواية "الزيني بركات" جلمال الغيطاين حتت عنوان "الرواية وقناع
التاريخ" ،ف<<الغاية األساسية للتاريخ في هذه الرواية هي تحقيق المماهاة بين الحاضر
والماضي عبر الفن>>َّ 3.
ألن التاريخ يف نظره يكون قناعا يتخفى الروائي وراءه حىت يتمكن
من مترير خطابات تشغل تفكريه ليستثمرها يف خدمة حاضره.
كانت هذه هي املراحل الثالث اليت مرت هبا الرواي ة التارخيي ة؛ فمن خالهلم –املراح ل الثالث-ميكن
أن خنلص إىل أم رين :أوهلم ا َّ
أن الرواي ة التارخيي ة يف مس ارها التأسيس ي األول م ا هي إال منج ز ف ين
-1مىن بشلم :عالقة الرواية العربية بالتاريخ ،ص.144
-2نضال الشمايل :الرواية التارخيية حبث يف مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية العربية ،ص .123
- 3حممد القاضي :الرواية والتاريخ "دراسات يف ختييل املرجعي" ،ص.54
47
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
واقعي متيز باش تغاله على م واد تارخيي ة خمصوص ة حتوي مص ادر وأح داث ووق ائع اس تثمرها ال روائي
خلدم ة اإلط ار الع امل ل ذلك املنج ز الف ينَّ ،أما األم ر الث اين فق ذ انبث ق من األول حيث ميكنن ا الق ول َّ
أن
الرواية التارخيية يف املرحلة الثالثة اختلفت وتعددت رؤاها عن املراحل األوىل ،فرؤيتها تلك مبنية على
م دى وعي ال روائي املعاص ر وفهم ه ألبع اد عص ره االجتماعي ة والسياس ية والثقافي ة ،ح ىت َّ
أن ط رق
اش تغاله تغ ريت ،ه ذا م ا جع ل الناق د عب د اهلل اب راهيم وسط ذل ك املن اخ النق دي مش حون أن يق رتح
مص طلحا ب ديل عنه ا يف كتاب ه <<التخي ل الت اريخي( :الس رد واإلمبراطوري ة والتجرب ة
االستعمارية)>> والذي تطرق يف مقدمته إىل احلديث عن مصطلح التخيل التارخيي معلنا َّ
أن األوان
قد حان ليحل هذا املصطلح حمل الرواية التارخيية ألهّن ا مل تعد قادرة على حتديد أجناسيتها ناهيك عن
تقوقعه ا يف دائ رة املاضي<< فه ذا اإلحالل س وف ي دفع بالكتاب ة الس ردية التاريخي ة إلى تخطي
مشكلة األنواع األدبية وحدودها ووظائفها ،ثم إنَّه يفكك ثنائية الرواية والتاريخ ويعيد دمجهما
في هوية سردية جديدة ،فال يرهن نفسه ألي منهما ،كما أنَّه سوف يحيّ د أمر البحث في مقدار
خضوع التخيالت السردية لمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية فينفتح على كتابة ال تحمل وقائع
الت اريخ ،وال تعرفه ا ،إنَّم ا تبحث في طياته ا عن الع بر المتن اظرة بين الماض ي والحاض ر ،وعن
التمثالت الرمزي ة فيم ا بينه ا ،فض ال عن اس تيحاء الت أمالت والمص ائر والت وترات واالنهي ارات
القيمية والتطلعات الكبرى ،فتجعل منها أطرا ناظمة ألحداثها ودالالتها فكل تلك المسارات
الك برى ال تي يقترحه ا "التخي ل الت اريخي" تنق ل الكتاب ة الس ردية من موق ع ج رى تقيي د ح دوده
النوعي ة إلى تخ وم رحب ة للكتاب ة المفتوح ة على الماض ي والحاض ر>> 1.وقص د فهم أبع اد ه ذا
اإلحالل الذي اقرتحه عبد اهلل ابراهيم سنحاول تبسيط املقطع السابق يف النقاط التاليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة:
يسعى عب د اهلل ابراهيم إىل حتدي د هوي ة الكتابة الس ردية ذلك أل ّن حماول ة جتنيس الرواية على أهَّن ا
رواية تارخيية أمر شائك ،أما البديل فيتجاوز اشكالية التجنيس وذلك لقدرته على ختطي مشكلة
األنواع األدبية وحدودها.
-1عبد اهلل إبراهيم :التخيل التارخيي "الس رد واإلمرباطورية والتجربة االستعمارية" ،املؤسسة العربية للدراسات
والنشر بريوت ،ط ،2011 ،1ص.5 ،
48
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
يتج اوز مص طلح التخي ل الت ارخيي فك رة البحث عن م ا إذا ك انت الكتاب ة الس ردية ختض ع ملب دأ
مطابقة املرجعيات التارخيية إىل البحث عن عوامل أخرى موجودة يف التاريخ باعتباره حدث مليء
بالعرب والتجارب ومصدر من مصادر اإلهلام اإلبداعي اليت متكن الروائي من جتديد آليات الكتابة
السردية وخلق أدوات تأويلية وقرائية جديدة جتعله أكثر انفتاحا على املاضي واحلاضر واملستقبل،
وأك ثر حري ة يف مس اءلة املاض ي وإع ادة كتابت ه واالفص اح عم ا س كت عن ه وم ا مهش من قب ل
التاريخ الرمسي.
أم ا املقص ود بالتخي ل الت ارخيي فيعرف ه عب د اهلل إب راهيم على أنّ ه <<الم ادة التاريخي ة المتش كلة
بواسطة السرد ،وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية ،وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية
ورمزي ة فالمتخي ل الت اريخي ال يحي ل على حق ائق الماض ي وال يقرره ا وال ي روج له ا ،إنم ا
يس توحيها بوص فها رك ائز مفس رة ألحداث ه ،وه و من نت اج العالق ة المتفاعل ة بين الس رد المع زز
بالخيال والتاريخ الم دعم بالوق ائع ،لكنه تركيب ثالث مختلف عنها>>َّ 1.
إن التخيل الت ارخيي
ككل ق ائم على التفاع ل احلاص ل بني املرجعي ة التخييلية واملرجعي ة الواقعي ة ال يت ينجر عنه ا ن وع أديب
معروف يسمى الرواية التارخيية لكن تركيبته-التخيل التارخيي -ختتلف عنها-الرواية التارخيية -ألنَّه
يبتع د عن التعري ف ب احلوادث التارخيي ة وتعليمه ا للق راء وال يس لط الض وء على تل ك احلوادث وال
يقرره ا وإمنا يس عى إىل اس تدعائها بغي ة اس قاطها على احلاض ر لت ؤدي جمموع ة من الوظ ائف منه ا
اجلمالية والرمزية فغايته بعيدة كل البعد عن التوثيق والتوصيف ونلمس غالبا هذه الرتكيبة اليت أشار
إليها عبد اهلل إبراهيم يف الكثري من النماذج الروائية العربية املعاصرة فنجدها عند أمني معلوف ،واسيين
األعرج ،احلبيب السائح ،رضوى عاشور ،بن سامل محيش ،صنع اهلل إبراهيم ،مجال الغيطاين ،يوسف
زيدان وغريهم ممن حاولوا إعادة قراءة التاريخ العريب واإلسالمي َف ُه ْم<<روائيون آمنت كتاباتهم
بالتحول البنيوي والداللي في توظيفها لمادة التاريخ فصنعت لنفسها شكال جديدا يستأنس إلى
التاريخ خدمة للنسق الفكري الذي تقوم عليه الرواية فجاءت أعمالهم م َخيلة متحررة من الوثيقة
ومستندة إلى تجارب تنتصر للممكن ،أكثر من انتصارها لما كان ،أي أنها انتصرت للخيال على
حس اب الواقع ة التاريخي ة ،وه و م ا منح ه ذا الجي ل مس احة كب يرة من الحري ة خ ولت ل ه س لطة
49
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
التمييز والرفض والتصحيح والتحويل والتحوير ناهيك عما منحته له من قدرة على بعث التاريخ
المحظور ،وإيراد التاريخ المغمور ،والنبش في ركام الوقائع ،فاستنطق هذا الجيل ظالل نصوص
سلطوية ،مستش ّفا ما عكسته من هوامش وهزائم ُسكت عنها وطنيا أو قوميا ،هذا إن لم يتجاوز
بج رأة تحليال وت أويال ه ذا الج انب إلى الج انب المظلم من اله زائم>> 1.لق د أك د الناق د يف
املقطع السابق على مسألة مهمة وهي َّ
أن جل األعمال الروائية املعاصرة مل تعد تعتمد على املرجعيات
الوثائقية ،ويرجع ذلك إىل مبدأ الروائي املعاصر يف تعامله مع التاريخ ،وبالتايل قدموا تصورا جديدا
لعالقة الرواية بالتاريخ خيتلف عن التصور الذي جاء به كتاب الرواية التارخيية التقليدية ،وهذا التصور
اجلدي د ه و م ا نري د التوق ف عن ده واحلديث عن ه ،ألنَّه ق د يس اعدنا على إدراك واس تيعاب خصوص ية
الرواية التارخيية اجلديدة.
َّ
إن مرتك زات الرواي ة التارخيي ة اجلدي دة وتص وراهتا وغاياهتا املتع ددة جعلته ا ختتل ف عن نظريهتا
التقليدية كوهنا توجهت صوب تواريخ خمفية مل تكن معلومة من قبل ووقائع وأحداث حاول التاريخ
الرمسي أن ال يكشف عنها .لتبقى مسترتة وجمهولة ،فضال عن أ ّن مهمتها تتمثل يف<<اقامة جسر
افتراضي يربط الحاضر بالماضي ويؤسس لمملكة سردية قادرة على مواجهة الزمن وتقديم ب ديل
حداثي وما بعد حداثي للرواية العربية وللواقع االجتماعي والسياسي والثقافي العربي في عصرنا.
ذلك أن الروائي العربي ال ينقطع عن الحاضر وإنما يحاول إضاءته بالتخييل التاريخي وتأسيس
فضاءات تعالق تواصلية بين الماضي والحاضر>>َّ 1.
إن هذا البديل احلداثي أو ما بعد احلداثي ما
ه و إال مفه وم نق دي تتوس ل ب ه الرواي ة التارخيي ة يف دراس تها ل ذلك املاض ي بانكس اراته وانعطافات ه
وحوادث ه املطم ورة؛ تستحض ره –الرواي ة التارخيي ة-لتزي ل عن ه الغب ار والغم وض وتكش ف احلق ائق
اجملهول ة ،يس عفها يف ذل ك انفتاحه ا على اآللي ات النقدي ة احلداثي ة وم ا بع د احلداثي ة؛ لرتتب ط هبم
-11عبد اهلل بن صفية :املتخيل التارخيي يف الرواية اجلزائرية "جدلية املرجع واملنجز السردي" ،أطروحة مقدمة لنيل
شهادة دكتوراه علوم يف األدب العريب احلديث ختصص سرديات ،قسم اللغة واألدب العريب ،جامعة باتنة ،1السنة
اجلامعية ،2017-2016ص .28-27
-1فاضل ثامر :التأرخيي والسردي يف الرواية العربية ،ص.10
50
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
وتتأثر<<بما َّ
جد من تقنيات فنية حديثة ومتطورة ،حيث تحولت الرواية التاريخية تحوال جادا
نحو إقرار مزيد من األدبية التي تستخدم التاريخ كمادة خام لغايات إبداعية صرفة ،تهدف إلى
نق د ال ذات واالس تفادة من أخط اء وتج ارب الماض ي واس تكناه المس تقبل ،عن طري ق اس تثمار
التقنيات السردية الحديثة التي تستخدمها الرواية الجديدة ،كل ذلك وفق رؤية فنية اسقاطية
تربط الماضي بالحاضر>> 1.تعمل الرواية التارخيية احلداثية وما بعد حداثية على إعادة انتاج وعي
ف ين واقعي م ع مراع اة وفهم أبع اد العالق ة املوج ودة بني املاض ي واحلاض ر ،كما<<ق دمت الرواي ة
التاريخي ة العربي ة الحداثي ة ش هادتها الش جاعة عن الت اريخ الع ربي واإلس المي ،بطريق ة جدي دة
لدرجة تجعلنا نعيد صياغة مقولة إنجلز عن روايات بلزاك التي عدها أكثر صدقية وموضوعية من
التاريخ الرسمي المدون ،فنقول في ضوء ذلك أن الروائي العربي الحديث في تعامله مع الت اريخ
الع ربي ق د ك ان أك ثر أمان ة وش جاعة من الت اريخ الرس مي ألن ه ببس اطة انح از إلى ت دوين ت اريخ
اإلنسان المهمش والمسحوق في أحالمه وصبواته ومعاناته وتوقه إلى الحرية والعدالة والجمال
وتجنب االمتثال للتاريخ الرسمي المزور الذي يركز على أفعال السالطين والملوك واألمراء،
وب ذا ق دم ق راءة منفتح ة لم ا ه و مس كوت عن ه من أنس اق مغيب ة ومدفون ة تحت رك ام ثقي ل من
أك اذيب وتض ليالت الم دونات الرس مية الص فراء>>َّ 2.
إن األوص اف ال يت ق دمها الناق د للرواي ة
التارخيية احلداثية وللروائي العريب املعاصر دليل على أهَّن ا تبوأت مكانة مل تستطع نظريهتا التقليدية أن
تصل إليها ،ودليل أيضا على َّ
أن هلا اجلرأة يف قول ما مل يستطع املؤرخ احلقيقي والتاريخ قوله ،لذلك
حش د هلا تل ك األوص اف ،ال يت مكنتن ا من فهم الفاعلي ة املتبادل ة بني الرواي ة اجلدي دة والت اريخ وال يت
انطلقت من بني ة س ردية جدي دة ميكن أن نالح ظ من خالهلا َّ
أن<<أهم م ا يش غل الرواي ة الجدي دة
ال تي تس تعمل الت اريخ ه و م دى تعبيره ا عن فكرته ا ورؤيته ا وف ق أس س لغوي ة ال وف ق إط ار
الت اريخ ،إنه ا توظ ف الماض ي وتس تعمله للتعب ير عن الحاض ر ،فهي ليس ت وثيق ة تاريخي ة يعتم د
عليها الباحثون في التوثيق للتاريخ والحدث التاريخي ال ينفصل عن نسيج الرواية الذي ال يبني
قواع ده على أس س تاريخي ة بق در م ا يبث ال روائي في تض اعيفه إب داعا وخي اال>> 3.ح ىت َّ
أن
-1حممد حممد حسن طبيل :حتوالت الرواية التارخيية يف األدب العريب ،ص.158
- 2فاضل ثامر :التأرخيي والسردي يف الرواية العربية ،ص.11
-3حممد حممد حسن طبيل :حتوالت الرواية التارخيية يف األدب العريب ،ص.160
51
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
تقنياهتا السردية تلك تداخلت هي األخرى وأصبح هلا بعدا جديدا<<فلقد انتقل النقاد في الرواية
الجديدة من التركيز على ماهية المادة التاريخية إلى التركيز على الكيفية التي سردت بها هذه
الم ادة ،وق دمت من خالله ا للق ارئ ،أم ا المتخي ل فلم يع د تل ك الحكاي ة الخيالي ة أو القص ة
الغرامية التي ينسجها الروائي من وحي خياله مع مادته التاريخية ليكون رواياته ،وإنَّما أضحى
المادة السردية المنجزة التي تنشأ من خالل العالقة النشيطة والخالفة مع ما حدث>> 1.هذه
السلسلة من التحوالت السردية على مستوى احلدث التارخيي واملادة التارخيية كان هلا تأثري أيضا على
احلقيقة التارخيية ف<<الرواية الجديدة ال تعتمد على الحقيقة التاريخية ،وال تتكئ عليها بل إن
الحقيقة التي تتسيدها هي حقيقة السرد التي تنشأ من فعل الكتابة ،إنها تستعمل المادة التاريخية
وتجعله ا س ردا يفق دها زمنه ا األولي الحقيقي ،ويمنحه ا زمن ا جدي دا يع بر الك اتب عن فكرت ه
ورؤيت ه المعاص رة>> 2.إىل ج انب أش كال الس رد احلديث ة ال يت س نتناوهلا بالدراس ة الحق ا ،ك ان
للمص طلح نص يب أيض ا ،ف<<نق اد الرواي ة الجدي دة ال يش رعنون اس تخدام مص طلح الرواي ة
التاريخية ،فإذا كان هذا المفهوم ينسجم مع الرواية التقليدية التي تسعى إلى تقديم التاريخ ،فإنه
ال ينسجم مع الرواية الجديدة التي تستعمل التاريخ روائياَّ ،
ألن تسجيل التاريخ وتوثيقه ليس من
مهامه ا ،ب ل إنَّه ا تس تعمل الم ادة التاريخي ة وتض في عليه ا الكث ير من أش كال الخي ال
الف ني ....فالرواي ة ال تي تس تعمل الت اريخ ال يهمه ا مق دار االرتب اط بالت اريخ من عدم ه إن ال ذي
يهمها بالدرجة األولى هو الفكرة والقضية التي تسعى إلثارتها من خالل العودة إلى حقبة تاريخية
معين ة>> 3.ل ذلك رفض كتاهبا ه ذه التس مية َّ
ألن نصوص هم يف نظ رهم تص ب يف دائ رة البحث عن
طرق قراءة التاريخ املاضوي دون قيود وبآليات تأويلية تساعدهم على استجوابه واسقاطه على قضايا
عصرهم مبنظور يسمح هلم معاجلتها فوضعوها داخل إطار أجناسي واحد وهو جنس الرواية فقط
52
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
اق رتبت الرواي ة اجلزائري ة املعاص رة يف توظيفه ا للت اريخ من التص ور اجلدي د ال ذي أش رنا إلي ه س ابقا،
وذلك من خالل جتارب روائية أثبتت حضورها يف الساحة األدبية العربية؛ فلم تعد حباجة إىل من يدافع
عنها ،ذلك ألهَّن ا ختطت مع مطلع القرن احلايل تأثريات الظروف السياسية واالجتماعية اليت مرت هبا قبل
االستقالل وبعده ،حىت أهَّن ا اندجمت مع نظريهتا يف املشرق العريب وانفتحت على أشكال سردية جديدة
للتعب ري عن الواق ع اجلزائ ري والع ريب ،من خالل توظيفه ا للت اريخ واألس اطري وال رتاث الش عيب وال ديين
بتقنيات وأشكال حداثية .ضف إىل ذلك أهّن ا أسهمت يف خلق وعي ثقايف وأديب لدى القارئ اجلزائري
املنشغل بأسئلة الواقع وما حيدث يف اجملتمع ،هلذا السبب جلأ الروائي اجلزائري املعاصر إىل املاضي القريب
والبعيد بأحداثه وتوارخيه وهنل منه مادته احلكائية السيما تلك املادة التارخيية اليت تستدعي من الروائي أن
يعيد قراءهتا ليسلط الضوء على ما هو مهمش ومقموع.
ف إذا م ا ألقين ا نظ رة على اإلنت اج األديب يف اجلزائ ر من ذ بداي ة الس بعينات إىل غاي ة الي وم جنده يزخ ر
ب الكثري من الروايات اليت تتضمن مؤش رات واضحة عن حضور التاريخ بشقيه الثوري واإلس المي،
لذلك سنحاول من خالل هذا املبحث قراءة املنجز السردي اجلزائري املعاصرَّ ،
ألن األمر سيطول إن
حاولنا استحضار النصوص الروائية السابقة كنصوص السبعينات مع عبد احلميد بن هدوقة يف "ريح
اجلن وب" و"الالز" لط اهر وط ار ،ونص وص الثمانيني ات كرواي ة "اجلازي ة وال دراويش" ونص وص
التس عينيات ك"ذاك رة اجلس د" ألحالم مس تغامني ،فمن خالل مناذج العق ود الثالث ة املذكورة تط رق
ال روائي إىل ت اريخ الث ورة التحريري ة؛ ونظ ر إىل ه ذا الت اريخ نظ رة ختتل ف عن غ ريه فقد<<حرصت
الرواية الجزائرية في مرحلة السبعينات على البحث عن موقع تاريخي للتيار اليساري في الثورة
التحريرية ليكون ذلك بمثابة الدعم الشرعي لهذا الفكر في المجتمع الجزائري ،وربطه بالتاريخ
ك ان في ه نوع ا من التق ديس والتمجي د له ذا الفك ر وش يئا من الت دنيس واالزدراء لبقي ة التي ارات
الفكري ة األخ رى>> 1.أم ا رواي ة الثمانين ات فك انت نقيض ة للتص ورات ال يت ج اءت هبا الرواي ة
السبعينية ذلك ألهَّن ا أعلنت مراجعة<<الكثير من القضايا لعل أبرزها-إعادة تقييم الفترة السبعينية
بم ا س اعد فيه ا من أفك ار ومش اريع وطموح ات ،لكن بإس قاط ج انب التمجي د والتق ديس
-1عثمان رواق :التناص التارخيي يف الرواية اجلزائرية "بني الرؤية التقديسية وإعادة القراءة" ،جملة املقال ،العدد الرابع
ديسمرب ،2016جامعة 20أوت ،1955سكيكدة ،ص.247-246
53
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
وبمحاول ة إث ارة أس ئلة الح يرة والقلق ة-وإن لم تك ف الرواي ة الجزائري ة عن استحض ار الت اريخ،
لكن استحض اره ه ذه الم رة ليس لت برير-فك ر-مرحل ة أو لتمجي د س لطة وإنم ا ليك ون الت اريخ
"ت اريخ الث ورة خلفي ة جامع ة لك ل عناص ر المجتم ع">>َّ 1.
إن مث ل ه ذه القض ايا ال يت تض منتها
نصوص فرتة الثمانينات جعلتها تقرتب أكثر من الواقع السياسي واالجتماعي يف تلك اآلونة ،يف حني
كانت رواية التسعينات أكثر نضجا وقدرة على إعادة قراءة ذلك التاريخ فقد <<حققت شيئا من
النضج ودخلت عوالم التجريب على مستوى التقنية الروائية ،وعلى مستوى الموضوعات وإن
احتفظت بموض وع الت اريخ كخلفي ة للكث ير من الرواي ات ،لكن م ا يالح ظ أن تعام ل رواي ة
التس عينات م ع الت اريخ لم يع د بتل ك الص ورة التقديس ية الم بررة لتوج ه م ا ،وال تل ك الرؤي ة
المشككة ،وإنما تجاوزت كل ذلك إلى تبني رؤية نقدية ثائرة تصل في أحيان كثيرة إلى تق ويض
الكثير من الروايات الرسمية والسلطوية عن التاريخ وأحداثه ،وما يالحظ كشيء جديد في هذه
المرحلة أنَّها لم تعد تنظر إلى التاريخ رؤية عامة ككل متجانس وإنّما صارت تهتم بالتفاصيل
وبالحق ائق الجزئي ة وبالمس كوت عن ه>> 2.واملالح ظ َّ
أن الرواي ة اجلزائري ة من ذ ب داياهتا مل تفص ل
اخلطاب التخييلي عن املرجعي وإن اختلفت كل فرتة عن غريها يف التعامل مع الوقائع التارخيية إال أن
هذا التعامل َسَّر ع وترية تبلور الرواية اجلزائرية؛ اليت اعتمدت يف ذلك على املرجعيتني السابقتني اللذين
شكال عاملني مهمني يف نضجها وتطورها.
ما سندرسه اآلن هو حماولة استعراض مناذج روائية جزائرية معاصرة استحضرت التاريخ اإلسالمي برؤية
حداثية ،ميكن هلذه النماذج أن تساعدنا على البحث يف خصوصية النص الروائي اجلزائري واختالفه عن
غريه من النصوص اليت تعاملت مع التاريخ وباألخص التاريخ اإلسالمي ،لكن قبل ذلك وجب علينا أوال
تقدمي مقاربة مفاهيمية ملصطلح التاريخ اإلسالمي قبل التوجه صوب النماذج الروائية اجلزائرية املختارة
للدراسة.
54
مدخل تمهيدي حول النقد الثقافي واألنساق الثقافية
55