Professional Documents
Culture Documents
المقالة األولى
رهف الموعد
2023/10/06
ان التعدد والتعدد الثقافي واللغوي سمة طبيعية تميز الوجود البشري منذ أقدم العصور .وسيظل
هذا التنوع واالختالف قائما بحكم تنوع شعوب األرض ببيئاتها وأشكال حياتها وأنماط االنتاج المعتمدة
وهذا عامل ثراء يفرض ضرورة الحفاظ عليه اليوم أكثر من أي وقت بالنظر الى التحديات الكبيرة التي
تفرضها العولمة بكل أبعادها االقتصادية والتكنولوجية والسياسية والثقافية ومنها القيمية .مع العلم أن
التنوع الثقافي يثمر في الكثير من الغنى بين الشعوب ،اال أن لها جوانب خطرة على المجتمعات المتفشية
فيها.
التنوع في الثقافات شيء عادي ومهم ألن الحياة أخذ وعطاء ،وفي هذه الحالة ،وجودها يفتح افاق
للتفاهم والعلم .ولكن التنوع الثقافي وفي هذا العصر تحديدا هي وسيلة مسح أو اضعاف للهوية األصلية.
1
أوال ،من أبرز تكوينات الهوية ألي انسان هي اللغة ،واللغة العربية الفصحى ،رغم أنها محصورة في
المؤسسات الرسمية كاالدارة والمدرسة والكتابة وبما أنها خزان الموروث الثقافي والفكري واألدبي
وعناصر الحضارة والتاريخ ،فانها بذلك حافظة لمظهر من الهوية .لكن وضع الفصحى حاليا غيره في
الماضي هي االن مثل أهلها ليست "منتجة للحضارة" المعاصرة وانما تستهلك وتكافح لمسايرة االيقاع
العلمي والتكنولوجي والمعرفي المتسارع بمشقة ،ال أدل على ذلك اال معضلة المصطلحات والترجمة
كمثال ال للحصر .ويزيد من تعقيد وضعها منافسة اللغات األجنبية المهيمنة بقيمها وحموالتها الفكرية
القسرية ،وهذا يحد من امكانات االبداع واالبتكار بها ،وقوة االبتكار حسب تعريف جبران خليل جبران(،)1
هي مستقبل اللغة العربية كي ال تندثر .اذا ،مع العلم أن اللغة موجودة وحية ،اال أن ذلك غير كاف .االن،
مع استقبالنا للغات أجنبية كاالنكليزية والفرنسية ،فان اللغة العربية توقفت عن وجودها في الخط األول،
وأصبحت تلك اللغات الخارجية هي المهيمنة .على سبيل المثال ،في المدارس والجامعات ،تأخذ كل
المواد باللغة االنكليزية مع وجود حصة أو حصتين فقط في األسبوع لدراسة اللغة العربية ،ان كانت
تدرس على كل حال .هنا ،نالحظ كمية الخطورة :المؤسسات الدراسية هي ليست فقط أماكن للتعليم،
ولكنها أيضا منشأة كل األجيال القادمة ,وألن اللغة العربية غير مسيطرة في تعليمهم ،فهم يرمونها
ويتشبتوا باللغات األجنبية التي االن تمنح فرص أفضل للعمل والتي أيضا تعد كأنها عالمة من عالمات
النفوذ والتقدم.
عالوة على ذلك ،ان التنوع الثقافي يجلب الحيرة بين نفوس المقيمين في جو التنوع .في طبيعتنا
البشرية ،نحب الثبات في معرفة هويتنا .عندما يكون االنسان في بيئة متقلبة يوجد فيها تصادم في األفكار
والمعتقدات ،فيصبح االنسان في حالة تشوش .في يومنا هذا ،مع وجود الكثير من العادات والتقاليد في
2
مكان واحد بسبب هذا االختالف ،يصبح الفرد مرتبك بخصوص الجهة التي يريد أن يمشي بها .هذه
الحيرة ليست فقط هي مؤثرة على الفرد نفسه وعالقته بذاته ،ولكن أيضا ينتج في تكوين خلل بينه وبين
هويته وبيئته .وبيئته ،في هذه الحالة ،تعني مكانه في العالم وانتمائه ،باالضافة الى جو عائلته التي يصبح
منعزال عنها .من منا يسمع األغاني األجنبية على عاتق العربية؟ أبسط مثال :الفن -نفضل ،نقرأ ،ونشارك
في فنون الفنون الغربية على فنون بالدنا العربية .الفن جزأ ال يتجزأ من الثقافة ,فأهم العقول المساهمة
لثقافتنا أيضا مشاركة في نوع من الفن .والفن ،مثل الموسيقى ،األدب ،أو الرسم ،هم مفاتيح لتعرفنا على
ثقافتنا .في األمس ،مع وجود االنتدابات على أراضي الشعوب العربية ،مثل انتداب فرنسا على لبنان،
لبنان بقي محافظا على عاداته ولغته .ولكن ،وهذا شيء مؤسف ومثير لالهتمام في ذات الوقت ،لبنان ،مع
أن فرنسا تشربت منه الكثير الى أن سحبت كل قواتها من البلد ،اال أنه بدأ يميل الى عادات فرنسا أكثر
وأكثر بعد االنتداب ،فاالمتحانات الرسمية القائمة الى االن وتعليم اللغة الفرنسية سببهم االنتداب الفرنسي.
ان الخصوصية الثقافية ال تبرر االنغالق ونبذ الثقافات األخرى ،بل ان بقاءها وتطورها رهين في جوانب
باالنفتاح والحوار بين كل الثقافات على ركيزة المساواة .وهكذا ،ال يمكن القبول برفض تعلم اللغات
األخرى بعلة تقديس لغتنا وخصوصيتها .وال يمكن رفض القيم االنسانية المشتركة مثل ثقافة حقوق
االنسان بذريعة انها من "الغرب الكافر" ،واال فلنتخلص من كل مظاهر التكنولوجيا الحديثة التي ال يمكن
االستغناء عنها اليوم في أبسط متطلبات حياتنا اليومية .لكن ,برأيي ,يجب وضح حدود لهيمنة هذا التنوع
على حياتنا اذ كانت فردية أو جماعية ،أقلها ارجاع لغتنا العربية في موقعها الرئيسي ،ألن مكانها يحدث
كل التغيير .غير ذلك ،اعطاء كل ثقافة خارجية مستوى حجمها بدال من ترتيبها كأولوية على ثقافتنا قد
3
تكون محاولة ناجحة ألفراد الجيل القادم المميل لالنحياز الى الغرب بسبب انتشار عالقتها بأفكار "التقدم"
و"المكانة".
في نهاية المطاف ،سيظل التنوع والتعدد الثقافي قائما ومستمرا رغم كل التحديات ألن الطبيعة
البشرية قائمة على هذا التواصل ،ولكن لدينا مسؤولية وضع ثقافتنا كأولوية كي ال تموت هي ،ونلحقها
نحن .ويبقى السؤال قائما :هل كانت ستتغير قرارات طالب األدب االنكليزي في اختيارهم لهذا المجال اذ
4
التوثيقات المذكورة
جبران جبران خليل" .موسوعة جبران خليل جبران العربية.516 ،"2008 ،
5