You are on page 1of 2

‫الهزيمة الثقافية وضياع الهوية‬

‫د‪ .‬محمد عبد الفضيل عبد الرحيم‬

‫كان العالم يتح دث ق دي ًما ولم دة ق رونٍ طويل ة عن س باق التس ليح وأس بقية ش ن لح روب واحتالل المس احات‬
‫الجغرافية‪ ،‬واستمر األمر هكذا حتى الهزيع األخير من الق رن الماض ي حيث ب دأت الح رب العالمي ة الب اردة‪،‬‬
‫وفرض حالة من الحروب االقتصادية وسباق الإنتاج وإغراق األسواق الدولية بالبض ائع المحلية‪ ،‬األم ر ال ذي‬
‫أدى إلى إنش اء منظم ات وإب رام اتفاقي ات أغنت دواًل وأم اتت ش عوبًا‪ ،‬والي وم س الح المعرف ة وق وة الثقاف ة‬
‫والتصنيف العلمي هي األسلحة األقوى ال تي فرض ت نفس ها على س احة ال نزاع الع المي‪ ،‬وم ا تم ر ب ه الي وم‬
‫المنطقة العربية وجزء كبير من المنطقة اإلسالمية هو عجز واض ح عن ال دخول في ه ذا المع ترك‪ ،‬يمكن أن‬
‫يوصف على أنه هزيمة ثقافية نتجت عن تأخر في سلسلة التراجعات المتوالية التي وضعت الحضارة العربي ة‬
‫واإلسالمية في مؤخرة الصفوف‪ .‬تشويهٌ كبير أصاب الذاكرة الثقافية وخريطتها‪ ،‬مما أدى إلى عدم القدرة حتى‬
‫عن الحديث عن محاولة "صناعة ثقافة جديدة"‪ ،‬وإذا سلمنا بأن ك ل قض ية أو مج ال ل ه (له ا) م دخل مع رفي‬
‫أيض ا بالض حالة والس طحية وفق ر المعرف ة العام ة ال تي تع اني منها قطاع ات عريض ة من‬
‫فعلينا أن نع ترف ً‬
‫الشعوب العربية فضلًا عن رجعية المعرفة المتخصصة مقارنة بالشعوب المتقدمة أو تلك التي بدأت تضع قد ًما‬
‫على طريق التقدم‪.‬‬

‫ه ذه ليس ت نظ رة تش اؤمية‪ ،‬ألني ال أتح دث عن مس تقبل ب ل عن واق ع في حاج ة إلى اإلعالن عن الم رض‬
‫والتفكير سريعًا في عالجه‪ ،‬بداًل من محاوالت ترقي ع الث وب‪ .‬نع ود إلى الهزيم ة الثقافي ة ال تي ب ات من أب رز‬
‫نتائجها الكارثية تكسير الشعور بالهوية الوطنية والحضارية‪ ،‬على حساب هويات أخرى كان من المفترض أن‬
‫تدعمها وتكملها كالهوية الدينية أو المذهبية أو الطائفي ة‪ ،‬وم ع ع دم االس تعداد الك افي أو ح تى الح د المع رفي‬
‫األدنى المواكب لمستجدات العصر‪ .‬ومع سقوط الهوية الدينية والطائفية في م أزق الش ك واإلحب اط من ج انب‬
‫قطاعات شبابية عريضة في الوطن العربي‪ ،‬قفزت علينا أصوات انتهازية صورت للش عوب ب أن هن اك غ ول‬
‫قادم من الدين‪ ،‬واجهته على الجانب المقابل بك ل أس ف ص يحات متدين ة تح ذر من الغ ول الق ادم من الغ رب‪،‬‬
‫وكانت النتيجة أن فقد جيل كامل الشعور بأي هوية يناضل من أجل الدفاع عنه ا أو يك افح ويعم ل انطالقً ا من‬
‫االنتماء إليها‪.‬‬

‫بنهاية الجملة السابقة كنت قد وضعت القلم ونزلت الشارع‪ ،‬تصفحت لدى بائع الجرائد اإلصدار األخير لمجل ة‬
‫العربي فاصتدمت بمقال الدكتور عبد الرحيم الكردي‪" :‬خطاب الالثقافة"‪ ،‬الذي يتح دث في نص فه الث اني عن‬
‫أنواع ثالثة لهذا الخطاب‪" :‬الخطاب الفوضوي" و"الخطاب الرجعي" و"الخطاب التس لطي"‪ ،‬وبينم ا يتط رق‬
‫المؤلف في حديثه عن أصحاب النوع األول إلى أنهم يتصفون بعدم اإلحس اس بالهوي ة القومي ة أو الوطني ة أو‬
‫األسرية‪ ،‬وأنهم احتياطي اس تراتيجي للفوض ى والتخ ريب‪ ،‬يص ف الك اتب أص حاب الن وع الث اني بأص حاب‬
‫الطقوس المتزمتة واألساطير والعقائد ممن يقدسون التاريخ ويرفضون لغة العقل والحوار‪.‬‬

‫خطابات "الالثقافة" إذن ال تظهر إال في مجتمع انهزم في ساحة السباق الثقافي العالمي ال سيما إذا ك انت هي‬
‫المسيطرة والحاكمة على تصرفات السود األعظم من ش عوب حض ارة م ا اتس مت بالعش وائية في التفك ير في‬
‫القضايا المعاصرة والتعاطي معه ا‪ ،‬ح تى أص بح الخط ر ال ذي ي داهمها ال يتمث ل في ثقاف ة غربي ة أو ش رقية‬
‫غريبة بل في "الثقافة" أنتجها أصحاب هذه الحضارة‪ ،‬وواجبهم في مواجهة هذا الخطر يجب أن يبدأ بمواجهة‬
‫النفس والتحرك العاجل لصناعة ثقافة جديدة بداًل من المحاوالت المتكررة لتكمل ة غ ير المكتم ل وت رميم بني ة‬
‫تحتية معرفية قائمة في األصل على مناهج علمية قديمة تلقينية ال إبداعية يجب استبدالها بالكلية بمناهج أخرى‬
‫فكرية حرة‪.‬‬

‫وللحديث بقية –‬

You might also like