You are on page 1of 157

‫أحمد دلباني‬

‫رجعُة الَّطوطم‬
‫حاشية لمشكالت الهوية والديمقراطية في الجزائر‬

‫فهرست‬

‫‪1‬‬
‫إشارات وتنبيهات ‪.............................................‬‬
‫في نقد الطوطمية السياسية ‪.......................‬‬ ‫‪-1‬‬
‫(الهوية‪ ،‬الدين‪ ،‬الدولة)‬
‫شلل الَّدمقرطة في الجزائر والعالم العربي ‪...........‬‬ ‫‪-2‬‬
‫تعثٌر سياسٌّي أم ثقافي؟‬
‫بوابة الجحيم ‪...........................................‬‬ ‫‪-3‬‬
‫مقدمة لفهم فشل العرب في استضافة الحرية‬
‫رقعة القول ‪ ...‬رقعة الوجود ‪..........................‬‬ ‫‪-4‬‬
‫زورُق األوديسة الجزائرُّي المكسور ‪...................‬‬ ‫‪-5‬‬
‫حول الُبعد البربرِّي في السردية الوطنية الجزائرية‪...‬‬ ‫‪-6‬‬
‫(رد وتعقيب على أمين الزاوي)‬
‫على هامش الحراك الشعبي الجزائري ‪..............‬‬ ‫‪-7‬‬
‫هل حان "خريُف البطريرك"؟‬
‫‪ -8‬رسالة مفتوحة إلى ألبير كامو ‪.......................‬‬
‫‪ -9‬اختالفي مع كامو سياسٌّي ال أخالقي ‪...............‬‬
‫(رسالة إلى صديقي عبد القادر رابحي)‬
‫الكاتُب والباحث الجزائري أحمد دلباني ‪.......‬‬ ‫‪-10‬‬
‫‪2‬‬
‫(محاورة في "القدس العربي األسبوعي")‬
‫الباحث أحمد دلباني لـ "الخبر" ‪................‬‬ ‫‪-11‬‬
‫(محاورة عن المفكر محمد أركون)‬

‫*****‬

‫إشاراٌت وتنبيهات‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫وحدة تعلو على الَّتعدد‬ ‫‪-1‬‬
‫(الشمولية)‬
‫وحدة تنبثُق من التعُد د‬ ‫‪-2‬‬
‫(الديموقراطية)‬

‫أحمد دلباني‬

‫في نقد الطوطمَّية السياسية‬


‫(الهوية‪ ،‬الدين‪ ،‬الدولة)‬

‫‪4‬‬
‫* الُهوَّية‪" :‬سمفونيٌة غيُر مكتملة"‬

‫لقد ولت إلى غير رجعٍة‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬تلك العهوُد التي كانت فيها‬
‫الدول تبني ُم ستقبلها على أساس من الواحدية الدينية والسياسية‬
‫واإليديولوجية‪ .‬دولة الوصاية ودولة الحزب الواحد الشمولية كالهما‬
‫أصبحتا فصال من فصول ماض يذكرنا بمثالب األحادية والقمع وامتهان‬
‫الحريات والحقوق الفردية والجماعية‪ .‬لذا نرى أننا ُم لزمون هنا‪ ،‬أوال‪،‬‬
‫بالتذكير بنضاالت الجزائريين – طيلة عقوٍد – في سبيل الحريات‬
‫والكرامة واالعتراف بالتعددية الفكرية والثقافية والسياسية‪ .‬هذا هو‬
‫رصيُدنا الُم شترك في المرحلة التي أعقبت االستقالل الوطني‪ .‬انطالقا من‬
‫ذلك يبدو لي أَّن واجَب المثقف األولَّي يكمُن في تعزيز التطلع الديمقراطِّي‬
‫من خالل التنبيه إلى ضرورة انفتاح الدولة على كل مكونات المجتمع‬
‫وفاعلياته الحية وفسيفسائه الثقافية الغنية ومطالبه الناشئة‪ .‬فال يمكُن‬
‫الزج بالجزائريين أبديا في ُقمقم جامٍد من "الثوابت" التي بَّينت التجارُب‬
‫أنها ظلت ُتستخَد ُم أفيونا لتخدير الشعب أو ُترفُع شارة حمراء من أجل‬
‫محاربة المختلف والُم عارض‪ .‬لقد ظلت الهوية ُتستثمُر إيديولوجيا لخدمة‬
‫السلطة؛ وظلت "الثوابت" المختلفة‪ ،‬وبخاصٍة الدينية واإليديولوجية‬
‫منها‪ُ ،‬تبِّر ُر عمليات النبذ والقمع والتخوين انطالقا من تصورات أحادية‬
‫عن الوحدة ترى في التعددية الفكرية والسياسية تهديدًا دائما لكيان األمة‬
‫والشعب ‪.‬ال يمكُن ‪ ،‬بمعنى آخر‪ ،‬أن يتَّم احتكاُر هوية الجزائريين أو‬
‫‪5‬‬
‫الحديث باسمها باعتبارها أقنوما أزليا ال يتغَّيُر وال يغتني‪ .‬التاريخ نفسه‬
‫يكذُب ذلك‪ .‬فالجزائُر – باعتبارها فضاًء جغرافيا واسعا وممتدا – هي‪،‬‬
‫تاريخيا‪ ،‬فضاُء هجنٍة وملتقى ثقافات وحضارات بامتياز‪ .‬واعتقادي‬
‫الشخصي في ذلك أَّن الهوية العميقة ال يحِّدُدها الماضي وحده بقدر ما‬
‫يكشُف عنها المستقبل أيضا‪ .‬فالهوية‪ ،‬في العمق‪ ،‬ابتكاٌر وليست إرثا‬
‫يتنازُع عليه الورثة‪ .‬بل إنني أذهُب أبعَد من ذلك بالقول إَّن الهوية الحية‬
‫ال تقوُم إال على النقض والتجاوز والتثاقف مع اآلخر المختلف‪ .‬أو إن‬
‫شئنا قلنا إَّن الهوية هي دائما "سمفونية غير مكتملة" كما جاء في‬
‫وصف سمفونية فرانز شوبرت الثامنة الشهيرة‪ .‬فما هي هوية أوروبا‬
‫العميقة مثال؟ هل هي ُم حِّدٌد واحٌد ثابت؟ هل هي اليونان وروما أم‬
‫المسيحية؟ هل هي القديس توما اإلكويني أم "عصُر األنوار"؟ هل هي‬
‫الالهوت السياسُّي أم العلمانية والدنيوة؟ هل هي "مدينة هللا" أم "مدينة‬
‫اإلنسان"؟ من الواضح أَّن تاريخ أوروبا والغرب عموما هو كل ذلك‬
‫ولكن من زاوية النظر التي ترى فيه صيرورة تاريخية عظيمة قائمة‬
‫على القطائع المعرفية والسياسية واالنبثاق التدريجِّي لألنسنة‪ .‬وعلى‬
‫نفس الشاكلة نستطيُع أن نسأل أيضا‪ :‬ما هي هوية الصين العميقة؟‬
‫كونفوشيوس والطاوية أم ماو تسي تونغ؟ الحكمة العَم لية القديمة أم‬
‫الشيوعية؟ وهل هي اليوم نتاٌج مباشٌر للثورة أم لشكل من أشكال‬
‫ليبرالية السوق المقَّيدة؟ انطالقا من ذلك أقول إنه ال ُيمكننا أبدًا الحديُث‬
‫عن الهوية دون االنتباه إلى كونها ال تعني االستمرارية فحسب بقدر ما‬
‫تعني أيضا القطائَع واالنقالبات واالغتناء واالنفتاح على الُم ستقبل‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫فالهوية بهذا المعنى‪ ،‬كما قلنا‪ ،‬تبدو كمثل عمل فنٍّي ال يكتمل أبدًا‪ .‬ولكَّن‬
‫الخطاب السياسَّي – اإليديولوجَّي المغلق يريُد دائما أن يجعل منها كابحا‬
‫لحركية المجتمع ومتراسا أمام التاريخ ألهداٍف إيديولوجية تتعلُق بإرادة‬
‫الهيمنة على الفضاء السوسيو ‪ -‬سياسي‪ .‬إذ إَّن الحديَث باسم الهوية‬
‫يمنُح الخطاَب شرعية رمزية وأدبية كبيرة بكل تأكيد‪ .‬لذا يبدو لي أَّن‬
‫الهوية‪ ،‬في عمقها‪ ،‬تتجاوز دائما تلك السرديات الوطنية الضيقة التي يتُّم‬
‫ابتكارها بوصفها قمقما يعتقل ويأسُر مارَد الُم مكن الذي تختزنه الذاُت‬
‫الجماعية في حركية جدلها مع اآلخر والتاريخ‪.‬‬

‫هذا ما يدُعونا إلى إعادة النظر الجذرَّية في قضية الُهوية ورهاناِت‬


‫انبثاِقها اليوم باعتبارها مسألة مركزية في النقاش الفكرِّي والسياسي‪.‬‬
‫فالُهوّية‪ ،‬كما أشرنا‪ ،‬تشكيٌل تاريخٌّي بالطبع وال أحَد ُيمكنُه أن يعترَض‬
‫على القول إَّن كل الثقافات تعرُف تحُّو ال واغتناًء ال ينقطعان تاريخيا‪.‬‬
‫الحضارة العربية – اإلسالمية ُهويٌة مرّك بة‪ ،‬وهي نتاٌج تاريخٌّي للتالقح‬
‫الحضاري البديع والعالي الذي كان الُم سلُم ون في ُعهوِد ازدهارهم من‬
‫ُر َّو اده‪ .‬الغرُب أيضا ليس ُهوَّية ثابتة تقبُع خارَج التاريخ كُم ومياء‪ ،‬وإنما‬
‫ُهو تحُّو ٌل عظيٌم وَم ساٌر جّد ُم عقد‪ .‬لقد سمعُت ‪ ،‬يوما‪ ،‬الفيلُس وَف الفرنسَّي‬
‫الُم عاصر ريجيس ُدوبريه يتحَّد ُث عن ُهوّية الغرب – بعَد نقاش ُم حتدم‬
‫حول الدستور األوروبِّي وُم شكلة ُح ضور األلوهة والُبعِد المسيحِّي في‬
‫ديباجته – بالقول إَّن الغرَب ليس القديس أوغسطين فحسب وإنما ُهو‬
‫فولتير أيضا‪ .‬هذا ما ُيتيُح لي أن أقوَل ُهنا إَّن الُهوية العربّية – اإلسالمية‬

‫‪7‬‬
‫ليست ابَن تيمية والشافعي فحسب وإنما هي ابن رشد والمعِّر ي أيضا‪.‬‬
‫ُيمكننا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن نالحظ أَّن ُهناك ِس ماٍت عامة في كل ثقافٍة تجعلنا نعتقُد‬
‫بوجوِد خصوصَّية ثابتٍة فيها ُنسّم يها عادًة " الُهوية "‪ ،‬ولكنني أقوُل‬
‫أيضا إن هذه الّس مات ثابتٌة نسبيا فقط‪ ،‬وهي شيٌء َع َر ضٌّي وتاريخّي‬
‫وليست أقنوما أزلًّيا‪ .‬إَّن ُم شكلة الُهوية عندنا سياسّية ‪ /‬إيديولوجّية‪،‬‬
‫وهي خطاٌب ُيستثمُر دائما من ِقبل الفئاِت األكثر سيطرًة من أجل كبح‬
‫التغّير وتبرير الهيمنة كما ذكرنا آنفا‪.‬‬
‫إَّن أخطر ما يمكُن أن يجعل من التأكيد المبالغ فيه على الهوية‬
‫والتمايز الثقافي حاليا هو ذلك االنكماش أمام العالم وصيروراته‪ .‬فكأَّن‬
‫الحديَث عن الهوية ‪ -‬فضال عن الرغبة المشروعة بكل تأكيٍد في تلبية‬
‫الحاجة إلى الشعور باالنتماء – ُيضمُر أزمًة مع الحاضر ومع اآلخر تصل‬
‫إلى حِّد الهوس بالجذور الثقافية والعرقية وبنيات التضامن السابقة على‬
‫تشكيل الدولة الوطنية‪ .‬فالعالُم الذي ُيشيُح بوجهه عني وال يحتضُن‬
‫صبواتي وتطلعاتي ال يستحق مني أكثر من أن أغلَق في وجهه باَب بيتي‬
‫أنا أيضا‪ .‬هكذا تصبُح الهوية دائما في لحظاِت األزمة مع الراهن‬
‫المضطرب مالذا وطوَق نجاٍة للذات الجماعية الخائبة في محيط اللحظة‬
‫التاريخية؛ كما ال يعوُد الناُس يتعرفون على أنفسهم إال في تلك الروابط‬
‫التقليدية السابقة على ميالد الروابط السياسية الحديثة لدول وطنيٍة‬
‫فاشلة تنمويا‪ .‬هذا ما يجعل منها بيَت الخائب كما كتبنا ذات يوم‪ .‬لذا نعتقُد‬
‫أَّن تفاقَم الحديث عن الهوية ومطالب االعتراف والحق في االختالف يجُد‬

‫‪8‬‬
‫مكانه وحلوله الُم مكنة في فلسفة حقوق اإلنسان التي يجُب أن نتبناها‬
‫بانفتاح ووعي ومسؤولية‪ ،‬حتى ال ُتفلَت الناُر من بين أصابع الساحر‬
‫ويتحول ما هو مشروٌع ‪ -‬إنسانيا وثقافيا وأخالقيا وسياسيا ‪ -‬إلى‬
‫"هويات قاتلة" كما ُيعِّبُر أمين معلوف في كتابه المشهور الذي خَّص صه‬
‫لدراسة بعض االنحرافات الهوياتية‪ ،‬نهاية القرن الماضي‪ ،‬والعالُم يشهُد‬
‫تفككا سَّببه انهياُر إيديولوجياٍت خالصية ظلت تؤجل يقظة بركان‬
‫المطالب الثقافية الخامد‪ .‬فعلينا‪ ،‬إذًا‪ ،‬معالجة هذا األمر بنوع من الحكمة‬
‫التي تجعل من الهوية اعترافا بالتمايز واالختالف ضمن الوحدة الوطنية‬
‫من جهٍة‪ ،‬ومصالحة مع المستقبل من جهٍة أخرى على اعتبار أَّن الهوية‬
‫ليست الجذور فحسب وإنما هي الصيرورة واإلبداع المستمر للذات‬
‫كذلك‪ .‬لن تسكَن الهوية منطق أرسطو المؤكد على التماهي مع الذات‬
‫وإنما ستستنجُد هنا‪ ،‬أيضا‪ ،‬ببعض حدوس سلِفه هيراقليطس الذي كان‬
‫ُيعلُم أتباعه استحالة "أن ننزل النهَر نفسه مرتين ألَّن مياها جديدة تغمره‬
‫باستمرار"‪.‬‬

‫* "كل مذهبيٍة ُح بلى بالجاَّل دين"‬


‫ال بَّد لنا من كلمٍة‪ ،‬هنا أيضا‪ ،‬حول حضور الِّدين في الجمهورية‬
‫ودستورها‪ .‬فمن المعروف أَّن شطط النظام السياسِّي السابق – على‬
‫لسان وزارة الشؤون الدينية – وصل إلى ذروٍة غير مسبوقٍة عندما جعل‬

‫‪9‬‬
‫من الجزائر دولة "سنية مالكية تقرأ القرآن برواية ورش" وهذا في‬
‫نبرٍة طائفية واضحٍة تريُد الرجوع بنا إلى حلم "دولة الوصاية" على‬
‫الضمير والمعتقد والمذهب تحت ما تَّم تعميُده باسم "المرجعية‬
‫الوطنية"‪ .‬وهل من الضرورِّي أن أفتَح قوسا‪ ،‬هنا‪ ،‬لإلشارة إلى اإلباضية‬
‫مثال وثقل حضورها الديمغرافي والتاريخِّي العريق في الجزائر؟ أو‬
‫الحنفية وحضورها العاِلم في بلدنا أيضا؟ لقد كان ذلك‪ ،‬قطعا‪ ،‬تدهورًا‬
‫كبيرًا أسهَم في إخراج الدين من جوهره الروحانِّي والمعرفي واألخالقي‬
‫لُيزَّج به في حمأة المعترك السياسِّي واالدعاءات المرتبطة بضرورة‬
‫حماية الحدود السياسية والسيادة الوطنية والتماسك االجتماعِّي من‬
‫مخاطر االختراق وهذا في زمن يعرُف الحروَب الطائفية والتحالفات‬
‫القائمة عليها‪ .‬نحُن نتفهُم هذه الهواجَس األمنية جِّيدًا‪ .‬ولكننا ال نفهُم‬
‫كيف تكوُن مجابهة المخاطر األمنية باالنغالق اإليديولوجِّي والمذهبِّي أو‬
‫بالتنبيه إلى ضرورة "طاعة ولِّي األمر" التي عاش عليها األسالُف يوم‬
‫كانوا رعايا قبل انبالج عصر المواطنة والدولة الجمهورية الحديثة ‪.‬ال‬
‫يحتاُج الدفاُع عن الجزائر‪ ،‬صراحة‪ ،‬إلى كل هذا النكوص الفكرِّي‬
‫والسياسي أو إلى استدعاء ثقافِة الطاعة والوالء األعمى للحاكم‪ ،‬بل إلى‬
‫ثقافٍة مغايرة تجُد أساَس ها في الحقوق والحريات وترسيخ مبادئ‬
‫المواطنة‪ .‬يحتاُج الدفاُع عن الجزائر إلى الحرية وإلى مواطن واع‬
‫ومسؤول‪ .‬أما تلك األشكال العتيقة من العصبيات والمذهبيات التي‬
‫يستحضرها النظاُم حاليا الستخدامها سياسيا فنذِّك ُر أنها إرٌث الهوتي –‬
‫سياسي قروسطي غيُر ملزم في أدبيات الجمهورية؛ وقد كانت وليدة‬
‫‪10‬‬
‫صراعات دامية منذ بداية اإلسالم وال تمثل‪ ،‬بحال‪ ،‬جوهرًا أو هوية تعلو‬
‫على التاريخ الذي أنتجها‪ .‬ولنتذكر‪ ،‬أيضا‪ ،‬كيف أَّن فئاٍت كثيرة من عموم‬
‫الشعب والشباب بخاصٍة وجدت في األصولية الحديثة وفي تطرفها الذي‬
‫ينتسُب إلى الدين اإلسالمِّي مالذا وطوَق نجاٍة في عالم لم ينتشل وجودها‬
‫من الهامشية والضياع وهذا في ظل الدولة الوطنية المنتكسة سياسيا‬
‫واقتصاديا وتربويا والتي لم يكن لها من جواٍب على ذلك سوى بمعالجة‬
‫األصولية والتطرف أمنيا أو باللعب على ميدانهما باعتباره ينبوعا‬
‫للشرعية التي لم تستطع هذه الدولة اكتسابها من خالل التحديث‬
‫المتوازن والديمقراطية والعدالة‪ .‬لقد ظل االستئثاُر السياسُّي بالحديث‬
‫باسم "الدين الصحيح" شيئا يدخل ضمن احتكارات الدولة واستثمارًا‬
‫يرفع منسوَب الشرعية المتآكلة بفعل الفشل‪ .‬لذا فال بَّد‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬من‬
‫تحرير الدين في الجزائر من االستخدام السياسِّي القائم على هذا‬
‫االحتكار‪ .‬فهو امتهاٌن كبيٌر للدين في حقيقة األمر‪ .‬ومن جهٍة أخرى نرى‬
‫أنه ال يحق ألحٍد الحديُث باسم "اإلسالم الصحيح" اليوم‪ .‬فكل ما هو‬
‫مطروٌح أمامنا ليس إال قراءاٍت وتأويالت للدين اإلسالمِّي شهدت النوَر‬
‫في التاريخ وهي تحمل‪ ،‬قطعا‪ ،‬أصداَء الصراعات الدموية التي كانت في‬
‫أساس نشأتها‪ .‬المذهبياُت على اختالفها تمثل ذكرى معارك منتهيٍة‬
‫ُتستعاُد وُتستثمُر سياسيا في سياقات تجاوزتها كليا‪ .‬ولعل في هذا ما‬
‫يكشُف عن الريبة من البحث الحفري – التفكيكِّي في مشكالت الالهوت‬
‫السياسي وَتشُّك ل العقائد وتاريخ اإلسالم على العموم من منظور غير‬
‫امتثالي وغير طائفّي أو تبجيلي عندنا‪ .‬كما يكشُف كيف أَّن الدولة‬
‫‪11‬‬
‫العربية – اإلسالمية وليدة االستقالل ال تزال وصَّية على الحقيقة ولم‬
‫تفهم‪ ،‬بعُد‪ ،‬دورها باعتبارها ُم ؤَّس سة معنَّية – في المقام األول – بحماية‬
‫حقوق اإلنسان وتأمين شروط العيش المشترك ال رسم طرق الخالص‬
‫على شاكلة دولة العصور الوسطى‪ .‬فال تزال هذه الدولة تستنجُد‬
‫بالحقيقة الدينَّية التي تمنُح ها شرعَّية لم تستطع اكتسابها بالعمل على‬
‫االرتقاء بالحياة العامة أو تحقيق العدالة والتنمية الشاملة‪ .‬وإال فما‬
‫معنى‪ ،‬مثال‪ ،‬القول إَّن هناك نظاما سياسيا ُم عَّينا يمثل "اإلسالم‬
‫الصحيح"؟ وما معنى القول إَّن فكرًا بعينه يمثل "اإلسالم الصحيح"؟‬
‫وهل هناك "إسالم صحيٌح " وآخر "خاطئ"؟ وما معنى الصحة والخطأ‬
‫هنا؟ ما معيارهما؟ ومن ُيحِّدُد ذلك؟ واستناًد ا إلى ماذا؟‬
‫لنُعد قليال إلى الوراء‪ .‬من كان ُيمثل "اإلسالم الَّص حيح" في تاريخنا‬
‫البعيد؟ علي أم ُم عاوية؟ القدرية أم الجهمية؟ المعتزلة أم األشاعرة؟‬
‫الفالسفة أم الُم تصوفة؟ ابن تيمَّية أم ابن رشد؟ هل هناك مرجعية ُم طلقة‬
‫تحّدُد معاييَر الصواب والخطأ في هذا المجال؟ ألم تكن كل هذه التيارات‬
‫والمذاهب والمواقف الُم تباينة نتاجا للتأويل ولقراءاٍت خاَّص ة للنص‬
‫األَّو ل؟ ألم ينشأ معظمها في ظل حرب سياسية دموَّية – كما ذكرنا آنفا –‬
‫من أجل خلع الشرعية على شهوة السلطة ونبذ اآلخر الُم نافس؟ أليس‬
‫في هذا ما يدل على خطر استخدام الدين سياسيا بصورة ُتبِّر ُر العنف‬
‫وتمنحه طابعا ُم قَّدسا؟ أليس في هذا ما ُيبّيُن كيف أَّن "الحقيقة" في يد‬

‫‪12‬‬
‫الدولة تصبُح أكبر عدو لإلنسان‪ ،‬ومرجعية عليا ُيسحق باسمها الُم ختِلف‬
‫وُيكَّفُر كما نجُد ذلك في معظم بلداننا العربية بكل أسف؟‬
‫علينا أن نحِّر َر الحقيقة من السياسة لتصبَح بحثا ال عقيدة‪ .‬هذه هي‬
‫ركيزة الدولة المدنية الحديثة بكل بساطة‪ .‬علينا أن نحِّرَر الدين من‬
‫الُم ؤَّس سة التي تستخدمُه أداًة للسلطة في هيمنة الطائفة الغالبة وقمع‬
‫الُم ختلف وقهر المرأة وإدانة الحرية واإلبداع‪ .‬الديُن تجربة روحية‬
‫تعاُش وليس وصاية للزج بالحياة وغناها وتعّدديتها في اتجاه نمذجة‬
‫الفكر والسلوك‪ .‬على الدين أن يعيَش النهائية التأويل والبحث عن‬
‫المعنى الذي ُيعانُق لحظته بعيدًا عن أالعيب السياسة التي ال يُهّم ها منُه‬
‫إال ما يخدُم ديمومَتها أو يستُر عورتها‪.‬‬
‫كتب أدونيس‪ ،‬في نفس السياق‪ ،‬متحدثا عن وظائف الدولة وعن‬
‫عالقاتها الملتبسة بالحقيقة التي تقود – متى تمأَس ست – إلى الطغيان‬
‫والفاشية وسحق اإلنسان‪:‬‬
‫" ‪ ...‬وتغّيُر هذه النظرة يؤّدي إلى االعتراف بأَّن الحقيقة مشتركة‪،‬‬
‫وليست استئثارًا‪ ،‬وأَّن الدولة بوصفها سلطة وسياسية‪ ،‬ال شأن لها‬
‫بالحقيقة‪ ،‬كما كان األمُر في الخالفة وفي الكنيسة‪ ،‬وأَّن المجتمَع ال يمكُن‬
‫أن تنقذه نظرية واحدة أّيًا كانت – فمثل هذا االعتقاد أَّدى ويؤِّدي إلى قتل‬
‫البشر من أجل فرضية‪ ،‬إلى قتلهم من أجل ال شيء‪ ،‬وهو أبشُع أنواع‬
‫الجرائم‪ .‬وهذا التغييُر يؤِّدي إلى القول إَّن المجتمَع تعّدٌد يتحاور‬

‫‪13‬‬
‫ويختلف‪ ،‬وأَّن االختالَف والتعّدد هما أعمق ما في الحياة اإلنسانية التي‬
‫يميزها عن الحيوانية والقطيعية ‪...‬‬
‫ومثل هذا التغيير يؤّدي إلى االنهماك بقضايا اإلنسان بوصفه مواطنا‪،‬‬
‫وفي مشكالت عيشه‪ ،‬وعمله‪ ،‬وحريته‪ ،‬وتقّدمه‪ .‬ومثل هذه المشكالت‬
‫هي مهَّم ات الدولة –ال مشكالت هويته أو قوميته‪ ،‬أو دينه‪ ،‬أو مصيره‪.‬‬
‫إَّن الدولة العربية ُتعنى اليوم بكل ما ال يعنيها بوصفها دولة‪".‬‬
‫(النظام والكالم‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪ .‬ط‪ – 2010 ،2‬ص ‪.)59‬‬
‫ال أجد‪ ،‬صراحًة‪ ،‬ما أضيُف إلى كالم صديقي الكبير بهذا الشأن‪.‬‬
‫***‬

‫ولكن‪ :‬لماذا نصُّر على البقاء دوال طائفية ال تقطُع مع الالهوت‬


‫السياسِّي ؟ لماذا ظلت العلمنة دائما هاجسا يتوارى باستحياٍء خلف‬
‫قضايانا الفكرية وتوجهاتنا السياسية الكبرى؟ ما الذي يقُف وراء تشبثنا‬
‫غير المعقول بالطوطمية السياسية وبالزمن الثقافِّي الراكد رغم فداحة‬
‫هذا األمر الذي ينتصُب حجَر عثرٍة أمام انعتاقنا من أوضاعنا الحالية؟‬
‫لماذا تحيا من خاللنا معارك الماضي وانشقاقاُته المذهبية والطائفية‬
‫وينتعُش فينا كل ما يجُب أن يموت؟ أقول هذا وأنا أعتقُد أَّن الُم شكل ليس‬
‫في وجود الطوائف بحِّد ذاتها‪ .‬فهذا أمٌر مفهوٌم وهو ُيشكل جانبا ُم هما‬
‫من التاريخ العقدِّي والمذهبي والسياسي الُم رتبط بالتأويل اإليديولوجي‬
‫للنِّص الُم قَّدس‪ .‬ونحُن نعرُف أَّن الطائفَّية ُعرفت في كل األديان الكبرى‬
‫‪14‬‬
‫قبل اإلسالم بوصفها تعبيرًا عن االختالف الفكري – الالهوتي الُم متد‬
‫تاريخيا في صورة انقسام ُيؤِّبُد "استراتيجَّية الَّر فض" بين‬
‫األرثوذوكسيات الُم تنازعة على ذروة المشروعية الدينية والسياسية‬
‫العليا كما ُيعِّبر البروفيسور الَّر احل محمد أركون‪ .‬إَّن الُم شكل الفعلَّي ‪،‬‬
‫اليوم‪ ،‬يكمُن في استمرار البنية السياسَّية الطائفية في الدولة العربية‬
‫الحديثة أيضا‪ ،‬وهنا مكمُن الخطر‪ .‬إننا ُنواجه خطَر السقوط الَّدائم في‬
‫هاوية الحرب الدينَّية التي مزقت أوروبا قبل قرون ونراها تنتعُش عندنا‬
‫اليوم بفعل عوامل عديدة ترتبط بوضعنا السياسِّي والثقافي الَّر اكد من‬
‫جهٍة أولى‪ ،‬كما ترتبط‪ ،‬من جهٍة أخرى‪ ،‬بمصالح الغرب القائمة على‬
‫ضرورة إبقائنا خارج الحداثة السياسية – تلك التي تبقى الضامَن األوحد‬
‫الستقاللنا ومناعتنا ووحدتنا‪ .‬وأعتقُد‪ ،‬فضال عن ذلك‪ ،‬أَّن الطائفية تمثل‬
‫أكبر عائق أمام حداثة الدولة والُم جتمع عندما تخرُج عن إطارها الثقافي‬
‫– التاريخي لتدخل ميدان الِّص راع السياسي‪ .‬إنها‪ ،‬بمعنى آخر‪ ،‬تمثل‬
‫عقبة كأداء أمام انبثاق الُم واطنة والُم ساواة باعتبارهما ركيزة‬
‫الديمقراطية الفعلية‪ .‬وبما أَّن الطائفية تقوُم على فكرة الخالص والنجاة‬
‫انطالقا من موروٍث خاص وانتماٍء تاريخي وتراٍث تأويلي يَّدعي تمثيل‬
‫الحقيقة‪ ،‬فأستطيُع أن أالحظ أَّن الطائفية السياسية تقوُم على فكر يعتقُد‬
‫فيه كل طرٍف أنه في حرب أبديٍة مع اآلخر ما دام ُم ختلفا‪ .‬من هنا كون‬
‫الدولة الطائفية أو دولة الطائفة الغالبة دولة وصايٍة في حقيقة األمر ال‬
‫دولة رعاية وحماية تضمُن العيش الُم شترك بين الُم واطنين الُم تساوين‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫كتب البروفيسور الراحل محمد أركون حول هذه المشكلة وحول هذا‬
‫الوضع مقترحا مخرجا سياسيا منه‪" :‬الحل هو تفكيك العصبيات القديمة‪،‬‬
‫وإيجاد عصبية جديدة محلها‪ :‬أي العصبية العامة للدولة الحديثة التي‬
‫تتجاوز القبائل والطوائف والعشائر وتتخذ موقفا متساويا من جميع‬
‫المواطنين‪ .‬وهذا ما يؤدي بدوره إلى تشكيل الفرد – المواطن‪ ،‬وإحالله‬
‫محل اإلنسان القديم الذي ال وجوَد له إال من خالل الجماعة‪ .‬بمعنى أن ال‬
‫وجوَد له كإنسان مستقل‪ ،‬أو كفرٍد حر‪ ،‬أو كمواطن ينتسُب إلى دولٍة‬
‫حديثة تحميه وتحتضنه وتشعره أنه ُم هم بغض النظر عن أصله وفصله‪.‬‬
‫وهذه عملية طويلة ومعقدة ‪"...‬‬
‫(اإلسالم‪ ،‬أوروبا‪ ،‬الغرب‪ .‬ترجمة وإسهام هاشم صالح‪ ،‬دار الساقي‪،‬‬
‫بيروت‪ .‬ط‪ .2001 ،2‬ص ‪.)206‬‬
‫هذا ما يجعلني أعتقُد أَّن خالَص ُم جتمعاتنا من المأزق التاريخي‬
‫الذي تعرفه ال يخرُج عن العلمنة اإليجابَّية وتحييد الِّدين عن االستخدام‬
‫السياسي ليبقى مجاال للتأمل الميتافيزيقي في وضع اإلنسان وُم شكالته‬
‫العميقة من منظور ُم نفتح على الكونية‪ .‬كما تقُع على العقل السياسِّي‬
‫العربي‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬مسؤولية الخروج من ُم حِّددات العقل الطائفي‬
‫والالهوت السياسي الُم رتبط بالخالص في شكله الديني القديم ليتأَّسَس‬
‫على "عقد اجتماعي" جديد يقوُم على الشراكة والُم واطنية واحتضان‬
‫التعدد والحريات والُم كتسبات الحقوقَّية الديمقراطَّية الحديثة‪ .‬فالعلمنة –‬
‫التي تمثل الالمفكر فيه بامتياز في خطابنا الفكرِّي والسياسِّي – ليست‬

‫‪16‬‬
‫عقيدة خالصية وإنما هي الضامُن القانونُّي أمام التعسف الطائفِّي وقهر‬
‫الدولة المنحازة إلى األغلبية ضَّد األقليات المذهبية والدينية‪ .‬من‬
‫المعروف أَّن فكرنا العربَّي – اإلسالمي المعاصر ظل يستبعُد من دائرة‬
‫النقاش الجاد قضية العلمنة والدنيوة بدعوى أنها مشكلة غربية‬
‫"مستوردة" ترتبط بالسياقات الحضارية الغربية ُم تناسيا االمتدادات‬
‫المدِّم رة لصراعنا الطائفِّي إلى اليوم‪.‬‬
‫كتب الراحل جورج طرابيشي بخصوص هذا الشأن‪:‬‬
‫"ال بَّد أن نعوَد إلى التاريخ‪ ،‬وهو تاريٌخ مديٌد ال ُيقاُس بعشرات‬
‫السنوات كما في مثال الحرب الكاثوليكية – البروتستانتية التي تمخضت‬
‫عن تكريس العلمانية في الغرب كآلية قانونية لتسوية العالقات بين‬
‫الطوائف‪ ،‬بل ُيقاس بمئات السنين من صراع سنٍّي – شيعي بقي إلى‬
‫اليوم متجذرًا في مستنقع الطائفية القروسطية بحكم غياب وتغييب‬
‫المخرج العلماني‪".‬‬
‫(هرطقات ‪ ،2‬دار الساقي‪ ،‬بيروت ‪ .2008‬ص ‪.)11‬‬
‫إَّن العلمنة التي تثيُر ‪ ،‬عندنا‪ ،‬حرجا دينيا غير مفهوم ليست محاربة‬
‫للدين أو لحرية االعتقاد وإنما هي تخليٌص لـ "شهوة المطلق" من‬
‫"إرادة القوة" أو رغبة الهيمنة التي تلبُس قناَع اِّدعاِء امتالك الحقيقة‬
‫المطلقة‪ .‬العلمنة التي نريدها – وأنا هنا أستعيُد بعَض ما قاله ريجيس‬
‫دوبريه بخصوص هذا األمر –ال تتوخى اإلجابة عن السؤال المتعلق‬

‫‪17‬‬
‫بالحقيقة أو بمعنى الحياة‪ ،‬كما ال تستطيُع توفيَر سبب كاف للعيش بقدر‬
‫ما تسعى إلى تخليصنا من شهوة العنف المرتبطة بمأسسة الحقيقة‪،‬‬
‫وإلزامنا بالكف عن رفع األسلحة واالقتتال فيما بيننا باسم هذا المعنى أو‬
‫تلك الحقيقة‪.‬‬
‫***‬
‫جاء في كلمٍة ألدونيس "كل مذهبَّيٍة ُح بلى بالجالدين"‪.‬‬
‫أجل‪ .‬كل مذهبية وطائفية حبلى بالجالدين‪ .‬والنظاُم السياسُّي هو‬
‫القابلة التي تسهُر على رعايتها وضمان استمرار ُس اللتها من‬
‫المحاربين‪.‬‬

‫*****‬
‫إشارة‪:‬‬
‫ُنشرت من هذا المقال شذراٌت في صحيفة "الخبر ‪ "7‬األسبوعية‪.‬‬

‫(من الجمعة ‪ 27‬آب‪/‬أوت ‪ 2021‬إلى ‪ 02‬أيلول‪ /‬سبتمبر ‪)2021‬‬

‫‪18‬‬
‫شلُل الَّدمقرطة في الجزائر والعالم العربي‬

‫تعُّثٌر سياسٌّي أم ثقافي؟‬

‫ال يمكُن أن نفكَر في الديمقراطية من دون التفكير الُم عَّم ق والجِّدي‬


‫في قاعدتها العميقة‪ ،‬الفلسفية والفكرية‪ ،‬التي تأَّس ست عليها وشكلت‬
‫مبدأ إمكانها التاريخي‪ .‬فالديمقراطية ليست شكال فارغا دون محتوى‪،‬‬
‫وال ممارسة دون مضمون ثقافٍّي أو رؤية للعالم واألشياء والقيم ُقِّد َر لها‬
‫أن تدشَن العالَم الحديث من خالل األنسنة المنتصرة منذ "عصر األنوار"‬
‫في أوروبا‪ .‬الديمقراطية انبثقت وترَّس خت كنتيجٍة النقالٍب في عالم الِقَيم‬
‫أوال قبل أن يتَّم استيراُدها عندنا باعتبارها لعبة انتخابية وصناديَق‬
‫اقتراع وهيمنة أغلبية يسهل التالعب بنتائجها من ِقبل السلطة العربية‬
‫االستبدادية القمعية‪ .‬الديمقراطية ثمرة حضارٍة جديدٍة قفز معها إلى‬
‫مسرح المعرفة والفعل وجٌه جديٌد حل محل المرجعيات القديمة المتعالية‬
‫وسلطة األسالف‪ :‬اإلنسان‪ .‬لقد أصبح األنتروبوس مركز الكون ومرجَع‬
‫الِقَيم‪ .‬هذا هو مفهوُم األنسنة الذي ال يمكُن أبدًا فهُم األزمنة الحديثة من‬
‫دون استحضاره‪ .‬ولكَّن الشيَء األبرز الُم الَح ظ عندنا أننا دخلنا العالَم‬
‫الحديَث مستهلكين ال فاعلين ومقلدين ال مبدعين‪ .‬تلك مأساتنا العميقة‬

‫‪19‬‬
‫باعتبارنا عربا ومسلمين‪ .‬فكما أصبحنا نستورُد وسائل تحسين الحياة‬
‫كذلك استعرنا أشكال التنظيم السياسي وآليات السلطة واإلطار‬
‫المؤَّس ساتي للحياة المدنية الحديثة‪ .‬أقول "استعرنا" ذلك فقط ألننا لم‬
‫ندرك – ألسباٍب ثقافيٍة بكل تأكيد – جوهَر الثورة التي صاحبت ميالَد‬
‫الحداثِة بوصفها انقالبا معرفيا وزحزحة للقيم من تعاليها الالهوتي إلى‬
‫وضعها الناسوتي الجديد‪ .‬أو قل إننا لم ُنحدث‪ ،‬بعُد‪ ،‬ثورتنا الكوبرنيكية‬
‫في عالم القيم‪ .‬هذا يعني أننا ظللنا نأخذ من الغرب ُم نجزاِته التقنية دون‬
‫وعٍي بأُس سها العقلية – التجريبية التي أرسى دعائمها العلُم الحديث؛ كما‬
‫ظللنا نستعيُر أشكال الحياة السياسيِة الجديدة من دون إحداث مراجعٍة‬
‫ألسس ثقافتنا التقليدية الُم تمحورة حول التعالي ومرجعية الماضي‪ .‬لقد‬
‫تَّم تحديُث مجتمعاتنا "في سياق استهالكٍّي ال إبداعي" كما ُيعِّبُر أحُد‬
‫الباحثين بحق‪.‬‬

‫كتب الُم فكر التونسي الراحل هشام جعيط في هذا الشأن قائال‪:‬‬
‫" ‪ ...‬فال ديمقراطية عندنا في كل العالم اإلسالمي‪ .‬والمسألة في‬
‫الحقيقة لها عروٌق فلسفية وثقافية‪ .‬فهي في قلب األزمة الثقافية العربية‬
‫واإلسالمية من حيُث إَّن هذه الثقافة امتنعت عن الَّتحُو ل الِقَيمي الكبير‬
‫الذي حَّف بالحداثة وهذا من منتصف القرن الثامن عشر‪ .‬فمشكلة‬
‫الديمقراطية ال تكمُن في المظاهر الخارجية من تعددية وبرلمانية‬
‫وانتخاب وغلبة األغلبية‪ ،‬بل لها عروٌق قيمَّية تمثل أساسا في قلب‬

‫‪20‬‬
‫الضمير‪ :‬وهي معنى الكرامة اإلنسانية والقناعة الداخلية بوجاهة‬
‫الديمقراطية في النخبة والجمهور واعتبار األلم اإلنساني كشر في حِّد‬
‫ذاته‪ .‬وهذه القيُم أهّم من الحرية والمساواة ألنها تشتمل عليها وتغلفها"‪.‬‬
‫فالديمقراطية‪ ،‬من حيُث الجوهر‪ ،‬هي‪ " :‬انقالٌب ذهنٌّي ثقافي ليس له‬
‫اآلن دعامة في الواقع االجتماعي والسياسي (عندنا)‪".‬‬
‫(هشام جعيط‪ ،‬أزمة الثقافة اإلسالمية‪ ،‬دار الطليعة – بيروت ط‪،3‬‬
‫‪ .2011‬ص ‪.)8‬‬
‫يضيُف الكاتب محلال أزمة العربِّي – المسلم مع الحداثة التي يمكن‬
‫قراءتها باعتبارها تجربة تحديٍث شكالني خال من األبعاد الثقافية القيمية‬
‫التي أرست دعائَم النظرة الحديثة لإلنسان والعالم قائال‪ ... " :‬لم‬
‫نستوعب البنى المادية للحداثة من حيُث أنا ننتجها‪ ،‬أو أنا استوعبناها‬
‫أقل بكثير من بقية العالم ‪ ...‬ولهذا أسباٌب من بينها – وهو أساسٌّي –‬
‫االمتناع عن التحول الثقافي بالمعنى العام‪ .‬فنحن أمعنا في األخذ بمظاهر‬
‫الحداثة السطحية‪ ،‬ولم نأخذ باألسس أو ما يشبه األسس‪ ،‬وهي ثقافية‪".‬‬
‫(نفسه‪ ،‬ص ‪.)13‬‬

‫هل يختلُف الوضُع في الجزائر عن هذه الصورة العامة ألزمة الثقافِة‬


‫العربية واإلسالمية؟ قطعا ال‪ .‬لقد تَّم بناُء الدولة الوطنية بعد حرب‬
‫التحرير من دون اجتياز المسافِة الذهنية الضرورية بين شكالنية‬
‫المؤَّس ساِت الحديثة الموروثة عن االستعمار وواقع مجتمعنا التقليدِّي‬

‫‪21‬‬
‫األبوي الذي ُز َّج به في ُح َّم ى االقتالع االجتماعي والثقافي والرمزي مع‬
‫"الثورات" الصناعية والزراعية والتي كانت فشال ذريعا على كل‬
‫المستويات‪ .‬وأعتقُد أنه يمكننا ‪ -‬بصورٍة ما ‪ -‬قراءة ُم جَم ل الهزات‬
‫الكبيرة التي شهدها مجتمُعنا منذ االستقالل من زاوية هذا الفشل‬
‫السياسي والتنموي والثقافي والتربوي في ردم الُهَّو ة بين شكالنية بناء‬
‫الدولة العصرية والمضامين الثقافية واإلنسانية التي تجعلها تقطُع مع‬
‫الماضي وأشكال التضامن التقليدية لصالح المواطنة والحقوق اإلنسانية‬
‫بالمفهوم الحديث‪ .‬ولعل الفشل كان عربيا بامتياز ال جزائريا فقط‪ .‬بل‬
‫ربما كان صينيا أيضا مع محاوالت الزعيم ماو تسي تونغ تجاوز تخلف‬
‫المجتمع الصيني الزراعي من خالل التصنيع الثقيل و"الثورة الثقافية" ‪-‬‬
‫زمن الخمسينات والستينات ‪ -‬وما تبَعُهَم ا من كوارث اقتصاديٍة وإنسانية‬
‫رهيبة‪ .‬لم تكن ثقافة الزعامة وامتهان اإلنسان ووصاية النظام األحادي‬
‫بقادرٍة على الخروج من النفق أو منافسة الغرب الليبرالي الذي اكتشف‬
‫مركزية اإلنسان وقيمة الفرد وأهمية تأسيس الحياة على الحرية بكل‬
‫أبعادها‪ .‬وبالعودة إلى التجربة الجزائرية نستطيُع أن نالحظ أَّن العجز‬
‫كان سياسيا بكل تأكيٍد ولكنه كان عجزًا فكريا وثقافيا أيضا يطال رؤيتنا‬
‫للتحديث والتي ظلت قاصرة وُم تسِّر عة وغير مستوعبٍة بشكل جِّيٍد‬
‫لشروط بناء "جمهورية ديمقراطية شعبية"‪ .‬وإال فكيف نفِّسُر ما عرفناه‬
‫من أشكال النكوص الخطيرة مع الحالمين‪ ،‬استيهاما‪ ،‬بعودة الدولة‬
‫الدينية وحكم الوصاية وُم دَّو نات الشريعة الموروثة عن العصور‬
‫الوسطى والتي لم تخضع الختبار الفحص النقدي والمساءلة الفلسفية ‪-‬‬
‫‪22‬‬
‫القانونية واإلبستيمولوجية انطالقا من فتوحات العقل الحديث وقطائعه‬
‫المعرفية والسياسية منذ أكثر من قرنين؟ لقد كانت الظاهرة اإلسالمية‬
‫األصولية منذ ثمانينات القرن الماضي‪ ،‬في اعتقادنا‪ُ ،‬م عِّبرة ال عن حالٍة‬
‫ثقافية أو موقٍف سياسٍّي وإنما عن رِّد فعل المجتمع الذكورِّي األبوي أمام‬
‫التحديِث المتوحش وغير المتوازن الذي فكك بنية العالقات وأشكال‬
‫التضامن التقليدية من دون أن يرافَق ذلك عمل تربوٌّي وانتقال هادٌئ إلى‬
‫مجتمع جديٍد تترَّس خ فيه العالقاُت المدنية الحديثة وقيُم احترام اإلنسان‬
‫باعتباره مواطنا حرًا ومسؤوال‪ .‬لم يكن األمُر هينا بالطبع وإنما أردنا أن‬
‫ننِّبَه إلى صعوبة حرق المراحل في عمليات التغيير الكبرى التي تروُم‬
‫تغييَر المجتمع أو تطبيق خطاطة "مشروع المجتمع" كما ُيعَّبُر بفجاجٍة‬
‫غالبا‪ .‬لطالما نَّبه الباحثون الطليعيون إلى أَّن الماضي ال يموُت وإنما يتُّم‬
‫كبُته كمارٍد في قمقم لُيستعاَد في شكل اعتصام بالهويِة أو األصالة متى‬
‫كشف الحاضُر عن أزماته من خالل عجز الدولة عن تقديم بدائل ناجحة‬
‫في العالقات االجتماعية واالزدهار الثقافي والَّر فاه االقتصادي وشعور‬
‫المواطن بقيمته االعتبارية في ظل توفر فرص الحياِة الكريمة وتحقيق‬
‫الذات‪.‬‬
‫هذا ما دعانا – في الكثير من األحايين – إلى التنبيه بأَّن الديمقراطية‬
‫ال ُيمكُن أن ُتختزل في لعبٍة انتخابيٍة مبتذلة وخصوصا في العالم العربي‪.‬‬
‫نعلُم جِّيدًا مدى التوُّج س من الحرية وانعدام ثقافة النقاش واالنفتاح على‬
‫النقد والرأي اآلخر والمعارضة السياسية عند الحكام العرب الذين لم يكن‬

‫‪23‬‬
‫التخلص من صفة الزعامة عندهم باألمر الهِّين‪ .‬لقد ورثوا‪ ،‬من دون‬
‫أدنى شك‪ ،‬قيمة الفحولة من وسطهم الثقافي واالجتماعي الذكوري‬
‫التقليدي‪ ،‬كما ظل من السهل لدى الكثيرين منهم لعُب دور المخلص‬
‫والُم نقذ في فتراٍت تاريخية عصيبة ُم جِّس دين بذلك اآلمال العريضة‬
‫لشعوٍب عانت طويال من إذالل االستعمار وهيمنته‪ .‬ومَّم ا زاد في تغييب‬
‫االهتمام بالمنحى الديمقراطي ‪ -‬الذي تحدثنا عن أسسه الفلسفية – هو‬
‫اعتباُر الليبرالية إيديولوجية استغاللية استعمارية ال تخدُم مسعى‬
‫مجتمعاتنا إلى االستقالل الفعلي عن المنظومة الكولونيالية وال تطلعاتها‬
‫إلى العدالة والمساواة والتنمية‪ .‬هذا ما قاد الكثيَر من البلدان العربية –‬
‫كالجزائر منذ االستقالل – إلى تبِّني نموذج "الديمقراطية الشعبية"‬
‫وآليات الحكم المركزي المعتمد على الحزب الواحد وقيادة الزعيم مع‬
‫إرجاء التفكير في المطالب المتعلقة بالحريات المدنية والحقوق‬
‫السياسية والتي كان يحلو للينين أن ُيسِّم يها "الديمقراطية الشكلية" في‬
‫مقابل "الديمقراطية الجوهرية"‪ .‬ولنا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن نتأمل في السياقاِت‬
‫التاريخية والثقافية المعَّقدة التي جعلت من هذه الطبعة االجتماعية‬
‫والشعبوية للديمقراطية طريقا للخالص األرضِّي عندنا واستجابة لـ‬
‫"غريزة القطيع" في استعادة ذكرى المهدِّي الُم نتَظر الذي سُيمِّثل‬
‫حضوُر ه بيننا شفاًء من كابوس التاريخ وظلمته‪ .‬لم يكن لذلك‪ ،‬بطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬أية عالقٍة بالحداثِة السياسية ما دامت أركيولوجيا الوعي الجمعِّي‬
‫تكشُف عن رواسب الحنين إلى أزمنة البطولة التي بإمكانها أن تخلَص‬
‫فحولتنا الجريحة من عقدة اإلخصاء أمام تحدياِت حاضر فقدنا فيه زماَم‬
‫‪24‬‬
‫المبادرة والفعل‪ .‬كأَّن ثقافتنا األلفية ‪ -‬ذات الجوهر األسطوري ‪ -‬قد‬
‫اخترقت‪ ،‬بذلك‪ ،‬قالعنا الحديثة كحصان طروادة وهي تضُع على وجهها‬
‫قناَع الحداثة السياسية الزائفة في شكلها اإليديولوجي االشتراكي‪.‬‬
‫ومن جهٍة أخرى الحظنا أَّن الخطاَب اإلسالمَّي الذي تزامن صعوُده‬
‫مع بداية التشكيك في اإليديولوجية القومية بداية السبعينات لم يكن‪ ،‬هو‬
‫اآلخر‪ ،‬قادرًا على إدراك جوهر الديمقراطية أو القبول بها دون حذر أو‬
‫بمعزل عن كونها وسيلة وأداة ُتمِّك ُن من الوصول إلى السلطة ال غير‪.‬‬
‫فالتياراُت اإلسالمية ‪ -‬على اختالفها ‪-‬ال تؤمُن بجوهر الديمقراطية القائم‬
‫على مركزية اإلنسان والسيادة الشعبية وحكم القانون الُم نبثق من‬
‫النقاش الحر واإلرادة العامة‪ .‬لقد ظل المناضل اإلسالمُّي – في العالم‬
‫العربِّي والجزائر معا ‪ -‬يعتبُر الديمقراطية فرصة وحيلة ُتتيُح له نيل ما‬
‫يريُد من أجل فرض نموذج مجتمع الوصاية الذي يحمله في مشروعه‬
‫والذي ُيضمُر حنقا واضحا على ِقيم الحداثة والتحرر والمساواة بين‬
‫الجنسين‪ .‬لقد قطع اإلسالُم – من خالل ممثلي هذا التيار – مع تاريخه‬
‫الغنِّي الزاخر بالتجارب الروحية والمغامرات الفكرية واإلبداعية ليتقلص‬
‫إلى ُم جَّرِد هوس مرضٍّي بالسلطة أو االنتقام من حركية المجتمع‬
‫التاريخية المتعثرة أمام تحديات التحديث اإليجابي المتوازن‪ .‬كان الجانُب‬
‫السوسيولوجي لإلسالم السياسِّي ‪ ،‬بمعنى ما‪ ،‬طاغيا وُم عِّبرًا عن البنيات‬
‫األكثر تقليدية للمجتمع‪ ،‬كما كان كاشفا عن رغبات االنتقام الدفينة التي‬
‫تسكُن الذكورَة الحالمة باستعادة مواقعها السابقة في صورة نوستالجيا‬

‫‪25‬‬
‫عميقٍة إلى أزمنة كانت تسودها قيُم الفحولة ومجمل عالقات اإلخضاع‬
‫التي عرفت تدهورًا ملحوظا منذ بدايات تحديثنا المتوحش‪.‬‬
‫لقد الحظ المفكُر العربُّي الراحل جورج طرابيشي‪ ،‬بحق‪ ،‬كيف أَّن‬
‫إشكالية الديمقراطية في العالم العربِّي يجب أال ُتختزل في العائق‬
‫السياسِّي الذي يمثله النظام االستبدادي‪ ،‬وإنما كذلك في العوائق‬
‫السوسيو‪ -‬ثقافية المرتبطة بالمجتمع التقليدِّي الذي يقُف حاجزا بين‬
‫اإلنسان العربِّي – فردًا كان أو جماعة – وبين تطلعاته المشروعة إلى‬
‫الحرية والتفكير والتعبير بعيدًا عن منظومة قيم المنع والتحريم التقليدية‬
‫الزجرية‪ .‬يقول‪:‬‬
‫" ‪ ...‬ولنملك الجرأة على أن نعترف‪ :‬فلئن كانت األنظمة العربية‬
‫القائمة ُتقيُم العثرات أمام اآللية الديمقراطية‪ ،‬فإَّن المجتمعات العربية‬
‫الراهنة تقيُم العثراِت أمام الثقافة الديمقراطية‪ .‬فاألنظمة العربية ال‬
‫تتحمل انتخابا حرًا‪ ،‬ولكَّن المجتمعات العربية ال تتحمل رأيا حرًا‪.‬‬
‫ومجتمع يريُد الديمقراطية في السياسة‪ ،‬وال يريدها في الفكر‪ ،‬وال على‬
‫األخص في الدين‪ ،‬وال بطبيعة الحال في العالقات الجنسية‪ ،‬هو مجتمٌع‬
‫يستسهل الديمقراطية ويختزلها في آن معا‪ .‬ومن االستسهال – كما من‬
‫االختزال – ما قتل‪".‬‬
‫(هرطقات‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت – ط‪ .3‬ص ‪.)18-17‬‬

‫‪26‬‬
‫هذا هو مداُر النقاش‪ :‬الديمقراطية ثقافة باألساس‪ ،‬وليست آلياُت‬
‫تحقيقها – كاالنتخابات مثال – إال إجراءاٍت ووسائل تمثل تتويجا قانونيا‬
‫لهاجس ترسيخ مبادئ اإلرادة العامة والحريات الفردية والجماعية‬
‫ومرجعية المجتمع في التشريع لذاته بمعزل عن أستاذية المرجعيات‬
‫التقليدية والمؤَّس سات التي تمثلها‪ .‬من هنا نفهُم كيف أَّن الديمقراطية في‬
‫عمقها‪ ،‬كما أسلفنا القول‪ ،‬ليست حيلة انتخابية أو شكال إجرائيا يؤِّسُس‬
‫لنظام حكم األغلبية كما ُيشاُع عادة بكل سذاجة‪ .‬إنها ميالُد زمن اإلنسان‬
‫الذي احتل مركز دائرة القيم وأصبح فاعال تاريخيا مع بداية األزمنة‬
‫الحديثة التي رأى هيدغر أَّن من بين مظاهرها األكثر أهمية ما سَّم اه‬
‫"عطلة اآللهة"‪ .‬لقد كان للكثير من المفكرين والفالسفة المعاصرين أن‬
‫يالحظوا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أَّن ثقافة الديمقراطية هي ثقافة االستقاللية واعتبار‬
‫اإلنسان مرجعا لذاته في كل مناحي الحياة كما تمثلت‪ ،‬بخاصٍة‪ ،‬في الفن‬
‫الحديث الذي أصبح يحتفي باإلنسانِّي ُم بتعدًا – شيئا فشيئا – عن تمثيل‬
‫اإللهِّي أو المقَّدس‪ .‬هذا ما جعل الُم ثقَف العربَّي يدرك مدى ضخامة‬
‫المشكالت المطروحة أمام المشروع الديمقراطي المتعِّثر إلى اليوم‪.‬‬
‫فالعوائق ليست سياسية فحسب كما رأينا‪ ،‬وإنما هي ثقافية واجتماعية‬
‫باألساس؛ وهو ما يكشُف عن صعوبة االنتقال إلى الديمقراطية بمجَّر د‬
‫توُفر قرارات سياسيٍة فوقية ما لم تتغَّير بنية العالقات االجتماعية ونمط‬
‫الثقافة السائدة التي ترتاب من حريات الفرد الفكرية وغيرها وتعتبرها‬
‫تهديدًا للمجتمع‪ .‬والدليل على شللنا في هذا المجال هو أَّن أنظمتنا‬

‫‪27‬‬
‫السياسية ال تزال تراوح مكانها وتعيُد إنتاَج البنيات االجتماعية الطائفية‬
‫من خالل "االنتخابات الحرة والنزيهة"‪.‬‬
‫***‬
‫كتب نيتشه في ُم ؤَّلفِه البيوغرافي الشهير "هو ذا الرجل" ‪Hecce‬‬
‫‪ homo‬قائال‪" :‬إَّن األخالَق هي سيرسه ‪ Circé‬الفالسفة"‪ .‬ويعلُم‬
‫الكثيرون أَّن سيرسه هذه هي تلك الساحرة الحسناء المذكورة في‬
‫"أوديسة" الشاعر اليونانِّي الخالد هوميروس والتي كان لديها القدرة‬
‫على تحويل البشر إلى خنازير – الشيء الذي فعلته مع بعض رفقاء‬
‫أوليس عندما نزل ضيفا عليها أثناء رحلة عودته العاصفة إلى موطنه‪.‬‬
‫لقد كان فيلسوُف "إرادة القوة" يروُم تحريَر اإلرادة وغرائز الحياة‬
‫القوية من أسر العدمية التي أوقعت األخالُق فيها اإلنساَن وكَّبلته وجعلته‬
‫ُينكُر العالَم ونداءاِت األرض ويهفو إلى الماوراء والعوالم الوهمية‬
‫المفارقة‪ .‬فهل يمكننا – على غرار الفيلسوف األلماني – أن نعتبَر بعَض‬
‫صور ثقافتنا الموروثة والَّس ائدة‪ ،‬مؤَّس سيا واجتماعيا‪ ،‬سيرسه أخرى‬
‫عربية تدِّج ُن اإلنساَن العربَّي وتكبُح ُج موَح ه ومحاوالت انفتاحه على‬
‫العالم الحديث برحابة عقل وروح؟ أال يمكننا أن ندرك كيف يتحَّو ل‬
‫اإلنساُن إلى مسخ بائس وطرٍف في معارك ُفرضت عليه منذ قرون ولم‬
‫يتمكن من إعادة النظر في شرعيتها ‪ -‬فكريا وثقافيا وإنسانيا ‪ -‬في ضوء‬
‫ما تراكم من معارف وتجارب ُم ضيئة وُم حِّر رة مع الحداثة الكونية منذ‬
‫قرنين على األقل؟ إَّن الشرنقة التي تحضُن اليرقة هي ذاتها التي تصبُح‬

‫‪28‬‬
‫عائقا لها بعد نمِّو أجنحتها‪ .‬كذلك هو الشأُن مع الهوية الثقافية والتراث‪.‬‬
‫ال نفكُر أبدًا خارج مرجعيٍة تراثية معَّينة بكل تأكيد‪ ،‬ولكننا لن نبدَع إال‬
‫بمقاومة أصداء الذات الجماعية فينا لينبثَق صوُت فردَّيتنا الُم تمِّيزة‪ .‬هذا‬
‫ما جعلني أتفُق‪ ،‬شخصيا‪ ،‬مع كل المفكرين والباحثين العرب الذين رأوا‬
‫أَّن أزمتنا الحضارية العميقة تكمُن في عدم قدرة ثقافتنا الَّس ائدة‬
‫والمكَّر سة على عتق شرارة "الكوجيتو " العربي من رماد القرون‪ .‬أقول‬
‫هذا وأنا ال أقصُد‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬استنساخ تجارب الغير دون أصالٍة‬
‫ذاتية أو حاجٍة أصيلة فينا إلى اإلعالن عن جنون الحياة وصبواتها‬
‫وتطلعاتها من خاللنا‪ .‬فضال عن هذا أقول إَّن التثاقَف اليوم أمٌر عولمٌّي‬
‫كما أَّن المرجعياِت الثقافية لم تُعد ُج زرًا معزولة عن بعضها البعض كما‬
‫كانت في الماضي وإنما هي متداِخ لة وُم ختَر قة وهجينٌة بالمعنى‬
‫اإليجابي‪ ،‬وهو ما ُيتيُح لنا أن نتكلم عن الكونية بوعي نقدٍّي يعصمنا من‬
‫السقوط في َش َر ك المركزيات المهيمنة بالطبع‪.‬‬

‫*****‬

‫إشارة‪:‬‬
‫‪ -‬نشر هذا المقال في مجلة "فواصل" الشهرية التي تصدرها مؤسسة "الشعب"‪،‬‬
‫(عدد شباط ‪ /‬فيفري ‪)2021‬‬

‫‪29‬‬
‫‪ -‬كما ُنشرت منه شذراٌت مطولة في صحيفة "الخبر" اليومية على حلقتين (‪ 26‬و‬
‫‪ 27‬تموز ‪ /‬جويلية ‪)2020‬‬

‫بَّو ابُة الَج حيم‬


‫مقِّدمة لفهم فشل العرب في استضافة الحرية‬

‫أستحضُر ‪ ،‬هنا‪ ،‬عبر هذا العنوان منحوتة الفنان الفرنسِّي العظيم‬


‫أوجست رودان التي استلهمها من عمل دانتي الشهير "الكوميديا‬
‫اإللهية"‪ .‬لقد بدا لي ذلك شيئا مشروعا – إلى حٍّد ما – في وصف النظام‬
‫السياسِّي العربي المتماسك بفعل األجهزة األمنية والزنازين ومحتشدات‬
‫االعتقال‪ ،‬فضال عن التعسف والقمع والتضييق على الحريات وتدجين‬
‫‪30‬‬
‫المجتمع المدني والتحالف مع قوى الرجعية الُم نتعشة في الداخل‬
‫وأصحاب المصالح في الخارج‪ .‬لقد اكتملت‪ ،‬بذلك‪ ،‬فصول المشهد‬
‫التراجيدِّي الذي قد يدفُع بنا أيضا إلى أن نهتَف مع زبانية دانتي عند‬
‫مدخل الجحيم‪" :‬أيها الداخلون‪ ،‬اطرحوا عنكم كل أمل!"‪ .‬نعم‪ .‬لعل العربَّي‬
‫فقد األمل نهائيا في الحرية بمفهومها الشامل بعد قرنين من اإلفاقة على‬
‫المناقشات الغنية والحركية التاريخية العظيمة التي شكلت وجه العالم‬
‫الحديث إثر لقائنا الِّص دامي باآلخر الُم ستعِم ر‪ .‬ولكنني أستدرك فأقول‬
‫إنني أعتقد‪ ،‬شخصيا‪ ،‬أَّن المشكلة في عمقها ال تتعلُق باإلنسان العربِّي‬
‫الذي خاض نضاالٍت محترمة بكل تأكيد‪ ،‬طيلة قرن ونصف قرن‪ ،‬في‬
‫سبيل التحرر الفكري والسياسي واالجتماعي محتضنا – ما أمكنه ذلك ‪-‬‬
‫برامَج عمل وتطلعات وفرتها توجهاٌت فكرية وإيديولوجية مختلفة‪ .‬من‬
‫هنا ضرورة البحث في مجمل العوائق الموضوعية التي ُتبقي زمننا‬
‫الثقافَّي راكدًا ونضاالتنا المشروعة كضربة سيف في الهواء‪ .‬فما الذي‬
‫حول اآلمال العريضة إلى تسليم باألمر الواقع؟ ما الذي كان في أساس‬
‫االنتكاس والتراجع؟ ما الذي جعلنا نشعُر بالُيتم من أبوة التاريخ موقظا‬
‫فينا نوستالجيا األبدية والتوق إلى حضن األب الغائب؟ لماذا طوينا‬
‫الِّشراَع ولم نُعد نصادُق البحار ونداءات الجزر البعيدة ُم كتفين باالعتصام‬
‫بحكمِة الِّر واقِّي القديم؟‬
‫لن يكون بإمكاننا‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬اإلجابة عن أسئلٍة مرعبة مماثلة‬
‫ترتبط بمصير ثقافٍة بأكملها وشعوٍب تشعُر ‪ ،‬بنوع من حِّس الفجيعة‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫بأنها تعيُش سقوطا متواصال ال ينتهي وغيابا عن مأدبة العالم الذي‬
‫َتصنُع أقداَر ه مغامراُت المعرفة وإرادة القوة والهيمنة‪ .‬ولكننا نجُد أنفَس نا‬
‫ُم رغمين على التساؤل حول غياب قيمة الحرية بكل أبعادها الوجودية‬
‫والحقوقية والسياسية عندنا‪ ،‬وعن السياقات المعقدة التي خنقت جذوة‬
‫التغيير في حياتنا‪ .‬لعل هذه المشكلة الضخمة ال ترتبط‪ ،‬كما ألمحنا إلى‬
‫ذلك‪ ،‬بالفرد العربِّي وإنما باألبنية االجتماعية والتمثالت الثقافية الَّس ائدة‬
‫والمؤَّس سات الراسخة‪ ،‬كما تجُد لها سندًا أيضا في عالقات االستتباع‬
‫واستراتيجيات الهيمنة التي ُيقيمها معنا نظاٌم دولٌّي براغماتي ال يرى‬
‫فينا إال سوقا استهالكية ومناطَق نفوذ ومصادر طاقة‪.‬‬
‫***‬
‫تعرُف قضية الحرية التباسا كبيرًا في عالمنا العربي – اإلسالمي‬
‫نظريا وعمليا‪ ،‬فكريا وقانونيا‪ .‬يرجُع هذا األمُر ‪ ،‬ربما‪ ،‬إلى تشابك القضية‬
‫مع ُم عطيات التاريخ والموروث االجتماعي ‪ -‬الثقافي من جهة‪ ،‬ومع‬
‫إشكاالت الحداثة والعصرنة السياسية المرتبطة ببناء الدولة الوطنية‬
‫الحديثة من جهة أخرى‪ .‬لذا نعتقُد‪ ،‬فعال‪ ،‬أَّن الحرية ليست قضية نظرية‬
‫فحسب بقدر ما هي تصور يرتبط بأبنية الفكر والثقافة التاريخية‬
‫الُم تجذرة والرؤية الثقافية العامة التي تقوُم عليها شرعية السلوك‬
‫والنظر‪ .‬من هنا نفهُم كيف أَّن الحرية – بمفهومها الحديث الذي رسخته‬
‫الحداثة الظافرة في الغرب منذ "عصر األنوار" تحديًد ا – ظلت تعاني من‬
‫غربتها الثقافية والتاريخية عن ُم جتمعاتنا التي لم تعرف نفس الحراك‬

‫‪32‬‬
‫التاريخي الذي عرفتُه الضفة األخرى من البحر الُم توسط‪ .‬هذا األمر‬
‫يبِّيُن ‪ ،‬بكل تأكيد‪ ،‬كيف أَّن القيم ال ترتبط بسماء المعقوالت وإنما‬
‫بالسياقات التاريخية للتحول االجتماعي وبالمطالب الناشئة ضمن‬
‫ديناميكية إعادة ترتيب عالقات القوة في الُم جتمع‪.‬‬
‫وكمثل الحرية نجُد االستبداَد كذلك ال يمثل وضعا مفارقا للتاريخ‬
‫وللوعي بالحرية باعتبارها انعتاقا مشروعا عما ُيعتبُر سلبا لكرامة‬
‫اإلنسان‪ .‬لقد عاشت البشرية عهوًد ا طويلة على أوضاع كانت تشِّر ُع‬
‫للخضوع والطاعة والرؤية الثقافية التي تكرُس التراتب الهرمي‬
‫للمجتمع وعالقات اإلخضاع‪ .‬كان االستبداُد‪ ،‬بالتالي‪ ،‬غيَر ُم فكر فيه‬
‫باعتباره وضعا غير إنساني وإنما ظل‪ ،‬في أحايين كثيرة‪ ،‬يحظى بميزة‬
‫خاصة باعتباره أمرًا طبيعيا ومشروعا وسالحا ضَّد إمكان السقوط في‬
‫الفتنة‪ .‬وإذا رجعنا إلى األدبيات السياسية العربية – اإلسالمية في‬
‫العصور الوسطى وجدنا هذا األمَر في مصنفات الالهوت السياسي‬
‫واآلداب السلطانية المعروفة‪ .‬وربما استطعنا أن ننتبه أيضا إلى أَّن‬
‫الحرية لم تكن ُم فكرًا فيها انطالقا من مفهوم اإلنسان باعتباره فردا يملك‬
‫حقوقا طبيعية ال ُتنتهك‪ ،‬وإنما ظلت ُم رتبطة دائما بنظام الفكر الالهوتي‬
‫الباحث عن عالقة الفعل البشرِّي بالخلق اإللهي‪ .‬لم تكن الحرية مفهوما‬
‫يرتبط بوجود اإلنسان السوسيو‪ -‬سياسي وإنما بالالهوت‪ .‬لم تكن حقا‬
‫وإنما ُح َّج ة على العدل اإللهي أو القدرة اإللهية كما نجُد في الفكر الكالمي‬
‫اإلسالمي منذ بواكيره في العصر األموي‪ .‬ومن المعروف أَّن الفكَر‬

‫‪33‬‬
‫العربَّي لم يتعَّر ف على هذا المفهوم الحديث للحرية إال بعد "صدمة‬
‫الحداثة" كما ُيعَّبر‪ ،‬وهذا بعد اللقاء اإلشكالي باآلخر الُم ستعِم ر الذي أنجز‬
‫حداثته األولى وثوراته المعرفية والسياسية الليبرالية‪ .‬هكذا كانت النخب‬
‫العربية منذ ما ُس ِّم ي "عصر النهضة" مأخوذة بالُم نجز الليبرالي الغربي‪،‬‬
‫وظلت ترى فيه النموذج الحضاري الذي بإمكانه أن ُيخرَج الذات الُم نهكة‬
‫من عطالتها الحضارية‪ .‬هنا نعثُر على بوادر الفهم األول للحرية‬
‫باعتبارها حرية الفعل والتفكير والحق في االزدهار الشخصي‬
‫والُم شاركة في الحياة العامة واستخدام العقل في مقابل التقاليد الَّر اسخة‬
‫والُم ؤَّس سات التي تمثلها‪.‬‬
‫كتب المفكر المغربي عبد هللا العروي في هذا موضحا ومحلال‪:‬‬
‫" ‪ ...‬إَّن المفاهيَم التي يلجأ إليها الفقه وعلُم الكالم والتي تقترب من‬
‫مفهوم الحرية كما نتصَّو ره اآلن تدور كلها حول الفرد وعالقته مع نفسه‬
‫وخالقه وأخيه في اإلنسانية‪ ،‬فهي قانونية أخالقية‪ ،‬أما مفهوُم الحرية‪،‬‬
‫كما تصَّو ره القرن التاسع عشر وكما ورثناه عنه كليا أو جزئيًا‪ ،‬فإنه‬
‫يدور حول الفرد االجتماعي‪ ،‬أي الفرد كمشارك في هيئة إنتاجية‪ .‬كان‬
‫المجال التنظيمي اإلنتاجي هو مصب اهتمام الليبراليين وهذا المجال‬
‫بالضبط هو الذي يختفي في االستعمال اإلسالمي التقليدي ‪ ...‬يمكن إذن‬
‫أن ُنفِّر َق بين حرية نفسانية ميتافيزيقية‪ ،‬يتناولها الفكُر اإلسالمي‬
‫بالتحليل‪ ،‬وبين حرية سياسيٍة اجتماعية‪ ،‬ينكُّب عليها الفكر الليبرالي‬
‫ويحصر فيها كل تساؤالته ومناقشاته‪".‬‬

‫‪34‬‬
‫(مفهوم الحرية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ .‬ط ‪ .2002 ،6‬ص ‪.)17‬‬
‫يَّتضُح ‪ ،‬انطالقا من ذلك‪ ،‬أَّن للتفكير في الحرية عندنا ‪ -‬باعتبارها حقا‬
‫سياسيا وكيانيا لإلنسان ‪ -‬منشأ تاريخيا ارتبط بذلك اللقاء باآلخر الغربي‬
‫الحديث‪ .‬من هنا طفقنا ُنديُن االستبداَد السياسي وُنبّش ُر بضرورة عتق‬
‫العقل من مرجعيات الماضي ومن تقاليد الفكر الموروثة؛ كما طفقنا نحلُم‬
‫بدساتير ُتحّدُد الحقوق اإلنسانية والواجبات وتجعل من السلطان‬
‫السياسي تعبيرًا عن اإلرادة العامة في العيش الُم شترك واالزدهار‬
‫والمناعة‪ .‬كان هذا في العهد الليبرالي الذي تعَّر ف على فولتير وروسو‬
‫ومونتسكيو ومبادئ الثورة الفرنسية‪ .‬ولكَّن تعقيد التاريخ أجهض هذه‬
‫األحالم أو قل ضَّيق من فرص نجاحها‪ .‬فقد كانت تبدو يوتوبيا ارتبطت‬
‫بتطلعات النخب التي درست في الخارج وأرادت فرض نموذجها الطليعي‬
‫التقدمي على ُم جتمعات ظلت‪ ،‬في بنياتها األساسية‪ ،‬بطريركية ‪ -‬تقليدية‬
‫ُتمارُس نوعا من الُم مانعة أمام كل ُم حاوالت التغيير كما هو معروف‪.‬‬
‫ولكن تجُب اإلشارة إلى أَّن الليبرالية شكلت مهدًا للحديث عن الدستور‬
‫والحقوق المدنية الحديثة ومن بينها الحرية بمفهومها الشامل كما‬
‫أَّس ست لها النزعات الفردانية الُم نبثقة في الغرب الحديث منذ القرن‬
‫السابع عشر‪ .‬نجُد هذا عند لطفي السيد وطه حسين تمثيال ال حصرًا‪.‬‬
‫يواصل األستاذ العروي عرَض ه لسياق استقبال المفهوم الليبرالي‬
‫للحرية عند النخب العربية منذ بواكير النهضة قائال‪:‬‬

‫‪35‬‬
‫" تقُّر الليبرالية في صورتها الُم بَّس طة أَّن الفرَد هو أصل المجتمع‬
‫وأَّن الحرية حقه البديهي والطبيعي ‪.‬ال تطرُح أبدًا الحرية كمشكل‪ ،‬بل‬
‫تسجلها فقط كظاهرٍة طبيعية تابعة لوجود الفرد على وجه األرض‪.‬‬
‫وهكذا ُتنزُع الحرية من مجال المساجالت الفلسفية لتوضَع في حِّيز‬
‫السياسة التطبيقية واالقتصادية‪ ،‬أي في نطاق التاريخ والتطور‪ .‬إَّن‬
‫قانوَن التاريخ اإلنساني هو أن يحافظ الفرُد داخل المجتمع على الحقوق‬
‫التي كان يتمتع بها كفرد قبل تأسيس المجتمع‪ .‬يملك الفرُد بالبديهة‬
‫سلطانا مطلقا على ذاته‪ ،‬أي على جسمه وذهنه وحركته‪ .‬له إذن حقوٌق‬
‫كاملة ودائمة تتعلُق باالعتقاد والرأي والكسب والملكية ‪ ...‬هذه هي‬
‫الخطوط العريضة للمنظومة الليبرالية التي كانت تغذي أذهاَن الكتاب‬
‫والصحفيين والسياسيين في القرن الماضي‪ .‬من الواضح أَّن المجتمع‬
‫اإلسالمي القائم آنذاك كان يتعارُض في كل نقطٍة مع البرنامج الليبرالي‪.‬‬
‫‪ ...‬إَّن مفكري جيل محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدين‬
‫التونسي‪ ،‬وكتاب جيل لطفي السيد وطه حسين وحسين هيكل وطاهر‬
‫الحداد‪ ،‬قد تأثروا بالمنظومة الليبرالية التي لخصنا خطوطها العريضة‪.‬‬
‫إنهم جميعا ال يضعون قضية الحرية في إطار فلسفي وال يبحثون عن‬
‫أصلها ومداها‪ ،‬وإنما يكتفون بوصفها والمطالبة بها‪".‬‬
‫(نفسه‪ ،‬ص ‪.)49-48-47‬‬
‫كانت َس ورة المطالبة بالحرية في أبعادها السياسية والمدنية‬
‫واالجتماعية عند جيل الرواد المذكور تمثل مرحلة رومانطيقية حالمة‬
‫‪36‬‬
‫باالنعتاق التاريخِّي من "االنحطاط" و"االستبداد" و"التقليد" إلى آفاق‬
‫التحرر الفعلي ومواكبة حركية العالم المتحضر الذي دشن عهَد حداثِة‬
‫العقل والعلم واألنسنة والحياة البرلمانية التعددية والدستور الضامن‬
‫للحقوق والحريات‪ .‬كانت مرحلة رومانطيقية بهَّية لم ُيَتح لها من النجاح‬
‫واالنتشار واالستمرارية ما يجعلها تتجذر في الواقع العربي ألسباب‬
‫سوسيو – ثقافية وتاريخية جعلت بعض القوى التي استلمت السلطة‪،‬‬
‫فيما بعد‪ ،‬ترى فيها حركة نخبوية متحالفة مع الطبقات اآليلة للزوال‪.‬‬
‫***‬
‫ال ُيمكننا أبدًا تناول مسألة حضور الحرية في الدساتير العربية‬
‫والغربية من دون ُم قاربة تاريخية تقرأ هذا األمَر ضمن سياق من‬
‫التحوالت والِّص راعات التاريخية التي انبثقت معها مشروعية هذه القيمة‬
‫اجتماعيا وسياسيا وثقافيا‪ .‬فنحُن نعرُف مثال كيف أَّن مسألة الحقوق في‬
‫الغرب الحديث مَّر ت بلحظتين كبيرتين‪ :‬اللحظة الليبرالية التي تمحورت‬
‫حول حقوق الفرد وتأسيس فكرة الُم واطنة على أساس من العقد‬
‫االجتماعي؛ واللحظة االشتراكية التي تمحورت حول حقوق الجماعات‪.‬‬
‫ظل هذا األمُر تجسيدًا لصراع إيديولوجٍّي طبع القرن العشرين وتجلى في‬
‫دساتير الغرب وهو ينقسُم على نفسه عقائديا انطالقا من رافدين‬
‫تاريخيين كبيرين‪ :‬جون لوك وروسو وميراث عصر األنوار من جهة‪،‬‬
‫وكارل ماركس من جهة ثانية‪ .‬ونالحظ في عالمنا العربي أنه بعد أن‬
‫عرفنا الدستور الليبرالي الذي ركز على الحقوق ومن بينها الحرية كان‬

‫‪37‬‬
‫لنا أن ندخل ُم غامرة إيديولوجيا "الثورة العربية" بتلويناتها القومية‬
‫واالشتراكية التي ولدت بعد مخاض الِّص راع مع الغرب األمبريالي ومع‬
‫بنيات الرجعية العربية اآلفلة‪ .‬هكذا احتل االهتماُم بالعدالة والمساواة‬
‫والتنمية والبناء القومي كل الفضاء الُم خصص للحقوق على حساب‬
‫الحرية الفردية بكل تجلياتها‪ .‬وهكذا شهدنا‪ ،‬أيضا‪ ،‬نمذجة الفكر وقمع‬
‫الحرية الفكرية‪ .‬كان هذا استبدادًا معاصرًا يختفي وراء غنائية العدالة‬
‫والمساواة وهو ما جَّس دتُه األنظمة العربية في أشكالها القومية والبعثية‬
‫تحديدا‪ .‬ولكَّننا نعلُم ‪ ،‬بكل أسٍف ‪ ،‬ما آلت إليه تجارُبنا تلك من فشل‬
‫وانتكاس على المستويات السياسية والعسكرية واإلنسانية والحقوقية‬
‫معا‪ .‬لم تكن نوايا النخب السياسية العربية كافية النتشال حياتنا من‬
‫التخلف والتبعية من دون ثمن باهظ في غالب األحيان‪ .‬لقد نجحنا‪ ،‬بمعنى‬
‫ما‪ ،‬في إنتاج طبعٍة عربية فقيرة من الشمولية التي ظلت – تحت‬
‫سماواٍت أخر – تنتظُر "الصباحات التي تغني" أو‪ ،‬إن شئنا تعبيرًا أكثر‬
‫دقة‪ ،‬تلك التي أصابها الخرس‪ .‬وربما لم يكن كارل بوبر مخطئا في نقده‬
‫للتاريخانية والمجتمع الشمولي ودفاعه عن "المجتمع المفتوح" عندما‬
‫كتب‪" :‬إَّن أفضل النوايا إلقامة الجَّنِة على األرض إنما تنجُح فقط في‬
‫جعلها جحيما – ذلك الجحيم الذي يجِّهزه اإلنساُن ألخيه اإلنسان‪".‬‬
‫لقد ظلت الحرية بهذا المعنى – منذ نصف قرن على األقل ‪ -‬ذات‬
‫حضور ُم حتشم في الحياة السياسية العربية وفي الدساتير التي قامت‬
‫على األحادية الحزبية‪ ،‬وركزت على مبدأ السيادة واالستقالل وعدم‬

‫‪38‬‬
‫الركون إلى إيديولوجيات الغرب الفرداني ‪ -‬الليبرالي الُم عادي لحرية‬
‫الشعوب واستقاللها التاريخي من التبعية الموروثة عن األزمنة‬
‫الكولونيالية‪ .‬ظل الفرُد العربُّي غائبا عن تشكيل مالمح مصيره لغياب‬
‫الُم جتمع المدني الذي لم نكتشف ضرورته العظيمة إال بعد انهيار‬
‫المنظومة اإليديولوجية االشتراكية أواخر القرن العشرين‪ ،‬ما عجل‬
‫بالمطالبة بدساتير مدنية حديثة تعترف بالتعددية السياسية والفكرية‬
‫وبحق المشاركة السياسية للمواطن العربي في الشأن العام على غرار‬
‫ما شهدنا في الجزائر بعد انتفاضة تشرين األول (أكتوبر) ‪ .1988‬كذلك‬
‫يجُب أال ننسى أَّن بعض الدول العربية ال تملُك‪ ،‬إلى اليوم‪ ،‬دساتيَر تضمُن‬
‫المواطنة وتحّدُد حقوق الفرد العربي وواجباته‪ ،‬وإنما تعتمُد على سلطة‬
‫التقاليد الموروثة وحكم العائلة وفضائل الوفرة المالية البترولية في‬
‫اجتراح آفاق تنمية تخلو‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬من ُبعدها اإلنسانِّي العميق‪.‬‬
‫مما ال شك فيه أَّن الغرب ظل الُم لهَم الوحيد للفكر السياسي الحديث‬
‫منذ ثوراته السياسية الكبيرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر في‬
‫أنكلترا وفرنسا تحديدًا‪ .‬لقد تحَّددت‪ ،‬تبعا لذلك‪ ،‬فلسفة الحكم باعتباره‬
‫أمرًا يقوم على اإلرادة العامة والتعاقد االجتماعِّي ‪ ،‬وعلى فلسفة لحقوق‬
‫اإلنسان الطبيعية التي يجُب صونها وعدُم انتهاكها‪ .‬هذا هو الجذُر‬
‫التاريخُّي والفلسفي لدساتير الغرب الذي قطع مع الالهوت السياسِّي‬
‫وهيمنة الكنيسة والصراع الطائفي ودشن عهد العلمنة السياسية‬
‫والحقوق الُم تساوية والُم واطنة الكاملة لجميع أفراد الشعب‪ .‬لقد استقلت‬

‫‪39‬‬
‫السياسة عن الُبعد العقدي وترَّس خت الحرية باعتبارها جوهَر الكائن‬
‫اإلنساني – األمر الذي أخذ أبعادًا أخرى فيما بعد‪ ،‬اجتماعيا واقتصاديا‬
‫وثقافيا أيضا‪ ،‬مع حركات االحتجاج الكبيرة التي مثلها الجناح االشتراكي‬
‫لتطور الحقوق في مجابهة انحرافات الليبرالية التاريخية‪ .‬ولكَّن الشيء‬
‫الذي الحظناه في عالمنا العربي ‪ -‬منذ قرنين تقريبا – هو تلك الُم مانعة‬
‫السوسيو ‪ -‬ثقافية لُم حاوالت التغيير واالنتقال إلى الحداثة الحقوقية‬
‫واالجتماعية والسياسية‪ .‬لقد ظل تاريخنا الباطني المرتكز على بنية‬
‫الُم جتمع العربي البطريركية ‪ -‬الذكورية في جوهرها سدا منيعا أمام‬
‫التجديد االجتماعي والسياسي‪ ،‬وظل التغيير ُيراوُح مكانه داخل دائرة‬
‫الفعل الثقافي واإلبداعي دون أن يتجذر‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬في بنية الوعي‬
‫الثقافي العام‪ .‬من هنا سيادة االستبداد في الحياة العربية‪ ،‬وهو استبداٌد ال‬
‫يرجُع في عمقه‪ ،‬على ما نرى‪ ،‬إلى أهواء الُم ستبد العربي فحسب وإنما‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬إلى أسس الثقافة السائدة اجتماعيا في ارتباطها ببنياٍت‬
‫سوسيولوجية قائمة على اإلخضاع وبنية العالقات الهرمية التي تعيُق‬
‫انبثاق الفرد‪ .‬ونحُن نعلُم أَّن ثورات "الربيع العربي" التي أزاحت الُم ستبَّد‬
‫العربي لم تستطع أن تدشن عهدا جديدًا كليا في مسائل الحقوق‬
‫والحريات وقضايا وضع المرأة والدولة المدنية‪ .‬فقد خرج مارُد‬
‫األصولية من قمقمه ُم جَّددا وأصبح ُيهدد‪ ،‬كعادته‪ ،‬كل مسعى إلى‬
‫الديمقراطية الفعلية التي قام من أجلها التمرُد الشبابي‪ .‬ونحُن نرى –‬
‫انطالقا من ذلك – أَّن الِّديَن السياسي عندنا مظهٌر من مظاهر شهوة‬
‫الهيمنة على مقادير الُم جتمع وقد لبس عباءة الُم قَّدس في ُم واجهة خطر‬
‫‪40‬‬
‫التغيير الذي تنشُده الفئاُت األكثر تقدما في الُم جتمع العربي وبخاصة‬
‫الشباب‪ .‬ولعله من الفاجع‪ ،‬بعد كل ذلك‪ ،‬أن نتساءل مع أدونيس الذي‬
‫تأمل في االنتفاضات العربية وكوابحها عندما كتب غاضبا‪" :‬ما تكوُن‬
‫ثورٌة ال تقدُر أن ُتنتَج إال ما تنبغي الثورة عليه؟"‪.‬‬
‫من المعروف أَّن الئحة الُح ريات ضيقة في عالمنا العربي وإن كان‬
‫هناك تفاوٌت بين بلٍد وآخر في هذه المسألة‪ .‬ولكننا ما زلنا نالحظ أَّن‬
‫بعض الحريات األساسية التي ترَّس خت في الغرب ال تزال ُتعتَبُر "تابو"‬
‫عندنا كحرية المعتقد وحرية التفكير والتعبير والحق في المعارضة‪ .‬هذا‬
‫ما يكشُف عن بعض مآزقنا الثقافية التي لم نفصل فيها إلى اليوم في ظل‬
‫غياب تفكير جدي في قضية العلمنة اإليجابية‪ ،‬وفي ظل إصرارنا على‬
‫وضع دساتير تبدو حديثة في ظاهرها وإن كانت تخفي إرادة تأبيد‬
‫االنقسام الطائفي في ُم جتمعاتنا أو تكريس هيمنة الطائفة الغالبة‪ .‬ولكَّن‬
‫هذا األمر نفسه يكشُف عن عجز فكرنا‪ ،‬إلى اليوم‪ ،‬عن تناول الُم شكالت‬
‫خارج مدار العقل الديني ‪ -‬الفقهي الذي لم يتجَّدد بصورة كافية منذ‬
‫قرون‪ .‬وربما أشار هذا إلى غياب التجديد في مرجعية عمل الُم جتمع‬
‫وبقائها أسيرة لثنائية العسكرِّي والُم عَّم م‪ ،‬أو االستبداد والماضوية‪.‬‬
‫***‬
‫ما الذي يجعلنا – عبر امتداد العالم العربي – نعتقُد‪ ،‬عمقيا‪ ،‬أَّن‬
‫الحديث عن الحرية هو كمثل الحديث عن أحجيٍة "ُك ِتبت بماء"؟‬

‫‪41‬‬
‫هذا‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬ما يجب أن يشكل مداَر تفكيرنا لعقوٍد أخرى‪ .‬ولكن‬
‫من المؤكد أَّن األمل لن يزدهَر أبدًا على أعتاب "بوابة الجحيم"‪.‬‬

‫*****‬

‫إشارة‪:‬‬
‫الملحق الثقافي األسبوعي "كراس الثقافة"‪ ،‬صحيفة "النصر" اليومية (‪ 18‬آب ‪/‬‬
‫أوت ‪)2020‬‬

‫رقعُة القول ‪ ...‬رقعة الُو جود‬


‫‪42‬‬
‫"بقدر ما تضيُق‬
‫رقعة القول‪،‬‬
‫تضيُق رقعة الوجود‪".‬‬
‫أدونيس‬

‫* وطني هو اللغة العربية‬


‫توقفُت مليا عند ما كتبه فرناندو بيسوا في (كتاب الالطمأنينة) متحدثا‬
‫عن لغته األم ‪" :‬ال أملك أَّي نوع من المشاعر السياسَّية أو االجتماعية‬
‫إال أنني أملك‪ ،‬بمعنى من المعاني‪ ،‬شعورًا وطنيا عاليا جدا‪ .‬أما وطني‬
‫فهو اللغة البرتغالية "‪ .‬أجل‪ .‬أعتقُد‪ ،‬أنا أيضا‪ ،‬أَّن وطَن المبدع الحقيقَّي‬
‫هو اللغة‪ .‬وربما كان من قبيل العبث أن يتعَّر ف الكاتُب أو الفناُن على‬
‫نفسه في ما يفرضه عليه الخارُج من قضايا وإشكاالت‪ ،‬أو في ُص ور‬
‫االلتزام التي تمِّيُز المثقفين والمناضلين عادة ال الكتاب أو الفنانين‬
‫بالمعنى العميق للكلمة ‪.‬ال يمكُن ‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬أن تكوَن عالقة الكاتب‬
‫باللغة كعالقته بأية أداٍة أو وسيلٍة ترتبط بالمنفعة المباشرة أو المردود‬
‫والنتائج والنجاح العملي‪ .‬نعم‪ .‬اللغة بالنسبة للمبدع ليست وسيلة‬
‫تواصل فحسب‪ .‬إنها الكيان‪ .‬الهوية‪ .‬البيُت الجماعُّي الذي تضيئه‬
‫الحكاياُت التأسيسَّية األولى‪ .‬إنها وطٌن بحجم الذاكرة والوجود وقد أصبح‬
‫‪43‬‬
‫يتكلُم خالعا على األشياء بردَة األسماء‪ .‬اللغة‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬ذاكرة‬
‫وانتماٌء ثقافي وحضاري أيضا‪ .‬إنها بيٌت يضج بأصداء الذات الجماعية‬
‫ورموزها وحكاية إفاقتها على حادثة الكينونة في بيت التاريخ‪ .‬من هنا‪،‬‬
‫ربما‪ ،‬أفهُم جّيدًا كيف أَّن الكثيَر من المبدعين – من بينهم صديقي الكبير‬
‫أدونيس –ال يتصورون وجوَد كاتٍب عظيم ُيبدُع بلغتين أو أكثر‪ .‬كما ال‬
‫يتصورون أيضا – وربما يكون هذا قابال للنقاش – وجوَد شعب واحٍد‬
‫بلغتين‪ .‬يقول مثال‪" :‬اللغة كالحب تجمُع وتوِّح د‪ .‬في ضوء هذه الحقيقة‪،‬‬
‫كثيرًا ما أتساءل كيف ُيحُّب ويبدُع شعٌب تتقاسمُه عَّد ُة لغات؟" (فاتحة‬
‫لنهايات القرن‪ ،‬دار التكوين‪ ،‬دمشق‪ .‬ص ‪.)105‬‬

‫ربما تتفوُق هنا أيضا‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬اللغة على الجغرافيا والمكان‬
‫واألرض في تحديد الهوية بمفهومها العميق على اعتبار أنها ما تتمَّيز‬
‫به الذات عن اآلخر‪ .‬إذ ترتبط اللغة بالمحمول الثقافي المتميز والتراث‬
‫الُم شترك وتجربة الوجود وتكوين الذات التاريخية لألمة كما تعكس رؤية‬
‫خاصة للعالم‪ .‬وفعال ال وجوَد ألمٍة بلغتين على األقل كما يخبرنا التاريخ‪.‬‬
‫اللغة الواحدة بيُت الكينونة التاريخية الواحدة ومنبُت التطلعات‬
‫المشتركة‪ .‬هذا ما يجعلنا نعتقُد أَّن االنشقاَق اللغوَّي يجعل من الشعب‬
‫ُج زرًا توَص ُد دون تواصلها ولقائها األبواب‪ .‬قد نختلُف فكريا وإيديولوجيا‬
‫وسياسيا ولكننا نتناقُش ضمن البيت اللغوِّي الواحد دون أن نشعَر أَّن‬
‫بيننا جدرانا ما دمنا ننهل من ذاكرٍة مشتركة ونتموقُع في سياق تاريخ‬

‫‪44‬‬
‫واحد من المشكالت والرؤى والتطلعات وتباين وجهات النظر‪ .‬أما مع‬
‫االختالِف اللغوِّي فثمة جدراٌن تنتصب وقد يستحيل معها أن نشعَر‬
‫باالنتماء إلى شعٍب واحد‪ .‬إذ "حيُث ال تكوُن لغة واحدة بين الشخص‬
‫واآلخر‪ ،‬ال يكون بينهما غير الصمت‪ .‬يكوُن بينهما انفصال" كما يضيف‬
‫أدونيس أيضا‪ .‬وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن تتشكل األمُم الحديثة‬
‫في أوروبا على أساس من وحدة اللغة بوصفها ما يجمع ويوِّح د‪ .‬بل إَّن‬
‫الفكَر القومَّي الحديث ال يمكُن فهمه بمعزل عن التأكيد على عاملي اللغة‬
‫والتاريخ المشترك وهو ما أعقبه‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬قيام الدول الوطنية على‬
‫أنقاض آخر األمبراطوريات التي كانت تنضوي تحتها شعوٌب وقومياٌت‬
‫كثيرة في أوروبا‪ .‬كما أَّن األمم التي لم يكن بإمكانها تكوين الدولة –‬
‫األمة على أساس من اللغة الواحدة لم تجد أمامها إال اعتماد الحل‬
‫الفيدرالي اتقاًء للتصدعات التي يمكُن أن تشكل بواعَث لالنفجار في أية‬
‫لحظٍة ‪ .‬كان على الحل الفيدرالي أن يُم َّد الجسور ويجمع الضفاف‬
‫المختلفة ألسنيا ضمن مفهوم اتحادٍّي عن األمة‪ .‬ولكَّن الجديَر بالذكر‬
‫هنا‪ ،‬فضال عن دور اللغة الُم شار إليه‪ ،‬ما للحاضر أيضا من أهمية في‬
‫تشكيل األمة واستمرارها وهو ما أشار إليه ‪ -‬ذات تأمل وجيٍه ‪ -‬إرنست‬
‫رينان تحت ُم سَّم ى "الرغبة في العيش المشترك" في إشارة إلى‬
‫سويسرا أو المملكة البلجيكية على سبيل التمثيل‪ .‬يبقى أن ُنشيَر ‪ ،‬أيضا‪،‬‬
‫كيف يكشُف التاريخ أَّن محاوالت تشكيل األمم استنادًا إلى اإليديولوجيات‬
‫الثورية أو بعض صور فلسفة العقد االجتماعي الحديثة لم تتمكن من‬
‫الصمود أمام انفجار قارة المكبوِت الهوياتِّي لحظة تفكك تلك‬
‫‪45‬‬
‫اإليديولوجيات أو فشل الدولة تنمويا أو سياسيا في تحقيق العدالة‬
‫والمساواة وضمان شروط المواطنة التي بإمكانها رأب التصدعات أو‬
‫تأجيل يقظة مارد المكبوت الُم شار إليه‪ .‬بلدان البلقان‪ ،‬بداية التسعينات‬
‫من القرن الماضي‪ ،‬نموذٌج صارخ ومأساوٌّي بخصوص ما أتينا على‬
‫ذكره‪ .‬ولعل في هذا األمر‪ ،‬أيضا‪ ،‬ما قد ُيضيُء تجاربنا في العالم العربِّي‬
‫في هذه اللحظة العولمية ونحن نشهد تراجَع دور الدولة المركزية ويقظة‬
‫المطالب الثقافية العالقة والُم غَّيبة منذ االستقالل‪.‬‬
‫إنني أجدني‪ ،‬هنا‪ ،‬مضطرًا إلى الحديث‪ ،‬ولو بصورٍة مقتضبة‪ ،‬عن‬
‫االرتجالية والحماسة اللتين رافقتا‪ ،‬مثال‪ ،‬جهوَد المناضلين من أجل‬
‫ترسيم ما تَّم تعميُده باسم "اللغة األمازيغية" في الجزائر وكأنها فعال لغة‬
‫واحدة موحدة ال مجموعة من المتغيرات اللسانية الشفوية‪ ،‬اإلقليمية‬
‫والجهوية‪ ،‬التي ميزت الفضاء الشاسع لشمال إفريقيا وظلت بعيدة عن‬
‫الكتابة والثقافة العالمة وعن العقل المركزِّي األمبراطوري الُم نتج‬
‫للمعنى التينيا أو عربيا عبر القرون‪ .‬لقد كان من الممكن تناول بعض تلك‬
‫المطالب الثقافية واللغوية ديمقراطيا‪ .‬ولكَّن عسَف نظام األحادية‬
‫اإليديولوجية عندنا باسم الُبعد القومِّي العربي ‪ -‬بعد االستقالل ‪ -‬أيقظ‬
‫ردوَد أفعال كثيرة وصدامات دامية مع السلطة‪ ،‬ورفع هذه المطالب‪ ،‬عند‬
‫البعض‪ ،‬إلى مستوى القضية المحورية في إطار المصالحة مع الذات‬
‫والتاريخ من خالل االعتراف بالهوية البربرية‪ .‬وكما هو معروٌف لم يكن‬
‫أمام النظام الجزائرِّي – الذي ضَّيع الكثير من ُفرص إمكان التناول‬

‫‪46‬‬
‫العلمي والمتدرج لقضايا الحقوق الثقافية منذ عشريات ‪ -‬سوى أن يسعى‬
‫إلى كسب جولة في عملية ترميم شرعيته المتآكلة من خالل االعتراف‬
‫باللغة "األمازيغية" لغة وطنية ورسمية مغامرًا – تحت الضغط ‪ -‬إلى‬
‫تعميم تدريسها حتى قبل أن تتوَّح َد لهجاتها وُيعرف الحرف الذي ُتكتب‬
‫به‪ .‬ظلت سياسة الهروب إلى األمام تكتيكا يراكُم المشكالت وُيضِّيُق من‬
‫إمكان معالجتها بصورة هادئة‪ .‬هذه حال الفوضى التي يتمخُض عنها‬
‫الشأن المتعلُق بالمكبوت الثقافِّي عندما ال ترافقه بصيرة العقل السياسي‬
‫الباحث – بشكل مختلف ‪ -‬عن وحدٍة في إطار التعدد تستنُد إلى المعرفة ال‬
‫االرتجال والحسابات السياسوية الضيقة؛ أو تنهُض على ابتكار صيغ‬
‫جديدة للعيش الُم شترك بدل اإللهاء الديماغوجي عن "وحدة وطنية"‬
‫نعرُف جميعا أنها تقف على البركان‪ .‬إَّن المكبوَت ال يموت وإنما يظل‬
‫يتحَّيُن الفرَص للظهور أو االنفجار غير الُم تحكم فيه كما يعلمنا التحليل‬
‫النفسي‪ .‬وربما دفعت بي حال أنظمتنا السياسية ‪ -‬التي ال يهمها إال‬
‫"السلم االجتماعي" بأِّي ثمن ‪ -‬إلى تذكر ما رواه نيتشه بخصوص أولئك‬
‫البحارة الذين اغتبطوا بالوصول إلى اليابسة بعد تحطم سفينتهم في يوم‬
‫عاصف ليكتشفوا ‪ -‬لسوء حظهم ‪ -‬أنهم يقفون على ظهر وحش بحرٍّي‬
‫هائل!‬

‫إَّن هذه االعتبارات بخصوص اللغة تتعلُق‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬باألمة أو‬
‫الشعب وليس بالدولة‪ .‬وبالتالي فال معنى للخلط بينهما‪ .‬الشعب الواحُد‬

‫‪47‬‬
‫هوية ثقافية وتاريٌخ مشترك ولغة جامعة‪ .‬أما الدولة فهي مؤَّس سة تجِّس ُد‬
‫رغبة الشعب أو األمة في العيش المشترك وفي السيادة ورعاية الصالح‬
‫العام وفرض النظام‪ .‬قد تولُد الدولة بقرار وتشهُد آخَر أيامها بقرار كذلك‬
‫كما يعلمنا التاريخ‪ .‬أما األمة فهي حصيلة تاريخ وتجارب وذكريات‬
‫وحكاياٍت تأسيسية وتراث ُم شترك تحفظه اللغة‪ .‬كما قد نجُد دوال تنضوي‬
‫تحتها شعوٌب وإثنيات كثيرة كاالتحاد السوفياتي في الماضي القريب؛‬
‫وفي المقابل نجُد شعوبا متميزة بثقافتها ولغاتها وذاكرتها المشتركة وال‬
‫تزال تتطلع إلى دولٍة تجِّس ُد استقاللها وسيادتها كالشعبين الكردِّي‬
‫والفلسطينِّي تمثيال ال حصرا‪ .‬لذا نعتقُد أَّن الجزائر بعد االستقالل – بعيدًا‬
‫عن كل خطاب ديماغوجي – احتاجت إلى حكايٍة تأسيسَّية وسرديٍة وطنية‬
‫ملحمية تجعل من الشعب الجزائرِّي وحدة تجُد روَح ها العميقة‪ ،‬منذ‬
‫القديم‪ ،‬في التشبث باألرض ومقاومة الفاتحين والتوق الذي ال يفتُر إلى‬
‫الحرية والكرامة وهو ما جَّس دته آخر األمر – وبصورٍة مشهدية – ثورة‬
‫تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر سنة ‪ .1954‬هذا األمُر على قدر كبير من‬
‫األهمية بالطبع‪ ،‬ولكنه يقُف عاجزًا أمام بعض مشكالت الحاضر الناشئة‬
‫والمتعلقة بالتعدد اللغوِّي وما يتبطنه من صراعاٍت هوياتية وشيكٍة‬
‫ومقبلة إن لم يتوفر لدينا عقل سياسٌّي جديٌد يقطُع مع األحادية‬
‫والديماغوجية التي لم تعد شجرتها العتيقة قادرة على إخفاء غابٍة‬
‫مظلمة يسكنها وحُش التفكك الذي يتهددنا‪ .‬أقول هذا ألنني على وعي‬
‫بأَّن ما صنع سردية األمة الجزائرية الحديثة هو دولة االستقالل التي‬
‫راكمت المكبوَت الثقافَّي مرتكزة على فلسفٍة قوميٍة وحدوية‬
‫‪48‬‬
‫وإيديولوجية تنموية كشف لنا التاريخ مدى شعبويتها وفشلها نهاية‬
‫الثمانينات كما يعلُم الجميع‪ .‬يلزمنا عقل سياسٌّي جديٌد إلصالح أعطاب‬
‫سياسة الدولة الوطنية في هذا المجال اليوم‪.‬‬

‫* نحو ترسيخ "الجيل الثاني من الحقوق"‬


‫من المعروف أَّن النظاَم السياسَّي الجزائري اختار‪ ،‬غداة االستقالل‪،‬‬
‫النموذج اليعقوبَّي المركزي الموروث عن االستعمار الفرنسِّي في ظل‬
‫غياب مرجعيٍة سياسية تاريخية أو تراثية كما حدث مع معظم البالد‬
‫العربية بعد حركات التحرر واالستقالل‪ .‬هذا يعني أَّن ُد َو لنا الوطنية‬
‫وجدت نفسها‪ ،‬منذئذ‪ ،‬تقُف على فراغ سياسٍّي تاريخي هائل لم تعرف فيه‬
‫التطوَر الحضارَّي الضرورَّي الذي صاحب ميالَد الدولة وتشكل األمة‬
‫الحديثة في الضفة األخرى من المتوسط‪ .‬لذا أعتقد أنه يلزمنا اليوم أن‬
‫نفكر جديا – وبنوع من اإلبداع – في نموذج سياسٍّي يتجاوز بعض‬
‫مثالب هذا النموذج اليعقوبي الوحدوي الصارم الذي ال يسمُح بالتفكير‬
‫في قضايا التعدد اللغوي والثقافي واإلثني من منظور ديمقراطي غير‬
‫مركزي وغير ُم تعِّس ف‪ .‬فالجمهورية الفرنسية ذاتها‪ ،‬وإلى اليوم‪ ،‬تعتبُر‬
‫هذا من األمور التي يستحيل التفكيُر فيها على الرغم من وجود لغاٍت‬
‫إقليمية كثيرة في فرنسا‪ .‬وربما من نافل القول أن ُنشيَر إلى تحذير‬
‫منظمة اليونسكو ذاتها من احتمال "انقراض" الموروث اللغوي المتعدد‬
‫‪49‬‬
‫والغني في بلد ديمقراطي كبير كفرنسا‪ .‬يبقى‪ ،‬بالتالي‪ ،‬على العقل‬
‫السياسِّي الجزائري أن يبتكَر صيغة خاصة وجديدة تستطيُع حماية‬
‫الحقوق السياسية والثقافية لجميع المواطنين وضمان العيش الُم شترك‬
‫أيضا ضمن الدولة التعددية الواحدة‪ .‬وهل نحتاُج ‪ ،‬هنا أيضا‪ ،‬إلى التذكير‬
‫بأَّن الديمقراطية ليست وحدة تعلو على التعدد بقدر ما هي وحدة تنبثُق‬
‫منه؟ أال يمكننا أن ُنبدَع طبعة جديدًة من الديمقراطية انطالقا من‬
‫مشكالتنا وأوضاعنا وبصورٍة متحِّر رٍة من سيادة المرجعية اليعقوبية‬
‫المركزية الموروثة عن االستعمار؟ هذا ال يعني أنني أقترُح حال سياسيا‬
‫محَّددًا وبديال بقدر ما أشير إلى أعطاب النظام الحالي الذي ال ُيحسُن‬
‫التفكير في "العيش المشترك" بعيدًا عن التحُّص ن بالشعبوية في مواجهة‬
‫مخاطر التفكك‪.‬‬
‫لذا نعتقُد‪ ،‬انطالقا من ذلك‪ ،‬أنه ال يمكُن لـ "الجزائر الجديدة" التي‬
‫يحلُم بها ويناضل من أجلها الكثيرون إال أن تكوَن صيغة ُم ستحَد ثة من‬
‫النظام الجمهوري – الديمقراطي المنفتح على الواقع التاريخي‬
‫والسوسيولوجي والثقافي للجزائريين في ظل احترام التعدد‪ .‬مشكلتنا‬
‫تكمُن في أننا ال نحسُن إدارَة الشأن العام وال توليد أو إبداع صيغ مختلفة‬
‫وُم بتَك رة للتعايش الذي يظل مشكلة تواجه الجزائريين في فترٍة تاريخية‬
‫انتقلنا فيها من التأكيد على واجبات الدولة التنموية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية والتربوية بعد االستقالل‪ ،‬إلى مرحلٍة أصبح يحتل فيها‬
‫"الجيل الثاني من الحقوق" صدارَة االهتمام ويحظى فيها بنوع من‬

‫‪50‬‬
‫المشروعية التاريخيِة والقانونية واألدبية‪ :‬أعني بذلك الحقوَق السياسية‬
‫والثقافية‪.‬‬
‫ربما كان من الُم متع ومن المفيد‪ ،‬هنا‪ ،‬ونحُن بصدد الحديث عن‬
‫الحقوق التي تمثل دعامة البناِء الديمقراطِّي المنشود‪ ،‬أن ُنشيَر ولو‬
‫بإيجاز شديد ‪ -‬استنادًا إلى توصيف الفيلسوف الفرنسِّي المعاصر لوك‬
‫فيري ‪ -‬إلى أَّن ما عرفته أوروبا‪ ،‬وفرنسا تحديدًا‪ ،‬بعد الثورة الفرنسية‬
‫الكبرى وهي تطيُح بنظام الحِّق اإللهي الملكي وتعلُن الجمهورية‪ ،‬أي‬
‫"حقوق اإلنسان والمواطن" التي أرست دعائَم ها البورجوازيُة‬
‫الُم ستنيرُة الُم نتصرة آنذاك كان "الجيل األول من الحقوق" ‪ -‬أعني‬
‫الحقوق السياسية والمدنية التي تكِّرُس المساواة القانونية واإلرادة‬
‫العامة والحَّق في األمن والملكية والتفكير والتعبير بحرية خالفا لما كان‬
‫عليه األمُر زمن نظام العسف‪ .‬إنها‪ ،‬بمعنى ما‪ ،‬الحقوُق التي ناهضت‬
‫شمولية النظام القديم وتدخل الدولة في الحيز الخاص أو مجال المجتمع‬
‫المدني مستلهمة في ذلك الفكر الليبرالي‪ .‬بينما كان "الجيل الثاني من‬
‫الحقوق" ‪ -‬الذي ارتبط بعاصفة الثورات األوروبية سنة ‪ - 1848‬ذا طابع‬
‫اجتماعٍّي واقتصادي يطالُب بالعدالة االجتماعية والحق في العمل‬
‫ومحاربة االستغالل ومعظم المثالب المتولدة عن انحرافات الليبرالية‬
‫االقتصادية إبان عنفوانها األول‪ .‬وأعتقُد أنه ليس من الُم ستغَر ب أن‬
‫نالحظ أَّن "بيان الحزب الشيوعي" الشهير الذي دَّبجُه ماركس وأنجلز‬
‫رأى النوَر في السنة ذاتها في باريس‪ .‬لقد انتقلت القارة العجوز في‬

‫‪51‬‬
‫تطورها‪ ،‬وعبر ثوراتها السياسية المختلفة‪ ،‬من لحظة فولتير إلى لحظة‬
‫ماركس كاشفة بذلك‪ ،‬وعبر الِّص راع الَّدامي أحيانا‪ ،‬عن تاريخية الحقوق‬
‫اإلنسانية وجدلها مع السياقات المختلفة باعتبارها ما ينشأ عن الحاجات‬
‫والتطلعات العادلة ال ما يعيُش زمنا رياضيا أو يناُم محنطا في سماِء‬
‫المعقوالت والنصوص المقَّدسة‪ .‬ولعل هذا ما يمثل جوهَر براديغم الفكر‬
‫السياسِّي والقانوني والحقوقي إلى اليوم‪.‬‬

‫ولكَّن ما حدث عندنا هو عكُس ذلك تماما‪ .‬إذ إَّن اختالَف السياقاِت‬
‫التاريخية بيننا وبين الضفة األخرى من المتوسط جعلنا نصطدُم بواقع‬
‫أوروبا الليبرالية ومنظومتها الحقوقية من خالل االستعمار الذي كشف‬
‫عن صالفة العقل التنويري العنصرِّي وشكالنية هذه الحقوق التي‬
‫تقلصت في الشعار ولم تستطع أن تنفتَح على اآلخر الُم ستعَم ر الذي ظل‬
‫خاضعا لنظام العسف والظلم والالمساواة وقانون "األهالي"‪ .‬هذا ما‬
‫ُيفِّسُر ‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬حلَم الجزائريين بالمساواة والعدالة والمواطنة‬
‫الفرنسية أوال؛ فُح لَم هم‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬باالستقالل السياسِّي من خالل الكفاح‬
‫المسلح وبناء دولٍة "ديمقراطية اجتماعية" تتجاوز مثالَب المنظومة‬
‫الكولونيالية وأزمة الفكر الليبرالي عموما في عهٍد شهَد بدايات تفكك‬
‫المركز الحضارِّي الغربي ويقظة القوميات وانتصار الثورات االشتراكية‬
‫التي قَّدمت لنا نموذجا مختلفا في التنمية واحتضان تطلعات الشعوب‪.‬‬
‫وهكذا فالمطالبة بالجيل الثاني من حقوقنا‪ ،‬أعني الحقوَق السياسية‬
‫والثقافية‪ ،‬يكشُف عن أزمة الدولة الوطنية التي رأت النور بعد‬

‫‪52‬‬
‫االستقالل‪ ،‬أعني دولة األحادية والشعبوية التي زادها تفكك الثنائية‬
‫القطبية بعد انتهاء الحرب الباردة وانهياُر المعسكر الشرقي الشيوعِّي‬
‫تأزما‪ ،‬وأصبح يهِّدُد شرعيتها التاريخية ويقدُح في أُس سها اإليديولوجية‪.‬‬
‫إننا مع احترامنا النسبي‪ ،‬بالطبع‪ ،‬لما حققته هذه الدولة الوطنية منذ‬
‫االستقالل تنمويا واجتماعيا إال أننا نؤكد اليوم – من أجل استمرارها‬
‫ومناعتها والخروج من مآزقها – على ضرورة عملها لصالح ُم واَطنٍة‬
‫جزائريٍة جديدٍة منفتحة من خالل ترسيخ ما أسميناه "الجيل الثاني من‬
‫الحقوق" بصورٍة عقالنية مواكبة للعالم‪ .‬فالحقوق السياسية والثقافية‬
‫ُتعتَبُر من جملة ما يؤِّسُس للكرامة البشرية باعتبارها حقوقا تتعلُق‬
‫باالعتراف بالكيانات الفردية والجماعية وبالمرجعيات الثقافية التي‬
‫تؤِّسُس ُو جوَد ها وهويتها في المحيط الوطني والعالمي‪ .‬فليس بالخبز‬
‫وحده يحيا اإلنسان وإنما بالحرية واالعتراف أيضا‪ .‬هذه أبسط الحقائق‬
‫وأعمقها اليوم‪ .‬ولكن قد يقول قائٌل إَّن الجزائَر بادرت‪ ،‬عربيا‪ ،‬إلى‬
‫ترسيخ هذا "الجيل الثاني من الحقوق" من خالل اإلصالح السياسي‬
‫بالخروج من األحادية الحزبية واالعتراف الدستوري بالتعددية السياسية‬
‫وحرية اإلعالم بعد انتفاضة تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ .1988‬هذا صحيٌح‬
‫ولكن نسبيا وظاهريا وشكليا فقط‪ .‬فقد استمَّر ت هيمنة الدولة بمؤَّس ساتها‬
‫األمنية وقوى الظل في إدارة خيوط المشهد السياسي ومراقبته ورسم‬
‫مساراته فضال عن تدجين المجتمع المدني وقمع الحريات كما كان عليه‬
‫األمُر قبل ذلك تماما‪ .‬ويهمنا أن نالحظ أننا لم نخرج‪ ،‬إلى اليوم‪ ،‬من‬

‫‪53‬‬
‫"ديمقراطية الواجهة" التي ظلت الدولة تصِّدرها لتجنب انتقاد المجتمع‬
‫الدولي والمنظمات الحقوقية المختلفة‪ .‬ولكن هل يمكُن اعتباُر تأجيل‬
‫يقظِة البركان الخامد سياسة حكيمة؟ هل يمكن اعتبار المناورات‬
‫استراتيجية دولٍة في التعاطي مع الواقع الُم تغِّير؟‬
‫لعله يكوُن من باب الوجاهة الفكرية أن نقول مع الباحث‬
‫السوسيولوجي الفرنسِّي الشهير آالن تورين إَّن فهَم عصرنا يحتاُج إلى‬
‫نموذج تفسيرٍّي جديد يتجاوز ما درج عليه الفكُر السياسُّي واالجتماعي‬
‫منذ قرنين كي نحسَن التعامل مع التحوالت التي طبعت العالم مع بوادر‬
‫انبالج عهد العولمة منذ نهاية القرن الماضي‪ .‬فقد تحَّدث هذا الباحث في‬
‫بعض منشوراته األخيرة ُم نِّبها إلى ضرورة اعتماد باراديغم جديد لفهم‬
‫عالم اليوم ينقلنا من مرحلٍة كنا "نتكلُم فيها على ذواتنا بمصطلحات‬
‫اجتماعية" إلى مرحلٍة أخرى راهنة "بتنا نتكلُم فيها على ذواتنا‬
‫بمصطلحاٍت ثقافية" كما ُيعِّبُر ‪ .‬هذا يعني أَّن التركيز على الصراعات‬
‫االجتماعية واالقتصادية لم يُعد كافيا لتفسير التحوالت أو التموقعات التي‬
‫يشهدها عالُم البشر في كل بقاع العالم وهم يعتصمون بأشكال أخرى من‬
‫االنتماء ال يحددها الوضُع االجتماعي بقدر ما تحددها الثقافة‪ .‬وبالتالي‬
‫فمحاولة امتالك مفاتيح فهم العالم اليوم‪ ،‬بمعنى ما‪ ،‬لم تُعد تتوقُف عند‬
‫مفاهيم الثورة واالنتماء الطبقي وأشكال الصراع االجتماعي المعروفة‬
‫أكثر مَّم ا أصبحت تتمحور‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬على الهوية الثقافية باعتبارها‬
‫ما أصبح يشكل قاعدة ومنطلقا للتعرف على الذات فردية كانت أو‬

‫‪54‬‬
‫جماعية‪ .‬ولعله من نافل القول أن نؤكد على أَّن اللحظة العولمية شهدت‬
‫انفجاَر المسألة الثقافية بكل ثقلها السياسِّي والحقوقي‪ .‬من هنا اعتقادنا‬
‫بضرورة التفكير في حلول جزائرية للقضايا المرتبطة بمطالب الهوية‬
‫والتعدد اللغوي بعيدًا عن الروح الشعبوية التي مَّيزت تناولها إلى اليوم‬
‫من ِقبل نظام لم يكن يهُّم ه إال البقاء واالستمرار من خالل "شراء السلم‬
‫االجتماعي" في مواجهة االنتفاضات المختلفة‪.‬‬
‫انطالقا من ذلك نعتقُد أَّن أهَّم ما يواجهنا اليوم‪ ،‬نحن الجزائريين‪،‬‬
‫استنادًا إلى تجربتنا التاريخية منذ ثالثين عاما – على عالتها وقصورها‬
‫وانتكاساتها – هو العمل على بناِء صرح جمهورٍّي ال يقُف على أقدام من‬
‫خزف‪ .‬هذا ما يجُب أن يكوَن في صلب النقاش العام بين النخب المختلفة‬
‫وعموم الُم ثقفين من أجل التفكير الجِّدي في مستقبل ُم شترك يقي‬
‫مجتمَعنا مخاطَر التفكك والصراعات ويضمُن العيَش الُم شترك واالحتراَم‬
‫المتبادل بين الجزائريين‪ .‬فاستقالة النخبِة المثقفة والمبدعة من التدخل‬
‫في الشأن العام ال ُتبَّرُر بحال‪ ،‬وهي قد تجعلها متواطئة مع ُو عوِد الخراِب‬
‫القادم إن استمَّر ت األوضاُع على ما هي عليه‪ .‬إَّن الحياَة السياسية‬
‫الهشة في بالدنا وضعَف األحزاب الموروَث عن نظام االحتكار والفساد‬
‫الُم عَّم م وشراء الذمم واحتواء المجتمع المدنِّي وتدجينه مقابل االمتيازات‬
‫– كل ذلك ال يمكنه أن يشكل جبهة منيعة إلنقاذ الجزائر من خطر تناسل‬
‫نظام فاشل لم يُعد بمقدوره االستمراُر إال بإطالة أمِد األزمة والتلويح‬
‫بضرورة التأكيد على استرجاع هيبة الدولة بالحلول األمنية كما نعلم‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫الديمقراطية هي أكبُر ضامن للوحدة ألنها تقوُم على االعتراف بالحقوق‬
‫التي ظلت ُم غَّيبة وتنزُع‪ ،‬بذلك‪ ،‬فتيل التالعب بنار الفتنة من يد المنتفعين‬
‫من األزمات‪ .‬كان علينا أن نصغَي جِّيدًا إلى إيقاع لحظتنا العولمية وهي‬
‫تقذُف إلى السطح بقضايا الحقوق الثقافية والسياسية وضرورة احترام‬
‫الحريات‪ .‬كما كان علينا‪ ،‬أيضا‪ ،‬أن نتأمل جِّيدًا في مسألة االعتراف من‬
‫زاويٍة فلسفية تكشُف عن أهميتها الكيانية بالنسبة لإلنسان‪ .‬وهل يمكننا‬
‫أن ننسى هنا كيف أَّن المفكَر األمريكي فرانسيس فوكوياما استثمَر في‬
‫هذا المفهوم الهيغلي ليجعل منه خصيصة للمجتمع الديمقراطِّي الحر‬
‫الذي يمثل – حسب رأيه – نهاية التطور اإليديولوجي للبشرية وُم ستقر‬
‫اإلنسان األخير الذي عثر‪ ،‬أخيرًا‪ ،‬على مفاتيح كرامتِه البشرية من خالل‬
‫االعتراف بحقوقه كاملة؟‬

‫روٌح تتململ داخل مومياء تاريخية *‬


‫يحسُن بنا‪ ،‬عند الحديث عن مكانة اللغة العربية وحظوظها في‬
‫البقاء‪ ،‬أن نتذكر أَّن اللغات عبر التاريخ عرفت مساراٍت مختلفة في‬
‫تطورها وجدلها مع الواقع االجتماعي وعالقاتها مع اآلخر ودورها في‬
‫اإلسهام الحضاري معرفة وعلما‪ .‬هذا يعني أَّن قضية صمود اللغات أمام‬
‫رهانات الزمن ومفاجآته ومآزقه تظل أحيانا عصية على التفسير‬
‫األحادي االختزالي‪ .‬وربما أصبح هذا األمُر أكثر إلحاحا علينا اليوم ولغتنا‬
‫العربية تعيُش عهدًا غير سعيد رغم كونها تمثل‪ ،‬دون أدنى شك‪ ،‬ذاكرة‬

‫‪56‬‬
‫غنية جدًا إلحدى التجارب الحضارية الكبرى في التاريخ‪ .‬لقد حفظت لنا‬
‫هذه اللغة ‪ -‬عبر موروثها الذي امتَّد لقرون طويلة – وجها من وجوه‬
‫مغامرات اإلنسان في تأسيس وجوده على قيم السؤال والروحانية‬
‫والبحث والتواصل الحضاري والتعبير العالي عن الكينونة‪ .‬ولكَّن‬
‫لعصرنا الحالي شأنا آخر مع حياة اللغات أو احتمال اندثارها‪ .‬إذ إَّن‬
‫جرافة التاريخ العولمي – التي تميل إلى النمذجة والقولبة وطمس‬
‫الخصوصيات – باتت ُتثيُر المخاوَف وتشغل بال كل المنتمين إلى ثقافات‬
‫الهامش الُم َّتسع منذ كشفت العولمة‪ ،‬قبل عقوٍد قليلة‪ ،‬عن الرغبة‬
‫األمبريالية في محو التعدد الثقافي من خالل الهيمنة االقتصادية وتوحيد‬
‫األنماط السلوكية االستهالكية وفرض القيم المصاحبة لذلك عبر أرجاء‬
‫المعمورة‪ .‬ومن نافل القول أن نؤكد‪ ،‬هنا‪ ،‬على أَّن العالم العربي ال يزال‬
‫يدور في فلك الهيمنة الغربية ومراكزها الفاعلة‪ ،‬األمريكية واألوروبية‪،‬‬
‫منذ لقاءاته الصدامية األولى بها قبل قرنين من الزمان‪ .‬هذا ما انعكس‬
‫على وضع اللغة العربية إيجابا وسلبا معا‪ .‬فقد انفتح العرُب ‪ ،‬منذئذ‪ ،‬على‬
‫أسئلة الحداثة الفكرية وقضايا التجديد األدبي‪ ،‬وظهرت الصحافة ونشأت‬
‫الحاجة إلى البحث العلمي‪ .‬ورغم كل ما تحقق إال أَّن اللغة العربية ال تزال‬
‫تعاني من ضمور الفاعلية في مجاالت كثيرة‪ ،‬ما يكشُف عنه غيابنا عن‬
‫مأدبة الفتوحات المعرفية التي غَّيرت وجه العالم وأعادت تشكيل موازين‬
‫القوة والنفوذ سياسيا واقتصاديا في عصرنا‪ .‬لقد ظلت التبعية سمة بادية‬
‫على حضورنا الباهت وعالمة على كوننا مناطق نفوذ ومصادر طاقة‬
‫للقوى العظمى ال غير‪ .‬وأعتقد أَّن االحتفاَء الذي تحظى به العربية ال‬
‫يعني شيئا ما دامت هذه اللغة البهية الجليلة ال تتمَّتُع بأهمية أخرى غير‬
‫الثقل الديمغرافي لعدد الناطقين بها‪ ،‬أو كونها لغة بالٍد يعظُم االهتماُم بها‬
‫من ِقبل المركز المهيمن لتوفرها على ثرواٍت ترتبط باستراتيجيات‬
‫‪57‬‬
‫السيطرة وتأمين المصالح كما هو معروف‪ .‬كما أَّن هذه اللغة‪ ،‬بطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬ال تزال تحظى بنوع من القدرة على الصمود الرتباطها باإلسالم‬
‫ومناخ التقديس الديني‪ .‬فهي لغة القرآن الكريم وامتداداته التراثية التي‬
‫تتمَّتُع بهيبٍة خاصة عند عموم المسلمين شرقا وغربا‪ .‬ولكن هل يمثل‬
‫هذا ضامنا كافيا لبقائها وصمودها أمام امتحان التاريخ؟ هل ضمن‬
‫االرتباط بالمؤَّس سة الكنسية والكتاب المقَّدس بقاء اللغة الالتينية أمام‬
‫زحف اللغات األوروبية التي عَّو لت على الخصوصية القومية واإلنتاج‬
‫األدبي والفلسفي والعلمي وإنشاء األكاديميات؟ لقد علمتنا الحداثة شيئا‬
‫مهما ‪ :‬ال حظ لنا في الوجود السِّيد إال بالقوة المرتبطة بالمعرفة‬
‫واالستقالل عن مرجعية الماضي‪ .‬فال يمكُن ‪ ،‬هنا‪ ،‬للُم قَّدس أن ينوَب عن‬
‫الُم دَّنس في ُعرف التاريخ وقد أصبح بيتا لإلنسان مكان المطلق القديم‪.‬‬
‫وربما هذا ما جَّس ده‪ ،‬بصورٍة ما‪ ،‬الفيلسوف ديكارت منذ شرع في كتابة‬
‫مؤلفاته األثيرة باللغة الفرنسية التي كانت ُتعتبر "لغة شعبية" بداية‬
‫القرن السابع عشر‪ .‬إَّن للغة حظوظا أخرى أقوى في البقاء أكثر من‬
‫مجَّر د عدد الناطقين بها أو من ارتباطها بمرجعيات الماضي ومؤَّس ساته‬
‫التي ال يمكنها أن تظل‪ ،‬أبديا‪ ،‬بمنأى عن التفكك أو االنسحاب إلى الظل‪.‬‬
‫اللغة الالتينية مثاٌل صارخ كما رأينا‪ .‬أقول هذا وأنا أقُف احترامًا‪ ،‬بطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬للجهود الكبيرة التي بذلها المبدعون العرُب منذ أكثر من قرن‬
‫على درب تحرير اللغة العربية من عالئقها التقليدية ومناخ الماضوية‬
‫الفكرية‪ ،‬والقذف بها في أتون تجربة الوجود المعاصرة أدبا وفكرًا‪ .‬لقد‬
‫حققنا الشيَء الكثير ولكَّن هذا لم يعصم لغتنا الجميلة من التهديد الدائم‬
‫في عالم يطبعه الصراُع على الهيمنة ومحاوالت االستتباع ومحو‬
‫الخصوصيات‪ .‬لم ُتسعفنا السياسة وال خياراتنا اإليديولوجية المتسرعة‬
‫في تأمين مشروع التحرر الثقافي والكياني‪ ،‬وال في الحفاظ على اللغة‬
‫‪58‬‬
‫العربية وترسيخ قدمها في عوالم المعرفة والبحث واإلبداع‪ .‬لقد ظلت‬
‫بعُض صور إبداعنا الثقافي ُتشع ككواكب مفردٍة في عتمة الوجود العربي‬
‫الذي عمل الجميُع ‪ ،‬داخليا وخارجيا‪ ،‬على أسره كبروميثيوس وشِّد وثاقه‬
‫إلى صخرة األزمنة الثقافية الراكدة فكريا وروحيا‪ .‬أقول هذا كي أشيَر‬
‫إلى أَّن صموَد اللغة ال يرتبط بمجهود المبدعين فحسب‪ ،‬وإنما أيضا‬
‫بمشاريع النهوض البصيرة التي تستثمُر في العقل والبحث العلمي‬
‫والبناء المؤَّس سي األكاديمي الُم ثاقف للحراك المعرفي في العالم ‪.‬ال‬
‫يمكننا‪ ،‬بمعنى ما‪ ،‬الحديُث عن مستقبل واعٍد للغة العربية بمعزل عن‬
‫تحديث العقل ومنظومة القيم التي تؤطر الحياة العامة والعالقات‬
‫االجتماعية‪ .‬نحن لم ننجز‪ ،‬بعُد‪" ،‬ثورة كوبرنيكية" في عالم القيم تحررنا‬
‫وتحرر لغتنا من االرتهان لدى المطلق الغائب عن حركية الحياة بكل‬
‫غناها‪ .‬فال حياة ممكنة للغة العربية داخل جثة المومياء التاريخية التي‬
‫نسميها "العالم العربي"‪.‬‬
‫يبدو لي‪ ،‬كذلك‪ ،‬أَّن السؤال عن وضع اللغة العربية اليوم ال يخرج‬
‫عن التساؤل حول الهواجس الهوياتية المعاصرة منذ انفجرت "المسألة‬
‫الثقافية" باعتبارها هّم ا عولميا نَّبه البشر إلى ضرورة التعرف على‬
‫أنفسهم في محدداٍت أخرى غير تلك التي كَّر سها الصراع اإليديولوجي‬
‫طيلة النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم‪ .‬لقد قفز الدين واللغة‬
‫واالنتماء الطائفي واألصل اإلثني إلى المشهد‪ ،‬وأصبحت هذه المرتكزاُت‬
‫مداَر التعرف على الذات ورسم حدود التمايز عن اآلخر من خالل انبثاق‬
‫مشهدي لبراديغم أو نموذج تفسيري جديد تحدث عنه بصورٍة معمقة‬
‫الباحث آالن تورين كما أسلفنا‪ .‬وقد سمعُت ‪ ،‬أيضا‪ ،‬المفكر الفرنسَّي‬
‫ريجيس دوبريه يتحدث بصورٍة الفتة عن "الحداثة المحررة للقديم" في‬

‫‪59‬‬
‫إشارة إلى أَّن العولمة التقنية – االقتصادية التي تميل إلى توحيد الكوكب‬
‫ُتنتُج ‪ ،‬ويا للمفارقة‪ ،‬التشظي على األصعدة الثقافية وهذا في صورة‬
‫تمسك بالمؤَّس سات العتيقة وكل ما ُيحيل إلى الخصوصية‪ .‬إذ يجب ملء‬
‫الفراغ الهوياتي الناتج عن العولمة التقنية باستدعاء أطر الحياة‬
‫الجماعية السابقة على "صدمة الحداثة"‪ .‬ومن الطبيعي أال تفلَت اللغة‬
‫من أشكال مقاومة هذه العولمة على صعيد التأكيد على الهوية والتمايز‪.‬‬
‫هذا يعني أَّن اللغة اليوم عند العرب ال تخرج عن كونها محِّددًا من‬
‫محددات الهوية الثقافية في مواجهة تهديدات العولمة بعد أن كانت في‬
‫الماضي أداة انفتاح على المعرفة ومٍّد ال ينتهي للجسور إلى الضفاف‬
‫األخرى حيث تقوم الشراكة الخالقة مع اآلخر في غزو العالم معرفيا‬
‫والتأسيس ألخالقيات الحوار والتسامح‪ .‬كأَّن اللغة العربية هجرت‬
‫فراديسها المفقودة وأصبحت قلعة هشة ال يخرُج همها عن الدفاع عن‬
‫الذات العربية المتهالكة على أرصفة البطالة الحضارية‪ .‬فهل من أفق‬
‫ممكن لخروجها من هذا المأزق الخطير الُم عَّقد؟‬
‫إَّن هذه األوضاع أطلقت‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬عنان الخطابات العدائية‬
‫التقليدية للغة العربية والتي ال ترى فيها إال لغة ميتة ال ُيمكنها التنفس‬
‫خارج مناخ المقدس الديني؛ وال يمكنها االستمراُر إال كعشبٍة طفيلية في‬
‫ظل دوحة األنظمة السياسية الرجعية التي تخصُف عليها من ورق جنة‬
‫الماضي وقد أصبح ملجأ من لحظة الفشل المرعبة أمام تحديات الحداثة‪.‬‬
‫هذا ما يضطرني‪ ،‬هنا‪ ،‬إلى التنبيه أَّن اللغة – فضال عن كونها هوية‬
‫وانتماًء إلى ثقافٍة وذاكرة مشتركة –ال يمكنها فعال الصموُد أمام‬
‫التحديات التي يجابهنا بها العصُر ما دامت تعيُش على ذكرى الفراديس‬
‫الماضية أو تشرئُّب بعنقها إلى مخادع المطلق بعيدًا عن الحياة‬

‫‪60‬‬
‫وتوهجها‪ ،‬وبمعزل عن حركية المعرفة وأسئلة القيم في عالم يجنُح إلى‬
‫القولبة وإلى كوكبٍة ال تنفصل‪ ،‬بحال‪ ،‬عن إرادة الهيمنة‪.‬‬

‫* التنوير‪ :‬هل َيسكُن عقل فولتير أم ُلغَته؟‬


‫يبدو لي أَّن المسألة اللغوية في الجزائر وما يرافقها من صراع علني‬
‫أحيانا وُم ضَم ر أحيانا أخرى ال تمثل‪ ،‬في حقيقة األمر‪ ،‬إال الجزَء الظاهر‬
‫من الجبل الجليدي‪ .‬فهذا الصراع – فضال عن أبعاده الهوياتية الظاهرة‬
‫المتعلقة باللغة – إيديولوجي باألساس؛ وهو يرتبط بخيارات سياسيٍة‬
‫وثقافية ومواقف فكرية ترجع إلى بدايات بناء الدولة الوطنية أو حتى‬
‫قبلها بقليل‪ .‬فانقساُم النخب‪ ،‬يومها‪ ،‬لم يكن انقساما لغويا فحسب وإنما‬
‫انشقاقا في التصور والمرجعيات اإليديولوجية المرتبطة بالبناء السياسِّي‬
‫واالجتماعي‪ .‬ولكَّن ما ُيلفت االنتباَه وُيثير االستغراب هو دواُم التشنج‬
‫اإليديولوجي التقليدي بين موقفين متصادمين ورؤيتين للعالم ال تكادان‬
‫تلتقيان‪ .‬ففي حين يرى أنصاُر العربية في حضور اللغة الفرنسية إرثا‬
‫كولونياليا ومدخال ثقافيا أو "حصان طروادة" يضمُن تأمين مصالح‬
‫فرنسا االقتصادية والسياسية وتبعيتنا الدائمة لها‪ ،‬يرى الفرنكوفونيون‬
‫الجزائريون‪ ،‬بالمقابل‪ ،‬في اللغة العربية وتراثها معينا لألصولية الدينية‬
‫ومعاداة الحداثة الحقوقية والسياسية والفكرية والتحنط في مناخ القرون‬
‫الوسطى‪ .‬هذا الصداُم على ما أرى لم يستطع‪ ،‬إلى اليوم‪ ،‬تجاوز‬

‫‪61‬‬
‫الُم سَّبقات الثقافية والعرقية التي تأَّس س عليها التنابذ بين مكونات النخب‬
‫الجزائرية منذ عقود‪ .‬إذ يشهُد الواقع الجزائري اليوم – ثقافيا‬
‫وإيديولوجيا – بروز ُنَخ ٍب جزائرية ُم عَّر بة تناضل من أجل سيادة رؤية‬
‫مختلفة وغير أصولية لألشياء‪ .‬وهي نخٌب – أحسبني أنتمي إليها –‬
‫منفتحة على منجزات العقل الحديث ومشكالت العصر وقضايا التحديث‬
‫وال تعول على ارتباط العربية بالمقَّدس الدينِّي من أجل إنقاذها‪ .‬بينما ال‬
‫يزال الكثيُر من الكتاب الفرانكوفونيين عندنا ُيعيدون علينا بصورٍة مملة‬
‫جًّد ا تلك الغنائية المبتذلة – المتحدرة من محمد ديب أو كاتب ياسين‬
‫وصوال إلى لحظة كمال داود – والتي تعتبُر اللغة العربية "التينية"‬
‫أخرى نطيل أمَد حضورها بيننا‪.‬‬
‫ما أردت أن أشيَر إليه هو أن نبرتي التخوين من جهٍة أولى‬
‫واالستعالء من جهٍة أخرى ال تزاالن تحكمان العالقة بين الُم عسكرين‬
‫اللذين يبدو أَّن بينهما ‪ -‬كما ُيعبر البروفيسور محمد أركون – "جدار‬
‫برلين" إيديولوجيا لم يجد من يهدمه كي يتَّم تجاوز هذه الثنائية اللغوية‬
‫التي تمزق الوعي الجزائري وتشطره بصورٍة دائمة إلى شطرين‪ .‬ويبدو‬
‫لي أَّن أسباَب الصراع اللغوي – التي أصبحت في حكم الماضي عمليا –‬
‫لم ُتقنع الكثير من الفرانكوفونيين الجزائريين بضرورة تغيير الخطاب‬
‫العدائي التقليدي للغة العربية والذي ال يرى فيها إال لغة ميتة ال ُيمكنها‬
‫أن تتنفَس خارج مناخ الُم قَّدس الدينِّي أو السلطة السياسية الرجعية‬
‫الباحثة عن شرعية لها في العودة إلى الماضي التدشيني بعد أن خسرت‬

‫‪62‬‬
‫رهان المستقبل بفشلها على جميع المستويات‪ .‬كأَّن العربية منذورة –‬
‫منذ البداية – لعناق األبدية ومشلولة أمام مِّد اليد إلى تفاحة السقوط في‬
‫منافي المغامرات اإلبداعية‪ .‬ولكنني أعتقد أَّن راهَن العربية منذ أكثر من‬
‫قرن من الزمان – عبر امتداد العالم العربي – ُيبِّيُن بجالء قدرتها‬
‫اإلبداعية العالية واحتضانها الُم دهش إليقاع التحول إبداعيا وفكريا‪ .‬إذ‬
‫إَّن تراجَع ها وانكماشها أمام صيرورات التاريخ والمعرفة وتحنطها في‬
‫حضن الُم طلق والماضي يرجع إلى انسحاب العقل العربِّي – اإلسالمي‬
‫ألسباب عديدة من مغامراته الُم دهشة في اكتناه العالم والوجود قبل‬
‫قرون خلت وال يعوُد إليها باعتبارها لغة‪ .‬أعتقد أَّن هذا من تحصيل‬
‫الحاصل‪ .‬ولكن الموقَف اإليديولوجَّي لخصوم العربّية ال يرى مالمَح‬
‫الحداثة في عقل فولتير وإّنما في لغته‪ .‬كأّن التقدَم الحضاري يرتبط‬
‫بالّلغة ال بالعقل الُم بدع‪.‬‬

‫هذا من جهٍة أولى‪ .‬ومن جهٍة ثانية أرى أّننا أصبحنا‪ ،‬مؤخرًا‪،‬‬
‫نتأرجُح بين الخيارات التي نعتقُد أّنها قد ُتوفر لنا مفتاًح ا يمكننا من ولوج‬
‫مغارة «التقدم» السحرية‪ .‬وها هي الحرب تندلع بين الفرانكوفونيين‬
‫واألصوليين الذين يرمون إيديولوجًيا إلى شيئين‪« :‬تطهير» تاريخنا‬
‫وواقعنا من رواسب الكولونيالية‪ ،‬وتجاوز شللنا العلمي والتكنولوجي‬
‫من خالل اعتماد اللغة اإلنجليزية في الجامعات بديال عن الفرنسية‪ .‬أال‬
‫تمثل اليوم‪ ،‬على سبيل التمثيل‪ ،‬القراراُت اإليديولوجية الُم تسرعة‬
‫بضرورة اعتماد لغة شكسبير في الجامعة الجزائرية استمرارًا لهذا‬
‫‪63‬‬
‫التشنج الذي أشرنا إليه وهروبا إلى األمام في مواجهة وضعنا اللغوي‬
‫الُم تعدد بفعل الواقع ومالبسات التاريخ؟ هل يمكن‪ ،‬فعال‪ ،‬ولوُج الحداثة‬
‫التقنية والعلمية والتكنولوجية من الباب اللغوِّي قبل إصالح أعطاب‬
‫المنظومة التربوية الُم تهالكة والماضوية والفاشلة‪ ،‬وقبل ترسيخ قيم‬
‫العقالنية وحرية التفكير واالنفتاح على العالم وبعث حركة الترجمة‬
‫والتأسيس لشروط البحث العلمي الصحيح؟ هل َض من اعتماُد الّلغة‬
‫اإلنجليزية التقدَم المأمول لمعظم بلدان إفريقيا والعالم العربي التي كانت‬
‫خاضعة للحماية البريطانية؟ المشكلة‪ ،‬على ما أرى‪ ،‬تتجاوز ما يصبو‬
‫إليه من يريُد االستثماَر السياسَّي الُم باشر في محاربة "لغة الُم ستعِم ر"‬
‫التقليدي‪ .‬وها هو شكسبير يحل محل فولتير بسهولٍة لدى من يجهل أَّن‬
‫التقدم عقٌل جديٌد وشروٌط تتجاوز البحث عن "لغة الِع لم والتقدم"‪.‬‬

‫إّنني أجدني‪ ،‬هنا أيضا‪ُ ،‬م لزًم ا باإلشارة إلى أّن قضية اللغة في الُعمق‬
‫ليست قضية بحٍث عن وسيلة أو آلة لــ "التقدم"‪ ،‬وإنما هي قضية ُهوية‬
‫وإفصاح عن الحضور الُم تميز في العالم‪ .‬لذا أرى أنه من الُس خف أن‬
‫نتناول إشكالياِت اللغة في الجزائر من منظور التقدم والتخلف كما‬
‫يتناولها الُم عسكران المتناحران عندنا‪ .‬اللغة تستطيُع احتضاَن الالنهائِّي‬
‫كلما كان الفكُر مغامرًا والعقل مسكونا بالسؤال والبحث وقادرًا على‬
‫إضرام النار في قِّش اليقين‪ .‬ستَّتسُع رقعة القول مانحة الكينونة بيتا بال‬
‫تخوم‪ .‬فاللغة – كما ُيعِّبُر الشاعُر العظيم هولدرلين – هي "أخطُر النعم"‬
‫فعال ما دامت قادرة على انتشال الوجود من العدم وخلع ُج َّبِة الضوء على‬
‫غبار التاريخ‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫***‬
‫أقول‪ ،‬أخيرًا‪ُ ،‬م ستعيًد ا بنوع من التصرف الضروري‪ ،‬ما قاله المبدُع‬
‫الكبير فرناندو بيسوا‪" :‬أملك أنا أيضا‪ ،‬بمعنى من المعاني‪ ،‬شعوًر ا وطنيا‬
‫عاليا جدًا‪ .‬أما وطني فهو اللغة العربية"‪.‬‬

‫*****‬

‫إشارة‪:‬‬
‫‪ -‬نشرُت مقاطع من هذا المقال في الملحق الثقافي األسبوعي "كراس الثقافة"‬
‫لصحيفة "النصر" اليومية (‪ 21‬تموز ‪ /‬جويلية ‪)2020‬‬

‫‪ -‬كما نشرت منه مقاطع مطولة في العدد األول من مجلة "الثقافي" الفصلية‬
‫االفتراضية التي ُيصدرها "المنتدى الثقافي الجزائري" (نيسان‪ /‬أفريل ‪)2021‬‬

‫زورُق األدويسِة الجزائرُّي المكُس ور‬

‫‪65‬‬
‫* نحُن والعلم‪ :‬هوُس الشكل وُر هاُب المعنى‬
‫"باش فاتونا؟ فاتونا بالعلم ‪ "...‬كانت هذه الكلمات‪ ،‬كما يعلُم كل‬
‫الجزائريين‪ ،‬آخر ما تلفظ به الرئيس الراحل المجاهد محمد بوضياف‬
‫أمام الحاضرين في قاعة غاصة بمدينة عنابة قبيل حادثة اغتياله‬
‫المشهدية أواخر حزيران ‪ /‬جوان ‪ .1992‬ربما أراد الرئيُس أن ُينِّبه إلى‬
‫أَّن المخرَج من األزمة – التي أعقبت توقيَف المسار االنتخابي وإلغاء‬
‫نتائجه بداية ‪ - 1992‬يتمثل في ضرورة التحول من األصولية الدينية‬
‫والتدين السياسي إلى نوع من الفهم الجديد للدين المتصالح مع العصر‬
‫ومع الذات بعيدًا عن أي انغالق أمام العالم قد يجعل من بالدنا أفغانستان‬
‫أخرى في ظل تصاعد التطرف لدى تلك الطبعة الجزائرية من "مجانين‬
‫هللا"‪ .‬فلم تكن الحرُب التي بدأ يقرُع طبولها سدنة الماضي يومها ‪-‬‬
‫انتقاما من الحاضر الُم تعثر ‪ -‬حال وجيها بإمكانه أن يمثل طريقا يقود إلى‬
‫الخالص من آثار فشل الدولة الوطنية وإخفاقاتها‪ .‬لقد كان كالُم الرئيس‪،‬‬
‫على ما يبدو‪ ،‬نوعا من التذكير الهادئ بأَّن التقدَم المرتبط بالعلم ال‬
‫يحتمل كل ذلك الهياج الديني على اعتبار أَّن اإلسالَم ال يعادي العقل‬
‫والتطور الحضاري‪ .‬ورغم اتفاقنا مع التوجهات العامة لسياسة الرئيس‬
‫الراحل – بمعزل عن مالبسات تلك المرحلة الحساسة – إال أَّن هذا الفهَم‬
‫للعلم ودوره هو ما نحاول‪ ،‬هنا‪ ،‬أن نكشَف عن هشاشته وعن ميزة‬
‫الُم هادنة التي تتبطنه في صورة مصالحٍة مع الرؤية التلفيقية ذاتها التي‬
‫تبناها اإلسالميون وهم ُيفرغون العلَم من محتواه الثقافي والفكري‬

‫‪66‬‬
‫ويعزلونه عن األسس الفلسفية والعقلية التي كانت في أساس ظهوره‬
‫منذ بداية العصور الحديثة ‪ -‬في الضفة األخرى من المتوسط – ليجعلوا‬
‫منه تقنية ووسيلة ال عالقة لها بتغيير نظرتنا إلى الكون واإلنسان أو رِّج‬
‫أسس ثقافتنا التقليدية السائدة‪ .‬لقد ظل المناضلون اإلسالميون‪ ،‬طيلة‬
‫عقوٍد ‪ ،‬يفصلون العلَم عن خلفيته التاريخية ‪ -‬الحضارية وشروطه‬
‫العقلية والمنطقية والذهنية التي جعلت منه سلسلة من القطائع المعرفية‬
‫مع المرجعيات والمؤَّس سات المختلفة‪ .‬ونحن نعلُم أَّن ظهوَر العلم كان‬
‫عسيرًا وصداميا ‪ -‬في غالب األحيان ‪ -‬باعتباره معرفة انقالبية شككت‬
‫في هيبة السلطة القائمة وسيادتها التي تمحورت حول شرعية تمثيل‬
‫الدين و "رؤية العالم" الموروثة عن ذلك الزواج المهيب بين النصوص‬
‫المقَّدسة والفلسفة األرسطية‪.‬‬
‫ما أردنا أن نقول هو أَّن الكثيَر من النخب السياسية والعلمية ‪ -‬في‬
‫بالدنا وفي عموم العالم العربي ‪ -‬ركنت إلى اعتقادها الساذج بإمكان‬
‫تحقيق النهضة المنشودة أو التقدم من خالل استعارة العلم أو استهالكه‬
‫مع اإلبقاء على العقل متوقفا عن البحث والسؤال والنقد والتجاوز‪ .‬كان‬
‫الجميُع يتوهمون أنه بإمكاننا تحقيق الطفرة الحضارية من خالل‬
‫االستهالك وُم راكمة األشياء دون عتق العقل من أغالل الماضي‬
‫والمرجعيات الُم ستنَفدة‪ .‬لم نكن على صواب عندما حاولنا النظر إلى‬
‫العلم باعتباره تقنية ال تربض وراءها قيٌم جديدة غيرت من نظرة‬
‫اإلنسان كليا لنفسه وللطبيعة والعالم ولشروط المعرفة الصحيحة‪ .‬أتذكر‬

‫‪67‬‬
‫جِّيدًا كيف كان بعض الدعاة من اإلسالميين يروجون‪ ،‬مثال‪ ،‬لمقولة‬
‫"العلم ال وطن له" من أجل الدفاع عن إيديولوجية نضالية ساذجة‬
‫وسطحية ُتشيُح بوجهها عن اإلشكاليات المرتبطة بميالد العلم ودالالت‬
‫القطائع والثورات التي مثلها تاريُخ ه المنتصُر على كل منظومٍة فكرية‬
‫مغلقة ودوغماتية‪ .‬كأَّن العلَم لقيط حضاريا‪ .‬لقد ظل التقليل من أهمية‬
‫األبعاد اإلبستيمولوجية االنقالبية للمعرفة العلمية ديدَن تلك الثنائية‬
‫البائسة التي تجعل "األصالة" في مقابل "المعاصرة"‪ .‬هكذا تَّم اختزال‬
‫المشكالت التي يطرحها العلُم في مواكبة الُم نَج ز التكنولوجي وتأثيث‬
‫حياتنا به بعيدًا عن محموالته الثقافية وأسسه الفلسفية والقيم العقالنية‬
‫التي رَّس خها باعتباره وجها من أوجه الحداثة التي دشنت قدرًا جديدًا‬
‫للبشرية زحزح‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬الماضي ومرجعياِته ومؤَّس ساته عن‬
‫المركز أمام زحف العقل النقدي الذي ال ُيقاَو م‪ .‬لقد أخرجت الحداثة‬
‫العلمية البشريَة من التصورات التقليدية وهرمينوطيقا النصوص األولى‬
‫المأذونة إلى عالم البحث واالكتشاف والبناء العقلي – التجريبي –‬
‫الرياضي للحقيقة‪ .‬كان العلُم ‪ ،‬منذ بواكيره‪ ،‬انتصارًا لرؤية جديدة تمثلت‬
‫– كما يقال عادة – في "الخروج من العالم المغلق إلى الكون‬
‫الالمحدود"‪.‬‬
‫يمكننا أن نقرأ ما يلي‪ ،‬على سبيل التذكير البيداغوجي‪ ،‬من أجل فهم‬
‫واضح للعلم باعتباره فتحا معرفيا كاشفا عن رؤيٍة جديدة للعالم كرستها‬
‫الحداثة‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫"ينبغي العلُم بأَّن الوعَي األوروبي (أو المسيحي) وقع في تناقض مع‬
‫نفسه منذ عام ‪ ،1685‬أو حتى قبل ذلك بقليل‪ .‬وكل ذلك بسبب ظهور‬
‫رؤيٍة جديدة للعالم تنافُس الرؤية المسيحَّية التي كانت مسيطرة على‬
‫األذهان والعقول طيلة ألف سنٍة على األقل‪ ،‬أي طيلة العصور الوسطى‪.‬‬
‫ولم يكن من السهل أن تقبل بظهور رؤيٍة منافسة أو بديلة‪ ،‬ولم يكن من‬
‫السهل على الناس أن ُيغِّيروا عقولهم فجأة لكي يتبنوا التصور الجديد ‪...‬‬
‫وهكذا كان محتما أن ينشَب الصراُع ويشتَّد أواره طيلة عدة قرون‪ .‬في‬
‫الواقع إَّن الرؤية العلمية للعالم كانت قد تشكلت قبل عام ‪ 1685‬بوقت‬
‫طويل‪ .‬ذلك أنه يمكننا أن نعوَد بها إلى اللحظة الغاليلية‪ ،‬وإن كانت قد‬
‫ُتِّو جت على يد إسحاق نيوتن حوالي ‪ ،1687 – 1685‬تاريخ صدور‬
‫كتابه الشهير‪ :‬المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية‪ .‬كانت الثورة الكبرى‬
‫للعلم الحديث قد ابتدأت فعال حوالي عام ‪ 1620‬على يد غاليليو وكيبلر‬
‫وديكارت‪ ،‬وبلغت ذروتها عام ‪ 1686‬على يد اليبنتز ونيوتن‪ .‬وهي أكبر‬
‫ثورة علمية وروحية في تاريخ البشرية‪ .‬وعنها صدرت الثوراُت العلمية‬
‫التالية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين‪ .‬ويصل األمُر بمفكر‬
‫معاصر كجورج غوسدورف إلى حد القول إَّن غاليليو هو الذي دَّم ر‬
‫نهائيا الصورة األسطورية (أو التصور األسطوري) عن الكون وأحل‬
‫محلها الصورة العلمية‪ :‬أي صورة الكون الفيزيائي الُم وَّح د الخاضع‬
‫للقوانين الصارمة للفيزياء الرياضية‪ .‬وراحت هذه الفيزياء الرياضية‬
‫تفِّسُر جميَع الظواهر سواء في مجال العلوم الطبيعية‪ ،‬أو في مجال‬
‫العلوم اإلنسانية‪".‬‬
‫‪69‬‬
‫(هاشم صالح‪ ،‬مدخل إلى التنوير األوروبي‪ .‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ .‬ط‪،2‬‬
‫‪ .2007‬ص ‪.)130 -129‬‬
‫هذا كله يذكرنا‪ ،‬دون أدنى شك‪ ،‬بتلك اإلشارة الشهيرة لماكس فيبر‬
‫وهو يتحَّد ُث عن روح الحداثة رابطا إياها بالعلم الذي "نزع هالة السحر‬
‫عن العالم"‪ ،‬مدشنا بذلك بداية انهيار العوالم القديمة وحساسيتها لصالح‬
‫انبثاق الروح العلمية – التقنية وسيادتها في كل مناحي الحياة‪.‬‬

‫يمكننا أن نقرأ ضمن نفس السياق أيضا‪:‬‬


‫"الحدُث الفكري األساسي في تاريخ الفكر الغربِّي الحديث‪ ،‬هو نشوء‬
‫ما اصطلح على تسميته بالعصر العلمِّي – التقني ابتداء من القرن السابع‬
‫عشر الميالدي‪ .‬ويشكل منشأ هذا العصر الجديد تحوال أساسيا في النظر‬
‫إلى الطبيعة‪ .‬وقد كانت هذه األخيرة في العصور الوسطى نظاما متكامال‬
‫يَّتسُم بنوع من التناسق األزلي الذي يعكس الحكمة العلوية المبثوثة في‬
‫كافة أرجاء الكون والمحققة لمظاهر كماالته الروحية‪.‬‬
‫هذا التحول المفصلي في تاريخ علم الطبيعة تمثل في االنتقال من‬
‫مركزية األرض إلى مركزية الشمس مفتتحا االنتقال الحديث من العالم‬
‫المغلق إلى الكون الالنهائي‪ .‬لكن النقطة الجوهرية في هذا التحول هي‬
‫النظر إلى الطبيعة كامتداد كمي هندسي وحسابي‪ ،‬وهو التحول الذي‬
‫حدث مع غاليليو‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫لقد أصبحت الطبيعة امتدادًا ‪ Rex extensa‬متجانس العناصر ال‬
‫فرق وال تميز بين مكوناتها وال تخضع ألي تراتب أنطولوجي كما كان‬
‫األمر في الفكر القديم والفكر الوسطوي‪".‬‬
‫(محمد سبيال‪ ،‬الحداثة وما بعد الحداثة‪ .‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬المغرب‪ .‬ط ‪ .2007 ،2‬ص ‪.)10 -9‬‬
‫هكذا يتضح أَّن العلَم لم يكن يوما على تلك الصورة االستهالكية التي‬
‫تَّم استقباله بها عندنا ونحن نتحاشى الخوض في مجمل المشكالت‬
‫المتولدة عنه باعتباره ثورة زعزعت الشرعيات التقليدية كلها معرفيا‬
‫واجتماعيا وسياسيا أيضا‪ .‬فمن المعروف أَّن العلَم في عمقه‪ ،‬كما بَّين‬
‫ذلك هيدغر في دراسة شهيرة‪ ،‬يكشُف عن أساسه الميتافيزيائي المتمثل‬
‫في الذات المركزية التي دشنها الكوجيتو الديكارتي وهو ُينِّصُب هذه‬
‫الذات مرجعا للحقيقة والفعل في مواجهة العالم وقد تحول إلى موضوع‬
‫للمعرفة والسيطرة واالنتفاع‪ .‬هذا هو‪ ،‬تحديدًا‪ ،‬جوهُر األزمنة الحديثة‪.‬‬
‫فأين ذلك من وعينا اإليديولوجِّي الشقِّي البائس الذي ظل أسيرًا لمنطق‬
‫االستهالك والتبعية واالرتهان المزدوج للماضي والحاضر معا؟ هل أفلت‬
‫فينيق الكوجيتو العربي من رماد العصور؟ لعلنا لم نخرج‪ ،‬بعُد‪ ،‬من‬
‫توصيف أدونيس الجميل الفاجع في بيان حزيران ‪ /‬جوان ‪ 1967‬عندما‬
‫تساءل على لسان اإلنسان العربِّي المهزوم حضاريا‪" :‬هل أستخدُم‬
‫السيارة حقا أم أنني أستخدُم فرسا من حديد؟"‪ .‬إَّن بيننا وبين فهم العلم‬
‫مسافة ذهنية ‪ -‬تاريخية وإبستيمولوجية لم نقطعها بصورٍة تامة إلى‬

‫‪71‬‬
‫اليوم فكيف لنا أن ُنسهَم فيه أو في مغامرة البشرية بإبداعنا؟ إلى متى‬
‫نظل ضيوفا خرسا على العصر ال نحسُن قراءة أبجدياته وال نستوعُب‬
‫مشكالته العميقة وال التحديات التي تواجهه ومن بينها‪ ،‬بالطبع‪ ،‬تلك‬
‫المتعلقة بالتقنية وبالعلم وقد تحول إلى مؤَّس سٍة ترتبط برغبة السيطرة‬
‫والهيمنة؟‬
‫الحظ البروفيسور الراحل محمد أركون أَّن هناك وجها سائدًا من‬
‫أوجه استقبال العلم الدقيق عندنا في العالم اإلسالمي منذ القرن التاسع‬
‫عشر‪ .‬يتمثل هذا األمر في استخدام نتائج علوم الطبيعة المختلفة في‬
‫تأكيد صالحية الخطاب الديني من ِقبل بعض المشتغلين بالفكر من الذين‬
‫تخصصوا في الهندسة أو الطب أو الميكانيكا في بلدان الغرب‪ .‬لم يكن‬
‫العلُم عند هذه الطائفة‪ ،‬بكل تأكيد‪ ،‬معرفة تنهض على رؤيٍة جديدة للعالم‬
‫الطبيعي تجِّدُد العقل والنظر والمقاربة وتقطع مع مجمل التصورات‬
‫الكالسيكية والعوالم القديمة كما بَّينا سالفا‪ ،‬وإنما أداة نضال من أجل‬
‫إثبات مشروعية اإلسالم في وجه الغرب الظافر تاريخيا بفعل ثوراته‬
‫المختلفة والحداثة العلمية ذاتها‪ .‬وكما هو معروٌف فقد تطور هذا التوجه‬
‫واكتسح الساحة العربية تحت ُم سَّم ى "اإلعجاز العلمي في اإلسالم"‬
‫مدعوما بالبترو دوالر و "الصحوة اإلسالمية" التي لم تكن إال ذراعا‬
‫أمبريالية من أجل الحد من المِّد اإليديولوجي االشتراكي في منطقتنا‬
‫العربية أثناء الحرب الباردة‪ .‬وبغض النظر عن األهداف اإليديولوجية‬
‫المضمرة والتلفيق المعرفي لهذا الخطاب فهو لم يكن في حقيقته‬

‫‪72‬‬
‫البسيطة إال "سطوا على منجزات الغير" كما ُيعِّبُر األستاذ علي حرب‪.‬‬
‫ربما هذا ما جعلني أصفه‪ ،‬يوما ما‪ ،‬بأنه يمثل "نشيد البجعة" وكنُت‬
‫أعني بذلك النشيد الذي يرتفع لحظة شعور الذات بتهديد الموت والغياب‬
‫كما هو الشأن مع هذا الطائر البحري‪ .‬فشعورنا المرير بالخروج من‬
‫األبواب الضيقة للتاريخ وعدم مشاركتنا في صنع أقدار العالم وافتقادنا‬
‫لزمام المبادرة منذ قرون‪ ،‬جعلنا نعوض عن قصورنا الفادح بنوع من‬
‫الفانتازيا التي تجعل الذات اإلسالمية رحما لكل ما عرفه العالُم من‬
‫إنجازات وانقالبات معرفية‪ .‬هذه‪ ،‬باختصار‪ ،‬عملية تعويض استشفائية‬
‫من عقدة التأخر التاريخي وليست إنجازا معرفيا‪.‬‬
‫كتب البروفيسور أركون حول هذا األمر قائال‪:‬‬
‫" ‪ ...‬نالحظ منذ القرن التاسع عشر أَّن المسلمين المتخصصين في‬
‫العلوم الدقيقة يتدخلون بسهولٍة في الدراسات القرآنية ويكتبون عنها‬
‫كتبًا تحظى بنجاح كبير في المكتبات‪ .‬فمثال كان المهندس الجزائري مالك‬
‫بن نبي قد فرض نفسه في النصف األول من القرن العشرين بصفته‬
‫مفكرًا مسلما كبيرًا عن طريق إصدار كتاب سطحي جدًا يدعى‪ :‬الظاهرة‬
‫القرآنية‪ .‬وهو كتاٌب ال يزال ُيقرأ بشكل واسع وُيعَّلق عليه حتى اآلن‪.‬‬
‫ونالحظ أَّن السيد شحرور (مهندس سوري)‪ ،‬كالكثير من المؤلفين‬
‫اآلخرين‪ ،‬يستخدم بعض المقاطع المتبعثرة من المعرفة العلمية‬
‫المعاصرة‪ ،‬مازجا بين العلوم الدقيقة والعلوم اإلنسانية واالجتماعية‪.‬‬
‫وهو يهدف من وراء كل ذلك إلى إعادة تقييم الصحة اإللهية والصالحية‬

‫‪73‬‬
‫الكونية للقرآن بصفته الكتاب الذي يحتوي على الوحي في اللغة العربية‪،‬‬
‫وهو يزعم بأنه يعتمد على "معرفة علمية ال تناقش" في إعادة التقييم‬
‫هذه‪ .‬وهكذا نالحظ أَّن الوحي لم يتعَّر ض للمساءلة‪ ،‬ولم يصبح إشكاليا‪،‬‬
‫وإنما تَّم تثبيته مرة أخرى بالنسبة للمسلمين الذين قد يتعَّر ض إيمانهم‬
‫لالهتزاز أو الزعزعة تحت تأثير الفكر العلمي الحديث‪".‬‬
‫(القرآن‪ ،‬من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‪ .‬ترجمة‬
‫وتعليق هاشم صالح‪ .‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت ‪ .2001‬ص ‪.)15 -14‬‬
‫لعل هذا يطرح مشكلة تتعلُق بُبعدين اثنين لهما داللة خاصة هنا‪:‬‬
‫أولهما هو األدلجة المتنامية التي اكتسحت حياتنا ومنظوماتنا التربوية‬
‫وجامعاتنا مع تراجع ملحوظ للبحث العلمي والحقيقة العلمية –‬
‫االختبارية تحت ضغط "الحقائق السوسيولوجية" المنتعشة بفعل صعود‬
‫الخطاب اإلسالمي كما يشير إلى ذلك البروفيسور أركون نفسه‪ .‬والثاني‬
‫هو الحرُج من العلوم اإلنسانية والفلسفة والفكر النقدي بعامة‪ .‬إذ ظل‬
‫المسلمون يبحثون عن الجاهز عند اآلخر اعتقادًا منهم أَّن المعرفة‬
‫العلمية في مجال الطبيعيات تستطيع أن تمنَح أَّي خطاب آخر صالحية‬
‫معرفية مطلقة‪ ،‬في الوقت الذي يدرك فيه كل من يملك الحَّد األدنى من‬
‫الثقافة في هذا المجال أَّن المعرفة العلمية ليست مطلقة وإنما هي بناٌء‬
‫يخضع لالختبار والمراجعة والتصحيح وينهض‪ ،‬إبستيمولوجيا‪ ،‬على‬
‫القطائع و "مبدأ التكذيب" كما بَّين كارل بوبر‪ .‬ولكَّن هذا األمر ال يشغل‬

‫‪74‬‬
‫أبدًا بال المناضل اإلسالمي الذي تحركه "شهوة الهيمنة" على الفضاء‬
‫السوسيو‪ -‬سياسي ال "شهوة المعرفة"‪.‬‬
‫***‬
‫هذا من جهٍة أولى‪ .‬ومن جهٍة أخرى أرى أَّن األمَم المتقدمة لم‬
‫تتجاوزنا بالعلم فقط‪ .‬لقد تجاوزنا العالُم المتحضر – وهذا هو األهم في‬
‫اعتقادي – باألنسنة والتقدم االجتماعي والسياسي‪ ،‬أعني بذلك الخروَج‬
‫المشهدَّي من دائرة قيم قديمٍة متمحورة حول المطلق والتعالي إلى دائرة‬
‫قيم جديدٍة متمحورة حول اإلنسان‪ .‬وقد تجلى هذا في اتساع دائرة‬
‫الحريات الفردية والجماعية وفي الديمقراطية باعتبارها نظاما يقوم على‬
‫اإلرادة العامة ومرجعية البشر التشريعية واحترام حقوق اإلنسان‪ .‬فإذا‬
‫كان البعُد العلمي ‪ -‬التكنولوجي قد مثل الجانب الكمي من التقدم فإَّن‬
‫الحقوَق والحرياِت واحترام كرامة اإلنسان واالنسالخ من منظومات‬
‫اإلخضاع االجتماعية والسياسية قد مثلت‪ ،‬كلها‪ ،‬الجانَب الكيفي منه‪.‬‬
‫ومن الواضح أننا ‪ -‬في العالمين العربي واإلسالمي معا ‪ -‬لم نلتفت إلى‬
‫هذا كثيرًا وظل هُّم أنظمتنا ومجتمعاتنا تحقيق التراكم الكمي دون أدنى‬
‫اهتمام بتحرير القدر اإلنساني من امتدادات نظام الوصاية على الروح‬
‫والعقل والجسد‪ .‬أتذكر‪ ،‬هنا‪ ،‬كيف هلل الكثيُر من العرب‪ ،‬نهاية‬
‫الثمانينات‪ ،‬المتالك صدام حسين قوة عسكرية وأسلحة دمار أصبح يهِّدُد‬
‫بها إسرائيل قبيل حادثة غزوه المؤسفة للكويت‪ .‬لقد اعتبر الكثيرون ذلك‬
‫فخرًا للعرب‪ ،‬كما اعتبروه نموذجا للقيادة التي تولي أهمية خاصة للعلم‬

‫‪75‬‬
‫والتكنولوجيا على درب منافسة الغرب واسترجاع مكانة العرب بين‬
‫األمم‪ .‬ولكن ماذا كان ُيخفي الجانب السياسُّي والحقوقي واإلنساني‬
‫للعراق آنذاك؟ هذا ما لم يهتَّم به من كانوا يرون في عسكرة النظام‬
‫وتغول الدولة األمنية والَّدوس على حقوق اإلنسان شيئا ذا أهمية أمام‬
‫التحديات المطروحة‪ .‬كانت أنظمتنا تجتهُد في جعل اإلنسان صغيرًا كجرم‬
‫خامد يدور في فلك الطاعة وفقدان روح المبادرة واإلبداع‪ .‬ولكن "من‬
‫أين للوطن أن يكوَن كبيرًا بإنسان صغير؟" كما تساءل أدونيس بمرارة‪.‬‬
‫ما أردنا أن ُننِّبه إليه‪ ،‬من خالل هذا المثال‪ ،‬أَّن العلَم يسهل تحويله إلى‬
‫تقنية تطمُس نمَّو المجتمع المدني وتحول الحياة العامة إلى "غوالغ"‬
‫بما يتيحه من قدراٍت رهيبة للدولة األمنية ومن تقنيات عالية الكفاءة‬
‫على مراقبة البشر ومعاقبتهم‪ .‬لم يكن بإمكان التكنولوجيا التي هللنا لها‬
‫وسعينا إلى امتالكها أن تلجَم نيرون العربَّي وتُح َّد من مغامراته‪ .‬ومن‬
‫نافل القول هنا‪ ،‬على ما أعتقُد‪ ،‬أن نستعيَد أعمال بعض مفكري الغرب‬
‫الكبار الذين تناولوا بالبحث الحفري عالقة المعرفة بالسلطة بعيدًا عن‬
‫أوهام من ظلوا يعتقدون بوجود المعرفة الخالصة المستقلة عن‬
‫تكنولوجيا إنتاج الذوات الخاضعة‪ .‬أعتقد أَّن أعمال ميشال فوكو أساسية‬
‫في هذا المجال‪.‬‬
‫***‬
‫إشارة‪:‬‬

‫‪76‬‬
‫(نشرت مقاطع من هذا المقال في ملحق صحيفة "النصر" الثقافي األسبوعي‬
‫"كراس الثقافة"‪)2020 / 07 / 28 ،‬‬

‫* العلُم والثقافة في بلداننا‪ :‬حكاية قطيعة‬


‫أشار األستاذ محمد عابد الجابري إلى تلك العالقة العضوية بين العلم‬
‫والثقافة في كل عملية تنموية ُم نِّبها إلى ضرورة التوقف عند مفهوم‬
‫التنمية الذي ال يرى فيها تغيرًا كميا أو تراكما اقتصاديا فحسب‪ ،‬وإنما –‬
‫وربما بدرجة أكبر – تغيرًا كيفيا يطال العقل والثقافة وطرائق النظر‬
‫والمقاربة‪ .‬كتب يقول‪ " :‬إَّن أبلغ تعريٍف للتنمية قرأته وشَّدني إليه هو‬
‫ذلك الذي ُيعِّر فها بأنها "العلم حين يصبح ثقافة" ‪ ...‬وهكذا فإذا كانت‬
‫التنمية (كذلك) فإَّن التخلف سيكون هو "العلم حين ينفصل عن الثقافة"‬
‫أو هو "الثقافة حين ال يؤِّس سها العلم" ‪( ...‬وهكذا) سنجُد فعال أَّن‬
‫الظاهرة العامة التي تلخص معطيات التخلف في "البلدان النامية" هي‬
‫انفصال العلم عن الثقافة‪ :‬عدم اندماجه في حياة المجتمع المادية‬
‫والفكرية والروحية‪ ".‬بحيث يبقى العلم مثل "الجسم الغريب في محيط ال‬
‫يؤِّس سه وال يتأَّسُس به‪".‬‬
‫(المسألة الثقافية في الوطن العربي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية – ط‬
‫‪ ،3‬بيروت ‪ – 2006‬ص ‪.)104-103‬‬
‫‪77‬‬
‫هذا عوٌد على بدء كما يقال ‪.‬ال يمكُن للتنمية الفعلية أن تصبح واقعا‬
‫ينقل المجتمَع إلى االنسالخ من أوضاع سابقة إلى عهٍد جديد اجتماعيا‬
‫وثقافيا وسياسيا إال إذا أصبح العلُم ثقافة أي قاعدة نظر وعنصرًا عضويا‬
‫في الثقافة السائدة يؤِّسُس لها‪ ،‬وإال إذا تَّم نقل ذلك وتكريسه ضمن‬
‫استراتيجية تربويٍة تقطع مع األساليب التلقينية والتدجينية القديمة ومع‬
‫مراميها اإليديولوجية التي تذهب في اتجاٍه معاكس تماما لبناء المواطن‬
‫الحر والمسؤول ذي السلوك العقالني والتفكير النقدي ‪.‬ال يمكُن للعلم أن‬
‫ُيحقق النقلة المرجَّو ة في حياتنا إذا تَّم التعامل معه باعتباره منجزات أو‬
‫تقنية أو سلعة ال عالقة لها ببنية الفكر أو تجديد النظر إلى العالقة بالعالم‬
‫والطبيعة والمجتمع والمعرفة ‪.‬ال يمكن‪ ،‬بمعنى ما‪ ،‬التأسيُس لثقافٍة تقوم‬
‫على العلم مع االنجراف وراء االستهالك كما نالحظ عبر امتداد العالم‬
‫العربي‪ .‬وهنا أجدني أشيُر ‪ُ ،‬م جَّددًا‪ ،‬إلى مقاومة الثقافة التقليدية للعلم‬
‫وارتيابها من طبيعته االنقالبية في النظر والمقاربة باعتباره أبلغ ما‬
‫يؤِّسُس للقطائع مع الماضي المعرفي في أشكاله العقدية والمذهبية‬
‫المتآكلة‪ .‬ولعل في هذا ما ُيفِّسُر لجوَء التقليديين إلى التلفيق الذي ظل‬
‫يعتبُر العلم وفتوحاته "معاصرة" في مقابل الذات التاريخية المؤَّس سية‬
‫باعتبارها تقوم على "أصالة" تعيُش زمنا يكاد يكون رياضيا ال يعرُف‬
‫التحول‪ .‬وهنا بالضبط تكمُن مشكلة الحداثة التي ال نريُد لها أن تكون‬
‫سؤاال وانقذافا في مغامرة البحث وإعادة النظر في أسس الحياة بما ُيتيُح‬
‫احتضاَن القدر التاريخي الجديد‪ .‬لقد ظللنا‪ ،‬خالفا لذلك‪ ،‬نركن إلى‬

‫‪78‬‬
‫التحديث الشكلي وكأننا نروُم نفخ الروح في مومياء الذات المتهالكة‬
‫حضاريا منذ زمن ليس بالقريب‪.‬‬
‫لقد ظل المسؤولون الجزائريون‪ ،‬منذ االستقالل‪ ،‬يرون في العلم‬
‫مفتاحا سحريا ُيتيُح لنا ولوَج مغارة التقدم واللحاق بركب األمم‬
‫الصناعية المتطورة كما كان يقال في الشعارات يومها‪ .‬وهذا صحيٌح‬
‫على األقل إن فهمنا منه ترسيخ الثقافة العلمية في المجتمع وبناء‬
‫جامعات حديثة ومختبرات بحث وبلورة خطوط عامة عريضة لمنظومٍة‬
‫تربوية تركز همها على إعداد المواطن الحر المسؤول المتفتح على قيم‬
‫العصر والُم حترم لحقوق العقل في البناء الذاتي‪ .‬ولكَّن ما حصل عندنا‬
‫انحرف عن هذا كثيرًا‪ .‬فلقد كان لضحالة الثقافة وِقصر النظر والحماسة‬
‫اإليديولوجية الفارغة لدى مسؤولينا أن دفعت بهم دفعا إلى السقوط في‬
‫أوهام حرق المراحل من خالل سياسات تنموية كارثية؛ كما سقط الكثيُر‬
‫منهم في فخ محاولة تعزيز مكانة العلوم الطبيعية في المنظومة التربوية‬
‫والجامعية مع إهمال شبه تام لإلنسانيات والعلوم االجتماعية والفلسفة‪.‬‬
‫كأنهم كانوا يريدون بناَء إنسان تقني آلي مع إبقاء عقله خاليا من الُبعد‬
‫النقدي وروحه فارغة من االمتالء الثقافي والوجداني والجمالي الذي‬
‫توفره الفنون واآلداب‪.‬‬
‫لقد استغربُت واستهجنت كثيرًا عشية الدخول المدرسي‪ ،‬سنة‬
‫‪ ،2013‬كلمة الوزير األول الجزائري آنذاك عبد المالك سالل أمام بعض‬
‫إطارات التربية وهو يدعوهم إلى ضرورة االهتمام بالعلوم والرياضيات‬

‫‪79‬‬
‫باعتبارها السبيل إلى التطور وامتالك التكنولوجيا في العالم القائم على‬
‫القوة واالبتكار والتنافس‪ .‬لقد كان الوزير األول يتحَّد ُث بصورٍة شعبوية‬
‫سطحية وكأنه رجل شارع وليس مسؤوال في دولٍة بحجم الجزائر‪ .‬كان‬
‫يتحَّد ُث عن العلم الذي ُيتيُح لنا امتالك الصواريخ مثال مع نبرة تسفيٍه‬
‫واحتقار للشعر واإلنسانيات بعامة وكأنها عائٌق فعلي أمام ما تريده‬
‫الجزائر من خالل منظومتها التربوية‪ .‬أعتقُد أَّن هذا الوعَي السطحَّي‬
‫الجاهل هو الذي غامر بنا كثيرًا صوب العبث بمصائر األجيال ومصير‬
‫البالد التي فشلت‪ ،‬إلى اليوم‪ ،‬في تطوير منظومة تربوية متكاملة‬
‫وعصرية‪ .‬كتبُت ‪ ،‬يومها‪ ،‬رسالة مفتوحة إلى السيد الوزير األول‬
‫الجزائري بعنوان "عن زورق األوديسة الجزائرِّي المكسور"‪ .‬جاء فيها‪:‬‬
‫" إَّن تدريَس العلوم والرياضيات أمٌر مهم بكل تأكيد‪ ،‬وُرَّبما سيكوُن‬
‫من قبيل تحصيل الحاصل أن نذّك ر بذلك في عالم تحكمُه القوة وصراُع‬
‫الهيمنة المرتِك زان على التكنولوجيا في آخر فتوحاتها‪ .‬ولكَّننا نعتقُد أَّن‬
‫هذا األمر يجُب أال يكوَن ُم ناسبة أو مدعاة للتهكم والسخرية من الشعر‬
‫واألدب واللغة العربية‪ .‬إَّن الحديث عن النهضة العلمية المنشودة ‪ -‬في‬
‫إطار رفع التحديات أمام ُم ستقبل ال مكان فيه لمن ال يتحَّك ُم في‬
‫التكنولوجيا والعلوم –ال يكوُن أبدًا بإنسان آلي يستهلُك الُم نجز العلمَّي‬
‫الوافد من اآلخر الغربي الُم بدع‪ ،‬كما نالحظ في كل بلدان العالم الثالث‬
‫ومنها بلدنا بالطبع‪ .‬فالُم ستقبل ليس للكائنات التكنولوجية التي تفتقُر إلى‬
‫العقل النقدِّي والحس الجمالي والذوق الحضاري‪ .‬والحداثة التكنولوجية‬

‫‪80‬‬
‫ليست آلة فحسب وإنما هي‪ ،‬أساسا‪ ،‬عقل جديٌد ال مرجَع له إال حركية‬
‫اإلبداع أمام عالم أصبح مجاال للبحث واالستقصاء والكشف عن‬
‫المجهول‪ .‬إنها ديكارت ونيوتن وهايزنبرغ ‪ ...‬إنها روٌح جديدة تقودها‬
‫ُم غامرة البحث خارج عوالم اليقين التي تأسرنا‪ .‬فأين منظومتنا التربوية‬
‫من هذا؟‬
‫هل عملنا فعال‪ ،‬منذ استقالل البالد‪ ،‬على التأسيس لمنظومة تربوية‬
‫حديثة وعصرية ال تلهُث وراَء قشرة التكنولوجيا وفتات المعرفة من‬
‫جهة‪ ،‬واالرتماء في أحضان أكثر اإليديولوجيات تخلفا وشوفينية‬
‫وانغالقا من جهة أخرى؟ هل استطعنا تخليَص منظومتنا التربوية من‬
‫صراعات المواقع وتكتيك أجنحة السلطة الظرفية لنجعل منها‬
‫استراتيجية شاملة في بناء اإلنسان ‪ -‬عقال ووجدانا ومعرفة وحسا‬
‫حضاريا؟ هل استطعنا أن ُنحقَق نوعا من االنسجام بين البرامج التربوية‬
‫التي تتضارُب وال نكاُد نعثُر فيها على سياسة رشيدة تنُح و منحى إعداد‬
‫الُم واطن الجزائري الحر والمسؤول؟‬
‫أال تعرفون‪ ،‬سيادة الوزير األول‪ ،‬وأنتم تلقون بالالئمة على األدب‬
‫والشعر‪ ،‬أَّن ُم عظَم من حمل السالح في وجه الجزائريين – من الجامعيين‬
‫– في حقبة التسعينات الدموية كانوا من حَم لة الشهادات الجامعية‬
‫العلمية؟ فما المعنى العميق لذلك؟ ماذا قدمت الفيزياُء والكيمياء لهؤالء؟‬
‫ماذا قدمت لهم شهادات الهندسة والرياضيات؟ هل صنعت منهم نيوتن‬
‫أو آينشطاين؟ هل جعلت من بعضهم باستور أو كلود برنار؟ من الواضح‬

‫‪81‬‬
‫أَّن بناَء العقل النقدي كان الغائب األكبر عن سياساتنا التربوية وبرامجنا‬
‫الجامعية أمام ارتجالنا التربوي الغوغائي ونحُن نَّدعي تحمل أمانة‬
‫مصائر األجيال أمام األمة‪ .‬هكذا أنتجنا إنسانا جزائريا أجوَف وسطحيا‬
‫وبال لغة‪ .‬إنسانا يتدحرُج ككرة القش على سطح العالم ‪ ...‬إَّن العلَم‬
‫الحديث‪ ،‬وهو من أبرز مظاهر الحداثة بكل تأكيد‪ ،‬ليس تقنية شكلية أو‬
‫وسيلة استرزاق وإنما هو نظرة جديدة إلى العالم تخلصت من رواسب‬
‫الرؤى السحرية التي مازالت تعيش عهوَد ازدهارها عندنا في صورة‬
‫مأسسٍة للدين تربويا وثقافيا وسياسيا‪ .‬العلُم ليس قناعا نرتديه للدخول‬
‫إلى بهو العالم الُم عاصر‪ .‬إنه روٌح جديدة ُم غامرة وقيٌم ثقافية ‪ -‬عقالنية‬
‫قامت على أنقاض ثقافة المرجعيات المعصومة والعوالم الُم غلقة‪ .‬فأين‬
‫نحُن من هذا؟ وما حظ منظومتنا التربوية منه؟‬
‫ال ُيمكُن أبدًا‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬بناُء منظومٍة تربوية حديثة دون إعادة‬
‫النظر الجذرية في برامجنا التربوية وطرائق التدريس التي ال تزال تعلُم‬
‫وأَد العقل وتنشيط الذاكرة ‪.‬ال ُيمكُن بناُء اإلنسان الجزائري وإعداده‬
‫ليكوَن ُم واطنا ُم نتجا وُم بدعا ببرامَج تقليدية تعلمُه الطاعة وخنق الفكر‬
‫النقدي وتجريَم السؤال‪ .‬ولو كان األمُر بيدي‪ ،‬صراحة‪ ،‬لما ترَّددُت لحظة‬
‫في تقديم مشروع ُم راجعة شاملة لبرامجنا التعليمية والتربوية؛ فال‬
‫أضُع ‪ ،‬سيادة الوزير األَّو ل‪ ،‬مثلكم العلوَم في ُم واجهة اآلداب واإلنسانيات‬
‫وإنما أجعلُهما جناحين في مضمار المعرفة يرتبط أحدهما بالواقع العملي‬
‫‪ -‬االقتصادي وسوق التنمية واالستثمار دون أن يقطَع صلته بمغامرة‬

‫‪82‬‬
‫العقل اإلبداعِّي وحركية البحث في العالم؛ ويرتبط اآلخر بمسألة المعنى‬
‫والقيمة دون أن يرتطَم بأي شكل من أشكال الدوغماتية الُم تحجرة كما‬
‫نجُد ذلك في مادة " التربية اإلسالمية " مثال ‪ ...‬فهل من المعقول أن‬
‫تذهب الجمهورية‪ ،‬تربويا‪ ،‬في اتجاه ُيعاكُس ِقيمها وأسَس ها بهذا الشكل‬
‫وكأنها ال تعمُل على إنتاج مواطنين أحرار يتساوون أمام القانون وإنما‬
‫على إنتاج جماعة دينية؟"‪.‬‬
‫استطردُت ‪ ،‬بعد ذلك‪ُ ،‬م ستنكرًا تهكَم الوزير األول على الشعر واألدب‬
‫واإلنسانيات بعامة وهو يستظهُر شطرًا من بيٍت شعرٍّي للمعري‪:‬‬
‫" سيادة الوزير األول‪،‬‬
‫لقد تألمُت ‪ ،‬شخصيا‪ ،‬وامتعضُت كثيرًا من ُو رود شطر من قصيدة‬
‫مشهورة ألبي العالء المعري‪ ،‬على سبيل السخرية وانتقاص القيمة‪ ،‬في‬
‫حديثكم أمام ُم َد راء التربية‪ .‬وأظنكم ال تعرفون عن هذه الشخصية األدبية‬
‫والفكرية الشيَء الكثير‪ .‬لذا أراني‪ ،‬أوال‪ُ ،‬م لَز ما بتقديم اعتذار شخصٍّي لـ‬
‫"شاعر الفالسفة وفيلسوف الشعراء" عن هذا التهكم الذي لم يكن في‬
‫محله صراحة‪ .‬كما أراني‪ ،‬من جهة أخرى‪ُ ،‬م لزما بتوضيح ما ُيمثله‬
‫المعري في تراثنا الشعرِّي والفكرِّي العربي الُم شترك باعتباره من أئمة‬
‫العقل والنقد والسؤال الذي ال يركُن إلى الجاهز أو إلى المعرفة السائدة‬
‫حتى لو كانت في قداسة الُم عطى الديني أو عصمة االرتباط بالسلطة‪.‬‬
‫أليس هذا ما نحتاُج إليه‪ ،‬سيادة الوزير األول‪ ،‬من قيم نفتقدها في حياتنا‬

‫‪83‬‬
‫نتيجة سياساتنا التربوية العرجاء التي دَّم رت اإلنساَن الجزائري‬
‫وأنتجت منه الفرد األجوَف والتكفيرَّي وعبَد الذاكرة واألحادي النظرة؟"‬

‫"‪ ...‬ولكَّن المشكلة ال تتوقُف عند هذا الحد على ما أرى‪ .‬فالجميُع‬
‫يعرفون أَّن الُم ستهدف من وراء الحديث عن الشعر ليس الفَّن الشعري‬
‫بذاته وإنما اللغة العربية تحديدًا‪ .‬كأَّن العربية منذورة ألن تكون لغة تقليٍد‬
‫وماضوية وعقل مرجعٍّي منغلق أمام العصر وإنجازاته المعرفية‬
‫والعلمية‪ .‬هذا األمُر يكذبه تاريخها الحضارُّي من خالل أسماء الرازي‬
‫وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وابن خلدون‪ .‬كذلك ننِّبه إلى أَّن التركيز‬
‫على تطوير العربية واالهتمام بها – باعتبارها اللغة الوطنية والرسمية‬
‫–ال يعني أبدًا إحكام إغالق النوافذ على الذات الموروثة واالختناق‬
‫بثقافة االجترار على هامش صيرورات العلم والمعرفة في العالم كما يريُد‬
‫األصوليون؛ فلم تزدهر هذه اللغة البهية عبر تاريخها إال من خالل‬
‫التثاقف مع اآلخر‪ .‬أعتقُد‪ ،‬بالتالي‪ ،‬أَّن المشكلة ليست في اللغة وإنما في‬
‫السياسة التربوية والثقافة السائدة بعامة‪ ،‬وهي كما نعلم ثقافة رجعية‬
‫تكرس الجهل المقَّدس والمؤَّس س كما يرى البروفيسور الراحل محمد‬
‫أركون‪ .‬وأعتقُد كذلك أَّن المشكلة‪ ،‬في عمومها‪ ،‬ترجع إلى عقوٍد خلت‬
‫حين كانت مسألة التعريب قضية إيديولوجية ال معرفية أو علمية؛ ونحن‬
‫نعرُف كيف ُح سم فيها الصراُع بصورٍة متسرعة لصالح قوى التقليد‬
‫والرجعية الفكرية وهو ما يتجلى‪ ،‬اليوم‪ ،‬في برامج اللغة العربية‬
‫والنصوص التمثيلية التي تذهُب في اتجاه تحنيط العربية بكل أسف‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫لقد قلتم إَّن الشعَر ليس سبيال إلى التنمية االقتصادية‪ .‬ونحُن ال‬
‫نعترُض على هذا‪ .‬ولكَّن التنمية التي تنشدونها تكنوقراطيا ‪ -‬في ظل‬
‫عولمة ُم توحشة وليبرالية ‪ -‬لن تكوَن إنسانية الوجه ولن تجعل من‬
‫الجزائر بلدًا منيعا ألنها ستفتقُر إلى اإلنسان وإلى تطلعاته الحارقة إلى‬
‫العدالة والجمال والحرية‪ .‬ستكوُن تنمية تصلُح لإلنسان اآللي وُتخفي‪،‬‬
‫وراء حساب ُم عَّدالت النمو‪ ،‬شُح وَب الروح وانكماش دائرة الفعل‬
‫اإلبداعي عند اإلنسان الجزائري‪ .‬هكذا ستكوَن الجزائُر – كما كانت دوما‬
‫– بلدًا ُينتُج البترول وُيراكُم الثروات التي ُتسيُل لعاَب الفاسدين ال غير‪.‬‬
‫ستكوُن بلدًا ُينتُج البؤَس االجتماعي ويخنُق األحالم وال يستطيُع ُم جابهة‬
‫االقتالع الثقافي ‪ -‬الرمزي الناتج عن التحديث الُم توحش الذي تدعون‬
‫إليه في غياب سياسة تربوَّية حكيمة وطليعية؛ كما ال يستطيُع ُم جابهة‬
‫المخاطر واألطماع الخارجية التي تترَّبُص بنا في ظل تغييب اإلنسان‬
‫الجزائرِّي الَّدائم عن حقه في الُم شاركة السياسية وصنع القرار‪ .‬ستبقى‬
‫الجزائُر بلدًا دائَم الغياب عن مأدبة الفعل الثقافي والحضاري في العالم‪.‬‬
‫فإلى متى ُندافُع عن فقرنا الثقافي في العالم بُح َّج ة التركيز على األولويات‬
‫كالتنمية االقتصادية أو التحكم في التكنولوجيا؟ لماذا ُنريُد‪ ،‬دائما التمهيد‬
‫لسياسات تدجين اإلنسان واعتقاله إيديولوجيا أو تقنيا بدل تفجير طاقاته‬
‫وبناء عقله وتحرير ُم بادراته؟ لذا نعلُن ‪ ،‬سيادة الوزير األول‪ ،‬اختالفنا‬
‫معكم حول مفهوم التنمية والتقدم‪ .‬أنتم ترونُه كميا ونحُن نراُه كميا‬
‫وكيفيا معا‪ .‬أنتم ترونُه إنتاجا وآالت وأرقاما ونحُن نراُه تراكما ال يخلو‬
‫من الُبعد اإلنساني ومن فضائل الحرية والوعي وازدهار الشخصية‬
‫‪85‬‬
‫اإلنسانية التي تبقى‪ ،‬في كل األحوال‪ ،‬الضامَن األوحد لمناعة األمة على‬
‫كل الُم ستويات‪" .‬‬
‫ختمت رسالتي‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬بما يلي‪:‬‬
‫" سيادة الوزير األول‪،‬‬
‫أريُد أن أشيَر مذكرًا‪ ،‬وأنا أنهي رسالتي هذه ‪ ...‬إلى الوزير األول‬
‫البريطاني ونستون تشرشل – وكان مثقفا وكاتبا – عندما قال ذات يوم‪:‬‬
‫"نستطيُع التنازل عن أي جزيرٍة من جزر الهند (وكانت ُم ستعمرة‬
‫بريطانية) ولكننا لسنا ُم ستعدين للتنازل عن شكسبير!"‪ .‬شكسبير أهُّم‬
‫من األرض؟ هذا يعني أَّن التاريخ والهوية اإلبداعية العميقة أهم من‬
‫الجغرافيا الخاوية من الُبعد اإلنساني‪ .‬األمة امتداٌد في الزمان وذاكرٌة‬
‫مشتركة وتطلعاٌت إلى األجمل واألرقى عبر اإلبداع الذي يمثل خط الدفاع‬
‫الحصين للهوية الحضارية‪ .‬ولكننا الحظنا‪ ،‬بكل أسٍف ‪ ،‬أَّن المعري ال‬
‫يحظى عندكم بهذا الشرف‪".‬‬
‫إشارة‪:‬‬
‫(ُنشرت رسالتي المفتوحة إلى الوزير األول الجزائري كاملة في ملحق "األثر"‬
‫الثقافي األسبوعي التابع لصحيفة "الجزائر نيوز "‪)10/09/2013 ،‬‬

‫***‬

‫‪86‬‬
‫انطالقا من ذلك كله أرى أَّن المشكلة الرئيسَّية عندنا تتمثل في عدم‬
‫توفر مناخ سوسيو ‪ -‬ثقافي يجعل من العلم فعالية إبداعية ومغامرة‬
‫فكرية تروُم مجابهة المجهول والتحكم في وسائل تغيير الحياة نحو‬
‫المزيد من بسط سيطرتنا على محيطنا والبحث عن رفاهيتنا واستقاللنا‬
‫بكل أوجهه‪ .‬ولكَّن ذلك‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬لن يكون له حظ من النجاح ما لم‬
‫نبدأ بعقد مصالحٍة تاريخية مع الفلسفة باعتبارها ما يجِّس ُد استقالل العقل‬
‫عن الوصاية ومرجعية الماضي ‪.‬ال يمكن أن نعيش ازدهارًا ثقافيا وفكريا‬
‫في وضع ال تزال فيه لفتاوى ابن تيمية السطوة والغلبة على عقالنية ابن‬
‫رشد مثال‪ .‬إذ ال يمكن أبدًا للعلم أن يزدهَر خارج بيئٍة ثقافية حاضنة‬
‫للمعرفة والبحث والسؤال والمراجعة النقدية‪ .‬لذا أرى أنه تقُع على كاهل‬
‫ُنخبنا جميعا مسؤولية النضال من أجل اكتساب الفلسفة حَّق المواطنة في‬
‫مدينتنا التي ال تزال‪ ،‬في عمومها‪ ،‬تحمل صفات "مدينة هللا "ال "مدينة‬
‫اإلنسان"‪ .‬فعلينا أن نشرعَن لحق السؤال في نثر الشوك على سرير‬
‫العقائديات والمطلقات وأن نمِّهَد ‪ ،‬بذلك‪ ،‬لميالد الفرد الجزائري المستقل‬
‫فكرًا وسلوكا‪ .‬من نافل القول أن نذِّك َر بعدم إمكان ازدهار الفلسفة –‬
‫باعتبارها بحثا وتأسيسا لجدارة الحياة في أفق االستقاللية واإلبداع – إال‬
‫من خالل انبثاق "الكوجيتو" الذي طال انتظاُر إطاللته علينا من دهاليز‬
‫التاريخ المظلمة‪ .‬هذا ما سيحِّر ُر النظَر خارج أسيجة العقائديات‬
‫المتصلبة التي أسرت العقل وعزلته عن التحوالت الكبرى التي يعرفها‬
‫العالم‪ .‬علينا أن نتعلَّم "فن اإلقامة في العالم" كما ُيعِّبُر على حرب‪ .‬دون‬
‫ذلك لن يكون لنا وجوٌد فاعل وسيكون العدُم أليَق بنا‪ .‬نرسيُس الجزائري‬
‫‪87‬‬
‫(والعربي على العموم) لم يُعد يتأمل وجهه في مرآة األرض وإنما في‬
‫السماء واألبدية بوصفهما بديال عن السقوط غير الموفق في الزمنية‬
‫والتاريخ‪ .‬طوطمية الهوية عنده تبقى التعبيَر األمثل عن ضياعه وهروبه‬
‫من عالم يجعل منه سوقا استهالكية ومجاال حيويا استراتيجيا ومصدًر ا‬
‫للطاقة ال غير‪ .‬فمتى نفهُم أَّن الهوية إبداٌع أيضا ومصالحة مع‬
‫المستقبل؟‬

‫جاء في ملحمة الراحل محمود درويش الباذخة "مديح الظل العالي"‬


‫ما يلي‪:‬‬
‫" عَّم تبحُث يا فتى في زورق األوديسِة المكسور؟ "‬
‫نعرُف جميعا قصة األوديسة للشاعر اليوناني الخالد هوميروس‪ .‬هي‬
‫ملحمة آسرة تسرُد قصة عودة البطل أوليس إلى مدينته إيثاكه وحضن‬
‫حبيبته وزوجته بينيلوب بعد غياب عشر سنين قضاها مقاتال صلبا في‬
‫حرب طروادة الشهيرة‪ .‬أصبح زورُق األوديسة رمزا لبلوغ الهدف بعد‬
‫مقاومة الصعاب والخطوب‪ .‬ولكن ما معنى أن يكون هذا الزورق‬
‫مكسورًا؟ هنا تكمن المشكلة‪ .‬هذا يعني أَّن بلوغ الهدف ليس أكيدًا إن لم‬
‫يكن مستحيال‪ .‬من هنا رأيُت أن أنهي رسالتي المذكورة إلى الوزير األول‬
‫الجزائري بالسؤال اآلتي‪:‬‬

‫‪88‬‬
‫" إلى متى يظل زورُق األوديسة الجزائرِّي مكسورًا؟ "‬

‫*****‬

‫حول الُبعِد البربرِّي في الَّس ردية الوطنيِة‬


‫الجزائرية‬
‫(رٌّد وتعقيٌب على أمين الزاوي)‬

‫* "في البدء كانت الكثرة"‬


‫‪89‬‬
‫من نافل القول أن نعتبَر التاريخ ميدانا للصراع وحلبة مجابهٍة من‬
‫أجل اقتناص الشرعية السياسية واالجتماعية والثقافية‪ .‬وربما هذا ما‬
‫ُيفّسُر – ولو جزئيا – كونه من المجاالت التي ترفُد السلطة بما يمنحها‬
‫أحقية تمثيل األمة والشعب باسم أوهام االستمرارية والهوية الخالدة‬
‫المتعالية‪ .‬إَّن التاريخ‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬يخضُع دائما للتحوير واالستثمار‬
‫الذي يجعل منه سردية تدخل ضمن احتكارات السلطة الرمزية التي تعزز‬
‫إحكام السيطرة على القدر التاريخِّي للشعوب‪ .‬هذا ما ُيفّسُر أيضا‪ ،‬مقابل‬
‫ذلك‪ ،‬كيف أَّن المثقَف النقدَّي يفضل دائما مراجعة الروايات الرسمية‬
‫للتاريخ حفاظا منه على المسافة النقدية الضرورية مع خطاب السلطة‬
‫السياسية والثقافية‪ .‬هذا األمُر واضٌح ومفهوٌم ‪ ،‬وهو يمثل جبهة أساسية‬
‫من جبهات نضال المثقفين على درب تفكيك عمليات األسطرة المختلفة‬
‫التي تلفع إرادة الهيمنة على الفضاء السوسيو‪ -‬سياسي‪.‬‬

‫إنني أعتقُد‪ ،‬شخصيا‪ ،‬أَّن تدخل الَّص ديق المبدع أمين الزاوي يندرُج‬
‫في هذا المجال من المراجعة وإن كان ال يتمتُع – بصورٍة كافية ‪ -‬بوجاهة‬
‫العمق النقدِّي التفكيكي ألنه ال يكشُف شيئا جديدًا عندما يعتبُر العرَب ‪،‬‬
‫على سبيل التمثيل‪" ،‬غزاة" احتلوا شمال إفريقيا تحت غطاء المقَّدس‬
‫الديني الذي مثله اإلسالم‪ .‬هذا األمُر ليس خصيصة عربية – إسالمية‬
‫فحسب وإنما هو شأٌن أمبراطورٌّي عام ارتبط بشهوة الفتح والتوسع في‬
‫كل الحضارات الكبرى إبان عنفوانها‪ ،‬وهذا منذ العهود القديمة وصوال‬
‫إلى االستعمار األوروبي الحديث‪ .‬فال بَّد لشهوة التوسع من غطاٍء‬

‫‪90‬‬
‫إيديولوجي توفره األديان التقليدية أو حتى "األديان العلمانية" بتعبير‬
‫ريمون آرون‪ .‬إَّن النظَر الفاحَص والنقدَّي في التاريخ وما يطرحه من‬
‫مشكالت‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬ليس مجال تصفية حسابات كما نالحظ عندنا‬
‫وإنما هو مناسبة لتفكيك األساطير المؤِّس سة للسلطة الفعلية القائمة‪،‬‬
‫وفضٌح إليديولوجيات اإلقصاء والتمويه ومزاعم االستمرارية والوحدة‬
‫المزعومة التي تختزل فسيفساَء الهوية في الصوت الواحد والموقف‬
‫الواحد‪ .‬علينا‪ ،‬فعال‪ ،‬العمل دائما على تحرير التاريخ من إرادة استخدامه‬
‫ألغراض ال تخدُم المعرفة العلمية الموضوعية والحقيقة المغَّيبة وتجعله‬
‫أداة سلطوية أو جدوال صغيًر ا يضمُن لطواحين الهيمنة والسيطرة أداَء‬
‫عملها بإحكام‪.‬‬
‫إَّن ما غاب عن الَّص ديق أمين الزاوي ‪ -‬وعن الكثيرين ممن يذهبون‬
‫نفَس المذهب – هو أَّن التاريخ في عمومه ليس إال ميدانا للصراع‬
‫والغلبة والتداخل والتثاقف والتهجين وال يمكن‪ ،‬أبًد ا‪ ،‬النظُر إليه من‬
‫زاوية الثنائية التبسيطية التي تختزله في مواجهة تراجيدية بين‬
‫"السكان األصليين" و "الغزاة" على تعددهم عبر التاريخ‪ .‬الواقُع أعقُد‬
‫بكثير من هذه المانوية الفكرية البائسة‪ .‬وربما أمكننا أن نقول مع‬
‫محمود درويش ‪ :‬ال" تكتب التاريخ شعرًا ‪ /‬فالسالُح هو المؤرخ"‪ .‬ولكن‬
‫يجُب التنبيه إلى أَّن "السكان األصليين" لشمال إفريقيا ليسوا طبعة‬
‫جديدة من "الهنود الحمر"‪ .‬يجُب التأكيُد على هذا‪ .‬لقد كانت للتهجين‬
‫والتثاقف اليُد العليا في تشكيل المصائر والمآالت في بالدنا وبخاصٍة مع‬

‫‪91‬‬
‫العرب وثقافتهم ودينهم‪ .‬ولكَّن ما أوُّد الوقوَف عنده هو أَّن هناك أمرًا‬
‫واقعا كثيفا يواجهنا بمشكالته الضخمة سياسيا وثقافيا وهو يتجاوز‪ ،‬بكل‬
‫تأكيد‪ ،‬غنائية اإلصرار الرومانطيقية الباحثة عن صفاء البدايات العرقية‬
‫واللغوية‪ .‬فنحن اليوم نعيُش في الجزائر التعددية ال على ذكرى "مأساة‬
‫السكان األصليين مع الغزاة العرب" وإنما كشعٍب واحد وتحدونا‪ ،‬بكل‬
‫تأكيد‪ ،‬الرغبة في ضمان شروط "العيش المشترك" وإرادة بناء مجتمع‬
‫تعددي متضامن وديمقراطي ال ُيخَنُق فيه صوٌت وال يغيُب فيه طيٌف‬
‫ثقافي واحد‪ .‬وأعتقُد أَّن االنتصاَر لألبعاد والعناصر الثقافية واللغوية‬
‫الُم غَّيبة عندنا في الجزائر يجُب أال ُيوّر طنا في اختالق المظلومية الحالية‬
‫من أعماق التاريخ األلفي وإنما من السياسة غير الديمقراطية التي‬
‫جعلت السلطة ال تعترُف بالحقوق الديمقراطية لقطاع واسع من أبناء‬
‫الشعب الجزائري‪ .‬ربما لم تفهم السلطة السياسَّية ‪ -‬التي استلمت مقاليَد‬
‫الحكم عشية االستقالل ‪ -‬الكياَن الوطنَّي الواحد إال في صورة وحدٍة تعلو‬
‫على التعدد فوقعت بذلك في الشمولية والعسف الثقافِّي والسياسي‪.‬‬
‫ولكننا اليوم نريُد وحدًة تنبثُق من التعدد الفعلي الذي يفترضه كل نزوع‬
‫ديمقراطي يقوم على االعتراف بالمختِلف وحقه الكامل في الوجود‬
‫واإلفصاح عن نفسه بحرية‪ .‬هذا‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬ما يجُب أن يشكل مداَر‬
‫نضالنا حاليا‪.‬‬
‫إَّن العرَب ‪ ،‬اليوم‪ ،‬ليسوا مشكلة في الجزائر والمغرب العربِّي عموما‪.‬‬
‫ليسوا ذكرى إعصار فيه ناٌر أصاب شجرة الحرية في هذه الديار‪ .‬العرُب‬

‫‪92‬‬
‫ليسوا من أحفاد جنكيز خان أو هوالكو‪ .‬ليسوا فصال من فصول الكارثة‬
‫كما ُيعتَقد‪ ،‬وإنما هم واقٌع سوسيولوجٌّي ضخم وتاريٌخ وثقافة عالمة‬
‫ولغة فريدة أيضا‪ .‬العرُب هم الذين حملوا اإلسالَم الذي ُيعتبُر ديَن‬
‫األغلبية الساحقة من الجزائريين منذ قرون خلت‪ .‬وال نحتاُج هنا‪ ،‬ربما‪،‬‬
‫إلى التأكيد على عالقة اإلسالم باللغة العربية‪ .‬كما يجُب أال ننسى أبدًا أَّن‬
‫اإلسالَم مثل دائما عامل وحدٍة بين الجزائريين في مواجهة اآلخر الغازي‬
‫الذي كان "صليبيا" أو "كافرا" أو "روميا" حسب الظروف والسياقات‬
‫التاريخية المختلفة وهذا قبل االنبثاق التدريجِّي للوعي الوطني السياسِّي‬
‫الحديث الُم قاوم للُم ستعمر مع الحركة الوطنية بداية القرن العشرين‪ .‬لقد‬
‫صنع العرُب هوية جديدة وجناحا مغربيا لحضارٍة كان لها أن تحتضَن‬
‫شعوبا كثيرة وأن تقّد َم إسهاَم ها – من خاللنا ‪ -‬عبر األندلس وبالد‬
‫المغرب‪ .‬يمكننا االستشهاُد بمنارتين كبيرتين تمثيال ال حصرًا‪ :‬ابن رشد‬
‫وابن خلدون‪ .‬كما أَّن اإلسالَم ‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬ليس مشكلة بحِّد ذاته‪ .‬هو‬
‫ديانة وقيٌم وروحانية وتجارُب فريدٌة في العلو واكتناه المطلق وعيش‬
‫تجربة التعالي‪ .‬اإلسالُم سردية تأسيسَّية كبرى وانخراط في "تاريخ‬
‫الخالص" الذي دشنته الوحدانيات وقِّد َر له أن يهيمَن – من خالل رأس‬
‫المال الرمزي اإلبراهيمي ‪ -‬على مصائر شعوٍب كثيرٍة في حوض‬
‫المتوسط‪ .‬ربما كانت المشكلة الفعلية‪ ،‬من جهٍة أولى‪ ،‬تكمن في اختزال‬
‫الهوية المركبة لشعوبنا في "العروبة" باسم إيديولوجية بعثية شوفينية‬
‫وإقصائية كما حدث في بلدان عربيٍة كثيرة ومن بينها الجزائر بعد‬
‫االستقالل بالطبع‪ .‬كما تكمن المشكلة أيضا‪ ،‬من جهٍة ثانية‪ ،‬في مأسسِة‬
‫‪93‬‬
‫الدين واستخدامه أداة سياسية الكتساب الشرعية من ِقبل سلطاٍت فاشلة‬
‫ظلت تحمله ورقة توٍت تستُر بها عورتها‪ .‬فالمشكلة‪ ،‬في نهاية األمر‪،‬‬
‫يمكُن اعتبارها مشكلة سياسية عنوانها األكبُر هو غياب الديمقراطية‬
‫بمفهومها الشامل العميق عن فكرنا وممارساتنا‪ .‬أقول هذا وأنا ال أتحَّد ُث‬
‫عن العروبة بوصفها عرقا وإنما باعتبارها انتماًء ثقافيا وحضاريا يجُد‬
‫تحققه في التعبير باللغة العربية التي نجحت‪ ،‬منذ قرون خلت‪ ،‬في أن‬
‫تكوَن ذاكرة مشتركة وبيتا لُهويٍة انصهرت فيها األعراُق والثقافاُت‬
‫والتطلعات‪ .‬فهل نحتاُج دوما إلى التذكير بأَّن العروبة ليست‪ ،‬بطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬عروبة العرق وإنما هي عروبة التاريخ والثقافة؟‬
‫ال أنكُر أنني متابٌع دائٌم لما يكتبه الَّص ديُق أمين الزاوي محترما‬
‫نضاله من أجل الدمقرطة والحداثة وتحرير قَد رنا التاريخِّي المشترك من‬
‫آلة االستالب العمالقة التي يمثلها الديُن المؤَّس سي‪ .‬نحُن ال نختلف في‬
‫هذا أبدًا‪ .‬ولكنني قد أختلُف معه جزئيا حول الطرق التي يسلكها لتحقيق‬
‫الهدف‪ .‬لقد كتب يوما ما – ضمن نفس السياق – في عموده الصحفي ‪/‬‬
‫الفكري قائال‪" :‬في البدء كان البربر" ( ‪.)LIBERTE, 06-10-2018‬‬
‫ولكنني أميل‪ ،‬في اللحظة الحالية من تاريخنا‪ ،‬إلى التأكيد مع صديقي‬
‫الكبير األستاذ أدونيس على أنه "في البدء كانت الكثرة"‪ .‬فعلينا أال نجعل‬
‫من هاجس البحث عن البدايات السعيدة الصافية رغبة محو جديدة‬
‫للحاضر المتعِّدد الغني‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫***‬

‫* اللغة واألمبراطورية‬
‫توقفُت بنوع من االستغراب هذه األيام‪ ،‬أيضا‪ ،‬عند آخر ما كتب‬
‫الَّص ديُق أمين الزاوي بخصوص الكتابة باللغة األم وهو يدبُج نسخة‬
‫أخرى من "إني أتهم" (‪ )LIBERTE, 04-06-2020‬ولكن ليس على‬
‫شاكلة إميل زوال الذي أراَد االنتصاَر ‪ ،‬سنة ‪ ،1898‬للضابط درايفوس‬
‫الُم َّتَه م ظلما وعدوانا بخيانة بلده ألسباٍب عنصرية‪ ،‬ولكن كي يكيل التهَم‬
‫لُج ملٍة من الكتاب والفالسفة والمثقفين الكبار الذين عاشوا في شمال‬
‫إفريقيا والمغرب اإلسالمِّي في حقٍب مختلفة ولم يكتبوا باللغة األم أي‬
‫"األمازيغية"‪ .‬لقد انهال بمطرقة التخوين على أبوليوس والقديس‬
‫أوغسطين وابن خلدون وابن بطوطة جميعا‪ .‬لم يسلم من هذه التهمة‪،‬‬
‫ربما‪ ،‬إال الشاعر القبائلي المعروف سي محند أو محند (الذي كان ُينشُد‬
‫شعره وينتمي إلى ثقافٍة شفوية ال تعرُف الكتابة)‪ .‬لقد وقفُت مستغربا‪،‬‬
‫كما قلُت ‪ ،‬أمام رأي مماثل ال يضُع للتاريخ وال للظروف وال للمالبسات‬
‫الحضارية المختلفة أَّي اعتبار في تحديد مصائر الثقافة واإلبداع‪ .‬وربما‬
‫أمكنني‪ ،‬لو ذهبُت مذهَبه‪ ،‬أن أتهم بشارًا وأبا نواس وابن سينا والرازي‬
‫وسيبويه وابن المقفع‪ ،‬أيضا‪ ،‬بخيانة ثقافتهم الفارسية ولغتهم األم‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫ولكَّن اإلبداَع لدى هذه الطائفة اندرج ضمن تراٍث وضمن ثقافٍة عربية –‬
‫إسالمية عالمة‪ ،‬وفي أفق إشكالي ولدته الديانة اإلسالمية التي دخل فيها‬
‫الفرس بعد حركة الفتوحات‪ .‬لقد أصبح أدبهم عربيا بحكم هويته اللغوية‬
‫حتى وإن كانت النزعة الشعوبية لدى بعضهم قد حاولت االنتقاَص من‬
‫قدر العرب كعرق أو كجنس أمام العنصر الفارسي في صورة رِّد فعل‬
‫مفهوم على المركزية العرقية العربية سياسيا ودينيا‪ .‬هذا نفسه تقريبا‪،‬‬
‫على ما أعتقد‪ ،‬ما حدث قبل قرون مع كتاب شمال إفريقيا وفالسفتها‬
‫الذين عاشوا في كنف األمبراطورية الرومانية المسيحية‪ .‬لقد كان أدُبهم‬
‫التينيا ينتمي إلى الدائرة الثقافية الالتينية والفضاء اإلشكالي الذي ولدته‬
‫الديانة المسيحية بعد ذلك‪ .‬لقد انتسبوا إلى ثقافٍة عالمة وكتبوا بلغتها ولم‬
‫يخونوا لغتهم األم التي ال نعرف‪ ،‬إلى اليوم‪ ،‬إن كان لها آنذاك حرٌف‬
‫وكتابة أو ال‪ .‬إَّن األدَب كان ينتسُب إلى اللغة في العهود األمبراطورية‬
‫القديمة ولم يكن من الممكن أن يوصَف أدٌب ما بأنه قومٌّي أو وطني‬
‫بالمعنى الراهن الشائع إال في العصر الحديث الذي شهد نشأة وانبثاَق‬
‫فكرة القومية المحايثة لميالد الدولة الوطنية‪ .‬لم يكن المتنبي شاعرًا‬
‫عراقيا‪ .‬ولكَّن الجواهري شاعٌر عراقي‪ .‬وكذلك السياب أيضا‪ .‬هذا هو‬
‫الفرُق بين الطورين‪ .‬كذلك لم يكن فيرجيل شاعرًا إيطاليا في عهٍد كان‬
‫فيه كتاب أقاليم إيطاليا ينتمون إلى األدب الالتيني‪ .‬أما دانتي فهو شاعٌر‬
‫إيطالٌّي ألنه كتب بلغته األم فأصبح بذلك "أبا الشعر اإليطالي" كما ُنعَت‬
‫الحقا‪ .‬لذا ال يمكن أن نصَف كتاب شمال إفريقيا في العهد الروماني بأنهم‬
‫كتاب "أمازيغ" انطالقا من اعتبارات إثنية فقط‪ .‬إنهم كتاٌب التينيون‬
‫‪96‬‬
‫ينتمون ثقافيا وحضاريا إلى الثقافة الالتينية – الرومانية‪ .‬لم نشهد ميالد‬
‫"الكوميديا اإللهية" في طبعٍة جزائرية تؤرخ لميالد األدب "األمازيغي"‬
‫ألسباب تاريخية وسياسية وثقافية معقدة بكل تأكيد‪.‬‬
‫ولكن كيف يذهُب الشطط بالَّص ديق أمين إلى إدراج اسم ابن خلدون‬
‫العربِّي األصل ضمن قائمة "الخونة" كذلك ُم عتبرًا إياه‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬خائنا‬
‫للغته األم وهذا بصورٍة تتناقُض كليا مع ما جاء في السيرة الذاتية‬
‫للعالمة الحضرمي‪ ،‬ومع الشرط السياسِّي والحضاري الذي كان يؤطر‬
‫اإلبداَع واإلنتاج الثقافَّي على العموم باللغة العربية العالمة وضمن اإلطار‬
‫المرجعي العربي – اإلسالمي آنذاك وتحديًد ا في القرن الميالدِّي ‪14‬؟ فما‬
‫اللغة التي خانها ابن خلدون عندما كتب باللغة العربية؟ وبمعزل عن كون‬
‫ابن خلدون عربيا‪ ،‬هل كان بإمكانه أن يكتَب أعماله ومصنفاته العلمية‬
‫واألدبية بلغٍة أخرى؟ أال يعلُم الَّص ديق أمين – انطالقا مما يخبرنا به‬
‫التاريخ واألنتروبولوجيا الثقافية معا – أَّن اللغة العالمة هي دائما تلك‬
‫المرتبطة بالدولة والكتابة والسلطة الثقافية ومركزية العقل والتراث‬
‫التأسيسِّي لحضارٍة ما؟ أتذكر جِّيدًا كلمة الُم ستشرق الفرنسِّي المعاصر‬
‫أندريه ميكال وهو يصُف حضارة العرب والمسلمين بقوله‪" :‬إنها أعظُم‬
‫حضارات المكتوب"‪ .‬هذا تحديدًا ما لم يتوفر للغات المحلية المختلفة في‬
‫شمال إفريقيا – ألسباٍب معقدة – وهو ما ُيفِّسُر ‪ ،‬بدوره‪ ،‬عدَم اعتمادها‬
‫في الكتابة عند غالبية الكتاب والمبدعين الذين أتى على ذكرهم‪ .‬ويبقى‬
‫أن نسجل أَّن المشافهة ظلت السمة األساسية لتراث البربر بينما كانت‬
‫الكتابة وسيلة لالنخراط في النقاش الثقافِّي العالي أو اإلبداع بصورٍة‬
‫‪97‬‬
‫عامة وقد تَّم هذا بلغتين كبيرتين لما يقارُب عشرين قرنا إلى اليوم‪:‬‬
‫الالتينية أوال فالعربية الحقا بعد الفتح العربِّي – اإلسالمي‪.‬‬
‫هذا من جهٍة أولى؛ ومن جهٍة أخرى ما معنى توجيه تهمة "الخيانة‬
‫التاريخية" هنا بأثر رجعٍّي ُيسقط الهموَم المعاصرة لمناضلي القضية‬
‫"األمازيغية" على أوضاع مختلفة تماما في التاريخ البعيد؟ هل من‬
‫الوجاهة محاكمة الماضي بهذه النبرة النضالية التي ولدتها ظروٌف‬
‫مختلفة تماما عن مسارات الثقافة في العصر األمبراطورِّي الروماني؟‬
‫هل يمكن إدانة أولئك الكتاب انطالقا من الهواجس الهوياتية المعاصرة‬
‫لدى المناضلين الحاليين؟ ربما كان األجدر بالَّص ديق أمين أن يوجه ُتهَم ُه‬
‫الجاهزة هذه لمفدي زكرياء مثال أو كاتب ياسين أو الطاهر وطار إن كان‬
‫ذلك يتمتُع بنوع من الوجاهة بالطبع‪ .‬إَّن كتاَب العهود األمبراطورية‬
‫القديمة لم يحملوا الهَّم النضالي الراهن المتعلق بالهوية "األمازيغية"‪،‬‬
‫فهذا شأٌن معاصٌر يدخل ضمن حِّيز المساعي اإليديولوجية الراهنة‬
‫الرامية إلى االعتراف بالُبعد البربرِّي في السردية الوطنية الجزائرية‬
‫التي رأت النوَر بعد االستقالل‪ ،‬كما يرتبط بمحاولة التمكين للحقوق‬
‫الثقافية الُم غَّيبة في الدولة الوطنية الناشئة – أعني تلك التي غلبت‬
‫الطابَّع االجتماعي التنموي واألحادية اإليديولوجية على الديمقراطية‬
‫التعددية كما أسلفنا‪.‬‬
‫*****‬

‫‪98‬‬
‫إشارة‪:‬‬
‫(صحيفة "النصر"‪ ،‬الملحق الثقافي األسبوعي "كراس الثقافة"‪/ 07/ 07 ،‬‬
‫‪.)2020‬‬

‫على هامش الحراك الشعبِّي الجزائري‬

‫‪99‬‬
‫هل حان "خريُف البطريرك"؟‬

‫تطرُح االنعطافاُت الكبرى في تاريخ الشعوب والمجتمعات دوما‬


‫مسألة العوامل التاريخية والسوسيولوجية واالقتصادية والثقافية التي‬
‫تكوُن في أساس لحظة التغيير أو الثورة‪ .‬كما تطرُح ‪ ،‬أيضا‪ ،‬قضية إسهام‬
‫الُم ثقفين أو النخب في هذا التغيير ودورهم في التمهيد له انطالقا من فهم‬
‫محَّد ٍد لوظائف المثقفين يجُد مرجعيته في تراٍث أوروبي ‪ -‬غربي يعتبُر‬
‫المثقَف صانعا للوعي أو صوتا لمن "ال صوت لهم"‪ .‬ولكَّن التطورات‬
‫الالحقة بَّينت أن التغييَر ال يرتبط ‪ -‬بشكل حتمي ‪ -‬بالقيادة والزعامة‬
‫الفكرية التي جَّس دها المثقُف الكالسيكي في زمن عولمٍّي شهَد تراجَع‬
‫دوره التقليدي بشكل الفت‪ .‬فالحراك العربُّي الذي تَّم تعميُده باسم "الربيع‬
‫العربي" سنة ‪ ،2011‬كمثل بارز‪ ،‬لم يتوقع حدوثه أحٌد من المثقفين‬
‫وإنما اكتفى معظُم هم‪ ،‬كما نعلم‪ ،‬بمساندته أو مواكبته أو التحذير من‬
‫مآالته‪ .‬وقد دفع بالكثيرين منهم إلى إعادة النظر في تحليالتهم النظرية‬
‫الكالسيكية التي لم يكن بإمكانها أن تستوعَب ‪ ،‬بشكل جّيٍد ‪ ،‬لحظة الزلزال‬
‫واالنفجار المفاجئ‪ .‬لقد رأينا في ذلك‪ ،‬يومها‪ ،‬طبعة عربية مَّم ا سَّم اه‬
‫روالن بارت "موت المؤلف"‪ ،‬وكنا نعني بذلك موَت مركزية الزعامة‬
‫الفكرية وتراجَعها أمام حركية الواقع التي تتأَّبى على القولبة في‬
‫خطاطات النماذج الفكرية النظرية الجاهزة للنخبة‪.‬‬

‫نقول هذا ونحُن ندرك‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أَّن المثقَف الغربَّي أيضا كان له أن‬
‫يواجَه‪ ،‬في أحايين كثيرٍة‪ ،‬مآزَق دفعت به دفعا إلى مراجعِة نماذجه‬
‫‪100‬‬
‫التفسيرَّية السائدة في مواجهة زئبقية الواقع كما الحظنا عند ُم فككي‬
‫المركزية الغربية ونقاد الحداثة المتصلبة الَّر اكدة عند منعطف األنوار أو‬
‫ميراث الماركسَّية التقليدية‪ .‬فقد انبهر‪ ،‬مثال‪ ،‬ميشال فوكو كثيرًا بالثورة‬
‫اإليرانية التي أطاحت بالشاه سنة ‪ 1979‬وحاول أن يقارَبها باعتبارها‬
‫حدثا قد يعلُن موَت الباراديغم الغربِّي المذكور في مقاربة الثورات‬
‫واألحداث التاريخية‪ .‬ولكن تلك حكاية أخرى‪.‬‬

‫إَّن ما أتينا على ذكره يجعلنا نحذُر ‪ ،‬بكل تأكيٍد ‪ ،‬من مواصلة الحديث‬
‫عن المثقف باعتباره ذاتا مستقلة واعية تنحاز طوعا‪ ،‬والعتباراٍت‬
‫أخالقية‪ ،‬إلى قضية العدالة والحرية والحقيقة‪ .‬فالمثقُف تموقٌع ولحظة‬
‫وعي ولكنه ليس أكبر من َشرطيته التاريخية وال يتأمل صيروراِت العالم‬
‫من شرفة الوعي الترانسندنتالي الذي يعلو على التاريخ‪ .‬نتذكُر ‪ ،‬هنا‬
‫أيضا‪ ،‬ما جابه به طلبة السوربون الثائرون ذات أيار‪/‬مايو ‪ 1968‬في‬
‫فرنسا أستاذهم البنيوَّي جاك الكان بمقولة لوسيان غولدمان الشهيرة‬
‫"إَّن البنيات ال تنزل إلى الشارع" في إشارٍة إلى إفالس الفكر البنيوي‬
‫الذي طالما بَّشر بـ "موت اإلنسان" والتاريخ لصالح البنيات الثابتة‪ .‬لقد‬
‫كان ذلك‪ ،‬كما هو معروٌف ‪ ،‬تمهيًد ا لبداية انسحاب البنيوية من المشهد‬
‫الثقافِّي والسياسي من أجل إعادة التفكير في آليات عمل السلطة بأدواٍت‬
‫أخرى‪ ،‬والتوجه إلى التفكير في الحاضر بمعزل عن الُم سَّبقات التي تجعل‬
‫البعَض يلوي ُعنَق الواقع انتصارًا للنظرية الشكالنية الجاهزة المتآكلة‪.‬‬

‫ما أردنا أن نقوله‪ ،‬من خالل ما سبق‪ ،‬هو أَّن المثقَف ليس نبيا‬
‫يستشرُف أو "يتذكُر المستقبل" استنادًا إلى معرفٍة متخلصة من نسبيتها‬
‫أو من شرطها التاريخِّي واإلبستيمولوجي‪ .‬هذا ما يجعلنا نطرُح رؤية‬
‫أخرى تتعلُق بالمثقف المحايث الذي يحاول أن يكوَن فاعال تاريخّيا يجّس ُد‬
‫‪101‬‬
‫الوعَي بالمرحلة ورهاناتها وينحاز إلى القوى والفئات األكثر اكتنازا‬
‫بطاقة التغيير الذي ال ُيقاَو م‪ .‬تكمُن قيمة تدخل المثقف في الشأن العام‪،‬‬
‫بالتالي‪ ،‬في جعل الحراك لحظة وعي نظري ونضال اكتسب شرعية‬
‫تاريخية وأدبية ‪.‬ال ُيمكننا أبدًا أن نغفل عن عوامل الحراك الشعبي‬
‫المرتبطة بعولمة القيم وتكنولوجيا االتصاالت التي مّثلت "حصان‬
‫طروادة" الجديد الذي اخترَق أسيجة الدولة الوطنية العربَّية المتميزة‬
‫بكونها دولة التحديث األيديولوجي ‪ -‬األمني‪.‬‬

‫إَّن الجزائر‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ليست بدعا بين الدول المنتمية إلى الفضاء‬
‫العربِّي أو جنوب المتوسط في هذا الشأن‪ .‬فال يختلُف اثنان حول ِس مة‬
‫الفشل التي طبعت ُم حاوالتنا دخوَل العصر الحديث من باب بناء الدولة‬
‫الوطنية واجتراح آفاق التنمية في شكلها األيديولوجي الجاهز منذ الحقبة‬
‫التي عرفت انتزاَع االستقالل الوطني‪ .‬وُرَّبما كان هذا األمُر ‪ ،‬أيضا‪،‬‬
‫خصيصة عربية بامتياز ال تزال تطرُح الكثيَر من األسئلة‪ ،‬وتدفُع إلى‬
‫ضرورة ُم راجعة مسيرة التعثر التاريخي والكشف عن أسبابها العميقة‬
‫في األداء السياسِّي أو في الفكر وأبنية الُم جتمع أو في التبعية المفروضة‬
‫علينا من قبل نظام دولي ُيكِّر ُس الهيمنة واالستتباع‪ .‬فمن المعروف أَّن‬
‫ُم جمل األزمات التي نعيشها على كل الُم ستويات ‪ -‬وتحديًد ا في الجزائر ‪-‬‬
‫أصبحت نموذجية وكاشفة‪ ،‬بصورٍة تكاُد تكون فاجعة‪ ،‬عن الفشل الذي‬
‫الزم عملنا التاريخي‪ .‬لعلنا اعتقدنا أَّن ولوَج باب التنمية الفعلية‬
‫واالنسالخ من أوضاع االستالب التاريخِّي كان ُم رتبطا بوسائل ُم تخلصٍة‬
‫من أصداء التاريخ وُم كابدات اإلنسانية عبر ُم غامراتها وهي تشهُد‬
‫انكساَر سيف األبدية على رقبة التاريخ الذي أصبح بيتا لإلنسان مكان‬

‫‪102‬‬
‫الُم طلق‪ .‬وها هي جهودنا المهدورة تذهُب كالزبد ُج فاًء وتطفو كُج ثِث‬
‫طيور ميتٍة على ُم حيط حياتنا‪.‬‬

‫لعل هذا ما ُينيط بنا ‪ -‬باعتبارنا ُم ثقفين ‪ -‬مسؤولية تاريخية كبيرة‬


‫تتمثل في ضرورة ُم مارسة النقد الفكري المسؤول الذي ال يقُف عند‬
‫الزعيق السياسوي الجاهز لينبَش في الجذور العميقة للشلل العام الذي‬
‫أصاب حياتنا وجعلها تعيُش زمنا راكدا‪ .‬إذ إَّن المتأمل في أوضاعنا ‪-‬‬
‫عبر عشريات ‪ -‬يستطيُع أن يالحظ بسهولة وُيسر بالغين أَّن رأسْي تنين‬
‫التخلف والتعثر عندنا هما األحادية والفساد‪ .‬ونعتقُد أَّن األمرين ال‬
‫يرجعان إلى أهواء الحاكم أو انحرافات السلطة السياسية فحسب؛ فليس‬
‫ذلك إال الجزء الظاهر من الجبل الجليدي‪ .‬إنهما‪ ،‬أيضا‪ ،‬أثران من آثار‬
‫الثقافة والبنيات االجتماعية العميقة المرتبطة بأزمنة أبوية ‪ -‬ذكورية لم‬
‫نعمل بصورٍة جذرية على نقدها وتجاوزها‪.‬‬

‫سؤالنا‪ ،‬بالتالي‪ ،‬هو‪ :‬هل ُيمكُن أن تترَّس خ الديمقراطية الفعلية ‪-‬‬


‫باعتبارها قيما حديثة – من دون إحداث "ثورة كوبرنيكية" حقيقية في‬
‫نظام القيم التي حكمت‪ ،‬إلى اليوم‪ ،‬عمل ُم جتمعاتنا وُس بل إنتاجها‬
‫لتاريخها؟ من دولة "الديمقراطية الشعبية" التي رَّس خت الشعبوية‬
‫واألبوية والتسلط في ُج بته العلمانية إلى دولة االحتكار والفساد الُم عَّم م‪:‬‬
‫هذا هو تاريخ الدولة الوطنية في طبعته الجزائرية‪ .‬الديمقراطية الحقيقية‬
‫ُم مارسة بكل تأكيد؛ ولكنها ُم مارسة تستنُد إلى ثقافٍة وقيم ُيجِّس دها‬
‫الحواُر واحترام االختالف وحق النقد؛ كما تقوُم على فلسفٍة رَّس خها‬
‫انتصاُر مركزية اإلنسان منذ أصبح مرجَع القيم في عالم شهَد أفول‬
‫التعالي والمرجعيات التقليدية المعصومة‪ .‬هذا ما يجعلنا نرى في‬
‫ُم حاوالتنا جميعا زبدًا على سطح التجارب الديمقراطية العظيمة في هذا‬
‫‪103‬‬
‫العصر‪ .‬إذ لم ننتصر كثيرًا على رواسب الماضي األبوي في سلوكنا‬
‫السياسِّي وفي مشاريعنا النهضوية والثقافية والتربوية‪ .‬لم نستطع‬
‫إحداَث القطيعة مع نظام الفكر القديم ونحُن نستنجُد بنماذج التنمية التي‬
‫اقترحتها أيديولوجياٌت وتجارب ناهضة منتصف القرن العشرين‪ .‬كنا‬
‫نريُد خنَق رواسب الكولونيالية فينا فإذا بنا نبعُث صوًر ا كثيرة من‬
‫االستبداد واألحادية التي تجلت في غلبة العسكرِّي على السياسي‪ ،‬وغلبة‬
‫االنقالب والقوة على الشرعية التي طالما تغنينا بها‪ .‬أصبح االستقالُل‬
‫يبدو‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬صورة أخرى من ُص ور اعتقال الشعب الجزائري في‬
‫زنزانة الفكر الواحد والحزب الواحد وعبادة الزعيم‪.‬‬

‫لقد وقعنا في أسر الهرولة وراء التحديث الشكلِّي والتنمية الكمية‬


‫وأهملنا التنمية البشرية‪ .‬وقد كان فشلنا ذريعا وُم دويا لوال فضائل الريع‬
‫النفطي الذي ظل ورقة توت أخيرة تستُر ‪ ،‬دائما‪ ،‬عورة نموذجنا‬
‫التنموي‪ .‬ونحُن نعرُف أَّن الجزائَر شهدت انتفاضة الشباب ضَّد انسداد‬
‫آفاق األمل وضَّد االحتكار والتهميش والفشل في تحقيق التنمية‬
‫الُم توازنة‪ .‬وما زاد من خطورة األوضاع هو طلوع شجرة األصولية‬
‫الدينية اللعينة على أرض خيباتنا وجحيمنا بأوُج هِه االقتصادية‬
‫واالجتماعية‪ .‬إذ أَّدى فقداُن البوصلة في الجزائر الُم ستقلة إلى اعتصام‬
‫الشباب بقشة الخالص الوحيدة التي وفرتها االتجاهاُت الدينية الُم تطرفة‪.‬‬
‫كان يجُب البحث عن االنتماء في عالم فككته األيديولوجيا الغوغائية‪،‬‬
‫وعن دفء المعنى في بلٍد لم يستطع تحصيَن أجياله الطالعة تربويا‬
‫وثقافيا ضَّد إمكان السقوط في التطرف‪.‬‬

‫انتقلت الجزائُر بعد انتفاضة تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ 1988‬إلى طور‬


‫التعددية واالنفتاح السياسِّي بصورٍة غير هادئة وغير متزنة كلفتنا الكثير‬
‫‪104‬‬
‫أمنيا واقتصاديا كما هو معروٌف فضال عن كوارثها اإلنسانية الَّر هيبة‪.‬‬
‫ولكَّن السلطة السياسَّية التي تحكمت في مقاليد األمور بعد استعادة األمن‬
‫واالستقرار وفي ظل الوفرة المادية ضَّيعت‪ ،‬بدورها أيضا‪ ،‬أجمل‬
‫المواعيد مع التاريخ حينما ركزت ‪ -‬بدل إرساء دعائم دولة القانون‬
‫والحداثة والمواطنة واإلقالع التنموي ‪ -‬على إشباع نرجسيِة الحاكم‬
‫بأمره والتراجع عن احترام الحياة الدستورية وبناء المؤَّس سات الكفيلة‬
‫بضمان استمرارية الدولة‪ .‬كانت الدولة تنكمُش والمؤَّس ساُت تضمحل‬
‫لتصبَح ديكورًا في ديمقراطية الواجهة ُتسَّيُر باألمريات‪ .‬شهدنا عودة‬
‫عبادة الزعيم والفشل الذريع في االنتقال إلى الدولة الحديثة في ظل‬
‫غياب الرؤية االستراتيجية وتحطم بوصلة االتجاه وهيمنة االرتجالية‬
‫والمصلحة الضيقة وحكم العصابات الُم نتفعة من الَّر يع‪ .‬إنها تقريبا ذاُت‬
‫الّس مات التي ميزت‪ ،‬دوما‪ ،‬األنظمة العربية البارعة في االستنجاد‬
‫بشرعياٍت ترجُع إلى ما قبل الحداثة السياسَّية من أجل إعادة إنتاج ذاتها‬
‫وهيمنتها الرمزية على الفضاء السوسيو ‪ -‬سياسي‪ .‬فعوض الشرعية‬
‫الديمقراطية القائمة على اإلرادة العامة والعقد االجتماعي الُم ؤِّس س‬
‫للمواطنة تلجأ هذه األنظمة إلى شرعية البطريرك واآلمال الخالصية‬
‫األلفية وتأبيد صورة الَّر عية القاصرة‪ ،‬أبديا‪ ،‬عن بلوغ طور النضج‪ .‬وقد‬
‫رأينا أَّن جواَبها الوحيد ‪ -‬أمام جموع المنتفضين على فشلها وفسادها‬
‫وإفالسها التاريخِّي ‪ -‬هو االستعانة بوصايا ميكيافيلي الشهيرة لألمير من‬
‫خالل التلويح بفضائل األمن واالستقرار والنظام أمام احتمال السقوط في‬
‫سديم الفوضى‪ .‬ولكَّن الشباَب الجزائرَّي الذي يمأل الشوارَع اليوم‬
‫ينتفُض ‪ ،‬تحديدًا‪ ،‬ضَّد ُم مثلي الوصاية واالحتكار وأبوية العالم القديم‪،‬‬
‫ويحلُم بعالم جديٍد يجُد فيه ُم تنفسا ومساحة لتأكيد جدارته بنفسه بعيدًا‬
‫عن المحاباة وثقافة الوالء التي كَّر سها النظاُم القائم‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫لقد انتفض الذين كنا نعتقُد أنه "ال صوت لهم" وأخذوا بزمام األمور‬
‫في حراٍك بهٍّي سلمي دونما حاجة إلى تأطير فكرٍّي أو أيديولوجي‪ ،‬ومن‬
‫دون التماس العون من النخبة التي أصابها "مرُض التوحد" ولم تكن في‬
‫عمومها على موعد مع التاريخ‪ .‬كان االحتقاُن سِّيَد الموقف وكانت بعُض‬
‫األصوات ترتفُع ‪ ،‬بحق‪ ،‬منددة بالشلل التام الذي أصاب الحياة العامة‬
‫واليأس الذي اجتاح عموَم الفئات الشبانية أو ُم نِّبهة إلى جنون نيرون‬
‫ومغامراته غير المحسوبة‪ .‬ولكن يجُب التنبيه‪ ،‬أيضا‪ ،‬إلى أَّن النظاَم نجح‬
‫في شراء ذمم الكثير من المثقفين والسياسيين ُم حِّو ال إياهم إلى موظفين‬
‫ُم ستفيدين يلّم عون واجهة الخراب العام أو إلى "كالب حراسة" بتعبير‬
‫بول نيزان‪ .‬هذا بالطبع شأن كل أنظمة الفساد واالستبداد التي تعمل على‬
‫تلميع صورتها وتسويقها بشكل جِّيد في عهد العولمة واالنفتاح الذي لم‬
‫يُعد يسمُح باحتكار اإلعالم والمساحات التي ُيصنُع فيها الرأُي العام‪.‬‬

‫تمَّنى ألبير كامو بحرقٍة‪ ،‬ذات تأّم ل بصير‪ ،‬أن نعيَش ُم ستقبال ال في‬
‫عالم خال من القتل فحسب‪ ،‬بل في عالم ال ُيبَّرُر فيه القتل بأي شكل من‬
‫األشكال‪ .‬وأعتقُد أننا اليوم‪ ،‬باعتبارنا عربا وُم سلمين‪ ،‬نتمنى أن نعيَش‬
‫في عالم ال ُيبَّرُر فيه االستبداُد وال ُيسَم ُح فيه بظهوره‪ .‬األحادية مشكلة‬
‫سياسَّية وثقافية أيضا‪ .‬فال تزاُل الكاريزما ُم شكلة راسخة الجذور في‬
‫الالوعي الجمعِّي وال يزال الُم خِّلُص نموذجنا السياسَّي المفضل‪ .‬من هنا‬
‫يبدو لي أَّن هذا األمَر يمثل جانبا ُم هما من مهام المثقف النقدي اليوم‪ .‬فال‬
‫يكفي أبدًا أن تتناسل فينا رسائل تستنسخ "إني أتهم" التي افتتحت عهَد‬
‫ميالد المثقف الكونِّي المناضل باسم العدالة والحقيقة منذ نهاية القرن‬
‫التاسع عشر؛ بل علينا أيضا‪ ،‬وبدرجٍة أكثر التزاما‪ ،‬تفكيُك بنياِت‬
‫الرواسب الثقافية والسوسيولوجية التي طالما جعلت من الُم ستبِّد العربِّي‬

‫‪106‬‬
‫تجسيدًا لحلم الخالص من المآزق التاريخية الكبرى‪ .‬إَّن ما ُتعلمنا إياه‬
‫األحداُث التي تطفو على سطح حياتنا‪ ،‬في الجزائر وغيرها‪ ،‬هو أَّن‬
‫الحاكَم الُم ستبد ظل يحظى بنوع من الشرعَّية األدبية والتاريخية التي‬
‫جعلت منه ‪-‬في أوقاٍت مضت ‪ُ -‬م خّلصا أو ُم نقذا‪ .‬فهكذا كان جمال عبد‬
‫الناصر وصدام حسين وبومدين والقذافي‪ .‬هذا ما يجعل من نقد الثقافة‬
‫األبوية ‪ -‬الذكورية وبنيات القمع االجتماعِّي أمًر ا ملحا‪ ،‬ويجعل من العمل‬
‫على تجاوزها مهَّم ة ثقافية وسياسية كبرى على درب نزع الشرعية‬
‫الرمزية عن البطريرك العربي‪ ،‬وسد المنافذ أمام إمكان انبعاثه من جديٍد‬
‫وهذا من خالل دمقرطة الحياة العامة وبناء المؤَّس سات الدستورية‬
‫الحديثة وترسيخ قيم المواطنة ومبادئ حقوق اإلنسان‪ ،‬وبناء منظومة‬
‫تربوية حديثة قائمة على العقالنية وتنمية كفاءات الروح النقدية‬
‫واحترام االختالف‪ ،‬والعمل على انبعاث فينيق "الكوجيتو العربي" من‬
‫رماده‪.‬‬

‫لقد تحَّدث الباحُث الفرنسُّي موريس غودولييه عن الشروط النفسية‬


‫والثقافية واالجتماعية العميقة التي تسمُح بـ "إنتاج الرجال العظماء"‬
‫وتجعلهم يحتلون كليا المخيال االجتماعي في لحظٍة من لحظات التاريخ‪.‬‬
‫يبدو لي‪ ،‬شخصيا‪ ،‬أَّن هذا األمَر يشكل جبهة من جبهات نضال المثقف‬
‫النقدِّي العربي اليوم‪ :‬فالُم ستبُّد الحاكُم بأمره ال ُتسِّيره األهواُء فحسب ‪-‬‬
‫كما ذكرنا آنفا ‪ -‬وإنما ُينتجه سياٌق تاريخي وثقافة ألفية لم تتعرض للنقد‬
‫بشكل جذري‪ .‬إَّن المسيح الُم خّلص ال يولُد إال في ُم جتمع ينتظُر ه‪ .‬وعلى‬
‫هذا نعتقُد اليوم كما اعتقدنا دائما ‪ -‬منذ لحظة "الربيع العربي" قبل‬
‫سنواٍت خلت ‪ -‬أَّن األحداَث الجزائرية األخيرة يجُب أن تكوَن دافعا إلى‬
‫التخندق مع المِّد الشعبي المطالب بالتغيير‪ ،‬وفرصة ثمينة لالستبصار‬

‫‪107‬‬
‫وُم راجعة آليات عمل الُم جتمع من أجل بلورة أشكال النضال الممكنة‬
‫معرفيا وعمليا وميدانيا تمهيًد ا لمجيِء الخريف العظيم الذي طال‬
‫انتظاره‪" :‬خريف البطريرك"‪.‬‬

‫*****‬

‫إشارة‪:‬‬
‫(مجلة "الجديد"‪ ،‬عدد نيسان ‪ /‬أفريل ‪.)2019‬‬

‫رسالة مفتوحة إلى ألبير كامو‬


‫‪A. Camus‬‬
‫(‪)1960 - 1913‬‬

‫‪1‬‬
‫صديقي الكبير ألبير‪،‬‬

‫‪108‬‬
‫رأيتني مدفوعا إلى ُم خاطبتك ُم باشرة بنوع من الُم حاورة التي أريُد‬
‫أن أقول فيها كالما كثيرًا بينما تلتزُم فيها‪ ،‬أنت‪ ،‬بالصمت الذي طالما‬
‫سحرك ورأيَت فيه جوهَر العالم‪ .‬رأيتني ُم لزما‪ ،‬أيضا‪ ،‬بُم عانقة وحدتك‬
‫الصعبة العالية‪ ،‬وُم حاولة االقتراب من َص حوك القاسي الذي تلفعَت به‬
‫في مفازة الوجود منذ أشرفت على تراجيديا الحياة قبل قرن من الزمان‪.‬‬
‫لعلك تتذكُر جِّيدًا صديقي‪ ،‬وأنت تدلُف العصَر ‪ ،‬كيف أَّن الحياة لم تكن‬
‫جاهزة الحتضانك أو هدهدة أحالمك‪ .‬لعلك تتذكُر مسرَح العالم الخائب‬
‫الذي استقبلك بالصخب والعنف‪ ،‬وبيأس حضارة فاوستية أطلقت من‬
‫قمقم تاريخها مارَد العنف بشكل غير مسُبوق‪ .‬لم يمنحك هذا المسرُح‬
‫الوحشي الَّدامي الوقَت الكافي لتغتسَل ‪ ،‬من جديٍد ‪ ،‬بشالل الغبطة الكونية‬
‫الُم تفجر من عناق الشمس والبحر على شواطئ تيبازة‪ .‬لم يمنحك العصُر‬
‫فرصة الدخول في هارمونيا صوفية مع األشياء ُتعيُد ابتكاَر غنائية‬
‫الَّس عادة البسيطة الُم رتبطة باألرض والجسد‪ ،‬والُم تحررة من ميراث‬
‫اآللهة الُم نسحبة‪ ،‬كرها‪ ،‬من مسرح العالم وأقداره‪.‬‬
‫أخاطبك‪ ،‬صديقي الكبير‪ ،‬بعد ُم رور قرن على مجيئك لتفتَح عينيك‬
‫وعقلك على عصر قاتم حَّر ر براثن الوحش التاريخي من قفازات حداثة‬
‫ظلت تعتقُل تطلعاتنا وأحالمنا بسردَّياتها الُم تآكلة‪ .‬أخاطبك وأنا أدرك‬
‫مقداَر رباطة الجأش التي كان على جيلك أن يتحلى بها من أجل أن ُيحِّرَر‬
‫المعنى والقيم النبيلة من مهاوي العدمية التي فغرت فاها‪ .‬لقد كان عليكم‬
‫أن ُتعيدوا بعث أدوار "الجميلة والوحش" في طبعة تذكر بالتراجيديا‬

‫‪109‬‬
‫القديمة‪ .‬لقد كان عليكم أن تجابهوا وحَش العالم بما يكتنزُه القلُب من‬
‫بداهة النبل والشجاعة والظمأ إلى العدالة والحقيقة‪ .‬وأنا‪ ،‬شخصيا‪ ،‬ال‬
‫يهمني أن أعرَف لمن كانت الغلبة‪ .‬الغلبة لم تكن تستهويك أبًد ا‪ ،‬على ما‬
‫أظن‪ ،‬بقدر ما كان يتملكك اإلصراُر على الُم جابهة‪ .‬أليس كذلك؟ ولكن‪،‬‬
‫على ما أرى‪ ،‬كان يعني لك الشيَء الكثير أن يخلَع عليك بروميثيوس‬
‫ُبردَتُه التي تحمُل رائحة البطولة اإلنسانية وهي تقاوُم وضعا أعمى ال‬
‫ُيطاق‪.‬‬
‫أعرُف صديقي‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أنك كنَت وريثا لحضارة حملت معولها منذ‬
‫بداية العصور الحديثة في فعل تخريٍب ُم نظم لنظام المعنى الذي أرست‬
‫دعائَم ُه التقاليُد الالهوتية‪ .‬لقد كان على الحداثة الظافرة‪ ،‬آنذاك‪ ،‬أن تطرَد‬
‫اآللهة من المشهد وأن ُتحِّر َر المعنى من السماء القديمة التي يبست‬
‫أوصالها وأصبحت "فارغة" كما ُتعِّبر‪ .‬لقد استعاَد بروميثيوس أمجادُه‬
‫عند أجدادك الذين قذفوا باإلنسان في أتون تجربة القتل الُم حِّر ر الذي‬
‫جعل ساحاِت العصر تمتلئ بجثث اآللهة‪ .‬وكان لفاوست أن ُيكمل التجربة‬
‫بأن يزاوج بين رغبة المعرفة وإرادة القوة التي مثلت إكسيرًا لإلنسان‬
‫الغربي وهو يفقُد العلَّو ويشهُد‪ ،‬بأسى كبير‪ ،‬انهيار الغائيات الكالسيكية‪.‬‬
‫هكذا اكتمل العرُض الذي بلغ لحظاِته األكثر تراجيدية ‪ -‬وأنت ُيقذُف بك‬
‫في هذا العالم – مع اندالع حربين عالميتين كشفتا عن سقوط العالم‬
‫الغربي في وحل تاريخ فقد البريَق ولم يُعد سردية تروي قصة انعتاق‬
‫اإلنسان من آلة االستالب العمالقة ‪.‬ال يسُعني هنا‪ ،‬صديقي‪ ،‬إال أن أسجل‬

‫‪110‬‬
‫إعجابي الكبير بمواقفك وأنت ترفُض عدمية العصر اليائسة وهي تطلُق‬
‫أكثَر الرغبات تدميرًا وبربرية من ُعقالها في ظل غياب مرجعيات ُم تعالية‬
‫ُتحِّدُد الوجهة والهدف ‪.‬ال يسُعني إال أن أعجَب بانتصارك لإلنسان‬
‫والعدالة أمام تاريخ أريَد له أن يكون إلها لألزمنة الحديثة ومطهًر ا يقوُد‬
‫إلى جنة موعودة تحدثت عنها بعض اإليديولوجيات األثيرة في عصرنا‪.‬‬
‫لقد كان عليك‪ ،‬صديقي الكبير‪ ،‬أن تناضل على جبهتين وضَّد ماردين‬
‫إيديولوجيين برمجا لسحق اإلنسان‪ :‬الفاشية والشمولية الثورية‪ .‬وقد‬
‫رأيت في ذلك نتيجة من نتائج حضارة وثقافة قتلت هللا وجعلت التاريخ‬
‫والقوة ُينبوعين للمعنى والقيم والُم بادرة والعمل‪ .‬كان عليك أن تنتشل‬
‫اإلنساَن من أسر العدمية التي مَّدت بظاللها على زماننا‪ ،‬وأن ُتحِّر رُه من‬
‫يوتوبيا التاريخ الساحقة‪ .‬كان عليك أن تجهَر بفضائل بسيطة نسيها‬
‫اللغط اإليديولوجي‪ ،‬وأن ُتعيَد اكتشاف أخالق السعادة التي غَّيبها تراٌث‬
‫كامل من العقائديات الُم تصلبة‪ .‬لقد هالك أن ترى اإلنساَن ‪ ،‬قاتَل اآللهة‪،‬‬
‫ُيسحُق كالحشرة تحت سنابك التاريخ األهوج وقد تحَّر ر من سجن‬
‫السماء‪ ،‬أو ُيصبُح وسيلة من وسائل تأكيد القومية وهي ُتحاوُل ملء‬
‫الفراغ الذي خلفه الُم قَّد ُس الديني القديم‪ .‬كأنك أردت أن ُتنِّبه صاحب‬
‫الفكر الشمولي ‪ /‬اإليديولوجي إلى انحرافه األصلي الذي بَّر ر به عدمية‬
‫العصر وغياب المنارات في ظلمة األزمنة‪ .‬لقد قلت ال"" كبيرة للعصر‬
‫الذي انحرَف عن وجهته اإلنسانية ونسَي الحب واألرض والعدالة‬
‫والفرح الوجودَّي العميق بعد انغماسه في كتابة رواية أخرى للخالص‬

‫‪111‬‬
‫الذي عرفنا وجَهه الُم رعَب القاتم‪ .‬فلم يكن لينين وستالين أصدقاء‬
‫للحرية‪ ،‬ولم تكن دولة الديمقراطيات الشعبية بقمعها وُم حتشداتها‬
‫ونمذجتها للفكر مطهرًا ُينتظُر منه أن يقوَد إلى فردوس أعلى يتحَّرُر فيه‬
‫اإلنساُن ‪ ،‬أخيرًا‪ ،‬من رحلة اغترابه التي طالت‪ .‬لقد شهدنا‪ ،‬صديقي‬
‫الكبير‪ ،‬السقوط الُم دوي لهذا النموذج الذي كتبَت في نقده صفحاٍت‬
‫عظيمة لم ُتفهم يومها؛ وهذا على غرار ما شهدتُه أنت‪ ،‬آنذاك‪ ،‬من‬
‫سقوٍط ألوهام الفاشية التي ظلت سكرى بفلسفة القوة باعتبارها بديال‬
‫لمرجعية القيم اآلفلة في عالم صامت‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫صديقي الكبير‪،‬‬
‫لقد أنكرت على عصرك – وهو يفتُك باآللهة وُيطيُح بالعلو – أن ُيعيَد‬
‫تمثيل دور اآللهة‪ .‬لقد دافعت عن براءة العالم واإلنسان أمام ميراث ثقافة‬
‫الخطيئة‪ ،‬ووقفَت في وجه كل ُم حاوالت العقل الفلسفي الحديث الَّر امية‬
‫إلى تنصيب التاريخ إلها جديدًا أو مطهرًا ُيحِّمُل اإلنسان مسؤولية‬
‫الخضوع واالنسحاق تحقيقا إلرادة عليا وانتظارًا لصباحاٍت قيل إنها‬
‫سوف ُتغني‪ .‬ولكن لم يكن من الُم مكن أن ُتغني‪ ،‬كما نعرُف جميعا‪ ،‬تلك‬
‫الَّص باحاُت من وراء القضبان أو في مجاهيل الغوالغ الَّر هيبة‪ُ .‬يعجبني‬
‫كثيرًا دفاعك عن الحياة أمام التاريخ‪ ،‬ودفاعك عن العالم أمام سرديات‬
‫القوة‪ُ .‬يعجبني دفاعك عن شمس الحاضر ‪ -‬الطافحة بجنون الغبطة‬

‫‪112‬‬
‫ونتوء الوعي بالحرية تحت الَّس ماء الفارغة ‪ -‬أمام وُعود الجالدين‬
‫بخالص كنَت تدرُك‪ ،‬جّيًد ا‪ ،‬أنه لن يكوَن إال قناعا لآللهة الجديدة‪.‬‬
‫ربما لم يكن عصرنا‪ ،‬فعال‪ُ ،‬م كتنزا بغبطة بروميثيوس وُنبله العالي‬
‫الذي دشَن عهَد اإلنسان ونهاية استبداد اآللهة‪ .‬ربما خمَد أَو اُر الرغبات‬
‫الفاوستية قليال بعد ُم غامرات اإلنسان الغربي منذ أيقظ الوحش النائم في‬
‫غابة العصر‪ .‬هذا ما دفع بك صديقي‪ ،‬على ما أعتقُد‪ ،‬إلى أن ترى في‬
‫سيزيف تجسيدًا ألسطورة العصر ورمزا لكينونة ورثت حطاَم الحضارة‬
‫ووجه الحداثة القاتم‪ .‬لقد حملَت صورة سيزيف في وجه الذين اعتقدوا‬
‫أَّن بإمكانهم أن ُيقنعونا بتقديم الحاضر قربانا على مذبح النبوات الزائفة‪.‬‬
‫لم تكن‪ ،‬صديقي‪ ،‬مأخوذا بالنبوات على ما يبدو وأنت المسكوُن بالشمس‬
‫وضوء اللحظة التي ُتتيُح لك فرصة العلو والخلق في الصحراء‪ .‬لم تكن‬
‫تنتظُر المجيء‪ .‬كان همك أن تتعَّهَد وردة الخلق واإلبداع في قلب‬
‫الالجدوى الفادحة‪ .‬لم يكن اإلنساُن عندك وعدًا بالتحقق وإنما كينونة‬
‫حاضرة حاولَت جاهًد ا إنقاذها من صراط الُم بشرين الذين بدأوا المسيَر‬
‫إلى فراديسهم الوهمية بالَّدوس على الجماجم‪.‬‬
‫ربما لم يفهمك الكثيرون وأنت تعُدو وسط الخراب ُم حاوال إنقاذ وجه‬
‫اإلنسان‪ُ ،‬يحاصرك جنوُن الَّدعوات إلى الخالص من حاضر احتضنَتُه‬
‫رغم عذاباته ويباس ُعوده‪ .‬كان عليك أن توِّج َه حراَب النقد لفلسفة‬
‫التاريخ الُم عاصرة وهي تقوُد موكبا مهيبا من أجل بناء صرح قيصر‬
‫الجديد في مملكة العدمية التاريخية‪ .‬لم تفعل الثورة التاريخية شيئا آخر‬

‫‪113‬‬
‫غير إنتاج الدولة الشمولية وسفح دم الحاضر على مذبح اليوتوبيا‬
‫الجديدة‪ .‬رأيت في نَّداهة التاريخ إغراء لم يُقد إال إلى عالم االستعباد‬
‫والخضوع ولم يكشف إال عن عالم الرعب الذي حبلت به عدمية العصر‪.‬‬
‫كانت الفاشية واإليديولوجية الثورية الشمولية واقفتين على مسرح‬
‫واحد وُتمارسان خيانة منظمة ومنطقية لروح التمُر د األصيلة في ذات‬
‫اإلنسان‪ .‬لم تستطع أن تقبَل بسحق اإلنسان مهما كانت الُم بِّر رات‪ .‬لم‬
‫تقبل بالجريمة‪ .‬كنت شاهدًا على الجريمة التي مَّهدت لها فلسفاٌت نَّص بت‬
‫نفسها وكيلة على الَّس ير الحسن لملحمة التاريخ الباذخة وهي ُتدجن‬
‫اإلنساَن وتصعُد به إلى ُج لجلة المحو انتظارًا لشروق لبَس قناَع غودو‬
‫كما نعلم‪ .‬لم يفتنك انتظاُر األرض الموعودة وظللت تفضُل التحديق في‬
‫لحظتك‪ ،‬موقنا كسيزيف أَّن الخالَص في احتضان الالمعقول والالجدوى‬
‫وُم مارسة فن الَّس عادة الَّص عب‪.‬‬
‫لقد كنَت بهذا المعنى‪ ،‬صديقي ألبير‪ ،‬الوعَي النقدَّي لمرحلة صاخبة‬
‫أرادت – من وراء شعارات الثورة والتقدم – اإلجهاز على الحاضر‬
‫المليء وإدانة الحياة باسم اليوتوبيا‪ .‬كنَت نصيرًا للتمُر د الذي ظل يقدُح‬
‫شرَر الحياة في رماد األزمنة وُيؤكُد طاقة الخلق ونفَس الكرامة عند‬
‫اإلنسان‪ .‬كنَت صوتا يلهُج بالعدالة والحرية تحت الَّس ماء الفارغة والتي‬
‫سرعان ما امتألت بآلهة فانية أرادت خنق كل تطلع إلى العدالة باسم‬
‫الحتمية التاريخية وإنقاذ اإلنسان من االغتراب‪ .‬هذا ما جعلك تعتبُر‬
‫الثورة التاريخية سقوطا ُم دويا لطاقة التمرد في أحبولة األمل الزائف‪،‬‬

‫‪114‬‬
‫وارتماًء في أحضان إرادة القوة‪ .‬هذا يعني إن كان التمرد كوجيتو يؤكُد‬
‫الوجود وجدارة الحياة بنفسها‪ ،‬فإن الثورة التاريخية مثلت كوجيتو آخر‬
‫يرتكز على إثبات الوجود من خالل فعل القتل المنظم‪ .‬لقد رأيت الجالد‬
‫يختبُئ في رحم الثورة وينتظُر لحظة تحولها إلى دولة وسلطة‪ .‬رأيت في‬
‫ثنايا الشمولية وعدًا بمحو التعدد واالختالف‪ ،‬وشَر كا يترَّبُص بطائر‬
‫الحياة والحرية‪ .‬رأيت الغوالغ في النظرية التي دعت إلى تحرير‬
‫اإلنسان‪ .‬وهنا‪ ،‬صديقي‪ ،‬أتفُق كثيرًا مع من رأى في مواقفك البصيرة‬
‫نقدًا لم نتفطن إلى أهميته إال ُم ؤخرًا بعد فقدان العقائديات الُم تصلبة‬
‫بريَقها أخالقيا وسياسيا‪.‬‬
‫إَّن رجفة الالمعقول التي لفحتك ‪ -‬قبل أن ُتبلوَر ها فلسفيا ‪ -‬ظلت‬
‫حساسية العصر األولى وهو يقُف على خرائب المعنى الُم تهِّدم بفعل‬
‫الحداثة وانحرافاتها‪ .‬وقد كان إلرادة القوة أن تتحَّرَر من عقالها لُتصبَح‬
‫ينبوعا للقيم ُيعيُد سيرة اآللهة في لُبوس جديد‪ .‬هذا ما أنكرتُه على أهل‬
‫عصرك والنازيين منهم تحديدًا‪ .‬لقد كنَت إيجابيا ولم ُتبِّر ر العودة إلى‬
‫الغاب‪ .‬ظللت تتمَّس ُك بالمعنى الوحيد األثير لديك وسط يباب الحياة‬
‫الُم عاصرة التي فقدت العلو والجدارة‪ :‬المعنى الُم تفجر من قلب اإلنسان‪.‬‬
‫كان عليك أن ُتجابه الالمعقول بالخلق وأن تجعَل القلَب ينبوعا للقيم‬
‫انطالقا من حِّس ك األخالقي العالي وذلك الظمأ الحارق إلى العدالة‬
‫والحرية‪ .‬كنَت الُم بِّش َر بعالم إنسانِّي الوجه ال يتواطأ مع عالم الشقاء‬
‫والالعدالة األبدية‪ .‬كنَت زارَع الورد الوحيَد في الجليد الالنهائي‪ .‬ذهبَت‬

‫‪115‬‬
‫إلى األقاصي ولم تفتنَك نداءاُت اآللهة العديدة وهي تتوُق إلى االنبعاث‬
‫واالنتقام من شراسة ذئب األنتروبوس التاريخي‪ .‬تمَّس كَت بقنديل الحب‬
‫اإلنساني في ظلمة العصر‪ ،‬وعانقَت األرَض الكريمة الُح بلى دوما بأعياد‬
‫الشمس والبحر والجسد الَّس كران بخمرة اللحظة‪ .‬انحزَت إلى الجسد ولم‬
‫تقع – وأنت طائر البرية الحر ‪ -‬في أحبولة النظرية‪.‬‬
‫لقد َس حرني وعُيك الحاد البادي في بعض أعمالك اإلبداعية التي‬
‫تسرُد نضال اإلنسان ضد الالمعقول وتدعو إلى ضرورة التضامن‬
‫البشري في ُم واجهة عالم رمى عنه عباءة الغائية العلوية‪ .‬فضلَت‬
‫التحديَق في شمس اللحظة وضوء الفجيعة الَّس اطع حيُث ال ُم جيَر من‬
‫صمت العالم وعبثية الكينونة إال إرادة الخلق وتأكيد جدارة اإلنسان‬
‫بنفسه‪ .‬لم تشأ أن يُم َّد اإلنساُن يده إلى تفاحة السقوط في األمل التاريخِّي‬
‫الذي علم الطغاة إهداَر دم الحاضر وقيادة القطعان البشرية إلى أفظع‬
‫الدركات‪ .‬أعرُف أنك كنَت تقُف على يباب العصر موقنا باإلنسان ورافضا‬
‫لسطوة التاريخ وقد أصبح سماًء أخرى والهوتا دنيويا‪ .‬رفضَت أحجيات‬
‫الجالدين وتحَّم لَت غربة األنبياء الُعَّز ل ُم عانقا عطَّية الحياة الفادحة‪ .‬كنَت‬
‫وفيا لإلنسان واألرض‪ ،‬لصيقا بالشمس والبحر من الشرفة التي أتاحتها‬
‫لك بالدي الجزائر‪ .‬لم يكن الحاضُر عندك معبرًا إلى األعلى‪ ،‬وفَّض لت‬
‫وجيَب الحياة في اإلنسان الواقعي على النماذج الُم قتَر حة في نظريات‬
‫مألت العصَر بالَّص خب والضجيج ُم شيحة بوجهها عن الحاضر المليء‪.‬‬
‫سيزيُف حاضٌر دوما‪ .‬هكذا تكلمت صديقي الكبير ‪.‬ال شيَء يستطيُع محَو‬

‫‪116‬‬
‫إيقاع الرتابة األبدية‪ .‬الوعُي ناتئ كالصخرة الُم دَّببة والصحراُء النهائية‪.‬‬
‫ولكَّن القلَب جائٌع دوما إلى ما يمنُح األشياَء ضوَء المعنى وغبطة وجوٍد‬
‫يعي ثمالة الحرية في عالم صامت‪ .‬هكذا تكلمت‪ .‬سيكوُن الخلُق‬
‫والتضامن البشرُّي ُينبوعين لُم جابهة الالمعقول‪ .‬هكذا تكلمت‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫صديقي الكبير‪،‬‬
‫أعرُف أنك اآلن في قلب النقاش الفكرِّي والسياسي بين ضَّفتي‬
‫الُم توسط بعد مُر ور قرن على مجيئك إلى هذا العالم‪ .‬لقد كنَت تجربة‬
‫ُم شعة في اكتناه المعنى وحرقة تأكيد جدارة الحياة بالخلق وابتكار‬
‫العدالة والسعادة في عالم أوصَد ‪ ،‬أبديا‪ ،‬بَّو ابات المعنى المليء‪ .‬كما‬
‫أعرُف أنك ُم حاَص ٌر بالقراءات التي لم تنل منك كثيرًا‪ .‬ولكن عذرا‪،‬‬
‫صديقي‪ ،‬إن رأينا فيك وجها من أوجه األدب األمبراطوري وقد تزامن‬
‫إنتاجك وتفكيُر ك مع نهاية الحقبة الكولونيالية الكالسيكية حامال أشواقها‬
‫ويأَس ها‪ .‬وربما رأى البعُض في ثنايا أدبك مالمَح عنصرية واستعمارية‬
‫واضحة‪ .‬إذ لم يستطع النزوع اإلنسانُّي واألخالقي عندك إخفاَء‬
‫"الالشعور الكولونيالي" عن مبضع النقد الثقافي والما بعد كولونيالي‬
‫كما مارسه إدوارد سعيد مثال‪ .‬كل هذه األمور أصبحت معروفة في عصر‬
‫تجاوز منظومة التفكير الكولونيالي ومنطق األمبراطورية التي أخضعت‬
‫العالم وزَّج ت بفسيفسائه الثقافية في قمقم المركزية الغربية‪ .‬لقد انتهى‬
‫عصُر نرجس الذهبي‪ .‬ولعلك لم تفلت نهائيا من نوستالجيا ذلك العصر‬
‫‪117‬‬
‫وأنت ُتدافع عن "الجزائر الفرنسية" ُم حاوال أن ُتصلَح ُعنَف التاريخ‬
‫الكولونيالي باقتراح صيغة تعايش تضمُن للحاضر امتدادًا أقل انتهاكا‬
‫لكرامة اإلنسان الجزائري في دولة فرنسية فدرالية تعددية‪ .‬لقد جئَت‬
‫ُم تأخرًا قليال‪.‬‬
‫يبُدو لي‪ ،‬صديقي‪ ،‬أَّن للتاريخ مسارًا ال يخضُع دائما لنوايا أصحاب‬
‫اإلرادة الطيبة وأنت منهم بكل تأكيد‪ .‬لذا لن أصفك بالكاتب االستعماري‬
‫الفج‪ .‬لقد حاولت أن ُتدافَع عن اإلنسان الذي هو من لحم ودم وعن واقع‬
‫سياسٍّي تعُّددي رأيَت استحالة تدميره إال بالسقوط في العنف األعمى‬
‫وحماقة تضييع أجمل المواعيد مع التاريخ‪ .‬لم تختر‪ ،‬كما عهدناك دوما‪،‬‬
‫األشواَق الُم رتبطة بالحلول الثورية وأحالم ُنشدان عدالة قد تقتُل أمك في‬
‫شارع من شوارع العاصمة الجزائرية التي أحببتها حَّد الهوس الصوفي‪.‬‬
‫ولكَّن هذا الحاضَر الذي تمَّس كت به كان ثقيال جدا على الشعب الجزائري‬
‫إلى الدرجة التي لم يُعد ُم مكنا معها االعتقاُد بإمكان إصالحه‪ .‬وفعال‪،‬‬
‫صديقي‪ ،‬لم يكن االستعماُر الفرنسُّي جاهزا لالعتراف بكونه مثل وجها‬
‫من وجوه أمبريالية التاريخ الغربي الحديث القائم على العنف‬
‫والعنصرية‪ .‬لم يكن االستعماُر جاهزا لتجاوز مركزيتة واالعتراف‬
‫باآلخر‪ .‬ظل نظاما يقوُم على الظلم والالُم ساواة‪ .‬ولم يكن هذا األمُر‬
‫ليزول إال بزواله باعتباره نظاما ُم تخلفا وغير إنساني‪ .‬من هنا يبدو لي‪،‬‬
‫صديقي‪ ،‬أنك كنَت ُتدافُع عن استمرار وضع لم يُعد بإمكانه االستمراُر‬
‫والعالُم يشهُد‪ ،‬آنذاك‪ ،‬يقظة الوعي القومِّي والوطني لشعوٍب عرفت‬

‫‪118‬‬
‫الوصاية التي مارسها ُم مثلو حداثٍة شَّو هت ميراَث األنوار‪ .‬حداثة حبلت‬
‫بهيغل ونابوليون؛ بفكرة المركزية وسيف الفتح معا‪ .‬كان يجُب تفكيك‬
‫العقل الحداثي التقدمي الحديث والكشف عن ُم ضمراته التي جعلت منه‬
‫عقال عنصريا ُم تمركزا على ذاته‪ .‬وقد تكفل النقد الطليعُّي بذلك مع موجة‬
‫التفكيك التي فتحت أعين نرجس الغربي على التعدد في العالم‪.‬‬
‫لم يكن ُنبلك األخالقُّي كافيا لتجاوز تراجيديا التاريخ والتنبيه إلى‬
‫ُم مكنات التعايش بعيدًا عن دَّو امة العنف والُعنف الُم ضاد بعد اندالع حرب‬
‫التحرير الجزائرية‪ .‬ولم يكن ُم مكنا أن ُيقّد َم االستعماُر اآلفُل تاريخيا‪،‬‬
‫آنذاك‪ ،‬طبعة ُم نقحة من ُص ورته التي خبرها الجزائريون جّيًد ا وهم‬
‫ُيضطهدون وُيستغلون وُيهَّم شون في ظل نظام االستيطان والقهر‬
‫والتمييز منذ أكثر من قرن‪ .‬لم تُعد فكرة اإلصالح نفسها مطلبا أو‬
‫مشروعا ناجحا للخروج من مآزق النزعة اإلنسانية الكالسيكية وهي‬
‫تكشُف عن صالفتها وأزمتها مع ذاتها ومع اآلخر‪ .‬ربما كنَت ‪ ،‬صديقي‪،‬‬
‫آخَر من ُيمثُل يأَس الفكر األمبراطوري األوروبي الذي أفاَق على نهاياته‬
‫غير الَّس عيدة بعد انتفاضة األطراف والهوامش‪ .‬أنا‪ ،‬شخصيا‪ ،‬ال أشك أبدًا‬
‫في صدقك وُح رقتك إلى العدالة والتآلف والحرية بعيدًا عن ُم مارسات‬
‫َس حق اإلنسان وتدجينه‪ .‬ولكنك فضلَت الوقوَف إلى جانب األمر الواقع‬
‫الذي كَّر سُه االستعماُر تاريخيا ولم تستطع أن تخرَج من انحباسك‬
‫اإليديولوجي داخل قلعة فرنسا العنصرية‪ .‬ظلت الجزائُر ‪ ،‬زمنا طويال‪،‬‬
‫أرضا عذراء تتكلُم بلغة الشمس والبحر وَم جد سماوات ثملة بغياب‬

‫‪119‬‬
‫اآللهة‪ .‬كانت تيبازة وجميلة النضاختين بالضوء وبرياح الغبطة الالفحة‬
‫ولم تكن ذاكرة أو تاريخا أو شعبا حاولتم إنكاَر ُهوَّيته بكل الوسائل‪ .‬لم‬
‫يكن لنا وجوٌد كامل في مجال فكركم المرئي كما ذهب إلى ذلك كاتب‬
‫ياسين بحق‪ .‬كنا "عربا" ُيمثلون قوة عمل لفرنسا وعبئا ديمغرافيا‬
‫وسياسيا وأمنيا ال غير‪ .‬لم يستطع حسك األخالقّي العالي أن يتجاوز‬
‫حدوَد التضامن والتعاطف إلى التفكير في ضرورة الثورة على ميراث‬
‫األمبراطورية‪ .‬وأنت تعرُف ‪ ،‬صديقي‪ ،‬أَّن العالَم لم يكن – في بداية‬
‫الخمسينيات من القرن الماضي – جاهزا إلقناع طفل األحالم التحررية‬
‫العريضة بحكمة عالمكم الشائخ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫لقد اختلفنا‪ ،‬صديقي‪ ،‬حول الجزائر ومصيرها وُم ستقبلها‪ .‬ولكن لنقل‪:‬‬
‫إَّن قوة األشياء حكمت بصالحية التصور الجزائري وضرورته‬
‫التاريخية‪ .‬وربما لن تنزعَج كثيرا إن قلُت لك إَّن استقالل الجزائر كان‬
‫أقرَب إلى العدالة التي ظللت تلهُج بها عبر مسارك اإلبداعِّي والفكري‬
‫الُم تميز‪ .‬لقد احترمك الكثيُر من الجزائريين رغم رواسب الحنين‬
‫الكولونيالي الذي ظلت تنضُح به كتاباتك‪ .‬نفهُم جِّيدًا أَّن دفَن األم أصعُب‬
‫على اإلنسان من أّي شيء آخر‪ .‬ومن سوء حظك‪ ،‬صديقي‪ ،‬أنك رأيت‬
‫المرحلة تستعُّد لمراسيم القداس الجنائزي المهيب استعدادًا إلعالن موت‬
‫األم العظيمة التي نشأَت في كنفها وحاولت جاهدًا أن ُتطيل أمَد إقامتها‬
‫في عصر أصبَح يُم ج حضوَر ها‪ .‬لم تكن لك تلك الحظوة التي جعلت بعَض‬

‫‪120‬‬
‫أسالفك يبتهجون بقتل األب في فعل تدشين مشهدي للعصر الحديث‪ .‬لقد‬
‫ألقى عليك العصر اآلفُل ‪ ،‬خالفا لذلك‪ُ ،‬بردته وانتدبك لتنوَب عنه في فعل‬
‫دفاع يائس عن األبوية‪ .‬فكيَف لم تنتبه؟‬
‫أين ما كنَت تدعو إليه وأنت تلقي خطابك العظيم في حفل استالمك‬
‫جائزة نوبل يا صديقي؟ أين مهاُم الفنان كما فهمَتها في عصر سحَق‬
‫اإلنساَن وقتله ودَّج نه وأوقع طائر أشواقه وتطلعاته العميقة إلى الحرية‬
‫والعدالة في شباك النظرية وقد أصبحت ُم عتقال وزنزانة؟ ألم تقل إَّن‬
‫الفنان في عصرنا يجُب ‪ ،‬أخالقيا‪ ،‬أال ينحاز إلى من يصنعون التاريخ‬
‫وإنما إلى ضحاياه؟ ألم نكن من ضحاياُه يا صديقي؟ فكيف اخترت أن‬
‫تنحاز إلى قوة التاريخ الكولونيالي األعمى الذي كتب سردية الفتح‬
‫واالضطهاد بدعوى تحُّم ل أعباء "الرجل األبيض" في تحضير "األمم‬
‫الُم توحشة"؟ كيف لم تتطَّهر من وحشية التاريخ وعنفه وعنصريته‬
‫انتصارًا لإلنسان الجزائري الذي لم يطلب أكثر من الحرية والكرامة‬
‫والُم ساواة؟ لم يكن كافيا أن تغتسَل بشمس تيبازة وبحرها كي تكوَن‬
‫جزائريا يا صديقي‪ ،‬وإنما كان األجدر بك أن تدرك أَّن الجزائر ليست‬
‫جغرافيا خاوية من اإلنسان والتاريخ الطافح بأنين الُم عذبين وعذابات‬
‫المقهورين والُم ستَغلين‪ .‬كان على فكركم الكولونيالي أن ينفتَح على‬
‫الُم ختِلف وأن يقبَل بتلك الزحزحة المأساوية التي جعلت قلعة المركزية‬
‫الغربية تتفتُت وتتآكل‪ .‬أخشى أن أقوَل إنك ترَّددت في أن تكوَن طليعيا‬
‫كما عهدناك‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫لقد انتصَر شعبي وانتصرت الُم قاومة التي قادتها "جبهة التحرير‬
‫الوطني" يا صديقي‪ .‬كان االستقالُل السياسُّي بداية وعي األمة الجزائرية‬
‫بذاتها‪ ،‬وُم نطلقا الستعادة ذاكرتها وبناء ُص ورتها الجديدة في أفق التطلع‬
‫إلى الحرية والعدالة والتنمية الشاملة‪ .‬ولكننا لم ننتصر كثيرًا على‬
‫رواسب الماضي األبوي في سلوكنا السياسِّي وفي مشاريعنا النهضوية‬
‫والثقافية والتربوية‪ .‬لم نستطع إحداَث القطيعة مع نظام الفكر القديم‬
‫ونحُن نستنجُد بنماذج التنمية التي اقترحتها إيديولوجياٌت وتجارب‬
‫ناهضة آنذاك‪ .‬كنا نريُد خنَق رواسب الكولونيالية فينا فإذا بنا نبعُث‬
‫صورًا كثيرة من االستبداد واألحادية التي تجلت في غلبة العسكري على‬
‫السياسي‪ ،‬وغلبة االنقالب والقوة على الشرعية التي طالما تغنينا بها‪.‬‬
‫أصبح االستقالُل يبدو‪ ،‬شيئا فشيئا‪ ،‬صورة أخرى من ُص ور اعتقال‬
‫الشعب الجزائري في زنزانة الفكر الواحد والحزب الواحد وعبادة‬
‫الزعيم‪ .‬أصبحت الحرية ذكرى أو كلمة فارغة لم تجد لها موضع قدم في‬
‫عالم االحتكار الجديد الذي أبعد الشعب عن بيداغوجيا الُم شاركة الواعية‬
‫في صنع مصيره بكل سيادة‪ .‬لقد وقعنا‪ ،‬بكل أسٍف ‪ ،‬في ما كنت ُتحذر منه‬
‫دائما يا صديقي‪.‬‬
‫لقد كان على الدولة الوطنية الناشئة أن تتحَّم ل أعباَء دخول التاريخ‬
‫وأمانة صنع ُم ستقبل ُم ختلف ينبثُق معه الكيان الوطني السّيُد العادل‪،‬‬
‫وتنبثُق معه الُم واطنة الجزائرية بعد طول غياب‪ .‬ولكَّن الديمقراطية التي‬
‫اعتمدناها في صيغتها الشعبية ظلت قناعا ُيخفي انتقاَم الرغبة األبوية‬

‫‪122‬‬
‫في إخضاع الُم ختلف ومحو التعددية ونمذجة الفكر والتفكير في الشعب‬
‫باعتباره رعية تحتاج دوما إلى وصاية‪ .‬والغريُب في األمر أَّن االستبداد‬
‫السياسي كان يتبَّج ُح ُم علنا قدرته على تمثيل الشعب وتحقيق تطلعاته‪.‬‬
‫تلك غنائية الديمقراطية االشتراكية المعروفة‪ .‬كأَّن معركة التنمية والبناء‬
‫كانت تتطلب كل ذلك الصخب اإليديولوجي الذي ال ُيمكنه أن يزدهَر إال مع‬
‫غياب العقل والعلم والُم شاركة السياسية الفعلية التي تكشُف عن حيوية‬
‫واقع تعددٍّي ورغبة في العيش الُم شترك‪ .‬كانت ثقافتنا السياسية هزيلة‬
‫وُم مارساتنا كاشفة عن أعماق تعوُد إلى ما قبل الحداثة السياسية‬
‫والفكرية‪ .‬لقد وقعنا في أسر الهرولة وراء التحديث الشكلي والتنمية‬
‫الكمية وأهملنا التنمية البشرية‪ .‬وقد كان فشلنا ذريعا وُم دويا لوال فضائل‬
‫الريع النفطي الذي ظل روقة توت أخيرة تستُر ‪ ،‬دائما‪ ،‬عورة نموذجنا‬
‫التنموي‪.‬‬
‫لعل أبرز ما يكشُف عن رواسب األحادية واألبوية التي انتفضت في‬
‫سلوكنا السياسي هو قضية الهوية الوطنية‪ .‬ونحُن نعرُف أَّن الهوية‬
‫ظلت دائما ساحة صراع رمزي من أجل تبرير الهيمنة ومنح الشرعية‬
‫للسلطة القائمة‪ .‬لقد ارتبطت الهوية بفكرة الثوابت التي برعنا في‬
‫استخدامها من أجل لجم كل حركية داخل المجتمع الجزائري ومن أجل‬
‫تأجيل مواعيدنا مع العصرنة والحداثة الفعلية واحترام حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫لقد مثلت الهوية مسرَح تدافع علني شهَد حرَب مواقع بين أطراف‬
‫النزاع‪ ،‬وظلت مساحيَق ُتلِّم ُع وجَه إرادة القوة التي صنعت تاريخنا‬

‫‪123‬‬
‫القريب‪ .‬ظل اإلسالُم والعربية وجهين ُم هَّم ين يشكالن مخزونا رمزيا ذا‬
‫قدرة على االستخدام السياسِّي الناجع‪ ،‬ولم يشكال انتماًء إلى فضاء‬
‫حضارٍّي عظيم ُم متد في الزمان والمكان‪ .‬لم يكن اإلسالُم والعربية هوية‬
‫بالمعنى الكياني وإنما ورقة سياسية رابحة في يد قوى الُم حافظة‬
‫والَّر جعية من جهة أولى‪ ،‬وفي يد جهاز الحكم الذي برع في اختزال‬
‫الفسيفساء الثقافية واللغوية واإلثنية الجزائرية إلى ُم كِّو ن ديني أو لغوي‬
‫واحد من جهة أخرى‪ .‬هذا يكشُف ‪ ،‬بصورة سافرة‪ ،‬عن تحول الهوية‬
‫المفتوحة إلى ُم جَّر د أداة إيديولوجية وعائق أمام االعتراف بالتعُّدد الذي‬
‫يبقى الشرط الضرورَّي للتعايش وبناء الُم واطنة بالمفهوم الحديث‪.‬‬
‫ُرَّبما يطرُح هذا األمُر مشكلة الديمقراطية في جزائَر ما بعد‬
‫االستقالل‪ .‬فلم نعرف إال ُص ورًا ُم شوهة وُم بتسرة من "الديمقراطية‬
‫الشعبية" وأسلوبها الديماغوجي الُم بتذل في إدارة األمور وتناول‬
‫الُم شكالت‪ .‬كانت ديمقراطية النخبة العسكرية التي اَّدعت‪ ،‬طويال‪ ،‬أنها‬
‫وكيلة على الشعب الُم غَّيب قسرًا عن حقه في بناء الُم ستقبل الُم شترك‪.‬‬
‫كانت ديمقراطية الحزب الواحد الذي شَّو ه كثيرًا اسَم "جبهة التحرير‬
‫الوطني" قائدة النضال ضَّد االستعمار الفرنسي‪ .‬لقد كان هذا النموذج‬
‫السياسي ‪ /‬التنموي تجليا لرغبة سلطوية استبدادية تناغمت مع روح‬
‫اللحظة آنذاك إقليميا ودوليا والزمُن األمبراطوري يلفظ أنفاسه‪ .‬ويسرني‬
‫صديقي‪ ،‬هنا‪ ،‬أن أحدثك عن فشل هذا النموذج وُس قوطه الُم دوي أواخر‬
‫القرن العشرين‪ .‬فلم يكن من الُم مكن أن تستمَّر ثقافة الغوالغ السياسي‬

‫‪124‬‬
‫والشمولية الفكرية ‪ /‬اإليديولوجية واألحادية الحزبية في اعتقال‬
‫الشعوب وخنق تطلعاتها المشروعة إلى الحرية والكرامة واالنفتاح‬
‫السياسي والتعددية والُم شاركة الفعلية في بناء البيت الُم شترك‪ .‬لقد كان‬
‫فشل هذا النموذج كارثيا في بالدي أيضا وكان حصاُده ُم رًا‪ .‬ونحُن نعرُف‬
‫أَّن الجزائَر شهدت انتفاضة الشباب ضَّد انسداد آفاق األمل وضَّد االحتكار‬
‫والتهميش والفشل في تحقيق التنمية الُم توازنة‪ .‬وما زاد من خطورة‬
‫األوضاع هو طلوُع شجرة األصولية الدينية اللعينة على أرض خيباتنا‬
‫وجحيمنا بأوُج هِه االقتصادية واالجتماعية‪ .‬لقد أَّدى فقداُن البوصلة في‬
‫الجزائر الُم ستقلة إلى اعتصام الشباب بقشة الخالص الوحيدة التي‬
‫وفرتها االتجاهاُت الدينية الُم تطرفة‪ .‬كان يجُب البحث عن االنتماء في‬
‫عالم فككته اإليديولوجيا الغوغائية‪ ،‬وعن دفء المعنى في بلٍد لم يستطع‬
‫تحصيَن أجياله الطالعة تربويا وثقافيا ضَّد إمكان السقوط في التطرف‪.‬‬
‫إَّن الجزائَر لم تنجح في بناء دولة حديثة تستجيُب لتطلعات الشعب كما‬
‫حلم بذلك ُر َّو اُد حرب التحرير وُم حِّر ُر و بيان الفاتح من تشرين الثاني‬
‫(نوفمبر) ‪ .1954‬ما زال ينقصنا الكثيُر من أجل تحقيق نموذج الدولة‬
‫العصرية ودولة الُم ؤَّس سات الديمقراطية الُم عّبرة فعال عن حيوية الشعب‬
‫وُم كوناته بعيدًا عن منطق االحتكار وتهميش القوى الحية الُم بدعة ولجم‬
‫حركية الُم جتمع التعددي الناهض‪ .‬فمنذ تَّم إبعاد النخب السياسية‬
‫الُم ستنيرة غداة االستقالل ما زالت دودة األحادية ورغبة الهيمنة الخفية‬
‫على الفضاء السوسيو‪ -‬سياسي تنخُر كل ُم حاوالتنا في ترسيخ التقاليد‬
‫الديمقراطية في بلدنا‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫‪5‬‬
‫صديقي الكبير ألبير‪،‬‬
‫لم أكن ألطلَب منك‪ ،‬شخصيا‪ ،‬أن تكوَن على غير ما كنت عليه ‪.‬ال‬
‫يحُق لي أن أحاكَم حياة واعية وُح َّر ة وُم ناضلة بصورة الفتة وُم دهشة‬
‫كحياتك ‪.‬ال يحُق لي أن أحاكَم أعمالك الفنية والفكرية العظيمة كما يفعُل‬
‫من يحملوَن في داخلهم سوطا ومنافَي وجالدين‪ .‬ولكن‪ ،‬بالمقابل‪ ،‬رأيُت‬
‫أننا نختلُف قليال حول ما نحب‪ .‬هذا ما يهّم ني‪ .‬فجنوُن الحب ال ُيحاكُم وال‬
‫ُيدان‪ .‬يكفي أن ُيفهَم ويكفي أن نستعيَد من أجله‪ ،‬أحيانا‪ ،‬التبرير الذي‬
‫ُتوفرُه قوة األشياء الَّس احقة‪ .‬فاألهم أننا أحببنا الحرية والعدالة‪ .‬أحببنا‬
‫أيضا‪ ،‬وبنوع من التطرف‪ ،‬انعتاَق اإلنسان والوعي من سالسل ماض لم‬
‫تشفع له سطوتُه في حجب حقيقة الهيمنة‪ .‬وربما أِص بُت ‪ ،‬شخصيا‪،‬‬
‫بضربة شمس وأنا أقُع في أسر رغبتك العالية الُم دهشة في أن نحيا‬
‫كقِّديسين دون إله‪ .‬هذا ميراثنا الُم شترك‪ .‬ولهذا اعتبرتك صديقا‪ .‬سأنقلك‬
‫إلى مدفن العظماء في قلبي الذي احتفى قبلك بالكثير من الذين علموني‬
‫الَّس ير الَّص عب على جسر هش يقوُد إلى بيت األرض‪ .‬ولتنقلك فرنسا‪ ،‬إن‬
‫شاءت‪ ،‬إلى مدفن عظمائها استجابة لضغط ذاكرتها الكولونيالية ‪.‬ال يهم‪.‬‬
‫فاألمران ُم ختلفان على ما أظن‪ .‬الصداقة ليست سياسة‪ ،‬كما أَّن السياسة‬
‫ليست صداقة‪ .‬أعتقُد أَّن ضفتي الُم توسط تفهمان اآلن جِّيدًا ما أقول‪.‬‬
‫تحياتي وتقديري‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫*****‬
‫إشارة‪:‬‬
‫ُنشرت مقاطع من هذه الرسالة المطولة في ملحق صحيفة "النصر" الثقافي‬
‫األسبوعي (‪ )05/11/2013‬وفي صحيفة "الخبر" (‪)15/11/2013‬‬

‫كما ُنشرت كاملة في كتابي "مفاتيح طروادة" (دار التكوين‪ ،‬دمشق ‪)2016‬‬

‫‪:‬رسالة إلى صديقي عبد القادر رابحي‬


‫اختالفي مع كاُم و سياسٌّي ال أخالقي‬

‫صديقي الكبير األستاذ عبد القادر‪،‬‬


‫أجُدني ُم لزما‪ ،‬أوال‪ ،‬بواجب التنويه بالمستوى الَّر اقي والعالي الذي‬
‫تمثلُه كتاباتك وُم ناقشاتك وُم داخالتك الفكرية‪ .‬وأكاُد أقول إَّن هذا‬
‫‪127‬‬
‫الُم ستوى ينعدُم في الجزائر اليوم وال نعثُر له‪ُ ،‬رَّبما‪ ،‬على أثر في ما‬
‫يكتبُه الكتاُب والمثقفون منذ عشريات‪ .‬قد يرجُع هذا األمر‪ ،‬في بعض‬
‫وجوهه‪ ،‬إلى غياب المثقف النقدِّي الذي يلتزُم بالتدخل في الشأن العام‪،‬‬
‫ثقافيا كان أو سياسيا‪ ،‬باعتباره صوتا يجهُر بالحقيقة العارية من ضغط‬
‫التمذهب اإليديولوجِّي الضيق واستراتيجيات ُم راعاة المصلحة‬
‫وُم قتضيات المرحلة‪ .‬لقد شعرُت ‪ ،‬صديقي الكبير‪ ،‬وأنا أقرأ رَّدك على‬
‫رسالتي الُم وجهة إلى ألبير كامو في مئويته أنني أمام مارٍد ثقافي‬
‫يستحُق كل االحترام‪ .‬وصراحة ال يمنُعني اختالفي معك في بعض‬
‫التفاصيل أو في الموقف الثقافي من اإلشادة بقوة تفكيرك ونفاذ‬
‫بصيرتك‪ .‬إَّن رسالتك الباذخة الموَّج هة إلَّي تستحُق‪ُ ،‬رَّبما‪ ،‬وقفة ُم طولة‬
‫ونقاشا ُم وَّس عا ولكنني سأقتصُر في رِّدي هذا على أمرين أحب أن أركز‬
‫عليهما رفعا لكل لبس في ما يتعلُق بالموقف العام من شخصية فكرية‬
‫وأدبية إشكالية مثل ألبير كامو‪ .‬وأحّب أن أنّبَه‪ ،‬بادئا‪ ،‬إلى أَّن الحديث عن‬
‫هذا الكاتب ال ُيضمُر عندنا حنينا إلى الكولونيالية كما يذهُب إلى ذلك‬
‫الكثيُر من كتابنا الذين يرون فيه "حصان طروادة" يستخدمُه االستعماُر‬
‫الجديُد مدخال ثقافيا للُم صالحة مع الجالد السابق أو لتكميم األنين‬
‫التاريخِّي الطافح من ذاكرة وطنية لم يتوقف نزيفها بعد‪ .‬االستعماُر ُم داٌن‬
‫دائما؛ وال ُيمكُن لُم ثقٍف ملتزم بقضايا الحرية والعدالة والكرامة اإلنسانية‬
‫أن يتوَّر ط في خطاٍب ُيبّرُر بأِّي شكل من األشكال هيمنة القوة العمياء‬
‫على مصائر الشعوب واألمم‪ .‬نحُن ال نختلُف في هذا ُم طلقا‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫لقد كتبَت رسالتك العظيمة‪ ،‬صديقي الكبير‪ ،‬على ما أعتقُد ُم تسائال‬
‫حول أمرين ال يتعلقان بفلسفة كامو أو بُم نجزه اإلبداعِّي وإنما بشرعية‬
‫ُح ضوره بيننا اليوم في نقاشاتنا‪ .‬لقد هالك أن ُيستعاَد كامو بالذات في‬
‫مئويته وهو الكاتُب الكولونيالي الذي لم ُيؤِّيد مسعى الجزائر الُم ستعَم رة‬
‫الَّر امي إلى االستقالل السياسي‪ .‬كما رأيَت في وصفي لهذا الكاتب‬
‫بالَّص ديق‪ُ ،‬رَّبما‪ ،‬نوعا من الشطط األخالقي الذي ُيغدُق على كاتب ناضل‬
‫من أجل "الجزائر الفرنسية" ما ال يستحق من األوصاف والتوقير‪.‬‬
‫أحترُم رأيك صديقي عبد القادر كثيرًا ولكنني أذهُب مذهبا آخر في النظر‬
‫إلى األمور‪ .‬فأنا لم أستحضر كامو في رسالتي الُم طَّو لة من أجل أن أقفز‬
‫على ذاكرة طافحة بالعذابات الُم رتبطة باالستعمار‪ ،‬وإنما من أجل ُم حاولة‬
‫االنفتاح من جديٍد على أسئلة الذاكرة الُم نقسمة على نفسها ُم بتعدًا عن‬
‫تشنج القراءات األحادية النظر‪ ،‬وُم راجعا مساَر ُم ثقٍف غربي االنتماء ظل‬
‫– رغم نزعته اإلنسانية الواضحة – حبيسا لُم حِّددات الحداثة الكالسيكية‬
‫في النظر إلى اآلخر نظرة ال تخرُج عن مركزية الغرب الظافر تاريخيا‬
‫وهو يفيُض بـ "أنواره" على العالم المفتوح في صورة استتباع‬
‫وإخضاع‪ .‬إَّن كامو يرتبط بتاريخي الخاص كذلك‪ ،‬وهو ُيمثل رؤية‬
‫فلسفية ‪ /‬سياسية طرحت مشروعها من أجل الخروج من مأزق‬
‫الكولونيالية التاريخي الذي أدركُه سن اليأس بعد انتفاضة األطراف‬
‫والهوامش‪ .‬لقد نظرُت إلى كامو من هذه الزاوية وأنا أكتُب رسالتي إليه‪.‬‬
‫كان هِّم ي أن أنقَد بقايا النرجسية الثقافية في خطاب األنتلجنسيا الغربية‬
‫وانحباَس ها داخل نظرة استعالئية لآلخر الُم ختلف‪ .‬لم أكن ألسقط في‬
‫‪129‬‬
‫أحبولة من يريُد تقديَم ُه في صورة جسر يصُل بين الجالد وساكن‬
‫الزنزانة‪ ،‬أو في صورة مشروع ُم صالحٍة بين قابيل وهابيل‪ .‬إَّن ضغط‬
‫الذاكرة ما زال حيا وقويا في جهتي الُم توِّس ط‪ ،‬وما زال ترميُم ذلك األمر‬
‫بين الضفتين يتطلُب وقتا واعترافا من الجالد التاريخِّي بسقوطه‬
‫األخالقِّي والفكري والسياسي منذ حاَد عن قيم الحداثة التي بَّو أتُه مكانا‬
‫عليا في نظام الحضارة الحديثة ‪.‬ال يزال ينتظُر نا عمل كبيٌر من أجل لملمة‬
‫أوصال التاريخ الُم توِّس طي والتأسيس لتاريخ ُم تضامن بين الشعوب‬
‫بعيًد ا عن "جدار برلين" اإليديولوجي ‪ /‬التاريخي كما حلم بذلك‬
‫البروفيسور الَّر احل محمد أركون‪.‬‬
‫ولكنني بالمقابل‪ ،‬صديقي عبد القادر‪ ،‬أردُت أال أقَع أيضا في خطاب‬
‫التسفيه المجانِّي وغير العارف بمكانة كامو وحقيقة مواقفه وأبعادها‬
‫األخالقية العظيمة التي ال ُيمكُن أن ُتنَك ر‪ .‬إَّن ما ُيمّيُز هذا الكاتب هو‬
‫وقوفُه على ذروة أخالقية منيعٍة خارج ما ساد في عصره من تمذهب‬
‫إيديولوجي ُم غلق كان ُيبِّر ُر ‪ ،‬أحيانا‪ ،‬سحَق اإلنسان وتدجيَنُه باسم‬
‫اليوتوبيا الثورية‪ .‬لقد عاش كامو في عصر شهَد ظهوَر األديان العلمانية‬
‫الكبرى التي قادت اإلنساَن إلى جلجلة الَم حو تحقيقا إلرادة الحتمية‬
‫التاريخَّية العليا وقد أصبحت آلهة جديدة‪ .‬كان انتظاُر "الَّص باحات التي‬
‫تغني" ُم بِّر ًر ا عند الكثيرين لوأد الحرية ونمذجة الفكر وجعل "الغوالغ"‬
‫مكانا طبيعيا لزنادقة العصر من الذين رفضوا االنصياَع للنبوءات‬
‫الجديدة وهي تبني طريَق الخالص التاريخِّي بالجماجم‪ .‬إَّن كامو ‪ -‬الذي‬

‫‪130‬‬
‫رفض اليوتوبيا باسم الحياة ووعوَد األناجيل الدنيوية باسم الحاضر‬
‫الناتئ المليء ‪ -‬لم يكن ليقَع ‪ ،‬نظيَر سارتر مثال‪ ،‬في تبرير سحق اإلنسان‬
‫أو الصمت أمام فظائع األنظمة الشمولية وهي تِع ُد بمجيء الفراديس‬
‫الوهمية‪ .‬لم يقبل بالغايات البعيدة التي تقوُد إليها وسائل إجرامية رهيبة‪.‬‬
‫لقد كان أسيرًا لشمس الحاضر وثمال بغبطة الحرية الفادحة تحت‬
‫"الَّس ماء الفارغة"‪ .‬كان مسكونا حَّد الَهوس بذلك الظمأ الحارق إلى‬
‫العدالة في عالم أطلَق من قمقمه مارَد العنف األعمى وهو يقُف على‬
‫أشالء اآللهة ويشهُد اضمحالل الغائيات الكبرى‪ .‬لقد تقَّم َص زمَن‬
‫سيزيف الَّر تيب حالما بزمن الغبطة والخلق والعلو على أمل تاريخٍّي‬
‫قيصري رأى فيه يوتوبيا ُتهّدُد قلعة الحرية بعودة البرابرة الُج دد‪ .‬لقد‬
‫كان‪ ،‬في كلمة‪ ،‬يقُف إلى جانب اإلنسان ال النظرية‪ .‬وحتى إن كان سارتر‬
‫قد سَح ر الكثيَر من الجزائريين بمواقفه الَّر اديكالية البطولية‪،‬‬
‫وبُم عارضته الشجاعة لمنظومة العنصرية الكولونيالية فإَّن ذلك يجُب أال‬
‫ُينسينا‪ ،‬أبًد ا‪ ،‬أنُه خرج من رحم المنظومة الفكرية الثورية في تلوينها‬
‫الماركسي‪ ،‬وهي ذاُت المنظومة النظرية التي جعلتُه يسكُت عن انتهاكات‬
‫الستالينية في بلدان أخرى‪ .‬أليس كذلك؟ ُرَّبما كان اإلخالُص للنظرية‬
‫أعظَم من اإلخالص لإلنسان عند ُم فكري النظرية الثورية‪ .‬لقد كانوا‬
‫يحملون الدوغماتية الفكرية العمياَء وُم حتشداِت االعتقال في أذهانهم‪.‬‬
‫أما كامو فأعتقُد – من هذه الزاوية – أنه استطاع التخلص من الوقوع‬
‫في شرك تبرير الجريمة التي ُم ورست على اإلنسان بصورة منهجية‪ .‬لقد‬
‫رفض النظرية وساورُه شك عميٌق في قدرة الثورة التاريخية على‬
‫‪131‬‬
‫تحقيق خالص اإلنسان من اغترابه التاريخي‪ .‬كان مسكونا بالحاضر ولم‬
‫يستطع أن ُيفكر في تقديمه قربانا على مذبح الُو عوِد الزائفة‪ .‬من هنا‬
‫نفهُم دفاعُه عن الحاضر الكولونيالي ورغبَته المحُم ومة في إصالح ما‬
‫ُيمكُن إصالحه‪ .‬هذا ما كان في بإمكانه التفكيُر فيه وهو يعيُش التراجيديا‬
‫الجزائرية من داخل المسرح الَّدامي باعتبارها قضيته‪ ،‬ال بوصفه ُم تفِّر جا‬
‫أو ُم تعاطفا باسم القيم التي أصابها االبتذال عند ُم ثقفي المواقف الجاهزة‬
‫والُم علبة‪ .‬كان ُيفِّك ُر في أِّم ه التي تعيُش بين "العرب" في مدينة الجزائر‪.‬‬
‫كان يريُد إصالح اللحظة ال االنقالب عليها وذلك باسم قيم العدالة‬
‫والكرامة اإلنسانية‪ ،‬وباسم حِّبه للجزائر التي ظل يعتبُر ها بالَد ه األثيرة‬
‫كما نعلم جميعا‪ .‬ولكَّن القيَم العظيمة التي دافع عنها كامو لم تستطع أن‬
‫تحتضَن – بصورة كافية ‪ -‬الجزائَر العميقة في أبعادها التاريخية‬
‫والثقافية واإلنسانية من وراء السطح الجغرافي الذي وفرتُه شمس‬
‫تيبازة وشواطئها الَّس احرة‪.‬‬
‫إَّن قراءة واعية وبصيرة ألعمال كامو وكتاباته حول الجزائر كفيلة‬
‫بأن توضَح الكثيَر من األمور‪ .‬هو لم يكن‪ ،‬بالطبع‪ ،‬ثوريا أو صاحَب فكر‬
‫انقالبٍّي قد يغتبط بتهديم قلعة الحاضر‪ ،‬وإنما حاول جاهدًا أن ُينقذ‬
‫حاضَر ُه الكولونيالي بالتفكير في جعل الجزائر بيتا ُم شتركا بين الُم عِّم رين‬
‫والجزائريين‪ .‬كان يحلُم بعدالٍة تحقُق الُم ساواة وُتخرُج أبناَء شعبي من‬
‫وضع "األهالي" بتصحيح مسار الدولة الكولونيالية وجعلها تنفتُح على‬
‫الُم هَّم شين وضحايا االستعمار التقليدي‪ .‬وقد فكر فعال في ضرورة العمل‬

‫‪132‬‬
‫على إنهاء الظلم االستعماري ال خروج فرنسا من الجزائر‪ .‬فلم يكتب‬
‫كامو مديَح إشادة بفتح األندلس ولكنه عمل ما بوسعِه كي ال تكون‬
‫األندلس‪ ،‬يوما ما‪ ،‬فردوسا مفقودًا‪ .‬هذه هي ُم شكلته‪ .‬وهذه هي‬
‫التراجيديا التي جعلت منُه الُم دافع اليائَس عن "غرناطة" الزمن‬
‫الكولونيالي اآلفل‪ .‬ورغم تنديده الواضح بالُم مارسات واألساليب‬
‫االستعمارية ونظام التمييز والقهر إال أنه لم يتجاوز هذا األمر إلى‬
‫الُم طالبة باستقالل الجزائر‪ .‬كأَّن االستعمار آنذاك كان بإمكانه أن يتجاوز‬
‫نفسُه بتحقيق الُم ساواة بين سكان الجزائر على اختالفهم وإلحاقهم‬
‫بفرنسا األم‪ .‬كان هذا حلما كامويا أثيرًا اعتقد كاتبنا أنُه يحقُق الحَّد األدنى‬
‫من العدالة المطلوبة في وضع ُم عّقٍد كالذي عرفتُه الجزائر آنذاك‬
‫بتركيبتها السكانية ووضعها االستراتيجي بالنسبة لفرنسا وبالنسبة‬
‫للغرب الليبرالي الذي وجد نفسُه في ُم واجهة المِّد الشيوعي السوفياتي‪.‬‬
‫لم يكن كامو جاهزا لالعتراف بشرعية الثورة على بقايا النظام‬
‫األمبراطورِّي العنصرِّي في فعل انعتاق لآلخر الذي لم يكتسب‪ ،‬حتى تلك‬
‫اللحظة‪ ،‬حَّق الوجود الكامل أو حَّق الخروج من وصايِة وضع كَّر سُه‬
‫عنُف التاريخ االستعماري‪.‬‬
‫هذا يعني‪ ،‬صديقي عبد القادر‪ ،‬أَّن اختالفي مع كامو كان ويظل‬
‫اختالفا سياسيا ال أخالقيا‪ .‬لقد اختلفنا حول مصير الجزائر وُم ستقبلها‬
‫ولكننا لم نختلف حول مبادئ العدالة والكرامة البشرية والحرية وعدم‬
‫شرعية قتل اإلنسان تحت أي ظرف وأّيًا كانت األسباُب والغايات‪ .‬اختلفنا‬

‫‪133‬‬
‫حول الِّص يغ التي تضمُن وضعا أفضل لإلنسان وهو يرُث وضعا تاريخيا‬
‫إشكاليا‪ ،‬ولم نختلف حول القيم التي تضُع اإلنسان فوق النظرية وفوق ما‬
‫ُيمكُن أن ُيبِّر َر سحَقه من اعتبارات‪ .‬إَّن كامو – وهذا ما يجعلني أعتبرُه‬
‫صديقا – لم يدُع إلى قتل أمي ولم ُيبِّر ر قتلها أبدًا‪ .‬هذا هو األهم‪ .‬ولكنني‬
‫اختلفُت معُه سياسيا عندما فكر في إصالح األوضاع بتحسين وضع أمي‬
‫ونقلها من وضع الجارية الُم ستباحة إلى مكانة المرأة الُح َّر ة الكريمة‬
‫ولكن داخل السراي األمبراطورِّي العتيق ذاته‪ .‬هذه هي حُدوُد فكره‬
‫السياسِّي الذي لم يكن ُم تناغما مع لحظته التاريخية والعالُم يشهُد تفكَك‬
‫العصر األمبراطوري ويقظة القوميات والهوَّيات التي عانت طويال من‬
‫الطمس تحت سنابك االستعمار‪.‬‬
‫لعلك تعرُف ‪ ،‬صديقي عبد القادر‪ ،‬أَّن كامو نفسه كتب رسائَل ذائعة‬
‫إلى األلماني النازي الذي احتل بالدُه‪ ،‬ولم يتحَّر ج من مخاطبته باعتباره‬
‫صديقا ورَث معه عدمية الحضارة التي فقدت العلَّو ‪ ،‬ولكنه اختلف معُه‬
‫باحثا بحرقٍة عن العدالة في عالم الالعدالة األبدية‪ .‬كان االختالُف كبيرًا‬
‫ويطال المبادَئ نفَس ها‪ ،‬ومع ذلك ظل كامو أريحّيا وواثقا من انتصار‬
‫الحياة على غريزة الموت والتدمير واليأس في عالم أضاع المرجعيات‬
‫الُم تعالية التي كانت تضمُن عصمة القيم في الماضي‪ .‬وأنا‪ ،‬شخصيا‪ ،‬لم‬
‫أكن ألعتبَر ُه صديقا لو رأيُت ملمحا واحدًا في كتاباته يدعو إلى قتل أمي‬
‫أو تبرير استعبادها واضطهادها‪ .‬والمعروُف عنُه أنه لم يسقط في هذا‬
‫وهنا تكمُن بطولته األخالقية التي حاد عنها المذهبيون وهم يلوذون‬

‫‪134‬‬
‫بالنظرية وُيشيحون بوجوههم عن اإلنسان‪ .‬هذا ما جعلني أعلُن اختالفي‬
‫السياسَّي مع كامو‪ ،‬وهو اختالٌف ال ُيمكنُه أن ينسَف جسور التواصل‬
‫بيننا بصورة نهائية‪ .‬فاألهم هو األساُس األخالقُّي لخطابه الذي استطاع‬
‫أن يصمَد أمام امتحان الزمن والتاريخ؛ وهو ما ُتفِّس رُه‪ ،‬اليوم‪ ،‬العودة‬
‫إلى استلهام فكره وحكمته في عالم أفاق على زيف اليوتوبيا التاريخية‬
‫التي طالما بَّر رت تغييب الناسوت احتفاًء بالهوت التعالي التاريخي‬
‫للنظرية الشمولية‪.‬‬

‫*****‬

‫إشارة‪:‬‬
‫(صحيفة "النصر"‪ ،‬الملحق الثقافي األسبوعي "كراس الثقافة" ‪/ 12 / 03‬‬
‫‪.)2013‬‬

‫‪135‬‬
‫الكاتُب والباحث الجزائري أحمد دلباني‪:‬‬

‫ينتظرنا عمل كبيٌر للتأسيس لتاريخ تضامني‬


‫بين الشعوب بعيدًا عن "جدار برلين"‬
‫اإليديولوجي – التاريخي‬

‫حاوره‪ :‬رضا شنوف‬

‫يرى الكاتُب والباحث الجزائرُّي أحمد دلباني أَّن التاريخ سيبقى دائما‬
‫في موضع مساءلة كلما واجه العالم اليوم مشكالت تتعلق بالعيش‬
‫الُم شتَر ك واإلعداد للمستقبل‪ ،‬على غرار حادثة مقتل جورج فلويد‬
‫‪136‬‬
‫بالواليات المتحدة والنقاش الذي خلفته عالميا حول تاريخ العبودية‪.‬‬
‫ونفس األمر مع تاريخ نابوليون بونابرت بفرنسا‪ُ ،‬م شيرًا إلى أَّن التاريخ‬
‫األمبراطوري أصبح اليوم في موضع مساءلٍة من طرف المستعَم رات‬
‫القديمة التي ترفُع مطالب كالحق في االعتراف واحترام ذاكرة العذابات‪.‬‬
‫وتوقف دلباني في حواره مع "القدس العربي" عند الجدل الذي‬
‫خلفته تصريحاُت النائب الجزائري السابق نور الدين آيت حمودة نجل‬
‫العقيد عميروش أحد أبرز القادة التاريخيين للثورة‪ ،‬بسبب تخوينه‬
‫لرموز تاريخية من بينها األمير عبد القادر‪ ،‬واعتبر أَّن التعامل مع قضية‬
‫استسالم األمير عبد القادر ال يمكُن النظر إليها إال من خالل البحث‬
‫والتقصي التاريخي ألسبابها العميقة ال من خالل إهدار الُبعد التاريخي‬
‫ومشروطيتها السوسيو – سياسية‪ ،‬أو من خالل االندفاع السياسوي‬
‫الواضح الذي تمليه أجندات حزبية ضيقة‪ ،‬ودعا في السياق إلى ضرورة‬
‫تحرير التاريخ من إرادة استخدامه ألغراض ال تخدُم المعرفة العلمية‬
‫الموضوعية‪.‬‬
‫ويرى أحمد دلباني في قضية حرب الذاكرة والقضية الفلسطينية‪ ،‬بأَّن‬
‫مدينة القدس ليست محتلة عسكريا من قبل الدولة العبرية الصهيونية‬
‫فحسب‪ ،‬بل هي أيضا مدينة يحتلها تاريخها الخاص‪ُ ،‬م عتبرًا بأنه ال سبيل‬
‫إلى تحرير الحاضر من صراعاته إال بتحرير الذاكرة من األحادية‬
‫واالنغالق والمذهبيات التي ولدتها سياقاٌت تاريخية من المفروض أنها‬
‫انتهت مع لحظتها‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫وأحمد دلباني كاتٌب وباحث جزائري مهتٌّم بقضايا الراهن الحضاري‬
‫ومشكالت اإلبداع والفن‪ .‬صدرت له العديد من المؤلفات‪.‬‬

‫* سؤال‪ :‬هل تقتصُر حرب الذاكرة على الدول التي عرفت مراحل‬
‫استعمار في تاريخها؟‬
‫أحمد دلباني‪ :‬هذا صحيٌح إلى حٍّد بعيد‪ .‬فالتاريخ األمبراطوري وجد نفسه‬
‫الحقا في مواجهة مكوناته العرقية والثقافية المركبة التي رفدتها‬
‫مستعمراته السابقة وشكلت قوة العمل الرئيسية فيه فضال عن الثقل‬
‫السياسي والثقافي الذي مثلته وأصبح يجهُر بمطالبه الحقوقية ومنها‬
‫الحق في االعتراف واحترام ذاكرة العذابات‪ .‬لقد الحظنا منذ سنٍة تقريبا ‪-‬‬
‫بعد وفاة المواطن األمريكي ذي األصول اإلفريقية جورج فلويد اختناقا‬
‫على يد شرطي ‪ -‬كيف أَّن هَّبة عالمية انتصرت للضحية‪ ،‬بصورٍة‬
‫مدهشة‪ ،‬وتولدت عنها مطالب بضرورة مراجعة التاريخ وتحطيم تماثيل‬
‫الشخصيات القومية والتاريخية التي كان لها دوٌر واضح في االستعباد‬
‫وتكريس الالمساواة واالضطهاد والتمييز العنصري في التاريخ الغربي‬
‫الحديث‪ .‬رأينا هذا‪ ،‬بالطبع‪ ،‬في الواليات المتحدة نفسها وفي الضفة‬
‫األخرى من األطلسي أيضا أعني في أنجلترا وفرنسا باألخص‪.‬‬
‫كان األمُر ذا داللٍة بالغة وقد دفع بالنقاش بعيدًا في هذه البلدان ذات‬
‫الماضي االستعماري إلى طرح مشكلة السرديات الوطنية التي أصابها‬
‫انشقاٌق في العمق ولم تُعد ذات قدرة على توحيد الوعي باالنتماء إلى‬
‫‪138‬‬
‫األمة الواحدة‪ .‬فبعُض صفحات التاريخ لم تُعد مرجعية تؤِّسُس لالفتخار‬
‫باألمجاد القومية وهذا انطالقا من وعي نقدي وتفكيكي حديث كشف عن‬
‫تمركزها الثقافي وانحيازها العرقي وممارساتها الُم ستهَج نة وغير‬
‫اإلنسانية‪ .‬في مقابل ذلك انتدب فالسفة غربيون أنفَس هم – نظير لوك‬
‫فيري أو باسكال بروكنر ‪ -‬للدفاع عن التاريخ الغربي‪ ،‬رغم المثالب‬
‫الكثيرة‪ ،‬مركزين في العموم على كونه تاريخا تمَّيز ‪-‬ال باالستعباد‬
‫والبربرية االستعمارية فحسب – وإنما أيضا بِع تق العبيد وتحريرهم‬
‫والتمكين للقيم اإلنسانية الحديثة شيئا فشيئا منذ "عصر األنوار"‪ .‬لقد‬
‫تحدث‪ ،‬مثال‪ ،‬الفيلسوف الفرنسي آالن فنكلكروت أثناء دعوته في بيان‬
‫دَّبجه في ذات السياق إلى "ضرورة عدم المساس بالتاريخ الفرنسي‬
‫والحضارة الغربية" ُم نِّبها إلى أَّن "الثقافة الغربية هي وحدها التي‬
‫عرفت ألَم الشعور بالذنب" وإلى أَّن الحضارة األوروبية تملك وحدها‬
‫أيضا "القدرة على وضع نفسها موضع تساؤل ومراجعة" مطالبا بعدم‬
‫إسقاط هواجسنا وهمومنا النضالية الراهنة على الماضي‪ .‬هذا يعني أَّن‬
‫مسائل التاريخ ستبقى دوما موضع استعادة وإعادة نظر كلما أفصح‬
‫الحاضر عن بعض مشكالته المتعلقة بالعيش المشترك واإلعداد‬
‫للمستقبل والتأسيس لحياة عامة ذات مرجعيات قادرة على احتضان‬
‫تطلعات الجميع إلى الحرية والعدالة والمساواة واالعتراف‪.‬‬
‫ال يفوتني هنا‪ ،‬على سبيل التمثيل أيضا‪ ،‬أن أذكر ما شهدته فرنسا‬
‫قبل نحو شهر خالل الذكرى المئوية الثانية لوفاة نابوليون بونابرت‬

‫‪139‬‬
‫وكيف انقسمت النخُب السياسية والثقافية والمجتمع المدني حول‬
‫الموقف من هذه الشخصية الفرنسية اإلشكالية والتي ظلت مدار إعجاب‬
‫واستهجان كبيرين جدًا منذ قرنين‪ .‬لقد تجنب الرئيس ماكرون االحتفال‬
‫بهذه المناسبة وفضل إحياء الذكرى لالعتبار فقط‪ُ ،‬م عتبرًا نابوليون إرثا‬
‫فرنسيا قَّدم الكثير لفرنسا ما بعد الثورة باعتباره قائدًا عسكريا وُم شِّر عا‬
‫ورجل دولة؛ ولكنه "خان روح األنوار" بحسب تعبيره عندما نَّص ب‬
‫نفسه أمبراطورًا وأعاد العمل بنظام الرق واالستعباد في المستعمرات‬
‫الفرنسية بعد أن ألغته الثورة الفرنسية‪ .‬ما أردت أن أقول هو أَّن الحاضر‬
‫يجب أن يولد فينا شجاعة مجابهة التاريخ ومسؤولية النظر إليه بمعزل‬
‫عن لعبة التقديس والتوثين المجانية التي قد تخدُش ذاكرة األجيال‬
‫الالحقة في مجتمع متعدد ال تستقيُم حاله ولن يعرَف استقرارًا إال‬
‫باالعتراف بكل مكوناته مع ضرورة احترام ذاكرة الضحايا وَخ لِفهم من‬
‫األجيال الالحقة‪.‬‬

‫* سؤال‪ :‬في أي نطاق يمكن أن نصنف الجدل األخير الذي خلفته‬


‫تصريحات النائب السابق نور الدين آيت حمودة حول شخصيات تاريخية‬
‫جزائرية على غرار األمير عبد القادر؟‬
‫أحمد دلباني‪ُ :‬يعتبُر األميُر عبد القادر الجزائري – دون أدنى شك –‬
‫شخصية كاريزماتية عظيمة على أكثر من مستوى‪ .‬كما أنه يحظى بتقدير‬
‫الجزائريين جميعا الرتباط اسمه ببداية المقاومة الشعبية المنظمة‬
‫‪140‬‬
‫لجيوش االستعمار االستيطاني الفرنسي‪ .‬وبالتالي فهو‪ ،‬من هذه الزاوية‪،‬‬
‫ُيعتبُر رمزًا من الرموز التي رأت الدولة الوطنية الناشئة منذ االستقالل‬
‫أن تستثمَر فيها ُم عتبرة إياه – بنوع من المبالغة ‪ -‬أبا مؤِّس سا للدولة‬
‫الجزائرية الحديثة في زمن سوسيولوجي َقبلٍّي لم تكن فيه مفاهيم الدولة‬
‫والسيادة والمؤَّس سات من األشياء الُم فكر فيها‪ .‬لقد رأت السلطة في‬
‫الجزائر أَّن الشرعية السياسية تبقى منقوصة إن ظلت بال أساس ثقافي‬
‫وتاريخي ونضالي؛ ومن هنا أرادت أن تلملَم شتات الذاكرة من أجل أن‬
‫تصنع منها سردية وطنية واحدة تَّو جتها حرُب التحرير بالمعركة‬
‫النهائية ضَّد المحتل الفرنسي‪ .‬نحن نفهُم جيدًا حاجة الجزائر إلى رواية‬
‫تجعل منها وريثا شرعيا للروح القومية الوطنية وعبقريتها عبر‬
‫التاريخ‪ .‬فمن المعروف أَّن الدولة الوطنية الحديثة‪ ،‬شرقا وغربا‪،‬‬
‫اجتهدت في إنتاج وهم االستمرارية التاريخية لـ "الذات الخالدة" من‬
‫خالل سرديات رسمية تجعل منها كيانا ثابتا ومستمرًا في التاريخ منذ‬
‫لحظات الوالدات المقدسة على يد األبطال أو "اآلباء الُم ؤِّس سين"‪ .‬هذا‬
‫األمُر واضٌح ومفهوم وهو يشكل جزءًا من ديماغوجية السياسة في‬
‫"الدولة الوطنية" منذ عصر القوميات؛ ولكَّن هذا األمر يجب أال يتجاوز‬
‫حدوَد االعتداد القومي الطبيعي من دون أن يقَع في شَر ك التخوين والنبذ‬
‫والتضييق على الحريات المتعلقة خصوصا بالبحث التاريخي أو بمطالب‬
‫التغيير التي ُيفصُح عنها الحاضر عندما ُينازُع السلطة أحقيتها في‬
‫احتكار الشرعية إن بدا أنها بدأت تتآكل وال تمثل مجمل تطلعات الشعب‬
‫الديموقراطية في لحظٍة من لحظات التاريخ‪ .‬إَّن للرموز ُقَّو تها وجبروتها‬
‫‪141‬‬
‫باعتبارها َم عينا للشرعية السياسية خاصة إن تمَّتعت بنوع من القداسة‬
‫كما هو سائٌد عندنا‪ .‬ولكن هل يمكُن للمؤرخ والمفكر النقدي مثال أن‬
‫يمتنعا عن زيارة التاريخ ومساءلته بمعزل عن القداسة المكَّر سة‬
‫سلطويا وشعبيا وثقافيا؟ هل يمكن للبحث التاريخي العلمي وللتأمل‬
‫الفكري النقدي عندنا أن يسترجعا حقوقهما من خالل تحرير العقل من‬
‫أسيجة السرديات المهيمنة التي تحتكُر "الحقيقة الرسمية" وبصورٍة‬
‫فجة منذ عهد األحادية اإليديولوجية؟ إَّن التقديس وحق العقل في‬
‫المراجعة وإعادة تأسيس المعرفة بالماضي يسيران على دربين‬
‫متوازيين‪ .‬ولكنني أستدرك‪ ،‬هنا‪ ،‬كي أشيَر إلى أخطر ما يتهَّدُد الحرية‬
‫الفكرية من الجهات التي تحتكُر الحقيقة الرسمية الديماغوجية‪ :‬أعني‬
‫بذلك التخوين‪ .‬فالتخوين آلية بدائية ُتضمُر إرادة نبذ اآلخر واستبعاده‬
‫واعتباره غير شريك في بناء تصورات مشتركة عن المستقبل‪ .‬التخويُن ‪،‬‬
‫في كلمٍة‪ ،‬آلية ردعية في يد من ال يملك أبجديات الثقافة الديموقراطية‬
‫القائمة على التعدد والحوار والنقاش في الشأن العام وخاصة في العالم‬
‫الشمولي األحادي إيديولوجيا من جهٍة ‪ ،‬و"العالم الثالث" الذي حكمته‬
‫األنظمة العسكرية منذ استقالل الكيانات الوطنية في النصف الثاني من‬
‫القرن المنصرم من جهٍة أخرى‪ .‬لقد رأينا ‪ -‬من خالل األمثلة التي‬
‫ذكرتها آنفا ‪-‬كيف أَّن الغرب لم يتصلب أمام قضية النظر إلى التاريخ‬
‫وجها لوجه دون ُعقٍد وهذا تحت إلحاح الحاضر ومطالبه الحقوقية‬
‫والسياسية واألخالقية من أجل عيش مشترك يتُّم فيه تحمل مسؤولية‬
‫الماضي ال إدارة الظهر له‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫أعود إلى قضية األمير عبد القادر‪ .‬لقد رأيُت أنه من الُم خجل فعال أن‬
‫تصدَر تصريحاٌت عن نائب جزائري سابق يتهُم فيها األمير بالخيانة‬
‫والعمالة لفرنسا وينتقُص من شأنه بصورٍة متشنجٍة وغوغائية وغير‬
‫دقيقة نوعا ما‪ .‬فمن السهل أن نالحظ غياَب الموضوعية في الحكم على‬
‫هذا الرجل العظيم انطالقا من إسقاط مفاهيم واعتبارات معاصرة على‬
‫واقع آخر يعوُد إلى نحو قرنين من الزمن يوم لم تكن الجزائر موجودة‬
‫باعتبارها كيانا سياسيا موحدًا أو إقليما متجانسا يملك إدارة مركزية‪.‬‬
‫فإسقاط هموم الحاضر اإليديولوجية والمساعي السياسية الراهنة على‬
‫الماضي ُيفسُد التعامل مع الذات الجماعية‪ ،‬وقد يوقظ أشكاال من‬
‫التضامن سابقة على انبثاق الدولة الوطنية الحديثة المستندة إلى‬
‫"سردية وطنية" تشكلت بعد االستقالل‪ :‬أعني االنسالخ من قيم المواطنة‬
‫الواحدة التي ظلت هشة إلى اليوم‪.‬‬

‫لقد كان لألمير اجتهاٌد عظيم وعمل عسكري وتنظيمي مدهٌش‬


‫باعتباره مقاوما بأدوات وتصورات تلك المرحلة وإمكاناتها‪ .‬أما قضية‬
‫استسالمه فال يمكن النظر إليها إال من خالل البحث والتقصي التاريخي‬
‫ألسبابها العميقة ال من خالل إهدار الُبعد التاريخي ومشروطيتها‬
‫السوسيو ‪ -‬سياسية‪ ،‬أو من خالل االندفاع السياسوي الواضح الذي‬
‫تمليه أجندات حزبية ضيقة تجُد عسرًا في احتضان تاريخنا الوطني بكل‬
‫أطيافه وظالله‪ .‬ومن ناحية أخرى ال يمكن أبدًا المروُر بدون تقدير خاص‬
‫لشخصية األمير التي جَّس دت قيَم التسامح واالنفتاح والدفاع عن الحقوق‬

‫‪143‬‬
‫اإلنسانية كما يشهُد لذلك العام والخاص‪ .‬وربما كان هذا األمُر مناسبة‬
‫سانحة من أجل التفكير جديا في إعادة بناء الذاكرة الوطنية الُم شتركة‬
‫باعتبارها فسيفساء ثقافية وتاريخية ونضالية ال يمكن اختزالها في ُبعٍد‬
‫واحد أو النظر إليها من زاويٍة ضيقة تحت اِّدعاءات تمثيل حقيقة التاريخ‬
‫الجزائري‪ .‬فالنظر الفاحص والنقدي في التاريخ وما يطرحه من‬
‫مشكالت‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬ال يمكنه أن يكوَن مجاال لتصفية الحسابات كما‬
‫الحظنا مؤخرًا‪ ،‬وإنما يجب أن يكون مناسبة لترميم الوعي المشطور‬
‫إيديولوجيا ولفضح إيديولوجيات اإلقصاء والتمويه ومزاعم االستمرارية‬
‫والوحدة المزعومة التي تختزل فسيفساَء الهوية في الصوت الواحد‬
‫والموقف الواحد‪ .‬علينا العمل دائما على تحرير التاريخ من إرادة‬
‫استخدامه ألغراض ال تخدُم المعرفة العلمية الموضوعية والحقيقة‬
‫المغَّيبة وتجعله أداة سلطوية أو جدوال صغيًر ا يضمُن لطواحين الهيمنة‬
‫والسيطرة أداَء عملها بإحكام‪.‬‬

‫* سؤال‪ :‬السلطات اتخذت إجراءات ردعية من قبيل تعليق بث القناة التي‬


‫أذاعت الحوار المثير للجدل؛ في حين أعلنت وزيرة الثقافة عن إحياء‬
‫إنتاج فيلم حول األمير عبد القادر‪ .‬هل ترى أن مثل هذه اإلجراءات كفيلة‬
‫بمعالجة مثل هذه القضايا؟‬

‫‪144‬‬
‫أحمد دلباني ‪:‬ال يمكنني‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬أن أغتبط بإجراءات سِّن قوانين‬
‫ردعية تجرجُر إلى المحاكم كل من ُيدلي بتصريح يتعلُق بالتاريخ الوطني‬
‫أو الشخصيات األثيرة‪ .‬فاألفكاُر والمواقف ال مكان لها أمام القضاء‬
‫والمحاكم وإنما في فضاء النقاش العام وبين أيدي الباحثين والمفكرين‬
‫الُم ستقلين عن سلطة الترميز التي ترفُد السلطة القمعية الفعلية‪ .‬إَّن ما‬
‫يجُب أن يكون مداَر متابعة قانونية وقضائية هو الجهُر بالنزوع‬
‫العنصري والدعوة إلى الكراهية والعنف أو التمييز بين الجزائريين على‬
‫أسس واهية‪ .‬إَّن هناك خيطا رفيعا بين المنع السياسي والمنع القانوني –‬
‫األخالقي‪ .‬ولنا‪ ،‬باعتبارنا جزائريين‪ ،‬أن نتذكر كيف أَّن مجرد ذكر أسماء‬
‫مصالي الحاج أو فرحات عباس أو كريم بلقاسم – رغم أهميتهم‬
‫التاريخية العظيمة في مسار الحركة الوطنية وحرب التحرير ‪ -‬كان يجلب‬
‫المتاعب والمضايقات إبان الستينات والسبعينات‪ .‬فهل استوعبنا الدرس‬
‫جِّيدًا؟ هذا ما أردت أن أشيَر إليه من خالل تأكيدي على ضرورة تحرير‬
‫الذاكرة الوطنية من االستحواذ السياسي الفج‪ .‬وحدها الذاكرة المنفتحة‬
‫قادرة على مصالحة الجزائريين مع أنفسهم في ظل االعتراف بكل‬
‫مكونات تاريخهم خالفا لتقلبات السياسة الظرفية وحساباتها‬
‫وصراعاتها‪.‬‬

‫* سؤال‪ :‬التاريخ دائما يكتبه المنتصرون‪ .‬وفرنسا‪ ،‬بعد احتاللها‬


‫الجزائر‪ ،‬دونت الكثير من محطات تاريخ الجزائر وفق وجهة نظرتها‬

‫‪145‬‬
‫ومصالحها‪ .‬وما كتب خالل هذه الحقبة يعد مرجعا للكثيرين ويؤخذ على‬
‫أساس أنه الحقيقة الكاملة‪ .‬إلى أي حد لغمت حرب الذاكرة تاريخ الجزائر‬
‫وال تزال تلغمه إلى اليوم؟‬
‫أحمد دلباني‪ :‬فعال صديقي‪ .‬أعتقُد معك أَّن التاريخ يكتبه الُم نتصر‪.‬‬
‫أو كما يقول محمود درويش إَّن أهل طروادة المهزومة لم يكتبوا‬
‫تاريخهم بعد‪ .‬هذا أمٌر مؤكد‪ .‬لقد الحظ الراحل الكبيُر إدوارد سعيد في‬
‫مقدمة كتابه األشهر "االستشراق" أَّن العالقة بين الغرب االستعماري‬
‫والشرق كانت كمثل تلك العالقة التي جمعت بين الكاتب الفرنسي فلوبير‬
‫والغانية المصرية كشك هانم‪ .‬فنحن ال نعرُف عن هذه المرأة إال ما كتبه‬
‫فلوبير عنها‪ .‬األمُر نفسه حدث مع االستعمار‪ .‬فهو من كتب رواية‬
‫"تحضير الشعوب المتوحشة" انطالقا من خلفية ثقافية عرقية‬
‫وعنصرية‪ .‬ألم يكن قانون تمجيد االستعمار الفرنسي يندرُج ضمن نفس‬
‫االنحرافات اإليديولوجية؟‬
‫هذا ما ُينيط بنا مسؤولية اإلسهام في كتابة التاريخ الطروادي من‬
‫منظور يتجاوز التحيز الغربي وإمالءات المركزية الحضارية للُم نتصر‪.‬‬
‫إَّن علينا‪ ،‬في هذه المرحلة‪ ،‬أن ُنعيَد قراءَة التاريخ نقديا بمعزل عن كل‬
‫أشكال المانوية األخالقية التبسيطية التي سرعان ما تتوَّر ط في تبرير‬
‫ممارسات الماضي أو شيطنتها بحسب مقتضى الظروف واألحوال وهو‬
‫ما وقفنا عليه‪ ،‬كما أسلفت‪ ،‬مع قانون ‪ 2005‬والذي طرح مشروَع‬
‫تزييف حقيقِة االستعمار التاريخية في شمال إفريقيا للتصويت كما الحظ‬

‫‪146‬‬
‫ذلك المفكُر تودوروف باستغراب واستهجان كبيرين‪ .‬فهذا الماضي‬
‫الُم شترك بيننا وبين اآلخر ال يزال ذاكرة ضاغطة ُتلهُم السياسة والفكر‬
‫وتوقظ‪ ،‬أحيانا‪ ،‬نوستالجيا كولونيالية عند من ال يحب مواجهة نفسه‬
‫وتاريخه في الضفة األخرى من المتوسط مفضال أن يرفَع قَّداسا جنائزيا‬
‫لذكرى الفراديس المفقودة عوض التحلي بفضيلة االعتراف وإعادة‬
‫التأمل الفلسفِّي في عالقة قايين بهابيل أو الجالد بالضحية‪ .‬إَّن ضغط‬
‫الذاكرة ال يزال حيا وقويا في جهتي الُم توسط؛ وفي اعتقادنا أَّن ترميَم‬
‫ذلك األمر بين الضفتين يتطلُب وقتا واعترافا من الجالد التاريخي‬
‫بسقوطه األخالقِّي والفكري والسياسي منذ حاَد عن قيم التنوير الحقيقية‬
‫زمن الحداثة التي بَّو أتُه مكانا عليا في نظام الحضارة الحديثة ‪.‬ال يزال‬
‫ينتظُر نا عمل كبيٌر من أجل لملمة أوصال التاريخ الُم توِّس طي والتأسيس‬
‫لـ "تاريخ تضامني بين الشعوب" بعيًد ا عن "جدار برلين"‬
‫اإليديولوجي ‪ /‬التاريخي كما حلم بذلك‪ ،‬ذات تأمل إنسانوٍّي ُم نفتح‪،‬‬
‫البروفيسور الجزائرُّي الَّر احل محمد أركون‪.‬‬

‫* سؤال‪ :‬هل يمكن القول إن الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي هو وجه من‬


‫أوجه حروب الذاكرة في عالمنا اليوم؟‬
‫أحمد دلباني‪ :‬لقد أتيَح لي أن أكتَب عن هذا األمر قبل سنواٍت خلت عندما‬
‫تناولت عمل صديقي الكبير األستاذ أدونيس "كونشيرتو القدس" الصادر‬
‫سنة ‪ .2012‬لقد كان هذا العمل اإلبداعُّي البوليفوني دعوة إلى ضرورة‬
‫‪147‬‬
‫تحرير ذاكرة القدس من الصراع الذي جَّس دته الوحدانياُت الدينية‬
‫باعتبارها رؤى مغلقة ال يمكنها أن تحبل إال بنبذ اآلخر واستبعاده من‬
‫دائرة الخالص‪ .‬فالقدس‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬ليست مدينة محتلة عسكريا من‬
‫ِقبل الدولة العبرية الصهيونية فحسب وإنما هي مدينة يحتلها تاريخها‬
‫الخاص أيضا‪ .‬فالرؤية الدينية المغلقة لدى الوحدانيات جميعا لم تؤِّس س‬
‫إال لنسف الجسور مع اآلخر المختلف والدعوة إلى االنغالق المذهبي‬
‫الذي يكرس االنشقاَق والتنابذ وعدم التمكين الثقافي والفكري والسياسي‬
‫لفضاء مدني عام ُم شترك للجميع‪ .‬من هنا يمكننا أن نقول فعال إَّن‬
‫القدس‪ ،‬انطالقا من هذه االعتبارات‪ ،‬تمثل "مدينة هللا" التي ظلت عائقا‬
‫أمام إمكان انبثاق "مدينة اإلنسان"‪ .‬هذا ال ينفي‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬همجية‬
‫االحتالل الصهيوني القائم على أساطير دينية مؤِّس سة برمجت لتشريد‬
‫الشعب الفلسطيني من قبيل "األرض الموعودة"‪ .‬ولكَّن مدينة القدس في‬
‫واقع الحال ظلت مدينة نموذجية لحروب الذاكرة التي ترفُد حروب الحديد‬
‫والنار واالستيطان‪ .‬ظلت السماُء تملي شرعية االحتالل وأحقية امتالك‬
‫األرض وتهجير العربي الفلسطيني على األرض المريضة الكسيحة أمام‬
‫مطالب العدالة والحرية والكرامة والمساواة‪ .‬هذا ما ُيبِّيُن كيف أَّن‬
‫الذاكرة تمتلك‪ ،‬فعال‪ ،‬سطوة وجبروتا يكونان جاهزين دوما لالستثمار‬
‫سياسيا وعسكريا‪ .‬من هنا ال سبيل إلى تحرير الحاضر من صراعاته إال‬
‫بتحرير الذاكرة من األحادية واالنغالق والمذهبيات التي ولدتها سياقاٌت‬
‫تاريخية من المفروض أنها انتهت مع لحظتها‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫من هنا تلزُم ‪ ،‬ربما‪ ،‬ذاكرة ُم ضادة ومنفتحة لمجابهة تاريخ الوحدانية‬
‫القائم على الدم وعلى صدام الثقافات‪ .‬وقد عثر عليها أدونيس في الثقافة‬
‫الوثنية وفي إرث تلك العهود التي ارتبط فيها اإلنسان باألرض وباألسئلة‬
‫الكيانية وبالترحال في مفاوز المعنى البكر؛ وهذا كما جابه الفيلسوف‬
‫األلماني نيتشه من قبل تراثُه الثقافَّي المسيحي ‪ -‬القائم على طمس ينابيع‬
‫الحياة واإلبداع ‪ -‬باألزمنة الوثنية اليونانية التي احتفت بالجسد وأعلت‬
‫من شأن الشعور المأساوي بالحياة‪ .‬فالرؤية الوحدانية تضمُر نزوعا إلى‬
‫إخضاع األرض ولجم العقل وكبح كل حراك تاريخي قد يمثل تجاوزا‬
‫لهيمنة األحادية الفكرية والسياسية‪ .‬إذ كيف لـ " لشهوة المطلق" ‪ -‬وقد‬
‫لبست خوذة الُم حارب ‪ -‬أن تفتَح أفقا الزدهار اإلنسان وللتقدم التاريخي‪،‬‬
‫أو أن تؤِّسَس الحترام التعدد واالختالف؟‬

‫*****‬

‫إشارة‪:‬‬

‫‪149‬‬
‫ُنشرت هذه المحاورة في صحيفة "القدس العربي األسبوعي" (عدد ‪ 04‬تموز ‪/‬‬
‫جويلية ‪)2021‬‬

‫الباحث أحمد دلباني لـ "الخبر"‬


‫"أركون مفكٌر نقدٌّي يزحزُح المشكالت من‬
‫التناول المذهبي إلى التناول اإلشكالي"‬

‫حاوره‪ :‬حميد عبد القادر‬

‫‪150‬‬
‫يتحَّد ُث الباحث أحمد دلباني في هذا الحوار عن قراءته لمشروع‬
‫محمد أركون‪ ،‬ويسعى لإلجابة عن سؤال راهنيته الذي أثار الكثير من‬
‫الجدل‪.‬‬
‫* هل يمكن اليوم الحديُث عن راهنيٍة لمشروع محمد أركون؟‬
‫‪ -‬أحمد دلباني‪ :‬فعال‪ ،‬علينا طرح السؤال‪ :‬هل يمكننا الحديُث عن راهنية‬
‫ُم حتملة لمشروع هذا المفكر الممتد ألكثر من نصف قرن مضى في‬
‫مساءلة اإلسالم التاريخي وواقع المسلمين ورهانات التحديث وشروط‬
‫األنسنة؟ هل يمكننا‪ ،‬بمعنى آخر‪ ،‬إقامة حوار مع هذا المشروع الفكرِّي‬
‫في ضوء ما نشهُد اليوم من تغيرات ُم تسارعة على كل المستويات؟ هل‬
‫استطاع هذا المشروُع أن يصُم َد أمام امتحان التاريخ بعيدًا عن الشحوب‬
‫الذي يعلو عادة المشاريَع الفكرية في عصر قطع‪ ،‬منذ زمن‪ ،‬مع كل‬
‫نزوع شمولي وأصبح يحتفي – أكثر فأكثر – بالتفكيك ومراجعة‬
‫السرديات الكبرى والقالع الفلسفية المتصدعة بفعل االنقالبات المعرفية‬
‫ومآزق التاريخ؟ أليس من األجدى واألنفع أن نعكَف على مراجعة هذا‬
‫اإلرث الذي حاول تخليص المعنى من قمقم األحادية واالنغالق المذهبي‬
‫في حياتنا وتفكيرنا؟‬
‫إَّن هذا المفكر الذي ولد في الجزائر في النصف األول من القرن‬
‫العشرين (‪ )1928‬قد خبر‪ ،‬منذ طفولته‪ ،‬تلك الوضعية الصعبة التي كان‬
‫يعيشها معظم "األهالي" من أبناء جلدته زمَن الهيمنة الكولونيالية‬
‫الفرنسية‪ .‬كما أتيح له أن يتعَّر َف عن كثب على تلك الهوة التي كانت‬
‫‪151‬‬
‫تفصل بين عالمين بشريين ُم تمايزين سوسيولوجيا وثقافيا ودينيا‬
‫وسياسيا‪ .‬تلك اإلفاقة على جدران الفصل العنصري والهوياتي في‬
‫الجزائر الكولونيالية نَّبهته‪ ،‬باكرًا‪ ،‬إلى الشروط الصعبة التي كانت تزج‬
‫بالمصائر البشرية المختلفة في صدام ظلت تغذيه أشكال التنابذ وسوء‬
‫الفهم والُم سَّبقات الثقافية والالهوتية إزاء اآلخر المختلف‪ .‬من هنا نفهم‬
‫كيف أَّن أركون الشاب‪ ،‬آنذاك‪ ،‬بدأ في بلورة مشروع طموح – سيأخذ‬
‫أبعادًا كونية فيما بعد – يتمثل في محاولة تدشين نزعٍة إنسانية جديدة‬
‫وتاريخ تضامني بين الشعوب من خالل االستثمار في الدرس‬
‫األنتروبولوجي والتاريخ النقدي وفتوحات العلوم اإلنسانية والتناول‬
‫الفلسفي المعاصر لمسألة المعنى‪ .‬كان ذلك توجها واثقا نحو خلخلة‬
‫األُس س التي يقوم عليها العقل األوروبي الموروث عن "األنوار" إبان‬
‫عنفوانه األول الذي جعل منه ينبوعا للنبذ والمركزية والعنصرية‪.‬‬
‫لقد كان االستعماُر – باعتباره شكال من أشكال العنف التاريخِّي الذي‬
‫بَّر ره العقل التاريخُّي التقدمي – هدفا للتناول النقدي الجذري بغية‬
‫الكشف عن تهافته اإلبستيمولوجي واألخالقي واإلنساني بعامة‪ .‬لقد كان‬
‫أركون‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬من أوائل الذين أرادوا كسَر الحواجز التاريخية بين‬
‫منظومات الفكر الالهوتي والكشف عن أسسها األنتروبولوجية الواحدة‬
‫ورأس المال الرمزي المشترك بينها‪ .‬إَّن "جدار برلين" الالهوتي‬
‫واإليديولوجي الذي انتصب بين ضفتي المتوسط منذ قرون لم يكن‬
‫بإمكانه الصمود أمام تقدم الوعي النقدي وتراكم المعرفة المحررة من‬

‫‪152‬‬
‫أسر الفكر المذهبي الشمولي والعقائدي المغلق؛ الشيء الذي الحظناه‬
‫عند مفكرنا وهو يفتح أضابير الالمفكر فيه‪ ،‬ويطرح أسئلة غير مسبوقة‬
‫على اإلسالم‪ ،‬ويقدم إسهامه في التجديد المنهجي لدراسة الظاهرة‬
‫الدينية في عمومها من خالل دمج المثال اإلسالمي ضمن برنامج ضخم‬
‫لألنتروبولوجيا الدينية متخلص من تأثيرات الُم سَّبقات التي ظلت تأسر‬
‫الوعي في زنزانة "الفضاء العقلي القروسطي"‪.‬‬

‫* كيف نصنف مشروع محمد أركون الفكري؟‬


‫‪ -‬أحمد دلباني‪ :‬لم يكن البروفيسور الراحل محمد أركون عالَم إسالميات‬
‫أو عالم الهوت بالمعنى التقليدي ينافح عن العقائد الموروثة في مواجهة‬
‫اآلخر أو أمام امتحان الزمن والتقدم‪ .‬لقد كان مفكرًا نقديا يزحزح‬
‫المشكالت المطروحة من التناول المذهبي إلى التناول اإلشكالي الحديث‬
‫ُم تسلحا بالنظرة التاريخية لألمور ومنخرطا في النضال من أجل تجذير‬
‫قيم الحداثة واألنسنة بعيدًا عن ُم سَّبقات الوعي الالهوتي من جهٍة أولى‪،‬‬
‫وإرث المركزية األوروبية أيضا من جهٍة أخرى‪ .‬هذا الهُّم الفكري‬
‫المزدوج قاده إلى التنطح لمشكالت ضخمة تتوزع على جبهات عديدة‬
‫عانت من تفاقم "الالمفكر فيه" من الجهتين كما عانت من تصلب‬
‫"السياج الدوغماتي" الذي ظل يؤطر عمليات إنتاج المعنى في السياقات‬
‫اإلسالمية والمسيحية الغربية معا لعهوٍد طويلة‪ .‬هذا ما دفع به إلى‬
‫مراجعة الُم نَج ز االستشراقي الكالسيكي – على أهميته – ليفتَح مشروعه‬
‫‪153‬‬
‫على "اإلسالميات التطبيقية" ذات الطموح اإلبستيمولوجي الذي يتجاوز‬
‫الوقوف عند عتبة الفيلولوجيا الكالسيكية وأدواتها في دراسة النصوص‬
‫الكالسيكية‪.‬‬
‫كما كان للراحل أن يتصَّدى نقديا‪ ،‬قبل ذلك‪ ،‬لبعض مزاعم التأريخ‬
‫األوروبي للنزعة اإلنسانية من خالل أطروحته الشهيرة التي بَّين فيها‬
‫الملمَح اإلنسانوَّي الكبير لإلسالم في القرن الرابع الهجري ‪ /‬العاشر‬
‫الميالدي‪ ،‬مركزا على الشروط السوسيولوجية والحضارية النتصار‬
‫األنسنة بعيدًا عن مزاعم المؤرخين الذين ظلوا أسرى لمعتقدهم‬
‫اإلثنوغرافي العنصري بعدم إمكان مصالحة اإلسالم مع األنسنة‬
‫والتحديث‪ ،‬انطالقا من نظرٍة دونية لآلخر المختلف عززها الصدام‬
‫التاريخي والتنافس المذهبي على امتالك رأس المال الرمزي والحقيقة‬
‫األنطولوجية المتعالية بين ضفتي المتوسط‪.‬‬

‫* ما هي الميزة األساسية لمشروع أركون الفكري؟‬


‫‪ -‬أحمد دلباني‪ :‬إَّن ما ُيميز المشروع األركوني‪ ،‬في عمومه‪ ،‬هو كونه‬
‫"مشروعا ال يكتمل" إن جاز التعبير على اعتبار أنه ورشة مفتوحة على‬
‫المساءالت والمراجعات النقدية التي تطال أنظمة المعنى والفكر‪ .‬فهو‬
‫المثقُف والمفكر الحداثي الذي ال يتوقُف عن مساءلة الحداثة نفسها وال‬
‫يترَّدُد أمام مراجعتها بقدر ما يصغي جِّيدًا إلى مآالت العقل وهو يخرج‪،‬‬
‫شيئا فشيئا‪ ،‬من شرنقته ويوسع من طموحه النقدي كاسرًا كل الحواجز‬
‫‪154‬‬
‫ليصبح عقال "استطالعيا مستقبليا" في عهد العولمة‪ .‬إَّن األنسنة التي‬
‫كانت هَّم الراحل األكبر شهدت‪ ،‬بكل تأكيد‪ ،‬تجذيرًا أكبر مع انتصار‬
‫الحداثة الغربية والعقل الفلسفي على العقل الالهوتي الدوغماتي المغلق‬
‫منذ القرن السادس عشر‪ .‬ولكَّن هذا المكسب التاريخي والقانوني‬
‫واألخالقي لم يكن ليتوقَف عند حٍّد أخير مع انتصاب الحواجز العرقية‬
‫والُم سَّبقات الثقافية المختلفة بين الشعوب والطوائف والجماعات‬
‫البشرية في تاريخ هيمنت عليه إرادة القوة كما نعلم‪ .‬لذا تبقى األنسنة‬
‫مسارًا محفوفا بالمخاطر ما لم ننتبه إلى ضرورة إعمال العقل النقدي‬
‫الكفيل بكشف االنحرافات وأشكال االرتكاس التي ُتعيق نموها وتجذيرها‬
‫بصورٍة ال رجعة فيها في الواقع اإلنساني‪.‬‬

‫* كيف كانت مقاربته للتراث؟ وكيف كان يحدد مسؤولية العرب‬


‫والمسلمين تجاهه؟‬
‫‪ -‬أحمد دلباني‪ُ :‬يشِّدُد البروفيسور أركون على مسؤولية العرب‬
‫والمسلمين جميعًا أمام تراثهم الذي ال يزال أسيرًا للتالعب اإليديولوجي‬
‫وبعيدًا عن القراءة المنفتحة على ُعَّدة العقل العولمي الُم نبثق مؤخرًا‪.‬‬
‫كما يدعو إلى ضرورة إحياء الموقف الفلسفي في ثقافتنا بعد غياب طويل‬
‫منذ انتكاسته في العصور الوسطى أوال‪ ،‬ومنذ لحظة حضوره المحتشم‬
‫في الثقافة المعاصرة التي غَّيبته وخنقت جذوته‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬تحت رماد‬
‫المواقف اإليديولوجية التي طبعت أفعالنا وردود أفعالنا سياسيا وثقافيا‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫فال أنسنة‪ ،‬بالمعنى العميق‪ ،‬إال في ظل عملية تحرير شاملة للعقل تجعله‬
‫يستقل عن الدوغماتية السائدة المتساوقة مع ما عشناه من أحداث‬
‫وصراعات مع اآلخر طيلة القرن الماضي‪ .‬إَّن هناك عمال كبيرًا جدًا‬
‫ينتظر الثقافات التي ازدهرت بين ضفتي المتوسط على درب تجاوز‬
‫االنغالق الالهوتي واالنحباس التاريخي واالنكماش الهوياتي وصدام‬
‫األساطير التأسيسية التي ظلت تغذي لعبة الهيمنة وادعاء التفوق‬
‫وأحقية الحديث باسم الحقيقة المطلقة أو التقدم التاريخي‪ .‬وحده الموقف‬
‫الفلسفي – النقدي المنبثق من تراكم الُم نَج ز الحداثي التفكيكي بإمكانه –‬
‫من خالل المساءلة األنتروبولوجية والمقارعة مع التراثات التأويلية ‪-‬‬
‫أن يتقَّدم بثبات نحو لملمة الذوات المشطورة تاريخيا وبناء "تاريخ‬
‫تضامني بين الشعوب" كما ظل يحلم بذلك البروفيسور الراحل‪.‬‬

‫*****‬

‫إشارة‪:‬‬
‫ُنشرت المحاورة في صحيفة "الخبر ‪ "7‬األسبوعية (من ‪ 23‬إلى ‪ 29‬تشرين األول‬
‫‪ /‬أكتوبر ‪)2020‬‬

‫‪156‬‬
157

You might also like