Professional Documents
Culture Documents
رجعُة الَّطوطم
حاشية لمشكالت الهوية والديمقراطية في الجزائر
فهرست
1
إشارات وتنبيهات .............................................
في نقد الطوطمية السياسية ....................... -1
(الهوية ،الدين ،الدولة)
شلل الَّدمقرطة في الجزائر والعالم العربي ........... -2
تعثٌر سياسٌّي أم ثقافي؟
بوابة الجحيم ........................................... -3
مقدمة لفهم فشل العرب في استضافة الحرية
رقعة القول ...رقعة الوجود .......................... -4
زورُق األوديسة الجزائرُّي المكسور ................... -5
حول الُبعد البربرِّي في السردية الوطنية الجزائرية... -6
(رد وتعقيب على أمين الزاوي)
على هامش الحراك الشعبي الجزائري .............. -7
هل حان "خريُف البطريرك"؟
-8رسالة مفتوحة إلى ألبير كامو .......................
-9اختالفي مع كامو سياسٌّي ال أخالقي ...............
(رسالة إلى صديقي عبد القادر رابحي)
الكاتُب والباحث الجزائري أحمد دلباني ....... -10
2
(محاورة في "القدس العربي األسبوعي")
الباحث أحمد دلباني لـ "الخبر" ................ -11
(محاورة عن المفكر محمد أركون)
*****
إشاراٌت وتنبيهات:
3
وحدة تعلو على الَّتعدد -1
(الشمولية)
وحدة تنبثُق من التعُد د -2
(الديموقراطية)
أحمد دلباني
4
* الُهوَّية" :سمفونيٌة غيُر مكتملة"
لقد ولت إلى غير رجعٍة ،في اعتقادي ،تلك العهوُد التي كانت فيها
الدول تبني ُم ستقبلها على أساس من الواحدية الدينية والسياسية
واإليديولوجية .دولة الوصاية ودولة الحزب الواحد الشمولية كالهما
أصبحتا فصال من فصول ماض يذكرنا بمثالب األحادية والقمع وامتهان
الحريات والحقوق الفردية والجماعية .لذا نرى أننا ُم لزمون هنا ،أوال،
بالتذكير بنضاالت الجزائريين – طيلة عقوٍد – في سبيل الحريات
والكرامة واالعتراف بالتعددية الفكرية والثقافية والسياسية .هذا هو
رصيُدنا الُم شترك في المرحلة التي أعقبت االستقالل الوطني .انطالقا من
ذلك يبدو لي أَّن واجَب المثقف األولَّي يكمُن في تعزيز التطلع الديمقراطِّي
من خالل التنبيه إلى ضرورة انفتاح الدولة على كل مكونات المجتمع
وفاعلياته الحية وفسيفسائه الثقافية الغنية ومطالبه الناشئة .فال يمكُن
الزج بالجزائريين أبديا في ُقمقم جامٍد من "الثوابت" التي بَّينت التجارُب
أنها ظلت ُتستخَد ُم أفيونا لتخدير الشعب أو ُترفُع شارة حمراء من أجل
محاربة المختلف والُم عارض .لقد ظلت الهوية ُتستثمُر إيديولوجيا لخدمة
السلطة؛ وظلت "الثوابت" المختلفة ،وبخاصٍة الدينية واإليديولوجية
منهاُ ،تبِّر ُر عمليات النبذ والقمع والتخوين انطالقا من تصورات أحادية
عن الوحدة ترى في التعددية الفكرية والسياسية تهديدًا دائما لكيان األمة
والشعب .ال يمكُن ،بمعنى آخر ،أن يتَّم احتكاُر هوية الجزائريين أو
5
الحديث باسمها باعتبارها أقنوما أزليا ال يتغَّيُر وال يغتني .التاريخ نفسه
يكذُب ذلك .فالجزائُر – باعتبارها فضاًء جغرافيا واسعا وممتدا – هي،
تاريخيا ،فضاُء هجنٍة وملتقى ثقافات وحضارات بامتياز .واعتقادي
الشخصي في ذلك أَّن الهوية العميقة ال يحِّدُدها الماضي وحده بقدر ما
يكشُف عنها المستقبل أيضا .فالهوية ،في العمق ،ابتكاٌر وليست إرثا
يتنازُع عليه الورثة .بل إنني أذهُب أبعَد من ذلك بالقول إَّن الهوية الحية
ال تقوُم إال على النقض والتجاوز والتثاقف مع اآلخر المختلف .أو إن
شئنا قلنا إَّن الهوية هي دائما "سمفونية غير مكتملة" كما جاء في
وصف سمفونية فرانز شوبرت الثامنة الشهيرة .فما هي هوية أوروبا
العميقة مثال؟ هل هي ُم حِّدٌد واحٌد ثابت؟ هل هي اليونان وروما أم
المسيحية؟ هل هي القديس توما اإلكويني أم "عصُر األنوار"؟ هل هي
الالهوت السياسُّي أم العلمانية والدنيوة؟ هل هي "مدينة هللا" أم "مدينة
اإلنسان"؟ من الواضح أَّن تاريخ أوروبا والغرب عموما هو كل ذلك
ولكن من زاوية النظر التي ترى فيه صيرورة تاريخية عظيمة قائمة
على القطائع المعرفية والسياسية واالنبثاق التدريجِّي لألنسنة .وعلى
نفس الشاكلة نستطيُع أن نسأل أيضا :ما هي هوية الصين العميقة؟
كونفوشيوس والطاوية أم ماو تسي تونغ؟ الحكمة العَم لية القديمة أم
الشيوعية؟ وهل هي اليوم نتاٌج مباشٌر للثورة أم لشكل من أشكال
ليبرالية السوق المقَّيدة؟ انطالقا من ذلك أقول إنه ال ُيمكننا أبدًا الحديُث
عن الهوية دون االنتباه إلى كونها ال تعني االستمرارية فحسب بقدر ما
تعني أيضا القطائَع واالنقالبات واالغتناء واالنفتاح على الُم ستقبل.
6
فالهوية بهذا المعنى ،كما قلنا ،تبدو كمثل عمل فنٍّي ال يكتمل أبدًا .ولكَّن
الخطاب السياسَّي – اإليديولوجَّي المغلق يريُد دائما أن يجعل منها كابحا
لحركية المجتمع ومتراسا أمام التاريخ ألهداٍف إيديولوجية تتعلُق بإرادة
الهيمنة على الفضاء السوسيو -سياسي .إذ إَّن الحديَث باسم الهوية
يمنُح الخطاَب شرعية رمزية وأدبية كبيرة بكل تأكيد .لذا يبدو لي أَّن
الهوية ،في عمقها ،تتجاوز دائما تلك السرديات الوطنية الضيقة التي يتُّم
ابتكارها بوصفها قمقما يعتقل ويأسُر مارَد الُم مكن الذي تختزنه الذاُت
الجماعية في حركية جدلها مع اآلخر والتاريخ.
7
ليست ابَن تيمية والشافعي فحسب وإنما هي ابن رشد والمعِّر ي أيضا.
ُيمكننا ،بالطبع ،أن نالحظ أَّن ُهناك ِس ماٍت عامة في كل ثقافٍة تجعلنا نعتقُد
بوجوِد خصوصَّية ثابتٍة فيها ُنسّم يها عادًة " الُهوية " ،ولكنني أقوُل
أيضا إن هذه الّس مات ثابتٌة نسبيا فقط ،وهي شيٌء َع َر ضٌّي وتاريخّي
وليست أقنوما أزلًّيا .إَّن ُم شكلة الُهوية عندنا سياسّية /إيديولوجّية،
وهي خطاٌب ُيستثمُر دائما من ِقبل الفئاِت األكثر سيطرًة من أجل كبح
التغّير وتبرير الهيمنة كما ذكرنا آنفا.
إَّن أخطر ما يمكُن أن يجعل من التأكيد المبالغ فيه على الهوية
والتمايز الثقافي حاليا هو ذلك االنكماش أمام العالم وصيروراته .فكأَّن
الحديَث عن الهوية -فضال عن الرغبة المشروعة بكل تأكيٍد في تلبية
الحاجة إلى الشعور باالنتماء – ُيضمُر أزمًة مع الحاضر ومع اآلخر تصل
إلى حِّد الهوس بالجذور الثقافية والعرقية وبنيات التضامن السابقة على
تشكيل الدولة الوطنية .فالعالُم الذي ُيشيُح بوجهه عني وال يحتضُن
صبواتي وتطلعاتي ال يستحق مني أكثر من أن أغلَق في وجهه باَب بيتي
أنا أيضا .هكذا تصبُح الهوية دائما في لحظاِت األزمة مع الراهن
المضطرب مالذا وطوَق نجاٍة للذات الجماعية الخائبة في محيط اللحظة
التاريخية؛ كما ال يعوُد الناُس يتعرفون على أنفسهم إال في تلك الروابط
التقليدية السابقة على ميالد الروابط السياسية الحديثة لدول وطنيٍة
فاشلة تنمويا .هذا ما يجعل منها بيَت الخائب كما كتبنا ذات يوم .لذا نعتقُد
أَّن تفاقَم الحديث عن الهوية ومطالب االعتراف والحق في االختالف يجُد
8
مكانه وحلوله الُم مكنة في فلسفة حقوق اإلنسان التي يجُب أن نتبناها
بانفتاح ووعي ومسؤولية ،حتى ال ُتفلَت الناُر من بين أصابع الساحر
ويتحول ما هو مشروٌع -إنسانيا وثقافيا وأخالقيا وسياسيا -إلى
"هويات قاتلة" كما ُيعِّبُر أمين معلوف في كتابه المشهور الذي خَّص صه
لدراسة بعض االنحرافات الهوياتية ،نهاية القرن الماضي ،والعالُم يشهُد
تفككا سَّببه انهياُر إيديولوجياٍت خالصية ظلت تؤجل يقظة بركان
المطالب الثقافية الخامد .فعلينا ،إذًا ،معالجة هذا األمر بنوع من الحكمة
التي تجعل من الهوية اعترافا بالتمايز واالختالف ضمن الوحدة الوطنية
من جهٍة ،ومصالحة مع المستقبل من جهٍة أخرى على اعتبار أَّن الهوية
ليست الجذور فحسب وإنما هي الصيرورة واإلبداع المستمر للذات
كذلك .لن تسكَن الهوية منطق أرسطو المؤكد على التماهي مع الذات
وإنما ستستنجُد هنا ،أيضا ،ببعض حدوس سلِفه هيراقليطس الذي كان
ُيعلُم أتباعه استحالة "أن ننزل النهَر نفسه مرتين ألَّن مياها جديدة تغمره
باستمرار".
9
من الجزائر دولة "سنية مالكية تقرأ القرآن برواية ورش" وهذا في
نبرٍة طائفية واضحٍة تريُد الرجوع بنا إلى حلم "دولة الوصاية" على
الضمير والمعتقد والمذهب تحت ما تَّم تعميُده باسم "المرجعية
الوطنية" .وهل من الضرورِّي أن أفتَح قوسا ،هنا ،لإلشارة إلى اإلباضية
مثال وثقل حضورها الديمغرافي والتاريخِّي العريق في الجزائر؟ أو
الحنفية وحضورها العاِلم في بلدنا أيضا؟ لقد كان ذلك ،قطعا ،تدهورًا
كبيرًا أسهَم في إخراج الدين من جوهره الروحانِّي والمعرفي واألخالقي
لُيزَّج به في حمأة المعترك السياسِّي واالدعاءات المرتبطة بضرورة
حماية الحدود السياسية والسيادة الوطنية والتماسك االجتماعِّي من
مخاطر االختراق وهذا في زمن يعرُف الحروَب الطائفية والتحالفات
القائمة عليها .نحُن نتفهُم هذه الهواجَس األمنية جِّيدًا .ولكننا ال نفهُم
كيف تكوُن مجابهة المخاطر األمنية باالنغالق اإليديولوجِّي والمذهبِّي أو
بالتنبيه إلى ضرورة "طاعة ولِّي األمر" التي عاش عليها األسالُف يوم
كانوا رعايا قبل انبالج عصر المواطنة والدولة الجمهورية الحديثة .ال
يحتاُج الدفاُع عن الجزائر ،صراحة ،إلى كل هذا النكوص الفكرِّي
والسياسي أو إلى استدعاء ثقافِة الطاعة والوالء األعمى للحاكم ،بل إلى
ثقافٍة مغايرة تجُد أساَس ها في الحقوق والحريات وترسيخ مبادئ
المواطنة .يحتاُج الدفاُع عن الجزائر إلى الحرية وإلى مواطن واع
ومسؤول .أما تلك األشكال العتيقة من العصبيات والمذهبيات التي
يستحضرها النظاُم حاليا الستخدامها سياسيا فنذِّك ُر أنها إرٌث الهوتي –
سياسي قروسطي غيُر ملزم في أدبيات الجمهورية؛ وقد كانت وليدة
10
صراعات دامية منذ بداية اإلسالم وال تمثل ،بحال ،جوهرًا أو هوية تعلو
على التاريخ الذي أنتجها .ولنتذكر ،أيضا ،كيف أَّن فئاٍت كثيرة من عموم
الشعب والشباب بخاصٍة وجدت في األصولية الحديثة وفي تطرفها الذي
ينتسُب إلى الدين اإلسالمِّي مالذا وطوَق نجاٍة في عالم لم ينتشل وجودها
من الهامشية والضياع وهذا في ظل الدولة الوطنية المنتكسة سياسيا
واقتصاديا وتربويا والتي لم يكن لها من جواٍب على ذلك سوى بمعالجة
األصولية والتطرف أمنيا أو باللعب على ميدانهما باعتباره ينبوعا
للشرعية التي لم تستطع هذه الدولة اكتسابها من خالل التحديث
المتوازن والديمقراطية والعدالة .لقد ظل االستئثاُر السياسُّي بالحديث
باسم "الدين الصحيح" شيئا يدخل ضمن احتكارات الدولة واستثمارًا
يرفع منسوَب الشرعية المتآكلة بفعل الفشل .لذا فال بَّد ،في اعتقادي ،من
تحرير الدين في الجزائر من االستخدام السياسِّي القائم على هذا
االحتكار .فهو امتهاٌن كبيٌر للدين في حقيقة األمر .ومن جهٍة أخرى نرى
أنه ال يحق ألحٍد الحديُث باسم "اإلسالم الصحيح" اليوم .فكل ما هو
مطروٌح أمامنا ليس إال قراءاٍت وتأويالت للدين اإلسالمِّي شهدت النوَر
في التاريخ وهي تحمل ،قطعا ،أصداَء الصراعات الدموية التي كانت في
أساس نشأتها .المذهبياُت على اختالفها تمثل ذكرى معارك منتهيٍة
ُتستعاُد وُتستثمُر سياسيا في سياقات تجاوزتها كليا .ولعل في هذا ما
يكشُف عن الريبة من البحث الحفري – التفكيكِّي في مشكالت الالهوت
السياسي وَتشُّك ل العقائد وتاريخ اإلسالم على العموم من منظور غير
امتثالي وغير طائفّي أو تبجيلي عندنا .كما يكشُف كيف أَّن الدولة
11
العربية – اإلسالمية وليدة االستقالل ال تزال وصَّية على الحقيقة ولم
تفهم ،بعُد ،دورها باعتبارها ُم ؤَّس سة معنَّية – في المقام األول – بحماية
حقوق اإلنسان وتأمين شروط العيش المشترك ال رسم طرق الخالص
على شاكلة دولة العصور الوسطى .فال تزال هذه الدولة تستنجُد
بالحقيقة الدينَّية التي تمنُح ها شرعَّية لم تستطع اكتسابها بالعمل على
االرتقاء بالحياة العامة أو تحقيق العدالة والتنمية الشاملة .وإال فما
معنى ،مثال ،القول إَّن هناك نظاما سياسيا ُم عَّينا يمثل "اإلسالم
الصحيح"؟ وما معنى القول إَّن فكرًا بعينه يمثل "اإلسالم الصحيح"؟
وهل هناك "إسالم صحيٌح " وآخر "خاطئ"؟ وما معنى الصحة والخطأ
هنا؟ ما معيارهما؟ ومن ُيحِّدُد ذلك؟ واستناًد ا إلى ماذا؟
لنُعد قليال إلى الوراء .من كان ُيمثل "اإلسالم الَّص حيح" في تاريخنا
البعيد؟ علي أم ُم عاوية؟ القدرية أم الجهمية؟ المعتزلة أم األشاعرة؟
الفالسفة أم الُم تصوفة؟ ابن تيمَّية أم ابن رشد؟ هل هناك مرجعية ُم طلقة
تحّدُد معاييَر الصواب والخطأ في هذا المجال؟ ألم تكن كل هذه التيارات
والمذاهب والمواقف الُم تباينة نتاجا للتأويل ولقراءاٍت خاَّص ة للنص
األَّو ل؟ ألم ينشأ معظمها في ظل حرب سياسية دموَّية – كما ذكرنا آنفا –
من أجل خلع الشرعية على شهوة السلطة ونبذ اآلخر الُم نافس؟ أليس
في هذا ما يدل على خطر استخدام الدين سياسيا بصورة ُتبِّر ُر العنف
وتمنحه طابعا ُم قَّدسا؟ أليس في هذا ما ُيبّيُن كيف أَّن "الحقيقة" في يد
12
الدولة تصبُح أكبر عدو لإلنسان ،ومرجعية عليا ُيسحق باسمها الُم ختِلف
وُيكَّفُر كما نجُد ذلك في معظم بلداننا العربية بكل أسف؟
علينا أن نحِّر َر الحقيقة من السياسة لتصبَح بحثا ال عقيدة .هذه هي
ركيزة الدولة المدنية الحديثة بكل بساطة .علينا أن نحِّرَر الدين من
الُم ؤَّس سة التي تستخدمُه أداًة للسلطة في هيمنة الطائفة الغالبة وقمع
الُم ختلف وقهر المرأة وإدانة الحرية واإلبداع .الديُن تجربة روحية
تعاُش وليس وصاية للزج بالحياة وغناها وتعّدديتها في اتجاه نمذجة
الفكر والسلوك .على الدين أن يعيَش النهائية التأويل والبحث عن
المعنى الذي ُيعانُق لحظته بعيدًا عن أالعيب السياسة التي ال يُهّم ها منُه
إال ما يخدُم ديمومَتها أو يستُر عورتها.
كتب أدونيس ،في نفس السياق ،متحدثا عن وظائف الدولة وعن
عالقاتها الملتبسة بالحقيقة التي تقود – متى تمأَس ست – إلى الطغيان
والفاشية وسحق اإلنسان:
" ...وتغّيُر هذه النظرة يؤّدي إلى االعتراف بأَّن الحقيقة مشتركة،
وليست استئثارًا ،وأَّن الدولة بوصفها سلطة وسياسية ،ال شأن لها
بالحقيقة ،كما كان األمُر في الخالفة وفي الكنيسة ،وأَّن المجتمَع ال يمكُن
أن تنقذه نظرية واحدة أّيًا كانت – فمثل هذا االعتقاد أَّدى ويؤِّدي إلى قتل
البشر من أجل فرضية ،إلى قتلهم من أجل ال شيء ،وهو أبشُع أنواع
الجرائم .وهذا التغييُر يؤِّدي إلى القول إَّن المجتمَع تعّدٌد يتحاور
13
ويختلف ،وأَّن االختالَف والتعّدد هما أعمق ما في الحياة اإلنسانية التي
يميزها عن الحيوانية والقطيعية ...
ومثل هذا التغيير يؤّدي إلى االنهماك بقضايا اإلنسان بوصفه مواطنا،
وفي مشكالت عيشه ،وعمله ،وحريته ،وتقّدمه .ومثل هذه المشكالت
هي مهَّم ات الدولة –ال مشكالت هويته أو قوميته ،أو دينه ،أو مصيره.
إَّن الدولة العربية ُتعنى اليوم بكل ما ال يعنيها بوصفها دولة".
(النظام والكالم ،دار اآلداب ،بيروت .ط – 2010 ،2ص .)59
ال أجد ،صراحًة ،ما أضيُف إلى كالم صديقي الكبير بهذا الشأن.
***
15
كتب البروفيسور الراحل محمد أركون حول هذه المشكلة وحول هذا
الوضع مقترحا مخرجا سياسيا منه" :الحل هو تفكيك العصبيات القديمة،
وإيجاد عصبية جديدة محلها :أي العصبية العامة للدولة الحديثة التي
تتجاوز القبائل والطوائف والعشائر وتتخذ موقفا متساويا من جميع
المواطنين .وهذا ما يؤدي بدوره إلى تشكيل الفرد – المواطن ،وإحالله
محل اإلنسان القديم الذي ال وجوَد له إال من خالل الجماعة .بمعنى أن ال
وجوَد له كإنسان مستقل ،أو كفرٍد حر ،أو كمواطن ينتسُب إلى دولٍة
حديثة تحميه وتحتضنه وتشعره أنه ُم هم بغض النظر عن أصله وفصله.
وهذه عملية طويلة ومعقدة "...
(اإلسالم ،أوروبا ،الغرب .ترجمة وإسهام هاشم صالح ،دار الساقي،
بيروت .ط .2001 ،2ص .)206
هذا ما يجعلني أعتقُد أَّن خالَص ُم جتمعاتنا من المأزق التاريخي
الذي تعرفه ال يخرُج عن العلمنة اإليجابَّية وتحييد الِّدين عن االستخدام
السياسي ليبقى مجاال للتأمل الميتافيزيقي في وضع اإلنسان وُم شكالته
العميقة من منظور ُم نفتح على الكونية .كما تقُع على العقل السياسِّي
العربي ،في اعتقادي ،مسؤولية الخروج من ُم حِّددات العقل الطائفي
والالهوت السياسي الُم رتبط بالخالص في شكله الديني القديم ليتأَّسَس
على "عقد اجتماعي" جديد يقوُم على الشراكة والُم واطنية واحتضان
التعدد والحريات والُم كتسبات الحقوقَّية الديمقراطَّية الحديثة .فالعلمنة –
التي تمثل الالمفكر فيه بامتياز في خطابنا الفكرِّي والسياسِّي – ليست
16
عقيدة خالصية وإنما هي الضامُن القانونُّي أمام التعسف الطائفِّي وقهر
الدولة المنحازة إلى األغلبية ضَّد األقليات المذهبية والدينية .من
المعروف أَّن فكرنا العربَّي – اإلسالمي المعاصر ظل يستبعُد من دائرة
النقاش الجاد قضية العلمنة والدنيوة بدعوى أنها مشكلة غربية
"مستوردة" ترتبط بالسياقات الحضارية الغربية ُم تناسيا االمتدادات
المدِّم رة لصراعنا الطائفِّي إلى اليوم.
كتب الراحل جورج طرابيشي بخصوص هذا الشأن:
"ال بَّد أن نعوَد إلى التاريخ ،وهو تاريٌخ مديٌد ال ُيقاُس بعشرات
السنوات كما في مثال الحرب الكاثوليكية – البروتستانتية التي تمخضت
عن تكريس العلمانية في الغرب كآلية قانونية لتسوية العالقات بين
الطوائف ،بل ُيقاس بمئات السنين من صراع سنٍّي – شيعي بقي إلى
اليوم متجذرًا في مستنقع الطائفية القروسطية بحكم غياب وتغييب
المخرج العلماني".
(هرطقات ،2دار الساقي ،بيروت .2008ص .)11
إَّن العلمنة التي تثيُر ،عندنا ،حرجا دينيا غير مفهوم ليست محاربة
للدين أو لحرية االعتقاد وإنما هي تخليٌص لـ "شهوة المطلق" من
"إرادة القوة" أو رغبة الهيمنة التي تلبُس قناَع اِّدعاِء امتالك الحقيقة
المطلقة .العلمنة التي نريدها – وأنا هنا أستعيُد بعَض ما قاله ريجيس
دوبريه بخصوص هذا األمر –ال تتوخى اإلجابة عن السؤال المتعلق
17
بالحقيقة أو بمعنى الحياة ،كما ال تستطيُع توفيَر سبب كاف للعيش بقدر
ما تسعى إلى تخليصنا من شهوة العنف المرتبطة بمأسسة الحقيقة،
وإلزامنا بالكف عن رفع األسلحة واالقتتال فيما بيننا باسم هذا المعنى أو
تلك الحقيقة.
***
جاء في كلمٍة ألدونيس "كل مذهبَّيٍة ُح بلى بالجالدين".
أجل .كل مذهبية وطائفية حبلى بالجالدين .والنظاُم السياسُّي هو
القابلة التي تسهُر على رعايتها وضمان استمرار ُس اللتها من
المحاربين.
*****
إشارة:
ُنشرت من هذا المقال شذراٌت في صحيفة "الخبر "7األسبوعية.
18
شلُل الَّدمقرطة في الجزائر والعالم العربي
19
باعتبارنا عربا ومسلمين .فكما أصبحنا نستورُد وسائل تحسين الحياة
كذلك استعرنا أشكال التنظيم السياسي وآليات السلطة واإلطار
المؤَّس ساتي للحياة المدنية الحديثة .أقول "استعرنا" ذلك فقط ألننا لم
ندرك – ألسباٍب ثقافيٍة بكل تأكيد – جوهَر الثورة التي صاحبت ميالَد
الحداثِة بوصفها انقالبا معرفيا وزحزحة للقيم من تعاليها الالهوتي إلى
وضعها الناسوتي الجديد .أو قل إننا لم ُنحدث ،بعُد ،ثورتنا الكوبرنيكية
في عالم القيم .هذا يعني أننا ظللنا نأخذ من الغرب ُم نجزاِته التقنية دون
وعٍي بأُس سها العقلية – التجريبية التي أرسى دعائمها العلُم الحديث؛ كما
ظللنا نستعيُر أشكال الحياة السياسيِة الجديدة من دون إحداث مراجعٍة
ألسس ثقافتنا التقليدية الُم تمحورة حول التعالي ومرجعية الماضي .لقد
تَّم تحديُث مجتمعاتنا "في سياق استهالكٍّي ال إبداعي" كما ُيعِّبُر أحُد
الباحثين بحق.
كتب الُم فكر التونسي الراحل هشام جعيط في هذا الشأن قائال:
" ...فال ديمقراطية عندنا في كل العالم اإلسالمي .والمسألة في
الحقيقة لها عروٌق فلسفية وثقافية .فهي في قلب األزمة الثقافية العربية
واإلسالمية من حيُث إَّن هذه الثقافة امتنعت عن الَّتحُو ل الِقَيمي الكبير
الذي حَّف بالحداثة وهذا من منتصف القرن الثامن عشر .فمشكلة
الديمقراطية ال تكمُن في المظاهر الخارجية من تعددية وبرلمانية
وانتخاب وغلبة األغلبية ،بل لها عروٌق قيمَّية تمثل أساسا في قلب
20
الضمير :وهي معنى الكرامة اإلنسانية والقناعة الداخلية بوجاهة
الديمقراطية في النخبة والجمهور واعتبار األلم اإلنساني كشر في حِّد
ذاته .وهذه القيُم أهّم من الحرية والمساواة ألنها تشتمل عليها وتغلفها".
فالديمقراطية ،من حيُث الجوهر ،هي " :انقالٌب ذهنٌّي ثقافي ليس له
اآلن دعامة في الواقع االجتماعي والسياسي (عندنا)".
(هشام جعيط ،أزمة الثقافة اإلسالمية ،دار الطليعة – بيروت ط،3
.2011ص .)8
يضيُف الكاتب محلال أزمة العربِّي – المسلم مع الحداثة التي يمكن
قراءتها باعتبارها تجربة تحديٍث شكالني خال من األبعاد الثقافية القيمية
التي أرست دعائَم النظرة الحديثة لإلنسان والعالم قائال ... " :لم
نستوعب البنى المادية للحداثة من حيُث أنا ننتجها ،أو أنا استوعبناها
أقل بكثير من بقية العالم ...ولهذا أسباٌب من بينها – وهو أساسٌّي –
االمتناع عن التحول الثقافي بالمعنى العام .فنحن أمعنا في األخذ بمظاهر
الحداثة السطحية ،ولم نأخذ باألسس أو ما يشبه األسس ،وهي ثقافية".
(نفسه ،ص .)13
21
األبوي الذي ُز َّج به في ُح َّم ى االقتالع االجتماعي والثقافي والرمزي مع
"الثورات" الصناعية والزراعية والتي كانت فشال ذريعا على كل
المستويات .وأعتقُد أنه يمكننا -بصورٍة ما -قراءة ُم جَم ل الهزات
الكبيرة التي شهدها مجتمُعنا منذ االستقالل من زاوية هذا الفشل
السياسي والتنموي والثقافي والتربوي في ردم الُهَّو ة بين شكالنية بناء
الدولة العصرية والمضامين الثقافية واإلنسانية التي تجعلها تقطُع مع
الماضي وأشكال التضامن التقليدية لصالح المواطنة والحقوق اإلنسانية
بالمفهوم الحديث .ولعل الفشل كان عربيا بامتياز ال جزائريا فقط .بل
ربما كان صينيا أيضا مع محاوالت الزعيم ماو تسي تونغ تجاوز تخلف
المجتمع الصيني الزراعي من خالل التصنيع الثقيل و"الثورة الثقافية" -
زمن الخمسينات والستينات -وما تبَعُهَم ا من كوارث اقتصاديٍة وإنسانية
رهيبة .لم تكن ثقافة الزعامة وامتهان اإلنسان ووصاية النظام األحادي
بقادرٍة على الخروج من النفق أو منافسة الغرب الليبرالي الذي اكتشف
مركزية اإلنسان وقيمة الفرد وأهمية تأسيس الحياة على الحرية بكل
أبعادها .وبالعودة إلى التجربة الجزائرية نستطيُع أن نالحظ أَّن العجز
كان سياسيا بكل تأكيٍد ولكنه كان عجزًا فكريا وثقافيا أيضا يطال رؤيتنا
للتحديث والتي ظلت قاصرة وُم تسِّر عة وغير مستوعبٍة بشكل جِّيٍد
لشروط بناء "جمهورية ديمقراطية شعبية" .وإال فكيف نفِّسُر ما عرفناه
من أشكال النكوص الخطيرة مع الحالمين ،استيهاما ،بعودة الدولة
الدينية وحكم الوصاية وُم دَّو نات الشريعة الموروثة عن العصور
الوسطى والتي لم تخضع الختبار الفحص النقدي والمساءلة الفلسفية -
22
القانونية واإلبستيمولوجية انطالقا من فتوحات العقل الحديث وقطائعه
المعرفية والسياسية منذ أكثر من قرنين؟ لقد كانت الظاهرة اإلسالمية
األصولية منذ ثمانينات القرن الماضي ،في اعتقادناُ ،م عِّبرة ال عن حالٍة
ثقافية أو موقٍف سياسٍّي وإنما عن رِّد فعل المجتمع الذكورِّي األبوي أمام
التحديِث المتوحش وغير المتوازن الذي فكك بنية العالقات وأشكال
التضامن التقليدية من دون أن يرافَق ذلك عمل تربوٌّي وانتقال هادٌئ إلى
مجتمع جديٍد تترَّس خ فيه العالقاُت المدنية الحديثة وقيُم احترام اإلنسان
باعتباره مواطنا حرًا ومسؤوال .لم يكن األمُر هينا بالطبع وإنما أردنا أن
ننِّبَه إلى صعوبة حرق المراحل في عمليات التغيير الكبرى التي تروُم
تغييَر المجتمع أو تطبيق خطاطة "مشروع المجتمع" كما ُيعَّبُر بفجاجٍة
غالبا .لطالما نَّبه الباحثون الطليعيون إلى أَّن الماضي ال يموُت وإنما يتُّم
كبُته كمارٍد في قمقم لُيستعاَد في شكل اعتصام بالهويِة أو األصالة متى
كشف الحاضُر عن أزماته من خالل عجز الدولة عن تقديم بدائل ناجحة
في العالقات االجتماعية واالزدهار الثقافي والَّر فاه االقتصادي وشعور
المواطن بقيمته االعتبارية في ظل توفر فرص الحياِة الكريمة وتحقيق
الذات.
هذا ما دعانا – في الكثير من األحايين – إلى التنبيه بأَّن الديمقراطية
ال ُيمكُن أن ُتختزل في لعبٍة انتخابيٍة مبتذلة وخصوصا في العالم العربي.
نعلُم جِّيدًا مدى التوُّج س من الحرية وانعدام ثقافة النقاش واالنفتاح على
النقد والرأي اآلخر والمعارضة السياسية عند الحكام العرب الذين لم يكن
23
التخلص من صفة الزعامة عندهم باألمر الهِّين .لقد ورثوا ،من دون
أدنى شك ،قيمة الفحولة من وسطهم الثقافي واالجتماعي الذكوري
التقليدي ،كما ظل من السهل لدى الكثيرين منهم لعُب دور المخلص
والُم نقذ في فتراٍت تاريخية عصيبة ُم جِّس دين بذلك اآلمال العريضة
لشعوٍب عانت طويال من إذالل االستعمار وهيمنته .ومَّم ا زاد في تغييب
االهتمام بالمنحى الديمقراطي -الذي تحدثنا عن أسسه الفلسفية – هو
اعتباُر الليبرالية إيديولوجية استغاللية استعمارية ال تخدُم مسعى
مجتمعاتنا إلى االستقالل الفعلي عن المنظومة الكولونيالية وال تطلعاتها
إلى العدالة والمساواة والتنمية .هذا ما قاد الكثيَر من البلدان العربية –
كالجزائر منذ االستقالل – إلى تبِّني نموذج "الديمقراطية الشعبية"
وآليات الحكم المركزي المعتمد على الحزب الواحد وقيادة الزعيم مع
إرجاء التفكير في المطالب المتعلقة بالحريات المدنية والحقوق
السياسية والتي كان يحلو للينين أن ُيسِّم يها "الديمقراطية الشكلية" في
مقابل "الديمقراطية الجوهرية" .ولنا ،بالطبع ،أن نتأمل في السياقاِت
التاريخية والثقافية المعَّقدة التي جعلت من هذه الطبعة االجتماعية
والشعبوية للديمقراطية طريقا للخالص األرضِّي عندنا واستجابة لـ
"غريزة القطيع" في استعادة ذكرى المهدِّي الُم نتَظر الذي سُيمِّثل
حضوُر ه بيننا شفاًء من كابوس التاريخ وظلمته .لم يكن لذلك ،بطبيعة
الحال ،أية عالقٍة بالحداثِة السياسية ما دامت أركيولوجيا الوعي الجمعِّي
تكشُف عن رواسب الحنين إلى أزمنة البطولة التي بإمكانها أن تخلَص
فحولتنا الجريحة من عقدة اإلخصاء أمام تحدياِت حاضر فقدنا فيه زماَم
24
المبادرة والفعل .كأَّن ثقافتنا األلفية -ذات الجوهر األسطوري -قد
اخترقت ،بذلك ،قالعنا الحديثة كحصان طروادة وهي تضُع على وجهها
قناَع الحداثة السياسية الزائفة في شكلها اإليديولوجي االشتراكي.
ومن جهٍة أخرى الحظنا أَّن الخطاَب اإلسالمَّي الذي تزامن صعوُده
مع بداية التشكيك في اإليديولوجية القومية بداية السبعينات لم يكن ،هو
اآلخر ،قادرًا على إدراك جوهر الديمقراطية أو القبول بها دون حذر أو
بمعزل عن كونها وسيلة وأداة ُتمِّك ُن من الوصول إلى السلطة ال غير.
فالتياراُت اإلسالمية -على اختالفها -ال تؤمُن بجوهر الديمقراطية القائم
على مركزية اإلنسان والسيادة الشعبية وحكم القانون الُم نبثق من
النقاش الحر واإلرادة العامة .لقد ظل المناضل اإلسالمُّي – في العالم
العربِّي والجزائر معا -يعتبُر الديمقراطية فرصة وحيلة ُتتيُح له نيل ما
يريُد من أجل فرض نموذج مجتمع الوصاية الذي يحمله في مشروعه
والذي ُيضمُر حنقا واضحا على ِقيم الحداثة والتحرر والمساواة بين
الجنسين .لقد قطع اإلسالُم – من خالل ممثلي هذا التيار – مع تاريخه
الغنِّي الزاخر بالتجارب الروحية والمغامرات الفكرية واإلبداعية ليتقلص
إلى ُم جَّرِد هوس مرضٍّي بالسلطة أو االنتقام من حركية المجتمع
التاريخية المتعثرة أمام تحديات التحديث اإليجابي المتوازن .كان الجانُب
السوسيولوجي لإلسالم السياسِّي ،بمعنى ما ،طاغيا وُم عِّبرًا عن البنيات
األكثر تقليدية للمجتمع ،كما كان كاشفا عن رغبات االنتقام الدفينة التي
تسكُن الذكورَة الحالمة باستعادة مواقعها السابقة في صورة نوستالجيا
25
عميقٍة إلى أزمنة كانت تسودها قيُم الفحولة ومجمل عالقات اإلخضاع
التي عرفت تدهورًا ملحوظا منذ بدايات تحديثنا المتوحش.
لقد الحظ المفكُر العربُّي الراحل جورج طرابيشي ،بحق ،كيف أَّن
إشكالية الديمقراطية في العالم العربِّي يجب أال ُتختزل في العائق
السياسِّي الذي يمثله النظام االستبدادي ،وإنما كذلك في العوائق
السوسيو -ثقافية المرتبطة بالمجتمع التقليدِّي الذي يقُف حاجزا بين
اإلنسان العربِّي – فردًا كان أو جماعة – وبين تطلعاته المشروعة إلى
الحرية والتفكير والتعبير بعيدًا عن منظومة قيم المنع والتحريم التقليدية
الزجرية .يقول:
" ...ولنملك الجرأة على أن نعترف :فلئن كانت األنظمة العربية
القائمة ُتقيُم العثرات أمام اآللية الديمقراطية ،فإَّن المجتمعات العربية
الراهنة تقيُم العثراِت أمام الثقافة الديمقراطية .فاألنظمة العربية ال
تتحمل انتخابا حرًا ،ولكَّن المجتمعات العربية ال تتحمل رأيا حرًا.
ومجتمع يريُد الديمقراطية في السياسة ،وال يريدها في الفكر ،وال على
األخص في الدين ،وال بطبيعة الحال في العالقات الجنسية ،هو مجتمٌع
يستسهل الديمقراطية ويختزلها في آن معا .ومن االستسهال – كما من
االختزال – ما قتل".
(هرطقات ،دار الساقي ،بيروت – ط .3ص .)18-17
26
هذا هو مداُر النقاش :الديمقراطية ثقافة باألساس ،وليست آلياُت
تحقيقها – كاالنتخابات مثال – إال إجراءاٍت ووسائل تمثل تتويجا قانونيا
لهاجس ترسيخ مبادئ اإلرادة العامة والحريات الفردية والجماعية
ومرجعية المجتمع في التشريع لذاته بمعزل عن أستاذية المرجعيات
التقليدية والمؤَّس سات التي تمثلها .من هنا نفهُم كيف أَّن الديمقراطية في
عمقها ،كما أسلفنا القول ،ليست حيلة انتخابية أو شكال إجرائيا يؤِّسُس
لنظام حكم األغلبية كما ُيشاُع عادة بكل سذاجة .إنها ميالُد زمن اإلنسان
الذي احتل مركز دائرة القيم وأصبح فاعال تاريخيا مع بداية األزمنة
الحديثة التي رأى هيدغر أَّن من بين مظاهرها األكثر أهمية ما سَّم اه
"عطلة اآللهة" .لقد كان للكثير من المفكرين والفالسفة المعاصرين أن
يالحظوا ،بالطبع ،أَّن ثقافة الديمقراطية هي ثقافة االستقاللية واعتبار
اإلنسان مرجعا لذاته في كل مناحي الحياة كما تمثلت ،بخاصٍة ،في الفن
الحديث الذي أصبح يحتفي باإلنسانِّي ُم بتعدًا – شيئا فشيئا – عن تمثيل
اإللهِّي أو المقَّدس .هذا ما جعل الُم ثقَف العربَّي يدرك مدى ضخامة
المشكالت المطروحة أمام المشروع الديمقراطي المتعِّثر إلى اليوم.
فالعوائق ليست سياسية فحسب كما رأينا ،وإنما هي ثقافية واجتماعية
باألساس؛ وهو ما يكشُف عن صعوبة االنتقال إلى الديمقراطية بمجَّر د
توُفر قرارات سياسيٍة فوقية ما لم تتغَّير بنية العالقات االجتماعية ونمط
الثقافة السائدة التي ترتاب من حريات الفرد الفكرية وغيرها وتعتبرها
تهديدًا للمجتمع .والدليل على شللنا في هذا المجال هو أَّن أنظمتنا
27
السياسية ال تزال تراوح مكانها وتعيُد إنتاَج البنيات االجتماعية الطائفية
من خالل "االنتخابات الحرة والنزيهة".
***
كتب نيتشه في ُم ؤَّلفِه البيوغرافي الشهير "هو ذا الرجل" Hecce
homoقائال" :إَّن األخالَق هي سيرسه Circéالفالسفة" .ويعلُم
الكثيرون أَّن سيرسه هذه هي تلك الساحرة الحسناء المذكورة في
"أوديسة" الشاعر اليونانِّي الخالد هوميروس والتي كان لديها القدرة
على تحويل البشر إلى خنازير – الشيء الذي فعلته مع بعض رفقاء
أوليس عندما نزل ضيفا عليها أثناء رحلة عودته العاصفة إلى موطنه.
لقد كان فيلسوُف "إرادة القوة" يروُم تحريَر اإلرادة وغرائز الحياة
القوية من أسر العدمية التي أوقعت األخالُق فيها اإلنساَن وكَّبلته وجعلته
ُينكُر العالَم ونداءاِت األرض ويهفو إلى الماوراء والعوالم الوهمية
المفارقة .فهل يمكننا – على غرار الفيلسوف األلماني – أن نعتبَر بعَض
صور ثقافتنا الموروثة والَّس ائدة ،مؤَّس سيا واجتماعيا ،سيرسه أخرى
عربية تدِّج ُن اإلنساَن العربَّي وتكبُح ُج موَح ه ومحاوالت انفتاحه على
العالم الحديث برحابة عقل وروح؟ أال يمكننا أن ندرك كيف يتحَّو ل
اإلنساُن إلى مسخ بائس وطرٍف في معارك ُفرضت عليه منذ قرون ولم
يتمكن من إعادة النظر في شرعيتها -فكريا وثقافيا وإنسانيا -في ضوء
ما تراكم من معارف وتجارب ُم ضيئة وُم حِّر رة مع الحداثة الكونية منذ
قرنين على األقل؟ إَّن الشرنقة التي تحضُن اليرقة هي ذاتها التي تصبُح
28
عائقا لها بعد نمِّو أجنحتها .كذلك هو الشأُن مع الهوية الثقافية والتراث.
ال نفكُر أبدًا خارج مرجعيٍة تراثية معَّينة بكل تأكيد ،ولكننا لن نبدَع إال
بمقاومة أصداء الذات الجماعية فينا لينبثَق صوُت فردَّيتنا الُم تمِّيزة .هذا
ما جعلني أتفُق ،شخصيا ،مع كل المفكرين والباحثين العرب الذين رأوا
أَّن أزمتنا الحضارية العميقة تكمُن في عدم قدرة ثقافتنا الَّس ائدة
والمكَّر سة على عتق شرارة "الكوجيتو " العربي من رماد القرون .أقول
هذا وأنا ال أقصُد ،بطبيعة الحال ،استنساخ تجارب الغير دون أصالٍة
ذاتية أو حاجٍة أصيلة فينا إلى اإلعالن عن جنون الحياة وصبواتها
وتطلعاتها من خاللنا .فضال عن هذا أقول إَّن التثاقَف اليوم أمٌر عولمٌّي
كما أَّن المرجعياِت الثقافية لم تُعد ُج زرًا معزولة عن بعضها البعض كما
كانت في الماضي وإنما هي متداِخ لة وُم ختَر قة وهجينٌة بالمعنى
اإليجابي ،وهو ما ُيتيُح لنا أن نتكلم عن الكونية بوعي نقدٍّي يعصمنا من
السقوط في َش َر ك المركزيات المهيمنة بالطبع.
*****
إشارة:
-نشر هذا المقال في مجلة "فواصل" الشهرية التي تصدرها مؤسسة "الشعب"،
(عدد شباط /فيفري )2021
29
-كما ُنشرت منه شذراٌت مطولة في صحيفة "الخبر" اليومية على حلقتين ( 26و
27تموز /جويلية )2020
31
بأنها تعيُش سقوطا متواصال ال ينتهي وغيابا عن مأدبة العالم الذي
َتصنُع أقداَر ه مغامراُت المعرفة وإرادة القوة والهيمنة .ولكننا نجُد أنفَس نا
ُم رغمين على التساؤل حول غياب قيمة الحرية بكل أبعادها الوجودية
والحقوقية والسياسية عندنا ،وعن السياقات المعقدة التي خنقت جذوة
التغيير في حياتنا .لعل هذه المشكلة الضخمة ال ترتبط ،كما ألمحنا إلى
ذلك ،بالفرد العربِّي وإنما باألبنية االجتماعية والتمثالت الثقافية الَّس ائدة
والمؤَّس سات الراسخة ،كما تجُد لها سندًا أيضا في عالقات االستتباع
واستراتيجيات الهيمنة التي ُيقيمها معنا نظاٌم دولٌّي براغماتي ال يرى
فينا إال سوقا استهالكية ومناطَق نفوذ ومصادر طاقة.
***
تعرُف قضية الحرية التباسا كبيرًا في عالمنا العربي – اإلسالمي
نظريا وعمليا ،فكريا وقانونيا .يرجُع هذا األمُر ،ربما ،إلى تشابك القضية
مع ُم عطيات التاريخ والموروث االجتماعي -الثقافي من جهة ،ومع
إشكاالت الحداثة والعصرنة السياسية المرتبطة ببناء الدولة الوطنية
الحديثة من جهة أخرى .لذا نعتقُد ،فعال ،أَّن الحرية ليست قضية نظرية
فحسب بقدر ما هي تصور يرتبط بأبنية الفكر والثقافة التاريخية
الُم تجذرة والرؤية الثقافية العامة التي تقوُم عليها شرعية السلوك
والنظر .من هنا نفهُم كيف أَّن الحرية – بمفهومها الحديث الذي رسخته
الحداثة الظافرة في الغرب منذ "عصر األنوار" تحديًد ا – ظلت تعاني من
غربتها الثقافية والتاريخية عن ُم جتمعاتنا التي لم تعرف نفس الحراك
32
التاريخي الذي عرفتُه الضفة األخرى من البحر الُم توسط .هذا األمر
يبِّيُن ،بكل تأكيد ،كيف أَّن القيم ال ترتبط بسماء المعقوالت وإنما
بالسياقات التاريخية للتحول االجتماعي وبالمطالب الناشئة ضمن
ديناميكية إعادة ترتيب عالقات القوة في الُم جتمع.
وكمثل الحرية نجُد االستبداَد كذلك ال يمثل وضعا مفارقا للتاريخ
وللوعي بالحرية باعتبارها انعتاقا مشروعا عما ُيعتبُر سلبا لكرامة
اإلنسان .لقد عاشت البشرية عهوًد ا طويلة على أوضاع كانت تشِّر ُع
للخضوع والطاعة والرؤية الثقافية التي تكرُس التراتب الهرمي
للمجتمع وعالقات اإلخضاع .كان االستبداُد ،بالتالي ،غيَر ُم فكر فيه
باعتباره وضعا غير إنساني وإنما ظل ،في أحايين كثيرة ،يحظى بميزة
خاصة باعتباره أمرًا طبيعيا ومشروعا وسالحا ضَّد إمكان السقوط في
الفتنة .وإذا رجعنا إلى األدبيات السياسية العربية – اإلسالمية في
العصور الوسطى وجدنا هذا األمَر في مصنفات الالهوت السياسي
واآلداب السلطانية المعروفة .وربما استطعنا أن ننتبه أيضا إلى أَّن
الحرية لم تكن ُم فكرًا فيها انطالقا من مفهوم اإلنسان باعتباره فردا يملك
حقوقا طبيعية ال ُتنتهك ،وإنما ظلت ُم رتبطة دائما بنظام الفكر الالهوتي
الباحث عن عالقة الفعل البشرِّي بالخلق اإللهي .لم تكن الحرية مفهوما
يرتبط بوجود اإلنسان السوسيو -سياسي وإنما بالالهوت .لم تكن حقا
وإنما ُح َّج ة على العدل اإللهي أو القدرة اإللهية كما نجُد في الفكر الكالمي
اإلسالمي منذ بواكيره في العصر األموي .ومن المعروف أَّن الفكَر
33
العربَّي لم يتعَّر ف على هذا المفهوم الحديث للحرية إال بعد "صدمة
الحداثة" كما ُيعَّبر ،وهذا بعد اللقاء اإلشكالي باآلخر الُم ستعِم ر الذي أنجز
حداثته األولى وثوراته المعرفية والسياسية الليبرالية .هكذا كانت النخب
العربية منذ ما ُس ِّم ي "عصر النهضة" مأخوذة بالُم نجز الليبرالي الغربي،
وظلت ترى فيه النموذج الحضاري الذي بإمكانه أن ُيخرَج الذات الُم نهكة
من عطالتها الحضارية .هنا نعثُر على بوادر الفهم األول للحرية
باعتبارها حرية الفعل والتفكير والحق في االزدهار الشخصي
والُم شاركة في الحياة العامة واستخدام العقل في مقابل التقاليد الَّر اسخة
والُم ؤَّس سات التي تمثلها.
كتب المفكر المغربي عبد هللا العروي في هذا موضحا ومحلال:
" ...إَّن المفاهيَم التي يلجأ إليها الفقه وعلُم الكالم والتي تقترب من
مفهوم الحرية كما نتصَّو ره اآلن تدور كلها حول الفرد وعالقته مع نفسه
وخالقه وأخيه في اإلنسانية ،فهي قانونية أخالقية ،أما مفهوُم الحرية،
كما تصَّو ره القرن التاسع عشر وكما ورثناه عنه كليا أو جزئيًا ،فإنه
يدور حول الفرد االجتماعي ،أي الفرد كمشارك في هيئة إنتاجية .كان
المجال التنظيمي اإلنتاجي هو مصب اهتمام الليبراليين وهذا المجال
بالضبط هو الذي يختفي في االستعمال اإلسالمي التقليدي ...يمكن إذن
أن ُنفِّر َق بين حرية نفسانية ميتافيزيقية ،يتناولها الفكُر اإلسالمي
بالتحليل ،وبين حرية سياسيٍة اجتماعية ،ينكُّب عليها الفكر الليبرالي
ويحصر فيها كل تساؤالته ومناقشاته".
34
(مفهوم الحرية ،المركز الثقافي العربي .ط .2002 ،6ص .)17
يَّتضُح ،انطالقا من ذلك ،أَّن للتفكير في الحرية عندنا -باعتبارها حقا
سياسيا وكيانيا لإلنسان -منشأ تاريخيا ارتبط بذلك اللقاء باآلخر الغربي
الحديث .من هنا طفقنا ُنديُن االستبداَد السياسي وُنبّش ُر بضرورة عتق
العقل من مرجعيات الماضي ومن تقاليد الفكر الموروثة؛ كما طفقنا نحلُم
بدساتير ُتحّدُد الحقوق اإلنسانية والواجبات وتجعل من السلطان
السياسي تعبيرًا عن اإلرادة العامة في العيش الُم شترك واالزدهار
والمناعة .كان هذا في العهد الليبرالي الذي تعَّر ف على فولتير وروسو
ومونتسكيو ومبادئ الثورة الفرنسية .ولكَّن تعقيد التاريخ أجهض هذه
األحالم أو قل ضَّيق من فرص نجاحها .فقد كانت تبدو يوتوبيا ارتبطت
بتطلعات النخب التي درست في الخارج وأرادت فرض نموذجها الطليعي
التقدمي على ُم جتمعات ظلت ،في بنياتها األساسية ،بطريركية -تقليدية
ُتمارُس نوعا من الُم مانعة أمام كل ُم حاوالت التغيير كما هو معروف.
ولكن تجُب اإلشارة إلى أَّن الليبرالية شكلت مهدًا للحديث عن الدستور
والحقوق المدنية الحديثة ومن بينها الحرية بمفهومها الشامل كما
أَّس ست لها النزعات الفردانية الُم نبثقة في الغرب الحديث منذ القرن
السابع عشر .نجُد هذا عند لطفي السيد وطه حسين تمثيال ال حصرًا.
يواصل األستاذ العروي عرَض ه لسياق استقبال المفهوم الليبرالي
للحرية عند النخب العربية منذ بواكير النهضة قائال:
35
" تقُّر الليبرالية في صورتها الُم بَّس طة أَّن الفرَد هو أصل المجتمع
وأَّن الحرية حقه البديهي والطبيعي .ال تطرُح أبدًا الحرية كمشكل ،بل
تسجلها فقط كظاهرٍة طبيعية تابعة لوجود الفرد على وجه األرض.
وهكذا ُتنزُع الحرية من مجال المساجالت الفلسفية لتوضَع في حِّيز
السياسة التطبيقية واالقتصادية ،أي في نطاق التاريخ والتطور .إَّن
قانوَن التاريخ اإلنساني هو أن يحافظ الفرُد داخل المجتمع على الحقوق
التي كان يتمتع بها كفرد قبل تأسيس المجتمع .يملك الفرُد بالبديهة
سلطانا مطلقا على ذاته ،أي على جسمه وذهنه وحركته .له إذن حقوٌق
كاملة ودائمة تتعلُق باالعتقاد والرأي والكسب والملكية ...هذه هي
الخطوط العريضة للمنظومة الليبرالية التي كانت تغذي أذهاَن الكتاب
والصحفيين والسياسيين في القرن الماضي .من الواضح أَّن المجتمع
اإلسالمي القائم آنذاك كان يتعارُض في كل نقطٍة مع البرنامج الليبرالي.
...إَّن مفكري جيل محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدين
التونسي ،وكتاب جيل لطفي السيد وطه حسين وحسين هيكل وطاهر
الحداد ،قد تأثروا بالمنظومة الليبرالية التي لخصنا خطوطها العريضة.
إنهم جميعا ال يضعون قضية الحرية في إطار فلسفي وال يبحثون عن
أصلها ومداها ،وإنما يكتفون بوصفها والمطالبة بها".
(نفسه ،ص .)49-48-47
كانت َس ورة المطالبة بالحرية في أبعادها السياسية والمدنية
واالجتماعية عند جيل الرواد المذكور تمثل مرحلة رومانطيقية حالمة
36
باالنعتاق التاريخِّي من "االنحطاط" و"االستبداد" و"التقليد" إلى آفاق
التحرر الفعلي ومواكبة حركية العالم المتحضر الذي دشن عهَد حداثِة
العقل والعلم واألنسنة والحياة البرلمانية التعددية والدستور الضامن
للحقوق والحريات .كانت مرحلة رومانطيقية بهَّية لم ُيَتح لها من النجاح
واالنتشار واالستمرارية ما يجعلها تتجذر في الواقع العربي ألسباب
سوسيو – ثقافية وتاريخية جعلت بعض القوى التي استلمت السلطة،
فيما بعد ،ترى فيها حركة نخبوية متحالفة مع الطبقات اآليلة للزوال.
***
ال ُيمكننا أبدًا تناول مسألة حضور الحرية في الدساتير العربية
والغربية من دون ُم قاربة تاريخية تقرأ هذا األمَر ضمن سياق من
التحوالت والِّص راعات التاريخية التي انبثقت معها مشروعية هذه القيمة
اجتماعيا وسياسيا وثقافيا .فنحُن نعرُف مثال كيف أَّن مسألة الحقوق في
الغرب الحديث مَّر ت بلحظتين كبيرتين :اللحظة الليبرالية التي تمحورت
حول حقوق الفرد وتأسيس فكرة الُم واطنة على أساس من العقد
االجتماعي؛ واللحظة االشتراكية التي تمحورت حول حقوق الجماعات.
ظل هذا األمُر تجسيدًا لصراع إيديولوجٍّي طبع القرن العشرين وتجلى في
دساتير الغرب وهو ينقسُم على نفسه عقائديا انطالقا من رافدين
تاريخيين كبيرين :جون لوك وروسو وميراث عصر األنوار من جهة،
وكارل ماركس من جهة ثانية .ونالحظ في عالمنا العربي أنه بعد أن
عرفنا الدستور الليبرالي الذي ركز على الحقوق ومن بينها الحرية كان
37
لنا أن ندخل ُم غامرة إيديولوجيا "الثورة العربية" بتلويناتها القومية
واالشتراكية التي ولدت بعد مخاض الِّص راع مع الغرب األمبريالي ومع
بنيات الرجعية العربية اآلفلة .هكذا احتل االهتماُم بالعدالة والمساواة
والتنمية والبناء القومي كل الفضاء الُم خصص للحقوق على حساب
الحرية الفردية بكل تجلياتها .وهكذا شهدنا ،أيضا ،نمذجة الفكر وقمع
الحرية الفكرية .كان هذا استبدادًا معاصرًا يختفي وراء غنائية العدالة
والمساواة وهو ما جَّس دتُه األنظمة العربية في أشكالها القومية والبعثية
تحديدا .ولكَّننا نعلُم ،بكل أسٍف ،ما آلت إليه تجارُبنا تلك من فشل
وانتكاس على المستويات السياسية والعسكرية واإلنسانية والحقوقية
معا .لم تكن نوايا النخب السياسية العربية كافية النتشال حياتنا من
التخلف والتبعية من دون ثمن باهظ في غالب األحيان .لقد نجحنا ،بمعنى
ما ،في إنتاج طبعٍة عربية فقيرة من الشمولية التي ظلت – تحت
سماواٍت أخر – تنتظُر "الصباحات التي تغني" أو ،إن شئنا تعبيرًا أكثر
دقة ،تلك التي أصابها الخرس .وربما لم يكن كارل بوبر مخطئا في نقده
للتاريخانية والمجتمع الشمولي ودفاعه عن "المجتمع المفتوح" عندما
كتب" :إَّن أفضل النوايا إلقامة الجَّنِة على األرض إنما تنجُح فقط في
جعلها جحيما – ذلك الجحيم الذي يجِّهزه اإلنساُن ألخيه اإلنسان".
لقد ظلت الحرية بهذا المعنى – منذ نصف قرن على األقل -ذات
حضور ُم حتشم في الحياة السياسية العربية وفي الدساتير التي قامت
على األحادية الحزبية ،وركزت على مبدأ السيادة واالستقالل وعدم
38
الركون إلى إيديولوجيات الغرب الفرداني -الليبرالي الُم عادي لحرية
الشعوب واستقاللها التاريخي من التبعية الموروثة عن األزمنة
الكولونيالية .ظل الفرُد العربُّي غائبا عن تشكيل مالمح مصيره لغياب
الُم جتمع المدني الذي لم نكتشف ضرورته العظيمة إال بعد انهيار
المنظومة اإليديولوجية االشتراكية أواخر القرن العشرين ،ما عجل
بالمطالبة بدساتير مدنية حديثة تعترف بالتعددية السياسية والفكرية
وبحق المشاركة السياسية للمواطن العربي في الشأن العام على غرار
ما شهدنا في الجزائر بعد انتفاضة تشرين األول (أكتوبر) .1988كذلك
يجُب أال ننسى أَّن بعض الدول العربية ال تملُك ،إلى اليوم ،دساتيَر تضمُن
المواطنة وتحّدُد حقوق الفرد العربي وواجباته ،وإنما تعتمُد على سلطة
التقاليد الموروثة وحكم العائلة وفضائل الوفرة المالية البترولية في
اجتراح آفاق تنمية تخلو ،بطبيعة الحال ،من ُبعدها اإلنسانِّي العميق.
مما ال شك فيه أَّن الغرب ظل الُم لهَم الوحيد للفكر السياسي الحديث
منذ ثوراته السياسية الكبيرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر في
أنكلترا وفرنسا تحديدًا .لقد تحَّددت ،تبعا لذلك ،فلسفة الحكم باعتباره
أمرًا يقوم على اإلرادة العامة والتعاقد االجتماعِّي ،وعلى فلسفة لحقوق
اإلنسان الطبيعية التي يجُب صونها وعدُم انتهاكها .هذا هو الجذُر
التاريخُّي والفلسفي لدساتير الغرب الذي قطع مع الالهوت السياسِّي
وهيمنة الكنيسة والصراع الطائفي ودشن عهد العلمنة السياسية
والحقوق الُم تساوية والُم واطنة الكاملة لجميع أفراد الشعب .لقد استقلت
39
السياسة عن الُبعد العقدي وترَّس خت الحرية باعتبارها جوهَر الكائن
اإلنساني – األمر الذي أخذ أبعادًا أخرى فيما بعد ،اجتماعيا واقتصاديا
وثقافيا أيضا ،مع حركات االحتجاج الكبيرة التي مثلها الجناح االشتراكي
لتطور الحقوق في مجابهة انحرافات الليبرالية التاريخية .ولكَّن الشيء
الذي الحظناه في عالمنا العربي -منذ قرنين تقريبا – هو تلك الُم مانعة
السوسيو -ثقافية لُم حاوالت التغيير واالنتقال إلى الحداثة الحقوقية
واالجتماعية والسياسية .لقد ظل تاريخنا الباطني المرتكز على بنية
الُم جتمع العربي البطريركية -الذكورية في جوهرها سدا منيعا أمام
التجديد االجتماعي والسياسي ،وظل التغيير ُيراوُح مكانه داخل دائرة
الفعل الثقافي واإلبداعي دون أن يتجذر ،هو اآلخر ،في بنية الوعي
الثقافي العام .من هنا سيادة االستبداد في الحياة العربية ،وهو استبداٌد ال
يرجُع في عمقه ،على ما نرى ،إلى أهواء الُم ستبد العربي فحسب وإنما،
أيضا ،إلى أسس الثقافة السائدة اجتماعيا في ارتباطها ببنياٍت
سوسيولوجية قائمة على اإلخضاع وبنية العالقات الهرمية التي تعيُق
انبثاق الفرد .ونحُن نعلُم أَّن ثورات "الربيع العربي" التي أزاحت الُم ستبَّد
العربي لم تستطع أن تدشن عهدا جديدًا كليا في مسائل الحقوق
والحريات وقضايا وضع المرأة والدولة المدنية .فقد خرج مارُد
األصولية من قمقمه ُم جَّددا وأصبح ُيهدد ،كعادته ،كل مسعى إلى
الديمقراطية الفعلية التي قام من أجلها التمرُد الشبابي .ونحُن نرى –
انطالقا من ذلك – أَّن الِّديَن السياسي عندنا مظهٌر من مظاهر شهوة
الهيمنة على مقادير الُم جتمع وقد لبس عباءة الُم قَّدس في ُم واجهة خطر
40
التغيير الذي تنشُده الفئاُت األكثر تقدما في الُم جتمع العربي وبخاصة
الشباب .ولعله من الفاجع ،بعد كل ذلك ،أن نتساءل مع أدونيس الذي
تأمل في االنتفاضات العربية وكوابحها عندما كتب غاضبا" :ما تكوُن
ثورٌة ال تقدُر أن ُتنتَج إال ما تنبغي الثورة عليه؟".
من المعروف أَّن الئحة الُح ريات ضيقة في عالمنا العربي وإن كان
هناك تفاوٌت بين بلٍد وآخر في هذه المسألة .ولكننا ما زلنا نالحظ أَّن
بعض الحريات األساسية التي ترَّس خت في الغرب ال تزال ُتعتَبُر "تابو"
عندنا كحرية المعتقد وحرية التفكير والتعبير والحق في المعارضة .هذا
ما يكشُف عن بعض مآزقنا الثقافية التي لم نفصل فيها إلى اليوم في ظل
غياب تفكير جدي في قضية العلمنة اإليجابية ،وفي ظل إصرارنا على
وضع دساتير تبدو حديثة في ظاهرها وإن كانت تخفي إرادة تأبيد
االنقسام الطائفي في ُم جتمعاتنا أو تكريس هيمنة الطائفة الغالبة .ولكَّن
هذا األمر نفسه يكشُف عن عجز فكرنا ،إلى اليوم ،عن تناول الُم شكالت
خارج مدار العقل الديني -الفقهي الذي لم يتجَّدد بصورة كافية منذ
قرون .وربما أشار هذا إلى غياب التجديد في مرجعية عمل الُم جتمع
وبقائها أسيرة لثنائية العسكرِّي والُم عَّم م ،أو االستبداد والماضوية.
***
ما الذي يجعلنا – عبر امتداد العالم العربي – نعتقُد ،عمقيا ،أَّن
الحديث عن الحرية هو كمثل الحديث عن أحجيٍة "ُك ِتبت بماء"؟
41
هذا ،في اعتقادي ،ما يجب أن يشكل مداَر تفكيرنا لعقوٍد أخرى .ولكن
من المؤكد أَّن األمل لن يزدهَر أبدًا على أعتاب "بوابة الجحيم".
*****
إشارة:
الملحق الثقافي األسبوعي "كراس الثقافة" ،صحيفة "النصر" اليومية ( 18آب /
أوت )2020
ربما تتفوُق هنا أيضا ،في اعتقادي ،اللغة على الجغرافيا والمكان
واألرض في تحديد الهوية بمفهومها العميق على اعتبار أنها ما تتمَّيز
به الذات عن اآلخر .إذ ترتبط اللغة بالمحمول الثقافي المتميز والتراث
الُم شترك وتجربة الوجود وتكوين الذات التاريخية لألمة كما تعكس رؤية
خاصة للعالم .وفعال ال وجوَد ألمٍة بلغتين على األقل كما يخبرنا التاريخ.
اللغة الواحدة بيُت الكينونة التاريخية الواحدة ومنبُت التطلعات
المشتركة .هذا ما يجعلنا نعتقُد أَّن االنشقاَق اللغوَّي يجعل من الشعب
ُج زرًا توَص ُد دون تواصلها ولقائها األبواب .قد نختلُف فكريا وإيديولوجيا
وسياسيا ولكننا نتناقُش ضمن البيت اللغوِّي الواحد دون أن نشعَر أَّن
بيننا جدرانا ما دمنا ننهل من ذاكرٍة مشتركة ونتموقُع في سياق تاريخ
44
واحد من المشكالت والرؤى والتطلعات وتباين وجهات النظر .أما مع
االختالِف اللغوِّي فثمة جدراٌن تنتصب وقد يستحيل معها أن نشعَر
باالنتماء إلى شعٍب واحد .إذ "حيُث ال تكوُن لغة واحدة بين الشخص
واآلخر ،ال يكون بينهما غير الصمت .يكوُن بينهما انفصال" كما يضيف
أدونيس أيضا .وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن تتشكل األمُم الحديثة
في أوروبا على أساس من وحدة اللغة بوصفها ما يجمع ويوِّح د .بل إَّن
الفكَر القومَّي الحديث ال يمكُن فهمه بمعزل عن التأكيد على عاملي اللغة
والتاريخ المشترك وهو ما أعقبه ،بعد ذلك ،قيام الدول الوطنية على
أنقاض آخر األمبراطوريات التي كانت تنضوي تحتها شعوٌب وقومياٌت
كثيرة في أوروبا .كما أَّن األمم التي لم يكن بإمكانها تكوين الدولة –
األمة على أساس من اللغة الواحدة لم تجد أمامها إال اعتماد الحل
الفيدرالي اتقاًء للتصدعات التي يمكُن أن تشكل بواعَث لالنفجار في أية
لحظٍة .كان على الحل الفيدرالي أن يُم َّد الجسور ويجمع الضفاف
المختلفة ألسنيا ضمن مفهوم اتحادٍّي عن األمة .ولكَّن الجديَر بالذكر
هنا ،فضال عن دور اللغة الُم شار إليه ،ما للحاضر أيضا من أهمية في
تشكيل األمة واستمرارها وهو ما أشار إليه -ذات تأمل وجيٍه -إرنست
رينان تحت ُم سَّم ى "الرغبة في العيش المشترك" في إشارة إلى
سويسرا أو المملكة البلجيكية على سبيل التمثيل .يبقى أن ُنشيَر ،أيضا،
كيف يكشُف التاريخ أَّن محاوالت تشكيل األمم استنادًا إلى اإليديولوجيات
الثورية أو بعض صور فلسفة العقد االجتماعي الحديثة لم تتمكن من
الصمود أمام انفجار قارة المكبوِت الهوياتِّي لحظة تفكك تلك
45
اإليديولوجيات أو فشل الدولة تنمويا أو سياسيا في تحقيق العدالة
والمساواة وضمان شروط المواطنة التي بإمكانها رأب التصدعات أو
تأجيل يقظة مارد المكبوت الُم شار إليه .بلدان البلقان ،بداية التسعينات
من القرن الماضي ،نموذٌج صارخ ومأساوٌّي بخصوص ما أتينا على
ذكره .ولعل في هذا األمر ،أيضا ،ما قد ُيضيُء تجاربنا في العالم العربِّي
في هذه اللحظة العولمية ونحن نشهد تراجَع دور الدولة المركزية ويقظة
المطالب الثقافية العالقة والُم غَّيبة منذ االستقالل.
إنني أجدني ،هنا ،مضطرًا إلى الحديث ،ولو بصورٍة مقتضبة ،عن
االرتجالية والحماسة اللتين رافقتا ،مثال ،جهوَد المناضلين من أجل
ترسيم ما تَّم تعميُده باسم "اللغة األمازيغية" في الجزائر وكأنها فعال لغة
واحدة موحدة ال مجموعة من المتغيرات اللسانية الشفوية ،اإلقليمية
والجهوية ،التي ميزت الفضاء الشاسع لشمال إفريقيا وظلت بعيدة عن
الكتابة والثقافة العالمة وعن العقل المركزِّي األمبراطوري الُم نتج
للمعنى التينيا أو عربيا عبر القرون .لقد كان من الممكن تناول بعض تلك
المطالب الثقافية واللغوية ديمقراطيا .ولكَّن عسَف نظام األحادية
اإليديولوجية عندنا باسم الُبعد القومِّي العربي -بعد االستقالل -أيقظ
ردوَد أفعال كثيرة وصدامات دامية مع السلطة ،ورفع هذه المطالب ،عند
البعض ،إلى مستوى القضية المحورية في إطار المصالحة مع الذات
والتاريخ من خالل االعتراف بالهوية البربرية .وكما هو معروٌف لم يكن
أمام النظام الجزائرِّي – الذي ضَّيع الكثير من ُفرص إمكان التناول
46
العلمي والمتدرج لقضايا الحقوق الثقافية منذ عشريات -سوى أن يسعى
إلى كسب جولة في عملية ترميم شرعيته المتآكلة من خالل االعتراف
باللغة "األمازيغية" لغة وطنية ورسمية مغامرًا – تحت الضغط -إلى
تعميم تدريسها حتى قبل أن تتوَّح َد لهجاتها وُيعرف الحرف الذي ُتكتب
به .ظلت سياسة الهروب إلى األمام تكتيكا يراكُم المشكالت وُيضِّيُق من
إمكان معالجتها بصورة هادئة .هذه حال الفوضى التي يتمخُض عنها
الشأن المتعلُق بالمكبوت الثقافِّي عندما ال ترافقه بصيرة العقل السياسي
الباحث – بشكل مختلف -عن وحدٍة في إطار التعدد تستنُد إلى المعرفة ال
االرتجال والحسابات السياسوية الضيقة؛ أو تنهُض على ابتكار صيغ
جديدة للعيش الُم شترك بدل اإللهاء الديماغوجي عن "وحدة وطنية"
نعرُف جميعا أنها تقف على البركان .إَّن المكبوَت ال يموت وإنما يظل
يتحَّيُن الفرَص للظهور أو االنفجار غير الُم تحكم فيه كما يعلمنا التحليل
النفسي .وربما دفعت بي حال أنظمتنا السياسية -التي ال يهمها إال
"السلم االجتماعي" بأِّي ثمن -إلى تذكر ما رواه نيتشه بخصوص أولئك
البحارة الذين اغتبطوا بالوصول إلى اليابسة بعد تحطم سفينتهم في يوم
عاصف ليكتشفوا -لسوء حظهم -أنهم يقفون على ظهر وحش بحرٍّي
هائل!
إَّن هذه االعتبارات بخصوص اللغة تتعلُق ،بطبيعة الحال ،باألمة أو
الشعب وليس بالدولة .وبالتالي فال معنى للخلط بينهما .الشعب الواحُد
47
هوية ثقافية وتاريٌخ مشترك ولغة جامعة .أما الدولة فهي مؤَّس سة تجِّس ُد
رغبة الشعب أو األمة في العيش المشترك وفي السيادة ورعاية الصالح
العام وفرض النظام .قد تولُد الدولة بقرار وتشهُد آخَر أيامها بقرار كذلك
كما يعلمنا التاريخ .أما األمة فهي حصيلة تاريخ وتجارب وذكريات
وحكاياٍت تأسيسية وتراث ُم شترك تحفظه اللغة .كما قد نجُد دوال تنضوي
تحتها شعوٌب وإثنيات كثيرة كاالتحاد السوفياتي في الماضي القريب؛
وفي المقابل نجُد شعوبا متميزة بثقافتها ولغاتها وذاكرتها المشتركة وال
تزال تتطلع إلى دولٍة تجِّس ُد استقاللها وسيادتها كالشعبين الكردِّي
والفلسطينِّي تمثيال ال حصرا .لذا نعتقُد أَّن الجزائر بعد االستقالل – بعيدًا
عن كل خطاب ديماغوجي – احتاجت إلى حكايٍة تأسيسَّية وسرديٍة وطنية
ملحمية تجعل من الشعب الجزائرِّي وحدة تجُد روَح ها العميقة ،منذ
القديم ،في التشبث باألرض ومقاومة الفاتحين والتوق الذي ال يفتُر إلى
الحرية والكرامة وهو ما جَّس دته آخر األمر – وبصورٍة مشهدية – ثورة
تشرين الثاني /نوفمبر سنة .1954هذا األمُر على قدر كبير من
األهمية بالطبع ،ولكنه يقُف عاجزًا أمام بعض مشكالت الحاضر الناشئة
والمتعلقة بالتعدد اللغوِّي وما يتبطنه من صراعاٍت هوياتية وشيكٍة
ومقبلة إن لم يتوفر لدينا عقل سياسٌّي جديٌد يقطُع مع األحادية
والديماغوجية التي لم تعد شجرتها العتيقة قادرة على إخفاء غابٍة
مظلمة يسكنها وحُش التفكك الذي يتهددنا .أقول هذا ألنني على وعي
بأَّن ما صنع سردية األمة الجزائرية الحديثة هو دولة االستقالل التي
راكمت المكبوَت الثقافَّي مرتكزة على فلسفٍة قوميٍة وحدوية
48
وإيديولوجية تنموية كشف لنا التاريخ مدى شعبويتها وفشلها نهاية
الثمانينات كما يعلُم الجميع .يلزمنا عقل سياسٌّي جديٌد إلصالح أعطاب
سياسة الدولة الوطنية في هذا المجال اليوم.
50
المشروعية التاريخيِة والقانونية واألدبية :أعني بذلك الحقوَق السياسية
والثقافية.
ربما كان من الُم متع ومن المفيد ،هنا ،ونحُن بصدد الحديث عن
الحقوق التي تمثل دعامة البناِء الديمقراطِّي المنشود ،أن ُنشيَر ولو
بإيجاز شديد -استنادًا إلى توصيف الفيلسوف الفرنسِّي المعاصر لوك
فيري -إلى أَّن ما عرفته أوروبا ،وفرنسا تحديدًا ،بعد الثورة الفرنسية
الكبرى وهي تطيُح بنظام الحِّق اإللهي الملكي وتعلُن الجمهورية ،أي
"حقوق اإلنسان والمواطن" التي أرست دعائَم ها البورجوازيُة
الُم ستنيرُة الُم نتصرة آنذاك كان "الجيل األول من الحقوق" -أعني
الحقوق السياسية والمدنية التي تكِّرُس المساواة القانونية واإلرادة
العامة والحَّق في األمن والملكية والتفكير والتعبير بحرية خالفا لما كان
عليه األمُر زمن نظام العسف .إنها ،بمعنى ما ،الحقوُق التي ناهضت
شمولية النظام القديم وتدخل الدولة في الحيز الخاص أو مجال المجتمع
المدني مستلهمة في ذلك الفكر الليبرالي .بينما كان "الجيل الثاني من
الحقوق" -الذي ارتبط بعاصفة الثورات األوروبية سنة - 1848ذا طابع
اجتماعٍّي واقتصادي يطالُب بالعدالة االجتماعية والحق في العمل
ومحاربة االستغالل ومعظم المثالب المتولدة عن انحرافات الليبرالية
االقتصادية إبان عنفوانها األول .وأعتقُد أنه ليس من الُم ستغَر ب أن
نالحظ أَّن "بيان الحزب الشيوعي" الشهير الذي دَّبجُه ماركس وأنجلز
رأى النوَر في السنة ذاتها في باريس .لقد انتقلت القارة العجوز في
51
تطورها ،وعبر ثوراتها السياسية المختلفة ،من لحظة فولتير إلى لحظة
ماركس كاشفة بذلك ،وعبر الِّص راع الَّدامي أحيانا ،عن تاريخية الحقوق
اإلنسانية وجدلها مع السياقات المختلفة باعتبارها ما ينشأ عن الحاجات
والتطلعات العادلة ال ما يعيُش زمنا رياضيا أو يناُم محنطا في سماِء
المعقوالت والنصوص المقَّدسة .ولعل هذا ما يمثل جوهَر براديغم الفكر
السياسِّي والقانوني والحقوقي إلى اليوم.
ولكَّن ما حدث عندنا هو عكُس ذلك تماما .إذ إَّن اختالَف السياقاِت
التاريخية بيننا وبين الضفة األخرى من المتوسط جعلنا نصطدُم بواقع
أوروبا الليبرالية ومنظومتها الحقوقية من خالل االستعمار الذي كشف
عن صالفة العقل التنويري العنصرِّي وشكالنية هذه الحقوق التي
تقلصت في الشعار ولم تستطع أن تنفتَح على اآلخر الُم ستعَم ر الذي ظل
خاضعا لنظام العسف والظلم والالمساواة وقانون "األهالي" .هذا ما
ُيفِّسُر ،بطبيعة الحال ،حلَم الجزائريين بالمساواة والعدالة والمواطنة
الفرنسية أوال؛ فُح لَم هم ،بعد ذلك ،باالستقالل السياسِّي من خالل الكفاح
المسلح وبناء دولٍة "ديمقراطية اجتماعية" تتجاوز مثالَب المنظومة
الكولونيالية وأزمة الفكر الليبرالي عموما في عهٍد شهَد بدايات تفكك
المركز الحضارِّي الغربي ويقظة القوميات وانتصار الثورات االشتراكية
التي قَّدمت لنا نموذجا مختلفا في التنمية واحتضان تطلعات الشعوب.
وهكذا فالمطالبة بالجيل الثاني من حقوقنا ،أعني الحقوَق السياسية
والثقافية ،يكشُف عن أزمة الدولة الوطنية التي رأت النور بعد
52
االستقالل ،أعني دولة األحادية والشعبوية التي زادها تفكك الثنائية
القطبية بعد انتهاء الحرب الباردة وانهياُر المعسكر الشرقي الشيوعِّي
تأزما ،وأصبح يهِّدُد شرعيتها التاريخية ويقدُح في أُس سها اإليديولوجية.
إننا مع احترامنا النسبي ،بالطبع ،لما حققته هذه الدولة الوطنية منذ
االستقالل تنمويا واجتماعيا إال أننا نؤكد اليوم – من أجل استمرارها
ومناعتها والخروج من مآزقها – على ضرورة عملها لصالح ُم واَطنٍة
جزائريٍة جديدٍة منفتحة من خالل ترسيخ ما أسميناه "الجيل الثاني من
الحقوق" بصورٍة عقالنية مواكبة للعالم .فالحقوق السياسية والثقافية
ُتعتَبُر من جملة ما يؤِّسُس للكرامة البشرية باعتبارها حقوقا تتعلُق
باالعتراف بالكيانات الفردية والجماعية وبالمرجعيات الثقافية التي
تؤِّسُس ُو جوَد ها وهويتها في المحيط الوطني والعالمي .فليس بالخبز
وحده يحيا اإلنسان وإنما بالحرية واالعتراف أيضا .هذه أبسط الحقائق
وأعمقها اليوم .ولكن قد يقول قائٌل إَّن الجزائَر بادرت ،عربيا ،إلى
ترسيخ هذا "الجيل الثاني من الحقوق" من خالل اإلصالح السياسي
بالخروج من األحادية الحزبية واالعتراف الدستوري بالتعددية السياسية
وحرية اإلعالم بعد انتفاضة تشرين األول /أكتوبر .1988هذا صحيٌح
ولكن نسبيا وظاهريا وشكليا فقط .فقد استمَّر ت هيمنة الدولة بمؤَّس ساتها
األمنية وقوى الظل في إدارة خيوط المشهد السياسي ومراقبته ورسم
مساراته فضال عن تدجين المجتمع المدني وقمع الحريات كما كان عليه
األمُر قبل ذلك تماما .ويهمنا أن نالحظ أننا لم نخرج ،إلى اليوم ،من
53
"ديمقراطية الواجهة" التي ظلت الدولة تصِّدرها لتجنب انتقاد المجتمع
الدولي والمنظمات الحقوقية المختلفة .ولكن هل يمكُن اعتباُر تأجيل
يقظِة البركان الخامد سياسة حكيمة؟ هل يمكن اعتبار المناورات
استراتيجية دولٍة في التعاطي مع الواقع الُم تغِّير؟
لعله يكوُن من باب الوجاهة الفكرية أن نقول مع الباحث
السوسيولوجي الفرنسِّي الشهير آالن تورين إَّن فهَم عصرنا يحتاُج إلى
نموذج تفسيرٍّي جديد يتجاوز ما درج عليه الفكُر السياسُّي واالجتماعي
منذ قرنين كي نحسَن التعامل مع التحوالت التي طبعت العالم مع بوادر
انبالج عهد العولمة منذ نهاية القرن الماضي .فقد تحَّدث هذا الباحث في
بعض منشوراته األخيرة ُم نِّبها إلى ضرورة اعتماد باراديغم جديد لفهم
عالم اليوم ينقلنا من مرحلٍة كنا "نتكلُم فيها على ذواتنا بمصطلحات
اجتماعية" إلى مرحلٍة أخرى راهنة "بتنا نتكلُم فيها على ذواتنا
بمصطلحاٍت ثقافية" كما ُيعِّبُر .هذا يعني أَّن التركيز على الصراعات
االجتماعية واالقتصادية لم يُعد كافيا لتفسير التحوالت أو التموقعات التي
يشهدها عالُم البشر في كل بقاع العالم وهم يعتصمون بأشكال أخرى من
االنتماء ال يحددها الوضُع االجتماعي بقدر ما تحددها الثقافة .وبالتالي
فمحاولة امتالك مفاتيح فهم العالم اليوم ،بمعنى ما ،لم تُعد تتوقُف عند
مفاهيم الثورة واالنتماء الطبقي وأشكال الصراع االجتماعي المعروفة
أكثر مَّم ا أصبحت تتمحور ،شيئا فشيئا ،على الهوية الثقافية باعتبارها
ما أصبح يشكل قاعدة ومنطلقا للتعرف على الذات فردية كانت أو
54
جماعية .ولعله من نافل القول أن نؤكد على أَّن اللحظة العولمية شهدت
انفجاَر المسألة الثقافية بكل ثقلها السياسِّي والحقوقي .من هنا اعتقادنا
بضرورة التفكير في حلول جزائرية للقضايا المرتبطة بمطالب الهوية
والتعدد اللغوي بعيدًا عن الروح الشعبوية التي مَّيزت تناولها إلى اليوم
من ِقبل نظام لم يكن يهُّم ه إال البقاء واالستمرار من خالل "شراء السلم
االجتماعي" في مواجهة االنتفاضات المختلفة.
انطالقا من ذلك نعتقُد أَّن أهَّم ما يواجهنا اليوم ،نحن الجزائريين،
استنادًا إلى تجربتنا التاريخية منذ ثالثين عاما – على عالتها وقصورها
وانتكاساتها – هو العمل على بناِء صرح جمهورٍّي ال يقُف على أقدام من
خزف .هذا ما يجُب أن يكوَن في صلب النقاش العام بين النخب المختلفة
وعموم الُم ثقفين من أجل التفكير الجِّدي في مستقبل ُم شترك يقي
مجتمَعنا مخاطَر التفكك والصراعات ويضمُن العيَش الُم شترك واالحتراَم
المتبادل بين الجزائريين .فاستقالة النخبِة المثقفة والمبدعة من التدخل
في الشأن العام ال ُتبَّرُر بحال ،وهي قد تجعلها متواطئة مع ُو عوِد الخراِب
القادم إن استمَّر ت األوضاُع على ما هي عليه .إَّن الحياَة السياسية
الهشة في بالدنا وضعَف األحزاب الموروَث عن نظام االحتكار والفساد
الُم عَّم م وشراء الذمم واحتواء المجتمع المدنِّي وتدجينه مقابل االمتيازات
– كل ذلك ال يمكنه أن يشكل جبهة منيعة إلنقاذ الجزائر من خطر تناسل
نظام فاشل لم يُعد بمقدوره االستمراُر إال بإطالة أمِد األزمة والتلويح
بضرورة التأكيد على استرجاع هيبة الدولة بالحلول األمنية كما نعلم.
55
الديمقراطية هي أكبُر ضامن للوحدة ألنها تقوُم على االعتراف بالحقوق
التي ظلت ُم غَّيبة وتنزُع ،بذلك ،فتيل التالعب بنار الفتنة من يد المنتفعين
من األزمات .كان علينا أن نصغَي جِّيدًا إلى إيقاع لحظتنا العولمية وهي
تقذُف إلى السطح بقضايا الحقوق الثقافية والسياسية وضرورة احترام
الحريات .كما كان علينا ،أيضا ،أن نتأمل جِّيدًا في مسألة االعتراف من
زاويٍة فلسفية تكشُف عن أهميتها الكيانية بالنسبة لإلنسان .وهل يمكننا
أن ننسى هنا كيف أَّن المفكَر األمريكي فرانسيس فوكوياما استثمَر في
هذا المفهوم الهيغلي ليجعل منه خصيصة للمجتمع الديمقراطِّي الحر
الذي يمثل – حسب رأيه – نهاية التطور اإليديولوجي للبشرية وُم ستقر
اإلنسان األخير الذي عثر ،أخيرًا ،على مفاتيح كرامتِه البشرية من خالل
االعتراف بحقوقه كاملة؟
56
غنية جدًا إلحدى التجارب الحضارية الكبرى في التاريخ .لقد حفظت لنا
هذه اللغة -عبر موروثها الذي امتَّد لقرون طويلة – وجها من وجوه
مغامرات اإلنسان في تأسيس وجوده على قيم السؤال والروحانية
والبحث والتواصل الحضاري والتعبير العالي عن الكينونة .ولكَّن
لعصرنا الحالي شأنا آخر مع حياة اللغات أو احتمال اندثارها .إذ إَّن
جرافة التاريخ العولمي – التي تميل إلى النمذجة والقولبة وطمس
الخصوصيات – باتت ُتثيُر المخاوَف وتشغل بال كل المنتمين إلى ثقافات
الهامش الُم َّتسع منذ كشفت العولمة ،قبل عقوٍد قليلة ،عن الرغبة
األمبريالية في محو التعدد الثقافي من خالل الهيمنة االقتصادية وتوحيد
األنماط السلوكية االستهالكية وفرض القيم المصاحبة لذلك عبر أرجاء
المعمورة .ومن نافل القول أن نؤكد ،هنا ،على أَّن العالم العربي ال يزال
يدور في فلك الهيمنة الغربية ومراكزها الفاعلة ،األمريكية واألوروبية،
منذ لقاءاته الصدامية األولى بها قبل قرنين من الزمان .هذا ما انعكس
على وضع اللغة العربية إيجابا وسلبا معا .فقد انفتح العرُب ،منذئذ ،على
أسئلة الحداثة الفكرية وقضايا التجديد األدبي ،وظهرت الصحافة ونشأت
الحاجة إلى البحث العلمي .ورغم كل ما تحقق إال أَّن اللغة العربية ال تزال
تعاني من ضمور الفاعلية في مجاالت كثيرة ،ما يكشُف عنه غيابنا عن
مأدبة الفتوحات المعرفية التي غَّيرت وجه العالم وأعادت تشكيل موازين
القوة والنفوذ سياسيا واقتصاديا في عصرنا .لقد ظلت التبعية سمة بادية
على حضورنا الباهت وعالمة على كوننا مناطق نفوذ ومصادر طاقة
للقوى العظمى ال غير .وأعتقد أَّن االحتفاَء الذي تحظى به العربية ال
يعني شيئا ما دامت هذه اللغة البهية الجليلة ال تتمَّتُع بأهمية أخرى غير
الثقل الديمغرافي لعدد الناطقين بها ،أو كونها لغة بالٍد يعظُم االهتماُم بها
من ِقبل المركز المهيمن لتوفرها على ثرواٍت ترتبط باستراتيجيات
57
السيطرة وتأمين المصالح كما هو معروف .كما أَّن هذه اللغة ،بطبيعة
الحال ،ال تزال تحظى بنوع من القدرة على الصمود الرتباطها باإلسالم
ومناخ التقديس الديني .فهي لغة القرآن الكريم وامتداداته التراثية التي
تتمَّتُع بهيبٍة خاصة عند عموم المسلمين شرقا وغربا .ولكن هل يمثل
هذا ضامنا كافيا لبقائها وصمودها أمام امتحان التاريخ؟ هل ضمن
االرتباط بالمؤَّس سة الكنسية والكتاب المقَّدس بقاء اللغة الالتينية أمام
زحف اللغات األوروبية التي عَّو لت على الخصوصية القومية واإلنتاج
األدبي والفلسفي والعلمي وإنشاء األكاديميات؟ لقد علمتنا الحداثة شيئا
مهما :ال حظ لنا في الوجود السِّيد إال بالقوة المرتبطة بالمعرفة
واالستقالل عن مرجعية الماضي .فال يمكُن ،هنا ،للُم قَّدس أن ينوَب عن
الُم دَّنس في ُعرف التاريخ وقد أصبح بيتا لإلنسان مكان المطلق القديم.
وربما هذا ما جَّس ده ،بصورٍة ما ،الفيلسوف ديكارت منذ شرع في كتابة
مؤلفاته األثيرة باللغة الفرنسية التي كانت ُتعتبر "لغة شعبية" بداية
القرن السابع عشر .إَّن للغة حظوظا أخرى أقوى في البقاء أكثر من
مجَّر د عدد الناطقين بها أو من ارتباطها بمرجعيات الماضي ومؤَّس ساته
التي ال يمكنها أن تظل ،أبديا ،بمنأى عن التفكك أو االنسحاب إلى الظل.
اللغة الالتينية مثاٌل صارخ كما رأينا .أقول هذا وأنا أقُف احترامًا ،بطبيعة
الحال ،للجهود الكبيرة التي بذلها المبدعون العرُب منذ أكثر من قرن
على درب تحرير اللغة العربية من عالئقها التقليدية ومناخ الماضوية
الفكرية ،والقذف بها في أتون تجربة الوجود المعاصرة أدبا وفكرًا .لقد
حققنا الشيَء الكثير ولكَّن هذا لم يعصم لغتنا الجميلة من التهديد الدائم
في عالم يطبعه الصراُع على الهيمنة ومحاوالت االستتباع ومحو
الخصوصيات .لم ُتسعفنا السياسة وال خياراتنا اإليديولوجية المتسرعة
في تأمين مشروع التحرر الثقافي والكياني ،وال في الحفاظ على اللغة
58
العربية وترسيخ قدمها في عوالم المعرفة والبحث واإلبداع .لقد ظلت
بعُض صور إبداعنا الثقافي ُتشع ككواكب مفردٍة في عتمة الوجود العربي
الذي عمل الجميُع ،داخليا وخارجيا ،على أسره كبروميثيوس وشِّد وثاقه
إلى صخرة األزمنة الثقافية الراكدة فكريا وروحيا .أقول هذا كي أشيَر
إلى أَّن صموَد اللغة ال يرتبط بمجهود المبدعين فحسب ،وإنما أيضا
بمشاريع النهوض البصيرة التي تستثمُر في العقل والبحث العلمي
والبناء المؤَّس سي األكاديمي الُم ثاقف للحراك المعرفي في العالم .ال
يمكننا ،بمعنى ما ،الحديُث عن مستقبل واعٍد للغة العربية بمعزل عن
تحديث العقل ومنظومة القيم التي تؤطر الحياة العامة والعالقات
االجتماعية .نحن لم ننجز ،بعُد" ،ثورة كوبرنيكية" في عالم القيم تحررنا
وتحرر لغتنا من االرتهان لدى المطلق الغائب عن حركية الحياة بكل
غناها .فال حياة ممكنة للغة العربية داخل جثة المومياء التاريخية التي
نسميها "العالم العربي".
يبدو لي ،كذلك ،أَّن السؤال عن وضع اللغة العربية اليوم ال يخرج
عن التساؤل حول الهواجس الهوياتية المعاصرة منذ انفجرت "المسألة
الثقافية" باعتبارها هّم ا عولميا نَّبه البشر إلى ضرورة التعرف على
أنفسهم في محدداٍت أخرى غير تلك التي كَّر سها الصراع اإليديولوجي
طيلة النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم .لقد قفز الدين واللغة
واالنتماء الطائفي واألصل اإلثني إلى المشهد ،وأصبحت هذه المرتكزاُت
مداَر التعرف على الذات ورسم حدود التمايز عن اآلخر من خالل انبثاق
مشهدي لبراديغم أو نموذج تفسيري جديد تحدث عنه بصورٍة معمقة
الباحث آالن تورين كما أسلفنا .وقد سمعُت ،أيضا ،المفكر الفرنسَّي
ريجيس دوبريه يتحدث بصورٍة الفتة عن "الحداثة المحررة للقديم" في
59
إشارة إلى أَّن العولمة التقنية – االقتصادية التي تميل إلى توحيد الكوكب
ُتنتُج ،ويا للمفارقة ،التشظي على األصعدة الثقافية وهذا في صورة
تمسك بالمؤَّس سات العتيقة وكل ما ُيحيل إلى الخصوصية .إذ يجب ملء
الفراغ الهوياتي الناتج عن العولمة التقنية باستدعاء أطر الحياة
الجماعية السابقة على "صدمة الحداثة" .ومن الطبيعي أال تفلَت اللغة
من أشكال مقاومة هذه العولمة على صعيد التأكيد على الهوية والتمايز.
هذا يعني أَّن اللغة اليوم عند العرب ال تخرج عن كونها محِّددًا من
محددات الهوية الثقافية في مواجهة تهديدات العولمة بعد أن كانت في
الماضي أداة انفتاح على المعرفة ومٍّد ال ينتهي للجسور إلى الضفاف
األخرى حيث تقوم الشراكة الخالقة مع اآلخر في غزو العالم معرفيا
والتأسيس ألخالقيات الحوار والتسامح .كأَّن اللغة العربية هجرت
فراديسها المفقودة وأصبحت قلعة هشة ال يخرُج همها عن الدفاع عن
الذات العربية المتهالكة على أرصفة البطالة الحضارية .فهل من أفق
ممكن لخروجها من هذا المأزق الخطير الُم عَّقد؟
إَّن هذه األوضاع أطلقت ،بطبيعة الحال ،عنان الخطابات العدائية
التقليدية للغة العربية والتي ال ترى فيها إال لغة ميتة ال ُيمكنها التنفس
خارج مناخ المقدس الديني؛ وال يمكنها االستمراُر إال كعشبٍة طفيلية في
ظل دوحة األنظمة السياسية الرجعية التي تخصُف عليها من ورق جنة
الماضي وقد أصبح ملجأ من لحظة الفشل المرعبة أمام تحديات الحداثة.
هذا ما يضطرني ،هنا ،إلى التنبيه أَّن اللغة – فضال عن كونها هوية
وانتماًء إلى ثقافٍة وذاكرة مشتركة –ال يمكنها فعال الصموُد أمام
التحديات التي يجابهنا بها العصُر ما دامت تعيُش على ذكرى الفراديس
الماضية أو تشرئُّب بعنقها إلى مخادع المطلق بعيدًا عن الحياة
60
وتوهجها ،وبمعزل عن حركية المعرفة وأسئلة القيم في عالم يجنُح إلى
القولبة وإلى كوكبٍة ال تنفصل ،بحال ،عن إرادة الهيمنة.
61
الُم سَّبقات الثقافية والعرقية التي تأَّس س عليها التنابذ بين مكونات النخب
الجزائرية منذ عقود .إذ يشهُد الواقع الجزائري اليوم – ثقافيا
وإيديولوجيا – بروز ُنَخ ٍب جزائرية ُم عَّر بة تناضل من أجل سيادة رؤية
مختلفة وغير أصولية لألشياء .وهي نخٌب – أحسبني أنتمي إليها –
منفتحة على منجزات العقل الحديث ومشكالت العصر وقضايا التحديث
وال تعول على ارتباط العربية بالمقَّدس الدينِّي من أجل إنقاذها .بينما ال
يزال الكثيُر من الكتاب الفرانكوفونيين عندنا ُيعيدون علينا بصورٍة مملة
جًّد ا تلك الغنائية المبتذلة – المتحدرة من محمد ديب أو كاتب ياسين
وصوال إلى لحظة كمال داود – والتي تعتبُر اللغة العربية "التينية"
أخرى نطيل أمَد حضورها بيننا.
ما أردت أن أشيَر إليه هو أن نبرتي التخوين من جهٍة أولى
واالستعالء من جهٍة أخرى ال تزاالن تحكمان العالقة بين الُم عسكرين
اللذين يبدو أَّن بينهما -كما ُيعبر البروفيسور محمد أركون – "جدار
برلين" إيديولوجيا لم يجد من يهدمه كي يتَّم تجاوز هذه الثنائية اللغوية
التي تمزق الوعي الجزائري وتشطره بصورٍة دائمة إلى شطرين .ويبدو
لي أَّن أسباَب الصراع اللغوي – التي أصبحت في حكم الماضي عمليا –
لم ُتقنع الكثير من الفرانكوفونيين الجزائريين بضرورة تغيير الخطاب
العدائي التقليدي للغة العربية والذي ال يرى فيها إال لغة ميتة ال ُيمكنها
أن تتنفَس خارج مناخ الُم قَّدس الدينِّي أو السلطة السياسية الرجعية
الباحثة عن شرعية لها في العودة إلى الماضي التدشيني بعد أن خسرت
62
رهان المستقبل بفشلها على جميع المستويات .كأَّن العربية منذورة –
منذ البداية – لعناق األبدية ومشلولة أمام مِّد اليد إلى تفاحة السقوط في
منافي المغامرات اإلبداعية .ولكنني أعتقد أَّن راهَن العربية منذ أكثر من
قرن من الزمان – عبر امتداد العالم العربي – ُيبِّيُن بجالء قدرتها
اإلبداعية العالية واحتضانها الُم دهش إليقاع التحول إبداعيا وفكريا .إذ
إَّن تراجَع ها وانكماشها أمام صيرورات التاريخ والمعرفة وتحنطها في
حضن الُم طلق والماضي يرجع إلى انسحاب العقل العربِّي – اإلسالمي
ألسباب عديدة من مغامراته الُم دهشة في اكتناه العالم والوجود قبل
قرون خلت وال يعوُد إليها باعتبارها لغة .أعتقد أَّن هذا من تحصيل
الحاصل .ولكن الموقَف اإليديولوجَّي لخصوم العربّية ال يرى مالمَح
الحداثة في عقل فولتير وإّنما في لغته .كأّن التقدَم الحضاري يرتبط
بالّلغة ال بالعقل الُم بدع.
هذا من جهٍة أولى .ومن جهٍة ثانية أرى أّننا أصبحنا ،مؤخرًا،
نتأرجُح بين الخيارات التي نعتقُد أّنها قد ُتوفر لنا مفتاًح ا يمكننا من ولوج
مغارة «التقدم» السحرية .وها هي الحرب تندلع بين الفرانكوفونيين
واألصوليين الذين يرمون إيديولوجًيا إلى شيئين« :تطهير» تاريخنا
وواقعنا من رواسب الكولونيالية ،وتجاوز شللنا العلمي والتكنولوجي
من خالل اعتماد اللغة اإلنجليزية في الجامعات بديال عن الفرنسية .أال
تمثل اليوم ،على سبيل التمثيل ،القراراُت اإليديولوجية الُم تسرعة
بضرورة اعتماد لغة شكسبير في الجامعة الجزائرية استمرارًا لهذا
63
التشنج الذي أشرنا إليه وهروبا إلى األمام في مواجهة وضعنا اللغوي
الُم تعدد بفعل الواقع ومالبسات التاريخ؟ هل يمكن ،فعال ،ولوُج الحداثة
التقنية والعلمية والتكنولوجية من الباب اللغوِّي قبل إصالح أعطاب
المنظومة التربوية الُم تهالكة والماضوية والفاشلة ،وقبل ترسيخ قيم
العقالنية وحرية التفكير واالنفتاح على العالم وبعث حركة الترجمة
والتأسيس لشروط البحث العلمي الصحيح؟ هل َض من اعتماُد الّلغة
اإلنجليزية التقدَم المأمول لمعظم بلدان إفريقيا والعالم العربي التي كانت
خاضعة للحماية البريطانية؟ المشكلة ،على ما أرى ،تتجاوز ما يصبو
إليه من يريُد االستثماَر السياسَّي الُم باشر في محاربة "لغة الُم ستعِم ر"
التقليدي .وها هو شكسبير يحل محل فولتير بسهولٍة لدى من يجهل أَّن
التقدم عقٌل جديٌد وشروٌط تتجاوز البحث عن "لغة الِع لم والتقدم".
إّنني أجدني ،هنا أيضاُ ،م لزًم ا باإلشارة إلى أّن قضية اللغة في الُعمق
ليست قضية بحٍث عن وسيلة أو آلة لــ "التقدم" ،وإنما هي قضية ُهوية
وإفصاح عن الحضور الُم تميز في العالم .لذا أرى أنه من الُس خف أن
نتناول إشكالياِت اللغة في الجزائر من منظور التقدم والتخلف كما
يتناولها الُم عسكران المتناحران عندنا .اللغة تستطيُع احتضاَن الالنهائِّي
كلما كان الفكُر مغامرًا والعقل مسكونا بالسؤال والبحث وقادرًا على
إضرام النار في قِّش اليقين .ستَّتسُع رقعة القول مانحة الكينونة بيتا بال
تخوم .فاللغة – كما ُيعِّبُر الشاعُر العظيم هولدرلين – هي "أخطُر النعم"
فعال ما دامت قادرة على انتشال الوجود من العدم وخلع ُج َّبِة الضوء على
غبار التاريخ.
64
***
أقول ،أخيرًاُ ،م ستعيًد ا بنوع من التصرف الضروري ،ما قاله المبدُع
الكبير فرناندو بيسوا" :أملك أنا أيضا ،بمعنى من المعاني ،شعوًر ا وطنيا
عاليا جدًا .أما وطني فهو اللغة العربية".
*****
إشارة:
-نشرُت مقاطع من هذا المقال في الملحق الثقافي األسبوعي "كراس الثقافة"
لصحيفة "النصر" اليومية ( 21تموز /جويلية )2020
-كما نشرت منه مقاطع مطولة في العدد األول من مجلة "الثقافي" الفصلية
االفتراضية التي ُيصدرها "المنتدى الثقافي الجزائري" (نيسان /أفريل )2021
65
* نحُن والعلم :هوُس الشكل وُر هاُب المعنى
"باش فاتونا؟ فاتونا بالعلم "...كانت هذه الكلمات ،كما يعلُم كل
الجزائريين ،آخر ما تلفظ به الرئيس الراحل المجاهد محمد بوضياف
أمام الحاضرين في قاعة غاصة بمدينة عنابة قبيل حادثة اغتياله
المشهدية أواخر حزيران /جوان .1992ربما أراد الرئيُس أن ُينِّبه إلى
أَّن المخرَج من األزمة – التي أعقبت توقيَف المسار االنتخابي وإلغاء
نتائجه بداية - 1992يتمثل في ضرورة التحول من األصولية الدينية
والتدين السياسي إلى نوع من الفهم الجديد للدين المتصالح مع العصر
ومع الذات بعيدًا عن أي انغالق أمام العالم قد يجعل من بالدنا أفغانستان
أخرى في ظل تصاعد التطرف لدى تلك الطبعة الجزائرية من "مجانين
هللا" .فلم تكن الحرُب التي بدأ يقرُع طبولها سدنة الماضي يومها -
انتقاما من الحاضر الُم تعثر -حال وجيها بإمكانه أن يمثل طريقا يقود إلى
الخالص من آثار فشل الدولة الوطنية وإخفاقاتها .لقد كان كالُم الرئيس،
على ما يبدو ،نوعا من التذكير الهادئ بأَّن التقدَم المرتبط بالعلم ال
يحتمل كل ذلك الهياج الديني على اعتبار أَّن اإلسالَم ال يعادي العقل
والتطور الحضاري .ورغم اتفاقنا مع التوجهات العامة لسياسة الرئيس
الراحل – بمعزل عن مالبسات تلك المرحلة الحساسة – إال أَّن هذا الفهَم
للعلم ودوره هو ما نحاول ،هنا ،أن نكشَف عن هشاشته وعن ميزة
الُم هادنة التي تتبطنه في صورة مصالحٍة مع الرؤية التلفيقية ذاتها التي
تبناها اإلسالميون وهم ُيفرغون العلَم من محتواه الثقافي والفكري
66
ويعزلونه عن األسس الفلسفية والعقلية التي كانت في أساس ظهوره
منذ بداية العصور الحديثة -في الضفة األخرى من المتوسط – ليجعلوا
منه تقنية ووسيلة ال عالقة لها بتغيير نظرتنا إلى الكون واإلنسان أو رِّج
أسس ثقافتنا التقليدية السائدة .لقد ظل المناضلون اإلسالميون ،طيلة
عقوٍد ،يفصلون العلَم عن خلفيته التاريخية -الحضارية وشروطه
العقلية والمنطقية والذهنية التي جعلت منه سلسلة من القطائع المعرفية
مع المرجعيات والمؤَّس سات المختلفة .ونحن نعلُم أَّن ظهوَر العلم كان
عسيرًا وصداميا -في غالب األحيان -باعتباره معرفة انقالبية شككت
في هيبة السلطة القائمة وسيادتها التي تمحورت حول شرعية تمثيل
الدين و "رؤية العالم" الموروثة عن ذلك الزواج المهيب بين النصوص
المقَّدسة والفلسفة األرسطية.
ما أردنا أن نقول هو أَّن الكثيَر من النخب السياسية والعلمية -في
بالدنا وفي عموم العالم العربي -ركنت إلى اعتقادها الساذج بإمكان
تحقيق النهضة المنشودة أو التقدم من خالل استعارة العلم أو استهالكه
مع اإلبقاء على العقل متوقفا عن البحث والسؤال والنقد والتجاوز .كان
الجميُع يتوهمون أنه بإمكاننا تحقيق الطفرة الحضارية من خالل
االستهالك وُم راكمة األشياء دون عتق العقل من أغالل الماضي
والمرجعيات الُم ستنَفدة .لم نكن على صواب عندما حاولنا النظر إلى
العلم باعتباره تقنية ال تربض وراءها قيٌم جديدة غيرت من نظرة
اإلنسان كليا لنفسه وللطبيعة والعالم ولشروط المعرفة الصحيحة .أتذكر
67
جِّيدًا كيف كان بعض الدعاة من اإلسالميين يروجون ،مثال ،لمقولة
"العلم ال وطن له" من أجل الدفاع عن إيديولوجية نضالية ساذجة
وسطحية ُتشيُح بوجهها عن اإلشكاليات المرتبطة بميالد العلم ودالالت
القطائع والثورات التي مثلها تاريُخ ه المنتصُر على كل منظومٍة فكرية
مغلقة ودوغماتية .كأَّن العلَم لقيط حضاريا .لقد ظل التقليل من أهمية
األبعاد اإلبستيمولوجية االنقالبية للمعرفة العلمية ديدَن تلك الثنائية
البائسة التي تجعل "األصالة" في مقابل "المعاصرة" .هكذا تَّم اختزال
المشكالت التي يطرحها العلُم في مواكبة الُم نَج ز التكنولوجي وتأثيث
حياتنا به بعيدًا عن محموالته الثقافية وأسسه الفلسفية والقيم العقالنية
التي رَّس خها باعتباره وجها من أوجه الحداثة التي دشنت قدرًا جديدًا
للبشرية زحزح ،شيئا فشيئا ،الماضي ومرجعياِته ومؤَّس ساته عن
المركز أمام زحف العقل النقدي الذي ال ُيقاَو م .لقد أخرجت الحداثة
العلمية البشريَة من التصورات التقليدية وهرمينوطيقا النصوص األولى
المأذونة إلى عالم البحث واالكتشاف والبناء العقلي – التجريبي –
الرياضي للحقيقة .كان العلُم ،منذ بواكيره ،انتصارًا لرؤية جديدة تمثلت
– كما يقال عادة – في "الخروج من العالم المغلق إلى الكون
الالمحدود".
يمكننا أن نقرأ ما يلي ،على سبيل التذكير البيداغوجي ،من أجل فهم
واضح للعلم باعتباره فتحا معرفيا كاشفا عن رؤيٍة جديدة للعالم كرستها
الحداثة:
68
"ينبغي العلُم بأَّن الوعَي األوروبي (أو المسيحي) وقع في تناقض مع
نفسه منذ عام ،1685أو حتى قبل ذلك بقليل .وكل ذلك بسبب ظهور
رؤيٍة جديدة للعالم تنافُس الرؤية المسيحَّية التي كانت مسيطرة على
األذهان والعقول طيلة ألف سنٍة على األقل ،أي طيلة العصور الوسطى.
ولم يكن من السهل أن تقبل بظهور رؤيٍة منافسة أو بديلة ،ولم يكن من
السهل على الناس أن ُيغِّيروا عقولهم فجأة لكي يتبنوا التصور الجديد ...
وهكذا كان محتما أن ينشَب الصراُع ويشتَّد أواره طيلة عدة قرون .في
الواقع إَّن الرؤية العلمية للعالم كانت قد تشكلت قبل عام 1685بوقت
طويل .ذلك أنه يمكننا أن نعوَد بها إلى اللحظة الغاليلية ،وإن كانت قد
ُتِّو جت على يد إسحاق نيوتن حوالي ،1687 – 1685تاريخ صدور
كتابه الشهير :المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية .كانت الثورة الكبرى
للعلم الحديث قد ابتدأت فعال حوالي عام 1620على يد غاليليو وكيبلر
وديكارت ،وبلغت ذروتها عام 1686على يد اليبنتز ونيوتن .وهي أكبر
ثورة علمية وروحية في تاريخ البشرية .وعنها صدرت الثوراُت العلمية
التالية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين .ويصل األمُر بمفكر
معاصر كجورج غوسدورف إلى حد القول إَّن غاليليو هو الذي دَّم ر
نهائيا الصورة األسطورية (أو التصور األسطوري) عن الكون وأحل
محلها الصورة العلمية :أي صورة الكون الفيزيائي الُم وَّح د الخاضع
للقوانين الصارمة للفيزياء الرياضية .وراحت هذه الفيزياء الرياضية
تفِّسُر جميَع الظواهر سواء في مجال العلوم الطبيعية ،أو في مجال
العلوم اإلنسانية".
69
(هاشم صالح ،مدخل إلى التنوير األوروبي .دار الطليعة ،بيروت .ط،2
.2007ص .)130 -129
هذا كله يذكرنا ،دون أدنى شك ،بتلك اإلشارة الشهيرة لماكس فيبر
وهو يتحَّد ُث عن روح الحداثة رابطا إياها بالعلم الذي "نزع هالة السحر
عن العالم" ،مدشنا بذلك بداية انهيار العوالم القديمة وحساسيتها لصالح
انبثاق الروح العلمية – التقنية وسيادتها في كل مناحي الحياة.
71
اليوم فكيف لنا أن ُنسهَم فيه أو في مغامرة البشرية بإبداعنا؟ إلى متى
نظل ضيوفا خرسا على العصر ال نحسُن قراءة أبجدياته وال نستوعُب
مشكالته العميقة وال التحديات التي تواجهه ومن بينها ،بالطبع ،تلك
المتعلقة بالتقنية وبالعلم وقد تحول إلى مؤَّس سٍة ترتبط برغبة السيطرة
والهيمنة؟
الحظ البروفيسور الراحل محمد أركون أَّن هناك وجها سائدًا من
أوجه استقبال العلم الدقيق عندنا في العالم اإلسالمي منذ القرن التاسع
عشر .يتمثل هذا األمر في استخدام نتائج علوم الطبيعة المختلفة في
تأكيد صالحية الخطاب الديني من ِقبل بعض المشتغلين بالفكر من الذين
تخصصوا في الهندسة أو الطب أو الميكانيكا في بلدان الغرب .لم يكن
العلُم عند هذه الطائفة ،بكل تأكيد ،معرفة تنهض على رؤيٍة جديدة للعالم
الطبيعي تجِّدُد العقل والنظر والمقاربة وتقطع مع مجمل التصورات
الكالسيكية والعوالم القديمة كما بَّينا سالفا ،وإنما أداة نضال من أجل
إثبات مشروعية اإلسالم في وجه الغرب الظافر تاريخيا بفعل ثوراته
المختلفة والحداثة العلمية ذاتها .وكما هو معروٌف فقد تطور هذا التوجه
واكتسح الساحة العربية تحت ُم سَّم ى "اإلعجاز العلمي في اإلسالم"
مدعوما بالبترو دوالر و "الصحوة اإلسالمية" التي لم تكن إال ذراعا
أمبريالية من أجل الحد من المِّد اإليديولوجي االشتراكي في منطقتنا
العربية أثناء الحرب الباردة .وبغض النظر عن األهداف اإليديولوجية
المضمرة والتلفيق المعرفي لهذا الخطاب فهو لم يكن في حقيقته
72
البسيطة إال "سطوا على منجزات الغير" كما ُيعِّبُر األستاذ علي حرب.
ربما هذا ما جعلني أصفه ،يوما ما ،بأنه يمثل "نشيد البجعة" وكنُت
أعني بذلك النشيد الذي يرتفع لحظة شعور الذات بتهديد الموت والغياب
كما هو الشأن مع هذا الطائر البحري .فشعورنا المرير بالخروج من
األبواب الضيقة للتاريخ وعدم مشاركتنا في صنع أقدار العالم وافتقادنا
لزمام المبادرة منذ قرون ،جعلنا نعوض عن قصورنا الفادح بنوع من
الفانتازيا التي تجعل الذات اإلسالمية رحما لكل ما عرفه العالُم من
إنجازات وانقالبات معرفية .هذه ،باختصار ،عملية تعويض استشفائية
من عقدة التأخر التاريخي وليست إنجازا معرفيا.
كتب البروفيسور أركون حول هذا األمر قائال:
" ...نالحظ منذ القرن التاسع عشر أَّن المسلمين المتخصصين في
العلوم الدقيقة يتدخلون بسهولٍة في الدراسات القرآنية ويكتبون عنها
كتبًا تحظى بنجاح كبير في المكتبات .فمثال كان المهندس الجزائري مالك
بن نبي قد فرض نفسه في النصف األول من القرن العشرين بصفته
مفكرًا مسلما كبيرًا عن طريق إصدار كتاب سطحي جدًا يدعى :الظاهرة
القرآنية .وهو كتاٌب ال يزال ُيقرأ بشكل واسع وُيعَّلق عليه حتى اآلن.
ونالحظ أَّن السيد شحرور (مهندس سوري) ،كالكثير من المؤلفين
اآلخرين ،يستخدم بعض المقاطع المتبعثرة من المعرفة العلمية
المعاصرة ،مازجا بين العلوم الدقيقة والعلوم اإلنسانية واالجتماعية.
وهو يهدف من وراء كل ذلك إلى إعادة تقييم الصحة اإللهية والصالحية
73
الكونية للقرآن بصفته الكتاب الذي يحتوي على الوحي في اللغة العربية،
وهو يزعم بأنه يعتمد على "معرفة علمية ال تناقش" في إعادة التقييم
هذه .وهكذا نالحظ أَّن الوحي لم يتعَّر ض للمساءلة ،ولم يصبح إشكاليا،
وإنما تَّم تثبيته مرة أخرى بالنسبة للمسلمين الذين قد يتعَّر ض إيمانهم
لالهتزاز أو الزعزعة تحت تأثير الفكر العلمي الحديث".
(القرآن ،من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني .ترجمة
وتعليق هاشم صالح .دار الطليعة ،بيروت .2001ص .)15 -14
لعل هذا يطرح مشكلة تتعلُق بُبعدين اثنين لهما داللة خاصة هنا:
أولهما هو األدلجة المتنامية التي اكتسحت حياتنا ومنظوماتنا التربوية
وجامعاتنا مع تراجع ملحوظ للبحث العلمي والحقيقة العلمية –
االختبارية تحت ضغط "الحقائق السوسيولوجية" المنتعشة بفعل صعود
الخطاب اإلسالمي كما يشير إلى ذلك البروفيسور أركون نفسه .والثاني
هو الحرُج من العلوم اإلنسانية والفلسفة والفكر النقدي بعامة .إذ ظل
المسلمون يبحثون عن الجاهز عند اآلخر اعتقادًا منهم أَّن المعرفة
العلمية في مجال الطبيعيات تستطيع أن تمنَح أَّي خطاب آخر صالحية
معرفية مطلقة ،في الوقت الذي يدرك فيه كل من يملك الحَّد األدنى من
الثقافة في هذا المجال أَّن المعرفة العلمية ليست مطلقة وإنما هي بناٌء
يخضع لالختبار والمراجعة والتصحيح وينهض ،إبستيمولوجيا ،على
القطائع و "مبدأ التكذيب" كما بَّين كارل بوبر .ولكَّن هذا األمر ال يشغل
74
أبدًا بال المناضل اإلسالمي الذي تحركه "شهوة الهيمنة" على الفضاء
السوسيو -سياسي ال "شهوة المعرفة".
***
هذا من جهٍة أولى .ومن جهٍة أخرى أرى أَّن األمَم المتقدمة لم
تتجاوزنا بالعلم فقط .لقد تجاوزنا العالُم المتحضر – وهذا هو األهم في
اعتقادي – باألنسنة والتقدم االجتماعي والسياسي ،أعني بذلك الخروَج
المشهدَّي من دائرة قيم قديمٍة متمحورة حول المطلق والتعالي إلى دائرة
قيم جديدٍة متمحورة حول اإلنسان .وقد تجلى هذا في اتساع دائرة
الحريات الفردية والجماعية وفي الديمقراطية باعتبارها نظاما يقوم على
اإلرادة العامة ومرجعية البشر التشريعية واحترام حقوق اإلنسان .فإذا
كان البعُد العلمي -التكنولوجي قد مثل الجانب الكمي من التقدم فإَّن
الحقوَق والحرياِت واحترام كرامة اإلنسان واالنسالخ من منظومات
اإلخضاع االجتماعية والسياسية قد مثلت ،كلها ،الجانَب الكيفي منه.
ومن الواضح أننا -في العالمين العربي واإلسالمي معا -لم نلتفت إلى
هذا كثيرًا وظل هُّم أنظمتنا ومجتمعاتنا تحقيق التراكم الكمي دون أدنى
اهتمام بتحرير القدر اإلنساني من امتدادات نظام الوصاية على الروح
والعقل والجسد .أتذكر ،هنا ،كيف هلل الكثيُر من العرب ،نهاية
الثمانينات ،المتالك صدام حسين قوة عسكرية وأسلحة دمار أصبح يهِّدُد
بها إسرائيل قبيل حادثة غزوه المؤسفة للكويت .لقد اعتبر الكثيرون ذلك
فخرًا للعرب ،كما اعتبروه نموذجا للقيادة التي تولي أهمية خاصة للعلم
75
والتكنولوجيا على درب منافسة الغرب واسترجاع مكانة العرب بين
األمم .ولكن ماذا كان ُيخفي الجانب السياسُّي والحقوقي واإلنساني
للعراق آنذاك؟ هذا ما لم يهتَّم به من كانوا يرون في عسكرة النظام
وتغول الدولة األمنية والَّدوس على حقوق اإلنسان شيئا ذا أهمية أمام
التحديات المطروحة .كانت أنظمتنا تجتهُد في جعل اإلنسان صغيرًا كجرم
خامد يدور في فلك الطاعة وفقدان روح المبادرة واإلبداع .ولكن "من
أين للوطن أن يكوَن كبيرًا بإنسان صغير؟" كما تساءل أدونيس بمرارة.
ما أردنا أن ُننِّبه إليه ،من خالل هذا المثال ،أَّن العلَم يسهل تحويله إلى
تقنية تطمُس نمَّو المجتمع المدني وتحول الحياة العامة إلى "غوالغ"
بما يتيحه من قدراٍت رهيبة للدولة األمنية ومن تقنيات عالية الكفاءة
على مراقبة البشر ومعاقبتهم .لم يكن بإمكان التكنولوجيا التي هللنا لها
وسعينا إلى امتالكها أن تلجَم نيرون العربَّي وتُح َّد من مغامراته .ومن
نافل القول هنا ،على ما أعتقُد ،أن نستعيَد أعمال بعض مفكري الغرب
الكبار الذين تناولوا بالبحث الحفري عالقة المعرفة بالسلطة بعيدًا عن
أوهام من ظلوا يعتقدون بوجود المعرفة الخالصة المستقلة عن
تكنولوجيا إنتاج الذوات الخاضعة .أعتقد أَّن أعمال ميشال فوكو أساسية
في هذا المجال.
***
إشارة:
76
(نشرت مقاطع من هذا المقال في ملحق صحيفة "النصر" الثقافي األسبوعي
"كراس الثقافة")2020 / 07 / 28 ،
78
التحديث الشكلي وكأننا نروُم نفخ الروح في مومياء الذات المتهالكة
حضاريا منذ زمن ليس بالقريب.
لقد ظل المسؤولون الجزائريون ،منذ االستقالل ،يرون في العلم
مفتاحا سحريا ُيتيُح لنا ولوَج مغارة التقدم واللحاق بركب األمم
الصناعية المتطورة كما كان يقال في الشعارات يومها .وهذا صحيٌح
على األقل إن فهمنا منه ترسيخ الثقافة العلمية في المجتمع وبناء
جامعات حديثة ومختبرات بحث وبلورة خطوط عامة عريضة لمنظومٍة
تربوية تركز همها على إعداد المواطن الحر المسؤول المتفتح على قيم
العصر والُم حترم لحقوق العقل في البناء الذاتي .ولكَّن ما حصل عندنا
انحرف عن هذا كثيرًا .فلقد كان لضحالة الثقافة وِقصر النظر والحماسة
اإليديولوجية الفارغة لدى مسؤولينا أن دفعت بهم دفعا إلى السقوط في
أوهام حرق المراحل من خالل سياسات تنموية كارثية؛ كما سقط الكثيُر
منهم في فخ محاولة تعزيز مكانة العلوم الطبيعية في المنظومة التربوية
والجامعية مع إهمال شبه تام لإلنسانيات والعلوم االجتماعية والفلسفة.
كأنهم كانوا يريدون بناَء إنسان تقني آلي مع إبقاء عقله خاليا من الُبعد
النقدي وروحه فارغة من االمتالء الثقافي والوجداني والجمالي الذي
توفره الفنون واآلداب.
لقد استغربُت واستهجنت كثيرًا عشية الدخول المدرسي ،سنة
،2013كلمة الوزير األول الجزائري آنذاك عبد المالك سالل أمام بعض
إطارات التربية وهو يدعوهم إلى ضرورة االهتمام بالعلوم والرياضيات
79
باعتبارها السبيل إلى التطور وامتالك التكنولوجيا في العالم القائم على
القوة واالبتكار والتنافس .لقد كان الوزير األول يتحَّد ُث بصورٍة شعبوية
سطحية وكأنه رجل شارع وليس مسؤوال في دولٍة بحجم الجزائر .كان
يتحَّد ُث عن العلم الذي ُيتيُح لنا امتالك الصواريخ مثال مع نبرة تسفيٍه
واحتقار للشعر واإلنسانيات بعامة وكأنها عائٌق فعلي أمام ما تريده
الجزائر من خالل منظومتها التربوية .أعتقُد أَّن هذا الوعَي السطحَّي
الجاهل هو الذي غامر بنا كثيرًا صوب العبث بمصائر األجيال ومصير
البالد التي فشلت ،إلى اليوم ،في تطوير منظومة تربوية متكاملة
وعصرية .كتبُت ،يومها ،رسالة مفتوحة إلى السيد الوزير األول
الجزائري بعنوان "عن زورق األوديسة الجزائرِّي المكسور" .جاء فيها:
" إَّن تدريَس العلوم والرياضيات أمٌر مهم بكل تأكيد ،وُرَّبما سيكوُن
من قبيل تحصيل الحاصل أن نذّك ر بذلك في عالم تحكمُه القوة وصراُع
الهيمنة المرتِك زان على التكنولوجيا في آخر فتوحاتها .ولكَّننا نعتقُد أَّن
هذا األمر يجُب أال يكوَن ُم ناسبة أو مدعاة للتهكم والسخرية من الشعر
واألدب واللغة العربية .إَّن الحديث عن النهضة العلمية المنشودة -في
إطار رفع التحديات أمام ُم ستقبل ال مكان فيه لمن ال يتحَّك ُم في
التكنولوجيا والعلوم –ال يكوُن أبدًا بإنسان آلي يستهلُك الُم نجز العلمَّي
الوافد من اآلخر الغربي الُم بدع ،كما نالحظ في كل بلدان العالم الثالث
ومنها بلدنا بالطبع .فالُم ستقبل ليس للكائنات التكنولوجية التي تفتقُر إلى
العقل النقدِّي والحس الجمالي والذوق الحضاري .والحداثة التكنولوجية
80
ليست آلة فحسب وإنما هي ،أساسا ،عقل جديٌد ال مرجَع له إال حركية
اإلبداع أمام عالم أصبح مجاال للبحث واالستقصاء والكشف عن
المجهول .إنها ديكارت ونيوتن وهايزنبرغ ...إنها روٌح جديدة تقودها
ُم غامرة البحث خارج عوالم اليقين التي تأسرنا .فأين منظومتنا التربوية
من هذا؟
هل عملنا فعال ،منذ استقالل البالد ،على التأسيس لمنظومة تربوية
حديثة وعصرية ال تلهُث وراَء قشرة التكنولوجيا وفتات المعرفة من
جهة ،واالرتماء في أحضان أكثر اإليديولوجيات تخلفا وشوفينية
وانغالقا من جهة أخرى؟ هل استطعنا تخليَص منظومتنا التربوية من
صراعات المواقع وتكتيك أجنحة السلطة الظرفية لنجعل منها
استراتيجية شاملة في بناء اإلنسان -عقال ووجدانا ومعرفة وحسا
حضاريا؟ هل استطعنا أن ُنحقَق نوعا من االنسجام بين البرامج التربوية
التي تتضارُب وال نكاُد نعثُر فيها على سياسة رشيدة تنُح و منحى إعداد
الُم واطن الجزائري الحر والمسؤول؟
أال تعرفون ،سيادة الوزير األول ،وأنتم تلقون بالالئمة على األدب
والشعر ،أَّن ُم عظَم من حمل السالح في وجه الجزائريين – من الجامعيين
– في حقبة التسعينات الدموية كانوا من حَم لة الشهادات الجامعية
العلمية؟ فما المعنى العميق لذلك؟ ماذا قدمت الفيزياُء والكيمياء لهؤالء؟
ماذا قدمت لهم شهادات الهندسة والرياضيات؟ هل صنعت منهم نيوتن
أو آينشطاين؟ هل جعلت من بعضهم باستور أو كلود برنار؟ من الواضح
81
أَّن بناَء العقل النقدي كان الغائب األكبر عن سياساتنا التربوية وبرامجنا
الجامعية أمام ارتجالنا التربوي الغوغائي ونحُن نَّدعي تحمل أمانة
مصائر األجيال أمام األمة .هكذا أنتجنا إنسانا جزائريا أجوَف وسطحيا
وبال لغة .إنسانا يتدحرُج ككرة القش على سطح العالم ...إَّن العلَم
الحديث ،وهو من أبرز مظاهر الحداثة بكل تأكيد ،ليس تقنية شكلية أو
وسيلة استرزاق وإنما هو نظرة جديدة إلى العالم تخلصت من رواسب
الرؤى السحرية التي مازالت تعيش عهوَد ازدهارها عندنا في صورة
مأسسٍة للدين تربويا وثقافيا وسياسيا .العلُم ليس قناعا نرتديه للدخول
إلى بهو العالم الُم عاصر .إنه روٌح جديدة ُم غامرة وقيٌم ثقافية -عقالنية
قامت على أنقاض ثقافة المرجعيات المعصومة والعوالم الُم غلقة .فأين
نحُن من هذا؟ وما حظ منظومتنا التربوية منه؟
ال ُيمكُن أبدًا ،في اعتقادي ،بناُء منظومٍة تربوية حديثة دون إعادة
النظر الجذرية في برامجنا التربوية وطرائق التدريس التي ال تزال تعلُم
وأَد العقل وتنشيط الذاكرة .ال ُيمكُن بناُء اإلنسان الجزائري وإعداده
ليكوَن ُم واطنا ُم نتجا وُم بدعا ببرامَج تقليدية تعلمُه الطاعة وخنق الفكر
النقدي وتجريَم السؤال .ولو كان األمُر بيدي ،صراحة ،لما ترَّددُت لحظة
في تقديم مشروع ُم راجعة شاملة لبرامجنا التعليمية والتربوية؛ فال
أضُع ،سيادة الوزير األَّو ل ،مثلكم العلوَم في ُم واجهة اآلداب واإلنسانيات
وإنما أجعلُهما جناحين في مضمار المعرفة يرتبط أحدهما بالواقع العملي
-االقتصادي وسوق التنمية واالستثمار دون أن يقطَع صلته بمغامرة
82
العقل اإلبداعِّي وحركية البحث في العالم؛ ويرتبط اآلخر بمسألة المعنى
والقيمة دون أن يرتطَم بأي شكل من أشكال الدوغماتية الُم تحجرة كما
نجُد ذلك في مادة " التربية اإلسالمية " مثال ...فهل من المعقول أن
تذهب الجمهورية ،تربويا ،في اتجاه ُيعاكُس ِقيمها وأسَس ها بهذا الشكل
وكأنها ال تعمُل على إنتاج مواطنين أحرار يتساوون أمام القانون وإنما
على إنتاج جماعة دينية؟".
استطردُت ،بعد ذلكُ ،م ستنكرًا تهكَم الوزير األول على الشعر واألدب
واإلنسانيات بعامة وهو يستظهُر شطرًا من بيٍت شعرٍّي للمعري:
" سيادة الوزير األول،
لقد تألمُت ،شخصيا ،وامتعضُت كثيرًا من ُو رود شطر من قصيدة
مشهورة ألبي العالء المعري ،على سبيل السخرية وانتقاص القيمة ،في
حديثكم أمام ُم َد راء التربية .وأظنكم ال تعرفون عن هذه الشخصية األدبية
والفكرية الشيَء الكثير .لذا أراني ،أوالُ ،م لَز ما بتقديم اعتذار شخصٍّي لـ
"شاعر الفالسفة وفيلسوف الشعراء" عن هذا التهكم الذي لم يكن في
محله صراحة .كما أراني ،من جهة أخرىُ ،م لزما بتوضيح ما ُيمثله
المعري في تراثنا الشعرِّي والفكرِّي العربي الُم شترك باعتباره من أئمة
العقل والنقد والسؤال الذي ال يركُن إلى الجاهز أو إلى المعرفة السائدة
حتى لو كانت في قداسة الُم عطى الديني أو عصمة االرتباط بالسلطة.
أليس هذا ما نحتاُج إليه ،سيادة الوزير األول ،من قيم نفتقدها في حياتنا
83
نتيجة سياساتنا التربوية العرجاء التي دَّم رت اإلنساَن الجزائري
وأنتجت منه الفرد األجوَف والتكفيرَّي وعبَد الذاكرة واألحادي النظرة؟"
" ...ولكَّن المشكلة ال تتوقُف عند هذا الحد على ما أرى .فالجميُع
يعرفون أَّن الُم ستهدف من وراء الحديث عن الشعر ليس الفَّن الشعري
بذاته وإنما اللغة العربية تحديدًا .كأَّن العربية منذورة ألن تكون لغة تقليٍد
وماضوية وعقل مرجعٍّي منغلق أمام العصر وإنجازاته المعرفية
والعلمية .هذا األمُر يكذبه تاريخها الحضارُّي من خالل أسماء الرازي
وابن سينا وابن رشد وابن الهيثم وابن خلدون .كذلك ننِّبه إلى أَّن التركيز
على تطوير العربية واالهتمام بها – باعتبارها اللغة الوطنية والرسمية
–ال يعني أبدًا إحكام إغالق النوافذ على الذات الموروثة واالختناق
بثقافة االجترار على هامش صيرورات العلم والمعرفة في العالم كما يريُد
األصوليون؛ فلم تزدهر هذه اللغة البهية عبر تاريخها إال من خالل
التثاقف مع اآلخر .أعتقُد ،بالتالي ،أَّن المشكلة ليست في اللغة وإنما في
السياسة التربوية والثقافة السائدة بعامة ،وهي كما نعلم ثقافة رجعية
تكرس الجهل المقَّدس والمؤَّس س كما يرى البروفيسور الراحل محمد
أركون .وأعتقُد كذلك أَّن المشكلة ،في عمومها ،ترجع إلى عقوٍد خلت
حين كانت مسألة التعريب قضية إيديولوجية ال معرفية أو علمية؛ ونحن
نعرُف كيف ُح سم فيها الصراُع بصورٍة متسرعة لصالح قوى التقليد
والرجعية الفكرية وهو ما يتجلى ،اليوم ،في برامج اللغة العربية
والنصوص التمثيلية التي تذهُب في اتجاه تحنيط العربية بكل أسف.
84
لقد قلتم إَّن الشعَر ليس سبيال إلى التنمية االقتصادية .ونحُن ال
نعترُض على هذا .ولكَّن التنمية التي تنشدونها تكنوقراطيا -في ظل
عولمة ُم توحشة وليبرالية -لن تكوَن إنسانية الوجه ولن تجعل من
الجزائر بلدًا منيعا ألنها ستفتقُر إلى اإلنسان وإلى تطلعاته الحارقة إلى
العدالة والجمال والحرية .ستكوُن تنمية تصلُح لإلنسان اآللي وُتخفي،
وراء حساب ُم عَّدالت النمو ،شُح وَب الروح وانكماش دائرة الفعل
اإلبداعي عند اإلنسان الجزائري .هكذا ستكوَن الجزائُر – كما كانت دوما
– بلدًا ُينتُج البترول وُيراكُم الثروات التي ُتسيُل لعاَب الفاسدين ال غير.
ستكوُن بلدًا ُينتُج البؤَس االجتماعي ويخنُق األحالم وال يستطيُع ُم جابهة
االقتالع الثقافي -الرمزي الناتج عن التحديث الُم توحش الذي تدعون
إليه في غياب سياسة تربوَّية حكيمة وطليعية؛ كما ال يستطيُع ُم جابهة
المخاطر واألطماع الخارجية التي تترَّبُص بنا في ظل تغييب اإلنسان
الجزائرِّي الَّدائم عن حقه في الُم شاركة السياسية وصنع القرار .ستبقى
الجزائُر بلدًا دائَم الغياب عن مأدبة الفعل الثقافي والحضاري في العالم.
فإلى متى ُندافُع عن فقرنا الثقافي في العالم بُح َّج ة التركيز على األولويات
كالتنمية االقتصادية أو التحكم في التكنولوجيا؟ لماذا ُنريُد ،دائما التمهيد
لسياسات تدجين اإلنسان واعتقاله إيديولوجيا أو تقنيا بدل تفجير طاقاته
وبناء عقله وتحرير ُم بادراته؟ لذا نعلُن ،سيادة الوزير األول ،اختالفنا
معكم حول مفهوم التنمية والتقدم .أنتم ترونُه كميا ونحُن نراُه كميا
وكيفيا معا .أنتم ترونُه إنتاجا وآالت وأرقاما ونحُن نراُه تراكما ال يخلو
من الُبعد اإلنساني ومن فضائل الحرية والوعي وازدهار الشخصية
85
اإلنسانية التي تبقى ،في كل األحوال ،الضامَن األوحد لمناعة األمة على
كل الُم ستويات" .
ختمت رسالتي ،بعد ذلك ،بما يلي:
" سيادة الوزير األول،
أريُد أن أشيَر مذكرًا ،وأنا أنهي رسالتي هذه ...إلى الوزير األول
البريطاني ونستون تشرشل – وكان مثقفا وكاتبا – عندما قال ذات يوم:
"نستطيُع التنازل عن أي جزيرٍة من جزر الهند (وكانت ُم ستعمرة
بريطانية) ولكننا لسنا ُم ستعدين للتنازل عن شكسبير!" .شكسبير أهُّم
من األرض؟ هذا يعني أَّن التاريخ والهوية اإلبداعية العميقة أهم من
الجغرافيا الخاوية من الُبعد اإلنساني .األمة امتداٌد في الزمان وذاكرٌة
مشتركة وتطلعاٌت إلى األجمل واألرقى عبر اإلبداع الذي يمثل خط الدفاع
الحصين للهوية الحضارية .ولكننا الحظنا ،بكل أسٍف ،أَّن المعري ال
يحظى عندكم بهذا الشرف".
إشارة:
(ُنشرت رسالتي المفتوحة إلى الوزير األول الجزائري كاملة في ملحق "األثر"
الثقافي األسبوعي التابع لصحيفة "الجزائر نيوز ")10/09/2013 ،
***
86
انطالقا من ذلك كله أرى أَّن المشكلة الرئيسَّية عندنا تتمثل في عدم
توفر مناخ سوسيو -ثقافي يجعل من العلم فعالية إبداعية ومغامرة
فكرية تروُم مجابهة المجهول والتحكم في وسائل تغيير الحياة نحو
المزيد من بسط سيطرتنا على محيطنا والبحث عن رفاهيتنا واستقاللنا
بكل أوجهه .ولكَّن ذلك ،في اعتقادي ،لن يكون له حظ من النجاح ما لم
نبدأ بعقد مصالحٍة تاريخية مع الفلسفة باعتبارها ما يجِّس ُد استقالل العقل
عن الوصاية ومرجعية الماضي .ال يمكن أن نعيش ازدهارًا ثقافيا وفكريا
في وضع ال تزال فيه لفتاوى ابن تيمية السطوة والغلبة على عقالنية ابن
رشد مثال .إذ ال يمكن أبدًا للعلم أن يزدهَر خارج بيئٍة ثقافية حاضنة
للمعرفة والبحث والسؤال والمراجعة النقدية .لذا أرى أنه تقُع على كاهل
ُنخبنا جميعا مسؤولية النضال من أجل اكتساب الفلسفة حَّق المواطنة في
مدينتنا التي ال تزال ،في عمومها ،تحمل صفات "مدينة هللا "ال "مدينة
اإلنسان" .فعلينا أن نشرعَن لحق السؤال في نثر الشوك على سرير
العقائديات والمطلقات وأن نمِّهَد ،بذلك ،لميالد الفرد الجزائري المستقل
فكرًا وسلوكا .من نافل القول أن نذِّك َر بعدم إمكان ازدهار الفلسفة –
باعتبارها بحثا وتأسيسا لجدارة الحياة في أفق االستقاللية واإلبداع – إال
من خالل انبثاق "الكوجيتو" الذي طال انتظاُر إطاللته علينا من دهاليز
التاريخ المظلمة .هذا ما سيحِّر ُر النظَر خارج أسيجة العقائديات
المتصلبة التي أسرت العقل وعزلته عن التحوالت الكبرى التي يعرفها
العالم .علينا أن نتعلَّم "فن اإلقامة في العالم" كما ُيعِّبُر على حرب .دون
ذلك لن يكون لنا وجوٌد فاعل وسيكون العدُم أليَق بنا .نرسيُس الجزائري
87
(والعربي على العموم) لم يُعد يتأمل وجهه في مرآة األرض وإنما في
السماء واألبدية بوصفهما بديال عن السقوط غير الموفق في الزمنية
والتاريخ .طوطمية الهوية عنده تبقى التعبيَر األمثل عن ضياعه وهروبه
من عالم يجعل منه سوقا استهالكية ومجاال حيويا استراتيجيا ومصدًر ا
للطاقة ال غير .فمتى نفهُم أَّن الهوية إبداٌع أيضا ومصالحة مع
المستقبل؟
88
" إلى متى يظل زورُق األوديسة الجزائرِّي مكسورًا؟ "
*****
إنني أعتقُد ،شخصيا ،أَّن تدخل الَّص ديق المبدع أمين الزاوي يندرُج
في هذا المجال من المراجعة وإن كان ال يتمتُع – بصورٍة كافية -بوجاهة
العمق النقدِّي التفكيكي ألنه ال يكشُف شيئا جديدًا عندما يعتبُر العرَب ،
على سبيل التمثيل" ،غزاة" احتلوا شمال إفريقيا تحت غطاء المقَّدس
الديني الذي مثله اإلسالم .هذا األمُر ليس خصيصة عربية – إسالمية
فحسب وإنما هو شأٌن أمبراطورٌّي عام ارتبط بشهوة الفتح والتوسع في
كل الحضارات الكبرى إبان عنفوانها ،وهذا منذ العهود القديمة وصوال
إلى االستعمار األوروبي الحديث .فال بَّد لشهوة التوسع من غطاٍء
90
إيديولوجي توفره األديان التقليدية أو حتى "األديان العلمانية" بتعبير
ريمون آرون .إَّن النظَر الفاحَص والنقدَّي في التاريخ وما يطرحه من
مشكالت ،في اعتقادي ،ليس مجال تصفية حسابات كما نالحظ عندنا
وإنما هو مناسبة لتفكيك األساطير المؤِّس سة للسلطة الفعلية القائمة،
وفضٌح إليديولوجيات اإلقصاء والتمويه ومزاعم االستمرارية والوحدة
المزعومة التي تختزل فسيفساَء الهوية في الصوت الواحد والموقف
الواحد .علينا ،فعال ،العمل دائما على تحرير التاريخ من إرادة استخدامه
ألغراض ال تخدُم المعرفة العلمية الموضوعية والحقيقة المغَّيبة وتجعله
أداة سلطوية أو جدوال صغيًر ا يضمُن لطواحين الهيمنة والسيطرة أداَء
عملها بإحكام.
إَّن ما غاب عن الَّص ديق أمين الزاوي -وعن الكثيرين ممن يذهبون
نفَس المذهب – هو أَّن التاريخ في عمومه ليس إال ميدانا للصراع
والغلبة والتداخل والتثاقف والتهجين وال يمكن ،أبًد ا ،النظُر إليه من
زاوية الثنائية التبسيطية التي تختزله في مواجهة تراجيدية بين
"السكان األصليين" و "الغزاة" على تعددهم عبر التاريخ .الواقُع أعقُد
بكثير من هذه المانوية الفكرية البائسة .وربما أمكننا أن نقول مع
محمود درويش :ال" تكتب التاريخ شعرًا /فالسالُح هو المؤرخ" .ولكن
يجُب التنبيه إلى أَّن "السكان األصليين" لشمال إفريقيا ليسوا طبعة
جديدة من "الهنود الحمر" .يجُب التأكيُد على هذا .لقد كانت للتهجين
والتثاقف اليُد العليا في تشكيل المصائر والمآالت في بالدنا وبخاصٍة مع
91
العرب وثقافتهم ودينهم .ولكَّن ما أوُّد الوقوَف عنده هو أَّن هناك أمرًا
واقعا كثيفا يواجهنا بمشكالته الضخمة سياسيا وثقافيا وهو يتجاوز ،بكل
تأكيد ،غنائية اإلصرار الرومانطيقية الباحثة عن صفاء البدايات العرقية
واللغوية .فنحن اليوم نعيُش في الجزائر التعددية ال على ذكرى "مأساة
السكان األصليين مع الغزاة العرب" وإنما كشعٍب واحد وتحدونا ،بكل
تأكيد ،الرغبة في ضمان شروط "العيش المشترك" وإرادة بناء مجتمع
تعددي متضامن وديمقراطي ال ُيخَنُق فيه صوٌت وال يغيُب فيه طيٌف
ثقافي واحد .وأعتقُد أَّن االنتصاَر لألبعاد والعناصر الثقافية واللغوية
الُم غَّيبة عندنا في الجزائر يجُب أال ُيوّر طنا في اختالق المظلومية الحالية
من أعماق التاريخ األلفي وإنما من السياسة غير الديمقراطية التي
جعلت السلطة ال تعترُف بالحقوق الديمقراطية لقطاع واسع من أبناء
الشعب الجزائري .ربما لم تفهم السلطة السياسَّية -التي استلمت مقاليَد
الحكم عشية االستقالل -الكياَن الوطنَّي الواحد إال في صورة وحدٍة تعلو
على التعدد فوقعت بذلك في الشمولية والعسف الثقافِّي والسياسي.
ولكننا اليوم نريُد وحدًة تنبثُق من التعدد الفعلي الذي يفترضه كل نزوع
ديمقراطي يقوم على االعتراف بالمختِلف وحقه الكامل في الوجود
واإلفصاح عن نفسه بحرية .هذا ،في اعتقادي ،ما يجُب أن يشكل مداَر
نضالنا حاليا.
إَّن العرَب ،اليوم ،ليسوا مشكلة في الجزائر والمغرب العربِّي عموما.
ليسوا ذكرى إعصار فيه ناٌر أصاب شجرة الحرية في هذه الديار .العرُب
92
ليسوا من أحفاد جنكيز خان أو هوالكو .ليسوا فصال من فصول الكارثة
كما ُيعتَقد ،وإنما هم واقٌع سوسيولوجٌّي ضخم وتاريٌخ وثقافة عالمة
ولغة فريدة أيضا .العرُب هم الذين حملوا اإلسالَم الذي ُيعتبُر ديَن
األغلبية الساحقة من الجزائريين منذ قرون خلت .وال نحتاُج هنا ،ربما،
إلى التأكيد على عالقة اإلسالم باللغة العربية .كما يجُب أال ننسى أبدًا أَّن
اإلسالَم مثل دائما عامل وحدٍة بين الجزائريين في مواجهة اآلخر الغازي
الذي كان "صليبيا" أو "كافرا" أو "روميا" حسب الظروف والسياقات
التاريخية المختلفة وهذا قبل االنبثاق التدريجِّي للوعي الوطني السياسِّي
الحديث الُم قاوم للُم ستعمر مع الحركة الوطنية بداية القرن العشرين .لقد
صنع العرُب هوية جديدة وجناحا مغربيا لحضارٍة كان لها أن تحتضَن
شعوبا كثيرة وأن تقّد َم إسهاَم ها – من خاللنا -عبر األندلس وبالد
المغرب .يمكننا االستشهاُد بمنارتين كبيرتين تمثيال ال حصرًا :ابن رشد
وابن خلدون .كما أَّن اإلسالَم ،هو اآلخر ،ليس مشكلة بحِّد ذاته .هو
ديانة وقيٌم وروحانية وتجارُب فريدٌة في العلو واكتناه المطلق وعيش
تجربة التعالي .اإلسالُم سردية تأسيسَّية كبرى وانخراط في "تاريخ
الخالص" الذي دشنته الوحدانيات وقِّد َر له أن يهيمَن – من خالل رأس
المال الرمزي اإلبراهيمي -على مصائر شعوٍب كثيرٍة في حوض
المتوسط .ربما كانت المشكلة الفعلية ،من جهٍة أولى ،تكمن في اختزال
الهوية المركبة لشعوبنا في "العروبة" باسم إيديولوجية بعثية شوفينية
وإقصائية كما حدث في بلدان عربيٍة كثيرة ومن بينها الجزائر بعد
االستقالل بالطبع .كما تكمن المشكلة أيضا ،من جهٍة ثانية ،في مأسسِة
93
الدين واستخدامه أداة سياسية الكتساب الشرعية من ِقبل سلطاٍت فاشلة
ظلت تحمله ورقة توٍت تستُر بها عورتها .فالمشكلة ،في نهاية األمر،
يمكُن اعتبارها مشكلة سياسية عنوانها األكبُر هو غياب الديمقراطية
بمفهومها الشامل العميق عن فكرنا وممارساتنا .أقول هذا وأنا ال أتحَّد ُث
عن العروبة بوصفها عرقا وإنما باعتبارها انتماًء ثقافيا وحضاريا يجُد
تحققه في التعبير باللغة العربية التي نجحت ،منذ قرون خلت ،في أن
تكوَن ذاكرة مشتركة وبيتا لُهويٍة انصهرت فيها األعراُق والثقافاُت
والتطلعات .فهل نحتاُج دوما إلى التذكير بأَّن العروبة ليست ،بطبيعة
الحال ،عروبة العرق وإنما هي عروبة التاريخ والثقافة؟
ال أنكُر أنني متابٌع دائٌم لما يكتبه الَّص ديُق أمين الزاوي محترما
نضاله من أجل الدمقرطة والحداثة وتحرير قَد رنا التاريخِّي المشترك من
آلة االستالب العمالقة التي يمثلها الديُن المؤَّس سي .نحُن ال نختلف في
هذا أبدًا .ولكنني قد أختلُف معه جزئيا حول الطرق التي يسلكها لتحقيق
الهدف .لقد كتب يوما ما – ضمن نفس السياق – في عموده الصحفي /
الفكري قائال" :في البدء كان البربر" ( .)LIBERTE, 06-10-2018
ولكنني أميل ،في اللحظة الحالية من تاريخنا ،إلى التأكيد مع صديقي
الكبير األستاذ أدونيس على أنه "في البدء كانت الكثرة" .فعلينا أال نجعل
من هاجس البحث عن البدايات السعيدة الصافية رغبة محو جديدة
للحاضر المتعِّدد الغني.
94
***
* اللغة واألمبراطورية
توقفُت بنوع من االستغراب هذه األيام ،أيضا ،عند آخر ما كتب
الَّص ديُق أمين الزاوي بخصوص الكتابة باللغة األم وهو يدبُج نسخة
أخرى من "إني أتهم" ( )LIBERTE, 04-06-2020ولكن ليس على
شاكلة إميل زوال الذي أراَد االنتصاَر ،سنة ،1898للضابط درايفوس
الُم َّتَه م ظلما وعدوانا بخيانة بلده ألسباٍب عنصرية ،ولكن كي يكيل التهَم
لُج ملٍة من الكتاب والفالسفة والمثقفين الكبار الذين عاشوا في شمال
إفريقيا والمغرب اإلسالمِّي في حقٍب مختلفة ولم يكتبوا باللغة األم أي
"األمازيغية" .لقد انهال بمطرقة التخوين على أبوليوس والقديس
أوغسطين وابن خلدون وابن بطوطة جميعا .لم يسلم من هذه التهمة،
ربما ،إال الشاعر القبائلي المعروف سي محند أو محند (الذي كان ُينشُد
شعره وينتمي إلى ثقافٍة شفوية ال تعرُف الكتابة) .لقد وقفُت مستغربا،
كما قلُت ،أمام رأي مماثل ال يضُع للتاريخ وال للظروف وال للمالبسات
الحضارية المختلفة أَّي اعتبار في تحديد مصائر الثقافة واإلبداع .وربما
أمكنني ،لو ذهبُت مذهَبه ،أن أتهم بشارًا وأبا نواس وابن سينا والرازي
وسيبويه وابن المقفع ،أيضا ،بخيانة ثقافتهم الفارسية ولغتهم األم.
95
ولكَّن اإلبداَع لدى هذه الطائفة اندرج ضمن تراٍث وضمن ثقافٍة عربية –
إسالمية عالمة ،وفي أفق إشكالي ولدته الديانة اإلسالمية التي دخل فيها
الفرس بعد حركة الفتوحات .لقد أصبح أدبهم عربيا بحكم هويته اللغوية
حتى وإن كانت النزعة الشعوبية لدى بعضهم قد حاولت االنتقاَص من
قدر العرب كعرق أو كجنس أمام العنصر الفارسي في صورة رِّد فعل
مفهوم على المركزية العرقية العربية سياسيا ودينيا .هذا نفسه تقريبا،
على ما أعتقد ،ما حدث قبل قرون مع كتاب شمال إفريقيا وفالسفتها
الذين عاشوا في كنف األمبراطورية الرومانية المسيحية .لقد كان أدُبهم
التينيا ينتمي إلى الدائرة الثقافية الالتينية والفضاء اإلشكالي الذي ولدته
الديانة المسيحية بعد ذلك .لقد انتسبوا إلى ثقافٍة عالمة وكتبوا بلغتها ولم
يخونوا لغتهم األم التي ال نعرف ،إلى اليوم ،إن كان لها آنذاك حرٌف
وكتابة أو ال .إَّن األدَب كان ينتسُب إلى اللغة في العهود األمبراطورية
القديمة ولم يكن من الممكن أن يوصَف أدٌب ما بأنه قومٌّي أو وطني
بالمعنى الراهن الشائع إال في العصر الحديث الذي شهد نشأة وانبثاَق
فكرة القومية المحايثة لميالد الدولة الوطنية .لم يكن المتنبي شاعرًا
عراقيا .ولكَّن الجواهري شاعٌر عراقي .وكذلك السياب أيضا .هذا هو
الفرُق بين الطورين .كذلك لم يكن فيرجيل شاعرًا إيطاليا في عهٍد كان
فيه كتاب أقاليم إيطاليا ينتمون إلى األدب الالتيني .أما دانتي فهو شاعٌر
إيطالٌّي ألنه كتب بلغته األم فأصبح بذلك "أبا الشعر اإليطالي" كما ُنعَت
الحقا .لذا ال يمكن أن نصَف كتاب شمال إفريقيا في العهد الروماني بأنهم
كتاب "أمازيغ" انطالقا من اعتبارات إثنية فقط .إنهم كتاٌب التينيون
96
ينتمون ثقافيا وحضاريا إلى الثقافة الالتينية – الرومانية .لم نشهد ميالد
"الكوميديا اإللهية" في طبعٍة جزائرية تؤرخ لميالد األدب "األمازيغي"
ألسباب تاريخية وسياسية وثقافية معقدة بكل تأكيد.
ولكن كيف يذهُب الشطط بالَّص ديق أمين إلى إدراج اسم ابن خلدون
العربِّي األصل ضمن قائمة "الخونة" كذلك ُم عتبرًا إياه ،هو اآلخر ،خائنا
للغته األم وهذا بصورٍة تتناقُض كليا مع ما جاء في السيرة الذاتية
للعالمة الحضرمي ،ومع الشرط السياسِّي والحضاري الذي كان يؤطر
اإلبداَع واإلنتاج الثقافَّي على العموم باللغة العربية العالمة وضمن اإلطار
المرجعي العربي – اإلسالمي آنذاك وتحديًد ا في القرن الميالدِّي 14؟ فما
اللغة التي خانها ابن خلدون عندما كتب باللغة العربية؟ وبمعزل عن كون
ابن خلدون عربيا ،هل كان بإمكانه أن يكتَب أعماله ومصنفاته العلمية
واألدبية بلغٍة أخرى؟ أال يعلُم الَّص ديق أمين – انطالقا مما يخبرنا به
التاريخ واألنتروبولوجيا الثقافية معا – أَّن اللغة العالمة هي دائما تلك
المرتبطة بالدولة والكتابة والسلطة الثقافية ومركزية العقل والتراث
التأسيسِّي لحضارٍة ما؟ أتذكر جِّيدًا كلمة الُم ستشرق الفرنسِّي المعاصر
أندريه ميكال وهو يصُف حضارة العرب والمسلمين بقوله" :إنها أعظُم
حضارات المكتوب" .هذا تحديدًا ما لم يتوفر للغات المحلية المختلفة في
شمال إفريقيا – ألسباٍب معقدة – وهو ما ُيفِّسُر ،بدوره ،عدَم اعتمادها
في الكتابة عند غالبية الكتاب والمبدعين الذين أتى على ذكرهم .ويبقى
أن نسجل أَّن المشافهة ظلت السمة األساسية لتراث البربر بينما كانت
الكتابة وسيلة لالنخراط في النقاش الثقافِّي العالي أو اإلبداع بصورٍة
97
عامة وقد تَّم هذا بلغتين كبيرتين لما يقارُب عشرين قرنا إلى اليوم:
الالتينية أوال فالعربية الحقا بعد الفتح العربِّي – اإلسالمي.
هذا من جهٍة أولى؛ ومن جهٍة أخرى ما معنى توجيه تهمة "الخيانة
التاريخية" هنا بأثر رجعٍّي ُيسقط الهموَم المعاصرة لمناضلي القضية
"األمازيغية" على أوضاع مختلفة تماما في التاريخ البعيد؟ هل من
الوجاهة محاكمة الماضي بهذه النبرة النضالية التي ولدتها ظروٌف
مختلفة تماما عن مسارات الثقافة في العصر األمبراطورِّي الروماني؟
هل يمكن إدانة أولئك الكتاب انطالقا من الهواجس الهوياتية المعاصرة
لدى المناضلين الحاليين؟ ربما كان األجدر بالَّص ديق أمين أن يوجه ُتهَم ُه
الجاهزة هذه لمفدي زكرياء مثال أو كاتب ياسين أو الطاهر وطار إن كان
ذلك يتمتُع بنوع من الوجاهة بالطبع .إَّن كتاَب العهود األمبراطورية
القديمة لم يحملوا الهَّم النضالي الراهن المتعلق بالهوية "األمازيغية"،
فهذا شأٌن معاصٌر يدخل ضمن حِّيز المساعي اإليديولوجية الراهنة
الرامية إلى االعتراف بالُبعد البربرِّي في السردية الوطنية الجزائرية
التي رأت النوَر بعد االستقالل ،كما يرتبط بمحاولة التمكين للحقوق
الثقافية الُم غَّيبة في الدولة الوطنية الناشئة – أعني تلك التي غلبت
الطابَّع االجتماعي التنموي واألحادية اإليديولوجية على الديمقراطية
التعددية كما أسلفنا.
*****
98
إشارة:
(صحيفة "النصر" ،الملحق الثقافي األسبوعي "كراس الثقافة"/ 07/ 07 ،
.)2020
99
هل حان "خريُف البطريرك"؟
نقول هذا ونحُن ندرك ،بالطبع ،أَّن المثقَف الغربَّي أيضا كان له أن
يواجَه ،في أحايين كثيرٍة ،مآزَق دفعت به دفعا إلى مراجعِة نماذجه
100
التفسيرَّية السائدة في مواجهة زئبقية الواقع كما الحظنا عند ُم فككي
المركزية الغربية ونقاد الحداثة المتصلبة الَّر اكدة عند منعطف األنوار أو
ميراث الماركسَّية التقليدية .فقد انبهر ،مثال ،ميشال فوكو كثيرًا بالثورة
اإليرانية التي أطاحت بالشاه سنة 1979وحاول أن يقارَبها باعتبارها
حدثا قد يعلُن موَت الباراديغم الغربِّي المذكور في مقاربة الثورات
واألحداث التاريخية .ولكن تلك حكاية أخرى.
إَّن ما أتينا على ذكره يجعلنا نحذُر ،بكل تأكيٍد ،من مواصلة الحديث
عن المثقف باعتباره ذاتا مستقلة واعية تنحاز طوعا ،والعتباراٍت
أخالقية ،إلى قضية العدالة والحرية والحقيقة .فالمثقُف تموقٌع ولحظة
وعي ولكنه ليس أكبر من َشرطيته التاريخية وال يتأمل صيروراِت العالم
من شرفة الوعي الترانسندنتالي الذي يعلو على التاريخ .نتذكُر ،هنا
أيضا ،ما جابه به طلبة السوربون الثائرون ذات أيار/مايو 1968في
فرنسا أستاذهم البنيوَّي جاك الكان بمقولة لوسيان غولدمان الشهيرة
"إَّن البنيات ال تنزل إلى الشارع" في إشارٍة إلى إفالس الفكر البنيوي
الذي طالما بَّشر بـ "موت اإلنسان" والتاريخ لصالح البنيات الثابتة .لقد
كان ذلك ،كما هو معروٌف ،تمهيًد ا لبداية انسحاب البنيوية من المشهد
الثقافِّي والسياسي من أجل إعادة التفكير في آليات عمل السلطة بأدواٍت
أخرى ،والتوجه إلى التفكير في الحاضر بمعزل عن الُم سَّبقات التي تجعل
البعَض يلوي ُعنَق الواقع انتصارًا للنظرية الشكالنية الجاهزة المتآكلة.
ما أردنا أن نقوله ،من خالل ما سبق ،هو أَّن المثقَف ليس نبيا
يستشرُف أو "يتذكُر المستقبل" استنادًا إلى معرفٍة متخلصة من نسبيتها
أو من شرطها التاريخِّي واإلبستيمولوجي .هذا ما يجعلنا نطرُح رؤية
أخرى تتعلُق بالمثقف المحايث الذي يحاول أن يكوَن فاعال تاريخّيا يجّس ُد
101
الوعَي بالمرحلة ورهاناتها وينحاز إلى القوى والفئات األكثر اكتنازا
بطاقة التغيير الذي ال ُيقاَو م .تكمُن قيمة تدخل المثقف في الشأن العام،
بالتالي ،في جعل الحراك لحظة وعي نظري ونضال اكتسب شرعية
تاريخية وأدبية .ال ُيمكننا أبدًا أن نغفل عن عوامل الحراك الشعبي
المرتبطة بعولمة القيم وتكنولوجيا االتصاالت التي مّثلت "حصان
طروادة" الجديد الذي اخترَق أسيجة الدولة الوطنية العربَّية المتميزة
بكونها دولة التحديث األيديولوجي -األمني.
إَّن الجزائر ،بالطبع ،ليست بدعا بين الدول المنتمية إلى الفضاء
العربِّي أو جنوب المتوسط في هذا الشأن .فال يختلُف اثنان حول ِس مة
الفشل التي طبعت ُم حاوالتنا دخوَل العصر الحديث من باب بناء الدولة
الوطنية واجتراح آفاق التنمية في شكلها األيديولوجي الجاهز منذ الحقبة
التي عرفت انتزاَع االستقالل الوطني .وُرَّبما كان هذا األمُر ،أيضا،
خصيصة عربية بامتياز ال تزال تطرُح الكثيَر من األسئلة ،وتدفُع إلى
ضرورة ُم راجعة مسيرة التعثر التاريخي والكشف عن أسبابها العميقة
في األداء السياسِّي أو في الفكر وأبنية الُم جتمع أو في التبعية المفروضة
علينا من قبل نظام دولي ُيكِّر ُس الهيمنة واالستتباع .فمن المعروف أَّن
ُم جمل األزمات التي نعيشها على كل الُم ستويات -وتحديًد ا في الجزائر -
أصبحت نموذجية وكاشفة ،بصورٍة تكاُد تكون فاجعة ،عن الفشل الذي
الزم عملنا التاريخي .لعلنا اعتقدنا أَّن ولوَج باب التنمية الفعلية
واالنسالخ من أوضاع االستالب التاريخِّي كان ُم رتبطا بوسائل ُم تخلصٍة
من أصداء التاريخ وُم كابدات اإلنسانية عبر ُم غامراتها وهي تشهُد
انكساَر سيف األبدية على رقبة التاريخ الذي أصبح بيتا لإلنسان مكان
102
الُم طلق .وها هي جهودنا المهدورة تذهُب كالزبد ُج فاًء وتطفو كُج ثِث
طيور ميتٍة على ُم حيط حياتنا.
تمَّنى ألبير كامو بحرقٍة ،ذات تأّم ل بصير ،أن نعيَش ُم ستقبال ال في
عالم خال من القتل فحسب ،بل في عالم ال ُيبَّرُر فيه القتل بأي شكل من
األشكال .وأعتقُد أننا اليوم ،باعتبارنا عربا وُم سلمين ،نتمنى أن نعيَش
في عالم ال ُيبَّرُر فيه االستبداُد وال ُيسَم ُح فيه بظهوره .األحادية مشكلة
سياسَّية وثقافية أيضا .فال تزاُل الكاريزما ُم شكلة راسخة الجذور في
الالوعي الجمعِّي وال يزال الُم خِّلُص نموذجنا السياسَّي المفضل .من هنا
يبدو لي أَّن هذا األمَر يمثل جانبا ُم هما من مهام المثقف النقدي اليوم .فال
يكفي أبدًا أن تتناسل فينا رسائل تستنسخ "إني أتهم" التي افتتحت عهَد
ميالد المثقف الكونِّي المناضل باسم العدالة والحقيقة منذ نهاية القرن
التاسع عشر؛ بل علينا أيضا ،وبدرجٍة أكثر التزاما ،تفكيُك بنياِت
الرواسب الثقافية والسوسيولوجية التي طالما جعلت من الُم ستبِّد العربِّي
106
تجسيدًا لحلم الخالص من المآزق التاريخية الكبرى .إَّن ما ُتعلمنا إياه
األحداُث التي تطفو على سطح حياتنا ،في الجزائر وغيرها ،هو أَّن
الحاكَم الُم ستبد ظل يحظى بنوع من الشرعَّية األدبية والتاريخية التي
جعلت منه -في أوقاٍت مضت ُ -م خّلصا أو ُم نقذا .فهكذا كان جمال عبد
الناصر وصدام حسين وبومدين والقذافي .هذا ما يجعل من نقد الثقافة
األبوية -الذكورية وبنيات القمع االجتماعِّي أمًر ا ملحا ،ويجعل من العمل
على تجاوزها مهَّم ة ثقافية وسياسية كبرى على درب نزع الشرعية
الرمزية عن البطريرك العربي ،وسد المنافذ أمام إمكان انبعاثه من جديٍد
وهذا من خالل دمقرطة الحياة العامة وبناء المؤَّس سات الدستورية
الحديثة وترسيخ قيم المواطنة ومبادئ حقوق اإلنسان ،وبناء منظومة
تربوية حديثة قائمة على العقالنية وتنمية كفاءات الروح النقدية
واحترام االختالف ،والعمل على انبعاث فينيق "الكوجيتو العربي" من
رماده.
107
وُم راجعة آليات عمل الُم جتمع من أجل بلورة أشكال النضال الممكنة
معرفيا وعمليا وميدانيا تمهيًد ا لمجيِء الخريف العظيم الذي طال
انتظاره" :خريف البطريرك".
*****
إشارة:
(مجلة "الجديد" ،عدد نيسان /أفريل .)2019
1
صديقي الكبير ألبير،
108
رأيتني مدفوعا إلى ُم خاطبتك ُم باشرة بنوع من الُم حاورة التي أريُد
أن أقول فيها كالما كثيرًا بينما تلتزُم فيها ،أنت ،بالصمت الذي طالما
سحرك ورأيَت فيه جوهَر العالم .رأيتني ُم لزما ،أيضا ،بُم عانقة وحدتك
الصعبة العالية ،وُم حاولة االقتراب من َص حوك القاسي الذي تلفعَت به
في مفازة الوجود منذ أشرفت على تراجيديا الحياة قبل قرن من الزمان.
لعلك تتذكُر جِّيدًا صديقي ،وأنت تدلُف العصَر ،كيف أَّن الحياة لم تكن
جاهزة الحتضانك أو هدهدة أحالمك .لعلك تتذكُر مسرَح العالم الخائب
الذي استقبلك بالصخب والعنف ،وبيأس حضارة فاوستية أطلقت من
قمقم تاريخها مارَد العنف بشكل غير مسُبوق .لم يمنحك هذا المسرُح
الوحشي الَّدامي الوقَت الكافي لتغتسَل ،من جديٍد ،بشالل الغبطة الكونية
الُم تفجر من عناق الشمس والبحر على شواطئ تيبازة .لم يمنحك العصُر
فرصة الدخول في هارمونيا صوفية مع األشياء ُتعيُد ابتكاَر غنائية
الَّس عادة البسيطة الُم رتبطة باألرض والجسد ،والُم تحررة من ميراث
اآللهة الُم نسحبة ،كرها ،من مسرح العالم وأقداره.
أخاطبك ،صديقي الكبير ،بعد ُم رور قرن على مجيئك لتفتَح عينيك
وعقلك على عصر قاتم حَّر ر براثن الوحش التاريخي من قفازات حداثة
ظلت تعتقُل تطلعاتنا وأحالمنا بسردَّياتها الُم تآكلة .أخاطبك وأنا أدرك
مقداَر رباطة الجأش التي كان على جيلك أن يتحلى بها من أجل أن ُيحِّرَر
المعنى والقيم النبيلة من مهاوي العدمية التي فغرت فاها .لقد كان عليكم
أن ُتعيدوا بعث أدوار "الجميلة والوحش" في طبعة تذكر بالتراجيديا
109
القديمة .لقد كان عليكم أن تجابهوا وحَش العالم بما يكتنزُه القلُب من
بداهة النبل والشجاعة والظمأ إلى العدالة والحقيقة .وأنا ،شخصيا ،ال
يهمني أن أعرَف لمن كانت الغلبة .الغلبة لم تكن تستهويك أبًد ا ،على ما
أظن ،بقدر ما كان يتملكك اإلصراُر على الُم جابهة .أليس كذلك؟ ولكن،
على ما أرى ،كان يعني لك الشيَء الكثير أن يخلَع عليك بروميثيوس
ُبردَتُه التي تحمُل رائحة البطولة اإلنسانية وهي تقاوُم وضعا أعمى ال
ُيطاق.
أعرُف صديقي ،بالطبع ،أنك كنَت وريثا لحضارة حملت معولها منذ
بداية العصور الحديثة في فعل تخريٍب ُم نظم لنظام المعنى الذي أرست
دعائَم ُه التقاليُد الالهوتية .لقد كان على الحداثة الظافرة ،آنذاك ،أن تطرَد
اآللهة من المشهد وأن ُتحِّر َر المعنى من السماء القديمة التي يبست
أوصالها وأصبحت "فارغة" كما ُتعِّبر .لقد استعاَد بروميثيوس أمجادُه
عند أجدادك الذين قذفوا باإلنسان في أتون تجربة القتل الُم حِّر ر الذي
جعل ساحاِت العصر تمتلئ بجثث اآللهة .وكان لفاوست أن ُيكمل التجربة
بأن يزاوج بين رغبة المعرفة وإرادة القوة التي مثلت إكسيرًا لإلنسان
الغربي وهو يفقُد العلَّو ويشهُد ،بأسى كبير ،انهيار الغائيات الكالسيكية.
هكذا اكتمل العرُض الذي بلغ لحظاِته األكثر تراجيدية -وأنت ُيقذُف بك
في هذا العالم – مع اندالع حربين عالميتين كشفتا عن سقوط العالم
الغربي في وحل تاريخ فقد البريَق ولم يُعد سردية تروي قصة انعتاق
اإلنسان من آلة االستالب العمالقة .ال يسُعني هنا ،صديقي ،إال أن أسجل
110
إعجابي الكبير بمواقفك وأنت ترفُض عدمية العصر اليائسة وهي تطلُق
أكثَر الرغبات تدميرًا وبربرية من ُعقالها في ظل غياب مرجعيات ُم تعالية
ُتحِّدُد الوجهة والهدف .ال يسُعني إال أن أعجَب بانتصارك لإلنسان
والعدالة أمام تاريخ أريَد له أن يكون إلها لألزمنة الحديثة ومطهًر ا يقوُد
إلى جنة موعودة تحدثت عنها بعض اإليديولوجيات األثيرة في عصرنا.
لقد كان عليك ،صديقي الكبير ،أن تناضل على جبهتين وضَّد ماردين
إيديولوجيين برمجا لسحق اإلنسان :الفاشية والشمولية الثورية .وقد
رأيت في ذلك نتيجة من نتائج حضارة وثقافة قتلت هللا وجعلت التاريخ
والقوة ُينبوعين للمعنى والقيم والُم بادرة والعمل .كان عليك أن تنتشل
اإلنساَن من أسر العدمية التي مَّدت بظاللها على زماننا ،وأن ُتحِّر رُه من
يوتوبيا التاريخ الساحقة .كان عليك أن تجهَر بفضائل بسيطة نسيها
اللغط اإليديولوجي ،وأن ُتعيَد اكتشاف أخالق السعادة التي غَّيبها تراٌث
كامل من العقائديات الُم تصلبة .لقد هالك أن ترى اإلنساَن ،قاتَل اآللهة،
ُيسحُق كالحشرة تحت سنابك التاريخ األهوج وقد تحَّر ر من سجن
السماء ،أو ُيصبُح وسيلة من وسائل تأكيد القومية وهي ُتحاوُل ملء
الفراغ الذي خلفه الُم قَّد ُس الديني القديم .كأنك أردت أن ُتنِّبه صاحب
الفكر الشمولي /اإليديولوجي إلى انحرافه األصلي الذي بَّر ر به عدمية
العصر وغياب المنارات في ظلمة األزمنة .لقد قلت ال"" كبيرة للعصر
الذي انحرَف عن وجهته اإلنسانية ونسَي الحب واألرض والعدالة
والفرح الوجودَّي العميق بعد انغماسه في كتابة رواية أخرى للخالص
111
الذي عرفنا وجَهه الُم رعَب القاتم .فلم يكن لينين وستالين أصدقاء
للحرية ،ولم تكن دولة الديمقراطيات الشعبية بقمعها وُم حتشداتها
ونمذجتها للفكر مطهرًا ُينتظُر منه أن يقوَد إلى فردوس أعلى يتحَّرُر فيه
اإلنساُن ،أخيرًا ،من رحلة اغترابه التي طالت .لقد شهدنا ،صديقي
الكبير ،السقوط الُم دوي لهذا النموذج الذي كتبَت في نقده صفحاٍت
عظيمة لم ُتفهم يومها؛ وهذا على غرار ما شهدتُه أنت ،آنذاك ،من
سقوٍط ألوهام الفاشية التي ظلت سكرى بفلسفة القوة باعتبارها بديال
لمرجعية القيم اآلفلة في عالم صامت.
2
صديقي الكبير،
لقد أنكرت على عصرك – وهو يفتُك باآللهة وُيطيُح بالعلو – أن ُيعيَد
تمثيل دور اآللهة .لقد دافعت عن براءة العالم واإلنسان أمام ميراث ثقافة
الخطيئة ،ووقفَت في وجه كل ُم حاوالت العقل الفلسفي الحديث الَّر امية
إلى تنصيب التاريخ إلها جديدًا أو مطهرًا ُيحِّمُل اإلنسان مسؤولية
الخضوع واالنسحاق تحقيقا إلرادة عليا وانتظارًا لصباحاٍت قيل إنها
سوف ُتغني .ولكن لم يكن من الُم مكن أن ُتغني ،كما نعرُف جميعا ،تلك
الَّص باحاُت من وراء القضبان أو في مجاهيل الغوالغ الَّر هيبةُ .يعجبني
كثيرًا دفاعك عن الحياة أمام التاريخ ،ودفاعك عن العالم أمام سرديات
القوةُ .يعجبني دفاعك عن شمس الحاضر -الطافحة بجنون الغبطة
112
ونتوء الوعي بالحرية تحت الَّس ماء الفارغة -أمام وُعود الجالدين
بخالص كنَت تدرُك ،جّيًد ا ،أنه لن يكوَن إال قناعا لآللهة الجديدة.
ربما لم يكن عصرنا ،فعالُ ،م كتنزا بغبطة بروميثيوس وُنبله العالي
الذي دشَن عهَد اإلنسان ونهاية استبداد اآللهة .ربما خمَد أَو اُر الرغبات
الفاوستية قليال بعد ُم غامرات اإلنسان الغربي منذ أيقظ الوحش النائم في
غابة العصر .هذا ما دفع بك صديقي ،على ما أعتقُد ،إلى أن ترى في
سيزيف تجسيدًا ألسطورة العصر ورمزا لكينونة ورثت حطاَم الحضارة
ووجه الحداثة القاتم .لقد حملَت صورة سيزيف في وجه الذين اعتقدوا
أَّن بإمكانهم أن ُيقنعونا بتقديم الحاضر قربانا على مذبح النبوات الزائفة.
لم تكن ،صديقي ،مأخوذا بالنبوات على ما يبدو وأنت المسكوُن بالشمس
وضوء اللحظة التي ُتتيُح لك فرصة العلو والخلق في الصحراء .لم تكن
تنتظُر المجيء .كان همك أن تتعَّهَد وردة الخلق واإلبداع في قلب
الالجدوى الفادحة .لم يكن اإلنساُن عندك وعدًا بالتحقق وإنما كينونة
حاضرة حاولَت جاهًد ا إنقاذها من صراط الُم بشرين الذين بدأوا المسيَر
إلى فراديسهم الوهمية بالَّدوس على الجماجم.
ربما لم يفهمك الكثيرون وأنت تعُدو وسط الخراب ُم حاوال إنقاذ وجه
اإلنسانُ ،يحاصرك جنوُن الَّدعوات إلى الخالص من حاضر احتضنَتُه
رغم عذاباته ويباس ُعوده .كان عليك أن توِّج َه حراَب النقد لفلسفة
التاريخ الُم عاصرة وهي تقوُد موكبا مهيبا من أجل بناء صرح قيصر
الجديد في مملكة العدمية التاريخية .لم تفعل الثورة التاريخية شيئا آخر
113
غير إنتاج الدولة الشمولية وسفح دم الحاضر على مذبح اليوتوبيا
الجديدة .رأيت في نَّداهة التاريخ إغراء لم يُقد إال إلى عالم االستعباد
والخضوع ولم يكشف إال عن عالم الرعب الذي حبلت به عدمية العصر.
كانت الفاشية واإليديولوجية الثورية الشمولية واقفتين على مسرح
واحد وُتمارسان خيانة منظمة ومنطقية لروح التمُر د األصيلة في ذات
اإلنسان .لم تستطع أن تقبَل بسحق اإلنسان مهما كانت الُم بِّر رات .لم
تقبل بالجريمة .كنت شاهدًا على الجريمة التي مَّهدت لها فلسفاٌت نَّص بت
نفسها وكيلة على الَّس ير الحسن لملحمة التاريخ الباذخة وهي ُتدجن
اإلنساَن وتصعُد به إلى ُج لجلة المحو انتظارًا لشروق لبَس قناَع غودو
كما نعلم .لم يفتنك انتظاُر األرض الموعودة وظللت تفضُل التحديق في
لحظتك ،موقنا كسيزيف أَّن الخالَص في احتضان الالمعقول والالجدوى
وُم مارسة فن الَّس عادة الَّص عب.
لقد كنَت بهذا المعنى ،صديقي ألبير ،الوعَي النقدَّي لمرحلة صاخبة
أرادت – من وراء شعارات الثورة والتقدم – اإلجهاز على الحاضر
المليء وإدانة الحياة باسم اليوتوبيا .كنَت نصيرًا للتمُر د الذي ظل يقدُح
شرَر الحياة في رماد األزمنة وُيؤكُد طاقة الخلق ونفَس الكرامة عند
اإلنسان .كنَت صوتا يلهُج بالعدالة والحرية تحت الَّس ماء الفارغة والتي
سرعان ما امتألت بآلهة فانية أرادت خنق كل تطلع إلى العدالة باسم
الحتمية التاريخية وإنقاذ اإلنسان من االغتراب .هذا ما جعلك تعتبُر
الثورة التاريخية سقوطا ُم دويا لطاقة التمرد في أحبولة األمل الزائف،
114
وارتماًء في أحضان إرادة القوة .هذا يعني إن كان التمرد كوجيتو يؤكُد
الوجود وجدارة الحياة بنفسها ،فإن الثورة التاريخية مثلت كوجيتو آخر
يرتكز على إثبات الوجود من خالل فعل القتل المنظم .لقد رأيت الجالد
يختبُئ في رحم الثورة وينتظُر لحظة تحولها إلى دولة وسلطة .رأيت في
ثنايا الشمولية وعدًا بمحو التعدد واالختالف ،وشَر كا يترَّبُص بطائر
الحياة والحرية .رأيت الغوالغ في النظرية التي دعت إلى تحرير
اإلنسان .وهنا ،صديقي ،أتفُق كثيرًا مع من رأى في مواقفك البصيرة
نقدًا لم نتفطن إلى أهميته إال ُم ؤخرًا بعد فقدان العقائديات الُم تصلبة
بريَقها أخالقيا وسياسيا.
إَّن رجفة الالمعقول التي لفحتك -قبل أن ُتبلوَر ها فلسفيا -ظلت
حساسية العصر األولى وهو يقُف على خرائب المعنى الُم تهِّدم بفعل
الحداثة وانحرافاتها .وقد كان إلرادة القوة أن تتحَّرَر من عقالها لُتصبَح
ينبوعا للقيم ُيعيُد سيرة اآللهة في لُبوس جديد .هذا ما أنكرتُه على أهل
عصرك والنازيين منهم تحديدًا .لقد كنَت إيجابيا ولم ُتبِّر ر العودة إلى
الغاب .ظللت تتمَّس ُك بالمعنى الوحيد األثير لديك وسط يباب الحياة
الُم عاصرة التي فقدت العلو والجدارة :المعنى الُم تفجر من قلب اإلنسان.
كان عليك أن ُتجابه الالمعقول بالخلق وأن تجعَل القلَب ينبوعا للقيم
انطالقا من حِّس ك األخالقي العالي وذلك الظمأ الحارق إلى العدالة
والحرية .كنَت الُم بِّش َر بعالم إنسانِّي الوجه ال يتواطأ مع عالم الشقاء
والالعدالة األبدية .كنَت زارَع الورد الوحيَد في الجليد الالنهائي .ذهبَت
115
إلى األقاصي ولم تفتنَك نداءاُت اآللهة العديدة وهي تتوُق إلى االنبعاث
واالنتقام من شراسة ذئب األنتروبوس التاريخي .تمَّس كَت بقنديل الحب
اإلنساني في ظلمة العصر ،وعانقَت األرَض الكريمة الُح بلى دوما بأعياد
الشمس والبحر والجسد الَّس كران بخمرة اللحظة .انحزَت إلى الجسد ولم
تقع – وأنت طائر البرية الحر -في أحبولة النظرية.
لقد َس حرني وعُيك الحاد البادي في بعض أعمالك اإلبداعية التي
تسرُد نضال اإلنسان ضد الالمعقول وتدعو إلى ضرورة التضامن
البشري في ُم واجهة عالم رمى عنه عباءة الغائية العلوية .فضلَت
التحديَق في شمس اللحظة وضوء الفجيعة الَّس اطع حيُث ال ُم جيَر من
صمت العالم وعبثية الكينونة إال إرادة الخلق وتأكيد جدارة اإلنسان
بنفسه .لم تشأ أن يُم َّد اإلنساُن يده إلى تفاحة السقوط في األمل التاريخِّي
الذي علم الطغاة إهداَر دم الحاضر وقيادة القطعان البشرية إلى أفظع
الدركات .أعرُف أنك كنَت تقُف على يباب العصر موقنا باإلنسان ورافضا
لسطوة التاريخ وقد أصبح سماًء أخرى والهوتا دنيويا .رفضَت أحجيات
الجالدين وتحَّم لَت غربة األنبياء الُعَّز ل ُم عانقا عطَّية الحياة الفادحة .كنَت
وفيا لإلنسان واألرض ،لصيقا بالشمس والبحر من الشرفة التي أتاحتها
لك بالدي الجزائر .لم يكن الحاضُر عندك معبرًا إلى األعلى ،وفَّض لت
وجيَب الحياة في اإلنسان الواقعي على النماذج الُم قتَر حة في نظريات
مألت العصَر بالَّص خب والضجيج ُم شيحة بوجهها عن الحاضر المليء.
سيزيُف حاضٌر دوما .هكذا تكلمت صديقي الكبير .ال شيَء يستطيُع محَو
116
إيقاع الرتابة األبدية .الوعُي ناتئ كالصخرة الُم دَّببة والصحراُء النهائية.
ولكَّن القلَب جائٌع دوما إلى ما يمنُح األشياَء ضوَء المعنى وغبطة وجوٍد
يعي ثمالة الحرية في عالم صامت .هكذا تكلمت .سيكوُن الخلُق
والتضامن البشرُّي ُينبوعين لُم جابهة الالمعقول .هكذا تكلمت.
3
صديقي الكبير،
أعرُف أنك اآلن في قلب النقاش الفكرِّي والسياسي بين ضَّفتي
الُم توسط بعد مُر ور قرن على مجيئك إلى هذا العالم .لقد كنَت تجربة
ُم شعة في اكتناه المعنى وحرقة تأكيد جدارة الحياة بالخلق وابتكار
العدالة والسعادة في عالم أوصَد ،أبديا ،بَّو ابات المعنى المليء .كما
أعرُف أنك ُم حاَص ٌر بالقراءات التي لم تنل منك كثيرًا .ولكن عذرا،
صديقي ،إن رأينا فيك وجها من أوجه األدب األمبراطوري وقد تزامن
إنتاجك وتفكيُر ك مع نهاية الحقبة الكولونيالية الكالسيكية حامال أشواقها
ويأَس ها .وربما رأى البعُض في ثنايا أدبك مالمَح عنصرية واستعمارية
واضحة .إذ لم يستطع النزوع اإلنسانُّي واألخالقي عندك إخفاَء
"الالشعور الكولونيالي" عن مبضع النقد الثقافي والما بعد كولونيالي
كما مارسه إدوارد سعيد مثال .كل هذه األمور أصبحت معروفة في عصر
تجاوز منظومة التفكير الكولونيالي ومنطق األمبراطورية التي أخضعت
العالم وزَّج ت بفسيفسائه الثقافية في قمقم المركزية الغربية .لقد انتهى
عصُر نرجس الذهبي .ولعلك لم تفلت نهائيا من نوستالجيا ذلك العصر
117
وأنت ُتدافع عن "الجزائر الفرنسية" ُم حاوال أن ُتصلَح ُعنَف التاريخ
الكولونيالي باقتراح صيغة تعايش تضمُن للحاضر امتدادًا أقل انتهاكا
لكرامة اإلنسان الجزائري في دولة فرنسية فدرالية تعددية .لقد جئَت
ُم تأخرًا قليال.
يبُدو لي ،صديقي ،أَّن للتاريخ مسارًا ال يخضُع دائما لنوايا أصحاب
اإلرادة الطيبة وأنت منهم بكل تأكيد .لذا لن أصفك بالكاتب االستعماري
الفج .لقد حاولت أن ُتدافَع عن اإلنسان الذي هو من لحم ودم وعن واقع
سياسٍّي تعُّددي رأيَت استحالة تدميره إال بالسقوط في العنف األعمى
وحماقة تضييع أجمل المواعيد مع التاريخ .لم تختر ،كما عهدناك دوما،
األشواَق الُم رتبطة بالحلول الثورية وأحالم ُنشدان عدالة قد تقتُل أمك في
شارع من شوارع العاصمة الجزائرية التي أحببتها حَّد الهوس الصوفي.
ولكَّن هذا الحاضَر الذي تمَّس كت به كان ثقيال جدا على الشعب الجزائري
إلى الدرجة التي لم يُعد ُم مكنا معها االعتقاُد بإمكان إصالحه .وفعال،
صديقي ،لم يكن االستعماُر الفرنسُّي جاهزا لالعتراف بكونه مثل وجها
من وجوه أمبريالية التاريخ الغربي الحديث القائم على العنف
والعنصرية .لم يكن االستعماُر جاهزا لتجاوز مركزيتة واالعتراف
باآلخر .ظل نظاما يقوُم على الظلم والالُم ساواة .ولم يكن هذا األمُر
ليزول إال بزواله باعتباره نظاما ُم تخلفا وغير إنساني .من هنا يبدو لي،
صديقي ،أنك كنَت ُتدافُع عن استمرار وضع لم يُعد بإمكانه االستمراُر
والعالُم يشهُد ،آنذاك ،يقظة الوعي القومِّي والوطني لشعوٍب عرفت
118
الوصاية التي مارسها ُم مثلو حداثٍة شَّو هت ميراَث األنوار .حداثة حبلت
بهيغل ونابوليون؛ بفكرة المركزية وسيف الفتح معا .كان يجُب تفكيك
العقل الحداثي التقدمي الحديث والكشف عن ُم ضمراته التي جعلت منه
عقال عنصريا ُم تمركزا على ذاته .وقد تكفل النقد الطليعُّي بذلك مع موجة
التفكيك التي فتحت أعين نرجس الغربي على التعدد في العالم.
لم يكن ُنبلك األخالقُّي كافيا لتجاوز تراجيديا التاريخ والتنبيه إلى
ُم مكنات التعايش بعيدًا عن دَّو امة العنف والُعنف الُم ضاد بعد اندالع حرب
التحرير الجزائرية .ولم يكن ُم مكنا أن ُيقّد َم االستعماُر اآلفُل تاريخيا،
آنذاك ،طبعة ُم نقحة من ُص ورته التي خبرها الجزائريون جّيًد ا وهم
ُيضطهدون وُيستغلون وُيهَّم شون في ظل نظام االستيطان والقهر
والتمييز منذ أكثر من قرن .لم تُعد فكرة اإلصالح نفسها مطلبا أو
مشروعا ناجحا للخروج من مآزق النزعة اإلنسانية الكالسيكية وهي
تكشُف عن صالفتها وأزمتها مع ذاتها ومع اآلخر .ربما كنَت ،صديقي،
آخَر من ُيمثُل يأَس الفكر األمبراطوري األوروبي الذي أفاَق على نهاياته
غير الَّس عيدة بعد انتفاضة األطراف والهوامش .أنا ،شخصيا ،ال أشك أبدًا
في صدقك وُح رقتك إلى العدالة والتآلف والحرية بعيدًا عن ُم مارسات
َس حق اإلنسان وتدجينه .ولكنك فضلَت الوقوَف إلى جانب األمر الواقع
الذي كَّر سُه االستعماُر تاريخيا ولم تستطع أن تخرَج من انحباسك
اإليديولوجي داخل قلعة فرنسا العنصرية .ظلت الجزائُر ،زمنا طويال،
أرضا عذراء تتكلُم بلغة الشمس والبحر وَم جد سماوات ثملة بغياب
119
اآللهة .كانت تيبازة وجميلة النضاختين بالضوء وبرياح الغبطة الالفحة
ولم تكن ذاكرة أو تاريخا أو شعبا حاولتم إنكاَر ُهوَّيته بكل الوسائل .لم
يكن لنا وجوٌد كامل في مجال فكركم المرئي كما ذهب إلى ذلك كاتب
ياسين بحق .كنا "عربا" ُيمثلون قوة عمل لفرنسا وعبئا ديمغرافيا
وسياسيا وأمنيا ال غير .لم يستطع حسك األخالقّي العالي أن يتجاوز
حدوَد التضامن والتعاطف إلى التفكير في ضرورة الثورة على ميراث
األمبراطورية .وأنت تعرُف ،صديقي ،أَّن العالَم لم يكن – في بداية
الخمسينيات من القرن الماضي – جاهزا إلقناع طفل األحالم التحررية
العريضة بحكمة عالمكم الشائخ.
4
لقد اختلفنا ،صديقي ،حول الجزائر ومصيرها وُم ستقبلها .ولكن لنقل:
إَّن قوة األشياء حكمت بصالحية التصور الجزائري وضرورته
التاريخية .وربما لن تنزعَج كثيرا إن قلُت لك إَّن استقالل الجزائر كان
أقرَب إلى العدالة التي ظللت تلهُج بها عبر مسارك اإلبداعِّي والفكري
الُم تميز .لقد احترمك الكثيُر من الجزائريين رغم رواسب الحنين
الكولونيالي الذي ظلت تنضُح به كتاباتك .نفهُم جِّيدًا أَّن دفَن األم أصعُب
على اإلنسان من أّي شيء آخر .ومن سوء حظك ،صديقي ،أنك رأيت
المرحلة تستعُّد لمراسيم القداس الجنائزي المهيب استعدادًا إلعالن موت
األم العظيمة التي نشأَت في كنفها وحاولت جاهدًا أن ُتطيل أمَد إقامتها
في عصر أصبَح يُم ج حضوَر ها .لم تكن لك تلك الحظوة التي جعلت بعَض
120
أسالفك يبتهجون بقتل األب في فعل تدشين مشهدي للعصر الحديث .لقد
ألقى عليك العصر اآلفُل ،خالفا لذلكُ ،بردته وانتدبك لتنوَب عنه في فعل
دفاع يائس عن األبوية .فكيَف لم تنتبه؟
أين ما كنَت تدعو إليه وأنت تلقي خطابك العظيم في حفل استالمك
جائزة نوبل يا صديقي؟ أين مهاُم الفنان كما فهمَتها في عصر سحَق
اإلنساَن وقتله ودَّج نه وأوقع طائر أشواقه وتطلعاته العميقة إلى الحرية
والعدالة في شباك النظرية وقد أصبحت ُم عتقال وزنزانة؟ ألم تقل إَّن
الفنان في عصرنا يجُب ،أخالقيا ،أال ينحاز إلى من يصنعون التاريخ
وإنما إلى ضحاياه؟ ألم نكن من ضحاياُه يا صديقي؟ فكيف اخترت أن
تنحاز إلى قوة التاريخ الكولونيالي األعمى الذي كتب سردية الفتح
واالضطهاد بدعوى تحُّم ل أعباء "الرجل األبيض" في تحضير "األمم
الُم توحشة"؟ كيف لم تتطَّهر من وحشية التاريخ وعنفه وعنصريته
انتصارًا لإلنسان الجزائري الذي لم يطلب أكثر من الحرية والكرامة
والُم ساواة؟ لم يكن كافيا أن تغتسَل بشمس تيبازة وبحرها كي تكوَن
جزائريا يا صديقي ،وإنما كان األجدر بك أن تدرك أَّن الجزائر ليست
جغرافيا خاوية من اإلنسان والتاريخ الطافح بأنين الُم عذبين وعذابات
المقهورين والُم ستَغلين .كان على فكركم الكولونيالي أن ينفتَح على
الُم ختِلف وأن يقبَل بتلك الزحزحة المأساوية التي جعلت قلعة المركزية
الغربية تتفتُت وتتآكل .أخشى أن أقوَل إنك ترَّددت في أن تكوَن طليعيا
كما عهدناك.
121
لقد انتصَر شعبي وانتصرت الُم قاومة التي قادتها "جبهة التحرير
الوطني" يا صديقي .كان االستقالُل السياسُّي بداية وعي األمة الجزائرية
بذاتها ،وُم نطلقا الستعادة ذاكرتها وبناء ُص ورتها الجديدة في أفق التطلع
إلى الحرية والعدالة والتنمية الشاملة .ولكننا لم ننتصر كثيرًا على
رواسب الماضي األبوي في سلوكنا السياسِّي وفي مشاريعنا النهضوية
والثقافية والتربوية .لم نستطع إحداَث القطيعة مع نظام الفكر القديم
ونحُن نستنجُد بنماذج التنمية التي اقترحتها إيديولوجياٌت وتجارب
ناهضة آنذاك .كنا نريُد خنَق رواسب الكولونيالية فينا فإذا بنا نبعُث
صورًا كثيرة من االستبداد واألحادية التي تجلت في غلبة العسكري على
السياسي ،وغلبة االنقالب والقوة على الشرعية التي طالما تغنينا بها.
أصبح االستقالُل يبدو ،شيئا فشيئا ،صورة أخرى من ُص ور اعتقال
الشعب الجزائري في زنزانة الفكر الواحد والحزب الواحد وعبادة
الزعيم .أصبحت الحرية ذكرى أو كلمة فارغة لم تجد لها موضع قدم في
عالم االحتكار الجديد الذي أبعد الشعب عن بيداغوجيا الُم شاركة الواعية
في صنع مصيره بكل سيادة .لقد وقعنا ،بكل أسٍف ،في ما كنت ُتحذر منه
دائما يا صديقي.
لقد كان على الدولة الوطنية الناشئة أن تتحَّم ل أعباَء دخول التاريخ
وأمانة صنع ُم ستقبل ُم ختلف ينبثُق معه الكيان الوطني السّيُد العادل،
وتنبثُق معه الُم واطنة الجزائرية بعد طول غياب .ولكَّن الديمقراطية التي
اعتمدناها في صيغتها الشعبية ظلت قناعا ُيخفي انتقاَم الرغبة األبوية
122
في إخضاع الُم ختلف ومحو التعددية ونمذجة الفكر والتفكير في الشعب
باعتباره رعية تحتاج دوما إلى وصاية .والغريُب في األمر أَّن االستبداد
السياسي كان يتبَّج ُح ُم علنا قدرته على تمثيل الشعب وتحقيق تطلعاته.
تلك غنائية الديمقراطية االشتراكية المعروفة .كأَّن معركة التنمية والبناء
كانت تتطلب كل ذلك الصخب اإليديولوجي الذي ال ُيمكنه أن يزدهَر إال مع
غياب العقل والعلم والُم شاركة السياسية الفعلية التي تكشُف عن حيوية
واقع تعددٍّي ورغبة في العيش الُم شترك .كانت ثقافتنا السياسية هزيلة
وُم مارساتنا كاشفة عن أعماق تعوُد إلى ما قبل الحداثة السياسية
والفكرية .لقد وقعنا في أسر الهرولة وراء التحديث الشكلي والتنمية
الكمية وأهملنا التنمية البشرية .وقد كان فشلنا ذريعا وُم دويا لوال فضائل
الريع النفطي الذي ظل روقة توت أخيرة تستُر ،دائما ،عورة نموذجنا
التنموي.
لعل أبرز ما يكشُف عن رواسب األحادية واألبوية التي انتفضت في
سلوكنا السياسي هو قضية الهوية الوطنية .ونحُن نعرُف أَّن الهوية
ظلت دائما ساحة صراع رمزي من أجل تبرير الهيمنة ومنح الشرعية
للسلطة القائمة .لقد ارتبطت الهوية بفكرة الثوابت التي برعنا في
استخدامها من أجل لجم كل حركية داخل المجتمع الجزائري ومن أجل
تأجيل مواعيدنا مع العصرنة والحداثة الفعلية واحترام حقوق اإلنسان.
لقد مثلت الهوية مسرَح تدافع علني شهَد حرَب مواقع بين أطراف
النزاع ،وظلت مساحيَق ُتلِّم ُع وجَه إرادة القوة التي صنعت تاريخنا
123
القريب .ظل اإلسالُم والعربية وجهين ُم هَّم ين يشكالن مخزونا رمزيا ذا
قدرة على االستخدام السياسِّي الناجع ،ولم يشكال انتماًء إلى فضاء
حضارٍّي عظيم ُم متد في الزمان والمكان .لم يكن اإلسالُم والعربية هوية
بالمعنى الكياني وإنما ورقة سياسية رابحة في يد قوى الُم حافظة
والَّر جعية من جهة أولى ،وفي يد جهاز الحكم الذي برع في اختزال
الفسيفساء الثقافية واللغوية واإلثنية الجزائرية إلى ُم كِّو ن ديني أو لغوي
واحد من جهة أخرى .هذا يكشُف ،بصورة سافرة ،عن تحول الهوية
المفتوحة إلى ُم جَّر د أداة إيديولوجية وعائق أمام االعتراف بالتعُّدد الذي
يبقى الشرط الضرورَّي للتعايش وبناء الُم واطنة بالمفهوم الحديث.
ُرَّبما يطرُح هذا األمُر مشكلة الديمقراطية في جزائَر ما بعد
االستقالل .فلم نعرف إال ُص ورًا ُم شوهة وُم بتسرة من "الديمقراطية
الشعبية" وأسلوبها الديماغوجي الُم بتذل في إدارة األمور وتناول
الُم شكالت .كانت ديمقراطية النخبة العسكرية التي اَّدعت ،طويال ،أنها
وكيلة على الشعب الُم غَّيب قسرًا عن حقه في بناء الُم ستقبل الُم شترك.
كانت ديمقراطية الحزب الواحد الذي شَّو ه كثيرًا اسَم "جبهة التحرير
الوطني" قائدة النضال ضَّد االستعمار الفرنسي .لقد كان هذا النموذج
السياسي /التنموي تجليا لرغبة سلطوية استبدادية تناغمت مع روح
اللحظة آنذاك إقليميا ودوليا والزمُن األمبراطوري يلفظ أنفاسه .ويسرني
صديقي ،هنا ،أن أحدثك عن فشل هذا النموذج وُس قوطه الُم دوي أواخر
القرن العشرين .فلم يكن من الُم مكن أن تستمَّر ثقافة الغوالغ السياسي
124
والشمولية الفكرية /اإليديولوجية واألحادية الحزبية في اعتقال
الشعوب وخنق تطلعاتها المشروعة إلى الحرية والكرامة واالنفتاح
السياسي والتعددية والُم شاركة الفعلية في بناء البيت الُم شترك .لقد كان
فشل هذا النموذج كارثيا في بالدي أيضا وكان حصاُده ُم رًا .ونحُن نعرُف
أَّن الجزائَر شهدت انتفاضة الشباب ضَّد انسداد آفاق األمل وضَّد االحتكار
والتهميش والفشل في تحقيق التنمية الُم توازنة .وما زاد من خطورة
األوضاع هو طلوُع شجرة األصولية الدينية اللعينة على أرض خيباتنا
وجحيمنا بأوُج هِه االقتصادية واالجتماعية .لقد أَّدى فقداُن البوصلة في
الجزائر الُم ستقلة إلى اعتصام الشباب بقشة الخالص الوحيدة التي
وفرتها االتجاهاُت الدينية الُم تطرفة .كان يجُب البحث عن االنتماء في
عالم فككته اإليديولوجيا الغوغائية ،وعن دفء المعنى في بلٍد لم يستطع
تحصيَن أجياله الطالعة تربويا وثقافيا ضَّد إمكان السقوط في التطرف.
إَّن الجزائَر لم تنجح في بناء دولة حديثة تستجيُب لتطلعات الشعب كما
حلم بذلك ُر َّو اُد حرب التحرير وُم حِّر ُر و بيان الفاتح من تشرين الثاني
(نوفمبر) .1954ما زال ينقصنا الكثيُر من أجل تحقيق نموذج الدولة
العصرية ودولة الُم ؤَّس سات الديمقراطية الُم عّبرة فعال عن حيوية الشعب
وُم كوناته بعيدًا عن منطق االحتكار وتهميش القوى الحية الُم بدعة ولجم
حركية الُم جتمع التعددي الناهض .فمنذ تَّم إبعاد النخب السياسية
الُم ستنيرة غداة االستقالل ما زالت دودة األحادية ورغبة الهيمنة الخفية
على الفضاء السوسيو -سياسي تنخُر كل ُم حاوالتنا في ترسيخ التقاليد
الديمقراطية في بلدنا.
125
5
صديقي الكبير ألبير،
لم أكن ألطلَب منك ،شخصيا ،أن تكوَن على غير ما كنت عليه .ال
يحُق لي أن أحاكَم حياة واعية وُح َّر ة وُم ناضلة بصورة الفتة وُم دهشة
كحياتك .ال يحُق لي أن أحاكَم أعمالك الفنية والفكرية العظيمة كما يفعُل
من يحملوَن في داخلهم سوطا ومنافَي وجالدين .ولكن ،بالمقابل ،رأيُت
أننا نختلُف قليال حول ما نحب .هذا ما يهّم ني .فجنوُن الحب ال ُيحاكُم وال
ُيدان .يكفي أن ُيفهَم ويكفي أن نستعيَد من أجله ،أحيانا ،التبرير الذي
ُتوفرُه قوة األشياء الَّس احقة .فاألهم أننا أحببنا الحرية والعدالة .أحببنا
أيضا ،وبنوع من التطرف ،انعتاَق اإلنسان والوعي من سالسل ماض لم
تشفع له سطوتُه في حجب حقيقة الهيمنة .وربما أِص بُت ،شخصيا،
بضربة شمس وأنا أقُع في أسر رغبتك العالية الُم دهشة في أن نحيا
كقِّديسين دون إله .هذا ميراثنا الُم شترك .ولهذا اعتبرتك صديقا .سأنقلك
إلى مدفن العظماء في قلبي الذي احتفى قبلك بالكثير من الذين علموني
الَّس ير الَّص عب على جسر هش يقوُد إلى بيت األرض .ولتنقلك فرنسا ،إن
شاءت ،إلى مدفن عظمائها استجابة لضغط ذاكرتها الكولونيالية .ال يهم.
فاألمران ُم ختلفان على ما أظن .الصداقة ليست سياسة ،كما أَّن السياسة
ليست صداقة .أعتقُد أَّن ضفتي الُم توسط تفهمان اآلن جِّيدًا ما أقول.
تحياتي وتقديري.
126
*****
إشارة:
ُنشرت مقاطع من هذه الرسالة المطولة في ملحق صحيفة "النصر" الثقافي
األسبوعي ( )05/11/2013وفي صحيفة "الخبر" ()15/11/2013
كما ُنشرت كاملة في كتابي "مفاتيح طروادة" (دار التكوين ،دمشق )2016
128
لقد كتبَت رسالتك العظيمة ،صديقي الكبير ،على ما أعتقُد ُم تسائال
حول أمرين ال يتعلقان بفلسفة كامو أو بُم نجزه اإلبداعِّي وإنما بشرعية
ُح ضوره بيننا اليوم في نقاشاتنا .لقد هالك أن ُيستعاَد كامو بالذات في
مئويته وهو الكاتُب الكولونيالي الذي لم ُيؤِّيد مسعى الجزائر الُم ستعَم رة
الَّر امي إلى االستقالل السياسي .كما رأيَت في وصفي لهذا الكاتب
بالَّص ديقُ ،رَّبما ،نوعا من الشطط األخالقي الذي ُيغدُق على كاتب ناضل
من أجل "الجزائر الفرنسية" ما ال يستحق من األوصاف والتوقير.
أحترُم رأيك صديقي عبد القادر كثيرًا ولكنني أذهُب مذهبا آخر في النظر
إلى األمور .فأنا لم أستحضر كامو في رسالتي الُم طَّو لة من أجل أن أقفز
على ذاكرة طافحة بالعذابات الُم رتبطة باالستعمار ،وإنما من أجل ُم حاولة
االنفتاح من جديٍد على أسئلة الذاكرة الُم نقسمة على نفسها ُم بتعدًا عن
تشنج القراءات األحادية النظر ،وُم راجعا مساَر ُم ثقٍف غربي االنتماء ظل
– رغم نزعته اإلنسانية الواضحة – حبيسا لُم حِّددات الحداثة الكالسيكية
في النظر إلى اآلخر نظرة ال تخرُج عن مركزية الغرب الظافر تاريخيا
وهو يفيُض بـ "أنواره" على العالم المفتوح في صورة استتباع
وإخضاع .إَّن كامو يرتبط بتاريخي الخاص كذلك ،وهو ُيمثل رؤية
فلسفية /سياسية طرحت مشروعها من أجل الخروج من مأزق
الكولونيالية التاريخي الذي أدركُه سن اليأس بعد انتفاضة األطراف
والهوامش .لقد نظرُت إلى كامو من هذه الزاوية وأنا أكتُب رسالتي إليه.
كان هِّم ي أن أنقَد بقايا النرجسية الثقافية في خطاب األنتلجنسيا الغربية
وانحباَس ها داخل نظرة استعالئية لآلخر الُم ختلف .لم أكن ألسقط في
129
أحبولة من يريُد تقديَم ُه في صورة جسر يصُل بين الجالد وساكن
الزنزانة ،أو في صورة مشروع ُم صالحٍة بين قابيل وهابيل .إَّن ضغط
الذاكرة ما زال حيا وقويا في جهتي الُم توِّس ط ،وما زال ترميُم ذلك األمر
بين الضفتين يتطلُب وقتا واعترافا من الجالد التاريخِّي بسقوطه
األخالقِّي والفكري والسياسي منذ حاَد عن قيم الحداثة التي بَّو أتُه مكانا
عليا في نظام الحضارة الحديثة .ال يزال ينتظُر نا عمل كبيٌر من أجل لملمة
أوصال التاريخ الُم توِّس طي والتأسيس لتاريخ ُم تضامن بين الشعوب
بعيًد ا عن "جدار برلين" اإليديولوجي /التاريخي كما حلم بذلك
البروفيسور الَّر احل محمد أركون.
ولكنني بالمقابل ،صديقي عبد القادر ،أردُت أال أقَع أيضا في خطاب
التسفيه المجانِّي وغير العارف بمكانة كامو وحقيقة مواقفه وأبعادها
األخالقية العظيمة التي ال ُيمكُن أن ُتنَك ر .إَّن ما ُيمّيُز هذا الكاتب هو
وقوفُه على ذروة أخالقية منيعٍة خارج ما ساد في عصره من تمذهب
إيديولوجي ُم غلق كان ُيبِّر ُر ،أحيانا ،سحَق اإلنسان وتدجيَنُه باسم
اليوتوبيا الثورية .لقد عاش كامو في عصر شهَد ظهوَر األديان العلمانية
الكبرى التي قادت اإلنساَن إلى جلجلة الَم حو تحقيقا إلرادة الحتمية
التاريخَّية العليا وقد أصبحت آلهة جديدة .كان انتظاُر "الَّص باحات التي
تغني" ُم بِّر ًر ا عند الكثيرين لوأد الحرية ونمذجة الفكر وجعل "الغوالغ"
مكانا طبيعيا لزنادقة العصر من الذين رفضوا االنصياَع للنبوءات
الجديدة وهي تبني طريَق الخالص التاريخِّي بالجماجم .إَّن كامو -الذي
130
رفض اليوتوبيا باسم الحياة ووعوَد األناجيل الدنيوية باسم الحاضر
الناتئ المليء -لم يكن ليقَع ،نظيَر سارتر مثال ،في تبرير سحق اإلنسان
أو الصمت أمام فظائع األنظمة الشمولية وهي تِع ُد بمجيء الفراديس
الوهمية .لم يقبل بالغايات البعيدة التي تقوُد إليها وسائل إجرامية رهيبة.
لقد كان أسيرًا لشمس الحاضر وثمال بغبطة الحرية الفادحة تحت
"الَّس ماء الفارغة" .كان مسكونا حَّد الَهوس بذلك الظمأ الحارق إلى
العدالة في عالم أطلَق من قمقمه مارَد العنف األعمى وهو يقُف على
أشالء اآللهة ويشهُد اضمحالل الغائيات الكبرى .لقد تقَّم َص زمَن
سيزيف الَّر تيب حالما بزمن الغبطة والخلق والعلو على أمل تاريخٍّي
قيصري رأى فيه يوتوبيا ُتهّدُد قلعة الحرية بعودة البرابرة الُج دد .لقد
كان ،في كلمة ،يقُف إلى جانب اإلنسان ال النظرية .وحتى إن كان سارتر
قد سَح ر الكثيَر من الجزائريين بمواقفه الَّر اديكالية البطولية،
وبُم عارضته الشجاعة لمنظومة العنصرية الكولونيالية فإَّن ذلك يجُب أال
ُينسينا ،أبًد ا ،أنُه خرج من رحم المنظومة الفكرية الثورية في تلوينها
الماركسي ،وهي ذاُت المنظومة النظرية التي جعلتُه يسكُت عن انتهاكات
الستالينية في بلدان أخرى .أليس كذلك؟ ُرَّبما كان اإلخالُص للنظرية
أعظَم من اإلخالص لإلنسان عند ُم فكري النظرية الثورية .لقد كانوا
يحملون الدوغماتية الفكرية العمياَء وُم حتشداِت االعتقال في أذهانهم.
أما كامو فأعتقُد – من هذه الزاوية – أنه استطاع التخلص من الوقوع
في شرك تبرير الجريمة التي ُم ورست على اإلنسان بصورة منهجية .لقد
رفض النظرية وساورُه شك عميٌق في قدرة الثورة التاريخية على
131
تحقيق خالص اإلنسان من اغترابه التاريخي .كان مسكونا بالحاضر ولم
يستطع أن ُيفكر في تقديمه قربانا على مذبح الُو عوِد الزائفة .من هنا
نفهُم دفاعُه عن الحاضر الكولونيالي ورغبَته المحُم ومة في إصالح ما
ُيمكُن إصالحه .هذا ما كان في بإمكانه التفكيُر فيه وهو يعيُش التراجيديا
الجزائرية من داخل المسرح الَّدامي باعتبارها قضيته ،ال بوصفه ُم تفِّر جا
أو ُم تعاطفا باسم القيم التي أصابها االبتذال عند ُم ثقفي المواقف الجاهزة
والُم علبة .كان ُيفِّك ُر في أِّم ه التي تعيُش بين "العرب" في مدينة الجزائر.
كان يريُد إصالح اللحظة ال االنقالب عليها وذلك باسم قيم العدالة
والكرامة اإلنسانية ،وباسم حِّبه للجزائر التي ظل يعتبُر ها بالَد ه األثيرة
كما نعلم جميعا .ولكَّن القيَم العظيمة التي دافع عنها كامو لم تستطع أن
تحتضَن – بصورة كافية -الجزائَر العميقة في أبعادها التاريخية
والثقافية واإلنسانية من وراء السطح الجغرافي الذي وفرتُه شمس
تيبازة وشواطئها الَّس احرة.
إَّن قراءة واعية وبصيرة ألعمال كامو وكتاباته حول الجزائر كفيلة
بأن توضَح الكثيَر من األمور .هو لم يكن ،بالطبع ،ثوريا أو صاحَب فكر
انقالبٍّي قد يغتبط بتهديم قلعة الحاضر ،وإنما حاول جاهدًا أن ُينقذ
حاضَر ُه الكولونيالي بالتفكير في جعل الجزائر بيتا ُم شتركا بين الُم عِّم رين
والجزائريين .كان يحلُم بعدالٍة تحقُق الُم ساواة وُتخرُج أبناَء شعبي من
وضع "األهالي" بتصحيح مسار الدولة الكولونيالية وجعلها تنفتُح على
الُم هَّم شين وضحايا االستعمار التقليدي .وقد فكر فعال في ضرورة العمل
132
على إنهاء الظلم االستعماري ال خروج فرنسا من الجزائر .فلم يكتب
كامو مديَح إشادة بفتح األندلس ولكنه عمل ما بوسعِه كي ال تكون
األندلس ،يوما ما ،فردوسا مفقودًا .هذه هي ُم شكلته .وهذه هي
التراجيديا التي جعلت منُه الُم دافع اليائَس عن "غرناطة" الزمن
الكولونيالي اآلفل .ورغم تنديده الواضح بالُم مارسات واألساليب
االستعمارية ونظام التمييز والقهر إال أنه لم يتجاوز هذا األمر إلى
الُم طالبة باستقالل الجزائر .كأَّن االستعمار آنذاك كان بإمكانه أن يتجاوز
نفسُه بتحقيق الُم ساواة بين سكان الجزائر على اختالفهم وإلحاقهم
بفرنسا األم .كان هذا حلما كامويا أثيرًا اعتقد كاتبنا أنُه يحقُق الحَّد األدنى
من العدالة المطلوبة في وضع ُم عّقٍد كالذي عرفتُه الجزائر آنذاك
بتركيبتها السكانية ووضعها االستراتيجي بالنسبة لفرنسا وبالنسبة
للغرب الليبرالي الذي وجد نفسُه في ُم واجهة المِّد الشيوعي السوفياتي.
لم يكن كامو جاهزا لالعتراف بشرعية الثورة على بقايا النظام
األمبراطورِّي العنصرِّي في فعل انعتاق لآلخر الذي لم يكتسب ،حتى تلك
اللحظة ،حَّق الوجود الكامل أو حَّق الخروج من وصايِة وضع كَّر سُه
عنُف التاريخ االستعماري.
هذا يعني ،صديقي عبد القادر ،أَّن اختالفي مع كامو كان ويظل
اختالفا سياسيا ال أخالقيا .لقد اختلفنا حول مصير الجزائر وُم ستقبلها
ولكننا لم نختلف حول مبادئ العدالة والكرامة البشرية والحرية وعدم
شرعية قتل اإلنسان تحت أي ظرف وأّيًا كانت األسباُب والغايات .اختلفنا
133
حول الِّص يغ التي تضمُن وضعا أفضل لإلنسان وهو يرُث وضعا تاريخيا
إشكاليا ،ولم نختلف حول القيم التي تضُع اإلنسان فوق النظرية وفوق ما
ُيمكُن أن ُيبِّر َر سحَقه من اعتبارات .إَّن كامو – وهذا ما يجعلني أعتبرُه
صديقا – لم يدُع إلى قتل أمي ولم ُيبِّر ر قتلها أبدًا .هذا هو األهم .ولكنني
اختلفُت معُه سياسيا عندما فكر في إصالح األوضاع بتحسين وضع أمي
ونقلها من وضع الجارية الُم ستباحة إلى مكانة المرأة الُح َّر ة الكريمة
ولكن داخل السراي األمبراطورِّي العتيق ذاته .هذه هي حُدوُد فكره
السياسِّي الذي لم يكن ُم تناغما مع لحظته التاريخية والعالُم يشهُد تفكَك
العصر األمبراطوري ويقظة القوميات والهوَّيات التي عانت طويال من
الطمس تحت سنابك االستعمار.
لعلك تعرُف ،صديقي عبد القادر ،أَّن كامو نفسه كتب رسائَل ذائعة
إلى األلماني النازي الذي احتل بالدُه ،ولم يتحَّر ج من مخاطبته باعتباره
صديقا ورَث معه عدمية الحضارة التي فقدت العلَّو ،ولكنه اختلف معُه
باحثا بحرقٍة عن العدالة في عالم الالعدالة األبدية .كان االختالُف كبيرًا
ويطال المبادَئ نفَس ها ،ومع ذلك ظل كامو أريحّيا وواثقا من انتصار
الحياة على غريزة الموت والتدمير واليأس في عالم أضاع المرجعيات
الُم تعالية التي كانت تضمُن عصمة القيم في الماضي .وأنا ،شخصيا ،لم
أكن ألعتبَر ُه صديقا لو رأيُت ملمحا واحدًا في كتاباته يدعو إلى قتل أمي
أو تبرير استعبادها واضطهادها .والمعروُف عنُه أنه لم يسقط في هذا
وهنا تكمُن بطولته األخالقية التي حاد عنها المذهبيون وهم يلوذون
134
بالنظرية وُيشيحون بوجوههم عن اإلنسان .هذا ما جعلني أعلُن اختالفي
السياسَّي مع كامو ،وهو اختالٌف ال ُيمكنُه أن ينسَف جسور التواصل
بيننا بصورة نهائية .فاألهم هو األساُس األخالقُّي لخطابه الذي استطاع
أن يصمَد أمام امتحان الزمن والتاريخ؛ وهو ما ُتفِّس رُه ،اليوم ،العودة
إلى استلهام فكره وحكمته في عالم أفاق على زيف اليوتوبيا التاريخية
التي طالما بَّر رت تغييب الناسوت احتفاًء بالهوت التعالي التاريخي
للنظرية الشمولية.
*****
إشارة:
(صحيفة "النصر" ،الملحق الثقافي األسبوعي "كراس الثقافة" / 12 / 03
.)2013
135
الكاتُب والباحث الجزائري أحمد دلباني:
يرى الكاتُب والباحث الجزائرُّي أحمد دلباني أَّن التاريخ سيبقى دائما
في موضع مساءلة كلما واجه العالم اليوم مشكالت تتعلق بالعيش
الُم شتَر ك واإلعداد للمستقبل ،على غرار حادثة مقتل جورج فلويد
136
بالواليات المتحدة والنقاش الذي خلفته عالميا حول تاريخ العبودية.
ونفس األمر مع تاريخ نابوليون بونابرت بفرنساُ ،م شيرًا إلى أَّن التاريخ
األمبراطوري أصبح اليوم في موضع مساءلٍة من طرف المستعَم رات
القديمة التي ترفُع مطالب كالحق في االعتراف واحترام ذاكرة العذابات.
وتوقف دلباني في حواره مع "القدس العربي" عند الجدل الذي
خلفته تصريحاُت النائب الجزائري السابق نور الدين آيت حمودة نجل
العقيد عميروش أحد أبرز القادة التاريخيين للثورة ،بسبب تخوينه
لرموز تاريخية من بينها األمير عبد القادر ،واعتبر أَّن التعامل مع قضية
استسالم األمير عبد القادر ال يمكُن النظر إليها إال من خالل البحث
والتقصي التاريخي ألسبابها العميقة ال من خالل إهدار الُبعد التاريخي
ومشروطيتها السوسيو – سياسية ،أو من خالل االندفاع السياسوي
الواضح الذي تمليه أجندات حزبية ضيقة ،ودعا في السياق إلى ضرورة
تحرير التاريخ من إرادة استخدامه ألغراض ال تخدُم المعرفة العلمية
الموضوعية.
ويرى أحمد دلباني في قضية حرب الذاكرة والقضية الفلسطينية ،بأَّن
مدينة القدس ليست محتلة عسكريا من قبل الدولة العبرية الصهيونية
فحسب ،بل هي أيضا مدينة يحتلها تاريخها الخاصُ ،م عتبرًا بأنه ال سبيل
إلى تحرير الحاضر من صراعاته إال بتحرير الذاكرة من األحادية
واالنغالق والمذهبيات التي ولدتها سياقاٌت تاريخية من المفروض أنها
انتهت مع لحظتها.
137
وأحمد دلباني كاتٌب وباحث جزائري مهتٌّم بقضايا الراهن الحضاري
ومشكالت اإلبداع والفن .صدرت له العديد من المؤلفات.
* سؤال :هل تقتصُر حرب الذاكرة على الدول التي عرفت مراحل
استعمار في تاريخها؟
أحمد دلباني :هذا صحيٌح إلى حٍّد بعيد .فالتاريخ األمبراطوري وجد نفسه
الحقا في مواجهة مكوناته العرقية والثقافية المركبة التي رفدتها
مستعمراته السابقة وشكلت قوة العمل الرئيسية فيه فضال عن الثقل
السياسي والثقافي الذي مثلته وأصبح يجهُر بمطالبه الحقوقية ومنها
الحق في االعتراف واحترام ذاكرة العذابات .لقد الحظنا منذ سنٍة تقريبا -
بعد وفاة المواطن األمريكي ذي األصول اإلفريقية جورج فلويد اختناقا
على يد شرطي -كيف أَّن هَّبة عالمية انتصرت للضحية ،بصورٍة
مدهشة ،وتولدت عنها مطالب بضرورة مراجعة التاريخ وتحطيم تماثيل
الشخصيات القومية والتاريخية التي كان لها دوٌر واضح في االستعباد
وتكريس الالمساواة واالضطهاد والتمييز العنصري في التاريخ الغربي
الحديث .رأينا هذا ،بالطبع ،في الواليات المتحدة نفسها وفي الضفة
األخرى من األطلسي أيضا أعني في أنجلترا وفرنسا باألخص.
كان األمُر ذا داللٍة بالغة وقد دفع بالنقاش بعيدًا في هذه البلدان ذات
الماضي االستعماري إلى طرح مشكلة السرديات الوطنية التي أصابها
انشقاٌق في العمق ولم تُعد ذات قدرة على توحيد الوعي باالنتماء إلى
138
األمة الواحدة .فبعُض صفحات التاريخ لم تُعد مرجعية تؤِّسُس لالفتخار
باألمجاد القومية وهذا انطالقا من وعي نقدي وتفكيكي حديث كشف عن
تمركزها الثقافي وانحيازها العرقي وممارساتها الُم ستهَج نة وغير
اإلنسانية .في مقابل ذلك انتدب فالسفة غربيون أنفَس هم – نظير لوك
فيري أو باسكال بروكنر -للدفاع عن التاريخ الغربي ،رغم المثالب
الكثيرة ،مركزين في العموم على كونه تاريخا تمَّيز -ال باالستعباد
والبربرية االستعمارية فحسب – وإنما أيضا بِع تق العبيد وتحريرهم
والتمكين للقيم اإلنسانية الحديثة شيئا فشيئا منذ "عصر األنوار" .لقد
تحدث ،مثال ،الفيلسوف الفرنسي آالن فنكلكروت أثناء دعوته في بيان
دَّبجه في ذات السياق إلى "ضرورة عدم المساس بالتاريخ الفرنسي
والحضارة الغربية" ُم نِّبها إلى أَّن "الثقافة الغربية هي وحدها التي
عرفت ألَم الشعور بالذنب" وإلى أَّن الحضارة األوروبية تملك وحدها
أيضا "القدرة على وضع نفسها موضع تساؤل ومراجعة" مطالبا بعدم
إسقاط هواجسنا وهمومنا النضالية الراهنة على الماضي .هذا يعني أَّن
مسائل التاريخ ستبقى دوما موضع استعادة وإعادة نظر كلما أفصح
الحاضر عن بعض مشكالته المتعلقة بالعيش المشترك واإلعداد
للمستقبل والتأسيس لحياة عامة ذات مرجعيات قادرة على احتضان
تطلعات الجميع إلى الحرية والعدالة والمساواة واالعتراف.
ال يفوتني هنا ،على سبيل التمثيل أيضا ،أن أذكر ما شهدته فرنسا
قبل نحو شهر خالل الذكرى المئوية الثانية لوفاة نابوليون بونابرت
139
وكيف انقسمت النخُب السياسية والثقافية والمجتمع المدني حول
الموقف من هذه الشخصية الفرنسية اإلشكالية والتي ظلت مدار إعجاب
واستهجان كبيرين جدًا منذ قرنين .لقد تجنب الرئيس ماكرون االحتفال
بهذه المناسبة وفضل إحياء الذكرى لالعتبار فقطُ ،م عتبرًا نابوليون إرثا
فرنسيا قَّدم الكثير لفرنسا ما بعد الثورة باعتباره قائدًا عسكريا وُم شِّر عا
ورجل دولة؛ ولكنه "خان روح األنوار" بحسب تعبيره عندما نَّص ب
نفسه أمبراطورًا وأعاد العمل بنظام الرق واالستعباد في المستعمرات
الفرنسية بعد أن ألغته الثورة الفرنسية .ما أردت أن أقول هو أَّن الحاضر
يجب أن يولد فينا شجاعة مجابهة التاريخ ومسؤولية النظر إليه بمعزل
عن لعبة التقديس والتوثين المجانية التي قد تخدُش ذاكرة األجيال
الالحقة في مجتمع متعدد ال تستقيُم حاله ولن يعرَف استقرارًا إال
باالعتراف بكل مكوناته مع ضرورة احترام ذاكرة الضحايا وَخ لِفهم من
األجيال الالحقة.
143
اإلنسانية كما يشهُد لذلك العام والخاص .وربما كان هذا األمُر مناسبة
سانحة من أجل التفكير جديا في إعادة بناء الذاكرة الوطنية الُم شتركة
باعتبارها فسيفساء ثقافية وتاريخية ونضالية ال يمكن اختزالها في ُبعٍد
واحد أو النظر إليها من زاويٍة ضيقة تحت اِّدعاءات تمثيل حقيقة التاريخ
الجزائري .فالنظر الفاحص والنقدي في التاريخ وما يطرحه من
مشكالت ،في اعتقادي ،ال يمكنه أن يكوَن مجاال لتصفية الحسابات كما
الحظنا مؤخرًا ،وإنما يجب أن يكون مناسبة لترميم الوعي المشطور
إيديولوجيا ولفضح إيديولوجيات اإلقصاء والتمويه ومزاعم االستمرارية
والوحدة المزعومة التي تختزل فسيفساَء الهوية في الصوت الواحد
والموقف الواحد .علينا العمل دائما على تحرير التاريخ من إرادة
استخدامه ألغراض ال تخدُم المعرفة العلمية الموضوعية والحقيقة
المغَّيبة وتجعله أداة سلطوية أو جدوال صغيًر ا يضمُن لطواحين الهيمنة
والسيطرة أداَء عملها بإحكام.
144
أحمد دلباني :ال يمكنني ،يا صديقي ،أن أغتبط بإجراءات سِّن قوانين
ردعية تجرجُر إلى المحاكم كل من ُيدلي بتصريح يتعلُق بالتاريخ الوطني
أو الشخصيات األثيرة .فاألفكاُر والمواقف ال مكان لها أمام القضاء
والمحاكم وإنما في فضاء النقاش العام وبين أيدي الباحثين والمفكرين
الُم ستقلين عن سلطة الترميز التي ترفُد السلطة القمعية الفعلية .إَّن ما
يجُب أن يكون مداَر متابعة قانونية وقضائية هو الجهُر بالنزوع
العنصري والدعوة إلى الكراهية والعنف أو التمييز بين الجزائريين على
أسس واهية .إَّن هناك خيطا رفيعا بين المنع السياسي والمنع القانوني –
األخالقي .ولنا ،باعتبارنا جزائريين ،أن نتذكر كيف أَّن مجرد ذكر أسماء
مصالي الحاج أو فرحات عباس أو كريم بلقاسم – رغم أهميتهم
التاريخية العظيمة في مسار الحركة الوطنية وحرب التحرير -كان يجلب
المتاعب والمضايقات إبان الستينات والسبعينات .فهل استوعبنا الدرس
جِّيدًا؟ هذا ما أردت أن أشيَر إليه من خالل تأكيدي على ضرورة تحرير
الذاكرة الوطنية من االستحواذ السياسي الفج .وحدها الذاكرة المنفتحة
قادرة على مصالحة الجزائريين مع أنفسهم في ظل االعتراف بكل
مكونات تاريخهم خالفا لتقلبات السياسة الظرفية وحساباتها
وصراعاتها.
145
ومصالحها .وما كتب خالل هذه الحقبة يعد مرجعا للكثيرين ويؤخذ على
أساس أنه الحقيقة الكاملة .إلى أي حد لغمت حرب الذاكرة تاريخ الجزائر
وال تزال تلغمه إلى اليوم؟
أحمد دلباني :فعال صديقي .أعتقُد معك أَّن التاريخ يكتبه الُم نتصر.
أو كما يقول محمود درويش إَّن أهل طروادة المهزومة لم يكتبوا
تاريخهم بعد .هذا أمٌر مؤكد .لقد الحظ الراحل الكبيُر إدوارد سعيد في
مقدمة كتابه األشهر "االستشراق" أَّن العالقة بين الغرب االستعماري
والشرق كانت كمثل تلك العالقة التي جمعت بين الكاتب الفرنسي فلوبير
والغانية المصرية كشك هانم .فنحن ال نعرُف عن هذه المرأة إال ما كتبه
فلوبير عنها .األمُر نفسه حدث مع االستعمار .فهو من كتب رواية
"تحضير الشعوب المتوحشة" انطالقا من خلفية ثقافية عرقية
وعنصرية .ألم يكن قانون تمجيد االستعمار الفرنسي يندرُج ضمن نفس
االنحرافات اإليديولوجية؟
هذا ما ُينيط بنا مسؤولية اإلسهام في كتابة التاريخ الطروادي من
منظور يتجاوز التحيز الغربي وإمالءات المركزية الحضارية للُم نتصر.
إَّن علينا ،في هذه المرحلة ،أن ُنعيَد قراءَة التاريخ نقديا بمعزل عن كل
أشكال المانوية األخالقية التبسيطية التي سرعان ما تتوَّر ط في تبرير
ممارسات الماضي أو شيطنتها بحسب مقتضى الظروف واألحوال وهو
ما وقفنا عليه ،كما أسلفت ،مع قانون 2005والذي طرح مشروَع
تزييف حقيقِة االستعمار التاريخية في شمال إفريقيا للتصويت كما الحظ
146
ذلك المفكُر تودوروف باستغراب واستهجان كبيرين .فهذا الماضي
الُم شترك بيننا وبين اآلخر ال يزال ذاكرة ضاغطة ُتلهُم السياسة والفكر
وتوقظ ،أحيانا ،نوستالجيا كولونيالية عند من ال يحب مواجهة نفسه
وتاريخه في الضفة األخرى من المتوسط مفضال أن يرفَع قَّداسا جنائزيا
لذكرى الفراديس المفقودة عوض التحلي بفضيلة االعتراف وإعادة
التأمل الفلسفِّي في عالقة قايين بهابيل أو الجالد بالضحية .إَّن ضغط
الذاكرة ال يزال حيا وقويا في جهتي الُم توسط؛ وفي اعتقادنا أَّن ترميَم
ذلك األمر بين الضفتين يتطلُب وقتا واعترافا من الجالد التاريخي
بسقوطه األخالقِّي والفكري والسياسي منذ حاَد عن قيم التنوير الحقيقية
زمن الحداثة التي بَّو أتُه مكانا عليا في نظام الحضارة الحديثة .ال يزال
ينتظُر نا عمل كبيٌر من أجل لملمة أوصال التاريخ الُم توِّس طي والتأسيس
لـ "تاريخ تضامني بين الشعوب" بعيًد ا عن "جدار برلين"
اإليديولوجي /التاريخي كما حلم بذلك ،ذات تأمل إنسانوٍّي ُم نفتح،
البروفيسور الجزائرُّي الَّر احل محمد أركون.
148
من هنا تلزُم ،ربما ،ذاكرة ُم ضادة ومنفتحة لمجابهة تاريخ الوحدانية
القائم على الدم وعلى صدام الثقافات .وقد عثر عليها أدونيس في الثقافة
الوثنية وفي إرث تلك العهود التي ارتبط فيها اإلنسان باألرض وباألسئلة
الكيانية وبالترحال في مفاوز المعنى البكر؛ وهذا كما جابه الفيلسوف
األلماني نيتشه من قبل تراثُه الثقافَّي المسيحي -القائم على طمس ينابيع
الحياة واإلبداع -باألزمنة الوثنية اليونانية التي احتفت بالجسد وأعلت
من شأن الشعور المأساوي بالحياة .فالرؤية الوحدانية تضمُر نزوعا إلى
إخضاع األرض ولجم العقل وكبح كل حراك تاريخي قد يمثل تجاوزا
لهيمنة األحادية الفكرية والسياسية .إذ كيف لـ " لشهوة المطلق" -وقد
لبست خوذة الُم حارب -أن تفتَح أفقا الزدهار اإلنسان وللتقدم التاريخي،
أو أن تؤِّسَس الحترام التعدد واالختالف؟
*****
إشارة:
149
ُنشرت هذه المحاورة في صحيفة "القدس العربي األسبوعي" (عدد 04تموز /
جويلية )2021
150
يتحَّد ُث الباحث أحمد دلباني في هذا الحوار عن قراءته لمشروع
محمد أركون ،ويسعى لإلجابة عن سؤال راهنيته الذي أثار الكثير من
الجدل.
* هل يمكن اليوم الحديُث عن راهنيٍة لمشروع محمد أركون؟
-أحمد دلباني :فعال ،علينا طرح السؤال :هل يمكننا الحديُث عن راهنية
ُم حتملة لمشروع هذا المفكر الممتد ألكثر من نصف قرن مضى في
مساءلة اإلسالم التاريخي وواقع المسلمين ورهانات التحديث وشروط
األنسنة؟ هل يمكننا ،بمعنى آخر ،إقامة حوار مع هذا المشروع الفكرِّي
في ضوء ما نشهُد اليوم من تغيرات ُم تسارعة على كل المستويات؟ هل
استطاع هذا المشروُع أن يصُم َد أمام امتحان التاريخ بعيدًا عن الشحوب
الذي يعلو عادة المشاريَع الفكرية في عصر قطع ،منذ زمن ،مع كل
نزوع شمولي وأصبح يحتفي – أكثر فأكثر – بالتفكيك ومراجعة
السرديات الكبرى والقالع الفلسفية المتصدعة بفعل االنقالبات المعرفية
ومآزق التاريخ؟ أليس من األجدى واألنفع أن نعكَف على مراجعة هذا
اإلرث الذي حاول تخليص المعنى من قمقم األحادية واالنغالق المذهبي
في حياتنا وتفكيرنا؟
إَّن هذا المفكر الذي ولد في الجزائر في النصف األول من القرن
العشرين ( )1928قد خبر ،منذ طفولته ،تلك الوضعية الصعبة التي كان
يعيشها معظم "األهالي" من أبناء جلدته زمَن الهيمنة الكولونيالية
الفرنسية .كما أتيح له أن يتعَّر َف عن كثب على تلك الهوة التي كانت
151
تفصل بين عالمين بشريين ُم تمايزين سوسيولوجيا وثقافيا ودينيا
وسياسيا .تلك اإلفاقة على جدران الفصل العنصري والهوياتي في
الجزائر الكولونيالية نَّبهته ،باكرًا ،إلى الشروط الصعبة التي كانت تزج
بالمصائر البشرية المختلفة في صدام ظلت تغذيه أشكال التنابذ وسوء
الفهم والُم سَّبقات الثقافية والالهوتية إزاء اآلخر المختلف .من هنا نفهم
كيف أَّن أركون الشاب ،آنذاك ،بدأ في بلورة مشروع طموح – سيأخذ
أبعادًا كونية فيما بعد – يتمثل في محاولة تدشين نزعٍة إنسانية جديدة
وتاريخ تضامني بين الشعوب من خالل االستثمار في الدرس
األنتروبولوجي والتاريخ النقدي وفتوحات العلوم اإلنسانية والتناول
الفلسفي المعاصر لمسألة المعنى .كان ذلك توجها واثقا نحو خلخلة
األُس س التي يقوم عليها العقل األوروبي الموروث عن "األنوار" إبان
عنفوانه األول الذي جعل منه ينبوعا للنبذ والمركزية والعنصرية.
لقد كان االستعماُر – باعتباره شكال من أشكال العنف التاريخِّي الذي
بَّر ره العقل التاريخُّي التقدمي – هدفا للتناول النقدي الجذري بغية
الكشف عن تهافته اإلبستيمولوجي واألخالقي واإلنساني بعامة .لقد كان
أركون ،بهذا المعنى ،من أوائل الذين أرادوا كسَر الحواجز التاريخية بين
منظومات الفكر الالهوتي والكشف عن أسسها األنتروبولوجية الواحدة
ورأس المال الرمزي المشترك بينها .إَّن "جدار برلين" الالهوتي
واإليديولوجي الذي انتصب بين ضفتي المتوسط منذ قرون لم يكن
بإمكانه الصمود أمام تقدم الوعي النقدي وتراكم المعرفة المحررة من
152
أسر الفكر المذهبي الشمولي والعقائدي المغلق؛ الشيء الذي الحظناه
عند مفكرنا وهو يفتح أضابير الالمفكر فيه ،ويطرح أسئلة غير مسبوقة
على اإلسالم ،ويقدم إسهامه في التجديد المنهجي لدراسة الظاهرة
الدينية في عمومها من خالل دمج المثال اإلسالمي ضمن برنامج ضخم
لألنتروبولوجيا الدينية متخلص من تأثيرات الُم سَّبقات التي ظلت تأسر
الوعي في زنزانة "الفضاء العقلي القروسطي".
*****
إشارة:
ُنشرت المحاورة في صحيفة "الخبر "7األسبوعية (من 23إلى 29تشرين األول
/أكتوبر )2020
156
157