You are on page 1of 59

‫عالقة الهوية القومية‬

‫بظاهرة العولمة‬
‫الدبلوم العالي لعلم االجتماع التطبيقي‬
‫قضايا المجتمع السوداني المعاصر‪2‬‬
‫محاضرة رقم(‪)3‬‬
‫‪:‬المحاضرة تعتمد على مقال كتبه االستاذ‬
‫محمد عادل التريكي‬

‫‪2‬‬
‫‪ :‬تمهيد‬
‫يثري موضوع الهوية والعولمة من األسئلة أكثر مما يقدم من األجوبة وهو ‪-‬كاملوضوعات اليت ال‬
‫تزال مصطلحاهتا ومد لوالهتا يف مرحلة التكون ‪ -‬حيتاج إىل التوقف عند األسئلة اليت يثريها لعلها تفتح‬
‫مغاليقه‪ .‬وإذا كان اإلسراع إىل اإلجابة قد يوقع يف الزلل‪ ،‬فإن الرتيث عند األسئلة وتأملها قد يتيح جماال‬
‫‪ :‬للتأمل والتدبر‪ ،‬ولتحقيق ذلك رمبا كان من الطبيعي ملن يبحث هذا املوضوع أن يتساءل‬
‫م ا العولم ة ؟ ه ل ه ي ظاهرة جديدة مس تحدثة يف هذه الس نوات القريب ة؟ أ و أهن ا لف ظ جدي د‬
‫للتعبري عن واقع قدمي كان مالزما جلميع احلضارات الكربى واإلمرباطوريات العظمى اليت استخدمت‬
‫قوهتا ‪-‬خالل عصور التاريخ‪ -‬لبسط نفوذها ونشر مبادئها وحتقيق مصاحلها ؟‬
‫فه ل كان امتداد الس يطرة الروماني ة ‪-‬مثال‪ -‬عل ى العامل املعروف يف زماهن ا‪ ،‬ونش ر أنظمته ا يف‬
‫احلكم وأمناط حياهتا السياسية واالجتماعية والثقافية نوعا من العولمة ؟‬

‫‪3‬‬
‫وماذا نسمي ما رسخته بريطانيا يف األقطار اليت احتلتها واليت كانت ال تغيب‬
‫عنها الشمس ؟ ألسنا نرى أن اللغة وأساليب التفكري وأمناط احلياة اإلجنليزية ال تزال‬
‫سائدة يف أكثر تلك األقطار ؟‬
‫أال يدل وجود منظمة الكومونولث على التشبث ببقايا ما كان ؟‬
‫هل كل ذلك عوملة أو شكل من أشكاهلا ؟‬
‫وليس من احلتم أن تكون هاتان احلالتان وأمثاهلا يف التاريخ متطابقة ليكون‬
‫اجلواب باإلجياب‪ ،‬فضرب األمثلة وتوضيح األفكار يكفي فيهما التشابه والتقارب‬
‫‪.‬والقياس دائما مع الفارق‬
‫‪ :‬وكذلك البد ملن يتصدى هلذا املوضوع من أن يتساءل‬
‫هل العولمة يف صورهتا املعاصرة هي األمركة؟ وإذا كانت كذلك‪ ،‬هل هي من‬
‫أنواع االستعمار اجلديد الذي يتحقق دون وجود جيش حمتل ؟‬
‫وهو سؤال يشتد اخلالف بني اجمليبني عنه من مؤيد ومفند‪ .‬ومن أجل ذلك حيتاج‬
‫مرجح واضح‬
‫‪.‬اجلواب إىل قدر من التمحيص حىت تطمئن النفس إىل ترجيح يستند على ِّ‬

‫‪4‬‬
‫وتس اؤل ثالث‪..‬ه ل نس تطيع حق ا أ ن نفص ل بني العولم ة وتقلي ص اهلويات القومي ة‬
‫والدينية للشعوب أ و القضاء عليها‪ ،‬مب ا تتضمن ه تل ك اهلويات م ن ثقافة ولغة وتقالي د وأمناط‬
‫حياة ؟ وإذا كان جواب الس ؤال األول ع ن ص نيع احلضارات العظم ى واإلم رباطوريات‬
‫الك ربى ه و أ ن هذا الص نيع عولمةً‪ ،‬فه ل اس تطاعت تل ك العولم ة أ ن تقض ي عل ى هويات‬
‫األمم والشعوب األخرى‪ .‬أو أن اإلمرباطوريات زالت وبقيت القوميات والثقافات واألديان‬
‫املتعددة املختلفة ؟‬
‫فكان بذل ك تأثري العولم ة وقتي ا‪ ،‬أم ا تأثري القوميات واألديان فق د كان ت ل ه الغلب ة‬
‫والبقاء ‪ .‬والبد من التنبه للفرق الشاسع بني العصور القدمية وعصرنا احلاضر بوسائل اتصاله‬
‫‪ .‬وشبكات معلوماته وقُدرته على التغلغل والسيطرة‬
‫وتس اؤل رابع‪ ..‬ه ل تتناق ض العولم ة م ع الدميقراطي ة وم ع التعددي ة الثقافي ة والتنوع‬
‫احلضاري ؟ إذا كان ت تتناق ض م ع ك ل ذل ك حبك م حماولتِه ا الس يطرة والس يادة واالنفراد‪،‬‬
‫وحبك م نشره ا منوذجاً واحداً ومنطاً بعين ه يف االقتص اد ويف الثقاف ة واالجتماع –ومه ا منوذج‬
‫ومنط ينتميان إىل حضارة واحدة يف جمموعها‪ ،‬بل إىل جمتمع واحد – فما هو موقف الدولة‬
‫العظمى اليت طاملا دعت إىل الدميقراطية وحقوق اإلنسان‪ ،‬وفَرضت على الدول اليت تنتقص‬
‫منهما‪ ،‬أنواعا من العقوبات مثل احلصار واملقاطعة؟ أليس هذا مثال من أمثلة ازدواجية املعايري؟‬
‫‪5‬‬
‫وتس اؤل خامس ‪..‬ه ل العولم ة تنته ي حقاً بالتفاه م الدويل‬
‫والسالم العاملي والتقارب بني الشعوب ؟ أو أهنا البد ستثري مقاومةَ‬
‫تلك الشعوب دفاعا عن هويتها ومقومات شخصيتها‪ ،‬وبذلك تكون‬
‫العولم ة ق د َنثَرت بذور احلروب وأنواع الص راع بدل أ ن تنش ر‬
‫السالم ؟‬
‫وأخريا وليس آخرا‪..‬ما هي تأثريات العولمة يف العامل؟ وكيف‬
‫‪ ‬ميكن للعرب التعامل معها ؟‬
‫ولس ت أدري أكان ت هذه األس ئلة موضوعي ة حمايدة أ م أ ن‬
‫ص ياغتها محل ت بع ض فك ر الس ائل وأومأ ت إىل اإلجاب ة إمياءاً عام ا‬
‫‪ .‬يدل على اجتاهه وموقفه‬
‫ومهما يكن من أمر فال بد من حماولة اإلجابة عن بعض تلك األسئلة‬
‫‪ .‬دون التقيد بتسلسلها وترتيبها‬
‫‪6‬‬
‫مفهوم العولمة‬
‫وأول م ا نق ف عنده قضي ة املص طلح ‪..‬فال أشع ر باحلرج م ن‬
‫اس تعمال مصطلح "العولمة " ومن تأصيله يف اللغة العربية‪ .‬إذ أن‬
‫الوزن الص ريف " َف ْو َع َل " ‪-‬فعال وإمس ا‪ -‬ه و م ن أبني ة املوازي ن‬
‫ف‪ ،‬ومصدره‬ ‫‪:‬ضعُ َ‬‫الصرفية ومن الشواهد على ذلك‪َ ،‬ح ْوقَ َل الرجل َ‬
‫"ح ْو َقلَةٌ "‪ ،‬وقالوا ‪َ :‬كو َكبةٌ‬ ‫فـ‬ ‫القياسي‬ ‫مصدره‬ ‫أما‬ ‫يقال‪.‬‬ ‫السماعي ِ‬
‫ح‬
‫َ‬
‫يف االس م‪ .‬ومم ا جاء يف وزن َف ْو َع َل ‪ :‬ال َف ْولَ ف‪ :‬ك ل شي ء يغط ي‬
‫ب ‪ :‬لولب‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫و‬‫ل‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫للعقرب‪.‬‬ ‫إسم‬ ‫‪:‬‬ ‫ب‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫و‬ ‫وش‬
‫َ‬ ‫‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫ج‬ ‫ح‬‫شيئا‪ ،‬و َفوقَل ‪ :‬لِْل ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬
‫وب ْلورة‬
‫املاء‪ .‬والن َّْو َرج والن َّْو َر َجةُ ‪ ،‬وم ن كالم احملُ َدثني ‪َ :‬ق ْولَب ة َ‬
‫‪.‬وح ْوسبة‪..‬وما جرى على كالم العرب فهو من كالم العرب‬ ‫َ‬
‫‪7‬‬
‫ف ا لعولم ة "ش أهُن ا ش أ ن" ا لهوي ة " و " ا حلداث ة أ و ا حلداثي ة " و "‬
‫"ا لدمي قراطية " و"حقوقا إلنسان" و " ا خلوصصة " أو " ا خلصخصة أو ا لتخاصية‬
‫"و" ا لنظام ا لعا مل اي جلدي د "وبع ضا مل ص طلحاتوا أللفاظ ا ألخرىا لشائع ة م ن ذ‬
‫ات ليت ال ت زا يل كتنفه ا ا لغموض‪ ،‬وا ليت ي ذه بب ع ضا لنقاد وا ملبدعني‬ ‫س نو ا‬
‫اهبخم تلفة يف ف هم اه وتعر يفها وتفسريها‪ ،‬ولذل كت أيت‬ ‫وا حمل للني ا الجتماعيني مذ َ‬
‫نطلقات‬
‫‪،‬‬ ‫أحكامهم أحيانا غ امضةٌ ومتباعدةٌ ب سببغموضمنطلقاهت م واختالفهذه ا مل‬
‫حىت أصبح ا لباحثونيف هذا ا ملوضوع وا مل تحدثونعنه ي تساءل ون‪ :‬هلم ان ألفضلأن‬
‫تُ رتك هذه ا أللفاظ وا مل صطلحاتوأمثا هلُا دونحت ديد (ر مبا أل هن ا ب طبيعتها غري‬
‫ق ابلة ل لتّحديد)‪ .‬وأنيُ تح ّدثعنب عضمظاهرها ونتائجها وعالقتها ب غريها‪ ،‬اعتمادا‬
‫طلحات‬
‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مشرتك م ان لفه م ب ني ا مل تحدِّثني ع نهذه ا أللفاظ وا مل ص‬ ‫عل ىُوجود ق دٍر‬
‫تحليالت ىلا آلخر ينمهما اختلفوا يف ا لتفصيالتوا لفروع‬
‫إ‬ ‫‪.‬يُ تيح ت وصيلا آلراء وا ل‬
‫ا لفرنسية ا ليت " ‪ " MONDIALISATION‬ا لعولمة " ت رمجة ل كلمة "‬
‫ب لىا لالمحدود‬ ‫جعل ا لشيء علىمستوىع ا مل ‪،‬ي أ ين قله م نا لمحدود ا لمراق إ‬ ‫تعين ُ‬
‫‪.‬ا لذييَ نأىعنك لمراقبة‬

‫‪8‬‬
‫افية ومبر ٍ‬
‫اقبة‬ ‫ٍ‬
‫حبدود جغر ٍ‬ ‫واحملدود هن ا ه و أس اساً الدول ة القومي ة اليت تتمي ز‬
‫ٍ‬
‫صارمة على مستوى اجلمارك ‪ :‬تَ ُّنق ل البضائع و ِّ‬
‫الس لع‪ ،‬إضافة إىل محاية ما بداخلها‬
‫من أي خط ٍر أو ُّ‬
‫تدخ ٍل خارج ٍي‪ ،‬سواءٌ تعلق األمر باالقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة‪.‬‬
‫‪.‬أما الالَّحمدود فاملقصود به " العامل "‪ ،‬أي الكرة األرضية‬
‫فالعولمة إذن‪..‬تتضمن معىن إلغاء حدود الدولة القومية يف اجملال االقتصادي‬
‫فضاء يشمل‬‫(املايل والتجاري) وترك األمور تتحرك يف هذا اجملال عرب العامل وداخل ٍ‬
‫الكرة األرضية مجيعها‪ .‬ومن هنا يُطرح مصري الدولة القومية‪ ،‬الدولة ‪/‬األمة‪ ،‬يف زمن‬
‫‪ .‬تسوده العولمة هبذا املعىن‬
‫عل ى أ ن الكلم ة الفرنس ية املذكورة إمن ا ه ي ترمج ة لكلم ة‬
‫اإلجنليزي ة اليت ظهرت أول م ا ظهرت يف الواليات املتحدة ‪GLOBALIZATION‬‬
‫األمريكية‪ .‬وهي تفيد معىن تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل‪ ،‬الشيء الذي‬
‫حبثت ع ن املص طلح يف معج م‬ ‫وجدتُ ه حينم ا ُ‬ ‫الذي ] ‪-WEBSTER ‘S‬ويبس رتز [ َ‬
‫يقول‪ ":‬العولم ة ه ي إكس اب الشي ء طاب ع العاملي ة وخباص ة جع ل نطاق الشي ء أ و‬
‫‪ ".‬تطبيقه عامليا‬
‫‪9‬‬
‫ألفيت أن هذا املعىن شديد الرباءة بالغ احليدة‪ ،‬ال ينسجم يف عمقه مع‬ ‫ولكين ُ‬
‫‪.‬داللة اللفظ ومفهوم املصطلح كما يُشاع يف العامل اليوم‬
‫ات ع ن العولمة ‪ .‬أ و‬ ‫وهن ا الب د من وقف ة نس تقبل فيه ا م ا صدر م ن تصور ٍ‬
‫يفات توذن هب ا‪ ،‬وإ ن مل تبل غ الص حة والدق ة املطلوبتني يف احلدود حبك م أ ن‬ ‫تعر ٍ‬
‫غامض‪ ،‬أو غائم مل يتم تَ َش ُّكلُه تَ ُّ‬
‫شكالً هنائيا بعد‬ ‫ف‬ ‫‪ .‬العولمة أمر أَنِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫يعتق د الدكتور محم د عاب د الجابري أهن ا نظام أ و نس ق ذو أبعاد تتجاوز‬
‫دائرة االقتصاد‪ ،‬وأهنا نظام عاملي يشمل املال والتسويق واملبادالت واالتصال‪ ،‬كما‬
‫‪.‬يشمل أيضا جمال السياسة والفكر واأليديولوجيات[‪]1‬‬
‫وق د مياش ي هذا التص ور إىل ح د م ا القول بأ ن العولم ة عبارة ع ن القولب ة‬
‫الكلي ة لألحادي ة األكث ر اتس اعا ومشولي ة‪ ،‬تنجرف إليه ا األوضاع الدولي ة مدفوع ة‬
‫‪.‬حنوها بالثورتني االقتصادية واملعلوماتية املذهلة[‪]2‬‬

‫‪.‬أسئلة جي ابلوعيهب ا ‪ ..‬ا لدكتور حم مد ع ابد ا جلابري‪..‬ا لشرقا ألوسط ‪[1] 4/2/1997‬‬
‫‪ .‬مأزقإيديولوجيا ا لعومل ة‪..‬ا لسيد ولد أباه ‪..‬ا لشرقا ألوسط ‪[2] 2/2/1997‬‬

‫‪10‬‬
‫وجاءت بعض التصورات ناظرة يف استمداد حقيقة العولمة إىل العالقة اليت‬
‫يُفرتض أن تقوم بني املتقدم والنامي من الدول‪ ،‬وبني الغين والفقري منها‪ .‬فهي تعين يف‬
‫إطالق األس تاذ عل ي أحم د س ليمان‪-‬أستاذ عل م االقتص اد ‪-‬حتقي ق اندماج البلدان‬
‫وفعالة يف األسواق العاملي ة ‪.‬وال يقف هذا‬ ‫النامي ة (دول العامل الثالث) بدرج ة أكرب َّ‬
‫االندماج يف األسواق العاملية عند تصدير السلع فقط‪ ،‬ولكنه يتجاوز ذلك فيشمل‬
‫‪.‬اخلدمات ورؤوس األموال[‪]1‬‬
‫وخيتلف عن هذه التصورات القول بأن العولمة موجةٌ جديدةٌ اقتصادية تلي‬
‫الثورة الزراعي ة والثورة الص ناعية‪ ،‬وأهن ا أعل ى مراح ل الرأمس الية اجلديدة اليت أفرزهت ا‬
‫‪.‬الثورة املعلوماتية وما يرافقها من تطور يف جَمَايَل ْ االتصال واإلعالم[‪]2‬‬

‫‪.‬ا ألموا ل‪..‬س ‪ 1‬ع ‪ 2‬ص‪[1] 118 :‬‬


‫‪.‬ا لشرقا ألوسط ‪[2] 2/2/1997‬‬
‫‪11‬‬
‫القصد من العولمة توسيع النموذج األمريكي وفسح‬
‫َ‬ ‫وتؤكد تصورات أخرى أن‬
‫اجملال ل ه ليشم ل العامل كل ه‪ ،‬فه ي بذل ك ترادف األمركة‪ .‬ويشدد فريدمان عل ى هذه‬
‫احلقيق ة حــني يُص رح يف اعتداد وزه ٍو ‪ « :‬حن ن أمام معارك س ياسية وحضاري ة فظيع ة‪،‬‬
‫العولمة هي األمركـة والواليات املتحدة قوة جمنونة‪ ،‬حنن قوةٌ ثورةٌ خطريةٌ‪ ،‬وأولئك الذين‬
‫خَي َشوننا على حق‪ ،‬إن صندوق النقد الدويل قطة أليفة باملقارنة مع العولمة‪ ،‬يف املاضي‬
‫‪.‬كان الكبري يأكل البطيء »[‪]1‬‬
‫واملتأمل يف هذه التصورات جيدها كلها متطابقة يف اجلملة من حيث املوضــوع‪،‬‬
‫وإن ظهرت مع ذلك متفاوتة مبا امتدت إليه من اهتمامات عند حماولة التعريف باحلقيقة‬
‫الواحدة‪ ،‬ولعل السبيل إىل وضع حد كامل سيتجلى لنا بعد من خالل املؤسسات القائمة‬
‫إلجنـاز العولمة‪ ،‬ومن االتفاقيات الصادرة عنها هنا وهناك بني الدول يف العامل‪ ،‬مشاركة‬
‫منه ا يف بناء النظام االقتص ادي الشام ل اجلدي د‪ ،‬وإشاع ة ل ه يف أطراف املعمورة رغ م‬
‫ترددها يف االنتماء إليه واإلس هـام فيه بدعوى أن العولمة عندها ليست يف واقع األمر‬
‫‪.‬شيئا آخر سوى ربط الوطن‪ ،‬خارج التاريخ[‪]2‬‬

‫‪.‬ا لشرقا ألوسط ‪[1] 2/3/1997‬‬


‫‪.‬إيديولوجيا ا لعومل ة ا إلمرباطورية ا لعا مل ية‪..‬د‪/‬حم مد ع ابد ا جلابري‪..‬ا لشرقا ألوسط ‪[2] 6/2/1997‬‬ ‫‪12‬‬
‫والعولمة يف أصلها اقتصادية‪ ،‬قائمة على إزالة احلواجز واحلدود أمام حركة‬
‫التجارة‪ ،‬إلتاحة حرية تنقل السلع ورأس املال‪ .‬ومع أن االقتصاد والتجارة مقصودان‬
‫لذاهتم ا يف العولم ة‪ ،‬إال أهن ا ال تقتص ر عليهم ا وحدمه ا وإمن ا تتجاوزمه ا إىل احلياة‬
‫الثقافية واحلياة االجتماعية مبا تتضمنانه من أمناط سلوكية ومذاهب فكرية و مواقف‬
‫‪.‬نفسية‪ ،‬وكل ذلك هو الذي يصوغ هويــة الشعوب واألمم واألفراد‬
‫أول مظاهر العولمة هو تركيز النشاط االقتصادي على الصعيد‬ ‫وإذن‪ ..‬فإن َ‬
‫العامل ي يف ي د جمموع ة قليل ة العدد وبالتايل هتمي ش الباق ي وإقص اؤه باملرة‪ .‬وم ن هن ا‬
‫ظاهرة "التفاوت"[‪ -]1‬عل ى ح د قول الدكتور محم د عاب د الجابري– املالزم ة‬
‫لظاهرة الرتكي ز اليت م ن هذا النوع‪ .‬التفاوت بني الدول ‪..‬والتفاوت داخ ل الدول ة‬
‫الواحدة‪ ،‬ومن األمثلة اليت يوردها االختصاصيون يف هذا اجملال لتوضيح هذه الظاهرة‬
‫‪:‬نقتبس ما يلي‬

‫اسات لوحدة ا لعر بية ‪..‬ا لطبعة ا ألوىل ي ونيو ]‪[1‬‬


‫ق ضايا يف ا لفكر ا مل عاصر‪.‬د‪/‬حم مد ع ابد ا جلابري‪.‬مركز در ا‬
‫ريوتص‪140 :‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪ – 1997.‬ب‬
‫‪13‬‬
‫إ ن مخ س دول ه ي‪ :‬الواليات املتحدة األمريكي ة ‪..‬واليابان‪ ..‬وفرنس ا‪..‬‬
‫وأملانيا‪..‬وبريطانيا‪ ..‬تتوزع فيم ا بينه ا ‪ 172‬شرك ة م ن أص ل ‪ 200‬م ن أك رب‬
‫الشركات العاملية‪ .‬وهذه الشركات املائتان العمالق ة ه ي اليت تس يطر عملي ا عل ى‬
‫االقتصاد العاملي‪ ،‬وهي ماضية يف إحكام سيطرهتا عليه‪ ،‬إذ ارتفعت استثماراهتا يف‬
‫مجيع أحناء العامل ويف املدة ما بني ‪ 1992-1983‬بوتائر سريعة جدا‪ :‬أربع مرات يف‬
‫جمال اإلنتاج‪ ،‬وثالث مرات يف جمال املبادالت العاملية‪ .‬ويف تقري ر لألم م املتحدة أ ن‬
‫‪ 358‬شخصا من كبار األثرياء يف العامل يساوي حجم مصادر ثروهتم النقدية حجم‬
‫املص ادر اليت يعي ش منه ا ملياران وثالمثائ ة مليون شخ ص م ن فقراء العامل‪..‬وبعبارة‬
‫أخرى‪..‬إن عشرين يف املائة من كبار أغنياء العامل يقتسمون فيما بينهم مثانني يف املائة‬
‫من اإلنتاج الداخلي اخلام على العاملي‪ ،‬وأن الغِىن والثروة ارتفعا بنسبة ستني باملائة يف‬
‫الواليات املتحدة األمريكي ة بني عام ي ‪ 1995-1975‬غري أ ن املس تفيدين م ن هذا‬
‫االرتفاع الك بري يف الغىن والثروة ال يتجاوز عدده م نس بة واح د باملائ ة م ن الشع ب‬
‫األمريك ي ونف س الظاهرة تس تشري اليوم‪ ،‬وبس رعة يف أورب ا حي ث يُفرض نظام‬
‫العولم ة عليه ا‪ ،‬مب ا يقتضي ه م ن منافس ة حادة‪ ،‬التخفي ض م ن التعويضات واخلدمات‬
‫‪.‬االجتماعية بصورة رهيبة‪ ،‬وهي فوارق قائمة أصال وبشكل واسع‬

‫‪14‬‬
‫وإذن‪..‬فم ن النتائ ج املباشرة للعومل ة تعمي م الفقر‪ ،‬وه و نتيج ة حتمي ة لتعمي ق‬
‫التفاوت‪ .‬إ ن القاعدة االقتص ادية اليت حتك م اقتص اد العولم ة ه ي‪" :‬إنتاج أكث ر م ا‬
‫يمكن من الس ــلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمل "‪ .‬إنه منطق املنافسة يف‬
‫إطار العولمة‪ ،‬ومن هنا نالحظ أن الظاهرة املالزمة للعوملة وربيبتها اخلوصصة هي‬
‫‪.‬تسريح العمال واملوظفني‬
‫والنتيج ة اليت يس تخلصها الباحثون واملختص ون يف هذا اجملال ه ي التالي ة‪ :‬إذا‬
‫كان النمـو االقتص ادي يف املاض ي خيل ق مناص ب الشغ ل‪ ،‬فإ ن النم و االقتص ادي يف‬
‫إطار العولمة والليربالي ة املتوحش ة يؤدي –ويتوق ف عل ى‪ -‬ختفي ض مناص ب الشغل‪.‬‬
‫إ ن بع ض القطاعات يف جمــال اإللكرتونيـات واإلعالميـات واالتص ال‪ ،‬وه ي م ن‬
‫القطاعات األكثر رواجا يف العامل‪ ،‬ال حتتـاج إال إىل عدد قليل من العمـال‪ .‬إن التقدم‬
‫التكنولوجي يؤدي يف إطار العولمة واخلوصصة إىل ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما‬
‫‪.‬إىل أزمات سياسية‬
‫تفصيل احلديث يف اجلوانب االقتصادية للعوملة ‪-‬مع أهنا‬ ‫ُ‬ ‫وليس من هدفنا هنا‬
‫ه ي األس اس فيه ا‪ -‬وس نقتصر حديثن ا عل ى نتائ ج هذه العولم ة وم ا يرتت ب عليه ا‬
‫بالضرورة؛ وه ي اجلوان ب الثقافي ة واحلضاري ة التص اهلا بالهوي ة‪ ،‬بع د أ ن جني ب ع ن‬
‫لم بالعولمة من أطرافها‬ ‫‪ .‬األسئلة اليت طرحناها يف البداية حىت نُ َّ‬

‫‪15‬‬
‫عصر العولمة‬
‫نصف عصرنا بأنه (عصر‬ ‫نستطيع يف ضوء هذا التحديد ملصطلح " العولمة " أن َ‬
‫العولم ة)‪ .‬وميكنن ا وحن ن نس تحضر تاري خ القـرن العشريـن امليالدي بني يدي دخول قرن‬
‫ميالدي جديد‪ ،‬أن ندرك أن التحوالت فيه هي حلقة ثالثة يف التحرك الغريب حنو العاملية‪،‬‬
‫سبقتهـا حتوالت ما بعد احلـرب األوىل يف هناية العقـد الثاين من القرن‪ ،‬وحتوالت ما بعد‬
‫احلرب العاملية الثانية يف النصف الثاين من العقد اخلامس من القرن‪ ،‬ويف مقدورنا وحنن‬
‫كات حن و العاملي ة يف‬‫بتحر ٍ‬
‫أن هذا التاري خ َح َف َل ُّ‬ ‫نس تحضـر التاري خ اإلنس اين أ ن نالح ظ َّ‬
‫خمتلف عصوره‪ ،‬عرَّب ت عن نزوع اإلنسان للسياحة يف كوكبنا األرضي استجابة لدعوة‬
‫ض ذَلُوالً‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫أل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫خالقه أن ميشي يف مناكب األرض وينتشر فيها‪( :‬هو الَّ ِ‬
‫ذ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫كلُوا ِمن رِ ْزقِ ِه وإِلَ ْي ِه النُّشُور)[‪]1‬‬ ‫‪.‬فَامشوا فِي من ِ‬
‫اكبِ َها َو ُ‬ ‫ََ‬ ‫ُْ‬

‫‪.‬س ورة ا مل لك‪ ،‬ا آلية‪[1] 16 :‬‬

‫‪16‬‬
‫العولمة شيء والعالمية شيء آخر‬
‫َن العولمة‬ ‫وباملناسبة أذكر هنا ما جاء به الدكتور محمد عابد الجابري يف أ َّ‬
‫قمع وإقص اءٌ‬ ‫شي ء والعامليـةَ شي ء آخر‪..‬فقال‪ « :‬العولم ة إرادة للهيمن ة‪ ،‬وبالتايل ٌ‬
‫للخصوصي‪..‬أما العامليـة‬ ‫فهي طموح إىل االرتفاع باخلصوصية إىل ‪ُ Universalité‬‬
‫ُّح عل ى م ا ه و عامل ي وكوين‬ ‫مس توى عامل ي‪ :‬العولم ة احتواء للعامل ‪ ،‬والعامليـة َت َفت ٌ‬
‫نشدان العاملية يف اجملال الثقايف‪ .‬كما يف غريه من اجملاالت‪ ،‬طموح مشروع‪ ،‬ورغبة‬ ‫ُ‬
‫يف األخذ والعطاء‪ ،‬يف التعارف واحلوار والتالقح‪ .‬إهنا طريق األنا للتعامل مع "اآلخر"‬
‫بوص فه " أن ا ثاني ة" طريقه ا إىل جع ل اإليثار حيُ ُّل حَمَ َّل األَثَرة‪..‬أم ا العولم ة فه ي‬
‫طموح‪ ،‬ب ل إرادة الخرتاق "اآلخ ر" وس لبُه خص وصيَتَه‪ ،‬وبالتايل نفيُ ه م ن "العامل "‪.‬‬
‫‪.‬العاملية إغناء للهوية الثقافية‪..‬أما العولمة فهي اخرتاق هلا ومتييع»[‪]1‬‬
‫بشكل َجلِ ٍّي عل ى ِحن َك ٍة‬
‫ٍ‬ ‫وهذه املفارق ة الدقيق ة بني العولم ة والعاملي ة ُت َعِّب ُر‬
‫‪.‬الرجل ودقَِّة مالحظته يف التفريق بني املفاهيم وإعطائها الصبغة املناسبة هلا‬ ‫َّ‬
‫أطروحاتد‪/‬حم مد ع ابد ا جلابريا مل ستقبلا لعر يبع دد ‪[1] – 228‬‬
‫‪،‬‬ ‫ا لعومل ة وا هلوية ا لثقافية‪ :‬عشر‬
‫‪ 2/1998 .‬ص‪ 16 :‬وما ب عدها‬

‫‪17‬‬
‫العولمة ‪ :‬ظاهرة قديمة أم جديدة ؟‬
‫يف السنوات العشر األخرية‪ ~ Globalization " ،‬شاع استخدام "العولمة‬
‫وبالذات بعد سقوط االحتاد السوفيايت‪ .‬ومع هذا فإن الظاهرة اليت يشار إليها ليست‬
‫حديث ة بالدرج ة اليت ق د توح ي هب ا حداث ة هذا اللفظ‪ .‬فالعناص ر األس اسية يف فكرة‬
‫العولم ة‪ :‬ازدياد العالقات املتَبَ َادلَ ة بني األم م‪ ،‬س واءٌ املتمثِّل ة يف تبادل الس لع‬
‫ال‪.‬كل هذه العناص ر يعرفه ا العاملُ منـذ عدة‬ ‫رؤوس األمو‬‫واخلدمات‪ ،‬أ و يف انتقال ُ‬
‫ُّ‬
‫قرون‪ ،‬وعل ى األخ ص من ذ الكشوف اجلغرافي ة يف أواخ ر القرن اخلام س عشـــر‬
‫امليالدي‪ ،‬أي منذ مخسة قرون‪ .‬ومنذ ذلك احلني والعالقات االقتصادية والثقافية بني‬
‫رية للغاي ة‪ ،‬مال ت خالهل ا الدول إىل‬‫ات قص ٍ‬ ‫الدول واألم م تزداد قوة‪ ،‬باس تثناء فرت ٍ‬
‫االنكفاء علـى ذاهتا‪ .‬وتراجع ت معدَّالت التجارة الدولي ة ومعدل انتقال رؤوس‬
‫األموال ( كم ا حـدث خالل أزم ة الثالثينات م ن هذا القرن مثال)‪ .‬وباس تثناء‬
‫ضلت هي أن تعزل نفسها عن‬ ‫جمتمعات حمدودة العدد‪ ،‬تركها العامل يف عز ٍلة ‪ ،‬أو فَ َّ‬
‫العامل لسبب أو آخر‪ (..‬كما حدث لالحتاد السوفيايت مثال يف العقود الثالثة األوىل‬
‫التالية لثورة تشرين األول‌‍‍‪/‬أكتوبر‪..‬أو للصـني يف اخلمسينيات والستينيات‪..‬أو لليمن‬
‫‪.‬حىت منتصف هذا القرن… إخل)‬
‫‪18‬‬
‫وغده ا مرتبطان ارتباط ا وثيقاً‬
‫الظاهرة عمره ا إذن‪ ..‬مخس ةُ قرون عل ى األق ل‪ ،‬بدايتُها ُ‬
‫لوجية االتصال والتجارة‪ ،‬منذ اخرتاع البوصلة وحىت األقمار الصناعية‪ .‬ومن‬ ‫بتقدم تكنو ِ‬
‫امله م إدراك هذه احلقيق ة والتأكي د عليه ا‪ ،‬ولك ن م ن امله م أيضاً االعرتاف بأ ن أشياء‬
‫‪ :‬جديدة و مهمة قد طرأت على ظاهرة العولمة يف الثالثني سنة األخرية منها‬
‫اهن يار أس وار ع ا لي ة كان تحت تم يهب ا ب ع ضا ألم موا جمل تمعاتم تن يار ‪   1.  ‬‬
‫ا لعولم ة ‪ ،‬وم نمتَّ اكتس ح ت يار ا لعولم ة م ناط قمهم ة م ان لعا مل كان تمعزولةٌ‬
‫درجة أو ب أخرىعنها‪ .‬أهم هذه ا ألممهيب ا لطبع أممأوروبا ا لشرقية وا لص ني؛ ا ليت‬‫ٍ‬ ‫ب‬
‫ُجربت طر يقة أو ب أخرىعلىا لتَّخليعنهذه ا لعزلة‬
‫انتهت زلتها ا الختيارية أو أ ب‬
‫‪ .‬عُ‬
‫خلدمات ليت جي ريت بادهل ا ب ني ‪   2.  ‬‬
‫ا‬ ‫ا لزيادة ا لك برية يف درج ة ت نوع ا لس لع وا‬
‫ت الس تثمار ا ليت ت تَّج ه إ ليه ا رؤوس ا ألموا لم بن ٍلد‬
‫ا ألم ‪،‬م وكذل كت نوع جم ا ال ا‬
‫‪.‬آل خر[‪]1‬‬

‫‪.‬ا مل ستقبلا لعر يب‪..‬جاللأمنيع دد ‪ 2/1998– 228‬ص‪[1] 24-23 :‬‬

‫‪19‬‬
‫فإذن‪..‬وكما ذهبت زمرة من االقتصاديني إىل َّ‬
‫أن العولمة ليست أمراً جديداً‬
‫يف اجملال االقتص ادي‪ ،‬أل ن هناك عوملتني ‪ :‬قدمي ة وحديثة‪..‬ظهرت األوىل يف القرن‬
‫اخلامس عشر أو القرن الثامن عشر مع الثورة الصناعية‪ ،‬واستطاعت تنفيذا خِلُطَّتِ َه ا‬
‫أ ن تَزي د يف إنتاج الس لع زيادة كبرية دفع ت بأورب ا إىل البح ث ع ن أس واق جديدة‬
‫مكنتها هذه من‬ ‫أقامتها عن طريق إنشاء املستعمرات بأمريكا وآسيا وإفريقيا‪،‬كما َّ‬
‫احلص ول عل ى املواد اخلام بأس عار ج د منخفضة‪ .‬وهذا يفس ره م ا كان م ن اندماج‬
‫املستعمرة يف اقتصاديات الدول الصناعية األوربية‪ .‬أما العولمة الثانية‪،‬‬
‫َ‬ ‫للدول الفقرية‬
‫فإن حَتَ ُّق َقها سوف ال يكون عن طريق االستعمار يف شكله القدمي‬ ‫العولمة احلديثة َّ‬
‫وم ا كان يوفره م ن آليات‪ ،‬ولك ن ع ن طري ق حتري ر التجارة الدولي ة والتناف س عل ى‬
‫النطاق الدويل [‪ .]1‬باالعتماد على التقدم التكنولوجي وتطوره يف خمتلف اجملاالت‪،‬‬
‫أزمتِه‪ .‬وم ن أجـل ذل ك ُكتِب ت البحوث‬ ‫ِ‬
‫وتس ابق الدول عل ى اقتنائ ه وامتالك َ‬
‫والدراس ات‪ ،‬وأقيم ت النـدوات واملؤمترات لبح ث أوضاع ه املختلفـة‪ ،‬وتطورات ه‬
‫‪.‬املتالحقة‪ ،‬وما توحي به من ثورات عميقة وكبرية يف حياة اجملتمعات اإلنسانية‬

‫‪.‬ا ألموا لس‪1‬ع ‪ 2‬ص‪[1] 118 :‬‬

‫‪20‬‬
‫خطاب العولمة‬
‫تواجه العولمة خبطاهبا العامل كله بعد أن هدَّت معاقل األيديولوجيا املناهضة‬
‫لللِّيربالية االقتصادية‪ .‬ويقول اخلطاب األمريكي‪ :‬إن العولمة ليست جمرد خيا ٍر ٍ‬
‫قابل‬
‫توج ه النظام العامل ي اجلدي د‪ ،‬وال‬
‫المناص عنه ا يف ُّ‬
‫َّ‬ ‫للِتََّبيِّن والرف ض‪ ،‬ب ل ه ي حتميةٌ‬
‫خيار بقائِه حمبوس اً يف ختلفه‪ .‬ويضيف هـذا اخلطاب‪ :‬أن‬ ‫غريهـا إال َ‬ ‫خيار للعامل النامي َ‬ ‫َ‬
‫أقرب الطريـ ِـق وأجداها لتحقيق احلداثة السياسية واالجتماعية والفكر ِية‬‫العولمة هي ُ‬
‫للعامل املتخل ف‪ ،‬وه ي أجنَـــع الوس ائل لطيِّ ه بس رعة مراح ل التنمي ة الشامل ة‪ ،‬ألهن ا‬
‫وحدها الكفيلة بتأهيله اقتصاديا‪ ،‬وبالتايل فكرياً واجتماعياً‪ .‬بل يذهب اخلطاب إىل‬
‫شكل اهلجوم‬‫مرهون بتط بيقها‪ .‬وبذل ك يأخ ذ َ‬ ‫ٌ‬ ‫أفضل‬
‫َ‬ ‫تغيري العامل إىل‬
‫القول‪ :‬إ ن َ‬
‫الطوق عل ى حري ة االختيار‪ ،‬أل ن العولم ة مبقتض ى هذا اخلطاب ه ي‬ ‫ِ‬ ‫وإحكام يَلِّ‬
‫يسوده إال قانون السوق‪،‬‬‫السبيل الوحيد إىل تنمية عامل بال حدود اقتصادية‪ ،‬عاملٌ ال ُ‬
‫وأل ن برناجَمَه ا وحده الكفي ل بتضيي ق اهلوة الفاص لة بني األغنياء والفقراء‪ ،‬وبني‬
‫‪.‬اجملتمعات املتقدمة اقتصاديا واألخرى الطاحمة إىل النمو‬
‫‪21‬‬
‫ويضي ف اخلطاب األمريك ي مدلِّالً عل ى العولم ة ‪ :‬أن ه مل يع د يف‬
‫تفعل أثناء‬ ‫ا‬ ‫كم‬ ‫الكبار‪،‬‬ ‫ِ‬
‫تناقضات‬ ‫تغل‬
‫إمكان الدول الص غرى أ ن تس َّ‬
‫ُ‬
‫بعض ه‬ ‫العامل‬ ‫بني‬ ‫قق‬ ‫حت‬ ‫الـذي‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫السياس‬ ‫احلرب الباردة‪َّ ،‬‬
‫وبأن االنفتاح‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫فهما معاً أساسيان يف‬ ‫ينفصل عن االنفتاح االقتصادي‪ُ .‬‬ ‫ال‬ ‫على ٍ‬
‫بعض‬
‫ُ‬
‫الواليات املتحدة بينهم ا ربطاً عضوياً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مفهوم العولم ة‪ ،‬لذل ك ترب ط‬
‫باالنفتاحنْي ِ معاً‬ ‫ه‬ ‫‪.‬وتَرهن تعاوهَن ا مـع الغري مبدى احرتامه والتز ِ‬
‫ام‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬

‫‪22‬‬
‫إدارة العولمة‬
‫مؤسسات‬
‫ٌ‬ ‫لمية ‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وبتقنيات ِع ٍ‬ ‫ارس ها حِب ْزم و ُق َّو ٍة‬
‫اقتصادية عامليةٌ مُت ُ‬ ‫للعوملة إدارةٌ‬
‫عيد التنظري واملمارس ة‪ ،‬أكربُه ا‪ :‬البن ك العاملي‪ ..‬وص ندوق النق د‬ ‫دوليةٌ عل ى ص ِ‬
‫‪.‬الدويل‪ ..‬ومنظمة التعاون والتنمية االقتصادية اليت يقال عنها إهنا نادي األغنياء‬
‫تنظريها من مَن ط االقتصاد األمريكي‬ ‫وتستمد َ‬ ‫ُّ‬ ‫وكلُّها تُ َف ِّك ر باملنطق األمريكي‬
‫الرهان يف جمال‬ ‫الناج ح املتوف ر عل ى رؤوس األموال الك ربى القادرة عل ى كس ب ِّ‬
‫توج ه سياسة العولمة وتضغ ط على‬ ‫تنافس الرأمسال العاملي‪ .‬وهذه اإلدارة ه ي اليت ِّ‬
‫‪.‬الدول للعمل بتوجيهاهتا‬
‫صب‬‫وز ب َق َ‬
‫يؤه ُل الواليات املتحدة لت ُف َ‬ ‫كل شيء ِّ‬ ‫يقودنا إىل القول ‪..‬إن َّ‬ ‫وهذا ُ‬
‫يقوى عل ى املنافس ة‬ ‫الس بق ِيف نظام العولم ة الذي أخ ذ العامل يعيش ه‪ ،‬والذي ال َ‬ ‫َّ‬
‫كندا يف أمريكا الشمالية‪ ،‬وجمموعة‬ ‫احملدودة فيه بعد الواليــات املتحدة وبتفاوت‪ ،‬إال َ‬
‫االحتاد األوريب ‪ ،‬ومنطق ة شرق وجنوب شرق آس يا اليت تض م اليابان والص ني‬
‫َّهج الياباين‬
‫س من الن ِ‬ ‫ببصرهـا إىل الشرق وَت ْقتَبِ‬ ‫ات الصاعدة اليت َت ْرتَ ُّد ِ‬ ‫‪.‬والتَُّنينَ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫‪23‬‬
‫عمل إدارة العولمة‬
‫سات‬
‫املنهجي املَُع ْومَل محلةً تقنيةً رديفةً تقوم هب ا املؤس ُ‬ ‫ُّ‬ ‫اخلطاب‬
‫ُ‬ ‫ويواك ب‬
‫متثل اإلدارة اليت تعم ل هب ا العولم ة‪ ،‬مث ل البن ك العامل ي‬ ‫االقتص ادية الدوليةُ اليت ُ‬
‫عززة بإحص ائيات ع ن‬ ‫وص ندوق النق د الدويل إلس نــاد اخلطاب األمريك ي بتقار َير ُم َّ‬
‫ِ‬
‫اآلليات‬ ‫الوطنيـة من ركودها أو َت َعثُّرها‪ ،‬وعن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بانتشال االقتصادات‬ ‫ِ‬
‫الوسائل الكفيلة‬
‫َّهضة االقتص ادية عل ى درب‬ ‫لتحـقيق الن ِ‬
‫ِ‬ ‫اليت جي ب عل ى الدول النامي ة أ ن تس تعملَها‬
‫يص ِ‬
‫الشام ِل ‪،‬‬ ‫ميات اهليكليـة‪ ،‬والتخص ِ‬ ‫التنمية الشامل ة‪ ،‬ومنه ا م ا عرف ب ربامج التقو ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫اإلنفاق على ميـــادين الرعاية االجتماعي ة‬ ‫ِ‬ ‫واحنسا ِر َد ْو ِر الدو ِلة الوطنية‪ ،‬وختلِّيها عن‬
‫املنافع‬
‫التشغيل و ِ‬ ‫ِ‬ ‫اإلعالم والبيئ ِـة و‬
‫الصحة و ِ‬ ‫ِ‬ ‫بية و ِ‬
‫التعليم و‬ ‫اليت تُثْ ِقل كاَ ِهلَها يف ِ‬
‫جمال الرت ِ‬
‫س احلُِّر‬ ‫اص ِة ِ‬
‫برتك األس ع ــار للتنافُ ِ‬ ‫ندوق املَِق َّ‬
‫أعباء ص ِ‬ ‫االجتماعي ة‪ ،‬وحتري ر الدول ة م ن ِ‬
‫يونة و ِ‬
‫املرونة يف‬ ‫الطلب ‪ ،‬وختفي ض كلف ة املقاول ة‪ ،‬وااللتزام باللُّ ِ‬ ‫العرض و ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقانون‬
‫‪.‬عالقات ِ‬
‫الشغل‬ ‫ِ‬

‫‪24‬‬
‫أرغد‬ ‫ٍ‬
‫مبستقبل َ‬ ‫وهكذا فالعولمةُ مبقتضى هذا اخلطاب ديناميةٌ واعدةٌ‬
‫حتقيق التغي ِري الذي كانت‬ ‫العامل‬ ‫فصائل‬ ‫تستطيع‬ ‫ها‬‫للبشر ِية ‪ ،‬وبفضلِ‬
‫َ‬
‫تطمح إليه‪ ،‬واليت كانت تفتقـد ‪ -‬قبل التوجه حنو العولمة‪ -‬وسائلَه‬
‫وآلياتَه‪ .‬ويتوج ه ُمنظِّرو العولمة يف الواليات املتحدة األمريكية إىل‬
‫اخلطاب دون أ ن يغ َفلوا تركي ز االقتناع لدى شعوهب م‬ ‫ِ‬ ‫العامل هبذا‬
‫أنفس هـم حبَ َس ناهِت ـا‪ .‬فالرئي س األمريك ي الس ابق "بي ل كلينتون"‬ ‫َ‬
‫حظ الواليات‬ ‫خياط ب األمةَ األمريكيةَ ويقول‪« :‬س تكو ُن العولم ة َّ‬
‫ستقيم عاملاً جديداً‬ ‫ها‪،‬‬ ‫عرقلة لتقد ِ‬
‫ُّم‬ ‫املتحدة الواعد‪ ،‬ولن تُ َش ِّك ل أيةَ ٍ‬
‫ُ‬
‫أي ٍ‬
‫هتديد لنا‬ ‫قيام العولمة َّ‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫ِّ‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫لن‬ ‫و‬ ‫ها‪،‬‬ ‫توسيع‬ ‫جيب‬ ‫جديدة‬ ‫ٍ‬
‫حبدود‬
‫َُ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫‪».‬‬
‫ين؟‬
‫ولكن هذا بالنسبة لألمريكيني فماذا عن اآلخر َ‬ ‫‪25‬‬
‫اتساع العولمة‬
‫دائرة االقتصاد لِتعومِل‬ ‫َ‬ ‫تتجاوز‬ ‫العولمة اليت جيري احلديث عنها اآلن‪..‬نظام أو نسق ذُو ٍ‬
‫أبعاد‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫الص مـود يف ِ‬
‫وجه مدِّه ا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫القومية و ِ‬
‫الفردية عل ى ُّ‬ ‫ِ‬ ‫قدرة خص وصياتِه‬‫جمال ‪ ،‬متحديةً َ‬ ‫كل ٍ‬ ‫اإلنس ا َن يف ِّ‬
‫بعض فصائِلِه‬‫غفلة من ِ‬ ‫صعب‪ ،‬على مسع العامل وبصره‪ ،‬ويف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫موضع اختبار‬
‫َ‬ ‫وواضعةً مناعتَ ه الذاتيةَ‬
‫ومناهج التفكري‪ ،‬ويف ِظ ِّل هذه العولمة الشاملة‬ ‫ِ‬ ‫ش‬‫العْي ِ‬ ‫األخالق و ِ‬
‫أمناط‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫املهمش ِة جتري عوملةُ ِ‬
‫الق‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫اخلصوصيات كذلك‬
‫ُ‬ ‫اهلويات و‬
‫ُ‬ ‫‪.‬يُر ُاد أن تتعومَلَ‬
‫لوجية‪ .‬وكان البدء بامليـ ِ‬
‫ـدان‬ ‫وثقافية ‪ ،‬وإيديو ٍ‬‫ٍ‬ ‫ياسية‪ ،‬واقتص ٍ‬
‫ادية‪،‬‬ ‫أبعاد س ٍ‬ ‫إ ن العولم ة ذات ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المناص م ن تط بيقه بتقنيات ه‬ ‫بح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫الس ياسي عندم ا اخنرط العامل يف نظام الدميقراطية الغربية الذي أص َ‬
‫كة فيه‪ ،‬وتعولَمت معـه اآلليات ِ‬
‫املوص لَةُ إىل‬ ‫احلكم ونوع املشار ِ‬ ‫مضموناً وشكالً‪ ،‬مما تعومَلَ معه شكل ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لية وحقوقِ‬ ‫الشرعية الدو ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتكفلت املنظمات الدوليةُ بعوملة القانـون الدويل و‬ ‫إفرا ِز اقرتاع شعيب سلي ٍم‪َّ .‬‬
‫ائق التعاون الدويل‪ .‬وبذلك تعوملت السياسةُ يف‬ ‫الس لم وطر ِ‬ ‫ملت مواثي ُقها نُظُ َم احلرب و ِّ‬ ‫اإلنسان‪ .‬وعو ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تشمل تنظيمات احلكـ ِم وشروط التعاون الدويل والعالقات الدولية العامة‪ .‬و َ‬
‫أصبح‬ ‫ُ‬ ‫أوس ِع معانيها اليت‬
‫ِ‬
‫املتحدة‬ ‫هيأة ِ‬
‫األمم‬ ‫الدويل ينضبط دقائـق هذه العولمة ويتحكم فيها من أصغر مكوناتِه إىل ِ‬ ‫اجملتمع‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ َ‬ ‫ُ‬
‫جملس األمن‬ ‫ِ‬
‫‪.‬مبرافقها وعلى رأسها ُ‬

‫‪26‬‬
‫أما يف اجملال االقتصادي فإن عوملةَ االقتصاد – اليت حتدثنا عنها –‬
‫ٍ‬
‫استهالك وتوز ٍيع‬ ‫إنتاج و‬
‫كل ما يتصل بعيش اإلنسان من ٍ‬ ‫َم َّس ت َّ‬
‫ٍ‬
‫‪.‬وتبادل‬
‫متس الثقافةَ مبعناها العام؛ أي كل‬ ‫العولمة‬ ‫ِ‬
‫أخذت‬ ‫ويف اجملال الثقايف‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫وممارسات‪ ،‬وما‬ ‫ات ونظر ٍ‬
‫يات‬ ‫ما جييش به فكر اإلنسان من تصور ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التفرد‬
‫متتع حبريـة الفك ر و ُ‬ ‫تاح ل ه ضمريُه م ن ٍ‬ ‫خي َف ُق ب ه قلبُ ه وير ُ‬
‫الذات م ع النف س‬ ‫بالذات‪ ،‬واحلوار ِ‬
‫بلغة َّ‬ ‫َّ‬ ‫الشعور‬ ‫و‬ ‫ِ‬
‫وصية‬ ‫باخلص‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ثقافية ٍ‬
‫عاملية‪ ،‬هلا‬ ‫صياغة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫والنــاس‪ .‬واملشكلةُ املطروحةُ هي االجتاه إىل‬
‫لوك الدُّول والشعوب‪.‬‬ ‫ضبط س ِ‬‫قيمه ا ومعايريُه ا‪ ،‬و الغرض منه ا ُ‬ ‫ُ‬
‫والس ؤال هن ا ‪ :‬ه ل تؤدي هذه الثقافةُ العامليةُ –حال ِ‬
‫قيامه ا‬
‫يسها – إىل العدوان عل ى اخلص وصيات الثقافي ة‪ ،‬مم ا يهدِّد‬ ‫وتأس ِ‬
‫ِ‬
‫اجملتمعات املعاصرة ؟‬ ‫هويات‬
‫‪27‬‬
‫أكثر ما تَ ربز من خالل البث التلفزيوين عرب‬ ‫َ‬ ‫وأخرياً‪ ،‬وليس آخراً‪..‬هناك عوملة اتصالية تَ ربز‬
‫البشر يف ك ل أحناء‬
‫َ‬ ‫أكثر عمقاً م ن خالل شبك ة اإلنرتن ت‪ ،‬اليت تَرب ط‬ ‫َ‬ ‫األقمار االص طناعية‪ ،‬وبص ور ٍة‬
‫انتشاره ا‬
‫َ‬ ‫وذيوعه ا و‬ ‫املعمورة‪ ،‬وتدور حول اإلنرتن ت أس ئلةٌ ك ربى‪ ،‬ولك ن م ن املؤ َّك د َّ‬
‫أن نشٍأهَت ــا ٍ َ‬
‫‪.‬ستؤدي إىل أكرب ثورة معرفية يف تاريخ اإلنسان‬
‫وهكذا‪..‬فبدالً م ن احلدود الثقافي ة‪ ،‬الوطني ة والقومي ة‪ ،‬تَطرح إيديولوجي ا العولم ة "حدوداً "‬
‫قصد اهليمنة على االقتصاد واألذو ِاق والفك ِر والسلوك‬‫الشبكات العامليةُ َ‬
‫ُ‬ ‫‪ .‬أخرى‪ ،‬غري مرئية‪ ،‬ترمسها‬
‫‪ ‬‬
‫‪‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ :‬إيجابيات العولمة وسلبياتها‬
‫‪: :‬اإليجابيات‬
‫ضمنته اتفاقية " الغات " من املطالب واملقاصد للدول الصناعية والنامية على السواء‪ ،‬وما‬ ‫فمن إجيابيات العولمة ما َّ‬
‫قامت بتنفيذه على فرتات يف املرحلة االنتقالية‪ ،‬وما وعدت بالوفاء به وفاءًا تاماً ابتداءً من سنة ‪2005‬م‪ ،‬فمن‬
‫‪ :‬ذلك‬
‫ائب جلرمكية‪       1.  ‬‬ ‫‪ .‬خت فيضا لضر ا‬
‫كات لكربىا مل صدِّرة‪        2.  ‬‬ ‫‪ .‬ت عزيز ا مل نافسة ب نيا لدولوا لشر ا‬
‫‪ .‬مكافحة أسلوبإغراقا ألسوا ق‪        3.  ‬‬
‫‪  ‬‬ ‫شمل خلدماتوتكنولوجيا ا مل علوماتوا التصا الت‪4.  ‬‬ ‫ا‬ ‫ت وسيع ق اعدة ا لتجارة ا لدولية جب علها ت‬
‫مكنتم تن صميم ا مل نتجاتأينما ت توفر ا مل هاراتوا مل عرفة ا لضرور يتني‪ ،‬وإنتاج أجزائها‬ ‫اصالت ليت َّ‬
‫ا‬ ‫وا ملو‬
‫ا مل طلوبة يف أرخصمكانمي كنص ناعتها ف يه‪،‬مث ش حنها ل لتجميع يف أرخصمكانمي كنجت ميعها‬
‫‪ .‬ف يه‬
‫‪   ‬‬ ‫ومنتجات لدولا لعر بية وغريها م ان لدولا لنامية[‪5.  ]1‬‬
‫ا‬ ‫‪.‬ف تح ا ألسواقا لعا مل ية أمام س لع‬
‫‪  ‬‬ ‫وقد جت لتآثار ذلكيف ار تفاع حصة ا لتجارة ب سرعة يف ا لناتج ا حمل ليا إلمجا يلل لبالد ا لنامية م ن‪6.  ‬‬
‫ثمانينات ىل‪ % 43‬س نة ‪1999‬‬ ‫إ‬ ‫منتصف ل‬
‫ا‬ ‫‪ % 23.‬يف‬
‫‪ ‬‬ ‫ومنإجي ابياهت ا أيضا‪..‬أنهناك مشاكلإنسانية مشرت كة ال مي كنحلها م نمنظور ا لسيادة ا لوطنية ‪7.  ‬‬
‫‪ :‬ا مل طلقة ل لدولة ا ليت ي قوم عليها ا لنظام ا لدويل ا لقائم ا ليوم منها‬
‫ات لنووية‪ ..‬وا لبيئة‪ ..‬وتطور ا ألوبئة وا ألمراضا مل عدية ‪- ..‬‬ ‫انتشار أسلحة ا لدَّمار ا لشَّامل‪ ..‬وا لتهديد ا‬
‫دراتوغريها‬ ‫‪.‬وانتقا ال أليديا لعاملة ب كثافة م نمنطقة إ ىلمنطقة أخرىوانتشار ا جلر مية وا مل خ‬

‫‪.‬ا ألموا لس‪ 1‬ع‪ 2‬ص‪..119-118 :‬ف رصة ت ار خيية ت كنولوجيا ا مل علوماتوا التصا ل‪[1] 22/1/1997..‬‬ ‫‪29‬‬
‫‪:‬السلبيات‬
‫‪:‬بينما التأثريات السلبية للعوملة تتمثل يف‬
‫فقد ف يها س ياد هَت ا ‪    1.  ‬‬
‫يث ُ‬‫ذوبان ا لدولة ا لقوميِة‪ ،‬حب ت‬
‫ا خلشيةُ م ن ِ‬
‫ا مل طلقة‪ ،‬وخصوصًا ا لدول"ا لضعيفة"‪ ،‬علمًا ب أنا لعولمة ق د ب دأت‬
‫ب اخرتِاق ا لس ِ‬
‫يادة ا لقوميِة حىت ا لدولا لك برية‪ ،‬ولك نب نِسٍبمتفاوت ة‪،‬‬
‫ويف جم ا التمعين ة‪ ،‬ب ينما س تبقىا لدول ة" ال عبًا رئيس يًا ب ني ال عبني‬
‫‪".‬ع ديدين‪ ،‬ولكنها ل نت كونذاتس يطرة مطلقة‬
‫‪:‬ومن تأثرياهِت ا السلبية أيضا‬
‫نـات لدولي ة ا لس ابقة ا القتص ادية وا الجتماعي ة‪     2.  ‬‬
‫اهن يار ا لتواز ُ ا‬
‫‪.‬وا لسياسية وا لثقاف يـة‬
‫‪30‬‬
‫‪  ‬‬ ‫كانت سيطر يف ‪3.  ‬‬ ‫ت‬ ‫قوى ت لكا ِلقوىا ليت‬
‫وعات أل ‪،‬‬
‫مضاعفة ف رصا جمل م ا‬
‫‪.‬ا ألصلعلىعناصر ا لقوة ا القتصادية وا لعلمية وا لتقنية وا لثقافية وغريها‬
‫‪   ‬‬ ‫وعات لبشرية ب قدر ق درة هذه ا جمل تمعات ‪4.‬‬ ‫ت عميقا لتناق ضب ني ا جمل م ا‬
‫ات َّع ا لة وناجعة ل لصراع علىا مل صا حل‬ ‫‪.‬علىب لورة إسرت اتيجي ف‬
‫زيادة ا لدولا لقوي ة ِغ ًىن‪ ،‬ب ينما ت زداد ا لدولا لفقرية ف قراً‪ ،‬أ يأ نهناك ‪      5.‬‬
‫ودوال مقنوصة‬
‫‪"".‬دوال َق نَّاصة ً‬
‫ً‬
‫ت طوي قا إلنتاج ا لقوم اي القتص اديمب نافسة غري متكافئ ة مم ا ي ؤديإ ىل ‪      6.‬‬
‫‪.‬ا ملزيد م ناستفحا ال لبطا لة وتوسيعها‬
‫هلويات لثقافية ب إغراق ه ‪      7.‬‬ ‫ا‬ ‫ذات‬
‫ت طويقا بإلداع ا ألديب وا لفين ل دىا لشعوب ا‬
‫يف ت سويقص ناعتها وإنتاجه ا‪ ،‬وهت ميشا لثقافة ا لوطنية وا للغ ة ا لقومية ب فرض‬
‫ب القتصاديا لذيي نت ج وحده ويفرضل غت ه وطر يقت ه ع رب وسائل‬ ‫ل غ ة وثقاف ة ا لقط ا‬
‫‪.‬ا التصا لوا لتواصلوحده‬

‫‪   ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫‪31‬‬
‫ت قلي صا لعالق ة ا حلميمية ب ني ا مل ثق فوبني ا خل ربة ا مل باشرة ب عمل ه ‪8.‬‬
‫وبا حلياة م نحوله‪ .‬ف عومل ة ا إلعالم ت قدم ل لمتعل م وللمثق فك لم ا كانخي ت ربه‬
‫ب نفس ه ت قدم هجاهزاً موثَّقًا ف تُغني ه ع نا النتقا ليف ا لزمانوا مل كان‪ ،‬وعنمعاناة‬
‫ات لقيًا‬‫جلم لي ة وا الس تدال لية‪ ،‬ف يُص بح َت لَقِّي ه ل لمعارفوا خل رب ت‬
‫ت طوي ر خ رب ته ا ا‬
‫آ ليًا مت هيداً جل علإنسانا مل ستقبلنُ َسخًا متكررة‪ ،‬ت فكر وتتذوقوتستدلب طر ٍيقة‬
‫سينقرضت در جييًا كا لفلسفة‬
‫ُ‬ ‫ش به موحدة‪ .‬أما ما ي ستعصيعلىا لتوحيد وا آل لية ف‬
‫‪.‬وا لشعر‬
‫وأيضا‪ ..‬أن نظام العولمة‪ -‬كما قال حممد عابد اجلابرى‪ -‬عامَل بدون دولة‪..‬‬
‫بدون أمة‪ ..‬وبدون وطن‪ .‬عامل املؤسسات والشبكات‪ ،‬يقفز نظامه على الت ِ‬
‫َّفتيت‬
‫‪.‬والتشتيت[‪]1‬‬

‫‪.‬ق ضايا يف ا لفكر ا مل عاصر‪..‬د‪/‬حم مد ع ابد ا جلابري‪ ،‬ص‪[1] 149 :‬‬

‫‪32‬‬
‫هل العولمة حتمية ؟‬
‫امللجأُ األخري الذي يلجأُ إلي ه املنتص رون للعولمةِ ه و التَّ َذ ُّرع باحلتمية‪.‬‬
‫عو ُزه م احلج ة يف الدفاع ع ن العولم ة باس م احلري ة أ و الرفاهي ة‬ ‫فعندم ا تُ ِ‬
‫اإلنسانية أو األخالق أو اجلمال أو العقالنية‪ ،‬يلجأون إىل القول‪ « :‬إن‬
‫مفر لنا من قُبوهلا »‪.‬‬
‫علينا أن نقبلها ألنه ال َّ‬
‫احلجة أوالً أهن ا م ن نوع ِ‬
‫خمتلف متاماً ع ن‬ ‫أالحظ عل ى هذه ِ‬ ‫َ‬ ‫أود أ ن‬
‫و ُّ‬
‫الطرق األخرى للدفاع عن العولمة وال جيوز أن خَن لط بني هذا وذاك ‪.‬‬
‫فالقول باحلتمية ليس يف احلقيقة دفاعاً عن العولمة أو متجيداً هلا‪ ،‬بل هو‬
‫اليأس م ن أ ي حماول ة للوقوف يف وجهها‪ .‬ولك ن فضالً ع ن‬ ‫تع بري ع ن ِ‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫ذلك أريد اجملادلة يف صحة هذا املوقف اليائس ُ‬
‫‪33‬‬
‫مفر‬
‫ظاهرة ما ظاهرةٌ حتميةٌ ال َّ‬ ‫ً‬ ‫إن من املمكن جداًّ أن يُشيع االعتقاد َّ‬
‫بأن‬ ‫َّ‬
‫أن هذه الظاهرة‬ ‫تقر يف وع ي ِ‬
‫املرء َّ‬ ‫التعود الطوي ل عليه ا‪ ،‬حىت ليس َّ‬ ‫منه ا نتيجةً جملرد ُّ‬
‫تصور الدنيا من دوهنا‪ .‬ومن هنا‬ ‫جزءٌ من طبيعة األُمور‪ ،‬ويُصبح من أصعب األمور ُ‬
‫تكمن –يف رأيي‪ -‬األمهية ال ُقصوى ِإلدراك أن العولمة ظاهرةٌ حمايدةٌ بني احلضارات‬ ‫ُ‬
‫جمرد‬
‫احلضارة الغربيةَ هي حضارةٌ إنسانيةٌ عامةٌ وليست َ‬ ‫َ‬ ‫والثقافات‪ ،‬أو االعتقاد بأن‬
‫رسخا‬‫إن هذين االعتقادين من شأهنما بالطبع أن يُ ِّ‬ ‫ٍ‬
‫ثقافات بعينها‪َّ ،‬‬ ‫إفر ٌاز من إفراز ِ‬
‫ات‬
‫مفر منها‪ .‬ولك ن م ن اجلائ ز جداً أ ن يكون‬ ‫االعتقاد بأ ن العولم ة ظاهرةٌ حتميةٌ ال َّ‬
‫حضارة بعينه ا‪ ،‬وهذه احلضارةُ ه ي‬ ‫ٍ‬ ‫هذان االعتقادان خاطئني ‪ ،‬فالعولمةُ ه ي عوملةُ‬
‫أن هذه‬ ‫صحيح َّ‬ ‫جمموعة ٍ‬
‫معينة من األمم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫عينة أو ِ‬
‫ثقافة‬ ‫ُمة م ٍ‬‫ثقافة أ ٍ‬
‫بدورها تعبري عن ِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ب م ن مخس ة قرون –‬ ‫احلضارة ق د توفَّ ر هل ا من ذ زم ن طويـــل ‪-‬يرج ع إىل م ا يَ ُ‬
‫قر ُ‬
‫غري األم ة أ و األم م اليت‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫فعالةٌ مكنته ا م ن فرض نفس ها عل ى أُمم أُخرى‪َ ،‬‬ ‫ائل َّ‬
‫وس ٌ‬
‫لكن هذا وحده ال جيعله ا تس تحق وص ف " اإلنس انية " أ و "العاملي ة "‪،‬‬ ‫أجنبته ا‪ ،‬و َّ‬
‫عادة هذه األوص اف‪ ،‬وال يُزي ل عنه ا خص وصيَتَها‪.‬‬ ‫تخدم ب ه ً‬ ‫ُ‬ ‫باملعىن الذي تُس‬
‫بأن حضارةً ما ( أو ثقافةً ما ) قد اكتَ َس َحت العاملَ ال يعين االعرتاف بأهنا‬ ‫فاالعرتاف َّ‬
‫تكتسح العاملَ بأَسره‪ ،‬أو‬
‫َ‬ ‫نتاج العاملَ بأسره‪ ،‬وال يعين االعرتاف بأهنا تستحق أن‬ ‫من ِ‬
‫تكتسح العاملَ بأسره‬
‫َ‬ ‫‪ .‬أهنا جيب أن‬ ‫‪34‬‬
‫إن تطوير الت ِ‬
‫حتمي‪ ،‬إذ كالمها يُعرب‬‫ٌ‬ ‫أمر‬
‫ٌ‬ ‫ِّقانة‬ ‫حتمي‪ ،‬أو حىت َّ َ‬ ‫ٌ‬ ‫العلمي‬
‫َ‬ ‫التقدم‬
‫َ‬ ‫القول َّ‬
‫أن‬ ‫قد نقبل ُ‬
‫ص ور‬ ‫ٍ‬ ‫عن ٍ‬
‫يتحملُه من خمتلَف ُ‬ ‫وحب االستطالع وختفيف ما َّ‬ ‫طبيعية لدى اإلنسان لالستكشاف ِّ‬ ‫نزعة‬
‫بول هذا أو ذاك كظاهرتني حتميتني ال يُ ِلز ُمنا ب َقبول احلضارة الغربية كظاهرة حتمية‪.‬‬ ‫العناء‪ .‬ولكن قَ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نتصور تقدماً يف العلم والتِّقانة‪ ،‬من دون هدف حتقيق أقصى ربح‪،‬‬ ‫املمكن مثال‪ ،‬وبسهولة‪ ،‬أن‬ ‫ِ‬ ‫فمن‬
‫َ‬
‫حتقيق أعلى ٍ‬
‫درجة من‬ ‫هدف تعظيم الناتج‪ ،‬أو هدف حتقيق قد ٍر من السيطرة على الطبيعة‪ ،‬أو ِ‬ ‫أو ِ‬
‫تقالل الفرد‪ ،‬أ و أق ل درج ة م ن اإلميان بامليتافيزيق ا… إخل‪ .‬وهذه ُكلُّه ا م ن الس مات األس اسية‬ ‫اس ِ‬
‫للتقدم العلم ي والتِّقاين الغريب‪ .‬والزعم بغري ذل ك لي س إالَّ اعرتاف ا بقص و ٍر خطري يف ِ‬
‫اخليال ‪ ،‬ب ل إن ه‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫حتقيق شيء أفضل‬ ‫فرتض أن اإلنسان غري قاد ٍر على ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلهانة إىل ِ‬
‫ُ‬ ‫اجلنس البشري؛ ألنه يَ ُ‬ ‫يتضمن توجيهُ‬
‫‪.‬من ذلك‬
‫اجلري وراء الذهب‬ ‫ُ‬ ‫الفيلم املعروف لشاريل شابلن"‬ ‫َمنظٌَر شهريٌ‪ " [ GOLD RUSH ] ،‬يف ِ‬
‫كوخ صغ ٍري يف أعلى ِ‬
‫اجلبل ‪ ،‬وقد َمن َعْت ُهما عاصفةٌ‬ ‫جش ٍع يف ٍ‬‫ني ِ‬ ‫رجل مس ٍ‬
‫يظهر فيه "شاريل شابلن" مع ٍ‬ ‫ُ‬
‫أمام ُهما‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ثلجيةٌ من اخلروج‪ .‬كاناَ قد َّ‬
‫ليس َ‬‫الطعام لعدَّة أيام‪ ،‬و َ‬‫َ‬ ‫استبد هبما اجلوعُ‪ ،‬إذ مل يكونا قد تناوال‬
‫حياول في ه‬
‫املنظر الشهريُ الذي ُ‬ ‫ك‬ ‫ذل‬ ‫د‬ ‫بع‬ ‫‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الثلجية‬ ‫بسبب العاص ِ‬
‫فة‬ ‫ِ‬ ‫أي ٍ‬
‫طعام‬ ‫ِّ‬ ‫ى‬ ‫عل‬ ‫ر‬ ‫م ن وس ٍ‬
‫يلة للعثو ِ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كة والس كني‪ ،‬نرى منظر زميلهِ‬ ‫احلذاء بالشو ِ‬ ‫ع يف ِ‬
‫أكل‬
‫َ‬ ‫"شاريل شابلني " أ ن يطْ ُه َو حذاءهُ ويَشر َ‬
‫كإنسان‪ ،‬بل رأى فيه دجاجةٌ تنتظر َّ‬ ‫ٍ‬
‫بح‪ .‬كان اجلوعُ‬ ‫الذ َ‬ ‫ُ‬ ‫السمني وهو ينظر إىل "شاريل شابلن" مل يرهُ‬ ‫ُ‬
‫بالرج ِل إىل مدى مل يُسمح له بأن ينظر إىل "شاريل شابلن" دون أن يراه كدجاجة‬ ‫وصل ُ‬ ‫‪.‬قد َ‬

‫‪35‬‬
‫هذه بالضبط هي اإليديولوجيا ‪ :‬كيف ترى األمور؟‬
‫ِ‬
‫احلقيقة‬ ‫فعل بأَن "شاريل شابلن" هو يف‬ ‫مهما‬ ‫الرجل‬ ‫هذا‬ ‫عين‬‫وال ميكن أن يقنِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أنصار احلضارة الغربية مهما قالوا إن طريقةَ‬ ‫ُ‬ ‫دجاجة وليس رجالً‪ .‬كذلك لن يُقنعين‬
‫نظر ِه م إىل األمو ِر هي الطريقةُ الوحيدةُ املمكنةُ‪ .‬إن الذين يقولون إن العاملَ اآلن قد‬ ‫ِ‬
‫منطق الس وق واالقتص اد والتِّقان ة‪،‬‬ ‫هجر اإليديولوجي ا إىل األب د ومل يع د هناك إال ُ‬ ‫َ‬
‫الرجل يف فيلم ( اجلري وراء الذهب )‪ ،‬وهو‬ ‫زعم هذا‬ ‫ِ‬
‫يقولون لنا شيئاً شبيهاً جداً ب ِ‬
‫ُ‬
‫اص طَ َحْبتَهُ إىل‬
‫أن "شاريل شابلن" ليس إال دجاجة‪ ،‬كذلك رجل األعمال الذي إذا ْ‬
‫إلقامة ٍ‬
‫فندق‬ ‫ِ‬ ‫ائع‬‫ر‬ ‫مكان‬
‫ٌ‬ ‫هذا‬ ‫إن‬ ‫لك‪:‬‬ ‫يقول‬ ‫به‬ ‫فإذا‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫البح‬ ‫ِ‬
‫شاطئ‬ ‫على‬ ‫ٍ‬
‫مجيل‬ ‫ٍ‬
‫مكان‬
‫ٌ‬
‫جنوم‪..‬أو إذا اصطحبتَه إىل تايالند وصادفتُما يف الطريق فتاةٌ مجيلةٌ يف الثانية‬ ‫خبمس ٍ‬ ‫ِ‬
‫صبح مصدراً‬ ‫عمرها‪ ،‬قال لك‪ :‬إن هذه الفتاةُ ميكن أن تُ َ‬ ‫عشرة أو الثالثة عشرة من ِ‬
‫بيت للدعارة‪ .‬هذا هو ما يزعُ م أنه ثقافةٌ أو حضارةٌ‬ ‫رائعاً للربح لو استخدمت يف ٍ‬
‫م ن احملتَّ م هل ا أ ن تكتس َح العاملَ ‪ ،‬ألهن ا ثقافةٌ أ و حضارةٌ حمايدةٌ ‪ ،‬تُع رب ع ن نواز ِع‬
‫‪.‬اإلنسانية مجعاء‬

‫‪36‬‬
‫(اجلري‬ ‫فيلم‬ ‫يف‬ ‫الرجل‬ ‫يد‬
‫ُ‬ ‫ير‬ ‫ما‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ية‬
‫ٌ‬ ‫تفك ِ‬
‫يك‬ ‫احلضارة أهنا حضارةٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫هبذه‬ ‫ِ‬
‫اخلاصة‬ ‫ِ‬
‫السمات‬ ‫من‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شيء إىل‬ ‫تفكيك كل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫تعمد احلضارةُ الغربيةُ إىل‬ ‫يفعل "بشاريل شابلن"‪ُ ،‬‬ ‫وراء الذهب) أن َ‬
‫يتكون منها الشيءُ‪،‬‬ ‫ك محي ٌد إذا كان الغرض ِ‬
‫معرفة العناص ِر اليت‬ ‫مس لَ ٌ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عناصره األوىل‪ .‬وهو ْ‬
‫اإلنتاجية ‪ ،‬أو ما يسمى بالسيطر ِة على‬ ‫ِ‬ ‫يادة كفاءَهِت ا‬
‫آلة أو ز ِ‬ ‫أو إذا كان الغرض هو ص نع ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ان أ و‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطبيع ة‪ ،‬ولكن ه ق د يكون مس لكاً خطرياً ومضراًّ إذا طُبِّق عل ى األشياء احلية كاإلنس ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫مح فعال مبزي د م ن الس يطرة عل ى اإلنس ان واألس رة واألم ة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫األس رة أ و األم ة‪ ،‬فه و ق د يس ُ‬
‫تهلكني‬
‫َ‬ ‫املنتج عل ى املس‬‫يطر ُ‬ ‫اض طًُّرا‪ ،‬فلك ي يس َ‬ ‫ولك ن هذا لي س بالضرورة أفضل األغر ِ‬
‫ُ‬
‫تفكيك الفرد من أسرته ومن َّأمته‬ ‫التهامها‪ ،‬من املفيد فعالً‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫وحيوهلم مجيعاً إىل دجاجة يسهل ُ‬ ‫ِّ‬
‫مرة ‪،‬وباس م احلر ِية الشخص ية مرة‪ ،‬وباس م التنوي ر مرة ‪ ،‬وباس م‬ ‫وم ن بيئتِ ه‪ ،‬باس م الفردي ة ً‬
‫يلتزم‬ ‫ٍ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يصور لن ا على أن ه نِ‬ ‫النِّسوية وحتري ر املرأة مرة‪ .‬وهذا كلُّ ه ِّ‬
‫حضارة إنسانية عامة ُ‬ ‫تاج‬
‫ُ‬
‫حتمي‬ ‫ها‬‫انتشار‬ ‫طبيعية يف اإلنسان‪ .‬ومن مثَّ َّ‬
‫فإن‬ ‫ٍ‬ ‫ع‬
‫ٍ‬ ‫از‬ ‫لنو‬ ‫تستجيب‬ ‫ألهنا‬ ‫ا؛‬ ‫ه‬ ‫اجلميع بات ِ‬
‫ِّباع‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تعمل هذه‬ ‫أن كثرياً مما ُ‬ ‫أزع ُم ‪ ،‬على العكس‪َّ ،‬‬ ‫اخلضوع لهُ إن عاجالً أو آجالً‪ .‬وأنا ُ‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫البد َ‬‫َّ‬
‫احلضارةُ عل ى نشره‪ ،‬يتعارض تعارضاً ص ارخاً م ع بع ض م ن أقوى النوازع الط ِ‬
‫بيعية يف‬ ‫ُ‬
‫ينطوي على ٍ‬
‫عملية أشبهَ بالقتل‬ ‫اإلنسان على هذا النَّحو ِ‬ ‫ِ‬ ‫تفكيك‬
‫َ‬ ‫‪.‬اإلنسان‪ ،‬وأن‬

‫‪37‬‬
‫أمة بعينها من دون أن تكون‬ ‫معني أو ٍ‬
‫شخص ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بالنسبة إىل‬ ‫تكون حتميةٌ‬
‫إن ظاهرةً ما قد ُ‬ ‫مث َّ‬
‫انتشار هذه احلضارةُ‬ ‫يكون‬
‫أمة أخرى‪ .‬قد ُ‬ ‫شخص آخر أو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إىل‬ ‫ِ‬
‫بالنسبة‬ ‫ِ‬
‫بالضرورة كذلك‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫باب تتعل ق‬ ‫األمم اليت ابْتدعْته ا أص الً‪ ،‬ألس ٍ‬‫وزيادهُت ا ُرس وخاً‪ ،‬ظاهرةٌ حتميةٌ بالنس بة إىل ِ‬
‫بيعية أ و ِمز ِاجه ا اخلاص‪ ،‬وم ن مَثَّ ق د‬
‫ثقافة هذه األمم أ و ظروفه ا الط ِ‬
‫ُ‬
‫فات خاص ٍة يف ِ‬ ‫بص ٍ‬
‫قوة ورس وخاً يف أورب ا الغربي ة‪ ،‬مث يف الواليات املتحدة‪ ،‬مثالً‬ ‫ازدياده ا ً‬
‫يكون انتشاره ا و ُ‬
‫بح رجالً‬ ‫ليص‬ ‫منو الو ِ‬
‫لد‬ ‫ظاهرة "حتميةً " حقاً‪ ،‬عل ى النح و نفس ه الذي مُي ك ن ب ه أ ن نعترِب َ ُّ‬ ‫ً‬
‫َ‬
‫بدرجة أقل‪ ،‬عن انتشار هذه احلضارة يف‬ ‫ٍ‬ ‫مثل ذلك‪ ،‬ولكن‬ ‫يقال ُ‬ ‫ظاهرة حتميةً أيضا‪ .‬وقد ُ‬ ‫ً‬
‫أقل حتميةً بالنس بة إىل روس يا‬ ‫أمريك ا الالتيني ة مثالً‪ ،‬أ و أورب ا الشرقية‪ .‬ولكن ه ق د يكون ُّ‬
‫األمر حتمياً على‬ ‫ِ‬
‫اآلسيوية‪ ،‬أو اليابان‪ ،‬اليت مل يُت َّم تركيعُها متاماً حىت اآلن‪ .‬وقد ال يكون ُ‬
‫عجب من‬ ‫ال‬ ‫العرب‪.‬‬ ‫أو‬ ‫اهلند‬ ‫أو‬ ‫الصني‬ ‫ِ‬
‫كثقافة‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫متام‬ ‫ثقافات ُم ٍ‬
‫غايرة‬ ‫ٍ‬ ‫اإلطالق بالنسبة إىل‬
‫َ‬
‫حتاول ابتداع شي ء ٍ‬
‫خمتلف عماَّ َف َعلَْت ه اليابان مثالً م ع احلضارة‬ ‫أ ن الص ني تبدو وكأهن ا ُ‬
‫الغربية‪ ،‬وال عجب من أن " غاندي " يف اهلند كاد ينجح يف ابتداع شيء ٍ‬
‫خمتلف متاماً عن‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العرب يُبدون هذه الدرجة العالية من املقاومة للحضار ِة‬ ‫عجب من َّ‬
‫أن‬ ‫احلضارة الغربية‪ .‬وال‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بعضهم إال إصر ًارا على التخلُّف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بية و ِ‬ ‫الغر ِ‬
‫السوق الشَّرق أوسطية‪ ،‬مقاومةٌ قد ال يرى فيها ُ‬
‫صموداً جديراً بالثناء والدعم‬ ‫‪.‬ولكن من املمكن أن نرى فيها ُ‬
‫‪38‬‬
‫الهوية والعولمة‬
‫‪:‬جاء يف املادة األوىل من إعالن مبادئ التعاون الثقايف الدويل [‪]1‬‬
‫قافة كرام ٌة وقيمٌة جي باحرتام اه وا حملافظ ُة عليها "‪                      1.   ‬‬ ‫كلث ٍ‬ ‫‪.‬ل ِّ‬
‫مي قا َفتَ هُ‪                      2.     ‬‬ ‫حقك ِّلش ٍعبومنواجبه أنيُ َن ث‬ ‫‪.‬م ن ِّ‬
‫‪             ‬‬ ‫صبومب ا ب ينها ‪3.  ‬‬ ‫ثقافاتمب ا ف يها م تن ُّنو ٍع ِخ ٍ ‪،‬‬ ‫يع ا ل ِ ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تُ َش ِّكُلمج‬
‫بشر مج يع ًا‬ ‫ِ ِِ‬
‫شرتك يف م لكيته ا ل ُ‬ ‫اث لذييَ ُ‬ ‫متبادٍل‪ُ ،‬ج ْزءًا م ان لرت ِ ا‬
‫ثري َ‬ ‫باينوتأْ ٍ‬
‫‪ ".‬م تن ٍ‬
‫يتعارض وقضاءَ املصاحل املشرتكة بني‬ ‫ُّد اخلصوصيات ما‬ ‫وليس يف تنوع اهلويات وتعد ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الشعوب واألم ِم يف إطار التعاون اإلنساين القائم على قاعديَتْ التعارف والتعايش‪ .‬وإمنا ينطوي هذا‬
‫س‬‫الرقِ ِّي حباف ٍز من التنافُ ِ‬ ‫ِ‬
‫أسباب التقدم و ُّ‬ ‫امليول اإلنساني َة الفطريةَ حنو امتالك‬ ‫التنوعُ على عناص ٍر تغذي َ‬
‫‪.‬الطبيعي‪ ،‬وبواز ٍع من التداف ِع احلضاري‬
‫جتاو ِزها‪ ،‬أو ِ‬
‫حموها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫سوخ يف طبائ ِع األم ِم و‬ ‫ومادامت الهوية هبذا ُّ‬
‫سبيل إىل ُ‬ ‫َ‬ ‫الشعوب‪ ،‬فال‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الر ِ‬
‫ٍ‬ ‫انصهارها يف بو ِ‬
‫ائع‪ ،‬وبلغت ما بلغت‬ ‫ُ‬ ‫ذات سيطر ٍة ونفوذ‪ .‬مهما تك ِن الذر‬ ‫ُ‬ ‫تقة هوية واحدة ُمهيمنَة‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫أو‬
‫ِ‬
‫مترد على سن ِن الكون وفطر ِة‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫خروج على طبيعة األشياء‪ ،‬و‬ ‫افع‪ ،‬فليس يف ذلك فقط‬ ‫األسباب والدو‬
‫ِ‬ ‫خرق للقوان ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫مَّن‬ ‫ِ ُ‬
‫املتعارف عليها‬ ‫ني‬ ‫ٌ‬ ‫‪،‬‬ ‫اه‬ ‫اإلكر‬‫و‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫القس‬ ‫و‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫بالقه‬ ‫الشعوب‬ ‫هويات‬ ‫إلغاء‬ ‫لة‬ ‫حماو‬ ‫يف‬ ‫ا‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫احلياة‪،‬‬
‫السلم واالستقرار يف العامل‬ ‫وهتديد لألمن و ِّ‬ ‫ِ‬
‫القانون الدويل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ومس خطريٌ بقواعد‬
‫ٌ‬ ‫‪ .‬عند البشر‪ٌّ ،‬‬
‫أصدره ا ملؤمت ر ا لعام مل نظمة ا ألمما مل تحدة ل لرت بية وا لعلم وا لثقافة يف دور ته ا لرابعة عشرة ي وم ]‪[1‬‬
‫‪ 4.‬ن وفمرب ‪1966‬‬

‫‪39‬‬
‫ويف املعاج م احلديث ة فإهن ا ال خترج ع ن هذا املضمون‪ ،‬فالهوي ة‬
‫ُّخ ِ‬
‫ص املطلقة املشتملة على صفاته اجلوهرية‪ ،‬واليت‬ ‫هي‪":‬حقيقة الشيء ‪،‬أو الش ُ‬
‫‪ ".‬مُت يزه عن غريه‪،‬وتسمى أيضا وحدة الذات‬
‫املفهوم اللغوي لكلمة " هوية "‪ ،‬أو استندنا إىل املفهوم‬ ‫َ‬ ‫ولذلك فإذا اعتمدنا‬
‫الفلسفي احلدي ث‪ ،‬فإن املعىن العام للكلمة ال يتغري‪ ،‬وهو يشمل االمتياز عن الغري‪،‬‬
‫اجملتمع عن األغيار من‬
‫ُ‬ ‫الفرد أو‬
‫يتميز به ُ‬ ‫ُ‬ ‫واملطابقةَ للنفس‪ .‬أي خصوصيةَ الذات‪ ،‬وما‬
‫ات‪ ،‬ومن قي ٍم وم َق ٍ‬
‫ومات‬ ‫‪.‬خصائص ومميز ٍ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫القدر‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫األمم‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫أن الهوي ة الثقافيةَ واحلضاريةَ ٍ‬
‫ألمة‬ ‫وخالص ةُ ِ‬
‫القول ‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫سمات ِ‬ ‫مات وال َق ِ‬
‫الس ِ‬
‫العامة ‪ ،‬اليت مُت يز حضارةَ هذه‬ ‫املشرتك من ِّ‬
‫ُ‬ ‫اجلوهري و‬
‫ُّ‬ ‫الثابت و‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األمة عن غريها من احلضارات ‪ ،‬واليت جتعل للشخصية الوطنية والقومية األخرى[‪]1‬‬ ‫‪ِ .‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫الباسطة‬ ‫فكيف يتسىن احملافظةُ على الهوية الثقافية واحلضارية يف ظل العولمة‬
‫اليوم عل ى اجملتم ع الدويل ؟ ب ل كي ف ميك ن التوفي ق بني مقتضيات الس يادة‬
‫نفو َذه ا َ‬
‫‪.‬الوطنية‪ ،‬وبني متطلبات العولمة ؟‬

‫‪ .‬جم لة ا هلالل‪..‬د‪/‬حم مد عمارة‪ ..‬ف رب اير ‪ 1997‬ا لقاهرة ]‪[1‬‬ ‫‪40‬‬


‫الس ليب على الهوية والسيادة معاً‪ .‬و ُ‬
‫أول‬ ‫إن اجتاهات العولمة تسري حنو التأثري ِّ‬
‫ِ‬
‫الشعوب‪ .‬ه و مجعُ ه بني‬ ‫الغرب م ن ه ِ‬
‫ويات‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫موقف‬ ‫التأم ِل يف‬
‫عند ُّ‬‫م ا يثريُ االنتباه َ‬
‫ُ‬
‫يص عليها‪ ،‬وهو من جهة‬ ‫حر‬ ‫يته‬ ‫و‬ ‫شديد االعتزاز هِب‬
‫موقفني متناقضني‪ ،‬فهو من جهة ُ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫افض لالعرتاف باهلويات الوطنية لشعوب العامل ‪ ،‬إلحساسه بأن العولمة من‬ ‫ثانية ر ٌ‬
‫يد من الوعي باخلصوصية الثقافية واحلضارية‪ .‬وتلك يف نظر‬ ‫شأهِن ا أن تؤدي إىل مز ٍ‬
‫مفكروه ع ن هذه ِ‬
‫احلرية‬ ‫الغرب عموماً ه ي املعضلةُ الك ربى اليت يص طدم هب ا‪ ،‬ويعرِّب ِّ‬
‫ُ‬
‫بوضوح وصر ٍ‬
‫احة ال مز َيد عليهما‬ ‫ٍ‬ ‫‪.‬الفكر ِية‬
‫أحدث دراس ة لصمويل هنتنغتون‬ ‫ِ‬ ‫مل ) ‪ ( SAMUEL HUNTINGTON‬فف ي‬
‫يس لَّط عليه ا الضوء كم ا جرى م ع دراس ة ل ه س ابقة‪ ،‬يت بني التناق ض الذي تق ع في ه‬
‫تسود جمتمع النخبة‬
‫ُ‬ ‫القوة اجلديدة املنفردة بزعامة العامل‪ ،‬وتتضح احلرية العاصفة اليت‬
‫يف الغرب‪ .‬فقد كتب " هنتنغتون " يف عدد شهري ( نوفمرب – ديسمرب ‪) 1996‬‬
‫م ن جمل ة [شؤون خارجي ة] [‪]1‬دراس ة حت ت عنو ٍان مث ٍري للغراب ة فعال ‪ [ :‬الغرب‪:‬‬
‫يُفرق فيه ا بني " ) )‪ The west Unique Not Universal‬متفرد ولي س عاملياً‬
‫‪ :‬ويقول ‪" Westernization ،‬وبني "التغريب ‪" Modernization‬التحديث‬

‫‪[1] Samuel Huntigton ( The west : Unique Not Universal ) Foreign Affairs vol 75 N° 6 Nov‬‬
‫‪/ Dec 1996 pp,28-46 .‬‬
‫‪41‬‬
‫يج «‬ ‫دخليف ا لنس ِ‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫هل‬ ‫كن‬ ‫مي‬ ‫ال‬ ‫َّإن ُش عوبا لعا ِمل غري ا لغر ب ِ‬
‫ية‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وشاهدت ألفالم ا ألمر يكي ة‪،‬‬ ‫ا‬ ‫بضائع ا لغر بي ة‪،‬‬ ‫هلكت ل ُ‬ ‫وإن اس تَ ِ ا‬ ‫لغربحىت ِ‬ ‫حلضاريل ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ا‬
‫لعادات‬
‫لقيم وا ُ‬ ‫ا‬‫و‬ ‫لدين‬ ‫ا‬‫و‬ ‫غة‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ل‬ ‫ا‬‫هي‬ ‫عت ىلا ملوسيقىا لغر بية‪ .‬ف روح أي ٍ‬
‫حضارة‬ ‫واستَ َم إ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫لرومانية‬ ‫لغربت تميز ب كوهن ا ور يثَةُ ا حلضار ِاتا ل ِ‬
‫يونانية وا‬ ‫وا لتقا ل ُيد‪ .‬وحضارةُ ا ِ‬
‫ُ‬
‫لفصلب ني ا لدينوا لدو ِلة‪،‬‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ا‪،‬‬ ‫غاتش عوهِب‬ ‫تينية لِ لُ ِ‬
‫صولا لال ِ‬ ‫ُ‬ ‫أل‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ية‪.‬‬ ‫ب‬ ‫لغر‬ ‫ا‬ ‫وا مل سيحيِ‬
‫ة‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫هلياكل ا لنيابية ‪ ،‬وا حلريةُ‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫‪.‬‬‫ملدين‬
‫ِّ‬ ‫ا‬ ‫تمع‬
‫ِ‬ ‫جمل‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫ِّ‬ ‫ظ‬ ‫يف‬ ‫تعددية‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫وس يادةُ ا ِ‬
‫لقانون‬
‫ُ‬
‫‪».‬ا لفرديةِ‬
‫‪:‬ويضيف قائالً‬
‫الثقايف يف ”‬
‫َ‬ ‫يب‬
‫ميكن أ ن حيقِّقاَ التغر َ‬ ‫النمو االقتص ادي ال ُ‬ ‫َّحديث و َ‬ ‫إ ن الت َ‬
‫ت‬‫ك بالثقافاَ ِ‬ ‫يد من التمس ِ‬ ‫ؤديان إىل مز ٍ‬ ‫بية ‪ ،‬ب ل عل ى العك س‪ ،‬ي ِ‬ ‫اجملتمعات غ ِري الغر ِ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الغرب عن وه ِم‬ ‫ى‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫يتخ‬ ‫لكي‬ ‫حان‬
‫َ‬ ‫قد‬ ‫الوقت‬ ‫َّ‬
‫فإن‬ ‫لذلك‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الشعوب‬ ‫لتلك‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫األصلية‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫انسجامها وحيويتهاَ يف مواجهة حضارات العامل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫قوة حضار ِته و‬ ‫نمي َ‬ ‫العولمة‪ ،‬و ْ‬
‫أن يُ ِّ‬
‫ِ‬
‫حدود‬ ‫ور ْس َم‬ ‫ة‪،‬‬ ‫يكي‬ ‫األمر‬ ‫املتحدة‬ ‫الواليات‬ ‫ِ‬
‫بقيادة‬ ‫ِ‬
‫الغرب‬ ‫وحدة‬ ‫يتطلب‬ ‫األمر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وهذا ُ‬
‫س الثقايف‬ ‫‪ ”.‬العا ِمل الغريب يف إطار التجانُ ِ‬
‫‪42‬‬
‫الغرب ‪،‬‬ ‫ها‬‫خيوض‬ ‫اليت‬ ‫فهل العولمة صيغةٌ جديدةٌ من صي ِغ املواجهة احلضار ِ‬
‫ية‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فرض ِ‬
‫هيمنة‬ ‫أجل ِ‬ ‫وثقافات ِ‬
‫األمم ‪ ،‬ومن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الشعوب‬ ‫ِ‬
‫هويات‬ ‫باملفهوم العام للغرب‪َّ .‬‬
‫ضد‬
‫وإخضاع العامل لسيطر ِة حضارةٍ و ٍ‬
‫احدة ؟‬ ‫ِ‬ ‫‪.‬ثقافة و ٍ‬
‫احدة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫املفهوم تتعارض – تعارضاً تاماًّ –مع قو ِ‬
‫اعد القانون الدويل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫إن العولمة هبذا‬
‫ُ‬
‫تتعارض كليةً م ع االقتص اد الوطين ‪ ،‬وم ع‬ ‫لية ‪ ،‬ب ل إهن ا‬ ‫ِ‬
‫العالقات الدو ِ‬ ‫وم ع ط ِ‬
‫بيعة‬
‫ُ‬
‫التنوع الثقايف‪ .‬والعولمة إذا سارت يف االجتاه املرسوم‬ ‫ِ‬ ‫السيادةِ الوطنية‪ ،‬ومع ِ‬
‫قانون‬
‫ِ‬
‫املضمون‬ ‫وشيك لالس تقرار العامل ي؛ أل ن العولم ة هبذا‬ ‫ٍ‬ ‫هل ا‪ ،‬س تكو ُن إنذاراً باهنيا ٍر‬
‫ِ‬
‫التعايش الثقايف بني‬ ‫اس‬
‫وتنسف أس َ‬
‫ُ‬ ‫تضرب الهوية الثقافيةَ واحلضاريةَ يف الصميم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطابع ال َق ْس ِري‪ُ ،‬‬
‫ست َؤدي إىل‬ ‫أن العولمة هبذا املفهوم الشمويل ذي ِ‬ ‫الشعوب‪ .‬كما َّ‬
‫ِ‬
‫الفنون‬ ‫ِ‬
‫التجارة ‪ ،‬ويف‬ ‫ِ‬
‫السلوك‪ ،‬ويف االقتصاد و‬ ‫فوضى على مستوى ِ‬
‫العامل ‪ ،‬يف الفك ِر و‬
‫‪.‬واآلداب‪ ،‬ويف العلوم والتكنولوجيا أيضا‬

‫‪43‬‬
‫متلك أن حُت ِّرر يف ِ‬
‫الوقت الر ِ‬
‫اهن‬ ‫فإن اإلنسانيةَ ال ُ‬ ‫وعلى الرغم من ذلك ُكلِّه‪َّ ،‬‬
‫َ‬
‫العاملي اجلديد يف‬ ‫ِ‬
‫النظام‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫مساير‬ ‫إىل‬ ‫ِ‬
‫الشديدة‬ ‫ضغوط العولمة‪ ،‬نظراً إىل حاجيتها‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫ِّ‬
‫لوجية ‪ ،‬ولكنه ا تس تطيع إجياد تيا ٍر ثقايف م ٍ‬
‫ضاد‬ ‫العلمية والتكنو ِ‬ ‫اجتاهات ه االقتص ادية و ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫فكرة ونظاماً‪ ،‬وتطبيقاً‬ ‫يقف يف مواجهة روح اهليمنة اليت تنطوي عليها هذه العولمة ً‬
‫تبة عليه ا‪ ،‬يف انتظا ِر بُرو ِز قوى عاملي ة جديدة‬ ‫التعامل م ع اآلثا ِر املرت ِ‬
‫ِ‬ ‫وممارس ةً‪ ،‬ويف‬
‫األقل ُمنافِس ةٌ‬
‫العاملي ‪ ،‬أو على ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫النظام‬ ‫ِ‬
‫مقاليد‬ ‫يف‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫حالي‬ ‫ِ‬
‫املتحكمة‬ ‫اوئةٌ لل ُق ِ‬
‫وة‬ ‫ستكون ُمنَ ِ‬
‫‪ .‬هلا منافسةَ الند للند‬
‫ومعظَ ُم ُهم من‬ ‫اتيجيني‪،‬‬ ‫اإلسرت‬ ‫الدارسني‬ ‫ومن‬ ‫ِ‬
‫املستقبليات‬ ‫إن طائفةً من ِ‬
‫علماء‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫سيقع يف ميز ِان القوى العاملية‬ ‫القول َّ‬‫يذهبون إىل ِ‬ ‫ِ‬
‫بأن اختالال حامس اً ُ‬ ‫َ‬ ‫نفس ه‪،‬‬
‫الغرب ُ‬
‫ب‬ ‫َّ‬
‫ت‬ ‫يرت‬ ‫وس‬ ‫احلايل‪.‬‬ ‫القرن‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫األول‬ ‫ني الس ياسي واالقتص ادي يف العِ ِ‬
‫قد‬ ‫عل ى املس توي ِ‬
‫ُ‬
‫األمر الذي سيكو ُن تعزيزاً‬ ‫وهو‬ ‫‪،‬‬ ‫العولمة‬ ‫توج ِ‬
‫هات‬ ‫جذري يف ُّ‬ ‫ٌّ‬ ‫عل ى ذل ك‪ ،‬انقالب‬
‫ُ‬
‫القانون الدويل‪ ،‬ال على ِ‬
‫منطق‬ ‫ِ‬ ‫القائمة على قو ِ‬
‫اعد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للشرعية الدولية‬ ‫وترسيخاً وإعالءً‬
‫احلرب الباردةِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫معارك‬ ‫القوة و ِ‬
‫الغلبة والظَّف ِر يف‬ ‫‪ِ .‬‬

‫‪44‬‬
‫نقول ‪،‬‬
‫نستطيع أن َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اهن‬ ‫الر‬ ‫الدويل‬ ‫اقع‬
‫ِ‬ ‫الو‬ ‫إىل‬ ‫ٍ‬
‫موضوعية‬ ‫خالل ٍ‬
‫رؤية‬ ‫إننا ومن ِ‬
‫ُ‬
‫لرتسيخ مبدأَ‬
‫ِ‬ ‫اجلهود الدوليةُ‬
‫ُ‬ ‫املفتوح على املستقبل‪ ،‬هو أن تتظا َفَر‬ ‫َ‬ ‫تاح و‬
‫اخليار املُ َ‬
‫إن َ‬ ‫َّ‬
‫فكرة احلوا ِر بني الثقافات واحلضارات‪ ،‬وللتأكي د عل ى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وإلنعاش‬ ‫التنوع الثقايف ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كل ِ‬
‫أمناط‬ ‫الشامل الذي تندر ُج حتتَهُ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫التعاون الدويل الثقايف يف ِ‬
‫إطاره‬ ‫ِ‬ ‫ضرورة ِ‬
‫تفعيل‬ ‫ِ‬
‫ملة يف شكلِها املتَ َج ِّه ِم الذي ال‬ ‫لبية للعو ِ‬
‫الس ِ‬‫للحد من اآلثا ِر ِّ‬ ‫التعب ِري اإلنساين‪ ،‬وذلك ِّ‬
‫العامل ‪ ،‬والذي يؤديُ إىل « ظروف‬ ‫لشعوب ِ‬ ‫ِ‬ ‫الثقافية واحلضار ِية‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للهويات‬ ‫يقيم اعتبارا‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫سحاب‪،‬‬ ‫ويتجه ُم من‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫ويتفجُر من أزمات ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫مشاكل ‪،‬‬ ‫يتالحق من‬ ‫ٍ‬
‫عصيبة مبا‬ ‫ٍ‬
‫عسرية‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫النفوس من‬ ‫جاه للروح وسلطان‪ ،‬ويُشيع يف‬ ‫ويتضاءل من ٍ‬‫ُ‬ ‫للمادة من ٍ‬
‫نفوذ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ويتطاول‬
‫ُ‬
‫ئلة ال يطرحه ا التفاؤ ل‬ ‫وخوف‪ .‬ويتواىل عل ى األلس ِنة والقلوب م ن أس ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قلق‬
‫‪.‬واالستبشار »[‪]1‬‬

‫غرب حلسنا لثاين رمح ها هلل ]‪[1‬‬


‫‪ .‬م نق ولملكا مل ا‬

‫‪45‬‬
‫هل في استطاعة العولمة أن تُهدر الهوية ؟‬

‫يق م ن املفكري ن يعتقدون أ ن العولم ة ُوجدت لتكون بديالً ِّ‬


‫لكل‬ ‫هناك فر ٌ‬
‫األعمال الذي ن ال‬‫ِ‬ ‫ويقف إىل جان ب هذا الفر ِيق س ائر ِ‬
‫رجال‬ ‫االنتماءات األخرى‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫َّالف‬ ‫احلياة إال الكسب‪ ،‬يضاف إىل ِ‬ ‫يهمهم من ِ‬
‫الضائع الت ُ‬
‫ُ‬ ‫يق‬
‫ُ‬ ‫الفر‬ ‫هو‬ ‫آخر‬
‫ُ‬ ‫يق‬
‫ٌ‬ ‫فر‬ ‫هؤالء‬ ‫ُ ُ‬
‫‪ .‬الذي يشعر باإلحباطِ‬
‫ُ‬
‫أقرأ عما ُكتب حول هذا‬‫انتصبت أمامي وأنا َ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫العناوين اليت‬ ‫وقد كان من بني‬
‫أخالق كو ٍ‬
‫كبية‬ ‫ِ‬ ‫املوضوع‪ ،‬عنوان‪ " :‬العولمة آتيةٌ ال حمالة‪ ،‬وعلينا أن نعمل يف ِ‬
‫اجتاه‬ ‫َ‬
‫كان ممَّ ا قرأتُ ه م ن عناوي ن ‪ ":‬الهوي ة تعين فكراً رجعياً بينم ا‬
‫كة "… كم ا َ‬ ‫مشرت ٍ‬
‫ُ‬
‫‪ ".‬العولمة تعين فكراً تقدُّمياً‬

‫‪46‬‬
‫مييل إىل االعتقاد‬ ‫املتفائل وهو الذي ُ‬ ‫ِ‬ ‫آخر ميكن أن نُنعتَ ه بالفر ِيق‬ ‫هناك فريقاً َ‬ ‫على أن َ‬
‫تناقض إطالقً ا بني العولم ة وبني الهوي ة‪ ،‬فالعولم ة تس ريُ يف طريقه ا‬ ‫ٌ‬ ‫بأنَّ ه ال ُ‬
‫يوجد‬
‫يكون من حق كل واحد أن حيتفظ هبُويته‬ ‫سيادة العِلم‪ ،‬بينما ُ‬ ‫ِ‬ ‫تعتمد على‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫املعروف‬
‫ِ‬
‫العولمة‬ ‫َّدت اهلويات داخل ِ‬
‫هذه‬ ‫‪ .‬كما شاء وعلى الطريقة اليت يريدها‪ ،‬ولو تعد ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أن لُغتَه ا لُغةٌ‬ ‫ِ‬
‫بالرغم م ن َّ‬ ‫بعدد من ِ‬
‫الدول اليت‬ ‫وهذا الفريق ال يعجزه ضرب األمثل ة ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫بكل أنواع‬ ‫اكب العولمةَ ِّ‬ ‫الدول ‪ ،‬تُو هِتُ‬
‫ُ‬ ‫تلك‬
‫مهجورةٌ عاملياً نُطقاً ورمس اً‪ ،‬لكنه ا‪ ،‬أ ي َ‬
‫ويذكرون يف صدر‬ ‫َ‬ ‫حتتفظ فيه بعادهِت ا وتقاليدها ومعتقدا ا‪.‬‬ ‫الوقت الذي ُ‬ ‫اكبة يف ِ‬ ‫املو ِ‬
‫نذكر إسرائيل‬ ‫ال‬ ‫رونة ‪ :‬اليابان والصني وكوريا‪ ،‬ومِل‬ ‫كمثال على هذه امل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫هذه ِ‬
‫الدول‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫عرف طريقةَ إمالئِه ا وكتابتِه ا‪ ،‬وم ع ذل ك فإهن ا تقوم‬ ‫اجلهات اليت نَ ُ‬ ‫م ن بني تل ك‬
‫العلمية اليت تظهر بلغات أخرى يف سائر‬ ‫ِ‬ ‫برتمجة سائِِر الكتب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ومنتظمة‬ ‫ٍ‬
‫وبصفة مستمر ٍة‬
‫ف أمام‬ ‫ع‬ ‫تض‬ ‫ال‬ ‫حىت‬ ‫عد‬ ‫الص‬
‫ُّ‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫خمت‬ ‫على‬ ‫ِ‬
‫الوطنية‬ ‫ا‬ ‫بقاع العامل‪ ،‬تُرتمجها فوراً إىل لغاهِت‬‫ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وية أبنائها‬ ‫طوة خطوة‪ ،‬يف الوقت الذي حتافظ فيه على ه ِ‬ ‫العاملي ُخ ً‬ ‫الر ِ‬
‫كب‬ ‫مسايرة َّ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫وخصوصيتِهم‬
‫ِ‬ ‫‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫ختتار لنفسها ما يناسبها‪ ،‬فإن‬ ‫كان من ِّ ِ‬ ‫ومن هنا أختلَّص إىل ِ‬
‫حق الدُّول أن َ‬ ‫القول بأنه إذا َ‬
‫ِ‬
‫مقدمة الذين يستفيدون من العولمة شريطةَ أن نكون على أمَتِّ استعداد‬ ‫علينا أن نكون يف‬
‫ابت ُهويتِنا‬ ‫إذابة شخصيتِنا و ِ‬
‫القضاء على ثو ِ‬ ‫يات اليت قد تعمل على ِ‬ ‫املغر ِ‬
‫كل ِ‬ ‫ِ‬
‫‪.‬ملقاومة‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫متس كنا بلغتنا وجعلناها وسيلتَنا عن طر ِيق‬ ‫ومفيدة إال إذا َّ‬
‫ً‬ ‫ولن تكون تلك املقاومةُ جمديةً‬
‫األمينة لتلَ ِّق ي سائ ِر ِ‬
‫ومفيدة ‪ ،‬إال إذا عرفنا‬
‫ً‬ ‫تلك املقاومةُ جمديةً‬‫تكون َ‬
‫العلوم ‪ ،‬ولن َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ‬
‫الرتمجة‬
‫ضعف … إن ذلك هو‬ ‫ٍ‬ ‫ب‬‫بشعائرنا دون ما ُشعو ٍر مبر َك ِ‬
‫ِ‬ ‫ونقوم‬ ‫حنرتم حنن عقيدتَنا‬ ‫كيف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪ .‬الذي سيحمل اآلخرين على االلتفات إىل مقوماتِنا‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪48‬‬
‫‪:‬العولمة‪ :‬جدل العدوان والمقاومة الثقافيين‬
‫ِ‬
‫ظاهرة ‪-‬‬ ‫قبة –وم ن‬ ‫لي س ص حيحا أ ن العولم ة الثقافي ة ه ي االنتقال م ن ِح ِ‬
‫جديدة هي الثقافةُ العاملية أو الثقافة الكونيةُ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫القومية إىل ٍ‬
‫ثقافة ُعليا‬ ‫الوطنية و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الثقافات‬
‫فعل‬ ‫–‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫بالتعر‬ ‫–‬ ‫ا‬ ‫إهن‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الثقافية‬ ‫ة‬ ‫العولم‬ ‫عل ى حن ٍو م ا يدَّع ي ُمس ِّوقُو ِ‬
‫فكرة‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫رديف االخرتاق الذي جيري‬ ‫ثقايف وعدوان َرمزي على سائ ِر الثقافات‪ .‬إهنا ُ‬ ‫اغتصاب ٍّ‬
‫ِ‬
‫اجملتمعات اليت تَبلُغه ا‬ ‫ِ‬
‫الثقافة يف س ائ ِر‬ ‫فتنه ِد ُر س يادةُ‬
‫بالعن ف – املس لح بالتِّقاَن ة – َ‬
‫الفهم‬ ‫هذا‬ ‫على‬ ‫د‬‫ِّ‬ ‫الر‬
‫َّ‬ ‫يف‬ ‫عمليةُ العولمة‪ .‬وإذا كان حيلو لكثريين أن يتَح ْذلَ ُقوا بِإفر ٍ‬
‫اط‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫همة االنغالق الثقايف أمام تيارات العص ِر‪ ،‬والدعوة إىل‬ ‫الثقافية ‪ ،‬فريمُج ونَ ه بتُ ِ‬
‫ِ‬ ‫للعو ِ‬
‫ملة‬
‫ُ‬
‫األصالة‪ ،‬وم ْشتقاهِت ما … )‬ ‫ِ‬ ‫الذات ( والهوية‪ ،‬و‬ ‫َّشرنُِق على ِ‬
‫‪.‬االنكفاء والت َ ْ‬
‫اويل االنفتاح الثقايف غري‬ ‫َ‬ ‫وإذا كان حيل و هل م أ ن يُعيدوا عل ى أمس اعنا مو‬
‫وم ْكتَ َس باتِِه و ُك ُشوفِ ِه املعرفيةِ… إخل ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫املشروط عل ى "اآلخ ر" لالنتهال م ن مو ِار ِ‬
‫د‬ ‫ِ‬
‫ف والع ِ‬
‫نف‬ ‫الفارق بني التَّثاَقُ ِ‬ ‫وجوب وع ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت انتباهه م إىل‬ ‫ِ‬ ‫فإن ه ي ِ‬
‫ُ‬ ‫يب لن ا أ ن نُلف َ‬
‫َ ُ‬ ‫ط‬
‫جانب و ٍ‬
‫احد‬ ‫‪.‬الثقايف من ٍ‬
‫‪49‬‬
‫بعضه ا اآلخ ِر‪،‬‬‫بعضه ا إىل ِ‬ ‫ِ‬
‫الثقافات ِ‬ ‫املتباد َل م ن س ائر‬
‫األول اإلص غاءَ َ‬ ‫يعين ُ‬
‫حبق االختالف وه و م ن ِ‬
‫أقدس‬ ‫املتباد َل بينه ا‪ ،‬ومن ه االعرتاف ِ‬ ‫كم ا يعين االعرتاف َ‬
‫ان‪ ،‬فيم ا ال ينطوي الثاين س وى عل ى اإلنكا ِر واإلقص ِاء ِ‬
‫لثقافة الغ ِري‪،‬‬ ‫حقوق اإلنس ِ‬ ‫ِ‬
‫األول معىن احلوا ِر‬‫رؤية ثقافتِه‪ .‬يرادف ُ‬ ‫الذاتية يف ِ‬ ‫ِ‬ ‫وعل ى االس تعالء واملركز ِية‬
‫األهم يف األم ِر‪ ،‬فهو أن‬ ‫يتالزم معىن الثاين مع اإلكراه والعدوان‪ .‬أما ُّ‬ ‫ُ‬ ‫التفاه ِم ‪ ،‬بينما‬
‫و ُ‬
‫ِّية ‪ ،‬وه و م ا ميتنِع دون اعتبار أيَِّة ٍ‬
‫ثقافة‬ ‫الثقافات عل ى ِ‬
‫قاعدة النِّد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف جيري بني‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫التَّثاقُ َ‬
‫ب معه سوى عن‬ ‫التجاو‬ ‫و‬ ‫اق‬ ‫االخرت‬ ‫فعل‬ ‫رِّب‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫فيما‬ ‫ية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫مز‬ ‫الر‬
‫َّ‬ ‫ها‬‫لشخص يتِها وحرمتِ‬
‫ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫دروس األنثروبولوجي ا‬ ‫ِ‬ ‫بدائي م ن‬ ‫درس‬ ‫هذا‬ ‫‪،‬‬ ‫أي حوا ٍ‬
‫ر‬ ‫ُّ‬ ‫و‬ ‫انفتاح‬
‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫ا‬ ‫ه‬‫َ‬‫ا‬‫يأب‬ ‫ٍ‬
‫دونية‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫طقوس التبشري‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ح‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ت‬‫ف‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫قبل‬ ‫أوه‬‫يقر‬ ‫أن‬ ‫االنفتاح‬ ‫ِ‬
‫بدعاة‬ ‫حري‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫املعاصر‬ ‫ِ‬
‫‪.‬الثقافية‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫تلك العولمة‬ ‫تكون َ‬ ‫أي اخرت ٍاق ثقايف هذا الذي نعنيه‪..‬أ و ماذا مُي كنُها أ ن َ‬ ‫ُّ‬
‫عاملية جديدةٍ ؟‬
‫لثقافة ٍ‬
‫الثقافية إن مل تكن صناعةٌ ٍ‬

‫‪50‬‬
‫ليست العولمة تلك – يف مفهومنا‪ -‬سوى السيطرةُ الثقافيةُ الغربيةُ على سائ ِر الثقافات‪ ،‬بواسطة‬
‫مديدة من السيطرة‬ ‫ٍ‬ ‫َّتويج التار ِخي ُّي لتجر ٍبة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استثمار مكتسبات العلوم والتِّقانة يف ميدان االتصال‪ .‬وهي الت ُ‬
‫إحلاق التص ِ‬
‫فية‬ ‫جناحات ك بريةٌ يف ِ‬ ‫قرون ‪َّ ،‬‬
‫وحقق ت‬ ‫ِ‬
‫عمليات الغز ِو االس تعماري من ذ ٍ‬ ‫بدأ ت من ذ انطالق‬
‫ٌ‬
‫لعل هذا ما‬ ‫عديدة ‪ ،‬وخباصة يف إفريقيا وأمريكا الشمالية والوسطى واجلنوبية‪ .‬و َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جنوبية‬ ‫ٍ‬
‫بثقافات‬ ‫واملسخ‬
‫ُّدها‬ ‫جديدة من متد ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ميالد ٍ‬
‫حقبة‬ ‫كد من أن العولمة ال تُؤرخ لنهاية عص ِر الدولة القومية‪ ،‬بل تُعلن عن ِ‬ ‫يؤ ُ‬
‫احلدود‪ ،‬الذي‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الثقافية اليوم‪ ،‬إالَّ مظهراً من مظاه ِر تلك التَّمدُّد خارج‬ ‫املستمر‪ ،‬وليس ما يدعى بالعولمةِ‬
‫ُ‬
‫القومية احلديثةِ‬
‫ِ‬ ‫‪.‬هو آليةٌ طبيعيةٌ يف نظام اشتغال الدولةِ‬
‫عالقة أخرى من السيطر ِة‬ ‫على أن هذه السيطرةُ الثقافيةُ الغربية العامة تنطوي –يف داخلِها‪ -‬على ٍ‬
‫امتداد سائر العامل‪ .‬أما هذه‬ ‫لثقافة أقوى تتمدَّد أحكامه ا على ِ‬ ‫جتع ل ثقافات غربي ة عديدة يف موقع تبعي ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍّ‬
‫والعولمة – " ‪ " "Americanisation‬السيطرةُ اليت نعين‪ ،‬فهي اليت مُي كنُنا التعبري عنها بعبارة ْ‬
‫"األمَر َكةُ‬
‫األمر َك ة أسطورةٌ جديدةٌ من أساطرينا السياسية‪ ،‬وال هي‬ ‫كي هلا‪ .‬ليست ْ‬ ‫اإلسم احلر ُّ‬
‫ُ‬ ‫يف ما نزعم – هي‬
‫تعيشها أوروبا نفسها‪ ،‬وحتتَ ُّج عليها‪ ،‬وتُنظِّ ُم‬ ‫ِ‬
‫وعجزنا‪ ،‬بل هي حقيقةٌ ماديةٌ ُ‬ ‫مشاعة نُعلِّ ق عليها إخفاقاهِت ا‬
‫ِ‬
‫وهويتَها الثقافية‪ .‬وقد‬ ‫مقاو َمتَها ضدَّها‪ ،‬وتَعتَرِب ُها خطراً إسرتاتيجياً يهدِّد استقالهلا االقتصادي والسياسي ُ‬ ‫َ‬
‫بات يُعرف باس م االس تثناء‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قاو َمةُ فرنس ا هل ا – مبناس بة مفاوضات " الغاَت " – ودفاعُه ا عما َ‬ ‫تكون ُم َ‬
‫وشر َس ةٌ وليس ت‬ ‫خماطره ا‪ ،‬وه ي –للتذكري ‪ -‬مقاومةٌ حقيقيةٌ ِ‬ ‫جوده ا وعل ى ِ‬ ‫دليل عل ى و ِ‬ ‫طع ٍ‬
‫ُ‬ ‫الثقايف‪ .‬أس ُ‬
‫أهل العامل الثالث‬ ‫قون ِ‬ ‫للضحك على ذُ ِ‬ ‫‪.‬مسرحية سياسيةٌ ِ‬

‫‪51‬‬
‫‪‬‬
‫كيف يمكن التعامل مع ظاهرة "العولمة " ؟‬
‫السلبيات واألخطار اليت تطبَ ُع عالقةُ العولمة بالعرب على‬ ‫ِ‬ ‫ما العمل إزاء هذه‬
‫صعيد الهوية الثقافية ؟‬
‫‪ :‬هناك موقفان سهالن‪ ،‬ومها السائدان‬
‫ٍ‬
‫سلبية‬ ‫يتبع ذلك من ردود ٍ‬
‫فعل‬ ‫فض ِ‬ ‫موقف الر ِ‬
‫الكلي وما ُ‬ ‫ُ‬ ‫وسالحه االنغالق‬
‫ُ‬ ‫املطلق‬
‫‪.‬حمار ٍبة‬
‫استتباع حضاري‪ ،‬شعاره‬ ‫متارس ه من اخرتاق ثقايف و‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬ ‫وموقف ال َقبول التام للعوملة وما ُ‬
‫ِ‬
‫احلداثة‬ ‫" "االنفتاح على العص ِر" و " املراهنةُ على‬
‫نيف هذي ن املوقفني ضم ن املواق ف الالتاَر ِخي ِية اليت تواج ه‬ ‫مفر م ن تص ِ‬ ‫ال َّ‬
‫بعقل " ُم ٍ‬
‫ستقيل" ال‬ ‫تس َت ْقبِلها ٍ‬ ‫وإمنا‬ ‫ه‪،‬‬ ‫اثق بنفسه متم ِّك ٍن من قُ ُدراتِ‬
‫بعقل و ٍ‬
‫املشاكل ‪ ،‬ال ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كل‬
‫باهلروب منها‪ ،‬إما إىل الوراء وإما إىل األمام‪ُّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫يرى صاحبَه خَم رجاً من املشاكل إال‬
‫تقفز على الواقع إىل الالواقع‬ ‫مَل‬‫للعا‬ ‫ية‬‫سحر‬ ‫رؤية‬ ‫ه‬ ‫‪.‬س ِ‬
‫الح‬ ‫ِ‬
‫ُ‬

‫‪52‬‬
‫إن االنغالق موقف سليب‪ ،‬غريُ فاعل‪ ،‬ذلك ألن فعلَه " امل َو َّجه " ضد االخرتاق الثقـايف –أي‬ ‫َّ‬
‫قصد "‬
‫الذات َ‬ ‫وج ه كلُّه إىل ِ‬ ‫أي ُ ٍ‬
‫فعل ‪ ،‬بل فعلُه ُم َّ ُ‬ ‫يفعل فيه ُّ‬
‫ُ‬ ‫ميس ه وال‬
‫ينال االخرتاق وال ُّ‬ ‫حماربتَه له‪ -‬ال ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫يكون مفيدا عندما يكون املتحاربان على نسبة َمعقولة من تكافؤ القوى‬ ‫التحصني إمنا ُ‬ ‫حتصينها "‪ .‬و‬
‫ُ‬
‫‪.‬والقدرات‬
‫عاملية تَدخ ل مجي ع ال بيوت وتفع ل فِعلَه ا باإلغراء والعدوى‬ ‫بظاهرة ٍ‬‫ٍ‬ ‫أم ا عندم ا يتعل ق األم ر‬
‫ينقلب إىل‬ ‫فإن االنغالق يف هذه ِ‬
‫احلالة‬ ‫بتخطيط واس رتاتيجيا‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫واحلاج ة‪ ،‬ويَفرضه ا أص حاهُب ا فرضاً‬
‫ُ‬
‫حمكوم‬ ‫موت بطيء‪ ،‬قد تتخلَّلُه بُطوالت ُمدهشة‪ ،‬و َّ‬
‫لكن صاحبَه‬ ‫باإلخفاق ٍ‬‫ِ‬ ‫‪.‬عليه‬
‫ٌ‬
‫إن ثقافةَ االخرتاق‪ ،‬أعين إيديولوجيةَ االرمتاء يف‬ ‫مثل مقابله‪ :‬االغرتاب[‪َّ ..]1‬‬ ‫ومثل االنغالق ٌ‬ ‫ُ‬
‫الالهوية‪ ،‬وبالتايل فهي ال تستطيع‬ ‫من‬ ‫أي‬ ‫‪،‬‬ ‫اغ‬
‫ِ‬ ‫الفر‬ ‫من‬ ‫تنطلق‬ ‫ثقافة‬ ‫فيها‪،‬‬ ‫االندماج‬ ‫و‬ ‫العولمة‬ ‫ِ‬
‫أحضان‬
‫ُ‬ ‫ٌ ُ‬
‫أ ن تبين هويةً وال كياناً‪ .‬يقول أص حاب هذا املوق ف‪ :‬إن ه ال فائدة يف املقاوم ة وال يف االلتجاء إىل‬
‫ٍ‬
‫حدود‪ ،‬ألهنا ظاهرةٌ حضاريةٌ عامليةٌ ال‬ ‫ترد ٍد ومن ِ‬
‫دون‬ ‫اث‪ ،‬بل جيب االخنراط يف العولمة من دون ُّ‬ ‫الرت ِ‬
‫يتعلق بـ" قطا ٍر جي ب أ ن نركبَهُ " وه و‬ ‫حتقيق التقدُِّم‬ ‫ُ ِ‬
‫األمر ُ‬
‫خارجها‪ .‬إ ن َ‬ ‫َ‬ ‫الوقوف ضده ا وال ُ‬ ‫ميك ن‬
‫‪.‬ماض يف طر ِيقه بنا أو من ُدونِناَ‬
‫ٍ‬

‫سالمي ض منس لسلة مقا التنا يف ‪ :‬ق ضايا ]‪[1‬‬


‫اب لعر يب" و " ا لتغر يبوخطره علىا لعا مل ا إل "‬
‫انظر‪ " :‬ا الغرت ا‬
‫‪.‬ف كرية معاصرة‬

‫‪53‬‬
‫دالية هلذه الدعوى‪ ،‬يكف ي التَّنبِيهُ إىل أهَّن ا الدعوى‬ ‫مناقشة ِج ٍ‬‫ٍ‬ ‫وبعيداً ع ن‬
‫يد من قرن‪ ،‬ومنذ‬ ‫أن َّادعاهاَ ونادى هبا مفكرون عرب رواد منذ أز ِ‬ ‫نفس ها اليت سبق ِ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫حكومات‬
‫ٌ‬ ‫وتتكر ُر هن ا وهناك يف الوط ن العريب ‪َ ،‬تبنَّْته ا‬ ‫ترتد ُد َّ‬‫ذل ك الوقت وه ي َّ‬
‫كامل م ن التبش ِري هبذه‬ ‫ٍ‬ ‫وأحزاب فضالً ع ن األفراد‪...‬وم ع ذل ك فحص يلةُ ٍ‬
‫قرن‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫الدعوى‪ - ،‬دعوى " االغرتاب"‪ -‬مل تُنتج سوى فئةٌ من " العصرانيني " قليلة العدد‪،‬‬
‫الطرف ِ‬
‫املقابل هلا‬ ‫ُ‬ ‫ويزداد‬
‫ُ‬ ‫ازداد‬
‫اليوم تناقص اً نسبياً واضحاً يف حجمها‪ ،‬بينما َ‬ ‫َ‬ ‫نشاهد‬
‫ُ‬
‫ائح االجتماعية‪.‬‬ ‫وداخل مجيع الشر ِ‬ ‫مجيع األقطا ِر العر ِ‬
‫بية‬ ‫َّة ‪ ،‬كماًّ وكيفاً‪ ،‬يف ِ‬ ‫عددا وعد ً‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫األجيال‬
‫َ‬ ‫تقطب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ارس اهليمنة والقيادة تس‬ ‫ٍ‬
‫وهكذا فبدالً م ن تيارات "حداثي ة " مُت‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫احلديث ع ن "األص و ِ‬
‫الدينية " بوص فها الظاهرة‬ ‫لية‬ ‫ُ‬ ‫ود‬
‫الص اعدةَ‪ ،‬بدالً م ن ذل ك يس ُ‬ ‫َّ‬
‫‪ .‬املهيمنة‬
‫حيح ع ن س ؤ ٍال " م ا العم ل "؟‪ -‬س واء إزاء‬ ‫اب الص َ‬ ‫أم ا حن ن فنرى أ ن اجلو َ‬
‫الثنائيةُ (ثنائية التقليدي والعصري) واالنشطار اللَّذين تُعانيهما الثقافةُ العربيةُ‪ ،‬أو إزاء‬
‫كل شي ء ِم ن‬ ‫ينطلق أوالً وقب ل ِّ‬ ‫الثقايف وإيديولوجيةُ العولم ة ‪ -‬جي ب أ ن َ‬ ‫ُّ‬ ‫االخرتاق‬
‫الثقايف أ و‬
‫ِّ‬ ‫بية نفس ها‪ ،‬ذل ك ألن ه س واء تعل ق األمر ِ‬
‫باجملال‬ ‫الثقافة العر ِ‬
‫ِ‬ ‫داخل‬ ‫ِ‬
‫العمل‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ميارس‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫اخلارجي‬
‫ُّ‬ ‫الفعل‬
‫ُ‬ ‫استطاع‬
‫َ‬ ‫ا‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫الداخلي‬ ‫عف‬
‫ُ‬ ‫الض‬
‫َّ‬ ‫لوال‬ ‫أنه‬ ‫كد‬ ‫املؤ‬ ‫فمن‬ ‫‪.‬‬ ‫بغريه‬
‫ِ‬
‫جتعل منه خطراً على الكيان والهوية‬ ‫اليت‬ ‫‪ .‬تأثريه بالصورةِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪54‬‬
‫إن الثنائيةَ واالنشطار ( ثنائية التقليدي والعصري‪ ،‬ثنائية األصالة واملعاصرة‬
‫يف الثقاف ة والفك ر والس لوك ) إمن ا يعكس ان وضعيةً ثقافيةً مل تتِ م بع د إعادةُ بِنائِها‪.‬‬
‫تفاعل وال اندماج‪-‬‬ ‫افد‪ ،‬يف غري ماَ ٍ‬ ‫األصيل والو ُ‬
‫ُ‬ ‫اجلديد‪ ،‬و‬
‫امن فيها القدميُ و ُ‬ ‫ثقافةٌ يتز ُ‬
‫التجديد يف‬
‫َ‬ ‫اجع إىل أ ن‬‫حد تع بري الدكتور حمم د عاب د اجلابري‪ ،]1[-‬وهذا ر ٌ‬ ‫عل ى ِّ‬
‫ِ‬
‫احلديث‬ ‫يد من قرن أن يتم من " اخلارج "‪ :‬بنشر الفك ِر‬ ‫ثقافتناَ كان يُر ُاد لهُ ‪ ،‬منذ أز َ‬
‫ِ‬
‫بإعادة‬ ‫جتديد الثقافة‪ ..‬أية ثقافة‪ ..‬ال ميكن أن يتم إال من داخلها‪،‬‬ ‫على سطحها‪ ،‬ألن َ‬
‫الفهم و ِ‬
‫التأويل‬ ‫وجوه م ن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫احلداثة يف معطياهت ا وتارخيه ا والْتِ ِ‬
‫ماس‬ ‫ِ‬ ‫بنائه ا ومُم ارس ِة‬
‫بط احلاض ِر باملاضي يف اجتاه املستقبل‬ ‫‪.‬ملسارها تسمح بر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ومقاومة‬ ‫وإغناء ُهويتناَ والدفاع عن خصوصيتنا‬‫ِ‬ ‫إن حاجتنا إىل جتديد ثقافَتنا‬
‫الغزو الكاس ح الذي ميارس ه‪ ،‬عل ى مس توى عامل ي‪ ،‬إعالمياً وبالتايل إي ْديُولوجياً‬
‫تقل عن حاجتِناَ إىل‬ ‫املسخرو َن هلما هلذا الغرض‪ ،‬ال ُّ‬‫ِّ‬ ‫قانة‬ ‫وثقافياً‪ ،‬املالِ ُكون ِ‬
‫للعلم والتِّ ِ‬
‫عصر العل م‬ ‫ِ‬
‫ودخول‬ ‫ِ‬
‫التحديث‬ ‫البد منه ا ملمارس ِ‬
‫ة‬ ‫َّ‬ ‫اليت‬ ‫س واألدو ِ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫ُس‬‫أل‬ ‫اب اَ‬
‫اكتس ِ‬
‫َ‬ ‫املستقلَّة و ُ‬ ‫ُ‬
‫ليس دخول" املوضوعات" املنفعلة املسرَّي ة‬ ‫الفاعلة ِ‬ ‫ِ‬ ‫قانة‪ .‬دخول الذو ِ‬
‫ات‬ ‫والتِّ ِ‬

‫‪.‬ا مل ستقبلا لعر ‪.‬يب ‪.‬ع دد‪ ،1998/2 – 228 :‬ص‪[1] 16 :‬‬ ‫‪55‬‬
‫حاجة إىل التحدي ث‪ ،‬أ ي إىل االخنراط يف عص ِر العل م والتِّقان ة‬ ‫ٍ‬ ‫حنن يف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫كفاعلني ُمس امهني‪ ،‬ولكنن ا يف حاج ة كذل ك إىل مقاومة االخرتاق ومحاية ُهويتن ا‬ ‫ِ‬
‫وجات الغز ِو الذي‬ ‫التالش ي حتت تأث ِري م ِ‬ ‫الثقافيـة من االحنالل و ِ‬‫ِ‬ ‫ا‬
‫َ‬ ‫وخصوصيتن‬ ‫ِ‬
‫القومية‬
‫َ‬
‫هاتان احلاجتانِ‬‫ائل العل م والتِّقان ة‪ ،‬ولي َس ِ‬ ‫العامل أمجــع بوس ِ‬ ‫ميارس علين ا وعل ى ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫وهل ة‪ ،‬ب ل بالعك س مه ا متكاملتان ‪ ،‬أ و‬ ‫ألول ْ‬ ‫ِ‬
‫متعارضتني كما ق د يَبدو َّ‬ ‫الضروريتان‬
‫ِ‬
‫املشروط‬ ‫تالزم الشَّرط مع‬‫‪.‬على األصح ُمتالزمتاَ ِن ُ‬
‫البلدان‪ِ ،‬‬
‫النامية منها‬ ‫ِ‬ ‫بلد من‬‫أي ٍ‬
‫جناح ُّ‬ ‫َّ‬
‫أن‬ ‫اليوم‪،‬‬ ‫مل‬ ‫ِ‬
‫البديهية يف عا ِ‬ ‫ِ‬
‫احلقائق‬ ‫ومن‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫الدفاع ع ن‬‫احلفاظ عل ى الهوي ة و ِ‬ ‫أ و اليت ه ي يف " طري ق " النم و‪ ،‬جناحه ا يف‬
‫التحديث اجلار ِية يف‬
‫ِ‬ ‫وقت مضى مبدى عمق ِ‬
‫عملية‬ ‫أي ٍ‬ ‫أكثر من ِّ‬
‫َ‬ ‫ط‬
‫ٌ‬ ‫مشرو‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اخلصوصية‬
‫عمليةُ االخنراط الواعي‪ ،‬النامي واملتجدر‪ ،‬يف عص ِر العلم والتِّقانةِ‬ ‫‪.‬هذا البلد‪،‬‬
‫اإلمكانيات الالحمدودة اليت توفره ا‬‫ِ‬ ‫كل ذل ك واحدةٌ ‪ :‬اعتماد‬ ‫والوس يلةُ يف ِّ‬
‫العلم والتِّقانة‪ .‬وهذا ما‬ ‫منها‪ ،‬ويف مقدمتها ُ‬ ‫انب اإلجيابية‬
‫ُ‬ ‫نفس ها‪ ،‬أعين اجلو‬
‫ُ‬ ‫العولمة‬
‫ناقوس خط ِر "‬ ‫منها‬ ‫كثري‬ ‫يف‬ ‫ُّ‬
‫يدق‬ ‫اليت‬ ‫الدول األور ِ‬
‫بية‬ ‫ِ‬
‫ختطيطات ِ‬ ‫نلمس ه بوضوح يف‬
‫هِت‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وتص ُّورا م‬‫َّدها‪ ،‬يف لغتها وسلوك أبنائها َ‬ ‫الغزو األمريكي" اإلعالمي الثقايف الذي يتهد ُ‬
‫اجلمعية‪ ،‬واليت يوظف أرقى وسائل العلم والتِّقانة – ومنها األقمار الصناعية – يف‬
‫ِ‬
‫اخلصوصيات الثقافية‬ ‫ِ‬
‫املعرفية و‬ ‫ِ‬
‫احلقول‬ ‫‪ .‬اكتساح خمتلَف‬
‫‪56‬‬
‫اليوم تتحدث حديث اخلصوصية واألصالة‪ ،‬وتتحدث عن " الهوية‬ ‫إن أوربا َ‬
‫بني شعوهِب ا و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أقطاره ا‪،‬‬ ‫األوربي ة " تعزيزا لس ريها اجل ِّد عل ى طر ِيق تشييد الوحدة َ‬
‫احلقة‪ .‬وهي بذلك تُقدِّم‬ ‫املمارسة الدميقر ِ‬
‫اطية َّ‬ ‫ِ‬ ‫حمسوبة يف إطا ٍر من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عقالنية‬ ‫خبطو ٍ‬
‫ات‬
‫ِ‬
‫لإلقتداء ب ه بع د‬ ‫ِ‬
‫الثالث كلِّ ه )‪ ،‬منوذجاً ص احلاً‬ ‫ِ‬
‫القدمية ‪ ( ،‬أقطا ِر ِ‬
‫العامل‬ ‫ملس تعمراهِت ا‬
‫مالءمتِه مع اخلصوصيات احمللية‬ ‫‪َ .‬‬
‫اليوم لتحقيـق‬ ‫تسعى‬ ‫ـها‪،‬‬‫مجيع‬ ‫يكن‬ ‫مل‬ ‫إن‬ ‫بية‪،‬‬ ‫ـر‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫إن ج َّل احلكوم ِ‬
‫ـات‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ا لشَّراكة " م ع أوربا‪ ،‬ا لشراكةُ يف جم ا ال القتصاد‪ ،‬وأيضا يف جم ا ال لثقافة‪" ،‬‬
‫حل‬ ‫صا‬ ‫مل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫ا‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫حت‬ ‫رفية‬
‫ٌ‬ ‫ظ‬ ‫ِ‬
‫جلانبني‬ ‫ا‬‫على‬ ‫ا‬ ‫ليه‬ ‫مُت‬ ‫وم ع أ نهذه ا لشراكة ا مل ِ‬
‫طلوبة‬
‫ُ‬
‫لكربى غري‬
‫‪،‬‬ ‫داخلا لعولمة ا‬ ‫أخرى‬ ‫ا لقومية‪ ،‬ف إنَّه ال ش يء ي ضمنحت ُّوهَل ا إ ىلع ومل ٍ‬
‫ة‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫اكة يف ا لداخ لك ما يف ا خلارج عل ىا لدمي قراطي ة‬ ‫ش يء واح د‪ ،‬هو ب ناء ا لشر ِ‬
‫ُ‬
‫‪.‬وا لعقالنية‬
‫ِ‬
‫اعتماد العقالنية‬ ‫فهل للشعوب العربية أن تطالب بالشراكة مع أوربا يف جمال‬
‫والدميقراطي ة‪ ،‬يف الفك ر والس لوك‪ ،‬يف التخطي ط واإلجناز‪ ،‬يف االقتص اد والس ياسة‬
‫واالجتماع والثقافة ؟‬
‫‪57‬‬
‫‪‬‬
‫‪ :‬خاتمة‬
‫بالس لب‪ ،‬أي أنه ليس يف‬‫وسأختم حديثي هذا‪ ،‬بالعودة مرة أخرى إىل اجلواب عن سؤايل‪َّ ،‬‬
‫األمر عل ى العك س م ن ذل ك‪ ،‬فإن ه مبقدا ِر م ا‬ ‫اس تطاعة العولم ة أ ن تقض ي عل ى ُهوي ة الناس‪ ،‬ب ل إ ن َ‬
‫يشعُ ر املرءُ بأ ن هناك جهةٌ ماَ تقص د إىل النَّي ل م ن ماضي ه واإلجهاز عل ى شخص يته وه ْد ِر كرامتِ ه‪،‬‬
‫بكل‬ ‫ِ‬ ‫ليعبر عن ُح ِ‬ ‫ذوره وأصو ِله‪ ،‬وهناك‬‫حث عن ُج ِ‬ ‫هناك يأخذ يف الب ِ‬
‫ضوره َو ُوجوده ِّ‬ ‫جهوده ِّ َ‬‫تتكاثف ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الوسائل اليت ميْتَل ُكها‬ ‫‪.‬‬
‫وراحوا‪ ،‬ولكناَّ‬ ‫ِ‬ ‫مِم‬ ‫عني يف ِ ِ‬ ‫رؤياَ ٍ‬
‫بعض ُمهاجرينا إىل اخلارج َّن ُكنا نعتقد أهنم ْابتُلعوا َ‬ ‫رأينا هذا ْ‬
‫الباب ليسألوا عن ماضيهم‪ ..‬وأخشى ما خنشاه من‬ ‫مل نَلبث ْ ِ‬
‫فس هم يطرقون علينا َ‬ ‫أن مس ْعناَ هؤالء أنْ َ‬
‫أصحاب اهلويات إىل ما حُي َدق هبم‪ ،‬وهناك تكون املواجهةُ على‬ ‫ُ‬ ‫هدر الهوية‪ ،‬أن يتنبَّه‬
‫حماولة العولمة َ‬
‫أشدِّه ا بني الهوي ة والعولم ة ‪ ..‬هذه املواجهةُ اليت س وف ال تنته ي إال باحرت ِام العولم ة الهوي ة‪،‬‬ ‫َ‬
‫‪.‬واعرتاف الهوية جبدوى التعاون يف إطار العولمة‬
‫وميك ن القول إن ه يف الفرتة األخرية فق ط‪ ،‬بدأ ت تباشريٌ بدراس ات جادة رص ينة للعولم ة‬
‫عقدة‬ ‫ٍ‬
‫لظاهرة ُم َّ‬ ‫وبتأثرياهِت ا يف الوطن العريب‪ ،‬ورمبا يكون هذا اجلهد عالمة على طريق الفهم املتعمق‬
‫املواجهة الر ِ‬ ‫وقومية‪ ،‬تستدبر ُ‬
‫ٍ‬ ‫اتيجية عر ٍ‬
‫الفهم صياغةُ إسرت ٍ‬ ‫ضوء هذا ِ‬ ‫ومركبة‪ ،‬وميكن يف ِ‬
‫افضة رفضاً‬ ‫بية‬
‫تسمح بهذه اإلرادة السياسية العربية القومية ؟‬ ‫ُ‬ ‫مطلقاً‪ ،‬وتستشرف للتفاعل احلي اخلالَّق‪ ،‬لكن هل‬
‫صلب األزمة الراهنة يف الوطن العريب‬ ‫‪ .‬هذا هو السؤال‪ ،‬وهو ُ‬
‫‪58‬‬
‫مسرد المصادر والمراجع‬
‫جلابري ا لشرقا ألوسط ‪1.   04/02/1997‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪.‬أسئلة جي ابلوعيهب ا‪..‬حم مد ع ابد ا‬
‫‪.‬ا ألموا لس‪ 1‬ع ‪2.   2‬‬
‫جلابري ا لشرقا ألوسط ‪3.   06/02/1997‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪.‬أيديولوجيا ا لعومل ة ا إلمرباطورية ا لعا مل ية‪..‬حم مد ع ابد ا‬
‫اب لعر يب‪..‬ذ‪.‬حم مد ع ادلا لرت يك ‪،‬ي ض منس لسلة مقا الته يف ‪ :‬ق ضايا ف كرية معاصرة‪ (..‬مكتبته ا خلاصة) ‪ 4.‬‬ ‫‪.‬ا إلغرت ا‬
‫لكتب لعر بية ‪ – 1998‬ب ريوت‪ 5.   ‬‬‫‪.‬ا لتعر يفات‪..‬ا لشر يفعليب نحم مد ا جلرجاين‪ ،‬ط بعة دار ا ا‬
‫ا لتغر يبوخطره عل ىا لعا مل ا إلس المي‪..‬ذ‪ .‬حم مد ع ادلا لرت يك ‪،‬ي ض منس لسلة مقا تال ه يف ‪ :‬ق ضاي ا ف كري ة معاص رة ‪6.  ‬‬
‫‪...‬ق رصمدم ‪،‬جا إلصدار ا لثاين‪2003 ،‬‬
‫ات لوحدة ا لعر بي ة‪ ،‬ا لطبع ة ا ألوىل ي وني و ‪7.   – 1997‬‬‫جلابري مرك ز دراس ا‬‫‪،‬‬ ‫ق ضاي ا يف ا لفكر ا مل عاص ر‪..‬حم مد ع اب د ا‬
‫‪.‬ب ريوت‬
‫‪.‬ا لشرقا ألوسط ‪8.   02/02/1997‬‬
‫‪.‬ا لشرقا ألوسط ‪ 9.   03/02/1997‬‬
‫جلابري ا مل ستقبلا لعر ‪،‬يب ع دد ‪ 228‬ف رب اير ‪ ،1998‬مركز ‪10. ‬‬ ‫‪،‬‬ ‫ا لعومل ة وا هلوية ا لثقافية ‪ :‬عشر أطروحات‪..‬حم مد ع ابد ا‬
‫اسات لوحدة ا لعر بية – ب ريوت‬
‫‪.‬در ا‬
‫‪ 11.  ‬‬‫اسات لوحدة ا لعر بية – ب ريوت‬
‫‪.‬ا لعومل ة وا لدولة‪..‬جاللأم ني‪ ،‬ا مل ستقبلا لعر يب‪،‬ع دد ‪ 228‬ف رب اير ‪ ،1998‬مركز در ا‬
‫‪.‬ا لكليات‪..‬أبو ا لبقاء ا لكفوي‪،‬حت قيق‪.:‬ع دناندرويشوحم مد ا مل صري‪،‬مؤسسة ا لرسا لة ا لطبعة ا ألوىل ‪ – 1992‬ب ريوت‪12. ‬‬
‫‪.‬مأزقأيديولوجيا ا لعومل ة‪..‬ا لسيد ولد أباه ‪ ،‬ا لشرقا ألوسط ‪13.     02/02/1997‬‬
‫‪.‬جم لة ا هلالل‪..‬د‪.‬حم مد عمارة‪ ،‬ف رب اير ‪ – 1997‬ا لقاهرة ‪14.    ‬‬
‫‪.‬ا ملوسوعة ا لفلسفية ا لعر بية‪ ،‬ا لطبعة ا ألوىل‪ 1986/‬معهد ا إلمن اء ا لعر يب– ب ريوت‪  15.    ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪59‬‬

You might also like