Professional Documents
Culture Documents
net/publication/348817575
CITATIONS READS
0 3,820
1 author:
SEE PROFILE
All content following this page was uploaded by ﻋﻠﻲ أﺳﻌﺪ وﻃﻔﺔon 27 January 2021.
" من أغرب املُ ْدهِشات أن تنبتَ تلك اللغةُ القوم ّيةُ وتصل إىل درجة الكمال وسط الصحاري عند أ ّمةٍ من الرُحّل،
تلك اللغة اليت فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ود ّقةِ معانيها وحس ِن نظامِ مبانيها ،ومل يُعرف هلا يف كلّ أطوار
حياتها طفولةٌ وال شيخوخةٌ ،وال نكاد نعلم من شأنها إالّ فتوحاتها وانتصاراتها اليت ال تُبارى ،وال نعرف شبيهاً
بهذه اللغة اليت ظهرت للباحثني كاملةً من غري تدرّج وبقيت حافظةً لكيانها من كلّ شائبة ".
(املستشرق الفرنسي رينان)
مقدمة:
فرضت االزدواجية يف اللغة العربية نفسها على حنو إشكالي يف صيغ وجتليات خمتلفة تباينت بتباين
العصور واملراحل التارخيية لألمة .فاالزدواجية اللغوية بني العامية والفصحى يف العصر العباسي ليست
مثلها يف العهد العثماني ،وليست كحالتها يف مرحلة الركود احلضاري الشامل الذي نعيشه اليوم .ففي
مراحل االزدهار كانت االزدواجية اللسانية تعبريا عن حالة تقدم حضاري ،حيث فرض حضور اللغة
العربية املظفر وتوسعها يف البلدان اإلسالمية ظهور مستويات لغوية تتباعد أو تتقارب من اللغة العربية
الفصيحة .أما اليوم فإن هذه االزدواجية تبدو أكثر عمقا وخطورة ،وهي تعرب عن حالة انكسار حضاري
شامل يفرض ثقله على األمة العربية ليشكل أحد أكرب التحديات املمانعة حلداثة األمة ونهضتها.
-2-
وإذا كانت االزدواجية اللغوية تشكل حالة طبيعية يف خمتلف لغات العامل فإن هذه االزدواجية تشكل
ظاهرة مرضية يف جمتمعاتنا العربية ،وتعرب عن حالة الرتدي واهلزمية احلضارية اليت تعيشها هذه األمة يف
حاضرها نظرا الختالل العالقة بني الفصحى والعامية .لقد فرض االنكسار احلضاري الذي تعيشه األمة
حالة من الرتدي اللساني ،وأدى إىل اهتزاز العالقة بني اللغة واحلضارة ،ففقدت العالقة بني الفصحى
والعامية ذلك التوازن اخلالق الذي كان يتميز بقوته وخصوبته ،وحتولت تلك العالقة إىل ظاهرة مرضية
خانقة تفرض نفسها اجتماعيا وأخالقيا وسياسيا يف خمتلف طبقات احلياة والوجود يف اجملتمعات العربية
املعاصرة.
ونظرا خلطورة هذه القضية وعمق ارتباطها باإلشكالية احلضارية لألمة ،تناول الباحثون واملفكرون
العرب هذه الظاهرة بالدراسة والبحث والتحليل ،ويف سياق هذا التناول اختلفوا يف رؤيتهم هلذه القضية،
فعكست مواقفهم منظومة االجتاهات األيديولوجية والفكرية السائدة يف املنطقة العربية بني االجتاهات
الليربالية واألصولية والقومية والتغربيّة واالنفصالية.
وتشكل تلك املواقف واالجتاهات الفكرية من إشكالية الفصحى والعامية بدورها قضية تستحق االهتمام
والتفكري ،فهذه التيارات األيديولوجية املتغالبة تعرب يف ذاتها عن واقع التخلف احلضاري الذي تعانيه
األمة .فالبلدان اليت حققت حداثتها تركت خلفها -منذ أمد بعيد -مثل هذه الصراعات واخلالفات
األيديولوجية حول إشكاليات االزدواجية يف اللغة ،وبدأت تتجه إىل خالفات من نوع جديد تتعلق
بالفاعلية احلضارية اللسانية هلذه األمم والدول .وتتمثل هذه القضية يف الدول املتقدمة يف فرنسا وبريطانيا
وغريهما من البلدان يف اسرتاتيجيات لسانية تهدف إىل وضع اللغات القومية يف مركز املنافسة واهليمنة
والسيطرة ،وحتقيق أكرب نفوذ لساني يف العامل املعاصر .وحنن اليوم ما زلنا يف طور الصراع واالنقسام بني
مؤيد للفصحى ومنتصر للعامية .ويدرك مجع املهتمني بقضايا اللغة العربية حاليا أن الصراع الفكري ما زال
على أشده بني فقهاء اللغة وعلماء اللسانيات حول طبيعة العالقة بني الفصحى والعامية .فقد دأب علماء
األمة على افتعال الصراع يف كل صغرية وكبرية ،وغفلوا عن املقاصد املوضوعية للبحث العقالني النقدي
الذي ال يرتك لأليديولوجيا مكانا يف هذا الصراع واخلالف الدائر.
وال تزال املواقف الفكرية من ازدواجية اللغة العربية متضاربة متداخلة مرتاكبة ،تبدأ من التناقض
الكلي إىل التوافقات اجلزئية ،فهناك من يرفض العامية رفضا مطلقا ويعلي شعار الفصحى والفصيحة،
-3-
وهناك من ينتصر للعامية ويدعو إىل إلغاء الفصحى ووضعها يف متاحف التاريخ ،وهناك من يرى ضرورة
تفصيح العامية بتعميم الفصحى ،أو تعميم الفصحى بتفصيح العامية ،وهناك من يريد االرتقاء بالعامية
وتقعيدها على منوال الفصحى .وهذه املواقف املتناقضة واملتضاربة تدل يف جوهرها على البعد األخالقي
واإلنساني والسياسي واحلضاري إلشكالية االزدواجية اللغوية يف ثقافتنا املعاصرة.
تعدّ ازدواجية اللغة العربية من أهم املشكالت اليت تواجه فقهاء اللغة وعلماء البيان .وال ختتلف داللة
االزدواجية يف العربية عن غريها من اللغات من حيث املبدأ الذي يعتمد التقسيم العام بني لغة الكتابة ولغة
احملادثة .فاالزدواجية يف اللغة العربية تعين " وجود العربية العامية (املنطوقة أساسا) إىل جانب العربية
الفصيحة (املكتوبة أساساً) اليت هي اللغة القومية والدينية واحلضارية لألمة" (عبيد وسويسي،1995 ،
.)123
ويرى بعض املفكرين أن وجود االزدواجية اللغوية أمر طبيعي وضروري يف كل اللغات .ووفقا هلذا
التصور فإن لكل لغة رمسية فصحى لغة عامية تسري معها كظلها وال ضرر أو ضرار بني الشيء وظله أو بني
الروح وجسدها ،فكل لغة فصحى مكتوبة ترافقها لغة حمكية شعبية عامة غري مكتوبة تضافرها وتناظرها
يف دورة من التفاعل اللغوي الضروري للحياة االجتماعية والفكرية.
ويؤكد العقاد يف هذا السياق أهمية التجاور والتضافر بني العامية والفصحى فيقول ":يف كل أمة لغة
كتابة ولغة حديث ،ويف كل أمة هلجة تهذيب وهلجة ابتذال ،ويف كل أمة كالم له قواعد وأصول،
وكالم ال قواعد له وال أصول .وسيظل احلال على هذا ما بقيت لغة ،وما بقي ناس يتمايزون يف املدارك
واألذواق .فلن يأتي اليوم الذي يُكتب فيه فردوس "ملتون" بلغة العامل اإلنكليزي ،وفلسفة "كانت" بلغة
الزارع األملاني ،ولن يأتي اليوم الذي تستوعب فيه قوالب السوق كل ما خيطر على قرائح العبقريني،
وخيتلج يف ضمائر النفوس ،ويرتدد يف نوابغ األذهان :فالفصيحة باقية والعامية باقية مدى الزمان !"
(الزغلول.)83 ،2000 ،
-4-
فاللهجات العامية كانت موجودة يف اجلاهلية واإلسالم من قبل ،ثم جاء اإلسالم فوحدها يف البيان
القرآني .وكانت هذه اللهجات حاضرة بقوة حتى يف أزهى عصور اللغة العربية ،ومل تشكل خطرا حقيقيا
على الفصحى اليت أخذت مكانتها العالية يف خمتلف ميادين الفكر واملعرفة املتقدمة .ويعرب الضبيب عن
هذا احلضور للهجات العربية العامية إىل جانب الفصحى بقوله ":إن اللغة العامية كانت موجودة منذ
العصور التارخيية القدمية ،يف صورة هلجات يستعملها العامة يف بيئات خمتلفة ،وهم يعرفون أنهم
باستعماهلم إياها ال يبلغون املستوى الرفيع الذي يبلغونه بالفصحى .ولذلك كانت العامية حمصورة يف
بيئات التخاطب الضيقة اليت كانت بيئات منعزلة .مل تكن العامية ترقى لتكون لغة األدب أو الثقافة أو
الدواوين الرمسية ،ومل تكن الدروس تلقى بها يف حلقات العلم ،ولذلك مل يكن هلا خطر على الفصحى يف
تلك األيام (اجلهين.)2009 ،
ويف هذا املقام يؤكد عدد كبري من الباحثني اللغويني أن االزدواجية اللغوية ظاهرة طبيعية يف اللغة،
فريى حممد حسني أنها ليست حالة طارئة على اللغة العربية ،وأنه اليضري اللغة العربية الفصحى كثريًا
قيام هلجات حملية أو لغة خطاب يومي دارجة ،يتداوهلا العامة ،وتقضى بها شؤون احلياة اليومية ،وأن
هذه الظاهرة ظاهرة بشرية طبيعية تشمل كل اللغات :قدميها وحديثها ،فلها مجيعًا لغة متأنقة دقيقة
للفكر ولألدب ،وهلا لغة أخرى أقل دقة ومجاال ،وأدنى درجة ووقارًا ،للتعامل اليومي ،وهي لغة متحولة
متغرية ،مل حتظ بعناية العلماء واألدباء إال يف أيامنا هذه ،اليت كثر فيها التهريج يف التمسح باسم الشعب،
والتشدق بالفنون الشعبية(حسني.)214 ،1981 ،
وتبني احلياة الثقافية يف العامل العربي أن االزدواجية اللغوية تفرض نفسها بقوة يف خمتلف مناحي
احلياة االجتماعية ،وضمن هذا الوجود " ما زالت الفصحى تستخدم يف خمتلف مظاهر احلياة األدبية
والعلمية والرمسية ،كما هو احلال يف اإلدارة والقضاء والتعليم اخلطاب السياسي والديين والثقايف؛ فيما
تستعمل العامية ،أو باألحرى العاميات واللهجات ،يف خمتلف جتليات احلياة االجتماعية للحياة اليومية
العادية (بالو.)186 ،2000 ،
وهكذا جند أن الفصحى تفرض حضورها الفعلي والرمسي يف خمتلف أوجه احلياة الثقافية يف جمال
اآلداب والفنون والتعليم والعلوم واإلعالم ،ويف املقابل جند العامية حتتكر جمال احلياة اليومية وامتداداتها
املباشرة وتنافس الفصحى منافسة تتباين قوتها من جمال إىل آخر .وال يعين هذا حبال من األحوال أن
-5-
العامية أحرزت قصب السبق وصارت اللغة السائدة .فاحلقيقة أن األيديولوجية السائدة ال تزال حتكم على
العامية بوضع اللغة املضطهدة ،وضع لغة من الدرجة الثانية ،تتسلل من النافذة وال تدخل من الباب
(كلفت.)2012 ،
وتتميز االزدواجية اللغوية يف اللغة العربية بالعمق والشمول ،إذ تأخذ طابعا انفصاميا يهدد اللغة يف
كليتها ،ويف هذا األمر يقول أحد الكتاب واصفا عمق هذا االنفصام بني جناحي اللغة " :يصدمنا واقع
وعمق االزدواجية اللغوية العربية على كل مستوى ويف كل مكان .وتتمثل هذه الظاهرة يف هذا الوجود
املتجاور أو املتزامن أو املتداخل أو املزدوج أو املنشطر بني اللغة املسماة بالعربية الفصحى واللغة أو اللغات
املسماة بالعامية أو العاميات العربية" (كلفت.)2012 ،
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو :إذا كانت ظاهرة االزدواجية اللغويية ظاهرة طبيعية يف مجيع لغات
العامل فلماذا تأخذ هذه الظاهرة طابعا مرضيا يف اللغة العربية؟ وهذا هو السؤال عينه الذي يطرحه حممد
راجي الزغلول إذ يقول " :إذا كان وضع االزدواجية طبيعيا يف معظم لغات العامل ،فلماذا يكون هذا الوضع
إشكاليا أو عائقا للتقدم يف البلدان العربية؟ " وعلى األثر يقدم الزغلول تصوره حول هذه املسألة فيقول:
"باعتقادي أن ذلك يعود لسببني رئيسيني :أوهلما ازدياد الفجوة بني العامية والفصحى واللهجات نتيجة
لعوامل تارخيية حتى أصبحتا وكأنهما لغتان خمتلفتان يف أعني الكثري من الباحثني .وثانيهما أنه رغم
استقالل الدول العربية وتبين اللغة العربية رمسيا وشعبيا ،فإن االعتماد على اللغات األجنبية ما زال
واسعا وممتدا(" .الزغلول .)78 ،2000 ،ويتابع الزغلول يف حتليل العالقة بني العامية والفصحى
فيقول " :إن من أهم مسببات اتساع الفجوة بني العامية والفصحى ،بل من أهم أسباب ازدياد العامية ،هو
ارتفاع نسبة األمية يف جمتمع ما ،والرقم يف جمتمعاتنا معيب إذ يقارب إن مل يتجاوز %70يف بعض
الدول ،وبعكس ما اشار إليه بعض املستشرقني فإن ارتفاع نسبة األمية هو الذي زاد الفجوة اتساعا بني
العامية والفصحى(" .الزغلول .)79 ،2000 ،ونعتقد أن الزغلول قد أصاب بعض احلق يف حتليله هذا،
ويبقى علينا أن حنلل عددا كبريا من املتغريات واألسباب املتداخلة يف هذه القضية.
وقد ترتب فعليا على وجود االزدواجية اللغوية يف العامل العربي والدة ازدواجية يف املوقف الفكري من
هذه الظاهرة؛ حيث انقسم الباحثون إىل فريقني :فريق يرى يف االزدواجية أزمة لغوية وخطرا داهما
-6-
يتحدى اللغة العربية والسيما الفصحى يف وجودها وكيانها ،وفريق آخر يرى أن هذه االزدواجية طبيعية
وهلا ما مياثلها يف مجيع لغات العامل وال خوف منها على اإلطالق.
واحلقيقة أننا ال نزال بعيدين عن التوصل إىل تصور ميكن االطمئنان إليه فيما يتعلق بإشكاليات هذه
االزدواجية .وما برح اجلدل حمتدما بني الباحثني العرب يف طبيعة العالقة بني مفهومي الفصحى
والعامية ،والسيما حول تأثري كل منهما يف األخرى سلبا وإجيابا .وما زال البحث يف حدود هذه العالقة
يثري محاسة الباحثني للدرس والفحص والقياس والتعميم .واألسئلة اليت تطرح نفسها يف هذه اخلصوص
كثرية متعددة منها :هل تشكل العامية يف امتدادها وتوسعها خطرا حقيقيا على الفصيحة والفصحى؟ هل
ميكن تفصيح العامية وإثراء الفصحى بعاميتها؟ أم هل ميكن أن تكون العالقة بينهما عالقة تكامل وإثراء؟
هل ميكن للعامية يف املستقبل أن حتلّ مكان الفصحى وتقصيها؟ أم هل ميكن تقعيد العامية على صورة
الفصحى وتبنيها لغة وطنية؟ وهذه األسئلة مجيعها تطرح إشكاليات يف تضاريس خمتلفة للعالقة بني
الفصحى والعامية .واملهم يف هذا كله أن الباحثني ما زالوا يف طور دراسة هذه القضية املعقدة الشائكة يدفعه
طموح كبري إىل إجياد احلدود الفاصلة بني املفهومني وحتديد طبيعة العالقة بينهما على حنو موضوعي.
حيتدم الصراع األيديولوجي بني أنصار الفصحى والعامية يوما بعد يوم ،ويأخذ هذا الصراع مداه حتت
مظلة اهلجوم الذي غالبا ما يتجاوز حدود الطابع العقالني للصراع األيديولوجي .ويأخذ هذا اخلالف
األيديولوجي طابع الصراع الفكري املتوتر بني املقدس والوضعي .فأصحاب الفقه اللغوي ذوو التوجهات
اإلسالمية ينظرون إىل الفصحى بوصفها لغة دينية مقدسة اختارها اهلل ملخاطبة البشر ،ويرون أنن هذه اللغة
بلغت كماهلا املقدس يف القرآن الكريم ويف احلديث النبوي ،وينبين على ذلك أن أي حماولة لتطوير اللغة
والتغيري فيها يعدّ مبثابة التطاول على املقدس اللغوي .ومن هذه الزاوية يهاجم أصحاب هذا التيار العامية
ويرون فيها تهديدا للمقدس اللغوي؛ فاللغة العربية ألصحاب هذا التيار ليست جمرد لغة عادية بل هي
لغة كونية قدسية إدراكية من حيث املضامني ومن حيث التجليات اإلنسانية.
-7-
ويتضافر رأي هؤالء املتشددون أصحاب املقدس مع تيار من الفقهاء القوميني الذين يضفون على اللغة
العربية طابعا قدسيا من منظور اهلوية القومية ،فاللغة الفصحى كما ينظرون إهلا تشكل عمق اهلوية
والوجود ،وأي تغيري أو تعديل ميكن أن يشكل خطرا على هذه اهلوية .ومن هذا املنطلق يرون بضرورة
احملافظة على الفصحى بوصفها اللغة اليت متكن ناطقيها من اكتناه العامل والتعبري عن ماهية وجودهم.
وعلى خالف هذه الرؤية يرى فريق من الباحثني الوضعيني أن اللغة العربية لغة وضعية ختضع لقوانني
التطور والتجديد ،وهم يعربون عن شكوكهم يف مصداقية الطابع الكوني للغة العربية .وعلى الرغم من
اعرتافهم يعرتفون بأهمية العربية وتقديرهم لعالقاتها السامية بالدين اإلسالمي ،فإنه يصعب عليهم
االعتقاد باألهمية املطلقة اليت تنسب إليها.
ويوجد فريق اغرتابي أو حداثي آخر يرى أن اللغة العربية بأصوهلا الدينية أصبحت لغة جامدة تعاند
التطور وتناهض التغري وتقف يف وجه اإلبداع العلمي والفكري يف خمتلف أوجه احلياة والعمل .وهم من هذا
املنطلق يرسلون الدعوة إىل تبين اللغة العامية ورفض اللغة الفصحى على حنو كلي ألنها غري صاحلة للعصر
مبا يتطلبه من نهوض حضاري شامل.
ومما ال شك فيه أن الساحة تشهد تيارات معتدلة ترى إمكانية تطوير العامية والفصحى يف اجتاه
حضاري جديد ميكنهما من تطوير احلالة احلضارية لألمة العربية وتفجري الطاقة اإلبداعية للشعوب
العربية ،فالفصحى جيب أن خترج من دائرة مجودها وحتجرها ،والعامية جيب أن تنطلق من أجل
تقليص املسافة البنيوية بينها وبني الفصحى .ويرى أصحاب هذا التيار أن تطوير الفصحى والعامية باجتاه
التفاعل والتخاصب يشكل منطلقا للنهوض الفكري واإلبداعي يف العامل العربي .ويبدو أن أصحاب التيار
املعتدل أقل أهمية وشأنا يف عملية الصراع الذي حيتدم بني املتشددين الداعني إىل إلغاء العامية وأولئك
الداعني إىل رفض الفصحى بقضها وقضيضها.
ومن البداهة مبكان أن هذا الصراع احملتدم بني أنصار العامية وأنصار الفصحى يفعل فعله يف إبقاء
حالة اجلمود يف اللغة العربية بصورة عامة .فال الفصحى تشهد تغريا وال العامية تلقى قبوال ،وتبقى
الوضعية أشبه حبالة انفصامية انشطارية متنع أي تطور أو تقدم يف مسألة اللغة العربية اليت تشهد حالة
من الرتدي واالحندار يف خمتلف مستويات الوجود والتفاعل الفكري والثقايف.
-8-
وشكل هذا اجلمود احلضاري األيديولوجي للغة العربية موضوعا جديدا للمفكرين والباحثني حبثا عن
خمرج حضاري يضع اللغة العربية يف مسارها احلضاري الصحيح.
وقد شكل هذا الفراق األيديولوجي والفكري مقدمة موضوعية يستند إليها كل فريق بالتناوب يف اهلجوم
على الفصحى تارة وعلى العامية تارة أخرى ،فأصحاب النزعة اجلمودية يهامجون العامية وأصحاب
النزعة الوضعية يهامجون الفصحى .فريق يريد أن حيافظ على الفصحى يف حلتها الدينية النقية ،وفريق
يريد تغيري الفصحى باجتاه التجديد والتغيري مبا يتناسب مع معطيات احلضارة والعصر.
شكلت الفصحى هدفا كبريا للهجوم والنقد وما زالت تواجه ذلك ،وتأرجحت فعاليات هذا اهلجوم بني
الدعوة إىل إصالحها والدعوة إىل نبذها وإقصائها وإحالل العامية بديال هلا .ويالحظ يف هذا السياق أن
اهلجمة على اللغة العربية الفصحى وإضعافها جاءت بداية بإيعازات استشراقية غربية التوجه استعمارية
الطابع .فالعربية عنوان قوة العرب وعنفوانهم يف جمموعهم القومي ،أو يف توزعهم البشري مهما صغرت أو
كربت اجملموعات البشرية اليت ينتمون إليها .واللغة العربية -كما يعلم أهل الفكر واالختصاص -تشكل
العمق االسرتاتيجي للهوية العربية من وجهة نظر حضارية ،وهي القوة احليوية الكربى للتعبري عن هوية
العرب وانتمائهم احلضاري اإلسالمي .وقد أدرك املستعمر الغربي ومن قبله الرتكي هذه احلقيقة ،وعلموا
علم اليقني أن كسر شوكة العرب واهليمنة على مقدرات وجودهم ال يكون إال بتدمري لغتهم عنوان وحدتهم
وعرين هويتهم ومعني نظرتهم الثقافية إىل الكون والوجود.
وميكن لنا يف هذا السياق أن منيز بني ثالثة اجتاهات حنو الفصحى (ابن الرباء:)2004 ،
أ -اجتاه يرى أصحابه أن الفصحى النموذجية قادرة على الوفاء باحتياجات أبنائها يف خمتلف
قطاعات احلياة االجتماعية والسياسية ،وذلك ملا متتاز به من حيوية ومرونة .ويطالب بالتشبث باللغة
العربية ألنها الضمان الوحيد للحفاظ على اهلوية.
ب -يرى أصحاب االجتاه الثاني أن دور الفصحى جيب أن يقتصر على أمور الدين واملراسيم
االجتماعية ألنها ال تستطيع حبكم طبيعتها اجلامدة أن تفي باحتياجات العصر العلمية والتكنولوجية؛
-9-
والسيما يف جمال املصطلحات العلمية .ويبالغ أصحاب هذا االجتاه يف موقفهم ضد الفصحى إذ يرون أن
استخدام الفصحى يف التعليم قد يؤدي إىل قطيعة بني الطالب وحتصيلهم العلمي احلديث وحيرمهم منإتقان
اللغات األجنبية .ويشري أصحاب هذا االجتاه إىل عدم قدرة اللغة العربية على مواكبة التطور السريع للعلوم
وللمعارف ،ويرون أن العربية جتعل الوفاء مبا حيتاجه الطالب واملدرس من مصطلحات أمراً غري ميسور،
وهم يغمزون من طرف عدم القدرة على تعريب املصطلحات العلمية نظرا لالختالف بني الباحثني العرب
وبني األقطار العربية يف عملية تعريب املصطلحات (ابن الرباء.)2004 ،
ج -يرى أصحاب االجتاه الثالث أن العربية حتتاج إىل التطور والتنظيم والتخطيط ،وهي تستطيع
عندما تطور نفسها أن تليب خمتلف التطلعات العلمية وأن تفي مبختلف احتياجات العصر احلضارية
والعلمية .وهذا املوقف يتضمن كثريا من احلكمة واحلصافة واملوضوعية (ابن الرباء.)2004 ،
وقد تركّزت اهلجمات على العربية الفصحى املستعملة يف اجلرائد والرتمجات يف ثالثة حماور :الدعوة
إىل العامية ،ثم الدعوة إىل استبدال احلروف العربية من أجل التيسري ،والدعوة إىل تيسري قواعد النحو
والبالغة والبيان.
وجيب علينا يف هذا املسار أن منيز بني الدعوة إىل إصالح اللغة العربية وتطويرها وتطوير أدائها وتفجري
إمكاناتها احلضارية وبني االجتاهات اليت تتجاوز هذه الدعوة إىل إبطال اللغة العربية الفصحى وإقصائها
وإحالل اللهجات احمللية أو األجنبية مكانها .فطه حسني عميد األدب العربي كان قد دعا إىل تطوير
الفصحى وتطويع قواعدها ملعطيات العصر اجلديد مبتطلباته احلضارية اجلديدة .ويف هذا يقول " :من احلق
أن اللغة العربية عسرية ،ألن حنوها ما زال قدميا عسريا ،وألن كتابتها ما زالت قدمية عسرية ،وألن
مناهجها ما زالت بعيدة عن مالءمة حاجة الصيب وطاقته ،وألن معلمها مل يتهيأ بعد ليكون رفيقا بها
وبالتلميذ ،قادرا عليها وعلى التلميذ "(حسني.)247 ،1973 ،
فطه حسني يف هذا املوقف يبدو عقالنيا وموضوعيا ،وهو يريد خريا باللغة العربية كي تكون أكثر قدرة
على مواكبة العصر وتفجري الطاقات العربية يف جمال العطاء العلمي والفكري .وما زالت الساحة العربية
تعج بعدد كبري من املفكرين واألدباء والباحثني وفقهاء اللغة الذين يريدون يف حقيقة األمر تطوير اللغة
العربية دون املساس جبوهرها وقوتها وهويتها وحنوها.
-10-
لقد أدركت الدول املستعمرة أبعاد هذه القوة احلضارية اهلائلة املكتنزة يف العربية الفصحى ،وأدركت
أيضا أن السيطرة واهليمنة الثقافية والسياسية ال ميكن أن تكتمل ما بقيت اللغة العربية رابطة هوية وثقافة
ودين وشعور بالقوة واإلرادة ،فالعربية الفصحى تشكل يف جوهر األمر الطاقة احليوية للكينونة احلضارية
العربية ،فعمل على تفجري اللغة العربية الفصحى وتفكيك أواصر وجودها ،وما انفك منذ بداية القرن
املاضي يعمل على تفكيك الفصحى وتهديم بنيتها وعزهلا عن متكلميها .ومن أجل هذه الغاية فرض
املستعمر لغته فقام بفرنسة املغرب العربي وفرض اللغة اإلنكليزية يف املشرق العربي واإليطالية يف ليبيا
مقصيا اللغة العربية ،ومبعدا إياها عن خمتلف امليادين الثقافية والفكرية .ومن أجل إقصاء اللغة الفصحى
وكسر شوكتها وتفكيك مقومات وجودها عمل املستعمر على إحياء اللهجات احمللية منطلقا من الزعم
القائإلن الفصحى العربية لغة كالسيكية قدمية ضعيفة قاصرة عن األخذ بأسباب احلضارة ،وإنها فقدت
مربرات وجودها التارخيي كقوة حضارية وثقافية.
يقول الزغلول بهذا الصدد " :بعد ثورة 1919يف مصر برزت جمموعة من الكتاب يدعون ملا نسميه
الفرعونية املصرية ،أو اإلقليمية الضيقة .ومل يكن االستعمار الربيطاني مشجعا على الفكرة فحسب بل
متمنيا هلا .وقد علق حممد حسني على هذه احلركة بأنها حركة استعمارية انفصالية كان وراءها اإلنكليز.
وقد دعت هذه احلركة إىل "مصرنة أو متصري " اللغة والفن واألدب .واستعمال العامية املصرية بدال من
الفصحى .ويف هذه الفرتة دعا أمحد لطفي السيد إىل ما أمساه التسامح اللغوي وما قصده بذلك هو إصالح
الفصحى باستعمال األلفاظ العامية "(الزغلول.)72 ،2000 ،
واختذ اهلجوم االستعماري على العربية الفصحى طابعا ثقافيا استشراقيا ،حيث هاجم املستشرقون
الغربيون العربية الفصحى واتهموها بالضعف واالحنالل والتخلف ورموها بعدم قدرتها على مسايرة وجماراة
احلضارة احلديثة .ومن أبرز املستشرقني الذين هامجوا اللغة العربية ميكن اإلشارة إىل املستشرق
االسكتلندي املعروف إلياس جون جب ))Elias John Wilkinson Gibb( (1857–1901
الذي كان له قصب السبق يف إدانته للعربية الفصحى .ويف دائرة اهلجوم على العربية يرى "جب" أن
مشكلة العربية تكمن يف عدم قدرتها على التجاوب مع متطلبات احلضارة املدنية املعاصرة زاعما أن العربية
غري قادرة على الوفاء حباجات احلياة املدنية يف العلم ،والفن ،والصناعة ،واالقتصاد"(بركات،2003 ،
.)114وهكذا "اتهم املستشرقون الفصحى بضعف كفايتها العلمية؛ نظرًا لعدم قدرتها على " مسايرة
-11-
التطور العلمي احلديث ،حبجة عدم وجود املراجع ،والكتب العلمية باللغة العربية ،حتى يستطيع كل من
املعلم ،والتلميذ أن يتدارسوها " ،كما ادعوا أنها " لغة كالسيكية ال تصلح للحياة العصرية ،إنها لغة
معقدة صعبة ،تضيق عن استيعاب العلوم واملبتكرات " ،بسبب قلة ألفاظها ،ومصطلحاتها .فهذه املزاعم
وتلك االتهامات كانت هي السبب الرئيس يف الدعوة إىل العامية ،بدال من الفصحى ،واستبدال حروفها
حبروف أجنبية أخرى" (بركات.)114 ،2003 ،
وهناك نزعات للرتكيز على اللغات العامية وفصلها عن الفصحى "وتتماشى هذه الرؤية مع تلفيق لغة
مستقلة خاصة بهذا القطر أو ذاك ،مثل الرتكيز من جانب واحد على "مصرية" ما يسمى بالعامية
املصرية ،مع جتاهل أو حتدِّ أو التقليل من شأن كونها لغة عربية ،أو حتى مع االعرتاف بعربية "العامية
املصرية" مع املبالغة يف حجم املكوِّن املصري أو الفرعوني أو القبطي يف هذه اللغة" (الرخاوي.)2003 ،
((1852-( )William Willcocks وقد شهدت الفصحى أخطر هجوم على يد املستشرق وليم ولكوكس
1932مهندس الري اإلجنليزي يف مصر .وظهرت مالمح هذا اهلجوم الكبري والصريح عندما ألقى
ولكوكس حماضرة يف نادي األزبكية مبصر عام ١٨٩٣يدعو فيها إىل رفض العربية واستبداهلا باللهجة
العامية املصرية .وقد نشر حماضرته املشؤومة هذه يف جملة األزهر بعنوان " ملَ ملْ توجد قوة االخرتاع لدى
املصريني اآلن؟ " ،وزعم ولكوكس يف هذه املقالة أن التأليف باللغة العربية الفصحى يعيق املصريني عن
االخرتاع واإلبداع ،ويرى أن العامية املصرية هي األفضل واألقدر على تنمية ملكة اإلبداع واالبتكار والنهضة
العلمية ،وانطالقا من هذه الرؤية دعا املصريني إىل نبذ الفصحى ورفضها واستخدام العامية بديال هلا
(بركات .)113 ،2003 ،وشدد ولكوكس دعوته عرب جملته اليت مساه (األزهر) إىل عدم استخدام
الفصحى كلغة أساسية للتعليم يف املدارس ألنها تتناقض مع الفكر احلر لدى الطالب ،وال تتجاوب مع
متطلبات العقل والتفكري النقدي؛ ويف كثري من إشاراته يعلن أن الطالب املصري يبذل جهدا كبريا ضائعا
لرتمجة ما يقرؤه من الفصحى إىل العامية ،وعلى التوالي ترمجة ما يفهمه من العامية إىل الفصحى ،عند
الكتابة مرة أخرى ،وعلى هذا األساس اقرتح ولكوكس اعتماد العامية املصرية لغة التعليم والرتبية واحلياة
العلمية والفكرية على امتداد الديار املصرية ،وكان يروج أنه ميكن ملثل هذه التجربة أن حتقق جناحا
خالل عشر سنوات ميكن خالهلا نشر العامية والتحرر من املعاناة احلضارية اليت تفرضها الفصحى.
-12-
ومل تقف دعوة ولكوكس عند حدود التوجهات الفكرية املشروعة يف أي قضية من القضايا الفكرية
والسياسية ،بل جتاوز حدود األيديولوجيا إىل املمارسة الفعلية تطبيقا لدعوته نبذ الفصحى وإقصائها،
ومتثلت هذه املمارسة يف الوقت الذي أعلن فيه عن مسابقة جائزتها أربعة جنيهات إنكليزية ملن يرتجم
سورة من القرآن الكريم بالعامية املصرية ،ثم جعل نفسه قدوة بأن ترجم جزءاً من اإلجنيل إىل العامية.
وسار على طريقة القاضي (سلدن وملور) وآخر أملاني يعمل يف دار الكتب ،وحذت حذوهم جملة املقتطف
عندما كانت تصدر يف بريوت وأسهمت معهم بشيء من االعتدال جملة اهلالل»(اجلهين.)2009 ،
وكانت اللغة العربية إحدى القضايا اليت عاجلها اجملتمعون يف لقاء الدول الثماني عام 2004حيث
خصص هلا املشاركون بندا يتعرض ملسألة حتديث اللغة العربية وقرر اجملتمعون يف هذا اجملال ما يلي
(بن تنباك:)2005 ،
.1إن عدم تطوير اللغة العربية وعدم حتررها من أشكاهلا القدمية اليت ظلت عليها منذ قرون ،أدَّى
فعليّاً إىل صعوبة كربى يف استيعاب أهل احلضارات واألديان األخرى هلذه اللغة أو تعلمها أو االقرتاب
فكرياً ممن يتحدث بها.
.2إن اإلرهابيني الذين يتحدثون اللغة العربية وتتم ترمجة كلماتهم إىل اإلنكليزية أو الفرنسية ال
نعرف شعورهم احلقيقي أو الدوافع الكامنة وراء ارتكابهم هلذه األحداث ،ألن الرتمجة العربية إىل اللغات
األخرى يبدو أنها تواجه مشكالت حقيقية حنن غري قادرين على تصنيفها وتبيان أسبابها احلقيقية.
.3إن العلوم الدولية ال تستطيع أن تعتمد هذه اللغة بسبب تعقد رموزها وصعوبة أشكاهلا يف الوقت
الذي يستطيع أهل اللغة العربية ومتحدثوها إتقان اللغات املشتقة من اللغة الالتينية مثل اإلنكليزية
والفرنسية.
.4العرب يتحدثون اللغات األوروبية مثل أهلها متاماً مما يؤكد سهولة أشكال وحروف الالتينية
وقدرتها على التأقلم والتطوير حتت أي ظرف.
.5ندرك أن هناك لغة مشرتكة ميكن أن جتمع كل سكان الكرة األرضية فيما عدا الذين يتحدثون
باللغة العربية وهو مما جيعل من الصعب بنا التواصل معهم أو معرفة دوافعهم النفسية.
-13-
.6إن صعوبة التقاء اللغة العربية مع اللغة اإلنكليزية كانت الدافع الرئيسي وراء موجة الكره العربي
ألمريكا وإسرائيل والشعور بالبغض واالنتقام من الذين يتحدثون اإلنكليزية والفرنسية (بن تنباك،
.)2005
وتشكل هذه التصورات اليت اتفق عليها املؤمترون برهانا قطعيا على أن اللغة العربية تواجه حتديات
عدوانية من قبل الدول الغربية وأن هذه اللغة مستهدفة يف جوهرها ويف كيانها.
ومل يقتصر األمر على اتهام املستشرقني للغة العربية بقصورها وعدم كفايتها العلمية ،إذ شهدت الساحة
الفكرية والدة تيار كبري من املستغربني العرب الداعني إىل نبذ الفصحى ورفضها لغةً للعلم واملعرفة
والرتبية ،وذلك ألنها (حسب زعمهم) لغة قاصرة عاجزة عن أداء دورها احلضاري والتجاوب مع احلداثة
ومعطيات العصر .ويشار يف هذا املضمار إىل حممد حسني هيكل ( 1)1956-1888بوصفه أكثر
املفكرين العرب عداوة للعربية الفصحى وأكثرهم محاسة واندفاعا يف الدعوة إىل العامية املصرية حتديدا
بديال للفصحى( انظر ويكيبديا املوسوعة احلرة اإللكرتونية) .لقد رأى هيكل عدم مالءمة الفصحى للحضارة
احلديثة ،وكان يدعو إىل متصري اللغة العربية وأنه جيب على الكتاب أن يستمدوا موادهم الكتابية من
احلاضر بألفاظه وتراكيبه ومعانيه وليس من املاضي .ويقول هيكل بهذا الصدد " :واحلق أن اللغة العربية
على ما خلفتها حضارة العرب كثريًا ما تستعصي على صور هذه احلضارات احلديثة ،وليس عليها من
ذلك ذنب ،وليس يف طبيعتها دون الوصول إليه عجز ،ذلك بأن اللغة العربية أداة ،وإن مل يدم صقلها
عالها الصدأ ،ثم كان فيها تثاقل عن السري املطمئن إىل حيث حيتاج إليها الذهن الفياض مبعان وصور
جديرة ،ولقد يبلغ من صدئها أن يقربها "(بركات .)127-126 ،2003 ،وهكذا رأى هيكل أن
الفصحى ال تتماشى مع احلضارة احلديثة؛ ألنها صارت لغة عاجزة تعاني من الشيخوخة ،وصار يعلوها
الصدأ ،وإن مل تنهض بنفسها فستموت وتقرب وهو بهذا يردد نفس فكرةولكوكس"يف ضرورة تطور اللغة
وجتديدها؛ ألنها حبالتها تلك تعد متخلفة وعائقًا للتقدم(بركات.)127-126 ،2003 ،
ومل ينفرد هيكل يف دعوته هذه ،إذ شهدت الساحة الفكرية تنامي تيار فكري كبري يدعو إىل رفض
الفصحى بوصفها عقبة حقيقية يف وجه التطور واحلياة واحلضارة .وإىل هذا التيار ينتسب املفكر املصري
- 1ال بد من التمييز بني الصحايف حممد حسنني هيكل وحممد حسني هيكل املشار إليه هنا.
-14-
يوسف السباعي ( )1978-1917الذي دعا إىل تبين العامية ورفض الفصحى إذ يقول مهامجا
الفصحى" :جيب أن نتحلل من هذه القيود السخيفة ،ملاذا كل هذا التعب؟ أألن العرب منذ ألف سنة
رفعوا هذه ونصبوا تلك .. ..ليكن .. ..لنحافظ على تراثهم كما هو .. ..على أن حنلل لغتنا من أثقاله
وقيوده ،ونقوهلا بأبسط الطرق ،لنسكن آخر كل كلمة ،ولنبطل التنوين ،ولنقل اجلمع بالياء فقط ،ولنحرم
أدوات اجلزم والنصب من سلطاتها ،لنتحلل من كل هذا ،ولنصرف املمنوع من الصرف ،ولنتحدث بلغتنا
دون خوف من حلن أو خطأ ،جيب أن يزول احتكار اللغة بقيودها وقواعدها وحنوها وصرفها ،وعلى أية
حال إن مل حنطمها اآلن فستحطمها األجيال القادمة فلنكن شجعانا ونرحيهم حنن منها " (إبراهيم،
.)2007
وقد مهد اهلجوم الشديد على الفصحى ،واتهامها بالضعف والقصور ،للدعوة إىل تبين العامية
واللهجات احمللية .ويف هذه األجواء املعادية للعربية الفصحى تنامت الدعوة إىل التخلي عن العربية
الفصحى وتبين اللهجات العامية العربية يف كل قطر من أقطار العامل العربي .ويؤخذ على املصلح الكبري
رفاعة الطهطاوي الذي ترك بصماته اإلجيابية على التعريب يف مصر أنه خصص فصال من كتابه «أنوار
توفيق اجلليل وتوثيق أخبار بنى إمساعيل» للحديث عن اللغة العربية ووجوب إحيائها ،لكنه ضمنه دعوة
إىل استعمال اللهجة العامية ووضع قواعد هلا واالعتناء بها ،ورأى أنه ال مانع من أن يكون للعامية قواعد
قريبة املأخذ تضبطها ،وأصول على حسب اإلمكان تربطها ،ليتعارفها أهل اإلقليم ،حيث نفعها بالنسبة
إليهم عميم ،وكان الطهطاوي أول من أدخل العامية إىل لغة الصحافة وذلك يف صحيفة الوقائع املصرية
اليت كان يشرف عليها (حسن.)2010 ،
ثم بدأت الدعوة إىل تبين العامية تأخذ مداها ويشتد عودها ،وبدأ بعض املفكرين يؤلفون بالعامية
ويعملون على تقعيدها ،وضمن هذا التوجه ألف املستشرق األملاني «وهللم سبيتا» -الذي كان مديرا لدار
الكتب املصرية يف أواخر القرن التاسع عشر -كتابا مساه «قواعد اللغة العامية يف مصر» عام .1880وضمن
هذا الكتاب هجوما ربط فيه بني العربية الفصحى والتخلف ،فقال :إنه «بالتزام الكتابة بالعربية
الكالسيكية القدمية ال ميكن أن ينمو أدب حقيقي ويتطور ،ألن الطبقة املتعلمة القليلة العدد هي وحدها
اليت ميكن أن يكون الكتاب يف متناول يدها» .ثم يقول« :ملاذا ال ميكن تغيري هذه احلالة املؤسفة إىل ما هو
-15-
أحسن؟ ببساطة ألن هناك خوفا من تهمة التعدي على حرمة الدين إذا تركنا لغة القرآن تركا كليا (حسن،
.)2010
وفى نفس االجتاه صبت دعوة املستشرق اإلنكليزي «سلون وملور» -الذي توىل القضاء باحملاكم األهلية
بالقاهرة إبان االحتالل اإلنكليزى ملصر -فأصدر كتابا بعنوان «العربية احمللية يف مصر» يف عام 1901
طالب فيه باختاذ العامية املصرية لغة أدبية بدال من الفصحى ووضع قواعد هلا .ثم أيد دعوة سابقيه إىل
كتابتها باألحرف الالتينية ،مهددا ــ يف حال عدم االستجابة لدعوته ــ بانقراض لغيت احلديث (العامية)
واألدب (الفصحى) نتيجة لزيادة االتصال باألمم( .حسن .)2010 ،وكان "وملور" يدعو إىل استخدام
العامية يف وسائل ألن وسائل اإلعالم أفضل وسيلة إلعطاء العامية مشروعية وجودها وحضورها .وكان يرى
أنه جيب على الصحف أن تتخذ اخلطوة األوىل لتعميم العامية وترويج استخدامها ،وعلى هذا النحو فإن
النشر بالعامية سيؤدي إىل انتشار القراءة والكتابة يف خمتلف أحناء البالد ويف فرتة قصرية نسبيا .وتزعم
عبد العزيز فهمي عضو جممع اللغة العربية الدعوة إىل العامية بديال للفصحى ،فقدم إىل جممع اللغة
العربيّة ففي القاهرة يف عام 1943مشروعا تغريبيا يدعو فيه إىل «استبدال احلروف العربية باحلروف
الالتينية» .وملا رفض تبنى «سالمة موسى» هذه الدعوة واصفا عملية تبين احلروف الالتينية بأنها "وثبة
املستقبل" وأن احلروف الالتينية ستكون مصدر إهلام حضاري وحداثي (حسن.)2010 ،
وفيلبنان تبنى الدعوة نفسها الشاعر سعيد عقل ،الذي هاجم اللغة العربية بأصوهلا الدينية ،إذ يقول:
«إن من أراد لغة القرآن فليذهب إىل أرض القرآن (حسن .)2010 ،وقد أنشأ عقل أول مطبعة لكتابة
احملكية اللبنانية باحلروف الالتينية مع إضافة بعض احلروف إليها .ويف هذه املطبعة بالذات قام عقل
بطبع جمموعة من كتبه ودواوينه الشعرية ،كما أصدر صحيفة يومية باللغة عينها (خري اهلل،2005 ،
.)54
ووجدت دعوة عقل صداها لدى «أنيس فرحية» ،الذي كان من أبرز دعاة العامية واحلروف الالتينية
يف لبنان .وكان فرحية يف دعوته هذه يعرتض على اعتماد اللغة العربية كلغة للجيل احلاضر ،وكان يرى
أن الذين استنبطوا قواعد العربية وضبطوا أحكامها اعتمدوا الشعر اجلاهلي أوال ثم القرآن الكريم مادة
لغوية .وهو يعرتض على ذلك بقوله":متى كانت لغة الشعر ولغة األدب والدين مرآة تعكس لغة الناس فى
معاشهم ومكاسبهم»؟ !(حسن.)2010 ،
-16-
وظهرت عدد من الكتب اليت عملت على النيل من العربية الفصحى وأهمها:
-كتاب " لغة بريوت العامية" للمستشرق إمانويل مانسني.
-كتاب " لغة مراكش العامية وقواعدها" البن سحيل.
-كتاب " قواعد العامية الشرقية واملغربية" للمستشرق كوسان دويرسغال.
-كتاب " عامية دمشق" للمستشرق براغسرتاس.
-كتاب " قواعد العربية العامية يف مصر " للمستشرق األملاني وهللم بيتا.
-كتاب " قواعد اللهجة اللبنانية السورية " لرفائيل خنلة.
-كتاب " قواعد العربية العامية يف مصر " للمستشرق األملاني وهللم بيتا.
كما أُلفت العديد من املصنفات يف منطقة اخلليج العربي لتخدم الغرض عينه وخباصة بعد اكتشاف
النفط( .خري اهلل.)53 ،2005 ،
ومل يقتصر اهلجوم على اللغة العربية على ما رميت به من ضعف يف بنيتها وأدائها وفقدان قدرتها على
مواكبة العصر ،بل تعرضت لنوع آخر من اهلجوم أكثر خطورة وتدمريا يرميها يف صميم جوهرها وتكوينها،
حيث اتهمت بأنها لغة دينية مغسولة الدماغ غري قادرة على استلهام احلضارة اإلنسانية .ويظهر هذا
اهلجوم يف مقالة لعبد الرمحن عبد اهلادي بعنوان (الذهنية العربية :منظور لغوي) شن فيها هجوما على
الفصحى يف صميم وجودها وهويتها وماهيتها احلضارية فيقول:
" فإن عدنا إىل اللغة العربية اليت هي أداة مشكلة ومتشكلة مثلها مثل اإلنسان العربي ،لوجدنا أنها
أداة "مغسولة الدماغ" عاشت يف خمزون التبديد عدة قرون ،فاللغة العربية انتشرت وسادت يف ظل سيطرة
دينية ،وامتلكت سطوة إميانية جاهزة املفردات ،مكتملة الصياغات ثابتة الدالالت عند حاجز علوي متسام
ال ميكن اخلوض يف أو التساؤل عنده ،أي إننا نستطيع القول بأنها تشكلت يف إطار املطلق اليقيين
املتعالي ،وبالتالي أخذت كما هي ،ويتم تعليمها كما هي باملناهج نفسها منذ أكثر من عشرة قرون،
وتستطيع أن تفتح كتب اللغة العربية من االبتدائي إىل اجلامعة ،لتجد أنها مل تتغري منذ مئات السنني،
املناهج نفسها والتعبريات نفسها ،والنصوص نفسها ،الروح نفسها وكأن العامل واقف مل يربح مظلة قريش
قبل اهلجرة وبعد اهلجرة ،وهي حالة مذهلة قلما جند هلا نظريا يف أي لغة أخرى يف العامل ،وقد أوحى
لنا هذا مبالحظة كثرة الشعراء يف وطننا العربي وغلبتهم على كل جماالت اإلبداع املختلفة ،علمية وأدبية،
-17-
وكأنهم يكررون حالة العري القديم ساكن الصحراء املتغين مبجده التليد ،أو كأن الشاعر اجلاهلي القديم
نفسه انبعث من جديد فمأل صحفنا ضجيجا وأوراقنا طبـاعةً ونشرا"(عبد اهلادي.)17 ،1993 ،
ويتابع عبد الرمحن عبد اهلادي هجومه على العربية متهما إياها بأنها لغة جمردة غري واقعية غري
قادرة على حتقيق فعل التواصل اإلبداعي الفلسفي فيقول " :علينا أن نكشف الغطاء عن "البنية املفهومية"
العربية ،فندعي أنها بنية "نظرية جتريدية" أكثر منها بنية "عملية" ،وطابع اإلبداع فيها طابع كالمي
وليس طابعا علميا ملموسا يصل إىل حد الكالم اجملرد الذي يشبه لغة اجلنون باملعنى النفسي ،أي توليد
ألفاظ من ألفاظ وصيغ ،من ألفاظ وصيغ أخرى متتد ومتتد لتفرق ملة عن أخرى ،وفرقة عن فرقة ،ويكفي
أن تطلع على نصوص مذهبية لفرق مثل الباطنية أو املعتزلة أو األشاعرة وحتى الظاهرية والغزالية ،لتدرك
أن العمل الفكري الذي متّ قام كليا على عمليات ذهنية وعلى حجج منطقية "( عبد اهلادي،1993 ،
.)22فاإلعجاز العربي " العربي إعجاز لفظي ،فالعربي ال يرى يف طلوع اإلنسان إىل القمر معجزة ،بل
أحيانا ما جند بعض الناس ينكرها ،والعربي ال يرى اهلاتف والتلفاز والسيارة والقطار والطائرة والصناعة،
أو أي أداة جلبها العلم احلديث(عبد اهلادي .)25 ،1993 ،ويف هذا السياق يقول أبو علي ياسني
مؤكدا على الطابع النظري اللفظي للغة العربية وطابعها املطلق" :اجلملة العربية هي إما مجلة امسية أو
مجلة فعلية ،أما اجلملة األوروبية فهي دائما مجلة فعلية ،اجلملة االمسية توحي بإطالقية ال نلحظها يف
اجلملة الفعلية ،ألن الفعل مرتهن بالزمان؛ هي بصورة ما سلوكية ال تعرب عن حدث بل عن حالة وعن
دميومة ظاهرية-مهما قصرت واقعيا -ويقول أيضا "تبدأ اجلملة العربية الفعلية بالفعل يف حني تبدؤها
اللغات األوروبية عادة بالفاعل ،هذا يعين أن العرب يهتمون أوال بالفعل ثم ينظرون إىل الفاعل (عبد
اهلادي.)21 ،1993 ،
ومن جديد يعود عبد اهلادي للتأكيد على الطابع النصي املقدس للغة العربية ،فريى أن الفعل
احلضاري ّمت جتميده باملقدس النصي الذي سطا على الفكر والتفكري السائد حتى اآلن .وتأسيسا على هذه
الرؤية ينادي عبد الرمحن باالبتعاد عن األصول اللغوية خللق دالالت جديدة لأللفاظ يوسع ويعمق مساحة
احلرية العقلية لإلنسان ،ألن هذه املساحة نفسها تولد األلفاظ اجلديدة والدالالت اجلديدة ،وهي بذاتها-
كتعبري عن هذه احلرية–توسع دائرتها ومداها كيفيا وكميا يف الوقت نفسه (عبد اهلادي.)19 ،1993 ،
ومن الواضح أن عبد الرمحن ينطلق من وجهة نظر حداثية يرى فيها أن تشبعات اللغة باملاضي والتيارات
-18-
السلفية اجلامدة قد أضعفت اللغة وجعلتها خارج مسارها احلضاري .وال حنسب يف نهاية األمر إال أن نرى
يف آراء عبد الرمحن مقدمة رمبا للتفكري فيما علق باللغة العربية من شوائب املاضي وإجياد املخرج احليوي
من أجل تطوير األداء احلضاري للغة العربية.
وإىل هذا املذهب يذهب خلدون النقيب يف الكويت إذ يعلن قلقا منهجيا حول أوضاع اللغة العربية
ويوجه أصابع االتهام إىل طريق تدريس اللغة وبنيتها القواعدية اجلامدة فيقول متسائال" :بأي لغة يتم
توصيل املعلومات للطلبة؟ وهل تواكب اللغة العربية بوصفها لغة التواصل االجتماعي تطور اجملتمع وتطور
احلياة االجتماعية؟" ويف معرض تناوله هلذه املسألة يرى النقيب أن اللغة املستعملة يف التدريس تبقي يف
حدود املدرسة ،وال تستعمل يف احلياة اليومية ،وليس هلا صلة بالواقع املعاش ،وإذا ما أردت التفكري
والكتابة بها البد أن ختضع عملييت التفكري والكتابة إىل مرجعية لغوية تعود إىل أكثر من اثين عشر قرنا،
والنص إذا مل يشكل سواء كان شعرا أو نثرا وجدت نفسك عرضة للحن واخلطأ يف فهم املعين .فلم تكن
مشكلة طالبات األستاذ محام يف فيلم (غزل البنات) القدرة على القراءة وإمنا تتمثل يف عدم القدرة على
تشكيل الكالم ألنه غري موجود يف النص" (النقيب.)18 ،2002 ،
ثم يقرتح النقيب حال بقوله ":وليس من حل هلذه املشكل الرتبوي إال يف جتاوز األطر الرتاثية
احلديدية اليت تقيد اللغة العربية إىل منطلقات رحبة من املعاني املستوردة من التجربة املتجددة ،اليت
تعيننا على حتدي النخبة املهيمنة ،سواء كانت حاكمة أو تراثية أو املكونة من النحاة التقليدين ،ويف
حتدي القوالب املستجدة للسيطرة والرقابة على املفردات اللغوية يف لغة امليديا والقوالب املنطقية لوسائل
اإلعالم ولغة اآلالت والصور املتخيلة اليت تبثها األقمار الصناعية .وكأن اجلنس البشري خيرج من العتمة
ليدخل كهف أفالطون الذي ال تُرى فيه األشياء احلقيقية ألنها جمرد خياالت يعكسها الضوء على جدران
الكهف األسطوري".
وكذلك ينتسب رأي النقيب إىل االجتاهات النقدية يف التعاطي مع اللغة العربية الفصحى ،حيث جند
توجها مركزيا يهدف إىل إخراج اللغة العربية من صومعتها التارخيية الكالسيكية والرتحيب بها قوة
حضارية جديدة لتمارس دورا حداثيا مميزا يف حياة العرب املعاصرة.
-19-
-4اهلجوم على العامية:
غالبا ما صورت العامية بأنها آفة لغوية تهدد اللغة وتدمر مقومات وجودها .وإىل هذا األمر ذهب بعض
املفكرين يف اعتقادهم أن العامية أعشاب ضارة يف حقل اللغة ،وأنه جيب على املعنيني باللغة اجتثاث هذه
األعشاب وتطهري احلقل اللغوي من مسومها وأضرارها .ومن هذه الزاوية واجهت العامية موجة عدائية
كبرية تصدرها عدد من فرسان الكالم الذين قللوا من شأنها وانتقصوا من قيمتها وخبسوها حقها .ويف هذا
املقام يورد الزغلول عددا من التوصيفات السلبية ضد العامية فيقول " :وقد وصفت العامية بأقذع األلفاظ من
قبل األدباء والكتاب العرب ،فهي "مصاحبة للجهل والسوقية" ،كما قال زكي عبد امللك ،و" لغة
السكارى واخلدم . ..فوضوية وال قواعد هلا" ،كما يقول مازن مبارك " ،عالمة للجهل واألمربيالية " ،كما
يقول علي ناصيف " ،ال تستحق أن تسمى لغة ،وال تالئم أهداف احلياة الثقافية كما يقول طه حسني" ،
ينشرها وحيبذها األميون" كما يقول مصطفى فهمي(الزغلول.)62 ،2000 ،
-5ضرورة العامية:
وعلى خالف هذا التصور ينفرد عدد آخر من الباحثني بالقول بضرورة العامية وأهميتها ضمن حدود
احلقل الذي متارس فيه ،وإىل هذه الفئة من املفكرين ينتمي الباحث اللغوي حييى الرخاوي الذي يقول:
"أما اللغة (اللغات) العامية فهي لغة ال شك يف ذلك ،وهي لغة قادرة ومبدعة وفاعلة ،وال يوجد ما ينقص
من أحقيتها يف ذلك ،هلذا ال ينبغي إغفاهلا أو تهميشها ،وإال كنا نفتعل مسرية ضد طبيعة التطور ،وضد
حركية اللغة ،وضد فرص اإلبداع ،كما أن ما يسمّى "املعرفة احلكائية" إمنا يستلهم كثريا من مصادره من
لغة الناس يف احلياة اآلنية ،أو فيما يرتتب عليه من تراكم عرب التاريخ يف شكل أمثال أو عادات ،سواء
ظهر ذلك يف الفعل اليومي ،أو يف اإلبداع املعريف أو غريه ،كل ما يف األمر أن هذه اللغات (اللهجات)
العامية ال ينبغي ،وال تقدر ،أن حتل حمل العربية الفصحى ،وإمنا هي تستطيع وينبغي أن جتاورها
وتتحاور معها وتثريها وتكملها" (الرخاوي.)2003 ،
-20-
-6متى تشكل العامية تهديدا للفصحى ؟
يرى بعض املفكرين القوميني واإلسالميني أن وجود العامية وانتشارها الواسع يهدد وجود اللغة
الفصحى ويقوض أركانها ،وهذا بدوره يؤدي إىل تقويض اللغة يف صورتها الكلية .وغالبا ما ينظر أصحاب
هذا االجتاه القومي اإلسالمي إىل "العامية" أو "العاميات" العربية على أنها خطر كبري يهدد األمة العربية
ككيان ثقايف .وينطلق أصحاب هذا االجتاه من عصبية التمجيد املطلق للفصحى بوصفها لغة الدين واهلوية
القومية.
ويربط بعض الباحثني رؤيتهم لالزدواجية اللغوية مبدى انتشار العامية وبطبيعة التوازن الذي جيب أن
يكون بني اللغتني ،فاللغة العامية " خطرية جدا إذا تُرك هلا العنان لتسود وتقود" (القرضاوي.)2004 ،
وهذا يعين أن خطر العامية يكون يف جوهر األمر عندما تتخطى احلدود واحلواجز الطبيعية لدورها
ووظيفتها احليوية وعندما تتوغل يف املناطق احليوية للفصحى كالتعليم واإلعالم ويف جمال املراسيم والطقوس
العلمية واألدبية ووسائل اإلعالم ،ويف هذه احلالة فإنها تشكل تهديدا حقيقيا ،ليس للغة الفصحى
فحسب ،وإمنا للغة العربية يف صورتها الكلية.
وتكمن اخلطورة النامجة عن التوسع الكبري للعامية على حساب الفصحى يف احلسابات اليت تنجم عن
هذه الوضعية .فعندما تأخذ العامية مكان الفصحى فإن كل هلجة كما يقول الضبيب ":سوف تتحول مع
مرور الزمن إىل لغة كما حدث عند أمم أخرى .ويف هذه احلالة تصبح كل بيئة هلجية كياناً مستقالً عن
البيئات األخرى ،له لغته اليت ال تفهم يف البيئات األخرى ،وال خيفى ما يف ذلك من خطر على وحدة
األمة .كما أن هذه اللهجات إذا ما استقلت فسوف يكون هلا أدبها ولغتها الرمسية اليت تبتعد بها عن لغة
الرتاث العربي اإلسالمي املكتوب بالعربية الفصحى .ويف ذلك انقطاع عن اإلرث احلضاري والتارخيي هلذه
األمة"( اجلهين.)2009 ،
ويف هذا االجتاه يذهب اجلهين بقوله " :تبقى العامية أقل خطراً إذا بقيت يف حدود لغة الشارع (إن
صح التعبري) ،لكنها تصبح خطراً حمدقاً مبستقبل الفصحى عندما تصبح مكتوبة أو مذاعة عرب وسائل
اإلعالم املختلفة ،وهو األمر الذي بُلينا به حتى يف صحفنا احمللية هنا يف اجلزيرة العربية مهد الفصحى
ومنشؤها! (اجلنهي.)2009 ،
-21-
ويرى معظم الدارسني هلذه القضية أن اخلطر يكمن يف حدود املسافة الفاصلة بني شعبيت العامية
والفصحى .فاملسافة بني العامية والفصحى يف اللغات األجنبية غالبا ما تتصف باالعتدال فيما يتعلق بالبنية
والرتاكيب والقواعد ونظام الداللة ،ويف هذه املعادلة من التوازن تكون العامية ظال للفصحى وال يوجد مثة
تهديد للغة املعنية .وهذه هي احلالة اليت يرصدها الباحثون يف اللغة اإلنكليزية والفرنسية.
ويف هذا األمر يقول خليل كلفت " إن املسافة بني الفصحى والعامية ،إنْ جاز القول ،يف اإلجنليزية
أقصر مبا ال يقاس منها فيما بني الفصحى والعامية يف العربية .ففي اإلجنليزية يسود النسق اللغوي-
النحوي الواحد ،وبالتالي االنسجام اللغوي ،ووحدة اللغة بصرف النظر عن اختالفات اللهجات
ومستويات االستخدام ،على حني يوجد يف قلب اللغة العربية نسقان حنويان متعارضان متاما ،مرحلتان
حنويتان يف تطور اللغات ،وهذا هو الفارق الكيفي الذي خيلق ظاهرة االزدواج اللغوي عندنا" (كلفت،
.)2012وهنا تكمن اإلشكالية الكربى لعملية الصراع بني العامية والفصحى ،ويف هذا الوضعية تكون
العامية خطرا على الفصحى كما هي خطر على اللغة برمتها .وذلك ناجم عن حدّة التناقض واملسافة
املتباعدة بينهما.
أخذت مسألة االزدواجية اللغوية طابعا أيديولوجيا وشكلت مادة خصبة للصراع األيديولوجي بني
فريقني :أحدهما يدعو إىل نبذ الفصحى وتبين العامية ،واآلخر يدعو إىل تبين الفصحى وحماربة العامية.
وبني هذه الفريقني ظهرت دعوات إىل عقلنة العالقة بني العامية والفصحى وحتديد مالمح وطبيعة العالقة
الوظيفية القائمة بينهما .ولكل فريق من هذه الفرق الثالثة أسبابه ومنطلقاته الفكرية واأليديولوجية اليت ال
ختفى على أصحاب العلم واملعرفة.
ومما ال شك فيه أن الفريق الذي يدعو إىل حماربة الفصحى يتبنى نسقا فكريا تغريبيا معاديا للفكرة
القومية ونزعاتها العروبية .أما أصحاب الفريق الذي يدعو إىل تبين الفصحى ونبذ العامية فيؤسسون
لرؤيتهم من منطلق قومي أو إسالمي يعظم الفصحى وينحو إليها بوصفها قوة حضارية عربية أو إسالمية.
-22-
أما أصحاب االعتدال فغالبا ما يشكلون فئة من هؤالء الذين اختذوا العقالنية واملوضوعية منهجا أيديولوجيا
هلم يف احلياة والفكر دون أن يغلبوا الطابع األيديولوجي على منظورهم اللغوي.
وهكذا جند أنصارا للفصحى ال حييدون عنها ،وأنصارا للعامية ال يقبلون بغريها ،وبني هذين
االجتاهني جند بعض املفكرين الذي يرون بضرورة احلضور االزدواجي للفصحى والعامية على أن تكون كل
منهما يف جماهلا الطبيعي انطالقا من التسليم يف كل األحوال بأن االزدواج طبيعي بني الفصحى والعامية
وأن أحدهما ال يستقيم بغري اآلخر.
هذا ويعلن كثري من املفكرين ضرورة حتقيق التوازن واالنسجام اللغوي بني العامية والفصحى؛ ألن هذا
التوازن اخلالق يشكل طاقة كربى يف جتاوز االنشطارات الفكرية ويف حتقيق االنسيابية اللسانية خارج
دائرة التوتر والصراع األيديولوجي بني االجتاهات املتصلبة .وهذا يعين أنه ال بد من سيادة النسق اللغوي
الواحد ،وهذا عامل غائب يف حالة العرب واللغة العربية على مرّ القرون بسبب االزدواج اللغوي الطويل
األمد ،الذي جعل االستثناء قاعدة ،والذي يصل اآلن ،يف العصر احلديث ،إىل أقصى درجات التفاقم
واالستفحال واخلطورة .وضمن هذا السياق فإن العامية ال تشكل خطرا على الفصحى عندما تتم عقلنة هذه
العالقة يف نسق إجيابي منظم ،فالعالقة املتوازنة بني شقي اللغة ميكن أن تكون منطلقا إلثراء اللغة
الفصحى وتأصيل قدرتها احلضارية .والعامية وفقا هلذا التصور ال تضري الفصحى وال تنتقص من قيمتها أو
أهميتها ووظيفتها .ومن الالفت أن املركز العربي للتعريب يف اجلزائر يتبنى هذا التوجه ،إذ يرى القائمون
على املركز أنه "ال يوجد تنافر بني اللغة العاملة الفصيحة وبني اللغات العامية الشعبية اليت متثل عامل
إثراء وغنى ،إذا عرف اللغويون وعلماء النحو والبيان كيف يستثمرون هذه املادة اخلام إلدخاهلا يف النسيج
احلي للغة"(املركز العربي للتعريب والرتمجة والتأليف والنشر .)23 ،2010فالعاميات املتداولة يف جمتمعاتنا
جيب أن نهذبها ونقاربها ال كظاهرة مرضية جيب القضاء عليها ،ولكن كواقع ميكن االرتقاء به ،من
خالل تقريب العربية وحتبيبها للناشئة وللناس بواسطة برامج مدروسة (املركز العربي للتعريب والرتمجة
والتأليف والنشر .)24 ،2010 ،وبناء على هذه الرؤية جيب أن تقوم العالقة بني العامية والفصحى على
التوازن والتكامل والتفاعل ،فالعامية ترفد الفصحى والفصحى تغتين بالعامية وتستلهم مصادرها ،وكذلك
فإن العامية تتوازن بنيويا ومتنح أصالتها من الفصحى .وهذه العالقة غالبا ما تشكل عالقة توازن خالق بني
املستويني ،وقد أدت تارخييا إىل نوع من التخاصب اللغوي الذي لطاملا أمثر وأغنى اللغة يف مشوهلا .وعلى
-23-
هذا األساس يدعو كثري من الباحثني اليوم إىل وضع كل واحدة منهما (العربية والفصحى) يف إطارها
الصحيح يف حياتنا ،وذلك عن طريق تنظيم العالقة بهما حبيث ال تطغى أي واحدة منهما على األخرى،
أو تأخذ مكانها السيادي يف حياتنا.
ويف دائرة التخاصب بني العامية والفصحى يرى بعض املفكرين أنه ميكن تعميم الفصحى بتفصيح العامة
أو تفصيح العامية بتعميم الفصحى .وهذا يعين العمل على االرتقاء باللغة العامية وتقعيدها على منوال
الفصحى أو إغراق العامية بقوة الفصحى إىل احلد الذي تتطابقان فيه من حيث اجلمال والقوة والقدرة.
ويبني أهل العلم والفصاحة أنه إذا تعرضت العالقة بني الفصحى والعامية للخلل ،فإن ذلك قد يؤدي
إىل خلل يف بنية اللغة ككل ،وهو ما قد يؤدي إىل طغيان العامية واحنسار الفصحى .وهذا الطغيان يؤدي
إىل تدمري اللغة ذاتها وضياع مكونات هويتها ووجودها .وغالبا ما تكون هذه العالقة نتاجا حيّا لطبيعة
التخلف الثقايف واالجتماعي الذي يعانيه جمتمع ما بعينه.
وتبني الدراسات اجلارية اليوم أن الفارق بني العامية والفصحى جيب أال يكون شديد االتساع والعمق
يف احلالة الطبيعية ،وجيب أال يكون ذاك التباين بني املستويني حائال دون الفهم .وعندما يصل الفرق بني
العامية والفصحى إىل حد امتناع الفهم بني أبناء األمة الواحدة فهذا يعين حالة مرضية ،وأن اللغة قد
تعاني حالة احنسار وتراجع رمبا يصل إىل حدّ االنقراض .وضمن هذه املقاربة يالحظ الباحثون اللغويون أن
الفارق بني اللهجات اإلنكليزية وبني اللغة اإلنكليزية الفصيحة ،مثالً ،هو فارق ضئيل جداً ال حيول دون
الفهم ،على حني أن الفارق بني اللغة العربية الفصحى وهلجاتها فارق كبري جداً.
ويف هذا املقام يبني لنا علي القامسي يف حبث له حول احنسار اللغة العربية وتراجعها أن اللغات
األجنبية اعتمدت سياسات حكيمة من أجل احملافظة على لغاتها من تغوّل العامية ،وتقوم " هذه
السياسات على استخدام اللغة الفصيحة املشرتكة يف التعليم واإلعالم واإلدارة والتجارة ومجيع جماالت
احلياة ،فيعتاد املواطنون على مساعها وقراءتها ،ويتمكنون منها وتقرتب لغتهم الدارجة من اللغة
الفصيحة"(القامسي .)2007 ،فاللغة العربية الفصيحة نتاج حضاري تشكل عرب فعاليات حضارية ممتدة
لقرون خلت ،وهي تشكل عصارة تطور تارخيي ثقايف مجالي ،وإنه ملن اجلنون مبكان أن يتخلى العرب
عن لغتهم اليت متيزت بعنفوانها ورقيها عرب التاريخ واالنتكاس إىل وضعية لسانية تفتقر إىل مقومات اللغة
السليمة فكريا ومجاليا ومعرفيا .فاللغة العامية لن تفي بأغراض الفصحى أبدا ،وحتتاج فيما لو تطورت إىل
-24-
قرون مديدة من الزمن لتصل إىل ما حققه صنوها الفصيح من حضارة لسانية .ومن هنا فإن تفصيح العامية
وتطويرها يف ضوء الفصحى ووفقا جلمالياتها النحوية واألدبية خري وسيلة لتطوير اللغة العربية واالرتقاء بها
وبقدرتها على التجاوب مع معطيات الواقع والعصر واحلضارة .وقد أدرك الرخاوي هذه احلقيقة عندما
قال" :إن ما ينبغي علينا أن نبذل فيه قصارى اجلهد هو العمل على حتديث اجلاهز واملمكن والعام ،لعلّنا
نلحق بالركب ،بدال من اجلدل حول جتهيز الفروع الوليدة (اللهجات العامية) اليت قد جند مربرا
مستقبليا لتجهيزها مبا يناسب فيما بعد"(الرخاوي .)2003 ،من املؤكد أن اجلاهز واملمكن واملتطور الذي
يقصده الرخاوي هو اللغة العربية الفصحى ،وأن العامية جيب أن تبقى يف رعاية األصل الفصيح ،وعلى
الفصيح أن يهتدي بواقع احلياة الذي ميثل عصب اللغة العامية أو احملكية اليت جيب أن تشكل معينه
يف رحلة البحث عن اهلوية والفكر واحلضارة.
خامتة:
ال بد للغة العربية أن ختلع رداءها املقدس كي ترى الشمس وتالمس اهلواء وختتمر يف بوتقة الواقع مبا
ينطوي عليه من خصوبة فكر وثراء حياة .وجيب على العامية أيضا أن خترج من أوكارها ومن ظالم األرض
لتكون على موعد مع الفصحى يف ضوء الشمس وحرارة احلياة .فقدر اللغة العربية أن تطري وترفرف
جبناحيها يف ميادين املعرفة ،ثم حتلق يف ضوء الشمس وعلى جناح الرياح كقوة حضارية تدفع بالثقافة
العربية إىل قدر النهضة واملعرفة العلمية وأحضان املستقبل العربي الواعد.
اللغة العربية كيان حي متطور متدفق جيب أن تعارك احلياة ،وأن تعرتك فيها قوة نهضوية حقيقية
ألهلها وأبنائها .وجيب على أهل اللغة العربية إخراج الفصحى من صومعة التاريخ ومن متاحف الزمن
املغلقة .وعلى أبناء األمة أن ينفضوا عنها غبار الزمن املاضي ،وحيرروها من صدأ التقديس واحلرمان.
فاللغة ال تكون قوية يف غري املغامرة اللسانية اليت تدفع بها إىل التدفق اإلبداعي اخلالق .وكنا يقول املثل:
البحر اهلادئ ال يصنع حبارا ماهرا .وتلك هي حال العربية حتتاج إىل املغامرة يف عصر ال يعرف إال
ومضات التغري والتجديد والتبدل.
وقد حان الوقت الذي ييجب فيه على الباحثني العرب أن يغمدوا سيوفهم ويضعوا أسنتهم
األيديولوجية ،وأن يفكروا بعيدا عن صولة األيديولوجيا وذهنية الفحولة والصراع .وعليهم أيضا أن حيطموا
-25-
أصنامهم األيديولوجية ويكسروا ذهنية االنكسار حتت وقع األيديولوجيات العقيمة .فاللغة العربية –
حاهلا كحال الثقافة -حتتاج إىل رؤية عقالنية موضوعية متحررة من أثقال املاضي بنماذجه املطلقة املغلقة.
فاللغة حياة وعراك وصراع ،وسنن احلياة تستوجب التغري والتجدد ،وما ال يتجدد يذوي وميوت ويتالشى
حتى وإن كانت اللغة العربية لغة الدين واإلميان واهلوية.
حان الزمن لكي نأخذ مبعطيات الواقع وحنرتم متغرياته ونأخذ بأسباب النظرة العلمية إىل التاريخ
والثقافة واحلضارة .فاللغة العربية حتتاج إىل حركة جتديد ،والعامية إىل تطوير .واجلميع يدرك اليوم أن
تقليص املسافة بني الفصحى والعامية يشكل ضرورة حضارية ال مندوحة عنها أبدا .فاحلل ليس يف اهلجوم
والتعنت واملغالبة والصراع ،بل يف رؤية علمية عقالنية عن طبيعة اللغة ومشكالتها .وهنا جيب علينا أن
نأخذ بتاريخ تطور اللغات والتجارب العاملية يف انتشارها والبحث يف عناصر قوتها وعظمتها.
وإنين لعلى يقني أن كل أشكال اهلجوم على الفصحى تارة ،والعامية تارة أخرى ،مل تكن ولن تكون
سوى تداعيات وقت ضائع على دروب اإلصالح اللساني ،وحان الوقت لتعويض ما فات من زمن التغرب
والتهتك والصراع الذي يدل على عقم حضاري يتميز بعمقه ومشوله .وعلينا قبل أن نهاجم دعاة العامية أن
ننظر يف أسبابهم املوضوعية ،وأن نتفهمها كذلك ،وعلينا أال نغض الطرف عن الظروف والعوامل اليت
جعلت من دعاة الفصحى يقعون يف دائرة التمجيد والتقديس لنماذجها التارخيية القدمية .فاللغة صناعة
إبداعية ،والشعوب هي اليت تصنع اللسان ،ومن ينظر يف أصول التكوينات اللسانية للغةاإلنكليزية سيجد
أنها أكثر التكوينات هجانة ،ومع ذلك فاللغة اإلنكليزية تلتهم العامل بقوتها وطاقتها وانتشارها
واتساعها .،وهذا ليس ملزايا يف اللغة اإلنكليزية ذاتها بل ألن أهلها أصابوا التقدم العلمي ونالوا كل ضروب
القوة االقتصادية والعسكرية.
إن الضعف اللغوي الذي تشهده العربية اليوم ناجم عن ضعف يف قوة العرب ويف إمكاناتهم التارخيية.
ومن ثم فإن احنسار العربية وتراجعها مؤشر على تراجع الفعالية احلضارية للعرب .ولن تكون اللغة
العربية قوية أبدا ما مل جتد القوة أسبابها يف حياتهم االقتصادية واالجتماعية .ولو كان العرب أقوياء
لبلغت العربية أبراج السماء يف مستوى حضارتها وتقدمها.
-26-
نعم نريد القول مع القائلني إن العربية حتتاج اليوم إىل إصالح شامل خيرجها من دوائر مجودها
وانغالقها ،حتتاج إىل إصالح حيطم جدران املمانعة ضد التجديد واالبتكار .وهكذا فعل اإلنكليز واألمريكان
الذي طوروا لغتهم وطوعوها ملتطلبات العصر واحلداثة فكان من شأنها ما كان من قوة وانطالق وعزمية.
حنتاج اليوم إىل إصالح تربوي تتقاطع فيه السياسة مع االقتصاد ،والثقافة مع املعرفة العلمية واحلاضر
مع املاضي من أجل إخراج اللغة العربية من عوامل انتكاستها وضعفها ومخوهلا .وجيب علينا يف هذا
اإلصالح أن نستفيد من كل التجارب العاملية القدمية واجلديدة ومنها التجربة اليهودية يف إحياء العربية
اليت أصبحت لغة علم ومعرفة بني عشية وضحاها ،وعلينا ايضا أن نضح الدماء اجلديدة يف اجلسد العمالق
للغة العربية لتكون شاهدا على العصر وفاعال فيه ومنتجا للمعرفة العلمية يف إطار نهضة فكرية وثقافية
شاملة.
ليس العيب يف لغتنا بل العيب والضعف يف أهلها الذين هجروا البحث العلمي وغادروا حمراب
احلضارة الفكرية منذ أمد بعيد .والعيب كامن يف صراعاتنا اليت تبدو خمجلة وسخيفة ،ويف
أنساقنا اآليديولوجية القاتلة كما هو العيب يف مترتسنا وراء حدود املاضي والنماذج القدمية اليت ال
ميكنها أن توفر أمنا أو استقرارا ،أو تقدم لنا حصانة يف زمن الومضات والتموجات احلضارية اليت
تهتك النماذج وتدك احلصون.
-27-
مراجع الدراسة
: إبراهيم ،أمحد عاشور (ِ .)2007لسَانٌ عَ َربِيٌّ ُّم ِبنيٌ..الفصحى والعامية ،منتديات شبكة الساهر .1
.http://www.al-saher.net/vb/al-saher59910.html
بركات ،مصطفى علي السيد ( .)2003اجتاهات أعضاء هيئة التدريس جبامعة املنوفية حنو تعريب تعليم .2
العلوم والتقنية كمدخل ملواجهة التحديات املعاصرة :العوملة وتهديد اهلوية القومية – دراسة ميدانية،
مقدمة ملؤمتر العلمي اخلامس عشر(مناهج التعليم واإلعداد للحياة املعاصرة) -مصر ،مج )2003( 2
(صص .)610 – 578
بركات ،هاني حممد يونس ( .)2003االستشراق والرتبية ،عمان :دار الفكر للطباعة والنشر .3
والتوزيع.
بالو ،جاشوا ( .)2000نشأة االزدواجية اللغوية يف العربية :دراسة يف أصول اللهجات العربية .4
احلديثة ،يف دراسات يف تأريخ اللغة العربية ،ترمجة محزة بن قبالن املزيين ،الرياض :دار الفيصل،
(صص .( 260 -185
بن الرباء ،حييى ( .)2004اللغة واهلوية وآفاق التنمية ،سلطنة عمان :جملة التسامح ،العدد .5 .5
بن تنباك ،مرزوق بن صنيتان( .)2005اللغة العربية يف القرن احلادي والعشرين ،يف املؤسسات .6
التعليمية يف اململكة العربية السعودية ،الواقع والتحديات واستشراف املستقبل ،حماضرة ألقيت يف
جامعة امللك سعود ،قسم اللغة العربية بتاريخ 17مايو/أيار . 2005
اجلهين ،حممد فاحل ( .)2009اللغـة العربيـة :عقـبات حمـلية فـي طـريـق العـامليـة ،جملة املعرفة ،العدد .7
،65سبتمرب /أيلول،: http://www.almarefh.org
حسن ،عزت ( .)2010هل الفصحى ضد التقدم؟ ..العامية تغزو ساحات كانت مقصورة على الفصحى، .8
شبكة منتديات الوطن املوريتانية :
.http://www.alwatanrim.net/vb/showthread.php?t=7424.
حسني ،طه ( .)1973مستقبل الثقافة يف مصر ،بريوت دار الكتاب اللبناني ،اجمللد التاسع ،األعمال .9
الكاملة .ص . 247
.10حسني ،حممد حممد ( .)1981فقه اللغة بني األصالة والتغريب ،جملة كلية اللغة العربية بالرياض،
عدد .11
-28-
.11خري اهلل ،أسامة ( .)2005يف اهلجمة على لغتنا العربية اجلميلة ،جملة حوار العرب ،س ،1ع ،5ابريل
نيسان( ،2005 ،صص .)54 -53
.12الرخاوي ،حييى ( .)2003اللغـة العربيـة وتشكيـل الوعـي القومـي ،شبكة العلوم النفسية العربية :
http://www.arabpsynet.com/Archives/VP/VP.Rakkaoui.ArabLangag
e.htm
.13الزغلول ،حممد راجي ( )2000ازداوجية اللغة :طبيعتها ومشكالتها يف سياق التعليم ،ضمن
جمموعة مؤلفني )2000( :اللغة والتعليم -الكتاب السنوي الثاني -بريوت :اهليئة اللبنانية للعلوم
الرتبوية.
.14الزغلول ،حممد راجحي ( .)1980ازدواجية اللغة ،جملة جممع اللغة العربية األردني ،العددان ،10/9
آب /كانون األول .
.15عبد اهلادي ،عبد الرمحن ( .)1993الذهنية العربية :منظور لغوي ،دراسات عربية ،عدد ،4/3
كانون الثاني/شباط ،صص(.)30 -11
.16عبيد ،عبد اللطيف وسويسي ،رضا ( .)1995طرائق وأساليب تدريس اللغة العربية يف مرحلة التعليم
الثانوي يف الوطن العربي ،تونس :املنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم .
.17القامسي ،علي ( .)2007انقراض اللغة العربية خالل القَرن احلالي ،الشركاء ،مارس /آذار:
http://www.voltairenet.org/article145997.html
.18القرضاوي ،يوسف ( )2004اللغة العربية دين وهوية ولغة ( برنامج الشريعة واحلياة -قناة اجلزيرة
) مقدم احللقة :ماهر عبد اهلل تاريخ احللقة. 2004/ 04/ 04 :
.19كلفت ،خليل ( .)2012االزدواج يف اللغة العربية بني الفصحى والعامية ،احلوار املتمدن ،العدد:
/: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=3055044/29 ،3712
.20النقيب ،خلدون حسن ( .)2002آراء يف فقه التخلف :العرب والغرب يف عصر العوملة ،بريوت :دار
الساقي.
-29-