Professional Documents
Culture Documents
أ.د .سيتواح
قسم الترجمة
تمهيد :
تشكل مادة اللسانيات ركنا أساسيا في تكوين اللغويين عامة ،إذ تمكنهم من فهم وتفسير هذه الظواهر اللغوية
المختلفة،وللترجمة والتُرجمان عالقة مباشرة باللغة باللغات .وللسانيات عالقة كبيرة بما يدور ببرامج الترجمة
على العموم.
يتكون برنامج "اللسانيات" في قسم الترجمة من برنامجين:
فأما القسم األول فهو عبارة عن مدخل تاريخي لمجريات أحداث الدراسات اللغوية عبر التاريخ البشري،
بينما تتكفل في السنة الثانية بشرح بعض النظريات اللغوية ذات العالقة المباشرة أو غير المباشرة بالترجمة.
ونقصد منها النظريات الكبرى ،كالبنوية والنظرية العربية الخليلية وغيرها لما لها من عالقة بدراسة اللسان
واأللسنة البشرية .و لقد أدرجنا محاضرات عن سير اللغات و تكوينها و اخترنا المعيار اللغوي في اللغة و
كيف تتفق فيما بينها عند الترجمة .
َّ
إن اللّسان هو "مادة" منصهرة في جميع المواد ،و نفوذه موجود في جميع االهتمامات التي تميز البشر.
واللسان نشاط طبيعي /فكري ،يأتي في مراتب الحياة مباشرة بعد األمور الطبيعية.له من جوانب طبيعية تمام ا
كالجهاز الصوتي وجوانب فكرية كالذاكرة والذكاء والفكر والنفس الحساسة المتجددة.
فهو الوسيلة التي توصل بين الشخص ونفسه حينما يكون منفردا ،وهو الوسيلة التي توصله بمختلف الناس
حينما يكون مع غيره ،وأما عندما يتحدد اللسان فيأتي دور الترجمة الخطير من أجل اإلفهام و التبليغ .
ولذلك الترجمة هي القنط رة التي تسمح بالربط واإليصال بين ض فاف البشر ذوي اللغ ات المتعددة ،واللغات
ك ل م ا تخض ع لدراس ة لس انية علمي ة يهتم به ا أه ل اللغ ة واللغ ات .ولعلم اللس ان دراس ة نظري ة جدي دة إذا م ا
قارنها بجانبها التطبيقي العريق ،فالممارسة اللغوية قديمة قدم األزل ،إذ اإلنسان حيوان ناطق مثل ما يقال،
ونطقه بعيدة جذوره في أعماق التاريخ .وعليه فمعرفة بعض ما يدور في اللغة و في اللسان أضحى ضروريا
بطلبة الترجمة حتى يستنير درب الترجمة بأفكار اللغويات و تشرح بعض مالبساتها خاصة عند المقارنة بين
اللغ ات.إن اللس ان نط ق و كالم ش فوي ،وض ع اخ ترعت ل ه تص اوير "ح روف أبجدي ة مكتوب ة" لتث بيت ه ذا
المنط وق الزائ ل ،وه ذه هي "الكتاب ة" ،بع دها ظه رت الكتاب ات ثم اخ ترعت الطباع ة ال تي يس رت النش ر
واالنتشار ،مما أدى إلى اتساع رقعة الكتابة و القراءة.
1
و إذا ك ان اللس ان ع بر الت اريخ محالًّ ،ومج اال حساس ا للتّفك ير و وس يلة للعل وم والفلس فة ،ف َّ
إن علم اللس ان علم
حديث نسبيا مقارنة مع جانبه التطبيقي القديم.
لقد انفرد اللس ان "بدراسة اللسان" في األزمنة الحديث ة ،بع د أن كان مت داخل المواض يع ،منصهرة في مش اكل
متميعة في علم النفس .وكان يراه جزء ال يتجزأ من اختصاصه.
التاريخ ،ذائبا في علم االجتماع والفلسفةّ ،
وحين ج اء الع الم اللغ وي دو سوس ور ن زع اللس ان من ه ذه المواد وح دد موضوع الدراس ة اللغوي ة بموض وع
دراسة اللسان فحسب دراسة اللسان باللسان.
و موضوع علم اللسان هو اللسان ذاته ،و اللسان :أصوات وألفاظ وتراكيب وسياقات ذات أبعاد ثقافية ،وهي
ع ادات لغوي ة ت ؤدي كله ا إلى التبلي غ واالتص ال داخ ل النظ ام الواح د ال ذي يجم ع ه ذه المظ اهر اللغوي ة
كلها.ويظهر اللسان عبر جميع العصور والمراحل التاريخية حتى عند الشعوب المتخلفة البعيدة ،نظاما معقدا
جدا ،متشابكا و منظما تنظيما محكما.
و"اللسان ذاك المجهول "عنوان يتحدث عن موضوع اللغة و غرابتها وصعوبتها
،langage cet inconnu leو هو دليل يمثل كما ينبغي هذه الظاهرة البشرية ،فاللغة جانب ظاهر خارجي:
الجانب المادي(األصوات ،األلفاظ ،التراكيب ،القواعد النحوية والصرفية) كما أن لها جانب أخر داللي وهذا
غرضها من الوجود .و علينا نحن باكتشاف بعض جوانبها من خالل هذه الدروس وإ ماطة القناع عن بعض
خباياها حتى نفهم بعض ما يربطنا إليها اتصاال وتبليغا.
لقد اخترنا في هذه الدروس مجموعة من العناوين ،إذ رأينا فيها منفعة وأساس ا يرتكز عليه الطلب ة في الفهم
والتك وين والبحث.و نعت ذر إذا كن ا ق د تعرض نا لبعض التك رار فه ذا من ب اب الح رص على ترس يخ الفك رة
والمعلومة في ذهن الطالب ،ويعود هذا إلى جانبنا التعليمي .
لقد وضعنا نوعين من الدروس و المحاضرات :
ص نف أولي ا ب ه الس نة األولى و ه و عب ارة عن تمهي د لل دروس اللغوي ة التاريخي ة و يهتم بمعرف ة بعض خباي ا
الدراسات اللسانية الماضية القديمة و الحضارات السابقة كالدراسات الهندية واليونانية و االوربية و العربية.
أم ا الج زء الث اني فلق د رأين ا أن نتع رض في ه لدراس ة اللس ان في ح د ذات ه و اخترن ا اكتش اف ودراس ة النظري ة
البنوية و ما تحمله من مصطلحات و أفكار كمنطلق للدراسة اللسانية علما أنها تشكل ثورة لغوية في ميدان
اللغوي ات عموم ا ج اءت بفض ل دوسوس ور ،وه ذا وفق البرن امج المنصوص علي ه في الليس انس و أرفقن ا هذه
النظرية الجديدة بنظريتين ثانيتين:
األولى ألندري مارتيني :صاحب الوظيفية:وظيفة العناصر اللغوية و صالحيتها.
الثاني ة لنع وم تشومس كي :ص احب النظري ة التوليدي ة التفريعي ة وص احب البني ة الس طحية والبني ة العميق ة ثم
تعرضنا للدراسات اللغوية العربية ثم وضعنا لها جانبية نفسها والدراسات العربية عريقة في الزمن ،أصيلة
في أفكارها لها مسيرة طويلة وأتباع من اللغويين والنحويين والبلغيين والمعجميين ،واألدباء المختلفين .
لق د نش أت ه ذه الدراس ات من خض م ه ذه األفك ار و من بح وث تش مل دراس ة اللغ ة و اللس ان واألص وات من
جوانبها الظاهرة و الباطنة كالداللة و المجاز .لقد حلل الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح في رسالته (وهي
2
رس الة دكت ورة دول ة) عن اللغ ة العربي ة جمي ع هذه الم واد ومنه ا اس توحينا نحن بعض األفكار ال تي تهتم بهذه
المحاضرات.
أم ا المراج ع المس تعملة في تحض ير ه ذه ال دروس فهي م أخوذة من المص ادر و المراج ع التابع ة ألص حابها
كسبيويه و ابن جني و السيوطي و ديسوسور و تشومسكي و مونان و مارتيني .
نرجو أن نوفق في هذه األعمال و أن تثبت خطانا في مساعينا العلمية و التعليمية ان شاء اهلل.
)(1انظر ابن جني :الخصائص -دار الهدى بيروت .ط .2ج .1ص32
)(2
FERDINAND DE SAUSSURE, CLG P24,P106, P108
)(3حاج صالح عبد الرحمن ،مقال :البحث اللغوي و أصالة الفكر العربي.مجلة الثقافة عدد 1973 ،26
3
االتجاه كليا دينيا أو محاكاة بشكل مطلق لما هو موجود للطبيع ة .قد يكون هناك بعض الصواب فيها
لوجود ألفاظ في اللغات تشبه أصوات المحاكاة مما هو موجود في الطبيعة.
كما َّ
أن اإلنسان محدود القدرات ،فاهلل سبحانه و تعالى وضع في فكر اإلنسان و في طبيعة اإلنسان
متمي زا عن بقية المخلوقات ،له الفكر و الذاكرة والجهاز الصوتي و العقل الذي يحلل
ما يؤهله للكالمّ .
به واقعه و يترجمه عن طريق األصوات.
ولكن اإلنسان في ك ل هذا عضو فعال في الكالم َّ
ألن اللغ ة فع ل إرادي و ليس فعال طبيعيا الإراديا مث ل
الغرائ ز الموض وعة عن د البش ر و اإلنس ان مس ؤول عن كالم ه ألن التبلي غ البش ري يعتم د على الفك ر و
الصوت و اإلرادة و إبداع الخالق.
واإلنسان يحمل أصواته اللغوية بالمعاني التي يريدها ويضع فيها دالالته الخاصة.
و لكل إنسان دالالت خاصة به يتعامل بها عن طريقها مع نفسه أوال ثم مع مجتمعه ،واللغة كذلك وسيلة
شخص ية يس تعملها اإلنس ان لفهم أحوال ه ّأو ال ،و ي رى به ا أم وره ثم بع د ذل ك يتعام ل به ا م ع غ يره
باالتصال عن طريقها مع أفراد مجتمعه.
و تعت بر اللغ ة نوع ا من االتص ال المباش ر بالص وت و الفك رة ال تي تحمله ا دالل ة األلف اظ .و ل ذلك ت رى
البش ر منتظمين مجتمع ات و ك ل مجتم ع تقي ده لغت ه .و اإلنس ان أي الف رد مرتب ط ب ه يتص ّر ف لغوي ا بم ا
يمليه المجتمع حتى يكون التعامل و االتصال مفهوما متبادال بينهم و بين هذا المجتمع الذي ينتمي إليه.و
لالنس ان وس ائل أخ رى غ ير اللغ ة للتعب ير عن رغبات ه ،ش هواته و نزعات ه ،حب ه و كره ه ،و تك ثر ه ذه
الوسائل أو تقل حسب الشخص و المجتمع الذي يدرج فيه .
والوس ائل التبليغي ة ق د تك ون ب العين و الص وت و الحرك ة أو بم ا ه و موج ود في الطبيع ة أو ب أي ش يء
مبتك ر اخ ر.تع ّد األل وان من الوس ائل المعبِّرة " الناطق ة " فلألبيض مع نى و لألس ود مع نى ،و لألحم ر
يدل على معنى
معنى،و لألزرق معنى .وقد تتّفق شعوب العالم في هذه المعاني و قد تختلف ،فاألبيض ّ
()4
في الشرق ال وجود في الغالب والعكس صحيح
كما أن األلفاظ الحاملة لأللوان قد تخلتف حسب المكان و الزمان فليس لإلنسان احتياجات لفظية متحدة
وواحدة في كل مكان وليس معنى هذا أن الطبيعة البشرية المتمثلة في العين ال ترى األلوان األخرى و
لكن التقس يم اللفظي و التحلي ل اللغ وي لم يض ع مكان ا له ذا اللف ظ ،وإ نم ا وض ع ل ه اس تعماال لغوي ا في ه
تص رف خ اص ب ه بالعب ارة مثال .ول ذلك ت رى األلف اظ ال تي تع ني األل وان تختل ف من لغ ة إلى أخ رى ق د
تك ثر أو تق ل حس ب التقس يم اللغ وي الخ اص بك ل لغ ة ،وه ذه هي الس يميولوجية أو الوس ائل الس يميولوجية
للتبليغ اللغوي أو غير اللغوي .
إن موضوع نشأة اللغة موضوع اهتم به األولون .فلقد كان للهنود نظرة ،كان لليونان فكرة ،و
ّ
حد التناقض ،إلى أن ج اء
كان للعرب رأي و للغرب رأي اخر .و كثرت اآلراء في بعض األحيان إلى ّ
4
مبي ن ا أن اللغ ة ص ناعة بش رية مرتك زة على طاق ة لطبيعي ة
دوسوس ور فوض ع ح ّد ا نهائي ا مظه را و ّ
موضوعة من عند الخالق سبحانه وتعالى .
ولق د اهتم دوسوس ور به ذا الج انب أي بالوض ع البش ري فق ط وح اول وص فه وص فا موض وعيا .ووض ع
لذلك تحليال لم يكن له سابق قبله .كما جاء بمفاهيم ومصطلحات تعني اللغة البشرية اي اللسان البشري
و اللغات المختلفة.
وسنستعرض في هذه المحاضرة بعض األفكار و األداء عن نشأتها و مصدرها.
نشأة علم اللسان و ظهور الكتابة
الفكرة األولى في ظهور الكتابة: .1
لق د اس تعمل اإلنس ان من ذ الماض ي الس حيق اللس ان بطريق ة عفوي ة تك اد تك ون طبيعي ة ،فلم يكن في ّأو ل
األمر يفكر في هذه الوسيلة الصوتية التّي يستعملها للتّواصل مع اآلخرين من بني مجتمعه(.)5
ولكن ش يئا فش يئا ،وجيال بع د جي ل ب دأ بعض هم يتأم ل و يتس اءل في أم ر ه ذه األص وات اللغوي ة المؤدي ة
للمعاني (.)6
اختص به ا اإلنس ان دون
ّ كم ا أن ه ش رع يتعجب في ه ذه الطريق ة الملفوظ ة المس موحة المفهوم ة ال تي
المخلوقات جميعا .
و لق د الح ظ بعض هم أن الكالم ي زول مباش رة بع د النط ق ب ه و ّأن ه ي ذوب في أم واج األث ير ،ولكن
تمك ن ه من حف ظ الكالم الزائ ل ،والكالم
فك ر م ّر ة أخ رى بعض هم بوس يلة ّ وبع د م رور زمن من ال وقت ّ
الذ ي يندثر مباشرة بعد زوال الصوت ،إذ ال يمكن ابقاؤه
الزائل المندثر يعني اللّفظ المنطوق المسموع ّ
.
ثم يتالشى و يضمحل
()7
أو المحافظة عليه ألنه ينتشر في الهواء ّ
و هكذا بدأ إذن التفكير في طريقة لتجميد الصوت و تثبيته .لقد دامت هذه األوضاع أزمنة طويلة متعاقبة
لم يحدث فيه تغيير إلى أن كتب اهلل تبديل األوضاع بأحسنها ،وهو اختراع الكتابة .
. 2مراحل اختراع الكتابة:
مر ت فترات اختراع الكتابة بثالث مراحل متباعدة ،متتالية :
لقد ّ
المرحلة األولى:
ك ان ّأو ل تفك ير االنس ان المخ ترع ه و تص ّو ر نقش على الحج ر أو على م ادة ص لبة تثبت الفك رة عن
طريق النقش .
و النقش رسم يمثل حالة أو موقف أو فكرة يريد المتكلّم االحتفاظ بها .
)(5
.MALMEBERG B ÉRTIL, LE LANGUAGE SIGNE DE L ’HUMAIN, P ICARD, EMPREINTE, P ARIS 2 DITION 79, PAGE 97.
)(6عن الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح (مدخل الى علم اللسان – مجلة اللسانيات) ع – 1سابقة الجزائر 1971ص 40 -38
)(7المصدر نفسه ع 1ص40 -38
5
ولم يكن لهذه الفكرة نظير قبل هذه الحدث العظيم ،وبهذا االختراع تمكنت البشرية من تغيير مصيرها،
إذ مكنتها ألول مرة من تاريخها أن يخاطب الناس بعضهم بعضا و هم على مسافات متباعدة في الزمن
و المكان ،كأن تتخاطب األجيال رغم ما يفرقها من الوقت و ما يباعدها من المكان.
أن الكتابة استطاعت أن تخترق حواجز الزمان و المكان فصار الخط يقتحم المكان البعيد، و هذا يعني ّ
كم ا أص بح يثبت في وج ه ال زمن و يجت از و يس افر ع بر العص ور دون ح رج ،فيعلم األخ ير بم ا فعل ه
األول و يعلم البعيد بأحوال القريب .
()8
و هكذا تمكن اإلنسان من ترويض قضية استعصت عليه كثيرا و هي حفظ الكالم المنطوق
كم ا أن ه اخ ترع في نفس ال وقت الفك رة األولى لالتص ال و المراس لة المكتوب ة ،و ك انت ك ذلك الش رارة
األولى للت دوين .لق د س ميت ه ذه الكتاب ة المخترع ة :الكتاب ة التص ويرية الهيروغليفية ،و ك ان أول من
اخترعها الفراعنة أي المصريون القدامى.
الهيروغليفية :كلمة يونانية :ومعناها الكتابة المقدسة .
يعلو ه ا من ص عوبة جام دة في
تش كل الكتاب ة التص ورية بداي ة كتاب ة اللغ ة على العم وم رغم م ا ك ان ّ
أن األفك ار ليس ت ث وابت لغوي ة
الق راءة و ف ك الرم ز خاص ة لم ا أص بحت تمث ل األفك ار المج ردة علم ا ّ
تتغي ر في كل حين و عند جميع الناس .
ألن ها ّ
ّ
فك رموزها العالم الفرنسي
بعد هذا جاءت مرحلة من الزمن نسي فيها اإلنسان طريقة قراءتها إلى أن ّ
"ش امبوليون " CHAMPOLIONعن دما اكتشف"حج ر الرش يد"« »PIERRE DE ROSETTEفي زمن حمل ة
نابليون على مصر (.)9
في أث ار مص ر الفرعوني ة عن دما ك ان ُي نقب عنه ا وقيم ة ه ذا الل وح الحج ري أن ه مكت وب ب اللغتين :
الهيروغليفي ة و اليوناني ة ،وم ا ك ان عليهم س وى المقارن ة واكتش اف أوج ه التش ابه بينهم ا و اس تذكار تل ك
النقوش والكتابة التصويرية من جديد لقراءة ما سبق من تاريخ يوناني و فرعوني قديم.
المرحلة الثانية :
دو ن الفك رة
التطو ر في :بعد أن كانت ت ّ
ّ التطو ر ويتمثّل
ّ عرفت المرحلة الثانية من ظهور الكتابة نوعا من
والموق ف على ش كل ص ور ،اس تعمل في ه ذه الف ترة رس م يمث ل األص وات ب دال من األفك ار .وه و عب ارة
سم ي هذا الخط :الخط
والص خور ،وهي خطوط تشبه شكل المسامير و لذا ّ
ّ كذلك عن نقش على الحجر
PICTOGRAPHES حد ورأس.
المسماري CUNEIFORMEوهي ذات ّ
تحو لت إلى
كانت هذه الرسوم في ّأو ل أمرها تمثّل األشياء في الواقع المحسوس ثم ّ
خط وط ت ّد ل على أش كال مج ردة لق د ازده رت ه ذه الكتاب ة في بالد الراف دين (الع راق) و اس تعملها
السومريون و الكلدانيون و األشوريون (أهل بابل ) .و يرجع أقدم أثر له إلى ما يعادل تقريبا ثالثة أو
)(8تشكل الكتابة التصويرية بداية كتابة اللغة على العموم رغم ما كان لعلوها من صعوبة صامدة في قراءة و فك الرمز خاصة لما أصبحت
تمثل االفكار المجردة علما أن األفكار ليست ثوابت لغوية ألننها تتغير في كل حين و عند جميع الناس ،أما األلفاظ ففيها ثبوت و استقرار.
)(9الرشيد هو مكان في مصر.
6
أربع ة آالف س نة قب ل الميالد ،أم ا وجوده ا فك ان مت وفر الج انب في الجن ائز و القب ور و أض رحة المل وك
خاصة.
المرحلة الثالثة:
فك ر
مي اال بطبعه إلى االقتصاد في مجهوديه العضلي والفكري ،وعليه ّ جد ا أن يكون اإلنسان ّ
من البديهي ّ
يس ر ل ه طريق ه في االتّص ال وتختص ر علي ه مش واره في ت دوين أفك اره وأحداث ه
م ّر ة أخ رى في وس يلة تُ ّ
وحوادثه .
مر ة أخرى أحدهم إلى إيجاد سبيل مختصر وهو : تو صل ّوبعد تأمل كبيرو تفكير طويل في األمرّ ،
أن الكالم المفه وم المنط وق أي اللغ ة تتك ّو ن من عناص ر دال ة هي عب ارة عن األلف اظ ذات المع اني
ّ
المفهومة.
الد ال ة مص نوعة من عناص ر غ ير دال ة ،وهي األص وات المس موعة ال تي تتك ّو ن منه ا
أن ه ذه األلف اظ ّ
و ّ
األلفاظ.
جد ا ،قليل
أن عددها محدود ّ
ثم أحصوا عدد هذه األصوات اللغوية المنطوقة غير الدالة ،والحظوا ّ ّ
ثم وضعوا لهذه العناصر المسموعة المنطوق ة خطوطا أي رسموا لك ّلالد الةّ .
جد ا مقارن ة م ع العناصر ّ
ّ
معي نا ينوب عنه .
صوت خطاً ،أي رمزا ّ
أن عن د تالقي الرم وز المص ّو رة الجدي دة يمكن لإلنس ان على التع ّر ف على ألف اظ مص ّو رة
ثم الحظ وا ّ
ّ
مكتوبة و دالة تماما مثل الحروف المنطوقة المتسلسلة على شكل ألفاظ :أي ّأن ه ينطق الواحد تلو اآلخر
أن اس تعمالها متك ّر ر باس تمرار وفوائ دها في اللغ ة ه و من أس رار تولي د
ويك ّو ن منه ا كلم ة ،و احظ وا ّ
األلف اظ وعلي ه وتك ّو ن ه ذه الكلم ات المكتوب ة ص ورا طب ق األص ل للكلم ات المنطوق ة تمام ا مث ل الص ورة
الفوتوغرافية التّي تنوب عن صاحبها .
و هك ذا أص بحت الكتاب ة تص ويرا رمزي ا للهج اء" :الح روف المع دودة" بع د أن ك انت تص ويرا محسوس ا
.يع ُّد أهل العلوم اللغوية ّ
أن من ابتدع هذا الخط و هذه الكتابة هم لألشياء و المعاني التي ال حصر لها ُ
ألن هم بالمختص ر المفي د هم من ابت دعوا :علم
في الحقيق ة من أك بر اللغ ويين ال ذين ع رفهم الت اريخ ّ
اللّس ان.أم ا أص حاب ه ذا االخ تراع العظيم فهم الفي نيقيون ال ذين ك انت لهم حض ارة عريق ة في ك ّل أرج اء
أن اإلنس ان ال ّذ ي يس تعملها
الص غرى :في الع راق و س وريا و لبن ان.و م يزة ه ذه الكتاب ة األخ يرة ّ
آس يا ُّ
يتحص ل على ألفاظ مكتوبة .
ّ بتراصيها و بمقابلتها وتكرارها ببعضها بعضا
أن عدد هذه األصوات محدود و عدد رموزها محدود كذلك و عليه صار الكاتب يكتب كلمات و ّ
الخطي ة و يص ف خالل ال دين الس يوطي اللغ ة في ه ذا الش أن.
ّ ال حص ر له ا بع دد قلي ل ج ّد ا من الرم وز
ككتب الالمتناهي بالمتناهي هدد الحروف متناه ،وعدد األلفاظ رغم العديد الكبير متناه ،أما المعاني ،فال
ثم
تسمى هذه الطريقة الجديدة ":األلفبائية /الهجائية " ّ
حصر لها ،و غير متناهية ،و هي مقصد كل كالم .و ّ
تنوعت طرائق كتابتها(.)10
عم استعمالها في أغلبية أنحاء المعمورة ،و ّ
بعد ذلك ّ
)(10محاضرة مستوحاة من دروس اللسانيات :الحاج صالح عبد الرحمان مجلة اللسانيات عدد – 1971 -1970 2 -1جامعة الجزائر-
7
العلوم اللغوية عند الهنود القدامى
مر ت الدراسات اللغوية بمراحل عديدة ،كما شاركت في ظهورها و بلورتها شعوب و حضارات لقد ّ
كثيرة متّخذة أزمنة و أمكنة مختلفة من هذه الحياة .
تنح در الكتاب ة الهندي ة من الكتاب ة الس امية التّي تتف ّر ع ب دورها من الكتاب ة الفينيقي ة أي من الكتاب ة
األبجدية االصلية.
امتد عندهم مجال المعارف إلى ميادين شتّى
لقد ازدهرت العلوم ازدهارا كبيرا عند قدماء الهنود ،إذ ّ
كالطب و الفلك و الرياضيات و غيرها من العلوم .
ّ
و ذاعت هذه المعارف خارج الهند ،و كانت اللغة المستعملة في هذه العلوم كلّها :اللغة السنسكريتية
« . »SANSKRIT
اللغة السنسكريتية :
المقد س ة ،و أص بحت بتط ّو ر العل وم لغ ة العلم و
ّ لغ ة لبعض أه ل الهن د و هي لغ ة ال ّد ين :أي لغ ة الكتب
المعرفة و الثقافة ،و هي من أقدم اللغات الهندية األوروبية.
لم يدم الحال كذلك إذ مع مرور الزمن تغيرت األمور فتدهور وضع اللغة ،و خوفا من ضياع هذه اللغة
و اضمحاللها ،حاول بعض العلماء الهنود المهتمين باللغة والدين استدراكها و إحيائها ،و ذلك بتدوينها
في أول األمر ثم باالهتمام بدراستها ودراسة مظاهرها المختلفة.و من أقدم ما وصل إلى عهدنا أي إلى
العصر الحديث أعمال مبكرة جدا عرفتها البشرية في ميدان اللغويات تخص ما يسمى:
الكتب الثمانية و هو كتاب ألفه العالم اللغوي الهندي "بانيني " « » PANINI
و قد عاش في القرن الخامس قبل الميالد.
يق ول المؤرخ ون اللغوي ون أن الدراس ات اللغوي ة الهندي ة القديم ة ك انت تمت از بج انب علمي كب ير ألنه ا
كانت دراسات استقرائية تطبيقية تعتمد على وصف الظواهر اللغوية السنسكريتية :كالجمل و المفردات
و الحروف أي األصوات اللغوية.
و يضيف هؤالء اللغويون أن علماء اللغة آنذاك توصلوا إلى فهم البنية الداخلية للمفردة من اسم و فعل و
أداة.
و تطرق وا أيض ا إلى مس توى الوح دات غ ير الدال ة ،و هي القط ع الص وتية الص غرى التّي ينتهي إلي ه
التحليل و التي يتركب منها جميع الكالم .
و تسمى هذه القطع الصوتية الصغيرة و غير الدالة لمعنى و التي حينما تجتمع مع بعضها أي مع القطع
الصوتية األخرى تدل على معنى بالحروف :
و الحرف عند الهنود القدامى خاصة منهم اللغويين هو:
"ماال يتالشى وال يضمحل " أي ما "ال يزول و معنى ذلك "النواة".
ولقد كانت الدراسات الصوتية عند الهنود متطورة جدا ،إذ درسوا الصوت اللغوي من حيث :النطق
و المخ رج ،و الص فات ،و اله واء ال ذي يحم ل ه ذا الص وت .لق د اهتم على العم وم علم اء اللغ ة بقض ية
8
نشأة اللغة : من أين جاءت؟ و كيف جاءت؟ هل هي طبيعية ،أي عبارة عن محاكاة ألصوات الطبيعية؟
هل الطبيعة أنجبت اللغة؟
أم ه ل يع ود س بب وج ود اللغ ة إلى مس ألة ديني ة من ص نع رب اني ال عالق ة لإلنس ان في ه؟ أو ه و س بب
بشري :أي سبب وضعي آت من مستعملي اللغة أنفسهم.
لق د تعرض ت ه ذه األفك ار للمناقش ة في أزمن ة متعاقب ة و في كث ير من الحض ارات المتقدم ة .ولم يس تغن
عنها العرب بدورهم .
":علم اللسان معرفة قديمة ًّ
جد ا ولكنه علم حديث يقول جورج مونان GEORGES MOUNIN
«» C’EST UN SAVOIR TRÈS ANCIEN » « UNE SCIENCE TRÈS JEUNE السن
و يلخص مضيفا أن الهنود و اليونان و العرب قديما كانوا السباقين إلى إرساء القواعد األولى للصوتيات
و لتحليل الكلمة ،و الكلمة داخل التركيب.
مك نه
مك ن اإلنسان من اختراق الزمن والمكان ،كما ّ
ولكن يبقى مع ذلك اختراع الكتابة اختراعا عبقرياّ ،
من إقامة نهضة بشرية عارمة قائمة على العلم المعتمد للقراءة والكتابة(.)11
11
()MOUNIN GEORGES ; CLEFS POUR LA LINGUISTIQUE ,SEIGHERS 16-ED .PARIS1971 _P21
9
و انتش رت اللغ ة اإلغريقي ة القديم ة في أرج اء بل دان البح ر األبيض الش رقية،و اختل ط أم ر اللغ ة
بالفلسفة بل أصبحت جزء ال يتجزأ منها .
10
بعض أعالم اليونان:
أفالطون :فيلس وف يون اني ول د بأثين ا س نة 428ق.م ت ت لم ذ على ي د س قراط ،ألف كتب ا عدي دة منه ا
المأد َب ة – الجمهورية -المدينة الفاضلة -و ترجمت كتبه هاته إلى اللغة العربية .و هو ُم نشئ مدرسة
ُ
عرفت باألكاديمية 387ق.م
أرس طو :فيلس وف يون اني ول د في مق دونيا س نة 384ق.م ت ت لم ذ على ي د أفالط ون في األكاديمي ة،
وكان متبحرا في العلم و المعرفة و في جميع المجاالت التي كانت موجودة آنذاك.
إن م ا يع اب على العم وم على الدراس ات اللغوي ة اليوناني ة القديم ة ه و :ميله ا إلى الح رص الش ديد
ّ
تطر ف هذا المذهب اللغوي الذي يدعى بمذهب الصفائيين اللغويين على "نقاوة اللغة" من الخطأ ،و لقد ّ
تجم د و لم يعد يقبل أي استعمال لغوي يخرج عن المألوف المعتاد عندهم ،أي عن مع مرور الزمن و ّ
المع ايير المح ددة ال تي ك ان يفرض ها القي اس العقلي ال ذي يعتم د ه و ب دوره على مب دأ أن العق ل ال يحتم ل
التن اقض بين الخط أ و الص واب ألنهم ا ال يلتقي ان في آن واح د و موض ع واح د .و ذل ك ألن ه ي ؤدي إلى
استنتاج خاطئ .و لقد ظهرت مؤلفات من النوع التعليمي المعياري "قل وال تقل" « DITES NE DITES
()12
» PAS
رج ح اللغ ة المكتوب ة و هي اللغ ة العلمي ة و لغ ة المعرف ة على حس اب اللغ ة
و لق د ك انت تفض ل و ت ّ
الشفوية المسموعة التي يستعملها العام و الخاص .
إذ ك انت تتخ ذ الكتاب ة معي ارا للغ ة الص حيحة ألنه ا لغ ة العلم و األدب و الفلس فة وليس ت فق ط لغ ة
مشافهة مثل لغة الرعاع و لذلك أقصيت لغة المخاطبة من صفة "اللغة" ووضعت في خانة " اللهجات ".
مالحظة:
12
()B ERNARD EDITH ET MAURAIS FACQUES , LA NORME LINGUISTIQUE CONSEIL DE LA LANGUE FRANÇAISE , Q UÉBEC, 1983-
P 02-29
11