You are on page 1of 87

‫المملكة العربية السعودية‬

‫وزارة التعليم‬
‫جامعة الطائف‬
‫الكلية الجامعية برنية‬

‫اللسانيات‬

‫المستوى الرابع‬
‫المحاضرة األولى‬
‫مفردات المحاضرة‬
‫‪ -1‬التعريف بعلم اللسانيات‬
‫‪-2‬موضوع علم اللسانيات‬
‫‪ -3‬أهمية علم اللسانيات‬
‫‪-4‬أهداف علم اللسانيات‬
‫‪ -5‬عالقتة بالعلوم األخرى‬
‫أوال‪ :‬تعريف اللسانيات‪:‬‬
‫وردت تعاريف متعددة لعلم اللسانيات عند اصطالح علماء اللغة واللسانيات نذكر‬
‫منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬اللسانيات مصطلح يعنى العلم الخاص بالدراسة الموضوعية للغة البشرية من‬
‫خالل األلسنة الخاصة بكل قوم ‪ ،‬وهو مشتق من لسن بمعنى فصح واللسان في‬
‫اللغة يحمل عدة معاني منها‪ :‬أداه بلع للطعام ‪ /‬عضو (آلة) للنطق‪ /‬أداة للتعبير‪/‬‬
‫لالتصال‪ .‬ولقد ظهر المصطلح ألول مرة في سنة ‪1111‬م مع جهود النحاة‬
‫المقارنين ‪ ،‬إالّ أنه تبلور واتضحت حدوده مع اللساني الفرنسي فرديناند دي‬
‫سوسير )‪ (f.de Saussure‬من خالل محاضراته المشهورة سنة ‪1111‬م‪.‬‬
‫ب‪ -‬اللسانيات هي العلم الذي يدرس اللغة اإلنسانية دراسة علمية تقوم على‬
‫الوصف ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعليمية واألحكام المعيارية‪ .‬والمقصود‬
‫بالدراسة العلمية التوفر على قدر معين من المنهجية والشمولية التي تتيح اإلحاطة‬
‫الموضوعية بكل مفاصل المادة اللغوية ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬موضوع اللسانيات‪:‬‬
‫موضوع اللسانيات هو اللسان و يُدرس اللسان من أبعاده الثالثة‪ ،‬و هي ‪:‬‬
‫ويخص تتابع األصوات و ترتيبها حسب قوانين اللسان المعيّن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أ‪ -‬البعد الصوتي‬
‫ب‪ -‬البعد الداللي‪:‬و يتعلق البعد الداللي بالمعاني أو ما يسمى باألفكار أو‬
‫المفاهيم‬
‫ج‪ -‬البعد التركيبي‪ :‬و يتمثل البعد التركيبي في تلك العالقات الوظيفية التي‬
‫تحدد طبيعة التراكيب اللسانية‬
‫ثالثا‪ :‬أهمية علم اللسانيات‪:‬‬
‫‪ /1‬أهمية علم اللسانيات فتكمن في كونه يقدم لنا دراسة علمية للغات البشرية كافة‬
‫خاضعة للضبط والتجريب والموضوعية‪ ،‬بهدف بناء صيغة علمية »بمفهوم العلم‬
‫الفيزيائي« لدراسة بنية اللغات البشرية والتوصل إلى صيغ رياضية تجريدية قادرة‬
‫على وصف هذه اللغات وشرحها بدقة‪ ،‬بحيث يمكننا بعدها مباشرة من االستفادة‬
‫التطبيقية لهذا العلم في مجاالت حياتية كثيرة‬
‫‪ /2‬ولعل أظهر األدلة على أهمية اللسانيات ومنزلتها ووجاهة شأنها ومركزيتها‬
‫قدرتها على محاورة العلوم األخرى محاورة متكافئة بل متفوقة؛ فلقد أن انتهى‬
‫العلم اللساني إلى حقول بينية متفوقة‪:‬مثل اللسانيات اإلجتماعية‪ ،‬واللسانيات‬
‫الحاسوبية‪ ،‬واللسانيات العصبية‪ ،‬واللسانيات البيولوجية‪ ،‬واللسانيات التربوية‪،‬‬
‫واللسانيات األدبية‪...‬‬
‫رابعا‪ :‬أهداف علم اللسانيات‪:‬‬
‫‪-1‬علم اللسانيات هو العلم الوحيد الذي استطاع أن يخرج من دائرة العلوم اإلنسانية‬
‫ليكون عل ًما قائما بذاته‬
‫‪-2‬حققت اللسانيات الخروج من دائرة الوصف إلى دائرة التفسير‪.‬‬
‫‪ -3‬تعتبر اللسانيات من العلوم الحديثة التي كان لها األثر البالغ في مختلف العلوم‬
‫و ّ مجاالت الحياة و ذلك من خالل النظريات التي أفرزتها و النتائج القيمة التي‬
‫توصلت إليها الدراسات اللسانية‬
‫‪ -4‬نجد اللسانيات الملفوظية فهي تمثل فرع جديد من فروع اللسانيات فلقد تنوعت‬
‫الدراسات المتعلقة بالملفوظية فهي عبارة عن جملة من العوامل و األفعال التي‬
‫تتسبب في إنتاج الملفوظ بما في ذلك التواصل الذي يشكل حالة خاصة من حاالت‬
‫الملفوظية ‪.‬‬
‫‪-5‬تسعى اللسانيات إلى معرفة أسرار اللسان من حيث هو ظاهرة إنسانية عامة فى‬
‫الوجود البشري ‪.‬‬
‫‪-1‬استكشاف القوانين الضمنية التى تتحكم فى بنيته الجوهرية ‪.‬‬
‫‪-7‬البحث عن السمات الصوتية‪ ،‬والتركيبية‪ ،‬والداللية الخاصة للوصول إلى وضع‬
‫قواعد كلية ‪.‬‬
‫‪-1‬تحديد خصائص العملية التلفظية‪ ،‬وحصر العوائق العضوية‪ ،‬والنفسية‬
‫واإلجتماعية التى تعوق سبيلها‪.‬‬
‫‪ -1‬تعنى اللسانبات باللهجات والتفضل الفصحى على غيرها‪.‬‬
‫‪ -11‬تسعى اللسانيات الى بناء نظرية لسانية لها الصفة العموم‪.‬‬
‫‪ -11‬تهتم اللسانيات باللغة المنطوقة قبل المكتوبة‪.‬‬
‫‪ -12‬تدرس اللسانيات اللغة في كلياتها على صعيد واحد ضمن تسلسل متدرج من‬
‫األصوات‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬عالقته بالعلوم األخرى‬
‫إنّ الحديث عن عالقة اللسانيات بالعلوم األخرى‪ ،‬هو حديث عن تجاوز الباحث‬
‫اللساني البنية اللغوية ونظامها الخاص‪ ،‬إلى الحديث عن األبعاد العرقية‬
‫واالجتماعية و النفسية واألدبية‪....‬الخ هذه األبعاد التي تندرج فيما يسميه محمد‬
‫محمد يونس علي باللسانيات الموسعة‪.‬‬
‫وكما أنّ لسائر العلوم الكونية‪ ،‬واللغات البشرية‪ ،‬ارتباطات متعددة ومتنوعة سواء‬
‫إنسانية أم طبيعية‪ ،‬فإنّ للسانيات ارتباطات و عالقات وطيدة بعلوم انسانية‬
‫وطبيعية‪ ،‬بل وحتى التقنية منها فيختص كل واحد منها بجزء معين من هذا الكل‬
‫المسمى باللسانيات‪ ،‬وهذا دليل قاطع بأن اللسانيات ليست علما واحدا معزوال عن‬
‫العلوم الـاخرى‪ ،‬وإنّما مجموعة علوم تفرعت عن الدراسة العلمية الموضوعية‬
‫للغة‪ ،‬وقد أصبح لكل فرع من هذه العلوم أبحاثا و دراسات بل وعلماء متخصصين‪.‬‬
‫ومن هذه االرتباطات نذكر ‪:‬‬
‫أ – ارتباطاتها بالعلوم االنسانية ‪:‬‬
‫‪1 -‬اللّسانيات االجتماعية ‪ :‬إنّ اللغة ظاهرة اجتماعية تخضع للمجتمع‪ ،‬وألعرافه‬
‫وقواعده و قوانينه كسائر الظواهر االنسانية‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فإنّ اللسانيات االجتماعية‬
‫تهتم بهذه العالقة الموجودة بين اللغة و المجتمع من تأثير الثانية في األولى‪ ،‬فاللغة‬
‫كما قلنا سلفا منظومة اجتماعية يؤطرها أفراده و ينظمها على نحو معين‪ ،‬مايجعل‬
‫منها مغايرة للغة أخرى على مستوى الوحدات اللغوية المستعملة و على مستوى‬
‫النظام المسير لهذه الوحدات على جميع المستويات الصوتية‪ ،‬والصرفية ‪،‬والنحوية‬
‫‪،‬والمعجمية والداللية‪.‬‬
‫فاللسانيات االجتماعية تخصص علمي يجمع كل من علم االجتماع واللسانيات و‬
‫علم الجغرافيا البشرية‪ ،‬وعلم اللهجات ‪.‬‬
‫ولعل مايجب التنبيه إليه هو االختالف القائم بين اللسانيات االجتماعية واجتماعية‬
‫اللسانيات حيث ترتكز اللسانيات االجتماعية‪ -‬كما قلنا سلفا – على تأثير المجتمع‬
‫في اللغة ‪ ،‬بينما ترتكز اجتماعية اللغة على تأثير اللغة في المجتمع‪ ،‬لكن هذا ال‬
‫يعنى أنهما متناقضين فها يستفيدان من نتائج بعضهما في معضم طروحاتهما‪.‬‬
‫كما يتداخل هذا العلم كذلك ‪،‬الى حد كبير‪ ،‬مع التداولية‪ ،‬خصوصا في اكتساب الكلمة‬
‫لمعاني متعددة بتعدد المجتمع المقولة فيه؛ أي السياق االجتماعي‪ ،‬وهو ماتعتمد‬
‫عليه التداولية بكثرة ( معنى الكلمة ومعنى مقصود المتكلم من خالل المقام أو‬
‫السياق‪.‬‬
‫يعتبر أنطوان ميلي "‪ " antoine meillet‬من أهم الباحثين الذين يدعون إى‬
‫ضرورة دراسة التأثير و التأثر القائم بين اللغة والمجتمع‪ ،‬متأثرا بعالم االجتماع‬
‫دوركايم‪ ،‬كما أنجز سيريل تريميل "‪ " cyril trimaille‬رسالة دوكتوراه بعنوان‬
‫" مقاربة سوسيولسانية في لغة المراهقين ‪approche sociolinguistique‬‬
‫" ‪de la socialisation langagiére d'adolescents‬يشرح في جزء منها‬
‫االنتقال الذي تم من اللسانيات البنوية الى اللسانيات االجتماعية( )‪ ،‬في محاولة منه‬
‫لفهم السلوكات اللغوية للمراهقين في مجتمعات معينة وتأثير هذه المجتمعات في‬
‫تكوين الرصيد اللغوي عند الطفل ‪.‬‬

‫‪2-‬اللسانيات النفسية ‪ :‬نشأ هذا العلم نتيجة االتصال الوثيق بين علم النفس من‬
‫جهة وعلم اللغة من جهة أخرى‪ ،‬وهو يهتم بدراسة العوامل النفسية المؤثرة في‬
‫اللغة بعامة‪ ،‬و في اكتسابها بصفة خاصة؛ أي عالقة النفس البشرية باللغة‪ ،‬إذ هو‬
‫نمط جديد لمقاربة الظاهرة اللغوية بالظاهرة النفسية‪.‬‬
‫لعل من أه ّم الذين يعود الفضل لهم في إرساء دعائم هذا العلم‪ ،‬هو عالم اللسانيات‬
‫األمريكي "نوم تشومسكي"‪ ،‬الذي دافع عنه إلى درجة الغلو ‪،‬حين قال بأنّ علم‬
‫اللغة‪ ،‬بكل فروعه ومستوياته ما هو إال فرع من فروع علم النفس‪ ،‬كما يرى أن كل‬
‫البنى اللغوية ‪،‬على جميع مستوياته‪ ،‬واألنساق المفهومية موجودة داخل ذهن‬
‫المتكلم‪ ،‬بحيث تسمح له بإنتاج وفهم عدد ال متناه من األفكار‪ ،‬لم يسمعها ‪،‬ولم يقلها‬
‫من قبل‪ .‬فيما ينفي عبد الرحمن بودرع أن تكون اللسانيات محتواةً في علم النفس‬
‫معتبرا العالقة بينهما مجرد عالقة شراكة في الموضوع ال غير ‪ ،‬ولعل "بوهنر"‬
‫و"وندث" كانوا أكثر اعتداال من تشومسكي في فهمهم للعالقة بين العلمين ‪،‬و‬
‫عكس كل من "يونج" و "فرويد" اللذين كانا يرجعان كل التصرفات اللغوية إلى‬
‫المكبوتات النفسية‪ ،‬و على سبيل المثال‪ ،‬إذا واجه المحلل النفسي عقدة معينة‬
‫يعاني منها فإنّه يطلب من المريض أن يتكلم لكي يحاول أن يكشف عن علة المرض‬
‫ألنه حسب اعتقاد المحلل كل العقد لديها عالقة باللغة المستعملة‪.‬‬
‫قبل أعوام قالئل كان هذا العلم يدرس في الجامعات الجزائرية ضمن تخصص األدب‬
‫العربي قبل أن يح ّول و يقتصر على قسم علم النفس‪.‬‬
‫‪3-‬اللسانيات الثقافية ‪ :‬وهي تبحث في عالقة الوضعية الثقافية للفرد والمجتمع مع‬
‫الرصيد وتأثير المستوى الثقافي للفرد في لغته و كذلك مقدرته على اكتساب لغات‬
‫أخرى سوى لغته األم ويتداخل هذا الفرع بشدة مع اللسانيات االجتماعية في عدة‬
‫نقاط محورية وفرعية‪ ،‬منها فكرة االجتماعية‪.‬‬
‫‪4-‬اللسانيات األدبية ‪ :‬إنّ الحديث عن اللسانيات األدبية هو حديث عن نقل األدب‬
‫من مجال الفن الى مجا ل العلم وهو حديث كذلك عن ابنة اللسانيات الحديثة من‬
‫األدب ونقصد هنا علم األسلوب أو األسلوبيةو األسلوبيات‪ ،‬التي ترتبط بها ارتباطا‬
‫وثيقا بأمها اللسانيات‪ ،‬نتيجة تفاعل هذه األخيرة مع مناهج النقد األدبي الحديث‬
‫‪،‬فتنطلق اللسانيات من حقيقة أنّ األدب يتعامل باللغة‪ ،‬وأنّ اللسانيات تدرس جميع‬
‫أنواع و مستويات اللغة‪ ،‬سواء أدبية أم عادية‪ .‬واللسانيات في األدب تحاول أن‬
‫تفهم بناء الخطاب األدبي فتدرسه في جميع مستوياته( الصوتية والصرفية‬
‫والتركيبية والداللية) جاعلة منه مادة الدراسة فتسعى إلى تصنيفه وترتيبه ترتيبا‬
‫علميا ‪ ،‬فتهتم أيضا بدراسة أفضل التقنيات اللسانية التي يستخدمها األديب ليكون‬
‫عمله أكثر تأثيرا و فهما في المجتمع‪ ،‬كما يقدم األدب للسانيات عينات وشرائح‬
‫أدبية متنوعة من أجل دراستها وبناء نظريات علمية في النقد األدبي‪ .‬وهناك حاليا‬
‫كثير من الباحثين العرب الذين يدرسون في اللسانيات األدبية أمثال نور الدين السد‬
‫وصالح فضل و سعد مصلوح ومصطفى درواش‪ ،‬ومن الغرب أمثال شارل بالي و‬
‫سبيتزر‪ ،‬وقد كانت اهتمامات هؤالء األسلوبيين منصبة في اللغة واألدب معا ‪،‬ومن‬
‫أهم الموضوعات التي يعالجونها مايسمى بالعدول في اللغة واالنزياح في األدب‪،‬‬
‫ويهتمون كذلك بالمجاز والجناس ‪،‬فنلفي مواضيعهم متاشبهة بمواضيع علماء‬
‫البالغة‪.‬‬

‫ب‪ -‬ارتباطاتها بالعلوم الطبيعية‪:‬‬


‫‪1-‬اللسانيات الجغرافية ‪ :‬يهتم هذا الفرع أكثر باللهجات طبقا لموقعها الجغرافي أو‬
‫المقاطعات الجغرافية ‪ ،‬كما يسميها دي سوسور‪ ،‬فينظر إلى الخصائص اللغوية (‬
‫الصوتية‪ ،‬والصرفية والنحوية‪ ،‬والداللية )‪ ،‬التي تفرق لغة عن أخرى ‪،‬أو لهجة‬
‫عن أخرى‪ ،‬في البلد الواحد أو في عدة بلدان تتكلم لغة واحدة مثلما هو الحال في‬
‫المغرب العربي‪ ،‬ويهتم ‪،‬كذلك بوضع األطاليس اللغوية الجغرافية‪ ،‬وقد تحدث مازن‬
‫الوعر عن أهمية هذا الفرع وبين أهم المبادئ والعمليات التي يتبعها في وضع هذه‬
‫األطاليس اللغوية الجغرافية‪ ،‬كالمسح الجغرافي للغات التي خضعت إلى فكرة التأثير‬
‫والتأثر الكتشاف مدى تأثير كل لغة في األخرى‪ ،‬وتحديد األصول التي انحدرت منها‬
‫بعض األلفاظ في لغة ما ليستطيع دراستها صوتيا وصرفيا فضال عن بعدها النحوي‬
‫المعجمي والداللي فالمسح الجغرافي إضافة إلى تمكينه العالم معرفة األصول يمكنه‬
‫كذلك من معرفة حركية اللهجات في كل لغة ‪،‬وما اليمكن إغفاله ههنا هو التداخل‬
‫والتشابه بين هذا الفرع وبين فرع اللسانيات االجتماعية ولعل هذا يعود في األصل‬
‫إلى القول بالمنظومة االجتماعية للغة‪.‬‬
‫‪2-‬اللسانيات البيولوجية ‪ :‬تهتم بالبحث في العالقة القائمة بين اللغة والدماغ‪ ،‬أي‬
‫طريقة تلقي الدماغ االنساني لألصوات الفزيائية و كيفية تحليلها وف ّكها إلى أفكار‪،‬‬
‫وكذلك تبحث عن كيفية تحويل األفكار الى كلمات وجمل نحوية‪ ،‬فهذا العلم كذلك‬
‫يرنو إلى الكشف عن التط ّور اللغوي البيولوجي عند األطفال‪ ،‬وعن أسباب المرض‬
‫اللغوي عندهم‪ ،‬انطالقا من أن اللغة ظاهرة بيولوجية عند االنسان ‪،‬ولعل أصحاب‬
‫هذا العلم تأثروا بأفكار دارون التطورية‪.‬‬
‫‪3-‬اللسانيات األنتروبولوجية ‪ :‬تبحث عن الصلة الموجودة بين بين اللغة و أصل‬
‫االنسان‪ ،‬فتحاول أن تكشف عن طريق اللغات القدية مجهولة األصل عن أصحابها‪،‬‬
‫إال أن هذا العلم ال يلقى رواجا كبيرا عند الدارسين اللسانين‪ ،‬التصاله أكثر باللغة‬
‫المكتوبة ‪.‬‬
‫‪4-‬اللسانيات الرياضية‪ :‬تهدف إلى تحليل الظاهرة اللغوية باستخدام آليات وتقنيات‬
‫الرياضيات الحديثة ‪،‬كاإلحصاء و التحليل‪ ،‬والحساب والمنطق الرياضي‪ ،‬و قد طبق‬
‫هذا العلم على علم العروض بجدارة واستحقاق مصطفى حركات في كتابه "‬
‫اللسانيات الرياضية و العروض" ‪،‬وكشف عن طرائق جديدة في دراسة العروض‬
‫العربي دراسة رياضية حديثة بعيدة كل البعد عن الذوق المعياري التراثي‪.‬‬
‫‪5-‬اللسانيات الحاسوبية‪ :‬تحاول تطبيق ما وصلت إليه تقنية الحاسوب في إحصاء‬
‫الحروف األصلية لمواد لغة معينة‪ ،‬ابتغاء الوقوف على بنية مورفيماتها " وحصر‬
‫كل الصيغ بمدلوالتها من االستعمال الحقيقي للغة وتصنيف الكلمات في شبكات‬
‫داللية مختلفة وحصر المترادف و المشترك‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬كما تحصر أيضا مدلوالت‬
‫الصيغ لتسهيل وضع المصطلحات العلمية والتقنية كما تهتم كذلك بالترجمة الحرفية‬
‫للنصوص مثلما يفعل برنامج‪) google traduction).‬كذلك‪ ،‬يستفيد هذا العلم‬
‫كثيرا من اللسانيات الرياضية لتقارب مجاالتهما‪.‬‬
‫على الرغم كل هذه التّداخالت والعالقات المترابطة بين هذه الفروع واللسانيات‪،‬‬
‫تبقى اللسانيات علما قائما بحد ذاته‪.‬و هو يستعمل منهجية خاصة و يهدف الى‬
‫أغراض معينة‬

‫ت‪ -‬ارتباطاتها باللسانيات التطبيقية و التعليمية‪:‬‬


‫)‪1‬اللسانيات التطبيقية ‪ :‬ذهب الباحثون في تعريفهم لهذا العلم مذهبين مختلفين ‪،‬‬
‫فهناك من الباحثين من يعتبره تطبيقا لمبادئ وإجراءات اللسانيات العامة ‪ ،‬فيما‬
‫يذهب آخرون إلى أنّ هذا العلم استكماال لتلك المبادئ واإلجراءات الخاصة‬
‫باللسانيات العامة ‪.‬‬
‫يذهب الباحث "صالح بلعيد" إلى القول بأن اللسانيات التطبيقية تحاول أن تطبّق‬
‫اآلليات و المفاهيم النظرية للسانيات العامة ‪ ،‬وأنّ العالقة بين بينهما هي عالقة‬
‫تأثير وتأثر‪ ،‬كما يربط اللسانيات التطبيقية بتدريس اللغات فيقول ‪ ":‬تعتبر‬
‫اللسانيات التطبيقية مجاال مرتبطا بتدريس اللغات‪ ،‬حيث أن منطلقاتها هي‬
‫اللسانيات العامة ‪ ،‬و باألخص الدراسات البنوية و اللسانيات الوصفية‪ ،‬التي أثّرت‬
‫على طرائق تعليم اللغات‪ ،‬مثل الطريقة السمعية النطقية ‪ ،‬و السمعية البصرية و‬
‫التمارين اللغوية‪".‬‬
‫من ناحية أخرى ‪ ،‬تؤكد الباحثة "فتيحة حداد" أنّ اللسانيات التطبيقية ال تعتبر‬
‫تطبيقا للمبادئ النظرية الموجودة في علم اللغة العام ‪ ،‬و إنّما جاءت لتستكمل‬
‫الهانات و النقائص التي وقع فيها علماء اللغة المنظرون‪ ،‬الذين أسقطوا تصوراتهم‬
‫على الظاهرة اللغوية‪ ،‬و حاولوا بناء نظرياتهم الخاصة‪ ،‬فجاء بناء نظرياتهم غير‬
‫مكتمل ‪ ،‬لهذا يحاول أصحاب اللسانيات التطبيقية أن يرقّعوا ويص ّوبوا األخطاء التي‬
‫وقع فيها المنظرون اللسانيون‪.‬‬
‫في الحقيقة‪ ،‬يمكن أن نوفّق بين الرأيين‪ ،‬فنقول بأنّ اللسانيات التطبيقية تحاول‬
‫تطبيق المبادئ األساسية والمفاهيم الرئيسية لعلم اللسان النظري‪ ،‬بعد أن تستكمل‬
‫تلك النقائص الموجودة فيه‪ ،‬فجميع النظريات اللسانيات كالوظيفية ‪ ،‬و التوزيعية ‪،‬‬
‫و التوليدية‪ ،‬صالحة ألن نأخذ منها مفاهيم معينة تساعدنا على مقاربة الظاهرة‬
‫اللغوية وفهمها فهما صحيحا‪.‬‬
‫إنّ ميادين و آفاق اللسانيات التطبيقية متعددة و متنوعة‪ ،‬فهي تعالج على سبيل‬
‫المثال اللسانيات الحاسوبية‪ ،‬و تحاول توظيفها في تعليم اللغات و معالجة األخطاء‬
‫اللغوية في الكتابة االلكترونية ‪ ،‬كما تهتم كذلك‪ ،‬بالمعجمية‪ ،‬وكيفية صناعة المعاجم‬
‫و منهجياتها المختلفة ‪ ،‬كما تقدم للترجمة خدمة كبيرة ‪ ،‬فهي تمدّها بالخصائص‬
‫البنوية للغة المترجم منها‪ ،‬و المترجم إليها‪ ،‬إضافة إلى مساعدتها في تقنيات و‬
‫أساليب الترجمة‪ ،‬كما ال يمكن أن ننسى ما تقدم اللسانيات التطبيقية من خدمة كبيرة‬
‫في تطوير المناهج اللسانية‪.‬‬
‫إنّ اللسانيات التطبيقية تنهل األدوات و المصطلحات من عدة علوم لسانية أخرى‬
‫نذكر منها مثال‪:‬‬
‫‪-‬اللسانيات االجتماعية‪ ،‬خاصة في تقديمها المعلومات الخاصة بدينامية اللغة في‬
‫المجتمع و أشكالها عند الملتقي و المتكلم ‪.‬‬
‫‪-‬اللسانيات النفسية‪ ،‬فيما تقدّمه من معلومات للملكة اللغوية للفرد‪ ،‬وما تقدمه من‬
‫مفاهيم عن كيفية اكتساب تلك الملكة و أنجازها‪.‬‬
‫)‪2‬اللسانيات التعليمية ‪:‬إذا كانت اللسانيات التطبيقية مختصة في استكمال نقائص‬
‫النظريات اللسانية‪ ،‬و تطبيقها على عدة أصعدة و مواضيع ‪ ،‬فإنّ اللسانيات‬
‫التعليمية متخصصة فقط في تعليم اللغات و تدريسها‪ .‬يعرف "عمـار سـاسي"‬
‫التعليمية بكونها "علم يختص بدراسة أنجع الطرق في تحصيل ويقابل المصطلح‬
‫بالفرنسية)‪، (enseignement des langues /didactic des langues‬‬
‫فالتعليمي )‪( didactic‬صفة تُطلق على العمل األدبي‪ ،‬الذي يكون هدفه الرئيسي‬
‫نقل رسالة سياسية و أخالقية‪.............‬غير أنّ مصطلح التعليمية ‪،‬في هذا الصدد‪،‬‬
‫هو أشمل و أجمع وأعم ألنّه يختص‪ ،‬فيما ذكرنا بطرق تحصيل اللغات ‪ ،‬و اللغة‬
‫أصوات و مفردات و تراكيب و دالالت و أسلوب ‪.‬‬
‫رغم كثير من الخالف حول المصطلح‪ ،‬نفضل أن نستعمل لهذا العلم مصطلح‬
‫اللسانيات التعليمية‪ ،‬فيما يفضل آخرون مصطلحات أخرى ‪ ،‬كتعليمية اللغات ‪ ،‬و‬
‫علم تعليم اللغات ‪ ،‬و تعليم اللغة ‪ ،‬فيما يحبذ بعض الباحثين استعمال تعليمات على‬
‫قياس لسانيات ورياضيات ‪.‬‬
‫من الناحية التاريخية إن مفهوم تعليمية اللغات أو اللسانيات التعليمية قديم في‬
‫التراث‪ ،‬فتعليم اللغة العربية و نحوها ‪،‬على سبيل المثال ‪،‬كان منذ القرن األول‬
‫الهجري ألسباب معروفة‪.‬‬
‫يمكن تقسيم اللسانيات التعليمية إلى نوعية رئيسيين ‪ ،‬وهما ‪ :‬اللسانيات التعليمية‬
‫العامة‪ ،‬وهي التي تهتم بالبحث بالقواعد العامة المشتركة في تعليم جميع اللغات‬
‫دون استثناء‪ .‬كما توجد‪ ،‬كذلك اللسانيات التعليمية الخاصة‪ ،‬و التي تهتم بالبحث في‬
‫القواعد و المبادئ الخاصة بلغة معينة‪ ،‬كاللغة العربية و اللغة االنجليزية‪ ،‬فنقول‪،‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬تعليمية اللغة االنجليزية و تعليمية اللغة الفرنسية‪.‬‬
‫عند الحديث عن تعليمية اللغة العربية‪ ،‬ال يمكننا أن نتجاهل المجهودات الكبيرة ‪‬‬
‫التي يقوم بها الباحث الجزائري صـالح بلعيـد خصوصا في مجال تعليم النحو‬
‫للناشئة‪ ،‬و جعل اللغة العربية‪ ،‬وظيفية تالئم العلوم التقنية‪ ،‬و توفّر لها المصطلحات‬
‫المالئمة‪ ،‬كذلك جهوده القيمة جدا في مجال تعليم اللغة األمازيغية‪ ،‬ال يمكن ذكرها‬
‫لضيق المجال ‪.‬‬

‫ملخص اللسانيات‬

‫مفهوم العملية في‬ ‫تعريف اللسانيات‬


‫اللسانيات‬
‫المحاضرة الثانية‬
‫البحث اللغوي‬
‫مفردات المحاضرة‪:‬‬
‫‪ -1‬معنى البحث اللغوي‬
‫‪ -2‬البحث اللغوي عند الهنود‬
‫‪ -3‬البحث اللغوي عند األغريق الرومان‬
‫أولا‪:‬معنى البحث اللغوي‬
‫أ‪ -‬لغة‬
‫ال َب ْحث ‪ْ :‬بذل الجهد في موضوع ما ‪ ،‬وجمع المسائل التي تتصل به محدثة ‪.‬‬
‫التحري ‪ ,‬قال هللا تعالى ‪ " :‬فبعث هللا غرابا ً يبحث‬
‫ّ‬ ‫والطلب و التفتيش و التت ّبع و‬
‫في األرض " سورة المائدة ‪:‬‬
‫ب‪ -‬اصطالحا ً‬
‫أما في االصطالح ‪:‬هو دراسة مبن ّية على تقص و تت ّبع لموضوع ُمع ّين وفق منهج‬
‫متفرق ‪ ,‬أو ترتيب ُمختلط‬
‫ّ‬ ‫خاص لتحقيق هدف ُمع ّين ‪ :‬من إضافة جديد ‪ ,‬أو جمع‬
‫ثانيا ا‪ :‬البحث اللغوي عند الهنود‬
‫إن الحديث عن تاريخ ظهور البحث اللغوي طويل جداً‪ ،‬ويطول بنا المقام لسرد‬
‫مراحله الزمنية عبر التاريخ القديم والحديث‪ .‬وكيف تطور عبر هذه الحقب من‬
‫القرون الغابرة إلى أن ظهر في شكله الحداثي مع القرن التاسع عشر في غرب‬
‫أوربا‪ .‬وال مانع من أن نعطي لمحة عن تاريخ ظهور البحث اللغوي قديماً وحديثاً‬
‫في شكل مختصر جداً‪ ،‬معتمدين في التحديد على الكتب اللغوية التي تناولت المسألة‬
‫بشكل دقيق ومحدد‪.‬‬

‫إن ظهور الدرس اللغوي ليس جديد العهد‪ ،‬وإنما يعود تاريخ نشأته إلى قرون قبل‬
‫الميالد‪ .‬وتتفق جل آراء الباحثين اللغويين والمؤرخين على أن الدرس اللغوي بدأ‬
‫أول ما بدأ عند الهنود في القرن الخامس أو الرابع قبل الميالد على يد بعض‬
‫اللغويين الهنود‪ ،‬وعلى رأسهم إمام نحوييهم بانيني ‪ .PANINI‬فظهور‬
‫السنسكريتية التي هي أساس أداة األدب "الفيدي" الكتاب المقدس لديانة الهنود‬
‫ولعل اهتمامهم بدراسة لغتهم في هذا الوقت المبكر كان لهدف ديني في المقام األول‬
‫من أجل قراءة نصوص الفيدي قراءة صحيحة‪.‬‬

‫وجاءت دراستهم للغتهم على درجة عالية من التنظيم‪ ،‬والدقة‪ ،‬واشتملت هذه‬
‫الدراسة على علم اللغة‪ ،‬وفروعها من دراسة األصوات‪ ،‬واالشتقاق‪ ،‬والنحو‬
‫والمعاجم‪ ،‬وفقه اللغة‪ .‬وأهم دراسة أظهروا فيها تفوقهم‪ :‬الدراسات الصوتية‬
‫خاصة‪ ،‬ثم النحو وميزوا الفعل عن االسم وحروف الجر واألدوات المتممة‬
‫ويبدو أن التعرف على صالت القربى اللغوية بين السنسكريتية واللغات‬
‫والحديثة تحقق بزمان غير يسير قبل أن يؤكد "السير‬ ‫األوربية القديمة‬
‫وليام جونس" ذلك‪ ،‬وكان المبشرون الكاثوليك قد أشادوا بذلك التشابه حوالي‬
‫القرن ‪61‬مممثلين في "فيلبوساستي" االيطالي واألب "كوردو" الفرنسي‬
‫و"شولز" األلماني‪ ،‬وكان لهذه الفكرة أصداء واسعة عشية إعالن "السير وليام‬
‫جونس" آلرائه في القرابة اللغوية‪ ،‬والظاهر أن دوافع غير علمية لم تخل من‬
‫روح االستعمار هي التي حملت العلماء األلمان على االهتمام بالدراسات التاريخية‬
‫المقارنة ‪ ،‬وتعلم السنسكريتية لغة وأدبا‪ ،‬والدعوة إلى تعلمها في الجامعات‬
‫األلمانية واإلنجليزية والفرنسية ‪،‬أما ترجمة األدب الهندي القديم إلى اللغات‬
‫األوربية فقد بدأن منذ عام ‪6181‬م ‪ ،‬وهذا يقودنا حتما إلى الحديث عن الجهود‬
‫الهندية القديمة في البحث اللساني وخدمة اللغة السنسكريتية ببناء منظومتها‬
‫النحوية إلى درجة جعلت المعاصرين يبهرون بالمنجز اللساني الهندي ‪،‬بل يحاول‬
‫البعض تأصيل الدراسات التالية باالعتماد على المنوال الهندي ‪.‬‬
‫نظرية اللغة عند الهنود‬
‫الحق أن الدرس الهندي للغة تم في إطار رؤية وصفية تتعامل مع‬
‫الظاهرة اللسانية بوصفها بنية صوتية وصرفية ونحوية وداللية‪ ،‬وقد تولد هذا‬
‫االهتمام المنقطع النظير في الحضارات القديمة عن شعور ديني أساسة الحفاظ على‬
‫النصوص الدينية الشفهية التي تمثل الفيدا ذلك الكتاب العقدي الذي ظهر‬
‫حوالي ‪6088‬ـ‪ 6888‬ق‪.‬م ممثّال عقيدة وشريعة البراهمية‪ ،‬ولعل هذا الحرص‬
‫تولد عن شعور بتلك الفوارق اللهجية الموجودة في بالد الهند القديمة والتي تظهر‬
‫في عادات كالمية متباينة من شأنها التأثير في سالمة نطق النصوص المقدسة أو‬
‫سوء فهمها‪ ،‬غير أن المثير لالندهاش هو تحول الرغبة الدينية إلى درس منهجي‬
‫يتخذ من اللغة السنسكريتية موضوعا للدرس ويجعلها بؤرة في اهتمام التفكير‬
‫الهندي القديم‪ ،‬كما أن تلك اآلراء الثاقبة التي وصلتنا عن طريق "بانيني" تنم عن‬
‫مرحلة جد متقدمة نشأ فيها هذا االهتمام ‪،‬ثم تطور ليصل ناضجا مع قواعد المثمن‬
‫(الكتب الثمانية) ‪ ،‬بل أن هذه القواعد سرعان ما تركت أثرا في التنظير النحوي‬
‫للغات أخرى كالتاميلية وهي لغة درافيدية في وسط جنوب الهند (ت‪0‬ق‬
‫م)والتيبيتة‪.‬‬
‫‪‬أما عن مجاالت االهتمام اللغوي عند الهنود فيمكن تفريعها إلى‪:‬‬
‫‪‬اهتمامات تدخل في صميم النظرية اللسانية العامة‬
‫‪‬اهتمامات تدخل في علمي الداللة والمعجم‪.‬‬
‫‪ ‬اهتمامات صوتية ‪.‬‬
‫‪‬اهتمامات صرفية ونحوية ‪.‬‬
‫‪‬فبالنسبة إلى مشكلة نشأة اللغة سرعان ما تحقق علماء الهنود من الدور‬
‫المحدود جدا الذي يمكن أن يقوم به عامل المحاكاة الطبيعية في اللغة‪ ،‬وأن العالقة‬
‫العرفية ومبدأ التواضع االجتماعي هو العالقة النموذجية في ظهور اللغة وتطورها‪،‬‬
‫ويبدو أن هذا الموقف أسس على شعور باعتباطية العالقة بين اللفظ ومعناه‪ ،‬كما‬
‫تلمس الهنود في اللغة طبيعتها الخالقة في التعبير عن المعاني الالمنتهية انطالقا‬
‫من مصادر محدودة‪ ،‬كما أن المعاني التي تتخذها اللفظة الواحدة كثيرة بالنظر إلى‬
‫تعدد السياقات التي ترد فيها تلك اللفظة أو غيرها‪ ،‬وفي هذا السياق ناقشوا الفرق‬
‫بين الحقيقة والمجاز وحدود كل منهما في اللغة‪ .‬ولعل المهتم في الفكر اللغوي‬
‫الهندي يصاب بالحيرة العلمية وهو يطالع آراءهم في قضية أولية الكلمة في مقابل‬
‫أولية الجملة وارتباطهما بالمعنى ففي حين ذهب البعض إلى أن الكلمة هي أصغر‬
‫وحدة دالة في اللغة‪،‬ذهب آخرون وفي مقدمتهم اللغوي الشهير " بهاتر هاري"‬
‫مؤلف "الفاكيا بيديا" إلى أن الجملة هي الوحدة الداللية الدنيا في اللغة بوصفها‬
‫قوال غير قابل للتجزئة دالليا فجملة "أجلب حطبا من الغابة" ال يمكن أن تفهم من‬
‫خالل الكلمات وهي منفصلة بل وهي متضامة مركبة وفق هذه العالقات النحوية‪.‬‬
‫‪‬كما ناقش الهنود الفروق الكائنة بين اللغة والكالم في نظرية‬
‫"السبهوطا" أمميزين بين ما هو حدث فعلي وتحقق فردي وبين ما هو موجود دائم‬
‫غير متجسد ‪.‬‬
‫‪‬وفي مجال الصوتيات ترك الهنود مالحظات جد صائية في وصف نظام‬
‫لغتهم الصوتي اعتمادا على مبدأ السماع‪ ،‬ويعتقد بعض الباحثين أن هنري سويت‬
‫مؤسس الصوتيات اإلنجليزية قد بدأ درسه الصوتي من حيث انتهى الهنود‪،‬‬
‫ويؤرخ لهذه األعمال ما بين ‪ 1‬ق‪.‬م و‪ 658‬ق‪ .‬م ‪.‬‬
‫‪‬ويمكن أن نطّلع في هذا اإلطار على وصفهم للجهاز النطقي من خالل تقسيم‬
‫أعضاء النطق إلى أعضاء فموية(أسنان‪ ،‬لسان‪ ،‬شفتين‪ ،‬أو أعضاء غير فموية‬
‫(مزمار‪ ،‬رئتين‪ ،‬فراغ أنفي)‪ ،‬ويبدو إدراكهم ألثر هذه األعضاء في تحديد صفات‬
‫الصوت اللغوي واضحا فيما وصل من آراء‪ ،‬كما قسموا األصوات إلى أصوات أنفية‬
‫وغير أنفية ؛ أما منهجهم في وصف األصوات فقد انطلق من أقصى الحلق إلى‬
‫الشفتين‪ ،‬كما قسموا األصوات بسبب وضعية اإلعاقة التي تعترض الهواء أثناء‬
‫النطق مما جعلهم يميزون بين أصوات صوامت وقفية وأنفية واحتكاكية وأشباه‬
‫صوائت وصوائت‪.‬‬
‫وقد تم التمييز بين الجهر والهمس بالرجوع إلى انغالق أو انفتاح‬
‫المزمار ‪،‬وإلى جانب هذه االهتمامات الصوتية ألمح الهنود إلى وجود ثالث نغمات‬
‫في السنسكريتية الفيدية وهي النغمة العالية والمنخفضة والهابطة ‪ ،‬كما تحدثوا عن‬
‫المقطع وطول ومدة الصوت أثناء النطق به‪.‬‬
‫من أعالم المدرسة الهندية القديمة‬
‫‪‬يقول بلومفيلد ‪..." :‬يعد بانيني معلما من أعظم معالم الذكاء اإلنساني‬
‫‪ "....‬؛ذلك أنه قدم عرضا شامال ودقيقا للقواعد الصرفية والنحوية للغة‬
‫السنسكريتية بوصفها من أقدم لغات األسرة الهندو أوربية ‪ ،‬ويقول روبنز‪" :‬إن‬
‫هذه القواعد ليست قواعد عارية يمكن أن تكون كاملة ‪ ،‬وربما يجب وصفها بشكل‬
‫أفضل على أنها صرف توليدي للغة السنسكريتية "‪ ..‬ويبدو أن هذا الوصف الذي‬
‫قدمه "روبنز" له ما يبرره ذلك أنه قدم هذه القواعد في تعابير قصيرة مثل األقوال‬
‫المأثورة في مضمونها تعريفات ووصفا لعمليات صياغة الكلمة‪ ،‬وقد أطلق على‬
‫هذه القواعد بـ السوترة ‪،‬و علق أحد العلماء على هذا االقتصاد في صياغة القواعد‬
‫بقوله‪ ":‬إن توفير نصف طول صائت قصير في صياغة قاعدة قواعدية كان يعني‬
‫للقواعدي ما يعنيه ميالد طفل" وربما يكون هذا الولوع باالقتصاد ثمرة ومحصلة‬
‫لنمط المعرفة الذي استوعبته الثقافة الشفوية والحفظ عن ظهر قلب في تلك‬
‫المرحلة التاريخية غير أن هذه القواعد في شكلها غير صالحة للتدريس كما هي‪،‬‬
‫بل البد من عمل ذهني يستهدف شرحها وتوضيحها‪ ،‬وهو ما دفع "باتنجالي"‬
‫النحوي الهندي الشهير إلى كتابة "المهابها صهيا" أو "التعليق الكبير"‪،‬وقد بين‬
‫الهنو د في إطار دراساتهم النحوية أن الكلمة تنقسم إلى أسماء وأفعال متصرفة‬
‫وحروف جر وأدوات‪ ،‬ويشترط الهنود شروطا لمقبولية الجملة هي ‪:‬توافر‬
‫عناصر هي‪ :‬إمكانية التوقع المتبادل والمناسبة الداللية والتجاور في الزمان كما‬
‫بيّنوا انقسام الفعل في لغتهم إلى ماض وحاضر ومستقبل وعرفوا المفرد والمثنى‬
‫والجمع منذ عصر مبكر مثلما أشار إلى ذلك أحمد مختار عمر «أما بانيني فقد كان‬
‫تقسيمه للكلمة في البدء ثنائيا فهو لم يذكر إال الفعل في الدائرة األولى وجعل في‬
‫الدائرة الثانية ما ليس بفعل كاألسماء والحروف » ولعل مفهوم الصفر اللغوي الذي‬
‫تتمايز به األحداث النحوية يأتي في مقدمة ما أبدعه بانيني للفكر اللساني عامة‬
‫الزالت أصداؤه إلى يومنا في دراسات البنويين فجنس الفعل مثال يتحدد في لغتنا‬
‫بأحد أمرين بتاء التأنيث أو خلوه منها كما اهتدى التفكير الهندي في النحو إلى نوع‬
‫من الكلمات بجمع بين الخصائص الفعلية واالسمية وهو ما يقابل عندنا "اسم‬
‫الفعل" كما أشاروا إلى داللة الحروف في ذاتها أو في غيرها‪.‬هذا بالنسبة إلى النحو‬
‫أما علم األصوات فقد كان علما مستقال عندهم أولوه عناية فائقة للسبب الديني‬
‫الذي أتينا على ذكره ــ سابقا ــ وتبرز إسهاماتهم في جوانب كثيرة أهمها تقسيم‬
‫األصوات بسبب مخارجها وصفاتها ودور الحنجرة في حدوثها‪ ،‬وقد كان تقسيمهم‬
‫على ما يبدو مبنيا على درجة تقارب أعضاء النطق عند العملية‪ ،‬وقد ألمح إلى هذه‬
‫الفكرة الدكتور السعران في كتابه علم اللغة مقدمة إلى القارئ العربي ‪.‬ومما تجدر‬
‫اإلشارة إليه هو احتواء األبجدية الهندية على ‪ 56‬حرفا ‪.‬‬
‫البحث المعجمي‪.‬‬
‫لم يهتم الهنود بالدراسة المعجمية والظاهر أن سبب ذلك الخوف على‬
‫نطق السنسكريتية كان أكثر وأقوى درجة من الخوف على عدم فهمها‪ ،‬ولكونها لغة‬
‫فتة معينة وليست لغة عامة الشعب‪ ،‬ولعل أولى األعمال القليلة في هذا المجال‬
‫ارتبطت بشرح الكلمات الصعبة في الفيدا في العصور المتأخرة نسبيا في شكل‬
‫معاجم معاني وهو " األماراكوزا" وقد ألمع "محمود جاد الرب" في كتابه "علم‬
‫اللغة نشأته وتطوره" إلى وجود معجم مهم ظهر حوالي القرن ‪66‬مومما يرتبط‬
‫بالجانب الداللي العالقة بين اللفظ والمعنى فمن الهنود من ذهب إلى وجوب الفصل‬
‫بينهما على طرفي نقيض ومنهم من رأى ضرورة المطابقة وعدم الفصل ورأى‬
‫فيها وجهين لحقيقة واحدة فأحدهما ضروري لآلخر بالمعنى الحديث في لسانيات‬
‫سوسير وتالمذته‪ . ،‬كما نرى آخرين أغوتهم المحاكاة الصوتية والرمزية اللغوية‬
‫للتأكيد الشديد على الطبيعة الفطرية للغة في مقابل القائلين بعرفيتها وخضوعها‬
‫لمبدأ المواضعة البشرية‪.‬ونشير في عجالة للموضوعات األخرى التي ناقشوها‬
‫بجدية وهي‪ :‬التطور الداللي للكلمة‪ ،‬و الداللة األساسية في مقابل المجازية‪ ،‬وأهمية‬
‫السياق في إيضاح المعنى ‪.‬‬
‫ثالثا ا‪:‬البحث اللغوي عند األغريق الرومان‬
‫واليونانيون هم بدورهم درسوا لغتهم دراسة صوتية وصفية‪ ،‬وكانت‬
‫دراستهم للغتهم تكاد تكون متزامنة مع دراسة الهنود‪ ،‬دون أن نجد في الكتب‬
‫اللغوية أية إشارة تأثر األولى بالثانية بعكس تأثير الرومان في اإلغريق‪.‬‬

‫ويلتقي الدكتور أحمد مختار عمر‪ ،‬والدكتور محمود السعران حينما يتناوالن الدرس‬
‫اللغوي عند اليونان بحيث يؤكدان أن التفكير اللغوي عند اليونانيين بدأ مرتبطاً‬
‫بالفلسفة‪ ،‬وكان اللغويون األوائل فالسفة والبداية الحقيقية لدراسة لغتهم كانت منذ‬
‫زمان‪" ،‬أوربيدس ‪081-018‬ق‪ .‬م" الذي فرق بين حروف العلة والحروف‬
‫الصحيحة‪ ،‬ثم جاء بعده "أفالطون حوالي "‪703-001‬ق‪ .‬م" ويعرض التحليل‬
‫الصوتي لوحدات التقطيع الثاني في حواره كراتيل ‪ Cratyle‬وجاء بعده "أرسطو‬
‫‪ 700-710‬ق‪.‬م" وتناول التحليل الصوتي في كتابه "فن الشعر" وعرف الصوت‬
‫"الحرف" و حدوثه في اللسان والشفتين الخ‪ ...‬غير أن دراسة اإلغريق للغتهم كما‬
‫يزعم جورج مونين كانت تتركز على بنية اللغة ونشأتها ولم تكن هذه الدراسة‬
‫وتنوعها‪.‬‬ ‫اللغة‬ ‫بتطور‬ ‫مهتمة‬

‫ج‪-‬الرومان تالمذة اليونان وورثتُهم‪ ،‬إليهم يعود نقل بحوث اليونانيين اللغوية‪،‬‬
‫وكان اليونانيون مقلدين أكثر منهم مبدعين ومجددين‪ ،‬ومن أشهر نحاتهم‬
‫"فارو ‪ "Varron‬الذي عاش "في القرن األول ق‪ .‬م"‪.‬‬

‫ثم "دوناتوس ‪ "Donatus‬الذي عاش في القرن الرابع الميالدي "وبرع في‬


‫صناعة النحو" ثم "بريسكيان‪ Priscien‬الذي عاش في القرن السادس الميالدي"‬
‫صاحب كتاب اللغة‪.‬‬
‫ملخص المحاضرة الثانية‬
‫المحاضرة الثالثة‬
‫البحث اللغوي في العصور الوسطى‬
‫مفردات المحاضرة‪:‬‬
‫‪ -1‬تمهيد‬
‫‪ -2‬البحث اللغوي عند العرب‬
‫‪ -3‬البحث اللغوي عند غير العرب‬
‫أولا‪ :‬التمهيد‬
‫يذهب روبنز إلى أن هذه المرحلة تبدأ بحوالي ق‪ 6‬ق م إلى عتبة العصر الذي‬
‫نهضت فيه أوربا ‪،‬وقد شهدت هذه المرحلة شروحا وتفسيرا مستمرين لمؤلفات‬
‫السابقين كمؤلفات ديونيسوس وأبولونيوس دبيسكول ‪،‬وفي هذا العصر نشطت‬
‫الحركة المسيحية ‪،‬وقل الهتمام بالفلسفة رسميا حوالي ‪925‬م ‪،‬وطبعت النزعة‬
‫الدينية المواقف العلمية واللغوية ‪،‬فهذا البابا جريجوري على سبيل المثال يزدري‬
‫قواعد دونا توس ‪،‬وينعى على القواعديين تطبيقها على لغة الوحي اللهي كما‬
‫قامت المعرفة على تعليم الفنون العقلية وهي‪ :‬القواعد والجدل والبالغة‬
‫والموسيقى والحساب والهندسة والفلك ‪،‬أما عن شكلها فقد غلب عليه الطابع‬
‫المعياري التعليمي والعتماد على الشروح المدرسية التي أثرت عن برسيان‬
‫ودراسات ابتمولوجية في أعمال ابسيدور الشبيلي‪ ،‬وفي هذه المرحلة ألمع‬
‫العلماء من رجال الدين إلى مفهوم الترجمة التي يجب أن تبنى على المعنى ل على‬
‫الجانب اللفظي البحت‪.‬ويعود الفضل لرجال الذين القرو أوسطيين في اقتباس‬
‫أبجديات بعض اللغات األوربية أثناء ترجماتهم المختلفة لالنجيل كالسالفية‬
‫والروسية على الرغم من توسع الالتينية في انتشارها في أرض واسعة بأوربا‬
‫العصور الوسطى‪.‬‬
‫كما تم ّيز القرنان ‪7‬و‪ 8‬م بأعمال لغوية هامة تمثلت خصوصا في كتاب المحادثة‬
‫الالتينية " لـ ايفريك"وقد ضم خمسة قوائم مفرداتية لتينية وانجليزية قديمة‬
‫‪،‬وهو موجه خصيصا لألطفال الناطقين بالنجليزية القديمة‪ ،‬ويمكن عدة نموذجا‬
‫بدائيا للعالقة التي ربطت النجليزية بالالتينية رغم الختالفات التركيبية الواضحة‬
‫بينهما – كما يقول روبنز – وظهرت الكتب التعليمية في القواعد ككتاب الدكترينا‬
‫أللكسندر دي فلديو سنة ‪1211‬م وهو عبارة عن منظومة شعرية في ‪ 2596‬بيت‬
‫‪ .‬ويبدو أن الهتمام باألدب البروفنسالي في صيغة التروبادور عزر العناية باللغة‬
‫البروفنسالية ‪،‬كما شهد القرن ‪ 12‬م ظهور كتاب في قواعد السلندية لمؤلف‬
‫مجهول ‪،‬و تميز عمله بالدقة واألصالة والستقاللية في التفكير‪ ،‬وكان مهما‬
‫بالجوانب الفنولوجية والمالئية في إطار وضع ابجدية إسلندية مقاربة لألبجدية‬
‫الالتينية ‪ ،‬كما أبان في هذا الكتاب "عالم القواعد األول " عن قدرة فائقة في‬
‫الوصف الصوتي بالرجوع إلى ثنائيات لفظية مختلفة دلليا ومتشابهة لفضيا على‬
‫طريقة علماء حلقة براغ ‪،‬كما تكثفت الدراسات اللغوية األكاديمية في الجامعات‬
‫األوربية خاصة بعد دخول ترجمات وشروح عربية ويهودية لنصوص يونانية‬
‫قديمة في المنطق والقواعد عن طريق الحتكاك األدبي العربي في إسبانيا قبل‬
‫الستالء عليها من طرف الفرنج واقصاء المسلمين منها ‪،‬ومن العلوم ما بذله‬
‫العرب من جهد في ترجمة أعمال أرسطو من اللسان اإلغريقي إلى العربي ثم‬
‫ترجمة هذه النصوص من العربي إلى الالتيني‪.‬وارتبطت الدراسات اللغوية في‬
‫الجانب النظري ارتباطا وثيقا عبرت عنه الفلسفة السيكولئية ‪،‬وقد ألمع إلى ذلك "‬
‫بيتر هلياس" حين قال ‪" :‬فليس هو الفيلسوف الذي يدرك بدقة الطبيعة المحددة‬
‫لألشياء إنما هو عالم القواعد الذي يكتشف القواعد "ولما كانت قواعد المنطق‬
‫وأصوله عامة كانت هذه األصول متوافقة مع البنية اللغوية فإنه من المفترض أن‬
‫تخضع جميع اللغات لبنية لغوية واحدة في أصولها ‪،‬وهو ما عبر عنه فليسوف‬
‫القرن الثاني عشر "روجيه بيكون " بل ذهب إلى أن الخالفات الظاهرة بين اللغات‬
‫هي خالفات سطحية عرضية ل تمس الجوهر بالتغيير ويعرض "توماس‬
‫األرفرتي" لمفهوم الجملة المقبولة في النحو متأثرا بفلسفة أرسطو من خالل‬
‫األسس األربعة التي تبنى عليها ‪،‬وهي األساسي المادي المتمثل في الكلمات‬
‫المؤسسة واألساس الكلي الذي تمثله عالقة التحاد بين هذه الكلمات واألساس‬
‫الكيفي الذي تمثله العالقات النحوية بين صيغ تصريفية بعينها تتخذها الكلمات‬
‫قوالب لها ويفرضها عقل المتكلم ؛ أما األساس األخير فهو قابلية التركيب ألن‬
‫يعبر عن فكرة تامة ‪،‬وقد عبر "سيجر دي كورتراي " على منهج علماء اللغة في‬
‫العصور الوسطى بقوله ‪" :‬القواعد هي علم اللغة ومجال دراستها هو الجملة‬
‫ومعدلتها وغايتها هي التعبير عن تصورات العقل في جمل مصوغة صياغة جيدة‬
‫‪".‬‬
‫حركة الترجمة في العصور الوسطى‬
‫مع ازدياد نفوذ الكنيسة بدأ في ترجمة الكتاب المقدس إلى لغاتأخرى غير الالتينية‬
‫أحيانا بدون نظام كتابة ‪،‬فقد ترجم في القرن الرابع إلى القوطية وفي الخامس إلى‬
‫األرمنية وفي التاسع إلى السالفية ‪،‬وكان هذا حافزا إلى وضع أبجديات خاصة‬
‫بهذه اللغات ‪،‬وإن سجلنا تأخرا في هذه العملية للنظرة النفعية السلبية التي كانت‬
‫مسيطرة على العقول في تلك الفطرة التي رأت في هذه اللغات مجرد أدوات‬
‫للدعاية والتبشير الديني ل غير ‪ ،‬ويالحقنا المفهوم السلبي للترجمة في هذه‬
‫المرحلة من خالل تعريف الراهب "جدوين" لها بقوله ‪" :‬الترجمة هي أن تنقل‬
‫إلى اللغة العامية مؤلفا قديما " ‪،‬والحقيقة أن الترجمة في الحقبة الوسيطة‬
‫مورست بشكل منظم بين أحضان الكنيسة في القرون األولى‪ ،‬وقبل المرحلة‬
‫الوسطى في الحقبة الرومانية احتاج األباطرة إلى مترجمين وهذا قيصر اصطنع‬
‫بعضهم ‪،‬وكان يصرفهم حين يكون الكالم على جانب من السرية ‪ ،‬ثم استحدثت‬
‫أبجديات للغات اقليمية مثل الكلتية والجرمانية ‪،‬وقد قام فولفيال بترجمة النجيل‬
‫إلى القوطية ‪،‬وتم وضع أبجدية باألرمينية في القرن الخامس الميالدي وقام‬
‫القديسان "سيريل " و"ميتود"بعمل مشابه بالنسبة للصقلبية‪.‬‬
‫المدرسة السكولئية وأثرها في البحث اللساني‪:‬‬
‫أحيت هذه المدرسة الخالف القديم حول العالقة الكائنة بين اللفظ والمعنى إذانقسم‬
‫العلماء إزاء الفكرة إلى‪:‬‬
‫أ‪ -‬الواقعيين‪ :‬الذين يعتبرون العالقة بين الوجهين ذاتية وضرورية ويمثلهم‬
‫دونيس سكوت‪.‬‬
‫ب‪-‬السمين ‪ :‬يتنزعم هذا التجاه غيوم دوكام الذي أكد الطابع الصطالحي للرمز‬
‫اللساني وقد وافقه القديس توماس األكويني‪.‬‬
‫ثانيا ا‪ :‬البحث اللغوي عند العرب‬
‫لم يعرف العرب قبل اإلسالم أي بحث لغوي يذكر‪ .‬وكغيرهم من األمم‪ ،‬كان البحث‬
‫اللغوي خدمة لكتب الشريعة لكل أمة‪ ،‬ومن أجل تفسيرها وفهم معانيها‪ .‬ورغم‬
‫تأخر البحث اللغوي عند العرب حتى القرن الثاني للهجرة‪ ،‬إل أن العلماء العرب قد‬
‫أتقنوا الدرس اللغوي‪ ،‬فجاءت بحوثهم كاملة شاملة لكل علوم اللغة العربية من‬
‫نحو وصرف ومعجم ودراسة األصوات وحتى الدراسة المقارنة‪.‬‬
‫المصادر اللغوية‬
‫حصر اللغويون العرب مصادرهم التي استقوا منها مادتهم وبنوا عليها قواعدهم‬
‫في خمسة مصادر ‪ :‬القرآن الكريم (واعتبروه أعلى درجات الفصاحة)؛ والقراءات‬
‫القرآنية (التي جاءت وفقا للهجة من لهجات العرب)؛ والحديث النبوي الشريف‬
‫(وقد رفضه الكثير من النحاة ذلك أن الرواة أجازوا فيه النقل بالمعنى ووقع فيه‬
‫كثير من اللحن عند الرواية)؛ والشعر العربي (استشهدوا به حتى المجهول قائله‬
‫رغم خروجه عن اللغة السليمة من أجل الضروريات وحصروا مصدرهم في الشعر‬
‫الجاهلي وشعر المخضرمين)؛ والشواهد النثرية (ما جاء في شكل خطبة أو وصية‬
‫أو مثل أو حكمة أو مشافهة عن بعض األعراب ممن لم يختلطوا مع األعاجم)‪.‬‬
‫وفي ذلك كله قد استكملوا الثغرات بالمنطق والقياس ل بمعاودة المشافهة‪.‬‬
‫ويمكن تلخيص الدراسات اللغوية عند العرب فيما يلى‪:‬‬
‫أول‪ :‬نشأة الدراسات اللغوية عند العرب‬
‫دون العرب الحديث النبوي وألَّفوا في الفقه اإلسالمي والتفسير القرآني‪،‬‬
‫بعد أن َّ‬
‫شرعية كالنحو واللغة وإن لم تقصد لذاتها‬‫اتجه العلماء إلى تسجيل العلوم غير ال َ‬
‫إنما باعتبارها خادما للنص القرآني‪ ،‬ومنها محاولة أبو األسود الدؤلي ضبط‬
‫المصحف بالشكل‪.‬‬
‫وقد بدأ أهل اللغة بجمع المادة اللغوية (متن اللغة) عن طريق المشافهة ثم‬
‫تصنيفها و تبويبها‪ .‬وهكذا ُت ِوجت هذه الجهود بالمعاجم العربية المنظمة‪ .‬والبحث‬
‫واضع للنحو العربي إن‬
‫ٍ‬ ‫النحوي بدأ متأخرا عن جمع اللغة‪ .‬وقد اخ ُتلِف في أول‬
‫كان أبو السود الدؤلي‪ ،‬أم علي بن أبي طالب‪ ،‬أم عمر بن الخطاب‪ ،‬أم زياد بن أبيه‬
‫هو من حرك أبو األسود الدؤلي لوضع النحو‪.‬‬
‫إل أن السبب في وضع النحو‪ ،‬أيا كان واضعه‪ ،‬ما فشي من لحن عقب الفتوحات‬
‫اإلسالمية وفساد ألسنة العرب أنفسهم (من أشكال اللحن‪ :‬تسكين أواخر الكلمات)‪.‬‬
‫وقد تمت أوليات الدراسة النحوية في مدينة البصرة في الفترة الممتدة من أبي‬
‫األسود الدؤلي إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬البحث الصوتي‬
‫عالج اللغويون العرب المباحث الصوتية مختلطة بغيرها من العلوم‪ ،‬فبالنسبة‬
‫مؤلفه "الكتاب" وعالجه المبرد في‬‫للنحاة فقد عالج سيبويه اإلدغام في نهاية َ‬
‫كتابه "المقتضب"‪ ،‬كما تناول المعجميون بعض المشاكل الصوتية‪ ،‬واه ُتم بهذا‬
‫النوع من الدراسات في المعاجم التي رتبت ترتيبا صوتيا كـ"العين" الذي تناولت‬
‫مقدمته مشكالت صوتية كترتيب الحروف صوتيا ومخارج األصوات‪ ،‬أما معجم‬
‫"الجمهرة" فقد زيد فيه على ذلك الحديث عن الحروف التي تتآلف ول تتآلف في‬
‫الكلمة العربية‪.‬‬
‫‪ ،‬كما ساهم علماء التجويد والقراءات القرآنية والمؤلِفون في إعجاز القرآن‬
‫وعلوم البالغة اللذين أثروا البحث الصوتي بمباحث فيما يتعلق بتنافر األصوات‬
‫وتآلفها والحديث عن مخارج األصوات‪ ،‬وأول من أفرد المباحث الصوتية َ‬
‫بمؤل ٍ‬
‫ف‬
‫مستقل هو ابن جني في كتابه "سر صناعة اإلعراب"‪ ،‬وقد كان لبن سينا عمل‬
‫يدخل تحت الدراسة الصوتية هو رسالته "أسباب حدوث الحروف‪".‬‬
‫ثالثا‪ :‬النحو والصرف‬
‫كان الصرف في أول نشأته ُمدمجا ضمن باب النحو وقد جمع مباحثهما سيبويه‬
‫تلوه هذا العلم بالقدر‬ ‫إمام النحاة في َ‬
‫مؤلفه المعروف بـ "الكتاب" ولم يطور الذين ْ‬
‫الكافي‪ ،‬وتحولت كثير من الدراسات اللغوية بعده إلى مجرد الشروح له‪ ،‬وفضل‬
‫الخليل بن أحمد في "الكتاب" ل ُيجحد‪ ،‬وفي نفس الفترة التي كان الخليل وسيبويه‬
‫ينشران علمهما في مدينة البصرة ُوج َد عالمان آخران في الكوفة هما أبو جعفر‬
‫الرؤاسي الذي صنف كتابا سماه "الفيصل" ومعاذ الهراء الذي اشتغل بالصرف‬
‫حتى قيل أنه واضعه‪ ،‬وبعد ذلك سار نحاة البصرة والكوفة جنبا إلى جنب وتنافسا‬
‫في البحث واإلنتاج‪.‬‬
‫وكان من نحاة البصرة األخفش سعيد بن مسعدة‪ ،‬وقطرب المازني‪ ،‬والمبرد؛ ومن‬
‫نحاة الكوفة الكسائي‪ ،‬والفراء‪ ،‬وابن السكيت‪ .‬وفي فترتهم ازدهر البحث اللغوي‬
‫وظهرت الكتب الكاملة التي تعالج النحو مثل "المقتضب" للمبرد‪ .‬وفي هذه الفترة‬
‫انفصل النحو عن الصرف على يد أبي عثمان المازني الذي ألف "التصريف‪".‬‬
‫وبعد القرن الثالث هجري نافست أقطار ومدن أخرى البصرة والكوفة في‬
‫الدراسات النحوية‪ ،‬أشهرها مصر والمغرب واألندلس اتجه علماء هذه البلدان إلى‬
‫عرض مذهبي البصرة والكوفة وانتقادهما ومن أشهر نحاة هذه المرحلة‪ :‬الزجاج‪،‬‬
‫وابن السراج‪ ،‬والسيرافي‪ ،‬وأبو علي الفارسي‪ ،‬الرماني‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬المعجم‬
‫العمل المعجمي هو أصعب نشاط لعلم اللغة‪ ،‬ذلك أن المعجمي يعالج ظاهرة‬
‫مفتوحة‪ ،‬ومحاولة حصر كلمات لغة حية تكاد تكون أمرا مستحيال‪ .‬ومن شروط‬
‫المعجم الشمول والترتيب‪ ،‬وقد تميز العرب قديما وحديثا بتف ُننهم في أشكال‬
‫معاجمهم وطرق تبويبها ‪-‬لما لحظوا طرفي الكلمة "اللفظ والمعنى"‪ -‬فرتبوا‬
‫معاجمهم إما على اللفظ (معاجم األلفاظ) وإما على المعاني (معجم المعاني)‪ ،‬و‬
‫تنافسوا في معاجم األلفاظ بخالف معاجم المعاني‪.‬‬
‫=أ= معاجم األلفاظ‪ :‬هي المعاجم التي ُرتبت مادتها اللغوية بحسب األلفاظ وهي‬
‫تنقسم بحسب أولوية ترتيب ألفاظ مادتها اللغوية إلى مدرسة الترتيب الصوتي؛‬
‫ومدرسة الترتيب األلفبائي؛ ومدرسة الترتيب بحسب األبنية‪:‬‬
‫(أ‪ )1-‬مدرسة الترتيب الصوتي‬
‫رائد هذه المدرسة هو الخليل بن أحمد الذي امتاز بعقلية رياضية وبراعة في‬
‫الموسيقى‪ .‬وقد ألف أول معجم في اللغة العربية سماه "العين"‪ .‬وأهم ما يميز هذا‬
‫مؤلِفه يجمع مفرداته بطريقة رياضية منطقية‪ ،‬حيث لحظ أن الكلمة‬ ‫المعجم أن َ‬
‫العربية قد تكون ثنائية أو ثالثية أو رباعية أو خماسية‪ .‬وفي كل حالة أمكنه‬
‫الستبدال وتقليب الحروف إلى جميع أوجهها الممكنة من الناحية النظرية‪ .‬ثم ميز‬
‫بين المستعمل والمهمل‪ ،‬ورتب الكلمات داخل المعجم بحسب أول حروفها من حيث‬
‫المخرج‪.‬‬
‫ويعد معجم "تهذيب اللغة" للغوي األزهري تابعا في منهجه لمعجم "العين"‪ .‬أما‬
‫من ناحية المادة اللغوية فـ"تهذيب اللغة" ضخم جدا بالنسبة لمعجم العين‪،‬‬
‫واألزهري جمع مادته من نكت حفظها ووعاها من أفواه األعراب عن طريق‬
‫المشافهة‪ .‬وقد أضاف ابن قاسم القالي في معجمه "البارع "وهو أول معجم‬
‫أندلسي اتبع فيه منهج "العين" بعض ما رآه الخليل مهمال وصحح بعض الشواهد‬
‫ونسبها إلى قائليها‪ ،‬وقد سار على طريقة الخليل ابن أحمد في كثير من المعاجم‬
‫العربية كـ"مختصر العين"‪ ،‬للزبيدي و"المحيط" للصاحب بن عباب و "المحكم"‪،‬‬
‫لبن سيده‪.‬‬
‫(أ‪ )2-‬مدرسة الترتيب األلفبائي‬
‫رتبت هذه المدرسة المادة اللغوية بحسب الترتيب األلفبائي العادي (باعتبار األشبه‬
‫والنظائر في رسم الحروف) كالتالي‪:‬‬
‫=وضع الكلمات تحت أسبق حروفها‪ :‬وقد اتبع هذا الترتيب ابن دريد في معجمه‬
‫"الجمهرة" حيث سار على الترتيب األلفبائي ووضع الكلمات تحت أسبق حروفها‬
‫في الترتيب األلفبائي بعد أن رتبها الترتيب الكمي‪ ،‬واتبع نظام التقليبات كـالخليل‪.‬‬
‫=وضع الكلمة تحت أسبق حروفها األصلية‪ :‬و ُنظر في هذا الترتيب إلى الحرف‬
‫األصلي األول من الكلمة وترتيبها بحسب الترتيب األلفبائي‪ ،‬وقد وضعت معاجم‬
‫بحسب هذا الترتيب كـ"معجم الجيم" ألبي عمرو الشيباني و"المقاييس"‪،‬‬
‫و"المجمل" لبن فارس و"أساس البالغة" للزمخشري و"المصباح المنير"‬
‫للفيومي‪.‬‬
‫=وضع الكلمة تحت أول حروفها دون تجريد‪ :‬اتبعت هذا النظام كتب لغوية اهتمت‬
‫بنوع معين من المفردات كـ"غريب القرآن" ألبي بكر السجستاني و"المفردات في‬
‫غريب القرآن" للراغب األصفهاني و"النهاية في غريب الحديث واألثر" لبن‬
‫األثير‪.‬‬
‫=وضع الكلمة تحت حرفها األخير دون تجريد‪ :‬اتبع هذا النظام أبو بشر اليمان في‬
‫مؤلَفه "التقفية في اللغة" حيث رتب الكلمات دون تجريدها من حروف الزيادة‪،‬‬‫َ‬
‫بحسب أواخرها ترتيبا هجائيا‪ ،‬قاصدا خدمة الشعراء‪.‬‬
‫=وضع الكلمة تحت حرفها األصلي األخير‪ :‬رائد هذه الطريقة التي يطلق عليها‬
‫"نظام الباب و الفصل"‪ ،‬أو "الترتيب بحسب القافية" هو اللغوي الفارابي وتبع‬
‫هذا النظام الجوهري في معجمه "تاج اللغة وصحاح العربية"(‪ )1‬وكذا‬
‫"الصاغاني في مؤلفه الذي مات قبل أن يتمه "العباب الزاخر واللباب الفاخر"‪،‬‬
‫وابن منظور في معجمه "لسان العرب"(‪ .)،2‬وممن اتبعوا نظام الباب والفصل‬
‫أيضا الفيروز أبادي صاحب "القاموس المحيط" وكذلك رتب الزبيدي مؤلفه "تاج‬
‫العروس‪".‬‬
‫أ‪ )3-‬مدرسة الترتيب بحسب األبنية‬
‫يراعي ترتيب الكلمات في هذا النظام بحسب األبنية‪ ،‬الحركة إلى جانب الصوت‬
‫الساكن‪ ،‬ولم يصل التأليف في األبنية في مرحلته األولى إلى صورة المعجم الكامل‪،‬‬
‫وأول معجم ُترتب مادته على حسب األبنية أو باعتبار السواكن والعلل هو معجم‬
‫"ديوان األدب" للفارابي الذي قسم معجمه إلى أقسام أسماها "الكتاب" ومنها‬
‫كتاب السالم‪ ،‬وكتاب المثال‪ ،‬إلى آخره‪ .‬وقسم كل كتاب إلى شطر ْين‪ :‬أسماء‬
‫وأفعال‪ .‬ومن المعاجم التي اقتفت أثر الفارابي معجم "شمس العلوم ودواء العرب‬
‫من الكلوم" لـنشوان‪ ،‬وكذلك فعل الزمخشري في مؤلفه "مقدمة األدب‪".‬‬
‫معاجم المعاني‬
‫ترتب األلفاظ في معاجم المعاني بحسب الموضوعات‪ ،‬وأخذت البدايات في كتيبات‬
‫صغيرة يتناول كل واحد منها موضوعا واحدا مثل "الخيل" لألصمعي؛ "خلق‬
‫اإلنسان" ألبي عمرو الشيباني‪ ،‬إلى آخره‪ .‬كما ظهرت أعمال تجمع أكثر من‬
‫موضوع في مجلد واحد مثل "األلفاظ" لبن السكيت‪" ،‬جواهر األلفاظ" لقدامة بن‬
‫جعفر‪ .‬ومن أهم األعمال في هذا المجال "المخصص" لبن سيده‪ .‬ويعد هذا األخير‬
‫أشمل معجم رتب بحسب المعاني‪ ،‬استعان فيه ابن سيده بكل ما كتب قبله من‬
‫معاجم‪ .‬ويوجد إلى جانب "المخصص" معجم "كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ"‬
‫لبن الجدابي‪.‬‬
‫المآخذ على المعاجم العربية‬
‫رغم تميز المعاجم العربية وتفنن العلماء في أشكالها وطرق تبويبها إل أن لها‬
‫بعض المآخد تحسب عليها وأهمها‪ :‬عدم ترتيب المادة اللغوية ترتيبا داخليا ففيها‬
‫خلط األسماء باألفعال والثالثي بالرباعي؛ وعدم اللتزام بالمنهج المتبع والمصرح‬
‫به في المقدمة (ما جاء في "ديوان األدب" للفارابي من أنه لن يذكر المشتقات‬
‫القياسية‪ .‬ومع ذلك يوجد في المعجم فعال من جمع فعل)؛ ووقوعها في بعض‬
‫األخطاء عند شرح المادة اللغوية؛ والشرح شرحا معيبا نتيجة غموض العبارة‪،‬‬
‫وعدم الدقة في التعبير‬
‫ثالثا ا‪ :‬البحث اللغوي عند غير العرب‬
‫اتجهت الدراسات اللغوية عند غير العرب إلى النحو ودراسة األصوات والمعجم‪،‬‬
‫فقد ظهرت في الهند القديمة دراسات للغة السنسيكريتية في فروع علم اللغة‬
‫المختلفة تناولت الشتقاق واألصوات والنحو والمعاجم‪ .‬وقد درسوا الصوت المفرد‬
‫ووجد فيها ما يقارب اثنتي عشرة مدرسة نحوية يمثل النحو البانيني‬‫والمقطع ُ‬
‫فترة النضج فيها‪.‬‬
‫أما عند اليونان فقد كان تطوير النظام الهجائي للكتابة أول عمل لغوي عندهم‪،‬‬
‫وكان التفكير اللغوي عندهم مرتبطا بالفلسفة (الفالسفة السفسطائيين)‪ .‬وبعد ذلك‬
‫ُنقلت الدراسة اللغوية إلى الرواقيين الذين فصلوها عن الفلسفة‪ .‬والمصريون‬
‫القدامى اتجهت دراساتهم إلى فروع عدة‪ :‬الفيلولوجيا والنحو والمعاجم حول اللغة‬
‫اليونانية‪.‬‬
‫وترجم السريان النحو اليوناني وقلدوه‪ .‬ولم تزدهر الدراسات اللغوية عند‬
‫العبرانيين إل بعد اختالطهم بالعرب وخوفهم من ضياع لغتهم‪ .‬ومع هذا بدأت‬
‫دراسة اللغة والنحو العبري ْين لخدمة كتابهم المقدس‪ .‬ويشهد للصينيين بوفرة كتب‬
‫علوم لغتهم وقد كانت لهم دراسات صوتية‪.‬‬

‫خالصة المحاضرة‬
‫المحاضرة الرابعة‬
‫البحث اللغوي في العصر الحديث‬
‫مفردات المحاضرة‪:‬‬
‫‪-1‬مظاهر تطورالدراسات اللغوية ماقبل القرن التاسع عشر‬
‫‪ -2‬مظاهر تطورالدراسات اللغوية فى القرن التاسع عشر‬
‫أولا‪:‬مظاهر تطورالدراسات اللغوية ماقبل القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫تاريخ ظهور البحث اللغوي ‪:‬‬
‫إن الحديث عن تاريخ ظهور البحث اللغوي طويل ا‬
‫جدا‪ ،‬ويطول بنا المقام لسرد‬
‫مراحله الزمنية عبر التاريخ القديم والحديث‪ .‬وكيف تطور عبر هذه الحقب من‬
‫القرون الغابرة إلى أن ظهر في شكله الحداثي مع القرن التاسع عشر في غرب‬
‫أوربا‪ .‬ول مانع من أن نعطي لمحة عن تاريخ ظهور البحث اللغوي قديما ا وحديثا ا‬
‫في شكل مختصر جداا‪ ،‬معتمدين في التحديد على الكتب اللغوية التي تناولت‬
‫المسألة بشكل دقيق ومحدد‪.‬‬
‫إن ظهور الدرس اللغوي ليس جديد العهد‪ ،‬وإنما يعود تاريخ نشأته إلى قرون قبل‬
‫الميالد‪ .‬وتتفق جل آراء الباحثين اللغويين والمؤرخين على أن الدرس اللغوي بدأ‬
‫أول ما بدأ عند الهنود في القرن الخامس أو الرابع قبل الميالد على يد بعض‬
‫اللغويين الهنود‪ ،‬وعلى رأسهم إمام نحوييهم بانيني ‪ .PANINI‬فظهور‬
‫السنسكريتية التي هي أساس أداة األدب "الفيدي" الكتاب المقدس لديانة الهنود‬
‫ولعل اهتمامهم بدراسة لغتهم في هذا الوقت المبكر كان لهدف ديني في المقام‬
‫األول من أجل قراءة نصوص الفيدي قراءة صحيحة‪.‬‬
‫وجاءت دراستهم للغتهم على درجة عالية من التنظيم‪ ،‬والدقة‪ ،‬واشتملت هذه‬
‫الدراسة على علم اللغة‪ ،‬وفروعها من دراسة األصوات‪ ،‬والشتقاق‪ ،‬والنحو‬
‫والمعاجم‪ ،‬وفقه اللغة‪ .‬وأهم دراسة أظهروا فيها تفوقهم‪ :‬الدراسات الصوتية‬
‫خاصة‪ ،‬ثم النحو وميزوا الفعل عن السم وحروف الجر واألدوات المتممة‪.‬‬
‫واليونانيون هم بدورهم درسوا لغتهم دراسة صوتية وصفية‪ ،‬وكانت دراستهم‬
‫للغتهم تكاد تكون متزامنة مع دراسة الهنود‪ ،‬دون أن نجد في الكتب اللغوية أية‬
‫إشارة تأثر األولى بالثانية بعكس تأثير الرومان في اإلغريق‪.‬‬
‫ويلتقي الدكتور أحمد مختار عمر‪ ،‬والدكتور محمود السعران حينما يتناولن‬
‫الدرس اللغوي عند اليونان بحيث يؤكدان أن التفكير اللغوي عند اليونانيين بدأ‬
‫مرتبطا ا بالفلسفة‪ ،‬وكان اللغويون األوائل فالسفة والبداية الحقيقية لدراسة لغتهم‬
‫كانت منذ زمان‪" ،‬أوربيدس ‪044-084‬ق‪ .‬م" الذي فرق بين حروف العلة‬
‫والحروف الصحيحة‪ ،‬ثم جاء بعده "أفالطون حوالي "‪703-028‬ق‪ .‬م" ويعرض‬
‫التحليل الصوتي لوحدات التقطيع الثاني في حواره كراتيل ‪ Cratyle‬وجاء بعده‬
‫"أرسطو ‪ 722-780‬ق‪.‬م" وتناول التحليل الصوتي في كتابه "فن الشعر"‬
‫وعرف الصوت "الحرف" و حدوثه في اللسان والشفتين الخ‪ ...‬غير أن دراسة‬
‫اإلغريق للغتهم كما يزعم جورج مونين كانت تتركز على بنية اللغة ونشأتها ولم‬
‫تكن هذه الدراسة مهتمة بتطور اللغة وتنوعها‪.‬‬
‫ج‪-‬الرومان تالمذة اليونان وورث ُتهم‪ ،‬إليهم يعود نقل بحوث اليونانيين اللغوية‪،‬‬
‫وكان اليونانيون مقلدين أكثر منهم مبدعين ومجددين‪ ،‬ومن أشهر نحاتهم "فارو‬
‫‪ "Varron‬الذي عاش "في القرن األول ق‪ .‬م"‪.‬‬
‫ثم "دوناتوس ‪ "Donatus‬الذي عاش في القرن الرابع الميالدي "وبرع في‬
‫صناعة النحو" ثم "بريسكيان ‪ Priscien‬الذي عاش في القرن السادس الميالدي"‬
‫صاحب كتاب اللغة ‪.‬‬
‫د‪-‬وكان العرب كغيرهم من األمم السابقة سباقين لدراسة لغتهم‪ ،‬بعد أن استقر‬
‫الدين اإلسالمي واعتنقوه عقيدة في عبادتهم‪ ،‬فكان أن اهتموا بوضع ما يحفظ‬
‫المصحف الشريف ويصونه أثناء تالوته وحفظه خشية الوقوع في اللحن‬
‫والتحريف‪ ،‬والتصحيف‪ ،‬في زمن أخذ فيه الختالط يعم الجزيرة العربية بين‬
‫األعجام والعرب الخلص بسبب وحدة اإلسالم‪ ،‬ولم يلبث الرجال المخلصون‬
‫لعقيدتهم اإلسالمية‪ ،‬والغيورون على لغتهم العربية التي بها نزل القرآن الكريم‪ ،‬أن‬
‫دفعتهم فطرتهم الذاتية وإيمانهم القوي‪ ،‬فهبوا لوضع قواعد نحوية في بادئ األمر‬
‫كمرحلة أولى لتصون األلسنة من الوقوع في اللحن الذي أخذ يتفشى حتى في‬
‫بيوت األشراف من العرب وعلماء األدب‪.‬‬
‫وكانت دراستهم للعربية قد انطلقت في بداية أمرها من الظاهرة الصوتية النحوية‬
‫المتمثلة في تنقيط اإلعراب زمان أبي األسود ت ‪46‬هـ) بداية لمرحلة سوف تكون‬
‫مرحلة الزدهار للدرس اللغوي في جميع خصائصه وتخصصاته‪ ،‬من دراسة‬
‫مفردات أو دللة‪ ،‬ونحو وصرف ودراسة صوتية‪ ،‬وبالغية أو غيرها كالتي تخدم‬
‫العربية وكتاب هللا‪ ،‬ألن هذه الفترة شهدت اإلقبال على دراسة العلوم الدينية من‬
‫تفسير لكالم هللا‪ ،‬والوقوف على غريب القرآن‪ ،‬ودلئل اإلعجاز الرباني‪ ،‬مع ظهور‬
‫القراءات القرآنية‪ ،‬فكانت مسألة الدراسات اللغوية المرتبطة مكملة بل هي في‬
‫خدمة العلوم الدينية‪ ،‬وظهور رجال كثيرين برعوا وتفوقوا في التأليف والتقعيد‬
‫اللغوي والصوتي والبالغي‪ :‬نذكر بعضهم على سبيل المثال ل الحصر‪ ،‬كالخليل بن‬
‫أحمد الفراهيدي ت ‪131‬هـ)‪ ،‬وسيبويه ت ‪184‬هـ)‪ ،‬ويونس بن حبيب ‪187‬هـ)‬
‫مروراا بأحمد بن فارس ت ‪712‬هـ)‪ ،‬وابن جني ت ‪761‬هـ)‪ ،‬وعبد القاهر‬
‫الجرجاني ت ‪031‬هـ)‪ ،‬والزمخشري ت ‪178‬هـ)‪ ،‬والسكاكي ت ‪424‬هـ)‪،‬‬
‫وغيرهم ممن قدموا خدمات جليلة للعربية ومجالت الدراسة بصفة عامة‪.‬‬
‫نزرا‬
‫إن الحديث عن اللغة طويل ول يمكن لنا مهما اختصرنا الكالم أن نذكر إل ا‬
‫قليالا فقط‪ ،‬وتجن ابا إلطالة الموضوع فإننا نتخطى القرون الوسطى‪ ،‬ومجهوداتنا في‬
‫البحث اللغوي المتواضع‪ ،‬تعتبر امتداداا لعهد النهضة الفكرية األدبية والعلمية‬
‫وعصر التنوير وما بعدها‪.‬‬
‫ومع بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميالدي شهد البحث اللغوي‬
‫تطورا ويقظة وتجديداا لم يسبق له مثيل من قبل على يد ثلة من الباحثين الغربيين‬
‫ا‬
‫اإلنجليز‪ ،‬والفرنسيين‪ ،‬واأللمان‪ ،‬واإليطاليين‪ ،‬وغيرهم من بعض األقطار األوربية‬
‫ثم يصل األمر فيما بعد إلى قارة أمريكا‪.‬‬
‫كانت الدراسات اللغوية في الغرب قد عرفت طريق النتعاش‪ ،‬والزدهار منذ أن‬
‫توصل "فردريك أوجست ولف" إلى ابتداع النقد المقارن للنصوص القديمة‬
‫المكتوبة في سنة ‪1333‬م) وكان هذا المنهج في رأي الدارسين اللغويين عامالا‬
‫ا‬
‫وأساسيا أقيم على ضوئه تصنيف اللغات على أسر ومجموعات أساسية‬ ‫سا‬
‫رئي ا‬
‫وفرعية‪.‬‬
‫تطورا وشهرة‪ ،‬وذلك بعدما تم الكشف عن اللغة‬ ‫ا‬ ‫ثم زادت البحوث اللغوية‬
‫السنسكريتية على يد العالمة اإلنجليزي اللغوي وليام جونز ‪1384‬م) فكانت هذه‬
‫اللغة محل ميدان دراسة للمنهج المقارن الذي أصبح يستقل بدراسة السنسكريتية‪،‬‬
‫ودرس جونز هذه اللغة واللغة األوربية وما يوجد بينهما من شبه في ظل المنهج‬
‫المقارن‪ ،‬إلى أن توصل كما يزعم إلى أن السنسكريتية هي أم اللغات الهند أوربية‪،‬‬
‫ولم تقف الدراسة عند هذا الحد‪ ،‬بل تطورت البحوث اللغوية ودرست اللغات‬
‫وشجرة أنسابها‪ ،‬وقد درست اللغة العربية وأخواتها السامية العبرية‪ ،‬والفينيقية‪،‬‬
‫واألكدية‪ ،‬والحبشية‪ ،‬وأثبت العلماء وجود شبه وتقارب بين هذه اللغات في كثير‬
‫من األمور الفرعية النحوية واللغوية والشتقاقية والدللية فقالوا إنها تنتمي إلى‬
‫أسرة واحدة‪.‬‬
‫ويرى الباحثون اللغويون أن اكتشاف اللغة السنسكريتية وتطبيق المنهج المقارن‬
‫هما عامالن أساسيان في تثبيت وتطوير الدراسات اللغوية خالل القرنين الثامن‬
‫عشر والتاسع عشر وبعدها‪ ،‬وظل المنهج المقارن مسيطراا في ميدان البحث‬
‫اللغوي إلى أن ظهرت النظرية التطورية الداروينية في حدود ‪1834‬م)‪ .‬وتأثر بها‬
‫علماء اللغة كغيرهم‪ ،‬وزعمت أن اللغة كسائر الكائنات الحية الطبيعية المتغيرة ول‬
‫سيما عالم الحيوان والنبات تشهد تغيرات وتطورات‪ ،‬مثلها مثل كل الكائنات تولد‬
‫ألفاظ وتموت ألفاظ‪.‬‬
‫وأثبت األلمان جدارتهم في تطوير البحث اللغوي خالل القرن التاسع عشر كغيرهم‬
‫من الفرنسيين واإلنجليز‪.‬‬
‫وما إن دخل القرن العشرين حتى شهد الدرس اللغوي منعطفا ا جديداا‪ ،‬ودراسة‬
‫وتطويرا في المنهج واألسلوب‪ ،‬وبخاصة عندما ظهر العالم اللغوي‬
‫ا‬ ‫معمقة‪،‬‬
‫السويسري فرديناند سوسير ‪ )Saussure) 1857-1913‬الذي يعتبره الدارسون‬
‫المحدثون اإلمام والمعلم الحقيقي الذي فجر الدرس اللغوي‪ ،‬وفهم اللسانيات على‬
‫حقيقتها‪ ،‬ووضح اختصاصاتها‪ ،‬وبين مناهجها وحدودها‪ ،‬وهو من رفع شعار‬
‫دراسة اللغة لذاتها ومن أجل ذاتها‪.‬‬
‫إن بحوث دوسوسير اللغوية اللسانية أصبحت تشمل جميع قطاعات اللغة على حد‬
‫سواء‪ ،‬كاألصوات والنحو‪ ،‬والصرف‪ ،‬والمعجم‪ ،‬والدللة مستفيداا من مناهج البحث‬
‫اللغوي الذي سبقته كالمنهج التاريخي‪ ،‬والمنهج المقارن‪ ،‬والوصفي الذي كان‬
‫العمود الفقري في أبحاثه اللغوية‪.‬‬
‫ومن األعمال الجليلة التي قام بها هذا العالم المعاصر‪ ،‬دراسته للسانيات العامة‬
‫صلُه على تحديد خصائص ومفاهيم كل من اللغة ‪ Langage‬والكالم ‪،Parole‬‬ ‫وتو ُّ‬
‫والتي تدخل في جوهر الدرس اللساني أو الثنائية اللسانية‪ ،‬واللسانيات عنده هي‬
‫منظومة اجتماعية‪ ،‬ودعا إلى دراسة اللسان ألنه اجتماعي وعرفي(‪. )12‬‬
‫تأثر دوسوسير في دراسته بإميل دوركيم‪ ،‬العالم الجتماعي الفرنسي الذي كان‬
‫صديقا ا له(‪ )17‬في مسألة اللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعية‪ ،‬وكان دوسوسير أول‬
‫لغوي في زمانه قدم دراسة لغوية مستوفية تخص الدال والمدلول "الكلمة" لفظا ا‬
‫ومعنى‪ ،‬ورأى أنهما بمثابة وجهين لعملة واحدة ل يمكن أن ينفصال‪ .‬كما بحث في‬
‫مسألة التزامن أو التعاقب وهي ثنائية تتعلق بالمناهج اللسانية منذ نهاية القرن‬
‫ورقيا أكثر من أي وقت مضى‪،‬‬ ‫ا‬ ‫العشرين الميالدي‪ ،‬والبحث اللغوي يشهد تقدما ا‬
‫بفضل تضافر جهود عدد كبير من اللغويين األوربيين واألمريكيين وحتى الروس‬
‫منهم‪ ،‬ومع مطلع القرن العشرين وشيوع المنهج الوصفي في الدراسات اللغوية‬
‫أعطى انتعاشا ا للدراسات اللغوية لم يسبق له مثيل من قبل وتوسعت مجالته إلى‬
‫أن عرف طرائق عصرية في الدراسات الجديدة مثلما هو قائم عند نعوم تشمسكي‬
‫حاليا ا والنظرية "التوليدية التحويلية" أو صاحب البنى التركيبية في الوليات‬
‫المتحدة األمريكية‪ ،‬ومدى تأثيرها في اللغويين المعاصرين في أنحاء العالم‪.‬‬
‫وفي ظل تقدم الدراسات اللغوية العربية الحديثة‪ ،‬واتضاح مناهج البحوث اللغوية‪،‬‬
‫وتعددها بتعدد المدارس الغربية‪ ،‬كان تأثير جيل كبير من الشباب العربي في‬
‫المشرق العربي سبا اقا لالستقاء من منابع تلك البيئة الغربية قبل المغاربة‪.‬‬
‫مباشرا أو غير مباشر‪ ،‬فالتأثير المباشر‬
‫ا‬ ‫تأثرا‬
‫وكانت مصر وبالد الشام سباقتين ا‬
‫يعود تاريخه في حقيقة األمر منذ أن أوفد محمد علي والي مصر في مطلع القرن‬
‫الثامن عشر أول بعثة علمية إلى باريس‪ ،‬ولندن‪ ،‬وظلت هذه الرحالت قائمة حتى‬
‫وقتنا الحالي‪.‬‬
‫والتأثير غير المباشر كقيام المعاهد والمنتديات في بالد الشام‪ ،‬ومصر وإنشاء‬
‫جامعات غربية بتدعيم مادي مع الحتكاك بين الثقافتين العربية والغربية‪ ،‬كلها‬
‫تعتبر عوامل رئيسية ومؤثرة في الجيل العربي الجديد في المشرق العربي ومغربه‬
‫بأي طريقة كانت‪.‬‬
‫إن الفضل الكبير في تقريب وتبسيط المفاهيم اللغوية ومناهجها الدارسية تم على‬
‫يد ثلة من المثقفين العرب المصريين والسوريين واللبنانيين وغيرهم من الذين‬
‫كانوا محظوظين بالنسبة إلى غيرهم‪ ،‬وتبوءوا مكانتهم الدراسية على رفوف‬
‫جامعات بريطانيا‪ ،‬وفرنسا خاصة‪ ،‬فتشبعوا من منابع الثقافة الغربية وجمعوا بينها‬
‫وبين اللغة األم التي هي حال لسانهم الكتابي التعبيري اللغوي واألدبي النقدي‪ .‬ولم‬
‫تذب شخصياتهم في ظل الحضارة الغربية‪ ،‬أو يتنصلوا عن عقيدتهم وعربيتهم‪،‬‬
‫وبعد إطالعهم على الحضارة الغربية وأخذ ما هو كاف منها‪ ،‬وبخاصة في الجانب‬
‫الفكري عادوا إلى أقطارهم العربية وهم عازمون على الوفاء بتأدية األمانة التي‬
‫تنتظرهم‪.‬‬
‫وكان هذا الرعيل األول من اللغويين العرب الذي عاد من جامعات كبريات عواصم‬
‫غرب أوربا مع منتصف القرن العشرين‪ ،‬قد رفع شعار التجديد في البحث اللغوي‬
‫العربي‪ ،‬وجمع بين األصالة والمعاصرة‪ ،‬فاألصالة عنده العتزاز بالتراث اللغوي‬
‫العربي‪ ،‬وإعادة إحيائه‪ ،‬ودراسته وفق منهجية علمية لغوية كالتي تسير عليها‬
‫الدراسات اللغوية العربية‪ ،‬وهذا إلزالة كل التهم التي ترى أن البحث اللغوي‬
‫العربي جامد وفاته الزمن بل هو عقيم‪ ،‬فكان لزا اما على أبناء هذا الجيل الدفاع عن‬
‫األصالة بحجج وأدلة مقنعة ودامغة مثلما دافع عنها باألمس الجاحظ عندما اشتدت‬
‫نار الشعوبية برغم أصله الفارسي ومثله‪ :‬ابن قتيبة الدينوري ت ‪237‬هـ)‬
‫وغيرهما‪.‬‬
‫وكان اهتمام اللغويين المحدثين والمعاصرين العرب باللغة العربية بالغ األهمية‬
‫عميق الدراسة في جميع المستويات من نحو وصرف‪ ،‬وفقه اللغة‪ ،‬وصوتيات‬
‫ولهجات‪ ،‬وقراءات‪ ،‬ودللة‪ ،‬ومفردات‪ ،‬وبالغة وموسيقى‪ ،‬وتحقيق المخطوطات‬
‫التراثية وغيرها‪ ،‬كل ذلك كان شغلهم الشاغل في دراستهم وأبحاثهم اللغوية‪.‬‬
‫كما كانوا الرياديين في رفع لواء راية التدريس الجامعي في الجامعات العربية‪،‬‬
‫فأسهموا في تأطير آلف الطلبة‪ ،‬وعددهم ل يمكن حصره أو ذكره ألن قائمة‬
‫جدا وسنلتقي بذكر بعضهم وبأشهرهم سمعة من خالل مؤلفاتهم‬ ‫األسماء طويلة ا‬
‫وكتبهم التي تشرفنا‪ ،‬كطلبة لهؤلء المشايخ‪ ،‬بقراءة ما تيسر لنا منها قدر‬
‫المستطاع لغرض الفائدة والتعليم والتثقيف‪ ،‬ولول هؤلء الذين يعتبرون همزة‬
‫وصل في تقريب الثقافة بل الثقافات بين الشرق والغرب‪ ،‬وأعني الشرق العربي‬
‫لما كنا نعرف أعماق البحث ومناهجه الحديثة‪.‬‬
‫إخضاع َ‬
‫اللغ ِة لقوا ِع ِد‬ ‫ُ‬
‫محاولة‬ ‫سادت في هذه الفترة فكرةُ منطقِ َّي ِة الل َغ ِة ‪ ،‬أي‬
‫ِ‬
‫المنطق‪ ،‬والطرح األساسي ألصحاب تيار منطقية اللغة يتمثل بالقول‪( :‬أنَّ ال َّن َما ِذ َج‬
‫ال َّنحو َّي َة ينبغي أن تتطابق مع متطلَّبات المنطق‪ ،‬ولَ َّما كان المنطِ ُق واحداا عند البشر‬
‫ت جميعا ا )‬ ‫ب جوهر اللغا ِ‬ ‫جميعا ا كان من الممكن بنا ُء نظر َّي ٍة نحو َّي ٍة جام َِع ٍة ُتناسِ ُ‬
‫القرن الثامن عشر لسيما في فرنسا ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المنطقي العقالنِ ُّي ح َّتى‬ ‫ُّ‬ ‫استمر هذه الت َّيا ُر‬
‫وحتى ذلك التاريخ كان اللغويون يعتدُّون باللغة المكتوبة ‪ ،‬ثم بدأ اهتمام اإلنكليز‬
‫ينصب على اللغة المنطو َق ِة‪ ،‬األم ُر الذي كان ُي َع ُّد شيئا ا مبتكراا في ذلك الوقت ؛ ذلك‬ ‫ُّ‬
‫صها المكتو َبة‬ ‫اللغة الالتين َّي َة ونصو َ‬
‫َ‬ ‫ت اللغو َّي ِة كانت‬ ‫سا ِ‬ ‫سائ َدة في ال ِّد َرا َ‬ ‫أنَّ الل َغ َة ال َّ‬
‫إلى أن استقلت اللغات القومية كالفرنسية واإلسبانية واإليطالية ‪ ،‬والتي كانت‬
‫مجرد لهجات ُي ْن َظر إليها نظر اة دُونِ َّي اة ‪.‬‬
‫وفي النصف األخير من القرن الثامن عشر جرى تحول مناهض لتيار منطقية‬
‫اللغة‪ .‬بحيث انفكت الدراسات اللغوية عن الفلسفة والمنطق‪ ،‬وذلك بنشأة بذور‬
‫المنهجين المقارن والتاريخي‪ .‬وقد ارتبطت نشأة الدراسات التاريخية المقارنة في‬
‫منتصف القرن الثامن عشر بالحركة الستعمارية الحديثة التي سمحت لألوروبيين‬
‫التعرف على مختلف مآثر الحضارات الشرقية القديمة أثناء احتاللهم لكثير من‬
‫البلدان األسيوية وخاصة الهند‪ .‬حيث كان وليام جونس ‪ -‬الذي عمل قاضيا في‬
‫كلكوتا ‪ -‬المبشر الحقيقي بعلم اللغة التاريخي المقارن الذي تأسس في القرن‬
‫التاسع عشر‪.‬‬
‫وكان أهم حدث لغوي هو كشف سير وليام جونز اإلنجليزي سنة ‪1384‬م للغة‬
‫السنسكريتية ‪ ،‬والعالقة بينها وبين اليونانية والالتينية‪ ،‬وعكف على تحليل‬
‫النصوص المكتوبة في لغات مختلفة وتوصل إلى وجود عالقة بين كل من اللغة‬
‫الالتينية‪ ،‬واليونانية‪ ،‬والسنسكريتية توحي بنشوئها من مصدر واحد نتيجة ما‬
‫وثيقة بين اللغة السنسكريتية واللغة الالتينية واللغة‬ ‫ا‬ ‫لحظه أو ُج َه تشاب ٍه ورواب َط‬
‫اإلغريقية ‪( ،‬فعلى سبيل المثال كلمة ‪ frater‬الالتينية‪ ،‬وكلمة ‪ phrater‬اليونانية‪،‬‬
‫وكلمة ‪ bhratar‬في اللغة السنسكريتية تعني كلها (أخ(‬
‫ح ٍد ‪ ،‬فه َّيأ بذلك األذهان ل َت َق ُّبل‬ ‫أصل وا ِ‬‫ٍ‬ ‫ج ُع إلى‬ ‫صل َ إلى فكر ِة أنَّ هذه اللغات تر ِ‬ ‫فتو َّ‬
‫ص ِل إلى معرف ِة أو ُج ِه‬ ‫فكرة الدراسات اللغو َّي ِة المقارنة أو المنهج المقارن لل َّتو ُّ‬
‫ت ‪ ،‬وبال َّتالي محاولة بناء اللغ ِة األ ِّم التي انحدرت منها‬ ‫ف بينَ اللغا ِ‬ ‫ال َّتشا ُب ِه والختال ِ‬
‫ش ُ‬
‫قيقة‪.‬‬ ‫اللغات ال َّ‬‫ُ‬
‫كان لهذا الكشف نتائج بالغة األثر في سير الدراسات اللغوية ‪ ،‬وفي النهضة‬
‫اللغوية الحديثة ‪ ،‬حيث نتج عن معرفة اللغة السنسكريتية إدراك العالقة بينها وبين‬
‫اللغة اليونانية واللغة الالتينية وما تفرع عنهما من لغات ‪ ،‬وهكذا أخذ العلماء‬
‫يتكلمون عن مجموعة اللغات التي سموها عائلة اللغات الهندو أوربية‬
‫بدأت العلوم اللغوية بالظهور نتيجة عناية اإلنسان باللغة ‪ ،‬وذلك عندما شعر‬
‫تواصل ُت َم ِّيزه عن غيره ‪ ،‬وتستطيع أن ُت َخلِّد فكره ‪ ،‬وتحفظ‬
‫ٍ‬ ‫بأهميتها كونها أدا َة‬
‫آثاره ‪.‬‬
‫والعناية باللغة كانت في أكثر من مركز من مراكز الحضارات القديمة ؛ في الهند‬
‫واليونان وبالد الرافدين وبالد الشام ‪ ،‬لكنَّ ما نشأ في كل ِّ مركز من هذه المراكز‬
‫كان بمعزل ع َّما نشأ عند اآلخر‪ ،‬نتيجة لعدم التواصل بينهم ‪.‬‬
‫إن علم اللغة بوصفه علما مستقال قائما بذاته كان قد نشأ نشأة غربية خالصة في‬
‫بداية القرن العشرين‪ ،‬وإذا ما أخذنا بالعتبار أن العلم كائن باستخدام منهج علمي‬
‫في البحث والدراسة فإن نشأة علم اللغة تمتد بجذورها إلى القرن التاسع عشر‬
‫الذي تميزت فيه الدراسات اللغوية باستخدام المنهج المقارن والمنهج التاريخي‪.‬‬
‫إخضاع َ‬
‫اللغ ِة لقوا ِع ِد‬ ‫ُ‬
‫محاولة‬ ‫سادت في هذه الفترة فكرةُ منطقِ َّي ِة الل َغ ِة ‪ ،‬أي‬
‫ِ‬
‫المنطق‪ ،‬والطرح األساسي ألصحاب تيار منطقية اللغة يتمثل بالقول‪( :‬أنَّ ال َّن َما ِذ َج‬
‫ال َّنحو َّي َة ينبغي أن تتطابق مع متطلَّبات المنطق‪ ،‬ولَ َّما كان المنطِ ُق واحداا عند البشر‬
‫ت جميعا ا)‬ ‫جميعا ا كان من الممكن بنا ُء نظر َّي ٍة نحو َّي ٍة جام َِع ٍة ُتناسِ ُ‬
‫ب جوهر اللغا ِ‬
‫القرن الثامن عشر لسيما في فرنسا ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المنطقي العقالن ُِّي ح َّتى‬
‫ُّ‬ ‫استمر هذه الت َّيا ُر‬
‫وحتى ذلك التاريخ كان اللغويون يعتدُّون باللغة المكتوبة ‪ ،‬ثم بدأ اهتمام اإلنكليز‬
‫ينصب على اللغة المنطو َق ِة‪ ،‬األم ُر الذي كان ُي َع ُّد شيئا ا مبتكراا في ذلك الوقت ؛ ذلك‬ ‫ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت اللغو َّي ِة كانت اللغة الالتين َّية ونصو َ‬
‫صها المكتو َبة‬ ‫سا ِ‬
‫سائ َدة في ال ِّد َرا َ‬ ‫َ‬
‫أنَّ الل َغة ال َّ‬
‫إلى أن استقلت اللغات القومية كالفرنسية واإلسبانية واإليطالية ‪ ،‬والتي كانت‬
‫مجرد لهجات ُي ْن َظر إليها نظر اة دُونِ َّي اة ‪.‬‬
‫وفي النصف األخير من القرن الثامن عشر جرى تحول مناهض لتيار منطقية‬
‫اللغة‪ .‬بحيث انفكت الدراسات اللغوية عن الفلسفة والمنطق‪ ،‬وذلك بنشأة بذور‬
‫المنهجين المقارن والتاريخي‪ .‬وقد ارتبطت نشأة الدراسات التاريخية المقارنة في‬
‫منتصف القرن الثامن عشر بالحركة الستعمارية الحديثة التي سمحت لألوروبيين‬
‫التعرف على مختلف مآثر الحضارات الشرقية القديمة أثناء احتاللهم لكثير من‬
‫البلدان األسيوية وخاصة الهند‪ .‬حيث كان وليام جونس ‪ -‬الذي عمل قاضيا في‬
‫كلكوتا ‪ -‬المبشر الحقيقي بعلم اللغة التاريخي المقارن الذي تأسس في القرن‬
‫التاسع عشر‪.‬‬
‫وكان أهم حدث لغوي هو كشف سير وليام جونز اإلنجليزي سنة ‪1384‬م للغة‬
‫السنسكريتية ‪ ،‬والعالقة بينها وبين اليونانية والالتينية‪ ،‬وعكف على تحليل‬
‫النصوص المكتوبة في لغات مختلفة وتوصل إلى وجود عالقة بين كل من اللغة‬
‫الالتينية‪ ،‬واليونانية‪ ،‬والسنسكريتية توحي بنشوئها من مصدر واحد نتيجة ما‬
‫ا‬
‫وثيقة بين اللغة السنسكريتية واللغة الالتينية واللغة‬ ‫لحظه أو ُج َه تشاب ٍه ورواب َط‬
‫اإلغريقية ‪( ،‬فعلى سبيل المثال كلمة ‪ frater‬الالتينية‪ ،‬وكلمة ‪ phrater‬اليونانية‪،‬‬
‫وكلمة ‪ bhratar‬في اللغة السنسكريتية تعني كلها (أخ))‬
‫ح ٍد ‪ ،‬فه َّيأ بذلك األذهان ل َت َق ُّبل‬ ‫أصل وا ِ‬
‫ٍ‬ ‫صل َ إلى فكر ِة أنَّ هذه اللغات تر ِ‬
‫ج ُع إلى‬ ‫فتو َّ‬
‫فكرة الدراسات اللغو َّي ِة المقارنة أو المنهج المقارن لل َّتو ُّ‬
‫ص ِل إلى معرف ِة أو ُج ِه‬
‫ت ‪ ،‬وبال َّتالي محاولة بناء اللغ ِة األ ِّم التي انحدرت منها‬ ‫ف بينَ اللغا ِ‬ ‫ال َّتشا ُب ِه والختال ِ‬
‫ش ُ‬
‫قيقة ‪.‬‬ ‫اللغات ال َّ‬
‫ُ‬
‫كان لهذا الكشف نتائج بالغة األثر في سير الدراسات اللغوية ‪ ،‬وفي النهضة‬
‫اللغوية الحديثة ‪ ،‬حيث نتج عن معرفة اللغة السنسكريتية إدراك العالقة بينها وبين‬
‫اللغة اليونانية واللغة الالتينية وما تفرع عنهما من لغات ‪ ،‬وهكذا أخذ العلماء‬
‫يتكلمون عن مجموعة اللغات التي سموها عائلة اللغات الهندو أوربي‬
‫ثانيا ا‪ :‬مظاهر تطورالدراسات اللغوية فى القرن التاسع عشر‪:‬‬
‫نشأة علم اللغة التاريخي ‪ /‬المقارن‬
‫من المألوف فى علم اللغة أن يقال إن القرن التاسع عشر كان هو عصر الدراسة‬
‫التاريخية والمقارنة للغات‪ .‬وبوجه أخص اللغات الهندوأوروبية‪ ،‬وهذا أمر مسوغ‬
‫بشكل كبير‪ .‬وإن كانت الدراسات المقارنة والتاريخية قد ظهرت في القرن الثامن‬
‫عشر إل القرن التاسع عشر قد شهد تطور المفاهيم النظرية والمنهجية الحديثة‬
‫لعلم اللغة التاريخي والمقارن‪ ،‬كما أن التركيز األكبر للجهود العلمية والمقدرة‬
‫العلمية فى علم اللغة كان مكرسا لهذا الجانب من الموضوع أكثر من غيره من‬
‫الجوانب ‪.‬‬
‫ولم يكن جونز نفسه هو الذي وضع منهج البحث المقارن‪ ،‬وإن كان هو الذي‬
‫اقترحه‪ ،‬ولكن تبعه مباشرة علماء مثل شليجل‪ ، Schlegel‬ورسك ‪ Rask,‬وبوب‬
‫‪ ،Bopp‬وجريم‪ ، Grimm‬وفرنر ‪ Verner.‬وقد كان المنهج ‪-‬في أساسه‪ -‬بسيطا‪.‬‬
‫احصل على أقدم األشكال الثابتة‪ ،‬وعلى أقدم الكلمات لكل فرع من فروع اللغات‬
‫الهندية األوربية‪ ،‬ثم ضعها بعضها بجانب بعض‪ ،‬وصف ما بينها من مشابهات‬
‫واختالفات ثم حاول أن تركب ‪-‬عن طريق استخالص األشياء المشتركة الغالبة‪-‬‬
‫الصيغة المحتملة للغة األم‪ .‬ولم يكن بالطبع يقدر لهذا المنهج أن يقبل‪ ،‬إل بعد‬
‫إثبات العالقة بين الالتينية واليونانية‪ ،‬والسنسكريتية والسالفية القديمة‪ ،‬والكلتية‬
‫القديمة ‪ ...‬إلخ‪ ،‬وانتمائها جميعا لعائلة واحدة وتفرعها من أصل واحد‪ ،‬أو لغة‬
‫مشتركة‪ .‬ول بد لنا أن نعترف بفضل الريادة‪ ،‬وتقديم األسس الدقيقة المقبولة لهذه‬
‫النظرية للسير وليم جونز‪ ،‬على الرغم من اعترافنا بأن معظم الشواهد والتطبيقات‬
‫قد تمت على يد كتاب متأخرين‪.‬‬
‫تصنيف اللغات على أساس القرابات اللغوية‪genetic classification‬‬
‫اتجه البحث اللغوي في القرن التاسع عشر نحو المقارنة بين اللغات المتشابهة‪،‬‬
‫ونتج عنه تصنيف اللغات على أساس القرابات اللغوية ‪genetic‬‬
‫‪ ،classification‬وأطلق على عناصر تشابه اللغات مصطلح صلة القرابة‬
‫‪genetic relationshipgs‬وكونوا عائالت لغوية صاغوها على شكل (شجرة‬
‫عائلة) لكل مجموعة من اللغات ذات المنشأ الواحد من أبرزها‬
‫‪-‬شجرة اللغات الهندو أوروبية‪ :‬وتضم السنسكريتية‪ ،‬واليونانية‪ ،‬والالتينية‪،‬‬
‫واإلنجليزية‪ ،‬واأللمانية‪ ،‬ولغات أوروبية وأسيوية أخرى‪.‬‬
‫‪-‬شجرة اللغات السامية التى تضم أيضا اللغات العبرية واآلرامية واألكادية‬
‫والحبشية‬
‫وكان نتاج هذه الدراسات علم اللغة المقارن‪ ،‬الذي اعتمد المنهج المقارن في‬
‫تحديد أفراد األسر اللغوية‪ ،‬وذلك على النحو التالي ‪:‬‬
‫‪ -1‬دراسة أوجه التشابه بين مجموعة من اللغات في الظواهر الصوتية والصرفية‬
‫والنحوية والمعجمية‪ .‬ثم دراسة كيفية تشكل كلمات اللغات المختلفة لتكوين معاني‬
‫متشابهة‪ .‬وإذا ما أسفرت الدراسة عن وجود تشابه في هذه الجوانب فهذا يؤدي‬
‫إلى الستدلل على أنها انحدرت من أصل واحد مشترك أي من اللغة األولى التى‬
‫خرجت عنها هذه اللغات على مر التاريخ ‪.‬‬
‫‪ - 2‬للتعرف على تاريخ انفصال لغات عائلة لغوية عن بعضها البعض يستخدم‬
‫اللسانيون كلمات يسمونها (الكلمات الثوابت) تتميز بخاصية الثبات وعدم التغير‬
‫على مر الزمن كون أصحاب اللغة يقاومون تغيير هذه الكلمات ألن لها قيمة ثقافية‬
‫خاصة مثل كلمات (أم ـ أب ـ أخ ـ رأسـ عين ـ أرض ‪ ..‬الخ) فيقوم اللغويون بجمع‬
‫هذه الكلمات في قوائم كل قائمة تخص لغة معينة من العائلة اللغوية‪ ،‬ويجرون‬
‫عليها عمليات رياضية إحصائية‪ ،‬يستخلصون من نتائجها التاريخ الذي انفصلت‬
‫فيه هذه اللغات عن اللغة األم‬
‫إن المقارنة على هذا النحو ل تعتمد على المنهج المقارن فحسب‪ ،‬إنما هي تتضمن‬
‫أيضا استخدام المنهج التاريخي‪ ،‬بما أن المقارنات ل تعتمد على لغات متواجدة في‬
‫فترة زمنية واحدة‪ ،‬فهي تتطلب ول شك دراسة تاريخية لربط اللغات بأصل‬
‫معروف أو تخميني‪ .‬لذلك‪ ،‬كان علم اللغة المقارن ‪linguistics comparative‬‬
‫سا‬‫بمفهوم القرن التاسع عشر يعني تماما علم اللغة التاريخي‪ .‬إنه يحوي أسا ا‬
‫منهجا للبحث بواسطته توضع مجموعة من اللغات ‪-‬عادة في أشكالها المؤكدة‬ ‫ا‬
‫القديمة‪ -‬بعضها بجانب بعض بقصد الوصول إلى الروابط والعالقات بينها‪.‬‬
‫وبالوصول إلى ذلك يمكن فرض صورة اللغة األم التي تفرعت منها هذه اللغات‪،‬‬
‫والتي لم تصلنا مادتها فعال‪.‬‬
‫وء والرتقاء‪،‬‬ ‫ش ِ‬ ‫َار ِون ) في ال ُّن ُ‬ ‫في منتصف القرن ال َّتاسِ َع عشر ظهرت نظرية ( د ْ‬
‫آراء تأثيراا كبيراا في ُمعاصِ ريه‬ ‫ٍ‬ ‫َار ِون فيها من‬ ‫وأح َد َث ْت هذه ال َّنظر َّي ُة وما َق َّد َمه د ْ‬
‫ْ‬
‫اللسانيات ‪ -‬على يد‬ ‫ُ‬ ‫المث َّقفينَ ‪ ،‬فأرادوا تطبيقها على العلوم األخرى ‪ -‬ومن بينها‬
‫العالِم األلماني ( أوغست شاليجر‪ August Achleicher 1821-1868‬م ) الذي‬
‫ت اللغو َّي ِة‪.‬‬‫مجال المقارنا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ع ِمل َ في‬
‫‪-‬رأى شاليشر – متأ ِّثراا بنظرية دارون – أنَّ اللغة كائنٌ َح ٌّي ُمس َتقِل ٌّ عن اإلنسان ؛‬
‫َث منها ل َت ُحل َّ‬ ‫أحد َ‬ ‫ب الحياة لِلُغ ٍة أخرى ْ‬ ‫فهي ُتولَد وتعيش لفترة ُمح َّد َد ٍة ‪ ،‬ثم َت َه ُ‬
‫ش ِر َّي ِة‪.‬‬ ‫ت ال َب َ‬ ‫سالل ِ‬ ‫شج َر َة ال ُّ‬‫شب ُه َ‬‫سالل َّي ٍة ُت ِ‬
‫محلها ‪ ،‬فاللغة – إذاا ‪ -‬ذات شجرة ُ‬
‫واستنادا إلى شجرة النسب أخذ شاليشر بدراسة تطور اللغات التي تنتمي إلى‬
‫أسرة لغوية واحدة‪ ،‬وإن اعتمد أيضا على المقارنة‪ ،‬وبدل من البحث عن اللغة األم‬
‫من بين هذه اللغات المشتركة‪ ،‬رأى أنها تنحدر من لغة أولى لم يعد لها وجود‪،‬‬
‫فالظواهر المشتركة بين اليونانية والالتينة والسنسكريتية خرجت عن لغة قديمة‬
‫مفترضة‪ ،‬أطلق عليها اسم اللغة الهندية األوربية األولى‪(Proto-‬‬
‫)‪ ،Indoeuropean‬واللغات العربية والعبرية والفينيقية واآلكادية تحمل بعض‬
‫الخصائص األساسية المشتركة فهي لغات تشكل أسرة لغوية واحدة وبالتالي‬
‫انحدرت من أصل واحد دعي‪ :‬اللغة السامية األولى‪Proto-semitic .‬‬
‫بالنتيجة فإن تطور اللغات وفقا لشجرة النسب‪ ،‬يبدأ بالنقسام اللهجي البسيط‪ ،‬ثم‬
‫يتقدم التشعب اللهجي ويتزايد إلى أن يحدث انقسام وتمايز لغتين أو أكثر‪ ،‬وهذه‬
‫عملية طويلة ومتدرجة‪.‬‬
‫التصنيف التشكيلي للغات‪typological classification‬‬
‫على الرغم من شيوع المنهج التاريخي المقارن في القرن التاسع عشر‪ ،‬إل أننا ل‬
‫نعدم الدراسات التي كان لها ريادة في استخدام المنهج الوصفي الذي انطبعت فيه‬
‫الدراسات اللغوية في القرن العشرين‪ ،‬وقد تمثل ذلك في التصنيف التشكيلي‬
‫‪typological classification‬الذي ربما يكون أو ل يكون قد بني على عوامل‬
‫تاريخية‪ ،‬فيهتم أول بالتركيب الحديث للغة حيث صنف اللغات بناء على أبنيتها‬
‫الصرفية ‪ ،‬ولذا فهو في جزئه األعظم وصفي‪ .‬أما األنواع العامة للغات كما طرحها‬
‫شليجل فهي ‪:‬‬
‫‪-‬اللغات العازلة ‪ :‬أو اللغات الجذر َّي ُة ‪ ،‬كاللغة الصينِ َّيةِ‪ ،‬وهي اللغات التي كل‬
‫ت ال َّنحو َّي ِة والوظائف التركيبِ َّي ِة‬
‫كلماتها ثابتة غير متغيرة‪ ،‬و ُي َع َّبر فيها عن العالقا ِ‬
‫عن طريق ترتيب الكالم‪.‬‬
‫‪-‬اللغات اإللصاق َّية ‪ ،‬كاللغة التركية‪ ،‬وتتركب كلماتها بعناصِ َر لغو َّي ٍة مختلفة‬
‫كاللواصِ ق ( سوابق ‪ ،‬لواحق ‪ُ ،‬م َ‬
‫قحمات‪) .‬‬
‫والعرب َّي ِة ‪ ،‬وهي اللغات التي يستحيل تقطيع‬
‫ِ‬ ‫‪-‬اللغات التصريفية ‪ :‬كالالتينِ َّي ِة‬
‫كلماتها ول وجود مستقل فيها للجذر إنما تشتق الكلمات بتكييف داخلي للجذر‪.‬‬
‫مدرسة القواعديين الشباب أو النحاة الشباب‬
‫ش َّكل َ في اللسان َّيات األورب َّي ِة ‪-‬‬ ‫ت القرن التاسع عشر َت َ‬ ‫ت أو ثمانين َّيا ِ‬ ‫في سبعين َّيا ِ‬
‫نظر اللِّسانِ ِّيينَ‬ ‫لسيما في ألمانيا ‪ -‬اتجاهٌ لسان ٌِّي جدي ٌد قام أنصا ُرهُ بنق ٍد حا ٍّد لوجهات ِ‬
‫أمثال ( فرانز بوب ) و (‬ ‫ِ‬ ‫قارنين‬ ‫التقليد ِّيينَ ‪ ،‬أو الجيل القديم من اللسانيين ال ُم ِ‬
‫الجيل‬
‫ِ‬ ‫أطلق ُم َم ِّثلو‬‫َ‬ ‫ياكوب غريم ) و (أوغست شاليجر ) ‪ ،‬وبسبب هذا النقد الحاد‬
‫القديم من اللسان ِّيينَ عليهم اس َم القواعديين الشباب تهوينا ا من شأنهم ‪ ،‬إلَّ أنَّ هذه‬ ‫ِ‬
‫سمية ُتس َتخ َد ُم ح َّتى اآلن َعلَ َما ا‬ ‫ُ‬ ‫سعِدَ ت بهذه التسمية ‪ ،‬وما زالت هذه التَّ‬ ‫الجماعة َ‬
‫وتصو َراتهم المنهج َّي َة‬ ‫ُّ‬ ‫على اللِّسا ِن ِّيينَ الذين يت َب َّن ْونَ وجهة نظرهم‬
‫قارن‬ ‫‪ -1‬يعود إليهم الفضل ُ في إضفاء النضِ َباطِ ال َّتا ِّم على المنهج ال َّتاريخي ال ُم ِ‬
‫شذو َذ‪.‬‬ ‫تعرف ال ُّ‬ ‫ُ‬ ‫صار َم ٍة ل‬
‫ِ‬ ‫وفق قوانينَ‬ ‫من خالل دراسة ال َّتغ ُّي َرات الصوتية َ‬
‫ت ( تذرير اللغة ) من خالل الفحص ال َّدقيق‬ ‫ذرا ٍ‬‫اللغة إلى َّ‬ ‫َ‬ ‫‪ -2‬كما أ َّنهم أحالوا‬
‫ب لكل ِّ‬ ‫تفسير مناس ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حلِها ‪ ،‬وحاولوا إيجاد‬ ‫تخص الل َغ َة في كل ِّ مرا ِ‬ ‫ُّ‬ ‫يل التي‬ ‫لل َّت َفاصِ ِ‬
‫صارم ِة التي حاولوا إيجادَها أو ال ُخ ُرو َج عن قواعدها ‪.‬‬ ‫استثناء من القواعد ال َّ‬ ‫ٍ‬
‫ور ِة ال ُكلِّ َّية للبني ِة اللغو َّي ِة بوصفِها نِ َظا َما ا ُم َت َكا ِمالا مؤلَّفا ا من‬ ‫ص َ‬ ‫َ‬
‫رؤية ال ُّ‬ ‫وبذلك افتقدوا‬
‫يوج ُد في اللغ ِة شي ٌء قائم لذاتِ ِه ُمس َتقِل ٌّ عن‬ ‫ب ‪ْ ،‬إذ ل َ‬ ‫األصوات واأللفاظِ وال َّتراكِي ِ‬
‫المكون ِة لل ُكل ِّ‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫األجزاء األخرى‬
‫ِ‬ ‫خالل ا ِّتحا ِد ِه مع‬
‫ِ‬ ‫غيره ول يمكنُ رؤي ُت ُه إلَّ من‬
‫شباب تاريخ اللغة ‪ ،‬ورأوا أنَّ المنهج‬ ‫‪-7‬إلى جانب ذلك درس القواعد ُّيونَ ال َّ‬
‫الرامية إلى‬ ‫أنسب معالَ َجة منهجية ُت َح ِّق ُق األهداف َّ‬ ‫َ‬ ‫اريخ َِّي في الدراسة يو ِّف ُر‬ ‫ال َّت ِ‬
‫ة للمعرفة ‪.‬‬ ‫المتابعة العمل َّي ِ‬
‫ملخص المحاضرة الرابعة‬
‫المحاضرة الخامسة‬
‫البحث اللغوي في القرن العشرين‬
‫مفردات المحاضرة‬
‫‪ -1‬البحث اللغوي في القرن العشرين‬
‫‪ -2‬المدرسة التركيبية األوربية وتشمل‪.‬‬
‫أ‪ -‬البنيوية األوربية‪:‬‬
‫ب‪ -‬مدرسة براج‪.‬‬
‫ج‪ -‬مدرسة كوبنهاجن‪.‬‬
‫‪-3‬المدرسة التركيبة االمريكية‬
‫‪ -4‬مدارس أخرى‪.‬‬
‫‪-5‬البحث اللغوي في العصر الحديث‪.‬‬
‫أوال‪:‬البحث اللغوي في القرن العشرين‪:‬‬
‫ْ‬
‫تبلورت فيه الكثير من القضايا‬ ‫حتى إذا أهل ّ القرن العشرون‬
‫والبحوث اللغو َّية‪ ،‬واستوت على عودها‪ .‬ولئن غلبت على القرن التاسع‬
‫عشر الصبغة التاريخ َّية‪ ،‬وجدنا للدراسات الوصف َّية الكلمة العليا في هذا‬
‫قائم على أسس‬‫كمنهج ٍ‬‫ٍ‬ ‫الوصفي‬
‫ِّ‬ ‫القرن‪ ،‬ففيه تبلورت حدود المنهج‬
‫ومبادئ محددة‪ .‬واالنصراف إليه في الغالب األعم عن الدراسات‬
‫خصوصا على يد العالم السويسري فردينان دي سوسير‪ ،‬الذي‬ ‫ً‬ ‫التاريخ َّية‪،‬‬
‫إسهامات كبيرةٌ في الدراسات الوصف َّية بل إنه يعتبر‬
‫ٌ‬ ‫لم يكن له فقط‬
‫مؤسس علم اللغة الحديث‬
‫وفي بدايات القرن العشرين ولد علم يسمى ” علم اللغة الحديث ” يبحث في‬
‫موضوع واحد هو ”اللغة“ ويحاول اعطاءنا صورة اجمالية عن القوانين التي‬
‫تتحكم في سلوكنا اللغوي ‪ ،‬ويضعنا أمام الطرائق التي تسلكها اللغات في بناء‬
‫جملها وصياغة مفرداتها ‪ ،‬وأساليب تعبيرها ونظامها الصوتي ‪ ،‬ونسأل أسئلة‬
‫شبه فلسفية من قبيل ‪ :‬ما اللغة وما وظائفها ؟ كيف نتعامل بها ؟ كيف نتعامل‬
‫معها ؟ كيف نتعلمها وكيف نعلمها ؟ كيف نحللها ؟ ‪....‬الخ ‪.‬‬
‫وقد وصل هذا العلم في عصرنا إلى قمة عالية ‪ ،‬إذ اصبح متشعبا عميقا ‪ ،‬قادرا‬
‫على استيعاب ثقافات العصر وتقنياته ‪ ،‬بفضل المناهج العلمية الصارمة والنظريات‬
‫الفلسفية المعقدة ‪ ،‬التي تحاول الوصول إلى أسرار العمليات اللغوية العقلية‬
‫وحسابها ‪ .‬أي إن هذا العلم أصبح أقرب ما يكون إلى روح العصر ‪.‬‬
‫ال يكاد يتجاوز تاريخ معرفتنا باالجتهادات اللغوية ودراساتها القرن السادس قبل‬
‫الميالد ‪ .‬منذ أول عالم لغوي عرفه التاريخ المدون ‪ ،‬وهو الهندي بانيني الذي‬
‫وصفته دائرة المعارف البريطانية بأنه أقدم نحوي معروف في العالم ‪ .‬وان كان‬
‫هناك من سبقه غير أن شيئا لم يصلنا من آثارهم ‪.‬‬
‫قدم بانيني أول بحث لغوي ناضج عن اللغة السنسكريتية (تعريفات ‪ ،‬قواعد‬
‫موجزة ‪ ،‬مشكالت صوتية وصرفية متعددة )‪.‬‬
‫وفي اليونان التي بدأت تستفيق من أحالمها الطوباوية وتدخل عصر الثقافة ‪،‬‬
‫فبدأت الفلسفة باالنتشار في أفنية أثينا ومجالسها الخاصة ‪،‬‬
‫وكان سقراط قد بدأ سجاله مع جورجياس حول الخطابة والكالم ‪،‬‬
‫وكان النحاة اإلغريق قد بدأ لغطهم الجميل حول اللغة حتى جاء أرسطو بدأت أول‬
‫مراحل العلمية الناضجة للبحث اللغوي التي أطلق عليها سوسير اسم ” الحركة‬
‫النحوية اإلغريقية ”‬
‫لقد حاولت هذه المرحلة اإلفادة من علم المنطق في وضع قيم معيارية تعليمية‬
‫لقواعد اللغة ‪ ،‬تنزع الى تمييز الصحيح من الخطأ ولقد بقيت أفكار هذه المرحلة‬
‫مسيطرة الى حقبة متأخرة وبالتحديد الى الربع األخير من القرن الثامن عشر حين‬
‫بدأت رياح االكتشافات الجغرافية والتاريخية تهب على أوربا ومع تلك الرياح‬
‫نشأت أفكار جديدة في معالجة اللغة ‪ .‬فظهر ما يطلق عليه عادة (( المرحلة‬
‫الفيلولوجية )) ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬المدرسة التركيبية األوربية وتشمل‪:‬‬
‫أ‪-‬البنيوية األوربية‪:‬‬
‫أول مدرسة لغوية حديثة هي مدرسة سوسير باسم مؤسسها فرناند دي سوسير‬
‫وبعض اللغويين يحلو لهم تسميتها مدرسة (جنيف)‬
‫غيرت هذه النظرية طبيعة التفكير اللغوي‪ ،‬ووضعت حدا فاصال بين عهدين من‬
‫الدراسة اللغوية‪ ،‬عهد الدراسة التقليدية الممتد من زمن األغريق حتى بداية القرن‬
‫العشرين‪،‬وعهد الدراسة الحديثة التي بدأت مع ظهور مدرسة سوسير ‪,‬‬
‫لقد قامت نظرية سوسير في دراسة اللغة على منهج جديد يستند الى أسس‬
‫محددة‪ ،‬ويتسم بسمات مخصوصة‪ ،‬لعل أهمها‪،‬هو النظر الى اللغة على انهانظام‬
‫من العالمات اللغوية‪،‬يرتبط بعضها ببعض بشبكة من العالقات‪،‬أو هي مجموعة‬
‫عناصر متشابكة‪،‬الينعزل فيها عنصر عن عنصر اخر داخل هذا النظام‪،‬فأذا خرج‬
‫عنصر من الشبكة‪،‬ولم تكن له عالقة بغيره‪،‬فقد قيمته ‪.‬‬
‫ونتيجة لنظرة سوسير هذه الى النظام اللغوي‪،‬وما يكونه من العناصر‪،‬فقد وقف‬
‫بعمله اللغوي عند حدود الوصف والتحليل والتفسير بطريقة علمية موضوعية‪.‬‬
‫يعتبر سوسير أول من قال بأن اللغة نظام من العالمات‪،‬أي أن اللغة مجرد نسق‬
‫منسجم‪،‬وهو بذلك يمثل فهما للواقع الخارجي‪،‬غير أن الفيلسوف هوسرن يذهب‬
‫إلى أن اللغة ُتوضع عبر نظام المنطق الذي يعطي االستواء للتنظيم اللغوي‪،‬كما‬
‫يدرس نظام اللغة و مورفولوجيا العالمات‪،‬و القواعد التي تمكن من تأسيس كالم‬
‫ذي معنى ‪.‬‬
‫ويذهب سوسير إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية نفسية‪.‬وهكذا تعامل سوسير مع‬
‫اللغة كموضوع للدرس اللساني‪،‬وذلك من خالل المبدأ القيم‪،‬وهو دراسة اللغة في‬
‫حد ذاتها‪،‬و لذاتها‪.‬هكذا يبدو لنا ابتعاد سوسير عن االعتقاد الذي كان سائدا في‬
‫القديم‪.‬حيث إن اللغوي القديم‪،‬كان يدرس اللغة ال من أجلها‪،‬ولكن من أجل غايات‬
‫غير لغوية ‪.‬‬
‫أما لفي ستراوس‪،‬فينظر إلى دراسة سوسير للغة بوصفها نسقا مستقال بذاته‪،‬نسقا‬
‫يقوم على التشبت بعالقة فاعلة تصل مكونات العالمة اللغوية‪،‬أي تصل بين نسق‬
‫اللغة و الكالم الفردي من جهة‪،‬و بين الصورة الصوتية(الدال) والمفهوم(المدلول)‬
‫من جهة ثانية ‪.‬‬

‫أ‪-‬مدرسة براج‪:‬‬
‫المدرسة الوظيفية مدرسة (براغ) (‪ )fonctionnelle‬مع ياكوبسن ومارتيني‪:‬‬

‫‪ -1‬مبادئها‪:‬‬
‫أوالا‪ :‬وضعت هذه المدرسة نظرية كاملة في التَّحليل الفونولوجي‪.‬‬

‫ثانياا‪ :‬تحديد الوظيفة الحقيقية للغة‪ ،‬التي تتمثل بـ (االتصال)‪.‬‬

‫ثالثاا‪ :‬اللغة ظاهرة طبيعية‪ ،‬ذات واقع مادي يتصل بعوامل خارجة عنه‪.‬‬

‫راب اعا‪ :‬الدعوة إلى الكشف عن تأثر اللغة بكثير من الظواهر العقلية والنفسية‬
‫واالجتماعية‪.‬‬
‫مدرسة(براغ)‪،‬فقد أفادت هذه المدرسة كثيرا من أصول مدرسة سوسير‪،‬لكنها‬
‫االخر ‪.‬‬ ‫بعضها‬ ‫وطورت‬ ‫األصول‬ ‫بعض‬ ‫غيرت‬
‫وكان من أشهرمؤسسي مدرسة براغ (نيكوالي تروبتسكوي ت ‪)8391‬و(رومان‬
‫ياكيسون‬

‫ت‪.8311‬‬

‫‪-1‬نظريتها‬
‫لقد وضعت هذه المدرسة نظرية كاملة في التحليل الفونولوجي‪،‬وأقامت هذه‬
‫النظرية على تصور خاص للفونيم‪،‬ولم يكن هذا التصور اال منبعثا من ثنائية‬
‫(الكالم )‬ ‫و‬ ‫(اللغة)‬ ‫وهي‬ ‫المعروفة‬ ‫سوسير‬
‫فالفونيم عند (تروبتسكوي)يكون مرة من (اللغة)بوصفها نظاما متعارفا عليه في‬
‫بيئة معينة‪ ،‬ويكون مرة أخرى من (الكالم)الذي هو ممارسة فعلية فردية للفرد ‪..‬‬
‫والفونيم هنا يدرس ضمن فرع من علم اللغة هو (علم األصوات اللغوية)‪،‬وحين‬
‫يكون الفونيم من الكالم فأنه ينضم الى غيره من الوحدات الصوتية األخرى لبناء‬
‫مفردة معينة‪،‬يكون لها معنى خاص والفونيم هنا تكون له وظيفة لغوية وأثر في‬
‫المعنى‪ ،‬فإذا استبدلنا وحدة صوتية بأخرى اختلف معنى المفردة وصارت كلمة‬
‫اخرى‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك الفونيم(ن) الذي يكون معزوال عن غيره ويكون مرة‬
‫الكالمي ‪,‬‬ ‫الحدث‬ ‫عناصر‬ ‫من‬ ‫عنصرا‬ ‫أخرى‬
‫وذلك اذا أنضم الى غيره وتألفت مفردة‪ ،‬كقولنا(نام) اذا استبدلنا به(ق) اصبحت‬
‫المفردة(قام) فقد تغيرت الكلمة واصبح لها معنى اخر‪.‬‬
‫من بين الفرضيات العامة لمدرسة براغ نجد ما يلي ‪:‬‬
‫‪-‬اعتبار اللغة كنظام وظيفي‪،‬وذلك ألن اللغة الناتجة عن العمل اللساني إنما هي‬
‫نظام لوسائل التعبير‪،‬حيث الهدف و تحقيق مقاصد كل متكلم في التعبير و‬
‫التواصل ‪.‬‬
‫‪-‬التأكيد على أن أحسن طريقة لمعرفة جوهر اللغة هو التحليل السانكروني لضمان‬
‫الفعلية ‪.‬‬
‫‪-‬على اللساني االهتمام بالدراسة الفونيتيكة‪ ،‬و الدراسة الفونولوجية للنظام‬
‫اللغوي ‪.‬‬
‫يعتبر "تروبتسكوي" المشرع الحقيقي ألفكار مدرسة براغ‪،‬كما ساعده وطور‬
‫مفاهيمه "ياكبسون"‪،‬إذ انصب اهتمامهما حول النظريات الفونولوجية‪.‬‬
‫وعموما فمدرسة براغ مرتبطة بسوسير و مبادئه األساسية؛إذ تنطلق المدرسة من‬
‫تقسيم سوسير للغة و الكالم‪،‬كما يردد تروبتسكوي فكر َة سوسير حول اعتبار اللغة‬
‫الجماعة‪.‬‬ ‫أعضاء‬ ‫وعي‬ ‫في‬ ‫يوجد‬ ‫نظاما‬

‫ثالثا ً‪ :‬المدرسة النَّسقية مدرسة (كوبنهاكن) (‪ )glossématique‬مع هلمسليف‪:‬‬


‫أ‪ -‬التعريف بها‪:‬‬
‫المدرسة اللغوية الثالثة هي مدرسة(كوبنهاكن) التي اسسها عالم اللغة الدنماركي‬
‫(هلمسلف المولود عام ‪، 8133‬ومن أبرز علمائها (اتويسيرسن ت‪). 8399‬‬
‫لقد قامت هذه المدرسة على كثير من مبادئ مدرسة(جنيف)ثم مدرسة(براغ)‪،‬وقد‬
‫أطلق(هلمسلف)على هذه المدرسة(الجلوسيماطيقا) وهي كلمة مشتقة من اليونانية‬
‫وتعني اللغة أو اللسان ‪.‬‬

‫ب‪-‬ومن أهم مبادئ هذه المدرسة‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬اللغة ليست مادة‪ ،‬وإنَّما هي صورة أو شكل‪.‬‬

‫ثانياا‪ :‬جميع اللُّغات تشترك في أنها تُعبِّر عن محتوى‪.‬‬

‫ثالثاا‪ :‬يوضع لتحليل اللغة نظرية صورية رياضية تصدق على جميع اللغات‪.‬‬

‫راب اعا‪ :‬تقوم على النقد الحاد للسانيات التي سبقتها وحادت في نظرها عن مجال‬
‫اللغة بانتصابها خارج الشبكة اللغوية‪.‬‬

‫سا‪ :‬تقوم على النسقية التي تنصب على داخل اللغة‪ ،‬فهي تصدر منها وإليها وال‬ ‫خام ا‬
‫تخرج عن دائرة اللغة المنظور إليها على أنَّها حقل مغلق على نفسه وبنية لذاتها‪.‬‬

‫سا‪ :‬تسعى إلى إبراز كل ما هو ُمشترك بين جميع اللغات البشرية‪ ،‬وتكون اللغة‬
‫ساد ا‬
‫بسببه هي مهما تبدل الزمن وتغيرت األحداث‪.‬‬
‫ب‪ -‬مميزاتها‪:‬‬
‫‪-8‬تميزت هذه المدرسة بالنظر الى اللغة ليست مادة‪،‬وانما هي صورة أو شكل‪،‬وان‬
‫جميع اللغات تشترك في انها تعبر عن محتوى‪،‬وما دامت اللغة‬
‫هي(بنية)و(شكل)و(نظام)فريد قائم بذاته‪،‬استدعى ذلك أن توضع لتحليلها نظرية‬
‫صورية رياضية تصدق على جميع اللغات ‪.‬‬
‫ومعنى هذا ان نظرية مدرسة (كوبنهاكن) هي محاولة إلنشاء بناء منطقي‬
‫رياضي‪،‬يستند الى جهاز من التعريفات والمصطلحات‪ ،‬وقد أضفى عليها هذا‬
‫التصور الجديد للغة ضربا من الصعوبة‪،‬فلم يحالفها الحظ في األنتشار‪،‬على نحو ما‬
‫انتشرت مدرستا جنيف وبراغ‪.‬‬
‫‪-1‬تعتبر هذه المدرسة‪،‬أهم التيارات البنيوية الحديثة في اللسانيات‪.‬وقد عرفت هذه‬
‫المدرسة بالكلوسيمائية التي اعتمدت المنهج التحليلي و االستنباطي‪،‬وقد درست‬
‫اللغة أيضا على أنها صورة ‪forme‬و ليست مادة‪ ، substance‬و اعتبرت اللغة‬
‫حالة خاصة من النظام السيميائي ‪.‬‬
‫ومن اللسانيين المتقدمين في مدرسة كوبنهاجن‪،‬نجد "بروندال" ‪،‬الذي حاول إيجاد‬
‫المفاهيم المنطقية و الطبيعية داخل اللغة‪،‬وقد كتب في "أقسام الكالم" أن فلسفة‬
‫اللغة لها موضوع‪ ،‬وهو البحث عن عدد المقوالت اللسانية وتحديدها‪.‬أما يمسليف‪،‬‬
‫فقد كان شارحا آلراء سوسير‪،‬إذ كانت آراؤه عبارة عن نظريات سوسيرية‪،‬خاصة‬
‫فيما يتعلق بالعالمة اللغوية‪ ،‬أو العالقات‪،‬أو صورية اللغة‪.‬وذلك أنه انطالقا من‬
‫التصور المنطقي‪،‬الصوري للغة‪،‬يجب وجود نظرية للعالمة‬
‫ثالثا ا‪ :‬المدرسة التركيبية األمريكية‪:‬‬
‫من المدارس اللسانية األمريكية‪:‬‬

‫(‪ )1‬مدرسة (سابير) المتوفى عام ‪1333‬م‪ :‬ومن أهم مبادئ هذه المدرسة‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬فكرة (النماذج اللغوية)‪ :‬أنَّ ُك َّل إنسا ٍن يحمل في داخله المالمح األساسية‬
‫لنظام لغته‪.‬‬

‫ثانياا‪ :‬فكرة العالقة الوثيقة بين ثقافة شعب ما ولغته‪.‬‬

‫ثالثاا‪ :‬اللغة نظام من األصوات اإلنسانية‪ .‬راب اعا‪ :‬وضع من تصور جديد (للفونيم)‪.‬‬

‫(‪ )2‬المدرسة التوزيعية (‪ )distributionnelle‬أو(المدرسة السلوكية) مع‬


‫بلومفيلد‪:‬‬

‫صاحب هذه المدرسة التي أنشئت حوالي ‪ 0391‬بالواليات المتحدة هو بلومفيلد وضعها كمنهج‬
‫لساني بنائي محض وكرد فعل ضد القائلين بالنحو النظري (المتصور في األذهان فقط)‪ .‬ورد فعلة‬
‫هذا انطلق فيه من معطيات التجربة الفعلية التي تبين أن أجزاء الكالم ال تنتظم في اللغة بالصدفة‬
‫وال باالعتباط وإنما باالتساق مع األجزاء األخرى التي تندرج فيها وفي أوضاع بعينها دون أوضاع‬
‫أخرى وهي مالحظة قديمة جدا لكنها لم تؤسس كمنهج قائم بذاته إالّ منذ بلومفيلد وقد تأثر فيها‬
‫بما كان يشاهد من تعدد اللغات في أمريكا كما تأثر بآراء بيهفيور ونظريته السلوكية التي تجعل‬
‫ردود الفعل اللسـانية كغيرها من الردود تخضع القانون اإلثارة‪ .‬هناك منبة (إثارة) تؤدي إلى‬
‫االستجابة برد الفعل‪ .‬فالكالم هو اآلخر مبني على اإلثارة ‪stimulus‬والرد (في نوع من العطاء‬
‫واألخذ للفعل المحرك وفعل االستجابة من السامع والرسالة الكالمية ينحصر معناها في هذا‬
‫التبادل بجملة بين المنبه والمجيب‪ ،‬وما الكالم إالّ تحريك للمعنى وللسامع وارتداد منهما نحو‬
‫اللفظ والمتكلم‪ .‬فاألمر يتعلق إذا بوصف أجزاء الكالم التي تحرك وتسبب اإلثارة واألجزاء التي‬
‫تنبه وال تقتضي الجواب‪ .‬وهذا يستوجب االنطالق من مدونة تجمع أصنافا من الكالم في أحوالها‬
‫ومقاماتها المختلفة الكتشاف أي األجزاء يحرك األجزاء األخرى‪ ،‬وأيهما ال يحركها عند التركيب‪،‬‬
‫فالعناصر التي يؤدي وجودها بجوار عنصر آخر إلى تغيير البنية يسمى التوزيع (مثل ما تؤدي كيفية‬
‫توزيع األوراق في اللعب إلى تغيير اللعبة والنتيجة)‪ .‬فالعناصر التي تحيط بالمنبه وتجعل لدعمه أو‬
‫إلبطال مفعول البنية هي التي تشكل مادة التوزيع‪.‬‬

‫ومن أهم مبادئ هذه المدرسة‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬اللغة (مادة) قابلة لل ُمالحظة ال ُمباشرة‪.‬‬

‫سلوك‬
‫ثانياا‪ :‬دراسة المعنى قد تعوق الوصول إلى القوانين العامة التي تحكم ال ُّ‬
‫اللغوي‪.‬‬

‫(‪ )3‬المدرسة التوليدية التحويلية (‪:)Transformational-Generative‬‬

‫لقد نشر تشومسكي[‪ ]1‬كتابه األول عام ‪1351‬م‪ ،‬وكان كتاباا ضئيل الحجم ُمقتضباا‪،‬‬
‫وكانت أفكاره غير ُمقيَّدة بالتَّناول العلمي والفني لقضايا هذا العلم إلى ح ٍّد ما‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فقد كان الكتاب ثورةا في الدِّراسة العلمية للغة؛ ظ َّل تشومسكي بعدها يتحدَّث‬
‫بسطوة ُمنقطعة النَّظير في كافة نواحي النَّظريَّة النَّحويَّة لسنوات طويلة [‪ .]2‬ويرى‬
‫بعض الباحثين أنَّه "ال يعترف تشومسكي نفسه بفضل سوسير في مجال‬
‫اللغويات"[‪ .]3‬ويتحدث تشومسكي ع َّما يُس ِّميه "النَّحو العالمي"‪ ،‬وهو تعبير عن‬
‫الثَّوابت اللغوية العالمية‪ ،‬ولذا يُنكر تشومسكي وجود لغات بدائية‪ ،‬تماما ا كما يُنكر‬
‫كلود ليفي شتراوس وجود نظم معرفية بدائية أو ما يُس َّمى "قبل المنطقي"[‪.]4‬‬

‫والنَّحو التَّوليدي هو نظرية لسانية وضعها تشومسكي‪ ،‬ومعه علماء اللِّسانيات فـي‬
‫المعهد التكنولوجي بماساشوسيت (الواليات المتحدة) فيما بين ‪1391‬م و‪1395‬م‬
‫بانتقاد النَّموذج التَّوزيعـي والنَّموذج البنيوي؛ فـي مقوماتهما الوضعية ال ُمباشرة‪،‬‬
‫باعتبار أنَّ هذا التَّصـور ال يصف إالّ الجمل ال ُمنجزة بالفعل‪ ،‬وال يمكنه أن يفسر‬
‫عدداا كبي ارا من ال ُمعطيات اللِّسانيَّة؛ مثل‪ :‬االلتباس‪ ،‬واألجزاء غير ال ُمتَّصلة ببعضها‬
‫البعض؛ فوضع هذه النَّظرية لتكون قادرةا على تفسير ظاهرة اإلبداع لدى ال ُمتكلِّ ِم‪،‬‬
‫وقدرته على إنشاء جمل لم يسبق أن ُوجدت أو فُهمت على ذلك الوجه الجديد‪]5[.‬‬
‫والنحو يتمثَّل في مجموع المحصول اللِّساني الذي تراكم في ذهن ال ُمتكلم باللغة‬
‫يعني الكفاءة (‪ )competence‬اللِّسانية‪ ،‬واالستعمال الخاص الذي ينجزه المتكلم‬
‫في حال من األحوال الخاصة عند التخاطب والذي يرجع إلى القدرة‬
‫(‪ )performance‬الكالمية‪ .‬والنحو يتألف من ثالثة أجزاء أو مقومات[‪:]9‬‬
‫• مقوم تركيبي‪ :‬ويعني نظام القواعد التي تحدد الجملة المسموح بها في تلك اللغة‪.‬‬

‫• مقوم داللي‪ :‬ويتألف من نظام القواعد التي بها يتم تفسير الجملة ال ُمولَّدة من‬
‫التَّراكيب النحويَّة‪.‬‬

‫• مقوم صوتي وحرفي‪ :‬يعني نظام القواعد التي تنشئ كال اما ُمقطَّ اعا من األصوات‬
‫في جمل ُمولَّدة من التركيب النحوي‪.‬‬

‫• والشبكة النحوية (‪ :)composante‬يعني البنية النحوية‪ ،‬وهي مكونة من‬


‫قسمين كبيرين‪ :‬األصل‪ :‬الذي يُحدِّد البنيات األصلية‪.‬‬

‫والتحويالت‪ :‬التي تُم ِّكن من االنتقال من البنية العميقة ال ُمتولَّدة عن األصل إلى‬
‫البنية الظاهرة التي تتجلى في الصيغة الصوتية‪ ،‬وتصبح بعد ذلك ُجمالا ُمنجزة‬
‫بالفعل‪]1[.‬‬

‫تمس بالتَّحويل؛‬
‫ّ‬ ‫وعمليات التَّحويل‪ :‬تقلب البنيات العميقة إلى بنيات ظاهرة دون أن‬
‫أي‪ :‬بالتأويل الداللي الذي يجري في مستوى البنيات العميقة‪ .‬أ َّما التحويالت التي‬
‫كانت وراء وجود بعض المقومات فإنَّها تتم في مرحلتين‪:‬‬

‫إحداهما‪ :‬بالتَّحويل البنيوي للسلسلة التركيبية لكي نعرف هل هي منسجمة مع‬


‫تحويل معين؟ ‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬باستبدال بنية هذا التركيب بالزيادة أو بالحذف أو بتغيير الموضوع أو‬
‫باإلبدال‪ ،‬فنصل حينئذ إلى سلسل ٍة ُمتتالية من التَّحويالت تتطابق مع البنية‬
‫الخارجية[‪ .]8‬ويقصد بالتحويل في النحو التوليدي‪ :‬التَّغ ُّيرات التي يُدخلها ال ُمتكلِّم‬
‫ص؛ فينقل البنيات العميقة ال ُمولَّدة من أصل المعنى إلى بنيات ظاهرة على‬ ‫على النَّ ِّ‬
‫سطح الكالم‪ ،‬وتخضع بدورها إلى الصياغة الحرفية النَّاشئة عن التَّقطيع‬
‫يمس المعنى األصلي للجمل ولكن صورة‬ ‫ُّ‬ ‫صوتي[‪ .]3‬والتَّحويل ومقوماته ال‬ ‫ال َّ‬
‫المؤشرات التي هي وحدها قابلة للتغيير‪"،‬ونقصد بالمؤشرات ( ‪les‬‬
‫‪ )marqueurs‬ال ُعقد التي تضفر فيها خيوط الكالم‪ ،‬فالتَّحويالت عمليات شكليَّة‬
‫محضة‪ ،‬ته ُّم تراكيب الجمل ال ُمولَّدة من أصل المعنى‪ ،‬وتتم بشغور الموقع أو بتبادل‬
‫المواقع أو بإعادة صوغ الكلمات أو باستخالفها‪ ،‬حيث يستخلف الطرف المقوم‬
‫بطرف آخر مكانة أو بإضافة ُمق ِّو ٍم جدي ٍد له" [‪.]11‬‬
‫ومفهوم النظرية التوليدية التحويلية‪:‬‬

‫" تحويل جملة إلي أخرى أو تركيب إلى آخر‪ ،‬والجملة المحولة عنها هي ما يعرف‬
‫بالجملة األصل ‪ -‬البنية العميقة ‪ -‬والقواعد التي تتحكم في تحويل األصل هي‬
‫"القواعد التحويلية"‪ ،‬وهي قواعد تحذف بعض عناصر البنية العميقة أو تنقلها من‬
‫موقع إلى موقع آخر‪ ،‬أو تحولها إلي عناصر مختلفة‪ ،‬أو تضيف إليها عناصر جديدة‬
‫وإحدى وظائفها األساسية تحويل البنية العميقة االفتراضية التي تحتوي علي معنى‬
‫الجملة األساسي إلي البنية السطحية الملموسة التي تجسد بناء الجملة وصيغتها‬
‫النهائية[‪."]11‬‬

‫أهم أسس النظرية التحويلية‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬التفريق بين الكفاية واألداء‪ :‬فالكفاية‪ :‬قدرة ابن اللغة على فهم تراكيب لغته‬
‫وقواعدها وقدرته من الناحية النظرية‪ ،‬على أن يُر ِّكب ويفهم عدداا غير محدو ٍد من‬
‫صواب منها أو الخطأ‪ ،‬وأ َّما األداء‪ :‬فهو األداء اللُّغوي الفعلي لفظاا‬
‫الجمل‪ ،‬ويُدرك ال َّ‬
‫ُ‬
‫أو كتابة‪.‬‬

‫ثانياا‪ :‬التَّمييز بين البنية العميقة والبنية ال َّ‬


‫سطحيَّة[‪ .]12‬نجد صدى لذلك عند‬
‫سيبويه‪.‬‬

‫ثالثاا‪ :‬اعتبار الجملة الوحدة اللُّغوية األساسية‪.‬‬

‫راب اعا‪ :‬القواعد التحويلية ينجم عند اتِّباعها جمل أصولية ال غير‪ ،‬كما تُحدد كل‬
‫الجمل ال ُمحتملَة في اللغة [‪ .]13‬والجمل األصولية كانت شغل سيبويه الشاغل في‬
‫كتابه‪.‬‬

‫سا‪ :‬اإلدراك اللغوي والقدرة اللغوية‪ :‬وهي صفات إنسانية تكمن في النَّوع‬
‫خام ا‬
‫البشري وليست ُمكتسبة‪ ،‬وهذا يتَّفق فيه سيبويه وغيره من النحاة العرب مع‬
‫تشومسكي‪.‬‬
‫وتنقسم القواعد التحويلية إلى قسمين‪:‬‬

‫• اختيارية‪ :‬نحو‪ :‬تحويل المبني للمعلوم إلى المبني للمجهول‪.‬‬

‫• إجبارية‪ :‬نحو‪ :‬وضع الحركات على نهاية الكلمات المعربة في اللغة العربية‬
‫[‪.]14‬‬

‫• من أهم القواعد التحويلية‪:‬‬

‫(‪ )1‬الحذف‪( :‬أ ‪ +‬ب) ‪( -‬ب)‪.‬‬

‫(‪ )2‬التعويض‪( :‬أ) ‪( -‬ب)‪.‬‬

‫(‪ )3‬التمدد والتوسع‪( :‬أ) ‪( -‬ب ‪ +‬ج)‪.‬‬

‫(‪ )4‬التقلص أو االختصار‪( :‬أ ‪ +‬ب) ‪( -‬ج)‪.‬‬

‫(‪ )5‬اإلضافة أو الزيادة‪( :‬أ) ‪( -‬أ ‪ +‬ب)‪.‬‬

‫(‪ )9‬إعادة الترتيب (التبادل أو التقديم والتأخير )‪( :‬أ ‪ +‬ب) ‪( -‬ب ‪ +‬أ) [‪.]15‬‬

‫رابعا ا‪ :‬مدارس أخرى‪:‬‬


‫السياق‪:‬‬
‫أ‪-‬مدرسة ِّ‬
‫السياق‪ ،‬لما له من أثر كبير في صياغتها‬ ‫هي ما عُرف بمدرسة "فيرث"‪ :‬يُ ُّ‬
‫عد فيرث صاحب نظرية ِّ‬
‫والتَّوسع في ُمعالجتها‪ ،‬بحيث أصبحت على يديه نظرية لغوية ُمتكاملة‪ ،‬قد تلتقي في بعض‬
‫جوانبها مع آراء اللغويين القدماء‪ ،‬ولكنها دون ٍّ‬
‫شك تختلف عن تلك اآلراء؛ من حيث المنهج‬
‫والمصطلحات واألفكار‬

‫ب‪ -‬المدرسة الوظيفية‪:‬‬


‫تأسست اللسانيات الوظيفية من فرضية مركزية تعتقد بأن بنية اللغات الطبيعية ال‬
‫يمكن أن ُترص َد إال إذا ارتبطت بوظيفة التواصل ‪.‬‬
‫وبهذا ندرك أن النظريات اللسانية‪،‬تدخل في إطار لساني غير وظيفي ‪.‬‬
‫ولقد حدد أحمد المتوكل‪،‬الباحث اللساني‪،‬مجموعة من الخصائص المميزة‪،‬التي‬
‫تؤالف أو تخالف بين التصورين اللسانيين المختلفين‪.‬يمكن سرد هذه الخصائص‬
‫كالتالي ‪:‬‬
‫‪1-‬إن موضوع اللسانيات‪،‬عامة‪،‬هو اللسان الطبيعي‪.‬حيث تحاول جميع النظريات‬
‫اللسانية وصف الظواهر اللغوية و تفسيرها‪،‬كذلك كما تستهدف اكتشاف‬
‫الخصائص الجامعة بين اللغات الطبيعية على اختالف مناهجها أي وضع نحو كي‬
‫تتفرغ عن األنحاء الخاصة المقترحة لوصف كل لغة على حدة ‪.‬‬
‫‪2-‬إن النظرية الوظيفية تنفرد بكونها ال تهتم باللغة كنسق مجرد يؤدي وظائف‬
‫متعددة‪،‬أهمها وظيفة التعبير عن الفكر‪،‬بل إنها تعتبر اللغة وسيلة للتواصل‬
‫االجتماعي‪،‬أي نسقا لغويا يؤدي مجموعة من الوظائف أهمها ‪:‬وظيفة التواصل ‪.‬‬
‫‪3-‬إن القدرة في رأي الوظيفيين هي معرفة المتكلم بالقواعد التي تمكنه من تحقيق‬
‫أغراض تواصلية معينة بواسطة اللغة‪،‬فهي إذن قدرة تواصلية تشمل القواعد‬
‫التركيبية‪ ،‬و الداللية‪ ،‬والقواعد الصوتية‪ ،‬و القواعد التداولية ‪.‬‬
‫‪4-‬إن الطفل وفق هذا التصور ال يتعلم اللغة مستعينا بالمبادئ التي فُطر عليها‪،‬و‬
‫إنما يتعلم النسق الثاوي خلف اللغة و استعماالتها‪،‬أي العالقات القائمة بين‬
‫األغراض التواصلية و الوسائل التي تتحقق بواسطتها ‪.‬‬
‫تقترب اللسانيات الوظيفية‪،‬كثيرا‪،‬في أهدافها من المجال الديداكتيكي للغات‪،‬ذلك أن‬
‫الهدف األقصى للتعليم اللغوي‪،‬هو تلبية حاجيات التواصل لدى متعلم اللغة ‪.‬‬
‫إن اإللمام بلغة معينة‪،‬ال يحصر فقط في الفهم‪،‬و التحدث ‪،‬و القراءة‪ ،‬و كتابة‬
‫الجمل‪ ،‬بل كذلك في معرفة كيف تستخدم الجمل لغايات تواصلية‪،‬و لهذا أبرز العديد‬
‫من الباحثين أن اللسانيات الوظيفية ‪،‬باعتمادها على المقاربة التواصلية‬
‫للغات‪،‬تمثل اإلطار المرجعي الضروري لكل تفكير في ديداكتيكية اللغات‪.‬‬
‫خامسا ً‪ :‬البحث اللغوي في العصر الحديث‪:‬‬
‫إن الدراسات اللغويةالحديثة وأسلوب معالجتها يرجع إلى طريقة تناولها من‬
‫الوجهة العلمية المحضة‪ ،‬وهذا ال ينتقص شيئا من فائدة الدراسات القديمة وإنما‬
‫يزيدها قداسة بحيث يعتبرها الكثير من المفكرين العلماء المرتكز األساس في كل‬
‫دراسة فكرية لغوية جديدة‪ ،‬ألنها ما زالت تمدنا بما نعتمد عليه في بحوثنا‪ ،‬فقد‬
‫حصل تطور كبير في مجال الدراسات اللغوية عند مختلف الشعوب التي اهتمت‬
‫بدراسة لغتها‪ ،‬وتحققت لديها نتائج مذهلة‪ .‬فعندما تم اكتشاف ا اللغة السنسكريتية‬
‫التي مكنت الجميع باالطالع على التراث اللغوي الهندي الرائع الذي خلفه علماؤهم‬
‫حين درسوا لغتهم بهدف ديني واضح‪ ،‬هو الرغبة في التمكن من قراءة (الفيدا)‬
‫وهو كتاب مقدس‪ ،‬وصف فيه أصوات تلك اللغة وتراكيبها الصرفية والنحوية‬
‫وصفا دقيقا‪ ،‬وقد ترجم جانب كبير من هذا التراث إلى االنجليزية والفرنسية‬
‫واأللمانية ‪.‬‬

‫وقد تأثر الغربيون في العصر الحديث بالعالم اللغوي الهندي (بانيني)‬


‫واعتبروه أعظم لغوي وصاف في العالم القديم ‪ ،‬وعنه اخذوا المنهج الوصفي بل"‬
‫ال تزال أراء (بانيني) اللغوية مقبولة لدى الغربيين المحدثين حتى أن بعض‬
‫المصطلحات الفنية التي وضعها لعدد من الظواهر اللغوية ال يزال مستعمال حتى‬
‫اآلن" ‪1‬‬

‫والمالحظ على الدرس اللغوي في القرن التاسع عشر قد اتخذ طابع التاريخ‬
‫اللغوي و المقارنات اللغوية وكانت فيه اللغة السنسكريتية أساس البحث اللغوي‬
‫الحديث حتى أن( ماكس مولر)قال‪" :‬إن السنسكريتية هي األساس الوحيد لفقه‬
‫اللغة المقارن‪ ،‬وسوف تبقى المرشد الوحيد الصحيح لهذا العلم‪ ،‬وعالم فقه اللغة‬
‫المقارن الذي ال يعرف السنسكريتية شأنه شأن عالم الفلك الذي ال يعرف‬
‫الرياضيات" ‪2‬‬

‫عير أن سيطرة هذه اللغة على ميدان الدراسة اللغوية في أوربا أدت إلى‬
‫انحراف دراستها عن الوجهة العلمية الصحيحة‪ .‬وهو ما أدى إلى ظهور أراء‬
‫مناهضة ألفكارها‪ ،‬ودعت أول األمر إلى التفريق بين أمرين كانا يختلطان اختالطا‬
‫كبيرا وهما ما يعرف ‪philology‬المقصود به (فقه اللغة) وهو دراسة اللغة‬
‫المكتوبة أما الثاني ‪ linguistique‬ويقصد به (علم اللغة) فهو يتخذ موضوع‬
‫دراسة اللغة من حيث هي‪ ،‬دراسة اللغة في ذاتها ومن اجل ذاتها‪ ،‬كما قال سوسير‬
‫فيما بعد سواء كانت هذه اللغة مكتوبة أو غير مكتوبة‪ . 3 .‬وبمفهوم أخر فان فقه‬
‫اللغة يدرس اللغة ب وصفها وسيلة لغاية أخرى كدراسة ثقـافة أمة وآدابها‬
‫وحضاراتها‪ ،‬أما علم اللغة فيدرس اللغة من اجل ذاتها‪.‬‬
‫المحاضرة السادسة‬
‫مناهج البحث في اللسانيات‬
‫مفردات المحاضرة‬
‫‪ -1‬تعريف المنهج‬
‫‪ -2‬المنهج الوصفي‬
‫‪ -3‬المنهج المقارن‬
‫‪ -4‬المنهج التاريخي‬
‫‪ -5‬المنهج التقابلي‬
‫‪ -6‬المنهج المعياري‬
‫أولا‪ :‬تعريف المنهج‪:‬‬
‫يجدر بنا أن نقدم تعريفا لغويا واصطالحيا عن تأسيس لفظة المنهج‪.‬‬
‫أ‪ -‬معنى المنهج لغة‪:‬‬
‫وردت كلمة منهج أو (المنهج) في القرآن الكريم‪" :‬ول تتبع أهواءهم عما جاءك‬
‫من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‪.‬‬
‫أما إذا فتشنا عن اللفظة المذكورة (منهج) في التراث اللغوي العربي وفي المعاجم‬
‫اللغوية بالتحديد‪ ،‬فإننا نجد جل المعاجم تتفق في تحديد لفظة (منهج) من حيث‬
‫الجانب اللغوي والدللي‪ ،‬ونبدأ بأقدم مصدر وقفنا عليه وثق كلمة المنهج هو‪:‬‬
‫أساس البالغة للزمخشري (ت ‪535‬هـ) جاء عنه‪(" :‬ن هـ ج) أخذ النهج‪،‬‬
‫والمنهج والمنهاج وطريق نهج‪ ،‬وطرق نهجة‪ ،‬ونهجت الطريق‪ ،‬بينته‪ ،‬وانتهجته‪،‬‬
‫واستبنته‪ ،‬ونهج الطريق وأنهج‪ ،‬وأنهج‪ :‬وضح‪ ،‬قال يزيد بن حذاق الشني‪ :‬ولقد‬
‫أضاء لك الطريق وأنهجت منه المسالك والهدى يعتدي‪.‬‬
‫وأنهج الطريق‪ :‬وضح واستبان‪ ،‬وصار نهجا واضحا بينا‪ ،‬والنهج بتسكين الهاء‬
‫هو الطريق المستقيم ‪).‬وقد عرف المعجم الوسيط المنهج بأنه الخطة المرسومة‪،‬‬
‫واللفظة دللتها محدثة‪ ،‬ومنه مناهج الدراسة ومناهج التعليم ونحوهما‬
‫ب‪ -‬معنى المنهج اصطالحا ا‪:‬‬
‫المنهج اصطالحا‪ :‬ويعني الطريقة أو األسلوب وفي اللغة األجنبية الفرنسية هو‬
‫‪(méthode).‬فالقصد من هذا المصطلح الطريق أو السبيل أو التقنية المستخدمة‬
‫لعمل شيء محدد‪ ،‬أو هو العملية اإلجرائية المتبعة للحصول على شيء "ما" أو‬
‫موضوع "ما‪".‬‬
‫وقد وظف المنهج على أنه التيار أو المذهب أو المدرسة‪ ،‬وعلى الرغم من تعدد‬
‫هذه المصطلحات فهدف المنهج وغايته واحدة‪ ،‬هو الكشف عن الطريقة أو‬
‫األسلوب لتيار معين أو مذهب معين أو مدرسة معينة‪.‬‬
‫وخالصة القول‪ :‬فإن المنهج هو الطريقة الخاصة التي تصلح لكل علم على حدة بل‬
‫لكل موضوع من موضوعات هذا العلم‪ ،‬ويعني مجموعة القواعد العامة التي يتم‬
‫وضعها بقصد الوصول إلى الحقيقة في العلم‪ ،‬إنه الطريقة التي يتبعها الباحث في‬
‫دراسة المشكلة لكتشاف الحقيقة‪ ،‬أو الوصول لتحقيق الغاية المراد الوصول إليها‪.‬‬
‫ثانيا ا‪:‬المنهج الوصفي‪:‬‬
‫المنهج الوصفي يدرس الظواهر اللغوية المختلفة في مجال ‪ ،‬وزمن‪ ،‬وبيئة معينة‬
‫المجال‪ :‬يشترط في الدراسة الوصفية أن تحدد المجال الذي تدرس اللغة فيه ‪ ،‬كأن‬
‫تدرس لهجة معينة ‪ ،‬أو شعر شاعر معين أو لغة صحيفة معينة ‪.‬الزمن ‪ :‬البد أن‬
‫تدرس اللغة موضع الدراسة في زمن معين كما هي ‪ ،‬وهذا يعني أن يتجنب الباحث‬
‫الحديث عن تاريخ اللغة أو عالقتها بغيرها البيئة ‪ :‬ال بد من تحديد بيئة اللغة‬
‫المدروسة‪ ،‬وهذا يعني أن تعيش اللغة المدروسة في بيئة واحدة لتجنب االختالفات‬
‫التي تنتج من اختالف البيئة ‪.‬من أهم سمات المنهج الوصفي أنه بعيد عن‬
‫المعيارية ‪ ،‬ألن هدفه دراسة اللغة موضع الدراسة من أجل ذاتها‪ ،‬وليس لتعليمها‬
‫‪ ،‬فال يسوغ الحديث عن الخطأ والصواب في هذا المنهج‬
‫ومن الدراسات الوصفية وصف بنية الجملة في لهجة أهل نجد مثال‪ ،‬أو في لهجة‬
‫أهل القاهرة ‪ ،‬أو دراسة بنية الكلمة في صحيفة من الصحف السعودية أو الخليجي‬
‫ظهرت في أوروبا بواد ُر المنهج الوصفي الذي أرسى أساسه "دي‬
‫سوسور" ‪ ،‬حيث يعود إليه الفضل في بيان هذا المنهج وإظهار منافعه في الدرس‬
‫اللغوي ‪ ،‬فالمنهج الوصفي ُيعنى بوصف اللغة من حيث هي تنظي ٌم قائ ٌم بذاته ‪,‬‬
‫ولذلك يرى "دي سوسور" ‪ :‬أنّ موضوع اللغة أو الدراسة اللغوية الوحيد‬
‫ُ‬
‫ويبحث فيها‬ ‫والحقيقي هو اللغة التي ُينظر إليها كواقع ٍ قائم ٍ بذاته‬
‫لذاتها ‪ ،‬وبذلك ابتعد عن النظر في اللغات من وجهة النظر التاريخية أو‬
‫المقارنة ‪ ،‬مؤكداا وصف اللغة في فتر ٍة زمنية محددة لنصل من هذا الوصف إلى‬
‫صل إلى معرفة البنية أو‬ ‫القواعد أو القوانين العامة التي تحكمها ‪ ،‬أو نتو ّ‬
‫التركيب الهيكلي لها ‪ ،‬ولذلك ُيثار إلى المنهج الوصفي في علم اللغة بأنه‬
‫"عل ٌم ساكن" ففيه توصف اللغة بوج ٍه عام على الصورة التي توجد عليها في‬
‫نقط ٍة زمني ٍة معينة ‪ ،‬ليس ضروريا ا أن تكون في الزمن الحاضر‪.‬‬
‫سس عامة تتوزعها أفكا ٌر تنظيمية للمنهج‪,‬‬ ‫وللمنهج الوصفي أ ُ ٌ‬
‫ألي لغة ينبغي أنْ يبدأ من‬ ‫وقواعد عملية في التحليل منها ‪ :‬أنّ الوصف ّ‬
‫الصورة المنطوقة إلى الصورة المكتوبة والعكس خالف ذلك باعتبار أنّ اللغة‬
‫تنصرف إليه الوصفية بأهمي ٍة خاصة ‪ ،‬ووجه‬ ‫ُ‬ ‫لها وجهان ‪ :‬وجه الكالم وهو الذي‬
‫الكتابة ‪ ،‬فاألولى هي المادة الخام لعملية التحليل اللغوي ‪ ،‬واألخرى هي‬
‫الصورة أو الشكل لهذا التحليل‪.‬‬
‫وي ّتخذ ُ الوصف ثالثة طرق متكاملة في تحليل الظاهرة اللغوية ُوصولا منه إلى‬
‫تقعيدها وهي‪:‬‬
‫‪-‬استقراء المادة اللغوية مشافهة‪.‬‬
‫‪-‬تقسيمها أقساما ا وتسمية كل ّ قسم ٍ منها‪.‬‬
‫‪-‬وضع المصطلحات الدالّة على هذه األقسام ‪ .‬وذلك لنصل َ إلى‬
‫وضع القواعد الكلية والجزئية التي نتجت عن الستقراء ‪ .‬فالبدء بالستقراء‬
‫وتسجيل الظواهر من أهم ّ األسس التي يعتمد عليها الوصف بخالف المعيار الذي‬
‫يبدأ بالتقعيد‪.‬‬
‫إنّ مجال بحث عالم اللغة الوصفي يتم ّثل ُ في حقل اللغات‬
‫حيث يمكنُ تزويد الباحث بأحد أبناء اللغة الذين يتك ّلمون بها ‪,‬‬ ‫ُ‬ ‫الح ّية ‪،‬‬
‫عرف ف ّنيا ا باسم الراوي اللغوي‪(Informant) .‬‬ ‫وهو الذي ُي ُ‬
‫ومن األعمال اللغوية التي أفاد منها المنهج الوصفي ما‬
‫ُيدعى بـ (األطلس اللغوي) وهو بمثابة مرش ٍد إلى اللهجات الح ّية للغ ٍة ما‪,‬‬
‫أي بلد وخصائصها اللهجية‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫معلومات عن الصيغ الح ّية للغ ِة ّ‬ ‫وتتوفر فيه‬
‫سل ُ جامعو هذه األطاليس عاد اة إلى األماكن التي يق ُع‬ ‫و ُير َ‬
‫عليها الختيار من بل ٍد ما لعمل الخرائط المطلوبة ‪ ،‬ول ب ّد لهم من‬
‫بشكل بسيط ‪ -‬بعض‬ ‫ٍ‬ ‫الستعانة براو ٍ ُيم ّثل ُ المتكلّمين المحليين ‪ - .‬هذه‬
‫يجب أن ُيطرح ‪ :‬هلْ‬ ‫ُ‬ ‫األولية للمنهج الوصفي ‪ .‬ولكنّ السؤال الذي‬ ‫األصول ّ‬
‫بدأ النحو العربي وصفيا ا أم معياريا ا ؟ ‪ ،‬وما هي األسس التي ُيمكن العتماد‬
‫عليها في بيان بدء الدراسات اللغوية في العربية وكيف بدأت لنصل َ إلى إثبات‬
‫أو نفي الوصفية عنها ؟‪.‬‬
‫صر اإلجابة بما يلي‪:‬‬ ‫ُيمكن أن نح ُ‬
‫‪-‬اتصال أوليات النحو العربي بالواقع اللغوي اتصالا مباشراا‪,‬‬
‫والواقع اللغوي هو الستعمال ‪ ،‬والستعمال من أه ّم الركائز للمنهج الوصفي‪,‬‬
‫تصور وصف للغ ٍة ما من غير ٍ‬
‫نظر في‬ ‫ألنّ الوصف قرينة الستعمال ‪ ،‬ول ُي ّ‬
‫استعمالها الواقعي ‪ ،‬والتصال المباشر بالواقع اللغوي أصل ٌ من أصول النحو‬
‫الحقيقي ‪ ،‬وقد كان أيضا ا أصالا من أصول النحو العربي نتيجة ا لطبيعة الحياة‬
‫سه النقل‬‫العربية وطبيعة الحركة العلم ّية التي نشأت في مناخ ٍ عام أسا ُ‬
‫والرواية ‪ .‬وقد أدّى هذا التصال إلى أن يكون في النحو اتجاه وصفي في تناول‬
‫كثير ٍ من ظواهر اللغة ‪ .‬ومن أمثلة التصال بالواقع اللغوي تلقـــّي‬
‫النصوص من أفوا ٍه الرواة ومشافهة األعراب والنقل عنهم مما م ّهد إلى استقراء‬
‫نتيجة لهذا الستقراء ‪ ،‬ومن ث ّم رأينا الدراسات‬ ‫ا‬ ‫اللغة واستنباط القواعد‬
‫العربية ت ّتسم بالوصف وتتأ ّتى إلى ح ٍّد كبير عن المعيار ‪ .‬فالبادية كانت من‬
‫أه ّم المصادر للدراسات اللغوية المب ّكرة وقد درج ال ّنحاة واللغو ّيون‬
‫األوائل على النقل المباشر من البادية أو غير المباشر من أفواه األعراب‬
‫الوافدين إلى المدن واألمصار‪.‬‬
‫‪-‬إنّ منهج البحث في مدرسة الكوفة التقليدية في بداية نشأتها‬
‫صة‬‫كان أقرب إلى المنهج الوصفي باعتماد الكوفيين أساسا ا على المسموع وبخا ّ‬
‫ية إلى القواعد ‪ ،‬بل استنباط القواعد منها‬ ‫النصوص ‪ ،‬وعدم إخضاعها كلّ ا‬
‫وتوجيههم نصوص القرآن واللغة واألدب هذا المنحى من المنهج وعدم تعويلهم‬
‫الكبير على التأويالت البعيدة المتكلّفة ‪ ،‬وابتعادهم عن إخضاع ال ّدرس‬
‫اللغوي عن روح المنطق البحت‪.‬‬
‫‪-‬تناول الظاهرة اللغوية على أساس ٍ شكلي ‪ ،‬وليس على أساس ٍ‬
‫معنوي ‪ ،‬والشكل هو الظاهر والمنهج الوصفي ُيعنى بالظاهر أكثر من عنايته بما‬
‫هو خالف ذلك ‪ .‬فال ّنحاة األوائل كانوا يتناولون الظواهر اللغوية على أساس ٍ‬
‫شكلي وهو مبدأ من مبادئ النحو الوصفي‪.‬‬
‫نستنتج م ّما تقدّم أنّ الدراسات اللغوية في العربية قد بدأت‬
‫كثير من أصولها ث ّم انتهت في الفترات المتأخرة ( لس ّيما بعد‬ ‫وصف ّي اة في ٍ‬
‫عولت‬ ‫القرون الهجرية األربعة ) انتهت إلى المعيارية ‪ ،‬وهي في شطرها األول ّ‬
‫على استقراء المادة اللغوية من مصادرها األصلية ( السماع ‪ ،‬المشافهة ‪) ,‬‬
‫ا‬
‫خاضعة‬ ‫ث ّم استنبطت منها القواعد الكلّ ّية والجزئ ّية ‪ ،‬أي جعلت القاعدة‬
‫لالستقراء وليس العكس ‪ .‬أ ّما في شطرها الثاني فقد أخذت بالقواعد التي انتهت‬
‫إليها وأخضعت لها المادة اللغوية القديمة والمستجدّة‪.‬‬
‫وتو ّقفت في استقرائها عند عصر ٍ اصطلح عليه بعصر الستشهاد‬
‫الذي ُيعتبر قدحا ا كبيراا في تاريخ الدراسات اللغوية العربية ‪ ،‬فانقلب‬
‫الميزان من الوصف إلى المعيار ‪ ،‬ومن إخضاع القاعدة إلى إخضاع المادة‬
‫اللغوية ‪ ،‬من استمرارية الستقراء ‪ ،‬واألخذ إلى التو ّقف عنهما ‪ .‬ولذلك‬
‫ُو ّجهت بعض النتقادات إلى منهج ال ّنحاة واللغويين ‪ ،‬فيما بعد ومن أبرز هذه‬
‫النتقادات ما أقدم عليه ( ابن مضاء ) في كتابه ( الرد على ال ّنحاة ) الذي‬
‫دعا فيه إلى إلغاء بعض األصول األساسية في المنهج النحوي التقليدي كالعلل‬
‫والعوامل والتقديرات‪.‬‬
‫ثالثا ا‪:‬المنهج المقارن‪:‬‬
‫أ‪ -‬تعريفه‪:‬‬
‫المنهج المقارن أقدم مناهج البحث اللغوي الحديث وبه بدأ البحث اللغوي عصر‬
‫ازدهاره في أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر‪ .‬يتناول المنهج‬
‫المقارن مجموعة لغات تنتمي إلى أسرة لغوية واحدة بالدراسة المقارنة‪.‬‬
‫ب‪-‬عوامل ظهور المنهج المقارن أو أسباب ظهوره‪:‬‬
‫لعل أسباب ظهوره المنهج المقارن قد تعود إلى نشاط البحث اللغوي الذي عرفته‬
‫أوربا بالخصوص في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وما بعدهما ومن جملة ما‬
‫تم تحقيقه ‪ -‬في ظل األبحاث اللغوية في خالل الفترة المذكورة ‪ -‬اكتشاف اللغة‬
‫السنسكريتية على يد ألسير وليم جونز )‪ (Sir William Jones‬الذي كان قاضيا‬
‫في المحكمة العليا بالبنغال في سنة (‪1876‬م) هو الذي مهد الطريق لتأسيس‬
‫المنهج المقارن ‪).‬عند قيامه بدراسة رائعة من نوعها‪ ،‬تمت هذه الدراسة على‬
‫اللغة الهندو أوربية وقدم على إثر هذه الدراسة خالصة نتائج ما توصل إليه في‬
‫بحثه المقارن قال‪" :‬إن اللغة السنسكريتية مهما كان قدمها بنية رائعة أكمل من‬
‫اإلغريقية وأغنى من الالتينية‪ ،‬وهي تنم عن ثقافة أرقى من ثقافة هاتين اللغتين‪،‬‬
‫لكنها مع ذلك تتصل بهما بصلة وثيقة من القرابة سواء من ناحية جذور األفعال أم‬
‫من ناحية الصيغ النحوية حتى ل يمكننا أن نغزو هذه القرابة إلى مجرد الصدفة‪.‬‬
‫ول يسع أي لغوي بعد تصفحه هذه اللغات الثالث إل أن يعترف بأنها تتفرع من‬
‫أصل مشترك زال من الوجود‪.‬‬
‫النص ل يحتاج إلى تعليق؛ ألنه صور أحسن تصوير لما يربط اللغة السنسكريتية‬
‫من روابط مشتركة ذات أصل واحد‪ ،‬وما تميزت به أو انفردت به اللغة الهندية من‬
‫خصائص فردية عن أخواتها مثل الالتينية‪ ،‬واإلغريقية وغيرهما‪ .‬من هنا اتفقت‬
‫أراء الباحثين اللغويين على أن المنهج المقارن هو أقدم المناهج المعروفة لدينا‬
‫اليوم‪ ،‬وعلى أساس هذا المنهج تم تقسيم وتحديد الفصائل اللغوية ضمن الدرس‬
‫الفونولوجي‪.‬‬
‫ج‪ -‬أهم مؤسسي علم اللغة المقارن‪:‬‬
‫سبق لنا أن أشرنا إلى أن وليام جونز (ت ‪1856‬م) كان ممن مهدوا الطريق‬
‫وهيأوا األرضية للعلماء الذين جاؤوا من بعده لمواصلة بحوثهم اللغوية في كل‬
‫التجاهات‪ ،‬وتحت تيارات متعددة ومدارس نقدية مختلفة‪ ،‬من بينها المذهب‬
‫المقارن‪ .‬وكانت اللغة السنسكريتية أساس للمقارنة ضمن اللغات الهندية‬
‫األوروبية‪ ،‬ومعظم األبحاث تتفقعلى أن بداية المنهج المقارن بدأت منذ نهاية القرن‬
‫الثامن عشر‪ .‬إل أن عبده الراجحي يقول‪" :‬إن تأسيس الدرس المقارن قد بدأ على‬
‫يد "يينش )‪" (D. Jenisch‬حين أعلنت األكاديمية األلمانية عن جائزة لمن يكتب‬
‫بحثا عن أحسن وسيلة في التعبير اللغوي؛ فكسب الجائزة هذا األخير وأصدر في‬
‫سنة (‪1856‬م) كتابه "مقارنة وتقدير فلسفيان نقديان ألربع عشرة لغة أوربية‬
‫قديمة وحديثة ‪.‬من هذا التاريخ تم تأسيس المذهب المقارن بأتم المعنى وكانت‬
‫المدرسة األلمانية سباقة في احتوائها واحتضانها المنهج المقارن ول ننسى‬
‫لغوييها أمثال‪ :‬فردريك فون شليجل ‪ (Friedrich Von Schlegel).‬الذي يعتبر‬
‫أول من دعا إلى النحو المقارن وكتابه الذي أصدره في سنة (‪1787‬م) بعنوان‪:‬‬
‫"عن اللغة و المعرفة عند الهنود‪.‬‬
‫لقد استمرت المدرسة األلمانية تطور أبحاثها اللغوية في ظل المنهج المقارن إلى‬
‫جانب المنهج التاريخي على يد ثلة من علماء اللغويين أمثال‪:‬‬
‫بوب (‪1851‬م ‪1768 -‬م )‪) (Franz Bopp‬صاحب كتاب (القواعد المقارنة)‪ ،‬وما‬
‫توجهه اهتمام الناس إلى هذه اللغة (السنسكريتية) والقواعد المقارنة في أبحاثه‬
‫إل دليل على مدى إرساء القواعد المقارنة وفق ما تقتضيه الدراسات األكاديمية‬
‫العلمية الحديثة‪.‬‬
‫بوب يعتبره جورج مونن مؤسس القواعد المقارنة بدون منازع‪ ،‬كان صاحب‬
‫معرفة واسعة بعلوم عصره اللغوية والفلسفية وتعلم الفارسية والعربية والعبرية‪،‬‬
‫والسنسكريتية على يد شيزي )‪ (Chézy‬األستاذ في معهد كوليج دي فرانس‬
‫)‪(Collège de France‬منذ عام (‪1714‬م)‪ ،‬وهنا بباريس أنشأ بوب مذكرته‪:‬‬
‫"في نظام تعريف اللغة السنسكريتية ومقارنته باألنظمة الصرفية المعروفة في‬
‫اللغات اليونانية والفارسية والجرمانية‪.‬‬
‫استدعي بوب في سنة (‪1721‬م) لتعليم السنسكريتية في جامعة برلين‪ ،‬تابع بوب‬
‫أبحاثه في اللغة المقارنة طوال نصف قرن من الزمن وتقدم إلى المجمع اللغوي‬
‫في برلين بخمس مذكرات على التوالي نذكر منها‪ ،‬التحليل المقارن بين اللغة‬
‫السنسكريتية واللغات التي تمت إليها بصلة القربى‪1724( ،‬م ‪1731 -‬م)‪ ،‬وكذلك‬
‫القواعد المقارنة (‪1733‬م ‪1752 -‬م‪.‬‬
‫أما غريم‪ (Jacob Grimm) (1785‬م ‪1763 -‬م) صاحب كتاب (القواعد‬
‫األلمانية) فهو يعد من مؤسسي المدرسة المقارنة أو النحو المقارن‪ ،‬فقد أسهم‬
‫بعطاءاته في تأسيس المذهب المقارن بل والتاريخي‪ ،‬ولم يفرد له جورج مونن‬
‫ترجمة كاملة تخص حياة هذا اللغوي وجهوده وأبحاثه اللغوية مثل ما فعل مع‬
‫بوپ‪ ،‬وراموس راسك الدانماركي‪ ،‬أو شاليشر‪ ،‬بل أشار إلى هذا الرجل في عدة‬
‫)‪(12‬‬
‫محطات من كتابه تاريخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن العشرين‪.‬‬
‫ما يثبت جهود جاكوب غريم في مجال البحث اللغوي المقارن جهوده للدراسات‬
‫الصوتية المقارنة وما تخضع له من قوانين التحول التي تخضع لها الحروف‬
‫الصحيحة في اللغة الجرمانية ‪(13).‬وهو متأثر مقلد في نظر بردسن )‪(Predersen‬‬
‫براموس راسك)‪ ، (R. Rask‬والقتباس ظاهر في كتاب غريم "القواعد األلمانية"‪،‬‬
‫ففي طبعته األولى (‪171‬م) لم يذكر غريم كلمة واحدة في علم الصوت‪ ،‬فحين أفرد‬
‫هذه الظواهر الصوتية خمسة وتسعون وخمسمائة ‪ 555‬صفحة من الطبعة‬
‫الثانية (‪1722‬م‪).‬‬
‫وقد أشار راومر )‪ (Rowmer‬في موطن آخر من الكتاب المذكور‪ ،‬وذلك في عام‬
‫(‪1788‬م) إلى ما يدين به األلماني غريم للغوي الدانماركي‪ ،‬هذا دليل ثان على أن‬
‫جريم قد تأثر بأستاذه راموس راسك وبخاصة في مجال الدراسات الصوتية‬
‫المقارنة‪ .‬ناهيك أنه كانت له جهود كبيرة في تأسيس المنهج التاريخي‪ ،‬بدليل‬
‫قول‪ :‬جورج مونن‪" :‬لما كان بوب في سبيل إعداد القواعد المقارنة‪ ،‬كان غريم‬
‫في الوقت نفسه يضع القواعد التاريخية للغة األلمانية‪ ،‬ثم راحوا يقتفون أثره‬
‫فوضع دييز )‪ (Friedrich Diez‬قواعد مقارنة وتاريخية معا للغات الرومية ومنذ‬
‫عام (‪1788‬م) كانت األبحاث قد طبعت بطابع جديد ‪ .‬ويصفه محمود السعران‬
‫بخالق النحو المقارن في ألمانيا‪.‬‬
‫ول ننسى أتباع مدرسة بوب وما قاموا به من أبحاث لغوية متأثرين بمنهج‬
‫المدرسة المقارنة أمثال‪ :‬ماكس مولر )‪ (M. Muller‬وجورج كورتيوس ‪(G.‬‬
‫)‪ ،Curtius‬وأوغست شليشر (‪1767 - 1721‬م)‪ ،) (August Schleicher‬قدم‬
‫كل منهم خدمات بطريقته الخاصة في فقه اللغة المقارن‪.‬‬
‫د‪-‬هدف المقارنة عند بوب وأتباعه‪:‬‬
‫كان الهدف األساسي من القواعد المقارنة عند بوب وأتباع مدرسته إثبات القرابة‬
‫بين اللغات‪ ،‬وهي ل تسعى إلى تتبع تاريخها الطويل خطوة خطوة‪ ،‬بل تعتمد طريقة‬
‫الموازنة الدقيقة الصارمة‪ ،‬وتنتهي من عملها أو تستنفذ خطوة‪ ،‬أو تستنفذ طاقتها‬
‫إذ أثبتت أن التشابه بين أشكال لغتين ل يمكن أن يكون من قبيل الصدفة‪ ،‬وبالتالي‬
‫ل بد أن تكون اللغتان قريبتين من الناحية التوليدية‪ .‬إما أن تكون إحداهما منحدرة‬
‫من األخرى‪ ،‬وإما أن تنحدرا معا من أصل مشترك‪.‬‬
‫ه‪ -‬ميدان المنهج المقارن‪:‬‬
‫إن علم اللغة المقارن أقدم مناهج البحث اللغوي كما يؤرخ له الباحثون‪ ،‬به بدأ‬
‫البحث اللغوي عصر ازدهاره في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والقرن‬
‫التاسع عشر للميالدي‪ .‬فهو منهج يطبق على مجموعات لغوية معينة من اللغات‬
‫إنه يطبق على اللغتين أو عدة لغات منتسبة إلى أصل واحد بعيد‪ ،‬ثم خضعت في‬
‫تاريخها الطويل لتطورات منفصلة‪.‬‬
‫وعندما يقف اللغوي إلى جمع السمات (الخصائص) المشتركة بين أمثال هذه‬
‫المجموعة من اللغات يتمكن من أن ينشئ النحو المقارن لهذه المجموعة‪.‬‬
‫المنهج المقارن يهيئ السبيل لتصنيف اللغات بحسب خصائصها وتجميعها في‬
‫عائالت ومستوى هذه المقارنة هو الجانب الفيزيولوجي والنحوي والدللي‪ ،‬بفضل‬
‫هذا المنهج تقدم البحث اللغوي شيئا فشيئا‪ ،‬فقورنت اللغات األوربية المختلفة‬
‫واللغات اإليرانية‪ ،‬واللغات الهندية‪ ،‬وثبت بهذه المقارنات أن كثيرا من اللغات‬
‫تحمل أوجه شبه البنية والمعجم‪ ،‬وبذلك اتضحت معالم أسرة لغوية كبيرة تضم‬
‫لغات كثيرة في الهند وإيران وأوربا‪ ،‬وأطلق الباحثون على هذه األسرة اللغوية‬
‫اسم اللغات الهندية األوربية‪ .‬ويسميها الباحثون األلمان أسرة اللغات الهندية‬
‫الجرمانية‪.‬‬
‫وقام الباحثون في اللغات السامية ‪ -‬أيضا ‪ -‬بتطبيق المنهج المقارن الذي يبحث‬
‫مجموعة اللغات العربية والعبرية واآلرامية واألكادية والعربية الجنوبية‬
‫والحبشية‪.‬‬
‫وقد ازدهر البحث اللغوي المقارن خالل القرن التاسع عشر‪ ،‬وبحث في اللغة‬
‫السامية من حيث الصوت وبناء الكلمة‪ ،‬وبناء الجملة الخبرية والفعلية والسمية‪،‬‬
‫)‪(20‬‬
‫وتناول علم الدللة وما يتعلق بتاريخ الكلمات وتأصيلها‪.‬‬
‫كان للمنهج المقارن دور في دراسة اللغات السامية في فترة كانت الكشوف األثرية‬
‫قد ظهرت إلى الوجود مكتوبة على النقوش‪ ،‬وهي اللغات األكادية في العراق‪،‬‬
‫والعربية الجنوبية في اليمن‪ ،‬والفينيقية في منطقة ساحل الشام‪ ،‬وأضيف إلى‬
‫اللغات السامية في القرن العشرين اللغة اإلجريتية التي اكتشفت في ساحل الشام‬
‫بالقرن من مدينة رأس شمرا سنة ‪ 1526‬للميالد‪.‬‬
‫إن البحث المقارن يتناول أسرة لغوية كاملة أو فرعا من أفرع هذه األسرة‬
‫اللغوية‪ ،‬ولهذا يعد علم اللغة المقارن فرعا مستقال من أفرع البحث اللغوي‪.‬‬
‫يتناول المنهج المقارن المجالت المذكورة لعلم اللغة‪ ،‬فيبحث في الناحية الصوتية‬
‫لألصوات الموجودة في هذه اللغات المنتمية إلى أسرة لغوية واحدة‪ ،‬محاول‬
‫التوصل إلى قواعد مطردة تفسر التغيرات الصوتية التي طرأت على مدى الزمن‪،‬‬
‫فانقسمت اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات كثيرة‪ ،‬انقسمت بدورها إلى اللغات‬
‫أخرى‪ ،‬وقد اتضح في إطار البحث اللغوي الصوتي المقارن أن مجموعة من‬
‫األصوات مستمرة دون تغيير يذكر على العكس من هذا فهناك أصوات خضعت‬
‫لتغيرات بعيدة المدى منها صوت الضاد الذي اختفى بمضي الوقت من كل اللغات‬
‫السامية باستثناء اللغة العربية‪ ،‬وكل هذه البحوث في مجال األصوات‪ ،‬وتعد بمنهج‬
‫مقارن‪.‬‬
‫كما يتناول المنهج المقارن بناء الكلمة وكل ما يتعلق باألوزان‪ ،‬والسوابق‬
‫واللواحق‪ ،‬ووظائفها المختلفة‪ ،‬فدراسة الضمائر في اللغات السامية تعد من‬
‫الدراسات التي أولى لها علم الصرف المقارن عنايته؛ ألنها تخص بنية الكلمة فهي‬
‫تتم بمنهج مقارن‪ ،‬وكذلك أبنية األفعال في اللغات السامية‪ ،‬واسم الفاعل في اللغات‬
‫السامية‪ ،‬أو المصدر في اللغات السامية‪ ،‬فكل هذه الدراسات تدخل تحت ما يسمى‬
‫بعلم الصرف المقارن للغات السامية‪.‬‬
‫كما يعد المنهج المقارن في بناء الجملة مجال ثالثا من مجالت البحث في علم‬
‫اللغة المقارن‪ ،‬إن دراسة الجملة سواء أكانت فعلية أم اسمية في اللغات السامية‬
‫فهي مناط البحث بالنسبة للمنهج المقارن‪.‬‬
‫كما يبحث المنهج المقارن في اللغات السامية وبخاصة في الكلمات وتأصيلها‪،‬‬
‫وغايته في هذه الدراسة التنقيب عن الكلمات المشتركة في المعنى أو المختلفة‬
‫وما طرأ عليها من تغيير دللي‪ .‬كما يهدف إلى تأصيل المواد اللغوية في المعاجم‪،‬‬
‫وردها إلى أصولها السامية إن وجدت‪.‬‬
‫و‪ -‬هل عرف العرب المنهج المقارن في دراساتهم التراثية؟‬
‫إن وجود المناهج اللغوية من حيث التأسيس حديثة العهد لم يتعد على قيامها أكثر‬
‫من قرنين‪ ،‬واعتمادها طريقا أو منهاجا يلتزم به كل باحث مهما كان‪ ،‬ومهما‬
‫تنوعت إنتاجات وإبداعات هؤلء الباحثين على اختالف تخصصاتهم‪.‬‬
‫على الرغم من حداثة خصائص المنهج المقارن وشروطه ومميزاته غير أن‬
‫العرب لم يشروا إلى ذكر لفظة هذا المصطلح‪ ،‬ول إلى أهميته في الدراسات‬
‫اللغوية أيام ازدهار نهضتهم الفكرية‪ ،‬حالهم في ذلك حال األمم المجاورة لهم مثل‬
‫الفرس أو الهند أو اليونان‪ ،‬أو غيرهم‪ ،‬لكن آثار وجود بعض بصمات المنهج‬
‫المقارن فهي حاضرة في دراساتهم‪ ،‬وذلك من خالل ما استدل به الباحثون‬
‫اللغويون العرب المعاصرون ولنأخذ نصافي الموضوع‪ ،‬قال سليمان ياقوت‪" :‬ولم‬
‫يكن جميع القدامى من اللغويين العرب على جهل باللغات السامية‪ ،‬بل كان بعضهم‬
‫يعرف العالقة بين العربية وبعض هذه اللغات‪ ،‬وإن لم تثمر هذه المعرفة عندهم في‬
‫الدرس اللغوي‪ ،‬ومقارنة العربية باللغات السامية‪ ،‬فقد ورد في كتاب (العين)‬
‫للخليل بن أحمد قوله‪" :‬وكنعان بن سام بن نوح‪ ،‬ينسب إليه الكنعانيون‪ ،‬وكانوا‬
‫يتكلمون بلغة تضارع العربية‪.‬‬
‫النص يفصح للقراء بأن اللغويين العرب كانوا على دراية باللغات السامية أخوات‬
‫العربية في وقت مبكر‪ ،‬والدليل على ذلك ما جاء على لسان الخليل بن أحمد‬
‫الفراهيدي (ت ‪185‬هـ)‪ ،‬حين ضارع لغة العرب بلغة الكنعانيين‪ ،‬فهذه الدراسة‬
‫أساسها هو المنهج المقارن بمفهومه العلمي؛ ألن معرفة العالقة بين اللغتين‬
‫المذكورتين أو نفي الصلة بينهما ل يقوم بها إل عالم أو عارف بلغتين متضلع‬
‫فيهما‪.‬‬
‫وواصل سليمان ياقوت جملة من الستشهادات التي ثبتت مالمح وجود المنهج‬
‫المقارن في الدراسات التراثية العربية كالتي جاءت على يدي أبي عبيد القاسم بن‬
‫سالم الجمحي (ت ‪231‬هـ) عندما تعرض إلى أداة التعريف في اللغة السريانية‪،‬‬
‫واللغة العربية‪ ،‬والرموز اإلعرابية‪.‬‬
‫قلنا هناك بصمات للمنهج المقارن في الدراسات اللغوية العربية القديمة‪ ،‬وهذا ما‬
‫نقف عليه عند صاحب اإليضاح في علل النحو‪ ،‬قال‪" :‬الكالم اسم وفعل وحرف‬
‫جاء لمعنى" فقال قائلون‪ :‬إنما قصد الكالم العربي دون غيره‪ ،‬وقال آخرون بل‬
‫أراد الكلم العربي كله والعجمي‪.‬‬
‫المتمعن في النص قد يعي كل الوعي أن العرب عندما تعرضوا لدراسة لغتهم في‬
‫كل سياقاتها كانوا يدركون اللفظة العربية من غير العربية هذه األحكام‬
‫والستنتاجات هي من خصائص دراسات المنهج المقارن‪.‬‬
‫وما يثبت وجود أدلة على أن المنهج المقارن تواجد في الدراسات العربية القديمة‬
‫ما تناوله ابن دريد في جمهرته (كتابه) يشير إلى ما اختصت به األصوات العربية‬
‫دون سائر الخلق صوتا الحاء والظاء "وزعم آخرون أن الحاء في السريانية‬
‫والعبرانية والحبشية كثيرة وأم الظاء وحدها مقصورة على العرب ومنها ستة‬
‫أحرف للعرب ولقليل من المعجم وهن العين والصاد والضاد والقاف والطاء‬
‫والثاء‪ ،‬وما سوى ذلك فللخلق كلهم من العرب والعجم إل الهمزة‪.‬‬
‫كما توصل ابن حزم األندلسي (ت ‪456‬هـ) إلى وجود عالقة القرابة بين العربية‬
‫والعبرية والسريانية وبخاصة فيما يتعلق باللفظ‪ ،‬ثم أدرك أبو حيان األندلسي‬
‫صاحب البحر المحيط (ت ‪854‬هـ) العالقة الموجودة بين الحبشية والعربية‪ ،‬وألف‬
‫فيهما تأليفا مستقال في البحر المحيط‪.‬‬
‫قال‪" :‬وقد تكلمت عن كيفية نسبة الحبش في كتابنا المترجم عن هذه اللغة‬
‫المسمى بـ(جالء الغبش عن لسان الحبش ‪.‬هذا دليل آخر على أن علماء العرب‬
‫يعرفوا أو‬
‫القدامى قد تناولوا في دراستهم وأبحاثهم المنهج المقارن دون أن ّ‬
‫يعرفوا أسس وخصائص هذا المنهج‪.‬‬
‫هذا ما يثبت أن العرب لم تكن دراساتهم دراسة عقيمة متحجرة غامضة بل مروا‬
‫في أبحاثهم وتعليمهم ودراساتهم مثل بقية األمم والشعوب التي سبقتهم‪.‬‬
‫المنهج المعياري‪:‬‬
‫المنهج المعياري بخالف المنهج الوصفي ‪ ،‬قائ ٌم على فرض‬
‫القاعدة أي يبدأ بالكلّيات وينتهي بالجزئيات ‪ ،‬والمنهج المعياري يعتمد‬
‫ويتأول لما خرج عن القواعد التي يصو ُغها‬ ‫ّ‬ ‫القاعدة أساسا ا وي ْنأى عن الوصف ‪،‬‬
‫بإحكام شتى التأويالت أو يحكم عليها بالشذوذ والقلّة إنْ ل ْم يجد فيها‬
‫تأويالا مناسبا ا ولو كان بعيداا أو مستغربا ا‪.‬‬
‫و ُعرفت المعيارية في الدراسات اللغوية األوروبية واستخدم‬
‫لها عبارة اللغة المعيارية ‪ ( Standard Language) ,‬أو عبارة المعياري حينما‬
‫ُتوصف اللغة أو ال ّنحو أو القواعد عامة‪.‬‬
‫لهجة ا من لهجات لغة‬ ‫ا‬ ‫وتكون اللغة المعيارية في ّأول أمرها‬
‫ٍٍ ما ث ّم ترقى إلى مستوى التقليد والمحاكاة وتتخذ ُ لها صفة رسمية لذلك‬
‫قيل َ في تعريفها وبيان أسباب نشأتها ‪ :‬أنّ اللغة المعيارية هي ذلك المستوى‬
‫الكالمي الذي له صفة ٌ رسم ّية والذي يستعمله المتعلّمون تعليما ا راقيا ا‪.‬‬
‫ا‬
‫لهجة محلّية‪,‬‬ ‫وغالبا ا ما تكون اللغة المعيارية في ّأول األمر‬
‫ب من‬ ‫عترف بها كلغ ٍة رسمية ٍ لسب ٍ‬ ‫ُ‬ ‫تنال ُ شيئا ا من التمجيد أو التقدير و ُي‬
‫األسباب‪.‬‬
‫ضلة التي ُت ّتخذ‬ ‫فالمعيارية بهذا المفهوم هي اللهجة المف ّ‬
‫مقياسا ا للبالغة والفصاحة كتفضيل لهجة قريش في الدراسات العربية التقليدية‬
‫ب دينية وسياسية ‪ .‬ث ّم تكون هذه‬ ‫على سائر اللهجات العربية األخرى ألسبا ٍ‬
‫اللهجة نوا اة للمنهج المعياري ‪ ،‬وتتخذ ُ قواعدها معياراا للصحة والخطأ كما‬
‫هو واضح ٌ في تاريخ العربية ‪ .‬ولذلك فقد نشأ النحو العربي نشأ اة وصف ّية‬
‫صوب المعيارية بعد أن وضعوا القواعد واألصول‬ ‫باعتماد الستقراء ولك ّنه جنح ْ‬
‫وتو ّقفوا عن استقراء المادة اللغوية المستج ّدة فبرزت اللغة الرسمية‬
‫لة بهذا واعتبرت مقاييسه وقواعده ف ْيصالا في الصحـة والخطــأ‪.‬‬ ‫مم ّث ا‬
‫ول ّما كان الهدف منص ّبا ا في الغالب على تعليم الناشئة وغيرهم‬
‫والمتخصصين رأيناهم ي ّتجهون بالنحو ِوجهة تعليم ّية ‪,‬‬ ‫ّ‬ ‫من المثقفين‬
‫والتعليم ّية أداةٌ معيارية ‪ ،‬إذ بواسطتها ُيمكن المحافظة على المستوى‬
‫تسرب هذا المنهج شيئا ا فشيئا ا إلى الدرس‬ ‫الصوابي لمعيارية اللغة ‪ .‬ث ّم ّ‬
‫اللغوي على مستوى التخصص البحت‪.‬‬
‫العربي من أجلها وهي ضبط اللغة‬ ‫ّ‬ ‫إنّ العناية التي نشأ النحو‬
‫وإيجاد األداة التي تعص ُم الالحنين من الخطأ فرضت على هذا النحو أن ي ّتسم‬
‫العلمي ‪ ،‬أو بعبار ٍة أخرى أن‬
‫ّ‬ ‫التعليمي ل النحو‬
‫ّ‬ ‫في جملته بسمة النحو‬
‫يكونَ في عمومه نحواا معياريا ا ل نحواا وصف ّيا ا‪.‬‬
‫ولم يكن الغرض التعليمي سببا ا وحيداا في معيارية النحو‬
‫أسباب أخرى من أهمها تأ ّثر النحو العربي بالمنطق ‪ ،‬والمنطق‬ ‫ٌ‬ ‫العربي بل هناك‬
‫الذي نعنيه هو منطق " أرسطو " الذي قال كثي ٌر من الباحثين بتأثيره في بعض‬
‫التجاهات في الدراسة العربية القديمة ومنها الدراسات اللغوية ‪ .‬وهذا‬
‫المنطق ُيعنى بالصورة أكثر من عنايته بالمادة ‪ .‬ودرس اللغة ينبغي أن ير ّكز‬
‫على المادة ل على الصورة ‪ ،‬وتأثير المنطق على النحو ُيبعده عن درس الواقع‬
‫ا‬
‫نتيجة‬ ‫اللغوي كما هو ‪ .‬وعناية المنطق األرسطي بالصورة أو الشكل جاءت‬
‫لهتمامه بالطبيعة الثابتة أو (األنواع) من حيث ماهياتها األزل ّية ‪ ،‬ونرى‬
‫أنّ تعريف األشياء وفقا ا لهذا المفهوم قد تأ ّثر به النحو العربي من حيث‬
‫تعريف الكلّيات النحوية كأبواب السم والفعل والحرف والمبتدأ والخبر ‪.....‬‬
‫نتيجة لمقدّم ٍة منطقي ٍة أرسط ّية هي النظرة إلى الطبيعة‬ ‫ا‬ ‫وكانت المعيارية‬
‫بما فيها من أنواع وأشياء نظرة ثابتة ل تتغ ّير‪.‬‬
‫ومن آثار المنطق في الدرس اللغوي عند العرب هو القول بالقياس‬
‫شغل ال ّنحاة ولس ّيما في القرن الرابع الهجري وما‬ ‫والبرهان والعلل ‪ .‬وقد ُ‬
‫تاله بهذه المبادئ واعتبروها أصولا للنحو ‪ .‬حتى أنّ الزجاجي ر ّد على الذين‬
‫اتبعوا سيبويه في تقسيم الكالم إلى اسم وفعل وحرف تقليداا من برهان ول‬
‫حجة‪.‬‬‫ّ‬
‫ومن القضايا التي قد ُيحسب أنّ لها عالقة بالصواب المطلق‬
‫ووجه بهما‬ ‫ّ‬ ‫قضيتان مرتبطتان بالمنهج الوصفي أُثير حولهما الجدل والنقاش‬
‫صوغ القياسي‪.‬‬ ‫صوابي وال ّ‬ ‫القدح والنقد إلى هذا المنهج وهما ‪ :‬المستوى ال ّ‬
‫صوابي فيفترض من حيث الشكل معياراا لغويا ا‬ ‫أ ّما المستوى ال ّ‬
‫صواب‬ ‫للصواب المطلق في اللغة ولك ّنه في حقيقته غير ذلك فهو ينظ ُر إلى ال ّ‬
‫ي يرضى عن‬ ‫باعتباره مقياسا ا يفرضه المجتمع اللغوي الواحد فهو معيا ٌر لغو ٌ‬
‫صواب والخطأ اللغويين ليمكن للمستوى‬ ‫ويرفض الخطأ في استعمال ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫صواب‬ ‫ال ّ‬
‫صوابي أن يح ّددهما باعتباره فكرة يستعين بها الباحث على ذلك ‪ .‬وإ ّنما هو‬ ‫ال ّ‬
‫مقياس اجتماعي يفرضه المجتمع اللغوي على األفراد ويرجع األفراد إليه عند‬ ‫ٌ‬
‫الحتكام في الستعمال‪.‬‬
‫صوغ القياسي فهي مقدرة خاصة اكتسابية يكتسبها‬ ‫أ ّما ظاهرة ال ّ‬
‫الفرد في ُطفولته ولها عالقة وطيدة بالمجتمع اللغوي الذي يعيش فيه ‪ ،‬ووفقا ا‬
‫لها تحصل لديه ملَكة قياس صيغ لم يسمعها على صيغ ٍ قد سمعها ‪ ،‬ومن مظاهر‬
‫المنهج المعياري في الدرس اللغوي القديم‪:‬‬
‫ت أخرى‪.‬‬‫‪-‬األخذ من بعض القبائل واللهجات وترك قبائل ولهجا ٍ‬
‫‪-‬إدخال بعض المناهج التي عرفت التقسيم والتحديد على البحث اللغوي مثل منهج‬
‫علوم الحديث‪.‬‬
‫وكذلك تقسيم الكالم إلى م ّطرد وشاذ ‪ ،‬وأيضا ا التقدير والفتراض‬
‫رابعا ا‪ :‬مناهج اللسانيات التاريخية‪historical linguistics :‬‬
‫تطلق تسمية اللسانيات التاريخية على الدراسات اللغوية التي ظهرت في‬
‫أوروبا في القرن التاسع عشر الميالدي ‪ ،‬وتختلف الدراسات التاريخية‬
‫على الدراسات النحوية التقليدية القديمة ‪ ،‬وكذلك عن اللسانيات الحديثة‬
‫التي ظهرت مع مطلع القرن العشرين من حيث المنهج والتصور‪ .‬وتعمل‬
‫هذه اللسانيات على دراسة اللغة الواحدة في تطورها عبر المراحل‬
‫المختلفة منذ نشأتها إلى يوم الدراسة قصد تبين تاريخها ‪ ،‬مع رصد ما‬
‫وقع فيها من تغيرات صوتية ومعجمية ونحوية ودللية ‪ ،‬وبيان األسباب‬
‫الكامنة وراء ذلك‪.‬وقد سماها سوسير باللسانيات التطورية‬
‫(‪ . ) linguistique diachronique‬و الدراسات التاريخية للغة كانت‬
‫مرفوضة وغير مرغوب فيها بتاتا عند اللسانيين‪ .‬إذ لم يتقبلوها إل في‬
‫أواخر القرن الثامن عشر الميالدي ‪ .‬وذلك راجع إلى كون التاريخ في‬
‫نظرهم ل يدرس األشياء والظواهر اللغوية ‪ ،‬وإنما يدرس حياة األمم‬
‫السالفة‪ .‬وتتطلب هذه اللسانيات جهدا أكبر إذ يتعين على اللساني معرفة‬
‫اللغة األم‪ ،‬وجميع اللغات المتفرعة عنها قديمة كانت أم حديثة ‪.‬إنه حسب‬
‫ماريو باي عمل شبيه بعمل الشرطة السرية المتمثل في التقاط المفاتيح‬
‫وجمع الجزئيات وربط بعضها ببعض أما فيما يخص المناهج المعتمدة في‬
‫هذه اللسانيات‪ ،‬فقد أقصرها معظم الباحثين على منهجين هما ‪ :‬المنهج‬
‫المقارن ‪ ،‬ومنهج إعادة التركيب اللغوي (منهج إعادة التركيب الداخلي )‪.‬‬
‫ورأى بعضهم أنها ثالث مناهج ‪ ،‬ومن هؤلء ميلوسكي الذي أضاف إلى‬
‫المنهجين السابقين المنهج الفيلولوجي‪ ،‬يقول ‪ " :‬إن اللسانيات التاريخية‬
‫استعملت ثالت مناهج لعادة بناء اللغات ‪ ،‬المنهج الفيلولوجي ‪ ،‬و منهج‬
‫إعادة التركيب الداخلي ‪ ،‬والمنهج المقارن‪.‬‬
‫يهتم المنهج التاريخي بدراسة التطور اللغوي عبر الزمن‪ ،‬ويكون هذا بدراسة‬
‫التطورات األجتماعية‪ ،‬والثقافية ‪ ،‬والعلمية‪ ،‬والسياسية ‪ ،‬وغيرها من التطورات‬
‫التي يمكن أن تؤثر في اللغة ‪.‬فالبحوث التي تدرس توزيع اللغات عبر الزمن وما‬
‫يحدث فيه من تغيير ‪ ،‬والتي تناقش التغيرات التي تحدث في اللغات المختلفة ‪ ،‬هي‬
‫من بحوث علم اللغة التاريخي‪ .‬وكذلك تدخل في هذا العلم البحوث التي تهتم بلغة‬
‫واحدة فتدرس التطورات التي حدثت ألصواتها‪ ،‬أو صرفها ‪ ،‬أو نحوها ‪ ،‬أو معاني‬
‫كلماتها عبر الزمن ‪.‬‬
‫خامسا ا‪ :‬المنهج التقابلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬مفهوم منهج التحليل التقابلي‪:‬‬
‫منهج التحليل التقابلي ‪Contrastive analysis‬هو دراسة مقارنة للغتين أو أكثر‬
‫أو للهجات مختلفة من لغة معينة بهدف أيجاد أوجه التشابه والختالف بينها‬
‫بصورة عامة أو في جوانب لغوية معينة‪.‬‬
‫يرى بعض الباحثين أن الدراسات اللغوية التقابلية ‪ Contrastive studies‬يجب‬
‫تمييزها عن علم اللسانيات المقارنة ‪ Comparative linguistics‬والذي هو‬
‫عبارة عن دراسة مقارنة للغتين أو أكثر يعتقد أنهما ترجعان إلى أصل واحد‬
‫وبينهما أصول تاريخية مشتركة بهدف اكتشاف تلك األصول و إعادة بنائها‪.‬‬
‫بينما يرى البعض اآلخر أن خلطا ا قد حصل في استعمال المصطلحات الدالة على‬
‫منهج التقابل والمقارنة من قبل الباحثين في مجال علم اللغة المقارن‪ .‬فأطلق على‬
‫الدراسات التي تعنى بمقارنة لغتين أو أكثرمسميات عدة من قبيل الدراسات‬
‫التقابلية‪ ، Contrastive studies‬دراسات اللغة التقابلية ‪Contrastive‬‬
‫‪ ، language studies‬اللسانيات التقابلية ‪،Contrastive linguistics‬‬
‫الدراسات التقابلية التطبيقية‪ ، Applied contrastive studies‬الوصف‬
‫التقابلي ‪ Contrastive description‬وغيرها‪ .‬ولتدل جميع هذه المصطلحات‬
‫معان عديدة ومختلفة‬
‫ٍ‬ ‫على معنى واحد عند مستخديميها من العلماء بل تدل على‬
‫ولكل باحث طريقته الخاصة به في استعمالها‪.‬‬
‫ب‪ -‬نشأته‪:‬‬
‫ويعتبر منهج التحليل التقابلي حديثا ا بالمقارنة مع المناهج األخرى في علم‬
‫اللسانيات فقد نشأ هذا المنهج خالل الحرب العالمية الثانية ‪ 1545-1535‬في‬
‫الوليات المتحدة األمريكية من خالل الحاجة الملحة أنذاك لتعلَم وتعليم اللغات‬
‫األخرى كلغات ثانية‪ Second languages‬أو لغات أجنبية ‪Foreign‬‬
‫‪ .languages‬حيث كانت جيوش الوليات المتحدة األمريكية تقاتل على جبهات‬
‫مختلفة في مناطق متعددة من العالم فأحس قادة تلك الجيوش وضباط المخابرات‬
‫بالحاجة الماسة إلى فهم لغات الشعوب التي يقاتلون على أراضيها بل والتخاطب‬
‫بها إن أمكن‪ .‬ومن هنا نشأت الحاجة إلى تعلم وتعليم تلك اللغات من خالل تحليلها‬
‫ومقارنتها باللغة اإلنجليزية باتباع منهج التحليل التقابلي الذي أثبت جدواه‬
‫وفاعليته‪.‬‬
‫ويرى بعض الباحثين أن هذا المنهج كان سائداا قبل ذلك بكثير وأن إرهاصاته بدأت‬
‫في إنكلترا حينما شرع اللغويون بمقارنة األنماط النحوية اإلنجليزية مع تلك التي‬
‫في اللغة الالتينية‪.‬‬
‫بينما يذهب بعض علماء اللسانيات إلى أن هذا الفرع من علم اللغة كان قد بدأ في‬
‫أواخر القرن التاسع عشر حين إهتم علماء اللغة بدراسة فقه اللغة‬
‫المقارن‪ Comparative philology‬في محاولة منهم إليجاد روابط بين لغات‬
‫العالم المختلفة على المسوتيين البنيوي والتاريخي بهدف إظهار القواسم‬
‫المشتركة‪ Common factors‬فيما بينها وبالتالي تصنيفها إلى "عائالت" لغوية‬
‫‪.Language families‬‬
‫واألمر الذي لشك فيه هو أن هذا المنهج قد بلغ ذروة نضجه وصار يتبناه‬
‫الباحثون في دراساتهم اللغوية في ستينات القرن المنصرم في الوليات المتحدة‬
‫األمريكية عندما أستخدم بصورة فعالة في تفسيرالمشاكل الناجمة عن عملية تعلم‬
‫وتعليم اللغات األخرى كلغات ثانية أو لغات أجنبية ولتجنب الوقوع في األخطاء‬
‫الشائعة المصاحبة لتلك العملية والتي يعزوها العلماء إلى تأثير اللغة األولى ‪First‬‬
‫‪ language‬على اللغة الثانية‪ Second language‬أو ما أطلق عليه فيما بعد‬
‫بتداخل اللغة األولى ‪ . First language interference‬وقد تعزز هذا الهتمام‬
‫في السبعينات من القرن الماضي حينما قام الباحثون األوروبيون بمقارنة لغاتهم‬
‫باللغة اإلنجليزية‪.‬‬
‫ج‪-‬أنواعه‪:‬‬
‫يقسم الباحثون الدراسات اللغوية التي اتخذت من التحليل التقابلي منهجا ا لها إلى‬
‫ثالثة أقسام وهي‪:‬‬
‫‪ .1‬دراسات قائمة على منهج التحليل التقابلي الخالص‪ .‬وهي التي تعنى بمقارنة‬
‫لغتين أو أكثر أو لهجتين من لغة ما أو أكثر لتسليط الضوء على نقاط التشابه‬
‫والختالف بينها‪ .‬وقد ظهرت جملة من الدراسات الرصينة المكرسة كليا ا لهذا‬
‫الغرض‪ ،‬فقورنت اللغة اإلنجليزية بالعربية والفرنسية والروسية والصينية وبقية‬
‫اللغات األخرى‪ ،‬كما قورنت اللغات األخرى باللغة اإلنجليزية‪.‬‬
‫‪ .2‬دراسات نتجت عن تحليل األخطاء اللغوية‪Linguistics error analysis‬‬
‫الناجمة عن تعلم لغة ما أو الترجمة منها وإليها‪ .‬وقد اهتم الباحثون في هذا الحقل‬
‫بتتبع تلك األخطاء ومحاولة الكشف على أسبابها وطرق تالفيها‪ .‬وبالطبع ما كان‬
‫‪ .3‬دراسات لغوية وصفية ‪ .Linguistics descriptive studies‬وهي الدراسات‬
‫التي اهتمت بوصف جانب لغوي أو عدة جوانب لغوية في لغة ما‪ .‬وهذا النوع من‬
‫الدراسات س ّهل عملية مقارنة تلك اللغات باللغات األخرى على ضوء منهج التحليل‬
‫التقابلي‪.‬‬
‫د‪-‬فوائده‪:‬‬
‫مما لشك فيه أن اكتشاف منهج التحليل التقابلي وتأصيله وتطوير أدواته قد عاد‬
‫على علم اللسانيات وعلى المتخصصين فيه بالنفع الكثير‪ .‬فقد أسهم هذا المنهج‬
‫في تصنيف لغات العالم المختلفة إلى عائالت لغوية متعددة وذلك من خالل‬
‫دراستها دراسة تقابلية مقارنة أظهرت بوضوح قواسمها المشتركة التي سهلت‬
‫عملية فرزها وإدراجها تحت عائالت مختلفة‪.‬‬
‫ولعل من أهم عوامل تطور ونجاح هذا المنهج في الدراسات اللغوية المعاصرة هو‬
‫الهتمام المتزايد به من قبل مدرسي اللغات ومتعلميها‪ .‬فالتحليل التقابلي قد نجح‬
‫إلى حد كبير في تفسير مشلكة التداخل‪ Interference‬في مجال تعلَم اللغات‬
‫واكتسابها‪ .‬وقد تم استعمال نتائجه وتطبيقها لتطوير مواد ومناهج وطرق تعليم‬
‫اللغات األمر الذي ساعد كثيراا في تجنب متعلمي اللغة من الوقوع في أخطاء لغوية‬
‫تتعلق بتأثير اللغة األولى على اللغة الثانية وذلك من خالل إبراز أوجه التشابه‬
‫والختالف على المستوى الصوتي ‪ Phonetic level‬والمستوى الصرفي ‪level‬‬
‫‪Morphological‬والمستوى النحوي ‪ Syntactic level‬والمستوى‬
‫الدللي‪ Semantic level‬والمستوى الستعمالي أو التداولي ‪Pragmatic‬‬
‫‪.level‬‬
‫كما وأستفاد دارسوا علم الترجمة من منهج التحليل التقابلي فائدة كبيرة حيث‬
‫وجدوا أن اإللمام بأوجه التشابه والختالف بين اللغة المنقول منها ‪Source‬‬
‫‪ language‬وتلك المنقول إليها ‪ Target language‬يجعل المترجم قادراا على‬
‫تجنب الوقوع في إخطاء كثيرة من قبيل الترجمة الحرفية للتراكيب والصيغ‬
‫والدللت‪ .‬زد على ذلك إن اإللمام بهذا النوع من التحليل يجعل المترجم قادراا على‬
‫اإلحاطة بجوانب النص المراد ترجمته إحاطة علمية شاملة ودقيقة لتستوعب‬
‫المستوى النحوي أو المفرداتي فحسب بل تتعاداهما إلى مستوى الخطاب ونوعه‬
‫وظروفه الموضوعية‪.‬‬
‫كما وقد استفاد نقاد الترجمة بشقيها الشفوية والخطية من منهج التحليل التقابلي‬
‫في عملية نقد وتحليل وتقييم النصوص المنقولة من لغات أخرى‪ .‬فقد مكنهم هذا‬
‫المنهج من اكتشاف مواطن ضعف النصوص المترجمة واكتشاف مواطن قوتها‪،‬‬
‫وسهل لهم عملية بلورة نماذج أو أنماط أو أقيسة لتقييم تلك النصوص والحكم‬
‫على ترجمتها بالجودة أو الرداءة وعلى مترجميها بالكفاءة أو بعدمها‪.‬‬
‫سادسا ا‪:‬المنهج المعياري‪:‬‬
‫أ‪ -‬تمهيد‪:‬‬
‫يعد المنهج المعياري منهجا ا له قيمته العالية في دراسة القواعد النحوية ‪،‬‬
‫واللغوية‪ .‬ومازال متداولا به من الخلف إلى السلف‪ ،‬وإلى يومنا هذا‪.‬والمنهج‬
‫المعياري كما تراه الباحثة يع ّد أصل الدراسات النحوية واللغوية بشكل عام‪،‬‬
‫والدراسات الوصفية فرع عنها‪ .‬أي تعمل المعيارية جنبا ا إلى جنب مع الوصفية في‬
‫الوصول إلى التأصيل‪ ،‬والتقعيد‪ ،‬ول سيما أن تقعيد اللغة ‪ ،‬ومرحلة تجميعها كانت‬
‫وصفية لتنتهي هذه الرحلة إلى المعيارية‪ .‬وهذا يؤكد أن المعيارية أصل كونها‬
‫ثابتة ل تتغير مع الزمن‪ ،‬والوصفية فرع عن المعيارية‪ ،‬كونها تتغير‪.‬‬
‫ودراستنا لهذا المنهج الكبير بمظاهره يقودنا إلى معرفة هذه المظاهر بشكل‬
‫أعمق‪ ،‬وأدق صورة له‪ .‬وما التوليدية والتحويلية إلّ شاهد على أن مظاهر‬
‫المعيارية قد أبدت أهميتها في دراسة اللغة بشتى الطرائق والسبل‪ .‬والوصفية فرع‬
‫عن المعيارية يغذي المعيارية بالمعلومات الدقيقة والقريبة من الفئة اللغوية‬
‫المدروسة ‪ ،‬أو الظاهرة اللغوية ‪.‬‬
‫أ‪ -‬مفهوم المعيارية‪:‬‬
‫المعيارية منهج يقيم على الصواب والخطأ ‪ .‬منهج يعمل على وضع القواعد‬
‫النحوية واللغوية وفق معايير والموازين‪ ،‬وقد أسماه الوصفيون بالمنهج التقليدي‬
‫‪ .‬كونه يسير على نهج القدماء‪.‬وهو المنهج الذي يقيس القواعد النحوية واللغوية‬
‫‪.‬وقد استعمل الدكتور محمود فهمي حجازي لفظة المعيارية ولم يستعمل لفظ‬
‫منهج‪ ،‬فقد أطلق على المعيارية في النحو اسم النحو التعليمي أو المعيارية دون‬
‫استعمال كلمة منهج‪ .‬فقد ذكر أن المعيارية تهدف إلى وضع ضوابط الستخدام‬
‫اللغوي الصحيح ألبنية المفردات وأبنية الجمل‪.‬‬
‫وقد ذكر كريستال أن المعيارية اصطالح استعمل بواسطة اللغويين لوصف أي‬
‫اتجاه لمحاولة وضع ضوابط الصحة‪ .‬كما تهدف المعيارية إلى الحفاظ على‬
‫مستويات متصورة اللغة‪ ،‬وذلك بإصرارها على فرض نماذج لالستعمال منتقدة‬
‫الخروج عنها‪ ،‬وتتخذ لذلك معايير معينة مثل النقاء والمنطق والتاريخ واألدب‬
‫الرفيع‪ .‬إذن النحو المعياري يسعى بمنهجه المعياري إلى ضوابط القواعد‬
‫وتصحيحها وتقويمها على وجهتها الصحيحة‪ ،‬وكذا تحديد المعايير والقواعد‬
‫لتصحيحها‪.‬‬
‫وقد استعمل عبد القاهر الجرجاني بمعنى القياس عند حديثه عن اإلعراب الذي يع ّد‬
‫المعيار" الذي ل يتبين نقصان كالم ورجحانه حتى يعرض عليه والقياس الذي ل‬
‫يعرف صحيح من سقيم حتى ُيرجع إليه " ومن كالم الجرجاني نجد أن دراسة‬
‫اللغة هي غاية في بيان أوجه الصواب أو الخطأ تبعا ا للمعايير الموضوعية والتعليل‬
‫للخطأ بافتراضات كثيرة كالحذف والعوض والتقدير والتأويل والتقديم والتأخير ثم‬
‫الخروج بنتيجة مؤداها تعديل شكل ظاهرة لغوية حتى تتفق مع معايير موضوعه‬
‫ش َّق ْت) األيه(‪ )1‬سورة‬ ‫مسبقا ا في ذهن الباحث نحو قوله تعالى ((إِ َذا َّ‬
‫الس َما ُء ا ْن َ‬
‫اإلنشقاق‪.‬‬
‫بمعيار النحاة إذا انشقت السماء انشقت (‪ .‬ولذا قال الجرجاني يعرض عليه القياس‬
‫الذي ل يعرف صحيح الكالم من سقيم حتى يرجع إليه ‪ .‬و يجب على المتكلم أن‬
‫يراعي " معايير اجتماعية معينة يطابقها في الستعمال‪ ،‬ويقيس في كالمه على‬
‫هذه المعايير‪.‬‬
‫و ليت ّم نظم الكالم ووضعه إألّ بموجب علم النحو التقليدي القائم على المعيارية‪،‬‬
‫فقد ذكر الجرجاني في دلئله بقوله‪ " :‬أعلم أنه ليس النظم إلّ أن تضع كالمك‬
‫الوضع الذي يقتضيه علم النحو‪ ،‬وتعمل على قوانينه وأصوله‪ ،‬وتعرف مناهجه‬
‫التي نهجت فال تزيغ عنها‪ ،‬وتحفظ الرسوم التي رسمت لك‪ ،‬فال تخل ّ بشيء منها‪.‬‬
‫فنظم الكالم هنا – كما ذكر الجرجاني‪ -‬يقصد وضع الكالم تحت قوانين وضوابط‬
‫لستقامة الكالم وفق منهج يسير عليه وهذا المنهج هو المعياري دون غيره‪.‬إذ‬
‫يقوم بدور مهم في تعليم القواعد؛ ألن أساسه محاولة استخالص مجموعة محددة‬
‫القواعد والقوانين وجعلها نموذجا ا أو معياراا ينبغي األخذ به في السير على‬
‫طريقه‪ ،‬فمن خرج عن هذا النهج أو المعيار دخل في دائرة الخطأ‪ ،‬ومن سار على‬
‫هذه كان معيباا‪ ،‬فهذا النهج في األساس وظيفته بيان الخطأ والصواب في اللغة‪،‬‬
‫ومحاولة فرض قواعده على مستعملي اللغة‪ ،‬حفاظا ا عليها وعلى أصولها‪ ،‬ويهدف‬
‫أيضا ا إلى تعليم اللغات القومية‪.‬‬
‫والمعيارية هو منهج النحو العربي الذي شغل النحاة القدماء والمحدثين‪ ،‬وكذا‬
‫اللغويون من القدماء ‪ ،‬والمحدثين‪ .‬ذلك ألن " النحو علم مستخرج بالمقاييس‬
‫المستنبطة من استقراء كالم العرب‪ ،‬الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي تأتلف‬
‫منها فيحتاج من أجل ذلك إلى تبيين حقيقة الكالم وتبيين أجزائه التي يأتلف منها‬
‫وتبيين أحكامها‪( ".‬والنحو" صناعة علمية‪ ،‬ينظر لها أصحابها في ألفاظ العرب‬
‫من جهة ما يتألف بحسب استعمالهم لتعرف النسبة من صبغة النظم‪ ،‬وصورة‬
‫المعنى‪ ،‬فيتوصل بإحداهما إلى األخرىو هو " علم بأقيسة تغيير ذوات الكلم‬
‫وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب" وذكرنا للتعريف بالنحو لما كانت‬
‫المعيارية سمة أساسية من سمات النحو العربي‪ ،‬ولسيما أن الدراسات الحديثة‬
‫منصبة في النحو العربي التقليدي الذي اتخذ المنهج المعياري منهجا ا له في هذه‬
‫الدراسات‪.‬‬
‫والدراسة المعيارية كما ذكر تمام حسان‪ ،‬مؤسسة على المنطق‪ ،‬خالية من وجهة‬
‫نظر علمية‪ ،‬وهي ل تهتم باللغة نفسها‪ ،‬بل ترى فقط أن تسن القواعد التي تفرق‬
‫بين الستعمالت الصحيحة وغير الصحيحة‪ ،‬وهذا المنهج المعياري بعيد عن‬
‫المالحظة الخالصة‪ ،‬يفرض وجهة نظره فرضا ا ‪.‬وقد توالت الدراسات حول تأثر‬
‫النحو العربي بالمنطق‪ ،‬ولسيما منطق أرسطو‪ .‬كما أن الوصفيين جعلوا من تأثر‬
‫النحو بالمنطق سمة من سمات المنهج المعياري‪ ،‬وعدّوا أن النحو العربي ليس له‬
‫استقاللية خاصة‪ ،‬وأن الدراسات في النحو ليست مستقلة عن العلوم األخرى‪ ،‬بل‬
‫إن النحو العربي تأثر بالمنطق‪ .‬أي إن تمام حسان من كالمه عن المنهج المعياري‬
‫واتهامه للنحو العربي بأنه مؤسس على المنطق‪ ،‬يرفض المنهج المعياري ‪ ،‬وأنه‬
‫يؤيد المنهج الوصفي الجديد القائم على الدراسة المحددة لبيئة ما ‪ ،‬في مجتمع ما‪،‬‬
‫ودراسة اللغة لذاتها ولذاتها‪.‬‬
‫ومفهوم المعيارية في اللغة ل يبتعد كثيراا عن مفهومه في الصطالح‪ ،‬فقد ورد في‬
‫لسان العرب عن المعيارية‪ ،‬واستعماله‪ .‬فالمعيار كالمقياس‪ ،‬والمكيال‪ ،‬والميزان‪.‬‬
‫" قال الليث‪ :‬العيار ما عايرت به المكاييل ‪،‬فالعيار صحيح تا ّم وافٍ ‪ ،‬تقول‪ :‬عايرت‬
‫سويته‪ ،‬وهو العيار والمعيار‪ .‬يقال‪ :‬عايروا ما بين مكاييلكم وموازينكم ‪،‬‬ ‫به أي ّ‬
‫وهو فاعلوا العيار‪ ،‬ول تقل ع ّيروا‪ .‬وع ّيرت الدنانير‪ :‬وهو أن تلقي ديناراا ديناراا‬
‫فتوازن به ديناراا ديناراا ‪ ،‬وكذلك ع ّيرت تعييراا إذا وزنت واحداا وحداا‪ ،‬يقال هذا في‬
‫الكيل والوزن‪ ".‬وما الوزن والكيل والضبط من المعيارية‪ .‬فضبط وكيل القواعد‬
‫النحوية واللغوية من المعيارية‪.‬‬
‫ج‪ -‬مظاهر المعيارية‪:‬‬
‫مظاهر المعيارية وخصائصها تبدأ من مفهوم المعيارية ذاتها‪ .‬ومن تعريف‬
‫المعيارية في الصطالح اللغوي‪ ،‬وتعريفه الصطالحي‪ .‬فمظاهر وخصائص‬
‫المعيارية مجملة على النحو اآلتي‪ ،‬وتفصيلها في موضع ل حق‪:‬‬
‫‪ -1‬القياس‪ :‬تحدث النحاة عن القياس كونه أصالا من األصول النحوية‪ ،‬ومظهراا‬
‫من مظاهر المعيارية‪.‬وهناك من رفض القياس‪ ،‬ومن يؤيده‪.‬والقياس النحوي هو‬
‫األحكام التي تصدق على النصوص اللغوية الواردة بطريقة واحدة أخذت منها‬
‫القاعدة‪ ،‬ث ّم تعمم تلك القاعدة على النصوص التي لم ترد‪ .‬كما أن هناك نوعا ا آخر‬
‫من القياس‪،‬يتمثل في‪ :‬قياس أحكام على أحكام لنوع من المشابهة‪ ،‬فهذا الحكم‬
‫كذا‪ ،‬لمشابهته بكذا‪ -‬كمشابهة إعراب الفعل المضارع بالرفع‪ ،‬بالسم‪ -‬وهذا القياس‬
‫يطلق عليه بالقياس العقلي؛ نظراا ألن العقل يؤدي دوراا في عقد المشابهة وإقامة‬
‫الصلة بين األحكام‪ .‬ومن هنا نجد تدخل العقل في بناء القاعدة‪ ،‬كما نجد التوليدية‬
‫التحويلية قامت على أسس عقلية ومن ضمنها القياس وسنتناوله لحقا ا‪.‬‬
‫‪ -2‬العلل( التعليل) ‪ :‬يمثل عنصراا مهما ا أساسيا ا في الدرس النحوي عند‬
‫العرب‪.‬والحديث عن التعليل يطول ‪ ،‬وسنتطرق إليه في موضع لحق‪ ،‬وإنما ذكرناه‬
‫لإلشارة فقط ‪ ،‬وتفصيل الحديث في المواضع اآلتية الذكر‪.‬‬
‫‪ -3‬العامل ‪:‬هو ما يؤثر في اللفظ تأثيراا ينشأ عنه عالمة إعرابية ترمز إلى معنى‬
‫خاص؛ كالفاعلية‪،‬أو المفعولية أو غيرهما‪ .‬ول فرق بين أن تكون تلك العالمة‬
‫ظاهرة أو مق ّدرة‪ .‬أي يعمل العامل جنبا ا إلى جنب مع اإلعراب ليؤديان دوراا مهما ا‬
‫في المعنى‪ .‬وهناك من أيده ومن رفضه‪ ،‬وهذا ما سنتناوله في المواضع الالحقة‪.‬‬
‫والحديث عن العامل يطول شرحه ‪ ،‬إذ تحدثت الباحثة عن هذه القضية (نظرية‬
‫العامل) باختصار‪ ،‬مع األخذ بنماذج لمؤيدي العامل‪ ،‬ومنكريه من القدماء‬
‫والمحدثين؛ نظراا لتساع المادة البحثية وتشعبها الكبير‪.‬‬
‫‪ -4‬اإلعراب ‪:‬هو التطبيق العام على القواعد النحوية المختلفة‪ ،‬ببيان ما في الكالم‬
‫من فعل‪ ،‬أو‪ :‬فاعل‪ ،‬أو مبتدأ‪ ،‬أو خبر ‪ ...‬وموقع كل منها في جملته‪ ،‬وبنائه أو‬
‫إعرابه ‪ ...‬أو غير ذلك‪ .‬وقضية اإلعراب شغلت النحاة قديما ا وحديثا ا ‪ ،‬وكان‬
‫الحديث عنه كثير‪ ،‬وفيه تفصيل موسع‪ .‬وله عالقة وثيقة الصلة بالعامل‪ ،‬من حيث‬
‫التغييرات الحاصلة في أواخر الكلمات من رفع للفاعل‪ ،‬أو نصب للمفعول‪ ،‬أو غير‬
‫ذلك‪ .‬إذ يعمالن معا ا في الكشف عن المعاني للجمل‪.‬وتناولت الباحثة اإلعراب‬
‫منكريه‪ ،‬ومؤيديه رابطة في ذلك بنظرية العامل‪.‬‬
‫د‪ -‬خصائص المعيارية‪:‬‬
‫‪-‬كونه يقوم على مبدأ الصواب والخطأ‪.‬‬
‫‪-‬يعمل على ضبط النصوص وإصالحها ‪ ،‬وتنقيتها من الخطأ ‪ ،‬وتصويبها‪.‬‬
‫‪-‬يع ّد مقياسا ا لنظم الكالم ‪ ،‬ومعرفة صحيحه من سقيمه‪.‬‬
‫‪-‬إن المعيارية موقعها الدراسات التاريخية التي تهتم بتطور اللغة وكذا القواعد‬
‫اللغوية والنحوية سلبا ا أو إيجابا ا‪.‬وبيان السلبيات وإصالحها ‪ ،‬وتقويمها على‬
‫وجهتها الصحيحة‪ ،‬والسليمة‪.‬‬
‫تطورها ‪.‬‬
‫‪-‬إن المعيارية تهت ّم بدراسة اللغة حالة ّ‬
‫‪-‬إن المعيارية ‪-‬المتمثل في النحو العربي التقليدي‪ -‬يحدد قواعد اللغة بنا اء على‬
‫فهم المعنى أولا‪ ،‬أي إن القواعد تتحدد وفقا ا للدارس نفسه‪.‬‬
‫‪-‬إن المعيارية ‪-‬المتمثل في النحو العربي التقليدي‪ -‬يهتم بالعلة ( التعليل) كونه‬
‫مرتبط بالمفهوم‪.‬‬
‫‪-‬إن المعيارية ‪-‬المتمثل في النحو العربي التقليدي‪ -‬يهتم باللغة المنطوقة ‪ ،‬و اللغة‬
‫المكتوبة ‪.‬‬
‫و‪ -‬الفرق بين المنهج المعياري والوصفي‪:‬‬
‫المنهج المعياري بخالف المنهج الوصفي ‪ ،‬قائ ٌم على فرض القاعدة أي يبدأ‬
‫بالكلّيات وينتهي بالجزئيات ‪ ،‬والمنهج المعياري يعتمد‬
‫ويتأول لما خرج عن القواعد التي يصو ُغها‬ ‫ّ‬ ‫القاعدة أساسا ا وي ْنأى عن الوصف ‪،‬‬
‫بإحكام شتى التأويالت أو يحكم عليها بالشذوذ والقلّة إنْ ل ْم يجد فيها‬
‫تأويالا مناسبا ا ولو كان بعيداا أو مستغربا ا‪.‬‬
‫و ُعرفت المعيارية في الدراسات اللغوية األوروبية واستخدم‬
‫لها عبارة اللغة المعيارية‬
‫‪( Standard Language) ,‬أو عبارة المعياري حينما‬
‫ُتوصف اللغة أو ال ّنحو أو القواعد عامة‪.‬‬
‫لهجة من لهجات لغة ما ث ّم ترقى إلى‬ ‫ا‬ ‫وتكون اللغة المعيارية في ّأول أمرها‬
‫مستوى التقليد والمحاكاة وتتخذ ُ لها صفة رسمية لذلك‬
‫قيل َ في تعريفها وبيان أسباب نشأتها ‪ :‬أنّ اللغة المعيارية هي ذلك المستوى‬
‫الكالمي الذي له صفة ٌ رسم ّية والذي يستعمله المتعلّمون تعليما ا راقيا ا‪.‬‬
‫ا‬
‫لهجة محلّية ‪ ,‬تنال ُ شيئا ا من التمجيد‬ ‫وغالبا ا ما تكون اللغة المعيارية في ّأول األمر‬
‫ب من‬‫عترف بها كلغ ٍة رسمية ٍ لسب ٍ‬
‫ُ‬ ‫أو التقدير و ُي‬
‫األسباب‪.‬‬
‫ضلة التي ُت ّتخذ مقياسا ا للبالغة والفصاحة‬‫فالمعيارية بهذا المفهوم هي اللهجة المف ّ‬
‫كتفضيل لهجة قريش في الدراسات العربية التقليدية‬
‫ب دينية وسياسية ‪ .‬ث ّم تكون هذه اللهجة‬ ‫على سائر اللهجات العربية األخرى ألسبا ٍ‬
‫نوا اة للمنهج المعياري ‪ ،‬وتتخذ ُ قواعدها معياراا للصحة والخطأ كما هو واضح ٌ في‬
‫تاريخ العربية ‪ .‬ولذلك فقد نشأ النحو العربي نشأ اة وصف ّية‬
‫صوب المعيارية بعد أن وضعوا القواعد واألصول‬ ‫باعتماد الستقراء ولك ّنه جنح ْ‬
‫وتو ّقفوا عن استقراء المادة اللغوية المستج ّدة فبرزت اللغة الرسمية‬
‫لة بهذا واعتبرت مقاييسه وقواعده ف ْيصالا في الصحـة والخطــأ‪.‬‬ ‫مم ّث ا‬

‫ول ّما كان الهدف منص ّبا ا في الغالب على تعليم الناشئة وغيرهم‬
‫والمتخصصين رأيناهم ي ّتجهون بالنحو ِوجهة تعليم ّية‪,‬‬
‫ّ‬ ‫من المثقفين‬
‫والتعليم ّية أداةٌ معيارية ‪ ،‬إذ بواسطتها ُيمكن المحافظة على المستوى‬
‫تسرب هذا المنهج شيئا ا فشيئا ا إلى الدرس‬
‫الصوابي لمعيارية اللغة ‪ .‬ث ّم ّ‬
‫اللغوي على مستوى التخصص البحت‪.‬‬
‫العربي من أجلها وهي ضبط اللغة‬ ‫ّ‬ ‫إنّ العناية التي نشأ النحو‬
‫وإيجاد األداة التي تعص ُم الالحنين من الخطأ فرضت على هذا النحو أن ي ّتسم‬
‫العلمي ‪ ،‬أو بعبار ٍة أخرى أن‬
‫ّ‬ ‫مي ل النحو‬‫في جملته بسمة النحو التعلي ّ‬
‫يكونَ في عمومه نحواا معياريا ا ل نحواا وصف ّيا ا‪.‬‬
‫أسباب‬
‫ٌ‬ ‫ولم يكن الغرض التعليمي سببا ا وحيداا في معيارية النحو العربي بل هناك‬
‫أخرى من أهمها تأ ّثر النحو العربي بالمنطق ‪ ،‬والمنطق الذي نعنيه هو منطق ”‬
‫أرسطو ” الذي قال كثي ٌر من الباحثين بتأثيره في بعض‬
‫التجاهات في الدراسة العربية القديمة ومنها لدراسات اللغوية ‪ .‬وهذا المنطق‬
‫ُيعنى بالصورة أكثر من عنايته بالمادة ‪ .‬ودرس اللغة ينبغي أن ير ّكز على المادة ل‬
‫على الصورة ‪ ،‬وتأثير المنطق على النحو ُيبعده عن درس الواقع‬
‫ا‬
‫نتيجة‬ ‫اللغوي كما هو ‪ .‬وعناية المنطق األرسطي بالصورة أو الشكل جاءت‬
‫لهتمامه بالطبيعة الثابتة أو (األنواع) من حيث ماهياتها األزل ّية ‪ ،‬ونرى أنّ‬
‫تعريف األشياء وفقا ا لهذا المفهوم قد تأ ّثر به النحو العربي من حيث‬
‫تعريف الكلّيات النحوية كأبواب السم والفعل والحرف والمبتدأ والخبر‪…..‬‬
‫ا‬
‫نتيجة لمقدّم ٍة منطقي ٍة أرسط ّية هي النظرة إلى الطبيعة‬ ‫وكانت المعيارية‬
‫بما فيها من أنواع وأشياء نظرة ثابتة ل تتغ ّير‪.‬‬
‫ومن آثار المنطق في الدرس اللغوي عند العرب هو القول بالقياس والبرهان‬
‫شغل ال ّنحاة ولس ّيما في القرن الرابع الهجري وما تاله بهذه المبادئ‬
‫والعلل ‪ .‬وقد ُ‬
‫واعتبروها أصولا للنحو ‪ .‬حتى أنّ الزجاجي ر ّد على الذين‬
‫اتبعوا سيبويه في تقسيم الكالم إلى اسم وفعل وحرف تقليداا من برهان ول‬
‫حجة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومن القضايا التي قد ُيحسب أنّ لها عالقة بالصواب المطلق‬
‫ووجه بهما القدح‬
‫ّ‬ ‫قضيتان مرتبطتان بالمنهج الوصفي أُثير حولهما الجدل والنقاش‬
‫صوغ القياسي ‪.‬‬
‫صوابي وال ّ‬
‫والنقد إلى هذا المنهج وهما ‪ :‬المستوى ال ّ‬
‫صوابي‪ :‬فيفترض من حيث الشكل معياراا لغويا ا‬ ‫أ ّما المستوى ال ّ‬
‫للصواب المطلق في اللغة ولك ّنه في حقيقته غير ذلك فهو ينظ ُر إلى‬
‫صواب باعتباره مقياسا ا يفرضه المجتمع اللغوي الواحد فهو معيا ٌر لغو ٌ‬
‫ي يرضى‬ ‫ال ّ‬
‫صواب والخطأ اللغويين ليمكن‬ ‫ويرفض الخطأ في استعمال ال ّ‬
‫ُ‬ ‫صواب‬‫عن ال ّ‬
‫صوابي أن يح ّددهما باعتباره فكرة يستعين بها الباحث على ذلك ‪.‬‬ ‫للمستوى ال ّ‬
‫وإ ّنما هو‬
‫مقياس اجتماعي يفرضه المجتمع اللغوي على األفراد ويرجع األفراد إليه‬ ‫ٌ‬
‫عند الحتكام في الستعمال‪.‬‬
‫صوغ القياسي فهي مقدرة خاصة اكتسابية يكتسبها الفرد في ُطفولته‬ ‫أ ّما ظاهرة ال ّ‬
‫ولها عالقة وطيدة بالمجتمع اللغوي الذي يعيش فيه ‪ ،‬ووفقا ا لها تحصل لديه ملَكة‬
‫قياس صيغ لم يسمعها على صيغ ٍ قد سمعها ‪ ،‬ومن مظاهر‬
‫المنهج المعياري في الدرس اللغوي القديم‪:‬‬
‫األخذ من بعض القبائل واللهجات وترك قبائل ولهجا ٍ‬
‫ت أخرى‪.‬‬
‫إدخال بعض المناهج التي عرفت التقسيم والتحديد على البحث اللغوي مثل منهج‬
‫علوم الحديث‪.‬‬

‫ملخص المحاضرة‬
‫المحاضرة السابعة‬
‫مستويات التحليل اللساني‬
‫مفردات المحاضرة‬
‫المستوى الصوتي وشمل‬
‫‪ -1‬الوحدات الصوتية الصامتة‬
‫‪ -2‬الفونتيكيا‬
‫‪ -3‬الفنولوجيا‬
‫‪ -4‬الفرق بين المصطلحين‬
‫أولا‪:‬الوحدات الصوتية‪:‬‬
‫أ‪ -‬تعريفها‪:‬‬
‫وحدات صوتية يطلق عليها(فونيمات) والوحدات الصوتية‪ -‬حسب العرف‪ -‬يمثلها الحرف‬
‫الرمز "مع العالمات الصوتية المميزة أو بدونها" بما يتناسب مع الكتابة الصوتية العريضة إلحد‬
‫ىالصور الصوتية التي يمكن تمييزها صوتيا وتوضع داخل الشرطتين المائلتين‪ //‬فعلى سبيل المثال‬
‫الوحدة الصوتية اإلنجليزية ‪ /L/‬لها كما لصورها الصوتية مجموعة من األصوات الكالمية المتميزة‬
‫صوتيا يمكن أن نميز كل صوت منها من غيره ‪-‬عند الضرورة‪ -‬في الكتابة الصوتية الضيقة‬
‫وهكذا يكون لدينا طريقة أخرى لإلشارة إلى الصيغ أال وهي الطريقة الفونيمية أو بصورة أعم إذا‬
‫عممنا استخدام الشرطتين المائلتين "كما سنفعل في هذا الكتاب" الطريقة الفونولوجية‪ ،‬ومن‬
‫األهمية أن ندرك ‪-‬كما واضح من الشرح السابق‪ -‬أن التمثيل الفونيمي ليس ببساطة كتابة صوتية‬
‫عريضة‪.‬‬
‫وثمة نقطة أخرى يجب أن تثار‪ ،‬فكل الكتب األساسية في علم اللغة تقدم غالبا شرحا غامضا وال‬
‫نقول هراء لمبدأ التقابل الوظيفي‪ ،‬فقد تذكر على سبيل المثال أن استبدال صوت [‪ ]L‬المرقق‬
‫بصوت [‪ ]L‬المفخم في‪ feel‬ال يغير معناها بينما استبدال صوت [‪ ]r‬بصوت [‪ ]L‬في‬
‫كلمة ‪ lamb‬يغير معناها وهذا الكالم ‪-‬بال مواربة‪ -‬خطأ فاستبدالـ[‪ ]r‬بـ[‪ ]L‬في‬
‫كلمة ‪ lamb‬يغير الصيغة وال يغير المعنى أي‪ :‬إنها تغير صيغة ‪lamb‬إلى صيغة ‪ ram‬حقا‬
‫إن "‪ "lamb‬و"‪" "ram‬أي الكلمات التي تعد ‪ lamb‬و ‪ ram‬صيغا لها" تختلف في‬
‫المعنى‪ ،‬ومن هنا فإن األقوال التي تشتمل عليها سوف تختلف "بشكل عام" في المعنى‪ ،‬ولم‬
‫تدفعني حذلقة علمية ال داعي لها إلى أن ألفت النظر إلى الشرح الغامض المتكرر لمبدأ التقابل‬
‫الوظيفي‪ ،‬فاالختالف في الصيغة ال يتضمن اختالفا في المعنى "انظر ظاهرة الترادف" كما أن‬
‫االختالف في المعنى ليس المعيار الوحيد الذي تعتمد عليه في إقرار اختالف الصيغة‪ ،‬وما إذا‬
‫كان ممكنا أن يكون هناك اختالف في الصيغة ال يرتبط بعالقة متبادلة في بعض النقاط في نظام‬
‫لغوي ما مع اختالف ما في المعنى قضية خالفية تعتمد جزئيا على تعريفنا للمعنى‪ ،‬لكن ليس من‬
‫شك في أن ما يوضع في االعتبار عند شرح مبدأ التقابل الوظيفي هو تطابق الصيغة واختالفها‬
‫وليس تطابق المعنى واختالفه‪.‬‬
‫ب‪-‬أنواعها‪:‬‬
‫وتشمل الصوات الصامتة والصوات الصائته‪-‬الحركات‪.‬‬

‫الصوامت‪:‬‬
‫الصامت هو الصوت الذي يعترضه حاجز يسد مجرى النفس أو يضيقه‪ .‬فمن أمثلة‬
‫الصوامت التي يُسد مجرى الهواء عند نطقها‪ :‬ب‪ ،‬ت‪ ،‬د‪.‬‬

‫والصوامت في العربية أربعة أنواع‪:‬‬

‫(أ) أصوات شديدة (انفجارية)‪ :‬وهي التي يسد عند نطقها مجرى النفس تماما ثم‬
‫يحدث له انطالق فجائي‪ ،‬مثل‪ :‬ب‪ ،‬ت‪ ،‬د‪ ،‬ض‪ ،‬ط‪ ،‬ك‪ ،‬ق‪ ،‬ء‪.‬‬

‫(ب) أصوات رخوة (احتكاكية)‪ :‬وهي التي ل يُسد مجرى النفس تماما عند نطقها‪،‬‬
‫بل يمر محتكا بالعضوين الذين ضيقا مجراه‪ ،‬وهذه األصوات هي‪ :‬ث‪ ،‬ح‪ ،‬خ‪ ،‬ذ‪ ،‬ز‪،‬‬
‫س‪ ،‬ش‪ ،‬ص‪ ،‬ظ‪ ،‬ع ‪ ،‬غ‪ ،‬هـ‪.‬‬

‫حبس للهواء يعقبه تضييق يولد‬


‫ٌ‬ ‫(ج) أصوات مركبة‪ :‬وهي األصوات الناتجة عن‬
‫احتكاكا‪ ،‬وفي العربية صوت واحد بهذه الصفة هو صوت ج‪.‬‬

‫(د) األصوات المائعة‪ :‬وهي األصوات التي يصاحبها اتساع أو تسرب في مجرى‬
‫النفس في موضع آخر‪ .‬وهذا يحدث ألصوات‪ :‬و‪ ،‬ي‪ ،‬ن‪ ،‬ر‪ ،‬ل‪ ،‬م‪.‬‬

‫ثانيا ا‪ :‬مصطلح الفونيتيك‪:‬‬


‫يطلق على علم األصوات مصطلح "الفونيتيك " وعلى علم وظائف األصوات‬
‫مصطلح "الفنولوجيا"‪ .‬ويبحث كالهما في أصوات اللغة‪ ،‬وإن اختلفت أساليب‬
‫‪.‬البحث‪ ،‬واختلفت جوانبه في ك ٍّل منهما بحسب وجهات نظر الدارسين‬
‫ا‬
‫واستعمال من مصطلح "الفنولوجيا"‬ ‫والمصطلح األول‪" :‬فوناتيك" أكثر شيوعاا‬
‫وأوسع منه في التطبيق؛ إذ غالبا ما يُطلق ويراد به الدراسات الصوتية بعامة‪،‬‬
‫فيشمل حينئذ ما يقع تحت الفنولوجيا‪ ،‬وقد كان هذا اإلطالق الواسع هو العرف‬
‫السائد في القديم وحتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباا‪ ،‬ولما تقدم الدرس‬
‫الصوتي بفضل الجهود المتواصلة ومساعدة األجهزة واآللت استطاع العلماء أن‬
‫يقفوا على حقائق صوتية لم تكن معروفة لهم من قبل‪ ،‬واكتشفوا أن للصوت جوانب‬
‫يقتضي كل جانب منها النظر بأسلوب يختلف عما يُتبع مع الجانب اآلخر‪ ،‬ووجدوا‬
‫أنه من األوفق واألنسب أن يُخصص فرع من العلم‪ ،‬أو منهج من الدراسة لكل من‬
‫هذه الجوانب‪ ،‬أو لكل مجموعة منها؛ فكان أن و ّزعوا‬
‫الدراسة الصوتية على هذين الفرعين اللذين يُس ّميان بالفونيتيك‪ ،‬والفنولوجيا‪ ،‬أو‬
‫علم األصوات‪ ،‬وعلم وظائف األصوات‬

‫ثالثا‪:‬مصطلح الفنولوجيا‪:‬‬
‫فنولوجي‪ ،‬أو الفنولوجيا فتمكن ترجمته من وجهة نظر الكثيرين إلى‪ :‬علم وظائف‬
‫األصوات‪ ،‬أو علم األصوات التنظيمي‪ ،‬على أساس أنه يُعنى بتنظيم المادة الصوتية‪،‬‬
‫وإخضاعها للتقعيد والتقنين‪ ،‬أو أنه يبحث في األصوات من حيث وظائفُها في اللغة‪،‬‬
‫وكال الجانبين من صميم اختصاصات الفنولوجيا‪ ،‬والتعريب هنا هو تعريب‬
‫للمصطلح اإلنجليزي‪ :‬فوناتيكس‪ ،‬ل المصطلح الفرنسي‪ ،‬وإن كانت الصورة‬
‫المع ّربة تشبهه في النطق؛ ألن هذا المصطلح إنما يكثر إطالقه على الدراسات‬
‫الصوتية التاريخية بطريق النص بالمصطلح‪" :‬فنوتيك استلوتيك" في اللغة‬
‫الفرنسية‪ ،‬أما التعريب إلى "فنولوجيا" فهو تعريب للمصطلح النجليزي أيضا‪:‬‬
‫فنولوجي‪ ،‬ل المصطلح الفرنسي‪ :‬فنولوجييه الذي يغلب إطالقه عند الفرنسيين ‪-‬‬
‫وبخاصة في البحوث التقليدية‪ -‬على الدراسات الصوتية الوصفية‪ ،‬في مقابل‬
‫الدراسة الصوتية التاريخية التي تُسمى عادة‪ :‬فنولوجيك استلوتيك‪ ،‬سواء أكانت‬
‫‪.‬فوناتيكية صرفة أم فوناتيكية وفنولوجية م اعا‬
‫والترجمة إلى‪ :‬علم األصوات التنظيمي هي من صنع الدكتور كمال بشر في كتابه‬
‫(قضايا لغوية) ‪ ،‬أما الترجمة إلى "علم وظائف األصوات" فهي من ترجمة‬
‫الدكتور‪ :‬محمد أبو الفرج في كتابه (فقه اللغة) وهي ترجمة أوفق وأوضح‪ ،‬ويترجم‬
‫الدكتور‪ :‬تمام حسان المصطلح فنولوجي إلى علم التشكيل الصوتي كما ورد في‬
‫)كتابه (مناهج البحث في اللغة‬
‫وقد جاء التفريق أو محاولة التفريق بين الفونيتيك والفنولوجيا نتيجة لتقدم البحث‬
‫في األصوات‪ ،‬عندما أدرك العلماء أن الصوت الواحد ‪-‬أو ما كان يُسمى كذلك‪ -‬هو‬
‫في الواقع ذو صور نطقية عدة‪ ،‬تتنوع بتنوع السياق الذي يقع فيه؛ فقد لحظوا أن‬
‫هذا التنوع ليس مقصو ارا على بعض األصوات دون بعض‪ ،‬أو على نطق بعض‬
‫األفراد دون غيرهم‪ ،‬وإنما وجدوه قاعدة عامة في كل األصوات‪ ،‬وخاصة مشتركة‬
‫مثال‪ ،‬ولقد أدركوا أن الصوت المعين‪،‬‬ ‫بين كل الناطقين باللغة المعينة كاللغة العربية ا‬
‫مثال ‪-‬يختلف نطقه من سياق صوتي إلى سياق صوتي آخر‪ ،‬فهو‬ ‫وليكن الكاف ‪ -‬ا‬
‫يوصف وصفاا بأنه من أقصى الحنك مهموس‪ ،‬ولكن النقطة الدقيقة لنطقه تختلف‬
‫في الواقع باختالف ما يجاوره من حركات؛ فقد تكون إلى الخلف‪ ،‬أو إلى األمام ا‬
‫قليال‬
‫في هذه المنطقة‪ ،‬بحسب نوع الحركة التالية لها‪ ،‬وهذا الصوت المهموس قد يُجهر‬
‫أحياناا في بعض المواقع الصوتية‪ ،‬كما في نحو "أكبر" في الكالم غير المتأني‪ ،‬أو‬
‫في بعض األساليب اللغوية؛ حيث تقرب الكاف من صوت الجيم ال ُمسمى "جيم‬
‫‪.‬القاهرة" في صفة الجهر‬
‫وهكذا وجد علماء األصوات أنفسهم أمام سؤال كبير يحتاج إلى إجابة واضحة‬
‫حاسمة‪ ،‬وتساءلوا فيما بينهم‪ :‬هل الكاف في هذه الحالة صوت واحد‪ ،‬أم عدة‬
‫أصوات؟ وما أسس األخذ بهذا الحتمال أو ذاك؟ إذا كانت صوتاا واحداا ‪-‬أي‪ :‬الكاف‪-‬‬
‫فما موقفنا من تلك الصور النطقية المتعددة لهذا الصوت‪ ،‬وهي صور أكدت وجودها‬
‫األدوات واألجهزة المعملية الدقيقة؟ وإذا كانت عدة أصوات؛ أهي أصوات مستقلة‪،‬‬
‫أم أنها ذات خواص مشتركة تجمع بينها؛ ومن ثم يمكن ضمها تحت اسم واحد؟‬
‫وبالبحث المتواصل والدرس الطويل استطاع علماء األصوات أن يقرروا أن‬
‫الفروق بين صوت الكاف وصوره المختلفة في وقت واحد هي فروق نطقية محضة‬
‫جاءت نتيجة وقوع هذا الصوت في سياقات صوتية مختلفة‪ ،‬وهي فروق ليست ذات‬
‫ا‬
‫عامال في تفريق المعاني بين الكلمات التي يَرد بها هذا‬ ‫وظيفة لغوية‪ ،‬أو ليست‬
‫الصوت في سياقاته المختلفة؛ فالكلمة "أكبر" لم يزل معناها القاموسي واحداا‪،‬‬
‫سواء أكانت كافها مهموسة صرفة‪ ،‬أم لحقها شيء من اإلجهار‪ ،‬وكذلك الحال إذا‬
‫وقعت الكاف قبل الضمة‪ ،‬أو قبل الكسرة ا‬
‫مثال؛ فهي في كلتا الحالتين ذات قيمة‬
‫‪.‬لغوية واحدة‪ ،‬وهي كونها كافاا وليست جي اما أو قافاا ا‬
‫مثال‬
‫ثم توصل علماء األصوات إلى الجزء الثاني من اإلجابة‪ ،‬وهو الجزء األهم في‬
‫الموضوع؛ إذ قرروا أن الفروق الصوتية التي يمكن العتماد عليها في الحكم على‬
‫هذا الصوت أو ذاك بأنه مجرد اختالف نطقي سياقي‪ ،‬أو صوت مستقل ذو كيان‬
‫خاص ‪-‬إنما هي الفروق التي تؤدي إلى اختالف المعاني في الكلمات‪ ،‬فالكاف بهذا‬
‫الوصف يؤدي استعماله إلى هذا الختالف؛ حيث نقول‪ :‬كال في مقابل "جال" أو‬
‫"جال" و"قال" فنحصل على كلمة مستقلة ذات معنى مختلف عن الكلمتين‬
‫األخريين‪ ،‬وكان ذلك بفضل استخدام الكاف في هذه الكلمة التي تتفق في كل‬
‫مكوناتها الصوتية مع زميلتيها‪ ،‬باستثناء هذا الصوت وحده‪ ،‬وهو القاف أو الجيم‪،‬‬
‫أما الصور النطقية المختلفة للكاف فال تؤدي إلى هذه النتيجة‪ ،‬وهي نتيجة ذات‬
‫قيمة لغوية‪ ،‬أي‪ :‬وظيفة صوتية تؤدي إلى اختالف المعنى كما يعبر عن ذلك علماء‬
‫األصوات أحياناا‪.‬‬
‫رابعا ا‪ :‬الفرق بين المصطلحين‪:‬‬
‫يمكن حصر الختالف بين الفونيتيك والفونولوجي في ناحيتين هما‪:‬‬
‫أ‪ -‬الناحية الصوتية‪:‬‬
‫لقد تعددت آراء الدارسين وتنوعت في التفريق بينهما بسبب اختالف المبادئ‬
‫والفلسفات في النظر إلى الحقائق الصوتية‪ ،‬وإلى طبيعة اللغة ذاتها‪ ،‬والفونيتيك‬
‫عند مقابلته بالفنولوجيا يصبح ذا مدلول ضيّق نسبيّاا؛ إذ يُطلق حينئذ ويُراد به‬
‫دراسة األصوات من حيث كونها أحداثاا منطوقة لها تأثير سمع ّي معين‪ ،‬دون نظر‬
‫في قيم هذه األصوات‪ ،‬أو معانيها في اللغة المعينة‪ ،‬إنه يُعنَى عندئذ بالمادة الصوتية‬
‫ل بالقوانين الصوتية‪ ،‬وبخواص هذه المادة‪ ،‬أو خواص األصوات بوصفها‬
‫ضوضاء‪ ،‬ل بوظائفها في التركيب الصوتي للغة من اللغات؛ ولهذا يُع ّرب المصطلح‬
‫فوناتيكس بفوناتيك‪ ،‬وترجمته‪ :‬علم األصوات‪ ،‬والذين يُع ّربونه تعريباا صوتياا ل‬
‫بالترجمة ل يقصدون إلى الترجمة؛ ألن ترجمته إلى علم األصوات في سياق‬
‫المقابلة بينه وبين الفنولوجيا قد تؤدي إلى اللبس؛ فقد يؤخذ على أن المقصود به‬
‫دراسة األصوات بعامة‪ ،‬دون تفريق بين جوانب هذه األصوات‪ ،‬أو منهج البحث‬
‫فيها‪ ،‬ولم يشأ هؤلء أن يُترجموه إلى "علم األصوات العام" كما يفعل بعض‬
‫الدارسين معتمدين على صفة العموم في ميدانه وطريقة البحث فيه‪ ،‬لم يفعلوا ذلك‬
‫ألن هذه الصورة العربية إنما تُناسب المصطلح النجليزي اآلخر وهو "جنرال‬
‫فوناتيكس" وهذا الصطالح "جنرال فوناتيكس" أو "علم األصوات العام" إن كان‬
‫ليس من النادر إطالقه على ما يقابل الفنولوجيا‪ ،‬إنما يؤتى به عادة لتأكيد جانبين‬
‫يوجه اهتمامه نحو القضايا‬ ‫اثنين‪ ،‬أو ناحيتين اثنتين‪ :‬األولى‪ :‬كون هذا العلم إنما ّ‬
‫الصوتية في عمومها‪ ،‬بما في ذلك ما قد يجد له‪ ،‬وما قد يتيح له أن يكون له مكان‬
‫مناسب في الفنولوجيا عند القائلين بالتفريق‪ ،‬أو عند إرادة التفريق‪ ،‬وحقيقة األمر‪:‬‬
‫أن معظم األعمال في علم األصوات العام ‪-‬إن لم تكن كلها‪ -‬تنتظم مسائل ومشكالت‬
‫‪.‬صوتية من الفرعين كليهما‪ :‬الفوناتيكس والفنولوجيا‬
‫أما الناحية الثانية‪ ،‬أو الجانب الثاني التي يُقصد إليها عند استعمال هذا المصطلح‪:‬‬
‫فتتمثل في التنبيه على عدم قصر بحوث هذا الفرع ومناقشاته على أصوات لغة‬
‫بعينها‪ ،‬وفي بيانه أنه معن ّي بالصوت اللغوي في عمومه‪ ،‬والنظر في مشكالت هذا‬
‫‪.‬الصوت بوصفه خاصة مشتركة بين اللغات جمي اعا‪.‬‬

‫ب‪ -‬الناحية التاريخية ‪:‬‬


‫وهذا اللون من التفكير كان البذرة الخصبة واألساس األول لظهور نظرية‬
‫الفونيم‪ ،‬أو نظرية الوحدة الصوتية‪ ،‬التي تحدثنا عنها في الدرس األول‪ ،‬ونظرية‬
‫الفونيم ذاتها تكثر المناقشة حولها‪ ،‬وتختلف اآلراء اختالفا واسعا حول تحديد‬
‫‪.‬المقصود بالفونيم‬
‫والنقطة المهمة هنا أن الفونيم على أحسن األقوال وأقربها إلى الصحة هي‪ :‬وحدة‬
‫صوتية قادرة على التفريق بين معاني الكلمات‪ ،‬وليست حدَثا صوتياا منطوقاا بالفعل‬
‫في سياق محدد؛ فالفونيمات أنماط لألصوات‪ ،‬والمنطوق بالفعل هو صورها‬
‫وأمثلتها الجزئية التي تختلف من سياق صوتي إلى سياق صوتي آخر‪ ،‬فالكاف‬
‫فونيم‪ ،‬وكذلك الجيم‪ ،‬وكذلك القاف‪ ،‬أما الصور النطقية المختلفة لكل واحدة منها‬
‫فهي أمثلتها المتغيرة‪ ،‬أو ما يُسمى بفونز‪ ،‬أو ألوفونز‪ ،‬أو الص َور الصوتية‪ ،‬أو‬
‫ا‬
‫استعمال‬ ‫األحداث الصوتية المتغيرة للفونيم الواحدة‪ ،‬والصور الصوتية أكثر‬
‫وأحدث‪ .‬فالفونيمات بهذا محدودة معدودة في كل لغة‪ ،‬ولكن صورها النطقية أو‬
‫‪.‬األحداث النطقية الفعلية كثيرة‬
‫واألمر الثاني‪ :‬لكي يكون األمر علميّاا ل بد من الوصول إلى قواعد صوتية‬
‫عامة‪ ،‬وهذا يقتضي تجريد الوحدات ‪-‬وهي الفونيمات‪ -‬من هذا العدد الهائل من‬
‫األحداث النطقية الفعلية‪ ،‬وكان ل بد لذلك من منهجين دراسيين‪ :‬أحدهما على األقل‬
‫يهتم أو يُعنى بدراسة هذه الوحدات أو الفونيمات‪ ،‬وهذا المنهج هو ما عُرف فيما‬
‫‪.‬بعد بالفنولوجيا‬
‫سا لدراسة‬‫فالفنولوجيا في بداية أمره فرع من البحث الصوتي ُخصص أسا ا‬
‫الفونيمات ومشكالتها‪ ،‬وذلك بالطبع ل يكون إل في إطار لغة معينة كالعربية أو‬
‫النجليزية؛ لرتباط الفونيمات بالمعاني‪ ،‬وليس من المعقول أن ننظر في المعاني إل‬
‫في إطار لغة معينة‪ ،‬ولهذا النوع من التفكير الصوتي تاريخ طويل‪ ،‬ل يهمنا هنا في‬
‫هذا المجال إل القول بأنه بدأ يلوح في األفق اللغوي في أواخر النصف الثاني من‬
‫القرن التاسع عشر‪ ،‬وكان من أوائل من أدركوا الفرق بين األصوات بوصفها‬
‫وحدات وأنماطاا‪ ،‬وبوصفها أحداثاا نطقية واقعية ‪-‬عالم اللهجات السويسري‬
‫"ونتلر" الذي استطاع أن يميز بين نوعين من المقابالت‪ ،‬أو المعارضات‬
‫الصوتية‪ :‬أحدهما‪ :‬يستعمل في اللغة للتفريق بين المعاني والوظائف النحوية‬
‫‪.‬للكلمات‪ ،‬والثاني‪ :‬ل يُفيد هذا الغرض الوظيفي‬
‫وهذا الخلط التفكيري في عمومه ‪-‬بالنسبة لجوانب الصوت‪ -‬نلحظه كذلك بصورة‬
‫ضمنية في اآلثار المبكرة لكل من "سويت" اإلنجليزي‪ ،‬وتلميذه الدنماركي‬
‫‪"".‬يسبرسن‬
‫كما يظهر ذلك مثال في األبجدية الصوتية التي ابتكرها "سويت" لكتابة اللغة‪،‬‬
‫والتي عُرفت فيما بعد باسم "برود روميك ألفابت" كما يبدو هذا التفكير واضحا في‬
‫تلك المناقشات التي أثارها "يسبرسن" في أحد بحوثه عن األصوات اللغوية‪،‬‬
‫وهناك في هذا البحث ينتهي "يسبرسن" إلى الرأي الذي يكاد يتفق مع ما يتردد‬
‫اآلن في بعض األوساط اللغوية من أن الفيصل في الحكم على جوانب األصوات إنما‬
‫هو استعمالها للتفريق بين المعاني‪ ،‬أو عدم استعمالها لهذا الغرض‪ ،‬ولكن األمر‬
‫بالنسبة لهذين العالمين األخيرين م ّر هكذا دون أن يتوصال إلى وضع نظرية‪ ،‬أو‬
‫رسم منهج يُقتفى من بعدهما للنظر في هذه الجوانب‪ ،‬واكتفيا بمعالجة الموضوع‬
‫‪.‬كله بأسلوب فوناتيكي صرف‪ ،‬على وفق النمط التقليدي السائد في وقت ذلك‬
‫ولم يذهب "دي سوسير" في هذا الموضوع إلى أبعد من ذلك بكثير؛ إنه‬
‫استطاع أن يدرك جوانب الصوت‪ ،‬وأن يميّز بين ما سماه الجانب المادي‪ ،‬والجانب‬
‫غير المادي‪ ،‬واألول‪ :‬يطابق الحركات العضوية لجهاز النطق‪ ،‬والثاني‪ :‬يطابق‬
‫النطباعات السمعية لهذه الحركات‪ ،‬وبالرغم من هذا اإلدراك الجانبي للصوت لم‬
‫يقترح "دي سوسير" منهجا أو أسلوبا جديداا لدراسة هذين الجانبين أكثر من ذلك‬
‫األسلوب التقليدي الذي يتبعه علماء األصوات أو علماء الفونيتيك العاديون الذين‬
‫كانوا يستخدمون النهج العام الذي لم يكن بع ُد قد أخذ بمبدأ التفريق بين الفونيتيك‬
‫والفنولوجيا‪ ،‬والذي لم تكن قد وضحت لديه فكرة التمييز بين جوانب األصوات‬
‫‪.‬وضوحا ا‬
‫كامال‬ ‫ا‬
‫غاية األمر أن "دي سوسير" قد خالف هؤلء التقليديين في استعمال مصطلحاتهم‪،‬‬
‫فاستعمل المصطلح فنولوجيا باللغة الفرنسية "فنولوجييه" وأطلقه على تلك‬
‫الدراسة العامة التي كانت تعالج عادة ما يُعرف بالفونيتيك عند غيره من الدارسين‪،‬‬
‫وخصص هذا األخير للدراسة التاريخية لألصوات‪ ،‬أي‪ :‬هذا الفرع الفنولوجي‬
‫‪ُ .‬خصص وأصبح يُقصد به عند العلماء‪ :‬الدراسة التاريخية لألصوات اللغوية‬
‫ومعنى هذا أن "دي سوسير" لم يزل يتفق مع هؤلء العلماء التقليديين في دراسة‬
‫األصوات بأسلوب عام‪ ،‬وفي عدم تنويع الدراسة الصوتية إلى فرعين يختص كل‬
‫واحد منهما بدراسة جانب من جانبي األصوات‪ ،‬ولكنه خالفهم فقط في تسمية هذه‬
‫الدراسة العامة بالفنولوجيا‪ ،‬ل الفوناتيك‪ ،‬وهي مخالفة ‪-‬كما نرى‪ -‬ل تجاوز دائرة‬
‫استعمال هؤلء لنفس الدراسة‪ ،‬فتفريق "دي سوسير" بين الفنولوجيا والفوناتيك‬
‫إ اذا ليس مطابقا لجانبي األصوات‪ ،‬وإنما تفريق من نوع آخر‪ ،‬فاألول وهو‬
‫الفنولوجيا وقَفَه على دراسة أصوات الكالم‪ ،‬أما الثاني فوظيفته عنده دراسة تطور‬
‫‪.‬األصوات في اللغة دراسة تاريخية‬
‫أما أول من نص على وجوب هذا التنويع‪ ،‬وعلى ضرورة وجود فرعين‬
‫مستقلين من الدراسة لدراسة جانبي األصوات فهو "بدون دي كورتني" فقد أعلن‬
‫أن هناك فروقاا جذرية بين أصوات الكالم والصور الذهنية لألصوات التي تتألف‬
‫منها كلمات اللغة‪ ،‬وانطالقاا من هذا اإلدراك أصر "كورتني" على ضرورة وجود‬
‫نظامين من البحث الصوتي لتناول األصوات بطريقة علمية‪ ،‬أَحد هذين النظامين‪:‬‬
‫ينبني على أسس فيزيائية وفسيولوجية‪ ،‬وموضوع البحث فيه األصوات المادية‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬يعتمد على قواعد علم النفس‪ ،‬ووظيفته‪ :‬دراسة الصور الذهنية لألصوات‪،‬‬
‫وما لها من وظائف وقيم في اللغة‪ ،‬وقد س ّمى "كورتني" العلم األول الذي خصصه‬
‫لدراسة األصوات المادية بعلم األصوات العضوية‪ ،‬على حين أطلق على الثاني‪ :‬علم‬
‫األصوات النفسية‪ ،‬وقصر عمله على دراسة الصور الذهنية لألصوات‪ ،‬تلك الصور‬
‫التي أطلق عليها هذا العالم نفسه اسم الفونيم‪ ،‬كما يتضح ذلك من قوله‪ :‬إن الفونيم‬
‫‪.‬هي المعادل النفسي للصوت اللغوي‬
‫وقد كان من نتيجة هذا الوضوح في التفريق بين جانبي األصوات‪ ،‬أو بين العلمين‬
‫اللذين يقومان بدراستهما ‪-‬أنه استطاع ألول مرة (أي‪ :‬كورتني) أن يضع ما يمكن‬
‫أن يُسمى بنظرية الفونيم‪ ،‬وبالرغم من أن أول بحث لـ"كورتني" في هذا الموضوع‬
‫قد تُرجم إلى اللغة األلمانية سنة ‪ 1981‬ميالدية فقد مرت نظريته دون أن يشعر بها‬
‫أحد في القارة األوربية وفي روسيا نفسها‪ ،‬باستثناء "بتر سبيرج" لفترة من‬
‫الزمن‪ ،‬إلى أن بدأ الناس في أماكن متفرقة من العالم يتجهون هذا التجاه نفسه‪،‬‬
‫‪:‬وهو اتجاه يتمثل في صورتين‬
‫األولى‪ :‬التفريق بين الصوت المنطوق‪ ،‬أو ما يُشار إليه أحيانا بالمصطلح‪ :‬فون‪ ،‬أو‬
‫ألوفون‪ ،‬أو سوند‪ ،‬وبين الفونيم‪ ،‬أو ما يُسمى بالصور الذهنية للصوت‪ ،‬أو الوحدة‬
‫‪.‬الصوتية ‪-‬على اختالف وجهات النظر في الموضوع‬
‫الثانية‪ :‬ضرورة وجود فرعين لعلم األصوات يختص كل واحد منهما بدراسة أحد‬
‫‪.‬هذين الجانبين‬
‫واألمر األول أو النقطة األولى واسعة تحتاج إلى دراسات كثيرة‪ ،‬أما فيما يتعلق‬
‫بفرعي األصوات فقد جرى العرف على تخصيص الفوناتيك لدراسة الجانب األول‪،‬‬
‫والفنولوجيا للنظر في الجانب الثاني ومشكالته‪ ،‬ولكن وجهات النظر قد تعددت‬
‫بالنسبة للعالقة بين هذين الفرعين‪ ،‬وحدود ك ٍّل منهما‪ ،‬ومدى استقالل أحدهما عن‬
‫‪.‬اآلخر‬
‫‪.‬ج‪-‬موقف المدارس اللغوية منهما‬
‫‪:‬وفيما يلي حديث عن أبرز أربع مدارس حول قضية التفريق‬
‫أول‪ :‬مدرسة براج‪:‬‬ ‫‪ :‬ا‬
‫هي مدرسة تشيكية لها كبير فضل في البحث اللغوي الحديث‪ ،‬وامتازت عن غيرها‬
‫‪.‬بكثير من النظرات الخاصة في دراسة اللغة‬
‫ومن هذه النظرات فكرتها عن الفرق بين الفونيتيك والفنولوجيا‪ ،‬ولقد تأثر رواد‬
‫هذه المدرسة بآراء العالم السويسري "دي سوسير" وخاصة برأيه في الفونيم‪،‬‬
‫ضا برأيه المشهور في التمييز بين ما سماه الكالم‪ ،‬ومعناه‪ :‬الكالم‬ ‫كما تأثروا أي ا‬
‫المنطوق الصادر من المتكلم الفرد في الموقف المعين‪ ،‬وبين ما س ّماه لغة ويقصد‬
‫به‪ :‬اللغة المعينة التي ل تُنطق‪ ،‬ول يتكلمها أحد من الناس‪ ،‬وإنما يتكلم الناس‬
‫الكالم طبقاا لقواعد اللغة المعينة‪ ،‬وهذه القواعد أمور عقلية مخزونة في ذهن‬
‫‪.‬الجماعة اللغوية المعيّنة‬
‫وهذا التفريق بين جانبي الكالم كان المنطق األساسي للتفريق بين فرعي األصوات‬
‫‪.‬عند هذه المدرسة‬
‫فالفونيتيك‪ :‬هو علم أصوات الكالم‪ ،‬وهو أقرب إلى علوم الطبيعة منه إلى علم‬
‫اللغة‪ ،‬إنه عندهم ليس فرعاا من علم اللغة‪ ،‬وإنما وظيفته‪ :‬دراسة األصوات‬
‫المنطوقة في الكالم والنظر في حركات أعضاء النطق وأوضاعها‪ ،‬كما يالحظ‬
‫‪.‬الذبذبات الصوتية الهوائية الناتجة مباشرة عن هذه الحركات واألوضاع‬
‫والفنولوجيا‪ :‬علم أصوات اللغة‪ ،‬وهو ل يُعنى باألصوات بهذا الوصف‪ ،‬وإنما عليه‬
‫أن يدرس الفونيمات‪ ،‬وهي العناصر المكونة للمعنى اللغوي‪ ،‬وهي عناصر غير‬
‫مادية‪ ،‬إنها عناصر عقلية‪ ،‬ويكون تحقيقها المادي بوساطة الصوت الفعلي أو‬
‫‪.‬النطق‬
‫وعالم الفونيتيك يجري وراء أحداث النطق‪ ،‬فيالحظ مصدرها وهي أعضاء النطق‪،‬‬
‫‪.‬ويدرس وظيفة هذا المصدر بصورة تفصيلية‬
‫أما عالم الفنولوجيا فإنه يينظر في الشعور أو الوعي اللغوي للبيئة المعينة‪ ،‬فيدرس‬
‫الصور الذهنية الصوتية ذات القيم المميزة المكونة للكلمات واللغة ذاتها‪ ،‬وبعبارة‬
‫"تروبتسكوي" أحد رواد هذه المدرسة األوائل‪ :‬الفوناتيك يهتم بما ينطق اإلنسان‬
‫في الحقيقة والواقع عندما يتكلم‪ ،‬على حين يُعنى الفنولوجيا بما يُظن أو يُتصور أن‬
‫‪.‬اإلنسان ينطقه‬
‫وهذا التفريق الواضح بين هذين الفرعين يُصر عليه أغلب علماء مدرسة براج‪،‬‬
‫على األقل في الفترة األولى من تكوينها‪ ،‬في حين أن متأخري هذه المدرسة‪،‬‬
‫وبعض المتقدمين منهم كذلك لم يَ ُرق هذا الفصل التام لهم‪ ،‬وبالرغم من محاولتهم‬
‫تقريب الشقة بينهما فإن هذه الفكرة لم تزل تسيطر على أذهان الكثيرين من‬
‫مثال‪" :‬أولمان" صاحب البحوث المشهورة في علم‬ ‫الباحثين المحدثين‪ ،‬ومن هؤلء ا‬
‫الدللة‪ ،‬وله كتاب (سيمانتكس) لقد صرح هذا الدارس أكثر من مرة بأن الفوناتيك‬
‫هو علم أصوات الكالم‪ ،‬وأن الفنولوجيا هو علم أصوات اللغة أي‪ :‬الفونيمات‪،‬‬
‫واألول هو المختص بدراسة األصوات من جانبها العضوي والفيزيائي‪ ،‬وليس‬
‫‪.‬جز اءا من علم اللغة‪ ،‬على حين تنتمي الفنولوجيا إلى علم اللغة‬
‫ويبدو أن هذا الفصل بين فرعي األصوات يُعد نوعاا من اإلغراء والجاذبية‪ ،‬حتى‬
‫نلحظه في أعمال بعض أولئك الذين ل يقولون صراحة بالتفريق بين الكالم واللغة‪،‬‬
‫ومن هؤلء "جليسون" الذي يُقسم علم اللغة إلى فرعين اثنين هما‪ :‬الفنولوجيا‪،‬‬
‫والجرامتيكا‪ ،‬أي‪ :‬علم القواعد‪ ،‬والفنولوجيا علم األصوات‪ ،‬على حين يجعل‬
‫ّا‬
‫مستقال عن علم اللغة‬ ‫الفونيتيك نظا اما من الدراسة‬
‫ومهما يكن من أمر فإن "جليسون" هو اآلخر ينظر إلى اللغة نظرة تشبه تلك التي‬
‫رآها من قبل العالم السويسري "دي سوسير" فبالرغم من أنه لم يُفرق بين نوعين‬
‫من النشاط اللغوي عند اإلنسان فإنه ينظر إلى التركيب اللغوي على أنه مكون من‬
‫عنصرين‪ :‬األصوات‪ ،‬والفكرة‪ ،‬أو ما سماهما‪ :‬التعبير اللفظي والمحتوى‪ ،‬واألول‬
‫منهما ليس من اختصاص اللغويين‪ ،‬وإنما هو من عمل الفيزيائيين‪ ،‬وإنما يدرسه‬
‫اللغوي لرتباطه ارتباطا وثيقا بعنصر المحتوى‪ ،‬ومنهما م اعا يتكون التركيب‬
‫‪.‬اللغوي‬
‫وخالصة هذا ‪ :‬أن الفصل بين علمي األصوات ‪-‬الفونيتيك‪ ،‬والفنولوجيا‪ -‬يطابق‬
‫التفريق بين جانبي الكالم اإلنساني ‪-‬الكالم المنطوق‪ ،‬واللغة المعينة‪ -‬أو بعبارة‬
‫أخرى‪ :‬إن القائلين بثنائية الكالم اإلنساني هم أنفسهم ومن سار على دربهم الذين‬
‫‪.‬رأوا الثنائية في دراسة األصوات وقسموها إلى علمين منفصلين‬
‫وهذا الفصل التام بين علمي األصوات معترض عليه من كثير من الدارسين‪ ،‬ألن‬
‫األساس الذي بُني عليه التفريق بين اللغة والكالم‪ -‬غير مقبول‪ ،‬فاللغة والكالم في‬
‫نظر هؤلء جانبان لشيء واحد‪ ،‬فكالم الفرد ليس شيئاا منفصال عن لغة الجماعة‪،‬‬
‫إنه مثل أو صورة لها‪ ،‬واللغة هي مجموع هذه األمثلة‪ ،‬أو مجموع هذه الصور‪،‬‬
‫وكالهما فردي وجماعي م اعا‪ ،‬وكالهما مادي وعقلي‪ ،‬وإذا جاز لنا التفريق بينهما‬
‫نظريّاا فإننا نستطيع تسميتهما بلغة الفرد‪ ،‬ولغة الجماعة‪ ،‬أما في الواقع والحقيقة‬
‫فال يمكن الفصل بينهما بحال من األحوال‪ ،‬وكذلك األمر بين علمي األصوات؛ إنهما‬
‫نظامان من الدرس الصوتي‪ ،‬يوجهان م اعا نحو موضوع واحد هو األصوات‬
‫اللغوية‪ ،‬فعالم الفونيتيك ل يقنع بمجرد جمع المادة الصوتية ووصفها على أساس‬
‫‪.‬عضوي وفيزيائي‪ ،‬وإنما ينظر إلى مرحلة أخرى أهم تُخضع مادته للتنظيم والتقعيد‬
‫سا في عملية التقنين والبحث‬ ‫وعالم الفنولوجيا ل يستطيع أن يقوم بعمله الممثل أسا ا‬
‫عن قيم ألصوات اللغة دون اعتماده على مادة الفونيتيك‪ ،‬إن هذين العلمين يُك ّمل‬
‫أحدهما اآلخر‪ ،‬ول يعدو أن يكون الفرق بينهما فصال منهجيا‪ .‬متعلق بأسلوب‬
‫‪.‬الدرس‪ ،‬أو خطواته‬
‫ولقد حاول بعض الدارسين التقريب بينهما فسمى الفونيتيك‪ :‬علم األصوات النطقي‪،‬‬
‫‪.‬وسمى الفنولوجيا‪ :‬علم األصوات الوظيفي‪ .‬إشارة إلى وحدة موضوعهما‬
‫وفي مدرسة براج نفسها واحدا من كبار رجال هذه المدرسة‪ ،‬ذلك هو "ترانكه"‬
‫يرفض هذا التفريق ويقول‪ :‬عندما تبدأ الدراسة من الصورة الصوتية‪ ،‬وتتدرج في‬
‫طريقها حتى تصل إلى القوانين المجردة فإنها تجد نفسها في مجال الفنولوجيا‪ ،‬أما‬
‫إذا أخذت طريقها هذه المرة من القوانين المجردة وسارت في عملها حتى وصلت‬
‫‪.‬إلى الصورة الواقعية لألصوات فإنها تجد نفسها في مجال الفونيتيك‬
‫إننا إذا علمنا أن الفونيتيك إنما يختلف فقط عن الفنولوجيا في انتهاج طريق مخالف‬
‫في سير الدراسة أدركنا أن مشكلة الحدود الفاصلة بين الظواهر الفوناتيكية‬
‫والفنولوجية أصبحت غير ذات موضوع؛ ألن هذين النوعين من الظواهر متكامالن‬
‫‪.‬ومتعاونان في سبيل تحقيق أهدافهما الفردية والجماعية‬
‫والحق أن مسألة الفصل هذه لم تعد ذات قيمة عملية في الوقت الحاضر‪ ،‬وليس لها‬
‫اآلن من يُناصرها؛ لعجزها عن الوفاء بأغراض الدارسين‪ ،‬فالقتصار على أحد‬
‫الفرعين دون اآلخر ل يمكن أن يؤدي إلى نتيجة صحيحة فيما يختص بأصوات‬
‫اللغة‪ ،‬وهذا الكالم نفسه ينطبق على أولئك الذين يبدو أنهم من أنصارها‪ ،‬ذلك بأن‬
‫كالمهم عن الفصل بين الفوناتيك والفنولوجيا ل يجاوز الناحية النظرية الصرفة‪،‬‬
‫أما أعمالهم التطبيقية فتدل على ارتباط العلمين بعضهما ببعض أشد الرتباط‪.‬‬
‫والتجاه السائد اآلن هو العمل على تقريب المسافة بين هذين الفرعين بصورة‬
‫نظرية وتطبيقية م اعا‪ ،‬حتى لقد أصبح المصطلح فونيتكس‪ :‬علم األصوات وحده‬
‫‪.‬كافياا لإلشارة إلى العلمين م اعا‬
‫ومهما يكن من أمر فليس يطعن هذا في قيمة الجهد الذي قدمته مدرسة براج‬
‫للدرس الصوتي‪ ،‬إن العتراض هنا موجه إلى فكرة الفصل التام بين علمي‬
‫‪.‬األصوات‪ ،‬ل إلى مجرد المقابلة بينهما‬
‫وفي كل الحالت يجب أن نقرر أن الفنولوجيا الحديثة بكل اتجاهاتها إنما ترجع إلى‬
‫أصولها األولى التي أرست قواعدها مدرسة براج اللغوية‪ ،‬وهللا أعلم‬
‫‪".‬ثانيا ‪ :‬موقف "دي سوسير‪:‬‬
‫من الطريف أن "دي سوسير" صاحب األساس الذي بُني عليه الفصل بين علمي‬
‫ينح هذا المنحى اتخذته مدرسة براج‪ ،‬إنه حقيقة يُف ّرق بين‬ ‫األصوات‪ ،‬وأنه لم ُ‬
‫الفونيتيك بالفرنسية‪ ،‬وبين الفنولوجيا بالفرنسية أيضا‪ ،‬ويخصص كل واحد منهما‬
‫لنوع معيّن من الدراسة‪ ،‬ولكن على وجه يختلف عما رأيناه عند أصحاب المدرسة‬
‫‪.‬البراجية‬
‫فالفونيتيك عنده‪ :‬علم تاريخي يبحث في تطور األصوات اللغوية؛ ألنه ُخصص في‬
‫بداية األمر لهذا النوع من الدراسة‪ ،‬ويجب أن يبقى كذلك‪ ،‬وهو فرع أساسي من‬
‫‪.‬علم اللغة‪ ،‬فعلم اللغة عنده إما علم وصفي‪ ،‬أو علم تاريخي‬
‫أما الفنولوجيا‪ :‬فيدرس األصوات من الناحية العضوية‪ ،‬أو هيئة النطق‪ ،‬وهو نظام‬
‫‪.‬من الدرس مساعد لعلم اللغة‪ ،‬ومقصور قص ارا تا ّماا على الكالم‬
‫ومعنى هذا أن "دي سوسير" يختلف عن مدرسة براج وغيرها في هذا الموضوع‬
‫‪:‬الفرق بين دي سوسير ومدرسة براغ حول المصطلحين‪:‬‬
‫‪ :-1‬الفونيتيك دراسة تاريخية فقط عند "دي سوسير" على حين يجوز أن تكون‬
‫‪.‬تاريخية ووصفية عند هذه المدرسة وغيرها‬
‫‪ :-2‬الفنولوجيا عند "دي سوسير" بهذا المعنى تطابق الفونيتيك عند أغلب‬
‫الدارسين‪ ،‬حيث قصره "دي سوسير" على دراسة أصوات الكالم التي تك ّون‬
‫‪.‬الموضوع األصلي للفونيتيك عند مدرسة براج‬
‫‪ :-3‬وضع الفونيتيك والفنولولجيا من حيث انتمائهما أو عدم انتمائهما إلى علم‬
‫اللغة‪ ،‬ويختلف عند الفريقين‪ ،‬فالفونيتيك عند "دي سوسير" يُعد جز اءا ل يتجزأ من‬
‫علم اللغة‪ ،‬على حين ل يعدو الفنولوجيا أن يكون نظا اما ثانويّاا من البحث‪ ،‬يُقدم‬
‫المساعدة والمعونة لهذا العلم‪ ،‬وذلك على العكس تما اما مما تراه المدارس األخرى‬
‫في الحالتين كلتيهما‪ ،‬على أن هذا المعنى الضيّق للفنولوجيا قد توسع فيه "دي‬
‫سوسير" فيما بعد‪ ،‬بحيث أصبحت الدراسات الفنولوجية عنده تخرج من علم‬
‫األصوات العام عند غيره من الدارسين‪ ،‬من حيث اتساع حقل الدراسة‪ ،‬وطبيعة‬
‫موضوعاتها‬
‫إن وظيفة الفنولوجيا عند "دي سوسير" هي النظر في الفونيمات‪ ،‬أو الوحدات‬
‫الصوتية‪ ،‬والفونيمات عند "دي سوسير" لها جانبان‪ :‬جانب عضوي يطابق‬
‫حركات أعضاء النطق‪ ،‬والثاني‪ :‬نفسي‪ ،‬أو ما سماه بالنطباع السمعي‪ ،‬ومن الخطأ‬
‫أن يُقصر عالم الفنولوجيا عمله على الجانب العضوي دون الجانب النفسي‪ ،‬وعمل‬
‫موجه نحو تحديد هذه الوحدات‪ ،‬ووصفها‪ ،‬وتصنيفها إلى مجموعات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفنولوجيا‬
‫غير أن تحديدها والتعرف عليها في الكالم إنما يتم بوساطة النطباع النفسي؛ فإنه‬
‫ليس من السهل أن نحدد أين يبدأ الصوت وأين ينتهي في سلسلة الكالم؟ بطريق‬
‫اإلشارة إلى الناحية العضوية‪ ،‬ولو تم في ذلك الستعانة بتصوير حركات أعضاء‬
‫النطق تصوي ارا فوتوغرافياا‪ ،‬ولكن النطباع السمع ّي لألصوات يُشير ويدل عليه في‬
‫‪.‬يسر وسهولة‬
‫وهكذا نرى أن "دي سوسير" يُدخل في نطاق الفنولوجيا دراسات عضوية‬
‫فسيولوجية‪ ،‬وأخرى نفسية‪ ،‬غير أنه عند وصف األصوات يقصر عمله على‬
‫الناحية العضوية‪ ،‬وهو في هذه الحالة ينظر إلى األصوات منعزلة‪ ،‬وبوصفها‬
‫أنماطاا‪ ،‬أو وحدات نطقية ذات سمات مميزة‪ ،‬وهذا يقرب الفنولوجيا عنده من علم‬
‫األصوات العام‪ ،‬حتى يكاد يلتقي مع غيره من الدارسين‪ ،‬ويبقى الفرق بينه وبين‬
‫غيره مقصو ارا على جهتين اثنتين هما‪ :‬ربطه الفنولوجيا بالكالم المنطوق دون‬
‫اللغة‪ ،‬وإخراجه من علم اللغة‪ ،‬على أن دراسة فاحصة للجزء المخصص للفنولوجيا‬
‫بكتابه الشهير (محاضرات في علم اللغة العام) تشير إلى أن "دي سوسير" يجد‬
‫‪.‬صعوبة بالغة في محاولة ربط الفنولوجيا بالكالم دون اللغة‬
‫وكثي ارا ما نراه يع ّرج على مسائل صوتية ل يمكن نسبتها إلى الكالم المنطوق‪ ،‬وإنما‬
‫هي من خواص اللغة‪ ،‬أو من صميم الدراسة الصوتية فيها‪ ،‬من ذلك ا‬
‫مثال‪ :‬إشارته‬
‫المتكررة إلى األصوات بوصفها أنماطاا أو أنواعاا من الوحدات‪ ،‬وليس يغيب عن‬
‫ذهن أحد أن األنماط الصوتية ل تقع في النطق الفعلي‪ ،‬وإنما هي وحدات تُستخلص‬
‫من هذا الكالم المنطوق‪ ،‬وتنتقل بعد هذا التجريب إلى النظام الصوتي للغة‪ ،‬ل إلى‬
‫الكالم‪ ،‬وهذه العملية ذاتها عملية التجريد والتصنيف لألصوات قد نسبها "دي‬
‫سوسير" نفسه إلى الفنولوجيا‪ ،‬وعدّها واحدة من وظائف علم األصوات‪ ،‬حيث‬
‫كاف من سالسل كالمية‬ ‫يُص ّرح بقوله‪ :‬إذا ما انتهى رجل الفنولوجيا من تحليل عدد ٍ‬
‫منطوقة في اللغات المختلفة‪ ،‬عليه بعد ذلك أن يتعرف على العناصر التي تتكون‬
‫‪.‬منها كل لغة‪ ،‬وأن يُصنّف هذه العناصر‬
‫وهذا التصريح نفسه يؤكد ما سبق من أن "دي سوسير" قد توسع في مدلول‬
‫الفنولوجيا من الناحية التطبيقية على األقل‪ ،‬ولم يلتزم التحديد النظري الضيّق الذي‬
‫وصفه أول األمر‪ ،‬والذي يُفيد قصر الفنولوجيا على دراسة أصوات الكالم المنطوق‬
‫من ناحيتها العضوية والفسوليوجية‪ ،‬ويفيد هذا التصريح كذلك أن الفنولوجيا عنده‬
‫‪.‬من الناحية العملية تُطابق علم األصوات العام بالمعنى التقليدي‬
‫إن علم الفنولوجيا يسميه هذا العالم فنولوجيا الوحدات أو األنماط الصوتية‪ ،‬عندما‬
‫تؤخذ منعزلة‪ ،‬وحين يتم التعرف عليها بطريق النطباع النفسي‪ ،‬ويجري وصفها‬
‫باإلشارة إلى ميكانيكية النطق‪ ،‬ولكن هذه الوحدات أو األنماط لها حالت أخرى‬
‫تظهر في سلسلة الكالم المتصل‪ ،‬وهي حالت تستدعي النظر‪ ،‬وتستحق اهتمام‬
‫الدارسين؛ ومن ثم يجب ‪-‬في رأيه‪ -‬أن يكون هناك فرع آخر للفنولوجيا يقوم بهذا‬
‫العمل الجديد‪ ،‬هذا الفرع يسميه "دي سوسير" فنولوجيا الكالم المتصل‪ ،‬الذي‬
‫يُحدد العالقات بين الفونيمات في الكالم المنطوق‪ ،‬مادام أن الوحدات الصوتية‪ ،‬أو‬
‫الفونيمات تأخذ في الكالم المتصل صورا مختلفة بحسب السياق الصوتي الذي تقع‬
‫‪.‬فيه‬
‫وهذه الدراسة الفنولوجية األخيرة تطابق ما يُسمى فوناتيك الكالم المتصل عند‬
‫أولئك الذين ل يُفرقون تفريقاا حاس اما بين الفوناتيك والفنولوجيا‪ ،‬أو تدخل في مجال‬
‫ما يسميه "فيرث" بأنماط التطريز الصوتي‪ ،‬أو الظواهر التطريزية الصوتية‪ ،‬كما‬
‫أن بعض نقاط هذه الدراسة تنتظمها البحوث الخاصة بما يسميه بعض األمريكان‬
‫‪.‬حديثا ‪ :‬علم الفونيمات‬
‫إن هذا التحديد الضيق الذي يجعل الفنولوجيا مطابقة للفوناتيك في الوظيفة وخطة‬
‫البحث قد أخذ به لغويون تقليديون‪ ،‬من هؤلء ومن أشهرهم "جراي" الذي يرى‬
‫أن اللغة لها جانبان‪ :‬أحدهما‪ :‬عضوي يتعلق باللفظ‪ ،‬وثانيهما‪ :‬نفسي‪ ،‬فخصص‬
‫الفنولوجيا‪ ،‬والصرف لدراسة الجانب األول‪ ،‬وعلم النحو‪ ،‬وعلم الدللة لدراسة‬
‫الجانب الثاني‪ ،‬وبهذا يتضح أن هذا الباحث قد قصر وظيفة الفنولوجيا على دراسة‬
‫األحداث الصوتية المنطوقة‪ .‬وهذا الستعمال ل يزال مطبقاا في بعض البيئات‬
‫اللغوية التقليدية‪ ،‬وبخاصة في فرنسا‪ ،‬وغيرها من البالد التي ل تزال تتبع هذا‬
‫‪.‬النهج التقليدي‬
‫‪:‬ثالثاا‪ :‬المدرسة اإلنجليزية;‬
‫ويُقصد بالمدرسة اإلنجليزية هنا تلك المدرسة التي أسسها "فيرث" والتي ل تزال‬
‫‪.‬مبادئها واتجاهاتها الرئيسية تمثل الخط التفكيري العام عند تالمذته‬
‫كانت الفنولوجيا عند اإلنجليز بعامة تُطلق على الدراسات التاريخية لألصوات‪،‬‬
‫على العكس تما اما مما فعل "دي سوسير" ومن تابعه‪ ،‬على حين كان الفونيتيك ذا‬
‫مدلول واسع يشمل البحث الصوتي في عمومه من الناحية الوصفية‪ ،‬بدون تفريق‬
‫ضا بين نوعين أو‬‫بين جانبي األصوات المادي وغير المادي‪ ،‬وبدون تمييز أي ا‬
‫فرعين من الدراسة‪ ،‬ولم يكن هناك نظام مخصص لدراسة األصوات من ناحيتها‬
‫العضوية والفسيولوجية‪ ،‬ونظام آخر مستقل يبحث في هذه األصوات من حيث‬
‫‪.‬وظائفها وقيامها في التركيب الصوتي للغة‬
‫وكان الفونيتيك يشمل ما يدخل اآلن في إطار الفونيتيك بالمعنى الضيق والفنولوجيا‬
‫بالمفهوم الضيق كليهما‪ ،‬وقد كان هذا ملحوظاا في أعمال رائدهم األول "سويد"‬
‫و"دانيال جونز" ومدرسة "فيرث" نفسها في بداية نشأتها‪ ،‬واستمر كذلك مدة من‬
‫العلمين‪ ،‬وانتشرت فكرة الفصل بينهما‬ ‫الزمن‪ ،‬إل أنه عندما شاع منهج التفريق بين ِ‬
‫اضطر اإلنجليز إلى تعديل نظرتهم نحو الموضوع‪ ،‬وإلى األخذ بهذه الفكرة ولو من‬
‫‪.‬الناحية النظرية‪ ،‬وفي حدود رسموها ألنفسهم بوضوح‬
‫ويعبر "فيرث" عن هذا الموقف اإلنجليزي تجاه هذا القضية بكالم صريح جاء فيه‪:‬‬
‫بالرغم من أننا في انجلترا قد بدأنا في استعمال المصطلح‪ :‬فنولوجيا للدللة على‬
‫فرع معين من فروع علم اللغة‪ ،‬تابعين في ذلك العرف األوربي فإن عملنا هذا‬
‫ينطوي على خسارة لنا من نوع ما؛ ألن الفنولوجيا اإلنجليزية علم تاريخي‪ ،‬وليس‬
‫منهجا متزامناا من مناهج البحث‪ ،‬ولكنا ‪-‬كما هي العادة‪ -‬تمشينا مع الستعمال‬
‫ا‬
‫العالمي؛ حيث إننا ل نستطيع أن نفرض المعنى المقصود بالمصطلح "فونيتيك"‬
‫عندنا على أولئك الذين يستخدمون المصطلحات‪ ،‬فإذا كان الفنولوجيا يمكن وصفه‬
‫في إيجاز‪ :‬بأنه علم قواعد األصوات ورموز الكتابة‪ ،‬فإن مصطلحنا‪ :‬فونيتيكس‬
‫يغطى هذا المعنى‪ ،‬ولقد سرنا على هذا المنوال بصورة أو بأخرى منذ قرون طويلة؛‬
‫ألن المصطلح األول فرنسي‪ ،‬واآلخران ألمانيان‪ ،‬ومعنى الثالثة بصفة عامة‪ :‬علم‬
‫األصوات بالمعنى الضيق المقصور على دراسة األصوات من الناحية العضوية‬
‫الفسيولوجية‪ ،‬مع احتمال تطبيقه على البحث التاريخي في األصوات كذلك فيما‬
‫يختص بالمصطلح الفرنسي بالذات‪ ،‬وهذا معنى يخالف المفهوم اإلنجليزي‬
‫للمصطلح‪ :‬فوناتيكس الذي يتضمن دراسة أوسع وأشمل‪ ،‬بحيث يدخل فيها ما‬
‫‪.‬يُسمى بالفنولوجيا‬
‫وبالرغم من أن اإلنجليز قد أخذوا بمبدأ التفريق بين الفونيتيك والفنولوجيا فإنهم لم‬
‫ينساقوا إلى تلك المبالغة التي وقع فيها غيرهم من األوربيين الذين فصلوا بين‬
‫العلمين فصال تا ّماا‪ ،‬والذين حاولوا تخصيص كل واحد منهما بضرب من البحث‬
‫مستقل عما عينوه لآلخر‪ ،‬والحق أن محاولة التفريق بين العلمين عند اإلنجليز لم‬
‫تجاوز الناحية النظرية‪ ،‬أي‪ :‬عندما يعمدون إلى تقديم خطة للبحث اللغوي للدارسين‬
‫والكشف عن مراحل هذه الخطة وتدرجها من مستوى إلى آخر‪ ،‬وفقا لطبيعة المادة‪،‬‬
‫وحاجة البحث الذي يقوم بها الدارس اللغوي‪ ،‬وهنا يأخذون في ترتيب هذه المراحل‬
‫أو المستويات‪ ،‬فيبدءون بالفونيتيك‪ ،‬فالفنولوجيا‪ ،‬فالصرف‪ ،‬وهكذا إلى اآلخر‪،‬‬
‫وليس في هذا الترتيب ما يعني الفصل بين هذين العلمين‪ ،‬أو بينهما وبين غيرهما‪،‬‬
‫وإنما هو ترتيب لخطوات العمل التي ينبغي اتباعها‪ ،‬وهي خطوات متكاملة يأخذ‬
‫بعضها بالبعض‪ ،‬وترمي كلها إلى هدف رئيسي واحد‪ ،‬وبيان الحقائق اللغوية‪ ،‬وإنه‬
‫لمن النادر أن نجد عمال تطبيقيّاا واحداا في غير مجال التخصص الدقيق يقصر‬
‫بحوثه على مسائل أحد الفرعين دون اآلخر‪ ،‬أي‪ :‬على الفونيتيك أو الفنولوجيا‪ ،‬وقد‬
‫حرص "فيرث" وأصحابه على تأكيد قوة التصال بين الفرعين‪ ،‬واعتماد أحدهما‬
‫‪.‬على اآلخر‪ ،‬حتى تسير أعمالهما في مواءمة واتساق تا ّمين‬
‫ويشير إلى هذا المعنى نفسه تلميذه "روبنس" بقوله‪ :‬إن الفوناتيك‬
‫والفنولوجيا كليهما يهتمان بموضوع واحد من الدراسة هو األصوات اللغوية‪ ،‬وإن‬
‫كان هذا الهتمام ُموج اها إلى األصوات من زوايا مختلفة‪ ،‬فالفونيتيك يتسم بالعموم‪،‬‬
‫وينظر في األصوات دون تركيز على وظائفها وقيامها في اللغة المعينة‪ ،‬على حين‬
‫يتصف الفنولوجيا بالخصوصية‪ ،‬فيعنى بالكشف عن وظائف هذه األصوات في اللغة‬
‫أو اللغات الواقعة تحت النظر والدراسة‪ .‬إن الفنولوجيا ل تعدو أن تكون الفوناتيك‬
‫موجهة نحو وظائف األصوات وإخضاعها للتنظيم؛ ومن ثم تكثر تسمية الفنولوجيا‬
‫‪.‬بعلم الفوناتيك الوظيفي أو التنظيمي‬
‫ويعود فيرث فينص على أن الفونيتيك فرع متخصص من فروع علم اللغة‪ ،‬وليس‬
‫يشمل في دائرته ما يسمى بالفنولوجيا فقط‪ ،‬بل إنه قد تفرع هو نفسه إلى عدة‬
‫فروع متخصصة كذلك‪ ،‬فهنالك الفونيتيك التجريبي الذي ينتقل باألصوات إلى مجال‬
‫الفيزياء؛ ليعرف خواصها ومكوناتها الطبيعية‪ ،‬وهناك كذلك الفونيتيك بالمعنى‬
‫الضيق‪ ،‬الذي يجمع المادة الصوتية‪ ،‬ويعنى بتسجيلها وتحليلها من الناحية‬
‫‪.‬الفسيولوجية والفيزيائية‬
‫ومن فروع هذا العلم كذلك ما يمكن أن يُسمى الفونيتيك بالمعنى الواسع‪ ،‬وهو قريب‬
‫التصال والرتباط الشديد بالفنولوجيا‪ ،‬فهما وإن اختلفا في طريقة البحث فإنهما‬
‫يتفقان على األقل على مبدأ رئيسي واحد؛ ذلك أن الفوناتيك بهذا المعنى ل يكتفي ‪-‬‬
‫شأنه في ذلك شأن الفنولوجيا ذاتها‪ -‬بجمع األصوات ووصفها وصفاا عا ّماا‪ ،‬وإنما‬
‫يقوم باإلضافة إلى ذلك بعملية تصنيف هذه األصوات‪ ،‬ووضعها في نظام فنولوجي‬
‫‪.‬بوصفها عناصر مكونة لهذا النظام باللغة المعينة‬
‫‪:‬وينتهي العالم اإلنجليزي "فيرث" من هذا كله بنتيجتين واضحتين‬
‫األولى‪ :‬ل يمكن الفصل بين الفونيتيك والفنولوجيا بحال من األحوال‪ ،‬وكالهما جزء‬
‫ل يتجزأ من علم اللغة‪ ،‬وليس من الخطأ تسميتها أو تسميتهما م اعا باسم عام واحد‬
‫ي من التجاهين‬ ‫‪.‬هو علم األصوات بدون نعت مميز أل ّ‬
‫منهجا‬
‫ا‬ ‫الثانية‪ :‬الفنولوجيا في حالة التفريق بينه وبين الفونيتيك ل يعدو أن يكون‬
‫لتنظيم مادة هذا األخير‪ ،‬أو تقعيدها‪ ،‬أو هو الفونيتيك نفسه وقد أصبح وظيفيّاا‬
‫‪.‬وعمليّاا‬
‫ولقد طورت المدرسة اإلنجليزية الدراسات الفنولوجية‪ ،‬بحيث أصبحت ذات شقين‬
‫‪:‬أو فرعين متصلين غير منفصلين‬
‫أحد هذين الفرعين‪ :‬هو فنولوجيا الوحدات أو الفونيمات‪ ،‬ووظيفته‪ :‬البحث في‬
‫األصوات بوصفها أنماطاا لألصوات اللغوية‪ ،‬وهي مادة التركيب الصوتي للغة‬
‫المعينة‪ ،‬وهذه األنماط أو الوحدات هي مجموع األصوات الصامتة والحركات‪ ،‬أو ما‬
‫‪.‬يُطلق عليه‪ :‬الفونيمات األساسية في مناهج الدرس اللغوي عند المدرسة األمريكية‬
‫أما الفرع الثاني‪ :‬فهو فنولوجيا الظواهر التطريزية‪ ،‬أو فنولوجيا التطريز الصوتي‪،‬‬
‫ول ينظر هذا الفرع في تلك الظواهر الصوتية التي تنسب إلى النوع السابق من‬
‫الوحدات حين تؤخذ مفردة أو منعزلة‪ ،‬وإنما في هذه الظواهر التي تُنسب إلى‬
‫سلسلة المنطوق كله‪ ،‬والتي تمتد خالله‪ ،‬سواء أكان هذا المنطوق جملة‪ ،‬أو عبارة‪،‬‬
‫أو كلمة‪ ،‬أو مجموعة من المقاطع‪ ،‬ومن أمثلة هذه الظواهر‪ :‬ظاهرة الطول والقصر‬
‫في األصوات‪ ،‬والنبر‪ ،‬وبداية المقاطع‪ ،‬ونهاياتها‪ ،‬والتنغيم‪ ...‬إلى غير ذلك من‬
‫الظواهر الصوتية التي ل تدخل في التركيب الصوتي نفسه‪ ،‬وهي بذلك ذات العناصر‬
‫التي يُط ِلق عليها األمريكان‪ :‬الفونيمات الثانونية‪ ،‬أو الفونيمات فوق التركيبية‪ ،‬وقد‬
‫سار اإلنجليز على هذا النهج طبقاا لمبدئهم الرئيسي في الدرس اللغوي بعامة وهو‪:‬‬
‫وجوب اتباع أكثر من نظام أو خطة في التقعيد اللغوي إذا ما كانت األمثلة الجزئية‬
‫ل يمكن إخضاعها بنظام مفرد أو خطة واحدة‪ ،‬كما في هذه الحالة‪ ،‬فالوحدات‬
‫الصوتية‪ ،‬والظواهر التطريزية بالرغم من اتفاقها بأنها جمي اعا ذات وظائف وقيم‬
‫صوتية ل تزال تختلف فيما بينها في مكوناتها‪ ،‬وطبيعتها الصوتية‪ ،‬وهذا النهج‬
‫الذي يطلقون عليه‪ :‬مبدأ تعدد األنظمة جاء بمثابة النقد لتجاه األمريكان في معالجة‬
‫هذين النوعين من المادة الصوتية‪ ،‬حيث يدرسونهما م اعا تحت عنوان واحد هو‪:‬‬
‫‪.‬علم الفونيمات (فونيمكس) متبعين في ذلك مبدأ مخالفاا هو مبدأ توحد األنظمة‬
‫‪:‬وهناك في بريطانيا اتجاهان آخران فرعيّان‬
‫األول‪ :‬يتمثل فيما أخذ به "أولمن" من التفريق التام بين الفونيتيك والفنولوجيا‬
‫‪.‬على نحو ما فعلت مدرسة براج‬
‫الثاني‪ :‬يظهر في أعمال جماعة من اللغويين من جامعات انجلترا واسكتلندا‪ ،‬ويسير‬
‫في أساسه على الخط التفكيري الذي رسمه "فيرث" لهذا الموضوع؛ فهم يتفقون‬
‫معه في أن الفوناتيك والفنولوجيا ل يمكن فصل أحدهما عن اآلخر من الناحية‬
‫التطبيقية على األقل؛ إذ األول يجمع المادة الصوتية‪ ،‬ويقدمها إلى الثاني الذي‬
‫يُخضعها للتنظيم والتقعيد‪ ،‬وبهاتين الخطوتين م اعا تتحدد قيم هذه األصوات‬
‫ووظائفها في اللغة المعينة‪ ،‬غير أن لهؤلء اللغويين وجهة نظر خاصة فيما يتعلق‬
‫بوضع هذين المستويين ومكانهما في إطار الدراسات اللغوية‪ ،‬إن الفونيتيك عندهم‬
‫ليس فرعا من علم اللغة بصيغة المفرد‪ ،‬وإنما هو نظيره وقسيمه‪ ،‬وهما م اعا يكونان‬
‫‪.‬ما أطلقوا عليه هم‪ :‬علوم اللغة‬
‫أما الفنولوجيا في نظرهم‪ :‬فهو مستوى من البحث ذو وضع خاص‪ ،‬إنه يُمثل حلقة‬
‫التصال بين الفوناتيك وعلم اللغة‪ ،‬وهو في الوقت نفسه تابع لهما‪ ،‬وهذه النظرة‬
‫األخيرة التي اختلفوا فيها مع "فيرث" ومدرسته ترتبط برأيهم في تحديد مجالت‬
‫‪.‬البحث في اللغة‪ ،‬وفي طبيعة المادة اللغوية ذاتها‬
‫راب اعا‪ :‬المدرسة األمريكية‪ :‬لقد مر النظر األمريكي فيما يختص بموضوع العالقة‬
‫‪:‬بين الفوناتيك والفنولوجيا بثالث مراحل متداخلة مترابطة‬
‫المرحلة األولى‪ :‬تشبه ما كان يجري عليه اإلنجليز في بداية اهتمامهم بدراسة‬
‫األصوات حيث كان األمريكيون في هذه المرحلة يطلقون المصطلح "فنولوجيا"‬
‫على الدراسة التاريخية لألصوات‪ ،‬مستخدمين الفونيتيك في ذلك النوع من الدراسة‬
‫الصوتية العامة التي لم تكن تعنى بالتفريق الواضح بين جانبي األصوات‪ ،‬وقد‬
‫استمر هذا الستعمال العام للمصطلح "فونيتيك" ملحوظاا في أعمالهم حتى وقت‬
‫‪.‬قريب‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬حين تقدمت الدراسات الصوتية نسبيّاا أحس األمريكان كغيرهم‬
‫بضرورة تخصيص منهجين متميزين لدراسة األصوات؛ فأطلقوا الفونيتيك على ذلك‬
‫الفرع الذي يعنى بالنظر في الجانب المادي لألصوات‪ ،‬المتعلق باآلثار السمعية‬
‫الناتجة عن عمليات النطق‪ ،‬ولكنهم بعكس التقليد السائد لم يستعملوا المصطلح‬
‫"فنولوجيا" إلطالقه على دراسة األصوات من جانبها الوظيفي اللغوي‪ ،‬نظرا‬
‫لشعورهم بأن استعمال الفنولوجيا بهذا المعنى فيه صعوبة ظاهرة؛ لرتباطه بمعنى‬
‫قديم ثابت في أذهان الناس‪ ،‬وهو إطالقه على الدراسة التاريخية لألصوات؛ ولهذا‬
‫اختاروا اس اما آخر هو الفونيم (الوحدة الصوتية)‪ ،‬ووظيفته‪ :‬النظر في أنماط‬
‫‪.‬األصوات ووحداتها من حيث دورها وقيمتها في اللغة‬
‫وبالرغم من هذا التفريق بين فرعين أو منهجين لدراسة األصوات فإننا نلحظ ثالثة‬
‫‪:‬أمور مهمة في هذه المرحلة‬
‫األول‪ :‬لم يفرق هؤلء بين منهج الفونيتيك ومنهج الفونيم‪ ،‬فبين مادتهما اختالط‬
‫وتداخل واضحان في هذه المرحلة‪ ،‬بل إن منهج الفونيم والمفروض فيه أن يُعنى‬
‫باألصوات من ناحيتها التجريدية والوظيفية‪ ،‬يعرض في كثير من خطواته للجانب‬
‫النطقي والسمعي لألصوات‪ ،‬حتى أنهم في كثير من الحالت يطلقون الفونيتيك على‬
‫‪.‬الفرعين م اعا‬
‫الثاني‪ :‬المنهجان كالهما يتبعان علم اللغة‪ ،‬ويدخالن في إطاره العام‪ ،‬وهما بهذا‬
‫‪.‬الوصف يمثالن مرحلتين‪ ،‬أو خطوتين من مراحل دراسة اللغة‬
‫الثالث‪ :‬ما يدرسه األمريكان تحت العنوان‪ :‬فونيم في هذه المرحلة يكاد يتفق مع ما‬
‫‪.‬يبحثه غيرهم في الفنولوجيا في تلك الفترة الزمنية المعاصرة لهذه المرحلة‬
‫وهذه األمور الثالثة تبدو بوضوح في أعمال الكثيرين من مشاهيرهم‪ ،‬كما في ذلك‬
‫السفر الكبير (اللغة والمنعوت في البيئات العلمية بإنجيل الدراسات اللغوية)‬
‫لكبيرهم "بلومفيلد" الذي يقرر أن الفونيتيك‪ :‬يدرس األحداث النطقية من ناحيتيها‬
‫العضوية والفيزيائية‪ ،‬ولكن بدون نظر إلى المعنى‪ ،‬ألن المعنى يختص به علم‬
‫‪.‬الفونيم وهذا يدل على شدة الرتباط بينهما‪ ،‬واعتماد ك ّل منهما على اآلخر‬
‫‪:‬ثم يعود فيلخص رأيه‪ ،‬وينص على أن األصوات يمكن تناولها بثالثة طرق‬
‫األولى‪ :‬تصنف األصوات من جانبها المادي‪ ،‬فتسجل خواصها النطقية والفيزيائية‪،‬‬
‫ويتم ذلك بوساطة ما سماه الفونيتيك بفروعه الثالثة‪ :‬النطقي‪ ،‬والفيزيائي‪،‬‬
‫‪.‬والتجريبي‬
‫الثانية‪ :‬وتتمثل في التعرف على األنماط والوحدات الصوتية المكونة للنظام‬
‫الصوتي للغة المعينة بطريق الخبرة والمالحظة الذاتية‪ ،‬وهذه الخطوة هي وظيفة‬
‫‪.‬ما سماه هو‪ :‬علم األصوات العملي‪ ،‬وهو مهارة وفن‪ ،‬أكثر منه منهجا علميا‬
‫الثالثة‪ :‬وتتلخص في النظر إلى األصوات بوصفها وحدات مميزة للمعنى في اللغة‪،‬‬
‫وهي ماسماه‪ :‬الفونيم‪ ،‬ولكنه من وقت إلى آخر ينعتها بالمصطلح‪ :‬فنولوجيا‪ ،‬وهذه‬
‫الطريقة تقابل الطريقتين األولى والثانية م اعا‪ ،‬وهي التي تقنن العمل الصوتي وتضع‬
‫‪.‬له قواعد عامة‬
‫فصال يمنحها‬ ‫ا‬ ‫ومع هذا التمييز بين مراحل ثالث لم يحاول "بلومفيلد" الفصل بينها‬
‫استقالل ذاتيّاا‪ ،‬وغالبا مايطلق عليها جمي اعا‪ :‬فونيتيكس‪ ،‬بل قد يستخدم هذا‬
‫ا‬
‫المصطلح كما لو كان مرادفاا للمصطلح‪ :‬فنولوجيا‪ ،‬وهي كلها عنده جزء ل يتجزأ‬
‫‪.‬من علم اللغة‬
‫المرحلة الثالثة‪ :‬وهذه المرحلة ‪-‬وهي المرحلة المعاصرة‪ -‬امتداد للمرحلة السابقة‪،‬‬
‫ويتلخص ما بينهما من خالف في تعميق الدراسة وتشعبها‪ ،‬وفي استخدام بعض‬
‫المصطلحات الجديدة التي اقتضتها ضرورة البحث‪ ،‬وفي ظهور اتجاهات جزئية أو‬
‫فردية في مجال الدراسات الصوتية الحديثة عند األمريكان‪ ،‬ففي هذه المرحلة‬
‫بدل من فونيم‪ :‬الوحدة‬ ‫استعمل المصطلح‪ :‬فونيمكس‪ ،‬أي‪ :‬علم الوحدات الصوتية‪ ،‬ا‬
‫الصوتية‪ ،‬وفي هذا الستعمال ما يشير إلى أن الدراسة قد خطت خطوات واسعة‪،‬‬
‫‪.‬وتعمقت مباحثها‪ ،‬حتى صارت عل اما بكل خواصه ومميزاته‬
‫ومن مظاهر تقدم هذه الدراسة وعمقها‪ ،‬أنها تشعبت إلى شعبتين‪ :‬األولى اختصت‬
‫بالنظر فيما سموه بالوحدات أو الفونيمات التركيبية‪ ،‬والثانية عُنيت بدراسة تلك‬
‫الوحدات أو الفونيمات األخرى التي أطلقوا عليها‪ :‬الفونيمات غير التركيبية‪ ،‬أو‬
‫الفونيمات فوق التركيبية‪ ،‬ومثال النوع األول األصوات الصامتة‪ ،‬والحركات‬
‫بوصفها عناصر مكونة للتركيب الصوتي للغة‪ ،‬أما النوع الثاني‪ :‬فمثاله تلك‬
‫الظواهر الصوتية التي تنتمي إلى التركيب وتمتد خالله‪ ،‬كالنبر والتنغيم وما إلى‬
‫ذلك من تلك الظواهر التي ليست جز اءا من التركيب نفسه‪ ،‬وفي هذه المرحلة‬
‫تطورت البحوث وتنوعت في الفوناتيك بفروعه المختلفة‪ ،‬حتى صار كل فرع تقريبا‬
‫مستقال بذاته‪ ،‬وربما يظهر ذاك بصفة خاصة في الفونيتيك الفيزيائي‪ ،‬الذي‬ ‫ّا‬ ‫علما‬
‫شغل علماء األصوات؛ لما فيه من إغراء وإثارة‪ ،‬ولما في بحوثه من نتائج رائعة‬
‫تفيد الدارسين في المجال اللغوي ومجالت إنسانية أخرى‪ ،‬كالستعانة بها في عالج‬
‫‪.‬عيوب السمع‪ ،‬وهندسة الصوت وغيره‬
‫وهناك في أمريكا تنوعت البحوث وتفرعت‪ ،‬حتى ظهر منهج للبحث اللغوي يتوسط‬
‫بين الفنولوجيا أو علم الفونيمات والصرف‪ ،‬وقد أطلقوا عليه‪ :‬علم الفونيمات‬
‫الصرفية‪ ،‬ويسمى عند غيرهم‪ :‬الفنولوجيا الصرفية‪ ،‬أو بصورة أخرى‪:‬‬
‫مورفوفنولوجي‪ ،‬ولهذا النوع من البحث جذور قديمة تعرفها مدرسة براج‪ ،‬ولكن‬
‫الدراسة األمريكية تفوق أية دراسة أخرى في التنوع والعمق‪ ،‬ووظيفة هذا العلم‪:‬‬
‫النظر في التركيب الصوتي الفونيمي أو الفنولوجي للوحدات الصرفية؛ ومثال ذلك‬
‫في اللغة العربية‪ :‬مورفيم الرفع في األسماء‪ ،‬هي ضمة قصيرة في نحو‪ :‬محمدُ‪،‬‬
‫ولكنها تكون طويلة في نحو‪ :‬يبدُو‪ ،‬وبالرغم من هذا التنوع والتشعب في فرعي‬
‫األصوات‪ :‬الفوناتيك وعلم الفونيمات فما زال أغلب األمريكيين يربطون هذين‬
‫‪.‬الفرعين بعضهما ببعض أشد الرتباط وأوثقه‬

‫ومن مظاهر هذا الربط نسبتهما م اعا إلى علم اللغة‪ ،‬وعدهما فرعين أو منهجين من‬
‫مناهجه‪ ،‬على أن هناك من يميل إلى إخراج الفونيتيك من علم اللغة ونسبته إلى‬
‫علوم أخرى كالفيزياء أو الفسيولوجيا‪ ،‬ألنه في نظره إنما يستمد مبادئه وقواعد‬
‫‪.‬البحث فيه من هذين العلمين وأضرابهما‬
‫وليس من النادر أن نجد في الوقت الحاضر كذلك دارسين أمريكيين يتبعون العرف‬
‫األوربي باستعمال المصطلح "فنولوجيا" في مكان الصطالح األمريكي‪ :‬علم‬
‫الفونيمات‪ ،‬من هؤلء الدارسين "هوكيت" في بحث معروف له عن الفنولوجيا‪،‬‬
‫ضا أن مرتيني قد تقبل المصطلح فنولوجيا‪ ،‬معترضا على السم‬ ‫ومما يذكر أي ا‬
‫"فونيمكس" ألن طريقة اشتقاقه وصوغه لم تراع قواعد صوغ الكلمات ذات‬
‫األصل اليوناني الالتيني‪ ،‬وكان الواجب أن يكون المصطلح هو "فونيمكس" ويبدو‬
‫أنهم إنما فعلوا ذلك قصداا إلى الوضوح‪ ،‬ومن اعا للبس والخلط‪ ،‬وخوفا من أن يظن‬
‫البعض بأن علم الفونيمات يقصر عمله في البحث على الفونيمات األساسية أو‬
‫ا‬
‫مهمال النوع اآلخر منها الممثل في الفونيمات الثانوية؛ ومن ثم كان‬ ‫التركيبية‪،‬‬
‫‪.‬المصطلح فنولوجيا أوفق في نظرهم‬
‫والحق أن مستعملي المصطلح "علم الفونيمات" لم يهملوا أيّاا من النوعين‪ ،‬وإن‬
‫موج اها نحو النوع األول‪ ،‬كما أن تسمية‬
‫ّ‬ ‫كان التركيز ‪-‬كما يبدو في أعمال بعضهم‪-‬‬
‫النوع الثاني بالفونيمات الثانوية أو الهامشية قد يوحي بأن هناك نوعاا منهما‬
‫‪.‬مفضال وآخر غير مفضل عليه‪ ،‬على حين أن ليس هناك فرق بينهما‬
‫وهكذا يتبين لنا أن المرحلة الثالثة‪ ،‬وتتلخص في تعميق الدراسة وتشعبها وفي‬
‫استخدام بعض المصطلحات الجديدة تمثل أقصى ما وصلت إليه هذه المدرسة وما‬
‫وصل إليه التفريق بين علم الفونيمات ‪.‬‬

‫ملخص المحاضرة‬

You might also like