Professional Documents
Culture Documents
اللغة: أ-
يزخر العالم بآالف اللغات ،وكل لغة تحمل العالم في جوفها .واللغة هي
الهواء الذي نتنفسه ،وهي حولنا ،تحيطنا من كل حدب وصوب ،فهي وسيلتنا
الدؤاك العالم ،وواسطتنا التي تحدد المسافة بيننا وبين واقعنا ،وأداة تعاملنا مع هذا
الواقع ،الذي نحيل بها المحسوس إلى المجرد ،ونجسد بها المجرد في هيئة
المحسوس أنها الجسر الواصل بين خصوصية الذات وعمومية الموضوع ،فهي
التي تترجم ما في ضمائرنا من معان-كما يقول ابن خلدون في مقدمته -لتستحيل
إلى أدوات تشكل الحياة ،وتوجه أداء المجتمع وسلوك أفراده وجماعاته ومؤسساته.
واللغة هي قدر اإلنسان االجتماعي ،فكما تكشف عن طبقته وجدوره ونشأته،
1
تكشف – أيضا -عن عقليته وقدراته وميوله الفكرية.
الثقافة: ب-
يقول مالك بن نبي " ليس في مقدورنا اليوم أن نعالج موضوعا كهذا ،دون
أن نجد أنفسنا -غي حالة التطور الراهنة في العالم العربي -أمام مشكلة لغوية
وتاريخية .فمن أين جاءت كلمة (ثقافة) ومنذ متى استخدمت في اللغة العربية؟ إن
أول فكرة تخطر لنل لإلجابة عن سؤال كهذا هي أن نستشير قاموسا ،ولكن
القواميس الموجودة بين أيدينا ال تذكر هذه الكلمة إال لماما ،سواء في ذلك القديمة
والحديثة .فلسان العرب يقول في المجلد العاشر" :يقال ثقف الشيء وهو سرعة
التعلم" ،وثقول ابن دريد ":ثقفت الشيء حذقته" ،وفي حديث الهجرة" :هو غالم
1نبيل علي ،الثقافة العربية وعصر المعلومات ،رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي ،عالم المعرفة ،المجلس الوطني
للثقافة والفنون واآلداب ،الكويت ،2001 ،ص 231
شاب لقن ثقف" (رواه البخاري) ،أي ذو فطنة وذكاء ،والمراد أنه ثابت المعرفة
2
بما يحتاج إليه.
والعالمة فريد وجدي يقول في ( دائرة معارف القرن العشرين /المجلد الثاني ):
ثقف يثقف ثقافة :فطن وحذق ،وثقف العلم في أسرع مدة أي أسرع أخذه ،وثقفه
يثقفه ثقفا :غلبه في الحذق ،والتثقيف :الحاذق الفطن .والقواميس الحديثة تقول" :
ثقف ثقافة :صار حاذقا خفيفا ،وثقف الكالم فهمه بسرعة .وفي هذه النصوص من
3
التشابه ما يدعونا إلى أن نعدها نسخا مكررة نقل بعضها عن بعض.
2مالك بن نبي ،مشكالت الحضارة ،مشكلة الثقافة ،ترجمة :عبد الصبور شاهين ،دار الفكر المعاصر ،بيروت – لبنان،
ط ،1984 ،4ص 19
3المرجع نفسه ،الصفحة نفسها.
4عبد الحميد بسعيد ،آليات تنوع المنطوق بلهجة تلمسان ،النخبة المثقفة أنموذجا –مقاربة سوسيولسانية -رسالة مقدمة لنيل
شهادة دكتوراه في علم االجتماع ،إشراف محمد سعيدي ،2013-2012 ،جامعة أبي بكر بلقايد ،تلمسان -ص 79
الجينات أو الجنس البشري ،فمثال لو نشأ طفل عربي في عائلة من الواليات
المتحدة فسوف يكتسب ويتعلم ويتكلم نمط اللغة االنجليزية للواليات المتحدة،
وسوف يتصرف اجتماعيا وثقافيا مثلما يتصرف طفل الواليات المتحدة ،هذا األمر
يؤدي بنا إلى القول بأنه يمكن ألي شخص من أي جنس بشري أو نوع بيولوجي
أن يتعلم لغة ما إذا ما عاش في كنفها ،وبواسطة هذه اللغة يمكن أن يحقق الثقافة
اإلنسانية لتلك اللغة وأهلها.
ويقر الدارسون أن هناك خمسة عناصر أساسية يمكن اتخاذها معيارا
لتصنيف البشرية إلى أمم ،هذه العناصر هي الجنس المشترك( أو األصلي )والدّ ين
والقومية ،واللغة والثقافة ،وللغة والثقافة بوجه خاص ،دور بارز في هذا التصنيف
والتحديد ،إذ هما بمثابة المرآة العاكسة لكل أنواع النشاط اإلنساني في هذه األمة أو
تلك أو هذا المجتمع أو ذاك.
ولعل أ ول ما نالحظه في هذا الشأن هو أن بناءنا اللغوي والثقافي ،بناء
ينقصه التكامل والتجانس أو االنسجام بين وحداته ،وبعبارة موجزة ،أقول :إن
هويتنا اللغوية والثقافية هوية مهزوزة ،يشوبها نوع من التفكك واالضطراب ومن
ثم يسوغ لنا أن نقرر أنه ليست لنا هوية لغوية وثقافية موحدة ،فاللغة العربية
(وأعني بها اللغة المنطوقة )تعاني من بلبلة األلسن ،وتعدد اللهجات والرطانات
التي تحسب بالعشرات ،بل بالمئات ،فنحن مثال متفقون في أن لنا لسانا واحدا
يسمى بطريق التجوز" اللغة العربية "ولكننا مع ذلك نختلف اختالفا بارزا في
التحقيق المادي لهذا اللسان ،ويكفي أن ننظر نظرة متأملة إلى ما يجري في الشارع
العربي من لهجات ورطانات وصور للكالم ،والمالحظ كذلك أن االتفاق أو
االفتراق يزيد.
اللغة والمجتمع: -2
ال شك أن العالقات بين الظواهر اللغوية والظواهر االجتماعية ،وتأثر اللغة
بالعادات والتقاليد والنظام االجتماعي في زمان ومكان معينين قائمة منذ أن وجدت
اللغة ووجدت الحياة االجتماعية ،فجوهر اإلنسان إنما يكمن في لغته وحساسيته
وحياته االجتماعية.
والنظر في هذه العالقات قديم ال ريب ،غير أنه لم يستو كما ،ونوعا
وتنظيرا ،ومنهجا ،وروادا إال في عصرنا الحاضر في ظل علم جديد من علوم
اللغة أطلق عليه (علم اللغة االجتماعي) Sociological Linguisticsأو
5
. Sociolinguistics
لقد كانت اللغة ومازالت وستظل إحدى القوى التي ساعدت الكائنات
البشرية على الخروج من العالم الحيواني واالنضواء في جماعات ،وتطور القدرة
على التفكير ،وتنظيم الحياة االجتماعية ،وتحقيق درجة التقدم التي عليها اإلنسان
اليوم ،ألن الكالم كما يقول فندريس جوزيف Vendrys Josephفي كتابه
" langage oral et langage par le gesteيفتح العالم المغلق في حياتنا
6
الداخلية ،ويسمح لنا بالخروج عنه ،إنه مبدع ،وصانع الحياة االجتماعية".
" يتحتم على من يريد دراسة اإلنسان أن يعكف على درس لغته ،إذ ال يمكن
التعرف على هذا الكائن خارج الحقل اللغوي ،إذ كل ما يحدث في هذا العالم ،شئنا
أم أبينا مرتبط باللغة .فقد نشأت مع نشوء العمل وتطورت معه ،ومن دونها لن
نحسن عملنا ،ولن يتقدم علمنا وفننا ،ولن تتقدم حياتنا ولن تكون لنا حضارة ،فاللغة
7
إحدى أهم وسائل نشاطنا العلمي والفكري ،واالجتماعي".
هادي نهر ،علم اللغة االجتماعي عند العرب ،الجامعة المستنصرية ،ط ، 1988 ،1ص .9 5
أنها تتمثل في نظم عامة يشترك في اتباعها أفراد مجتمع ما، -1
ويتخذونها أساسا لتنظيم حياتهم الجمعية ،وتنسيق العالقات التي
تربطهم بعضهم ببعض والتي تربطهم بغيرهم.
أنها ليست من صنع األفراد ،وإنما تخلقها طبيعة االجتماع، -2
وتنبعث من تلقاء نفسها عن حياة الجماعات ،ومقتضيات العمران.
وهذا هو ما يعنيه علماء االجتماع إذ يقررون أنها من "نتاج العقل
الجمعي".
أن خروج الفرد على أي نظام منها يلقى من المجتمع مقاومة -3
تأخذه بعقاب مادي أو أدبي ،أو تلغي عمله وتعتبره كأنه لم يكن،
أو تحول بينه وبين ما يبتغيه من وراء مخالفته وتجعل أعماله
ضربا من ضروب العبث العقيم ،أو تسلط عليه أكثر من جزاء
8
واحد من هذه الجزاءات".
وهذه الخواص الثالث تتوافر في اللغة على أكمل ما يكون:
واللغة ليست من األمور التي يصنعها فرد معين أو أفراد معينون ،وإنما
تخلقها طبيعة االجتماع ،وتنبعث عن الحياة الجمعية ،وما تقتضيه هذه الحياة من
تعبير عن الخواطر ،وتبادل األفكار .وكل فرد منا ينشأ فيجد بين يديه نظاما لغويا
يسير عليه مجتمعه ،فيتلقاه عنه تلقيا بطريق التعلم والمحاكاة ،كما يتلقى عنه سائر
علي عبد الواحد وافي ،اللغة و المجتمع ،شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع ،الطبعة الرابعة ،جدة ، 1983 ،ص .5 8
النظم االجتماعية األخرى ،ويصب أصواته في قوالبه ،ويحتذيه في تفاهمه
وتعبيره.
واللغة من األمو ر التي يرى كل فرد نفسه مضطرا إلى الخضوع لما ترسمه.
وكل خروج على نظامها ،ولو كان عن خطأ أو جهل ،يلقى من المجتمع مقاومة
تكفل رد األمور إلى نصابها الصحيح ،وتأخذ المخالف ببعض أنواع الجزاء .فإذا
أخطأ فرد في نطق كلمة ما ،أو استخدامها في غير مدلولها ،أو خرج في تركيب
عبارته عن القواعد التي ترسمها لغته ،كان حديثه موضع سخرية وازدراء من
مستمعيه ،ورموه بالغفلة والجهل ،وقد يحول ذلك دون فهمهم لما يريد التعبير عنه.
و ليس هذا مقصورا على الخطأ الذي يسع الناطق إصالحه ،بل إن الخطأ الذي ال
يمكنه إصالحه ،لنشأته عن خلل طبيعي في أعضاء النطق ،قد يثير هو نفسه لدى
السامعين بعض ما يثيره غيره من األخطاء ،ويجر على صاحبه بعض آالم و
متاعب في تعبيره و تفاهمه.
يروى ذلك عن واصل بن عطاء مؤسس مذهب االعتزال الذي كان ال يحسن
9
نطق الراء ،فكان يتجنبه في مهارة وحذق في جميع كلماته التي تشتمل عليه".
علي عبد الواحد وافي ،اللغة و المجتمع ،شركة مكتبات عكاظ للنشر والتوزيع ،الطبعة الرابعة ،جدة ، 1983 ،ص 6 9
...وما إلى ذلك .فكل تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة
التعبير .ولذلك تعد اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب .فبالوقوف على المراحل
التي اجتازتها لغة ما ،وفي ضوء خصائصها في كل مرحلة منها ،يمكن استخالص
10
األدوار التي مر بها أهلها في مختلف مظاهر حياتهم".