Professional Documents
Culture Documents
يعترب ظهور االجتاه الوصفي يف الدراسات اللسانية مع أوائل القرن العشرين ثورة فاصلة يف
السريورة املنهجية هلذا احلقل من حقول الدراسات اللغوية ،و إيذانا بانطالقة علم مستقل يدرس ظواهر
اللّغة كما هي مستعملة يف مكان و زمان معينني ،بعيدا عن األحكام املعيارية ،ويقوم بتحليل األلسن و
حمددة مع إخراج البحوث التارخيية و اللهجات باعتبار اللّغة منظومة اتصال حملية يف فرتة زمانية ّ
الفلسفية و املقارنة و التعليمية التقنينية ،وكذا عدم حتديد صوابية االستعمال.
ارتبط مولد اللّسانيات احلديثة بالعـامل السويسري "فرديناند دوسوسريFerdinand de -
1*"saussure 1857-1913واألنثروبولوجي األمريكي "فرانزبواز ،"Franz boazو"أنطوان
(ت ،)1111و "أنطوان مييه "Antoine meillet ماريت "Antoine marty
( )1191-1611و غريهم.
و على الرغم من أ ّن ظهور الدرس اللغوي الوصفي (اللّسانيات) ،قد ارتبط بدي سوسري أكثر من
مدة من وفاته.
الرواج إالّ بعد ّ
غريه ،إالّ أ ّن تعاليمه و آراءه اجلديدة مل يكتب هلا االنتشار و ّ
فرديناند دي سوسري Ferdinand de Saussureو الدرس اللغوي:
نسمع كثريا و نقرأ عن أولئك الذين يسلّمون بالفضل لفرديناند دي سوسري يف جمال الدراسات اللغوية،
جدة أطروحاته؟ و ما هي أهم املفاهيم اليت جاء هبا؟.
فإن كان ذلك صحيحا ،ففيم تتمثل ّ
لعل ما ميّز سوسري عن غريه من الدارسني ،هو تقسيمه للظواهر اللغوية إىل ثنائيات تدورّ
نفصل احلديث يف ذلك ،ينبغي أن نشري إىل أنكلّها حول حمور واحد هو "اللغة اإلنسانية" و قبل أن ّ
هم بوضع أرضية علمية للنظرية اللّسانية اصطدم يف الواقع بثالثة مظاهر تتعلق حبقيقة
دي سوسري حني ّ
اللغة البشرية و هي:
171
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
-1اللّغة ( :)Langageو هي امللكة اإلنسانية املتمثلة يف تلك القدرات اليت ميتلكها اإلنسان ،و
عما سواه من امللكات األخرى.
اليت جتعله يتميّز ّ
كل فرد متكلّم (مستمع مثايل)،
-1اللّسان ( :)Langueو هو النظام التواصلي الذي ميتلكه ّ
ينتمي إىل جمتمع لغوي له خصوصيات حضارية و ثقافية معيّنة.
-9الكالم ( :)Paroleو هو اإلجناز الفعلي للغة يف الواقع.
يبني أ ّن الكالم ظاهرة فردية ،نصادفها يف
إ ّن حتليل دي سوسري للغة و الكالم و اللّسانّ ،
كل االستعماالت الذاتية للغة ،أو كما يقول "روالن بارث (( :"Roland Barthالكالم هو ّ
خطاب األنا منزوعا من اللّغة ،و اللّغة هي املؤسسة االجتماعية بعد أن حذفنا منها الكالم))1؛ يف
حني يكون اللّسان هو اخلصوصية النوعية للغة يف جمموعة اجتماعية ما.
انطالقا ممّا سبق ذكره ،يتضح أ ّن اللّغة مؤسسة موضوعية قائمة فوق األفراد و موجودة
قبلهم ،و تقوم على نوع من التعاقد بني أفراد اجملموعة البشرية الواحدة؛ و للغة قوانينها اليت تضبطها،
بتعدد
تدربا و تعلّما ومعرفة لقواعد عملها ،و هي بوصفها ظاهرة إنسانية تتميّز ّ و هي بذلك تتطلّب ّ
عناصرها ،و لذلك فإ ّّنا غري متجانسة يف ذاهتا ،األمر الذي جيعل تصنيفها وإخضاعها للوصف و
التحليل صعبا بل مستحيال؛ و هي حينئذ تستعصي على الباحث اللّساين الذي يسعى إىل تناوهلا من
موحد يف بنيته ،يتميّز بالتجانس التام بني وجهة نظر واحدة ،و لذا كان من األجنع البحث عن إطار ّ
عناصره ،فكان اللّسان هو الوحيد الذي تتحقق فيه تلك امليزة باعتباره صيدا قواعديا منتظما يوجد
بصفة مضمرة يف أذهان األشخاص املتكلمني املنتمني إىل اجملتمع اللغوي الواحد.
كل فرد على حدة ،بل يوجد بصفة كاملة عند فاللسان من حيث هو ظاهرة اجتماعية ،ال يوجد عند ّ
اجلماعة .فهو إذن القانون املشرتك بني أفراد اجملتمع اللغوي الذي يسمح هلم باالتصال ،و يتميّز عن
بالقوة مبعزل عن إرادة األفراد املتكلّمني ،و لذا ،فإنه
اللّغة من حيث إنّه ظاهرة اجتماعية متارس فعاليتها ّ
ليس من وظيفة املتكلّم ،ألنّه النتيجة اليت يسجلّها الفرد بكيفية سلبية ،عكس الكالم الذي هو إجناز
عما هو
فردي نابع عن إرادة و ذكاء .و التمييز بني اللّسان و الكالم ،هو متييز بني ما هو اجتماعي ّ
171
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
حسان" تلخيص هذه
عما هو تابع أو عرضي،و لقد حاول الدكتور "متّام ّ
فردي .و ما هو جوهري ّ
املقابلة بني اللّسان و الكالم مبا يلي9:
-الكالم عمل ،و اللّسان حدود هذا العمل.
-الكالم سلوك ،و اللّسان معيار هذا السلوك.
-الكالم نشاط ،و اللّسان قواعد هذا النّشاط.
بالتأمل يف الكالم .فالكالم هو
بالسمع نطقا ،و بالبصر كتابة ،و اللّسان يدرك ّ -الكالم يدرك ّ
املنطوق و املكتوب ،واللّسان هو املخزون يف املتون اللغوية.
-الكالم عمل فردي و اللسان عمل اجتماعي.
و بناء على هذا فإ ّن موضوع اللّسانيات هو اللّسان ال الكالم ،باعتبار اللّسان أكثر انضباطا و دقّة
من الكالم ،األمر الذي يسمح بدراسته دراسة علمية ،و تاليا وضع قانون عاملي مثايل و حمايد؛ لكن
و على الرغم من الفروق املوجودة بينهما ،إالّ ّأّنما متّصالن اتصاال شديدا حيث يقتضي أحدمها
وجود اآلخر ،ذلك ((…أل ّن اللّسان ما هو إال راسب من عمليات عديدة للكالم عرب الزمنّ ،أما
الصوتية ،و الرتكيبية ،واملعجمية ،اليت يوفرها
الكالم فإنّه تطبيق أو استعمال للوسائل و األدوات ّ
اللّسان)) .1
إن طبيعة املنهج العلمي الذي تبنّاه دي سوسري يف جمال البحث اللّساين ،هو الذي أفرزت
( احملدد و املتجانس يف ذاته ،فكانت فك ـ ـرة النظام اللّساين
رؤية تعاملية متيل إىل الشيء ّ
) Systéme Linguistiqueالذي يتكون من وحدات أساسية متوافقة فيما بينها ،و هذه
الوحدات هي العالمات (5)Signes؛ و من ههنا فإ ّن العالمة اللّسانية يف نظر "دي سوسري" هي
املتكون من صورة مسعية ( ،)Image Acoustiqueومفهوم وحدة النظام ،فهي العنصر اللّساين ّ
السمعية .مث ال يلبث دي سوسري أن يستبدل هذين بالصورة ّ
( ،)Conceptأي الفكرة اليت تقرتن ّ
(،)Signifié املصطلحني (صورة مسعية و مفهوم) بلفظي دال ( ،)Signifiantو مدلول
الكل الذي جيمعهما.اللذين يرامها أفضل من غريمها أل ّّنما يدالّن على املواجهة اليت تفصلهما ،و ّ
إ ّّنما خمتلفان و لكن مرتبطان ،ال يوجد أحدمها إال بوجود اآلخر؛ و هلذا يشبّه "دي سوسري" اللّغة
179
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
ينجر
األول ال ّدال ،و الوجه الثاين املدلول ،ومتزيق أحد الوجهني ّ
بورقة ذات وجهني ،يش ّكل فيها الوجه ّ
التصور الذهين مستحيل..(( ،اللّهم
السمعية* 1و ّ عنه حتما متزيق الوجه اآلخر؛ فالفصل بني الصورة ّ
إالّ إذا قمنا بضرب من العزل أو التجريد ،ولكنّا عندئذ لن نصل إالّ إىل "علم نفس" حمض أو "علم
أصوات" (فونولوجيا) حمض)) ،7و ذلك ما حاول الوقوف عنده حىت ال تتداخل املسائل.
إ ّن العالقة بني ال ّدال و املدلول ،ال تقوم على املشاهبة و املناسبة ،و إالّ ملا تع ّددت األلسنة؛
بل إ ّّنا تقوم على االعتباطية ،و االعتباطية يف نظر "دي سوسري" ((ال تعين أ ّّنا عائدة إىل اختيار حر
يقوم به متكلّم اللّغة ،و إّّنا تعين…أن ال ّدال غري معلّل ،أي اعتباطي بالنسبة للمدلول الذي ال تربطه
فالدوال ال تويل مبدلوالهتا بشكل تلقائي و طبيعي.
به أيّة عالقة يف الواقع))6؛ ّ
يتم بني أفراد اجملموعة البشرية ،و الذي جيعل داال معيّنا
مرد هذا إالّ إىل التواضع الذي ّ
و ما ّ
يطابق مدلوال معيّنا يف الواقع ،و من مثّ جند أ ّن العالمة اللّسانية هي تقسيم للواقع عن طريق التواضع ال
غري ،فهي مبعىن االتفاق واالصطالح ،عكس املفهوم العفوي لدى املتكلّم الذي يرى العالمة اللّسانية
كأّنا اسم للواقع.
ّ
يقر – على الرغم من ذلك -بوجود حاالت استثنائية تكون فيها العالقة جند دي سوسري ّ
غري اعتباطية ،بل طبيعية تقوم على املشاهبة ( ، )Onomatopéesغري ّأّنا تبقى حمدودة جدا،
األمر الذي جيعلها عاجزة عن تكوين نظام لساين خاص هبا.
إنّنا و إزاء هذا الوضع ،قد جند أنفسنا أمام من يطرح علينا السؤال التايل :إذا كانت العالقة اليت تربط
الرابط الذي يربطهما؟.بني الدال واملدلول هي عالقة اعتباطية ( ،)Arbitraireفما هو ّ
إن اللّسان باعتباره نظاما من العالمات هو الذي يضبط هذه االعتباطية ،و يعطي القوة البنائية ملكانة
الرابط الذي جيمع بينهما؛ و من مث يظهر من خالل مفهوم "سوسري" للدليل ،أ ّن هناك إقصاء للواقع ّ
اخلارجي الذي حييل إليه الدليل (املرجع ،)Réferentباعتبار أ ّن العالمة من منظور "سوسري" ال
السمعية ،لكن العالمة و إن كانت تثري يف العقل تربط بني الشيء و االسم ،بل بني املفهوم والصورة ّ
صورة ذهنية ،إالّ أ ّن هذه الصورة الذهنية هي الصورة لشيء موجود يف الواقع اخلارجي.
171
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
مل يقتصر "دي سوسري" على التمييز بني "اللّغة" و "الكالم" و بني "ال ّدال" و "املدلول"،
بل لقد أقام تفرقة أخرى هامة بني "اللّسانيات الداخلية" و "اللّسانيات اخلارجية" ،على اعتبار أ ّن
األوىل ((هي مبثابة دراسة حمايثة ( )Immananteللغة ،يف حني أ ّن الثانية هي عبارة عن درس
للعالقات القائمة بني اللّغة من جهة و بني الدوائر املؤثرة فيها...من جهة أخرى))1؛ ّأما اللّسانيات
الداخلية فتقوم على اعتبار اللّغة نسقا ال يعرف سوى نظامه اخلاص؛ و هي هبذا شبيهة يف سريها
احملصل عليها ،و معىن هذا أن
حيرك قطعها العب كفيف جيهل النتائج ّ وتفاعلها بلعبة الشطرنج اليت ّ
تسريها احلاجة االجتماعية.
معني ،و إّّنا ّ
اللّغة ال تسري وفق قانون ّ
و قد يكون يف تشبيه اللّغة بلعبة الشطرنج ،ما من شأنه أن يعيننا على إدراك النظام الداخلي
للّغة إدراكا أفضل؛ إذ يصبح من اليسري علينا أن ّنيّز يف هذا اجملال بني ما هو خارجي و ما هو
داخلي ،فكون هذه اللعبة قد انتقلت إىل أوروبا من بالد الفرس ،ميثّل واقعة ذات طبيعة خارجية ،يف
كل ما يتعلّق بنظام اللّعبة و قواعدها ميثل –على العكس من ذلك -واقعة ذات طبيعة حني أ ّن ّ
داخلية؛ و لو أنّنا عمدنا إىل استبدال قطع الشطرنج اخلشبية بقطع أخرى عاجية ،ملا كان هلذا التغيري
أي أثر على نظام اللعبة نفسها ،و ّأما إذا عمدنا إىل زيادة القطع أو نقصاّنا ،فالبد أن يكون من
شأن هذا التغيري املساس بنظام اللعبة و قواعدها يف الصميم.
مكونات هذا النسقإ ّن هذا املثال ليؤكد أ ّن اللّغة نظام أو نسق له قواعده اخلاصة ،و أ ّن ّ
كل متماسك ،فضال عن أنّه يعطي األولوية أو الصدارة للّسانيات الداخلية مرتابطة فيما بينها تَرابط ّ
تطورها.
على اللّسانيات اخلارجية ،إذ املهم هو التنظيم الباطين للغة ال تارخيها أو نشأهتا أو مراحل ّ
و ليست فكرة النظام أو النسق عند "فرديناند دي سوسري" سوى تأكيدا على أن حتديد
القيمة ال حيصل إالّ يف النسق ،وأ ّن القيمة اللّسانية هي عالقة متاثل و اختالف و تقابل بني األصوات
و الوحدات الصوتية والوحدات املعنوية و اللّفظية؛ فالوحدات اللّغوية ال حيصل كياّنا إالّ إذا أمكن
أللفاظها أن تبادل :أي أن تشري بني الناس مبا تعارفوا عليه من ٍ
معان ،أو من دور يف التمييز بني
كل واحدة
كل لفظة جمموعة من الصفات تقابل هبا ّ املعاين؛ و ال حيصل هذا بالفعل إالّ إذا اكتسبت ّ
175
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
من األلفاظ األخرى ،و هذا هو ما قصده "دي سوسري" بقوله((:يف اللّغة ال وجود إالّ االختالفات))
،11و االختالف هبذا املعىن ،أي التباين و التقابل هو جوهر النظام نفسه.
مل يضع "دو سوسري" اخلطوات املنهجية ال ّدقيقة "للّسانيات الداخلية" اليت تدرس نسق اللّغة
مهد السبيل حللول "البنيوية" حمل
و قواعدها الباطنية ،ونظامها البنيوي و لكن من املؤكد أنّه هو الذي ّ
حمل الفردية يف مضمار الدراسات اللّغوية عموما و األحباث "الذرية" ( ،)Atomismeو الكلّية ّ
الفونولوجية خصوصا ،و إن كان هذا هو شأن "اللّسانيات ال ّداخلية" ،فإ ّن اللّسانيات اخلارجية على
خالف ذلك ،إذ تسرتسل يف عملية جتميع التفاصيل اجلزئية وإضافتها بعضها إىل بعض ،دون أن تصل
يوما إىل الشعور بأ ّّنا قد أصبحت حمصورة بالفصل بني طريف النظام أو النسق و القيمة.
الدول
حني يريد الباحث أن يقف على العوامل اليت ّأدت إىل ظهور اللّهجات العامية يف ّ
العربية مثال ،فإنه البد واجد أمامه دائما سبيل التعداد أو اإلحصاء ،فيقف عند نشأهتا و احندارها عن
الفصحى األم ،و كيف ابتعدت عنها ،و حماولة إبراز أسباهبا االجتماعية و الثقافية و اللّغوية ،ومناقشة
مرت عليها الدول العربية (تف ّكك هذه األسباب و إعطاء تفسريات هلا عرب احملطات التارخيية اليت ّ
اخلالفة العباسية ،إمهال التعليم ،دخول االستعمار...إخل) ،مع الكشف عن العالقات والعوامل اليت
أدت إىل ظهور اللّحن يف اللّغة ،و زوال اإلعراب ،و حتريف بنية األلفاظ و دالالهتا مع تقدمي الشواهد
و األدلة ،و غري ذلك ممّا ليس من صميم اللّغة؛ فاللّسانيات اخلارجية ،ال هتتم س ـوى مبا هو خارج عن
اللّغة ،على خالف اللّسانيات الداخلية؛ و يف ظل هذا التمييز ،توصل "دو سوسري" إىل التمييز بني
( Dia اآلنيـ ــة = Sun Synchronieيف = Chronos/الزمن) ،و الزمانية
=Diachronieمع =Chronos /الزمن).
توجد لدراسة اللّغة اليت هي موضوع اللّسانيات ،طريقتان ممكنتان تتقابالن حسب "دو
فأما الطريقة األوىل
سوسري" يف حالة من حاالت اعتبار اللّغة كنظام قائم بنفسه ،أو كنظام متنامّ ،
فتؤدي إىل الدراسة اآلنية ،و هي الدراسة اليت هتتم بالنظام اللّساين يف ذاته و من أجل ذاته بعزل عن
التاريخ و موضوعها أثناء التوازن للنظام يف مرحلة معيّنة من الزمان ،يف حني أ ّن الطريقة الثانية تؤول إىل
الدراسة الزمانية القائمة على التعقب التطوري للمسار التحويل للّغة عرب التاريخ.
171
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
و إذا كانت وجهة النظر اآلنية متثل حمورا أفقيا تقوم فيه العالقات بني األشياء املتزامنة على
أساس ثابت ليس للزمان فيه أي دخل ،فإ ّن وجهة النظر الزمانية متثل حمورا عموديا ،تقوم فيه العالقات
التغري الزمين أو التارخيي ،باعتبارأن "دي سوسري"يذهب إىل أنه ((ليس بني األشياء املتتابعة على أساس ّ
للدراسة اآلنية إالّ وجهة نظر واحدة ،هي وجهة نظر مجهور املتكلمني ،ويقوم منهجها بأكمله على
حد يكون األمر أمرا واقعا بالفعل جيب بل يكفي أن مجع شهاداهتم..و إذا أردنا أن نعرف إىل أي ٍ
ننظر إىل أي ح ّد هذا األمر موجود يف وعي املتكلّمنيّ .أما األلسنية الزمانية فيتحتم على أصحاهبا
خبالف ذلك أن مييّزوا بني وجهيت نظر اثنتني :أحدمها استقبالية Prospectiveتتبع جمرى الزمن ،و
األخرى استدبارية Rétrospectiveتعود فيه إىل املاضي))11؛ و هو ما أسس له دو سوسري
لفرق بني املبدأ الضمين واألساسي و بني اآلنية والزمانية ،إميانا منه باالنفصالية
( ،)Discontinuitéفالقوانني اللّغوية اليت حتكم اللّغة يف بنية و حقبة زمانية ما ،الميكن أن
حتكمها يف احلقبة الزمانية املوالية؛ و هذا يعين أ ّن التطور ليس متصال بل منفصال ،ويتجسد هذا
جتدد القوانني اعتبارا منه أن (( اللّسانيات اآلنية فنهتم فيها بالعالقات املنطقية و النفسية
االنفصال يف ّ
مكونة لنظام قادم كما يدركها وعي مجاعي واحد ،و ّأما اللّسانيات الزمانية
الرابطة بني عناصر متواجدة ّ
فنهتم فيها على عكس ذلك (كذا) بالعالقات الرابطة بني عناصر متتالية ال يدركها وعي مجاعي
واحد .و يعوض بعضها بعضا بدون أن تكون فيهابينها نظاما قائما)) ،11و هذا يعين أن الدراسة
اآلنية ،دراسة وصفية تقتصر على النظر إىل حاالت اللّغة ،يف حني أ ّن الدراسة الزمانية تارخيية حترص
على وصف تطور اللّغات.
أعطى "دو سوسري" األفضلية للدراسة اآلنية اليت تقف وجها لوجه أمام الدراسة التارخيية
اليت كانت سائدة يف معظم الدراسات اللّغوية إبّان القرن التاسع عشر ،و اليت أملت على علماء
اللّسان يف تلك اآلونة ،اعتبار التاريخ مبثابة املنظور األساسي للغة ،و اختاذ التعاقب مبدأ أوليا للتفسري،
التطور اخلاصة بكل منها
مع احلرص على جتزئة اللّغة إىل عناصر منعزلة ،من أجل البحث عن قوانني ّ
على حدة ،و هذا ما جعل "دي سوسري" ال ينكر بذلك الطريقة التارخيية ،بل إ ّن ما ينكره هو تغلّبها
تطورها ،أي أن يعلّل كل شيء يف هذا النظام على النظرة اليت تعمد إىل نظام اللّغة يف حالة من ّ
177
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
يربر "دو سوسري" ملوقفه هذا بأ ّن النظام الذي تتصف به اللّغة يف وقت معني ،ال
حبوادث الزمان؛ و ّ
حتول جزئيات
فسر بالعوامل التارخيية العارضة و اجلزئية ،إّّنا الذي تُفسره هذه العوامل هو ّ
ميكن أن يُ ّ
اللّغة املاديةّ ،أما انتظامها و ائتالفها الذي تكتسبه فور فقداّنا إيّاه ،فراجع إىل أسباب غري عارضة بل
مستمرة و باطنية -أي غري خارجة عن نظامها الداخلي -و هبا تتكون اللّغة من حيث هي لغة ،و
لذا جيد دراستها من حيث هي نظام قائم صفته األساس اآلنية.
الشك أ ّن "دي سوسري" حني أعطى الصدارة لآلنية ،قد وضع بذلك حدا لالمتياز الذي
أق ـامه الباحثون السابقون عليه للّغات املتحضرة على حساب اللّغات البدائية؛ و بذلك يكون "دو
أي
سوسري" قد فتح السبيل أمام أهل العلوم اللّسانية للقيام بوصف مماثل لتلك اللّغات اليت ال متتلك ّ
تراث مكتوب ،فال تفاضل بني اللّغات من وجهة نظر اللسانيات احلديثة ،إ ّّنا متساوية كلّها يف
القيمة.
لعل التمييز بني جدول الرتابط ،Paradigmeو جدول السياق،Syntagme و ّ
يرتبط حتما بالتمييز السابق بني اآلنية و التطورية ،و ما محلنا على هذا القول إالّ ورودمها(اجلدولني) يف
القسم الثاين من كتابه " دروس يف األلسنية العامة" واملخصص للّسانيات اآلنية.
تتكون
إ ّن ما يعنيه "دو سوسري" من مستوى الرتابط ،هو أ ّن الكلمات أو العناصر اللّغويةّ ،
عن طريق الربط بني عناصر ذهنية يقتصر فيها الشخص على التقريب بني العناصر اليت تشرتك يف
كل حالة منبعض اخلصائص ،و يُدرك باإلضافة إىل ذلك طبيعة العالقات اليت تربط بينها يف ّ
احلاالت ،فينشئ بذلك عددا من السالسل الرتابطية يوافق عددا من العالقات املختلفة ،ففي الكلمات
التالية( :تعليم/Enseignement:معلّمEnseignant/:يعلّم...Enseigner:اخل) جذر
فلكل كلمة،
مبجرد التشابه و االشرتاك يف املعىن؛ ّمشرتك ،و لكن هذه الكلمات قد تدخل يف عالقة ّ
كلمات ،توحي إلينا مبا من شأنه أن يرتبط هبا بشكل مــن الوجوه ،ففي اللّغة العربية تشرتك
( Ensemble لتكون "جمموعة ترابطية
الر ُجل و رجل و الرجل...اخل)ّ ،
ألفاظ( ّ
)pradigmatiqueتقوم على عنصر مشرتك بينها هو اسم رجل.
176
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
تعقد الكلمات يف مستوى السياق فيما بينها يف صلب اخلطاب و مبقتضى تسلسلها،
بسام واصطاد
بسام أرنبا" ،فال ميكن أن نضع ّ
عالقات قائمة على الصفة اخلطية للّغة كقولنا":اصطاد ّ
بسام و أرنبا" يف تسلسل خطي ،و
يف نفس املوقع ،إذ تنتظم هذه الوحدات أو العناصر "اصطادّ ،
تسمى هذه السلسلة اللّفظية سياقا فالسياق إذن ،يرتكب دائما من وحدتني متتاليتني فأكثر ،و الكلمة
إذا وقعت يف سياق ما ال تكتسب قيمتها إالّ بفضل مقابلتها ملا هو سابق و ملا هو الحق هبا أو
لكليهما معا.
أثر اللسانيات يف اخلطاب النقدي املعاصر "البنيوية" أّنوذجا:
لقد كان للسانيات احلديثة القدرة املعرفية و املنهجية على زعزعة كثري من األنظمة والقيم و
القواعد اليت بقيت ردحا من الزمان مسيطرة على توجيه املمارسة النقدية ،و من مث شكلت اللسانيات
املعاصرة ثورة عارمة اجتاحت املعارف و خاصة اإلنسانية منها و ال غور.
إن مدراسة أثر اللّسانيات يف اخلطاب النقدي املعاصر ليس بالعمل اهلني ،و ما أخال
كل ذلك ،فمنذ زمن
مكونا من بضع صفحات بكاف ألن يبسط القول يف ّ دراسة من هذا احلجم ّ
خصصها أصحاهبا
ليس بالقريب أخذت عشرات الدراسات تنهال على الساحة النقدية ،دراسات ّ
كلّها أو بعضها (فصل أو فصلني) للخوض يف املوضوع.
و نظرا خلصوصية املوضوع و تشعبه آثرنا أن خنصص احلديث يف هذه الدراسة ألثر
اللسانيات املعاصرة يف بلورة املعامل الكربى للبنيوية كاجتاه نقدي معاصر ،و اختيارنا هذا مل يكن
عشوائيا و ال مرجتال ،و إّّنا كان خاضعا جلملة من األسباب أمهها:
-بروز املنهج البنيوي كأحد املناهج الرائدة يف النقد النسقي الذي كان للسانيات املعاصرة الدور الرائد
يف بلورة مفاهيمه وإمداده بالرؤية املنهجية و األدوات اإلجرائية.
-جالء املعامل األساسية للبنيوية كمنهج نقدي جعله مقاربة مل تعرف التباسا مع معارف أخرى ،كما
كان شأن للسيميائية – على سبيل التمثيل ال احلصر -اليت مل يستطع كثري من الدارسني
املتخصصني التفريق بينها و بني علم الداللة (.)Sémiotique-Sémantique ّ
171
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
-مث إ ّن الدراسات يف جمال السيميائية و التفكيكية و الظاهراتية و غريها ،ال تزال ميدانا جيري فيه
البحث و مل يفصل يف كثري من مسائله اجلوهرية ،و هذا ما جعلنا االكتفاء بالبنيوية أل ّن جل مسائلها
قد توضحت و أصبحت أودات إجرائية ميكن التعامل هبا يف املمارسة النقدية.
البنيوية ،البنائية ،البنيانية ،البنوية...و غريها ،تسميات متع ّددة ملسمى واحد ،هذه
ككل جديد
ترددت كثريا يف كتب النقد األديب و غريها من الكتب يف اآلونة األخرية؛و ّ املصطلحات ّ
وافد ،أحدثت البنيوية نقاشا وحوارا واسعني بني أنصار هذا املنهج اجلديد و بني خصومه ومعارضيه؛ و
مل يقتصر النقاش احلاد على كيفية مقاربة األعمال األدبية ،بل امت ّد إىل حتديد مفاهيم جديدة متاما
لألدب و النقد و عالقتهما باجملتمع و األيديولوجي ــا واألحداث التارخيية واإلنسان و اللّغة...إىل آخر
ما هنالك من قضايا تتصل اتصاال مباشرا بالعملية النقدية.
امتد إىل وطننا العريب يف سبعينات
مل يقتصر النقاش على فرنسا و كل أوروبا و أمريكا ،بل ّ
هذا القرن واليزال؛ و بدا أ ّن هناك محاسة كبرية لدى نقادنا و مفكرينا هلذا املنهج اجلديد ،جتلّت من
خالل الرتمجات العديدة لبحوث البنيويني من كتب ومقاالت يف اجملالت والصحف ،و بعض
التطبيقات على النصوص األدبية القدمية واحلديثة؛ و هذا ما يؤكد رواج هذا املنهج النقدي (( إالّ أ ّن
تطرقت للموضوع يغلب عليها طابع الشمولية ،ونادرا ما تبتعد عن األسلوب جل الدراسات اليت ّ ّ
التقريري ،وهذا ما ترتب عنه…خلط يف تداول املصطلحات واملناهج اليت تتبىن بشكل أو بآخر
النظرية البنيوية)) ،19مما شكل هاجسا لدى الكثري من املهتمني هبذا املنهج النقدي و دفعهم للعمل
من أجل التأصيل و ملمارسته النقدية.
اهلني أل ّن مصطلحاهتا جديدة متاما ،و مبادئها إ ّن احلديث عن البنيوية ليس باألمر ّ
ومفاهيمها غري مألوفة ،مما جعل الكثري من الدراسات حوهلا تتسم بالغموض ،لذا فإ ّن من الصعوبة
أدل على ذلك من التعريفات الكثرية اليت جندها
مبكان إعطاء تعريف شامل و موحد للبنيوية ،وليس ّ
بكل جهدنا حملاولة حتديد مفهوم تقرييب هلا ،مث نبحث يف أصوهلا
متناثرة هنا و هناك ،و لذلك سنسعى ّ
األوىل اليت ترجع إىل العامل اللّغوي "فرديناند دي سوسري".
161
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
البنيوية كلمة مشتقة من كلمة( )Structureاملشتقة بدورها من الفعل الالتيين ( )Struereالذي
يعين ((اهليئة أو الكيفية ،اليت يوجد الشيء عليها)) ،11و يف املعاجم العربية بنية الشيء هي ((ما
ويعرف "الالند"( A.La هوأصيل فيه وجوهري وثابت ال يتب ّدل األوضاع والكيفيات)) ّ ،15
مكون من ظواهر متضامنة ،حبيث يكون )Landeالبنية بقوله...((:نستعمل البنية من أجل تعيني ّ
كل عنصر فيها متعلّقا بالعناصر األخرى ،11 ))...فال يكتسب داللته إالّ يف نطاق ذلك الكل؛
جمردة ،منظمة فيما بينها و
املكونات املختلفة اآلتية ،جمموعة حمسوسة أو ّإ ّّنا -إذن – حالة تغدو فيها ّ
متكاملة حبيث ال يتح ّدد هلا معىن يف ذاهتا ،إالّ حبسب اجملموعة اليت تنتظمها.
إ ّن البنية حتمل ّأوال و قبل كل شيء طابع النسق أو املنظومة ،فالبنية تتألف من عناصر ،إذا
حتول ،حتولّت باقي العناصر األخرى .و هبذا املعىن تغدو البنيوية منظومةتغري واحد منها أو ّ
ما ّ
يتحدد املعـىن الكلّي للمجموعة من خالل املعىن العام للعناصر ذاهتا .و
عالقات و قواعد تركيب حبيث ّ
يف هذا يقول "كلود ليفي سرتوس"((:يف الواقع...النماذج اليت تستحق اسم بنية ،جيب أن تلىب حصرا
شروطا أربعة:
تغري العناصر األخرى
تغري أحدها ّ أوال:تتسم البنية بطابع املنظومة ،فهي تتألف من عناصر يستنتج ّ
كلّها.
التحوالت اليت يطابق كل منها ّنوذجا من أصل واحد ،حبيث ثانيا :كل ّنوذج ينتمي إىل جمموعة من ّ
التحوالت يشكل جمموعة من اخلارج.أ ّن جمموع ّ
تغري أحد عناصره .وأخريا،رد فعل النموذج عند ّ ثالثا :إ ّن اخلصائص املبينة أعاله تسمح بتوقع طريقة ّ
جيب بناء النموذج حبيث يستطيع عمله تسويغ مجيع الوقائع املالحظة)).17
و لقد حاول "جان بياجيه"( )J.Piagetإعطاء مفهوم للبنيوية فقال...((:إذا رّكزنا على املميّزات
اإلجيابية لفكرة البنية ،جند..مثال أو آمال من الوضوح الضمين ترتّكز على املسلمة القائلة إن البنية
تكتفي بذاهتا16))...؛ و عنده أ ّن البني ـ ــة تتألـف من ميـزات ثـالث :اجلملـة أو الشمـولية( La
( ،)Les transformationsوالضبط ،)totalitéالتحـ ــويـالت
الذايت(.)L’Autoréglage
161
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
فاجلملة حتيل على التماسك الداخلي للعناصر اليت ينتظمها النسق ،و حتيل التحوالت إىل
التحول؛ و يف مستطاعها توليد العديد من البىن
التغري ،و ّ
أن البنية ال تعرف الثبات ،وإّّنا هي دائمة ّ
الداخليةّ .أما الضبط الذايت ،فـيتكفل بوقاية البنية وحفظها بشكل من أشكال االنغالق حفظا ذاتيا،
ينطلق من داخل البنية ذاهتا ال من خارج حدودها.
هذا ،و يعرتف "بياجيه" بصعوبة تعريف البنيوية ملا تنطوي عليه من أشكال متنوعة متثل
خمرجا مشرتكا ،وأل ّن البنيات اليت تستند إليها ،هلا مدلوالت خمتلفة ،فالبنيوية ليست حكرا على
اللّسانيات و النقد األديب فحسب ،بل تتجاوزمها إىل ميادين أخرى.
لقد صار من البديهي القول بأ ّن العامل اللّغوي السويسري "فرديناند دي سوسري" هو
األول للحركة البنيوية احلديثة ،من خالل كتابه(دروس يف األلسنية العامة)( Cours
املؤسس احلقيقي و ّ
ضمنه دراسة علمية بنيوية مستفيضة ،فصل فيها بني ،)de linguistique généralالذي ّ
اللّغة و الكالم.
فاللغة نظام اجتماعي مستقل عن الفرد ،يف حني أ ّن الكالم هو منها مبثابة التحقيق العيين
الفردي .و معىن هذا ،أ ّن اللّغة تقنني اجتماعي ،أو جمموعة من القواعد( ،)Codesيف حني أ ّن
الكالم فعل فردي يقوم به شخص ما يف حديثه مع أشباهه؛ و تبعا لذلك ،فإن موضوع اللسانيات
احلقيقي و الوحيد هو اللّغة منظور إليها يف ذاهتا ولذاهتا.
انطالقا من هنا ،فإ ّن البنيويني يرون بأ ّن موضوع األدب هو األدب نفسه ،فهو يف منظورهم ((كيان
الدالالت اليت تولد يف النص و تعيش فيه ،و ال
لغوي مستقل ،أو جسد لغوي ،أو نظام من الرموز و ّ
حتده احلدود.
صلة هلا خبارج النص)) ،11إنّه جوهر قائم بذاته ،و عامل ضخم ال ّ
و كان أن هاجم البنيويون نتيجة لذلك -و بعنف -املناهج اليت تعكف على دراسة األدب
ألّنا ال تصف األثر األديب بالذات
مبا هو خارج عنه ،واهتموها ((بأّنا تقع يف شرك الشرح التعليلي!ّ ...
تلح على وصف العوامل اخلارجية...لذلك ينطلق البنيويون من ضرورة الرتكيز على اجلوهر حني ّ
الداخلي للنص األديب)) ،11أل ّن العمل األديب كما يرونه له بنية مستقلة؛ هذه البنية ،هي اليت تضفي
على العمل األديب صفة األدبية.
161
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
يعرفون النص بأنّه
عرف اللّغة بأ ّّنا نسق من الدالئل ،فإن البنيويني ّ
و إذا كان دي سوسري قد ّ
نظام مستقل من الدالئل ،تدخل الوحدات الدالة فيه يف عالقة متبادلة فيما بينها؛ و فكرة النظام الذي
يتحكم بعناصر النص جمتمعة ،و الذي ميكن الوصول إليه من خالل إظهار شبكة العالقات العميقة
بني املستويات النحوية واألسلوبية و اإليقاعية ،مستمدة من فكرة العالقات اللّغوية اليت تع ّد أساسا من
أسس نظرية "دي سوسري" ،و اليت وضحها حني قال بأن اللّغة ليست ألفاظا حم ّددة الدالالت ،و
لكنّها مجلة من العالقات ،فداللة اللفظة ال يتح ّدد إالّ بعالقتها مع عدد من األلفاظ وبالتايل فإن
مقاربة األلفاظ يف ح ّد ذاهتا ال ميثل بناء اللّغة ،بل إ ّن بناء اللّغة أو نظامها ال يتمثل إالّ يف العالقات
بني األلفاظ.
األول ،هي الواجهة املنهجية للسانيات اآلنية ،ذلك أ ّن السنكرونيةو البنيوية يف شكلها ّ
ألّنا مقولة ال تؤمن باألشياء ،و إّّنا تؤمن
اليت هي أساس الرؤية البنيوية ،متثل مبدأ الرؤية األفقية ّ
بالعالقات الرابطة بني األشياء ،على عكس الزمانية أو التطورية اليت تقوم على مبدأ أ ّن حقيقة الظواهر
تكمن يف غريها ال يف ذاهتا .و من مث ،فإ ّن البنيوية تنظر إىل النص على أنه ساكن غري متطور ،أي ال
يتأثر و ال يؤثر ،و لذلك ،ال تعرتف بتطور األشكال األدبية والفنية ،بل ّإّنا تلغي تارخيية النص ،كل
الدقة و املوضوعية يف سبيل احلرص على أدبية األدب.
ذلك بدعوى توخي ّ
إ ّن القول بالسنكرونية كنزعة ال تارخيية ،و رؤية سكونية للنسق ،حدا بالعديدين إىل انتقاد
البنيوية؛ و لقد كان البنيويون منذ "سوسري" على وعي دائما مبثل هذا االهتمام إميانا منهم أ ّن اجلمود
ال يوجد أبدا ،بل كل أجزاء اللّغة هي خاضعة للتغيري ،وهذا ما دفع "برومان جاكبسون"( Roman
)Jakobsonإىل تعديل املصطلح ،والقول بـ(السنكرونية الديناميكية) ،اليت طبّقها "أندري
مارتيين"( )André Martinetيف دراسته الفونولوجية حول التطور الصويت.
كان أن أخصبت مدرسة الشكالنيني الروس( )Les Formalistes Russeاليت
متثّل حلقة من سلسلة اللّسانيات ،املنهج البنيوي من خالل البحوث اليت ق ّدمها أتباعها ،و اليت
تتخلص يف اعتمادهم مفهوم األدبية منطلقا حتليليا ،و يف تأكيدهم على أ ّن اخلطاب األديب خيتلف عن
كزوا اهتمامهم على العناصر النصية ،و على العالقات املتبادلة بينها ،و علىغريه بربوز شكله؛ فقد ر ّ
169
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
أسسوا لغة نقدية شارحة تستم ّد خصوصيتها من هذه اإلجراءات وظائفها يف السياق النّصي ،كما ّ
االصطالحية(السلسلة ،النسق ،اهليمنة ،اإلجراء ،املبىن.)...
مع الشكالنيني الروس كان ّأول ظهور الصطالح(البنيوي) الذي أصدره "جاكبسون"( R
)Jakobsonوتينيانوف ( )Tinianovسنة ،1116يف خصوص العالقة بني ّناذج التحليل
اللغوي و األديب؛ و قد ظهر املصطلح بطريقة منهجية مقصودة ،عكس استعماالته العفوية السابقة؛ مث
انتقل مرياث الشكالنيني الروس إىل تشيكوفاكيا من خالل حلقة براغ اللّغوية (،)1116-1111
بفضل "جاكبسون" و "تروتبتسكوي"(.)Trobtzkoy
فعاال ،يتضح يف تأكيدهم على قدمت النصوص األساسية حللقة براغ إسهاما بنيويا ّ
و لقد ّ
التحليل اآلين ملستويات اللّغة ،و التمييز بني اللّغة املنطوقة و اللّغة املكتوبة ،و النظر إىل اللّغة من
جانبها الوظائفي؛ و يعترب التحليل الوظائفي الذي اعتمده "فالدميري ب ـ ـروب" ( Vladimir
،)Proopخري ما ميثل إسهام حلقة براغ يف اجملال البنيوي؛ ومن أجل التوصل إىل بنية األثر األديب،
ينبغي جتزئة العمل املنقود إىل وحدات أساسية و وحدات ثانوية؛
بالرغم
املعربة عن أعمال األشخاص ،و هي ثابتة دائما ّ فالوحدات األساسية ،هي الوظائف ّ
تعدد هويّات األشخاص الذين يقومون هباّ .أما الوحدات الثانوية فهي اليت متأل الفضاء يف العمل من ّ
السردي بني وظيفتني أساسيتني.اإلبداعي و خباصة السردي منه ّ
لكـن هذه الروافد البنيوية ،مل تأخذ صيغتها املنهجية النقدية املنتظمة إالّ مع املدرسة الفرنسية
ممثلة جبماعة ( )Tel quelو جملتها املوسومة باالسم نفسه ،و اليت أسسها الناقد والروائي "فيليب
سوللرس" سنة ،1111واليت كان من أبرز فرساّنا (روالن بارث ،ميشال فوكو ،جاك دريدا ،جوليا
كريستيفا.)...
أثرت اللّسانيات تأثريا كبريا يف الدراسات النقدية اليت ظلت تستخدم املنهج البنيوي زمنا طويال ،لكن
هذا ال ينبغي أن حيول دون حقيقة أ ّن املنهج البنيوي كانت له سلبياته كما كانت له إجيابياته ،و هذا
ال ينقص من قيمة املنهج الذي كان اهلدف منه دراسة العمل األديب دراسة علمية خالصة له وحده،
عكس املناهج السياقية اليت راحت تبحث عن قضايا ال متت بصلة إالّ قليال ،إىل العمل األديب .فإنّك
161
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
ختصص له حياة الشاعر أو األديب وحالة بيئته و غريها صفحات كثرية جدا ،و ال
جتد عمال نقديا ّ
حيظى العمل املنقود إالّ ببضع صفحات ال تكاد تغين أو تسمن من جوع.
إ ّن توافر النظريات اللّسانية و ما أنشأته من مصطلحات ،قد أدخل علينا إشكاليات مل
نتعامل معها يف ممارستنا للعملية النقدية ،وأصبحت هذه املصطلحات تكون مشكال قائم بذاته عوضا
يقربنا من هذا العلم الدخيل علينا؛ وهذا ما جعل اخلطاب النقدي املعاصر و عن أن تكون مساعدا ّ
خباصة العريب منه يدخل يف حلقة مفرغة أسست هلا عوامل العطالة يف حساسية الناقد العريب بسيطرة
املصطلح النقدي املصطلح الغري متبلور الذي ميكن أن يؤدي الفكرة أداء قائما على التبصر و السرب و
التمحيص.
إشكالية ترمجة املصطلح اللساين يف اخلطاب النقدي املعاصر "السميائية" أّنوذجا:
إ ّن احلديث عن املصطلح عامة ،أصبح ذا أمهية كربى يف العامل بعد الذي عرفته البشرية من
تقدم يف العلوم ،وما شهدته التكنولوجية من ّنو و اكتساح جلميع جماالت العلم و احلياة ،فهو علم
العلوم و جواز سفر للمستقبل.
للمصطلح تأثريات تتصل باجلوانب الفكرية العامة ،ألنّه صورة مكثّفة للعالقة العضوية
القائمة بني العقل واللّغة ،كما ّأّنا تتصل أيضا بالظواهر املعرفية أل ّن املصطلحات يف كل العلوم هي
مبثل النواة املركزية اليت بواسطتها يتسع أو يضيق جمال التطور املعريف و يتثبت هبا التطور املعريف ألمة من
عدت املصطلحات جسورا واصلة بني اللّغات اإلنسانية ،فأخذ بعض اللّغات من البعض األمم؛ لذلك ّ
اآلخر ال جيعل من اآلخذ بالضرورة مسلوب اإلرادة ،بل جيعل منه جمتهدا يف سبل األخذ؛ و هنا تكمن
أساسيات إشكالية ترمجة املصطلح حبسب الثقافة و الرؤية اليت حيملها املرتجم.
نتأمل يف مفهوم املصطلح ،التضح لنا أنّه من أكثر املفاهيم غموضا و التباسا على إذا رحنا ّ
الرغم من كثرة تداوله ،ألنه لغة خارج اللّغة أو فوقها ،فهو ال يرضخ قواعدها الصارمة ،ولكنّها ال ّ
خترجه من دائرهتا ،وبذلك جنده ال يستقل كليا عنها ،بل هو دائم اخلروج عنها خروج البن البار ،و
الدخول إيل ثناياها ،و لكنّه بالرغم من ذلك -يظل حمتفظا لنفسه مبسافة متيّزه -حىت و هو يف قلبها
عن سائر مفرداهتا.
165
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
تغدو اللّغة االصطالحية -من هذا املنظور -تكريسا لطبقية اللّغة ،حيث أ ّن املصطلح
لفظ جتعله األسيقة احمليط به ألن يربز و يتفرد خبصوصية و من مث استقالال ذايت ،فال يسمح بالتعامل
معه إالّ بشروطه اخلاصة ،و كأّن املصطلح عندئذ هو الذي يستخدم املتكلّم /الكاتب وليس العكس؛
لذلك فاملصطلحات ال توضع ارجتاال ،و ال ب ّد يف كل مصطلح من وجود مناسبة ،أو مشاركة ،أو
مشاهبة كبرية كانت أو صغرية بني مدلوله اللّغوي ومدلوله االصطالحي.
و على الرغم من أ ّن القول بالتظافر احلاصل بني النقد األديب و املعارف اللّغوية ،يشوبه من حني إىل
شك فيه يوما ،فإنه قد أصبح من الثابت لدى معشر النقاد ،أ ّن آخر بعض التحفظ ،و إن مل يُ ّ
املصطلح النقدي شرط ال غىن للنقد األديب عنه(( ،أل ّن كشف أسرار اآلليات املفهومية ،مرتبط
بكشف أسرار اآلليات اللّغوية املتحكمة بكل ذلك))11؛ و بذلك ندرك أنه إذا كان املصطلح
يضم يف
يعد مبثابة سور منيع حيول دون اختالط ما ّ النقدي أداة ضبط للمعرفة و توحيد للفكر ،فإنّه ّ
داخله مبا هو واقع يف خارجه ،و لكننا جنده يف كثري من األحوال خيرج من نطاق العرف اللّغوي العام،
يتعرض لشيء
ليدخل يف جمال العرف اللّغوي اخلاص ،و بعد أن يأخذ يف االنتشار مع تزايد تداولهّ ،
يقل و قد يكثر،خصوصا عندما جياوز نطاق لغته اخلاصة إىل لغة أو لغات أخرى.
من التشويه قد ّ
فإما أن يأيت هذا التشويه نتيجة الختزال أو توسيععدة جهات ّ يلحق تشويه املصطلح من ّ
نطاق داللته ،حبيث يلحق إليه ما ليس منه .و قد يلحق التشويه املصطلح عند استعماله يف غري
التخصص الذي وضع له أصال ،وبغري املعاين اليت وضعت له؛ ّأما إذا ترجم املصطلح فإن التشويه
واخليانة الحقة به يف كثري من األحايني خباصة إذا كنا ال ندرك خصائص اللغة األم وخصائص اللغة
املرتجم هلا؛ و كم هي عديدة تلك املصطلحات اليت قد سيء استعماهلا ،فانتهك استعماهلا و ُحرف ،
فتشعبت دالالهتا ،و صارت بذلك عامل تشويه يف احلياة الفكرية لألمة ،يف حني أن التفكري يف إجياد
املصطلحات و حنتها مل يكن إال بدافع خدمة احلياة الفكرة لألمم.
من مث غدا التشكيك باملصطلحات و عدم الثقة هبا يف الثقافة العاملية ،أمرا طبيعيا و مألوفا لدى
املشتغلني باحلقول املعرفية عموما وحبقل النقد األديب خصوصا ،و هذا ما دفع بإشكالية املصطلح إىل
أن تأخذ طابع اهلاجس لدى العاملني يف حقلها ،و من مث ندرك أن إشكالية املصطلح ليست ظاهرة
161
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
خاصة بالثقافة العربية وحدها ،فهي ظاهرة مشرتكة ومستفحلة يف مجيع الثقافات اإلنسانية ،غري أ ّن
ح ّدهتا تتفاوت من ثقافة إىل أخرى ،باختالف درجة الوعي لدى كل منها .فاجملتمعات اليت ال تنتج
تتسرب إىل
املعرفة و تكتفي باستهالك ما يفد إليها ،هي وحدها اليت تعاين بدرجة كبرية من األزمة اليت ّ
قاعدة اهلرم املعريف الذي ينبين عليها النقد األديب ،فتُحدث فيه اهتزازا و اضطرابا ،وهنا مكمن اخلطورة
و االلتباس.
و تنضاف إىل هذا السبب أسباب أخرى جنملها يف املسائل التالية:
-غياب البحوث اجلماعية و التنسيق بني الباحثني
-استعمال املصطلح رغبيا(خيضع مليول شخصية) ،دون حماولة ربطه مبحموله املعريف الذي من أجله
وضع هذا املصطلح أو ذاك.
-تباين االجتاهات يف حتديد جمال الظاهرة ،و وضع املصطلح قبل الوقوف على جوهرها .من ذلك
مثال أ ّن السيميائية عند "روالن بارث" ( ،)Roland Barthesجزء من اللّغة ،أو هي فرع من
فروع اللّسانياتّ .أما "جورج مونان" ( ،)George Mouninفريى ّأّنا تشمل اللّغة ،مبعىن أ ّن
اللّغة جزء من السيميائية و ليس العكس(حيذو يف ذلك حذو سوسري) .يف حني جيعل "امربتو إيكو"
( )Embeto Eccoالسيميائية فرعا من علم الداللة.
للتطورات النقدية و اللّسانياتية املعاصرة.
-ندرة البحوث املواكبة ّ
-عدم حتديد الضوابط و اآلليات السليمة اليت ميكن يف ضوئها ،صياغة مصطلحات مقبولة.
التعدد يف املصطلحاتهلذه األسباب ،و ألسباب أخرى ،تظل ظاهرة التداخل و القصور و ّ
اللّسانياتية والنقدية ،مشكلة حاضرة و مستقبلية ما مل يتم اإلسراع يف إجياد حلول يف شكل ضوابط
خاصة بصياغة املصطلحات تكون يف متناول الدارسني فتضيق دائرة االختالف واالضطراب.
جتتهد الكثري من اجلهات العلمية يف الوطن العريب لتقدمي حلول املقدمة يف سبيل إّناء هذه
املعضلة ،إالّ مفعولية االجتهادات ال تأيت بالنتائج املرجوة إال إذا كانت األمة هي تنتج الرتاكم املعريف ،
و إن كنا ندرك أن اإلشكالية يف حاجة إىل ما سبق ذكره من إنتاج للمعريف ينضاف إليها شروط
167
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
موضوعية أخرى أكثر تشعبا ،و لذلك ال بد من إعادة النظر يف القضايا الكربى اليت تؤسس للثقافة
العربية عامة و اللغوية و النقدية منها خاصة قلبا وقالبا.
كما جيب على املرتجم أن خيضع للشروط التالية:
الصرفية و النحوية ،قادرا على األداء هبا بعبارات سليمة
-أن يكون متقنا اللّغة العربية ،عارفا بقواعدها ّ
الركاكة.
خالية من اخلطأ و احلشو و ّ
-أن يكون متقنا اللّغة األجنبية اليت ينقل منها قواعدا و أسلوبا.
ملما بأساليب الرتمجة و مطّلعا على املصطلحات و طرائق الوصول إليها يف املعاجم العامة -أن يكون ّ
املتخصصة.
و ّ
-أن يكون متم ّكنا من موضوع الكتاب املرتجم ،متخصصا فيه.
كاف على علوم الرتمجة و علوم اللّسانيات ،و عارفا استخدام -أن يكون مطّلعا بقدر ٍ
التقنيات احلديثة املفيدة يف الرتمجة.
ترمجة املصطلح يف النقد العريب املعاصر [السيميائية أّنوذجا]
إ ّن دراسة النظام اإلشاري دراسة قدمية قدم الكون نفسه ،و لكن املنطلقات النظرية هلذه
الدراسات اختلفت من زمن إىل زمن آخر ،و من ّأمة إىل ّأمة أخرى ،و ذلك الختالف الثقافات
واملراحل التارخيية(( ،و قد وصل إلينا بعض التأمالت و األفكار و السيميولوجية من حضارات قدمية
جدا ،كاحلضارة الصينية و اهلندية واليونانية و الرومانية و العربية ،إالّ أ ّن هذه األفكار والتأمالت
السيميولوجية بقيت يف إطار التجربة الذاتية ،و مل تدخل إطار التجربة العلمية املوضوعية)) ،11اليت
صبغتها هبا الدراسات األلسنية املعاصرة.
كان "جون لوك"( )John Lockeسبّاقا إىل ابتكار مصطلح السيميائية رفقة فالسفة
آخرين ،من أشهرهم" :اليبنتز"(" ،)Leibnitzبيكون"" ،ريكنس" ،و "دالغارنو" ،و لكن الدراسة
السيميولوجية حىت تلك احلقبة مل خترج عن املنظور العامة الذي يؤسس للغة ،و فلسفتها النظرية؛ و مل
تصبح السيميولوجية علما قائما بذاته ،إالّ بالعمل الذي قام به الفيلسوف األمريكي "شارل سندرس
بريس"()Charles Senders Peirce؛ والسيميوتيقا طبقا العتقاده هي علم اإلشارة الذي
166
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
يشمل مجيع العلوم اإلنسانية و الطبيعية األخرى؛ إذ يؤكد لذلك انطالقا من أنّه مل يكن باستطاعته
دراسة أي شيء كان سواء أكانت ،املتافيزيقا ،البصريات ،علم األحياء ،علم األرصاد اجلوية،
الرياضيات ،اجلاذبية و الدينامية احلرارية ،األخالق ،علم الكيمياء ،علم النفس ،التشريح املقارن،
الفلك ،علم األصوات ،االقتصاد ،تاريخ العلوم ،لعب األوراق ،الرجال والنساء ،اخلمر ، ،إالّ
باعتبارها تيمات للسيميوتيقا.
تتفرع إىل عالمات ال
يصبح العامل كلّه -هكذا -عالمة كربى لدى "بريس" ،هذه العالمة ّ
ّنائية وفق نسق تلتقي فيه األضداد ،و يشكل فيه التباين و االختالف النظام األساس الذي يبىن عليه
تناسق الوجود ،و هذه العالمات املتولدة من العالمة األم ليست حكرا على النشاط اإلنساين بل
تشمل حىت النشاط احليواين و الطبيعي ،ولكن يبقى اإلنسان باعتبار كائنا متميزا يستعمله استعماال له
من اخلصوصية و التعقيد الشيء املتميز ،حىت أصبح هو يف ذاته عالمة ،هذا و إن كانت الكتابات
تنوعت تنوع املوضوعات اليت ذكرها آنفا ،فإنّه قد فشل يف صياغة عمل منفرد، اليت تناوهلا "بريس" قد ّ
متماسك و منسجم ،ميكنه تلخيص املبادئ األساسية لعلم السيميوتيقا.
اختذت السيمولوجيا مع ظهور كتاب "دروس يف اللّسانيات العامة" لـ"فرديناند دي سوسري"،
اجتاها آخر ،ذلك أ ّن "دي سوسري" كان قد تطلّع إىل السيميولوجية مبنظار لساين ال فلسفي كما فعل
تطرق إليها خالل حديثه عن"بريس" ،فكانت تفسرياته وأفكاره السيميولوجية حمدودة ،و ذلك ألنّه ّ
اإلشارات اللّغوية فقط.
إن اللغة طبقا العتقاده ،نظام إشاري؛ و هي فرع من أنظمة إشارية عديدة ،تدخل كلّها
يعرب عن األفكار…و بذلك ميكن مقارنته بالنظام ضمن إطار السيميولوجية؛ فـ ((اللّغة نظام إشاري ّ
للصم و البكم ،و بالنظام اإلشاري العسكري ،و بالنظام اإلشاري الكتايب و بالنظام األلفبائي ّ
النقشي…اخل .إ ّن العلم الذي يدرس حياة اإلشارة يف جمتمع من اجملتمعات ،ميكن أن يكون جزءا
(كذا) من علم النفس االجتماعي .و هبذا سوف أدعو هذا العلم سيميولوجيا (.)Sémiologie
يبني بنية اإلشارات ،و يبني بالتايل األنظمة والقوانني اليت حتكمها)) ،19و
هذا العلم يستطيع أن ّ
تؤسس هلا وفق رؤية سيميولوجية.
161
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
السيميولوجيا – إذن -علم يهتم بدراسة حياة ال ّدالئل داخل احلياة االجتماعية ،و حييلنا
إىل معرفة كنه هذه ال ّدالئل وعلّتها و كينونتها و جممل القوانني اليت حتكمها ،فالكون مركب دالئل ،و
بذلك كانت السيميولوجية حبسب "دي سوسري" ،علم يبني لنا عمل الدالالت و القوانني اليت تتحكم
فيها.ينضاف إىل ذلك أنه يركز على دراسة حياة الداللة دراسة شاملة و عامة لكل مظاهرها العالمة.
لقد اختذ "دي سوسري" من اللغويات نظاما أمسى لكل نظام سيميولوجي ،فعنده أ ّن اللّغة
هي النظام الوحيد األكثر داللة و إحياء ،بل إ ّن السيميائية قائمة على أساس لغوي مبنية عليه من
حيث كوّنا متثّل النظام االجتماعي الذي يرتكز على أساسه البحث السيميائي؛ و من مثّة
فسيميولوجيا خاصة هبذه الوقائع االجتماعية (اللّسان) ،و يف هذا إخضاع األنظمة السيميولوجية إىل
األنظمة األلسنية ،و بذلك ال ميكن فهم العالمة السيميولوجية ،إالّ من خالل العالمة اللّغوية ،وهذا ما
دفع "دي سوسري" إىل أن يرسي قواعد حديثة للّسانيات؛ وكان األول من أحدث الفصل بني اللّغة و
الكالم ،إالّ أنّه ضيّق أفق السيميولوجية اليت أ ّحلت على الطبيعة االجتماع ية ملوضوعها ،و انطالقها من
منظور لساين بقيت تدور يف فلكه.
ينحدر مصطلح "السيميائية" من اجلذر اليوناين(ساما)؛ و منه (سامايون) الذي يعين عالمة
مميّزة (خصوصية) ،أثر ،قرينة ،مسة مؤشرة ،دليل ،مسة منقوشة أو مكتوبة ،بصمة ،رسم جمازي ،كما
تشري إىل ذلك "جوليا كريستيفا" ()Julia Kristiva؛ ((و هكذا صيغ كل من ساميولوجي
وساميوتيك و جرى تداوهلما جماري شىت ،حىت تداخل استعماهلما يف اللّغة األجنبية فتع ّقد أمرمها يف
يقل عن تشابكه يف حركة نقل املفاهيم النقدية لدينا ،و تشابك االصطالح عليهما يف العربية مبا ال ّ
الفرنسية أو اإلجنليزية)) ،11و ذلك ما هيأ لظهور تباين يف ترمجة املصطلح ،فبات هذان املصطلحان
(ساميولوجي و ساميوتيك ) يشكالن ثنائيا متالزما ،من حيث إ ّن الزوج هو ثاين اثنني مقرتنني ،فهما
ظل املشتغلون حبقل السيميائية فرتة زمنية طويلة ،و هم يردان ّإما مرتادفني و ّإما متقاطعني .و بذلك ّ
كل منهما حي ّدد حقال معرفيا ال يعدوه ،و ال ينبغي أن ميت ّد إليه
حياولون حتديد الفرق بينهما ،فإذا كان ّ
سلطان املصطلح اآلخر ،فيجب عندئذ حتديد ذلك بشيء من الصرامة العلمية.
111
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
املنظرين السيميائيني حول هذه
ينبغي أن نشري يف البدء -قبل أن ّنضي إىل عرض آراء ّ
السمة،
املسألة -إىل أ ّن هذين املصطلحني يشرتكان يف أ ّن كال منهما يبتدئ ب( ،)Sémioو يعين ّ
و يفرتقان يف أ ّن أحدمها ينتهي بالالّحقة( )Logieو تعين اخلطاب ،على حني ينتهي اآلخر
بالالّحقة( ،)Tiqueو تعين النسبة الديداكتيكية .فهل مها إذن امسان ملسمى واحد؟ أم أ ّن كل منهما
له حقله اخلاص به؟.
ال يعدو مصطلح( )Sémiotiqueكونه إحلاقا إىل الكلمة املوضوعة هلذا املفهوم الذي
السمة ،و هو من هذه الناحية شبيه بالرتمجة العربية (السيميائية) ،إذ ياء النسبة ال تستطيع أن تعرب
هو ّ
عن الداللة العلمية اليت يعرب عنها ()Logieيف الثقافة الغربية الذي يدل على مفهوم العلم ،فالياء
يف الرتمجة العربية ياء أقرب إىل النسبة ،أو إىل االشتغال ،أو العالقة بالعلم ،أكثر من داللتها على العلم
نفسه؛ و لكن على الرغم من ذلك جند أن يف "املعجم املوسوعي لعلوم اللّغة" إشارة إىل املصطلحني
على ّأّنما وجهان ملفهوم واحد ،فقد ورد أ ّن "السيميائية" أو "السيميوتيك" هي علم العالمات.
و تطالعنا "جوليا كريستيفا" يف مقال هلا نشرته بـ"املوسوعة العلمية" ،جبعلها املصطلحني
"السيميولوجيا ،أو السيميوتيكا"شيئا واحدا ،إذ جندها توظف املصطلحني معا دون أن تتحرج أو تشري
عدة
تكرر استعماهلا للمصطلحني مستعملة بينهما "أو" االختيارية ّ إألى أن هناك فرق بينهما ،و قد ّ
للداللة على مدلول واحد.
مرات يف مقاهلا ،األمر الذي يدل على أ ّّنا تستعمل املصطلحني ّ
يف حني ّفرق "جورج مونان" بينهما ،فجعل السيميائية معادل للسيميولوجية ،و خباصة عند
للداللة على نظام من العالمات غري شارل موريس بالواليات املتحدة األمريكية ،الذي يستعمله ّ
اللغوية ،مثل إشارات املرور.
و يف قاموس اللّسانيات لـ"جون دو بوا" و رفاقه ،أ ّن "مصطلح" السيميائية يف توظيفه
املعاصر ،قد استعمله شارل بريس .و السيميائية اليت نظر فيها هي مذهب العالمات اليت تستوجب أن
تكون خصائص العالمات املستعملة من قبل العبقرية اإلنسانية يف مسعاها العلمي؛ و أ ّن السيميائية
املعاصرة بريادة "أ.ج.غرمياس" ( )A.J.Greimasو"جوليا كريستيفا" حتاول أن تبتعد عن إعطاء
األفضلية و األولوية للعالمة اللغوية ،و هذا يعين أ ّن السيميائية معطى ثقايف أمريكي بالدرجة األوىل،
111
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
حييل على مفاهيم منطقية و فلسفية ،و عالمات غري لغوية ،و أ ّن السيميولوجية معطى ثقايف أورويب
أساسا ،هو أقرب إىل العالمات اللّغوية ،و اجملال األلسين عموما ،منه إىل عالمات أخرى.
لكن عبثا حاول بعضهم حصر السيميولوجية يف جمال العالمة اللّغوية و السيميائية يف جمال
العالمة الغري لغوية ،إذ مل يتقيّد النقاد السيميائيون هبذه الفروق بني املصطلحني ،و ظلّوا يتساهلون يف
استبدال أحدمها باآلخر ،األمر الذي دفع كال من "غرمياس" و "جاكبسون" و "كلود ليفي سرتوس" و
"بنفنست" و "بارث" ،لتوقيع اتفاق علمي سنة ،1111ينص على اصطناع مصطلح
"السيميائية"( )Sémiotiqueو حسب .لكن جتذر مصطلح السيميولوجية( )Sémiologieيف
الثقافة الغربية ،جعل نسيانه أمرا مستحيال و مستبعدا ،يتجلى ذلك بصفة خاصة ،يف عودة "غرمياس"
نفسه عن قراره ،إذ نلفيه مييل إىل أ ّن املصطلحني يعنيان شيئني خمتلفني .و نتيجة لذلك ،وبتوجيه من
"ياملسالف" ،يرى "غرمياس" بأ ّن لـ( )Sémiotiqueباستعماله يف حال اجلمع يعين البحوث املتعلقة
باحلقول اخلاصة مثل األدب والسينما و اإلشارية و غريها،على حني أ ّن مصطلح ()Sémiologie
(السيميولوجيا) يستعمل للنظرية العامة لكل هذه السيميائيات.
إ ّن تعدد التعريفات ملصطلح هذا احلقل املعريف يف الثقافة الغربية ،يؤكد حقيقة مؤداها أ ّن
هناك تيارات عديدة للسيميائية ،أي أنّنا أمام سيميائيات ال سيميائية واحدة؛ وقد كان عدم االستقرار
على مصطلح واحد هلذا العلم ،سببا يف جعل كثري من الدارسني يواجهون صعوبات يف أن يقفوا على
إدراك جهاز املفاهيمي ،و تناسق مقوالته ،و توحيد أدواته اإلجرائية يف أثناء املمارسة النقدية.
بالرغم من انعقاد ملتقيات دولية حول السيميائية ،و حماوالهتا اجلادة يف توحيد املصطلح ،إالّ ّ
أ ّن املشكل ظ ّـل قائما ،وبدا هذا واضـحا يف احل ـوار ال ـذي عق ـــ ده ( )Rogger Paul Droitمع
( )Le mondeالباريسية سنة ،1171فبعد أن سأله بقوله:إنّكم "غرمياس" يف جريدة (العامل)
تتحدثون أيضا عن السيميولوجيا ،أكثر من السيميوطيقا .فهل باإلمكان توضيح الفرق بينهما؟ أجاب
غرمياس إ ّن األمر قد حسمته اجلمعية السيميائية يف ملتقاها عام ،1116و أ ّن اخلوض يف مثل هذه
املسألة ،هو من صميم اجلدل العقيم الذي ال طائل من ورائه يُرجى ،و أ ّن هناك قضايا تستحق
االهتمام أكثر من االنشغال بأمور ساذجة.
111
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
ابتداء من مطلع الستينات من هذا القرن ،اتسع االهتمام باحلث يف جمال السيميائية
بفرنسا ،مث مت ّد إىل خارجها ،و ذلك مع ظهور القاموس املصطلحي الضخم الذي ألّفه "غرمياس"
( Sémiotique dictionnaire و"كـورتاس" سن ـ ـ ـ ـ ـ ـة1171
قعد املفاهيم السيميائية ،وأرسى معاملها
،)raisonné de la théorie du langageوالذي ّ
يف كثري من األقطار.
خالل الثمانينات ،انتقلت ظالل الدراسات السيميائية إىل البالد العربية ،و كشأن أي جديد يفد
مرد ذلك ،إىل أ ّن
لعل ّ
إلينا ،حار الن ّقاد واختلفوا يف ترمجة املصطلح ،فإذا حنن أمام ركام اصطالحي؛ و ّ
السمة يف املعاجم العربية تقابل مصطلح العالمة .فأصلها من الوسم ،و هو إحداث تأثري أو َعلْم
تصبح مسة عارضة ،أو دائمة .كما جند أن مصطلح سيميائية يلتبس مبصطلحات أخرى ك(الدليل،
اإلشارة ،الرمز ،األمارة ،اآلية ،الشبهة ،األثر ،احلجة ،الرسم ،اخلتم ،والطبع) ،و من هنا اختلف
السيميائيون يف مقابلة مصطلح( )Signeمبصطلح عريب و من مثّة ،اختلفوا يف ترمجة مصطلح
(.)Sémiologie
الرغم من الرتمجات العديدة
سيظل مصطلح سيميائية مفضال عن غريه من املصطلحات على ّ
للسيميائية السيميولوجيا ،السيميوطيقا ،علم العالمات ،العالمية ،علم الداللة ،األعراضية،
السيميوتيكية ،علم اإلشارات ،علم الرموز ،علم األدلة ،الدالئلية ،السيميائية) ،لرسوخه يف الرتاث
العريب ،و قابليته الحتواء مقولة السيميائية احلديثة.
لعلّنا ال نبالغ إذا قلنا أ ّن املناهج اليت درست النصوص األدبية على اختالف أجناسها ،كثرية
البد أن ينطلق من مبادئ فكرية و نظام معريف متكامل، متعددة ،وكل منهج من هذه املناهج ،كان ّ و ّ
و أن يتعامل مع النصوص مبفاهيم و مصطلحات نقدية ،و هذه املفاهيم ليست جمّانية يف استعماالهتا،
بل هلا وظيفة تؤديها يف سياق الدراسة النّصية.
حبب
إ ّن هذا الرصيد الفكري املختص ،هو الذي يؤهل الناقد إىل قراءة النص األديب مدفوعا ّ
االكتشاف ومسكونا بالرغبة يف جتلية املكنون و إظهار الغوامض ،و مغامرا من أجل تعرية أسرار
119
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
اجلمال يف النص ،و منقبا عن املدهش فيه ،و هو قبل هذا و ذاك يهدف إىل الظهور مبظهر العلمية يف
منهجه و طريقة حتليله ،و إضفاء املوضوعية على ما يتوصل إليه من أحكام نقدية.
و ميكن أن خيرج الدارس من كل ذلك مبالحظة مفادها أ ّن التّنوع يف القراءات ،و التع ّدد يف
املناهج النقدية ،يهدف إىل خلق تآلف مشرتك بني الدراسة األدبية ،و منجزات العلوم اإلنسانية و
التجريبية ،و ذلك لتمكني النقد األديب من االبتعاد عن التناول العشوائي ،و االرجتال واالنطباعية يف
األحكام و املعيارية و السطحية يف حتليل اخلطابات.
و جاء القرن العشرون الذي وصل النقد فيه درجة جديدة من الوعي ،و مكانة أعظم يف
اجملتمع ،فظهرت مناهج وأحكام جديدة .و املالحظ على هذه املناهجّ ،أّنا جتاوزت حدود البالد اليت
ظهرت فيها لتنشر يف أرجاء العامل ،و يتبنّاها النقاد و يدافعون عنها ،بل جيتهدون يف اإلضافة إليها.
حتركها ،إذ صارت معينا خصبا ينهل منه إ ّّنا اللّسانيات اليت قبعت وراء تلك األحداث ّ
النقاد ما شاؤوا ،و ما رأوه خيدم النصوص األدبية؛و االستفادة من الدراسات اللّسانية احلديثة و ما
تفرع عنها من مناهج و اجتاهات كالبنيوية و األسلوبية والسيميائية ،كان اهلدف منها هو اخلروج ّ
بتحليل اخلطاب إىل الدراسة الوصفية املتأنية والتحليل املوضوعي املقنع الذي يقوم على مقوالت أمهها:
املكونات األصلية له يف اللّغة و الكالم و العالمة و العالئق اليت تنتج من كل
-االهتمام باألدب و ّ
مكون على حدة ،و بني األطراف املختلفة اليت تنتج النص مث النص داخل النص. ّ
الدوال الشكلية األساس اليت تلعب دور املنتج للنص بني االختبارات اللّسانية، -توقف عند ّ
احملددات السيميائية ،مبا يؤدي إىل وضع الكتابة يف إطار األدبية ،و يساعد على استخالص هذه و ّ
القيمة بالدرجة األوىل.
-النظرة إىل النص ال كانعكاس لعوامل خارجية ،و لكن كمجال ميتلك دواله القادرة على ربط العالقة
مع املدلوالت ،مث مقدرة هذه األخرية على توظيف و صياغة الدوال.
يتحول إىل حقل مستقل له عناصر واقعه الذاتية باللّغة و العالمة والوحداتإ ّن األدب هنا ّ
الصغرى والكربى ،وبواسطة تفكيك واع و حم ّدد للبنية و البنيات أو إلنتاج هذه البنيات لرصد األدبية،
و بالتايل ترقيم وتعيني سنن و نظام كل نص.
111
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
و النقد بعد هذا ،يتوارى كدرس ذي طبيعة تلقينية يف األدب و معتمد ألحكام القيمة ،إنّه ال جمال
بعد ألي تشريع إالّ التشريع الذي يقدر عليه النص وحده ،مبا ميتلك بوصفه صناعة كالم ،و لكن
أيضا بوصفه إنتاجا خلطاب .وهكذا ،تصبح القراءة نوعا من املغامرة اليت تستكشف ختوم املستحيل.
اإلحاالت:
*ُ - 1ولد "فرديناند دوسوسري" يف خريف عام 1657جبنيف ،تابع دراسته األولية مبسقط رأسه يف الرياضيات ،اشتهر أفراد عائلته يف العلوم
الدقيقة و الطبيعة ،و لكنه كان مييل يف الوقت ذاته إىل الدراسات اللغوية ،تعرف على "أ.باكتيه ( "A Pietetمعلمه األول) الذي ألّف يف
فرتة مبكرة جدا حبثا يدور موضوعه حول أصول اللغات اهلندو أوروبية سنة ،1651فشجعه ،و ساعده على املمارسة العلمية يف جمال
الدراسات اللغوية اليت كان مولعا هبا إيالعا شديدا ،األمر الذي جعله يهتم بدراسة اللغتني اليونانية و السنسكريتية ،فضال عن إتقانه اللّغة
الفرنسية واإلجنليزية و األملانية و الالتينية .توجه عام 1671إىل أملانيا اليت كانت تشهد أنذاك ،حركة لغوية رائدة ،فالتحق حبلقة اللغويني األملان
حيث أسهم بأفكاره يف جمال الدراسات املقارنة و يف شهر ديسمرب من عام ،1676ق ّدم مذكرة خترجه (نظام الصوانت البدائي يف اللغات
اهلن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدوأوربية )Le systeme primitif des voyelles dans les langues Indo-Européennesولقد ح ّقق له
هذا البحث ،و هو ال يتجاوز الواحد والعشرين ()11سنة -شهرة عاملية رافقته حىت وفاته ،بل حاضرة يف الثقافة اللّسانية حىت بعد وفاته .و يف
،1661تقدم بأطروحته اليت كان موضوعها (استعمال املضاف املطلق يف اللّغة السنسكريتيةL’emplois du génitif absolu ،
كل ما نشر له ّمت بعد وفاته ،باستثناء جمموعة مذكرات ،و مقاالت ،ومالحظات ،نشرت يف
.)en sanscritو عدا هذين البحثني ،فإ ّن ّ
115
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
( Receuil des publications scientifique de فرتات متباعدة ،و مجعت بعد وفاته يف كتاب حيمل عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوان
.)Ferdinand de saussure 1922
مدة عشر سنوات ،نشر ظل ينشط فيها ّ
كلّف سنة 1661بإلقاء حماضرات يف حماضرات يف املدرسة العليا للدراسات التطبيقية يف باريس و ّ
عدة مقاالت يف جملة ( )Mémoire de la société linguistiqueمثّ أصبح بعد ذلك نائب مدير عام اجمللة نفسها. خالهلا ّ
عاد إىل جنيف سنة ،1611و شغل كرسي التاريخ املقارن للغات اهلندو-أوروبية إىل غاية ،1611مثّ اختفى فجأة من الساحة ،و لكنه عاد
إليها عام 1116حني أسند إليه تدريس علم اللّغة العام خلفا ألحد األساتذة إىل غاية ،1111فأُتيحت له الفرصة كي يفصح القول يف
الدراسة النظرية لعلم اللّغة الوصفي ،إىل أن تويف سنة .1119
و يُرجع بعض الذين ّأرخوا لديسوسري دخوله يف العزلة و إنقطاعه عن اإلنتاج يف الفرتة ما بني ( ،)1111-1611إىل املشاكل العويصة اليت
أثّرت يف حياته النفسية و اإلجتماعية ،األمر الذي انعكس على قدراته الفكرية .و لقد اعرتف دي سوسري بذلك صراحة يف الرسالة اليت بعثها
كل هذا ،و من الصعوبة اليت أالقيها غالبا يف حترير عشرة أسطر فقط ،مثّ موضوع
إىل صديقه "مييه" سنة ،1611إذ يقول...:لقد سئمت من ّ
األوصاف اليت تشرتك فيها األحداث اللغوية ،و أنا مهتم منذ زمان طويل بتصنيف هذه األحداث تصنيفا معقوال ،فصرت أملح أكثر فأكثر
أحرره
ضخامة العمل الذي جيب على الباحث أن يضطلع به حىت يشعر اللغوي حبقيقة ما جيريه من حتليل( ،)...و سأختم عملي هذا بكتاب ّ
أبني فيه معىن من املعاين
أفسر فيه بدون محاس ملاذا ال يوجد لفظ واحد يُستعمل اآلن يف علم اللّسان التارخيي ميكنين أن ّ
و أنا مكره على ذلكّ ،
و أل ّن املوت كان أقوى ،مل يستطع "دي سوسري" إجناز كتابه الذي ذكره يف رسالته السابقة الذكر ،و الذي أراد له أن يكون خامتة جلهوده
كل من "شارل بايل "Charles Ballyو "ألربت سيشهاي Albert- لكن هذا املشروع مل ميت مبوت صاحبه ،بل لقد محل ّ
اللغويةّ .
مدونة عند تالمذته يف الفرتة ما بني ( ،)1111-1111وإيرادها يف كتاب "Sechehayعلى عاتقهما مسؤولية محل األمايل اليت كانت ّ
ظهر إىل اإلنسانية سنة 1111حتت عنوان "دروس يف اللّسانيات العامة"( .)Cours de linguistique générale
- 1النيفر نور الدين :فلسفة اللّغة و اللّسانيات -مؤسسة أبو وجدان للطبع و النشر و التوزيع – ط - 1119 – 1ص.71:
- 9ينظر أمحد حساين :مباحث يف اللسانيات – ديوان املطبوعات اجلامعية – اجلزائر – ص.91:
- 1املرجع السابق – ص.91:
– 5كاترين فوك و بياريل قوفيك :مبادئ يف قضايا اللّسانيات املعاصرة -تر :املنصف عاشور – ديوان املطبوعات اجلامعية – اجلزائر -
– 1161ص.11:
* – 1ليست الصورة السمعية هي األصوات املادية خلصائصها الفيزيائية ،و إّنا هي البصمة النفسية للصوت.
- 7النيفر نور الدين :فلسفة اللّغة و اللّسانيات – مؤسسة أبو وجدان – الدار البيضاء – املغرب -ط - 1ص.71:
– 6أمحد حساين :مباحث اللّسانيات – ص.11:
- 1النيفر نور الدين :فلسفة اللّغة و اللّسانيات – ص.61:
- 11كاترين فوك و بياريل قوفيك :مبادئ يف قضايا اللسانيات املعاصرة – ديوان املطبوعات اجلامعية – اجلزائر -ص.19:
- 11النيفر نور الدين :فلسفة اللّغة و اللّسانيات -ص.61.65
- 11نفسه – ص.61-65:
- 19جورج مونان و آخرون :البنيوية و النقد األديب – تر :حممد لقاح -افريقيا الشرق -الدار البيضاء – 1111 -ص.17:
- 11مهيبل عمر :البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر – ديوان املطبوعات اجلامعية – اجلزائر -ط – 1119 - 1ص.11:
- 15املرجع السابق :ص.11:
111
مجلة اآلادا واللغات -العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) -اديسمبر 5002
- 11املرجع السابق – ص.11:
- 17كلود ليفي شرتو :األنثربولوجيا البنيوية -تر :مصطفى صاحل -وزارة الثقافة و اإلرشاد القومي-دمشق.916/ 1 – 1177
- 16جان بياجي :البنيوية :تر :عارف منيمنة و بشري أوبري -منشورات عويدات -بريوت -باريس -ط.1161 1
- 11شكري عزيز ماضي :حماضرات يف نظرية األدب -دار البعث للطباعة و النشر – اجلزائر -ط – 1161 1:ص.191:
- 11املرجع السابق :ص.196:
- 11املسدي عبد السالم :اإلزدواج و املماثلة يف املصطلح النقدي – اجمللة العربية للثقافة – تونس – ع - 1119/ 11ص.91:
- 11الوعر مازن :دراسات لسانية تطبيقية – دار طالس للدراسات و الرتمجة و النشر – سوريا – ط - 1ص.151:
- 19املرجع السابق – ص.156:
- 11املسدي عبد السالم :اإلزدواج و املماثلة يف املصطلح النقدي – ص.11:
117