You are on page 1of 27

‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬

‫اللسانيات المعاصرة و إشكالية ترجمة المصطلح اللسانونقدي‬


‫"البنيوية والسيميائية" أنموذجا‬

‫د‪ .‬محمد بلوحي ‪ -‬جامعة سيدي بلعباس‬

‫يعترب ظهور االجتاه الوصفي يف الدراسات اللسانية مع أوائل القرن العشرين ثورة فاصلة يف‬
‫السريورة املنهجية هلذا احلقل من حقول الدراسات اللغوية‪ ،‬و إيذانا بانطالقة علم مستقل يدرس ظواهر‬
‫اللّغة كما هي مستعملة يف مكان و زمان معينني‪ ،‬بعيدا عن األحكام املعيارية‪ ،‬ويقوم بتحليل األلسن و‬
‫حمددة مع إخراج البحوث التارخيية و‬ ‫اللهجات باعتبار اللّغة منظومة اتصال حملية يف فرتة زمانية ّ‬
‫الفلسفية و املقارنة و التعليمية التقنينية‪ ،‬وكذا عدم حتديد صوابية االستعمال‪.‬‬
‫ارتبط مولد اللّسانيات احلديثة بالعـامل السويسري "فرديناند دوسوسري‪Ferdinand de -‬‬
‫‪ 1*"saussure 1857-1913‬واألنثروبولوجي األمريكي "فرانزبواز ‪ ،"Franz boaz‬و"أنطوان‬
‫(ت ‪ ،)1111‬و "أنطوان مييه ‪"Antoine meillet‬‬ ‫ماريت ‪"Antoine marty‬‬
‫(‪ )1191-1611‬و غريهم‪.‬‬
‫و على الرغم من أ ّن ظهور الدرس اللغوي الوصفي (اللّسانيات)‪ ،‬قد ارتبط بدي سوسري أكثر من‬
‫مدة من وفاته‪.‬‬
‫الرواج إالّ بعد ّ‬
‫غريه‪ ،‬إالّ أ ّن تعاليمه و آراءه اجلديدة مل يكتب هلا االنتشار و ّ‬
‫فرديناند دي سوسري ‪ Ferdinand de Saussure‬و الدرس اللغوي‪:‬‬
‫نسمع كثريا و نقرأ عن أولئك الذين يسلّمون بالفضل لفرديناند دي سوسري يف جمال الدراسات اللغوية‪،‬‬
‫جدة أطروحاته؟ و ما هي أهم املفاهيم اليت جاء هبا؟‪.‬‬
‫فإن كان ذلك صحيحا‪ ،‬ففيم تتمثل ّ‬
‫لعل ما ميّز سوسري عن غريه من الدارسني‪ ،‬هو تقسيمه للظواهر اللغوية إىل ثنائيات تدور‬‫ّ‬
‫نفصل احلديث يف ذلك‪ ،‬ينبغي أن نشري إىل أن‬‫كلّها حول حمور واحد هو "اللغة اإلنسانية" و قبل أن ّ‬
‫هم بوضع أرضية علمية للنظرية اللّسانية اصطدم يف الواقع بثالثة مظاهر تتعلق حبقيقة‬
‫دي سوسري حني ّ‬
‫اللغة البشرية و هي‪:‬‬
‫‪171‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬

‫‪ -1‬اللّغة (‪ :)Langage‬و هي امللكة اإلنسانية املتمثلة يف تلك القدرات اليت ميتلكها اإلنسان‪ ،‬و‬
‫عما سواه من امللكات األخرى‪.‬‬
‫اليت جتعله يتميّز ّ‬
‫كل فرد متكلّم (مستمع مثايل)‪،‬‬
‫‪ -1‬اللّسان (‪ :)Langue‬و هو النظام التواصلي الذي ميتلكه ّ‬
‫ينتمي إىل جمتمع لغوي له خصوصيات حضارية و ثقافية معيّنة‪.‬‬
‫‪ -9‬الكالم (‪ :)Parole‬و هو اإلجناز الفعلي للغة يف الواقع‪.‬‬
‫يبني أ ّن الكالم ظاهرة فردية‪ ،‬نصادفها يف‬
‫إ ّن حتليل دي سوسري للغة و الكالم و اللّسان‪ّ ،‬‬
‫كل االستعماالت الذاتية للغة‪ ،‬أو كما يقول "روالن بارث ‪(( :"Roland Barth‬الكالم هو‬ ‫ّ‬
‫خطاب األنا منزوعا من اللّغة‪ ،‬و اللّغة هي املؤسسة االجتماعية بعد أن حذفنا منها الكالم))‪1‬؛ يف‬
‫حني يكون اللّسان هو اخلصوصية النوعية للغة يف جمموعة اجتماعية ما‪.‬‬
‫انطالقا ممّا سبق ذكره‪ ،‬يتضح أ ّن اللّغة مؤسسة موضوعية قائمة فوق األفراد و موجودة‬
‫قبلهم‪ ،‬و تقوم على نوع من التعاقد بني أفراد اجملموعة البشرية الواحدة؛ و للغة قوانينها اليت تضبطها‪،‬‬
‫بتعدد‬
‫تدربا و تعلّما ومعرفة لقواعد عملها‪ ،‬و هي بوصفها ظاهرة إنسانية تتميّز ّ‬ ‫و هي بذلك تتطلّب ّ‬
‫عناصرها‪ ،‬و لذلك فإ ّّنا غري متجانسة يف ذاهتا‪ ،‬األمر الذي جيعل تصنيفها وإخضاعها للوصف و‬
‫التحليل صعبا بل مستحيال؛ و هي حينئذ تستعصي على الباحث اللّساين الذي يسعى إىل تناوهلا من‬
‫موحد يف بنيته‪ ،‬يتميّز بالتجانس التام بني‬ ‫وجهة نظر واحدة‪ ،‬و لذا كان من األجنع البحث عن إطار ّ‬
‫عناصره‪ ،‬فكان اللّسان هو الوحيد الذي تتحقق فيه تلك امليزة باعتباره صيدا قواعديا منتظما يوجد‬
‫بصفة مضمرة يف أذهان األشخاص املتكلمني املنتمني إىل اجملتمع اللغوي الواحد‪.‬‬
‫كل فرد على حدة‪ ،‬بل يوجد بصفة كاملة عند‬ ‫فاللسان من حيث هو ظاهرة اجتماعية‪ ،‬ال يوجد عند ّ‬
‫اجلماعة‪ .‬فهو إذن القانون املشرتك بني أفراد اجملتمع اللغوي الذي يسمح هلم باالتصال‪ ،‬و يتميّز عن‬
‫بالقوة مبعزل عن إرادة األفراد املتكلّمني‪ ،‬و لذا‪ ،‬فإنه‬
‫اللّغة من حيث إنّه ظاهرة اجتماعية متارس فعاليتها ّ‬
‫ليس من وظيفة املتكلّم‪ ،‬ألنّه النتيجة اليت يسجلّها الفرد بكيفية سلبية‪ ،‬عكس الكالم الذي هو إجناز‬
‫عما هو‬
‫فردي نابع عن إرادة و ذكاء‪ .‬و التمييز بني اللّسان و الكالم‪ ،‬هو متييز بني ما هو اجتماعي ّ‬
‫‪171‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫حسان" تلخيص هذه‬
‫عما هو تابع أو عرضي‪،‬و لقد حاول الدكتور "متّام ّ‬
‫فردي‪ .‬و ما هو جوهري ّ‬
‫املقابلة بني اللّسان و الكالم مبا يلي‪9:‬‬
‫‪ -‬الكالم عمل‪ ،‬و اللّسان حدود هذا العمل‪.‬‬
‫‪ -‬الكالم سلوك‪ ،‬و اللّسان معيار هذا السلوك‪.‬‬
‫‪ -‬الكالم نشاط‪ ،‬و اللّسان قواعد هذا النّشاط‪.‬‬
‫بالتأمل يف الكالم‪ .‬فالكالم هو‬
‫بالسمع نطقا‪ ،‬و بالبصر كتابة‪ ،‬و اللّسان يدرك ّ‬ ‫‪ -‬الكالم يدرك ّ‬
‫املنطوق و املكتوب‪ ،‬واللّسان هو املخزون يف املتون اللغوية‪.‬‬
‫‪ -‬الكالم عمل فردي و اللسان عمل اجتماعي‪.‬‬
‫و بناء على هذا فإ ّن موضوع اللّسانيات هو اللّسان ال الكالم‪ ،‬باعتبار اللّسان أكثر انضباطا و دقّة‬
‫من الكالم‪ ،‬األمر الذي يسمح بدراسته دراسة علمية‪ ،‬و تاليا وضع قانون عاملي مثايل و حمايد؛ لكن‬
‫و على الرغم من الفروق املوجودة بينهما‪ ،‬إالّ ّأّنما متّصالن اتصاال شديدا حيث يقتضي أحدمها‬
‫وجود اآلخر‪ ،‬ذلك ((…أل ّن اللّسان ما هو إال راسب من عمليات عديدة للكالم عرب الزمن‪ّ ،‬أما‬
‫الصوتية‪ ،‬و الرتكيبية‪ ،‬واملعجمية‪ ،‬اليت يوفرها‬
‫الكالم فإنّه تطبيق أو استعمال للوسائل و األدوات ّ‬
‫اللّسان)) ‪.1‬‬
‫إن طبيعة املنهج العلمي الذي تبنّاه دي سوسري يف جمال البحث اللّساين‪ ،‬هو الذي أفرزت‬
‫(‬ ‫احملدد و املتجانس يف ذاته‪ ،‬فكانت فك ـ ـرة النظام اللّساين‬
‫رؤية تعاملية متيل إىل الشيء ّ‬
‫‪ ) Systéme Linguistique‬الذي يتكون من وحدات أساسية متوافقة فيما بينها‪ ،‬و هذه‬
‫الوحدات هي العالمات (‪5)Signes‬؛ و من ههنا فإ ّن العالمة اللّسانية يف نظر "دي سوسري" هي‬
‫املتكون من صورة مسعية (‪ ،)Image Acoustique‬ومفهوم‬ ‫وحدة النظام‪ ،‬فهي العنصر اللّساين ّ‬
‫السمعية‪ .‬مث ال يلبث دي سوسري أن يستبدل هذين‬ ‫بالصورة ّ‬
‫(‪ ،)Concept‬أي الفكرة اليت تقرتن ّ‬
‫(‪،)Signifié‬‬ ‫املصطلحني (صورة مسعية و مفهوم) بلفظي دال (‪ ،)Signifiant‬و مدلول‬
‫الكل الذي جيمعهما‪.‬‬‫اللذين يرامها أفضل من غريمها أل ّّنما يدالّن على املواجهة اليت تفصلهما‪ ،‬و ّ‬
‫إ ّّنما خمتلفان و لكن مرتبطان‪ ،‬ال يوجد أحدمها إال بوجود اآلخر؛ و هلذا يشبّه "دي سوسري" اللّغة‬
‫‪179‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫ينجر‬
‫األول ال ّدال‪ ،‬و الوجه الثاين املدلول‪ ،‬ومتزيق أحد الوجهني ّ‬
‫بورقة ذات وجهني‪ ،‬يش ّكل فيها الوجه ّ‬
‫التصور الذهين مستحيل‪..(( ،‬اللّهم‬
‫السمعية*‪ 1‬و ّ‬ ‫عنه حتما متزيق الوجه اآلخر؛ فالفصل بني الصورة ّ‬
‫إالّ إذا قمنا بضرب من العزل أو التجريد‪ ،‬ولكنّا عندئذ لن نصل إالّ إىل "علم نفس" حمض أو "علم‬
‫أصوات" (فونولوجيا) حمض))‪ ،7‬و ذلك ما حاول الوقوف عنده حىت ال تتداخل املسائل‪.‬‬
‫إ ّن العالقة بني ال ّدال و املدلول‪ ،‬ال تقوم على املشاهبة و املناسبة‪ ،‬و إالّ ملا تع ّددت األلسنة؛‬
‫بل إ ّّنا تقوم على االعتباطية‪ ،‬و االعتباطية يف نظر "دي سوسري" ((ال تعين أ ّّنا عائدة إىل اختيار حر‬
‫يقوم به متكلّم اللّغة‪ ،‬و إّّنا تعين…أن ال ّدال غري معلّل‪ ،‬أي اعتباطي بالنسبة للمدلول الذي ال تربطه‬
‫فالدوال ال تويل مبدلوالهتا بشكل تلقائي و طبيعي‪.‬‬
‫به أيّة عالقة يف الواقع))‪6‬؛ ّ‬
‫يتم بني أفراد اجملموعة البشرية‪ ،‬و الذي جيعل داال معيّنا‬
‫مرد هذا إالّ إىل التواضع الذي ّ‬
‫و ما ّ‬
‫يطابق مدلوال معيّنا يف الواقع‪ ،‬و من مثّ جند أ ّن العالمة اللّسانية هي تقسيم للواقع عن طريق التواضع ال‬
‫غري‪ ،‬فهي مبعىن االتفاق واالصطالح‪ ،‬عكس املفهوم العفوي لدى املتكلّم الذي يرى العالمة اللّسانية‬
‫كأّنا اسم للواقع‪.‬‬
‫ّ‬
‫يقر – على الرغم من ذلك ‪ -‬بوجود حاالت استثنائية تكون فيها العالقة‬ ‫جند دي سوسري ّ‬
‫غري اعتباطية‪ ،‬بل طبيعية تقوم على املشاهبة (‪ ، )Onomatopées‬غري ّأّنا تبقى حمدودة جدا‪،‬‬
‫األمر الذي جيعلها عاجزة عن تكوين نظام لساين خاص هبا‪.‬‬
‫إنّنا و إزاء هذا الوضع‪ ،‬قد جند أنفسنا أمام من يطرح علينا السؤال التايل‪ :‬إذا كانت العالقة اليت تربط‬
‫الرابط الذي يربطهما؟‪.‬‬‫بني الدال واملدلول هي عالقة اعتباطية (‪ ،)Arbitraire‬فما هو ّ‬
‫إن اللّسان باعتباره نظاما من العالمات هو الذي يضبط هذه االعتباطية‪ ،‬و يعطي القوة البنائية ملكانة‬
‫الرابط الذي جيمع بينهما؛ و من مث يظهر من خالل مفهوم "سوسري" للدليل‪ ،‬أ ّن هناك إقصاء للواقع‬ ‫ّ‬
‫اخلارجي الذي حييل إليه الدليل (املرجع ‪ ،)Réferent‬باعتبار أ ّن العالمة من منظور "سوسري" ال‬
‫السمعية‪ ،‬لكن العالمة و إن كانت تثري يف العقل‬ ‫تربط بني الشيء و االسم‪ ،‬بل بني املفهوم والصورة ّ‬
‫صورة ذهنية‪ ،‬إالّ أ ّن هذه الصورة الذهنية هي الصورة لشيء موجود يف الواقع اخلارجي‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫مل يقتصر "دي سوسري" على التمييز بني "اللّغة" و "الكالم" و بني "ال ّدال" و "املدلول"‪،‬‬
‫بل لقد أقام تفرقة أخرى هامة بني "اللّسانيات الداخلية" و "اللّسانيات اخلارجية"‪ ،‬على اعتبار أ ّن‬
‫األوىل ((هي مبثابة دراسة حمايثة (‪ )Immanante‬للغة‪ ،‬يف حني أ ّن الثانية هي عبارة عن درس‬
‫للعالقات القائمة بني اللّغة من جهة و بني الدوائر املؤثرة فيها‪...‬من جهة أخرى))‪1‬؛ ّأما اللّسانيات‬
‫الداخلية فتقوم على اعتبار اللّغة نسقا ال يعرف سوى نظامه اخلاص؛ و هي هبذا شبيهة يف سريها‬
‫احملصل عليها‪ ،‬و معىن هذا أن‬
‫حيرك قطعها العب كفيف جيهل النتائج ّ‬ ‫وتفاعلها بلعبة الشطرنج اليت ّ‬
‫تسريها احلاجة االجتماعية‪.‬‬
‫معني‪ ،‬و إّّنا ّ‬
‫اللّغة ال تسري وفق قانون ّ‬
‫و قد يكون يف تشبيه اللّغة بلعبة الشطرنج‪ ،‬ما من شأنه أن يعيننا على إدراك النظام الداخلي‬
‫للّغة إدراكا أفضل؛ إذ يصبح من اليسري علينا أن ّنيّز يف هذا اجملال بني ما هو خارجي و ما هو‬
‫داخلي‪ ،‬فكون هذه اللعبة قد انتقلت إىل أوروبا من بالد الفرس‪ ،‬ميثّل واقعة ذات طبيعة خارجية‪ ،‬يف‬
‫كل ما يتعلّق بنظام اللّعبة و قواعدها ميثل –على العكس من ذلك‪ -‬واقعة ذات طبيعة‬ ‫حني أ ّن ّ‬
‫داخلية؛ و لو أنّنا عمدنا إىل استبدال قطع الشطرنج اخلشبية بقطع أخرى عاجية‪ ،‬ملا كان هلذا التغيري‬
‫أي أثر على نظام اللعبة نفسها‪ ،‬و ّأما إذا عمدنا إىل زيادة القطع أو نقصاّنا‪ ،‬فالبد أن يكون من‬
‫شأن هذا التغيري املساس بنظام اللعبة و قواعدها يف الصميم‪.‬‬
‫مكونات هذا النسق‬‫إ ّن هذا املثال ليؤكد أ ّن اللّغة نظام أو نسق له قواعده اخلاصة‪ ،‬و أ ّن ّ‬
‫كل متماسك‪ ،‬فضال عن أنّه يعطي األولوية أو الصدارة للّسانيات الداخلية‬ ‫مرتابطة فيما بينها تَرابط ّ‬
‫تطورها‪.‬‬
‫على اللّسانيات اخلارجية‪ ،‬إذ املهم هو التنظيم الباطين للغة ال تارخيها أو نشأهتا أو مراحل ّ‬
‫و ليست فكرة النظام أو النسق عند "فرديناند دي سوسري" سوى تأكيدا على أن حتديد‬
‫القيمة ال حيصل إالّ يف النسق‪ ،‬وأ ّن القيمة اللّسانية هي عالقة متاثل و اختالف و تقابل بني األصوات‬
‫و الوحدات الصوتية والوحدات املعنوية و اللّفظية؛ فالوحدات اللّغوية ال حيصل كياّنا إالّ إذا أمكن‬
‫أللفاظها أن تبادل‪ :‬أي أن تشري بني الناس مبا تعارفوا عليه من ٍ‬
‫معان‪ ،‬أو من دور يف التمييز بني‬
‫كل واحدة‬
‫كل لفظة جمموعة من الصفات تقابل هبا ّ‬ ‫املعاين؛ و ال حيصل هذا بالفعل إالّ إذا اكتسبت ّ‬

‫‪175‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫من األلفاظ األخرى‪ ،‬و هذا هو ما قصده "دي سوسري" بقوله‪((:‬يف اللّغة ال وجود إالّ االختالفات))‬
‫‪،11‬و االختالف هبذا املعىن‪ ،‬أي التباين و التقابل هو جوهر النظام نفسه‪.‬‬
‫مل يضع "دو سوسري" اخلطوات املنهجية ال ّدقيقة "للّسانيات الداخلية" اليت تدرس نسق اللّغة‬
‫مهد السبيل حللول "البنيوية" حمل‬
‫و قواعدها الباطنية‪ ،‬ونظامها البنيوي و لكن من املؤكد أنّه هو الذي ّ‬
‫حمل الفردية يف مضمار الدراسات اللّغوية عموما و األحباث‬ ‫"الذرية" (‪ ،)Atomisme‬و الكلّية ّ‬
‫الفونولوجية خصوصا‪ ،‬و إن كان هذا هو شأن "اللّسانيات ال ّداخلية"‪ ،‬فإ ّن اللّسانيات اخلارجية على‬
‫خالف ذلك‪ ،‬إذ تسرتسل يف عملية جتميع التفاصيل اجلزئية وإضافتها بعضها إىل بعض‪ ،‬دون أن تصل‬
‫يوما إىل الشعور بأ ّّنا قد أصبحت حمصورة بالفصل بني طريف النظام أو النسق و القيمة‪.‬‬
‫الدول‬
‫حني يريد الباحث أن يقف على العوامل اليت ّأدت إىل ظهور اللّهجات العامية يف ّ‬
‫العربية مثال‪ ،‬فإنه البد واجد أمامه دائما سبيل التعداد أو اإلحصاء‪ ،‬فيقف عند نشأهتا و احندارها عن‬
‫الفصحى األم‪ ،‬و كيف ابتعدت عنها‪ ،‬و حماولة إبراز أسباهبا االجتماعية و الثقافية و اللّغوية‪ ،‬ومناقشة‬
‫مرت عليها الدول العربية (تف ّكك‬ ‫هذه األسباب و إعطاء تفسريات هلا عرب احملطات التارخيية اليت ّ‬
‫اخلالفة العباسية‪ ،‬إمهال التعليم‪ ،‬دخول االستعمار‪...‬إخل)‪ ،‬مع الكشف عن العالقات والعوامل اليت‬
‫أدت إىل ظهور اللّحن يف اللّغة‪ ،‬و زوال اإلعراب‪ ،‬و حتريف بنية األلفاظ و دالالهتا مع تقدمي الشواهد‬
‫و األدلة‪ ،‬و غري ذلك ممّا ليس من صميم اللّغة؛ فاللّسانيات اخلارجية‪ ،‬ال هتتم س ـوى مبا هو خارج عن‬
‫اللّغة‪ ،‬على خالف اللّسانيات الداخلية؛ و يف ظل هذا التمييز‪ ،‬توصل "دو سوسري" إىل التمييز بني‬
‫( ‪Dia‬‬ ‫اآلنيـ ــة ‪ = Sun Synchronie‬يف‪ = Chronos/‬الزمن)‪ ،‬و الزمانية‬
‫‪ =Diachronie‬مع‪ =Chronos /‬الزمن)‪.‬‬
‫توجد لدراسة اللّغة اليت هي موضوع اللّسانيات‪ ،‬طريقتان ممكنتان تتقابالن حسب "دو‬
‫فأما الطريقة األوىل‬
‫سوسري" يف حالة من حاالت اعتبار اللّغة كنظام قائم بنفسه‪ ،‬أو كنظام متنام‪ّ ،‬‬
‫فتؤدي إىل الدراسة اآلنية‪ ،‬و هي الدراسة اليت هتتم بالنظام اللّساين يف ذاته و من أجل ذاته بعزل عن‬
‫التاريخ و موضوعها أثناء التوازن للنظام يف مرحلة معيّنة من الزمان‪ ،‬يف حني أ ّن الطريقة الثانية تؤول إىل‬
‫الدراسة الزمانية القائمة على التعقب التطوري للمسار التحويل للّغة عرب التاريخ‪.‬‬
‫‪171‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫و إذا كانت وجهة النظر اآلنية متثل حمورا أفقيا تقوم فيه العالقات بني األشياء املتزامنة على‬
‫أساس ثابت ليس للزمان فيه أي دخل‪ ،‬فإ ّن وجهة النظر الزمانية متثل حمورا عموديا‪ ،‬تقوم فيه العالقات‬
‫التغري الزمين أو التارخيي‪ ،‬باعتبارأن "دي سوسري"يذهب إىل أنه ((ليس‬ ‫بني األشياء املتتابعة على أساس ّ‬
‫للدراسة اآلنية إالّ وجهة نظر واحدة‪ ،‬هي وجهة نظر مجهور املتكلمني‪ ،‬ويقوم منهجها بأكمله على‬
‫حد يكون األمر أمرا واقعا بالفعل جيب بل يكفي أن‬ ‫مجع شهاداهتم‪..‬و إذا أردنا أن نعرف إىل أي ٍ‬
‫ننظر إىل أي ح ّد هذا األمر موجود يف وعي املتكلّمني‪ّ .‬أما األلسنية الزمانية فيتحتم على أصحاهبا‬
‫خبالف ذلك أن مييّزوا بني وجهيت نظر اثنتني‪ :‬أحدمها استقبالية ‪ Prospective‬تتبع جمرى الزمن‪ ،‬و‬
‫األخرى استدبارية ‪ Rétrospective‬تعود فيه إىل املاضي))‪11‬؛ و هو ما أسس له دو سوسري‬
‫لفرق بني املبدأ الضمين واألساسي و بني اآلنية والزمانية‪ ،‬إميانا منه باالنفصالية‬
‫(‪ ،)Discontinuité‬فالقوانني اللّغوية اليت حتكم اللّغة يف بنية و حقبة زمانية ما‪ ،‬الميكن أن‬
‫حتكمها يف احلقبة الزمانية املوالية؛ و هذا يعين أ ّن التطور ليس متصال بل منفصال‪ ،‬ويتجسد هذا‬
‫جتدد القوانني اعتبارا منه أن (( اللّسانيات اآلنية فنهتم فيها بالعالقات املنطقية و النفسية‬
‫االنفصال يف ّ‬
‫مكونة لنظام قادم كما يدركها وعي مجاعي واحد‪ ،‬و ّأما اللّسانيات الزمانية‬
‫الرابطة بني عناصر متواجدة ّ‬
‫فنهتم فيها على عكس ذلك (كذا) بالعالقات الرابطة بني عناصر متتالية ال يدركها وعي مجاعي‬
‫واحد‪ .‬و يعوض بعضها بعضا بدون أن تكون فيهابينها نظاما قائما))‪ ،11‬و هذا يعين أن الدراسة‬
‫اآلنية‪ ،‬دراسة وصفية تقتصر على النظر إىل حاالت اللّغة‪ ،‬يف حني أ ّن الدراسة الزمانية تارخيية حترص‬
‫على وصف تطور اللّغات‪.‬‬
‫أعطى "دو سوسري" األفضلية للدراسة اآلنية اليت تقف وجها لوجه أمام الدراسة التارخيية‬
‫اليت كانت سائدة يف معظم الدراسات اللّغوية إبّان القرن التاسع عشر‪ ،‬و اليت أملت على علماء‬
‫اللّسان يف تلك اآلونة‪ ،‬اعتبار التاريخ مبثابة املنظور األساسي للغة‪ ،‬و اختاذ التعاقب مبدأ أوليا للتفسري‪،‬‬
‫التطور اخلاصة بكل منها‬
‫مع احلرص على جتزئة اللّغة إىل عناصر منعزلة‪ ،‬من أجل البحث عن قوانني ّ‬
‫على حدة‪ ،‬و هذا ما جعل "دي سوسري" ال ينكر بذلك الطريقة التارخيية‪ ،‬بل إ ّن ما ينكره هو تغلّبها‬
‫تطورها‪ ،‬أي أن يعلّل كل شيء يف هذا النظام‬ ‫على النظرة اليت تعمد إىل نظام اللّغة يف حالة من ّ‬
‫‪177‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫يربر "دو سوسري" ملوقفه هذا بأ ّن النظام الذي تتصف به اللّغة يف وقت معني‪ ،‬ال‬
‫حبوادث الزمان؛ و ّ‬
‫حتول جزئيات‬
‫فسر بالعوامل التارخيية العارضة و اجلزئية‪ ،‬إّّنا الذي تُفسره هذه العوامل هو ّ‬
‫ميكن أن يُ ّ‬
‫اللّغة املادية‪ّ ،‬أما انتظامها و ائتالفها الذي تكتسبه فور فقداّنا إيّاه‪ ،‬فراجع إىل أسباب غري عارضة بل‬
‫مستمرة و باطنية ‪ -‬أي غري خارجة عن نظامها الداخلي ‪ -‬و هبا تتكون اللّغة من حيث هي لغة‪ ،‬و‬
‫لذا جيد دراستها من حيث هي نظام قائم صفته األساس اآلنية‪.‬‬
‫الشك أ ّن "دي سوسري" حني أعطى الصدارة لآلنية‪ ،‬قد وضع بذلك حدا لالمتياز الذي‬
‫أق ـامه الباحثون السابقون عليه للّغات املتحضرة على حساب اللّغات البدائية؛ و بذلك يكون "دو‬
‫أي‬
‫سوسري" قد فتح السبيل أمام أهل العلوم اللّسانية للقيام بوصف مماثل لتلك اللّغات اليت ال متتلك ّ‬
‫تراث مكتوب‪ ،‬فال تفاضل بني اللّغات من وجهة نظر اللسانيات احلديثة‪ ،‬إ ّّنا متساوية كلّها يف‬
‫القيمة‪.‬‬
‫لعل التمييز بني جدول الرتابط ‪ ،Paradigme‬و جدول السياق‪،Syntagme‬‬ ‫و ّ‬
‫يرتبط حتما بالتمييز السابق بني اآلنية و التطورية‪ ،‬و ما محلنا على هذا القول إالّ ورودمها(اجلدولني) يف‬
‫القسم الثاين من كتابه " دروس يف األلسنية العامة" واملخصص للّسانيات اآلنية‪.‬‬
‫تتكون‬
‫إ ّن ما يعنيه "دو سوسري" من مستوى الرتابط‪ ،‬هو أ ّن الكلمات أو العناصر اللّغوية‪ّ ،‬‬
‫عن طريق الربط بني عناصر ذهنية يقتصر فيها الشخص على التقريب بني العناصر اليت تشرتك يف‬
‫كل حالة من‬‫بعض اخلصائص‪ ،‬و يُدرك باإلضافة إىل ذلك طبيعة العالقات اليت تربط بينها يف ّ‬
‫احلاالت‪ ،‬فينشئ بذلك عددا من السالسل الرتابطية يوافق عددا من العالقات املختلفة‪ ،‬ففي الكلمات‬
‫التالية‪( :‬تعليم‪/Enseignement:‬معلّم‪Enseignant/:‬يعلّم‪...Enseigner:‬اخل) جذر‬
‫فلكل كلمة‪،‬‬
‫مبجرد التشابه و االشرتاك يف املعىن؛ ّ‬‫مشرتك‪ ،‬و لكن هذه الكلمات قد تدخل يف عالقة ّ‬
‫كلمات‪ ،‬توحي إلينا مبا من شأنه أن يرتبط هبا بشكل مــن الوجوه‪ ،‬ففي اللّغة العربية تشرتك‬
‫( ‪Ensemble‬‬ ‫لتكون "جمموعة ترابطية‬
‫الر ُجل و رجل و الرجل‪...‬اخل)‪ّ ،‬‬
‫ألفاظ( ّ‬
‫‪ )pradigmatique‬تقوم على عنصر مشرتك بينها هو اسم رجل‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫تعقد الكلمات يف مستوى السياق فيما بينها يف صلب اخلطاب و مبقتضى تسلسلها‪،‬‬
‫بسام واصطاد‬
‫بسام أرنبا"‪ ،‬فال ميكن أن نضع ّ‬
‫عالقات قائمة على الصفة اخلطية للّغة كقولنا‪":‬اصطاد ّ‬
‫بسام و أرنبا" يف تسلسل خطي‪ ،‬و‬
‫يف نفس املوقع‪ ،‬إذ تنتظم هذه الوحدات أو العناصر "اصطاد‪ّ ،‬‬
‫تسمى هذه السلسلة اللّفظية سياقا فالسياق إذن‪ ،‬يرتكب دائما من وحدتني متتاليتني فأكثر‪ ،‬و الكلمة‬
‫إذا وقعت يف سياق ما ال تكتسب قيمتها إالّ بفضل مقابلتها ملا هو سابق و ملا هو الحق هبا أو‬
‫لكليهما معا‪.‬‬
‫أثر اللسانيات يف اخلطاب النقدي املعاصر "البنيوية" أّنوذجا‪:‬‬
‫لقد كان للسانيات احلديثة القدرة املعرفية و املنهجية على زعزعة كثري من األنظمة والقيم و‬
‫القواعد اليت بقيت ردحا من الزمان مسيطرة على توجيه املمارسة النقدية‪ ،‬و من مث شكلت اللسانيات‬
‫املعاصرة ثورة عارمة اجتاحت املعارف و خاصة اإلنسانية منها و ال غور‪.‬‬
‫إن مدراسة أثر اللّسانيات يف اخلطاب النقدي املعاصر ليس بالعمل اهلني‪ ،‬و ما أخال‬
‫كل ذلك‪ ،‬فمنذ زمن‬
‫مكونا من بضع صفحات بكاف ألن يبسط القول يف ّ‬ ‫دراسة من هذا احلجم ّ‬
‫خصصها أصحاهبا‬
‫ليس بالقريب أخذت عشرات الدراسات تنهال على الساحة النقدية‪ ،‬دراسات ّ‬
‫كلّها أو بعضها (فصل أو فصلني) للخوض يف املوضوع‪.‬‬
‫و نظرا خلصوصية املوضوع و تشعبه آثرنا أن خنصص احلديث يف هذه الدراسة ألثر‬
‫اللسانيات املعاصرة يف بلورة املعامل الكربى للبنيوية كاجتاه نقدي معاصر‪ ،‬و اختيارنا هذا مل يكن‬
‫عشوائيا و ال مرجتال‪ ،‬و إّّنا كان خاضعا جلملة من األسباب أمهها‪:‬‬
‫‪ -‬بروز املنهج البنيوي كأحد املناهج الرائدة يف النقد النسقي الذي كان للسانيات املعاصرة الدور الرائد‬
‫يف بلورة مفاهيمه وإمداده بالرؤية املنهجية و األدوات اإلجرائية‪.‬‬
‫‪ -‬جالء املعامل األساسية للبنيوية كمنهج نقدي جعله مقاربة مل تعرف التباسا مع معارف أخرى‪ ،‬كما‬
‫كان شأن للسيميائية – على سبيل التمثيل ال احلصر ‪ -‬اليت مل يستطع كثري من الدارسني‬
‫املتخصصني التفريق بينها و بني علم الداللة (‪.)Sémiotique-Sémantique‬‬ ‫ّ‬

‫‪171‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫‪ -‬مث إ ّن الدراسات يف جمال السيميائية و التفكيكية و الظاهراتية و غريها‪ ،‬ال تزال ميدانا جيري فيه‬
‫البحث و مل يفصل يف كثري من مسائله اجلوهرية‪ ،‬و هذا ما جعلنا االكتفاء بالبنيوية أل ّن جل مسائلها‬
‫قد توضحت و أصبحت أودات إجرائية ميكن التعامل هبا يف املمارسة النقدية‪.‬‬
‫البنيوية‪ ،‬البنائية‪ ،‬البنيانية‪ ،‬البنوية‪...‬و غريها‪ ،‬تسميات متع ّددة ملسمى واحد‪ ،‬هذه‬
‫ككل جديد‬
‫ترددت كثريا يف كتب النقد األديب و غريها من الكتب يف اآلونة األخرية؛و ّ‬ ‫املصطلحات ّ‬
‫وافد‪ ،‬أحدثت البنيوية نقاشا وحوارا واسعني بني أنصار هذا املنهج اجلديد و بني خصومه ومعارضيه؛ و‬
‫مل يقتصر النقاش احلاد على كيفية مقاربة األعمال األدبية‪ ،‬بل امت ّد إىل حتديد مفاهيم جديدة متاما‬
‫لألدب و النقد و عالقتهما باجملتمع و األيديولوجي ــا واألحداث التارخيية واإلنسان و اللّغة‪...‬إىل آخر‬
‫ما هنالك من قضايا تتصل اتصاال مباشرا بالعملية النقدية‪.‬‬
‫امتد إىل وطننا العريب يف سبعينات‬
‫مل يقتصر النقاش على فرنسا و كل أوروبا و أمريكا‪ ،‬بل ّ‬
‫هذا القرن واليزال؛ و بدا أ ّن هناك محاسة كبرية لدى نقادنا و مفكرينا هلذا املنهج اجلديد‪ ،‬جتلّت من‬
‫خالل الرتمجات العديدة لبحوث البنيويني من كتب ومقاالت يف اجملالت والصحف‪ ،‬و بعض‬
‫التطبيقات على النصوص األدبية القدمية واحلديثة؛ و هذا ما يؤكد رواج هذا املنهج النقدي (( إالّ أ ّن‬
‫تطرقت للموضوع يغلب عليها طابع الشمولية‪ ،‬ونادرا ما تبتعد عن األسلوب‬ ‫جل الدراسات اليت ّ‬ ‫ّ‬
‫التقريري‪ ،‬وهذا ما ترتب عنه…خلط يف تداول املصطلحات واملناهج اليت تتبىن بشكل أو بآخر‬
‫النظرية البنيوية)) ‪ ،19‬مما شكل هاجسا لدى الكثري من املهتمني هبذا املنهج النقدي و دفعهم للعمل‬
‫من أجل التأصيل و ملمارسته النقدية‪.‬‬
‫اهلني أل ّن مصطلحاهتا جديدة متاما‪ ،‬و مبادئها‬ ‫إ ّن احلديث عن البنيوية ليس باألمر ّ‬
‫ومفاهيمها غري مألوفة‪ ،‬مما جعل الكثري من الدراسات حوهلا تتسم بالغموض‪ ،‬لذا فإ ّن من الصعوبة‬
‫أدل على ذلك من التعريفات الكثرية اليت جندها‬
‫مبكان إعطاء تعريف شامل و موحد للبنيوية‪ ،‬وليس ّ‬
‫بكل جهدنا حملاولة حتديد مفهوم تقرييب هلا‪ ،‬مث نبحث يف أصوهلا‬
‫متناثرة هنا و هناك‪ ،‬و لذلك سنسعى ّ‬
‫األوىل اليت ترجع إىل العامل اللّغوي "فرديناند دي سوسري"‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫البنيوية كلمة مشتقة من كلمة(‪ )Structure‬املشتقة بدورها من الفعل الالتيين (‪ )Struere‬الذي‬
‫يعين ((اهليئة أو الكيفية‪ ،‬اليت يوجد الشيء عليها)) ‪ ،11‬و يف املعاجم العربية بنية الشيء هي ((ما‬
‫ويعرف "الالند"( ‪A.La‬‬ ‫هوأصيل فيه وجوهري وثابت ال يتب ّدل األوضاع والكيفيات)) ‪ّ ،15‬‬
‫مكون من ظواهر متضامنة‪ ،‬حبيث يكون‬ ‫‪ )Lande‬البنية بقوله‪...((:‬نستعمل البنية من أجل تعيني ّ‬
‫كل عنصر فيها متعلّقا بالعناصر األخرى‪ ،11 ))...‬فال يكتسب داللته إالّ يف نطاق ذلك الكل؛‬
‫جمردة‪ ،‬منظمة فيما بينها و‬
‫املكونات املختلفة اآلتية‪ ،‬جمموعة حمسوسة أو ّ‬‫إ ّّنا‪ -‬إذن – حالة تغدو فيها ّ‬
‫متكاملة حبيث ال يتح ّدد هلا معىن يف ذاهتا‪ ،‬إالّ حبسب اجملموعة اليت تنتظمها‪.‬‬
‫إ ّن البنية حتمل ّأوال و قبل كل شيء طابع النسق أو املنظومة‪ ،‬فالبنية تتألف من عناصر‪ ،‬إذا‬
‫حتول‪ ،‬حتولّت باقي العناصر األخرى‪ .‬و هبذا املعىن تغدو البنيوية منظومة‬‫تغري واحد منها أو ّ‬
‫ما ّ‬
‫يتحدد املعـىن الكلّي للمجموعة من خالل املعىن العام للعناصر ذاهتا‪ .‬و‬
‫عالقات و قواعد تركيب حبيث ّ‬
‫يف هذا يقول "كلود ليفي سرتوس"‪((:‬يف الواقع‪...‬النماذج اليت تستحق اسم بنية‪ ،‬جيب أن تلىب حصرا‬
‫شروطا أربعة‪:‬‬
‫تغري العناصر األخرى‬
‫تغري أحدها ّ‬ ‫أوال‪:‬تتسم البنية بطابع املنظومة‪ ،‬فهي تتألف من عناصر يستنتج ّ‬
‫كلّها‪.‬‬
‫التحوالت اليت يطابق كل منها ّنوذجا من أصل واحد‪ ،‬حبيث‬ ‫ثانيا‪ :‬كل ّنوذج ينتمي إىل جمموعة من ّ‬
‫التحوالت يشكل جمموعة من اخلارج‪.‬‬‫أ ّن جمموع ّ‬
‫تغري أحد عناصره‪ .‬وأخريا‪،‬‬‫رد فعل النموذج عند ّ‬ ‫ثالثا‪ :‬إ ّن اخلصائص املبينة أعاله تسمح بتوقع طريقة ّ‬
‫جيب بناء النموذج حبيث يستطيع عمله تسويغ مجيع الوقائع املالحظة))‪.17‬‬
‫و لقد حاول "جان بياجيه"(‪ )J.Piaget‬إعطاء مفهوم للبنيوية فقال‪...((:‬إذا رّكزنا على املميّزات‬
‫اإلجيابية لفكرة البنية‪ ،‬جند‪..‬مثال أو آمال من الوضوح الضمين ترتّكز على املسلمة القائلة إن البنية‬
‫تكتفي بذاهتا‪16))...‬؛ و عنده أ ّن البني ـ ــة تتألـف من ميـزات ثـالث‪ :‬اجلملـة أو الشمـولية( ‪La‬‬
‫(‪ ،)Les transformations‬والضبط‬ ‫‪ ،)totalité‬التحـ ــويـالت‬
‫الذايت(‪.)L’Autoréglage‬‬
‫‪161‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫فاجلملة حتيل على التماسك الداخلي للعناصر اليت ينتظمها النسق‪ ،‬و حتيل التحوالت إىل‬
‫التحول؛ و يف مستطاعها توليد العديد من البىن‬
‫التغري‪ ،‬و ّ‬
‫أن البنية ال تعرف الثبات‪ ،‬وإّّنا هي دائمة ّ‬
‫الداخلية‪ّ .‬أما الضبط الذايت‪ ،‬فـيتكفل بوقاية البنية وحفظها بشكل من أشكال االنغالق حفظا ذاتيا‪،‬‬
‫ينطلق من داخل البنية ذاهتا ال من خارج حدودها‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬و يعرتف "بياجيه" بصعوبة تعريف البنيوية ملا تنطوي عليه من أشكال متنوعة متثل‬
‫خمرجا مشرتكا‪ ،‬وأل ّن البنيات اليت تستند إليها‪ ،‬هلا مدلوالت خمتلفة‪ ،‬فالبنيوية ليست حكرا على‬
‫اللّسانيات و النقد األديب فحسب‪ ،‬بل تتجاوزمها إىل ميادين أخرى‪.‬‬
‫لقد صار من البديهي القول بأ ّن العامل اللّغوي السويسري "فرديناند دي سوسري" هو‬
‫األول للحركة البنيوية احلديثة‪ ،‬من خالل كتابه(دروس يف األلسنية العامة)( ‪Cours‬‬
‫املؤسس احلقيقي و ّ‬
‫ضمنه دراسة علمية بنيوية مستفيضة‪ ،‬فصل فيها بني‬ ‫‪ ،)de linguistique général‬الذي ّ‬
‫اللّغة و الكالم‪.‬‬
‫فاللغة نظام اجتماعي مستقل عن الفرد‪ ،‬يف حني أ ّن الكالم هو منها مبثابة التحقيق العيين‬
‫الفردي‪ .‬و معىن هذا‪ ،‬أ ّن اللّغة تقنني اجتماعي‪ ،‬أو جمموعة من القواعد(‪ ،)Codes‬يف حني أ ّن‬
‫الكالم فعل فردي يقوم به شخص ما يف حديثه مع أشباهه؛ و تبعا لذلك‪ ،‬فإن موضوع اللسانيات‬
‫احلقيقي و الوحيد هو اللّغة منظور إليها يف ذاهتا ولذاهتا‪.‬‬
‫انطالقا من هنا‪ ،‬فإ ّن البنيويني يرون بأ ّن موضوع األدب هو األدب نفسه‪ ،‬فهو يف منظورهم ((كيان‬
‫الدالالت اليت تولد يف النص و تعيش فيه‪ ،‬و ال‬
‫لغوي مستقل‪ ،‬أو جسد لغوي‪ ،‬أو نظام من الرموز و ّ‬
‫حتده احلدود‪.‬‬
‫صلة هلا خبارج النص))‪ ،11‬إنّه جوهر قائم بذاته‪ ،‬و عامل ضخم ال ّ‬
‫و كان أن هاجم البنيويون نتيجة لذلك ‪ -‬و بعنف‪ -‬املناهج اليت تعكف على دراسة األدب‬
‫ألّنا ال تصف األثر األديب بالذات‬
‫مبا هو خارج عنه‪ ،‬واهتموها ((بأّنا تقع يف شرك الشرح التعليلي!‪ّ ...‬‬
‫تلح على وصف العوامل اخلارجية‪...‬لذلك ينطلق البنيويون من ضرورة الرتكيز على اجلوهر‬ ‫حني ّ‬
‫الداخلي للنص األديب))‪ ،11‬أل ّن العمل األديب كما يرونه له بنية مستقلة؛ هذه البنية‪ ،‬هي اليت تضفي‬
‫على العمل األديب صفة األدبية‪.‬‬
‫‪161‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫يعرفون النص بأنّه‬
‫عرف اللّغة بأ ّّنا نسق من الدالئل‪ ،‬فإن البنيويني ّ‬
‫و إذا كان دي سوسري قد ّ‬
‫نظام مستقل من الدالئل‪ ،‬تدخل الوحدات الدالة فيه يف عالقة متبادلة فيما بينها؛ و فكرة النظام الذي‬
‫يتحكم بعناصر النص جمتمعة‪ ،‬و الذي ميكن الوصول إليه من خالل إظهار شبكة العالقات العميقة‬
‫بني املستويات النحوية واألسلوبية و اإليقاعية‪ ،‬مستمدة من فكرة العالقات اللّغوية اليت تع ّد أساسا من‬
‫أسس نظرية "دي سوسري"‪ ،‬و اليت وضحها حني قال بأن اللّغة ليست ألفاظا حم ّددة الدالالت‪ ،‬و‬
‫لكنّها مجلة من العالقات‪ ،‬فداللة اللفظة ال يتح ّدد إالّ بعالقتها مع عدد من األلفاظ وبالتايل فإن‬
‫مقاربة األلفاظ يف ح ّد ذاهتا ال ميثل بناء اللّغة‪ ،‬بل إ ّن بناء اللّغة أو نظامها ال يتمثل إالّ يف العالقات‬
‫بني األلفاظ‪.‬‬
‫األول‪ ،‬هي الواجهة املنهجية للسانيات اآلنية‪ ،‬ذلك أ ّن السنكرونية‬‫و البنيوية يف شكلها ّ‬
‫ألّنا مقولة ال تؤمن باألشياء‪ ،‬و إّّنا تؤمن‬
‫اليت هي أساس الرؤية البنيوية‪ ،‬متثل مبدأ الرؤية األفقية ّ‬
‫بالعالقات الرابطة بني األشياء‪ ،‬على عكس الزمانية أو التطورية اليت تقوم على مبدأ أ ّن حقيقة الظواهر‬
‫تكمن يف غريها ال يف ذاهتا‪ .‬و من مث‪ ،‬فإ ّن البنيوية تنظر إىل النص على أنه ساكن غري متطور‪ ،‬أي ال‬
‫يتأثر و ال يؤثر‪ ،‬و لذلك‪ ،‬ال تعرتف بتطور األشكال األدبية والفنية‪ ،‬بل ّإّنا تلغي تارخيية النص‪ ،‬كل‬
‫الدقة و املوضوعية يف سبيل احلرص على أدبية األدب‪.‬‬
‫ذلك بدعوى توخي ّ‬
‫إ ّن القول بالسنكرونية كنزعة ال تارخيية‪ ،‬و رؤية سكونية للنسق‪ ،‬حدا بالعديدين إىل انتقاد‬
‫البنيوية؛ و لقد كان البنيويون منذ "سوسري" على وعي دائما مبثل هذا االهتمام إميانا منهم أ ّن اجلمود‬
‫ال يوجد أبدا‪ ،‬بل كل أجزاء اللّغة هي خاضعة للتغيري‪ ،‬وهذا ما دفع "برومان جاكبسون"( ‪Roman‬‬
‫‪ )Jakobson‬إىل تعديل املصطلح‪ ،‬والقول بـ(السنكرونية الديناميكية)‪ ،‬اليت طبّقها "أندري‬
‫مارتيين"(‪ )André Martinet‬يف دراسته الفونولوجية حول التطور الصويت‪.‬‬
‫كان أن أخصبت مدرسة الشكالنيني الروس(‪ )Les Formalistes Russe‬اليت‬
‫متثّل حلقة من سلسلة اللّسانيات‪ ،‬املنهج البنيوي من خالل البحوث اليت ق ّدمها أتباعها‪ ،‬و اليت‬
‫تتخلص يف اعتمادهم مفهوم األدبية منطلقا حتليليا‪ ،‬و يف تأكيدهم على أ ّن اخلطاب األديب خيتلف عن‬
‫كزوا اهتمامهم على العناصر النصية‪ ،‬و على العالقات املتبادلة بينها‪ ،‬و على‬‫غريه بربوز شكله؛ فقد ر ّ‬
‫‪169‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫أسسوا لغة نقدية شارحة تستم ّد خصوصيتها من هذه اإلجراءات‬ ‫وظائفها يف السياق النّصي‪ ،‬كما ّ‬
‫االصطالحية(السلسلة‪ ،‬النسق‪ ،‬اهليمنة‪ ،‬اإلجراء‪ ،‬املبىن‪.)...‬‬
‫مع الشكالنيني الروس كان ّأول ظهور الصطالح(البنيوي) الذي أصدره "جاكبسون"( ‪R‬‬
‫‪ )Jakobson‬وتينيانوف (‪ )Tinianov‬سنة‪ ،1116‬يف خصوص العالقة بني ّناذج التحليل‬
‫اللغوي و األديب؛ و قد ظهر املصطلح بطريقة منهجية مقصودة‪ ،‬عكس استعماالته العفوية السابقة؛ مث‬
‫انتقل مرياث الشكالنيني الروس إىل تشيكوفاكيا من خالل حلقة براغ اللّغوية (‪،)1116-1111‬‬
‫بفضل "جاكبسون" و "تروتبتسكوي"(‪.)Trobtzkoy‬‬
‫فعاال‪ ،‬يتضح يف تأكيدهم على‬ ‫قدمت النصوص األساسية حللقة براغ إسهاما بنيويا ّ‬
‫و لقد ّ‬
‫التحليل اآلين ملستويات اللّغة‪ ،‬و التمييز بني اللّغة املنطوقة و اللّغة املكتوبة‪ ،‬و النظر إىل اللّغة من‬
‫جانبها الوظائفي؛ و يعترب التحليل الوظائفي الذي اعتمده "فالدميري ب ـ ـروب" ( ‪Vladimir‬‬
‫‪ ،)Proop‬خري ما ميثل إسهام حلقة براغ يف اجملال البنيوي؛ ومن أجل التوصل إىل بنية األثر األديب‪،‬‬
‫ينبغي جتزئة العمل املنقود إىل وحدات أساسية و وحدات ثانوية؛‬
‫بالرغم‬
‫املعربة عن أعمال األشخاص‪ ،‬و هي ثابتة دائما ّ‬ ‫فالوحدات األساسية‪ ،‬هي الوظائف ّ‬
‫تعدد هويّات األشخاص الذين يقومون هبا‪ّ .‬أما الوحدات الثانوية فهي اليت متأل الفضاء يف العمل‬ ‫من ّ‬
‫السردي بني وظيفتني أساسيتني‪.‬‬‫اإلبداعي و خباصة السردي منه ّ‬
‫لكـن هذه الروافد البنيوية‪ ،‬مل تأخذ صيغتها املنهجية النقدية املنتظمة إالّ مع املدرسة الفرنسية‬
‫ممثلة جبماعة (‪ )Tel quel‬و جملتها املوسومة باالسم نفسه‪ ،‬و اليت أسسها الناقد والروائي "فيليب‬
‫سوللرس" سنة ‪ ،1111‬واليت كان من أبرز فرساّنا (روالن بارث‪ ،‬ميشال فوكو‪ ،‬جاك دريدا‪ ،‬جوليا‬
‫كريستيفا‪.)...‬‬
‫أثرت اللّسانيات تأثريا كبريا يف الدراسات النقدية اليت ظلت تستخدم املنهج البنيوي زمنا طويال‪ ،‬لكن‬
‫هذا ال ينبغي أن حيول دون حقيقة أ ّن املنهج البنيوي كانت له سلبياته كما كانت له إجيابياته‪ ،‬و هذا‬
‫ال ينقص من قيمة املنهج الذي كان اهلدف منه دراسة العمل األديب دراسة علمية خالصة له وحده‪،‬‬
‫عكس املناهج السياقية اليت راحت تبحث عن قضايا ال متت بصلة إالّ قليال‪ ،‬إىل العمل األديب‪ .‬فإنّك‬
‫‪161‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫ختصص له حياة الشاعر أو األديب وحالة بيئته و غريها صفحات كثرية جدا‪ ،‬و ال‬
‫جتد عمال نقديا ّ‬
‫حيظى العمل املنقود إالّ ببضع صفحات ال تكاد تغين أو تسمن من جوع‪.‬‬
‫إ ّن توافر النظريات اللّسانية و ما أنشأته من مصطلحات‪ ،‬قد أدخل علينا إشكاليات مل‬
‫نتعامل معها يف ممارستنا للعملية النقدية‪ ،‬وأصبحت هذه املصطلحات تكون مشكال قائم بذاته عوضا‬
‫يقربنا من هذا العلم الدخيل علينا؛ وهذا ما جعل اخلطاب النقدي املعاصر و‬ ‫عن أن تكون مساعدا ّ‬
‫خباصة العريب منه يدخل يف حلقة مفرغة أسست هلا عوامل العطالة يف حساسية الناقد العريب بسيطرة‬
‫املصطلح النقدي املصطلح الغري متبلور الذي ميكن أن يؤدي الفكرة أداء قائما على التبصر و السرب و‬
‫التمحيص‪.‬‬
‫إشكالية ترمجة املصطلح اللساين يف اخلطاب النقدي املعاصر "السميائية" أّنوذجا‪:‬‬
‫إ ّن احلديث عن املصطلح عامة‪ ،‬أصبح ذا أمهية كربى يف العامل بعد الذي عرفته البشرية من‬
‫تقدم يف العلوم‪ ،‬وما شهدته التكنولوجية من ّنو و اكتساح جلميع جماالت العلم و احلياة‪ ،‬فهو علم‬
‫العلوم و جواز سفر للمستقبل‪.‬‬
‫للمصطلح تأثريات تتصل باجلوانب الفكرية العامة‪ ،‬ألنّه صورة مكثّفة للعالقة العضوية‬
‫القائمة بني العقل واللّغة‪ ،‬كما ّأّنا تتصل أيضا بالظواهر املعرفية أل ّن املصطلحات يف كل العلوم هي‬
‫مبثل النواة املركزية اليت بواسطتها يتسع أو يضيق جمال التطور املعريف و يتثبت هبا التطور املعريف ألمة من‬
‫عدت املصطلحات جسورا واصلة بني اللّغات اإلنسانية‪ ،‬فأخذ بعض اللّغات من البعض‬ ‫األمم؛ لذلك ّ‬
‫اآلخر ال جيعل من اآلخذ بالضرورة مسلوب اإلرادة‪ ،‬بل جيعل منه جمتهدا يف سبل األخذ؛ و هنا تكمن‬
‫أساسيات إشكالية ترمجة املصطلح حبسب الثقافة و الرؤية اليت حيملها املرتجم‪.‬‬
‫نتأمل يف مفهوم املصطلح‪ ،‬التضح لنا أنّه من أكثر املفاهيم غموضا و التباسا على‬ ‫إذا رحنا ّ‬
‫الرغم من كثرة تداوله‪ ،‬ألنه لغة خارج اللّغة أو فوقها‪ ،‬فهو ال يرضخ قواعدها الصارمة‪ ،‬ولكنّها ال‬ ‫ّ‬
‫خترجه من دائرهتا‪ ،‬وبذلك جنده ال يستقل كليا عنها‪ ،‬بل هو دائم اخلروج عنها خروج البن البار‪ ،‬و‬
‫الدخول إيل ثناياها‪ ،‬و لكنّه بالرغم من ذلك ‪ -‬يظل حمتفظا لنفسه مبسافة متيّزه‪ -‬حىت و هو يف قلبها‬
‫عن سائر مفرداهتا‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫تغدو اللّغة االصطالحية ‪ -‬من هذا املنظور ‪ -‬تكريسا لطبقية اللّغة‪ ،‬حيث أ ّن املصطلح‬
‫لفظ جتعله األسيقة احمليط به ألن يربز و يتفرد خبصوصية و من مث استقالال ذايت‪ ،‬فال يسمح بالتعامل‬
‫معه إالّ بشروطه اخلاصة‪ ،‬و كأّن املصطلح عندئذ هو الذي يستخدم املتكلّم‪ /‬الكاتب وليس العكس؛‬
‫لذلك فاملصطلحات ال توضع ارجتاال‪ ،‬و ال ب ّد يف كل مصطلح من وجود مناسبة‪ ،‬أو مشاركة‪ ،‬أو‬
‫مشاهبة كبرية كانت أو صغرية بني مدلوله اللّغوي ومدلوله االصطالحي‪.‬‬
‫و على الرغم من أ ّن القول بالتظافر احلاصل بني النقد األديب و املعارف اللّغوية‪ ،‬يشوبه من حني إىل‬
‫شك فيه يوما‪ ،‬فإنه قد أصبح من الثابت لدى معشر النقاد‪ ،‬أ ّن‬ ‫آخر بعض التحفظ‪ ،‬و إن مل يُ ّ‬
‫املصطلح النقدي شرط ال غىن للنقد األديب عنه‪(( ،‬أل ّن كشف أسرار اآلليات املفهومية‪ ،‬مرتبط‬
‫بكشف أسرار اآلليات اللّغوية املتحكمة بكل ذلك))‪11‬؛ و بذلك ندرك أنه إذا كان املصطلح‬
‫يضم يف‬
‫يعد مبثابة سور منيع حيول دون اختالط ما ّ‬ ‫النقدي أداة ضبط للمعرفة و توحيد للفكر‪ ،‬فإنّه ّ‬
‫داخله مبا هو واقع يف خارجه‪ ،‬و لكننا جنده يف كثري من األحوال خيرج من نطاق العرف اللّغوي العام‪،‬‬
‫يتعرض لشيء‬
‫ليدخل يف جمال العرف اللّغوي اخلاص‪ ،‬و بعد أن يأخذ يف االنتشار مع تزايد تداوله‪ّ ،‬‬
‫يقل و قد يكثر‪،‬خصوصا عندما جياوز نطاق لغته اخلاصة إىل لغة أو لغات أخرى‪.‬‬
‫من التشويه قد ّ‬
‫فإما أن يأيت هذا التشويه نتيجة الختزال أو توسيع‬‫عدة جهات ّ‬ ‫يلحق تشويه املصطلح من ّ‬
‫نطاق داللته‪ ،‬حبيث يلحق إليه ما ليس منه‪ .‬و قد يلحق التشويه املصطلح عند استعماله يف غري‬
‫التخصص الذي وضع له أصال‪ ،‬وبغري املعاين اليت وضعت له؛ ّأما إذا ترجم املصطلح فإن التشويه‬
‫واخليانة الحقة به يف كثري من األحايني خباصة إذا كنا ال ندرك خصائص اللغة األم وخصائص اللغة‬
‫املرتجم هلا؛ و كم هي عديدة تلك املصطلحات اليت قد سيء استعماهلا‪ ،‬فانتهك استعماهلا و ُحرف ‪،‬‬
‫فتشعبت دالالهتا‪ ،‬و صارت بذلك عامل تشويه يف احلياة الفكرية لألمة‪ ،‬يف حني أن التفكري يف إجياد‬
‫املصطلحات و حنتها مل يكن إال بدافع خدمة احلياة الفكرة لألمم‪.‬‬
‫من مث غدا التشكيك باملصطلحات و عدم الثقة هبا يف الثقافة العاملية‪ ،‬أمرا طبيعيا و مألوفا لدى‬
‫املشتغلني باحلقول املعرفية عموما وحبقل النقد األديب خصوصا‪ ،‬و هذا ما دفع بإشكالية املصطلح إىل‬
‫أن تأخذ طابع اهلاجس لدى العاملني يف حقلها‪ ،‬و من مث ندرك أن إشكالية املصطلح ليست ظاهرة‬
‫‪161‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫خاصة بالثقافة العربية وحدها‪ ،‬فهي ظاهرة مشرتكة ومستفحلة يف مجيع الثقافات اإلنسانية‪ ،‬غري أ ّن‬
‫ح ّدهتا تتفاوت من ثقافة إىل أخرى‪ ،‬باختالف درجة الوعي لدى كل منها‪ .‬فاجملتمعات اليت ال تنتج‬
‫تتسرب إىل‬
‫املعرفة و تكتفي باستهالك ما يفد إليها‪ ،‬هي وحدها اليت تعاين بدرجة كبرية من األزمة اليت ّ‬
‫قاعدة اهلرم املعريف الذي ينبين عليها النقد األديب‪ ،‬فتُحدث فيه اهتزازا و اضطرابا‪ ،‬وهنا مكمن اخلطورة‬
‫و االلتباس‪.‬‬
‫و تنضاف إىل هذا السبب أسباب أخرى جنملها يف املسائل التالية‪:‬‬
‫‪ -‬غياب البحوث اجلماعية و التنسيق بني الباحثني‬
‫‪ -‬استعمال املصطلح رغبيا(خيضع مليول شخصية)‪ ،‬دون حماولة ربطه مبحموله املعريف الذي من أجله‬
‫وضع هذا املصطلح أو ذاك‪.‬‬
‫‪ -‬تباين االجتاهات يف حتديد جمال الظاهرة‪ ،‬و وضع املصطلح قبل الوقوف على جوهرها‪ .‬من ذلك‬
‫مثال أ ّن السيميائية عند "روالن بارث" (‪ ،)Roland Barthes‬جزء من اللّغة‪ ،‬أو هي فرع من‬
‫فروع اللّسانيات‪ّ .‬أما "جورج مونان" (‪ ،)George Mounin‬فريى ّأّنا تشمل اللّغة‪ ،‬مبعىن أ ّن‬
‫اللّغة جزء من السيميائية و ليس العكس(حيذو يف ذلك حذو سوسري)‪ .‬يف حني جيعل "امربتو إيكو"‬
‫(‪ )Embeto Ecco‬السيميائية فرعا من علم الداللة‪.‬‬
‫للتطورات النقدية و اللّسانياتية املعاصرة‪.‬‬
‫‪ -‬ندرة البحوث املواكبة ّ‬
‫‪ -‬عدم حتديد الضوابط و اآلليات السليمة اليت ميكن يف ضوئها‪ ،‬صياغة مصطلحات مقبولة‪.‬‬
‫التعدد يف املصطلحات‬‫هلذه األسباب‪ ،‬و ألسباب أخرى‪ ،‬تظل ظاهرة التداخل و القصور و ّ‬
‫اللّسانياتية والنقدية‪ ،‬مشكلة حاضرة و مستقبلية ما مل يتم اإلسراع يف إجياد حلول يف شكل ضوابط‬
‫خاصة بصياغة املصطلحات تكون يف متناول الدارسني فتضيق دائرة االختالف واالضطراب‪.‬‬
‫جتتهد الكثري من اجلهات العلمية يف الوطن العريب لتقدمي حلول املقدمة يف سبيل إّناء هذه‬
‫املعضلة‪ ،‬إالّ مفعولية االجتهادات ال تأيت بالنتائج املرجوة إال إذا كانت األمة هي تنتج الرتاكم املعريف ‪،‬‬
‫و إن كنا ندرك أن اإلشكالية يف حاجة إىل ما سبق ذكره من إنتاج للمعريف ينضاف إليها شروط‬

‫‪167‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫موضوعية أخرى أكثر تشعبا‪ ،‬و لذلك ال بد من إعادة النظر يف القضايا الكربى اليت تؤسس للثقافة‬
‫العربية عامة و اللغوية و النقدية منها خاصة قلبا وقالبا‪.‬‬
‫كما جيب على املرتجم أن خيضع للشروط التالية‪:‬‬
‫الصرفية و النحوية‪ ،‬قادرا على األداء هبا بعبارات سليمة‬
‫‪ -‬أن يكون متقنا اللّغة العربية‪ ،‬عارفا بقواعدها ّ‬
‫الركاكة‪.‬‬
‫خالية من اخلطأ و احلشو و ّ‬
‫‪ -‬أن يكون متقنا اللّغة األجنبية اليت ينقل منها قواعدا و أسلوبا‪.‬‬
‫ملما بأساليب الرتمجة و مطّلعا على املصطلحات و طرائق الوصول إليها يف املعاجم العامة‬ ‫‪ -‬أن يكون ّ‬
‫املتخصصة‪.‬‬
‫و ّ‬
‫‪ -‬أن يكون متم ّكنا من موضوع الكتاب املرتجم‪ ،‬متخصصا فيه‪.‬‬
‫كاف على علوم الرتمجة و علوم اللّسانيات‪ ،‬و عارفا استخدام‬‫‪ -‬أن يكون مطّلعا بقدر ٍ‬
‫التقنيات احلديثة املفيدة يف الرتمجة‪.‬‬
‫ترمجة املصطلح يف النقد العريب املعاصر [السيميائية أّنوذجا]‬
‫إ ّن دراسة النظام اإلشاري دراسة قدمية قدم الكون نفسه‪ ،‬و لكن املنطلقات النظرية هلذه‬
‫الدراسات اختلفت من زمن إىل زمن آخر‪ ،‬و من ّأمة إىل ّأمة أخرى‪ ،‬و ذلك الختالف الثقافات‬
‫واملراحل التارخيية‪(( ،‬و قد وصل إلينا بعض التأمالت و األفكار و السيميولوجية من حضارات قدمية‬
‫جدا‪ ،‬كاحلضارة الصينية و اهلندية واليونانية و الرومانية و العربية‪ ،‬إالّ أ ّن هذه األفكار والتأمالت‬
‫السيميولوجية بقيت يف إطار التجربة الذاتية‪ ،‬و مل تدخل إطار التجربة العلمية املوضوعية))‪ ،11‬اليت‬
‫صبغتها هبا الدراسات األلسنية املعاصرة‪.‬‬
‫كان "جون لوك"(‪ )John Locke‬سبّاقا إىل ابتكار مصطلح السيميائية رفقة فالسفة‬
‫آخرين‪ ،‬من أشهرهم‪" :‬اليبنتز"(‪" ،)Leibnitz‬بيكون"‪" ،‬ريكنس"‪ ،‬و "دالغارنو"‪ ،‬و لكن الدراسة‬
‫السيميولوجية حىت تلك احلقبة مل خترج عن املنظور العامة الذي يؤسس للغة‪ ،‬و فلسفتها النظرية؛ و مل‬
‫تصبح السيميولوجية علما قائما بذاته‪ ،‬إالّ بالعمل الذي قام به الفيلسوف األمريكي "شارل سندرس‬
‫بريس"(‪)Charles Senders Peirce‬؛ والسيميوتيقا طبقا العتقاده هي علم اإلشارة الذي‬
‫‪166‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫يشمل مجيع العلوم اإلنسانية و الطبيعية األخرى؛ إذ يؤكد لذلك انطالقا من أنّه مل يكن باستطاعته‬
‫دراسة أي شيء كان سواء أكانت ‪ ،‬املتافيزيقا‪ ،‬البصريات‪ ،‬علم األحياء‪ ،‬علم األرصاد اجلوية‪،‬‬
‫الرياضيات‪ ،‬اجلاذبية و الدينامية احلرارية‪ ،‬األخالق‪ ،‬علم الكيمياء‪ ،‬علم النفس‪ ،‬التشريح املقارن‪،‬‬
‫الفلك‪ ،‬علم األصوات‪ ،‬االقتصاد‪ ،‬تاريخ العلوم‪ ،‬لعب األوراق‪ ،‬الرجال والنساء‪ ،‬اخلمر‪ ، ،‬إالّ‬
‫باعتبارها تيمات للسيميوتيقا‪.‬‬
‫تتفرع إىل عالمات ال‬
‫يصبح العامل كلّه ‪ -‬هكذا ‪ -‬عالمة كربى لدى "بريس"‪ ،‬هذه العالمة ّ‬
‫ّنائية وفق نسق تلتقي فيه األضداد‪ ،‬و يشكل فيه التباين و االختالف النظام األساس الذي يبىن عليه‬
‫تناسق الوجود‪ ،‬و هذه العالمات املتولدة من العالمة األم ليست حكرا على النشاط اإلنساين بل‬
‫تشمل حىت النشاط احليواين و الطبيعي‪ ،‬ولكن يبقى اإلنسان باعتبار كائنا متميزا يستعمله استعماال له‬
‫من اخلصوصية و التعقيد الشيء املتميز‪ ،‬حىت أصبح هو يف ذاته عالمة‪ ،‬هذا و إن كانت الكتابات‬
‫تنوعت تنوع املوضوعات اليت ذكرها آنفا‪ ،‬فإنّه قد فشل يف صياغة عمل منفرد‪،‬‬ ‫اليت تناوهلا "بريس" قد ّ‬
‫متماسك و منسجم‪ ،‬ميكنه تلخيص املبادئ األساسية لعلم السيميوتيقا‪.‬‬
‫اختذت السيمولوجيا مع ظهور كتاب "دروس يف اللّسانيات العامة" لـ"فرديناند دي سوسري"‪،‬‬
‫اجتاها آخر‪ ،‬ذلك أ ّن "دي سوسري" كان قد تطلّع إىل السيميولوجية مبنظار لساين ال فلسفي كما فعل‬
‫تطرق إليها خالل حديثه عن‬‫"بريس"‪ ،‬فكانت تفسرياته وأفكاره السيميولوجية حمدودة‪ ،‬و ذلك ألنّه ّ‬
‫اإلشارات اللّغوية فقط‪.‬‬
‫إن اللغة طبقا العتقاده‪ ،‬نظام إشاري؛ و هي فرع من أنظمة إشارية عديدة‪ ،‬تدخل كلّها‬
‫يعرب عن األفكار…و بذلك ميكن مقارنته بالنظام‬ ‫ضمن إطار السيميولوجية؛ فـ ((اللّغة نظام إشاري ّ‬
‫للصم و البكم‪ ،‬و بالنظام اإلشاري العسكري‪ ،‬و بالنظام اإلشاري‬ ‫الكتايب و بالنظام األلفبائي ّ‬
‫النقشي…اخل‪ .‬إ ّن العلم الذي يدرس حياة اإلشارة يف جمتمع من اجملتمعات‪ ،‬ميكن أن يكون جزءا‬
‫(كذا) من علم النفس االجتماعي‪ .‬و هبذا سوف أدعو هذا العلم سيميولوجيا (‪.)Sémiologie‬‬
‫يبني بنية اإلشارات‪ ،‬و يبني بالتايل األنظمة والقوانني اليت حتكمها))‪ ،19‬و‬
‫هذا العلم يستطيع أن ّ‬
‫تؤسس هلا وفق رؤية سيميولوجية‪.‬‬
‫‪161‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫السيميولوجيا – إذن ‪ -‬علم يهتم بدراسة حياة ال ّدالئل داخل احلياة االجتماعية‪ ،‬و حييلنا‬
‫إىل معرفة كنه هذه ال ّدالئل وعلّتها و كينونتها و جممل القوانني اليت حتكمها‪ ،‬فالكون مركب دالئل‪ ،‬و‬
‫بذلك كانت السيميولوجية حبسب "دي سوسري"‪ ،‬علم يبني لنا عمل الدالالت و القوانني اليت تتحكم‬
‫فيها‪.‬ينضاف إىل ذلك أنه يركز على دراسة حياة الداللة دراسة شاملة و عامة لكل مظاهرها العالمة‪.‬‬
‫لقد اختذ "دي سوسري" من اللغويات نظاما أمسى لكل نظام سيميولوجي‪ ،‬فعنده أ ّن اللّغة‬
‫هي النظام الوحيد األكثر داللة و إحياء‪ ،‬بل إ ّن السيميائية قائمة على أساس لغوي مبنية عليه من‬
‫حيث كوّنا متثّل النظام االجتماعي الذي يرتكز على أساسه البحث السيميائي؛ و من مثّة‬
‫فسيميولوجيا خاصة هبذه الوقائع االجتماعية (اللّسان)‪ ،‬و يف هذا إخضاع األنظمة السيميولوجية إىل‬
‫األنظمة األلسنية‪ ،‬و بذلك ال ميكن فهم العالمة السيميولوجية‪ ،‬إالّ من خالل العالمة اللّغوية‪ ،‬وهذا ما‬
‫دفع "دي سوسري" إىل أن يرسي قواعد حديثة للّسانيات؛ وكان األول من أحدث الفصل بني اللّغة و‬
‫الكالم‪ ،‬إالّ أنّه ضيّق أفق السيميولوجية اليت أ ّحلت على الطبيعة االجتماع ية ملوضوعها‪ ،‬و انطالقها من‬
‫منظور لساين بقيت تدور يف فلكه‪.‬‬
‫ينحدر مصطلح "السيميائية" من اجلذر اليوناين(ساما)؛ و منه (سامايون) الذي يعين عالمة‬
‫مميّزة (خصوصية)‪ ،‬أثر‪ ،‬قرينة‪ ،‬مسة مؤشرة‪ ،‬دليل‪ ،‬مسة منقوشة أو مكتوبة‪ ،‬بصمة‪ ،‬رسم جمازي‪ ،‬كما‬
‫تشري إىل ذلك "جوليا كريستيفا" (‪)Julia Kristiva‬؛ ((و هكذا صيغ كل من ساميولوجي‬
‫وساميوتيك و جرى تداوهلما جماري شىت‪ ،‬حىت تداخل استعماهلما يف اللّغة األجنبية فتع ّقد أمرمها يف‬
‫يقل عن تشابكه يف‬ ‫حركة نقل املفاهيم النقدية لدينا‪ ،‬و تشابك االصطالح عليهما يف العربية مبا ال ّ‬
‫الفرنسية أو اإلجنليزية))‪ ،11‬و ذلك ما هيأ لظهور تباين يف ترمجة املصطلح‪ ،‬فبات هذان املصطلحان‬
‫(ساميولوجي و ساميوتيك ) يشكالن ثنائيا متالزما‪ ،‬من حيث إ ّن الزوج هو ثاين اثنني مقرتنني‪ ،‬فهما‬
‫ظل املشتغلون حبقل السيميائية فرتة زمنية طويلة‪ ،‬و هم‬ ‫يردان ّإما مرتادفني و ّإما متقاطعني‪ .‬و بذلك ّ‬
‫كل منهما حي ّدد حقال معرفيا ال يعدوه‪ ،‬و ال ينبغي أن ميت ّد إليه‬
‫حياولون حتديد الفرق بينهما‪ ،‬فإذا كان ّ‬
‫سلطان املصطلح اآلخر‪ ،‬فيجب عندئذ حتديد ذلك بشيء من الصرامة العلمية‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫املنظرين السيميائيني حول هذه‬
‫ينبغي أن نشري يف البدء ‪ -‬قبل أن ّنضي إىل عرض آراء ّ‬
‫السمة‪،‬‬
‫املسألة ‪ -‬إىل أ ّن هذين املصطلحني يشرتكان يف أ ّن كال منهما يبتدئ ب(‪ ،)Sémio‬و يعين ّ‬
‫و يفرتقان يف أ ّن أحدمها ينتهي بالالّحقة(‪ )Logie‬و تعين اخلطاب‪ ،‬على حني ينتهي اآلخر‬
‫بالالّحقة(‪ ،)Tique‬و تعين النسبة الديداكتيكية‪ .‬فهل مها إذن امسان ملسمى واحد؟ أم أ ّن كل منهما‬
‫له حقله اخلاص به؟‪.‬‬
‫ال يعدو مصطلح(‪ )Sémiotique‬كونه إحلاقا إىل الكلمة املوضوعة هلذا املفهوم الذي‬
‫السمة‪ ،‬و هو من هذه الناحية شبيه بالرتمجة العربية (السيميائية)‪ ،‬إذ ياء النسبة ال تستطيع أن تعرب‬
‫هو ّ‬
‫عن الداللة العلمية اليت يعرب عنها (‪)Logie‬يف الثقافة الغربية الذي يدل على مفهوم العلم‪ ،‬فالياء‬
‫يف الرتمجة العربية ياء أقرب إىل النسبة‪ ،‬أو إىل االشتغال‪ ،‬أو العالقة بالعلم‪ ،‬أكثر من داللتها على العلم‬
‫نفسه؛ و لكن على الرغم من ذلك جند أن يف "املعجم املوسوعي لعلوم اللّغة" إشارة إىل املصطلحني‬
‫على ّأّنما وجهان ملفهوم واحد‪ ،‬فقد ورد أ ّن "السيميائية" أو "السيميوتيك" هي علم العالمات‪.‬‬
‫و تطالعنا "جوليا كريستيفا" يف مقال هلا نشرته بـ"املوسوعة العلمية"‪ ،‬جبعلها املصطلحني‬
‫"السيميولوجيا‪ ،‬أو السيميوتيكا"شيئا واحدا‪ ،‬إذ جندها توظف املصطلحني معا دون أن تتحرج أو تشري‬
‫عدة‬
‫تكرر استعماهلا للمصطلحني مستعملة بينهما "أو" االختيارية ّ‬ ‫إألى أن هناك فرق بينهما‪ ،‬و قد ّ‬
‫للداللة على مدلول واحد‪.‬‬
‫مرات يف مقاهلا‪ ،‬األمر الذي يدل على أ ّّنا تستعمل املصطلحني ّ‬
‫يف حني ّفرق "جورج مونان" بينهما‪ ،‬فجعل السيميائية معادل للسيميولوجية‪ ،‬و خباصة عند‬
‫للداللة على نظام من العالمات غري‬ ‫شارل موريس بالواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬الذي يستعمله ّ‬
‫اللغوية‪ ،‬مثل إشارات املرور‪.‬‬
‫و يف قاموس اللّسانيات لـ"جون دو بوا" و رفاقه‪ ،‬أ ّن "مصطلح" السيميائية يف توظيفه‬
‫املعاصر‪ ،‬قد استعمله شارل بريس‪ .‬و السيميائية اليت نظر فيها هي مذهب العالمات اليت تستوجب أن‬
‫تكون خصائص العالمات املستعملة من قبل العبقرية اإلنسانية يف مسعاها العلمي؛ و أ ّن السيميائية‬
‫املعاصرة بريادة "أ‪.‬ج‪.‬غرمياس" (‪ )A.J.Greimas‬و"جوليا كريستيفا" حتاول أن تبتعد عن إعطاء‬
‫األفضلية و األولوية للعالمة اللغوية‪ ،‬و هذا يعين أ ّن السيميائية معطى ثقايف أمريكي بالدرجة األوىل‪،‬‬
‫‪111‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫حييل على مفاهيم منطقية و فلسفية‪ ،‬و عالمات غري لغوية‪ ،‬و أ ّن السيميولوجية معطى ثقايف أورويب‬
‫أساسا‪ ،‬هو أقرب إىل العالمات اللّغوية‪ ،‬و اجملال األلسين عموما‪ ،‬منه إىل عالمات أخرى‪.‬‬
‫لكن عبثا حاول بعضهم حصر السيميولوجية يف جمال العالمة اللّغوية و السيميائية يف جمال‬
‫العالمة الغري لغوية‪ ،‬إذ مل يتقيّد النقاد السيميائيون هبذه الفروق بني املصطلحني‪ ،‬و ظلّوا يتساهلون يف‬
‫استبدال أحدمها باآلخر‪ ،‬األمر الذي دفع كال من "غرمياس" و "جاكبسون" و "كلود ليفي سرتوس" و‬
‫"بنفنست" و "بارث"‪ ،‬لتوقيع اتفاق علمي سنة‪ ،1111‬ينص على اصطناع مصطلح‬
‫"السيميائية"(‪ )Sémiotique‬و حسب‪ .‬لكن جتذر مصطلح السيميولوجية(‪ )Sémiologie‬يف‬
‫الثقافة الغربية‪ ،‬جعل نسيانه أمرا مستحيال و مستبعدا‪ ،‬يتجلى ذلك بصفة خاصة‪ ،‬يف عودة "غرمياس"‬
‫نفسه عن قراره‪ ،‬إذ نلفيه مييل إىل أ ّن املصطلحني يعنيان شيئني خمتلفني‪ .‬و نتيجة لذلك‪ ،‬وبتوجيه من‬
‫"ياملسالف"‪ ،‬يرى "غرمياس" بأ ّن لـ(‪ )Sémiotique‬باستعماله يف حال اجلمع يعين البحوث املتعلقة‬
‫باحلقول اخلاصة مثل األدب والسينما و اإلشارية و غريها‪،‬على حني أ ّن مصطلح (‪)Sémiologie‬‬
‫(السيميولوجيا) يستعمل للنظرية العامة لكل هذه السيميائيات‪.‬‬
‫إ ّن تعدد التعريفات ملصطلح هذا احلقل املعريف يف الثقافة الغربية‪ ،‬يؤكد حقيقة مؤداها أ ّن‬
‫هناك تيارات عديدة للسيميائية‪ ،‬أي أنّنا أمام سيميائيات ال سيميائية واحدة؛ وقد كان عدم االستقرار‬
‫على مصطلح واحد هلذا العلم‪ ،‬سببا يف جعل كثري من الدارسني يواجهون صعوبات يف أن يقفوا على‬
‫إدراك جهاز املفاهيمي‪ ،‬و تناسق مقوالته‪ ،‬و توحيد أدواته اإلجرائية يف أثناء املمارسة النقدية‪.‬‬
‫بالرغم من انعقاد ملتقيات دولية حول السيميائية‪ ،‬و حماوالهتا اجلادة يف توحيد املصطلح‪ ،‬إالّ‬ ‫ّ‬
‫أ ّن املشكل ظ ّـل قائما‪ ،‬وبدا هذا واضـحا يف احل ـوار ال ـذي عق ـــ ده (‪ )Rogger Paul Droit‬مع‬
‫(‪ )Le monde‬الباريسية سنة‪ ،1171‬فبعد أن سأله بقوله‪:‬إنّكم‬ ‫"غرمياس" يف جريدة (العامل)‬
‫تتحدثون أيضا عن السيميولوجيا‪ ،‬أكثر من السيميوطيقا‪ .‬فهل باإلمكان توضيح الفرق بينهما؟ أجاب‬
‫غرمياس إ ّن األمر قد حسمته اجلمعية السيميائية يف ملتقاها عام‪ ،1116‬و أ ّن اخلوض يف مثل هذه‬
‫املسألة‪ ،‬هو من صميم اجلدل العقيم الذي ال طائل من ورائه يُرجى‪ ،‬و أ ّن هناك قضايا تستحق‬
‫االهتمام أكثر من االنشغال بأمور ساذجة‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫ابتداء من مطلع الستينات من هذا القرن‪ ،‬اتسع االهتمام باحلث يف جمال السيميائية‬
‫بفرنسا‪ ،‬مث مت ّد إىل خارجها‪ ،‬و ذلك مع ظهور القاموس املصطلحي الضخم الذي ألّفه "غرمياس"‬
‫( ‪Sémiotique dictionnaire‬‬ ‫و"كـورتاس" سن ـ ـ ـ ـ ـ ـة‪1171‬‬
‫قعد املفاهيم السيميائية‪ ،‬وأرسى معاملها‬
‫‪ ،)raisonné de la théorie du langage‬والذي ّ‬
‫يف كثري من األقطار‪.‬‬
‫خالل الثمانينات‪ ،‬انتقلت ظالل الدراسات السيميائية إىل البالد العربية‪ ،‬و كشأن أي جديد يفد‬
‫مرد ذلك‪ ،‬إىل أ ّن‬
‫لعل ّ‬
‫إلينا‪ ،‬حار الن ّقاد واختلفوا يف ترمجة املصطلح‪ ،‬فإذا حنن أمام ركام اصطالحي؛ و ّ‬
‫السمة يف املعاجم العربية تقابل مصطلح العالمة‪ .‬فأصلها من الوسم‪ ،‬و هو إحداث تأثري أو َعلْم‬
‫تصبح مسة عارضة‪ ،‬أو دائمة‪ .‬كما جند أن مصطلح سيميائية يلتبس مبصطلحات أخرى ك(الدليل‪،‬‬
‫اإلشارة‪ ،‬الرمز‪ ،‬األمارة‪ ،‬اآلية‪ ،‬الشبهة‪ ،‬األثر‪ ،‬احلجة‪ ،‬الرسم‪ ،‬اخلتم‪ ،‬والطبع)‪ ،‬و من هنا اختلف‬
‫السيميائيون يف مقابلة مصطلح(‪ )Signe‬مبصطلح عريب و من مثّة‪ ،‬اختلفوا يف ترمجة مصطلح‬
‫(‪.)Sémiologie‬‬
‫الرغم من الرتمجات العديدة‬
‫سيظل مصطلح سيميائية مفضال عن غريه من املصطلحات على ّ‬
‫للسيميائية السيميولوجيا‪ ،‬السيميوطيقا‪ ،‬علم العالمات‪ ،‬العالمية‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬األعراضية‪،‬‬
‫السيميوتيكية‪ ،‬علم اإلشارات‪ ،‬علم الرموز‪ ،‬علم األدلة‪ ،‬الدالئلية‪ ،‬السيميائية)‪ ،‬لرسوخه يف الرتاث‬
‫العريب‪ ،‬و قابليته الحتواء مقولة السيميائية احلديثة‪.‬‬
‫لعلّنا ال نبالغ إذا قلنا أ ّن املناهج اليت درست النصوص األدبية على اختالف أجناسها‪ ،‬كثرية‬
‫البد أن ينطلق من مبادئ فكرية و نظام معريف متكامل‪،‬‬ ‫متعددة‪ ،‬وكل منهج من هذه املناهج‪ ،‬كان ّ‬ ‫و ّ‬
‫و أن يتعامل مع النصوص مبفاهيم و مصطلحات نقدية‪ ،‬و هذه املفاهيم ليست جمّانية يف استعماالهتا‪،‬‬
‫بل هلا وظيفة تؤديها يف سياق الدراسة النّصية‪.‬‬
‫حبب‬
‫إ ّن هذا الرصيد الفكري املختص‪ ،‬هو الذي يؤهل الناقد إىل قراءة النص األديب مدفوعا ّ‬
‫االكتشاف ومسكونا بالرغبة يف جتلية املكنون و إظهار الغوامض‪ ،‬و مغامرا من أجل تعرية أسرار‬

‫‪119‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫اجلمال يف النص‪ ،‬و منقبا عن املدهش فيه‪ ،‬و هو قبل هذا و ذاك يهدف إىل الظهور مبظهر العلمية يف‬
‫منهجه و طريقة حتليله‪ ،‬و إضفاء املوضوعية على ما يتوصل إليه من أحكام نقدية‪.‬‬
‫و ميكن أن خيرج الدارس من كل ذلك مبالحظة مفادها أ ّن التّنوع يف القراءات‪ ،‬و التع ّدد يف‬
‫املناهج النقدية‪ ،‬يهدف إىل خلق تآلف مشرتك بني الدراسة األدبية‪ ،‬و منجزات العلوم اإلنسانية و‬
‫التجريبية‪ ،‬و ذلك لتمكني النقد األديب من االبتعاد عن التناول العشوائي‪ ،‬و االرجتال واالنطباعية يف‬
‫األحكام و املعيارية و السطحية يف حتليل اخلطابات‪.‬‬
‫و جاء القرن العشرون الذي وصل النقد فيه درجة جديدة من الوعي‪ ،‬و مكانة أعظم يف‬
‫اجملتمع‪ ،‬فظهرت مناهج وأحكام جديدة‪ .‬و املالحظ على هذه املناهج‪ّ ،‬أّنا جتاوزت حدود البالد اليت‬
‫ظهرت فيها لتنشر يف أرجاء العامل‪ ،‬و يتبنّاها النقاد و يدافعون عنها‪ ،‬بل جيتهدون يف اإلضافة إليها‪.‬‬
‫حتركها‪ ،‬إذ صارت معينا خصبا ينهل منه‬ ‫إ ّّنا اللّسانيات اليت قبعت وراء تلك األحداث ّ‬
‫النقاد ما شاؤوا‪ ،‬و ما رأوه خيدم النصوص األدبية؛و االستفادة من الدراسات اللّسانية احلديثة و ما‬
‫تفرع عنها من مناهج و اجتاهات كالبنيوية و األسلوبية والسيميائية‪ ،‬كان اهلدف منها هو اخلروج‬ ‫ّ‬
‫بتحليل اخلطاب إىل الدراسة الوصفية املتأنية والتحليل املوضوعي املقنع الذي يقوم على مقوالت أمهها‪:‬‬
‫املكونات األصلية له يف اللّغة و الكالم و العالمة و العالئق اليت تنتج من كل‬
‫‪ -‬االهتمام باألدب و ّ‬
‫مكون على حدة‪ ،‬و بني األطراف املختلفة اليت تنتج النص مث النص داخل النص‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الدوال الشكلية األساس اليت تلعب دور املنتج للنص بني االختبارات اللّسانية‪،‬‬ ‫‪ -‬توقف عند ّ‬
‫احملددات السيميائية‪ ،‬مبا يؤدي إىل وضع الكتابة يف إطار األدبية‪ ،‬و يساعد على استخالص هذه‬ ‫و ّ‬
‫القيمة بالدرجة األوىل‪.‬‬
‫‪ -‬النظرة إىل النص ال كانعكاس لعوامل خارجية‪ ،‬و لكن كمجال ميتلك دواله القادرة على ربط العالقة‬
‫مع املدلوالت‪ ،‬مث مقدرة هذه األخرية على توظيف و صياغة الدوال‪.‬‬
‫يتحول إىل حقل مستقل له عناصر واقعه الذاتية باللّغة و العالمة والوحدات‬‫إ ّن األدب هنا ّ‬
‫الصغرى والكربى‪ ،‬وبواسطة تفكيك واع و حم ّدد للبنية و البنيات أو إلنتاج هذه البنيات لرصد األدبية‪،‬‬
‫و بالتايل ترقيم وتعيني سنن و نظام كل نص‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫و النقد بعد هذا‪ ،‬يتوارى كدرس ذي طبيعة تلقينية يف األدب و معتمد ألحكام القيمة‪ ،‬إنّه ال جمال‬
‫بعد ألي تشريع إالّ التشريع الذي يقدر عليه النص وحده‪ ،‬مبا ميتلك بوصفه صناعة كالم‪ ،‬و لكن‬
‫أيضا بوصفه إنتاجا خلطاب‪ .‬وهكذا‪ ،‬تصبح القراءة نوعا من املغامرة اليت تستكشف ختوم املستحيل‪.‬‬

‫اإلحاالت‪:‬‬
‫*‪ُ - 1‬ولد "فرديناند دوسوسري" يف خريف عام ‪ 1657‬جبنيف‪ ،‬تابع دراسته األولية مبسقط رأسه يف الرياضيات‪ ،‬اشتهر أفراد عائلته يف العلوم‬
‫الدقيقة و الطبيعة‪ ،‬و لكنه كان مييل يف الوقت ذاته إىل الدراسات اللغوية‪ ،‬تعرف على "أ‪.‬باكتيه ‪( "A Pietet‬معلمه األول) الذي ألّف يف‬
‫فرتة مبكرة جدا حبثا يدور موضوعه حول أصول اللغات اهلندو أوروبية سنة ‪ ،1651‬فشجعه‪ ،‬و ساعده على املمارسة العلمية يف جمال‬
‫الدراسات اللغوية اليت كان مولعا هبا إيالعا شديدا‪ ،‬األمر الذي جعله يهتم بدراسة اللغتني اليونانية و السنسكريتية‪ ،‬فضال عن إتقانه اللّغة‬
‫الفرنسية واإلجنليزية و األملانية و الالتينية‪ .‬توجه عام ‪ 1671‬إىل أملانيا اليت كانت تشهد أنذاك‪ ،‬حركة لغوية رائدة‪ ،‬فالتحق حبلقة اللغويني األملان‬
‫حيث أسهم بأفكاره يف جمال الدراسات املقارنة و يف شهر ديسمرب من عام ‪ ،1676‬ق ّدم مذكرة خترجه (نظام الصوانت البدائي يف اللغات‬
‫اهلن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدوأوربية ‪ )Le systeme primitif des voyelles dans les langues Indo-Européennes‬ولقد ح ّقق له‬
‫هذا البحث‪ ،‬و هو ال يتجاوز الواحد والعشرين (‪)11‬سنة ‪ -‬شهرة عاملية رافقته حىت وفاته‪ ،‬بل حاضرة يف الثقافة اللّسانية حىت بعد وفاته‪ .‬و يف‬
‫‪ ،1661‬تقدم بأطروحته اليت كان موضوعها (استعمال املضاف املطلق يف اللّغة السنسكريتية‪L’emplois du génitif absolu ،‬‬
‫كل ما نشر له ّمت بعد وفاته‪ ،‬باستثناء جمموعة مذكرات‪ ،‬و مقاالت‪ ،‬ومالحظات‪ ،‬نشرت يف‬
‫‪ .)en sanscrit‬و عدا هذين البحثني‪ ،‬فإ ّن ّ‬

‫‪115‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫( ‪Receuil des publications scientifique de‬‬ ‫فرتات متباعدة‪ ،‬و مجعت بعد وفاته يف كتاب حيمل عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوان‬
‫‪.)Ferdinand de saussure 1922‬‬
‫مدة عشر سنوات‪ ،‬نشر‬ ‫ظل ينشط فيها ّ‬
‫كلّف سنة ‪ 1661‬بإلقاء حماضرات يف حماضرات يف املدرسة العليا للدراسات التطبيقية يف باريس و ّ‬
‫عدة مقاالت يف جملة (‪ )Mémoire de la société linguistique‬مثّ أصبح بعد ذلك نائب مدير عام اجمللة نفسها‪.‬‬ ‫خالهلا ّ‬
‫عاد إىل جنيف سنة ‪ ،1611‬و شغل كرسي التاريخ املقارن للغات اهلندو‪-‬أوروبية إىل غاية ‪ ،1611‬مثّ اختفى فجأة من الساحة‪ ،‬و لكنه عاد‬
‫إليها عام ‪ 1116‬حني أسند إليه تدريس علم اللّغة العام خلفا ألحد األساتذة إىل غاية ‪ ،1111‬فأُتيحت له الفرصة كي يفصح القول يف‬
‫الدراسة النظرية لعلم اللّغة الوصفي‪ ،‬إىل أن تويف سنة ‪.1119‬‬
‫و يُرجع بعض الذين ّأرخوا لديسوسري دخوله يف العزلة و إنقطاعه عن اإلنتاج يف الفرتة ما بني (‪ ،)1111-1611‬إىل املشاكل العويصة اليت‬
‫أثّرت يف حياته النفسية و اإلجتماعية‪ ،‬األمر الذي انعكس على قدراته الفكرية‪ .‬و لقد اعرتف دي سوسري بذلك صراحة يف الرسالة اليت بعثها‬
‫كل هذا‪ ،‬و من الصعوبة اليت أالقيها غالبا يف حترير عشرة أسطر فقط‪ ،‬مثّ موضوع‬
‫إىل صديقه "مييه" سنة ‪ ،1611‬إذ يقول‪...:‬لقد سئمت من ّ‬
‫األوصاف اليت تشرتك فيها األحداث اللغوية‪ ،‬و أنا مهتم منذ زمان طويل بتصنيف هذه األحداث تصنيفا معقوال‪ ،‬فصرت أملح أكثر فأكثر‬
‫أحرره‬
‫ضخامة العمل الذي جيب على الباحث أن يضطلع به حىت يشعر اللغوي حبقيقة ما جيريه من حتليل(‪ ،)...‬و سأختم عملي هذا بكتاب ّ‬
‫أبني فيه معىن من املعاين‬
‫أفسر فيه بدون محاس ملاذا ال يوجد لفظ واحد يُستعمل اآلن يف علم اللّسان التارخيي ميكنين أن ّ‬
‫و أنا مكره على ذلك‪ّ ،‬‬
‫و أل ّن املوت كان أقوى‪ ،‬مل يستطع "دي سوسري" إجناز كتابه الذي ذكره يف رسالته السابقة الذكر‪ ،‬و الذي أراد له أن يكون خامتة جلهوده‬
‫كل من "شارل بايل ‪ "Charles Bally‬و "ألربت سيشهاي ‪Albert-‬‬ ‫لكن هذا املشروع مل ميت مبوت صاحبه‪ ،‬بل لقد محل ّ‬
‫اللغوية‪ّ .‬‬
‫مدونة عند تالمذته يف الفرتة ما بني (‪ ،)1111-1111‬وإيرادها يف كتاب‬ ‫‪ "Sechehay‬على عاتقهما مسؤولية محل األمايل اليت كانت ّ‬
‫ظهر إىل اإلنسانية سنة ‪ 1111‬حتت عنوان "دروس يف اللّسانيات العامة"( ‪.)Cours de linguistique générale‬‬
‫‪ - 1‬النيفر نور الدين‪ :‬فلسفة اللّغة و اللّسانيات‪ -‬مؤسسة أبو وجدان للطبع و النشر و التوزيع – ط‪ - 1119 – 1‬ص‪.71:‬‬
‫‪ - 9‬ينظر أمحد حساين‪ :‬مباحث يف اللسانيات – ديوان املطبوعات اجلامعية – اجلزائر – ص‪.91:‬‬
‫‪ - 1‬املرجع السابق – ص‪.91:‬‬
‫‪ – 5‬كاترين فوك و بياريل قوفيك‪ :‬مبادئ يف قضايا اللّسانيات املعاصرة ‪ -‬تر‪ :‬املنصف عاشور – ديوان املطبوعات اجلامعية – اجلزائر ‪-‬‬
‫‪ – 1161‬ص‪.11:‬‬
‫* ‪ – 1‬ليست الصورة السمعية هي األصوات املادية خلصائصها الفيزيائية‪ ،‬و إّنا هي البصمة النفسية للصوت‪.‬‬
‫‪ - 7‬النيفر نور الدين‪ :‬فلسفة اللّغة و اللّسانيات – مؤسسة أبو وجدان – الدار البيضاء – املغرب ‪-‬ط‪ - 1‬ص‪.71:‬‬
‫‪ – 6‬أمحد حساين‪ :‬مباحث اللّسانيات – ص‪.11:‬‬
‫‪ - 1‬النيفر نور الدين ‪ :‬فلسفة اللّغة و اللّسانيات – ص‪.61:‬‬
‫‪ - 11‬كاترين فوك و بياريل قوفيك‪ :‬مبادئ يف قضايا اللسانيات املعاصرة – ديوان املطبوعات اجلامعية – اجلزائر ‪ -‬ص‪.19:‬‬
‫‪ - 11‬النيفر نور الدين ‪ :‬فلسفة اللّغة و اللّسانيات ‪ -‬ص‪.61.65‬‬
‫‪ - 11‬نفسه – ص‪.61-65:‬‬
‫‪ - 19‬جورج مونان و آخرون‪ :‬البنيوية و النقد األديب – تر‪ :‬حممد لقاح ‪ -‬افريقيا الشرق ‪ -‬الدار البيضاء ‪– 1111 -‬ص‪.17:‬‬
‫‪ - 11‬مهيبل عمر‪ :‬البنيوية يف الفكر الفلسفي املعاصر – ديوان املطبوعات اجلامعية – اجلزائر ‪ -‬ط‪ – 1119 - 1‬ص‪.11:‬‬
‫‪ - 15‬املرجع السابق‪ :‬ص‪.11:‬‬

‫‪111‬‬
‫مجلة اآلادا واللغات ‪ -‬العداد التاسع ( خاص بأعمال ملتقى المناهج ) ‪ -‬اديسمبر ‪5002‬‬
‫‪ - 11‬املرجع السابق – ص‪.11:‬‬
‫‪ - 17‬كلود ليفي شرتو ‪ :‬األنثربولوجيا البنيوية‪ -‬تر‪ :‬مصطفى صاحل ‪ -‬وزارة الثقافة و اإلرشاد القومي‪-‬دمشق‪.916/ 1 – 1177‬‬
‫‪ - 16‬جان بياجي‪ :‬البنيوية‪ :‬تر‪ :‬عارف منيمنة و بشري أوبري ‪ -‬منشورات عويدات ‪ -‬بريوت ‪ -‬باريس ‪ -‬ط‪.1161 1‬‬
‫‪ - 11‬شكري عزيز ماضي‪ :‬حماضرات يف نظرية األدب ‪ -‬دار البعث للطباعة و النشر – اجلزائر ‪ -‬ط‪ – 1161 1:‬ص‪.191:‬‬
‫‪ - 11‬املرجع السابق‪ :‬ص‪.196:‬‬
‫‪ - 11‬املسدي عبد السالم‪ :‬اإلزدواج و املماثلة يف املصطلح النقدي – اجمللة العربية للثقافة – تونس – ع ‪ - 1119/ 11‬ص‪.91:‬‬
‫‪ - 11‬الوعر مازن‪ :‬دراسات لسانية تطبيقية – دار طالس للدراسات و الرتمجة و النشر – سوريا – ط‪ - 1‬ص‪.151:‬‬
‫‪ - 19‬املرجع السابق – ص‪.156:‬‬
‫‪ - 11‬املسدي عبد السالم‪ :‬اإلزدواج و املماثلة يف املصطلح النقدي – ص‪.11:‬‬

‫‪117‬‬

You might also like