You are on page 1of 8

‫التـرجمـة العـربية بين االختــالق والحضـارة الزائفـة‪ :‬إشـكاليـة التــوطـين‬

‫والمحـاكيـــات الحضــــارية ‪ -‬علي درويش‬

‫أساس في التفاعل بين الشعوب والحضارات‬ ‫ٌ‬ ‫عنصر‬


‫ٌ‬ ‫مما ال شك فيه أن الترجمة‬
‫ونافذة على تراث األمم ونتاجها الفكري واألدبي ومجمل نشاطها اإلنساني –‬
‫تنقله وتقتبسه وتنشره وتوطنه في مراحل مقتضبة مختصرة أو مسهبة ومطولة‬
‫‪ ،‬حسبما ترتئيه تلك الشعوب المستوردة والمستقبلة من خالل تفاعلها وتجاوبها‬
‫وفق احتياجاتها المعرفية والحضارية والتقنية‬ ‫َ‬ ‫مع النصوص المنقولة إليها‬
‫واالقتصادية والسياسية العاجلة أو اآلجلة ‪.‬‬
‫وتتخذ النصوص المترجمة أشكاالً مختلفة في عملية الترجمة ‪ ،‬فتـُنفخ فيها رو ٌ‬
‫ح‬
‫جديدةٌ تشابه األص َل إلى درجة كبيرة‪ ،‬ومن شابه أباه ما ظلم‪ ،‬أو تتحول فورا ً إلى‬
‫شبَحٍ هزي ٍل ضعيف ال عالقة له بمقاصد الكالم األصلي وال بمحيطه‬ ‫سخٍ أو َ‬
‫ِم ْ‬
‫الفكري والحضاري‪ ،‬أو بالمحيط الجديد المغروس فيه‪ .‬ولعل هذا األمر من أكثر‬
‫األمور أهمية وخطورة في الترجمة‪ ،‬فمعظم الترجمات التي نراها في زماننا هذا‬
‫يفتقر إلى حد كبير إلى أربعة أمور رئيسة هي ‪ :‬الدقة ‪ ،‬والضبط ‪ ،‬والتحكم في‬
‫المعنى ‪ ،‬والقبول‪ .‬فالغالبية العظمى من األعمال المترجمة ال تكون على درجة‬
‫من الجدة واإلبداع واالحتراف‪ ،‬إذ أن كثيرا ً من المترجمين العرب ‪ ،‬هواة‬
‫ومحترفين‪ ،‬تعوزهم ولألسف المقدرة على فهم النصوص األجنبية بمجمل‬
‫أبعادها الداللية والوظيفية والحضارية‪ ،‬ويفتقرون إلى منهجية حديثة واعية‬
‫وثابتة للنقل والتعريب والترجمة‪ .‬فتدخل المعرفةُ المنقولةُ إلى اللغة من باب‬
‫متهرئ وتحمل معها في جملة ما تحمله تعابير مجازيةً واصطالحيةً ال عالقة لها‬
‫بالمقصود من الكالم األصلي ‪ ،‬وذلك اللتصاق المترجم بحرفية الكالم التصاقا ً‬
‫أعمى ‪ ،‬دون النظر في األبعاد الحضارية والثقافية لتلك التعابير‪ .‬فمن التعابير‬
‫األجنبية ما يُفهم بداهة إن تُرجم حرفياً‪ ،‬لشمولية المجـاز اإلنساني الذي تعبر‬
‫عنه تلك التعابير‪ ،‬وكثير منها ما يخفق في تأدية المعنى المقصود‪ ،‬في الترجمة‪،‬‬
‫لخصوصية المجـاز وطرائق التعبير لغويا ً وثقافيا ً وحضاريا ً وبيئيا ً ‪.‬‬
‫فلو نظرنا مثــالً إلى ترجمة التعبير اإلنجليزي )‪(carrot-and-stick policy‬‬
‫والتي يسارع إلى تبنيها بال تردد ‪ ،‬بل الدفاع عنها والمحاجة فيها ‪ ،‬نفر من‬
‫المترجمين العرب المحدثين ‪ ،‬والهواة ‪ ،‬وطائفة من المستعربين ‪ ،‬والناطقين‬
‫بالضاد ع ََرضاً‪ ،‬ورجاالت الفكر والسياسة واألدب وغيرهم في العالم العربي ممن‬
‫يدلون بدلوهم في مهنة الترجمة اليوم‪ ،‬التضح لنا مدى جهل هؤالء ال بتقنيات‬
‫الترجم ِة وعملياتها فحسب ‪ ،‬بل بحضارتهم وثقافتهم ولغتهم ‪ ،‬ناهيك عن ثقافة‬
‫ولغة غيرهم‪ ،‬ولظهر لنا مدى قلة وعيهم لخطورة التقليد والمحاكاة التي ال تلتزم‬
‫بشروط اللغة وأنماطها الفكرية والمنطقية‪ .‬فالترجمة التي يرى البعض صحة‬
‫استعمالها ألنها أصبحت شائعة في العالم العربي ‪ ،‬بحكم التكرار الببغاوي ‪ ،‬ال‬
‫سيما في اإلعالم وعلى صفحات اإلنترنت‪ ،‬تأتيهم طوع الخاطر على هذا النحو‪:‬‬
‫(سياسة ال َج َز َر ِة والعصا)‪ .‬وقبل الخوض في تحليل التعبير اإلنجليزي وأصوله‬
‫ومعانيه وتطبيقاته ال بد لنا من السؤال البالغي ‪ :‬ماذا يأكل الحـمار في بـالدي؟‬
‫أجزرا ً أم بطيخا ً أم برسيما ً إذا كان ينتمي إلى عائلة مترفـة من الحمير؟‬
‫إن الغايةَ األولى من الترجمة هي التواصل ونقل المعرفة بمجمل أبعادها بأمانة‬
‫ودقة وصحة‪ ،‬إالّ إذا كان هناك مانع يمنع ذلك فيُصار إلى إسقاط المعاني ال ِكفافية‬
‫والثانوية واالحتفاظ بالمعاني الجوهرية واألساسية فيها‪ .‬وما يُتّـبع من أساليب‬
‫حرفية في نقل الكالم ‪ ،‬السيما في المصطلحات والتعابير المجـازية‪ ،‬غالبا ً ما‬
‫يخفق إخفاقا ً ذريعا ً في هذه الناحية المهمة في الترجمة‪ .‬ذلك أنه يولد معاني‬
‫تختلف اختالفا ً كبيرا ً عن المعاني األصلية ويرسم صورا ً دخيلة تنفصم عن‬
‫المعاني المقصودة من تلك الصور األصلية في بيئتها الطبيعية في لغة المصدر ‪.‬‬
‫عندما ترجم العرب المحدثون مصطلح )‪ ، (skyscrapers‬إبـّان الصحوة‬
‫الحضارية الوجيزة في القرن الماضي ‪ ،‬قبل أن يسارعوا إلى العودة إلى سباتهم‬
‫العميق ‪ ،‬فقد اعتادوا على الخمول والبالدة والغطيط والغياب عن ركب الحضارة‬
‫‪ ،‬أخضعوا المصطلح لعملية توطين حضاري‪ .‬فلم يترجموه حرفيا ً كما يجري‬
‫ت كثير ٍة كالتي سبقت ‪،‬‬ ‫اآلن على أيدي المترجمين المتـأخرين العابثة في ترجما ٍ‬
‫بـ (خادشات السماء) أو (خامشات السماء) بل (ناطحات السحاب)‪ .‬فـ‬
‫مبان شديد ِة‬
‫ٍ‬ ‫)‪(skyscrapers‬في اللغة اإلنجليزية تعبير مجازي يدل على‬
‫مر السحاب‪ .‬فتوافقت‬ ‫االرتفاع فيخيل للناظر أنها تخدش السماء ‪ ،‬وهي تمر َّ‬
‫الصورة المجازية ‪ ،‬من خالل الكلمات اإلنجـليزية المنتقاة للتعبير عنها ‪ ،‬مع‬
‫طبيعة البيئة االجتماعية األميركية والموقع الذي تحتله كلمة ]‪ (sky) [1‬في‬
‫فسموا ذاك النوع الجديد من األبنية الشاهقة بـ‬
‫ّ‬ ‫اللغة والحضارة اإلنجليزية ‪،‬‬
‫‪(skyscrapers.‬ولكن الترجمة العربية الحرفية االرتكاسية ‪ ،‬أي (خادشات‬
‫السماء)‪ ،‬لم تتوافق مع الذوق العربي والطبيعة الحضارية عند العرب ‪ ،‬بل‬
‫تعارضت كلمة (السماء) في سياق هذا المصطلح مع مضامينها القدسية في‬
‫اللغة العربية ‪ .‬فأبدلوا المجاز الغريب بمجاز عربي مقبول‪ ،‬ألفاظه فصيحة ال‬
‫"تخدش" األذن‪ ،‬ومدلوالته ال تتعارض مع الرموز الحضارية والفكرية والقيم‬
‫الخلقية واألدبية ‪ .‬فحـاكى المجـاز الجديد في العربية المجـاز األصلي من حيث‬
‫المفهوم بصورة لطيفة عذبة سائغة‪ .‬وهكذا شاع لفظ ناطحات السحاب‪ ،‬وتوطن‬
‫في اللغة والحضارة ورسخ في الوجدان ‪ ،‬رغم بداءة وسائل اإلعالم العربي‬
‫آنذاك‪ ،‬وبطء حركة الترجمة والعمل المصطلحي في مجامع اللغة العربية‬
‫وغيرها ‪.‬‬
‫ت كثيرةً ال تعير هذه الناحية أي اهتمام‪ .‬فالقائمون على‬ ‫أما اليوم فنجد ترجما ٍ‬
‫أمور الترجمة في أغلبهم طائشون مستهترون وعابثون ‪ ،‬تعوزهم بال ريب‬
‫كبير لتلك المحاكيات الحضارية والمستنسخات الثقافية في‬ ‫ووعي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫مهاراتٌ كثيرةٌ‬
‫النصوص المترجمة‪ .‬وهذا الوعي هو ما يميز المترجم المحترف الواعي‬
‫والملتزم بلغته وحضارته عن المترجم المتطفل على مهنة الترجمة بحكم معرفته‬
‫السطحية والضحلة إلحدى اللغتين وربما االثنتين معا ً ‪.‬‬
‫في ذروة نشاط الترجمة في عصور القوة الحضارية عند العرب كانت الترجمات‬
‫الهزيلة تخضع لعملية توطين وتكييف لغوي وحضاري من منطلق القوة والثقة‬
‫والجبروت الحضاري واللغوي‪ .‬فكان العرب يأخذون المصطلح فيقلّبونه‬
‫ويفككونه ويعيدون تركيبه بما ال يتنافى مع الذوق العربي أو يخالف قواعد اللغة‬
‫عي لغوي أو عناء فكري‪ .‬وحسبهم في ذلك‬ ‫ومنطقها‪ ،‬ودون تكلف أو تباطؤ أو ّ‬
‫قول أبي الطيب المتنبي "أنام مل َء جفوني عن شواردها ويسهر الجم ُع َج َّراها‬
‫ويختصم"‪ .‬فكان المجسطي والبلغم والملغم والبرقوق وغيرها من المفردات‬
‫التي أخضعها العرب لنظامهم الصوتي ‪.‬‬
‫أما اليوم ‪ ،‬فنحن أمة مستوردة فكريا ً وحضاريا ً ولغويا ً ‪ ،‬ال من منطلق القوة‬
‫والتقدم ‪ ،‬بل من موقع الضعف والمسكنة واالستالب والتنصل والتخلف‬
‫والشعوبية‪ .‬وما نستورده في جله استهالكي يفتقر في معظمه إلى القيمة‬
‫المعرفية والعلمية‪ .‬وخالفا ً لذلك ‪ ،‬فلنتأمل لحظة واحدة كيف تعامل أهل اللغة‬
‫اإلنجليزية ‪ ،‬الذين ال يفتقرون إلى الثقة اللغوية والحضارية وال يجدون حرجا ً‬
‫في تطويع المقترضات ألنماطهم الفكرية وتوطينها‪ ،‬مع اللفظ العربي (انتفاضة)‬
‫‪ ،‬بمعناه االصطالحي الجديد إشارة إلى نضال الشعب الفلسطيني‪ .‬فاالنتفاضة لغةً‬
‫الهزةُ والرعشة‪ .‬ولكنها تعني في االصطالح الحديث حركة شعبية‬ ‫هي في األصل َّ‬
‫تناضل لرفع الظلم وإحقاق الحق‪ .‬ففي البداية ‪ ،‬راحت وسائل اإلعالم اإلنجليزية‬
‫تستعمل اللفظ كما هو )‪ ، (intifada‬وذلك لحداثة الخبر وجدّته وطرافة اللفظ‬
‫العربي وغرابته والغموض الذي يلفّه‪ .‬ثم صارت تَستعم ُل اللفظ العربي وبجانبه‬
‫اللفظ اإلنجليزي )‪ (uprising‬إيناسا ً لمتلقي الخبر‪ .‬ثم سرعان ما أسقطت اللفظ‬
‫العربي تماما ً ‪ ،‬وراحت تستعمل اللفظ اإلنجليزي بمفرده‪ .‬وذلك ألمرين‪ :‬األول ‪،‬‬
‫فقدان الخبر أهميته عندهم‪ ،‬وإصابتهم بالكلل والملل من رتابة الحدث‬
‫ور ْذ ِمـ ِه[‪ .]2‬والثاني‪ ،‬عدم توازي الجانبين حضاريا ً وتقنيا ً وقوةً‪ .‬وفي المقابل‪،‬‬
‫َ‬
‫عندما سمع األميركيون اللفظ الياباني )‪ (kamikaze‬للمرة األولى إبان الحرب‬
‫العالمية الثانية ‪ ،‬استخدموه في حينه مع مقابل إنجليزي تفسيري ‪(suicidal‬‬
‫)‪ ،air attack‬ثم سرعان ما أسقطوا اللفظ اإلنجليزي وأبقوا على اللفظ‬
‫الياباني فصار جزءا ً من المفردات اإلنجليزية اليومية‪ .‬ذلك أن اليابان كانت نِـدا ً‬
‫حضاريا ً وعسكريا ً قويا ً لهم آنذاك ‪ ،‬على عكس الشعوب العربية التي ال يأبه لها‬
‫اليوم أحد وال يعيرها أي اهتمام أو اعتبار ‪.‬‬
‫وهذه المحاكيات الحضارية ‪ ،‬أو الميمات )‪ (memes‬كما يسميها تشسترمان‬
‫(‪ ، ]3[)1997‬تحدث إشكاليات كثيرة في نقل المعارف والعلوم من اللغات‬
‫المصدرة للفكر والحضارة والمعرفة إلى اللغات المستوردة والمقلدة لمجمل‬
‫النشاط اإلنساني‪ .‬فمن الثابت في علم التواصل أن التواصل ال يتم بين أفراد‬
‫المجتمع الواحد إالّ إذا كان بينهم ذاتية مشتركة أو ما يعرف باإلنجليـزية بـ‬
‫‪(intersubjectivity).‬والذاتية المشتركة تنجم عن المعرفة التي يتشارك‬
‫فيها المتواصلون أو المتخاطبون ‪ ،‬وتنتقل بين لَبـ ِ ِن المجتمع الواحد عبر‬
‫المحاكيات الحضارية (الميمات) فتتأصل فيه فكرا ً ووجدانا ً وثقافةً ومعرفةً عامةً‪.‬‬
‫وهذه المعرفة العامة تتألف من التجارب اإلنسانية المشتركة بأبعادها النفسية‬
‫والوجدانية واالجتماعية والحضارية ‪ ،‬والتي تنطوي على المشاعر والعواطف‬
‫تكون‬
‫والتطلعات واالستدالالت والعقائد التي يتشاطرها المتخاطبون بحيث ّ‬
‫عندهم نظرة مشتركة إلى الوجود والحياة والمصير‪ .‬فعندما استخدم الناطقون‬
‫باإلنجليزية التعبير )‪ (carrot and stick‬كانت بين المتخاطبين ذاتية مشتركة‬
‫‪ ،‬تولدت من خالل التفاعل التراكمي والزمني‪ .‬وبذلك تحكمت باستجابة القارئ‬
‫إلى الكاتب أو السامع إلى المتكلم عبر المتعارف عليه ضمن المجتمع الواحد‪.‬‬
‫فمن المعروف عند الناطقين باللغة اإلنجليزية أن الجزرة )‪ (carrot‬تستعمل‬
‫للترغيب والعصا )‪ (stick‬للترهيب‪ .‬ومنها االصطالح ‪(to hold out a‬‬
‫‪carrot).‬فإما الطاعة وجزاؤها الجزرة ‪ ،‬وإما المعصية وجزاؤها العصا‪.‬‬
‫صا[‪] .4‬‬
‫ع بالعَ َ‬
‫قر ُ‬
‫والعب ُد يُ َ‬
‫بيد أن الرسوم المتحركة التي أنتجها والت ديزني وغيره قد شوهت الصورة‬
‫األصلية للمجاز بتصويرها حمارا ً يركبه شخص يحمل عصا تتدلى من طرفها‬
‫جزرة ‪ ،‬فتشوه التعبير وصار)‪ ، (the carrot on the stick‬وهو بمعنى‬
‫اإلغراء فقط‪ ،‬فالحمار يرى الجزرة ويشمها فيج ّد السعي في الوصول إليها فال‬
‫يستطيع الدنو منها‪ ،‬ولكنه ال ينفكُّ عنها‪ ،‬ألنه حـمار! وهذان التعبيران‬
‫يستعمالن اليوم بدرجات متفاوتة في اللغة اإلنجليزية ‪ ،‬وبمعنى واحد أحيانا ً‬
‫اللتباس الصورتين عندهم ‪ ،‬السيما األجيال المتقدمة التي ترعرعت على‬
‫الرسوم المتحركة وباغزبني ودافي ضك وميكي ماوس ‪.‬‬
‫وفي إطار نموذج وظيفي للترجمة ‪ ،‬يمكننا تحديد ثالثة مستويات من الترجمة‪:‬‬
‫المستوى األولي والمستوى الوظيفي والمستوى التأويلي‪ ،‬أو كما أسميها في‬
‫اإلنجليزية تباعا ً ‪ (primary, operative and interpretive)[5] .‬وال‬
‫ينبغي االنتقال من مستوى إلى آخر إال حسبما تمليه المحددات والمقيدات اللغوية‬
‫والمنطقية والحضارية في اللغة المنقول إليها‪ .‬وواجب المترجم ومسؤوليته‬
‫األدبية بالدرجة األولى االنطالق من أقرب نقطة بين لغة المصدر ولغة الهدف‪.‬‬
‫ويكون ذلك في المستوى األولي للنقل‪ .‬فإن كان هناك ما يمنع ذلك لغةً أو‬
‫حضارة ‪ ،‬وجب االنتقال إلى المستوى الوظيفي ‪ ،‬وإن لم تستقم الترجمة‬
‫لألسباب ذاتها ‪ ،‬وجب االنتقال إلى المستوى التأويلي ‪.‬‬
‫وأثناء عملية الترجمة ضمن هذا اإلطار ‪ ،‬يُضطر المترجم إلى التدخل في النص‬
‫على نحو مشروع الستيفاء المعنى أو استقامة التعبير وسالمة اللغة‪ .‬وهذا‬
‫التدخل )‪ (intervention‬مقبول إذا تعذر إيجاد أقرب مقابل طبيعي للنص‬
‫يتعرض للنص األصلي فيشوه معناه‬ ‫األصلي‪ .‬ولكن يخطئ المترجم عندما ّ‬
‫والمراد منه لغاية في نفسه أو عن سهو أو عدم دراية بمتطلبات الترجمة‪ .‬وهذا‬
‫التعرض )‪ (interference‬غير مقبول في جميع الحاالت إذ انه يخل باألمانة‬
‫العلمية وبنزاهة المحتوى البياني والقيمة التواصلية للنص األصلي‪ .‬فيخرجه‬
‫عن الترجمة إلى االقتباس والتأويل‪ .‬وفي هذه الحالة ينتفي مبدأ المقابلة‬
‫والمطابقة وتدخل الترجمة حيز التقريب واالستنساب غير المقبول ‪.‬‬
‫والتعرض نوعان‪ :‬تعرض عفوي غير مقصود وتعرض مقصود‪ .‬ويشمل‬
‫التعرض العفوي مشكالت الفهم ‪ ،‬واالستيعاب والنقل ‪ ،‬والمجاز واالستدالل‬
‫تغرض وتحيز‪ .‬ويمكن‬ ‫المغلوطين‪ .‬أما التعرض المقصود فما هو في الواقع إال ّ‬
‫تصنيفه في فئتين‪ :‬تعرض شخصي‪ ،‬وتعرض عام‪ .‬ويكون التعرض الشخصي‬
‫لغاية في نفس المترجم تنبع من فكر معين أو نهج خاص أو عقيدة أو افتقار إلى‬
‫األمانة العلمية والمهنية‪ .‬وواجب المترجم بالدرجة األولى أن يكون محايدا ً‬
‫تماماً‪ ،‬فهو همزة وصل بين لغتين ينقل الكالم دون تشويه معانيه أو إقحام فِك ٍَر‬
‫ت ليست موجودة في النص األصلي بقصد أو غير قصد ‪.‬‬ ‫ومعلوما ٍ‬
‫أما التعرض العام فيشمل السياسات التي تفرضها الهيئات المسؤولة لغاية أو‬
‫هدف ال عالقة له بالترجمة‪ ،‬وإنما امتطى الترجمة لخدمة أغراض معينة كحماية‬
‫ص ْونِ ِه من التأثيرات الخارجية‪ .‬والتعرض العام‬ ‫المجتمع من فِك ٍَر دخيل ٍة عليه أو َ‬
‫والم ْرشَح البياني والحضاري ‪ (cultural filter).‬فيقوم‬ ‫هو بمثابة الرقابة ِ‬
‫المترجم أو من يشرف عليه بتعديل الترجمة أو حذف مفاهيم ال تتناسب مع‬
‫تقاليد المجتمع وقيمه نحو )‪ (single parent‬وغيرها‪ .‬ورغم حساسية هذا‬
‫فإن التعرض للنص بهذا الشكل يخل بأحد‬ ‫الموضوع ووظيفته في المجتمع‪ّ ،‬‬
‫مبادئ الترجمة وهو األمانة العلمية‪ .‬تأمل الترجمة اآلتية لعنوان كتاب باللغة‬
‫اإلنجليزية ‪:‬‬
‫فضل اإلسالم على الحضارة الغربية[‪] 6‬‬
‫‪The Influence of Islam on Medieval Europe‬‬
‫نجد هنا كيف تعرض المترجم العربي للنص األصلي باستخدامه كلمة (فضل)‬
‫وما تحمله من استعالء ومنـّة ‪ ،‬ترجمةً لـ )‪ (influence‬بدالً من (تأثير) أو‬
‫(أثر)‪ ،‬وكيف ترجم )‪ (Medieval Europe‬إلى (الحضارة الغربية) ‪ ،‬ف َع َّم‬
‫الفضل الحضارة الغربية كلها بينما اختص النص األصلي ِحقبةً تاريخية معينة‬
‫من تاريخ أوربا ‪ ،‬وهو العصور الوسطى‪ .‬وهذا التصرف ‪ ،‬سواء أقبلنا بما‬
‫توحي به الترجمة أو لم نقبل‪ ،‬هو تعرض صارخ غير مشروع في الترجمة ألنه‬
‫شوه مقاصد الكالم األصلي‪ .‬ولعل المترجم أدرك تلك الناحية فتدارك األمر‬
‫ووصف ترجمته للكتاب بأنها نقل إلى العربية ‪.‬‬
‫والتعرض المقصود أو غير المقصود يؤدي إلى إحداث حضارة زائفة عبر‬
‫المحاكيات الحضارية والمعرفية المغلوطة‪ .‬تأمل المقطع اآلتي ‪:‬‬
‫ب على رسو ِل هللاِ صلى‬ ‫ناس من األ َ َ‬
‫عرا ِ‬ ‫عن عائشةَ رضي هللا عنها قالت‪ :‬قَ ِد َم ٌ‬
‫لون ِص ْبيَانَكُم؟ فقال ‪" :‬نعم"‪ .‬قالوا‪ :‬لَ ِكنَّا وهللاِ ال‬ ‫سلَّ َم ‪ ،‬فقالوا‪ :‬أَتُقَ ِبّ َ‬
‫هللاُ علي ِه و َ‬
‫ع ِم ْن قُلُو ِبكُم‬ ‫كان هللاُ نَ َز َ‬
‫إن َ‬‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أ َ َو أم ِلكُ ْ‬ ‫نُقبّل! فقال رسو ُل هللاِ َ‬
‫الر ْح َمةَ ! " (متفق عليه)[‪] . 7‬‬ ‫َّ‬

‫‪Hazrat Ayeshah (R.A.A.) relates that some Arabs from‬‬


‫‪the villages came to the Holy Prophet (S.A.W.) and asked‬‬
‫)‪him as to whether he kisses his children. He (S.A.W.‬‬
‫‪answered: “Yes”. They said: “But we never kiss them.‬‬
‫‪“He said: How can I be held responsible if Allah has‬‬
‫”?‪deprived you of love and affection‬‬

‫باإلضافة إلى الخلل اللغوي في اإلنجليزية واالنتقال بال مبرر من الكالم المباشر‬
‫إلى الكالم غير المباشر‪ ،‬نالحظ التصوير الكاريكاتوري الذي صبغ النص األصلي‬
‫بصبغة غريبة عنه في الترجمة‪ .‬فمن األمور التي أخطأ المترجم الباكستاني فيها‬
‫ترجمة (األعراب) بـ ‪ (some Arabs from the villages).‬بدالً من‬
‫]‪ ،(pasture dwellers)[8‬أو ما شابه ذلك ‪ ،‬وكذلك ترجمته لـ (صبيانكم) بـ‬
‫)‪ ،(your children‬و (أَتُقَ ِبّ َ‬
‫ـلون ِص ْبـيَانَكُم) بـ )‪(he kisses his children‬‬
‫‪ ،‬وتوسيع (الرحمة) إلى)‪ ، (love and affection‬و كذلك ترجمته لـ (نَ َز َ‬
‫ع‬
‫فشوه‬
‫الرحمة) بـ ‪ّ (deprived you of love and affection).‬‬ ‫من قلوبكم َّ‬
‫مجمل المعاني بل أضاع الفكرة الرئيسة التي تضمنها النص األصلي ‪ ،‬أال وهي‬
‫تقبيل األبناء عند المسلمين‪ .‬وبهذا اكتسبت الترجمة من خالل استخدام‬
‫المحاكيات المغلوطة شخصيةً حضاريةً ومعرفيةً جديدةً ال عالقة لها بالنص‬
‫األصلي‪ ،‬فبقيت دخيلة وزائفة في اللغة المنقول إليها‪ ،‬ال يستطيع قارئها التفاعل‬
‫معها على وجه صحيح لغياب الذاتية المشتركة ووجود المحاكيات الحضارية‬
‫الزائفة ‪.‬‬
‫وخالصة القول إن المترجم يُسقط أحيانا ً خصائص حضارية ومعاني ضمنية ‪،‬‬
‫إما لعدم درايته بها أو لصعوبة نقلها إلى لغة الهدف أو لعدم استساغتها في‬
‫الترجمة لما قد تحمله من دالالت ومضامين لم تكن موجودة في األصل‪ .‬وأحيانا ً‬
‫كثيرة يُدخل معاني وصورا ً مختـلقـةً وزائفةً‪ ،‬عن قصد أو غير قصد‪ .‬فلو عدنا‬
‫إلى التعبـير )‪ (carrot and stick‬وترجمته إلى العربية لوجدنا أن لفظ‬
‫(الجزرة) له مضامين في العربية تختلف عن مضامينه في اإلنجليزية ‪ ،‬فالعرب‬
‫أن لهم‬ ‫ال يلوحون بالجـزرة إغـرا ًء وال ترغيباً‪ ،‬ال للحـمار وال لإلنسان‪ .‬رغم َّ‬
‫ب مرتعه‪ ،‬فحظه‬ ‫لحـمار كان الجـزر مأكله وبالد العُ ْر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫فيها مآرب أخرى‪ .‬وطوبى‬
‫أسعد من حظ اإلنسان فيها !‬
‫________________________________________‬
‫]‪[1‬تحفل اللغة اإلنجليزية بتعابير اصطالحية منها )‪(the sky is the limit‬‬
‫و )‪ (a pie in the sky‬و ‪ (sky-high) .‬وعلى غرار ذلك ‪ ،‬تزخر اللغة‬
‫السحاب فيها موقعا ً رئيسا ً ‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫العربية بتعابير اصطالحية مشابهة يحتل‬
‫السحاب نب ُح الكالب) و (سحابة صيف)‪ .‬كما يحتل‬ ‫َ‬ ‫(سحابة يوم) و (وال يُضر‬
‫السحاب حيزا ً مهما ً في اإلعجاز العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬وجاء ذكرها تسع‬
‫مرات وفي ثماني سور‪ .‬أما (السماء) فقد جاء ذكرها أكثر من مرة ‪ ،‬بلفظيها‬
‫المفرد والجمع ‪( ،‬السماء) و (السموات)‪ ،‬معظمها بمدلوالت ومجازات قدسية ‪.‬‬
‫ـر الغمام أربع مرات في ثالث صور‪ .‬مما يثبت لنا أن العرب المحدثون تجنوا‬ ‫وذُ ِك َ‬
‫هذا اللفظ في ترجمة )‪ (skyscrapers‬عن وعي ألبعاده الحضارية ‪.‬‬
‫(الرتـم) في العربية المعاصرة مقابل )‪ (rhythm‬تأثرا ً‬ ‫]‪[2‬يجري استعمال ِ ّ‬
‫ورذَ َمانا ً ‪ ،‬أي امتأل‬ ‫(الر ْذم) من َرذَ َم يَ ْرذُ ُم َر ْذما ً َ‬
‫باللفظ الفرنسي‪ .‬والصحيح هو َّ‬
‫حتى سال ما فيه على جوانبه‪ .‬فأصل كلمة )‪ (rhythm‬في الفرنسية الوسطى‬
‫)‪ ،(rhythme‬مأخوذة من الالتينية )‪ (rhythmus‬ومن اإلغريقية‬
‫)‪ ،(rhythmos‬المشتقة من الفعل )‪ (rhein‬بمعنى (الدفق) أو (السيالن)‪ .‬وال‬
‫يخفى على عاقل االشتراك اللفظي والمعنوي بين المفردتين العربية‬
‫واإلنجليزية ‪.‬‬
‫انتشار ال ِفـك َِر في نظرية الترجمة‪ .‬تأليف أندرو‬ ‫ُ‬ ‫]‪[3‬محــاكيات التـرجمـة ‪،‬‬
‫تشسترمان ‪(Chesterman, A (1997). Memes of Translation:‬‬
‫‪The Spread of Ideas in Translation Theory. John‬‬
‫) ‪Benjamins: Amsterdam.‬‬
‫]‪[4‬ما تزال العصا تشكل رمزا ً للقوة والسلطة والحماية منذ فجر التاريخ‪ .‬فقد‬
‫كانت العصا القصيرة في المجتمعات البدائية رمزا ً للنشاط واإلنسان والقوة‪.‬‬
‫وكانت العصا عند الفراعنة رمزا ً للقسط والعدل بين الناس إلى جانب السوط‪.‬‬
‫وتحولت في المجتمعات الدينية إلى رمز للسلطة الروحية والقوة الغامضة‪ .‬وفي‬
‫المجتمعات العربية ‪ ،‬اكتسبت العصا إلى جانب ذلك سلطة تأديبية‪ ،‬فالعصا لمن‬
‫عصى ‪ ،‬والعبد يقرع بالعصا ‪ ،‬وعبي ُد العصا ‪ ،‬وعصا الجبان أطول‪ ،‬وشق عصا‬
‫الطاعة ‪ ،‬و ِإ َّن العصا قُ ِرعَتْ لذي الحلم ‪ ،‬وقَش ََر له العصا‪ ،‬وغيرها‪ .‬ولم تقترن‬
‫الجـزرة بالمكافأة ‪ ،‬ولم تكتسب صورا ً مجـازية في السياق العام للغة العربية ‪.‬‬
‫]‪[5‬أنظر كتاب دليــــل المتـــرجم ‪ ،‬تأليف علي محمد الدرويش ‪ ،‬شركة‬
‫رايتسكوب ‪ ،‬ملبورن ‪. ،‬‬
‫]‪[6‬دار الشروق ‪ ،‬تأليف مونتجومري وات ‪ ،‬نقله إلى العربية حسين أحمـد‬
‫أمـين ‪. .‬‬
‫]‪[7‬رياض الصالحين ‪ ،‬ترجمة مدني عباس‪ .‬الناشرون اإلسالميون الدوليون‪.‬‬
‫كراتشي ‪ ،‬باكستان‪ .‬ص ‪.‬‬
‫]‪[8‬مثل )‪ (nomads‬أو ‪ (Bedouins).‬األعراب هم سكان البادية م ّمن‬
‫يتتبعون مساق َط الغيث ومنابتَ الكأل ‪ ،‬إذ ُجـ ّل معيشتهم من الرعي‪ .‬والبادية هي‬
‫بقعة واسعة من األرض فيها ماء وكأل‪ ،‬وليست الصحراء كما تذكرها المعاجم‬
‫الثنائية التي تنسخ بعضها بعضا ً فتكرر الخطأ تلو الخطأ ‪.‬‬
‫‪-----------------‬‬
‫*علي درويش‪ :‬أستاذ الترجمة والتواصل التقني في جامعات ملبورن ـ‬
‫أستراليا‪ ،‬ومؤلف وكاتب تقني‪.‬‬

You might also like