Professional Documents
Culture Documents
هشام بن مختاري
الملخّص:
مما لا شك فيه أن الترجمة تشكل جسرا ثقافيا و حضار يا بين الأمم و الحضارات ،فقد
كانت و لا تزال ناقلا أساسيا للمعارف و العلوم من ضفة لأ خري و من حقبة لأ خري ،ومنفذا
لمعرفة الذات و الأخر،فلولا حركة الترجمة لما ازدهرت الأمم و لا قامت الحضارات .ولم تش ّذ
الترجمة في حقل الفلسفة عن هذا الدور المحوري ،بل ساهمت في نقل التراث الفلسفي و الحضاري
من لغات الفرس و الهند و اليونان إلي العربية ،مما أثري الرصيد المعرفي العربي و ساهم في نهوض
الحضارة العربية الإسلامية و ازدهارها ،و كذلك حركة الترجمة من العربية إلي اللاتينية التي
كانت أساسا لبناء الحضارة الغربية الحديثة .وهذا ما يمثل حوارا بين الثقافات و الحضارات تكون
فيه الترجمة حجر الاساس.
الكلمات المفتاحية :الترجمة ،الترجمة الفلسفية ،حوار الثقافات ،حوار الحضارات .
Summary
There is no doubt that translation is a cultural bridge between nations and
civilizations. It was and still a basic vector of knowledge and science from another era, and
an outlet for self-knowledge and the other. The translation contributed to the transmission
of the philosophical and civilizational heritage of the Persian, Indian and Greek languages
into Arabic, which enriched the Arab knowledge and contributed to the rise and flourishing
of Arab Islamic civilization, The translation from Arabic to Latin was the basis for the
تقديم:
م المفاهيم
قبل الخوض في نقاط هذا العرض بالش ّرح و الت ّفصيل ،كان لزاما علينا ضبط أه ّ
ل أهمّـها " :الت ّرجمـة" "،الفلسفـة" و "الث ّقافة ".
المعالجة ووضعها في الإطار العامّ للموضوع المعالج .ولع ّ
-ما الفلسفة ؟
ارتبط مفهوم الفلسفة عند العامّة بالت ّعقيد بل يراها البعض أمرا لانفع فيه و أنّها وقف على
فئة قليلة من الن ّاس،لا تخرج عن نطاقهم وهو بلا شكّ مفهوم خاطئ،فالفلسفة بمعناها العام نشاط
بشري ّعامّ ،يمارسه الجميع بوعي أو بدون وعي ،و لاحظ ذلك شيخ فلاسفة اليوناـن أرسطو (
400-473ق.م) ،بحيث يقول ...":فإنّنا سواء إذا أردنا أن الّتفلسف أم لم نرد لا بدّ لنا جميعا من
ل ما
ل زمان ومكان ملتصقة بالفكر البشري مندسّ ة في ثنايا ك ّ
الت ّفلسف ،"...إنّنا نجد الفلسفة في ك ّ
ينتجه العقل البشري من أدب وفنّ و علم فهي بحقّ أمّ العلوم فالفلسفة في إطار بحثنا هذا نعني بها
ذلك الن ّشاط البشري العامّ (. )0
الث ّقافة كلمة عريقة في العربي ّة تعني صقل الن ّفس و المنطق و الفطانة ،استعملت في العصر
الحديث للد ّلالة على الر ّقيّ الفكري و الأدبيّ و الاجتماعي للفرد أو الجماعة .فهي مجموع الأفكار و
ن الث ّقافة في
طر يقة السّلوك.وهي السّمات و القيم و السلوكيات الت ّي تمي ّز فردا أو جماعة ما "...إ ّ
مدلولها الواسع هي تلك القيم و الإشارات الت ّي تلعب دور الوسيط بين عالم المجر ّد و الملموس ...هي
العادات الث ّقافي ّة ( الإنسانيات) و الأسطورة و الأدب و الد ّين ،و القيم الإنساني ّة و الاعتقادات
ل أشكال الت ّرفيه. )0("...
وج ّ
وضحه .)4("...
" ...الت ّرجمة لغة الت ّفسير و البيان ،و يقال ترجم له الأمر أي ّ
نص ،نقل ألفاظه و ثقافته وروحه من لغة إلى لغة أخرى .
فالت ّرجمة هي نقل ّ
الت ّرجمة الفلسفي ّة ،ترجمة تخصّ صي ّة ،تعنى بترجمة الن ّصوص الفلسفي ّة الت ّي تحمل شحنة معرفي ّة و
أسلوبا متمي ّزا يقتضي نوعا خاصّا من الت ّرجمة.
وقد ظهر حديث اهتمام بالغ بالت ّرجمة في حقل الد ّراسات الفلسفي ّة و حت ّى على مستوى
ن الفلسفة يوناني ّة
م في أقسام الفلسفة ذلك أ ّ
الجامعات أصبح لمقياس الت ّرجمة الفلسفي ّة وجود مه ّ
المنشأ أوّلا و ثانيا كون الد ّراسات الفلسفي ّة الحديثة تكتب جل ّها بلغات أجنبي ّة وجب نقلها إلى
العربية عبر الت ّرجمة .
أما ّ من حيث تقنياتها و أساليبها فهي لا تختلف كثيرا عن تقنيات الت ّرجمة العامّة من
ل أكثر تقني ّة يغلب
اقتباس ،و اقتراض،و ترجمة حرفي ّة إلى الت ّبديل و الت ّكييف و الت ّكافؤ ولع ّ
استعمالها في مجال الت ّرجمة الفلسفي ّة هي تقني ّة الت ّكييف ) (Adaptationوهو "...تقريب الواقع
ومقتضيات الحال الت ّي تختلف باختلاف الث ّقافات و الت ّقاليد و الأعراف . (5) ".
ن صعوبة الن ّّص الفلسفي و الإشكالات الت ّي قد يطرحها على المستوى المصطلحاتي و
إ ّ
الأسلوبي يقتضي من المترجم فهما للن ّّص الهدف و تفكيك شفرته حت ّى يكون قادرا على إعادة
صياغته في الن ّّص الهدف .
سبق وأن قدّمنا مفهوم الث ّقافة ،ونحن بصدد الحديث عن حوار الث ّقافات ،ولم يخلو هذا
ل فرد
الموضوع من الجدل و الن ّقاش في تاريخ البشر ي ّة تميل لتفضيل وتقديم الن ّفس على الآخر فك ّ
ن لغتها و ثقافتها هي الأرقى و الأعرق و لـكنّ طبيعة الـكون ونواميسه تقتضي أن
وجماعة تعتقد أ ّ
نتعايش رغم اختلافاتنا يقول تعالى ":يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا" (،)6فالت ّعارف و الت ّعايش سبب من أسباب الوجود ،ولنتعايش مع الآخر
وجب علينا فهم طر يقة تفكيره وذلك عبر محاورته حوارا هادئا وذا معزى .و لـكنّ الحوار و
الت ّعايش لا ينفي الخصوصي ّة و إذا أفضى الحوار إلى تغل ّب طرف على آخر وذوبان ثقافة في أخرى
يصبح هيمنة ثقافي ّة .
ن حوار الث ّقافات لا يجب أن يقبع في إطار المجر ّد و الكتابات فقط ،بل هدفه الأساس
إ ّ
تجن ّب الص ّراعات و الحروب و الانقسامات و الن ّزاعات على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي و
هي مشاكل لاتزال موجودة بقو ّة في عالمنا المعاصر .وبين صراع الث ّقافات الذ ّي يمث ّل واقع الحال
في الـكثير من المواقع وحوار الث ّقافات الذ ّي تأمله و نسعى إليه فجوة كبيرة وجب معالجتها .
ن حوار الث ّقافات ليس كلمات تكتب ،أو خطاب تلقي و إنّما واقع وجهود تبذل لنجعل
إ ّ
م و سائل
ل الت ّرجمة من أه ّ
الث ّقافات تتحاور بحقّ و يكون الاختلاف رحمة و نعمة لا نقمة و لع ّ
الت ّواصل الثقافي بين الأمم.
من العربي ّة فبالإضافة إلى ت ّرجمة العلوم كان لترجمة الث ّقافة العربي ّة نصيبا كبيرا من خلال ترجمة
أعمال لأدباء ومفك ّرين عرب.
ل ترجمات الغرب للفلسفة العربي ّة من خلال كتب "ابن رشد" مثلا كان له تأثير على
ولع ّ
الفلسفة و الث ّقافة الغربي ّة ،فالت ّرجمة ساهمت في الت ّقريب و الحوار بين ثلاثة ثقافات (يوناني ّة ،عربي ّة
ل الت ّراث الفلسفيّ اليونانيّ و نهلوا منه
ن العرب عمدوا إلى ترجمة ج ّ
،أوروبي ّة ) ،فالمعروف أ ّ
الـكثير.
فاطّ لعوا على الث ّقافة اليوناني ّة فكان ذلك بحقّ أمرا ايجابيا ساعد تشكيل الوعي الث ّقافيّ عند
العرب فالت ّرجمة إذا تم ّت من العربي ّة و إلى العربي ّة مم ّا خلق تواصلا ثقافيا و أداة حوار فع ّالة و
كانت ترجمة العربي للفلسفة متدرجة تطورت مع تطور الفكر الإسلامي من جهة ،و علم الترجمة و
تقنياتها من جهة أخرى ،ويمكن إجمال هذه المراحل كالآتي (:)7
كانت الترجمة مضطربة نوعا ما و حتى غامضة أحيانا و يرجع ذلك لحديث العرب بالترجمة
وقت ذاك ،كما تعددت مرجعيات المترجمين و مذاهبهم و نفخوا في ترجماتهم آراءهم الذاتية .و مع
كل هذا توافرت ترجمات مقبولة على قلتها ،و عموما كان أمر الترجمة بيد المترجم وحده ،كفاءتها
من كفاءته .
و فيها مراجعة و تنقيح وتدبر في طرق الترجمة و آليات إيصال المعنى ،و لعل حنين بن
"إسحاق" مترجم عصره السباق إلى إستصلاح النقل فكانت بحق مرحلة تشكل فيها وعي سياسي
فكري بأهمية الترجمة و بدأ التفكير في تنظيمها ،و كان "بيت الحكمة" مسك ختام هذه الجهود و
ل الأصقاع فكانت وسيطا بين الثقافات.
مؤسسة رسمية تعنى بالترجمة ،ذاع صيتها وقت ذاك في ك ّ
بدأ في القرن العشرين و يمتد إلى يومنا هذا و بعد أن كان المعلم الأول "أرسطو" ،أصبح
الفيلسوف "ديكارت" ،ملهم المحدثين ،فترجموا له الـكثير مما أكسبهم رصيد اصطلاحيا متخصصا و
أصبح للترجمة إجراءات علمية يتبعها المترجم ليصل لترجمة مكافئة للنص الأصلي و لاشك أن هذا
أثر إيجابا على ترجمة العرب للفلسفة الغربية الحديثة.
و كاستشهاد تار يخي على تأثير الترجمة في التواصل و الحوار ثقافي و الفلسفي بين العرب و
الغرب ،تأتي حالة ابن رشد ) 0011-0001(،فيلسوف عصره_ و الذي يعد بحق حالة فريدة من
بعد الفارابي (ت )151و ابن سينا (ت)0117و الغزالي (ت_)0000الذي لم يطلع مباشرة على
كتب "أرسطو" بل وصلته مترجمة و هنا المفارقة المدهشة فقد وصل ارث اليوناني إلى العربي
مترجم ووصل إرث العربي للغرب مترجم و هل للترجمة ممن مزية أكبر من هذه،فالترجمة نشرت
كل من "أرسطو" فيلسوف عصره و "ابن رشد" فيلسوف عصره و هذين مثالين لا يخلوا التاريخ من
غيرهما.
و لقد وصلت "ابن رشد" ترجمة "أرسطو" غير واضحة و غامضة أحيانا لأن " المترجمين لم
يكونوا حكماء و لا فلاسفة و بذلك تعذر عليهم فهم "ارسطو"( )1فترجموا له عن جهل فجاءت
عبقر ية "ابن رشد" فنقح و عدل بعلمه الواسع و في الجهة المقابلة ترجم الغرب أعمال ابن رشد إلى
اللاتينية فعرفوا و أدركوا فكر أرسطو عبر هذه الترجمات و"أجل الغربيون "ابن رشد" إلى حد أن
"دانتيه"( )0400- 0051صنفه مع الـكبراء "( .)11فالاحتكاك بالفكر الفلسفي سواء اليوناني منه
أو الغر بي حدث عبر الترجمة .
ولايؤمن البعض بأهم ّية الت ّرجمة كوسيط ثقافي بل يتّهمها بتضييع المعنى و الخيانة لازمت
الت ّرجمة منذ أن بدأت وخاصّة الت ّرجمة الفلسفي ّة لشديد خصوصيتنا حيث يقول "إرنست رينان"
"...المنشور من أعمال ابن رشد لا يقدّم سوى ترجمة لاتينية لترجمة عربي ّة لشرح ترجمة عربي ّة
لنص يوناني ؟ فكيف لاتتبخّر الفكرة الأصلي ّة أثناء هذه الت ّنقّلات المـكر ّرة )01("...ولا
سر ياني ّة ّ
ننسى بهذا الصّ دد إشكالية عدم قابلية الت ّرجمة ( )l’intradmisibilitéالت ّي أثارها البعض في قضي ّة
الت ّرجمة الفلسفي ّة .
ومهما يكن فإن ّه يمكن " اعتبار المنزلة الت ّي حظيت بها الت ّرجمة عند العرب منذ بداية الت ّجربة
الإسلامية،منزلة مشر ّفة .وهذه حقيقة تار يخي ّة ...أو لم يجعل منهم التّاريخ وسطاء و نقلة للت ّراث
الإنساني الكلاسيكي و حفظته للأجيال الحديثة )00("...
ل الجدل الذ ّي تطرحه الت ّرجمة الفلسفي ّة ودورها و مدى نجاعتها تبقى
بغض الن ّظر عن ك ّ
ّ
وسيلة ضرور ي ّة و أساسي ّة لنقل الث ّقافات و تحقيق الت ّواصل و الحوار بينها وهو دور ليس بالجديد
ن هدف الت ّرجمة الر ّئيس تحقيق الت ّواصل.
بل إ ّ
أمّا تقنيات نقل العرب للت ّراث الفلسفيّ اليونانيّ فلم تخرج عن الت ّقنيات المستعملة في الت ّرجمة
ن علم
العامّة من ترجمة مباشرة و أخرى غير مباشرة.وبطبيعة الحال لم تكن ترجماتهم كاملة ذلك أ ّ
الت ّرجمة وتخصّ ص الت ّرجمة الفلسفي ّة لم يكن موجودا كما هو عليه الآن و لـكنّها في العموم أدّت المعنى
وحقّقت هدفها الأسمى في الت ّواصل بين ثقافتين.
*خاتمة:
وجب علينا الانتقال من الجدل حول جدوى الت ّرجمة الفلسفي ّة إلى جدل حول تقنياتها و
ن وجودها أصبح واقعا و ضرورة.
أس اليبها حت ّى تؤدّي الغرض المنشود ذلك أ ّ
أو لم تكن الت ّرجمة وسيلة سبر العرب أغوار الفلسفة و الث ّقافة اليونانية ،هل كان فهم أن يملـكونا
ناصية العلوم دون أساس وتراكم معرفي إنساني ساهمت في الت ّرجمة.
أولم تكن الت ّرجمة وسيلة ات ّصال الغرب بالعرب و أساس الت ّقدّم الحضاري الذ ّي تشهد أورو بّا
الآن.
ن الت ّرجمة الفلسفي ّة ساهمت و لا تزال تساهم في حوار الث ّقافات ،و سيبقى الأمر كذلك طالما
إ ّ
وجد الإنسان ووجدت الفلسفة ووجدت الت ّرجمة.
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(- )0حسام الآلوسي ،مدخل إلى الفلسفة ،المؤسّ سة العربي ّة للد ّراسات و النشر بيروت ،لبنان ،ط،0
،0115ص.11
(-Yves Hichqno , Quest-G que la culture ?,Edition Odiles S4 colo Paris,2001,p09 )0
(-)4محمد الد ّيداري ،الت ّرجمة و الت ّعريب ،المركز الث ّقافي العربي ،الد ّار البيضاء،ط،0110 ،0ص.10
(-)3محمد الد ّيداري .المرجع الساّبق ،ص.10
(- )5محمد الد ّيداوي ،المرجع السّابق،ص.13
( -)1القرآن الـكريم ،رواية ورش سورة الحجرات الآية . 04
( ، )1(-)1( -)7محمد الديداوي " ،مفاهيم الترجمة " ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب ،الطبعة
الاولي،0117 ،ص .30-30
(- )01ارنست رينان،ابن رشد و الر ّشدي ّة ،ميزونوف لارونز،ص.50
(-)00محم ّد موهوب،ترجمان الفلسفة،المطبعة الوطنية مراكش ،ط.0100 ،0
تاريخ االرسال2017-05-17:
تاريخ القبول2018-05-16 :
تاريخ النشر0210-20-20 :