You are on page 1of 77

‫جامعة بوليتكنك فلسطين‬

‫كلية المهن التطبيقية‬

‫دراسات يف الفكر العربي واإلسالمي‬

‫إعداد‬

‫أ‪ .‬غفران شحادة‬ ‫أ‪ .‬إميان جرادات‬

‫‪2020/2021‬‬
‫الوحدة األوىل‬

‫" ماهية الثقافة اإلسالمية وخصائصها"‬

‫املبحث األول‪ :‬تعريف الثقافة وبيان األلفاظ ذات الصلة‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬ماهية الثقافة اإلسالمية وخصائصها‪.‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬عالقة الثقافة اإلسالمية ودورها يف التقدم‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المبحث األول‪ :‬تعريف الثقافة وبيان األلفاظ ذات ِ‬
‫الصلة‪.‬‬

‫الثقافة لغةً‪.‬‬

‫الثقافة مصدر " ثَُقف"‪ ،‬ومن معانيها اللغوية‪ :‬الذكاء و ِ‬


‫الفطنة‪ ،‬و ِ‬
‫الح ْذق‪ ،‬وسرعة الفهم‪ُ ،‬يقال‪:‬‬ ‫َ‬
‫ثَُقف الرجل ثقاف ًة‪ :‬أي صار ِ‬
‫فطناً سريع الفهم‪ .‬ومن معانيها أيضاً‪ :‬التهذيب وتقويم المعوج‪ُ ،‬يقال‪:‬‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ثََّقف األب‬
‫وقوم اعوجاجه‪.‬‬
‫سواه َّ‬ ‫الصبي ثقاف ًة‪ :‬أي َّأدبه وهذبه‪ ،‬وثَّق ّ‬
‫ف الرجل الرمح‪ :‬أي ّ‬ ‫ّ‬

‫أن كلمة الثقافة تستعمل في الجانبين المعنوي والمادي‪ّ ،‬‬


‫ولكن استعمالها‬ ‫ويتضح من ذلك ّ‬

‫في األمور المعنوية أكثر وأوسع‪.‬‬

‫الثقافة اصطالحاً‪.‬‬

‫لما َكثُر تداولها‬


‫لم تكن كلمة الثقافة سابقاً شائعة االستعمال في صفوف اللغويين‪ ،‬ولكن ّ‬
‫الكتّاب لوضع تعر ٍ‬
‫يف لها‪ ،‬وقامت جهات عديدة‬ ‫في المؤتمرات والندوات وعلى ألسنة الناس‪ ،‬تسابق ُ‬

‫صية كل أمة‪ .‬ومن أبرز تلك‬


‫بتعريفها‪ ،‬مع األخذ بعين االعتبار المعاني السابقة لها‪ ،‬ومراعاة خا ّ‬

‫أمة ما‪ ،‬وتنسب إليها‪،‬‬


‫التعريفات‪ ،‬أنها‪ :‬مجموعة من العقائد والمشاعر والسلوكيات التي تميز ّ‬

‫وتتلقاها أفرادها في الحياة‪.‬‬

‫األلفاظ ذات ِ‬
‫الصلة بالثقافة‪.‬‬

‫هناك بعض المصطلحات واأللفاظ التي يكثر استخدامها‪ ،‬وهي ذات ِ‬


‫صلة وثيقة بالثقافة‬

‫ومكوناتها‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫‪2‬‬
‫الدين‪.‬‬
‫‪ّ .1‬‬

‫ومن معانيه اللغوية‪ :‬االنقياد والطاعة‪ ،‬أما معناه االصطالحي فهو‪ :‬وضع إلهي يرشد إلى‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحق في االعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعامالت‪.‬‬

‫وتظهر العالقة بين الدين والثقافة‪ ،‬في أن الدين غالباً ما يعتبر من أبرز المعالم التي تقوم‬

‫ويكون شخصيته ويضبط سلوك أف ارده‬


‫عليها ثقافة أمة ما‪ ،‬فهو الذي يحدد اتجاه ذلك المجتمع ّ‬

‫ونظام حياتهم‪.‬‬

‫‪ .2‬الحضارة والمدنية‪.‬‬

‫ِ‬
‫الحاضرة؛ أي في المدن‬ ‫وهي في اللغة العربية ِخالف البداوة‪ ،‬وهي مأخوذة من اإلقامة في‬

‫الفني‬
‫قي العلمي و ّ‬‫والقرى واألماكن التي يكون بها االستقرار وعدم الترحال‪ .‬أما اصطالحاً فهي الر‬
‫ّ‬
‫واألدبي واالجتماعي والذي ينتقل من ٍ‬
‫جيل إلى جيل في مجتمع ما‪.‬‬

‫أعم وأشمل من الثقافة‪ ،‬ولها طابع‬


‫وتظهر الصلة بين الحضارة والثقافة في أن الحضارة ّ‬

‫اجتماعي معنوي‪ ،‬وطابع مدني مادي‪ ،‬بمعنى أنها تشتمل على الجوانب المادية والمعنوية من حياة‬

‫اإلنسان‪ ،‬بينما الثقافة تقتصر على الجوانب الفكرية والعقلية والروحية‪.‬‬

‫الحضارة لها شّقان شق معنوي فكري هو الثقافة‪ ،‬وشق مادي عمراني هو المدنية‪ ،‬والمدنية هي‬

‫الرقي في الجانب المادي وهي طرز العيش أسباب الرفاهية في وسائل الحياة‪ ،‬و تُرى آثارها في‬

‫اإلنجازات المادية من العمران واألدوات والتقنيات‪.‬‬

‫فالعالقة بين الثقافة والمدنية تتمثل في كونهما بمجموعهما يشكالن الحضارة‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الحضارة‬

‫المدنية‬ ‫الثقافة‬

‫‪ .3‬العلم (العلوم الطبيعية)‪.‬‬

‫فيقال َعلِم بالشيء أي عرفه وأدرك حقيقته‪ .‬وأما في‬


‫وهو في اللغة نقيض الجهل‪ُ ،‬‬

‫االصطالح فهو إدراك الشيء على حقيقته‪ ،‬واألصول الكلية التي تبحث في موضوع واحد‪.‬‬

‫وهنا نحن بصدد بيان العالقة بين الثقافة والعلم من حيث كونه يطلق اليوم على العلوم‬

‫الطبيعية‪ ،‬وفي المقابل هناك العلوم اإلنسانية وهي الثقافة‪.‬‬

‫أما عن العالقة بين العلوم الطبيعية (العلم) والعلوم اإلنسانية (الثقافة) فهي من جانبين‪:‬‬

‫أعم وأشمل من العلم‪ ،‬فهي ليست مرتبطة بجهة واحدة كالعلوم التخصصية‪ ،‬بل‬
‫‪ -‬الثقافة ّ‬

‫وعاطفية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وسلوكية‬
‫ّ‬ ‫تشتمل على أمور فكرّية‬

‫‪ -‬الثقافة غالباً ما تكون خاصة بأمة معينة‪ ،‬أما العلم فهو موروث إنساني عام ومشترك‬

‫بين جميع األمم والشعوب‪ ،‬وال يتأثر بالعواطف‪ ،‬وبخاصة إذا كان علم مادي قائم على‬

‫التجربة فليس هناك فيزياء خاصة بأمة دون غيرها‪.‬‬

‫‪ِ .4‬‬
‫الفكر‪.‬‬

‫فكر تفكي اًر‪ ،‬ومعناه‪ :‬التأمل في الشيء وإعمال الخاطر‬


‫فيقال‪ّ :‬‬
‫وهو اسم مصدر من التفكير‪ُ ،‬‬
‫أو العقل فيه‪ ،‬أما بالنسبة لعالقة ِ‬
‫الفكر بالثقافة فهي تتمثل في أن الفكر أداة للثقافة ووسيلتها‪،‬‬

‫وبالتالي تكون الثقافة ثمرة الفكر والتأمل والتمعن‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ماهية الثقافة اإلسالمية وخصائصها‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ّ :‬‬

‫تعريف الثقافة اإلسالمية وبيان أهدافها‪.‬‬

‫تقدم ذكره‪ ،‬يمكننا القول بأن الثقافة اإلسالمية هي‪ :‬مجموعة العقائد والتشريعات‬
‫بناء على ما ّ‬
‫ً‬

‫والسلوكيات‪ ،‬المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية‪ ،‬والتي تميز األمة اإلسالمية عن غيرها‪.‬‬

‫بناء عليها طريقة تفكيره ومنهج حياته‪.‬‬


‫يستند إليها اإلنسان ويحدد ً‬

‫فمن شأن الثقافة أن تؤثر على عقلية اإلنسان‪ ،‬وتوسع من مداركه وآفاقه‪ ،‬وتغير طريقة‬

‫تفكيره‪ ،‬وبالتالي يستقيم ِفكره وسلوكه‪.‬‬

‫عقيدة‬

‫سلوك‬ ‫شعور‬

‫إن ما يبدو لنا ويؤثر علينا كبشر في تعاملنا مع أنفسنا ومع اآلخرين ّإنما هو السلوك‬
‫ّ‬

‫والذي هو في المحصلة نتيجة العقيدة التي ولدت مشاعر‪ ،‬ومن ثم أثمرت المشاعر السلوكيات‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫كثير على االستقرار النفسي وعلى السعادة بل على معتقدات جديدة‬
‫هذه السلوكيات تؤثر ًا‬

‫نتبناها‪ ،‬ستكون فيما بعد بذرة لسلوكيات جديدة‪ ،‬ومن هنا تظهر أهمية مالحظة السلوك وتقويمه‬

‫منسجما مع شرع هللا عز وجل‪.‬‬


‫ً‬ ‫والمحافظة عليه ليكون‬

‫وبناء على تعريف الثقافة نجد أن نقطة البداية ّإنما هي العقيدة؛ فالسلوك الصحيح ّإنما هو‬

‫صحيحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫سلوكا‬
‫ً‬ ‫ثم‬
‫صحيحا ومن ّ‬
‫ً‬ ‫شعور‬
‫ًا‬ ‫ثمرة عقيدة صحيحة وّلدت‬

‫أن هللا عز وجل هو الخالق المنعم والتفكر في نعمه وآالئه ولطفه وتدبيره و ّأنه وحده‬
‫فعقيدة ّ‬

‫الحب والتوجه واالحتياج له وحده ال شريك‪ُ ،‬يترجم هذا الشعور‬


‫ّ‬ ‫المستحق للعبادة توّلد مشاعر‬

‫بسلوكيات مثل الصالة والصيام والقيام بسائر الفرائض والنوافل‪ ،‬وأي خلل في هذه السلوكيات وهذا‬

‫التوجه هلل عز وجل سببه خلل في المعرفة الصحيحة هلل عزوجل‪.‬‬

‫شعور غير سليم‪ ،‬فكانت‬


‫ًا‬ ‫وكذلك السلوك الخاطئ إ ّنما هو ثمرة عقيدة خاطئة‪ ،‬وّلدت‬

‫سلوكا غير سوي‪.‬‬


‫ً‬ ‫النتيجة‬

‫وصغار ال بد‬
‫ًا‬ ‫فمن أراد تقويم السلوك الخاطئ سواء على مستوى النفس أو األفراد ًا‬
‫كبار‬

‫من أن يخاطب فكر وعقيدة صاحب السلوك الخاطئ بشتى الوسائل‪ ،‬ومن أسوأ أساليب المعالجة‬

‫أصال عن هذا السلوك‪ ،‬فبتغيير‬


‫في هذا الموقف قمع السلوك‪ ،‬بل ال بد من تقويم الفكرة المسؤولة ً‬

‫الفكرة يتغير السلوك‪.‬‬

‫فمجموع العقائد المستمدة من الدين اإلسالمي وما تولده هذه العقائد من مشاعر وسلوكيات‬

‫هو الثقافة اإلسالمية التي يحملها المسلم في هذه األرض؛ فعندما يستند اإلنسان في ثقافته ومعارفه‬

‫على الوحي الرباني يكون نموذجاً يحتذى به في تفكيره وسلوكه وطريقة تعامله مع اآلخرين‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ويمكن تلخيص أهداف الثقافة اإلسالمية في النقاط التالية‪:1‬‬

‫‪ .1‬تقديم تصور صحيح كامل عن الحياة واإلنسان والكون‪ ،‬من خالل تحديد عالقة‬

‫اإلنسان بربه‪ ،‬وعالقته بنفسه‪ ،‬وباآلخرين‪ ،‬وبالكون من حوله‪ ،‬بعيداً عن التصور‬

‫المادي المعاصر‪.‬‬

‫‪ .2‬تكوين الشخصية المسلمة المتميزة‪ ،‬وذلك من خالل إمداد المسلم وتعريفه بكل ما يتعلق‬

‫بالثقافة اإلسالمية‪ ،‬عقيدة وشريعة وأخالق ومنهج حياة‪.‬‬

‫‪ .3‬تشكيل حصانة فكرية للمسلم‪ ،‬وإثراء القيم اإليجابية في حياته‪.‬‬

‫‪ .4‬تحقيق وحدة وتماسك األمة اإلسالمية‪ ،‬وذلك من خالل القواسم الثقافية المشتركة‪،‬‬

‫وحمايتها من الذوبان في غيرها من الثقافات‪.‬‬

‫‪ 1‬أنظر‪ :‬الثقافة اإلسالمية والتحديات الفكرية المعاصرة وحقوق اإلنسان للدكتور حسن عبد الغني أبو غدة‪ /‬والثقافة اإلسالمية للدكتور‬
‫مصطفى مسلم والدكتور فتحي محمد الزغبي‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫خصائص الثقافة اإلسالمية‬

‫تمتاز الثقافة اإلسالمية بعدة صفات تنفرد بها ولم يشاركها بها سواها‪ ،‬والتي تميزها عن‬

‫غيرها من الثقافات السائدة على األرض‪ ،‬ومن أبرزها‪:‬‬

‫الخاصية األولى‪ :‬الربانية‬

‫جل جالله الذي أنزل اإلسالم على سيدنا‬


‫ومعناها أن مصدر هذه الثقافة اإلسالمية هو هللا ّ‬

‫محمد‪ ‬عن طريق الوحي‪ ،‬ال فرق في هذا بين القرآن الكريم كما في قوله تعالى ‪ِ‬إَّنا َن ْح ُن َن َّ ْزل َنا‬

‫ظون‪ ،2‬أو السنة النبوية الشريفة كما في قوله تعالى ‪‬وما ي ِ‬ ‫ِ‬
‫نط ُق َع ِن اْل َه َو ٰى (‪)3‬‬ ‫ََ َ‬ ‫ال ّذ ْك َر َوإَِّنا َل ُه َل َح ِاف ُ َ‬

‫وحى‪ .3‬ويعد اإلعجاز القرآني بجوانبه المتعددة دليل على ربانية الثقافة اإلسالمية‪.‬‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫إ ْن ُه َو إال َو ْح ٌي ُي َ‬

‫ينما تعد الثقافات األخرى إنتاجاً بشرياً وضعها البعض وطوروها آخرون وتناقلها اتباعهم‬

‫عنهم‪ ،‬وأما األديان األخرى كالنصرانة واليهودية فلم تعد ربانية بعد أن ّ‬
‫حرفها أتباعها وأضافوا عليها‬

‫ثقافاتهم البشرية‪ .‬فقد جاء في أسفار التوراة من األباطيل ما ال يمكن معه أن تكون كتاباً سماوياً‬

‫عما يقولون علواً كبي اًر‪ -‬نزل إلى األرض ليالً فلقيه‬
‫منزالً من هللا تعالى‪ ،‬فمن ذلك‪ :‬أن هللا تعالى ‪ّ -‬‬

‫يعقوب عليه السالم زلم يعرفه‪ ،‬فتصارع معه فصرعه يعقوب‪ ،‬وحاول هللا –كما ّيدعون‪ -‬أن يخّلص‬

‫نفسه طوال الليل فلم يستطع‪ ،‬حتى اضطر إلى الموافقة على شروط يعقوب ليتركه‪ ،‬فأطلق سراحه‬

‫عن الفجر‪.4‬‬

‫أما فيما يتعلق بالنصرانية‪ ،‬فيمكن االكتفاء بما جاء في توصيات المجمع المسكوني‬
‫وّ‬

‫الكنسي الثاني للفاتيكان الذي انعقد في روما ما بين عامي ‪ ،1965-1962‬وذلك للبحث في‬

‫‪ 2‬سورة الحجر‬
‫‪ 3‬سورة النجم‬
‫‪ 4‬انظر‪ :‬العهد القديم‪ ،‬سفر التكوين‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫المقدس مع االكتشافات العلمية الحديثة‪ ،‬وحضره ‪ 2350‬شخصاً‪ ،‬كلهم من‬
‫مشكلة تعارض الكتاب ّ‬

‫المقدس فيه شوائب وشيء من‬


‫إن الكتاب ّ‬
‫ومما ورد في مقررات المؤتمر‪ّ :‬‬
‫رجال الدين النصارى‪ّ ،‬‬

‫البطالن‪.‬‬

‫وهذا إنما يدل على وجود تحريف بشري ط أر ودخل على الكتب المقدسة "التوراة واإلنجيل"‪،‬‬

‫فلم يعد كتاباً ربانياً‪ ،‬ألنه يستحيل في المنطق أن يتعارض فعل الخالق مع كالمه‪.‬‬

‫والدليل الواقعي على أن القرآن لم يحدث فيه أي تغيير أو تبديل؛ فهو أن المصاحف من‬

‫يادة أو نقصاناً‪.‬‬
‫عهد عثمان ‪ ‬إلى عهدنا ال نجد بينها اختالفاً ولو في كلمة واحدة ز ً‬

‫أما فوائد ربانية الثقافة اإلسالمية فتتمثل فيما يلي‪:‬‬


‫وّ‬

‫فصحة المنهج الرباني‬


‫ّ‬ ‫‪ .1‬التنزه عن الخطأ‪ :‬فالمنهج الرباني ال يدانيه أي منهج بشري‪،‬‬

‫وصوابه في مصلحة اإلنسان قبل أي شيء آخر‪ ،‬فهو من هللا خالق اإلنسان‪ ،‬العليم‬

‫فإن اإلنسان هو من يدفع الثمن‬


‫أما في المناهج البشرية ّ‬
‫ويصلحه‪ّ ،‬‬
‫به وبما يناسبه ّ‬

‫المشرعون في مجال التشريعات للناس‪ ،‬كما حدث للنظام الشيوعي الذي‬


‫ّ‬ ‫حينما يخطئ‬

‫انهار وألغي على يد أتباعه بعد سبعين عاماً من المعاناة‪.‬‬

‫ومن األمثلة على صواب المنهج الرباني ومراعاته لمصلحة اإلنسان‪ ،‬ما جاء فيما يتعلق‬

‫بمعالجة جريمة السرقة‪ ،‬فقد وضع هللا جل جالله أساليب وقائية تتمثل في تأمين الكفاية لكل رعايا‬

‫الدولة اإلسالمية‪ ،‬كذلك التربية اإليمانية التي تقي اإلنسان من الجريمة‪ ،‬واإلعالن عقوبة السرقة‪،‬‬

‫أما من لم تمنعه‬
‫طّبق فيها‪ّ .‬‬
‫وقد أثبت هذا النظام الوقائي نجاحه الكبير عبر أكثر من ألف سنة ُ‬

‫األساليب الوقائية السباقة‪ ،‬فقد وضع هللا جل جالله لهم عقوبة دنيوية معاقب ًة لهم‪ ،‬ورادع ًة لغيرهم‪،‬‬

‫وهي قطع اليد‪ ،‬عند ثبوت الجريمة‪ ،‬ووقوعها بأركانها وشروطها دون ُشبهة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫أما المنهاج‬
‫‪ .2‬العدل‪ :‬الثقافة اإلسالمية عادلة ألنها مستمدة من منهج رباني عادل‪ّ ،‬‬

‫البشرية فيكثر فيها الظلم؛ فاإلنسان حينما يضع القانون فإنه يراعي مصالحه‪ ،‬وكل‬

‫إنسان له انتماءاته العقائدية و ِ‬


‫العرقية والطائفية والقبلية‪...‬إلخ‪ ،‬وقدي ّبين سبحانه‬

‫كل حكم بغير ما انزل هللا جل جالله إنما هو حكم ظالم‪ ،‬فقال تعالى ‪َ ‬و َمن‬
‫أن ّ‬
‫وتعالى ّ‬
‫َّللا َفأُوَٰلِئك هم َّ‬
‫الظالِ ُمو َن‪.5‬‬ ‫َّل ْم َي ْح ُكم ِب َما أ َ‬
‫َ ُُ‬ ‫َنزَل َّ ُ‬

‫ومن األمثلة على الظلم في التشريعات؛ حق النقض "الفيتو" في مجلس األمن الدولي‪،‬‬

‫فالكلمة األخيرة دائماً للقوة ال للعدالة‪ ،‬وكذلك بعض األمثلة على القوانين الداخلية األوروبية‪ :‬ما‬

‫جاء في القانون البريطاني من توريث االبن األكبر كل ما يملك الميت من عقارات‪ ،‬ففي هذا ظلم‬

‫لباقي األخوة‪ ،‬وأيضاً العنصرية التي يعاني منها السود في العالم‪ ،‬وخاصة في أوروبا وأمريكا‪.‬‬

‫‪ .3‬كمال الرقابة وعدم اإلفالت من العقوبة‪ :‬حين يصدر األمر من هللا عز وجل يكون‬

‫أن الرقابة كاملة‪ ،‬و ّأنه ال يمكن‬


‫أن ذلك ّإنما هو لمصلحته‪ ،‬و ّ‬
‫مقنعاً للمؤمن‪ ،‬ويعلم ّ‬

‫اإلفالت من العقوبة‪ ،‬فيلتزم بأمر هللا‪ ،‬بخالف القوانين البشرية‪ ،‬وهكذا تنجح التشريعات‬

‫إن رقابة البشر قاصرة‪ ،‬والرقابة‬


‫اإلسالمية في التطبيق وتفشل القوانين الوضعية‪ ،‬حيث ّ‬

‫الربانية رقابة كاملة‪.‬‬

‫ويسر عند تحريم الخمر‪ ،‬بالرغم من تعّلق العرب الشديد بها‪،‬‬


‫فقد نجح التحريم بكل سهولة ُ‬

‫آمُنوا ِإَّن َما اْل َخ ْم ُر َواْل َم ْي ِس ُر‬ ‫ولم يحتج األمر ّإال لبضع آيات كان آخرها قوله جل جالله ‪‬يا أَي َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫ُّها الذ َ‬
‫َ َ‬

‫اجتَِنُبوهُ َل َعَّل ُك ْم تُْفلِ ُحو َن ‪ ، ‬فكان التطبيق لألمر فورياً‬ ‫طِ‬ ‫َزالم ِر ْج ٌس ِم ْن َعم ِل َّ‬
‫‪6‬‬
‫ان َف ْ‬ ‫الش ْي َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫اب َو ْاأل ْ َ ُ‬
‫َنص ُ‬
‫َو ْاأل َ‬

‫في اليوم نفسه‪ ،‬وتطبيقاً شامالً لم يتخّلف عنه أحد‪ ،‬وبوازع إيماني داخلي‪.‬‬

‫‪ 5‬سورة المائدة‪.‬‬
‫‪ 6‬سورة المائدة‬

‫‪10‬‬
‫الخاصية الثانية‪ :‬الشمول‬

‫بكل جوانب حياته‪ ،‬ومن‬


‫ألن اإلسالم منهج شامل لإلنسان ّ‬
‫الثقافة اإلسالمية ثقافة شاملة‪ّ ،‬‬

‫أكبر االنحرافات أن تطبق الشريعة اإلسالمية في بعض جوانب الحياة‪ ،‬وتستبدل في الجوانب‬

‫األخرى بتشريعات بشرية‪ ،‬ومن جوانب هذا الشمول في الثقافة اإلسالمية‪:‬‬

‫‪ .1‬أنها شاملة لكل الناس على اختالف أجناسهم ولغاتهم وألوانهم وأديانهم إلى قيام الساعة‪،‬‬

‫أما اليهودية والنصرانية‬ ‫‪7‬‬ ‫ِ‬ ‫قال تعالى ‪ُ‬ق ْل َيا أَيُّها النَّاس ِإِّني رسول َّ ِ ِ‬
‫يعا‪ . ‬و ّ‬
‫َّللا إَل ْي ُك ْم َجم ً‬ ‫َُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫فهما خاصتنا ببني إسرائيل‪.‬‬

‫‪ .2‬أنها شاملة للدنيا واآلخرة‪ ،‬وذلك ألن تشريعات هذا الدين في مختلف الجوانب تحقق‬

‫السعادة للمؤمن في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فالمؤمن يشعر بالسعادة لمجرد تطبيق أوامر هللا‬

‫تعالى‪ ،‬وتزيد تلك السعادة عند إدراك الخير الذي يثمره التطبيق في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫مكون من عقل وقلب وجسد‪،‬‬


‫‪ .3‬أنها شاملة لإلنسان بكل جوانبه‪ ،‬فاإلنسان في اإلسالم ّ‬

‫أتم رعاية‪ ،‬فجاء بعقيدة ال تتعارض مع العقل‬


‫وقد راعى الدين اإلسالمي هذه الجوانب ّ‬

‫بكل ما ينفع الجسم من‬


‫بل تملؤه قناعة ويقيناً‪ ،‬وفيما يتعلق بالجسد فقد أمر اإلنسان ّ‬

‫ات َوُي َح ِّرُم َعَل ْي ِه ُم اْل َخ َب ِائ َث‪،8‬‬


‫الطِيب ِ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫وحرم عليه كل ما يضره ‪َ ‬وُيح ُّل َل ُه ُم ّ َ‬
‫غذاء ودواء‪ّ ،‬‬

‫أن هناك أعماالً للقلب ال ّبد أن يتحلى بها مثل‬


‫فبين اإلسالم ّ‬
‫وفيما يتعلق بالقلب ّ‬

‫اإليمان والتقوى واإلخالص والتوكل والرضا والصبر وغير ذلك‪ ،‬وح ّذر من أمراض قد‬

‫تصيب القلب؛ مثل الكفر والنفاق والرياء و ِ‬


‫الك َبر والحسد وغيرها‪ .‬كذلك فإن العبادات‬

‫‪ 7‬سورة األعراف‬
‫‪ 8‬سورة األعراف‬

‫‪11‬‬
‫التي شرعها اإلسالم كالصالة والصوم وسائر عبادات المسلم لها آثار معنوية كبيرة‬

‫في تصفية الروح والقلب وتغذيتهما‪.‬‬

‫‪ .4‬أنها شاملة لكل عالقات اإلنسان‪ ،‬فتشريعات هذا الدين تنظم عالقة المسلم بربه‪ ،‬ومع‬

‫نفسه‪ ،‬ومع أسرته‪ ،‬ومع مجتمعه على كافة المستويات‪ ،‬ومع الكون بما فيه من حيوانات‬

‫ونباتات وغيرها‪.‬‬

‫الخاصية الثالثة‪ :‬التوازن‬

‫التوازن في الثقافة اإلسالمية يعني إعطاء كل شيء حّقه وقدره‪ ،‬وهو ال يقتضي التساوي؛‬

‫ألن التساوي أن تعطي كل مكونات الشيء نفس القدر‪.‬‬

‫كما أن تحقيق التوازن أمر فوق قدرة البشر وطاقتهم‪ ،‬ألنه أمر يحتاج إلى علم دقيق ّ‬
‫بكل‬

‫ما في الكون من إنسان وحيوان ونبات ومواد‪ ،‬وهو شيء ال يقدر عليه إال هللا سبحانه وتعالى‪،‬‬

‫ومن أمثلة التوازن في خلق هللا سبحانه وتعالى نسبة خلق اليابسة إلى نسبة خلق الماء وهي‬

‫‪ ،71:29‬وهي نسبة غير متساوية‪ ،‬لكنها نسبة متوازنة‪ ،‬تحقق أفضل الظروف الستمرار الحياة‬

‫وازدهارها‪.‬‬

‫ومن مظاهر التوازن في الثقافة اإلسالمية‪:‬‬

‫‪ .1‬التوازن بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬فأعطت كالً منها ما تستحقه دون زيادة أو نقصان‪ ،‬قال‬

‫ص َيب َك ِم َن ُّ‬
‫الد ْن َيا ۖ ‪ ،9‬فالغاية‬ ‫الدار ْاآل ِخرة ۖ وَال تَنس ن ِ‬
‫َ َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َّللاُ َّ َ‬
‫اك َّ‬
‫يما آتَ َ‬
‫ِ‬
‫تعالى ‪َ ‬و ْابتَ ِغ ف َ‬

‫يجب أن تكون اآلخرة فقط‪ ،‬أما الدنيا فهي وسيلة لآلخرة‪ ،‬وال يصح أن نجعلها غاية؛‬

‫فالدنيا زائلة بينما اآلخرة باقية ال تنتهي‪ ،‬ونسبة النهائي إلى الالنهائي صفر‪ ،‬فنسبة‬

‫‪ 9‬سورة القصص‬

‫‪12‬‬
‫كل ما تريد حين ال تتعارض الدنيا‬
‫الدنيا إلى اآلخرة إذن صفر؛ لذلك خذ من الدنيا ّ‬

‫كل الحاالت ألن هذا ما‬


‫تقدم اآلخرة في ّ‬
‫أما حين تتعارض فيجب أن ّ‬
‫مع اآلخرة‪ّ ،‬‬

‫تستحّقه‪.‬‬

‫‪ .2‬التوازن بين القلب والجسد والعقل؛ فأعطت الثقافة اإلسالمية ّ‬


‫كل جانب ما يستحّقه‪،‬‬

‫وذلك من خالل عقيدة تُقنع العقل وترتقي به‪ ،‬وعبادات تغذي القلب والروح وتسعدهما‪،‬‬

‫"إن لجسدك عليك‬


‫وتشريعات تعطي للجسم غذاءه وحقوقه‪ ،‬وفي الحديث الشريف‪ّ :‬‬

‫إن لزوجك عليك حًقا"‪.10‬‬


‫إن لعينك عليك حًقا‪ ،‬و ّ‬
‫حًقا‪ ،‬و ّ‬

‫‪ .3‬التوازن في المشاعر بين الخوف من هللا جل جالله والرجاء في رحمته‪ ،‬قال تعالى‬

‫‪11‬‬
‫يم‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يم (‪َ )49‬وأ َّ‬ ‫‪َ ‬نِبئ ِعب ِادي أَِّني أ ََنا اْل َغُفور َّ ِ‬
‫اب ْاألَل ُ‬
‫َن َع َذابي ُه َو اْل َع َذ ُ‬ ‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّْ َ‬

‫‪ .4‬التوازن في النظام االقتصادي بين الملكية الفردية والملكية الجماعية‪ ،‬فال تطغى ملكية‬

‫الدولة كما في النظام الشيوعي‪ ،‬وال تطغى الملكية الفردية على ملكية الدولة كما هو‬

‫وتركز‬
‫الحال في النظام االقتصادي الغربي الرأسمالي‪ ،‬بما يصاحب ذلك من احتكار ّ‬

‫للثروات في أيدي األغنياء‬

‫‪ .5‬التوازن بين إطالق الدوافع وبين كبتها؛ فاإلنسان في الثقافة اإلسالمية ال يعيش‬

‫ظم اإلسالم هذه الشهوات والرغبات والدوافع‬


‫أيضا ال يتجاهلها؛ فقد ن ّ‬
‫لشهواته‪ ،‬ولكنه ً‬

‫بحيث تسعد اإلنسان‪ ،‬وتساعد في بناء المجتمع القوي السليم وال تساهم في هدمه‬

‫وتدميره‪.‬‬

‫‪ 10‬رواه البخاري في صحيحه‪ ،‬كتاب الصوم‪ ،‬باب حق الجسم في الصوم‪ ،‬رقم ‪.1975‬‬
‫‪ 11‬سورة الحجر‬

‫‪13‬‬
‫الخاصية الرابعة‪ :‬اإلنسانية‬

‫العامة الخالدة‬
‫الثقافة اإلسالمية ثقافة إنسانية وذلك ألنها منتسبة إلى رسالة اإلسالم العالمية ّ‬

‫لكل الناس على اختالف أجناسهم ولغاتهم وألوانهم وأديانهم وأوطانهم إلى قيام الساعة‪ ،‬قال جل‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫الناس ِإِّني رسول َّ ِ ِ‬
‫يعا‪ ،12‬فاإلسالم هو الدين الذي ختم به هللا جل‬
‫َّللا إَل ْي ُك ْم َجم ً‬ ‫َُ ُ‬ ‫ُّها َّ ُ‬
‫جالله ‪ُ‬ق ْل َيا أَي َ‬
‫َّللاِ ِْ‬
‫اإل ْس َال ُم ‪ ،13‬وقال جل‬ ‫ين ِع ْن َد َّ‬ ‫ِ‬
‫جالله األديان السماوية ونسخها به‪ ،‬قال جل جالله ‪ِ‬إ َّن ّ‬
‫الد َ‬
‫اإلس َال ِم ِدينا َفَلن يْقبل ِم ْنه وهو ِفي ْاآل ِخ ِرة ِمن اْلخ ِ‬
‫اس ِري َن‪.14‬‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ً ْ ُ َ َ ُ َ َُ‬ ‫جالله ‪َ ‬و َم ْن َي ْبتَ ِغ َغ ْي َر ْ ْ‬

‫ومن مظاهر إنسانية الثقافة اإلسالمية‪:‬‬

‫كرمه بأن نفخ فيه من روحه‪ ،‬وأسجد‬


‫خاصا‪ ،‬فقد ّ‬
‫يما ً‬
‫كرم اإلنسان تكر ً‬
‫أن هللا جل جالله ّ‬
‫‪ّ .1‬‬

‫وميزه بهما عن سائر المخلوقات‪ ،‬فكان ّأول ما أُنزل‬


‫وكرمه بالعقل والعلم ّ‬
‫له المالئكة‪ّ ،‬‬
‫اإل ْنس ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اس ِم َرّبِ َك الذي َخَل َق (‪َ )1‬خَل َق ِْ َ َ‬
‫ان م ْن َعَل ٍق (‪ )2‬ا ْق َْأر َوَرب َ‬
‫ُّك ْاألَ ْك َرُم (‪)3‬‬ ‫ِ‬
‫‪ ‬ا ْق َْأر ب ْ‬

‫ان َما َل ْم َي ْعَل ْم ‪ ،15‬فاإلسالم وحده من بين سائر األديان‬ ‫َّالِذي َعَّلم ِباْلَقَل ِم (‪َ )4‬عَّلم ِْ‬
‫اإل ْن َس َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫يميز اإلنسان عن‬


‫دين العلم والعقل المرتبطين بالخالق جل جالله‪ ،‬وهما أعظم ما ّ‬

‫غيره‪.‬‬

‫طاهر من الذنوب‪ ،‬وأنزل‬


‫ًا‬ ‫كرم هللا جل جالله اإلنسان باإلرادة المسؤولة؛ فخلقه‬
‫كذلك فقد ّ‬

‫وحمله مسؤولية عمله وحده‪ ،‬ولم‬


‫ومكنه من عمل ما يريد‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫منهجا يبين له الطريق المستقيم‪،‬‬
‫ً‬ ‫عليه‬

‫يحمله وزر غيره‪ ،‬قال جل جالله ‪َ ‬وَال تَ ِزُر َو ِازَرةٌ ِوْزَر أ ْ‬


‫ُخ َر ٰى ‪.16‬‬ ‫ّ‬

‫‪ 12‬سورة األعراف‬
‫‪ 13‬سورة آل عمران‬
‫‪ 14‬سورة آل عمران‬
‫‪ 15‬سورة العلق‬
‫‪ 16‬سورة األنعام‬

‫‪14‬‬
‫ثانيا‪ ،‬قال جل‬
‫بالحق والعمل الصالح ً‬
‫ّ‬ ‫وكرمه من حيث هو إنسان ّأوًال‪ ،‬ومن حيث التزامه‬
‫ّ‬

‫وبا َوَق َب ِائ َل لِتَ َع َارُفوا ۚ ِإ َّن أَ ْك َرَم ُك ْم ِع ْن َد‬ ‫اك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأ ُْنثَ ٰى َو َج َعْل َن ُ‬
‫اك ْم ُش ُع ً‬ ‫اس ِإَّنا َخَلْق َن ُ‬ ‫ُّها َّ‬
‫الن ُ‬ ‫جالله ‪َ ‬يا أَي َ‬

‫أن اختالف الناس‬ ‫‪17‬‬


‫يم َخِب ٌير‪‬‬ ‫اكم ۚ ِإ َّن َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫وقرر ّ‬
‫أكد اإلسالم على وحدة األصل‪ّ ،‬‬
‫؛ فقد ّ‬ ‫َّللاَ َعل ٌ‬ ‫َّللا أ َْتَق ُ ْ‬

‫شعوبا وقبائل ّإنما هو للتعارف والتعاون‪ ،‬وليس للتفاضل‪ ،‬فالتفاضل يكون بالتقوى واإليمان والعمل‬
‫ً‬

‫إن أباكم واحد‪،‬‬


‫إن رّبكم واحد‪ ،‬و ّ‬
‫الصالح‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يا ّأيها الناس أال ّ‬

‫أال ال فضل لعربي على عجمي‪ ،‬وال لعجمي على عربي‪ ،‬وال ألحمر على أسود‪ ،‬وال ألسود على‬

‫سجل القرآن الكريم عقيدة اليهود والنصارى في كونهم أبناء هللا وبأنهم‬
‫أحمر ّإال بالتقوى" ‪ ،‬وقد ّ‬
‫‪18‬‬

‫ِ‬
‫ود‬ ‫يتفوقون على غيرهم من البشر‪ ،‬وناقشهم فيها ّ‬
‫ورد عليهم‪ ،‬قال جل جالله ‪َ ‬وَقاَلت اْل َي ُه ُ‬ ‫بذلك ّ‬

‫ُي َعِّذُب ُك ْم ِب ُذُنوبِ ُك ْم ۖ َب ْل أَ ْنتُ ْم َب َشٌر ِم َّم ْن َخَل َق‪‬‬ ‫َّاؤهُ ۚ ُق ْل َفلِ َم‬ ‫النصار ٰى َنحن أَب َناء َّ ِ ِ‬
‫َّ‬
‫َّللا َوأَحب ُ‬ ‫َو َ َ ْ ُ ْ ُ‬

‫‪ .2‬المساواة بين الناس أمام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬فال أحد فوق قانون الشريعة مهما بلغت‬

‫منزلته‪ ،‬فقد كان الخلفاء يقفون أمام القضاء على قدم المساواة مع غيرهم‪ ،‬واألمثلة على‬

‫أن عمر ‪ ‬حكم لرجل غير مسلم على ابن عمرو بن العاص‬
‫المساواة كثيرة‪ :‬منها ّ‬

‫أمهاتهم‬
‫أمير مصر‪ ،‬وقال الكلمة المشهورة‪ :‬يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم ّ‬

‫أحرًارا؟‪.‬‬

‫‪ .3‬كفالة حقوق اإلنسان جميعها بأنواعها المختلفة؛ فهناك حقوق شخصية وبدنية ومعيشية‪،‬‬

‫وكذلك أسرية واجتماعية وثقافية ومالية واقتصادية وسياسية ودولية‪.‬‬

‫‪ 17‬سورة الحجرات‬
‫‪ 18‬رواه أحمد في مسنده رق ‪.23489‬‬

‫‪15‬‬
‫شرع له من الحقوق والتشريعات ما يسعده‪ ،‬وح ّرم ّ‬
‫كل ما ُيلحق الضرر باإلنسان‪،‬‬ ‫فقد ّ‬

‫ومن هذه الحقوق‪ :‬حق الحياة وسالمة البدن والعقل والعرض‪ ،‬وحق اإلنسان في الحرية‪،‬‬

‫وحقه في االعتقاد والعبادة والفكر‪ ،‬والحق في التملك والعمل‪ ،‬والزواج وتكوين األسرة‪.‬‬

‫وهذه الحقوق وغيرها ليست متطابقة مع الميثاق العالمي لحقوق اإلنسان الذي أقرته‬

‫األمم المتحدة في حوالي منتصف القرن العشرين‪ ،‬وإنما تختلف معه في بعض الجوانب‪،‬‬

‫وبخاصة في مجال الحريات المتعلقة بالدين واألخالق؛ كحرية الردة‪ ،‬وحرية فعل المحرمات‬

‫من زنا وشذوذ وخمر وغير ذلك‪.‬‬

‫كما أن هذا اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان اشتمل على عدة أمور سلبية‪ ،‬منها‪:‬‬

‫إن الباعث على فكرة حقوق اإلنسان في الفكر األوروبي هو مواجهة السلطة السياسية‬
‫‪ّ .1‬‬

‫الكنسية المستبدة وحدها‪ ،‬ألنها كانت تتحكم في مصير الشعب بحجة التفويض اإللهي‬

‫للحكام‪ ،‬وليس كرامة اإلنسان على العموم‪.‬‬

‫‪ .2‬إن فكرة حقوق اإلنسان التي نشأت في أوروباـ استُ ِ‬


‫خدمت في تحرير اإلنسان األوروبي‬ ‫ّ‬

‫من طغيان السلطة ورجال الكنيسة‪ ،‬ولم تمتد هذه الفكرة آنذاك لتشمل بالحماية الشعوب‬

‫األخرى غير األوروبية‪.‬‬

‫ركز الميثاق العالمي لحقوق اإلنسان على حقوق اإلنسان على المستوى الدولي‬
‫‪ّ .3‬‬

‫اع الطابع اإلقليمي أو المحلي الخاص بالكثير من الدول‬


‫بالمعيار الغربي‪ ،‬ولم ير ِ‬

‫والشعوب التي لها خصائصها الفكرية والثقافة والدينية المختلفة عن المجتمعات‬

‫الغربية‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الخاصية الخامسة‪ :‬الواقعية‬

‫الثقافة اإلسالمية واقعية ومعنى ذلك ّأنها تتعامل مع الواقع لالرتقاء به إلى المستويات‬

‫الممكنة وبالوسائل المناسبة‪ ،‬فهي تتعامل مع الحقائق الموجودة في الكون وفي اإلنسان‪ ،‬بحيث ال‬

‫كل المجاالت‪ ،‬وترتقي باإلنسان إلى‬


‫تقدر حاجات اإلنسان الحقيقية في ّ‬
‫تتعامل مع األوهام‪ ،‬بل ّ‬

‫أفضل ما يمكن ضمن إمكاناته الحقيقية الواقعية‪.‬‬

‫ومن مظاهر واقعية الثقافة اإلسالمية‪:‬‬

‫َّللاُ َنْف ًسا ِإ َّال ُو ْس َع َها ‪،19‬‬


‫ف َّ‬ ‫ِ‬
‫‪ .1‬التكليف ضمن الوسع والطاقة‪ ،‬قال جل جالله ‪َ ‬ال ُي َكلّ ُ‬

‫التدرج في تشريع األحكام‪ ،‬ليساعد المسلمين على‬


‫ولذلك كان من حكمة هللا جل جالله ّ‬

‫االلتزام بها‪.‬‬

‫حق التمّلك الفردي‪ ،‬وشرع له الزواج بل حثّه‬


‫‪ .2‬تلبية حاجة اإلنسان الفطرية‪ ،‬فأباح له ّ‬

‫عليه‪ ،‬وأباح له كل الطيبات من مأكل ومشرب وملبس وزينة من غير إسراف‪ ،‬ولم‬

‫يحرم عليه ّإال ما كان فيه ضرر له ولمجتمعه‪.‬‬


‫ّ‬

‫ألن القليل الذي ال‬


‫فحرم كثير الخمر وقليلها؛ ّ‬
‫المحرمات‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫كل ما يوصل إلى‬
‫‪ .3‬تحريم ّ‬

‫معينة‬
‫وحرم النظر إلى الجنس اآلخر ّإال في حاالت ّ‬
‫يجر إلى الكثير المسكر‪ّ ،‬‬
‫ُيسكر ّ‬

‫تقدر بقدرها‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ .4‬مراعاة حاالت الضرورة‪ ،‬ومن هنا جاءت القاعدة المعروفة (الضرورات تبيح‬

‫المحظورات)‪.‬‬

‫‪ 19‬سورة البقرة‬

‫‪17‬‬
‫الخاصية السادسة‪ :‬اإليجابية‬

‫الثقافة اإلسالمية توجب إعمار األرض‪ ،‬وتوجب اإلصالح في كافة مجاالت الحياة‪ ،‬وتوجب‬

‫بكل الطرق التي ّ‬


‫شرعها هللا تعالى‪ ،‬وهذا‬ ‫كل مكان وزمان‪ّ ،‬‬
‫تغيير األوضاع السيئة إلى األفضل في ّ‬

‫هو التفاعل اإليجابي مع المجتمع‪.‬‬

‫ومن مظاهر إيجابية الثقافة اإلسالمية‪:‬‬

‫أمة مكّلفون بدعوة العالم كّله إلى ّ‬


‫الحق‬ ‫‪ .1‬الدعوية والرسالة؛ فالمسلمون أفرًادا وجماعات و ّ‬
‫اس تَأْمرون ِباْلمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫والخير‪ ،‬قال جل جالله ‪‬كنتم خير أ َّ ٍ‬
‫وف َوتَ ْن َه ْو َن َع ِن‬ ‫ُخ ِر َج ْت ل َّلن ِ ُ ُ َ َ ْ ُ‬
‫ُمة أ ْ‬ ‫ُ ْ ُْ َ ْ َ‬
‫‪20‬‬
‫اّللِ‪‬‬
‫اْل ُم ْن َك ِر َوتُ ْؤ ِمُنو َن ِب َّ‬

‫المنورة واجبة‬
‫الحق والخير؛ ولذلك كانت الهجرة النبوية إلى المدينة ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ .2‬وجوب إقامة دولة‬

‫ونساء‪.‬‬
‫ً‬ ‫جاال‬
‫كل القادرين ر ً‬
‫على ّ‬

‫‪ .3‬وجوب الجهاد في سبيل هللا جل جالله؛ وقد فرض هللا على المسلمين أن ال يقفوا‬

‫ون ُك ْم َوَال‬ ‫ِ‬ ‫يل َّ ِ َّ ِ‬


‫سلبيين في وجه الطغيان والظلم‪ ،‬قال تعالى ‪ ‬وَق ِاتُلوا ِفي سِب ِ‬
‫ين ُيَقاتُل َ‬
‫َّللا الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ين‪.21‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تَ ْعتَُدوا ۚ ِإ َّن َّ‬


‫َّللاَ َال ُيح ُّب اْل ُم ْعتَد َ‬

‫فالتوكل بالمعنى اإلسالمي أمر إيجابي‪،‬‬


‫ّ‬ ‫التوكل بعد العمل باألسباب وعدم التواكل؛‬
‫ّ‬ ‫‪.4‬‬

‫المرجوة‬
‫ّ‬ ‫يتوكل في تحقيق النتيجة‬
‫ثم ّ‬ ‫كل األسباب الممكنة‪ّ ،‬‬
‫وذلك بأن يتّخذ اإلنسان ّ‬

‫على هللا جل جالله‪ ،‬فقد كانت سيرة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كّلها عمل وجهاد‬

‫‪ 20‬سورة آل عمران‬
‫‪ 21‬سورة البقرة‬

‫‪18‬‬
‫قدم للبشرية‬ ‫وتفكير وتخطيط‪ ،‬فلم ِ‬
‫يكتف اإلسالم بالدعوة إلى اإلصالح والتغيير‪ ،‬و ّإنما ّ‬

‫كل مكان وزمان‪.‬‬


‫عمليا يصلح المجتمعات في ّ‬
‫نامجا ً‬
‫منهاجا وبر ً‬
‫ً‬ ‫شريع ًة‪ُّ ،‬‬
‫تعد‬

‫‪19‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬عالقة الثقافة اإلسالمية بغيرها ودورها في التقدم‬

‫‪ -‬التعددية الثقافية‪.‬‬

‫إن التعددية في األلوان واألجناس واللغات‪ ،‬وفي القبائل واألمم والشعوب‪ ،‬بل وفي الشرائع‬
‫ّ‬

‫سنة إلهية من سنن هللا جل جالله في الكون‪.‬‬


‫والحضارات ّ‬

‫ولقد ّبين القرآن الكريم بكل وضوح أن إرادة هللا تعالى ومشيئته اقتضت أال يكون ّ‬
‫الناس‬

‫أن الطبيعة التي خلقهم عليها تحمل في ثناياها أسباب الخالف والتنوع والتعددية‪ ،‬في‬
‫أمة واحدة‪ ،‬و ّ‬
‫ُم ًة و ِ‬
‫اح َد ًة ۖ َوَال َي َازُلو َن‬ ‫ُّك َل َج َع َل َّ‬ ‫ق‬
‫اس أ َّ َ‬
‫الن َ‬ ‫اء َرب َ‬
‫األفهام وطر التفكير والقناعات‪ ،‬قال تعالى ‪َ ‬وَل ْو َش َ‬

‫ين‪ .22‬وقد راعى اإلسالم هذه الفروقات بين األمم‪ ،‬فجعل لكل منها شريعتها الخاصة ومنهجها‬ ‫ِِ‬
‫ُم ْخَتلف َ‬

‫الخاص‪ ،‬رغم وحدة األنبياء وإجماعهم على مبدأ التوحيد والعبودية هلل تعالى‪.‬‬

‫أحكاما للعالقة بين‬


‫ً‬ ‫وشرع اإلسالم‬
‫تعدد الثقافات‪ّ ،‬‬
‫أقرت الثقافة اإلسالمية ّ‬
‫وبالتالي فقد ّ‬

‫المسلمين وغيرهم من أصحاب الثقافات األخرى‪.‬‬

‫‪ -‬التعايش الثقافي‪.‬‬

‫أصبح العالم اليوم في ظل ثورة المعلومات واالتصاالت قرية صغيرة‪ ،‬يستمع أهلها إلى‬

‫أفكار بعضهم‪ ،‬ويطلعون على ثقافات غيرهم شاؤوا أم أبوا‪ ،‬وهكذا أصبح التعايش الثقافي حقيقة‬

‫واقعة‪ ،‬وقد تعاملت الثقافة اإلسالمية مع ذلك من خالل اآلتي‪:‬‬

‫بصحة دين‬
‫ّ‬ ‫ولكنه ال يعني اإلقرار‬
‫‪ .1‬التعايش يعني االعتراف باآلخر‪ ،‬وبحقوقه‪ّ ،‬‬

‫اآلخر وثقافته‪ ،‬فهما أمران مختلفان‪.‬‬

‫‪ 22‬سورة هود‬

‫‪20‬‬
‫هام للدعوة إلى‬
‫طالع على ثقافات اآلخرين لمحاورتهم مطلوب شرعي‪ ،‬وطريق ّ‬
‫‪ .2‬اال ّ‬

‫هللا تعالى‪.‬‬

‫‪ .3‬الحوار بالتي هي أحسن هو األصل في العالقة بين الثقافات‪ ،‬مهما كانت مختلفة‪،‬‬

‫ظ ِة اْل َح َس َن ِة ۖ َو َج ِادْل ُه ْم ِب َّالِتي‬


‫يل َرِّب َك ِباْل ِح ْك َم ِة َواْل َم ْو ِع َ‬
‫قال جل جالله ‪ ‬ادعُ ِإَل ٰى سِب ِ‬
‫َ‬

‫َح َس ُن ۚ‪‬‬ ‫ِ‬


‫ه َي أ ْ‬

‫ِ‬
‫وجعل القرآن الكريم القاعدة في الحوار مع اآلخرين قوله جل جالله ‪َ ‬ال ِإ ْك َرَاه ِفي ّ‬
‫الد ِ‬
‫ين‪‬‬

‫رد ما يتعارض مع ديننا من ثقافات اآلخرين‪ ،‬بل ومن النظريات‬


‫‪ .4‬يجب علينا ّ‬

‫أما الحقائق العلمية والعقلية في الثقافات األخرى فال تعارض بينها وبين‬
‫العلمية‪ ،‬و ّ‬

‫اإلسالم‪.‬‬

‫‪ .5‬أن نجري التعديالت الالزمة على ما يتعارض جز ًئيا مع ثقافتنا‪ ،‬كما في أساليب‬

‫اّللباس والطعام والرياضة والحياة‪ ،‬وعليه فيمكننا أن نفيد من ثقافات اآلخرين بعد‬

‫أن نخّلصها من عقائدها‪ ،‬وندخلها في سياقنا الثقافي منسجمة مع إيماننا وقيمنا‪.‬‬


‫ّ‬

‫لألمة ال يتعارض مع التعايش الثقافي‪ ،‬فقد استطاعت الثقافة‬


‫التميز الثقافي ّ‬
‫فإن ّ‬ ‫وهكذا ّ‬

‫المتميزة‪ ،‬وبين قدرتها على االنفتاح‬


‫ّ‬ ‫اإلسالمية خالل تاريخها الطويل أن تجمع بين هويتها الثقافية‬

‫المتنوعة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والتعايش مع الثقافات‬

‫‪ -‬دور الثقافة اإلسالمية في التقدم‪.‬‬

‫التقدم والتخّلف شيء نسبي؛ يمكن أن يوصف به األفراد أو األمم‪ ،‬فالتقدم ّإنما يكون قياسه‬
‫ّ‬

‫التأخر‪.‬‬
‫بالنسبة لآلخرين‪ ،‬وكذلك التخّلف أو ّ‬

‫‪21‬‬
‫التقدم والتخّلف في الجانبين اإلنساني والمادي؟‪ ،‬بمعنى‬
‫يسأل البعض‪ :‬هل هناك تالزم بين ّ‬

‫قطعا متخّلفة‬
‫ماديا هي ً‬
‫األمة المتخّلفة ً‬
‫إنسانيا؟ وهل ّ‬
‫ً‬ ‫متقدمة‬
‫قطعا ّ‬
‫ماديا هي ً‬
‫المتقدمة ً‬
‫ّ‬ ‫األمة‬
‫هل ّ‬

‫ثقافيا؟‪.‬‬
‫إنسانيا أو ً‬
‫ً‬

‫قطعا قوي‬ ‫والجواب عن ذلك هو كالجواب عن السؤال التالي‪ :‬هل الفرد القوي ً‬
‫ماديا هو ً‬

‫خلقيا؟‬
‫ً‬

‫ماديا أن يكون صاحب خلق رفيع‪ ،‬كما يمكن أن‬


‫جسميا أو الغني ً‬
‫ً‬ ‫ال‪ ،‬فيمكن للفرد القوي‬

‫يكون صاحب خلق وضيع‪ ،‬وكذلك اإلنسان المريض أو الفقير يمكن أن يكون ذا خلق رفيع‪ ،‬أو ذا‬

‫خلق وضيع‪ ،‬فال تالزم بين الجانبين‪.‬‬

‫ثقافيا‪ ،‬كما يمكن‬


‫نسانيا أو ً‬
‫ماديا ومتخّلفة إ ً‬
‫متقدمة ً‬ ‫فإنه يمكن أن تكون ّ‬
‫األمة ّ‬ ‫وكذلك األمم؛ ّ‬

‫إنسانيا؛ فال تالزم بين الجانبين‪ ،‬وفي هذا السياق تُسمع كثير‬
‫ً‬ ‫ماديا أن تكون ّ‬
‫متقدمة‬ ‫لألمة المتخّلفة ً‬
‫ّ‬

‫األمة اإلسالمية بأن تأخرها المادي ّإنما هو بسبب‬


‫االدعاءات المعادية التي تحاول إقناع أفراد ّ‬
‫من ّ‬

‫تخّلف عقيدتنا وديننا وثقافتنا‪ ،‬وانطلت الحيلة على كثير من المسلمين‪ ،‬وظنوا ّأنه ال مجال للتقّدم‬

‫غيرنا ثقافتنا وديننا‪ ،‬وليس ذلك من الحقيقة في شيء؛ فهذه األمم المادية تعيش في‬
‫المادي إال إذا ّ‬

‫ثقافات مختلفة‪ ،‬بعضها مادي كالغرب‪ ،‬وبعضها وثني متخّلف كاليابان‪ ،‬وقد وصلوا إلى مستويات‬

‫التقدم‬
‫التقدم المادي لم يساهم في ّ‬
‫أن هذا ّ‬
‫جدا على الصعيد المادي‪ ،‬أضف إلى ذلك ّ‬
‫متقدمة ً‬
‫ّ‬

‫عدة مجاالت‪ ،‬منها‪ :‬كثرة الجرائم‪،‬‬


‫اإلنساني لهذه الشعوب‪ ،‬فمظاهر التخلف اإلنساني واضحة في ّ‬

‫وكثرة األمراض النفسية‪ ،‬واالنتحار‪ ،‬والتفكك األسري‪ ،‬والتمييز العنصري‪ ،‬واستعمار الشعوب‪ ،‬ونهب‬

‫ثرواتها‪ ،‬واستعمال أسلحة الدمار الشامل‪ ،‬وقوانين األدّلة السرية‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫متقدمة في الجانبين اإلنساني والمادي‪ ،‬وال‬
‫متقدمة ّإال إذا كانت ّ‬
‫األمة ّ‬
‫تسمى ّ‬
‫يصح أن ّ‬
‫ّ‬ ‫فال‬

‫ومتقدمة في‬
‫ّ‬ ‫أما إذا كانت متخّلفة في جانب‪،‬‬
‫تسمى متخّلفة إالّ إذا كانت متخّلفة في الجانبين‪ّ ،‬‬
‫ّ‬

‫جانب‪ ،‬فيقال لها‪ :‬متقّدمة في كذا‪ ،‬ومتخّلفة في كذا‪.‬‬

‫وسلوكا‪،‬‬
‫ً‬ ‫تصوًار‬
‫ظل اإلسالم‪ّ ،‬‬
‫التقدم الشامل في الجانبين لم يحدث في التاريخ ّإال في ّ‬
‫وهذا ّ‬

‫فالتقدم الشامل له شروط‪ ،‬هي‪:‬‬


‫ّ‬ ‫دينا ودولة؛‬
‫عقيدة وشريعة‪ً ،‬‬

‫‪ .1‬العقيدة الصحيحة‪ ،‬التي تزيل الحيرة والشك من نفس اإلنسان‪ ،‬وتؤمن باآلخرة لتحقق‬

‫األمة‪.‬‬
‫العدالة في األرض‪ ،‬تتحول إلى مشاعر وسلوك بالقدر الذي يكفي لتقدم ّ‬

‫‪ .2‬القيم الصحيحة‪ ،‬قد تكون نابعة من دين رّباني‪ ،‬أو من قناعات‪ ،‬وقد جاء اإلسالم ّ‬
‫بكل‬

‫القيم الصحيحة‪ ،‬ولكن المهم هو االلتزام بها‪.‬‬

‫التقدم إال بالشورى الحقيقية التي تراعي التمثيل الصحيح ّ‬


‫لألمة‪،‬‬ ‫‪ .3‬الشورى‪ ،‬فال يمكن ّ‬

‫وهي من الواجبات على الحاكم حتى لو كان رسوًال تنفي ًذا ألمر هللا ‪َ ‬و َش ِاوْرُه ْم ِفي‬

‫ْاأل َْم ِر‪ ،‬ونتائج هذه الشورى ُملزمة‪.‬‬

‫‪ .4‬االستقرار‪ ،‬ال يمكن أن يحدث االستقرار إال في ظل العدالة‪ ،‬التي لن تسود إال في ظل‬

‫يعبر فيها اإلنسان عما يريد دون بطش أو تزوير‪ ،‬كما قال عمر‬
‫الحرية الحقيقية التي ّ‬

‫بن الخطاب رضي هللا عنه‪ :‬متّى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرًارا‪.‬‬

‫‪ .5‬استثمار الطاقات البشرية والمادية‪ :‬تدريب األيدي العاملة واستثمار طاقاتها‪ ،‬واالستفادة‬

‫السماو ِ‬
‫ات َو َما ِفي‬ ‫ِ‬
‫َّللاَ َس َّخ َر َل ُكم َّما في َّ َ َ‬ ‫من الكون وما فيه‪ ،‬قال تعالى ‪ ‬أََل ْم تَ َرْوا أ َّ‬
‫َن َّ‬

‫َّللاِ ِب َغ ْي ِر ِعْل ٍم َوَال‬


‫اس َمن ُي َج ِاد ُل ِفي َّ‬ ‫اهرة وب ِ‬
‫اط َن ًة ۗ َو ِم َن َّ‬
‫الن ِ‬ ‫ض وأَسبغ عَلي ُكم ِنعمه َ ِ‬
‫ظ ًَ َ َ‬ ‫ْاأل َْر ِ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ ُ‬

‫اب ُّمِن ٍ‬
‫ير‪.‬‬ ‫ُهًدى وَال ِكتَ ٍ‬
‫َ‬

‫‪23‬‬
‫‪ .6‬اغتنام الوقت‪ :‬الذي يضيع وقته‪ ،‬يضيع حياته من حيث يدري أو ال يدري‪ ،‬قال رسول‬

‫خمسا قبل خمس‪ :‬شبابك قبل هرمك‪ ،‬وصحتك قبل‬


‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬اغتنم ً‬

‫سقمك‪ ،‬وغناك قبل فقرك‪ ،‬وفراغك قبل شغلك‪ ،‬وحياتك قبل موتك)‪.‬‬

‫فالمتخصص ينتج أكثر‪ ،‬ويتقن أكثر‪،‬‬


‫ّ‬ ‫الحث المباشر كقوله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .7‬التخصص‪ ،‬من خالل‬

‫كل مجاالت الحياة‬


‫التخصص في ّ‬
‫ّ‬ ‫ألهمية‬
‫بوقت وجهد أقل‪ ،‬وقد لفت اإلسالم انتباهنا ّ‬

‫المتخصصين‪ ،‬والنهي عن قول‬


‫ّ‬ ‫َه َل الِّذ ْك ِر ِإ ْن ُك ْنتُ ْم َال تَ ْعَل ُمو َن‪ ،‬وإبراز‬
‫اسأَُلوا أ ْ‬
‫تعالى ‪َ‬ف ْ‬

‫أو اتّباع ما ال علم لإلنسان به‪.‬‬

‫كل المجاالت النافعة في الدين والدنيا فرض كفاية‪ ،‬وكّلما كانت‬


‫التخصص في ّ‬
‫ّ‬ ‫فإن‬
‫ولذلك ّ‬

‫األمة بحاجة أكثر إلى تخصص معين كان أجره أعظم‪ ،‬وهذا حافز ديني وعلى الدولة أن تضع‬

‫األمة‪.‬‬
‫التخصص في كل ما تحتاجه ّ‬
‫ّ‬ ‫تشجع الناس به على‬
‫من الحوافز المادية والمعنوية ما ّ‬

‫‪24‬‬
‫الوحدة الثانية‬

‫" مصادر الثقافة اإلسالمية"‬

‫املبحث األول‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬السنة النبوية‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫المبحث األول‪ :‬القرآن الكريم‬

‫معنى القرآن وعالقته بالوحي والكتب السماوية‬

‫القرآن الكريم وهذا اسمه الرئيس‪ ،‬ويسمى الكتاب‪ ،‬وهما أشهر اسمين‪ ،‬وهذه إشارة إلى حفظ‬

‫هذا الكالم في طريقتين‪ ،‬في الصدور حفظاً وقراءة‪ ،‬يشير إلى هذا المعنى اسم القرآن‪ ،‬وفي السطور‬

‫كتابة‪ ،‬ويشير إلى هذا المعنى اسم الكتاب‪ ،‬وصدق هللا العظيم ‪ِ‬إَّنا َن ْح ُن َن َّ ْزل َنا الِّذ ْك َر َوِإَّنا َل ُه‬

‫َل َح ِاف ُ‬
‫ظو َن‪.‬‬

‫القرآن الكريم في االصطالح‪.‬‬

‫القرآن الكريم هو‪ :‬كالم هللا المعجز‪ ،‬المتعبد بتالوته‪ ،‬المنزل على سيدنا محمد ﷺ‪ ،‬المنقول‬

‫بالتواتر‪ ،‬المكتوب في المصاحف‪.‬‬

‫وهذا شرح التعريف‪:‬‬

‫كالم هللا‪ :‬فهو كله كالم هللا سبحانه وحده‪.‬‬

‫المعجز‪ :‬الذي أراده هللا عز وجل المعجزة األولى لنبيه محمد ﷺ‪ ،‬والوجه الرئيس الذي‬

‫كان به التحدي والذي يشمل القرآن كله هو الوجه البالغي (البياني) في نظم القرآن ولغته‪ ،‬فالقوم‬

‫كانوا أهل فصاحة وبيان‪ ،‬ومن هنا تحداهم هللا بأن يأتوا أوالً بمثله‪ ،‬ثم تدرج معهم حتى تحداهم أخي اًر‬

‫بأن يأتوا بسورة من مثله‪ ،‬وهذا يخرج الكتب السماوية األخرى‪ ،‬ألنها ليست معجزة‪.‬‬

‫المتعبد بتالوته‪ :‬أي أن مجرد تالوة القرآن عبادة‪ ،‬حتى لو كان بدون فهم‪ ،‬كما هو حال‬

‫أكثر المسلمين غير العرب‪ ،‬وهذا يخرج األحاديث القدسية‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ولتالوة القرآن الكريم فضائل أهمها‪:‬‬

‫ول‬ ‫ٍ‬ ‫‪ .1‬أن بكل حرف حسنة‪ ،‬والحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬عن عبد َّ ِ‬
‫ال َرُس ُ‬
‫َّللا ْبن َم ْس ُعود‪ ،‬قال‪َ :‬ق َ‬ ‫َْ‬ ‫ّ‬

‫الح َس َن ُة ِب َع ْش ِر‬ ‫ِِ‬ ‫اب َّ ِ‬


‫َّللا َعَل ْي ِه وسَّلم‪" :‬م ْن َق أَر حرًفا ِم ْن ِكتَ ِ‬ ‫َّللاِ َّ‬
‫َّللا َفَل ُه به َح َس َن ٌة ‪َ ،‬و َ‬ ‫َ َ َ َ َ َْ‬ ‫صلى َّ ُ‬‫َّ َ‬
‫ف وَالم َح ْر ٌ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫أ َْمثَال َها‪َ ،‬ال أَُق ُ‬
‫‪23‬‬
‫ف"‬
‫يم َح ْر ٌ‬
‫ف َوم ٌ‬ ‫ف َح ْر ٌ َ ٌ‬
‫ف‪َ ،‬وَلك ْن أَل ٌ‬
‫ول الم َح ْر ٌ‬

‫صلَّى‬ ‫اهلِي رضي هللا عنه َقال س ِمعت رسول َّ ِ‬


‫‪ .2‬أنه يشفع لصاحبه‪ ،‬عن أبي أُمام َة اْلب ِ‬
‫َّللا َ‬ ‫َ َ ْ ُ َُ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫‪24‬‬
‫يعا ألأ َص أحا ِب ِه"‬ ‫َّللا عَلي ِه وسَّلم يُقول ‪" :‬ا ْقرءوا اْلُقرآن َفِإَّنه يأِْتي يوم اْل ِقي ِ ِ‬
‫امة َشف ً‬
‫ْ َ ُ َ َْ َ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫َّ ُ َ ْ َ َ َ َ ُ‬

‫‪ .3‬أنه يرفع من منزلة صاحبه‪ ،‬عن عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما قال ‪ :‬قال رسول‬

‫هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬يَقال لِص ِ‬


‫اح ِب اْلُق ْر ِ‬
‫آن ‪ :‬ا ْق َْأر َو ْارتَ ِق َوَرِتّ ْل ‪َ ،‬ك َما ُك ْن َت تَُرِتّ ُل‬ ‫ُ ُ أ‬
‫‪25‬‬
‫آخ ِر َآي ٍة تَْق َرُؤ َها"‬
‫الد ْنيا ‪َ ،‬فِإ َّن م ْن ِزَلك ِع ْند ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫في ُّ َ‬
‫ِ‬

‫َّللاِ ﷺ‪:‬‬
‫رسول َّ‬
‫ُ‬ ‫قال‬
‫َّللا عنها قاَل ْت‪َ :‬‬
‫‪ .4‬أنه الماهر به مع المالئكة‪ ،‬وعن عائشة رضي َّ‬

‫يقر الُقرآن ويتتعتع ِف ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫َّ ِ‬


‫يه‬ ‫السَفرِة الك َار ِم َ‬
‫الب َرَرة‪َ ،‬والذي َأُ ْ َ َ َ َ ْ َ ُ‬ ‫مع َّ‬ ‫"الذي َيْق َأُر الُق ْر َ‬
‫آن َو ُهو ماهٌر به َ‬

‫َجران"‬ ‫وهو ِ‬
‫اق َل ُه أ ْ‬
‫عليه َش ٌّ‬ ‫َُ‬

‫المنزل‪ :‬أي على قلب النبيﷺ‪ ،‬وهذا يفرق بين كالم هللا المنزل وغير المنزل‪ ،‬فلم ينزل كل‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫َّ‬


‫ان اْل َب ْح ُر م َد ًادا ّل َكل َمات َرِّبي َل َنف َد اْل َب ْح ُر َقْب َل أَن تَ َنف َد َكل َم ُ‬
‫ات‬ ‫كالم هللا‪ ،‬حيث يقول تعالى ‪ُ ‬قل ل ْو َك َ‬

‫َرِّبي َوَل ْو ِج ْئ َنا ِب ِم ْثِل ِه َم َدًدا‪.26‬‬

‫وقد نزل القرآن الكريم مفرقاً ِ‬


‫لحكم‪ ،‬أهمها‪:‬‬

‫‪ .1‬تيسير حفظه وفهمه‪.‬‬

‫‪ 23‬رواه الترمذي‬
‫‪ 24‬رواه مسلم‬
‫‪ 25‬رواه الترمذي وأبو داود‬
‫‪ 26‬سورة الكهف‬

‫‪27‬‬
‫ِ‬ ‫‪ .2‬تثبيت قلب النبي ﷺ وصحبه‪ ،‬قال تعالى ‪‬وَق َّ ِ‬
‫ين َكَف ُروا َل ْوَال ُن ِّزَل َعَل ْيه اْلُق ْر ُ‬
‫آن ُج ْمَل ًة‬ ‫ال الذ َ‬
‫َ َ‬

‫اح َد ًة ۚ َك َٰذلِ َك لُِنثَِّب َت ِب ِه ُف َؤ َاد َك‪ ،27‬وذلك لتحقيق التأييد المستمر لشخص النبي الكريم‬
‫وِ‬
‫َ‬

‫ومن معه من المؤمنين‪.‬‬

‫‪ .3‬التدرج في تربية هذه األمة على أفضل صورة‪ ،‬حيث كان نزول القرآن طيلة هذه المدة‬

‫فرصة للتدرج في بناء األمة‪ ،‬وتشريع أحكامها‪ ،‬واالنتقال من مرحلة ألخرى‪.‬‬

‫المنقول بالتواتر‪ :‬وهو الخبر الذي ينقله جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب‪ ،‬أو وقوعهم في‬

‫الخطأ‪ ،‬عن جمع مثله‪ ،‬من أول السند إلى منتهاه‪ ،‬هذا إضافة إلى الكتابة التي كانت مع نزوله‬

‫حين اتخذ النبي ﷺ كتاباً للوحي‪ ،‬فتم توثيق النص حفظاً في الصدور وكتابة في السطور‪.‬‬

‫المكتوب في المصاحف‪ :‬إشارة إلى ما كان زمن عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪.‬‬

‫السماوية وأي نص مقدس‪.‬‬


‫ّ‬ ‫وبهذه الخصائص تميز القرآن عن غيره من الكتب‬

‫‪ ‬عالقة القرآن بالوحي‬

‫الوحي كلمة تدل على‪ :‬اإلعالم بخفة وسرعة‪ ،‬وتدل على الشيء الموحى به‪ ،‬والوحي أعم‬

‫من القرآن فقد أوحي إلى أنبياء قبل النبي صلى هللا عليه وسّلم ولم ُيطلق على ما أوحي إليهم قرًآنا؛‬

‫فالقرآن أحد أسماء الوحي‪.‬‬

‫والحديث وحي‪ ،‬فمعناه من هللا ولفظه من النبي ﷺ‪ ،‬ففي الحديث "أال إنني أوتيت القرآن‬

‫ومثله معه"‪ ،‬فالقرآن هو كتاب الهداية العام‪ ،‬وجاءت السنة لتبينه وتفسره‪.‬‬

‫‪ 27‬سورة الفرقان‬

‫‪28‬‬
‫‪ ‬عالقة القرآن بالكتب السماوية‬

‫يعتقد كل مسلم جازماً أن هللا سبحانه وتعالى أنزل كتباً على بعض أنبيائه كما أخبر القرآن‪،‬‬

‫ونحن مطالبون بأن نؤمن بها‪ ،‬ولكن هللا أخبرنا بأنها حرفت‪ ،‬قال تعالى ‪ُ ‬ي َح ِّرُفو َن اْل َكلِ َم َعن‬

‫اض ِع ِه‪28‬‬
‫َّمو ِ‬
‫َ‬

‫والمسلم حين يعتقد هذا فإنه يعتز بدينه‪ ،‬ويحترم أصول الديانات األخرى‪ ،‬ويلتزم بأمر ربه‪،‬‬

‫آن َي ْهِدي لَِّلِتي ِهي أَْق َوُم ‪.29‬‬


‫فاّلل تعالى يقول ‪ِ ‬إ َّن َٰه َذا اْلُق ْر َ‬
‫َ‬

‫تاريخ القرآن‬

‫لم يلق كتاب من الكتب العناية والرعاية ما لقيه القرآن الكرين‪ ،‬فهو آخر كتاب أنزل على‬

‫آخر نبي ليبلغ آخر رسالة إلى العالمين كافة‪ ،‬فاّلل سبحانه وتعالى تكفل بحفظه حيث قال ‪ِ ‬إَّنا‬

‫َن ْح ُن َن َّ ْزل َنا الِّذ ْك َر َوإَِّنا َل ُه َل َح ِاف ُ‬


‫ظو َن ‪ ،30‬بينما َوَّكل حفظ الكتب األخرى إلى أصحابها‪ ،‬فهي ليست‬

‫عالمية وإنما كانت خاصة بهم‪ ،‬مؤقتة إلى حين مبعث رسول آخر‪.‬‬

‫مر القرآن الكريم في تاريخه بمراحل ثالث؛ مرحلة كتابة ومرحلة جمع ومرحلة نسخ‪،‬‬
‫وقد ّ‬

‫وبيان ذلك في اآلتي‪:‬‬

‫أوًًل‪ :‬كتابة القرآن زمن النبي ‪.‬‬

‫ويمكن تلخيص مراحل الكتابة األولى في زمن النبي ‪‬في النقاط التالية‪.‬‬

‫‪ .1‬كان النبي ﷺ يملي كل ما يوحى إليه على كتّاب ُسموا بكتاب الوحي‪.‬‬

‫‪ 28‬سورة المائدة‬
‫‪ 29‬سورة اإلسراء‬
‫‪ 30‬سورة الحجر‬

‫‪29‬‬
‫‪ُ .2‬كِتب القرآن على ما تيسر من الكتابة حينئذ‪ ،‬كالحجارة الرقيقة‪ ،‬والجلود‪ ،‬والخشب‪،‬‬

‫والعظام الرقيقة وسعف النخيل‪ ،‬وكان أكثر من واحد يكتب النص‪ ،‬ويحتفظ به عنده‪،‬‬

‫كل هذا باإلضافة إلى حفظه في الصدور‪.‬‬

‫‪ُ .3‬كِتب القرآن كله‪ ،‬وكان مرتب اآليات‪ ،‬حيث كان النبي ﷺ يأمرهم بتحديد موضع كل‬

‫آية‪ ،‬وهذا يعد أم اًر توقيفياً‪ ،‬ال عالقة له باالجتهاد أبداً‪.‬‬

‫‪ .4‬لم يجمع النبي ﷺ القرآن قبل وفاته بين دفتي كتاب‪ ،‬لتعذر ذلك بسبب وسائل الكتابة‪،‬‬

‫ثم إن القرآن كان ما زال يتنزل‪ ،‬ولم يكن ترتيبه وفق نزوله كما هو معلوم ومشهور‪،‬‬

‫ثم إن النبي ﷺ لم يكن يعلم بوقت انتهاء أجله‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬جمع القرآن زمن أبو بكر الصديق ‪‬‬


‫ً‬

‫في زمن أبي بكر‪ ‬حدثت حروب الردة التي ُقتل عدد كبير من الصحابة الكرام‪ ،‬منهم‬

‫القراء والحفاظ‪ ،‬وهذا أمر تنبه له عمر بن الخطاب ‪ ،‬حيث ذهب إلى أبي بكر وطلب منه جمع‬

‫القرآن الكريم‪ ،‬خشية أن يذهب منه شيء‪ ،‬وفي البداية رفض أبو بكر هذا الطلب وقال‪ " :‬كيف‬

‫أفعل شيئاً لم يفعله رسول هللا ‪ ،"!‬ولكن عمر ّبين أهميته وأنه خير‪ ،‬فشرح هللا صدر أبي بكر‬

‫لذلك‪ ،‬وطلب من زيد بن ثابت أن يقوم بالمهمة‪ ،‬وقال له أبو بكر‪ :‬إنك شاب عاقل ال نتهمك‪،‬‬

‫وكنت تكتب الوحي لرسول هللا ‪ ،‬وإني أرى أن تجمع القرآن‪ ،‬وكان رد زيد في البداية كرد أبي‬

‫بكر‪ ،‬ولكن هللا شرح صدره لذلك‪ ،‬وقال فيما قال‪ " :‬وهللا لو كلفوني نقل جبل من الجبال لكان أهون‬

‫علي من جمع القرآن "‪.‬‬


‫ّ‬

‫ويمكن تلخيص ما تم بشأن الجمع زمن أبي بكر في النقاط التالية‪:‬‬

‫‪ .1‬طلب الخليفة من الصحابة أن يأتي كل واحد بما عنده من القرآن‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫‪ .2‬اتفقوا ّأال ُيقبل شيء إال إذا توفر فيه شرطان هما‪:‬‬

‫بشاهد ْين يشهدان على أن هذا النص مكتوب بحضرة النبي ﷺ‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪ ‬أن يأتي الصحابي‬

‫ظ عند الصحابة‪.‬‬
‫المكتوب المحفو َ‬
‫ُ‬ ‫‪ ‬أن يوافق‬

‫وربِط بينهما بخيط وسمي من حينها المصحف‪.‬‬ ‫ِ‬


‫دفتين‪ُ ،‬‬
‫‪ُ .3‬جمع القرآن بين ْ‬

‫‪ .4‬بقي المصحف عند أبي بكر‪ ،‬ثم عند عمر‪ ،‬ثم عند َحفصة بنت عمر‪ ،‬أم المؤمنين‬

‫رضي هللا عنهم أجمعين‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬نسخ القرآن زمن عثمان بن عفان ‪.‬‬

‫الداخلون في اإلسالم من العجم َ‬


‫وكثُر‬ ‫وكثُر ّ‬
‫في زمن عثمان‪ ‬توسعت الدولة اإلسالمية‪َ ،‬‬

‫اللحن‪ ،‬وأدى هذا إلى أن يلحن بعضهم بقراءة القرآن الكريم‪ ،‬فأدى إلى أن يختلفوا بالقراءة‪ ،‬وسمع‬

‫بهذا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان‪ ،‬وكان في فتح أرمينية وأذربيجان‪ ،‬وسمع بنفسه نزاع بعض‬

‫المسلمين في القراءة‪ ،‬ونقل هذا األمر إلى الخليفة فور عودته‪ ،‬واستشار عثمان ‪ ‬الصحابة واستقر‬

‫أمرهم على ما يلي‪ ،‬وهي خطوات نسخ القرآن الكريم‪:‬‬

‫‪ُ .1‬شكلت لجنة على رأسها زيد بن ثابت‪ ،‬مهمتها نسخ القرآن في صحف‪ ،‬وإرسال هذه‬

‫الصحف إلى األمصار‪.‬‬

‫‪ .2‬أحضر عثمان المصحف الموجود عند َحفصة ليكون األصل في عملية النسخ‪.‬‬

‫‪ُ .3‬كتبت مجموعة من المصاحف‪ ،‬اختلف في عددها ولكنها على األقل ستة‪ ،‬أُرسلت‬

‫الشام والكوفة والبصرة والمدينة‪ ،‬وبقي‬


‫مكة و ّ‬
‫خمسة منها إلى األمصار الرئيسة‪ ،‬وهي‪ّ :‬‬

‫عند الخليفة مصحف‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫‪ .4‬أرسل الخليفة مع كل مصحف قارئاً أو أكثر من الصحابة أو من كبار التابعين‪ ،‬ليكون‬

‫المرجع في ضبط النص المكتوب في المصحف المرسل إليهم‪ ،‬فمن المعلوم أنه لم‬

‫يكن هناك ثمة تشكيل وال تنقيط‪.‬‬

‫‪ .5‬أمر الخليفة بما سوى هذه المصاحف أن ُيحرق‪ ،‬وبهذا توحدت الدولة اإلسالمية وزال‬

‫الخالف من بينها‪ ،‬وهذه هي المصاحف المشهورة بالمصاحف العثمانية‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫موضوعات القرآن‬

‫القرآن الكريم هو مصدر الثقافة اإلسالمية لمعظم أسسها وتشريعاتها‪ ،‬فهو األصل الذي‬

‫أصلها تارة أخرى‪ ،‬وجاءت السنة لتكمل أحكامها وتبينها‪.‬‬


‫فصل األحكام تارة و ّ‬
‫ّ‬

‫موضوعات القرآن الرئيسة‪ :‬يمكننا تقسيم القرآن من حيث موضوعاته إلى ثالثة أقسام رئيسة‬

‫هي العقيدة والتشريع واألخالق‪ ،‬وذلك كما يلي‪:‬‬

‫أوًلً‪ :‬آيات العقيدة‪.‬‬

‫المكي من القرآن على موضوع اإليمان‪ ،‬إذ ُيعد اإليمان األساس للبناء‪ ،‬وقد‬
‫يركز القسم ّ‬

‫المفصل فيها ذكر‬


‫ّ‬ ‫صدقت السيدة عائشة أم المؤمنين وهي تقول‪ " :‬إنما نزل أول ما نزل آي من‬

‫الناس إلى اإلسالم نزل الحالل والحرام‪ ،‬ولو نزل أول ما نزل ال تشربوا‬
‫النار‪ ،‬حتى إذا ثاب ّ‬
‫الجنة و ّ‬
‫ّ‬

‫الخمر لقالوا ال ندعُ الخمر أبداً‪ ،‬ولو نزل ال تزنوا لقالوا ال ندعُ الزنا أبداً "‪.‬‬

‫ومن القضايا الكبيرة في آيات العقيدة إثبات وجود هللا تعالى ووحدانيته من خالل آيات‬

‫هللا في الكون‪ ،‬ووظيفة اإلنسان في الحياة‪ ،‬وأن حق التشريع هلل وحده‪ ،‬والموت والبعث والجنة‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬آيات التشريع‪.‬‬

‫يمكننا تقسيم التشريع إلى أقسام أربعة‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫كاليسر‪ ،‬وتحقيق مصالح البشر‪ ،‬ودرء‬


‫‪ .1‬اآليات المتحدثة عن المبادئ العامة للتشريع‪ُ ،‬‬

‫المفاسد عنهم‪ ،‬وأنها جاءت لتحل لهم الطيبات وتحرم الخبائث‪ ،‬فمثل هذه القواعد ذكرت‬

‫في القسم المكي‪ ،‬ومنها ما هو مذكور في القسم المدني‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ .2‬اآليات المتحدثة عن تشريع العبادات‪ ،‬وهي التي تبين عالقة اإلنسان بربه‪ ،‬كأركان اإلسالم‬

‫وغيرها مما يتقرب به العبد إلى هللا من مناسك وذكر‪ ،‬وقد جاءت معظم آيات هذا القسم‬

‫مجملة لكونها أمور عملية‪ ،‬وقد طبقها الرسول ﷺ حتى ال يساء فهمها‪.‬‬

‫‪ .3‬اآليات المتحدثة عن تشريع المعامالت‪ ،‬وهي أكثر ذك اًر وتفصيالً‪ ،‬وهي المعنية بتنظيم‬

‫عالقة الفرد بغيره‪ ،‬وتنظيم المجتمع‪ ،‬وعالقات أفراده‪ ،‬وعالقته بغيره من المجتمعات والدول‪،‬‬

‫وتبدأ هذه التشريعات من األسرة‪ ،‬حيث حقوق الطفل وأحكام الرضاعة والحضانة‪ ،‬ثم أمور‬

‫الزواج والحقوق المترتبة عليه للزوجين واألبناء‪ ،‬ثم حقوق األقارب والجيران وأفراد المجتمع‪،‬‬

‫وحقوق الراعي والر ّ‬


‫عية‪.‬‬

‫‪ .4‬اآليات المتحدثة عن تشريع العقوبات‪ ،‬وهي األحكام التي شرعت لضمان أمن المجتمع‬

‫وحفظ هيبته‪ ،‬حتى يكون االستقرار والرخاء‪ ،‬وهذا من واقعية اإلسالم‪ ،‬حيث يفترض وجود‬

‫أعداء في المجتمع‪ ،‬يستهترون بأمنه وال بد لهم من رادع‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬آيات األخالق‪.‬‬

‫تشكل األخالق منظومة متكاملة في ديننا اإلسالمي‪ ،‬وقد قال النبي ﷺ " إنما بعثت‬

‫إن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ألتمم مكارم األخالق"‪ ،‬ولقد َكثَُرت اآليات القرآنيَّة المتعّلقة بموضوع األخالق‪ ،‬بل ّ‬

‫األخالق تؤكدها كذلك آيات العقيدة والعبادات والمعامالت بشكل عام‪ ،‬حيث إن ما شرعه‬

‫السوي‪ ،‬ولتستقيم الحياة اإلنسانية‬


‫ّ‬ ‫هللا من أحكام هي من أجل ضمان السلوك اإلنساني‬

‫متسقة مع التكريم اإللهي لإلنسان‪ ،‬ومن األمثلة على آيات األخالق في القرآن الكريم‪،‬‬

‫اآليات الواردة في سورة الحجرات‪ ،‬فدعت إلى كثير من أمهات األخالق والفضائل واآلداب‪،‬‬

‫إن بعض العلماء أطلق عليها سورة اآلداب اإلسالمية لعظم اآلداب الواردة فيها‪ ،‬ال‬
‫بل ّ‬

‫سيما فيما يتعلق بالجانب التعاملي‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫اإلعجاز القرآني‬

‫معنى إعجاز القرآن‪ :‬عجز الناس عن اإلتيان بمثله‪.‬‬

‫اصطالحا‪ :‬هي أمر خارق للعادة يدل على تصديق هللا تعالى ّ‬
‫للمدعي في دعواه‬ ‫ً‬ ‫والمعجزة‬

‫الرسالة‪ .‬ومعجزة النبي محمد ﷺ هي القرآن الكريم الذي كان على أعلى درجات الفصاحة والبالغة‬

‫ألن القوم كانت البالغة صناعتهم‪.‬‬

‫مر األزمنة‬
‫ومعجزة النبي ﷺ عقلية‪ ،‬وسبب كونها عقلية ّانها معجزة عامة باقية خالدة على ّ‬

‫جميعا‪ ،‬ال تقتصر على مكان دون مكان أو مجال دون‬


‫ً‬ ‫والعصور‪ ،‬تامة الهداية تخاطب العقول‬

‫مجال‪ ،31‬وإلعجاز القرآن أوجه متعددة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫أوًلً‪ :‬اإلعجاز البياني‪.‬‬

‫ألنه ينتظم القرآن الكريم كّله‪ ،‬ويرجع في ّلبه وجوهره‬


‫وهو أعظم وجوه إعجاز القرآن الكريم ّ‬

‫إلى النظم‪ ،‬ويطلق عليه أحياناً اإلعجاز اللغوي أو البالغي أو اللفظي‪ ،‬فالقرآن بنظمه وكلماته‬

‫وتحدى بها اإلنس والجن‪ ،‬ومع ذلك ما‬


‫ّ‬ ‫وبيانه أراده هللا سبحانه وتعالى معجزة لنبيه محمد ﷺ‪،‬‬

‫استطاعوا‪.‬‬

‫مقدرة خير تقدير‪ ،‬معبرة أصح تعبير‬


‫والكلمة القرآنية هي أساس النظم؛ فالكلمة القرآنية ّ‬

‫وأصدقه‪ ،‬فاختيار الكلمة في موضع دون آخرواختيار الكلمة دون غيرها من إعجاز القرآن الكريم‪.‬‬

‫خاصا بها‪ ،‬ال تسد غيرها‬


‫ولذلك فإن كتاب هللا تعالى ال ترادف في كلماته‪ ،‬فكل كلمة تحمل معنى ً‬

‫مسدها‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ 31‬انظر‪ :‬عباس‪ ،‬فضل حسن‪ ،‬اتقان البرهان في علوم القرآن‪237/1 .‬‬

‫‪35‬‬
‫أن لفظ "عمل" يستعمل لما يمتد‬
‫فإن بينهما فروًقا‪ ،‬منها‪ّ :‬‬
‫فمن ذلك كلمتا الفعل والعمل‪ّ ،‬‬

‫زمانه‪ ،‬ولفظة فعل على العكس من ذلك‪ ،‬فهو لما يكون دفعة واحدة‪.‬‬

‫قال تعالى‪( :‬وع ِمُلوا َّ ِ ِ‬


‫الصال َحات) وهذا يكون في فترات طويلة‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬أََل ْم تَ َر َك ْي َ‬
‫ف‬ ‫ََ‬
‫‪32‬‬
‫ُّك ِب َع ٍاد)‪ ،‬وقد كان هذا دفعة واحدة‪.‬‬
‫َف َع َل َرب َ‬

‫ومن إعجاز القرآن البياني واللفظي احتواؤه على تلك الكلمات الرائعة بإيقاعها‪ ،‬واختيار‬

‫الجملة بتركيبها العجيب المتغير المتنوع‪ ،‬وفق أساليب العرب وبأروع عرض‪ ،‬ويمكن أن تدرج فيه‬

‫ذلك التناسق والتماسك‪ ،‬فالقرآن وحدة واحدة رغم نزوله مفرقاً‪ ،‬فيشهد بعضه لبعض في صدقه وأنه‬

‫كالم رب العالمين‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬اإلعجاز التشريعي‪.‬‬

‫ونعني به اشتمال القرآن الكريم على تشريعات دقيقة وشاملة وواقعية ومتزنة‪ ،‬نظمت‬

‫عالقات الفرد بنفسه وبغيره وبخالقه‪ ،‬والتي عالجت أحواله كلها‪ ،‬والتي تعجز البشرية على أن تحيط‬

‫بها‪.‬‬

‫ومن أمثلة اإلعجاز التشريعي‪:‬‬

‫فصله هللا في ثالثة آيات فقط‪ ،‬ولكنه أعطى كل إنسان من الورثة‬


‫‪ .1‬نظام الميراث‪ ،‬والذي ّ‬

‫حقه‪ ،‬وفق تشريع دقيق وعادل‪.‬‬

‫‪ .2‬النظام االقتصادي الذي شهد العالم أنه أكثر نظام اقتصادي أماناً‪ ،‬وبعداً عن دورات‬

‫الركود االقتصادي‪ ،‬باإلضافة إلى عدالته‪.‬‬

‫‪ 32‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪.241-240 / 1 ،‬‬

‫‪36‬‬
‫‪ .3‬تشريع العقوبات والتي تبدو شديدة من ظاهرها‪ ،‬لكنها رحمة لإلنسان‪ ،‬وأمن للمجتمع‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬اإلعجاز في اإلخبار عن الغيب‪.‬‬

‫يمكننا تقسيم األمور الغيبية إلى قسمين رئيسين‪ ،‬ففي بعض آيات القرآن حديث عن هذين‬

‫النوعين من األخبار التي لم يشاهدها الرسول ﷺ‪ ،‬وتحديد ذلك بهذه الدقة والتفاصيل واألرقام هو‬

‫أمر ال يمكن لبشر أن يتخيله‪.‬‬

‫ٍ‬
‫ماض لم يعاصره النبي ﷺ أو يشاهده‪ ،‬مثل َك ْشف القرآن الكريم عن عقيدة اتخاذ‬ ‫‪ .1‬غيب‬

‫"العزير" ابناً هلل ‪ -‬تعالى عما يقولون ‪ -‬عند اليهود‪ ،‬ولم تكن هذه العقيدة معروفة‬

‫عندهم في التوراة التي لديهم قبل أن ينزل بها القرآن‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة إلخبار‬

‫القرآن عن قصص األقوام واألنبياء السابقين‪.‬‬

‫وم (‪ِ )2‬في أ َْد َنى‬ ‫‪ .2‬غيب مستقبلي لم تقع أحداثه بعد‪ ،‬ومن أمثلته قوله تعالى ‪ُ ‬غلِ َب ِت ُّ‬
‫الر ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ‪ ،‬حيث تم تحديد كلمة‬ ‫ض َو ُه ْم م ْن َب ْعد َغَلِب ِه ْم َس َي ْغلُبو َن (‪ )3‬في ِب ْ‬
‫ض ِع سن َ‬ ‫ْاأل َْر ِ‬

‫"ِب ْ‬
‫ضع" التي تعني من (‪ ،)9-3‬وفعالً كان هذا بعد سبع سنين‪ .‬وقوله تعالى ‪َ ‬سُي ْه َزُم‬

‫اْل َج ْم ُع َوُي َوُّلو َن ُّ‬


‫الدُب َر ‪ ‬وهي إشارة لهزيمة المشركين في بدر‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬اإلعجاز العلمي‪.‬‬

‫ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن قضايا دقيقة ما كان يعرفها سيدنا محمد ﷺ وال‬

‫قومه وال أهل عصره‪ ،‬والسؤال هنا‪ :‬من أعلم محمدا ﷺ بهذه األمور ولم يكتشفها العلم الحديث إال‬

‫أن القرآن الكريم كتاب هداية‪ ،‬فكل ما فيه يهدي‬


‫حديثاً؟ ال بد أن ذلك من عند هللا‪ ،‬مع التأكيد على ّ‬

‫القلوب والعقول ومن ذلك هذه اإلشارت العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ومن آيات اإلعجاز العلمي‪ ،‬اآليات التي تتحدث عن خلق اإلنسان ومراحل خلقه‪ ،‬وبعض‬

‫الدقائق الخاصة باإلنسان كالجلد والبنان‪ ،‬وتتحدث عن الكون وسعته‪ ،‬وأصله وطبيعته‪ ،‬وعن تكوين‬

‫األرض والجبال والبحار والهواء والنباتات‪.‬‬

‫ولإلعجاز العلمي ثالثة مجاالت رئيسة‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ .1‬عدم التعارض‪.‬‬

‫فمن بين أكثر من ألف آية تتحدث عن الكون بأرضه وسمائه ونجومه وكواكبه وعن‬

‫اإلنسان‪ ،‬ال نجد حقيقة إسالمية واحدة تتعارض مع حقيقة علمية‪ ،‬ذلك أن الذي خلق‬

‫الكون هو نفسه الذي أنزل القرآن الكريم‪ ،‬فال يمكن أن بينهما تعارض‪.‬‬

‫فمن ذلك وصف القرآن الكريم لمراحل تكوين الجنين في رحم أمه في مواضع‬

‫ان ِمن س َالَل ٍة ِّمن ِط ٍ‬


‫ين (‪ )12‬ثُ َّم َج َعْل َناهُ‬ ‫نس َ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫عدة‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪َ  :‬وَلَق ْد َخَلْق َنا ْاإل َ‬
‫ّ‬

‫ض َغ َة‬
‫ض َغ ًة َف َخَلْق َنا اْل ُم ْ‬
‫طَف َة َعَلَق ًة َف َخَلْق َنا اْل َعَلَق َة ُم ْ‬
‫الن ْ‬ ‫طَف ًة ِفي َق َرٍار َّم ِك ٍ‬
‫ين (‪ )13‬ثُ َّم َخَلْق َنا ُّ‬ ‫ُن ْ‬

‫َح َس ُن اْل َخالِ ِقين (‪،33)14‬‬


‫َّللاُ أ ْ‬
‫آخ َر ۚ َفتََب َار َك َّ‬
‫َنشأ َْناهُ َخْلًقا َ‬
‫ام َل ْح ًما ثُ َّم أ َ‬
‫ظَ‬ ‫اما َف َك َس ْوَنا اْل ِع َ‬
‫ظً‬ ‫ِع َ‬

‫تماما مع ما يقره علم األجنة فيما يتعلق بتكوين الجنين‪ ،‬والتي‬


‫فهذا الوصف يتطابق ً‬

‫لم يتوصل لها بهذه الدقة إال بعد تطور وسائل التصوير وتقدمها‪.‬‬

‫السبق العلمي‪ .‬أي أن يسبق القرآن الكريم العلم في إثبات قضية علمية مما لم يعلمه‬
‫‪َّ .2‬‬

‫الناس زمن النبي ﷺ‪ ،‬ثم يأتي العلم باكتشاف ذلك بعد قرون طويلة‪ ،‬فما هذا إال دليل‬

‫وجل‪ ،‬خالق هذا الكون وما فيه‪.‬‬


‫عز ّ‬‫أن القرآن الكريم من عند هللا ّ‬
‫على ّ‬

‫واألمثلة على ذلك كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪ 33‬سورة المؤمنون‪14 - 12 ،‬‬

‫‪38‬‬
‫ال أ َْوتَادا ‪‬‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬قال تعالى ‪َ ‬واْلج َب َ‬

‫خلق هللا تعالى الجبال لتقوم بتثبيت األرض أثناء دورانها السريع حول نفسها‪ ،‬وهذه هي‬

‫وظيفتها‪ ،‬ولذلك جعل هللا تعالى لها جذو اًر في أعماق األرض‪ ،‬فأكثر طول الجبل يقع تحت سطح‬

‫األرض‪ ،‬وجزء صغير منه فوق سطح األرض‪ ،‬وهذا شكل الوتد‪ ،‬وهو ما لم يكن يعرفه العلماء‬

‫حتى القرن العشرين‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫‪ -‬قال تعالى ‪ ‬أَو َك ُ ٍ ِ‬


‫ظُل َمات في َب ْح ٍر ل ِّج ٍّي َي ْغ َشاهُ َم ْوٌج ّمن َف ْوِقه َم ْوٌج ّمن َف ْوِقه َس َح ٌ‬
‫اب ۚ‬ ‫ْ‬

‫اها ‪‬‬ ‫ض ِإ َذا أ ْ‬


‫َخ َرَج َي َدهُ َل ْم َي َك ْد َي َر َ‬ ‫ض َها َف ْو َق َب ْع ٍ‬
‫ات َب ْع ُ‬
‫ظُل َم ٌ‬
‫ُ‬

‫هذه اآلية تتحدث عن أعماق المحيطات‪ ،‬وهو مكان لم يكن اإلنسان يعلم عنه شيئاً‪ ،‬حيث‬

‫الغوص عشرة أمتار أو عشرين مت اًر بدون الوسائل الحديثة َ‬


‫للغ ْوص‪ ،34‬فإذا نزل‬ ‫إن اإلنسان يمكنه َ‬

‫أكثر من ذلك نفذ من رئتيه األكسجين‪ ،‬وبدأت خاليا الدماغ بالموت‪ ،‬ثم يموت‪ ،‬كما أن األوعية‬

‫الدموية الدقيقة تبدأ باالنفجار نتيجة الضغط الهائل للماء عليها‪ ،‬إذن ال يمكن إلنسان أن يكون‬

‫وصل إلى أبعد من ذلك ثم بقي على قيد الحياة‪.‬‬

‫ولكننا نجد في القرآن الكريم وصفاً لشيء موجود على عمق مئات األمتار في أماكن لم‬

‫يتمكن البشر من وصولها زمن النبي محمد صلى هللا عليه وسّلم‪ ،‬فهذه اآلية تبين أن هناك موجين‪:‬‬

‫موج سطحي‪ ،‬وهذا يراه الناس ويعرفونه‪ ،‬وموج عميق وهذا لم يره اإلنسان ولم يكتشفه العلماء إال‬
‫ّ‬
‫في حوالي منتصف القرن العشرين‪ ،‬ويبين القرآن أنه تحت هذا الموج العميق ظالم دامس بحيث‬

‫ال يكاد اإلنسان يرى يده‪.‬‬

‫‪ 34‬سجلت حاالت لغواصين يتحملون مسافات أعمق بدون وسائل الغوص‪ ،‬لكن معظم الغواصين المحترفين لم يتجاوزوا عمق ‪120‬‬
‫مترا‪.‬‬
‫ً‬

‫‪39‬‬
‫‪ .3‬اإلعجاز العلمي التشريعي‪ .‬فقد أوجب هللا علينا واجبات‪ ،‬وحرم محرمات‪ ،‬ولم يكن‬

‫األطباء يعلمون الحكمة الطبية في ذلك‪ ،‬حتى بدأ العلم الحديث يكشف عن حكم علمية‬

‫تدل على إعجاز علمي في المجال التشريعي‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك‪:‬‬

‫‪ -‬الصالة‪ ،‬فقد أصبح معلوماً عند المتخصصين اليوم أن الصالة إذا أديت بشكل صحيح‬

‫فهي أحسن تمرين ووقاية للمفاصل‪.‬‬

‫‪ -‬الصوم‪ ،‬فقد ُكِتبت أبحاث ودراسات في فوائد الصوم لصحة اإلنسان جسدياً ونفسياً‬

‫وعصبياً‪ ،‬ومنها أنه يخلص الجسم من كثير من المواد الضارة المتراكمة فيه‪.‬‬

‫‪ -‬تحريم الخمر‪ ،‬فقد أصبح معلوماً أن الخمر تسبب العديد من األمراض‪ ،‬كتليُّف الكبد‪،‬‬

‫وأنها تدمر خاليا الدماغ وهي خاليا ال تتجدد‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫المصدر الثاني‪ :‬السنة النبوية‪.‬‬

‫معنى السّنة‪.‬‬

‫قية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لقية أو ُخلُ ّ‬
‫السنة هي ما أضيف للنبي‪ ‬من قول‪ ،‬أو فعل‪ ،‬أو تقرير‪ ،‬أو صفة خ ّ‬
‫ّ‬

‫تعسروا‪ ،‬وبشروا وال تنفروا"‪.‬‬


‫"يسروا وال ّ‬
‫السنة القولية‪ :‬قوله‪ّ :‬‬
‫‪ -‬مثال ّ‬

‫الفعلية‪ ،‬ما رواه ابن عباس قال "كان رسول هللا‪ ‬أجود الناس‪ ،‬وكان أجود‬
‫ّ‬ ‫السنة‬
‫‪ -‬ومثال ّ‬

‫ما يكون في رمضان"‪.‬‬

‫أقر القسامة على ما كانت عليه‬


‫السنة التقريرية‪ ،‬ما رواه مسلم وغيره "أن النبي ‪ّ ‬‬
‫‪ -‬ومثال ّ‬

‫في الجاهلية"‪.‬‬

‫قية‪ ،‬مما تقدم كونه ‪‬من أجود الناس‪.‬‬


‫الخُل ّ‬
‫‪ -‬ومثال الصفات ُ‬

‫لقية‪ ،‬ما رواه أنس بن مالك في صفته ‪ ،‬قال "كان َرْبعة من القوم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬ومثال الصفات الخ ّ‬

‫ليس بالطويل وال بالقصير‪ ،‬أزهر اللون ‪" ...‬‬

‫السّنة وحي من هللا‪:‬‬

‫تعد السنة جزءاً من الوحي المنزل على الرسول ‪ ،‬حيث تمثل مع القرآن الكريم مجمل‬

‫ما بعث به ‪‬من الهدى والعلم‪ ،‬لذلك فإن الوحي ال يقتصر معناه على ما ورد في القرآن الكريم‪،‬‬

‫بل يشمل السنة‪ ،‬ودليل ذلك‪:‬‬

‫‪ .1‬آيات كريمة وأحاديث شريفة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫‪ -‬قوله تعالى ‪َ ‬و َما َينط ُق َع ِن اْل َه َو ٰى‪ ،‬إ ْن ُه َو إال َو ْح ٌي ُي َ‬
‫وحى‪‬‬

‫‪ -‬قول النبي ‪ " ‬أال إني أوتيت الكتاب ومثله معه " ‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ .1‬اإلعجاز العلمي والغيبي في الحديث الشريف‪ ،‬فهو دليل آخر على أنه وحي‪ ،‬ألن ذلك‬

‫يستحيل أن يكون من عند غير هللا‪.‬‬

‫مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث هللا إليها ً‬


‫ملكا‬ ‫فمن ذلك ما جاء في قوله ‪" :‬إذا ّ‬

‫فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها"‪ .35‬يؤكد العلماء أن عمر الـ ‪42‬‬

‫يوما وما بعده هو حد فاصل بيين المرحلة التي يكون الجنين فيها غير مميز‪ ،‬والمرحلة‬
‫ً‬

‫التي يأخذ الجنين فيها شكله البشري‪ ،‬حيث تبدأ العين واألذن بالتطور بسرعة مذهلة‪.‬‬

‫وهذا الحديث يشهد على صدق نبينا ‪ ،‬بل إن المرء يعجب من من دقته‪ ،‬وكأنه‬

‫ينظر عبر جهاز تصوير دقيق ويحدد الليلة ‪ 42‬لتميز الجنين البشري‪ ،‬ولم يقرر العلماء‬

‫أيضا‬
‫هذه الحقيقة إال في دراسات معاصرة‪ ،‬فما هذا إال دليل على أن السنة النبوية هي ً‬

‫وحي من هللا خالق هذا الكون‪.‬‬

‫منزلة السّنة من القرآن الكريم‪:‬‬

‫اقتضى أمر هللا أن يكون بيان القرآن وتفصيل ما فيه إلى الرسول ‪ ،‬قال تعالى ‪َ ‬وأ َ ْ‬
‫َنزل َنا‬

‫ِإَل ْي َك الِّذ ْك َر لِتَُبِّي َن لِ َّلن ِ‬


‫اس َما ُن ِّزَل ِإَل ْي ِه ْم َوَل َعَّل ُه ْم َيتََف َّك ُرو َن‪. ‬‬

‫العامة لألحكام‬
‫ولو نظرنا إلى كل من القرآن والسنة‪ ،‬لوجدنا أن القرآن يشتمل على األصول ّ‬

‫الشرعية‪ ،‬من غير تعرض إلى تفصيلها جميعاً‪ ،‬ونجد أن أسلوبه أسلوب إجمالي في الغالب‪ ،‬ال‬
‫ّ‬
‫يمكن الوقوف منه على مراد هللا تعالى إال ببيان الرسول ‪ ،‬بقوله أو فعله أو إق ارره‪.‬‬

‫ولتوضيح ذلك‪ ،‬نورد اآلتي‪:‬‬

‫‪ 35‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪ .1‬تفصيل المجمل‪ :‬أمر هللا تعالى بإقام الصالة في آيات كثيرة‪ ،‬دون تفصيل‪ ،‬فجاءت السنة‬

‫وبينت أوقاتها‪ ،‬وأركانها‪ ،‬وعدد ركعاتها‪ ،‬وكان بيان ذلك بقول الرسول وفعله‪.‬‬

‫ط ُعوا أ َْيِد َي ُه َما‬ ‫ِق َو َّ‬


‫الس ِارَق ُة َفا ْق َ‬ ‫‪ .2‬تقييد المطلق‪ :‬أمر هللا تعالى بقطع يد السارق‪ ،‬فقال ‪َ ‬و َّ‬
‫السار ُ‬
‫ِ‬ ‫َّللاِ ۗ َو َّ‬
‫َّللاُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫يم ‪ ،‬واليد كما هو معلوم تطلق على كامل‬ ‫اال ِّم َن َّ‬
‫اء ِب َما َك َس َبا َن َك ً‬
‫َج َز ً‬

‫العضو من الكتف إلى رؤوس األصابع‪ ،‬فكان تقييدها بفعله‪ ،‬حيث بين عملياً أن القطع‬

‫يكون من الرسغ‪.‬‬

‫‪ .3‬تخصيص العام‪ :‬ومثال ذلك أن الصحابة حملوا الظلم في قوله تعالى ‪‬والذين آمنوا ولم‬

‫يلبسوا إيمانهم بظلم‪ ‬على المعنى العام‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول هللا أينا ال يظلم نفسه؟ فقال ليس‬

‫ان ِال ْبِن ِه َو ُه َو َي ِع ُ‬


‫ظ ُه َيا ُب َن َّي َال تُ ْش ِر ْك‬ ‫ال ُلْق َم ُ‬
‫ذلك إنما هو الشرك‪ ،‬ألم تسمعوا قوله ‪َ ‬وإِ ْذ َق َ‬

‫يم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ظْل ٌم َعظ ٌ‬ ‫اّللِ ۖ ِإ َّن ِّ‬
‫الش ْر َك َل ُ‬ ‫ِب َّ‬

‫‪ .4‬اإلضافة‪ :‬فقد جاءت السنة النبوية بأمور لم تذكر في القرآن الكريم‪ ،‬كتحريم الجمع بين‬

‫المرأة وعمتها أو خالتها‪.‬‬

‫‪ .5‬التأكيد‪ ،‬ومن ذلك قوله ‪ " ‬إن هللا ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "‪ ،‬يوافق قوله تعالى‬

‫يم َشِد ٌيد‪.‬‬ ‫ظالِم ٌة ۚ ِإ َّن أ ْ ِ‬ ‫ٰ‬


‫َخ َذهُ أَل ٌ‬
‫ِ‬ ‫‪َ ‬وَك َذلِ َك أ ْ‬
‫َخ ُذ َرِّب َك ِإ َذا أ َ‬
‫َخ َذ اْلُق َر ٰى َوه َي َ َ‬

‫وخالصة ذلك‪ ،‬أن القرآن والسنة مصدران تشريعيان‪ ،‬وال يمكن لمسلم فهم الدين إال بالرجوع‬

‫إليهما معاً‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫أقسام الحديث من حيث القبول أو الرد‬

‫اشتملت علوم الحديث على القواعد التي تميز الحديث المقبول من غير المقبول‪ ،‬وكان‬

‫العلماء قد قسموا الحديث بناء على ذلك إلى قسمين‪ ،‬هما الحديث المقبول والحديث المردود‪ .‬وهما‬

‫كالتالي‪:‬‬

‫‪ .1‬الحديث المقبول‪ :‬وهو الحديث الذي توافرت فيه شروط القبول في المتن والسند‪ ،‬وهو على‬

‫درجتين‪:‬‬

‫‪ -‬الصحيح‪ :‬وهو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ وال علة‪.‬‬

‫‪ -‬الحسن‪ :‬وهو مثل الصحيح‪ ،‬إال أن أحد رواه قد خف ضبطه قليالً‪.‬‬

‫وشروط قبول الحديث‪:‬‬

‫‪ .1‬اتصال السند‪ ،‬أي أن يكون كل رٍاو قد سمع عن شيخه الذي روى عنه‪.‬‬

‫‪ .2‬عدالة الرواة جميعاً‪ ،‬أي أن يكون كل رٍاو متصفاً بالصدق‪ ،‬لضمان عدم الكذب‪.‬‬

‫‪ .3‬ضبط الرواة‪ ،‬بمعنى أن يتصف كل رٍاو بالدقة العالية‪.‬‬

‫‪ .4‬أال يخالف الحديث الحقائق‪.‬‬

‫‪ .2‬الحديث المردود‪ :‬وهو الحديث الذي فقد شرطاً من شروط الحديث المقبول في السند أو‬

‫المتن‪ .‬كأن يكون السند منقطعاً‪ ،‬أو أن يكون راوي الحديث متصفاً بالوهم والنسيان‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫أقسام الحديث من حيث عدد الرواة‬

‫بناء على عدد رواته إلى قسمين رئيسين هما‪ :‬المتواتر واآلحاد‪.‬‬
‫قسم العلماء األحاديث ً‬

‫‪ .1‬المتواتر‪ :‬هو الحديث الذي رواه في كل طبقة من طبقات السند جماعة من الرواة يحيل‬

‫العقل اتفاقهم على الكذب عادة‪ ،‬أو وقوع الخطأ منهم جميعاً صدفة‪.‬‬

‫والتواتر على نوعين‪:‬‬

‫فينَقل الحديث بعدد كبير من الطرق‪ ،‬مثل‬


‫‪ -‬تواتر لفظي‪ :‬وهو أن يقع التواتر باللفظ ذاته‪ُ ،‬‬

‫حديث "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"‪.‬‬


‫ّ‬
‫‪ -‬تواتر معنوي‪ :‬وهو أن يرد معنى من المعاني في عدد من األحاديث تصل حد التواتر‪،‬‬

‫ولكن بألفاظ متعددة‪ ،‬مثل أحاديث رفع اليدين في الدعاء‪.‬‬

‫وال فرق عند العلماء بين النوعين من حيث الحكم أو االعتبار‪ ،‬حيث يعد منكر الحديث‬

‫المتواتر "لفظاً أو معنى"‪ ،‬كالمنكر آلية من القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪ .2‬اآلحاد‪ :‬وهو ما لم يصل حد التواتر‪ ،‬ويندرج تحت األنواع التالية‪:‬‬

‫‪ -‬المشهور‪ :‬وهو الذي رواه في كل طبقة من طبقات السند ثالثة فأكثر‪ ،‬ولم يصل حد‬

‫التواتر‪.‬‬

‫ومن األمثلة عليه حديث النبي ‪ " :‬من سئل عن علم فكتمه أُلجم بلجام من ناريوم‬

‫القيامة"‪.‬‬

‫‪ -‬العزيز‪ :‬وهو الذي رواه في طبقة من طبقاته اثنان‪ ،‬وال يقل عن ذلك في بقية الطبقات‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ومن األمثلة عليه قوله ‪" :‬ال يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده‬

‫والناس أجمعين"‪.‬‬

‫‪ -‬الغريب‪ :‬وهو الذي انفرد بروايته رٍاو واحد في طبقة واحدة أو أكثر‪.‬‬

‫ومن األمثلة عليه حديث النبي ‪" :‬إنما األعمال بالنيات"‪.‬‬

‫وفيما يخص حجية خبر اآلحاد في االعتقاد‪ ،‬فإنه يجب االيمان به‪ ،‬ولكن ال يكفر‬

‫منكره‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫السيرة النبوية‬

‫السيرة النبوية هي سجل األحداث المتعلقة برسول هللا‪ ‬وظروف الزمان والمكان المحيطة‬

‫بتلك األحداث‪.‬‬

‫‪ -‬العالقة بين السيرة النبوية والسنة‪ :‬تعد السيرة النبوية فرعاً من فروع السنة المطهرة‪ ،‬وباباً‬

‫مهماً من أبواب تصنيف الحديث‪.‬‬

‫‪ -‬العالقة بين السيرة النبوية والتاريخ اإلسالمي‪ :‬عالقة السيرة النبوية بالتاريخ اإلسالمي هي‬

‫عالقة األساس بالبناء‪ ،‬فأول ما دونه المؤرخون المسلمون من وقائع التاريخ وأحداثه هو‬

‫أحداث السيرة النبوية‪.‬‬

‫أهمية دراسة السيرة النبوية‪:‬‬

‫ال شك أن دراسة السيرة النبوية واجب إسالمي‪ ،‬وأن في السيرة من الفوائد والغايات والعبر‬

‫ما يجعل دراستها في غاية األهمية‪ .‬وتتضح أهميتها في‪:‬‬

‫‪ .1‬فهم شخصية الرسول ‪‬من خالل حياته وظروفه التي عاشها‪ ،‬والتأكد من أنه لم يكن‬

‫مجرد عبقري‪ ،‬ولكنه رسول أيده هللا بالوحي‪.‬‬

‫‪ .2‬االقتداء به ‪ ‬في جميع مجاالت حياته‪ ،‬ألن هللا جمع في شخصيته كل صفات األنبياء‬

‫ُس َوةٌ َح َس َن ٌة ‪.‬‬ ‫ول َّ ِ‬


‫ان َل ُكم ِفي رس ِ‬
‫َّللا أ ْ‬ ‫َُ‬ ‫والمرسلين في أوضح صورها‪ ،‬قال تعالى ‪َ ‬لَق ْد َك َ ْ‬

‫‪ .3‬فهم القرآن الكريم‪ ،‬فقد كانت اآليات تنزل على المناسبات‪ ،‬وال شك أن معرفة هذه المناسبات‬

‫تعين على فهم القرآن الكريم على الوجه الصحيح‪.‬‬

‫‪ .4‬الوقوف على تصرفاته ‪ ‬في مختلف األحوال‪ ،‬ومن خالل ذلك تتعرف على درجة المرونة‬

‫في مواجهة األحداث‪ ،‬وعلى حسن التدبير أمام المكائد‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫‪ .5‬بعث األمل في النفوس اليائسة‪ ،‬فقد أصبح الطريد من مكة سيدها‪ ،‬يمنح األمان لمن شاء‪.‬‬

‫خصائص السيرة النبوية‪:‬‬

‫تنفرد سيرة النبي محمد ‪‬عن سير السابقين من األنبياء والمصلحين بخصائص وميزات‬

‫عدة منها‪:‬‬

‫‪ .1‬وضوح هذه السيرة في كل مراحلها‪ ،‬منذ زواج عبد هللا والد الرسول بأمه آمنة بنت وهب‪،‬‬

‫إلى التحاقه ‪ ‬بالرفيق األعلى‪.‬‬

‫‪ .2‬شمول السيرة النبوية‪ ،‬وإحاطتها بجميع شؤون الحياة البشرية بجميع مجاالتها‪ ،‬مما يجعل‬

‫صاحبها ‪ ‬القدوة الصالحة في جميع مجاالت الحياة‪.‬‬

‫‪ .3‬صحة السيرة النبوية ونقاؤها‪ ،‬فقد ذكر قسم كبير منها في القرآن الكريم وفي كتب السنة‬

‫الصحيحة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫الوحدة الثالثة‬

‫" الثقافة اإلسالمية وتنظيم اجملتمع"‬

‫املبحث األول‪ :‬النظام األخالقي والرتبوي‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬أصول البناء األخالقي‪.‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬احلوار يف اإلسالم‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫المبحث األول‪ :‬النظام األخالقي والتربوي‬

‫يقوم النظام األخالقي والتربوي في اإلسالم على قاعدة اإليمان‪ ،‬واإليمان هو‪ :‬االعتقاد‬

‫الجازم‪ ،‬وهو اإلذعان بالقلب واإلقرار باللسان والعمل بالجوارح‪ .‬فال بد لإليمان الحقيقي أن يترجم‬

‫على لسان اإلنسان وجوارحه وسلوكه وأخالقه‪.‬‬

‫وهذا الفهم لإليمان هو الفهم اإليجابي العملي الذي يتجاوب مع حياة المسلم‪ ،‬ومن لم يثمر‬

‫أعماال صالحة تظهر في سلوكه اليومي فهو كالشجرة بال ثمر‪.‬‬


‫ً‬ ‫إيمانه‬

‫ولما سئل النبي ‪ ‬عن اإليمان أجاب ‪ " : ‬أن تؤمن باّلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم‬

‫وشره"‪.‬‬
‫اآلخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره ّ‬

‫جميعا‪ ،‬ولكل ركن من هذه‬


‫ً‬ ‫وهذه هي أركان اإليمان الستة التي ال يكتمل إيمان المسلم إال بها‬

‫األركان آثار تربوية من شأنها أن تقيم حياة المؤمن على السلوك القويم‪ ،‬وعلى النهج الذي أراده‬

‫جل لعباده‪.‬‬
‫هللا عز و ّ‬

‫وألهمية ركن اإليمان باّلل عز وجل وكونه الباعث على اإليمان بغيره من اإلركان‪ ،‬نفصل‬

‫قليال في أدلة وجود هللا عز وجل وتوحيده‪:‬‬


‫ً‬

‫أوًًل‪ :‬أدلة وجود هللا تعالى‪.‬‬

‫فيما يلي أهم األدلة التي تدل على وجود هللا تعالى‪:‬‬

‫‪ .1‬الدليل الفطري‪ :‬فاإلنسان يحس من داخله بأن له رباًّ خالقاً ومدب اًر‪ ،‬فاإلنسان يجد نفسه‬

‫مضط اًر ساعة الفزع والشدة إلى هللا تعالى‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫وجه هللا سبحانه اإلنسان إلى الكون العظيم وما فيه من آيات مبثوثة‪ ،‬وجعل‬
‫‪ .2‬الدليل الكوني‪ّ :‬‬

‫هذه األدلة الكونية في اآلفاق وفي األرض نموذجاً ثابتاً لالستدالل على وجوده‪ ،‬ومن هذه‬

‫األدلة الكونية‪:‬‬

‫دليل الخلق أو اإلبداع أو الحدوث‪ ،‬أي أن كل مخلوق ال بد له من خالق‪ ،‬وال يمكن أن يكون ذلك‬

‫صدفة‪ ،‬وال يمكن أن تكون المخلوقات قد خلقت نفسها‪ ،‬وهذا دليل عقلي ذكره هللا تعالى‪ ،‬فقال ‪‬أ َْم‬

‫ُخلُِقوا ِم ْن َغ ْي ِر َشي ٍء أ َْم ُه ُم اْل َخالُِقو َن‪.36‬‬


‫ْ‬

‫دليل التنظيم والعناية‪ ،‬فالكون في غاية التنظيم والعناية واالتقان‪ ،‬بحيث يؤدي كل مخلوق فيه‬

‫الغرض من خلقه‪ ،‬بما يجعل للكون عمالً منتظماً‪ ،‬وأدوا اًر متكاملة متناسقة‪ ،‬وال يمكن أن يكون ذلك‬

‫صدفة‪ ،‬أو من تنظيم نفسه‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬توحيد هللا عز وجل‪.‬‬


‫ً‬

‫ذهب العلماء إلى أن التوحيد ثالثة أنواع‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪ .1‬توحيد الربوبية‪ :‬ويعني اإلقرار بأن هللا تعالى خالق كل شيء والمتصرف فيه‪ ،‬فهو المحيي‬

‫المميت‪ ،‬النافع الضار‪ ،‬الذي له األمر كله‪ ،‬القادر على كل شيء‪ ،‬ليس له في ذلك شريك‪.‬‬

‫وتوحيد الربوبية أمر مركوز في فطرة االنسان‪ ،‬ال يكاد ينازع فيه أحد‪ ،‬حتى المشركين‬

‫ض‬ ‫ِ‬ ‫الذين بعث فيهم رسول هللا ‪ ،‬كانوا يقرون بذلك ‪َ ‬وَلِئن َسأَْلتَ ُهم َّم ْن َخَل َق َّ‬
‫الس َم َاوات َو ْاأل َْر َ‬

‫اْل َعلِيم‪.37‬‬ ‫َل َيُقوُل َّن َخَلَق ُه َّن اْل َع ِز ُيز‬


‫ُ‬

‫‪ 36‬سورة الطور‪،‬‬
‫‪ 37‬سورة الزخرف‪87 ،‬‬

‫‪51‬‬
‫‪ .2‬توحيد األلوهية‪ :‬ومعناه إفراد هللا سبحانه وتعالى بالطاعة المطلقة‪ ،‬فاّلل سبحانه وتعالى‬

‫هو وحده المعبود بحق‪ .‬وهذا التوحيد هو الذي وقع النزاع فيه بين الرسل وأممهم‪ ،‬فالمشركون‬

‫كانوا يتخذون من جون هللا أنداداً‪ ،‬ويعتقدون أن لهم حقاً في الطاعة مع هللا عز وجل فيما‬

‫شرعوا لهم من شرائع وقوانين‪.‬‬

‫‪ .3‬توحيد األسماء والصفات‪ :‬ومعناه االعتقاد الجازم بأن هللا سبحانه وتعالى وحده متصف‬

‫بجميع صفات الكمال‪ ،‬ومنزه عن جميع صفات النقص‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫النظام األخالقي ومفهوم األخالق‬

‫الس ِجّية والمروءة‪ ،‬كما أنه أمر معنوي‪،‬‬


‫الخُلق يطلق على الطبع و َ‬
‫األخالق لغ ًة جمع ُخُلق‪ ،‬و ُ‬

‫الخُلق بأنه صفة نفسية‬


‫يعرف ُ‬
‫والسلوك هو المظهر العملي للخُلق‪ ،‬ينبثق عنه ويدل عليه‪ ،‬ولذلك َّ‬

‫لصيقة لإلنسان يصدر عنها سلوكه‪.‬‬

‫والثقافة اإلسالمية تشمل المجال األخالقي والسلوكي للمجتمع والدولة واألمة‪ ،‬واألخالق‬

‫والسلوك كالهما يقومان على اإليمان‪ ،‬ويمارسان عملياً بعبادة هللا تعالى‪.‬‬

‫كما أن األخالق هدف مهم من أهداف اإلسالم‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلّم " إنما‬

‫بعثت ألتمم مكارم األخالق"‪ ،‬ولذلك جعل اإلسالم عقيدته وعبادته وأنظمته وشريعته ملفوفة باإلطار‬

‫الخُلقي في كل المجاالت‪ ،‬واإلسالم يتكون إلى جانب األخالق من عقيدة وشريعة‪ ،‬والشريعة تتكون‬
‫ُ‬

‫جميعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫من عبادات ومعامالت وغير ذلك وقد ارتبط الجانب الخلقي بذلك‬

‫الخُلق باإليمان‪ ،‬ويتضح ذلك من قول الرسول‪‬‬


‫‪ -‬ففي جانب العقيدة‪ :‬يرتبط ُحسن ُ‬

‫الخُلق أكمل درجات اإليمان‪،‬‬


‫"أكمل المؤمنين ايماناً أحسنهم أخالقاً"‪ ،‬حيث جعل ُحسن ُ‬

‫وحين ُسئل‪ :‬يا رسول هللا قل لي في اإلسالم قوالً ال أسأل عنه أحد غيرك‪ ،‬قال" قل‬

‫آمنت باّلل ثم استقم"‬

‫القيِم من غير اعوجاج‪ ،‬ويشمل ذلك‬


‫واالستقامة هي سلوك الصراط المستقيم‪ ،‬وهو الدين ّ‬

‫فعل الطاعات كلها‪ ،‬الظاهرة والباطنة‪ ،‬وترك المنهيات كلها كذلك‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫‪ -‬وفي جانب العبادات التي شرعت في اإلسالم واعتبرت أركاناً في اإليمان‪ ،‬نجد أنها‬

‫كما يقول الغزالي‪ :‬تمارين مكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخالق صحيحة وأن يظل‬

‫متمسكاً بهذه األخالق‪ ،‬مهما تغيرت أمامه الظروف‪.‬‬

‫فلو نظرنا إلى الصالة نجد أن حقيقتها تتمثل في االبتعاد عن الرذائل‪ ،‬والتطهير من سوء‬

‫الص َالة تَ ْنهى ع ِن اْلَفح َش ِ‬ ‫القول وسوء العمل‪ ،‬حيث قال تعالى ‪َ ‬وأ َِق ِم َّ‬
‫نك ِر‪38‬‬
‫اء َواْل ُم َ‬ ‫ْ‬ ‫الص َال َة ۖ ِإ َّن َّ َ َ ٰ َ‬

‫وكذلك األمر بالنسبة لبقية العبادات‪ ،‬فالزكاة فيها غرس لمشاعر األلفة والرحمة وتنمية‬

‫لروح التكافل والتضامن في المجتمع‪ ،‬والصيام تربية وتهذيب للنفس ورقي للروح‪ ،‬والحج تطهير‬

‫وتنقية من الرفث والفسوق حتر يكون مبرو اًر ال جزاء له إال الجنة‪.‬‬

‫‪ -‬وكذلك األمر في جانب المعامالت والتشريعات‪ ،‬حيث نجد أن مقاصد الشريعة مقاصد‬

‫أخالقية حيث أنها تكمن في تحقيق الخير ودفع الشر‪.‬‬

‫‪ 38‬سورة العنكبوت‬

‫‪54‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أصول البناء األخالقي‬

‫يقوم البناء الخلقي والسلوك االجتماعي في األخالق اإلسالمية على أصول ثالثة‪:‬‬

‫‪ .1‬اإللزام‪.‬‬

‫ومعناه من الذي يلزم اإلنسان باألخالق؟ هل هو هللا‪ ،‬أم المجتمع‪ ،‬أم النفس‪ .‬وقد جمع‬

‫اإلسالم بين هذه المصادر الثالثة‪ ،‬لكنه جعل المصدر الرباني هو األساس‪ ،‬وجعل المصدرين‬

‫اآلخرين مصدرين مساعدين‪ .‬ولكن النفس والمجتمع فيهما إمكان الخطأ‪ ،‬ولذلك فإن تعارض شيء‬

‫منهما مع المصدر الرباني قدمناه عليهما‪ ،‬وإذا ما اتفقت المصادر الثالثة فإن الدافع يكون قوياً‬

‫لعمل الخير‪.‬‬

‫وبهذا يحارب اإلسالم في بنائه لألخالق والسلوك ثالثة أعداء يمكن أن تضغط على‬

‫اإلنسان‪ ،‬وهي التقليد األعمى؛ فيعيب على الذين يتبعون اآلباء ويقلدونهم دون استعمال لعقولهم‪،‬‬

‫والهوى وهو السير وراء الشهوات دون استعمال للعقل‪ ،‬والطاغوت وهو كل قوة ضغط تخالف‬

‫الشرع‪.‬‬

‫‪ .2‬المسؤولية‪.‬‬

‫يقتضي كل إلزام مسؤولية يتحملها اإلنسان عن أفعاله‪ ،‬ومن ثم فإن اإلنسان مسؤول عن‬

‫أعماله أمام هللا‪ ،‬وأمام مجتمعه‪ ،‬وأمام نفسه‪.‬‬

‫‪ .3‬الجزاء‪.‬‬

‫وهو الثمرة الكبرى التي يجنيها اإلنسان على أعماله‪ ،‬فالجزاء في اآلخرة إحدى المزايا‬

‫الكبرى والخصائص العامة التي تميز األخالق اإلسالمية عن غيرها‪ .‬حيث يربط اإلسالم بين أفعال‬

‫‪55‬‬
‫الخلقية وبين اإليمان باآلخرة‪ ،‬ويجعل الجزاء حاف اًز قوياً بالترغيب والترهيب‪ ،‬من أجل ضمان‬
‫العبد ُ‬

‫مسار خلقي سليم وسلوك اجتماعي نظيف للمسلم‪.‬‬

‫منظومة األخالق اإلسالمية‬

‫الذاتية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أوًلً‪ :‬األخالق‬

‫على اإلنسان أن يزكي نفسه ويبنيها عقلياً وروحياً ونفسياً وجسمياً‪ ،‬فهي األمانة األولى‬

‫التي ال بد أن يوليها اهتمامه‪ ،‬ولذا كان على اإلنسان أن يأخذ نفسه باألخالق الحسنة في مختلف‬

‫الجوانب‪ ،‬وخاصة في األمور التالية‪:‬‬

‫‪ .1‬التعلم والتعليم‪.‬‬

‫فالعلم هو المكون األول لشخصية اإلنسان‪ ،‬وال بد من مراعاة األخالق التالية‪:‬‬

‫‪ -‬أخالق المتعلم‪ :‬كاإلخالص‪ ،‬والتأدب مع األستاذ‪ ،‬والجدية في التعلم‪ ،‬والعمل بما يتعلم‪،‬‬

‫والمحافظة على المؤسسات التعليمية‪.‬‬

‫‪ -‬آداب المعّلِم‪ :‬كاإلخالص في التعليم‪ ،‬واختيار الموضوعات العلمية وأساليب التربية‬

‫المناسبة للطلبة‪ ،‬وأن يكون قدوة حسنة لهم‪.‬‬

‫‪ .2‬آداب العبادة‪ ،‬كاإلخالص هلل تعالى والخشوع والخضوع‪.‬‬

‫كالحلم واألناة وعدم الغضب‪ ،‬والتواضع وعدم ِ‬


‫الك َبر والغرور‪.‬‬ ‫‪ .3‬التوازن في الشخصية‪ِ ،‬‬

‫‪ .4‬آداب القلب‪ ،‬كالخوف والرجاء‪ ،‬والتفكير والبعد عن الغفلة‪ ،‬واستشعار النعمة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ .5‬آداب اللسان‪ ،‬كالذكر في كل األحوال‪ ،‬وقول الخير والبعد عن قول الشر‪ ،‬والصدق في‬

‫الحديث وعدم رفع الصوت‪ ،‬والنهي عن آفات اللسان من غيبة ونميمة ولمز وتحقير‬

‫واستهزاء‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬األسرة في اإلسالم واألخالق األسرية‪.‬‬

‫قليال على موضوع األسرة في‬


‫قبل البدء في الحديث عن األخالق األسرية ال بد من التعريج ً‬

‫اإلسالم‪.‬‬

‫األسرة في اإلسالم‪:‬‬

‫يولي اإلسالم أهمية بالغة للحفاظ على األسرة‪ ،‬ويؤكد القرآن الكريم أن البشر هم أكرم مخلوقات هللا‬

‫أن األسرة تُعد‬


‫خلفاء في األرض‪ ،‬فهم بحاجة إلى تأهيل وإعداد للقيام بهذه المهمة‪ ،‬كما ّ‬
‫ٌ‬ ‫جميعا وهم‬
‫ً‬

‫ضرورة للبشر جميعا لتحقيق الصحة النفسية الكاملة؛ فالحاجة إلى ألفة حقيقية وصحيحة ال تكتمل‬

‫زوجا‪ ،‬فال يحصل المرء على الراحة النفسية الكاملة واكتمال دينه إال ضمن‬
‫إال إذا صار الفرد ً‬

‫قدسية الزواج‪ ،‬كما يؤكد لنا القرآن الكريم‪( :‬هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)‪.‬‬

‫ظم اإلسالم هذه‬


‫‪ -‬إذن هناك حاجة نفسية في النفس البشرية السوية إلى الجنس اآلخر‪ ،‬ن ّ‬

‫الحاجة من خالل عالقة الزواج‪.‬‬

‫‪ -‬لكن الواقع المشاهد اليوم أن هناك اضطراب وخلل في المقدمات والعالقات التي تسبق‬

‫هذا الزواج‪ ،‬يتمثل هذا الخلل االجتماعي والديني في العالقات المحرمة باختالف‬

‫أن هناك تقصير كبير من كلي الجنسين في اعتبار الشروط‬


‫درجاتها قبل الزواج‪ ،‬كما ّ‬

‫الصحيحة في اختيار شريك الحياة؛ ثم سرعان ما تظهر ثمرات هذا االستهتار على‬

‫شكل مشاكل تطفو على السطح بعد الزواج ويرى كل طرف اآلخر على حقيقته‪ ،‬بغير‬

‫‪57‬‬
‫العين التي كان يرى بها قبل الزواج؛ كما ورد في األثر‪" :‬حبك الشيء يعمي ويصم"؛‬

‫أبدا من شأن الحب‪ 39‬والميل العاطفي في مشروع الزواج‪ ،‬بل هو معتبر شرًعا‬
‫ال نقلل ً‬

‫كما جاء في األثر‪" :‬لم َير للمتحابين إال الزواج"‪ ،‬لكن ما نحن بصدده هو‪ :‬توسيع‬

‫األفق بحيث ُيؤخذ بعين االعتبار أمور مهمة ج ًدا في اختيار شريك الحياة ال تقل‬

‫أهمية عن الحب‪ ،‬بل إن غيابها في كثير من األحيان كفيل بنسف هذا الحب بين‬

‫الطرفين بعد الزواج‪ ،‬فكم من حالة طالق سمعنا بها كانت بين طرفين جمعهما الحب‬

‫والعشق‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫التي البد من أخذها في عين االعتبار عند‬ ‫‪ -‬وقد اجتهد العلماء في بيان الشروط‬

‫اختيار شريك الحياة سواء زوجة أو زوج‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬

‫فمما يؤخذ بعين االعتبار عند اختيار الزوجة‪ :‬اإلسالم‪ ،‬والصالح والحياء‪ ،‬والوعي‪،‬‬

‫والطاعة‪ ،‬والنظافة‪ ،‬والجمال‪ ،‬والحسب‪ ،‬وأن ال تكون قرابة قريبة‪ ،‬والحب‪.‬‬

‫ومما يؤخذ بعين االعتبار عند اختيار الزوج‪ :‬اإلسالم‪ ،‬والصالح والحياء‪ ،‬والوعي‪ ،‬والباءة‪،‬‬

‫والنظافة‪ ،‬والجمال‪ ،‬والحسب‪ ،‬وأن ال يكون قرابة قريبة‪ ،‬والحب‪.‬‬

‫‪ 39‬يتعامل اإلسالم مع السلوكيات الناجمة عن هذه العالقة العاطفية‪ ،‬فيعطي من األحكام ما يضبط هذه النفوس‪ ،‬كذلك يعطي أحكا ًما قبل‬
‫أصال حتى ال يصل الفرد إلى التعلق العاطفي‪ ،‬كغض البصر وعدم الخلوة واالختالط المحرم وغير ذلك من األحكام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بداية هذه العالقة‬
‫رفقًا بالنفس البشرية‪ ،‬حيث إن وقوع الفرد في عالقة حب هو في حد ذاته مأزق كبير لما ينجم عنه من مجاهدة للنفس تتمثل في عجز‬
‫النفس غالبًا في التخلص من سيطرة المحبوب على فكره كذلك المجاهدة في عدم الوقوع في سلوكيات خاطئة يولدها هذا الحب‪ ،‬والحال‬
‫اليوم أن الكثرة قد تجرأت في هذه السلوكيات ووقعت فيها؛ تجرؤ في الكالم والتواصل والتراسل وقد يتطور األمر إلى مواعيد ولقاءات‬
‫و ‪...‬؛ فانظر إلى أي حد أوصلتنا تلك البدايات‪ ،‬وإما أن ينتهي هذا الحب بزواج‪ ،‬وفي الغالب ال تكون النهاية كذلك؛ فتكون ثمرة هذه‬
‫(ذكرا أو أنثى) معذبًا بذكريات حبيب قديم على الرغم من زواجه بآخر لكن ذلك الحبيب ال يغيب عن المخيلة وال سعادة‬‫ً‬ ‫العالقة إنسانًا‬
‫في ال حياة حتى وإن توفرت كل أسباب السعادة المادية؛ فأي جحيم أكبر من ذلك؛ فاإلسالم في أحكامه كلها وإن كان في ظاهر بعضها‬
‫منع إنما يريد سعادة اإلنسان وطمأنينته وسكينته في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫‪40‬هذه شروط اجتهادية وضعها علماء عاملين في المجال االجتماعي واألسري وقد الحظوا أن ُجل المشاكل بين الزوجين إنما هو‬
‫عائد إلى غياب واحد أو أكثر من هذه الشروط‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫ففي حالة تمكن الطرفان من التحقق من الشروط العشرة السابقة نتحدث هنا عن زواج‬

‫جاهدا أن يجد هذه‬


‫ً‬ ‫مثالي‪ ،‬ندر أن تشوبه مشاكل أو عوائق‪ ،‬وعلى الفرد أن يسعى‬

‫الشروط في شريك حياته‪ ،‬فإن لم يكن كلها فال أقل من معظمها‪.‬‬

‫أما فيما يتعلق باألخالق بين الزوجين فإن من أهمها‪ :‬حسن العشرة بين الزوجين‪ ،‬وحفظ‬
‫ّ‬

‫األسرار الزوجية‪.‬‬

‫األخالق بين اآلباء واألبناء‪.‬‬

‫يط أر بعد الزواج عامل آخر للنمو والتطور وهو الرغبة في إنجاب أوالد وتكوين أسرة؛ فالرغبة‬

‫في اإلنجاب تحقق السعادة النفسية‪ ،‬وبعد وجود األطفال ينتقل الزوجين إلى مرحلة جديدة هي‬

‫مرحلة األبوة واألمومة‪ ،‬فأصبح لألسرة جانبان اثنان‪ ،‬هما جانب الوالدين وجانب األوالد‪ ،‬وتشمل‬

‫هذه التغيرات في شكل االسرة الصعوبات والتحديات من جانب‪ ،‬والفرح والسعادة من جانب آخر‪.‬‬

‫‪ -‬في اإلسالم تقام العالقات األسرية على نظرية األدوار والمسؤوليات والواجبات‪ ،‬وليس‬

‫على نظرية الحق وحده كما هي في الثقافة الغربية‪.‬‬

‫‪ -‬ومن أهم حقوق الطفل على والديه‪:‬‬

‫صالحا له‪ ،‬ويحسن اختيار اسمه‪،‬‬


‫ً‬ ‫‪ .1‬أن يختار األب أماً صالحة له‪ ،‬وتختار األم ًأبا‬

‫وينفق عليه‪ ،‬ويعلمه االيمان ويدربه على العبادة‪ ،‬والرحمة والتلطف بهم‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫‪ .2‬تربيته تربية إسالمية على ضوء توجيهات الشرع وقيمه‪ ،41‬حيث تبدأ الصفات‬

‫الشخصية للفرد بالتكون في مرحلة الطفولة؛ إذ من الممكن أن يكتسب األوالد‬

‫الخبرات والمهارات المختلفة في وقت الحق على حين يبدأ تكوين شخصية الطفل‬

‫وأخالقه وقيمه في السنين األولى ابتداء من الرضاعة ومرحلة ما قبل المدرسة وال‬

‫بد للوالدين من التيقن أن مرحلة التربية هي أولى ما تكون في تلك المراحل العمرية‬

‫وال يحتمل األمر التأجيل‪.‬‬

‫أما عن حقوق اآلباء على األبناء‪ :‬فمنها اإلحسان لهم بالطاعة‪ ،‬والنفقة والرعاية‪ ،‬وأن‬
‫‪ّ -‬‬

‫يجنب والديه اإلهانة والشتم وذلك بعدم شتم اآلخرين‪.‬‬

‫‪ -‬أخالق صلة األرحام وذوي القربى‪ :‬شرع اإلسالم خلق صلة الرحم واألقارب‪ ،‬توثيقاً‬

‫للروابط االجتماعية‪ ،‬وذلك بالوقوف بجانبهم في أفراحهم وأتراحهم‪ ،‬ومساعدتهم‬

‫ومناصرتهم‪ ،‬وأحيانا بوجوب االنفاق عليهم‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬األخالق المجتمعية‪.‬‬

‫‪ .1‬الخلق مع الجيران‪ :‬للمسلم جيران لهم عليه حقوق‪ ،‬وعليه أن يعاملهم معاملة طيبة‪ ،‬فال‬

‫يطلع على عوراتهم‪ ،‬وأن يحفظ أسرارهم‪ ،‬ويزور مرضاهم‪.‬‬

‫‪ 41‬غالبًا ما يكون اآلباء الجدد يفتقرون إلى الخبرة في الممارسة الوالدية؛ فيحتاجون أن يتعلموا كيف يتعاملون مع األبناء‬
‫حتى قبل أن يكونوا أجنّة في بطون أمهاتهم‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أننا نكد ونجتهد في جمع المال واقتناء المسكن األنيق والسيارات الفارهة واالثاث الفاخر‪ ،‬فإننا نغفل لألسف‬
‫أن األمور تسير بصورة جيدة‪ ،‬من دون أن نعد لها اإلعداد المناسب‪،‬‬‫عن بذل جهد مماثل في تربية أبنائنا‪ ،‬على افتراض منا ّ‬
‫وهكذا تُترك التربية عرضًا من غير سابق تدبير وهذه مجازفة كبيرة‪ ،‬ومخاطرها جسيمة‪.‬‬
‫في الغالب يعتمد األمهات واآلباء في التربية على التجارب السابقة اكتشفوا فيها الصواب من الخطأ من خالل تجربة شخصية؛‬
‫حقال لتجاربهم‪.‬غير ّ‬
‫أن المشكلة‬ ‫لذا قد يكون آداء الوالدين مع أطفالهم الالحقين أفضل من آدائهم مع الطفل األول الذي كان ً‬
‫متأخرا أو بعد فوات األوان‪ ،‬إذ يكون األبناء وقتئذ قد كبروا‬
‫ً‬ ‫تكمن في أن اآلباء يتعملون هذه الدروس –التي ال تقدر بثمن‪-‬‬
‫ووصلوا إلى مرحلة النضج والبلوغ‪ ،‬ويصعب على اآلباء اإلفادة الكاملة مما تعلموه لتطبيقه على أبنائهم‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫‪ .2‬أخالق األخوة اإلسالمية‪:‬‬

‫‪ -‬احترام المؤمن في نفس أخيه‪ ،‬وحب الخير له‪ ،‬وحبه في هللا‪ ،‬والتعاون معه ومودته‬

‫ونصيحته‪.‬‬

‫‪ -‬إصالح ذات البين‪.‬‬

‫‪ -‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫‪ .3‬األخالق مع غير المسلمين‪ :‬يأمر اإلسالم بالتعامل مع الناس باألخالق الحسنة بغض‬

‫النظر عن ديانتهم ومعتقداتهم وألوانهم وأجناسهم‪ .‬فلغير المسلمين المواطنين كافة حقوق‬

‫المواطنة‪ ،‬ولهم حرياتهم الدينية‪ ،‬ولغير المسلمين من غير المواطنين حقوقهم حتى لو كانوا‬

‫محاربين كالوفاء بالعهد وعدم الغدر‪ ،‬وتمكينهم من سماع كلمة الحق‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬األخالق في التعامل مع البيئة‪.‬‬

‫‪ .1‬الحفاظ على نظافة المكان والبيئة المحيطة‪.‬‬

‫‪ .2‬الحفاظ على نظافة الطعام والمياه ومصادرها وعدم تلويثها‪.‬‬

‫‪ .3‬الحفاظ على األشجار‪.‬‬

‫‪ .4‬اإلحسان إلى الحيوان‪.‬‬

‫‪ .5‬الحفاظ على المرافق العامة‪.‬‬

‫بناء على ما تقدم ذكره‪ ،‬أصبح من الواضح لدينا كيف تعمل الثقافة اإلسالمية على إعداد‬

‫المسلم لحياتي الدنيا واآلخرة إعداداً كامالً من جميع النواحي‪ ،‬وفي جميع مراحل نموه‪ ،‬في ضوء‬
‫ّ‬
‫المفاهيم والمبادئ والقيم التي جاء بها اإلسالم‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬الحوار في اإلسالم‪.‬‬

‫االختالف بين البشر قضية واقعية‪ ،‬ومنهج تعامل العقالء مع هذه القضية هو الحوار الذي‬

‫يوصلهم إلى الحص‪ ،‬ويجنبهم مظاهر الخالف والتنازع‪.‬‬

‫الفرق بين الحوار والجدل‪.‬‬

‫الحوار هو التعبير عن الرأي وسماع الرأي اآلخر‪ ،‬ومناقشته للوصول إلى الحقيقة‪ .‬بينما‬

‫‪42‬‬
‫ان أَ ْكثَ َر َشي ٍء َج َد ًال‪‬‬
‫نس ُ‬ ‫الجدل ففيه غالباً خصومة وتعصب للرأي‪ ،‬قال تعالى ‪ ‬وَك َ ِ‬
‫ان ْاإل َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬

‫ويمكن أحياناً قليلة إطالق كلمة الجدال دون أن يراد بها الخصام‪ ،‬مع ذكر ما يميزها‪ ،‬قال‬

‫ِ ِ َّ َِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َه َل اْلكتَاب ِإال ِبالتي ه َي أ ْ‬
‫‪43‬‬
‫َح َس ُن‪‬‬ ‫تعالى ‪َ ‬وَال تُ َجادلُوا أ ْ‬

‫أسس الحوار وضوابطه‪.‬‬

‫‪ .1‬مخاطبة العقل‪.‬‬

‫ألن هدف الحوار هو اإلقناع والوصول للحق وتفهم وجهة نظر اآلخر‪ ،‬وذلك ال يكون إال‬

‫باالعتماد على الحجة والمنطق‪ ،‬بعيداً عن العواطف ونزعات النفس‪ ،‬وهذا هو الشرط األهم في أي‬

‫حوار بين العقالء‪.‬‬

‫النبي ‪ ‬فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ائذن لي بالزنا!‪،‬‬


‫وعن أبي أمامة ‪‬قال‪ :‬إن فتى شابا أتى َّ‬

‫فأقبل القوم عليه فزجروه‪ ،‬وقالوا‪ :‬مه مه‪ ،‬فقال‪ :‬ادنه‪ ،‬فدنا منه قريبا‪ ،‬قال‪ :‬فجلس‪ ،‬قال‪ :‬أتحبه‬

‫َّللا فداك‪ ،‬قال‪ :‬وال الناس يحبونه ألمهاتهم‪ ،‬قال‪ :‬أفتحبه البنتك؟‪،‬‬
‫وَّللا‪ ،‬جعلني َّ‬
‫ألمك؟‪ ،‬قال‪ :‬ال َّ‬

‫َّللا فداك‪ ،‬قال‪ :‬وال الناس يحبونه لبناتهم‪ ،‬قال‪ :‬أفتحبه ألختك؟‬
‫َّللا جعلني َّ‬
‫وَّللا‪ ،‬يا رسول َّ‬
‫قال‪ :‬ال َّ‬

‫‪ 42‬سورة الكهف‬
‫‪ 43‬سورة العنبوت‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫َّللا فداك‪ ،‬قال‪ :‬وال الناس يحبونه ألخواتهم‪ ،‬قال‪ :‬أفتحبه لعمتك؟ قال‪ :‬ال‬
‫وَّللا‪ ،‬جعلني َّ‬
‫قال‪ :‬ال َّ‬

‫وَّللا جعلني‬
‫َّللا فداك‪ ،‬قال‪ :‬وال الناس يحبونه لعماتهم‪ ،‬قال أفتحبه لخالتك؟ قال‪ :‬ال َّ‬
‫َّللا‪ ،‬جعلني َّ‬
‫و َّ‬

‫هم اغفر ذنبه وطهر‬ ‫َّ‬


‫َّللا فداك‪ ،‬قال‪ :‬وال الناس يحبونه لخاالتهم قال‪ :‬فوضع يده عليه وقال‪" :‬الل ّ‬
‫َّ‬

‫قلبه‪ِ ،‬‬
‫ص ْن ْفر َجه"‪ ،‬فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء‪.‬‬
‫وح ّ‬
‫َ‬

‫‪ .2‬إمكان صواب اآلخر‪.‬‬

‫فال بد من التسليم الجدلي بأن اآلخر قد يكون على حق‪ ،‬فبعد محاورة طويلة في األدلة‬
‫ّ‬
‫ض َال ٍل‬ ‫ِ‬ ‫على وحدانية هللا تعالى يأمر سبحانه تعالى نبيه ‪‬أن يقول ‪َ ‬وإَِّنا أ َْو ِإي ُ‬
‫َّاك ْم َل َعَل ٰى ُهًدى أ َْو في َ‬

‫ُّمِب ٍ‬
‫ين ‪ ،44‬وهذا دليل على األدب الرفيع واألسلوب األمثل في الحوار‪ ،‬ليحفزهم على التدبر والتفكر‬

‫الغَلبة والتفوق‪.‬‬
‫بأسلوب ليس فيه اعتداد أو تكبر أو الرغبة في إظهار َ‬

‫‪ .3‬اإلنصاف والرجوع إلى الحق عند ظهوره‪.‬‬

‫ال بد أن يكون الحوار مع من ُع ِر َ‬


‫ف منه اإلنصاف وقبول الحق‪ ،‬وهذا مطلوب من الطرفين‪،‬‬

‫حتى يستمع لآلخر بإقبال وتجرد‪ .‬وقّلة اإلنصاف تسقط احترام الشخص ألنها تظهره معانداً للحق‪.‬‬

‫حداً للمهور‪،‬‬
‫ومن صور االنصاف والرجوع أن عمر بن الخطاب ‪ ‬بدا له أن يضع ّ‬

‫فخطب قائالً " أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬

‫وأصحابه الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ولو كان اإلكثار في ذلك تقوى عند هللا‬

‫أو كرامة لم تسبقوهم إليها فألعرفن ما زاد الرجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم"‪ ،‬فاعترضته‬

‫امرأة من قريش فقالت ‪ :‬يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة‬

‫درهم ؟ قال ‪ :‬نعم فقالت ‪ :‬أما سمعت ما أنزل هللا في القرآن ‪ ،‬قال ‪ :‬وأي ذلك قالت أما سمعت‬

‫‪ 44‬سورة سبأ‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ار ‪ ‬فقال‪ :‬اللهم غفرا‪ ،‬كل الناس أفقه من عمر‪ ،‬ثم رجع فركب‬ ‫اه َّن ِق ْن َ‬
‫ط ًا‬ ‫هللا يقول ‪َ ‬وآتَ ْيتُ ْم ِإ ْح َد ُ‬

‫المنبر‪ ،‬فقال ‪ :‬أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن‬

‫شاء أن يعطي من ماله ما أحب‪.‬‬

‫‪ .4‬اعتماد الدليل العلمي‪.‬‬

‫اجو َن ِفي َما َل ْي َس َل ُكم ِب ِه ِعْل ٌم ۚ‬


‫يما َل ُكم ِب ِه ِعْل ٌم َفلِ َم تُ َح ُّ‬ ‫ِ‬
‫اج ْجتُ ْم ف َ‬
‫ٰ ِ‬
‫يقول تعالى ‪َ ‬ها أَنتُ ْم َه ُؤَالء َح َ‬

‫‪ ،45‬فالعلم شرط مهم في الحوار الهادف حتى يتميز الحق من الباطل‪.‬‬

‫‪ُ .5‬حسن اإلنصات لآلخر وعدم مقاطعته‪.‬‬

‫يسر المحاور ويجعله يثق بصدق الطرف اآلخر وجديته في الوصول للحق‪ ،‬وقد نقل‬
‫فذلك ُ‬

‫إلينا القرآن الكريم كيف أنصت األنبياء ألقوامهم وسمعوا منهم مقاالتهم ثم قاموا بمحاورتهم‪ ،‬ومنها‬

‫محاورة موسى وإبراهيم ومحمد ‪-‬عليهم السالم‪ -‬ألقوامهم‪.‬‬

‫‪ .6‬التركيز على نقطة الخالف‪.‬‬

‫فالكثير من مجالس الحوار والمناظرات ينتقل فيها الحديث من قضية إلى قضية وتتداخل‬

‫األفكار والخواطر بحيث تضيع الفكرة األصلية‪ ،‬فالعبرة ليست بكثرة الكالم إنما بما فيه من منفعة‪.‬‬

‫ِ‬
‫المحاور‪.‬‬ ‫‪ .7‬احترام‬

‫فكيف يكون هناك حوار حقيقي هادف دون احترام الطرف اآلخر؟ دون ايذائه أو تسفيه‬

‫رأيه‪ ،‬فاالختالف ال يفسد للود قضية‪.‬‬

‫‪ 45‬سورة آل عمران‬

‫‪64‬‬
‫‪ .8‬الوضوح في اللغة واألسلوب‪.‬‬

‫فذلك يعمل على توفير الكثير من الوقت والجهد في الحوار وهو ضروري إلنجاح الحوار‪.‬‬

‫‪ .9‬االهتمام باألولويات‪.‬‬

‫وهو التركيز في المحاورات على ما تدعو إليه حاجة الناس‪ ،‬فالقضايا كثيرة‪ ،‬وينبغي أن‬

‫يختار المحاور ما فيه فائدة عاجلة للناس‪ ،‬ويؤجل الحديث في غيرها إلى ان يحين أوانها‪ .‬فالقرآن‬

‫الكريم نزل متدرجاً‪ ،‬فقد بدأ نزول آيات العقيدة وااليمان والبعث والترغيب والترهيب‪ ،‬إلى أن أصبح‬

‫االيمان مستق اًر في قلوب الصحابة نزلت آيات األحكام‪.‬‬

‫ابيا قال‬ ‫وقد كان النبي ‪ ‬القدوة في توجيه الناس إلى ما أهم في حياتهم‪ ،‬فقد ورد أ َّ‬
‫َن أَعر ًّ‬

‫ِ‬ ‫َّللا ﷺ‪ :‬ما أَعددت َلها؟ َقال‪ :‬ح ُّب َّ ِ‬


‫َّللا ورسوِله‪َ ،‬ق َ‬
‫ال‪ :‬أ َْن َت‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َْْ َ َ‬ ‫رسول َّ‬
‫ُ‬ ‫الساعة؟ قال‬
‫َّللا ﷺ‪ :‬متى َّ‬
‫لرسول َّ‬

‫َح َب ْب َت‪ .‬فليس المهم معرفة متى تقوم الساعة‪ ،‬بل األهم اإلعداد لها بالعمل الصالح‪.‬‬
‫َم َع َم ْن أ ْ‬

‫‪65‬‬
‫الوحدة الرابعة‬

‫" التحديات الفكرية واحلركية اليت تواجه الثقافة اإلسالمية"‬

‫املبحث األول‪ :‬الغزو الثقايف وأساليبه‪.‬‬

‫‪ -‬التبشري‪.‬‬

‫‪ -‬االستشراق‪.‬‬

‫‪ -‬التغريب‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬العلمانية‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫الوحدة الرابعة‪ :‬التحديات الفكرية والحركية التي تواجه الثقافة اإلسالمية‬

‫المبحث األول‪ :‬الغزو الثقافي وأساليبه‪.‬‬

‫مفهوم الغزو الثقافي‬

‫وهو‪ :‬الهجمات التي يشنها أعداء األمة لفرض ثقافتهم عليها‪ ،‬فالغزو يطلق أصالً على‬

‫تغير من أسلوبها‪ ،‬حيث بدأت تشن هجماتها على اإلسالم‬


‫الغزو العسكري‪ ،‬إلى أن بدأت أوروبا ّ‬

‫والمسلمين عقيدة وتشريعات وتاريخاً ولغة‪ ،‬وتبث شبهاتها في محاولة لتشويه صورة اإلسالم‬

‫والمسلمين‪.‬‬

‫أهداف الغزو الثقافي‪:‬‬

‫شنه على العالم اإلسالمي تحقيق األهداف التالية‪:‬‬


‫حاول الغرب عبر الغزو الثقافي الذي ّ‬

‫‪ .1‬الحيلولة دون انتشار اإلسالم في الغرب وذلك بتشويه اإلسالم وتقديمه على يد‬

‫المستشرقين للشعوب الغربية مليئاً بالشبهات‪.‬‬

‫‪ .2‬فصل المسلمين عن مصدر قوتهم المتمثل بعقيدتهم وحضارتهم اإلسالمية العريقة‪.‬‬

‫عبر عنه رئيس‬


‫حيث أدرك الغرب أن سر قوة المسلمين ووحدتهم تكمن في دينهم‪ ،‬وهذا ما ّ‬

‫وزراء بريطانيا "غالدستون" في مجلس العموم في بريطانيا بقوله‪ :‬ما دام القرآن موجوداً فلن تستطيع‬

‫أوروبا السيطرة على الشرق بل وال أن تكون هي نفسها في مأمن‪.‬‬

‫وإذا أردنا قياس مدى نجاح الغزو الثقافي فإنه يمكن ذلك من خالل مظاهر نجاح الغزو‬

‫الثقافي‪ ،‬وأهمها‪:‬‬

‫‪ .1‬أن تزاحم لغة الغالب وثقافته لغة المغلوب وثقافته‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫‪ .2‬أن تتبنى الرموز الفكرية واإلصالحية لألمة الغازية محل رموز األمة التي تتعرض‬

‫للغزو‪.‬‬

‫‪ .3‬أن تتأثر األمة المغزوة بعادات وتقاليد وأخالق األمة الغازية‪.‬‬

‫أساليب الغزو الثقافي‬

‫ض ِمن من خاللها الترويج لفكرته‬


‫لقد استخدم الغرب عدة آليات وأساليب لمحاربة اإلسالم‪َ ،‬‬

‫والعمل على إنجاحها‪ ،‬ومن أبرز هذه األساليب التي قام عليها الغزو الثقافي للعالم اإلسالمي‪:‬‬

‫التبشير‪ ،‬واالستشراق‪ ،‬والتغريب‪.‬‬

‫أوًلً‪ :‬التبشير‬

‫انية في أصلها دين خاص لبني إسرائيل‪ ،‬قال سبحانه‬


‫وهو الدعوة إلى المسيحية‪ ،‬فالنصر ّ‬

‫عن عيسى ‪" ‬ورسوالً إلى بني إسرائيل"‪.46‬‬

‫وقد نشطت الجهود التبشيرية بعد الحروب الصليبية‪ ،‬وبعد أن فشلت أوروبا في مواجهتها‬

‫العسكرية مع العالم اإلسالمي واختارت طريق الغزو الثقافي في صراعها‪.‬‬

‫والتبشير له عدة أهداف‪ ،‬أبرزها‪ :‬الحد من انتشار اإلسالم المتالحق في العالم ومنع‬

‫النصارى من الدخول فيه‪ ،‬والعمل على تشكيك المسلمين في دينهم‪ ،‬وإخراجهم منه وتبشيرهم‬

‫مر التبشير بمرحلتين أساسيتين‪ ،‬األولى هي محاولة التنصير وبعد فشلها انتقل‬
‫بالنصرانية‪ .‬وقد ّ‬

‫التبشير إلى المرحلة الثانية وهي إبعاد المسلمين عن دينهم‪.‬‬

‫‪ 46‬سورة آل عمران‪49 ،‬‬

‫‪68‬‬
‫وسائل التبشير‬

‫استخدم المبشرون لتحقيق أهدافهم مختلف الوسائل واألساليب وعملوا في شتى المجاالت‪،‬‬

‫وكان من أهم هذه المجاالت‪:‬‬

‫‪ .1‬تقديم الخدمات الصحية والطبية‪.‬‬

‫فقد استخدم التبشيريون هذه المهنة اإلنسانية الضرورية للوصول إلى عقول المسلمين‬

‫وقلوبهم‪ ،‬وخاص ًة الفقراء منهم والنساء واألطفال‪ ،‬فأقاموا المستشفيات والمصحات ودور الرعاية في‬

‫الكثير من البالد اإلسالمية في آسيا وافريقيا‪.‬‬

‫‪ .2‬القيام بالنشاطات االجتماعية والترفيهية‪.‬‬

‫ك تقديم المساعدات العينية والنقدية للفقراء والمحتاجين‪ ،‬وإنشاء دور رعاية وضيافة األيتام‬

‫والعجزة‪ ،‬وإنشاء األندية وإقامة الحفالت والمهرجانات‪.‬‬

‫‪ .3‬استخدام وسائل اإلعالم والتعليم والثقافة‪.‬‬

‫فقاموا بإنشاء المدارس في شتى مراحل التربية والتعليم‪ ،‬ابتداء من الحضانة‪ ،‬ومرو اًر‬

‫بالمدارس االبتدائية والمتوسطة والثانوية‪ ،‬انتهاء بالدراسة الجامعية‪ .‬باإلضافة إلى استخدام اإلذاعات‬

‫والقنوات التلفزيونية في برامج اجتماعية وثقافية وترفيهية تخدم األهداف التبشيرية‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ثانياً‪ :‬اًلستشراق‬

‫وهو دراسة أحوال الشرق وبخاصة العالم اإلسالمي‪ ،‬دراسة شاملة لدينه وأرضه وإنسانه‬

‫ولغته وتاريخه‪ ،‬تسهيالً لمهمة الغزو الثقافي الذي بدأ الغرب يشنه ضدهم‪.‬‬

‫والمستشرق هو أحد العلماء الغربيين الذي ّ‬


‫فرغ نفسه لدراسة أحوال المجتمع اإلسالمي‬

‫المتنوعة بقصد تحقيق أهداف معينة‪.‬‬

‫الفرق بين االستشراق والتبشير‬

‫يعد االستشراق وسيلة يستعين بها التبشير‪ ،‬ومع ذلك هناك فروقات ما بينهما‪ ،‬من أهمها‪:‬‬

‫‪ -‬االستشراق يصنع الشبهات حول اإلسالم‪ ،‬والتبشير يروجها من خالل االتصال‬

‫المباشر بالناس‪.‬‬

‫‪ -‬المستشرق ال يصرح غالباً بغرضه التبشيري‪ ،‬أما التبشير فإنه يقوم أصالً على‬

‫الدعوة إلى النصرانية‪.‬‬

‫دوافع اًلستشراق‬

‫لالستشراق عدة دوافع‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪ .1‬الدافع الديني‪ ،‬وذلك بعد الحروب الدينية وحركة اإلصالح الديني المسيحي‪ ،‬فقد شعر‬

‫رجال الدين في أوروبا بحاجة إلعادة النظر في شرح كتبهم الدينية‪ ،‬فاتجهوا إلى الدراسات‬

‫العبرية والعربية‪.‬‬

‫‪ .2‬الدافع السياسي االستعماري‪ ،‬فالصلة وثيقة بين االستشراق واالستعمار‪ ،‬والمعلومات التي‬

‫قدمها المستشرقون استخدمتها الدول االستعمارية في تعاملها مع الشعوب التي استعمرتها‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫‪ .3‬الدافع االقتصادي‪ ،‬وذلك لخدمة التجار األوروبيين عن طريق تقديم معلومات لهم عن‬

‫حاجة أسواق الشرق‪ ،‬وطرق السيطرة عليها‪.‬‬

‫‪ .4‬الدافع العلمي‪ ،‬على الرغم من طغيان الدوافع السابقة على االستشراق‪ ،‬إال أن قّلة منهم قد‬

‫تحرروا من تلك الدوافع‪ ،‬وبحثوا بجد وحياد عن اإلسالم والمسلمين‪ ،‬وبعضهم دخل في‬

‫الدين اإلسالمي بعد ذلك‪.‬‬

‫ولالستشراق آثار خطيرة على العالم اإلسالمي‪ ،‬ومن أهمها‪:‬‬

‫‪ .1‬انه وراء معظم الشبهات في العصر الحديث‪.‬‬

‫‪ .2‬اعتبار كتب المستشرقين وبحوثهم مراجع أساسية في العلوم اإلسالمية‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬التغريب‬

‫التغريب يعني صبغ المجتمعات اإلسالمية ِ‬


‫بالصبغة الغربية في كل جوانب الفكر والسلوك‪،‬‬

‫وبهذا يصبح المسلم يعيش ويفكر كما يعشي ويفكر الغربيون‪ ،‬فال يبقى له من اإلسالم إال االسم‪.‬‬

‫وقد اتخذ التغريب في العالم اإلسالمي مظاهر متنوعة منها الفكري‪ ،‬واالجتماعي‪،‬‬

‫والسلوكي‪.‬‬

‫‪ -‬ففي الجانب الفكري أصبحت األفكار الغربية تدرس وال تناقش وتنقد بل تؤخذ على أنها‬

‫مسّلمات‪.‬‬
‫َ‬

‫‪ -‬والتقليد األعمى في المجال االجتماعي‪ ،‬سواء في المأكوالت أو الملبوسات وكافة أنماط‬

‫المعيشة‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫سبل مواجهة المسلمين للغزو الثقافي‪.‬‬

‫‪ .1‬نشر الثقافة اإلسالمية الصحيحة بين المسلمين في مختلف المجاالت التعليمية والثقافية‬

‫واإلعالمية‪ ،‬لتحصينهم من الغزو الثقافي‪.‬‬

‫‪ .2‬االلتزام بتعاليم اإلسالم على صعيد الفرد والمجتمع‪ ،‬والحفاظ على الهوية الثقافية المتميزة‪.‬‬

‫‪ .3‬تأهيل العلماء والباحثين من أجل مواجهة األفكار والرد على الشبهات بالحجج والبراهين‬

‫العلمية‪.‬‬

‫‪ .4‬االهتمام بالجانب اإلعالمي‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫العلمانية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أ‬

‫العلمانية نسبة إلى العالم الدنيوي‪ ،‬وهي تعني الالدينية أو الدنيوية‪ ،‬أي عدم االهتمام‬
‫َ‬

‫بالدين‪ ،‬أو استبعاد الدين‪ ،‬أو فصل الدين عن الحياة كلها‪.‬‬

‫نشأتها‬

‫العلمانية في أوروبا احتجاجاً على ممارسات الكنيسة‪ ،‬حث أنها مارست االستبداد‬
‫نشأت َ‬

‫الفكري والديني على معارضيها‪ ،‬وجنت على الدين حيث صورته على أنه دين الخرافة والدجل‬

‫والكذب‪ ،‬ومن أبرز تلك الممارسات‪:‬‬

‫‪ .1‬الفساد الديني للكنيسة‪ ،‬وقد اتخذ عدة صور‪ ،‬منها‪ :‬حق التحلة أي التحليل والتحريم متى‬

‫اقتضت ذلك مصلحة رجال الدين‪ .‬وصكوك الغفران فمن أراد أن تغفر ذنوبه اشترى من‬

‫الكنيسة ورقة غفران بمبلغ من المال وتكون بذلك ذنوبه مغفورة‪.‬‬

‫‪ .2‬الفساد االقتصادي واالجتماعي‪ ،‬وقد ظهر هذا الفساد بصور كثيرة من أبرزها‪ :‬نظام‬

‫االقطاع والرقيق فقد تملكت الكنيسة اإلقطاعيات الواسعة من أراضي الناس وأصبحت‬

‫عائداتها تُنفق على رجال الدين والحروب الصليبية‪ ،‬وعمال السخرة وهم أناس يجبرون من‬

‫قبل الكنيسة على العمل مجاناً يوماً في األسبوع‪ ،‬وضريبة السنة األولى وهي أن يدفع‬

‫الموظف في أي وظيفة دينية أو إقطاعية مجموع دخله في أي سنة ضريبة إجبارية‬

‫للكنيسة‪.‬‬

‫‪ .3‬الفساد السياسي‪ ،‬فالكنيسة كانت هي التي تتوج االمبراطور الذي يذعن لجميع توجهات‬

‫الكنيسة‪ ،‬كما أنها تخلع االمبراطور الذي يعارضها أو يتدخل في شؤونها‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫‪ .4‬محاربة العلماء‪ ،‬فقد تبنت الكنيسة نظريات حول نشأة الكون وأصبحت جزءا من عقيدتهم‪،‬‬

‫ومن يعتقد غير ذلك كان جزاؤه القتل‪ ،‬وقد قتل أكثر من ثالثين ألفاً من العلماء وأتباعهم‬

‫بأوامر من الكنيسة‪.‬‬

‫‪ .5‬الحروب الدينية‪ ،‬فقد استعلت الحروب الدينية في أوروبا بين الطوائف المسيحية ولم تنطفئ‪،‬‬

‫فقد كانت أوروبا تنتقل من حرب إلى أخرى حتى أنهكتها هذه الحروب‪ ،‬حتى قامت فيما‬

‫بعد ما يعرف بثورة الرقيق والفالحين في فرنسا‪ ،‬وأهم ما تمخض عنها هو فصل الدين عن‬

‫صالحيات البابا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الكنيسة وتقليص‬

‫العلمانيين‬
‫العلمانية و َ‬
‫وشجع االستعمار َ‬
‫العلمانية لمحاربة اإلسالم والمسلمين‪ّ ،‬‬
‫وقد استخدمت َ‬

‫في العالم اإلسالمي‪ ،‬وجعل اإلسالم ديناً ال ُيمارس إال في المسجد‪ ،‬وال عالقة له بالحياة نهائياً‪.‬‬

‫العلمانية للظروف السابقة الذكر؛ هل يحتاج المسلمون‬


‫فإذا كانت أوروبا قد اختارت َ‬

‫العلمانية كما احتاجتها أوروبا؟‬

‫إن الفرق كبير بين اإلسالم والمسيحية المحرفة كما عرفتها أوروبا في القرون الوسطى‪،‬‬

‫وإذا كان الفرق في السببين األول والثاني واضحاً‪ ،‬فسنقتصر على بيان الفرق في السببين الثالث‬

‫والرابع‪.‬‬

‫أوالً‪ .‬في مجال العلم‪:‬‬

‫حث اإلسالم على التفكير في الكون واكتشاف قوانينه‪.‬‬


‫‪ -‬لقد ّ‬

‫‪ -‬في القرآن والسنة إعجاز علمي‪.‬‬

‫‪ -‬يدفع اإلسالم إلى التقدم العلمي حتى من خالل العبادات‪ ،‬فقد تقدمت عند المسلمين‬

‫األوائل علوم الجغرافيا لتحديد أوقات الصالة واتجاه ِ‬


‫القبلة في كل مكان‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫‪ -‬لم يشهد التاريخ اإلسالمي صراعاً بين العلوم الطبيعية والدين‪ ،‬بل على العكس هناك‬

‫تالزماً بين التقدم الديني والتقدم العلمي‪.‬‬

‫ثانياً‪ .‬في مجال الحكم‪:‬‬

‫كان الحاكم الحقيقي في أوروبا في القرون الوسطى هو البابا وكان‪:‬‬

‫‪ -‬ال ينتخب من الشعب وال من ممثليهم‪ ،‬بل ينتخب من رجال الدين فهو وكيل عن هللا‪.‬‬

‫أما الحاكم في اإلسالم فيتم اختياره من ممثلي األمة فهو وكيل عن األمة‪.‬‬

‫يحاسب‪ .‬بينما الخليفة في‬


‫َ‬ ‫‪ -‬البابا معصوم عن الخطأ‪ ،‬لذلك ال يستشير وال يناَقش وال‬

‫اإلسالم فهو انسان يجتهد‪ ،‬يصيب ويخطئ‪ ،‬لذلك يجب عليه أن يستشير وأن يلتزم‬

‫برأي األغلبية‪.‬‬

‫العلمانية‬
‫المحرفة‪ ،‬إال أن َ‬
‫ّ‬ ‫وعلى الرغم من الفرق الواضح بين الدين اإلسالمي والمسيحية‬

‫انتقلت إلى دول العالم اإلسالمي تزامناً مع االستعمار األوروبي‪ ،‬وكانت في أول األمر تقتصر‬

‫على اإلصالح السياسي‪.‬‬

‫العلمانية في البالد اإلسالمية إلى تحقيق عدة أمور أبرزها ما يلي‪:‬‬


‫وقد هدفت َ‬

‫‪ .1‬عزل الدين عزالً تماً عن المجتمع‪.‬‬

‫‪ .2‬إعالء شأن العقل وتعظيمه‪ ،‬وجعله حاكماً على الشرع‪ ،‬فما يستسيغه العقل فهو مشروع‬

‫ومقبول‪ ،‬وما دونه فهو غير مقبول‪.‬‬

‫‪ .3‬إخضاع القضايا الغيبية في اإلسالم للمعيار المادي المحسوس والمنطق البشري‬

‫المعقول‪ ،‬فما استوعبه العقل وأدركه ِ‬


‫بالح ّس والتجربة فهو مقبول‪ ،‬وما كان غير ذلك‬

‫من الغيبيات فهو مرفوض ولو ثبت بصحيح السند‪.‬‬


‫‪75‬‬
‫النْيل من‬
‫الش َبه واالعتراضات على النصوص واألحكام واالجتهادات الفقهية‪ ،‬و َ‬
‫‪ .4‬إثارة ُ‬

‫مكانتها‪ ،‬واالنتقاص من قدرتها على مواكبة التطورات العصرية واستيعابها‪.‬‬

‫‪ .5‬الدعوة إلى تحرير المرأة‪ ،‬ومساواتها بالرجل في كل شيء‪.‬‬

‫‪76‬‬

You might also like