You are on page 1of 50

‫السيميائيات الثقافية‬

‫تفعيل الأنساق وقمع الدالالت‬

‫أ‪ .‬د‪ .‬عبدالفتاح يوسف‬

‫مشروع (باحثون) لإعادة نشر البحوث‬


‫تداول‬
‫والأوراق العلمية إلكترونيا‬

‫إشراف‪ :‬علي زعلة‬


‫تنسيق‪ :‬نجوى العتيـبي‬
‫السيميائيات الثقافية‪ :‬تفعيل‬
‫يسعى (باحثون) إلى إعادة نشر‬ ‫•‬
‫الأنساق وقمع الدالالت‬
‫البحوث المحكمة‪ ,‬والأوراق‬
‫عبدالفتاح يوسف‪.‬‬
‫العلمية الرصينة –إلكترونيا‪-‬‬
‫مجلة فصول‪ ,‬القاهرة‪ ,‬عدد‬
‫في تخصص الأدب والنقد‬
‫(‪ ,)92-91‬خريف (‪2014‬م)‪.‬‬
‫واللغة؛ لوضعها في سياق‬
‫التداول العلمي بين طالب‬
‫الدراسات العليا والباحثين‪.‬‬
‫بيانات‬ ‫مع‬ ‫البحوث‬ ‫ترسل‬ ‫•‬ ‫ُ‬
‫* يـنشر هذا البحث بالتعاون مع المؤلف‪.‬‬
‫نشرها إلى العنوان الآتي‪:‬‬

‫‪bahithoun@gmail.com‬‬
‫السيميائيات الثقافية‬
‫تفعيل األنساق وقمع الدالالت‬
‫أ‪.‬د‪ /‬عبد الفتاح يوسف‬

‫تكشف سيميائيات التل ّفظ عن قفزة معرفيّة يف جمال الدراسات السيميائية؛ وذلك باالنتقال من‬
‫سيميائيات اللغة إىل سيميائيات اخلطاب‪ ،‬بوصفه – أي اخلطاب‪ -‬عمليّ ًة تلفظيّةً تقتضي متكلِّ ًما يتوجه‬
‫متلق هبدف التأثري فيه‪ ،‬وتتمثّل هذه القفزة يف إجراءين‪:‬‬
‫بالقول إىل ٍّ‬
‫األول‪ :‬االنتقال بالدرس السيميائي من التأويلية احملضة إىل التماس قرائن تلفظيّة يف التأويل‪ ،‬عندما تُفسح‬
‫اجملال أمام دراسة فعل التل ّفظ والعمليات التلفظيّة‪ .‬فلم يعد يقتصر الدرس السيميائي على البحث يف‬
‫مفتوحا أمام دراسة عمليات التل ّفظ‬
‫العالقة بني الدال واملدلول واملرجع يف النص فحسب‪ ،‬بل أصبح جماالً ً‬
‫مهما يف دراسة الداللة‪.‬‬
‫دورا ً‬
‫وما تنطوي عليه من أبعاد داللية‪ ،‬تؤدي فيها الذات املتكلمة ً‬
‫الثاني‪ :‬االعتماد على نظام مرتاكم من املعارف واالسرتاتيجيات تستوعب النماذج املختلفة للتأويل‪ ،‬ومبا‬
‫مينح السيميائية القدرة على التفاعل والتواصل مع املعارف اجلديدة؛ ومن مثة قدرهتا على االستمرارية‪.‬‬
‫اهلوة املعرفية اليت تفصل بني العالمة‪ ،‬ونظام اخلطاب‪ ،‬واليت كانت سببًا يف كثري من إشكاليات تأويل‬
‫إن ّ‬
‫املعىن‪ ،‬تسعى سيميائيات التل ّفظ إلىى ملء فراغها؛ حيث مل يعد يكتسب امللفوظ معناه من بنية كتابته‪،‬‬
‫أو من جماله املعجمي الذي ينتسب إليه فحسب‪ ،‬بل من عالقته بالذات املتكلمة‪ ،‬ونظام اخلطاب‪،‬‬
‫واحلدث أو الواقعة الثقافية للخطاب‪ ،‬فتأويل امللفوظ يف سيميائيات التل ّفظ جيب أن خيضع ملوضوع املعرفة‬
‫يف اخلطاب‪ ،‬وموضوع املعرفة يف خطاب علقمة‪ ،‬يتمثّل يف حادثة اجتماعية ( أسر شأس) وهتدف ملفوظات‬
‫فعلها‪ ،‬رمبا‬
‫اخلطاب إىل حتقيق قيمة إنسانية ممثلة يف ( احلريّة)‪ .‬إنه خطاب ال يُنتج القيمة فحسب‪ ،‬بل يُ ِّ‬
‫التوجه الوقوع يف مأزق مقاصد القارئ ومقاصد املؤلف‪ ،‬باالنتقال إىل االهتمام بآليّات تش ّكل‬
‫جينبنا هذا ّ‬
‫امللفوظ يف اخلطاب‪ ،‬وحتليله يف سياق مقاصد اخلطاب‪ ،‬ألن عملية التأويل يف سيميائيات التل ّفظ ال تعتمد‬
‫على معيارية مقاصد القارئ أو املؤلف‪ ،‬وإمنا تعتمد على وصفيّة مقاصد اخلطاب‪ ،‬وهي ممارسة نقدية‬
‫تعتمد على الوصف الظاهرايت مللفوظات اخلطاب‪.‬‬

‫ُُيِّرك هذا البحث الفكر يف اجتاه مراجعة دالالت احلقل املفاهيمي السائد عن خطاب اإلشادة‪ /‬املديح‬
‫الشعري يف األدب العريب القدمي‪ ،‬وإعادة تأويله يف ضوء املعرفة اليت توفّرها سيميائيات اخلطاب‪ ،‬وإثنوغرافيا‬
‫التواصل ‪ -‬اليت تنطلق من اعتبار اللغة ظاهرة ثقافية تؤدي جمموعة من الوظائف‪ -‬وذلك عرب إثارة عدد‬
‫من اإلشكاليات حول ال ّذات‪ ،‬والواقع‪ ،‬واملرجع يف اخلطاب الشعري؛ وذلك بفسح اجملال أمام دراسة فعل‬
‫التلفظ والعمليات التلفظيّة‪ ،‬وهو ما يُعرف بسيميائيات التل ّفظ يف اخلطاب‪ ،‬أي إعطاء فعل التل ّفظ والعملية‬
‫التلفظيّة مكانًا يف اخلطاب املدروس‪ ،‬وهي عمليّة تفرتض وجود متكلّم ومستمع‪ ،‬يهدف األول التأثري يف‬
‫الثاين‪ ،‬شريطة أن يكون الطرف الثاين على وعي كامل بداللة ملفوظات الطرف األول‪ ،‬وتأويلها يف سياقها‬
‫املناسب‪ ،‬األمر الذي جيعل الداللة احلقيقية للعالمة يف اخلطاب قابلة للفهم‪ ،‬وحتصينها من سوء الفهم‪.‬‬
‫وهو ماينزل هذا اخلطاب منزلته املتميّزة من التواصل‪.‬‬
‫ُُييل خطاب اإلشادة على الواقع الثقايف عرب الداللة اليت يبنيها الواقع إلنتاج املعىن؛ وذلك بوضعه يف‬
‫سياق ثقايف يرسم معامله‪ .‬إن خطاب اإلشادة‪ ،‬هو واسطة تعبريية تستوعب العالقة بني الثقافة واجملتمع‪،‬‬
‫فالقيَم الثقافية جتد يف اخلطاب مال ًذا آمنًا إلعادة التش ّكل وبناء عالقات جديدة يف سياق خطايب ُيفظ‬ ‫ِ‬
‫هلا امتداداهتا وتأثريها عرب التاريخ؛ ألن هذا اخلطاب نتاج لعالقة وثيقة بني الثقافة ووعي املبدع؛ وهذا‬
‫يدعونا إىل القول‪ :‬إن البحث يف قضايا األدب مرهتن بِِقيَم الثقافة‪ ،‬فاألدب يُعيد إنتاج قِيَم الثقافة ولكن‬
‫تكزا معرفيًّا أساسيًّا هلذه الدراسة‪.‬‬
‫يف طورها املتعايل‪ ،‬وهذه املقولة متثّل مر ً‬

‫إن خطاب اإلشادة ليس خطابًا إخباريًّا‪ ،‬بل هو خطاب وصفي إقناعي يكشف عن طبيعة العالقة‬
‫بني السلوك غري الكالمي‪ ،‬والسلوك الكالمي – حسب تعبري هاريس ‪ -Z.Harris‬ولذلك فإن دراستنا‬
‫هلذا اخلطاب سرتكز على دراسة العالقة بني اللغة بوصفها عالمات سيميائية دالة على آثار ثقافية‪ ،‬والثقافة‬
‫بوصفها مرجعية تتسلل ِحبيَلها داخل اخلطابات؛ ومن مثة ميكننا التعامل مع فعل التل ّفظ يف خطاب اإلشادة‬
‫بوصفه عالمة ُحتيل ضمنيًّا على بِنيات ثقافية تتجلّى فيها خمتلف وظائف هذا اخلطاب‪ .‬أقصد خبطاب‬
‫اإلشادة‪ ،‬ذلك اخلطاب الذي تُشيد فيه الذات املتلفظة باآلخر ( املديح‪ /‬الغزل‪ /‬الرثاء) أو بالذات الفردية‬
‫أو اجلماعية ( الفخر)‪ ،‬ولكن ملاذا التسمية‪ :‬خطاب اإلشادة؟‬
‫إن اإلشادة حالة من حاالت إعجاب الذات بنفسها أو باآلخر‪ ،‬فاإلنسان كائن يهوى ويرفض‪ ،‬يطمح‬
‫ينفك عن عالقته باآلخر؛ ألنه كائن اجتماعي تسكنه مشاعر‬
‫ويطمع‪ ،‬يسمو وينحدر ‪ ..‬وال ميكن أن ّ‬
‫جتاه اآلخر واألشياء‪ .‬فالرغبات‪ ،‬واألطماع‪ ،‬والطموحات‪ ،‬سلطات داخليّة ُمتارس سطوهتا وهيمنتها على‬
‫تتوجه‬
‫الذات‪ ،‬وتتم ّكن الذات من تفريغ مكبوتاهتا من هذه الطاقات عن طريق امللفوظات داخل خطاب ّ‬
‫تعرب عن‬
‫يتوجه مبلفوظات ّ‬
‫لتعرب هبا عن مشاعرها ناحيته‪ .‬فالشاعر يف النسيب ّ‬ ‫به إىل اآلخر أو العامل؛ ّ‬
‫يتوجه الشاعر‬
‫رغباته ومشاعره جتاه احملبوبة إلرضاء عواطفها أمالً يف الفوز هبا‪ ،‬وكذلك احلال يف الرثاء ّ‬
‫يتوجه مبلفوظات‬
‫تعرب عن مشاعره جتاه شخص عزيز مفقود‪ ،‬رغبة يف ختليد ذكراه‪ .‬ويف املديح ّ‬ ‫مبلفوظات ِّ‬
‫تؤثّر يف املمدوح مبا ميلكه من كلمات‪ ،‬ميكن من خالهلا معادلة العالقة بني سلطة اخلطاب والسلطة‬
‫يتوجه مبلفوظات إىل ال ّذات إلعالء‬
‫السياسية احلاكمة‪ ،‬األمر الذي رمبا مينحه منزلة اجتماعية‪ ،‬ويف الفخر ّ‬
‫شأهنا مبا مينحه االستقرار النفسي‪ ،‬أو إىل الـ ( حنن) مبا مينحه االستقرار االجتماعي‪.‬‬
‫ميكننا التمييز بني ثالثة مظاهر يف منوذج النسق اإلنتاجي خلطاب اإلشادة‪ :‬إنتاج‪ ،‬تداول‪ ،‬اشتغال‬
‫اجتماعي‪ .‬واحلديث عن العالمات يف هذا السياق‪ ،‬أمر بديهي خاصة عندما يتعلق األمر خبصائص دالة‬
‫داخل اخلطاب ترتبط بشروط اإلنتاج أو بشروط الثقافة؛ وذلك من أجل حتديد أسباب وجود اخلطاب‬
‫ومربرات إنتاجه‪ .‬فالشاعر‪ /‬املتل ّفظ يبين اآلخر ‪ -‬احملبوبة يف الغزل‪ ،‬واملمدوح يف املديح‪ ،‬واملفقود يف الرثاء‪،‬‬
‫والقبيلة أو الذات يف الفخر‪ -‬من خالل موضوع امللفوظ ومعناه‪ .‬فعملية التل ّفظ يف خطاب اإلشادة‪،‬‬
‫تسعى إىل إضافة أفعال أو معارف إلقناع املتلفَّظ له بواسطة املتلفِّظ‪ /‬الشاعر‪ ،‬وعلى هذا ميكننا القول‪ :‬إن‬
‫املتضمنة يف فعل التل ّفظ تنتقل من فاعل فعل القول‪ /‬الشاعر‪ ،‬إىل فاعل متقبِّل القول‬
‫َّ‬ ‫األفعال واملعارف‬
‫وهو املتلفَّظ له‪ /‬احملبوبة أو املمدوح أو القبيلة والذات‪ .‬إن عملية التل ّفظ يف خطاب اإلشادة‪ ،‬هي فعل‬
‫تواصل يسعى إىل إضافة أفعال ومعارف م ّد ّعمة حبجج وبراهني إىل املتلفَّظ له؛ هبدف اإلقناع‪ ،‬أو‬
‫االستدالل‪ ،‬أو الربهنة‪ ،‬وهو ما ينزل خطاب اإلشادة منزلته من االسرتاتيجيا احلجاجية‪.‬‬

‫التوجه إىل البحث يف طبيعة العالقات اإلبستمولوجية بني األنساق الثقافية اليت متّ يف إطارها‬
‫يهدف هذا ّ‬
‫تتحرك على مدار التاريخ؛ حيث ميكننا جتاوز احلديث عن النظرة‬ ‫إنتاج اخلطاب‪ ،‬وشروط اخلطاب اليت ّ‬
‫التقليديّة لآلخر يف خطاب اإلشادة إىل تناوله باعتباره ِحيلة ثقافية بني طرفني خمتلفني – الشاعر املشتاق‬
‫إىل احملبوبة يف الغزل‪ ،‬والشاعر احملتاج أمام املمدوح يف املديح‪ ،‬والذات املتباهية أمام اآلخر يف خطاب‬
‫الفخر ُيصرمها النسق الثقايف يف وضع تراتيب ( احملبوبة جبماهلا والشاعر خبطابه ‪ -‬املمدوح بسلطته السياسية‬
‫والشاعر خبطابه ـ القبيلة بسلطتها االجتماعية والشاعر خبطابه) تبحث فيه الذات عن خطاب ُيقق مأرهبا‬
‫القوة اليت ستؤهله للحصول على حاجاته‪.‬‬ ‫القوتني‪ ،‬فاخلطاب سالح األعزل‪ ،‬وهو ّ‬ ‫يف تالشي احلدود بني ّ‬
‫فهل ينجح اخلطاب الشعري يف معادلة القوى بني الطرفني؟ حيث ال تتق ّدم احملبوبة إىل الشاعر خبطاب‪،‬‬
‫وإمنا متنحه التفاتة أو نظرة‪ ،‬وال يتق ّدم اخلليفة املمدوح خبطاب للشاعر‪ ،‬وإمنا مينحه أمواالً أو سلطات مقابل‬
‫اخلطاب‪ ،‬وال يأيت اآلخر خبطاب ليُعظّم من شأن الذات يف الفخر‪ ،‬بل متنح اجلماعة منزلة عليا للشاعر‬
‫مقابل خطاب الفخر‪ ،‬فاملنح قاسم مشرتك بني اخلطابني‪ :‬املال‪ ،‬واملنزلة االجتماعية‪ .‬فهل ميكننا اعتبار‬
‫مسارا لغويًّا يتحرك داخل اخلطاب إلنتاج الداللة‪ ،‬بعد أن أصبح شكالً من أشكال السلوك‬ ‫فعل املنح ً‬
‫حتول مبرور الزمن وفعل اخلطاب إىل قانون داخل اجملتمع؟ هل ميكن اعتبار فعل املنح ( سيموزيس)‬
‫الثقايف ّ‬
‫يتحرك داخل اخلطاب إلنتاج الداللة؟!‬
‫ويسعى البحث إىل اإلجابة عن التساؤالت التالية‪:‬‬
‫‪ ‬كيف ميكننا فهم طبيعة النقلة اإلبستمولوجية داخل اخلطاب من الوعي الفردي إىل الوجود‬
‫اجلمعي من خالل دراسة امللفوظ؟‪.‬‬
‫‪ ‬كيف ميكننا فهم طبيعة احلوار بني الثقافة واخلطاب اإلبداعي؟‪.‬‬
‫‪ ‬كيف ميكننا فهم الفعل الثقايف بوصفه ( سيموزيس) ّ‬
‫يتحرك دالليًّا داخل اخلطاب؟‪.‬‬
‫مدخل‬
‫أسئلة حول املفاهيم األساسية‬
‫محاولة في التنظير لموضوع الخطاب‬

‫لماذا سيميائيات الثقافة؟‬


‫ميكن القول‪ :‬إن السيميائيات الثقافية تبلورت على ي ّد ّرواد ( مدرسة تارتو الروسيّة) ‪Tartu School‬‬
‫امتدادا معرفيًّا ملدرسة موسكو اليت أسسها رومان‬
‫ً‬ ‫اليت تأسست يف ستينيات القرن العشرين‪ - ،‬وتع ّد‬
‫ياكبسون (‪ )Jacobson‬وهي مصدر الشكالنية الروسية‪ ،‬وتأسست يف أواخر عشرينيات القرن العشرين‪-‬‬
‫ولعل من أبرز ّروادها يوري لومتان (‪ )Yu M.Lotman‬وبوريس أوسبنسكي‬
‫(‪ .)B.A.Uspensky‬حاولت مجاعة ( تارتو) التوفيق بني سيميائيات دي سوسري ( ‪De‬‬
‫) ‪ )Saussure‬البنيوية والذي ينتمي إىل حلقة ( براغ)‪ ،‬وسيميائيات بريس ( ‪ ) Peirce‬املنطقية والذي‬
‫ينتمي إىل االجتاه األمريكي‪ .‬ومن املعروف أن السيميائيات البنيوية‪ ،‬وهي ذات منزع لساين‪ ،‬تعترب اللغة‬
‫نظاما من العالمات تقوم على أساس الدال واملدلول واعتباطية الدليل‪ ،‬وتستبعد البُعد االجتماعي‬ ‫ً‬
‫والسياسي‪ ،‬وتركز على التحليل التزامين‪ ،‬أي حتليل الظاهرة كأهنا متوقّفة يف حلظة معينة من الزمن‪ ،‬وهي‬
‫التغريات اليت تطرأ على الظاهرة مبرور الزمن‪.‬‬
‫ختتلف – بطبيعة احلال‪ -‬عن الزمين الذي يركز على حتليل ّ‬
‫يتبىن‬
‫أسسا لفرع من السيميائيات ذي منزع منطقي ّ‬ ‫أما بريس ( ‪ ) Peirce‬وموريس (‪ )Maurice‬فقد ّ‬
‫فكرة سيميوطيقا الداللة والتواصل‪ ،‬وتعتمد السيميائيات عند ( بريس) على ثالثة أبعاد‪ :‬الداللة ـ التداول‬
‫ـ الرتكيب‪ .‬وأسس هذا االجتاه ملا يعرف بالسيميائيات التداولية‪ ،‬ويستخدم ( بريس) مفهوم ( سيميائي)‬
‫‪1‬‬
‫لإلشارة إىل " العقيدة الشكلية لإلشارات اليت ربطها ربطًا وثي ًقا باملنطق"‪.‬‬
‫تتجاوز السيميائيات الثقافية هذين االجتاهني – اجتاه براغ اللساين واالجتاه األمريكي املنطقي‪ -‬فهي إىل‬
‫جانب اهتمامها بعالقة العناصر بعضها ببعض – سيميائيات دي سوسري‪ -‬واالهتمام باجلانب املنطقي‬
‫التواصلي – سيميائيات بريس‪ -‬تركز على داللة األثر‪ ،‬اليت يضفيها احملللون السيميائيون على اخلطاب‪،‬‬
‫وكذلك منظومة القواعد اليت تتح ّكم يف اخلطاب‪ ،‬ودور السياق الثقايف‪ /‬االجتماعي يف تش ّكل املعىن‪.‬‬
‫تُع ّد عالقة الثقافة باللغة عند مدرسة تارتو الروسية عالقة أساسية؛ حيث حددت " الظواهر الثقافية‬
‫على أهنا أنظمة ثانوية مش ّكلة وفق مناذج‪ ،‬وهو ما يوحي بطبيعتها االشتقاقيّة يف عالقتها باللغة الطبيعية‬

‫‪ 1‬دانيال تشاندلر‪ ،‬أسس السيميائية‪ ،‬ترمجة طالل وهبة‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العريب ( املنظمة العربية للرتمجة) (‬
‫بريوت) ط‪8002 ( 1‬م) ص‪.442‬‬
‫‪2‬‬
‫تتحول هبا خربة احلياة البشرية‬
‫وبنسبها الطبيعي"‪ .‬وتطرح أسئلة حول " نظام القواعد السيميوطيقية اليت ّ‬
‫تتضمن بناء نظام‬
‫إىل ثقافة‪ :‬هل ميكن التعامل مع هذه القواعد على أهنا برنامج؟‪ .‬إن كينونة الثقافة ذاهتا ّ‬
‫نص‪ .‬ولكي يوضع أي حدث تارخيي يف صنفه النوعي‪ ،‬فإنه ينبغي‬ ‫من القواعد لرتمجة اخلربة املباشرة إىل ّ‬
‫عنصر متميّـٌز يف اللغة [ وهذا‬
‫وجودا حيًّا‪ ،‬وأن يُفصح عن ماهيته ٌ‬
‫أن يُعرتف به قبل كل شيء بوصفه ً‬
‫املؤولة فاعليتها يف فهم داللة هذا األثر‪ ،‬ومعرفة‬
‫العنصر اللغوي هو الذي ُُييل على األثر‪ ،‬ومتارس الذاكرة ّ‬
‫الشروط اليت استجاب هلا يف أصلها؛ ومن مثة إعادة بناء إنتاجه األصلي] ها هنا يكون تقومي ذلك احلدث‬
‫يسجل‪ ،‬أي‬
‫حسب كل الروابط املتسلسلة لتلك اللغة‪ ،‬وهذا يعين أنه – أي احلدث التارخيي‪ /‬األثر‪ -‬س ّ‬
‫عنصرا ثقافيًّا؛ ومن مثّة فإن غرس حقيقة يف الذاكرة اجلمعية إمنا مياثل الرتمجة من‬
‫سيكون يف نص الذاكرة ً‬
‫لغة إىل لغة أخرى‪ ،‬ويف حالة الغرس هذه تكون الرتمجة إىل لغة الثقافة"‪ 3.‬ويقول كلود ليفي شرتاوس‬
‫‪ Claude Lévi-Strauss‬عامل االجتماع الفرنسي املعروف‪ " :‬إن اللغة تبدو يل مبثابة الواقعة الثقافية‪،‬‬
‫وذلك على ع ّدة أشكال‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬ألن اللغة جزء من الثقافة‪ ،‬فهي إحدى االستعدادات اليت نتلقاها من الرتاث احمليط‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬أن اللغة هي األداة األساسية‪ ،‬والوسيلة املتميزة اليت تتمثّل بواسطتها ثقافة اجملموعة اليت تنتمي إليها‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬ألن اللغة هي أكثر مظاهر النظام احلضاري اكتماالً‪ ،‬هذه املظاهر اليت تش ّكل بصورة أو بأخرى‬
‫أنساقًا‪ .‬فإذا أردنا أن نفهم ما هو الفن‪ ،‬أو الدين‪ ،‬أو القانون‪ ،‬ورمبا املطبخ‪ ،‬أو قواعد اللياقة؛ فإنه علينا‬
‫‪4‬‬
‫نتصورها كقواعد تتش ّكل عرب متفصل العالمات"‪.‬‬
‫أن ّ‬
‫إن سيميائيات الثقافة هتتم بتأويل عالمات اخلطاب يف سياق مرجعيّاته الثقافية وأطره الفكرية‪ ،‬وتتعامل‬
‫موضوعا‬
‫ً‬ ‫مع اللغة بوصفها كائنًا حيًّا‪ُ ،‬ييا يف سياق عالقات متبادلة إلنتاج الداللة‪ ،‬وإذا كانت اللغة ال تع ّد‬
‫مستقالً يف ذاته عن الثقافة؛ فإن الثقافة ال تع ّد فضاءً معرفيًّا يوجد خارج اللغة أو العالمات غري اللغوية؛‬
‫ولذلك تُع ّد الثقافة جماالً سيميائيًّا تشتغل فيه العالمات‪ ،‬واللغة يوصفها عالمة‪ ،‬تكتسب محولتها املعرفيّة‬
‫من الثقافة‪ .‬و" التحليل السيمائي للنسق االجتماعي يهدف اىل استكشاف نظام العالقات داخل اجملتمع‬
‫وعلى اخلصوص عالقات األفراد وحاجاهتم هلذا جند أن األنظمة اليت سادت يف اجملتمع البشري هلا من‬

‫‪ 2‬يوري لومتان‪ ،‬وبوريس أوسبنسكي‪ ،‬حول اآللية السيميوطيقية للثقافة‪ ،‬ترمجة عبد املنعم تليمة‪ ،‬ضمن كتاب‪ :‬أنظمة‬
‫العالمات‪ :‬مدخل إىل السيميوطيقا‪ ،‬إشراف سيزا قاسم‪ ،‬ونصر حامد أبو زيد‪ ،‬دار إلياس العصرية ( القاهرة) ( ‪1821‬م)‬
‫ص‪.882‬‬
‫‪ 3‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.888‬‬
‫‪ 4‬كلود ليفي شرتاوس‪ ،‬اللغة هي اخلط الفاصل بني الطبيعة والثقافة‪ ،‬ضمن كتاب ( الطبيعة والثقافة) (‪ )8‬نصوص خمتارة‪،‬‬
‫إعداد وترمجة حممد سبيال وعبد السالم بن عبد العايل‪ ،‬دار توبقال ( املغرب) الطبعة الثانية ( ‪1881‬م) ص‪.81‬‬
‫متكن السيميائي من حتديد شرُية أو فئة أو طبقة اجتماعية‪ ،‬ففي‬ ‫العالمات واألنظمة الرمزية الثقافية‪ ،‬ما ِّ‬
‫طقوسا وعادات تتجلّى يف مجلة من العالمات والرموز ما تتميز به عن نظام اجتماعي‬
‫التنظيم العشائري نرى ً‬
‫‪5‬‬
‫آخر يف طرائق احلفالت واألعراس واملآمت واألعياد وغري ذلك من املظاهر الثقافية"‪.‬‬
‫يرمي خطاب علقمة – مادة الدراسة‪ -‬إىل حتريك الداللة وتفعيلها‪ ،‬داللة ِ‬
‫القيَم الثقافية العربية ( العفو‬
‫لتتحول إىل أفعال على أرض الواقع بإطالق سراح شأس؛ وذلك ألن‬ ‫عند املقدرة‪ ،‬والتسامح‪ ،‬والكرم‪ّ )..‬‬
‫الداللة " هلا عالقة بالفعل‪ ،‬فالناس يقدمون على الفعل حسب الداللة اليت يسندوهنا إىل هذا الفعل‪.‬‬
‫الداللة رهان اجتماعي كبري‪ .‬وقد سالت من أجل متلّكها دماء يف التاريخ ‪ ...‬عندما ُحتاصر الشرطة‬
‫مظا هرة‪ ،‬فهي ال حتاصر املتظاهرين الذين قد تكون متعاطفة معهم‪ ،‬ولكنها حتاصر الداللة اليت يعطوهنا‬
‫ملظاهراهتم"‪ 6.‬فنجاح خطاب علقمة يف إعطاء داللة رمزية مهمة إلطالق سراح شأس باالعتماد على‬
‫ملفوظات تؤكد خصوصية الداللة‪ ،‬هو الذي سيغري امللك احلارث على اإلقدام على فعل العفو؛ ألن‬
‫الفعل هنا يرتبط بأمهية الداللة الثقافية للحدث‪.‬‬

‫لماذا خطاب اإلشادة؟‬


‫سأنطلق يف اإلجابة عن هذا السؤال من تعريفني للخطاب لعلمني من أعالم الفكر النقدي احلديث‪،‬‬
‫األول لـ ( ميشيل فوكو ‪ )Michel Foucault‬والثاين لـ ( إميل بنفنيست ‪)E. Benveniste‬‬
‫األول ينظر إليه بوصفه " جمموعة من العالمات توصف بأهنا عبارات ملفوظة ميكن تعيني أمناط وجودها‬
‫منظورا إليه من وجهة آليّات وعمليّات اشتغاله يف‬ ‫‪7‬‬
‫اخلاصة"‪ .‬والثاين ينظر إىل اخلطاب " باعتباره ملفوظًا ً‬
‫ومستمعا‪ ،‬وتكون لدى األول نيّة التأثري يف الثاين بصورة‬
‫ً‬ ‫التواصل"‪ 8.‬أو " هو كل مقول يفرتض متكلّ ًما‬
‫ما"‪ 9.‬واعتمادي على تعريفي فوكو وبنفنيست للخطاب دون غريمها‪ 10‬يعود إىل أهنما مل يقفا يف تعريفيمها‬

‫‪ 5‬ـ أمحد يوسف‪ ،‬حتليل اخلطاب من اللسانيات إىل السيميائيات‪ ،‬جملة نزوى ( سلطنة ُعمان) العدد (‪ )18‬أكتوبر (‬
‫‪1882‬م)‪.‬‬
‫‪ 6‬الطاهر لبيب‪ ،‬الثقافة واجملتمع‪ :‬تفكيك العالقة وتعليق الداللة‪ ،‬جملة الفكر العريب املعاصر‪ ،‬مركز اإلمناء القومي (‬
‫بريوت) العددان ( ‪ )118 ،112‬ربيع‪ /‬صيف ( ‪8001‬م) ص‪82‬‬
‫‪ 7‬ميشيل فوكو‪ ،‬حفريات املعرفة‪ ،‬ترمجة سامل يفوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب ( الدار البيضاء وبريوت) ( ‪1822‬م) ص‪.11‬‬
‫‪ 8‬إميل بنفنيست‪ ،‬نقالً عن سعيد يقطني‪ ،‬حتليل اخلطاب الروائي‪ ،‬املركز الثقايف العريب ( بريوت)‪ ،‬ط‪ ،1‬ص‪.12‬‬

‫‪ 9‬السابق‪ ،‬ص‪.18‬‬
‫‪ 10‬ظهر يف النقد الغريب احلديث كثري من األمساء الالمعة اليت تناولت مفهوم اخلطاب بالتعريف‪ ،‬والتفسري‪ ،‬والشرح‪،‬‬
‫والتحليل لعل من أبرزهم‪ :‬هاريس‪ ،‬وروجر فاولر‪ ،‬وفرانسوا راستينيه‪ ،‬وجرمياس‪ ،‬ومنغينو‪ ،‬وسارة ميلز ‪ ..‬وغريهم‪ ،‬وحدود‬
‫البحث ال تسمح باستعراض هذه اآلراء‪ .‬ومجيع هؤالء النقاد نظروا إىل اخلطاب من زوايا خمتلفة‪ ،‬وميكن رصد بعض أوجه‬
‫باخلطاب عند ح ّد امللفوظ فقط‪ ،‬بل انتقال به إىل وظيفته يف عملية التواصل‪ ،‬ويف هذا التعريف دعوة إىل‬
‫االنتقال من دراسة اخلطاب باعتباره جمموعة من الرموز واإلشارات اللغوية هتدف إىل اإلخبار عن شيء‬
‫ما‪ ،‬إىل اعتبار اللغة داخل اخلطاب عالمات عن فكر عميق خيتبئ خلف امللفوظات‪ ،‬وهكذا تسعى‬
‫وجودا للفكر أكثر رقيًّا‪ ،‬وكلّما انتقى الشاعر ملفوظاته‪ ،‬كلّما‬
‫امللفوظات داخل اخلطاب إىل منح امللفوظ ً‬
‫كان تعبريه عن أفكاره بشكل أرقى وأمسى‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬أضف إىل هذا الوظيفة التواصلية للملفوظات‬
‫داخل اخلطاب؛ ومن مثّة ميكن الرتكيز على الوظيفة التعبريية‪ /‬التواصلية للغة داخل اخلطاب‪ ،‬وهو ما ينطبق‬
‫متاما على خطاب اإلشادة‪ ،‬فهو خطاب يتش ّكل نتيجة التعبري عن أفكار بني متح ّدث يشيد بإجنازات‬ ‫ً‬
‫آخر هو يف معظم األحوال املتلقي للخطاب هبدف التواصل‪.‬‬
‫ِّيد بالكسر‬
‫وإذا حبثنا عن معىن اإلشادة يف لسان العرب عن مادة ( ش ي د) يقول ابن منظور‪ :‬الش ُ‬
‫ص َحه‪ .‬وبناءٌ‬ ‫ص أَو بَالط‪ ،‬وبالفتح‪ :‬املصدر‪ ،‬تقول‪ :‬شاده يَ ِش ُ‬
‫يده َشْيداً‪َ :‬ج َّ‬ ‫ط من ِج ٍّ‬ ‫لي به احلائ ُ‬
‫كل ما طُ َ‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫ورفْـعُه‪ .‬قال‪ :‬وقد‬
‫حكامه َ‬
‫ِ‬
‫ييد البناء‪ :‬إ ُ‬ ‫ُح ِك َم من البناء‪ ،‬فقد ُشيِّ َد‪ .‬وتَ ْش ُ‬ ‫َمشي ٌد‪ :‬معمول بالشِّيد‪ .‬وكل ما أ ْ‬
‫ِ‬
‫ضَر َشْيداً‪ .‬وامل ِش ُ‬
‫‪11‬‬
‫يد‪ :‬املبين بالشِّيد‪.‬‬ ‫يُ َس ِّمي بعض العرب احلَ َ‬
‫َ‬
‫والتشييد يف خطاب اإلشادة هو تشييد للقيم العربية واإلنسانية‪ ،‬أي إعادة إنتاج القيم اإلنسانية يف‬
‫اخلطاب‪ ،‬أي نقلها من نظامها االجتماعي إىل سياقها اخلطايب‪ .‬فاحلب قيمة إنسانية واجتماعية أُعيد‬
‫إنتاجها يف خطاب الغزل‪ ،‬وكذلك العطاء قيمة إنسانية أُعيد إنتاجها يف خطاب املديح‪ ،‬والذات اإلنسانية‬
‫قيمة استوعبها خطاب الفخر‪ ،‬فخطاب اإلشادة يشمل‪ :‬الغزل؛ ألن الشاعر يف هذا اخلطاب يشيد‬
‫باحملبوبة‪ ،‬واملديح؛ ألن الشاعر يشيد باملمدوح‪ .‬والفخر؛ ألن الشاعر يشيد بالذات الفردية واجلماعية‪.‬‬
‫واختياري لتسمية هذا اخلطاب بـ ( خطاب اإلشادة)‪ 12‬يعود إىل األسباب التالية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه خطاب يتضمن نظام القيم العربية؛ ومن مثة فهو خطاب يتمتع باحلد األقصى من االستمرارية من‬
‫وجهة نظر الثقافة املعنية‪ ،‬وهو خطاب يتجاوز عنصر الزمن حبكم سلطته اإليديولوجية والثقافية‪ ،‬ينطوي‬

‫االتفاق بينهم‪ ،‬لعل من أبرزها وجهة نظر منغينو اليت تتفق إىل ح ّد كبري جدا مع وجهة نظر بنفنيست‪ ،‬فيقول‪ :‬كل متل ّفظ‬
‫تفاعلي’ تكوينيّة‪ ،‬فهو تبادل صريح أو ضمين مع متكلمني‬ ‫ّ‬ ‫مرسل إليه‪ ،‬هو يف الواقع داخل يف‬
‫ولو أُجنز بدون حضور َ‬
‫دائما حضور جهة تل ّفظ أخرى يتجه إليها املتكلّم ويبين خطابه بالنسبة إليها‪.‬‬
‫آخرين افرتاضيني أو واقعيني‪ ،‬ويفرتض ً‬
‫صمود‪ ،‬ومراجعة‬ ‫راجع باتريك شارودو ـ دومينيك منغنو‪ ،‬معجم حتليل اخلطاب‪ ،‬ترمجة عبد القادر املهريي ومحادي ّ‬
‫صالح الدين شريف‪ ،‬دار سيناترا ( تونس) ( ‪8002‬م) ص‪.121‬‬
‫‪ 11‬راجع لسان العرب ال بن منظور مادة (شيد)‪.‬‬
‫‪ 12‬تبلورت تسمية ( خطاب اإلشادة) أثناء مناقشة فكرية مع الدكتور أمحد حيزم؛ حيث طرح هذه التسمية‪ ،‬فحازت‬
‫اهتمامي‪ ،‬وتكررت املناقشة بيين وبينه حىت اقتنعت متاما هبذه التسمية‪ ،‬وبدوري أتقدم له خبالص الشكر‪ ،‬وأمتىن أن‬
‫يقتنع القراء هبذه التسمية وما قدمته تفسريات هلا‪.‬‬
‫على نظام شفرات تضمن له استمراريته؛ ألنه ُيفظ ذاكرة املاضي الستيعابه القيم الثقافية اليت حتفظ‬
‫للجماعة والذات هويتها وكينونتها‪.‬‬
‫تعبريا عن قِيَم اجتماعية وثقافية سابقة‪،‬‬
‫يعرب عن ثقافة معيارية؛ حيث تبدو تيمات اخلطاب بوصفها ً‬ ‫‪8‬ـ ّ‬
‫نظاما من املقاييس والقواعد اليت حتكم‬‫وهي ختتلف عن الثقافة الدينية اليت تطرح نفسها باعتبارها ً‬
‫اخلطابات‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه خطاب ُيتوي " الفعل التواصلي" حسب فلسفة هابرماس االجتماعية؛ حيث يؤّكد " كل عمل‬
‫حمدد الغاية‪ :‬وذلك بقدر ما تعتمد األطراف االجتماعية اسرتاتيجيات ناجعة ومعقلنة لتحقيق اإلمجاع‪.‬‬
‫ومع ّدل‪ :‬بقدر ما يقع دوران العمل رهني املعايري اليت ُمتليها اجملموعة اليت تنتمي إليها هذه األطراف‪ .‬وذاتيّة‬
‫تبادليّة بقدر ما تُربز األطراف االجتماعية ذاهتا لتُحدث‪ ،‬وهي تق ّدم لآلخر صورة ما عنها‪ ،‬ضربًا من التأثري‬
‫‪13‬‬
‫فيها"‪.‬‬
‫موجه حنو غاية معينة وميكن أن ُيقق غايات أخرى إضافيّة‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ أنه خطاب ّ‬
‫‪ 4‬ـ يبين ذاتًا متلفظة ختتلف عن الذات اليت تقع خارج اخلطاب‪.‬‬
‫يف املديح‪ ،‬يذهب الشاعر إىل املمدوح وهو يعلم أنه لن يقتل الفقر إال خبطاب يسلب عقل املمدوح‪،‬‬
‫ويف الغزل‪ ،‬يعي الشاعر أنه لن يُطفئ نار عواطفه إال بواسطة خطاب يستويل على فؤاد احملبوبة‪ ،‬وكذا يف‬
‫يسجل مآثرها وفضائلها‪ .‬لكن كيف‬ ‫الفخر‪ ،‬يعي الشاعر أنه لن ينال رضا اجلماعة إال بواسطة خطاب ّ‬
‫يستويل الشاعر على عقل املمدوح‪ ،‬وقلب احملبوبة‪ ،‬ورضا اجلماعة؟‬
‫نعلم أن عالقة الشاعر باحلاكم ختتلف عن عالقته باحملبوبة واجلماعة‪ ،‬واجلميع حباجة إىل الشاعر بقدر‬
‫حاجة الشاعر إليهم‪ ،‬وهو ما ينزل خطاب اإلشادة منزلته من التواصل‪ ،‬والعالقة بني أطراف اخلطاب‬
‫متكافئة؛ ألن ثراء املال عند احلاكم يقابله ثراء الكلمات وقيمة اخلطاب عند الشاعر‪ ،‬وكذا احملبوبة واجلماعة‪،‬‬
‫‪14‬‬
‫يقول أبو متّام‪:‬‬
‫َع ِج ٌل َو َحـ ــادي‬ ‫َسائِ ٌق‬ ‫يَليها‬ ‫ت أَبْ َك َار املعانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬
‫ك بَـ َعثْ ُ‬‫‪ 1‬إٍلَْي َ‬

‫لِْلجم ِ‬
‫اجـ ـ ـ ـ ـ ِم واهل ـَ ـ َـوادي‬ ‫ََ‬ ‫َه َوادي‬ ‫‪َ 8‬ج َوائَِر على ذُنَاىب ال َق ْوِم َحْي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى‬

‫صمود‪ ،‬ومراجعة صالح‬


‫باتريك شارودو ـ دومينيك منغنو‪ ،‬معجم حتليل اخلطاب‪ ،‬ترمجة عبد القادر املهريي ومحادي ّ‬
‫‪13‬‬

‫الدين شريف‪ ،‬دار سيناترا ( تونس) ( ‪8002‬م) ص‪.81‬‬

‫عزام‪ ،‬دار املعارف ( القاهرة) ط‪8001( 5‬م) اجلزء األول‬


‫أبو متّام‪ ،‬شرح اخلطيب التربيزي‪ ،‬حتقيق حممد عبده ّ‬
‫‪14‬‬

‫القصيدة رقم ( ‪ )11‬ص‪.801 ،805‬‬


‫املع ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ـاد‬ ‫املعىن‬ ‫َعن‬ ‫ُم َكَّرَمةً‬ ‫الس ْرِق امل َوَّرى أظْ َهر غريه‬
‫‪ُ 1‬منَـَّزَهةً عن َّ‬
‫َُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫مؤداها الكلمات مقابل األموال‪ /‬املديح‪،‬‬


‫ينفتح خطاب اإلشادة على قراءتني‪ :‬األوىل‪ ،‬ظاهرة للعوام ّ‬
‫والعواطف‪ /‬الغزل‪ ،‬واجملتمع‪ /‬الفخر‪ .‬والثانية‪ :‬تأويلية عميقة تتأسس على عالقة تواصليّة متكافئة بني طريف‬
‫اخلطاب‪ ،‬وحماوالت الضعف اليت يُبديها الشعراء أمام املمدوح‪ ،‬واللهفة والشوق أمام احملبوبة‪ ،‬واالنتماء‬
‫للجماعة‪ ،‬ليست سوى ِحيلة ثقافية لالستيالء على مشاعرهم والفوز برضاهم؛ ألنه إذا كانت األموال‪،‬‬
‫والعواطف‪ ،‬واحلماية‪ ،‬سالح الطرف األول من العالقة يف خطاب اإلشادة‪ ،‬فإن اخلطاب وحده هو سالح‬
‫مر‬
‫الطرف الثاين الذي ُيفظ للقيم العربية دوامها واستمراريتها يف صورة رموز وعالمات لغوية ُختلّدها على ّ‬
‫التاريخ‪.‬‬

‫لماذا سيميائيات التل ّفظ؟‬


‫التل ّفظ كما جاء يف القاموس اللساين لـ‪" :‬دي بوا" (‪ ) J. Dubois‬هو " الفعل الفردي الستعمال‬
‫اللسان‪ ،‬بينما امللفوظ هو نتاج هذا الفعل ‪،‬إنه فعل من خلق املتكلم"‪ 15‬ويُنظر إىل سيميائيات التل ّفظ يف‬
‫النص‪ ،‬ويستتبع‬
‫اخلطاب النقدي العريب باعتبارها " عالمات دالة على حضور املتل ّفظ وصور جتلّيه يف نسيج ّ‬
‫ذلك انصراف االهتمام إىل ردود الفواعل وكيفيّات استجاباهتا جملريات األحداث وطرق تقدمي ذواهتا ومظاهر‬
‫‪16‬‬
‫التحول الذي طرأ على السيميائيات نتيجة فتح جماالهتا ألفعال التل ّفظ‪ ،‬يقول‬
‫بروز كفاءاهتا"‪ .‬وعن ّ‬
‫فونتانيل ( ‪ " :) J. Fontanille‬إن السيميائيات حتولت إىل سيميائيات اخلطاب عندما أعطت مكانا‬
‫لفعل التلفظ‪ ،‬و العمليات التلفظية‪ ،‬ومل تقتصر فقط على متثيل شخص التلفظ ( السارد‪ ،‬املالحظ) يف‬
‫‪17‬‬
‫منظورا إليه بوصفه‬
‫وعلى هذا فإن الدراسة السيميائية للخطاب اللغوي تركز على دراسة امللفوظ ً‬ ‫النص"‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪15 – J. Dubois, Dictionnaire de linguistique, France, éd. Larousse, 1973, p.‬‬


‫‪192‬‬
‫نقالً عن دايري مسكني‪ ،‬جوزيف كورتيس وسيميائيات التل ّفظ‪ ،‬أيقونات‪ ،‬منشورات رابطة سيما للبحوث السيميائية‪/‬‬
‫اجلزائر العدد األول ‪8010‬م ص‪.115‬‬

‫‪ 16‬حممد ناصر العجيمي‪ ،‬موقع السيميائيات من مناهج البحث الغريب احلديث‪ ،‬جملة سيميائيات‪ ،‬دورية حمكمة تصدر‬
‫عن خمترب السيميائيات وحتليل اخلطاب‪ ،‬جامعة وهران‪ /‬اجلزائر العدد (‪ )8‬خريف ‪8001‬م ص ‪.82‬‬

‫‪17 – J. Fontanille, Sémiotique et littérature,éd. PUF, 1999, p. 2.‬‬


‫نقالً عن دايري مسكني‪ ،‬جوزيف كورتيس وسيميائيات التل ّفظ‪ ،‬أيقونات‪ ،‬منشورات رابطة سيما للبحوث السيميائية‪/‬‬
‫اجلزائر العدد األول ‪8010‬م ص‪112‬‬
‫نظاما من العالمات اللغويّة ُُييل على رمز ما‪ ،‬فامللفوظ يربز يف السيميائيات ُلري ّسخ صورة العالمة اليت‬
‫ً‬
‫يعرفه أمحد حيزم " هو كالم يرسله متلفِّظ‬
‫ُحتيل بدورها على موضوع سابق يف سياق خمتلف‪ .‬وامللفوظ كما ّ‬
‫بني حلظيت صمت ميكن أن يش ّكل خطابًا كما يتمثّل يف كلمة أو جزء منها ‪ ...‬وليس مقصد املتلفِّظ‬
‫إنتاج داللة اجلملة‪ ،‬وإمنا جيعل خماطَبَه يستنتج يف دقة الغرض الذي قصد إليه وهو ينتج ملفوظه‪ .‬وهذا‬
‫معىن أن امللفوظ هو متثيل تل ّف ِظه ذاته"‪ 18.‬وامللفوظ حسب تعريف ديكرو هو " ضرب من الدور يضعه‬
‫البّاث للمخاطَب‪ ،‬يَ ِس ُم به احلدث التارخيي الذي ميثّله ظهور امللفوظ"‪ 19.‬فكل ملفوظ – حسب ديكرو‪-‬‬
‫يعرب عن حدث تارخيي؛ ومن مثّة ميكننا النظر إىل امللفوظات نظرة غري تقليدية يف سيميائيات الثقافة تتمثّل‬
‫ّ‬
‫يف أننا نفكر بالكلمات‪ ،‬ونتكلّم باألفكار‪ ،‬وامللفوظات يف اخلطاب هي نتاج لفعل الفكر‪ ،‬والفكر يتم يف‬
‫سياق مرجعية ثقافية ينتمي إليها املفكر كما يؤكد أمربتو إيكو (‪ " )Umberto Eco‬إن الثقافة ليست‬
‫شيئًا آخر سوى نسق أنساق العالمات‪ .‬فحىت عندما يعتقد اإلنسان أنه يتكلّم‪ ،‬فإنه حمكوم بالقواعد اليت‬
‫أيضا معرفة التحديدات‬‫حتكم العالمات املستعملة‪ .‬فمعرفة هذه القواعد تعين معرفة اجملتمع‪ ،‬ولكنها تعين ً‬
‫‪20‬‬
‫فكرا"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫السيميائية ملا كان يسمى قدميًا البنيات الذهنية‪ ،‬أي التحديدات اليت جتعل منّا ً‬

‫ال ميكننا – إ ًذا‪ -‬جتاهل العالقة بني الذات املتل ّفظة والعالمات اليت تستخدمها؛ ألن عملية التلفظ‬
‫تُع ّد من األسس اليت تقوم عليها املمارسة السيميائية داخل اخلطاب‪ ،‬وعملية التل ّفظ تتكون من‪ :‬متلفِّظ‪،‬‬
‫وملفوظ‪ ،‬ومتلفَّظ له‪ .‬املتلفِّظ‪ ،‬وهو ُمنتج اخلطاب‪ .‬وامللفوظ يتوجه به املتل ّفظ إىل متلفَّظ له إلمتاعه‬
‫جبماليات اللغة‪ ،‬أو إلقناعه‪ .‬وامللفوظ يف السيميائية ُُييل إىل البنية املرجعية‪ ،‬ويقرتن بعملية تواصل بني الـ‬
‫مهما يف عملية جناح‬
‫دورا ً‬ ‫" أنا" وال الـ " أنت"‪ ،‬أو بني الـ " أنا" والـ " حنن" ويؤدي السياق الثقايف ً‬
‫التواصل؛ وذلك الستيعابه الشفرات اليت ميكن من خالهلا تأويل املعىن‪ .‬وجيب االنتباه إىل أن السيميائية‬
‫تتبىن مبدأي‬
‫التوجه تتبنّاه التداولية‪ ،‬ولكنها ّ‬
‫ال تتعامل مع عملية التل ّفظ بوصفها فعال تواصليًّا‪ ،‬فهذا ّ‬
‫املقصدية والكفاية‪ .‬املقصديّة‪ ،‬وهي العالقة بني األطراف الثالثة اليت تستطيع الذات من خالهلا بناء‬
‫تصور جديد للعامل‪ ،‬فاملتل ّفظ ال يتعامل مع امللفوظ باعتباره وسيلة للتواصل‪ ،‬بل أداة للتطويع‬
‫نفسها‪ ،‬وبناء ّ‬

‫املعتز‪ :‬دراسة يف ضوء علم اخلطاب‪ ،‬دار صامد للنشر والتوزيع ( تونس) (‬ ‫أمحد حيزم‪ ،‬التعبري االستعاري يف شعر ابن ّ‬
‫‪18‬‬

‫‪8018‬م) ص‪.12‬‬
‫‪ 19‬أوزفالد ديكرو‪ ،‬التل ّفظ‪ ،‬ترمجة صابر احلباشة‪ ،‬ضمن كتاب لسانيات اخلطاب‪ ،‬جمموعة مقاالت مرتمجة‪ ،‬دار احلوار (‬
‫سوريا) ط‪8010 ( 1‬م) ص‪.11‬‬
‫‪ 20‬أمربتو إيكو‪ ،‬العالمة‪ :‬حتليل املفهوم وتارخيه‪ ،‬ترمجة سعيد بنكراد‪ ،‬املركز الثقايف العريب وكلمة ( بريوت والدار البيضاء)‬
‫الطبعة األوىل (‪8002‬م) ص‪..824 ،821‬‬
‫االجتماعي‪ ،‬وإلقناع املتلفَّظ له‪ ،‬أو إلبالغه معرفة ما‪ ،‬ويتلقى املتلفَّظ له امللفوظ بإعمال خلفياته املعرفية‬
‫لفهم امللفوظ واستيعابه‪ ،‬وإعمال طاقاته الذهنية ملعرفة مقصديته بعد فك شفراته وتأويله يف سياقه اخلاص‪،‬‬
‫وإذا كانت املقصديّة عند الفالسفة هي فعل العقل إلدراك املوضوع‪ ،‬فإنه ميكننا القول‪ :‬إن املقصدية يف‬
‫السيميائية هي فعل العقل لتأويل املعىن‪ ،‬فالرمز اللغوي ال يتحدد معناه إال من خالل معرفة قصد املتل ّفظ‪/‬‬
‫املرسل‪ ،‬فاملقاصد ترتجم إىل مجل وملفوظات‪ ،‬وغاية املقاصد هي استدعاء فهم املخاطب وإبالغه معىن‬
‫ويتم التعبري عنه بعالمات ُحتيل‬
‫دركه اخلاص‪ّ ،‬‬ ‫ما‪ .‬فكل ملفوظ هو فعل من أفعال الشعور قصدي ولديه ُم َ‬
‫يعرفها جون سريل (‪" ) John Rogers Searle‬‬ ‫إىل املعىن‪ /‬املقاصد أو الغايات‪ .‬والقصديّة كما ّ‬
‫وجه هبا احلاالت العقلية أو تتعلّق هبا حاالت عقليّة‪ ،‬أو تشري إليها‪ ،‬أو هتدف حنوها‬‫هي مسة العقل اليت تُ َّ‬
‫السمة أن الشيء ال ُيتاج أن يوجد فعليًّا متثّله حالتنا الشعورية‪ .‬هكذا ميكن للطفل‬
‫يف العامل‪ .‬ومما ُمييّز هذه ِّ‬
‫أن يعتقد أن سانتا كلوز سيأيت باهلدايا مساء عيد امليالد‪ ،‬وإن كان سانتا كلوز ال يوجد"‪ 21.‬ويرى بول‬
‫ريكور ( ‪ " ) Paul Ricoeur‬إن الفعل األول للوعي هو املعىن‪ ،‬والقصديّة هي فعل حتديد هذا املعىن‬
‫تتوسط عالقة الوعي باألشياء"‪ 22.‬وفعل التل ّفظ يف خطاب اإلشادة هو فعل قصدي؛ ألن‬ ‫بالعالمة اليت ّ‬
‫املتلفِّظ يقصد التواصل مع املتلفَّظ له من خالل فعل تواصلي هو " التل ّفظ"‪ ،‬فالشاعر يسعى إىل التواصل‬
‫مع اآلخر ( املمد وح يف خطاب املدح) ( واحملبوبة يف خطاب الغزل) ( واجلماعة أو الذات يف خطاب‬
‫الفخر)‪ ..‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإن املتلفِّظ يسعى من خالل ملفوظة أن يعرف املتلفَّظ له‬
‫اهلدف من عملية التل ّفظ؛ ولذا ال تظهر ال ّذات املتلفظة يف فعل التل ّفظ يف خطاب اإلشادة من خالل‬
‫ضمري املتكلّم فحسب‪ ،‬بل عن طريق ضمري املخاطب‪ ،‬أي العامل الثاين الذي يظهر من خالله ضمري‬
‫املتكلّم ( عالقة املتلفِّظ باملتلفَّظ له)‪ ،‬وكذلك األفعال املتضمنة يف امللفوظات‪.‬‬
‫وميكننا تعريفها بأهنا سلسلة متتالية امللفوظات داخل اخلطاب اللغوي‪ُ ،‬حتيل على عدد من املمارسات‬
‫جيدا‬
‫موجها آلخر يعي ً‬
‫الثقافية‪ ،‬يستدعيها املتلفِّظ إلنتاج خطاب له مقاصده وغاياته اخلاصة باعتباره ً‬
‫تتحول هذه امللفوظات إىل أفعال سيميائية قولية حتمل شفرات للمتلقي‬
‫هذه املقاصد والغايات؛ حيث ّ‬
‫يفهمها ويرتمجها إىل أفعال‪.‬‬
‫ذا كان خزانه المعجمي أكثر سعة من خزانه‪.‬‬
‫كيف يمكن رصد المعنى في السيموزيس؟‬

‫‪ 21‬جون سريل‪ ،‬العقل واللغة واجملتمع‪ ،‬ترمجة سعيد الغامني‪ ،‬الدار العربية للعلوم ( ناشرون) ( بريوت) ومنشورات االختالف‬
‫( اجلزائر) واملركز الثقايف العريب ( بريوت والدار البيضاء) الطبعة األوىل ( ‪8001‬م) ص‪.108‬‬
‫‪ 22‬راجع‪ ،‬إديث كريزويل‪ ،‬عصر البنيوية‪ ،‬ترمجة جابر عصفور‪ ،‬دار سعاد الصباح‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة األوىل ( ‪1888‬م)‬
‫ص‪.112‬‬
‫تتحول هبا‬
‫ئيسا يف الدراسات السيميائية؛ ألنه يكشف عن الكيفيّة اليت ّ‬ ‫مفهوما ر ً‬
‫ً‬ ‫يُع ّد السيموزيس‬
‫األشياء إىل عالمات‪ ،‬وكذلك عن طبيعة اإلحاالت بني العامل اخلارجي واخلطابات‪ ،‬وكيفيّة إعادة تشكيل‬
‫هذه العوامل داخل اخلطاب من جديد‪ .‬إن هذه العوامل ال تدخل اخلطابات إال عن طريق اإلحاالت الرمزية‬
‫تصورات جديدة داخل اخلطابات‪ ،‬يتك ّفل السيموزيس بالكشف عن السريورة اليت‬‫األمر الذي قد مينحها ّ‬
‫تؤدي إىل إنتاج داللة ما عن عامل ما أو شيء ما داخل اخلطاب‪.‬‬
‫يرتكز املعىن يف نظر السيميائيني حول مفهوم" السيموزيس " ‪ .semiosis‬ويعد شارل سندرس بريس‬
‫أول من حتدث عن مفهوم السيموزيس وحدد معامله يف جمال السيميائيات وهو يف نظره " سريورة يشتغل‬
‫من خالهلا شيء ما كعالمة" وتستدعي‪ ،‬من أجل بناء نظامها الداخلي‪ ،‬ثالثة عناصر هي ما يكون العالمة‬
‫ويضمن استمرارها يف الوجود ‪ :‬ما يقوم بالتمثيل (ماثول) وما يشكل موضوع التمثيل (موضوع) وما يشتغل‬
‫‪23‬‬
‫كمفهمة تقود إىل االمتالك الفكري " للتجربة الصافية " ( مؤول)"‪.‬‬
‫جهودا كبرية يف‬
‫ً‬ ‫يُع ّد شارل سندرس بريس ‪ Charles S. Peirce‬من أهم املفكرين الذين بذلوا‬
‫تطوير الدرس السيميائي باالعتماد على الطروحات الفلسفية السيما عند ( أوجست كونت) و ( هيجل)‪،‬‬
‫وكذلك ال ميكن إغفال أنه يعد أول من استخدم مفهوم السيموزيس متأثـًّرا يف ذلك بفلسفة ( جون لوك)‬
‫وعرفه بأنه " تلك السريورة اليت يشتغل مبوجبها شيء ما باعتباره عالمة"‪ 24.‬وعلى هذا فإن السيموزيس‬
‫ّ‬
‫أفكارا سابقة‪ ،‬يتم‬
‫هو عملية تشكيل العالمة داخل اخلطاب اإلبداعي الذي يُع ّد حدثًا تارخييًّا يستوعب ً‬
‫استيعاهبا داخله بواسطة العالمات اللغوية‪ ،‬وتنظر السيميائيات الثقافية إىل الثقافة بوصفها جمموعة من‬
‫املمارسات الدالة‪ ،‬وتسعى الدراسة السيمائية إىل الكشف عن داللة هذه املمارسات داخل احلقل الثقايف‬
‫عرب امللفوظ‪ ،‬فاملعىن يتشكل يف أفعال التل ّفظ‪ ،‬حيث يتضمن فعل التل ّفظ جتارب ثقافية‪ ،‬ميكن اتنباطها‬
‫عن طريق امللفوظ ومساته وخصائصه اللغوية يف اخلطاب‪.‬‬

‫كيف تنمو العالمة داخل الثقافة؟ وما جدوى المقاربة السيميائية؟‬


‫متنوعة جيعلها تكتسب داللة خمتلفة ضمن كل نسق ثقايف‬ ‫إن إدراج العالمة ضمن أنساق ثقافيّة ّ‬
‫بتنوع‬
‫تنوع الداللة ّ‬
‫جديد‪ ،‬وقصة الشاعر العباسي علي بن اجلهم مع اخلليفة املتوكل تؤكد خري برهان على ّ‬

‫‪ 23‬نقال عن سعيد بنكراد‪ ،‬السيموزيس القراءة والتأويل‪ ،‬جملة عالمات العدد (‪1882 ( )10‬م)‪.‬‬
‫‪ 24‬نقالً عن‪ ،‬هواري بلقنوز‪ ،‬مدخل إىل السيميائيات التداولية ( إسهامات بريس وشارل موريس)‪ ،‬امللتقى الثالث‪ :‬السيمياء‬
‫والنص األديب‪ 80 /18 ( ،‬أفريل ‪8004‬م) كلية اآلداب والعلوم االجتماعية واإلنسانية ـ جامعة حممد خيضر‪ /‬بسكرة ـ‬
‫اجلزائر‪.‬‬
‫األنساق الثقافية‪ ،‬والقصة حتكي باختصار‪ :‬أن علي بن اجلهم كان بدوياً جافياً‪ ،‬فقدم على املتوكل العباسي‪،‬‬
‫‪25‬‬
‫فأنشده قصيدة افتتحها بقوله‪:‬‬
‫يس يف قِر ِاع اخلُ ِ‬
‫طوب‬ ‫َوَكالتَ ِ‬ ‫ك لِ ُلود‬ ‫لب يف ِح ِ‬
‫فاظ َ‬ ‫َنت َكال َك ِ‬
‫أ َ‬

‫فتعجب احلاضرون من هذا القول‪ ،‬ولكن املتوكل عرف حسن مقصده وخشونة لفظه‪ ،‬وأنه ما رأى‬ ‫ّ‬
‫سوى ما شبهه به‪ ،‬لعدم املخالطة ومالزمة البادية‪ ،‬أي باختالف النسق الثقايف البدوي الذي ينتمي إليه‬
‫على بن اجلهم‪ ،‬حيث يدل اللفظان ( الكلب والتيس) على معنيي الوفاء والقدرة على مواجهة الشدائد‪،‬‬
‫ولكنهما يف النسق الثقايف احلضري يدالن على ٍ‬
‫معان سلبية ال تليق مبقام اخلليفة املتوّكل‪ .‬فأمر املتوكل له‬
‫بدار حسنة على شاطئ دجلة‪ ،‬فيها بستان مجيل‪ ،‬يتخلله نسيم لطيف يغ ّذي األرواح‪ ،‬واجلسر قريب منه‪،‬‬
‫وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به‪ ،‬فكان ‪ -‬أي ابن اجلهم – يرى حركة الناس ولطافة احلضر‪ ،‬فأقام ستة‬
‫أشهر على ذلك‪ ،‬واألدباء يداومون على جمالسته وحماضرته‪ ،‬مث استدعاه اخلليفة بعد مدة لينشده‪ ،‬فأنشده‪:‬‬
‫حيث أ َْد ِري وال أ َْد ِري‬
‫ُ‬ ‫ْب اهلوى من‬
‫َجلَ ْ َ‬ ‫افة واجلِ ْس ِر‬
‫عيو ُن املها بني الرص ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫فقال املتوكل‪ :‬لقد خشيت عليه أن يذوب رقّة ولطافة‪ .‬وميكننا استنتاج حقيقة مهمة من هذه القصة‬
‫دائما للمؤلف وال ألهوائه‪ ،‬وما يهمه من اخلطاب هو امللفوظات وما تصنعه من‬‫وهي أن املتلقي ال يُذعن ً‬
‫حد كب ٍري يف فهم مقاصد‬ ‫معان داخل اخلطاب‪ ،‬كما أن وعي املتلقي باالختالف الداليل يسهم إىل ٍّ‬
‫بالتنوع الداليل للملفوظات داخل اخلطاب يسهم بقد ٍر كب ٍري يف إساءة‬
‫اخلطاب؛ ألن عدم وعي املتلقي ّ‬
‫خارجا للصيد‪ ،‬وكان الرجل يف‬ ‫ِ‬
‫فهم مقاصد اخلطاب‪ .‬وقصة الرجل الذي أتى أحد ملوك محَْري‪ ،‬فوجده ً‬
‫ب ( أي اجلس) فقفز الرجل من أعلى اجلبل‪ ،‬فمات‪ ،‬وحني استغرب‬ ‫ِ‬
‫أعلى قمة اجلبل‪ ،‬فقال له امللك‪ :‬ث ّ‬
‫امللك من تصرف الرجل‪ ،‬شرحوا له أن الوثب يف غري اللهجة احلمرييّة يعين القفز‪ .‬وهذا يعين أن داللة‬
‫ب" يف ثقافة احلمرييني‪ ،‬تعين ( اجلس) وبلغة عرب الشمال تعين ( اقفز )‪ .‬وهاتان القصتان‬ ‫ِ‬
‫كلمة " ث ّ‬
‫وتنوع دالالهتا داخل األنساق الثقافية‪.‬‬
‫تربهنان على كيفية منو العالمات ّ‬

‫إن شبكة الرموز والعالمات اليت تش ّكل خطاب اإلشادة يف الشعر العريب تُعطي معىن نوعيًّا خمتل ًفا إذا‬
‫ما حاولنا تفسريها يف إطار عالقتها بأنساق الثقافة العربية عن العامل والوجود آنذاك‪ .‬وعلى هذا ميكننا‬

‫‪ 25‬القصة أوردها حممد أمحد جاد املوىل‪ ،‬قصص العرب‪ ،‬اهليئة العامة لقصور الثقافة ( مصر) ( ‪.8008‬م) راجع اجلزء‬
‫الثالث ص ‪.882‬‬
‫القول‪ :‬إن العالمة‪ /‬الدال اللساين يف اخلطاب‪ ،‬تنطوي على ٍ‬
‫معان متعددة رغم التشابه املوجود بني ثقافات‬
‫العرب املختلفة‪ ،‬وعلى السيميائي اكتشاف ما وراء هذه العالمات والرموز من ٍ‬
‫معان‪ .‬عليه اكتشاف‬
‫القوانني‪ ،‬أو اإلشارات‪ ،‬أو الدوال املنتجة هلذه املعاين يف سياق عالقتها باألنساق الثقافية السائدة‪ ،‬واليت‬
‫أسهمت بشكل فاعل يف تداوهلا داخل اخلطابات؛ وكما يقول ( يوري لومتان ‪Yu M.Lotman‬‬
‫خاصا مييزها ‪...‬‬
‫وبوريس أوسبنسكي ‪ :) B.A.Uspensky‬إن كل ثقافة تارخيية إمنا تنتج منطًا ثقافيًّا ً‬
‫نظاما عامليًّا‪ ،‬بل هي نظام فرعي يتش ّكل طبق منط خمصوص"‪ 26.‬ومن مثة ميكن احلصول على‬ ‫وهي ليست ً‬
‫نوعي عن طريق تفسري اآلليّات اليت تشتغل هبا الثقافة‪ ،‬واسرتاتيجيات تسللها داخل اخلطاب‪،‬‬
‫معىن ٍّ‬
‫وفاعليتها يف تكوين معىن اخلطاب‪.‬‬

‫إن املديح والفخر والغزل والرثاء كظواهر ثقافية ال ميكن اختزاهلا إيل جمموعة من األفكار اجملردة املفصولة‬
‫عن ثقافة السياسية واألنا الفرديّة واجلمعية باعتبارها ظواهر ثقافية‪ /‬اجتماعية‪ /‬سياسية عرفتها اجملتمعات‬
‫العربية‪ ،‬ألن التش ّكل التارخيي هلذه الظواهر ينطوي على دالالت ثقافية وخميال اجتماعي وسياسي أَلَِفهما‬
‫العقل العريب‪ ،‬ومتثّل ركنًا أساسيًّا من بنية العقل األخالقي العريب على حد تعبري اجلابري عندما حصر‬
‫حمددات العقل العريب يف‪ " :‬القبيلة ـ الغنيمة ـ العقيدة"‪ 27.‬حيث تُشري القبيلة إىل طبيعة العالقات‬
‫وتعرب العقيدة عن إميان العقل العريب باملعتقدات سواء‬
‫االجتماعية‪ ،‬ونظام االنتماء والوالء االجتماعيني‪ّ ،‬‬
‫ُيرك النفس اإلنسانية باجتاه األطماع الدنيوية‪،‬‬
‫أكانت ديانات مساوية أم إيديولوجيات‪ ،‬وتأيت الغنيمة كإغراء ّ‬
‫مع الوضع يف االعتبار االنتباه إىل أمهية الدور الذي تلعبه العقيدة يف العقل العريب كغطاء إيديولوجي يربر‬
‫لإلنسان واحلكام بالتحديد ممارساهتم؛ لذا ميكننا الكشف عن فعاليات جديدة ملوضوعات خطب اإلشادة‬
‫يف الشعر العريب القدمي من خالل دراسة العالقة بني ملفوظات اخلطاب‪ ،‬وأفعال ِ‬
‫القيَم الثقافية‪ ،‬وإيديولوجيا‬
‫حتوالت احلِيَل الثقافية إىل أنظمة خطابية هلا قدرهتا اخلاصة على اإلقناع من خالل ملفوظات‬ ‫املنح؛ لفهم ّ‬
‫توضع يف سياقات خطابية متنحها القدرة على إنتاج معىن خمتلف ُيقق مأرب الذات املتلفظة داحل‬
‫اخلطاب‪ ،‬ومكانة اجتماعية داخل اجملتمع؛ ألنه ليس من املقبول الفصل بني اللغة والثقافة‪ ،‬فعالقة اللغة‬
‫بالثقافة " مسألة أساسية‪ .‬ويف املطبوعات األوىل جلامعة تارتو ( ‪ ( ) Tartu‬جمموعة السيموطيقا) حددت‬
‫الظواهر الثقافية على أهنا أنظمة ثانوية مش ّكلة وفق مناذج ‪ -‬وهو ما يوحي بطبيعتها االشتقاقية يف عالقتها‬

‫‪ 26‬يوري لومتان‪ ،‬وبوريس أوسبنسكي‪ ،‬حول اآللية السيميوطيقية للثقافة‪ ،‬ترمجة عبد املنعم تليمة‪ ،‬ضمن كتاب‪ :‬أنظمة‬
‫العالمات‪ :‬مدخل إىل السيميوطيقا‪ ،‬إشراف سيزا قاسم‪ ،‬ونصر حامد أبو زيد‪ ،‬دار إلياس العصرية ( القاهرة) ( ‪1821‬م)‬
‫ص‪.881 ،885‬‬
‫‪ 27‬العقل السياسي العريب‪ :‬حمدداته وجتلّياته‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ( بريوت) ط ‪8000 ( 4‬م) ص ‪ 42‬ـ ‪.58‬‬
‫باللغة الطبيعية‪ -‬بنسبها الطبيعي ‪ ...‬ويع ّد بنفنيست اللغات الطبيعة وحدها أنظمة سيميوطيقية‬
‫‪28‬‬
‫نفسر عالمات اجملتمع من خالل‬
‫خالصة"‪ .‬ويؤّكد ( بنفنيست) يف سياق آخر " إننا نستطيع أن ّ‬
‫‪29‬‬
‫مفسر للمجتمع"‪.‬‬
‫صحيحا‪ .‬فاللغة هي ّ‬
‫ً‬ ‫عالمات اللغة‪ ،‬وليس العكس‬

‫إذا كان استجالء املعىن عند األنثروبولوجيني ُيدث عرب دراسة السلوك البشري‪ ،‬والظواهر االجتماعية‪،‬‬
‫فهل من املمكن استجالء املعىن يف السيميائيات الثقافية عرب دراسة امللفوظ بوصفه فعالً لغويًّا ناجتًا عن‬
‫تبىن‬
‫ذات؟ ألن الذات املتكلّمة يف اخلطاب تبحث عن املعىن من خالل فعل التلفظ‪ ،‬وهذا ما جعلنا ن ّ‬
‫املقاربة السيميائية يف حتليل خطايب املديح والفخر يف األدب القدمي بالرتكيز على سيميائيات التل ّفظ‪ ،‬اليت‬
‫تعتمد بالدرجة األوىل على املدلول يف بناء املعىن‪ ،‬فبدون املدلول ال ميكن بناء املعىن يف السيميائيات‪،‬والذات‬
‫املتكلمة هي اليت جتت هد يف بناء املعىن عن طريق جتاوز نقل الدال هبدف طرح جمموعة من الدالالت عرب‬
‫قيما داللية تُفصح‬
‫امللفوظات تعرب عن جتارب فردية يف املديح‪ ،‬ومجاعية يف الفخر‪ ،‬وهذه امللفوظات حتمل ً‬
‫عن ثقافة ما‪ ،‬ونظام حياة‪ ،‬ومكانة اجتماعية‪ ،‬وانتماء جغرايف‪ ،‬وعقائد دينية‪ ،‬فاللباس واملأكل واملشرب‪،‬‬
‫عالمات على قيم اجتماعية وثقافية ودينية ال ميكن جتاهلها يف السيميائيات؛ ألن االكتفاء بدراسة الدال‬
‫فقط يعين االكتفاء بوصف األشياء والظواهر‪ ،‬فالدال يف السيميائيات ليس سوي وسيط لتوصيل املعىن‪،‬‬
‫فكيف ميكن االكتفاء به للحصول على املعىن؟!‬
‫وهذا ما يُعطي املقاربة السيميائية خصوصيتها‪ ،‬فهي تركز على املدلول؛ ألنه ليس سجني معىن واحد‪/‬‬
‫أحادي املعىن‪ ،‬وهو ينفتح على تأويالت وقراءات متعددة‪ ،‬بينما يفضل البنيويون الدال على املدلول باعتباره‬
‫تأثرا بليفي شرتاوس عندما اهتم "‬
‫األصل‪ ،‬واملدلول التابع‪ ،‬ويسهم الدال بشكل فاعل يف تشكيل البنية‪ً ،‬‬
‫بالدال‪ /‬األصل على حساب املدلول‪ /‬املتعدد " ألن الدال الواحد الب ّد أن ينتج مدلوالت خمتلفة لشخصني‬
‫خمتلفني‪ ،‬مدلوالت حتمل مكاناً داللياً خمتلف احلدود بسبب اختالف التجارب‪ ،‬كذلك سينتج الدال‬
‫الواحد مدلوالت خمتلفة للشخص الواحد يف أوقات خمتلفة‪ ،‬ألن تركيب العالقات القائمة يف املكان الداليل‬
‫غري ثابت‪ ،‬والبنيوية تدعونا لالستمتاع بتعددية املعاين اليت ينتجها لنا ذلك‪ ،‬ولرفض التفسري األحادي أو‬
‫‪30‬‬
‫التعسفي للرموز"‪.‬‬

‫‪ 28‬يوري لومتان‪ ،‬وبوريس أوسبنسكي‪ ،‬حول اآللية السيميوطيقية للثقافة‪ ،‬ص‪882‬‬


‫‪ 29‬إميل بنفنيست‪ ،‬سيميولوجيا اللغة‪ ،‬ترمجة سيزا قاسم‪ ،‬ضمن كتاب أنظمة العالمات‪ :‬مدخل إىل السيميوطيقا‪،‬‬
‫إشراف سيزا قاسم‪ ،‬ونصر حامد أبو زيد‪ ،‬دار إلياس العصرية ( القاهرة) ( ‪1821‬م) ص‪.21‬‬

‫‪ 30‬جون سرتوك‪ ،‬البنيوية وما بعدها ‪:‬من ليفي شرتاوس إيل دريدا _ ترمجة جابر عصفور _ الكويت اجمللس الوطين‬
‫للثقافة والفنون واألداب‪1881 ،‬م ص‪.85.‬‬
‫حتليل اخلطاب‬
‫تشكّل موضوعات الخطاب‪:‬‬
‫كيف يكون بوسع عملية اإلشادة بذات املمدوح أن متيّز اخلطاب وجتعله ذا قيمة تنافسية أمام املادي‬
‫خاصا من العالقات‬
‫نظاما ً‬
‫النفيس؟ كيف تستطيع امللفوظات‪ /‬العالمات أن تنشيء بني أطراف اخلطاب ً‬
‫بتكون موضوع ذي خصوصية؟ ملاذا امللفوظات مقابل القيمة‪ /‬احلريّة؟‬‫يسمح ّ‬
‫اإلجابة عن هذه األسئلة‪ ،‬ال تتعلّق مبعرفة اآلليّات اليت مبقتضاها ميكن للملفوظات أن متثّل بعضها‬
‫بعضا‪ ،‬بل يتعلّق األمر مبعرفة أسباب تش ّكل موضوعات هلا قيمتها يف احلياة – احلرية يف هذا السياق‪-‬‬
‫ً‬
‫عدا اجتماعيّا خارج اخلطاب‪ ،‬كما يتعلّق األمر بطرح‬‫واحلاجة إىل متثيلها داخل اخلطاب؛ وذلك ملنحها بُ ً‬
‫سؤال حول كيفية منح اخلطاب قيمة ما مللفوظاته عرب إحاالهتا‪.‬‬
‫أن مينح اخلطاب قيمة مللفوظاته‪ /‬عالماته‪ ،‬يعين – عند السيميائيني‪ -‬أن يساوي شيئًا آخر – على‬
‫اعتبار أن العالمة حتل حمل شيئ غائب‪ -‬وأن هذه العالمات لديها من القوة ما يؤهلها للقيام بإجناز املهمة‪/‬‬
‫مقاصد اخلطاب بقدراهتا اإلجنازية والتمريريّة‪ .‬إن التبادل يف عملية املقايضة يتم على أساس اعرتاف كل‬
‫طرف بقيمة ما ميلكه الطرف اآلخر‪ .‬فهل احلريّة كمعىن اجتماعي تقابل يف قيمتها امللفوظات داخل‬
‫اخلطاب؟ اإلجابة هنا بـ ( ال) لسبب بسيط وهو أن احلريّة كمعىن حباجة إىل اخلطاب كي حتافظ على‬
‫استمراريتها يف احلياة‪ ،‬وأن معناها ‪ -‬معىن ِ‬
‫القيم اإلنسانية‪ -‬يتجدد يف احلياة عرب امللفوظات‪ ،‬وامللفوظات‬
‫داخل اخلطاب حباجة إىل القيمة كي تستمر فعاليتها وتأثريها يف متلقيها " كي ميثّل شيء ما شيئًا آخر‬
‫داخل عملية مبادلة‪ ،‬يلزم أن يوجد هذان الشيئان حمملني بقيمة‪ ،‬ومع ذلك فالقيمة ال توجد إال داخل‬
‫التمثيل ( الفعلي أو املمكن)‪ ،‬أي داخل املبادلة أو قابلية التبادل‪ ،‬يطرح هذا إمكانية قراءتني متآنيتني‪:‬‬
‫إحدامها حتلل القيمة داخل فعل املبادلة ذاته‪ ،‬يف نقطة تالقي الشيئني املتبادلني‪ ،‬والثانية حتللها كشيء سابق‬
‫‪31‬‬
‫أويل حلدوثها"‪.‬‬
‫على املبادلة وكشرط ٍّ‬
‫القيم اإلنسانية تكتسب دالالت جديدة عرب استعماهلا يف اخلطاب‪ ،‬وامللفوظات متارس فعاليتها‬ ‫إن ِ‬
‫من خالل إجنازها هلذه الدالالت؛ ومن مثّة قوهتا يف التأثري‪ ،‬فلكي تستمر ِ‬
‫القيم اإلنسانية‪ ،‬ال ب ّد من وجود‬
‫حرية شأس قبل اخلطاب جمرد وهم‪ ،‬ولكنها بفعل‬ ‫ِ‬
‫خطابات حتيا فيها هذه القيم؛ ألن الناس حباجة إليها‪ّ ،‬‬
‫حتولت إىل حقيقة عرب تش ّكلها يف موضوع‪ ،‬احلريّة بيد امللك احلارس‪ ،‬وامللفوظات واخلطاب بيد‬ ‫اخلطاب ّ‬
‫كل حباجة ملا بيد اآلخر‪ ،‬ميكن ‪ -‬من خالل البحث يف هذه العالقات‪ -‬التق ّدم حنو فهم أعمق‬ ‫علقمة‪ ،‬و ٍّ‬
‫لدراسة تش ّكل املوضوعات داخل اخلطاب‪.‬‬

‫‪ 31‬ميشيل فوكو‪ ،‬الكلمات واألشياء‪ ،‬ترمجة مطاع صفدي وآخرون‪ ،‬مركز اإلمناء القومي ودار الفارايب ( بريوت) ط‪8‬‬
‫كانون الثاين ( ‪.8011‬م) ص‪.882‬‬
‫حتول‪/‬‬
‫إن خطاب اإلشادة يف الشعر‪ ،‬هو حدث إبداعي عاشته الثقافة العربية قدميا – وما زالت – وهو ّ‬
‫انتقال الشخص املشاد به بوصفه كينونة رمزية من العامل الواقعي‪ ،‬إىل العامل الرمزي ( اخلطاب)‪ ،‬وهبذا املعىن‬
‫يؤِّكد خطاب اإلشادة البُعد الرمزي للشخصية املشاد هبا‪ ،‬إال أن هذا احلدث د ّشن – يف الوقت نفسه‪-‬‬
‫ُ‬
‫عما هو خارج اخلطاب‪ ،‬أي سؤال حول مصدر اخلطاب وأصله‪ ،‬وهذا يفتح الباب‬ ‫لسؤال إبستمولوجي ّ‬
‫مؤخرا لطرح تساؤالت وفرضيات حول مرجعياته وعالماته‬ ‫على مصراعيه أمام النقد الثقايف‪ ،‬والسيميائيات ً‬
‫كثريا من اجلدل‬
‫ومقاصده وغاياته ‪ ..‬وقد متخضت حماوالت النقد الثقايف عن سلسلة من النتائج أثارت ً‬
‫حوهلا‪ 32.‬وميكننا اإلشارة إىل أن السيميائية ميكن أن تقدم نتائج ال حمدودة حول خطاب اإلشادة؛ ذلك‬
‫تفسريا ثقافيًّا للظاهرة داخل اخلطاب فحسب‪ ،‬وإمنا تبحث يف كيفية تش ّكل‬
‫ً‬ ‫أهنا ال تق ّدم تأويالً‪ ،‬أو‬
‫املوضوعات داخل اخلطاب‪ ،‬أي البحث يف كيفية انتقال املوضوعات من جماهلا الثقايف واالجتماعي‪ ،‬إىل‬
‫مرورا بدراسة هذه املوضوعات يف سياق ما توفره السيميائيات من معارف وعالقتها‬‫سياقها اخلطايب‪ً ،‬‬
‫مبرجعياهتا‪ ،‬وانتهاءً بتقدمي تأويل سيميائي يفتح األفق أمام العقل النقدي لفهم نوعي للموضوعات داخل‬
‫اخلطاب‪.‬‬

‫مل يكن لظهور موضوع املديح يف اخلطاب الشعري العريب القدمي‪ ،‬من حيث هو موضوع خاص بالسلطة‬
‫احلاكمة‪ ،‬دور ريادي ومؤسس للخطاب الشعري القدمي فحسب‪ ،‬بل كذلك يف ميادين احلياة األخرى‪،‬‬
‫دائما‪ -‬ميثّل وسيلة إغراء لآلخر؛ عرب التعبري عن ذاته يف استطالتها وتعاليها‪ ،‬وقدرهتا على تقدمي‬
‫فاملديح – ً‬
‫املعونة لآلخرين‪ ..‬ويضع الشاعر يف دائرة الرضا واالهتمام من قِبَل املمدوح‪ ،‬فتشعر الذات املادحة‬
‫باالستقرار‪ ،‬وتشعر الذات املمدوحة باالستعالء‪ ،‬فاملديح أو الثناء وجد مكانته كقيمة رمزية يف اخلطاب‪،‬‬
‫بعد أن أسس ملكانته كقيمة حياتية يف اجملتمع تسمح بإقامة نظام هرمي لطبقات‪ /‬مراتب اجتماعية‬
‫واختالفات بني الناس‪ ،‬حتاول كل طبقة احلصول على مقاصدها وغاياهتا من خالل املوضوع‪ /‬اإلشادة‬
‫بذات أخرى‪ ،‬فالشاعر‪ ،‬يسعى للحصول على غايته من احملبوبة واملمدوح من خالل اإلشادة هبما‪ ،‬والطرف‬
‫اآلخر‪ ،‬يسعى إىل احلصول على غايته املمثلة يف اخللود والشهرة‪ ،‬فهذا التواصل بني أطراف اخلطاب‪ ،‬هو‬
‫ما يؤدي إىل ظهور منطني من التفكري‪:‬‬

‫‪ 32‬راجع يف ذلك اآلراء اليت طرحها عبد اهلل الغذامي يف كتابه النقد الثقايف‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ( ،‬الدار البيضاء وبريوت)‬
‫حجرا يف املياه الراكده عن موضوعات الشعر لعل من أبرزها شعر املديح‪.‬‬ ‫ط‪8000 ( 1‬م) ‪ ،‬حيث ألقت ً‬
‫األول‪ :‬يتمثّل يف طرح سؤال الشروط احملددة لطبيعة العالقة بني الطرفني ( الشاعر‪ /‬احملبوبة) ( الشاعر‪/‬‬
‫املمدوح) ( الشاعر‪ /‬القبيلة) وذات الشاعر يف خطاب اإلشادة‪ ،‬ذات متناهية يف ارتباطها باملوضوع؛ حيث‬
‫تبذل ما يف وسعها لرسم صورة مثالية للطرف اآلخر مبالغة يف احلقيقة!‬

‫الثاني‪ :‬يتمثّل يف طرح تساؤل حول كيفية التمثيل الرمزي عرب اللغة لشخصية اآلخر؛ ألن اآلخر‪ /‬املمدوح‬
‫سيتحول من شخصية حقيقية داخل اجملتمع‪ ،‬إىل رمز داخل اخلطاب عرب امللفوظات؛ ومن مثّة جند أنفسنا‬‫ّ‬
‫أمام ثالوث فكري يف خطاب اإلشادة‪ ،‬رأسه ممثلة يف مقصد اخلطاب وغايته‪ ،‬وقاعدته متمثلة يف قدرة‬
‫اخلطاب على إنتاج املعىن‪ ،‬وقوة العالمة‪ /‬امللفوظ‪.‬‬

‫مقصد الخطاب‬

‫قوة الملفوظ‪ /‬العالمة‬ ‫قدرة الخطاب‬

‫التعرف على قدرة هذا اخلطاب على ممارسة فعاليته يف احلياة‪،‬‬


‫ومن خالل قراءة هذا الثالوث ميكننا ّ‬
‫أيضا معرفة التخوم اخلارجية خلطاب اإلشادة‪ ،‬وميكن حصرها يف اآليت‪:‬‬
‫وانطالقًا من هذا الثالوث ميكننا ً‬
‫قيمة األشياء ( كاحلريّة مثالً يف خطاب علقمة)‪ .‬نظام العالقات ( بني الشاعر واملمدوح‪ ،‬والشاعر‬
‫واحملبوبة‪ ،‬والشاعر والقبيلة)‪ .‬ملفوظات الخطاب وقدرهتا يف التعبري عن التجربة‪ .‬درجات القرابة بني‬
‫اخلطاب والنظام االجتماعي الذي أنتج اخلطاب‪ ،‬وبناءً على هذا يكون بوسعنا – كما يقول ميشيل فوكو‪-‬‬
‫‪ " :‬البحث يف شروط إمكان التجربة ضمن شروط إمكان املوضوع‪ ،‬وإمكان وجوده‪ .‬هذا يف الوقت الذي‬
‫نالحظ أن شروط إمكان موضوعات التجربة متاثل يف التفكري الرتنسندنتايل‪ ،‬شروط إمكان التجربة‬
‫‪33‬‬
‫ذاهتا"‪.‬‬
‫ولذلك تصبح التجربة‪ ،‬والعالقة‪ ،‬واخلطاب شروطًا أساسية تسمح باملعرفة املوضوعية للمعىن داخل اخلطاب‬
‫اإلبداعي‪ .‬إن صفة الرتكيب ال َقْبلي تلقي بظالهلا على التجربة‪ ،‬فتجربة األسر ( أسر شأس) هي تركيب‬

‫‪ 33‬ميشيل فوكو‪ ،‬الكلمات واألشياء‪ ،‬ترمجة مطاع صفدي وآخرون‪ ،‬مركز اإلمناء القومي ودار الفارايب ( بريوت) ط‪( 8‬‬
‫‪8101‬م) ص‪828‬‬
‫أيضا على العالقة داخل اخلطاب‪،‬‬ ‫قبلي للتجربة اإلبداعية داخل اخلطاب‪ ،‬وصفة التمثيل‪ ،‬تلقي بظالهلا ً‬
‫وحتاول العالمة من خالل التمثيل واإلحالة حتقيق الكينونة للشخصية املشاد هبا ( احملبوبة‪ ،‬املمدوح‪ ،‬القبيلة)‬
‫ُ‬
‫وحتاول أن ترسم حلقيقتها املبهمة والغامضة صورة عرب اإلحاالت على مرجعيات ميكن أن تتكامل يف رسم‬
‫ُ‬
‫هذه الصورة‪.‬‬
‫إن صفة احلقيقة البعديّة‪ ،‬تلقي بظالهلا على اخلطاب‪ ،‬فالشاعر يطمح إىل حتقيق غايته من اخلطاب‪،‬‬
‫جيدا ملاذا حظي خطاب اإلشادة هبذه املنزلة عند القدماء‪،‬‬ ‫وهي إطالق سراح شأس‪ ،‬وهذا جيعلنا نفهم ً‬
‫يتطور على أفق القيم اإلنسانية من سياق‬‫أيضا‪ .‬إنه خطاب ّ‬ ‫وما زال ُيظى هبا عند احملدثني واملعاصرين ً‬
‫إىل سياق‪ ،‬ومن جمال إىل جمال‪ ،‬وهي شروط ترنسندنتالية ( احلق‪ ،‬العدل‪ ،‬احلرية‪ ،‬الكرم‪ ،‬الوفاء‪ ،‬التسامح‪)..‬‬
‫وهي شروط جتد ضالتها عرب ملفوظات اخلطاب؛ وهلذا جيب علينا يف درسنا السيميائي خلطاب اإلشادة‪،‬‬
‫إدراك جوهر التجربة ( الرتكيب ال َقْبلي) وعالقتها بقوانني اخلطاب‪ ،‬ومعرفة كيفيّة انتظام العالقات داخل‬
‫اخلطاب‪ ،‬وهو ما تسعى إليه الدراسة الراهنة‪.‬‬
‫التنظير للخطاب‪:‬‬
‫مو ّجه من الشاعر اجلاهلي املعروف علقمة بن َعبَ َدة بن النعمان بن قيس بن متيم الشهري‬
‫هذا اخلطاب ّ‬
‫الغساين احلارث بن جبلة ملك إمارة احلرية بعدما هزم املنذر بن ماء السماء‪،‬‬
‫بعلقمة الفحل‪ ،‬إىل امللك ّ‬
‫عددا من بين متيم ومن بينهم شأس أخو علقمة‪ ،‬ويُقال ابن أخيه‪ .34.‬وتُع ّد دراسة سوزان ستيتكيفيتش‬
‫وأسر ً‬
‫( قصيدة املدح وطقوس الفداء يف اجلاهلية‪ :‬بائية علقمة)‪ 35‬من أهم الدراسات حول هذه القصيدة بالنسبة‬
‫لدراستنا‪ ،‬من حيث توجهاهتا النقدية يف دراسة اخلطاب؛ حيث تطرح تساؤالت أنثروبولوجية حول قضايا‬
‫اخلطاب الشعري‪ ،‬وحتلل بائية علقمة يف ضوء أمنوذج ثالثي للقصيدة العربية باالقتداء بطروحات‬
‫األنثروبولوجي ( جاسرت) وحتليالته للطقوس املومسيّة‪ .‬وما يلفت انتباهنا يف هذا السياق هو تساؤهلا املهم‬
‫جمرد رجاء بليغ موزون ومق ّفى إلطالق سراح األسري؟‪ .‬أم هي تقوم‬ ‫يف بداية الدراسة " هل هذه القصيدة ّ‬

‫‪ 34‬راجع يف ذلك‪:‬‬
‫الضيب‪ ،‬املفضليّات‪ ،‬حتقيق وشرح أمحد حممد شاكر‪ ،‬وعبد السالم هارون‪ ،‬دار املعارف ( القاهرة) ( ‪1828‬م)‬
‫املفضل ّ‬
‫ّ‬
‫ط‪ 1‬املفضليّة رقم (‪ )118‬ص ‪.181‬‬
‫احليت‪ ،‬دار الكتاب العريب (‬
‫األعلم الشنتمري‪ ،‬شرح ديوان علقمة الفحل‪ ،‬ق ّدم له ووضع حواشيه وفهارسه‪ :‬حنّا نصر ّ‬
‫بريوت) ط‪ ) 1881 ( 1‬ص‪.81‬‬
‫وراجع كذلك سوزان ستيتكيفيتش‪ ،‬أدب السياسة وسياسة األدب‪ ،‬ترمجة وتقدمي حسن البنا عز الدين‪ ،‬اهليئة املصرية‬
‫العامة للكتاب ( ‪1882‬م) ص‪.52‬‬
‫‪ 35‬املفضليات‪ ،‬ص‪ 55‬وما بعدها‪.‬‬
‫بدور املقايضة يف مقايضة طقوسيّة‪ ،‬وخباصة دور فدية تدفع يف هذا السياق الشعائري؟‪ 36".‬وهو سؤال‬
‫يفتح اخلطاب الشعري على األفق الثقايف الضارب يف أعماق الثقافة واإليديولوجيا "‪ .‬إن قصيدة علقمة‬
‫بن َعبَ َدة ليست جمرد استغاثة أو مناشدة يف شكل موزون ومق ّفى‪ ،‬بل إهنا تؤدي وظيفة سلعة للتبادل يف‬
‫نتوصل إىل إدراك جديد‬‫عملية افتداء حياة إنسان – أي تكون فدية‪ -‬ويف ضوء هذه النقطة ميكننا أن ّ‬
‫لوظيفة الشعر الطقوسية يف اجملتمعات التقليديّة بصفة عامة‪ ،‬وهي وظيفة تناقض أفكارنا الرومانسية‪ ،‬وما‬
‫‪37‬‬
‫نتوصل إىل تقييم جديد لبنية القصيدة"‪.‬‬
‫بعد الرومانسيّة للشعر ولقواعده اجلماليّة‪ ،‬كما نستطيع أن ّ‬
‫تسعى ستيتكيفيتش إىل تفسري القصيدة من خالل دراسة بنيتها يف سياق طروحات األنثروبولوجي (‬
‫جاسرت) حول الطقوس املومسية‪ ،‬وميكننا االنطالق من هذه الدراسة باعتبارها فرضية علمية حول عالقة‬
‫املرتسبة يف هذا‬
‫اخلطاب الشعري بالثقافة واألنثروبولوجيا؛ وذلك من خالل دراسة العالقات الثقافية ّ‬
‫اخلطاب‪ ،‬وتأويل دالالهتا يف سياق ما توفّره املعرفة السيميائية لدراسة العالمات داخل اخلطاب‪.‬‬

‫يتطلّب التحليل السيميائي خلطاب اإلشادة استحضار عملية التأويل كآليّة إبستمولوجية مهمة من‬
‫آليّات البحث عن املعىن يف اخلطاب؛ ألن هذا اخلطاب لعلقمة الفحل مشحون برغبة يف الفعل واإلجناز‬
‫متمثلة يف إطالق سراح شأس من األسر‪ ،‬وهذا يتطلّب حبثًا يف طبيعة العالقة بني امللفوظ ومحوالته الثقافية‬
‫حمرًكا لعواطف اآلخر‪ /‬املمدوح‪ ،‬ومعبِّـًرا عن شعور املبدع‪ /‬الشاعر؛ ومن مثّة يُع ّد‬
‫واإليديولوجية‪ ،‬باعتباره ِّ‬
‫امللفوظ يف اخلطاب عالمة على إجناز فعل التحرر‪ ،‬وفعل التل ّفظ هنا يهدف إىل التواصل بني طريف اخلطاب‪،‬‬
‫مؤهل‬
‫حاضرا‪ /‬املمدوح‪ ،‬وقد يكون متخيّالً‪ /‬احملبوبة‪ .‬فهذا اخلطاب ّ‬
‫ً‬ ‫وقد يكون طرف اخلطاب اآلخر‬
‫سر ّقوة هذا اخلطاب؟!‪.‬‬ ‫حلل إشكاليّة العالقة بني القيد‪ /‬األسر‪ ،‬واحلريّة‪ .‬ما ّ‬
‫مبلفوظاته ّ‬
‫إن ّقوة هذا اخلطاب تكمن يف وظائفه املتعددة‪ ،‬وميكن حصرها على النحو التايل‪:‬‬
‫‪ ‬الوظيفة االنفعاليّة‪ :‬تتمثّل يف اإلحساس بشعور مؤمل بفقد شأس‪ ،‬ويرتجم هذا الشعور يف‬
‫ملفوظات تُبلغ املتلقي‪ /‬املمدوح هبذا الشعور االنفعايل باالعتماد على عالمات سيميائية تشري‬
‫إىل قواعد قِيَميّة‪ ،‬وثقافيّة مشرتكة حمل اتفاق بني املرسل واملتلقي‪.‬‬
‫‪ ‬الوظيفة المرجعيّة‪ :‬تتمثّل يف إنتاج ملفوظات تُفصح عن طلبات أو إخبارات قابلة للتصديق‪،‬‬
‫وألداء هذه الوظيفة عليها أن حتمل من اإلحاالت واإلشارات الثقافية واإليديولوجية ما جيعلها‬
‫قابلة للتصديق من قِبل املتلقي‪.‬‬
‫‪ ‬الوظيفة التأثرييّة‪ :‬تتمثّل يف إظهار قدرة امللفوظ على التأثري يف املتلقي باحلجاج واإلقناع‪.‬‬

‫‪ 36‬السابق‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫‪ 37‬السابق‪ ،‬ص‪.51‬‬
‫‪ ‬الوظيفة التبادليّة‪ :‬وهي وظيفة ميكن النظر إليها ليس باعتبارها متثيالً لتجربة ما‪ ،‬ولكن يُنظر إليها‬
‫مهما يف عملية‬‫دورا ً‬‫باعتبار اخلطاب ممثالً لعملية التفاعل االجتماعي‪ ،‬أي أن اخلطاب يؤدي ً‬
‫يفسر هذا اخلطاب بأنه طريقة يف التفكري‪ ،‬ولكن باعتباره طريقة‬ ‫التفاعل االجتماعي؛ ولذلك ال ّ‬
‫يف إجناز الفعل ملا يتضمنه من ملفوظات هلا تأثريها اخلاص على املتلقي الذي يستجيب هلا بإجناز‬
‫الفعل وهو إطالق سراح ( شأس)‪ ،‬فاملعىن يف هذا اخلطاب يرتبط بثنائية األسر‪ /‬احلريّة؛ ومن مثّة‬
‫فنحن أمام عمليّة استبدال األسر باحلريّة‪ ،‬واخلطاب هو جمال التفاعل إلمتام هذه العملية‪.‬‬

‫تعتمد دراستنا هلذا اخلطاب بشكل أساس على ما يُعرف ( بسيميائيات األهواء) مبفهومها عند جرمياس‬
‫‪ Greimas‬وفونتانيل ‪ Fontanille‬وهي اليت " تبحث يف ذاكرة اهلوى‪ ،‬يف حتققاته‪ ،‬ويف قدرته على‬
‫التطرف ‪ ...‬ال يتحدد سلوك‬ ‫توليد نسخ فرعية هي املدخل األساس من أجل حتديد حاالت االعتدال و ّ‬
‫قرت واحلريص والشحيح من جهة‪ ،‬ويف عالقته باملقتصد وامل ّدخر والكرمي‬
‫البخيل إال يف عالقته بسلوك امل ّ‬
‫ُ‬
‫والسخي من جهة أخرى ‪ ...‬وبعبارة أخرى يتعلق األمر بدراسة اهلوي باعتباره ساب ًقا على املمكنات‬
‫‪38‬‬
‫يتضمن ملفوظات ُحتيل ضمنًا أو صراحة على هذه األهواء والعواطف‬ ‫الداللية املسترتة"‪ .‬واخلطاب ّ‬
‫التعرف‬
‫واملشاعر اإلنسانية‪ ،‬سواء يف معناها اإلجيايب أو السليب‪ ،‬واملهم يف دراسة اهلوى يف اخلطاب " ليس ّ‬
‫‪39‬‬
‫على العالمات الدالة على األهواء‪ ،‬بل االهتمام بآثارها املعنوية كما تتحقق يف اخلطاب"‪.‬‬

‫إن خطاب علقمة تش ّكل نتيجة إحساس مت خارج حدود اخلطاب‪ /‬اجملتمع‪ ،‬مث ترجم الشاعر هذا‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن بفعل‬
‫اإلحساس إىل خطاب هبدف حتقيق غاية‪ ،‬مث حتقق الفعل‪ /‬اإلجناز خارج اخلطاب ً‬
‫اخلطاب أو بتأثري منه‪ .‬فهذا اإلحساس من قِبَل الشاعر‪ ،‬ال ميكن للمتلقي إدراكه إال عن طريق اخلطاب‪،‬‬
‫ووسيلته يف حتقيق هذا اإلدراك هي اللغة‪ ،‬وعن طريق مفرداهتا مت ّكن الشاعر من التعبري عن انفعاالته‬
‫الستجداء عاطفة اآلخر‪ /‬املمدوح‪.‬‬
‫حنن – إذا‪ -‬أمام عاطفتني متواصلتني واسطتهما اخلطاب‪ ،‬شعور بالفقد واحلرمان لشخص عزيز‪ ،‬وهو‬
‫سليب من قِبل الشاعر بعد أن وقع شأس يف األسر‪ ،‬وعاطفة إجيابية – تولّدت بفعل اخلطاب أو بأثر‬
‫شعور ّ‬
‫منه‪ -‬من قِبل املمدوح ممثلة يف العفو‪ ،‬واخلطاب هو وسيلة التعبري بالنسبة للطرف األول‪ ،‬ووسيلة إدراك‬

‫‪ 38‬جرمياس وفونتانيل‪ ،‬سيميائيات األهواء‪ ،‬ترمجة وتقدمي وتعليق سعيد بنكراد‪ ،‬دار الكتاب اجلديد املتحدة ( بريوت) (‬
‫‪8010‬م) راجع مقدمة املرتجم ص ‪.11 ،10‬‬
‫‪ 39‬السابق‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫سر ّقوة العالمات الدالة اليت أسهمت يف التعبري واإلدراك‪ :‬يف التعبري عن الشعور‬
‫بالنسبة للطرف الثاين‪ .‬فما ّ‬
‫بال َف ْقد عند الشاعر‪ ،‬واإلدراك عند الطرف الثاين‪ /‬املمدوح مما أنتج الشعور اإلجيايب بالعفو؟!‪.‬‬
‫الشعور بالفقد تولّد نتيجة احلدث‪ /‬احلرب اليت مت فيها أسر شأس‪ ،‬والعاطفة – اليت هي انفعال هادئ‬
‫ويوجه سلوكياهتا وأفكارها‪ -‬تولّدت بأثر من اخلطاب‪.‬‬
‫رويدأ حىت يستحوذ عليها ّ‬
‫رويدا ً‬
‫يتسلل إىل النفس ً‬
‫وقوة ملفوظات اخلطاب اليت أظهرت عاطفة‬ ‫حنن أمام قوتني‪ّ :‬قوة احلرب اليت أوجدت الشعور بالفقد‪ّ .‬‬
‫العفو ‪ ..‬فاحلرب وأدواهتا عالمة على فعل األسر‪ ،‬واخلطاب وملفوظاته عالمة على فعل التحرر؛ وإليضاح‬
‫ذلك ميكننا تأسيس خطاطة معرفيّة خلطاب اإلشادة ترتكز على سلسلة متصلة من التحوالت واالنتقاالت‬
‫من سياق إىل سياق‪ ،‬فالشعور بفقدان عزيز‪ /‬شأس قد مت يف سياق اجتماعي‪ ،‬وهو شعور سليب من شأنه‬
‫حتريك الذات إلجناز فعل يرتتب عليه إنقاذ شأس‪ ،‬والتحريك هنا عمليّة تتم من خالل التعبري‪ /‬اخلطاب‪،‬‬
‫‪40‬‬
‫ويعرف بنكراد التحريك بأنه " نشاط ميارسه اإلنسان حنو اآلخر هبدف الدفع إىل القيام بإجناز ما"‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهذا التحريك مت يف سياق إبداعي لفظي يهدف إىل إقناع صاحب السلطة‪ /‬املمدوح إلجناز فعل العفو؛‬
‫وذلك بتحريك عاطفة التسامح والعفو من منطلق أن عذاب اآلخرين يثري عواطف التسامح والعفو‪ ،‬وهي‬
‫ليتحول الشعور بالفقد إىل شعور باالستعادة‪،‬‬
‫عاطفة تقع خارج اخلطاب وإن كانت بأثر من اخلطاب؛ ّ‬
‫أيضا خارج امللفوظ‪ ،‬فامللفوظ ميثّل حلقة وصل بني نتاج اإلنسان‪/‬‬‫أي استعادة املفقود‪ ،‬وهو شعور مت ً‬
‫الثقافة والوجود الطبيعي‪.‬‬
‫شأسا مملوًكا لدى امللك احلارث‪ ،‬وميكن اعتباره‬
‫إن عملية األسر‪ ،‬عالمة على التملّك؛ ومن مثّة يُع ّد ً‬
‫مكمالت الذات عند اآلخر وليس ذاتًا مستقلة‪ ،‬وميكننا تأويل هذه املمارسة سيميائيًّا يف سياق‬
‫كجزء من ّ‬
‫التملّك والنزوع إىل الوجود‪ ،‬ويأيت اخلطاب بوصفه وسيطًا بني سلطة التملّك من قِبَل امللك احلارث‪،‬‬
‫والنزوع إىل الوجود من قِبَل الشاعر‪ ،‬فإذا كانت عملية أسر شأس عالمة دالة على الرغبة يف التملّك‬
‫واهليمنة‪ ،‬فإن اخلطاب يف هذا السياق يُع ّد عالمة على إشكالية العالقة بني التملّك‪ /‬أسر شأس‪ ،‬والكينونة‪/‬‬
‫وتوجه حيايت حتقق بفعل اخلطاب‪.‬‬
‫إطالق سراحه‪ ،‬فالكينونة رغبة ّ‬

‫‪41‬‬
‫يقول علقمة الفحل‪:‬‬
‫مشيب‬
‫ُ‬ ‫عصر حا َن‬
‫َ‬
‫ب ْعي َد الش ِ‬
‫َّباب‬ ‫ُ‬ ‫طروب‬
‫ُ‬ ‫لب يف احلِسان‬
‫بك قَ ٌ‬
‫‪ 1‬طَ َحا َ‬

‫‪ 40‬سعيد بنكراد‪ ،‬مدخل إىل السيميائية السردية‪ ،‬منشورات االختالف ( اجلزائر) ط‪1884 ( 1‬م) ص‪.52‬‬
‫‪ 41‬املفضل الضيب‪ ،‬املفضليّات‪ ،‬عين بطبعه ومقاله ونسخه كارلوس يعقوب اليل‪ ،‬مطبعة اآلباء اليسوعيني ( بريوت ـ لبنان)‬
‫‪ 1880‬ص ‪ 211‬ـ ‪.221‬‬
‫ـوب‬ ‫ٍ‬ ‫‪ 8‬يُكلِّ ُفين ليلَى َوقد َش َّ‬
‫وخطُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫وعادت عواد بينَنا ُ‬
‫ْ‬ ‫ط َولْيُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َعلَى بَاهبا م ْن أَ ْن تُز َار َرق ُ‬
‫يب‬ ‫الم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــها‬
‫‪ُ 1‬م َّنعمةٌ ال يُ ْستَطَاعُ ك ُ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ 4‬إِ َذا َغاب عنها البـعل مل تـُ ْف ِ ِ‬


‫وب‬ ‫اب البَـ ْع ِل ح َ‬
‫ني يـَ ُؤ ُ‬ ‫َوتـُ ْرضي إيَ َ‬ ‫ش سَّرهُ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ َ‬

‫وب‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وبني ُمغَ ّمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــٍَر‬ ‫ِ‬


‫ص ُ‬‫ني تَ ُ‬
‫س َقتك َرَوايَا املُْزن ح َ‬ ‫‪ 5‬فَال تَـ ْعديل بـَْيين َ‬

‫وب‬ ‫يب وعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ِر ٍ‬ ‫ِ ٍ‬


‫شي َجنُ ُ‬
‫الع ِّ‬
‫وح به ُجْن َح َ‬
‫تَـ ُر ُ‬ ‫ض‬ ‫‪َ 1‬س َقاك َميَان ذُو َح ٍّ‬

‫ِ‬ ‫ِم ْن‬ ‫ُخيَ ُّ‬ ‫ت ْأم َّما ِذ ْك ُرها َربَعِيَّـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً‬
‫يب‬
‫قَل ُ‬ ‫ثـَ ْرَمداءَ‬ ‫َهلَا‬ ‫ط‬ ‫‪َ 2‬وَما أَنْ َ‬

‫يب‬‫ِ‬
‫طَب ُ‬ ‫ِّس ِاء‬
‫الن َ‬ ‫بِأ َْدو ِاء‬ ‫ِ‬
‫بَصريٌ‬
‫‪ 2‬فَإ ْن تسألوين بالن ِ‬
‫ِّساء فإنَّنـ ـ ـ ـِـ ـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫َ‬

‫يب‬ ‫ِ‬ ‫ُوِّد ِه َّن‬ ‫ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫نَص ُ‬ ‫لَهُ‬ ‫س‬
‫فَـلَْي َ‬ ‫أس املَْرء أو قَ َّل مالُــهُ‬
‫اب ر ُ‬
‫‪ 8‬إذَا َش َ‬

‫يب‬ ‫ِ‬ ‫الش ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ 10‬ي ِرْد َن ثَراء ِ‬


‫َعج ُ‬ ‫عْن َد ُه َّن‬ ‫َّباب‬ ‫وشر ُخ‬
‫ْ‬ ‫حيث َعل ْمنَـ ـ ـ ـ ـ ــهُ‬
‫ُ‬ ‫املال‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫ب‬ ‫ِ‬ ‫بالرد ِ‬ ‫‪ 11‬فَ َد ْع َها َو َس ِّل اهلَ َّم عنك ِِجبسـْـ َـرةٍ‬
‫َخبي ُ‬ ‫اف‬ ‫ِّ َ‬ ‫ك فيها‬
‫َك َه ِّم َ‬

‫ِ‬ ‫لِ َك ْل َكلِها‬ ‫الوه ِ‬ ‫ِ‬


‫يب‬
‫َوج ُ‬ ‫ص ِريـَ َني‬
‫وال ُق ْ‬ ‫ت نَاقَيت‬
‫اب أ َْع َم ْل ُ‬ ‫‪ 18‬إِىل احلَا ِرث ّ‬

‫ؤوب‬ ‫َو َحا ِرَكها‬ ‫ِ‬


‫اجيةٍ أفْـىن ركِيب ضلُ ِ‬
‫فَ ُد ُ‬ ‫تَـ َه ُّجٌر‬ ‫وع َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫‪َ 11‬ونَ َ‬
‫وب‬
‫َشبُ ُ‬ ‫نيص‬
‫ال َق َ‬ ‫َختْشى‬ ‫ُم َولَّعةٌ‬ ‫السرى وَكأَهن ـ ــا‬
‫ب ُّ‬‫صبِ ُح َع ِن ِغ ِّ‬
‫‪َ 14‬وتُ ْ‬

‫ليب‬
‫َوَك ُ‬ ‫نـَْبـلَ ُهم‬ ‫فَـبَ َّذ ْ‬
‫ت‬ ‫ِر َج ٌ‬
‫ال‬ ‫باألرطى هلا و َأر َاده ـ ــَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫ْ‬ ‫َّق‬
‫‪ 15‬تَعف َ‬

‫وب‬
‫قَـ ُر ُ‬ ‫داك‬
‫نَ َ‬ ‫ِم ْن‬ ‫َّقربتين‬ ‫فَـ َق ْد‬ ‫‪ 11‬لتِبُلغين َد َار امر ٍئ كان نائيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬

‫هيب‬
‫َم ُ‬ ‫َه ْوُهلُ َّن‬ ‫ِمبُشتبِ ٍ‬
‫هات‬ ‫ت اللَّ ْع َن ـ كان َوِجي ُفه ــا‬
‫يك أَبـَْي َ‬
‫‪ 12‬إلَ َ‬

‫وب‬ ‫املِتَ ِ‬ ‫أص َو ِاء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪َ 12‬هداين إِلَ َ‬


‫عُلُ ُ‬ ‫ان‬ ‫ْ‬ ‫فوق‬
‫َ‬ ‫لهُ‬ ‫ـب‬
‫يك ال َف ْرقَدان والح ـ ٌ‬

‫ليب‬
‫ص ُ‬ ‫فَ َ‬ ‫ِج ْل ُدها‬ ‫و َّأما‬ ‫فَبِ ٌ‬
‫يض‬ ‫فأما ِعظَ ُامها‬
‫ف احلَ ْسَرى َّ‬ ‫ِ‬
‫‪ 18‬هبا جيَ ُ‬

‫كوب‬
‫ُفر ُ‬ ‫املنَدَّى ِر ْحلَةٌ‬ ‫َّ‬
‫فإن‬ ‫ف‬ ‫‪ 80‬تـَُر ُاد َعلَى ِد َم ِن احلِيَ ِ‬
‫اض فَإ ْن تَـ َع ْ‬
‫ُ‬

‫يب‬‫ِ‬ ‫فَِإ ّين ْامرٌؤ و ْس َ ِ ِ‬ ‫‪ 81‬فَالَ َْحت ِرَم ّين نَائِالً َع ْن َجنَابٍَة‬
‫ط القبَاب َغر ُ‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫ت إِلَ َ‬
‫يك أ ََمانَِيت‬
‫بوب‬
‫ُر ُ‬ ‫عت‬
‫فَض ُ‬ ‫ربَّتين‬ ‫ك‬
‫َوقَـْبـلَ َ‬ ‫ضْ‬‫ت امرٌؤ أَفْ َ‬
‫‪َ 88‬وأَنْ َ‬

‫يب‬‫ِ ِ‬ ‫وغُ ِ‬
‫ود َر يف بـَ ْع ِ‬ ‫ب ب ِن ع ٍ‬
‫ت بـَنُو َك ْع ِ‬
‫ض اجلُنود َرب ُ‬ ‫َ‬ ‫وف َربيبَها‬ ‫َ‬ ‫‪ 81‬فَأ َّد ْ‬

‫يب‬‫ِ‬
‫َحب ُ‬ ‫وا ِإليَ ُ‬
‫اب‬ ‫َخَزايا‬ ‫لَآلبُوا‬ ‫س اجلَ ْو ِن ِم ُنه ُم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ 84‬فَواهلل لَ ْوال فَار ُ‬

‫وب‬
‫ض ُر ُ‬
‫َ‬ ‫الدَّارعني‬ ‫لِبَـْي ِ‬
‫ض‬ ‫َنت‬
‫َوأ َ‬ ‫يب ُح ُجولُهُ‬
‫َّ ِ‬
‫حىت تَغ َ‬ ‫ِّمه‬
‫‪ 85‬تـُ َقد ُ‬
‫سوب‬
‫َوَر ُ‬ ‫ِخمْ َذ ٌم‬ ‫س ٍ‬
‫يوف‬ ‫ُ‬ ‫َع ِقيال‬ ‫اهر ِسربايل ح ٍ‬
‫ديد علي ِهما‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫‪ُ 81‬مظَ ُ‬

‫ِ ِ‬
‫س النَّها ِر غُ ُ‬
‫روب‬ ‫وقد حا َن من ََش ِ‬ ‫حىت اتـَّ َق ْو َك ب َكْبش ْ‬
‫هم‬ ‫‪ 82‬فَـ َقاتَلتَـ ُه ْم َّ‬

‫نوب‬ ‫كما خشخشت يـبس احلِ ِ‬ ‫‪َ 82‬خت ْشخش أَبدا ُن احل ِد ِ‬
‫يد علي ِه ُم‬
‫صاد َج ُ‬
‫ُْ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ‬

‫يب‬‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫غسا َن أهل ِح ِ‬


‫‪َ 88‬وقاتَ َل ِم ْن َّ‬
‫وشب ُ‬ ‫ت‬
‫َجالَ َد ْ‬ ‫اس‬
‫َّوقَ ٌ‬ ‫ب‬
‫َوهْن ٌ‬ ‫فاظها‬ ‫ُْ‬

‫ِ‬ ‫ت لَبَانِِه‬ ‫كأن ِر َج َ‬


‫يب‬
‫وعت ُ‬
‫َ‬ ‫معاً‬ ‫عت َجلٌّ‬
‫وما َمج ْ‬ ‫ال األ َْو ِس َْحت َ‬ ‫‪َّ 10‬‬

‫يب‬‫ِ‬ ‫شكتِ ِه‬


‫بِ َّ‬ ‫‪ 11‬ر َغا فَوقَهم س َقب َّ ِ ِ‬
‫َو َسل ُ‬ ‫ب‬
‫يُ ْستلَ ْ‬ ‫َملْ‬ ‫ض‬
‫السماء فَداح ٌ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬

‫يب‬‫ِ‬
‫َدب ُ‬ ‫لِطَ ِري َّ‬
‫هن‬ ‫صو ِ‬
‫اع ُقها‬ ‫ََ‬ ‫ليهم َس َحابَة‬
‫ت َع ْ‬
‫صابَ ْ‬
‫‪ 18‬كأنـ َُّه ُم َ‬

‫يب‬ ‫ِ‬
‫َجن ُ‬ ‫كال َقنَ ِاة‬ ‫ِط ِمٌّر‬ ‫وإالّ‬ ‫‪ 11‬فَـلَ ْم يـَْن ُج إال َشطْبَةٌ بِلِ َج ِامها‬

‫يب‬ ‫ُّ ِ ِ‬ ‫‪ 14‬وإِال َك ِمي ذُ ِو ِح ٍ‬


‫مبا ابتَ َّل من َح ِّد الظبات َخض ُ‬ ‫َكأنَّهُ‬ ‫فاظ‬ ‫ٌّ‬

‫وب‬ ‫ِم َن البُ ِ‬


‫ؤس والنـ ُّْع َمى َهلُ ّن نُ ُد ُ‬ ‫ت الذي آثَ ُارهُ يف َع ْد ِّوِه‬
‫‪َ 15‬وأَنْ َ‬

‫نوب‬
‫داك َذ ُ‬ ‫فَ ُح َّق لِ ٍ‬
‫شأس من نَ َ‬ ‫‪ 11‬ويف ُك ِّل ح ٍي قَد خبطْت بِنع ٍ‬
‫مة‬ ‫ََ َ ْ‬

‫يب‬‫ِ‬ ‫َد ٍان‬ ‫ُم َد ٍان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫قَر ُ‬ ‫ذاك‬
‫لَ َ‬ ‫َوَال‬ ‫‪ 12‬وما مثْـلُهُ يف النَّاس إال أَس ُريهُ‬
‫التأويل السيميائي للملفوظ‪ :‬ملفوظات النسيب وحموالتها الثقافية‪.‬‬
‫من املعروف أن عملية التل ّفظ يف اخلطاب تنهض على ثالثة أركان أساسيّة هي‪ :‬فعل القول‪ ،‬أو‬
‫احلدث القويل ذاته‪ .‬واملقام أو السياق الذي قيل فيه اخلطاب‪ .‬واألدوات اليت حتقق بواسطتها اخلطاب‪.‬‬
‫وتقتضي سيميائيات التل ّفظ منّا القبض على القرائن الدالة واإلشارات اليت سوف متكننا من استجالء‬
‫املرجعيّات الثقافية اليت تقف خلف هذه امللفوظات؛ ألن امللفوظ يشتمل على كل ما من شأنه الكشف‬
‫عن احليثيّات واألسباب اليت تقف خلف إنتاجه‪ ،‬وإذا كان التل ّفظ ‪ -‬كما يرى بنفنيست‬
‫‪ " -Benveniste‬ينبين على أساس حتويل مظاهر اللغة إىل وقائع اخلطاب وتوظيف الرصيد اللغوي‬
‫العام توظي ًفا شخصيًّا بفضل االستعمال"‪ 42‬فإن وقائع اخلطاب تستند إىل مرجعيّات ثقافية أو كونيّة؛ ومن‬
‫مثة تُع ّد وقائع اخلطاب عالمات على وقائع ثقافية خارج اخلطاب‪ ،‬فامللفوظ األديب الذي ينتمي إىل السياق‬
‫اخلطايب‪ ،‬ينتمي يف الوقت نفسه إىل سياق ثقايف‪ ،‬أو حادثة ثقافية أو كونية‪ ،‬وهذه امللفوظات اخلطابية "‬
‫ال ميكن حصر داللتها داخل اجلملة‪ ،‬كما ال ميكن أن يقتصر تأويلها على جمرد االحتكام إىل العالقات‬
‫اليت تنتظمها داخل امللفوظ ذاته مما جيعل الكفاية الداخلية للنظام ال بد من أن تنفتح على كفايات أخرى‬
‫‪43‬‬
‫واقعة خارج دائرته قصد استكمال احليّز التأويلي"‪.‬‬

‫تستمد ملفوظات اخلطاب ّقوهتا وسلطتها يف التأثري على املتلقي من الشروط الثقافية واملؤسساتية اليت‬
‫تستدعيها هذه امللفوظات؛ وملفوظات اخلطاب يف قصيدة علقمة تستمد قوهتا من نفوذ ِ‬
‫القيَم الثقافية يف‬ ‫ّ‬
‫نسيب القصيدة ورحيلها‪ ،‬وكذا املؤسسة السياسية اليت ينتمي إليها املخاطَب‪ /‬امللك احلارث‪ ،‬وليس من‬
‫املخاطب‪ /‬الشاعر‪ ،‬لكنه يف الوقت نفسه ميارس تأثريه على املخاطَب‪ /‬امللك احلارث واحملبوبة من‬ ‫ِ‬ ‫ّقوة‬
‫خالل احلمولة الثقافية هلذه امللفوظات‪ ،‬وخيفي هذا اخلطاب وراءه منافع اجتماعية‪ /‬إطالق سراح شأس‪،‬‬
‫ومنافع عاطفية‪ /‬الفوز باحملبوبة‪ ،‬ويُضمر مآرب سياسية‪ /‬إبراز ّقوة املمدوح‪ ،‬ويستند يف حتقيق هذه احلاجات‬
‫تفويضا للتعبري عن‬
‫ً‬ ‫متسك الشاعر بقيم هذا النظام الثقايف سيمنح اخلطاب‬
‫إىل النظام الثقايف العريب؛ ألن ّ‬
‫تضمن صيغًا لغوية‬ ‫ِ‬
‫القيَم الثقافية العربية – وهذا سيمنح اخلطاب بطبيعة احلال منزلة سامية السيما إذا ّ‬
‫جاهزة هلا وقعها عند املتلقي‪ -‬من خالل فسح اجملال أمام امل ّد الثقايف داخل اخلطاب‪ .‬وبعد انتهاء فعل‬
‫التل ّفظ‪ ،‬وانتهاء زمن التكلّم‪ ،‬يبقى اخلطاب حمتفظًا حبيثيّات احلدث التارخيي‪ /‬إطالق سراح شأس من‬
‫األسر‪ ،‬ومتضمنًا أحوال طريف اخلطاب ( املرسل واملتلقي)‪.‬‬

‫‪ 42‬ـ نقال عن مراد بن عيّاد‪ ،‬من الوسائط اإلجرائية يف األدب العريب القدمي‪ ،‬حبث يف سيميائيات التواصل‪ ،‬مطبعة‬
‫التسفري الفين ( صفاقس‪ /‬تونس) ( ‪8010‬م) اجلزء الثاين ص‪.121‬‬
‫‪ 43‬املرجع السابق‪ ،‬اجلزء الثاين ص‪.122‬‬
‫البنية الدالة لموضوعات الخطاب‪:‬‬
‫تأيت أمهية دراسة البنية املوضوعية يف اخلطاب الشعري من منطلق إعادة النظر يف دور املوضوعات‬
‫الكربى ( النسيب‪ ،‬والرحيل‪ ،‬واملديح)‪ ،‬واملوضوعات الصغرى ( املوتيفات)‪ ،‬اليت تندرج ضمن املوضوعات‬
‫متنوعة –‬
‫الكربى‪ ،‬يف حركة املعىن داخل اخلطاب‪ ،‬باعتبارها موضوعات أو موتيفات تنطوي على معارف ّ‬
‫إىل جانب مجالياهتا الفنية‪ -‬فهذه املوضوعات ال حتوي ما تقوله فحسب؛ بل تنفتح بقوهتا التلفظيّة على‬
‫الوجود‪ ،‬مبا جيعلنا نراجع قناعاتنا االعتيادية عن هذه املوضوعات‪ ،‬إىل حد تفكيكها وإعادة بنائها ضمن‬
‫سياق إبستمولوجي جديد‪ .‬إن هذه املوضوعات تكتسب قيمتها داخل اخلطاب باستيعاهبا الواعي‬
‫للماضي‪ ،‬وغوصها يف أعماق النفس اإلنسانية‪ ،‬تُ ّشّرح مهومها وآماهلا وطموحاهتا يف حماولة إلعادة بنائها‬
‫من جديد وف ًقا لوعي الذات الفردية‪ .‬إن هذه املوضوعات متثّل واسطة بيننا وبني الوجود‪ ،‬فهل ميكننا‬
‫دراستها باعتبارها عالمة على احلضور التارخيي للذات الفردية وقراءهتا العميقة للوجود مبلفوظات خاصة‬
‫ميكن فهمها؛ ومن مثة فهم خصائص اخلطاب يف تشرُيه لشمولية الوجود؟!‪.‬‬
‫املستمرة الخرتاق األنساق الثقافية‪ ،‬كما تق ّدم –‬
‫ّ‬ ‫تكشف هذه املوضوعات عن حماوالت الذات الفردية‬
‫يف الوقت نفسه‪ -‬وص ًفا للموجود‪ /‬الواقع‪ ،‬ويستحيل أن تُق ّدم لنا هذا الوصف دون استيعاب مسبق‬
‫لل وجود‪ ،‬وعليه فإن دراسة حركة املوضوعات وعالقتها بالوجود واملوجود‪ ،‬ميكن أن تكشف لنا عن كيفية‬
‫إقامة الذات الفردية يف هذا الوجود‪ ،‬وتسلّحها بالوعي مبا مي ّكنها من إدراك الوجود‪.‬‬
‫للتأمل؛ ألهنا تُطرح داخل اخلطاب ضمن أفق معريف‬
‫موضوعا ّ‬
‫ً‬ ‫إن هذه املوضوعات تُق ّدم نفسها بوصفها‬
‫للتأمل‪،‬‬
‫موضوعا ّ‬
‫ً‬ ‫وتتكون املوضوعات ضمن هذا األفق‪ ،‬مبا يسمح للوجود أن يكون‬ ‫منفتح على الوجود‪ّ ،‬‬
‫وهو ما يربر لنا تأويلها سيميائيًّا‪ ،‬باعتبار السيميائية إجراءً نقديًّا يهتم مبرجعيات اخلطاب‪.‬‬

‫تتكون البنية املوضوعية‪ 44‬خلطاب علقمة من ثالثة موضوعات أساسيّة‪ :‬النسيب‪ ،‬والرحيل‪ ،‬واملديح‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ودراسة هذه البنية من الناحية السيميائية‪ ،‬يسهم يف التق ّدم حنو فهم خمتلف لبنية اخلطاب اإلبداعي؛ وذلك‬

‫‪ 44‬يع ّد مفهوم البنية الدالة من املفاهيم الرئيسة يف البنيوية التكوينية عند لوسيان جولدمان‪ ،‬ويعتربها منظِّمة للعمل األديب؛‬
‫ويربط جولدمان بني البنية الذهنية للجماعة‪ ،‬والبنيات النصيّة للنصوص اليت ينتجها األفراد؛ ألنه يعترب الثقافة هي املنتج‬
‫احلقيقي للنص يف سياق إجابته عن سؤال‪ :‬من منتج النص؟ هل الذات الفاعلة أم اجلماعة؛ ألن اجلماعة‪ /‬الثقافة – من‬
‫وجهة نظره‪ -‬تش ّكل نس ًقا من البنيات اليت هتيمن على وعي األفراد‪ ،‬وتقف هذه البنيات بشكل غري مباشر خلف البنيات‬
‫النصيّة‪.‬‬
‫علما بأن‬
‫التحوالت‪ ،‬له قوانينه اخلاصة باعتباره نس ًقا‪ً ،‬‬
‫ويعرفها جان بياجيه على النحو التايل‪ " :‬إن البنية هلي نسق من ّ‬
‫التحوالت نفسها‪ ،‬دون أن يكون من‬ ‫قائما ويزداد ثراءً بفضل الدور الذي تقوم به تلك ّ‬ ‫من شأن هذا النسق أن يظل ً‬
‫معيارا فنيًّا ينطوي‬
‫تكون هذه البىن للخطابات باعتبارها ً‬ ‫بدراسة احلموالت الثقافية واملعرفيّة اليت أسهمت يف ّ‬
‫على أبعاد فلسفية ومجالية يكشف التأويل السيميائي عن دالالهتا املعرفيّة العميقة‪ .‬وهتدف دراسة البنية يف‬
‫هذا السياق إىل‪:‬‬
‫املؤسسة ملوضوعات اخلطاب الشعري وتفسريها يف إطار املعطى السيميائي يف‬ ‫‪ 1‬ـ الوقوف على البنية ِّ‬
‫ُ‬
‫الدرس النقدي احلديث‪ ،‬مبا يعين الوقوف على معارف جديدة يف اخلطاب الشعري القدمي‪ ،‬من خالل‬
‫املكونة لبنية اخلطاب‪ ،‬باعتبارها عالمات أو شفرات دالة سيميائيًّا على معىن ما‪.‬‬
‫دراسة العناصر ِّ‬
‫‪ 8‬ـ فهم الوظائف اليت تؤديها بنية اخلطاب‪ ،‬والوعي بالدور الذي تقوم به إلجناز أفعال اخلطاب‪ ،‬فلكل‬
‫عنصر من عناصر اخلطاب أفعاله اخلاصة اليت تنجز املعىن داخل هذا العنصر‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ فهم طبيعة العالقة بني موضوعات اخلطاب وفلسفة الوجود‪ ،‬وذلك من خالل دراسة ملفوظات‬
‫اخلطاب اليت ُحتيل على هذا الوجود؛ ومن مثة ميكننا تأويل هذه امللفوظات بوصفها عالمات سيميائية دالة‬
‫معرفيًّا على هذا الوجود‪.‬‬

‫سوف نعتمد – يف حتليلنا هلذا اخلطاب‪ -‬التقسيم الثالثي الذي تقرتحه سوزان ستيتكيفيتش يف دراساهتا‬
‫حول الشعر العريب القدمي‪ .45‬النسيب األبيات ( ‪ 1‬ـ‪ ،)10‬الرحيل األبيات ( ‪ 11‬ـ ‪ ،)80‬املديح األبيات‬
‫حد كبري يف تكوين رؤية ثقافية‬
‫( ‪ 81‬ـ حىت هناية القصيدة)؛ وذلك ألن هذا التقسيم سوف يسهم إىل ٍّ‬
‫ميكن أن تسهم يف إجناز مشروعنا حول حتليل اخلطاب يف ضوء ما توفره سيميائيات الثقافة من معرفة‪.‬‬

‫التحوالت أن خترج عن حدود ذلك النسق‪ ،‬أو أن هتيب بأية عناصر أخرى تكون خارجة عنه"‪ .‬راجع‪ ،‬جان‬
‫شأن هذه ّ‬
‫بياجيه‪ ،‬البنيوية‪ ،‬ترمجة عارف منيمنة وبشري إبراي‪ ،‬منشورات عويدات ( بريوت وباريس) ط‪.1828 ( 1‬م) ص‪2‬‬

‫‪ 45‬تسعى سوزان ستيتكيفيتش إىل تفسري قالب القصيدة التقليدية وسيطرته العجيبة على كل من اخليال واإلنتاج الشعريني‬
‫على ضوء طقوس العبور كما صاغه األنثروبولوجي ( فان جنب ‪ )van gennep‬وترمي من تطبيق هذا النموذج‬
‫قيدا شكليًّا يقيّد اخليال الشعري‪ ،‬بل هو أساس منطي‬
‫الشعائري على القصيدة العربية إىل إثبات أن قالب القصيدة ليس ً‬
‫يعرب عن جتربته الشخصية من خالل شكل ذي أبعاد نفسية وقبليّة وطقسية وأسطورية يف الوقت نفسه‪،‬‬ ‫يسمح للشاعر أن ّ‬
‫وتسعى إىل مقاربة مراحل طقوس العبور الثالث "الفراق"‪" ،‬اهلامشية"‪" ،‬إعادة االندماج يف اجملتمع" بتقسيمات القصيدة‬
‫العربية ( النسيب‪/‬الرحيل‪/‬املديح) فمرحلة الفراق يف طقوس العبور‪ ،‬تقابل النسيب يف القصيدة العربية‪ ،‬ومرحلة اهلامشية‪،‬‬
‫تقابل الرحيل أو الرحلة‪ ،‬ومرحلة إعادة االندماج يف اجملتمع‪ ،‬تقابل املديح‪ .‬راجع هلا‪ :‬القصيدة العربية وطقوس العبور‪،‬‬
‫دراسة يف البنية النموذجية‪ ،‬جملة جممع اللغة العربية بدمشق‪ 06 ،‬ـ ‪.1891( 1‬م) ص ‪ .19‬وكذا تقدم حتليالً أنثروبولوجيا‬
‫لقصيدة علقمة الراهنة يف إطار النموذج الثالثي – النسيب‪ /‬الرحيل‪ /‬املديح‪ -‬الذي تعتمد عليه يف معظم دراستها عن‬
‫الشعر العريب القدمي‪ .‬راجع‪ :‬أدب السياسة وسياسة األدب‪ ،‬ص‪.22 :52‬‬
‫سيميائيات النسيب‪ :‬قوّة الملفوظ وقمع الداللة‪.‬‬
‫موجه إىل احملبوبة‪ -‬يكتشف اعتماد‬
‫املتأمل يف اجلزء اخلاص بنسيب القصيدة – واخلطاب فيه ّ‬
‫لعل ّ‬
‫اخلطاب على عدد من امللفوظات ذات محولة ثقافية تكشف عن امتداد الثقافة داخل اخلطاب‪ ،‬وحماوالت‬
‫الذات الفردية املستمرة الخرتاف هذه األنساق؛ هبدف تأسيس واقع جديد خمتلف يُرضي طموحاهتا‪ ،‬وتُع ّد‬
‫أمنوذجا هلذه احملاوالت يف اجلزء اخلاص بالنسيب‪،‬‬
‫ً‬ ‫جتربة الرجل مع املرأة داخل النسق الثقايف االجتماعي‪،‬‬
‫ط‬‫واملالحظ أن هذه امللفوظات متنح املرأة مكانة ثقافية وقِيميّة عُليا داخل اجملتمع ( يكلّفين ليلى وقد ش ّ‬
‫ِ‬
‫سقتك‬ ‫سره‪ 4/‬ـ تُرضي إياب البَـ ْعل حني يؤوب‪ 4/‬ـ‬ ‫منعمة‪ 1/‬ـ ما يُستطاع كِالمها‪ 1/‬ـ مل ِ‬
‫تفش ّ‬ ‫َولْيُها‪ 8/‬ـ ّ‬
‫ان‪ .)1/‬فالتجربة الثقافية تُشري إىل سعي الرجل وشقائه يف احلصول على رضا‬ ‫روايا املزن‪ 5/‬ـ ِ‬
‫سقاك َمي ٍ‬
‫احملبوبة‪ ،‬وأن هذا اجلهد االجتماعي عالمة دالة على تعفف املرأة ( قِيمة ثقافية)‪ ،‬وميثّل اخلطاب الشعري‬
‫يف هذا السياق ترمجة تعبريية ملمارسات اجلهد االجتماعي للشاعر؛ ليكون املالذ الثقايف اآلمن حلسم هذا‬
‫القيم الثقافية العربية قد تسمح مبمارسات داخل اخلطاب‪ ،‬لكن يرفضها اجملتمع‪،‬‬ ‫الصراع – على اعتبار أن ِ‬
‫مثل ممارسات امرئ القيس الغرامية يف معلقته الشهرية‪ - 46‬بينه وبني التقاليد الثقافية للحصول على حاجاته‬
‫" إن الثقافة مؤلف مضمر ذو طبيعة نسقيّة تلقي بشباكها غري املنظورة حول الكاتب‪ ،‬فيقع يف أسر‬
‫تتسرب إليه كاملخدِّر البطيء‪ ،‬فرتتِّب حمموالت خطابه مبا يوافق املضامني‬
‫مفاهيمها الكربى اليت ّ‬
‫اإليديولوجية اخلاصة هبا‪ .‬إننا بإزاء مؤلف مزدوج التكوين‪ :‬تكوين شخصي وآخر ثقايف‪ ،‬والثاين ال ي ّدخر‬
‫وسعا يف تشكيل وإعادة تشكيل األول"‪ .47.‬إن علقمة يعي ذاته من خالل قدرته على احلب والفهم‪ ،‬أي‬ ‫ً‬
‫فهم طبيعة عالقة احلب‪ ،‬وأنه قادر على منح احلب لآلخرين رغم ص ّدهم ومتنّعهم عن هذا احلب ألسباب‬
‫ثقافية‪ ،‬فاحلب يف هذا اخلطاب نشاط فاعل للوعي بالذات‪ ،‬وهو ممثّل يف حبني‪ :‬األول للمحبوبة‪ ،‬والثاين‬
‫ألخيه شأس‪ ،‬فاحلب هنا ممارسة اجتماعية‪ /‬خطابية باجتاه الوجود؛ ألنه عالمة على الوجود‪ ،‬فجوهر جتربة‬
‫الشاعر يف هذا اخلطاب هو السعي للوصول إىل احلب والتعاطف‪ ،‬وترمجة هذه العاطفة إىل واقع‪ ،‬وهذا هو‬
‫الظرف املالئم للحصول على الوجود األمثل؛ ذلك أن الشاعر يبحث عن معىن حلياته من خالل مسامهته‬
‫يف حترير أخيه من قيود األسر والعُزلة‪ ،‬وهكذا ميكننا فهم اخلطاب على أنه استخدام للفكرة هبدف حتقيقها‪.‬‬

‫بتحوالت املعىن‪ ،‬عامل الكتب‬


‫راجع‪ ،‬عبد الفتاح يوسف‪ :‬قراءة النص وسؤال الثقافة‪ ،‬استبداد الثقافة ووعي القارئ ّ‬
‫‪46‬‬

‫احلديث ( األردن) ( ‪8008‬م) راجع ص‪ 82‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ 47‬عبد اهلل إبراهيم‪ ،‬الثقافة العربية واملرجعيّات املستعارة‪ ،‬الدار العربية للعلوم ( ناشرون) ( بريوت) ط‪8010 ( 1‬م)‬
‫ص‪.101‬‬
‫يف األبيات الثالثة األوىل‪ ،‬يعتمد الشاعر على ثالثة أفعال أساسية للتعبري عن جتربته مع احملبوبة ( طحا‬
‫ـ يكلّفين ـ ما يستطاع كِالمها) وهي أفعال تنطوي على أبعاد متريريّة‪ ،‬وتقريريّة‪ ،‬وتأثرييّة‪ 48‬فالبُعد التمريري‬
‫هلذه األفعال يتمثّل يف الفعل الذي ُياول املتكلّم من خالله نقل املعىن‪ .‬فما املعىن الذي يروم الشاعر نقله؟‬
‫فالفعل ( طحا) عالمة على زمن مضى‪ ،‬أي انقضاء زمن املمارسة‪ ،‬وهي الشغف باحملبوبة‪ ،‬ويشري يف‬
‫الوقت نفسه إىل أثر هذه املمارسة على القلب ( ذهبت بقلبه)‪ .‬والفعل ( يكلّفين) عالمة على الزمن‬
‫احلاضر‪ ،‬أي الزمن الذي جيين فيه مثار جتربته مع احملبوبة‪ ،‬ويشري يف الوقت نفسه إىل أثر هذه التكلفة‪ ،‬أي‬
‫مثن هذه التجربة‪ ،‬وهو مثن فكري يتمثّل يف‪ :‬انشغال الفكر هبا وكثرة الشدائد واملِحن اليت تعرض هلا بسببها‬
‫( عادت عواد بيننا وخطوب)‪ .‬والفعل املسبوق بأداة النفي ما ( ما يستطاع كالمها) عالمة على قوة النسق‬
‫الثقايف‪ ،‬ومبا مينح احملبوبة داللة أخالقية واجتماعية‪ ،‬ومينع املحب من ممارسة رغبته يف الكالم مع احملبوبة‪،‬‬
‫ُ‬
‫أي يقوم بوظيفة مزدوجة ( املنح‪ /‬املنع) ويُشري يف الوقت نفسه إىل انصياع اجلميع لشروط النسق‪ ،‬السيما‬
‫يف وجود ( الرقيب)‪ .‬فثقافة الرقيب‪ ،‬ثقافة متأصلة يف الثقافة العربية القدمية‪ ،‬وهي ثقافة تدفع لرفض أي‬
‫ممارسات خمالفة للمعهود واملألوف‪ ،‬وتلجأ الثقافة إىل ممارسة الرقابة عندما تشعر باخلطر على املعهود؛ ومن‬
‫مثة تشرع يف حماربة هذا املختلف هبذه السلطة‪ ،‬وهذه ممارسة ثقافية‪ /‬اجتماعية تنطوي على بُعد سيميائي‬
‫حافزا‬
‫يكشف القناع عن املعىن الذي ميكن أن تُضمره هذه املمارسة‪ ،‬فهذه املمارسة ميكن فهمها باعتبارها ً‬
‫يندرج ضمن االحتياطات اخلارجية اليت تتبنّاها الثقافة لضبط قواعد السلوك الفردي داخل اجلماعة؛ وذلك‬
‫ألن هذه اجملتمعات ُمتارس أقصى درجات احملافظة على الع ّفة والشرف على املرأة قبل الزواج‪ ،‬مبحاولة عزل‬
‫الفتيات عن الرجال ومرافقتهن يف مجيع حتركاهتن بواسطة الرقيب‪ ،‬ويف املقابل ميكننا اعتبار هذه املمارسة‬
‫عالمة على فاعلية املرأة يف احلياة‪ ،‬واخلوف من هذه الفاعلية من قِبل الرجال‪ ،‬وليس اخلوف على املرأة كما‬
‫تعلنه األنساق الثقافية!‪ .‬والسؤال اآلن‪ :‬هل خياف اجملتمع‪ /‬الثقافة من املرأة؟ أم خياف عليها؟! هذا سؤال‬
‫إشكايل تكشف اإلجابة عنه عن تناقض يف الثقافة عن املرأة‪ ،‬فهو يعكس يف بُعده الشكلي اخلوف عليها‪،‬‬
‫ولكن يف بُعده السيميائي يكشف عن اخلوف منها‪ ،‬ومن فاعليتها وتأثريها يف احلياة؛ ومن مثّة يُبادر بقمعها‬
‫وكبتها بالرقيب‪.‬‬
‫وألفت االنتباه هنا إىل أن ( الرقيب) ال ميارس سلطته يف قمع الفكرة ( الزيارة والكالم) ولكنه ميارس‬
‫ياحا يف املعىن‪ ،‬فحارس الثقافة (‬
‫قمع الداللة ( احلب) اليت يتبناها احملبّون‪ ،‬وقمع الداللة هنا يتطلّب انز ً‬
‫حتولت داللة‬
‫يتدخل يف الوقت املناسب إلسقاط الداللة على غري مدلوالهتا‪ ،‬ففي وجود الرقيب ّ‬ ‫الرقيب) ّ‬

‫لتحوالت اللسانيّة‪ .‬ملاذا؟‬


‫التغريات االجتماعية وا ّ‬‫راجع‪ ،‬عبد الفتاح يوسف‪ ،‬االنتخاب اللساين ووظائف اخلطاب‪ّ :‬‬
‫‪48‬‬

‫حبث غري منشور مق ّدم ملؤمتر لسانيات النص وحتليل اخلطاب ـ كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ـ جامعة ابن زهر ‪ /‬أكادير‬
‫( املغرب) يف دورته الثالثة ( ‪ 18‬ـ ‪ 84‬نوفمرب ‪8018‬م) ويف هذا البحث يق ّدم حتليالً لسانيًّا ألفعال الكالم يف الصيغ‬
‫اللغوية اجلاهزة يف الشعر العريب القدمي وف ًقا لنظرية أوسنت وسريل‪.‬‬
‫احلب إىل داللة احلرمان‪ ،‬واختزلت قيمة الع ّفة بالنسبة للمرأة يف عباريت ( ما يستطاع كالمها) ألن ( على‬
‫باهبا من أن تُزار رقيب) فأصبح يكفي يف التدليل على ع ّفة املرأة نفي الكالم وعدم القدرة على زيارة‬
‫احملبوبة!‪.‬‬
‫فالرقيب هنا عالمة على تسليم الثقافة القدمية بفعالية املرأة يف احلياة‪ ،‬وأن عدم وجود الرقيب ميثّل اعرتافًا‬
‫آثارا سلبية متس البنية‬ ‫ِ‬
‫من قبل الثقافة بزعزعة االستقرار يف النظام الثقايف واالجتماعي مما يرتتّب عليه ً‬
‫األخالقيّة للنظام االجتماعي‪ ،‬فوجود الرقيب‪ُ ،‬يافظ على البنية األخالقية للنظام االجتماعي وحتصني‬
‫املرأة‪ ،‬ويرتتب على وجوده إنقاذ النظام االجتماعي من ممارسات قوى مضادة للمجتمع ولنظامه الثقايف‬
‫واألخالقي!‪.‬‬

‫والبُعد التقريري هلذه األفعال‪ ،‬يتمثّل يف احملافظة على البُعد التمريري بالتواصل مع الطرف اآلخر‪ /‬احملبوبة‬
‫عرب اخلطاب وملفوظاته‪ .‬فهذه امللفوظات حتمل رسالة معاناة الشاعر للمتلقي‪ ،‬واملتلقي هنا احملبوبة‪ ،‬ورمبا‬
‫طمعا يف أن يكون املمدوح أكثر عدالً وإنصافًا من احملبوبة وُيقق طلبه‪ .‬أما‬‫أيضا؛ وذلك ً‬ ‫يكون املمدوح ً‬
‫البُعد التأثريي الذي يتمثّل يف استجابة املتلقي ملقاصد املتكلّم‪ ،‬فلم يتحقق – يف النسيب‪ -‬وذلك بسبب‬
‫شروط الثقافة املتمثّلة يف وجود ( الرقيب)‪ ،‬وحضور الرقيب‪ ،‬يعين غياب فعالية املرأة اجلنسية‪ ،‬وجيعلها سلبيّة‬
‫عدا أخالقيًّا‪ .‬فالرقيب هنا عالمة سيميائية دالة على قيمة ثقافية حتافظ على قدسيّة النسق‬ ‫مبا يكسبها بُ ً‬
‫طريف اخلطاب ( الشاعر واحملبوبة) يف اخرتاق‬ ‫الثقايف وعدم اخرتاقه‪ ،‬ووجود الرقيب هنا يُشري إىل رغبة ّ‬
‫دائما من ُُيافظ على هيبته‬
‫بقوته يوفّر ً‬
‫النسق‪ ،‬واالخرتاق هنا متمثّل يف الزيارة والكالم‪ ،‬ولكن النسق ّ‬
‫وقدسيته‪ ،‬فامل ّد الثقايف للفظ ( رقيب) هو للمحافظة على ِ‬
‫القيَم الثقافية من الضياع بسبب زيارة املحب‬
‫ُ‬
‫حملبوبته ( على باهبا من أن تُزار رقيب)؛ وذلك ألن امل ِحبَـ ْني ال خيضعان للرقابة الذاتية‪ ،‬فجاءت الرقابة‬
‫ُ‬
‫االجتماعية‪ ،‬ومن ناحية أخرى ميكن تأويل الرقيب سيميائيًّا بأنه عالمة دالة على عدم قدرة احملبني على‬
‫اخرتاق األنساق الثقافية‪ ،‬فلوال وجود الرقيب لتم ّكن الشاعر واحملبوبة من الزيارة والكالم‪ .‬وإذعان اجلميع‬
‫لفكرة الرقيب‪ ،‬انتماء عفوي لنظام أخالقي يؤسس للتنازل اإلكراهي للمرأة عن جزء من حريتها إلرضاء‬
‫النسق الثقايف‪ ،‬يُقيّد ال ّذات عن ممارسة حرياهتا حىت يف معناها الضيّق‪ ،‬إنه طريقة للقول‪ :‬إن النسق الثقايف‬
‫للرقيب يؤكد عرب ممارساته يف كبت احلريّات‪ ،‬سلب حق الذات يف الوجود عندما تتعارض ممارساهتا مع‬
‫شروطه‪.‬‬

‫إن قوانني الفكر الرمزي‪ ،‬أو قوانني الثقافة حتافظ على استمراريتها وفاعليتها يف الكون من خالل اخلطاب‬
‫وعالماته؛ وذلك بقوة سلطتها يف إخضاع كل من امللفوظ واملتل ّفظ معا‪ ،‬فمجموع ِ‬
‫القيَم اليت نعت هبا‬ ‫ً‬
‫علقمة حمبوبته يف األبيات ( ‪ )4 ،1 ،8‬تؤكد التزام املتل ّفظ‪ /‬الشاعر باملعايري األخالقية النسقية من ناحية‪،‬‬
‫وتؤكد من ناحية أخرى قدرة اخلطاب على استيعابه هلذه املعايري واحملافظة عليها بواسطة مجلة من العالمات‬
‫منعمة) عالمة لغوية دالة على الرتف االجتماعي‪ ،‬و ( ما يستطاع‬ ‫اللغوية ُحتيل على هذه املعايري‪ ،‬فـ ( ّ‬
‫كالمها) عالمة لغوية دالة على االستجابة حلوافز اجملتمع اخلارجية باعتبارها قواعد للسلوك االجتماعي؛‬
‫البعل مل‬
‫التمسك باملعايري األخالقية اليت حددها هلا النسق الثقايف‪ ،‬و ( إذا غاب عنها ُ‬‫وذلك بالتمنّع و ّ‬
‫سره) عالمة لغوية دالة على أمانتها ووفائها لزوجها‪ ،‬و ( ترضى إياب البعل حني يؤوب) عالمة لغوية‬ ‫تُ ِ‬
‫فش ّ‬
‫دالة على ع ّفتها وشرفها‪ .‬إن العالمات اللغوية يف تشكالهتا العالئقية – هنا‪ -‬باألنساق الثقافية قد فتحت‬
‫تصور كلّي لنظام اخلطاب ووظائفه املتعددة – ذكرنا منها ساب ًقا أربع وظائف ( االنفعالية‪/‬‬
‫األفق أمام حتقيق ّ‬
‫املرجعية‪ /‬التأثريية‪ /‬التبادلية)‪ -‬فهذا اخلطاب ليس وثيقة للمحافظة على النسق الثقايف فحسب‪ ،‬بل عالمة‬
‫دالة على جتلّيات األنساق الثقافية وارحتاالهتا من املمارسات االجتماعية يف الثقافة‪ ،‬إىل اخلطاب وسلطته‬
‫وقدرته على اإلقناع‪ ،‬فاملعايري األخالقية يف الثقافة انتقلت إىل الذاكرة اإلنسانية عرب اخلطابات؛ ومن مثة‬
‫يعد اخلطاب آلية مهمة من آليات عمل األنساق الثقافية يف الذاكرة اإلنسانية؛ وذلك لقدرته على خماطبة‬
‫أطراف حاضرة‪ ،‬وأطراف ُمتخيّلة‪.‬‬
‫تعرب ملفوظات هذا اخلطاب عن حركة النسق الثقايف داخل اجملتمع‪ ،‬وقدرته على كبح مجاح احلريّات‬ ‫ّ‬
‫الشخصية يف ظل وجود ( الرقيب)‪ .‬وميكننا تأويل عالمات هذا اخلطاب باعتبارها دالة على مغامرات‬
‫الذات املتكلمة مع األنساق ‪ -‬ال أقصد بالذات االجتماعية للشاعر مبفهوم علم النفس‪ ،‬ولكن الذات‬
‫اليت يصنعها اخلطاب‪ 49-‬فالذات املتكلمة‪ /‬املتلفظة رمبا تدخل يف مغامرة مع األنساق الثقافية‪ ،‬ولكنها‬
‫مغامرات حمسوبة وحمدودة‪ ،‬ومبا يسمح هلا بالتعبري عن خصوصية جتربتها وانفعاالهتا‪ ،‬وهذا واضح يف األبيات‬
‫أيضا إىل أن حتيا هذه األنساق‬‫( ‪)10 :2‬؛ ألن اخلطاب نفسه خيضع لسلطة النسق‪ ،‬ويرمي هذا اخلطاب ً‬
‫يف سياق خطايب خمتلف عن السياق االجتماعي‪ ،‬إنه واسطة األنساق الثقافية يف االرحتال من زمن إىل‬
‫آخر‪ ،‬ومن جمتمع إىل آخر؛ ألن هذا اخلطاب ُيفظ هلذه ِ‬
‫القيَم واألنساق استمراريتها ودميومتها يف املخيال‬
‫سن قوانني فردية تتبع‬
‫اجلمعي هبدف فرض قوانني عامة لضبط سلوك األفراد‪ ،‬وعدم ترك الفرصة هلم لـ ّ‬
‫يعرب عن عالقة بني قوتني‪،‬‬
‫هوى كل فرد‪ ،‬فيعم االضطراب والفوضى داخل اجملتمع‪ .‬إن هذا اخلطاب ِّ‬
‫إحدامها تدرك قوهتا الذاتية يف إنتاج املعرفة داخل اخلطاب‪ /‬الشاعر‪ ،‬واألخرى تدرك قوهتا يف التملك‬
‫والسلطة‪ /‬املمدوح‪.‬‬

‫‪ 49‬ميكن الرجوع يف هذه اإلشكالية إىل أمحد حيزم‪ ،‬من شعرية اللغة إىل شعرية الذات‪ ،‬دار صامد للنشر والتوزيع ( تونس)‬
‫( ‪8010‬م) من ص‪.140 :112‬‬
‫مقوًما من مقومات وجوده‪،‬‬
‫يق ّدم الشاعر يف نسيب القصيدة وص ًفا ملشاعره جتاه احملبوبة‪ ،‬باعتباره ّ‬
‫مقومات النزوع باجتاه الوجود فالبحث‬
‫مقوم من ّ‬ ‫فالبحث عن احلب – يف الدراسات النفسيّة احلديثة‪ّ -‬‬
‫عن الوجود يف األبيات ( ‪ )2 : 1‬يتمثّل يف البحث عن الكينونة‪ ،‬وهي حالة مهمة من حاالت حبث‬
‫اإلنسان عن وجوده‪ ،‬إىل جانب الرغبة يف التملك من وجهة نظر إريك فروم الذي يقول عن التملّك‬
‫والكينونة بأهنما " حالتان أساسيتان من حاالت الوجود‪ ،‬أو شكالن خمتلفان من النزوع باجتاه الذات‬
‫والعامل‪ ،‬إهنما منطان خمتلفان من أمناط الشخصية حيث حتدد سيطرة إحدامها على الشخصية كيفية تفكري‬
‫عموما‪ ،‬أو كيفية شعوره أو تصرفاته"‪ 50.‬مث ينتقل الشاعر يف األبيات ( ‪ )10 ،8 ،2‬من احلديث‬
‫الشخص ً‬
‫عن الوجود إىل احلديث عن املوجود احليايت‪ ،‬وهذا االنتقال عالمة دالة على التحرر من األسر الداخلي‪/‬‬
‫احلب‪،‬ومفردات ( بصري‪ /‬أدواء‪ /‬طبيب) ميكن قراءهتا يف سياق سيميائي بوصفها عالمات دالة على إدراك‬
‫املعرفة‪ ،‬أقصد معرفة حقائق النساء ( حب املال‪ /‬حب الشباب) ( رفض قليل املال‪ /‬رفض كبري السن)‬
‫وهذه املعرفة مرتبطة بفعل التحرر الذايت‪ ،‬فلوال هذه املعرفة اليقينية – من وجهة نظر الشاعر‪ -‬ملا استطاع‬
‫التحرر‪ ،‬وهذا القرار – قرار التحرر من أسر العواطف‪ -‬رمبا يكون قر ًارا مؤملا بالنسبة للشاعر؛ ألنه يؤكد‬
‫ً‬
‫فقدانه حملبوبته وحترره من عبودية حبه هلا‪ ،‬والعالمات اللغوية الدالة اليت ق ّدمها الشاعر إمنا هي عالمات‬
‫حجاجية على رغبة الذات يف اختاذ قرار التحرر من األسر الداخلي الذي يش ّكل عائ ًقا أمام رغبات‬
‫الشاعر‪ ،‬وكأن لسان حاله يقول‪ :‬جيب أن أحترر من األسر الداخلي‪ ،‬لكي أجنح يف حترير أخي شأس من‬
‫األسر اخلارجي‪.‬‬
‫إن ذات الشاعر هنا تقع حتت وطأة إغراء مزدوج‪ ،‬فهي موزعة بني نظرة متحررة ومتفائلة لوجود مازال‬
‫حراس الثقافة؛‬‫مرهونًا باالجنذاب إىل أنساق ثقافية مجعية متارس سلطتها على األفراد بواسطة الرقباء‪ ،‬أو ّ‬
‫يتحرك فكره يف جمال يؤثّر يف الواقع من خالل إطالق سراح شأس‪.‬‬ ‫ومن مثّة يقرر أن ّ‬
‫وإذا وضعنا ملفوظات البيتني التاليني موضع حتليل امللفوظات يف سيميائيات التل ّفظ‪ ،‬ميكننا التق ّدم حنو‬
‫تأويل أعمق مللفوظات النسيب‪.‬‬
‫وب‬ ‫إِ َذا غاب عنها البعل مل تـُ ْف ِ ِ‬
‫حني يـَ ُؤ ُ‬
‫َ‬ ‫إياب البَـ ْعل‬
‫َ‬ ‫وتـُ ْرضي‬ ‫ش سَّرهُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬

‫يب‬ ‫ِ‬ ‫ُوِّد ِه َّن‬ ‫ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫نَص ُ‬ ‫لَهُ‬ ‫س‬
‫فلي َ‬
‫ْ‬ ‫أس املَْرء أو قَ َّل مالـُـهُ‬
‫اب ر ُ‬
‫إذَا َش َ‬

‫‪ 50‬إريك فروم‪ ،‬اإلنسان بني اجلوهر واملظهر‪ ،‬ترمجة سعد زهران‪ ،‬عامل الفكر ( الكويت) العدد (‪ )140‬أغسطس ‪1828‬م‬
‫ص‪.84‬‬
‫تصور موقعه داخل الوجود‪ ،‬فاخلطاب‬
‫تعرب‪ّ /‬‬ ‫إن الشاعر يقوم بتنظيم جتربته يف النسيب عرب ملفوظات دالة ّ‬
‫يساهم يف انفتاح الذات املتكلمة على العامل من خالل ملفوظاهتا‪ ،‬فامللفوظات يف البيت األول‪ ،‬ناقلة لقيم‬
‫اجملتمع والثقافة عرب صيغة إنشائية تتوفّر على قصدية ميكن تأويلها ممثلة يف أداة الشرط غري اجلازمة ( إذا)‬
‫سر البَـ ْعل‪ ،‬وإرضائه حني عودته‪ .‬والالفت‬ ‫اليت تستوعب قيمة أخالقية للمرأة العربية وهي احلفاظ على ّ‬
‫سره)‪ ( ،‬تُرضي إياب البَـ ْعل) وهذه‬
‫فش ّ‬ ‫للنظر هنا أن فعل الشرط‪ ،‬يرتبط جبوابني معطوفني للشرط ( مل تُ ِ‬
‫القيم من مهدها‬ ‫الصيغة تُع ّد إجنازا لقدرات الذات املتكلّمة داخل اخلطاب على حتويل األنساق الثقافية‪ ،‬و ِ‬
‫ً‬
‫تحول‪ ،‬أو حتويلها من ممارسة نسقية صامتة يف الثقافة‪ ،‬إىل نظام‬
‫االجتماعي الثابت إىل جماهلا اخلطايب امل ِّ‬
‫صويت داخل اخلطاب الشفاهي‪ ،‬ونظام عالمايت داخل اخلطاب املكتوب‪ .‬أما الصيغة الشرطية يف البيت‬
‫الثاين‪ ،‬فهي ناقلة‪ /‬واصفة لطبيعة تقييم املرأة العربية للرجل‪ ،‬ومن املثري للجدل هو أن هذه الصيغة اعتمدت‬
‫قل مالُهُ) وجواب واحد للشرط ( فليس له من ودهن نصيب)‬ ‫على فعلني للشرط ( إذا شاب رأس املرء ـ أو ّ‬
‫وهذا على عكس البيت األول الذي اعتمدت صيغة الشرط على جوابني معطوفني للشرط وفعل واحد!‬
‫وهذا يؤكد وعي الذات املتكلّمة داخل اخلطاب بالتاريخ كخلفية معرفية بني الفرد والعامل‪ ،‬ولعل هذا يؤكد‬
‫مقولة ( بارت) " إن النص ليس جمموع كلمات‪ ،‬بل هو فضاء متعدد األبعاد‪ ،‬ترتاوح فيه الكتابات‬
‫‪51‬‬
‫وتتعارض‪ ،‬فهو نسيج ألقوال ناجتة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة"‪.‬‬

‫إن ثنائية الشيب‪ /‬الشباب يف األبيات تُعد صورة منوذجية لتقييم املرأة للرجل ثقافيًّا وإيديولوجيًّا‪ ،‬فالشيب‬
‫هنا ليس عالمة على احلكمة واحلِلم‪ ،‬وإمنا عالمة على الضعف واهلزال‪ ،‬وكذلك الشباب‪ ،‬ليس عالمة على‬
‫القوة‪ .‬إن كل عالمة من عالمات تقييم املرأة للرجل هنا تتسم بالوضوح‬
‫التهور‪ ،‬لكنه عالمة على ّ‬
‫الطيش و ّ‬
‫متاما بالنسبة للرجل الزوج‪ ،‬وأول مفتاح بالنسبة للرجل‬
‫التام‪ ،‬فمنذ دخول املرأة معرتك الزواج‪ ،‬تتضح األدوار ً‬
‫ويهمشه‬
‫حسي يغيّب دور العقل ّ‬ ‫هو شبابه وماله‪ ،‬فلهما دور حاسم يف التقييم الثقايف للمرأة‪،‬وهو تقييم ّ‬
‫متاما يف سياق العالقة االجتماعية‪ ،‬وما تنطوي عليه من أبعاد إنسانية‪ ،‬تؤكد غياب وعي املرأة يف ظل‬
‫ً‬
‫خضوعها هليمنة النسق الثقايف‪.‬‬
‫حتول يف الدال اخلطايب إىل شكل يف صورة صيغة إنشائية ال‬
‫فاملعىن الذي ُيتوي على قيمة ثقافية‪ّ ،‬‬
‫حتتمل إال الصدق‪ ،‬ومن غري هذه الصيغة اإلنشائية سيظل يف عامل الصمت‪ ،‬األمر الذي جيعلنا نؤكد وجود‬
‫تطور غري عادي من املعىن إىل الشكل‪ ،‬أو من الدال الثقايف إىل العالمة اللغوية داخل اخلطاب‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ 51‬روالن بارت‪ ،‬هسهسة اللغة‪ ،‬ترمجة منذر عياشي‪ ،‬مركز اإلمناء احلضاري ( بريوت) ط‪1888 ( 1‬م) ص‪.20‬‬
‫سيميائيات الرحيل‪ :‬ملفوظات الخطاب وعمق الداللة‪.‬‬
‫هل ميكن اعتبار ارحتال الشاعر ممارسة واعية بأمهية االنفصال عن الواقع حبثًا عن احلرية اليت تش ّكل‬
‫جوهر التجربة الشعرية يف هذا اخلطاب؟‬
‫كيف ميكننا النظر إىل الرحيل باعتباره عالمة سيميائية دالة على فشل جتربة العشق يف اخلطاب الشعري‬
‫القدمي؟‬
‫قبل الشروع يف اإلجابة عن هذين السؤالني نود اإلشارة إىل أن عملية التخلّص من النسيب إىل الرحيل‪،‬‬
‫اهلم) وهو ما يؤكد قيمة امللفوظات‬
‫وسل َّ‬
‫متّت عرب عملية تلفظيّة اعتمدت على فعلني إجنازيني ( فدعها ـ ِّ‬
‫التحوالت داخل اخلطاب من الفصل – أي االنفصال عن جزء سابق وهو النسيب‪-‬‬ ‫اإلجنازية يف إحداث ّ‬
‫حتوالت مهمة بالنسبة‬
‫إىل الوصل – اجلزء اخلاص بالرحيل الذي ميثّل مهزة وصل بني النسيب واملديح‪ -‬وهي ّ‬
‫التحوالت ختلق أحداثًا جديدة‪،‬‬
‫أيضا بُعدها الداليل‪ ،‬فمن املعروف ان ّ‬
‫للمسار السيميائي للخطاب‪ ،‬وهلا ً‬
‫والشاعر يسعى من خالل عملياته التلفظيّة إىل حتويل الواقع؛ ومن مثة الدخول يف عالقات جديدة مع‬
‫املمدوح‪ ،‬تكون أجدى وأنفع من العالقات القدمية ( عالقته باحملبوبة) وقد حكم عليها بالفشل بسبب‬
‫ونفعا‪ ،‬يتم داخل اخلطاب عرب عملية تلفظيّة‪،‬‬
‫فالتحول من حال إىل حال أكثر جدوى ً‬ ‫ّ‬ ‫وجود الرقيب‪.‬‬
‫تؤدي فيها األفعال اإلجنازية دورها البارز من الناحية التداولية‪ ،‬حيث عالقة العالمة ( األفعال اإلجنازية)‬
‫مبستعملها ( الشاعر) فتُحدث العالمة أثرها الواضح يف مستعملها باالنتقال من حال فقد فيها حمبوبته‪،‬‬
‫شأسا من األسر‪ ،‬ويف اخلطاب من سياق إىل سياق آخر‪ ،‬مما ُُيدث‬ ‫إىل حال آخر يستعيد فيها أخاه ً‬
‫ِحرا ًكا داخل اخلطاب‪ ،‬ويؤكد فعاليته وجناعته يف إجناز األشياء‪.‬‬

‫إن الوعي باحلرية‪ ،‬يتولّد يف اللحظة اليت تسعى فيها الذات إىل االنفالت من كل ٍ‬
‫قيد أو أس ٍر‪ ،‬وعندما‬ ‫ّ‬
‫اهلم‪ )..‬فإن ذاته قد امتلكت الرغبة والقدرة على جتاوز‬
‫وسل ّ‬‫قرر علقمة قطع الصلة بالنسيب ( فدعها‪ِّ ،‬‬
‫مجيع القيود الثقافية اخلارجية اليت وقعت فريسة هلا يف اجلزء اخلاص بالنسيب‪ ،‬وعلى ذلك‪ ،‬فإن الوعي‬
‫بأمهية االنفصال يف سبيل حتقيق احلرية الفرديّة‪ ،‬ينطوي على حركة مستمرة لالنفصال عن هذا الواقع‪ ،‬وإذا‬
‫كانت احلرية متثل جوهر الوجود اإلنساين – حسب مقولة مريلوبونيت الشهرية‪ -‬فإن اإلنسان الواعي هو‬
‫الذي يعرف مىت ينفصل عن عا ٍمل ما يف سبيل حتقيق حريته؛ ومن مثة ميتلك القدرة على جتاوز كل احلدود‬
‫اليت تقف يف طريقه وحتول دون حتقيق هدفه‪ ،‬فانفصال علقمة عن النسيب‪ ،‬ميكن تأويله معرفيًّا يف سياق‬
‫البحث عن احلريّة الفردية اليت افتقدها بسبب خضوعه ألنساق الثقافة‪ ،‬وهذه اخلطوة مهمة يف سبيل حترير‬
‫أخيه شأس يف اجلزء اخلاص باملديح‪.‬‬
‫ميكننا مناقشة اجلزء اخلاص بالرحيل يف بائية علقمة الفحل باعتبارها تركيبة رمزية‪ ،‬ووسيلة تعبرييّة لقول‬
‫شيء ما عن شيء ما – حسب تعبري أرسطو املعروف‪ -‬وهلذا سنركز على الداللة الثقافية واالجتماعية‬
‫هلذه الرتكيبة الرمزية بوصفها حاشية إلرادة التجاوز اليت تتملّك الشاعر بعد إخفاقه يف اجلزء اخلاص‬
‫بالنسيب‪ ،‬ويرتتّب على رحيل الشاعر احلفاظ على النظام األخالقي للجماعة‪ ،‬وحتصني املرأة‪ /‬احملبوبة من‬
‫االنشغال برجل يتسبب هلا يف كثري من املشكالت مع نظامها الثقايف اليت ختضع لشروطه؛ ومن مثّة تُعد‬
‫عملية الرحيل إنقا ًذا للنظام األخالقي السائد يف اجملتمعات القبليّة قدميًا‪ ،‬ومنع انتشار الفتنة بني الرجال‬
‫والنساء؛ ألن ارحتال الشاعر يعين ترك جتربة العشق هنائيًّا‪ ،‬ويف هذه احلالة فإن الدراسة السيميائية للجزء‬
‫اخلاص بالرحيل يف بائية علقمة تسعى ملناقشة عناصر اجلزء اخلاص بالرحيل – الناقة والبقرة الوحشية وبعض‬
‫عناصر الطبيعة اليت اعتمد عليها علقمة يف بائيته‪ -‬كعالمات دالة على أغراض قيميّة وإنسانيّة‪ ،‬فما يقوله‬
‫التحمل‪،‬والبقرة الوحشية ومهارهتا يف اهلروب من الصائد الذي‬
‫اخلطاب عن الناقة وقدرهتا على الصرب و ّ‬
‫يرتبّص هبا‪ ،‬والطبيعة مبا ترسله إىل األرض من عالمات‪ ،‬ليس من باب احلشو يف اخلطاب الشعري القدمي؛‬
‫نوعا من التثقيف‬ ‫ٍ‬
‫ألن العناصر األساسية يف اجلزء اخلاص بالرحيل وما تنطوي عليه من دالالت ومعان‪ ،‬تُع ّد ً‬
‫احليايت يأيت بعد التثقيف العاطفي يف اجلزء اخلاص بالنسيب‪ ،‬فما يتعلّمه املتلقي يف هذا اجلزء‪ ،‬هو إدراك‬
‫اهليئة اليت تتخذها الثقافة اجلمعيّة يف مواجهة التحديّات‪ ،‬فرحلة الناقة وما تعانيه من صعوبات‪ ،‬هي الطريقة‬
‫تأمل شكل قسوة الطبيعة عليهم وكيفيّة مواجهتها‪ ،‬وجتربة البقرة الوحشية مع‬ ‫اليت يتبعها اجلاهليون يف ّ‬
‫تأمل شكل تربّص العدو هبم‪ ،‬والرابط بني التجربتني‬
‫الصائد‪ ،‬هي الطريقة اليت يتبعها العرب اجلاهليون يف ّ‬
‫– جتربة الشاعر مع الناقة وجتربته مع البقرة الوحشية‪ -‬يتمثّل يف التحلّي بالصرب واالنتباه إىل اخلطر‪ ،‬أما‬
‫التأمل واملالحظة‬
‫جتربته مع الطبيعة الصامتة – النجوم واألفالك‪ -‬فتتمثّل يف إعمال العقل والقدرة على ّ‬
‫واالكتشاف‪ .‬والشاعر بربطه بني هذه العناصر‪ ،‬يؤسس جملموعة من القواعد الثقافية الرمزية حتتاج لتأويالت‬
‫للكشف عن ما تنطوي عليه من معان‪ .‬فـ ( علقمة) يف بائيته‪ ،‬يق ّدم لنا الرحيل ليس كجزء منوذجي متكرر‬
‫يف اخلطاب الشعري‪ ،‬ومن اخلطأ التعامل مع هذا اجلزء على أنه إخبار عن جتربة علقمة يف رحيله‪ ،‬بل جيب‬
‫تأمل ما ُيدث يف الرحيل‪ ،‬فنحن ال نقرأ هذا اجلزء لنعرف ماذا حدث لعلقمة يف رحلته؟ حنن نقرؤه لتأويل‬‫ّ‬
‫ممارسات الشاعر بعد خسارته حملبوبته اليت وقعت أسرية للتقاليد االجتماعية‪ ،‬وحماولته تعويض هذه اخلسارة‬
‫بفوز اجتماعي يتمثّل يف إطالق سراح أسري وحتريره من العبودية‪ ،‬حنن نقرؤه لنفهم الوجه اآلخر لعبودية‬
‫الثقافة‪.‬‬

‫إن تقاليد الثقافة وأنساقها تفرضان على املرء طريقة تشكيله لعالقاته بالوجود‪ ،‬وهذا يعين أن األنساق‬
‫الثقافية والتقاليد االجتماعية‪ ،‬تقف خلف جانب املمارسات الفردية لألفراد‪ ،‬وتسهم بقدر كبري يف صياغة‬
‫كثريا باإليديولوجيا؛ ولذا يقرتن حتليل اخلطاب يف دراستنا بالتحليل‬
‫اهلويات اجلمعية‪ ،‬فالسلوك الفردي يتأثّر ً‬
‫النقدي لإليديولوجيا؛ ومن مثة ميكننا مساءلة العالقة بني امللفوظات اخلطابية واملمارسات االجتماعية خارج‬
‫مهما يف حتليل اخلطاب والبحث يف ما وراء املعىن‬
‫دورا ً‬
‫اخلطاب‪ ،‬وتؤدي السيميائية بوصفها واسطة بينهما ً‬
‫اخلطايب‪.‬‬
‫معان ُيضر عربها الشاعر متخفيًا يف صفاهتا‪ ،‬ومن خالهلا يبحث الشاعر عن‬ ‫الناقة عالمة ُحتيل على ٍ‬
‫وضع جديد يليق به بعد إخفاقه يف جتربة العشق‪ ،‬فالناقة ال تُشري إىل معطى خطايب يتكرر يف اجلزء اخلاص‬
‫غري السياقات فحسب‪ ،‬بل‬ ‫تتغري بت ّ‬
‫متغرية ّ‬
‫بالرحيل يف اخلطاب الشعري القدمي‪ ،‬وتكراره مينحه دالالت ّ‬
‫تشري إىل حاالت رمزية يستطيع الشاعر من خالهلا االنتقال من حالة انفصال عن جتربة غري مرغوب فيها‪،‬‬
‫إىل حالة اتصال مرغوب فيها مع املمدوح؛ وذلك ليجدد فعاليته النفسية ويؤكد حضوره يف العامل‪ ،‬وهذا‬
‫أمر تؤكده فلسفة الرحيل باعتبارها – داخل اخلطاب‪ -‬منطقة وسطى بني ما هو إنساين – جتربة العشق‬
‫مع احملبوبة‪ -‬إىل ما هو مادي – جتربة الشاعر مع املمدوح‪ -‬أو بني الفشل يف النسيب‪ ،‬والنجاح يف املديح‪.‬‬
‫وتتحول داخل اخلطاب إىل كائن " ُم ِنقذ" ُيمل على عاتقه مساعدة‬ ‫ّ‬ ‫إهنا ُحتيل على نظام اجتماعي‪،‬‬
‫احململ هبمومه يف االرحتال من حالة سلبية‪ ،‬إىل حالة إجيابية‪ ،‬إهنا نقيض إلكراهات الثقافة‪ ،‬وتقوى‬
‫الشاعر ّ‬
‫املفصل خلصائصها اجلسديّة‬
‫ميكننا من فهم حرص الشاعر على الوصف ّ‬ ‫على مواجهة الطبيعة؛ ولعل هذا ِّ‬
‫داخل اخلطاب‪.‬‬
‫إن ما جيعل موضوع الناقة يف اخلطاب الشعري ذا مكانة متميّزة‪ ،‬ليس قيمة الناقة كحيوان يتسم بالصرب‬
‫حتمل الصعاب فحسب‪ ،‬بل يف ما يؤديه موضوع الناقة من وظائف داخل اخلطاب‪ ،‬فهي‬ ‫والقدرة على ّ‬
‫على سبيل املثال وسيلة انتقال الذات بعد إخفاقاهتا يف النسيب – بسبب عدم قدرهتا على مواجهة‬
‫األنساق الثقافية أو التقاليد االجتماعية‪ -‬إىل داخل كيان الصراع مع الطبيعة يف اجلزء اخلاص بالرحيل‪،‬‬
‫وكأن لسان حال الشاعر يريد نقل الصراع مع الثقافة إىل الصراع مع الطبيعة ‪ -‬أي يريد نقل الصراع مع‬
‫الطبيعة باعتبارها الواقع املوضوعي املستقل عن الفرد بعد أن فشل يف حسمه مع ما هو مكتسب‪ /‬الثقافة‪-‬‬
‫وعلى هذا ميكننا دراسة اجلزء اخلاص بالرحيل يف خطاب علقمة باعتباره متثيالً خطابيًّا حلقول التوتر املعقدة‬
‫بني ماهو طبيعي وما هو مكتسب ‪ ،‬وقد تكون الناقة بديالً رمزيًّا لشخصية صاحبها‪ /‬علقمة‪ ،‬أو مرايا‬
‫حيوانية ذات شكل نفساين – إذا جاز التعبري‪ .-‬فموضوع الناقة ُيضر يف اخلطاب الشعري القدمي بوصفه‬
‫حماكاة لفلسفة النظام االجتماعي السائد‪.‬‬
‫وميكننا إدراك أمهية موضوع الناقة يف خطاب علقمة الراهن من خالل الربط بني ثالثة جوانب من‬
‫الصراع بني اإلنسان‪ ،‬والطبيعة‪ ،‬والثقافة‪:‬‬
‫‪ ‬شكله الدرامي‪ ،‬إخفاق الشاعر يف الفوز باحملبوبة والشعور بـ االهنزامية أمام ما هو مكتسب‪/‬‬
‫الثقافة‪.‬‬
‫‪ ‬حمتواه اجملازي‪ ،‬االنفصال عن جتربة العشق‪ ،‬واالتصال باملمدوح لتجديد فعالية الشاعر النفسية‬
‫وتأكيد حضوره يف اجملتمع‪.‬‬
‫‪ ‬سياقه االجتماعي‪ ،‬بوصفه ممارسة نسقية تتكرر يف اخلطاب الشعري؛ ّ‬
‫ليعرب عن معىن ما خيتلف‬
‫من خطاب آلخر؛ ومن مثة ميكن اعتباره حماكاة شكلية للتوترات اليت يعاين منها الفرد اليت تتمثّل‬
‫قيمته الرفيعة يف احملافظة على التقليد االجتماعي والتضحية برغبته يف سبيل حراسة التقليد واحملافظة‬
‫عليه‪ ،‬وتنشأ قوة موضوع الرحيل اجلمالية املؤثرة يف املتلقي من قدرته على اختزال هذه احلقائق يف‬
‫كيان واحد هو الناقة؛ حيث ميكن تأويلها سيميائيًّا يف هذا السياق باعتبارها عالمة سيميائية‬
‫دالة على الكربياء واإلحساس املتعايل بالذات؛ ومن مثة ربط الشاعر بني اإلحساس بالذات‬
‫والناقة‪ ،‬والربط بني الناقة وجماهبة الصعوبات والتح ّديات اليت تواجهها‪ ،‬مث بلوغ اهلدف املنشود‬
‫وهو الوصول إىل املمدوح‪.‬‬

‫إن هذا الربط يستدعي يف املخيّلة جانبًا من جوانب جتربة اإلنسان مع الثقافة‪ ،‬ولئن كان اجلزء اخلاص‬
‫بالرحيل تعبري خطايب عن الصراع بني اإلنسان والطبيعة‪ ،‬ويبدو وكأنه مقطع منوذجي للحياة البدوية العامة‪،‬‬
‫فإنه من جانب آخر يبدو كعالمة على صمود الذات اإلنسانية وحت ّديها للطبيعة‪ ،‬إنه عالمة على رغبة‬
‫الذات يف إعادة بناء احلياة مرة أخرى ولكن على أساس مادي – بعد أن رفضت األنساق الثقافية مبدأ‬
‫املشاعر اإلنسانية‪ -‬تكون األموال فيه هي هدف الشاعر‪ .‬إن صورة الرحيل يف اخلطاب الشعري‪ ،‬هي‬
‫صورة قوية يف تعبريها عن احلياة كما يريدها البدويّون يف أعماقهم؛ ألهنم بطبيعتهم – بفعل األنساق‬
‫نادرا ما يقاومون إذا كان‬
‫التهرب منها‪ ،‬وهم ً‬
‫نادرا ما يواجهون األمور ال سيما إذا كان بإمكاهنم ّ‬
‫الثقافية‪ً -‬‬
‫بإمكاهنم املراوغة – مسة من مسات األنساق‪ -‬إال أهنم يف صراعهم مع الطبيعة‪ ،‬يربزون بصورة التحلّي‬
‫بالصرب والقدرة على حتمل الصعاب يف سبيل بلوغ اهلدف‪.‬‬
‫إن هرميّة الكربياء مبا هي انصهار خاص متميّز بني رغبة اإلنسان بعد اإلخفاق وطاقة الناقة يف الصرب‬
‫التحمل جندها مغلّفة بغطاء آداب السلوك والتقاليد االجتماعية والتلميحات واإلشارات‪ ،‬وهي تظهر يف‬
‫و ّ‬
‫عبارات واضحة ال يغطيها سوى قناع رقيق من الوجود احليواين ممثل يف الناقة‪ ،‬وهو قناع يكشف سيميائيًا‬
‫عن إحباطات نفسية بعد تطلّعات ذاتية لذات تعيش حمنتها مع أنساقها‪.‬‬
‫املتأمل يف البيت‪ 11/‬يكتشف العالقة املفصلية الفارقة والقرينة الدالة على التخلّص من النسيب‬
‫لعل ّ‬
‫إىل الرحيل بفعلني إجنازيني متتاليني مسبوقني بالفاء االستئنافية ( فدعها) معطوفًا على فعل إجنازي (‬
‫وسل)‪ .‬الفعل األول يشري إىل معىن االستغناء يف إشارة إىل عدم جدوى املمارسة السابقة وعدم جناعتها‬
‫ِّ‬
‫التحول عن ممارسات غري جمدية إىل ممارسة‬
‫التحول‪ ،‬أي ّ‬
‫يف حياة الشاعر‪ ،‬ويشري الفعل الثاين إىل معىن ّ‬
‫اهلم) حيث تؤّكد اإلضافة رغبته يف جتاوز هذه‬
‫جمدية‪ ،‬ال سيما إذا وضعنا يف االعتبار أمهية إضافته لـ ( ّ‬
‫التحول هنا يأيت عرب ( اجلسرة) ‪ -‬أي الناقة القوية اليت تسرع املشي ولو‬
‫اهلموم املرتبطة باملرحلة السابقة‪ ،‬و ّ‬
‫كانت حتمل أكثر من طاقتها أي الراكب ورديفه‪ -‬وإذا حلّلنا امللفوظات الثالثة السابقة من الناحية‬
‫التداوليّة‪ ،‬اكتشفنا أمهية األبعاد التداولية هلذه امللفوظات‪ ،‬فالفعل األول ( فدعها) ينطوي على بُعد إجنازي‬
‫يتمثّل يف حتقيق حدث ما وهو االستغناء‪ ،‬وينطوي على بُعد متريري يتمثّل يف مترير معىن ما وهو عدم‬
‫ج دوى املمارسات السابقة يف حتقيق رغبات الشاعر؛ وذلك لتعارض هذه الرغبات مع األنساق والتقاليد‬
‫االجتماعية – كما سبق أن أوضحنا‪ .-‬والبُعد الثالث تأثريي‪ ،‬يتمثّل يف قدرة هذا الفعل وجناعته يف التأثري‬
‫على ذات الشاعر احملبطة بعد فشلها السابق يف النسيب وحتويلها من حالة اإلحباط إىل حالة من حاالت‬
‫استشراف األمل يف احلياة عن طريق ممارسات أخرى أكثر جدوى وجناعة‪.‬‬
‫التعزي‪ ،‬أي‬
‫اهلم)‪ ،‬ينطوي هو اآلخر على بُعد إجنازي يتمثّل يف حتقيق حدث ما وهو ّ‬‫سل ّ‬ ‫الفعل الثاين‪ِّ ( :‬‬
‫تعزية الذات بعد إخفاقها‪ ،‬وينطوي كذلك على بُعد متريري يتمثّل يف مترير معىن ما وهو الصرب وجناعته يف‬
‫مراحل االنتقال لتجاوز اليأس‪ ،‬والبُعد الثالث وهو تأثريي يتمثّل يف قدرة الفعل يف التأثري اإلجيايب على‬
‫جدا يف‬
‫النفس مبا جيعلها قادرة على جتاوز مهومها وآالمها بالتسلّي‪ .‬ومن املعروف أن عملية التسلّي مهمة ً‬
‫قتل الفراغ كتمهيد لتجاوز احملنة‪.‬‬
‫أما ملفوظ ( اجلسرة) أي الناقة القويّة‪ ،‬فيأيت بعد حرف اجلر كعالمة على اإلنقاذ‪ ،‬أي إنقاذ الشاعر‬
‫املفصل خلصائصها مبلفوظات‬
‫وانتشاله من حالة اليأس واإلحباط؛ ومن مثّة يشرع الشاعر يف الوصف ّ‬
‫متنحها خصائص مميزة متكنها من أداء وظيفتها داخل اخلطاب‪ .‬وإذا حاولنا تأويل هذه امللفوظات الواصفة‬
‫للناقة سيميائيًّا أمكننا تأويلها يف سياق فكرة اإلسقاط – بلغة علم النفس‪ -‬فهذه امللفوظات عالمة على‬
‫إسقاط حالته النفسية القلقة واملتوتّرة بني األمل واليأس‪ ،‬بني النجاح واإلخفاق‪ .‬فلفظ ( ناجية) أي سريعة‬
‫وتعرف كيف تنجو بصاحبها‪ ،‬يُشري إىل معىن القوة الذي يتوازى مع متسك الشاعر باألمل والرغبة يف‬
‫كيب ضلوعها) اليت يشري إىل معاين الضعف والوهن‪ ،‬وهي‬
‫النجاح‪ ،‬مث يردف هذا امللفوظ بعبارة ( أفىن ر َ‬
‫توازي حالة اإلحباط واإلخفاق اليت جتد مال ًذا هلا يف نفسية الشاعر‪.‬‬
‫والربط بني الناقة والبقرة الوحشية يف األبيات ( ‪ )11 :11‬ينطوي على معان خاصة افتقدها الشاعر يف‬
‫حتمل الصعاب والصرب على عناصر الطبيعة‪ ،‬وهي الصفات اليت افتقدها‬ ‫حمبوبته‪ ،‬فالناقة تتميّز بقدرهتا على ّ‬
‫تتحل بالصرب عليها‪ ،‬واستسلمت لتقاليد الثقافة‪.‬‬
‫حتمل الصعاب‪ ،‬ومل َّ‬ ‫الشاعر يف حمبوبته اليت مل تستطع ّ‬
‫والبقرة الوحشية تتميّز بقدرهتا على التمييز بني من يرتبّص هبا ( الصائد الذي يقابل الرقيب عند احملبوبة)‬
‫غب السرى) اهلروب منه وإنقاذ فلذات‬ ‫وتستطيع بذكائها وخربهتا من التجارب السابقة ( وتصبح عن ّ‬
‫أكبادها؛ ومن مثة اللجوء إىل املالذ اآلمن وهو الكهف الذي يأويها من خماطر اآلخرين املرتبصني هبا‪،‬‬
‫وهذه الصفات افتقدها الشاعر يف حمبوبته اليت آثرت السالمة واستسلمت لتقاليد الثقافة وتركته لسهام‬
‫الصائدين!‪.‬‬
‫ويؤدي هذا اجلزء وظيفته يف اخلطاب عرب ثالثة مستويات‪:‬‬
‫املستوى األول‪ :‬امللفوظات‪.‬‬
‫املستوى الثاين‪ :‬التل ّفظ‪.‬‬
‫املستوى الثالث‪ :‬املرجعيّات‪.‬‬
‫المستوى األول‪ :‬امللفوظات‪ ،‬يتمثّل يف اعتماد الشاعر على ملفوظات ِّ‬
‫متنوعة‪ ،‬جزء منها يتمثّل يف األفعال‬
‫اهلم) واجلزء اآلخر يتمثّل يف ملفوظات‬
‫سل َّ‬ ‫اإلجنازية وما تنطوي عليه من ٍ‬
‫معان متريرية وتأثريية ( فدعها) و ( ِّ‬
‫الوهاب أعملت ناقيت‪.)..‬‬
‫اهلم عنك) ‪ ( ،‬جبسرة) ( إىل احلارث ّ‬
‫وسل ّ‬‫تربز عالقة التضمني ( فدعها ِّ‬
‫المستوى الثاني‪ :‬التل ّفظ‪ ،‬ميكن قراءته يف ضوء سيميائيات التل ّفظ باالنتقال من الفصل املقامي إىل الوصل‬
‫فاملتأمل يف البيت احلادي عشر يكتشف فكريت الفصل والوصل عرب الفعلني اإلجنازيني ( فدعها)‬
‫املقامي‪ّ ،‬‬
‫اهلم عنك جبسرة)‬
‫وسل َّ‬
‫وهو فعل يُشري إىل الفصل بني مقام النسيب ومقام الرحيل‪ ،‬والفعل املضاف ( ِّ‬
‫وهو فعل يُشري إىل الوصل بني مقامي النسيب واملديح‪.‬‬
‫المستوى الثالث‪ :‬املرجع‪ :‬ميكن احلديث عن مرجعية اخلطاب هنا من خالل الوظيفة اليت يؤديها اخلطاب‪،‬‬
‫وهي وظيفة تواصلية هتدف إىل إجناز حدث ما‪ ،‬فال تكمن مرجعية اخلطاب يف املتكلّم‪ ،‬كما هو احلال يف‬
‫اخلطاب العاطفي‪ ،‬وال يف الواقع اخلارجي كاخلطاب العادي‪ ،‬وال يف الرسالة اليت ُيملها كما يف اخلطاب‬
‫الشعري‪ ،‬وإمنا تكمن يف وظيفته اإلجنازية‪ ،‬إجناز احلدث‪ ،‬فقد اهتم تركيز علقمة على لفت انتباه امللك‬
‫احلارث إىل ضرورة إطالق سراح شأس‪ ،‬واالنتفاع بقدرة اخلطاب على التأثري والعمل مبقتضاه‪.‬‬

‫المديح وشروط إنتاج الداللة‬


‫من املعروف أن خطاب املديح يف الشـ ــعر العريب القدمي قد اكتسـ ــب أمهيّةً بالغةً الرتباطه بتداول صـ ــورة‬
‫ظرا لكونه خطابًا ســياس ـيًّا يثري انتباه اجلماهري ويهتم‬
‫مثالية للمدوح‪ ،‬وغرســها يف املخيال اجلمعي؛ وذلك ن ً‬
‫بإبراز العالقات االجتماعيّة وال ّس ـ ـياسـ ــية‪ ،‬إضـ ــافة إىل تضـ ــمنه مالمح الذاكرة التارخييّة أحيانًا‪ ،‬واألسـ ــطوريّةً‬
‫ـورا منطية للممدوح ترتاوح بني القوة‬ ‫أحيانًا أخرى‪ .‬وســعى الشــعراء على مدار تاريخ الشــعر العريب لرســم صـ ً‬
‫التحول النوعي يف هذه الصـ ـ ـ ـ ــورة‪،‬‬
‫والشـ ـ ـ ـ ــجاعة والكرم ‪..‬إت ولكن الالفت لالنتباه يف خطاب علقمة هو ّ‬
‫فعندما تتعلّق قيمة املمدوح يف اخلطاب الشـعري باحلريّة‪ ،‬فإن اسـتحضار األفكار واملفاهيم املقرتنة بالصورة‬
‫معان حض ـ ــارية يف جمتمع‬ ‫وإدراكها‪ُ ،‬ميثّل أمنوذجا نوعيًّا داالًّ قابالً للتمثّل عرب عملية التخيل واس ـ ــتحض ـ ــار ٍ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫لي‪ ،‬وهو ما يثري االهتمام‪.‬‬
‫قَـبَ ّ‬
‫عما متّ‬
‫ضـ ـ ـ ـ ـا أن عملية التمثيل تتم بوص ـ ـ ـ ــفها بديال معرفيًّا عرب ملفوظات داخل اخلطاب‪ّ ،‬‬ ‫ومن املعروف أي ً‬
‫املعريف مرج ًعـا كليًّـا ُُييـل على مرجعيات إيديولوجيّة‬
‫متثّلـه ( احلريـّة) خـارج اخلطـاب؛ ليصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــبح هـذا البـديـل ّ‬
‫الثقايف للثقافات اليت أنتجت هذه الصور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تكشف عن السلوك‬

‫عرب بواسطة عالماته التلفظيّة‬


‫ننطلق يف هذا احملور من فرضية مفادها‪ ،‬أن خطاب املديح يف الشعر العريب يُ ِّ‬
‫عن فلسفة العالقة بني النخبة الثقافية‪ /‬الشاعر‪ ،‬والنخبة السياسية‪ /‬امللك احلارث‪ ،‬وتكاملهما يف إنتاج‬
‫كزا لعملية التل ّفظ مبا ميتلكه من سلطة القول والتأثري باخلطاب‪ ،‬واملمدوح ميتلك‬
‫املعىن‪ .‬فالشاعر ميثّل مر ً‬
‫سلطة الفعل بالقرار‪ ،‬ويتكامل االثنان – القول والفعل‪ -‬يف إجناز احلدث ( احلريّة) ممثّالً يف إطالق سراح‬
‫شأس‪ .‬واخلطاب هنا حدث إجنازي‪ ،‬يسعى إلجناز أفعال ختدم أطرافه‪ ،‬اخلطاب بوصفه حدثًا تارخييًّا‪،‬‬
‫يسجل مآثر احلاكم‪ ،‬واخلطاب بوصفه واسطة للمنح والعطاء‪ ،‬مينح املعىن قُبلة احلياة‪ .‬إنه خطاب يرمي إىل‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫بردها إىل جمال القيم الثقافية اخلالدة؛ وذلك عرب اإلحاالت على‬ ‫طرح مغامرات احلاكم وبطوالته ومآثره ّ‬
‫القيم بواسطة العالمات‪ .‬إن عملية التل ّفظ‪ ،‬هي اخنراط يف حوار يعين رفض القمع ومحاية اآلخر‪/‬‬ ‫هذه ِ‬
‫شأس يف أسره ووحدته‪ ،‬أي أن يضع مجيع أطراف اخلطاب كل منهم حريته موضع املسؤولية؛ ألن اللغة‬
‫هي السبيل إىل الوعي بالعامل‪ ،‬وهي القاسم املشرتك بني مجيع العالقات اإلنسانية‪ ،‬وتُظهر وجود الشخصية‬
‫املشاد هبا يف العامل بوصفها كينونة رمزية تُقيم يف العامل الرمزي ( اخلطاب) بوصفها منقذ ًة حلريات اآلخرين‪.‬‬
‫إن العالقة اجلدليّة مبعناها الفلسفي بني الشاعر واملمدوح داخل اخلطاب‪ ،‬ليست تعب ًريا عن عالقة الوعي‬
‫تطور مفهوم الوعي الربامجايت باخلطاب‪ ،‬من مفهوم اخلطاب باعتباره‬
‫أيضا تعبري عن ّ‬
‫بالتاريخ فحسب‪ ،‬وإمنا ً‬
‫إجنازا؛ ومن مثّة الوعي بأمهية الدور الربامجايت للخطاب يف احلياة‪ .‬إن‬
‫تعبريا‪ ،‬إىل مفهوم اخلطاب بوصفه ً‬
‫ً‬
‫خطاب املديح ال يسعى إىل إقحام الذات املتكلمة يف إطار منطق جاهز ‪ -‬كما يبدو يف القراءات‬
‫األوليّة‪ -‬بل يرمي إىل أن تعيش الذات املتلفظّة داخل اخلطاب كل مذهب‪ ،‬وأن حتيا كما تُريد؛ ألهنا‬
‫تستعيض بتجربتها عن جتارب اآلخرين‪ ،‬فهي تتقبّل جتارب اآلخرين وتفحصها كما يقدمها التاريخ‪،‬‬
‫تدعم توجهاهتا عرب ملفوظات متنحها دالالت خاصة داخل‬ ‫تستلهمها يف خطاهبا كحجج منطقيّة ّ‬
‫اخلطاب‪.‬‬
‫احلرية فحسب‪ ،‬بل يُضيف إىل وعينا‬
‫ال مينحنا خطاب املديح يف بائية علقمة معرفة شروط حتقق جتربة ّ‬
‫وعيًا إضافيًّا يتمثّل يف قدرة اخلطابات على إجناز جتارهبا ومشروعاهتا اخلاصة‪ ،‬إهنا ليست جتربة داخل‬
‫اخلطاب بقدر ما هي امتحان للحياة‪.‬‬

‫فاحلرية هي املوضوع اخلاص الذي تتأسس‬‫فعل الداللة يف خطاب املديح‪ّ ،‬‬ ‫إن معىن احلريّة هو الذي يُ ّ‬
‫عليه جتربة علقمة مع امللك احلارث‪ ،‬وهي ختتلف عن جتربته يف النسيب مع احملبوبة اليت تتجلّى يف حتقيق‬
‫توسالته ( فال حترمين‬
‫رغباته عرب حضور أشكال منتظمة من امللفوظات‪ ،‬أما جتربته يف املديح‪ ،‬فتتجلّى عرب ّ‬
‫جيدا أمهيّة هذه التوسالت ‪ -‬باعتبارها ممارسة فاعلة بني شخصني أحدمها‪/‬‬ ‫نائالً‪ )...‬ألن الشاعر يدرك ً‬
‫الشاعر ينتمي إىل خنبة من الشعب‪ ،‬واآلخر‪ /‬املمدوح يعتلي هرم املراتب االجتماعية ويتح ّكم يف مقاليد‬
‫التوسل‬
‫األمور‪ -‬يف استجالب عطف املمدوح إلجناز فعل التحرر لشأس؛ وهلذا ميكننا القول‪ :‬إن فعل ّ‬
‫اإلجنازي‪ ،‬ومشاعر العطف عند املمدوح يؤسسان خللق الداللة يف اخلطاب‪ ،‬وأهنما يتداخالن لتنظيم جتربة‬
‫وسل املسبوق بأداة النفي ( ال حترمين‪)...‬‬
‫الشاعر واملمدوح يف اخلطاب؛ ألن افتتاح الشاعر اخلطاب بفعل الت ّ‬
‫يُسهم يف طمأنة الشاعر بنجاح جتربة اخلطاب يف حل اإلشكاليات واألزمات؛ وذلك لطاقة هذا الفعل‬
‫التأثريية على املمدوح؛ حيث هتدف ال ّذات املتكلّمة هنا إىل تنظيم فاعليتها ضمن نظام مرتابط من‬
‫التوسل داخل اخلطاب يستهدف‬
‫جيدا أن فعل ّ‬‫التوسل"‪ .‬إن ال ّذات تدرك ً‬
‫العالمات اللغوية ضمن حقل " ّ‬
‫مشاعر امللك احلارث باستدرار عواطف الصفح والعفو‪ ،‬وذلك إلدراكها أن اآلخر ليس بالفعل هو ما تراه‬
‫التوسل‪ ،‬ميكن أن مينحها أفعاله على أرض‬
‫أيضا‪ ،‬وعندما يراها يف سياق ّ‬ ‫هي فحسب‪ ،‬بل فيما يراها ً‬
‫‪52‬‬
‫التوسل املسبوق‬
‫الواقع؛ ألنه حباجة إليها بقدر حاجتها إليه طب ًقا لثنائية السيِّد والعبد عند هيجل‪ .‬ففعل ّ‬
‫بال النافية‪ ،‬يرفع مرتبة املمدوح إىل مرتبة األلوهيّة ‪ -‬ال سيما إذا ما وضعنا يف االعتبار ما ينطوى عليه‬
‫طقسا من‬
‫التوسل يف الديانة الوثنيّة باعتباره ً‬
‫الشطر الثاين من معىن الغُربة‪ -‬وذلك ملا ينطوي عليه معىن ّ‬
‫التقرب إىل اآلهلة ميارسها العبد للحصول على متطلباته!‬
‫طقوس ّ‬
‫رمزا لتفعيل الداللة‪ ،‬وذلك على خالف من شخصية الرقيب اليت‬‫وتأيت شخصية املمدوح هنا باعتبارها ً‬
‫احلرية ممثلة يف إطالق سراح شأس‪،‬‬
‫رمزا لقمع الداللة‪ ،‬والداللة هنا هي ّ‬
‫حضرت يف النسيب باعتبارها ً‬
‫احلرية بأفعال املمدوح والعكس‪.‬‬
‫حيث ترتبط ّ‬

‫وميكننا إدراك دور شخصية املمدوح يف تفعيل الداللة من خالل فسح اجملال أمامنا لدراسة عملية التل ّفظ‬
‫تكون عملية التل ّفظ جمموعة من احلقول املعرفيّة يف اخلطاب ميكن تأويلها‬ ‫يف خطاب علقمة؛ حيث ِّ‬
‫أفضت‬
‫سيميائيًا‪ ،‬وكذلك يع ّد " التسليم" أي تسليم األمر للملك احلارث يف البيت التايل ( وأنت امرؤ َ‬
‫إليك أمانيت ‪ -‬أي انتهت إليك‪ )-‬استمر ًارا هلذا التنظيم الفاعل من قِبَل الذات املتكلِّمة‪ ،‬باإلعالن عن‬
‫منح الثقة الكاملة للطرف اآلخر‪ /‬املمدوح يف التفويض إلجناز احلدث‪ .‬وحدث املقارنة يف الشطر الثاين‬
‫من البيت نفسه ( وقبلك ربتين فضعت ربوب – أي ملكتين أرباب امللوك فضعت حىت صرت إليك‪)-‬‬
‫يزيد من ثقة الشاعر يف امللك احلارث إلجناز احلدث‪ ،‬والقسم املتبوع بأداة الشرط يف البيت التايل عالمة‬
‫تفعل داللة الثقة يف قدرات امللك احلارث‪ ،‬الذي بفضله حتقق النصر لقومه‪.‬‬
‫لفظية على ممارسة اجتماعية ّ‬

‫‪ 52‬راجع‪ ،‬هيجل‪ ،‬علم ظهور العقل‪ ،‬ترمجة مصطفى صفوان‪ ،‬دار الطليعة ( بريوت) ( ‪1821‬م) ص ‪.142 :141‬‬
‫تقع املمارسات السابقة ضمن خطة الذات املتلفظة داخل اخلطاب لتحقيق مأرهبا‪ ،‬أضف إىل هذا‪ ،‬أن‬
‫املكونات الداللية للخطاب‪ ،‬ويعتربها فرانسوا راستييه ‪Francois‬‬‫هذه املمارسات متثّل ركائز يف ِّ‬
‫‪53‬‬
‫فعالة يف مستوى إنتاج النصوص وتأويلها‪:‬‬ ‫‪ّ Rastier‬‬
‫املكون املوضوعايت بإدماج‬
‫جتميعا مبنيًّا للسمات الداللية‪ ،‬وبدوره يقوم ِّ‬
‫املكون املوضوعايت‪ :‬وهو يناظر ً‬ ‫ِّ‬
‫مكون املعىن احملوري‪.‬‬
‫ِّ‬
‫التطورات املتالحقة‪.‬‬
‫املكون اجلديل‪ :‬ويعاجل الفواصل الزمنية املمثَّلة‪ ،‬و ّ‬
‫ِّ‬
‫املكون احلواري‪ :‬ويؤسس لنمطيّة املتلفظني‪.‬‬
‫ِّ‬
‫النصي)‪.‬‬
‫املكون التكتيكي‪ :‬ويُعىن بالتموضع اخلطي للوحدات الدالليّة ( التنظيم ّ‬
‫ِّ‬

‫املكون عرب عملية‬


‫(املكون املوضوعايت) ويتحقق هذا ِّ‬
‫احلرية ِّ‬
‫فاملوضوع األساس الذي يطرحه اخلطاب هو ّ‬
‫(املكون اجلديل) وتتمثّل يف املقارنة بني امللك احلارث وغريه من امللوك‪ ،‬ينتصف الشاعر فيها للملك‬
‫جدليّة ِّ‬
‫احلارث على غريه عن طريق منولوج حواري ( وأنت امرؤ ‪ )...‬يُظهر فيه قدرات امللك احلارث على إجناز‬
‫(املكون التكتيكي)‪ .‬فالذات املتلفظة‬
‫احلدث‪ ،‬وتدخل هذه املمارسات ضمن اسرتاتيجيا تنظيم اخلطاب ِّ‬
‫متارس فاعليتها داخل اخلطاب ضمن خطة اسرتاتيجية واضحة إلجناز احلدث ( احلريّة) عرب ممارسات "‬
‫أيضا‬
‫جيدا من أي موقع تتكلّم‪ ،‬وتعي ً‬‫التوسل"‪ " ،‬منح الثقة"‪ " ،‬املقارنة"‪ .‬إن الذات املتلفظة هنا تعي ً‬
‫ّ‬
‫كيف ال تسمح لنفسها بأن تنخدع مرة أخرى فتصبح خارج املواقف احلياتية ( وقبلك ربتين فضعت‬
‫متاما مع العودة إىل احلياة ( إطالق سراح‬
‫جيدا أن النداءات للملك احلارث‪ ،‬تتطابق ً‬
‫ربوب)‪ ،‬إهنا تعي ً‬
‫التحرر على الشخص الذي تتحقق مبقتضاه‪.‬‬‫شأس) إىل احلريّة‪ ،‬إهنا تسعى يف خطاهبا إىل عرض الفعل ‪ّ /‬‬
‫املكون املوضوعايت يف هذا اخلطاب‪ ،‬يطرح رؤية جديدة لتمثّل العامل؛ وذلك بتصوير ذات امللك‬
‫إن ِّ‬
‫احلارس بوصفها متعالية‪ ،‬فيها من الكمال ما يتعارض ويتناقض مع النقص الذي بداخل غريه ( فو اهلل‬
‫أسريا؛ إن الذات هنا تُع ّد‬
‫لوال فارس اجلون ‪ ...‬آلبوا خزايا‪ )...‬هي الذات اليت يلجأ إليها كل من يقع ً‬
‫عالمة على سلطة املق ّدس الثقايف احملدِّد ملاهيّة الرؤية الثقافية للعامل‪ ،‬واستمدت الذات مشروعيتها من‬
‫قدرهتا على إجناز فعل اخلطاب‪.‬‬

‫يتوفر خطاب علقمة على ملفوظات هلا أبعادها السيميائية اخلاصة؛ حيث تستدعي هذه امللفوظات‬
‫ِّ‬
‫وتشكل هذه‬ ‫موضوعات تراثية‪ ،‬أو أسطورية تفصلها مئات بل آالف السنني عن زمن إنتاج اخلطاب‪،‬‬

‫‪ 53‬ماري آن بافو‪ ،‬وجورج سرفايت‪ ،‬النظريات اللسانية الكربى‪ :‬من النحو املقارن إىل الذرائعية‪ ،‬ترمجة حممد الراضي‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية ( املنظمة العربية للرتمجة) ( بريوت) ط‪ 1‬مارس ( آذار) ( ‪8018‬م) ص‪.142 ،141‬‬
‫امللفوظات حقوالً معرفيّة داخل اخلطاب‪ ،‬ميكن تأويلها سيمائيًّا مبا يسمح بالتق ّدم خطوات إىل األمام حنو‬
‫اكتشاف طرائق نوعية جديدة لدراسة املعىن داخل اخلطاب؛ ومن مثة ميكننا طرح السؤال التايل‪ :‬هل ُُيكم‬
‫القوة اليت‬
‫حبرية ويطرح مفاهيمه اجلديدة واخلاصة به؟! ما ّ‬ ‫اخلطاب بالتاريخ؟ أم أنه خارج التاريخ يُكتب ّ‬
‫صنعت اخللفيّة املعرفيّة للخطاب؟ من الذي يصنع السيموزيس داخل اخلطاب؟ هل هي األطر املرجعيّة؟‬
‫دائما بني‬
‫أم سياق اخلطاب؟ أم املتلقي؟ اخلطاب يتألّق باملفاهيم والرموز‪ ،‬واملتخيّل التارخيي‪ .‬اجلدل قائم ً‬
‫اخلطاب وعناصره‪ ،‬إن صريورة املعىن يف خطاب املديح تكشف عن خضوع الشاعر وخطابه‪ ،‬للتارخيانية‪،‬‬
‫تبعا‬
‫متحول من خطاب آلخر ً‬‫حتوالهتا؛ ولذا فاملعىن يف املديح ِّ‬
‫أي اخلضوع لنظام األنساق يف ثباهتا ويف ّ‬
‫ملنظومة الرؤى واألفكار اخلاصة بكل خطاب‪ ،‬ويستعني خطاب املديح جبهاز من امللفوظات ذات‬
‫التصورات األسطوريّة تعمل ضمن قوانني خاصة قبل استدعائها‬
‫احلموالت الثقافيّة‪ ،‬واإلُياءات الدينية‪ ،‬و ّ‬
‫يف شكل عالمات تقوم مقام هذه األفكار السابقة على اخلطاب‪ ،‬فعبارة ( فقاتلتهم حىت اتقوك بكبشهم)‬
‫ذات محولة دينية‪ /‬ثقافية‪ ،‬وكلمة ( كبشهم) تشري إىل امللك املنهزم وهو املنذر بن ماء السماء‪ ،‬وتستدعي‬
‫هذه العبارة فكرة ( كبش الفداء) املعروفة يف قصة سيدنا إبراهيم مع ولده إمساعيل‪ ،‬وهو استدعاء له داللته‬
‫اخلاصة يف سياق اخلطاب الشعري‪ ،‬فإذا كان ( الكبش) كان ِهبة السماء افتداءً إلمساعيل عليه السالم‪،‬‬
‫فإن املناذرة ق ّدموا ملكهم فديّة للعفو عنهم!‪.‬‬
‫إن اإلشارة إىل قصة سيدنا إبراهيم – عليه السالم‪ ( -‬حىت اتقوك بكبشهم) بعد الفعل املاضي (‬
‫فقاتلتهم) تعبري عن اإلمعان يف تصوير سلطة املق ّدس الثقايف ( ذات امللك احلارث) وجعلها تكتسي‬
‫وتقربًا هلذه الذات املقدسة‪ ،‬هذا هو ما‬
‫توددا ّ‬
‫شرع لتسيل الدماء ً‬
‫دالالت خاصة داخل اخلطاب‪ ،‬فالقتال يُ ّ‬
‫ابتدعته خميلة اخلطاب؛ ليؤدي دوره الفاعل يف تكثيف الداللة الثقافية للذات املمدوحة‪.‬‬

‫وملفوظات البيت (‪ُ )11‬حتيلنا على قصة أهل مثود عندما عقروا الناقة‪ ،‬فأهلكهم اهلل بالصاعقة‪ ،‬وهذه‬
‫أيضا‪ ،‬وهي وضع أهل مثود وما ناهلم من عذاب‪ ،‬وأهل املنذر‬ ‫إحالة هلا دالالهتا اخلاصة يف هذا السياق ً‬
‫بن ماء السماء يف قرن داليل مشرتك من اهلالك والدمار‪ ،‬والتشبيه يف البيت التايل يؤكد ذلك؛ حيث يرسم‬
‫الشاعر صورة لسفك الدماء يف املعركة ويشبهها باملطر والصواعق اليت تنزل من السماء فتبلل أجنحة الطيور‬
‫فال تستطيع الطريان!‪.‬‬
‫وملفوظات البيت ( ‪ُ )11‬حتيلنا إىل طقوس وشعائر الزواج‪ ،‬فنجد امللك احلارث وقد " ُخضبت يديه‬
‫بالدماء السائلة على حد السيف مثل خضاب احلنّاء‪ .‬وملا كان ختضب اليدين باحلنّاء من شعائر الزواج‬
‫ّ‬
‫نستطيع أن نرى يف هذه الصورة بني بعث احليوية اخلصب عن طريق سفك الدماء يف احلرب من ناحية‪،‬‬
‫واخلصب واإلحياء عن طريق الزواج وإجناب األوالد من ناحية أخرى‪ ،‬وكما نرى يف اجلِماع املق ّدس يف‬
‫‪54‬‬
‫الطقوس املومسية‪ ،‬يُفهم فض بكارة العروس بأنه نوع من التضحية بالدم من أجل إنتاج حياة جديدة"‬
‫يطالعنا الشاعر يف األبيات ( ‪ :85‬هناية القصيدة) مبجموعة من الصفات والنعوت‪ ،‬ينعت هبا الشاعر‬
‫املتأمل يف امللفوظات‬
‫امللك احلارث‪ ،‬ويربز فيها بطوالته وبسالته يف مواجهة األعداء واالنتصار عليهم‪ ،‬و ّ‬
‫املؤسسة للخطاب يف هذه األبيات ( تقدمه حىت تغيب حجوله ـ وأنت لبيض الدارعني ضروب ـ فقاتلتهم‬
‫ِّ‬
‫حىت أتقوك بكبشهم ـ ختشخش أبدان احلديد عليهم ـ كأن رجال األوس حتت لبانه ـ رغا فوقهم سقب‬
‫السماء فداحض ـ كأهنم صابت عليهم سحابة ـ فلم ينج إال شطبة بلجامها ـ وأنت الذي أثاره يف عدوه‬
‫‪ )..‬يكتشف أهنا حماوالت تلفظيّة لالستيالء على عواطف املمدوح‪ ،‬واالستحواذ على قدراته وتسخريها‬
‫حلماية اآلخرين والدفاع عنهم؛ هبدف حتقيق مطالب الشاعر‪.‬‬
‫إن قراءة الشاعر لبطوالت املمدوح ال تقتصر على حبث الشاعر عما يهمه‪ ،‬إهنا تسعى للكشف عن‬
‫السريورة احليّة ألعمال امللك احلارس‪ ،‬فاألعمال البطولية اخلالدة – ال سيما اليت تتعلّق باحلريات‪ -‬تتجاوز‬
‫حدود السياق التارخيي والسياسي‪ ،‬بل إن الشاعر يقف عند امللك احلارث باعتباره‪:‬‬
‫يب‬ ‫مسا ٍو ‪ ،‬وال ٍ‬ ‫ِ‬
‫ذاك قَر ُ‬
‫دان لَ َ‬ ‫ُ‬ ‫وما مثْـلُهُ يف النَّاس إال قبيلُهُ‬

‫ويعزه‪ ،‬فالقيمة املعرفية يف البيت السابق‪،‬‬


‫يشرفه ّ‬
‫عزه‪ ،‬فهو ال يذل أسريه‪ ،‬وال يهينه‪ ،‬بل ّ‬
‫أي ال يدانيه أحد يف ّ‬
‫تتجاوز مقصد القول إىل دالالت جمازية‪ ،‬فاألخالق – أي أخالق امللك احلارث‪ -‬حتيا يف اخلطاب‬
‫كثريا من معاناة الشاعر وُيقق مقاصد اخلطاب‪.‬‬
‫حضورا متعاليًّا‪ ،‬ونداءً من شأنه أن ُي ّد ً‬
‫ً‬ ‫باعتبارها‬

‫القيم اإلنسانية القدمية‪ ،‬هي النبع املتجدد الذي يستقي منه خطاب اإلشادة مفاهيمه عن األشياء‬ ‫إن ِ‬
‫والشخصيات‪ ،‬ومن هنا ميكننا القول‪ :‬إن الداللة داخل اخلطاب‪ ،‬تستمد حيويتها وفاعليتها من شروط‬
‫أمرا هيّـنًا‪ ،‬ال سيما إذا ما وضعنا‬
‫الثقافة اليت أنتجتها؛ ولذا فإن الوقوف على الدالالت داخل اخلطاب ليس ً‬
‫يف االعتبار أن ال ِقيَم الثقافية ميكن أن تكشف يف نظامها الثقايف عن كثري من املفاهيم داخل نظام عقلي‬
‫مجعي‪ ،‬وعندما تنتقل هذه املفاهيم من حمضنها الثقايف إىل سياقها اخلطايب‪ ،‬تكتسي بدالالت نوعيّة هلا‬
‫القيَم عندما تتحول إىل مفاهيم داخل اخلطاب‪،‬‬‫بريقها اخلاص داخل اخلطاب لتحقيق مقصد ما؛ وهلذا فإن ِ‬
‫وتنوع الداللة‪ ،‬فاستعمال املفهوم يف اخلطاب‪،‬‬
‫متحولة وغري ثابتة‪ ،‬وذلك بفعل عملية التل ّفظ ّ‬
‫تصبح بدورها ّ‬
‫ينحو به‪ ،‬أو جيعله يقول مامل يقله من قبل‪.‬‬

‫‪ 54‬ـ راجع سوزان ستيتكيفيتش‪ ،‬أدب السياسة وسياسة األدب‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫إن وضوح اآلخر‪ /‬املمدوح يف اجلهاز املفاهيمي للخطاب‪ ،‬واختزال ممارساته يف األخالقيات‪ ،‬يفتح‬
‫اخلطاب على نوع خاص من الداللة‪ ،‬ويؤطّر املعىن يف سياق ِ‬
‫القيَم األخالقية العربية؛ وذلك هبدف حتقيق‬
‫الغايات واملقاصد من اخلطاب‪ ،‬وهي ممثلة يف إطالق سراح شأس‪ ،‬فالذات املتكلّمة تنظر إىل اخلطاب‬
‫على أنه العامل املثايل الذي يتجاوز مجيع األنساق القامعة‪ ،‬املفاهيم اجلاهزة‪ ،‬يتجاوز األشياء من خالل‬
‫استنطاق مضامينها ومرجعياهتا من خالل ذات متعالية‪ ،‬تسعى لرسم أفق جديد للواقع يتفق مع تعاليها‪.‬‬

‫أخريا‪ ،‬فإن العالقة بني الذات املتلفظة وموضوع اخلطاب‪ ،‬هي عالقة برامجاتية؛ وذلك لتحقيق مقاصدها‬
‫و ً‬
‫وغاياهتا يف احلياة‪ ،‬وليس املطلب األخالقي شرطًا من شروط اخلطاب اإلبستمولوجية‪ ،‬بقدر ما هو فكر‬
‫وتساؤل يتجاوز دائما احلدود واألزمان مبا جيعله مؤهالً لتحقيق غايات الذات املتلفظة‪ ،‬وحرص الذات‬
‫املتلفظة على إبراز البُعد األخالقي للممدوح يف املديح‪ ،‬يؤكد وعيها باألخالقيات اليت ميكن أن حتمي‬
‫اجلميع‪ ،‬وجتعلهم يف مأم ن من شرور بعضهم‪ .‬إن هذه املمارسة اخلطابية للفهم اإلنساين‪ ،‬واليت تشق جمراها‬
‫داخل خطاب املديح‪ ،‬تعد عالمة على تعايل الذات املتلفظة وتوجهاهتا اإلدراكية داخل خطاهبا؛ ألهنا‬
‫تسعى إىل فهم اآلخر ( احملبوبة ـ املمدوح ـ القبيلة) بناء على جتارب حياتية سابقة؛ ومن مثة يغدو اآلخر‬
‫اختزاالً يف مقوالهتا‪ ،‬فإذا كانت الذات املتلفظة هي منشئة اللغة‪ ،‬فإن اآلخر هو حمضن املعىن‪.‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫أمنوذجا‬
‫ً‬ ‫مهما يف تشييد سيميائية اخلطاب‪ ،‬بوصفها‬
‫دورا ً‬
‫إن البنية املوضوعية خلطاب اإلشادة‪ ،‬تؤدي ً‬
‫قادرا على تنظيم اخلطاب وفق معطيات قادرة على استيعاب الواقع‪ ،‬باإلضافة إىل قدرهتا على استيعاب‬
‫ً‬
‫شبكة من العالقات املع ّقدة مع النظام الثقايف الضارب جبذوره يف أعماق التاريخ‪ ،‬وتُدمج هذه املعطيات‬
‫يف سياق داليل تلفظّي‪ ،‬يسهم يف كفاية املتل ّفظ ( الشاعر) وكفاية املتلفَّظ له ( احملبوبة أو املمدوح)‪.‬‬
‫فالشاعر خيوض مغامرة تل ّفظية الستجالب عواطف اآلخر عرب نظام تلفظّي ُيمل إشارات وعالمات‪،‬‬
‫املتحولة‪ .‬وقد ركزنا جهدنا يف‬
‫تكشف عن مهارة املتلفِّظ يف فهم العامل‪ ،‬والوعي بالثقافة وأنساقها الثابتة و ّ‬
‫هذا البحث على االهتمام مبا يُعرف بـ ( احملفل اخلطايب) أي دراسة عملية التلفظ وأثرها على املتلفِّظ له‪،‬‬
‫فعملية التلفظ تصاحب الداللة حيثما وجدت‪ ،‬فاهتمت الدراسة بالرتابطات اخلطابية ( امللفوظات‬
‫اإلجنازية) وانتقاء امللفوظات احملورية يف اخلطاب‪ ،‬واليت تش ّكل عصب اخلطاب؛ ومن مثة تأويل إحاالهتا‪،‬‬
‫وحتوالته يف اخلطاب‪.‬‬
‫وإبراز دورها يف تش ّكل املعىن ّ‬

‫إن إقامة تقارب بني الفعل اللغوي والفعل التلفظي رغم تباين مرجعيتيهما منهجيا وإبستمولوجيا‪ ،‬كان‬
‫مبثابة الرهان املعريف احلقيقي هلذه الدراسة؛ ومن مثة كان الرتكيز على مقاصد املتكلم‪ ،‬والوعي بأن عملية‬
‫التلفظ ميكن أن تُفيد من توجهات السيمائية على حنو ما من خالل البحث يف عالقتها باملرجعيات و ِ‬
‫القيم‬ ‫ّ‬
‫الثقافية اليت ش ّكلت املعىن‪ ،‬ومراجعة منزلتها ودورها الستثمارها يف جمال اإلقناع والتطويع وإنتاج املعىن من‬
‫خالل دراسة عملية الداللة؛ ألن النظر إىل عملية التلفظ كفعل يتش ّكل من خالله املعىن عرب إحاالته على‬
‫مرجعيات خمتلفة‪ ،‬ميثّل احملور األساس لسيميائيات التلفظ يف حتليل اخلطاب‪.‬‬

You might also like