Professional Documents
Culture Documents
bahithoun@gmail.com
السيميائيات الثقافية
تفعيل األنساق وقمع الدالالت
أ.د /عبد الفتاح يوسف
تكشف سيميائيات التل ّفظ عن قفزة معرفيّة يف جمال الدراسات السيميائية؛ وذلك باالنتقال من
سيميائيات اللغة إىل سيميائيات اخلطاب ،بوصفه – أي اخلطاب -عمليّ ًة تلفظيّةً تقتضي متكلِّ ًما يتوجه
متلق هبدف التأثري فيه ،وتتمثّل هذه القفزة يف إجراءين:
بالقول إىل ٍّ
األول :االنتقال بالدرس السيميائي من التأويلية احملضة إىل التماس قرائن تلفظيّة يف التأويل ،عندما تُفسح
اجملال أمام دراسة فعل التل ّفظ والعمليات التلفظيّة .فلم يعد يقتصر الدرس السيميائي على البحث يف
مفتوحا أمام دراسة عمليات التل ّفظ
العالقة بني الدال واملدلول واملرجع يف النص فحسب ،بل أصبح جماالً ً
مهما يف دراسة الداللة.
دورا ً
وما تنطوي عليه من أبعاد داللية ،تؤدي فيها الذات املتكلمة ً
الثاني :االعتماد على نظام مرتاكم من املعارف واالسرتاتيجيات تستوعب النماذج املختلفة للتأويل ،ومبا
مينح السيميائية القدرة على التفاعل والتواصل مع املعارف اجلديدة؛ ومن مثة قدرهتا على االستمرارية.
اهلوة املعرفية اليت تفصل بني العالمة ،ونظام اخلطاب ،واليت كانت سببًا يف كثري من إشكاليات تأويل
إن ّ
املعىن ،تسعى سيميائيات التل ّفظ إلىى ملء فراغها؛ حيث مل يعد يكتسب امللفوظ معناه من بنية كتابته،
أو من جماله املعجمي الذي ينتسب إليه فحسب ،بل من عالقته بالذات املتكلمة ،ونظام اخلطاب،
واحلدث أو الواقعة الثقافية للخطاب ،فتأويل امللفوظ يف سيميائيات التل ّفظ جيب أن خيضع ملوضوع املعرفة
يف اخلطاب ،وموضوع املعرفة يف خطاب علقمة ،يتمثّل يف حادثة اجتماعية ( أسر شأس) وهتدف ملفوظات
فعلها ،رمبا
اخلطاب إىل حتقيق قيمة إنسانية ممثلة يف ( احلريّة) .إنه خطاب ال يُنتج القيمة فحسب ،بل يُ ِّ
التوجه الوقوع يف مأزق مقاصد القارئ ومقاصد املؤلف ،باالنتقال إىل االهتمام بآليّات تش ّكل
جينبنا هذا ّ
امللفوظ يف اخلطاب ،وحتليله يف سياق مقاصد اخلطاب ،ألن عملية التأويل يف سيميائيات التل ّفظ ال تعتمد
على معيارية مقاصد القارئ أو املؤلف ،وإمنا تعتمد على وصفيّة مقاصد اخلطاب ،وهي ممارسة نقدية
تعتمد على الوصف الظاهرايت مللفوظات اخلطاب.
ُُيِّرك هذا البحث الفكر يف اجتاه مراجعة دالالت احلقل املفاهيمي السائد عن خطاب اإلشادة /املديح
الشعري يف األدب العريب القدمي ،وإعادة تأويله يف ضوء املعرفة اليت توفّرها سيميائيات اخلطاب ،وإثنوغرافيا
التواصل -اليت تنطلق من اعتبار اللغة ظاهرة ثقافية تؤدي جمموعة من الوظائف -وذلك عرب إثارة عدد
من اإلشكاليات حول ال ّذات ،والواقع ،واملرجع يف اخلطاب الشعري؛ وذلك بفسح اجملال أمام دراسة فعل
التلفظ والعمليات التلفظيّة ،وهو ما يُعرف بسيميائيات التل ّفظ يف اخلطاب ،أي إعطاء فعل التل ّفظ والعملية
التلفظيّة مكانًا يف اخلطاب املدروس ،وهي عمليّة تفرتض وجود متكلّم ومستمع ،يهدف األول التأثري يف
الثاين ،شريطة أن يكون الطرف الثاين على وعي كامل بداللة ملفوظات الطرف األول ،وتأويلها يف سياقها
املناسب ،األمر الذي جيعل الداللة احلقيقية للعالمة يف اخلطاب قابلة للفهم ،وحتصينها من سوء الفهم.
وهو ماينزل هذا اخلطاب منزلته املتميّزة من التواصل.
ُُييل خطاب اإلشادة على الواقع الثقايف عرب الداللة اليت يبنيها الواقع إلنتاج املعىن؛ وذلك بوضعه يف
سياق ثقايف يرسم معامله .إن خطاب اإلشادة ،هو واسطة تعبريية تستوعب العالقة بني الثقافة واجملتمع،
فالقيَم الثقافية جتد يف اخلطاب مال ًذا آمنًا إلعادة التش ّكل وبناء عالقات جديدة يف سياق خطايب ُيفظ ِ
هلا امتداداهتا وتأثريها عرب التاريخ؛ ألن هذا اخلطاب نتاج لعالقة وثيقة بني الثقافة ووعي املبدع؛ وهذا
يدعونا إىل القول :إن البحث يف قضايا األدب مرهتن بِِقيَم الثقافة ،فاألدب يُعيد إنتاج قِيَم الثقافة ولكن
تكزا معرفيًّا أساسيًّا هلذه الدراسة.
يف طورها املتعايل ،وهذه املقولة متثّل مر ً
إن خطاب اإلشادة ليس خطابًا إخباريًّا ،بل هو خطاب وصفي إقناعي يكشف عن طبيعة العالقة
بني السلوك غري الكالمي ،والسلوك الكالمي – حسب تعبري هاريس -Z.Harrisولذلك فإن دراستنا
هلذا اخلطاب سرتكز على دراسة العالقة بني اللغة بوصفها عالمات سيميائية دالة على آثار ثقافية ،والثقافة
بوصفها مرجعية تتسلل ِحبيَلها داخل اخلطابات؛ ومن مثة ميكننا التعامل مع فعل التل ّفظ يف خطاب اإلشادة
بوصفه عالمة ُحتيل ضمنيًّا على بِنيات ثقافية تتجلّى فيها خمتلف وظائف هذا اخلطاب .أقصد خبطاب
اإلشادة ،ذلك اخلطاب الذي تُشيد فيه الذات املتلفظة باآلخر ( املديح /الغزل /الرثاء) أو بالذات الفردية
أو اجلماعية ( الفخر) ،ولكن ملاذا التسمية :خطاب اإلشادة؟
إن اإلشادة حالة من حاالت إعجاب الذات بنفسها أو باآلخر ،فاإلنسان كائن يهوى ويرفض ،يطمح
ينفك عن عالقته باآلخر؛ ألنه كائن اجتماعي تسكنه مشاعر
ويطمع ،يسمو وينحدر ..وال ميكن أن ّ
جتاه اآلخر واألشياء .فالرغبات ،واألطماع ،والطموحات ،سلطات داخليّة ُمتارس سطوهتا وهيمنتها على
تتوجه
الذات ،وتتم ّكن الذات من تفريغ مكبوتاهتا من هذه الطاقات عن طريق امللفوظات داخل خطاب ّ
تعرب عن
يتوجه مبلفوظات ّ
لتعرب هبا عن مشاعرها ناحيته .فالشاعر يف النسيب ّ به إىل اآلخر أو العامل؛ ّ
يتوجه الشاعر
رغباته ومشاعره جتاه احملبوبة إلرضاء عواطفها أمالً يف الفوز هبا ،وكذلك احلال يف الرثاء ّ
يتوجه مبلفوظات
تعرب عن مشاعره جتاه شخص عزيز مفقود ،رغبة يف ختليد ذكراه .ويف املديح ّ مبلفوظات ِّ
تؤثّر يف املمدوح مبا ميلكه من كلمات ،ميكن من خالهلا معادلة العالقة بني سلطة اخلطاب والسلطة
يتوجه مبلفوظات إىل ال ّذات إلعالء
السياسية احلاكمة ،األمر الذي رمبا مينحه منزلة اجتماعية ،ويف الفخر ّ
شأهنا مبا مينحه االستقرار النفسي ،أو إىل الـ ( حنن) مبا مينحه االستقرار االجتماعي.
ميكننا التمييز بني ثالثة مظاهر يف منوذج النسق اإلنتاجي خلطاب اإلشادة :إنتاج ،تداول ،اشتغال
اجتماعي .واحلديث عن العالمات يف هذا السياق ،أمر بديهي خاصة عندما يتعلق األمر خبصائص دالة
داخل اخلطاب ترتبط بشروط اإلنتاج أو بشروط الثقافة؛ وذلك من أجل حتديد أسباب وجود اخلطاب
ومربرات إنتاجه .فالشاعر /املتل ّفظ يبين اآلخر -احملبوبة يف الغزل ،واملمدوح يف املديح ،واملفقود يف الرثاء،
والقبيلة أو الذات يف الفخر -من خالل موضوع امللفوظ ومعناه .فعملية التل ّفظ يف خطاب اإلشادة،
تسعى إىل إضافة أفعال أو معارف إلقناع املتلفَّظ له بواسطة املتلفِّظ /الشاعر ،وعلى هذا ميكننا القول :إن
املتضمنة يف فعل التل ّفظ تنتقل من فاعل فعل القول /الشاعر ،إىل فاعل متقبِّل القول
َّ األفعال واملعارف
وهو املتلفَّظ له /احملبوبة أو املمدوح أو القبيلة والذات .إن عملية التل ّفظ يف خطاب اإلشادة ،هي فعل
تواصل يسعى إىل إضافة أفعال ومعارف م ّد ّعمة حبجج وبراهني إىل املتلفَّظ له؛ هبدف اإلقناع ،أو
االستدالل ،أو الربهنة ،وهو ما ينزل خطاب اإلشادة منزلته من االسرتاتيجيا احلجاجية.
التوجه إىل البحث يف طبيعة العالقات اإلبستمولوجية بني األنساق الثقافية اليت متّ يف إطارها
يهدف هذا ّ
تتحرك على مدار التاريخ؛ حيث ميكننا جتاوز احلديث عن النظرة إنتاج اخلطاب ،وشروط اخلطاب اليت ّ
التقليديّة لآلخر يف خطاب اإلشادة إىل تناوله باعتباره ِحيلة ثقافية بني طرفني خمتلفني – الشاعر املشتاق
إىل احملبوبة يف الغزل ،والشاعر احملتاج أمام املمدوح يف املديح ،والذات املتباهية أمام اآلخر يف خطاب
الفخر ُيصرمها النسق الثقايف يف وضع تراتيب ( احملبوبة جبماهلا والشاعر خبطابه -املمدوح بسلطته السياسية
والشاعر خبطابه ـ القبيلة بسلطتها االجتماعية والشاعر خبطابه) تبحث فيه الذات عن خطاب ُيقق مأرهبا
القوة اليت ستؤهله للحصول على حاجاته. القوتني ،فاخلطاب سالح األعزل ،وهو ّ يف تالشي احلدود بني ّ
فهل ينجح اخلطاب الشعري يف معادلة القوى بني الطرفني؟ حيث ال تتق ّدم احملبوبة إىل الشاعر خبطاب،
وإمنا متنحه التفاتة أو نظرة ،وال يتق ّدم اخلليفة املمدوح خبطاب للشاعر ،وإمنا مينحه أمواالً أو سلطات مقابل
اخلطاب ،وال يأيت اآلخر خبطاب ليُعظّم من شأن الذات يف الفخر ،بل متنح اجلماعة منزلة عليا للشاعر
مقابل خطاب الفخر ،فاملنح قاسم مشرتك بني اخلطابني :املال ،واملنزلة االجتماعية .فهل ميكننا اعتبار
مسارا لغويًّا يتحرك داخل اخلطاب إلنتاج الداللة ،بعد أن أصبح شكالً من أشكال السلوك فعل املنح ً
حتول مبرور الزمن وفعل اخلطاب إىل قانون داخل اجملتمع؟ هل ميكن اعتبار فعل املنح ( سيموزيس)
الثقايف ّ
يتحرك داخل اخلطاب إلنتاج الداللة؟!
ويسعى البحث إىل اإلجابة عن التساؤالت التالية:
كيف ميكننا فهم طبيعة النقلة اإلبستمولوجية داخل اخلطاب من الوعي الفردي إىل الوجود
اجلمعي من خالل دراسة امللفوظ؟.
كيف ميكننا فهم طبيعة احلوار بني الثقافة واخلطاب اإلبداعي؟.
كيف ميكننا فهم الفعل الثقايف بوصفه ( سيموزيس) ّ
يتحرك دالليًّا داخل اخلطاب؟.
مدخل
أسئلة حول املفاهيم األساسية
محاولة في التنظير لموضوع الخطاب
1دانيال تشاندلر ،أسس السيميائية ،ترمجة طالل وهبة ،مركز دراسات الوحدة العريب ( املنظمة العربية للرتمجة) (
بريوت) ط8002 ( 1م) ص.442
2
تتحول هبا خربة احلياة البشرية
وبنسبها الطبيعي" .وتطرح أسئلة حول " نظام القواعد السيميوطيقية اليت ّ
تتضمن بناء نظام
إىل ثقافة :هل ميكن التعامل مع هذه القواعد على أهنا برنامج؟ .إن كينونة الثقافة ذاهتا ّ
نص .ولكي يوضع أي حدث تارخيي يف صنفه النوعي ،فإنه ينبغي من القواعد لرتمجة اخلربة املباشرة إىل ّ
عنصر متميّـٌز يف اللغة [ وهذا
وجودا حيًّا ،وأن يُفصح عن ماهيته ٌ
أن يُعرتف به قبل كل شيء بوصفه ً
املؤولة فاعليتها يف فهم داللة هذا األثر ،ومعرفة
العنصر اللغوي هو الذي ُُييل على األثر ،ومتارس الذاكرة ّ
الشروط اليت استجاب هلا يف أصلها؛ ومن مثة إعادة بناء إنتاجه األصلي] ها هنا يكون تقومي ذلك احلدث
يسجل ،أي
حسب كل الروابط املتسلسلة لتلك اللغة ،وهذا يعين أنه – أي احلدث التارخيي /األثر -س ّ
عنصرا ثقافيًّا؛ ومن مثّة فإن غرس حقيقة يف الذاكرة اجلمعية إمنا مياثل الرتمجة من
سيكون يف نص الذاكرة ً
لغة إىل لغة أخرى ،ويف حالة الغرس هذه تكون الرتمجة إىل لغة الثقافة" 3.ويقول كلود ليفي شرتاوس
Claude Lévi-Straussعامل االجتماع الفرنسي املعروف " :إن اللغة تبدو يل مبثابة الواقعة الثقافية،
وذلك على ع ّدة أشكال:
أوالً :ألن اللغة جزء من الثقافة ،فهي إحدى االستعدادات اليت نتلقاها من الرتاث احمليط.
ثانيًا :أن اللغة هي األداة األساسية ،والوسيلة املتميزة اليت تتمثّل بواسطتها ثقافة اجملموعة اليت تنتمي إليها.
ثالثًا :ألن اللغة هي أكثر مظاهر النظام احلضاري اكتماالً ،هذه املظاهر اليت تش ّكل بصورة أو بأخرى
أنساقًا .فإذا أردنا أن نفهم ما هو الفن ،أو الدين ،أو القانون ،ورمبا املطبخ ،أو قواعد اللياقة؛ فإنه علينا
4
نتصورها كقواعد تتش ّكل عرب متفصل العالمات".
أن ّ
إن سيميائيات الثقافة هتتم بتأويل عالمات اخلطاب يف سياق مرجعيّاته الثقافية وأطره الفكرية ،وتتعامل
موضوعا
ً مع اللغة بوصفها كائنًا حيًّاُ ،ييا يف سياق عالقات متبادلة إلنتاج الداللة ،وإذا كانت اللغة ال تع ّد
مستقالً يف ذاته عن الثقافة؛ فإن الثقافة ال تع ّد فضاءً معرفيًّا يوجد خارج اللغة أو العالمات غري اللغوية؛
ولذلك تُع ّد الثقافة جماالً سيميائيًّا تشتغل فيه العالمات ،واللغة يوصفها عالمة ،تكتسب محولتها املعرفيّة
من الثقافة .و" التحليل السيمائي للنسق االجتماعي يهدف اىل استكشاف نظام العالقات داخل اجملتمع
وعلى اخلصوص عالقات األفراد وحاجاهتم هلذا جند أن األنظمة اليت سادت يف اجملتمع البشري هلا من
2يوري لومتان ،وبوريس أوسبنسكي ،حول اآللية السيميوطيقية للثقافة ،ترمجة عبد املنعم تليمة ،ضمن كتاب :أنظمة
العالمات :مدخل إىل السيميوطيقا ،إشراف سيزا قاسم ،ونصر حامد أبو زيد ،دار إلياس العصرية ( القاهرة) ( 1821م)
ص.882
3املرجع السابق ،ص.888
4كلود ليفي شرتاوس ،اللغة هي اخلط الفاصل بني الطبيعة والثقافة ،ضمن كتاب ( الطبيعة والثقافة) ( )8نصوص خمتارة،
إعداد وترمجة حممد سبيال وعبد السالم بن عبد العايل ،دار توبقال ( املغرب) الطبعة الثانية ( 1881م) ص.81
متكن السيميائي من حتديد شرُية أو فئة أو طبقة اجتماعية ،ففي العالمات واألنظمة الرمزية الثقافية ،ما ِّ
طقوسا وعادات تتجلّى يف مجلة من العالمات والرموز ما تتميز به عن نظام اجتماعي
التنظيم العشائري نرى ً
5
آخر يف طرائق احلفالت واألعراس واملآمت واألعياد وغري ذلك من املظاهر الثقافية".
يرمي خطاب علقمة – مادة الدراسة -إىل حتريك الداللة وتفعيلها ،داللة ِ
القيَم الثقافية العربية ( العفو
لتتحول إىل أفعال على أرض الواقع بإطالق سراح شأس؛ وذلك ألن عند املقدرة ،والتسامح ،والكرمّ )..
الداللة " هلا عالقة بالفعل ،فالناس يقدمون على الفعل حسب الداللة اليت يسندوهنا إىل هذا الفعل.
الداللة رهان اجتماعي كبري .وقد سالت من أجل متلّكها دماء يف التاريخ ...عندما ُحتاصر الشرطة
مظا هرة ،فهي ال حتاصر املتظاهرين الذين قد تكون متعاطفة معهم ،ولكنها حتاصر الداللة اليت يعطوهنا
ملظاهراهتم" 6.فنجاح خطاب علقمة يف إعطاء داللة رمزية مهمة إلطالق سراح شأس باالعتماد على
ملفوظات تؤكد خصوصية الداللة ،هو الذي سيغري امللك احلارث على اإلقدام على فعل العفو؛ ألن
الفعل هنا يرتبط بأمهية الداللة الثقافية للحدث.
5ـ أمحد يوسف ،حتليل اخلطاب من اللسانيات إىل السيميائيات ،جملة نزوى ( سلطنة ُعمان) العدد ( )18أكتوبر (
1882م).
6الطاهر لبيب ،الثقافة واجملتمع :تفكيك العالقة وتعليق الداللة ،جملة الفكر العريب املعاصر ،مركز اإلمناء القومي (
بريوت) العددان ( )118 ،112ربيع /صيف ( 8001م) ص82
7ميشيل فوكو ،حفريات املعرفة ،ترمجة سامل يفوت ،املركز الثقايف العريب ( الدار البيضاء وبريوت) ( 1822م) ص.11
8إميل بنفنيست ،نقالً عن سعيد يقطني ،حتليل اخلطاب الروائي ،املركز الثقايف العريب ( بريوت) ،ط ،1ص.12
9السابق ،ص.18
10ظهر يف النقد الغريب احلديث كثري من األمساء الالمعة اليت تناولت مفهوم اخلطاب بالتعريف ،والتفسري ،والشرح،
والتحليل لعل من أبرزهم :هاريس ،وروجر فاولر ،وفرانسوا راستينيه ،وجرمياس ،ومنغينو ،وسارة ميلز ..وغريهم ،وحدود
البحث ال تسمح باستعراض هذه اآلراء .ومجيع هؤالء النقاد نظروا إىل اخلطاب من زوايا خمتلفة ،وميكن رصد بعض أوجه
باخلطاب عند ح ّد امللفوظ فقط ،بل انتقال به إىل وظيفته يف عملية التواصل ،ويف هذا التعريف دعوة إىل
االنتقال من دراسة اخلطاب باعتباره جمموعة من الرموز واإلشارات اللغوية هتدف إىل اإلخبار عن شيء
ما ،إىل اعتبار اللغة داخل اخلطاب عالمات عن فكر عميق خيتبئ خلف امللفوظات ،وهكذا تسعى
وجودا للفكر أكثر رقيًّا ،وكلّما انتقى الشاعر ملفوظاته ،كلّما
امللفوظات داخل اخلطاب إىل منح امللفوظ ً
كان تعبريه عن أفكاره بشكل أرقى وأمسى ،والعكس صحيح ،أضف إىل هذا الوظيفة التواصلية للملفوظات
داخل اخلطاب؛ ومن مثّة ميكن الرتكيز على الوظيفة التعبريية /التواصلية للغة داخل اخلطاب ،وهو ما ينطبق
متاما على خطاب اإلشادة ،فهو خطاب يتش ّكل نتيجة التعبري عن أفكار بني متح ّدث يشيد بإجنازات ً
آخر هو يف معظم األحوال املتلقي للخطاب هبدف التواصل.
ِّيد بالكسر
وإذا حبثنا عن معىن اإلشادة يف لسان العرب عن مادة ( ش ي د) يقول ابن منظور :الش ُ
ص َحه .وبناءٌ ص أَو بَالط ،وبالفتح :املصدر ،تقول :شاده يَ ِش ُ
يده َشْيداًَ :ج َّ ط من ِج ٍّ لي به احلائ ُ
كل ما طُ َ
ُّ
ِ
ورفْـعُه .قال :وقد
حكامه َ
ِ
ييد البناء :إ ُ ُح ِك َم من البناء ،فقد ُشيِّ َد .وتَ ْش ُ َمشي ٌد :معمول بالشِّيد .وكل ما أ ْ
ِ
ضَر َشْيداً .وامل ِش ُ
11
يد :املبين بالشِّيد. يُ َس ِّمي بعض العرب احلَ َ
َ
والتشييد يف خطاب اإلشادة هو تشييد للقيم العربية واإلنسانية ،أي إعادة إنتاج القيم اإلنسانية يف
اخلطاب ،أي نقلها من نظامها االجتماعي إىل سياقها اخلطايب .فاحلب قيمة إنسانية واجتماعية أُعيد
إنتاجها يف خطاب الغزل ،وكذلك العطاء قيمة إنسانية أُعيد إنتاجها يف خطاب املديح ،والذات اإلنسانية
قيمة استوعبها خطاب الفخر ،فخطاب اإلشادة يشمل :الغزل؛ ألن الشاعر يف هذا اخلطاب يشيد
باحملبوبة ،واملديح؛ ألن الشاعر يشيد باملمدوح .والفخر؛ ألن الشاعر يشيد بالذات الفردية واجلماعية.
واختياري لتسمية هذا اخلطاب بـ ( خطاب اإلشادة) 12يعود إىل األسباب التالية:
1ـ أنه خطاب يتضمن نظام القيم العربية؛ ومن مثة فهو خطاب يتمتع باحلد األقصى من االستمرارية من
وجهة نظر الثقافة املعنية ،وهو خطاب يتجاوز عنصر الزمن حبكم سلطته اإليديولوجية والثقافية ،ينطوي
االتفاق بينهم ،لعل من أبرزها وجهة نظر منغينو اليت تتفق إىل ح ّد كبري جدا مع وجهة نظر بنفنيست ،فيقول :كل متل ّفظ
تفاعلي’ تكوينيّة ،فهو تبادل صريح أو ضمين مع متكلمني ّ مرسل إليه ،هو يف الواقع داخل يف
ولو أُجنز بدون حضور َ
دائما حضور جهة تل ّفظ أخرى يتجه إليها املتكلّم ويبين خطابه بالنسبة إليها.
آخرين افرتاضيني أو واقعيني ،ويفرتض ً
صمود ،ومراجعة راجع باتريك شارودو ـ دومينيك منغنو ،معجم حتليل اخلطاب ،ترمجة عبد القادر املهريي ومحادي ّ
صالح الدين شريف ،دار سيناترا ( تونس) ( 8002م) ص.121
11راجع لسان العرب ال بن منظور مادة (شيد).
12تبلورت تسمية ( خطاب اإلشادة) أثناء مناقشة فكرية مع الدكتور أمحد حيزم؛ حيث طرح هذه التسمية ،فحازت
اهتمامي ،وتكررت املناقشة بيين وبينه حىت اقتنعت متاما هبذه التسمية ،وبدوري أتقدم له خبالص الشكر ،وأمتىن أن
يقتنع القراء هبذه التسمية وما قدمته تفسريات هلا.
على نظام شفرات تضمن له استمراريته؛ ألنه ُيفظ ذاكرة املاضي الستيعابه القيم الثقافية اليت حتفظ
للجماعة والذات هويتها وكينونتها.
تعبريا عن قِيَم اجتماعية وثقافية سابقة،
يعرب عن ثقافة معيارية؛ حيث تبدو تيمات اخلطاب بوصفها ً 8ـ ّ
نظاما من املقاييس والقواعد اليت حتكموهي ختتلف عن الثقافة الدينية اليت تطرح نفسها باعتبارها ً
اخلطابات.
1ـ أنه خطاب ُيتوي " الفعل التواصلي" حسب فلسفة هابرماس االجتماعية؛ حيث يؤّكد " كل عمل
حمدد الغاية :وذلك بقدر ما تعتمد األطراف االجتماعية اسرتاتيجيات ناجعة ومعقلنة لتحقيق اإلمجاع.
ومع ّدل :بقدر ما يقع دوران العمل رهني املعايري اليت ُمتليها اجملموعة اليت تنتمي إليها هذه األطراف .وذاتيّة
تبادليّة بقدر ما تُربز األطراف االجتماعية ذاهتا لتُحدث ،وهي تق ّدم لآلخر صورة ما عنها ،ضربًا من التأثري
13
فيها".
موجه حنو غاية معينة وميكن أن ُيقق غايات أخرى إضافيّة.
1ـ أنه خطاب ّ
4ـ يبين ذاتًا متلفظة ختتلف عن الذات اليت تقع خارج اخلطاب.
يف املديح ،يذهب الشاعر إىل املمدوح وهو يعلم أنه لن يقتل الفقر إال خبطاب يسلب عقل املمدوح،
ويف الغزل ،يعي الشاعر أنه لن يُطفئ نار عواطفه إال بواسطة خطاب يستويل على فؤاد احملبوبة ،وكذا يف
يسجل مآثرها وفضائلها .لكن كيف الفخر ،يعي الشاعر أنه لن ينال رضا اجلماعة إال بواسطة خطاب ّ
يستويل الشاعر على عقل املمدوح ،وقلب احملبوبة ،ورضا اجلماعة؟
نعلم أن عالقة الشاعر باحلاكم ختتلف عن عالقته باحملبوبة واجلماعة ،واجلميع حباجة إىل الشاعر بقدر
حاجة الشاعر إليهم ،وهو ما ينزل خطاب اإلشادة منزلته من التواصل ،والعالقة بني أطراف اخلطاب
متكافئة؛ ألن ثراء املال عند احلاكم يقابله ثراء الكلمات وقيمة اخلطاب عند الشاعر ،وكذا احملبوبة واجلماعة،
14
يقول أبو متّام:
َع ِج ٌل َو َحـ ــادي َسائِ ٌق يَليها ت أَبْ َك َار املعانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي
ك بَـ َعثْ ُ 1إٍلَْي َ
لِْلجم ِ
اجـ ـ ـ ـ ـ ِم واهل ـَ ـ َـوادي ََ َه َوادي َ 8ج َوائَِر على ذُنَاىب ال َق ْوِم َحْي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى
16حممد ناصر العجيمي ،موقع السيميائيات من مناهج البحث الغريب احلديث ،جملة سيميائيات ،دورية حمكمة تصدر
عن خمترب السيميائيات وحتليل اخلطاب ،جامعة وهران /اجلزائر العدد ( )8خريف 8001م ص .82
ال ميكننا – إ ًذا -جتاهل العالقة بني الذات املتل ّفظة والعالمات اليت تستخدمها؛ ألن عملية التلفظ
تُع ّد من األسس اليت تقوم عليها املمارسة السيميائية داخل اخلطاب ،وعملية التل ّفظ تتكون من :متلفِّظ،
وملفوظ ،ومتلفَّظ له .املتلفِّظ ،وهو ُمنتج اخلطاب .وامللفوظ يتوجه به املتل ّفظ إىل متلفَّظ له إلمتاعه
جبماليات اللغة ،أو إلقناعه .وامللفوظ يف السيميائية ُُييل إىل البنية املرجعية ،ويقرتن بعملية تواصل بني الـ
مهما يف عملية جناح
دورا ً " أنا" وال الـ " أنت" ،أو بني الـ " أنا" والـ " حنن" ويؤدي السياق الثقايف ً
التواصل؛ وذلك الستيعابه الشفرات اليت ميكن من خالهلا تأويل املعىن .وجيب االنتباه إىل أن السيميائية
تتبىن مبدأي
التوجه تتبنّاه التداولية ،ولكنها ّ
ال تتعامل مع عملية التل ّفظ بوصفها فعال تواصليًّا ،فهذا ّ
املقصدية والكفاية .املقصديّة ،وهي العالقة بني األطراف الثالثة اليت تستطيع الذات من خالهلا بناء
تصور جديد للعامل ،فاملتل ّفظ ال يتعامل مع امللفوظ باعتباره وسيلة للتواصل ،بل أداة للتطويع
نفسها ،وبناء ّ
املعتز :دراسة يف ضوء علم اخلطاب ،دار صامد للنشر والتوزيع ( تونس) ( أمحد حيزم ،التعبري االستعاري يف شعر ابن ّ
18
8018م) ص.12
19أوزفالد ديكرو ،التل ّفظ ،ترمجة صابر احلباشة ،ضمن كتاب لسانيات اخلطاب ،جمموعة مقاالت مرتمجة ،دار احلوار (
سوريا) ط8010 ( 1م) ص.11
20أمربتو إيكو ،العالمة :حتليل املفهوم وتارخيه ،ترمجة سعيد بنكراد ،املركز الثقايف العريب وكلمة ( بريوت والدار البيضاء)
الطبعة األوىل (8002م) ص..824 ،821
االجتماعي ،وإلقناع املتلفَّظ له ،أو إلبالغه معرفة ما ،ويتلقى املتلفَّظ له امللفوظ بإعمال خلفياته املعرفية
لفهم امللفوظ واستيعابه ،وإعمال طاقاته الذهنية ملعرفة مقصديته بعد فك شفراته وتأويله يف سياقه اخلاص،
وإذا كانت املقصديّة عند الفالسفة هي فعل العقل إلدراك املوضوع ،فإنه ميكننا القول :إن املقصدية يف
السيميائية هي فعل العقل لتأويل املعىن ،فالرمز اللغوي ال يتحدد معناه إال من خالل معرفة قصد املتل ّفظ/
املرسل ،فاملقاصد ترتجم إىل مجل وملفوظات ،وغاية املقاصد هي استدعاء فهم املخاطب وإبالغه معىن
ويتم التعبري عنه بعالمات ُحتيل
دركه اخلاصّ ، ما .فكل ملفوظ هو فعل من أفعال الشعور قصدي ولديه ُم َ
يعرفها جون سريل (" ) John Rogers Searle إىل املعىن /املقاصد أو الغايات .والقصديّة كما ّ
وجه هبا احلاالت العقلية أو تتعلّق هبا حاالت عقليّة ،أو تشري إليها ،أو هتدف حنوهاهي مسة العقل اليت تُ َّ
السمة أن الشيء ال ُيتاج أن يوجد فعليًّا متثّله حالتنا الشعورية .هكذا ميكن للطفل
يف العامل .ومما ُمييّز هذه ِّ
أن يعتقد أن سانتا كلوز سيأيت باهلدايا مساء عيد امليالد ،وإن كان سانتا كلوز ال يوجد" 21.ويرى بول
ريكور ( " ) Paul Ricoeurإن الفعل األول للوعي هو املعىن ،والقصديّة هي فعل حتديد هذا املعىن
تتوسط عالقة الوعي باألشياء" 22.وفعل التل ّفظ يف خطاب اإلشادة هو فعل قصدي؛ ألن بالعالمة اليت ّ
املتلفِّظ يقصد التواصل مع املتلفَّظ له من خالل فعل تواصلي هو " التل ّفظ" ،فالشاعر يسعى إىل التواصل
مع اآلخر ( املمد وح يف خطاب املدح) ( واحملبوبة يف خطاب الغزل) ( واجلماعة أو الذات يف خطاب
الفخر) ..هذا من ناحية ،ومن ناحية أخرى ،فإن املتلفِّظ يسعى من خالل ملفوظة أن يعرف املتلفَّظ له
اهلدف من عملية التل ّفظ؛ ولذا ال تظهر ال ّذات املتلفظة يف فعل التل ّفظ يف خطاب اإلشادة من خالل
ضمري املتكلّم فحسب ،بل عن طريق ضمري املخاطب ،أي العامل الثاين الذي يظهر من خالله ضمري
املتكلّم ( عالقة املتلفِّظ باملتلفَّظ له) ،وكذلك األفعال املتضمنة يف امللفوظات.
وميكننا تعريفها بأهنا سلسلة متتالية امللفوظات داخل اخلطاب اللغويُ ،حتيل على عدد من املمارسات
جيدا
موجها آلخر يعي ً
الثقافية ،يستدعيها املتلفِّظ إلنتاج خطاب له مقاصده وغاياته اخلاصة باعتباره ً
تتحول هذه امللفوظات إىل أفعال سيميائية قولية حتمل شفرات للمتلقي
هذه املقاصد والغايات؛ حيث ّ
يفهمها ويرتمجها إىل أفعال.
ذا كان خزانه المعجمي أكثر سعة من خزانه.
كيف يمكن رصد المعنى في السيموزيس؟
21جون سريل ،العقل واللغة واجملتمع ،ترمجة سعيد الغامني ،الدار العربية للعلوم ( ناشرون) ( بريوت) ومنشورات االختالف
( اجلزائر) واملركز الثقايف العريب ( بريوت والدار البيضاء) الطبعة األوىل ( 8001م) ص.108
22راجع ،إديث كريزويل ،عصر البنيوية ،ترمجة جابر عصفور ،دار سعاد الصباح ،الكويت ،الطبعة األوىل ( 1888م)
ص.112
تتحول هبا
ئيسا يف الدراسات السيميائية؛ ألنه يكشف عن الكيفيّة اليت ّ مفهوما ر ً
ً يُع ّد السيموزيس
األشياء إىل عالمات ،وكذلك عن طبيعة اإلحاالت بني العامل اخلارجي واخلطابات ،وكيفيّة إعادة تشكيل
هذه العوامل داخل اخلطاب من جديد .إن هذه العوامل ال تدخل اخلطابات إال عن طريق اإلحاالت الرمزية
تصورات جديدة داخل اخلطابات ،يتك ّفل السيموزيس بالكشف عن السريورة اليتاألمر الذي قد مينحها ّ
تؤدي إىل إنتاج داللة ما عن عامل ما أو شيء ما داخل اخلطاب.
يرتكز املعىن يف نظر السيميائيني حول مفهوم" السيموزيس " .semiosisويعد شارل سندرس بريس
أول من حتدث عن مفهوم السيموزيس وحدد معامله يف جمال السيميائيات وهو يف نظره " سريورة يشتغل
من خالهلا شيء ما كعالمة" وتستدعي ،من أجل بناء نظامها الداخلي ،ثالثة عناصر هي ما يكون العالمة
ويضمن استمرارها يف الوجود :ما يقوم بالتمثيل (ماثول) وما يشكل موضوع التمثيل (موضوع) وما يشتغل
23
كمفهمة تقود إىل االمتالك الفكري " للتجربة الصافية " ( مؤول)".
جهودا كبرية يف
ً يُع ّد شارل سندرس بريس Charles S. Peirceمن أهم املفكرين الذين بذلوا
تطوير الدرس السيميائي باالعتماد على الطروحات الفلسفية السيما عند ( أوجست كونت) و ( هيجل)،
وكذلك ال ميكن إغفال أنه يعد أول من استخدم مفهوم السيموزيس متأثـًّرا يف ذلك بفلسفة ( جون لوك)
وعرفه بأنه " تلك السريورة اليت يشتغل مبوجبها شيء ما باعتباره عالمة" 24.وعلى هذا فإن السيموزيس
ّ
أفكارا سابقة ،يتم
هو عملية تشكيل العالمة داخل اخلطاب اإلبداعي الذي يُع ّد حدثًا تارخييًّا يستوعب ً
استيعاهبا داخله بواسطة العالمات اللغوية ،وتنظر السيميائيات الثقافية إىل الثقافة بوصفها جمموعة من
املمارسات الدالة ،وتسعى الدراسة السيمائية إىل الكشف عن داللة هذه املمارسات داخل احلقل الثقايف
عرب امللفوظ ،فاملعىن يتشكل يف أفعال التل ّفظ ،حيث يتضمن فعل التل ّفظ جتارب ثقافية ،ميكن اتنباطها
عن طريق امللفوظ ومساته وخصائصه اللغوية يف اخلطاب.
23نقال عن سعيد بنكراد ،السيموزيس القراءة والتأويل ،جملة عالمات العدد (1882 ( )10م).
24نقالً عن ،هواري بلقنوز ،مدخل إىل السيميائيات التداولية ( إسهامات بريس وشارل موريس) ،امللتقى الثالث :السيمياء
والنص األديب 80 /18 ( ،أفريل 8004م) كلية اآلداب والعلوم االجتماعية واإلنسانية ـ جامعة حممد خيضر /بسكرة ـ
اجلزائر.
األنساق الثقافية ،والقصة حتكي باختصار :أن علي بن اجلهم كان بدوياً جافياً ،فقدم على املتوكل العباسي،
25
فأنشده قصيدة افتتحها بقوله:
يس يف قِر ِاع اخلُ ِ
طوب َوَكالتَ ِ ك لِ ُلود لب يف ِح ِ
فاظ َ َنت َكال َك ِ
أ َ
فتعجب احلاضرون من هذا القول ،ولكن املتوكل عرف حسن مقصده وخشونة لفظه ،وأنه ما رأى ّ
سوى ما شبهه به ،لعدم املخالطة ومالزمة البادية ،أي باختالف النسق الثقايف البدوي الذي ينتمي إليه
على بن اجلهم ،حيث يدل اللفظان ( الكلب والتيس) على معنيي الوفاء والقدرة على مواجهة الشدائد،
ولكنهما يف النسق الثقايف احلضري يدالن على ٍ
معان سلبية ال تليق مبقام اخلليفة املتوّكل .فأمر املتوكل له
بدار حسنة على شاطئ دجلة ،فيها بستان مجيل ،يتخلله نسيم لطيف يغ ّذي األرواح ،واجلسر قريب منه،
وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به ،فكان -أي ابن اجلهم – يرى حركة الناس ولطافة احلضر ،فأقام ستة
أشهر على ذلك ،واألدباء يداومون على جمالسته وحماضرته ،مث استدعاه اخلليفة بعد مدة لينشده ،فأنشده:
حيث أ َْد ِري وال أ َْد ِري
ُ ْب اهلوى من
َجلَ ْ َ افة واجلِ ْس ِر
عيو ُن املها بني الرص ِ
َ َ
فقال املتوكل :لقد خشيت عليه أن يذوب رقّة ولطافة .وميكننا استنتاج حقيقة مهمة من هذه القصة
دائما للمؤلف وال ألهوائه ،وما يهمه من اخلطاب هو امللفوظات وما تصنعه منوهي أن املتلقي ال يُذعن ً
حد كب ٍري يف فهم مقاصد معان داخل اخلطاب ،كما أن وعي املتلقي باالختالف الداليل يسهم إىل ٍّ
بالتنوع الداليل للملفوظات داخل اخلطاب يسهم بقد ٍر كب ٍري يف إساءة
اخلطاب؛ ألن عدم وعي املتلقي ّ
خارجا للصيد ،وكان الرجل يف ِ
فهم مقاصد اخلطاب .وقصة الرجل الذي أتى أحد ملوك محَْري ،فوجده ً
ب ( أي اجلس) فقفز الرجل من أعلى اجلبل ،فمات ،وحني استغرب ِ
أعلى قمة اجلبل ،فقال له امللك :ث ّ
امللك من تصرف الرجل ،شرحوا له أن الوثب يف غري اللهجة احلمرييّة يعين القفز .وهذا يعين أن داللة
ب" يف ثقافة احلمرييني ،تعين ( اجلس) وبلغة عرب الشمال تعين ( اقفز ) .وهاتان القصتان ِ
كلمة " ث ّ
وتنوع دالالهتا داخل األنساق الثقافية.
تربهنان على كيفية منو العالمات ّ
إن شبكة الرموز والعالمات اليت تش ّكل خطاب اإلشادة يف الشعر العريب تُعطي معىن نوعيًّا خمتل ًفا إذا
ما حاولنا تفسريها يف إطار عالقتها بأنساق الثقافة العربية عن العامل والوجود آنذاك .وعلى هذا ميكننا
25القصة أوردها حممد أمحد جاد املوىل ،قصص العرب ،اهليئة العامة لقصور الثقافة ( مصر) ( .8008م) راجع اجلزء
الثالث ص .882
القول :إن العالمة /الدال اللساين يف اخلطاب ،تنطوي على ٍ
معان متعددة رغم التشابه املوجود بني ثقافات
العرب املختلفة ،وعلى السيميائي اكتشاف ما وراء هذه العالمات والرموز من ٍ
معان .عليه اكتشاف
القوانني ،أو اإلشارات ،أو الدوال املنتجة هلذه املعاين يف سياق عالقتها باألنساق الثقافية السائدة ،واليت
أسهمت بشكل فاعل يف تداوهلا داخل اخلطابات؛ وكما يقول ( يوري لومتان Yu M.Lotman
خاصا مييزها ...
وبوريس أوسبنسكي :) B.A.Uspenskyإن كل ثقافة تارخيية إمنا تنتج منطًا ثقافيًّا ً
نظاما عامليًّا ،بل هي نظام فرعي يتش ّكل طبق منط خمصوص" 26.ومن مثة ميكن احلصول على وهي ليست ً
نوعي عن طريق تفسري اآلليّات اليت تشتغل هبا الثقافة ،واسرتاتيجيات تسللها داخل اخلطاب،
معىن ٍّ
وفاعليتها يف تكوين معىن اخلطاب.
إن املديح والفخر والغزل والرثاء كظواهر ثقافية ال ميكن اختزاهلا إيل جمموعة من األفكار اجملردة املفصولة
عن ثقافة السياسية واألنا الفرديّة واجلمعية باعتبارها ظواهر ثقافية /اجتماعية /سياسية عرفتها اجملتمعات
العربية ،ألن التش ّكل التارخيي هلذه الظواهر ينطوي على دالالت ثقافية وخميال اجتماعي وسياسي أَلَِفهما
العقل العريب ،ومتثّل ركنًا أساسيًّا من بنية العقل األخالقي العريب على حد تعبري اجلابري عندما حصر
حمددات العقل العريب يف " :القبيلة ـ الغنيمة ـ العقيدة" 27.حيث تُشري القبيلة إىل طبيعة العالقات
وتعرب العقيدة عن إميان العقل العريب باملعتقدات سواء
االجتماعية ،ونظام االنتماء والوالء االجتماعينيّ ،
ُيرك النفس اإلنسانية باجتاه األطماع الدنيوية،
أكانت ديانات مساوية أم إيديولوجيات ،وتأيت الغنيمة كإغراء ّ
مع الوضع يف االعتبار االنتباه إىل أمهية الدور الذي تلعبه العقيدة يف العقل العريب كغطاء إيديولوجي يربر
لإلنسان واحلكام بالتحديد ممارساهتم؛ لذا ميكننا الكشف عن فعاليات جديدة ملوضوعات خطب اإلشادة
يف الشعر العريب القدمي من خالل دراسة العالقة بني ملفوظات اخلطاب ،وأفعال ِ
القيَم الثقافية ،وإيديولوجيا
حتوالت احلِيَل الثقافية إىل أنظمة خطابية هلا قدرهتا اخلاصة على اإلقناع من خالل ملفوظات املنح؛ لفهم ّ
توضع يف سياقات خطابية متنحها القدرة على إنتاج معىن خمتلف ُيقق مأرب الذات املتلفظة داحل
اخلطاب ،ومكانة اجتماعية داخل اجملتمع؛ ألنه ليس من املقبول الفصل بني اللغة والثقافة ،فعالقة اللغة
بالثقافة " مسألة أساسية .ويف املطبوعات األوىل جلامعة تارتو ( ( ) Tartuجمموعة السيموطيقا) حددت
الظواهر الثقافية على أهنا أنظمة ثانوية مش ّكلة وفق مناذج -وهو ما يوحي بطبيعتها االشتقاقية يف عالقتها
26يوري لومتان ،وبوريس أوسبنسكي ،حول اآللية السيميوطيقية للثقافة ،ترمجة عبد املنعم تليمة ،ضمن كتاب :أنظمة
العالمات :مدخل إىل السيميوطيقا ،إشراف سيزا قاسم ،ونصر حامد أبو زيد ،دار إلياس العصرية ( القاهرة) ( 1821م)
ص.881 ،885
27العقل السياسي العريب :حمدداته وجتلّياته ،مركز دراسات الوحدة العربية ( بريوت) ط 8000 ( 4م) ص 42ـ .58
باللغة الطبيعية -بنسبها الطبيعي ...ويع ّد بنفنيست اللغات الطبيعة وحدها أنظمة سيميوطيقية
28
نفسر عالمات اجملتمع من خالل
خالصة" .ويؤّكد ( بنفنيست) يف سياق آخر " إننا نستطيع أن ّ
29
مفسر للمجتمع".
صحيحا .فاللغة هي ّ
ً عالمات اللغة ،وليس العكس
إذا كان استجالء املعىن عند األنثروبولوجيني ُيدث عرب دراسة السلوك البشري ،والظواهر االجتماعية،
فهل من املمكن استجالء املعىن يف السيميائيات الثقافية عرب دراسة امللفوظ بوصفه فعالً لغويًّا ناجتًا عن
تبىن
ذات؟ ألن الذات املتكلّمة يف اخلطاب تبحث عن املعىن من خالل فعل التلفظ ،وهذا ما جعلنا ن ّ
املقاربة السيميائية يف حتليل خطايب املديح والفخر يف األدب القدمي بالرتكيز على سيميائيات التل ّفظ ،اليت
تعتمد بالدرجة األوىل على املدلول يف بناء املعىن ،فبدون املدلول ال ميكن بناء املعىن يف السيميائيات،والذات
املتكلمة هي اليت جتت هد يف بناء املعىن عن طريق جتاوز نقل الدال هبدف طرح جمموعة من الدالالت عرب
قيما داللية تُفصح
امللفوظات تعرب عن جتارب فردية يف املديح ،ومجاعية يف الفخر ،وهذه امللفوظات حتمل ً
عن ثقافة ما ،ونظام حياة ،ومكانة اجتماعية ،وانتماء جغرايف ،وعقائد دينية ،فاللباس واملأكل واملشرب،
عالمات على قيم اجتماعية وثقافية ودينية ال ميكن جتاهلها يف السيميائيات؛ ألن االكتفاء بدراسة الدال
فقط يعين االكتفاء بوصف األشياء والظواهر ،فالدال يف السيميائيات ليس سوي وسيط لتوصيل املعىن،
فكيف ميكن االكتفاء به للحصول على املعىن؟!
وهذا ما يُعطي املقاربة السيميائية خصوصيتها ،فهي تركز على املدلول؛ ألنه ليس سجني معىن واحد/
أحادي املعىن ،وهو ينفتح على تأويالت وقراءات متعددة ،بينما يفضل البنيويون الدال على املدلول باعتباره
تأثرا بليفي شرتاوس عندما اهتم "
األصل ،واملدلول التابع ،ويسهم الدال بشكل فاعل يف تشكيل البنيةً ،
بالدال /األصل على حساب املدلول /املتعدد " ألن الدال الواحد الب ّد أن ينتج مدلوالت خمتلفة لشخصني
خمتلفني ،مدلوالت حتمل مكاناً داللياً خمتلف احلدود بسبب اختالف التجارب ،كذلك سينتج الدال
الواحد مدلوالت خمتلفة للشخص الواحد يف أوقات خمتلفة ،ألن تركيب العالقات القائمة يف املكان الداليل
غري ثابت ،والبنيوية تدعونا لالستمتاع بتعددية املعاين اليت ينتجها لنا ذلك ،ولرفض التفسري األحادي أو
30
التعسفي للرموز".
30جون سرتوك ،البنيوية وما بعدها :من ليفي شرتاوس إيل دريدا _ ترمجة جابر عصفور _ الكويت اجمللس الوطين
للثقافة والفنون واألداب1881 ،م ص.85.
حتليل اخلطاب
تشكّل موضوعات الخطاب:
كيف يكون بوسع عملية اإلشادة بذات املمدوح أن متيّز اخلطاب وجتعله ذا قيمة تنافسية أمام املادي
خاصا من العالقات
نظاما ً
النفيس؟ كيف تستطيع امللفوظات /العالمات أن تنشيء بني أطراف اخلطاب ً
بتكون موضوع ذي خصوصية؟ ملاذا امللفوظات مقابل القيمة /احلريّة؟يسمح ّ
اإلجابة عن هذه األسئلة ،ال تتعلّق مبعرفة اآلليّات اليت مبقتضاها ميكن للملفوظات أن متثّل بعضها
بعضا ،بل يتعلّق األمر مبعرفة أسباب تش ّكل موضوعات هلا قيمتها يف احلياة – احلرية يف هذا السياق-
ً
عدا اجتماعيّا خارج اخلطاب ،كما يتعلّق األمر بطرحواحلاجة إىل متثيلها داخل اخلطاب؛ وذلك ملنحها بُ ً
سؤال حول كيفية منح اخلطاب قيمة ما مللفوظاته عرب إحاالهتا.
أن مينح اخلطاب قيمة مللفوظاته /عالماته ،يعين – عند السيميائيني -أن يساوي شيئًا آخر – على
اعتبار أن العالمة حتل حمل شيئ غائب -وأن هذه العالمات لديها من القوة ما يؤهلها للقيام بإجناز املهمة/
مقاصد اخلطاب بقدراهتا اإلجنازية والتمريريّة .إن التبادل يف عملية املقايضة يتم على أساس اعرتاف كل
طرف بقيمة ما ميلكه الطرف اآلخر .فهل احلريّة كمعىن اجتماعي تقابل يف قيمتها امللفوظات داخل
اخلطاب؟ اإلجابة هنا بـ ( ال) لسبب بسيط وهو أن احلريّة كمعىن حباجة إىل اخلطاب كي حتافظ على
استمراريتها يف احلياة ،وأن معناها -معىن ِ
القيم اإلنسانية -يتجدد يف احلياة عرب امللفوظات ،وامللفوظات
داخل اخلطاب حباجة إىل القيمة كي تستمر فعاليتها وتأثريها يف متلقيها " كي ميثّل شيء ما شيئًا آخر
داخل عملية مبادلة ،يلزم أن يوجد هذان الشيئان حمملني بقيمة ،ومع ذلك فالقيمة ال توجد إال داخل
التمثيل ( الفعلي أو املمكن) ،أي داخل املبادلة أو قابلية التبادل ،يطرح هذا إمكانية قراءتني متآنيتني:
إحدامها حتلل القيمة داخل فعل املبادلة ذاته ،يف نقطة تالقي الشيئني املتبادلني ،والثانية حتللها كشيء سابق
31
أويل حلدوثها".
على املبادلة وكشرط ٍّ
القيم اإلنسانية تكتسب دالالت جديدة عرب استعماهلا يف اخلطاب ،وامللفوظات متارس فعاليتها إن ِ
من خالل إجنازها هلذه الدالالت؛ ومن مثّة قوهتا يف التأثري ،فلكي تستمر ِ
القيم اإلنسانية ،ال ب ّد من وجود
حرية شأس قبل اخلطاب جمرد وهم ،ولكنها بفعل ِ
خطابات حتيا فيها هذه القيم؛ ألن الناس حباجة إليهاّ ،
حتولت إىل حقيقة عرب تش ّكلها يف موضوع ،احلريّة بيد امللك احلارس ،وامللفوظات واخلطاب بيد اخلطاب ّ
كل حباجة ملا بيد اآلخر ،ميكن -من خالل البحث يف هذه العالقات -التق ّدم حنو فهم أعمق علقمة ،و ٍّ
لدراسة تش ّكل املوضوعات داخل اخلطاب.
31ميشيل فوكو ،الكلمات واألشياء ،ترمجة مطاع صفدي وآخرون ،مركز اإلمناء القومي ودار الفارايب ( بريوت) ط8
كانون الثاين ( .8011م) ص.882
حتول/
إن خطاب اإلشادة يف الشعر ،هو حدث إبداعي عاشته الثقافة العربية قدميا – وما زالت – وهو ّ
انتقال الشخص املشاد به بوصفه كينونة رمزية من العامل الواقعي ،إىل العامل الرمزي ( اخلطاب) ،وهبذا املعىن
يؤِّكد خطاب اإلشادة البُعد الرمزي للشخصية املشاد هبا ،إال أن هذا احلدث د ّشن – يف الوقت نفسه-
ُ
عما هو خارج اخلطاب ،أي سؤال حول مصدر اخلطاب وأصله ،وهذا يفتح الباب لسؤال إبستمولوجي ّ
مؤخرا لطرح تساؤالت وفرضيات حول مرجعياته وعالماته على مصراعيه أمام النقد الثقايف ،والسيميائيات ً
كثريا من اجلدل
ومقاصده وغاياته ..وقد متخضت حماوالت النقد الثقايف عن سلسلة من النتائج أثارت ً
حوهلا 32.وميكننا اإلشارة إىل أن السيميائية ميكن أن تقدم نتائج ال حمدودة حول خطاب اإلشادة؛ ذلك
تفسريا ثقافيًّا للظاهرة داخل اخلطاب فحسب ،وإمنا تبحث يف كيفية تش ّكل
ً أهنا ال تق ّدم تأويالً ،أو
املوضوعات داخل اخلطاب ،أي البحث يف كيفية انتقال املوضوعات من جماهلا الثقايف واالجتماعي ،إىل
مرورا بدراسة هذه املوضوعات يف سياق ما توفره السيميائيات من معارف وعالقتهاسياقها اخلطايبً ،
مبرجعياهتا ،وانتهاءً بتقدمي تأويل سيميائي يفتح األفق أمام العقل النقدي لفهم نوعي للموضوعات داخل
اخلطاب.
مل يكن لظهور موضوع املديح يف اخلطاب الشعري العريب القدمي ،من حيث هو موضوع خاص بالسلطة
احلاكمة ،دور ريادي ومؤسس للخطاب الشعري القدمي فحسب ،بل كذلك يف ميادين احلياة األخرى،
دائما -ميثّل وسيلة إغراء لآلخر؛ عرب التعبري عن ذاته يف استطالتها وتعاليها ،وقدرهتا على تقدمي
فاملديح – ً
املعونة لآلخرين ..ويضع الشاعر يف دائرة الرضا واالهتمام من قِبَل املمدوح ،فتشعر الذات املادحة
باالستقرار ،وتشعر الذات املمدوحة باالستعالء ،فاملديح أو الثناء وجد مكانته كقيمة رمزية يف اخلطاب،
بعد أن أسس ملكانته كقيمة حياتية يف اجملتمع تسمح بإقامة نظام هرمي لطبقات /مراتب اجتماعية
واختالفات بني الناس ،حتاول كل طبقة احلصول على مقاصدها وغاياهتا من خالل املوضوع /اإلشادة
بذات أخرى ،فالشاعر ،يسعى للحصول على غايته من احملبوبة واملمدوح من خالل اإلشادة هبما ،والطرف
اآلخر ،يسعى إىل احلصول على غايته املمثلة يف اخللود والشهرة ،فهذا التواصل بني أطراف اخلطاب ،هو
ما يؤدي إىل ظهور منطني من التفكري:
32راجع يف ذلك اآلراء اليت طرحها عبد اهلل الغذامي يف كتابه النقد الثقايف ،املركز الثقايف العريب ( ،الدار البيضاء وبريوت)
حجرا يف املياه الراكده عن موضوعات الشعر لعل من أبرزها شعر املديح. ط8000 ( 1م) ،حيث ألقت ً
األول :يتمثّل يف طرح سؤال الشروط احملددة لطبيعة العالقة بني الطرفني ( الشاعر /احملبوبة) ( الشاعر/
املمدوح) ( الشاعر /القبيلة) وذات الشاعر يف خطاب اإلشادة ،ذات متناهية يف ارتباطها باملوضوع؛ حيث
تبذل ما يف وسعها لرسم صورة مثالية للطرف اآلخر مبالغة يف احلقيقة!
الثاني :يتمثّل يف طرح تساؤل حول كيفية التمثيل الرمزي عرب اللغة لشخصية اآلخر؛ ألن اآلخر /املمدوح
سيتحول من شخصية حقيقية داخل اجملتمع ،إىل رمز داخل اخلطاب عرب امللفوظات؛ ومن مثّة جند أنفسناّ
أمام ثالوث فكري يف خطاب اإلشادة ،رأسه ممثلة يف مقصد اخلطاب وغايته ،وقاعدته متمثلة يف قدرة
اخلطاب على إنتاج املعىن ،وقوة العالمة /امللفوظ.
مقصد الخطاب
33ميشيل فوكو ،الكلمات واألشياء ،ترمجة مطاع صفدي وآخرون ،مركز اإلمناء القومي ودار الفارايب ( بريوت) ط( 8
8101م) ص828
أيضا على العالقة داخل اخلطاب، قبلي للتجربة اإلبداعية داخل اخلطاب ،وصفة التمثيل ،تلقي بظالهلا ً
وحتاول العالمة من خالل التمثيل واإلحالة حتقيق الكينونة للشخصية املشاد هبا ( احملبوبة ،املمدوح ،القبيلة)
ُ
وحتاول أن ترسم حلقيقتها املبهمة والغامضة صورة عرب اإلحاالت على مرجعيات ميكن أن تتكامل يف رسم
ُ
هذه الصورة.
إن صفة احلقيقة البعديّة ،تلقي بظالهلا على اخلطاب ،فالشاعر يطمح إىل حتقيق غايته من اخلطاب،
جيدا ملاذا حظي خطاب اإلشادة هبذه املنزلة عند القدماء، وهي إطالق سراح شأس ،وهذا جيعلنا نفهم ً
يتطور على أفق القيم اإلنسانية من سياقأيضا .إنه خطاب ّ وما زال ُيظى هبا عند احملدثني واملعاصرين ً
إىل سياق ،ومن جمال إىل جمال ،وهي شروط ترنسندنتالية ( احلق ،العدل ،احلرية ،الكرم ،الوفاء ،التسامح)..
وهي شروط جتد ضالتها عرب ملفوظات اخلطاب؛ وهلذا جيب علينا يف درسنا السيميائي خلطاب اإلشادة،
إدراك جوهر التجربة ( الرتكيب ال َقْبلي) وعالقتها بقوانني اخلطاب ،ومعرفة كيفيّة انتظام العالقات داخل
اخلطاب ،وهو ما تسعى إليه الدراسة الراهنة.
التنظير للخطاب:
مو ّجه من الشاعر اجلاهلي املعروف علقمة بن َعبَ َدة بن النعمان بن قيس بن متيم الشهري
هذا اخلطاب ّ
الغساين احلارث بن جبلة ملك إمارة احلرية بعدما هزم املنذر بن ماء السماء،
بعلقمة الفحل ،إىل امللك ّ
عددا من بين متيم ومن بينهم شأس أخو علقمة ،ويُقال ابن أخيه .34.وتُع ّد دراسة سوزان ستيتكيفيتش
وأسر ً
( قصيدة املدح وطقوس الفداء يف اجلاهلية :بائية علقمة) 35من أهم الدراسات حول هذه القصيدة بالنسبة
لدراستنا ،من حيث توجهاهتا النقدية يف دراسة اخلطاب؛ حيث تطرح تساؤالت أنثروبولوجية حول قضايا
اخلطاب الشعري ،وحتلل بائية علقمة يف ضوء أمنوذج ثالثي للقصيدة العربية باالقتداء بطروحات
األنثروبولوجي ( جاسرت) وحتليالته للطقوس املومسيّة .وما يلفت انتباهنا يف هذا السياق هو تساؤهلا املهم
جمرد رجاء بليغ موزون ومق ّفى إلطالق سراح األسري؟ .أم هي تقوم يف بداية الدراسة " هل هذه القصيدة ّ
34راجع يف ذلك:
الضيب ،املفضليّات ،حتقيق وشرح أمحد حممد شاكر ،وعبد السالم هارون ،دار املعارف ( القاهرة) ( 1828م)
املفضل ّ
ّ
ط 1املفضليّة رقم ( )118ص .181
احليت ،دار الكتاب العريب (
األعلم الشنتمري ،شرح ديوان علقمة الفحل ،ق ّدم له ووضع حواشيه وفهارسه :حنّا نصر ّ
بريوت) ط ) 1881 ( 1ص.81
وراجع كذلك سوزان ستيتكيفيتش ،أدب السياسة وسياسة األدب ،ترمجة وتقدمي حسن البنا عز الدين ،اهليئة املصرية
العامة للكتاب ( 1882م) ص.52
35املفضليات ،ص 55وما بعدها.
بدور املقايضة يف مقايضة طقوسيّة ،وخباصة دور فدية تدفع يف هذا السياق الشعائري؟ 36".وهو سؤال
يفتح اخلطاب الشعري على األفق الثقايف الضارب يف أعماق الثقافة واإليديولوجيا " .إن قصيدة علقمة
بن َعبَ َدة ليست جمرد استغاثة أو مناشدة يف شكل موزون ومق ّفى ،بل إهنا تؤدي وظيفة سلعة للتبادل يف
نتوصل إىل إدراك جديدعملية افتداء حياة إنسان – أي تكون فدية -ويف ضوء هذه النقطة ميكننا أن ّ
لوظيفة الشعر الطقوسية يف اجملتمعات التقليديّة بصفة عامة ،وهي وظيفة تناقض أفكارنا الرومانسية ،وما
37
نتوصل إىل تقييم جديد لبنية القصيدة".
بعد الرومانسيّة للشعر ولقواعده اجلماليّة ،كما نستطيع أن ّ
تسعى ستيتكيفيتش إىل تفسري القصيدة من خالل دراسة بنيتها يف سياق طروحات األنثروبولوجي (
جاسرت) حول الطقوس املومسية ،وميكننا االنطالق من هذه الدراسة باعتبارها فرضية علمية حول عالقة
املرتسبة يف هذا
اخلطاب الشعري بالثقافة واألنثروبولوجيا؛ وذلك من خالل دراسة العالقات الثقافية ّ
اخلطاب ،وتأويل دالالهتا يف سياق ما توفّره املعرفة السيميائية لدراسة العالمات داخل اخلطاب.
يتطلّب التحليل السيميائي خلطاب اإلشادة استحضار عملية التأويل كآليّة إبستمولوجية مهمة من
آليّات البحث عن املعىن يف اخلطاب؛ ألن هذا اخلطاب لعلقمة الفحل مشحون برغبة يف الفعل واإلجناز
متمثلة يف إطالق سراح شأس من األسر ،وهذا يتطلّب حبثًا يف طبيعة العالقة بني امللفوظ ومحوالته الثقافية
حمرًكا لعواطف اآلخر /املمدوح ،ومعبِّـًرا عن شعور املبدع /الشاعر؛ ومن مثّة يُع ّد
واإليديولوجية ،باعتباره ِّ
امللفوظ يف اخلطاب عالمة على إجناز فعل التحرر ،وفعل التل ّفظ هنا يهدف إىل التواصل بني طريف اخلطاب،
مؤهل
حاضرا /املمدوح ،وقد يكون متخيّالً /احملبوبة .فهذا اخلطاب ّ
ً وقد يكون طرف اخلطاب اآلخر
سر ّقوة هذا اخلطاب؟!. حلل إشكاليّة العالقة بني القيد /األسر ،واحلريّة .ما ّ
مبلفوظاته ّ
إن ّقوة هذا اخلطاب تكمن يف وظائفه املتعددة ،وميكن حصرها على النحو التايل:
الوظيفة االنفعاليّة :تتمثّل يف اإلحساس بشعور مؤمل بفقد شأس ،ويرتجم هذا الشعور يف
ملفوظات تُبلغ املتلقي /املمدوح هبذا الشعور االنفعايل باالعتماد على عالمات سيميائية تشري
إىل قواعد قِيَميّة ،وثقافيّة مشرتكة حمل اتفاق بني املرسل واملتلقي.
الوظيفة المرجعيّة :تتمثّل يف إنتاج ملفوظات تُفصح عن طلبات أو إخبارات قابلة للتصديق،
وألداء هذه الوظيفة عليها أن حتمل من اإلحاالت واإلشارات الثقافية واإليديولوجية ما جيعلها
قابلة للتصديق من قِبل املتلقي.
الوظيفة التأثرييّة :تتمثّل يف إظهار قدرة امللفوظ على التأثري يف املتلقي باحلجاج واإلقناع.
36السابق ،ص.52
37السابق ،ص.51
الوظيفة التبادليّة :وهي وظيفة ميكن النظر إليها ليس باعتبارها متثيالً لتجربة ما ،ولكن يُنظر إليها
مهما يف عمليةدورا ًباعتبار اخلطاب ممثالً لعملية التفاعل االجتماعي ،أي أن اخلطاب يؤدي ً
يفسر هذا اخلطاب بأنه طريقة يف التفكري ،ولكن باعتباره طريقة التفاعل االجتماعي؛ ولذلك ال ّ
يف إجناز الفعل ملا يتضمنه من ملفوظات هلا تأثريها اخلاص على املتلقي الذي يستجيب هلا بإجناز
الفعل وهو إطالق سراح ( شأس) ،فاملعىن يف هذا اخلطاب يرتبط بثنائية األسر /احلريّة؛ ومن مثّة
فنحن أمام عمليّة استبدال األسر باحلريّة ،واخلطاب هو جمال التفاعل إلمتام هذه العملية.
تعتمد دراستنا هلذا اخلطاب بشكل أساس على ما يُعرف ( بسيميائيات األهواء) مبفهومها عند جرمياس
Greimasوفونتانيل Fontanilleوهي اليت " تبحث يف ذاكرة اهلوى ،يف حتققاته ،ويف قدرته على
التطرف ...ال يتحدد سلوك توليد نسخ فرعية هي املدخل األساس من أجل حتديد حاالت االعتدال و ّ
قرت واحلريص والشحيح من جهة ،ويف عالقته باملقتصد وامل ّدخر والكرمي
البخيل إال يف عالقته بسلوك امل ّ
ُ
والسخي من جهة أخرى ...وبعبارة أخرى يتعلق األمر بدراسة اهلوي باعتباره ساب ًقا على املمكنات
38
يتضمن ملفوظات ُحتيل ضمنًا أو صراحة على هذه األهواء والعواطف الداللية املسترتة" .واخلطاب ّ
التعرف
واملشاعر اإلنسانية ،سواء يف معناها اإلجيايب أو السليب ،واملهم يف دراسة اهلوى يف اخلطاب " ليس ّ
39
على العالمات الدالة على األهواء ،بل االهتمام بآثارها املعنوية كما تتحقق يف اخلطاب".
إن خطاب علقمة تش ّكل نتيجة إحساس مت خارج حدود اخلطاب /اجملتمع ،مث ترجم الشاعر هذا
أيضا ،ولكن بفعل
اإلحساس إىل خطاب هبدف حتقيق غاية ،مث حتقق الفعل /اإلجناز خارج اخلطاب ً
اخلطاب أو بتأثري منه .فهذا اإلحساس من قِبَل الشاعر ،ال ميكن للمتلقي إدراكه إال عن طريق اخلطاب،
ووسيلته يف حتقيق هذا اإلدراك هي اللغة ،وعن طريق مفرداهتا مت ّكن الشاعر من التعبري عن انفعاالته
الستجداء عاطفة اآلخر /املمدوح.
حنن – إذا -أمام عاطفتني متواصلتني واسطتهما اخلطاب ،شعور بالفقد واحلرمان لشخص عزيز ،وهو
سليب من قِبل الشاعر بعد أن وقع شأس يف األسر ،وعاطفة إجيابية – تولّدت بفعل اخلطاب أو بأثر
شعور ّ
منه -من قِبل املمدوح ممثلة يف العفو ،واخلطاب هو وسيلة التعبري بالنسبة للطرف األول ،ووسيلة إدراك
38جرمياس وفونتانيل ،سيميائيات األهواء ،ترمجة وتقدمي وتعليق سعيد بنكراد ،دار الكتاب اجلديد املتحدة ( بريوت) (
8010م) راجع مقدمة املرتجم ص .11 ،10
39السابق ،ص .10
سر ّقوة العالمات الدالة اليت أسهمت يف التعبري واإلدراك :يف التعبري عن الشعور
بالنسبة للطرف الثاين .فما ّ
بال َف ْقد عند الشاعر ،واإلدراك عند الطرف الثاين /املمدوح مما أنتج الشعور اإلجيايب بالعفو؟!.
الشعور بالفقد تولّد نتيجة احلدث /احلرب اليت مت فيها أسر شأس ،والعاطفة – اليت هي انفعال هادئ
ويوجه سلوكياهتا وأفكارها -تولّدت بأثر من اخلطاب.
رويدأ حىت يستحوذ عليها ّ
رويدا ً
يتسلل إىل النفس ً
وقوة ملفوظات اخلطاب اليت أظهرت عاطفة حنن أمام قوتنيّ :قوة احلرب اليت أوجدت الشعور بالفقدّ .
العفو ..فاحلرب وأدواهتا عالمة على فعل األسر ،واخلطاب وملفوظاته عالمة على فعل التحرر؛ وإليضاح
ذلك ميكننا تأسيس خطاطة معرفيّة خلطاب اإلشادة ترتكز على سلسلة متصلة من التحوالت واالنتقاالت
من سياق إىل سياق ،فالشعور بفقدان عزيز /شأس قد مت يف سياق اجتماعي ،وهو شعور سليب من شأنه
حتريك الذات إلجناز فعل يرتتب عليه إنقاذ شأس ،والتحريك هنا عمليّة تتم من خالل التعبري /اخلطاب،
40
ويعرف بنكراد التحريك بأنه " نشاط ميارسه اإلنسان حنو اآلخر هبدف الدفع إىل القيام بإجناز ما".
ّ
وهذا التحريك مت يف سياق إبداعي لفظي يهدف إىل إقناع صاحب السلطة /املمدوح إلجناز فعل العفو؛
وذلك بتحريك عاطفة التسامح والعفو من منطلق أن عذاب اآلخرين يثري عواطف التسامح والعفو ،وهي
ليتحول الشعور بالفقد إىل شعور باالستعادة،
عاطفة تقع خارج اخلطاب وإن كانت بأثر من اخلطاب؛ ّ
أيضا خارج امللفوظ ،فامللفوظ ميثّل حلقة وصل بني نتاج اإلنسان/أي استعادة املفقود ،وهو شعور مت ً
الثقافة والوجود الطبيعي.
شأسا مملوًكا لدى امللك احلارث ،وميكن اعتباره
إن عملية األسر ،عالمة على التملّك؛ ومن مثّة يُع ّد ً
مكمالت الذات عند اآلخر وليس ذاتًا مستقلة ،وميكننا تأويل هذه املمارسة سيميائيًّا يف سياق
كجزء من ّ
التملّك والنزوع إىل الوجود ،ويأيت اخلطاب بوصفه وسيطًا بني سلطة التملّك من قِبَل امللك احلارث،
والنزوع إىل الوجود من قِبَل الشاعر ،فإذا كانت عملية أسر شأس عالمة دالة على الرغبة يف التملّك
واهليمنة ،فإن اخلطاب يف هذا السياق يُع ّد عالمة على إشكالية العالقة بني التملّك /أسر شأس ،والكينونة/
وتوجه حيايت حتقق بفعل اخلطاب.
إطالق سراحه ،فالكينونة رغبة ّ
41
يقول علقمة الفحل:
مشيب
ُ عصر حا َن
َ
ب ْعي َد الش ِ
َّباب ُ طروب
ُ لب يف احلِسان
بك قَ ٌ
1طَ َحا َ
40سعيد بنكراد ،مدخل إىل السيميائية السردية ،منشورات االختالف ( اجلزائر) ط1884 ( 1م) ص.52
41املفضل الضيب ،املفضليّات ،عين بطبعه ومقاله ونسخه كارلوس يعقوب اليل ،مطبعة اآلباء اليسوعيني ( بريوت ـ لبنان)
1880ص 211ـ .221
ـوب ٍ 8يُكلِّ ُفين ليلَى َوقد َش َّ
وخطُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
وعادت عواد بينَنا ُ
ْ ط َولْيُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
ِ ِ ِ ِ
َعلَى بَاهبا م ْن أَ ْن تُز َار َرق ُ
يب الم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــها
ُ 1م َّنعمةٌ ال يُ ْستَطَاعُ ك ُ
ِ ِم ْن ُخيَ ُّ ت ْأم َّما ِذ ْك ُرها َربَعِيَّـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً
يب
قَل ُ ثـَ ْرَمداءَ َهلَا ط َ 2وَما أَنْ َ
يبِ
طَب ُ ِّس ِاء
الن َ بِأ َْدو ِاء ِ
بَصريٌ
2فَإ ْن تسألوين بالن ِ
ِّساء فإنَّنـ ـ ـ ـِـ ـ ـ ـ ـ ــي َ
ب ِ بالرد ِ 11فَ َد ْع َها َو َس ِّل اهلَ َّم عنك ِِجبسـْـ َـرةٍ
َخبي ُ اف ِّ َ ك فيها
َك َه ِّم َ
ليب
َوَك ُ نـَْبـلَ ُهم فَـبَ َّذ ْ
ت ِر َج ٌ
ال باألرطى هلا و َأر َاده ـ ــَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
ْ َّق
15تَعف َ
وب
قَـ ُر ُ داك
نَ َ ِم ْن َّقربتين فَـ َق ْد 11لتِبُلغين َد َار امر ٍئ كان نائيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
هيب
َم ُ َه ْوُهلُ َّن ِمبُشتبِ ٍ
هات ت اللَّ ْع َن ـ كان َوِجي ُفه ــا
يك أَبـَْي َ
12إلَ َ
ليب
ص ُ فَ َ ِج ْل ُدها و َّأما فَبِ ٌ
يض فأما ِعظَ ُامها
ف احلَ ْسَرى َّ ِ
18هبا جيَ ُ
كوب
ُفر ُ املنَدَّى ِر ْحلَةٌ َّ
فإن ف 80تـَُر ُاد َعلَى ِد َم ِن احلِيَ ِ
اض فَإ ْن تَـ َع ْ
ُ
يبِ فَِإ ّين ْامرٌؤ و ْس َ ِ ِ 81فَالَ َْحت ِرَم ّين نَائِالً َع ْن َجنَابٍَة
ط القبَاب َغر ُ َ
ِ ت إِلَ َ
يك أ ََمانَِيت
بوب
ُر ُ عت
فَض ُ ربَّتين ك
َوقَـْبـلَ َ ضْت امرٌؤ أَفْ َ
َ 88وأَنْ َ
يبِ ِ وغُ ِ
ود َر يف بـَ ْع ِ ب ب ِن ع ٍ
ت بـَنُو َك ْع ِ
ض اجلُنود َرب ُ َ وف َربيبَها َ 81فَأ َّد ْ
يبِ
َحب ُ وا ِإليَ ُ
اب َخَزايا لَآلبُوا س اجلَ ْو ِن ِم ُنه ُم ِ ِ
84فَواهلل لَ ْوال فَار ُ
وب
ض ُر ُ
َ الدَّارعني لِبَـْي ِ
ض َنت
َوأ َ يب ُح ُجولُهُ
َّ ِ
حىت تَغ َ ِّمه
85تـُ َقد ُ
سوب
َوَر ُ ِخمْ َذ ٌم س ٍ
يوف ُ َع ِقيال اهر ِسربايل ح ٍ
ديد علي ِهما َ َ
ِ
ُ 81مظَ ُ
ِ ِ
س النَّها ِر غُ ُ
روب وقد حا َن من ََش ِ حىت اتـَّ َق ْو َك ب َكْبش ْ
هم 82فَـ َقاتَلتَـ ُه ْم َّ
نوب كما خشخشت يـبس احلِ ِ َ 82خت ْشخش أَبدا ُن احل ِد ِ
يد علي ِه ُم
صاد َج ُ
ُْ َ َ َ َ َ َ َ َ ْ
يبِ
َدب ُ لِطَ ِري َّ
هن صو ِ
اع ُقها ََ ليهم َس َحابَة
ت َع ْ
صابَ ْ
18كأنـ َُّه ُم َ
يب ِ
َجن ُ كال َقنَ ِاة ِط ِمٌّر وإالّ 11فَـلَ ْم يـَْن ُج إال َشطْبَةٌ بِلِ َج ِامها
نوب
داك َذ ُ فَ ُح َّق لِ ٍ
شأس من نَ َ 11ويف ُك ِّل ح ٍي قَد خبطْت بِنع ٍ
مة ََ َ ْ
تستمد ملفوظات اخلطاب ّقوهتا وسلطتها يف التأثري على املتلقي من الشروط الثقافية واملؤسساتية اليت
تستدعيها هذه امللفوظات؛ وملفوظات اخلطاب يف قصيدة علقمة تستمد قوهتا من نفوذ ِ
القيَم الثقافية يف ّ
نسيب القصيدة ورحيلها ،وكذا املؤسسة السياسية اليت ينتمي إليها املخاطَب /امللك احلارث ،وليس من
املخاطب /الشاعر ،لكنه يف الوقت نفسه ميارس تأثريه على املخاطَب /امللك احلارث واحملبوبة من ِ ّقوة
خالل احلمولة الثقافية هلذه امللفوظات ،وخيفي هذا اخلطاب وراءه منافع اجتماعية /إطالق سراح شأس،
ومنافع عاطفية /الفوز باحملبوبة ،ويُضمر مآرب سياسية /إبراز ّقوة املمدوح ،ويستند يف حتقيق هذه احلاجات
تفويضا للتعبري عن
ً متسك الشاعر بقيم هذا النظام الثقايف سيمنح اخلطاب
إىل النظام الثقايف العريب؛ ألن ّ
تضمن صيغًا لغوية ِ
القيَم الثقافية العربية – وهذا سيمنح اخلطاب بطبيعة احلال منزلة سامية السيما إذا ّ
جاهزة هلا وقعها عند املتلقي -من خالل فسح اجملال أمام امل ّد الثقايف داخل اخلطاب .وبعد انتهاء فعل
التل ّفظ ،وانتهاء زمن التكلّم ،يبقى اخلطاب حمتفظًا حبيثيّات احلدث التارخيي /إطالق سراح شأس من
األسر ،ومتضمنًا أحوال طريف اخلطاب ( املرسل واملتلقي).
42ـ نقال عن مراد بن عيّاد ،من الوسائط اإلجرائية يف األدب العريب القدمي ،حبث يف سيميائيات التواصل ،مطبعة
التسفري الفين ( صفاقس /تونس) ( 8010م) اجلزء الثاين ص.121
43املرجع السابق ،اجلزء الثاين ص.122
البنية الدالة لموضوعات الخطاب:
تأيت أمهية دراسة البنية املوضوعية يف اخلطاب الشعري من منطلق إعادة النظر يف دور املوضوعات
الكربى ( النسيب ،والرحيل ،واملديح) ،واملوضوعات الصغرى ( املوتيفات) ،اليت تندرج ضمن املوضوعات
متنوعة –
الكربى ،يف حركة املعىن داخل اخلطاب ،باعتبارها موضوعات أو موتيفات تنطوي على معارف ّ
إىل جانب مجالياهتا الفنية -فهذه املوضوعات ال حتوي ما تقوله فحسب؛ بل تنفتح بقوهتا التلفظيّة على
الوجود ،مبا جيعلنا نراجع قناعاتنا االعتيادية عن هذه املوضوعات ،إىل حد تفكيكها وإعادة بنائها ضمن
سياق إبستمولوجي جديد .إن هذه املوضوعات تكتسب قيمتها داخل اخلطاب باستيعاهبا الواعي
للماضي ،وغوصها يف أعماق النفس اإلنسانية ،تُ ّشّرح مهومها وآماهلا وطموحاهتا يف حماولة إلعادة بنائها
من جديد وف ًقا لوعي الذات الفردية .إن هذه املوضوعات متثّل واسطة بيننا وبني الوجود ،فهل ميكننا
دراستها باعتبارها عالمة على احلضور التارخيي للذات الفردية وقراءهتا العميقة للوجود مبلفوظات خاصة
ميكن فهمها؛ ومن مثة فهم خصائص اخلطاب يف تشرُيه لشمولية الوجود؟!.
املستمرة الخرتاق األنساق الثقافية ،كما تق ّدم –
ّ تكشف هذه املوضوعات عن حماوالت الذات الفردية
يف الوقت نفسه -وص ًفا للموجود /الواقع ،ويستحيل أن تُق ّدم لنا هذا الوصف دون استيعاب مسبق
لل وجود ،وعليه فإن دراسة حركة املوضوعات وعالقتها بالوجود واملوجود ،ميكن أن تكشف لنا عن كيفية
إقامة الذات الفردية يف هذا الوجود ،وتسلّحها بالوعي مبا مي ّكنها من إدراك الوجود.
للتأمل؛ ألهنا تُطرح داخل اخلطاب ضمن أفق معريف
موضوعا ّ
ً إن هذه املوضوعات تُق ّدم نفسها بوصفها
للتأمل،
موضوعا ّ
ً وتتكون املوضوعات ضمن هذا األفق ،مبا يسمح للوجود أن يكون منفتح على الوجودّ ،
وهو ما يربر لنا تأويلها سيميائيًّا ،باعتبار السيميائية إجراءً نقديًّا يهتم مبرجعيات اخلطاب.
تتكون البنية املوضوعية 44خلطاب علقمة من ثالثة موضوعات أساسيّة :النسيب ،والرحيل ،واملديح، ّ
ودراسة هذه البنية من الناحية السيميائية ،يسهم يف التق ّدم حنو فهم خمتلف لبنية اخلطاب اإلبداعي؛ وذلك
44يع ّد مفهوم البنية الدالة من املفاهيم الرئيسة يف البنيوية التكوينية عند لوسيان جولدمان ،ويعتربها منظِّمة للعمل األديب؛
ويربط جولدمان بني البنية الذهنية للجماعة ،والبنيات النصيّة للنصوص اليت ينتجها األفراد؛ ألنه يعترب الثقافة هي املنتج
احلقيقي للنص يف سياق إجابته عن سؤال :من منتج النص؟ هل الذات الفاعلة أم اجلماعة؛ ألن اجلماعة /الثقافة – من
وجهة نظره -تش ّكل نس ًقا من البنيات اليت هتيمن على وعي األفراد ،وتقف هذه البنيات بشكل غري مباشر خلف البنيات
النصيّة.
علما بأن
التحوالت ،له قوانينه اخلاصة باعتباره نس ًقاً ،
ويعرفها جان بياجيه على النحو التايل " :إن البنية هلي نسق من ّ
التحوالت نفسها ،دون أن يكون من قائما ويزداد ثراءً بفضل الدور الذي تقوم به تلك ّ من شأن هذا النسق أن يظل ً
معيارا فنيًّا ينطوي
تكون هذه البىن للخطابات باعتبارها ً بدراسة احلموالت الثقافية واملعرفيّة اليت أسهمت يف ّ
على أبعاد فلسفية ومجالية يكشف التأويل السيميائي عن دالالهتا املعرفيّة العميقة .وهتدف دراسة البنية يف
هذا السياق إىل:
املؤسسة ملوضوعات اخلطاب الشعري وتفسريها يف إطار املعطى السيميائي يف 1ـ الوقوف على البنية ِّ
ُ
الدرس النقدي احلديث ،مبا يعين الوقوف على معارف جديدة يف اخلطاب الشعري القدمي ،من خالل
املكونة لبنية اخلطاب ،باعتبارها عالمات أو شفرات دالة سيميائيًّا على معىن ما.
دراسة العناصر ِّ
8ـ فهم الوظائف اليت تؤديها بنية اخلطاب ،والوعي بالدور الذي تقوم به إلجناز أفعال اخلطاب ،فلكل
عنصر من عناصر اخلطاب أفعاله اخلاصة اليت تنجز املعىن داخل هذا العنصر.
1ـ فهم طبيعة العالقة بني موضوعات اخلطاب وفلسفة الوجود ،وذلك من خالل دراسة ملفوظات
اخلطاب اليت ُحتيل على هذا الوجود؛ ومن مثة ميكننا تأويل هذه امللفوظات بوصفها عالمات سيميائية دالة
معرفيًّا على هذا الوجود.
سوف نعتمد – يف حتليلنا هلذا اخلطاب -التقسيم الثالثي الذي تقرتحه سوزان ستيتكيفيتش يف دراساهتا
حول الشعر العريب القدمي .45النسيب األبيات ( 1ـ ،)10الرحيل األبيات ( 11ـ ،)80املديح األبيات
حد كبري يف تكوين رؤية ثقافية
( 81ـ حىت هناية القصيدة)؛ وذلك ألن هذا التقسيم سوف يسهم إىل ٍّ
ميكن أن تسهم يف إجناز مشروعنا حول حتليل اخلطاب يف ضوء ما توفره سيميائيات الثقافة من معرفة.
التحوالت أن خترج عن حدود ذلك النسق ،أو أن هتيب بأية عناصر أخرى تكون خارجة عنه" .راجع ،جان
شأن هذه ّ
بياجيه ،البنيوية ،ترمجة عارف منيمنة وبشري إبراي ،منشورات عويدات ( بريوت وباريس) ط.1828 ( 1م) ص2
45تسعى سوزان ستيتكيفيتش إىل تفسري قالب القصيدة التقليدية وسيطرته العجيبة على كل من اخليال واإلنتاج الشعريني
على ضوء طقوس العبور كما صاغه األنثروبولوجي ( فان جنب )van gennepوترمي من تطبيق هذا النموذج
قيدا شكليًّا يقيّد اخليال الشعري ،بل هو أساس منطي
الشعائري على القصيدة العربية إىل إثبات أن قالب القصيدة ليس ً
يعرب عن جتربته الشخصية من خالل شكل ذي أبعاد نفسية وقبليّة وطقسية وأسطورية يف الوقت نفسه، يسمح للشاعر أن ّ
وتسعى إىل مقاربة مراحل طقوس العبور الثالث "الفراق"" ،اهلامشية"" ،إعادة االندماج يف اجملتمع" بتقسيمات القصيدة
العربية ( النسيب/الرحيل/املديح) فمرحلة الفراق يف طقوس العبور ،تقابل النسيب يف القصيدة العربية ،ومرحلة اهلامشية،
تقابل الرحيل أو الرحلة ،ومرحلة إعادة االندماج يف اجملتمع ،تقابل املديح .راجع هلا :القصيدة العربية وطقوس العبور،
دراسة يف البنية النموذجية ،جملة جممع اللغة العربية بدمشق 06 ،ـ .1891( 1م) ص .19وكذا تقدم حتليالً أنثروبولوجيا
لقصيدة علقمة الراهنة يف إطار النموذج الثالثي – النسيب /الرحيل /املديح -الذي تعتمد عليه يف معظم دراستها عن
الشعر العريب القدمي .راجع :أدب السياسة وسياسة األدب ،ص.22 :52
سيميائيات النسيب :قوّة الملفوظ وقمع الداللة.
موجه إىل احملبوبة -يكتشف اعتماد
املتأمل يف اجلزء اخلاص بنسيب القصيدة – واخلطاب فيه ّ
لعل ّ
اخلطاب على عدد من امللفوظات ذات محولة ثقافية تكشف عن امتداد الثقافة داخل اخلطاب ،وحماوالت
الذات الفردية املستمرة الخرتاف هذه األنساق؛ هبدف تأسيس واقع جديد خمتلف يُرضي طموحاهتا ،وتُع ّد
أمنوذجا هلذه احملاوالت يف اجلزء اخلاص بالنسيب،
ً جتربة الرجل مع املرأة داخل النسق الثقايف االجتماعي،
طواملالحظ أن هذه امللفوظات متنح املرأة مكانة ثقافية وقِيميّة عُليا داخل اجملتمع ( يكلّفين ليلى وقد ش ّ
ِ
سقتك سره 4/ـ تُرضي إياب البَـ ْعل حني يؤوب 4/ـ منعمة 1/ـ ما يُستطاع كِالمها 1/ـ مل ِ
تفش ّ َولْيُها 8/ـ ّ
ان .)1/فالتجربة الثقافية تُشري إىل سعي الرجل وشقائه يف احلصول على رضا روايا املزن 5/ـ ِ
سقاك َمي ٍ
احملبوبة ،وأن هذا اجلهد االجتماعي عالمة دالة على تعفف املرأة ( قِيمة ثقافية) ،وميثّل اخلطاب الشعري
يف هذا السياق ترمجة تعبريية ملمارسات اجلهد االجتماعي للشاعر؛ ليكون املالذ الثقايف اآلمن حلسم هذا
القيم الثقافية العربية قد تسمح مبمارسات داخل اخلطاب ،لكن يرفضها اجملتمع، الصراع – على اعتبار أن ِ
مثل ممارسات امرئ القيس الغرامية يف معلقته الشهرية - 46بينه وبني التقاليد الثقافية للحصول على حاجاته
" إن الثقافة مؤلف مضمر ذو طبيعة نسقيّة تلقي بشباكها غري املنظورة حول الكاتب ،فيقع يف أسر
تتسرب إليه كاملخدِّر البطيء ،فرتتِّب حمموالت خطابه مبا يوافق املضامني
مفاهيمها الكربى اليت ّ
اإليديولوجية اخلاصة هبا .إننا بإزاء مؤلف مزدوج التكوين :تكوين شخصي وآخر ثقايف ،والثاين ال ي ّدخر
وسعا يف تشكيل وإعادة تشكيل األول" .47.إن علقمة يعي ذاته من خالل قدرته على احلب والفهم ،أي ً
فهم طبيعة عالقة احلب ،وأنه قادر على منح احلب لآلخرين رغم ص ّدهم ومتنّعهم عن هذا احلب ألسباب
ثقافية ،فاحلب يف هذا اخلطاب نشاط فاعل للوعي بالذات ،وهو ممثّل يف حبني :األول للمحبوبة ،والثاين
ألخيه شأس ،فاحلب هنا ممارسة اجتماعية /خطابية باجتاه الوجود؛ ألنه عالمة على الوجود ،فجوهر جتربة
الشاعر يف هذا اخلطاب هو السعي للوصول إىل احلب والتعاطف ،وترمجة هذه العاطفة إىل واقع ،وهذا هو
الظرف املالئم للحصول على الوجود األمثل؛ ذلك أن الشاعر يبحث عن معىن حلياته من خالل مسامهته
يف حترير أخيه من قيود األسر والعُزلة ،وهكذا ميكننا فهم اخلطاب على أنه استخدام للفكرة هبدف حتقيقها.
حبث غري منشور مق ّدم ملؤمتر لسانيات النص وحتليل اخلطاب ـ كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ـ جامعة ابن زهر /أكادير
( املغرب) يف دورته الثالثة ( 18ـ 84نوفمرب 8018م) ويف هذا البحث يق ّدم حتليالً لسانيًّا ألفعال الكالم يف الصيغ
اللغوية اجلاهزة يف الشعر العريب القدمي وف ًقا لنظرية أوسنت وسريل.
احلب إىل داللة احلرمان ،واختزلت قيمة الع ّفة بالنسبة للمرأة يف عباريت ( ما يستطاع كالمها) ألن ( على
باهبا من أن تُزار رقيب) فأصبح يكفي يف التدليل على ع ّفة املرأة نفي الكالم وعدم القدرة على زيارة
احملبوبة!.
فالرقيب هنا عالمة على تسليم الثقافة القدمية بفعالية املرأة يف احلياة ،وأن عدم وجود الرقيب ميثّل اعرتافًا
آثارا سلبية متس البنية ِ
من قبل الثقافة بزعزعة االستقرار يف النظام الثقايف واالجتماعي مما يرتتّب عليه ً
األخالقيّة للنظام االجتماعي ،فوجود الرقيبُ ،يافظ على البنية األخالقية للنظام االجتماعي وحتصني
املرأة ،ويرتتب على وجوده إنقاذ النظام االجتماعي من ممارسات قوى مضادة للمجتمع ولنظامه الثقايف
واألخالقي!.
والبُعد التقريري هلذه األفعال ،يتمثّل يف احملافظة على البُعد التمريري بالتواصل مع الطرف اآلخر /احملبوبة
عرب اخلطاب وملفوظاته .فهذه امللفوظات حتمل رسالة معاناة الشاعر للمتلقي ،واملتلقي هنا احملبوبة ،ورمبا
طمعا يف أن يكون املمدوح أكثر عدالً وإنصافًا من احملبوبة وُيقق طلبه .أماأيضا؛ وذلك ً يكون املمدوح ً
البُعد التأثريي الذي يتمثّل يف استجابة املتلقي ملقاصد املتكلّم ،فلم يتحقق – يف النسيب -وذلك بسبب
شروط الثقافة املتمثّلة يف وجود ( الرقيب) ،وحضور الرقيب ،يعين غياب فعالية املرأة اجلنسية ،وجيعلها سلبيّة
عدا أخالقيًّا .فالرقيب هنا عالمة سيميائية دالة على قيمة ثقافية حتافظ على قدسيّة النسق مبا يكسبها بُ ً
طريف اخلطاب ( الشاعر واحملبوبة) يف اخرتاق الثقايف وعدم اخرتاقه ،ووجود الرقيب هنا يُشري إىل رغبة ّ
دائما من ُُيافظ على هيبته
بقوته يوفّر ً
النسق ،واالخرتاق هنا متمثّل يف الزيارة والكالم ،ولكن النسق ّ
وقدسيته ،فامل ّد الثقايف للفظ ( رقيب) هو للمحافظة على ِ
القيَم الثقافية من الضياع بسبب زيارة املحب
ُ
حملبوبته ( على باهبا من أن تُزار رقيب)؛ وذلك ألن امل ِحبَـ ْني ال خيضعان للرقابة الذاتية ،فجاءت الرقابة
ُ
االجتماعية ،ومن ناحية أخرى ميكن تأويل الرقيب سيميائيًّا بأنه عالمة دالة على عدم قدرة احملبني على
اخرتاق األنساق الثقافية ،فلوال وجود الرقيب لتم ّكن الشاعر واحملبوبة من الزيارة والكالم .وإذعان اجلميع
لفكرة الرقيب ،انتماء عفوي لنظام أخالقي يؤسس للتنازل اإلكراهي للمرأة عن جزء من حريتها إلرضاء
النسق الثقايف ،يُقيّد ال ّذات عن ممارسة حرياهتا حىت يف معناها الضيّق ،إنه طريقة للقول :إن النسق الثقايف
للرقيب يؤكد عرب ممارساته يف كبت احلريّات ،سلب حق الذات يف الوجود عندما تتعارض ممارساهتا مع
شروطه.
إن قوانني الفكر الرمزي ،أو قوانني الثقافة حتافظ على استمراريتها وفاعليتها يف الكون من خالل اخلطاب
وعالماته؛ وذلك بقوة سلطتها يف إخضاع كل من امللفوظ واملتل ّفظ معا ،فمجموع ِ
القيَم اليت نعت هبا ً
علقمة حمبوبته يف األبيات ( )4 ،1 ،8تؤكد التزام املتل ّفظ /الشاعر باملعايري األخالقية النسقية من ناحية،
وتؤكد من ناحية أخرى قدرة اخلطاب على استيعابه هلذه املعايري واحملافظة عليها بواسطة مجلة من العالمات
منعمة) عالمة لغوية دالة على الرتف االجتماعي ،و ( ما يستطاع اللغوية ُحتيل على هذه املعايري ،فـ ( ّ
كالمها) عالمة لغوية دالة على االستجابة حلوافز اجملتمع اخلارجية باعتبارها قواعد للسلوك االجتماعي؛
البعل مل
التمسك باملعايري األخالقية اليت حددها هلا النسق الثقايف ،و ( إذا غاب عنها ُوذلك بالتمنّع و ّ
سره) عالمة لغوية دالة على أمانتها ووفائها لزوجها ،و ( ترضى إياب البعل حني يؤوب) عالمة لغوية تُ ِ
فش ّ
دالة على ع ّفتها وشرفها .إن العالمات اللغوية يف تشكالهتا العالئقية – هنا -باألنساق الثقافية قد فتحت
تصور كلّي لنظام اخلطاب ووظائفه املتعددة – ذكرنا منها ساب ًقا أربع وظائف ( االنفعالية/
األفق أمام حتقيق ّ
املرجعية /التأثريية /التبادلية) -فهذا اخلطاب ليس وثيقة للمحافظة على النسق الثقايف فحسب ،بل عالمة
دالة على جتلّيات األنساق الثقافية وارحتاالهتا من املمارسات االجتماعية يف الثقافة ،إىل اخلطاب وسلطته
وقدرته على اإلقناع ،فاملعايري األخالقية يف الثقافة انتقلت إىل الذاكرة اإلنسانية عرب اخلطابات؛ ومن مثة
يعد اخلطاب آلية مهمة من آليات عمل األنساق الثقافية يف الذاكرة اإلنسانية؛ وذلك لقدرته على خماطبة
أطراف حاضرة ،وأطراف ُمتخيّلة.
تعرب ملفوظات هذا اخلطاب عن حركة النسق الثقايف داخل اجملتمع ،وقدرته على كبح مجاح احلريّات ّ
الشخصية يف ظل وجود ( الرقيب) .وميكننا تأويل عالمات هذا اخلطاب باعتبارها دالة على مغامرات
الذات املتكلمة مع األنساق -ال أقصد بالذات االجتماعية للشاعر مبفهوم علم النفس ،ولكن الذات
اليت يصنعها اخلطاب 49-فالذات املتكلمة /املتلفظة رمبا تدخل يف مغامرة مع األنساق الثقافية ،ولكنها
مغامرات حمسوبة وحمدودة ،ومبا يسمح هلا بالتعبري عن خصوصية جتربتها وانفعاالهتا ،وهذا واضح يف األبيات
أيضا إىل أن حتيا هذه األنساق( )10 :2؛ ألن اخلطاب نفسه خيضع لسلطة النسق ،ويرمي هذا اخلطاب ً
يف سياق خطايب خمتلف عن السياق االجتماعي ،إنه واسطة األنساق الثقافية يف االرحتال من زمن إىل
آخر ،ومن جمتمع إىل آخر؛ ألن هذا اخلطاب ُيفظ هلذه ِ
القيَم واألنساق استمراريتها ودميومتها يف املخيال
سن قوانني فردية تتبع
اجلمعي هبدف فرض قوانني عامة لضبط سلوك األفراد ،وعدم ترك الفرصة هلم لـ ّ
يعرب عن عالقة بني قوتني،
هوى كل فرد ،فيعم االضطراب والفوضى داخل اجملتمع .إن هذا اخلطاب ِّ
إحدامها تدرك قوهتا الذاتية يف إنتاج املعرفة داخل اخلطاب /الشاعر ،واألخرى تدرك قوهتا يف التملك
والسلطة /املمدوح.
49ميكن الرجوع يف هذه اإلشكالية إىل أمحد حيزم ،من شعرية اللغة إىل شعرية الذات ،دار صامد للنشر والتوزيع ( تونس)
( 8010م) من ص.140 :112
مقوًما من مقومات وجوده،
يق ّدم الشاعر يف نسيب القصيدة وص ًفا ملشاعره جتاه احملبوبة ،باعتباره ّ
مقومات النزوع باجتاه الوجود فالبحث
مقوم من ّ فالبحث عن احلب – يف الدراسات النفسيّة احلديثةّ -
عن الوجود يف األبيات ( )2 : 1يتمثّل يف البحث عن الكينونة ،وهي حالة مهمة من حاالت حبث
اإلنسان عن وجوده ،إىل جانب الرغبة يف التملك من وجهة نظر إريك فروم الذي يقول عن التملّك
والكينونة بأهنما " حالتان أساسيتان من حاالت الوجود ،أو شكالن خمتلفان من النزوع باجتاه الذات
والعامل ،إهنما منطان خمتلفان من أمناط الشخصية حيث حتدد سيطرة إحدامها على الشخصية كيفية تفكري
عموما ،أو كيفية شعوره أو تصرفاته" 50.مث ينتقل الشاعر يف األبيات ( )10 ،8 ،2من احلديث
الشخص ً
عن الوجود إىل احلديث عن املوجود احليايت ،وهذا االنتقال عالمة دالة على التحرر من األسر الداخلي/
احلب،ومفردات ( بصري /أدواء /طبيب) ميكن قراءهتا يف سياق سيميائي بوصفها عالمات دالة على إدراك
املعرفة ،أقصد معرفة حقائق النساء ( حب املال /حب الشباب) ( رفض قليل املال /رفض كبري السن)
وهذه املعرفة مرتبطة بفعل التحرر الذايت ،فلوال هذه املعرفة اليقينية – من وجهة نظر الشاعر -ملا استطاع
التحرر ،وهذا القرار – قرار التحرر من أسر العواطف -رمبا يكون قر ًارا مؤملا بالنسبة للشاعر؛ ألنه يؤكد
ً
فقدانه حملبوبته وحترره من عبودية حبه هلا ،والعالمات اللغوية الدالة اليت ق ّدمها الشاعر إمنا هي عالمات
حجاجية على رغبة الذات يف اختاذ قرار التحرر من األسر الداخلي الذي يش ّكل عائ ًقا أمام رغبات
الشاعر ،وكأن لسان حاله يقول :جيب أن أحترر من األسر الداخلي ،لكي أجنح يف حترير أخي شأس من
األسر اخلارجي.
إن ذات الشاعر هنا تقع حتت وطأة إغراء مزدوج ،فهي موزعة بني نظرة متحررة ومتفائلة لوجود مازال
حراس الثقافة؛مرهونًا باالجنذاب إىل أنساق ثقافية مجعية متارس سلطتها على األفراد بواسطة الرقباء ،أو ّ
يتحرك فكره يف جمال يؤثّر يف الواقع من خالل إطالق سراح شأس. ومن مثّة يقرر أن ّ
وإذا وضعنا ملفوظات البيتني التاليني موضع حتليل امللفوظات يف سيميائيات التل ّفظ ،ميكننا التق ّدم حنو
تأويل أعمق مللفوظات النسيب.
وب إِ َذا غاب عنها البعل مل تـُ ْف ِ ِ
حني يـَ ُؤ ُ
َ إياب البَـ ْعل
َ وتـُ ْرضي ش سَّرهُ ُْ َ
50إريك فروم ،اإلنسان بني اجلوهر واملظهر ،ترمجة سعد زهران ،عامل الفكر ( الكويت) العدد ( )140أغسطس 1828م
ص.84
تصور موقعه داخل الوجود ،فاخلطاب
تعربّ / إن الشاعر يقوم بتنظيم جتربته يف النسيب عرب ملفوظات دالة ّ
يساهم يف انفتاح الذات املتكلمة على العامل من خالل ملفوظاهتا ،فامللفوظات يف البيت األول ،ناقلة لقيم
اجملتمع والثقافة عرب صيغة إنشائية تتوفّر على قصدية ميكن تأويلها ممثلة يف أداة الشرط غري اجلازمة ( إذا)
سر البَـ ْعل ،وإرضائه حني عودته .والالفت اليت تستوعب قيمة أخالقية للمرأة العربية وهي احلفاظ على ّ
سره) ( ،تُرضي إياب البَـ ْعل) وهذه
فش ّ للنظر هنا أن فعل الشرط ،يرتبط جبوابني معطوفني للشرط ( مل تُ ِ
القيم من مهدها الصيغة تُع ّد إجنازا لقدرات الذات املتكلّمة داخل اخلطاب على حتويل األنساق الثقافية ،و ِ
ً
تحول ،أو حتويلها من ممارسة نسقية صامتة يف الثقافة ،إىل نظام
االجتماعي الثابت إىل جماهلا اخلطايب امل ِّ
صويت داخل اخلطاب الشفاهي ،ونظام عالمايت داخل اخلطاب املكتوب .أما الصيغة الشرطية يف البيت
الثاين ،فهي ناقلة /واصفة لطبيعة تقييم املرأة العربية للرجل ،ومن املثري للجدل هو أن هذه الصيغة اعتمدت
قل مالُهُ) وجواب واحد للشرط ( فليس له من ودهن نصيب) على فعلني للشرط ( إذا شاب رأس املرء ـ أو ّ
وهذا على عكس البيت األول الذي اعتمدت صيغة الشرط على جوابني معطوفني للشرط وفعل واحد!
وهذا يؤكد وعي الذات املتكلّمة داخل اخلطاب بالتاريخ كخلفية معرفية بني الفرد والعامل ،ولعل هذا يؤكد
مقولة ( بارت) " إن النص ليس جمموع كلمات ،بل هو فضاء متعدد األبعاد ،ترتاوح فيه الكتابات
51
وتتعارض ،فهو نسيج ألقوال ناجتة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة".
إن ثنائية الشيب /الشباب يف األبيات تُعد صورة منوذجية لتقييم املرأة للرجل ثقافيًّا وإيديولوجيًّا ،فالشيب
هنا ليس عالمة على احلكمة واحلِلم ،وإمنا عالمة على الضعف واهلزال ،وكذلك الشباب ،ليس عالمة على
القوة .إن كل عالمة من عالمات تقييم املرأة للرجل هنا تتسم بالوضوح
التهور ،لكنه عالمة على ّ
الطيش و ّ
متاما بالنسبة للرجل الزوج ،وأول مفتاح بالنسبة للرجل
التام ،فمنذ دخول املرأة معرتك الزواج ،تتضح األدوار ً
ويهمشه
حسي يغيّب دور العقل ّ هو شبابه وماله ،فلهما دور حاسم يف التقييم الثقايف للمرأة،وهو تقييم ّ
متاما يف سياق العالقة االجتماعية ،وما تنطوي عليه من أبعاد إنسانية ،تؤكد غياب وعي املرأة يف ظل
ً
خضوعها هليمنة النسق الثقايف.
حتول يف الدال اخلطايب إىل شكل يف صورة صيغة إنشائية ال
فاملعىن الذي ُيتوي على قيمة ثقافيةّ ،
حتتمل إال الصدق ،ومن غري هذه الصيغة اإلنشائية سيظل يف عامل الصمت ،األمر الذي جيعلنا نؤكد وجود
تطور غري عادي من املعىن إىل الشكل ،أو من الدال الثقايف إىل العالمة اللغوية داخل اخلطاب.
ّ
51روالن بارت ،هسهسة اللغة ،ترمجة منذر عياشي ،مركز اإلمناء احلضاري ( بريوت) ط1888 ( 1م) ص.20
سيميائيات الرحيل :ملفوظات الخطاب وعمق الداللة.
هل ميكن اعتبار ارحتال الشاعر ممارسة واعية بأمهية االنفصال عن الواقع حبثًا عن احلرية اليت تش ّكل
جوهر التجربة الشعرية يف هذا اخلطاب؟
كيف ميكننا النظر إىل الرحيل باعتباره عالمة سيميائية دالة على فشل جتربة العشق يف اخلطاب الشعري
القدمي؟
قبل الشروع يف اإلجابة عن هذين السؤالني نود اإلشارة إىل أن عملية التخلّص من النسيب إىل الرحيل،
اهلم) وهو ما يؤكد قيمة امللفوظات
وسل َّ
متّت عرب عملية تلفظيّة اعتمدت على فعلني إجنازيني ( فدعها ـ ِّ
التحوالت داخل اخلطاب من الفصل – أي االنفصال عن جزء سابق وهو النسيب- اإلجنازية يف إحداث ّ
حتوالت مهمة بالنسبة
إىل الوصل – اجلزء اخلاص بالرحيل الذي ميثّل مهزة وصل بني النسيب واملديح -وهي ّ
التحوالت ختلق أحداثًا جديدة،
أيضا بُعدها الداليل ،فمن املعروف ان ّ
للمسار السيميائي للخطاب ،وهلا ً
والشاعر يسعى من خالل عملياته التلفظيّة إىل حتويل الواقع؛ ومن مثة الدخول يف عالقات جديدة مع
املمدوح ،تكون أجدى وأنفع من العالقات القدمية ( عالقته باحملبوبة) وقد حكم عليها بالفشل بسبب
ونفعا ،يتم داخل اخلطاب عرب عملية تلفظيّة،
فالتحول من حال إىل حال أكثر جدوى ً ّ وجود الرقيب.
تؤدي فيها األفعال اإلجنازية دورها البارز من الناحية التداولية ،حيث عالقة العالمة ( األفعال اإلجنازية)
مبستعملها ( الشاعر) فتُحدث العالمة أثرها الواضح يف مستعملها باالنتقال من حال فقد فيها حمبوبته،
شأسا من األسر ،ويف اخلطاب من سياق إىل سياق آخر ،مما ُُيدث إىل حال آخر يستعيد فيها أخاه ً
ِحرا ًكا داخل اخلطاب ،ويؤكد فعاليته وجناعته يف إجناز األشياء.
إن الوعي باحلرية ،يتولّد يف اللحظة اليت تسعى فيها الذات إىل االنفالت من كل ٍ
قيد أو أس ٍر ،وعندما ّ
اهلم )..فإن ذاته قد امتلكت الرغبة والقدرة على جتاوز
وسل ّقرر علقمة قطع الصلة بالنسيب ( فدعهاِّ ،
مجيع القيود الثقافية اخلارجية اليت وقعت فريسة هلا يف اجلزء اخلاص بالنسيب ،وعلى ذلك ،فإن الوعي
بأمهية االنفصال يف سبيل حتقيق احلرية الفرديّة ،ينطوي على حركة مستمرة لالنفصال عن هذا الواقع ،وإذا
كانت احلرية متثل جوهر الوجود اإلنساين – حسب مقولة مريلوبونيت الشهرية -فإن اإلنسان الواعي هو
الذي يعرف مىت ينفصل عن عا ٍمل ما يف سبيل حتقيق حريته؛ ومن مثة ميتلك القدرة على جتاوز كل احلدود
اليت تقف يف طريقه وحتول دون حتقيق هدفه ،فانفصال علقمة عن النسيب ،ميكن تأويله معرفيًّا يف سياق
البحث عن احلريّة الفردية اليت افتقدها بسبب خضوعه ألنساق الثقافة ،وهذه اخلطوة مهمة يف سبيل حترير
أخيه شأس يف اجلزء اخلاص باملديح.
ميكننا مناقشة اجلزء اخلاص بالرحيل يف بائية علقمة الفحل باعتبارها تركيبة رمزية ،ووسيلة تعبرييّة لقول
شيء ما عن شيء ما – حسب تعبري أرسطو املعروف -وهلذا سنركز على الداللة الثقافية واالجتماعية
هلذه الرتكيبة الرمزية بوصفها حاشية إلرادة التجاوز اليت تتملّك الشاعر بعد إخفاقه يف اجلزء اخلاص
بالنسيب ،ويرتتّب على رحيل الشاعر احلفاظ على النظام األخالقي للجماعة ،وحتصني املرأة /احملبوبة من
االنشغال برجل يتسبب هلا يف كثري من املشكالت مع نظامها الثقايف اليت ختضع لشروطه؛ ومن مثّة تُعد
عملية الرحيل إنقا ًذا للنظام األخالقي السائد يف اجملتمعات القبليّة قدميًا ،ومنع انتشار الفتنة بني الرجال
والنساء؛ ألن ارحتال الشاعر يعين ترك جتربة العشق هنائيًّا ،ويف هذه احلالة فإن الدراسة السيميائية للجزء
اخلاص بالرحيل يف بائية علقمة تسعى ملناقشة عناصر اجلزء اخلاص بالرحيل – الناقة والبقرة الوحشية وبعض
عناصر الطبيعة اليت اعتمد عليها علقمة يف بائيته -كعالمات دالة على أغراض قيميّة وإنسانيّة ،فما يقوله
التحمل،والبقرة الوحشية ومهارهتا يف اهلروب من الصائد الذي
اخلطاب عن الناقة وقدرهتا على الصرب و ّ
يرتبّص هبا ،والطبيعة مبا ترسله إىل األرض من عالمات ،ليس من باب احلشو يف اخلطاب الشعري القدمي؛
نوعا من التثقيف ٍ
ألن العناصر األساسية يف اجلزء اخلاص بالرحيل وما تنطوي عليه من دالالت ومعان ،تُع ّد ً
احليايت يأيت بعد التثقيف العاطفي يف اجلزء اخلاص بالنسيب ،فما يتعلّمه املتلقي يف هذا اجلزء ،هو إدراك
اهليئة اليت تتخذها الثقافة اجلمعيّة يف مواجهة التحديّات ،فرحلة الناقة وما تعانيه من صعوبات ،هي الطريقة
تأمل شكل قسوة الطبيعة عليهم وكيفيّة مواجهتها ،وجتربة البقرة الوحشية مع اليت يتبعها اجلاهليون يف ّ
تأمل شكل تربّص العدو هبم ،والرابط بني التجربتني
الصائد ،هي الطريقة اليت يتبعها العرب اجلاهليون يف ّ
– جتربة الشاعر مع الناقة وجتربته مع البقرة الوحشية -يتمثّل يف التحلّي بالصرب واالنتباه إىل اخلطر ،أما
التأمل واملالحظة
جتربته مع الطبيعة الصامتة – النجوم واألفالك -فتتمثّل يف إعمال العقل والقدرة على ّ
واالكتشاف .والشاعر بربطه بني هذه العناصر ،يؤسس جملموعة من القواعد الثقافية الرمزية حتتاج لتأويالت
للكشف عن ما تنطوي عليه من معان .فـ ( علقمة) يف بائيته ،يق ّدم لنا الرحيل ليس كجزء منوذجي متكرر
يف اخلطاب الشعري ،ومن اخلطأ التعامل مع هذا اجلزء على أنه إخبار عن جتربة علقمة يف رحيله ،بل جيب
تأمل ما ُيدث يف الرحيل ،فنحن ال نقرأ هذا اجلزء لنعرف ماذا حدث لعلقمة يف رحلته؟ حنن نقرؤه لتأويلّ
ممارسات الشاعر بعد خسارته حملبوبته اليت وقعت أسرية للتقاليد االجتماعية ،وحماولته تعويض هذه اخلسارة
بفوز اجتماعي يتمثّل يف إطالق سراح أسري وحتريره من العبودية ،حنن نقرؤه لنفهم الوجه اآلخر لعبودية
الثقافة.
إن تقاليد الثقافة وأنساقها تفرضان على املرء طريقة تشكيله لعالقاته بالوجود ،وهذا يعين أن األنساق
الثقافية والتقاليد االجتماعية ،تقف خلف جانب املمارسات الفردية لألفراد ،وتسهم بقدر كبري يف صياغة
كثريا باإليديولوجيا؛ ولذا يقرتن حتليل اخلطاب يف دراستنا بالتحليل
اهلويات اجلمعية ،فالسلوك الفردي يتأثّر ً
النقدي لإليديولوجيا؛ ومن مثة ميكننا مساءلة العالقة بني امللفوظات اخلطابية واملمارسات االجتماعية خارج
مهما يف حتليل اخلطاب والبحث يف ما وراء املعىن
دورا ً
اخلطاب ،وتؤدي السيميائية بوصفها واسطة بينهما ً
اخلطايب.
معان ُيضر عربها الشاعر متخفيًا يف صفاهتا ،ومن خالهلا يبحث الشاعر عن الناقة عالمة ُحتيل على ٍ
وضع جديد يليق به بعد إخفاقه يف جتربة العشق ،فالناقة ال تُشري إىل معطى خطايب يتكرر يف اجلزء اخلاص
غري السياقات فحسب ،بل تتغري بت ّ
متغرية ّ
بالرحيل يف اخلطاب الشعري القدمي ،وتكراره مينحه دالالت ّ
تشري إىل حاالت رمزية يستطيع الشاعر من خالهلا االنتقال من حالة انفصال عن جتربة غري مرغوب فيها،
إىل حالة اتصال مرغوب فيها مع املمدوح؛ وذلك ليجدد فعاليته النفسية ويؤكد حضوره يف العامل ،وهذا
أمر تؤكده فلسفة الرحيل باعتبارها – داخل اخلطاب -منطقة وسطى بني ما هو إنساين – جتربة العشق
مع احملبوبة -إىل ما هو مادي – جتربة الشاعر مع املمدوح -أو بني الفشل يف النسيب ،والنجاح يف املديح.
وتتحول داخل اخلطاب إىل كائن " ُم ِنقذ" ُيمل على عاتقه مساعدة ّ إهنا ُحتيل على نظام اجتماعي،
احململ هبمومه يف االرحتال من حالة سلبية ،إىل حالة إجيابية ،إهنا نقيض إلكراهات الثقافة ،وتقوى
الشاعر ّ
املفصل خلصائصها اجلسديّة
ميكننا من فهم حرص الشاعر على الوصف ّ على مواجهة الطبيعة؛ ولعل هذا ِّ
داخل اخلطاب.
إن ما جيعل موضوع الناقة يف اخلطاب الشعري ذا مكانة متميّزة ،ليس قيمة الناقة كحيوان يتسم بالصرب
حتمل الصعاب فحسب ،بل يف ما يؤديه موضوع الناقة من وظائف داخل اخلطاب ،فهي والقدرة على ّ
على سبيل املثال وسيلة انتقال الذات بعد إخفاقاهتا يف النسيب – بسبب عدم قدرهتا على مواجهة
األنساق الثقافية أو التقاليد االجتماعية -إىل داخل كيان الصراع مع الطبيعة يف اجلزء اخلاص بالرحيل،
وكأن لسان حال الشاعر يريد نقل الصراع مع الثقافة إىل الصراع مع الطبيعة -أي يريد نقل الصراع مع
الطبيعة باعتبارها الواقع املوضوعي املستقل عن الفرد بعد أن فشل يف حسمه مع ما هو مكتسب /الثقافة-
وعلى هذا ميكننا دراسة اجلزء اخلاص بالرحيل يف خطاب علقمة باعتباره متثيالً خطابيًّا حلقول التوتر املعقدة
بني ماهو طبيعي وما هو مكتسب ،وقد تكون الناقة بديالً رمزيًّا لشخصية صاحبها /علقمة ،أو مرايا
حيوانية ذات شكل نفساين – إذا جاز التعبري .-فموضوع الناقة ُيضر يف اخلطاب الشعري القدمي بوصفه
حماكاة لفلسفة النظام االجتماعي السائد.
وميكننا إدراك أمهية موضوع الناقة يف خطاب علقمة الراهن من خالل الربط بني ثالثة جوانب من
الصراع بني اإلنسان ،والطبيعة ،والثقافة:
شكله الدرامي ،إخفاق الشاعر يف الفوز باحملبوبة والشعور بـ االهنزامية أمام ما هو مكتسب/
الثقافة.
حمتواه اجملازي ،االنفصال عن جتربة العشق ،واالتصال باملمدوح لتجديد فعالية الشاعر النفسية
وتأكيد حضوره يف اجملتمع.
سياقه االجتماعي ،بوصفه ممارسة نسقية تتكرر يف اخلطاب الشعري؛ ّ
ليعرب عن معىن ما خيتلف
من خطاب آلخر؛ ومن مثة ميكن اعتباره حماكاة شكلية للتوترات اليت يعاين منها الفرد اليت تتمثّل
قيمته الرفيعة يف احملافظة على التقليد االجتماعي والتضحية برغبته يف سبيل حراسة التقليد واحملافظة
عليه ،وتنشأ قوة موضوع الرحيل اجلمالية املؤثرة يف املتلقي من قدرته على اختزال هذه احلقائق يف
كيان واحد هو الناقة؛ حيث ميكن تأويلها سيميائيًّا يف هذا السياق باعتبارها عالمة سيميائية
دالة على الكربياء واإلحساس املتعايل بالذات؛ ومن مثة ربط الشاعر بني اإلحساس بالذات
والناقة ،والربط بني الناقة وجماهبة الصعوبات والتح ّديات اليت تواجهها ،مث بلوغ اهلدف املنشود
وهو الوصول إىل املمدوح.
إن هذا الربط يستدعي يف املخيّلة جانبًا من جوانب جتربة اإلنسان مع الثقافة ،ولئن كان اجلزء اخلاص
بالرحيل تعبري خطايب عن الصراع بني اإلنسان والطبيعة ،ويبدو وكأنه مقطع منوذجي للحياة البدوية العامة،
فإنه من جانب آخر يبدو كعالمة على صمود الذات اإلنسانية وحت ّديها للطبيعة ،إنه عالمة على رغبة
الذات يف إعادة بناء احلياة مرة أخرى ولكن على أساس مادي – بعد أن رفضت األنساق الثقافية مبدأ
املشاعر اإلنسانية -تكون األموال فيه هي هدف الشاعر .إن صورة الرحيل يف اخلطاب الشعري ،هي
صورة قوية يف تعبريها عن احلياة كما يريدها البدويّون يف أعماقهم؛ ألهنم بطبيعتهم – بفعل األنساق
نادرا ما يقاومون إذا كان
التهرب منها ،وهم ً
نادرا ما يواجهون األمور ال سيما إذا كان بإمكاهنم ّ
الثقافيةً -
بإمكاهنم املراوغة – مسة من مسات األنساق -إال أهنم يف صراعهم مع الطبيعة ،يربزون بصورة التحلّي
بالصرب والقدرة على حتمل الصعاب يف سبيل بلوغ اهلدف.
إن هرميّة الكربياء مبا هي انصهار خاص متميّز بني رغبة اإلنسان بعد اإلخفاق وطاقة الناقة يف الصرب
التحمل جندها مغلّفة بغطاء آداب السلوك والتقاليد االجتماعية والتلميحات واإلشارات ،وهي تظهر يف
و ّ
عبارات واضحة ال يغطيها سوى قناع رقيق من الوجود احليواين ممثل يف الناقة ،وهو قناع يكشف سيميائيًا
عن إحباطات نفسية بعد تطلّعات ذاتية لذات تعيش حمنتها مع أنساقها.
املتأمل يف البيت 11/يكتشف العالقة املفصلية الفارقة والقرينة الدالة على التخلّص من النسيب
لعل ّ
إىل الرحيل بفعلني إجنازيني متتاليني مسبوقني بالفاء االستئنافية ( فدعها) معطوفًا على فعل إجنازي (
وسل) .الفعل األول يشري إىل معىن االستغناء يف إشارة إىل عدم جدوى املمارسة السابقة وعدم جناعتها
ِّ
التحول عن ممارسات غري جمدية إىل ممارسة
التحول ،أي ّ
يف حياة الشاعر ،ويشري الفعل الثاين إىل معىن ّ
اهلم) حيث تؤّكد اإلضافة رغبته يف جتاوز هذه
جمدية ،ال سيما إذا وضعنا يف االعتبار أمهية إضافته لـ ( ّ
التحول هنا يأيت عرب ( اجلسرة) -أي الناقة القوية اليت تسرع املشي ولو
اهلموم املرتبطة باملرحلة السابقة ،و ّ
كانت حتمل أكثر من طاقتها أي الراكب ورديفه -وإذا حلّلنا امللفوظات الثالثة السابقة من الناحية
التداوليّة ،اكتشفنا أمهية األبعاد التداولية هلذه امللفوظات ،فالفعل األول ( فدعها) ينطوي على بُعد إجنازي
يتمثّل يف حتقيق حدث ما وهو االستغناء ،وينطوي على بُعد متريري يتمثّل يف مترير معىن ما وهو عدم
ج دوى املمارسات السابقة يف حتقيق رغبات الشاعر؛ وذلك لتعارض هذه الرغبات مع األنساق والتقاليد
االجتماعية – كما سبق أن أوضحنا .-والبُعد الثالث تأثريي ،يتمثّل يف قدرة هذا الفعل وجناعته يف التأثري
على ذات الشاعر احملبطة بعد فشلها السابق يف النسيب وحتويلها من حالة اإلحباط إىل حالة من حاالت
استشراف األمل يف احلياة عن طريق ممارسات أخرى أكثر جدوى وجناعة.
التعزي ،أي
اهلم) ،ينطوي هو اآلخر على بُعد إجنازي يتمثّل يف حتقيق حدث ما وهو ّسل ّ الفعل الثاينِّ ( :
تعزية الذات بعد إخفاقها ،وينطوي كذلك على بُعد متريري يتمثّل يف مترير معىن ما وهو الصرب وجناعته يف
مراحل االنتقال لتجاوز اليأس ،والبُعد الثالث وهو تأثريي يتمثّل يف قدرة الفعل يف التأثري اإلجيايب على
جدا يف
النفس مبا جيعلها قادرة على جتاوز مهومها وآالمها بالتسلّي .ومن املعروف أن عملية التسلّي مهمة ً
قتل الفراغ كتمهيد لتجاوز احملنة.
أما ملفوظ ( اجلسرة) أي الناقة القويّة ،فيأيت بعد حرف اجلر كعالمة على اإلنقاذ ،أي إنقاذ الشاعر
املفصل خلصائصها مبلفوظات
وانتشاله من حالة اليأس واإلحباط؛ ومن مثّة يشرع الشاعر يف الوصف ّ
متنحها خصائص مميزة متكنها من أداء وظيفتها داخل اخلطاب .وإذا حاولنا تأويل هذه امللفوظات الواصفة
للناقة سيميائيًّا أمكننا تأويلها يف سياق فكرة اإلسقاط – بلغة علم النفس -فهذه امللفوظات عالمة على
إسقاط حالته النفسية القلقة واملتوتّرة بني األمل واليأس ،بني النجاح واإلخفاق .فلفظ ( ناجية) أي سريعة
وتعرف كيف تنجو بصاحبها ،يُشري إىل معىن القوة الذي يتوازى مع متسك الشاعر باألمل والرغبة يف
كيب ضلوعها) اليت يشري إىل معاين الضعف والوهن ،وهي
النجاح ،مث يردف هذا امللفوظ بعبارة ( أفىن ر َ
توازي حالة اإلحباط واإلخفاق اليت جتد مال ًذا هلا يف نفسية الشاعر.
والربط بني الناقة والبقرة الوحشية يف األبيات ( )11 :11ينطوي على معان خاصة افتقدها الشاعر يف
حتمل الصعاب والصرب على عناصر الطبيعة ،وهي الصفات اليت افتقدها حمبوبته ،فالناقة تتميّز بقدرهتا على ّ
تتحل بالصرب عليها ،واستسلمت لتقاليد الثقافة.
حتمل الصعاب ،ومل َّ الشاعر يف حمبوبته اليت مل تستطع ّ
والبقرة الوحشية تتميّز بقدرهتا على التمييز بني من يرتبّص هبا ( الصائد الذي يقابل الرقيب عند احملبوبة)
غب السرى) اهلروب منه وإنقاذ فلذات وتستطيع بذكائها وخربهتا من التجارب السابقة ( وتصبح عن ّ
أكبادها؛ ومن مثة اللجوء إىل املالذ اآلمن وهو الكهف الذي يأويها من خماطر اآلخرين املرتبصني هبا،
وهذه الصفات افتقدها الشاعر يف حمبوبته اليت آثرت السالمة واستسلمت لتقاليد الثقافة وتركته لسهام
الصائدين!.
ويؤدي هذا اجلزء وظيفته يف اخلطاب عرب ثالثة مستويات:
املستوى األول :امللفوظات.
املستوى الثاين :التل ّفظ.
املستوى الثالث :املرجعيّات.
المستوى األول :امللفوظات ،يتمثّل يف اعتماد الشاعر على ملفوظات ِّ
متنوعة ،جزء منها يتمثّل يف األفعال
اهلم) واجلزء اآلخر يتمثّل يف ملفوظات
سل َّ اإلجنازية وما تنطوي عليه من ٍ
معان متريرية وتأثريية ( فدعها) و ( ِّ
الوهاب أعملت ناقيت.)..
اهلم عنك) ( ،جبسرة) ( إىل احلارث ّ
وسل ّتربز عالقة التضمني ( فدعها ِّ
المستوى الثاني :التل ّفظ ،ميكن قراءته يف ضوء سيميائيات التل ّفظ باالنتقال من الفصل املقامي إىل الوصل
فاملتأمل يف البيت احلادي عشر يكتشف فكريت الفصل والوصل عرب الفعلني اإلجنازيني ( فدعها)
املقاميّ ،
اهلم عنك جبسرة)
وسل َّ
وهو فعل يُشري إىل الفصل بني مقام النسيب ومقام الرحيل ،والفعل املضاف ( ِّ
وهو فعل يُشري إىل الوصل بني مقامي النسيب واملديح.
المستوى الثالث :املرجع :ميكن احلديث عن مرجعية اخلطاب هنا من خالل الوظيفة اليت يؤديها اخلطاب،
وهي وظيفة تواصلية هتدف إىل إجناز حدث ما ،فال تكمن مرجعية اخلطاب يف املتكلّم ،كما هو احلال يف
اخلطاب العاطفي ،وال يف الواقع اخلارجي كاخلطاب العادي ،وال يف الرسالة اليت ُيملها كما يف اخلطاب
الشعري ،وإمنا تكمن يف وظيفته اإلجنازية ،إجناز احلدث ،فقد اهتم تركيز علقمة على لفت انتباه امللك
احلارث إىل ضرورة إطالق سراح شأس ،واالنتفاع بقدرة اخلطاب على التأثري والعمل مبقتضاه.
فاحلرية هي املوضوع اخلاص الذي تتأسسفعل الداللة يف خطاب املديحّ ، إن معىن احلريّة هو الذي يُ ّ
عليه جتربة علقمة مع امللك احلارث ،وهي ختتلف عن جتربته يف النسيب مع احملبوبة اليت تتجلّى يف حتقيق
توسالته ( فال حترمين
رغباته عرب حضور أشكال منتظمة من امللفوظات ،أما جتربته يف املديح ،فتتجلّى عرب ّ
جيدا أمهيّة هذه التوسالت -باعتبارها ممارسة فاعلة بني شخصني أحدمها/ نائالً )...ألن الشاعر يدرك ً
الشاعر ينتمي إىل خنبة من الشعب ،واآلخر /املمدوح يعتلي هرم املراتب االجتماعية ويتح ّكم يف مقاليد
التوسل
األمور -يف استجالب عطف املمدوح إلجناز فعل التحرر لشأس؛ وهلذا ميكننا القول :إن فعل ّ
اإلجنازي ،ومشاعر العطف عند املمدوح يؤسسان خللق الداللة يف اخلطاب ،وأهنما يتداخالن لتنظيم جتربة
وسل املسبوق بأداة النفي ( ال حترمين)...
الشاعر واملمدوح يف اخلطاب؛ ألن افتتاح الشاعر اخلطاب بفعل الت ّ
يُسهم يف طمأنة الشاعر بنجاح جتربة اخلطاب يف حل اإلشكاليات واألزمات؛ وذلك لطاقة هذا الفعل
التأثريية على املمدوح؛ حيث هتدف ال ّذات املتكلّمة هنا إىل تنظيم فاعليتها ضمن نظام مرتابط من
التوسل داخل اخلطاب يستهدف
جيدا أن فعل ّالتوسل" .إن ال ّذات تدرك ً
العالمات اللغوية ضمن حقل " ّ
مشاعر امللك احلارث باستدرار عواطف الصفح والعفو ،وذلك إلدراكها أن اآلخر ليس بالفعل هو ما تراه
التوسل ،ميكن أن مينحها أفعاله على أرض
أيضا ،وعندما يراها يف سياق ّ هي فحسب ،بل فيما يراها ً
52
التوسل املسبوق
الواقع؛ ألنه حباجة إليها بقدر حاجتها إليه طب ًقا لثنائية السيِّد والعبد عند هيجل .ففعل ّ
بال النافية ،يرفع مرتبة املمدوح إىل مرتبة األلوهيّة -ال سيما إذا ما وضعنا يف االعتبار ما ينطوى عليه
طقسا من
التوسل يف الديانة الوثنيّة باعتباره ً
الشطر الثاين من معىن الغُربة -وذلك ملا ينطوي عليه معىن ّ
التقرب إىل اآلهلة ميارسها العبد للحصول على متطلباته!
طقوس ّ
رمزا لتفعيل الداللة ،وذلك على خالف من شخصية الرقيب اليتوتأيت شخصية املمدوح هنا باعتبارها ً
احلرية ممثلة يف إطالق سراح شأس،
رمزا لقمع الداللة ،والداللة هنا هي ّ
حضرت يف النسيب باعتبارها ً
احلرية بأفعال املمدوح والعكس.
حيث ترتبط ّ
وميكننا إدراك دور شخصية املمدوح يف تفعيل الداللة من خالل فسح اجملال أمامنا لدراسة عملية التل ّفظ
تكون عملية التل ّفظ جمموعة من احلقول املعرفيّة يف اخلطاب ميكن تأويلها يف خطاب علقمة؛ حيث ِّ
أفضت
سيميائيًا ،وكذلك يع ّد " التسليم" أي تسليم األمر للملك احلارث يف البيت التايل ( وأنت امرؤ َ
إليك أمانيت -أي انتهت إليك )-استمر ًارا هلذا التنظيم الفاعل من قِبَل الذات املتكلِّمة ،باإلعالن عن
منح الثقة الكاملة للطرف اآلخر /املمدوح يف التفويض إلجناز احلدث .وحدث املقارنة يف الشطر الثاين
من البيت نفسه ( وقبلك ربتين فضعت ربوب – أي ملكتين أرباب امللوك فضعت حىت صرت إليك)-
يزيد من ثقة الشاعر يف امللك احلارث إلجناز احلدث ،والقسم املتبوع بأداة الشرط يف البيت التايل عالمة
تفعل داللة الثقة يف قدرات امللك احلارث ،الذي بفضله حتقق النصر لقومه.
لفظية على ممارسة اجتماعية ّ
52راجع ،هيجل ،علم ظهور العقل ،ترمجة مصطفى صفوان ،دار الطليعة ( بريوت) ( 1821م) ص .142 :141
تقع املمارسات السابقة ضمن خطة الذات املتلفظة داخل اخلطاب لتحقيق مأرهبا ،أضف إىل هذا ،أن
املكونات الداللية للخطاب ،ويعتربها فرانسوا راستييه Francoisهذه املمارسات متثّل ركائز يف ِّ
53
فعالة يف مستوى إنتاج النصوص وتأويلها: ّ Rastier
املكون املوضوعايت بإدماج
جتميعا مبنيًّا للسمات الداللية ،وبدوره يقوم ِّ
املكون املوضوعايت :وهو يناظر ً ِّ
مكون املعىن احملوري.
ِّ
التطورات املتالحقة.
املكون اجلديل :ويعاجل الفواصل الزمنية املمثَّلة ،و ّ
ِّ
املكون احلواري :ويؤسس لنمطيّة املتلفظني.
ِّ
النصي).
املكون التكتيكي :ويُعىن بالتموضع اخلطي للوحدات الدالليّة ( التنظيم ّ
ِّ
يتوفر خطاب علقمة على ملفوظات هلا أبعادها السيميائية اخلاصة؛ حيث تستدعي هذه امللفوظات
ِّ
وتشكل هذه موضوعات تراثية ،أو أسطورية تفصلها مئات بل آالف السنني عن زمن إنتاج اخلطاب،
53ماري آن بافو ،وجورج سرفايت ،النظريات اللسانية الكربى :من النحو املقارن إىل الذرائعية ،ترمجة حممد الراضي ،مركز
دراسات الوحدة العربية ( املنظمة العربية للرتمجة) ( بريوت) ط 1مارس ( آذار) ( 8018م) ص.142 ،141
امللفوظات حقوالً معرفيّة داخل اخلطاب ،ميكن تأويلها سيمائيًّا مبا يسمح بالتق ّدم خطوات إىل األمام حنو
اكتشاف طرائق نوعية جديدة لدراسة املعىن داخل اخلطاب؛ ومن مثة ميكننا طرح السؤال التايل :هل ُُيكم
القوة اليت
حبرية ويطرح مفاهيمه اجلديدة واخلاصة به؟! ما ّ اخلطاب بالتاريخ؟ أم أنه خارج التاريخ يُكتب ّ
صنعت اخللفيّة املعرفيّة للخطاب؟ من الذي يصنع السيموزيس داخل اخلطاب؟ هل هي األطر املرجعيّة؟
دائما بني
أم سياق اخلطاب؟ أم املتلقي؟ اخلطاب يتألّق باملفاهيم والرموز ،واملتخيّل التارخيي .اجلدل قائم ً
اخلطاب وعناصره ،إن صريورة املعىن يف خطاب املديح تكشف عن خضوع الشاعر وخطابه ،للتارخيانية،
تبعا
متحول من خطاب آلخر ًحتوالهتا؛ ولذا فاملعىن يف املديح ِّ
أي اخلضوع لنظام األنساق يف ثباهتا ويف ّ
ملنظومة الرؤى واألفكار اخلاصة بكل خطاب ،ويستعني خطاب املديح جبهاز من امللفوظات ذات
التصورات األسطوريّة تعمل ضمن قوانني خاصة قبل استدعائها
احلموالت الثقافيّة ،واإلُياءات الدينية ،و ّ
يف شكل عالمات تقوم مقام هذه األفكار السابقة على اخلطاب ،فعبارة ( فقاتلتهم حىت اتقوك بكبشهم)
ذات محولة دينية /ثقافية ،وكلمة ( كبشهم) تشري إىل امللك املنهزم وهو املنذر بن ماء السماء ،وتستدعي
هذه العبارة فكرة ( كبش الفداء) املعروفة يف قصة سيدنا إبراهيم مع ولده إمساعيل ،وهو استدعاء له داللته
اخلاصة يف سياق اخلطاب الشعري ،فإذا كان ( الكبش) كان ِهبة السماء افتداءً إلمساعيل عليه السالم،
فإن املناذرة ق ّدموا ملكهم فديّة للعفو عنهم!.
إن اإلشارة إىل قصة سيدنا إبراهيم – عليه السالم ( -حىت اتقوك بكبشهم) بعد الفعل املاضي (
فقاتلتهم) تعبري عن اإلمعان يف تصوير سلطة املق ّدس الثقايف ( ذات امللك احلارث) وجعلها تكتسي
وتقربًا هلذه الذات املقدسة ،هذا هو ما
توددا ّ
شرع لتسيل الدماء ً
دالالت خاصة داخل اخلطاب ،فالقتال يُ ّ
ابتدعته خميلة اخلطاب؛ ليؤدي دوره الفاعل يف تكثيف الداللة الثقافية للذات املمدوحة.
وملفوظات البيت (ُ )11حتيلنا على قصة أهل مثود عندما عقروا الناقة ،فأهلكهم اهلل بالصاعقة ،وهذه
أيضا ،وهي وضع أهل مثود وما ناهلم من عذاب ،وأهل املنذر إحالة هلا دالالهتا اخلاصة يف هذا السياق ً
بن ماء السماء يف قرن داليل مشرتك من اهلالك والدمار ،والتشبيه يف البيت التايل يؤكد ذلك؛ حيث يرسم
الشاعر صورة لسفك الدماء يف املعركة ويشبهها باملطر والصواعق اليت تنزل من السماء فتبلل أجنحة الطيور
فال تستطيع الطريان!.
وملفوظات البيت ( ُ )11حتيلنا إىل طقوس وشعائر الزواج ،فنجد امللك احلارث وقد " ُخضبت يديه
بالدماء السائلة على حد السيف مثل خضاب احلنّاء .وملا كان ختضب اليدين باحلنّاء من شعائر الزواج
ّ
نستطيع أن نرى يف هذه الصورة بني بعث احليوية اخلصب عن طريق سفك الدماء يف احلرب من ناحية،
واخلصب واإلحياء عن طريق الزواج وإجناب األوالد من ناحية أخرى ،وكما نرى يف اجلِماع املق ّدس يف
54
الطقوس املومسية ،يُفهم فض بكارة العروس بأنه نوع من التضحية بالدم من أجل إنتاج حياة جديدة"
يطالعنا الشاعر يف األبيات ( :85هناية القصيدة) مبجموعة من الصفات والنعوت ،ينعت هبا الشاعر
املتأمل يف امللفوظات
امللك احلارث ،ويربز فيها بطوالته وبسالته يف مواجهة األعداء واالنتصار عليهم ،و ّ
املؤسسة للخطاب يف هذه األبيات ( تقدمه حىت تغيب حجوله ـ وأنت لبيض الدارعني ضروب ـ فقاتلتهم
ِّ
حىت أتقوك بكبشهم ـ ختشخش أبدان احلديد عليهم ـ كأن رجال األوس حتت لبانه ـ رغا فوقهم سقب
السماء فداحض ـ كأهنم صابت عليهم سحابة ـ فلم ينج إال شطبة بلجامها ـ وأنت الذي أثاره يف عدوه
)..يكتشف أهنا حماوالت تلفظيّة لالستيالء على عواطف املمدوح ،واالستحواذ على قدراته وتسخريها
حلماية اآلخرين والدفاع عنهم؛ هبدف حتقيق مطالب الشاعر.
إن قراءة الشاعر لبطوالت املمدوح ال تقتصر على حبث الشاعر عما يهمه ،إهنا تسعى للكشف عن
السريورة احليّة ألعمال امللك احلارس ،فاألعمال البطولية اخلالدة – ال سيما اليت تتعلّق باحلريات -تتجاوز
حدود السياق التارخيي والسياسي ،بل إن الشاعر يقف عند امللك احلارث باعتباره:
يب مسا ٍو ،وال ٍ ِ
ذاك قَر ُ
دان لَ َ ُ وما مثْـلُهُ يف النَّاس إال قبيلُهُ
القيم اإلنسانية القدمية ،هي النبع املتجدد الذي يستقي منه خطاب اإلشادة مفاهيمه عن األشياء إن ِ
والشخصيات ،ومن هنا ميكننا القول :إن الداللة داخل اخلطاب ،تستمد حيويتها وفاعليتها من شروط
أمرا هيّـنًا ،ال سيما إذا ما وضعنا
الثقافة اليت أنتجتها؛ ولذا فإن الوقوف على الدالالت داخل اخلطاب ليس ً
يف االعتبار أن ال ِقيَم الثقافية ميكن أن تكشف يف نظامها الثقايف عن كثري من املفاهيم داخل نظام عقلي
مجعي ،وعندما تنتقل هذه املفاهيم من حمضنها الثقايف إىل سياقها اخلطايب ،تكتسي بدالالت نوعيّة هلا
القيَم عندما تتحول إىل مفاهيم داخل اخلطاب،بريقها اخلاص داخل اخلطاب لتحقيق مقصد ما؛ وهلذا فإن ِ
وتنوع الداللة ،فاستعمال املفهوم يف اخلطاب،
متحولة وغري ثابتة ،وذلك بفعل عملية التل ّفظ ّ
تصبح بدورها ّ
ينحو به ،أو جيعله يقول مامل يقله من قبل.
54ـ راجع سوزان ستيتكيفيتش ،أدب السياسة وسياسة األدب ،ص .21
إن وضوح اآلخر /املمدوح يف اجلهاز املفاهيمي للخطاب ،واختزال ممارساته يف األخالقيات ،يفتح
اخلطاب على نوع خاص من الداللة ،ويؤطّر املعىن يف سياق ِ
القيَم األخالقية العربية؛ وذلك هبدف حتقيق
الغايات واملقاصد من اخلطاب ،وهي ممثلة يف إطالق سراح شأس ،فالذات املتكلّمة تنظر إىل اخلطاب
على أنه العامل املثايل الذي يتجاوز مجيع األنساق القامعة ،املفاهيم اجلاهزة ،يتجاوز األشياء من خالل
استنطاق مضامينها ومرجعياهتا من خالل ذات متعالية ،تسعى لرسم أفق جديد للواقع يتفق مع تعاليها.
أخريا ،فإن العالقة بني الذات املتلفظة وموضوع اخلطاب ،هي عالقة برامجاتية؛ وذلك لتحقيق مقاصدها
و ً
وغاياهتا يف احلياة ،وليس املطلب األخالقي شرطًا من شروط اخلطاب اإلبستمولوجية ،بقدر ما هو فكر
وتساؤل يتجاوز دائما احلدود واألزمان مبا جيعله مؤهالً لتحقيق غايات الذات املتلفظة ،وحرص الذات
املتلفظة على إبراز البُعد األخالقي للممدوح يف املديح ،يؤكد وعيها باألخالقيات اليت ميكن أن حتمي
اجلميع ،وجتعلهم يف مأم ن من شرور بعضهم .إن هذه املمارسة اخلطابية للفهم اإلنساين ،واليت تشق جمراها
داخل خطاب املديح ،تعد عالمة على تعايل الذات املتلفظة وتوجهاهتا اإلدراكية داخل خطاهبا؛ ألهنا
تسعى إىل فهم اآلخر ( احملبوبة ـ املمدوح ـ القبيلة) بناء على جتارب حياتية سابقة؛ ومن مثة يغدو اآلخر
اختزاالً يف مقوالهتا ،فإذا كانت الذات املتلفظة هي منشئة اللغة ،فإن اآلخر هو حمضن املعىن.
خاتمة:
أمنوذجا
ً مهما يف تشييد سيميائية اخلطاب ،بوصفها
دورا ً
إن البنية املوضوعية خلطاب اإلشادة ،تؤدي ً
قادرا على تنظيم اخلطاب وفق معطيات قادرة على استيعاب الواقع ،باإلضافة إىل قدرهتا على استيعاب
ً
شبكة من العالقات املع ّقدة مع النظام الثقايف الضارب جبذوره يف أعماق التاريخ ،وتُدمج هذه املعطيات
يف سياق داليل تلفظّي ،يسهم يف كفاية املتل ّفظ ( الشاعر) وكفاية املتلفَّظ له ( احملبوبة أو املمدوح).
فالشاعر خيوض مغامرة تل ّفظية الستجالب عواطف اآلخر عرب نظام تلفظّي ُيمل إشارات وعالمات،
املتحولة .وقد ركزنا جهدنا يف
تكشف عن مهارة املتلفِّظ يف فهم العامل ،والوعي بالثقافة وأنساقها الثابتة و ّ
هذا البحث على االهتمام مبا يُعرف بـ ( احملفل اخلطايب) أي دراسة عملية التلفظ وأثرها على املتلفِّظ له،
فعملية التلفظ تصاحب الداللة حيثما وجدت ،فاهتمت الدراسة بالرتابطات اخلطابية ( امللفوظات
اإلجنازية) وانتقاء امللفوظات احملورية يف اخلطاب ،واليت تش ّكل عصب اخلطاب؛ ومن مثة تأويل إحاالهتا،
وحتوالته يف اخلطاب.
وإبراز دورها يف تش ّكل املعىن ّ
إن إقامة تقارب بني الفعل اللغوي والفعل التلفظي رغم تباين مرجعيتيهما منهجيا وإبستمولوجيا ،كان
مبثابة الرهان املعريف احلقيقي هلذه الدراسة؛ ومن مثة كان الرتكيز على مقاصد املتكلم ،والوعي بأن عملية
التلفظ ميكن أن تُفيد من توجهات السيمائية على حنو ما من خالل البحث يف عالقتها باملرجعيات و ِ
القيم ّ
الثقافية اليت ش ّكلت املعىن ،ومراجعة منزلتها ودورها الستثمارها يف جمال اإلقناع والتطويع وإنتاج املعىن من
خالل دراسة عملية الداللة؛ ألن النظر إىل عملية التلفظ كفعل يتش ّكل من خالله املعىن عرب إحاالته على
مرجعيات خمتلفة ،ميثّل احملور األساس لسيميائيات التلفظ يف حتليل اخلطاب.