You are on page 1of 14

‫مجلّة‬

‫المدوّنة‬ ‫ر‪ .‬د‪.‬م‪.‬د‪-ISSN 2437-0819 :‬رقم اإليداع القانوني‪2014-6068:‬‬

‫أثر الفلسفة اليونانية في البالغة العربية‬


‫د‪/‬فؤاد زرواق‬
‫جامعة سطيف‪2‬‬
‫تاريخ القبول‪2017/10/22 :‬‬ ‫‪2017/07/16‬‬ ‫تاريخ اإلرسال‪:‬‬
‫امللخص‪:‬‬
‫ُ‬
‫تعتبر البالغة العربية ‪ -‬كما يرى أرسطو‪ -‬فنا خطابيا بامتياز‪ ،‬ألنها تستخدم‬
‫ً‬
‫أدوات حجاجية واستداللية ومنطقية للتأثير في األخر‪ .‬فاعتبرت بذلك ُعدة منهجية يتزود‬
‫بها كل من الكاتب والخطيب في حواراته السياسية والقضائية والفلسفية واألدبية‬
‫والنحوية‪ .‬وتمحور عمل البالغة العربية قديما في جهود على شاكلة تحديد اإلعجاز القرآني‬
‫‪ ،‬واإلبانة على حدود الحقيقة واملجاز في الكالم‪ ،‬ومحاولة رصد مفاهيم الصدق والكذب‪.‬‬
‫ولكن البالغة العربية‪ -‬خالل تكوينها األول‪ -‬لم تكن بمعزل عن العديد من العلوم‬
‫التي عاصرتها في الزمان فاستفادت منها وبأقدار مختلفة ومتباينة‪ ،‬ومنها الفلسفة التي‬
‫تشربت من معينها وتمثلت ملفاهيمها كاالقيسة والحدود و التعاريف ‪.‬‬
‫وإذا كانت الفلسفة هي البحث الحر العميق‪ -‬الذي يدرس الجمال واملنطق‬
‫والشعور والنفس واألخالق‪ -‬فان البالغة هي دراسة فنون هذه املعارف وبحث الجمال فيها‪.‬‬
‫لذلك تروم هذه الدراسة محاولة الكشف عن اإلفادة التي أحرزتها البالغة‬
‫ُ‬
‫العربية من الفلسفة‪ ،‬وكيف كرست تلك املفاهيم في خدمة بالغتنا‪ ،‬وهل أعطت ثمارا‬
‫ملموسة في مجال الدرس البالغي العربي ‪ .‬راجين من املولى عز وجل في ذلك التوفيق انه‬
‫مجيب‪.‬‬
‫كلمات مفتاحية‪ :‬البالغة العربية‪ ،‬املنطق‪ ،‬التجديد‪ ،‬أثر الفلسفة‪ ،‬أرسطو‪.‬‬
‫‪Abstrat:‬‬
‫‪Arab rhetoric - as Aristotle sees it - is a rhetorical art of excellence, because‬‬
‫‪it uses the tools of the pilgrims, the evangelical and the logical to influence the‬‬
‫‪other. And thus considered several methods provided by the writer and Khatib‬‬
‫‪in his political dialogues, judicial, philosophical, literary and grammatical. The‬‬
‫‪work of Arabic rhetoric was in the past in efforts such as defining the Quranic‬‬
‫‪miracle, and the recognition of the limits of truth and metaphor in speech, and‬‬
‫‪an attempt to monitor the concepts of truth and lies.‬‬
‫‪But the Arabic rhetoric during its first composition was not isolated from‬‬

‫تاريخ النشر‪30 :‬جوان ‪2018‬‬ ‫‪275‬‬ ‫المجلد الخامس (العدد األول)‬


‫مجلّة‬
‫‪ISSN: 2437-0819, EISSN: 2602-6333‬‬ ‫المدوّنة‬
‫‪many of the sciences that it experienced in time and benefited from different‬‬
‫‪and different destinies, including the philosophy that it drank from one of its‬‬
‫‪concepts, such as borders, borders and definitions.‬‬
‫‪If philosophy is a free and profound research - which studies beauty,‬‬
‫‪logic, feeling, soul and ethics - rhetoric is the study of the arts of this‬‬
‫‪knowledge and the search for beauty in it.‬‬
‫‪Therefore, this study aims at revealing the benefit of the Arabic rhetoric‬‬
‫‪of philosophy, and how these concepts were enshrined in the service of our‬‬
‫‪communication, and whether it gave tangible results in the field of the Arabic‬‬
‫‪rhetorical lesson. We hope from the‬‬
‫مقدمه‪:‬‬
‫تعتبر البالغة من العلوم املتصلة باللغة والتي من خاللها يمكن الحكم على األعمال‬
‫وإما بالقبح والرداءة‪ ،‬فهي الشك روح األدب‪ ،‬واألدب‬ ‫األدبية بالتقويم ّإما بالحسن ّ‬
‫مادتها‪.‬ونشأت عند العرب في رحاب الدرس القرآني املبارك‪ ،‬فانبرت على آياته الكريمة‬
‫ُ‬
‫تدرسها وتحاول أن ت ِّّبين مكامن الجمال في عباراتها‪ .‬ولعل ما جاء في القرآن الكريم من آيات‬
‫أن الوليد بن املغيرة سمع‬ ‫تحدت العرب لدليل على استحالة ُمجا اته‪ ،‬ومن ذلك ّ‬ ‫بليغة ّ‬
‫ر‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقرأ القرآن الكريم فقال‪ ":‬وهللا لقد سمعت من محمد‬
‫ً‬
‫كالما ما هو من كالم اإلنس‪ ،‬وال من كالم الجن‪ ،‬وإن له لحالوة‪ ،‬وإن عليه لطالوة‪ ،‬وإن‬
‫أسفله مملُ ٌ‬
‫غدق"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وإن‬ ‫أعاله مملُ ٌ‬
‫ثمر ّ‬
‫وال شك أن البالغة علم ال يختص به العرب فقط دون غيرهم من األمم‪ ،‬وال هي‬
‫خاصة بطبقه معينه دون طبقه‪ ،‬أو بلسان دون لسان‪ .‬فنجد اليونان مثال سعوا‪ -‬من خالل‬
‫اجتهاداتهم‪ -‬إلى الرقي ببالغاتهم من خالل البحث في مسائلها وتطويرها‪ ،‬كما سعى العرب‬
‫إلى تطوير بالغتهم من خالل تنقيح الكالم والرقي به إلى درجه الفصاحة العالية‪.‬‬
‫ولعل الفلسفة واملنطق اليونانيين كانا من أهم العلوم التي داخلت البالغة في‬
‫شكل إسقاطات ملبادئ العلمين من قبل علماء عرب‪ ،‬ونقاد تأثروا بالثقافة اليونانية بعد‬
‫االحتكاك‪ ،‬والترجمات التي حدثت في نهاية القرن الثاني هجري؛وبداية القرن الثالث الهجري‬
‫مع بن قتيبة‪ ،‬والجاحظ‪ ،‬وقدامه وغيرهم‪.‬‬
‫لذلك نحاول في هذه الدراسة تسليط الضوء على ما أحدثه ذلك االتصال بين‬
‫الثقافتين في البالغة العربية‪ ،‬وإلى أي حد بلغ تأثر البالغة العربية بالثقافة اليونانية؛؟ وهل‬

‫‪276‬‬
‫مجلّة‬
‫المدوّنة‬ ‫ر‪ .‬د‪.‬م‪.‬د‪-ISSN 2437-0819 :‬رقم اإليداع القانوني‪2014-6068:‬‬

‫هذا االتصال كان ايجابيا ‪ -‬خادما لبالغتنا‪-‬؟أم هو مجرد تعسف في حق بالغتنا بتطويعها‬
‫املجحف لقوانين ال تخدمها؟ متعرضين في ذلك ملفهوم البالغة والفلسفة‪ ،‬ومعرجين على‬
‫آثار الفلسفة اليونانية في نقدنا بنموذج هو املدرسة الكالمية؛ ثم بناقد معروف في هذا‬
‫الباب وهو‪ :‬السكاكي‪،‬لنبين في األخير موقفنا من املنطق األرسطي‪،‬وهل كان فائدة للبالغة‬
‫العربية؟أم جناية أركست بالغتنا وعطلتها؟ وهللا نسال في ذلك التوفيق انه مجيب‪.‬‬
‫في مفهوم البالغة‪:‬‬
‫من التعاريف التي يجب الوقوف عليها في مفهوم البالغة ذلك التعريف الذي‬
‫ساقه الجاحظ عن مفهومها عند أمم مختلفة يقول‪ " :‬قيل للفارس ي‪ :‬ما البالغة؟ قال‪:‬‬
‫معرفه العقل من الوصل‪ ،‬وقيل لليوناني‪ :‬ما البالغة؟ قال‪ :‬تصحيح األقسام واختيار الكالم‪.‬‬
‫وقيل للرومي‪ :‬ما البالغة؟ قال‪ :‬حسن االقتصاد عند البداهة والغزارة يوم اإلطالة‪ .‬وقيل‬
‫للهندي‪ :‬ما البالغة؟ قال‪ :‬وضوح الداللة وانتهاز الفرصة وحسن اإلشارة"(‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫فإذا أردنا أن نلخص مفاهيم البالغة عند كل أمه‪ -‬ومن خالل هذا القول للجاحظ‬
‫‪ -‬فهي‪ :‬تدور حول مجموعه من املفاهيم وهي‪ :‬علم البيان؛ علم البديع ‪ ،‬و محاسن الكالم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫واضحا و قائما على قواعد وأسس‪ ،‬وإنما كانت‬ ‫والبالغة عند العرب لم تكن علما‬
‫عبارة عن معارف لغوية كامنة ومتمثلة في كالم العرب بالتوارث " فاملتكلم من العرب كانت‬
‫ملكة اللغة العربية موجودة فيه‪ ،‬يسمع كالم أهل جيله وأساليبهم في مخاطبتهم وكيفيه‬
‫تعبيرهم عن مقاصدهم‪ ،‬كما يسمع الصبي استعمال املفردات في معانيها فيلفها أوال ثم‬
‫يسمع التراكيب بعدها فيلفها كذلك إلى أن يصير ذلك ملكه وصنعة راسخة ويكون‬
‫كأحدهم"(‪.)2‬‬
‫إن العرب و بالرغم من عدم ظهور البالغة كعلم واضح عندهم "ونقصد من ذلك‬
‫العصر الجاهلي إال أنهم تفطنوا إلى ما يمكن أن يحمله الكالم من سقطات‪ ،‬كما أشاروا‬
‫إلى جوانب املعنى والجودة فيه‪ ،‬وال أدل على ذلك من تلك التصنيفات التي كانوا يضعون‬
‫فالن يخطئ في جوابه‪ ،‬ويميل في كالمه‪ ،‬ويناقض في خبره‪ ،‬ولوال أن‬ ‫فيها الشعراء فقالوا" ٌ‬
‫هذه األمور قبل كانت تكون في بعضهم دون بعض ملا سمي ذلك البعض والبعض اآلخر‬
‫بهذه األسماء"(‪.)3‬‬

‫تاريخ النشر‪ 30:‬جوان ‪2018‬‬ ‫‪277‬‬ ‫المجلد الخامس (العدد األول)‬


‫مجلّة‬
‫‪ISSN: 2437-0819, EISSN: 2602-6333‬‬ ‫المدوّنة‬
‫إن مفهوم البالغة التي تقوم على معاني اإليصال‪ ،‬و بلوغ النهاية من خالل تحقيق‬
‫الفائدة وبلوغ الكفاية املوضحة للكالم يكون من خالل القدرات اللغوية التي يتمتع بها‬
‫املتكلم في تعبيراته وكالمه‪ .‬واللغات حسب ابن خلدون" ملكات شبيهه بالصناعة إذ هي‪:‬‬
‫ملكات في اللسان للعبارة عن املعاني‪ ،‬وجودتها وقصورها بحسب امللكة ونقصانها‪ .‬وليس‬
‫ذلك بالنظر إلى املفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب‪ ،‬فإذا جعلت امللكة التامة في تركيب‬
‫األلفاظ املفردة للتعبير بها عن املعاني املقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكالم على‬
‫مقتض ى الحال بلغ املتكلم حينئذ الغاية املقصودة من إفادة مقصودة للسامع‪ ،‬وهذا هو‬
‫معنى البالغة"(‪.)4‬‬
‫ولعل الحوار الذي دار بين (معاوية بن أبي سفيان) و(صحار العبدري) كان‬
‫اإلرهاصات األولى ملفهوم البالغة منذ العصر الجاهلي‪ .‬قال أبو معاوية ما هذه البالغة التي‬
‫تع ّدون البالغة‬
‫فيكم؟ قال‪:‬ش يء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا‪ .‬قال معاوية‪ :‬ما ُ‬
‫فيكم؟ قال‪ :‬اإليجاز‪ .‬قال معاوية‪ :‬وما اإليجاز؟ قال‪ :‬أن تجيب فال تبطئ‪ ،‬وتقول فال‬
‫تخطئ"(‪.)5‬‬
‫من آثار الفلسفة في البالغة العربية ( املدرسة الكالمية)‪:‬‬
‫الشك أن البالغة بعلومها املعروفة قد نشأت في رحاب الدرس القرآني بغاية‬
‫اإلبانة على الجانب الجمالي والفني الذي تحتويه اآليات القرآنية‪ ،‬وروعة وسحر البيان الذي‬
‫انتظمت به حتى تكون هذه اآليات أمثله ونماذج لالستشهاد في ما بعد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املفسرين واللغويين‪ ،‬واألدباء واملتكلمين‪ ،‬والنقاد‬ ‫لقد تضافرت جهود كل من‪:‬‬
‫ملحاوله استجالء اإلعجاز في القرآن الكريم‪ ،‬فظهرت بذلك طوائف متعددة واتجاهات‬
‫مختلفة أفرزت مدرستان بالغيتان هما‪ :‬املدرسة األدبية‪ ،‬واملدرسة الكالمية" أو طريقة‬
‫العرب البلغاء وطريقه العجم وأهل الفلسفة"(‪.)6‬‬
‫واملدرسة الكالمية هي املدرسة التي اشتهرت بها مناطق تتميز باختالط عرقي‬
‫جنس ي بين الفرس واألتراك‪ ،‬حمل لوائها (أبو يعقوب السكاكي) منذ أواخر القرن السادس‬
‫الهجري إلى غاية العصر الحديث‪ .‬وتميزت البالغة في هذه املرحلة بطغيان الروح واألفكار‬
‫الوافدة من األمم األخرى فأثقلت البالغة باملنطق والفلسفة وعلم الكالم‪" .‬وتحولت البالغة‬

‫‪278‬‬
‫مجلّة‬
‫المدوّنة‬ ‫ر‪ .‬د‪.‬م‪.‬د‪-ISSN 2437-0819 :‬رقم اإليداع القانوني‪2014-6068:‬‬

‫املسكينة إلى حدود وتعريفات وشروح وتلخيصات أبعد ما تكون عن روح البالغة وما يجب‬
‫أن يكون فيها من روعه وجمال"(‪.)7‬‬
‫إن غاية ما ترمي إليه البالغة هو اإلبانة عن األحاسيس الفنية‪ ،‬ومحاوله صقل‬
‫األذواق وتعرية مكامن الجمال في النصوص األدبية واإلبداعات عموما‪ .‬ولكن البالغة مع‬
‫املدرسة الكالمية اهتمت أساسا بالتعريفات والحدود والتقسيمات املنطقية من خاللها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شروطها فالتعريف‪ -‬مثال‪ -‬يجب أن يكون" جامعا مانعا‪ ،‬واستعمال الطريقة الفلسفية‬
‫املنطقية في تحديد املوضوعات وتقسيمها وحصرها‪،‬واالستعانة باأللفاظ واملصطلحات‬
‫الفلسفية واملنطقية في تناول املوضوعات البالغية"(‪.)8‬‬
‫والحظ الشيخ أمين الخولي في كتابه (فن القول) جفاف البالغة التي تدعوا إليها‬
‫هذه املدرسة من خالل غياب الذوق فيها‪ ،‬والذي هو األساس في التفريق بين الكالم الجميل‬
‫والرائع وبين غيره‪ .‬فهذه املدرسة تمتاز بمجافاتها األحكام النظرية وعدم االحتكام إلى املنطق‬
‫امليزاني‪ ،‬واالعتبار العقلي‪ ،‬والشعور بأن في اإلنسان من قوى الحكم ش يء غير هذا كله"(‪.)9‬‬
‫لقد كرست املدرسة الكالمية املظاهر املنطقية والفلسفية في األبحاث البالغية‪،‬‬
‫وإطالق األحكام العقلية على املوضوعات الوجدانية‪ ،‬وكذا عدم العناية بالناحية الفنية في‬
‫إدراك التراكيب وخصائصها‪ ،‬وكذا في استعمال املقاييس الحكمية والخلقية والعقلية في‬
‫تقدير املعاني الحديثة(‪.)10‬‬
‫وال يخفى ما للمعتزلة من ثقافة عربيه راسخة استطاعوا تدعيمها بما وصل إليهم‬
‫من الثقافات الخارجية ال سيما املنطق والفلسفة "ووجه االستفادة من الفلسفة واملنطق‬
‫ّ‬
‫أنها هيأت عقولهم للبحث الكلي في األشياء ونظمت طرائق البحث لديهم تنظيما دقيقا ‪،‬‬
‫وجعلتهم أقدر على استخراج الحجج واستنباط اآلراء"(‪.)11‬‬
‫ولكن صنيع هؤالء النقاد لم يسلم من االنتقاد‪ ،‬فهم في رأي نقاد من أمثال طه‬
‫إبراهيم يمثلون االتجاه املتأثر بثقافات أجنبية ومنهم‪ :‬ابن قتيبة مثال وكتابه نقد الشعراء‪،‬‬
‫وكذلك قدامة بن جعفر صاحب كتاب نقد الشعر‪ .‬فكل من (ابن قتيبة) و(قدامة بن‬
‫جعفر) حاوال تحويل النقد األدبي إلى علم من خالل إخضاعه لقواعد املنطق ومقاييسه‪،‬‬
‫ولكنه مع ذلك اعترف (البن قتيبة) بتركيزه على الذوق حينما يقول‪ ":‬فمنهم من استعان في‬

‫تاريخ النشر‪ 30:‬جوان ‪2018‬‬ ‫‪279‬‬ ‫المجلد الخامس (العدد األول)‬


‫مجلّة‬
‫‪ISSN: 2437-0819, EISSN: 2602-6333‬‬ ‫المدوّنة‬
‫ً‬
‫نقده بطرق العلم فقد كان رأسا في العربية مؤمنا بالذوق األدبي مقويا للصبغة القديمة‬
‫في أكثر ما جاء به"(‪.)12‬‬
‫ّأما إعابته على (قدامة بن جعفر) تحكيم التقسيمات املنطقية فهو حينما وضع‬
‫لها تعريفا محصورا في ثمانية تقسيمات بنى عليها نقده للشعر عموما‪ ،‬وهي في نظره ال تصل‬
‫إلى روح الشعر (‪.)13‬‬
‫وذهب (مصطفى عبد الرحمان إبراهيم) في كتابه‪:‬النقد األدبي القديم عند العرب إلى‬
‫ُ‬
‫اعتبار كل ما جاء به نقاد القرن الثالث ليس من املخترع العربي في تلك الفترة بل هو من‬
‫املنقول اليوناني " فلم يكد يشرف هذا القرن على نهايته حتى كان للعرب كتب بأسرها في‬
‫علم البالغة وفي النقد األدبي نقلت عن اليونان(…) وتلك هي الذهنية الرابعة التي جدت في‬
‫النقد وهي أجنبية محضة ال تمت بسبب إلى القديم وال ترتكز إلى أصل من أصوله املعروفة‬
‫وإنما يستمد كل ش يء من اليونان وتجتلب له الشواهد اجتالبا عنيفا من النقد‬
‫األدبي"(‪.)14‬‬
‫لقد عمدت هذه املدرسة إلى إصدار أحكام عقلية على املسائل البالغية‪ ،‬واقتباس‬
‫مظاهر منطقية وفلسفية وهي تتميز" بالجور على الناحية األدبية وظواهر مختلفة ومنها‬
‫اإلقالل من الشواهد األدبية وعدم العناية بالناحية الفنية في إدراك خصائص التراكيب‬
‫(…) فهم يحتكمون في تقويم املعنى األدبي إلى اعتبار عقلي فلسفي)(‪.)15‬‬
‫من نماذج املدرسة الكالمية ( السكاكي)‪:‬‬
‫هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن علي السكاكي الخوارزمي‪ .)16(.‬ولد سنه ‪555‬هـ‬
‫وعرف عن السكاكي أنه لم يكن من أصحاب األدب‬ ‫بخوارزم وتوفي بها سنة‪626‬هـ(‪ُ .)17‬‬
‫والفن عموما ألنه نشأ في بيئة السكاكة أي الذين يشتغلون بالسكاكة‪ ،‬ولكنه توجهه إلى‬
‫العلم بالطب وتفرغ له فانهال على الفلسفة وعلوم املنطق للدراسة والتعلم متنبها كذلك‬
‫للفقه وعلوم اللغة والبالغة فاشتهر ّأيما شهرة في عصره‪.‬‬
‫وللسكاكي العديد من املؤلفات واملصنفات منها مفتاح العلوم‪.‬يقول فيه ياقوت‬
‫الحموي" متكلم فقيه متفنن في علوم شتى‪،‬و هو أحد أفاضل العصر الذين سارت بذكرهم‬
‫الركبان"(‪.)18‬‬

‫‪280‬‬
‫مجلّة‬
‫المدوّنة‬ ‫ر‪ .‬د‪.‬م‪.‬د‪-ISSN 2437-0819 :‬رقم اإليداع القانوني‪2014-6068:‬‬

‫وروية في التبويب والتقسيم‬‫و مفتاح العلوم(للسكاكي) كتاب أبان فيه على دقه ّ‬
‫وهو من أهم ما صنف (السكاكي) وقد قسمه إلى ثالثة أقسام هي‪ :‬الصرف والنحو‬
‫والبالغة؛ على أنه يعتبر من الواجب على املتصدي لعلم املعاني والبديع اإلملام بالعروض‬
‫والقوافي"(‪ .)19‬وبذلك اشتمل املفتاح على علوم الصرف والنحو واملعاني والبيان واملنطق‬
‫والعروض والقوافي"‬
‫وعلى حد قول شوقي ضيف فقد"اكتسب كتاب املفتاح للسكاكي شهره كبيرة من‬
‫خالل القسم الثالث فيه و املتعلق بعلم املعاني والبيان"(‪.)20‬‬
‫ولكن السكاكي ارتض ى طريقه جديدة لم تكن موجودة من قبله إذ أصبح للمنطق‬
‫والفلسفة سلطان مطاع ال يرد له قول‪،‬واستعان بأهم مقوالت املناطقة والفالسفة من‬
‫تجريد وتفريع و تقسيم وتعليل‪.‬‬
‫على أنه وإن تجاوز سابقيه من ناحية االستعانة بتلك العناصر كالجرجاني‬
‫والزمخشري‪ ،‬فإنه من ناحية ثانية لم ينتبه إلى أنه ضيع أمور تتعلق بالذوق والطاقة‬
‫الحسية‪ .‬يقول الخطيب القزويني‪ ":‬وهو وإن فاق عبد القاهر الجرجاني في التقسيم‬
‫والتبويب‪ ،‬وتقريب األحكام فلم يدرك شأوه لطف الحس وصفاء الديباجة وبراعة الكالم"‬
‫إن التزام السكاكي ومحاولته تصنيف البالغة العربية وإخضاعها لقوانين تشبه تلك‬
‫التي تحكم النحو وهي" قوانين تسبك في قوالب منطقية جافة أشد ما يكون الجفاف"(‪.)21‬‬
‫جعله ينحرف بها عن الطابع الجمالي املطلوب في مثل هكذا علوم؛ لتبيان أوجه الجمال‪،‬‬
‫ولعب لعبة الكشف مع األلفاظ والعبارات والتعابير التي تتخفى وراء األساليب البارعة‬
‫ّ‬
‫للكتاب الحاذقين‪.‬‬
‫وبدأ (السكاكي) في الجزء الثالث من املفتاح بتعريف علم املعاني والذي قدمه على‬
‫ّ‬
‫علم البيان‪ ،‬ألنه منه بمثابة األصل للفرع‪ .‬يقول‪ " :‬ملا كان علم البيان أسبق من علم‬
‫املعاني‪ ،‬ال ينفصل عنه إال بزيادة اعتبار‪ ،‬وجرى منه مجرى املركب من املفرد ال جرم آثرنا‬
‫تأخيره‪ ،‬فعرف علم املعاني بأنه‪ :‬تتبع خواص تراكيب الكالم في اإلفادة‪ ،‬وما يتصل بها من‬
‫االستحسان وغيره‪ ،‬ليحترز بالوقوف عليها من الخطأ في تطبيق الكالم على ما يقتض ي‬
‫الحال ذكره"(‪.)22‬‬

‫تاريخ النشر‪ 30:‬جوان ‪2018‬‬ ‫‪281‬‬ ‫المجلد الخامس (العدد األول)‬


‫مجلّة‬
‫‪ISSN: 2437-0819, EISSN: 2602-6333‬‬ ‫المدوّنة‬
‫ُ‬
‫فعلم املعاني علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي لها ُيطابق مقتض ى الحال‪،‬‬
‫ونظيره – على حد قول بهاء الدين السبكي‪ -‬صاحب كتاب ( عروس األفراح) ‪ " :‬علم تعريف‬
‫الطب بأنه علم ُيعرف به أحوال بدن اإلنسان من جهة ما يصح ويزول عنها لتحفظ‬ ‫ّ‬
‫الصحة"(‪.)23‬‬
‫وعقد (السكاكي) فصال في ضبط علم املعاني والكالم عليه‪ ،‬وبدأ بتمهيد تكلم فيه‬
‫على أن مقتض ى الحال يختلف – وبتفاوت – من متكلم إلى آخر‪ ،‬وهو في ذلك ّ‬
‫ينبه إلى‬
‫ضرورة تعلم علم من علوم املناطقة والفالسفة وهو‪ :‬علم االستدالل باإلضافة إلى علم‬
‫العروض‪ .‬وفي هذا يقول (السكاكي)" إن التعرض لخواص تراكيب الكالم موقوف على‬
‫التعرض لتراكيبه‪ ،‬لكن ال يخفى عليك‪ -‬حال التعرض لها منتشرة‪ -‬فيجب املصير إلى إيرادها‬
‫تحث الضبط بتعيين ما هو أصل لها وسابق في االعتبار"(‪.)24‬‬
‫وحينما استهل (السكاكي) حديثه عن البيان لم ُيورد تعريفا له؛ ألنه أدرجه حينما‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫عرف علم املعاني‪ .‬وال بأس أن نورد له تعريفه لعلم البيان بالعودة إلى ذلك في تعريفه لعلم‬
‫وأما علم البيان فهو معرفة إيراد الكالم في طرق مختلفة بالزيادة في ُوضوح‬ ‫املعاني يقول " ّ‬
‫الداللة عليه وبالنقصان‪ ،‬يحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكالم لتمام‬
‫املراد منه"(‪.)25‬‬
‫على أن السكاكي يقسم الدالالت إلى قسمين منها ما هو وصفي ومنها ما هو عقلي‪.‬‬
‫فداللة اللفظ في األصل قد تكون ملا ُوضع له في أصل االتفاق وقد تكون لغير ذلك‪ ،‬وهو‬
‫عندما يتكلم عن اللزوم الذهني ال يشترط فيه إجازة العقل له بثبوته فيه" بل يكفي أن‬
‫يكون ما يثبته اعتقاد املخاطب ّإما لعرف أو لغيره"(‪.)26‬‬
‫ّ‬
‫وملا انتقل السكاكي للفن الثالث وهو علم البديع‪ ،‬فهو مما ُيصار إليه من الفنون في‬
‫تحسين وجه الكالم‪.‬وعلم البديع هو" علم ُيعرف به ُوجوه تحسين الكالم بعد رعاية‬
‫املطابقة وضوح الداللة"(‪.)27‬‬
‫فأما ما يختص‬ ‫وعلم البيان ضربان‪ :‬ضرب يرجع إلى املعنى‪ ،‬وضرب يرجع للفظ‪ّ .‬‬
‫باملعني فمن ذلك‪ :‬املطابقة‪ ،‬املقابلة‪ ،‬واملشاكلة‪ ،‬والجمع بين املتشاكالت‪ ،‬اإلرصاد أو‬
‫التسهيم‪ ،‬واملزاوجة واللف والنشر‪ ،‬والجمع والتفريق‪ ،‬وتأكيد املدح بما يشبه الذم‬

‫‪282‬‬
‫مجلّة‬
‫المدوّنة‬ ‫ر‪ .‬د‪.‬م‪.‬د‪-ISSN 2437-0819 :‬رقم اإليداع القانوني‪2014-6068:‬‬

‫وأما ما يختص باللفظ‬ ‫وس ْو ُق املعلوم مساق املجهول‪ ،‬واالعتراض واإلشباع‪ّ .‬‬ ‫والتوجيه‪ ،‬م‬
‫فمنه‪ :‬التجنيس واالسجاع والترصيع‪.‬‬
‫لقد كتب للسكاكي أن يعيش في عصر طغت فيه الفلسفة واملنطق فكانت األساليب‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫العربية" تقاس بحدود املنطق ورسومه‪ ،‬وال يقام لها وزن إن لم ُي مجل ملها بميسمه"(‪)28‬وهو‬
‫ما فرض على السكاكي أن يحشو كتابه بذلك الكم الهائل من املصطلحات الشائعة عند‬
‫املناطقة واملتكلمين مثل‪ :‬الخيال والوهم و ولعقل واإلدراك والوجدان‪.‬‬
‫لقد حاول السكاكي‪ -‬في عمله على التقسيمات والحدود والتعريفات‪ --‬حاول‪ -‬وضع‬
‫قوانين مثل التي تضبط علم النحو‪ ،‬ولكنه لم يكن يدري أن ذلك كله" إيذانا بتحجر البالغة‬
‫العربية وجمودها جمودا كبيرا إذ ترسبت في قواعد وقوالب جافة وغدا من العسير أن‬
‫تعود إليها حيويتها ونضارتها القديمة"(‪.)29‬‬
‫ولكن كما تمت اإلشارة إليه ُمسبقا فإن الكثير من الباحثين يشهدون للسكاكي‬
‫ّ‬
‫بالتفوق والبراعة على غرار ما قاله (ياقوت الحموي) من أن" السكاكي عالمة إمام في العربية‬
‫واملعاني البيان واألدب والعروض والشعر"(‪.)30‬‬
‫وما شهادة (ابن خلدون) فيه إال إقرار بمكانته حيث يقول" ثم لم تزل مسائل الفن‬
‫ّ‬ ‫تكتمل شيئا فشيئا إلى أن ّ‬
‫محص السكاكي زبدته‪ ،‬وهذب مسائله ورتب أبوابه … وأخذ‬
‫ّ‬
‫املتأخرون من كتابه ولخصوا منه"(‪.)31‬‬
‫إن فضل السكاكي في تبويب وتقسيم علم البالغة‪ -‬الذي تم على يديه فقط ‪ -‬ال ينكره‬
‫إال جاحد نعمة وفضل‪ ،‬وبذلك فقد رسم املسارات التي اتبعها من جاء بعده‪ .‬ولكن‬
‫(للسكاكي) ميزة لم تكن موجودة في غيره من املشتغلين بهذا امليدان وهو أنه كان متأثرا‬
‫باملنطق وعلوم الكالم الفلسفية والنحوية‪ ،‬لذلك لم يستطع مفتاحه أن ُيبعد هذا التأثر‬
‫في عمله‪ ،‬وطغت عليه الحدود والتقسيمات والتفريعات‪ ،‬وتاهت البالغة في متاهات املنطق‬
‫والفلسفة معه‪.‬‬
‫إن هذا الكالم ليس اتهاما وال انتقاصا من مجهودات (السكاكي) فهو كما قال (شوقي‬
‫ضيف) " استطاع أن ُيسوي من نظرات الجرجاني والزمخشري علمي البيان والبديع"(‪.)32‬‬
‫ُّ‬
‫وما كثرة الشراح الذين تناولوا مفتاح العلوم لدليل على استغالق فهمه‪ ،‬واستحكام‬
‫صنعته كل ذلك استدعى النظم فيه‪ ،‬وفي كل مرة من زاوية مغايرة‪ ،‬ولعلنا أشرنا إلى أن‬

‫تاريخ النشر‪ 30:‬جوان ‪2018‬‬ ‫‪283‬‬ ‫المجلد الخامس (العدد األول)‬


‫مجلّة‬
‫‪ISSN: 2437-0819, EISSN: 2602-6333‬‬ ‫المدوّنة‬
‫ّ‬
‫السكاكي قد أثر في من جاؤوا بعد هو أصبح منهجه شائعا ومتبعا‪ ،‬وتفسير ذلك أن شروحات‬
‫من جاؤوا بعده لم تكن تخرج عن منهجه وطريقته فكانوا" متأثرين بأصل الكتاب وبمنهج‬
‫صاحبه كما كان كل منهم متأثرا بثقافته الخاصة وطبيعتها"(‪.)33‬‬
‫املنطق األرسطي جناية أم فائدة‪:‬‬
‫تعود بدايات ظهور الفلسفة واملنطق في نقدنا العربي إلى (الجاحظ )صاحب كتاب‬
‫البيان والتبيين عندما تطرق إلى بعض املسائل البالغية" ولكن هذه املسحة لم تسيطر‬
‫سيطرة تامة ولم يظهر أثرها واضحا ألن عصر الجاحظ عصر ازدهر فيه األدب"(‪.)34‬‬
‫لقد تفاوتت اآلراء واملواقف حول ما آلت إليه البالغة العربية من خالل استثمار‬
‫التقسيمات والتبويبات املنطقية في مباحث البالغة‪ ،‬فهذا (أحمد مطلوب) في كتابه‬
‫دراسات بالغية ونقدية يرى أن (السكاكي) استطاع أن يهذب مسائل البالغة ويمحص زبدتها‬
‫من خالل ترتيب أبوابها‪ ،‬فكان بذلك أول من قسم البالغة إلى علمين متميزين‪ ،‬األول يتعلق‬
‫بالنظم وهو علم املعاني‪ ،‬والثاني يتعلق باملجاز‪ ،‬والكناية أو بالصورة‪ ،‬وسماه‪ :‬علم البيان‬
‫يسم القسم الثالث بديعا وإنما هو عنده وجوه مخصوصة كثيرا ما يؤتى بها لقصد‬ ‫وأنه لم ّ‬
‫تحسين الكالم(‪.)35‬‬
‫وفي إشارة إلى عقم التقسيم الثالثي للبالغة والقائم على املعاني والبيان والبديع‬
‫يرى األستاذ (أمين الخولي) أن هذا التقسيم ال أساس له وال غناء فيه ألنه ينبغي أن يشمل‬
‫البحث البالغي الكلمة والجملة والفقرة والقطعة‪ ،‬ال البحث في الجملة والجملتين فقط‪،‬‬
‫وأن ما حشدته طريقة العجم وأهل الفلسفة في البالغة من مقدمات منطقية جديدة ال‬
‫بد منها لدراسة فنية تقوم على اإلحساس بالجمال والتعبير عنه(‪.)36‬‬
‫لقد أفسد املنطق األرسطي الذوق األدبي العربي من خالل احتفاء البالغة العربية‬
‫بنزعته املعيارية الصارمة وبذلك فقد" تحولت بعد القرن الخامس هجري إلى بالغة تعليمية‬
‫بدل االرتقاء بأدواتها في التعامل مع تحليل النص األدبي وبيان وظيفة العناصر اللغوية في‬
‫بناءها الخارجي والداخلي"(‪.)37‬‬
‫إن من املهمات التي يضطع بها املنطق أنه يعلمنا طرق التفكير الصحيح من خالل‬
‫بيان خواص لفكرة الصحيحة في ذاتها دون االهتمام باألثر الذي تتركه في نفس السامع‪،‬‬
‫ًّ‬
‫وإن كال من النحو واملنطق علم مستقل ال يدخل في صميم البالغة ولكنه يمهد لها ويسيقها‬

‫‪284‬‬
‫مجلّة‬
‫المدوّنة‬ ‫ر‪ .‬د‪.‬م‪.‬د‪-ISSN 2437-0819 :‬رقم اإليداع القانوني‪2014-6068:‬‬

‫إلى تحقيق الصحة في العبارة والفكرة بعد ذلك تتقدم البالغة لتوفير املناسبة أو املطابقة‬
‫التي هي وظيفة الفن البالغي األصيل"(‪.)38‬‬
‫ومن املفاهيم التي داخلت معاني امللكة‪ -‬في تعريف الفصاحة والبالغة‪ -‬إدخال مسائل‬
‫فلسفية فيها واملتعلقة بالطبيعة وااللهية والخلقية كالكالم في األلوان والطعوم والروائح‬
‫والحواس اإلنسانية ومقرها‪ ،‬والوهم ومفاهيم تتعلق باإليجاب والسلب‪ ،‬وهي ال شك‬
‫مفاهيم ال عالقة لها بالبالغة بقدر عالقتها بالعلوم العقلية األخرى‪.‬‬
‫وال شك أن الغاية التعليمية للبالغة العربية قد فرضت على البالغيين انتهاج‬
‫قواعد وقوانين صارمة أقل ما ُيقال عنها أنها مجحفة في حق اإلبداع واألعمال األدبية‪،‬‬
‫فع ّدت البالغة بهذا الشكل معيارية(‪.)39‬‬
‫ُ‬
‫لقد طغت املعيارية التعليمية على البالغة العربية وحصرت في امليدان الوظيفي املبني‬
‫يتهيأ املستمعون ويستميلهم القول الخطابي‬ ‫على اإلقناع والتأثير‪ ،‬واإلقناع يحصل" حين ّ‬
‫حين يشعرون بانفعال ما ألننا ال نقدر األحكام على نحو واحد حينما نحس باللذة واأللم‬
‫والحب والكراهية"(‪.)40‬هذا التأثير كان له السبب املباشر في تراجع البالغة العربية‪ ،‬وما‬
‫النقص الذي أصبحت تميز به دراسات الفنون األدبية إال لنقص في إجراءات البالغة نتيجة‬
‫املعيارية والتقعيد الصارمين الذين أصبحا يحكمان مباحث البالغة‪.‬‬
‫وال يمكن بأي حال من األحول أن نغفل ما للمعتزلة‪ -‬كفرقة كالمية متأثرة باملنطق‬
‫األرسطي‪ -‬من أدوار في تطوير البالغة العربية قد ال تكن حققتها الطوائف األخرى من لغويين‬
‫ونحاة‪ ،‬فهذه الطائفة لم تكن محافظة مثل طائفة اللغويين في تحكيم النماذج التقليدية‬
‫القديمة(‪.)41‬‬
‫ولعل ما بذله رواد املعتزلة من جهود‪ -‬في مجال الدرس البالغي‪ -‬جعل الكثير يرجع‬
‫البالغة العربية في أصل نشأتها إلى" تلك الخصومة بين علماء الكالم‪ ،‬وأن الجاحظ املتكلم‬
‫املعتزلي هو أول من اهتم بالبالغة اهتماما كبيرا وجديا وأنه مؤسس البيان العربي"(‪.)42‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫لقد ُوجدت البالغة العربية في كالم العرب قديما‪ -‬وفي تعامالتهم اليومية‪ -‬بشكل‬
‫نظري لها‪ ،‬واتسعت محاولة تجريد قواعدها وضبطها من خالل الصيغ واألوزان‬
‫والتقسيمات وبذلت جهود متنوعة ومختلفة لتدارس مباحثها‪ ،‬وتصدت لذلك فرق وطوائف‬

‫تاريخ النشر‪ 30:‬جوان ‪2018‬‬ ‫‪285‬‬ ‫المجلد الخامس (العدد األول)‬


‫مجلّة‬
‫‪ISSN: 2437-0819, EISSN: 2602-6333‬‬ ‫المدوّنة‬
‫ُُّ‬
‫مختلفة من العلماء والبالغيين كل في مجاله ومن زاوية نظره الخاصة به كمنتسب لطبقة‬
‫أو فئة معينة‪.‬‬
‫وكانت فئة املتكلمين من ابرز الضاربين في أمر تطوير البالغة العربية وتدارسها بسهم‬
‫من خالل االتكاء على رصيدهم العربي تارة‪ ،‬وعلى الرصيد األجنبي تارة أخرى‪ ،‬ونقصد من‬
‫ذلك املنطق األرسطي والفلسفة اليونانية‪.‬‬
‫ومن خالل ما تم التوصل إليه فال يمكن أن ننفي ما للمنطق من أثر في بالغتنا العربية‬
‫من الناحية االيجابية‪ ،‬كما وله تأثيرات سلبية ال بد من التنبيه عنها‪:‬‬
‫فمن الناحية االيجابية خدم املنطق األرسطي البالغة العربية من خالل‪:‬‬
‫‪ /1‬توفير أداة ناجعة للمتكلمين ُيناظرون بها خصومهم في املناظرات واملجادالت‪.‬‬
‫‪ /2‬التمكن من تعلم قوانين الخطابة وتجسد ذلك في صحيفة ‪(:‬بشر بن املعتمر)‪،‬‬
‫التي يعتبرها (الجاحظ) ضرورة في زمن ما ليتعلم الفتيان الخطابة‪.‬‬
‫‪ /3‬ضبط مباحث البالغة العربية وتبويبها بطريقة منطقية محكمة‪ ،‬فالشيخ (أمين‬
‫الخولي) يرى أن تأثر البالغة العربية باملنطق كان بعيد املدى في تطويرها وسير دراستها‪ ،‬وفي‬
‫ضبط أبحاثها وتحديد دائرة درسها‪.‬‬
‫ومن التأثيرات التي ال يمكن أن تأخذ طابع االيجابية ‪ -‬والتي تأثرت فيها البالغة باملنطق‬
‫‪-‬تلك النزعة الجدلية التي سيطرت عليها حتى لتكاد تخرجها تماما عن الغرض األدبي‪،‬‬
‫ونلمس ذلك من خالل ترتيب األبواب في املؤلفات‪.‬‬
‫‪ /1‬ابتعاد البالغة عن اللغة الحية والنصوص األدبية من خالل إفراغها في تعاريف‬
‫وقوالب جامدة ولم تعد كما كانت بنت الذوق السليم ونفحة الحس املرهف بالجمال‪.‬‬
‫‪ /2‬إن البالغة العربية على حد تعبير الدكتور ( مازن املبارك) في كتابه املوجز في تاريخ‬
‫البالغة‪ :‬لم توضع في أيدي أمينة خصوصا بعد ذهاب البلغاء األقحاح فتصدى للبحث في‬
‫مباحثها علماء ليسوا بلغاء هم أنفسهم فاستعاروا قوالب جافة من املنطق والفلسفة‬
‫والكالم‪ ،‬فجاءت البالغة على أيديهم خالية مما كانت به بالغة‪ .‬جاءت بالغة مجردة من‬
‫أسباب الحياة جافة ال روح فيها‪ ،‬معقدة ال بيان يوضحها‪.‬‬
‫ُ ّ‬
‫‪ /3‬إن الفلسفة اليونانية لم تنظر لتناسب عقليتنا كعرب ومسلمين؛ وإنما هي علوم‬
‫معارف أنتجها عقل لبيئته وعقليته ونمط تفكيره‪ ،‬ولكن ضرورات املثاقفة فرضت ضرورة‬

‫‪286‬‬
‫مجلّة‬
‫المدوّنة‬ ‫ر‪ .‬د‪.‬م‪.‬د‪-ISSN 2437-0819 :‬رقم اإليداع القانوني‪2014-6068:‬‬

‫االطالع على هذا النتاج الفكري الذي قد يخدم علومنا وعقليتنا‪ ،‬ولكن الفلسفة اليونانية‬
‫كانت تقترب إلى حد كبير من املنطقية في التفكير لذلك فاستفادتنا منها كانت تخدم فقط‬
‫جوانب التقنين والضبط والتقسيم‪ ،‬وإال فأدبنا وبالغتنا فيهما من روح الجمال وقوة التأثير‬
‫والذوق ما ال ُيضبط بقوانين الفلسفة واملنطق‪ ،‬وإال مف ُت م‬
‫عت مب ُر سيادة الفلسفة واملنطق على‬
‫إبداعاتنا قتال لها وتجفيفا لروح الجمال فيها‪.‬‬
‫اإلحاالت‪:‬‬
‫‪ 1‬الجاحظ‪ ،‬البيان والتبيين ‪،‬ج‪،1‬شرح غريب ألفاظه حسن أفندي املاكهاني‪،‬املطبعة العلمية‪،‬ط‪1،1311‬هـ‬
‫‪،‬ص‪.88‬‬
‫‪ /2‬عبد الرحمن بن خلدون‪ ،‬املقدمة‪ ،‬مؤسسه الرسالة ناشرون‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪،‬د‪ .‬ط ‪، 2002 ،‬ص ‪622‬‬
‫‪ /3‬الجاحظ‪ ،‬البيان والتبيين‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ /4‬ابن خلدون ‪ ،‬املقدمة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.622‬‬
‫‪ /5‬أنظر‪ :‬البيان والتبيين‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ /6‬السيوطي عيس ى الحلبي ‪،‬حسن املحاضرة في أخبار مصر والقاهرة‪،‬ج‪ ،1‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬القاهرة‪،‬د‪.‬‬
‫ط ‪ ، 1968 ،‬ص‪.190‬‬
‫‪ /7‬خليل ندا‪ ،‬التجديد في علوم البالغة في العصر الحديث‪ ،‬رسالة لنيل درجة دكتوراه‪ ،‬ص‪.35‬‬
‫‪ /8‬عبد القادر حسن‪،‬املختصر في علوم البالغة‪،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪،‬د‪ .‬ط ‪2001 ،‬‬
‫ص ‪. 12‬‬
‫‪ /9‬أنظر ‪ :‬أمين الخولي ‪ ،‬فن القول‪،‬قدم للطبعة‪ :‬صالح فضل‪ ،‬مطبعة دار الكتب املصرية بالقاهرة‪،‬د‪ .‬ط‬
‫‪ ،1996،‬ص‪.92‬‬
‫‪ /10‬أنظر ‪:‬أمين الخولي‪،‬مناهج تجديد البالغة‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬القاهرة‪،‬د‪ .‬ط ‪ ،1961 ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪ /11‬يوسف أحمد علي‪،‬البالغة العربية‪ ،‬د ‪ .‬ن ‪ ،‬د‪ .‬ط ‪ ،‬د ‪ .‬ت ‪،‬ص‪.27‬‬
‫‪ /12‬طه إبراهيم‪،‬تاريخ النقد األدبي‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬بيروت‪،‬د‪ .‬ط ‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.123‬‬
‫‪/13‬أنظر‪ :‬املرجع السابق ‪ ،‬ص‪.125‬‬
‫‪/ 14‬مصطفى عبد الرحمان إبراهيم ‪،‬النقد األدبي القديم عند العرب‪ ،‬مكة للطباعة‪،‬د‪ .‬ط ‪،1998-1419 ،‬‬
‫ص‪.109‬‬
‫‪ /15‬فن القول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪13‬‬
‫‪ /16‬الزركلي خير الدين‪ ،‬ج‪،2‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪ ،2002 ،15‬ص‪.222‬‬
‫‪ /17‬كحالة عمر رضا ‪،‬معجم املؤلفين‪ ،‬ج‪ ،4‬مؤسسة الرسالة‪،‬ط‪ ،1993 -1414 ،1‬ص‪.283‬‬
‫‪ /18‬الحموي ياقوت ‪ ،‬إرشاد األريب إلى معرفة األديب‪ ،‬ج‪ ،2‬تحقيق إحسان عباس‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬ط‪،1‬د‪.‬‬
‫ت ‪ ،‬ص‪.863‬‬

‫تاريخ النشر‪ 30:‬جوان ‪2018‬‬ ‫‪287‬‬ ‫المجلد الخامس (العدد األول)‬


‫مجلّة‬
‫‪ISSN: 2437-0819, EISSN: 2602-6333‬‬ ‫المدوّنة‬
‫‪ /19‬ضيف شوقي ‪،‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار املعارف ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2‬د‪ .‬ت ‪ ،‬ص‪287‬‬
‫‪ . /20‬أنظر‪ :‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪288‬‬
‫‪ /21‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.288‬‬
‫‪/22‬يوسف بن أبي بكر السكاكي‪،‬مفتاح العلوم‪،‬ج‪ ،1‬تحقيق نعيم زرزور‪،‬ط‪ ،1987 -1407 ،2‬ص‪.181‬‬
‫‪ /23‬السبكي بهاء الدين ‪ ،‬عروس األفراح‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬القاهرة‪،‬د‪ .‬ط ‪ ،1342 ،‬ص‪.99‬‬
‫‪ /24‬مفتاح العلوم‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.164‬‬
‫‪/25‬املرجع السابق‪،‬ص‪.162‬‬
‫‪ /26‬القزويني الخطيب‪ ،‬املعاني والبيان والبديع‪ ،‬وضع حواشيه ‪ :‬إبراهيم شمس الدين‪،‬د‪ .‬ط ‪ ،‬د ‪ .‬ت ‪ ،‬ص‪.163‬‬
‫‪ /27‬القزويني‪،‬التلخيص في علوم البالغة‪ ،‬حققه عبد الحميد هنداوي‪،‬د‪ .‬ط ‪ ،‬د ‪ .‬ت ‪،‬ص‪.86‬‬
‫‪ /28‬املراغي أحمد مصطفى ‪ ،‬تاريخ علوم البالغة والتعريف برجالها‪ ،‬مطبعة الحلبي‪ ،‬القاهرة‪،‬د‪ .‬ط ‪،1950 ،‬‬
‫ص‪.27‬‬
‫‪ /29‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪313‬‬
‫‪ /30‬الحموي ياقوت ‪ ،‬معجم األدباء‪ ،‬ج‪ ،7‬دار املأمون‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪ .‬ط ‪،‬د‪ .‬ت ‪ ،‬ص‪.306‬‬
‫‪ /31‬املقدمة ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.520‬‬
‫‪ /32‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.313‬‬
‫‪ /33‬مبارك مازن‪،‬املوجز في تاريخ البالغة‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪،‬د‪ .‬ط ‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.111‬‬
‫‪ /34‬مطلوب أحمد دراسات بالغية ‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة واإلعالم‪ ،‬الجمهورية العراقية‪ ،‬دار الرشيد‬
‫للنشر‪،‬د‪ .‬ط ‪ ،‬د ‪ .‬ت ‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫‪ /35‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.42.43‬‬
‫‪ /36‬أنظر فن القول‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.215.220‬‬
‫‪ /37‬فضل صالح ‪ ،‬علم األسلوب مبادئه وإجراءاته‪،‬ط‪ ،1‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،‬د‪ .‬ط ‪،1998،‬ص‪.173.174‬‬
‫‪ /38‬الشايب أحمد‪،‬األسلوب‪،‬مكتبة النهضة املصرية‪،‬ط‪ ،1991 -1411 ،8‬ص‪.29‬‬
‫‪ /39‬أنظر‪:‬مطلوب أحمد ‪ ،‬مناهج بالغية‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫‪ /40‬أرسطو‪ ،‬فن الخطابة‪ ،‬ترجمة‪ :‬قنيني عبد القادر‪ ،‬افريقيا الشرق الدار البيضاء‪ ،‬ط‪،1،2008‬ص‪.61‬‬
‫أنظر‪:‬الكواز‪ ،‬البالغة النقد املصطلح النشأة والتجديد‪ ،‬االنتشار العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪/41‬‬
‫لبنان‪،‬ط‪،1،2006‬ص‪.178‬‬
‫‪ / 42‬حسين طه ‪ ،‬تمهيد في البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر ضمن( نقد الشعر)‪ ،‬مطبعة لجنة‬
‫التأليف والترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪ .‬ط ‪ ،1938 ،‬ص‪.67‬‬

‫*** *** ***‬

‫‪288‬‬

You might also like